سلسلة ردّ الشبهات (2)
تصحيح القراءة في نهج البلاغة
ردّاً علی «قراءة في نهج البلاغة» للدیلمی
تألیف: الشيخ خالد البغداديّ
مرکز الأبحاث العقائدیة
محرر رقمي : میثم الحیدري
ص : 1
إیران - قم المقدسة - صفائیة - ممتاز رقم 34
ص.ب: 3331 / 37185
الهاتف: 7742088 (251) (0098)
الفاکس: 7742088 (251) (0098)
العراق - النجف الأشرف - شارع الرسول صلی الله علیه و آله
جنب مکتب آیة الله العظمی السید السیستاني دام ظله
ص.ب : 729
الهاتف: 332679 (33) (00964)
الموقع علی الانترنت: www.aqaed.com
البرید الالکتروني: info@aqaed.com
شابِک: (ردمک): 7 - 07 - 8793 - 964
في نهج البلاغة ردّاً علی «قراءة في نهج البلاغة» للدیلمی تصحيح القراءة
تألیف: الشيخ خالد البغداديّ
الطبعة الأولي - 2000 نسخة
سنة الطبع : 1428 ه
المطبة : ستارة
* جمیع الحقوق محفوظة للمرکز*
ص : 2
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام علىٰ خير الخلق أجمعين ، أبي القاسم محمّد صلّىٰ الله عليه وآله ، وعلىٰ أهل بيته الطيّبين الطاهرين الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، واللعنة الدائمة علىٰ أعدائهم أجمعين من الآن إلىٰ قيام يوم الدين.
وبعد ..
يمثّل نهج البلاغة أكثر النصوص ثباتاً وديمومة وانتشاراً في فكرنا الإسلامي بعد القرآن الكريم والسُنّة النبوية الشريفة ، ولعلّ سرّ خلود هذا « النهج » هو : مضمونه الذي يعدّ « دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق » ..
هذا المضمون الذي يعالج مواقف الإنسان المختلفة : كفاحه من أجل الحصول علىٰ لقمة العيش ، تعاونه مع أفراد جنسه من أجل البقاء علىٰ قيد الحياة ، صراعه مع الآخرين للتغلّب والترأس عليهم.
تعرّض نهج البلاغة لمختلف طبقات المجتمع : العسكر ، القضاة ، الولاة ، الكتّاب ، الزرّاع ، التجّار ، أصحاب الصناعات والعمّال ، والعاطلين عن العمل وغيرهم.
وتعرّض أيضاً لطبيعة الحكم وضرورته لكلّ مجتمع ، وشروط
ص : 3
الحاكم ، وطبيعة الحكم عند الإمام ، وعلاقة الحاكم بالرعية ، وحقوق كلّ منهما علىٰ الآخر.
وأشار أيضاً إلىٰ بعض المغيّبات ، ك- : غرق البصرة ، وتسلّط الظالمين علىٰ الكوفة وتغلّب معاوية علىٰ الخلافة ، ومصير الخوارج ونهاية أمرهم ، وقتل الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء المقدّسة ، وخلافة مروان وبنيه ، وحرب الزنج ، وولاية الحَجّاج ، والأتراك ، وخروج المهدي عليه السلام.
وفي هذا « النهج » أيضاً كلام للإمام عليّ عليه السلام عن علمه بالمغيّبات في مناسبات كثيرة ..
منها : قوله عليه السلام : « فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي نفسي بيده ! لا تسألوني عن شيء في ما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها ، وقائدها ، وسائقها ، ومُناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ، ومَن يقتل من أهلها قتلا ، ومَن يموت منهم موتاً ، ولو قد فقدتموني ، ونزلت بكم كرائه الأُمور وحوازب الخطوب ، لأطرق كثير من السائلين ، وفشل كثير من المسؤولين » (1).
ومنها : قال مخاطباً أصحابه : « والله ! لو شئت أن أُخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف أن تكفروا فيَّ برسول الله صلّىٰٰٰ الله عليه وآله وسلّم ، ألا وإنّي مفضيه إلىٰ الخاصّة ممّن يؤمن ذلك منه. والذي بعثه بالحقّ واصطفاه علىٰ الخلق ! ما أنطق إلاّ صادقاً ، وقد عهد إليّ بذلك كلّه ، وبمهلك مَن يهلك ومنجىٰ مَن ينجو ، ومآل هذا الأمر ، وما أبقىٰ شيئاً يمرّ علىٰ رأسي إلاّ أفرغه في أُذني وأفضىٰ
ص : 4
به إليّ » (1).
وذكر عليه السلام أنّه استقىٰ علمه هذا من رسول الله صلّىٰٰٰ الله عليه وآله ; إذ قال له بعض أصحابه : لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب.
فقال عليه السلام : « ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب : علم الساعة وما عدّد الله سبحانه بقوله : ( إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (2) ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوىٰ ذلك فعلم علّمه الله لنبيّه فعلّمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي » (3).
وهذا « النهج » في الواقع هو جزء يسير من كلام أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام ، الذي ملأ السهل والجبل ، وانتقل في البدو والحضر ، رواه علىٰ كثرته الرواة ، وحفظه العلماء والدارسون ..
قال المسعودي : « والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيّف وثمانون خطبة يوردها علىٰ البديهة ، تداول عنه الناس ذلك قولاً وعملاً » (4).
وظلّ كلامه عليه السلام طيلة قرون عديدة محفوظاً في الصدور ، مرويّاًً علىٰ الألسنة ، وحاول كثير من العلماء والأُدباء علىٰ مرّ العصور أن يُفردوا لكلامه كتباً خاصّة ودواوين مستقلّة ..
ص : 5
منهم : نصر بن مزاحم ، وأبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبي ، وأبو مخنف لوط بن يحيىٰ الأزدي ، ومحمّد بن عمر الواقدي ، وأبو الحسن علي بن محمّد المدائني ، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، وأبو الحسن علي بن الحسين المسعودي ، وأبو عبد الله محمّد بن سلاّمة القضاعي ، وعبد الواحد بن محمّد بن عبد الواحد التميمي ، ورشيد الدين محمّد بن محمّد المعروف ب- : الوطواط ، وعزّ الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي ، وغيرهم.
إلاّ أنّ أفضل هذه المحاولات وأجودها وأدقّها وأحسنها أبواباً ما قام به الشريف الرضي أبو الحسن محمّد بن الحسين الموسوي في كتابه نهج البلاغة.
وقد بيّن الشريف الرضي في طيّات هذا « النهج » المصادر التي رجع إليها ، والمشايخ الّذين نقل عنهم ، فذكر كتاب البيان والتبيين للجاحظ ، والمقتضب للمبرّد ، وكتاب المغازي لسعيد بن يحيىٰ الأُموي ، وكتاب الجَمل للواقدي ، والمقامات في مناقب أمير المؤمنين لأبي جعفر الإسكافي ، وتاريخ ابن جرير الطبري ، وحكاية الإمام الباقر أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام ، ورواية اليماني عن أحمد بن قتيبة ، وما وجده بخطّ هشام بن الكلبي ، وخبر ضرار بن حمزة الصدائي ، ورواية أبي جحيفة ، وحكاية ثعلب عن أبي الأعرابي.
ومع ذلك وعلىٰ مرّ العصور والأزمان ، فقد شكّك بعض المتعصّبين - الّذين أعمت العصبية بصيرتهم - في نسبة ما ورد في نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام ، وناقشوا بعض الخطب والمواعظ والحكم الواردة فيه ..
ص : 6
يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في ردّهم : « كثير من أرباب الهوىٰ يقولون : إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلامٌ مُحدَث صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربّما عزوا بعضه إلىٰ الرضيّ أبي الحسن أو غيره ، وهؤلاء أعمت العصبية أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح ، وركبوا بُنيّات الطريق ، ضلالاً وقلّة معرفة بأساليب الكلام.
وأنا أُوضّح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط ، فأقول : لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولا ، أو بعضه ..
والأوّل باطل بالضرورة ; لأنّا نعلم بالتواتر صحّة أسناد بعضه إلىٰ أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدّثون - كلّهم أو جلّهم - والمؤرّخون كثيراً منه ، وليسوا من الشيعة ليُنسبوا إلىٰ غرض في ذلك.
والثاني يدلّ علىٰ ما قلناه ; لأنّ مَن قد أنِس بالكلام والخطابة ، وشَدَا طرفاً من علم البيان ، وصار له ذوق في هذا الباب ، لا بُدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقف علىٰ كرّاس واحدٍ يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط ، فلا بُد أن يفرّق بين الكلامين ، ويميّز بين الطريقتين ..
ألا ترىٰ أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام نفسه ، وطريقته ومذهبه في القريض !
ألا ترىٰ أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه ; لمباينتها لمذهبه في الشعر ، وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس كثيراً لمّا ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره ، وكذلك غيرهما من الشعراء ، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ علىٰ الذوق خاصّة !
ص : 7
وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً ، ونَفَساً واحداً ، وأُسلوباً واحداً ، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة ، وكالقرآن العزيز ؛ أوّله كوسطه ، وأوسطه كآخره ، وكلّ سورة منه وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسِور.
ولو كان بعض نهج البلاغة منحولا وبعضه صحيحاً ، لم يكن ذلك كذلك ، فقد ظهر لك بالبرهان الواضح ضلال مَن زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلىٰ أمير المؤمنين عليه السلام.
واعلم أنّ قائل هذا القول يطرُق علىٰ نفسه ما لا قِبَل له به ; لأنّا متىٰ فتحنا هذا الباب ، وسلّطنا الشكوك علىٰ أنفسنا في هذا النحو ، لم نثق بصحّة كلام منقول عن رسول الله صلّىٰٰ الله عليه وآله أبداً ، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول : هذا الخبر منحول ، وهذا الكلام مصنوع ، وكذا ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والآداب وغير ذلك ، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له في ما يرويه عن النبيّ صلّىٰٰٰ الله عليه وسلّم وآله والأئمّة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسّلين والخطباء ، فلناصري أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلىٰ مثله في ما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره ، وهذا واضح » (1).
والكتاب الذي بين أيدينا « تصحيح القراءة في نهج البلاغة » هو ردّ علىٰ ما جاء في كتيّب صغير كتبه طه حامد الدليمي أسماه : « قراءة في نهج البلاغة » ، تعرّض فيه لبعض ما ورد في نهج البلاغة ؛ إذ قرأ « النهج » قراءة
ص : 8
ناقصة ، وناقش بعض ما ورد فيه ، وحاول تطبيقه علىٰ أفكاره ومعتقداته الغامضة التي تدلّ علىٰ سطحيته ، وانخفاض مستواه العلمي إلىٰ حدّ جهله بأشهر الأحداث التاريخية ، وأحوال الرواة وقواعد علم الرجال ، إضافة إلىٰ تعمّده في بتر النصوص التي ينقلها من « النهج » محاولة منه لإقناع القارئ بأفكارة البالية.
فقد تطرّق الكاتب إلىٰ مواضيع طالما أثارها قبله كثير من المشكّكين ، وأجاب عليها علماؤنا الأبرار بأجوبة مفحمة لا تدع للمخالف أيّ مجال للشكّ فيها ، مثل : عدالة الصحابة ، وحديث العشرة المبشّرة بالجنّة ، وشدّة المحبّة بين الإمام عليّ عليه السلام وعمر بن الخطّاب التي وصلت إلىٰ أن يقوم الإمام عليه السلام بتزويج ابنته أُمّ كلثوم من عمر ، ويسمّي أولاده بأسماء : عمر وعثمان ، ويكنّي أحدهم ب- : أبي بكر ، وأنّ الإمام عليّ عليه السلام كان يعتقد بأنّ الخلافة بالشورىٰٰ لا بالنصّ ، كما تذهب إليه الإمامية ، إلىٰ غير ذلك من الأفكار التي باتت - والحمد لله - واضحة للجميع.
ومركز الأبحاث العقائدية ، الذي أخذ علىٰ عاتقه الوقوف أمام الشبهات التي تثار ضدّ التشيّع وأئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وذلك بإصدار مجموعة من الكتب التخصّصية في هذا المجال عبر « سلسلة ردّ الشبهات » ، يقوم بإصدار هذا الكتاب الذي ألّفه الأخ العزيز سماحة الشيخ خالد البغدادي ، الذي استفاد من المعلومات التي جمعها المركز في هذا الموضوع ، ومن الخبرات العلميّة والفنّية المتوفّرة فيه.
وفي الختام يدعو المركز الكتّاب المفكّرين والباحثين إلىٰ المساهمة في رفد هذه السلسلة ، ويُعلمهم بأنّه قام بعدّة خطوات كمقدّمة لهذا المشروع ، يجعلها في متناول أيديهم ، وهي :
ص : 9
أوّلاً : استقصاء وجمع الشبهات المثارة من داخل الدائرة الإسلامية أو المطروحة من خارجها ، وإجراء دراسة دقيقة بشأنها ، من أجل التوصّل إلىٰ منشأ كلّ شبهة وسيرها التاريخي وتطوّرها ، وقد تمّ هذا الأمر بعد أن أجرىٰ المركز مسحاً ميدانياً لمئات من الكتب القديمة والحديثة ، ونظّمت الشبهات حسب المواضيع وحسب الحروف الهجائية.
ثانياً : تجميع الأدلّة وردّ الشبهات من مصادر المسلمين في مختلف المواضيع العقائدية والمسائل الخلافية ، وترتيبها حسب المواضيع وحسب الحروف الهجائية أيضاً ، مع مراعاة الأقدم فالأقدم في هذه الأقوال ، ليتعرّف الباحث علىٰ منشأ الأدلّة وسيرها التاريخي وتطوّرها بمرور الزمان.
ثالثاً : أعدّ المركز قبل ذلك كلّه فهرسة موضوعية للكتب المختصّة بالعقائد والمعارف العامّة والمسائل الخلافية في بطاقات موزّعة حسب الحروف الهجائية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّىٰٰ الله علىٰ نبيّنا وحبيب قلوبنا محمّد بن عبد الله ، وعلىٰ أهل بيته الطيّبين الطاهرين.
محمّد الحسّون
مركز الأبحاث العقائدية
27 محرّم الحرام 1427 ه-
Muhammad@aqaed.com
ص : 10
إلىٰ سيّد المظلومين ، وإمام المتّقين ، ووصي الصادق الأمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، ويعسوب الدين ، وحجّة ربّ العالمين ، أبي السبطين الحسن والحسين : أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وعلىٰ آله أجمعين.
سيّدي ومولاي ! هذا دفاع عن حياض « نهجك » ، وتأكيد آخر أُقدّمه لصريح حقّك ، فامنُن علَيَّ وتقبّله منّي بكرمك ، وكن شفيعي في يوم لا يجوز أحد الصراط إلاّ بكتاب ولايتك.
الراجي شفاعتك
خالد البغدادي
ص : 11
ص : 12
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تخرج علينا بين الفينة والأُخرىٰ كتابات لإخواننا أهل السُنّة تحاول النيل من مذهب العترة النبوية الطاهرة ، مذهب أئمّة الهدىٰ أهل البيت عليهم السلام ..
والموالي لآل البيت عليهم السلام لا ينزعج - في واقع الأمر - من كثرة الكتب التي ترد عليه في هذا الجانب ، لأنّه يعلم أنّها ضعيفة ركيكة واهية ، وأنّ مذهبه من القوّة التي تغنيه بأن يكتب عنها ردّاً واحداً فقط ; إذ أنّ أغلب كتابات الإخوة في هذا المورد تدور في حلقة مفرغة ، لا تنتهي إلاّ من حيث تبدأ ، ذلك لأنّهم يعتمدون في إثبات صحّة مذاهبهم ، وفي نقض مذاهب الآخرين ، علىٰ كتب أهل السُنّة نفسها ، وهو ما يستلزم الدور ، كما لا يخفىٰ (1).
والشيء الأكثر غرابة في الموضوع هو أنّ أرباب تلك الكتابات يحملون شهادات عالية ، كما يثبتون ذلك في كتبهم ، بحيث لا يخفىٰ عليهم - كما هو المتصوَّر عمّن يحمل مثل تلك الشهادات - الاطّلاع علىٰ هذا الجانب الضعيف من بحوثهم واحتجاجاتهم ؛ إذ المعروف في صناعة الجدل
ص : 13
عند المناطقة أن تكون الأدلّة التي يواجه بها الخصم لغرض الاحتجاج عليه من المصادر التي يثق بها الخصم ويعتبرها ، لأنّ ذلك أقرب إلىٰ إلزامه وإفحامه ، وأبلغ في الاحتجاج عليه لغرض إرغامه علىٰ الإقرار بخطإه وسوء طريقته.
أمّا أن تكون أدلّة الاحتجاج من مصادر لا يثق بها الخصم ولا يعتبرها ، بل يثبت من جانبه وضعها واختلاقها بأدلّة المخالف نفسه ، فأنّىٰ للمخالف والحال هذه أن يقنع خصمه بصواب ما يدّعيه ؟!
بينما تجد في الجانب الآخر علماء مذهب أهل البيت عليهم السلام علىٰ العكس من ذلك تماماً ؛ فهم يثبتون دائماً صحّة مذهبهم ، وقوّة عقائدهم من كتب أهل السُنّة أنفسهم ، بل ومن المصادر المعتبرة عندهم ، ولم نجد إلىٰ الآن مؤلَّفاً واحداً في مورد الاحتجاج مع المخالف يثبت صحّة مذهب التشيّع لأهل البيت عليهم السلام من كتب الشيعة أنفسهم ، وهي بين يديك ، تعدّ بالآلاف ، لا تجد فيها كتاباً واحداً ترد عليه مسألة الدور في الاحتجاج.
وإن دلّ ذلك علىٰ شيء فهو يدلّ علىٰ قوّة وأصالة مذهب شيعة أهل البيت عليهم السلام ، بخلاف مذاهب وفرق المسلمين الأُخرىٰ الّتي ظهرت نتيجة الأحداث المؤلمة التي أعقبت وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، والصراع الدموي الّذي جرى علىٰ الموقع الأوّل عند المسلمين منذ وفاته صلى الله عليه وآله وسلم إلىٰ نهاية خلافة العبّاسيّين !!
والسبب في ذلك : أنّ التشيّع لأمير المؤمنين عليه السلام ، ومن ثمّ للأئمّة من ولده عليهم السلام ، إنّما بُذرت بذوره الأُولىٰ ونمت مع بداية الدعوة تماماً ، بل بأوّل إنذار قام به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه من الله عزّ وجلّ ، وهو إنذار عشيرته الأقربين ..
ص : 14
فقد روىٰ الطبري في تأريخه ، وابن الأثير في كامله ، والحلبي الشافعي في سيرته ، وآخرون غيرهم :
إنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حين أنزل الله تعالىٰ : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (1) عليه ، وذلك قبل ظهور الإسلام بمكّة ، دعاهم إلىٰ دار عمّه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصون ، وفيهم أعمامه : أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ...
وفي آخره : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا بني عبد المطّلب ! إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني علىٰ هذا الأمر ، علىٰ أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟
فأحجم القوم عنها غير عليّ - وكان يومئذ أصغرهم - إذ قام فقال : أنا يا نبيّ الله ! أكون وزيرك عليه.
فأخذ رسول الله برقبته وقال : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ...
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (2). انتهىٰ.
ص : 15
فمَن تأمّل هذا الحديث يجد أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم طلب من عشيرته الأقربين ، بأمر الله تعالىٰ ، الاعتراف بالتوحيد لله تعالىٰ ، ثمّ الاعتراف برسالته صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ أمرهم بالسمع والطاعة لأخيه ووصيّه وخليفته عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وهذا هو معنىٰ التشيّع لعليّ عليه السلام الّذي نصّ عليه أرباب اللغة (1).
فالمستفاد من هذا الحديث أنّ بذرة التشيّع لعليّ عليه السلام وضعت مع بذرة الإسلام في يوم واحد وساعة واحدة ، فالصحابة الّذين كانوا ممتثلين لجميع ما أمر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانوا شيعة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وشيعة لعليّ عليه السلام في آن واحد ، سواء سُمّوا بذلك أو لم يُسمّوا ، وقد سُمّي بذلك جماعة من الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - وذلك لِما كانوا يجهرون به من متابعة عليّ عليه السلام ومطاوعته ، منهم : سلمان وأبو ذرّ والمقداد وعمّار وغيرهم.
وقد ذكر ذلك : أبو حاتم سهل بن محمّد السجستاني - المتوفّىٰ سنة 205 ه- - في كتابه : الزينة / ج 3 باب : الألفاظ المتداولة بين أهل العلم ; فقال : أوّل اسم ظهر في الإسلام علىٰ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو : الشيعة ،
ص : 16
وكان هذا لقب أربعة من الصحابة ، وهم : أبو ذرّ الغفاري ، وسلمان الفارسي ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وعمّار بن ياسر ، إلىٰ أوان صِفّين ، فانتشرت بين موالي عليّ عليه السلام (1). انتهىٰ.
وقال محمّد كرد عليّ (2) : عُرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة عليّ في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، مثل : سلمان الفارسي ، القائل : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علىٰ النصح للمسلمين والائتمام بعليّ بن أبي طالب والموالاة له.
ومثل : أبي سعيد الخدري ، الّذي يقول : أُمر الناس بخمس ، فعملوا بأربع وتركوا واحدة. ولمّا سئل عن الأربع ، قال : الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحجّ. قيل : فما الواحدة الّتي تركوها ؟ قال : ولاية عليّ ابن أبي طالب. قيل له : وإنّها لمفروضة معهنّ ؟ قال : نعم هي مفروضة معهنّ.
ص : 17
ومثل : أبي ذرّ الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت ، وأبي أيّوب الأنصاري ، وخالد بن سعيد ابن العاص ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وكثير أمثالهم (1). انتهىٰ.
ولا أُريد هنا الاستطراد في بيان باقي الأدلّة ; فإنّ القارئ الكريم سيطّلع علىٰ شيء منها في ثنايا هذا الكتاب الّذي بين يديه ، وذلك في ما يختصّ بالبحوث المطروحة فيه ..
وهذا الكتاب - في الواقع - ردّ علىٰ كتيّب طرح منذ فترة ، اسمه : ( قراءة في نهج البلاغة ) ، لكاتبه : طٰه حامد الدليمي ، حاول صاحبه فيه أن ينقض عقائد الشيعة وما هم عليه في الأُصول والفروع ، وبخاصّة في ما يتعلّق بمسألة الإمامة وتفرّعاتها ، ولكن هذه المرّة من كتب الشيعة نفسها ، لا من كتب أهل السُنّة ؛ إذ أنّ نهج البلاغة الجامع لخطب وكلمات وكتب أمير المؤمنين عليّ عليه السلام هو من الكتب الموثّقة والمعتبرة عندهم ..
ولكن مع ذلك فإنّ الكاتب لم يخرج تماماً من شرنقة الدور الّتي أشرنا إليها سابقاً ؛ لأنّه حاول أن يثبت مدّعاه في مواضع عديدة من كتيبه هذا ، وخصوصاً في ما يتعلّق بخيرية الصحابة جميعاً ، بأحاديث جاء بها من كتب أهل السُنّة نفسها ، ومع اعتراضنا علىٰ هذه الطريقة - غير العلمية وغير العملية في آن واحد - في الاحتجاج ، وهو حقّ مشروع في مقام طلب اعتبار الأدلّة ، فإنّنا سايرنا الكاتب في دعاويه وناقشناه بها من كتبه نفسها ، ولم نبخل عليه بالإرشاد إلىٰ المصادر الّتي تعينه علىٰ البحث والتحقيق الجادّيْن.
ص : 18
وممّا يؤاخذ أيضاً علىٰ الكاتب ، في كتيبه هذا ، والّذي يقول عنه في بداية مقدّمته :
« هذه جمل مختارة من جواهر كلام سيّدنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، انتقيتها من كتاب نهج البلاغة ، دعاني إلىٰ اختيارها وأغراني بانتقائها أنّ هذه الكلمات المباركات تصحّح كثيراً من الأوهام الفاسدة والمفاهيم الباطلة الّتي تنسب إلىٰ سيّدنا عليّ نفسه بوصفها مسلّمات لا تخطر مناقشتها علىٰ بال ، ولا يدور شكّ في صحّتها علىٰ خيال ; لكثرة ما تردّدت علىٰ الأسماع ولُقّنَت في الأذهان.
وكنت أقرأ القرآن الكريم ، وأقف عند آياته المحكمات ودلائله البيّنات ، فأجد مصادمة واضحة بين تعاليمه وما يدعو إليه وبين تلك المفاهيم فتأخذني الدهشة ، ويعتريني الريب لهذا الّذي أقرأ وذلك الّذي لُقّنْت.
ثمّ شاءت الأقدار أن أطّلع علىٰ كتاب نهج البلاغة (1) وإذا بي أجد فيه كثيراً من النصوص الهادية والكلمات المبصرة توافق القرآن ، وتصحّح ما علق بالأذهان ، فهششت لها وسعدت بها برهة من الزمن كنت فيها أعرض هذه النصوص والكلمات علىٰ بعض أحبابي وإخواني ممّن عانوا ما عانيت وارتابوا ممّا ارتبت فيأخذهم العجب ، وكان بعضهم لا يطمئن حتّىٰ يمسك بالكتاب نفسه ليتأكّد ممّا سمع ، ثمّ بعد لحظات أراه يهزّ رأسه ثمّ تنفرج أساريره لتظهر علىٰ قسمات وجهه ابتسامة الرضا وعلامة اليقين وقد هدأت نفسه وقرّت عينه ، فأحمد الله علىٰ ذلك.
ص : 19
ثمّ رأيت أن أُسجّل بعضها في رسالة أُوجّهها إلىٰ إخواني في الله ... ». إلىٰ آخر كلامه (1).
أقول :
ممّا يؤاخذ علىٰ الكاتب ، أنّ قراءته هذه في نهج البلاغة كانت ناقصة ، بدليل أنّك ستجد أنّ أغلب الردود الّتي أوردناها عليه هي من نهج البلاغة نفسه ، الأمر الّذي يدلّ علىٰ أنّ الكاتب لم يقرأ الكتاب قراءة كاملة.
أو أنّه قرأه قراءة كاملة ولكنّه لم يدرك معانيه !
أو أنّه أدرك معانيه لكنّه أخفاها علىٰ قارئ كتيبه هذا !!
أو أنّه قرأه وفهم معانيه لكنّه اختار منه ما يناسب مذهبه فقط ، وطرح ما يخالف رغبته أو ما فطم عليه وتعصّب له من عقائد !!
ولو ثبت الفرض الأخير سيصدق عليه قوله تعالىٰ : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض ) (2) ; أي : مع كون مصدر القول واحد ...
فهذه فروض أربعة لا يخلو موقف الكاتب هنا من واحدة منها ، فليختر لنفسه منها أيّها شاء.
فإن قال قائل :
إنّما أورد الكاتب ما نقله عن نهج البلاغة من باب الإلزام.
ص : 20
قلنا :
طريقة بيانه واستفاداته من النهج تنافي ذلك ; إذ اعتبر ما نقله « جمل مختارة » و « جواهر » و « كلمات مباركات » و « نصوص هادية » ... إلىٰ آخر كلماته ، وهذا لا يُفهم منه الإلزام بشيء ، وإنّما يدلّ علىٰ القناعة والاعتقاد.
ولو سلّمنا بذلك ، نقول : علىٰ المُلزِم أن يأتي بما يُلزِم به تامّاً غير مقطوع ، أو مجمل ، أو مبتور القرائن ; فإنّ ذلك في الواقع من تعمّد الإيهام دون الإلزام.
ولو سلّمنا ، نقول : لا يوجد في النهج كلّه ممّا يمكن أن يُلزمنا به الكاتب في عقائد الإمامية ويعدّ مخالفاً لما ورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ..
وسيلاحظ القارئ الكريم من خلال متابعته معنا أنّ إيرادات الكاتب غير واردة.
وأيضاً هناك ملاحظة أُخرىٰ ترد علىٰ الكاتب وهي : إنّ أغلب « النصوص الهادية » التي قدّمها لقارئه كانت - في الواقع - مبتورة ، ومجرّدة عن القرائن اللفظية والحالية الّتي تعطي صورة واضحة ، أو قريبة من الوضوح ، لقارئ كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، ولبيان المراد منه ، وستقف علىٰ هذا الأمر في موارد عديدة من كتيبه هذا !
وستلاحظ أيضاً مدىٰ فهمه لكلمات أمير المؤمنين عليه السلام وتقارنه بفهم شارحي النهج : ابن أبي الحديد الشافعي ، علاّمة المعتزلة ، والشيخ محمّد عبده ، شيخ الجامع الأزهر في زمانه ، وذلك عندما نعرض أقوالهما مع قوله في بيان بعض النصوص الّتي جاء بها الكاتب من النهج.
ص : 21
وفي الختام ..
آمل أن يعيد الكاتب قراءة نهج البلاغة مرّة ثانية ، ويقدّم بحثاً متكاملاً نافعاً ، ينفع به نفسه والآخرين ، ليهش ويسعد به الناس حقيقةً ، كما يهش ويسعد به هو !
ولا يغرّن الكاتب انفراج أسارير بعض أحبابه وإخوانه لقراءته المبتسرة هذه ; فإنّهم لا يغنون عنه من الحقّ شيئاً ، ولا هم بنافعيه يوم القيامة ، يوم يأتي كلّ إنسان طائره في عنقه ، ( وَكُلَّ إِنْسِن أَلْزَمْنَهُ طَبِرَهُ فِى عُنُقِهِى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ كِتَبًا يَلْقَلهُ مَنشُورًا ) (1) ، ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَحِبَتِهِى وَبَنِيهِ*لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (2) ..
فإنّ أغلب الظنّ أنّ هؤلاء الأحباب والإخوان إن لم تكن أساريرهم قد انفرجت مجاملة له ، فإنّ الظاهر منهم أنّه لم يكن لهم حظّ من العلم ليتمكّنوا من ملاحظة الهفوات والفجوات في الدعاوىٰ المعروضة عليهم. والّتي سيطّلع القارئ عليها بالتفصيل عند متابعته معنا لقراءة في نهج البلاغة وتصحيحها.
أسأل الله تعالىٰ أن يمنّ علىٰ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بجمع الكلمة ، وأن يوحّد صفوفهم بوحدة حقيقية في الأُصول والفروع يغيظون بها عدوّ الله وعدوّهم من اليهود والنصارىٰ المستكبرين ، وأن يجنّبهم شرّ العصبيات والأهواء. فقد وصلت الأخبار إلينا ، ونحن علىٰ
ص : 22
وشك الانتهاء من هذا الكتاب بأنّ أهل السُنّة في أفغانستان وخصوصاً الوهّابيّين يعملون علىٰ قتل الشيعة قتلاً جماعياً لا لشيء سوىٰ كونهم شيعة لآل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم !! وأنّهم لا يستثنون من القتل من الذكور ممّن بلغ سبع سنين فما فوق !! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وأقول :
لو أنّ الوهّابيّين في أفغانستان أقبلوا علىٰ عرض آراء حركتهم (1) ، وفق المنهج الّذي يريده الله عزّ وجلّ في الدعوة إلىٰ الحقّ ، كما جاء في قوله تعالىٰ : ( ادْعُ إلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين ) (2) ..
وأنّهم ابتعدوا عن الدعوة إلىٰ ما يبغون إليه بالسلاح والحراب ، لكان ذلك أقوىٰ مؤيّد لهم علىٰ مشروعية دعوتهم ونورانيّتها إن كان لها نور ، فقد استدلّ العلماء سابقاً علىٰ كون أعجاز القرآن هو البلاغة وذلك حينما علموا بأنّ المشركين من العرب قد خرجوا علىٰ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالسنان والحراب
ص : 23
ولم يردّوا علىٰ تحدّي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لهم علىٰ لسان القرآن نفسه في إبطال دعوىٰ النبوّة ، بالإتيان بمثل القرآن ، أو الإتيان بعشر سور من مثله ، أو حتّىٰ بسورة واحدة من مثله ، مع أنّ هذا الأمر كان أيسر لهم وأقلّ كلفة من تجشّم عناء الحروب وويلاتها ; فقد كانوا هم أهل الفصاحة والبلاغة لا يشقّ لهم في هذا الجانب غبار !!
فالقوّة واستخدام السلاح - في الواقع - هما وسيلتا الضعيف العاجز عن إقناع الآخرين بصدق ما يدّعيه ، وخاصّة في ما يتعلّق بالأُمور العقائدية ، فتراه يلجأ إليهما هرباً من الاعتراف بالضعف والعجز الفكريّين.
والأنبياء والرسل لم يلجأوا إلىٰ استخدام السلاح في وجه خصومهم إلاّ بعد أن استنفذوا كلّ الوسائل الممكنة لإقناع الخصوم ، بل لم يلجأوا إلىٰ استخدام السلاح - كما هو الثابت في أغلب الوقائع - إلاّ بعد الظلم والعذاب والاعتداء عليهم ، مع ملاحظة الخُلق الرفيع والحلم الكبير الّذي كان يجابه به الأنبياء مخالفيهم ، لا الغلظة والفظاظة والعمل علىٰ تكفير المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بلا دليل معتبر أو حجّة دامغة كما هو شأن الوهّابيّين مع خصومهم اليوم !!
اللّهمّ نسألك السلامة في ديننا ، ونسألك أن تعيننا علىٰ أنفسنا بما تعين به الصالحين علىٰ أنفسهم ، إنّك سميع قريب مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
خالد البغدادي
25 جمادىٰ الأُولىٰ - 1419 ه-
ص : 24
ص : 25
ص : 26
لقد هيّأ لي الردّ علىٰ كتيّب ( قراءة في نهج البلاغة ) مناسبة عزيزة علىٰ نفسي كنت أطلبها منذ زمن ، ألا وهي الكتابة عن هذا الأثر العظيم والسفر الخالد ، واستزادة التأمّل في نصوصه وبياناته الّتي لم تزِدني كثرة المطالعة فيها إلاّ الشوق بالعودة إليها مرّات ومرّات ; لِما لهذه النصوص من أهمّية كبيرة في بيان الكثير من جوانب المعرفة في الدين ، والتاريخ ، والسياسة ، والفلسفة ، والنفس ، والاجتماع ... إلىٰ غير ذلك من العلوم الّتي كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام باب مدينة علم المصطفىٰ صلى الله عليه وآله وسلم يفيض بها علىٰ المسلمين في أيّامه.
وعلىٰ الرغم من أنّنا لم نقلّب أو نتصفّح هنا إلاّ الشيء اليسير من هذه النصوص ، وذلك حسب البحوث الواردة في الكتيّب المردود عليه ، ولكن نأمل أن يتهيّأ لنا في المستقبل - بفضل الله ومنّه - ما يحقق كمال الرغبة من البحث في نهج البلاغة علىٰ نطاق أوسع.
وقد ارتأيت في هذه المناسبة أن أُقدّم لقارئي العزيز مقدّمة بسيطة للتعريف ب- : نهج البلاغة وبيان ما له من المنزلة والشأن عند علماء المسلمين وأُدبائهم ، وكذلك ردّ بعض الشُبه الّتي أُثيرت بشأن الكتاب المذكور ..
ص : 27
فأقول :
إنّ أكثر ما استأثر باهتمام الكتّاب والمحقّقين في العصور الإسلامية السالفة والحاضرة الوقوف علىٰ كتب أعطت للتاريخ حقيقة واقعية أصلها القرآن الكريم والسُنّة النبوية الشريفة ... ومن تلك الكتب والآثار التاريخية : كتاب نهج البلاغة ..
فقد نال هذا الكتاب من الأهميّة والشأن بما لم يحظَ به كتاب غيره علىٰ مرّ العصور ، وأصبح له من الشروح ما بلغ (75) شرحاً في حساب بعض المؤلّفين (1) ، و (101) من الشروح في حساب مؤلّف آخر (2).
وليس غريباً أن يكون لل- « نهج » كلّ هذه الأهمّية وهذا الشأن ؛ فقد كان الإمام عليّ « إمام الفصحاء وسيّد البلغاء ، وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين ، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة » ، كما يروي عزّ الدين ابن أبي الحديد (3).
ص : 28
ويقول عبد الحميد الكاتب : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثمّ فاضت.
ويقول ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب.
ولمّا قال محفن بن أبي محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيا الناس ! - يعني عليّاً - قال له : ويحك ! كيف يكون أعيا الناس ؟! فو الله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره.
ثمّ قال ابن أبي الحديد : ويكفي هذا الكتاب الّذي نحن شارحوه دلالة علىٰ أنّه لا يُجارىٰ في الفصاحة ، ولا يُبارىٰ في البلاغة ، وحسبك أنّه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العُشر ، ولا نصف العُشر ممّا دُوّن له ، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان والتبيين وفي غيره من كتبه (1).
ويقول الشيخ محمّد عبده (2) : وليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل
ص : 29
بأنّ كلام الإمام عليّ بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالىٰ وكلام نبيّه ، وأغزره مادّة ، وأرفعه أُسلوباً ، وأجمعه لجلائل المعاني (1).
ويقول الدكتور زكي نجيب محمود : ونجول في أنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام عليّ ، الّتي اختارها الشريف الرضي (2) ( 970 م - 1016 ) وأطلق عليها : نهج البلاغة ، لنقف ذاهلين أمام روعة العبارة وعمق المعنى ..
فإذا حاولنا أن نصنّف هذه الأقوال تحت رؤوس عامّة تجمعها ، وجدناها تدور - علىٰ الأغلب - حول موضوعات رئيسية ثلاثة ، هي نفسها الموضوعات الرئيسية الّتي ترتد إليها محاولات الفلاسفة ، قديمهم وحديثهم علىٰ السواء ، ألا وهي : الله والعالم والإنسان.
ص : 30
وإذاً فالرجل - وإن لم يتعمّدها - فيلسوف بمادّته وإن خالف الفلاسفة في أنَّ هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرتهم نسقاً علىٰ صورة مبدأ ونتائجه ، وأمّا هو فقد نثر القول نثراً في دواعيه وظروفه (1).
أمّا صبحي الصالح فيقول في مقدّمته : منذ أن تصدّىٰ الشريف الرضي لجمع ما تفرّق من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ووسمه : « نهج البلاغة » أقبل العلماء والأُدباء علىٰ ذلك الكتاب بين ناسخ له يحفظ نصّه في لوح صدره ، وشارح له ينسم الناس عن تفسيراته وتعليقاته (2).
ويقول الكاتب لبيب بيضون - الكاتب السوري المعروف - في تصنيفه لل- « نهج » : لا يشكّ أديب أو مؤرّخ أو عالم ديني أو اجتماعي في ما ل- « نهج البلاغة » من قيمة جلّىٰ ، وإنّه في مصافِ الكتب المعدودة ، والّتي تعتبر من أُمّهات الكتب ...
كيف لا ؟! و « نهج البلاغة » هو كلام أمير المؤمنين ، ذلك الإمام الّذي كان قدوة مثالية للمسلمين ، ونبراساً رائداً للمؤمنين ، حتّىٰ إنّ الخليل بن أحمد حين سئل عنه : ما تقول في الإمام عليّ ؟ قال قوله المأثور : احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل علىٰ أنّه إمام الكلّ في الكلّ ...
ثمّ قال : إنّ « نهج البلاغة » هو أعظم كتاب أدبي وديني وأخلاقي واجتماعي بعد القرآن والحديث النبوي الشريف ، وهو أحد المصادر الأربعة الّتي لا غنىً للأديب العربي عنها ، وهي : القرآن الكريم ، ونهج البلاغة ، والبيان والتبيين للجاحظ ، والكامل للمبرّد (3).
ص : 31
ولقد عزّ علىٰ بعض « الناس » ! من المتقدّمين أن يكون نهج البلاغة أُنموذجاً من كلام عليّ ، وصورة مصغّرة من منهجه العام في الدين والسياسة والإدارة العامّة للدولة ، ممّا أراد تطبيقه عندما آلت الخلافة إليه ، فتوجّهوا بسهام الشكّ نحوه زاعمين : « إنّه ليس كلام عليّ ، وإنّما الّذي جمعه ونسبه إليه هو الّذي وضعه » (1).
وقد تصدّىٰ عدد من الكتّاب والأُدباء والباحثين إلىٰ ردّ مزاعم هذه الفرية وإقامة البرهان علىٰ زيف هذه المزاعم وكذب هذه الادّعاءات.
وكان في طليعة من تصدّىٰ لتفنيد هذه الشبهة أديب عصره عزّ الدين ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي في شرحه لل- « نهج » ، ونروي في ما يلي فقرات ممّا كتبه هذا الأديب :
« إنّ كثيراً من أرباب الهوىٰ يقولون : إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلام محدَث ، صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربّما عزوا بعضه إلىٰ الرضي أبي الحسن وغيره ، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم ، فضلّوا عن النهج الواضح ...
وأنا أُوضّح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط ، فأقول : لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً ، أو بعضه.
والأوّل باطل بالضرورة ; لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلىٰ أمير
ص : 32
المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدِّثون كلّهم أو جُلّهم والمؤرّخون كثيراً منه ، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلىٰ غرض في ذلك.
والثاني يدلّ عليه ما قلناه ؛ لأنّ مَن قد أنس بالكلام والخطابة ، وشدا طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب ، لا بُدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقف علىٰ كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء ، أو لاثنين منهم فقط ، فلا بُدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين.
ألا ترىٰ أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام ، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام ونفَسه وطريقته ومذهبه في القريض ...
وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً ، ونفَساً واحداً ، وأُسلوباً واحداً ، كالجسم البسيط الّذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية ، وكالقرآن العزيز ، أوّله كأوسطه ، وأوسطه كآخره ... فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلىٰ أمير المؤمنين عليه السلام » (1).
كما يروي ابن أبي الحديد عن شيخه أبي الخير الواسطي ، فيقول : « أمّا أبو الخير سأل يوماً أُستاذه ابن الخشّاب بعد انتهائهما من قراءة خطبة عليّ المعروفة بالشقشقية : أتقول أنّها منحولة ؟!
فقال له : لا والله ! وإنّي لأعلم أنّها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق.
ص : 33
قال : فقلت له : إنّ كثيراً من الناس يقولون إنّها من كلام الرضي رحمه الله تعالى.
فقال : أنّىٰ للرضي ولغير الرضي هذا النفَس وهذا الأُسلوب ؟! وقد وقفنا علىٰ رسائل الرضي وعرفنا طريقته في الكلام المنثور ...
ثمّ قال : والله ! لقد وقفت علىٰ هذه الخطبة في كتب صُنّفت قبل أن يُخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط مَن هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يُخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي » (1).
ثمّ يعلق ابن أبي الحديد علىٰ هذه الخطبة نفسها فيقول : « وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي ، إمام البغداديّين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخلق الرضي بمدّة طويلة.
ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبّة ... وكان من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالىٰ ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالىٰ موجوداً » (2).
وعندما ترجم الإمام الزيدي يحيىٰ بن حمزة العلوي ، المتوفّىٰ سنة 745 ه- ، لعليّ عليه السلام قال : « وأعظم كلامه : ما حواه كتاب نهج البلاغة ، وقد تواتر نقله عنه ، واتّفق الكلّ علىٰ صحّته » (3).
قال الكاتب المصري محمّد عبد الغني حسن : « ولن نعيد هنا القول
ص : 34
في ما لوىٰ به بعض المتعنّتين أشداقهم من أنّ نهج البلاغة هو من كلام الشريف الرضي نفسه وأنّه ليس للإمام عليّ كرّم الله وجهه ; فتلك قضية أحسن الدفاع فيها : ابن أبي الحديد في القديم ، كما أحسن الدفاع عنها في زماننا هذا : الشيخ محمّد محيي الدين عبد الحميد » (1).
أمّا الشيخ محمّد عبده فقد قال في بداية تعليقته مؤكّداً بأنّ : « ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه .. جمع متفرّقه وسمّاه بهذا الاسم : ( نهج البلاغة ).
ولا أعلم اسماً أليَق بالدلالة علىٰ معناه منه ، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد ممّا دلّ عليه اسمه ... » (2).
وقد حقّق ودقّق الدكتور صبري إبراهيم ، من جامعة عين شمس ( جامعة قطر ) صحّة ونسبة هذا الكتاب لجامعه الشريف الرضي ، كما حقّق ودقّق سند الخُطب والأقوال للإمام أمير المؤمنين عليه السلام (3).
وأقول :
كثيرة هي المصادر التراثية المعتمدة الّتي روَت كلام الإمام عليّ عليه السلام وخطبه ، وقد سبق تأليفها علىٰ عهد الشريف الرضي جامع نهج البلاغة (4).
وكان السيّد عبد الزهراء الخطيب الحسيني قد أحصىٰ « 109 » مصادر
ص : 35
مؤلَّفة قبل سنة 400 ه- - وهي سنة جمع الشريف لل- « نهج » - قد استشهدت بكلام الإمام وخطبه ورسائله (1) ، وحملت هذه المصادر إلىٰ الأجيال التالية تلك النصوص العلوية دون أن تبدي أي شكّ في ذلك أو ريب أو توقّف.
ويكفينا أن نعلم أنّ من جملة أُولئك الرواة القدماء :
المفضل الضبي ، المتوفّىٰ سنة 168 ه-.
نصر بن مزاحم ، المتوفّىٰ سنة 202 ه-.
القاسم بن سلام ، المتوفّىٰ سنة 223 ه-.
ابن سعد ، المتوفّىٰ سنة 230 ه-.
محمّد بن حبيب ، المتوفّىٰ سنة 245 ه-.
الجاحظ ، المتوفّىٰ سنة 255 ه-.
السجستاني ، المتوفّىٰ سنة 255 ه-.
المبّرد ، المتوفّىٰ سنة 258 ه-.
ابن قتيبة ، المتوفّىٰ سنة 276 ه-.
البلاذري ، المتوفّىٰ سنة 279 ه-.
البرقي ، المتوفّىٰ سنة 274 أو 280 ه-.
اليعقوبي ، المتوفّىٰ سنة 284 ه-.
أبا حنيفة الدينوري ، المتوفّىٰ نحو سنة 290 ه-.
أبا جعفر الصفّار ، المتوفّىٰ سنة 290 ه-.
أبا العبّاس ثعلب ، المتوفّىٰ سنة 291 ه-.
ابن المعتز ، المتوفّىٰ سنة 296 ه-.
ص : 36
الطبري ، المتوفّىٰ سنة 310 ه-.
ابن دريد ، المتوفّىٰ سنة 321 ه-.
ابن عبد ربّه ، المتوفّىٰ سنة 328 ه-.
الزجّاجي ، المتوفّىٰ سنة 329 ه-.
الجهشياري ، المتوفّىٰ سنة 331 ه-.
الكندي ، المتوفّىٰ سنة 350 ه-.
أبا الفرج الأصبهاني ، المتوفّىٰ سنة 356 ه-.
القالي ، المتوفّىٰ سنة 356 ه- (1).
قال تعالىٰ : ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاَْرْضِ ) (2).
صدق الله العليّ العظيم
* * *
ص : 37
ص : 38
ص : 39
ص : 40
قال الدليمي في مقدّمته ، في معرض كلامه عن الدعوة إلىٰ التئام المسلمين ولمّ الشمل :
« فلنعصتم بحبل الله ، ولنعد إلىٰ كتاب الله ، فنأخذ بكلّ ما وافقه ونطرح ما سواه ; فإنّك واجد أقوالاً أُخرىٰ منسوبة إلىٰ عليّ رضي الله عنه إلاّ أنّك إذا وزنتها بميزان الحقّ طاشت كفّتها وبان زخرفها .. فعن أبي عبد الله رضي الله عنه ، قال : ( كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف ). وعنه يرفعه : ( كلّ ما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه ). وأمّا سيّدنا عليّ فيقول عن القرآن : ( فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو حبل الله المتين ، وهو الصراط المستقيم ، مَن تركه من جبّار قصمه الله ، ومَن ابتغىٰ الهدىٰ في غيره أضلّه الله ). وصدق سيّدنا عليّ رضي الله عنه ; فلو رجع المسلمون إلىٰ كتاب الله وتحرّوا عن كلّ قول أو عمل فأخذوا بما وجدوا له شاهداً فيه وإلاّ ردّوه علىٰ ما جاء به لَما بقي بينهم خلاف ، ولا حصل بينهم شقاق » (1).
أقول :
لم يبيّن لنا الكاتب - في ما كتبه هنا وما بعده - الأقوال المنسوبة إلىٰ
ص : 41
أمير المؤمنين عليه السلام الّتي تطيش كفّتها ويبان زخرفها لو وزنت بميزان القرآن !! وإنّما اكتفى بذكر بعض أقوال الإمام عليه السلام الواردة في نهج البلاغة ، والّتي جاء بها لتصوّره بأنّها تسند مدّعاه في ردّ بعض ما هو معلوم عن أمير المؤمنين عليه السلام ، والّذي عليه شيعته وأتباعه ، وسنأتي - إن شاء الله تعالىٰ - علىٰ ذكرها وبيانها بالتفصيل عند متابعتنا لقراءة الكاتب في نهج البلاغة.
وأمّا عن دعوته بالعودة إلىٰ كتاب الله والأخذ بكلّ ما وافقه وطرح ما سواه ، فهو المأثور عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ، ولكن لهم في ذلك بيان وتفصيل لم يذكره الكاتب ولم يشر إليه ، وترك دعوته هذه مجملة ممّا يشكل علىٰ قارئ كتيّبه فهمه أو الاستفادة منه !!
وعلىٰ سبيل المثال : ماذا يقول الكاتب لو سأله سائل - مثلاً - عن كيفية العودة إلىٰ كتاب الله عزّ وجلّ وكلّ فرق المسلمين ، الّتي يشملها حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « ستفترق أُمّتي إلىٰ ثلاث وسبعين فرقة ، كلّها في النار إلاّ واحدة » (1) ، تعتمد علىٰ كتاب الله ، وتتّخذه مرجعاً لها في بيان أدلّتها وحججها ، ومع هذا قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عنها : « كلّها في النار إلاّ واحدة » !!
الأمر الّذي يدلّ علىٰ أن ليس كلّ عائد إلىٰ كتاب الله وآخذ منه مصيب بعودته وأخذه ، فرُبّ عائد إلىٰ كتاب الله يفسّره برأيه ويقول فيه
ص : 42
بغير علم فيتبوّأ بذلك مقعده من النار ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه المعروف ، الّذي رواه أحمد في مسنده 1 / 233 : « مَن قال بالقرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ».
ورُبّ عائد لم يحط بعلوم القرآن كلّها ، ولم يعرف متشابه القرآن من محكمه ، أو خاصّه من عامّه ، أو مطلقه من مقيّده ، أو ناسخه من منسوخه ، ومع ذلك تصدّىٰ لبيان الأحكام منه ، ويحسب أنّه علىٰ هدىً من أمره ، وربّما تبعه علىٰ ذلك قوم فتنوا بقوله فعملوا به ، فكانت عودة مثل هذا عودة ناقصة قاصرة لا تُبرئ ذمّته ولا ذمّة أتباعه بمثل هذا الأخذ الناقص المقتصر عن كتاب الله ! قال تعالىٰ : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) (1).
وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة : « ترد علىٰ أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضية بعينها علىٰ غيره فيحكم فيها بخلافه ، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً ، وإلٰههم واحد ، وكتابهم واحد ، ونبيّهم واحد ..
أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه ؟!
أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم علىٰ إتمامه ؟!
أم كانوا شركاء له ; فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضىٰ ؟!
أم أنزل الله سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه ؟!
ص : 43
والله سبحانه يقول : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) ، وقال : ( تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ، وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً وأنّه لا اختلاف فيه ; فقال سبحانه : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) ، وإنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنىٰ عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، ولا تُكشف الظلمات إلاّ به » (1) ..
فكيف تكون إذاً العودة الصحيحة إلىٰ كتاب الله الّتي نضمن بها النجاة من النار ، مع علمنا باختلافات العائدين هذه كلّها ؟!
وهل من ضابط معين نحلّ به الإشكال السابق في كيفية العودة إلىٰ كتاب الله العزيز ، الّذي لا تُكشف الظلمات إلاّ به ، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ؟!
فمن أجل حلّ هذا الإشكال الّذي أوقع الدليمي قارئه فيه ، أقول : إنّ الله عزّ وجلّ قد بيّن في كتابه الكريم أنّ للقرآن أهلاً سمّاهم في آيتين منه ب- : « أهل الذكر » ، وأمر المسلمين بالرجوع إليهم وسؤالهم عند عدم العلم ; قال تعالىٰ : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (2).
وسمّاهم في آية أُخرىٰ منه ب- : « الراسخين في العلم » ، وهم الّذين يعلمون تأويل القرآن وتفسيره ; قال الله تعالىٰ : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
ص : 44
كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) (1).
والمستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ العودة إلىٰ القرآن بشكلها التامّ والصحيح تكون بالعودة إلىٰ أهله العارفين به ، الّذين أمر الله سبحانه المسلمين بسؤالهم وأخذ علوم القرآن عنهم ، وإلاّ فالقرآن « إنّما هو خطّ مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بُدّ له من ترجمان » ، كما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام (2).
وقد نهىٰ عليه السلام عن جعله مرجعاً وحيداً عند التنازع ؛ قال لابن عبّاس عندما بعثه إلىٰ الخوارج لمحاججتهم : « لا تخاصمهم بالقرآن ; فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه (3) ، تقول ويقولون ، ولكن حاججهم بالسُنّة ; فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً (4) » (5).
وبالعودة إلىٰ الكتاب نفسه الّذي كان يقرأه الكاتب ، وهو كتاب نهج البلاغة ، ومن خلال كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام باب مدينة علم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، سنتمكّن - إن شاء الله تعالىٰ - من الوصول إلىٰ معرفة « أهل الذكر » ، ومعرفة « الراسخين في العلم » ، الّذين عناهم الله عزّ وجلّ بكتابه الكريم ، والّذين أمر المسلمين بالرجوع إليهم وأخذ علوم القرآن عنهم ..
ص : 45
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من خطبة له : « واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد حتّىٰ تعرفوا الّذي تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّىٰ تعرفوا الّذي نقضه ، ولن تمسكوا به حتّىٰ تعرفوا الّذي نبذه ، فالتمسوا ذلك من عند أهله ; فإنّهم عيش العلم ، وموت الجهل ، هم الّذين يخبركم حكمهم عن علمهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه » (1).
ثمّ يقول عليه السلام في خطبة أُخرىٰ له يذكر فيها آل محمّد عليهم السلام ، ويبيّن حقيقة منزلتهم للمسلمين : « هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم ، لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحقّ في نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ، لا عقل سماع ورواية ؛ فإنّ رواة العلم كثير ، ورعاته قليل » (2).
ص : 46
وفي موضع آخر من النهج نفسه ، يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من خطبة له يذكر فيها فضل أهل بيت النبوّة عليهم السلام : « أين الّذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يُستعطىٰ الهدىٰ ويُستجلىٰ العمىٰ ، إنّ الأئمّة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح علىٰ سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم » (1).
ويقول عليه السلام في موضع آخر : « انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم (2) ، واتّبِعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في ردىً ; فإن لبدوا فالبدوا (3) ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا » (4).
وفي أهل البيت أيضاً يقول عليه السلام : « فيهم كرائم القرآن ، وكنوز الرحمن ، إن نطقوا صدقوا ، وإن صمتوا لم يسبقوا » (5).
أقول :
هذا غيض من فيض نهج البلاغة في بيان أهل الذكر والراسخين في العلم ، الّذين أمر الله المسلمين بسؤالهم وأخذ علوم القرآن عنهم ، فلو أنّ الدليمي كان قد ذكر هذه النصوص عند قراءته لل- « نهج » وعند دعوته بالعودة
ص : 47
إلىٰ كتاب الله الكريم ، لوفّر علىٰ قارئ كتيّبه مشقّة الإجمال الّذي أوقعه فيه ، ولانقلَب منه القارئ علىٰ علم هدىً ومصباح دجىً في كيفية العودة إلىٰ كتاب الله العزيز والأخذ منه (1).
وسيأتي عند بيان النقطة الثانية عشرة أنّ الله سبحانه قد أمر المسلمين بالردّ إلىٰ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أُولي الأمر ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (2).
ومع هذا كلّه فنحن نلزم الكاتب بما ألزم به نفسه من العودة إلىٰ كتاب الله الكريم والأخذ بما وافقه وطرح ما سواه ، وندعوه - حسب دعوته - إلىٰ ترك كلّ الاجتهادات الّتي صدرت عن الخلفاء الثلاثة الأوائل مقابل النصوص القرآنية وعدم الالتزام بها (3) ، وترك ما أفتىٰ به أئمّة أهل السُنّة مقابل النصوص القرآنية من قياسات واستحسانات ما أنزل الله بها من سلطان.
وعلىٰ سبيل المثال : هل يستطيع الكاتب أن يمتثل لأمر الله تعالىٰ في القرآن ويمسح رجله في الوضوء بدل الغسل ؛ لأنّ القرآن جاء بالمسح
ص : 48
لا الغسل (1) ، ويترك زخرف القول الّذي يخالفه ويخالف بذلك قومه وأهل مذهبه ؟!
فإن لم يفعل - ولا أظنّه سيفعل - فإنّه سيكون عندئذٍ ممّن يصدق عليه قوله تعالىٰ : ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (2).
والخلاصة :
1 - لا خلاف بيننا في لزوم الاعتصام بالقرآن ، ولكنّ القرآن فيه محكم ومتشابه ، واختلف العلماء في تفسيره ، فكيف يُتمسّك به وحده ؟!
2 - لزوم الاعتصام بالعترة النبوية كما هو مفاد قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الثقلين المشهور المتواتر : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ; ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبداً » (3) ، الّذي يفهم منه أنّ
ص : 49
النجاة والعص-مة من الضلال أبد الآبدين ، هو في التمسّك بهما - أي القرآن والعترة - معاً ، وإلىٰ هذا المعنىٰ كانت تشير الكلمات السابقة لأمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة ، والمتحصّل من ذلك أنّ مَن لم يتمسّك بالعترة مع الكتاب لا نجاة له !
* * *
ص : 50
ص : 51
ص : 52
قال الدليمي :
« قرأت في القرآن الكريم قوله تعالىٰ : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) آل عمران - 110 ، فعلمت أنّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم(1) هم المعنيّون بها ; إذ أنّ هذه الآية عليهم نزلت ، وعليهم قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صلواتهم تليت ، والخطاب فيها موجّه إليهم ، والأُمّة زمن نزولها لم تكن إلاّ مج-موع الصحاب-ة ، فهم ( خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ، وهم خير هذه الأُمّ-ة ، وذلك مص-داق قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الص-حيح : ( خير القرون قرني ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ الّذين يلونهم ).
ص : 53
وقرأت في القرآن آيات يصعب عدّها ، في مدحهمّ والترضّي عنهم والشهادة لهم بالجنّة ، منها : ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة - 100.
ومنها : قوله : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) الفتح - 18 ، وكانوا ألفاً وأربعمائة ، منهم الخلفاء الراشدون وبقيّة العش-رة المبشَّ-رة بالجنّة ، قال عنهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( كلّهم مغفور له ) ... » (1).
أقول :
نحن نسلّم أنّ أُمّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في زمانه وبعده خير أُمّة ، كما نصّ الكتاب العزيز ، كيف لا ؟! وفيها أهل البيت عليهم السلام ، والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان ... فهؤلاء هم المخاطبون في الآية ، وأمّا الكفّار والمنافقون والفاسقون فهم شرّ أُمّة ولا يمكن وصفهم بالخيرية أبداً ..
فقوله تعالىٰ : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) لا يدلّ بالضرورة علىٰ خيرية جميع الصحابة ; لأنّ من الأصحاب مَن كان ظاهر النفاق ومنهم مَن كان مبطنه ، وقد أخبر الله تعالىٰ عنهم نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم : ( لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (2) ، فلا يمكن أن يكون هؤلاء المنافقون من الأخيار وإنّما المراد
ص : 54
من هذه الآية : أنّ مجموع هذه الأُمّة بمَن فيها من أبرارهم وأئمّتهم من حيث المجموع - لا من حيث الأفراد فرداً فرداً - خير من مجموع سائر الأُم-م ; وأين هذا من الدليل علىٰ خيرية الصحابة جميعاً ؟!
بل إنّ دخول الصحابة - فرداً فرداً - في مضمون الآية موقوف علىٰ إحراز كونهم صلحاء أبرار ; لعدم جواز دخول المنافقين منهم - الّذين علمنا بوجودهم الإجمالي سابقاً - ..
فلو أثبتنا خيرية الجميع علىٰ نحو الأفراد بهذه الآية للزم الدور المحال ; لأنّ الأصحاب لا يدخلون في مضمون هذه الآية إلاّ أن يكونوا من الأبرار ، ولا يكون الدليل علىٰ أنّ الأصحاب أبرار إلاّ بهذه الآية ، وهذا هو الدور الّذي عنيناه ، فتأمّل يرحمك الله !!
ويجدر الالتفات أيضاً إلىٰ أنّ ذيل الآية ، وهو قوله تعالىٰ : ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) يصف الأُمّة الخيّرة بهذه الصفات ، ومن الواضح أنّ هناك من الصحابة مَن يأمر بالمنكر.
روىٰ مسلم في صحيحه : عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص ، عن أبيه ، قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسبّ أبا تراب ؟
فقال : أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلن أسبّه ، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليَّ من حمر النعم ... (1).
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « سُباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر » (2) !!
أمّا الحديث الّذي جاء به الكاتب وسمّاه - علىٰ مبناه - : صحيحاً ، وهو : خير القرون قرني ... الخ ، فبغضّ النظر عن مناقشة سند الحديث
ص : 55
وطرقه ، فإنّ في نصّ الحديث من التهافت والتداعي ممّا لا يصحّ صدوره عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قطعاً !
فالقرن الّذي جاء بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بخمسين سنة كان شرّ قرون الدنيا ، وهو أحد القرون المذكورة في النصّ ، وهو القرن الّذي قُتل فيه سيّد شباب أهل الجنّة ، الإمام الحسين عليه السلام ، ذبحاً من القفا ، وأُوقع بالمدينة (1) ، وحوصرت مكّة ، ونُقض-ت الكعبة (2) ، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه عند القوم والمنتصبون في منصب النبوة الخمور ، وارتكبوا الفجور ، كما جرىٰ ليزيد بن معاوية وليزيد بن عاتكه وللوليد بن يزيد ، وأُريقت الدماء الحرام وقتل المسلمون وسبي الحريم ، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار ونقشت علىٰ أيديهم كما يُنقش علىٰ أيدي الروم ، وذلك في خلافة عبد الملك وإمرة الحجّاج.
وإذا تأمّلت كتب التاريخ وجدت الخمسين الثانية أكثرها شرّاًً لا خير في رؤسائها وأُمرائها ، والناس برؤسائهم وأُمرائهم ! فكيف يصحّ هذا الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ؟!!
ثمّ إنّ الن-بيّ صلى الله عليه وآله وسلم - لو سلّمنا بص-دور الحديث عنه - مدح القرن ولم يقل بإيمان كلّ مَن عاش فيه ، كيف ؟! وفي أهل ذلك الزمان الكفّار والمنافقون والفسّاق والمبتدعون ، ك- : النواصب والخوارج والمرجئة والمعطّلة والجهمية والقدرية وغيرهم.
ص : 56
فالإطلاق في الحديث - بفرض التسليم بصحّته - في حقّ الأصحاب مقيّد بما إذا لم يرت-دّوا ، أو يحدِثوا في الدين ; فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث صحيحة أخرجها أصحاب الصحاح : « ليردنّ علَيَّ الحوض غداً رجال من أصحابي ثمّ ليختلجنّ عن الحوض ، فأقول : يا ربّ ! أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا من بعدك. فأقول : سحقاً سحقاً ... » (1) ، فيكون المعنىٰ : خير القرون قرني ما لم يرتدّ أهله من بعدي ويحدِثوا في الدين.
وما ذكرناه هنا قد استفاده أيضاً الشارحون لهذا الحديث الشريف ; قال القرطبي في تفسيره : الجامع لأحكام القرآن نقلا عن ابن عبد البرّ : « خير الناس قرني » ليس علىٰ عمومه ؛ بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفض-ول ، وقد ج-مع قرنه جماعة من المنافقين والمظهرين للإيمان وأهل الكبائر الّذين أُقيمت عليهم وعلىٰ بعض-هم الحدود (2).
وأقول :
بل جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما ينافي استفادة الخيرية للقرون الثلاثة المدّعاة ..
ففي حديث يرويه أصحاب السُنن عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تصير ملكاً عضوضاً » (3) ؛ قال ابن الأثير في النهاية في
ص : 57
غريب الحديث : أي يصيب الرعية فيه عنف وظلم كأنّهم يُعضّ-ون فيه عضّاً (1). انتهىٰ.
وفي حديث صحّ-حه الحاكم في مستدركه ، وحسنّه ابن حجر في فتح الباري : يا رسول الله ! هل أحد خيرٌ منّا ، أسلمنا معك وجاهدنا معك ؟! قال : « قوم يكونون من بعدكم ، يؤمنون بي ولم يروني » (2).
وأيضاً أخرج أحمد في مسنده : عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه أتىٰ مقبرة فسلّم علىٰ أهل المقبرة فقال : « سلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ». ثمّ قال : « وددت أنّا قد رأينا إخواننا ».
قال : فقالوا يا رسول الله ! ألسنا بإخوانك ؟!
قال : « بل أنتم أصحابي ، وإخواني الّذين لم يأتوا بعد ، وأنا فرطهم علىٰ الحوض ».
فقالوا : يا رسول الله ! كيف تعرف مَن لم يأتِ من أُمّتك بعد ؟!
قال : « أرأيت لو أنّ رجلاً كان له خيل غرّ محجّلة بين ظهراني خيل بهم دهم ، ألم يكن يعرفها ؟! ».
قالوا : بلى.
قال : « فإنّهم يأتون يوم القيامة غرّاً محجّلين من أثر الوضوء وأنا فرطهم علىٰ الحوض » ، ثمّ قال : « ألا ليذادنّ رجال منكم عن حوضي كما يُذاد البعير الضالّ ، أُنادي-هم : ألا هلمّ ، فيقال : إنّهم بدّلوا بعدك. فأقول : سحقاً سحقاً » (3). انتهىٰ.
ص : 58
وروىٰ ابن حبّان في صحيحه : عن عمّار بن ياسر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مثل أُمّتي مثل المطر لا يُدرىٰ أوّله خير أم آخره » (1).
وفي سياق ما تقدّم قال ابن حجر : وروى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعه : « يأتي أيام للعامل فيهنّ أجر خمسين » ، قيل : منهم أو منّا يا رسول الله ؟! قال : « بل منكم » ... قال ابن حجر : وهو شاهد لحديث : مثل أُمّتي مثل المطر (2).
وروى أحمد بسنديه : عن أنس بن مالك ، وعن أبي حامد ، مرفوعاً : « طوبى لمَن رآني وآمن بي ، وطوبى لمَن آمن بي ولم يرني » سبع مرّات (3).
وجاء في فتح القدير - للشوكاني - : أخرج البزّار ، وأبو يعلىٰ ، والحاكم وصحّحه : عن عمر بن الخطّاب ، قال : كنت جالساً مع النبيّ صلى الله عليه وآله فقال : « أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيماناً ».
فقالوا : يا رسول الله ! الملائكة ؟
قال : « هم كذلك ، ويحقّ لهم ، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة الّتي أنزلهم بها ».
قالوا : يا رسول الله ! الأنبياء الّذين أكرمهم الله برسالته والنبوة ؟
قال : « هم كذلك ، ويحقّ لهم ، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة الّتي أنزلهم بها ».
ص : 59
قالوا : يا رسول الله! الشهداء الّذين استشهدوا مع الأنبياء ؟
قال : « هم كذلك ، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة ».
قالوا : فمَن يا رسول الله ؟!
قال : « أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي ، يؤمنون بي ولم يروني ، ويصدّقوني ولم يروني ، يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه ، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً » (1).
وأخرج مثله : القرطبي في تفسيره ، والبيهقي في الدلائل ، والأصبهاني في الترغيب ، والطبراني ، وابن أبي شيبة ، وابن عساكر ، وأحمد ، والدارمي ، والبخاري في تاريخ-ه بأسانيدهم ; فراجع ثمّة !
أما قول-ه تعالىٰ : ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ - إلىٰ قوله - ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ، فهو يدلّ علىٰ أنّ الله سبحانه راضٍ عن السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار ، وقد أخبرنا سبحانه - في آيات أُخرىٰ من كتابه الكريم - أنّه لا يرضىٰ عن القوم الفاسقين ، كما لا يرضىٰ عن المرتدّين عن دينهم ; قال تعالىٰ : ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (2) ..
ومقتضىٰ الجمع بين الآيات المباركة يستلزم القول : إنّ الإقرار بعدالة المذكورين بالآية المباركة - الآية 100 من سورة التوبة - ثابت إلاّ مَن ثبت كفره أو ارتداده أو فسقه ، فنخرجه منهم جمعاً بين الأدلّة ، وليس في ذلك تنقيصٌ لأح-د ، أو بخسٌ لفضله ؛ إذ لا يمكن لأح-د أن يقول : إنّ الصحابي
ص : 60
وإن ارتدّ أو كفر أو فسق ، فهو عادل قد رضي الله عنه ورضي هو عن الله ، فهذا ممّا يرفض-ه الشرع والعقل معاً ، ولا يوجد عليه دليل قطعاً ، بل القائل به خارج عن جماعة العقلاء والمتشرّعة.
أمّا المهاجرون والأنصار من غير السابقين الأوّلين فحالهم حال سائر الناس في توقّف حُسن حالهم علىٰ إحراز اتّباعهم الحسن.
أمّا قوله تعالىٰ : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ، فهو دالّ علىٰ أنّ الله سبحانه راض عن بيعة المؤمنين ، ولم يقل سبحانه أنّه راضٍ عن جميع المبايعين ، أو أنّه راضٍ عن الّذين بايعوا ، هكذا بشكل مطلق يستفاد منه العموم ، وإنّما قيّد سبحانه رضاه ب- : « المؤمنين » فقط ، وعندها علينا إحراز إيمان الشخص المراد شموله بهذه الآية أوّلاً ، حتّىٰ نقول بعد ذلك : إنّه داخل تحت عموم آية الرضوان ، وأنّه حقّاً من الّذين رضي الله عنهم. وإلاّ - أي عند الشكّ في الموضوع ، وهو الشخص المراد تعديله بهذه الآية - لا يصحّ التمسّك بالعموم ؛ لأنّه من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وهو محلّ منع عند الأُصوليّين.
فقولنا - مثلاً - : أكرم العلماء ، لا يصحّ شموله لزيد - فيما إذا كان مصداقاً مشكوكاً في كونه عالماً أو لا - ما لم نحرز أنّه عالم حقّاً ; ليصحّ عندئذٍ إكرامه ودخوله في حكم وجوب الإكرام ، وأمّا إدخاله في حكم العامّ - أي كونه من العلماء الّذين يجب إكرامهم - مع الشكّ في كونه عالماً ، فهذا محلّ منع ، ولا يمكن المصير إليه ; وذلك لأنّ حكم العامّ لا يحرز موضوعه بنفسه ، بل إحراز الموضوع بتمامه يجب أن يتمّ في مرحلة متقدّمة عن الحكم ليص-دق انطباقه عليه.
ص : 61
وعلىٰ أية حال ، فقد يقول قائل :
لماذا هذا الشكّ في المصداق ، فإنّ الآية كشفت عن إيمان المبايعين ، وأنّها دلّت علىٰ أنّ كلّ الّذين بايعوا في هذه الواقعة هم من المؤمنين الّذين رضي الله عنهم.
قلنا :
مع غضّ النظر عن البيان المتقدّم ، وما يفيده كلام القائل هنا من استدلال عقيم ; لِما فيه من جنبة الدور ، فإنّه مخالف لظاهر الآية الكريمة وللنصوص الواردة عن الواقعة ; فقد جعل سبحانه في الآية الكريمة بياناً وعلامة - أي للمؤمنين المبايعين تحت الشجرة - تكشف أنّ رضاه سبحانه كان عن بعض المبايعين لا عن جميع المبايعين ..
فقد قال سبحانه عن الّذين رضي عنهم في البيعة : ( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .. وعند العودة إلىٰ نصوص الواقعة نجد أنّ المبايعين بايعوا علىٰ أن لا يفرّوا ، وفي بعض النصوص : أنّهم بايعوا علىٰ الموت ، وفي بعضها : أنّهم بايعوا علىٰ أن لا يفرّوا وعلىٰ الموت ، وفي رابعة : أنّهم بايعوا علىٰ أن لا يفرّوا دون البيعة علىٰ الموت ، فيكون القدر المتيقّن هو : البيعة علىٰ عدم الفرار ، وإن كان لازم عدم الفرار هو معنىٰ البيعة علىٰ الموت ، فلا تختلف عندئدٍ المضامين الواردة في هذه النصوص (1) ..
ص : 62
إلاّ أنّنا نج-د أنّ جملة من المبايع-ين تحت الشجرة قد فرّوا في أوّل واقعة حصلت بعد هذه البيعة ، وهي واقعة خيبر ، وما جرىٰ فيها من هزيمة بعضهم ، حتّىٰ أنّه رجع إلىٰ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه (1).
فاضطر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يستدعي عليّاً عليه السلام ، وكان أرمد العين حينها ، وأم-ره بالتوجّ-ه إلىٰ خيبر لفتح-ها ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم قبل استدعائه عليّاً عليه السلام تكلّم بكلام أظهر فيه تذمّره من ظاهرة الفرار الّتي تكرّرت في خيبر ; إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم : « سأُعطي الراية غداً إلىٰ رجل يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، كرّار غير فرّار » (2) ( هكذا ) ، وهو تعريض واضح بمَن تكرّرت منهم حالة الفرار من قبل.
فهل يصحّ لقائل أن يقول ، بعد معرفته بشرائط هذه البيعة ومعاهدتهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الوفاء بعدم الفرار (3) ، ثمّ فرارهم الواقعي من المعركة وعدم حصول الفتح علىٰ أيديهم ، وهم كانوا من المبايعين حتماً ، بأنّ : سياق الآية
ص : 63
الكريمة يمكن أن يكون هكذا : إنّ الله علم ما في قلوب بعضهم من عدم الوفاء بالبيعة وأنّهم سيفرّون ، ومع هذا أنزل السكينة علىٰ قلوبهم وأثابهم فتحاً قريباً !!
فهل يمكن قبول مثل هذا البيان وعدّه تفسيراً صحيحاً للآية ؟!
إنّ هذا في الواقع كلام لا يمكن لأحد أن ينطق به ، فضلاً عن قبوله ; لأنّ السكينة تعني الطمأنينة والثبات ، وهي خلاف الخوف والفرار من المعركة ، كما أنّ إثابة الفتح تعني الفوز والنصر ، وهي خلاف الهزيمة وعدم الف-تح ، فكيف يص-ير الجمع بين هذه المتخالفات في كلام الحقّ سبحانه لتتمّ استفادة رضاء الله تعالىٰ عن جميع المبايعين تحت الشجرة كما يرغب بعض-هم ؟!!
إنّ الآية الكريمة في الحقيقة لا تفيد المدّعي في دعواه ، بل هي علىٰ خلاف المدّعىٰ تماماً ؛ لِما فيها من تمييز المرضي عنهم عن غير المرضي عنهم ، وهو خلاف دعوىٰ رضاه سبحانه عنهم جميعاً.
ومع ذلك ، لو تنزّلنا عن هذا أيضاً وقبلنا بأنّ الآية دلّت علىٰ شمول جميع المبايعين تحت الشجرة بالرضوان ، فلا يمكننا قبول القول باستمرار الرضوان عن الجميع ; وذلك لوقوع المعصية منهم بالفرار - في ما بعد - ونقض الع-هد ..
قال تعالىٰ : ( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (1).
أي : قد توعّد سبحانه علىٰ الفرار بالغضب والنار ، فدلّ علىٰ كونه
ص : 64
معص-ية ، والجمع بين استمرار رضا الله وبين وقوع المعصية من العبد باطل ، بل يعدّ موهناً لحقّ الربوبية ومعنى العبودية ; فلا يمكن المصير إليه مطلقاً ...
بل أقول :
لا يستقيم الأمر لأصحاب هذه الدعوىٰ باستمرار الرضوان عن جميع المبايعين ، خاصّة إذا علمنا أنّ قاتل عمّار ، أبا الغادية ، هو ممّن شهد بيعة الرضوان أيضاً (1) ؛ وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حديث يصحّحه الحاكم والذهبي والهيثمي والألباني وغيرهم قوله : « إنّ قاتل عمّار وسالبه في النار » (2) ، فتأمّل !
هذا كلّه ، بالإضافة إلىٰ أنّ الاستدلال بهذه الآية علىٰ عدالة جميع الصحابة يكون أخصّ من دعوىٰ المدّعي ; لأنّ المبايعين تحت الشجرة إنّما كانوا ألفاً وأربعمائة فقط ، بينما مجموع الصحابة يتجاوز المائة وعشرين ألف ، وعليه فلا تتمّ إرادة العموم علىٰ مختلف الوجوه والحالات من هذه الآية الشريفة أيضاً ، فتدبّر جيداً !
ص : 65
أمّا قول الكاتب :
« وفيهم الخلفاء الراش-دون وبقيّة العشرة المبشَّرة بالج-نّة ... ».
فأقول :
إنّ حديث العشرة المبشَّ-رة بالجنّة ، الّذي يشير إليه الكاتب هنا ، لم يظهر إلاّ في زمن معاوية علىٰ لسان راويه سعيد بن زيد - وهو أحد العشرة المبشَّ-رة حسب رواي-ته (1) - ..
وهذه الرواية لا يوجد في طرقها إسناد يصحّ الاحتجاج به ؛ لمحل الخدش في الرواة ، وهي تفوح منها رائحة السياس-ة الأموية الّتي سيأتي الكلام عنها ، وكيف أنّ زمان بني أُميّة امتاز عن غيره من الأزمنة بوضع الأحاديث في الصحابة ؛ كيداً لأهل البيت عليهم السلام ، كما أنّ نصّ الرواية لا يمكن التعويل عليه ; لمحاولته الج-مع بين الأض-داد (2).
أمّا الرواية الأُخرىٰ للحديث ، الّتي يرويها عبد الرحمٰن بن حميد الزهري ، عن أبيه حميد ، عن عبد الرحمٰن بن عوف تارة ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُخرىٰ (3) ، فهي لا تص-حّ أيضاً ؛ لأنّ هذا الإسناد باطل لا يتمّ ، نظراً لوفاة حميد بن عبد الرحمٰن - وهو ليس صحابياً وإنّما كان
ص : 66
من التابع-ين - سنة 105 ه- (1) عن 73 عاماً ، وهذا يعني أنّه مولود سنة 32 ه- ، أي في سنة وفاة عبد الرحمٰن بن عوف أو بعدها بسنة ، ولذلك يرىٰ ابن حجر رواية حميد عن عمر وعثمان منقطعة قطعاً (2) ، وعثمان قد توفّي بعد عبد الرحمٰن بن عوف.
أمّا بقيّة الآيات الكريمة الّتي جاء بها الكاتب ليستدلّ بها علىٰ صلاح الصحابة جميعاً فهي ممّا لا يتمّ بها المطلوب مطلقاً ..
قال الكاتب :
« ووعدهم - أي الصحابة - جميعاً بالجنّة ، الّذين آمنوا من قبل الفتح والّذين آمنوا من بعده ، فقال سبحانه : ( لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَىٰ ) الحديد - 10 ، والله لا يخلف الميعاد ، هو القائل : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ*لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) الأنبياء - 101 ، 102 » (3).
وأقول :
إنّ هذه الآيات لا تدلّ سوىٰ علىٰ أنّ الله وعد المنفقين والمقاتلين في سبيله من الصحابة الحسنىٰ ، وهي مثل قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
ص : 67
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1) ، الشامل لكلّ مؤمن أنفق وجاهد في سبيل الله.
كما أنّ الآية السابقة الّتي استدلّ بها الدليمي - وهي الآية 10 من سورة الحديد - تخرج عنها صنفين من الصحابة :
1 - مَن لم ينفق ويقاتل في سبيل الله وكان من القاعدين ، وقد دلّ القرآن الكريم عليهم في مواض-ع عديدة منه (2).
2 - مَن أنفق وقاتل ولكن في سبيل مصالح دنيوية وأطماع شخصية ، ك- : « قزمان بن الحرث » ، الّذي قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أُحد قتال الأبطال ، فقال أصحاب النبيّ : ما أجزأ عنّا أحد كما أجزأ عنّا فلان. فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : أما إنّه من أهل النار. ولمّا أصابته الجراح فسقط قيل له : هنيئاً لك الجنّة يا أبا الغيداق. قال : جنّة من حرمل ! والله ما قاتلنا إلاّ علىٰ الأحساب (3).
وغير قزمان من الصحابة من الّذين كانوا يقاتلون مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولكن من أجل غايات دنيوية ومطامع فردية ، حتّىٰ سُمّي بعضهم ب- : « قتيل الحمار » ; لأنّه كان يبغي من مقاتلته لأحد المشركين أن ينتصر عليه ويأخذ الحمار الّذي كان يركبه ، ولكن المشرك كان أسرع منه فقتله ، ثمّ كشف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعدها عن نيّة هذا الصحابي المقتول.
وهناك مَن سمّاه المسلمون ب- : « مهاجر أُمّ جميل » ...
ص : 68
إلى غيرها من الشواهد المذكورة في كتب السير والتاريخ الّتي تبيّن لنا أن ليس كلّ مَن أنفق وقاتل أو هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان من أهل الج-نّة (1).
فلا معنىٰ بعد هذا لقول الكاتب : « ووعدهم جميعاً الجنّة ... » !!
فالأوْلىٰ بالكاتب ، بل بكلّ باحث ، أن يسلك في هذا الموضوع منهجاً وسطاً لا إفراط فيه ولا تفريط ، ويعطي لكلّ ذي حقّ حقّه ، ولا يخلط الحابل بالنابل ، فيأتي بأدلّة من القرآن الكريم تفيد العموم مثلاً ، وهو بعد لم يراجع مخصّصاتها ، ليصل إلىٰ القول الفصل في الموضوع ، ويطلق أحكامه قبل ذلك ، وقد اشتهر علىٰ لسان العلماء : ما من عامّ إلاّ وقد خصّ !
وقد أعجبني من كتّاب أهل السُنّة الّذين بحثوا هذا الموضوع بتجرّد
ص : 69
وموضوعية تنمّ عن قدرة كبيرة في البحث والتنقيب : الكاتب والباحث الأُردني المحامي « أحمد حسين يعقوب » في كتابه : نظرية عدالة الصحابة ، فليرجع الدليمي إليه فإنّه سيجد الفائدة المرجوة إن شاء الله تعالىٰ.
ولا يشفع للدليمي أن يذهب إلىٰ ما ذهب إليه من رأي مشبع بالخيال حول صلاح جميع الأصحاب أن يقول مثلاً : « إنّ الطعن فيهم - أي في الصحابة - تكذيب صريح لكتاب الله » (1).
أقول :
كيف يكون بيان الحقّ ، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ، تكذيب صريح لكتاب الله ، ولم يدلّنا علىٰ هذا البيان سوىٰ كتاب الله عزّ وجلّ ؟!
ألم يقرأ الدليمي قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ*إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (2) ..
وقوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (3).
ص : 70
إلىٰ غير ذلك من الآيات الدالّة علىٰ أنّ في الصحابة قابلية الخطأ ، وقابلية التخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجهاد وحبّ الحياة الدنيا ، بل قابلية الانقلاب والارتداد عن الدين ، أم أنّ المخاطبين بهذه الآيات قوم آخرون غير الصحابة ؟!
أو يقرأ قوله تعالىٰ : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) (1).
أو الآيات الّتي جاءت بعد هذه الآية الكريمة ليقف عندها ، ثمّ ينظر إلىٰ التقسيم الإلهي الّذي جاء فيها لواقع الأصحاب وما هم عليه ، قال تعالىٰ : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ... وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ... وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (2).
فهذا التقسيم القرآني لواقع الأصحاب يعطينا صورة واضحة عمّا كانوا عليه في حياة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وكلامه عزّ وجلّ أصدق الكلام ، فالأجدر بالكاتب ، بل بكلّ باحث عن الحقيقة ، راغب في بيانها واطّلاع الناس عليها ، أن يتّخذه أساساً له في البحث في هذا الموضوع ، وأن لا يقول في دين الله إلاّ الحقّ ، ولا يغلو في الأصحاب ويحكم بعدالة كلّ فرد سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو رآه من المسلمين مطلقاً (3).
ص : 71
فالأصحاب - وحسب التقسيم القرآني المستفاد من الآيات السابقة وآيات أُخرىٰ - فيهم العدول ، وهم عظماء الصحابة وعلماؤهم وأولياء أُمورهم ، وفيهم البغاة ، وفيهم أهل الجرائم من المنافقين ، وفيهم مجهول الحال.
بل علىٰ الكاتب أن يقرأ قوله تعالىٰ في سورة التوبة ذاتها ، الآية 119 : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، الدالّ بكلّ وضوح علىٰ أنّ في الأُمّة صنفين من الناس :
الأوّل : المطالَبون بالتقوىٰ ، وبالكون مع الصادقين ، وهم عامّتها.
والثاني : الصادقون ، الّذين أمر الله المؤمنين بالكون معهم ..
فإن قلنا : إنّ الصحابة هم الصادقون حسب هذا الخطاب ، وكذلك هم المؤمنون المطالبون بالتقوىٰ ؛ يكون معنىٰ الآية إذاً : يا أيّها الصحابة ! كونوا مع أنفسكم !! وهذا الكلام غير مراد قطعاً ، فهو لا يصدر من البليغ ، لأنّه لا معنىٰ له ، فلا بُدّ أن يكون الصادقون ، الّذين أمر الله المؤمنين أن يكونوا معهم حسب هذه الآية ، قوماً آخرين غير مجموع الصحابة ، فمَن هؤلاء ؟!
أقول :
مَن رجع إلىٰ حديث الثقلين المار ذكره ، يجد الجواب جليّاً لا غطش - لا ظلمة - فيه (1).
وسيأتي بعد قليل بيان السُنّة النبوية لواقع الأصحاب وما هم عليه بما
ص : 72
يؤيّد القرآن الكريم ويطابقه تماماً.
قال الدليمي :
« إنّ الطعن فيهم ... طعن في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه معلّمهم ومربّيهم » (1).
أقول :
لم نعلم أنّ الطعن في التلميذ طعن في المعلّم حتّىٰ قرأنا كلام الدليمي هنا ، فمن أين أتت الملازمة بين الاثنين يا ترىٰ ؟!
وما ذنب المعلّم الناصح الشفيق الّذي لم يقصّر في تربية تلاميذه قيد شعرة بينما كان بعض تلاميذه لاهين ساهين يتركون معلّمهم قائماً في خطبته وتأديبه لهم لِيُهرَعُوا نحو تجارة أقبلت قد سمعوا طبولها ، أو لهو دقّت كِبره ومزاميره (2) ؟!
وقد قال تعالىٰ من قبل : ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرىٰ ) (3) ، كما قال جلّ شأنه : ( لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) (4).
وبعد هذا لنضرب للقائل بهذا الكلام مثلا ونقول له :
هل قصّر الله سبحانه مع عباده من حيث توفير وتهيئة كلّ سبل الهداية
ص : 73
والتدبّر والتفكّر لهم ، وقد منّ عليهم بإرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتسخير العلماء لتعليمهم وتهذيبهم ؟!
ومع هذا قال سبحانه وتعالىٰ بحقّ عباده هؤلاء : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَرِهُونَ ) (1) ، وقال : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) (2) ، وقال عزّ اسمه : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (3) ...
إلىٰ غيرها من الآيات الدالّة علىٰ تخلّف العباد عن مراد المولىٰ سبحانه وعدم استقامتهم لما ندبهم للسير عليه ; فهل يكون الطعن فيهم طعن في الخالق سبحانه ، مع أنّه سبحانه - وهذا ثابت بدلالة العقل والنقل - لم يقصّر مع عباده قيد أُنملة ؟
إنّ هذا في الواقع تهافت من التفكير ، وإلغاء للحجّة مع تمام المحجّة ; إذ لا تلازم بين الاثنين كما ترىٰ ، فهل يشكّ أحد - مثلاً - في إخلاص نبيّ الله نوح عليه السلام - وهو شيخ الأنبياء - في إعداده وتربيته لابنه ، ومع هذا قد حصل الانحراف من الابن ، بل بان هذا الانحراف واشتهر حتّىٰ صرّح المولىٰ سبحانه بحقّه : ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (4).
فادّعاء الملازمة بأنّ الطعن في التلميذ يستلزم الطعن في المعلّم هذا الأمر لا وجه له ، بل ترد عليه اشكالات لا مخرج منها ، كما تقدّم.
وبعد هذا فلينظر الكاتب إلىٰ أقوال النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه ، ممّا رواه أهل السُنّة في كتبهم ..
ص : 74
أخرج البخاري في صحيحه : عن أبي هريرة ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « يرد علَيَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُحلّؤن (1) عن الحوض ، فأقول : يا ربّ ! أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا علىٰ أدبارهم القهقرىٰ » (2).
وعن أبي هريرة أيضاً ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « بينا أنا قائم إذا زمرة ، حتّىٰ إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم. فقال : هلمّ. فقلت : أين ؟ قال : إلىٰ النار والله. قلت : وما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك علىٰ أدبارهم القهقرىٰ. ثمّ إذا زمرة ، حتّىٰ إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم. فقال : هلمّ. فقلت : أين ؟ قال : إلىٰ النار والله. قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدّوا علىٰ أدبارهم القهقرىٰ ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم » (3).
أقول :
ومَن قرأ قوله تعالىٰ : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (4) ، ثمّ قرأ قوله تعالىٰ :
ص : 75
( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) ، تبيّن له تطابق الكتاب والسُنّة في هذا المورد تماماً ، وإنّهما يصدّقان بعضهما البعض ; فانظر هل ترىٰ من فطور ؟!
قال تعالىٰ : ( مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ*ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ) (1) صدق الله العليّ العظيم.
وكذا أخرج مسلم في صحيحه عن قيس ، عن عمّار ، أنّ حذيفة بن اليمان أخبره ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّىٰ يلج الجمل في سمّ الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدُّبيلة » (2) ، وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم (3).
وأيضاً أخرج البخاري - واللفظ له - ومسلم ، عن سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله : « إنّي فرطكم علىٰ الحوض ، مَن مرّ علَيَّ شَرِب ، ومَن شَرِب لم يظمأ أبداً ، ليرِدنّ علَيَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم » ..
قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عيّاش ، فقال : هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت : نعم. فقال : أشهدُ علىٰ أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : « فأقول : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سحقاً سحقاً ! لمَن غيَّرَ بعدي » (4).
وهذه الأحاديث رواها حفّاظ الحديث من أهل السُنّة بطرق كثيرة
ص : 76
جدّاً وبألفاظ متقاربة ، وفي ما ذكرناه كفاية (1).
قال الدليمي :
« إنّ الطعن فيهم ... هو قنطرة للقول بتحريف القرآن ، إضافة إلىٰ السُنّة النبوية ; لأنّهم هم الّذين رووا ذلك كلّه وعن طريقهم نقل ، والطعن في الراوي طعن في الرواية ولا بُدّ » (2).
أقول :
حاشا لله ! أن يجعل رواة كتابه الكريم - وهو خاتمة الكتب السماوية - ونقلته إلىٰ الأجيال اللاحقة من المنافقين أو الفاسقين أو البغاة ، الّذين علمنا بوجودهم الإجمالي ، ووجودهم التفصيلي في بعض الموارد ، بين الصحابة (3).
ص : 77
وحاشا أيضاً للصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتمن علىٰ أمانته العظيمة - القرآن الكريم - أمثال هؤلاء ، بل الثابت المعلوم أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عيّن جماعة من الصحابة يحفظون القرآن ثمّ يعرض-ونه عليه ، وكان كلّ ذلك يجري تحت عنايته وإشرافه صلى الله عليه وآله وسلم ، ك- : ابن مسعود ، وأُبيّ بن كعب ، وغيرهما (1).
أضف إلىٰ ذلك : وجود باب مدينة علم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام بين ظهراني الصحابة بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو الّذي كان يقول : « والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيم نزلت ، وأين نزلت ، وعلىٰ مَن نزلت ، إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولا ، ولساناً طلقاً » (2).
كما كان عليه السلام يقول : « سلوني عن كتاب الله ! فإنّه ليس من آية إلاّ وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار ، وفي سهل أم في جبل ... » (3).
الأمر الّذي يدلّ علىٰ أنّ الله عزّ وجلّ قد جعل لدينه قلوباً صافيات
ص : 78
وآذاناً واعيات ، كما في قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام عند نزول قوله تعالىٰ : ( وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (1) : « سألت الله أن يجعلها أُذنك يا عليّ ». قال عليّ : « فما نسيت شيئاً بعد ذلك وما كان لي أن أنسىٰ » (2).
كلّ هذا مع ملاحظة : أنّ القرآن لا يدّعي أحد بأنّ نقله قد تمّ عن فلان الثقة عن مثله وهكذا ؛ إذ لم يثبت بهذه الطريقة ، وإنّما ثبت القرآن بالتواتر جيلاً عن جيل ، وعصر عن عصر ، وقرن عن قرن ، وأُمّة عن أُمّة ، ولهذا لا يُلتفت حينئذ لتوثيق الأفراد فرداً فرداً عند التواتر ، فلا تثبت عدالة جميع الصحابة ; لأنّها لا تشترط في ثبوت القرآن وإثباته !!
وهنا أودّ أن أسأل الكاتب سؤالين يتعلّقان بكلامه السابق :
ماذا تقول لو أوقفتك الأدلّة علىٰ نفاق أو فسق أو بغي أحد من الأصحاب ؟ فهل تطمئن بعد ذلك إلىٰ روايته للكتاب والسُنّة وتأخذهما عنه ، مع أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرنا بأنّ المنافق إذا حدّث كذّبَ ، وأنّ الفاسق يبيع دينه بأكلة ، وأنّ الباغي مائل عن الحقّ ؟!
فإن قلت : نعم ؛ فاقرأ علىٰ دينك السلام.
وإن قلت : لا ؛ فعليك أن تتخلّىٰ إذاً عن قولك بخيرية الصحابة جميعاً ، وتبدأ بالبحث عن المؤمنين الصادقين منهم لتأخذ دينك عنهم.
وهذا ما فعله الشيعة الأبرار ; إذ ميّزوا بين الغث والسمين في
ص : 79
الموضوع ، بعد أن تظافرت لديهم الأدلّة - كتاباً وسُنّةً - علىٰ وجود المنافقين ، تفصيلاً وإجمالاً ، بين أصحاب النبيّ المصطفىٰ صلى الله عليه وآله وسلم.
السؤال الثاني :
ما الّذي يلزمك علىٰ أخذ دينك عن كلّ مَن هبّ ودبّ من الصحابة ، الّذين علمت بوجود المنافقين والفاسقين والبغاة بينهم ، إجمالاً وتفصيلاً ، دون أن تمحَصَ ذلك (1) ، أو ترجع إلىٰ الّذين ثبتت عدالتهم فقط ، والله تعالىٰ يقول : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2) ؟!
ثمّ أين أنت من الّذين أمر الله المسلمين بمودّتهم ، وأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسّك بهم ، وجعلَهم عِدلاً للقرآن ، وأماناً للأُمّة من الاختلاف (3) ، كي تأخذ دينك عنهم آمناً مطمئناً ، وذلك طبقاً للحكمة النبوية الّتي تقول : « دع ما يُريبك إلىٰ ما لا يُريبك » (4) ؟!
أمّا عن رواية السُنّة النبوية فأُحبّ أن ألفت نظر الكاتب إلىٰ :
إنّ الأصحاب قد مُنعوا من رواية السُنّة النبوية طيلة مدّة الخليفتين أبي بكر وعمر (5).
ص : 80
وإنّ الشيخين قد أحرقا الأحاديث النبوية الشريفة (1).
وإنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قد أمر كلّ الصحابة بأن يمحوا ما عندهم من السُنّة (2).
وإنّ السُنّة لم تُكتب إلاّ في زمن عمر بن عبد العزيز الّذي أمر العلماء بتدوين الأحاديث وكتابتها ، كما هو المعلوم من تاريخ كتابة السُنّة النبوية (3) !!
ص : 81
قال الدليمي :
« إنَّ الطعن فيهم ... مدعاة لتفريق المسلمين وإلقاء العداوة والبغضاء في صفوفهم كما هو مشاهد » (1).
إنّ الاستناد إلىٰ الكتاب والسُنّة في بيان واقع الأصحاب ، وما هم عليه من تباين في الصفات لا يعدّ طعناً ، والمعترض علىٰ ذلك إنّما يعترض - في واقع الأمر - علىٰ الكتاب والسُنّة ، وهو ردّ صريح لهما لا يرضاه المؤمن لنفسه ، ولكن تبقىٰ مهمّة العلماء والكتّاب المنصفين في بيان الحقيقة كما هي للمسلمين ، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ، وإنقاذ المسلمين من تلك النظرة العشوائية الّتي تعمل علىٰ خلط الأوراق وتضييع الحقائق ، والّتي تعدّ من مخلفات الهيمنة الأموية علىٰ المسلمين (2). فإذا قام العلماء والكتّاب
ص : 82
بدورهم المطلوب هذا ، عندها فقط تتحقّق الوحدة الحقيقية الّتي يرضاها الله ورسوله للمسلمين ، لا الوحدة الزائفة الّتي يرضاها الأُمويون وأتباعهم ، فهذا ممّا لا يرضي الله ورسوله وإن اجتمعت الناس عليه ..
قال تعالىٰ : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1) صدق الله العليّ العظيم.
فإن كان بيان الحقّ يؤدّي إلىٰ الفُرقة بين الناس فهذا الإشكال يرد علىٰ الأنبياء أوّلا ; إذ جاؤوا الناس بالحقّ وهم أُمّة واحدة فافترقوا بين مؤيّد لهم ومنكِر ، كما هو ظاهر الآية السابقة.
فالوحدة المطلوبة إذاً إنّما هي وحدة الحقّ لا وحدة البدع والأهواء !! فلينفع العاقل نفسه ، وليتّقِ مسلمٌ ربَّه !
* * *
ص : 83
ص : 84
ص : 85
ص : 86
ثمّ قال الكاتب بعد كلامه السابق في الصحابة :
« فما كان قول سيّدنا وإمامنا عليّ رضي الله عنه وموقفه منهم ؟ هل صحيح أنّه كان يبغضهم ويبغضونه ؟ وأنّهم آذوه وظلموه ؟ وأنّه كان يسبّهم ويبطن لهم غير ما كان يظهر لهم ؟ تعالوا بنا إلىٰ بعض المواضع من كتاب نهج البلاغة لنرى ثمّ نجيب بعد ذلك.
من خطبة له عليه السلام يعنف بها أصحابه ويمدح فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فما أرىٰ أحداً يشبههم « منكم » ، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهههم وخدودهم ، ويقفون علىٰ مثل الجمر من ذكر معادهم ، كأنّ بين أعينهم رُكب المعزى من طول سجودهم ، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتّىٰ تبلّ جيبوبهم ، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء الثواب ). نهج البلاغة ج 1 ص 189 - 190.
ومن خطبة له عليه السلام يخاطب أصحابه : ( ... ولوددت أنّ الله فرّق بيني وبينكم وألحقني بمَن هو أحقّ بي منكم ، قوم والله ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحقّ ، متاريك للبغي ، مضوا قدماً علىٰ الطريقة ، وأوجفوا علىٰ المحجّة ، فظفروا بالعقبى الدائمة ، والكرامة الباردة ). ج 1 ص 230 » (1).
ص : 87
ثمّ ذكر الكاتب نصوصاً أُخرىٰ من الكتاب ، تنحىٰ منحىٰ النصّين السابقين.
إنّ النصوص الّتي ذكرها الكاتب من نهج البلاغة في حقّ الصحابة هي خاصّة بالمؤمنين منهم ، دون المنافقين الّذين يعدّهم أهل السُنّة صحابة عدولاً علىٰ مصطلحهم (1) ، إذ أنّ الإمام عليه السلام ذكر صفاتهم دون أسمائهم ، والصفات الّتي ذكرها هي صفات المؤمنين لا المنافقين ؛لأنّ المنافقين لا يبيتون لله سُجّداً وقياماً ، وإنّما ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا ) (2) ..
كما أنّهم ليسوا بميامين الرأي ، ولا مراجيحَ الحلم ، بل هم ممّن ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (3) ..
كما أنّهم ليسوا بمقاويل بالحقّ ، وإنّما كانوا ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ*اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ*أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (4) ..
ص : 88
ومرادنا من هذا البيان أن لا يختلط علىٰ هذا الكاتب أو غيره أنّ الإمام عليه السلام أراد بهذه الأقوال مدح جميع الصحابة ، مؤمنهم ومنافقهم ، فهذا ممّا لا يعقل صدوره عن مؤمن فضلاً عن أمير المؤمنين - صلوات الله وسلامه عليه -.
وهذا الأمر الّذي ذكره الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هنا عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشمل أصحابه أيضاً ، أي أنّ فيهم المؤمن وفيهم مَن هو دون ذلك ، بدليل خطابه هنا لجماعة من أصحابه ممّن ابتُلي بتخاذلهم وتقاعسهم عن الجهاد وهو في مقام مدحه لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المخلصين وقوله لهم : « فما أرىٰ أحداً يشبههم منكم ... ».
قال عليه السلام في مقام آخر خاطب به الصالحين من أصحابه : « أنتم الأنصارُ علىٰ الحقّ ، والإخوانُ في الدين ، والجُنَنُ يومَ البأس (1) ، والبطانةُ دون الناس (2) ، بكم أضربُ المُدبِرَ ، وأرجو طاعةَ المُقبل » (3).
فالإمام أمير المؤمنين عليه السلام لم يبخس الناس أشياءهم ، وكان يعطي لكلّ ذي حقّ حقّه ، فالمؤمن عنده حقّه المدح والتقدير ، والمتخاذل عنده حقّه التعنيف والتحذير ، كما هو شأن القرآن الكريم في مدحه للمؤمنين وذمّه للمنافقين ; قال تعالىٰ : ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ*وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَٰئِكَ
ص : 89
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (1).
وسيأتي في البحوث القادمة ذكر بيانه الصريح عليه السلام ومن نهج البلاغة نفسه بحقّ بعض الأصحاب بشخوصهم ، ك- : عمر بن الخطّاب ، وطلحة ، والزبير ، ومعاوية ، ممّا ينخرم معه استفادة العموم من كلماته السابقة التي أوردها الدليمي عن النهج.
قال الدليمي :
« وقال - أي أمير المؤمنين عليه السلام - ذاكراً عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : ( لله بلاء فلان ! فقد قوّم الأود ، وداوىٰ العمد ، خلّف الفتنة ، وأقام السُنّة ، ذهب نقي الثوب قليل العيب ، أصاب خيرها ، وسبق شرّها ، أدىٰ إلىٰ الله طاعته ، واتّقاه بحقّه ). ج 2 ص 222.
قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ( وفلان المكنّىٰ عنه : عمر بن الخطّاب ، وقد وجدت النسخة الّتي بخطّ الرضي أبي الحسن جامع نهج البلاغة وتحت فلان : عمر ، وسألت عنه النقيب أبا جعفر يحيىٰ ابن أبي زيد العلوي ، فقال لي : هو عمر ، فقلت له : أثنىٰ عليه أمير المؤمنين عليه السلام ؟ فقال : نعم. انتهى ). شرح نهج البلاغة ، المجلّد 3 ص 12 ج 12 ، عن الشيعة وأهل البيت عليهم السلام ص 96 ، لإحسان إلهي ظهير » (2).
اختلفت أقوال الشرّاح لل- « نهج » في معرفة الشخص الّذي عناه الإمام
ص : 90
أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : « فلان » هنا ، وإن شئت الإطلاع علىٰ هذه الاختلافات فارجع إلىٰ شرح النهج لابن أبي الحديد نفسه ، في بداية ج 12 ص 4 ; لتقف عليها.
والملاحظ من النصّ الّذي نقله الدليمي هنا بأنّ المراد من فلان : عمر ، إنّما هو : نقل ابن أبي الحديد لا غير ، وابن أبي الحديد ليس إمامي المذهب ، فنقله ليس حجّة علينا ، فالحجّة هو ظاهر كلام الإمام عليه السلام ، وظاهره لا يدلّ علىٰ أنّ المراد هو عمر ، وما قاله العلوي إنّما هو اجتهاد لا يلزم غيره ، وما كُتب في نسخة الرضي إن كان من غيره فالكاتب مجهول ، وإن كانت من الرضي فهو لا يتعدّىٰ كونه اجتهاداً لا يكون حجّة علىٰ غيره.
ومن هذا كلّه نعلم : إنّ كلام الإمام عليه السلام نفسه لا دليل فيه ، وإنّما الدليل من خارج كلامه ، والمفروض أنّ الكاتب يستند في دعواه علىٰ كلام الإمام عليه السلام لا علىٰ كلام غيره ، وهذا الأمر لم يحصل هنا !!
وعليه : يبقى هذا المقطع من كلام الإمام عليه السلام مجملا لا دليل فيه علىٰ تعيين مدح أحد بعينه.
نعم ، هناك جملة روايات تشير إلىٰ أنّ الإمام عليه السلام أراد به عمر بن الخطّاب ، وكان يقرّه علىٰ لسان نادبة لعمر قالته بعد موته ، إلاّ أنّ جميع هذه الروايات ليست تامّة سنداً ; فلا تتمّ الحجّة بها علىٰ أية حال (1).
ص : 91
وممّا يشكل هنا علىٰ هذه الدعوىٰ ، بأنّ المراد من « فلان » في قول الإمام عليه السلام السابق : عمر بن الخطّاب ، مجموعة أُمور نذكر بعضاً منها :
ضرعيها (1) ! فسيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها (2) ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ; فصاحبها كراكب الصعبة (3) ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فمُني الناس - لعمر الله - بخبط وشماس (4) وتلوّن واعتراض ... » (5).
فانظر - عزيزي القارئ - هل يستقيم كلامه عليه السلام في النصّ السابق بأنّه - أي عمر بن الخطّاب - « قوّم الأود » ، أي الاعوجاج ، مع كلامه عليه السلام الصريح بحقّه هنا ؟! اقرأ واحكم !!
ص : 93
والنصّ الّذي أمامنا هنا يعدّ بيّنة واضحة في بيان الشخص المقصود ، بينما المدّعى هناك مجرّد احتمال وادّعاء ورد من خارج كلام الإمام عليه السلام ، وفي مقام التعارض تقدّم البيّنة علىٰ الادّعاء ؛كما هو معلوم.
رفضه عليه السلام العمل بسيرة الشيخين « أبي بكر وعمر » كما هو المعلوم منه في قضية الشورىٰ ، الّتي وضعها عمر قبل وفاته ..
فلو كان عمر قد « قوّم الأود ، وداوى العمد ، وأقام السُنّة » ، كما هو المدّعى ، فلِمَ رفض الإمام عليه السلام العمل بسيرته ، ورفض الشرط المذكور الّذي اشترطه عليه عبد الرحمٰن بن عوف ، وخرج من الشورىٰ لم يبايَع له بسبب رفضه لهذا الشرط (1) ؟!
عرف عن عمر مخالفته للكتاب والسُنّة النبوية معاً في موارد كثيرة وإنصاته لاجتهاد نفسه ، الأمر الّذي لا يستقيم معه قول الإمام عليه السلام بحقّه : « أقام السُنّة » ، نذكر هنا جملة من تلك الموارد علىٰ سبيل المثال لا الحصر :
1 - مخالفته القرآن والسُنّة النبوية في منع سهم المؤلّفة قلوبهم (2).
2 - مخالفته القرآن والسُنّة في منع متعة الحجّ وكذلك متعة النساء (3).
ص : 94
3 - مخالفته القرآن والسُنّة النبوية في الطلاق الثلاث ، فجعله ثلاثاً ، والسُنّة جعلُه واحدة (1).
4 - مخالفته القرآن والسُنّة النبوية في فريضة التيمّم وأسقط الصلاة عند فقد الماء (2).
5 - مخالفته القرآن والسُنّة النبوية في عدم التجسّس علىٰ المسلمين ، فابتدعه من نفسه (3).
6 - مخالفته القرآن والسُنّة النبوية في عدم إقامة الحدّ علىٰ العامد القاتل في شأن خالد بن الوليد ، وكان يتوعّده بذلك (4).
7 - مخالفته السُنّة النبوية في إسقاط فصل من الأذان وإبداله بفصل من عنده (5).
8 - مخالفته السُنّة النبوية في تشريع صلاة النافلة جماعة ، فابتدع التراويح من نفسه ، وقال عنها : نعمت البدعة هذه (6) !
9 - مخالفته السُنّة النبوية في العطاء ، فابتدع المفاضلة وخلق الطبقية في الإسلام ولم تكن تعرف فيه من قبل (7).
10 - لم يمتثل لأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في تسييره ضمن جيش أُسامة
ص : 95
وتخلّف عنه ، وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « انفذوا بعث أُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » ..
وهو الحديث الّذي أرسله الشهرستاني في الملل والنحل في المقدّمة الرابعة إرسال المسلّمات ، وأورده أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة برواية أحمد بن إسحاق بن صالح ، عن أحمد بن سيار ، عن سعيد بن كثير الأنصاري ، عن رجاله ، عن عبد الله بن عبد الرحمٰن : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرض موته أمّر أُسامة بن زيد بن حارثة علىٰ جيش فيه جلّة المهاجرين والأنصار ، منهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعبد الرحمٰن ابن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وأمره أن يغير علىٰ « مؤتة » حيث قتل أبوه زيد ... إلىٰ آخر الحديث (1).
بل أفيد الدليمي : إنّ منزلة عمر بن الخطّاب عند عليّ عليه السلام قد أفصح عنها عمر بن الخطّاب نفسه ، كما يروي ذلك مسلم في صحيحه ؛ قد روىٰ أنّ عمر بن الخطّاب خاطب عليّاً عليه السلام والعبّاس عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال لهما في جملة كلام له : ... ثمّ توفّي أبو بكر وأنا وليُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووليُّ أبي بكر فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً (2).
فهذه شهادة صريحة من عمر في ما يراه أمير المؤمنين عليه السلام عنه ، وهي تنسف - للأسف - كلّ جهود الدليمي في محاولة التمويه علىٰ الواقع
ص : 96
الحقيقي الذي يحاول جاهداً ترقيعه بأي حال من الأحوال !
ومع ملاحظة المخالفات المتقدّمة للكتاب والسُنّة من قبل عمر بن الخطّاب ينبغي الالتفات إلىٰ أنّ الله عزّ وجلّ قد نهىٰ عباده عن مخالفته ، وأنّه قد هدّد نبيّه الأعظم ورسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إن تقوّل عليه بعض الأقاويل أن يقطع منه الوتين - أي : نياط القلب ; وهو : حبله - قال تعالىٰ : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (1).
كما أنّ الله تعالىٰ أمر رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للناس إن أرادوا منه تبديل حكم الله وكلامه : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ) (2).
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً قوله : « وشرّ الأُمور محدثاتها ، وكلّ محدَث بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار » (3).
كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو ردّ » (4).
وروى الحاكم والطبراني وابن حبان ، عن عائشة ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « ستّة لعنتهم ولعنهم الله وكلّ نبيّ مجاب ... والتارك لسنّتي » (5).
وروي عن مالك بن أنس أنّه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتّىٰ يأتيه الوحي من السماء.
ص : 97
قال ابن حزم ، بعد ذكره لكلام مالك المتقدّم : أفيحلّ لأحد صحّ هذا عنده عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي عنه أخذنا ديننا ، ثمّ يفتي بعد ذلك بغير ما أتاه به الوحي ويستعمل الرأي والقياس ؟! معاذ الله من ذلك (1).
وعن أحمد بن حنبل ، قال : « مَن ردّ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو علىٰ شفا هلكة » (2).
وقال الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني : وإنّ من عجائب الدنيا أن يحتجّ بعض الناس ... علىٰ أنّ في الدنيا بدعة حسنة ، وأنّ الدليل علىٰ حسنها اعتياد الناس لها (3) !!
وأورد الكاتب نصّاً آخر من نهج البلاغة ، قال فيه بأنّه : جاء في ذكر عمر بن الخطّاب ، وهو قوله عليه السلام : « ووليهم والٍ فأقام واستقام حتّىٰ ضرب الدين بجرانه » (4).
وهذا النصّ يرد عليه ما ورد علىٰ النصّ السابق من حيث الإجمال حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة ، وقد ورد عن الشيخ محمّد عبده في خصوص هذا النصّ ، أنّ الإمام عليه السلام أراد بالوالي هنا : النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ونسب مَن أراد به : عمر بن الخطّاب ، إلىٰ قول قائل ; إشارة منه إلىٰ ضعفه عنده (5).
ومع هذا ، فهذا النصّ لا ينفع الكاتب في المقام ; فهو وإن كان قد ذكر قول الشارح ابن أبي الحديد ، إلاّ أنّه لم يكمل تمام كلامه عليه السلام الّذي أورده الشارح ، لسبب سيدركه القارئ الكريم معنا عند متابعة تمام كلام
ص : 98
الإمام عليه السلام ; إذ هو ينافي الغرض الّذي يصبو الدليمي إلىٰ إثباته في نفسه.
قال الدليمي :
« يقول ابن أبي الحديد : وهذا الوالي هو : عمر بن الخطّاب ، وهذا الكلام من خطبة خطبها في أيام خلافته طويلة ، ويذكر فيها قربه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم واختصاصه به وإفضائه بأسراره إليه ، حتّىٰ قال : فاختار المسلمون بعده بآرائهم رجلاً منهم ، فقارب وسدّد حسب استطاعته علىٰ ضعف وجدّ كانا فيه ، ثمّ وليهم وال فأقام واستقام ، حتّىٰ ضرب الدين بجرانه ... » (1).
أقول :
إليك - عزيزي القارئ - كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بتمامه مع شرح ابن أبي الحديد له لتعرف علّة توقّف الكاتب عن إتمامه !
قال ابن أبي الحديد في شرحه : « الجران : مقدّم العنق. وهذا الوالي هو : عمر بن الخطّاب. وهذا الكلام من خطبة خطبها في أيام خلافته طويلة ، يذكر فيها قربه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم واختصاصه به وإفضاءه بأسراره إليه ، حتّىٰ قال فيها : فاختار المسلمون بعده بآرائهم رجلاً منهم (2) ، فقارب
ص : 99
وسدّد حسب استطاعته علىٰ ضعف وجدّ كانا فيه.
ثمّ وليهم بعده وال فأقام واستقام حتّىٰ ضرب الدين بجرانه ، علىٰ عسف وعجرفية كانا فيه (1).
ثمّ اختلفوا ثالثاً لم يكن يملك من أمر نفسه شيئاً ، غلب عليه أهله فقادوه إلىٰ أهوائهم كما تقود الوليدة البعير المخطوم ، فلم يزل الأمر بينه وبين الناس يبعد تارة ويقرب أُخرىٰ حتّىٰ نزوا عليه فقتلوه.
ثمّ جاؤوا بي مدب الدبا يريدون بيعتي.
- ثمّ قال ابن أبي الحديد : - وتمام الخطبة معروف ، فليطلب من الكتب الموضوعة لهذا الفن » (2). انتهى ..
فهل أدركت - قارئي العزيز - علّة توقّف الكاتب عن إتمام كلام الإمام عليه السلام وكلام الشارح ابن أبي الحديد ؟!
قال الدليمي :
« ومن كلام له عليه السلام وقد استشاره عمر بن الخطّاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه : إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة ، وهو دين الله الّذي أظهره ... فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتّىٰ يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولون : هذا أصل
ص : 100
العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك ... إلىٰ آخر كلامه عليه السلام » (1).
ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « المستشار مؤتمن » (2) ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « الدين النصيحة » (3) ؛ عليه : كيف نتصوّر أن يكون موقف الإمام عليه السلام وقد أقبل إليه مَن يستشيره في قضية لها مساس بأمر الإسلام والمسلمين ؟!!
فهو عليه السلام لم يبخل يوماً بنصيحته علىٰ مسلم فضلاً عمّن صار عنواناً لخلافة المسلمين عند الناس ، وحسبك من ذلك : كثرة رجوع الخلفاء الثلاثة إليه ، واجتهاده بالنصيحة لهم ؛حفاظاً علىٰ قوّة الإسلام واشتداد عوده ..
وقد اعترف الخلفاء بجميل صنعه بهم ، وعلوّ كعبه عليهم في هذا الجانب في أقوال عديدة ، نذكر منها :
القول المشهور لعمر بن الخطّاب : لولا عليّ لهلك عمر (4).
وقوله : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن (5).
ص : 101
وأقواله الأُخرىٰ :
اللّهمّ لا تنزل بي شديدة إلاّ وأبو الحسن إلىٰ جنبي.
أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.
لا أبقاني الله بعدك يا عليّ.
يا بن أبي طالب ! ما زلت كاشف كلّ شبهة ، وموضح كلّ حكم.
لولاك يا عليّ لافتضحنا.
وأيضاً قوله لعليّ عليه السلام : بأبي أنتم ! بكم هدانا الله ، وبكم أخرجنا من الظلمات إلىٰ النور ... (1).
وأيضاً قول عثمان : لولا عليّ لهلك عثمان (2).
إلىٰ غير ذلك من أقوالهم في هذا المضمار.
وإن شئت الاستزادة فارجع إلىٰ : ملحق المراجعات بتحقيق حسين علي الراضي : ص 189 ، أو إلىٰ : موسوعة إحقاق الحقّ للقاضي التستري الجزء الثامن ص 215 - 244 ، أو إلىٰ : موسوعة الغدير بجزءيها السادس والثامن ؛ فإنّك ستجد فيها عشرات المصادر من كتب أهل السُنّة تبيّن لك رجوع أبي بكر وعمر وعثمان - بل وحتّىٰ معاوية - إلىٰ أمير المؤمنين عليه السلام والأخذ برأيه ، وإنقاذهم من تلك المواقف المحرجة الّتي كانوا يقعون فيها ، وخاصّة المواقف الّتي يتعرّضون لها من قبل أهل الكتاب في المسائل المحرجة والمشكّكة بدين الإسلام ، والّتي كان أمير المؤمنين عليه السلام يبادر لحلّها والإجابة عنها ، وردّ كيد الكائدين عن الدين وأهله ؛حفاظاً علىٰ
ص : 102
بيضة الإسلام (1).
ولا يوجد في النصّ المتقدم ، الّذي ذكره الدليمي ، أية عبارة يستفاد منها تقييماً حقيقياً لما يهدف إليه ; فقوله عليه السلام : إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولون : هذا أصل العرب ... فهو عليه السلام إنّما كان يُخبر عن لسان حال العدو ، ويشخّص في الحقيقة مسألة يدرسها الباحثون اليوم في علم النفس العسكري ، وهي : إنّ من أبرز عوامل انكسار الجيوش في الحروب : قتل زعمائهم أثناء المعارك ; لذا كان الإمام عليه السلام - وهو من خبر الحروب وأجوائها - ناصحاً أميناً من هذه الناحية ، حفاظاً علىٰ المسلمين من أن يجد فيهم أعداؤهم ثغرة فينفذوا منها.
ولعلّ قائل يقول : فلِمَ كان الإمام عليه السلام يتقدّم جنوده في المعارك ، كما شهدنا ذلك في الجمل والنهروان وصفين ؟!
قلت : إنّ الإمام عليه السلام لا يقاس بغيره من هذه الناحية ; لأمرين :
* الأوّل : لشجاعته الفريدة والنادرة المشهود له بها ، والّتي وصفها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : « كرّار غير فرّار » ، كما تقدّم ذكره (2).
* الثاني : لعلمه عليه السلام بموعد مقتله وكيفيته ، بل وعلمه بقاتله أيضاً ; وذلك لما أخبره به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ..
روىٰ أحمد في مسنده : عن فضالة بن أبي فضالة ، أنّه قال : خرجت
ص : 103
مع أبي عائداً لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من مرض أصابه ثقل منه ، قال : فقال له أبي : ما يقيمك في منزلك هذا ؟ لو أصابك أجلك لم يلِك إلاّ أعراب جهينة ، تُحمل إلىٰ المدينة فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلّوا عليك.
فقال عليّ رضي الله عنه : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ أن لا أموت حتّىٰ أُؤمّر ثمّ تخضب هذه - يعني لحيته - من دم هذه - يعني هامته - » (1).
وذكر المحدّثون جملة من الروايات الّتي تشير إلىٰ معرفته عليه السلام بقاتله : عبد الرحمٰن بن ملجم ، وأنّه عليه السلام كان يُخبر بذلك (2).
قال الدليمي :
« ولقد كانت العلاقة بين عليّ وعمر رضي الله عنهما وثيقة ، والمحبّة شديدة ، إلىٰ درجة أنّ سيدنا عليّاً زوّج ابنته أُم كلثوم بنت فاطمة رضي الله عنهما من سيّدنا عمر أثناء خلافته ، وسمّىٰ ثلاثة من أبنائه باسمه : عمر الأكبر ، الّذي تسمّيه العامّة : ( عمران بن عليّ ) ، وقبره معروف ، وعمر الأوسط ، وعمر الأصغر ، الّذي قُتل في وقعة الطفّ. كما سمّىٰ ولدين من أولاده باسم أبي بكر وعثمان ، فتأمّل ! » (3).
ص : 104
إنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من أشدّ الناس التزاماً بالشريعة المقدّسة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما تشهد بذلك النصوص ..
فهو نفس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنصّ آية المباهلة (1).
وهو خير الأُمّة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة النبيّ نفسه ; قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ وصيّي وموضع سرّي ، وخير مَن أترك بعدي ، ينجز عدتي ، ويقضي ديني : عليّ بن أبي طالب » (2).
وفي حديث يرويه الحاكم في مستدركه ويصحّحه : عن عبد الرحمٰن ابن عوف ، قال : افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكّة ثمّ انصرف إلىٰ الطائف فحاصرهم ثمانية أو سبعة ، ثمّ أوغل غدوة أو روحة ، ثمّ نزل ، ثمّ هجر ، ثمّ قال : « أيّها الناس ! إنّي لكم فرط ، وإنّي أُوصيكم بعترتي خيراً ، موعدكم الحوض ، والّذي نفسي بيده ! لتُقيمنّ الصلاة ولتؤتونّ الزكاة ، أو لأبعثنّ عليكم رجلاً منّي - أو : كنفسي - فليضربنّ أعناق مقاتليهم وليسْبينّ ذراريهم » ، قال : فرأىٰ الناس أنّه يعني أبا بكر أو عمر ، فأخذ بيد عليّ فقال : « هذا » (3). انتهى ..
وقد ورد في الشريعة المقدّسة عن معنىٰ الحبّ في الإسلام بأنّه يكون باتّباع الشريعة ، كما جاء في قوله تعالىٰ : ( قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ
ص : 105
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) (1) ، وقال تعالىٰ : ( لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2) ..
وفي مسند أحمد : عن أبي ذرّ ، قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : « أتدرون أي الأعمال أحبّ إلىٰ الله عزّ وجلّ ؟ قال قائل : الصلاة والزكاة. وقال قائل : الجهاد. قال : إنّ أحبّ الأعمال إلىٰ الله عزّ وجلّ : الحبّ في الله والبغض في الله » (3).
وبلحاظ ما تقدّم نقول : إنّ أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام - حسب هذه المنزلة الّتي عرفناها عنه - لا يمكن أن يحيد عن هذه الشريعة ، ولا عن منهجها في الحبّ والمودّة ..
وها هو التاريخ أمامك تصفّحه بكلّ تجرّد وموضوعية ; فأينما رأيت مواضع طاعة الله ورسوله عند الخلفاء الثلاثة الّذين سبقوه عليه السلام بالحكم ، فاعلم أنّه عليه السلام يحبّ تلك المواضع ويودّها ، وأينما رأيت مواضع معصية الله ورسوله ، فاعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام يبغض تلك المواضع ويتبرّأ منها ، وليس في هذا الجانب أقوال وشهادات من أحد سوىٰ تطبيق هذه القاعدة السالفة الذكر.
ص : 106
أمّا قضية تزويج أُمّ كلثوم ابنة أمير المؤمنين عليه السلام من عمر فهي ممّا لم يتسنَّ للمؤرّخين إثباتها أو التصديق بها ..
قال الشيخ المفيد في المسائل السرويّة : إنّ الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر غير ثابت ، وطريقه من الزبير بن بكّار ، وهو لم يكن موثوقاً به في النقل ، وكان متّهماً في ما يذكره ، وكان يبغض أمير المؤمنين عليه السلام ، وغير مأمون في ما يدّعيه علىٰ بني هاشم (1).
وإنّما نشر الحديث إثبات أبي محمّد الحسن بن يحيىٰ (2) - صاحب النسب - ذلك في كتابه ، فظنّ كثير من الناس أنّه حقّ لرواية رجل علوي له ، وهو إنّما رواه الزبير بن بكّار.
والحديث نفسه مختلف ؛ تارة يروىٰ : أنّ أمير المؤمنين تولّى العقد له علىٰ ابنته ، وتارة يروىٰ : عن العبّاس أنّه تولّى ذلك عنه عليه السلام ، وتارة يروىٰ : أنّه لم يقع العقد إلاّ بعد وعيد عن عمر وتهديد لبني هاشم ، وتارة يروىٰ : أنّه كان عن اختيار وإيثار.
ص : 107
ثمّ إنّ بعض الرواة يذكر أنّ عمر أولدها ولداً أسماه : زيداً ، وبعضهم يقول : إنّه قُتل قبل دخوله بها ، وبعضهم يقول : إنّ لزيد بن عمر عقباً ، ومنهم مَن يقول : إنّه قُتل ولا عقب له ، ومنهم مَن يقول : إنّه وأُمّه قُتلا ، ومنهم مَن يقول : إنّ أُمّه بقيت بعده ، ومنهم مَن يقول : إنّ عمر أمهر أُمّ كلثوم أربعين ألف درهم ، ومنهم مَن يقول : أمهرها أربعة آلاف درهم ، ومنهم مَن يقول : كان مهرها خمسمائة درهم.
قال الشيخ المفيد : وبدو هذا الاختلاف فيه يبطل الحديث ؛فلا يكون له تأثير علىٰ حال (1).
وأقول :
هذا الاستدلال الّذي ذكره الشيخ المفيد رحمه الله هنا في نفي هذا الزواج أوْلىٰ أن يرضىٰ به الدليمي ، أو غيره ممّن يحاولون الاستشهاد بوجود مثل هذا الزواج لغرض إظهار العلاقة الحميمة بين عليّ عليه السلام وعمر ؛إذ أنّ بقية الموارد والطرق الّتي تُشير إلىٰ وجوده لا يخلو أمرها من تعريض بشخص عمر وسوء تصرّفه مع الإمام عليه السلام وابنته أُم كلثوم ، كالرواية الّتي يقدح سبط ابن الجوزي في إمكان قبولها ..
قال في تذكرة الخواص - عند ذكر أُم كلثوم - : وذكر جدّي في كتابه المنتظم أنّ عليّاً بعثها إلىٰ عمر لينظرها ، وإنّ عمر كشف ساقها ولمسها بيده. قلت : وهذا قبيح والله ! لو كانت أمَة لَما فعل بها هذا ، ثمّ بإجماع المسلمين لا يجوز لمس الأجنبية فكيف يُنسب عمر إلىٰ هذا (2) ؟! انتهىٰ.
ص : 108
وهناك أيضاً جملة روايات في هذا الموضوع في كتب أهل السُنّة تتبّعها السيد العلاّمة ناصر حسين النقوي في كتابه إفحام الخصوم في نفي تزويج أُم كلثوم وفنّدها واحدة واحدة.
وقد يقول قائل : ولكن أيضاً هناك روايات وردت بخصوص هذا الزواج في كتب الحديث عند الشيعة.
نقول : إنّ هذه الروايات لا تنفع الدليمي أو غيره للاستدلال بها علىٰ العلاقة الحميمة بين عليّ عليه السلام وعمر ; لأنّها جميعاً تدلّ علىٰ وقوع التهديد من عمر في هذه المسألة (1) ، وهي محل تأمّل كبير عند جملة من محقّقي علماء الإمامية في أصل وقوع مثل هذا الزواج.
والحاصل : إنّ الروايات الواردة في هذا الموضوع عند السُنّة والشيعة لا يخلو أمرها من تعارض واضطراب وتأمّل ، ممّا لا يمكن الجزم معه بوقوع مثل هذا الزواج.
بل لنا هنا أن نسأل الدليمي وغيره : رويتم - كما في صحيح مسلم - أنّ عمر قال لعليّ عليه السلام أنّه يراه : - أي : عليّ عليه السلام يرىٰ عمر - كاذباً آثماً غادراً خائناً ; فهل يصحّ من رجل أن يزوّج ابنته طواعية لشخص يراه : كاذباً آثماً غادراً خائناً ؟!
فإن كان هذا الفعل يصحّ أن يقع طواعية من الدليمي في حقّ ابنته ، فنحن نسلّم بوقوعه من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، وإلاّ فالمسألة لا تخلو من أحد أمرين :
إمّا أنّ هذا الزواج قد حصل بالوعيد والإكراه ، كما تشير إليه روايات
ص : 109
الإمامية (1) ، أو أنّ القضية مدسوسة موضوعة علىٰ البيت النبوي الطاهر ، كحال الكثير من الأُمور التي قصدت هذا البيت بالدسّ والإساءة !
والرأي الثاني هو الذي يميل إليه جملة ممّن كتب في الموضوع من الفريقين ..
قال الشيخ محمّد انشاء الله الحنفي المحمّدي الحبشي ، وهو من أهل السُنّة ، في كتابه السرّ المختوم في ردّ زواج أُمّ كلثوم ، ص 21 : أيّها الناظرون ! هذه فضوليات الراوي الأوّل ، بل الأصل أنّ المفتري الزبير بن بكّار الكذّاب الوضّاع اتّهم سيّدنا عمر وكذّب علىٰ عليّ واختلق رواية زواج أُمّ كلثوم من عند نفسه ولا حقيقة لها (2).
وأمّا الزبير بن بكّار فبالإضافة إلىٰ ما ذكره الشيخ المفيد ، فقد قال الحافظ أبو الفضل أحمد بن عليّ السليماني (3) فيه أنّه : من الوضّاعين للحديث ، ولم يقبل حديثه ، ولا يوجد لحديثه في الصحيحين عين ولا أثر ،
ص : 110
وقال ابن أبي حاتم : رأيته ولم أكتب عنه ، واعترف ابن حجر أنّ : له أشياء منكرة (1) ، وجميع أفراد أُسرته معروفون بانحرافهم عن أهل البيت عليهم السلام ، كما قال المرزباني في الموشّح ص 54 ، 59.
ولسوء أهوائه ونصبه الظاهر قرّبه المتوكّل العبّاسي ودرّ عليه المعاش ، والمتوكّل معروف بعداوته لأمير المؤمنين عليه السلام ، وببوائقه الشنيعة الّتي ارتكبها لإهانة الإمام عليه السلام ; اقرأ ما فصّله ابن الوردي وأبو الفرج الأصفهاني من جرائمه الّتي لا يحتمل القلم نقلها (2).
واشتدّت أواصر الولاء بينه وبين المتوكّل حتّىٰ ولاّه مكّة ، وعيّنه مؤدّباً لأولاده ، وأمر له بعشرة آلاف درهم ، وعشرة تخوت من الثياب ، وعشرة أبغل تحمل له رَحله إلىٰ سرّ مَن رأى (3).
فلا عجب من هذا الرجل أن يروي اجتماع الشعراء الماجنين عند سكينة بنت الحسين عليه السلام (4) !!
أو يروي متّهماً أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خُلُقاً عبد الله بن جعفر تارة بأنّه : كان لا يرىٰ بأساً في الغناء والأدلّة قائمة علىٰ حرمته (5) !
ص : 111
وتارة أُخرىٰ بأنّه : طلّق العقيلة الكبرىٰ زينب بنت فاطمة عليها السلام (1) ... إلىٰ آخر بوائقه.
وممّا يؤسف له أنّ الأقلام المأجورة والغافلة قد تابعت الزبير بن بكّار في نقل ترهاته هذه ، ولم يكلّف أحدٌ ممّن نقل افتراءات ابن بكّار هذه نفسه بالبحث والتدقيق في ما ينقل عنه.
فقد بقي التاريخ في فترة طويلة أسيراً بأيدي العتاة والأقلام المأجورة تجري جلباً لمرضاة الساسة ، ودعماً لمبادئهم ، وترويجاً لأُمور دُبّرت بليل ، وهكذا لعبت سماسرة السياسة الوقتية دوراً خطيراً بالنواميس الإسلامية قابضين علىٰ أزمّة الأقلام ، تحلّق بشخصيات إلىٰ الكمال وتسف بآخرين إلىٰ حضيض الوصمة والشنار ، كما أنّ هنالك دواعٍ فئوية ، وأغراض شخصية ، كان لها الأثر البالغ في ما غشي الناس من دور مظلم ..
وقد بلغ الأمر إلىٰ حدّ أنّ أهل حمص يرون بأنّ صلاة الجمعة لا تصلح إلاّ بلعن أبي تراب - أي : أمير المؤمنين عليّ عليه السلام - ويخيّل إلىٰ بعض زعماء أهل الشام وذوي الرأي والعقل أنّ أبا تراب كان لصّاً من لصوص الفتن (2).
قال الإمام الأوزاعي - فقيه الشام الكبير - ما أخذنا العطاء حتّىٰ شهدنا علىٰ عليّ بالنفاق وتبرّأنا منه ، وأُخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق وأيمان البيعة ، فلمّا عقلت أمري سألت مكحولاً ويحيىٰ بن أبي كثير وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن عبيد بن عمير فقالوا : ليس عليك شيء إنّما أنت مكره ، فلم تقرّ عيني حتّىٰ فارقت نسائي ، وأعتقت رقيقي ، وخرجت من
ص : 112
مالي ، وكفّرت أيماني ... (1).
وهكذا دُسّت في تاريخنا الضخم سفاسف ودسائس هي من لدات أفكار السماسرة ؛طمعاً بالشهرة والنهمة ، فلنكن علىٰ حذر منها ، ولا نعتمد عليها إلاّ بعد الفحص والتنقيب عن الرواة ونزعاتهم وميولهم ، ولا سيّما مثل ابن بكّار ، الطامع في زبارج المتوكّل الناصبي والكذّاب الأشر.
أمّا كون الإمام عليه السلام قد سمّى ثلاثة من أبنائه باسم عمر وولدين باسم أبي بكر وعثمان ، فالثابت أنّ للإمام عليه السلام ولداً واحداً اسمه عمر وأُمّه الصهباء ويقال لها : أُمّ حبيب التغلبية ، كما نصّ علىٰ ذلك الشيخ المفيد في إرشاده ، والمحبّ الطبري في ذخائره (2).
أمّا أبو بكر : فهو كنية وليس اسماً ، تَكنّىٰ بها أحد أولاد الإمام واسمه : محمّد الأصغر ، وأُمّه : ليلى بنت مسعود الدارمية.
أمّا عثمان : فهو أخ العبّاس بن عليّ عليه السلام لأُمّه الفاضلة المُكنّاة ب- : « أُمّ البنين » - رضي الله عنها - وقد كان العبّاس يحمل راية أخيه الحسين عليه السلام في واقعة الطفّ ، وقد أُستشهد عثمان مع إخوته الثلاثة أبناء أُمّ البنين من عليّ عليه السلام في تلك الواقعة العظيمة الّتي أعادت للإسلام مساره المحمّدي الأصيل الّذي حاول بني أُميّة أن يحرفوه عنه ، كما هو المستفاد من قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « حُسين منّي وأنا من حُسين » (3).
ص : 113
وبعد هذا ، لم يثبت أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان قد سمّىٰ أبناءه المذكورين بهذه الأسماء تعبيراً عن المودّة أو الحبّ لأحدٍ ما ، فلم نعثر في ذلك علىٰ أي تصريح أو دليل يثبته (1) ، والإنسان قد يطلق اسماً ما علىٰ شخص من دون ملاحظة لمناسبة معينة ، كما هو شأن الأسماء المرتجلة - وهو حال اسم العَلم - في الغالب ...
كما أنّ التسمّي بهذه الأسماء والتكنّي بهذه الكنى كان شائعاً في ذلك الزمان ، ولم يكن مختصّاً بالمذكورين كي تصحّ الدعوىٰ في هذا الجانب ...
وأيضاً أنّ الأسماء المذكورة لم يكن لها حينذاك من المعنىٰ الرمزي والتميّز الاعتباري الّذي لها الآن بحيث يكون إطلاقها علىٰ شخص ما ذا معنىٰ مقصود ، فهذا ممّا يحتاج إلىٰ فترة تاريخية ، وعوامل مساعدة لتحقيقه ، وهو الأمر الّذي حصل بعد ذلك ! فلا يعدّ ما ذكره الكاتب دليلاً في المطلوب !
ومع ذلك ، فنحن نسأله هنا بالمقياس نفسه الّذي قاس به الأُمور في الموضوع ، فنقول له : لم يُعلم أنّ أحداً من الخلفاء الثلاثة قد سمّىٰ أبناءه باسم عليّ ، أو الحسن ، أو الحسين ، والمعلوم أنّ الحبّ الحقيقي والمتكامل يكون بين طرفيه لا من طرف واحد فقط ، فهل نعدّ هذا - حسب استدلال الكاتب - أنّهم كانوا يبغضون أهل البيت عليهم السلام ؟!
نترك الإجابة للكاتب نفسه !
* * *
ص : 114
ص : 115
ص : 116
قال الدليمي :
« هذه نصوص جلية من نهج البلاغة كلّها تثبت أنّ سيّدنا عليّاً رضي الله عنه كان يرىٰ أنّ الخلافة تثبت بالشورىٰٰ ، وأنّ أهل الشأن هم المرجع في ذلك ، فإن اختاروا رجلا وسمّوه إماماً ، وجب علىٰ الجميع التسليم له بالأمر ، والإيفاء بالميثاق ، وإن كان فيهم من يرىٰ نفسه أحقّ بها من غيره.
بل فيها التنصيص علىٰ صحّة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وأنّها مرضية لله تعالىٰ ; لأنّها تمّت بإجماع المهاجرين والأنصار ومشورتهم ، وهي الطريقة الشرعية الّتي لا يجوز لأحد أن يردّ عليها أو الخروج عنها ، ولا يوجد - في الكتاب كلّه - نصّ واحد صريح أو خفي يشير إلىٰ أنّه يرىٰ الخلافة حقّ إلهي خاصّ به دون غيره ، وإليك بعض من هذه النصوص :
1 - من كتاب له عليه السلام إلىٰ معاوية : أنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان علىٰ ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ ، وإنّما الشورىٰ للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا علىٰ رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلىٰ ما خرج منه ، فإن أبىٰ قاتلوه علىٰ اتّباعه غير سبيل المؤمنين وولاّه الله ما تولّىٰ. ج 3 ص 7.
- قال الدليمي - : في هذا النصّ جملة أُمور ، منها :
ص : 117
(1) إنّ عليّاً رضي الله عنه كان يرىٰ أنّ الخلافة تتمّ بالشورىٰٰ.
(2) وهذا يعني أنّ النصّ ليس شرطاً فيها.
(3) إنّ الشورىٰ للمهاجرين والأنصار.
(4) إنّ إجماع المهاجرين والأنصار حجّة شرعية لا يجوز مخالفتها.
(5) استدلاله بهذا الإجماع علىٰ رضا الله وأنّهم إذا أجمعوا علىٰ أمر ( كان ذلك لله رضاً ).
(6) ولذلك فإنّ خلافة الأئمّة الثلاثة قبله شرعية ومرضية لله تعالىٰ.
(7) استدلاله علىٰ صحّة بيعته بصحّة بيعة الخلفاء الّذين سبقوه ، إذ إنّها تمّت علىٰ النحو الّذي تمّت به البيعات السابقة.
(8) إنّ مثل هذه البيعة لا يعتبر فيها قول من خالف وشذّ ممّن حضر أو غاب.
(9) إنّ الطاعن بخلافتهم متّبع غير سبيل المؤمنين ، وخارج عن أمر المسلمين ، يُردّ إلىٰ ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه علىٰ ذلك ، وولاّه الله ما تولّىٰ »(1).
أقول :
ذكرنا سابقاً في بداية الكتاب : أنّ ممّا يؤاخذ علىٰ الكاتب في كتيّبه هذا هو أنّه قد يكون قرأ كتاب نهج البلاغة قراءة ناقصة ، أو أنّه قرأ النهج كلّه لكنّه أخذ منه ما يسند مدّعاه أو ما يوافق آراء مذهبه - حسبما يتصوّر - فقط ، وإلاّ كيف يفوته الاطّلاع علىٰ تلك النصوص الواضحة والجلية في مطالبة الإمام عليه السلام بحقّه في الخلافة ، وتظلّمه من ذلك في أكثر من مورد من
ص : 118
النهج ، الأمر الّذي سنأتي علىٰ ذكره بالتفصيل بعد قليل.
أمّا الكتاب الّذي بعثه الامام عليه السلام إلىٰ معاوية ، والمشار إليه سابقاً ، فقد تحدّث فيه الإمام عليه السلام وفق قاعدة الإلزام ، وهي القاعدة الّتي تستعمل في مقام الاحتجاج علىٰ الخصوم وإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم من قبل ..
بمعنىٰ : إن كان معاوية يرىٰ صحّة خلافة الّذين سبقوا الإمام عليه السلام وأنّ المسلمين قد بايعوهم ، فما يكون لمعاوية بعد هذا إلاّ الانصياع للأمر الّذي ألزم به نفسه ويبايع للإمام عليه السلام ; لأنّه قد بايع الإمام عليه السلام القوم الّذين بايعوا السابقين عليه ، وإلاّ فيكون ممّن اتّبع هواه فتردّىٰ ، الأمر الّذي أشار إليه الإمام عليه السلام في نهاية رسالته إليه : ولعمري يا معاوية ! لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمنّ أنّي كنت في عزلة عنه إلاّ أن تتجنّى ; فتجنَّ ما بدا لك (1) !
وكلامه عليه السلام هنا إنّما جرىٰ وفق مقتضىٰ الحال ، وحسب القواعد البلاغية الّتي تلزم الإتيان للمنكِر بكلّ الوسائل الممكنة للإثبات ، وقاعدة الإلزام هنا هي إحدىٰ الوسائل النافعة في المقام ، بل وجدنا مَن يذكر هذا الإلزام الّذي أشرنا إليه هنا ، بصريح العبارة عنه عليه السلام ..
قال الخوارزمي الحنفي في كتابه المناقب : ومن كتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، قبل نهضته إلىٰ صفين ، إلىٰ معاوية ; لأخذ الحجّة عليه : أمّا بعد .. فإنّه لزمتك بيعتي بالمدينة وأنت بالشام ; لأنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان علىٰ ما بايعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ ... إلىٰ قوله : ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لَتجدني أبرأ قريش من دم عثمان ، واعلم إنّك من الطلقاء الّذين
ص : 119
لا تحلّ لهم الخلافة (1).
فقوله عليه السلام : « وإنّما الشورىٰ للمهاجرين والأنصار ... » ، بمعنىٰ : إن كنت يا معاوية لا ترىٰ الخلافة بالنصّ الإلهي ، وإنّها تتمّ عندك بالاختيار واجتماع أهل الحلّ والعقد ، فأمرها لا يعدو المهاجرين والأنصار ، فهم أهل الشورىٰ ، وها هم قد بايعوني كما بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان من قبل ، فما كان لك يا معاوية أن تردّ هذه البيعة أو تحتال عليها بأي حال.
وقوله عليه السلام : « فإن اجتمعوا علىٰ رجل وسمّوه إماماً ، كان ذلك لله رضا ... » يشتمل علىٰ دلالة لطيفة ، وهو أقرب للتعريض منه بالإقرار ; فمن المعلوم أنّه قد ناهض الخلفاء الثلاثة الّذين سبقوه عليه السلام جمع كبير من المهاجرين والأنصار ، كما هو الثابت تاريخياً (2).
ويشير عليه السلام إلىٰ أنّه الوحيد الذي اجتمع عليه المهاجرون والأنصار بأغلبية غالبة في المدينة ، وقد قال عليه السلام يصف هذه الحال في خطبة له : فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع إليَّ ينثالون علَيّ من كلّ جانب حتّىٰ لقد وطئ الحسنان ، وشُقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم (3).
ص : 120
ويقول عليه السلام في مقام آخر : وبسطتم يدي فكففتها (1) ، ومددتموها فقبضتها ، ثمّ تداككتم علَيّ تداك الإبل الهيم علىٰ حياضها يوم ورودها ، حتّىٰ انقطعت النعل وسقط الرداء ووطئ الضعيف ، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب (2).
قال أبو جعفر الاسكافي المعتزلي - المتوفّىٰ سنة 220 ه- - : فلمّا قُتل عثمان تداك الناس علىٰ عليّ بن أبي طالب بالرغبة والطلب له بعد أن أتوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر المهاجرون والأنصار وأجمع رأيهم علىٰ عليّ بن أبي طالب بالإجماع منهم أنّه أوْلىٰ بها من غيره ، وأنّه لا نظير له في زمانه ، فقاموا إليه حتّىٰ استخرجوه من منزله ، وقالوا له : أبسط يدك نبايعك. فقبضها ومدّوها ، ولمّا رأى تداكهم عليه واجتماعهم ، قال : لا أُبايعكم إلاّ في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم ظاهراً ، فإن كرهني قوم لم أُبايع ، فأتىٰ المسجد وخرج الناس إلىٰ المسجد ، ونادىٰ مناديه.
فيروىٰ عن ابن عبّاس أنّه قال : إنّي والله لمتخوّف أن يتكلّم بعض السفهاء ، أو مَن قتل عليّ أباه أو أخاه في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول : لا حاجة لنا بعليّ بن أبي طالب ، فيمتنع عن البيعة.
قال : فلم يتكلّم أحد إلاّ بالتسليم والرضا (3).
ص : 121
أقول :
ومثل هذه البيعة التي نالت هذا المستوىٰ من التسليم والرضا عند المهاجرين والأنصار لم تتحقّق لغيره عليه السلام ، فكانت بيعته هي البيعة الوحيدة التي لله فيها رضاً حسب النص الذي أورده الكاتب من نهج البلاغة ؛ فتدبّر ذلك.
أمّا الموارد الّتي تحدّث فيها الإمام عليه السلام عن حقّه في الخلافة ، وأنكر الدليمي وجودها في النهج فنذكر منها :
1 - ما جاء عنه عليه السلام في الخطبة المعروفة ب- : « الشقشقية » (1) ، حيث قال عليه السلام : « أما والله لقد تقمّصها (2) ابن أبي قحافة وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحىٰ ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقىٰ إلَيَّ الطير (3) ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً (4) ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر علىٰ طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها
ص : 122
الصغير ، ويكدح (1) فيها مؤمن حتّىٰ يلقىٰ ربّه ، فرأيت الصبر علىٰ هاتا أحجىٰ (2) ، فصبرت وفي العين قذىٰ ، وفي الحلق شجا ، أرىٰ تراثي نهباً (3) ، حتّىٰ إذا مضىٰ الأوّل لسبيله فأدلى بها (4) إلىٰ ابن الخطّاب بعده ... » إلىٰ آخر الخطبة (5).
أقول :
فإذا كانت الخلافة شورىٰ ، وهي الطريقة الشرعية لها ، كما يقول الدليمي ، وقد تمّت بالإجماع علىٰ أبي بكر ، وأنّ الله راض عن هذه الخلافة ; فلِمَ يتظلّم عليه السلام هنا ويقول بعد انعقادها : « وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر علىٰ طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير » ؟!
ثمّ يقول عليه السلام : « فصبرت وفي العين قذىٰ ، وفي الحلق شجا ، أرىٰ تراثي نهباً ... » إلىٰ آخر كلامه الدالّ بكلّ وضوح علىٰ اغتصاب الخلافة منه ، وأنّ القوم باختيارهم رجلاً منهم قد أدخلوا المسلمين في طخية عمياء يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّىٰ يلقىٰ ربّه ، كلّ ذلك بياناً منه عليه السلام علىٰ شدّة الفتنة الّتي أوقعوا المسلمين فيها.
قال الشيخ محمّد عبده في تعليقته علىٰ النهج : طخية - بطاء فخاء
ص : 123
بعدها ياء ، ويثلث أوّلها - أي : ظلمة ، ونسبة العمىٰ إليها مجاز عقلي ، وإنّما يعمىٰ القائمون فيها إذ لا يهتدون إلىٰ الحقّ ، وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها إذ لا فائدة من الإقدام ، ولا خير للناس من وراء الإحجام (1).
وقال ابن قتيبة في : « تاريخ الخلفاء » ، المسمّىٰ ب- : الإمامة والسياسة : إنّ عليّاً - كرّم الله وجهه - أُتي به إلىٰ أبي بكر وهو يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله.
قيل له : بايع أبا بكر !
فقال : أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أُبايعكم وأنتم أوْلىٰ بالبيعة لي. أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً ؟
ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أوْلىٰ بهذا الأمر منهم لمّا كان محمّد منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلّموا إليكم الإمارة ؟!
وأنا احتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به علىٰ الأنصار ; نحن أوْلىٰ برسول الله حيّاً وميتاً ، فانصفونا إن كنتم تؤمنون ! وإلاّ فبؤوا بالظلم وأنتم تعلمون.
فقال له عمر : إنّك لست متروكاً حتّىٰ تبايع.
فقال له عليّ : احلب حلباً لك شطره (2) ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً. ثمّ قال : والله يا عمر ! لا أقبل قولك ولا أُبايعه.
فقال له أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أكرهك.
ص : 124
فقال أبو عبيدة بن الجرّاح لعليّ كرّم الله وجهه : يا بن عمّ ! إنّك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ، ومعرفتهم بالأُمور ، ولا أرىٰ أبا بكر إلاّ أقوىٰ علىٰ هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق ، في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك.
فقال عليّ كرّم الله وجهه : الله الله يا معشر المهاجرين ! لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته ، إلىٰ دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فو الله يا معشر المهاجرين ! لنحن أحقّ الناس به ، لأنّنا أهل البيت ، وأنا أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه بدين الله ، العالم بسُنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، المدافع عنهم الأُمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوىٰ ، فتضلّوا عن سبيل الله ، فتزدادون من الحقّ بُعدا (1).
وأقول :
قد أجرىٰ الله تبارك وتعالىٰ أيضاً بيان ثبوت حقّ أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة علىٰ لسان ألدّ أعدائه ، وهو معاوية ، فانظر إلىٰ رسالته الّتي بعثها إلىٰ محمّد بن أبي بكر ، جواباً علىٰ رسالة كان قد بعثها الأخير إليه ..
قال معاوية مخاطباً محمّد بن أبي بكر : فقد كنّا أنا وأبوك معنا في حياة نبيّنا نعرف حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا ، وفضله مبرزاً علينا ، فلمّا
ص : 125
اختار الله لنبيّه ( عليه الصلاة والسلام ) ما عنده ، وأتمّ له ما وعده ، وأظهر دعوته ، وأفلج حجّته ، وقبضه الله إليه ( صلوات الله عليه ) كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه وخالفه علىٰ أمره ، علىٰ ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثمّ إنّهما دعواه إلىٰ بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، وأرادا به العظيم (1).
2 - وهذا نصّ آخر من نهج البلاغة نفسه يبين فيه الإمام عليه السلام دفعه عن حقّه في الخلافة ، والاستئثار عليه ؛ قال عليه السلام : « فو الله ما زلت مدفوعاً عن حقّي ، مستأثراً علَيَّ منذ قبض الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم حتّىٰ يوم الناس هذا » (2).
3 - وقال عليه السلام في مورد آخر : « حتّىٰ إذا قبض الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم رجع قوم علىٰ الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتّكلوا علىٰ الولائج (3) ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الّذي أُمروا بمودّته (4) ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه » (5).
4 - وقال عليه السلام يوم الشورىٰ : « وقد قال قائل : إنّك علىٰ هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص. فقلت : بل أنتم والله لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب ، وإنّما طلبت حقّاً لي تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه.
ص : 126
فلمّا قرعته بالحجّة في الملأ الحاضرين هبّ كأنّه بهت لا يدري ما يجيبني به » ..
ثمّ قال عليه السلام : « اللّهمّ إنّي استعينك علىٰ قريش ومَن أعانهم ! فإنّهم قطعوا رحمي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا علىٰ منازعتي أمراً هو لي » (1) ؛ وكلامه عليه السلام هنا واضح بأنّ الخلافة حقّ ثابت له وأمر خاصّ به.
5 - ثمّ انظر إلىٰ كلامه عليه السلام لمّا انتهت إليه أنباء السقيفة ; قال : فماذا قالت قريش ؟ قالوا : احتجّت بأنّها شجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فقال عليه السلام : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة (2).
وقال عليه السلام أيضاً : وا عجباه ! أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة (3).
ويروىٰ له عليه السلام في ذلك أيضاً شعراً :
فإن كنتَ بالشورىٰ ملكتَ أُمورهم
فكيف بهذا والمشيرون غُيّبُ (4)
وإن كنتَ بالقربى حججتَ خصيمهم
فغيرك أولىٰ بالنبيّ وأقربُ (5)
ص : 127
6 - وانظر إلىٰ قوله عليه السلام في مورد آخر : « لا يقاس بآل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأُمّة أحد ... ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ، الآن إذ رجع الحقّ إلىٰ أهله ونقل إلىٰ منتقله » (1).
7 - وانظر إلىٰ قوله عليه السلام : « أين الّذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا ... إنّ الأئمّة من قريش غُرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح (2) علىٰ سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم » (3).
فهل يريد الكاتب نصّاً أصرح من هذا بأنّ الإمامة والخلافة العظمىٰ لا تصلح علىٰ غير أهل بيت النبوّة الّذين أرادهم الإمام عليه السلام بقوله : غرسوا في هذا البطن من هاشم ؟!
وهو نفس مفاد قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - الوارد في صحاح المسلمين وكتبهم - : « الخلفاء من بعدي اثنا عشر ، كلّهم من قريش ».
قال الحافظ القندوزي الحنفي : قال بعض المحقّقين : إنّ الأحاديث الدالّة علىٰ كون الخلفاء بعده صلى الله عليه وآله وسلم اثني عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة ؛ فبشرح الزمان ، وتعريف الكون والمكان ، عُلم أنّ مراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حديثه هذا : الأئمّة الاثنا عشر من أهل بيته وعترته ؛ إذ لا يمكن أن يُحمل هذا الحديث علىٰ الخلفاء بعده من أصحابه لقلّتهم عن اثني عشر ( وهم أربعة ) ، ولا يمكن أن يُحمل علىٰ ملوك الأُموية لزيادتهم عن اثني عشر ( وهم ثلاثة عشر ) ولظلمهم الفاحش ، إلاّ عمر بن عبد العزيز ، ولكونهم غير بني هاشم ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : « كلّهم من بني هاشم » في
ص : 128
رواية عبد الملك عن جابر (1).
كما روى الحمويني الشافعي بسنده عن عباية بن ربعي ، عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أنا سيد النبيّين وعليّ سيّد الوصيّين ، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر ; أوّلهم : عليّ بن أبي طالب ، وآخرهم : المهدي (2). انتهىٰ.
إنّ الإمام عليه السلام كان يرىٰ أنّ الخلافة حقّ ثابت له ، وذلك لسبق النصّ عليه من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مناسبات عديدة ; نورد للقارئ الكريم هنا جملة منها :
1 - النصّ عليه في يوم الدار ; وذلك عندما نزل علىٰ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالىٰ : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ ) (3) ، وجمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أقرباءه في داره يدعوهم إلىٰ الإسلام ويطلب منهم مؤازرته ونصرته ، فسكت القوم إلاّ عليّاً عليه السلام قال : « أنا يا رسول الله أكون وزيرك علىٰ ما بعثك الله ». وبعد أن كرّرها ثلاثاً التفت صلى الله عليه وآله وسلم إليهم وقال : « إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا » (4).
ص : 129
2 - النصّ عليه عند خروج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لغزوة تبوك ; وفي ذلك أخرج الحاكم في مستدركه : « عن ابن عبّاس ، قال : خرج رسول الله في غزوة تبوك وخرج الناس معه ، فقال له عليّ : أخرج معك ؟
قال : فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : لا ; فبكىٰ عليّ.
فقال له : أما ترضىٰ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسىٰ إلاّ أنّه ليس بعدي نبيّ ، إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي.
قال ابن عبّاس : وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة ».
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه (1). أي :
ص : 130
البخاري ومسلم.
3 - النصّ عليه يوم غدير خمّ ; إذ جمع النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة ألف مسلم ومسلمة وخطبهم خطبة طويلة ، جاء فيها : « مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره واخذل مَن خذله ... » (1).
ص : 131
ص : 132
4 - وأيضاً جاء النصّ علىٰ خلافته عليه السلام لما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « عليّ منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي » (1) ..
ص : 133
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لبريدة حين اشتكىٰ من عليّ عليه السلام : « لا تبغضنَّ يا بريدة عليّاً ; فإنّ عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي » (1) ..
ص : 134
وأيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لوهب بن حمزة ، عندما تكلّم في عليّ عليه السلام : « لا تقل هذا ; فهو أوْلىٰ الناس بكم بعدي » (1) ..
وأيضاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام مخاطباً إيّاه : « أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة » (2).
ودلالة « وليّ كلّ مؤمن بعدي » و « وليّكم من بعدي » في هذه الأحاديث علىٰ : « الإمارة » و « الخلافة » ، ظاهرة كدلالة النصّ المتقدّم : « مَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » ، الّذي فهم منه المخاطَبون دلالته علىٰ ولاية الأمر والإمامة العظمى ، كما تقدّم بيان الشواهد علىٰ هذا المعنىٰ ، وخاصّة هنا بقرينة كلمة « بعدي » ، الّتي أوضحت المراد ، ونفت أن تكون المعاني
ص : 135
الأُخرىٰ لكلمة « وليّ » مرادة في المقام ، ك- : المحبّ أو الناصر أو الجار أو الحليف أو ابن العمّ ، الّتي لا يمكن حتّىٰ تصوّرها في المقام ؛ فيحمل لفظ « المولىٰ » علىٰ المعنىٰ الظاهر منه في المقام ، وهو : إنّ عليّاً إمامكم والمتصرّف بأُموركم من بعدي.
وأمّا دلالة عبارة : « أوْلىٰ الناس بكم من بعدي » الّتي رواها الطبراني برجال ثقات ، فهي أظهر من سابقتها ، وهي دالّة علىٰ إرادة الإمامة والخلافة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل.
قال ابن تيمية : قوله : « وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي ». كذب علىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو في حياته وبعد مماته وليّ كلّ مؤمن ، وكلّ مؤمن وليّه في المحيا والممات ؛ فالولاية الّتي هي ضدّ العداوة لا تختصّ بزمان ..
وأمّا الولاية الّتي هي الإمارة فيقال فيها : والي كلّ مؤمن بعدي ، كما يقال في صلاة الجنازة : إذا اجتمع الولي والوالي قُدّم الوالي في قول الأكثر ، وقيل : يُقدَّم الولي.
فقول القائل : عليّ وليّ كلّ مؤمن بعدي ، كلام يمتنع نسبته إلىٰ رسول الله ؛ فإنّه إن أراد الموالاة لم يحتج أن يقول : « بعدي » ، وإن أراد الإمارة كان ينبغي أن يقال : « والٍ كلّ مؤمن » ... (1).
ولا يسعنا هنا في الردّ علىٰ محاولة ابن تيمية هذه في دفع هذا الحديث الشريف والأحاديث الأُخرىٰ الّتي جاءت بمضمونه (2) إلاّ أن نقول :
ص : 136
إنّه أساءَ لنفسه بعمله من حيث ظنّ أنّه يحسن إليها ، وإنّه أعطىٰ لخصمه حقّاً من حيث أراد أخذه منه ..
فقد اعترف بأنّ هذا الحديث لا يراد منه الولاية الّتي بمعنىٰ المحبّة أو النصرة ، وهما ضدّ العداوة لعدم اختصاص ذلك بزمان ، إذ تكون لفظة « بعدي » نافية لهما ، وهذان المعنيان هما اللذان فقط يمكن تصوّرهما من معاني « الولي » في المقام دون المعاني الأُخرىٰ كلّها ، بالإضافة إلىٰ معنىٰ « الأوْلىٰ بالتصرّف » أو « الولاية » الّتي تعني الإمارة ، وبنفيهما لم يَتَبقَّ سوىٰ معنىٰ : « الأوْلىٰ بالتصرّف » المماثل لمعنى قوله تعالىٰ في سورة المائدة : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1).
فهو - أي ابن تيمية - قد اتّفق معنا من حيث نفي الدلالة علىٰ إرادة المحبّة أو النصرة في الحديث ، الّتي يتشبّث بهما آخرون من دون تحصيل ، ولكنّه - وبسبب أنّ هذا الحديث الشريف وما يماثله من أحاديث في المضمون واللفظ تنسف عقيدته من أساسها - اختار طريقاً آخر في الردّ
ص : 137
عليه ، يكشف عن المعاندة والمكابرة دون الرغبة الصادقة في اتّخاذ العلم طريقاً إلىٰ معرفة الحقّ واتّباعه بما يضمن له صدق المتابعة للشريعة المقدّسة وأحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ; فقال - مكابراً - : إنّ هذا الحديث كذب علىٰ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنّه يمتنع أن يقوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخلل في معاني ألفاظه.
وفي ذلك نقول :
إنّ هذا الحديث صحيح وقوي سنداً ، قد أخرجه أئمّة الحديث ، ك- : الترمذي ، وأحمد بن حنبل ، والنسائي ، والطبراني ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والحاكم ، وابن حبّان ، والمتّقي الهندي ، وابن أبي عاصم ، وأبو داود الطيالسي ، وابن عساكر ، والهيثمي ، وابن حجر ، وابن الأثير ، وابن كثير ... وغيرهم ، ورجاله هم من رجال الصحيح ، نصّ علىٰ ذلك أئمّة الرجال عند كلامهم عن أسانيده ..
ولهذا الحديث شواهد صحيحة وقوية لا يمكن لابن تيمية ، أو لغيره ، دفعها أو التحايل عليها ، وقد مرّ بيانها في ما تقدّم ، فدونك مصادرها والتحقّق من أسانيدها.
وأمّا دعوىٰ الامتناع ، فنقول : إنّ ابن تيمية قد أنفق بضاعته هنا علىٰ غير أهلها ؛ رغبة منه في رواجها ، وإلاّ فلا يخفىٰ علىٰ أهل العلم ملاحظة ما صوّره من مغالطات في المقام ؛ لأنّه كما يقال : إنّ من معاني لفظ « الولي » : المحبّ والناصر والمعتق والجار والحليف وابن العمّ ، فإنّ من معانيه - أيضاً - الوالي ; ولذا يقال للسلطان : « وليّ » ، وهو بقرينة لفظة « بعدي » هنا قد دلّ علىٰ المطلوب ، وهو : ولاية الأمر بعده ، دون المعاني
ص : 138
الأُخرىٰ ؛ فدعوىٰ الامتناع مردودة عليه ، وتخرّص محض ، بل التفاف علىٰ الحجّة بعد تمام المحجّة.
ولعلّ ابن تيمية كان ملتفتاً إلىٰ ضعف دعواه ; لذا قال : « ينبغي » ، وفي هذا أيضاً جرأة ووقاحة علىٰ مقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ إذ بعد عدم امتناع ذلك ، وأنّ لفظة « وليّ » دالّة علىٰ والي ، لا يحقّ لابن تيمية ، أو لغيره ، أن يقول للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ينبغي لك أن تتكلّم بهذا اللفظ دون هذا !!
فالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو أفصح من نطق بالضاد ، وهو سيد البلغاء والمتكلّمين ، وله أن يتكلّم بأي بيان يريد ، وقد جاء بيانه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الشريف مطابقاً لفظاً ومعنىً لما جاء في قوله تعالىٰ في آية الولاية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وهي الآية الّتي نزلت في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام عندما تصدّق بخاتمه وهو راكع لله تعالىٰ في صلاته (1).
ص : 139
وهذه الآية تدلّ علىٰ أنّ الأوْلىٰ بالتصرّف والقيام بأُموركم حصراً - لدلالة لفظة « إنّما » فيها - هم : الله ورسوله وأمير المؤمنين (1) ..
وهذه الآية المباركة الشريفة دالّة علىٰ المطلوب أيضاً ، وهي تضاف لما ذكرناه من نصوص نبوية مباركة ، بل تُعدّ مشكاتها في المقام.
وأمّا ما ساقه ابن تيمية من شاهد : فقد دلّت القرينة فيه باجتماع الولي مع الوالي علىٰ أنّ المراد ب- : الولي فيه ، هو الولي الشرعي ، ك- : الأب والجدّ دون السلطان ، وهذا لا ينفي بأن يكون أحد المعاني الثابتة لاستعمالات الولي هو السلطان ، وإنّما تدلّ علىٰ ذلك القرائن ، كما هو المعلوم في باب الاشتراك اللفظي ، ولكن التعصّب يعمي البصيرة عن إدراك أبسط المعارف ، فهو كما يقولون : « داء لا دواء له » (2).
وعلى أية حال ، لهذا الّذي ذكرناه وغيره من النصوص الواردة بحقّه عليه السلام قال الإمام عليه السلام في نهج البلاغة ، كما جاء من كتاب له إلىٰ أهل مصر بعثه مع مالك الأشتر لمّا ولاّه إمارتها :
« فو الله ! ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته ، ولا أنّهم مُنحّوه عنّي من بعده ،
ص : 140
فما راعني (1) إلاّ انثيال الناس علىٰ فلان - يعني أبا بكر - يبايعونه ، فأمسكت يدي حتّىٰ رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلىٰ محق دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرىٰ فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علَيّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب ، أو كما يتقشّع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتّىٰ زاح الباطل وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه » (2).
فلو أنّ الإمام عليه السلام كان يرىٰ الخلافة شورىٰ لما صدرت عنه الأقوال السابقة ، ولسلّم ما سُلّمت إليه الأُمور حسب خلافة الشورىٰ الشرعية - كما هو مدّعىٰ الكاتب - وما كان ليعترض أو يرىٰ أنّ اختيارات الشورىٰ هذه : طخية عمياء ، أو الاستئثار عليه بغير حقّ ، أو أنّهم هجروا السبب الّذي أُمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه ... إلىٰ آخر كلماته عليه السلام الواردة في المقام.
كما أنّه لم يكن معنىٰ لكلامه عليه السلام : « ما كان يلقىٰ في روعي ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته ، ولا أنّهم منحّوه عنّي من بعده ... » غير سبق النصّ عليه من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالخلافة ، الأمر الّذي لم يكن متوقّعاً من بعض الأصحاب تجاهله أو
ص : 141
الالتفاف عليه (1).
فلو كانت الخلافة شورىٰ ، وأنّ الناس قد أجمعت علىٰ اختيار أبي بكر إماماً ، لَما أفزع الإمام عليه السلام انثيالهم علىٰ أبي بكر ومبايعتهم له !! وما كان للإمام أن يمسك يده عن هذه البيعة !!
ومَن رجع إلىٰ كلامه عليه السلام الّذي مرّ ذكره سابقاً وجد أنّ الإمام لم يصالح أو يوادع الخلفاء إلاّ بعد أن رأىٰ راجعة الناس قد رجعت ، وخشي إن لم ينصر الإسلام وأهله أن يرىٰ فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليه أعظم من فوت حقّه في الولاية الّتي يقول عليه السلام عنها أنّها : متاع أيّام قلائل.
ويقول عنها في موضع آخر من النهج : « فإنّها كانت أثرة ، شحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم الله ، والمعود إليه القيامة » (2).
ص : 142
ومَن يطّلع علىٰ أقوال المعارضين لبيعة أبي بكر من الصحابة كالعبّاس بن عبد المطّلب ، والفضل بن العبّاس ، وخالد بن سعيد الأُموي ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وسلمان الفارسي ، وأبي ذرّ الغفاري ، وعتبة ابن أبي لهب ، سيدرك بأنّ مسألة إجماع المهاجرين والأنصار علىٰ خلافة أبي بكر لا وجود لها ، وإنّما الخلافة هي حقّ ثابت لأمير المؤمنين عليه السلام لا ينبغي لأحد أن ينازعه فيها (1) !
وفي ختام كلامي هنا ، أودّ أن أُجيب الكاتب عن السؤال الّذي صدّر به حديثه السابق ، وهو : هل تثبت الخلافة بالشورىٰ أو بالنصّ الإلٰهي ؟
إنّ الله سبحانه لم يجعل الخلافة شورىٰ ، ولم يترك للمسلمين اختيار مَن يحكمهم ، بل اختار لهم الأصلح في دينهم ودنياهم ; ويدلّ علىٰ ذلك أُمور :
1 - إنّ الشورىٰ تسبّب الاختلاف والتنازع ؛ وهذا ما وقع في سقيفة بني ساعدة (2) ، واستمرّ الخلاف بسبب ذلك إلىٰ يومنا هذا ، مع أنّ غايات الشارع المقدّس إغلاق كلّ باب يؤدّي إلىٰ النزاع ، وسدّ كلّ ثغرة تؤدّي إلىٰ الخلاف.
ص : 143
وعليه ، فلا يمكن أن يفتح الله للمسلمين باباً يؤدّي إلىٰ الفرقة مع إمكان النصّ علىٰ الخليفة الّذي تجتمع عليه الأُمّة وتتّحد به الكلمة ، ولعلّه لذلك قال الشيخ أبو عليّ ابن سينا : والاستخلاف بالنصّ أصوب ؛ فإنّ ذلك - أي الشورىٰ - يؤدّي إلىٰ التشعّب والتشاغب والاختلاف (1).
2 - إنّ منصب الخلافة الكبرىٰ والإمامة العظمىٰ من أهمّ المناصب الدينية الّتي تترتّب عليها أعظم المصالح وأشدّ المفاسد ، فلا يصحّ إيكالها إلىٰ الناس الّذين لا يعلمون بخفايا النفوس وخبايا القلوب ؛ إذ لا يؤمن حينئذ من اختيار أهل الشقاق والنفاق خلفاء علىٰ المسلمين وأئمّة للمؤمنين ، فيحرّفون الكتاب ، ويبدلّون السُنّة ، ويحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام ، ويتّخذون عباد الله خولاً ومال المسلمين دولاً.
3 - إنّ الشورىٰ مبنية علىٰ اختيار الأكثر ، والله سبحانه لم يجعل ذلك علامة علىٰ الحقّ ، بل ذمّ الكثرة في آيات كثيرة من كتابه العزيز ; فقال جلّ شأنه : ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) (2) ..
وقال : ( لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (3) ..
وقال : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (4) ..
وقال : ( وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (5).
ص : 144
وأمّا قوله تعالىٰ : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (1) ، وقوله : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) (2) الّذي يستدلّ بهما أهل السُنّة في المقام فلا يراد بهما الشورىٰ في الخلافة ، وإلاّ لكان علىٰ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يشاور أصحابه في اختيار الخليفة من بعده ، مع أنّه لم يفعل ذلك بالاتّفاق ، وإنّما كان يشاور أصحابه في ما يتعلّق بمصالح الحروب وغيرها ..
قال ابن كثير : كان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها (3).
وقال الفخر الرازي : قال الكلبي وكثير من العلماء : هذا الأمر - أي في ( وَشَاوِرْهُمْ ) - مخصوص بالمشاورة في الحروب (4).
وقال القرطبي : وقد كان يشاور أصحابه في الآراء المتعلّقة بمصالح الحروب (5).
4 - إنّ اختيار الخلفاء بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يتمّ بالشورىٰ بمعناها المعروف ; إذ أنّ اختيار أبي بكر حدث في سقيفة بني ساعدة ، وعامّة المهاجرين لم يكونوا حاضرين فيها ، ولهذا قال عمر : إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، ألا وإنّها قد كانت كذلك ، ولكن الله وقىٰ شرّها (6). أي : تمّت بلا تدبّر ولا تروٍّ.
كما أنّ أهل السُنّة قد صحّحوا خلافة عمر مع أنّها لم تكن بمشورة
ص : 145
المسلمين ، وإنّما كانت بنصّ من أبي بكر.
وأمّا عثمان فقد كان اختياره حاصلاً من اثنين من ستّة نفر حصر عمر الشورىٰ فيهم ، مع أنّ الشورىٰ الّتي نحن بصددها للمسلمين عامّة ، لا لهؤلاء النفر خاصّة !
والنتيجة : إنّ مسألة الشورىٰ لا دليل صحيح يدلّ علىٰ أنّها من شرائع الإسلام ! ولو كانت كذلك لبُيّنت أحكامها وحدودها ; فإنّ أهم أُسسها - وهو : مَن يدخل في الشورىٰ ومَن لا يدخل - اختلف علماء أهل السُنّة فيه علىٰ أقوال كثيرة (1) ، فكيف بسائر أحكامها ؟!
وهذا دليل واضح علىٰ أنّ مسألة الشورىٰ في اختيار الخلفاء إنّما وضعها الناس من عند أنفسهم ; ولهذا قال القرطبي : وقد جعل عمر رضي الله عنه الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورىٰ (2) (3).
وممّن وافق الشيعة علىٰ أنّ الإمامة بالنصّ والتعيين من أهل السُنّة جماعة من المعتزلة ، منهم : النظّام ، الّذي قال : لا إمامة إلاّ بالنصّ والتعيين ظاهراً مكشوفاً. وقد نصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علىٰ عليّ رضي الله عنه في مواضع ، وأظهره إظهاراً لم يشتبه علىٰ الجماعة ، إلاّ أنّ عمر كتم ذلك ، وهو الّذي تولّىٰ بيعة أبي بكر يوم السقيفة (4).
ص : 146
ووافقه الإسواري في جميع ما ذهب إليه ، وكذلك أبو جعفر الإسكافي وأصحابه من المعتزلة ، والجعفريان : جعفر بن مبشّر ، وجعفر بن حرب ، وكذلك محمّد بن شبيب ، وأبو شمر ، وموسى بن عمران من أصحاب النظّام ، وكذلك الخابطية أصحاب أحمد بن خابط ، والحديثية ، أصحاب الفضل الحديثي (1).
وعوداً علىٰ بدء ، لنعقّب علىٰ بعض ما استنتجه الكاتب من أُمور من
ص : 147
خلال كتاب الإمام عليه السلام الّذي بعثه إلىٰ معاوية ..
فنقول :
1 - في المورد التاسع زعم أنّ الخارج علىٰ مَن تمّ اختياره من قبل الأُمّة يجب قتله ، وبهذا ألزم الكاتب نفسه بأنّه يجب قتل طلحة والزبير وعائشة ومعاوية ، وقتل كلّ مَن يدعو إليهم أو يواليهم ; لأنّهم خوارج ، كما التزم الدليمي بذلك ، وهذا كلّه يناقض ما ذهب إليه من عدالة جميع الصحابة ، فهؤلاء صحابة يجب قتلهم !!
2 - تعتبر خلافة الأُمويّين والعبّاسيّين كلّها باطلة ; لأنّها لم تتمّ بالشورىٰ بل بالملكية ، ويحرم تسمية أُولئك الحكام خلفاء للمسلمين أو أُمراء للمؤمنين بل يطلق عليهم ملوك وحكّام.
3 - خلافة عمر بن الخطّاب باطلة ; لأنّها تمّت بنصّ من أبي بكر لا بالشورىٰ ، فيجري عليه ما جرىٰ علىٰ الأُمويين والعبّاسيّين.
4 - تخطئة أبي بكر ; لأنّه لم يترك الأمر شورىٰ بل نصّ علىٰ مَن يريد !
5 - خلافة عثمان باطلة ; لأنّ الشورىٰ لم تتمّ ببيعة الأُمّة له ، ولا حتّىٰ بيعة كلّ أهل الحلّ والعقد ، بل إنّ عبد الرحمٰن بن عوف هو الّذي اختاره ولم يوافق عليّ عليه السلام ولا سعد ولا الزبير عليه ، وهو تنصيب ; لأنّ طلحة وعبد الرحمٰن أراداه ، فأين الأُمّة من الاثنين ؟!
قال الدليمي :
« من خطبة له عليه السلام : ( أيّها الناس! إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم
ص : 148
عليه ، وأعلمهم بأمر الله فيه ، فإن شغب شاغب استعتب ، فإن أبىٰ قوتل ، ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّىٰ يحضرها عامّة الناس فما إلىٰ ذلك من سبيل ، ولكن أهلها يحكمون علىٰ من غاب عنها ، ثمّ لم يكن للشاهد أن يرجع وللغائب أن يختار ). ج 2 ص 86.
- ثمّ قال : - فتأمّل كيف جعل الإمامة تنعقد بالشورىٰ من أهلها وليس بالنصّ ؛ إذ لو كانت بالنصّ لَما صحّ أن يقول ما قال » (1).
إنّ هذا النصّ ، الّذي جاء به الكاتب من نهج البلاغة هنا ، يدحض تماماً دعواه بأنّ الامامة تنعقد بالشورىٰ ، وهو عليه لا له ; لأنّه لا يخفىٰ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال : « إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر الله فيه » ، أي : سواء اختاره الناس أم لا ؛ لأنّ الناس لو اختاروا غيره يكون هو - حسب هذا النصّ - أحقّ ممّن اختاروه ، وهذا دليل واضح علىٰ بطلان الشورىٰ ..
ولا ريب ولا شكّ أنّ أقوى الناس علىٰ أمر الخلافة وأعلمهم بأمر الله فيها هو أمير المؤمنين عليه السلام دون غيره ؛ فإنّ الخلفاء الثلاثة احتاجوا إليه وهو لم يحتج إلىٰ أحد ، كما دلّت عليه الحوادث الكثيرة.
وقوله عليه السلام : « ولكن أهلها يحكمون علىٰ من غاب عنها » دليل واضح علىٰ بطلان الاختيار ; فهو يبيّن أنّ للخلافة أهلاً هم الحاكمون بأمرها وليس كلّ أحد ، وأهل الخلافة : الله جلّ وعلا ، ونبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، فإذا حكما ونصّا علىٰ الخليفة ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا
ص : 149
أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (1).
والّذي ينقض دعوىٰ الدليمي بهذا النصّ نفسه أيضاً ، أنّ الشورىٰ المزعوم حصولها في سقيفة بني ساعدة لم يتمخّض عنها اختيار مَن هو أقوىٰ الناس علىٰ هذا الأمر ، وأعلمهم بأمر الله فيه ، بل الّذي حصل هو العكس من ذلك (2) ..
فها هو أبو بكر يقف معترفاً بعجزه عن هذا الأمر ويقول : أقيلوني فلست بخيركم (3).
ص : 150
وكان يقف ويطلب الهداية من المسلمين ويقول : إنّ لي شيطاناً يعتريني ، فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوّموني (1).
وكان يقول أيضاً : فإذا رأيتموني استقمت فاتّبعوني ، وإن رأيتموني زغت فقوّموني ، واعلموا أنّ لي شيطاناً يعتريني ، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني ، لا أُوثر في أشعاركم وأبشاركم (2).
هذا مع أنّ الله جلّ شأنه قد قال في كتابه العزيز : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) (3).
وقال : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) (4).
وقال : ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ لشَّيَٰطِينُ*تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) (5).
وقال : ( وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا ) (6).
كما أنّ أبا بكر اعترف بأنّ بيعته كانت فلتة (7) ، وقد قال عمر - وهو أوّل مَن اختاره للخلافة وبايعه - : إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقىٰ الله شرّها (8).
ص : 151
أمّا جهل الخلفاء الّذين سبقوا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بالعلوم الشرعية والأحكام الفقهية فهو ممّا امتلأت به كتب المسلمين وصحفهم (1) ، حتّىٰ اشتهر عن عمر بن الخطّاب قوله : كلّ أحد أفقه منّي (2).
ولننقل للقارئ الكريم هنا بعض الأمثلة عن جهل الخلفاء الثلاثة الّذين سبقوا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بالأحكام الشرعية وهم في سدّة الحكم ، وقد تصدّوا لإمامة المسلمين وقيادتهم ، لنرىٰ : هل ينطبق عليهم قوله عليه السلام : « إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر الله فيه ... » ، وذلك حسب خلافة الشورىٰ الّتي ينادي بها الدليمي ؟!
*سُئل أبو بكر عن الكلالة الّتي نزل بحكمها القرآن ، فقال : إنّي سأقول فيها برأيي ; فإن يكن صواباً فمن الله ، وإن يكُ خطأً فهو منّي ومن الشيطان (3). هذا مع أنّ الكلالة قد أوضحها الله عزّ وجلّ في كتابه ، وبيّنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سُنّته (4).
ص : 152
*لم يعرف أبو بكر ميراث الجدّة فقال لجدّة سألته عن إرثها : لا أجد لك شيئاً في كتاب الله وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم. فأخبره المغيرة ومحمّد بن سلمة بأنّ الرسول أعطاها السدس ، وقال : « أطعموا الجدّات السدس » (1).
*كما أنّ أبا بكر لم يعرف ميراث العمّة والخالة (2).
*وعن عبد الرحمٰن بن القاسم ، عن أبيه : إنّ أبا بكر رضي الله عنه أراد أن يقطع رِجلا بعد اليد والرِجل ، فقال عمر رضي الله عنه : السُنّة اليد (3).
ولنقف هنا قليلاً ونقول :
من المحيّر حقّاً أن لا يعلم الخليفة حدّ السارق ، وهو أهم ما يجب عليه معرفته ; لحفظ الأمن العامّ ، وقطع جرثومة الفساد ، فإن لم يكن الخليفة محيطاً بعلوم الشريعة كلّها ، وهو قد جلس موضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الناس ، فلا أقلّ من معرفته بما يرتبط بمهامّه ، والّتي من أهمّها حفظ
ص : 153
النظام ، وتطبيق ما يتعلّق بذلك من أحكام ; فمنصب الخلافة ليس منصباً وجاهياً ، أو إرثاً عشائرياً ، يشغله المرء وإن افتقر للكثير من الامتيازات !
والشريعة المقدّسة قد حثّت علىٰ لزوم مراعاة الرجل المناسب في المكان المناسب ; فقد قال تعالىٰ : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) ..
وأيضاً قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أوْلىٰ بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسُنّة نبيّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين » (2).
*أمّا عمر ؛ فقد منع المغالاة في مهور النساء ، وقال : مَن غالىٰ في مهر ابنته أجعله في بيت مال المسلمين.
فقامت امرأة في آخر المسجد وقالت له : أما تقرأ قوله تعالىٰ : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ) (3) ؟!
فقال : كلّ الناس أفقه من عمر ، حتّىٰ المخدّرات في البيوت (4).
*أمر عمر برجم مجنونة فنبّهه أمير المؤمنين عليه السلام ، وقال : « إنّ القلم مرفوع عن المجنون حتّىٰ يفيق ».
ص : 154
فقال عمر : لولا عليّ لهلك عمر (1).
*أخرج أحمد بن حنبل في مسنده : عن ابن عبّاس ، أنّ عمر تحيّر في حكم الشكّ في الصلاة ، فقال له : يا غلام ! هل سمعت من رسول الله أو من أحد أصحابه إذا شكّ الرجل في صلاته ماذا يصنع (2) ؟
*خطب عمر الناس يوماً فقال : مَن أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أُبّي بن كعب ، ومَن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل ، ومَن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومَن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإنّي له خازن. وفي لفظ : فإنّ الله تعالىٰ جعلني خازناً وقاسماً (3) ..
قال العلاّمة الأميني في الغدير : في هذه الخطبة الثابتة المروية عن الخليفة - بطرق صحيحة ، كلّ رجالها ثقات ، وصحّحها الحاكم والذهبي - اعترف بأنّ المنتهىٰ إليه في العلوم الثلاثة أُولئك النفر المذكورين فحسب ، وليس للخليفة إلاّ أنّه خازن مال الله !
وهل ترىٰ من المعقول أن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علىٰ أُمّته ، في شرعه ودينه وكتابه وسُنّته وفرائضه ، فاقداً لهاتيك العلوم ، ويكون مرجعه فيها لفيفاً من الناس ، كما تنبئ عنه سيرته ؟!
فعلامَ هذه الخلافة ؟!
ص : 155
وهل تستقرّ بمجرّد الأمانة ، وليست عزيزة في أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
وما وجه الاختصاص به ؟!
نعم ، وقع النصّ عليه ممّن سبقه في الخلافة علىٰ غير طريقة القوم في الخليفة الأوّل (1) !!
*أمّا عثمان ؛ فموارده لا تحصىٰ ولا تستقصىٰ ، وكفاك أن تعلم أنّ مَن بايعه من الصحابة والتابعين هم الّذين استحلّوا قتله وإهراق دمه (2) ؛ لما ظهر منه من المخالفات للكتاب والسُنّة والجهل بهما ، ولتوليته شاربي الخمور ، المعلنين بالفسق والفجور ، أعداء الله ورسوله ، ك- : الوليد بن عقبة ، الّذي دعاه الله فاسقاً ، ونزل فيه : ( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (3) ، وعبد الله بن أبي سرح ، وغيرهم ممّن عُرفوا بالفسق والفجور.
ومن موارد جهله بالكتاب والسُنّة : إتمامه الصلاة بمنى مع كونه مسافراً (4).
ومنها : تقديمه الخطبتين في العيدين علىٰ الصلاة (5) ؛ وهو مخالف للسُنّة المتواترة وفعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها : إحداثه الأذان الثالث يوم الجمعة زائداً علىٰ سُنّة رسول
ص : 156
الله صلى الله عليه وآله وسلم (1) ، وهو بدعة محرّمة كما اعترفوا به.
ومنها : تعطيله الحدود الواجبة ، ك- : الحدّ في عبيد الله بن عمر لمّا قتل الهرمزان بعد إسلامه فلم يقد به (2) ، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يطلبه ، ولذلك خرج مع معاوية علىٰ أمير المؤمنين عليه السلام !
وكان عمّار بن ياسر ممّن أعان علىٰ قتل عثمان ، ويقول : قتلناه كافراً (3).
وقيل لزيد بن أرقم : بأي شيء كفّرتم عثمان ؟
فقال : بثلاث : جعل المال دولة بين الأغنياء ، وجعل المهاجرين والأنصار من الصحابة بمنزلة مَن حارب الله ورسوله ، وعمل بغير كتاب الله (4).
بل يمكن للمتابع أن يلاحظ الحال الّتي وصل إليها عثمان بأنّ الّذي اختاره للخلافة وهو عبد الرحمٰن بن عوف قد جفاه بعد ذلك وأخذ يعيّره ..
روى أحمد بن حنبل في مسنده : عن عاصم ، عن شقيق ، قال : لقي
ص : 157
عبد الرحمٰن بن عوف الوليد بن عقبة ، فقال له الوليد : ما لي أراك قد جفوت أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ؟
فقال له عبد الرحمٰن : أبلغْه أنّي لم أفرّ يوم عينين - قال عاصم : يقول : أُحد - ولم أتخلّف يوم بدر ، ولم أترك سُنّة عمر رضي الله عنه (1). انتهىٰ.
فأين هذه الأقوال والأفعال - الصادرة عن الخلفاء الثلاثة الّذين سبقوا أمير المؤمنين عليه السلام - من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عليّ من حيث الهداية : « عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ، لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيّ الحوض » (2).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ، لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيّ الحوض » (3).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيه من حيث العلم : « أعلم أُمّتي من بعدي : عليّ بن أبي طالب » (4).
وأخرج المحبّ الطبري في الرياض والذخائر عن عائشة : « أعلم الناس بالسُنّة : عليّ بن أبي طالب » (5).
ص : 158
وأخرج أحمد في مسنده قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام : « أو ما ترضين أنّي زوّجتك أقدم أُمّتي سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً » (1).
وأيضاً ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله مخاطباً أصحابه : « أقضاكم عليّ » (2).
وقد كان أمير المؤمنين عليّ عليه السلام يقول : « علّمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف باب من العلم ، في كلّ باب ألف باب ، أو : كلّ باب يفتح منه ألف باب » (3).
وكان يقول : « لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالىٰ ، ولا سُنّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أنبأتكم بذلك » (4).
وكان يقول : « والله ! ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيم أُنزلت ، وأين أُنزلت ، إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ، ولساناً سؤولاً » (5).
كما كان يقول : « سلوني ! والله لا تسألوني عن شيء يكون إلىٰ يوم القيامة إلاّ أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ! فو الله ما من آية إلاّ وأنا أعلم
ص : 159
أبليل نزلت أم بنهار ، في سهل أم في جبل » (1).
وكان يقول : « ألا رجل يسأل فينتفع وينفع جلساءه » (2).
قال سعيد بن المسيّب : لم يكن أحد من الصحابة يقول : سلوني ، إلاّ عليّ بن أبي طالب (3).
فهل تراها تتّفق - عزيزي القارئ - تلك الأقوال والأفعال ، الّتي مرّ ذكرها عن واقع الخلفاء الثلاثة ، والّتي تمخّضت عن خلافة الشورىٰ ، مع قوله عليه السلام : « إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر الله فيه » ، الّذي جاء به الدليمي هنا ; ليستدلّ به علىٰ صحّة تلك الخلافة ؟!
نترك الإجابة للقارئ !!
ثمّ ذكر الكاتب قولا آخر من أقوال الإمام عليه السلام في الموضوع ذاته ، وهو قوله - صلوات الله وسلامه عليه - :
« فنظرت في أمري ؛ فإذا طاعتي سبقت بيعتي ، وإذا الميثاق في عنقي لغيري.
- قال : - هذا تسليم منه رضي الله عنه بوجوب طاعته لمَن صار خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّ ذلك ميثاق في عنقه يجب الوفاء به » (4).
مَن قرأ كلام الإمام عليه السلام في النهج ، السابق لكلامه هنا ، تبين له مراده
ص : 160
منه ؛ فقد قال عليه السلام : « رضينا عن الله قضاءه ، وسلّمنا لله أمره ، أتراني أكذب علىٰ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ والله لأنا أوّل من صدّقه ، فلا أكون أوّل من كذب عليه ، فنظرت في أمري ; فإذا طاعتي سبقت بيعتي ، وإذا الميثاق في عنقي لغيري » (1).
وسأنقل للقارئ الكريم هنا كلام شارحي النهج : ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي ، والشيخ محمّد عبده في شرح العبارة ، ليدرك مدىٰ الخلط وسوء الفهم الّذي وقع فيه الكاتب في فهم هذه العبارة !
قال ابن أبي الحديد : قوله : « فنظرت في أمري ... » إلىٰ آخر الكلام ، هذه كلمات مقطوعة من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّه كان معهوداً إليه أن لا ينازع في الأمر ، ولا يثير فتنة ، بل يطلبه بالرفق فإن حصل له ، وإلاّ أمسك ، هكذا كان يقول عليه السلام ، وقوله الحقّ ..
وتأويل هذه الكلمات :
فنظرت فإذا طاعتي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي : وجوب طاعتي ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
قد سبقت بيعتي للقوم : أي : وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علَيّ ووجوب امتثالي أمره سابق علىٰ بيعتي للقوم ; فلا سبيل لي إلىٰ الامتناع من البيعة لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ علَيّ الميثاق بترك الشقاق والمنازعة ، فلم يحلّ لي أن أتعدّى أمره أو أُخالف نهيه.
ثمّ قال ابن أبي الحديد : فإن قيل : فهذا تصريح بمذهب الإمامية !
قيل : ليس الأمر كذلك ، بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا - يعني
ص : 161
المعتزلة - من البغداديّين ; لأنّهم يزعمون أنّه الأفضل والأحقّ بالإمامة لولا ما يعلمه الله ورسوله من أنّ الأصلح للمكلّفين من تقديم المفضول عليه لكان مَن تقدّم عليه هالكاً (1). انتهىٰ.
والكلام الأخير لابن أبي الحديد هنا مردود عليه ; لأنّ تقديم المفضول علىٰ الفاضل قبيح عقلاً ، ومردود شرعاً ، بدليلي القرآن والسُنّة :
* أمّا الكتاب :
فقوله تعالىٰ : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (2) ، وقوله تعالىٰ : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (3) ، إلىٰ غيرها من الآيات الكريمة الدالّة في المقام.
* وأمّا السُنّة :
فقد ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « مَن استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أوْلىٰ بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسُنّة نبيّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين » (4).
وقد جرت علىٰ هذا الارتكاز العقلي والشرعي عقائد الناس ؛ قال
ص : 162
أحمد بن محمّد الوتري البغدادي في كتابه روضة الناظرين : اعلم أنّ جماهير أهل السُنّة والجماعة يعتقدون أنّ أفضل الناس بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم : أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ عليّ ، رضي الله تعالىٰ عنهم ، وأنّ المتقدّم في الخلافة هو المقدّم في الفضيلة ; لاستحالة تقديم المفضول علىٰ الفاضل ؛ لأنّهم كانوا يراعون الأفضل فالأفضل.
والدليل عليه : أنّ أبا بكر رضي الله عنه لمّا نصّ علىٰ عمر رضي الله عنه قام إليه طلحة رضي الله عنه فقال له : ما تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظّاً غليظاً ؟!
قال أبو بكر رضي الله عنه : فركت لي عينيك ، ودلكت لي عقبيك ، وجئتني عن رأيي ، وتصدّني عن ديني ! أقول له إذا سألني : خلّفت عليهم خير أهلك (1) ..
فدلّ علىٰ أنّهم يراعون الأفضل فالأفضل (2). انتهىٰ.
وقد عنون البخاري في الجزء الأوّل من صحيحه باباً بعنوان : أهل العلم والفضل أحقّ بالإمامة ... وبغضّ النظر عمّا جاء فيه من أحاديث وفضائل منسوبة لبعضهم ولم تشهد كتب التاريخ والوقائع بصحّتها أو
ص : 163
مطابقتها للواقع وبقيت فضائل علىٰ الورق فقط (1) ، فإنّ البخاري قد أقرٌّ - كغيره - بأنّ أهل العلم والفضل هم أحقّ بالإمامة ، وأنّ تقديم المفضول علىٰ الفاضل قبيح لا يمكن لأحد أن يلجأ إلىٰ القول به أو الاعتماد عليه في مسألة الإمامة ..
فتبيّن من ذلك بطلان قول المعتزلة في جواز تقديم المفضول علىٰ الفاضل جملةً وتفصيلا.
وبما أنّ الحديث قد انجرّ إلىٰ بيان الفاضل من المفضول ، فلا بُدّ من بيان هذه الحقيقة ، وهي : إنّ أهل البيت عليهم السلام هم الأفضل في الأُمّة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما هو مدّعانا ; وذلك لما ورد من النصوص الدالّة علىٰ هذا الأمر ، والتي سبق أن مرّ منها في أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ..
فقد دلّت علىٰ أفضليّتهم آيات كثيرة متضافرة ، ك- : آية المباهلة (2) ، وآية التطهير (3) ، وآية المودّة (4) ، وآية الصلاة علىٰ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، الّتي شارك أهل البيت عليهم السلام فيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (5) ، وغيرها من الآيات الكثيرة (6).
كما دلّت علىٰ أفضليّتهم أحاديث كثيرة متضافرة ، نذكر منها هنا
ص : 164
قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد » (1).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد خطب الناس يوماً : « يا أيّها الناس ! إنّ الفضل والشرف والمنزلة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذرّيّته ، فلا تذهبنّ بكم الأباطيل » (2).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه ، مَن ركبها نجا ، ومَن تخلّف عنها غرق » (3).
انظر التشبيه الدقيق في حديثه صلى الله عليه وآله وسلم ; فقد حملت تلك السفينة القوم الناجين وأنقذتهم من الغرق في الماء الّذي شمل الأرض كلّها آنذاك ، وكذا يكون المتّبِع لأهل بيته عليهم السلام ، الأمر الّذي يكشف لنا بوضوح عن الفرقة الناجية من المسلمين الّتي عناها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : « ستفترق أُمّتي إلىٰ ثلاث وسبعين فرقة ، كلّها في النار إلاّ واحدة » (4).
قال القاري في مرقاة المفاتيح : « ( ألا إنّ مَثل أهل بيتي ) أي شَبَههُم ( فيكم مثل سفينة نوح ) أي في سببية الخلاص من الهلاك إلىٰ النجاة ، ( مَن ركبها نجا ، ومَن تخلّف عنها هلك ) ، فكذا مَن التزم صحبتهم ومتابعتهم نجا في الدارين ، وإلاّ فهلك فيهما » (5).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ، اختلفوا فصاروا
ص : 165
حزب إبليس » (1).
قال المناوي الشافعي في فيض القدير : « ( وأهل بيتي أمان لأُمّتي ) شبّههم بنجوم السماء وهي الّتي يقع بها الاهتداء ، وهي : الطوالع والغوارب والسيارات والثابتات ، فكذلك بهم الاقتداء ، وبهم الأمان من الهلاك » (2).
وقد مرّ بنا في أوّل الكتاب ذكر حديث الثقلين المشهور المتواتر ، الدالّ بكلّ وضوح علىٰ وجوب التمسّك بأهل البيت عليهم السلام واتّباعهم بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ وذلك لمحلّ العصمة من الضلال أبداً للمتمسّك بهم (3).
قال الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة : « لا يُقاس بآل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأُمّة أحد ، ولا يُسوّىٰ بهم مَن جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة » (4).
كما يدلّك علىٰ أفضليّة عليّ عليه السلام بالخصوص بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علىٰ الأُمّة جمعاء قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أُوحي إليَّ في عليّ ثلاث : أنّه سيد المسلمين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين » (5).
ص : 166
وأيضاً قد ذكرنا سابقاً ما يدلّ علىٰ أعلميّته عليه السلام وفضيلته من هذه الناحية ; كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أعلم أُمّتي من بعدي : عليّ بن أبي طالب » ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أقضاكم عليّ » (1).
وفي حديث أخرجه الحاكم وصحّحه : عن أنس بن مالك ، أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لعليّ عليه السلام : « أنت تبيّن لأُمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي » (2).
وروي عن أبي ذرّ وسلمان : أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال - وقد أخذ بيد عليّ - : « إنّ هذا أوّل مَن آمن بي ، وهذا أوّل مَن يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصدّيق الأكبر ، وهذا فاروق هذه الأُمّة ، يفرّق بين الحقّ والباطل ، وهذا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظالمين » (3).
وروىٰ أبو نعيم في الحلية : عن معاذ ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعليّ عليه السلام : « يا عليّ ! أخصمك بالنبوّة ؛ فلا نبوّة بعدي ، وتخصم الناس بسبع ، ولا يحاجّك فيها أحد من قريش ؛ أنت أوّلهم إيماناً بالله ، وأوفاهم
ص : 167
بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم في الرعية ، وأبصرهم بالقضية ، وأعظمهم عند الله مزية » (1).
وروىٰ المحبّ الطبري في الرياض النضرة : جاء أبو بكر وعليّ يزورون قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بستّة أيّام ؛ قال عليّ لأبي بكر : « تقدّم يا خليفة رسول الله » ، فقال أبو بكر : ما كنت لأتقدّم رجلاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « عليّ منّي بمنزلتي من ربّي » (2).
ولعلّ السؤال الّذي يطرح نفسه هنا بإلحاح : إن كان هذا واقع الحال عند أبي بكر لمنزلة عليّ عليه السلام ، فلماذا رضي بالتقدّم عليه في مسألة الخلافة ، ونزل عند رغبة بعضهم ولم يبيّن أنّ الأكفأ والأجدر بها هو : عليّ عليه السلام ؟!
وأيضاً جعله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مناراً وعلامة للهدىٰ عند اختلاف الناس في المسالك ؛ فقد أخرج الديلمي عن عمّار وأبي أيّوب : أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمّار : « يا عمّار ! إذا رأيت عليّاً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره ، فاسْلك مع عليّ ودع الناس ؛ فإنّه لن يدلّك علىٰ ردىً ، ولن يخرجك من هدىً » (3).
وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في وجوب طاعته وعدم مخالفته : « مَن
ص : 168
أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصىٰ الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومَن عصىٰ عليّاً فقد عصاني » (1).
وفي لزوم متابعته وعدم مفارقته قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « يا عليّ ! مَن فارقني فقد فارق الله ، ومَن فارقك فقد فارقني » (2).
ولبيان اختصاصه به صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّه المؤهّل لتنفيذ المهام الخطيرة نيابة عنه ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « عليّ منّي ، وأنا من عليّ ، ولا يؤدّي عنّي إلاّ عليّ » (3).
وعليّ عليه السلام بعد هذا هو خيرة الله من خلقه مع نبيّه المصطفىٰ صلى الله عليه وآله وسلم ; قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لابنته فاطمة عليها السلام : « يا فاطمة ! أما ترضين أنّ الله عزّ وجلّ اطّلع علىٰ أهل الأرض فاختار رجلين : أحدهما أبوك ، والآخر بعلك » (4).
بل هو أحبّ الخلق إلىٰ الله بعد نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد جعل حبّه علامة الإيمان ، وبغضه علامة النفاق ..
روى مسلم في صحيحه : عن عدي بن ثابت ، عن زرّ ، قال : قال عليّ : والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة أنّه لعهد النبيّ الأُميّ صلى الله عليه وسلم إليَّ أن
ص : 169
لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق (1).
وروى الترمذي في سُننه ، في مناقب عليّ بن أبي طالب ، بسنده عن أنس بن مالك ، قال : كان عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم طير ، فقال : « اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك ليأكل معي هذا الطير » فجاء عليّ فأكل معه (2).
وهو بعد ذلك كلّه نفس النبيّ المصطفى الأمين صلى الله عليه وآله وسلم ; بنصّ آية المباهلة (3) : ( أَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) ، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أو لأبعثنّ عليكم رجلاً منّي أو كنفسي » (4).
أقول :
إنّ دلالة هذه الأحاديث - وغيرها - علىٰ أنّه عليه السلام هو الإمام المفترض الطاعة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضحة ؛ لأنّ مَن بايع غيره واتّبع سواه فقد
ص : 170
فارقه ، ومَن فارقه فارَق الحقّ ، كما مرّ في الأحاديث المتقدّمة ...
وكذلك أقوال ، مثل : سيّد المسلمين ، إمام المتّقين ، المبيّن لما اختلف فيه الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، منزلته من الرسول كمنزلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من ربّه ، الصدّيق الأكبر ، فاروق هذه الأُمّة ...
وكلمات مثل : أوفاهم بعهد الله ، أقومهم ، أقسمهم بالسوية ، أعدلهم ، أبصرهم ، أعظمهم عند الله ، أحد اثنين اختارهما الله من أهل الأرض كلّهم ، الأمر بالسلوك معه وترك الناس عند الاختلاف في المسالك ; وتعليل ذلك بعدم التدليل علىٰ ردىٰ وعدم الإخراج من هدىٰ ، أحبّ الخلق إلىٰ الله ، لا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق ، نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ...
فإنّ فيها من الدلالة علىٰ أفضليته ، وأرجحيّته ، وأهليّته للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة دون المسلمين كلّهم ، وما يدلّ علىٰ لزوم متابعته ، ممّا لا يختلف عليه إلاّ مَن كان جاهلاً بعلوم العربية بحيث لا يدرك معه الألفاظ الدالّة علىٰ التفضيل ، أو كان متعصّباً لمذهب قومه وعشيرته ، وكانت علىٰ قلبه غشاوة تمنعه من الوصول إلىٰ إدراك الحقّ والحقيقة !
ولاية عليّ عليه السلام
لقد وردت جملة من الأحاديث النبوية المباركة الدالّة علىٰ أحقّيته عليه السلام بالخلافة ممّن سبقه عليها ، وهي الأحاديث الواردة في وجوب موالاته وطاعته والاهتداء بهديه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي بالإضافة إلىٰ حديث الغدير المارّ ذكره ، وما ورد من أنّه وليّ المؤمنين بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ; فقد أخرج المحدّثون جملة من هذه الأحاديث ، نذكر منها :
ص : 171
1 - حديث عمّار بن ياسر ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أُوصي من آمن بي وصدّقني بولاية عليّ بن أبي طالب ، فمَن تولاّه فقد تولاّني ، ومَن تولاّني فقد تولّىٰ الله ، ومَن أحبّه فقد أحبّني ، ومَن أحبّني فقد أحبّ الله ، ومَن أبغضه فقد أبغضني ، ومَن أبغضني فقد أبغض الله » (1).
2 - حديث ابن عبّاس ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فليتولّ عليّاً من بعدي ، وليوالِ وليّه ، وليقتدِ بالأئمّة من بعدي ؛ فإنّهم عترتي ، خُلقوا من طينتي ، ورُزقوا فهمي وعلمي ، فويل للمكذّبين بفضلهم من أُمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي » (2).
3 - حديث زياد بن مطرف ؛ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « مَن أحبّ أن يحيا حياتي ، ويموت ميتتي ، ويدخل الجنّة الّتي وعدني ربّي ، وهي جنّة الخلد ، فليتولّ عليّاً وذرّيته من بعده ؛ فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدىً ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة » (3).
4 - حديث زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن أراد أن يحيا حياتي ، ويموت ميتتي ، ويسكن جنّة الخلد الّتي وعدني ربّي ، فليتولّ عليّ بن أبي طالب ؛ فإنّه لا يخرجكم من هدىً ، ولن يدخلكم في
ص : 172
ضلالة » (1).
5 - وعن الخطيب الخوارزمي الحنفي في المناقب بسنده عن عليّ عليه السلام ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، أنّه قال : « يا عليّ ! لو أنّ عبداً عبد الله مثل ما أقام نوح في قومه ، وكان له مثل أُحد ذهباً فأَنفقه في سبيل الله ، ومدّ في عمره حتّىٰ حجّ ألف عام علىٰ قدميه ، ثمّ قتل بين الصفا والمروة مظلوماً ، ثمّ لم يوالك يا عليّ لم يشم رائحة الجنّة ولم يدخلها » (2).
وقد نظم أحد الفلاسفة المعاني الواردة في هذا الحديث الشريف في أبيات شعرية قال فيها :
لو أنّ عبداً أتىٰ بالصالحات غداً
وودّ كلّ نبيّ مرسل ووليّ
وصام ما صام صوّاماً بلا ملل
وقام ما قام قوّاماً بلا كسل
وحجّ ما حجّ من فرض ومن سنن
وطاف ما طاف حاف غير منتعل
وطار في الجو لا يأوي إلىٰ أحد
وغاص في البحر مأموناً من البلل
يكسو اليتامى من الديباج كلّهم
ويطعم الجائعين البرّ بالعسل
وعاش ما عاش آلافاً مؤلّفة
عار من الذنب معصوماً من الزلل
ما كان عند الله ينفعه
إلاّ بحبّ أمير المؤمنين عليّ (3)
ص : 173
وفي معنىٰ الحديث المتقدّم ، جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « لو أنّ رجلاً صفن بين الركن والمقام فصلّىٰٰ وصام ثمّ لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمّد دخل النار » (1).
وفي هذا المعنىٰ أيضاً قال الإمام الشافعي شعراً :
ولمّا رأيت الناس قد ذهبت بهم
مذاهبهم في أبحر الغيّ والجهلِ
ركبت علىٰ اسم الله في سفن النجا
وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسلِ
وأمسكت حبل الله وهو ولائهم
كما قد أمرنا بالتمسّك بالحبلِ (2)
لا تصلح الإمامة علىٰ غير أهل البيت عليهم السلام :
وبإمكاننا ، ومن خلال نهج البلاغة نفسه الّذي نتصفّح كلماته ونقرأ أقوال الإمام عليّ عليه السلام فيه أن نستدلّ علىٰ أنّ الخلافة العظمىٰ والإمامة الكبرىٰ لا تصلح علىٰ غير أهل بيت النبوّة ; فقد جاء فيه عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قوله :
« إنّ الأئمّة من قريش ، غُرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح (3) علىٰ سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم » (4).
ص : 174
وقد استوقف هذا النصّ ابن أبي الحديد شارح النهج واستشكل علىٰ أُصول مذهبه الّتي يتبنّاها ويدافع عنها ، فقال : فإن قلت : إنّك شرحت هذا الكتاب علىٰ قواعد المعتزلة وأُصولهم ، فما قولك في هذا الكلام وهو صريح بأنّ الإمامة لا تصلح من قريش إلاّ في بني هاشم خاصة ، وليس ذلك بمذهب المعتزلة ، لا متقدّميهم ولا متأخّريهم ؟!
قلت : الموضع مشكل ولي فيه نظر ، وإن صحّ أنّ عليّاً قاله ، قلت : كما قال ; لأنّه ثبت عندي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنّه مع الحقّ وأنّ الحقّ يدور معه حيثما دار.
ثمّ قال : ويمكن أن يتأوّل ويطبّق علىٰ مذهب المعتزلة فيحمل علىٰ أنّ المراد به : كمال الإمامة ، كما حمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » (1).
إنّ الذهاب إلىٰ نفي الكمال يتمّ فيما لو دلّت قرينة من الداخل أو الخارج علىٰ عدم إرادة نفي الصحّة ، كما في الحديث الّذي أورده ابن أبي الحديد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » ، فبعد أن دلّت القرائن الخارجية علىٰ صحّة مَن يصلّي في بيته وجاره المسجد ، ذهب الفقهاء إلىٰ أنّ المراد بالنفي في الحديث هو نفي الكمال لا نفي الصحّة ، أي لا صلاة كاملة الأجر والثواب لمَن جاره المسجد إلاّ في المسجد.
أمّا النصّ السابق الوارد عن الإمام عليه السلام في نهج البلاغة فقد احتجّ
ص : 175
القوم بمثله عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علىٰ نفي صحّة إمامة غير القرشي (1) ، كما ورد عن أبي بكر في ردّ خصومة الأنصار علىٰ الإمامة يوم السقيفة قوله : يا معشر الأنصار ! لا تذكرون فضلاً إلاّ وأنتم له أهل ، وإنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلاّ لقريش (2).
كما ورد في صحيح البخاري : عن معاوية ، أنّه سمع رجلاً يقول بجواز الملك لِغيره ، فقام خطيباً علىٰ المنبر وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنّ هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلاّ أكبّه الله علىٰ وجهه (3).
بل اتّفق أئمّة المذاهب الأربعة إلاّ أبا حنيفة علىٰ عدم جواز إمامة غير القرشي لحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السابق ، أمّا أبو حنيفة فقد أفتىٰ علىٰ طريقته المعروفة بالرأي والقياس علىٰ جواز إمامة الموالي ، وهي الفتوى الّتي استند
ص : 176
عليها الأتراك في صحّة استيلائهم علىٰ خلافة المسلمين ، وأطلقوا بسبب هذه الفتوىٰ علىٰ أبي حنيفة لقب : الإمام الأعظم !
وعلىٰ أيّة حال ، فإنّ الذهاب إلىٰ نفي الكمال يتمّ فيما لو دلّ دليل علىٰ عدم إرادة نفي الصحّة ، وفي حال الاشتباه يكون المعوّل عليه هو فهم العرف ، وفهم المخاطَبين بالكلام ، وقد مرّ بنا ذكر شاهدين عن المسلمين بأنّهم فهموا من حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (1) : عدم جواز إمامة غير القرشي ..
واللفظ الوارد في كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو اللفظ نفسه الوارد في حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، مع زيادة في التوضيح والبيان من باب مدينة علم المصطفىٰ صلى الله عليه وآله وسلم ، وعند حمل المجمل علىٰ المبيّن في الكلام يفهم منه بأنّ الإمامة لا تجوز لغير القرشي الهاشمي.
كما أنّ تكرار كلمة : « لا تصلح » ، في كلام أمير المؤمنين عليه السلام قرينة لفظية علىٰ إرادة نفي الصحّة لا نفي الكمال ، كما يحاول ابن أبي الحديد أن يأوّل ذلك ، إلاّ أنّ الرجل لمّا أُحيطت مراكبه عزّ عليه أن يخالف أهل مذهبه فقال ما قال محاولاً بذلك التوفيق بين الحقيقة والخيال !
أمّا الشيخ محمّد عبده فقد قال في تعليقته عن العبارة السابقة الّتي جاء بها الدليمي من النهج وهي قوله عليه السلام : « فنظرت في أمري ، فإذا طاعتي سبقت بيعتي ، وإذا الميثاق في عنقي لغيري » : هذه الجملة قطعة من كلام له في حال نفسه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بيّن فيه أنّه مأمور بالرفق في طلب حقّه (؟!) ، فأطاع الأمر في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، فبايعهم امتثالاً لما أمره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم به من الرفق ، وإيفاء بما أخذ
ص : 177
عليه النبيّ من الميثاق في ذلك (1). انتهىٰ.
فانظر - عزيزي القارئ - إلىٰ كلام شارحي النهج : ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي ، والشيخ محمّد عبده ، اللّذين خبرا كلام الإمام عليه السلام ، ثمّ قارنه بكلام الدليمي السابق وفهمه لكلامه عليه السلام هنا ..
ومَن قرأ كتب الحديث عَلِم الأمر والميثاق اللّذين عناهما الإمام عليه السلام هنا ، وأشار إليهما علاّمة المعتزلة ، والشيخ محمّد عبده في شرحيهما ؛ فقد روى المتّقي الهندي في كنزه : عن ابن أبى شيبة والحارث والبزّار والحاكم والعقيلي والبيهقي في الدلائل ، كلّهم عن عليّ عليه السلام ، قال : إنّ ممّا عهد إليَّ النبيّ ( صلّىٰ الله عليه وسلم ) أنّ الأُمّة ستغدر بي من بعده (2).
وفي حديث رواه الحاكم وصحّحه ، ووافقه الذهبي : أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال مخاطباً عليّاً عليه السلام : « إنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي ، وأنت تعيش علىٰ ملّتي ، وتُقتل علىٰ سُنّتي ، مَن أحبّك أحبّني ، ومَن أبغضك أبغضني ، وإنّ هذه ستخضب من هذه - يعني لحيته من رأسه - » (3).
وروى يونس بن حبّاب ، عن أنس بن مالك ، قال : كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ بن أبي طالب معنا ، فمررنا بحديقة فقال عليّ : يا رسول الله ! ألا ترىٰ ما أحسن هذه الحديقة ! فقال : إنّ حديقتك في الجنّة
ص : 178
أحسن منها ، حتّىٰ مررنا بسبع حدائق ، يقول عليّ ما قال ويجيبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما أجابه ، ثمّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقف فوضع رأسه علىٰ رأس عليّ وبكىٰ ، فقال عليّ : ما يبكيك يا رسول الله ؟!
قال : ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتّىٰ يفقدوني.
فقال : يا رسول الله ! أفلا أضع سيفي علىٰ عاتقي فأبيد خضراءها.
قال : بل تصبر.
قال : فإن صبرت.
قال : تلاقي جهداً.
قال : أفي سلامة من ديني ؟
قال : نعم.
قال : فإذاً لا أُبالي (1).
وقد مرّت بنا سابقاً الإشارة إلىٰ كلامه عليه السلام في النهج : « فما راعني إلاّ انثيال الناس علىٰ فلان - يعني أبا بكر - يبايعونه ، فأمسكت يدي (2) ،
ص : 179
حتّىٰ رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلىٰ محقّ دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرىٰ فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علَيّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل ... » (1).
وقد ورد عنه عليه السلام في النهج أيضاً أنّه قال للناس ، عندما عزموا علىٰ بيعة عثمان : « لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري ، ووالله لأسلمنّ ما سلمت أُمور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلاّ علَيَّ خاصة ; التماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً في ما تنافستموه من زخرفه وزبرجه ... » (2).
أقول :
لو كانت الخلافة شورىٰ وأنّ الإمام عليه السلام ملزم ببيعة مَن يختاره المسلمون - حسب هذه الدعوىٰ - لَما جاز له أن يعدّ اختيار غيره جوراً عليه خاصة ، ولَما كان فعلهم تنافساً علىٰ زخرف الدنيا وزبرجها ..
كيف ؟! وهم لم يفعلوا شيئاً سوىٰ ترشيح أنفسهم ، وهو أمر مباح لهم حسب هذه الدعوىٰ ، لو صحّ أمرها ، فلا معنىٰ إذاً لتظلّم الإمام عليه السلام ، ولا معنىٰ لذمّهم بالتنافس علىٰ الدنيا ، سوىٰ التنبيه علىٰ مخالفتهم للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي نصّ عليه في أكثر من موضع وموضع ، وهو الأمر الّذي أشار إليه الإمام عليه السلام بقوله : « لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري ».
ولم يكن علم الناس بحقّه عليه السلام ، الّذي أشار إليه هنا ، لولا شيوع النصّ عليه وتسامع الناس به ، فيوم الغدير ليس عنهم ببعيد ، وقد استمع
ص : 180
لخطاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيه بالنصّ عليه أكثر من مائة ألف مسلم ومسلمة ، كما ذكر ذلك بالتواتر المعتبر أرباب السير والتواريخ في كتبهم.
وكلامه عليه السلام الأخير واضح لا يحتاج إلىٰ بيان ، لكنّنا آثرنا توضيح ذلك لمَن كان ضعيف الفهم ، أو لمَن كان يقرأ كلمات الإمام عليه السلام في موضوع الخلافة ويفسّرها علىٰ هواه !
ثمّ أورد الدليمي نصّاً آخر من كلام الإمام عليه السلام في الخلافة ، وهو :
« والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية أربة ، ولكنّكم دعوتموني إليها ، وحملتموني عليها. ج 2 ص 184 ..
- قال الدليمي : - قال - أي الإمام عليه السلام - : ولكنّكم دعوتموني إليها ... ولم يقل : الله خصّني بها ، أو نصّ علَيَّ فيها » (1).
أقول :
قد أوردنا سابقاً شذرات من كلامه عليه السلام الوارد في نهج البلاغة بشأن اختصاصه وأهل بيته عليهم السلام بالخلافة ..
منها : قوله عليه السلام : « إنّ الأئمّة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح علىٰ سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم ».
ومنها : قوله عليه السلام : « لا يقاس بآل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأُمّة أحد... ولهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصية والوراثة ».
أمّا كلام الإمام عليه السلام السابق ، والّذي أورده الدليمي هنا ، فقد كان من
ص : 181
كلام له عليه السلام كلّم به طلحة والزبير ، اللّذين بايعاه بعد مقتل عثمان ، وجاءا يعاتبانه علىٰ ترك مشورتهما والاستعانة في الأُمور بهما (1).
ومن المعلوم أنّ الإمام عليه السلام قد ردّ الناس عن مبايعته بعد مقتل عثمان في أوّل الأمر ; لشدّة الفتنة الّتي وقع المسلمون فيها بعد مقتله (2) ، فقد كان عليه السلام يقول للناس لمّا أرادوه علىٰ البيعة :
« دعوني والتمسوا غيري ; فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول (3) ، وإنّ الآفاق قد أغامت (4) ، والمحجّة قد تنكّرت (5) ، واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغِ إلىٰ قول القائل ، وعتب العاتب ، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمَن وليّتموه أُموركم ، وأنا لكم وزيراً ، خير لكم منّي أميراً ... ».
قال الشيخ محمّد عبده في تعليقته : تنكرت : أي : تغيّرت علائمها فصارت مجهولة ، وذلك أنّ الأطماع كانت قد تنبّهت في كثير من الناس ، علىٰ عهد عثمان رضي الله عنه ، بما نالوا من تفضيلهم بالعطاء ، فلا يسهل عليهم
ص : 182
- في ما بعد - أن يكونوا في مساواة مع غيرهم ، فلو تناولهم العدل انفلتوا منه ، وطلبوا طائشة الفتنة ؛ طمعاً في نيل رغباتهم ، وأُولئك هم أغلب الرؤساء في القوم ، فإن أقرّهم الإمام علىٰ ما كانوا عليه من الامتياز فقد أتىٰ ظلماً ، وخالف شرعاً ، والناقمون علىٰ عثمان قائمون علىٰ المطالبة بالنصفة إن لم ينالوها تحرّشوا للفتنة ، فأين المحجّة للوصول إلىٰ الحقّ علىٰ أمن من الفتن ؟ وقد كان بعد بيعته ما تفرّس به قبلها (1).
ولا يعني قوله عليه السلام : « دعوني والتمسوا غيري ... » علىٰ عدم وجود النصّ عليه ، وإنّما كان بقوله هذا ، وغيره من الأقوال الواردة بعد مقتل عثمان ، يتحرّىٰ السكينة في شؤون المسلمين الّذين عصفت بهم ريح الفتن الشديدة ، والّتي جعلتهم في طخية عمياء - كما وصفها الإمام عليه السلام في خطبته الشقشقية - من يوم السقيفة حتّىٰ يوم مقتل عثمان.
أمّا التعبير الوارد عنه عليه السلام بالزهد في الخلافة ، فقد كان عليه السلام يعبّر عن ذلك ، بل عن زهده في الدنيا كلّها ، وأنّها أزهد عنده من عفطة عنز - كما يقول - في مواقف عديدة من خطبه ، ويؤكّد أنّه لا يطلب أمر الخلافة لولا الرغبة في إقامة الحقّ ..
فمن ذلك : قوله عليه السلام : « أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله علىٰ العلماء أن يقاروا علىٰ كظة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها علىٰ غاربها (2) ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة
ص : 183
عنز » (1).
كما كان عليه السلام يقول : « اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردّ المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطّلة من حدودك » (2) ، إلىٰ غير ذلك من كلماته عليه السلام.
أمّا قول الكاتب - الّذي ذكره تعقيباً علىٰ كلام الإمام عليه السلام - : ولم يقل - أي الإمام عليه السلام - ولكن الله خصّني بها أو نصَّ عليَّ فيها ... مردود عليه ; لأنّ عدم القول لا يعني القول بالعدم ، فهذا محض تكلّف للأدلّة لا يخفىٰ ضعف الاعتماد عليه عند أهل النظر والبيان.
وأمّا النصّان الآخران اللّذان جاء بهما الكاتب من نهج البلاغة وهما : قوله عليه السلام : « وبسطتم يدي فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثمّ تداككتم علَيَّ تداكّ الإبل الهيم علىٰ حياضها يوم وردوها » (3).
وقوله عليه السلام : « دعوني والتمسوا غيري ... - إلىٰ قوله - وإن تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمَن ولّيتموه أمركم ، وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم منّي أميراً » (4).
أقول :
قد مرّت الاجابة علىٰ أمثال هذه النصوص الواردة عن الإمام عليه السلام بعد
ص : 184
مقتل عثمان ، وسرّ تمنّعه عليه السلام عن موافقة الناس علىٰ بيعته أوّل الأمر ، وقد نقلنا للقارئ الكريم أيضاً تعليق الشيخ محمّد عبده علىٰ كلامه عليه السلام أعلاه ، فارجع إليه (1).
وبالإضافة إلىٰ ما ذُكر يمكن القول : إنّ الإمام عليه السلام أراد بتمنّعه عن موافقة الناس علىٰ بيعته أوّل الأمر ، بعد مقتل عثمان ، أن يختبر الناس ويمحَص نواياهم نحوه ; كي لا تكون بيعته فلتة ، كبيعة الّذين سبقوه ، من غير تدبّر ولا روية ، ولهذا كان يقول للناس الّذين أرادوه للبيعة ، كما جاء في النهج : « اعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغِ إلىٰ قول القائل وعتب العاتب ».
وكان الهدف من ذلك واضحاً ، فالإمام عليه السلام يريد أن يلزمهم ببيعته ، فلا يقبل بعد ذلك عذر عاذر عن التخلّف عن طاعته واتّباع أوامره (2) ، لأنّ البيعة كانت عن إصرار من الناس وإلحاح عليه ، ولم تكن فلتة ، لذا تراه يقول للناس بعد ذلك - أي بعد البيعة وأخذهم بالعدل في الحكم والسوية في العطاء - : « لم تكن بيعتكم إيّاي فلتةً ، وليس أمري وأمركم واحداً ، إنّي أُريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم ... أيّها الناس ! أعينوني علىٰ أنفسكم ، وأيم الله ! لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ، ولأقودنّ الظالم بخزامته (3) ، حتّى
ص : 185
أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً » (1).
وفي ختام هذا الفصل أقول :
لو أنّ الدليمي عند استشهاده بالنصوص كان يذكر كلام الإمام عليه السلام بتمامه ، لأدرك القارئ لكتابه مراد الإمام منه ، ولكنّه كان يقتطع النصوص اقتطاعاً ، ويقدّمها لقارئه مبتورة مشوّشة بشكل يساعد علىٰ تضييع الحقيقة منها ، ويحقّق غرضه الّذي يصبو إليه في نفسه ..
الأمر الّذي يجعل مثل هذه الطريقة ناقصة ، لا تنم عن قدرة متكاملة في البحث والتدقيق ؛ فإنّ للكلام قرائن مقالية ، وقرائن حالية ، ودلائل خارجية ، وأساليب بلاغية ، يتعرّض لها المتكلّم في كلامه ، ينبغي للباحث في كلام المتكلّم أن يكون ملّماً بها ، ومطّلعاً عليها ليكون بحثه تامّاً وافياً ، نافعاً لنفسه ولغيره (2).
وهذه الطريقة في الكتابة عند الدليمي تذكّرني بطريقة كاتب آخر لعلّ الدليمي كان يقتفي أثره ويسير علىٰ خطاه ، وهو الكاتب الباكستاني إحسان إلهي ظهير ، الّذي كان يقتطع النصوص اقتطاعاً ويقدّمها لقارئه مبتورة مشوّشة علىٰ طريقة : ( وَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ) ، لم تكتمل جُملها ، ولم يتبيّن
ص : 186
للقارئ تمام مراد المتكلّم منها ، الأمر الّذي جعل علماء الفريقين ، بل عوامّهم ، يزدرون بكتبه ولا يلتفتون إليها ; لضعف تحقيقها ، وقلّة الإنصاف فيها.
* * *
ص : 187
ص : 188
الفصل الخامس
ص : 189
ص : 190
قال الدليمي :
« من خطبة له عليه السلام عند خروجه لقتال أهل البصرة ( في وقعة الجمل ) : ( ما لي ولقريش ! والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولأُقاتلنّهم مفتونين ). ج 1 ص 81 ..
ففرّق بين حالهم في الجاهلية حين قاتلهم كافرين وبين حالهم يومذاك إذ سمّاهم : مفتونين. أي : أصابتهم الفتنة فاشتبهت عليهم الأُمور » (1).
جاء في نهج البلاغة : أنّ رجلاً قام إلىٰ أمير المؤمنين عليه السلام وسأله : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن الفتنة ، وهل سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها ؟
فقال عليه السلام : « إنّه لمّا أنزل الله سبحانه قوله : ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) (2) علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول الله ! ما هذه الفتنة الّتي أخبرك الله تعالىٰ بها ؟
فقال : يا عليّ ! إنّ أُمّتي سيفتنون من بعدي.
ص : 191
فقلت : يا رسول الله ! أو ليس قد قلت لي يوم أُحد حيث استشهد مَن أُستشهد من المسلمين وحيزت عنّي الشهادة فشقّ ذلك علَيَّ ، فقلت لي : أبشر ! فإنّ الشهادة من ورائك ؟
فقال لي : إنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذاً ؟
فقلت : يا رسول الله ! ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرىٰ والشكر.
وقال : يا عليّ ! إنّ القوم سيُفتنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم علىٰ ربّهم ، ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع.
قلت : يا رسول الله ! فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك ، أبمنزلة ردة ، أم بمنزلة فتنة ؟
فقال : بمنزلة فتنة » (1).
ولا خلاف في أنّ الّذين قاتلوا عليّاً عليه السلام أيّام خلافته ، سواء في البصرة أو صِفّين أو النهراون ، هم من البغاة ، علىٰ هذا اتّفق الفقهاء والجمهور الأعظم ومتكلّمو المسلمين ..
قال المناوي الشافعي في فيض القدير : قال عبد القاهر الجرجاني في كتاب الإمامة : أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي ، منهم : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والجمهور الأعظم من المتكلّمين والمسلمين أنّ عليّاً مصيب في قتاله لأهل صِفّين ، كما هو
ص : 192
مصيب في أهل الجمل ، وأنّ الّذين قاتلوه بغاة ظالمون له ، ولكن لا يُكفَّرون ببغيهم ..
وقال الإمام أبو منصور في كتاب الفرق في بيان عقيدة أهل السُنّة : أجمعوا أنّ عليّاً مصيب في قتاله أهل الجمل : طلحة والزبير وعائشة بالبصرة ، وأهل صِفّين : معاوية وعسكره (1). انتهىٰ.
وهذا النصّ المتقدّم في بيان عقيدة أهل السُنّة في قتال أمير المؤمنين عليه السلام لأهل الجمل وصِفّين والنهروان لا يختلف فيه الإمامية عن أهل السُنّة إلاّ في مسألة واحدة ، وهي تكفير مَن حارب الإمام عليه السلام ..
وقد استندوا في قولهم هذا ، لِما ورد في الحديث الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « حرب عليّ حربي ، وسلمه سلمي » (2) ..
وحرب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كفر بلا خلاف ، فينبغي أن يكون حرب عليّ مثله ; لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم أراد التشبيه بينهما في الأحكام ، أي : حكم حربك حربي ، وإلاّ فمحال أن يريد نفس حربك حربي ; لأنّ المعلوم خلافه ..
ص : 193
قال الشيخ المفيد في الجمل : واجتمعت الشيعة علىٰ الحكم بكفر محاربي أمير المؤمنين ، ولكنّهم لم يخرجوهم بذلك عن حكم ملّة الإسلام ; إذ كان كفرهم من طريق التأويل : كفر ملّة ، ولم يُكفَّروا كفر ردّة عن الشرع مع إقامتهم علىٰ الجملة منه وإظهار الشهادتين والاعتصام بذلك عن كفر الردّة المخرج عن الإسلام ، وإن كانوا بكفرهم خارجين عن الإيمان (1).
لو كان ذلك كفر لأجرىٰ عليهم أحكام الكفر ، من منع الوراثة والمدافنة والصلاة عليهم ، وأخذ الغنيمة واتّباع المُدبر ، والإجازة علىٰ المجروح ، والمعلوم أنّه عليه السلام لم يجرِ ذلك عليهم ، فكيف يكون كفراً ؟!
أحكام الكفر مختلفة ، ك- : حكم الحربي ، والمعاهد ، والذمّي ، والوثني ، فمنهم مَن تُقبل منهم الجزية ويُقرَّون علىٰ دينهم ، ومنهم مَن لا تُقبل ، ومنهم مَن يُناكح وتُؤكل ذبيحته ، ومنهم مَن لا تُؤكل ذبيحته عند المخالف.
ولا يمتنع أن يكون مَن كان متظاهراً بالشهادتين ، وإن حُكم بكفره ، أن يكون حكمه مخالف لأحكام الكفّار ، كما قالت المعتزلة في المجبِّرة والمشبِّهة ، وغيرهم من الفرق الّذين يحكمون بكفرهم وإن لم تجرِ هذه الأحكام عليهم ..
ص : 194
ولكن هذا لا يمنع من أن يعود الباغي إلىٰ رشده ويتوب إلىٰ الله ، ويختم حياته بالتوبة عمّا حصل منه بالتفريط في حقّ طاعة لله وإطاعة أوليائه (1).
ولنعد إلىٰ نهج البلاغة ونطالع أقوال الإمام عليه السلام في واقع الّذين حاربوه في البصرة من أهل الجمل :
قال عليه السلام عن رأسي الفتنة في الواقعة ، وهما طلحة والزبير : « والله ! ما أنكروا علَيَّ منكراً ، ولا جعلوا بيني وبينهم نَصفاً (2) ، وإنّهم يطلبون حقّاً هم تركوه ، ودماً هم سفكوه ، فإن كنت شريكهم فيه ، فإنّ لهم نصيبهم منه ، وإن كانوا ولّوه دوني فما الطلبة إلاّ قبلهم ، وإنّ أوّل عدلهم للحكم علىٰ أنفسهم ..
إنّ معي لبصيرتي ، ما لبست ولا لبّس علَيَّ ، وإنّها للفئة الباغية فيها الحمأ والحمة (3) ، والشبهة المغدفة (4) ، وإنّ الأمر لواضح ، وقد زاح الباطلُ عن نصابهِ ، وانقطع لسانه عن شَغَبهِ » (5).
ص : 195
وقال عليه السلام عنهما أيضاً : « اللّهمّ ! إنّهما قطعاني وظلماني ، ونكثا بيعتي (1) ، وألّبا الناس علَيَّ ، فاحْلُل ما عقدا ، ولا تحكم لهما ما أبرما ، وأرهما المساءَة في ما أمّلا وعَمِلا ، ولقد استثبتهما قبل القتال ، واستأنيتُ بهما أمام الوقاع ، فغمطا النعمة وردّا العافية » (2).
وقال عليه السلام في كتاب بعثه إليهما : « وقد زعمتما أنّي قتلتُ عثمان ! فبيني وبينكما مَن تخلَّف عنّي وعنكما من أهل المدينة ، ثمّ يلزم كلّ امرئٍ بقدر ما احتمل (3) ، فارجعا أيّها الشيخان عن رأيكما ، فإنّ الآن أعظم أمركما العار ، من قبل أن يجتمع العار والنار » (4).
أمّا زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عائشة ، الّتي خرجت عليه مع طلحة والزبير ، فقد قال عليه السلام عنها : « وأمّا فلانة فأدركها رأي النساء ، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إلَيَّ لم تفعل (5) ،
ص : 196
ولها بعد حرمتها الأُولىٰ ، والحساب علىٰ الله تعالىٰ » (1).
وفي ذمّ الناكثين ببيعته قال عليه السلام : « ألا وإنّ الشيطان قد ذمر (2) حزبه ، واستجلب جلبه ، ليعود الجور إلىٰ أوطانه ، ويرجع الباطل إلىٰ نصابه ، والله ! ما أنكروا علَيَّ منكراً ، ولا جعلوا بيني وبينهم نَصفاً » (3).
كما قال عليه السلام عنهم : « وإنّ أعظم حجّتهم لعلىٰ أنفسهم ، يرتضعون أُمّاً قد فُطمت (4) ، ويحيون بدعة قد أُميتت ، يا خيبة الداعي ! مَن دعا ! وإلامَ أُجيب (5) ؟! وإنّي لراض بحجّة الله عليهم وعلمه فيهم ».
أمّا أهل البصرة ، الّذين شاركوا طلحة والزبير والسيدة عائشة في الخروج عليه ، فقد قال عليه السلام لهم بعد الواقعة : « كنتم جند المرأة ، وأتباع البهيمة (6) ، رغا فأجبتم ، وعُقِر فهربتم ، أخلاقكم دقاق (7) ، وعهدكم شقاق ، ودينكم نفاق ، وماؤكم زعاق (8) » (9).
ص : 197
أقول :
فما جزاء الّذين كانت أخلاقهم دقاق ، وعهدهم شقاق ، ودينهم نفاق ؟!
قال تعالىٰ : ( وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) (1).
فأنت تلاحظ حسب الآية القرآنية أنّ نتيجة الكفّار والّذين فُتنوا وصار دينهم نفاقاً واحدة ، هي : النار مأواهم ، ولهم عذاب مقيم.
* * *
ص : 198
ص : 199
ص : 200
قال الدليمي :
« من كتاب له عليه السلام إلىٰ معاوية جواباً : ( أمّا بعد ، فإنّا كنّا نحن وأنتم علىٰ ما ذكرت من الأُلفة والجماعة ففرّق بيننا أمس أنّا آمنا وكفرتم ، واليوم استقمنا وفُتنتم ). ج 3 ص 122 ..
- قال : - ففرّق رضي الله عنه بين الكفر الّذي كانوا عليه قبل الإسلام ، وبين الفتنة - وليس الكفر - الّتي وقعوا فيها بعد مقتل سيّدنا عثمان رضي الله عنه » (1).
أقول :
قد أشرنا سابقاً إلىٰ أنّ الفتنة الّتي ترد علىٰ المسلمين إنّما هي لغرض اختبارهم وامتحانهم وتمحيص نواياهم من الصدق مع الله أو الكذب عليه ، كما بيّنّا أنّ نتيجة أهل الجمل الّذين فُتنوا وصار دينهم نفاقاً - كما وصفهم الإمام عليه السلام - هي نفس نتيجة الكفّار من حيث الخلود في النار والاستحقاق لمقت الله ولعنته ; فما هو حال أهل الشام وقائدهم معاوية بن أبي سفيان ، الّذين حاربوا إمام زمانهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وخرجوا عليه ؟!
من المعلوم والثابت عند المسلمين جميعاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أطلق علىٰ أهل الشام الّذين حاربوا الإمام عليّ عليه السلام اسم : « القاسطين » ..
ص : 201
والقاسطون هم : المائلون عن الحقّ إلىٰ الباطل ; قال تعالىٰ : ( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) (1) ، وهم إحدىٰ الفئات الثلاث الّذين أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الإمام عليه السلام بقتالهم بعده (2).
وسمّاهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : « الفئة الباغية » ، وسمّاهم : « الدعاة إلىٰ النار » ؛ كما جاء في قوله صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الصحابي الجليل عمّار بن ياسر رضي الله عنه : « ويح عمّار ! تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلىٰ الجنّة ويدعونه إلىٰ النار » (3).
ومن المعلوم أنَّ عمّار رضي الله عنه قد قتل في يوم صِفّين علىٰ يد جيش معاوية (4).
وقد جاء في نهج البلاغة بحقّ معاوية وحزبه أقوال كثيرة ، نقتصر هنا علىٰ ذكر شيء يسير منها :
1 - من خطبة له عليه السلام ينبّه فيها علىٰ فضله وشرف وقته ويبيّن فتنة بني أُمية : « إنّ الفتن إذا أقبلت شبَّهت (5) ، وإذا أدبرت نبَّهت (6) ، يُنكرن
ص : 202
مقبلات ، ويُعرفن مدبِرات ، يحمن حوم الرياح ، يُصبن بلداً ويخطئن بلداً ، ألا وإنّ أخوفَ الفتن عندي عليكم : فتنة بني أُمية ; فإنّها فتنة عمياء مظلمة - إلىٰ قوله - : ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيَّة (1) وقطعاً جاهلية ، ليس فيها منار هدىً ، ولا عَلمٌ (2) يرىٰ » (3).
2 - وقال عليه السلام من كلام له يشير فيه إلىٰ ظلم بني أُمية : « والله ! لا يزالون حتّىٰ لا يدعوا لله محرماً إلاّ استحلّوه ، ولا عقداً إلاّ حلّوه ، وحتّىٰ لا يبقىٰ بيت مدر ولا وبر إلاّ دخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم ، وحتّىٰ يقوم الباكيان يبكيان : باك يبكي لدينه ، وباك يبكي لدنياه » (4).
3 - وقال عليه السلام في كتاب بعثه إلىٰ معاوية : « فسبحان الله ! ما أشدّ لزومك للأهواء المبتدعة ، والحيرة المتعبة ، مع تضييع الحقائق ، وإطراح الوثائق ، الّتي هي لله طلبة ، وعلىٰ عباده حجّة ..
فأمّا إكثارك الحِجاج (5) علىٰ عثمان وقتله ; فإنّك إنّما نصرت عثمان حيث كان النصر لك ، وخذلته حيث كان النصر له (6) » (7).
4 - وفي كلام للإمام عليه السلام مع أصحابه المتثاقلين عن الجهاد يصف معاوية بأنّه إمام الباطل : « وإنّي والله لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم
ص : 203
باجتماعهم علىٰ باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحقّ ، وطاعتهم إمامهم في الباطل » (1).
5 - وقال عليه السلام في كتاب بعثه إلىٰ معاوية : « فاتّقِ الله في ما لديك ، وانظر في حقّه عليك ، وارجع إلىٰ معرفة ما لا تعذر بجهالته ; فإنّ للطاعة أعلاماً واضحة ، وسُبلاً نيّرة ، ومحجّة نهجة (2) ، وغاية مطلبة ، يردُها الأكياس ، ويخالفها الأنكاس (3) ، مَن نكب عنها جار عن الحقّ ، وخبط في التيه (4) ، وغيّر الله نعمته ، وأحلّ به نقمته.
فنفسك نفسك ! فقد بيّن الله لك سبيلك ، وحيث تناهت بك أُمورك ، فقد أجريت إلىٰ غاية خسر ، ومحلّة كفر (5) ، وإنّ نفسك قد أولجتك شراً ، وأقحمتك غيّاً ، وأوردتك المهالك ، وأوعرت عليك المسالك » (6).
6 - وقال عليه السلام في كتاب بعثه إلىٰ عمرو بن العاص ، شريك معاوية في حربه لأمير المؤمنين عليه السلام : « فإنّك قد جعلت دينك تبعاً لدنيا امرئ ظاهر غيّه ، مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه ، ويسْفَه الحليم بخلطته ، فاتّبعت أثره ، وطلبت فضله ، اتّباع الكلب للضرغام ، يلوذ بمخالبه ، وينتظر ما يلقي إليه من فضل فريسته ، فأذهبت دنياك وآخرتك ! ولو بالحقّ أخذت أدركت ما طلبت ، فإن يمكنني الله منك ومن ابن أبي سفيان أجزكما بما
ص : 204
قدّمتما ، وإن تعجزا وتبقيا فما أمامكما شرّ لكما » (1) ..
قال ابن أبي الحديد في شرحه : أمّا قوله : « يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته » : فالأمر كذلك ؛ فإنّه لم يكن في مجلسه إلاّ شتم بني هاشم وقذفهم ، والتعرّض بذكر الإسلام والطعن عليه ، وإن أظهر الانتماء إليه (2).
7 - ومن كلام له عليه السلام في معاوية : « والله ! ما معاوية بأدهىٰ منّي ، ولكنّه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهىٰ الناس ، ولكن كلّ غدرة فجرة ، وكلّ فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة » (3).
8 - وفي كتاب له عليه السلام إلىٰ زياد بن أبيه ، وقد بلغه أنّ معاوية كتب إلىٰ زياد يريد خديعته باستلحاقه ، يصف الإمام عليه السلام معاوية بالشيطان : « وقد عرفت أنّ معاوية كتب إليك يستزلّ لبّك ، ويستفلّ غربك (4) ، فاحذره ؛ فإنّما هو الشيطان : يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، ليقتحم غفلته ، ويستلب غرّته (5) » (6).
قال الدليمي ، بعد أن أورد نصوصاً أُخرىٰ من نهج البلاغة تنحىٰ
ص : 205
منحىٰ النصّ الّذي أورده أوّل مرّة ، وغاية ما يريد إثباته من ذلك أنّ الإمام عليه السلام يعدّ الّذين قاتلهم في صِفّين من المسلمين لا غير :
« فينبغي علىٰ كلّ عاقل ، محبّ لدينه وأُمّته ، أن يخرج الخلاف الّذي حصل بين الفريقين من الدين ، فالدين واحد بشهادة سيّدنا وإمامنا عليّ رضي الله عنه ، وبما أنّ القضية خرجت من الدين ودخلت في السياسة فقد انتهىٰ وقتها ، وأصبحت مسألة تاريخية لا فائدة من تجديد البحث فيها من دون الانتباه إلىٰ هذا القيد. وعلينا أن نرجع جميعاً إلىٰ الدين الواحد ، الّذي كان عليه عليّ ومعاوية ، وهو دين الإسلام ، فالدين واحد ، والربّ واحد ، والنبيّ واحد ، والدعوة واحدة ; فعلامَ الخلاف ؟! » (1).
أقول :
نعم ، إنّ الّذين قاتلهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في « صِفّين » كان ظاهرهم الإسلام ، ولكنّهم فُتنوا وغرّتهم الحياة الدنيا ، فجاروا عن الحقّ وصاروا - بسبب عنادهم وتعنتهم - بغاة ودعاة إلىٰ النار ، بشهادة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ..
ومع علم الإمام عليه السلام بذلك كلّه ؛ لِما أخبره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، لم يبخل عليه السلام عليهم بنصائحه ومواعظه حين جابهوه بالمعصية وخذلان الطاعة ، وهي النصائح الّتي لم يسمع المسلمون بمثلها من أحد قبله ، إلاّ من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، إلاّ أنّ أهل الشام وقائدهم معاوية لم يعتبروا بتلك النصائح الثمينة ، ولم تزجرهم تلك المواعظ الشديدة ، الّتي كان يبعثها الإمام عليه السلام إليهم ، والّتي يعجز عن الإتيان بها أبلغ البلغاء عندهم ، وما أفاؤوا - بعد
ص : 206
بغيهم - إلىٰ أمر الله بوجوب طاعته عليه السلام وهو إمام زمانهم ، بل ازدادوا بغياً وعدواناً ..
وقد استعملوا في حربهم لأمير المؤمنين - صلوات الله وسلامه عليه - شتّىٰ أساليب المكر والخديعة (1) ، ومنها : حيلتهم - بعد أن ادركوا أنّهم سيخسرون الحرب - برفع المصاحف علىٰ رؤوس الرماح والدعوة إلىٰ تحكيم القرآن ، وفي ذلك يقول الإمام عليه السلام للخوارج الّذين فُتنوا بعد رفع المصاحف وانشقّوا عليه :
« ألم تقولوا عند رفع المصاحف حيلةً وغيلةً ، ومكراً وخديعةً : إخواننا وأهل دعوتنا ، استقالوا واستراحوا إلىٰ كتاب الله سبحانه ، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم.
فقلت لكم : هذا أمرٌ ظاهره إيمان وباطنه عدوان ، وأوّله رحمة وآخره ندامة ؛ فأقيموا علىٰ شأنكم والزموا طريقتكم ، وعضُّوا علىٰ الجهاد بنواجذكم ، ولا تلتفتوا إلىٰ ناعق نعق ؛ إن أُجيب أضلَّ ، وإن تُرك ذلَّ ؟!
وقد كانت هذه الفعلة ، وقد رأيتكم أعطيتموها (2) ، والله لئن أبيتها ما وجبت علَيَّ فريضتها ، ولا حمَّلني الله ذنبها ، ووالله إن جئتها إنّي للمحِقُّ الّذي يُتَّبع ، وإنّ الكتاب لمعي ما فارقته مذ صحبته ، فلقد كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنَّ القتل ليدور علىٰ الآباء والأبناء والإخوان والقرابات ، فما نزداد علىٰ كلّ مصيبةٍ وشدّةٍ إلاّ إيماناً ومضيّاً علىٰ الحقّ ، وتسليماً
ص : 207
للأمر ، وصبراً علىٰ مضض الجراح ... ».
ثمّ بيّن عليه السلام سبب مقاتلته لأهل الشام ، فقال : « ولكنّنا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام علىٰ ما دخل فيه من الزَيْغ والاعوجاج والشبْهة والتأويل ، فإذا طمعنا في خصلة يلمُّ اللهُ بها شَعَثنا ، ونتدانىٰ بها إلىٰ البقيّة في ما بيننا ، رغبنا فيها وأمسكنا عمّا سواها » (1).
فهنا ، في هذه الخطبة بيّن الإمام عليه السلام بكلّ وضوح علّة مقاتلته لأهل الشام ، وقال أنّه لم يقاتلهم إلاّ لما أدخلوه في الإسلام من الزَيْغ ، والاعوجاج ، والشبهة ، والتأويل ، فاقرأ تمام كلامه عليه السلام في النهج لتقف علىٰ هذه الحقيقة بوضوح أكثر.
وبعد هذا ، لم أفهم مراد الدليمي من : إخراج الخلاف الّذي حصل بين الفريقين من الدين ; فهل يريد بذلك أنّ الخلاف الّذي حصل بين الفريقين ليس له مساس بأُصول الدين وفروعه ؟!
لكنّ الثابت أنّ النزاع الّذي كان بين الفريقين نزاع بشأن الإمامة والزعامة ، وما كانت المطالبة بدم عثمان إلاّ ذريعة تذرّع بها معاوية لكسب قلوب العامّة في الشام ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام (2).
ص : 208
وقد عصىٰ معاوية ربّه بخروجه علىٰ إمام زمانه ووليّ أمره ، الّذي جعل الله طاعته كطاعة الله ورسوله ، كما جاء في قوله تعالىٰ : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (1) ..
وكما جاء في الحديث الشريف : « مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » (2).
بل جاء في صحيح البخاري : عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : « مَن رأىٰ من
ص : 209
أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه ; فإنّه مَن فارق الجماعة شبراً فمات إلاّ مات ميتة جاهلية » (1).
وجاء في صحيح مسلم : عن أبي هريرة ، أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : « مَن خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ، ومَن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلىٰ عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلته جاهلية ، ومَن خرج علىٰ أُمّتي يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاشىٰ من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ، فليس منّي ولست منه » (2).
والقوم الّذين حاربوا أمير المؤمنين عليه السلام في صفين سواء عرفوا إمام زمانهم - وهو أمير المؤمنين عليه السلام اتّفاقاً قولاً واحداً - أم جهلوه فإنّهم قد خرجوا عليه جميعاً ، وقاتلوه وقلّبوا عليه الأُمور ، وذهب ضحية حربهم تلك سبعون ألفاً من المسلمين ، خمسة وأربعون ألفاً من أهل الشام وخمسة وعشرون ألفاً من أهل العراق (3).
هذا إذا لم نلتفت إلىٰ أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلىٰ عليّ عليه السلام خاصّة بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين - كما مرّ ذكره سابقاً (4) - وأنّه سيقاتل علىٰ تأويل القرآن كما قاتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علىٰ تنزيله (5).
وأقواله صلى الله عليه وآله وسلم الواردة بأنّ حرب عليّ عليه السلام حرب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسِلمه سلمه ، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام : « حربك حربي ، وسِلمك
ص : 210
سِلمي » (1) ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام: « أنا حرب لمَن حاربكم ، وسِلم لمَن سالمكم » (2).
ومن المعلوم أنّ مَن حاربه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كافر بالإجماع ؛ فلذلك يكون ، وبدلالة الأحاديث السابقة ، المحارب لعليّ عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام كافراً أيضاً.
والأُمّة بعد أن اجتمعت علىٰ بيعة عليّ عليه السلام لا يحقّ لأحد تفريق كلمتها ، بل تجب محاربته ؛ وفي هذا روى أحمد بن حنبل في مسنده عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّها ستكون بعدي هنات وهنات ، فمَن رأيتموه يفرّق بين أُمّة محمّد صلى الله عليه وسلم وهم جميع فاقتلوه كائناً مَن كان من الناس » (3). انتهىٰ.
ثمّ بعد هذا ، ينبغي ملاحظة أنّ الأمر الوارد في قوله تعالىٰ : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ) (4) ، يفيد الوجوب ، والواجبات هي إحدىٰ الأحكام الفرعية
ص : 211
الخمسة الّتي عليها مدار عمل المسلمين في الفروع ، والامتثال لها هو من الدين حتماً.
كما أنّ فقهاء وعلماء المسلمين قد استندوا في تنقيحهم لأحكام مجاهدة البغاة علىٰ حربه عليه السلام لمعاوية وأهل الجمل والنهروان ; قال الشافعي : أخذنا أحكام البغاة من سير عليّ (1).
الأمر الّذي يدلّ علىٰ أنّ هذه القضية هي من صميم الدين بل لها علاقة بأُصوله وفروعه !!
قال ابن العربي في أحكام القرآن : إنّ عليّاً عليه السلام كان إماماً ؛ لأنّهم اجتمعوا عليه ، ولم يمكنه ترك الناس ؛ لأنّه كان أحقّ الناس بالبيعة ، فقبلها حوطة علىٰ الأُمّة ، وأن لا تسفك دماءها بالتهارج ، ويتخرّق الأمر ، وربّما تغيّر الدين ، وانقضّ عمود الإسلام.
وطلب أهل الشام منه التمكين من قتلة عثمان فقال لهم عليه السلام : ادخلوا في البيعة واطلبوا الحقّ تصلوا إليه ..
وكان عليّ عليه السلام أسدّهم رأياً وأصوب قولاً ؛ لأنّه لو تعاطىٰ القود لتعصّبت لهم قبائلهم ، فتكون حرباً ثالثة ، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة العامّة ثمّ ينظر في مجلس الحكم ويجري القضاء ، ولا خلاف بين الأُمّة أنّه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّىٰ ذلك إلىٰ إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة.
وحينئذٍ ؛ فكلّ مَن خرج علىٰ عليّ عليه السلام باغٍ ، وقتال الباغي واجب حتّىٰ يفيء إلىٰ الحقّ ، وينقاد إلىٰ الصلح.
ص : 212
وأنّ قتاله أهل الشام الّذين أبوا الدخول في البيعة ، وأهل الجمل والنهروان الّذين خلعوا بيعته حقّ ، وكان حقّ الجميع أن يصلوا إليه ويجلسوا بين يديه ويطالبوه بما رأوا ، فلمّا تركوا ذلك بأجمعهم صاروا بغاة ، فتناولهم قوله تعالىٰ : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ ).
ولقد عتب معاوية علىٰ سعد بن أبي وقّاص لعدم مشاركته له فقال سعد رادّاً عليه : لقد ندمت علىٰ تأخّري عن قتال الفئة الباغية. يعني بها : معاوية ومَن تابعه (1).
وهذا المعنىٰ لم يخالف فيه أحد ؛ قال الجصّاص في أحكام القرآن : قاتل عليّ وكان محقّاً في قتاله لهم ، لم يخالف فيه أحد إلاّ الفئة الباغية الّتي قابلته وأتباعها (2).
وفي روح المعاني للآلوسي : عن الحاكم والبيهقي ، عن عبد الله بن عمر ، قال : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية ، وهي قوله تعالىٰ : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ... ) .. الآية ؛ حيث إنّي لم أُقاتل الفئة الباغية - يعني : معاوية ومَن معه من الباغين - علىٰ عليّ عليه السلام (3). انتهىٰ.
وعليه ، فأقول للدليمي : لِمَ لا تُذكر هذه السيرة لأجل الاقتداء بها في مجاهدة البغاة والدعاة إلىٰ النار ، الّذين يبغونها عوجاً ؟!
وفي هذا قال أبو بكر الجصّاص في كتابه المتقدّم : ولم يدفع أحد من علماء الأُمّة وفقهائها ، سلفهم وخلفهم ، وجوب ذلك ، إلاّ قوم من الحشو
ص : 213
وجهّال أصحاب الحديث ; فإنّهم أنكروا قتال الفئة الباغية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح.
وسمّوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : فتنة ، إذا احتيج فيه إلىٰ حمل السلاح وقتال الفئة الباغية ، مع ما قد سمعوا من قول الله تعالىٰ : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ ) ، وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره.
وزعموا مع ذلك أنّ السلطان لا يُنكر عليه الظلم والجور وقتل النفس الّتي حرّم الله ، وإنّما ينكر علىٰ غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح ، فصاروا شرّاً علىٰ الأُمّة من أعدائها المخالفين لها ; لأنّهم أقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية وعن الإنكار علىٰ السلطان الظلم والجور ، حتّىٰ أدّىٰ إلىٰ تغلّب الفجّار ، بل المجوس وأعداء الإسلام ، حتّىٰ ذهبت الثغور ، وشاع الظلم ، وخرّبت البلاد ، وذهب الدين والدنيا ، وظهرت الزندقة والغلوّ ومذهب الثنوية والخرمية والمزدكية.
والّذي جلب ذلك كلّه عليهم : ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإنكار علىٰ السلطان الجائر. والله المستعان (1).
أقول :
ولعلّ الدليمي حين أراد إخراج هذه القضية من الدين ، قد أراد ذلك بلحاظ المخاطبين فقط ! وهم مسلمو اليوم ، باعتبار أنّ هذه القضية ليست لها الآن - كما يُتصوّر - مساس بعقائد المسلمين وفقههم ، وأنّها مسألة تاريخية لا فائدة من تجديد البحث فيها ، كما عبّر عن ذلك ..
ص : 214
لكنّ الأمر ليس كذلك ؛ فما زالت آثار الخلافات بين الصحابة ، وخاصّة بين عليّ عليه السلام وخصومه ، سارية المفعول في جسد المسلمين إلىٰ الآن ، والمسلمون منقسمون بشأنها بين مؤيد ومعارض (1) ، وليس من سبب لذلك إلاّ لقرب تلك الخلافات من مصادر التشريع الإسلامي ، وهما : الكتاب والسُنّة ، وخاصّة السُنّة النبوية المبيّنة للقرآن الكريم ، والّتي كان للأُمويين دور كبير في تشويهها وتحريفها بإدخال الكذب عليها ، وتسخير الأقلام المأجورة لوضع الأحاديث فيها ، والطعن في أهل بيت النبوّة الّذين أمر الله المسلمين بمودّتهم ، وأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أُمّته بالتمسّك بهم من بعده مع القرآن الكريم ، وجعلهم أماناً للأُمّة من الاختلاف ، وهو - أي هذا الانقسام - مؤسف حقّاً ، خاصّة بعد معرفتنا بأحقيّة عليّ عليه السلام في مطالبه وحروبه ، كما تقدّم.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي في شرح النهج عن شيخه أبي جعفر الإسكافي : إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة ، وقوماً من التابعين علىٰ رواية أخبار قبيحة في عليّ عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم علىٰ ذلك جعلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ، منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين : عروة بن الزبير (2).
ص : 215
كما استطاع معاوية أن يخلق خطّاً معارضاً لخطّ أهل البيت عليهم السلام ، الّذين أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أُمّته بالتمسّك بهم مع القرآن ، وجعلهما - أي القرآن والعترة معاً - أماناً للأُمّة من الضلال أبد الآبدين.
وهذا الخطّ الّذي ما زالت آثاره سارية المفعول إلىٰ الآن هو خطّ القول بعدالة الصحابة جميعاً ، ولعلّ الدليمي هو أحد ضحايا هذا الخطّ ، ومن أتباعه كما يدلّ عليه كتابه ..
فقد اختلق معاوية وحزبه قضية القول بعدالتهم جميعاً ، ووضع الأحاديث في فضائلهم ووجوب اتّباعهم ، قبال الآيات والأحاديث الدالّة علىٰ عصمة وطهارة أهل البيت عليهم السلام ووجوب اتّباعهم والاقتداء بهم.
كالحديث الموضوع : أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم (1) ، وغيره من الأحاديث الواردة في كتب القوم في هذا المورد ، الّتي لم تفرّق بين صحابي وصحابي ، وقد مرّ البحث في الموضوع أوّل الكتاب فلا نعيد.
وقد اعترف ابن عرفة ، المعروف ب- : « نفطويه » في تاريخه : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أُمية ; تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم (2).
وسبب خلق هذا الخطّ المعارض لخطّ أهل البيت عليهم السلام قد أدركه
ص : 216
الكثير من مفكّري أهل السُنّة وعلمائهم ، سواء المتقدّمين منهم - كما مرّ عن ابن عرفة - أو المتأخّرين ، ومن ذلك يقول الكاتب والمحامي الأردني أحمد حسين يعقوب في كتابه نظرية عدالة الصحابة :
نظرية عدالة كلّ الصحابة تؤمِّن فوز معاوية في أية مقارعة بينه وبين هؤلاء الخصوم ؛ فلو قال آل محمّد إنّهم هم الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، لانبرىٰ معاوية وشيعته إلىٰ الردّ الفوري عليهم : نحن أصحاب محمّد العدول لا يجوز علينا الكذب ولا يجوز علينا الخطأ ؛ لأنّنا في الجنّة ولا يدخل أحد منّا النار.
ولو قال آل محمّد : مَن عادانا فقد عادىٰ الله. لردّ معاوية وشيعته : نحن الصحابة أيضاً قال النبيّ فينا : « مَن آذىٰ صحابياً فقد آذاني » ... إلىٰ آخره. ويختلط الحقّ بالباطل ، والعاصي بالمطيع ، والمحسن بالمسيء (1).
وهكذا كان لمعاوية وحزبه دور كبير في حرمان الأُمّة من سعادتها ونجاتها ، والحيلولة دون اتّباعها لأهل بيت النبوّة عليهم السلام ؛ بمحاربته لهم ، ومطاردته شيعتهم ومحبّيهم تحت كلّ حجر ومدر (2) ، وبتضييع الحقيقة
ص : 217
علىٰ المسلمين باختلاقه لهم كلّ تلك الطرق الملتوية والخطوط المتشعّبة ، حتّىٰ يصعب عليهم الوصول منها إلىٰ الحقّ ، إلاّ بعد البحث والتنقيب الشاقّين.
هذا كلّه مع أنّه لم يصحّ في فضائل معاوية شيء ، ولم تثبت في حقّه منقبة ; قال الشوكاني في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة : وقال الحاكم : سمعت أبا العبّاس محمّد بن يعقوب بن يوسف يقول : سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : لا يصحّ في فضائل معاوية حديث (1).
أمّا ابن الجوزي فبعد أن أورد الأحاديث الواردة في معاوية في باب الموضوعات ، ساق عن إسحاق بن راهويه - شيخ البخاري - قوله : لم يصحّ
ص : 218
في فضائل معاوية شيء (1).
وللنسائي - صاحب السُنن - قصة مشهورة في أمر فضائل معاوية ؛ قال الدارقطني : خرج النسائي حاجّاً فامتُحن بدمشق وأدرك الشهادة ، فقال : احملوني إلىٰ مكّة ، وتوفّي بالرملة ، وكان أصحابه في دمشق قد سألوه عن فضائل معاوية ؟ فقال : ألا يرضىٰ رأس برأس حتّىٰ يفضل ؟! فما زالوا يدفعونه حتّىٰ أُخرج من المسجد (2).
وروى أبو الفدا : عن الشافعي ، أنّه أسرّ إلىٰ الربيع أن لا تقبل شهادة أربعة من الصحابة وهم : معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة وزياد (3).
وروى الطبري : أنّ الحسن البصري كان يقول : أربع خصال كُنّ في معاوية ، لو لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة لكانت موبقة :
1 - انتزاؤه علىٰ هذه الأُمّة بالسفهاء ، حتّىٰ ابتزّوها أمرها بغير مشورة منهم ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة.
2 - استخلافه ابنه يزيد بعده سكّيراً خمّيراً ، يلبس الحرير ، ويضرب الطنابير (4).
ص : 219
3 - ادّعاؤه زياد ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ».
4 - وقتله حِجر وأصحابه ، ويلٌ له من حِجر وأصحابه ، ويلٌ له من حِجر وأصحابه (1). انتهى كلام الحسن البصري.
وقد روى بريدة مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « قتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا » (2).
بل روى معاوية نفسه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « كلّ ذنب عسىٰ الله
ص : 220
أن يغفره إلاّ الرجل يموت كافراً أو الرجل يَقتل مؤمناً متعمّداً » (1).
وبعد كلّ الّذي ذكرناه عن معاوية ، أقول :
حتّى هذه التسمية ، أي تسمية إخواننا العامّة ب- : « أهل السُنّة والجماعة » ، هي في الواقع من مخلّفات الأُمويّين وآثارهم ، كما هو الظاهر من التاريخ ، وهو الأمر الّذي سنأتي علىٰ بيانه في الملاحظة القادمة عند متابعتنا لقراءة الكاتب في نهج البلاغة وتصحيحها.
ثمّ بعد هذا ، لم أفهم ماذا يريد الكاتب بإخراج هذه القضية من الدين وإدخالها في السياسة ؟!
هل تراه يعني بالدين : ما يتعلّق بشؤون العبادات فقط ، كالصلاة والصوم والحجّ والزكاة وما شابه ، وما يتعلّق بشؤون الحكم والحكّام فهو خارج عنه وينطوي تحت زاوية أُخرىٰ يسمّيها : السياسة ؟!
فإن كان المعنىٰ عنده بهذه الصورة ، فعليه أن يراجع عقيدته في هذا الموضوع مرّة ثانية ; لأنّ الإسلام - في الواقع - لا يوجد فيه فصل بين الدين والسياسة ، وإنّما السياسة جزء من الدين ، بل هي من أهمّ شؤونه وأركانه.
ولنا في آيات القرآن الكريم الواردة في هذا المورد ، وسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم دلالة وأُسوة حسنة ..
قال تبارك وتعالىٰ : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ... فَأُولَٰئِكَ هُمُ لظَّٰلِمُونَ ... فَأُولَِٰكَ هُمُ لْفَٰسِقُونَ ) (2).
ص : 221
وقال تعالىٰ : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِ ) (1).
وقال تعالىٰ : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) (2).
وقال تعالىٰ : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (3).
وقال تعالىٰ : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ) (4).
إلىٰ غير ذلك من الآيات الواردة حول شؤون الحكم وإدارة البلاد (5).
ودعوىٰ الفصل بين الدين والسياسة ، والّتي تُدعىٰ في المصطلح الحديث ب- : « العلمانية » ، هي في الواقع دعوىٰ غربية ، ظهرت فى أوربا بعد الثورة الفرنسية ، ثمّ انتقلت إلىٰ العرب في ما انتقل إليهم من أفكار ودعاوىٰ غربية بعيدة عن روح الشريعة الإسلامية.
ص : 222
أمّا قول الدليمي :
« وعلينا أن نرجع جميعاً إلىٰ الدين الواحد ، الّذي كان عليه عليّ ومعاوية ، وهو دين الإسلام ، فالدين واحد ، والربّ واحد ، والنبيّ واحد ، والدعوة واحدة ; فعلامَ الخلاف ؟! » ..
ففيه مغالطة واضحة ؛ لأنّ الدين الواحد والربّ الواحد والنبيّ الواحد لم يمنعوا معاوية من الخروج علىٰ أمير المؤمنين عليه السلام ومقاتلته وتأليب الناس عليه ، ممّا يدلّ علىٰ أنّ الدعوة ليست واحدة ، وإنّما كانت هناك دعوتان أو معسكران في الإسلام : معسكر يدعو إلىٰ الجنّة ، يمثّله أمير المؤمنين عليه السلام وأتباعه ، ومعسكر يدعو إلىٰ النار ، يمثّله معاوية وأتباعه.
وقد بيّن ذلك النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بمقاله عن عمّار بن ياسر الّذي كان يقاتل مع جيش أمير المؤمنين عليه السلام في صِفّين ضدّ جيش معاوية ، في ما رواه البخاري : « ويح عمّار ! تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلىٰ الجنّة ويدعونه إلىٰ النار » (1).
وقد كان عمّار بن ياسر يقول يوم صِفّين : « يا أهل الإسلام ! أتريدون أن تنظروا إلىٰ مَن عادىٰ الله ورسوله وجاهدهما ، وبغىٰ علىٰ المسلمين ، وظاهر المشركين ، فلمّا أراد أن يظهر دينه وينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أتىٰ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو والله في ما يرىٰ راهب غير راغب ، وقبض الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّا والله لنعرفه بعداوة المسلم ومودّة المجرم ؟!
ألا وإنّه : معاوية ، فالعنوه ; لعنه الله ، وقاتلوه ; فإنّه ممّن يطفئ
ص : 223
نور الله ، ويظاهر أعداء الله » (1).
قال الدليمي :
« ومن كلام له عليه السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيّام حربهم بصِفّين : ( إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم ، وذكرتم حالهم ، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان سبّكم إيّاهم : اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم ، واصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتّىٰ يعرف الحقّ مَن جهله ، ويرعوي من الغي والعدوان من لهج به ). ج 2 ص 185 - 186 ..
- قال : - فتأمّل كيف يدعو لهم وينهى عن سبّهم » (2).
قال ابن أبي الحديد في شرحه لهذه الكلمات الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام : السبّ الشتم ، والتساب التشاتم ... والّذي كرهه عليه السلام منهم : أنّهم كانوا يشتمون أهل الشام ، ولم يكن يكره منهم لعنهم إيّاهم والبراءة منهم.
لا كما يتوهّمه قوم من الحشوية فيقولون : لا يجوز لعن أحد ممّن عليه اسم الإسلام ، وينكرون علىٰ مَن يلعن ، ومنهم مَن يغالي في ذلك فيقول : لا ألعن الكافر ولا ألعن إبليس ، وإنّ الله تعالىٰ لا يقول لأحد يوم القيامة : لِمَ لم تلعن ؟ وإنّما يقول : لِمَ لعنت ؟
ص : 224
واعلم أنّ هذا خلاف نصّ الكتاب ; لأنّه تعالىٰ قال : ( إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ) (1).
وقال : ( أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (2).
وقال في إبليس : ( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ) (3).
وقال : ( مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا ) (4).
وفي كتاب الله العزيز من ذلك الكثير الواسع ..
وكيف يجوز للمسلم أن ينكر التبرّي ممّن يجب التبرّي منه ؟
ألم يسمع هؤلاء قول الله تعالىٰ : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَ ٰهِيمَ وَلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَ ٰؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ للهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ لْعَدَ ٰوَةُ وَلْبَغْضَآءُ أَبَدًا ) (5)؟!
وإنّما يجب النظر في مَن اشتبهت حاله ; فإن كان قد قارف كبيرة من الذنوب يستحقّ به اللعن والبراءة ، فلا ضير علىٰ مَن يلعنه ويبرأ منه ، وإن لم يكن قد قارف كبيرة لم يجز لعنه ولا البراءة منه ، وممّا يدلّ علىٰ أنّ مَن عليه اسم الإسلام إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنه بل يجب في وقت ، قول الله تعالىٰ : ( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَلْخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ للهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ لْكَٰذِبِينَ ) (6).
وقال تعالىٰ في القذف : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ
ص : 225
الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (1).
فهاتان الآيتان في المكلّفين من أهل القبلة ، والآيات التي قبلها في الكافرين والمنافقين ...
- ثمّ قال : - والّذي نهى عنه أمير المؤمنين عليه السلام أنّهم كانوا يشتمونهم بالآباء والأُمّهات ، ومنهم مَن يطعن في نسب قوم منهم ، ومنهم مَن يذكرهم باللؤم ، ومنهم مَن يعيّرهم بالجُبن والبخل وبأنواع الأهاجي الّتي يتهاجىٰ بها الشعراء وأساليبهم معلومة ؛ فنهاهم عليه السلام عن ذلك وقال : « إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، ولكن الأصوب أن تصفوا أعمالهم وتذكروا حالهم » ، أي : أن تقولوا : إنّهم فسّاق ، وإنّهم أهل ضلال وباطل ، ثمّ قال : اجعلوا عوض سبّهم أن تقولوا : اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم ... (2).
ودعوته عليه السلام هنا وتأديبه لشيعته وأتباعه بدعاء الله عزّ وجلّ لهداية أعدائه هما في الواقع من خُلُق القرآن ، وخلق الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، الّذي كان يدعو الله لقومه - رغم شدّة محاربتهم له - بالهداية ، ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الله سبحانه للانتقام منهم ، أو لاجتثاثهم من جديد الأرض.
والإمام عليّ عليه السلام ربيب ذلك الخُلق العظيم ; فقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيه : « عليّ منّي وأنا من عليّ » (3) ..
ص : 226
بل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعدّه كنفسه المقدّسة عنده ; ففي حديث صحيح رواه الحاكم : عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، أنّه قال : « أيّها الناس ! إنّي لكم فرط ، وإنّي أُوصيكم بعترتي خيراً ، موعدكم الحوض ، والّذي نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة ولتُؤتُنَّ الزكاة أو لأبعثنّ عليكم رجلاً منّي أو كنفسي ، فليضربنّ أعناق مقاتليهم ، وليسبينّ ذراريهم » ، قال : فرأىٰ الناس أنّه يعني أبا بكر أو عمر ، فأخذ بيد عليّ فقال : « هذا » (1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً : « عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ، لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض » (2).
هذا الخُلق الرفيع لعليّ عليه السلام مع أعدائه لا يعني صوابية موقف أعدائه ، بل للمسلم أن يتساءل : ماذا كان مقابل خُلق عليّ عليه السلام وتأديبه شيعته وأتباعه من خُلق معاوية وتأديبه شيعته وأتباعه (3) ؟
اتّفق المؤرخّون ورواة السير أنّ معاوية كان يصعد المنبر ويلعن
ص : 227
عليّاً عليه السلام ، وأنّه فعل ذلك لتقتدي به الأُمّة وتلعن الإمام كما لعنه (1).
ولم يكتفِ هذا الصحابي - العادل عند أهل السُنّة - بما فعل ، إنّما أصدر أوامره لرعيته بأن يسبّوا عليّاً بن أبي طالب عليه السلام (2). وابتغاءً لمرضاة معاوية كان عمّاله يسبّون عليّاً عليه السلام (3).
وهكذا صار سبّ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام سُنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير ; قال المسعودي في مروج الذهب عند ذكره لأتباع معاوية واشتدادهم في طاعته : ثمّ ارتقىٰ بهم الأمر في طاعته إلىٰ أن جعلوا لعن عليّ سُنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير (4).
وقال ابن حجر في فتح الباري : ثمّ اشتدّ الخطب فتنقّصوه واتّخذوا لعنه علىٰ المنابر سُنّة ، ووافقتهم الخوارج علىٰ بغضه (5). انتهىٰ.
وقال الزمخشري في ربيع الأبرار : إنّه كان في أيّام بني أُمية أكثر من سبعين ألف منبر يُلعن عليها عليّ بن أبي طالب بما سنّه لهم معاوية من ذلك (6).
وقال الحموي في معجم البلدان : لُعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه علىٰ
ص : 228
منابر الشرق والغرب (1).
وروىٰ الجاحظ - في ما حكاه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج - : أنّ قوماً من بني أُمية قالوا لمعاوية : يا أمير المؤمنين ! إنّك قد بلغت ما أمّلت فلو كففت عن لعن هذا الرجل.
فقال : لا والله حتّىٰ يربَو عليها الصغير ويهرم عليها الكبير ولا يذكر له ذاكر فضلاً (2).
وقال العلاّمة العلوي الهدار الحدّاد في كتابه القول الفصل ما لفظه : وك- : نداء أهل الشام وصياحهم لعمر بن عبد العزيز لمّا ترك لعن عليّ عليه السلام في الخطبة : السُنّة السُنّة ! تركت السُنّة يا أمير المؤمنين ...
وقال بعد ذلك : وتلك قاعدة الجوزجاني الشافعي في مَن لا يلعن عليّاً عليه السلام ; أي : يعتبره تاركاً للسُنّة (3) ... انتهى (4).
ص : 229
وهذه الفتنة أشار إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ قال ابن مسعود : كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، ويُتّخذ سُنّة ، فإن غيّرت يوماً قيل : تركت السُنّة ؟
قالوا : يا أبا عبد الرحمن ! ومتىٰ ذلك ؟!
قال : إذا كثرت جهّالكم وقلّت علماؤكم ، وكثرت خطباؤكم وقلّت فقهاؤكم ، وكثرت أُمراؤكم وقلّت أُمناؤكم ، وتفقّه لغير الدين والتمست الدنيا بعمل الآخرة (1).
هذا كلّه مع أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نهىٰ عن سُباب المسلم وقتاله وقال - كما جاء في صحيح البخاري - : « سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر » (2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص عليّ عليه السلام بالذات : « مَن سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومَن سبّني فقد سبّ الله ، ومَن سبّ الله أكبّه الله علىٰ منخريه في نار جهنّم » (3).
ص : 230
أود أن ألفت نظر القارئ الكريم إلىٰ أنّه بمعرفتنا أنّ العام الّذي انتصرت فيه القوّة الأُموية الغاشمة ، المتمثّلة بمعاوية ، علىٰ حكومة أهل البيت عليهم السلام ، المتمثّلة بالإمام الحسن عليه السلام ، سُمّي ب- : « عام الجماعة ».
ومن ملاحظتنا السابقة بأنّ الأُمويين جعلوا سبّ عليّ عليه السلام سُنّة يشبُّ عليها الصغير ويهرم عليها الكبير ، حتّىٰ إنّهم كانوا يتصايحون بوجه أميرهم الّذي ينزل من المنبر ولم يسبّ عليّاً عليه السلام ويقولون له : السُنّة السُنّة ! تركت السُنّة ..
من ذلك كلّه نعلم أنّ الأُمويّين هم المقصودون بتسمية : « أهل السُنّة والجماعة » ، أي أنّهم أهل سُنّة سبّ عليّ عليه السلام ، والاجتماع علىٰ بغضه ومعاداته ، ومعاداة أوليائه وشيعته.
ولم نجد إلىٰ الآن أصلاً صحيحاً قامت عليه هذه التسمية ، سوىٰ أنّها خرجت من بين أحضان الأُمويّين واشتهرت بين أتباعهم ، حتّىٰ جعلها الجوزجاني الشامي قاعدة عنده في بيان الملتزم بالسُنّة من التارك لها ، كما مرّ ذكره قبل قليل ، وإن كان الكثير من إخواننا العامّة يجهل أصل هذه التسمية والمراد منها.
بل إنّك لتجد رجال الجرح والتعديل في علم الحديث عند القوم لم
ص : 231
يطلقوا صفة الصلابة في السُنّة إلاّ علىٰ مَن ثبت عندهم أنّه كان عثمانياً ، أي ممّن عُرف ببُغض عليّ عليه السلام ولعنه ، والبراءة منه ، واتّهامه بقتل عثمان بن عفّان ..
فهذا ابن حجر يذكر في كتابه تهذيب التهذيب : أنّ عبد الله بن إدريس الأزدي كان صاحب « سُنّة وجماعة » ، وكان صلباً في السُنّة مرضياً ، وكان عثمانياً (1).
وينقل في توثيقه لعبد الله بن عوف البصري : إنّه موثّق ، وله عبادة وصلابة في السُنّة وشدّة علىٰ البدع ؛ قال ابن سعد : كان عثمانياً (2).
أمّا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني - المارّ ذكره - فقد قال عنه : إنّه كان حريزي المذهب - أي : علىٰ مذهب حريز بن عثمان الدمشقي (3) ،
ص : 232
المعروف بالنصب والعداء لأهل البيت عليهم السلام - وقال ابن حبّان : إنّه كان صلباً في السُنّة (1).
وأيضاً جاء في التهذيب في شأن حمّاد بن زيد ، قال ابن مهدي فيه : لم أرَ أحداً قط أعلم بالسُنّة ولا بالحديث الّذي يدخل فيه السُنّة من حمّاد ابن زيد... وحمّاد هذا قال ابن سعد فيه : كان عثمانياً ، وكان ثقة ثبتاً حجّة (2).
ولا نريد الخوض في هذا الباب ، أي باب توثيق حفّاظ أهل السُنّة للرواة المُبغضين والمعادين لأمير المؤمنين عليه السلام ; إذ له مواضعه الخاصّة ، بل الإشارة إلىٰ أنّ هذه الوثاقة لا تستقيم مع شهادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمبغضي عليّ عليه السلام بالنفاق ; إذ أنّ في كلمات بعضهم عبارات أكثر تصريحاً في توثيق هؤلاء الرواة مع التصريح بتحاملهم وبغضهم لعليّ عليه السلام في آن واحد ..
فهذا عبد الله بن شقيق - مثلاً - يقول أحمد بن حنبل عنه : ثقة ، وكان يحمل علىٰ عليّ. ويقول ابن خرّاش فيه : كان ثقة ، وكان يبغض عليّاً. أمّا ابن معين فقد قال في حقّه : ثقة من خيار المسلمين (3).
مع أنّ أهل السُنّة قد ذكروا في أوثق كتبهم - صحيح مسلم - أنّ عليّاً عليه السلام قال : « إنّه لعهد النبيّ الأُمّي إليَّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق » (4).
ص : 233
وأيضاً ثبت عن غير واحد من الصحابة قوله : ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببُغض عليّ بن أبي طالب (1).
وهذا في الواقع إشكال نطرحه علىٰ المسلمين الّذين يأتمنون هؤلاء الحفّاظ والأئمّة علىٰ دينهم ويأخذونه عنهم ، وهو : كيف استقام الأمر لأُولئك النواصب عند أئمّة الحديث هؤلاء ، واطمئنّوا لأخذ الرواية عنهم مع شهادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بالنفاق ، خاصّة إذا عُلم أنّ إحدىٰ صفات المنافقين أنّهم : إذا حدّثوا كذبوا ؟!!
وهذا الفعل من هؤلاء الأئمّة يؤكّد تماماً ما نذهب إليه بشأن حقيقة التسمّي بهذه التسمية السابقة والمراد الحقيقي منها ، وهو يعد مصداقاً لقوله تعالىٰ : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ ) (2) ، ولله مصائر العباد !!
وقد سار العبّاسيون علىٰ الخطّ الّذي اختطّه الأُمويون من قبل ، وهو خطّ العداء لآل محمّد عليهم السلام ، مع أنّ العبّاسيين جاؤوا علىٰ أشلاء الأُمويّين وللقضاء علىٰ دولتهم ، بدعوىٰ الرضا من آل البيت عليهم السلام ، ولكن الّذي حصل أنّه ما إن استتبّت لهم الأُمور حتّىٰ عاد خطّ النصب والعداء لأهل بيت النبوّة عليهم السلام كما كان من قبل ، بل ازداد حدّة وشدّة... وهذا هو شأن المنتفعين في كلّ زمان ومكان !
ذكر ابن حجر : عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : لمّا حدّث نصر بن عليّ بن صهبان بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد الحسن والحسين
ص : 234
وقال : « مَن أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأُمّهما كان في درجتي يوم القيامة » ، أمر المتوكّل بضربه ألف سوط ، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له : يا أمير المؤمنين ! هذا من أهل السُنّة ، فلم يزل به حتّىٰ تركه (1).
قال الدليمي :
« ومن وصيّة له عليه السلام لمعسكره قبل لقاء العدوّ بصِفّين : ( لا تقاتلوهم حتّىٰ يبدأوكم ؛ فإنّكم بحمد الله علىٰ حجّة ، وترككم إيّاهم حتّىٰ يبدأوكم حجّة أُخرىٰ لكم عليهم ، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً - العاجز عن حماية نفسه - ولا تجهزوا علىٰ جريح ولا تهيجوا النساء بأذىً وإن شتمْن أعراضكم وسببْن أُمراءكم ; فإنّهنّ ضعيفات القوىٰ والأنفس والعقول ، إن كنّا لنؤمَر بالكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمشركات ). ج 3 ص 14 - 15.
- قال : - وهكذا يعاملهم بوصفهم مسلمين ، ويطبّق عليهم أحكام الطائفتين المؤمنتين ، فينهىٰ عن اتّباع مُدبِرهم ، وقتل عاجزهم ، والإجهاز علىٰ جريحهم ، وإلاّ فإنّ الكفّار يتبع مدبرهم ويقتل جريحهم. وقوله رضي الله عنه عن النساء : ( إن كنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمشركات ) ، أي : فكيف لا نكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمسلمات ؟! » (2).
قد ذكرنا سابقاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لعليّ عليه السلام : إنّ القوم سيُفتنون
ص : 235
بأموالهم ، ويمنّون بدينهم علىٰ ربّهم ، ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية... - إلىٰ قول عليّ عليه السلام : قلت : يا رسول الله ! فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك ؟ أبمنزلة ردّة ، أم بمنزلة فتنة ؟ فقال : بمنزلة فتنة (1).
والمراد بالفتنة بالنسبة للمسلمين هو : الاختبار والامتحان ، ليعلمنّ الله الّذين صدقوا في دينهم وليعلمنّ الكاذبين ، كما جاء في قوله تعالىٰ :
( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) (2).
والبغاة من المسلمين - كأهل صفّين وغيرهم من الّذين قاتلوا عليّاً عليه السلام - هم من الّذين فُتنوا ، وجاروا أثر ذلك من الحقّ إلىٰ الباطل ، وقد جاء الأمر الإلهي بقتالهم كما في قوله تعالىٰ ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ) (3) ، وكذلك جاء الأمر النبوي للمسلمين بقتالهم ونصرة عليّ عليه السلام كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا عليّ ! ستقاتلك الفئة الباغية وأنت علىٰ الحقّ فمَن لم ينصرك يومئذ فليس منّي » (4).
وقد فرّق الإمام عليّ عليه السلام في حروبه - كما هو الثابت تاريخياً - في الإجهاز علىٰ الجريح واتّباع المُدبِر وقتل الأسير بين مَن كان له فئة يرجع إليها ، ومَن لم يكن كذلك..
فأمّا الّذين كانت لهم فئة يرجعون إليها فقد قاتلهم مُقبلين ومُدبرين ،
ص : 236
كأهل صِفّين ، وأمّا مَن لم يكن لهم فئة يرجعون إليها فقد قاتلهم مقبلين وتركهم مُدبرين ، ولم يجهز علىٰ جريحهم ، كأهل الجمل.
قال الشيخ عبد الله الهرري الشافعي ، مفتي الصومال ، في كتابه المقالات السنية : وقد اتّفق العلماء علىٰ أنّ عليّاً عليه السلام هو أوّل مَن قاتل البغاة فشغل بهم عن قتال الكفّار المعلنين ، كاليهود والنصارىٰ وغيرهم ، حتّىٰ قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : أخذنا أحكام البغاة من سير عليّ (1).
وقد جاء عن الإمام موسىٰ بن جعفر عليه السلام في جواب مسائل يحيىٰ بن أكثم :
« وأمّا قولك : إنّ عليّاً عليه السلام قتل أهل صِفّين مقبلين ومدبرين ، وأجهز علىٰ جريحهم ، وأنّه يوم الجمل لم يتبع موليّاً ، ولم يجهز علىٰ جريح ، ومَن ألقىٰ سلاحه أمنه ، ومَن دخل داره أمنه ; فإنّ أهل الجمل قُتل إمامهم ولم يكن لهم فئة يرجعون إليها ، وإنّما رجع القوم إلىٰ منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين ، ورضوا بالكفّ عنهم ، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم ، والكفّ عن أذاهم إذ لم يطلبوا عليه أعواناً.
وأهل صِفّين كانوا يرجعون إلىٰ فئة مستعدّة ، وإمام يجمع لهم السلاح والدروع والرماح والسيوف ، ويسني لهم العطاء ، ويهيّئ لهم الانزال ، ويعود مريضهم ، ويجبر كسيرهم ، ويداوي جريحهم ، ويحمل راجلهم ، ويكسو حاسرهم ، ويردّهم فيرجعون إلىٰ محاربتهم وقتالهم.
فلم يساوِ بين الفريقين في الحكم ، لِما عرف من الحكم من قاتل أهل التوحيد ، لكنّه شرح ذلك لهم ، فمَن رغب عرض علىٰ السيف أو
ص : 237
يتوب عن ذلك » (1).
والأوامر في الخطبة الّتي ذكرها الكاتب عن الإمام عليه السلام لجيشه ، إنّما كانت قبل لقاء العدوّ بصفين ، وكان تنفيذها يتمّ في حال هزيمة العدوّ وانكساره ، كما هو الظاهر من الخطبة نفسها ، فيكون التصرّف حينئذٍ كالّذي كان من سيرته عليه السلام مع أهل الجمل ، وقد مرّ بيانه.
ثمّ قال الدليمي عند ذكره لكراهة الإمام عليه السلام القتال ، ودعاؤه بصلاح أمر الأُمّة وجمع شملها :
« من كلام له عليه السلام في التحكيم : ( ولعلّ الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأُمّة ). ج 1 ص 5.
وقوله عليه السلام : ( اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم واصلح ذات بيننا وبينهم ). ج 2 ص 185 - 186.
- قال : - ولقد استجاب الله دعاؤه بولده الحسن عليه السلام الّذي صدقت فيه نبوءة جدّه صلى الله عليه وسلم ، قال : ( إنّ ابني هذا سيّد ، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين ). رواه البخاري ومسلم (2). ولو لم يكن معاوية مسلماً لما جاز للحسن رضي الله عنه أن يبايعه ويسلّم له أُمرة المؤمنين وخلافة
ص : 238
المسلمين » (1).
من الثابت تاريخياً أنّ الإمام الحسن عليه السلام بعد أن رأىٰ تقاعس أصحابه عن القتال ، وتثاقلهم عن الجهاد ، صالح معاوية بن أبي سفيان حقناً لدماء المسلمين ، واحتفاظاً بالبقية الباقية من المؤمنين ، وإخماداً لشدّة الفتنة الّتي أوقعهم بها معاوية « الطليق » (2) ، الّذي كان من المؤلّفة قلوبهم (3)..
فقد افتتن به أهل الشام افتتاناً كبيراً إلىٰ درجة أنّه كان يقول لهم أنّه من أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً وكانوا يصدّقونه ، وقد بلغ من افتتانهم به أن صلّىٰٰ بهم صلاة الجمعة يوم الأربعاء ولم يعترضوا عليه.
قال المسعودي في مروج الذهب : إنّ رجلاً من أهل الكوفة دخل علىٰ بعير له إلىٰ دمشق في حال منصرفهم عن صِفّين فتعلّق به رجلٌ من دمشق فقال : هذه ناقتي ، أُخذت منّي بصفين.
ص : 239
فارتفع أمرهما إلىٰ معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بيّنة يشهدون أنّها ناقته ، فقضىٰ معاوية علىٰ الكوفي وأمر بتسليم البعير إليه.
فقال الكوفي : أصلحك الله ! إنّه جمل وليس بناقة.
فقال معاوية : هذا حكم قد مضىٰ.
ودسّ إلىٰ الكوفي بعد تفرّقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره ، فدفع إليه ضِعفه ، وبرّه وأحسن إليه ، وقال له : أبلغ عليّاً أنّي أُقابله بمائة ألف ما فيهم مَن يُفرّق بين الناقة والجمل.
ثمّ قال المسعودي : ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنّه صلّىٰٰ بهم عند مسيرهم إلىٰ صِفّين الجمعة يوم الأربعاء ، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها ، وركنوا إلىٰ قول عمرو بن العاص : أنّ عليّاً هو الّذي قتل عمّار ابن ياسر حين أخرجه لنصرته ، ثمّ ارتقىٰ بهم الأمر في طاعته إلىٰ أن جعلوا لعن عليّ سُنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير (1).
والصلح الّذي تمّ بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية ، إنّما كان علىٰ شروط اشترطها الإمام الحسن عليه السلام وقبلها معاوية ، منها : أن ترجع الخلافة بعد وفاة معاوية إلىٰ الحسن أو إلىٰ أخيه الحسين عليه السلام في حال وفاة الحسن عليه السلام قبل معاوية (2) ، ولكن معاوية الطليق لم يفِ بما تعاهد عليه مع الإمام الحسن عليه السلام ، ولم يتورّع عن إعلان ذلك أمام الملأ أجمعين.
قال معاوية لمّا دخل النخيلة قبل أن يصل إلىٰ الكوفة : والله إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكّوا ، إنّكم لتفعلون
ص : 240
ذلك ، إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم (1) ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون. انتهىٰ.
قال سعيد بن سويد : كان عبد الرحمٰن بن شريك إذا حدّث بذلك يقول : هذا والله هو التهتّك (2) ..
وقال أبو إسحاق السبيعي : إنّ معاوية قال في خطبته في النخيلة : ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن عليّ تحت قدمي هاتين لا أفي به. قال أبو إسحاق : وكان والله غدّاراً (3).
وفِعل معاوية هذا ، يدلّ علىٰ شدّة تهاونه بالأوامر الإلهية الّتي تلزم المسلم باحترام العهود والوفاء بها ، كقوله تعالىٰ : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ) (4) ، وقوله تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (5).
قال الإمام عليّ عليه السلام في عهده لمالك الأشتر : « وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة ، أو ألبسته منك ذمّة ، فحِطْ عهدك بالوفاء ، وأرعَ ذمّتك بالأمانة ، واجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت ؛ فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم من تعظيم
ص : 241
الوفاء بالعهود ، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين (1) ؛ لِما استوبلوا من عواقب الغدر ، فلا تغدرنّ بذمّتك ، ولا تخيسنّ بعهدك ، فلا تختلف عدوّك ؛ فإنّه لا يجترئ علىٰ الله إلاّ جاهل شقي » (2).
أمّا كون الإمام الحسن عليه السلام قد صالح معاوية ، مسلّماً بخلافته ، وكونه أميراً للمؤمنين ، كما يريد الدليمي أن يوحي للقارئ بذلك ، فهذا ممّا لا يقول به عاقل فضلاً عن فاضل ; فأمر معاوية في البغي والعدوان أشهر من نار علىٰ علم ، أليس هو - بنصّ أحاديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم - قائد الفئة الباغية وأمير القاسطين وزعيم الدعاة إلىٰ النار ؟!
وهو الملعون علىٰ لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من موضع وموضع (3) ؛ فكيف يكون الباغي والقاسط والملعون خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علىٰ المسلمين ، وأميراً للمؤمنين ؟!
اللّهمّ إلاّ إذا اختلّت عقول الناس فباتت ترىٰ الحقّ باطلاً والباطل حقّاً ، والمنكر معروفاً والمعروف منكراً !! نسأل الله العافية.
وقد ثبت أيضاً أنّ معاوية كان يتطاول علىٰ مقام النبوّة ، بل يسعىٰ جاهداً وهو في سدّة الحكم علىٰ القضاء علىٰ الإسلام نكاية بالنبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ..
ففي حديث مطرف بن المغيرة : إنّ معاوية قال للمغيرة بعد أن ذكر ملك أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وأنّهم هلكوا فهلك ذكرهم : ... وإنّ أخا
ص : 242
هاشم يصرخ في كلّ يوم خمس مرّات : « أشهد أنّ محمّداً رسول الله » ، فأيّ عمل يبقىٰ مع هذا لا أُمّ لك ؟! ... والله « دفناً دفناً » (1).
وروى أحمد بن أبي طاهر في كتابه أخبار الملوك : إنّ معاوية سمع المؤذّن يقول : « أشهد أنّ محمّداً رسول الله » فقال : لله أبوك يا بن عبد الله ! لقد كنت عالي الهمّة ، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يقرن اسمك باسم ربّ العالمين (2).
فهذه الأخبار شاهدة علىٰ أنّ معاوية لم يؤمن بالنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان ينظر إليه نظرة أهل الجاهلية في التزاحم علىٰ العناوين والمناصب ، بل إنّ بني أُمية شنّوا حربهم الشعواء علىٰ الإسلام ، قاصدين إيّاه بشخص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ; لأنّهم رأوه السبب في هدم بيوتهم ، والتقليل من شأنهم.
ذكر المدائني : عن أبي زكريا العجلاني ، عن أبي حازم العجلاني ، عن أبي هريرة ، قال : حجّ أبو بكر رضي الله عنه ومعه أبو سفيان بن حرب ، فكلّم أبو بكر أبا سفيان فرفع صوته ، فقال أبو قحافة : خفّض صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب !
فقال أبو بكر : يا أبا قحافة ! إنّ الله بنىٰ بالإسلام بيوتاً كانت غير مبنية ، وهدم به بيوتاً كانت في الجاهلية مبنية ، وبيت أبي سفيان ممّا هدم (3). انتهىٰ.
ص : 243
وممّا جاء في لعن معاوية علىٰ لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم :
أخرج الطبري في تاريخه : أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى أبا سفيان مقبلاً علىٰ حمار ومعاوية يقود به ، ويزيد أبنه يسوق به ، قال : « لعن الله القائد والراكب والسائق » (1).
وعن البرّاء بن عازب : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « اللّهمّ العن التابع والمتبوع ، اللّهمّ عليك بالأقيعس » ، فقال ابن البرّاء لأبيه : مَن الأقيعس ؟ قال : معاوية (2).
وإلى هذا المعنىٰ أشار محمّد بن أبي بكر في رسالته إلىٰ معاوية بقوله : وأنت اللعين ابن اللعين (3).
وفي تاريخ الطبري : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « يطلع من هذا الفجّ رجلٌ من أُمّتي يُحشر علىٰ غير ملّتي » ، فطلع معاوية (4).
وفي لفظ ابن مزاحم : « يطلع عليكم من هذا الفجّ رجلٌ يموت حين يموت علىٰ غير سُنّتي » (5).
وأخرج نصر بن مزاحم في كتاب صِفّين ، والطبري في تاريخه ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ، من طريق أبي سعيد الخدري ، وعبد الله بن
ص : 244
مسعود أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إذا رأيتم معاوية علىٰ منبري فاقتلوه » (1).
ثمّ بعد ذلك انظر إلىٰ خطبة الإمام الحسن عليه السلام أمام معاوية في الكوفة ، حين طلب منه الأخير أن يقوم خطيباً ، فقام الإمام عليه السلام وقال : « أمّا الخليفة مَن سار بكتاب الله وسُنّة نبيّه ، وليس الخليفة مَن سار بالجور ، ذلك رجل ملك ملكاً تمتّع به قليلا ثمّ تنخّمه ، تنقطع لذّته وتبقىٰ تبعته ، ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) (2) » (3).
قال ابن أبي الحديد : وانصرف الحسن إلىٰ المدينة فأقام بها ، وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن عليه شيء أثقل من أمر الحسن بن عليّ ، وسعد بن أبي وقّاص ، فدّس إليهما سُمّاً فماتا منه (4).
وممّا مرّ ، تجد أنّ الإمام الحسن عليه السلام قد عرّف الخليفة في خطبته بأنّه : « مَن سار بكتاب الله وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم » ، لا مَن سار بالجَور ، فذلك لا يعدُّ خليفة بل مَلِكاً وطالب إمارة ، كما هو حال معاوية تماماً ، الّذي اعترف بذلك عن نفسه في ما ذكرناه من كلامه سابقاً ، ويعترف بذلك أهل
ص : 245
السُنّة بالإجماع ..
وقد قال الإمام عليّ عليه السلام في ما ذُكر له من كلماته القصار في النهج : « السلطان وزعة الله في أرضه » ، أي : إنّ الحاكم الحقّ هو مَن يمنع من مخالفة الشريعة ، والألف واللام هنا في السلطان للجنس (1).
وظلم بني أُمية في حكمهم ، ومعاوية بالذات ، أشهر من أن يخفىٰ أو يُبرّر ، وإن شئت فارجع إلىٰ كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة الّتي يشير فيها إلىٰ جوْر بني أُمية وظلمهم ، كقوله عليه السلام : « والله لا يزالون حتّىٰ لا يدعوا لله محرّماً إلاّ استحلُّوه ، ولا عقداً إلاّ حلُّوه ، وحتّىٰ لا يبقىٰ بيت مدر ولا وَبر إلاّ دخله ظلمُهم » (2).
كما روي عن الحسن عليه السلام قوله في بني أُمية : « إنّ بني أُمية هم الشجرة الملعونة في القرآن. قال عليه السلام : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع له ملك بني أُمية فنظر إليهم يعلون منبره واحداً واحداً فشقّ ذلك عليه فأنزل الله تعالىٰ في ذلك قرآناً ، قال : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (3) » (4).
ص : 246
أقول :
فكيف يكون معاوية ، بعد كلّ الّذي ذكرناه عنه ، خليفةً للمسلمين وأميراً للمؤمنين ؟!
إنّما الرجل قاتل من أجل المُلك والإمارة ، كما اعترف لأهل العراق بنفسه ، وكما أقرّ الكاتب بذلك في أوّل ادّعائه بأنّ الخلاف كان سياسياً لا دينياً ، أي لأجل الكرسي والمنصب ، وليس له علاقة من قريب أو بعيد بالشريعة أو المحافظة علىٰ تطبيقها ..
بل لو اطّلعت علىٰ سيرة معاوية الّتي كتبها المسلمون لا تجد عنده شيئاً من خصال المؤمنين ; ودونك ما كتبناه عنه في هذا العرض الموجز ، أو ما أرشدناك إليه من المصادر ..
بل إنّ الناظر بتمعّن وتدقيق يجد أنّ صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية ، من حيث الأهداف والنتائج ، يشبه الصلح الّذي أقامه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مع مشركي قريش وقائدهم أبو سفيان - والد معاوية - في الحديبية ، وإن شئت الزيادة في البحث والاطّلاع بشأن صلح الإمام الحسن عليه السلام بشكل أكثر تفصيلاً فارجع إلىٰ كتابي العلمين : الشيخ مرتضىٰ آل ياسين ، والشيخ باقر شريف القرشي ; فإنّك ستجد ما ينفعك في المقام إن شاء الله تعالىٰ.
* * *
ص : 247
ص : 248
ص : 249
ص : 250
قال الدليمي :
« علم الغيب من العلوم الّتي اختصّ الله بها فلا يعلم أحد الغيب إلاّ الله ، وهذا المعلوم من الدين بالضرورة ، وقد جاءت الآيات القرآنية قاطعة في الدلالة علىٰ ذلك ، وكذلك الأحاديث النبوية ، قال تعالىٰ : ( قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) (1) ، ومن أسماء الله الحسنىٰ الخاصة به تعالىٰ : « عالم الغيب » و « علاّم الغيوب ».
والنبيّ صلى الله عليه وسلم لا يعلم شيئاً ممّا غاب عنه إلاّ ما علّمه الله إيّاه عن طريق الوحي ، الّذي انقطع بموته صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالىٰ : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا*إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) (2) ؛ فالاستثناء في بعض أُمور الغيب خاصّ بالأنبياء.
جاء في ( نهج البلاغة ) ما يلي : قال له بعض أصحابه : لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ؟ فضحك عليه السلام وقال للرجل - وكان كلبياً - : ( يا أخا كلب ! ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب هو علم الساعة وما عدّد الله سبحانه بقوله : ( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ
ص : 251
السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (1) ، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أُنثىٰ ، وقبيح أو جميل ، وسخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومَن يكون في النار حطباً أو في الجنان للنبيّين مرافقاً ، فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوىٰ ذلك فعلّمه الله نبيّه ، فعلّمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطمّ عليه جوانحي ). ج 2 ص 10 - 11.
- قال : - ومع هذا كلّه نجد مَن ينسب إلىٰ عليّ والأئمّة أنّهم يعلمون متىٰ يموتون ، وأنّهم لا يموتون إلاّ باختيارهم ، ويعلمون علم ما كان وما سيكون إلىٰ قيام الساعة ، وما يحدث في أقطار السماوات والأرض ما دون العرش إلىٰ تحت الثرى ، وما في الأنفس وما تخفي الصدور ، وعندهم أسماء أهل الجنّة وأهل النار ، بل يعلمون جميع العلوم الدينية والدنيوية ، وجميع لغات أهل الأرض من الجنّ والإنس والطير والهوام ، ومن دون تعلّم علىٰ ذي علم » (2).
أقول :
لم يذكر لنا الكاتب هنا اسم الشخص الّذي ينسب هذه العلوم إلىٰ عليّ والأئمّة عليهم السلام بأنّها عندهم من دون تعلّم علىٰ ذي علم ، ولم يشر إلىٰ كتاب ذكر ذلك ، وترك كلماته هنا مجملة تخاطب الأوهام الّتي ربّما يطمع منها بالحصول علىٰ تعريض بأحد ما ولو علىٰ سبيل الوهم !!
ص : 252
ومع ذلك نقول في بيان هذا الموضوع بشكل علمي :
ثبت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورث علوم الأنبياء جميعها ، وكان يعلم علم ما كان وما هو كائن إلىٰ يوم القيامة (1).
وثبت أنّ الإمام عليّ عليه السلام هو وارث علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (2).
وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم علّم عليّاً عليه السلام ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب (3) ..
قال الفخر الرازي في تفسيره الكبير في ذيل تفسير قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (4) : قال عليّ : علّمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف باب من الله ، واستنبطت من كلّ
ص : 253
باب ألف باب (1). انتهىٰ.
وقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمَن أراد المدينة فليأت الباب » (2).
وثبت أيضاً أنّ الأئمّة من ولد عليّ عليهم السلام رُزقوا علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفهمه ، وأنّ النبيّ أمر المسلمين بموالاتهم والاقتداء بهم من بعده صلى الله عليه وآله وسلم ..
أخرج الطبراني في المعجم الكبير ، والرافعي في مسنده بالإسناد إلىٰ ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فليوالِ عليّاً من بعدي ، وليوالِ وليّه ، وليقتدِ بأهل بيتي من بعدي ; فإنّهم عترتي ، خُلقوا من طينتي ، ورُزقوا فهمي وعلمي ، فويل للمكذّبين فيهم من أُمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي » (3).
وهم عليهم السلام المقصودون بقوله صلى الله عليه وآله وسلم - في بعض ما ورد من ألفاظ حديث الثقلين : القرآن والعترة - : « فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا
ص : 254
عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم » (1).
فالعلوم الّتي أشار إليها الدليمي عند أئمّة أهل البيت عليهم السلام إنّما ورثوها عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ; بدلالة الأحاديث السابقة ..
وقد كان من علوم الأنبياء السابقين الّتي أشار إليها القرآن الكريم وورثها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، معرفتهم بلغة الطير والجنّ والنمل ، كما هو المعلوم عن داود وسليمان عليهما السلام (2).
وإنّهم كانوا يُخبرون الناس بما يدّخرون في بيوتهم ، كما هو المعلوم عن عيسىٰ عليه السلام (3).
وغير ذلك من العلوم ; فهي تعلّم من ذي علم ، كما مرّ في كلام الإمام عليه السلام للكلبي ، الّذي نقله الدليمي سابقاً.
وأمّا مَن قال بغير ذلك ، أي : إنّ علوم الأئمّة من دون تعلّم علىٰ ذي علم ، فهو جاهل لا يعي ما يقول ، ولا يستند في قوله إلىٰ دليل.
وسنذكر هنا علىٰ سبيل الإيجاز لا التفصيل بعض ممّا جاء في نهج البلاغة فقط ، ممّا يمكن أن نستدلّ به علىٰ علم الإمام عليه السلام بالمغيبات إضافة لِما ذكر سابقاً (4) ..
ص : 255
قال عليه السلام : « فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فو الّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة ، وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها (1) ، وقائدها ، وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ، ومَن يُقتل من أهلها قتلاً ، ويموت منهم موتاً » (2).
فهذا النصّ كاف لوحده في إثبات نسبة العلوم الّتي أشار إليها الكاتب سابقاً ، بأنّ أهل البيت عليهم السلام يعلمون متىٰ يموتون ، وأنّهم يعلمون علم ما كان وما سيكون إلىٰ قيام الساعة ، وعندهم أسماء أهل الجنّة وأهل النار ... إلىٰ غير ذلك.
فالنصّ المذكور صريح بعلم الإمام عليه السلام بما هو كائن إلىٰ يوم القيامة ، ومعرفة العلوم المستقبلية أصعب من معرفة علوم الماضي ، الّتي يمكن الحصول عليها من كتب التاريخ أو أحاديث الرواة مثلاً ، ذلك لو قلنا : إنّ الإمام عليه السلام يعلم العلوم المستقبلية فقط حسب هذا النصّ ; كيف وقد ثبت أنّه وارث علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، الّذي يعلم ما كان وما هو كائن إلىٰ يوم القيامة ؟!
كما أنّ معرفة أهل الجنّة وأهل النار نستطيع أن نستدلّ عليها من قوله عليه السلام : « ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة ... » المستفاد منه أنّ المهتدين سيكونون من أهل الجنّة والضالّين من أهل النار ، وكلّ هؤلاء يعرفهم الإمام عليه السلام ؛ كما هو ظاهر النصّ.
أمّا معرفته عليه السلام بموته فنستفيدها من قوله : « ومَن يُقتل من أهلها
ص : 256
قتلاً ، ويموت منهم موتاً ... » ، فإنّ الّذي يعرف كيفية موت الناس ما بينه وبين القيامة ، يعرف كيفية موته وموعده ؛ لأنّه واحد من هؤلاء الناس قطعاً .. ( ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ - من عباده - وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (1).
وجاء في نهج البلاغة أيضاً قوله عليه السلام : « أيّها الناس ! سلوني قبل أن تفقدوني ; فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض ، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها (2) ، وتذهب بأحلام قومها ».
قال الشيخ محمّد عبده في شرحه : أمّا قوله عليه السلام : « فلأنا بطرق السماء أعلم منّي ... الخ » ، فالقصد به : أنّه في العلوم الملكوتية والمعارف الإلهية أوسع إحاطة منه بالعلوم الصناعية ، وفي تلك مزية العقول العالية ، والنفوس الرفيعة ، وبها ينال الرشد ويستضيء الفكر (3).
قال ابن حجر في فتح الباري : عن أبي الطفيل ، قال : شهدت عليّاً وهو يخطب ، وهو يقول : « سلوني ! فو الله لا تسألوني عن شيء يكون إلىٰ يوم القيامة إلاّ حدّثتكم به ، وسلوني عن كتاب الله ! فو الله ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليل أُنزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل ».
فقال ابن الكوّاء ، وأنا بينه وبين عليّ وهو خلفي ، فقال : ما الذاريات ذرواً ؟ فذكر مثله وقال فيه : « ويلك ! سلْ تفقّهاً ولا تسأل تعنّتاً » (4).
ص : 257
وفي كنز العمّال للمتّقي الهندي ، قال : عن أبي المعتمر مسلم بن أوس وجارية بن قدّامة السعدي ، أنّهما حضرا عليّ بن أبي طالب يخطب وهو يقول : « سلوني قبل أن تفقدوني ! فإنّي لا أُسأل عن شيء دون العرش إلاّ أخبرت عنه » (1).
ذكر الكاتب في هذا الجانب رواية جاء بها من كتاب الكافي علّق عليها تعليقاً كشف به عن جهله بعلم البلاغة !
قال : « باب : إنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وأنّه لا يخفىٰ عليهم الشيء صلوات الله عليهم : عن سيف التمّار ، قال : كنّا مع أبي عبد الله عليه السلام جماعة من الشيعة في الحجر ، فقال : ( علينا عين ؟ ) فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحداً ، فقلنا : ليس علينا عين. فقال : ( وربّ الكعبة وربّ البنية - ثلاث مرّات - لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أنّي أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما ؛ لأنّ موسى والخضر عليهما السلام أُعطيا علم ما كان ، ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتّىٰ تقوم الساعة ، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وراثةً ) (2).
- قال : - انظر إلىٰ التناقض بين أوّل الحديث ; حيث يسأل أبو عبد الله - كما ينسب إليه - هل علينا عين ؟ وبين دعواهم فيه أنّه يعلم ما كان وهو
ص : 258
كائن ، فلماذا يسأل إذا كان كذلك ؟ » (1).
أقول :
إنّ المعنىٰ الوارد في الرواية يطابق تماماً ما نقلناه سابقاً عن الطبراني في المعجم الكبير ، والرافعي في المسند ، وما ذكره المتّقي الهندي في كنز العمّال ، إلاّ أنّ الّذي غاب عن الدليمي إدراكه هنا بأن ليس كلّ استفهام يرد في الكلام يكون المراد منه طلب العلم بمجهول ، فالاستفهام قد يرد لمطالب وغايات كثيرة غير طلب العلم والمعرفة ; كما هو مفصّل في علم البلاغة.
قال الهاشمي في جواهر البلاغة : وقد تخرج ألفاظ الاستفهام عن معناها الأصلي ( وهو طلب العلم بمجهول ) فيستفهم بها عن شيء مع ( العلم به ) ؛ لأغراض أُخرىٰ تُفهم من سياق الكلام ودلالته. ومن أهمّ ذلك :
1 - الأمر ؛ كقوله تعالىٰ : ( فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) ، أي : انتهوا.
2 - النهي ؛ كقوله تعالىٰ : ( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ) ، أي : لا تخشوهم ! فالله أحقّ أن تخشوه ...
إلىٰ آخر الأغراض ، الّتي عدّ منها الهاشمي في كتابه ما يقرب من عشرين غرضاً ، ك- : التسوية ، والنفي ، والإنكار ، والتشويق ، والاستئناس ، والتقرير ، والتهويل ، وغيرها (2) ...
فهل يستطيع أحد أن يقول : إنّ المراد من الاستفهام الوارد في الآية
ص : 259
الكريمة : ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ ) هو : طلب العلم بمجهول ؛ فينسب بذلك الجهل لله سبحانه ؟! تعالىٰ الله عن ذلك.
فللاستفهام أغراض متعدّدة يطلبها المتكلّم في كلامه ، ويبقىٰ تعيين الغرض يستند إلىٰ القرينة ودلائل المقام.
والاستفهام في حديث الإمام الصادق عليه السلام المذكور يرد مورد تنبيه وتعليم الإمام عليه السلام الحذر لأصحابه ، بأن لا يتكلّم أحدهم كلاماً ككلامه عليه السلام في مثل هذه الأُمور وهناك مَن يتجسّس عليه ممّن لا يأمن شرّه وفتنته من أهل الخلاف ، أو من ضعيفي الإيمان ، ممّن تنقدح الشبهات في ذهنه لأدنىٰ عارض.
وفي الرواية نفسها قرينة دالّة علىٰ علم الإمام عليه السلام بما سأل عنه ؛ لأنّ الرواي صرّح بقوله : التفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحداً. فممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليه السلام كان يرىٰ ما علىٰ يمين مخاطبيه ويسارهم ، وإنّما سألهم ذلك ليعلّمهم الحذر من الدخلاء عندما يتكلّمون بالعلوم الخاصة.
وهذا الحذر من اطّلاع الناس غير المؤهّلين علىٰ بعض العلوم تؤكّده سيرة الأئمّة عليهم السلام ؛ فها هو عليّ عليه السلام يقول : « اندمجت علىٰ مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىٰ البعيدة » (1).
وقال عليه السلام لكميل بن زياد : « إنّ ها هنا لعلماً جمّاً - وأشار بيده إلىٰ صدره - لو أصبت له حملة ! بلىٰ أصبت لقناً غير مأمون عليه ، مستعملاً آلة الدين للدنيا ، ومستظهراً بنِعم الله علىٰ عباده ، وبحججه علىٰ أوليائه ، أو منقاداً لحملة الحقّ ، لا بصيرة له في أحنائه ، ينقدح الشكّ في قلبه لأوّل
ص : 260
عارض من شبهة ، ألا لا ذا ولا ذاك ... » (1).
وقال عليه السلام من خطبة له : « والله لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف أن تكفروا فيَّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ألا وإنّي مفضيه إلىٰ الخاصّة ممّن يؤمن ذلك منه (2) ..
والّذي بعثه بالحقّ واصطفاه علىٰ الخلق ! ما أنطق إلاّ صادقاً ، وقد عهد إليَّ بذلك كلّه » (3).
وفي سياق حديثنا عن الرواية الّتي نقلها الكاتب من الكافي ، ومع ملاحظة أنّ أغلب المخالفين لمذهب أهل البيت عليهم السلام يحتجّون علىٰ شيعة أهل البيت بكلّ ما ورد في هذا الكتاب دون تمحيص ولا تدقيق ، أقول :
إنّ علماء الإمامية لم يعطوا الكافي ، ولا غيره من كتب الحديث ، تلك المنزلة الّتي أعطاها علماء أهل السُنّة إلىٰ صحيح البخاري وصحيح مسلم ؛ إذ أجمعوا علىٰ صحّة كلّ ما فيهما من أحاديث ، وحكموا بأنّها صادرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قطعاً (4).
ص : 261
قال السيّد هاشم معروف عن كتاب الكافي : ومع أنّه نال إعجاب الجميع وتقديرهم لم يغالِ به أحد غلوّ محدّثي السُنّة في البخاري ، ولم يدّعِ أحد بأنّه : صحيح بجميع مروياته ، لا يقبل المراجعة والمناقشة ، سوىٰ جماعة من المتقدّمين ، تعرّضوا للنقد اللاذع من بعض مَن تأخّر عنهم من الفقهاء والمحدِّثين ، ولم يقل أحد بأنّ : مَن روى عنه الكليني فقد جاز القنطرة ، كما قال الكثيرون من محدّثي السُنّة في البخاري ، بل وقف منه بعضهم موقف الناقد لمروياته من ناحية ضعف رجالها ، وإرسال بعضها ، وتقطيعها ، وغير ذلك من الطعون التي تخفّف من حدّة الحماس له والتعصّب لمروياته (1).
وقال الشيخ فخر الدين الطريحي : وأمّا الكافي فجميع أحاديثه حصرت في « 16199 » ستّة عشر ألف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثاً ، الصحيح منها باصطلاح مَن تأخّر : (5072) خمسة آلاف واثنان وسبعون ، والحَسَن : (149) مائة وتسعة وأربعون حديثاً ، والموثّق : (1118) ألف ومائة وثمانية عشر حديثاً ، والقوي منها : (302) اثنان وثلاثمائة ، والضعيف منها : (9485) تسعة آلاف وأربعمائة وخمسة وثمانون حديثاً ، والله أعلم (2).
وقال السيد المحقّق الخوئي قدس سره : لم تثبت صحّة جميع روايات الكافي ، بل لا شكّ في أنّ بعضها ضعيفة ، بل إنّ بعضها يطمأن بعدم صدورها من المعصوم عليه السلام (3).
ص : 262
وعليه ؛ فلا معنىٰ لإلزام الإمامية - كما هو دأب الكتّاب من مخالفيهم - بكلّ رواية موجودة في كتبهم الحديثية ما لم تبلغ درجة الصحّة والتوثيق ، أو تبلغ درجة التواتر ، خاصة إذا كانت ممّا له علاقة بأُمور العقائد عندهم.
وفي ختام هذا الفصل نقول :
لِمَ ينكر المشاغبون علىٰ أئمّة الهدىٰ من آل محمّد عليهم السلام أن يعلموا ما هو كائن إلىٰ يوم القيامة ، بينما يروون في كتبهم المعتبرة جواز مثل ذلك في حقّ أصحابهم ؟! أفلا يعدّ هذا قسمة ضيزىٰ ؟!
ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه ، قال : عن شقيق ، عن حذيفة ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلىٰ قيام الساعة إلاّ حدّث به ، حفظه مَن حفظه ، ونسيه مَن نسيه ، قد علمه أصحابي هؤلاء ، وإنّه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثمّ إذا رآه عرفه (1) ؛ فتدبّر !!
* * *
ص : 263
ص : 264
ص : 265
ص : 266
قال الدليمي :
« من كلام له عليه السلام قاله وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وتجهيزه : ( بأبي أنت وأُمّي ! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة وأخبار السماء ). نهج البلاغة 2 / 228.
- قال : - تأمّل هذا الكلام وقارن بينه وبين ما مضىٰ في الكافي ، وهذه الأحاديث أيضاً : عن أبي عبد الله ، قال : ( الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد علىٰ العباد ثمّ يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساءً ). الكافي 1 / 261.
عن أبي الحسن عليه السلام : ( الأئمّة علماء صادقون ، مُفهّمون محدّثون ). الكافي 1 / 271 ; أي : يحدّثهم ملك ينزل عليهم ... الخ » (1).
أقول :
إنّ الإمامية - عن بكرة أبيهم - متّفقون علىٰ منع نزول الوحي إلىٰ أحد بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، والإيحاء له بشيء ، ومَن زعم أنّ أحداً بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوحىٰ إليه فقد أخطأ وكفر (2).
ص : 267
نعم ، هم يجوّزون إلهام الإمام وتحدّث الملك معه ، ولكن هذا غير الوحي ، وفي هذا المعنىٰ ورد من طرق أهل السُنّة والجماعة ما يماثله بخصوص عمر بن الخطّاب مثلاً ; إذ قالوا بأنّه كان محدَّثاً ومُلهَماً ، مع أنّه ليس بنبيّ ..
روىٰ البخاري في صحيحه في مناقب عمر : عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فعمر » (1).
وفيه أيضاً : عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « إنّه كان في ما مضىٰ قبلكم من الأُمم محدَّثون ، وإنّه إن كان في أُمّتي هذه منهم فإنّه عمر بن الخطّاب » (2).
وكذلك ما ورد بشأن عمران بن حصين وأنّه كان يرىٰ الملائكة ، وكانت تُكلّمه وتُسلّم عليه (3).
وغيرها من الأخبار الواردة في هذا الشأن عند أهل السُنّة والجماعة ، ممّا لا يخفىٰ علىٰ المتتبّع (4).
ص : 268
كما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ » (1).
ومحل الشاهد هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « المهديّين » ، والمراد منه : المؤيّدين والمسدّدين من قبل الله تعالىٰ ، أي : عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الملهمين والمؤيّدين والمسدّدين من قبل الله تعالىٰ ..
ونقول ، بغضّ النظر عن بيان مصاديق الحديث المذكور :
إنّ مسألة الإلهام والتسديد من قبل الله سبحانه لبعض المسلمين أمر له أصل في الأحاديث النبوية عند الفريقين.
والفرق بين الوحي للنبيّ والإلهام للإمام : أنّ النبيّ يوحىٰ إليه من ربّه بلا توسّط أحد من البشر ، والإمام يُخبره النبيّ مشافهة ; كما حصل لأمير المؤمنين عليه السلام ، أو بتوسيط إمام آخر ; كما حصل لبقيّة الأئمّة عليهم السلام ، أو يخبره النبيّ بتوسّط الملك ؛ كما نصّت علىٰ ذلك بعض الروايات ..
نذكر منها : ما رواه المحدّث المجلسي في مرآة العقول : عن محمّد ابن سليمان الديلمي ، مولىٰ أبي عبد الله عليه السلام ، عن أبيه سليمان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام فقلت : جعلت فداك ! سمعتك وأنت تقول غير مرّة : لولا إنّا نزداد لأنفدنا ؟
ص : 269
قال : « أمّا الحلال والحرام فقد والله أنزله علىٰ نبيّه بكماله ، وما يزداد الإمام في حلال ولا حرام ».
قال : فقلت : فما هي الزيادة ؟
قال : « في سائر الأشياء ، سوىٰ الحلال والحرام ».
قال : قلت : فتزدادون شيئاً يخفىٰ علىٰ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قال : « لا ، إنّما يخرج الأمر من عند الله ، فيأتي به الملك لرسول الله فيقول : ربّك يأمرك بكذا وكذا. فيقول : انطلق به إلىٰ عليّ. فيأتي عليّاً فيقول : انطلق به إلىٰ الحسن » (1).
والمراد : إنّ الملك يأتي بالأمر إلىٰ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يعني إلىٰ روحه الطاهرة المقدّسة.
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة : « أيّها الناس ! خذوها عن خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم : إنّه يموت مَن مات منّا وليس بميّت ، ويبلىٰ مَن بلىٰ منّا وليس ببالٍ ؛ فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإنّ أكثر الحقّ في ما تنكرون ».
قال الشيخ محمّد عبده في شرحه : خذوا هذه القضية عنه ، وهي إنّه يموت الميّت من أهل البيت وهو في الحقيقة غير ميّت ؛ لبقاء روحه ساطعة النور في عالم الظهور ... والجاهل يستغمض الحقيقة فينكرها ، وأشدّ الحقائق دقائق (2).
أمّا بالنسبة للأحاديث الّتي ذكرها الكاتب ، مع أنّ بعضها ضعيف
ص : 270
سنداً (1) ، إلاّ أنّ المتن فيها أيضاً لا يعارض ما أوردناه عليك قبل قليل ..
قال المجلسي - أعلىٰ الله مقامه - : « خبر السماء » ، أي : الخبر النازل ، سواء نزل عليهم بالتحديث ، أو نزل علىٰ مَن قبله.
وقال : وكون مثل هذا العالم بين العباد لطف ورأفة بالنسبة إليهم ، ليرجعوا إليه في كلّ ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم ، والله أرأف بعباده من أن يمنعهم مثل هذا اللطف ، ويفرض طاعة مَن ليس كذلك فيصير سبباً لمزيد تحيّرهم (2).
وفي رواية ثانية - هي صحيحة محمّد بن إسماعيل - قال ( أي محمّد ابن إسماعيل ) : سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول : « الأئمّة علماء صادقون مُفَهَّمون مُحدَّثون » (3) ..
قال المجلسي : « علماء » : أي : هم العلماء المذكورون في قوله تعالىٰ : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) الآية. « صادقون » : إشارة إلىٰ قوله سبحانه : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ). « مفَهَّمون » : من جهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فهَّمهم القرآن وتفسيره وتأويله ، وغير ذلك من العلوم والمعارف. « محدَّثون » : من الملك (4).
ص : 271
وبما أوردنا سابقاً من روايات أهل السُنّة يُعلم أنّ وجود المحدَّث في الأُمّة مسلّم ، وأنّ التحديث ليس وحياً ، ولا يستلزم النبوّة كذلك (1) ، وإنّما الخلاف في مصداقه وشخصه ؛ فالعامّة يقولون : إنّه عمر ، وعمران ، ونحوهما ، والإمامية يقولون : إنّه أمير المؤمنين وأئمّة أهل البيت من ولده.
مع أنّ المسلمين جميعاً اتّفقوا علىٰ أنّ التسديد والعصمة من الضلال أبداً هي من نصيب أئمّة أهل البيت عليهم السلام ; لِما جاء في حديث الثقلين المتواتر المشهور : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ; ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبداً » (2).
وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن أحبّ أن يحيا حياتي ، ويموت ميتتي ، ويدخل الجنّة الّتي وعدني ربّي ، وهي جنّة الخلد ، فليتولّ عليّاً وذرّيّته من بعده ؛ فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدىً ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة » (3).
ص : 272
وغيرهما من الأحاديث الواردة في هذا الشأن.
أمّا الدليمي ففي تعليقه علىٰ إحدىٰ الروايات الّتي ذكرها في الموضوع ، وهي :
« عن زرارة ، قلت : الإمام ما منزلته ؟ قال أبو جعفر عليه السلام : ( يسمع الصوت ولا يرىٰ ولا يعاين الملك ، ثمّ تلا هذه الآية : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ) ولا محدَّث ). أُصول الكافي 1 / 176.
- قال : - وتأمّل زيادة : ( ولا محدَّث ) في الآية ... » (1).
فقد أراد بقوله هذا أن يغمز من طرف خفي بأنّ الإمامية يقولون بالزيادة في القرآن الكريم ، أو لعلّه كان يرمي إلىٰ أبعد من ذلك ، كأن يدّعي عليهم القول بالزيادة والنقيصة عموماً ، كما هو شأن الافتراءات الّتي تطال الإمامية في هذا الموضوع بين فترة وأُخرىٰ ، والتي ليس لها - في ما تدّعيه - من ركن وثيق تستند إليه !
فأقول عن هذا التأمّل :
إنّ للإمامية - بغضّ النظر عن مناقشة سند الحديث الّذي جاء به الكاتب من الكافي أو غيره - مع الأحاديث المنسوبة إلىٰ أئمّتهم قواعد لا يحيدون عنها ، قد نقل الدليمي شيئاً منها في أوّل كتيبه هذا ، كالقول الوارد عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام : « كلّ شيء مردود إلىٰ الكتاب والسُنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » ، وكذا القول الوارد
ص : 273
عنه عليه السلام أيضاً : « كلّ حديث يوافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه ».
وأيضاً ما ورد عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام : « لا تصدق علينا إلاّ بما يوافق كتاب الله وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم » (1).
وأيضاً الحديث الوارد عن الإمام الباقر عليه السلام : « إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به ، وإلاّ فقفوا عنده ، ثمّ ردّوه إلينا حتّىٰ يستبين لكم » (2).
وكذا الحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام : « إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخذوا به ، وإلاّ فالّذي جاءكم به أوْلىٰ به » (3) .. إلىٰ غير ذلك من أحاديث العرض علىٰ كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في هذا الشأن.
بل من قواعد الإمامية في حلّ المنازعات علىٰ اختلاف أنواعها ما ورد في عهد الإمام عليّ عليه السلام لمالك الأشتر ، الوارد في نهج البلاغة : « ... ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) ؛ فالردّ إلىٰ الله : الأخذ بمحكم كتابه ، والردّ إلىٰ الرسول : الأخذ بسُنّته الجامعة غير المفرّقة » (4).
ص : 274
والمستفاد من ذلك كلّه : أنّ كتاب الله عزّ وجلّ الموجود بين أيدينا هو الكتاب الكامل المُنزل علىٰ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلاّ كيف يجعله الأئمّة عليهم السلام مقياساً لشيعتهم في معرفة صحّة الأحاديث الواردة عنهم من عدمها ، وشيعتهم لا تملك من كتاب لله عزّ وجلّ غير هذا الكتاب المعروف المتداول بين المسلمين ؟!
فالقول بعدم وقوع التحريف في القرآن هو ممّا تسالم عليه أعلام الطائفة ، ك- : الشيخ الصدوق ، والشيخ الطوسي شيخ الطائفة ، والسيّد المرتضىٰ علم الهدىٰ ، والمفسّر الشهير الطبرسي ، والشيخ جعفر الكبير صاحب كتاب كشف الغطاء ، وغيرهم من المتقدّمين والمتأخّرين.
وقد أجاد السيد المحقّق الخوئي رحمه الله في بيان ذلك كلّه في كتابه البيان في تفسير القرآن ، فصل : صيانة القرآن من التحريف ، ص 213 - 252 ; فارجع إليه إن شئت (1).
وأمّا بالنسبة لرواية زرارة المارّة الذكر فلا يسعنا إلاّ أن نذكر بشأنها الملاحظات التالية :
ص : 275
1 - من الجائز أن يكون الحاق الإمام عليه السلام لكلمة ( ولا محدَّث ) بالآية من حيث مرادفتها لهما أو لأحدهما من باب التفسير ، لا من حيث أنّها من القرآن ، وهذا السياق قد ورد في مجموعة كثيرة من الروايات.
2 - في سندها أحمد بن محمّد ، والظاهر أنّه ابن خالد البرقي ، وهو وإن كان ثقة في نفسه كما يرىٰ ذلك بعض المؤلّفين في الرجال ، إلاّ أنّه يروي عن الضعفاء ، ويعتمد المراسيل ، وقد أخرجه من قم محمّد بن أحمد بن عيسىٰ ، ونسب إليه الغلوّ في الأئمّة عليهم السلام ، وأكثر المؤلّفين من الرجال متّفقون علىٰ تضعيف مروياته (1).
3 - لو تنزّلنا عن ذلك ، وسلّمنا بتمامية الرواية سنداً ودلالةً فالإهمال والضرب بها عرض الحائط لازم لها ; إذ لا يمكن الأخذ بها لمخالفتها لما مرّ بيانه من قواعد في المقام.
ذلك ، مع أنّه يرد النقض علىٰ صاحب هذا التأمّل بأنّ هذه الزيادة الواردة في الرواية عدّها بعضهم من الزيادات الخاصّة بالآية الواردة من طرق أهل السُنّة بالسند الصحيح ، وهو ما يؤسّس لدعوى التحريف عندهم كما لا يخفىٰ !
قال ابن حجر في فتح الباري : قوله : قال ابن عبّاس : من نبيّ ولا محدَّث ، أي في قوله تعالىٰ : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ ) ، الآية. كان ابن عبّاس زاد فيها : ولا محدَّث. أخرجه سفيان بن عيينة في أواخر جامعه ، وأخرجه عبد بن حميد من طريقه ، وإسناده إلىٰ ابن عبّاس صحيح ; ولفظه : عن عمرو بن دينار ،
ص : 276
قال : كان ابن عبّاس يقرأ : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدَّث (1).
وعن القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن : قال ابن عطية : وجاء عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدَّث ) ، ذكره مسلمة بن القاسم بن عبد الله ، ورواه سفيان عن عمرو ابن دينار عن ابن عبّاس ; قال مسلمة : فوجدنا المحدَّثين معتصمين بالنبوة - علىٰ قراءة ابن عبّاس - لأنّهم تكلّموا بأُمور عالية من أنباء الغيب خطرات ، ونطقوا بالحكمة الباطنة ، فأصابوا في ما تكلّموا ، وعصموا في ما نطقوا كعمر بن الخطّاب في قصة سارية (2). انتهى ؛ فتأمّل !
قال الدليمي :
« وفي كتاب الكافي أحاديث كثيرة في هذا المعنىٰ أعرضت عنها خشية الإطالة ، منها : ما ينصّ علىٰ نزول جبرائيل عليه السلام علىٰ فاطمة وعليّ رضي الله عنهما وإملائه مصحفاً يسمّىٰ : ( مصحف فاطمة ) ، كتبه عليّ من إملاء جبرائيل في مدّة خمسة وسبعين يوماً ، بلغ هذا المصحف ثلاثة أضعاف القرآن الكريم الّذي استغرق نزوله ثلاثة وعشرين عاماً !! أُصول الكافي 1 / 239 - 241 » (3).
إنّ « مصحف فاطمة عليها السلام » هو : كتاب فيه علم ما يكون ، وأسماء من
ص : 277
يملكون إلىٰ قيام الساعة ، بإملاء جبرائيل عليه السلام ، وبخطّ أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام ..
دلّت علىٰ ذلك الأخبار الكثيرة :
ك- : خبر حمّاد بن عثمان ; قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : « تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة ؛ وذلك أنّي نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام ».
قال : قلت : وما مصحف فاطمة ؟
قال : « إنّ الله تعالىٰ لمّا قبض نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم دخل علىٰ فاطمة عليها السلام من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ ، فأرسل الله إليها ملكاً يسلّي غمّها ويحدّثها ، فشكت ذلك إلىٰ أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : إذا أحسست بذلك وسمعتي الصوت قولي لي. فأعلمته بذلك ، فجعل أمير المؤمنين عليه السلام يكتب كلّ ما يسمع ، حتّىٰ أثبت من ذلك مصحفاً ».
قال : ثمّ قال : « أمّا أنّه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ، ولكن فيه علم ما يكون » (1).
وفي صحيحة أبي عبيدة الحذّاء : عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : « إنّ فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسةً وسبعين يوماً ، وكان دخلها حزن شديد علىٰ أبيها ، وكان جبرائيل عليه السلام يأتيها فيحسن عزاءها علىٰ أبيها ويطيّب نفسها ، ويخبرها عن أبيها ومكانه ، ويخبرها بما يكون بعدها في ذرّيّتها ، وكان عليّ عليه السلام يكتب ذلك ، فهذا مصحف فاطمة عليها السلام » (2).
ص : 278
وإنّما سُمّي مصحفاً لأنّه كتاب جامع لصحف مكتوبة ، وكلّ ما كان كذلك فهو مصحف لغة ، وإن لم يكن قرآناً أو فيه شيء من سوره وآياته.
وقد مرّ بنا أنّ الملائكة كانت تكلّم عمر بن الخطّاب وعمران بن حصين ; حسبما ورد في كتب أهل السُنّة ..
وجاء في القرآن الكريم أنّ الملائكة كلّمت مريم بنت عمران عليها السلام (1) ، وأنّه سبحانه قد أوحىٰ إلىٰ أُمّ موسىٰ (2) ، وأيضاً أوحىٰ إلىٰ النحل (3) ..
فهل يستكثر بعد هذا علىٰ أمير المؤمنين وسيّد الوصيين أن تكلّمه الملائكة في بيته ، وهو مولىٰ كلّ مؤمن ومؤمنة (4) ..
وهو الّذي يدور معه الحقّ حيثما دار (5) ..
ص : 279
وهو أخو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة (1) ..
وهو باب مدينة علمه صلى الله عليه وآله وسلم (2) ..
وهو الّذي يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله (3) ..
ومنزلته من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كمنزلة هارون من موسىٰ (4) ..
ولا يحبّه إلاّ مؤمن ، ولا يبغضه إلاّ منافق (5) ؟!
ص : 280
أو يستكثر ذلك علىٰ الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام وهي سيّدة نساء العالمين ، وسيّدة نساء أهل الجنّة (1) ..
وبضعة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الّتي يؤذيه ما يؤذيها (2) ..
والّتي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها (3)؟!
* * *
ص : 281
ص : 282
ص : 283
ص : 284
قال الدليمي :
« قال تعالىٰ ( رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا )(1) ..
ويقول سيدنا عليّ رضي الله عنه : ( بعث الله رسله بما خصّهم من وحيه ، وجعلهم حجّة له علىٰ خلقه ، لئلاّ تجب الحجّة لهم بترك الأعذار إليهم ). ج 2 ص 27.
فالوحي مخصوص بالرسل الّذين هم حجّة الله علىٰ خلقه بما عندهم من اختصاص بهذا الوحي ، ولو كان غيرهم حجّة لَما تمّت حجّة الله علىٰ خلقه بهم ، ولبطلت هذه الآية وما في معناها.
ويقول رضي الله عنه في موضع آخر : ( فلمّا مهد أرضه وأنفذ أمره اختار آدم عليه السلام خيرة من خلقه ... وليقيم الحجّة به علىٰ عباده ، ولم يخلهم ، بعد أن قبضه ، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم بالحجج علىٰ ألسن الخيرة من أنبيائه ، ومتحمّلي ودائع رسالاته ، قرناً فقرناً ، حتّىٰ تمّت بنبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله حجّته ، وبلغ المقطع عذره ونذره ). ج 1 ص 77.
ص : 285
- قال : - فإذا تمّت الحجّة بنبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم فلا حجّة بعده ، وإلاّ فالحجّة لم تتمّ ، بينما سيّدنا عليّ يقول : إنّ الحجّة تمّت بنبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، وربّنا يقول : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ علىٰ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) ، فلا حجّة بعدهم ؛ فلماذا يوصف غير الأنبياء عليهم السلام بأنّهم : حجج الله ؟ » (1).
المراد من الحجّة هو : البرهان والدليل الّذي يقيمه الله لعباده ، ويجعله الأساس في خصمهم ومحاسبتهم يوم القيامة إن جاؤوا بخلافه ، وحجج الله تعالىٰ كثيرة لا ع-دّ ولا حص-ر لها ، وهي مختلفة حسب الموارد والاتّجاهات ; فمن حيث تبليغ الشرائع والرسالات والدعوة إلىٰ التوحيد وترك عبادة ما سواه جلّ وعلا ، فحججه في ذلك : أنبياؤه ورسله عليهم السلام ، وإلى ذلك أشار تعالىٰ بقوله : ( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ علىٰ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) (2).
ومن حيث الأدلّة علىٰ وجوده سبحانه ، فحججه علىٰ عباده : آثاره من مخلوقاته ، الّتي تبين لنا بدائع صنعته وأعلام حكمته ، قال تعالىٰ : ( سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِى الاَْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حتّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ علىٰ كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ ) (3).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المسمّاة ب- : « خطبة الأشباح » : « وأرانا من ملكوت قدرته ، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ، واعتراف
ص : 286
الحاجة من الخلق إلىٰ أن يُقيمها بمساك قوّته ، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له علىٰ معرفته ، فظهرت البدائع الّتي أحدثها آثارُ صنعته ، وأعلامُ حكمته ؛ فصار كلّ ما خلقَ حجّةً له ودليلاً عليه ، وإن كان خلقاً صامتاً ، فحجّته بالتدبير ناطقة ، ودلالتُهُ علىٰ المبدع قائمة » (1).
وعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام : « الصورة الإنسانية هي أكبر حجّة لله علىٰ خلقه ، وهي الكتاب الّذي كتبه الله بيده » (2).
وقد ورد أنّ العقل حجّة الله علىٰ خلقه (3) ، كما أنّ القرآن حجّة الله علىٰ خلقه ؛ قال أمير المؤمنين عليه السلام من خطبة له : « فالقرآن آمرٌ زاجر ، وصامتٌ ناطق ، حُجّة الله علىٰ خلقه » (4).
وأهل البيت عليهم السلام حجج الله علىٰ خلقه ; لِما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال في حقّهم : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ; ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبداً ، وإنّهما لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما » (5) ..
فقد قرن الحديث أهل البيت بالكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وجعل التمسّك بهما معاً عاصماً من الضلالة ، وأخبر بتلازم أهل البيت والكتاب وعدم افتراقهما إلىٰ يوم القيامة.
فإذا كان التمسّك بالقرآن - الّذي هو حجّة الله علىٰ خلقه - هو الأخذ بتعاليمه وأحكامه ، فكذلك يكون التمسّك بمَن جُعلوا عدلا له وقرناء ،
ص : 287
وهذا معنىٰ كونهم : « حجج الله ».
ولو رجعت - عزيزي القارئ - إلىٰ بداية الكتاب (1) وقرأت ما ذكرناه عن كيفيّة العودة إلىٰ كتاب الله والأخذ منه ، لتبيّن لك هذا الموضوع تماماً.
وأضف إليه : إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر أنّ لأهل البيت عليهم السلام دوراً كبيراً في رعاية الرسالة وصيانتها من التحريف والانحراف ، وإقامة الحجّة علىٰ أهل الأهواء والآراء أن يقولوا في دين الله ما يشتهون ..
قال صلى الله عليه وآله وسلم : « في كلّ خلف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا إنّ أئمّتكم وفدكم إلىٰ الله ، فانظروا مَن تفِدون » (2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » (3).
قال ابن حجر في الصواعق : وفي أحاديث الحثّ علىٰ التمسّك بأهل البيت إشارة إلىٰ عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلىٰ يوم القيامة ، كما إنّ الكتاب العزيز كذلك ؛ ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض ، ويشهد لذلك الخبر السابق : « في كلّ خلف من أُمّتي عدول من أهل بيتي » (4).
وقد جاء في بعض الأحاديث ما يفيد حجّية عليّ عليه السلام علىٰ الأُمّة ..
ص : 288
قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - وقد أخذ بيد عليّ عليه السلام - : « إنّ هذا أوّل مَن آمن بي ، وهذا أوّل مَن يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصدّيق الأكبر ، وهذا فاروق هذه الأُمّة ، يفرّق بين الحقّ والباطل ، وهذا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظالمين » (1).
وأيضاً قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في وجوب إطاعته وعدم مخالفته : « مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصىٰ الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومَن عصى عليّاً فقد عصاني » (2).
وفي لزوم متابعته وعدم مفارقته ، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « يا عليّ ! مَن فارقني فقد فارق الله ، ومَن فارقك فقد فارقني ».
وفي أنّ بيانه عليه السلام هو فصل الاختلاف من بعده صلى الله عليه وآله وسلم في الأُمّة ، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « يا عليّ ! أنت تبيّن لأُمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي » (3).
وفي هذا المعنىٰ أيضاً ، عندما نزل قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْم هَاد ) (4) وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده علىٰ صدره فقال : « أنا المنذر » ، وأومأ بيده إلىٰ عليّ فقال : « أنت الهادي يا عليّ ! بك يهتدي المهتدون من بعدي » (5).
ص : 289
وقد مرّت بنا الأحاديث الواردة في أنّ حرب عليّ أو حرب فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام حربه صلى الله عليه وآله وسلم وسلمهم سلمه (1) ، وأنّهم سفينة النجاة ، مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق (2) ، الّتي تكشف بوضوح عن وجوب اتّباعهم وعدم مفارقتهم أو مخالفتهم ، وهذا هو معنىٰ كونهم : « حجج الله » علىٰ الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ورد ذكر أهل البيت عليهم السلام كونهم حجج الله في أحاديث صريحة روتها كتب القوم ، نذكر منها :
قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أنا وهذا - يعني عليّاً - حجّة علىٰ أُمّتي يوم القيامة » (3).
ومنها ، قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أنا وعليّ حجّة الله علىٰ عباده » (4).
وأخرج الطبري الشافعي في كتابيه ذخائر العقبىٰ والرياض النضرة : عن أنس بن مالك ، أنّه قال : كنت عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فرأىٰ عليّاً مقبلاً ، فقال : « يا أنس ! ». قلت : لبيك. قال : « هذا المقبل حجّتي علىٰ أُمّتي يوم القيامة » (5).
ص : 290
وغير ذلك من الأحاديث النبوية الكثيرة الدالّة علىٰ وجوب معرفة أمير المؤمنين عليه السلام ، والالتزام بمنهجه ، وعدم مفارقته ، ووجوب الإنصات لبيانه في ما اختلف المسلمون فيه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّه عَلَم الهداية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسفينة النجاة الّتي مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق ...
وهذا معنىٰ كونه : « حجّة الله » علىٰ المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهناك جملة من الأحاديث النبوية الشريفة الّتي خرجت من عهود الظلام الأُموي والعبّاسي ، والّتي استطاعت أن تخترق حاجز النصب والبغض الّذي تبنّاه بعضهم ضدّ أهل البيت عليهم السلام فجاءت - أي هذه الأحاديث - وكأنّها شاهد ومفصّل لِما اكتفىٰ بعضهم بالرمز إليه بالرقم والإشارة دون ذكر الأسماء من أحاديث الأئمّة أو الخلفاء الاثني عشر الواردة في كتب السُنن والصحاح ..
فمنها : ما رواه الخوارزمي الحنفي من كتابه مقتل الحسين : أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال للحسين عليه السلام : « أنت حجّة ابن حجّة أخو حجّة أبو حجج تسعة ، تاسعهم قائمهم » (1).
ومنها : ما جاء في كتاب فرائد السمطين لشيخ الإسلام الحمويني الشافعي ، في السمط الثاني في آخر الكتاب ، بسنده عن ابن عبّاس : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ خلفائي وأوصيائي حجج الله علىٰ الخلق بعدي : الاثنا عشر ، أوّلهم : أخي ، وآخرهم : ولدي ».
ص : 291
قيل : يا رسول الله ! ومَن أخوك ؟
قال : « عليّ بن أبي طالب ».
قيل : فمَن ولدك ؟
قال : « الّذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ؛ والّذي بعثني بالحقّ بشيراً ! لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّىٰ يخرج فيه ولدي المهدي ، فينزل روح الله عيسىٰ بن مريم فيصلّي خلفه ، وتشرق الأرض بنور ربّها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب » (1). انتهىٰ.
ومنها : ما رواه الحافظ الحنفي في كتابه ينابيع المودّة ، نقلاً عن المناقب لابن المغازلي الشافعي ، بالإسناد إلىٰ ابن الزبير المكّي ، عن جابر ابن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ الله تبارك وتعالىٰ اصطفاني واختارني وجعلني رسولاً ، وأنزل علَيَّ سيّد الكتب ، فقلت : إلهي وسيدي ! إنّك أرسلت موسىٰ إلىٰ فرعون فسألك أن تجعل معه أخاه هارون وزيراً يشدّ به عضده ويصدّق به قوله ..
وإنّي أسألك يا سيدي وإلهي ! أن تجعل لي من أهلي وزيراً تشدّ به عضدي ، فاجعل لي عليّاً وزيراً وأخاً ، واجعل الشجاعة في قلبه ، وألبسه الهيبة علىٰ عدوّه ، وهو أوّل مَن آمن بي وصدّقني ، وأوّل مَن وحّد الله معي ..
وإنّي سألت ذلك ربّي عزّ وجلّ فأعطانيه ، فهو سيد الأوصياء ، اللحوق به سعادة ، والموت في طاعته شهادة ، اسمه في التوراة مقرون إلى
ص : 292
اسمي ، وزوجته الصدّيقة الكبرىٰ ابنتي ، وابناه سيّدا شباب أهل الجنّة ابناي ، وهو وهما والأئمّة من بعدهم حجج الله علىٰ خلقه بعد النبيّين ، وهم أبواب العلم في أُمّتي ، مَن تبعهم نجا من النار ، ومَن اقتدىٰ بهم هدي إلىٰ صراط مستقيم ، لم يهب الله محبّتهم لعبد إلاّ أدخله الله الجنّة » (1). انتهىٰ.
وفي هذا المعنىٰ ينقل ابن كثير في البداية والنهاية عن يحيىٰ بن سلامة الشافعي الحصكفي - من أئمّة الفقه والأدب - قوله :
وسائلي عن حبّ أهل البيت
هل أُقرّ إعلاناً به أم أجحدُ ؟!
هيهات ! ممزوج بلحمي ودمي
حبّهم وهو الهدى والرشدُ
حيدرة والحسنان بعده
ثمّ عليّ وابنه محمّد
وجعفر الصادق وابن جعفر
موسى ويتلوه عليّ السيّدُ
أعني الرضا ثمّ ابنه محمّد
ثمّ عليّ وابنه المسدّدُ
والحسن الثاني ويتلو تلوه
محمّد بن الحسن المفتقدُ
أئمّة أكرم بهم أئمّة
أسماؤهم مسرودة تطردُ
هم حجج الله علىٰ عباده
وهم إليه منهج ومقصدُ (2)
وقد جاء في نهج البلاغة ما يشير إلىٰ ذلك - أي : إلىٰ وجود الحجج بعد النبيّين - في عدّة مواضع ، إلاّ أنّه ممّا غاب عن الدليمي الاطّلاع عليه ، أو الوقوف عنده كالعادة ، نذكر من ذلك :
ص : 293
قوله عليه السلام : « ولم يخل سبحانه خلقه من نبيّ مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجّة لازمة » (1).
وقوله عليه السلام : « اللّهمّ بلىٰ ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة : إمّا ظاهراً مشهوراً ، أو خائفاً مغموراً (2) ؛ لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته ، وكم ذا وأين أُولئك (3) ؟!
أُولئك - والله - الأقلّون عدداً ، والأعظمون عند الله قدراً ، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته ، حتّىٰ يودعوها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم علىٰ حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون (4) ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلىٰ ، أُولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلىٰ دينه » (5) ..
وفي كلامه عليه السلام هذا بيان وافٍ لعلّة وجود الحجج بعد الأنبياء والرسل والكتب المنزلة ؛ فانظر إلىٰ قوله عليه السلام : « لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته » ، وقوله عليه السلام : « يحفظ الله بهم حججه وبيّناته ، حتّىٰ يودعوها نظراءهم ... ».
ص : 294
وإن قمت - أيّها القارئ النبيه - بالجمع بين كلامه عليه السلام هذا وبين ما تقدّم من أحاديث نبوية في هذه الفقرة ، سيتّضح لك الأمر جلياً في الموضوع لا غطش فيه (1).
ولا أدري لِمَ يستكثر الدليمي علىٰ أئمّة أهل البيت عليهم السلام أن يكونوا حجج الله تعالىٰ علىٰ خلقه ، وهم عِدل القرآن الكريم ، كما نصّ علىٰ ذلك حديث الثقلين المتواتر المشهور ، بعد أن استساغ لقومه وعلماء مذهبه أن يطلقوا هذا اللفظ « حجّة الله » علىٰ مَن هو دونهم في العلم والفضل ولا نصّ فيهم ، ك- : مالك بن أنس الأصبحي ، وأبي عليّ الثقفي ، وأبي إسحاق الشيرازي ، وغيرهم ..
قال ابن حجر في التهذيب : قال حرملة : عن الشافعي ، قال : مالك حجّة الله تعالىٰ علىٰ خلقه بعد التابعين (2).
ويروي الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي العبّاس الزاهد قوله : كان أبو عليّ ( الثقفي ) في عصره حجّة الله علىٰ خلقه (3) ..
ويروي كذلك عن أبي بكر الشاشي قوله : أبو إسحاق ( الشيرازي ) حجّة الله علىٰ أئمّة العصر (4).
ومع هذا ، فإنّك لو سألت الدليمي هنا - وهو الّذي كان قد تساءل متعجّباً ، وربّما متهكّماً : فلماذا يوصف غير الأنبياء عليهم السلام بأنّهم : حجج الله ؟ - وقلت له : بماذا سيحتجّ الله عزّ وجلّ علىٰ الفرق المختلفة من المسلمين
ص : 295
يوم القيامة ، وهم حسب الظاهر كلّهم مؤمنون بالله ورسوله وكتابه ؟ لتلجلج وبهت ، ولم يحر جواباً !!
لكنّه لو رجع إلىٰ كلمات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّتي أوردناها ، وكلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة لوجد لهذا السؤال جواباً.
والله الموفّق للصواب.
* * *
ص : 296
الفصل العاشر
ص : 297
ص : 298
قال الدليمي :
« من خطبة له عليه السلام بصفين : ( لا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل ، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي ). ج 2 ص 210.
- قال : - فهذا كلامه رضي الله عنه وخطابه علىٰ رؤوس الملأ وعامّة الناس أنّه ليس بفوق أن يخطئ في قول أو فعل.
ثمّ قال عليه السلام : ( ما أهمّني ذنب أُمهلت بعده حتّىٰ أُصلّي ركعتين ). ج 4 ص 77.
في هذا الكلام ينفي سيّدنا عليّ رضي الله عنه العصمة عن نفسه من الذنب ، وأنّه إذا أذنب صلّىٰٰ ركعتين ، فإذا صلّىٰٰ لا يحمل همّ ذلك الذنب الّذي أُمهل بعده فصلّىٰٰ تلك الركعتين » (1).
أقول :
الأدلّة الّتي دلّت علىٰ عصمته عليه السلام وعصمة أهل بيته الكرام عليهم السلام كثيرة ، إلاّ أنّنا سنكتفي هنا بذكر الأدلّة النقلية فقط وعمدتنا في ذلك كما في كلّ دليل نقلي : الكتاب والسُنّة.
ص : 299
أمّا الكتاب الكريم :
فيشهد لذلك قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1) ..
فالرجس في هذه الآية عبارة عن : الذنوب ، كما في الكشّاف للزمخشري وغيره ، وقد تصدّرت الآية بأداة الحصر : « إنّما » ، فأفادت أنّ إرادة الله تعالىٰ في أمرهم مقصورة علىٰ اذهاب الذنوب عنهم وتطهيرهم منها ، وهذا هو كنه العصمة وحقيقتها ، والّذي ذكرناه هنا عن الآية الكريمة ، ذكره جماعة من علماء أهل السُنّة أيضاً.
فقد جاء في تفسير الطبري « جامع البيان عن تأويل آي القرآن » عن هذه الآية ما يدلّ علىٰ أنّه فهم منها عصمة أهلها ، وكذلك نقل عن جماعة من الأعلام أنّهم فهموا منها ذلك ..
قال الطبري : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) ، يقول : إنّما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمّد ، ويطهّركم من الدنس الّذي يكون في أهل معاصي الله تطهيراً.
ثمّ قال : وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ...
حدّثنا بشر ، قال : ثنا زيد ، قال : ثنا سعيد بن قتادة ، قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، فهم أهل بيت طهّرهم الله من السوء ، وخصّهم برحمة منه ...
وروىٰ أيضاً عن ابن زيد قوله : الرجس ها هنا : الشيطان (2).
ص : 300
وعن العلاّمة النبهاني في كتاب الشرف المؤبّد عند تناوله لهذه الآية في أوّل الكتاب ، وكذلك العلاّمة المقريزي في فضل آل البيت ، في ما نقلاه عن ابن عطيّة الأندلسي - المتوفّىٰ سنة 456 ه- - قوله في المحرّر الوجيز : والرجس اسم يقع علىٰ الإثم والعذاب ، وعلىٰ النجاسات والنقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت (1). انتهىٰ.
وعن النووي في شرحه لصحيح مسلم : قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) ، قيل : هو الشكّ ، وقيل : العذاب ، وقيل : الإثم ; قال الأزهري : الرجس اسم لكلّ مستقذر من عمل (2). انتهىٰ.
وفسّر الشيخ محي الدين بن عربي لفظ الرجس ب- : كلّ ما يشين ؛ وإليك عبارته ، قال : وقد ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم قد طهّره الله وأهل بيته تطهيراً وأذهب عنهم الرجس ، وهو : كلّ ما يشينهم ؛ فإنّ الرجس هو القذر عند العرب - هكذا حكى الفرّاء - (3). انتهىٰ.
فالمقصود من العصمة - محلّ البحث - كما هو الوارد في كتب عقائد الإمامية : قوّة العقل من حيث لا يُغلب ، مع كونه قادراً علىٰ المعاصي كلّها ، كجائز الخطأ.
وليس معنىٰ العصمة أنّ الله يجبره علىٰ ترك المعصية ، بل يفعل به ألطافاً يترك معها المعصية باختياره مع قدرته عليها ، ك- : قوّة العقل ، وكمال الفطنة والذكاء ، الّتي يبلغ بها إلىٰ نهاية صفاء النفس ، وكمال الاعتناء بطاعة الله عزّ وجلّ.
ص : 301
ولو لم يكن قادراً علىٰ المعاصي بل كان مجبوراً علىٰ الطاعات ، لكان ذلك منافياً للتكليف وعدم الإكراه في الدين ، والنبيّ أوّل مَن كُلّف ؛ فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) (1) ، ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (2) ، وقال تعالىٰ : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حتّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (3).
ولأنّه لو لم يكن قادراً علىٰ المعصية ، لكان أدنىٰ مرتبة من صلحاء المؤمنين القادرين علىٰ المعاصي التاركين لها (4).
فحال المعصوم مع الذنب كحال مَن يرىٰ حيواناً ميتاً - مثلاً - في الطرق فتأبى نفسه أن تقترب أو تأكل منه ; لاستبشاعها ذلك ونفورها عنه ، مع أنّه لو أراد الأكل وأجبر نفسه عليه لأكل منه ; لقدرته عليه (5).
قال الفخر الرازي في التفسير الكبير عند قوله تعالىٰ : ( أَطِيعُواْ اللهَ وأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُمْ ) (6) : إنّه يجب القول بعصمة ولاة الأمر ; وذلك لمحلّ الجزم بطاعتهم ، كما هو مفاد الآية الكريمة ..
فإن قلنا ب- : عصمة أهل البيت عليهم السلام ، وجبت طاعتهم مطلقاً دون غيرهم ، وإن قلنا ب- : عدم عصمتهم ، لزم التكليف بالمحال ; إذ أوجب الله
ص : 302
علينا طاعة المعصوم والمعصوم معدوم حسب الفرض ؛ لتحقّق إجماع المسلمين كافّة أنّ غيرهم ليس بمعصوم ، والتكليف بالمحال محال علىٰ الله تعالىٰ (1).
واستناداً إلىٰ التفسير السابق للفخر الرازي بأنّ مَن وجبت طاعته مطلقاً وجبت عصمته ، سنثبت عصمة أهل البيت عليهم السلام بآية أُخرىٰ من القرآن الكريم ، وهي : آية المودّة ، وهي قوله تعالىٰ : ( قُل لاَّ أَسلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى القربىٰ ) (2) ..
وإليك البرهان بتطبيق الشكل الأوّل من الأشكال الأربعة المعروفة في علم المنطق ، فنقول :
من وجبت مودّته مطلقاً ... وجبت طاعته مطلقاً
وكلّ من وجبت طاعته مطلقاً ... وجبت عصمته
فالنتيجة :
من وجبت مودّته مطلقاً ... وجبت عصمته
أمّا دليل الصغرىٰ : فقوله تعالىٰ : ( قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى ... ) (3) ، الّذي شرَط الحبّ بلزوم الاتّباع ، الّذي يعني : الطاعة.
وهذا القياس منتج ; لأنّ شروط الشكل الأوّل متوفّرة فيه ، وهي : إيجاب الصغرىٰ ، وكلّيّة الكبرىٰ.
وعلىٰ هذا ، نكون قد أثبتنا عصمة أهل البيت عليهم السلام الّذين أوجب الله مودّتهم في كتابه من خلال آيات القرآن الكريم نفسها ، بقياس منطقي
ص : 303
صحيح لا غبار عليه ، والحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله (1).
فما دلّ من الأحاديث علىٰ عصمة أهل البيت عليهم السلام أكثر من أن يذكر في هذه العجالة من البحث ، أو هذا الردّ المبني علىٰ الاختصار ، ولكنّنا سنجتزئ هنا بشيء يسير منها يفي بالمطلوب إن شاء الله تعالىٰ ..
قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّي تركت فيكم ما أن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلىٰ الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفونني فيهما » (2).
والدالّ علىٰ عصمة أهل البيت عليهم السلام حسب الحديث المذكور أُمور :
1 - اقترانهم بالكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وتصريحه صلى الله عليه وآله وسلم بعدم افتراقهم عنه ، ومن البديهي أنّ صدور أية مخالفة
ص : 304
للشريعة ، سواء كانت عن عمد أم سهو أم غفلة ، تعدّ افتراقاً عن القرآن في هذه الحال ، وإن لم يتحقّق انطباق عنوان المعصية عليها أحياناً ، كما في الغافل والساهي ، والحديث صريح في عدم افتراقهما حتّىٰ يردا الحوض.
2 - عدّ صلى الله عليه وآله وسلم التمسّك بهم عاصماً من الضلالة دائماً وأبداً ، كما هو مقتضىٰ ما تفيده كلمة : « لن » التأبيدية ؛ وفاقد الشيء لا يعطيه.
3 - علىٰ أنّ تجويز الافتراق عليهم بمخالفة الكتاب وصدور الذنب منهم تجويز للكذب علىٰ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الّذي أخبر عن الله عزّ وجلّ بعدم وقوع افتراقهما ، وتجويز الكذب عليه متعمّداً في مقام التبليغ والإخبار عن الله تعالىٰ في الأحكام وما يرجع إليه من موضوعاتها وعللها ، منافٍ لافتراض العصمة في التبليغ ، وهي ممّا أجمعت عليه كلمة المسلمين علىٰ الإطلاق ، حتّىٰ نفاة العصمة عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقول مطلق ..
يقول الشوكاني بعد استعراضه لمختلف مبانيهم في عصمة الأنبياء : وهكذا وقع الإجماع علىٰ عصمتهم بعد النبوّة من تعمّد الكذب في الأحكام الشرعية ؛ لدلالة المعجزة علىٰ صدقهم (1).
وأود هنا أن أنقل للقارئ الكريم - إتماماً للفائدة - كلام السيّد محسن الأمين رحمه الله في كتابه أعيان الشيعة ، فبعد أن أورد حديث الثقلين المارّ ذكره ، بلفظ مسلم وأحمد وغيرهما من الحفّاظ ، قال : دلّت هذه الأحاديث علىٰ عصمة أهل البيت من الذنوب والخطأ ؛ لمساواتهم فيها بالقرآن الثابت عصمته :
ص : 305
في : أنّه أحد الثقلين المخلّفين في الناس.
وفي : الأمر بالتمسّك بهم ، كالتمسّك بالقرآن ; ولو كان الخطأ يقع منهم لَما صحّ الأمر بالتمسّك بهم ، الّذي هو عبارة عن جعل أقوالهم وأفعالهم حجّة.
وفي : أنّ المتمسّك بهم لا يضلّ ، كما لا يضلّ المتمسّك بالقرآن ; ولو وقع منهم الذنوب أو الخطأ لكان المتمسّك بهم يضلّ.
و : أنّ في اتّباعهم الهدىٰ والنور ، كما في القرآن ; ولو لم يكونوا معصومين لكان في اتّباعهم الضلال.
و : أنّهم حبل الله الممدود من السماء إلىٰ الأرض ، كالقرآن ; وهو كناية علىٰ أنّهم واسطة بين الله وخلقه.
و : أنّ أقوالهم عن الله تعالىٰ ; ولو لم يكونوا معصومين لم يكونوا كذلك.
وفي : أنّهم لم يفارقوا القرآن ولن يفارقهم مدّة عمر الدنيا ; ولو أخطأوا أو أذنبوا لفارقوا القرآن وفارقهم.
وفي : عدم جواز مفارقتهم ; بتقدّم عليهم ، بجعل نفسه إماماً لهم ، أو تقصيراً عنهم وائتماماً بغيرهم ، كما لا يجوز التقدّم علىٰ القرآن بالافتاء بغير ما فيه أو التقصير عنه باتّباع أقوال مخالفيه.
وفي : عدم جواز تعليمهم وردّ أقوالهم ; ولو كانوا يجهلون شيئاً لوجب تعليمهم ولم ينه عن ردّ قولهم (1).
ص : 306
ثمّ قال : ودلّت هذه الأحاديث أيضاً علىٰ أنّ منهم مَن هذه صفته في كلّ عصر وزمان ؛ بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّهما لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض » ، وأنَّ اللطيف الخبير أخبره بذلك (1) ، وورود الحوض كناية عن انقضاء عمر الدنيا ؛ فلو خلا زمان من أحدهما لم يصدق أنّهما لم يفترقا حتّىٰ يردا عليه الحوض.
وقال : إذا عُلم ذلك ظهر أنّه : لا يمكن أن يراد بأهل البيت جميع بني هاشم ، بل هو من العامّ المخصوص بمَن ثبت اختصاصهم بالفضل والعلم والزهد والعفّة والنزاهة من أئمّة أهل البيت الأطهار ، وهم : الأئمّة الاثنا عشر وأُمّهم الزهراء البتول ; للإجماع علىٰ عدم عصمة مَن عداهم ..
والوجدان أيضاً علىٰ خلاف ذلك ; لأنّ مَن عداهم من بني هاشم تصدر منهم الذنوب ويجهلون كثيراً من الأحكام ، ولا يمتازون عن غيرهم من الخلق ، فلا يمكن أن يكونوا هم المجعولين شركاء القرآن في الأُمور المذكورة ، بل يتعيّن أن يكون بعضهم ، لا كلّهم ، ليس إلاّ مَن ذكرنا.
أمّا تفسير زيد بن أرقم لهم بمطلق بني هاشم (2) - إن صحّ ذلك عنه - فلا تجب متابعته عليه بعد قيام الدليل علىٰ بطلانه (3). انتهىٰ.
والمعنىٰ الّذي أشار إليه السيد الأمين رحمه الله هنا في آخر كلامه قد اعترف به جماعة من أعلام الجمهور ..
جاء في الصواعق المحرقة ، لابن حجر : قال بعضهم : يُحتمل أنّ
ص : 307
المراد بأهل البيت الّذين هم أمان : علماؤهم ؛ لأنّهم هم الّذين يُهتدىٰ بهم كالنجوم ، والّذين إذا فُقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون (1).
ومن الأحاديث النبوية الشريفة الدالّة علىٰ عصمة أهل البيت عليهم السلام أيضاً :
قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه ، مَن ركبها نجا ، ومَن تخلّف عنها غرق - أو هلك - » (2) ..
ففي كلامه صلى الله عليه وآله وسلم هنا بيان واضح بأنّ مَن اتّبع أهل البيت أصاب الحقّ ونجا من سخط الله وعذابه ; وذلك دليل عصمتهم ، وإلاّ لَما كان كلّ متّبع لهم ناجياً وكلّ مخالف لهم هالكاً.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن أحبّ أن يحيا حياتي ، ويموت ميتتي ، ويدخل الجنّة الّتي وعدني ربّي ، وهي جنّة الخلد ، فليتولّ عليّاً وذرّيّته من بعده ; فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدىً ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة » (3).
وأمّا ما جاء من الأحاديث بخصوص عصمة الإمام عليّ عليه السلام بالذات فنذكر منها :
قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصىٰ الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومَن عصىٰ عليّاً فقد عصاني » (4).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا عليّ ! مَن فارقني فقد فارق الله ، ومَن فارقك يا عليّ فارقني » (5).
ص : 308
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن أراد أن يحيا حياتي ، ويموت ميتتي ، ويسكن جنّة الخلد الّتي وعدني ربّي ، فليتولّ عليّ بن أبي طالب ؛ فإنّه لن يخرجكم من هدىٰ ولن يدخلكم في ضلالة » (1).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمّار بن ياسر : « يا عمّار ! إذا رأيت عليّاً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره ، فاسْلك مع عليّ ودع الناس ؛ فإنّه لن يدلّك علىٰ ردىً ، ولن يخرجك من هدىً » (2).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ، ولن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض يوم القيامة » (3).
وهذا الحديث دالّ علىٰ العصمة بكلّ وضوح ممّا لا يحتاج معه إلىٰ بيان.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ، لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض » (4).
وهذا الحديث كسابقه في الدلالة والوضوح ممّا لا يحتاج معه إلىٰ بيان أيضاً.
وبعد هذا الّذي أوردناه من الاستدلال علىٰ عصمة الإمام عليه السلام ، لعلّ قائل يقول : فما معنىٰ الأقوال الّتي جاءت في نهج البلاغة والّتي استدلّ بها
ص : 309
الدليمي علىٰ نفي العصمة عن الإمام عليه السلام ؟!
أمّا قوله عليه السلام : « لا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل ؛ فإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي » ..
فإنّ الكاتب قد عرض كلام الإمام عليه السلام هنا مبتوراً ; لأنّ في كلام الإمام عليه السلام استثناءً دالاًّ علىٰ العصمة لم يذكره الكاتب ، وإنّما اكتفىٰ بذكر المستثنىٰ منه وترك المستثنىٰ ! ولعلّ هذا من حرصه وأمانته في البحث ، كما هو دأب الدعاة والهداة الأُمناء علىٰ شاكلته !!
وإليك - عزيزي القارئ - كلام الإمام عليه السلام بتمامه من النهج مع بيان القرائن المحيطة به :
قال عليه السلام في خطبة خطبها بصِفّين ، ذكر فيها حقّ الوالي وحقّ الرعية ، ثمّ علّم مخاطبيه كيفيّة مخاطبته ومخالطته ، فقال :
« فلا تكلّموني بما تُكلَّم به الجبابرة ، ولا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي ، ولا التماس إعظام لنفسي ؛ فإنّه مَن استثقل الحقّ أن يقال له ، أو العدل أن يُعرض عليه ، كان العمل بهما أثقل عليه ..
فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل ; فإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي ، إلاّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي ، فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره » ..
قال الشيخ محمّد عبده : يقول : لا آمن من الخطأ في أفعالي ، إلاّ إذا
ص : 310
كان يسّر الله لنفسي فعلا هو أشدّ ملكاً منّي ، فقد كفاني الله ذلك الفعل ، فأكون علىٰ أمن من الخطأ فيه (1). انتهىٰ.
فهل كفىٰ الله عزّ وجلّ أمير المؤمنين عليه السلام من نفسه ما هو أملك به منه ، ويسّر له فعلاً هو أشدّ ملكاً منه ينتصر به علىٰ نفسه ويأمن الخطأ في فعله ، كما هو مراد الاستثناء من كلامه عليه السلام ، الّذي غضّ الدليمي الطرف عنه عمداً وتعميةً ؟!
ارجع إلىٰ ما ذكره الطبري بسنده إلىٰ سعيد بن قتادة ، الّذي قال عند تفسيره لآية التطهير : فهم أهل بيت طهّرهم الله من السوء ، وخصّهم برحمة منه.
وإلىٰ قول ابن عطية - في ما أورده النبهاني عنه في الشرف المؤبّد ، والمقريزي في فضل آل البيت - : والرجس اسم يقع علىٰ الإثم والعذاب ، وعلىٰ النجاسات والنقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت ... إلىٰ آخر الأقوال.
واعطف بنا - ثمّة - علىٰ نهج البلاغة نفسه ، لنرىٰ : هل كفىٰ الله تعالىٰ أمير المؤمنين عليه السلام أمر نفسه بما حباه من كمال العقل ، وعلوّ الهمّة ، وتمام الفطنة ، ممّا جعل نفسه صافية لا يشتبه عليها أمر الحقّ من الباطل ، وهو الأمر الّذي عنيناه في تعريفنا للعصمة سابقاً ؟!
قال عليه السلام : « وإنّي لعلى بيّنة من ربّي ، ومنهاج من نبيّ ، وإنّي لعلىٰ الطريق الواضح ألقطه لقطاً » ..
ص : 311
قال الشيخ محمّد عبده في شرحه : اللقط : أخذ الشيء من الأرض ، وإنّما سمّىٰ اتّباعه لمنهج الحقّ : لقطاً ; لأنّ الحقّ واحد والباطل ألوان مختلفة ، فهو يلتقط الحقّ من بين ضروب الباطل (1).
وقال عليه السلام في كلام له وقد جمع الناس وحضّهم علىٰ الجهاد فسكتوا ملياً : « ... لقد حملتكم علىٰ الطريق الواضح ، الّتي لا يهلك عليها إلاّ هالك (2) ، مَن استقام فإلىٰ الجنّة ، ومَن زلّ فإلى النار » (3).
أي : مَن استقام في الطريق الّذي حملهم عليه السلام عليه فإلىٰ الجنّة ، ومَن زلّ عن الطريق الّذي حملهم عليه فإلىٰ النار ، وهذا المعنىٰ دالّ علىٰ العصمة ، كدلالة الأحاديث النبوية السابقة الّتي تلوناها عليك.
وقال عليه السلام في كلام له لبعض أصحابه : « فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى ، أحملهم من الحقّ علىٰ محضه » (4).
وقال عليه السلام : « ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أنّي لم أردّ علىٰ الله ولا علىٰ رسوله ساعة قط » (5).
وقال عليه السلام في خطبته المسمّاة ب- : « القاصعة » ، الّتي ذكر فيها قربه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وملازمته إيّاه منذ الصغر : « ... وكان - أي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - يمضغ
ص : 312
الشيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل » (1).
وقال عليه السلام من كلام له ينبّه فيه علىٰ فضيلته ؛ لقبول قوله وأمره ونهيه : « فو الّذي لا إله إلاّ هو ! إنّي لعلىٰ جادّة الحقّ ، وإنّهم لعلىٰ مزلّة الباطل » (2).
وقال عليه السلام عندما بلغه خروج طلحة والزبير عليه مع السيّدة عائشة وإثارتهم الفتنة ضدّه : « إنّ معي لبصيرتي ، ما لَبستُ ولا لُبس علَيَّ » (3).
فهذه الكلمات الواردة عنه عليه السلام دالّة بكلّ وضوح علىٰ أنّه مع الحقّ والحقّ معه ، كما أشار إلىٰ ذلك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في كلماته السابقة الّتي تلوناها عليك ، وهذا هو معنىٰ العصمة الّتي عنيناها.
وقال عليه السلام : « عزب رأي امرئ تخلّف عنّي (4) ؛ ما شككت في الحقّ مذ أُريتُه ».
وقال عليه السلام في كتاب بعثه إلىٰ أهل مصر مع مالك الأشتر : « إنّي والله لو لقيتهم واحداً وهم طلاّع الأرض كلّها ما باليت ، ولا استوحشت ، وإنّي من ضلالهم الّذي هم فيه ، والهدىٰ الّذي أنا عليه ، لعلىٰ بصيرة من نفسي ، ويقين من ربّي » (5).
ص : 313
وقال عليه السلام من خطبة له يذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته : « فأدّىٰ أميناً ، ومضىٰ رشيداً ، وخلّف فينا راية الحقّ ، مَن تقدّمها مرق ، ومَن تخلّف عنها زهق ، ومضن لزمها لحق ، دليلها مكيث الكلام ، بطيء القيام ، سريع إذا قام » (1).
وقال عليه السلام : « انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم ، واتّبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في ردىً ، فإن لبدوا فالْبُدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، لا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا » (2) ...
إلىٰ غيرها من الأقوال الواردة في نهج البلاغة ، والمنتشرة هنا وهناك ، الدالّة علىٰ عصمته عليه السلام وعصمة أهل بيته الكرام عليهم السلام.
وأمّا قوله عليه السلام الّذي أورده الدليمي : « ما أهمّني ذنب أُمهلت بعده حتّىٰ أُصلّي ركعتين » (3).
ص : 314
فأقول :
إنّ وجوب التوبة عامّ في الأشخاص والأحوال ، فلا ينفك منه أحد البتة ، كما قال تعالىٰ : ( وَتُوبُواْ إلىٰ اللهِ جَمِيعًا ) ، فعمّم الخطاب ، وكلّ إنسان لا يخلو من معصية ، إلاّ أنّ الأنبياء والأوصياء ذنوبهم ليست كذنوبنا (1) ، وإنّما هي ترك دوام الذكر والاشتغال بالمباحات ، ولذا ورد أنّ : حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ..
وقال الإمام الصادق عليه السلام : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوب إلىٰ الله ويستغفره في كلّ يوم وليلة مائة مرّة - وفي حديث : سبعين مرّة - من غير ذنب » (2) ، أي : كذنوبنا.
فإنّ ذنب كلّ واحد إنّما هو بحسب قدره ومنزلته عند الله ، وهذا باب شريف ينفتح منه معنىٰ اعتراف الأنبياء والأئمّة بذنوبهم وبكائهم وتضرّعهم ، فإنّ قلوبهم لنهاية صفائها ونورانيتها يؤثّر فيها الاشتغال بالمباحات ، والغفلة عن الذكر ، والفكر بالتوجّه إلىٰ هذا العالم ، فيعدّون ذلك معصية بالنسبة إليهم ، يستغفرون الله منها (3).
قال ابن أبي الحديد في شرحه للكلمات السابقة الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام : هذا فتح لباب التوبة ، وتطريق إلىٰ طريقها ، وتعليم للنهضة
ص : 315
إليها والاهتمام بها (1).
قال الدليمي :
« ومن خطبة له عليه السلام : « اسألوني قبل أن تفقدوني ». ج 1 ص 182.
- قال : - فلو كان يعتقد أنّ ثمّة معصوماً بعده لَما خاف أن يفقدوه قبل أن يسألوه ، فإنّهم إن فقدوه سألوا « الإمام المعصوم » الّذي بعده ، فلا حاجة إلىٰ هذا الخوف » (2).
قال الإمام عليه السلام ذلك لأنّه كان يعلم - كما هو الظاهر من إخباره بالحوادث والملاحم الّتي ستحدث بعده - أنّه لن يُفسح المجال للأئمّة المعصومين عليهم السلام بعده كما فسح له أيّام خلافته وحكمه ، وقد دلّ علىٰ ذلك كلامه عليه السلام نفسه عند ذكره لهذه العبارة بالذات ، إلاّ أنّ الدليمي اقتطع النصّ كعادته !
قال عليه السلام : « أيّها الناس ! سلوني قبل أن تفقدوني ; فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض ، قبل أن تشغَر برجلها فتنةٌ تطأ في خطامها ، وتذهبُ بأحلام قومها » (3).
وقال عليه السلام في خطبة أُخرىٰ : « أيّها الناس ! فإنّي فقأتُ عين الفتنةِ ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها ، واشتدّ كَلَبُها.
فاسألوني قبل أن تفقدوني ؛ فو الّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء
ص : 316
فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلُّ مائةً إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ، ومَن يُقتَل من أهلها قَتلا ، ومَن يموت منهم مَوتاً.
ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأُمور ، وحوازب الخطوب ، لأطرق كثيرٌ من السائلين ، وفشل كثيرٌ من المسؤولين (1) ، وذلك إذا قلصت حربكم وشمّرت عن ساق ، وضاقت الدنيا عليكم ضيقاً ، تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم ، حتّىٰ يفتح الله لبقيّة الأبرار منكم » (2).
ص : 317
قال الدليمي :
« ومن وصيّة لابنه الحسن رضي الله عنه كلام لا يمكن أن يوجه إلىٰ معصوم ، مثل قوله : ( ودع القول في ما لا تعرف ، والخطاب في ما لم تُكلّف ، وأمسك عن الطريق إذا خفت ضلالته ؛ فإنّ الكفّ عند حيرة الضلال خيرٌ من ركوب الأهوال ).
- قال : - وهذا يتناقض مع الاعتقاد بأنّ « الإمام » يعلم ما كان وما هو كائن ، وأنّ علمه إلهام ووحي منذ الولادة لا بتعلّم واكتساب.
وإذا قيل : إنّ هذا موجّه إلىٰ الآخرين.
قلنا : هذا لا يصحّ ؛ لأنّ هذا الكلام وصيّة بينه وبين ولده ، وقد قال فيها : ( ثمّ أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الّذي التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك علىٰ ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إليَّ من إسلامك إلىٰ أمر لا آمن عليك به الهلكة ... ) ( فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله علىٰ جهالتك به ؛ فإنّك أوّل ما خُلقت جاهلا ثمّ
ص : 318
علمت ، وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحيّر فيه رأيك ، ويضلُّ فيه بصرك ، ثمّ تبصره بعد ذلك ... ) ( ولا تظلم كما لا تحبّ أن تُظلم ... ). انظر تمام الوصيّة في الجزء 3 ص 37 - 57 » (1).
إنّ كلامه عليه السلام هنا في وصيّته لابنه الحسن عليه السلام يجري مجرىٰ قوله تعالىٰ للنبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم : ( وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَبِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (2) ، وأمثالها من الآيات الكريمة ، مع علم الله تعالىٰ بأنّ نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لن يشرك ، وأنّه لن يحبط عمله ، وإلاّ لمْ يُبعث نبيّاً (3).
وقد أجمع المسلمون علىٰ عصمته صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة اتّفاقاً قولاً واحداً ، بل علىٰ عصمة الأنبياء جميعاً بعد نبوّتهم (4).
وإنّما أراد سبحانه بذلك - أي في الآية المتقدّمة - بيان شدّة قبح الشرك وسوء عاقبته ، ولا يوجد شيء يمنع أن يذكر مثل هذا المعنىٰ أيضاً
ص : 319
في وصيّة بين معصومَين ، خاصّة إذا كانت الوصيّة معلنة ; فإنّ من وصايا الأنبياء والأئمّة عليهم السلام ما يكون معلناً ، كهذه الوصيّة ، الّتي يكون الهدف منها هو إيصال النصح والحكم إلىٰ أتباعهم وأشياعهم ، فتكون أشبه بالعهد الّذي يكتبه المعصوم إلىٰ أُمّته عن طريق معصوم آخر علىٰ الطريقة المعروفة في الخطاب : إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة.
كما إنّنا نعلم - حسب الروايات الواردة - أنّ هناك عهوداً ووصايا خاصّة بين المعصومين عليهم السلام تتعلّق بشؤون الإمامة ومستلزمات قيادة الأُمّة ، لم يطّلع عليها أحد سواهم ، وإليك ثلاث روايات منها فقط ممّا جاء في كتب أهل السُنّة دون الشيعة :
أخرج الطبراني وابن أبي عاصم وابن عساكر والهيثمي وغيرهم : عن ابن عبّاس ، قال : كنّا نتحدّث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إلىٰ عليّ سبعين عهداً لم يعهدها إلىٰ غيره (1).
وعن ابن عبّاس ، قال : إنّ عليّاً خطب الناس فقال : يا أيّها الناس ! ما هذه المقالة السيّئة الّتي تبلغني عنكم ؟
والله لتقتلنّ طلحة والزبير ، ولتفتحنّ البصرة ، ولتأتينّكم مادّة من الكوفة ، ستّة آلاف وخمسمائة وستين أو خمسة آلاف وستمائة وخمسين.
قال ابن عبّاس : فقلت : الحرب خدعة !
قال : فخرجت فأقبلت أسأل الناس : كم أنتم ؟ فقالوا كما قال ، فقلت : هذه ممّا أسرّه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ أنّه علّمه ألف ألف كلمةٍ ، كلّ
ص : 320
كلمةٍ تفتح ألف ألف كلمة (1).
وصحّ عن أُمّ سلمة أنّها قالت : والّذي أحلف به ! إن كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ عدناه غداة وهو يقول : جاء عليّ ؟ جاء عليّ ؟ مراراً ، فقالت فاطمة : كأنّك بعثته في حاجة ؟
قالت : فجاء بعد ، فظنّنت أنّ له إليه حاجة ، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب.
قالت أُمّ سلمة : كنت من أدناهم إلىٰ الباب ، فأكبَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ قُبض صلى الله عليه وآله وسلم من يومه ذلك ، فكان عليّ أقرب الناس به عهداً (2).
ومن المعلوم أنّ عليّاً هو وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحامل سرّه ; قال صلى الله عليه وآله وسلم : « لكلّ نبيّ وصيّ ووارث ، وإنّ عليّاً وصيّي ووارثي » (3).
قال الدليمي :
« ومن كتاب له عليه السلام إلىٰ أهل الكوفة : ( أمّا بعد ، فإنّي خرجت من حيّي هذا إمّا ظالماً وإمّا مظلوماً ، وإمّا باغياً وإمّا مبغيّاً عليه ، وإنّي أُذّكر الله مَن بلغه كتابي هذا لَما نفر إليَّ ؛ فإن كنت مسيئاً استعتبني - أي طلب منّي أن
ص : 321
أُرضيه - بالخروج عن إساءتي. ج 3 ص 114.
- قال : - هذا كلام موجّه إلىٰ أتباعه وأنصاره ، وهو يخاطبهم بصيغة مَن لا يعتقد في نفسه ولا يعتقد فيه أصحابه العصمة ، ولو كانت عصمته أمراً معلوماً لكان أعرف الناس بها أصحابه وأتباعه وأنصاره ، ولكان الخطاب موجّهاً إليهم بصيغة الجزم والقطع بأنّه مظلوم مبغي عليه » (1).
إنّ كلام سيد البلغاء بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هنا يجري مجرىٰ الطريقة المعروفة في علم البلاغة ب- : الطريقة التشكيكية للسامع ، وإن كان المتكلّم غير شاك (2) ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) (3).
والمتكلّم البليغ يستعمل هذه الطريقة غالباً في الخطاب إذا كانت الأُمور قد اشتبهت علىٰ السامعين ، فيدعوهم - وهو غير شاك بحقّه - بهذه الطريقة إلىٰ التفكّر والتدبّر الجادَّين بأن يجهدوا أنفسهم في نصيحته وإرشاده إلىٰ الحقّ ، كي يجرّهم ، عند الانصياع إلىٰ صوت العقل ، من موقفهم الحيادي أو المعادي للحقّ إلىٰ نصرة الحقّ وأهله ، لأنّ الحقّ واحد لا يتعدّد.
وكلامه عليه السلام الوارد هنا ، الّذي كتبه إلىٰ أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلىٰ البصرة ، إنّما كتبه إلىٰ قوم لم يروه بعد ، ولم يسمعوه ، ولم
ص : 322
يعاشروه ؛ كي يعرفوا مزاياه وخصائصه الّتي حباه الله بها (1) ، وإنّما كانت تصلهم أخباره عن طريق المسافرين أو الرواة ، وهي - أي الأخبار - متفاوتة بين الصدق والكذب ، كأيّ خبر يُنقل ، حسب وثاقة الرواة وعدمها ، وحسب نقل المحبّين له والمبغضين ، وهم موجودون في زمانه ، كما أنّهم موجودون في كلّ زمان.
بل إنّ نسبة المبغضين له في العرب آنذاك أكبر من نسبة المحبّين له ؛ لموقع سيفه في القبائل العربية الّتي حاربت الإسلام في بدء الدعوة ، فما من قبيلة من قبائل العرب إلاّ كان قد وترها بواحد من أفرادها ، أو بعدّة أفراد (2).
كما أنّ خروج عائشة ( أُمّ المؤمنين ) مع طلحة والزبير لحربه عليه السلام كان له الأثر الكبير في اشتداد الفتنة علىٰ الناس ، واشتباه معالم الحقّ عليهم ، فلم يعرفوا أي المعسكرين علىٰ حقّ ، هل هو معكسر أمير المؤمنين وابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أم معسكر أُمّ المؤمنين وحواريّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما يسمّونهم ؟
الأمر الّذي دعا الإمام عليه السلام أن يكلّم الناس بهذه الطريقة التشكيكية ،
ص : 323
الهادفة إلىٰ فتح الحوار والتفكير الجادَّين من أجل الوصول إلىٰ الحقيقة الّتي اشتبهت معالمها عليهم ؛ وذلك لخطر منزلة المتخاصِمَين في القضية !
قال ابن أبي الحديد في شرحه لكلام أمير المؤمنين عليه السلام المتقدّم : ما أحسن هذا التقسيم وأبلغه في عطف القلوب عليه واستمالة النفوس إليه ؛ قال : لا يخلو حالي في خروجي من أحد أمرين : إمّا أن أكون ظالماً ، أو مظلوماً ، وبدأ بالظلم هضماً لنفسه ، ولئلاّ يقول عدوّه بدأ بدعوىٰ كونه مظلوماً ، فأعطىٰ عدوّه من نفسه ما أراد ..
قال : فلينفر المسلمون إليَّ ؛ فإن وجدوني مظلوماً أعانوني ، وإن وجدوني ظالماً ينهوني عن ظلمي لأعتب وأنيب إلىٰ الحقّ. وهذا كلام حسن ، ومراده عليه السلام يحصل علىٰ كلا الوجهين ؛ لأنّه إنّما أراد أن يستنفرهم ، وهذان الوجهان يقتضيان نفيرهم إليه علىٰ كلّ حال (1).
أقول :
بعد هذا الّذي بيّناه وذكرناه من أدلّة حول عصمته عليه السلام من الكتاب والسُنّة ، ومن نهج البلاغة ، وبيان حال خطاباته عليه السلام واتّجاهاتها ; لا يترتّب الأثر الّذي رتّبه الدليمي علىٰ تلك الخطابات بقوله : فكونه غير معصوم أمر مفروغ منه !! بل العكس هو الصحيح ، أي : كونه عليه السلام معصوماً هو الأمر المفروغ منه ..
وهذه الأدلّة الّتي تلوناها عليك ، بين يديك ، تنبئك بعصمته عليه السلام بما لا لبس فيه.
ص : 324
وإن لم يكتفِ الدليمي بذلك ، أقول :
إنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان قد عاش ثلاثةً وستّين عاماً ، قضىٰ نصفها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والنصف الآخر قضاه مع المسلمين وبين ظهرانيهم ; فليأتنا بكذبة له في قول أو معصية في فعل ، من سندٍ صحيح يُعتمد عليه !!
ولا أظنّه يجد ، ولن يجد إلىٰ ذلك سبيلاً ..
قال أحمد بن حنبل عندما سئل عن عليّ ومعاوية : أعلم أنّ عليّاً كان كثير الأعداء ، ففتّش أعداؤه عن شيء يعيبونه فلم يجدوه ، فجاؤوا إلىٰ رجل قد حاربه وقاتله فاطروه كيداً منهم لله (1).
قال تعالىٰ : ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) (2).
وقال عزّ من قائل : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (3).
صدق الله العليّ العظيم.
* * *
ص : 325
ص : 326
ص : 327
ص : 328
قال الدليمي :
« يقول سيّدنا عليّ رضي الله عنه : ( اعلم إنّ الّذي بيده خزائن السمٰوات والأرض قد أذن لك في الدعاء ، وتكلّف لك بالإجابة وأمرك أن تسأله ليعطيك وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينك وبينه مَن يحجبه عنك ، ولم يلجئك إلىٰ مَن يشفع لك إليه ). ج 3 ص 47.
- قال : - وأمّا الوسائط والشفعاء الّذين جعلهم الإنسان - بجهله - بينه وبين ربّه فقد نفاها الله تعالىٰ في مواضع لا تحصىٰ من القرآن ، كما في قوله : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ - إلىٰ قوله : - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (1).
وقوله : ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ*إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) (2).
وقوله : ( أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ - إلىٰ قوله : - إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) (3).
ص : 329
وقال تعالىٰ : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) (1).
فلم يلجئك إلىٰ مَن يشفع لك إليه ، فادعوه فإنّه قريب مجيب لا يحتاج إلىٰ وسيط » (2).
قد لا توجد حاجة للتعليق علىٰ كلام الكاتب هنا ; لأنّ الشفاعة الاقتراحية من الناس مرفوضة كتاباً وسُنّةً ، وقد ذكرتُ في كتاب حقيقة الوهابية في الجزء الأوّل منه ، في الفصل الخاصّ بالشفاعة ، جميع ما يتعلّق بهذا الموضوع ..
وقد قسّمت هناك - استناداً إلىٰ القرآن الكريم - الشفاعة إلىٰ قسمين : قسم عادل وصحيح ، وآخر ظالم وغير صحيح ، وقلت - بعد ذكر الآيات القرآنية المتعلّقة بموضوع الشفاعة - : المستفاد من مجموعها أنّ الشفاعة ثابتة لله تعالىٰ أصالة وهو المالك لها ، وتكون لغيره بإذنه ورضاه ، وهي لا تكون يوم القيامة إلاّ لمَن ارتضاه الله تعالىٰ وأذن له بالشفاعة.
وهذا هو الّذي تقتضيه القواعد العقلية ; لانحصار مالكية كلّ شيء فيه تعالىٰ ، وجميع تلك الآيات المباركة تدلّ علىٰ عدم ثبوتها لغيره عزّ وجلّ اقتراحاً من الناس ومن دون مشيئة الله وارتضائه ؛ فتحمل الآيات النافية للشفاعة علىٰ الشفاعة الاقتراحية للناس.
فإنّ للشفاعة أقساماً ، منها : ظالم وغير صحيح ، ولا وجود لهذا القسم
ص : 330
في المجال الإلٰهي ، ومنها : عادل وسليم ، له وجود في ذلك المجال.
فالشفاعة المنحرفة وغير الصحيحة هي الّتي تكسر القانون وتتناقض معه ، أمّا الشفاعة الصحيحة فهي الّتي تحفظ القانون وتؤيّده ، فالشفاعة المنحرفة تحاول تعويق القانون عن طريق الوساطة ، وهي تحفظ المجرم من تطبيق القانون عليه بالتوسّل بالوساطة علىٰ الرغم من القانون ومن واضعه ؛ لهذا فإنّ هدف القانون إذا طُبِّقت فيه هذه الشفاعة يمسي لغواً.
وهذه الشفاعة في الدنيا ظلمٌ ، وفي الآخرة مستحيلة.
والاعتراضات أو الإشكالات الّتي يوردها الوهّابيّون وأتباعهم تتّجه إلىٰ هذا اللون من الشفاعة ، وهي شفاعة مرفوضة من القرآن الكريم.
أمّا الشفاعة المقبولة والصحيحة فهي شيء آخر ، ليس فيها ترجيح ولا استثناء ، ولا نقض للقوانين ، ولا تستلزم قهر إرادة واضع القانون ، وهذا اللون من الشفاعة أيّده القرآن الكريم ونصّ عليه (1).
وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله - كما في صحيح البخاري وغيره - : « أُعطيت خمساً لم يعطَهنّ أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلَت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيّما رجل في أُمّتي أدركته الصلاة فليصلّ ، وأُحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي ، وأُعطيت الشفاعة ، وكان النبيّ يُبعث إلىٰ قومه خاصّة وبعثت إلىٰ الناس عامّة » (2).
روىٰ الديلمي في فردوسه ، والسيوطي في الجامع الصغير : عن أبي هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « الشفعاء خمسة : القرآن ، والرحم ،
ص : 331
والأمانة ، ونبيّكم ، وأهل بيته عليهم السلام » (1).
وقد ورد في نهج البلاغة أكثر من مورد فيه : أنّ القرآن شافع ومشفع.
قال الشيخ عبد الله الهرري الشافعي ، مفتي الصومال ، في كتابه المقالات السنية في كشف ضلالات أحمد بن تيمية ، في المقالة الخامسة : منكرو التوسل أتباع ابن تيمية يقولون : لماذا تجعلون واسطة بقولكم : اللّهمّ إنّي أسألك بعبدك فلان ؟ الله لا يحتاج إلىٰ واسطة.
فيقال لهم : الواسطة قد تأتي بمعنىٰ : المعين والمساعد ، وهو محال بالنسبة إلىٰ الله تعالىٰ ، أمّا الواسطة بمعنىٰ : السبب ، فالشرع والعقل لا ينفيانه ; فالله تعالىٰ هو خالق الأسباب ومسبّباتها ، وجعل الأدوية أسباباً للشفاء ، وهو خالق الأدوية وخالق الشفاء بها ، كذلك جعل الله تعالىٰ التوسّل بالأنبياء والأولياء سبباً لنفع المتوسّلين.
ولولا أنّ التوسّل سبب من أسباب الانتفاع ما علّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأعمىٰ التوسّل به (2).
ص : 332
ثمّ إنّ الله تعالىٰ هو خالق التوسّل ، وخالق النفع الّذي يحصل به بإذن الله ، فالتوسّل بالأنبياء والأولياء من باب الأخذ بالأسباب.
ولأنّ الأسباب إمّا ضرورية ، كالأكل والشرب ، وإمّا غير ضرورية ، كالتوسّل ، والمؤمن الّذي يتوسّل بالأنبياء والأولياء لا يعتقد أنّ كونهم وسطاء بينه وبين الله ، بمعنىٰ أنّ الله يستعين بهم في إيصال النفع للمتوسّل ، بل يراهم أسباباً جعلها لحصول النفع بإذنه ...
فقول هؤلاء المنكرون : لِمَ تجعلون وسائط بينكم وبين الله ؟ لِمَ لا تطلبون حاجتكم من الله ؟ كلام لا معنىٰ له ; لأنّ الشرع رخّص للمؤمن أن يطلب من الله حاجته من دون توسّل ، وبين أن يطلب حاجته مع التوسّل.
فالّذي يقول : اللّهمّ إنّي أسألك بنبيّك ، أو بجاه نبيّك ، أو نحو ذلك ، فقد سأل الله ، كما أنّ الّذي يقول : اللّهمّ إنّي أسألك كذا وكذا ، قد سأل الله ، فكلا الأمرين سؤال من العبد إلىٰ ربّه ، وكلاهما داخل في حديث : « إذا
ص : 333
سألت فاسأل الله » (1).
وللإحاطة بموضوعي الشفاعة والتوسّل ، بل وبما يورده الوهّابيّون وأتباعهم من إشكالات في قضايا التوحيد ، ومعنى العبادة (2) ، وزيارة القبور وبنائها ، وغيرها ، أنصح الدليمي - وغيره - بالعودة إلىٰ كتابنا حقيقة الوهّابية بجزأيه الأوّل والثاني ؛ فإنّ فيه التفصيل لكلّ دليل إن شاء الله تعالى.
وأمّا قوله عليه السلام الوارد في وصيّته لابنه الحسن عليه السلام : « ولم يلجئك إلىٰ من يشفع لك إليه » (3) ، فهو لا يدلّ علىٰ نفي الشفاعة أو حرمتها ، كيف ؟! وقد ثبتت بالأدلّة القاطعة من الكتاب والسُنّة !!
وإنّما كان عليه السلام بصدد بيان أنّ الله عزّ وجلّ لم يجبر الإنسان علىٰ فعل المعاصي الّتي تضطرّه إلىٰ طلب شفاعة الشافعين ؛ لأنّ اللجوء إلىٰ طلب الشفاعة لا يكون إلاّ بعد اجتراء المعاصي الّتي تحصل بفعل الإنسان واختياره ، لِما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (4).
ص : 334
وببيان آخر لأحد شارحي النهج : إنّه لم يلجئه إلىٰ مَن يشفع إليه ; لأنّ الشفيع إنّما يضطرّ إليه عند تعذّر المطلوب من جهة المرغوب إليه ، إمّا لبخله أو جهله باستحقاق الطالب ، والباري تعالىٰ لا بخل عنده ولا منع من جهته ، وإنّما يتوقّف فيضه علىٰ استعداد الطالب له (1).
وعلىٰ أية حال ، فقد بيّنّا سابقاً أنّ طلب دعاء الشفيع المأذون بالشفاعة من قبل الله عزّ وجلّ ، كالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ، أو التوسّل به أو بهم إلىٰ الله تعالىٰ ، هو في الحقيقة لجوء إلىٰ الله تعالىٰ لا لجوء إلىٰ الشفيع ؛ لأنّ الشفاعة المأذون بها هي من جملة الأسباب الّتي شرّعها الله لعباده من أجل نيل رحمته سبحانه.
أمّا عن اعتراض الدليمي علىٰ التوسّط بطلب الدعاء من الآخرين ، وقوله : « فادعوه ؛ فإنّه قريب مجيب لا يحتاج إلىٰ وسيط ».
فأقول :
ثبت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال للمسلمين : « اسألوا الله لي الوسيلة » ، وهي أعلىٰ درجة في الجنّة ، فهل تراه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم أنّ الله عزّ وجلّ قريب مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ولا يحتاج إلىٰ وسيط فطلب سؤال المسلمين له ، وعلِم بذلك الدليمي دونه ؟!!
نعوذ بالله من زلل الأقلام وأيف الأفهام ، ونسأله العافية ، وتمام العافية ، والشكر علىٰ العافية ، بحقّ محمّد وآله الكرام.
* * *
ص : 335
ص : 336
ص : 337
ص : 338
قال الدليمي :
« يقول تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (1).
- قال : - فأفرد تعالىٰ لنفسه طاعة ولرسوله صلى الله عليه وسلم طاعة ولم يفرد لأُولي الأمر طاعة مستقلّة بهم ، إنّما طاعتهم داخلة تحت طاعة الله وطاعة رسوله ، وأرشد عند النزاع أن نردّ الأمر إلىٰ الله والرسول ولم يقل : ( أُولي الأمر ) ، فلم يجعل لأُولي الأمر شيء عند النزاع ، فليس هناك أحد يُردّ إليه الأمر عند النزاع غير الله والرسول.
وإليك ما ورد عن سيدنا عليّ رضي الله عنه في نهج البلاغة من تفسير هذه الآية طبّقه علىٰ نفسه لمّا نازعه القوم فردّهم إلىٰ كتاب الله ولم يردّهم إلىٰ نفسه : ( ولمّا دعانا القوم إلىٰ أن يحكم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله ، وقد قال الله سبحانه : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) ؛ فردّه إلىٰ الله أن نحكم بكتابه ، وردّه إلىٰ الرسول أن نأخذ بسُنّته ). ج 2 ص 5.
ص : 339
وهكذا فعل سيّدنا عليّ عند النزاع ، ولو كان معصوماً لَما قبل التحكيم وجوّز لهم أن ينازعوه وإنّما يقيم لهم الدلائل علىٰ عصمته وبعدها ينتهي كلّ شيء.
ويقول في موضع آخر : ( واردد إلىٰ الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ، ويشتبه عليك من الأُمور ؛ فقد قال الله تعالىٰ لقوم أحبّ إرشادهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) ؛ فالردّ إلىٰ الله الأخذ بمحكم كتابه ، والردّ إلىٰ الرسول الأخذ بسُنّته الجامعة غير المفرّقة ). ج 3 ص 93 - 94 » (1).
اشتبه علىٰ الكاتب هنا معرف-ة مهمّة ولاة الأمر ، وحسب أنّ ولاة الأمر لا دور لهم عند حدوث التنازع بين المؤمنين ، وأنّ الرجوع يكون للكتاب والسُنّة فقط ، حسب ما فهمه من الآية « 59 » من سورة النساء ، وغاب عنه أنّ حذف كلمة « أُولي الأمر » في عجز الآية كان اعتماداً علىٰ قرينة سابقة.
والحذف جائز ، بل يجب - كما هو معلوم في علم البلاغة - إذا دلَّ علىٰ المعنىٰ المراد دليل من قرينة لفظية أو حالية ، سابقة أو مقارنة.
وقد سبق في صدر الآية أن ساوىٰ بينهم وبين الله والرسول في لزوم الطاعة ، فعُلم أنّ الردّ يكون إليهم كما يكون لله والرسول ، ويؤيّد هذا المعنىٰ ما ورد في الآية الثانية : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ
ص : 340
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (1).
ومهمة ولاة الأمر في الأساس هي المحافظة علىٰ تطبيق الشريعة الإسلامية بطرفيها : الكتاب الكريم ، والسُنّة الشريفة المبيّنة له ، وإيقاف المسلمين علىٰ أحكامهما ، وتوضيح ما استشكل علىٰ المسلمين فهمه من أُمور دينهم ، سواء ما كان منه في أُمور العقائد ، أو في العبادات والمعاملات وغيرها.
وقد ورد عن أمير المومنين عليه السلام قوله في نهج البلاغة : « السلطان وزعة الله في أرضه » (2) ، وهذه المهمّة العظيمة لولاة الأمر لا يستطيع القيام بها علىٰ الوجه الصحيح إلاّ مَن كان معصوماً ؛ لذا استدلّ الفخر الرازي علىٰ عصمة أُولي الأمر في الآية « 59 » من سورة النساء ; لمحلّ الجزم بطاعتهم ، في ما نقلناه عنه سابقاً (3).
ص : 341
وأمّا كون أنّ الله عزّ وجلّ لم يفرد لأُولي الأمر طاعة مستقلّة ، وإنّما طاعتهم داخلة تحت طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما قال الدليمي ، فهذا الدليل عليه لا له ؛ لأنّ الآية جعلت إطاعة أُولي الأمر كإطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم تفصل بينهما ، لبيان حالة الاتّحاد والمجانسة بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأُولي الأمر ، وهو الأمر الّذي أشار إليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من مورد ومورد من أحاديثه عند ذكره لولاة الأمر من أهل بيته عليهم السلام (1).
قال صلى الله عليه وآله وسلم : « من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فليوالي عليّاً من بعدي ، وليوالِ وليّه ، وليقتدِ بأهل بيتي من بعدي ؛ فإنّهم عترتي ، خُلقوا من طينتي ، ورُزقوا فهمي وعلمي » (2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « عليّ منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي » (3).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصىٰ الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومَن عصىٰ عليّاً فقد عصاني » (4).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « اللّهمّ مَن آمن بي وصدّقني ، فليتولّ عليّ بن أبي طالب ؛ فإنّ ولايته ولايتي ، وولايتي ولاية الله عزّ وجلّ » (5).
ص : 342
وما قلناه سابقاً في أوّل الكتاب عند حديثنا عن العودة إلىٰ القرآن الكريم - بأنّ العودة الصحيحة إنّما تكون بالعودة إلىٰ مفسّريه وتراجمته العارفين بعلومه ، والّذين سمّاهم الله عزّ وجلّ في كتابه ب- : ( أَهْلَ الذِّكْرِ ) و ( الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، وجعلهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عدلاً للكتاب ، وأخبر أنّ التمسّك بهم مع الكتاب عصمة من الضلالة أبد الآبدين ، وجعل مثلهم في أُمّته كسفينة نوح الّتي مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق وهوىٰ - يجري هنا في مهمّة ولاة الأمر أيضاً.
وسنطبّق هذا المعنىٰ - الّذي أشرنا إليه - من خلال الكتاب نفسه ، الّذي كان يقرأه الكاتب ، وهو كتاب نهج البلاغة ، بل ومن خلال النصّ الّذي جاء به أيضاً ..
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في تفسيره لكيفيّة الردّ إلىٰ الله والرسول الوارد في الآية الكريمة - « 59 » من سورة النساء - : « الردّ إلىٰ الله أن نأخذ بمحكم كتابه (1) ، والردّ إلىٰ الرسول الأخذ بسُنّته الجامعة غير المفرّقة » (2).
فإنّ الإنصات إلىٰ قول أمير المؤمنين عليه السلام - كونه وليّ الأمر الواجب الطاعة في زمانه - في تفسيره لكيفيّة الردّ إلىٰ الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند التنازع كان يحلّ أي مشكلة يمكن أن تحصل بين المسلمين في زمانه ،
ص : 343
ولكن ما بالك إذا كان رأي الطرف المقابل له من المسلمين - إذا قلنا بعدم لزوم العودة إلىٰ أُولي الأمر والأخذ بقولهم - أن يرجع إلىٰ متشابه القرآن دون محكمه ، كما فعل الخوارج ، أو يرجع إلىٰ السُنّة المفرّقة دون الجامعة ، كما فعل معاوية ؟!
فهل ترىٰ أنّ مثل هذا الاختلاف يحلّ المشكلة ؟!
وهل يعدّ فعلهما ردّاً إلىٰ الله ورسوله مع أنّ كليهما حسب الظاهر ردّ إلىٰ الله والرسول ؟!!
ومن ذلك ، أي ضرورة الأخذ بقول ولاة الأمر الشرعيّين وإطاعتهم ، نعلم أهمّية دور أُولي الأمر في إيقاف المسلمين علىٰ البيان الصحيح للكتاب والسُنّة ، اللّذين يُعدّان المرجعين الوحيدين للمسلمين في حلّ النزاعات الدائرة بينهم ؛ فتدبّر !
بل علمنا - أيضاً - أنّ معرفة ولاة الأمر أمر واجب علىٰ كلّ مسلم ومسلمة ، وفي كلّ زمان ومكان ، وأنّ لهذا الأمر دخل في حسن عاقبة المرء من عدمها ..
جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » (1).
ص : 344
وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله : « إنّما الأئمّة قوّام الله علىٰ خلقه ، وعرفاؤه علىٰ عباده ، ولا يدخل الجنّة إلاّ مَن عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلاّ مَن أنكرهم وأنكروه » (1).
وقد بيّن الإمام أمير المؤمنين - صلوات الله وسلامه عليه - في كلام له في النهج هؤلاء الأئمّة الّذين « لا يدخل الجنّة إلاّ مَن عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلاّ مَن أنكرهم وأنكروه » ، إذ قال : « إنّ الأئمّة من قريش ، غُرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح علىٰ سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم » (2).
وقد أخرج ابن حجر في الصواعق المحرقة عن كتاب الشفاء للقاضي عياض ، بسنده عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « معرفة آل محمّد براءة من النار ، وحبّ آل محمّد جواز علىٰ الصراط ، والولاية لآل محمّد أمان من العذاب » (3).
وعن الطبراني ، والهيثمي ، وابن حجر ، والسيوطي : أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
ص : 345
قال : « إلزموا مودّتنا أهل البيت ؛ فإنّه مَن لقي الله وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا ، والّذي نفسي بيده ! لا ينفع عبداً عمله إلاّ بمعرفة حقّنا » (1).
أنّه ليس المراد من معرفتهم هنا مجرّد معرفة أسمائهم وأشخاصهم ، وكونهم أرحام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فإنّ أبا جهل وأبا لهب ليعرفان ذلك كلّه ، وإنّما المراد : معرفة أنّهم أُولو الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، علىٰ حدّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن مات ولم يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهلية ».
والمراد من حبّهم وولايتهم المذكورَين : الحبّ والولاية اللازمان « عند أهل الحقّ » لأئمّة الصدق من المتابعة والمطاوعة لهم في أُصول الدين وفروعه ، وهذا في غاية الوضوح (2).
ص : 346
ص : 347
ص : 348
أمّا عن قول الدليمي :
« ولو كان - أي الإمام عليّ عليه السلام - معصوماً لَما قبل التحكيم وجوّز لهم أن ينازعوه ، وإنّما يقيم لهم الدلائل علىٰ عصمته وبعدها ينتهي كلّ شيء ».
مَن قال إنّ إقامة الدلائل للخصوم ينهي كلّ شيء ؟!
فهل هناك أعظم وأبين من دلائل الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم ؟!
ومع ذلك تجد أنّ تلك الأقوام قد خرجت علىٰ أنبيائها ولم تؤمن بهم ، بل رمتهم بالسحر ، ونَعَتتهُم بالكفر ، وسعت في تعذيبهم وقتلهم ، إلىٰ غير ذلك من الأُمور الّتي ذكرها القرآن الكريم ، وهي تتلىٰ علىٰ مسامع الناس بكرةً وأصيلاً.
كما أنّه لا يوجد تلازم بين العصمة وقبول التحكيم أو رفضه ؛ فإنّ
ص : 349
للظروف والسياسات أحكامها ، فهل ترىٰ أنّ العصمة غابت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حين قَبِل بصلح الحديبية ؟!
مع أنّ الطرف المقابل له في ذلك الصلح كان من المشركين ، بينما الطرف المقابل لأمير المؤمنين عليه السلام في حادثة التحكيم بصِفّين من المسلمين !
نعم ، حصل تشكيك بنبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من أحد المسلمين الّذين شهدوا صلح الحديبية مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم! وذلك بعد صحبته للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما يقرب من عشرين عاماً منذ إسلامه إلىٰ يوم الحديبية !!
وهذا الأمر - في الواقع - من غرائب فعل الأصحاب مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ; إذ واجه هذا المسلم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نفسه بهذا التشكيك وقال له : ألست نبيّ الله حقّاً ؟
قال : « بلىٰ ».
قال : ألسنا علىٰ الحقّ وعدوّنا علىٰ الباطل ؟
قال : « بلىٰ ».
قال : فلِمَ نعطي الدنيّة من ديننا إذاً ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّي رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري ».
قال : أولست كنتَ تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطّوّف به ؟
قال : « بلى ، فأخبرتك أنّا نأتيه العام ؟ ».
قال : لا.
قال : « فإنّك آتيه ومطّوّف به ».
ولم يكتفِ عمر بن الخطّاب بما واجه به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كلام هنا ، وبما استمع إليه من جواب منه صلى الله عليه وآله وسلم ، بل ذهب إلىٰ أبي بكر وواجهه
ص : 350
بمثل ما واجه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (1) ..
ثمّ قيل بعد ذلك أنّ عمر بن الخطّاب أحسّ بعظيم الذنب لِما بدر منه يوم صلح الحديبية. وروي عنه في هذه القضية أنّه قال : ما زلت أصوم وأتصدّق وأُصلّي وأعتق مخافة كلامي الّذي تكلّمت به (2).
ولعلّ الّذي أصاب الدليمي هنا من تشكيك بعصمة الإمام عليه السلام لقبوله التحكيم في واقعة صفين ، هو من سنخ ما أصاب الخليفة من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لقبوله صلح الحديبية ، والله أعلم !
ومع هذا فإنّ مَن رجع إلىٰ واقعة صفين واطّلع علىٰ حادثة التحكيم فيها تبيّن له عذر أمير المؤمنين عليه السلام بقبولها.
وأنا هنا أرشد الدليمي إلىٰ نصّين مهمّين في نهج البلاغة يُغنيانِهِ عمّا سواهما في فهم حادثة التحكيم ; فليقرأ ما قاله عليه السلام لأصحابه بعد ليلة الهرير في ج 1 ص 233 - بتعليق الشيخ محمّد عبده - منه ، وما قاله عليه السلام للخوارج وقد خرج إلىٰ معسكرهم وهم مقيمون علىٰ إنكار الحكومة في ج 1 ص 235 - بتعليق الشيخ محمّد عبده -.
فسيجد - حتماً - في هذين النصّين ما يدلّ علىٰ عصمته ؛ فانظر إلىٰ قوله للخوارج : « وقد رأيتكم أعطيتموها (3) ، والله لئن أبَيتُها ما وجبت علَيَّ فريضتها ، ولا حمّلني الله ذنبها ، والله إن جئتها إنّي للمحقُّ الّذي يُتّبع ، وإنّ الكتاب لمعي ، ما فارقته منذ صحبته ... ».
ص : 351
فكلامه عليه السلام هنا هو نفس مفاد قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ، لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض » (1) ، الدالّ علىٰ العصمة ، وقد ذكرناه في ما مرّ سابقاً من أدلّة حول عصمته عليه السلام ؛ فراجع !
رحِم الله امرءاً قرأ كلمات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيته ، وكلمات أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة وتدبّر فيها.
وقد بقيت هناك أُمور أشار إليها الدليمي في كتيّبه هذا ، لها علاقة بفروع الدين ، لم أشأ الحديث عنها طلباً للاختصار ، وإنّما يأخذ أحكامها المكلَّف من العالِم الجامع لشرائط التقليد ويعمل حسب فتواه ، ولا دخل لآراء غير العلماء في الأحكام الفرعية ، ولا يعتدّ بفهم غير العلماء لأي نصّ من الكتاب والسُنّة - الّتي تشمل أقوال المعصومين عليهم السلام جميعاً - في استخراج الأحكام الفرعية ما لم يبلغوا درجة الاجتهاد والفتوى.
والأوْلىٰ بالمسلم أن يتثبّت من أُصول دينه أوّلاً ، ويتحرّز عن ميتة الجاهلية ، ثمّ يعطف علىٰ الفروع ليناقش فيها.
أسأل الله تعالىٰ العفو والمغفرة والرحمة ، واستميح مولاي أمير المؤمنين عليه السلام العذر إن كنتُ قصّرت في بيان ما يستوجب علَيَّ بيانه من موضوعات النهج المطروحة في هذا البحث ..
وعذري بضيق الوقت أوّلا ; لأنّ الوقت الّذي خُصّص لإعداد هذا الردّ كان شهراً واحداً فقط ، وذلك لكثرة الانشغال بالدراسة والتحصيل ،
ص : 352
لا سيّما ما تتطلّبه المراحل الأُولىٰ من الدراسة من الجهد والوقت ، ولم تكن المباشَرة في إعداد هذا الردّ إلاّ بتكليف خاصّ من بعض أهل الفضيلة والعلم ، وفّقهم الله تعالىٰ ..
وثاني العذر هو قلّة المصادر الّتي بحوزتي أو الّتي استطعت أن أرجع إليها في المكتبات العامّة بهذه العجالة من البحث ، وحُسن الظن بأنّ العذر عند الكرام مقبول.
وأسأله جلّ شأنه : أن يمنَّ علىٰ المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها بالرحمة الواسعة ، والكرامة السابغة ، بأن يريهم الحقّ حقّاً كي يتّبعوه ، والباطل باطلا كي يجتنبوه ، وأن يجمع كلمتهم ويوحّد صفوفهم ، وأن يمنحهم من القوّة ما يُرهبون به عدوّ الله وعدوّهم ، إنّه سميع مجيب ، وهو علىٰ كلّ شيء قدير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلّىٰٰ الله علىٰ سيّدنا محمّد وآله
الطيّبين الطاهرين
ص : 353
ص : 354
ص : 355
ص : 356
1 - القرآن الكريم.
« أ »
2 - أجوبة الحافظ ابن حجر العسقلاني عن أحاديث المصابيح : مطبوع مع مشكاة المصابيح ، للخطيب التبريزي ، تحقيق الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني ، المكتب الإسلامي / بيروت ، ط 3 ، 1405 ه- / 1985 م.
3 - إحقاق الحقّ : القاضي نور الدين التستري ، تعليق السيّد المرعشي ، المطبعة الإسلامية / طهران ، 1384 ه-.
4 - إحياء الميت من فضائل آل البيت عليهم السلام : جلال الدين السيوطي ، ط الحلبي بمصر ، مطبوع بهامش الإتحاف بحبّ الأشراف.
5 - أحكام القرآن : القاضي أبو بكر محمّد بن عبد الله ، المعروف ب- « ابن المعافري » الأندلسي المالكي ، مطبعة السعادة / مصر ، 1331 ه-.
6 - أحكام القرآن : أبو بكر أحمد بن علي الجصّاص ، ضبط وتخريج عبد السلام محمّد علي شاهين ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1415 ه-.
7 - الإحكام في أُصول الأحكام : أبو محمّد عليّ بن حزم الأندلسي الظاهري ، تحقيق أحمد شاكر ، مطبعة العاصمة / القاهرة.
8 - الإحكام في أُصول الأحكام : علي بن محمّد الآمدي ، تعليق الشيخ عبد الرزّاق عفيفي ، المكتب الإسلامي / بيروت ، 1402 ه-.
9 - أسباب النزول : أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري ، مؤسّسة الحلبي وشركاه / القاهرة ، 1388 ه-.
10 - أُسد الغابة في معرفة الصحابة : عزّ الدين علي بن أبي الكرم ، المعروف ب- « ابن الأثير » ، انتشارات إسماعيليان / طهران.
11 - الاستيعاب : يوسف بن عبد الله بن عبد البرّ القرطبي ، تحقيق علي محمّد البجاوي ، دار الجيل / بيروت ، 1412 ه-.
ص : 357
12 - إسعاف الراغبين : محمّد بن عليّ الصبان ، بهامش نور الأبصار للشبلنجي ، مطبعة البابي الحلبي / مصر ، 1367 ه-.
13 - الإتقان في علوم القرآن : جلال الدين السيوطي ، دار الكتب العلمية / بيروت.
14 - الإصابة في تمييز الصحابة : ابن حجر العسقلاني ، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، دار الكتب العلمية / بيروت 1415 ه-.
15 - الأُصول العامة للفقه المقارن : محمّد تقي الحكيم ، دار الأندلس / بيروت ، 1963 م.
16 - الإرشاد : الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان ، المعروف ب- : « المفيد » ، دار الكتاب الإسلامي / بيروت.
17 - إرشاد الفحول إلىٰ تحقيق الحقّ من علم الأُصول : محمّد بن علي الشوكاني ، مطبعة البابي الحلبي / مصر ، 1356 ه-.
18 - الأعلام : خير الدين الزركلي ، دار العلم للملايين / بيروت.
19 - الاقتصاد الهادي إلىٰ طرق الرشاد : الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ، نشر مكتبة جامع چهلستون ، 1400 ه-.
20 - أوائل المقالات : الشيخ المفيد ، دار المفيد للطباعة / بيروت 1993 م.
21 - الإمامة والسياسة : عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، تحقيق عليّ شيري ، انتشارات الشريف الرضي / قم ، 1413 ه-.
22 - الأنساب : أبو سعد عبدالكريم بن محمّد السمعاني ، تعليق عبد الله عمر البارودي ، مركز الخدمات والأبحاث الثقافية / بيروت.
23 - أنساب الأشراف : أحمد بن يحيىٰ بن جابر البلاذري - تحقيق الشيخ محمّد باقر المحمودي ، مؤسّسة الأعلمي / بيروت ، 1974 م.
« ب »
24 - البداية والنهاية : ابن كثير الدمشقي ، تحقيق عليّ شيري ، دار إحياء التراث العربي / بيروت ، 1408 ه-.
ص : 358
25 - البرهان في علوم القرآن : بدر الدين محمّد بن عبد الله الزركشي ، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم ، دار إحياء الكتب العربية / القاهرة ، 1957 م.
26 - بحار الأنوار : المولىٰ محمّد باقر المجلسي ، مؤسّسة الوفاء / بيروت ، 1983 م.
27 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد : القاضي أبو الوليد محمّد بن أحمد ابن رشد القرطبي الأندلسي ، تحقيق خالد العطار ، دار الفكر ، 1415 ه-.
28 - البيان في تفسير القرآن : السيّد أبو القاسم الخوئي ، دار الزهراء للطباعة / بيروت.
« ت »
29 - تاج العروس : السيّد محمّد مرتضى الحسيني الزبيدي ، مكتبة الحياة / بيروت.
30 - تاريخ ابن خلدون : عبد الرحمٰن بن خلدون المغربي ، دار إحياء التراث العربي / بيروت.
31 - تاريخ الطبري المعروف ب- : تأريخ الأُمم والملوك : محمّد بن جرير الطبري ، تحقيق نخبة من العلماء ، مؤسّسة الأعلمي / بيروت.
32 - تاريخ بغداد : أبو بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغدادي ، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1417 ه-.
33 - تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام : محمّد عليّ أبو ريان ، ط الإسكندرية ، 1974 م.
34 - تاريخ مدينة دمشق : عليّ بن الحسن المعروف ب- « ابن عساكر » ، تحقيق علي شيري ، دار الفكر / بيروت ، 1415 ه-.
35 - تاريخ المدينة المنورة : عمر بن شبه النميري البصري ، تحقيق فهيم محمّد شلتوت ، منشورات دار الفكر ، 1410 ه-.
36 - تاريخ الخلفاء : جلال الدين السيوطي ، تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد ، المطبعة العصرية / بيروت ، 1418 ه-.
ص : 359
37 - تأويل مختلف الحديث : عبد الله بن مسلم بن قتيبة ، تحقيق إسماعيل الأسعردي ، دار الكتب العلمية / بيروت.
38 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي : أبو العلاء محمّد عبد الرحمٰن ابن عبد الرحيم المباركفوري ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1410 ه-.
39 - تصنيف نهج البلاغة : لبيب وجيه بيضون ، ط بيروت.
40 - تفسير ابن أبي حاتم : عبد الرحمٰن بن محمّد بن إدريس الرازي ، تحقيق أسعد محمّد الطيب ، نشر دار المكتبة العصرية / صيدا.
41 - تفسير البحر المحيط : محمّد بن يوسف الشهير ب- « أبي حيان الأندلسي » ، دار الفكر / بيروت ، 1978 م.
42 - تفسير الثعالبي ( الجواهر الحسان في تفسير القرآن ) : عبد الرحمٰن بن محمّد الثعالبي المالكي ، تحقيق الدكتور عبد الفتاح أبو سنة ، دار إحياء التراث العربي ، ط 1 ، 1418 ه-.
43 - تفسير الثعلبي : أحمد المعروف ب- : الثعلبي ( ت 427 ه- ) ، تحقيق الإمام أبي محمّد بن عاشور ، بيروت ، ط 1 ، 1422 ه- / 2002 م.
44 - تفسير القرآن : عبد الرزّاق بن همام الصنعاني ، تحقيق مصطفىٰ مسلم محمّد ، مكتبة الرشد / الرياض ، 1410 ه-.
45 - تفسير القرآن العظيم ، المعروف ب- ( تفسير ابن كثير ) : ابن كثير الدمشقي ، دار المعرفة / بيروت ، 1412 ه-.
46 - التفسير الكبير : فخر الدين الرازي ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1311 ه- ، وتحقيق دار إحياء التراث العربي ، ط 2 ، 1417 ه-.
47 - تفسير الصافي : محسن الفيض الكاشاني ، تحقيق حسين الأعلمي ، مؤسسة الهادي / قم ، 1416 ه-.
48 - تلخيص المستدرك - المطبوع ب- « ذيل المستدرك علىٰ الصحيحين » : شمس الدين الذهبي.
49 - تلخيص الحبير : ابن حجر العسقلاني ، تحقيق السيّد عبد الله هاشم اليماني.
ص : 360
50 - ترجمة الإمام الحسن عليه السلام : عليّ بن الحسن المعروف ب- « ابن عساكر » ، تحقيق الشيخ محمّد باقر المحمودي ، مؤسسة المحمودي / بيروت ، 1980 م.
51 - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي : جلال الدين السيوطي ، تحقيق عبد الوهّاب عبد اللطيف ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1399 ه-.
52 - تذكرة الحفّاظ : شمس الدين الذهبي ، ط الهند مصوّرة إحياء التراث العربي / بيروت.
53 - تذكرة الخواص : سبط ابن الجوزي ، مؤسّسة أهل البيت عليهم السلام / بيروت.
54 - تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل : أبو بكر محمّد بن الطيّب الباقلاّني ( ت 403 ه- ) ، تحقيق الشيخ عماد الدين أحمد ، مؤسّسة الكتاب الثقافية / بيروت ، ط 3 ، 1414 ه- / 1993 م.
55 - تنقيح المقال : الشيخ عبد الله المامقاني ، المطبعة المرتضوية / النجف ، 1350 ه-.
56 - تهذيب التهذيب : ابن حجر العسقلاني ، دار الفكر للطباعة ، 1984 م.
57 - تهذيب الكمال في أسماء الرجال : جمال الدين أبو الحجّاج يوسف المزي ، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف ، مؤسسة الرسالة ، 1406 ه-.
58 - تهذيب الأسماء واللغات : محي الدين بن شرف النووي ، مصوّرة دار الكتب العلمية / بيروت.
« ج »
59 - جامع بيان العلم وفضله : ابن عبد البرّ القرطبي ، إدارة المنيرية / مصر.
60 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن المعروف ب- : « تفسير الطبري » : محمّد بن جرير الطبري ( ت 310 ه- ) ، ضبط وتوثيق صدقي جميل العطّار ، دار الفكر / بيروت ، 1415 ه-.
61 - الجامع لأحكام القرآن : محمّد بن أحمد القرطبي ، دار إحياء التراث
ص : 361
العربي / بيروت 1985 م.
62 - الجامع الصغير : جلال الدين السيوطي ، دارالفكر / بيروت ، 1401 ه-.
63 - جامع المقال في علم الرجال : فخر الدين الطريحي ، مطبعة حيدري / طهران.
64 - الجرح والتعديل : ابن أبي حاتم الرازي ، دار إحياء التراث العربي / بيروت ، 1371 ه-.
65 - الجمل : الشيخ المفيد ، مكتبة الداوري ، قم.
66 - جمهرة رسائل العرب : أحمد زكي صفوت ، مطبعة البابي الحلبي / مصر ، 1356 ه-.
67 - جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : محمّد ابن أحمد الدمشقي الباعوني الشافعي ، تحقيق الشيخ محمّد باقر المحمودي ، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية ، 1415 ه-.
68 - الجواهر المضية في طبقات الحنفية : عبد القادر بن أبي الوفاء محمّد بن نصر الله القرشي الحنفي ، دائرة المعارف النظامية / الهند.
« ح »
69 - حاشية ردّ المحتار : محمّد أمين الشهير ب- « ابن عابدين » ، إشراف مركز البحوث والدراسات ، دار الفكر للطباعة ، 1415 ه-.
70 - حلية الأولياء : أبو نعيم الأصفهاني ، مطبعة السعادة / مصر ، 1351 ه-.
71 - حقّ اليقين في معرفة أُصول الدين : السيّد عبد الله شُبّر ، دار الأضواء / بيروت ، 1404 ه-.
72 - حقيقة الوهّابية : المؤلّف ، دار الرياض ، 1416 ه-.
« خ »
73 - خطط الشام : محمّد كرد عليّ ، ط دمشق.
74 - خصائص الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( كرّم الله وجهه ) :
ص : 362
أحمد بن شعيب النسائي ، تحقيق محمّد هادي الأميني ، مكتبة نينوىٰ الحديثة.
75 - الخصائص الكبرىٰ : جلال الدين السيوطي ، حيدر آباد الدكن / الهند.
76 - خلاصة الكلام في بيان أُمراء البلد الحرام : أحمد بن زيني دحلان ، مكتبة الكليات الأزهرية / مصر ، 1397 ه-.
« د »
77 - دراسات في الحديث والمحدّثين : هاشم معروف الحسيني ، دار التعارف للمطبوعات / بيروت.
78 - در السحابة في مناقب القرابة والصحابة : محمّد عليّ الشوكاني ، دار الفكر.
79 - الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور : جلال الدين السيوطي ، دار المعرفة ، 1365 ه-.
80 - دفع الارتياب عن حديث الباب : السيّد عليّ بن محمّد بن طاهر العلوي ، دار القرآن الكريم.
« ذ »
81 - ذيل تاريخ بغداد : ابن النجّار البغدادي ، تحقيق مصطفىٰ عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1417 ه-.
82 - ذيل اللآلي : جلال الدين السيوطي.
83 - ذخائر العقبىٰ : محب الدين الطبري ، منشورات مكتبة القدسي / القاهرة ، 1356 ه-.
« ر »
84 - ربيع الأبرار ونصوص الأخبار : محمود بن عمر الزمخشري ، تحقيق الدكتور سليم النعيمي ، طبعة وزارة الأوقاف العراقية ، 1980 م.
85 - رجال النجاشي : الشيخ أبو العبّاس أحمد بن علي النجاشي ، تحقيق
ص : 363
السيد موسىٰ الزنجاني ، مؤسّسة النشر الإسلامي / قم ، 1416 ه-.
86 - الرياض النضرة في مناقب العشرة : محب الدين الطبري ، منشورات محمّد علي بيضون ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1424 ه-.
87 - الرد المحكم المتين علىٰ كتاب القول المبين : أبو الفضل عبد الله محمّد الصدّيق الغماري ، المعهد الجديد ، ط 2 ، 1374 ه-.
88 - روح المعاني : شهاب الدين محمود الآلوسي ، دار إحياء التراث العربي / بيروت.
« ز »
89 - زين الفتىٰ في شرح سورة هل أتىٰ : أحمد بن محمّد بن علي العاصمي ، تحقيق الشيخ محمّد باقر المحمودي ، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية / قم المقدّسة ، 1418 ه-.
« س »
90 - السُنن الكبرىٰ : أحمد بن شعيب النسائي ، تحقيق الدكتور عبد الغفار سليمان ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1411 ه-.
91 - السُنن الكبرىٰ : أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ، دار الفكر / بيروت.
92 - سبل السلام : محمّد بن إسماعيل الصنعاني ، مكتبة ومطبعة البابي الحلبي / مصر ، 1379 ه-.
93 - سلسلة الأحاديث الصحيحة : محمّد ناصر الدين الألباني ، المكتب الإسلامي ، 1405 ه- ، ومكتبة المعارف / الرياض ، ط 1 ، 1416 ه-.
94 - سلسلة الأحاديث الضعيفة : محمّد ناصر الدين الألباني ، المكتب الإسلامي ، ومكتبة المعارف / الرياض ، ط 1 ، 1416 ه-.
95 - سُنن ابن ماجة : محمّد بن يزيد بن ماجة ، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي ، دار الفكر للطباعة / بيروت.
ص : 364
96 - سُنن أبي داود : أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، تحقيق سعيد محمّد اللحام ، دار الفكر للطباعة / بيروت ، 1410 ه-.
97 - سُنن الترمذي : محمّد بن عيسى الترمذي ، تحقيق عبد الوهّاب عبد اللطيف ، دار الفكر للطباعة / بيروت ، 1403 ه-.
98 - سُنن النسائي [ بشرح جلال الدين السيوطي وحاشية السندي ] : أحمد بن شعيب النسائي ، دار الفكر للطباعة / بيروت.
99 - سُنن الدارمي : عبد الله بن عبد الرحمٰن الدارمي ، مطبعة الاعتدال / دمشق.
100 - سير أعلام النبلاء : شمس الدين الذهبي ، تحقيق شعيب الأرنؤوط ، مؤسسة الرسالة / بيروت ، 1413 ه-.
101 - السيرة النبوية : أبو الفداء إسماعيل بن كثير ، تحقيق مصطفىٰ عبد الواحد ، دار المعرفة / بيروت ، 1396 ه-.
102 - السيرة الحلبية : علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي ، دار المعرفة / بيروت.
« ش »
103 - شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب : عبد الحي بن العماد الحنبلي ، دار السيرة / بيروت.
104 - شرح إحقاق الحقّ : نور الدين المرعشي التستري ( ت 1411 ه- ) ، تحقيق السيد شهاب الدين المرعشي والسيّد إبراهيم الميانجي ، منشورات مكتبة آية الله العظمىٰ المرعشي النجفي / قم.
105 - شرح أُصول الكافي : المولىٰ محمّد صالح المازندراني.
106 - شرح السُنّة : الحسين بن مسعود البغوي ، تحقيق الشاويش والأرنؤوط ، المكتب الإسلامي / بيروت ، 1403 ه-.
107 - شرح نهج البلاغة : عبد الحميد هبة الله المدائني الشهير ب- « ابن أبي الحديد » ، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم ، دار إحياء الكتب العربية ، 1959 م.
ص : 365
108 - شرح نهج البلاغة : كمال الدين ميثم بن علي البحراني ، دار إحياء التراث العربي / بيروت ، 1992 م.
109 - شرح المقاصد : سعد الدين التفتازاني ، مطبعة البسنوي ، 1305 ه-.
110 - الشفا بتعريف حقوق المصطفىٰ : القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي ، دار الفكر / بيروت ، 1409 ه-.
111 - شيخ المضيرة أبو هريرة : محمود أبو رية ، دار المعارف / مصر.
« ص »
112 - صحيح البخاري : محمّد بن إسماعيل البخاري ، دار الفكر / بيروت ، 1981 م.
113 - صحيح مسلم : مسلم بن الحجّاج القشيري ، دار الفكر / بيروت.
114 - صحيح ابن حبّان بترتيب ابن بلبان : علاء الدين بن بلبان ، تحقيق شعيب الأرنؤوط ، مؤسسة الرسالة / بيروت ، 1993 م.
115 - الصواعق المحرقة : أحمد بن حجر الهيتمي ، دار الطباعة الميمنية / مصر.
« ط »
116 - طبقات الحفّاظ : جلال الدين السيوطي ، تحقيق علي محمّد عمر ، دار الكتب العلمية / بيروت.
117 - الطبقات الكبرىٰ : محمّد بن سعد ، مصوّرة دار صادر / بيروت.
118 - طبقات المحدِّثين بأصبهان : محمّد بن جعفر بن حيان ، تحقيق عبد الغفور البلوشي ، مؤسسة الرسالة ، 1412 ه-.
« ع »
119 - عقائد الإمامية : الشيخ محمّد رضا المظفّر ، دار الزهراء / بيروت ، 1402 ه-.
ص : 366
120 - العقد الفريد : ابن عبد ربّه الأندلسي ، ط لجنة التأليف والترجمة / مصر.
121 - علل الشرائع : محمّد بن علي بن الحسين بن موسىٰ بن بابويه القمّي ، المعروف ب- « الشيخ الصدوق » ، تحقيق محمّد صادق بحر العلوم ، منشورات المكتبة الحيدرية / النجف ، 1386 ه- / 1966 م.
122 - عون المعبود شرح سُنن أبي داود : محمّد شمس الحقّ العظيم آبادي ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1415 ه-.
« غ »
123 - الغدير في الكتاب والسُنّة والأدب : عبد الحسين الأميني ، دار الكتاب العربي / بيروت ، 1379 ه-.
« ف »
124 - فتح الباري شرح صحيح البخاري : ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه) ، دار المعرفة للطباعة والنشر / بيروت ، ط 2.
125 - فتح القدير ( تفسير الشوكاني ) : محمّد بن عليّ بن محمّد الشوكاني ، عالم الكتب.
126 - فتح الملك العليّ بصحّة حديث باب مدينة العلم عليّ : أحمد بن محمّد بن الصدّيق الحنفي المغربي ، المطبعة الحيدرية / النجف 1388 ه-.
127 - فتوح البلدان : أحمد بن يحيىٰ البلاذري ، نشر مكتبة النهضة المصرية / القاهرة ، 1379 ه-.
128 - فرائد السمطين في فضائل المرتضىٰ والبتول والسبطين والأئمّة من ذرّيّتهم : المحدّث إبراهيم بن محمّد بن المؤيد الجويني الشافعي.
129 - فردوس الأخبار بمأثور الخطاب : شيرويه بن شهردار الديلمي ، تحقيق السعيد بن بسيوني زغلول ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1986 م.
130 - فقه السُنّة : الشيخ سيّد سابق ، دار الكتاب العربي / بيروت.
ص : 367
131 - الفصول في الأُصول : أحمد بن عليّ الرازي الجصّاص ، تحقيق د. عجيل جاسم ، 1415 ه-.
132 - الفصول المهمّة : عليّ بن محمّد بن أحمد الشهير ب- « ابن الصبّاغ المالكي » ، المطبعة الحيدرية / النجف الأشرف.
133 - الفصول المهمّة في تأليف الأُمّة : السيد شرف الدين العاملي ، قسم الإعلام الخارجي لمؤسّسة البعثة / قم ، ط 1.
134 - الفصل في الملل والنحل : ابن حزم الظاهري ، مكتبة الخانجي / القاهرة.
135 - فضل آل البيت عليهم السلام : تقي الدين أحمد بن علي المقريزي ، تحقيق السيد علي عاشور.
136 - فيض القدير : محمّد عبد الرؤوف المعروف ب « عبد الرؤوف المناوي » ، ضبط وتصحيح أحمد عبد السلام ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1994 م.
137 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة : محمّد بن علي الشوكاني ، تحقيق محمّد عبد الرحمٰن عوض ، دار الكتاب العربي ، ط 1 ، 1406 ه- / 1986 م.
138 - فوات الوفيات : محمّد بن شاكر بن أحمد الكتبي.
« ق »
139 - القاموس المحيط : محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي ، مطبعة البابي الحلبي / مص-ر ، 1371 ه-.
140 - قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة : جلال الدين السيوطي ، تحقيق الشيخ خليل محي الدين الميس ، المكتب الإسلامي / بيروت ، 1405 ه-.
« ك »
141 - الكافي : محمّد بن يعقوب الكليني ، تحقيق عليّ أكبر غفاري ، دار الكتب الإسلامية ، ط 3 ، 1388 ه-.
ص : 368
142 - كتاب السُنّة : عمرو بن أبي عاصم الشيباني ، المكتب الإسلامي / بيروت ، 1993 م.
143 - الكشّاف : جار الله الزمخشري ، شرح وضبط يوسف الحمادي المستشار الأسبق للتربية بمصر ، مكتبة مصر.
144 - كنز العمّال : عليّ المتّقي بن حسام الدين الهندي ، تحقيق الشيخ بكري حياني والشيخ صفوة السقا ، مؤسسة الرسالة / بيروت ، 1989 م.
145 - الكامل في التاريخ : ابن الأثير ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1995 م.
146 - كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب : محمّد بن يوسف الكنجي الشافعي ، تحقيق محمّد هادي الأميني ، المطبعة الحيدرية / النجف ، 1970 م.
147 - كشف الحقائق : الشيخ عليّ آل محسن ، دار الصفوة / بيروت ، 1416 ه-.
148 - كشف الغمّة عن جميع الأُمّة : عبد الوهّاب الشعراني ، المطبعة الميمنية / مصر ، 1327 ه-.
149 - كشف الخفاء ومزيل الألباس : إسماعيل بن محمّد العجلوني ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1408 ه-.
150 - الكليني والكافي : عبد الرسول عبد الحسن الغفّار ، مؤسّسة النشر الإسلامي / قم ، ط 1 ، 1416 ه-.
151 - كنوز الحقائق : محمّد عبد الرؤوف المعروف ب- « عبد الرؤوف المناوي » ، بهامش الجامع الصغير.
« ل »
152 - لباب النقول في أسباب النزول : جلال الدين السيوطي ، تحقيق أحمد عبد الشافي ، دار الكتب العلمية / بيروت.
153 - لسان العرب : محمّد بن مكرم بن منظور الأفريقي ، دار إحياء التراث العربي / بيروت.
ص : 369
154 - لسان الميزان : أحمد بن حجر العسقلاني ، مؤسّسة الأعلمي / بيروت ، 1390 م.
« م »
155 - المبسوط : شمس الدين السرخسي ، تحقيق جمع من الأفاضل ، دار المعرفة / بيروت ، 1406 ه-.
156 - مجمع البحرين : الشيخ فخر الدين الطريحي ، تحقيق السيّد أحمد الحسيني ، مكتب نشر الثقافة الإسلامية ، ط 2 ، 1408 ه-.
157 - مجمع البلدان : ياقوت الحموي ، دار إحياء التراث العربي / بيروت ، 1399 ه-.
158 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : عليّ بن أبي بكر الهيثمي ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1988 م.
159 - المجموع في شرح المهذّب : محي الدين بن شرف النووي ، دار الفكر للطباعة.
160 - مجموعة الفتاوى الكبرىٰ : أحمد بن تيمية الحرّاني ، تحقيق عامر الجزار وأنور البار ، دار الوقاء / القاهرة ، ط 1 ، 1418 ه- / 1997 م.
161 - المختصر في أخبار البشر : أبو الفداء إسماعيل بن نور الدين ، دار الكتاب اللبناني / بيروت.
162 - مروج الذهب : عليّ بن الحسين المسعودي ، دار الأندلس / بيروت.
163 - مرقد العقيلة زينب عليها السلام : الشيخ محمّد حسنين السابقي ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات / بيروت ، ط 1 ، 1399 ه-.
164 - مرآة العقول : المولىٰ محمّد باقر المجلسي ، دار الكتب الإسلامية / طهران ، 1404 ه-.
165 - المراجعات : السيّد عبد الحسين شرف الدين ، ومعها ملحق حسين عليّ الراضي ، مطبعة حسام.
166 - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح : عليّ بن سلطان محمّد
ص : 370
القاري ، دار الكتب العلمية / بيروت ، ط 1 ، 1422 ه- / 2001 م.
167 - المسائل السروية : الشيخ المفيد ، نشر المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد.
168 - المستدرك علىٰ الصحيحين : محمّد بن عبد الله المعروف ب- « الحاكم النيسابوري » ، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 2002 م.
169 - مسند أحمد بن حنبل : أحمد بن حنبل ، دار صادر / بيروت.
170 - مسند أبي داود الطيالسي : سليمان بن داود المعروف ب- « أبي داود الطيالسي » ، دار الحديث / بيروت.
171 - مسند أبي يعلى الموصلي : أحمد بن علي بن المثنّىٰ التميمي ، تحقيق حسين سليم أحمد ، دار المأمون للتراث.
172 - المصنَّف : ابن أبي شيبة الكوفي ، تحقيق سعيد محمّد اللحام ، دار الفكر ، 1409 ه-.
173 - المصنّف : عبد الرزّاق الصنعاني ، تحقيق حبيب الرحمٰن الأعظمي ، المجلس العلمي.
174 - مصابيح السُنّة : أبو محمّد الحسيني بن مسعود البغوي ، دار المعرفة / بيروت.
175 - مصادر نهج البلاغة وأسانيده : عبد الزهراء الخطيب ، ط النجف ، 1386 ه-.
176 - معجم رجال الحديث : السيد أبو القاسم الخوئي ، ط 5 ، 1413 ه-.
177 - المعجم الصغير : أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ، دار الكتب العلمية / بيروت.
178 - المعجم الأوسط : أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ، تحقيق إبراهيم الحسيني ، دار الحديث ، 1415 ه-.
179 - المعجم الكبير : أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ، مكتبة ابن تيمية / القاهرة ، ط 2.
ص : 371
180 - معجم المؤلّفين : الدكتور محمّد رضا كحالة ، دار إحياء التراث العربي / بيروت.
181 - معرفة الثقات : الحافظ أحمد بن عبد الله العجلي ، مكتبة المدينة المنوّرة ، ط 1 ، 1405 ه-.
182 - المعقول واللامعقول في التراث العربي : زكي نجيب محمود ، بيروت ، ط 2 ، 1978 م.
183 - المُغني : عبد الله بن قدامة ، تحقيق جماعة من العلماء ، دار الكتاب العربي / بيروت.
184 - المعيار والموازنة : أبو جعفر الإسكافي محمّد بن عبد الله المعتزلي ، تحقيق الشيخ محمّد باقر المحمودي.
185 - الملل والنحل : محمود بن عبد الكريم الشهرستاني ، تحقيق محمّد سيّد كيلاني ، دار المعرفة / بيروت.
186 - المناقب : الموفّق بن أحمد بن محمّد البكري الحنفي المعروف ب- « أخطب خوارزم » ، مؤسسة النشر الإسلامي / قم ، 1411 ه-.
187 - منتخب كنز العمّال المطبوع بهامش مسند أحمد بن حنبل : عليّ بن حسام الدين الشهير ب- « المتّقي الهندي » ، دار صادر / بيروت.
188 - المنتخب من كتاب ذيل المذيل : محمّد بن جرير الطبري ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات / بيروت ، 1358 ه-.
189 - منع تدوين السُنّة : السيد علي الشهرستاني ، مركز الأبحاث العقائدية / قم ، ط 1 ، 1420 ه-.
190 - مقاتل الطالبيين : أبو الفرج الأصفهاني ، دار التربية / بغداد.
191 - مقتل الحسين عليه السلام : أبو المؤيد الموفّق بن أحمد المكّي الخوارزمي ، تحقيق الشيخ محمّد السماوي ، مطبعة الزهراء عليها السلام / النجف الأشرف ، 1948 م.
192 - منهاج السُنّة النبوية : أحمد بن تيمية الحرّاني ، تحقيق الدكتور محمّد رشاد سالم ، ط 1 ، 1986 م.
193 - المقالات السنية في كشف ضلالات أحمد بن تيمية : الشيخ عبد الله
ص : 372
الهرري الشافعي المعروف ب- « الحبشي » ، مفتي الصومال.
194 - موارد الظمآن إلىٰ زوائد ابن حبّان : عليّ بن أبي بكر الهيثمي ، تحقيق محمّد عبد الرزّاق حمزة ، دار الكتب العلمية / بيروت.
195 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال : شمس الدين الذهبي ، دار المعرفة / بيروت ، 1382 ه-.
« ن »
196 - نهج البلاغة : خطب الإمام عليّ عليه السلام ، تحقيق الشيخ محمّد عبده ( مفتي الديار المصرية سابقاً ) ، دار المعرفة / بيروت.
197 - نهج البلاغة : تحقيق صبحي الصالح ، ط بيروت.
198 - نهج البلاغة : تحقيق د. صبري إبراهيم السيّد ، ط قطر / الدوحة.
199 - نهج البلاغة .. لمَن ؟ : الشيخ محمّد حسن آل يس ، المكتب العالمي / بيروت ، ط 4 ، 1398 ه-.
200 - النهاية في غريب الحديث : ابن الأثير الجزري ، تعليق وتخريج أبو عبد الرحمة صلاح بن محمّد ، دار الكتب العلمية / بيروت ، 1997 م.
201 - النهاية في غريب الحديث : مجد الدين المبارك بن محمّد الجزري ، المعروف ب- « ابن الأثير » ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمّد ، مؤسّسة إسماعيليان / قم ، ط 4 ، 1364 ه- ش.
202 - النصائح الكافية لمَن يتولّى معاوية : محمّد بن عقيل العلوي ، دار الثقافة / قم المقدّسة ، 1412 ه-.
203 - النصّ والاجتهاد : السيّد عبد الحسين شرف الدين الموسوي ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات / بيروت.
204 - نصب الراية : جمال الدين الزيلعي ، تحقيق أيمن صالح شعباني ، دار الحديث / القاهرة ، 1995 م.
205 - نظم المتناثر من الحديث المتواتر : جعفر بن إدريس الحسيني الشهير بالكتاني ، دار الكتب العلمية / بيروت.
ص : 373
206 - نظرية عدالة الصحابة : المحامي الأُردني أحمد حسين يعقوب.
207 - النزاع والتخاصم : تقي الدين أحمد بن عليّ المقريزي ، تحقيق السيّد عليّ عاشور.
208 - نيل الأوطار من أحاديث سيّد الأخيار : محمّد بن عليّ الشوكاني ، دار الجيل / بيروت.
209 - نور الأبصار في مناقب آل بيت النبيّ المختار : مؤمن بن حسن الشبلنجي ، مكتبة مصطفى البابي الحلبي / مصر ، 1367 ه-.
« و »
210 - وسائل الشيعة إلىٰ تحصيل مسائل الشريعة : المحدّث محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث / قم ، ط 2 ، 1414 ه-.
211 - وقعة صفّين : نصر بن مزاحم المنقري ، تحقيق عبد السلام محمّد هارون ، المؤسّسة العربية للطبع والنشر ، 1382 ه-.
« ي »
212 - ينابيع المودّة : الحافظ سليمان بن إبراهيم البلخي القندوزي الحنفي ، تحقيق علي جمال أشرف الحسيني ، دار الأُسوة ، ط 1 ، 1416 ه-.
هذا وقد وردت في الهوامش مصادر أُخرىٰ لم أُثبتها لأنّي أخذتها من المصادر المذكورة.
* * *
ص : 374
الموضوع .... الصفحة
مقدّمة المركز .... 3
الإهداء .... 11
تمهيد .... 13
- التشيع لعليّ عليه السلام كان علىٰ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... 14
- قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في عليّ عليه السلام : إنّ هذا أخي .... 15
- ملاحظات عامّة حول قراءة الكاتب ل « نهج البلاغة » ... 18
- أُسلوب الدعوة إلىٰ الله ... 24
قبل البدء بالرد ، التعريف ب- « نهج البلاغة »
- فرية وضع الكتاب ... 32
الفصل الأوّل : مع الدليمي في مقدّمته
- إشكال عودة المختلفين من الفرق الإسلامية إلىٰ القرآن الكريم .... 42
- الإشكال لا يُحل إلاّ بالعودة إلىٰ أهل الذكر والراسخين في العلم .... 44
أمير المؤمنين عليه السلام يبيّن أهل الذكر والراسخين في العلم ... 45
- نصوص ترشد إلىٰ أهل الذكر والراسخين في العلم ... 46
- دعوة الكاتب إلىٰ ترك زخرف القول واتّباع القرآن ... 48
الفصل الثاني : عدالة الصحابة
- المراد من الآيات الّتي استدلّ بها الكاتب علىٰ خيرية الصحابة جميعاً .... 54
- حديث : خير القرون قرني ، لا يصحّ صدوره عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قطعاً .... 55
- أحاديث نبوية تنافي استفادة الخيرية للقرون الثلاثة ... 57
ص : 375
- الكلام في دلالة آية ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) ... 60
- الكلام في دلالة آية الرضوان... 61
- بيان طرق حديث العشرة المبشرة والاستدلال علىٰ بطلانه .... 66
- واقع الصحابة كما بيّنة القرآن الكريم .... 70
- التقسيم الإلهي للأصحاب .... 71
- لفت الانتباه إلىٰ معنىٰ قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ) .... 72
- نقد الصحابة لا يلزم منه القول بتحريف القرآن أو الطعن علىٰ ... .... 73
- واقع الصحابة كما ترويه السُنّة الشريفة .... 75
- عليّ عليه السلام هو الأُذن الواعية الوارد ذكرها في القرآن ... 79
- أبو بكر وعمر يمنعان رواية السُنّة النبوية ويقومان بحرقها ومحوها .... 80
- نقد الأصحاب لا يلزم منه التفريق بين المسلمين ... 82
- وحدة المسلمين إنّما هي وحدة الحقّ لا وحدة البدع والأهواء ... 83
الفصل الثالث : موقف الإمام عليه السلام من الصحابة
- بيان واقع أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام.... 88
- قول للإمام عليه السلام يقال انّه أراد به مدح عمر بن الخطّاب .... 90
- اختلاف أقوال الشراح في القول السابق .... 91
- الإشكالات الواردة علىٰ تفسير من قال بأنّه عليه السلام أراد به مدح عمر ... 92
- رفض الإمام عليه السلام العمل بسيرة عمر ... 94
- نبذة من مخالفات عم للسنّة وإنصاته لاجتهاد نفسه .... 94
- حديث الكاتب حول استشارة عم للإمام عليه السلام .... 100
- كلمات مدح وثناء قالها عمر بن الخطّاب بحقّ أمير المؤمنين عليه السلام ... 101
- استدلال الكاتب حول شدة المحبة بين عليّ عليه السلام وعمر ... 104
- بيان معنىٰ الحب في الإسلام ... 105
- تزويج أُم كلثوم من عمر بن الخطّاب خبر لم يتسنَ للمؤرخين قبوله .... 107
ص : 376
- تسمية أبنائه عليه السلام بأسماء عمر وعثمان لا يعدّ دليلاً علىٰ شدّة المحبّة .... 113
الفصل الرابع : موقف الإمام عليه السلام من الشورىٰ والنص
- دعوىٰ الكاتب بأنّ الإمام عليه السلام يرىٰ الخلافة شورىٰ ... 117
- سبعة نصوص تبين حقّ الإمام عليه السلام بالخلافة وتظلّمه من اغتصابها .... 122
- نص صريح لابن قتيبة في اغتصاب الخلافة من عليّ عليه السلام ... 124
- مصادر أُخرىٰ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ) ... 129
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام : ( أنت معي مني بمنزلة هارون من موسى ... ) ... 130
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ) .... 131
- ثلاثة شواهد تؤكّد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أراد بالولاية : ولاية الأمر .... 131
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( عليّ مني وأنا منه ، وهو ولي كلّ مؤمن بعدي ) .... 133
- مصادر قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( وهو وليكم بعدي ) .... 134
محاولة ابن تيمية في دفع هذه الأحاديث : .... 136
- نقض كلام الكاتب بأنّ الإمام يرىٰ الخلافة شورىٰ .... 141
- الجواب علىٰ سؤال الكاتب حول الخلافة هل تثبت بالشورىٰ أو ... ... 143
- شرح قول الإمام عليه السلام : ( أحقّ الناس علىٰ هذا الأمر أقواهم عليه .. ) .... 149
- أوّل المتصدّين لهذا الأمر يطلب الهداية والتسديد من المسلمين .... 151
- اعتراف أبي بكر بأنّ بيعته كانت فلتة .... 151
- خلفاء المسلمين يجهلون الأحكام الشرعية المهمة .... 152
- نبذة من موارد جهل الخلفاء الثلاثة بالأحكام الشرعية .... 152
- تعليقة من أحد العلماء عن خطبة وردت عن الخليفة عمر ... 155
- مصادر حديث : ( عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ ) ... 158
مصادر قول الإمام عليه السلام : ( علّمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف باب ... ) .... 159
- الإمام عليه السلام يطلب أن يُسأل عن كتاب الله وسُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .... 159
- ابن المسيّب يقول : لم يكن أحد من الصحابة يقول سلوني إلاّ عليّ .... 160
ص : 377
- المراد من قول الإمام عليه السلام : ( فنظرت في أمري فإذا طاعتي ... ) .... 161
- شرح ابن أبي الحديد للجملة السابقة الواردة عن الإمام عليه السلام .... 161
- بيان بطلان مذهب المعتزلة بجواز تقديم المفضول علىٰ الفاضل .... 162
- آيات وأحاديث تبين أفضلية وأحقية أهل البيت عليه السلام بالخلافة .... 164
- مصادر حديث : ( أهل بيتي أمان لاُمتي ) .... 166
- مصادر حديث : علي سيّد المسلمين ... 166
- مصادر حديث : عليّ الصدّيق الأكبر .... 167
- الأحاديث الواردة بالخصوص في وجوب موالاة عليّ عليه السلام .... 171
- ابن أبي الحديد يتوقّف عند قول الإمام عليه السلام : الأئمّة ... ... 175
- المراد من قول الإمام عليه السلام : ( لا تصلح ) ... ... 175
- شرح الشيخ محمّد عبده لقوله عليه السلام : ( نظرات فإذا طاعتي ... ) ... 177
- إخباره صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام بأنّ الأُمة ستغدر به من بعده ... 178
- أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام بالصبر من بعده .... 179
- بيان سبب رد الإمام عليه السلام الناس عن مبايعته بعد مقتل عثمان ... 182
الفصل الخامس : موقف الإمام عليه السلام من أهل الجَمل
- بيان معنىٰ الفتنة الوارد ذكرها بحقّ المسلمين ... 191
- عقيدة أهل السُنّة في مقاتلي عليّ عليه السلام .... 192
- عقيدة الإمامية في مقاتلي أمير المؤمنين عليه السلام ... 194
- ماذا قال الإمام عليه السلام بحقّ طلحة والزبير والسيّدة عائشة ؟! .... 195
الفصل السادس : موقف الإمام عليه السلام من معاوية وحزبه
- أقواله عليه السلام الواردة في النهج بحقّ معاوية وفتنة بني أُمية ... 202
- ماهي حقيقة النزاع الّذي كان بين عليّ عليه السلام ومعاوية ؟! ... 208
- مصادر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ حرب عليّ حربه ... 210
ص : 378
- معاوية يضع الأحاديث المكذوبة في فضائل الصحابة كيداً لأهل البيت عليهم السلام .... 215
- أراد معاوية من فعله السابق أن يخلق بين المسلمين خطاً معارضاً لأهل البيت عليهم السلام .... 216
- حديث أصحابي كالنجوم حديث موضوع .... 216
- كلام الحسن البصري في معاوية ... 219
- جانب من رذائل يزيد بن معاوية ... 219
- بيان أنّ السياسة جزء لا يتجزأ من الدين ... 221
- مغالطة للكاتب في قوله : علينا أن نرجع الى الدين الواحد الذي كان عليه عليّ ومعاوية ... 223
- لماذا نهىٰ الإمام عليه السلام عن سبّ أهل الشام ؟! .... 224
- خلق الإمام عليه السلام هو من خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلق القرآن ... 226
- قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( عليّ مني وأنا من عليّ ) ... 226
- قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ) .... 227
- ماذا كان من خلق معاوية مقابل خلق عليّ عليه السلام ؟! .... 227
- المصادر التي ذكرت قيام معاوية علىٰ المنبر بلعن عليّ عليه السلام .... 228
- معاوية يأمر رعيته بسبّ الإمام عليه السلام ... 228
- سبّ عليّ عليه السلام صيّره معاوية سنّة ينشأ عليها الصغير ويهرم عليها الكبير ... 228
- قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).... 230
- مصادر قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( من سبّ علياً فقد سبّني ) .... 230
- التسمي بأهل السُنّة والجماعة من آثار الأمويين ومخلفاتهم ... 231
- ماذا تعني الصلابة في السُنّة عند القوم ؟! .... 231
- التناقض الحاصل في التوثيق عند أهل السُنّة .... 233
- لماذا فرّق الإمام عليه السلام في حربه بين متابعة المدبر وتركه ؟! .... 235
- صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية كان من أجل إخماد الفتنة التي أشعلها
ص : 379
معاوية ... 239
- اعتراف معاوية بأنه قاتل من أجل المُلك والإمارة ... 240
- معاوية ينقض عهوده مع الإمام الحسن عليه السلام ... 241
- تطاول معاوية علىٰ مقام النبوة ... 242
- موارد لعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمعاوية وأبيه .... 244
- الشجرة الملعونة هم بنو أُمية ... 246
الفصل السابع :
العلوم التي رزقها الإمام عليه السلام وأهل بيته عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
- عليّ عليه السلام هو وارث علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .... 253
- مصادر حديث : ( أنا مدينة العلم وعليّ بابها ) .... 254
- مصادر حديث : ( أهل بيتي رزقوا فهمي وعلمي ) .... 254
- نصوص تبيّن علم الإمام عليه السلام بما هو كائن إلىٰ يوم القيامة ... 255
- مناقشة مع الكاتب حول حديث أورده عن الإمام
الصادق عليه السلام ، وبيان جهل الكاتب بعلم البلاغة ... 258
- بيان موجز حول منزلة كتاب « الكافي » عند الشيعة .... 261
الفصل الثامن : الفرق بين الوحي والإلهام
- اتفاق الإمامية علىٰ منع نزول الوحي بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .... 267
- روايات أهل السُنّة بأنّ عمر كان محدَّثاً وملهماً .... 268
- أئمّة أهل البيت علماء صادقون مفهمون محدَّثون .... 269
- نفي القول بتحريف القرآن عند الإمامية .... 275
- المراد بمصحف فاطمة الزهراء عليها السلام .... 277
- الروايات الواردة في منزلة الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام .... 281
ص : 380
الفصل التاسع : علّة وجود الحجج بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
- بيان المراد بالحجّة .... 286
- حجج الله الدالة علىٰ وجوده آثاره من مخلوقاته .... 287
- كيف صار أهل البيت عليهم السلام حجج الله علىٰ خلقه ؟ ... 287
الأحاديث الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء الحجج من بعده .... 291
- نصوص من « نهج البلاغة » تؤكد وجود الحجج بعد الأنبياء عليهم السلام ... 293
الفصل العاشر : الاستدلال علىٰ عصمة الإمام عليه السلام
قياس منطقي لآيات القرآن الكريم ينتج عصمة أهل البيت عليهم السلام : ... 302
- أدلة السُنّة الشريفة ... 304
- الأحاديث الدالة علىٰ عصمة عليّ عليه السلام خاصّة .... 309
- الديلمي يحذف الاستثناء الدال علىٰ العصمة من كلام الإمام عليه السلام ... 310
- نصوص من « نهج البلاغة » ترشد علىٰ عصمة الإمام عليه السلام .... 311
- معنىٰ قول الإمام عليه السلام : ( وما أهمّني ذنب أمهلت بعده .. ) ... 314
- قوله عليه السلام : ( اسألوني قبل أن تفقدوني ) لا ينافي وجود المعصوم بعده .... 316
- توجيه الألفاظ الواردة في وصية الإمام عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام .... 319
- النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عهد إلىٰ عليّ عليه السلام سبعين عهداً لم يعهدها الىٰ غيره .... 320
- ماذا أراد الإمام عليه السلام بكتابه إلىٰ أهل الكوفة الذي جاء فيه : إن كنت ظالماً أو مظلوماً ؟ .... 322
- سيرة الإمام عليه السلام بين المسلمين دالة علىٰ عصمته ... 325
الفصل الحادي عشر : الوسائط المشروعة بين الخالق والمخلوق
- التفريق بين الشفاعة الباطلة والشفاعة الصحيحة ... 330
- بيان معنىٰ الواسطة التي يجوز التوسل بها إلىٰ الله تعالى ... 332
- حديث الأعمى أوضح دليل علىٰ جواز التوسل بالصالحين من عباده ... 330
ص : 381
الفصل الثاني عشر : مهمّة ولاة الأمر في الإسلام
- اشتباه الكاتب في معرفة مهمة ولاة الأمر في الإسلام ... 340
- بيان حالة الاتحاد والمجانسة بين النبيّ وأُولي الأمر من أهل بيته عليهم السلام .... 342
معرفة ولاة الأمر له ودخل في حسن عاقبة المرء .... 344
- من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ... 344
- الأئمّة الواجب معرفتهم علىٰ كلّ مسلم .... 345
- مصادر قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( معرفة آل محمّد براءة من النار ) ... 345
- حديث الفرقة الناجية الذي رواه الحافظ الشيرازي في تفسيره المأخوذ من إثني عشر تفسيراً من تفاسير أهل السُنّة .... 346
- قبول الإمام عليه السلام التحكيم في واقعة صفّين لا مدخلية له بالعصمة .... 349
- هل غابت العصمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قبل بصلح الحديبية مع المشركين ! .... 349
- عمر هو الوحيد الذي شك بنبوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إثر صلح الحديبية ... 350
- الذي أصاب الدليمي من الإمام عليه السلام من سنخ ما أصاب الخليفة من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .... 351
- كلام الإمام عن الخوارج يدلنا علىٰ عصمته عليه السلام .... 351
الختام.
الفهارس التفصيلية
- فهرس المصادر ... 357
فهرس المواضيع ... 367
ص : 382