الإلهیات علی هدی الکتاب و السنة و العقل المجلد 3

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: السبحاني التبریزي ، جعفر، ‫ 1308 -

عنوان واسم المبدع: الإلهیات علی هدی الکتاب و السنة و العقل ‫/ محاضرات جعفر السبحاني التبریزي ‫؛ بقلم حسن محمد مکي العاملي .

مواصفات النشر: ‫قم ‫: موسسة الامام الصادق (ع) ‫، 1423 ق. ‫= 1381.

مواصفات المظهر: ‫4ج.

ISBN : ‫160000ریال ‫: دوره ‫ 964-357-054-1 : ؛ ‫ج.2 ‫ 964-357-055-X : ؛ ج.3 ‫ 964-357-056-8 : ؛ ج.4 ‫ 964-357-057-6 :

لسان : العربية.

ملحوظة: چاپ قبلی : المرکز العالمي للدراسات الاسلامیة ، 1369.

ملحوظة: ‫ج. 1 و 2 (چاپ هفتم: 1430 ق.= 1388).

ملحوظة: کتابنامه .

موضوع : کلام شیعه امامیه -- قرن 14

شیعه امامیه -- عقاید

معرف المضافة: مکی عاملی ، حسن

تصنيف الكونغرس: ‫ ‮ BP211/5 ‫ /س 18‮الف 7 1381

تصنيف ديوي: ‫ 297/4172

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 82-15822

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: سجل كامل

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

تصدير بقلم المحاضر

تطوير علم الكلام أو رصد الحركات الإلحادية

الحمد للّه الذي هو الأول لا شيء قبله، و الآخر لا غاية له، لا تقع الأوهام له على صفة، و لا تقعد القلوب منه على كيفيّة، و لا تناله التجزئة و التبعيض، و لا تحيط به الأبصار و القلوب. و الصلاة و السلام على من أرسله على حين فترة من الرسل، و طول هجعة من الأمم، و اعتزام من الفتن، و انتشار من الأمور، و الدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، محمد الخاتم لما سبق، و الفاتح لمن غلق، و المعلن الحق بالحق(1). و على أهل بيته مصابيح الظلم، و عصم الأمم و منار الدين الواضحة، و مثاقيل الفضل الراجحة، صلاة تكون إزاء لفضلهم، و مكافئة لعملهم، و كفاء لطيب فرعهم و أصلهم، ما أنار فجر ساطع، و أضاء نجم طالع.

أما بعد:

فقد أسس علم الكلام في القرون الإسلامية الأولى و لم يكن تأسيسه و تدوينه إلا ضرورة دعت إليها حاجة المسلمين إلى صيانة دينهم و عقيدتهم و شريعتهم. و أول مسألة طرحت على بساط البحث بين المسلمين هي حكم مرتكب الكبيرة التي اختلف فيها المسلمون إلى أقوال، فمن قائل بأنه كافر،

ص: 5


1- اقتباس من خطب الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة، لاحظ الخطبة 69 و 81 و 85.

إلى قائل بانه ليس بمؤمن و لا كافر، بل في منزلة بين المنزلتين، و يعاقب أقل من عقاب الكافر، إلى ثالث بأنه مؤمن فاسق. و تلت هذه المسألة مسألة حدوث كلامه سبحانه أو قدمه فأحدثت بين المسلمين ضجة كبرى، و صارت مبدأ لمحنة أو محن. و في عرض هذه المسألة ارتفع النقاش حول الصفات الخبرية الواردة في الكتاب و السنة، كاليد، و العين و الاستواء على العرش إلى غير ذلك من الصفات.

ثم إنه كلما ازداد الاحتكاك الثقافي بين المسلمين و الأجانب، و شاعت ترجمة الكتب الفلسفية و العقيدية للفرس و اليونان و غيرهما، زاد النقاش و البحث حولها، لاصطكاك بين تلك الآراء و ما جاء به القرآن و السنة، فلم يجد المسلمون في تلك الاجيال إلا التدرع بالبراهين العقلية حتى يصونوا بذلك حوزة الإسلام من السهام المرقوشة التي ما زالت تطلق إلى قلب الإسلام و المسلمين، و نواميس الدين و الشريعة. فشكر اللّه مساعي الجميع من سنة و شيعة في حفظ الدين و صيانته.

هذا ما قام به القدماء في أداء وظيفتهم الرساليّة، لكن التاريخ يشهد بأن قسما كبيرا من مسائل علم الكلام، حول المبدأ و المعاد، و حول التوحيد و العدل، متخذة من خطب الإمام امير المؤمنين عليه السلام، و انه هو البطل المقدام في دعم هذه الأصول و إحكامها. و لو اعترفت المعتزلة بأن منهجهم الكلامي يرجع إلى عليّ عليه السلام فقد صدقوا في انتمائهم و انتسابهم إلى ذاك المنهل العذب الفياض. و ليس عليّ وحده من بين أئمة أهل البيت، أقام دعائم هذا العلم و أشاد بنيانه، بل تلاه الائمة الأخر منهم، كعليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام (ت 38 - م 94)، فقد صقل العقول و الأذهان الصافية بأدعيته المعروفة التي هي لباب التوحيد و صفوة المعارف الإلهية، و فيها من العرفان الصافي ما لا يوجد في غيرها. كما أن صادق الأمة و امامها جعفر بن محمد عليه السلام (ت 83 - م 148) رفع صرح المدرسة الكلامية الموروثة من آبائه و أجداده، يقف عليه من سبر أحاديثه و كلماته و أماليه، حتى جاء عصر الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (ت 148 - م 203)، فأضفى على المسائل

ص: 6

الكلامية ثوبا جديدا، و أبان عن المعارف في مناظراته مع أهل الكتاب و الزنادقة، و أسكت خصماءه، و دحض شبهاتهم، و ردّ أيديهم إلى أفواههم.

و لو لم يكن لأئمة أهل البيت ميراث كلامي سوى كتاب توحيد الصدوق (ت 306 - م 381)، و احتجاج الطبرسي (المتوفى حوالي 550) لكفى فخرا في الدفاع عن حياض الإسلام و معارفه و عقائده.

و قد استخدم ائمة أهل البيت في بحوثهم و مناظراتهم، الوسائل التي كان الخصم يستخدمها و يعتمد عليها. كان أن لفيفا من علماء الكلام قد دقوا هذا الباب و وردوا هذه الشريعة، فتدرعوا بأحسن ما كان خصماؤهم متدرعين به، كما انهم لم يزالوا بالمرصاد للحركات الإلحادية القادمة من جانب الروم و اليونان و مستسلمة أهل الكتاب، فأوجب هذا الرّصد و التدرّع بسلاح اليوم، أن يكون علم الكلام علما يباري الخصماء، و يصرعهم في ميادين البحث، و المناظرة، فجاء يماشي حاجات العصر جنبا إلى جنب، و كتفا إلى كتف. و لم يكن علما جامدا محصورا في إطار خاص، بل كان مادة حيوية تتحرك و تتكامل حسب تكامل العقول، و الأفهام، و حسب توارد الشبهات و الاسئلة التي بها ينمو كلّ علم، و بها يتكامل.

فإذا كانت هذه هي وظيفتهم الرسالية أمام الأمة الاسلامية و المسلمين في سبيل صيانة دينهم و شريعتهم، فهذه الرسالة بعد باقية في أجيالنا و أعصارنا، فيجب على علماء العقائد و الأخصائيين في علم الكلام، اقتفاء أثرهم، و رصد الحركات الإلحادية الهدامة المتوجهة إلى الإسلام من معسكرات الغرب و الشرق، بصورها الخداعة، و باسم العلوم الطبيعية و الاجتماعية و الإنسانية و الاقتصادية، بل باسم التاريخ و تحليل الأديان الكبرى. ففيها من السموم القتّالة ما يهدم عقيدة المسلمين، و يزعزع كيانهم، و هم جعلوها في متناول عقولهم و أفكارهم بشتى الطرق و الوسائل، فطفقوا يديفون السم بالعسل، حتى يذوقه غير الواعين من المسلمين، و ينهموه باشتهاء.

إن الحركات الإلحادية الهدامة ابتدأت دورها منذ ظهرت طلائع الحضارة

ص: 7

المادية في الغرب، و تديّن مفكروها بالمادية في عطاء المسيحية و واجهة اليهودية، و وقفوا على أنّ التغلب على الشرق يتوقف على تضعيف عقائد الشرقيين و إبعادهم عن ديانتهم، فصار ذلك مبدأ لتأسيس علم باسم الاستشراق، له واجهة الاستطلاع و التحقيق و التنقيب، و واقعية هي الإضلال و التحريف، و إضعاف عقائد الشبان. و ليس هذا شيئا مكتوما على من سبر كتب هؤلاء حتى من اشتهر بالوعي و الموضوعية.

هذا، و لو أردنا أن نسلك خطى من تقدم من علمائنا الكلاميين في الدفاع عن الدين و الشريعة، فلا مناص لنا إلا رصد الحركات الإلحادية التي تظهر في كل زمن و جيل باسم و صورة و واجهة، و هذا يقتضي تطوير علم الكلام الموروث و إكماله حتى يفي بحاجات العصر، و يقف موقف المعلم الرءوف بالنسبة إلى المستعلم الواعي فيجيب عن الشبهات المستحدثة في كل عصر و جيل باسم العلم و التاريخ. و لأجل ذلك لا مناص في تطوير علم الكلام من البحث في أمور يقتضي الزمان ضرورة طرحها و تحليلها:

الاول: فصل الدين عن العلم

إن فصل الدين عن السياسة من الخطط الإلحادية التي لم تزل تروّج في الغرب منذ كسرت شوكة الكنائس، فاتخذوها سندا وثيقا لإبعاد الدين عن السياسة، فطفق السياسيون يلعبون بكل شيء سواء أوافق الدين أم لا، قائلين بأن للدين مجالا، و للسياسة مجالا آخر، و لكلّ رجاله: (و للحرب و القصعة و الثريد رجالها).

و قد لعب السياسيون بهذا الحبل أدوارا، فخصوا الدين بالكنائس و البيع، و خارجهما بالسياسة التي لا تفارق الخدعة و الدغل.

و جاء بعد هذه الفكرة أو معها فصل الدين عن العلم، و صار هذا أصلا رصينا في العلوم الجامعية، تدرّس العلوم الطبيعية و الانسانية على هذا الأصل، فإذا شاهدوا في مورد تناقضا و تضادا، فأقصى ما عندهم أنّ للدين

ص: 8

مجالا و للعلم مجالا آخر، و لا يصح لواحد منهما التدخل في حدود الآخر.

و هذا من الحبائل الإلحادية التي يصطاد بها كثير من الشبان بلا مشقة و شدة، و هي تدعوهم إلى الاعتقاد بأمرين متضادين: أحدهما يدعو إلى شيء و الآخر إلى ما يضاده، و بما أن الطالب يمارس العلم كل يوم بالأدوات الحسية، فلا يزال يتباعد عن الدين إلى أن يرفضه و يتركه و يصير ملحدا محضا، و أقصى حاله، أن يكون مسيحيا أو مسلما بالهوية لا بالحقيقة.

إن الدين المعتمد على الوحي النازل من خالق الكون و صانع نواميسه لا يمكن أن يفترق عن العلم قيد شعرة. فإذا كانت العلوم البشرية كاشفة عن حقائق الكون مع أنها غير مصونة عن الخطأ، فالوحي الذي لا يأتيه الباطل أولى بأن يكون كاشفا عن الكون و سننه و نواميسه. و لأجل ذلك يجب في تطوير علم الكلام البحث عن الدين و تبيين مفاده و تعيين حدوده و تشريح موقفه من العلم، و أنهما هل يمشيان في طريقين مختلفين أو في طريق واحد، و هل الدين أمر فردي أو اجتماعي. و هل هو يتلخص في الأوراد و الأذكار،. و يعم جميع الشئون، و أنه هل يحكم و يبرم بلا سند قاطع، أو يعتمد على أوثق المصادر و أقوى المدارك التي لا تقبل الخطأ.

الثاني: النسبية أو نفي الحقائق المطلقة

كان الشك و الترديد في وجود الكون و ما فيه، و العلوم التي يتبناها الإنسان، منهجا رائجا في الفلسفة الإغريقية حتى قضى عليها أرسطو و أستاذه أفلاطون و غيرهما. إلى أن ظهرت طلائع الحضارة الإسلامية، فقام فلاسفة الإسلام بدحض شبهاتهم و محوها عن بساط البحث، فلا تجد بين المسلمين من ينتمي إلى السفسطة و يكون له شأن و مقام بينهم. و في النهضة الصناعية الأخيرة، عادت السفسطة إلى الأوساط العلمية بصورة أخرى، خادعة هدّامة.

و هؤلاء، مع أنهم يدّعون أنهم من أصحاب الجزم اليقين، و يكافحون الشك و الترديد، يعتقدون بأن ما يدركه الإنسان من القضايا بالأدوات المعروفة صادق صدقا نسبيا لا صدقا مطلقا، صدقا مؤقتا لا صدقا دائما، و ذلك لأن للظروف

ص: 9

الزمانية و المكانية و الأجهزة الدماغية تأثير في الإدراكات الإنسانية، فليس في وسع الإنسان أن ينال الواقع على ما هو عليه، و أن ترد على ذهنه صورة مطابقة له، مطابقة الفرع للأصل، بل كل ما يحكيه الإنسان بتصوراته و تصديقاته عن واقع الكون و نفس الأمر، فإنّما يحكيه بمفاهيم ذهنية تأثرت بأمور شتى خارجية و داخلية، فالإنسان في مبصراته و مسموعاته أشبه بمن نظر إلى الأشياء بمنظار ملوّن، فكما أنّه يرى ألوان الأشياء على غير ما هي عليه، فهذه الظروف الزمانية و المكانية، و ما في داخل المدرك و خارجه من الخصوصيات كهذا المنظار، تري الأشياء على غير ما هي عليه، و لكن لا تباينها، بل تطابقها مطابقة نسبية فالإنسان عند هؤلاء أشبه بمن ابتلي بمرض اليرقان، فكما أنّه يرى الأبيض و الأسود صفراوين، لأجل خصوصية في جهازه الإبصاري، فهكذا الإنسان في كل ما يدرك و يقضي، فإنّما يتوصل إلى الواقع بأجهزته التي يتأثر العلم الوارد إليها من الخارج بها، و مع ذلك كله فليس ما يدركه خطأ محضا، و لا صدقا محضا، بل هو صحيح في ظروف خاصة.

هذا إجمال ما يذهب إليه النسبيون من الفلاسفة، غير أنه أصبح أساسا للمناهج الفلسفية الغربية منذ عصر ديكارت إلى زماننا هذا، و الإنسان المتتبع في كلماتهم و نظرياتهم يقف على أنهم لا يعتقدون بالقضايا الصادقة المطلقة الدائمة الكلية، خصوصا في فلسفة «جان لاك» (ت 1632 - م 1704) و فلسفة «كانت» (ت 1724 - م 1804) فهؤلاء - بإضفاء النسبية على القضايا، و تأثر الإدراكات الإنسانية في جميع الموارد بالخصوصيات الداخلية و الخارجية - أعادوا حديث السفسطة و لكن بثوب جديد، و غطاء علمي خادع.

و من سبر دلائل السوفسطائيين في الفلسفة الإغريقية، يقف على أن ما ذكره الغربيون وجها لنسبية العلوم، هو نفس ما ذكر رئيس الشكاكين اليونانيين «بيرهون» في إثبات السفسطة و أن ما يدركه الإنسان من الخارج لا ينطبق عليه لأنّ الأجهزة الإدراكية تتأثر بالظروف الزمانية و المكانية و الحالات النفسانية، و بذلك لا يمكن أن نعتبر العلوم علما حقيقيا كاشفا عن الواقع.

و لو صدق حديث النسبية و أن الاجهزة الادراكية لم تزل خاضعة لشرائط

ص: 10

خاصة، فعلى العلم و كشفه السلام، و على ذلك يصبح الدين و معارفه و شرائعه علوما صادقة نسبيا، و لو تغيرت الظروف لتغيرت مفاهيم الدين و معارفه و تشريعاته، الى غيرها. فاي قيمة لدين هذا اساسه، و أي وزن لمعارف إلهية لا تزال متزلزلة متغيرة بتغير الظروف.

إن نظرية النسبية من أخطر الحبائل التي طرحت أمام المتدينين و الواقعيين و نحن لا نأتى عليها - هنا - بكلمة غير أنا نسأل أصحاب هذه الفكرة - و يا للاسف تحملها فلاسفة الغرب و أصحاب المناهج منهم، لا سيما الحسيين - هل أن القول بامتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما، و اجتماع الضدين، و مسألة العلية و المعلولية، و انقسام المفاهيم إلى الممكن و الواجب و الممتنع، من العلوم النسبية ؟ أ فهل يحتمل هؤلاء أن للظروف الزمانية و المكانية، و الخصوصيات العالقة بذهن الإنسان، تأثيرا في هذه القضايا بحيث لو خرج الإنسان عن هذه القيود لتصوّر هذه القضايا بشكل آخر، فيجوّز اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، أو يجوز وجود المعلول بلا علّة ؟.

و العجب أن هؤلاء عند ما يضفون على عامة الإدراكات لون النسبية و ينكرون كل قضية صادقة على وجه الكلية و الإطلاق و الدوام - إن هؤلاء أنفسهم بذلك يثبتون قضية كلية دائمة الصدق غير متلونة بلون و لا محدودة بخصوصية خارجية أو ذهنية حيث يقولون ليس لنا قضية صادقة مطلقة كلية، فإن هذا القول منهم قضية مطلقة لا نسبية، و لو كان هذا النفى، نفيا نسبيا لا صبحت سائر القضايا مطلقة لا نسبية.

إن التركيز على أن للانسان علوما مطلقة، مضافا إلى أن له علوما نسبية يقتضي التركيز على نظرية المعرفة قبل كل شيء في علم الكلام، فإن لتلك النظرية تأثيرا هاما في جميع الأبحاث الكلامية، و قد كان القدماء من المتكلمين يبحثون عنها في مقدمات كتبهم فهذا هو الإمام الأشعري، كتب بحثا مطولا عن السوفسطائيين في مقدمة مقالات الإسلاميين، و تبعه البغدادي في كتاب أصول الدين، و غيرهما من المتكلمين، حتى أن الامام البزدوي رئيس الماتريدية في عصره، خصّ فصلا خاصا من كتابه في هذه النظرية.

ص: 11

إن علماء الغرب قد بلغوا القمة في البحث عن هذه النظرية، فبحثوا عن أدوات المعرفة، حسّيها و عقليّها، كما بحثوا عن قيمة العلوم الإنسانية مضافا إلى تحديد مجاري العلم و المعرفة، فإن لهذه المباحث أثرا خاصا في الأبحاث الكلامية و رصد الحركات الإلحادية، و لم يزل الإلحاد يدب بين السذج من الشباب من هذه الطرق، فمن قائل باختصاص أدوات المعرفة بالحس، إلى قائل بلزوم الإيمان بما تثبته التجربة و رفض غيرها، إلى ثالث يحدّد معرفة العلوم الإنسانية بشئون المادة و أعراضها، و يركز على أن ما وراء المادة خارج عن مجال الإدراك الإنساني و أنّه ليس للإنسان فيها القضاء و الإبرام نفيا و إثباتا.

و هذه الأفكار الفلسفية، أخطر على حياة الدين من الحملات العسكرية على كيان المسلمين.

الثالث: إنكار الفطريات

إن التعلّل بمعرفة النفس أصبح في هذه الأزمان أداة طيّعة في يد الإلحاد، خصوصا الجامعيين المؤمنين بفروض «فرويد» و منهجه فجعلوا علم النفس أساسا لإنكار الفطريات، التي يقوم عليها دين التوحيد، يقول سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (1).

و قد عادت علاقة الدين بالانسان عندهم وليد الميول الجنسية للإنسان، بل أصبحت المعنويات عند أصحاب هذا المنهج ظاهرة طفولية، و استبقاء لعلاقة الطفل في يوم عجزه، بأمه و أبيه، فإذا كبر الانسان و أحس بعجز الأب و الأم تجاه الاخطار الكبرى مضى يبحث عن قوة أكبر و أقدر على حمايته تجاه الحوادث حتى يحلّها محل أبيه، و هكذا نشأت عندهم فكرة الإله.

فالعالم الكلامي الذي يريد الدفاع عن حياض الإسلام و المسلمين لا

ص: 12


1- سورة الروم: الآية 30.

مناص له إلا التركيز على معرفة الإنسان، معرفة تامة، بنفس الطرق التي يستعملها علماء النفس في معرفته.

الرابع: الغرور بالعلم

إن الانغرار بالعلم الحديث - مع الاحترام التام للعلم و أهله - صار سببا لإنكار المعاجز، و خوارق العادات، و تسرب الشك إلى الوحي و الإدراك الخارج عن إطار الحس و العقل، كما تسرب الشك الى العصمة في الأنبياء، و بكلمة قصيرة، في أكثر ما يرجع إلى عالم الغيب و الخارج عن الشهادة، و صار هذا مبدأ لنزوع كثيرة من الباحثين عن القرآن و السنة الى تأويل ما لا يلائم قوانين الشهادة. و لأجل أن يكون القارئ الكريم على بصيرة من اغترار هؤلاء بالعلم، نذكر نماذج من أفكارهم.

فهذا هو شيخ الأزهر محمد عبده (ت 1323) - و قد خدم الازهر بفكره و قلمه و ورث عن أستاذه السيد جمال الدين الأسدآبادي، أفكاره و آراءه - يؤول الآيات الدالة على إحياء الموتى في هذه النشأة، تأويلا يناسب روح العصر الإلحادي(1).

كما أنه بطبيعته العلمية يحاول أن يفسر الملائكة بالقوى الطبيعية، و من المعلوم أنّ الحافز إلى هذا التوجه ليس إلاّ الاغترار بالأساليب العلمية التجريبية و الخوف من المتدرعين بالعلم الحديث، و الانهزام أمامهم. و إلاّ فقد كان اللائق بشيخ الأزهر الصمود أمام التيارات الإلحادية و أن يقول - رافعا عقيرته - إنّ أقصى ما للعلم من الحق هو الإثبات لا النفي، فالعلوم التجريبية مهما بلغت من القمة، ليس لها شأن إلاّ تحليل الموجودات المادية فقط، و أما نفي ما وراء الطبيعة و إنّه ليس هناك ملك و لا جن و لا وحي و لا لوح و لا قلم، فلا شأن له فيه، و لو تدخّل فيه فقد تطلع إلى ما هو أقصر منه.

و هذا هو الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي، يرى أن التشريع الإسلامي غير

ص: 13


1- ستقف على نماذج من تأويلاته في بحث المعاد من هذا الجزء.

صالح للتطبيق على هذه الظروف، و إنه يختص بالعصور الغابرة يقول: إن من ينظر في كتب الشريعة الأصلية بعين البصيرة و الحذق، يجد أنه من غير المعقول أن تضع قانونا أو كتابا أو مبدأ في القرن الثاني من الهجرة ثم يجيء بعد ذلك، فتطبق هذا القانون في 1354 هجرية(1).

و هذا فريد وجدي - كاتب دائرة معارف القرن الرابع عشر - تجده يرقص لافلات الحكومات من سلطان رجال الدين و يمدح ثمرات العلوم مغمزا بثمرات الدين، يقول: «تقدم الزمان و أفلتت الحكومات من سلطان رجال الدين و اقتصر سلاح الدين على ما كان لديه من قوة الإقناع، ففي هذه الأثناء كان العلم يؤتي ثمرات من استكشاف المجهولات، و تخفيف الويلات، و ترقية الصناعات، و ابتكار الأدوات و الآلات، و يعمل على تجديد الحياة البشرية تجديدا، رفعها عن المستوى، فشعر الناس بفارق جسيم، بين ما انتهوا إليه في عهد الحياة الحرة و تحت سلطان العلوم المادية، و بين ما كانوا عليه ايام خضوعهم لحفظة العقائد(2).

و ليس هذا الداء مخصوصا بهؤلاء، بل هناك رجالات آخرون تأثروا بالفلسفة المادية الغربية فأخذوا ينظرون إلى منطق الدين باستصغار.

فهذا أحمد أمين المصري الطائر الصيت، يقول في كتابه: «إن قانون التناقض الذي يقول به المنطق الشكلي القديم و الذي يقرر أن الشيء يستحيل أن يكون و أن لا يكون في آن واحد، يجب عليه الآن أن يزول من أجل حقيقة «هيجل» العليا التي تنسجم فيها المتناقضات و التي تذهب إلى أن كل شيء يكون موجودا و غير موجود»(3).

ص: 14


1- مجلة الأهرام، 28 فبراير، عام 1936، لاحظ موقف العقل و العلم و العالم من رب العالمين و عباده المرسلين، تأليف مصطفى صبري، شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، ج 1، ص 32.
2- مجلة الازهر، المجلد الثاني، الجزء التاسع، لاحظ موقف العقل و العلم و العالم، ج 1، ص 57.
3- قصة الفلسفة الحديثة، كما في موقف العقل و العلم و العالم، ج 1 ص 130.

و قد عزب عن المسكين أن ما يدّعيه «هيجل» من الجمع بين النقيضين لا يمت إلى النقيضين المبحوث عنهما في المنطق الشكلي، بصلة. و إنّما هو عبارة عن العناصر المتضادة في الطبيعة التي يحصل من تفاعلها شيء ثالث، و لو أردنا أن نعبر عنه باصطلاح صحيح، فيجب أن نقول: يريد المتضادين في مصطلح الفلسفة، لا النقيضين، و لا الضدين في مصطلح المنطق.

ثم نسأل الأستاذ، إذا كانت أبده القضايا، أعني امتناع اجتماع النقيضين، واقعة في إطار الشك و الترديد، بل الردّ و الإنكار، فأنّى له أن يثبت قضية يقينية طاردة للشك و اليقين، إذ المفروض عنده أنّ النقيضين يجتمعان، و أنّه لا مانع من أن تهدف قضية «قرأ أرسطو على أفلاطون» و نقيضها «لم يقرأ أرسطو على أفلاطون».

و أسوأ من ذلك قوله الآخر، منددا بعلم الكلام الذي نرى جذوره في القرآن و السنة، ثم العقل: «أما علم التوحيد فبرهان لمن يعتقد، لا لمن لا يعتقد، برهان لصاحب الدين، لا لمخالفه، و لهذا لم نر في التاريخ أن علم الكلام كان سببا في إيمان من لم يؤمن، أو إسلام من لم يسلم إلا نادرا، و إنّما كان سببا في ايمان الكثير و إسلام الجم الغفير، الدعوة من طريق القلب لا من طريق المنطق»(1).

نقول: إذا لم يكن علم الكلام سببا لايمان من لم يؤمن، فما معنى هذه البراهين التي يسوقها القرآن حول دحض الشرك و دعم التوحيد، و اذا كان العقل غير مفيد في الهداية، بل المفيد هو الكشف و الشهود، الذي يعبر عنه بطريق القلب، فما معنى دعوة الوحي الى التعقل و التدبر.

و العجب أن كل ما يقوله هو، هو برهنة و استدلال بالعقل، و هو يريد أن يرد العقل بالعقل، فما هذا التناقض ؟ اللهم إلاّ أن يلتجئ الأستاذ إلى فرضية «هيجل» و أنّه يصح الجمع بين النقيضين!!.

ص: 15


1- موقف العقل و العلم و العالم، ج 1، ص 257-258

و في مؤخر القوم، كاتب «حياة محمد»، محمد حسين هيكل، فإنّه يبث سمومه في مقدمة كتابه و ثناياه، و يرفع عقيرته بأن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق، يقول:

«انصرف هؤلاء الشبان عن التفكير في الأديان و في الرسالة الإسلامية، و صاحبها. و زادهم انصرافا ما رأوا العلم الواقعي و الفلسفة الواقعية (الوضعية) يقررانه من أن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق و لا تدخل في حيز التفكير العلمي، و أن ما يتصل بها من صور التفكير التجريدي، الميتافيزقي، ليس هو أيضا من الطريقة العلمية في شيء»(1).

ما ذا يريد من قوله: إن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق. فهل يريد من المنطق، الاستدلال عليها، كما يستدل عليها بالبرهنة العقلية التي تقوم على أساس إرجاع النظريات إلى البديهيات، فهذا عدوان و ظلم، فان أصول المسائل الدينية إنما تثبت بالبرهان العقلي، و من سبر كتب الإلهيات للمعتزلة و الأشاعرة و الإمامية يجد مقدرتهم العلمية على إثبات ما يتبنونه.

و إن أراد أنّه لا يخضع للأساليب التجريبية التي هي من شئون العلوم المادية، فهو مسلم، لكن ذلك الترقب، ترقب في غير محله، لخروجه عن نطاق التجربة.

و العجب أن ما ذكره الأستاذ ليس أمرا تجريبيا بل هو برهنة عقلية استنتجها من المشاهدات، حسب زعمه.

هذه نماذج من الاغترار بالعلم و تسرب المادية إلى الاوساط الدينية، فإذا كان هذا حال هؤلاء الذين يعدون في الجبهة و السنام من الشخصيات الدينية في مصر العزيزة، فما حال البسطاء الذين ينهلون من مشارعهم و مشارع من يتظاهر بالمادية و يرفع عقيرته بأنّه قد مضى سلطان الدين و بدأ سلطان العلم.

ص: 16


1- حياة محمد، ص 15.

هذه و تلك و غيرها مما لم نذكر يفرض علينا رسالة جديدة في علم الكلام و هي التركيز على الموضوعات التي يتخذها الإلحاد منصة لإذاعة الإلحاد و إطلاقه. و لا نكتفي بعلم الكلام السابق، و الموضوعات المحدودة، بل نماشي حاجات العصر بتطوير خاص لنجابه بذلك ضوضاء الإلحاد، بالمنطق الرصين و العظات البالغة النافذة.

دواء يزيد داء.

و هناك رسالة أخرى لعامة المسلمين و هي ادلاء النصح للوهابية الذين يدعون أنهم يتبنون عقيدة السلف من الصحابة و التابعين لهم بإحسان فقابلوا هذا السبيل الالحادي الجارف بنشر ما ألف بيد المحدّثين في العصور السابقة، ثم نشر ما ألفه ابن تيمية و تلميذه ابن قيم و مقلده في العصور الأخيرة «محمد بن عبد الوهاب». زاعمين بأنّهم يوصدون بذلك الباب أمام تطرق الإلحاد إلى قلوب الشباب المسلم.

و لكنه اشبه بمداواة العجوز، ينفع مرة و يضر مرات، فان ما كتب بيد السلف يحتوي على كل رطب و يابس و صحيح و سقيم و رصين و زائف، و إن دلّ على كونه سبحانه جسما ذا اعضاء بشرية و أنه يجلس فوق العرش و يستوي عليه و ينزل كل ليلة الى السماء الدنيا، و غيره مما نستعيذ بالله منه، و نجلّه تعالى عنه، و قد اتخذها بعض السلف عن اليهود و مستسلمة أهل الكتاب فأودعوها كتبهم الحديثية إلى أن جاء الخلف و نظر إليها بتقدير و احترام و حسبها حقائق راهنة سمعها المسلمون من النبي الاكرم.

يشهد اللّه - و إنّه لقسم لو تعلمون عظيم - أنّ في بث هذه الكتب آثارا سيئة في أفكار الشبان و فيها حط لمقام نبي العظمة بل إنها حلقات بلاء تجر الويل على الإسلام، و الدمار للمسلمين، فيجب أن يكون هناك نظارة على نشر هذه الكتب حتى يميز الصحيح من غيره، و يعلق على غير الصحيح.

هذه نصيحتي للسلفيين أساتذتهم و أبنائهم، «أبلغتكم رسالة ربّي

ص: 17

و نصحت لكم»(1) و لعل بينكم من لا يجب الناصحين، غير أن ذلك لا يؤثر في عزمي، و دعوتي في الله سبحانه.

إذا رضيت عني كرام عشيرتي *** فلا زال غضبانا علي لئامها

الآن حصحص الحق، و أسفر الصبح لذي عينين، و أقدم شكري الجزيل، و ثنائي العاطر لولدنا العلامة المحقق فضيلة الشيخ حسن مكي العاملي، دامت إفاضاته، فقد بلغ النهاية، و بذل مبلغ جهده في تدوين هذه المحاضرات و ضبطها و تنسيقها و تنظيمها، و الرجوع إلى مصادرها، فجاء هذا الجزء كالجزء السابق، كسبيكة واحدة، تعلو عليه جودة البيان، و إحكام السبك، و روعة التنظيم، فحياه اللّه سبحانه و وفقه لما يحبه و يرضاه في مستقبل أيامه، و إنّه - دام فضله - ممن عقدت عليه آمال الخير و السعادة و أن يكون أحد أعلام المحققين و الخبراء في علم العقائد و الكلام، و من المدافعين المتحمسين عن حياض العقيدة و مناهل الشريعة، و أشكر اللّه سبحانه على هذه النعمة الجزيلة، و هو خير مسئول و خير معين.

حرّره صبيحة يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر شوال المكرم من شهور عام 1409 ه ق في قم المشرفة جعفر السبحاني عفي عنه

ص: 18


1- اقتباس من سورة الأعراف: الآية 79.

الفصل السابع النبوة العامة

اشارة

البحث الأول: لزوم بعثة الأنبياء - أدلة لزوم البعثة.

- أدلة منكري البعثة البحث الثاني: ما تثبت به دعوى النبوة - الإعجاز - تنصيص النبي السابق - جمع القرائن و الشواهد البحث الثالث: الوحي و اقسامه - الوحي في اللغة - الوحي في القرآن - حقيقة الوحي في النبوة البحث الرابع: سمات الأنبياء - العصمة - التنزه عن المنفرات - العلم بالمعارف و الأحكام - الكفاءة في القيادة

ص: 19

النبوة العامة

مقدمة

النبوة سفارة بين اللّه و بين ذوي العقول من عباده، لازاحة علّتهم في أمر معادهم و معاشهم.

و النبي هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بإحدى الطرق المعروفة.

و البحث في النبوة يقع على صورتين:

الأولى - البحث عن مطلق النبوة، من دون تخصيص بنبيّ دون نبي.

الثانية - البحث عن نبوة نبي خاص، كنبوة سيدنا محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم.

و الأبحاث التي طرحها المتكلمون في النبوة العامة تتمحور في أربعة أمور، هي:

1 - البحث عن حسن بعث رجال الغيب و الوحي لهداية الناس و إرشادهم إلى الغاية المتوخاة من خلقهم، أو لزومه.

2 - إذا ثبت حسن البعثة، فما هي الطرق التي يعرف بها النبي الصادق من المتنبّئ الكاذب ؟ و هل هي منحصرة بالإعجاز، أو هناك طرق أخرى ؟ 3 - إذا كان النبي هو الإنسان المتصل باللّه سبحانه، فما هو ذاك الطريق الذي يتصل به عبره، و يتلقى من خلاله تعاليم الخالق سبحانه ؟

ص: 20

4 - ما هي الصفات المميزة للنبي عن غيره ؟ و يرجع البحث في الأول إلى تحليل أدلة مثبتي لزوم البعثة و منكريه، كما يرجع البحث في الثاني إلى الطرق التي تثبت بها نبوة الأنبياء. و يرجع البحث في الثالث إلى الوسيلة التي يتلقى بها النبي تعاليمه من الغيب، أعني الوحي و الإلهام. و يرجع البحث في الرابع إلى التعرف على صفات الأنبياء، كعصمتهم من الخطأ و الزلل و تنزههم عن الصفات المنفّرة.

و بإشباع البحث في هذه المجالات الأربعة، يكتمل البحث في النبوة العامة، و يقع الكلام بعده في النبوة الخاصة، بإذنه تعالى.

ص: 21

مباحث النبوة العامة

(البحث الأول) لزوم بعثة الأنبياء

اشارة

اتفق أهل الملل قاطبة على لزوم بعثة الأنبياء إلى الناس، بمعنى أن حكمة الخالق البالغة تقتضي إرسال الرسل لهداية الناس و إرشادهم إلى سبل السعادة.

و خالفهم في ذلك البراهمة، فقالوا بأن المجتمع الانساني بفطرته و عقليته، يصل إلى تلك الغاية، من دون حاجة إلى معلم غيبي.

و التعرف على الحق في ذلك يتوقف على تحليل أدلة الطائفتين، و نقدم أولا أدلة المثبتين، مختارين القليل من الكثير منها(1)، ثم نتبعها بأدلة النافين فنذكرها و نحلّلها.

ص: 22


1- - استدل المتكلمون بأدلة تقارب العشر على لزوم البعثة، فلاحظ تجريد الاعتقاد و شروحه
أدلة لزوم البعثة
(1) حاجة المجتمع إلى القانون الكامل
اشارة

و بيان هذا الدليل يستدعي رسم أمور:

الأمر الأول: نزعة الإنسان إلى الحياة المدنية.

لا يشك احد من الفلاسفة و الباحثين في الحياة الإنسانية، في أن للإنسان ميلا إلى الاجتماع و التمدن، فهو يفر من حياة الانفراد في الغابات و الصحاري و كهوف الجبال، و يتجه إلى التشكّل مع أبناء نوعه في اطار المجتمعات الكبرى، و كلّما تكاملت الحضارة الإنسانية، انحسرت تلك الحياة الفردية و ازدادت التشكّلات المدنية و الاجتماعية.

و هناك نظريتان في تفسير هذه النزعة الانسانية:

الاولى: أن الإنسان «مدني بالطبع» فهو بدافع فطري محض يفر من الحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية.

و الثانية: أن الإنسان «مستخدم بالطبع»، يميل إلى استخدام كلّ شيء في الطبيعة لصالح غرائزه و متطلّبات فطرته، و لا يمكنه تحقيق هذا الدافع إلى الاستخدام إلا بالتشكل في إطار الحياة الاجتماعية. و لو لا وفاء التعاون مع أبناء نوعه - المستلزم للحياة الاجتماعية - بإشباع ميله للاستخدام، لظلّ حليف الغابات و الكهوف.

ص: 23

و على كل تقدير، لا مفر للإنسان عن الحياة الاجتماعية سواء لكونه مدنيا بالطبع أو مستخدما بالطبع.

الأمر الثاني: الحياة الاجتماعية رهن القانون

إن حاجة المجتمع إلى القانون مما لا يرتاب فيه، و ذلك لأن الانسان مجبول على حب الذات، و هذا يجرّه إلى تخصيص كل شيء بنفسه من دون أن يراعي لغيره حقا. و من المعلوم أن الحياة الاجتماعية بهذا الوصف تنتهي إلى التنافس و التشاجر بين أبناء المجتمع، و تؤدي بالتالي إلى عقم الحياة و تلاشي أركان المجتمع.

فلأجل ذلك لا يقوم للحياة الاجتماعية أساس إلا بوضع قانون دقيق و محكم و متكامل، يقوم بتحديد وظائف كلّ فرد و حقوقه، و يشرّع الحدود و القيود التي يجب تحرك الجميع من خلالها.

الأمر الثالث: شرائط المقنّن
اشارة

إن وضع قانون و لو للقضايا و المشاكل الجزئية، يعدّ من أصعب الأمور في مقام التحقيق، و لا يقوم به إلا أماثل رجال المجتمع الذين تجتمع فيهم مؤهلات عالية من العلم و الخبرة. و لكي تقف على حقيقة ما ذكرنا نضرب مثالا لبعض القضايا:

إنّ مشكلة أزمة السير من أعسر المشكلات التي تعاني منها المجتمعات المدنية الحديثة، و يعد حلّها من الأمنيات الكبرى لسكانها و القائمين عليها.

فلو قامت مدينة تعاني من هذه الأزمة بتشكيل لجنة مهمتها وضع قانون و ضوابط كفيلة بحلّها، فلا بد أن تتوفر لدى أعضاء هذه اللجنة، المعرفة و الخبرة اللازمين لتحقيق هذه الغاية، فلا بد أن تكون مطلعة على عدد شوارع المدينة و مقدار سعتها، و كيفية ارتباطها، و عدد الوسائط النقلية التي تجوبها، و كذلك المراكز الاقتصادية و الحيوية في المدينة، و مراكز الكثافة السكانية، و مراكز

ص: 24

المواقف العامة للسيارات، و مقدار سعتها و ضيقها، و كذلك الوعي الثقافي لدى الناس الداعي إلى رعاية النظم و التخطيطات، و التعرف أيضا على خبرات السابقين و المخططات التي طبّقت في المدن الاخرى..... الى غير ذلك من الشروط اللازمة لوضع قانون و خطة وافية بحل الأزمة. و الجهل بواحد منها فضلا عن جميعها، موجب للفشل و عدم نجاح القانون.

فإذا كان هذا الموضوع الجزئي بحاجة إلى علم و خبروية بهذا الحد حتى يجعل له قانون كافل لحل أزمته، فكيف يجعل القانون للمجتمعات البشرية المنتشرة في أصقاع الأرض، و التي تتباين من حيث الظروف الجغرافية و العادات و التقاليد، يكون متناولا لجميع جوانب الحياة ؟! لا ريب أن جعل قانون كهذا يحتاج إلى توفّر شروط و شروط، تخرج قطعا عن طاقة الإنسان مهما ترقّى في درجات العلم. و إليك ثلاثة من أمهات تلك الشروط.

الشرط الأول: أن يكون المقنّن عارفا بالإنسان.

إنّ أول و أهم خطوة في وضع القانون، معرفة المقنّن بالمورد الذي يضع له القانون، كما أشرنا إليه في المثال المتقدم. و على ضوء هذا، لا بد أن يكون المقنّن عارفا بالإنسان: جسمه و روحه، غرائزه و فطرياته، و ما يصلح لهذه الامور أو يضربها، و كلما تكاملت هذه المعرفة بالإنسان، كلما كان القانون ناجحا و ناجعا في علاج مشاكله و إبلاغه إلى السعادة المتوخاة من خلقه و وجوده في هذا الكون.

و مثل المقنّن في هذا المقام، مثل الطبيب، كلما كانت معلوماته حول المريض، جسمه و روحه و ظروفه المحيطة به، كاملة، كلما كانت الوصفة مفيدة و ناجعة في قلع المرض.

و هناك وجهة أخرى لاقتضاء طبيعة التقنين، المعرفة الكاملة بالانسان، و هي أن الانسان خلق مع غرائز جامحة لا تعرف لإرضائها قاعدة و لا حدّا. و من

ص: 25

المعلوم أن تعطيل هذه الغرائز بالكلية ينتهي إلى الفناء، كما أن اطلاق عنانها يؤدي نفس النتيجة. فالطريق الأوسط، كبح جماحها على حد يتم لصالح الإنسان الفرد أولا، و صالح المجتمع ككلّ ثانيا.

و من هذا يتبين أن من يريد أن يقنّن لصالح المجتمع، يجب أن يكون عارفا بالإنسان عرفانا كاملا، واقفا على زوايا روحه و أعماق ضميره و خصوصيات بدنه و طاقاته، و ما يرجع إليه بالصلاح أو الفساد.

الشرط الثاني: أن لا يكون المقنّن منتفعا بالقانون.

و هذا الشرط بديهي، فإن المقنن إذا كان منتفعا من القانون الذي يضعه، سواء كان النفع عائدا إليه أو إلى من يمت إليه بصلة خاصة، فإنّ هذا القانون سيتم لصالح المقنّن لا لصالح المجتمع، و مثل هذا القانون ناكب عن الحق، متردّ في مهاوي التفرقة و التمييز، و نتيجته الحتمية الظلم و الإجحاف.

فالقانون الكامل لا يتحقق إلا إذا كان واضعه مجرّدا عن حب الذات و هوى الانتفاع الشخصي.

الشرط الثالث: إصلاح الباطن

إن للعقيدة دورها و أثرها في اختيار الفعل و انتخابه، و كلّ ما يصدر من الإنسان من فعل أو ترك فهو وليد عقيدته و تفكيره، فالمؤمن باللّه و شرائعه يسعى للإتيان بأعمال يرضي بها ربّه، كما أنّ الملحد و الكافر به و بشرائعه يسعى إلى الأعمال التي فيها رضى غرائزه و متطلبات نفسه.

و القانون مهما بلغ في درجات التكامل، لا يكون ناجحا و مفيدا إلا إذا كان في جوهره و صميم ذاته، ضمانات لإجرائه و تجسيده في الحياة.

و بضم هاتين المقدمتين إلى بعضهما يتضح أن الضمان الكامل لإجراء القانون لا يتحقق إلا بتوجه المقنّن إلى إصلاح الباطن مع إصلاح الظاهر، و لا يكون نظره محصورا بوضع الضوابط الماديّة الجافّة.

ص: 26

فالقانون الكامل يبتني على إيجاد عقيدة و إيمان بالغيب، و بقوة قاهرة كبرى، تراقب الإنسان في ليله و نهاره و في حياته الشخصية و علاقاته الاجتماعية، بالإضافة إلى ايجاد التنظيمات المادية لمراقبة أعمال الفرد الظاهرية.

و اجتماع هذين الأمرين يصنع من الفرد إنسانا اجتماعيا يعيش في ظل القانون مراعيا له و لا ينقضه إلا شاذا و نادرا.

و لو كان المقنّن ناظرا إلى الجهات الظاهرية فقط و مكتفيا في ضمانات الإجراء بالتنظيمات الرائجة، لكان خاسرا في تقنينه، و لن يرى له تجسّدا إلا في وضح النهار و أمام أعين القوى البشرية المجرية.

هذه أبرز الجهات الوافية بكمال القانون فهلمّ نرى أين تتحقق هذه الشرائط، و عند من ؟.

أما الشرط الأول، فإنا لن نجد في صفحة الوجود موجودا أعرف بالإنسان من خالقه، فإن صانع المصنوع أعرف به من غيره. يقول سبحانه: أَ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ (1).

و اما الشرط الثاني، فلن نجد أيضا موجودا مجردا عن أي فقر و حاجة و انتفاع سواه سبحانه، و وجه ذلك أن الإنسان مجبول على حب الذات، فهو مهما جرّد نفسه من تبعات غرائزه، لن يستطيع التخلص من هذه النزعة، و إلا لزم أن ينسى نفسه، و يخرج بالتالي من عداد البشر.

و أما الشرط الثالث، أي تشريع القانون على صرح الإيمان و الاعتقاد بصحة التشريع، فلن نجده أيضا في غيره سبحانه، لأنه يدعو إلى ربوبية نفسه و عبوديّة غيره، و يبين للناس أن صلاحهم في إطاعته و شقاءهم في مخالفته و بهذا يسرى قانونه و تشريعه في الحياة و المجتمعات البشرية سريان الماء في الشجر و النبات، و يكون مضمون الإجراء و التطبيق.

ص: 27


1- سورة الملك: الآية 14.

أضف إلى ما ذكرنا، أن التبدل الدائم في القوانين، و النقض المستمر الذي يورد عليها، بحيث تحتاج في كل يوم إلى استثناء بعض التشريعات و زيادة اخرى، إضافة الى تناقض القوانين المطروحة في العالم من قبل البشر، كل ذلك دالّ على قصورها عن الوفاء بحاجة المجتمعات إليها، و ما ذلك إلا لقصورهم عن معرفة الانسان حقيقة المعرفة، و انتفاء سائر الشروط في واضعيها.

فتلخص من هذا الدليل أمور:

الأول: أنّ الإنسان يميل إلى الحياة المدنية، إما لكونه «مدنيا بالطبع»، أو لكونه «مستخدما بالطبع».

الثاني: أنّ الحياة الاجتماعية لا تستقر إلا بتعرف أعضاء المجتمع على وظائفهم و حقوقهم، و هذا لا يتسنى الاّ بالتقنين.

الثالث: أنّ مهمة التقنين الشاقة لا يقوم بها إلا من اجتمعت فيه عدّة شروط أهمها: معرفته الكاملة بالإنسان، و عدم انتفاعه من القانون الذي يجعله، و أن يبني قانونه على صرح الإيمان.

الرابع: أنّ تلك الشروط لا توجد على وجه الكمال إلاّ في اللّه سبحانه خالق البشر.

فإذا كان استقرار الحياة الاجتماعية للبشر متوقفا على التقنين الإلهي، فالواجب في حكمته تعالى إبلاغ تلك القوانين إليهم عبر واحد منهم يرسله إليهم، ليوقفهم على ما فيه سعادتهم. و الحامل لرسالة اللّه سبحانه هو النبي المنبئ عنه و الرسول المبلغ إلى الناس، و يثبت بذلك أنّ بعث الأنبياء واجب في حكمته تعالى حفظا للنظام المتوقف على التقنين الكامل.

إشارة الى هذا الدليل في الذكر الحكيم.

إنّ في الكتاب الحكيم ما يشير إلى هذا الدليل، و هو قوله تعالى:

ص: 28

لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْمِيزٰانَ لِيَقُومَ اَلنّٰاسُ بِالْقِسْطِ... (1) .

فجعل القيام بالقسط الذي هو عبارة أخرى عن ضبط المجتمعات بالنظم و القوانين ليحصل التآزر و التآلف المطلوبين لتأمين الأرضية الصالحة لسلوك الإنسان إلى معين السعادة، جعله علة و غاية لإرسال الرسل، فالقسط لا يتحقق إلا بالتسنين الصحيح و التقنين الكامل الذي لا يقوم به إلا خالق الانسان و بارئه.

ص: 29


1- سورة الحديد: الآية 25.

ص: 30

أدلة لزوم البعثة

(2) حاجة المجتمع الى المعرفة
اشارة

كل انسان عاقل إذا جال ببصره فيما يحيطه من أرض و سماء، يقف على أن الكون لم يخلق عبثا، بل له غاية و هدف تتفاعل كل أجزائه في سبيله.

و ليس معنى كونه ذا غاية أن الفاعل قام بإيجاده لسد حاجته كما هو المتعارف في أفعال غيره سبحانه، بل المراد أن الفعل ليس فعلا عبثيّا فاقدا للغاية، التي ترجع إلى غيره، فكون الفاعل ذا غرض يفارق كون الفعل ذا غاية، و المنفي عن ساحته سبحانه هو الأول دون الثاني - و قد أوضحنا حاله في الجزء الأول فلاحظ.(1)

إن النظام السائد على العالم، و الانسجام الموجود بين أجزائه يعرب عن أن الهدف من إيجاده هو استقرار الحياة في كوكبنا هذا. و هذه الغاية إن لم تكن هي الوحيدة فهي على الأقل - إحدى الغايات فكأن سير النجوم و الكواكب و الشمس و القمر، و نزول الأمطار و الثلوج، و حركة الرياح و السحب، و جزر البحار و مدّها، و اخضرار المزارع و تفتح الازهار و و... مما لا يعدّ و لا يحصى من الآثار الطبيعية، كلها لاجل تكوّن الحياة و استقرارها و تهيئة الأرضية الصالحة لتكامل الموجودات الحية.

ص: 31


1- الالهيات، ج 1، ص 263-271.

و تتضح حاجة الانسان إلى المعرفة بالوقوف على أمور:

الأمر الأول - الهداية التكوينية.

إن الموجودات الحية تصل إلى الغايات التي خلقت لها، في ظلّ الهداية التكوينية و الغرائز المودعة في ذواتها، و لا تحتاج في بلوغها ذلك الكمال إلى عامل خارج عن ذواتها، سوى الإنسان.

إن الإنسان، و إن كان مجهّزا بغرائز ذاتية، إلا أنها غير وافية في إبلاغه الغاية التي خلق لها، و لا تعالج إلا القليل من حاجاته الضرورية. و لاجل ذلك ضمّ خالق الإنسان إلى تلك الغرائز، مصباحا يضيء له السبيل في مسيرة الحياة، و يفي بحاجاته التي تقصر الغرائز عن إيفائها، و هو العقل.

و مع ذلك كله فإن العقل و الغرائز غير كافيين أيضا في إبلاغ الانسان إلى السعادة المتوخاة، بل يحتاج معهما إلى عامل ثالث يعنيه في بلوغ تلك الغاية.

و وجه ذلك أن العقل الإنساني غير مصون عن الخطأ و الزلل و الاشتباه، و ذلك لأن عمل العقل اختياري، فإنه يرى أمامه طرقا متعددة و خطوطا متفاوته، عليه أن يسلك إحداها و يتجنب بقيّتها، و كثيرا ما يركب الخاطئ منها و يحيد عن الصائب.

الأمر الثاني - قصور العلم الإنساني في مجال المعارف الإلهية

إذا كان العقل و الغرائز غير وافيين بحلّ عامة مشاكل الإنسان، فالعلم الإنساني أيضا غير كاف فيه، و ذلك أن الإنسان رغم التقدم الذي أحرزه في العلوم الطبيعية، لا يزال في بدايات سلّم هذا العلم، و ما أحرزه ضئيل جدا أمام أسرار الكون العظيم. و رغم أن الإنسان تمكّن من معرفة قسم من المعادلات و القوانين التي تسير عليها الظواهر الطبيعية و القوى الكونية، إلاّ أنّه لا يعلم أي شيء هي، و ما حقيقتها و ماهيتها(1).

ص: 32


1- وقف مرة اينشتاين العالم الكبير، عند درج صغير أسفل مكتبته، و قال: «إنّ نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي. و لو أنصف لقال: أقلّ من هذه النسبة، لما ذكرناه من جهل الإنسان حقائق القوى التي يكتشف معادلاتها. لاحظ مجلة رسالة الإسلام، الصادرة عن دار التقريب بالقاهرة، العدد الأول، السنة الرابعة، ص 24، تنحت مقاله بعنوان ما نعلم و ما لا نعلم للدكتور أحمد أمين.

و مما يوضح قصور العلم البشري في العلوم الالهية، أن هناك الملايين من البشر يقطنون بلدان جنوب شرق آسيا على مستوى راق في الصناعات و العلوم الطبيعية، إلى حد أوقعوا العالم في اسارة استهلاك مصنوعاتهم، و مع ذلك فهم في الدرجة السفلى في المعارف الالهية. فجلّهم - إن لم يكن كلّهم - عبّاد الأصنام و الأوثان، و أسراء الأحجار و الاخشاب.

و قد بلغ الحد في بلاد اليابان أن جعلوا لكل حادثة ربّا، حتى أن هناك ربا باسم «رب الزواج»، يتوسل إليه البنات الذين تأخروا في الزواج، ليؤمن لهم الأزواج المناسبين.

و ببابك بلاد الهند الشاسعة، و ما يعتقده مئات الملايين من أهلها من قداسة و تأله في «البقر». و ليست بعيدة عنّا أيام أصاب الجوع تلك البلاد، و أصدر المجلس العام إجازة بذبح قسم من الأبقار لسدّ الجوع و رفع الموت عن أبناء الشعب، فقد ثارت ثائرة الجماهير إلى الحدّ الذي أجبر الحكومة على إلغاء القانون. فرضوا أن يموت الإنسان بجوعه، و يعيش البقر بأطيب عيشه، يأكل محاصيلهم و يتلف ممتلكاتهم.

فإذا كان هذا هو حال المعارف الإلهية في عصر الفضاء و الذرة، و بعد ما جاءت الرسل تترى لهداية البشر، فما هو حالها في غابر القرون و الأزمان ؟!. بل بأي صورة يا ترى كان وضعنا الآن لو لا الهداية الإلهية عن طريق الرسل ؟!.

نعم، هناك نوابغ في التاريخ عرفوا الحق و تعرفوا عليه عن طريق التفكير و التعقل، كسقراط و أفلاطون و أرسطو. و لكنهم أناس استثنائيون، لا يعدون معيارا في البحث، و لا ميزانا في نفي لزوم البعثة. و كونهم عارفين بالتوحيد، لا يكون دليلا على مقدرة الآخرين عليه. على أنه من المحتمل جدا أن يكون

ص: 33

وقوفهم على هذه المعارف في ظل ما وصل إليهم من التعاليم السماوية عن طريق رسله سبحانه و أنبيائه.

الأمر الثالث - ضالة العلم الإنساني في التعرف على المصالح و المفاسد.

ربما يتصور أن الهدف الوحيد من بعثة الأنبياء، هو هداية الناس إلى المبدأ و المعاد، و ما في المبدأ من صفات جمال و جلال، و لكن هذه الفكرة نصرانية بحتة، فإن هدف الأنبياء أوسع من ذلك، فإنهم قد بعثوا - مضافا إلى ما مرّ - لهداية الناس إلى وسائل السعادة و الشقاء، فلأجل ذلك حثّوا على الأخلاق و المثل العليا في الحياة، كما بيّنوا مصالح العباد و مفاسدهم الفردية و الاجتماعية، و لذا كانت برامجهم تتسع و تتكامل بتكامل المجتمعات البشرية، حتى ختم التشريع بخاتم الأنبياء، و تبيّنت معالم الهداية في كافة الجوانب.

و الذي يحتم ضرورة هذا الهدف قصور العلم الإنساني عن تشخيص منافع البشر و المجتمعات و مضارّها، و يدل على ذلك:

أولا - إن المجتمع الإنساني - مع ما بلغه من الغرور العلمي - لم يقف بعد على ألفباء الاقتصاد. فقد انقسم العالم الحديث إلى طائفتين: واحدة تزعم أن سعادة البشرية في نظام الرأسمالية و الاقتصاد الحر المطلق، و انه هو العامل الوحيد لرفاه المجتمعات و تفجّر الطاقات. و الأخرى تدّعي أنّ سعادة البشر في النظام الاشتراكي بدء و الشيوعي غاية، فالسعادة كلها في سلب الملكية عن أدوات الإنتاج و تفويضها إلى الدولة الحاكمة.

فلو كان الإنسان قادرا بحق على تشخيص المصالح و المفاسد، و ما ينفعه و ما يضره، لما حصل هذا الاختلاف، الذي انجر إلى انقسام خطير بين دول العالم.

ثانيا - و كما أن الإنسان لم يصل إلى النظام الاقتصادي النافع له، فهو كذلك

ص: 34

لم يصل إلى وفاق في مجال الأخلاق و قد تعددت المناهج الأخلاقية في العصر الأخير إلى حد التضاد فيما بينها.

و نضرب مثالا بأحدها: الشيوعية. إنها تدعى لنفسها منهجا أخلاقيا من أصوله أن الإنسان لا يكون شيوعيا إلا بالتضحية بكل شيء لبناء صرح حكومة العمال في العالم، و كل ما كان يصبّ في هذا المنحى فهو من الأخلاق الفاضلة، و إن كان ذلك إعداما، و تدميرا و سرقة و اختلاسا. و لأجل تبرير هذه الآراء الشاذة اعتنقوا الأصل المعروف: «الغايات تبرر الوسائل».

يقول لينين - أحد زعماء الشيوعية بعد ماركس و انجلز -: «إن الشيوعي هو من يتحمل كل التضحيات و يلجأ إلى انواع الحيل و الأفعال غير المشروعة، ليجد لنفسه موضعا، و موطئ قدم في الاتحاديات التجارية»(1).

فإذا كان هذا حال الإنسان في معرفة المسائل الابتدائية في الاقتصاد و الأخلاق، فما ظنك بحاله في المسائل المبنية على أسس تلك العلوم. أ فبعد هذا الجهل المطبق يصح لنا أن نقول إن الإنسان غني عن الوحي في سلوك طريق الحياة.

ثالثا - إنّ التعرف على عوامل السعادة و الشقاء له صلة وطيدة بسلوك الإنسان في الحياة، و مع الأسف إنّ الإنسان - مع ما يدّعيه من العلم و المعرفة - لم يدرك بعد تلك العوامل، بشهادة أنه يشرب المسكرات، و يستعمل المخدرات، و يتناول اللحوم الضارة. كما يقيم اقتصاده على الربا، الذي لا يشك إنسان عطوف على المجتمع بأنه عامل إيجاد التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع.

هذه الوجوه و أمثالها ترشدنا إلى أن الإنسان ليس - و لم يكن - غنيا عن تعاليم الأنبياء، و تدعم بوضوح لزوم بعثتهم لنشر المعرفة بين الأمم الإنسانية.

قال القاضي عبد الجبار: «إنه قد تقرر في عقل كل عاقل، وجوب دفع

ص: 35


1- موسوعة نيقولاي لينين، ج 17، ص 142، طبعة 1923.

الضرر عن النفس، و ثبت أيضا أن ما يدعو الى الواجب و يصرف عن القبيح فإنه واجب لا محالة. إذا صحّ هذا، و كنا نجوّز أن يكون في الافعال ما إذا فعلناه كنا عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات(1) و اجتناب المقبّحات، و فيها ما اذا فعلناه كنا بالعكس من ذلك، و لم يكن في قوة العقل ما يعرف به ذلك و يفصل بين ما هو مصلحة و لطف، و بين ما لا يكون كذلك، فلا بد من أن يعرّفنا الله حال هذه الأفعال كي لا يكون عائدا بالنقص على غرضه بالتكليف. و إذا كان لا يمكن تعريفنا ذلك إلاّ بأن يبعث إلينا رسولا مؤيّدا بالمعجز الدالّ على صدقه، فلا بدّ من أن يفعل ذلك، و لا يجوز له الإخلال به(2).

إشارة إلى هذا الدليل في الكتاب.

قد جاء في الكتاب العزيز و السنة الشريفة إشارة الى هذا الدليل نذكر منها:

قوله سبحانه: كٰانَ اَلنّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً فَبَعَثَ اَللّٰهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّٰاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ ... (3).

فإن الاختلاف - إن كان عن نوايا صادقة - آية عجز البشر عن الوصول إلى الحقيقة.

و قول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «و لا بعث اللّه نبيّا و لا رسولا حتى يستكمل العقل...»(4).

و قول أمير المؤمنين عليه السلام: «فبعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه و آله

ص: 36


1- - المراد من الواجبات ليس الفرائض الشرعية بل ما يقابل المقبحات، و هي الامور التي يحكم العقل بحسنها و لزوم الإتيان بها.
2- - شرح الاصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، ص 564.
3- - سورة البقرة: الآية 213.
4- - الكافي، ج 1، كتاب العقل و الجهل، الحديث 11.

ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، و من طاعة الشيطان إلى طاعته»(1).

و قوله عليه السلام: «... إلى أن بعث اللّه محمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لانجاز عدته، و تمام نبوته... و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، و أهواء منتشرة، و طوائف متشتتة، بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد في أسمائه، أو مشير به إلى غيره، فهداهم به من الضلالة...»(2).

و في هذا الحديث اشار إلى قصور الانسان في التعرف على المبدأ و المعاد.

و قول الإمام الكاظم عليه السلام لتلميذه هشام: «يا هشام، ما بعث الله أنبيائه و رسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن اللّه، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة. و أعلمهم بأمر اللّه، أحسنهم عقلا. و أكملهم عقلا، أرفعهم درجة في الدنيا و الآخرة(3).

و قول الامام الرضا عليه السلام: «لم يكن بدّ من رسول اللّه بينه و بينهم، يؤدي إليهم امره و نهيه و أدبه، و يقفهم على ما يكون به من إحراز منافعهم و دفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه.(4)

ص: 37


1- - نهج البلاغة، الخطبة 147.
2- - نهج البلاغة الخطبة الاولى.
3- - الكافي، ج 1، كتاب العقل و الجهل، الحديث 12.
4- - بحار الانوار، ج 11، ص 40.

ص: 38

أدلة لزوم البعثة

(3) هداية الفطريات و تعديل الغرائز
اشارة

و تقرير هذا الدليل يحتاج إلى تقديم أمرين:

الأمر الأول - الانسان مجبول على فطرياته و غرائزه.

لا تكتمل و تتوازن حياة الإنسان إلا إذا عاش على مقتضى متطلبات الفطرة و متوخيات الغرائز، بل العيش على خلاف هذه المقتضيات يؤدي بالحياة البشرية إلى الهلاك، و ما مثل هذا إلا كالسابح في عكس تيار الماء، لن تكون عاقبته إلا الإرهاق و انهيار القوى فيتوقف عن السباحة و يبتلعه الماء.

فحاجة الخلايا إلى الغذاء، و البدن إلى الراحة و النوم، حاجة ضرورية لا بد من تلبيتها. كما أن الحاجة إلى اطفاء الشهوة بالزواج حاجة فطرية لا يمكن إهمالها، و إلا صار الإنسان موجودا عصبيا، و كانت الحياة كالعلقم في فمه.

و من جملة الفطريات المودعة في وجود الإنسان، و المكتوبة على جبينه بقلم القضاء و الخلقة، و التي تتفجر في أوائل بلوغ الإنسان عمر الشباب، معرفة اللّه سبحانه، و الميل إلى الأمور الحسنة، و الانزجار عن الأمور السيئة، و لأجل ذلك لا ترى إنسانا - لم يقع تحت تأثير الأهواء و عوامل الانحراف - يعدّ ردّ الامانة قبيحا، و الخيانة بها كرامة، كما لا يعد العمل بالعهد أمرا سيئا، و نقضه أمرا حسنا، و هكذا الكثير من الأمور كالميل إلى العفة و العدالة و الانزجار عن

ص: 39

الدناسة و الخيانة. و كل ذلك مما يلمسه الإنسان في حياته و يعايشه في وجدانه، و قد كشف عنه العلم الحديث و أيّده(1).

الأمر الثاني - حاجة الفطريات إلى الهداية و الغرائز إلى التعديل

إن إعمال الغرائز و الفطريات - و إن كان به قوام الحياة - إلا أنّه لا يصح في المقابل تركها و حالها و إفساح المجال لها، و إلا أدّى ذلك بالحياة البشرية إلى الفناء و الهلاك. و إنما تتحقق سعادة الإنسان بهداية فطرياته هداية صحيحة و تعديل غرائزه على وجه يفي بحاجاته و لا يخرجه عن طور إنسانيته.

بيان ما ذكرنا: إن الثلوج المتراكمة على قمم الجبال إنما يمكن الانتفاع بها إذا كان هناك جداول و قنوات تمتد من رأس كلّ جبل إلى السهول المحيطة به، فتسيل فيها مياه الثلوج الذائبة بالتدريج. و في غير تلك الصورة يسيل الماء كيف كان، جارفا في طريقه الاحجار و الصخور، و ربما أنقلب إلى سيل جارف يدمّر كلّ شيء أمامه.

و كذلك الفصل المغروسة، أو البذور المنثورة على الأرض، تحمل في ذواتها قوى و استعدادات، إلا أنّ تفجّر تلك الطاقات يحتاج إلى من يتعهدها حراسة و سقاية و عناية على النحو المأنوس، و عندها تصير الفصل أشجارا مثمرة، و البذور سنابل ذهبية.

ثم نقول: إذا كانت الاستفادة من الثلوج المتراكمة على الجبال، و الفصل المغروسة و البذور المنثورة على الأرض، متوقفا على هداية خاصّة، حتى تصب في مجراها الصحيح، و ترشد على نهجها الطبيعي، فكذلك الأمر في السجايا الإنسانية و الغرائز البشرية الكامنة في وجود الانسان، فإنها لن تعود عليه بالنفع و الصلاح إلا في ظل هداية تمنعها من الإفراط و التفريط، و تسيّرها في ما هو صالح البدن و الروح.

ص: 40


1- - تقدم التعرض لذلك في مقدمات الجزء الاول: الالهيات، ج 1، ص 11-13.

و خذ على ذلك مثالا، معرفة اللّه و الميل إلى عوالم الغيبية، فان لها جذورا في عمق وجود الانسان، و لم يزل كل انسان من صباه إلى كهولته ميّالا إلى تلك العوالم، شغوفا بحب الاطلاع عليها، و الخضوع لها.

و لكن هذا الميل إذا لم يقع في إطار الهداية و التوجيه الإلهي، يسفّ بالإنسان إلى الحضيض، و يصنع منه عابدا للحجر و الخشب و العجماوات، خاضعا للشمس و القمر و النار. أ لا ترى صانعي الآلات و مخترعي العقول الالكترونية كيف طفقوا يخضعون للأصنام و الأبقار؟! و لكنها إذا كانت تحت ظل هداية إلهية، تتجلى بمظهر التوحيد، و أنّ للعالم بأسره إلها واحدا أحدا عالما، قادرا، محيطا بكل شيء، جامعا لكل صفات الكمال و الجمال.

إن الميول الطبيعية، كالميل إلى الزواج و التسلط على المناصب و التكاثر في الأموال، مما خمّر عليه الإنسان، و لا بقاء لحياته إلا به، و لو سلبت عنه لصار موجودا مهملا خاملا طالبا للموت و جانحا إلى الفناء.

و لكن لو تركت هذه الغرائز و مجالها، لآل الإنسان إلى حيوان ضار، مدمر لكل شيء بغية تحصيل المال و الاستبداد بالمناصب.

و أما لو كبح جماحها، و عدّلت ميولها بهداية تحدد مجاريها و ترشد صاحبها الى كيفية الاستفادة منها، لصار موجودا عاقلا متكاملا سعيدا في حياته، متآلفا و متآزرا مع سائر بني نوعه، لبناء المجتمع الصالح.

و هكذا، فقد علم من هاتين المقدمتين أن وجود الفطريات و الغرائز في الإنسان، و حاجتها إلى الهداية و التعديل أمر لا ينكر، و إنّما الكلام كلّه في تعيين من يقوم بهذه المهمة:

فهل المحاسبات العقلية كافية في حمل الإنسان على هداية فطرياته و كبح جماح غرائزه عن الإفراط و التفريط؟ أم هل الشخصيات الممتازة في عالم الاجتماع، الموصوفة بالعقل

ص: 41

و الدراية و التجربة قادرة على القيام بهذه المهمة ؟ أم أنّ المرجعين المتقدمين - مع تقدير عملهما و الاعتراف بانتفاع الإنسان من هدايتهما في مسير حياته - قاصران عن القيام بهذه المهمة، و لا بدّ من مرجع ثالث له الإحاطة الكاملة بالفطريات و الغرائز البشرية و ما يصلحها و يقوّمها، و هم الأنبياء و الرسل الإلهيون المعصومون من الخطأ و الزلل، و المؤيدة هدايتهم بضمانات إجرائية قاهرة ؟.

نحن نعتقد أن الأمر الثالث هو المتعين، و أن المرجعين الأوّلين غير وافيين بمعالجة المشكلة.

أما العقل، فمع الاعتراف بأنه يضيء الطريق أمام الإنسان، و يأخذ بيده في المزلاّت و المزالق، إلا أنه قاصر عن مصارعة الغرائز المتفجرة و كبح ثورانها. فإن كلّ إنسان يعلم من نفسه أن غرائزه و ميوله الشهوية إذا تفجرت، لم تترك للعقل ضياء و لا للفكر نورا، بل كان مثل العقل حينذاك مثل الإنسان المبصر إذا وقع في مهب الرياح و الزوابع الرملية، فإنها تكفّ بصره عن الرؤية و تعرقل مسيره.

و في تلك الحالات، لا ينفك العقل عن خداع صاحبه و إراءة المحاسبات الكاذبة لتبرير عمله، و إيجاد الذرائع لارتكابه، بحيث لو كان هذا الإنسان في موقف عادي خال عن ذلك الثوران في العواطف و الغرائز لما اعتنى بشيء من تلك التسويلات، و لذلك لا تجد مجرما يقوم بجناية إلاّ و هو يلقي لنفسه الأعذار و التبريرات حين إقدامه عليها.

و كثيرا ما يستسهل الإنسان في تلك الحالات - على فرض التفاته إلى خطورة و قبح ما يقوم به - يستسهل ما يترتب عليه من الذم و اللوم و العقاب، قضاء لوطره منه، و إشباعا لشهوته مما يناله من اللذائذ المادية.

و أما رجالات الأخلاق و الاجتماع، فمع أنّ لهم دورا في تهذيب النفوس، و دفعها إلى الكمال، و كبح جماح غرائزها على الإجمال، إلا أنّ عملهم لا يخلو عن نقائص ربما تذهب بأعمالهم أدراج الرياح.

ص: 42

أما أولا، فلأنّ شرط التربية، الوقوف على رموز الخلقة، و التعرف على خصوصيات من ترجى تربيته. و ليس لهذه الشخصيات، العلم المحيط بخصوصيات الإنسان، لا لقلة عملهم و ضيق أفكارهم، بل لعظمة الانسان في روحه و معنوياته، و غرائزه و فطرياته، و هو أشبه ببحر كبير لا يرى ساحله، و لا يضاء محيطه. و قد خفيت كثير من جوانب حياته و رموز وجوده، حتى لقّب ب «الموجود المجهول».(1)

و يصدّق ضالة هذه المعرفة، تزايد الفساد و ارتفاع نسبته في أقطار العالم عبر نفس المناهج التربوية التي تصوّبها تلك الشخصيات المرموقة في عالم التربية.

و أما ثانيا، فلأن الحجر الأساس لتأثير التربية، أن يكون المربي إنسانا كاملا و موجودا مثاليا، يتمتع بسمو الأخلاق و الملكات، فيجذب بها القلوب، و يشد إليها النفوس.

و من المعلوم أن واضعي المناهج التربوية في العالم، و إن كانوا خبراء في مجال تخصّصهم، إلا أنّهم فاقدون لهذا الشرط الأساس. أ لا ترى أنّهم يوصون ببسط العدل، و حماية المستضعف، و ترك الخمر و القمار و و... و مع ذلك فهم مرتكبون لها، واقعون فيها.

و لا يشذ عنهم إلا من كان مراعيا للدين متمسكا بأهدابه، و لكن الفضل حينئذ لا يعود إليه بل إلى صاحب الشريعة الذي سنّ تلك البرامج و المناهج.

و أما ثالثا، فلأن المناهج التربوية لا تؤتي ثمارها إلا إذا كانت منتسبة إلى الخالق سبحانه، فإنّ هذا يمنحها ضمان الإجراء و التجسّد في المجتمع لارتباطها بعوامل التشويق إلى الثواب و التحذير من العقاب، و إلا فلن تعدو مجموعة نصائح شخصية أو مدرسية، ما أسرع ما تتهاوى أمام ضربات معاول الشهوة الثائرة.

ص: 43


1- و قد ألف الفيلسوف الفرنسي ألكسي كارل، كتابا خاصا حول الإنسان و غرائزه و فطرياته، أسماء «الإنسان ذلك الموجود المجهول».

و مجموع ما ذكرناه يدلنا على أن مهمة هداية الغرائز و الفطريات، التي تصنع من الإنسان موجودا عارفا بالنّظم، مؤمنا بالمناهج، مجريا لها في ليلة و نهاره، و سرّه و إعلانه، لا تتم إلا بيد رسل مبعوثين من جانب خالق البشر، بمناهج كاملة أنزلها إليهم، و حفّها بدوافع الطاعة من المغريات بالثواب و المحذّرات من العقاب.

قال الشيخ الرئيس في بيان ما يلزم أن تشتمل عليه الأفعال التي يسنها النبي للبشر، أفراده و مجتمعاته حتى تأخذ لنفسها طريقا إلى التطبيق و مسلكا إلى البقاء:

«و يجب أن تكون هذه الأفعال مقرونة بما يذكّر اللّه تعالى و المعاد لا محالة، و إلا فلا فائدة فيها.

و التذكير لا يكون إلا بألفاظ تقال أو نيات تنوى في الخيال، و أن يقال لهم: إن هذه الأفعال يتقرب بها إلى اللّه و يستوجب بها الخير الكريم»....

إلى ان قال: «و بالجملة يجب أن يكون فيها منبّهات»(1).

الأنبياء و الفطرة في الحديث

إنّ الإمام أمير المؤمنين عليا عليه السلام يصوّر الإنسان موجودا يجمع في ذاته دفائن العقول و أنوار العرفان.

غير أنّ إثارة تلك المعارف الكامنة، و إبراز تلك الأسرار الدفينة، يحتاج إلى إنسان كامل يقوم بتلك المهمة و هو النبي.

فدور الأنبياء دور التذكير و التنبيه، لا دور التعليم و التأسيس، لأن كل ما يلقيه الأنبياء من أصول و معارف مختمر في وجود الإنسان بعلم فطري و قضاء خلقي، لكنه لا يلتفت إليها إلا بفضل من يوجّهه.

ص: 44


1- «النجاة» في الحكمة الإلهية، للشيخ الرئيس، ص 306، الطبعة الثانية 1357 ه - 1938 م.

يقول عليه السلام: «فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبيائه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكروهم منسيّ نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول...»(1).

فمثل الأنبياء على هذا التقدير، مثل المهندس الزراعي، فكما أنه ليس له دور في خلق الثمار على الأشجار و إظهارها على الأغصان، و انما ينحصر دوره في إخصاب الأرض و تهيئتها لتظهر الشجرة ثمارها و فواكهها، فهكذا الأنبياء بتعاليمهم السماوية، فإن دورهم تهيئة الإنسان ليبرز ما تعلّمه في مدرسة الفطرة من الأصول و المعارف التي تدعو إلى العدل و القسط، و نبذ الظلم و التعدي و غيرها.

نعم، للأنبياء - على تقدير آخر - دور التعليم، و ذلك في الوظائف الفرعية في مجال العبادات و المعاملات إذ لولاهم لما وقف الإنسان على طرق عبادة اللّه تعالى، و كيفية سلوكه مع بني نوعه في مقام المعاملة.

ص: 45


1- نهج البلاغة، الخطبة الاولى.

ص: 46

أدلة لزوم البعثة

(4) بعثة الأنبياء أولى من الكماليات

يعتمد هذا الدليل بنحو رئيسي على مشاهدة النعم التي أودعها الخالق في وجود الإنسان و ما يحيط به ليسهّل عليه معيشته و تكامله في الحياة. و ليست كلّ هذه النعم دخيلة في ضروريات حياته، بحيث ينعدم وجوده بدونها، بل إن كثيرا منها مما يدخل في الكماليات، و تسهيل مجاري الحياة. و كثير من هذه الكماليات أمور جزئية بسيطة لا يلتفت إليها الإنسان إلا بالتأمل و التدبّر. و لأجل زيادة التوضيح نمثّل ببعض الأجهزة في بدن الإنسان.

إن الصانع الحكيم جهّز العين بأجهزة مختلفة، منها ما هو دخيل في أصل تحقق الرؤية، و منها ما هو دخيل في سهولتها و تيسرها.

1 - فجعل العين في أعلى أجزاء بدن الإنسان حتى يتسلط بنحو كامل على ما أمامه.

2 - و جعل العين بمختلف طبقاتها في إطار جسم شحمي صلب أبيض اللون، حفظا لها مما قد يصيبها.

3 - و جعل العين بإطارها و جميع طبقاتها في حفرة عظيمة، زيادة في صيانتها من الصدمات الطارئة.

4 - و جعل فوق العين حاجبا يمنع من نزول العرق إليها، و أوجد في

ص: 47

ناصية الإنسان خطوطا ليسهل انحراف العرق يمينا و يسارا.

5 - و جعل لكل عين جفنين حافظين لها، و خلق فيهما أشفارا و أهدابا، صيانة لها عن الدخان و الأغبرة. و هما، مع أنهما يمنعان بضمهما دخول ما يؤذي العين، لكنهما لا يمنعان من الرؤية. فهما في هذا المجال أشبه بالستائر الحديديّة تسمح للنور بالدخول من دون دخول أشعة الشمس.

6 - و جعل في باطن كل جفن غددا يترشح منها سائل لزج يصون أنسجة العين من الاحتكاك بما يحيطها، و يسهل دوران كرة العين في جميع الجهات.

7 - و أحاط عدسية العين بمجموعة من الأنسجة العضلية، تجعلها تنقبض أمام الأنوار القوية و تنبسط أمام الضعيفة منها، صيانة للعين عن دخول أزيد مما تتحمله أو أقل مما تحتاج إليه من النور.

هذا بعض يسير مما يرجع الى العين، و في الأجهزة الأخرى بدائع و فوائد لا تحصى نذكر نذرا منها:

إنّ يد الخلقة جعلت تحت قدم الإنسان، أخمصا حتى يسهل عليه الوقوف و السير.

و جعلت في اليد أصابع، ثم فاوتت بينهما في الطول، ليسهل على الإنسان القيام بأعماله، و ليكون بذلك صانعا فنانا مبدعا.

و جعلت في بواطن الأنامل خطوطا و تعاريج ليسهل عليه الإمساك بالأجسام.

و هكذا إذا درسنا خلقة الإنسان وجدنا أنها مشتملة على أجهزة مختلفة بين دخيلة في أصل الحياة و دخيلة في كمالها و سهولتها. و كل ذلك يدفعنا إلى التساؤل: هل يمكن لخالق الإنسان أن يسهّل له كل طرق التكامل الظاهرية، ثم يترك ما هو دخيل في تكامله الروحي و المعنوي ؟.

و هل يمكن لأحد أن ينكر دور الأنبياء في تكامل الإنسان، و لو على وزان دور الخطوط في بواطن الأنامل على الأقل ؟.

ص: 48

أو يصح من الخالق الحكيم أن يهب له تلك الأجهزة المؤثّرة في كمالاته المادية، و يترك ما هو مؤثر في تكامل روحه و فكره ؟.

و لقد ألهمنا هذا البرهان مما ذكره الشيخ الرئيس في إلهيات الشفاء حيث قال:

«الحاجة إلى هذا (بعث النبي) في أن يبقى نوع الإنسان و يتحصّل وجوده، أشدّ من الحاجة إلى نبات الشعر على الأشفار و على الحاجبين، و تقصير الأخمص من القدمين، و أشياء أخرى من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء.... فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقضي تلك المنافع، و لا تقضي هذه التي هي أسّها»(1).

و إلى هذا يشير صدر المتألهين بقوله: «إن ذاته سبحانه منبع الخيرات و منشأ الكمالات، فيصدر منه كل ما يصدر على أقصى ما يتصور في حقه من الخير و الكمال، و الزينة و الجمال، سواء أ كان ضروريا له، كوجود العقل للإنسان و النبي للأمة. و غير ضروري، كإنبات الشعر على الأشفار و الحاجبين، و تقصير الأخمص من القدمين»(2).

ص: 49


1- إلهيات الشفاء، بحث النبوة، ص 557 طبعة طهران. و أورده بعينه في كتاب النجاة، ص 304، طبعة 1357 ه.
2- - المبدأ و المعاد، لصدر المتألهين، ص 103، طبعة طهران.

ص: 50

أدلة لزوم البعثة

(5) اللّطف الإلهي
اشارة

استدلوا على لزوم بعث الرسل بقاعدة اللطف. و بما أن هذه القاعدة تطرح دليلا في مواضع مختلفة من المسائل الكلامية، فلا بد لنا من بسط الكلام فيها بشكل عام، حتى يتبين حالها في كل مقام يستدل بها، سواء فيما له صلة ببعث الرسل أو غيره، فنقول:

إن اللطف، في اصطلاح المتكلمين، يوصف بوصفين:

1 - اللطف المحصّل.

2 - اللطف المقرّب.

و هناك مسائل تترتب على اللطف بالمعنى الأول، و مسائل أخرى تترتب على اللطف بالمعنى الثاني، و ربما يؤدي عدم التمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتب على الأول بما يترتب على الثاني. و لأجل الاحتراز عن ذلك نبحث عن كل منهما، بنحو مستقل.

أ - اللّطف المحصّل.

اللّطف المحصّل عبارة عن القيام بالمبادي و المقدمات التي يتوقف عليها تحقق غرض الخلقة، و صونها عن العبث و اللغو، بحيث لو لا القيام بهذه

ص: 51

المبادي و المقدمات من جانبه سبحانه، لصار فعله فارغا عن الغاية، و ناقض حكمته التي تستلزم التحرز عن العبث. و ذلك كبيان تكاليف الإنسان، و إعطائه القدرة على امتثالها.

و من هذا الباب بعث الرسل لتبيين طريق السعادة، و تيسير سلوكها. و قد عرفت في الأدلة السابقة، أن الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقة، أو يهتدي إلى طريق السعادة في الحياة، بالاعتماد على عقله، و الاستغناء عن التعليم السماوي. و وجوب(1) اللطف بهذا المعنى، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه، و تنزيهه عن الفعل العبثي الذي اتفق عليه العقل و النقل(2). و إنما الكلام في «اللطف المقرّب»، و إليك البيان فيه.

ب: اللّطف المقرّب

اللطف المقرب عبارة عن القيام بما يكون محصلا لغرض التكليف بحيث لولاه لما حصل الغرض منه و ذلك كالوعد، و الوعيد، و الترغيب و الترهيب، التي تستتبع رغبة العبد إلى العمل، و بعده عن المعصية(3).

و هذا النوع من اللطف ليس دخيلا في تمكين العبد من الطاعة، بل هو

ص: 52


1- سيوافيك معنى الوجوب على الله سبحانه.
2- لاحظ سورة الذاريات: الآية 56، و سورة المؤمنين: الآية 115.
3- عرّف اللطف المقرب بأنه هيئة مقربة إلى الطاعة و مبعّدة عن المعصية من دون أن يكون له حظ في التمكين و حصول القدرة، و لا يبلغ حد الإلجاء. فخرج بالقيد الأول (لم يكن له حظ.) اللطف المحصل، فإن له دخالة في تمكين المكلف من الفعل، بحيث لولاه لانتفت القدرة. و خرج بالقيد الثاني (لا يبلغ حد الإلجاء)، الإكراه و الإلزام على الطاعة و الاجتناب عن المعصية، فإن ذلك ينافي التكليف الذي يتطلب الحرية الاختيار في المكلف (لاحظ كشف المراد، ص 201، ط صيدا) و قال القاضي عبد الجبار: اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب و يتجنب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إما إلى اختيار (الواجب) أو ترك القبيح. (شرح الاصول الخمسة، ص 519).

قادر على الطاعة و ترك المخالفة سواء أ كان هناك وعد أم لا، فإن القدرة على الامتثال رهن التعرّف على التكليف عن طريق الأنبياء - مضافا إلى إعطاء الطاقات المادية. و المفروض حصول هذه المبادي و المقدمات، غير أن كثيرا من الناس لا يقومون بواجبهم بمجرد الوقوف على التكليف ما لم يكن هناك وعد و وعيد و ترغيب و ترهيب، فهذا النوع من اللطف قد وقع موقع النقاش بين المتكلمين.

و الحق هو القول بوجوب اللطف إذا كان غرض التكليف (لا غرض الخلقة)، موقوفا عليه عند الأكثرية الساحقة من المكلفين.

مثلا: لو فرضنا أن غالب المكلّفين، لا يقومون بتكاليفهم بمجرد سماعها من الرسل - و إن كانوا قادرين عليها - إلاّ إذا كانت مقرونة بالوعد و الوعيد، و الترغيب و الترهيب، وجب على المكلّف القيام بذلك صونا للتكليف عن اللّغوية. و لو أهملها المكلّف ترتب عليه بطلان غرضه من التكليف، و بالتالي بطلان غرضه من الخلقة.

و في الكتاب و السنة إشارات إلى هذا النوع من اللّطف. يقول سبحانه: وَ بَلَوْنٰاهُمْ بِالْحَسَنٰاتِ وَ اَلسَّيِّئٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (1).

و المراد من الحسنات و السيئات، نعماء الدنيا و ضراؤها و كأن الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحق و الطاعة.

و يقول سبحانه: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّٰ أَخَذْنٰا أَهْلَهٰا بِالْبَأْسٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (2). و في الآية إشارة إلى كلا القسمين من اللطف، و مفاد الآية أن اللّه تعالى أرسل رسله لإبلاغ تكاليفه تعالى إلى العباد و إرشادهم إلى طريق الكمال (اللّطف المحصّل)، غير أن الرّفاه و الرّخاء و التوغل في النعم المادية، ربما يسبب الطغيان و غفلة الإنسان عن هدف الخلقة

ص: 53


1- سورة الاعراف: الآية 168.
2- سورة الاعراف: الآية 94.

و إجابة دعوة الأنبياء، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء و الضراء، لعلهم يضرعون و يبتهلون إلى اللّه تعالى(1).

و لاجل ذلك نشهد أن الأنبياء لم يكتفوا بإقامة الحجة و البرهان، و الإتيان بالمعاجز، بل كانوا - مضافا إلى ذلك - مبشرين و منذرين. و كان الترغيب و الترهيب من شئون رسالتهم، قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ (2).

و الإنذار و التبشير دخيلان في رغبة الناس بالطاعة و ابتعادهم عن المعصية.

و في كلام الإمام علي عليه السلام إشارة إلى هذا، قال عليه السلام:

«أيها الناس، إن الله تبارك و تعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة و أخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأن يعرّفهم ما لهم و ما عليهم، و التعريف لا يكون إلا بالأمر و النهي(3). و الأمر و النهي لا يجتمعان إلا بالوعد الوعيد، و الوعد لا يكون إلا بالترغيب، و الوعيد لا يكون إلا بالترهيب، و الترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم و تلذه أعينهم، و الترهيب لا يكون إلا بضد ذلك... الخ»(4).

و قوله عليه السلام: «و الأمر و النهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد و الوعيد»، إشارة إلى أنّ امتثال الأمر و النهي و نفوذهما في نفوس الناس يتوقف على الثواب و العقاب، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابية نحو التكليف إلاّ من العارفين الذين يعبدون اللّه تعالى لا رغبة و لا رهبة، بل لكونه مستحقا للعبادة.

فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في تحقق الرغبة بالطاعة، و الابتعاد عن المعصية، في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر، يجب على اللّه سبحانه القيام به صونا للتكليف عن اللغو، و بالتالي صونا للخلقة عن العبث.

ص: 54


1- لاحظ الإلهيات، ج 1، بحث البلايا و المصائب و الشرور و كونه حكيما، ص 273-286.
2- سورة النساء: الآية 165.
3- هذا إشارة إلى اللطف المحصل.
4- بحار الأنوار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الباب الخامس عشر، الحديث 13، ص 316.

نعم إذا كانت هذه المبادي كافية في تحريك الأكثرية، نحو الطاعة، و لكن القليل منهم لا يمتثلون إلاّ في ظروف خاصة، كاليسر في الرزق، أو كثرة الرفاه، فهل هو واجب على اللّه سبحانه ؟.

الظاهر لا، إلا من باب الجود و التفضل.

و بذلك يعلم أن اللطف المقرب إذا كان مؤثرا في رغبة الأكثرية بالطاعة و ترك المعصية يجب من باب الحكمة.

و أما اذا كان مؤثرا في آحادهم المعدودين، فالقيام به من باب الفضل و الكرم.

و بذلك تقف على مدى صحة ما استدل به بعضهم على اللطف في المقام، أو سقمه.

استدل القاضي عبد الجبار على وجوب اللطف بقوله: «إنه تعالى كلّف المكلّف، و كان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب، و علم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب، و اجتنب القبيح، فلا بد من أن يفعل به ذلك الفعل و إلا عاد بالنقض على غرضه، و صار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتخذه، و علم من حاله أنه لا يجيبه، إلا اذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره، فإنه يجب عليه أن يبعث، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه. و كذلك هاهنا»(1).

و قال العلامة الحلي: «إن المكلّف (بالكسر) إذا علم أن المكلّف لا يطيع إلا باللطف، فلو كلفه من دونه كان ناقضا لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعام، و هو يعلم أنه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعا من التأدّب، فإن لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضا لغرضه، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض»(2).

ص: 55


1- شرح الاصول الخمسة، ص 521.
2- كشف المراد، الفصل الثاني، المسألة الثانية عشرة، ص 325، ط قم 1407.

و قال الفاضل المقداد: «إنا بيّنّا أنه تعالى مريد للطاعة و كاره للمعصية، فإذا علم أن المكلف لا يختار الطاعة، أو لا يترك المعصية، أو لا يكون أقرب الى ذلك إلا عند فعل يفعله به، و ذلك الفعل ليس فيه مشقة و لا غضاضة، فإنه يجب في حكمته أن يفعله، إذا لو لم يفعله لكشف ذلك: إما عن عدم إرادته لذلك الفعل، و هو باطل لما تقدم، أو عن نقض غرضه، إذا كان مريدا له، لكن ثبت كونه مريدا له فيكون ناقضا لغرضه.

و يجري ذلك في الشاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة، و عرف أو غلب على ظنه أن ذلك الشخص لا يحضر إلا مع فعل يفعله، من إرسال رسول أو نوع أدب أو بشاشة أو غير ذلك من الأفعال، و لا غضاضة عليه في فعل ذلك فمتى لم يفعل عدّ ناقضا لغرضه.

و نقض الغرض باطل، لأنه نقض، و النقص عليه تعالى محال، و لأن العقلاء يعدونه سفها و هو ينافي الحكمة»(1).

و هذه البيانات تدل على أن اللطف واجب من باب الحكمة.

هذا كلام القائلين بوجوب اللطف، و هو على اطلاقه غير تام، بل الحق هو التفصيل بين ما يكون مؤثرا في تحقق التكليف بشكل عام بين المكلفين، فيجب من باب الحكمة، و الا فيرجع إلى جوده و تفضله من دون إيجاب عليه.

و استدل القائل بعدم وجوبه بقوله: «لو وجب اللطف على اللّه تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص، لأنه ما من مكلف إلا و في مقدور اللّه تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب و اجتنب القبيح، فلما وجدنا في المكلفين من أطاع و فيهم من عصى، تبين أن الألطاف غير واجبة على اللّه تعالى»(2).

يلاحظ عليه: أنّ كون العاصي دليلا على عدم وجوبه، يعرب عن أنّ

ص: 56


1- ارشاد الطالبين، ص 277-278.
2- شرح الاصول الخمسة، ص 523.

المستدل لم يقف على حقيقة اللطف، و لذلك استدل بوجود العصاة على عدم وجوبه، فهو تصور أن اللطف عبارة عما لا يتخلف معه المكلف عن الإتيان بالطاعة و ترك المعصية، فنتيجته كون وجود العصيان دليلا على عدم وجوده، و عدم وجوده دليلا على عدم وجوبه، مع أنك قد عرفت في أدلة القائلين به بأنه ما يكون مقربا إلى الطاعة و مبعّدا عن المعصية من دون أن يبلغ حد الإلجاء.

يقول القاضي عبد الجبار بأن العباد على قسمين، فإن فيهم من يعلم اللّه تعالى من حاله أنه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب و يتجنب القبيح، أو يكون اقرب الى ذلك. و فيهم من هو خلافه حتى إن فعل به كلّ ما فعل لم يختر عنده واجبا و لا اجتنب قبيحا(1).

و يؤيده ما ورد في الذكر الحكيم من أن هناك أناسا لا يؤمنون ابدا و لو جاءهم نبيهم بكل أنواع الآيات و المعاجز.

قال سبحانه: وَ مٰا تُغْنِي اَلْآيٰاتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاٰ يُؤْمِنُونَ (2).

و قال سبحانه: وَ لَئِنْ أَتَيْتَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ بِكُلِّ آيَةٍ مٰا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ (3).

و في الختام، نقول: إن اللطف سواء أ كان المراد منه اللطف المحصّل أو اللطف المقرّب، من شئون الحكمة، فمن وصفه سبحانه بالحكمة و التنزّه عن اللغو العبث، لا مناص له عن الاعتقاد بهذه القاعدة، غير أنّ القول بوجوب اللطف في المحصّل أوضح من القول به في المقرّب.

و لكن يظهر من الشيخ المفيد أن وجوب اللطف من باب الجود و الكرم، قال: «ان ما اوجبه أصحاب اللطف من اللطف، إنما وجب من جهة الجود

ص: 57


1- شرح الاصول الخمسة، ص 520.
2- سورة يونس: الآية 101.
3- سورة البقرة: الآية 145.

و الكرم، لا من حيث ظنوا أن العدل أوجبه، و أنه لو لم يفعل لكان ظالما»(1)يلاحظ عليه: إن إيجابه من باب الجود و الكرم يختص باللطف الراجع إلى آحاد المكلفين، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة أو غرض التكليف عند الأكثرية الساحقة من المكلفين، كما عرفت.

ثم إن المراد من وجوب اللطف على اللّه سبحانه، ليس ما يتبادر إلى اذهان السطحيين من الناس، من حاكمية العباد على اللّه، مع أن له الحكم و الفصل، بل المراد استكشاف الوجوب من أوصافه تعالى، فإن أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى، كما أن أوصافه مظاهر لذاته تبارك و تعالى.

فإذا علمنا - بدليل عقلي قاطع - أنه تعالى حكيم، استتبع ذلك و استلزم العلم بأنه لطيف بعباده، حيثما يبطل غرض الخلقة أو غرض التكليف، لو لا اللطف.

ص: 58


1- اوائل المقالات، ص 25-26
أدلة منكري بعثة الأنبياء
الدليل الأول.
اشارة

إن الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها. فإن جاء بما يوافق العقول، لم يكن إليه حاجة، و لا فائدة فيه. و إن جاء بما يخالف العقول، وجب ردّ قوله.

و بعبارة أخرى: إنّ الذي يأتي به الرسول لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون معقولا، و إمّا أن لا يكون معقولا.

فإن كان معقولا، فقد كفانا العقل التام بإدراكه و الوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرسول. و إن لم يكن معقولا، فلا يكون مقبولا. إذ قبول ما ليس بمعقول، خروج عن حدّ الإنسانية و دخول في حريم البهيمية.

و الجواب:

إن حصر ما يأتي به الرسول بموافق العقول و مخالفها، حصر غير حاصر. فإن هاهنا شقا ثالثا و هو إتيانهم بما لا يصل إليه العقل بالطاقات الميسورة له. فإنك قد عرفت فيما أقمنا من الأدلة على لزوم البعثة، أن عقل الإنسان و تفكّره قاصر عن نيل الكثير من المسائل، فلاحظ.

ص: 59

الدليل الثاني:
اشارة

قد دلّ العقل على أن اللّه تعالى حكيم، و الحكيم لا يتعبّد الخلق الاّ بما تدل عليه عقولهم، و قد دلّت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعا عالما قادرا حكيما، و أنه أنعم على عباده نعما توجب الشكر. فننظر في آيات خلقه بعقولنا، و نشكره بآلائه علينا. و إذا عرفناه و شكرنا له، استوجبنا ثوابه. و إذا أنكرناه و كفرنا به، استوجبنا عقابه. فما بالنا نتّبع بشرا مثلنا؟!..

و الجواب:

إن قسما من هذا الدليل تكرار للدليل الأول. و أما ما افيد في ذيله من وقوف الإنسان على حسن الشكر و قبح الكفر، فهو و إن كان صحيحا، غير أنه يلاحظ عليه أمران:

الاول: إن كثيرا من الناس لا يعرفون كيفية الشكر. فربما يتصورون أن عبادة المقرّبين نوع شكر للّه سبحانه. فلأجل ذلك ترى عبدة الاصنام و الاوثان يعتقدون أن عبادتهم للمخلوق شيئا موجبا للتقرّب(1).

الثاني - إنّ تخصيص برامج الأنبياء بالأمر بالشكر و النهي عن كفران النعمة، غفلة عن اهدافهم السامية. فإنهم جاءوا لإسعاد البشر في حياتهم الفردية و الاجتماعية، و لا تختص رسالتهم بالأوراد و الأذكار الجافة، كتلك التي يرددها أصحاب بعض الديانات أيام السبت و الأحد في البيع و الكنائس. و إنك لتقف على عظيم أهداف رسالة النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله إذا وقفت على كلمته المأثورة:

«إني قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة»(2).

ص: 60


1- قال تعالى حكاية عن المشركين: وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ ، مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اَللّٰهِ زُلْفىٰ (سورة الزمر: الآية 3)
2- - تاريخ الطبري ج 2، ص 63 قاله النبي عند دعوة اقاربه إلى الاسلام، طبعة بيروت.
الدليل الثالث:
اشارة

قد دلّ العقل على أن للعالم صانعا حكيما، و الحكيم لا يتعبّد الخلق بما يقبح في عقولهم. و قد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقول، كالتوجه إلى بيت مخصوص في العبادة، و الطواف حوله، و السعي، و رمي الجمار، و الإحرام، و التلبية، و تقبيل الحجر الأصمّ . و كذلك ذبح الحيوان، و تحريم ما يكون غذاء للإنسان، و تحليل ما ينقص من بنيته.

و الجواب:

ان هذا الدليل مبني على الجهل بمصالح الأحكام و مفاسدها. و لذلك زعم هذا المنكر أن ما جاء في شريعة الإسلام من حج بيت اللّه الحرام بآدابه الكثيرة، أمر على خلاف العقل. و لكن الدارس لفلسفة الحج، يقف على عظيم المصالح و المنافع التي يتضمنها، و المجال لا يسمح باستقصائها، إلاّ انا نشير بايجاز إلى بعضها.

فالتوجه الى البيت، رمز الوحدة بين المسلمين في جميع أقطار المعمورة، و لو تعددت و جهاتهم في أداء مراسمهم العبادية، لسادت الفوضى فيهم و وقع الانشقاق بينهم في القطر الواحد فضلا عن سائر الأقطار.

و السعي بين الصفا و المروة تجسيد لعمل تلك المرأة البارّة التي سعت بين الجبلين سبع مرات طلبا للماء لطفلها الظمآن، حتى حصّلته. فجعل الباري سبحانه مواطئ أقدامها محلا للعبادة.

و رمي الجمار تجسيد لرمي الشيطان، فبما أن الشيطان لا يقع في أفق الحسّ حتى نرجمه، فنجسد وجوده في نقاط خاصة تمثّل فيها لإبراهيم عليه السلام، فنرجمها ظاهرا، و لكن الهدف رمي الشيطان باطنا و إبعاده عن حريم النفس و الروح.

و استلام الحجر الأسود، تعاهد مع إبراهيم عليه السلام في السعي على خطاه لإقامة التوحيد و هدم أركان الوثنية. فبما أن إبراهيم قد لبّى دعوة ربّه،

ص: 61

و ليس بين ظهرانينا حتى نبايعه على ذلك مباشرة، نبايعه بآثاره. و هذا أشبه ما يكون بتقبيل الجيوش راية بلادها - مع أنه ليس إلاّ كسائر الأقمشة - و ما هو الاّ إبراز للتعهد على حفظ البلاد، و ضمان أمنها و استقلالها.

و هكذا الحال في بقية المراسم العبادية، و الواجبات و المنهيات الشرعية.

و قد كشف العلم الحديث عن الفوائد العظيمة التي تشتمل عليها بعض الواجبات الشرعية كالصوم. و المضار الكبيرة التي تشتمل عليها بعض المنهيات الشرعية كأكل لحم الخنزير و شرب الخمر و غيرهما.

قال القاضي عبد الجبار في ردّ هذا الدليل: «إن مجرد الفعل لا يمكن أن يحكم عليه بالقبح و الحسن، حتى لو سألنا سائل عن القيام هل يقبح أم لا، فإنه مما لا يمكننا إطلاق القول في الجواب عن ذلك، و الجواب أن نقيّد، فنقول: إن حصل فيه غرض و تعرّى عن سائر وجوه القبح، حسن، و إلاّ كان قبيحا، هذا.

و إذا كان هكذا، و كنا قد علمنا بقول الرسول المصدّق بالمعجز أنّ لنا في هذه الأفعال مصالح و ألطافا، فكيف يجوز أن يحكم فيها بالقبح ؟.

و يبين ذلك و يوضحه أنا نستحسن القيام في كثير من الحالات، نحو أن يكون تعظيما لصديق أو يتضمن غرضا من الأغراض، و كذلك القعود إذا تضمّن انتظار الرفيق، و كذلك الركوع، و السجود، و المشي، و الكلام، و الطواف، و غير ذلك، فما من شيء من هذه الأفاعيل إلاّ و لها وجه في الحسن إذا تعلّق به أدنى غرض»(1).

الدليل الرابع:
اشارة

إن أكبر الكبائر في الرسالة، اتباع رجل هو مثلك في الصورة و النفس

ص: 62


1- شرح الأصول الخمسة - ص 566.

و العقل، يأكل مما تأكل، و يشرب مما تشرب.... فأي تميّز له عليك ؟ و أي فضيلة أوجبت استخدامك ؟ و ما دليله على صدق دعواه ؟(1)

و الجواب:

ليس هذا المذكور في الدليل بشيء مستحدث، بل هذا ما كان المشركون يكررونه على ألسنتهم معترضين على رسلهم، كما ذكره تعالى في الكتاب الكريم.

قال تعالى:... وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا: هَلْ هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ... (2).

و قال تعالى: وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنٰاهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا: مٰا هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، يَأْكُلُ مِمّٰا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ، وَ يَشْرَبُ مِمّٰا تَشْرَبُونَ * وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخٰاسِرُونَ (3).

و لكن الرسل قابلتهم بالجواب، و صدّقتهم بأنّهم مثلهم في الجسم و الصورة، لكنهم غيرهم في المعرفة و الكمال الروحي، لصلتهم باللّه سبحانه دونهم، و اطلاعهم على الغيب بإذنه سبحانه.

قال عزّ من قائل:

قٰالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَمُنُّ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ ، وَ مٰا كٰانَ لَنٰا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطٰانٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ، وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (4) .

ص: 63


1- انظر للوقوف على مدارك أدلة البراهمة، الملل و النحل للشهرستاني، ج 2، ص 259-260، طبعة مصر، و كشف المراد، للعلامة الحلي، ص 217، طبعة صيدا. و شرح التجريد، لنظام الدين القوشجي، ص 463، طبعة إيران.
2- سورة الأنبياء: الآية 3.
3- سورة المؤمنون: الآيتان 33 و 34.
4- سورة ابراهيم: الآية 11.

و قد أمر اللّه تعالى رسوله أن يواجه هذا المنطق بقوله: قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، يُوحىٰ إِلَيَّ (1).

فالجملة الأولى، و هي الاتحاد في البشرية، إشارة إلى أحد ركني الرسالة، و هو لزوم المسانخة التامة بين المرسل - بالفتح - و المرسل إليه.

و قوله: يُوحىٰ إِلَيَّ ، إشارة إلى وجه الفرق بينهما، و أنّه لأجل نزول الوحي عليه يجب اتباعه و إطاعته.

و بذلك يظهر تميّز الأنبياء و فضيلتهم و تقدمهم على غيرهم.

و أمّا دليلهم على صدق ادعاءاتهم، فسيوافيك في البحث الثاني أنّ هناك طرقا ثلاثة لتمييز النبي الصادق عن المتنبّئ الكاذب.

و إلى هنا يتمّ الكلام في البحث الأول و هو تحليل حسن بعثة الأنبياء و لزومها، و نقض ما يثار حولها من الشبهات. و قد حان وقت الشروع بالبحث الثاني، و هو بيان الطرق التي يعرف بها صدق مدّعي النبوة.

ص: 64


1- سورة فصلت: الآية 6.

مباحث النبوة العامة

(البحث الثاني) ما تثبت به دعوى النبوة

اشارة

لا تجد إنسانا سالما في نفسه و فكره، يقبل ادعاءات الآخرين بلا دليل يثبتها. و هذا أمر بديهي فطري جبل الإنسان عليه. و في هذا الصدد يقول الشيخ الرئيس في كلمته المشهورة:

«من قبل دعوى المدعي بلا بيّنة و برهان، فقد خرج عن الفطرة الإنسانية».

و على هذا، يجب أن تقترن دعوى النبوة بدليل يثبت صحتها، و إلاّ كانت دعوى فارغة، غير قابلة للإذعان و القبول.

طرق التعرّف على صدق الدعوى

إنّ هنا طرقا ثلاثة للوقوف بنحو قاطع على صدق مدّعي النبوّة في دعواه، و هي:

أ - الإعجاز.

ب - تصديق النبي السابق نبوة النبي اللاحق.

ج - جمع القرائن و الشواهد من حالات المدّعي، و تلامذته، و منهجه، بحيث تفيد العلم بصدق دعواه - و هذا الطريق من أحسن الطرق في عصرنا هذا.

و لنبدأ باستعراض هذه الطرق الواحدة تلو الأخرى.

ص: 65

ص: 66

طرق إثبات النبوة
(1) الإعجاز
اشارة

اتفق المتكلمون قاطبة على أنّ الإعجاز دليل قطعي على صدق مدّعي النبوة، وصلته بالخالق تعالى. و لما كان الإعجاز من المسائل المهمة في باب النبوة، استدعى ذلك بسطا في الكلام، فيقع البحث عن الجهات التالية:

الجهة الأولى - ما هي حقيقة الإعجاز و كيف نعرّفه ؟.

الجهة الثانية - هل الإعجاز يخالف القوانين العقلية ؟.

الجهة الثالثة - ما هي العلة المحدثة للمعجزة ؟.

الجهة الرابعة - هل الإعجاز يضعضع أصول التوحيد؟.

الجهة الخامسة - كيف يفسّر المتجدّدون من المسلمين معجزات الأنبياء؟.

الجهة السادسة - كيف يعدّ الإعجاز دليلا على صدق دعوى النبوة ؟.

الجهة السابعة - هل حرم الإنسان المعاصر من المعاجز و الكرامات ؟.

الجهة الثامنة - بما ذا تميّز المعجزة عن سائر خوارق العادات كالسحر و الكهانة ؟.

هذه رءوس المطالب المهمة في هذا البحث، و إذا وقف الباحث على أجوبتها، تتجلى عنده المعجزة بصورة دليل قاطع على صدق مدعي النبوة، كما

ص: 67

يتبيّن له أنّ القول بالإعجاز ممّا يؤيده العلم و الفلسفة، و ليس وليد الوهم و الجهل. و إليك فيما يلي البحث عنها، الواحدة تلو الأخرى.

ص: 68

الجهة الأولى تعريف المعجزة
اشارة

المشهور في تعريف المعجزة أنّها(1): «أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة»(2).

و بما أنّ الإعجاز يفارق الكرامة في أنّ الأول يكون مقرونا بدعوى النبوة بخلاف الكرامة، فيجب أن يضاف قيد: «مع دعوى النبوة» إلى التعريف، و لعلهم استغنوا عنه بقيد «التحدي». و إليك توضيح هذا التعريف.

1 - الإعجاز خارق للعادة و ليس خارقا للعقل

إنّ هناك من الأمور ما تعدّ خارقة للعقل، أي مضادة لحكم العقل الباتّ ، كاجتماع النقيضين و ارتفاعهما، و وجود المعلول بلا علّة، و انقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين... فإنّ هذه أمور يحكم العقل باستحالتها و امتناع تحققها.

ص: 69


1- شرح التجريد، لنظام الدين القوشجى، ص 465.
2- و قد عرف المحقق الطوسي الإعجاز بقوله: «هو ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد، مع خرق العادة و مطابقة الدعوى»، (كشف المراد ص 218، طبعة صيدا - 1353 ه). و لا تخفى المناقشة في هذا التعريف لزيادة قوله مع «خرق العادة»، للاستغناء عنه بقوله: «ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد». أضف إلى ذلك أنّه ترك بعض القيود اللازمة فيه. و التعريف الذي ذكرناه أكمل منه.

و هناك أمور تخالف القواعد العادية، بمعنى أنّها تعدّ محالا حسب الأدوات و الأجهزة العادية، و المجاري الطبيعية، و لكنها ليست أمرا محالا عقلا لو كان هناك أدوات أخرى خارجة عن نطاق العادة، و هي المسماة بالمعاجز. و لأجل تقريب ما ذكرنا تمثّل ببعض الأمثلة:

مثال أوّل: جرت العادة على أنّ حركة جسم من مكان إلى مكان آخر تتحقق في إطار عوامل و أسباب طبيعية بدائية أو وسائل صناعية متحضرة. و لكن لم تعرف العادة أبدا حركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين، بلا تلك الوسائط العادية. و لكن هذا غير ممتنع عقلا، إذ لا يمتنع أن تكون هناك أسباب أخرى لتحريك هذا الجسم الكبير، لم يقف عليها العلم بعد.

و من هذا القبيل قيام من أوتي علما من الكتاب بإحضار عرش بلقيس، ملكة سبأ، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام، في طرفة عين، بلا توسط شيء من الأجهزة المادية المتعارفة، بل بأسباب غيبية كان مطّلعا عليها. فعمله هذا الخارق للعادة، غير خارق للعقل لما ذكرنا، و هو معجزة.

مثال ثان: إنّ معالجة الأمراض الصعبة كالسّل و العمى، أمر ممكن لذاته عقلا، و لكنه كان أمرا محالا عادة في القرون السالفة، لقصور علم البشر عن الوقوف على الأجهزة و الأدوية التي تعيد الصحة إلى المسلول، و البصر إلى الأعمى. و مع تقدم العلم تذلّلت الصعاب أمام معالجة هذه الأمراض، فصار بإمكان الطبيب الماهر القيام بالمعالجة عن طريق الأدوية و العمليات الجراحية.

و في المقابل هناك طريقة أخرى للعلاج، و هي الدعاء و التوسّل إلى الخالق تعالى.

و العلاج - بكلا الطريقتين - يشترك في كونه أمرا ممكنا عقلا، غير أنّه يختلف في الطريقة الأولى عن الثانية، بالطريق و السبب، فالطبيب الماهر يصل إلى غايته بالأجهزة العادية، فلا يعد عمله معجزة و لا كرامة، و النبي - كالمسيح و غيره - يصل إلى نفس تلك الغاية عن طريق غير عادي، فيسمى معجزة.

ص: 70

فالعمل في كلتا الصورتين غير خارق لأحكام العقل، إلاّ أنّه موافق للعادة في الأولى دون الثانية.

و قس على ما ذكرنا كثيرا من الأمثلة يتميز فيها خارق العادة عن خارق العقل.

2 - الإعجاز يجب أن يكون مقترنا بالدعوى

هذا هو القيد الثاني لتحديد حقيقة الإعجاز، و يهدف إلى أنّ خرق العادة لا يسمى إعجازا إلاّ بالإتيان به لأجل إثبات دعوى السفارة و النبوة، فإذا تجرّد عنها يسمى كرامة.

و قد نقل سبحانه في الذكر الحكيم كرامة لمريم عليها السلام، في قوله عزّ من قائل: كُلَّمٰا دَخَلَ عَلَيْهٰا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرٰابَ وَجَدَ عِنْدَهٰا رِزْقاً، قٰالَ يٰا مَرْيَمُ أَنّٰى لَكِ هٰذٰا، قٰالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ ، إِنَّ اَللّٰهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ (1).

و هذا الأمر (حضور الرزق بلا سعي طبيعي) لم يكن مقترنا بدعوى المقام و المنصب الرسالي، فلا يوصف بالإعجاز بل بالكرامة. و هكذا الحال فيما يقوم به الأولياء و الصلحاء من عظام الأمور الخارقة للعادة، فإنّها توصف بالكرامة.

3 - عجز الناس عن مقابلته

هذا هو القيد الثالث في تحديد حقيقة الإعجاز، و هو ينحلّ إلى أمرين:

الأول - دعوة الناس إلى المقابلة و المعارضة، و طلب القيام بمثله.

الثاني - عجز الناس كلهم عن الإتيان بمثله.

و إلى كلا الأمرين أشير في التعريف بلفظ «التحدي». و يترتب على هذا أنّ

ص: 71


1- سورة آل عمران: الآية 37.

ما يقوم به كبار الأطباء و المخترعين من الأمور المعجبة، خارج عن إطار الإعجاز، لانتفاء الأمرين فيهما. كما أنّ ما يقوم به السحرة و المرتاضون من الأعمال المدهشة، لا يعدّ معجزا لانتفائهما أيضا، خصوصا الأمر الثاني، لقيام المرتاض الثاني بمثل ما قام به المرتاض الأول، بل بأعظم منه.

4 - أن يكون عمله مطابقا لدعواه

لا بدّ من هذا القيد في صدق الإعجاز على فعل المدعي. فلو خالف ما ادّعاه لما سمّي معجزة، و إن كان أمرا خارقا للعادة. و ذلك كما حصل مع مسيلمة الكذّاب عند ما ادّعى أنّه نبي، و آية نبوته أنّه إذا تفل في بئر قليلة الماء، يكثر ماؤها: فتفل فغار جميع مائها.

و قد كان من أفاعيله - الدالّة على كذب دعواه - أنّه أمرّ يده على رءوس صبيان بني حنيفة، و حنّكهم، فأصاب القرع كلّ صبيّ مسح على رأسه، و لثغ كلّ صبيّ حنّكه(1).

ص: 72


1- لاحظ تفصيل هذه الوقائع في تاريخ الطبري، ج 2، ص 507.
الجهة الثانية هل الإعجاز يخالف أصل العليّة ؟
اشارة

إنّ بديهة العقل تحكم بأنّ كلّ ظاهرة إمكانية، تحتاج في تحقّقها إلى علّة، و هذا أمر لم يختلف فيه اثنان، و عليه أساس التجربة و البحث العلمي، فإنّ العلماء - في المختبرات و غيرها - يبحثون عن علل تكوّن الظواهر، و موجداتها، فشأنهم كشف الروابط بين العلل المادية و معاليلها، هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ الكتب السماوية، و السير التاريخية، تنسب إلى الأنبياء، أمورا لا تتفق بظاهرها مع هذا الأصل، فتنسب إلى موسى عليه السلام: أنّه ألقى عصاه الخشبية الصمّاء، فانقلب حيّة تسعى. و أنّ المسيح عليه السلام كان يمسح بيده على المرضى فيبرءون. و أنّ الحصى سبّحت في كفّ النبي الأعظم صلى اللّه عليه و آله، و غير ذلك من المعاجز. و الاعتقاد بهذه لا يجتمع مع قبول الأصل العقلي المذكور، لأنّ الثعبان يتولد من البيضة بعد مرورها بمراحل عديدة من الانفعالات الداخلية. و إزالة المرض و عود الصحة، رهن استعمال الأدوية و إجراء العمليات الجراحية، و التسبيح نوع تكلم يحتاج إلى حنجرة و فم و لهوات، يقوم به العاقل. و هكذا.

و على الجملة، فظهور المعاجز على مسرح الوجود، مع عدم علل مادية تظهرها، يعدّ خرقا لقانون العلية، و قول بتحقق المعلول بلا علّة.

ص: 73

الجواب

إنّ المعترض خلط بين عدم وجود العلّة المادية التي اعتاد عليها الإنسان في حياته، و عدم العلّة على الإطلاق. فالذي يناقض قانون العلّية هو القول بأنّ المعجزة ظاهرة اتفاقية لا تستند إلى علّة أبدا. و هذا مما لا يقول به أحد من الإلهيين.

و أمّا القول بعدم وجود علّة مادية متعارفة للمعجزة، فليس هو بإنكار لقانون العلية على الإطلاق و نفيا للعلّة من الأساس، و إنّما هو نفي دور و تأثير قسم خاص من العلل، و نفي الخاص لا يكون دليلا على نفي العام.

و هذا القسم الخاص من العلل، المنفي في مورد المعجزة، هو العلل المادية المتعارفة التي أنس بها الذهن، و وقف عليها العالم الطبيعي، و اعتاد الإنسان على مشاهدتها في حياته. و لكن لا يمتنع أن يكون للمعجزة علّة أخرى لم يشاهدها الناس من قبل، و لم يعرفها العلم، و لم تقف عليه التجربة، و بعبارة أخرى، كون المعجزة معلولا بلا علّة شيء، و كونها معلولة لعلّة غير معروفة للناس و العلم شيء آخر. و الباطل هو الأول، و المدّعى هو الثاني، و سيوافيك الكلام فيه في الجهة الثالثة.

ص: 74

الجهة الثالثة ما هي العلة المحدثة للمعجزة ؟
اشارة

قد وقفت في الجهة السابقة على أنّ القول بالمعاجز لا يضعضع أصل العلّية، و أنّ عدم العلّة العادية في موردها لا يدلّ على تحقق المعاجز بلا علّة أصلا، بل لها علّة غير معروفة بين العلل التي يشاهدها الإنسان. و الكلام في هذه الجهة يقع في تعيين تلك العلة، و فيها أقوال و احتمالات:

القول الأول - إنّها اللّه سبحانه

ربما يحتمل أن تكون العلّة هي اللّه سبحانه، و أنّه يقوم بإيجاد المعاجز و الكرامات مباشرة من دون توسط علل و أسباب. فكما هو أوجد المادة الأولى و أجرى فيها عللا و أنظمة، قام في فترات خاصة بخلق الثعبان من العصا الخشبية، و تفجير الماء من الصخور الصّمّاء... و غير ذلك من خوارق الطبيعة و العادة.

و لكن هذا - و إن كان أمرا ممكنا، لعموم قدرته تعالى على كل شيء ممكن بذاته - إلاّ أنّه على خلاف ما عرفناه من الربّ تعالى من سنته التي أجراها في الكون، و هي أن يكون لكل شيء سببا و علّة. و من البعيد أن يخالف تعالى سنته في مجال المعاجز(1).

ص: 75


1- هذا، على أن انتساب الحوادث المتجددة المتقضّية بلا واسطة علل و أسباب، إلى اللّه تعالى المنزّه عن
القول الثاني - إنّها علل مادية غير متعارفة

و هنا احتمال ثان، و هو أن تكون العلّة المحدثة للمعجزة، علة مادية غير متعارفة، اطّلع عليها الأنبياء في ظلّ اتصالهم بعالم الغيب. و لا بعد في أن يكون للشيء علتان، إحداهما يعرفها الناس، و الثانية يعرفها جمع خاص فيهم. و يمكن تقريب ذلك بملاحظة إثمار الأشجار، فإنّ له علة مادية يعرفها الزارع العادي، فتثمر في ظل تلك العلة بعد عدّة أعوام. و هناك خبراء من مهندسي الزراعة واقفون على خصوصيات في التربة و الأشجار و البيئة و المياه و غير ذلك، توجب إثمار الأشجار في نصف تلك المدة مثلا. فإذا كان هذا ملموسا لنا في الحياة، فلا نستبعد أن يقف الأنبياء المتصلون بخالق الطبيعة. على أسرار و رموز فيها، يقدرون بها على إيجاد المعاجز.

و لكنه قول لا يدعمه دليل.

القول الثالث - إنّها الملائكة و الموجودات المجردة

و هنا احتمال ثالث و هو أنّ المعاجز تتحقق بفعل الملائكة - التي يعرّفها القرآن ب «المدبّرات»(1)، بأمر منه سبحانه، عند إرادة النبي إثبات نبوته بها(2).

ص: 76


1- و هو قوله تعالى في سورة النازعات: فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً الآية 5.
2- و لعلّ من هذا القبيل تمثل الروح الأمين على السيدة مريم، كما في قوله سبحانه: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجٰاباً فَأَرْسَلْنٰا إِلَيْهٰا رُوحَنٰا فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا (سورة مريم: الآية 17).
القول الرابع - إنّها نفس النبي و روحه

و ذهب إلى هذا جمع من الفلاسفة و المحققين، و إدراك صحته يتوقف على معرفة القدرة العظيمة التي تمتلكها النفس البشرية، فنقول:

إنّ الإنسان كلّما ازداد توجها إلى باطنه، و انقطاعا عن الظواهر المادية المحيطة به، كلما تفجّرت مكامن قدرات نفسه و تأجّج أوار طاقاتها، و بالعكس، كلما ازداد انغماسا في دركات الملذات، و إشباع الغرائز، كلما خمدت طاقاتها و انطفأت قدراتها.

و يدلّنا على ذلك عيانا، ما يقوم به المرتاضون(1) من خوارق الأفعال و عجائبها: فيرفعون الأجسام الثقيلة التي لا يتيسر رفعها إلاّ بالرافعات الآلية، بمجرد الإرادة. و يستلقون على المسامير الحادة ثم تكسر الصخور الموضوعة على صدورهم، بالمطارق، و يدفنون في الأرض أياما، ليقوموا بعدها أحياء. و غير ذلك مما يراه السائح في بلاد الهند و غيرها، و تواتر نقله في وسائل الإعلام كالجرائد و المجلات و الإذاعات. و كل ذلك دليل قاطع على أنّ في باطن الإنسان قوى عجيبة لا تظهر إلاّ تحت شرائط خاصة.

و بعبارة واضحة، إنّ نفس الإنسان كما تسيطر على أعضاء البدن، فتنقاد لإرادتها، و تتحرك قياما و جلوسا بمشيئتها، فكذلك تسيطر - في ظل تلك الظروف الخاصة - على موجودات العالم الخارجي، فتقودها بإرادتها، و تخضعها لمشيئتها، و تقدر، بمجرد الإرادة، على إبطال مفعول العلل المادية في مقام التأثير، و غير ذلك من الأفعال.

و ليس القيام بعجائب الأمور من خصائص المرتاضين، بل إنّ هناك أناسا مثاليين، أفنوا أعمارهم في سبل العبادة و معرفة الربّ ، بلغوا إلى حدّ قدروا معه على خرق العادة و المجاري الطبيعية.

ص: 77


1- و الرياضة هي التوجّه إلى الباطن و الانقطاع عن الظاهر.

يقول الشيخ الرئيس في هذا المجال: «إذا بلغك أنّ عارفا أطاق بقوته فعلا، أو تحريكا، أو حركة تخرج عن وسع مثله، فلا تتلقه بكل ذلك الاستنكار، فلقد تجد إلى سببه سبيلا في اعتبارك مذاهب الطبيعة... و إذا بلغك أنّ عارفا حدّث عن غيب فأصاب، متقدما ببشرى أو نذير، فصدّق و لا يتعسّرن عليك الإيمان به، فإنّ لذلك في مذاهب الطبيعة أسبابا معلومة»(1).

و يقول صدر المتألّهين: «لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوة إلهية، فيطيعها العنصر في العالم المادي، كإطاعة بدنه إياها. فكلّما ازدادت النفس تجرّدا و تشبّها بالمبادي القصوى، ازدادت قوة و تأثيرا فيما دونها.

فإذا صار مجرّد التصوّر سببا لحدوث هذه التغيرات (طاعة البدن للنفس) في هيولى البدن، لأجل علاقة طبيعية و تعلّق جبلّي لها إليه، لكان ينبغي أن يؤثّر في هيولى العالم مثل هذا التأثير، لأجل اهتزاز علويّ للنفس، و محبة إلهية لها، فتؤثّر نفسه في الأشياء»(2).

و يدلّ على أنّ خوارق العادة رهن فعل النفس الإنسانية، ما ينقله تعالى من أفعال السحرة الواقعة بإذنه تعالى، و ذلك في قوله عزّ من قائل: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (3).

و هناك من الآيات ما هو أصرح منها في نسبة الخوارق إلى أصحاب النفوس القوية، كما ورد في أحوال سليمان النبي عند ما طلب من الملأ إحضار عرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين قبل أن يأتوه مسلمين. فقال عفريت من الجن إنّه قادر على حمله و الإتيان به قبل انفضاض مجلس سليمان، و لكن من كان عنده علم من الكتاب قال إنّه قادر على الإتيان به قبل أن يرتد طرف سليمان إليه، و بالفعل، بأسرع من لمح البصر، كان العرش ماثلا أمامه.

ص: 78


1- الإشارات و التنبيهات، مع شرح المحقق الطوسي ج 3 ص 397. و بعدها أخذ الماتن و الشارح ببيان قدرة النفس على الأمور الخارقة للعادة.
2- المبدأ و المعاد، ص 355 - بتصرف.
3- سورة البقرة: الآية 102.

يقول سبحانه: قٰالَ يٰا أَيُّهَا اَلْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهٰا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قٰالَ عِفْرِيتٌ مِنَ اَلْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقٰامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قٰالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّٰا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قٰالَ هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي... (1).

بعد هذا كلّه نقول: إذا كان هذا حال الإنسان العادي الذي لم يطرق إلاّ باب الرياضة، أو العارف الذي قام بالفرائض و اجتنب المحرمات، فكيف بمن وقع تحت عناية اللّه سبحانه و رعايته الخاصة، و تعليم ملائكته، إلى أن بلغت نفسه أعلى درجات القوة و المقدرة، إلى حدّ يقدر - بإرادة ربّانية - على خلع الصور عن المواد و إلباسها صورا أخرى، و يصير عالم المادة مطيعا له، إطاعة أعضاء بدن الإنسان له.

و في الذكر الحكيم إشارات إلى هذا المعنى حيث ينسب تعالى الإتيان بالمعجزة إلى نفس الرسول بقوله: مٰا كٰانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (2).

فإنّ الفاعل في «يأتي» هو الرسول المتقدّم عليه.

و قد يؤيّد هذا الاحتمال بما ورد في توصيف الأنبياء بأنّهم جند اللّه، و أنّهم منصورون في مسرح التحدي و مقابلة الأعداء. قال سبحانه: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنٰا لِعِبٰادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ * وَ إِنَّ جُنْدَنٰا لَهُمُ اَلْغٰالِبُونَ (3).

و كون النبي منصورا في جميع المواضع، و منها مواضع التحدي، يدلّ على أنّ له دورا و دخالة في الإتيان بخوارق العادات.

و نظير ذلك قوله سبحانه: كَتَبَ اَللّٰهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي (4)، فوصف النبي صلى اللّه عليه و آله بكونه غالبا، و لا معنى للغالبية إلاّ لدخالته في مواضع التحدي.

ص: 79


1- سورة النمل: الآيات 38-40.
2- سورة غافر: الآية 78.
3- سورة الصافات: الآيات 171-173.
4- سورة المجادلة: الآية 21.

و لا دليل على اختصاص الآيتين بالمغازي و الحروب، بل إطلاقهما يدلّ على كونهم منصورين و غالبين في جميع مواقع المقابلة، سواء أ كانت محاجة أو تحدّيا بالإعجاز، أو حربا و غزوا.

و هذا الفعل العظيم للنفوس، إنّما يقع بأمره تعالى و تأييده، و لذا كانت تحصل لهم الغلبة في موارد المجابهة؛ قال تعالى: فَلَمّٰا أَلْقَوْا قٰالَ مُوسىٰ مٰا جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ، إِنَّ اَللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ (1).

فهذه الآيات العامة المتقدمة، تدلّ بظهورها على كون الفاعل للمعاجز و الكرامات، نفوس الأنبياء و أرواحهم، بإذن اللّه سبحانه.

و هناك آيات أخرى خاصة، تسند إلى خصوص بعض الأنبياء خوارق العادة، بل ائتمار الكون بأمرهم.

قال تعالى: وَ لِسُلَيْمٰانَ اَلرِّيحَ عٰاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلىٰ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا، وَ كُنّٰا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عٰالِمِينَ (2).

و أنت إذا أمعنت في قوله: بِأَمْرِهِ ، ينكشف لك الستار عن وجه الحقيقة، و يظهر لك أنّ إرادته كانت نافذة في لطائف أجزاء الكون.

و قال تعالى في المسيح عيسى بن مريم: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّٰهِ ، وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ ، وَ أُحْيِ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (3).

و يقول تعالى أيضا: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي، فَتَنْفُخُ فِيهٰا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي، وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي، وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِي (4).

فترى أنّ الآية تنصّ على أنّ نفخ الروح في الهيكل الطيني للطير، رهن طاقة

ص: 80


1- سورة يونس: الآية 81.
2- سورة الأنبياء: الآية 81.
3- سورة آل عمران: الآية 49.
4- سورة المائدة: الآية 110.

المسيح البشرية، و كذلك إبراء الأكمه و الأبرص، و إحياء الموتى، و كل ذلك بإذن اللّه تعالى و مشيئته.

و بعد هذا كله، أ يبقى شك في قدرة الأنبياء الشخصية على خرق العادة، و تكييف الطبيعة حسب ما يريدون ؟.

بل ما ذا يفهم الإنسان إذا قرأ هذه الآية - التي تنقل مخاطبة يوسف عليه السلام إخوته -: اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هٰذٰا فَأَلْقُوهُ عَلىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً... (1).

و الآية التالية تبين نتيجة أمره: فَلَمّٰا أَنْ جٰاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقٰاهُ عَلىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً... (2).

فما هو العامل المؤثّر في استرجاعه بصره، بعد ما ابيضت عيناه من الحزن ؟.

هل هو قميص الملطخ بالدم ؟ أو حامل البشارة و القميص ؟(3).

ليس هذا و لا ذاك، بل هو نفس إرادته الزكية المؤثّرة بإذن اللّه، و عند ما تقتضي المصلحة الإلهية ذلك. و إنّما توسّل بالقميص ليعلم أنّه هو القائم بذلك.

فاتّضح من جميع ما ذكرناه من الآيات و الشواهد أنّ للمعجزة علّة إلهية متمثلة في نفوس الأنبياء و إرادتهم القاهرة. و ليست إرادتهم هذه فوضوية، و إنّما لظهورها ظروف و شرائط خاصة سيأتي بيانها بإذنه تعالى.

ص: 81


1- سورة يوسف: الآية 93.
2- سورة يوسف: الآية 96.
3- في الروايات، أنّ حامله كان أحد إخوته.

ص: 82

الجهة الرابعة هل الإعجاز يضعضع برهان النظم ؟

إنّ برهان النّظم من أوضح الأدلة على أنّ العالم مخلوق لصانع عالم قادر.

حيث إنّ النظام الدقيق السائد على كل ظاهرة و جزء من ظواهر الكون و أجزائه كاشف عن دخالة قدرة كبرى و علم عظيم في تحققه و تكوّنه. هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ المعجزات - كما تقدّم - خارقة للعادة و السنن السائدة في هذا النظام، فهي تعدّ استثناء فيه و نوع مخالفة له. فالوليد الإنساني - مثلا - يتكوّن بعد التقاء نطفة الرجل و بويضة المرأة، فتتشكل منهما الخلية الإنسانية، ثم تمرّ بعد ذلك بمراحل التفاعل و التكامل، ليخرج بعدها من بطن الأم موجودا سويّا متكاملا.

و القول بأنّ المسيح - عليه السلام - ولد بلا سيادة هذا النظام، بل بمجرد نفخ الملك في رحم مريم - عليها السلام خرق لذاك النظام، و هو كاشف عن عدم كليته و اطراده. أ فبعد ذلك يمكن أن يستدلّ ببرهان النظم على وجود الصانع ؟.

و بعبارة ثانية: إنّ النظم السائد على العالم كاشف عن دخالة المحاسبة و التقدير في تكوّن كل شيء إنسانا كان أو حيوانا، أرضيا كان أو أثيريا. و لكن خلق الثعبان فجأة من الخشب اليابس، و خروج الناقة من الجبل الصخري الأصم، و ما شابه ذلك، ينفي وجود المحاسبة في تكوّن تلك الظواهر.

ص: 83

و الجواب إنّ المعترض لم يقف على أساس برهان النظم أولا، كما لم يقف على حقيقة الإعجاز و ماهيته ثانيا. و لذلك اعترض بأنّ القول بالإعجاز يخالف برهان النظم.

أمّا الأول، فلأنّ المعترض تصوّر أنّ برهان النظم يبتني على وجود نظم واحد بالعدد سائد على الجميع، و قائم بمجموع الأشياء في العالم، بحيث لو شوهد خلاف النظم في جزء من أجزائه لبطل البرهان، بحكم كونه واحدا بالعدد غير قابل للانقسام.

و لكن الحقيقة خلاف ذلك، فإنّ برهان النظم واحد بالنوع كثير بالعدد.

فهو يتمثّل و يتجسد في كل ذرة خاضعة في ذاتها للنظام. فتكون كل ذرة باستقلالها حاملة لبرهان النظم و الدلالة على وجود الصانع القادر العليم، من دون توقف في دلالتها على سيادة النظم في الذرّات الأخرى.

و في الحقيقة، إنّ برهان النظم يتكثر عددا بتكثر الذرات و الأجزاء و الظواهر الخاضعة للنظام، و لو فرض فقدان النظم في جزء و ظاهرة، أو أجزاء و ظواهر - كما يدعيه المعترض في مجال الإعجاز - لكفى وجود النظم في سائر الأجزاء و الظواهر، في إثبات الصانع، و إلى هذا يهدف القائل:

و في كل شيء له آية *** تدل على أنّه واحد

ففي كل خلية و عضو من الإنسان الواحد يتجسد برهان النظم، و يتكثر بتكثرها. فكيف إذا لاحظنا مجموع البشر و المخلوقات و الكواكب و المجرّات. و كما أنّ طغيان غدّة من النظام السائد على سائر الغدد في بدن الإنسان، كما هو الحال في السرطان، لا يضرّ ببرهان النظم القائم بهذا الإنسان، فكذلك الخروج عن النظام في مجال الإعجاز، لأغراض تربوية، و لهداية الناس إلى اتصال النبي بعالم الغيب، فإنّه لا يؤثّر شيئا في برهان النظم من باب أولى.

و أمّا الثاني، فلأنّ الإعجاز ليس من الأمور المتوفرة في حياة الأنبياء، بحيث يكون النبي مصدرا له في كل لحظة و ساعة و يوم، و يكون خرق العادة و هدم

ص: 84

النظام شغله الشاغل. و إنّما يقوم به الأنبياء في فترات خاصة و حساسة لغايات تربوية.

ثم إنّ النبي إذا أراد الإتيان بالمعجزة، أطلع الناس مسبقا على أنّه سيقوم بخرق العادة في وقت خاص. و هذا دالّ على وجود قوة قاهرة مسيطرة على العالم، تقوم كلما شاءت و اقتضت الحكمة و المصلحة القدسية، بخرق بعض النظم و التخلّف عنها. فالعالم، قبضه و بسطه، و سنّ أنظمته و خرقها، بيد خالقه، يفعل ما يشاء حسب المصالح.

و خلاصة البحث أنّ الإعجاز ليس خرقا لجميع النظم السائدة على العالم، و إنّما هو خرق في جزء من أجزائه غير المتناهية الخاضعة للنظام و الدالّة ببرهان النظم على وجود الصانع. و أيضا، إنّ قيام الأنبياء بالإعجاز إنّما يحصل بعد اقترانه بالإعلام المسبق، حتى يقف الناظرون على أنّ خرق العادة وقع بإرادة و مشيئة القوة القاهرة المسيطرة على الكون و المجرية للسنن و الأنظمة فيه.

هذا كلّه، مع أنّ الإعجاز، و إن كان خرقا للسنن العادية، إلاّ أنّه ربما يقع تحت سنن أخرى مجهولة لنا معلومة عند أصحابها، فهي تخرق النظام العادي، و تجري نظاما آخر غير عادي، لا يقلّ في نظمه عنه.

ص: 85

ص: 86

الجهة الخامسة الإعجاز و المتجددون من المسلمين
اشارة

الإيمان بالغيب عنصر أساسي في جميع الشرائع السماوية، و لو انتزع هذا العنصر عن الدين الإلهي، لأصبح دستوره دستورا عاديا شبيها بالدساتير و الإيديولوجيات المادية البشرية التي لا تمت إلى الخالق و المدبّر لهذا الكون بصلة.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعدّ الإيمان بالغيب في طليعة الصفات التي يتّصف بها المتّقون إذ يقول - عزّ من قائل -: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ ، وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ (1).

و قد كان أصحاب الشرائع و أنصارها، و في مقدّمتهم علماء الإسلام، محتفظين بهذا الأصل، معتصمين به أشدّ الاعتصام، مؤكّدين عليه غاية التأكيد، باعتبار أنّه الفارق الجوهري بينها، و بين الأنظمة البشرية.

و لكن، من جانب آخر، إنّ الحضارة المادية الحديثة، اعتمدت على الحسّ و التجربة، و أعطت كل القيمة و الوزن لما أيّدته أدوات المعرفة المادية.

و قد أدهشت هذه الحضارة، جماعة من المفكرين المسلمين، فوجدوا أنفسهم في صراع عنيف بين الإيمان بالغيب، باعتباره عنصرا أساسيا في الدين، و مبادي الحضارة المادية التي لا تعتبر إلاّ ما كان قائما على الحسّ و التجربة، فمن

ص: 87


1- سورة البقرة: الآية 3.

الجهة الأولى لم يجرءوا على إنكار ما هو خارج عن إطار أدوات المعرفة المادية - كالمعاجز - لأنّهم مسلمون، و من الجهة الثانية لم يتجرءوا على التصريح بوجود الملائكة و الجن، و بخرق المعاجز للسنن الطبيعية و الأسباب المادية، تحرزا من رمي الماديين إيّاهم بالخرافة، و الإيمان بما لا تؤيّده التجربة و لا يثبته الحسّ .

و لأجل ذلك سلكوا طريقا وسطا، و هو تأويل بعض ما جاء في مجال الغيب، خصوصا المعاجز و الكرامات، حتى يستريحوا بذلك من هجمة الماديين، و يرضوا به طائفة المتدينين.

و ممّن سلك هذا الطريق الشيخ محمد عبده(1) في مناره، و الطنطاوي(2) في جواهره، و تلامذة منهجهما. فمن وقف على كلا التفسيرين في المواضع التي يحدّث القرآن فيها عن معاجز الأنبياء و خوارق العادات، يقف على أنّ الرجلين يسعيان بكل حول و قوة إلى تصوير الحوادث الإعجازية، و كأنّها جارية على المجاري الطبيعية، غير مخالفة أصول الحسّ و التجربة(3).

بل ربما نرى أنّ بعض مقتفي منهجهما ينكرون أن يكون للنبي الأعظم صلى اللّه عليه و آله معجزة غير القرآن الكريم، و قد تبعوا في نفي معاجزه، قساوسة النصارى الذين يحاولون إنكار معاجز النبي الكريم ليتسنى لهم بذلك تفضيل سيدنا المسيح عليه السلام عليه أولا، و إنكار نبوته لكونه فاقدا للمعاجز، ثانيا(4).

ص: 88


1- توفي سنة 1323 ه ق.
2- توفي سنة 1358 ه ق.
3- لاحظ مثلا ما جاء في المنار، ج 1، ص 322، تفسير قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (سورة البقرة: الآية 56). و فيه أيضا، ج 1، ص 343-344، تفسير قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنٰا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ . (سورة البقرة: الآية 65). و فيه أيضا، ج 1، ص 350-351، تفسير قوله تعالى: فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ .... (سورة البقرة: الآية 73). و غير ذلك من الموارد.
4- راجع للوقوف على كلمات القساوسة في هذا المجال، كتاب «أنيس الأعلام»، ج 5، ص 351.

و هم يتمسكون في هذا المجال بعدّة آيات(1) خفي عليهم المراد منها، و نحن نكتفي في المقام بتفسير واحدة منها، لم يزل يتمسك بها كل برّ و فاجر منهم، و هي:

قوله سبحانه: وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا لِلنّٰاسِ فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ، فَأَبىٰ أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ إِلاّٰ كُفُوراً * وَ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى تَفْجُرَ لَنٰا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهٰارَ خِلاٰلَهٰا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمٰاءَ كَمٰا زَعَمْتَ عَلَيْنٰا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللّٰهِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقىٰ فِي اَلسَّمٰاءِ ، وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّٰى تُنَزِّلَ عَلَيْنٰا كِتٰاباً نَقْرَؤُهُ ، قُلْ سُبْحٰانَ رَبِّي. هَلْ كُنْتُ إِلاّٰ بَشَراً رَسُولاً (2).

و قد استدلّ بها بعض القساوسة قائلا: إنّ نبيّ الإسلام لما طولب بالمعجزة، أظهر العجز بقوله إنّه ليس إلاّ بشرا رسولا.

إنّ تحليل هذا الاستدلال و نقده، يتوقّف على دراسة كلّ واحدة من المقترحات المذكورة في الآيات المتقدمة، و هي:

1 - أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا.

2 - أن يكون للنبي جنّة من نخيل و عنب، و تجري الأنهار خلالها بتفجير منه.

3 - أن يسقط السماء عليهم كسفا.

4 - أن يأتي باللّه و الملائكة قبيلا.

5 - أن يكون للنبي بيت من زخرف.

6 - أن يرقى النبي في السماء، و لا يكفي ذلك في إثبات نبوته حتى ينزّل عليهم كتابا من السماء يقرءوه.

ص: 89


1- هي ثمانية عشرة آية، تعرض لها الأستاذ، دام ظله، في موسوعته التفسيريّة مفاهيم القرآن، ج 4، ص 95 إلى 154.
2- سورة الإسراء: الآيات 89-93.

هذه هي مقترحات القوم، و نحن نجيب عليها بجوابين: إجماليّ و تفصيليّ :

إجمال الجواب عن هذه المقترحات، أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله إنّما لم يأت بها لعدم استجماعها لشرائط الإعجاز، إذ ليس القيام بالمعجزة من الأمور الفوضوية التي لا تخضع لشرط عقلي أو شرعي. و هذه المقترحات فاقدة لها.

تفصيل الجواب

أمّا الأول، فإنّ سنة اللّه الحكيمة في الحياة البشرية استقرت على أن يصل الناس إلى معايشهم و مآكلهم و مشاربهم عن طريق السعي و الجد، تكميلا لنفوسهم و تربية لعزائمهم.

فإذا كان مطلوب القوم أن يفجّر لهم النبي ينبوعا و عينا لا ينضب ماؤها، ليستريحوا بذلك من عناء تحصيل الماء، فهو على خلاف تلك السنة الحكيمة.

نعم، ربما تقتضي بعض الظروف - كإبقاء حياة القوم - قيام النبي بذلك، كما فعل موسى عند ما شكا إليه قومه الظمأ، فاستسقى اللّه تعالى لهم، فأوحى إليه أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا(1)، و لكن مثل هذا لا يعد نقضا للسنة العامة، كما أنّ الظروف في مكة لم تكن ظروفا اضطرارية.

و أمّا الثاني، و هو كون النبي مالكا لجنة من نخيل و عنب يفجّر الأنهار خلالها، فليس هو طلبا للإعجاز، و إنّما كانوا يستدلّون بوجود الثروة على عظمة الرجل، و بالفقر و فقدان المال و الإملاق على حقارته، و لذا قالوا، كما يحكيه عنهم تعالى: لَوْ لاٰ نُزِّلَ هٰذَا اَلْقُرْآنُ عَلىٰ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (2).

و على هذا، فإجابة هذا الطلب يكون نوع اعتراف بهذه المزعمة، إذ ليس هناك رابطة، عقلية بين كون الرجل صاحب ثروة، و كونه متصلا بالغيب. و إلاّ

ص: 90


1- لاحظ سورة البقرة: الآية 60.
2- سورة الزخرف: الآية 31.

لوجب أن يكون أصحاب الثروات، أنبياء إذا ادّعوا النبوة.

و أمّا الثالث، و هو إسقاط السماء عليهم، فإنّه يضاد هدف الإعجاز، لأنّ الغاية من خرق الطبيعة هداية الناس لا إبادتهم و إهلاكهم.

و أمّا الرابع، و هو الإتيان باللّه و الملائكة، فقد حكاه عنهم سبحانه في آية أخرى، بقوله: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنٰا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاٰئِكَةُ أَوْ نَرىٰ رَبَّنٰا (1).

و من المعلوم أنّ هذا المقترح، أمر محال عقلا، و ممتنع بالذات، فكيف يقوم به النبي ؟!.

و أمّا الخامس، و هو كونه صاحب بيت من زخرف، فيردّ بما ردّ به الاقتراح الثاني.

و أمّا السادس، و هو طلب رقيّه إلى السماء و إنزال كتاب ملموس يقرءونه، فإنّ لحن هذا السؤال يدلّ على عنادهم و تعنتهم إذ لو كان الهدف هو الاهتداء، لكفى طلبهم الأول - أعني رقيّه إلى السماء - و لم تكن حاجة إلى الثاني، و من المعلوم أنّ النبيّ إنّما يقوم بالإعجاز لأجل الهداية و الإرشاد إلى نبوته و اتّصاله بعالم الغيب.

و مجموع هذه الأجوبة يوقفنا على أنّ النبيّ لم يجب مطالبهم إمّا لأجل فقدان المقتضي أو لوجود المانع. و على ذلك أجاب بما أمره سبحانه أن يجيبهم به، قائلا:

سُبْحٰانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّٰ بَشَراً رَسُولاً .

و هو في هذا الجواب يعتمد على لفظين: «بشرا» و «رسولا». و المراد أنّ هذه الطلبات التي طلبتموها مني إمّا لكوني بشرا، أو لكوني رسولا. و على الأول فقدرة البشر قاصرة عن القيام بهذه الأمور، و على الثاني، فهو موقوف على إذنه سبحانه، لأنّ الرسول لا يقوم بشيء إلاّ بإذن مرسله، و ليس هاهنا إذن، لعدم استجماع هذه الطلبات شرائط الإجابة(2).

ص: 91


1- سورة الفرقان: الآية 21.
2- و إذا أردت التفصيل، فلاحظ «الميزان»، ج 13، ص 217-218.

و بالإجابة التي ذكرناها عن هذه الآيات، تقدر على الإجابة عن كثير من الآيات التي اتّخذها نفاة المعجزة ذريعة لنظريتهم.

أضف إلى ذلك أنّه كيف يمكن لأحد أن ينكر معاجز النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله، مع أنّ القرآن الكريم يخبر عن بعضها أولا(1)، و السنّة متواترة بها، ثانيا.

و ليس إنكار المعاجز و غيرها ممّا يرتبط بالغيب - كالملائكة و الجن - إلاّ لفقدان الهوية الإسلامية، و اتّخاذ موقف الهزيمة في مقابل الهجمات المادية، التي أصبحت بحمد اللّه تعالى، و بفضل بحوث العلماء الغيارى، سرابا في صحراء.

ص: 92


1- لاحظ في ذلك الآيات التالية: سورة آل عمران: الآيتان 61 و 86، سورة الأنعام: الآية 124، سورة الإسراء: الآية 1. سورة الروم: الآيات 1-3، سورة الصافات: الآيتان 14-15، سورة القمر: الآيات 1-4، و لاحظ في تفصيل هذه الآيات، مفاهيم القرآن ج 4 ص 75.
الجهة السادسة دلالة الإعجاز على صدق دعوى النبوّة
اشارة

صفحات التاريخ تشهد على وجود أناس ادّعوا السفارة من اللّه و الإنباء عنه، عن كذب و افتراء، و لم يكن لهم متاع غير التزوير، و لا هدف سوى السلطة و الرئاسة.

و من هنا كان لا بدّ من معايير و ضوابط لتمييز النبي عن المتنبّئ، و من جملتها تجهّز المدّعي بالإعجاز، و إتيانه بخوارق العادة، متحديا بها غيره على وجه لا يقدر أحد على مقاومته، حتى نوابغ البشر.

و يظهر من الآيات الواردة في القرآن الكريم أن طلب الإعجاز دليلا على صدق المدّعي، كان أمرا فطريا، يطلبه الناس من الأنبياء عند دعواهم النبوّة و السفارة الإلهية، و لأجل ذلك لمّا ادّعى «صالح» عليه السلام، النبوّة، قوبل بجواب قومه: مٰا أَنْتَ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا، فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ (1).

و قد يخبر الأنبياء الناس بتجهزهم بالمعاجز عند طرحهم دعوى النبوة، قبل أن يطلبها الناس منهم، كما قال موسى مخاطبا الفراعنة: حَقِيقٌ عَلىٰ أَنْ لاٰ أَقُولَ عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ * قٰالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ (2).

ص: 93


1- سورة الشعراء: الآية 154.
2- سورة الأعراف: الآيتان 105 و 106.

و كما جاء في عيسى المسيح عليه السلام، من قوله تعالى: وَ رَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (1).

و لكن الكلام في وجه دلالة الإعجاز على صدق قول المدعي، فهل هو دليل برهاني بحيث يكون بين المعجزة و صدق المدّعي رابطة منطقية، تستلزم الأولى معها، وجود الثانية ؟ أو هو دليل إقناعي، يرضي عامة الناس و سوادهم و يجلب اعتقادهم بصدق دعوى المدّعي ؟.

هناك من يتخيل أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبي، دلالة إقناعية لا برهانية، و يستدلّ هؤلاء المتوهمون، على مقالتهم، بأنّ الدليل البرهاني يتوقف على وجود رابطة منطقية بين المدّعى و الدليل، و تلك الرابطة غير موجودة في المقام. إذ كيف يكون خرق العادة و عجز الناس عن المقابلة، دليلا على صدق المدّعي في كونه نبيّا و حاملا لشريعة إلهية. إذ لو صحّ ذلك لصحّ أن يقال: إنّ قيام الطبيب بعملية جراحية بديعة، دليل على صدق مقاله في المسائل النجومية و الفلكية. أو صدق تخطيطاته السياسية و الاجتماعية. و من المعلوم، انتفاء الرابطة المنطقية بينها.

و لأجل ذلك - يضيف المتوهم - لا يدلّ قيام المسيح بإحياء الموتى و إبراء المرضى، على صدق ما يدّعيه، بدلالة برهانية. و إنّما يكتفى به، لأنّ مشاهدة هذه الأعمال العظيمة تجعل للقائم بها في نفوس الناس مكانة عالية، بحيث يأخذ مجامع قلوبهم و يستولي على ألبابهم، فيقنعهم، و يجلب يقينهم بصدق دعواه.

هذا، و لكن الحق وجود الرابطة المنطقية بين الإعجاز و دعوى النبوة، و يمكن إثبات ذلك ببيانين:

البيان الأول لوجود الرابطة المنطقية و يتّضح بملاحظة الأمور التالية، التي يسلمها الخصم أيضا:

ص: 94


1- سورة آل عمران: الآية 49.

الأول: أنّ الخالق عادل لا يجور، و حكيم لا يفعل ما يناقض الحكمة.

الثاني: أنّه سبحانه يريد هداية الناس، و لا يرضى بضلالتهم و كفرهم.

الثالث: أنّ المعجزة إنّما تعدّ سندا لصدق دعوى النبوة إذ كان حاملها واجدا لشرطين:

1 - أن تكون سيرته نقية الثوب، و بيضاء الصحيفة، لم يسوّدها شيء من الأعمال المشينة.

2 - أن تكون شريعته مطابقة للعقل، و موافقة للفطرة. أو على الأقل، لا يرى فيها ما يخالف العقل و الفطرة.

فلو انتفى الشرط الأول، بأن كانت سوابقه سيئة، لكفى ذلك في تنفر الناس عنه.

و كذا لو انتفى الشرط الثاني، بأن كانت شريعته مخالفة للعقل و الفطرة، لما تقبّلها أصحاب العقول السليمة.

و أمّا لو توفّر الشرطان فيه، فتتطاول إليه الأعناق، و تنقاد له القلوب، و لشرعه العقول، فيسلّمون ما يقول، و يطيعون ما أمر.

و هنا نقول: لو كانت دعوة هذا المدّعي، صادقة، فإعطاؤه القدرة على الإتيان بالعجائب و الخوارق، مطابق للحكمة الإلهية.

و أمّا لو كانت دعواه كاذبة، فإعطاؤه تلك القدرة، و تسخير عالم التكوين له، في تلك الظروف، على خلاف الحكمة، و على خلاف الأصل الثاني المتقدم أعني أنّه تعالى يريد هداية الناس، و لا يرضى بإضلالهم، و ذلك لأنّه تعالى يعلم أنّ الظروف توجد في الناس خضوعا لهذا الشخص، فيكون إقداره على الإعجاز، مع كونه كاذبا، إغراء بالضلالة، و صدّا عن الهداية، و اللّه تعالى حكيم لا يفعل ما يناقض غرضه و ينافي إرادته، فأي دلالة منطقية أوضح من ذلك ؟.

ص: 95

و لك أن تصب هذا الاستدلال في قالب القياس المنطقي، فتقول:

إنّه سبحانه حكيم، و الحكيم لا يجعل الكون و لا بعضه مسخّرا للكاذب، فاللّه سبحانه لا يجعل الكون و لا بعضه مسخرا للكاذب. و لكن المفروض أنّ هذا المدّعي مسخّر للكون، فينتج أنّه ليس بكاذب بل صادق.

و لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبوّة يتوقف على القول بالحسن و القبح العقليين، و أمّا الذين أعدموا العقل و منعوا حكمه بهما، فيلزم عليهم سدّ باب التصديق بالنبوّة من طريق الإعجاز، لأنّ الإعجاز إنّما يكون دليلا على صدق النبوّة، إذا قبح في العقل إظهار المعجزة على يد الكاذب، فإذا توقف العقل عن إدراك قبحه، و احتمل صحة إمكان ظهوره على يد الكاذب، لا يقدر على التمييز بين الصادق و الكاذب(1).

و في بعض كلمات المتكلمين إشارة إلى ما ذكرنا. يقول القوشجي: «إنّما كان ظهور المعجزة طريقا لمعرفة صدقه لأنّ اللّه تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق(2)، كما إذا قام رجل في مجلس ملك بحضور جماعة، و ادّعى أنّه رسول هذا الملك إليهم، فطالبوه بالحجة، فقال: هي (الحجة) أن يخالف هذا الملك عادته، و يقوم على سريره، ثلاث مرّات و يقعد، ففعل. فإنّه يكون تصديقا له، و مفيدا للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب»(3).

و قال المحقق الخوئي: «إنّما يكون الإعجاز دليلا على صدق المدّعي، لأنّ المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلاّ بعناية من اللّه تعالى و إقدار منه. فلو كان مدّعي النبوّة كاذبا في دعواه، كان إقداره على المعجز

ص: 96


1- و إن للفضل بن روزبهان الأشعري كلاما في الخروج عن هذا المأزق، غير تام، فمن أراد فليرجع إلى دلائل الصدق، ج 1، ص 366، و قد أوردناه في الجزء الأول من الكتاب و أجبنا عليه لاحظ ص 247-248.
2- هذا التعبير صحيح على منهج الأشاعرة من أنّ أفعال العباد كلها مخلوقة للّه تعالى، و لكن الحق أنّ هذا العلم يوجد في الإنسان بعد عدّة عوامل.
3- شرح القوشجي على التجريد، ص 465 الطبعة الحجرية، ايران.

من قبل اللّه تعالى إغراء بالجهل و إشادة بالباطل، و ذلك محال على الحكيم تعالى، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه و كاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوّته.

و هذه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور، و لا يشكون فيها أبدا. فإذا ادّعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختصّ برعيته، كان من الواجب عليه أولا أن يقيم على دعواه دليلا يعضدها، حين تشكّ الرعية بصدقه، و لا بدّ من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح، فإذا قال لهم ذلك السفير: الشاهد على صدقي أن الملك غدا سيحييني بتحيته الخاصة التي يحيي بها سفراءه الآخرين، فإذا علم الملك ما جرى بين السفير و بين الرعية ثم حيّاه في الوقت المعيّن بتلك التحية، كان فعل الملك هذا تصديقا للمدعي في السفارة.

و لا يرتاب العقلاء في ذلك، لأنّ الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدّق هذا المدعي إذا كان كاذبا، لأنّه يريد إفساد الرّعية»(1).

القرآن و الدّعوى الكاذبة

يخبر القرآن الكريم عن أنّه سبحانه فرض على نفسه معاقبة النبي و إهلاكه إذا كذب على اللّه تعالى، قال عزّ و جل: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ اَلْأَقٰاوِيلِ * لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ اَلْوَتِينَ * فَمٰا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حٰاجِزِينَ (2).

قال المحقق الخوئي: «المراد من الآية الكريمة أنّ محمدا الذي أثبتنا نبوّته، و أظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يتقوّل علينا بعض الأقاويل و لو صنع ذلك، لأخذنا منه باليمين، و لقطعنا منه الوتين، فإنّ سكوتنا عن هذه الأقاويل،

ص: 97


1- البيان في تفسير القرآن، ص 35-36، الطبعة الثامنة، 1401 ه - بيروت.
2- سورة الحاقة: الآيات 44-47.

إمضاء منّا لها، و إدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث»(1)إنّ هذه الآيات تحكي عن سنّة إلهية جارية في خصوص من ثبتت نبوّتهم بالأدلّة القطعية و دلّت معاجزهم على أنّهم تحت رعايته سبحانه، الذي أقدرهم بها على التصرّف في الكون. فالإنسان الذي يصل إلى هذا المقام، يستولي على مجامع القلوب، و يسخّر الناس بذلك لمتابعته، فكل ما يلقيه، و يشرّعه، يأخذ طريقه إلى التنفيذ في حياة الناس و المجتمع. فلو افتعل هذا الإنسان - في مثل هذه الظروف - كذبا على اللّه تعالى، اقتضت حكمته سبحانه إهلاكه و إبادته، لما في إبقائه و إدامة حياته، من إضلال الناس، و إبعادهم عن طرق الهداية، الأمر الذي يناقض مقتضى الحكمة الإلهية التي شاءت هداية الناس و إبعادهم عن وسائل الضلالة.

و التدبّر في مفاد هذه الآيات يرشدنا إلى وجود الرابطة المنطقية بين كون النبي محقّا في دعواه، و إتيانه بالمعجزة و أنّه يتصرف في الكون برضى مبدعه. و بقاؤه على وصف التصرّف كاشف عن رضاه تعالى، و صدق النبي فيما يأتي به.

و بما ذكرنا يعلم أنّ الآيات لا تهدف إلى أنّ دعوى النبوّة كافية في صدق المدّعي، و أنّ المدّعي لو كان كاذبا في دعواه لشملته نقمة اللّه سبحانه و إماتته، بحجة أنّه لو تقوّل عليه بعض الأقاويل لقطع منه الوتين، فاستمرار المدّعي للنبوّة على الحياة - و إن لم يأت بأية معجزة و لم يقم برهانا على صدق دعواه - هو، بحدّ نفسه، كاشف عن صدق دعواه(2).

إذ لا ريب أنّ هذه الدعوى أوهن من بيت العنكبوت، و لو صحّت، للزم تصديق كل متنبئ في العالم - و إن ثبت كذبه - لمجرّد عدم إهلاك اللّه تعالى له.

إلى هنا وقفت على البيان الأول الذي يثبت أنّ بين دعوى النبوّة و الإتيان بالمعجزة، رابطة منطقية.

ص: 98


1- البيان في تفسير القرآن، ص 36، الطبعة الثامنة، 1401 ه - بيروت.
2- ادّعى ذلك الكاتب البهائي، أبو الفضل الجرفادقاني، في كتابه الفرائد، ص 240، طبعة مصر.

البيان الثاني لوجود الرابطة المنطقية إنّ نفي الرابطة المنطقية بين الإتيان بالمعجزة و صدق الدعوى، أمر يحتاج إلى التحليل، فهو باطل على وجه و صحيح على وجه آخر، و ذلك بالبيان التالي:

إن كان المراد من قلب العصا ثعبانا - مثلا - أنّه كالأوسط في القياس، دليل على صدق ما يدّعيه النبي من أنّه سبحانه واحد، عالم قادر، ليس كمثله شيء..

فلا ريب في عدم صحته. إذ لا يمكن الاستدلال على صحّة هذه الأصول بالتصرف في الكون.

و لأجل ذلك لم يطرح القرآن أصول الإسلام مجردة عن البرهنة، بل قرنها بلطائف الدلائل و الإشارات، يقف عليها كلّ متدبّر في الذكر الحكيم.

فيستدلّ في البرهنة على وجوده سبحانه بقول: أَ فِي اَللّٰهِ شَكٌّ فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ؟(1).

و في البرهنة على وحدة المدبّر، بقوله: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا (2).

و في البرهنة على إبطال ألوهية الأصنام، بقوله: وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاٰ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ، وَ لاٰ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً، وَ لاٰ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاٰ حَيٰاةً وَ لاٰ نُشُوراً (3).

و في إبطال ألوهية المسيح، بقوله: مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ ، وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كٰانٰا يَأْكُلاٰنِ اَلطَّعٰامَ ، اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اَلْآيٰاتِ (4).

إلى غير ذلك من عشرات الآيات التي تطرح الأصول و العقائد، بالبراهين

ص: 99


1- سورة إبراهيم: الآية 10.
2- سورة الأنبياء: الآية 22.
3- سورة الفرقان: الآية 3.
4- سورة المائدة: الآية 75.

الدقيقة. فالمعجزة غير دالّة بالدلالة المطابقية على صحّة المعارف و الأصول التي يأتي بها صاحبها، بمعنى أنّها ليست الحدّ الأوسط في صحّة المدّعى، كالتغيير في قولنا:

العالم متغيّر، و كلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث.

و إن كان المراد أنّ خرق العادة الملموسة - أعني قلب العصا حيّة - دليل على أنّهم قادرون على خرق عادة أخرى غير ملموسة - و هي الاتصال بعالم الوحي و كون إدراكات النبي خارجة عن إطار الإدراكات العادية المتعارفة - فهو صحيح، و إليك بيانه:

إنّ الأنبياء عليهم السلام، كانوا يواجهون في تبليغ رسالاتهم إشكالين عظيمين في أعين الناس:

الإشكال الأول - إنّهم كانوا يتخيّلون أنّ النبي المرسل من عالم الغيب، يجب أن يكون من جنس الملائكة، و لا يصحّ أن يكون إنسانا مثلهم.

و القرآن الكريم يحكي عنهم هذا الاعتراض، بقوله: قٰالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونٰا عَمّٰا كٰانَ يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا (1).

و كان الأنبياء يجيبون سؤالهم بأنّ المماثلة أساس التبليغ، و الوحدة النوعية غير مانعة منه، لإمكان أن يتفضل فرد من نوع على فرد من ذاك النوع، فيكون الفاضل مرسلا، و المفضول مرسلا إليه.

و القرآن الكريم يحكي هذا الجواب، بقوله: قٰالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَمُنُّ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ (2).

الإشكال الثاني - إنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يدّعون أنّهم يتلقون الأصول و المعارف و الأحكام و الفروع من اللّه سبحانه عن طريق الوحي، و هو إدراك خاص يوجد فيهم و لا يوجد في غيرهم، و ليس من قبيل الإدراكات العادية

ص: 100


1- سورة إبراهيم: الآية 10.
2- سورة إبراهيم: الآية 11.

التي يجدها كل إنسان في صميم ذاته من طريق الإبصار بالعين، و السمع بالأذن، و التفكّر و الاستدلال بالعقل.

و هذه الدعوى كانت تثير السؤال التالي:

إنّ ادّعاء الإدراك عن طريق الوحي، ادعاء أمر خارق للعادة، فإنّ الإدراكات الإنسانية لا تخرج عن إطار الحسيّات و الخياليات و العقليات. فنحن لا نؤمن بقولكم هذا إلاّ إذا شاهدنا خرقا للعادة يماثل ما تدّعون، حتى نستدلّ بخرق عادة مرئية، على وجود نظيرها في باطن وجودكم، و صميم حقيقتكم.

و من منطلق إجابة هذا السؤال، كان الأنبياء يفعلون الخوارق، و يأتون بالمعاجز، حتى يدللوا بذلك على تمكنهم من خرق العادة مطلقا، سواء أ كانت مرئية - كقلب العصا إلى الثعبان، و تسبيح الحصى - أو غير مرئية - كالإدراك غير المشابه للإدراكات العادية، الذي هو الوحي.

و إن شئت قلت: كانوا يستدلون بخرق العادة الملموسة، على غير الملموسة منها.

و إلى ما ذكرنا يشير العلامة الطباطبائي رحمه اللّه بقوله: «إنّ دعوى النبوّة و الرسالة من كل نبي و رسول - على ما يقصه القرآن - إنّما كانت بدعوى الوحي و التكليم الإلهي بلا واسطة، أو بواسطة نزول ملك، و هذا أمر لا يساعده الحسّ و لا تؤيّده التجربة، فيتوجه عليه الإشكال من جهتين: إحداهما من جهة عدم الدليل عليه، و الثانية من جهة الدليل على عدمه. فإنّ الوحي و التكليم الإلهي و ما يتلوه من التشريع و التربية الدينية ممّا لا يشاهده البشر في أنفسهم، و العادة الجارية في الأسباب و المسبّبات تنكره، و قانون العليّة العامة لا يجوزه، فهو أمر خارق للعادة.

فلو كان النبي صادقا في دعواه النبوّة و الوحي، لكان لازمه أنّه متصل بما وراء الطبيعة، مؤيّد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة، و أنّ اللّه سبحانه يريد بنبوّته و الوحي إليه، خرق العادة. فلو كان هذا حقا، و لا فرق بين خارق و خارق، كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع، و أن يخرق

ص: 101

اللّه العادة بأمر آخر يصدّق النبوة و الوحي من غير مانع عنه، فإنّ حكم الأمثال واحد، فلئن أراد اللّه هداية الناس بطريق خارق للعادة و هو طريق النبوة و الوحي، فليؤيدها و ليصدقها بخارق آخر و هو المعجزة.

و هذا هو الذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة، كلما جاءهم رسول من أنفسهم(1).

ص: 102


1- الميزان، ج 1، ص 86.
الجهة السابعة هل حرم الإنسان المعاصر من المعاجز و الكرامات ؟
اشارة

لا شكّ أنّ للإعجاز أثرا بالغا في إيجاد الإيمان بدعوى المدّعي، و ربما يكون أثر الإعجاز في نفوس عامة الناس أبلغ من تأثير البراهين العقلية.

فإذا كان للإعجاز هذا الأثر البالغ، فلما ذا حرم منه إنسان ما بعد عصر الرسالة ؟ و لما ذا لا تظهر يد من الغيب تقلب العصا ثعبانا و تبرئ الكمه و البرص و المصابين بالسرطان ؟ مع أنّ إنسان القرن المعاصر أشدّ حاجة إلى مشاهدة المعجزة، لذيوع بذور الشكّ و الترديد بين الناس عامة و الشباب خاصة، أ فليس هذا حرمانا من الفيض المعنوي ؟.

الجواب: إنّ الإنسان المعاصر، بل من قبله ممن جاءوا بعد عصر الرسالة، ليس و لم يكونوا محرومين من المعجزة، بل إنّ هناك معجزتين ساطعتين، خالدتين على مرّ الدهور.

الأولى - القرآن الكريم

إنّ القرآن الكريم، معجزة النبي الأكرم الخالدة، المشرقة على جبين الدهر، تتحدّى المعاندين، و تواجه المشككين، بقولها: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (1)

ص: 103


1- سورة البقرة: الآية 23.

و هذا النداء القرآني يكرّره المسلمون في تلاواتهم و إذاعاتهم و أنديتهم الدينية، فلم يجب إلى الآن أحد من العرب و العجم، بل كلّهم انحنوا - مذهولين - أمام عظمة القرآن في فصاحته و بلاغته و نظمه و أسلوبه، كما سيأتي الكلام فيه مفصلا.

على أنّ القرآن الكريم أخبر بأنّ هذه المعجزة خالدة إلى يوم القيامة، و لن يقدر أحد من البشر على مقابلتها، بقوله: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1).

الثانية - المباهلة

روى أهل السير و التاريخ أنّه قدم وفد نصارى نجران على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، فدارت بينه و بينهم أسئلة و أجوبة حول نبوته عليه الصلاة و السلام. فدعاهم الرسول إلى قبول الإسلام، فامتنعوا، فدعاهم إلى المباهلة فاستنظروه إلى صبيحة اليوم التالي:

فلما رجعوا إلى رجالهم، قال لهم الأسقف: «انظروا محمدا، فإن خرج بولده و أهله، فاحذروا مباهلته، و إن خرج بأصحابه فباهلوه».

فلما كان الغد، خرج النبي الأكرم و يده في يد علي بن أبي طالب، و الحسن و الحسين يمشيان أمامه، و فاطمة ابنته تمشي خلفه.

و خرج النصارى يتقدّمهم أسقفهم، فلما رأى النبيّ قد أقبل بمن معه، سأل عنهم فقيل له: هذا ابن عمه، و هذان ابنا بنته، و هذه الجارية بنته فاطمة، أعزّ الناس عليه.

و تقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فجثا على ركبتيه، فقال أبو حارثة الأسقف: «جثا و اللّه كما جثا الأنبياء للمباهلة»، فرجع و لم يقدم على المباهلة.

ص: 104


1- سورة الإسراء: الآية 88.

و قال: «أنا أخاف أن يكون صادقا، و لئن كان صادقا، لم يحل و اللّه علينا الحول، و في الدنيا نصراني».

فصالحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على ألف حلّة من حلل الأواقي، و قال النبي: «و الذي نفسي بيده، لو لاعنوني، لمسخوا قردة و خنازير، و لاضطرم الوادي عليهم نارا، و لما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا»(1).

و في هذا المجال ورد قوله سبحانه: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ (2).

و المباهلة معجزة إسلامية خالدة، يقوم بها الأمثل فالأمثل من الأمة في مقام محاجة المخالفين من اليهود و النصارى و غيرهم، و لا تختص بالنبي الأكرم.

إنّ بإمكان أصحاب النفوس الكاملة، في مراتب التقوى و الورع و اليقين، أن يباهلوا أعداء الدين، و يدعوا عليهم بالدمار و الهلاك، و لن يمضي زمن إلاّ و قد شملهم العذاب الإلهي.

و قد كان سيدنا العلامة الطباطبائي رحمه اللّه يرى هذا الرأي و يقول: «إنّ المباهلة معجزة خالدة للمسلمين يحتجون بها على صحّة عقائدهم و أصولهم فمن يريد المباهلة فيما جاء به النبي الأعظم صلى اللّه عليه و آله، فأنّا على أتمّ الأهبة و الاستعداد لمباهلته، فليقدم المخالف إذا شاء».

و لعلّ الأستاذ الراحل أخذه من كلام الإمام الصادق عليه السلام، حينما قال له أحد أصحابه: «إنّا نكلّم الناس فنحتجّ عليهم يقول اللّه عزّ و جل:

أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ (3) فيقولون: نزلت في أمراء السرايا. فنحتج عليهم بقوله عزّ و جل: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ - إلى آخر

ص: 105


1- مجمع البيان، ج 1، ص 452، طبعة صيدا.
2- سورة آل عمران: الآية 61.
3- سورة النساء: الآية 59.

الآية(1) فيقولون نزلت في المؤمنين. و نحتج عليهم بقول اللّه عزّ و جل: قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ (2) فيقولون نزلت في قربى المسلمين. قال فلم أدع ممّا حضرني ذكره من هذه و شبهها إلاّ ذكرته.

فقال عليه السلام: إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة... إلى آخر الحديث»(3).

ص: 106


1- سورة المائدة: الآية 55.
2- سورة الشورى: الآية 33.
3- أصول الكافي، ج 3، باب المباهلة، الحديث الأول، ص 513، الطبعة الرابعة، 1401 ه، بيروت.
الجهة الثامنة بما ذا تميّز المعجزة عن السحر؟
اشارة

لا ريب في أن هناك جماعة من الناس لهم القدرة على القيام بأعمال مدهشة و عجيبة لا يمكن تفسيرها عن طريق العلوم المتعارفة و هؤلاء كالمرتاضين الهنود و غيرهم، الذين تقدم نقل شطر من أعمالهم. و كالسحرة و المشعوذين.

و كأساتذة التنويم المغناطيسي، الذي كشفه «مسمر» الألماني في القرن الثامن عشر، و به يتمكن الأستاذ من السيطرة على الوسيط الذي فيه استعداد خاص للتأثّر، و كيفية ذلك أنّ الأستاذ ينظر في عين الوسيط نظرات عميقة و يجري عليه حركات يسمونها «سحبات»، فما تمضي لحظة إلاّ و يغطّ الوسيط غطيط النوم، على وجه لو قام أحد يخزه بالإبرة وخزات عديدة، لا يبدي الوسيط حراكا، و لا يظهر أيّ شيء يدلّ على شعوره و إحساسه. فعند ذلك يقوم الأستاذ بسؤاله أسئلة ربما يقتدر معها على كشف المغيبات، و يستطيع أن يتصرف فيه بنحو يقنعه معه بتغيير اسمه، و غير ذلك(1).

و هنا يطرح السؤال التالي: مع وجود هذه الأمور المدهشة و العجيبة و الخارقة للقوانين المتعارفة، التي تحصل بالرياضة و سحر السحرة، و ألاعيب المشعوذين، فكيف نتمكن من تمييزها عن المعجزة و الآية الإلهية ؟.

ص: 107


1- لاحظ مناهل العرفان، ج 1، ص 61.

و هذا من المباحث الحساسة في النبوّة العامة، إذ به تتبين حدود المعجزة التي تميّزها و تفصلها عن سائر خوارق العادة.

و الجواب: إنّ هناك مجموعة من الضوابط و الحدود التي تمتاز بها المعجزة عن سائر خوارق العادة و هي:

الأول: إنّ السّحر و نحوه رهن التعليم دون الإعجاز

إنّ ما تنتجه الرياضة و السحر و الشعوذة من آثار خارقة للعادة، جميعها خاضعة لمناهج تعليمية، لها أساتذتها و تلامذتها، و تحتاج إلى الممارسة المتواصلة و الدءوبة حتى يصل طالبها إلى النتائج المطلوبة، فينام على مسامير محدّدة، و تكسر الصخور بالمطارق على صدره، من دون أن يصاب بجراح في صدره أو ظهره، أو يقوم بحركات توجب تأثيرا نفسيا على إنسان آخر، فيذهب وعيه و يتصرف فيه، أو يقوم بألاعيب خفيّة يبهر بها العيون، و يستولي بها على القلوب، فيصوّر غير الواقع واقعا متحققا. و كل هذا أثر التعليم و التعلّم و كثرة الممارسة و المجاهدة.

و أمّا الإعجاز الذي يقوم به الأنبياء فإنّه منزّه عن هذه الوصمة، فإنّ ما يأتونه من الأعمال المدهشة الخارقة للعادة، لم يدرسوه في منهاج، و لا تلقوه على يد أستاذ، و لا قضوا أعمارهم في التدرّب و التمرّن عليه.

و لأجل ذلك نرى أنّ الكليم عليه السلام عند ما رجع من مدين إلى مصر:

نُودِيَ مِنْ شٰاطِئِ اَلْوٰادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبٰارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يٰا مُوسىٰ إِنِّي أَنَا اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ * وَ أَنْ أَلْقِ عَصٰاكَ ، فَلَمّٰا رَآهٰا تَهْتَزُّ كَأَنَّهٰا جَانٌّ وَلّٰى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ ، يٰا مُوسىٰ أَقْبِلْ وَ لاٰ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ * اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضٰاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ . وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَنٰاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ ، فَذٰانِكَ بُرْهٰانٰانِ مِنْ رَبِّكَ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ .. (1) .

فكان هذا عملا إبداعيا غير مسبوق بتعلّم و لا تمرّن، و لذلك استولى عليه

ص: 108


1- سورة القصص: الآيات 30-32.

الخوف في بداية الأمر، فوافاه الخطاب من جانبه تعالى: يٰا مُوسىٰ لاٰ تَخَفْ إِنِّي لاٰ يَخٰافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ (1).

قال القاضي عبد الجبار: «إنّ الحيلة ممّا يمكن أن تتعلم و تعلّم، و هذا غير ثابت في المعجزة»(2).

الثاني - إنّ السّحر و نحوه قابل للمعارضة دون المعجزة

إنّ عمل المرتاضين و السّحرة بما أنّه نتاج التعليم و التعلّم، يكثر وقوعه و يسهل الإتيان بمثله على كل من تلقّى تلك الأصول و تدرّب عليها، و لذا قال القاضي عبد الجبار: «إنّ الحيل مما يقع فيها الاشتراك و ليس كذلك المعجزة»(3).

الثالث - إنّ السحر و نحوه لا يقترن بالتحدي بخلاف الإعجاز

إنّ السّحرة و المرتاضين، و إن كانوا يأتون بالعجائب و يفعلون الغرائب، إلاّ أنّ واحدا منهم لا يجرؤ على تحدّي الناس، و دعوتهم إلى مقابلته، لعلمهم بأنّ الدعوة إلى التحدّي لن تتم لصالحهم، إذ ما أكثر السحرة و أهل الرياضة من أمثالهم.

و هذا بخلاف أهل الإعجاز، فإنّهم لا يأتون بمعجزة إلاّ و يقرنوها بالتحدّي، و لذلك أمر النبي بأن يقول:

قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (4) .

ص: 109


1- سورة النمل: الآية 10.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 572.
3- شرح الأصول الخمسة، ص 572.
4- سورة الإسراء: الآية 88.
الرابع - إنّ السحر و نحوه محدود من حيث التنوع دون المعاجز

إنّ عمل أهل الرياضة و السحر، لما كان رهن التعليم و التعلّم، متشابه في نوعه، متّحد في جنسه، يدور في فلك واحد، و لا يخرج عن نطاق ما تعلمه أهله و مارسوه، و لذا لا يأتون بما يريده الناس و المتفرجون، بل بما تدرّبوا عليه، وافق طلب الناس أو لا.

بخلاف إعجاز الأنبياء، فإنّه على جانب عظيم من التنوع في الكيفية إلى حدّ قد لا يجد الإنسان بين المعجزات قدرا مشتركا و جنسا قريبا. فشتّان ما بين قلب العصا إلى الثعبان الحي(1)، و ضربها على الأحجار ليتفجر منها الماء(2)، و ضربها على البحر لينفلق شطرين، كل فرق كالطّود العظيم(3)، و إخراج اليد من الجيب بيضاء تتلألأ(4)، و غير ذلك من معاجز موسى عليه السلام.

و كذلك الحال في آيات المسيح البيّنات، المبهرة للعقول و المدهشة للقلوب، فتارة ينفخ في هيئة الطير المجسّمة من الطين فتدبّ الحياة فيها، و تنبض بالدماء عروقها، فتكون طيرا بإذن اللّه. و أخرى يبرئ الأكمه و الأبرص، و ثالثة يحيي الموتى، و رابعة ينبئ الناس بما يأكلون في بيوتهم و يدّخرون فيها(5)، و لذلك يصفها تعالى بالجلال و التقدير بقوله: إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (6).

و هذا التنوع في الكيفية، نتيجة كون قدرتهم مستندة إلى القدرة الإلهية.

نعم إنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون معاجز الأنبياء مناسبة للفنون

ص: 110


1- قال تعالى: فَأَلْقىٰ عَصٰاهُ فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ (سورة الأعراف: الآية 107).
2- قال تعالى: وَ إِذِ اِسْتَسْقىٰ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتٰا عَشْرَةَ عَيْناً (سورة البقرة: الآية 60).
3- قال تعالى: فَأَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكٰانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ اَلْعَظِيمِ (سورة الشعراء: الآية 63).
4- قال تعالى: وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ (سورة الأعراف: الآية 108).
5- اقتباس من الآية 49 من سورة آل عمران المباركة.
6- سورة آل عمران: الآية 49.

الرائجة في عصورهم، حتى يتسنى لخبراء كل فنّ تشخيص المعاجز و إدراك استنادها إلى القدرة الغيبيّة، و تمييزها عن الأعمال الباهرة المستندة إلى العلوم و الفنون الرائجة. و تتّضح حقيقة ما ذكرناه، في السحرة الذين بارزوا موسى عليه السلام، فإنّهم - لكونهم من أهل الخبرة و المعرفة بحقيقة السحر و فنونه - أدركوا فورا، بعد ما ألقى موسى عصاه و انقلبت ثعبانا حيّا التقف حبالهم و عصيّهم أدركوا أنّه ليس من جنس السحر، و أنّه معجزة خارقة متصلة بالقدرة الإلهية، و لذلك سرعان ما خضعوا للحق كما يحكيه عنهم تعالى بقوله: وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سٰاجِدِينَ * قٰالُوا آمَنّٰا بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (1).

قال القاضي عبد الجبار: «إنّ المشعوذ و المحتال إنّما ينفذ حيلته على من لم يكن من أهل صناعته، و لا يكون له دراية و معرفة، و ليس هذا حال المعجزة، فقد جعل اللّه سبحانه و تعالى معجزة كل نبي مما يتعاطاه أهل زمانه، حتى جعل معجزة موسى عليه السلام قلب العصا حيّة، لما كان الغالب على أهل ذلك الزمان، السحر. و جعل معجزة عيسى عليه السلام إبراء الأكمه و الأبرص، لما كان الغالب على أهل زمانه الطب. و جعل معجزة نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله «القرآن»، و جعله في أعلى طبقات الفصاحة، لما كانت الغلبة للفصاحة و الفصحاء في ذلك الزمان، و بها كان يفاخر أهله و يتباهى»(2).

الخامس - الاختلاف من حيث الأهداف و الغايات

إنّ أصحاب المعاجز يتبنون أهدافا عالية، و يتوسلون بمعاجزهم لإثبات أحقية تلك الأهداف، و نشرها. و هي تتمثل في الدعوة إلى عبادة اللّه تعالى وحده، و تخليص الإنسان من عبودية الأصنام و الحجارة و الحيوانات، و الدعوة إلى الفضائل و نبذ الرذائل، و استقرار النظام الاجتماعي للبشر، و غير ذلك.

و هذا بخلاف المرتاضين و السحرة، فغايتهم إمّا كسب الشهرة و السمعة بين

ص: 111


1- سورة الأعراف: الآيتان 120-121.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 572.

الناس، أو جمع المال و الثروة، و غير ذلك ممّا يناسب متطلبات القوى البهيمية، و إنّك لا ترى مرتاضا أو ساحرا يقوم بنشر منهج أخلاقي أو اجتماعي فيه إنقاذ البشر من الظلم و الاضطهاد، و يدعو إلى التقوى و العفة و ما شابه.

و السبب في ذلك واضح، فإنّ الأنبياء خريجو مدرسة إلهية تزخر بالدعوة إلى الفضائل و الاجتناب عن الرذائل، فلا يقومون بالإعجاز إلاّ لنشر أهداف مدرستهم. و أما غيرهم، فهم خريجو المدرسة المادية التي لا همّ لها إلاّ إرضاء ميولها الحيوانية، و إشباع لذّاتها و شهواتها.

السادس - الاختلاف في النفسانيات

إنّ أصحاب المعاجز - باعتبار كونهم خريجي المدرسة الإلهية - متحلّون بأكمل الفضائل و الأخلاق الإنسانية و المتصفح لسيرتهم لا يجد فيها أيّ عمل مشين و مناف للعفة و مكارم الأخلاق.

و أمّا أصحاب الرياضة و السحر، فهم دونهم في ذلك، بل تراهم غالبا متحللين عن المثل و الفضائل و القيم.

فبهذه الضوابط الستّ يتمكن الإنسان من تمييز المعجزة عن غيرها من الخوارق، و النبيّ عن المرتاض و الساحر، و الحق عن الباطل. و هذه المميزات، و إن كانت تهدف إلى أمر واحد، إلاّ أنّها تختلف في الحيثيات:

فالأول منها يهدف إلى الفرق بين المعجزة و غيرها من حيث المبادي.

و الثاني إلى الفرق من حيث تحديد القدرة، فقدرة السحرة في حدّ القدرة البشرية، و قابلة للمعارضة، بخلاف إعجاز الأنبياء.

و الثالث إلى الفرق في كيفية الإتيان بالعمل، فالمعجزة تقترن بالتحدّي دون غيرها.

ص: 112

و الرابع إلى قلّة التنوع في عمل السحرة، و كثرته في عمل الأنبياء.

و الخامس إلى الفرق من حيث الغاية.

و السادس إلى الفرق من حيث صفات و روحيات أصحاب المعاجز، و غيرهم.

و إلى هنا يتم البحث في الطريق الأول من الطرق الثلاثة التي يعرف بها النبي من المتنبّئ، بجهاته الثمان. و يقع البحث فيما يلي في الطريق الثاني و هو تصديق النبي السابق نبوّة النبي اللاحق.

ص: 113

ص: 114

طرق إثبات النبوّة

(2) تنصيص النبي السابق على نبوة اللاحق

إذا ثبتت نبوة نبي بدلائل مفيدة للعلم بنبوته، ثم نصّ هذا النبي على نبوة نبي لاحق يأتي من بعده، كان ذلك حجة قطعية على نبوة اللاحق، لا تقل في دلالتها عن المعجزة.

و ذلك لأنّ النبي الأول، إذا ثبتت نبوته، يثبت كونه معصوما عن الخطأ و الزلل، لا يكذب و لا يسهو، فإذا قال - و الحال هذه -: سيأتي بعدي نبي اسمه كذا، و أوصافه كذا و كذا، ثم ادّعى النبوّة بعده شخص يحمل عين تلك الأوصاف و السمات، يحصل القطع بنبوته.

و لا بدّ أن يكون الاستدلال بعد كون التنصيص واصلا من طريق قطعي، و كون الأمارات و السمات واضحة، منطبقة تمام الانطباق على النبي اللاحق، و إلا يكون الدليل عقيما غير منتج.

و من هذا الباب تنصيص المسيح على نبوة النبي الخاتم صلى اللّه عليه و آله، كما يحكيه سبحانه بقوله: وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ (1).

ص: 115


1- سورة الصف: الآية 6.

و يظهر من الذكر الحكيم أنّ السلف من الأنبياء وصفوا النبي الأكرم بشكل واضح، و أنّ أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي كمعرفتهم لأبنائهم. قال سبحانه: اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ ، وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (1).

بناء على رجوع الضمير إلى النبي، المعلوم من القرائن، لا إلى الكتاب.

و قال سبحانه: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (2).

و قد آمن كثير من اليهود و النصارى بنبوة النبي الخاتم في حياته و بعد مماته، لصراحة التباشير الواردة في العهدين.

هذا، و إنّ الاعتماد على هذا الطريق في مجال نبوة النبي الخاتم، في عصرنا هذا، يتوقف على جمع البشائر الواردة في العهدين و ضمّها إلى بعضها، حتى يخرج الإنسان بنتيجة قطعية على أنّ المراد من النبي المبشّر به فيهما هو النبي الخاتم: و قد قام بهذا المجهود لفيف من العلماء و ألّفوا فيه كتبا(3)، و سيوافيك بحثه في النبوّة الخاصّة، بإذنه تعالى.

ص: 116


1- سورة البقرة: الآية 146.
2- سورة الأعراف: الآية 157.
3- لاحظ منها كتاب «أنيس الأعلام»، و مؤلفه كان قسيسا محيطا بالعهدين و غيرهما و قد تشرّف بالإسلام، و ألف كتبا كثيرة، منها ذاك الكتاب و قد طبع في ستة أجزاء.

طرق إثبات النبوّة

(3) جمع القرائن و الشواهد
اشارة

هذا هو الطريق الثالث لتمييز النبي الصادق عن المتنبّئ الكاذب و هذا الطريق ضابطة مطردة في المحاكم القانونية، معتمد عليه في حلّ الدعاوى و النزاعات، يسلكه القضاة في إصدار أحكامهم، و يستند إليه المحامون في إبراء موكليهم خاصة في المحاكم الغربية، التى تفتقد إلى القضاء على الأيمان و البيّنات، و تقضي هذه الطريقة بجمع كلّ القرائن و الشواهد التي يمكن أن تؤيّد دعوى المدّعي، أو إنكار المنكر، و ضمّها إلى بعضها حتى يحصل القطع بصحة دعواه أو إنكاره.

و يمكن تطبيق هذه الطريقة بعينها في مورد دعوى النبوة، فنتحرى جملة القرائن التي يمكن أن نقطع معها بصدق الدعوى، و من هذه القرائن:

1 - نفسيات النبي

ممّا يدلّ على كون مدّعي النبوة صادقا في دعواه، تحلّيه بروحيات كمالية عالية، و أخلاق إنسانية فاضلة، غير منكب على الدنيا و زخرفها، و لا طالب للرئاسة و الزعامة، لم ير له في حياته منقصة، و دناسة، بل عرف بكل خلق كريم، و اشتهر بالنزاهة و الطهارة.

فجميع هذه الصفات تدلّ على صفائه في روحه و باطنه، و بالتالي صدقه في دعواه.

ص: 117

2 - سمات بيئته

إنّ ظهور مدّعي النبوّة في مجتمع أمّيّ ، لا يعرف الكتابة، بعيد عن مظاهر الحضارة و التمدّن، و مجيئه بشريعة تحمل سمات مناقضة بالكليّة لهذا الظرف السائد، قرينة على نبوّة هذا المدّعي.

فإنّ مجيء إنسان بشريعة تحمل الدعوة إلى التعلّم و نبذ الأميّة، و تشرّع القوانين الاجتماعية، و الاقتصادية بل تحمل في تعاليمها نظام الدولة و التقنين و القضاء و الروابط السياسية، أقول: إنّ إتيانه بهذه المظاهر الحضارية في مجتمع قبلي لم يسمع بشيء من تلك النظم، لدليل على ارتباط هذا الإنسان بمبدإ أعلى، غير خاضع لمقتضيات تلك البيئة. بل إنّ ظاهرة كهذه هي بحدّ نفسها نوع من الإعجاز و خروج عن المألوف.

3 - مضمون الدعوة

من جملة القرائن التي ترشد إلى صدق المدّعي أو كذبه في دعواه، مضمون العقيدة التي يحملها، و الدعوة التي يدعو إليها، و مقدار التوافق بينهما.

فإذا كانت العقيدة التي يحملها، و المعارف التي يدعو إلى اعتناقها، معارف إلهية تبحث في خالق الكون و صفاته و أفعاله، و كانت دعوته العملية مرشدة إلى التحلّي بالمثل الأخلاقية، و الفضائل الإنسانية، و ناهية عن الرذائل النفسية و ركوب الشهوات المنحرفة و الفسق و المجون، كانت هذه قرائن على اتصال دعوته بخالق الكون، و مبدأ الخير و الجمال.

4 - ثباته في طريق دعوته

إنّ آية كون الدعوى إلهية، لا يبتغي صاحبها شيئا من الأعراض المادية، و المناصب الدنيوية، ثباته في طريق دعوته، و تضحيته بنفسه و أعزّ أقربائه في ذاك السبيل.

ص: 118

و في المقابل، إنّ انهزامه أمام المصاعب، و تعلّقه بحفظ حياته، دليل عدم إيمانه بما يدعو إليه، و بالتالي عدم ارتباط دعوته بمبدإ إلهي.

5 - الأدوات التي يستفيد منها في دعوته

من القرائن التي تدلّ على صدق المدّعي في دعوى النبوّة و السفارة الإلهية، اعتماده في دعوته على أساليب إنسانية، موافقة للفطرة و الطهارة، فإنّ لذلك دلالات على إلهية دعواه.

و أمّا لو اعتمد في نشر و تبليغ ما يدّعيه على وسائل إجرامية، و أساليب وحشية غير إنسانية، متمسكا بقول ماكيافللي: «الغاية تبرر الوسائل»(1)، كان هذا دليلا على كون دعواه شخصية محضة، لا صلة لها بالعالم الربوبي.

6 - المؤمنون به

إنّ لنفسيات المؤمنين بمدّعي النبوة و حواريه، دلالة خاصة على صدقه فيما يدّعيه، و ذلك أنّ أقرباء المدّعي و بطانته إذا آمنوا به، و اتّبعوا دعوته، و بلغوا فيها مراتب عالية من التقوى و الورع، كان هذا دالاّ على صدق المدعي في ظاهره و باطنه، و عدم التوائه و كذبه، لأنّ الباطن لا يمكن أن يخفى عن الأقرباء و البطانة.

هذه القرائن و ما يشابهها إذا اجتمعت في مدّعي النبوة، و دعواه التي

ص: 119


1- نيكولو ماكيافللي (1469-1527). سياسي و مؤرخ إيطالي، أحد أعلام عصر النهضة في أوروبا، شارك في الحياة السياسية في إيطاليا ثم اعتزلها عام (1512 م) متفرغا للتأليف. و عرف في تاريخ الفكر السياسي بمؤلفه الشهير «الأمير»، حيث أيّد فيه نظام الحكم المطلق، و أحلّ فيه للحاكم اتّخاذ كل وسيلة تكفل استقرار حكمه و استمراره، و لو كانت منافية للدين و الأخلاق و ذلك على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة. و من هنا صار لفظ «المكيافللية» وصفا لكل مذهب ينادي بأنّ الغاية تبرر الواسطة أو الوسيلة. غير أنّ ماكيافللي عاد في كتابه «المحاضرات»، فأيّد النظام الجمهوري الذي يقوم على سيادة الشعب، و عدد مزايا هذا النظام و فضّله على النظام الملكي.

يدّعيها، كانت دليلا قاطعا على صدقه، فإنّ كلّ واحدة من القرائن، و إن كانت قاصرة عن إفادة اليقين، إلاّ أنّها بمجموعها تفيده.

أول من طرق هذا الباب

إنّ أوّل من طرق هذا الباب، و جعل القرائن المفيدة للقطع بصدق المدّعي، دليلا على صحة الدعوى، هو قيصر الروم، فإنّه عند ما كتب إليه الرسول محمد صلى اللّه عليه و آله، رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق دينه الذي أتى به، أخذ - بعد استلامه الرسالة - يتأمّل في عبارات الرسول، و كيفية الكتابة، حتى وقع في نفسه احتمال صدق الدعوى، فأمر جماعة من حاشيته بالتجول في الشام و البحث عمّن يعرف الرسول عن قرب، و مطّلع على أخلاقه و روحياته، فانتهى البحث إلى العثور على أبي سفيان و عدّة كانوا معه في تجارة إلى الشام، فأحضروا إلى مجلس قيصر، فطرح عليهم الأسئلة التالية:

* قيصر: كيف نسبه فيكم ؟.

- أبو سفيان: محض، أوسطنا نسبا(1).

* قيصر: أخبرني، هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول، فهو يتشبّه به ؟.

- أبو سفيان: لا، لم يكن في آبائه من يدّعي ما يقول.

* قيصر: هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه، فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه ؟.

- أبو سفيان: لا.

* قيصر: أخبرني عن أتباعه منكم، من هم ؟.

- أبو سفيان: الضعفاء و المساكين و الأحداث من الغلمان و النساء. و أمّا ذوو الأسنان و الشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد.

* قيصر: أخبرني عمّن تبعه، أ يحبه و يلزمه ؟ أم يقليه و يفارقه ؟.

ص: 120


1- أي أعلانا نسبا.

- أبو سفيان: ما تبعه رجل ففارقه.

* قيصر: أخبرني كيف الحرب بينكم و بينه ؟.

- أبو سفيان: سجال، يدال علينا و ندال عليه.

* قيصر: أخبرني هل يغدر؟.

- أبو سفيان: (لم أجد شيئا ممّا سألني عنه أغمزه فيه غيرها فقلت): لا، و نحن منه في هدنة. و لا نأمن غدره. (و أضاف أبو سفيان بأن قيصر ما التفت إلى الجملة الأخيرة منه).

ثم إنّ قيصر أبان وجه السؤال عن الأمور السابقة و أنّه كيف استنتج من الأجوبة التي سمعها من أبي سفيان أنّه نبي صادق، بقوله:

«سألتك كيف نسبه فيكم، فزعمت أنّه محض من أوسطكم نسبا، و كذلك يأخذ اللّه النبي إذا أخذه، لا يأخذه إلاّ من أوسط قومه نسبا.

و سألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله، فهو يتشبه به، فزعمت أن لا.

و سألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه، فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه، فزعمت أن لا.

و سألتك عن أتباعه فزعمت أنّهم الضعفاء و المساكين و الأحداث و النساء، و كذلك اتباع الأنبياء في كل زمان.

و سألتك عمّن يتبعه، أ يحبّه و يلزمه، أم يقليه و يفارقه. فزعمت أن لا يتبعه أحد فيفارقه، و كذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه.

و سألتك هل يغدر، فزعمت أن لا. فلئن صدقتني عنه ليغلبني على ما تحت قدمي هاتين، و لوددت أنّي عنده فأغسل قدميه. انطلق لشأنك».

قال أبو سفيان: فقمت من عنده و أنا أضرب إحدى يديّ بالأخرى و أقول:

إي عباد اللّه، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في

ص: 121

سلطانهم بالشام(1).

و من المأسوف عليه أنّ هذا الطريق الذي سلكه قيصر، و وجده وسيلة كافية لكشف الحقيقة بذكائه، قد ترك بين المسلمين قرون عديدة.

و سلوك هذا الطريق، و جمع القرائن و الشواهد الدالّة على صدق دعوى المدّعي، أكثر ملائمة لروح أبناء هذا العصر من التركيز على المعاجز المدوّنة في كتب الحديث، التي مضت عليها قرون. نعم، المعاجز أشدّ تأثيرا، و أسرع في جلب القلوب لمن شاهدها بأم عينيه. و لأجل ذلك كان عامة الأنبياء مجهزين بها بالنسبة إلى أبناء زمانهم.

و ممن طرق هذا الباب في القرن الثالث عشر أحد مشايخ الشيعة في مدينة إسطنبول، فقد ألف كتابه «ميزان الموازين»، و أوعز إلى هذا الطريق عند البحث عن نبوّة خاتم الأنبياء(2). و بعده الكاتب السيد محمد رشيد رضا، مؤلّف المنار، في كتابه «الوحي المحمدي»، فقد بلغ الغاية في جمع الشواهد و القرائن.

و سنسلك نحن هذا الطريق عند البحث في النبوّة الخاصة.

و في الختام نركّز على نكتة، و هي أنّ الاعتماد على الطريقين الأخيرين، لا يعني الاكتفاء بهما و رفض ما ثبت بالتواتر من المعجزات و البيّنات، بل لكل موقعه الخاص يعرفه الكاتب القدير، و الخطيب البارع، و يستفيد من كلّ حسب ما يناسبه الحال.

ص: 122


1- تاريخ الطبري، ج 2، ص 290-291. حوادث السنة السادسة للهجرة.
2- طبع الكتاب عام 1288.

مباحث النبوّة العامة

(البحث الثالث) الوحي و أقسامه

اشارة

إنّ تحديد حقيقة الوحي، و تبيين ماهيته و الفرق بينه و بين سائر الإدراكات البشرية، من المواضيع الحساسة في أبحاث النبوة العامة التي لم يستوف حقها في الكتب الكلامية، فأهمل في الكثير منها، و بحث في الأخرى على وجه الإجمال.

هذا مع أنّه أساس النبوات و التكاليف و الشرائع، لأنّ الأنبياء يتلقون التعاليم السماوية من هذا الطريق، و لولاه لانقطعت أخبار السماء(1)، و صلة الأنبياء باللّه سبحانه.

و لكن لأجل اختصاص الوحي بالأنبياء، و حرمان غيرهم من الناس منه، يصعب تحديده و بيان كيفيته، و يعدّ كشف الستر عن حقيقته، تطلّعا إلى شيء ليس في اختيار الباحث، و مع ذلك كلّه، فإلقاء الضوء عليه بوجه إجمالي، ممكن ببيان الأمور التالية:

الأمر الأول - الوحي في اللغة

قال ابن فارس في المقاييس: «الوحي أصل يدلّ على إلقاء علم في إخفاء

ص: 123


1- هذا اقتباس من قول الإمام علي عليه السلام و هو يلي غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و تجهيزه: «بأبي أنت و أمي يا رسول اللّه، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك، من النبوة و الإنباء و أخبار السماء (نهج البلاغة، الخطبة 235).

(أو غيره)(1)، إلى غيرك. فالوحي: الإشارة، و الوحي: الكتابة و الرسالة و كل ما القيته إلى غيرك حتى علمه، فهو وحي كيف كان»... إلى أن قال:

«و الوحي: السريع. و الوحى: الصوت»(2).

و قال الراغب: «أصل الوحي الإشارة السريعة، و لتضمّن السّرعة قيل «أمر وحي». و قد يكون بالكلام على سبيل الرمز و التعريض، و قد يكون بصوت مجرد عن التركيب و بإشارة ببعض الجوارح، و بالكتابة، و قد حمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا: فَخَرَجَ عَلىٰ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرٰابِ فَأَوْحىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (3)»(4)و قال ابن منظور: «الوحي: الإشارة، و الكتابة، و الرسالة، و الإلهام، و الكلام الخفي، و كل ما ألقيته إلى غيرك. و يقال: و حيث إليه الكلام، و أوحيت، و وحى وحيا، و أوحى أيضا، أي كتب»(5).

و المستنبط من هذه النصوص و غيرها ممّا أورده أهل اللغة في معاجمهم، أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء، بطريق من الطرق(6).

الأمر الثاني - الوحي في القرآن الكريم
اشارة

جاء استعمال «الوحي» في القرآن الكريم في موارد متعددة، و مختلفة، يجمعها المعنى اللغوي الكلي و هو الإعلام بخفاء، و هذا المعنى الجامع موجود في بعضها حقيقة، و في البعض الآخر مجازا و ادعاء، كما لو كان الموحى إليه جمادا أو حيوانا لا يعقل. و يظهر ذلك بالتدبر في الموارد التالية:

ص: 124


1- كذا في نسخة الأصل، و الظاهر زيادته و يحتمل أن يكون عطفا على العلم.
2- معجم مقاييس اللغة، ج 6 ص 93. الطبعة الأولى - القاهرة - 1371.
3- سورة مريم: الآية 11.
4- المفردات: ص 515.
5- لسان العرب: ج 15، ص 379.
6- لاحظ تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد، ص 56.
1 - تقدير الخلقة بالسنن و القوانين

قال سبحانه: ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ ، فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ * فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَ أَوْحىٰ فِي كُلِّ سَمٰاءٍ أَمْرَهٰا، وَ زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ وَ حِفْظاً، ذٰلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (1).

القضاء: فصل الأمر. و ضمير: «هنّ »، يرجع إلى السماء. و بما أنّ السماء كانت دخانا، كان أمرها مبهما غير مشخص من حيث الغاية و الفعلية.

ففصّل تعالى أمرها، فجعلها سبع سماوات في يومين، و أخرجها بذلك عن الإبهام.

و أمّا قوله: وَ أَوْحىٰ فِي كُلِّ سَمٰاءٍ أَمْرَهٰا ، فالمراد أنّه سبحانه أودع في كل سماء السنن و الأنظمة الكونية، و قدّر عليها دوامها.

فإذا كان إيجاد السنن و النّظم في بواطن السموات و مكامنها، على وجه لا يقف عليه إلاّ المتدبر في عالم الخلقة، أشبه ذلك الإلقاء و الإعلام بخفاء بنحو لا يقف عليه إلاّ الملقى إليه، و هو الوحي. فكان هذا كافيا في استعارة لفظ الوحي إلى مثل هذا التقدير و التكوين للسنن، فقال: فأوحى في كلّ سماء أمرها.

و من هذا القسم، قوله تعالى: إِذٰا زُلْزِلَتِ اَلْأَرْضُ زِلْزٰالَهٰا * وَ أَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ أَثْقٰالَهٰا * وَ قٰالَ اَلْإِنْسٰانُ مٰا لَهٰا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبٰارَهٰا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىٰ لَهٰا (2).

2 - الإدراك بالغريزة

قال سبحانه: وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً، وَ مِنَ اَلشَّجَرِ، وَ مِمّٰا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ ، فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ

ص: 125


1- سورة فصّلت: الآيتان 11 و 12.
2- سورة الزلزلة: الآيات 1-5.

ذُلُلاً... (1) .

فكلّ الأعمال العجيبة و المدهشة التي يقوم بها النحل، في صنع بيوته بتلك الأشكال الهندسية المتقنة، و إدارتها و تدبيرها و حراستها، ثم الحركة الدءوبة في التنقل بين البساتين و الحقول، و مصّ رحيق الأزهار، و تحويلها إلى عسل، ثم إيداعها في صفائح الشهد، و غير ذلك، فإنّما يقوم به عن غريزة إلهية مودعة في مكامن خلقته، و صميم وجوده، لا يتوانى معها عن عمله و لا يختار معه عملا آخر.

و حيث إنّ هذا الإيداع للغرائز في مكامن الخلقة أشبه بالإلقاء الخفي، و تلقّي النحل له بلا شعور و إدراك، أطلق عليه سبحانه الوحي فقال: وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ .

3 - الإلهام و الإلقاء في القلب

قال سبحانه: وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ، فَإِذٰا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لاٰ تَخٰافِي وَ لاٰ تَحْزَنِي إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (2).

و حيث إنّ تفهيم أمّ موسى مصير ولدها كان بإلهام و إعلام خفي، عبّر عنه بالوحي.

و مثله قوله تعالى: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوٰارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي... (3).

و أيضا، قوله تعالى في شأن يوسف عليه السلام: وَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هٰذٰا وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ (4).

ص: 126


1- سورة النحل: الآيتان 68 و 69.
2- سورة القصص: الآية 7.
3- سورة المائدة: الآية 111.
4- سورة يوسف: الآية 15.

و أيضا قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا... (1).

4 - الإشارة

قال سبحانه حكاية عن زكريا: قٰالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً ، قٰالَ آيَتُكَ أَلاّٰ تُكَلِّمَ اَلنّٰاسَ ثَلاٰثَ لَيٰالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلىٰ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرٰابِ فَأَوْحىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (2).

و المعنى: أشار إليهم من دون أن يتكلم، لأمره سبحانه إيّاه أن لا يكلّم الناس ثلاث ليال سويا، فأشبه فعله، إلقاء الكلام بخفاء، لكون الإشارة أمرا مبهما.

5 - الإلقاءات الشيطانية

قال سبحانه: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيٰاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً (3).

و قال تعالى: وَ إِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ لَيُوحُونَ إِلىٰ أَوْلِيٰائِهِمْ لِيُجٰادِلُوكُمْ .. (4).

و يعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرناه فيما سبقه.

6 - كلام اللّه تعالى المنزل على نبي من أنبيائه

قال سبحانه: كَذٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اَللّٰهُ اَلْعَزِيزُ

ص: 127


1- سورة الأنفال: الآية 12.
2- سورة مريم: الآيتان 10 و 11.
3- سورة الأنعام: الآية 112.
4- سورة الأنعام: الآية 121.

اَلْحَكِيمُ (1) .

و قد غلب استعمال الوحي في هذا القسم، فكلما أطلق الوحي و جرّد عن القرينة يراد منه ما يلقى إلى الأنبياء من قبل اللّه تعالى.

الأمر الثالث - حقيقة الوحي في النبوّة
اشارة

إنّ الإدراكات العادية التي يحصّلها الإنسان عن طريق الحسّ أو عن طريق التفكر و الاستدلال، هي نتاج أدوات المعرفة الحسيّة و العقلية، فإدراك المبصرات و المسموعات و غيرها، رهن إعمال الحواس. كما أنّ الوقوف على الأصول الفلسفية و العلمية، نتاج إعمال الفكر و العقل، فإنّ قولنا: «كلّ ممكن، فهو زوج تركيبي له ماهية و وجود»، أو: «إنّ كلّ معلول يحتاج إلى علة»، لم نقف عليه إلاّ بالرياضات الفكرية، و هكذا الحال في القوانين العلمية.

كما أنّ هناك إدراكات تنبع من صميم الذات و يطلق عليها الوجدانيات، أو الفطريات. كإدراك حسن الأشياء و قبحها، و إدراك الإنسان جوعه و عطشه، فإنّ الجميع من ومضات الفطرة و الغريزة، و نظير ذلك ما يبدعه الذوق من الفنون و الآداب و الرسوم و الأعمال اليدويّة الظريفة، فإنّها كلّها من وحي الذوق و الغريزة إذا وقعت في إطار التربية و التوجيه.

و بالجملة، فإنّ كلّ ما يدركه الإنسان، نتاج أدوات المعرفة بأشكالها المختلفة، حسيّة كانت أو عقلية أو وجدانية.

و أمّا الوحي الذي يختص به الأنبياء، فإنّه إدراك خاص متميز عن سائر الإدراكات، فإنّه ليس نتاج الحسّ و لا العقل و لا الغريزة، و إنّما هو شعور خاص، لا نعرف حقيقته، يوجده اللّه سبحانه في الأنبياء. و هو شعور يغاير الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامة، لا يغلط معه النبي في إدراكه، و لا يشتبه، و لا يختلجه شك و لا يعترضه ريب في أنّ الذي يوحي إليه هو اللّه

ص: 128


1- سورة الشورى: الآية 3.

سبحانه، من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر، أو التماس دليل، أو إقامة حجة، و لو افتقر إلى شيء من ذلك، لكان اكتسابا عن طريق القوة النظرية، لا تلقيا من الغيب، من غير توسيط القوة الفكرية.

قال سبحانه: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ * عَلىٰ قَلْبِكَ (1).

فهذه الآية تشير إلى أنّ الذي يتلقى الوحي من الروح الأمين هو نفس النبي الشريفة (قلبك)، من غير مشاركة الحواس الظاهرة، التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية. فالنبي يرى و يسمع حينما يوحى إليه، من غير أن يستعمل حاسّتي البصر و السمع.

قال سبحانه: وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ قٰالَ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنَا: اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هٰذٰا أَوْ بَدِّلْهُ . قُلْ : مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقٰاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ ، إِنِّي أَخٰافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ : لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ أَدْرٰاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ (2).

فالأنبياء كلّهم يسندون تعاليمهم و تنبؤاتهم إلى هذا النوع من الإدراك، الذي لا مصدر له إلاّ عالم الغيب، و خالق الكون، و مثل هذا لا يمكن أن يدرك كنهه، بل يجب الإيمان به كما هو شأن كلّ أمر غيبي لا يحيط الإنسان المادي بحقيقته، و إنّما يذعن به عن طريق المخبر الصادق. قال سبحانه: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ (3).

و على هذا، فالوحي حصيلة الاتصال بعالم الغيب، و لا يصحّ تحليله بأدوات المعرفة و لا بالأصول التي تجهّز بها العلم الحديث. و لما كان العالم الماديّ غير مذعن بعالم الغيب، و يرى أنّ الوجود مساوق للمادة و الطاقة، فيشكل عليه الإذعان بهذا الإدراك الذي لا صلة له بعالم المادة و أصوله.

ص: 129


1- سورة الشعراء: الآية 193 و 194.
2- سورة يونس: الآيتان 15 و 16.
3- سورة البقرة: الآية 3.

قال الشيخ محمد عبده، معرضا بأولئك المنكرين للوحي:

«إنّ انكشاف ما غاب من مصالح البشر عن عامتهم، لمن يختصه اللّه بذلك، لا أراه مما يصعب إدراكه، إلاّ على من يريد أن لا يدرك، و يحبّ أن يرغم نفسه الفهّامة على أن لا تفهم. نعم، يوجد في كلّ أمة و في كل زمان أناس يقذف بهم الطيش، و النقص في العلم، إلى ما وراء سواحل اليقين، فيسقطون في غمرات من الشك في كل ما لم يقع تحت حواسهم الخمس، بل يدركهم الريب فيما هو من متناولها، فكأنّهم بسقطتهم هذه انحطوا إلى ما هو أدنى من مراتب أنواع أخرى من الحيوان، فينسون النقل و شئونه، و يجدون في ذلك لذّة الإطلاق عن قيود الأوامر و النواهي. فإذا عرض عليهم شيء من الكلام في النبوات و الأديان، و هم من أنفسهم هامّ بالإصغاء، دافعوه بما أوتوا من الاختيار في النظر، و انصرفوا عنه، و جعلوا أصابعهم في آذانهم، حذر أن يخالط الدليل أذهانهم، فيلزمهم العقيدة، و تتبعها الشريعة، فيحرموا لذّة ما ذاقوا، أو ما يحبون أن يتذوقوا، و هو مرض في الأنفس و القلوب يستشفى منه بالعلم إنشاء اللّه».

ثم أضاف: «قلت: أي استحالة في الوحي، و أن ينكشف لفلان ما لا ينكشف لغيره، من غير فكر و لا ترتيب مقدمات، مع العلم أنّ ذلك من قبل واهب الفكر و مانح النظر، حتى حفّت العناية من ميّزته هذه النعمة.

فما شهدت به البديهة، أن درجات العقول متفاوتة، يعلو بعضها بعضا، و أنّ الأدنى منها لا يدرك ما عليه الأعلى إلاّ على وجه من الإجمال، و أنّ ذلك ليس لتفاوت المراتب في التعليم، بل لا بدّ معه من التفاوت في الفطر التي لا تدخل فيها، لاختيار الإنسان و كسبه.

فمن ضعف العقول، و النكول عن النتيجة اللازمة لمقدماتها عند الوصول إليها، أن لا يسلم بأنّ من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأفق الأعلى و تنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا، و تشهد من أمر اللّه شهود العيان، ما لم يصل غيرها إلى تعقّله أو تحسسه بعصا الدليل و البرهان، و تتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحا

ص: 130

على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعليم. ثمّ تصدر عن ذلك العلم إلى تعليم ما علمت، و دعوة الناس إلى ما حملت على إبلاغه إليهم، و أن يكون ذلك سنّة اللّه في كلّ أمّة و في كل زمان حسب الحاجة، يظهر برحمته من يختصه بعنايته، ليفي للاجتماع بما يضطرّ إليه من مصلحته، إلى أن يبلغ النوع الإنساني أشدّه و تكون الأعلام التي نصبها لهدايته إلى سعادته، كافية في إرشاده، فتختم الرسالة، و يغلق باب النبوة»(1).

ثم إنّ هؤلاء الذين اتّخذوا لأنفسهم موقفا مسبقا في سعة الوجود و ضيقه، و سعة أدوات المعرفة و ضيقها، فعجزوا عن إدراك الوحي كنوع متميز عن الإدراكات البشرية، حاولوا تحليله بأصول مادية حتى يسهل عليهم تصديق الأنبياء و عدم اتّهامهم بتعمد الكذب. فمالوا يمينا و شمالا في بيان حقيقته: فتارة يرون الوحي نوعا من النبوغ الخاص بالأنبياء، و أخرى نتيجة ظهور الشخصية الباطنية للرسول، فتلهمه بما ينفعه و ينفع قومه. و نحن فيما يلي نتعرض إلى هاتين النظريتين و نحللهما الواحدة بعد الأخرى، ثم نعرّج على بيان نظرية الفلاسفة في حقيقة الوحي:

النظرية الأولى - الوحي نتيجة النّبوغ
اشارة

إنّ هناك أناسا يفسرون النبوات و الرسالات و نزول الوحي على العباد الصالحين بنحو يجمع بين تصديق الأنبياء من جانب، و الأصول العلمية الحديثة المادية من جانب آخر. و من هذا الباب تفسير بعضهم النبوة بالنبوغ، و الوحي - الذي هو المصدر الوحيد للتسنين و التشريع - بلمعات ذاك النبوغ.

و حاصل مذهبهم أنّه يتميز بين أفراد الإنسان المتحضر، أشخاص يملكون فطرة سليمة، و عقولا مشرقة، تهديهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع و سعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع، و عمران الدنيا. و الإنسان

ص: 131


1- رسالة التوحيد. ص 109-111.

الصالح الذي يتميز بهذا النوع من النبوغ، هو النبي. و الفكر الصالح المترشح من مكامن عقله و ومضات نبوغه هو الوحي. و القوانين التي يسنّها لصلاح الاجتماع هي الدين. و الروح الأمين (جبرائيل)، هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه الأفكار إلى مراكز إدراكه. و الكتاب السماوي، هو كتابه الذي يتضمن سننه و قوانينه. و الملائكة التي تؤيّده في حلّه و ترحاله، هي القوى الطبيعية. و الشيطان الذي يقاومه و يقاوم أتباعه هو النفس الأمّارة بالسّوء، أو سائر القوى الحيوانية الداعية إلى الشرّ و الفساد. و مع ذلك كلّه، فاللّه سبحانه من وراء الجميع.

تحليل نظرية النبوغ

إنّ تفسير النبوة بالنبوغ ليس تفسيرا جديدا، و إن صيغ في قالب علمي جديد، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر ظهور الإسلام حيث كان العرب الجاهليون يحسّون بجذبات القرآن و بلاغته الخلابة، فينسبونه إلى الشعر الذي كان الحرفة الرائجة عندهم، و يتبارز فيه النوابغ منهم، فكانوا يقولون: بَلْ هُوَ شٰاعِرٌ فَلْيَأْتِنٰا بِآيَةٍ كَمٰا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ (1).

و يرد عليهم القرآن الكريم بقوله: وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شٰاعِرٍ قَلِيلاً مٰا تُؤْمِنُونَ (2).

و بقوله: وَ مٰا عَلَّمْنٰاهُ اَلشِّعْرَ وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُ ، إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (3).

و مع ذلك يلاحظ عليه:

أولا: إنّ العودة إلى هذه النظرية ينبع من الإحساس بالصّغار أمام الحضارة المادية المدهشة، المقترنة بأنواع الاكتشافات و الاختراعات في مجال

ص: 132


1- سورة الأنبياء: الآية 5.
2- سورة الحاقة: الآية 41.
3- سورة يس: الآية 69.

الطبيعة، و القائلون بها جماعة من متجددي المسلمين، انسحبوا أمام هذه الحضارة ناسين شخصيتهم الإسلامية، فلجئوا إلى تفسير عالم الغيب و النبوة و الدين و الوحي بتفسيرات ملائمة للأصول المادية، حتى يجبروا مركّب النقص في أنفسهم من هذه الزاوية، و يصيحوا على رءوس الأشهاد بأنّ أصول الدين لا تخالف الأصول العلمية الحديثة.

و لو صحّت هذه النظرية، لم يبق من الاعتقاد بالغيب إلاّ شيء واحد، و هو الاعتقاد بوجود الخالق البارئ، و أمّا ما سوى ذلك، فكلّه بأجمعه نتاج الفكر الإنساني الخاطئ و بالنتيجة، لا يبقى إذعان بشيء مما أتى به الأنبياء من الأصول و المعارف في الدنيا و الآخرة. و هذا في الواقع نوع إنكار للدين، لكن بصورة لا تخدش العواطف الدينية.

و ثانيا: إنّ قسما مما يقع به الوحي و يخبر به النبي، الإنباء عن الحوادث المستقبلية، إنباء لا يخطئ تحققه أبدا.

أ فترى هل يجرؤ نابغة من نوابغ المجتمع على الإنباء بنزول العذاب قطعا بعد أيام ثلاثة، و يقول: تَمَتَّعُوا فِي دٰارِكُمْ ثَلاٰثَةَ أَيّٰامٍ ، ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (1).

أو يخبر بهزيمة جيوش دولة عظمى في مدة لا تزيد على تسع سنين و يقول:

الم * غُلِبَتِ اَلرُّومُ * فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ... (2) .

إنّ النوابغ و إن سموا في الذكاء و الفطنة، لا يخبرون عن الحوادث المستقبلية إلاّ مع الاحتياط و الترديد، لا بالقطع و اليقين و أمّا رجالات السياسة، اللاعبين بحبلها لمصالحهم الشخصية، سواء صدقت تنبؤاتهم أم كذبت، فإنّ حسابهم غير حساب النوابغ.

ص: 133


1- سورة هود: الآية 65.
2- سورة الروم: الآيات 1-4. و البضع من العدد من ثلاثة إلى تسعة.

و ثالثا: لو كان لهذه النظرية مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، فما لنا لا نرى حملة الوحي و مدعي النبوة ينبثون بشيء من ذلك، بل نراهم على العكس، ينسبون تعاليمهم و سننهم إلى اللّه سبحانه، و لا يدّعون لأنفسهم شيئا.

هذا هو القرآن الكريم - الذي جاء به النبي الخاتم - يصرّح بأنّ ما حوى من الحقائق و القوانين، ممّا أوحى به اللّه سبحانه، و ليس هو من تلقاء نفسه:

إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ (1) إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (2) .

و لا يشك أحد في أنّ الأنبياء عباد صالحون، صادقون لا يكذبون و لا يفترون، فلو كانت السنن التي أتوا بها من وحي أفكارهم، فلما ذا يغرون المجتمع بنسبتها إلى اللّه تعالى. فهذه النسبة، إن دلّت على شيء، فإنّما تدلّ على أنّهم كانوا يجدون في أنفسهم أنّ إدراك هذه السنن و المعارف، إدارك وراء الشعور الفكري المشترك بين جميع أفراد الإنسان، و أنّ الطريق الذي يصلون به إليها، غير طرق الإدراك المألوفة و بكلمة جامعة، إنّا نرى في المجتمع الإنساني طائفتين من رجال الإصلاح و الصلاح، كلّ يدّعي سوق المجتمع إلى السعادة:

طائفة - و لهم جذور عريقة في التاريخ - ينسبون تعاليمهم و سننهم إلى عالم الغيب، و يثبتون لأنفسهم مقام الرسالة و السفارة و أنّهم ليس لهم شأن سوى كونهم وسائط لإبلاغ أمر اللّه و نهيه.

و طائفة أخرى - مع اتّصافهم بالصلاح و السداد و السعي وراء الصالح العام - ينسبون تعاليمهم إلى قرائحهم و بدائع أفكارهم، و يعلّلون مباديهم ببراهين اجتماعية أو تاريخيّة أو عقلية، و لا يتجاوزون هذا الحدّ قدر شعرة.

ص: 134


1- سورة الأنعام: الآية 50.
2- سورة النجم: الآية 4.

فلو كانت الطائفتان صادرتين عن أصل واحد، و تستقيان من عين واحدة، فلما ذا لم تدّع ثانيتهما ما ادعته الأولى ؟.

ثم إنّ علماء النفس الذين بحثوا عن النبوغ، ذكروا لبروزه و تفجّره في الإنسان عوامل، هي:

1 - العشق.

2 - انهضام الحقوق.

3 - العزلة.

4 - كثرة السكوت.

5 - التربية و التوجيه الأوّلي الذي يتلقّاه الإنسان في صغره.

فإنّ هذه العوامل توجد في الإنسان استغراقا في نفسه، و توقّدا في أفكاره، و تميّزا في فطنته و ذكائه. و لكن تفسير النبوات و الرسالات، و القوانين و الشرائع التي جاء بها الأنبياء بهذا الطريق، أشبه بتفسير علّة تفجر البركان و ثورانه، بسقوط طائر على فوهته.

هذا، و لو كانت شريعة النبي الخاتم صلى اللّه عليه و آله، و الكتاب المجيد الذي جاء به، و ليدي النبوغ و العبقرية، فلما ذا عجز عن مقابلته و مقارعته، النوابغ و العباقرة طرّا في جميع القرون إلى عصرنا هذا، كما سيوافيك تفصيله في النبوة الخاصة ؟.

النظرية الثانية - الوحي النفسي
اشارة

إنّ تفسير الوحي بصورة الوحي النفسي، منشؤه قساوسة المسيحيين الذين لا هدف لهم إلاّ تفنيد رسالة النبي الخاتم، و تخطئتها، فتشبث هؤلاء بكل وجه خادع، يوهم في ظاهره الملائمة لروح العصر و آخر ما توصلت إليه الحضارة من النظريات الفكرية، و الإبداعات العلمية، ثم طبقوه بعبارات و قوالب متجددة على حياة النبي الأكرم، و الوحي المنزل عليه.

ص: 135

و إرجاع الوحي الإلهي إلى الوحي النفسي هو الجامع بين النظريتين المتقاربتين التاليتين اللتين طرحتا في زماننا هذا..

الأولى - الوحي نتيجة تجلّي الأحوال الروحية
اشارة

هذه النظرية مأثورة عن المستشرق «مونتييه» و فصّلها «إميل درمنغام»، و حاصلها أنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج. و ذاك أنّ منازع نفسه العالية، و سريرته الطاهرة، و قوة إيمانه باللّه و بوجوب عبادته، و ترك ما سواها من عبادة وثنية، و تقاليد وراثية رديئة، يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلى في ذهنه، و يحدث في عقله الباطن، الرؤى و الأحوال الروحية فيتصور ما يعتقد وجوبه، إرشادا إلهيا نازلا عليه من السماء بدون وساطة. أو يتمثل له رجل يلقنه ذلك، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب، و قد يسمعه يقول ذلك و لكنه إنّما يرى و يسمع ما يعتقده في اليقظة، كما يرى و يسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي، عند جميع الأنبياء. فكلّ ما يخبر به النبي أنّه كلام القي في روعه، أو ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده.

و يقول أصحاب هذه النظرية: لا نشك في صدق الأنبياء في إخبارهم عمّا رأوا و سمعوا، و إنّما نقول إنّ منبع ذلك من نفسه و ليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال إنّه وراء عالم المادة و الطبيعة(1).

و يقولون في نفس النبي الأكرم إنّه توصّل إلى الوحي بالانقطاع إلى عبادة اللّه تعالى و التوجه إليه في خلوته بغار حراء، و قوي هنالك إيمانه، و سما وجدانه، فاتّسع محيط تفكّره، و تضاعف نور بصيرته، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات البيّنات في ملكوت السموات و الأرض، الدالّة على وحدانية مبدع الوجود، و سرّ النظام الساري في كل موجود، بما صار به أهلا لهداية الناس و إخراجهم من الظلمات إلى النور، و ما زال يفكّر و يتأمل، و ينفعل و يتململ، و يتقلّب بين الآلام و الآمال، حتى أيقن أنّه النبي المنتظر الذي يبعثه اللّه لهداية البشر. فتجلّى

ص: 136


1- لاحظ الوحي المحمدي، صفحة 66، الطبعة السادسة، 1960 م.

له هذا الاعتقاد في الرؤى المنامية، ثم قوي حتى صار يتمثّل له الملك، يلقّنه الوحي في اليقظة.

و أمّا المعلومات التي جاءته في هذا الوحي فهي مستمدة الأصل من تلك الينابيع التي ذكرناها، و مما هداه إليه عقله و تفكّره في التمييز بين ما يصحّ منها و ما لا يصحّ ، و لكنها كانت تتجلّى له نازلة من السماء، و أنّها خطاب الخالق عزّ و جلّ ، بواسطة الناموس الأكبر و ملك الوحي، جبرئيل روح القدس(1).

و بكلمة أدقّ : إنّ معلوماته و أفكاره و آماله، ولّدت له إلهاما، فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية، على مخيّلته السامية؛ و انعكس اعتقاده على بصره: فرأى الملك ماثلا له، و على سمعه: فوعى ما حدّثه الملك به(2).

تحليل هذه النظرية
أ - نبوّة أو أضغاث أحلام

هذه النظرية التي جاء بها بعض الغربيين، و إن كانت تنطلي على السذج من الناس و تأخذ بينهم رونقا، إلاّ أنّ رجال التحقيق يدركون تماما أنّها ليست بشيء جديد قابل للذكر، و إن هي إلاّ تكرار لمقالات العرب الجاهليين في النبوة و الوحي، غير أنّ الغربي أخذ يديف السم في الدسم، و يعرض ما أكل الدهر عليه و شرب، بصورة نظرية حديثة برّاقة تتمحور في أنّ رجال الوحي أناس مخبّطون، استغرقوا في التفكير في أمنياتهم عقودا من الدهر حتى رأوها ماثلة في خيالهم و أمام حسّهم.

إنّ الذكر الحكيم ينقل لنا أنّ من جملة مقالات العرب و افتراءاتهم على النبي الأكرم، و صم شريعته بأنّها نتاج الأحلام العذبة التي كانت تراود خاطره، ثم تتجلى على لسانه و بصره.

ص: 137


1- المصدر السابق، ص 90.
2- المصدر السابق، ص 35.

قال تعالى: بَلْ قٰالُوا أَضْغٰاثُ أَحْلاٰمٍ (1) أي قالوا: إنّ النبي ليس مختارا فيما جاء به من الكتاب، و شرّعه من الأحكام، و إنّما هو وحي الأحلام، و طوارق الرؤى تجري على لسانه.

و قد ردّ تعالى مزعمتهم هذه في موضع آخر من كتابه - من دون أن يذكر تهمتهم - بقوله: وَ اَلنَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ * مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَ مٰا غَوىٰ * وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ اَلْقُوىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوىٰ * وَ هُوَ بِالْأُفُقِ اَلْأَعْلىٰ * ثُمَّ دَنٰا فَتَدَلّٰى * فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ * فَأَوْحىٰ إِلىٰ عَبْدِهِ مٰا أَوْحىٰ * مٰا كَذَبَ اَلْفُؤٰادُ مٰا رَأىٰ * أَ فَتُمٰارُونَهُ عَلىٰ مٰا يَرىٰ * وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهىٰ * عِنْدَهٰا جَنَّةُ اَلْمَأْوىٰ * إِذْ يَغْشَى اَلسِّدْرَةَ مٰا يَغْشىٰ * مٰا زٰاغَ اَلْبَصَرُ وَ مٰا طَغىٰ * لَقَدْ رَأىٰ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرىٰ (2).

فهذه الآيات تركّز على صدق الوحي، و كونه أمرا واقعيا مفاضا من اللّه سبحانه. و أنت إذا لاحظت منها الآيتين التاليتين، يتجلى لك بوضوح حقيقة ذلك.

أ - قوله: مٰا كَذَبَ اَلْفُؤٰادُ مٰا رَأىٰ .

و المعنى لم يكذّب فؤاد محمد ما أدركه بصره، أي كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة، و إدراكا على الحقيقة.

و هذا، سواء قرء «كذب» بالتشديد، فالموصول مفعوله، أو قرء بالتخفيف، كما هو القراءة المعروفة، فهو يتعدى إلى مفعول، قال الشاعر:

ص: 138


1- سورة الأنبياء: الآية 5.
2- سورة النجم: الآيات 1-18. و المراد من «شديد القوى» هو ملك الوحي و الضميران في «فاستوى» و «و هو بالأفق الأعلى»، يرجعان إلى شديد القوى و كذلك الضمير في قوله: «أوحى»، و أمّا الضمير في عبده فيرجع إلى اللّه سبحانه. و قد اشتبه الأمر على كثير من المفسّرين في تفسير هذه الآيات فزعموا أنّ النبي رأى اللّه سبحانه و تعالى.

كذبتك عينك أم رأيت بواسط *** غلس الظّلام من الرباب خيالا

و على كل تقدير، فالآية بصدد بيان أنّه لم يكن هناك اختلاف بين تصديق القلب و رؤية العين، فإذا صدّق القلب، تكون الرؤية حقيقة.

ب - قوله: مٰا زٰاغَ اَلْبَصَرُ وَ مٰا طَغىٰ .

أي ما زاغ بصر محمد و ما طغى. و هو كناية عن صحة رؤيته و أنّه لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقية، و لا أبصر ما لا حقيقة له. بل أبصر غير خاطئ في إبصاره.

و الآيتان بصدد بيان مصونية قلبه و بصره عن الخطأ، في مقام الأخذ و التلقّي، و لا تتم الصيانة إلاّ بمصونية كل جوارحه إذا كانت في خدمة الوحي.

فهو صلى اللّه عليه و آله يبصر بعينه، و يسمع بأذنه، و يدرك بقلبه الأشياء و الحقائق على ما هي عليه من دون خطأ.

ب - نبوّة أو جنون

و لك أن تقول، إنّ مقالة هؤلاء المتجددين، ليست بعيدة و لا غريبة عن اتّهام الأنبياء بالجنون الذي هو في حقيقته مرتبة عالية و شديدة من تجلّي النزعات الخيالية. هذه التهمة التي افتراها العرب على النبي الخاتم، كما في قوله تعالى:

وَ قٰالُوا يٰا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (1) . و أشار إليها القرآن في موارد عديدة أخرى(2)، و افتراها أعداء الأنبياء المتقدمين عليهم، كما يقول تعالى: كَذٰلِكَ مٰا أَتَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ قٰالُوا سٰاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَ تَوٰاصَوْا بِهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ (3)، ثم افتراها هؤلاء القساوسة و المستشرقون

ص: 139


1- سورة الحجر: الآية 6.
2- قد جاءت هذه الفرية في المواضع التالية من الذكر الحكيم: سورة سبأ: الآية 8، سورة الصافات: الآية 36. سورة الدخان: الآية 14. سورة الطور: الآية 29. سورة القلم: الآية 2. سورة التكوير: الآية 82.
3- سورة الذاريات: الآيتان 52 و 53.

بصياغة أدبية و قوالب علمية، تحت اسم «تجلّي الأحوال الروحية». و المغزى و الجوهر واحد.

سبحانك يا رب، ما أعظم جناية الإنسان على أوليائك و الصالحين من عبادك، البالغين القمة في العقل و الدراية و الفكر و الحكمة، حتى و سمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبط و أخرى بالجنون.

الثانية - الوحي نتيجة ظهور الشخصية الباطنة
اشارة

و قد أسهب الأستاذ فريد وجدي الكلام فيها في موسوعته، نأتي منه بما يكفي في بيان المراد منها:

كان الغربيون إلى القرن السادس عشر - كجميع الأمم المتدينة - يقولون بالوحي، لأنّ كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء. فلما جاء العلم الجديد بشكوكه و مادياته، ذهبت الفلسفة الغربية إلى أنّ مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة، و غالت حتى أنكرت الخالق و الروح معا. و علّلت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنّه إمّا اختلاق من المتنبئة أنفسهم لجذب الناس إليهم و تسخيرهم لمشيئتهم، و إمّا هذيان مرضي يعتري بعض العصبيين، فيخيل إليهم أنّهم يرون أشباحا تكلّمهم، و هم لا يرون في الواقع شيئا.

و قد راج هذا التعليل في العالم الغربي حتى صار مذهب العلم الرسمي.

و ظلّ الأمر على هذا المنوال حتى العام 1846 عند ما ظهرت في أمريكا آية الأرواح و سرت منها إلى أوروبا كلها، و أثبت الناس بدليل محسوس وجود عالم روحانى آهل بالعقول الكبيرة و الأفكار الثاقبة، فتغير وجه النظر في المسائل الروحانية، و أحييت مسألة الوحي بعد أن كانت في عداد الأضاليل القديمة، و أعاد العلماء البحث فيها على قاعدة العلم التجريبي المقرر، لا على أسلوب التقليد الديني، و لا من طريق الضرب في مهامه الخيالات.

فقد تألّفت في لندرة سنة 1882 جمعية دعيت باسم «جمعية المباحث النفسية»، برئاسة السير «جويك» المدرس في جامعة كمبريدج، و هو من أكبر

ص: 140

العقول في انكلترا، و عضوية السير «أوليقرلودج» الملقب ب «داروين علم الطبيعة» - أي أنّه لعالم الطبيعة، كداروين للتاريخ الطبيعي - مع عدّة من الأساتذة المتخصصين في صنوف العلوم الطبيعية و الرياضية و الفلكية. و كان الغرض من هذه الجمعية البت في المسألة الروحية، و تحقيق حوادثها بأسلوب النقد الصارم، و الحكم بقبولها نهائيا في العلم إن كانت حقيقة، أو تقرير إبعادها عن العلم و الفلسفة إن كانت من الأمور الوهمية.

و في خلال مدّة تربو على خمس و أربعين سنة، حققت هذه الجمعية ألوفا من الحوادث الروحية، و عملت من التجارب في النفس و قواها ما لا يكاد يدرك، لو لا أنّه مدوّن في محاضر تلك الجمعية في نحو خمسين مجلدا ضخما، فكان من ثمرات جهادها:

1 - إثبات شخصية ثانية للإنسان أي إنّنا أحياء مدركون في حياتنا الحاضرة، لا بكل قوى الروح التي فينا، بل بجزء من تلك القوى، سمحت لنا بها حواسنا الخمس القاصرة. و لكن لنا فوق ما تعطيه لنا حواسنا هذه، حياة أرقى من هذه الحياة، لا تظهر بشيء من جلالها إلاّ إذا تعطّلت فينا هذه الشخصية العادية بالنوم العادي، أو بالنوم المغناطيسي.

و قد جرّبوا ذلك على المنوّمين تنويما مغناطيسيا، فوجدوا أنّ النائم يظهر بمظهر من الحياة الروحية و العلم، لا يكون له و هو يقظان، فيعلم الغيب، و يخبر عن البعيدين، يبصر و يسمع و يحسّ بغير حواسه الجسمية و يكون - و هو على تلك الحالة - على جانب كبير من التعقّل و الإدراك.

قالوا: و تكون هذه حالة الإنسان في نومه العادي. و الدليل على ذلك، ما يأتيه المصابون بمرض الانتقال النومي من الأفعال المعجزة، و المدارك السامية.

2 - ثبت لديهم وجود شخصية راقية للإنسان وراء شخصيته العادية.

و علموا أنّها هي التي كوّنت جسمه في الرحم. و هي التي تحرّك جميع أعضائه التي ليست تحت حكم إرادته، كالكبد، و القلب، و المعدة، و غيرها... فهو إنسان بها، لا بهذه الشخصية العادية المكتسبة من الحواس القاصرة.

ص: 141

قالوا: و هي التي تهديه بالخواطر الجيّدة من خلال حجبه الجسمية الكثيفة، و هي التي تعطيه الإلهامات الطيبة الفجائية في الظروف الحرجة. و هي التي تنفث في روع الأنبياء ما يعتبرونه وحيا من اللّه، و قد تظهر لهم متجسدة فيحسبونها من ملائكة اللّه هبطت عليهم من السماء.

قالوا: و هذه الشخصية الباطنة أصبحت مدركة بالحسّ ، فإنّ ظهور النائم نوما مغناطيسيا، بهذا المظهر من العقل الراجح، و الفكر الثاقب، و النظر البعيد، و اكتشافه لخفايا الأمور، و جولانه في الأقطار البعيدة، بينما يكون هو جاهلا غبيا في حالاته العادية، أدلّ دليل على أنّ للإنسان شخصية تحجبها هذه الحياة الجسدية، و لا تظهر إلاّ إذا وقع جسمه في نوم طبيعي أو صناعي.

و هناك أمور أخرى تدلّ بالحس على وجود تلك الشخصية، درستها الجمعية و حققت تجارب الذين درسوها:

فقد كتب الأستاذ الدكتور «ميرس»، فصولا ضافية في التنويم المغناطيسي، و العبقرية، و الوحي، و الشخصية الباطنة، فذكر الحاسبين على البديهية، و هم طائفة من الناس، تلقى عليهم أعوص المسائل الرياضية التي تحتاج إلى زمن طويل في الحساب و العمل، فيجيبون عليها على الفور، و هم لا يدرون كيف وجد هذا الحلّ في نفوسهم. و هذا الأمر يثبت وجود الشخصية الباطنة بدليل محسوس، لأنّ الجواب الصحيح عن المسائل الرياضية العويصة، إن لم تأت به هذه الشخصية العادية، فلا بدّ أن تكون ثمرة قوى باطنة أخرى لا تنكشف للإنسان إلاّ بآثارها هذه.

و حكى العلامة «ميرس» قول العالم الفرنسي «ترودم»: «حدث لي في بعض الأحايين أنّي كنت أجد فجأة برهان نظرية هندسية القيت إليّ منذ سنة، و ذلك من دون أن أعيرها أقل التفات. لعلّه يقال في تعليل ذلك إنّ المعلومات المختزنة في عقلي من مطالعاتي قد نضجت من نفسها، و ولّدت في عقلي البراهين عليها، من نفسها أيضا».

و قال «ميرس»: لقد كتب الشاعر المشهور «موسيه» عن نفسه يقول:

ص: 142

«أنا لا أعمل شيئا، بل أسمع، فأنقل، فكأنّ إنسانا مجهولا يناجيني في أذني»!!.

هذه خلاصة هذه النظرية و تاريخ نشأتها(1) و يمكن تحريرها بكلمتين:

الأولى: إنّ الشخصية الظاهرية العادية للإنسان، أسيرة قواه الظاهرية (الحواس الخمس).

الثانية: إنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلى، و تظهر آثارها، إذا تعطّلت القوى الظاهرية، و تخدّرت فعاليتها، كما في حالات النوم العادي أو المغناطيسي.

ثم بلحاظ هاتين النكتتين، يفسّر الوحي في الأنبياء، فإنّ كل ما يحدثون به من التعاليم و الإخبارات ليس إلاّ إفاضات شخصياتهم الباطنة و إيحاءاتها عند تعطّل قواهم الظاهرية.

تحليل نظرية الشخصية الباطنة
اشارة

إنّ هذا التفسير للوحي - الناتج عن الغرور العلمي و حصر جميع ما في الكون ضمن إطار الأصول التجريبية - فاشل من جهات شتّى:

الجهة الأولى:

إنّ الفرضية التي جاءت بها هذه النظرية - لو سلّمت - ليست دليلا و لا برهانا على كون خصوص الوحي عند الأنبياء من سنخ إفاضة الشخصية الباطنة و تجلّيها عند تعطّل القوى الظاهرية. بل قد تكون هذه الفرضية صحيحة، و مع ذلك يكون للوحي في الأنبياء عاملا إلهيا، يفيض تلك المعارف و الأصول و الإنباءات الغيبية إلى عقول الأنبياء و قلوبهم فيعرّفونها للبشر.

الجهة الثانية:

إنّ الذي تفيده هذه النظرية، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلّى و تجد مجالا للظهور بآثارها المختلفة، عند تعطّل القوى

ص: 143


1- لاحظ فيما نقلناه، دائرة معارف القرن الرابع عشر، ج 10، ص 712-716.

الظاهرية، فلذا يقوى ظهورها في المرضى و السكارى و النائمين و المرهقين و تبقى مندثرة و مغمورة في طوايا النفس عند ما تكون القوى الظاهرية و الحواس البشرية في حالة الفعالية و الجدّ و السعي.

هذا، و إنّ المعلوم من حالات الأنبياء عليهم السلام أنّ الوحي الإلهي كان ينزل عليهم في أقصى حالات تنبّههم و اشتغالهم بالأمور السياسية و الدفاعية و التبليغية، فكيف يكون ما تجلّى للنبي و هو يخوض غمار الحرب، تجليا للشخصية الباطنة، و الضمير المخفي، أو ما شئت فعبّر، ممّا لا يرى النور، إلاّ في حالات الغفلة و الغيبوبة و ما شابه ذلك، كما يصرّح به هؤلاء؟.

و أين الأنبياء من الخمول و الانعزال عن المجتمع، و هم أولو الجهاد، و الصبر و الثبات في مواجهة الأعداء و تبليغ رسالاتهم السماوية ؟.

فما ذكرناه دليل قاطع على بطلان تفسير الوحي بما ذكروه.

الجهة الثالثة:

لا شكّ أنّ الشخصية الباطنة للإنسان لا تملك تلك المعلومات التي تفيضها في حالات تعطّل الحواس، من ذاتها و صميمها من دون أن تتلقى شيئا من خارجها. و إن دعوى ذلك، باطل، لا قيمة له في سوق العلوم النفسية. فإنّ الذي توصّل إليه علماء النفس قبل «فرويد» و بعده، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان تحفظ فيها المعارف التي تردّها عبر القوى و الشخصية الظاهرية، و ذلك عند ما لا ترغب الشخصية الظاهرية في إبقائها في مجال نشاطها و تفكرها، فتنسحب تلك الأفكار و المعارف إلى أعماق ضميره و شخصيته الباطنة، فتكمن في زواياها، و تختبئ بين طواياها، متحيّنة فرصة تعطيل الشخصية الظاهرية، حتى تنبعث من مكامنها، و تجري على لسان صاحبها من دون إرادة منه و لا ميل، كما عرفت في حالات التنويم المغناطيسي، و كما يقع غالبا في حالات السهو و الغفلة، من تلفّظ الإنسان بما لا يرغب، أو يتحاشى إظهاره ممّا أضمره في نفسه، و لا يظهره قطعا عند التفاته و انتباهه. و في هذا المجال يقول علي عليه السلام: «ما أضمر أحد شيئا إلاّ ظهر في فلتات لسانه و صفحات وجهه»(1).

ص: 144


1- نهج البلاغة باب قصار الحكم، الحكمة 26.

و على ما ذكرنا يمتنع أن تكون تلك المعارف العليا، و الشرائع و القوانين الاجتماعية التي جاء بها الأنبياء، نتاج الشخصية الباطنة، و الضمير المخفي و كيف يكون ذلك، و المصدر الوحيد للمعارف الموجودة في الضمير المخفي هو الشخصية الظاهرية و ما تأخذه الحواس من خارج الذهن و المحيط و البيئة.

و المحيط الذي عاش فيه الأنبياء، و ترعرعوا في أحضانه، في واد آخر من هذه المعارف و الشرائع، لم يسمع و لم يخبر بها.

فلا يبقى بالنتيجة إلاّ أن يكون لها مصدر و منبع آخر، غير ما يدعون.

إنّ هذه المعلومات التي يعطيها هؤلاء المحلّلون لمسألة الوحي، قليلة المواد، ضيقة النطاق عن أن تكون مصدرا لوحي مثل القرآن الكريم. فإنّ ما جاء في هذا الكتاب من الأحكام و المعارف العليا لا يمكن أن تكون مستمدة من الوحي بهذا المعنى.

و أنّى يكون ليتيم فقير، نشأ بين الأميين، ليس عنده كتاب يرشده، و لا أستاذ ينبّهه، و لا عضد إذا عزم يؤيده، أن يأتي و لو بمعشار ما في هذا الكتاب من السنن و النظم و المعارف و العقائد. فلا يبقى إلاّ القول بأنّه فائض من نور اللّه الأعظم على رسوله و خاتم أنبيائه محمد صلى اللّه عليه و آله، كما يقول البوصيري:

اللّه أكبر إنّ دين محمد *** و كتابه أقوى و أقوم قيلا

لا تذكروا الكتب السوالف عنده *** طلع الصباح فاطفأ القنديلا(1)

ص: 145


1- في الختام نعاتب الأستاذ فريد وجدي بما أنّه رجل موحّد مؤمن بعوالم الغيب و رسالة السماء إلى الأرض، التي تلقّاها الأنبياء عن طريق الوحي، نعاتبه كيف نقل هذه النظرية الساقطة حول الوحي بإسهاب، و أوضحها، و لم يعلّق عليها شيئا، و كأنّه بها راض، و لها متبنّ !!. و هذا الذي وقع منه، ربما يؤيد ما ذكره مصطفى صبري، شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، من أنّ الأستاذ المذكور كان منكرا لمعجزات الأنبياء، و مضيفا إليه عند النقاش إنكار البعث بعد الموت، و قد نقل عنه هذه العبارات: «ولد العلم الحديث، و ما زال يجاهد القوى التي كانت تساوره، فتغلب عليها، و دالت الدولة إليه في الأرض، فنظر نظرة في الأديان و سرى عليها أسلوبه، فقذف بها جملة في عالم الميتولوجيا (أي الأساطير). ثم بحث في اشتقاق بعضها عن بعض، و اتّصال أساطيرها بعضها ببعض، فجعل
الثالثة - نظرية الفلاسفة المشائين في الوحي
اشارة

سلك المشائيون من فلاسفة الإسلام، في تحليل الوحي، مسلكا خاصّا لا يمت إلى ما سبق من التحليلات بصلة، و تبتني نظريتهم على أصول لا مجال لذكرها هنا، و إنّما نأتي بمجمل معتقدهم و نبيّنه في أمور:

الأول: قد أثبتوا بفضل قاعدة الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد(1)، إنّ الصادر الأول من الواجب سبحانه شيء واحد و هو العقل الأول، ثم أفاض الوجود، فأوجد العقل الثاني، ثم أوجد الثاني الثالث إلى أن انتهى الفيض بإيجاد العقل العاشر، و هو المسمى عندهم بالعقل الفعّال. و ليست العقول عندهم منحصرة على وجه القطع بالعشرة، بل لم يجدوا دليلا على أزيد منها(2).

ص: 146


1- المراد قاعدة: «لا يصدر من الواحد إلاّ الواحد»، و عكسها: «لا يصدر الواحد، إلاّ من الواحد». و قد برهنوا عليها ببرهان فلسفي، لا ينافي صدور ما في الكون جليله و دقيقه من اللّه سبحانه على نحو ترتب الأسباب و المسببات.
2- لأنّ طريق الاستكشاف هو الأفلاك التسعة المحسوسة الكاشفة عن النفوس التسع و العقول العشرة، و من أراد التفصيل فليرجع إلى محله.

الثاني: إنّ ما يقوم به العقل العاشر من الفعل و الإفاضة، هو تكميل النفوس الإنسانية أوّلا، و إفاضة الصور الجوهرية على عالم المادة ثانيا.

فالمخرج للنفوس الإنسانية من القوة إلى الكمال، و مفيض المعارف على قلوب الأولياء، و الصور الحيوانية و الشجرية و المعدنية على المادة الأولى، هو العقل الفعّال، بإذنه سبحانه.

الثالث: إنّ الإنسان مجهز بالحواس الظاهرية الخمس المعروفة، كما هو مجهز بحواس باطنية خمس، هي:

1 - الحس المشترك: و هو القوة المدركة لما يرد العقل عبر الحواس الخمس الظاهرية.

2 - الخيال: و هو مخزن الصور المحسوسة المأخوذة من الحسّ المشترك.

3 - الواهمة: و هي القوّة المدركة للمعاني الجزئية، كالعداوة و الصداقة.

4 - الحافظة: و هي مخزن المعاني الجزئية المرسلة من الواهمة.

5 - العاقلة: و هي القوّة المدركة للمفاهيم الكلية و الحقائق المطلقة عن المادة و آثارها، و لها شئون أخرى، كتركيب الأقيسة و الأدلة و غير ذلك.

الرابع: إنّ النفوس الضعيفة غير الكاملة، أسيرة القوى الباطنة في مدارجها المختلفة، من القوّة العاقلة إلى الحسّ المشترك، و منه إليها.

و أمّا النفوس القوية الصافية، فإنّ بإمكانها الخروج عن هذا الإطار و الاتصال بالعقل الفعّال، اتصالا روحانيا معنويا، و تلقّي الحقائق و المعارف من ذلك الموجود النوراني.

و هكذا، فإنّ المعارف العليا المفاضة من العقل الفعّال، تنعكس على القوّة العاقلة، ثم تفاض منها إلى القوة الخيالية، و منها إلى الحسّ المشترك، و تأخذ كل قوة ما هو المناسب لحالها و ذاتها: فالحقائق المفاضة من العقل الفعّال إلى النفوس الكاملة الإنسانية في مرحلة القوة العاقلة، علوم و معارف. و في مرتبة القوة الخيالية، صور و تمثّلات. و في مرحلة الحسّ المشترك، كلام فصيح و منظوم.

ص: 147

فالنبي إذا تمّ استعداده، و صفت نفسه، يجد في نفسه استعدادا للاتصال بذلك العالم الأعلى، فتفاض عليه الحقائق و الدقائق، من معارف المبدأ و المعاد، و الكون و الحياة، و الإنسان و المجتمع، كلّها بصورة معارف كليّة.

و لكن هذه المعارف إذا تنزّلت إلى الدرجة التالية، أعني القوة الخيالية، تتمثل في خياله ملكا نورانيا يكلمه و يخاطبه بتلك المعارف و الأحكام و السنن.

كما أنّها إذا تنزّلت إلى الدرجة الثالثة، أعني الحسّ المشترك، قرع أسماعه صوت و كلام تلتذ به نفسه، و تحفظه مصونا عن كل تغيّر و تبدّل.

فليس للوحي حقيقة إلاّ انعكاس ما في العقل الفعّال من المعارف و العلوم على عقل النبي، ثم تنزله منه إلى خياله، و منه إلى حسّه. و ليس هذا الاتصال و التنزل و تلقّي المعارف الكلية، و تمثل الملك و مشاهدته، و سماع الصوت و الكلام المنظوم، أشياء وهمية لا واقعية لها، بل لكلّ منها درجة واقعية أحقّ من الواقعية الظاهرية المادية.

يقول صدر المتألهين: «إنّ سبب إنزال الكلام و تنزيل الكتاب، هو أنّ الروح الإنسانية إذا تجرّدت عن البدن، مهاجرة إلى ربّها لمشاهدة آياته الكبرى، و تطهّرت عن المعاصي و الشهوات و التعلّقات، لاح لها نور المعرفة و الإيمان باللّه و ملكوته الأعلى. و هذا النور إذا تأكّد و تجوهر، كان جوهرا قدسيا يسمى عند الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعّال، و في لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي.

و بهذا النور الشديد العقلي، يتلألأ فيها (أي الروح الإنسانية) أسرار ما في الأرض و السماء، و يتراءى منها حقائق الأشياء، كما يتراءى بالنور الحسيّ البصري، الأشباح المثالية في قوّة البصر إذا لم يمنعها حجاب، و الحجاب هاهنا هو آثار الطبيعة و شواغل هذا الأدنى. و ذلك لأنّ القلوب و الأرواح - بحسب أصل فطرتها - صالحة لقبول نور الحكمة و الإيمان إذا لم يطرأ عليها ظلمة تفسدها كالكفر، أو حجاب يحجبها كالمعصية و ما يجري مجراها.

و بعبارة أخرى: إذا أعرضت النفس عن دواعي الطبيعة و ظلمات الهوى

ص: 148

و الاشتغال بما تحتها من الشهوة و الغضب و الحسّ و الخيال و ولّت بوجهها شطر الحق، و تلقاء عالم الملكوت، اتّصلت بالسعادة القصوى، فلاح لها سرّ الملكوت و انعكس عليها قدس اللاهوت، و رأت عجائب آيات اللّه الكبرى.

ثم إنّ هذه الروح، إذا كانت قدسية شديدة القوى، قوية الإنارة لما تحتها، لقوة اتّصالها بما فوقها، فلا يشغلها شأن عن شأن، و لا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها، فتضبط للطرفين، و تسع قوتها الجانبين (الملك و الملكوت)، لشدّة تمكّنها في الحدّ المشترك بين الملك و الملكوت. لا كالأرواح الضعيفة، التي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر، و إذا ركنت إلى مشعر من المشاعر، ذهلت عن المشعر الآخر.

فإذا توجهت هذه الروح القدسية التي لا يشغلها شأن عن شأن، و لا يصرفها نشأة عن نشأة، و تلقت المعارف الإلهية بلا تعلّم بشري، بل من اللّه، يتعدى تأثيرها إلى قواها، و يتمثل لروحه البشرى، صورة ما شاهده بروحه القدسي و تبرز منها إلى ظاهر الكون، فيتمثل للحواس الظاهرة، لا سيما السمع و البصر، لكونهما أشرف الحواس الظاهرة، فيرى ببصره شخصا محسوسا في غاية الحسن و الصباحة، و يسمع بسمعه كلاما منظوما في غاية الجودة و الفصاحة، فالشخص هو الملك النازل بإذن اللّه، الحامل للوحي الإلهي، و الكلام هو كلام اللّه تعالى، و بيده لوح فيه كتاب.

و هذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه، ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في خارج الذهن و التخيّل، كما يقوله من لا حظ له من الباطن، و لا قدم له في أسرار الوحي و الكتاب، كبعض أتباع المشائين، معاذ اللّه عن هذه العقيدة الناشئة من الجهل بكيفية الإنزال و التنزيل»(1).

ص: 149


1- الأسفار الأربعة، ج 7، ص 24-25
تحليل نظرية الفلاسفة

أعترض على هذه النظرية باعتراضات عديدة، غير واردة عند من أمعن النظر و تدبّر فيها، نذكر بعضا منها:

الاعتراض الأول: إنّ نتيجة هذه النظرية أنّه لا واقعية للملك و لا للصوت في مرتبة الحسّ ، لأنّ القوّة التخيّلية في ذهن النبي هي التي توجد الصوت و صورة الملك في تلك المرتبة، ثم ينعكس من الخيال إلى مرتبة الحسّ .

الجواب: إنّ ما ذكر من الاعتراض يرد على عقيدة بعض المشائيين في الوحي، كما صرّح به صدر المتألهين نفسه في كلامه المتقدم. و أمّا عند غيرهم، فللوحي درجات واقعية حسب مراتب وجوده. فله وجود عقلي و خيالي و حسيّ ، و ليس أيّ منها مصنوع ذهن النبي و نفسه، تلك النفس الصافية الصقيلة التي ينعكس فيها كل ما في عالم العقل الفعّال. و ما ذكرناه من عبارات صدر المتألهين أوضح شاهد على ذلك.

الاعتراض الثاني: إنّ هذا التصوير للوحي، مقلوب ما نأنسه من الإدراكات في هذه الحياة، فإنّ الترتيب الطبيعي للإدراك هو الحسيّ ثم الخيالي فالعقلي. و لكن على هذه النظرية، ينقلب الأمر و يشرع الإدراك من العقل و ينتهي بالحسّ .

الجواب: إنّ ما ذكره المعترض حقّ في الإدراكات المعاديّة، و أمّا الإدراكات المتجاوزة حدّ العادة، فهي على عكس المأنوس. و الوحي النازل على الأنبياء إدراك خارق للعادة بدليل عظمة المعارف و القوانين التي يأتي بها الوحي إليه.

و غير ذلك من الاعتراضات القابلة للجواب.

و الملاحظة الصحيحة على هذه النظرية، هي أنّ ما ذكروه من أنّ حقيقة واحدة تتجلى في نفس النبيّ بصور ثلاث، و إن كان غير ممتنع، إلاّ أنّه لا دليل على أنّ الوحي هو خصوص ذاك. إذ ربّ وليّ من الأولياء الذين صفت ضمائرهم، و طهرت قلوبهم، نالوا المعارف و الحقائق المفاضة من ذاك العالم

ص: 150

بالإشراق و مع ذلك لا يصحّ تفسيره بالوحي المصطلح و إلاّ كان كل إنسان يدرك في عقله حقيقة عليا ثم تتجلى في خياله ثم في حسّه، نبيا أو رسولا.

و قد بلغ الحواريون درجة راقية من المعرفة و الإدراك حتى خاطبهم الباري عزّ و جلّ ، كما يشير إلى ذلك بقوله: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوٰارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي، قٰالُوا آمَنّٰا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنٰا مُسْلِمُونَ (1). و مع ذلك لم يسمّهم القرآن رسلا، و لا أنبياء، و لا الكلام المنزل عليهم وحيا نبويا، رساليا، و إنّما كان إلهاما قويا.

فحق المقال في الوحي ما ذكرناه في صدر البحث، من أنّه مجهول الكنه، معلوم الآثار، يجب الإيمان به كالإيمان بالغيب على الإطلاق.

ص: 151


1- سورة المائدة: الآية 111.

ص: 152

مباحث النبوّة العامة

(البحث الرابع) سمات الأنبياء

اشارة

إنّ أخطر المناصب و أكبرها مسئولية، قيادة المجتمع البشري و هدايته إلى السعادة، فإنّها تتطلب في المتصدي لها مؤهّلات و امتيازات خاصة يتفرد بها عن سائر الناس.

و لتقريب عظمة تلك المؤهلات المطلوبة في هكذا إنسان، نلاحظ جانبا واحدا من الجوانب الحيوية، كإدارة الشئون الاقتصادية، أو السياسية، أو العسكرية أو التربوية، فإنّ القيادة في واحد منها تتطلب درجة عالية من الخبرة و المعرفة و التدبير، فكيف إذا كانت دائرة القيادة واسعة النطاق، تدير دفة كافة جوانب الحياة، كما هي وظيفة رسل السماء لا سيما خاتمهم الذي به سدّ باب الوحي و النبوة ؟ فلا بد، و الحال هذه، أن يتصفوا بفضائل روحية، و مثل خلقية، تميّزهم عن غيرهم من البشر، و تجعلهم في قمّة الأخلاق و التزكية و حسن السيرة، ثم في الإدارة و القيادة، و تجتمع هذه الصفات في الأمور التالية:

1 - العصمة، و لها مراتب ثلاث:

المرتبة الأولى - المصونية عن الذنب و مخالفة الأوامر المولوية.

المرتبة الثانية - المصونية في تلقي الوحي، و وعيه، و إبلاغه إلى الناس.

المرتبة الثالثة - المصونية من الخطأ و الاشتباه في تطبيق الشريعة و الأمور الفردية و الاجتماعية.

ص: 153

2 - التنزّه عن كل ما يوجب نفرة الناس عنه و عقم التبليغ.

3 - الاطلاع على أصول الدين و فروعه و كلّ ما ألقي إبلاغه على عاتقه.

4 - التحلّي بكفاءة خاصة في القيادة و الإدارة مقترنة بحسن التدبير(1).

و إليك البحث فيما يلي عن هذه السمات الواحدة تلو الأخرى.

ص: 154


1- هذه الصفة تختص بالنبوات التي تقود المجتمع في جميع المجالات و لا تشترط في كل نبي، إذ ربّ نبي لا تتجاوز نبوته نفسه، و لا تعدو قيادته إطارا خاصا، و ما أكثر الأنبياء عددا، و ما أكثر غاياتهم و أهدافهم اختلافا، سعة و ضيقا.
(1) العصمة
اشارة

قد عرفت أنّ للعصمة مراتب ثلاث: العصمة عن المعصية، و العصمة في تبليغ الرسالة، و العصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة و الأمور الفردية و الاجتماعية.

و نحن نقدم البحث في عصمة الأنبياء عن المعصية، على عصمتهم في مقام تبليغ الرسالة، مع أنّ أكثر المتكلمين يقدمون الثاني على الأول باعتبار كونه أمرا متفقا عليه بين المسلمين إلاّ من شذّ. و إنّما خالفنا الترتيب، لأنّ العصمة عن المعصية تؤول إلى العصمة في مقام العمد، بينما العصمة في تبليغ الرسالة ترجع إلى العصمة عن السهو و الخطأ، فطبيعة البحث تقتضي ما نقوم به.

ص: 155

ص: 156

المرتبة الأولى للعصمة العصمة عن الذنوب
اشارة

و يقع البحث في مقامات ثلاثة:

الأول - بيان حقيقة العصمة عن المعاصي و الذنوب.

الثاني - بيان مبدأ ظهور فكرة العصمة.

الثالث - بيان الدليل على لزوم اتّصاف الأنبياء بها.

ثم نختم البحث بالإجابة عن سؤالين هامّين.

المقام الأول - حقيقة العصمة عن المعاصي
اشارة

قال ابن فارس: «عصم: أصل واحد صحيح يدلّ على إمساك و منع و ملازمة، و المعنى في ذلك كلّه واحد. من ذلك «العصمة»: أن يعصم اللّه عبده من سوء يقع فيه. و اعتصم العبد باللّه تعالى: إذا تمنّع. و استعصم: التجأ، و تقول العرب: أعصمت فلانا، أي هيّأت له شيئا يعتصم بما نالته يده، أي يلتجئ و يتمسك به»(1).

ص: 157


1- المقاييس، ج 4، ص 331.

هذا في اصطلاح أهل اللّغة.

و في اصطلاح المتكلّمين: «العصمة قوة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية، و الوقوع في الخطأ»(1).

و ربما تعرّف أيضا بأنّها: «لطف يفعله اللّه في المكلف بحيث لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة، و لا إلى فعل المعصية، مع قدرته على ذلك»(2).

و من العجب تفسير الأشاعرة العصمة بأنّها عبارة عن أنّه سبحانه لا يخلق في المعصومين ذنبا(3). فإنّه تعريف واه سخيف على الأصول التي سلكناها من أنّ فاعل الذنب و موجده هو العبد مباشرة، بقوة منه سبحانه. نعم هو صحيح على أصولهم القائمة على إنكار السببية و العلّية بين الأشياء.

و فيما ذكرناه من التعاريف كفاية في المقام، و إنّما المهم بيان حقيقة العصمة بنحو يرفع الغموض عنها، و هو يحصل ببيان الوجوه التالية:

الوجه الأول: العصمة غصن من دوحة التقوى

إنّ التقوى في العاديين من الناس، كيفية نفسانية تعصم صاحبها عن اقتراف كثير من القبائح و المعاصي، و لأجل ذلك نرى البون الشاسع بينهم و بين المجرمين، المليئة حياتهم بالجرائم و قبائح الأعمال، بينما حياة المتقين خلو منها إلاّ ما شذّ.

فإذا كان هذا أثر التقوى العمومية، فما بالك بالتقوى، إذا ترقت في مدارجها و علت في مراتبها، إنّها حينذاك تبلغ بصاحبها درجة العصمة الكاملة، و الامتناع المطلق عن ارتكاب أي قبيح من الأعمال، أو ذميم من الأفعال، بل يمتنع معها حتى عن التفكير في خلاف أو معصية.

ص: 158


1- الميزان، ج 8، ص 142.
2- إرشاد الطالبيين إلى نهج المسترشدين، ص 310.
3- إبطال نهج الباطل، للفضل بن روزبهان، على ما في ذيل دلائل الصدق، ج 1، ص 370.

و على هذا، فالعصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس، لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية مثل الشجاعة و العفة و السخاء: فإنّ الإنسان إذا كان شجاعا و صبورا، سخيا و باذلا، عفيفا و نزيها، تراه يتطلب في حياته معالي الأمور، و يتجنب سفاسفها، فيطرد عن نفسه الخوف و الجبن و البخل و الإمساك، و القبائح و المساوئ، و لا ترى لها أثرا في حياته.

و هكذا نقول في العصمة، فإنّ الإنسان إذا بلغ درجة قصوى من التقوى، يصل إلى حدّ من الطهارة لا يرى معه في حياته أثر من آثار المعصية و التمرّد على أوامر اللّه تعالى. و أما كيف تحصل فيه هذه الكيفية النفسانية، فهو ما نبحثه في الوجه الثاني.

و على ما ذكرنا، تنقسم العصمة إلى عصمة مطلقة و عصمة نسبية، و الأولى تختص بطبقة خاصة من الناس، و الثانية تعمّ كثيرا منهم. فكم من الناس يتورعون عن السرقة و القتل و نحو ذينك، و إن عرضت عليهم المكافاة المادية الكبيرة، و ما ذلك إلاّ لانتفاء الحوافز إلى هذه الأفاعيل، في قرارة أنفسهم، إمّا نتيجة للتقوى أو غيرها من العوامل. و تصديق العصمة النسبية الملموسة لنا، يقرّب تصوّر العصمة المطلقة إلى الأذهان، و التي هي كون الإنسان في مرتبة شديدة من التقوى تمنعه عن اقتراف جميع أنواع القبائح، طرّا.

الوجه الثاني: العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

إنّ العلم القطعي بعواقب الأعمال الخطيرة، يخلق في نفس الإنسان وازعا قويا يصدّه عن ارتكابها، و أمثاله في الحياة كثيرة. فلو وقف أحدنا على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها أن تقتل من يمسّها عارية من دون عائق، فإنّه يحجم من تلقاء نفسه عن مسّ تلك الأسلاك و الاقتراب منها. و نظير ذلك، الطبيب العارف بعواقب الأمراض و آثار الجراثيم، فإنّه إذا صادف ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص، أو إناء شرب منه مصاب بالسّلّ ، لا يقدم على الاغتسال فيه أو شربه، مهما اشتدت حاجته إليه، لعلمه بما يجرّ عليه الشرب و الاغتسال بذاك الماء الموبوء، من الأمراض، و قس على ذلك سائر العواقب

ص: 159

الخطيرة، و إن كانت من قبيل السقوط في أعين الناس، و فقدان الكرامة و إراقة ماء الوجه بحيث لا ترغد الحياة معه.

فإذا كان العلم القطعي بالعواقب الدنيوية لبعض الأفعال يوجد تلك المصونية عن الارتكاب، في نفس العالم، فكيف بالعالم القطعي بالعواقب و الأخروية للمعاصي و رذائل الأفعال، علما لا يداخله ريب و لا يعتريه شك، علما تسقط دونه الحجب فيرى صاحبه رأي العين، و يلمس لمس الحسّ ، تبعات المعاصي و لوازمها و آثارها في النشأة الأخرى. ذاك العلم الذي قال تعالى فيه:

كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ (1) ، فمثل هذا العلم يخلق من صاحبه إنسانا مثاليا، لا يخالف قول ربّه قيد أنملة، و لا يتعدى الحدود التي رسمها له في حياته قدر شعرة، و لن تنتفي المعصية من حياته فحسب، بل إنّ مجرّد التفكير فيها، لن يجد سبيله إليه. و كأنّ الإمام عليا يصف هؤلاء في قوله: «هم و الجنّة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون»(2).

إنّ الإنسان إذا وصل إلى المقام الذي يرى فيه بالعيون البرزخية تبدّل الكنوز المكتنزة من الذهب و الفضة، إلى جمرات ملتهبة تكوى بها جباه الكانزين و جنوبهم و ظهورهم، يمتنع - شهد اللّه - عن كنزها. يقول سبحانه: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ ، هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (3).

إنّ قوله سبحانه: هٰذٰا مٰا كُنْتُمْ ، يعرب عن أنّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين و جنوبهم و ظهورهم ليست شيئا غير الذهب و الفضة، و إنّما هي تلك البيضاء و الصفراء التي تتجلى بوجودها الأخروي في تلك النشأة، فإنّ لها صورتان، صورة دنيوية معروفة، و صورة أخروية هي النيران المحماة.

ص: 160


1- سورة التكاثر: الآيتان 5 و 6.
2- نهج البلاغة، خطبة المتقين، الخطبة 193.
3- سورة التوبة: الآيتان 34 و 35.

فالإنسان العادي اللامس لهذه المعادن المكتنزة، لا يحسّ فيها بالحرارة، و لا يرى فيها الناس و اللهيب، لأنّه يفقد حين المسّ ، الحسّ المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة. و أمّا الإنسان الكامل، المالك لهذا الحسّ إلى جانب بقية حواسه العادية، فإنّه يدرك الوجه الآخر لهذه الفلزات، و يحسّ أيما إحساس بنارها و لهيبها، فلذلك هو يجتنبها كاجتنابه النيران الدنيوية، و لن يقدم أبدا على جمعها و تكديسها.

و هذا البيان الثاني الذي ذكرناه، يفيد أنّ للعلم مرحلة قوية، راسخة، تغلّب الإنسان على الشهوات و تصدّه عن فعل المعاصي و الآثام. و نجد هذا البيان في كلمات جمال الدين الفاضل مقداد بن عبد اللّه السيوري الحلّي في كتابه القيّم «اللّوامع الإلهية»، يقول: «العصمة ملكة نفسانية تمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه. و تتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي و مناقب الطاعات. لأنّ العفة متى حصلت في جوهر النفس و انضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء و في الطاعة من السعادة، صار ذلك العلم موجبا لرسوخها في النفس، فتصير ملكة»(1).

و ليس المدّعى أنّ كل علم بعواقب الأفعال يصد الإنسان عن ارتكابها، و أنّ العلم بمجرده يقوم مقام التكليف الإلهي، فإنّ ذلك باطل بلا ريب، لأنّا نرى الكثيرين من ذوي العلوم بمضرات المخدّرات و المسكرات و الأعمال الشنيعة لا يتورعون عن ارتكابها، استسهالا للذم في مقابل قضاء وطرهم منها. فلو كان العلم بعواقب المعاصي من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور و الإدراك، لتسرب إليه التخلّف، لكنّ سنخ العلم الذي يصيّر الإنسان معصوما، ليس من سنخ هذه العلوم و الإدراكات المتعارفة، بل علم خاص فوقها، ربما يعبر عنه بشهود العواقب و انكشافها كشفا تاما لا يبقى معه ريب.

و إن شئت تقريب ذلك أكثر، فلنفترض أنّ إنسانا يرى أمام ناظريه بركانا عظيما يقذف بكتل هائلة من الحميم الملتهب، و وقف على أنّ اقتراف عمل ما

ص: 161


1- اللوامع الإلهية، ص 170.

يوجب رميه في جوف هذا البركان الهائل ليبقى محبوسا في أحشائه مدة من الزمن يناله عذاب الحريق الرهيب و لا يموت. فهل يقدم إنسان يمتلك شيئا من العقل على اقتراف هذا العمل ؟.

يقول سبحانه: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * اِنْطَلِقُوا إِلىٰ مٰا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * اِنْطَلِقُوا إِلىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاٰثِ شُعَبٍ * لاٰ ظَلِيلٍ وَ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَللَّهَبِ * إِنَّهٰا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمٰالَتٌ صُفْرٌ (1).

و على ضوء هذا البيان، فشهود نتائج المعاصي و عواقبها، شهودا لا يبقي في النفس أيّ ريب و شك، يصدّ الإنسان عن اختيار ارتكابها، صدّا قاطعا، و مع ذلك لا يتنافى مع اختياره و لا يسلب حريته، كما سيوافيك.

الوجه الثالث: الاستشعار بعظمة الربّ و كماله و جماله

و إنّ هنا بيانا ثالثا للعصمة لا يخالف البيانين السالفين و لبّ هذا البيان يرجع إلى أنّ استشعار عظمة الخالق و التفاني في معرفته، و حبّه و عشقه، صادّ عن سلوك ما يخالف رضاه، و هذه الدرجة من الحبّ و العشق، أحد عوامل حصول تلك المرتبة من التقوى المتقدمة، و هي لا تحصل إلاّ للكاملين في المعرفة الإلهية.

إنّ الإنسان إذا عرف خالقه كمال المعرفة الميسورة، و استغرق في شهود كماله و جماله و جلاله، وجد في نفسه انجذابا نحوه، و تعلّقا خاصا به، على نحو لا يستبدل برضاه شيئا. و يدفعه شوق المحبة إلى أن لا يبتغي سواه، و يصبح كل ما يخالف أمره و رضاه منفورا لديه، مقبوحا في نظره أشدّ القبح، و تلك هي درجة العصمة الكاملة، و لا ينالها إلاّ الأوحديّ من الناس.

و إلى هذا يشير الإمام عليّ عليه السلام بقوله: «ما عبدتك خوفا من نارك، و لا طمعا في جنتك، إنّما وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك»(2).

ص: 162


1- سورة المرسلات: الآيات 28-33.
2- حديث معروف مروي عن الإمام عليه السلام.

هذه التحليلات و البيانات الثلاثة التي ذكرناها في حقيقة العصمة، نظرية واحدة، تعرب بمجموعها عن أنّ العصمة قوّة في النفس تعصم الإنسان عن مخالفة الرّب سبحانه و تعالى، و هي معجونة في ذات الإنسان الكامل و هويّته الخارجية.

نعم، كل ما ذكرناه يرجع إلى العصمة بأحد معانيها، و هو المصونية عن المعصية و التمرّد على أوامر المولى، و أمّا العصمة في مقام تلقّي الوحي أوّلا، و التّحفّظ عليه ثانيا، و إبلاغه إلى الناس ثالثا، و العصمة عن الخطأ في الأمور الفردية و الاجتماعية، فلا بدّ لها من عامل آخر، نتعرض له في الأبحاث الآتية، بإذنه تعالى.

المقام الثاني - مبدأ ظهور فكرة العصمة

إنّ الكتب الكلامية، قديمها و حديثها مشحونة بالبحث عن العصمة، فيقع السؤال في مبدأ ظهور هذه الفكرة بين المسلمين، و من يقف وراء طرحها في الأوساط الكلامية.

لا ريب في أنّ علماء اليهود ليسوا هم المبدعين لهذه الفكرة، لأنّهم يصفون أنبياءهم بأقبح الذنوب و أفظع المعاصي و هذا العهد القديم يسجّل لداود و سليمان و قبلهما يعقوب، ما يندى له الجبين و يخجل القلم عن نقله(1)، فكيف يمكن بعد هذا أن يكون أحبار اليهود المظهرين للإسلام، هم المبدعون لهذه الفكرة.

و لا شك أيضا في أنّ علماء النصارى ليسوا هم كذلك، فإنّهم و إن كانوا ينزهون المسيح عن كلّ عيب و شين، إلاّ أنّ ذلك ليس بملاك أنّه بشريّ أرسل لتعليم الإنسان و إرشاده، بل بما هو «إله متجسّد»، أو «ثالث ثلاثة».

و بعد هذا فاعلم، أنّ بعض المستشرقين من رماة القول على عواهنه، لمّا

ص: 163


1- سنتعرض لذلك مفصّلا عند البحث في الشاهد الرابع من شواهد إعجاز القرآن، و هو هيمنته على الكتب السماوية، من مباحث النبوة الخاصّة.

حار في تحديد زمن و مصدر نشوء فكرة عصمة الأنبياء في الإسلام، ذهب إلى أنّ هذه الفكرة مرجعها إلى تطور علم الكلام عند الشيعة، و أنّهم أوّل من تطرق إلى بحثها في العقائد. و مردّ ذلك - يضيف هذا المستشرق - إلى أنّ الشيعة لكي يثبتوا أحقيّة إمامة أئمّتهم و صحة دعوتهم في مقابل الخلفاء السنيين، أظهروا عصمة الرسل بوصفهم أئمة أو هداة(1).

هذا، و الحقّ أنّ العصمة بمفهومها العام قد وردت أوساط المسلمين من خلال الإمعان في الآية القرآنية التي يصف فيها اللّه تعالى ملائكته بقوله: عَلَيْهٰا مَلاٰئِكَةٌ غِلاٰظٌ شِدٰادٌ لاٰ يَعْصُونَ اَللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ (2). و لن يجد الإنسان كلمة أوضح في العصمة من قوله: لاٰ يَعْصُونَ اَللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ .

كما أنّ اللّه سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله: لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (3)، فإن هذا الوصف للقرآن عبارة أخرى عن المصونية من كل خطأ و تحريف.

بل إنّ اللّه سبحانه يصف منطق نبيه بالعصمة إذ يقول عزّ من قائل: وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (4).

و يقول: مٰا كَذَبَ اَلْفُؤٰادُ مٰا رَأىٰ (5). و يقول: مٰا زٰاغَ اَلْبَصَرُ وَ مٰا طَغىٰ (6).

فالعصمة بمفهومها الوسيع - مع قطع النظر عن موصوفها - مسألة ألفت القرآن الكريم نظر الناس إليها، فلا يحتاج معه علماء المسلمين إلى الأحبار و الرهبان أو إلى نضاجة علم الكلام في عصر الإمام الصادق عليه السلام، لينتقلوا إلى هذا الوصف.

ص: 164


1- عقيدة الشيعة، تأليف المستشرق رونالدسون، ص 328.
2- سورة التحريم: الآية 6.
3- سورة فصلت: الآية 42.
4- سورة النجم: الآيتان 3 و 4.
5- سورة النجم: الآية 11.
6- سورة النجم: الآية 17.

و أي عتب بعد هذا على الشيعة إذا اقتفوا في كلامهم أثر كتاب اللّه، فوصفوا رسل اللّه و أنبياءه بما وصفهم به ربّ الجلال و العزّة في كتابه.

و لا يمكن لأحد إنكار عناية الشيعة بتنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث و الجسمية، و أنبياءه عن وصمة الذّنب و الخلاف. بل إنّك لن تجد في الأمة الإسلامية طائفة تهتم بالتنزيه و التقديس مثل الشيعة، سواء فيما يرجع إلى الخالق عزّ و جل، أو أنبيائه عليهم الصلاة و السلام.

المقام الثالث: دليل لزوم عصمة الأنبياء عن الذّنوب
اشارة

اختلف المتكلمون في حدود عصمة الأنبياء على أقوال:

1 - قالت الأزارقة من الخوارج: يجوز على الأنبياء الكفر، أخذا بمبدئهم من أنّ كلّ ذنب كفر(1).

2 - قالت الحشوية: «يجوز ارتكاب الكبائر على الأنبياء قبل البعثة و بعدها». و تمسكوا في ذلك بأباطيل لا أصل لها(2).

3 - و المعتزلة، منهم من قال: «يجوز على الأنبياء الكبيرة قبل البعثة و لا يجوز بعدها»، و هو أبو علي الجبّائي. و منهم من قال: «إنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكبيرة، لا قبل البعثة و لا بعدها، و تجوز عليهم الصغيرة إذا لم تكن

ص: 165


1- المواقف، ص 359، و من عجيب النسب ما عزاه القاضي الإيجي إلى الشيعة من تجويزهم إظهار الكفر من الأنبياء تقية، ثم ردّه بأنّ ذلك يفضي إلى إخفاء الدعوة، إذ أولى الأوقات بالتقية وقت الدعوة، للضعف و كثرة المخالفين. و لكنها فرية باطلة، الشيعة منها براء، فإنّ ذلك لا يجوز عندهم على الأنبياء و لا الأئمة بل لا يجوّزونه لأعاظم الأمة من الفقهاء إذا كان في إظهار الكفر مظنة تزعزع عقائد الناس و تزلزلهم عن دينهم.
2- شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار، ص 573.

منفّرة، لأنّ قلّة الثواب(1) ممّا لا يقدح في صدق الرسل و لا في القبول منهم»، و هو القاضي عبد الجبار(2).

4 - و أمّا الأشاعرة، فقد قال القوشجي: «المذهب عند محققي الأشاعرة منع الكبائر و الصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقا، و الصغائر غير الخسيسة عمدا لا سهوا»(3).

و أما قبلها، فقد نقل القاضي الإيجي - و هو من الأشاعرة - أنّ الجمهور قال: «لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة»(4).

5 - و قالت الإمامية: «لا يجوز على الأنبياء صغيرة و لا كبيرة، لا قبل البعثة و لا بعدها»(5).

هذه هي عمدة الأقوال المطروحة في المسألة، و هناك أقوال أخر ضربنا عن نقلها صفحا. و الأولى لنا أن نتبع الدليل، و نميل معه كيفما يميل، و الأدلة العقلية تثبت القول الأخير، و إليك فيما يلي بيان أهمها.

ص: 166


1- لم يعلم كنه قوله «قلّة الثواب»، فإنّ ارتكاب الصغيرة موجب للبعد عن قرب الربّ ، و بالتالي فلا يخلو من العقاب المناسب، فكيف ينحصر أثره في قلّة الثواب. قال الشريف السيد المرتضى رحمه اللّه: «و اعلم أنّ الخلاف بيننا و بين المعتزلة في تجويزهم الصغائر على الأنبياء صلوات اللّه عليهم، يكاد يسقط عند التحقيق لأنّهم إنّما يجوّزون من الذنوب ما لا يستقرّ له استحقاق عقاب، و إنّما يكون حظّه تنقيص الثواب، على اختلافهم أيضا في ذلك، لأنّ أبا علي الجبائي يقول: إنّ الصغير يسقط عقابه بغير موازنة. فكأنّهم معترفون بأنّه لا يقع منهم ما يستحقون به الذمّ و العقاب. و هذه موافقة للشيعة في المعنى، لأنّ الشيعة إنّما تنفي عن الأنبياء عليهم السلام، جميع المعاصي، حيث كان كل شيء منها يستحق به فاعله الذمّ و العقاب.... فإذا كان استحقاق الذمّ و العقاب منفيا عن الأنبياء، وجب أن ينفى عنهم سائر الذنوب». (تنزيه الأنبياء، للشريف المرتضى، ص 2).
2- شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار، ص 573-575.
3- شرح التجريد للقوشجي، ص 464.
4- المواقف، صفحة 359.
5- كشف المراد، ص 217، طبعة صيدا. و المواقف، ص 359.
الدليل الأول - الوثوق فرع العصمة

إنّ ثقة الناس بالأنبياء، و بالتالي حصول الغرض من بعثتهم، إنّما هو رهن الاعتقاد بصحة مقالهم و سلامة أفعالهم، و هذا بدوره فرع كونهم معصومين عن الخلاف و العصيان في السرّ و العلن من غير فرق بين معصية و أخرى، و لا بين فترة من فترات حياتهم و أخرى.

و ذلك لأنّ المبعوث إليه إذا جوّز الكذب على النبي، أو جوّز المعصية على وجه الإطلاق، جوّز ذلك أيضا في أمره و نهيه و أفعاله التي أمره باتباعه فيها. و مع هذا الاحتمال لا ينقاد إلى امتثال أوامره، فلا يحصل الغرض من البعثة، لأنّه - بحكم عدم عصمته - يحتمل أن يكون كاذبا في أوامره و نواهيه، و أن يتقول على اللّه ما لم يأمر به. و مع هذا الاحتمال، لا يجد المبعوث إليه في قرارة نفسه حافزا إلى الامتثال.

و مثل قوله فعله، فإنّ الأمة مأمورة باتباع أفعاله، قال سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ (1). فإذا احتملنا كون عمله على خلاف رضاه سبحانه، فكيف نجد في أنفسنا الباعث على اتّباعه.

و بالجملة، بما أنّ النبيّ ، قوله و فعله، حجّتان، فيجب اتّباعه فيهما، و هذا لا يحصل إلاّ عند الوثوق بصحتهما، و مع عدم حصول هذا الوثوق تنتفي بواعث الاتّباع، فلا يحصل الغرض.

قال المحقق الطوسي في التجريد: «و يجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق، فيحصل الغرض»(2).

ثم إنّ هنا أسئلة حول هذا الدليل نطرحها، واحدا بعد الآخر:

* السؤال الأول - يمكن أن يقال: يكفي في الاعتماد على قول النبي، مصونيته عن معصية واحدة، هي الكذب، دون سائر المعاصي.

ص: 167


1- سورة آل عمران: الآية 31.
2- كشف المراد، ص 217، طبعة صيدا.

و الجواب: إنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا تصحّ أن تقع أساسا للتربية العامة، لما فيها من الاشكالات.

أمّا أولا - فلأنّ المصونية عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة، فإنّ تمّ وجودها أو وجود بعضها، حصلت المصونية عن المعاصي برمتها، و لا يعقل معها التفكيك بين الكذب و سائر المعاصي، بأن يجتنب الكذب طيلة حياته، بينما هو في الحين ذاته يسرح في سائر المعاصي و يمرح، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى اقترافها، تسوقه أيضا إلى اقتراف الكذب.

و أمّا ثانيا - فلأنّ التفكيك بينهما لو صحّ في عالم الثبوت، فلا يمكن إثباته في حقّ مدّعي النبوة بأن يثبت أنّه لا يكذب أبدا مع ركوبه سائر المعاصي، فمن أين يحصل للأمة العلم بأنّ مدّعي النبوة مع اقترافه لأنواع الفجور و المآثم لا يكذب أبدا، بل حتى لو صرّح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك، لم يذعن له أحد، لسريان الريب إلى نفس هذا التصريح.

* السؤال الثاني - إنّ أقصى ما يثبته هذا الدليل، هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في الظاهر و بين الناس، و هذا لا يخالف عصيانه في الخلوات، فإنّ ذاك القدر من النزاهة كاف في جلب الثقة.

و الجواب: إنّ نسبة هذا الأمر (ركوب المعاصي في السرّ دون العلن) إلى مدّعي النبوّة، يهدم الثقة به من أساسها إذ - حينذاك - ما الذي يمنعه من أن يكذب و لا يعلم كذبه، فإذا تطرّق هذا الاحتمال إلى جميع أقواله، انتفت الثقة فيه بالكليّة.

أضف إلى ذلك، أنّ من كانت هذه حاله، و إن أمكنه خداع الناس بتزيين الظاهر مدّة من الزمن، إلاّ أنّه لن يتمكن من البقاء على ذلك أبدا، بل لن ينقضي زمان إلاّ و ترتفع الأستار و تكشف البواطن، فتظهر سوأته و يبدو عيبه.

* السؤال الثالث - إنّ هذا الدليل لا يثبت أزيد من عصمة الأنبياء بعد البعثة لحصول الوثوق في تلك الفترة، و لا يثبت لزوم عصمتهم قبلها.

ص: 168

و الجواب من وجهين:

الأول: إنّ العصمة كما عرفت غصن من دوحة التقوى، و نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي، و استشعار عظمة الربّ . و هذه ليست وليدة ساعتها، فينقلب غير المعصوم معصوما بنزول جبرائيل عليه و إكسائه ثوب الرسالة، بل هي ملكة نفسانية لا تحصل إلاّ بعد رياضات و مجاهدات. فلا معنى حينئذ لجعل البعثة حدا في حياة النبي، لأنّا إذا قلنا بعصمته - و هي ملكة نفسانية - وجب أن تمتد جذورها إلى ما قبل البعثة بزمن مديد.

الثاني: لو كانت سيرة الداعي إلى اللّه، قبل بعثته مخالفة لما هو عليه بعدها، بأن يكون قبلها إنسانا سافلا مرتكبا لقبائح الأعمال، لا يحصل الوثوق بقوله و إن صار إنسانا مثاليا، بل يتسرب الريب إلى كل ما يتفوّه به من أمر و نهي و إرشاد، بحجة أنّه كان في طرف من حياته متهتكا، ملقيا جلباب الحياء، فكيف انقلب إلى رجل مثالي معصوم ؟!.

لا شك أنّ لكل صفحة من صفحات عمر الإنسان الداعي تأثيرا في جلب ثقة الناس و انقيادهم إليه، و لو كانت ملطخة بالسواد في بعضها، لما سكنت إليه النفوس. فتحقّق الغرض الكامل من البعثة رهن عصمته في جميع فترات عمره.

يقول السيد المرتضى - رحمه اللّه - في الإجابة عن هذا السؤال:

«إنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر و الكبائر في حال من الأحوال، و إن تاب منهما، و خرج من استحقاق العقاب به، لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك في حال من الأحوال، و لا على وجه من الوجوه. و لهذا لا يكون حال الواعظ لنا، الداعي إلى اللّه تعالى، و نحن نعرفه، مقارنا للكبائر، مرتكبا لعظيم الذنوب، و إن كان قد فارق جميع ذلك و تاب منه عندنا و في نفوسنا، كحال من لم نعهد منه إلاّ النزاهة و الطهارة. و معلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون النفور، و لهذا كثيرا ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة، بها، و إن وقعت التوبة منها، و يجعلون ذلك عيبا و نقصا و قادحا. و ليس إذا تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوة

ص: 169

و ناقصا عن رتبته في باب التنفير و لأجل ذلك وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير، لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير، و إن كان أحدهما أقوى من الآخر»(1).

الدليل الثاني - التربية رهن عمل المربي

إنّ الهدف العام الذي بعث لأجله الأنبياء، هو تزكية الناس و تربيتهم، يقول سبحانه حاكيا عن لسان إبراهيم عليه السلام: رَبَّنٰا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2).

و إنّ التربية عن طريق الوعظ و الإرشاد و إن كانت مؤثرة، إلاّ أن تأثير التربية بالعمل أشدّ و أعمق و آكد. و ذلك أنّ التطابق بين مرحلتي القول و الفعل هو العامل الرئيسي في إذعان الآخرين بأحقيّة تعاليم المصلح و المربّي. و لو كان هناك انفكاك بينهما لا نفض الناس من حوله، و فقدت دعوته أي أثر في القلوب.

و لأجل ذلك يقول سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ (3).

و لذاك أيضا، نرى في الحكم أنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه، زلّت موعظته عن القلوب، كما يزلّ المطر عن الصفا(4).

و هذا الأصل التربوي يجرنا إلى القول بأنّ التربية الكاملة المتوخاة من بعثة الأنبياء، و ترسخها في نفوس المتربين، لا تحصل إلاّ بمطابقة أعمالهم لأقوالهم.

ص: 170


1- تنزيه الأنبياء، ص 5.
2- سورة البقرة: الآية 129.
3- سورة الصف: الآيتان 2 و 3.
4- لاحظ أصول الكافي، ج 1، ص 44، باب استعمال العلم، الحديث 3.

قال القاضي عبد الجبار: «إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول ممن يخالف فعله قوله، سكونها إلى من كان منزها عن ذلك. فيجب أن لا يجوز في الأنبياء عليهم السلام، إلاّ ما نقوله من أنّهم منزهون عمّا يوجب العقاب و الاستخفاف و الخروج من ولاية اللّه تعالى إلى عداوته.

يبيّن ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر و المعاصي، بالمنع و الردع و التخويف، فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك، لأنّ المعلوم أنّ المقدم على شيء، لا يقبل منه منع الغير منه بالنهي و الزجر و النكير، و أنّ هذه الأحوال منه لا تؤثّر... و لو أنّ واعظا انتصب يخوف من المعاصي من يشاهده مقدما على مثلها، لاستخفّ به و بوعظه»(1).

و قال في موضع آخر: «إنّ الواعظ و المذكّر، و إنّ غلب على ظننا من حاله أنّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة و الندامة، حتى عرفنا من حاله الانهماك في الشرب و الفجور من قبل، لم يؤثّر وعظه عندنا، كتأثير المستمر على النظافة و النزاهة في سائر أحواله»(2).

و هذا كما يوجب العصمة بعد البعثة، يقتضيها قبلها أيضا، لأنّ لسوابق الأشخاص، و صحائف أعمالهم الماضية تأثيرا في قبول الناس كلامهم و إرشاداتهم و هداياتهم(3).

ثم إنّ هنا سؤالان مهمّان يطرحان حول العصمة، نفردهما بالذكر، و نجيب عليهما قبل أن ننتقل إلى بيان العصمة عن المعصية و المخالفة المولوية، في الذكر الحكيم.

ص: 171


1- المغنى، ج 15، ص 303.
2- المصدر نفسه، ص 305.
3- و قد أقام المتكلمون، على عصمة الأنبياء، دلائل كثيرة، فذكر المحقق الطوسي ثلاثة، و أضاف إليها القوشجي دليلين آخرين، و ذكر الإيجي تسعة أدلّة. غير أنّ بعض ما ذكروه ليس دليلا عامّا لجميع الأحوال و الفترات، بل يختص بعصر النبوة. و من أرادها فليلاحظ المواضع التالية: كشف المراد، ص 217. شرح التجريد للقوشجي، ص 464. المواقف، ص 359-360.
سؤالان هامّان
السؤال الأول: هل العصمة تسلب الاختيار؟
اشارة

ربما يتوهّم أنّ العصمة تسلب من المعصوم الحرية و الاختيار، و تقهره على ترك المعصية، لتكون النتيجة انتفاء كلّ مكرمة و محمدة ربما تنسب إليه لاجتنابه المعاصي و المآثم. و قد أشير في أمالي السيد المرتضى إلى ما ذكرنا، عند إيراد السؤال التالي:

«ما حقيقة العصمة التي يعتقد وجوبها للأنبياء و الأئمة، و هل هي معنى يضطرّ معه إلى الطاعة، و يمنع عن المعصية، فكيف يجوز الحمد لتارك المعصية، و الذمّ لفاعلها. و إن كان معنى يضاهي الاختيار، فاذكروه و دلّوا على صحّة مطابقته له»(1).

جوابه

إنّ العصمة لا تسلب الاختيار عن المعصوم بأيّ من التحاليل التي مضت، و يتّضح ذلك بالنظر في العصمة النسبية المتحققة في العاديين من الناس، فقد تقدم أنّ العالم بوجود الطاقة الكهربائية في الأسلاك العارية، لا يمسّها، و الطبيب لا يشرب سؤر المجذومين و المسلولين، لعلمهما بعواقب فعلهما. و مع ذلك، فكل منهما - في حال اجتنابه عن الفعل - قادر على الفعل لو غضّ طرفه عن حياته و خاطر بها، و لكنهما لا يقومان به لحبّ كلّ منهما صحته و سلامته.

إنّ كلّ واحد من العملين المزبورين ممكن الصدور بالذات منهما، غير أنّه ممتنع الصدور بالعرض و العادة، لا ذاتا و عقلا، و كم فرق بين المحالين. ففي المحال العادي يكون الصدور من الفاعل ممكنا بالذات، غير أنّه يرجّح أحد الطرفين على الآخر بالدواعي الموجودة في ذهنه، بخلاف الثاني، فإنّ أصل الفعل ممتنع بذاته، فلا يصدر لذلك، لا لعدم الدواعي. و هذا نظير صدور القبيح من

ص: 172


1- أمالي السيد المرتضى، ج 2، ص 347.

اللّه سبحانه، فإنّه ممكن بالذات، فيقع تحت إطار قدرته، فبإمكانه تعالى إخلاد المطيع في نار جهنم، لكنه لا يصدر منه، لكونه مخالفا للحكمة، و مبائنا لما وعد به.

و على ذلك فامتناع صدور الفعل من الإنسان، حفظا للأغراض و الغايات، لا يكون دليلا على سلب الاختيار و القدرة.

و هكذا، فالنبي المعصوم قادر على اقتراف المعاصي، بمقتضى ما أعطي من القدرة و الحرية، غير أنّ تقواه العالية و علمه بآثار المعاصي، و استشعاره عظمة الخالق، يصدّه عن ذلك، فهو كالوالد العطوف الذي لا يقدم على ذبح ولده و لو أعطي ملء الأرض ذهبا، و إن كان مع ذلك قادرا على قطع وتينه، كما يقطع و تين عدوه.

يقول العلامة الطباطبائي: إنّ ملكة العصمة لا تغيّر الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية، و لا تخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار. كيف، و العلم من مبادي الاختيار، و مجرّد قوة العلم لا يوجب إلاّ قوة الإرادة. كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سمّا قاتلا من حينه، فإنّه يمتنع باختياره من شربه، و يشهد على ذلك قوله سبحانه: وَ اِجْتَبَيْنٰاهُمْ وَ هَدَيْنٰاهُمْ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذٰلِكَ هُدَى اَللّٰهِ ، يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ ، وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (1)، و الضمير في وَ اِجْتَبَيْنٰاهُمْ يرجع إلى الأنبياء. و في الوقت نفسه تفيد الآية أنّ في إمكانهم أن يشركوا باللّه، غير أنّ الاجتباء و الهداية الإلهية، يمنعان من ذلك.

و مثله قوله سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ ، وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكٰافِرِينَ (2).

ص: 173


1- سورة الأنعام: الآيتان 87-88.
2- سورة المائدة: الآية 67.

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في قدرة الأنبياء على المخالفة»(1).

السؤال الثاني - العصمة موهبة فلا تكون مفخرة
اشارة

الظاهر من كلمات المتكلمين أنّ العصمة موهبة إلهية يتفضل بها سبحانه على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم و قابليات مصححة لإفاضتها عليهم.

قال الشيخ المفيد: «العصمة تفضّل من اللّه على من علم أنّه يتمسّك بعصمته»(2).

و قال السيد المرتضى: «العصمة لطف اللّه الذي يفعله تعالى، فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل القبيح»(3).

و في الآيات القرآنية تلميحات و إشارات إلى ذلك، مثل:

قوله سبحانه: وَ اُذْكُرْ عِبٰادَنٰا إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصٰارِ * إِنّٰا أَخْلَصْنٰاهُمْ بِخٰالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّٰارِ * وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ * وَ اُذْكُرْ إِسْمٰاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيٰارِ (4).

و قوله سبحانه: وَ لَقَدِ اِخْتَرْنٰاهُمْ عَلىٰ عِلْمٍ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ ، وَ آتَيْنٰاهُمْ مِنَ اَلْآيٰاتِ مٰا فِيهِ بَلٰؤُا مُبِينٌ (5) و الضمير يرجع إلى أنبياء بني إسرائيل.

فإنّ قوله إِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ ، و قوله: وَ لَقَدِ اِخْتَرْنٰاهُمْ عَلىٰ عِلْمٍ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ ، يدلاّن على أنّ النبوة و العصمة و إعطاء الآيات

ص: 174


1- لاحظ الميزان، ج 11، ص 179.
2- تصحيح الاعتقاد، ص 61.
3- أمالي المرتضى، ج 1، ص 148.
4- سورة ص: الآيات 45-48.
5- سورة الدخان: الآيتان 32 و 33.

لأصحابها، من مواهب اللّه سبحانه للأنبياء و من يقوم مقامهم من الأوصياء.

و إذا كانت موهبة منه، فلا تعدّ كمالا و مفخرة للمعصوم، فتعود كصفاء اللؤلؤ، لا يستحق اللؤلؤ عليه حمدا و تحسينا، لأنّ الحمد و الثناء إنما يصحّان للفعل الاختياري، لا لما هو خارج عن الاختيار، و الفرض أنّ المعصوم و غيره في هذا المجال سواء، لأنّ ذاك الكمال لو أفيض على فرد آخر غيره لكان مثله.

جوابه

إنّ العصمة الإلهية لا تفاض على المعصوم إلاّ بعد وجود أرضيات صالحة في نفسه، تقتضي إفاضة تلك الموهبة إليه، و أمّا ما هي تلك الأرضيات، و القابليات، فخارج عن موضوع البحث، غير أنّا نشير إليها إجمالا.

إنّ القابليات التي تسوغ نزول الموهبة الإلهية على قسمين:

قسم خارج عن اختيار المعصوم، و قسم واقع في إطار إرادته و اختياره.

أمّا الأول - فهو عبارة عمّا ينتقل إلى النبي من آبائه و أجداده عن طريق الوراثة، فإنّ في ناموس الطبيعة و الخلقة أنّ الأبناء يرثون ما في الآباء من الصفات الظاهرية و الباطنية، فالشجاع يلد شجاعا، و الجبان جبانا.

و إضافة إلى ذلك، فإنّ هناك عاملا آخر لتكوّن تلك القابليات في النفوس هو عامل التربية، و الأنبياء يتلقون الكمالات الموجودة في بيوتاتهم في ظل هذين العاملين، فيكوّن ذلك في أنفسهم الأرضية الصالحة لإفاضة المواهب عليهم، و منها العصمة و النبوة.

و أمّا الثاني - فهو عبارة عن المجاهدات الفردية و الاجتماعية التي يقوم بها رجالات الوحي من أوائل شبابهم إلى أواخر كهولتهم، من العبادة و الرياضات النفسية إلى مقارعة الطغاة و الظالمين(1).

ص: 175


1- أنظر إلى ما قام به إبراهيم على صغر سنه، و يوسف في بيت من تملكه، و موسى في مصر الفراعنة، و المسيح في بني إسرائيل، و النبي الأكرم (ص) في عامة فترات حياته.

فهذه العوامل الداخل بعضها في الاختيار، و الخارج بعضها الآخر عنه، أوجدت مجتمعة في الأنبياء القابلية لإفاضة وصف العصمة عليهم، فتكون العصمة عند ذاك مفخرة للمعصوم، يستحق عليها التحسين و التبجيل.

يقول العلامة الطباطبائي: «إنّ اللّه سبحانه خلق بعض عباده على استقامة الفطرة و اعتدال الخلقة، فنشئوا من بادئ الأمر بأذهان وقّادة، و إدراكات صحيحة، و نفوس طاهرة، و قلوب سليمة، فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة و سلامة النفس، من نعمة الإخلاص، ما ناله غيرهم بالاجتهاد و الكسب، بل أعلى و أرقى، لطهارة داخلهم من التلوّث بأوساخ الموانع و المزاحمات. و الظاهر أنّ هؤلاء هم المخلصون (بالفتح) للّه في مصطلح القرآن.

و قد نصّ القرآن على أنّ اللّه اجتباهم أي خلقهم، قال تعالى:

وَ اِجْتَبَيْنٰاهُمْ وَ هَدَيْنٰاهُمْ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1) ، و قال: هُوَ اِجْتَبٰاكُمْ وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2)»(3).

و ما جاء في كلامه يشير إلى القابليات الخارجة عن الاختيار، و لكنك عرفت أنّ هناك مقدمات واقعة في اختيارهم فإذا انضمت تلك إلى هذه، تتحقق الصلاحية المقتضية لإفاضة الموهبة الإلهية.

إجابة أخرى عن السؤال

و هناك إجابة أخرى و هي أنّ اللّه سبحانه وقف على ضمائرهم و نيّاتهم، و مستقبل أمرهم، و مصير حالهم، و علم أنّهم ذوات مقدسة لو أفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة و ترك المعصية بحرية و اختيار. و هذا العلم كاف في تصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم من نعومة أظفارهم إلى أن أدرجوا في أكفانهم، بخلاف من يعلم من حاله خلاف ذلك.

ص: 176


1- سورة الأنعام: الآية 87.
2- سورة الحج: الآية 78.
3- الميزان، ج 11، ص 177.

و هذا الجواب يستفاد من كلمات الشيخ المفيد و السيد المرتضى.

قال الشيخ المفيد: «العصمة تفضّل من اللّه تعالى على من علم أنّه يتمسّك بعصمته»(1).

و قال السيد المرتضى: «كلّ من علم اللّه تعالى أنّ له لطفا يختار عنده الامتناع من القبائح، فإنّه لا بدّ أن يفعل به، و إن لم يكن نبيا و لا إماما، لأنّ التكليف يقتضي فعل اللّطف على ما دلّ عليه في مواضع كثيرة، غير أنّه لا يمتنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئا متى فعل اختار عنده الامتناع من القبيح، فيكون هذا المكلّف لا عصمة له في المعلوم و لا لطف. و تكليف من لا لطف له يحسن و لا يقبح، و إنّما القبيح منع اللطف فيمن له لطف، مع ثبوت التكليف»(2).

و حاصل ما أفاد هو أنّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل، فكل من علم سبحانه أنّه لو أفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الامتناع من القبائح، فعندئذ تفاض عليه العصمة و إن لم يكن نبيا و لا إماما و أمّا من علم أنّه متى أفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الامتناع عن القبيح، فلا يفيضها عليه لعدم استحقاقه لها.

و على ضوء ذلك فوصف العصمة موهبة إلهية تفاض على من يعلم من حاله أنّه باختياره ينتفع منها في ترك القبائح، فيعدّ مفخرة قابلة للتحسين و التكريم، و قد شبّه الشيخ المفيد العصمة بالحبل الذي يعطى للغريق ليتشبث به فيسلم، فالغريق مختار في التقاط الحبل و النجاة، أو عدمه و الغرق(3).

و يترتب على ما ذكره السيد عدم انحصار العصمة بالنبي و الوحي المنصوص عليه، بل تشمل كلّ من علم اللّه سبحانه أنّه ينتفع منها في طريق كسب رضاه.

ص: 177


1- شرح عقائد الصدوق، ص 61.
2- أمالي المرتضى، ج 2، ص 348، طبعة إحياء دار الكتب العربية.
3- لاحظ أوائل المقالات، ص 11.
العصمة في الكتاب العزيز

يصف الذكر الحكيم الأنبياء بالعصمة بلطائف البيان و دقائقه، مما يحتاج في الوقوف عليه إلى التدبّر بإمعان، و لأجل إيقاف الباحث على نماذج من هذه التوصيفات مع مراعاة ما يقتضيه المقام، نكتفي بالبحث عن آيتين منها(1).

الآية الأولى: قال عزّ و جل: وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنٰا وَ نُوحاً هَدَيْنٰا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ * وَ زَكَرِيّٰا وَ يَحْيىٰ وَ عِيسىٰ وَ إِلْيٰاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ * وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنٰا عَلَى اَلْعٰالَمِينَ * وَ مِنْ آبٰائِهِمْ وَ ذُرِّيّٰاتِهِمْ وَ إِخْوٰانِهِمْ وَ اِجْتَبَيْنٰاهُمْ وَ هَدَيْنٰاهُمْ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذٰلِكَ هُدَى اَللّٰهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ ... أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّٰهُ فَبِهُدٰاهُمُ اِقْتَدِهْ قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرىٰ لِلْعٰالَمِينَ (2).

وجه الدلالة

إنّ الآية الأخيرة تصف الأنبياء بأنّهم مهديّون بهداية اللّه سبحانه، على وجه يجعلهم القدوة و الأسوة، هذا من جانب.

و من جانب آخر، نرى أنّه سبحانه يصرّح بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا مضلّ له، يقول تعالى: وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ هٰادٍ، وَ مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ .... (3).

و في آية أخرى يصرّح بأنّ حقيقة العصيان، الضلالة و الانحراف عن الجادة الوسطى، يقول عزّ من قائل: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰا بَنِي آدَمَ أَنْ لاٰ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطٰانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ

ص: 178


1- راجع في الوقوف على سائر الآيات و دلالتها، مفاهيم القرآن، ج 4 ص 423-431.
2- سورة الأنعام: الآيات 84-90.
3- سورة الزمر: الآيتان 36 و 37.

كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (1) .

و بملاحظة هذه الطوائف الثلاث من الآيات، تستنتج العصمة بوضوح، و ذلك كما يلي:

إنّ اللّفيف الأول من الآيات يصف الأنبياء بأنّهم القدوة و الأسوة، و المهديّون من الأمة.

و اللّفيف الثاني يصرّح بأنّ من شملته العناية الإلهية لا ضلالة و لا مضلّ له.

و اللّفيف الثالث يصرّح بأنّ العصيان نفس الضلالة، حيث قال:

وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ . و ما كانت ضلالتهم إلاّ لأجل عصيانهم و مخالفتهم لأوامره تعالى، و نواهيه.

فإذا كان الأنبياء مهديون بهداية اللّه، و من هداه اللّه لا تتطرّق إليه الضلالة، و كانت المعصية نفس الضلالة، فينتج أنّ المعصية لا سبيل لها إلى الأنبياء.

و إن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه الآيات في قالب الشكل المنطقي فقل:

* النبي قد شملته الهداية الإلهية.

* و من شملته الهداية الإلهية، لا تتطرق إليه الضلالة.

* فينتج: النبي لا تتطرق إليه الضلالة.

و بما أنّ الضلالة و المعصية متساويان، فيصحّ أن يقال في النتيجة: إنّ النبي لا تتطرق إليه المعصية.

الآية الثانية - قال عزّ و جل: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولٰئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدٰاءِ وَ اَلصّٰالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولٰئِكَ

ص: 179


1- سورة يس: الآيات 60-62.

رَفِيقاً (1) .

ففي هذه الآية المباركة يعدّ اللّه تعالى الأنبياء من الذين أنعم عليهم، هذا من جانب.

و من جانب آخر يصف سبحانه من أنعم عليهم بأنّهم غير مغضوب عليهم و لا ضالّين، في قوله: صِرٰاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضّٰالِّينَ (2).

فيستنتج من ضمّ هاتين الآيتين إلى بعضهما، عصمة الأنبياء بوضوح، لأنّ العاصي يشمله غضب الربّ ، و يكون ضالاّ بقدر عصيانه. فإذا كان الأنبياء ممن أنعم اللّه عليهم، و الذين أنعم اللّه عليهم لا يشملهم غضب الربّ (غير المغضوب عليهم الخ)، فيكون الأنبياء منزّهين عن المعصية، و بريئين عن المخالفة.

و إن شئت إفراغ الاستدلال في قالب الشكل المنطقي، فقل:

* إنّ الأنبياء، قد أنعم اللّه عليهم.

* و كل من أنعم اللّه عليه، فهو غير مغضوب عليه و لا ضالّ .

* فينتج: إنّ الأنبياء غير مغضوب عليهم و لا ضالين.

و لما كان العصيان يلازم الغضب و الضلال بمقداره، فمن كان بعيدا عن جلب غضب الربّ إليه، و الضلالة، يكون بريئا عن المعصية.

و ستعرف فيما يأتي أنّ جميع الأمة ليسوا شهداء، و إنّما عبّر بالجمع و أريد منه لفيف من الأمة قد دلّ الدليل على عصمتهم.

و أمّا استلزام هذا الاستدلال، عصمة غير الأنبياء و الشهداء من الصديقين و الصالحين، فلا إشكال فيه كما عرفت عند نقل كلام السيد المرتضى فيما تقدم.

ص: 180


1- سورة النساء: الآية 69.
2- سورة الحمد: الآية 7.

و نظن أنّ الآيتين كافيتين في إذعان الباحث بعصمة الأنبياء من جهة النقل أيضا(1).

نعم، إنّ هناك لفيفا من الآيات ربما يستظهر منه عدم عصمة الأنبياء على الإطلاق أولا، و عدم عصمة عدّة منهم ك «آدم» و «يونس» ثانيا. غير أنّ دراسة هذه الأصناف من الآيات خروج عن طور البحث، فإنّها أبحاث قرآنية تطلب من مظانّها(2).

و إلى هنا يتمّ البحث في المرحلة الأولى من مراحل العصمة، أعني العصمة عن المعصية و المخالفة المولوية، و يقع الكلام بعدها في المرحلة الثانية، و هي العصمة في مقام تبليغ الرسالة.

ص: 181


1- و من أراد البسط فليرجع إلى المصدر الذي أشرنا إليه.
2- قد بحث الأستاذ - أطال اللّه بقاءه - عن مجموع هذه الآيات في موسوعته القرآنية «مفاهيم القرآن»، ج 4، ص 431-450 و ج 5، ص 19-134 فلاحظ.

ص: 182

المرتبة الثانية للعصمة عصمة النبي في تبليغ الرسالة
اشارة

ذهب جمهور المتكلمين من السنّة و الشيعة إلى عصمة الأنبياء في هذه المرحلة، و نسب إلى أبي بكر الباقلاني (المتوفى سنة 403) تجويز الخطأ في إبلاغ الرسالة سهوا و نسيانا، لا عمدا و قصدا.

قال صاحب المواقف: «أجمع أهل الملل و الشرائع على عصمتهم عن تعمّد الكذب فيما دلّت المعجزة على صدقهم فيه، كدعوى الرسالة و ما يبلغونه عن اللّه.

و في جواز صدوره عنهم على سبيل السهو و النسيان خلاف، فمنعه الأستاذ و كثير من الأئمة، لدلالة المعجزة على صدقهم، و جوّزه القاضي مصيرا منه إلى عدم دخوله في التصديق المقصود بالمعجزة»(1).

هذا رأي الأشاعرة، و أمّا المعتزلة فإليك رأيهم بلسان القاضي عبد الجبّار، قال:

«إنّا لا نجوز عليه (النبي) السهو و الغلط فيما يؤدّيه عن اللّه تعالى، و إنّما نجوّز عليه أن يسهو في فعل قد بيّنه من قبل، و أدّى ما يلزم فيه حتى لم يغاير منه شيئا. فإذا فعله مرة لمصالحه، لم يمتنع أن يقع فيه السهو و الغلط. و لذلك لم يشتبه على أحد الحال في أنّ الذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو، و كذلك ما وقع

ص: 183


1- المواقف، ص 358.

منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك»(1).

أقول: نظر القاضي في الاستثناء هو أنّ النبي لا يسهو في التبليغ، و لكن يعرض له السهو في عالم التطبيق. و قد نسبوا إليه السهو في الصلاة حيث سلّم في الركعة الثانية، فاعترض عليه ذو اليدين: «أقصرت الصلاة أم نسيت»، و سيوافيك الحال في هذا الاستثناء عند البحث في المرحلة الثالثة.

ثم إنّا نقول: إنّ العصمة في مرحلة تبليغ الرسالة على وجهين:

أ - العصمة عن الكذب، و هو داخل في العصمة عن المعصية، التي تقدم البرهان عليها.

ب - العصمة عن الخطأ سهوا في تلقّي الوحي و تحمّله (وعيه) و أدائه، و هذا هو الذي نركز البحث عليه.

إنّ الدليل الأول، أعني كون حصول الوثوق مرهونا بالعصمة، كما يثبت عصمة الأنبياء عن المعصية، فكذلك يثبت عصمتهم في هذا المجال. و لأجل ذلك اكتفى به المحقق الطوسي في إثبات العصمة على الإطلاق، إن في مقام الفعل و العمل، أو في مقام التبليغ و الرسالة.

توضيح ذلك: إنّ الهدف الاسمي من بعث الأنبياء، هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية التي ترشدهم إلى طريق السعادة، و لا تحصل هذه الغاية إلاّ بإيمان الناس بصدق المبعوثين و إذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه و أنّ كلامهم و أقوالهم، كلامه و قوله سبحانه. و هذا الإذعان لا يحصل إلاّ بعد إذعان آخر، و هو اعتقاد مصونيتهم عن الخطأ في المراحل الثلاث من مراحل تبليغ الرسالة، أعني: التلقّي، و التحمّل، و الأداء.

القرآن و عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة

إنّ في الذكر الحكيم آيات تدلّ على مصونية النبي الأعظم في مجال تبليغ

ص: 184


1- المغنى، ج 1، ص 281.

الرسالة بجوانبها المختلفة، من تلقي الوحي فوعاه و حفظه، إلى إبلاغه.

* الآية الأولى: قوله تعالى: كٰانَ اَلنّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً فَبَعَثَ اَللّٰهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ، وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّٰاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ ، وَ اَللّٰهُ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1).

إنّ هذه الآية تصرّح بأنّ من أهداف بعثة الأنبياء، القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه. و ليس المراد من القضاء إلاّ القضاء بالحق، و هو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير و لا تحريف.

ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمن من الناس إلى الحق بإذنه، كما هو صريح قوله: فَهَدَى اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ . و الهادي و إن كان هو اللّه سبحانه في الحقيقة، لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي بوساطته. و تحقق الهداية منه، فرع كونه واقفا على الحق بكماله و تمامه. من دون تحريف و لا زيادة أو نقصان. و كل ذلك يستلزم عصمة النبي في تلقّي الوحي و تحمله و إبلاغه إلى الناس.

و الحاصل أنّ الآية تدلّ على أنّ النبي يقضي بالحق أوّلا، و يهدي المؤمنين إليه ثانيا. و هذا يستلزم كونه واقفا على الحق على ما هو عليه، و مبلّغا له على نحو ما تلقّاه و وعاه.

* الآية الثانية: قوله تعالى: وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (2).

فالآية تصرّح بأنّ النبي لا يتكلم بداعي الهوى، و المراد منه إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجالات الحياة على اختلافها، كما هو مقتضى إطلاقها، أو

ص: 185


1- سورة البقرة: الآية 213.
2- سورة النجم: الآيتان 3 و 4.

خصوص ما يحكيه عن اللّه سبحانه. و على كلا التقديرين فهي تدلّ على صيانته و عصمته في مجال تبليغ الرسالة: تلقّي الوحي و وعيه و إبلاغه.

* الآية الثالثة - قال تعالى: عٰالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاٰ يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّٰ مَنِ اِرْتَضىٰ مِنْ رَسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسٰالاٰتِ رَبِّهِمْ وَ أَحٰاطَ بِمٰا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً (1).

و موضع الدلالة من الآية:

أ - قوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ .

ب - قوله: مِنْ خَلْفِهِ .

ج - قوله: أَحٰاطَ بِمٰا لَدَيْهِمْ .

فبالإمعان في هذه النقاط الثلاث، يظهر أنّ مشيئة اللّه تعالى الحكيمة، تعلّقت على حفظ الوحي من لدن أخذه إلى زمن تبليغه، و إليك توضيح الدلالة بتوضيح مفردات الآية.

1 - قوله: فَلاٰ يُظْهِرُ . الإظهار من باب الإفعال بمعنى الإعلان، كما في قوله سبحانه: وَ أَظْهَرَهُ اَللّٰهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ... (2).

2 - لفظ «من» في قوله: مِنْ رَسُولٍ ، بيانية. تبيّن المرضيّ عند اللّه. فالرسول هو الذي ارتضاه اللّه تعالى و اختاره ليعرّفه على الغيب.

3 - الضمير في قوله: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ ، يرجع إلى اللّه تعالى. كما أنّ الضمير المستتر في قوله: يَسْلُكُ ، يرجع إليه سبحانه أيضا. و «يسلك» بمعنى يجعل.

ص: 186


1- سورة الجن: الآيات 26-28.
2- سورة التحريم: الآية 3.

4 - الضمير في قوله: بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ، يرجع إلى الرسول، و المراد من الأول ما بينه و بين الناس، و هم المرسل إليهم، فإنّ النبي يواجه الناس، و هم في مواجهته و بين يديه، كما أنّ المراد من الثاني، ما بين الرسول و مصدر الوحي الذي هو اللّه سبحانه. و إنّما عبّر بالخلف، لأنّ النبي بعث من اللّه إلى الناس، فاللّه خلفه و الناس أمامه بهذا الاعتبار.

5 - قوله: رَصَداً الرصد هو الحارس الحافظ، يطلق على الجمع و المفرد.

و التدبّر في مفاد الآية يثبت بأنّ الوحي مصون و محفوظ من لدن إفاضته من اللّه سبحانه، إلى وصوله إلى الناس، فإنّها تعتبر الوحي فيضا متصلا من المرسل (بالكسر) إلى المرسل إليهم.

إنّ الآية تصف طريق بلوغ الوحي إلى الرسل، و منهم إلى الناس، بأنّه محروس بالحفظة يمنعون تطرق أي خلل و انحراف فيه، حتى يبلغ الناس كما أنزل من اللّه تعالى. و يعلم هذا بوضوح مما تذكره الآية من أنّ اللّه سبحانه يجعل بين الرسول و من أرسل إليهم (من بين يده) و بينه و مصدر الوحي (و من خلفه)، رصدا مراقبين، هم الملائكة. و ليس الهدف من جعلهم في هذه المواضع إلاّ الحفاظ على الوحي من كل تخليط و تشويش، بالزيادة و النقصان، التي ربما يقع النبي فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة، أو معها. فإذا كان الوحي بهذه المثابة من الحراسة و المصونية في كلا المرحلتين، أعني المتقدمة - و هي من حين الإفاضة من المرسل إلى حين البلوغ إلى النبي - و المتأخرة - و هي إبلاغه إلى الناس - كان كذلك فيما بينهما، أعني مرحلة الحفظ و الوعي، فالنبي فيها مصون عن النسيان أو تدخل الواهمة لتغييره و تبديله. و لو لا ذاك لما كان لحفظ الوحي بين يديه أيّ معنى.

ثم إنّه سبحانه يؤكّد ذلك بجملتين أخريين:

الأولى، قوله: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسٰالاٰتِ رَبِّهِمْ ، فإنّها علّة لجعل الرصد بين يدي الرسول و خلفه. و المراد من العلم، التحقق الخارجي، على حدّ قوله سبحانه:... فَلَيَعْلَمَنَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكٰاذِبِينَ (1)، أي ليتحقق إبلاغ رسالات اللّه على ما هي عليه من غير تبديل و لا تغيير، و هو - أي تحقق الإبلاغ على ما هو عليه - يتوقف على جعل الرصد و الحفظة عليه في المراحل الثلاث جميعها: الأخذ و الوعي و الإبلاغ.

ص: 187

الأولى، قوله: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسٰالاٰتِ رَبِّهِمْ ، فإنّها علّة لجعل الرصد بين يدي الرسول و خلفه. و المراد من العلم، التحقق الخارجي، على حدّ قوله سبحانه:... فَلَيَعْلَمَنَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكٰاذِبِينَ (1)، أي ليتحقق إبلاغ رسالات اللّه على ما هي عليه من غير تبديل و لا تغيير، و هو - أي تحقق الإبلاغ على ما هو عليه - يتوقف على جعل الرصد و الحفظة عليه في المراحل الثلاث جميعها: الأخذ و الوعي و الإبلاغ.

و الثانية، قوله: وَ أَحٰاطَ بِمٰا لَدَيْهِمْ . فإنّها أيضا جملة مؤكدة لجعل الحراسة، و معناها أنّه سبحانه يحيط بما لدى الأنبياء من الوحي، فيكون في أمان من تطرّق التحريف.

و أمّا قوله: وَ أَحْصىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً ، فمسوق لإفادة عموم علمه بكلّ شيء، من غير فرق بين الوحي الملقى إلى الرسول و غيره.

و خلاصة الكلام: إنّ الوحي كالماء الصافي الزلال، المنحدر من معينه، ينزل من مصدره و هو خزائن علم اللّه تعالى، إلى النبي، و منه إلى الناس، من دون أن يتطرق إليه التحريف و التبديل من جانب الشياطين أو القوى النفسانية في النبي، بل يصل كما صدر بلا أدنى تغيير.

قال العلامة الطباطبائي، بعد بحثه في مفردات الآية على غرار ما ذكرناه:

«إنّ الرسول مؤيّد بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه، و في حفظه، و في تبليغه إلى الناس، مصون من الخطأ في الجهات الثلاث جميعا. لما مرّ من دلالة الآية على أنّ ما نزّل اللّه من دينه على الناس من طريق الوحي، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس. و من مراحله، مرحلة أخذ الوحي و حفظه و تبليغه، و التبليغ يعمّ القول و الفعل، فإنّ في الفعل تبليغا، كما في القول. فالرسول معصوم عن المعصية باقتراف المحرمات و ترك الواجبات الدينية، لأنّ في ذلك تبليغا لما يناقض الدين. فهو معصوم من فعل المعصية، كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي و حفظه و تبليغه قولا»(2).

و في ضوء هذه الآية الكريمة يمكن القول بأنّ مصونية الأنبياء عن الخطأ

ص: 188


1- سورة العنكبوت: الآية 3.
2- الميزان في تفسير القرآن، ج 20، ص 133.

و الاشتباه فيما يرجع إلى الرسالة و الوحي، لا يرجع إلى ذواتهم و كيانات وجودهم، بل إلى عامل أو عوامل، خارجة عن ذواتهم، كالملائكة الرّصّد، الحافظين لهم من كل خطأ و زلّة، و الآخذين بأيديهم في مظانّ مزالق الألسن و الأيدي و الأقدام و سائر الجوارح.

ص: 189

ص: 190

المرتبة الثالثة للعصمة العصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة و الأمور العادية
اشارة

إنّ صيانة النبي عن الخطأ و الاشتباه في مجال تطبيق الشريعة و الأمور العادية الفردية المرتبطة بحياته الشخصية، ممّا طرح في علم الكلام، و طال البحث فيه بين المتكلمين. و الخطأ في تطبيق الشريعة، مثل أن يسهو في صلاته، أو يغلط في إجراء الحدود. و الخطأ في الأمور العادية مثل خطئه في مقدار دينه للناس، كما لو اقترض دينارا و ظنّ أنّه ديناران أو نصف دينار.

و الحقّ في هذه المسألة واضح غايته، ذلك أنّ الدليل العقلي الدالّ على لزوم عصمة النبي في مجال تلقّي الوحي و تحمّله و أدائه إلى الناس، دالّ - بعينه - على عصمته عن الخطأ في تطبيق الشريعة و أموره الفردية، حرفا بحرف. و لكن زيادة في البيان، نقول:

إنّ الغاية المتوخاة من بعث الأنبياء هي هداية الناس إلى السعادة. و لا تحصل هذه الغاية إلاّ بكسب اعتمادهم و ثقتهم المطلقة بصحة ما يقوله الأنبياء و يحكونه عن اللّه تعالى. و لكن ما قولك فيما لو شاهد الناس نبيّهم يسهو في تطبيق الشريعة التي أمرهم بها، أو يغلط في أموره الفردية و الاجتماعية ؟. هل من ريب في أنّ الشّكّ سيجد طريقا رحبة للتسرب إلى أذهان الناس في ما يدخل في مجال الوحي و الرسالة ؟ بل لن يبقى شيء ممّا جاء به هذا النبي إلاّ و تطرقه علامات الاستفهام، و لسان حال الناس يقول: «هل ما يحكيه عن اللّه تعالى من

ص: 191

الوظائف، هي وظائف إلهية حقّا؟ أمّ أنّها مزيج من الأخطاء و الاشتباهات ؟ و بأي دليل هو لا يخطئ في مجال الوحي، إن كان يخطئ و يسهو في المجالين الآخرين ؟». و هذا الحديث النفسي و الشعور الداخلي، إذا تعمّق في أذهان الناس، سوف يسلب اعتمادهم على النبي، و تنتفي بالتالي النتيجة المطلوبة من بعثه.

نعم إنّ التفكيك بين صيانة النبي في مجال الوحي، و صيانته في سائر المجالات، و إن كان أمرا ممكنا عقلا، لكنه كذلك بالنسبة إلى عقول الناضجين في الأبحاث الكلامية، و أمّا عامة الناس و رعاعهم الذين يشكّلون أغلبية المجتمع، فإنّهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلا على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الأخرى.

فلا بدّ - لسدّ هذا الباب الذي ينافي الغاية المطلوبة من إرسال الرسل - من أن يكون النبي مصونا عن الخطأ في عامة المراحل، سواء في حقل الوحي أم تطبيق الشريعة أم في الأمور الفردية و الاجتماعية. و هذا الذي ذكرناه مقتضى الدليل العقلي القائم في المقام. و القرآن الكريم يدعم ذلك ببيان خاص، نورده فيما يلي.

القرآن و عصمة النبي عن الخطأ

تستفاد عصمة الأنبياء عن الخطأ في مجال تطبيق الشريعة و الأمور الفردية من عدة من الآيات نكتفي في المقام بالبحث في آيتين منها. و لأجل توضيح دلالتهما، نذكر كلا منها، مع ما يرتبط بها من الآيات.

الآية الأولى - قال سبحانه: إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اَللّٰهُ وَ لاٰ تَكُنْ لِلْخٰائِنِينَ خَصِيماً (1).

و قال سبحانه أيضا: وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ

ص: 192


1- سورة النساء: الآية 105.

يُضِلُّوكَ ، وَ مٰا يُضِلُّونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ ، وَ مٰا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ ، وَ أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ، وَ كٰانَ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (1) .

الاستدلال بهاتين الآيتين و إن كان لا يتوقف على معرفة أسباب نزولهما، إلاّ أنّ الإحاطة بأسباب النزول توجب ظهورهما في مفادهما.

إنّ مجموع ما ورد حول هاتين الآيتين و غيرهما، من أسباب النزول، متفق على أنّها نزلت في شكوى رفعت إلى النبيّ صلى اللّه عليه و آله، و كان كلّ من المتخاصمين يسعى ليبرئ نفسه و يلقي التهمة على الآخر. لكن كان إلى جانب أحدهما رجل طليق اللّسان حاول أن يخدع النبي الأكرم بإثارة عواطفه على المتهم البريء، ليقضي على خلاف الحق، فعند ذلك نزلت الآيات و رفعت النّقاب عن وجه الحقيقة، و عرف المحقّ من المبطل(2).

و الدقة في فقرات الآية الثانية، يوقفنا على مدى صيانة النبي الأكرم و عصمته عن السهو و الخطأ، فإنّها مؤلفة من فقرات أربع كلّ منها يشير إلى أمر خاص.

1 - وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ مٰا يُضِلُّونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ وَ مٰا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ .

2 - وَ أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ .

3 - وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ .

4 - وَ كٰانَ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً .

و إليك فيما يلي بيان ما تهدف إليه هذه الآيات و كيفية استنتاج العصمة منها.

الفقرة الأولى تدلّ على أنّ نفس النبي بمجرّدها لا تصونه من الضلال، أي من القضاء على خلاف الحق، و إنّما الصائن له هو اللّه سبحانه، فلو لا فضل اللّه

ص: 193


1- سورة النساء: الآية 113.
2- راجع في الوقوف على مجموع ما نقل من أسباب النزول، تفسير الطبري، ج 5، ص 169.

و رحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن فعل ذلك، و أبطل أمرهم الذي كان سيؤدّي إلى إضلاله.

و بما أنّ رعاية اللّه سبحانه و فضله الجسيم على النبي ليسا مقصورين على حال دون حال، أو وقت دون آخر، بل هو مشمول لهما و محاط بهما في جميع لحظات حياته، فلن يصيبه من إضلالهم شيء، و إنّما يضرّون بذلك أنفسهم، كما قال عزّ و جلّ : وَ مٰا يُضِلُّونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ وَ مٰا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ .

و الفقرة الثانية تشير إلى مصادر حكمه و مدارك قضائه، و أنّه لا يصدر في هذا المجال إلاّ عن التعليم الإلهي.

و لما كان هذا النوع من العلم الكلّي أحد ركني القضاء، و هو لوحده لا يفي بالقضاء بالحق، و إنّما يتمّ القضاء بالحق بتمييز الصغريات، و هو تشخيص المحقّ من المبطل، و الخائن من الأمين، و الزاني من العفيف، أتى بالفقرة الثالثة، فقال: وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ . و مقتضى العطف، مغايرة المعطوف (و علّمك..) للمعطوف عليه (و أنزل..) فإذا كان المعطوف عليه ناظرا إلى تمكّنه من الركن الأول - و هو العلم بالاحكام الكليّة الواردة في الكتاب و السنّة - يكون المعطوف ناظرا إلى الركن الثاني للقضاء الصحيح و هو العلم بالموضوعات و الجزئيات.

فالعلم بالحكم الشرعي أولا، و تشخيص الصغريات و تمييز الموضوعات ثانيا، جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق، من دون أن يجنح إلى جانب الباطل أو يسقط في هوّة الضلال. و الفقرة الأولى تشير إلى الجانب الأول، و الثانية إلى الثاني.

و مجمل ما تقدم أنّ الآية الأولى تدلّ على أنّ الهدف من إنزال الكتاب، القضاء بين الناس بما أراه اللّه سبحانه، و لا يمكن أن يكون ما أراه سبحانه أمرا خاطئا، بل هو صواب على الإطلاق، هذا من جانب.

و من جانب آخر إنّ القضاء بالحق - الذي هو الغاية المتوخاة من إنزال

ص: 194

الكتاب - تتوقف على العلم بالكبريات و الصغريات، و هو ما أشارت إلى تحققه في النبي، الفقرتان الثانية و الثالثة من الآية الثانية.

قال العلامة الطباطبائي: «المراد من قوله سبحانه: وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ، ليس علمه بالكتاب و الحكمة، فإنّ مورد الآية قضاء النبي في الحوادث الواقعة، و الدعاوى المرفوعة إليه، برأيه الخاص، و ليس ذلك من الكتاب و الحكمة بشيء، و إن كان متوقفا عليهما، بل المراد رأيه و نظره الخاص»(1).

فينتج كلّ ذلك أنّ النبي - لأجل عميم فضله سبحانه - مصون في مقام القضاء عن الخطأ و السهو.

و لما كان هنا موضع توهّم و هو أنّ رعاية اللّه لنبيّه تختصّ بمورد دون مورد، دفع ذلك التوهّم بالفقرة الرابعة و قال: وَ كٰانَ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أخرى، بل مقتضى عظمة الفضل سعة شموله لكل الوقائع و الحوادث، سواء أ كانت من باب المرافعات أم من الأمور العادية الشخصية.

و لا كلام أعلى و أغزر عاطفة من قوله سبحانه في حق حبيبه: وَ كٰانَ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً .

الآية الثانية - قال سبحانه: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.. (2).

إنّ الشهادة الواردة في الآية، من الحقائق القرآنية التي تكرر ورودها في الذكر الحكيم.

قال تعالى: فَكَيْفَ إِذٰا جِئْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنٰا بِكَ عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ شَهِيداً (3).

ص: 195


1- الميزان، ج 5، ص 81.
2- سورة البقرة: الآية 143.
3- سورة النساء: الآية 41.

و قال تعالى: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاٰ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لاٰ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (1).

و قال تعالى: وَ وُضِعَ اَلْكِتٰابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدٰاءِ ... (2).

و هذه الشهادة يتحملها الشهداء في الدنيا و يؤدّونها في الآخرة، و يدلّ على ذلك:

قوله سبحانه: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مٰا دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمّٰا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (3).

و قوله سبحانه: وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (4).

فمجموع هذه الآيات يدلّ على أنّ في كلّ أمّة شهداء على أعمالها، و أنّ الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله على رأسهم، هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ الشهادة هنا ليست على صور الأعمال و الأفعال، فإنّها غير كافية في القضاء الأخروي، بل المشهود عليه هو حقائق أعمال الأمة: الإيمان و الكفر و النفاق، و الرياء و الإخلاص... و من المعلوم أنّ هذه المشهودات لا يمكن تشخيصها و الشهادة عليها عن طريق الحواس الخمس، لأنّها لا يمكنها أن تستكشف حقائق الأعمال، و ما يستنبطه الإنسان. فيجب أن يكون الأنبياء مجهزين بحسّ خاص يقدرون معه على الشهادة على ما لا يدرك بالبصر و لا بسائر الحواس، و هذا هو الذي نسميه بحبل العصمة، و كلّ ذلك بأمر من اللّه سبحانه و إذنه، و المجهّز بهذا الحسّ لا يخطئ و لا يسهو.

و إن شئت قلت: إنّ الشهادة هنا، لو كانت خاطئة، للزم عقاب المطيع أو إثابة المجرم، و هو قبيح عقلا، لا سيما الأول، فيجب أن تكون شهادة الشاهد

ص: 196


1- سورة النحل: الآية 84.
2- سورة الزمر: الآية 69.
3- سورة المائدة: الآية 117.
4- سورة النساء: الآية 159.

مصونة عن الخطأ و الاشتباه حتى تكون منزهة عمّا يترتب عليهما من القبيح.

و هذه الآيات، و إن كانت لا تثبت إلاّ مصونيّته فيما يرتبط بالشهادة، و لكن التفصيل غير موجود في كلمات القوم.

تبيّن إلى هنا أنّ الأنبياء - بحكم العقل و الكتاب - مصونون عن الخطأ، و الزلل في تطبيق الشريعة أوّلا، و جميع أمورهم الفردية و الاجتماعية ثانيا.

أدلة المجوزين للخطإ على الأنبياء

جوّز جماعة من المتكلمين الخطأ و الاشتباه على الأنبياء، و استندوا في ذلك إلى آيات، غفلوا عن أهدافها. و نحن نذكرها على وجه نميط الستر عنها.

1 - قال سبحانه: وَ إِذٰا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيٰاتِنٰا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّٰى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَ إِمّٰا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطٰانُ فَلاٰ تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرىٰ مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ (1).

فقد استدلّ بها المخطئة بأنّ الخطاب للنبي صلى اللّه عليه و آله، فالنتيجة أنّ النبي ربما يطرأ عليه النسيان، و هو لا يجتمع مع المصونية من الخطأ.

إلاّ أنّهم غفلوا عن أنّ وزان الآية وزان كثير من الآيات الأخر التي يخاطب فيها النبي و لكن يكون المقصود من الخطاب أبناء الأمة.

و من هذا القبيل، قوله سبحانه: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ (2). فإنّ هذه الآية - و نظائرها - تركّز على الجانب التربوي من الشريعة، و الغاية منها تعريف الناس بوظيفتهم و تكليفهم تجاه الباري سبحانه، ببيان أنّ نبي الأمة إذا كان محكوما بهذه

ص: 197


1- سورة الأنعام: الآية 68.
2- سورة الزمر: الآية 65.

التكاليف و مخاطبا بها، فغيره أولى بأن يكون محكوما بها. و هذه الآيات تجري مجرى قول القائل: «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة».

فالمراد من الآية المستدلّ بها هو حثّ المؤمنين على اجتناب الحضور في المجالس التي يخاض فيها في آيات اللّه سبحانه. فالنهي عن الخوض تكليف عام يشترك فيه النبي و غيره، و كون الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الأمة.

و يدلّ على ذلك قوله سبحانه في سورة النساء: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتٰابِ أَنْ إِذٰا سَمِعْتُمْ آيٰاتِ اَللّٰهِ يُكْفَرُ بِهٰا، وَ يُسْتَهْزَأُ بِهٰا فَلاٰ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّٰى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ، إِنَّ اَللّٰهَ جٰامِعُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (1).

فإنّ هذه الآية مدنية، و الآية المستدلّ بها مكية، و إذا قورنت إحداهما بالأخرى يستنتج منه أنّ الحكم النازل سابقا متوجه إلى المؤمنين، و أنّ الخطاب فيه و إن كان للنبي، إلاّ أنّ المقصود إنشاء حكم كلّيّ شامل لجميع المكلّفين من غير فرق بين النبي و غيره. و مع ما ذكرناه، لا يكون في الآية دلالة على تحقق النسيان من النبي، لأنّها إنّما تدلّ لو كان الخطاب مختصا بالنبي لا يتعداه.

2 - قال سبحانه: وَ لاٰ تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فٰاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذٰا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هٰذٰا رَشَداً (2).

المراد من النسيان الاستثناء، و هو قول «إلاّ أن يشاء اللّه». و الآية استدلالا و جوابا - كسابقتها.

3 - قال سبحانه: سَنُقْرِئُكَ فَلاٰ تَنْسىٰ * إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ وَ مٰا يَخْفىٰ (3).

و معنى الآية: إنّا سنجعلك قارئا بإلهامك القراءة، فلا تنسى ما تقرؤه.

ص: 198


1- سورة النساء: الآية 140.
2- سورة الكهف: الآيتان 23 و 24.
3- سورة الأعلى: الآيتان 6 و 7.

استدلّت المخطئة بالاستثناء الوارد بعدها على إمكان النسيان، غير أنّهم غفلوا عن نكتة الاستثناء، و هي عين النكتة في الاستثناء الوارد في قوله تعالى:

وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (1) .

إنّ قوله سبحانه: عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ، يدلّ على أنّ الخلود في الجنة لا يقطع و لا يجزّ، بل هو عطاء موصول من الربّ ، ما دامت الجنة باقية، و مع ذلك استثنى سبحانه الخلود بقوله: إِلاّٰ مٰا شٰاءَ . و ليس ذلك لأنّ الخلود يقطع، بل للإشارة إلى أنّ قدرة اللّه سبحانه بعد إدخالهم الجنة باقية بعد، فاللّه سبحانه - مع كونهم مخلّدين في الجنة - قادر على إخراجهم منها.

و على ما ذكرنا يعلم وجه الاستثناء في الآية التي وقعت مورد الاستدلال، فإنّه يفيد بقاء القدرة الإلهية على إطلاقها، و أنّ عطية اللّه (جعل النبي قارئا لا ينسى) لا تسلب القدرة عن اللّه سبحانه على إنسائه، بل هو عليه قادر متى شاء، و إن كان لا يشاء ذلك.

و بدراسة هذه الآيات التي قدمناها، تقف على تحليل كثير من الآيات التي نسب فيها النسيان إلى غير النبي الأعظم من الأنبياء، مثل قوله سبحانه:

أ - وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (2).

ب - فَلَمّٰا بَلَغٰا مَجْمَعَ بَيْنِهِمٰا نَسِيٰا حُوتَهُمٰا... (3) الوارد في موسى و فتاه.

ج -... لاٰ تُؤٰاخِذْنِي بِمٰا نَسِيتُ ... (4) و هو قول موسى للخضر.

و غير ذلك من الآيات(5).

ص: 199


1- سورة هود: الآية 108.
2- سورة طه: الآية 115.
3- سورة الكهف: الآية 61.
4- سورة الكهف: الآية 73.
5- قد أجمل الأستاذ - دام ظلّه - الكلام هنا في هذه الآيات، فنحن نستدرك البحث فيها بما يرفع الستار عن وجهها، و نجعله في ملحق خاص آخر الكتاب.
الرأي السائد بين المتكلمين حول سهو النبي

الظاهر من المتكلمين الأشاعرة و المعتزلة، تجويزهم السهو على الأنبياء إجمالا، إمّا في مقام إبلاغ الدين، كالباقلاني(1)، و إمّا في غيره كما عليه غيره.

قال الإيجي في المواقف.

«أمّا الكبائر عمدا، فمنعه الجمهور، و الأكثر على امتناعه سمعا. و قالت المعتزلة - بناء على أصولهم - يمتنع ذلك عقلا. و أمّا سهوا فجوزه الأكثرون.

و أمّا الصغائر عمدا، فجوّزه الجمهور إلاّ الجبّائي. و أمّا سهوا فهو جائز اتّفاقا، إلاّ الصغائر الخسية، كسرقة حبة أو لقمة»(2).

و جوّز القاضي عبد الجبار صدور الصغائر منهم عمدا، قال في شرح الأصول الخمسة: «و أمّا الصغائر التي لا حظّ لها إلاّ في تقليل الثواب دون التنفير، فإنّها مجوّزة على الأنبياء و لا مانع يمنع منها»(3).

فإذا كانت الكبائر من الذنوب جائزة عليهم سهوا عند الأكثر، أو كان صدور الصغائر منها جائزا عليهم سهوا بالاتفاق، بل عمدا عند القاضي عبد الجبار كما تقدم في كلامه، فمن الأولى أن يجوزوا عليهم السهو في غير الذنوب، أعني في مجال تطبيق الشريعة أو أعمالهم الفردية و الاجتماعية، كيف لا و قد روى الجمهور في الصحاح و المسانيد وقوع السهو من النبي، كما يجيء بيانه و نقاشه.

و أمّا الإمامية، فالمحققون منهم متفقون على نفي السهو عن الأنبياء مطلقا حتى في تطبيق الشريعة كالصلاة، و إليك فيما يلي نقل نصوصهم في هذا الشأن.

ص: 200


1- قد مرّ نصّ كلام صاحب المواقف في هذا المجال عند البحث في المرحلة الثانية من مراحل العصمة، و هي عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة، فلاحظ.
2- المواقف، ص 359.
3- شرح الأصول الخمسة، ص 575.

قال الشيخ المفيد(1) في رسالته التي يرد فيها على من ذهب إلى تجويز السهو على النبي و الأئمة في العبادة ما هذا لفظه:

«الحديث الذي روته الناصبة و المقلّدة من الشيعة أنّ النبي سها في صلاته فسلّم ركعتين ناسيا، فلما نبّه على سهوه أضاف إليهما ركعتين ثم سجد سجدتي السهو، من أخبار الآحاد التي لا تثمر علما و لا توجب عملا»(2).

و قال الشيخ الطوسي(3) بعد ما روى حديث أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ما سجد سجدتي السهو قطّ، قال بأنّ الذي يفتي به هو ما تضمنه هذا الخبر، لا الأخبار التي قدّم ذكرها و فيها أنّ النبي سها فسجد(4).

و قال المحقق(5) في المختصر النافع: «و الحقّ رفع منصب الإمامة عن السهو في العبادة»(6) و رفع منصب الإمامة عنه السهو يقتضي رفع منصب النبوة عنه.

و قال المحقق الطوسي(7) في التجريد: «و يجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض.. و (يجب) كمال العقل، و الذكاء و الفطنة، و قوّة لرأي، و عدم السهو»(8).

و قال العلامة(9) في التذكرة ما هذا لفظه: «و خبر ذي اليدين عندنا باطل، لأنّ النبي المعصوم لا يجوز عليه السهو»(10).

ص: 201


1- هو الشيخ محمد بن محمد بن النعمان البغدادي، ت 338 - م 413.
2- التنبيه بالمعلوم من البرهان، تأليف الشيخ الحرّ العاملي، ص 7.
3- محمد بن الحسن الطوسي، ت 385 - م 460.
4- التهذيب، ج 2، ص 351.
5- أبو القاسم جعفر بن الحسن الحلي، ت 602 - م 676.
6- المختصر النافع، ص 45.
7- نصير الدين محمد بن محمد الحسن الطوسي، ت 597 - م 672.
8- شرح التجريد، ص 195.
9- الحسن بن يوسف الحلي، ت 648 - م 726.
10- تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 130، في مسألة وجوب ترك الكلام بحرفين فصاعدا مما ليس بقرآن و لا دعاء.

و قال أيضا في الرسالة السّعديّة: «لو جاز عليه السهو و الخطأ، لجاز ذلك في جميع أقواله و أفعاله، فلم يبق وثوق بإخباراته عن اللّه تعالى، و لا بالشرائع و الأديان، لجواز أن يزيد فيها و ينقص، فتنتفي فائدة البعثة، و من المعلوم بالضرورة أنّ وصف النبي بالعصمة أكمل و أحسن من وصفه بضدها، فيجب المصير إليه، لما فيه من دفع الضرر المظنون بل المعلوم»(1).

و قال الشهيد الأول(2) في الذكرى، بعد ذكره خبر ذي اليدين: «و هو متروك بين الإمامية لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي عن السهو»(3).

و قال الفاضل المقداد(4): «لا يجوز على النبي صلى اللّه عليه و آله السهو مطلقا، أي في الشرع و غيره. أمّا في الشرع، فلجواز أنّ لا يؤدّي جميع ما أمر به، فلا يحصل المقصود من البعثة. و أمّا في غيره، فإنّه ينفّر»(5).

و قال الشيخ بهاء الدين العاملي(6) - عند ما سأله سائل عن قول ابن بابويه إنّ النبي قد سها -: «بل ابن بابويه قد سها، فإنّه أولى بالسهو من النبي»(7).

و قد ألّف غير واحد من الأصحاب كتبا و رسائل في نفي السهو عن النبي منها: رسالة الشيخ المفيد(8)، و رسالة إسحاق بن الحسن الأقرائي(9)، و رسالة الحر العاملي(10) المسمّاة ب «التنبيه بالمعلوم من البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو و النسيان». و قد فصل العلامة المجلسي (م 1111) في البحار، الكلام في

ص: 202


1- الرسالة السّعديّة، ص 76، طبعة النجف.
2- محمد بن مكي العاملي، ت 734 - م 786.
3- الذكرى، ص 134.
4- أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه الأسدي السيوري الحلي، م 826.
5- إرشاد الطالبين، ص 305.
6- محمد بن الحسين بهاء الدين العاملي، ت 953 - م 1030.
7- التنبيه على المعلوم من البرهان، ص 13.
8- أدرجها العلاّمة المجلسي في البحار، لاحظ ج 17، ص 122-129.
9- رجال النجاشي، رقم الترجمة 178.
10- محمد بن الحسن الحرّ العاملي، المحدث المعروف، م 1104.

المسألة، و اطنب في بيان شذوذ تلك الأخبار التي استند إليها القائلون بالسهو(1)و ناقشها بأدلّة متعددة السيد عبد اللّه شبّر (ت 1188 - م 1242) في كتابيه:

حقّ اليقين(2) و مصابيح الأنوار(3).

نعم هناك من الإمامية من جوّز السهو على النبي، و إليك نصوصهم:

1 - قال محمد بن الحسن بن الوليد(4): «أوّل درجة في الغلو، نفي السهو عن النبي صلى اللّه عليه و آله، فلو جاز أن تردّ الأخبار الواردة في هذا المعنى، لجاز أن تردّ جميع الأخبار، و في ردّها إبطال الدين و الشريعة، و أنّا أحتسب الأجر في تأليف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي و الرّدّ على منكريه إن شاء اللّه تعالى»(5).

2 - قال الصدوق(6): «إنّ الغلاة و المفوضة - لعنهم اللّه - ينكرون سهو النبي، و يقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة، لجاز أن يسهو في التبليغ، لأنّ الصلاة عليه، فريضة، كما أنّ التبليغ عليه فريضة».

ثم ردّ عليه بأنّ سهو النبي ليس كسهونا، لأنّ سهوه من اللّه عز و جل، و إنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق، فلا يتّخذ ربّا معبودا دونه. و ليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا. و سهونا من الشيطان، و ليس للشيطان على النبي صلى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السلام سلطان، إِنَّمٰا سُلْطٰانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (7) و(8).

3 - و قال الطبرسي(9) في تفسير قوله سبحانه: وَ إِمّٰا يُنْسِيَنَّكَ

ص: 203


1- البحار، ج 17، الباب 16، ص 97-129.
2- حق اليقين، ج 1، ص 124-129.
3- مصابيح الأنوار، ج 2، ص 133.
4- محمد بن الحسن بن الوليد القمي، من مشايخ الصدوق، متوفى عام 343.
5- من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 360.
6- محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، ت 306 - م 381.
7- سورة النحل: الآية 100.
8- من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 360.
9- الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، ت 470 - م 538.

اَلشَّيْطٰانُ .. : «نقل عن الجبّائي أنّه قال: في هذه الآية دلالة على بطلان قول الإمامية في أنّ النسيان لا يجوز على الأنبياء».

ثم أجاب عليه بقوله: «و هذا القول غير صحيح، لأنّ الإمامية لا يجوزون السهو عليهم فيما يؤدّونه عن اللّه، فأمّا ما سواه، فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل»(1).

إلى هنا وقفت على أنّ المشهور بين علماء الإمامية هو القول الأول دون الثاني الذي هجر بعد الطبرسي، و لم ينبث به أحد، إلاّ بعض المشايخ المعاصرين(2)، فعمد إلى جمع الروايات الدالّة على طروء السهو و النسيان على النبي و الأئمة.

و لعلّه جامع غير معتقد به.

و القضاء بين القولين يتوقف على نقل بعض ما أثر من الروايات الدالّة على سهو النبي و مناقشتها:

1 - روى الشيخان (البخاري و مسلم) و أبو داود - و اللفظ للأخير - عن عمران بن حصين (رض): «إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كان في مسير له، فناموا عن صلاة الفجر، فاستيقظوا بحرّ الشمس، فقال عليه الصلاة و السلام:

تنحو عن هذا المكان ثم أمر بلالا فأذّن ثم توضئوا و صلّوا ركعتي الفجر(3). ثم أمر بلالا فأقام الصلاة، فصلّى بهم صلاة الصبح»(4).

و روى الشيخ الصدوق نحوه(5).

ص: 204


1- مجمع البيان، ج 7، ص 317.
2- و هو العلامة الشيخ محمد تقي التستري مؤلّف قاموس الرجال. و قد أدرج الرسالة في الجزء الحادي عشر من كتابه.
3- المراد نافلة فريضة الصبح.
4- التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، ج 1، ص 120.
5- من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 360، رقم الحديث المتسلسل 1031 و في السند «الرباطي». فإن كان المراد منه علي بن رباط البجلي الكوفي، لقرينة رواية الحسن بن محبوب عنه، فهو ثقة و الرواية معتبرة.

2 - روى الشيخان و غيرهما عن أبي هريرة قال: «صلّى لنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) صلاة الفجر، فسلّم في ركعتين. فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول اللّه أم نسيت ؟.

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): كلّ ذلك لم يكن.

فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول اللّه!.

فأقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على الناس فقال: أصدق ذو اليدين ؟.

فقالوا: نعم، يا رسول اللّه.

فأتمّ رسول اللّه ما بقي من الصلاة، ثم سجد سجدتين و هو جالس بعد التسليم»(1).

و روى نحوه الكليني بسند معتبر(2).

و بعد تقديم هذين النموذجين من الروايات نقول: إنّ الحق هو نفي السهو عن النبي، و عدم الاعتداد بهذه الروايات لوجوه:

الوجه الأول - إنّ هذه الروايات معارضة لظاهر القرآن الدالّ على أنّ النبي مصون عن السهو، على ما عرفت.

الوجه الثاني - إنّ هذه الروايات معارضة لأحاديث كثيرة تدلّ على صيانة النبي عن السهو. و قد جمعها المحدث الحرّ العاملي في كتابه(3).

الوجه الثالث - إنّ ما روته الإمامية من أخبار السهو، أكثر أسانيده ضعيفة، و أمّا النقي منها فهو خبر واحد لا يصحّ الاعتماد عليه في باب

ص: 205


1- التاج، ج 1، ص 196، و لاحظ جامع الأصول، ج 6، ص 350، الرقم المتسلسل 3762.
2- الكافي، ج 3، ص 355، باب من تكلم في صلاته، الحديث الأول.
3- لاحظ التنبيه بالمعلوم من البرهان، ص 26-44.

الأصول(1)الوجه الرابع - إنّها معارضة للأدلّة العقلية التي تقدم ذكرها.

و أمّا ما رواه أصحاب الصحاح، فمع غضّ النظر عن أسناده، فإنّه مضطرب جدا في متونه، و ذلك:

1 - فقد روى البخاري: صلّى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) الظهر ركعتين فقيل صلّيت ركعتين. فصلّى ركعتين... الخ.

2 - و في رواية أخرى له: صلّى بنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) الظهر و العصر ركعتين، فسلّم. فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول اللّه، أنقصت ؟... الخ.

3 - و روى مسلم عن أبي هريرة، يقول: صلّى لنا النبي (صلى اللّه عليه و آله) صلاة العصر، فسلّم في ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول اللّه أم نسيت ؟. فقال: كل ذلك لم يكن... الخ.

4 - و في رواية أخرى له: إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) صلّى ركعتين من صلاة الظهر ثم سلّم، فأتاه رجل من بني سليم، فقال: يا رسول اللّه أقصرت الصلاة أم نسيت... الخ.

5 - و روى البخاري و أبو داود و مسلم عن عمران بن حصين أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) صلّى العصر و سلّم في ثلاث ركعات و دخل منزله فقام له رجل يقال له الخرباق و كان في يده طول... الخ.

6 - أخرج أبو داود، قال: صلّى بنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أحد صلاتي العشاء - الظهر أو العصر - قال فصلّى بنا ركعتين ثم سلّم، فقام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، إحداهما على الأخرى، يعرف في وجهه

ص: 206


1- و قد قام الشيخ الحرّ العاملي - قدّس سرّه - بتحقيق لمسانيد تلك الروايات و بيان ضعفها. لاحظ ص 64-66 من المصدر السابق نفسه.

الغضب، ثم خرج سرعان الناس و هم يقولون: قصرت الصلاة، قصرت الصلاة. و في الناس أبو بكر و عمر، فهابا أن يكلماه. و قام رجل كان رسول اللّه يسمّيه ذا اليدين، فقال: يا رسول اللّه، أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال: لم أنس و لم تقصر الصلاة. قال: بل نسيت يا رسول اللّه! فأقبل رسول اللّه على القوم فقال: أصدق ذو اليدين. فأومئوا: أي نعم. فرجع رسول اللّه إلى مقامه، فصلّى الركعتين الباقيتين ثم سلّم.. الخ.

7 - و أخرج البخاري و مسلم عن ابن مسعود قال: «صلّى النبي (صلى اللّه عليه و آله و سلم) فزاد أو نقص - شكّ بعض الرواة - و الصحيح أنّه زاد، فلما سلّم قيل له يا رسول اللّه، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: و ما ذاك ؟ قالوا:

فإنّك صلّيت خمسا. فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلّم».

و في أخرى لمسلم قال: «صلّى بنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) خمسا، فقلنا يا رسول اللّه، أزيد في الصلاة ؟ قال: و ما ذاك ؟ قالوا: صلّيت خمسا، فقال: إنّما أنا بشر مثلكم، أذكر كما تذكرون و أنسى كما تنسون.. الخ.

و روى الترمذي نحوها مع قوله: «صلى الظهر خمسا». و أخرجه أبو داود و الترمذي.

فيلاحظ فيما ذكرناه ما يلي:

أولا - اضطراب الروايات في تعيين الصلاة التي سها فيها رسول اللّه، فهي بين معيّنة للظهر (الرواية الأولى و الرابعة) أو معينة للعصر (الثالثة و الخامسة)، أو مردّدة بينهما (الثانية و السادسة).

و ثانيا - إنّ الرواية الخامسة تدلّ على نسيانه ركعة واحدة، بخلاف السابعة فتدلّ على زيادته ركعة، و بخلاف بقية الروايات فتدلّ على نسيانه ركعتين.

و ثالثا - قوله: «لم أنس و لم تقصر الصلاة»، في الرواية الخامسة. أو قوله في الثالثة: «كل ذلك لم يكن»، غير لائق بالرسول، لأنّه لو كان يجوز على نفسه السهو لما نفاه عن نفسه بنحو القطع، بل لقال: أظنّ أنّه لم يكن كذلك.

ص: 207

و رابعا - إنّ إنكاره قول ذي اليدين مستلزم لتجويز سهوين عليه، مكان تجويز سهو واحد، و هو أيضا عجيب في مورد واحد.

و خامسا - الظاهر أنّ سهو الرسول في الصلاة، واقعة واحدة، فاختلاف السهو بين الزيادة و النقصية، و اختلاف الاعتراض بين قولهم: «أقصرت الصلاة أم نسيت ؟»، و قولهم «أزيد في الصلاة ؟»، كما في رواية الترمذي من القسم السابع من الروايات، تناقض واضح.

و سادسا - اضطراب الروايات في بيان زمن التذكير، فإنّ في بعضها أنّه كان بعد الصلاة بلا فصل، و في أخرى بعد قيامه من الصلاة و استناده إلى خشبة في المسجد، و في ثالثة بعد دخوله حجرته. فما هذا التناقض مع كون الواقعة واحدة كما يظهر من مجموع ما تهدف إليه الروايات.

و سابعا - في ذيل الرواية الخامسة، أنّه بعد ما ذكر ذو اليدين صنيع رسول اللّه من السهو: فخرج غضبان يجرّ ردائه حتى انتهى إلى الناس فقال:

أصدق هذا، قالوا: نعم. فصلّى ركعة ثم سجد سجدتين.

ففي هذه الرواية ذكر الغضب بعد تنبيه ذي اليدين، بينما في الرواية التي أخرجها أبو داود أنّ الغضب كان متقدّما على تنبيهه.

و ثامنا - ما منشأ غضب رسول اللّه ؟ هل هو تنبيه ذي اليدين ؟! لا وجه له. مع أنّ الغضب لهذا الشأن لا يناسب قوله سبحانه في حقّ نبيه: وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (1).

و مجمل المقال إنّ هذه الروايات(2) مع ما فيها ممّا ذكرناه و لم نذكره، لا يصحّ أن تقع سنادا للعقيدة.

ص: 208


1- سورة القلم: الآية 4.
2- لاحظ مجموع ما نقلناه من مقاطع الروايات، جامع الأصول، ج 6، ص 346-357.

سمات الأنبياء

(2) التنزّه عن المنفّرات
اشارة

قد وقفت فيما تقدم على أنّ قيادة الناس و هدايتهم، من الأمور الصعبة التي تتطلب في المدير و القائد أن يتمتع بصفات عالية تسهّل توفيقه للغرض الذي بعث له، أو نهض لتحقيقه. و قد عرفت أنّ مسئولية هداية البشر في جميع النواحي ملقاة على عاتق الأنبياء، و أنّ العصمة - بمراتبها - إحدى الصفات اللازمة فيهم.

و هناك صفات أخرى يجب اتّصاف الأنبياء بها تحصيلا لغرضهم، التي لولاها لما وصلوا إليه. و يجمعها التنزّه عن كل ما يوجب تنفر الناس، و التحلّي بكلّ ما يوجب انجذابهم إليهم. و نحن نشير إلى بعض عناوين هذه الصفات مع تفسيرها إجمالا.

1 - التنزّه عن دناءة الآباء و عهر الأمهات

لا شكّ أنّ القائد إذا كان وليد بيت طيب طاهر، معروف بالعفاف و التّقى، فإنّ ذلك يكون له تأثيره الخاص في انسياق الناس و ميلهم إليه. بخلاف ما إذا كان وليد بيت صفر من القيم الأخلاقية سواء في جانب الآباء أو الأمهات، فإنّ أفئدة الناس تنفضّ من وليده بحجة أنّ الأبناء يرثون صفات الآباء و الأمهات.

ص: 209

2 - سلامة الخلقة

و من العوامل الباعثة على اجتماع الناس حول القائد، سلامته في بدنه من التشوّه، و من الأمراض التي يستوحش الناس معها من التعاطي مع المصاب بها، كالجذام و البرص.

3 - كمال الخلق

إنّ لحسن الخلق و كماله تأثيرا خاصا في جذب الناس، كما أنّ لقسوة القلب و فظاظة المعاملة تأثيرا في تنفير الناس، فلهذا يلزم أن يكون الأنبياء في القمة من صفاء النفس و لين الطباع، و التواضع و النزاهة عن الحسد و التجبّر و ما شاكل ذلك.

قال سبحانه: فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ ، وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شٰاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ (1).

4 - كمال العقل

كما أنّ للعقل سهما وافرا في حقل القيادة، فيجب أن يكون الأنبياء على درجة عالية من الذكاء و الفطنة و الرأي القاطع لا يتردّدون في أمورهم بعد تبيّنها.

و قد ذكرنا سابقا قوله عليه السلام. «و لا بعث اللّه نبيا و لا رسولا حتى يستكمل العقل، و يكون عقله أفضل من عقول أمته»(2).

5 - حسن السيرة

إنّ البسطاء من الناس - و ما أكثر وجودهم في الأمم - ينظرون إلى البواطن

ص: 210


1- سورة آل عمران: الآية 159.
2- الكافي، ج 1، كتاب العقل و الجهل، الحديث 11.

من خلال الظواهر، فيستكشفون سرائر الأنبياء من ظواهر أفعالهم. و لذلك يجب أن يكون الأنبياء في معاشراتهم مجانبين للأراذل و السفلة و أرباب الهزل، مبرّئين عن المشاحنات و المشاجرات التافهة و غير ذلك ممّا يسقط شأن القائد في أعين الناس.

و ما عددناه من الصفات هنا، نماذج من الأصل الكلّي الذي صدّرنا به البحث و هو اتّصاف الأنبياء بكل ما يوجب توفيقهم في هداية الناس، الذي هو الغرض من بعثتهم. و لعلّ هناك مصاديق أخرى لها دخالة في هذا المضمار، لم نذكرها فيما ذكرناه.

ص: 211

ص: 212

سمات الأنبياء

(3) علم النبي بالمعارف و الأحكام
اشارة

إنّ الهدف الاسمي من بعث الأنبياء، هداية الناس إلى المعارف العليا الراجعة إلى المبدأ و المعاد، و ما يضمن سعادتهم في حياتهم الدنيوية و الأخروية بالعمل بالأحكام الشرعية. و لأجل تحقق تلك الغاية يشترط أن يكون النبي على كمال المعرفة بتلك المعارف و الأحكام، مستقيا لها من معينها و مصدرها، معرفة لا جهل فيها، و لا شك و لا شبهة.

و على ذلك ليس الأنبياء مجتهدين في استنباط المعارف و الأحكام و الوظائف العملية، فإنّه أمر لا يخلو عن الجهل و الاشتباه و الخطأ. فما أوهن ما ذكره القوشجي في تصحيح تحريم المتعتين من جانب الخليفة عمر تجاه تحليل النبي لها، بقوله: «إنّ ذلك ليس ممّا يوجب قدحا فيه (الخليفة)، فإنّ مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع!!»(1).

فيلاحظ عليه

أولا - إنّ النصوص القرآنية تضافرت على أنّ ما يحكم به النبي، عن وحي إلهي لا يتطرق إليه السهو و الخطأ، كما قال عزّ من قائل: وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ

ص: 213


1- شرح التجريد للقوشجي، ص 484.

اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ (1) .

و قال تعالى: قُلْ مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقٰاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ (2).

و قال تعالى: قُلْ مٰا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ وَ مٰا أَدْرِي مٰا يُفْعَلُ بِي وَ لاٰ بِكُمْ ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ (3).

و قد حظر اللّه تعالى على نبيّه العجل و لو بحركة لسان، فقال عزّ و جل:

لاٰ تُحَرِّكْ بِهِ لِسٰانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنٰا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ * فَإِذٰا قَرَأْنٰاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ (4) .

فحينئذ لا يسوغ لأحد مخالفته و لا الاجتهاد في مقابل قضائه و حكمه أصلا.

كيف يكون ذلك، و قد قال سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاٰ مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاٰلاً مُبِيناً (5).

و قال سبحانه: فَلاٰ وَ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاٰ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (6).

إلى غير ذلك من الآيات التي تبعث على طاعة النبي و الأخذ بما أتى به، و الانتهاء عمّا نهى عنه، قال تعالى: وَ مٰا آتٰاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (7).

فإنّ كل ذلك يكشف عن أنّ كل ما يؤدّيه النبي لا يؤدّيه من تلقاء نفسه،

ص: 214


1- سورة النجم: الآيتان 3 و 4.
2- سورة يونس: الآية 15.
3- سورة الأحقاف: الآية 9.
4- سورة القيامة: الآيات 16-19.
5- سورة الأحزاب: الآية 36.
6- سورة النساء: الآية 65.
7- سورة الحشر: الآية 7.

و لا دخالة لفكره و شعوره فيه، و إنّما هو إفاضة من ربّ العالمين إلى ذهنه و لوح عقله ليؤدّيه إلى الأمة بلا تصرف و لا تدخّل.

و ثانيا - إنّ الاجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع في فهم حكم اللّه تعالى من الحجج الأربع و منها السنّة، و هي قول النبي و فعله و تقريره. فإذا كان هذا معنى الاجتهاد، فما معنى مخالفة الحجة باسم الاجتهاد. إن هو إلاّ اجتهاد في مقابل الوحي، و هو ساقط قطعا.

ص: 215

ص: 216

سمات الأنبياء

(4) الكفاءة في القيادة

إنّ القيادة و الحكم يقتضيان اعتبار سلسلة من الشروط في القائد و الحاكم، و بدونها تنحرف القيادة عن طريق الحق و تنتهي بالأمة إلى أسوإ مصير.

و قد كانت قيادة الأنبياء على نوعين:

الأول - القيادة المعنوية المحضة، و هي هداية الأمّة إلى عبادة اللّه سبحانه و إبعادهم عن عبادة الأصنام و الأوثان، و إرشادهم إلى وظائفهم أمام اللّه سبحانه.

و هذا القسم لا يشترط فيه من المؤهّلات أزيد ممّا أسلفنا سوى الاستقامة في طريق الدعوة و الصبر على النائبات و معاداة المخالفين و أذاهم.

الثاني - القيادة بجميع شئونها، و هي هداية الأمّة في حياتها الفردية و الاجتماعية، الدنيوية و الأخروية، كما كان الحال في نبوة الكليم و داود و سليمان، فلم تقتصر دعوتهم على الجهات المعنوية بل قاموا بتشكيل الممالك و الدول و نشر دعوتهم بالجهاد بالنفس و النفيس، و يكفي في ذلك مراجعة ما جاء حولهم في القرآن الكريم.

قال سبحانه: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ قَتَلَ دٰاوُدُ جٰالُوتَ وَ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّٰا يَشٰاءُ (1).

ص: 217


1- سورة البقرة: الآية 251.

و من المعلوم أن القيادة في هذا الإطار الواسع لا تتسنى إلاّ لمن كان ذا مواهب كثيرة في الإدارة و التدبير و حسن الولاية، يقدر معها على القيام بتلك المسئولية.

و يجمعها ما يسميه السياسيون في مصطلح اليوم بالنضج العقلي و الرشد السياسي، و بدونه لن يقوم للحكومة عمود، و لن يخضرّ لها عود. و لأجل ذلك أثر عن النبي الأكرم أنّه قال: «لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال:

1 - ورع يحجزه عن معاصي اللّه.

2 - و حلم يملك به غضبه.

3 - و حسن الولاية على من يلي حتى يكون كالأب الرحيم»(1).

و قال الإمام علي عليه السلام: «أيّها الناس إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقومهم (و في رواية أقواهم) و أعلمهم بأمر اللّه، فإن شغب شاغب أستعتب، و إن أبى قوتل»(2).

ثم إنّ جمعا من المتكلمين التزموا بوجود سمات أخرى في الأنبياء وراء ما ذكرنا، ككونهم أشجع الناس و أعلمهم بالعلوم كافة، و أزهدهم و أعبدهم و نحو ذلك.

و لعلّ هذه الأوصاف من سمات من بعث لكافة الناس و هم على المشهور خمسة: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و النبي الأعظم عليهم السلام.

و على التحقيق هو نبي الإسلام صلى اللّه عليه و آله(3).

إلى هنا تمّ البحث عن النبوّة العامة التي تختص أبحاثها بنبوّة نبي معين، و حان وقت البحث عن النبوة الخاصة، المختصة مباحثها بنبوة نبي الإسلام، محمد بن عبد اللّه صلى اللّه عليه و آله.

ص: 218


1- الكافي، ج 1، ص 407.
2- نهج البلاغة، الخطبة 172.
3- لاحظ مفاهيم القرآن، ج 3، ص 77-116.

الفصل الثامن النبوة الخاصة

اشارة

* طرق إثبات نبوة نبي الإسلام محمد بن عبد اللّه (ص) الطريق الأول - معجزاته:

المقام الأول: معجزته الخالدة القرآن الكريم.

المقام الثاني: سائر معجزاته.

الطريق الثاني: بشائره في العهدين.

الطريق الثالث: القرائن الداخلية و الخارجية.

* سمات الرسالة الإسلامية:

1 - عالمية الرسالة.

2 - خاتمية الرسالة.

أسئلة حول الخاتمية.

ص: 219

ص: 220

الدعوة الإسلامية

1 - ظروفها:

في الوقت الذي عمّت سيادة الشرك و عبادة الأصنام أكثر ربوع المعمورة، و كانت الشعوب المتحضرة في بلاد الفرس و الروم تعاني ألوان المظالم و التمييزات الطّبقيّة، و كان العمّال و الفلاحون يرزخون تحت ثقل الضرائب المجحفة، و كان اليأس ملقيا بظلاله السوداء على عامة الشعوب و الملل، و عاد رجال الإصلاح يعيشون مرارة اليأس من كل ثورة منجية.

في هذه الظروف، قام رجل بين أمّة متقهقرة، تقطن أراض جدباء قاحلة، و معشر ليس لهم من الحضارة أي سهم يذكر، يسفكون دماءهم و يقطعون أرحامهم، فادّعى النبوة و السفارة من اللّه الخالق، على أساس نشر التوحيد، و رفض الوثنية و عبادة الأصنام، و إقامة العدل و بسط القسط، و رفض التمييز و حماية المضطهدين و المظلومين.

2 - اسم الداعي و نسبه

هو محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، من قبيلة قريش، ولد بمكّة عام (570 م) في بيت عريق في العربية، مشهور بالكرم و السخاء و الستر و العفاف، أعني به أسرة بني هاشم.

ص: 221

3 - تاريخ الدعوة

و قد قام بالدعوة في أوائل القرن السابع الميلادي (610). و أول ما بدأ به، دعوة أقربائه و عشيرته، و قال في دعوتهم: «إنّ الرائد لا يكذب أهله، و اللّه الذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصة و إلى الناس عامّة، و اللّه لتموتنّ كما تنامون، و لتبعثنّ كما تستيقظون، و لتحاسبنّ بما تعملون، و إنّها الجنة أبدا، و النار أبدا». ثم قال: «يا بني عبد المطلب، إنّي و اللّه ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة، و قد أمرني اللّه عز و جل، أن أدعوكم إليه»(1).

و بعد سنوات من بدء دعوته - استطاع في أثنائها هداية جمع من عشيرته - وجه دعوته إلى عموم الناس من غير خصوصية بين قبيلته و غيرها، و وقف على صخرة عند جبل الصفا، و نادى بصوت عال: «وا صباحاه»، و هي كلمة كانت العرب تطلقها كلما أحسّت بخطر أو بلغها نبأ مرعب، فكانت هذه الكلمة بمثابة جرس الإنذار بتعميم الدعوة، فالتفت عندها حوله جموع الناس من أبناء القبائل المختلفة و قالوا له: «ما لك ؟».

فقال: «أ رأيتكم، إن أخبرتكم أنّ العدو مصبحكم أو ممسيكم، ما كنتم تصدقونني ؟».

قالوا: «بلى».

قال: «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

ثم قال: «إنّما مثلي و مثلكم كمثل رجل رأى العدو انطلق يريد أهله، فخشي أن يسبقوه إلى أهله، فجعل يهتف، وا صباحاه»(2).

ثم استمر في رسالته، يدعو قومه إلى التوحيد و رفض الأصنام، و أنّ وراء هذه الحياة، حياة دائمة غير داثرة، و الناس بين مؤمن به مفاد بنفسه و نفيسه،

ص: 222


1- تاريخ الطبري، ج 2، ص 62-63. و الكامل ج 2، ص 40-41.
2- السيرة الدحلانية، بهامش السيرة الحلبية، ج 1، ص 194.

عدو ينابذه و يتحين الفرص للفتك به و قتله، فلما أحسّ بالخطر، غادر موطنه مكة إلى مدينة يثرب، فأقام هناك سنين عشرة، لقي فيها من أهل يثرب عطفا و مودة و التفافا حوله، و إيمانا به و تفانيا دون دعوته بأموالهم و أنفسهم، فصار ذلك سببا لنشر دعوته في شبه الجزيرة العربية و خارجها عبر بعث رسله و موفديه، فكان النجاح حليفه، إلى أن أجاب داعي الموت تاركا أمّة كبيرة مؤمنة، موحّدة، و شريعة ذات نظم و سنن و طقوس، و ذلك في العام 633 ميلادية.

و لم تنكمش دعوته بعد وفاته، بل سرعان ما انتشرت في أكثر ربوع المعمورة، بفضل اتقان دينه، و جهاد معتنقي دعوته.

4 - سمات الدعوة

اشارة

يمكن تقسيم سمات و علامات هذه الدعوة إلى قسمين:

أ - قسم جاء في كتابه الذي جعله دليلا على رسالته و برهانا ساطعا على صدق نبوّته.

ب - و قسم يقف عليه المتتبع في حاله و حال دعوته و ما تركته من آثار في المجتمعات الإنسانية.

أ - سمات دعوته في كتابه المعجز

يعرّفه كتابه بصفات، و يصف دعوته بسمات عديدة، منها:(1) - أنّه رسول أرسل إلى العالمين جميعا، من دون فرق بين قوم و آخرين، و إقليم دون إقليم، و جيل دون جيل، بل رسالته موجهة إلى كل من يصدق عليه «يا أيها الناس»، و يقول:

قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (1) .

ص: 223


1- سورة الأعراف: الآية 158.

وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ (1) .

وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (2) .

(2) - و أنّ رسالته خاتمة الرسالات، و أنّ كتابه خاتم الكتب، و أنّه خاتم الأنبياء و يقول:

مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ ، وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (3) .

(3) - و أنّه نبي قد بشّر بنبوته في الكتب السماوية الماضية، و يقول:

اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ (4) .

و يقول: اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ ، وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (5).

و الضمير في «يعرفونه» يرجع إلى النبي بقرينة قوله: كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ .

و يقول بأنّ المسيح قد بشّر بنبوته في إنجيله:

وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ قٰالُوا هٰذٰا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) .(7)

ص: 224


1- سورة الأنبياء: الآية 107.
2- سورة الأنعام: الآية 19.
3- سورة الأحزاب: الآية 40.
4- سورة الأعراف: الآية 157.
5- سورة البقرة: الآية 146.
6- سورة الصف: الآية 6.
7- سورة المائدة: الآية 48.

- و يعرّفه رابعا بأنّ دعوته دعوة مكملة للشرائع السابقة، و أنّ كتابه و شريعته مصدّقة لها، لا مباينة و لا مخالفة و يقول:

وَ لَمّٰا جٰاءَهُمْ كِتٰابٌ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَهُمْ ، وَ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ (1) .(2) - و يعرّفه بأنّه جاء بمعجزات و آيات، و أنّ معجزته الخالدة على جبين الدهر هي كتابه، لا يمكن لأحد من الخلق مقابلته و لا الإتيان بمثله، و يقول:

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (3) .

و يقول: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (4).(5) - و أنّ كتابه كتاب فاصل بين الحق و الباطل و مهيمن على الكتب السالفة، و يقول: وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ... (4). و أنّ كتابه يفصل ما اختلف فيه بنو إسرائيل و يقول:

إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (5) .

(7) - و أنّ أصوله واضحة، و تعاليمه سهلة، فإذا سئل عن أصول عقيدته في اللّه سبحانه، يقول: قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ * اَللّٰهُ اَلصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (6).

ص: 225


1- سورة البقرة: الآية 89.
2- سورة النمل: الآية 76.
3- سورة البقرة: الآية 23.
4- سورة الإسراء: الآية 88.
5- سورة الإخلاص. و يعرف وضوح العقيدة إذا قيست هذه الآيات إلى التثليث الذي تتدين به المسيحية الحاضرة و غيره من العقائد التي اتّفق البطاركة على أنّها من الرموز التي ليس في مقدور

كما يقول: في تعاليمه و تكاليفه: وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1).

و يقول: يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ (2).

(8) - أنّ شريعته كافلة للسعادة الدنيوية و الأخروية، و يقول: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبٰائِثَ (3).

(9) - أنّ دينه و تعاليمه تكافح الأساطير و الخرافات و كلّ عقلية متخلفة و يقول: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلاٰلَ اَلَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ (4).

و المراد من الأغلال، الأوهام التي كانت تسود أفكار الشعوب آنذاك.

(10) - أنّ هذا الداعي أمّيّ لم يقرأ و لم يكتب، و مع ذلك جاء بأصول و معارف و قوانين لإدارة المجتمع، و يقول: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ (5).

و يقول: وَ مٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتٰابٍ وَ لاٰ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتٰابَ اَلْمُبْطِلُونَ (6).

ب - سمات دعوته من خلال التدبر في آثارها

إنّ الإمعان في الآثار التي تركتها هذه الدعوة بين الأمم البشرية، يدفع

ص: 226


1- سورة الحج: الآية 78.
2- سورة البقرة: الآية 185.
3- سورة الأعراف: الآية 157.
4- الآية السابقة.
5- الآية السابقة.
6- سورة العنكبوت: الآية 48.

الإنسان إلى الانتقال إلى سمات أخرى لدعوته، منها:

1 - سرعة انتشارها في أقطار العالم جميعا لا سيما بين الأمم المتحضرة، سرعة لم ير التاريخ لها مثيلا. فطفق المعتنقون به، المجهزون بسلاح الإيمان و الإخلاص، يغلبون الأمم القوية المتحضرة المجهزة بأرهب أنواع السلاح المادي و أفتكه. و لم يمض قرن و نصف من رحيل صاحب الدعوة، إلاّ و قد ملأ الإسلام مشارق الأرض و مغاربها، و انتشر انتشارا حيّر النّهى و العقول.

2 - إنّ الأمّة المؤمنة، و إن غلبت أصحاب الحضارات، و أزالت عروشهم، لكنها ما عفت على حضاراتهم العلمية و الصناعية، بل حفظت الصالح منها، و قامت بتأسيس حضارة جديدة تشتمل على الأصلح من السابقة، و ما أبدعته هي. و بذلك افترقت عن سائر الثورات البشرية التي كثيرا ما تنجر إلى تخريب البلدان و تدمير الحضارات. فأصبح التمدن الإسلامي، حضارة إنسانية مكتملة الأبعاد، بلغت في العظمة إلى حدّ شكّلت معه الأساس الذي بنيت عليه الحضارة الغربية الحديثة، بحيث لو لا الحضارة الإسلامية لزالت الحضارات السابقة عليها، و لما لحقها أيّ تمدن، لأنّها صانت السالف من الحضارات عن الاندثار و الضياع، و طورته و أبدعت فيه. فالحضارة الإسلامية - بلا تحفظ - جسر بين الحضارات اليونانية و الرومانية و الفارسية، و التمدّن الصناعي الحديث.

3 - تضحية المعتنقين لدينه، و تفانيهم في سبيله بالنفس و النفيس، و ذلك في ظل تحقق شعور ديني عميق و إيمان قوي به و بشريعته، حتى قدّموا كلّ دقيق و جليل مما يملكون في سبيل نصرته و إعزازه، و هذا لو دلّ على شيء لدلّ على إيمانهم بفضائله و كمالاته، و إيقانهم بأنّه رجل إلهي سماوي، بعث لإنقاذ البشر، و أنّ اجتماعهم و التفافهم حوله لم يكن طلبا لشيء من الزخارف الدنيوية. و هذا و إن كان لا يصدق على جميع أصحابه و حوارييه، لكنه صادق على الكثيرين ممن تربوا في أحضانه، و استنارت ألبابهم و استقامت فطرهم في ظل تعاليم شريعته.

و بعد جميع ما ذكرناه، فاللازم على المنصف المتحري للحقيقة، أن يبحث عن حقيقة هذه الدعوة، و صحة دلائلها، حتى يجيب الداعي النفساني للمعرفة

ص: 227

أولا، و يقوم بوظيفته - إذا وجدها صالحة للاعتناق - ثانيا(1).

الطرق الثلاثة للتعرف على صدق المدّعى

اشارة

قد وقفت عند البحث عن النبوّة العامة على أنّ للتعرف على صدق مدّعي النبوة طرقا ثلاثة:

1 - إتيانه بالمعجز، بشروطه المذكورة.

2 - تصديق النبي السابق عليه، و تنصيصه على نبوته.

3 - جمع القرائن و الشواهد القاضية بالضرورة بصدق دعواه.

و نحن نسلك في التعرف على صدق ادعاء نبي الإسلام النبوة، هذه الطرق، الواحدة بعد الأخرى.

ص: 228


1- و هذا هو الذي نستهدفه في هذا البحث. فنطرح هذه الدعوة الجديدة، بعد المسيح، على بساط البحث، بنحو الاستهداء و تحرّي الحقيقة و تمييز الحق عن الغثاء، على ضوء التحليلات المنطقية، و من دون تأثّر بعقيدة مسبقة، أو نزول على نزعة عاطفية، و بصورة يقتنع معها المنصف، و يتنزل المتعصّب على الإسلام عن تعصّبه، و تقوم الحجة على المعاند. فنسأله تعالى أن يوفقنا لبيان الحق و تجنّب القضاء الباطل و الفصل الممقوت، إنّه على ذلك لقدير.

الطريق الأول لإثبات نبوة نبي الإسلام الاستدلال بمعجزاته

اشارة

قد عرّفنا المعجز عند البحث في النبوة العامة بالنحو التالي:

المعجز أمر خارق للعادة، مقرون بالدعوى، و التحدّي، مع عدم المعارضة، و مطابقته للدعوى.

فعلينا أن نبحث عن انطباق هذا التعريف على دلائله التي أقامها مدّعي النبوة إثباتا لصحة دعواه.

إنّ التعريف المذكور ينطوي على أمور:

1 - دعوى النبوة.

2 - الإتيان بأمر خارق للعادة.

3 - التحدّي على الإتيان بمثله.

4 - العجز عن مقابلته.

5 - مطابقة المعجزة للدعوى.

و هذه القيود التي ذكرناها للمعجز تنطبق على ما جاء به نبي الإسلام، و إليك بيانها إجمالا:

ص: 229

1 - دعوى النبوة

لا شك أنّه ادعى النبوة، بضرورة التاريخ، و نصّ كتابه:

قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (1) .

2 - خرق العادة

قد ضبط التاريخ أنّه كانت لنبيّ الإسلام معاجز كثيرة في مواقف حاسمة، غير أنّه كان يركّز على معجزته الخالدة و هي القرآن الكريم. و نحن نقدم البحث في هذه المعجزة الخالدة، ثم نتبعه بالبحث في سائر معجزاته.

3 - التحدّي

و لا شك أنّه تحدى - بما ادّعى أنّه أمر معجز - الإنس و الجنّ ، و قال بنصّ كتابه: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (2).

4 - العجز عن مقابلته

إنّ من ألمّ بتاريخ تحدّي النبي الأكرم: من زمن نزول القرآن إلى عصرنا هذا، يقف على أنّه لم يتمكن فرد، و لا لجنة علمية من الإتيان بمثل معجزته.

و يعرف تفصيل ذلك عند البحث عن إعجاز القرآن، فانتظر.

5 - مطابقة المعجزة للدعوى

إنّ هذا القيد، يبحث عنه في سائر معاجزه التي له فيها مورد، كما في إناطة

ص: 230


1- سورة الأعراف: الآية 158.
2- سورة البقرة: الآية 23. و في آيات أخرى تأتي الإشارة إليها.

قريش إيمانها بنبوته، بشقه القمر، و تسبيح الحصى، و غير ذلك، فقام بما اقترحوا عليه، بإذن اللّه سبحانه، و كانت المعجزة مطابقة لدعواه، كما سيوافيك في الفصل الخاص ببيان سائر معجزاته.

إذا وقفت على تعريف الإعجاز و انطباقه على ما أتى به، إجمالا، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأول - في معجزته الكبرى الخالدة على جبين الدهر و هي القرآن الكريم، و إثبات أنّه كتاب خارق للعادة و خارج عن طور الطاقة البشرية.

المقام الثاني - في سائر معاجزه التي ضبطها التاريخ و الحديث.

ص: 231

ص: 232

المقام الأول المعجزة الخالدة
اشارة

و يقع البحث فيها عن أمور:

* الأمر الأول: ما هو سبب التحدّي بالكلام ؟. فيه وجهان، نذكرهما، ثم نلحقه ببيان بعض مزايا القرآن من حيث هو معجز.

* الأمر الثاني: وجه كون القرآن خارقا للعادة. و للوقوف عليه مسلكان:

المسلك الأول: إقرار بلغاء العرب بإعجازه.

المسلك الثاني: تحليل إعجازه مباشرة. و إعجاز القرآن يقوم على دعائم أربع:

- الدعامة الأولى: الفصاحة. و يراد منها جمال اللفظ و أناقة الظاهر.

- الدعامة الثانية: البلاغة. و يراد منها جمال العرض و سمو المعنى.

- الدعامة الثالثة: النّظم. و يراد منه رصانة البيان و استحكام التأليف.

- الدعامة الرابعة: الأسلوب. و يراد منه بداعة المنهج و غرابة السبك.

و يلحق بهذا الأمر تنبيهات ثلاثة:

التنبيه الأول، نطرح فيه آيتين على منضدة التشريح.

ص: 233

التنبيه الثاني، نشير فيه إلى بعض مزايا القرآن البيانية.

التنبيه الثالث، نتطرق فيه إلى بيان مذهب الصرفة، من مذاهب إعجاز القرآن.

* الأمر الثالث: عجز البشر عن معارضته و الإتيان بمثله.

* الأمر الرابع: الشواهد الدالّة على كون القرآن كتابا سماويا، و هي:

1 - أمية حامل الرسالة.

2 - عدم اختلافه في الأسلوب.

3 - عدم اختلافه في المضمون.

4 - هيمنته على الكتب السماوية.

5 - إتقانه في التشريع و التقنين.

6 - إخباره عن الغيب.

7 - إخباره عن الظواهر و القوانين الكونية.

8 - الأخلاق.

ص: 234

الأمر الأول سبب التحدّي بالكلام
اشارة

لا شك أنّ الكليم موسى، تحدّى بمعجزات خاصة، يعبر عنها القرآن الكريم بتسع آيات بينات، في قوله: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسىٰ تِسْعَ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ (1).

و قوله: وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضٰاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيٰاتٍ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ (2).

كما أنّ المسيح تحدّى بمعجزات خاصة، تباين من حيث الماهية معجزات الكليم، و يحكي ذلك القرآن بقوله: وَ رَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّٰهِ ، وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ ، وَ أُحْيِ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ، وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمٰا تَأْكُلُونَ وَ مٰا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3).

فعند ذلك يطرح السؤال نفسه: لما ذا اختص الكليم بهذه المعاجز، و المسيح بتلك الخوارق، و جاء نبي الإسلام بمعجزة الكلام ؟.

ص: 235


1- سورة الإسراء: الآية 101.
2- سورة النمل: الآية 12.
3- سورة آل عمران: الآية 49. و لاحظ سورة المائدة: الآية 110.
و الإجابة عن ذلك بوجهين:
الوجه الأول - أصدق المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر

إذا كان المعجز عبارة عما يخرق نواميس الطبيعة، فلا شك أنّ معرفة ذلك يختصّ بعلماء الصنعة التي يشابههما ذلك المعجز، فإنّ علماء أيّ صنعة أعرف بخصوصياتها، فهم يميّزون بين ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله، و بين ما يمكنهم. و لذلك فالعلماء أسرع تصديقا بالمعجز من غيرهم، و أمّا الجاهل فباب الشكّ عنده مفتوح على مصراعيه ما دام جاهلا بمبادئ الصنعة، و ما دام يحتمل أنّ المدّعي قد اعتمد على مبادي معلومة عند الخاصة من أهل تلك الصنعة.

و لذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يخصّ كلّ نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه، و التي يكثر العلماء بها من أهل عصره، فإنّه أسرع للتصديق، و أقوم للحجة. فكان من الحكمة أن يخصّ موسى عليه السلام بالعصا، و اليد البيضاء، لما شاع السحر في زمانه و كثر الساحرون. و لذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق برهانه لعلمهم بأنّ ما أتى به موسى، خارج عن حدود السحر، فتيقّنوا من كونه معجزة إلهية.

و شاع الطب اليوناني في عصر المسيح و أتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب، و كان للطب رواج باهر في سوريا و فلسطين، إذ كانتا مستعمرتين للرومان، فشاءت الحكمة الإلهية، أن تجعل برهان المسيح شيئا يشبه الطب، فقام بإحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص، ليعلم أهل زمانه أنّ ما أتى به خارج عن قدرة البشر.

و أمّا نبيّ الإسلام، فقد ادّعى النبوة بين العرب، و كان الفن الرائج بينهم هو الشعر و الخطابة، فقد برعوا في البلاغة، و امتازوا بالفصاحة، و بلغوا الذّروة في فنون الأدب. و كانوا يعقدون النوادي و يقيمون الأسواق لإلقاء الخطابة و الشعر، و كان المرء يقدّر على حسب ما يحسنه من إلقاء الخطب الرنّانة، و الأشعار البليغة.

و قد بلغ تقديرهم للأدب و الشعر إلى حدّ عمدوا إلى قصائد سبع، من خيرة

ص: 236

أشعارهم، فعلّقوها على جدار الكعبة، بعد ما كتبوها بماء الذهب، فكان يقال هذه مذهّبة امرئ القيس إذا كانت أجود شعر.

كما بلغ اهتمام رجال العرب و نسائهم بالخطابة و الشعر إلى أنّهم كانوا يحتفلون كل عام في موسم الحج احتفالات كبيرة لإلقاء الخطب و الأشعار. و كان النابغة الذبياني هو الحكم في تمييز الراجح من المرجوح، فيأتي سوق عكاظ و تضرب له فيه قبّة حمراء من الأدم، فيأتيه الشعراء، فيعرض كلّ أبياته التي صاغها طيلة السنة المتقدمة(1).

و في هذا الأجواء، كانت المناسبة تقتضي أن تكون معجزة المدّعي مشابهة للفن الرائج في ذلك الظرف، فلذلك جاء بمعجزة البيان و بلاغة الكلام، حتى يعرف كلّ عربي أو الأخصائي منهم، أن قرآنه بعذوبته و حلاوته، و سمو معانيه و عمقها، و روعة نظمه و بداعة أسلوبه(2)، خارج عن إطار الكلام الرائج بين فصحاء العرب، و بلغائهم أولا، و خارج عن طاقتهم و مقدرتهم ثانيا.

و سيوافيك تصديق أكابرهم و فحولهم المعاصرين للنبي الأعظم، بكون كلامه خارجا عن طوق البشر و مقدرته، كما سيوافيك تحليله بوجه علمي ملموس.

و هناك كلام لأحد أئمة الشيعة - قيّم جدّا - نأتي به:

روى الكليني عن أبي يعقوب البغدادي قال: قال ابن السكّيت(3)، لأبي الحسن(4): «لما ذا بعث اللّه موسى بن عمران عليه السلام بالعصا، و يده

ص: 237


1- شعراء النصرانية، ج 2، ص 640، ط بيروت.
2- سيوافيك أنّ الإعجاز البياني للقرآن يقوم على أسس أربعة هي التي أشرنا إليها في المتن.
3- أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي، أحد أئمة اللغة و الأدب، و كان حامل لواء علم العربية، و له تصانيف منها: كتاب تهذيب الألفاظ، و كتاب إصلاح المنطق، قتله المتوكل في خامس شهر رجب عام 244 ه، بحجة أنّه قال إنّ قنبرا - خادم علي - خير منه و من ابنيه. فقال المتوكل للأتراك، سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا، فمات. لاحظ تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 376.
4- الإمام الهادي أبو الحسن، علي بن محمد بن علي الرضا، المدفون بسامراء، الشهيد بيد المعتز باللّه عام 252 ه.

البيضاء، و آلة السحر؟ و بعث عيسى بآلة الطب ؟ و بعث محمدا (صلى اللّه عليه و آله و على جميع الأنبياء) بالكلام و الخطب ؟».

فقال أبو الحسن (عليه السلام): «إنّ اللّه لما بعث موسى (عليه السلام) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن في وسعهم مثله، و ما أبطل به سحرهم، و أثبت به الحجة عليهم.

و إنّ اللّه بعث عيسى (عليه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزّمانات(1)، و احتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن عندهم مثله، و بما أحيا لهم الموتى، و أبرأ الأكمه و الأبرص بإذن اللّه و أثبت به الحجة عليهم.

و إنّ اللّه بعث محمدا (صلى اللّه عليه و آله) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب و الكلام - و أظنه قال: الشعر - فأتاهم من عند اللّه من مواعظه و حكمه ما أبطل به قولهم، و أثبت به الحجة عليهم.

قال: فقال ابن السكّيت: «تاللّه ما رأيت مثلك قطّ»(2).

الوجه الثاني - الدين الخالد رهن المعجز الخالد

و هناك وجه ثان لاختصاص النبي بهذه المعجزة و هو الفرق الواضح بين دعوته، و دعوة سائر الأنبياء، فإنّ دعوتهم و شريعتهم كانت محدودة زمانا و مكانا، أو من حيث الزمان فقط. و لأجل ذلك كانوا يبشرون بمجيء نبي آخر ينسخ بشريعته شرائع من قبله. و مثل تلك الدّعوات يكفي في إثباتها وجود معاجز تنقلها الأجيال المعاصرة للأنبياء إلى الأجيال التالية لهم بصورة الأمر المتواتر، و مثل هذه المعاجز لا تكفي للدعوة الخالدة، لأنّ الإيمان بالمعاجز و الإذعان بصحتها من خلال نقلها بالتواتر يزول بمضي الزمان، إلى حدّ تصبح معه أمورا ظنية، غير قابلة لاتمام الحجّة، للأجيال المتلاحقة.

ص: 238


1- الزّمانات: الآفات الواردة على بعض الأعضاء فتمنعها من الحركة كالفالج و اللّقوة.
2- الكافي، ج 1، كتاب العقل و الجهل، الحديث 20، ص 24-25.

فلأجل ذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الدين الخالد مقرونا بالمعجزة الخالدة، حتى تتم الحجة على جميع الأجيال و القرون إلى أن تقوم الساعة، و هذا لا يمكن إلاّ بأن يكون للإعجاز وجود خالد و ثابت عبر القرون، و ليس ذلك إلاّ أن يكون مثل القرآن.

و هذا لا يعني أنّه لم يكن للنبي الأكرم معجزة سوى القرآن، فإنّ ذلك باطل كما سنفصل البحث عنه في المقام الثاني، بل يعني أنّه صلى اللّه عليه و آله اختص بهذه المعجزة دون غيره، و أنّه كان يركز عليها دون غيرها من سائر معاجزه.

و بعبارة أخرى: إنّ لدعوته سمة الشمول و سمة الخاتمية، أمّا الشمول، فبعثه إلى البشر كلّهم، و أمّا الخاتمية فادعاؤه بأنّه خاتم النبيين و أنّ كتابه خاتم الكتب و شريعته خاتمة الشرائع، فمثل هذه الدعوة التي تعمّ جميع الأجيال و الأمكنة، لا تتم إلاّ باقترانها بمعجزة ساطعة على مرّ الدهور و تعاقب الأجيال أوّلا، و في جميع الأمكنة ثانيا، حتى يتمّ الاحتجاج على المتحرّي، في جميع الأمكنة و الأزمنة. و قد عرفت أنّ مرور الزمان يضفي على سائر المعاجز، ثوب الظنّ و الشك، إلى أن تصبح في أعين الناس، خصوصا الذين هم في منأى عن الأجواء الدينية، كالأساطير التي تقرأ في الكتب. فعند ذلك لا يتمكن المسلم المحتج من إقامة الحجة على مخالفه و معانده، بل لا تتم الحجة في حدّ نفسها على المخالف. فاقتضت مشيئته سبحانه أن يبرهن دعوة نبيّه الخاتم بمعجزة ناطقة بالحق، في جميع الأمكنة و الأزمنة تكون كفيلة بإتمام الحجة على البشر إلى قيام الساعة: لِئَلاّٰ يَكُونَ لِلنّٰاسِ عَلَى اَللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ (1)، بل تكون فَلِلّٰهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبٰالِغَةُ (2) على الناس في كل مكان و زمان.

ص: 239


1- اقتباس من آيتين إحداهما في سورة النساء: الآية 165 و الثانية في سورة الأنعام: الآية 149.
2- اقتباس من آيتين إحداهما في سورة النساء: الآية 165 و الثانية في سورة الأنعام: الآية 149.
مزايا أخرى لهذه المعجزة
1 - القرآن كتاب الهداية و التربية

إنّ الكتاب الذي جاء به نبي الإسلام سندا لنبوته، يؤدّي مهمّتين:

1 - يثبت أنّه مبعوث من جانبه سبحانه، و في هذا يتساوى مع معاجز المتقدمين عليه من الأنبياء.

2 - يهدي الناس إلى أصول المعارف و العقائد، يتكفّل بتربية البشر و سوقهم إلى الفضائل الأخلاقية، و هذه مزية تختص بمعجزته الخالدة، و لا توجد في معجزة أخرى. فإن ما جاء به الكليم و المسيح من المعاجز كانقلاب العصا إلى الثعبان، و إحياء الموتى، لا يؤدّي سوى مهمة واحدة و هي إثبات أنّ الجائي بها مبعوث من جانب اللّه سبحانه. و أمّا المعجزة الخالدة، فهي تهدى - مضافا إلى ذلك - إلى المعارف العليا، و كرائم الأخلاق، و الفرائض و المنهيات. فهي بمفردها: برهان نبوته، و هادي أمّته إلى ما يجب عليهم الاعتقاد به أو العمل به.

و بعبارة أخرى: إنّ معاجز الكليم و المسيح معاجز جسمانية، لا تثبت إلاّ صلتهما باللّه سبحانه، و أمّا القرآن الكريم فهو معجزة معنوية، تصقل العقول و الأرواح، و ترشد إلى طريق الخير و الصلاح. و النبي الأكرم قام - بفضل هذه المعجزة - بصنع أمة، بلغت من الفضل و الكمال كل مبلغ بعد ما كانت غارقة في الجهل و الأميّة.

2 - استقلالها في إثبات الرسالة

إنّ لهذا الكتاب مزية ثانية تفتقدها سائر المعاجز، حتى المعجزات الأخرى للنبي الأكرم، و هي أنّ سائر المعاجز لا تثبت شيئا إلاّ أن يكون معها مدّعي النبوة، فيدّعي و يسأل البينة، فيأتي بالمعجز، و يتحدّى به، إلى آخر ما ذكرنا من شروط المعجز.

و أمّا القرآن الكريم، فإنّه بنفسه يقوم بكل هذه الأمور، فيطرح بنفسه

ص: 240

الدعوى، و يتساءل - هو - عن برهانها، ثم يثبتها بنفسه، و يتحدّى الناس على الإتيان بمثله، و يعجزهم و يدينهم. و هذه خصيصة لهذه المعجزة لا توجد في سائر المعاجز.

3 - التحدّي بأبسط الأشياء و أوفرها

قد تعرفت في مباحث الإعجاز - من النبوة العامة - على الفروق الواضحة بين المعجزة و غيرها، و قلنا إنّه ربما يصل العلم و الصنعة إلى الغاية التي وصلت إليها معاجز الأنبياء، و مع ذلك كلّه لا تتجاوز الصنعة عن كونها صنعة بشرية و لا تدخل في إطار الإعجاز.

مثلا: إنّ سليمان بن داود، أول من فتح أبواب الفضاء على عيون المجتمع الإنساني، فهو كان رائد الفضاء الأول بفضل الريح المسخرة له، يقول سبحانه:

فَسَخَّرْنٰا لَهُ اَلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخٰاءً حَيْثُ أَصٰابَ (1) .

و لم تتوفق الحضارة البشرية إلى إرسال الإنسان إلى الفضاء إلاّ بعد آلاف السنين، حتى تمكنت أخيرا من إنزاله على سطح القمر، و الركب بعد مستمر، و مع ذلك كلّه فما أنجزته هذه الحضارة لا يخرج عن إطار الصنعة، لوجود الميز الجوهري بين العملين، و إن اتحدا في النتيجة. و ذلك أنّ سليمان بدأ عمله بأبسط الأشياء، و أكثرها شياعا، و هو الجلوس على بساط، يحركه الريح، تجري بأمره حيث شاء، كما قال تعالى: وَ لِسُلَيْمٰانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّهٰا شَهْرٌ وَ رَوٰاحُهٰا شَهْرٌ (2).

و أمّا ما قامت به الحضارة الصناعية من إرسال الرّواد إلى الفضاء، فهو صنعة بحتة، لأنّها قامت بهذا الفعل بأعقد الصناعات و أخفاها. فالسفينة الفضائية الحاملة لعدّة من الرواد، و التي هبطت على سطح القمر، اشترك في

ص: 241


1- سورة ص: الآية 36.
2- سورة سبأ: الآية 12.

صنعها مجموعة هائلة من الصناعيين و خبراء العلوم الطبيعية من علماء الفيزياء و الكيمياء و الفلك و الرياضيات و الطب، حتى علماء النفس و غيرهم ممن خدموا هذه السفينة و الصواريخ الحاملة لها. فلأجل ذلك كلما ازدادت الصناعة عمقا و تعقيدا، اتّضح كونها نتيجة حضارة بشرية بحتة، لا صلة لها بأمر سماوي.

و نفس هذه القاعدة تنطبق على معجزة النبي الأكرم بوضوح، فإنّه تحدّى بشيء مؤلف من مواد يعرفها كل الناس و في متناولهم، حيث إنّه لا يتجاوز عن كونه حروفا و ألفاظا تشكل لغة العرب و مفردات كلامهم و جملهم. فلو كان هذا القرآن مصنوع نفس من جاء به، فهو و سائر الناس في هذه الحلبة سواء، لأنّ موادّه في متناول الناس و اختيارهم، فليقم خبراؤهم و علماؤهم و بلغاؤهم و فصحاؤهم بصنع كتاب، أو عشر سور، أو سورة واحدة مثله..

و مع أنّ كل المعاجز تشترك في هذا المضمار، غير أنّ القرآن يمتاز عنها بمزية ثالثة و هي أنّ الإذعان بكون ما جاء به الكليم و المسيح من المعاجز، يحتاج إلى معلومات خاصة حتى يتميز في ظلّها السّحر و الطب من الإعجاز، و لكن الإذعان بكون القرآن معجزة إلهية لا يحتاج إلى شرائط في السامع أزيد من كونه عربيا صميما عارفا بأساليب الكلام، فإنّ ذلك كاف في تمييز ما هو داخل في حدود الطاقة البشرية عمّا هو خارج عنها، و لأجل ذلك كان النبي يتحدّى بالقرآن و يدعو كلّ الناس إلى المقابلة و المنازلة، و قلّما يتّفق أن يسمع إنسان كلامه و لا يتأثر منه، و إن كان أغلبهم يعارض ما يجده حقّا في فطرته و عمق ضميره، بأساليب شيطانية، كما سيوافيك في قصة الوليد بن المغيرة، و عتبة بن ربيعة و مجمل سيرة رؤساء قريش.

هذه المزايا الثلاث تختص بمعجزته الخالدة. و لها مزايا أخرى ستقف عليها خلال المباحث الآتية.

ص: 242

الأمر الثاني وجه إعجاز القرآن و كونه كتابا خارقا للعادة

إنّ إعجاز القرآن في عصر الرسالة، كان يتمثّل في فصاحة ألفاظه، و بلاغة معانيه، و روعة نظمه، و بداعة أسلوبه الخاص. فعرب عصر الرسالة و بلغاؤهم و حذّاقهم في الخطابة و الشعر، لمسوا أنّ القرآن في ظل عذوبة ألفاظه و سحر معانيه و جمال تأليفه و نظمه، و بداعة سبكه، لا يشبه الشعر و لا النثر، و أنّه كتاب جاء في قالب، لم يسبق له نظير فله جذابية خاصة، و هيبة رائعة تهتز بها النفوس تارة، و تقشعر منها الجلود أخرى. فأحسّوا بضعف الفطرة عن معارضته، و لمسوا أنّه جنس من الكلام غير ما هم فيه، و وجدوا منه ما يغمر القوة، و يخاذل النفس، مصادمة، لا حيلة و لا خدعة، مع أنّه مؤلف من نفس الحروف التي هي المادة الأولى لكلماتهم و كلمهم.

إنّ المحققين في علوم القرآن، و مبيّني وجوه إعجازه، و إن ذكروا وجوها كثيرة لكون هذا الكتاب معجزا، و سنمر على تلك الوجوه، غير أنّ جهة إعجازه في عصر الرسالة كان متمركزا في جانبه البياني الذي يتمثل في لفظه الجميل، و معناه البليغ، و نظمه المعجب، و أسلوبه الرائق. و لذلك أدهش عقول الفصحاء و البلغاء في عصر النبي، و لم يزل يدهش كلّ عربي ملمّ بلغته، أو غير عربي عارف باللغة العربية، من غير فرق بين جيل و جيل.

إنّ للقرآن في مجالي اللفظ و المعنى كيفية خاصة يمتاز بها عن كل كلام سواه،

ص: 243

سواء أصدر من أعظم الفصحاء و البلغاء أو من غيرهم، و هذا هو الذي لمسه العرب المعاصرون لعصر الرسالة. و نحن نعيش في بدايات القرن الخامس من هجرة النبي، و ندّعي أنّ القرآن لم يزل معجزا إلى الآن، و أنّه أرقى من أن يعارض أو يبارى و يؤتى بمثله أبدا. غير أنّ لإثبات تلك الدعوى مسلكين.

الأول: المراجعة إلى أهل الخبرة ممّن يعدّون من صميم أهل اللغة العربية، و في الجبهة و السنام منهم.

الثاني: التعرّف عليه بالمباشرة و التحليل.

و نحن نسلك كلا الطريقين في هذا البحث و إن طال بنا الموقف و الكلام، و إليك البيان:

ص: 244

المسلك الأول في إثبات إعجاز القرآن اعتراف بلغاء العرب بإعجاز القرآن البياني
اشارة

إنّ السيرة النبوية قديمها و حديثها، ضبطت اعتراف مجموعة كبيرة من فصحاء العرب بهذا الأمر، و نحن نأتي ببعض ما ظهرنا عليه.

1 - اعتراف الوليد بن المغيرة ريحانة العرب

كان رسول اللّه لا يكف عن الحطّ من آلهة المشركين، و كان الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا و من حكّام العرب(1)، يتحاكمون إليه في أمورهم، و ينشدونه الأشعار، فما اختاره من الشعر كان مقدّما و مختارا. و قد كان من المستهزئين بالرسول (صلى اللّه عليه و آله).

و يروي التاريخ أنّ الوليد - الذي يصفه العرب بريحانتهم و حكيمهم - سمع الآيات التالية من النبي الأكرم: حم * تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ * غٰافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قٰابِلِ اَلتَّوْبِ ، شَدِيدِ اَلْعِقٰابِ ذِي اَلطَّوْلِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ * مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلاٰ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاٰدِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزٰابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جٰادَلُوا بِالْبٰاطِلِ ، لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كٰانَ عِقٰابِ * وَ كَذٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ

ص: 245


1- و هو عمّ أبي جهل بن هشام.

رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ (1) . فلما سمع ذلك قام حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: «و اللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجن، و إنّ له لحلاوة، و إنّ عليه لطلاوة، و إنّ أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق، و إنّه ليعلو و ما يعلى عليه».

ثم انصرف إلى منزله(2)و لعلّ الوليد أوّل من تنبّه إلى عظمة القرآن و آي الذكر الحكيم، و هو من بلغاء عصر الوحي و زمن نزوله، و من شيوخ قريش و عوارف العرب في الأدب الجاهلي، و الخبراء بصناعة الإنشاء، و من هذه المنطلقات جاءت كلمته المأثورة تلك، سبيكة مرصعة، تعدّ أول تقريظ ناله القرآن من خبراء عصره و مصره، و إن حمله المحدثون إلينا عاريا عن التفسير. و لعمري إنّها شهادة من الخبير العدو، الذي التجأ إلى الاعتراف بدافع من ضميره، و إن أثر عنه تفسير آخر للقرآن الكريم دفعه إليه تعلقه بدين آبائه و سنن قومه، سيوافيك نقله. و لأجل كون هذه الكلمة من أستاذ البلاغة، كلمة شارحة لوجهة إعجاز القرآن في عصر الرسالة، نشرح بعض جملها.

1 - قوله: «ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجنّ ». معناه أنّ المعروف من كلام الإنس المنثور، سبك العبارات غير مقيدة بالأسجاع و القوافي، فإذا أتوا بهما على عفو الخاطر، لم يلتزموا بها متقاربة قصيرة الخطوات، بخلاف كلمات الجن التي سمعوها على ألسنة الكهنة كعبارات مجملة صغيرة الحجم، كثيرة المقاطع مقرونة بأسجاع و قوافي، و عليها مسحة من غرابة الألفاظ و مجانسة الحروف و غموض المعاني(3).

فلوّح الوليد إلى أنّ هذا القرآن ليس من هذا القبيل؛ لا هو على أساليب

ص: 246


1- سورة غافر: الآيات 1-6.
2- مجمع البيان، ج 5، ص 387.
3- سنذكر فيما يأتي نماذج من كلمات سطيح الكاهن الذي كان يتكلم عن لسان الجن.

كلام الناس، و لا على أساليب كلام الكهنة المترجمة للغة الجن و الشياطين، و لا مزيجا من هذا و ذاك.

2 - قوله: «إنّ له لحلاوة»: يريد أنّه شهي جذّاب للنفوس، جلاّب للميول، خلاّب للعقول، ترتاح إليه الأرواح.

3 - قوله: «و إنّ عليه لطلاوة»، أي إنّه محلّى بألفاظ جميلة و أنغام مقبولة.

4 - قوله: «إنّ أعلاه لمثمر و أسفله لمغدق»، يريد أنّ القرآن كشجرة كبيرة، غصونها زاخرة بالثمار و جذورها مستحكمة واسعة الانتشار في أعماق الأرض(1)

2 - اعتراف عتبة بن ربيعة

حين أسلم حمزة بن عبد المطلب، و رأت قريش أصحاب رسول اللّه يزيدون و يكثرون، قام عتبة بن ربيعة يوما في نادي قريش، و رسول اللّه حينها جالس في المسجد وحده، و قال: «يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلّمه، و أعرض عليه أمورا، لعلّه يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، و يكفّ عنّا؟».

فقالوا: «بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلّمه».

فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول اللّه، فقال: «يا بن أخي، إنّك منّا حيث علمت، من السّطّة(2) في العشيرة، و المكان في النسب، و إنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، و سفّهت به أحلامهم، و عبت به آلهتهم و دينهم، و كفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها».

فقال له رسول اللّه: «قل يا أبا الوليد، أسمع». فاقترح عليه أمورا(3)

ص: 247


1- يقال غدق المطر، إذا كثر قطره. و أغدقت الأرض، إذا أخصبت. و أغدق العيش، إذا اتّسع. و في بعض المنقولات: «معذق» بالذال.
2- السّطّة: الشرف.
3- منها أن يتنازل عن دعوته فتتخذه العرب ملكا، و تجمع إليه أموال طائلة، و غير ذلك.

فلما فرغ عتبة من كلامه، قال رسول اللّه: «أ قد فرغت يا أبا الوليد؟».

قال: «نعم».

قال: «فاسمع مني».

قال: «أفعل».

فقال: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * حم * تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * كِتٰابٌ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَ نَذِيراً، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ * وَ قٰالُوا قُلُوبُنٰا فِي أَكِنَّةٍ مِمّٰا تَدْعُونٰا إِلَيْهِ ، وَ فِي آذٰانِنٰا وَقْرٌ، وَ مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ حِجٰابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنٰا عٰامِلُونَ *...(1).

ثم مضى رسول اللّه فيها يقرأها عليه، و «عتبة» منصت لها، ملقيا يديه خلف ظهره، معتمدا عليهما، مذهولا، إلى أن انتهى رسول اللّه إلى آية السجدة منها(2) فسجد..

ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت و ذاك».

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: «نحلف باللّه، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به».

فلما جلس إليهم، قالوا: «ما وراءك يا أبا الوليد»؟.

قال: «ورائي أنّي قد سمعت قولا و اللّه ما سمعت مثله قط. و اللّه ما هو بالشعر، و لا بالسحر، و لا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني و اجعلوها بي، و خلّوا بين هذا الرجل و بين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو اللّه ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم. و إن يظهر على العرب، فملكه ملككم، و عزّه عزّكم، و كنتم أسعد الناس به»..

قالوا: «سحرك و اللّه يا أبا الوليد بلسانه».

ص: 248


1- الآيات من أوائل سورة فصّلت.
2- سورة فصلت: الآية 28.

قال: «هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم»(1).

3 - تأثير آيتين
اشارة

إنّ حلاوة القرآن كانت بمكانة ربما يؤثّر سماع آيتين أو أكثر في نفس السامع، بحيث يخضع له و للجائي به غبّ سماعه منه، و يرفض الوثنية، و ينخرط في صفوف الموحدين، و ينتظم في عدادهم، و ما ذاك إلاّ لأنّه يجد من صميم ذاته أنّه كلام سماوي لا غير. و يدلّ على ذلك ما نسرده عليك من تاريخ دخول الخزرجيين في الإسلام.

كان بين الأوس و الخزرج حروب طاحنة، و كانوا لا يضعون السلاح لا بالليل و لا بالنهار، و كانت آخر حرب سجلت بينهم يوم «بعاث»، و كان النصر حليف الأوس على الخزرج، و لأجل ذلك خرج أسعد بن زرارة و زكوان الخزرجيّين، إلى مكة في عمرة رجب، يسألون الحلف على الأوس، و كان أسعد بن زرارة صديقا لعتبة بن ربيعة، فنزل عليه، فقال له:

«إنّه كان بيننا و بين قومنا حرب، و قد جئناكم نطلب الحلف عليهم».

فقال عتبة: «بعدت دارنا عن داركم، و لنا شغل لا نتفرغ لشيء».

قال: «و ما شغلكم و أنتم في قومكم و أمنكم».

قال له عتبة: «خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول اللّه، سفّه أحلامنا، و سبّ آلهتنا، و أفسد شبابنا، و فرّق جماعتنا».

فقال له أسعد: «من هو منكم»؟.

قال: «ابن عبد اللّه بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفا، و أعظمنا بيتا».

فلما سمع ذلك أسعد، قال: «فأين هو»؟.

ص: 249


1- السيرة النبوية، لابن هشام، ج 1، ص 293-294.

قال: «جالس في الحجر، و إنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم، فلا تسمع منه و لا تكلّمه، فإنّه ساحر يسحرك بكلامه».

و كان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: «فكيف أصنع و أنا معتمر، لا بدّ لي أن أطوف بالبيت».

فقال: «ضع في أذنيك القطن».

فدخل أسعد المسجد، و قد حشا أذنيه من القطن، و طاف بالبيت، و رسول اللّه جالس في الحجر، مع قوم من بني هاشم. فنظر إليه نظرة، فجازه.

فلما كان في الشوط الثاني، قال في نفسه: «ما أجد أجهل مني. أ يكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أعرفه، حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم»، ثم أخذ القطن من أذنيه و رمى به. فلما وصل إلى رسول اللّه، قال له: «أنعم صباحا».

فرفع رسول اللّه رأسه إليه، و قال: «قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم»..

فقال له أسعد: «إنّ عهدك بهذا القريب. إلى م تدعو يا محمد»؟.

قال: «إلى شهادة أنّ لا إله إلاّ اللّه، و أنّي رسول اللّه».

ثم قرأ هاتين الآيتين:

قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، أَلاّٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً، وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ مِنْ إِمْلاٰقٍ ، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ ، وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ ، وَ لاٰ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ ، ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَ لاٰ تَقْرَبُوا مٰالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا، وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ ، وَ بِعَهْدِ اَللّٰهِ أَوْفُوا، ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) .

ص: 250


1- سورة الأنعام: الآيتان 151-152.

فلما سمع أسعد، قال: «أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وحده لا شريك له، و أنّك رسول اللّه. بأبي أنت و أمّي، أنا من أهل يثرب و من الخزرج، و بيننا و بين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها اللّه بك، فلا أجد أعزّ منك، و معي رجل من قومي، فإن دخل في هذا الأمر، رجوت أن يتمّ اللّه لنا أمرنا فيك... فالحمد للّه الذي ساقنا إليك، و اللّه ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا، و قد آتانا اللّه بأفضل ما أتيت له».

ثم أقبل زكوان، فقال له أسعد: «هذا رسول اللّه الذي كانت اليهود تبشرنا به، و تخبرنا بصفته، فهلمّ فأسلم».

فأسلم زكوان. ثم قالا: «يا رسول اللّه، ابعث معنا رجلا يعلمنا القرآن، و يدعو الناس إلى أمرك».

فأمر رسول اللّه مصعب بن عمير - و كان فتى حدثا مترفا بين أبويه، يكرمانه و يفضلانه على أولادهم، و لم يخرج من مكة، فلما أسلم جفاه أبواه، و كان مع رسول اللّه في الشعب حتى تغير و أصابه الجهد، و قد كان يعلم من القرآن كثيرا - أمره بالخروج مع أسعد و زكوان، فخرج معهما إلى المدينة، و قدما على قومهما و أخبراهم بأمر رسول اللّه و خبره، فأجاب من كلّ بطن، الرجل و الرجلان(1).

ترى أنّ سماع الآيتين يصنع من الكافر الوثني مسلما موحّدا، شهما هماما، يفدي بنفسه و ماله في طريق دينه، و ما ذاك إلاّ لتيقّنه من أنّ القرآن كلام سماوي خارج عن طوق قدرة البشر. و قد كان النصر حليف بعيث رسول اللّه، و ما كان ذاك، إلاّ لأنّه كان يقرأ ما نزل من القرآن و حفظه، حتى أنّ أسيد بن الحضير رئيس الخزرجين - لما سمع منه قوله سبحانه: حم * تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * كِتٰابٌ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .. (2)، ظهرت أمارات الإيمان في وجهه، فبعث إلى منزله من يأتيه بثوبين طاهرين، و اغتسل،

ص: 251


1- أعلام الورى لأعلام الهدى، ص 37-38.
2- الآيات من أول سورة فصلت.

و شهد الشهادتين، ثم قام و أخذ بيد مصعب و قال: «أظهر أمرك و لا تهابنّ أحدا».

و لما كان للقرآن تأثيره العجيب في نفوس الشباب، احتالت قريش في اللّبس على الناس باللجوء إلى جملة من الأعمال الوقائية، لتصدّ تأثير القرآن في النفوس المتهيئة لقبول الحق، تعرّض لها التاريخ و السير النبوية، أهمها:

1 - منع الناس، و خاصة الشخصيات و الوجهاء، من سماع القرآن و مقابلة الرسول.

2 - عزو القرآن إلى السحر.

3 - دعوة القصاصين لسرد أخبار الأمم.

و كلّ ذلك يدلّ على أنّ القرآن كان كلاما ممتازا فائقا كلام البشر، له تأثير فريد في النفوس بحيث يجذب إليه الناس بمجرّد سماعهم، بلا اختيار. و فيما يلي بيان هذه الأعمال:

1 - منع سماع القرآن

يحكي لنا القرآن أنّ المشركين تواصوا بترك سماع القرآن و الإلغاء عند قراءته في قوله: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (1). أي عارضوه باللّغو بما لا يعتدّ به من الكلام، حتى لا يصل كلامه إلى أسماع الآخرين.

و مع ذلك كله فأولئك الذين كانوا مبدأ الردع الشباب عن سماع القرآن، قد نقضوا عهدهم، لشدّة التذاذهم من سماعه.

ص: 252


1- سورة فصلت: الآية 26.

فهؤلاء ثلاثة من بلغاء قريش و أشرافهم و هم أبو سفيان بن حرب، و أبو جهل بن هشام، و الأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليستمعوا كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و هو يصلّي من الليل في بيته، فأخذ كلّ رجل منهم مجلسا يستمع فيه، و كلّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر، تفرّقوا، فجمعهم الطريق فتلاقوا و قال بعضهم لبعض: «لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا»، ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كلّ رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثلما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: «لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود»، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرّقوا(1).

فلو كان القرآن كلاما، يشبه كلام الإنس و يوازنه و يعادله، لم يكن هناك أي وازع لهؤلاء الصناديد الذين يعدّون في الطليعة و القمة من أعداء النبي، أن يهجروا فرشهم، و يقلوا دفء دثرهم، و يبيتوا في الظلام الحالك على التراب، حتى يستمعوا إلى كلامه و مناجاته في أحشاء الليل في صلاته و نسكه، و ما هذا إلاّ لأنّ القرآن كان كلاما خلاّبا، لعذوبة ألفاظه و بلاغة معانيه، رائعا في نظمه و أسلوبه، و لم يكن له نظير في أوساطهم، و لا في كلمات بلغائهم و فصحائهم، و هم الفصحاء و البلغاء و من يشار إليهم في تلك العصور.

و من الحبائل التي سلكوها لصدّ تأثير القرآن، منع متشخصي المشركين من لقاء الرسول، خصوصا من كان لإسلامه تأثير خاص في إيمان قومه بدين الرسول.

و من تلك الشخصيات الطفيل بن عمر الدوسي، فقد قدم مكة و رسول اللّه

ص: 253


1- سيرة ابن هشام، ج 1، ص 315.

بها، فمشى إليه رجال من قريش و كان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا له: «يا طفيل إنّك قدمت بلادنا، و هذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، و قد فرّق جماعتنا و شتت أمرنا، و إنّما قوله كالسحر، يفرّق بين الرجل و أبيه، و بينه و أخيه و زوجته، و إنّا نخشى عليك و على قومك ما دخل علينا، فلا تكلّمنّه، و لا تسمعنّ منه شيئا».

يقول الطفيل: فو اللّه ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا و لا أكلّمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا، فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، و أنا لا أريد أن أسمعه.

قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول اللّه قائم يصلي عند الكعبة.

قال: فقمت منه قريبا فأبى اللّه إلاّ أن يسمعني بعض قوله فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: «وا ثكل أمّي، و اللّه إنّي لرجل لبيب، شاعر، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل. فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته و إن كان قبيحا تركته. فمكثت حتى انصرف رسول اللّه إلى بيته، فاتبعته، حتى إذا دخل بيته، دخلت عليه، فقلت:

«يا محمد إنّ قومك قد قالوا لي كذا و كذا، فو اللّه ما برحوا يخوّفونني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف، لئلا أسمع قولك، ثم أبى اللّه إلاّ أن يسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فاعرض عليّ أمرك».

قال: فعرض عليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الإسلام و تلا عليّ القرآن.

فلا و اللّه ما سمعت قولا قطّ أحسن منه، و لا أمرا أعدل منه.

قال: فأسلمت و شهدت شهادة الحق(1).

و ممّا نقل في هذا المجال أنّ الأعشى، أحد شعراء العرب، الطائر الصيت، بلغ إليه الإسلام، فخرج يريده، فمدح النبي بقصيدة أدرج فيها كثيرا من تعاليم الإسلام، مستهلها.

ص: 254


1- السيرة النبوية، لابن هشام، ج 1، ص 382-383.

أ لم تغتمض عيناك ليلة أرمدا *** و بت كما بات السليم مسهّدا

إلى أن قال:

نبيا يرى ما لا ترون، و ذكره *** أغار لعمري في البلاد و أنجدا

فإياك و الميتات لا تقربنها *** و لا تأخذن سهما حديدا لتفصدا

و ذا النّصب المنصوب لا تنسكنّه *** و لا تعبد الأوثان، و اللّه فاعبدا

و لا تقربن حرّة كان سرّها *** عليك حراما، فانكحن أو تأبّدا

و ذا الرحم القربى فلا تقطعنّه *** لعاقبة و لا الأسير المقيّدا

و سبّح على حين العشيات و الضحى *** و لا تحمد الشيطان و اللّه فاحمدا

فلما ورد الأعشى مكة، اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره، فأخبره أنّه جاء يريد رسول اللّه ليسلم فقال له: يا أبا بصير، إنّه يحرّم الزنا.

فقال الأعشى: و اللّه إن ذلك لأمر ما لي فيه أرب.

فقال له: يا أبا بصير، فإنّه يحرّم الخمر.

فقال الأعشى: أمّا هذه فو اللّه إنّ في النفس منها لعلالات، و لكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم، فانصرف. فمات في عامه ذلك، و لم يعد إلى رسول اللّه(1).

2 - عزو القرآن إلى السّحر

أدرك فصحاء قريش و بلغاؤهم أنّ القرآن لا يشبه كلام الإنس، و هو فوق كلامهم، و لما كان مقتضى العجز، اعتناق الدين الذي كان النبي يدعو إليه، خدعوا عقولهم و عقول قومهم بتفسيره بالسحر، بحجة أنّ السحر يفرّق، و القرآن

ص: 255


1- السيرة النبوية لابن هشام: ص 386. و أضاف الشهرستاني في كتابه «المعجزة الخالدة»، ص 21: و اجتمعت عليه قريش لما سمعت بخبره و بمدحه النبي الأمي في قصيدة دالية، جاء بها ليجعلها تقدمة إيمانه و إذعانه، و قالوا للأعشى: «إن أنشدته هذه القصيدة لم يقبلها منك». و لم يزالوا يخدعونه و يمنعونه حتى سافر إلى اليمامة، و قال: «أقضي أياما هناك ثم أعود إليه».

أيضا فرّق بينهم. و هذا هو ريحانة قريش، الوليد بن المغيرة، و قد اجتمع مع رؤساء قريش في دار الندوة، فقال لهم: «إنّكم ذوو أحساب و ذوو أحلام، و إنّ العرب يأتونكم، فينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا أمركم على شيء واحد. ما تقولون في هذا الرجل ؟».

قالوا: «نقول:

1 - إنّه شاعر».

فعبس عندها، و قال: «قد سمعنا الشعر، فما يشبه قوله الشعر».

فقالوا:

2 - «إنّه كاهن».

قال: «إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة». قالوا:

3 - «إنّه لمجنون».

فقال: «إذا تأتونه، فلا تجدونه مجنونا». قالوا:

4 - «إنّه ساحر».

قال: «و ما الساحر»؟.

قالوا: «بشر يحببون بين المتباغضين، و يبغّضون بين المتحابين».

قال: «فهو ساحر».

فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إلاّ قال:

يا ساحر، يا ساحر».

و اشتدّ على النبي ذلك، فأنزل اللّه تعالى قوله:

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَ جَعَلْتُ لَهُ مٰالاً مَمْدُوداً * وَ بَنِينَ شُهُوداً * وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاّٰ إِنَّهُ كٰانَ لِآيٰاتِنٰا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اِسْتَكْبَرَ * فَقٰالَ إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ قَوْلُ اَلْبَشَرِ (1) .

ص: 256


1- سورة المدثر: الآيات 11-25.

و في رواية، بعد ما وصف الوليد ما سمع من كلام محمد، بقوله: «ما هو من كلام الإنس الخ..»(1)، ذهب إليه أبو جهل، فقعد إلى جنبه حزينا، فقال له الوليد: «ما لي أراك حزينا يا ابن أخي».

قال: «هذه قريش يعيبونك على كبر سنك، و يزعمون أنّك زيّنت كلام محمد».

فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال: «أ تزعمون أنّ محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق»؟.

فقالوا: «اللهم لا».

قال: «أ تزعمون أنّه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك»؟.

قالوا: «اللهم لا».

قال: «أ تزعمون أنّه شاعر، فهل رأيتموه أنّه ينطق بشعر قطّ»؟.

قالوا: «اللهم لا».

قال: «أ تزعمون أنّه كذّاب، فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب»؟.

قالوا: «اللهم لا».

فقالت قريش للوليد: «ما هو؟».

فتفكّر في نفسه، ثم نظر و عبس، فقال: «ما هو إلاّ ساحر. ما رأيتموه يفرّق بين الرجل و أهله، و ولده و مواليه ؟. فهو ساحر، و ما يقوله سحر يؤثر»(2).

إنّ تفسير القرآن بالسحر، و توصيف الداعي بالساحر - كما نقله القرآن في غير واحد من آياته - أدلّ دليل على أنّ فصحاء العرب وجدوا العجز في أنفسهم

ص: 257


1- تقدم كلامه في الصفحة السابقة.
2- مجمع البيان، ج 5، ص 386-387.

و رأوا أنّ الهزيمة في حلبة السباق معقودة بنواصيهم، فما وجدوا مخلصا لتعمية من يفد على مكة في أيام الحج من عرب الجزيرة إلاّ بتفسيره بشيء ينطلي على طباع السّفهاء و أذهان السذج من الناس، و هو أنّه سحر و الجائي به ساحر، بحجة الاشتراك في الأثر.

و على ضوء ذلك تعود كلّ الشرائع السماوية سحرا و الأنبياء سحرة، بحجة أنّهم كانوا يفرّقون بشرائعهم بين أفراد الأمة الواحدة(1).

و كيف يكون القرآن سحرا، و السحر لا يبقى بعد موت الساحر، و لا يؤثّر في أقوياء النفوس، و ها هو القرآن قد مرّ عليه حتى اليوم أربعة عشر قرنا، و لما يزل غضّا طريا كما كان، لم يتضاءل نوره و أثره بمرور الزمان، و توالي الأعقاب في الأحقاب، كما خضع له أعاظم أهل الفكر و التعقل من البشر.

3 - دعوة القصاص لسرد الأساطير

و قد عمد رؤساء قريش، لإحباط تأثير القرآن الكريم - بعد أن رأوا أنّ الناس يدركون بفراستهم و فطنتهم أنّ للقرآن جاذبية غريبة لم يسبقه كلام في الحلاوة، و لا حديث في العذوبة، و لا عبارات في العمق، يتقبّله كل قلب واع، و تسكن إليه كل نفس مستعدة - عمدوا إلى تخطيط تدبير آخر، ظنّا منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه، ألا و هو معارضة القرآن الكريم، بدعوة النضر بن الحارث ليسرد للناس أخبار ملوك الفرس و قصصهم و حكايتهم و أساطيرهم، و ما طلبوا منه القيام بهذا العمل إلاّ ليلهي به الناس عن الإصغاء إلى القرآن الكريم.

فقام بهذا العمل و لكن كانت خطتهم، خطة حمقاء إلى درجة أنّها لم تدم إلاّ عدّة أيام، لأنّ قريشا سئمت من أحاديث النضر، و تفرّقت عنه(2).

ص: 258


1- قد ورد تفسير القرآن بالسحر، و الداعي بالساحر، في عدّة آيات منها في الأول الصافات: الآية 15، الأحقاف: الآية 7، سبأ: الآية 43. و في الثاني: يونس: الآية 3، ص: الآية 4.
2- لاحظ السيرة النبوية، ج 1، ص 300 و 358.
المسلك الثاني في إثبات إعجاز القرآن تحليل إعجاز القرآن الكريم
اشارة

المتسالم عليه بين العلماء أنّ القرآن كتاب سماوي معجز، لا يقدر الإنسان - مهما عظمت طاقاته - على الإتيان بمثله. و لكن عند ما يتساءل عن سرّ إعجازه، يتوقف الكثير منهم في ذلك و لا يأتون بكلمة شافية تغني السائل.

فمنهم من ذهب إلى أنّ شأن الإعجاز عجيب، يدرك و لا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن، تدرك و لا يمكن وصفها، و كالملاحة. و أضافوا: «إنّ مدرك الإعجاز هو الذوق ليس إلاّ، و طريق اكتساب الذوق، طول خدمة علمي المعاني و البيان. نعم، للبلاغة وجوه متلثمة، و ربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتتجلى عليك. أمّا نفس الإعجاز، فلا»(1).

و منهم من يحيل سبب الإعجاز إلى فرط الفصاحة و البلاغة، من دون أن يشرح السبب، و يطرح آيات من القرآن على منضدة التشريح، و يقارنها بكلام من كلم فصحاء العرب و بلغائهم و أقصى ما عندهم هو التصديق بكونه معجزا بحجة أنّ أساطين البلاغة و أساتذتها عجزوا عن الإتيان بمثله في عصر نزول القرآن. و لكن هذا دليل إقناعي، و رجوع إلى أهل الخبرة.

إلاّ أنّ هناك جماعة من المحققين لم يقنعوا بهذا القدر دون البحث عن حقيقة

ص: 259


1- مفتاح العلوم، للسكاكي، قسم البيان، ص 176.

إعجازه، فبحثوا و نقبوا حتى رفعوا اللثام عن وجه إعجازه، و بيّنوا الدعائم و الأركان التي يقوم عليها تفوقه على كلام البشر، قائلين:

هل يمكن أن يعرّف سبحانه كتابه النازل على نبيّه، معجزا و خارقا، و يباري الناس و يدعوهم إلى مقابلته و الإتيان بمثله، ثم لا يوجد فيه حتى إشارات إلى ملاك إعجازه و وجه تفوّقه ؟! إنّ مثل هذا لا يصدر عن الحكيم تعالى.

فعلى ضوء ذلك، لا بدّ لنا من الإمعان في آيات القرآن الكريم حتى نلمس و نستكشف ملاك إعجازه و خرقه للعادة، و هذا هو ما نتعاطاه في هذا التحليل و الذي تبيّن لنا بعد دراسة ما كتبه المحققون حول إعجاز القرآن، و بعد الإمعان في نفس آيات الذكر الحكيم، أن ملاك تفوّقه هو الأمور الأربعة - الآتي ذكرها - مجتمعة.

أجل، إنّ ما نركّز البحث عليه في المقام راجع إلى الإعجاز البياني للقرآن، الذي كان هو محور الإعجاز في عصر النزول و عند فصحاء الجزيرة، و بلغائهم، و به وقع التحدي. و أمّا إعجازه من جهات أخرى، ككون حامله أميا، و كونه مبيّنا للعلوم الكونية التي وصل إليها البشر بعد أحقاب من الزمن، أو إخباره عن المغيّبات، أو كونه مصدرا لتشريع متقن و متكامل، أو غير ذلك من الجهات، فلا يمكن أن نعدّها أركانا للإعجاز، و وجه ذلك أنّ القرآن سحر العرب من اللحظة الأولى لنزوله، سواء منهم في ذلك من شرح اللّه صدره للإسلام و من جعل على بصره غشاوة. و كان القرآن هو العامل الحاسم في أوائل أيام الدعوة، يوم لم يكن للنبي حول و لا طول، و لم يكن للإسلام قوة و لا منعة.

فلا بدّ أن نبحث عن منبع السحر في القرآن، قبل التشريع المحكم، و قبل النبوءة الغيبيّة، و قبل العلوم الكونية، و قبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشتمل على هذه المزايا. فقليل القرآن الذي كان في أيام الدعوة الأولى، كان مجرّدا عن هذه الأشياء التي جاءت فيما بعد، و كان مع ذلك محتويا على هذا النبع الأصيل الذي تذوقه العرب، فقالوا إن هذا إلاّ سحر يؤثر.

إنّنا نقرأ الآيات الكثير في هذه السور فلا نجد فيها تشريعا محكما، و لا

ص: 260

علوما كونية، و لا نجد إخبارا بالغيب يقع بعد سنين، و مع ذلك سحر عقول العرب و تحدث عنه ابن المغيرة بعد التفكير و التقدير، بما تحدّث.

لا بدّ إذن أنّ السحر الذي عناه، كان كامنا في مظهر آخر غير التشريع و الغيبيات و العلوم الكونية، لا بدّ أنّه كامن في صميم النسق القرآني ذاته، و كان هذا يتجلى من خلال التعبير الجميل المؤثّر المعمّر المصوّر.

و على ذلك فالجمال الفنّي الخالص، عنصر مستقل في إثبات إعجاز القرآن(1)، و يتجلى ذلك في أمور أربعة تضفى على القرآن - مجتمعة - إعجازه و تفوّقه، و هي:

1 - فصاحة ألفاظه و جمال عباراته.

2 - بلاغة معانيه و سموّها.

3 - روعة نظمه(2) و تأليفه. و يراد منه: ترابط كلماته و جمله، و تناسق آياته، و تآخي مضامينه، حتى كأنّها بناء واحد، متلاصق الأجزاء، متناسب الأشكال، لا تجد فيه صدعا و لا انشقاقا.

4 - بداعة أسلوبه الذي ليس له مثيل في كلام العرب، فإنّ لكل من الشعر و النثر بأقسامه، أسلوبا و سبكا خاصا، و القرآن على أسلوب لا يماثل واحدا من الأساليب الكلامية و المناهج الشعرية.

و هذه الدعائم الأربع إذا اجتمعت، تخلق كلاما له صنع في القلوب، و تأثير في النفوس. فإذا قرع السمع، و وصل إلى القلب، يحسّ الإنسان فيه لذّة و حلاوة في حال، و روعة و مهابة في أخرى، تقشعر منه الجلود، و تلين به القلوب، و تنشرح به الصدور، و تغشى النفوس خشية و رهبة و وجد و انبساط، و يحسّ البليغ بعجزه عن المباراة و المقابلة. و لأجل ذلك، كم من عدو للرسول من

ص: 261


1- لاحظ التصوير الفنّي في القرآن الكريم سيد قطب فصل سحر القرآن، ص 11-23.
2- ربما يطلق النظم في كلماتهم و يراد منه الأسلوب و السبك الذي هو الأمر الرابع، و لأجل ذلك نردفه بالتأليف حتى لا يشتبه المراد.

رجال العرب و فتّاكها أقبلوا يريدون اغتياله و قتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم، أن تحوّلوا عن رأيهم الأول، و ركنوا إلى مسالمته، و دخلوا في دينه، و انقلبت عداوتهم موالاة، و كفرهم إيمانا.

يقول سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنٰا هٰذَا اَلْقُرْآنَ عَلىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خٰاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللّٰهِ (1)و يقول سبحانه: اَللّٰهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتٰاباً مُتَشٰابِهاً مَثٰانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلىٰ ذِكْرِ اَللّٰهِ (2).

و يقول سبحانه: وَ إِذٰا سَمِعُوا مٰا أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّٰا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ (3).

هذا ما يثبته التحليل الآتي لكلّ من هذه الدعائم. فليس المدّعى كون كل واحدة منها، وجها مستقلا للإعجاز، و إنّما المراد أنّ كلّ واحدة منها توجد أرضيّة خاصة، ليتشكل باجتماعها كلام معجز خارق، مبهر للعقول، و مدهش للنفوس. فيجد الإنسان في نفسه العجز عن المباراة. و الضعف عن التحدّي.

هذا، و قد نقل السيوطي عن عدّة من المحققين في مسألة إعجاز القرآن أقوالا كثيرة(4)، غير أنّ بعضها خارج عن الإطار البياني، الذي نحن بصدد تشريحه، مثل انطواء القرآن على الإخبار بالمغيّبات، الذي سنذكره في عداد الشواهد الدالة على أنّ القرآن كتاب إلهي لا بشرى، و لكن لبّ هذه الأقوال - التي ترجع إلى الإعجاز البياني - يتلخص في الدعائم الأربع التي اخترناها أساسا للإعجاز.

و لأجل توضيح هذه الدعائم الأربع نأتي بمقدمة نبيّن فيها معنى الفصاحة و البلاغة، حتى يتبيّن نسبة كل واحدة من هذه الدعائم إلى الأخرى.

ص: 262


1- سورة الحشر: الآية 21.
2- سورة الزمر: الآية 23.
3- سورة المائدة: الآية 83.
4- لاحظ الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص 6-17 ط مصر، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
تعريف الفصاحة

الفصاحة يوصف بها المفرد كما يوصف بها الكلام.

و الفصاحة في المفرد عبارة عن خلوصه من تنافر الحروف، و الغرابة، و مخالفة القياس اللغوي المستنبط من استقراء اللغة العربية.

و قد ذكر القوم للتنافر وجها أو وجوها، و الحق أنّه أمر ذوقي، و ليس رهن قرب المخارج، و لا بعدها دائما.

و أمّا الفصاحة في الكلام، فهي خلوصه من ضعف التأليف و تنافر الكلمات و التعقيد، مع فصاحتها، أي يشترط مضافا إلى الشرائط المعتبرة في فصاحة المفرد، الأمور الثلاثة الواردة في صدر التعريف.

ثم إنّ التعقيد تارة يحصل بسبب خلل في نظم الكلام، بمعنى تقديم ما حقّه التأخير و بالعكس، و أخرى بسبب بعد المناسبة بين المعنى اللغوي و المعنى الكنائي المقصود.

و المتكفل لبيان الخلل في النظم هو النحو. و المتكفل لبيان الخلل في الانتقال هو علم البيان، فبما أنّه علم يبحث فيه عن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه و خفائه، يشرح لنا التعقيد المعنوي و مراتبه، فإنّ لكل معنى لوازم، بعضها بلا واسطة، و بعضها بواسطة، فيمكن إيراده بعبارات مختلفة في الوضوح و الخفاء(1).

ص: 263


1- و بعبارة أخرى: إنّ إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح، لا يتأتّى بالدلالة المطابقية، لأنّ السامع إن كان عالما بوضع الألفاظ، لم يكن كل واحد منها دالا عليه، و إن كان عالما لم يكن بعضها أوضح دلالة عليه من بعض آخر، و إنّما يتأتّى في الدلالة العقلية، لجواز أن تختلف مراتب اللزوم في الوضوح. و يتضح ذلك في الدلالة، الالتزامية مثل دلالة قولنا: «زيد كثير الرّماد» و «زيد جبان الكلب»، و «زيد مهزول الفصيل»، على لازمه، أعني كون زيد جوادا. فالكلّ يدلّ على ذلك اللازم، لكن يختلف في الوضوح و الخفاء، لقلة الوسائط أو كثرتها. و بما أنّ الخفاء و الوضوح في الانتقال إلى المعنى اللازم يتأتّى في الدلالة الالتزامية، انحصر المقصود من علم البيان في التشبيه و المجاز، و الكناية، لكون المقصود من الجميع هناك هو المعنى الخارج عن المدلول اللغوي للّفظ، فالمراد من المجاز هو المعنى غير الموضوع له بادعاء كونه من مصاديق الموضوع له، كما أنّ المراد من الكناية هو المعنى المكنّى عنه لا المكنى به. و أمّا التشبيه فهو و إن كان خاليا عن الدلالة الالتزامية، لكنه يبحث عنه مقدمة للاستعارة التي هي من أقسام المجاز. و بذلك يعلم أن الأولى تقديم علم البيان على علم المعاني، لكون الأول متكفلا بتفسير التعقيد المعنوي الدخل بالفصاحة، و أمّا علم المعاني فهو يرجع إلى البلاغة، كما سيظهر.
تعريف البلاغة

البلاغة في الكلام عبارة عن مطابقته لمقتضى الحال، أي مطابقته للغرض الداعي إلى التكلم على وجه مخصوص. مثلا: كون المخاطب منكرا للحكم، حال يقتضي تأكيده، و التأكيد مقتضى الحال. كما أنّ كون المخاطب مستعدا لقبول الحكم، يقتضي كون الكلام عاريا عن التأكيد، و الإطلاق مقتضاها، و هكذا في سائر الأبواب.

هذا كلّه مع لزوم اعتبار فصاحة الكلام في تحقق البلاغة، فالبلاغة لها عمادان. أحدهما مطابقة الكلام لمقتضى الحال، و الثاني فصاحة الكلام.

و هاهنا نكتة و هي أنّ القوم حصروا معنى البلاغة في هذا المعنى، و حاصله كون عرض المعنى موافقا للغرض الداعي إلى التكلم (مع فصاحة الكلام)، و جعلوا للبلاغة بهذا المعنى طرفين:

أحدهما: أعلى، و هو حدّ الإعجاز، و هو أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر و يعجزهم عن معارضته.

و الثاني: ما لا يبلغ إلى هذا الحدّ.

و لكل واحد درجات و مراتب.

و لا يخفى أنّ جعل البلاغة بهذا المعنى (أي العرض الصحيح المطابق للغرض) لا يكون ركن الإعجاز و إن بلغ الكلام إلى نهاية الإتقان في العرض، ما لم يضمّ إليه شيء آخر، و هو إتقان المعاني و سمو المضامين. و إلاّ فالمعاني المبتذلة، و المضامين المتوفرة بين الناس إذا عرضت بشكل مطابق للغرض الداعي إلى التكلم، لا يصير الكلام معها معجزا خارقا للعادة.

ص: 264

و لأجل ذلك كان على القوم الذين جعلوا الفصاحة و البلاغة ركنين للإعجاز، و ملاكين له، إضافة قيد آخر، و هو كون المعاني و المضامين عالية و سامية، تسرح فيها النفوس، و تغوص فيها العقول.

و من هنا نرى أنّ بعض أساتذة هذا الفن المعاصرين، عرفوا البلاغة بشكل آخر، قالوا: هي تأدية المعنى الجليل واضحا بعبارة صحيحة فصيحة، مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه، و الأشخاص الذين يخاطبون(1).

فترى أنّه أضيف في التعريف وراء ملائمة كل كلام للموطن (مطابقة الكلام لمقتضى الحال)، كون المعنى جليلا.

و سيوافيك أنّ هذا المقدار من التعريف أيضا غير واف للرقي بالكلام إلى حدّ الإعجاز، بل يحتاج إلى دعامة أخرى و هي بداعة الأسلوب و رقيّه، كما سيوافيك.

نكتة مهمّة

إنّ هاهنا نكتة تلقي الضوء على سبب حصر فصاحة القرآن - كما سيأتي - في خلوه عن تنافر الحروف و الكلمات، و تركنا البحث عن كل ما ذكروه في فصاحة المفرد و الكلام من الشرائط المتعددة، فهل هذا يعني إنكار دخالة غيره في الفصاحة، أو له معنى آخر؟.

و الجواب: إنّ كون الكلمة متلائمة الحروف في فصاحة المفرد، و كون الكلام متلائم الكلمات في فصاحة الجملة، له القسط الأوفر في تحقق الفصاحة، لأنّ الفصاحة تعتمد على مقاطع الحروف و الكلمات أكثر من كل شيء. و أمّا غير ذلك ممّا ذكروه في تعريفهما، فكأنّها معدّات لخروج الكلام عذبا حسنا، بهيّا نضيرا، له وقع في القلوب. و لأجل ذلك ركزنا على حديث تلاؤم الحروف و الكلمات، و خلوهما عن التنافر، هذا.

ص: 265


1- البلاغة الواضحة، ص 8.

على أنّ البحث عن اشتمال القرآن على مخالفة القياس في فصاحة المفرد، و ضعف التأليف في فصاحة الكلام، بحث زائد، لأنّ القواعد تعرض على القرآن، و لا يعرض القرآن عليها، لأنّه إمّا هو كلام إلهي فهو فوق القواعد، و إمّا كلام بشري، فهو صدر من عربي صميم في أعرق بيت من العرب، ترحل إليه المواكب و تحطّ رحالها عنده. و المؤمن و الملحد يعترفان بكون القرآن في درجة عالية من الكلام الذي ينبغي أن يحتذى و يقتدى.

ص: 266

دعائم إعجاز القرآن
(1) الفصاحة: جمال اللفظ و أناقة الظاهر

اعتمد علماء المعاني و البيان في تعريف فن الفصاحة على أمور، و قد عرفت في المقدمة السابقة - نصوصهم على تلك الأمور.

لكن المهم في الفصاحة، كون الكلمة عذبة مألوفة الاستعمال، جامعة لنعوت الجودة و صفات الجمال، كما أنّ المهم في فصاحة الكلام تلاؤم الكلمات في الجمل، فإنّ التلاؤم يوجب حسن الكلام في السمع، و سهولته في اللفظ، و تقبل النفس معناه بوجه مطبوع، لما يرد عليها المعنى بصورة حسنة و دلالة واضحة.

و أمّا غير العذوبة و التلاؤم من الشرائط فهو في الدرجة الثانية من تحقيق معنى الفصاحة، و قد عرفت عدم اعتبار البعض - كمخالفة القياس في فصاحة المفرد، و ضعف التأليف بمعنى كونه على خلاف القانون النحوي المشتهر - في الفصاحة القرآنية، لأنّ القرآن هو المقياس لهما.

و الذوق السليم هو العمدة في معرفة حسن الكلمات و سلاستها و تمييز ما فيها من وجوه البشاعة و مظاهر الاستكراه. لأنّ الألفاظ أصوات، فالذي يطرب لصوت البلبل، و ينفر من أصوات البوم و الغربان، ينبو سمعه عن الكلمة إذا كانت غريبة متنافرة الحروف. أ لا ترى أنّ كلمتي «المزنة»، و «الديمة» للسحابة المطرة، كلتاهما سهلة عذبة، يسكن إليهما السمع بخلاف كلمة «البعاق» التي في معناهما، فإنّها قبيحة، تصكّ الآذان. و أمثال ذلك كثير في مفردات اللغة،

ص: 267

تستطيع أن تدركه بذوقك. و هذا نظير الخط الحسن، فإنّه يوجب إقبال الناس على قراءته، و إمعان النظر في معناه، بخلاف ما إذا كتب نفس ذلك الكتاب بخط رديء غير واضح.

يقول الإمام يحيى بن حمزة العلوي «إنّ الفصاحة راجعة إلى الألفاظ، و البلاغة راجعة إلى المعاني». و يشرحه في مكان آخر بقوله: «إنّ المزايا الراجعة إلى الألفاظ، تارة ترجع إلى مفردات الحروف، و أخرى إلى تأليفها من تلك الحروف، و ثالثة إلى مفردات الألفاظ، و مرة إلى مركباتها. فهذه أوجه أربعة لا بدّ من اعتبارها في كون اللفظ فصيحا»(1).

و لأجل أنّ لتلاؤم الحروف و الكلمات دورا عظيما في الفصاحة، نركّز في هذا البحث، على الخلو من تنافر الكلمة و الكلمات، بأن لا تكون نفس الكلمة ثقيلة على السمع، كما لا يكون اتّصال بعضها ببعض مما يسبب ثقلها على السمع و صعوبة أدائها باللسان. و بما أنّ مخارج الحروف مختلفة، فمنها ما هو من أقصى الحلق، و منها ما هو من أدنى الفم، و منها ما هو بين ذلك، فلا بدّ في حصول التلاؤم من مراعاة تلك الصفات، بأن لا يكون بين الحروف بعد شديد، أو قرب شديد، فعندها تظهر الكلمة أو الكلام سهلا على اللسان، و حسنا في الأسماع، و مقبولا في الطباع. و هذا إن لم يكن ملاكا كليّا لتمييز المتلائم عن المتنافر، إلاّ أنّه ميزان غالبي، فلاحظ البيتين التاليين ترى الكلام في أحدهما في نهاية التنافر، و في الآخر في كمال التلاؤم.

قال الشاعر:

و قبر حرب بمكان قفر *** و ليس قرب قبر حرب قبر

فقيل، إنّ هذا البيت يعسر لأحد أن ينشده ثلاث مرات متواليات دون أن يتتعتع، لأنّ اجتماع كلماته، و قرب مخارج حروفها يحدثان ثقلا ظاهرا، و إن كانت كلّ واحدة منها غير مستكرهة و لا ثقيلة.

و قال شاعر آخر:

ص: 268


1- الطراز: ص 214 و 220.

رمتني و ستر اللّه بيني و بينها *** عشية آرام الكناس رميم(1).

و لأجل دخالة عذوبة الكلمة و تلاؤم الكلمات في تحقق الفصاحة، أدرك صيارفة الكلام، و مشاهير الفصحاء في عصر النبي ما عبّر عنه الوليد بن المغيرة بقوله: «إنّ له لحلاوة و إنّ عليه لطلاوة».

يقول الإمام يحيى بن حمزة في شأن تركيب مفردات الألفاظ العربية، الذي له دور كبير في فصاحة الكلام: «و لا بدّ فيه من مراعاة أمرين:

أمّا أولا: فأن تكون كلّ كلمة منظومة مع ما يشاكلها و يماثلها، كما يكون في نظام العقد، فإنّه إنّما يحسن إذا كان كل خرزة مؤتلفة مع ما يكون مشاكلا لها.

لأنّه إذا حصل على هذه الهيئة كان له وقع في النفوس و حسن منظر في رأي العين.

و أمّا ثانيا: فإذا كانت مؤتلفة، فلا بدّ أن يقصد ما وضع لها بعد إحراز تركيبها.

و المثال الكاشف عمّا ذكرناه، العقد المنظوم من اللئالي و نفائس الأحجار، فإنّه لا يحسن إلاّ إذا ألّف تأليفا بديعا، بحيث يجعل كل شيء من تلك الأحجار مع ما يلائمه. ثم إذا حصل ذلك التركيب على الوجه الذي ذكرناه، فلا بدّ من مطابقته لما وضع له، بأن يجعل الإكليل على الرأس، و الطوق في العنق، و الشنف في الأذن، و لو ألّف غير ذلك التأليف، فلم يجعل كل شيء في موضعه، بطل ذلك الحسن. و زال ذلك الرونق»(2).

مثلا: قوله سبحانه: وَ مِنْ آيٰاتِهِ اَلْجَوٰارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاٰمِ (3).

إنّ لهذه الآية تميّزا ذاتيا عن كلام البشر، لا يتمارى فيه منصف، و لا يشتبه على من له ذوق في معرفة فصاحة الكلام. و ذلك التميز رهن فصاحة أبنيتها،

ص: 269


1- هذا البيت لأبي حية النميري من شعراء الحماسة، لاحظ شرح الحماسة للتبريزي، طبع محي الدين، ج 3، ص 269.
2- الطراز، ج 3، ص 225-226.
3- سورة الشورى: الآية 32.

و عذوبة تركيب أحرفها، و كونها مجانبة للوحشي الغريب، و بعدها عن الركيك المسترذل، مضافا إلى سلاسة صيغها.

فإنّه سبحانه قال: اَلْجَوٰارِ ، و لم يقل: «الفلك»، لما في الجري من الإشارة إلى باهر القدرة حيث أجراها بالريح، و هي أرق الأشياء و ألطفها، فحرّك ما هو أثقل الأمور، و أعظمها في الجرم. (و الفلك، و إن كان مثل الجوار في العذوبة، لكنه يفقد النكتة التي يشملها الآخر).

و قال سبحانه: فِي اَلْبَحْرِ ، و لم يقل: «في الطمطام». و لا: «في العباب». و الكل من أسماء البحر، لأنّ البحر أسهل و أسلس، و بالتالي أعذب و أجمل.

و قال سبحانه: كَالْأَعْلاٰمِ ، و لم يقل: «كالروابي»، و لا:

«كالآكام»، إيثارا للأخف الملتذ به، و عدولا عن الوحشي المشترك(1).

من عجائب القرآن أنّه يعمد إلى ألفاظ ذات تركيب يغلب عليه الثقل و الخشونة، فيجمعها في معرض واحد، ثم ينظم منها آياته، فإذا هي وضيئة مشرقة، متعانقة متناسقة. و من نماذج ذلك، قوله سبحانه:

قٰالُوا تَاللّٰهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّٰى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ اَلْهٰالِكِينَ (2) .

اسمعها، هل تجد نبرة تخدش أذنك ؟. و اقرأها، فهل تجد لفظا يتعسر على شفتيك، أو يضطرب في لسانك، فيا لها من سلاسة و عذوبة و اتّساق، مع أنّ فيها كلمات ثقيلة بمفردها ثقلا واضحا في الأذن و على اللسان، أعني قوله:

«تاللّه... تفتؤا... حرضا». و لكنها حين اجتمعت في نظم قرآني، خفّ ثقيلها، و لان يابسها. و سلس جامحها، و انقاد و ذلّ نافرها، فإذا هي عرائس مجلوة، تختال في روض نضير. فهذه ثلاث كلمات من أثقل الكلام، قد انتظمت

ص: 270


1- الطراز، ج 3، ص 215.
2- سورة يوسف: الآية 85.

مع خمس كلمات أخرى، فكان من ثمانيتها عقد نظيم يقطر ملاحة و حسنا.

و أيضا، من بدائع القرآن و غرائبه أنّه يكرر الحرف الثقيل في آية واحدة، و لكنه يلطفه بحروف خفيفة بنحو يعلو مجموعه العذوبة و الخفة، مكان الثقل و الخشونة، و من هذا النوع قوله سبحانه: قِيلَ يٰا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاٰمٍ مِنّٰا وَ بَرَكٰاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ (1).

فقد جمعت هذه الآية ثمانية عشر ميما، منثورة بين كلماتها، حتى كأنّ الآية مشكلة كلّها من ميمات، كما ترى في «أمم ممن معك... و أمم سنمتعهم»، و مع هذا فإنّك إذ ترتل الآية الكريمة على الوجه الذي يرتّل به القرآن، لا تحسّ أنّ هنا حرفا ثقيلا قد تكرر تكرارا غير مألوف، بل تجد الآية قد توازنت كلماتها و تناغمت مقاطعها في أعدل صورة و أكملها فلا تنافر بين حرف و حرف، و لا تباغض بين كلمة و كلمة.

و نظير هذا قوله سبحانه: قُلِ اَللّٰهُمَّ مٰالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشٰاءُ ، وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشٰاءُ ، وَ تُعِزُّ مَنْ تَشٰاءُ ، وَ تُذِلُّ مَنْ تَشٰاءُ ، بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2).

ففي الآية عشر ميمات، قد جاءت في مطلعها، و لكنها مع ذلك كأنّها ميم واحدة، و لو أنّ حرفا آخر دخل في نظم الآية لما انبعث منها هذا الصوت القوي المجلجل، الذي يقتضيه المقام هنا، و لتفككت أوصال النظم و تخاذلت قواه.

و هكذا، إنّ القاف من أثقل الحروف نطقا، تستنفر طاقة الحلق و اللسان ليشتركا في حملها و إخراجها مخرج الأصوات. و مع هذا الثقل، فقد جاءت في بعض الآيات مكررة بصورة مأنوسة لا يلتفت قارئها إلى التكرار، و لا يجد فيها الجهد و العناء.

ص: 271


1- سورة هود: الآية 48. و الميم المشدّدة عند القراءة تحسب اثنين.
2- سورة آل عمران: الآية 26.

قال سبحانه: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبٰا قُرْبٰاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمٰا وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ، قٰالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ . قٰالَ : إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اَللّٰهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (1).

فقد جاء فيها أحد عشر قافا، لو نثرت هذه القافات في كلام أبسط من هذا، لظهر عليه الثقل، و لكنها جاءت في هذه الآية من غير أن تحدث قلقا و اضطرابا. و إنّما حصل هذا، لكثرة الباءات و اللامات في الآية، فإنّ الباء مخرجها الشفة، فهي أخفّ الحروف، و تليها اللام في الخفة، فإنّ مخرجها اللسان. و قد بلغت عدّة الباء أحد عشر، و اللام خمس عشر، فأوجب كثرة دوران هذين الحرفين، تلطيفا في الثقل الذي توجبه القاف في كيان الآية.

و مثل ذلك، قوله سبحانه: لَقَدْ سَمِعَ اَللّٰهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قٰالُوا: إِنَّ اَللّٰهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِيٰاءُ . سَنَكْتُبُ مٰا قٰالُوا، وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِيٰاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ (2).

فقد اجتمعت فيها عشر قافات، و تكررت فيها اللام أحد عشر مرة، فكسرت حدّة الثقل في القاف، فترى ماء الحسن يترقرق على محياها، و الملاحة تقطر من جبينها.

هذه هي الدعامة الأولى للإعجاز، و ليست هي سببا تامّا له. و لأجل ذلك ربما يوجد في كلام البشر ما هو مشتمل على هذه الدعامة بصورة رفيعة، مع أنّه ليس بكلام معجز، لإمكان مقابلته و الإتيان بمثله، لمن تبحّر في تلك الصنعة، و لأجل ذلك تعلو عليه سيماء الصنع البشري، و ما ذلك إلاّ لأنّ الإعجاز البياني يبتني على الدعائم الأربع مجتمعة، و ليس ذاك الكلام مستجمعا لها ليكون معجزا فإنّه يفقد الأسلوب القرآني، أعني الأسلوب الذي لا يشبه أسلوب المحاورة و لا أسلوب الخطابة و لا الشعر، كما سيوافيك شرحه. و إليك من ذلك نموذجا:

إنّ من أفصح كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام - الذي أصفقت

ص: 272


1- سورة المائدة: الآية 27.
2- سورة آل عمران: الآية 181.

جهابذة الأدب على أنّه فارس ميدان البيان، و بطل حلبته - قوله في وصف الإنسان:

«أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، و شغف الأستار، نطفة دهاقا، و علقة محاقا، و جنينا، و راضعا، و وليدا، و يافعا. ثم منحه قلبا حافظا، و لسانا لافظا، و بصرا لاحظا، ليفهم معتبرا، و يقصّر مزدجرا. حتى إذا قام اعتداله، و استوى مثاله، نفر مستكبرا، و خبط سادرا، ماتحا في غرب هواه، كادحا سعيا لدنياه، في لذات طربه، و بدوات إربه»(1).

فإنّ هذه القطعة من خطبه عليه السلام سبيكة مرصّعة بيواقيت الكلم، و معالي معاني الحكم، معدودة من مدهشات كلامه، و قد توفرت فيها جوامع وجوه الحسن. و مع ذلك، فأين هي من الكلام الإلهي المعجز، الذي إذا جعلته إلى جنب هذا الكلام، ظهر بكل وضوح أنّه ليس من كلام البشر.

لاحظ قوله تعالى: وَ اَللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (2).

أو قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحٰامِ مٰا نَشٰاءُ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّٰى، وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْلاٰ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً، وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هٰامِدَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (3).

هذا فيما يرجع إلى الدعامة الأولى لإعجاز القرآن. و يشير النبي الأعظم في كلمة له في تعريف القرآن إلى هذه الدعامة و الدعامة التالية:

ص: 273


1- نهج البلاغة، الخطبة 83.
2- سورة النحل: الآية 78.
3- سورة الحج: الآيتان 5 و 6.

قال صلى اللّه عليه و آله: «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن»... إلى أن يصفه بقوله: «ظاهره أنيق، و باطنه عميق»(1).

ص: 274


1- الكافي، ج 2، ص 238.

دعائم إعجاز القرآن

(2) البلاغة: جمال العرض و سمو المعنى
اشارة

قد وقفت، في التعريف الفنّي للبلاغة على أنّها عبارة عن خروج الكلام مطابقا لمقتضى الحال. فلو كان المقام مقتضيا للتأكيد أو الإطلاق، و ذكر المسند و المسند إليه أو حذفهما، و الإيجاز أو الإطناب، و غير ذلك، جاء الكلام مطابقا له. و قد أسهب علماء المعاني في تبيين مقتضيات الأحوال، على وجه لم يدعوا لقائل مقالا.

و قد اهتمّ بعض من كتب في الإعجاز، بأمر البلاغة أزيد من غيرها. حتى أنّ الخطابي قال: «و ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أنّ وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة، و لكن صعب عليهم تفصيلها»(1).

غير أنّا ركّزنا على أنّ البلاغة بهذا المعنى، ترجع إلى عرض المقصود بشكل مطلوب، و مفيد في تحقق غرض المتكلم، و لكنه لا يكفي في توصيف الكلام بالبلاغة ما لم يضم إليه قيد آخر، و هو كون المعنى ساميا و رفيعا، و قابلا للذكر و الإفادة، و إلاّ فالمعاني المبتذلة، و إن ألبست أجمل الحلي، و عرضت بشكل يقتضيه الداعي إلى التكلم، لا توصف بالبلاغة، و على فرض صحة التوصيف، لا يكون مثل ذلك الكلام أساسا للإعجاز، و لا دعامة له. و لأجل ذلك قلنا إنّ

ص: 275


1- ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، الرسالة الأولى للخطابي، ص 21.

التعريف الصحيح للبلاغة هو عبارة عن تأدية المعنى الجليل بعبارة صحيحة فصيحة، مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه.

و على ضوء ذلك، فالكلام الساقط عن الاعتبار من حيث المضمون، لا يتّصف بالبلاغة، مثل ما حكي عن مسيلمة الكذّاب حيث أقسم بالطاحنات، و قال «و الطاحنات طحنا، و العاجنات عجنا، و الخابزات خبزا». فأين هذه المفاهيم الساقطة السوقية الركيكة الفاقدة لأيّة قيمة، من المعاني العالية السامية الواردة في قوله سبحانه: وَ اَلْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيٰاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرٰاتِ صُبْحاً (1).

فاللازم في البحث عن فصاحة القرآن، التركيز على أمرين:

1 - مطابقة الكلام لمقتضى الحال.

2 - سمو المعاني و علو المضامين.

الأمر الأول - مطابقة الكلام المقتضى الحال
اشارة

إنّ استقصاء جميع الأحوال التي يقع الكلام مطابقا لها، راجع إلى علم المعاني، من علمي الفصاحة و البلاغة فذكروا مقتضيات الأحوال في أبواب الإسناد الخبري، و المسند إليه، و المسند، و متعلقات الفعل، و الإنشاء، و الفصل و الوصل، و الإيجاز، و الإطناب و المساواة، فذكروا الأحوال الطارئة على الكلام و مقتضياتها، من ذكر المسند إليه و حذفه، و تنكيره، و تقديمه و تأخيره، و توصيفه و تأكيده، إلى غير ذلك من الأحوال الطارئة على المسند إليه، و بشكل على المسند، و لكل مقام. كما أنّ لكل من الإيجاز و الإطناب و المساواة مقام.

ثم إنّ دراسة القرآن من حيث كونه مطابقا للأحوال المقتضية، يحتاج إلى

ص: 276


1- سورة العاديات: الآيات 1-3.

تفسير حافل، يفسّر القرآن من هذا الجانب، و لعلّ «الكشاف» أحسن ما كتب في هذا الموضوع، فقد ذكر الزمخشري فيه، النكات البلاغية، في تفسير الآيات، و بذلك أثبت للقرآن إعجاز بيانيا خاصا، و أنّ كل آية بل كلّ كلمة واردة موردها.

و لما كانت الإحالة على مثل هذا الكتاب و غيره، عن المحذور غير خالية، نأتي بنماذج تثبت بلاغة القرآن، و ورود آياته وفق مقتضى الحال، و نختار لذلك سورتين قصيرتين، من السور المكية، النازلة في أوائل البعثة.

1 - بلاغة سورة الكوثر

روى المفسرون أنّ العاص بن وائل السهمي رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم، و تحدّثا، و أناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فقالوا: من الذي كنت تتحدث معه. قال: ذلك الأبتر، و كان قد توفي قبل ذلك عبد اللّه بن رسول اللّه و هو من خديجة، و كانوا يسمون من ليس له ابن أبتر، فسمته قريش عند موت ابنه أبتر، و مبتورا(1)، فأنزل اللّه سبحانه هذه الآيات:

إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ اَلْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ * إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ (2) .

قال الزمخشري، في رسالته حول إعجاز سورة الكوثر: «أنظر، كيف نظمت النظم الأنيق، و رتّبت الترتيب الرشيق، حيث قدّم منها ما يدفع الدعوى و يرفعها، و ما يقطع الشبهة و يقلعها (إنّا أعطيناك الكوثر)، ثم لما يجب أن يكون عنه مسبّبا و عليه مترتبا (فصل لربك و انحر)، ثم ما هو تتمة الغرض من وقوع

ص: 277


1- مجمع البيان، ج 5، ص 549.
2- سورة الكوثر.

العدو في مغوّاته(1) التي حفر، و صليه بحر ناره التي سعر (إنّ شانئك هو الأبتر)».

و إليك بيان نكات آياته الثلاث:

إِنّٰا .

تأمّل كيف من أسند إليه إسداء هذه العطية و الموهبة السنية (الكوثر)، هو ملك السموات و الأرض، و مالك البسط و القبض. فدلّ بذلك على عظمة المعطي و المعطى، من المعلوم أنّه إذا كان المعطي كبيرا، كان العطاء كثيرا.

و جمع ضمير المتكلم، فأعلم بذلك عظم الربوبية.

أَعْطَيْنٰاكَ اَلْكَوْثَرَ .

استعمل لفظ الماضي مكان المستقبل، مع أنّ الكوثر كما يتناول عطاء العاجلة، يتناول عطاء الآجلة، و ذلك لأنّ المتوقّع من سيب الكريم، تحققه على وجه القطع و البت.

و جاء بالكوثر محذوف الموصوف، لأنّ المثبت ليس فيه ما في المحذوف من فرط الإبهام و الشياع.

و اختار الصفة المؤذنة بإفراط الكثرة، المبينة عن المعطيات الوافرة، و صدّرها باللام لتكون كاملة في إعطاء معنى الكثرة.

و المراد من الكوثر، أولاده حسما للشبهة، و قطعا لدعوى الخصم.

فَصَلِّ .

عقّب إبهامه الكوثر، بالفاء، ليكون دليلا لمعنى التسبيب، فالعطاء الأكثر، يستلزم الشكر الأوفر.

ص: 278


1- حفرة كالزبية، تحفر للذئب، و يجعل فيها جدي إذا نظر إليه سقط عليه يريده. و منه قيل لكل مهلكة مغوّاة. (لاحظ النهاية، ج 3، ص 398، مادة غوي).

لِرَبِّكَ .

و قصد بذلك، التعريف بدين «العاصي» و أشباهه، ممّن كانت عبادته و نحره لغير إلهه، و بالتالي لتثبيت قدمي رسول اللّه على صراطه المستقيم، و إخلاصه العبادة لوجهه الكريم.

و قال: «لربك» و لم يقل «لنا»، فصرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر، إظهارا لكبرياء شأنه، و إنافة لعزّ سلطانه. و منه أخذ الخلفاء قولهم:

يأمرك أمير المؤمنين بالسمع و الطاعة، و ينهاك أمير المؤمنين عن مخالفة الجماعة.

و علّم، بالأمر بالصلاة للرب، أنّ من حقّ العبادة أن يخصّ بها العباد ربّهم و مالكهم، و من يتولى معايشهم و مهالكهم. و عرّض بخطإ من سفّه نفسه، و نقض لبّه، و عبد مربوبا، و ترك عبادة ربّه.

وَ اِنْحَرْ .

أشار بالأمر بالنحر، بعد الأمر بالصلاة، إلى قسمين من العبادات، فالقسم الأول عمل بدني، و الصلاة إمامها. و الثاني عمل مالي، و نحر البدن سنامها.

و نبّه على ما لرسول اللّه من الاختصاص بالصلاة التي جعلت لعينه قرّة، و بنحر البدن التي كانت همته متطاولة إليها.

قال: «و انحر»، و لم يقل «و انحر له»، رعاية لفواصل الآيات، و هو أمر مطلوب إذا سيق المتكلم، إليه، بلا تكلّف.

إِنَّ شٰانِئَكَ .

عنى بالشانئ: «السهمي». و إنّما ذكره بوصفه لا باسمه، ليتناول كلّ من كان مثل حاله. و أعرب بذلك عن أنّ عدوه لم يقصد بوصفه بالأبتر، الإفصاح بالحق، و لم ينطق إلاّ عن الشنآن الذي هو توأم البغي و الحسد، و عن البغضاء التي هي نتيجة الغيظ، فبذلك وسمه بما ينبئ عن المقت الأشدّ، و يدلّ على حنق الخصم الألدّ.

ص: 279

هُوَ .

أقحم الفصل لبيان أنّه المعيّن لهذه النقيصة (الأبتر)، و أنّه المشخّص لهذه الغميصة(1).

اَلْأَبْتَرُ .

عرّف الخبر، ليتمّ له البتر.

فسبحان من أعجز فصحاء العرب و العجم، عن الإتيان بمثل هذه السورة على وجازة ألفاظها، مع تحدّيه إيّاهم بذلك، و حرصهم على بطلان أمره، منذ بعث النبي إلى أمرنا هذا.

و سبحان من لو أنزل هذه الواحدة وحدها، و لم ينزل ما قبلها و ما بعدها، لكفى بها آية تغمر الأذهان. و معجزة توجب الإذعان، فكيف بما أنزل من السبع الطوال(2).

2 - بلاغة سورة «و الضحى»

جرت حكمته سبحانه على نزول الوحي تدريجيا، لحكمة صرّح بها سبحانه في قوله: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً ، كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤٰادَكَ ، وَ رَتَّلْنٰاهُ تَرْتِيلاً (3).

و لأجل وقوع الفترة بين نزول الوحي، عابه المشركون على النبي الأكرم، فقالوا: إنّ محمدا قد ودعه ربّه و قلاه، و لو كان أمره من اللّه لتتابع عليه، فنزلت السورة التالية:

وَ اَلضُّحىٰ * وَ اَللَّيْلِ إِذٰا سَجىٰ * مٰا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مٰا قَلىٰ * وَ لَلْآخِرَةُ

ص: 280


1- يقال اغتمصت فلانا اغتماصا: احتقرته (لسان العرب، مادة غمص، ج 7، ص 61).
2- ما ذكرنا من النكات البيانية لسورة الكوثر مقتبسة من رسالة الزمخشري، في إعجازها، التي طبعت في مجلة «تراثنا»، و مع ذلك كله، لم يأت بجميع النكات الموجودة في هذه الآيات الثلاث
3- سورة الفرقان: الآية 32.

خَيْرٌ لَكَ مِنَ اَلْأُولىٰ * وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ * أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ * وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىٰ * وَ وَجَدَكَ عٰائِلاً فَأَغْنىٰ * فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلاٰ تَقْهَرْ * وَ أَمَّا اَلسّٰائِلَ فَلاٰ تَنْهَرْ * وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (1) .

إنّ في هذه السورة من أنواع البلاغة ما يبهر العقول، و في الدراسة التالية نشير إلى بعض منها.

وَ اَلضُّحىٰ * وَ اَللَّيْلِ إِذٰا سَجىٰ .

الواو في الموضعين للقسم. و الضحى، و الليل حال السجي، هو المقسم به. و قوله سبحانه فيما يأتي: مٰا وَدَّعَكَ هو المقسم له، بمعنى جواب القسم.

و قد ورد في القرآن الكريم، ثمان و ثلاثون قسما، أفردها ابن القيم بالتصنيف في كتاب أسماه «التبيان في أسماء القرآن». و قد وقع القسم فيها على أشياء مختلفة كالملائكة و النبي الأكرم و القرآن و القيامة، و النفس الإنسانية، و القلم، و الكتاب و الشمس، وضوئها، و الليل و غير ذلك. و اهتمّ المفسّرون ببيان سرّ القسم بهذه الأمور، و لكنهم غفلوا عن مهمة أخرى في هذه الأقسام، و هي المناسبة بين المقسم به و المقسم له، أي بيان الصلة بين الشيء الذي وقع الحلف عليه، كالنّهار و الليل، و ما رتب عليه من الجواب. و هذا من الأمور المهمة التي إذا كشفها المفسّر، لأدرك أنّ تخصيص شيء معين بالقسم في هذا المجال دون غيره، ليس إلاّ لرابطة بينه و بين جوابه، و ليس هو أمرا اعتباطيا فاقدا للمناسبة.

و إليك البيان في المقام.

إنّ المقسم به في آيتي «و الضحى»، صورة مادية، و واقع حسيّ يشهد به الناس تألّق الضوء في صحوة النهار، ثم يشهدون من بعده فتور الليل إذا سجى و سكن، يشهدون الحالين معا في اليوم الواحد دون أن يختل نظام الكون أو يكون في توارد الحالين عليه ما يبعث على إنكار. بل دون أن يخطر على بال أحد، أنّ

ص: 281


1- سورة «و الضحى»، و آياتها 11.

السماء قد تخلّت عن الأرض، و أسلمتها إلى الظلمة، و الوحشة بعد تألّق الضوء في ضحى النهار.

فإذا كان هذا حال الفيض المحسوس، الذي به حياة البشر، فهكذا حال الفيض المعنوي، فينزل الوحي و يغرق المجتمع في بهاء نوره، ثم يسكن، فلا عجب في أن يجيء - بعد أنس الوحي، و تجلّي نوره على النبي الأكرم - فترة سكون يفتر فيها الوحي على نحو ما نشهد من الليل الساجي، يوافي بعد الضحى المتألّق.

فإذن، القسم بالضحى، و بالليل إذا سجى، بيان لصورة حسيّة، و واقع مشهود، يمهّد لموقف مماثل لكن غير حسيّ و لا مشهود، و هو فتور الوحي بعد إشراقه و تجلّيه.

فعند ذلك، يتجلّى تخصيصهما بالقسم دون غيرهما ممّا ورد في القرآن من الأمور المقسم بها. كما يتّضح أنّ نزول الوحي تدريجا، ليس دليلا على أنّه سبحانه ترك نبيّه أو قلاه. و ذلك لأنّ فتور الوحي، كنزول الليل بعد الضحى، فكما هو ليس دليلا على تخلّي السماء عن الأرض، و تسليمها إلى الظلمة، فهكذا نزول الوحي نجوما، ليس دليلا على أنّه سبحانه تخلّى عن رسوله، و تركه بين أعدائه أو قلاه.

و بذلك يظهر إتقان جواب القسم أعني قوله سبحانه:

مٰا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مٰا قَلىٰ .

و من لطائف ما ورد في الجواب هو أنّه حذف المفعول من قوله: وَ مٰا قَلىٰ ، و لم يقل: «قلاك». و ليس ذلك رعاية للفاصلة، لأنّه عدل عن رعايتها في آخر سورة الضحى، حيث قال: فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلاٰ تَقْهَرْ * وَ أَمَّا اَلسّٰائِلَ فَلاٰ تَنْهَرْ * وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ إذ ليس في السورة، حرف الثاء على الإطلاق، و كان بوسعه أن يقول مكان حدّث، فخبّر، لتتفق الفواصل على مذهب أصحاب الصنعة. فهذا دليل على أنّ الحذف لوجه آخر، كما أنّ العناية بذكر بلفظة «حدّث»، مكان «خبّر»، لنكتة موجودة في الأولى دون الثانية.

ص: 282

و الظاهر أنّ حذف المفعول هو لتحاشي خطابه تعالى حبيبه المصطفى في مقام الإيناس، بقوله: «ما قلاك»، لما في القلي من الطرد، و الإبعاد و شدّة البغض.

و هو في الوقت نفسه أظهر المفعول في «ودّعك»، إذ ليس فيه شيء يكره، بل هو يؤذن بالفراق على كره، مع رجاء العود.

وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ اَلْأُولىٰ .

إنّ الآخرة إذا قرنت بالأولى، يراد منها اليوم الآخر، كما في قوله سبحانه:

فَلِلّٰهِ اَلْآخِرَةُ وَ اَلْأُولىٰ (1) . و قوله سبحانه: فَأَخَذَهُ اَللّٰهُ نَكٰالَ اَلْآخِرَةِ وَ اَلْأُولىٰ (2).

و لكن يرجح أن يكون المراد من الآخرة في الآية، هو الغد المرجو من أيام بعثته، لتخصيص كونها خيرا في الآية بالنبي الأكرم، حيث قال: خَيْرٌ لَكَ فالآية تبشّر بالمستقبل الزاهر للنبي الأكرم، و بهذا يتمّ تأكيد نفي التوديع و القلي، ليذهب عن الأذهان أثر فتور الوحي.

و الصلة بين هذه الآية و بين ما تقدمها، واضح على هذا البيان، و الكلّ كسبيكة واحدة.

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ .

اللام لتأكيد لزوم العطاء، و أنّه أمر محقّق. وَ لَسَوْفَ للتراضي.

و الجمع بين التوكيد مع التسويف الصريح، لبيان أنّه موضع عناية ربّه في أمسه و غده، و أولاه، و أخراه.

و أمّا العطاء الذي يحصل به رضا النبي، فغير محدّد بشيء. و ليس وراء الرضا مطمح، و لا بعده غاية، و لا حاجة لتحديد هذا الذي يرضي الرسول، حتى تقلّل من روعة ذاك البيان المعجز الذي يتجلى سرّه في إطلاقه العام و انتهائه إلى الرضا.

ص: 283


1- سورة النجم: الآية 25.
2- سورة النازعات: الآية 25، و لاحظ سورة القصص: الآية 70، و سورة الليل: الآية 13.

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ * وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىٰ * وَ وَجَدَكَ عٰائِلاً فَأَغْنىٰ .

هذه الآيات تبث في نفس الرسول الطمأنينة، و تثبت قلبه، بإلفاته إلى ما أسبغه اللّه عليه في أولاه، من نعم: كان يتيما، فآواه، و وقاه مسكنة اليتم، و كان ضالاّ، فهداه تعالى إلى دين الحق(1) و كان عائلا فأغناه اللّه بفضله و كرمه.

أ فما يكفي هذا ليطمئن كلّ أحد إلى أنّ اللّه غير تاركه و لا قاليه ؟ و هل تركه حين كان صبيا يتيما متعرضا لما يتعرض له اليتامى من قهر و ضياع ؟ و هل قلاه حين كان ذا عيلة ؟ كلا، لا.

و اليتيم مظنة الضياع و القهر، قال سبحانه: وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعٰافاً خٰافُوا عَلَيْهِمْ (2). و قد وجه اللّه محمدا يتيما عائلا، فأعفاه سبحانه من تلك الآثار البغيضة، و حفظ جوهره من الآفات التي كان معرّضا لها بحكم يتمه و عيلته، و بذلك تمّ فيه الاستعداد النفسي لتلقّي الرسالة الكبرى، التي بعث بها ليقي الناس من المذلّة و الضلال.

فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلاٰ تَقْهَرْ * وَ أَمَّا اَلسّٰائِلَ فَلاٰ تَنْهَرْ * وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ .

أتى بكلمة: «فلا تقهر»، مع أنّ في وسعه أن يستخدم كلمة أخرى، نحو: «فلا تظلم»، «فلا تمنع حقه» و غيرهما، و ذلك لأنّ في عبارة: «فلا تقهر»، معنى أعمق و أدق ممّا يفيده ذانك اللفظان و مشابههما، إذ يجوز أن يقع

ص: 284


1- المراد من الضلال، هو الضلال الطبيعي العام، فكل إنسان ضال بالطبع، و يخرج منه بهداية من اللّه سبحانه، فليست الآية دليلا على أنّه صلى اللّه عليه و آله كان ضالاّ غير عارف باللّه في فترات من عمره، ثم هداه اللّه سبحانه. و ليس الضلال مرادفا للكفر. بل هو بمعنى عدم الاهتداء إلى الصواب. و قد رموا يعقوب بالضلال كما في قوله سبحانه: تَاللّٰهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاٰلِكَ اَلْقَدِيمِ سورة يوسف: الآية 95. و ليس الضلال هناك كفرا، و إنّما هو الشغف بيوسف. و قالت النسوة في امرأة العزيز و يوسف قَدْ شَغَفَهٰا حُبًّا إِنّٰا لَنَرٰاهٰا فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ سورة يوسف: الآية 30
2- سورة النساء: الآية 9.

القهر مع إنصاف اليتيم و إعطائه ماله، و عدم التسلّط عليه بالأذى، لأنّ حساسية اليتيم إلى حدّ أنّه يتأثّر بالكلمة العابرة، و اللفتة الجارحة من غير قصد. و النبرة المؤلمة بلا تنبه، و إن لم يصحبها تسلّط بالأذى، أو غلبة على ماله و حقّه.

و يحتمل أن يكون المراد من النعمة هو الرسالة التي أكرمه اللّه تعالى بها، و تفضل بها عليه، و عند ذلك يكون المراد من التحدّث بها هو إبلاغ رسالة ربّه.

ثم في الآيات الثلاث الأخيرة نكتة بديعة، فإنّا نرى أنّه سبحانه قدّم النهي عن قهر اليتيم و نهر السائل، على التحدّث بنعمته تعالى، فأخّر حقّ نفسه و هو التحدث بالنعمة، و قدّم حقّ اليتيم و السائل. و ما هذا إلاّ لأنّه غنيّ و هما محتاجان، و تقديم حقّ المحتاج أولى.

و هناك نكتة أخرى، و هي أنّه تعالى لم يرض في حقهما إلاّ بالفعل، و رضى في نفسه بالقول(1).

فهاتان السورتان المتقدمتان أوقفتانا على نموذج من بلاغة القرآن - بمعنى المطابقة لمقتضى الحال - و زيادة في بيان هذا الجانب البلاغي، نأتي بنماذج أخرى من آياته، حصل فيها تقديم و تأخير و عكس في العبارات، ممّا قد يتخيل معه أنّه تنويع و تفنن في الكلام، و لكن بالتأمّل فيها يتّضح أنّه ليس كذلك، و إنّما اختلاف التعبير نشأ من اختلاف المقتضيات.

1 - يقول سبحانه في سورة الأنعام: وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ مِنْ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ (2).

و يقول سبحانه في سورة الإسراء: وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ

ص: 285


1- ما ذكرناه في هذا العرض، اقتبسناه من كتاب «التفسير البياني للقرآن الكريم»، ج 1، ص 23 - 55. بتلخيص و تصرّف.
2- سورة الأنعام: الآية 151.

نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّٰاكُمْ (1) .

و النهي في كلتا الآيتين متوجه إلى الوالدين. و وجه الاختلاف بينهما أنّ الداعي إلى القتل في الآية الأولى هو الفقر المحقّق، السائد في حياة الوالدين، بدلالة قوله: مِنْ إِمْلاٰقٍ . و في الثانية هو الفقر المتوقع، بدلالة قوله:

خَشْيَةَ إِمْلاٰقٍ . فاختلفت حال الوالدين.

ففي الآية الأولى، الخطاب متوجه إلى الوالدين الفقيرين، حال الخطاب، فناسب أن يبدأ وعده بالرزق بهما ثم بأولادهما.

و هذا بخلاف الآية الثانية، فإنّ الخطاب فيها متوجه إلى الوالدين الميسورين المرزوقين بالفعل، و يخافان العيلة و العجز عن رزق أولادهم و لأجل ذلك كانوا يرتكبون ذلك العمل الأسود الوبيل (قتل أولادهم)، فناسب أن يبدأ وعده بالرزق، بالأولاد أوّلا، و بالوالدين ثانيا.

2 - يقول سبحانه في عرض مشهد من مشاهد يوم القيامة و ما يكون الناس عليه من فزع و كرب: يَوْمَ يَفِرُّ اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ * وَ صٰاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ * لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (2).

و في سورة أخرى، في عرض مشهد من هذا اليوم، يقول: يَوَدُّ اَلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذٰابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَ صٰاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ * وَ فَصِيلَتِهِ اَلَّتِي تُؤْوِيهِ * وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (3).

ففي الآيتين ألفاظ مشتركة، مثل «بنيه» و «صاحبته» و «أخيه». لكن قدّم في الأولى الأخ، فالأم، فالأب، فالصاحبة، فالبنين، مبتدأ بالعزيز فالأعزّ.

و في الثانية عكس فقدّم البنين، فالصاحب، فالأخ، فالفصيلة، فسائر

ص: 286


1- سورة الإسراء: الآية 31.
2- سورة عبس: الآيات 34-37.
3- سورة المعارج: الآيات 11-14.

الناس، مقدّما الأعزّ فالعزيز. فما هو الوجه في هذا التقديم و التأخير؟.

الجواب: إنّ الآية الأولى تصوّر مشهد الفرار من العذاب و البلاء، و الآية الثانية تمثّل مشهد دفع العذاب عن النفس.

ففي المقام الأول يتخلّى الإنسان عن العزيز فالأعزّ، حتى لا يبقى معه شيء يمكنه أن ينخلع عنه لينجو بنفسه. فلأجل ذلك بدأ في الآية الأولى بالأخ، فالأم، فالأب، فالصاحبة، فالبنين.

و أمّا في المقام الثاني، فالإنسان فيه في حالة الافتداء من العذاب الشديد الرهيب، ففي هذا الحال يفدي بعض جوارحه ببعض ليدفع عنه لهيب جهنم.

فإن لم ينجع، يتناول للوقاية أقرب شيء و أحبّه إليه لعلّه ينجو، و هم البنون، فالصاحبة، فالأخ.

فصار الموقفان مختلفين متباينين، فالحالة الأولى تمثّل حركة فرار، و الثانية تمثّل حركة دفاع من خطر داهم. و هذه النكتة، أوجبت اختلاف النظم بين الآيتين، و عليها جرى قول الشاعر:

ألقى الصحيفة كي يخفّف رحله *** و الزاد حتى نعله ألقاها

فإنّ النعل للمسافر الراجل في الصحراء، أعزّ الأشياء. و بما أنّ الموقف موقف حركة فرار، ابتدأ بإلقاء العزيز فالأعز حتى وصل إلى النعلين.

3 - يقول سبحانه: لاٰ يَسْتَوِي اَلْقٰاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ، وَ اَلْمُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اَللّٰهُ اَلْمُجٰاهِدِينَ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقٰاعِدِينَ دَرَجَةً ، وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْحُسْنىٰ وَ فَضَّلَ اَللّٰهُ اَلْمُجٰاهِدِينَ عَلَى اَلْقٰاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (1). فقدّم الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس في موردين من هذه الآية.

و يقول سبحانه في آية أخرى: إِنَّ اَللّٰهَ اِشْتَرىٰ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ

ص: 287


1- سورة النساء: الآية 95.

وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ ، يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ وَ اَلْقُرْآنِ (1) . فقدم هنا الأنفس على الأموال، مع أنّها واردة أيضا في مجال الجهاد.

فهل هذا للتفنن في العبارة ؟ أو أنّ الحال يقتضي في الآية الأولى و نظائرها، تقديم الجهاد بالأموال على الأنفس، و في الآية الثانية العكس.

التحقيق هو الثاني، بل هو المتعين، لأنّ الآية الأولى بصدد بيان جهاد المؤمنين بالأموال و الأنفس، و من المعلوم أنّ الإنسان يبتدئ في الجهاد بالعزيز فالأعز، فيجاهد بماله أولا ثم بنفسه. و أمّا الآية الثانية فهي بصدد بيان شراء اللّه سبحانه من المؤمنين، و من المعلوم أنّ المشتري يبتغي الأعزّ فالعزيز، و يختار لنفسه الأغلى فالغالي. و النفوس أغلى من الأموال.

و العجب أنّ القرآن راعى هذه النكتة في جميع الموارد التي ذكر فيها الجهاد بهما(2).

4 - يقول سبحانه حاكيا عن لسان إبراهيم عليه السلام: رَبَّنٰا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ ، إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (3) فقدم فيها التعليم على التزكية.

و لكن في موضع آخر عكس و قدم التزكية على التعليم، فقال: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (4). فعكس في هذه الآية و قدّم فيها التزكية على التعليم.

ص: 288


1- سورة التوبة: الآية 111.
2- لاحظ الآيات التاليات: الأنفال: 72، التوبة: 20 و 41 و 44 و 81 و 88، الحجرات: 15، الصف: 11.
3- سورة البقرة: الآية 129.
4- سورة الجمعة: الآية 2.

و نحن نترك للباحث الكريم استكشاف وجه الاختلاف بين الآيتين، ليستنبطه على ضوء ما ذكرنا. و كم لهذا من نظير في كتاب اللّه المجيد.

الأمر الثاني - سمو المعاني
اشارة

إنّ التالي لآيات الذكر الحكيم - إذا كان ممعنا في تلاوته - يرى في كل سورة و آية عظة و تنبيها، و إعلاما و تذكيرا، و ترغيبا و ترهيبا، و تشريعا و تقنينا، و قصصا، و عبرا، و براهين و حجج، ترقى بروح الإنسان و تحلّق بها في سماء المعنويات. فهذه المعاني العالية السامية الدقيقة، إذا حملتها ألفاظ فصيحة، و صيغت في نظم رصينة، و رصّعت بأسلوب بديع، و ألقيت على مقتضى الحال، بهرت العقول، و خلبت النفوس، و سلّمت بعجزها عن معارضته و الإتيان بمثله.

و قد ركّز النبي الأعظم في حديثه عن القرآن، على هذا الأمر، حيث قال:

«و باطنه عميق». كما اعترف به عدوّه اللدود، الوليد بن المغيرة، حيث قال:

«إنّ أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق».

إنّ النظرة الفاحصة، في آثار الكتّاب و المؤلفين، تدفعنا إلى القول بأنّهم لا يخرجون عن طائفتين: طائفة تهتم بتزيين الألفاظ دون العناية بسمو المعنى.

و طائفة أخرى تهتم بإبداع المعاني من دون عناية بتحسين اللفظ.

و قلما يتّفق من يراعي كلا الأمرين، و الجمع بينهما مشكل. لأنّ الألفاظ و الجمل الخلاّبة لا تطابق الموضوعية و الواقعية. فالذين يرغبون في إفهام المعاني لا يفتشون عن الألفاظ و العبارات الخلاّبة. فالجمع بين الجمالين، رهن عبقرية و نبوغ قادرين على تحمّل عبئهما.

و القرآن الكريم أبرز نموذج للقسم الثالث. فألفاظه في منتهى العذوبة، و مقاطع الآيات و فواصلها في غاية الأناقة، و الأسلوب في منتهى البداعة، و قد ضمّ إلى هذا الجمال الظاهر، عمقا في المعنى، لا تجد له مثيلا في زبر الأولين و كتب الآخرين.

ص: 289

إن التصوير الدقيق لسمو معاني القرآن لا يتأتى إلاّ بذكر نماذج من الآيات في مجالات مختلفة.

1 - المعارف العليا

يتجلى سمو معاني القرآن في مجال المعارف بشكل واضح. فقد جاء هذا الكتاب بأسمى المطالب، و أغزر المضامين، في الدعوة إلى التوحيد و رفض الأصنام، و نفي الشرك و الاثنينيّة، بل في باب إثبات الصانع، و صفاته. مضافا إلى ما جاء من المضامين الدقيقة الفلسفية في الدعوة إلى عالم الغيب، و بقاء الروح بعد فناء البدن، و حشر الإنسان و عوده إلى الحياة، إلى غير ذلك ممّا ذكرنا بعضا منه في الجزء الأول، و نذكر بعضا آخر فيما يأتي من المباحث. و لكن لأجل عرض نموذج منه نأتي في هذا المقام بآيات:

أ - يقول سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ اَلْخٰالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بَلْ لاٰ يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزٰائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ اَلْمُصَيْطِرُونَ (1).

أنظر إلى هذا البيان الجزل، كيف يشير إلى برهان الإمكان بصورة موجزة مستحكمة لم يكن العرب و لا حكماؤهم عارفين به. و تتّضح حقيقة سمو المعنى إذا أمعنت النظر في كل شقّ من هذه الشقوق الأربعة.

ب - يقول سبحانه: مَا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ مِنْ وَلَدٍ، وَ مٰا كٰانَ مَعَهُ مِنْ إِلٰهٍ ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ ، وَ لَعَلاٰ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يَصِفُونَ (2).

و يقول سبحانه: أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ اَلْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا، فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ (3).

ص: 290


1- سورة الطور: الآيات 35-37. و قد تعرضنا إلى مفاد الآيات في الجزء الأول من الكتاب.
2- سورة المؤمنون: الآية 91.
3- سورة الأنبياء: الآيتان 21 و 22.

فترى أنّه يستدلّ في هذه الآيات على التوحيد في التدبير، و أنّ النظام الجملي يدار بمدبّر واحد لا غير.

ج - إنّ القرآن يستدلّ على إمكان المعاد و عود الإنسان إلى الحياة ثانيا بطرق مختلفة، بشكل يقنع المتحري للحقيقة، المتجرّد عن العناد. و إليك نظرة عابرة عليها.

فتارة يستدلّ عن طريق عموم القدرة على كل شيء، على إمكان المعاد، و يقول: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتىٰ بَلىٰ إِنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1).

و أخرى عن طريق قياس الإعادة على الحياة الأولى، و يقول: كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (2).

و ثالثة عن طريق قياس إمكان إحياء الموتى بإحياء الأرض - بعد موتها - بالمطر و النبات، و يقول: وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ كَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ (3).

و رابعة عن طريق قياس قدرة الإعادة، على القدرة على إخراج النار من الشجر الأخضر، و يقول: قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ نٰاراً فَإِذٰا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (4).

و خامسة عن طريق الاستدلال بالوقوع على إمكان العود. فإن أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه، و لأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني إسرائيل(5)و حديث عزير(6)

ص: 291


1- سورة الأحقاف: الآية 33.
2- سورة الأنبياء: الآية 104.
3- سورة الروم: الآية 19.
4- سورة يس: الآيتان 79 و 80. و سيوافيك مفاد الآية بشكل ألطف مما ذكر كثير من المفسّرين. و رائدنا فيه التدبير في ذيل الآية.
5- سورة البقرة: الآيات 67-73.
6- سورة البقرة: الآية 259.

و سادسة عن طريق الاستدلال بالنّومات الطويلة التي امتدت أكثر من ثلاثمائة سنة، فإنّ النوم أخو الموت، و لا سيما الطويل منه، و الاستيقاظ منه يشبه تطور الحياة و تجددها(1).

فهذا النوع من البرهنة على عقيدة هي كالعمود الفقري في باب العقائد، ممّا لا ترى له مثيلا في كتب الأقدمين، فإنّ هذه المعاني البديعة إذا انضمّ إليها الاستحكام في البيان، تبهر العقول و تدهش النفوس.

و هذا النوع من العمق وافر في الآيات الواردة حول المعارف و العقائد، و قد اكتفينا بما ذكرناه.

2 - سطوع براهينه

إنّ القرآن الكريم كتاب الهداية، نزل للناس أجمعين، ليبقى خالدا على جبين الدهر، يرجع إليه كل من تحرّى الحقيقة، و ارتاد الواقع، و لأجل ذلك اعتمد على البراهين اللامعة، لا على الأساليب المعقّدة التي كانت و لم تزل، رائجة بين الفلاسفة. فأخذ من المسلّمات برهانا على النظريات، و من المشاهدات دليلا على الحقائق غير المحسوسة، كل ذلك ببيان واضح، لا يقبل الخدش و الشك.

و يستلذّ به الذوق، و تستسلم له العقول. و إليك نماذج من هذه البراهين:

1 - قال تعالى: قُلْ إِنْ كٰانَ لِلرَّحْمٰنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعٰابِدِينَ (2).

فلاحظ ما أحلى استدلاله على نفي الولد، بأنّه لو كان له ولد كما يقول هؤلاء، فاللائق للاتخاذ ولدا، هم الأنبياء و المرسلون، الذين عبدوه، و خضعوا له، و ائتمروا بأمره.

ص: 292


1- سورة الكهف: الآيات 9-29.
2- سورة الزخرف: الآية 81.

2 - و قال تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (1). إذا كان الخصم معترفا بأنّ اللّه هو الذي بدأ الخلق... إذن فالإعادة أهون من البدأة، لأنّها من شيء، و تلك لا من شيء.

3 - و قال تعالى: وَ لاٰ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ حَتّٰى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيٰاطِ (2). فقد رتّب دخولهم الجنة على ولوج الجمل في خرم الإبرة. و لما كان ذلك أمرا ممتنعا، كان ذاك أيضا مثله. فقد أبدى امتناع دخولهم الجنة بهذا الشكل القياسي بكناية بديعة.

4 - و قال تعالى: إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ اَلْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ (3). فقد رتّب النتيجة على صغرى القياس مع حذف الكبرى لظهورها، و هي: أنّ من أعطاه اللّه الكوثر - و هي مجموعة المكرّمات - فينبغي له أن يؤدّي شكره الواجب، بالابتهال إلى اللّه و المثول لديه بكل الوجود.

5 - و قال تعالى: وَ لَوْ شِئْنٰا لَرَفَعْنٰاهُ بِهٰا وَ لٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ (4).

قياس استثنائي مركّب من قضيّة شرطية مضمونها: وَ مَنْ أَرٰادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعىٰ لَهٰا سَعْيَهٰا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ كٰانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (5). و أخرى حملية استثنائية مضمونها: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ أَعْمىٰ * قٰالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمىٰ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قٰالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيٰاتُنٰا فَنَسِيتَهٰا وَ كَذٰلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسىٰ (6).

ص: 293


1- سورة الروم: الآية 27.
2- سورة الأعراف: الآية 40.
3- سورة الكوثر: الآيتان 1 و 2.
4- سورة الأعراف: الآية 176.
5- سورة الإسراء: الآية 19.
6- سورة طه: الآيات 124-126.

6 - و قال تعالى: فَلَمّٰا أَفَلَ قٰالَ لاٰ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ (1). الكبرى مطوية، أي و كلّ آفل غير مستحق للعبادة.

3 - بداعة التصوير و التعبير
اشارة

إنّ للقرآن طريقة موحدة في التعبير يتّخذها في أداء جميع الأغراض على السواء، حتى أغراض البرهنة و الجدل، و تلك طريقة صوغ المعاني العالية في قالب التجسيم و التمثيل. و نحبّ أن نزيد المسألة إيضاحا بالنماذج، و أنّه كيف يصوّر المعاني السامية و الحالات النفسية و يبرزها في صور حسيّة، من غير فرق بين المشاهد الطبيعية، و الحوادث الماضية و القصص المروية، و مشاهد القيامة، و صور النعيم و العذاب، فيعبّر عن الكلّ كأنّها حاضرة شاخصة، و لا شكّ أنّ هذه الطريقة تتفوق على نقل المعاني و الحالات النفسية في صورها الذهنية التجريدية، و نقل الحوادث و القصص أخبارا مروية، و التعبير عن المشاهد و المناظر تعبيرا لفظيا لا تصويرا خياليا. و إليك الأمثلة.

1 - معنى النفور الشديد من دعوة الإيمان، يعبّر عنه بوجهين: أحدهما تجريدي، و الآخر تصويري.

فيقال في الأول: «إنّهم لينفرون أشدّ النّفرة من دعوة الإيمان». فيتملّى الذهن وحده معنى النفور في برود و سكون.

و يقال في الثاني: فَمٰا لَهُمْ عَنِ اَلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (2) فتشترك مع الذهن حاسة النظر، و ملكة الخيال، و انفعال السخرية من هؤلاء الذين يفرون، كما تفر حمر الوحش من الأسد، لا لشيء إلاّ

ص: 294


1- سورة الأنعام: الآية 76.
2- سورة المدثّر: الآيات 49-51.

لأنّهم يدعون إلى الإيمان. فتأخذ النفس روعة الجمال الذي يرتسم فيه صورة شرود هذه الحمر يتبعها قسورة المرهوب.

2 - معنى عجز الآلهة التي يعبدها المشركون من دون اللّه يعبّر عنه بوجهين:

أحدهما ذهني مجرّد، و الآخر تصويري.

ففي الأول يقال: «إنّ ما تعبدون من دون اللّه لأعجز عن خلق أحقر الأشياء». فيصل المعنى إلى الذهن مجرّدا باهتا.

و في الثاني يقال: إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ ، وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبٰابُ شَيْئاً لاٰ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطّٰالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ (1).

ففي الثاني أبرز هذا المعنى بصور متحركة متعاقبة.

«لن يخلقوا ذبابا»، هذه درجة.

«و لو اجتمعوا له»، هذه أخرى.

«و إن يسلبهم الذّباب شيئا لا يستنقذوه منه»، و هذه الثالثة.

ففيها تصوير للضعف المزري، و التدرّج في تصويره بما يثير في النفس السخرية اللاذعة و الاحتقار المهيب.

3 - يعبّر عن حالة تخلي الأولياء عن تابعيهم أمام هول القيامة بصورتين، كالسابقتين. في إحداهما، يقال: لا لقد تناكر الأصفياء و تخلّى المتبوعون عن التابعين حينما شاهدوا الهول يوم الدّين».

و في ثانيتهما، يقال: وَ بَرَزُوا لِلّٰهِ جَمِيعاً، فَقٰالَ اَلضُّعَفٰاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا: إِنّٰا كُنّٰا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّٰا مِنْ عَذٰابِ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ قٰالُوا: لَوْ هَدٰانَا اَللّٰهُ لَهَدَيْنٰاكُمْ ، سَوٰاءٌ عَلَيْنٰا أَ جَزِعْنٰا أَمْ صَبَرْنٰا مٰا لَنٰا مِنْ

ص: 295


1- سورة الحج: الآية 73.

مَحِيصٍ (1) .

ففي هذا الاستعراض يتجسم للخيال مشهدان:

الضعفاء الذين كانوا ذيولا للأقوياء، و هم ما يزالون في ضعفهم يلجئون إلى الذين استكبروا في الدنيا، يسألونهم الخلاص من هذا الموقف، و يعتبون عليهم إغواءهم في الحياة، متمشين في هذا مع طبيعتهم الهزيلة، و ضعفهم المعروف.

و الذين استكبروا، و قد ذلّت كبرياؤهم و واجهوا مصيرهم، و هم لا يملكون لذات أنفسهم خلاصا، فضلا عن تابعيهم، فما يزيدون على أن يقولوا لهم: «لو هدانا اللّه لهديناكم».

4 - يعبّر عن بطلان أعمال الكافرين بأنّها: «لا وزن لها و لا تنفع». كما يعبر عن ضلالتهم الدائمة، بأنّهم: «لا مخرج لهم منها و لا هادي لهم فيها».

و لكن في هذا التعبير ركود و سكون لا تنتعش النفس به أبدا.

و أين هو من التعبير القرآني في كلا الموردين (بطلان أعمالهم، و إحاطة الضلالة بهم) الذي تحيا فيه النفس و تتحرك، و ينتعش فيه الحسّ و الخيال:

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمٰالُهُمْ كَسَرٰابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مٰاءً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللّٰهَ عِنْدَهُ فَوَفّٰاهُ حِسٰابَهُ وَ اَللّٰهُ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ (2) .

و يقول: أَوْ كَظُلُمٰاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشٰاهُ مَوْجٌ ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ ، مِنْ فَوْقِهِ سَحٰابٌ ، ظُلُمٰاتٌ بَعْضُهٰا فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا، وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ (3).

ففي التعبير الثاني - في كلا الموردين - صور متينة ساحرة فيها روح القصة، و الخيال العميق.

ص: 296


1- سورة إبراهيم: الآية 21.
2- سورة النور: الآية 39.
3- سورة النور: الآية 40.

و أين للريشة في ترسيم هذه الصور لو أريد تصويرها بالألوان، و إلى أين للعدسة لو أريد تصويرها بالحركات.

بل أين هي الريشة، و أين هي العدسة، التي تستطيع أن تبرز هذه الظلمات: فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشٰاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحٰابٌ ، ظُلُمٰاتٌ بَعْضُهٰا فَوْقَ بَعْضٍ إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا ؟. أو تصوّر الظمآن يسير وراء السراب: حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ، و وجد مفاجأة عجيبة لم تكد تخطر له على بال، وجد اللّه عنده، و في سرعة خاطفة تناوله، فوفّاه حسابه.

5 - و من هذا الوادي تصوير معنى الضلال بعد الهدى. و ضياع الجهد معه سدى، تلك الصور المتتابعة التي يجيش بها الحسّ و الخيال، و تحيى بها النفس، يقول سبحانه:

أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلاٰلَةَ بِالْهُدىٰ ، فَمٰا رَبِحَتْ تِجٰارَتُهُمْ وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً فَلَمّٰا أَضٰاءَتْ مٰا حَوْلَهُ ذَهَبَ اَللّٰهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمٰاتٍ لاٰ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاٰ يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فِيهِ ظُلُمٰاتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ مِنَ اَلصَّوٰاعِقِ حَذَرَ اَلْمَوْتِ وَ اَللّٰهُ مُحِيطٌ بِالْكٰافِرِينَ * يَكٰادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصٰارَهُمْ ، كُلَّمٰا أَضٰاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذٰا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قٰامُوا، وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصٰارِهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) .

إنّ هنا مشهدا من الصور المتتابعة في شرائط متحركة؛ هؤلاء هم قد أوقدوا النار فأضاءت، و فجأة يذهب اللّه بنورهم و يخيّم حولهم الظلام. أو ها هي ذي العاصفة صيّب من السماء فيه ظلمات و رعد و برق، و هؤلاء هم مذعورون يتوقعون الصاعقة، و يخافون الموت، فيجعلون أصابعهم في آذانهم، و ما تغني الأصابع في الآذان، و لكنها حركة الغريزة في هذا الأوان. و ها هو ذا البرق يخطف الأبصار و لكنه ينير الطريق لحظة، فهم يخطون على ضوئه خطوة، و ها هو ذا ينقطع فيظلّون واقفين لا يدرون كيف يخطون.

ص: 297


1- سورة البقرة: الآيات 16-20.
لون آخر من التصوير الفني

هذه نماذج من التصوير الفني في القرآن الكريم و هناك لون آخر من التصوير يضفي على المعاني الذهنية و الحالات المعنوية صورا حسيّة. مثلا:

1 - الصبح مشهد مألوف متكرر، و لكنه في تعبير القرآن حيّ لم تشهده من قبل عينان، و أنه وَ اَلصُّبْحِ إِذٰا تَنَفَّسَ (1).

2 - و الليل آن من الزمان معهود، و لكنه في تعبير القرآن، حي جديد، وَ اَللَّيْلِ إِذٰا يَسْرِ (2)، و هو يطلب النهار في سباق جبّار يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهٰارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً (3).

3 - و الظلّ ظاهرة تشهد و تعرف، و لكنه في تعبير القرآن نفس تحسّ و تتصرّف، وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لاٰ بٰارِدٍ وَ لاٰ كَرِيمٍ (4).

4 - و الجدار بنية جامدة كالجلمود، و لكنه في تعبير القرآن يحسّ و يريد:

فَوَجَدٰا فِيهٰا جِدٰاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقٰامَهُ (5) .

5 - و الطّير أبنية حية، و لكنها مألوفة لا تلفت الإنسان، أمّا في تعبير القرآن فمشهد رائع، يثير الجنان: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صٰافّٰاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ، مٰا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَلرَّحْمٰنُ (6).

6 - و الأرض و السماء، و الشّمس و القمر، و الجبال و الوديان، و الدور العامرة، و الآثار الداثرة، و النبات و الأشجار و الأفنان، أموات عند الناس، لكنها في القرآن أحياء، أو مشاهد تخاطب الأحياء، فليس هناك جامد و لا ميت بين الجوامد و الأشياء(7).

ص: 298


1- سورة التكوير: الآية 18.
2- سورة الفجر: الآية 4.
3- سورة الأعراف: الآية 54.
4- سورة الواقعة: الآيتان 43 و 44.
5- سورة الكهف: الآية 77.
6- سورة الملك: الآية 19.
7- ما ذكرناه اقتبسناه من «التصوير الفني في القرآن»، للسيد قطب، ص 193-203.
4 - الأمثال
اشارة

يشتمل القرآن الكريم على أكثر من خمسين مثلا في مجال هداية الناس.

و هذه الأمثال مع بساطتها غزيرة المعاني، عالية المضامين. و نحن نذكر في المقام نموذجا منها يتبلور فيه عمق المعنى بشكل آخر.

الصراع بين الحق و الباطل

يصوّر القرآن الكريم الصراع القائم بين الحق و الباطل بصورة مثل بديع، يشتمل على نكات بعيدة الأغوار، عميقة الإشارات، في ألفاظ قليلة، و عبارات متناسقة، و يقول:

أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً ، فَسٰالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهٰا، فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رٰابِياً، وَ مِمّٰا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنّٰارِ اِبْتِغٰاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتٰاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ، كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبٰاطِلَ ، فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفٰاءً ، وَ أَمّٰا مٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ ، كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ (1) .

إنّ هذه الآية من أعمق الآيات القرآنية، فهي - بلباس المثل - تطرح معاني سامية تبين فيها مكانة الباطل من الحق. ففي هذا المثال، تشبّه الآية كلا من الحق و الباطل بأمرين:

الأول: إنّ الحق كالماء النازل من السماء، المتجمع في أعماق الأرض، أو الجاري جداول و أنهارا، بعد انحداره من سفوح الجبال إلى الأودية و السهول.

و الباطل كالزبد و الرغوة التي تعلو وجه الماء حال سيلانه و اندفاعه، التي لا تلبث أن تتلاشى كأنّ لم تكن شيئا مذكورا.

الثاني: إنّ الحق كرواسب الأتربة المعدنية المذابة في الأفران، فإنّها خالص المعادن و الفلزات.

ص: 299


1- سورة الرعد: الآية 17.

و الباطل كالزبد و الفقاعات التي تعلو هذه الأتربة حال غليانها، التي سرعان ما تنفجر و تتبخر.

فالصورة العامة التي يعطيها هذا المثل، ترسيم ثبات الحق و دوامه بتشبيهه، بالماء النازل من السماء، الجاري في الأودية و الوهاد، الغائر في أعماق الأرض، ثم الظاهر، بصورة العيون و الينابيع، التي تستفيد المخلوقات منها في دوام حياتها.

و بالمعادن المذابة، الراسب خالصها في أعماق الأفران، التي يستفيد منها الناس في زينتهم و أمتعتهم.

و كذلك ترسيم سرعة أفول الباطل بعد نجومه بتشبيهه بالزبد الذي يرغو فوق الماء، و المعادن المنصهرة، الذي يتصوره الجاهل شيئا ثابتا قائما، و لكن ما أسرع اختفاءه و زواله، فلا يرى منه عين و لا أثر.

و على ذلك فللحق ثبات و دوام، و للباطل جولة و زوال.

و مع هذا، ففي هذا المثل معان عميقة، و إشارات دقيقة إلى مكانة كل من الحق و الباطل، نشير إلى بعضها..

1 - إنّ الحق و الباطل يتمثّلان في مجال العقيدة، في الإيمان و الكفر، و العدل و الظلم.

فبالإيمان باللّه تبارك و تعالى تحيا القيم الأخلاقية، كما أنّ بالكفر موت المثل و الفضائل و انعدام الكمالات الإنسانية.

و مثل ذلك العدل و الظلم، ففي ظلّ العدل تتفجّر الطاقات و تترقى المجتمعات، و ينال كل إنسان الغاية التي يليق بها، كما أنّ في الظلم كبت الاستعدادات، و تقديم المفضول و تأخير الفاضل، و لن يزال المجتمع الظالم يتدهور إلى أن لا يرى له أثر.

فأشبه الإيمان و العدل، الماء الذي به حياة كل شيء، و خالص المعادن المترسب في قعر أفران الصّهر، إذ عليها تعتمد حياة الإنسان الدنيوية، و تترتب المنافع الكثيرة، قال سبحانه: وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ (1). فالحديد و أضرابه، هو الذي يدير عجلة الحضارة، و بفقدانه شللها التام.

ص: 300

فأشبه الإيمان و العدل، الماء الذي به حياة كل شيء، و خالص المعادن المترسب في قعر أفران الصّهر، إذ عليها تعتمد حياة الإنسان الدنيوية، و تترتب المنافع الكثيرة، قال سبحانه: وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ (1). فالحديد و أضرابه، هو الذي يدير عجلة الحضارة، و بفقدانه شللها التام.

و أشبه الكفر و الظلم، الزبد الذي يرغو على وجه الماء و المعادن المنصهرة، لا يستفاد منه و لا يعتمد عليه في شيء.

2 - إنّ الباطل ربما يصير حجابا عن الحق، فيكون مانعا بينه و بين طالبه و لكن هذا الحجاب سرعان ما يزول و يتجلى وجه الحقيقة بصورته الواقعية، تماما كما أنّ الزبد يعلو وجه الماء و يوجب برغوته حدوث غشاوة ساترة لما تحته، و الإنسان الجاهل يحسب أن لا شيء تحته سوى العفن و الطين و التراب، و لكن سرعان ما تخمد رغوته، و تنقشع غشاوته، و يتجلى الماء صافيا زلالا، أو الأتربة المنصهرة، معادن و فلزات نفيسة و نافعة.

فالأفكار الإلحادية ربما تستر وجه الحق، و تحول بينه و بين طالبه، لكن تعلقت مشيئته سبحانه على إحقاق الحق و محو الباطل.

قال سبحانه: وَ يَمْحُ اَللّٰهُ اَلْبٰاطِلَ ، وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ (2).

و قال سبحانه: وَ قُلْ جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبٰاطِلُ ، إِنَّ اَلْبٰاطِلَ كٰانَ زَهُوقاً (3).

3 - إنّ الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات، خال في نفسه عن الصور و الأقدار، و إنّما يتقدّر من ناحية الأشياء، أنفسها، كماء المطر النازل من السحاب على ساحة الأرض، خال في نفسه عن الصور و الأقدار، و إنّما يحتمل من القدر و الصورة ما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية، و مجاري الأنهار، و السواقي، و الأحواض و البرك و المستنقعات، المختلفة في الأقدار و الصور.

فالحق فيض إلهي، يأخذ منه كل إنسان بحسب لياقته وسعة ذهنه. فمن

ص: 301


1- سورة الحديد: الآية 25.
2- سورة الشورى: الآية 24.
3- سورة الإسراء: الآية 81.

الناس من يكون واسع الصدر، كامل الاستعداد فيأخذ منه القسط الأكبر، و منهم من لا يزيدون عن معشار ذلك.

و يلوّح إلى ما ذكرنا آيات كثيرة، منها قوله سبحانه: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (1).

و قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها»(2).

4 - إنّ الباطل في ثورانه و جولانه في أمده القصير، فرع اعتماده على الحق، و اتّخاذه واجهة لأعماله. فلو تجرّد عن الحق بالكلية، لما كان له حتى هذا السهم القصير، كالزبد لا يتجلى إلاّ بركوبه الماء، كما أشار إليه سبحانه بقوله:

فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً (3) .

5 - إنّ الباطل لا يظهر إلاّ في الأجواء الصاخبة و المجتمعات المتضاربة.

كالزبد الذي لا يظهر إلاّ عند تدفق المياه و اجتياحها القنوات الضيقة، فإذا انتهت إلى السهول الفسيحة، زال الزبد شيئا فشيئا، و لا يبقى بعده إلاّ الماء الزلال.

و كذلك الزبد الناجم عند عملية الصهر، فطالما أنّ المعادن في حالة الغلي و الفوران يكون الزبد على وجهها، فإذا هدأت النار و توقف الغليان لم يبق إلاّ المعادن الخالصة.

فهذه بعض التصويرات للمفاهيم القيمة العميقة التي جاءت بها هذه الآية المباركة على وجازتها، و كلما تعمّق الإنسان فيها انفتحت له أبواب من المعارف

ص: 302


1- سورة الحجر: الآية 21.
2- نهج البلاغة، قصار الكلم، رقم 147.
3- خذ على ذلك شاهدا ما يستتر به الرأسماليون في نهبهم لثروات بلدانهم من الأقنعة الحقة، كإنشاء النقابات لعمّالهم، و الضمان الاجتماعي و ضمان الشيخوخة و التقاعد، و غير ذلك الكثير. و ما تتستر به الحكومات الاستعمارية من عناوين حقة، كرعاية حقوق الإنسان، و نبذ التمييز العنصري، و مكافحة الإرهاب، و حرية الرأي و التعبير، و غير ذلك، و كله لتغطية الوجه القبيح لإرهابهم و امتصاصهم لثروات الشعوب المستضعفة، و تضعيف عقائدهم، و المسّ بمقدساتهم...

العليا، و الحقائق السامية، و أقرّ بأنّ هذا القرآن: «باطنه عميق»، و أنّ «أعلاه لمثمر، و أسفله لمغدق».

5 - آية تحتمل مليونا و مائتين و ستين ألف احتمال

هناك نمط آخر من عمق المعنى، يغاير النمط السابق منه، و هو أنّه يوجد في القرآن آيات يتردد المقصود منها بين احتمالات تدهش العقول و تحيّر الألباب، و هي بعد معتمدة على أريكة حسنها، متجملة في أجمل جمالها، متحلية بحليّ بلاغتها و فصاحتها. و نذكر من هذا النمط نموذجا واحدا، و نشير في آخر الكلام إلى نموذج آخر:

قال سبحانه: وَ اِتَّبَعُوا مٰا تَتْلُوا اَلشَّيٰاطِينُ عَلىٰ مُلْكِ سُلَيْمٰانَ وَ مٰا كَفَرَ سُلَيْمٰانُ وَ لٰكِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا، يُعَلِّمُونَ اَلنّٰاسَ اَلسِّحْرَ وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ ، هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّٰى يَقُولاٰ إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ ، فَلاٰ تَكْفُرْ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ، وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ ، وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاٰقٍ وَ لَبِئْسَ مٰا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ * وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ خَيْرٌ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ (1).

إنّ هذه الآية تحتمل من المعاني الكثيرة ما يدهش الإنسان و يثير إعجابه، و هي ناشئة من كيفية تبيين مفرداتها و جملها. و هذه الاحتمالات يراها المتتبع في كتب التفاسير، و هي:

1 - ما هو المراد من الضمير في قوله: «اتّبعوا»، أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان، أو الذين في عهد رسول اللّه، أو الجميع ؟.

ص: 303


1- سورة البقرة: الآيتان 102 و 103.

2 - ما هو المراد من قوله: تَتْلُوا ، فهل هو بمعنى تتبع، أو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب ؟.

3 - ما هو المراد من الشياطين: فهل هم شياطين الجن أو شياطين الإنس أو كلاهما؟.

4 - ما ذا يراد من قوله: عَلىٰ مُلْكِ سُلَيْمٰانَ ، فهل هو بمعنى: «في ملك سليمان»، أو: «في عهد ملك سليمان»، أو: «على ملك سليمان»، بحفظ ظاهر الاستعلاء الموجود في معنى على، أو بمعنى: «على عهد ملك سليمان»، كذلك ؟.

5 - ما هو المراد من قوله: وَ لٰكِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا . أ هو بمعنى:

«كفروا بما أخرجوه من السحر إلى الناس»، أو بمعنى: «إنّهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر»، أو بمعنى: «إنّهم سحروا»، فعبر عن السحر بالكفر؟.

6 - ما ذا يراد من قوله: يُعَلِّمُونَ اَلنّٰاسَ اَلسِّحْرَ ، فهل هو بمعنى:

«ألقوا السحر إليهم فتعلموه»، أو بمعنى: «إنّهم دلّوا الناس على استخراج السحر»، و كان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه و تعلّموه ؟.

7 - ما هو المراد من «ما» في قوله: مٰا تَتْلُوا . فهل هي موصولة عطفت على قوله: «السحر»، أي «يعلمونهم ما أنزل على الملكين». أو نافية، و الواو استئنافية، أي «و لم ينزل على الملكين سحر كما يدّعيه اليهود»؟.

8 - ما ذا يراد من قوله: أُنْزِلَ . فهل المراد «إنزال من السماء»، أو:

«من نجود الأرض و أعاليها»؟.

9 - ما ذا يراد من قوله: اَلْمَلَكَيْنِ . فهل كانا من ملائكة السماء، أو كانا إنسانين ملكين (بكسر اللام)، كما في بعض القراءات، أو ملكين (بفتح اللام) أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح ؟.

10 - ما هو المراد من قوله: بِبٰابِلَ ، فهل هي بابل العراق، أو بابل دماوند، أو من نصيبين إلى رأس العين ؟.

ص: 304

11 - ما ذا يراد من قوله: وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ . فهل «علم» بمعناه الظاهر، أو بمعنى «أعلم»؟.

12 - ما ذا يراد من قوله: فَلاٰ تَكْفُرْ . فهل المراد: «لا تكفر بالعمل و السحر»، أو المراد: «لا تكفر بتعلمه»، أو كلاهما؟.

13 - ما ذا يراد من قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا ، فهل المراد: «يتعلمون من هاروت و ماروت»، أو المراد: «يتعلمون من السحر و الكفر»، أو المراد النهي إلى فعله ؟.

14 - ما هو المراد من قوله: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ فهل أريد منه أنّهم يوجدون به حبّا و بغضا بينهما، أو أنّهم يغرون أحد الزوجين و يحملونه على الكفر و الشرك فيفرّق بينهما اختلاف الملة و النحلة. أو أنّهم يسعون بينهما بالنميمة و الوشاية فيؤول إلى الفرقة ؟(1).

فهذه احتمالات تحتملها الآية. و أنت إذا ضربت عدد الاحتمالات التي ذكرناها في بعضها ارتقى عدد الاحتمالات إلى كمية عجيبة تقرب من مليون و مائتين و ستين ألف احتمال(2).

و ليست هذه الآية وحيدة في بابها، و إن كانت قليلة النظير، بل لها نظائر منها قوله سبحانه:

أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شٰاهِدٌ مِنْهُ ، وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسىٰ إِمٰاماً وَ رَحْمَةً ، أُولٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ فَالنّٰارُ مَوْعِدُهُ ، فَلاٰ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يُؤْمِنُونَ (3) .

ص: 305


1- لاحظ الميزان، ج 1، ص 233-234.
2- و هو حاصل ضرب الاحتمالات المذكورة و صورتها الرياضية:؟؟؟؟ 2 ضربدر 3 ضربدر 4 مساوى 1259712 احتمالا. و المراد من 2 4، 2 مضروب في نفسها أربع مرات و 3 9، 3 مضروب في نفسها تسع مرات. نعم الكثير من الاحتمالات ربما لا تتناسق مع بعضها، فينخفض عدد احتمالات التفسير الصحيحة.
3- سورة هود: الآية 17.

فإنّك لو تفحصت الاحتمالات التي ذكرها المفسّرون لمفرداتها و جملها، لوقفت على أنّ الآية تحتمل من المعاني ما يدهش العقول.

قال العلاّمة الطباطبائي: «و أمر الآية فيما يحتمله مفردات ألفاظها و ضمائرها عجيب، فلو ضرب بعضها في بعض يرقى عدد الاحتمالات إلى ألوف منها، بعضها صحيح و بعضها غير صحيح»(1).

و قد ذكر هو قدس سرّه أصول الاحتمالات في تفسيره، فمن أراده فليرجع إليه.

ص: 306


1- الميزان، ج 12، ص 142، طبعة طهران.

دعائم إعجاز القرآن

(3) النظم: رصانة البيان و استحكام التأليف.
تعريف النظم
اشارة

1 - النظم هو لجام الألفاظ، و زمام المعاني، و به تنتظم أجزاء الكلام و يلتئم بعضها ببعض، فتقوم له صورة في النفس، يتشكل بها البيان.

2 - النّظم هو وضع كلّ لفظ في موضعه اللائق به، بحيث لو أبدل مكانه غيره، ترتب عليه إمّا تبدل المعنى، أو ذهاب رونقه و سقوط البلاغة معه.

3 - النظم هو رعاية قوانين اللغة و قواعدها، على وجه لا يكون الكلام خارجا عمّا هو المرسوم بين أهل اللغة.

هذه تعاريف ثلاثة للنظم، غير أنّ المقصود منه هنا هو تماسك الكلمات و الجمل، و وضع كل كلمة مكانها. و أمّا رعاية القوانين، فهي و إن كانت دخيلة في تحقق النظم - فإنّ الكلام الخارج عن إطارها متخلخل - غير أنّ القرآن أرفع شأنا من أن يعرض على القواعد، بل هي تعرض عليه، كما تقدم. و لأجل ذلك نركّز في النظم على الأمرين الأولين، الانسجام أولا، و وضع كل كلمة مكانها، ثانيا.

و قد أعطى الشيخ عبد القاهر الجرجاني للنظم القسط الأوفر من إعجاز القرآن، بل جعله السبب الوحيد فيه، و قال - بعد ردّ كل ما يمكن أن يكون وجها

ص: 307

للإعجاز -: «فلم يبق إلاّ النظم، و ليس هو شيئا غير توخي معاني النحو، و أحكامه. و إنّا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها، و جامعا يجمع شملها، و يؤلفها، و يجعل بعضها بسبب من بعض، غير توفّي معاني النحو و أحكامه فيها، طلبنا ما كلّ محال دونه»(1).

و كلامه هذا لا ينافي ما ذكرناه، لأنّه يرمي إلى أنّ الانسجام التام بين جمل الآية حصل في ظل تحقيق هذه القواعد و رعايتها فيها.

و قال الزملكاني: «إنّ وجه الإعجاز يرجع إلى التأليف الخاص به، بأن اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة، و علت مركباته معنى، بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا في اللفظ و المعنى»(2).

ثم ليعلم أنّ الكلام يقوم على ثلاثة أشياء:

1 - لفظ حامل.

2 - معنى قائم باللفظ.

3 - و رباط لهما.

و هذه الأمور الثلاثة توجد في القرآن على الوجه الأحسن، فالألفاظ عذبة (الدعامة الأولى)، و المعاني سامية و راقية (الدعامة الثانية)، و الكلمات و الجمل مترابطة و متلاحمة أشدّ التلاحم و التشاكل، و هذه هي الدعامة الثالثة التي نبحث فيها.

و نحن نبحث في تبيين النظم القرآني في مقامين:

الأول: انسجام الجمل و الكلمات، و تعانقها.

الثاني: وضع كل كلمة موضعها.

ص: 308


1- دلائل الإعجاز، ص 300. و ثلاث رسائل، الرسالة الشافية لعبد القاهر الجرجاني، ص 184.
2- الاتّقان في علوم القرآن، ج 4، ص 8.
1 - تجاذب الكلمات و تعانق الجمل
اشارة

إنّ القرآن بلغ من ترابط أجزائه، و تماسك كلماته و جمله و آياته، مبلغا لا يدانيه فيه أي كلام آخر، مع طول نفسه، و تنوع مقاصده، و افتنانه و تلوينه في الموضوع الواحد. و آية ذلك أنّك إذا تأمّلت في القرآن الكريم، وجدت منه جسما كاملا، تربط الأعصاب و الأغشية بين أجزائه، و لمحت فيه روحا عاما يبعث الحياة، و الحسن، على تشابك و تساند بين أعضائه.

فبين كلمات الجملة الواحدة من التآخي و التناسق ما جعلها رائعة التجانس و التجاذب. و بين جمل السورة الواحدة من التشابك و الترابط ما جعلها وحدة متآخذة الأجزاء، متعانقة الآيات. و لأجل ذلك يقول سبحانه: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ (1).

و الآيات القرآنية، و إن كانت كلّها مظاهر لهذا الانسجام، كما يلاحظه التالي لها، غير أنا نختار من بينها آية تشع نورا بين الآيات في حسن الانسجام و روعة النظم، كأنّها سبيكة واحد، مع طولها، و كثرة جملها، و غزارة معانيها.

يقول سبحانه: اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ ، لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ ، لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ ، مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ ، يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّٰ بِمٰا شٰاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ (2).

و بما أنّ مسألة الترابط و التآخي في الآيات القرآنية واضحة لمن أمعن فيها، فلذلك نطوي الكلام عن الإكثار فيها، و نعطف نظر الباحث إلى نمط خاص من النظم:

ص: 309


1- سورة الزمر: الآية 28.
2- سورة البقرة: الآية 255.
نمط خاص من النظم في بعض الآيات

إنّ الأهرام التي أقامها فراعنة مصر، فكانت إحدى عجائب الدنيا، قد بنيت حجرا على حجر دون أن تتماسك أحجارها بأيّة مادة غريبة دخلت بينها، و إنّما كان تماسكها تماسكا ذاتيا، و تجاذبا أحكمته هندسة البناء، فاستدعى الحجر صاحبه إليه، و اعتنقه في تآلف و ترابط. و إنّه بقدر ما كان بين هذه الأحجار من روابط ذاتية، بقدر ما يكون لها من ثبات و روعة على الزمن، و لكنها - مع هذا - صنعة إنسان، مقدور عليه الفناء، و إذن فلا خلود لها، لأنّ الفاني لا يخلق إلاّ فانيا.

فكان من إعجاز القرآن أن أقام أبنية من النظم الكلامي غير مستندة إلاّ على ما بينها من تناسق هندسي، و تجاذب روحي، و ترابط الكلمات، و تعانق الآيات، أحكمه الحكيم العليم، و قدّره اللطيف الخبير.

و إليك نماذج من هذا النوع من النظم:

1 - يقول سبحانه: الم * ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ ، لاٰ رَيْبَ فِيهِ ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (1).

هذه جمل أربع لم يتوسط فيها حروف العطف، حتى تعطف بعضها على بعض و تجعل منها كيانا واحدا. و مع ذلك نرى فيها من التلاحم و التناسق ما يجعلها تبدو جملة واحدة، بل كلمة واحدة.

2 - يقول سبحانه: اَلرَّحْمٰنُ * عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ * خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ * عَلَّمَهُ اَلْبَيٰانَ * اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ بِحُسْبٰانٍ (2).

فهذه الآيات تراها كأنّها جملة واحدة في اتّساقها و تجاذبها، و تعانقها لفظا و معنى. فإنّها تساوقت ألفاظها، و تناغمت حروفها في هذا النغم العلوي، كما

ص: 310


1- سورة البقرة: الآيات 1-3.
2- سورة الرحمن: الآيات 1-5.

تآخت معانيها و تناسبت فكانت نبعا سماويا يتدفق في تسلسل و ترابط، لا ترى العين منه إلاّ كيانا واحدا من منبعه إلى مصبّه.

3 - يقول سبحانه: سَأَلَ سٰائِلٌ بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ * لِلْكٰافِرينَ لَيْسَ لَهُ دٰافِعٌ * مِنَ اَللّٰهِ ذِي اَلْمَعٰارِجِ (1).

فليس في هذه الآيات حرف عطف يجمع كلمة إلى كلمة، أو آية إلى آية.

و هي مع هذا يسودها التلاحم و التآخي و التساند، يجذب بعضها بعضا. فهناك سائل يسأل، و موضوع سؤاله عذاب واقع، و الذين وقع بهم العذاب هم الكافرون، و هو عذاب لا يدفع، لأنّه عذاب من اللّه ذي المعارج.

2 - وضع كلّ كلمة في موضعها

إنّ لكل نوع من المعنى، نوعا من اللفظ هو به أولى و أصلح، و ضروبا من العبارة، هي بتأديته أقوم، و مأخذا إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب و بالقبول أليق، و كان السمع له أوعى، و النفس إليه أميل.

إنّ في لغة العرب ألفاظا متقاربة في المعاني، ربما يحسب غير المطّلع ترادفها، و تساويها في إفادة المقصود، كالعلم و المعرفة، و الحمد و الشكر، و البخل و الشّح، و القعود و الجلوس، حتى بين الحروف ك «بلى» و «نعم»، و غير ذلك من الأسماء و الأفعال. فإنّ لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، و إن كانا يشتركان في بعضها.

و قد اهتمّ القرآن، باستعمال كل كلمة في موضعها بحيث لو أزيلت الكلمة و أقيمت مكانها ما يظن كونه مرادفا لها، لفسد المعنى، و زال الرونق.

و لأجل إيقاف الباحث على هذا النوع من النظم، نأتي بنماذج:

ص: 311


1- سورة المعارج: الآيات 1-3.

1 - نرى أنّه سبحانه يأمر عبده بحمده، و يقول: وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً، وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ (1).

و في موضع آخر يأمر بالشكر و يقول: اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً (2).

و ما هذا إلاّ لأنّ الحمد هو الثناء على الجميل، و الشكر هو الثناء في مقابل المعروف، فالحمد ضد الذم، و الشكر ضد الكفران. و بما أنّه سبحانه يصف نفسه في الآية الأولى، بقوله: «الذي لم يتخذ ولدا»، فناسب الأمر بالحمد.

و بما أنّه يذكر معروفه و إحسانه على آل داود في الآية الثانية، ناسب الأمر بالشكر على المعروف.

2 - نرى أنّه سبحانه يستعمل كلمة السهو تارة بلفظة «في»، و يقول:

قُتِلَ اَلْخَرّٰاصُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سٰاهُونَ (3) .

و أخرى بلفظة «عن» و يقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاٰتِهِمْ سٰاهُونَ (4).

و ما هذا إلاّ لأنّ المراد من الآية الأولى أنّ الغفلة تعلوهم و تغمرهم، و أنّهم في ضلالتهم متمادون، فناسب لفظة «في» الدالّة على الظرفية. و لكن المراد من الآية الثانية هو السهو عن نفس الصلاة و عدم الإتيان بها في مواقيتها فناسب لفظة «عن»، و لو كان المراد السهو في نفس الصلاة، كأن لا يدري المصلي أنّه في شفع أو وتر، لقال «في صلاتهم».

3 - يقول سبحانه عن لسان إخوة يوسف: فَأَكَلَهُ اَلذِّئْبُ وَ مٰا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنٰا وَ لَوْ كُنّٰا صٰادِقِينَ (5). مع أنّ الرائج في فعل السباع هو الافتراس لا

ص: 312


1- سورة الإسراء: الآية 111.
2- سورة سبأ: الآية 13.
3- سورة الذاريات: الآيتان 10 و 11.
4- سورة الماعون: الآيتان 4 و 5.
5- سورة يوسف: الآية 17.

الأكل، و ما هذا إلاّ لإفادة أنّ الذئب أتى على جميع أجزاء يوسف و أعضائه، فلم يترك منه شيئا، حتى لا يطالبهم و الدهم بالإتيان ببقية أجزاء بدنه.

4 - يقول سبحانه عن لسان عبدة الأصنام: وَ اِنْطَلَقَ اَلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلىٰ آلِهَتِكُمْ ، إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ يُرٰادُ (1). و لم يقل: «ان امضوا و انطلقوا»، و ذلك لإفادة أنّ الدفاع عن الآلهة أمر يطابق سجيتهم، كالمشي وراء الحوائج.

5 - يقول سبحانه: وَ لَهُ مٰا سَكَنَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ، وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (2)، مع أنّ للّه سبحانه ما سكن فيهما و ما تحرك. و ما ذلك إلاّ لأنّه ليس المراد من السكون ما يضاد الحركة، و إنّما المراد من السكون هو الاستقرار في نظام العالم، سواء كان متنقلا عن موضعه أو ساكنا فيه.

فالسكون في الآية، نظيره في قوله سبحانه: وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا (3). فليس المراد من السكون فيها الاستقرار بلا حراك، بل الطمأنينة الروحية.

و لأجل ذلك لو وضعت مكان «سكن» أية كلمة أخرى ترادفها، مثل «خمد»، «استقرّ»، «وقف»، تخرج الآية من روعتها، و ربما يفسد المعنى.

و بذلك ينفتح باب واسع للدّقة في نظم القرآن، فنأتي بنموذجين مع إحالة الإجابة عنهما إلى الباحث الكريم، ليقف على جوابهما بالإمعان.

6 - يقول سبحانه: وَ جَنَى اَلْجَنَّتَيْنِ دٰانٍ (4) و لم يقل «قريب»، «حاضر» أو «عتيد»، لما ذا؟.

7 - يقول سبحانه - حاكيا عن زكريا -: إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي (5)

ص: 313


1- سورة ص: الآية 6.
2- سورة الأنعام: الآية 13.
3- سورة الروم: الآية 21.
4- سورة الرحمن: الآية 54.
5- سورة مريم: الآية 4.

و لم يقل «فتر»، «ضعف» أو «تخاذل»، لما ذا؟ و بعد هذا، تقف على سبب ما اشتهر بين أئمة البلاغة من أنّ الكلمة في نظم القرآن، تأخذ أعدل مكان في بناء هذا البنيان، و لا يصلح للحلول مكانها أي كلمة أخرى، لاستلزامه إما فساد المعنى، أو عدم إفادة المقصود، و إن اشتهر في وضع اللغة قيام المترادفات مقام بعضها.

هل في القرآن سجع ؟

من الملاحظ، أنّ كثيرا من آيات القرآن الكريم، تختم بفواصل فيها حروف متشاكلة في المقاطع، فهل هو من السجع أو لا؟.

ربما يرى بعض الأساتذة عدم اشتمال القرآن على السجع، بحجة أنّ الفواصل غير الإسجاع، لأنّ شأن القرآن أرفع من أن يسجع فيه، فإنّ السجع مأخوذ من سجع الحمامة، و ليس فيه إلاّ الأصوات المتشاكلة(1)يلاحظ عليه: إنّ إنكار السجع في بعض السور القصار، خلاف الإنصاف، غير أنّ السجع على قسمين، و نربأ بالقرآن عن اشتماله على السجع الذي يكون المعنى فيه تابعا له، دون السجع الذي يكون تابعا للمعنى.

فالأول مردود، و هو السائد في الخطب الرائجة أيام الأمويين و العباسيين.

و أمّا الثاني فهو يوجب حسنا في الكلام، لأنّه على عفو الخاطر، يأتي به المتكلم مرتجلا بلا تكلّف، كما هو الملموس في خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

و قد نبّه ابن سنان الخفاجي على هذه النكتة حيث قال، ردّا على الرماني:

«إنّه إن أراد بالسجع، ما يكون تابعا للمعنى، - و كأنّه غير مقصود - فذلك

ص: 314


1- لاحظ النكت في إعجاز القرآن، ص 89-90.

بلاغة، و فواصل الآيات مثله، و إن كان يريد بالسجع ما تقع المعاني تابعة له، فذلك عيب، و أظن أنّ الذي دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، و لم يسموا ما تماثلت حروفه سجعا، هو رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عند الكهنة و غيرهم»(1).

ص: 315


1- سرّ الفصاحة، ص 247.

ص: 316

دعائم إعجاز القرآن

(4) الأسلوب: بداعة المنهج و غرابة السبك
اشارة

الأساليب السائدة في كلام العرب عصر نزول القرآن، كانت تتردد بين أسلوب المحاورة، و أسلوب الخطابة، و أسلوب الشعر، و أسلوب السجع المتكلف الموجود في كلام العرّافين و الكهّان.

فالأسلوب المحاوري، هو الأسلوب المتداول في المكالمات اليومية في رفع الحوائج، و تيسير الأمور المعيشية. و هذا الأسلوب دارج في كل لغة، و لم يكن في العرب بدعا منهم، فلم يكن كلامهم عند البيع و الشراء، و المعاشرة مثل كلامهم في مقام الخطابة، و إظهار المناقب و الفضائل.

و الأسلوب الخطابي، هو الأسلوب الرائج بين خطباء العرب و بلغائهم.

و يكفينا مئونة بيانه، التأمل في النموذجين التاليين لأشهر خطباء الجاهلية.

1 - وقف قس بن ساعدة في سوق عكاظ، و خطب: «أيّها الناس اسمعوا و عوا، من عاش مات، و من مات فات، و كل ما هو آت آت. ليل داج، و نهار ساج، و سماء ذات أبراج، و نجوم تزهر، و بحار تزخر، و جبال مرساة، و أرض مدحاة، و أنهار مجراة، إنّ في السماء لخبرا، و إنّ في الأرض لعبرا، ما بال الناس يذهبون و لا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا؟(1).

ص: 317


1- صبح الأعشى، ج 1، ص 212. و إعجاز القرآن، ص 124. البيان و التبيين، ج 1،

2 - و خطب المأمون الحارثي في قومه، فقال: «أرعوني أسماعكم، و أصغوا إليّ قلوبكم، يبلغ الوعظ منكم حيث أريد؛ طمح بالأهواء الأشر، و ران على القلوب الكدر، و طخطخ(1) الجهل النظر، إنّ فيما ترى لمعتبرا لمن اعتبر، ارض موضوعه و سماء مرفوعة، و شمس تطلع و تغرب، و نجوم تسرى فتعزب، و قمر تطلعه النور، و تمحقه أدبار الشهور(2).

و يرى هذا الأسلوب في خطب النبي و عليّ عليهما السلام في مواقف مختلفة.

و الأسلوب الشعري، هو الأسلوب المعروف المبني على البحور المعروفة في العروض.

و أمّا أسلوب السجع المتكلف، فقد كان يتداوله الكهنة و العرّافون، كما تراه في قول ربيع الذئبي الشهير بسطيح لابن اخته عبد المسيح حول علامات ظهور النبي العربي: «يسيح عبد المسيح، على جمل مشيح، أقبل إلى سطيح، و قد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، و خمود النيران، و رؤيا المؤبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، حتى اقتحمت الواد، و انتشرت في البلاد»(3).

و لكن القرآن جاء بصورة من صور الكلام على وجه لم تعرفه العرب، و خالف بأسلوبه العجيب و سبكه الغريب، جميع الأساليب الدارجة بينهم، و مناهج نظمهم و نثرهم.

و لأجل ذلك لم تتعامل معه العرب معاملة شعر أو نثر، بل أنصف المنصفون منهم بأنّه وحيد نسجه في أسلوبه و سبكه.

ص: 318


1- أي غلب.
2- الأمالي، لأبي علي القالي، ج 1، ص 276.
3- تاريخ الطبري، ج 2، ص 132. و العقد الفريد، ج 1، ص 108. و السيرة الحلبية، ج 1، ص 70. و المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء، ج 1، ص 110.

كان العرب يعرفون الأساليب الأربعة السالفة، و لكنهم لم يعرفوا الأسلوب القرآني الذي يأخذ فيه الكلام صورة خاصة، تأتي فيها الآيات، و تختم كل واحدة منها بفاصلة ذات نظم و رنين، فيجد الصدر لذلك راحة عند الوقوف على الفاصلة.

إنّ الأسلوب القرآني الذي تفرّد به، كان أبين وجه من وجوه الإعجاز، في نظر الباحثين عن إعجازه، و إن جعلناه أحد الأسس الأربعة التي يبنى عليها صرح الإعجاز القرآني.

و لأجل أهمية الأسلوب في رفع القرآن إلى درجة الإعجاز ركّز القاضي الباقلاني عليه و حصر وجه إعجازه فيه، و قال: «وجه إعجازه ما فيه من النظم و التأليف و الترصيف(1) و أنّه خارج عن وجوه جميع النظم المعتاد في كلام العرب و مباين لأساليب خطاباتهم، و لهذا لم يمكنهم معارضته».

و أضاف: «و لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر، لأنّه ليس ممّا يخرق العادة، بل يمكن استدراكه بالعلم و التدريب و التصنع به، كقول الشعر، و رصف الخطب، و صناعة الرسالة، و الحذق في البلاغة، و له طريق تسلك. فأمّا شأو نظم القرآن، فليس له مثال يحتذى، و لا إمام يقتدى به، و لا يصحّ وقوع مثله اتّفاقا»(2).

و ممّن حصر وجه إعجاز القرآن بأسلوبه الراقي هو الأصفهاني - على ما حكاه السيوطي - فإنّه بعد ما أشار إلى أقسام الكلام من المحاورة، و النثر المسجع، و الشعر، قال: «و لكل من ذلك نظم مخصوص، و القرآن جامع لمحاسن الجميع، على نظم غير نظم شيء منها، يدلّ على ذلك أنّه لا يصح أن يقال له:

«رسالة»، أو «خطابة»، أو «شعر»، أو «سجع». كما يصح أن يقال هو كلام. و البليغ إذا قرع القرآن سمعه، فصل بينه و بين ما عداه من النظم، و لهذا

ص: 319


1- مراده من النظم و التأليف و الترصيف هو الأسلوب لا النظم الذي اصطلحنا عليه في الدعامة الثالثة، كما يظهر من القرائن.
2- الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص 8.

قال تعالى: وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ * لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ (1)، تنبيها على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يغير بالزيادة و النقصان كحال الكتب الأخرى»(2).

و ممّا يدلّ على أنّ القرآن ليس كلام النبي الأعظم هو وجود البون الشاسع بين أسلوب القرآن و أسلوب الحديث النبوي. فمن قارن آية من القرآن الكريم مع الأحاديث القطعية الصادرة منه صلى اللّه عليه و آله، أحس مدى التفاوت البعيد بين الأسلوبين، و آمن بأنّ أسلوب التنزيل يغاير أسلوب الحديث. و هذا يدلّ على أنّ القرآن ينزل من عالم آخر على ضمير النبي، بينما الحديث يتكلم به النبي من إنشاء نفسه.

و على الجملة، جاء القرآن في ثوب غير الأثواب المعروفة للكلام عند العرب، و في صورة غير الصور المألوفة، جاء نسيج وحده، و صورة ذاته، لا يشبه غيره، و لا يشبهه غيره. فلا هو شعر، و لا هو نثر، و لا هو من قبيل سجع الحكماء أو العرّافين و الكهّان.

و الذي يمكن أن يقال إنّه قرآن فصّلت آياته، و كل آية لها مقطع تنتهي به، و هو الفاصلة، و هذه هي الظاهرة المحسوسة فيه، يقف عليها من يتصل بالقرآن الكريم، قارئا كان أو مستمعا، مؤمنا كان أو غير مؤمن.

و أنت إذا أردت أن تلمس الأسلوب القرآني عن كثب، و تقف عليه وقوف لامس للحقيقة، و مستكشف لها عن قرب. فلاحظ موضوعا واحدا ورد في القرآن المجيد، و في كلام النبي الأعظم أو الوصي. فكلاهما يهدفان إلى أمر واحد، و لكن لكل أسلوبه الخاص لا يختلط أحدهما بالآخر.

يقول الرسول صلى اللّه عليه و آله في وصف الغفلة عن الآخرة: «و كأنّ

ص: 320


1- سورة فصلت: الآيتان 41 و 42.
2- الإتقان، ج 4، ص 11. و هو يشير إلى أنّ التغيير في القرآن يوجب التغيير في تأليفه أوّلا، و أسلوبه ثانيا.

الموت فيها على غيرنا كتب، و كأنّ الحق فيها على غيرنا وجب، و كأنّ الذي نشيّع من الأموات سفر، عمّا قليل إلينا يرجعون».

و أنت إذا قارنته بما ورد في الذكر الحكيم في هذا المضمار ترى التفاوت بينهما بينا.

يقول سبحانه: وَ مٰا هٰذِهِ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إِلاّٰ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ ، وَ إِنَّ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوٰانُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ (1).

فهما قد اتّفقا على وصف معنى واحد، و هو الموت و العود إلى الآخرة، و تصرّم الدنيا و انقضاء أحوالها، و طيّها، و الورود إلى الآخرة، و لكن القرآن متميز في تحصيل هذا المعنى و تأديته بأسلوب خاص، تمييزا لا يدرك بقياس، و لا يعتوره التباس.

و هكذا، لاحظ قول علي عليه السلام: «أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، و شغف الأستار، نطفة دهاقا، و علقة محاقا، و جنينا، و وليدا، و يافعا»(2).

ثم قارنه إلى قوله تعالى: فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحٰامِ مٰا نَشٰاءُ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ (3).

فإنك ترى الأسلوبين يتغايران جوهرا، و لا يجتمعان في شيء.

نوع آخر من المقارنة

و هناك نوع آخر من المقارنة يتجلى فيها التفاوت بوضوح بين الأسلوبين، و هو ملاحظة خطب الرسول الأعظم و أمير المؤمنين عليهما السلام، عند ما يخطبان

ص: 321


1- سورة العنكبوت. الآية 64.
2- نهج البلاغة، الخطبة 83.
3- سورة الحج: الآية 5.

و يعظان الناس بأفصح العبارات و أبلغها، ثم يستشهدان في ثنايا كلامهما بآي من الذكر الحكيم، فعندها يلمس البون الشاسع بين الأسلوبين، من دون مداخلة شك و ريب.

خطب النبي الأكرم يوم فتح مكة في المسجد الحرام، فقال: يا معشر قريش إنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، و تعظمها بالآباء. الناس من آدم و آدم خلق من تراب؛ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ »(1).

و قال أمير المؤمنين عليه السلام، في خطبته المعروفة بالشقشقية: «فما راعني إلاّ و الناس كعرف الضبع إليّ ، ينثالون عليّ من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، و شقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلما نهضت بالأمر، نكثت طائفة، و مرقت أخرى، و قسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول: تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ».

و قال عليه السلام في كلام له لأصحابه في بعض أيام صفين: «و طيبوا عن أنفسكم نفسا، و امشوا إلى الموت مشيا سجحا، و عليكم بهذا السواد الأعظم، و الرّواق المطنّب، فاضربوا ثبجه، فإنّ الشيطان كامن في كسره، قد قدّم للوثبة يدا، و أخر للنكوص رجلا، فصمدا صمدا، حتى ينجلي لكم عمود الحق؛ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ ، وَ اَللّٰهُ مَعَكُمْ ، وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ (2).

و قال عليه السلام في خطبة له عند ذكر المشبهة: «لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، و لم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندّ لك، و كأنّه لم يسمع تبرّؤ التابعين من المتبوعين، إذ يقولون: تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (3).

ص: 322


1- السيرة النبوية، لابن هشام، ج 3، ص 273. تاريخ الطبري، ج 3، ص 120.
2- نهج البلاغة، بتعليق محمد عبده، ص 115.
3- نهج البلاغة، بتعليق محمد عبده، ص 164.

و قال عليه السلام في خطبة له عند ذكر أهل القبور: «و كأن صرتم إلى ما صاروا إليه، و ارتهنكم ذلك المضجع، و ضمّكم ذلك المستودع، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور، و بعثرت القبور: هُنٰالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ ، وَ رُدُّوا إِلَى اَللّٰهِ مَوْلاٰهُمُ اَلْحَقِّ ، وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ »(1).

و أخيرا، يجب التنبيه على أنّ الأسلوب وحده لا يكفي لجعل الكلام فوق كلام البشر، ما لم ينضم إليه الدعائم الثلاث الأخر، خصوصا سمو المعاني و علو المضامين، فإن له القسط الأكبر في جعل الأسلوب ممتازا، تمتدّ إليه الأعناق، و إلاّ فمحاكاة الأسلوب القرآني ملموس في كلام المدّعين للمعارضة مثل مسيلمة و غيره، كما سيوافيك، و لكنه يفقد المضمون الصحيح، و المعنى المتزن، و قد عرفت أن إعجاز القرآن بمعنى كونه خلابا للعقول، و مبهرا للنفوس رهن أمور أربعة توجب حصول تلك الحالات للإنسان فلا يجد في نفسه أمام القرآن إلاّ السكوت و السكون.

و هناك من خفي عليه دور الأسلوب في رفع شأن القرآن، و زعم أنّ إعجاز القرآن ينحصر في الدعائم الثلاثة الأول قال: «إنّ الأسلوب لا يمنع من الإتيان بأسلوب مثله، لأنّ الإتيان بأسلوب يماثله، سهل و يسير على كل واحد، بشهادة أن ما يحكى عن مسيلمة الكذاب من قوله: «إنّا أعطيناك الجواهر، فصلّ لربّك و جاهر»، يشبه أسلوب القرآن»(2).

و لكنه غفل عن أنّ الأسلوب أحد الدعائم لا الدعامة المنحصرة، حتى أنّ ما ادعاه من أن إعجاز القرآن لأجل الفصاحة، و البلاغة، و جودة النظم و حسن السياق، ليست دعائم كافية لإثبات الإعجاز، إذ في وسع البشر صياغة كلام في غاية الفصاحة و البلاغة مع حسن السياق و جودته، و مع ذلك لا يكون معجزا لإمكان منافحته و مقابلته و الإتيان بمثله، فيلزم على ذلك عدم كون القرآن من تلك الجهة معجزا. و الذي يقلع الإشكال أنّ الإعجاز رهن هذه القيود الأربعة، و أنّ

ص: 323


1- المصدر السابق، ص 164.
2- الطراز، ص 396.

الإتيان بكلام فصيح غايتها، و بليغ نهايتها، منضما إلى روعة النظم، في هذا الأسلوب الخاص المعهود من القرآن، أمر معجز. و لذلك لم تجد طيلة هذه القرون حتى يومنا هذا كلام يناضل القرآن في آياته و سوره.

و نضيف، أنّه ليس هنا مقياس ملموس كالأوزان الشعرية لتبيين حقيقة أسلوب القرآن، و إنّما هو أمر وجداني يدركه كل من له إلمام بالعربية.

و لأجل تقريب المطلب نذكر آية، ثم نذكر مضمونها بعبارة أخرى، فترى أنّ العبارة الثانية بشرية، و الأولى قرآنية.

قال سبحانه: وَ مِنْ آيٰاتِهِ اَلْجَوٰارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاٰمِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوٰاكِدَ عَلىٰ ظَهْرِهِ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمٰا كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (1).

هذا هو الكلام الإلهي.

فلو أراد إنسان أن يصب هذا المعنى بصورة أخرى، يتغير الأسلوب، مهما بلغ في الفصاحة و البلاغة من العظمة، فيقال مثلا:

«و من أعظم علاماته الباهرة، جري السفن على الماء، كالأبنية العظيمة، إن يرد هبوب الريح تجري بها، و إن يرد سكون الريح فتركد على ظهره، أو يرد إهلاكها بالإغراق بالماء فيهلكهم بسيئات أعمالهم. و في ذلك آيات للمؤمنين».

فانظر الفرق بين الأسلوبين، و الاختلاف في السبكين، مضافا إلى افتقاد الثانية بعض النكات الموجودة في الآية.

إلى هنا تمّ الكلام حول الدعائم الأربع التي بني عليها صرح الإعجاز، و شيدت أركانه. غير أنّه بقي هنا أمور لا غنى عن الإشارة إليها و التنبيه عليها، لأنّها تقع في طريق تكميل مباحث إعجاز القرآن البياني، و فيما يلي بيانها.

ص: 324


1- سورة الشورى: الآيات 32-34.
التنبيه الأول آيتان على منضدة التشريح
اشارة

بعد أن وقفت على الدعائم الأربع التي يتحقق معها إعجاز القرآن، فهلمّ إلى تحليل آيتين من آياته، نستجلي فيهما حقيقة الإعجاز، و نقف على المزايا الفريدة الموجودة فيهما - مضافا إلى اشتمالهما على الدعائم الأربع - فسترى أنّ كل واحدة منهما كافية في إثبات أنّها أعلى من أن تكون مصنوعة للبشر، و إن بلغوا في الفصاحة و البلاغة كلّ مبلغ.

1 - آية يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي

قال - عزّ من قائل -: وَ قِيلَ يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي مٰاءَكِ ، وَ يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي، وَ غِيضَ اَلْمٰاءُ ، وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ ، وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ (1).

هذه الآية الكريمة من بدائع آيات القرآن الكريم، و هي التي أنزلت، فأنزلت قريش معلقاتها السبع عن جدران الكعبة، و هي التي شغلت بال باقعة الأدباء، عبد اللّه بن المقفع(2)، و هي التي شغلت بال أساتذة البديع، لأنّها

ص: 325


1- سورة هود: الآية 44.
2- روى هشام بن الحكم، قال: اجتمع ابن أبي العوجاء و أبو شاكر الديصاني، و عبد الملك البصري، و ابن المقفع، عند بيت اللّه الحرام يستهزءون بالحاج، و يطعنون بالقرآن فقال ابن أبي العوجاء: «تعالوا ننقض كلّ واحد منا ربع القرآن و ميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه و قد نقضنا القرآن كلّه، فإنّ في نقض القرآن إبطال نبوّة محمد، و في إبطال نبوّته إبطال الإسلام، و إثبات ما نحن فيه». فاتّفقوا على ذلك و افترقوا. فلما كان من قابل، اجتمعوا عند بيت اللّه الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: «أمّا أنا فمتفكر منذ افترقنا في هذه الآية: فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (سورة يوسف: الآية 80)، فما أقدر أن أضمّ إليها في فصاحتها و جميع معانيها شيئا، فشغلتني هذه الآية عن التفكر في سواها». و قال عبد الملك: «أنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ ، وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبٰابُ شَيْئاً لاٰ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ اَلطّٰالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ (سورة الحج: الآية 73)، و لم أقدر على الإتيان بمثلها». فقال أبو شاكر: «أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا (سورة الأنبياء: الآية 22)، و لم أقدر على الإتيان بمثلها. فقال ابن المقفع: «يا قوم إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، و أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: وَ قِيلَ يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي مٰاءَكِ وَ يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي، وَ غِيضَ اَلْمٰاءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ ، وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ (سورة هود: الآية 44)، لم أبلغ غاية المعرفة بها، و لم أقدر على الإتيان بمثلها». قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق (ع) فقال: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (سورة الإسراء: الآية 88). فنظر القوم بعضهم إلى بعض، و قالوا لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهى أمر وصية محمد إلاّ إلى جعفر بن محمد، و اللّه ما رأيناه قطّ إلاّ هبناه، و اقشعرت جلودنا لهيبته. ثم تفرّقوا مقرّين بالعجز. (الاحتجاج للطبرسي، ج 2، ص 142-143، ط النجف الأشرف).

اشتملت على عشرات الأنواع من المحسنات البديعية، بينما هي لا تتجاوز سبعة عشر لفظا. و إليك الإشارة إلى بعضها:

1 - المناسبة التامة بين «ابلعي و أقلعي».

2 - الاستعارة فيهما.

3 - الطّباق بين الأرض و السماء.

4 - المجاز في قوله: «يا سماء». فإنّ الحقيقة يا مطر السّماء.

ص: 326

5 - الإشارة في: وَ غِيضَ اَلْمٰاءُ ، فإنّه عبّر به عن معان كثيرة، لأنّ الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء و تبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء.

6 - الإرداف في قوله: وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ فإنّه عبّر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظه الحقيقي.

7 - التمثيل في قوله: وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ . فإنّه عبّر عن هلاك الهالكين و نجاة الناجين بلفظ بعيد عن المعنى الموضوع.

8 - التعليل، فإنّ : غِيضَ اَلْمٰاءُ ، علّة الاستواء.

9 - صحّة التقسيم، فإنّه استوعب أقسام الماء حالة نقصه، إذ ليس إلاّ احتباس ماء السماء، و الماء النابع من الأرض، و غيض الماء الذي على ظهرها.

10 - الاحتراس في قوله: وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ ، إذ الدعاء يشعر بأنّهم مستحقوا الهلاك احتراسا من ضعيف يتوهم أنّ الهلاك لعمومه، ربما يشمل غير مستحقه.

11 - المساواة، لأنّ لفظ الآية لا يزيد على معناها.

12 - حسن النسق، فإنّه تعالى قصّ القصّة و عطف بعضها على بعض بحسن الترتيب.

13 - ائتلاف اللفظ مع المعنى، لأنّ كل لفظة لا يصلح معها غيرها.

14 - الإيجاز، فإنّه تعالى أمر فيها و نهى، و أخبر و نادى، و نعت و سمى و أهلك و أبقى، و أسعد و أشقى، و قصّ من الأنباء ما لو شرح لاستغرق كتابا مفردا.

15 - التفهيم، لأنّ أوّل الآية يدلّ على آخرها.

16 - التهذيب، لأنّ مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، إذ كل لفظة عليها رونق الفصاحة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة و تعقيد التركيب.

ص: 327

17 - حسن البيان، لأنّ السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام و لا يشكل عليه شيء منه.

18 - الاعتراض، و هو قوله: وَ غِيضَ اَلْمٰاءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ .

19 - الكناية، فإنّه لم يصرّح بمن أغاض الماء، و لا بمن قضي الأمر، و لا بمن سوى السفينة و أقرّها في مكانها، و لا بمن قال: وَ قِيلَ بُعْداً . كما لم يصرّح بقائل: يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي ، و يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي في صدر الآية، سالكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، لأنّ تلك الأمور العظام لا تتأتى إلاّ من ذي قدرة قهّارة لا يغالب. فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره سبحانه قائل: يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي ، وَ يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي ، و لا أن يكون غائض ما غاض، و لا قاضي مثل ذلك أمر الهائل، غيره.

20 - التعرّض، فإنّه تعالى عرّض بكل من سلك مسلكهم في تكذيب الرّسل ظلما، و أنّ الطوفان و تلك الأمور الهائلة ما كانت إلاّ لأجل ظلمهم.

21 - التمكين، لأنّ الفاصلة مستقرة في محلّها، مطمئنة في مكانها غير قلقة و لا مستدعاة.

22 - الانسجام، لأنّ الآية بجملتها منسجمة، كالماء الجاري في السلاسة.

23 - اشتمالها على بعض البحور الشعرية، إذ قوله: وَ قِيلَ يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي مٰاءَكِ ، على وزن «مستفعلن مستفعلن فاعل». و يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي على وزن «مفاعلن مفاعل».

24 - تنزيل من لا يعقل منزلة من يعقل في النداء و المخاطبة.

25 - الإبهام في قوله: وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ و هو اسم الجبل الصغير، و الزق المنفوخ الذي تستقر عليه السفن المائية.

26 - المحافظة على فواصل الآيات فإنّ الرويّ في قوله: بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ مطابق للآيات المتقدمة و المتأخرة.

ص: 328

27 - التكرار، كما في «الماء»، معرّفا باللام تارة و بالإضافة أخرى.

28 - تخيّل مالكية الأرض، بحيث لها سلطة في إرجاع الماء.

إلى غير ذلك من المحاسن البديعية التي يدركها الممعن في الآية.

فهذه بعض الميزات الواردة في الآية الكريمة، و ليس كل واحد منها و لا جميعها أمرا معجزا، و لكن المجموع أعطى للآية نظما خاصا، و أسلوبا بديعا، يعرف الذوق العربي أنّه يغاير سائر الأساليب و النظم الكلامية. و هذا الجمال الطبيعي، يخلق في النفس جذبة روحية خاصة، كأنّها كهرباء القلوب و مغناطيس الأرواح، و لأجل ذلك يقول الكرماني في كتاب «العجائب»:

«أجمع المعاندون على أنّ طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية، بعد أن فتّشوا جميع كلام العرب و العجم، و لم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها، و حسن نظمها، في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال»(1).

و يقول العلامة الشهرستاني بأنّه أفرد بلاغة هذه الآية بالتأليف(2).

2 - آية وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ

قال تبارك و تعالى: وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذٰا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ ، وَ لاٰ تَخٰافِي وَ لاٰ تَحْزَنِي إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (3).

و هذه الآية الكريمة من بدائع آيات القرآن، و هي على وجازتها، قد جمعت فعلين من الماضي (أوحينا، و خفت)، و فعلين من الأمر (أرضعيه، و ألقيه)، و فعلين من النهي (لا تخافي و لا تحزني)، و وزنين من اسم الفاعل (رادّوه،

ص: 329


1- العجائب، نقلا عن المعجزة الخالدة للشهرستاني، ص 60.
2- المصدر السابق.
3- سورة القصص: الآية 7.

جاعلوه)، و وزنين من اسم المفعول (موسى، مرسل)، و اسمين خاصين (موسى، و أمّه).

ثم قد تكررت فيها «فاء الجواب» مرتين (فإذا، فألقيه)، و حرف «إلى» مرتين (إلى أم موسى، إليك). ثم قد كرر الخوف مرتين، و عبّر عن أمّ موسى باسم مزدوج بدل أن يسميها باسمها.

و فيها نبأ غيبي و هو الإخبار بردّ موسى إلى أمّه، و فيها وعدان: الردّ، و النبوّة.

فاجتماع هذه الأمور في الآية يوجد في الإنسان عند سماعها، لذّة و انجذابا و استغراقا، و تطرأ عليه الحالة التي طرأت على عتبة بن ربيعة عند ما سمع من رسول اللّه آيات من سورة فصلت، فألقى يديه خلف ظهره، معتمدا عليهما مذهولا مبهوتا، كما تقدّم.

ص: 330

التنبيه الثاني مزايا القرآن البيانية
اشارة

قد تعرفت على الدعائم الأربع المحقّقة لإعجاز القرآن، و كفى بذلك عظمة لهذا الكتاب. غير أنّ لهذه المعجزة الخالدة مزايا أخرى يناسب ذكرها هنا، و ترجع جميعها إلى المزية البيانية التي نحن بصدد بيانها. و حيث إنّه لا يسع المقام الإتيان بجميع ما ذكره المحققون، فنأتي ببعضه، الذي يتجلى معه هذا الكتاب السماوي بمزاياه البيانية المنفردة.

1 - الصراحة في بيان الحقائق

إنّ الصراحة إحدى الميزات التي يتصف بها القرآن الكريم، و تظهر بوضوح في آياته. فمن ذلك صراحته في التنديد بالوثنية، و الطعن في الأصنام المعبودة يوم ذاك، و دعوته إلى تحطيمها.

يقول سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ ، وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبٰابُ شَيْئاً لاٰ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ، ضَعُفَ اَلطّٰالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ (1).

إنّ الصراحة وليدة الشجاعة المختمرة بالإيمان، في حين أنّ السكوت عن

ص: 331


1- سورة الحج: الآية 72.

الحق، أو التلوّن و التحفظ في الحديث، دليل على جبن القائل و عدم اعتقاده بالقول الذي يلقيه على الناس، و تخوّفه من المستمعين.

غير أنّ هذا الكتاب المعجز، منزّه عن هذه الوصمات. فهذا هتافه في أذن الكافرين، يقول: قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلْكٰافِرُونَ * لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (1).

هذه هي سيرة الأنبياء العظام، فهم يمتلكون الصراحة في البيان، و يمتازون بها عن غيرهم، فيعلنون الحقائق، بلا تتعتع و لا تحفّظ. هذا هو إبراهيم الخليل - بطل التوحيد - يندد بعمل عبدة الأصنام بقوله: أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاٰ يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ (2).

قل لي بربّك، هل تجد كلاما أصرح و أمتن و أبلغ في التنديد بمن يتخذ وليا غير اللّه من قوله سبحانه: مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَوْلِيٰاءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ (3).

و ليست الصراحة ميزة القرآن في مجال المعارف و العقائد فحسب، بل هي سارية أيضا في مجال العلاقات السياسية فها هو يقول: بَرٰاءَةٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (4).

هذه إلمامة عابرة في تبيين هذه الميزة، تعرب عن إيمان القائل و إذعانه بما يقول و يطرح في مختلف المجالات و الأصعدة.

ص: 332


1- سورة الكافرون.
2- سورة الأنبياء: الآيتان 66 و 67.
3- سورة العنكبوت: الآية 41.
4- سورة التوبة: لاحظ الآيات 1-16.
2 - علو الجهة المنزل منها القرآن

و من مزايا بيان القرآن، تكلّمه من موقع الاستعلاء و تحدّثه بلسان من يملك الأمر كلّه، و من بيده ملكوت السموات و الأرض، و في قبضته كلّ شيء. فهو في مخاطباته و مجادلاته و أوامره و نواهيه، و في وعده و وعيده، و في أمثاله و قصصه، و في مواعظه و نذره، يتّسم بالعلو الشامخ، و يتصدر المقام الرفيع الذي لا ينال، و يتحدث إلى الناس حديث من يملك كل شيء، و من يقوم على كل شيء، و من يدبّر و يقدّر، دون أن يقف أحد أمام سلطانه، فاستمع لقوله سبحانه:

تَبٰارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفُورُ * اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ طِبٰاقاً، مٰا تَرىٰ فِي خَلْقِ اَلرَّحْمٰنِ مِنْ تَفٰاوُتٍ ، فَارْجِعِ اَلْبَصَرَ هَلْ تَرىٰ مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خٰاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (1) .

و قوله سبحانه: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ، أَ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ (2).

و قوله سبحانه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ ، أَمَّنْ يَمْلِكُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اَللّٰهُ فَقُلْ أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ * فَذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ فَمٰا ذٰا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاٰلُ فَأَنّٰى تُصْرَفُونَ (3).

3 - العفة و الاحتشام

امتاز القرآن المجيد في تعابيره بالنزاهة و العفة، مع أنّه ظهر في بيئة لا تعرف للعفّة مفهوما، فلا تجد فيه تعبيرا سيئا، و منهجا ركيكا، يخالف الأدب حتى في

ص: 333


1- سورة الملك: الآيات 1-4.
2- سورة الملك: الآيتان 13 و 14.
3- سورة يونس: الآيتان 31 و 32.

سرده لقصة غرامية، هي قصة يوسف و زليخاء، قصّة عشق امرأة حسنة فاتنة، لفتى طاهر جميل، يخجل وجهه القمر.

إنّ الكاتب في حقل القصص عند ما يسرد أمثال هذه القصة الغرامية، لا يملك زمام قلمه، و يخرج عن النزاهة و العفة، و لكن القرآن قد شرح تلك القصة و صوّرها و وضع خطوطها الغرامية بدقة فائقة في البيان، مع وافر الاحتشام و الاتزان.

فعند ما يعرض اجتماع هذه المرأة الجميلة، مع ذاك الشاب الطاهر، و اختلاءهما في بيتها، و تعلّقها به، يشرح تلك الواقعة من غير أن يثير الغريزة الجنسية الحيوانية، لئلا يناقض هدفه الذي لأجله جاء بها و يقول:

وَ رٰاوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهٰا عَنْ نَفْسِهِ ، وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوٰابَ ، وَ قٰالَتْ هَيْتَ لَكَ ، قٰالَ مَعٰاذَ اَللّٰهِ ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوٰايَ ، إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلظّٰالِمُونَ (1) .

ففي هذه الآية تتجلى عفة القرآن و احتشامه من جهات:

أولا: استعمل كلمة «راود»، و هي تستعمل في الإصرار على الطلب مع اللّين و العطف، فكأنّ زليخا طلبت من يوسف ما طلبت بإصرار و حنان.

و ثانيا: لم يصرّح باسم المرأة، حفظا لكرامتها، و إنّما عبّر عنها بقوله:

«اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهٰا» ، مشيرا - إضافة إلى ذلك - إلى قوة الضغط و شدّة سيطرتها على يوسف، فزمام أمره بيدها، و لا مجال للهروب و التخلّص منها، لأنّه في بيتها.

و ثالثا: قالت الآية: وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوٰابَ ، إعرابا عن أنّ يوسف لم يجد بابا للفرار، و كانت مقدمات الاستسلام مهيئة.

و رابعا: و قالت الآية: هَيْتَ لَكَ ، و هذه كناية عن دعوتها إيّاه إلى التلذذ الجنسي، لكن بكناية فائقة، فإنّ هيت لك، اسم فعل بمعنى هلمّ .

ص: 334


1- سورة يوسف: الآية 23.

خامسا: أجاب يوسف طلبها بقوله: مَعٰاذَ اَللّٰهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوٰايَ ، أي أعوذ باللّه معاذا. فيعرب عن أنّ يوسف لم يعرف خيانة، و لم يدر بخلده أن يخون صاحبه (العزيز) و منعمه و مربّيه، في امرأته. و الضمير في «إنّه»، يرجع إلى «العزيز». و لأجل ذلك بعد ما اتّضحت الحقيقة، و بانت خيانة الامرأة، أرسل يوسف من أعماق زنزانته إلى الملك، و وزيره «العزيز»، بقوله: ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخٰائِنِينَ (1).

و في القصة مسرحية غرامية أخرى هي دعوة امرأة العزيز، نسوة أشراف المدينة، إلى مأدبة ليقفن على بهاء جمال هذا الفتى، و أنّ التعلق به ليس أمرا اختياريا، بل كل من رآه يتعلق فؤاده به في أول لقاء. و يحكيه القرآن بقوله:

وَ قٰالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرٰاوِدُ فَتٰاهٰا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهٰا حُبًّا، إِنّٰا لَنَرٰاهٰا فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ * فَلَمّٰا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً، وَ آتَتْ كُلَّ وٰاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً، وَ قٰالَتِ اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّٰا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حٰاشَ لِلّٰهِ مٰا هٰذٰا بَشَراً إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ مَلَكٌ كَرِيمٌ (2) .

أنظر إلى العفة و الاحتشام في التعبير عن جمال يوسف حيث قال: أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حٰاشَ لِلّٰهِ مٰا هٰذٰا بَشَراً إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ مَلَكٌ كَرِيمٌ .

كل ذلك يعرب عن أنّ القصة سردت على أساس الدعوة إلى العفة و العبرة، و الانصراف عن الانهماك في الشهوات. فهل يستطيع إنسان أمّي، غير متعلم، ترعرع بين شعب متوحش، أن يعرض تلك المسرحية الغرامية، و لا يخرج عن حدود العفة و نطاق النزاهة ؟ كلا، لا(3).

ص: 335


1- سورة يوسف: الآية 52. لاحظ الميزان، ج 11، ص 215.
2- سورة يوسف: الآيتان 30 و 31.
3- أضف إلى ذلك أنّ القرآن يستمد في بيان ما يستقبح التصريح به، بالكلمات الكنائية، ككلمات «الفرج» (لاحظ المؤمنون: الآية 5) و «الغائط» (المائدة: الآية 16) فإنّ الفرج ليس علما للموضع الخاص من المرأة، و إنّما يراد منه الخلل بين الشيئين. كما أنّ الغائط، بمعنى الموضع المنخفض، و قس على ذلك غيرها من الكلمات التي جاءت في بيان المسائل الراجعة إلى الزوج

هذه بعض الميزات الموجودة في بيان القرآن الكريم، و الممعن في الذكر الحكيم يجد له ميزات كثيرة سامية يستنتج من مجموعها أنّ هذا الكتاب ليس نتاج و إبداع إنسان أمّي ولد و نشأ في أمّة متقهقرة، بل هو كتاب إلهي نزل على ضميره و قلبه؛ «ليكون من المنذرين»(1).

ص: 336


1- اقتباس من قوله سبحانه: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ * عَلىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ (سورة الشعراء: الآيتان 193 و 194).
التنبيه الثالث مذهب الصّرفة
اشارة

التنبيه الثالث مذهب الصّرفة(1)

اهتمّ المسلمون من الصدر الأول بالبحث عن وجه إعجاز القرآن، و كان الرأي السائد بينهم في إعجازه هو كونه في الطبقة العليا من الفصاحة، و الدرجة القصوى من البلاغة، مع ما له من النّظم الفريد، و الأسلوب البديع. و هذه الأمور الأربعة أضفت على القرآن وصف الإعجاز حتى صار معجزة القرون و الأعصار.

نعم نجم في القرن الثالث مذهب اشتهر بمذهب الصّرفة، و إليه ذهب جماعة من المتكلمين، و هو يقوم على أساس أنّ العرب لم يقدروا على الإتيان بمثل القرآن، لا لإعجازه بحدّ ذاته، و أنّ القرآن بلغ في فرط الفصاحة و البلاغة، و روعة النظم و بداعة الأسلوب شأوا لا تبلغه الطاقة البشرية، بل لأجل أنّه سبحانه صرف بلغاء العرب و فصحاءهم عن المعارضة بطريق من الطرق الآتي ذكرها.

و قد حكي هذا المذهب عن أبي إسحاق النّظام، و هو أقدم من نسب إليه هذا القول. و تبعه أبو إسحاق النصيبي، و عبّاد بن سليمان الصّيمري، و هشام بن عمرو الفوطي، و غيرهم.

ص: 337


1- التاء في الصّرفة، تاء المصدرية التي تلحق كثيرا من المصادر مثل: الرحمة، و الرأفة، و غيرهما.

و اختاره من الإمامية الشيخ المفيد (ت 338 - م 413) في أوائل المقالات، و إن حكي عنه غيره. و السيد المرتضى (ت 355 - م 436) في رسالته الخاصة بهذا الموضوع التي أسماها ب «الموضح عن جهة إعجاز القرآن». و الشيخ الطوسي (ت 385 - م 460) في شرحه لجمل السيد، و إن رجع عنه في كتابه «الاقتصاد». و ابن سنان الخفاجي (م 464) في كتابه «سرّ الفصاحة».

و لما كان هذا المذهب قد أحاط به الإبهام، و اضطربت في تفسيره الأذهان، فأقرب ما يمكن اعتماده في الوقوف على حقيقته، الرجوع إلى نفس عبارات المتمسكين به.

حقيقة الصّرفة

إنّ القائلين بأنّ القرآن معجز من حيث الفصاحة، و البلاغة، و روعة النظم و جماله، و بداعة الأسلوب و السّبك، يقولون بأنّ القرآن وصل من فرط كماله فيها إلى حدّ تقصر القدرة البشرية عن الإتيان بمثله، من غير فرق بين السابقين على البعثة و اللاحقين عليها.

و أمّا القائلون بمذهب الصّرفة، فإنهم يعترفون بفصاحة القرآن و بلاغته، و روعة نظمه و بداعة أسلوبه، لكنهم لا يرونه على حدّ الإعجاز، بل يقولون:

ليس الإتيان بمثله خارجا عن طوق القدرة البشرية، فهي كافية في مقام المعارضة، و إنّما العجز و الهزيمة في حلبة المبارزة لأمر آخر، و هو حيلولته سبحانه بينهم و بين الإتيان بمثله.

و بعبارة أخرى: إنّ القائلين بكون إعجاز القرآن من جهة فصاحته و بلاغته و نظمه و أسلوبه، يقولون إنّ الإعجاز إنّما يتعلق بأمر ممكن بالذات، لأنّه لو كان محالا بالذات - كاجتماع النقيضين و ارتفاعهما - فلا تتعلق به القدرة مطلقا، سواء أ كانت قدرة إلهية أو قدرة بشرية. و على ضوء ذلك، فالإتيان بكتاب مثل القرآن، أمر ممكن بالذات، و ليس أمرا محالا بالذات، غير أنّه لا تكفي لذلك القدرة البشرية العادية. فالإتيان بمثله محال عادي، لا تزول استحالته إلاّ أن يتجهّز الآتي بمثله بقدرة فوق القدرة العادية.

ص: 338

و أمّا القائلون بالصرفة، فيقولون إنّ معارضة القرآن و الإتيان بمثله ليس محالا عاديا حتى يحتاج فيه وراء القدرة العادية إلى قدرة خارقة. و لأجل ذلك كان يوجد في كلام السابقين على البعثة من فصحاء العرب و بلغائهم، ما يضاهي القرآن في تأليفه، غير أنّه سبحانه لأجل إثبات التحدّي، حال بين فصحاء العرب و بلغائهم، و بين الإتيان بمثله بأحد الأمور الثلاثة التالية:

1 - صرف دواعيهم و هممهم عن القيام بالمعارضة، فكلّما هموا بها وجدوا في أنفسهم صارفا و دافعا يصرفهم عن منازلته في حلبة المعارضة. و لم يكن ذلك لعدم قدرتهم على الانصداع لهذا الأمر، بل إنّ المقتضي فيهم كان تامّا غير أنّ الدواعي و الهمم صارت مصروفة عن الالتفات إلى هذا الأمر، بصرف اللّه سبحانه قلوبهم عنه، و لو لا ذلك لأتوا بمثله.

2 - سلبهم سبحانه العلوم التي كانت العرب مالكة لها، و متجهزة بها، و كانت كافية في مقابلة القرآن. و لو لا هذا السلب - و كان وضع العرب حال البعثة كوضعهم بعدها - لأتوا بمثله.

3 - أنّهم كانوا قادرين على المعارضة، و مجهزين بالعلوم الوافية بها، مع توفّر دواعي المعارضة و عدم صرف همهم عنها، و لم يمنعهم عنها إلاّ إلجاؤه تعالى، فتقهقروا في حلبة المعارضة لغلبة القوة الإلهية على قواهم. و هذا نظير من يريد أن يتحرّك نحو المطلوب، فيحال بينه و بين مقصده بقاهر يصدّه عن التقدم.

و في خلال عبارات أصحاب هذا القول، إيماءات إلى هذه الوجوه المختلفة(1)، التي يجمعها قدرة العرب على معارضة القرآن.

1 - قال النظام: «الآية و الأعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب، فأمّا التأليف و النّظم، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لو لا أنّ اللّه

ص: 339


1- و قد أشار إلى هذه الوجوه الثلاثة الإمام يحيى بن حمزة العلوى في كتابه «الطراز»، ج 3، ص 391-395، ط مصر سنة 1332 ه - 1914 م.

منعهم بمنع و عجز أحدثهما فيهم»(1).

و قال أيضا في إعجاز القرآن: «و إنّه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية و منع العرب عن الاهتمام به جبرا و تعجيزا، حتى لو خلاّهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله، بلاغة و فصاحة و نظما»(2).

2 - و قال أبو الحسن علي بن عيسى الرماني (ت 296 - م 386): «أمّا الصّرفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، و على ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، و ذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات التي دلّت على النبوة، و هذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر منها للعقول»(3).

3 - و قال أبو سليمان حمد بن محمد إبراهيم الخطابي (ت 319 - م 388):

«و ذهب قوم إلى أنّ العلّة في إعجازه الصّرفة أي صرف الهمم عن المعارضة، و إن كانت مقدورا عليها، غير معجوز عنها، إلاّ أنّ العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجاري العادات، صار كسائر المعجزات فقالوا: و لو كان اللّه عز و جل بعث نبيا في زمان النبوات، و جعل معجزته في تحريك يده أو مدّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه، ثم قيل له ما آيتك فقال آيتي أن أخرج يدي أو أمدّ رجلي و لا يمكن أحدا منكم أن يفعل مثل فعلي، و القوم أصحاء الأبدان، لا آفة بشيء من جوارحهم، فحرّك يده أو مدّ رجله فراموا أن يفعلوا مثل فعله، فلم يقدروا عليه، كان ذلك آية دالّة على صدقه. و ليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي، و لا إلى فخامة منظره، و إنّما تعتبر صحتها خارجا عن مجرى العادات ناقضا لها، فمهما كانت بهذا الوصف، كانت آية دالّة على صدق من جاء بها. و هذا أيضا وجه قريب»(4).

ص: 340


1- نقله الأشعري في: «مقالات الإسلاميين» ج 1، ص 225. و لاحظ «الطراز»، ج 3، ص 391-395، ط مصر سنة 1332 ه - 1914 م.
2- نقله الشهرستاني في «الملل و النحل»، ج 1، ص 56-57.
3- النكت في إعجاز القرآن، ص 101.
4- بيان إعجاز القرآن، للخطابي، ص 21. غير أنه يشير في ذيل كلامه إلى أنّ هذه النظرية يخالفها قوله سبحانه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ الآية. و سيوافيك نصّه عند نقد النظرية.

4 - و قال الشيخ المفيد في جهة إعجاز القرآن: «إنّ جهة ذلك هو الصرف من اللّه تعالى لأهل الفصاحة و اللسان عن معارضة النبي صلى اللّه عليه و آله بمثله في النظام عند تحدّيه لهم، و جعل انصرافهم عن الإتيان بمثله - و إن كان في مقدورهم - دليلا على نبوته. و اللّطف من اللّه تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان. و هذا أوضح برهان في الإعجاز، و أعجب بيان. و هو مذهب النظّام، و خالف فيه جمهور أهل الاعتزال»(1). هذا.

و قد نقل القطب الراوندي (م 573) في كتاب «الخرائج»، قولا آخر للشيخ المفيد، و لا نعلم أيّا من الرأيين هو المتقدم. قال في بيان وجوه إعجاز القرآن: «ما ذهب إليه الشيخ المفيد، و هو أنّه إنّما كان معجزا من حيث اختصّ برتبة في الفصاحة خارقة للعادة، قال: لأنّ مراتب الفصاحة إنّما تتفاوت بحسب العلوم التي يفعلها اللّه في العباد، فلا يمتنع أن يجري اللّه العادة بقدر من المعلوم، فيقع التمكين بها من مراتب في الفصاحة محصورة متناهية، و يكون ما زاد على ذلك غير معتادة، معجزا خارقا للعادة»(2).

5 - و قال السيد المرتضى: «إنّ اللّه تعالى سلب العرب العلوم التي كانت تتأتّى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة، و لو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم»(3).

6 - قال الشيخ تقي الدين أبي الصلاح الحلبي (ت 374 - م 447) بعد استعراضه الوجوه المحتملة لإعجاز القرآن: «و إذا بطلت سائر الوجوه، ثبت أنّ جهة الإعجاز كونهم مصروفين». ثم قال: «معنى الصرف هو نفي العلوم بأضدادها أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة التي لو لا انتفاؤها لصحّت المعارضة، و هذا الضرب مختصّ بالفصاحة و النّظم معا، لأنّ التحدي واقع بهما، و عن الجمع بينهما كان الصّرف»(4).

ص: 341


1- أوائل المقالات، ص 31.
2- البحار، ج 92، ص 127.
3- الاقتصاد، ص 172.
4- تقريب المعارف، ص 107، ط 1404 ه.

7 - و قال الشيخ الطوسي: «القرآن معجز سواء كان معجزا خارقا للعادة بفصاحته فلذلك لم يعارضوه، أو لأنّ اللّه تعالى صرفهم عن معارضته، و لو لا الصرف لعارضوه».

و قال: «إنّ التحدّي إنّما وقع لعجزهم عن معارضته في المستقبل، لا لأنّه ليس في كلامهم مثله، و لو كان في كلامهم مثله لكان ترك المعارضة أبلغ و أعظم في باب العجز».

و قال: «إنّ القائلين بالصّرفة يقولون إنّ مثل ذلك كان في كلامهم و خطبهم، و إنّما صرفوا عن معارضته في المستقبل، فلا معنى لكونه أفصح»(1).

و قال: «و أما قولهم إنّه كان في كلامهم ما هو مثل القرآن، فلا يتوجه على أصحاب الصرفة لأنّهم يسلمون ذلك، لكنهم يقولون إنّهم منعوا من مثله في المستقبل فلا ينفع بأن ذلك فيما مضى منهم موجود، بل ذلك يؤكّد الحجة عليهم»(2).

و قال: «إنّ من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بالفصاحة و البلاغة، و إنّما يقول هذه المزية ليست ممّا تخرق العادة و يبلغ حدّ الإعجاز. فليس في طرب الفصحاء و شهادتهم بفصاحة القرآن و فرط براعته، ما يوجب بطلان القول بالصرفة»(3).

ص: 342


1- الاقتصاد، ص 166، و ص 170، و ص 171.
2- تمهيد الأصول في علم الكلام، ص 331.
3- المصدر السابق، ص 337-338، و هذا الكتاب شرح على كتاب «جمل العلم و العمل»، للسيد المرتضى، فإنّه يشتمل على قسمين: قسم يختص بالعقائد، و هو الذي شرحه الشيخ الطوسي و أسماء: «تمهيد الأصول في علم الكلام»، نشرته جامعة طهران، و قد جعل المتن في أول الكتاب و الشرح بعده، و ليس المتن متميزا في الشرح عمّا علّق عليه. و قسم يختصّ بالأحكام، و هو الذي شرحه تلميذ السيد، القاضي ابن البراج المتوفى عام 481، و طبع باسم: «شرح جمل العلم و العمل». ثم إنّ للسيد نفسه شرحا على هذا الكتاب أملاه على بعض تلامذته، و هو بعد مخطوط لم ير النور، و ستقوم مؤسسة الإمام الصادق بنشره محقّقا إنشاء اللّه تعالى.

و قد كان الشيخ الطوسي قائلا بالصرفة، و لكنه عدل عنه بعد ذلك، كما يعترف به هو نفسه في كتابه «الاقتصاد»، قال: «و أقوى الأقوال عندي قول من قال إنّما كان معجزا خارقا للعادة لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص، دون الفصاحة بانفرادها، و دون النظم بانفراده، و دون الصرفة.

و إن كنت نصرت في شرح الجمل القول بالصّرفة على ما كان يذهب إليه المرتضى رحمه اللّه، من حيث شرحت كتابه فلم يحسن خلاف مذهبه»(1).

8 - و قال ابن سنان الخفاجي: «إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن، صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك».

ثم قال: «إنّ الصحيح أنّ إعجاز القرآن هو صرف العرب عن معارضته، و أنّ فصاحته كانت في مقدورهم لو لا الصرف».

و قال في موضع آخر: «متى رجع الإنسان إلى نفسه، و كان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه»(2).

9 - و بسط ابن حزم (م 548) الكلام في إعجاز القرآن، و ذكر لإعجازه خمسة وجوه و ردّها، و ممّا قاله:

«و النحو الرابع: ما قالت طائفة: وجه إعجازه، كونه في أعلى مراتب البلاغة. و قالت طوائف إنّما وجه إعجازه أنّ اللّه منع الخلق من القدرة على معارضته.

فأمّا الطائفة التي قالت إنّما إعجازه لأنّه في أعلى درج البلاغة، فإنّهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ .

و موّه بعضهم بأن قال: «لو كان كما تقولون من أنّ اللّه تعالى منع من

ص: 343


1- الاقتصاد، ص 173.
2- سرّ الفصاحة، ص 89، و ص 217.

معارضته فقط، لوجب أن يكون أغثّ ما يمكن أن يكون من الكلام، فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ».

ثم ردّ على هذين الدليلين بوجه تافه غير قابل للنقل، و قال في آخر كلامه:

«فإنّها معجزة لا يقدر على المجيء بمثلها أبدا، لأنّ اللّه تعالى حال بين الناس و ذلك»(1).

10 - قال المحقق الطوسي: «و إعجاز القرآن قيل: الفصاحة، و قيل:

الأسلوب و فصاحته معا، و قيل: للصرفة، و الكلّ محتمل»(2).

هذه حقيقة نظرية الصرفة، ذكرناها على وجه رفعنا عن وجهها الغشاوة و الإبهام.

مناقشة نظرية الصّرفة

إنّ نظرية الصرفة، نظرية قاصرة و سقيمة من جهات:

أما أوّلا: فلأنّه لو كان القرآن من حيث الفصاحة و البلاغة و روعة النظم و بداعة الأسلوب، غير بالغ حدّ الإعجاز، و كان العرب قبل البعثة متمكنين من إلقاء الخطب و الأشعار على هذا النمط من الكلام، فيجب أن ينتشر ما يضاهي القرآن في البلاغة، و الفصاحة بين أوساطهم و أندية شعرهم و أدبهم، و يكون مثله متوفرا بينهم، فعندئذ نسأل: أين هذه الخطب و الجمل المضاهية للقرآن الكريم، الرائجة بينهم ؟ و هل يمكن لأصحاب مذهب الصرفة إراءة نماذج منها؟! و نحن مع ما بذلنا من الفحص و التتبع عنها في مظانها من مجاميع الكتب الأدبية، لم نجد حتى النزر اليسير منها.

و ثانيا: فإنّ مذهب الصرفة يبتني على حصول الحيلولة بين العرب

ص: 344


1- الفصل، ج 3، ص 17 و ص 21.
2- كشف المراد، ص 223، ط صيدا.

و المقابلة، بعد البعثة، بما تقدم، لا قبلها، فعندئذ كان في وسع العرب القاء كلم و جمل و خطب مضاهية للقرآن الكريم من دون أن يتحملوا عبء المقابلة بإنشاء مثله، حتى يقال بأنّهم صرفوا عن المقابلة بسلب الهمم و العلوم و القدرة، لأنّ الإتيان بما هو دارج بين العرب لا يتوقف على مئونة. إلاّ أن يقال إنّهم صرفت هممهم حتى عن هذا المقدار، و هو كما ترى.

و ثالثا: فلو كان العرب قبل البعثة قادرين على الإتيان بكلام يشبه القرآن و يضاهيه، فلما ذا اندهش الوليد بن المغيرة عند ما سمع آيات من سورة فصلت و قال: «لقد سمعت من محمد كلاما لا يشبه كلام الإنس و الجن»(1). و لما ذا ارتمى عتبة بن ربيعة مدهوشا مبهوتا ملقيا يديه وراء ظهره متكيا عليهما، مشدقا بفيه مصعوقا عند ما سمع بعض آيات القرآن من النبي الصادع بالحق. فلو كانت فصاحة القرآن و بلاغته أو نظمه و أسلوبه من حيث العذوبة و الأناقة على نمط كلام الآخرين من فصحاء العرب و بلغائهم، فلم اهتزوا و تأثّروا بسماع آية أو آيات منه، و لم تكن لهم هذه الحالة في سماع شعر امرئ القيس، و لا عنترة، و لا غيرهما من أصحاب المعلقات، و لا من سماع خطب قس بن ساعدة و سحبان بن وائل و غيرهما من أصحاب الخطب و الكلام.

و إلى هذا الوجه يشير الإمام يحيى بن حمزة العلوي في نقد هذا المذهب، و يقول: «لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة كما زعموا، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن، فلمّا ظهر منهم التعجّب لبلاغته و حسن فصاحته، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال: «إنّ أعلاه لمورق، و إنّ أسفله لمعذق، و إنّ له لطلاوة، و إنّ عليه لحلاوة»، فإنّ المعلوم من حال كل بليغ و فصيح سمع القرآن يتلى عليه فإنّه يدهش عقله و يحيّر لبّه، و ما ذاك إلاّ لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف و حسن موانع التصريف في كل موعظة، و حكاية كل قصة، فلو كان كما زعموه من الصرفة، لكان العجب من غير ذلك، و لهذا فإنّ نبيّا لو قال: إنّ معجزتي أن أضع هذه الرمانة في كفي. و أنتم لا تقدرون على ذلك، لم يكن

ص: 345


1- السيرة النبوية لابن هشام، ج 1، ص 293-294.

تعجّب القوم من وضع الرمانة في كفه، بل كان من أجل تعذّره عليهم، مع أنّه كان مألوفا لهم، و مقدورا عليه من جهتهم. فلو كان كما زعمه أهل الصرفة، لم يكن للتعجّب من فصاحته وجه. فلمّا علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة، دلّ على فساد هذه المقالة»(1).

و ما أجاب به الشيخ الطوسي عن هذا الدليل بأنّ من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بالفصاحة و البلاغة، و إنّما يقول هذه المزية ليست مما تخرق العادة و يبلغ حدّ الإعجاز، فليس في طرب الفصحاء و شهادتهم بفصاحة القرآن و فرط براعته ما يوجب بطلان القول بالصرفة(2)، غير تام، إذ لو كان مثل القرآن متوفرا في الأوساط الأدبية قبل البعثة، لما كان لهذا الطرب و الاهتزاز و الانبهار و التضعضع، وجه وجيه، لأنّ المفروض أنّ القرائح العربية لم تكن قاصرة قبل البعثة عن إبداع أمثاله، و سمعت آذانهم كثيرا من هذا النمط من الكلام و إن قصرت من بعد. و لو كانت قرائحهم قادرة قبل البعثة على إنشاء كلام مثل القرآن، فلما ذا جمع الوليد صناديد قريش و قال لهم: «إنّ العرب يأتونكم فينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا أمركم على شيء واحد، ما تقولون في هذا الرجل ؟ الخ(3)». فلو كانت قرائحهم كافية قبل صرف هممهم، أو سلب علومهم، أو الجائهم على الانقباض في مقام معارضته - لكان الجواب عن قرآن الرجل واضحا، و هو أنّه كلام عادي ما أكثره بيننا، و أكثر مثله في كلام خطباء العرب و شعرائهم.

و رابعا: فإنّ القول بالصرفة نجم من الاغترار بما روي من رشيق الكلمات، و بليغ العبارات، عن العرب، فزعم هؤلاء أنّ كل من قدر على تلك الأساليب البلاغية، يقدر على المعارضة، إلاّ أنّه سبحانه عرقلهم عنها و ثبّطهم فيها.

و لكن أين الثرى من الثريا، و أين المدر من الدرر، و ليس إعجاز القرآن

ص: 346


1- الطراز، ص 393-394.
2- تمهيد الأصول، ص 338.
3- مجمع البيان، ج 5، ص 386.

رهن العذوبة و الأناقة فقط، و إنّما هو رهن حلاوة ألفاظه و سمو معانيه، و رصانة نظمه - على وجه لو غيّرت كلمة أو جملة منه، لم يمكن أن يؤتى بدلها بلفظة هي أوفق من تلك اللفظة - و بداعة أسلوبه، مجتمعة. فهذه الأمور بجملتها، أضفت على الكلام جمالا رائعا لا يجد الإنسان له مثيلا في كلام من غبر و سبق، أو تبع و لحق.

فهو بنظمه العجيب، و أسلوبه الغريب، و ملاحته و فصاحته الخاصة، و معانيه العميقة، تحدّى الإنس و الجن، و لأجل ذلك لم يجد العرب لإغراء البسطاء، إلاّ تفسيره بالسحر، لأنّه يأخذ بمجامع القلوب، كما يأخذ السحر بها.

و خامسا: فإنّ المتبادر من آيات التحدّي أنّها تعرف القرآن بأنّه فوق قدرة الإنس و الجن، و أنّه مصنوع لا تصل إليه يد المخلوق، و هذا لا يجتمع مع مذهب الصرفة الذي لا يضفي على القرآن ذاك الجمال الرائع الذي يجعله متفوّقا على القدرة البشرية، و إنّما يضعه في عداد كلام عامة الفصحاء و البلغاء، غاية الأمر أنّه سبحانه - كلما همّت العرب بمباراته - صرف عنهم الهمة و القوة و منعهم من الإتيان بما اقترحه عليهم.

و بعبارة أخرى: إنّ المتبادر من ظواهر الآيات، أنّ القرآن في ذاته متعال، حائز أرقى الميزات، و كمال المعجزات، حتى يصحّ أن يقال في حقّه بأنّه لو اجتمع الجن و الإنس الخ..

يقول الخطابي بأنّ قوله سبحانه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ الآية، يشهد بخلاف هذه النظرية، لأنّها تشير إلى أمر، طريقه التكلّف و الاجتهاد، و سبيله التأهّب و الاحتشاد، و ما فسّرت به الصرفة لا يلائم هذه الصفة(1).

و سادسا: فلو كان وجه الإعجاز في نكتة الصرفة، لكفى في ذلك أن يكون القرآن كلاما مبذولا و مرذولا للغاية، و ركيكا حدّ النهاية، لكن كلّما أراد سفلة الناس و أوباشهم، الذين يقدرون على صنع مثل تلك الكلم، الإتيان بمثله، حال سبحانه بينهم و بين مباراته. و هو كما ترى، لا يتفوّه به من له إلمام بهذه المباحث.

ص: 347


1- بيان إعجاز القرآن ص 21.

و سابعا: فلو كان عجز العرب عن المقابلة، لطارئ مباغت أبطل قواهم البيانية، لأثر عنهم أنّهم حاولوا المعارضة ففوجئوا بما ليس في حسبانهم، و لكان ذلك مثار عجب لهم، و لأعلنوا ذلك في الناس، ليلتمسوا العذر لأنفسهم و ليقللوا من شأن القرآن في ذاته(1).

و قد أشار إلى هذا الوجه علي بن عيسى الرماني في نكت الإعجاز، كما أشار إليه الإمام يحيى بن حمزة العلوي، قال: «إنّهم لو صرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها، لوجب أن يعلموا ذلك من أنفسهم بالضرورة، و أن يميّزوا بين أوقات المنع و التخلية. و لو علموا ذلك، لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجّب. و لو تذاكروه، لظهر و انتشر على حدّ التواتر. فلمّا لم يكن ذلك، دلّ على بطلان مذهبهم في الصرفة»(2).

و ثامنا: فإنّ القول بالصرفة، يستلزم القول بأن العرب قد تراجعت حالها في الفصاحة و البلاغة، و في جودة النظم و شرف الأسلوب و أن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم و أذهانهم، و عدموا الكثير ممّا كانوا يستطيعون، و أن تكون أشعارهم التي قالوها، و الخطب التي قاموا بها من بعد أن أوحى اللّه إلى النبي، قاصرة عمّا سمع منهم من قبل ذلك، القصور الشديد، و أن يكون قد ضاق عليهم في الجملة مجال كان يتسع لهم، و نضبت عنهم موارد قد كانت تغزر، و خذلتهم قوى كانوا يصولون بها، و أن تكون أشعار شعراء النبي التي قالوها، في مدحه عليه السلام، و في الردّ على المشركين، ناقصة متقاصرة عن شعرهم في الجاهلية، و أن يكون شعر حسان بعد الإسلام دون شعره قبله، و الكل كما ترى.

و تاسعا: فإنّ الظاهر من مذهب الصرفة أنّ النقصان حدث فيهم من غير أن يشعروا به، و لازمه أن لا تتم الحجّة عليهم، لأنّهم و إن عدموا فضلهم في مجال الفصاحة و البلاغة، لكنهم غير شاعرين بهذا النقصان. و إذا كانوا لا يعلمون أنّ كلامهم الذي يتكلمون به بعد التحدّي، قاصر عن الذي تكلموا به أمس،

ص: 348


1- لاحظ مناهل العرفان في علوم القرآن، للزرقاني، ج 2، ص 314.
2- الطراز، ج 3، ص 393.

استحال أن يعلموا أنّ لنظم القرآن فضلا على كلامهم الذي يسمع منهم. و إذا لم يتصوروا للقرآن تلك المزية، كان كلامهم بعد التحدّي عندهم مساويا للقرآن.

فلازم ذلك أن يعتقدوا أنّ في جمله ما يقولونه في الوقت و يقدرون عليه، ما يشبه القرآن و يوازيه، فعندئذ لا تتم الحجّة عليهم، إذ لهم أن يقولوا بأنّ أشعارنا و خطبنا لا تقصر عن قرآنك، لأنّ المفروض أنّهم غير واقفين على نزول كلامهم عن الذروة و القمة السالفة، و متصورين أنّه بعد التحدي كما كان قبله. و من كانت له هذه الحالة، لا يتصور للقرآن مزية.

و عاشرا: فإنّ القائل بدخول النقصان على قرائح العرب، إمّا أن يستثني النبي من ذلك، أو لا. فعلى الأوّل يجب أن يقول بأنّ النبيّ عند ما كان يتلو عليهم قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ ، عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1) كان يستطيع أن يأتي بمثل القرآن، و يقدر عليه.

و على الثاني يلزم أنّ النبوة صارت وسيلة لنقصان مرتبة النبي في حلبة الفصاحة و البلاغة، اللهم إلاّ أن يقولوا بأنّ النبي كان دونهم في الفصاحة و البلاغة قبل التحدي، مع أنّ الأخبار تحكي عن أنّه كان أفصح العرب(2).

و لأجل وهن هذه النظرية، صار السائد بين المسلمين عامّة، و أكابر الشيعة خاصة، كون القرآن معجزا من حيث الفصاحة المفرطة و البلاغة السامية، و النّظم المخصوص، و الأسلوب البديع، الذي جعله - مجتمعا - كلاما خارقا للعادة. و زيادة في إيضاح الحال نورد ما ذكره الشيخ الطبرسي (ت 471 - م 548) في تفسير قوله سبحانه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (3)، قال:

ص: 349


1- سورة الإسراء: الآية 88.
2- الإشكالات الثلاثة الأخيرة، ذكرها الرماني في كتابه «النكت في إعجاز القرآن»، ص 133 - 155، و قد نقلناها بتلخيص و تصرّف.
3- سورة الإسراء: الآية 88.

«المراد أنّه لئن اجتمعت الجن و الإنس متعاونين متعاضدين، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته و بلاغته و نظمه على الوجوه التي هو عليها من كونه في الطبقة العليا من البلاغة، و الدرجة القصوى من حسن النظم، و جودة المعاني و تهذيب العبارة، و الخلو من التناقض، و اللفظ المسخوط، و المعنى المدخول على حدّ يشكل على السامعين ما بينهما من التفاوت، لعجزوا عن ذلك، و لم يأتوا بمثله، وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ، أي معينا على ذلك مثلما يتعاون الشعراء على بيت شعر»(1).

و قال العلامة الحلّي في كشف المراد: «أمّا إعجاز القرآن، فقد تحدّى به فصحاء العرب بقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيٰاتٍ ، قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً . و التحدي مع امتناعهم عن الإتيان بمثله، مع توفّر الدواعي عليه، إظهارا لفضلهم، و إبطالا لدعواه، و سلامة من القتل، يدلّ على عجزهم و عدم قدرتهم على المعارضة»(2).

و على أيّ حال، فإنّ القائلين بالصرفة، و إن كانوا من أعلام العلماء، لكن الحق لا يعرف بالرجال، و إنّما يعرف بسلامة الاستدلال، و قد خفّت هذه النظرية في ميزان النّصفة و البرهنة، و الحق أنّها ليست بنظرية قيّمة قابلة للاعتماد، و خلافا صالحا للاحتجاج.

و ليس كلّ خلاف جاء معتبرا *** إلاّ خلاف له حظّ من النّظر

ص: 350


1- مجمع البيان، ج 3، ص 438.
2- كشف المراد، ص 221، ط صيدا و ممن أفاض الكلام في وجوه إعجاز القرآن، و لم يعتمد على مذهب الصّرفة، السيد عبد اللّه شبّر في كتابه حق اليقين في أصول الدين (ج 1، ص 150 - 154). و أما المقاربين لعصرنا فممن كتبوا فيه، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه الدين و الإسلام (لاحظ كلامه في مجلة رسالة الإسلام، العدد الثالث من السنة الثالثة، ص 298) و العلامة الكبير السيد هبة الدين الشهرستاني (المعجزة الخالدة، ص 32-43)، و الزرقاني في مناهل العرفاء (ج 2، ص 310).
الأمر الثالث عجز البشر عن الإتيان بمثله
اشارة

الأمر الثالث عجز البشر عن الإتيان بمثله(1)

قد عرفت أنّ الرسول الأكرم تحدّى العالمين أجمع على الإتيان بكتاب مثل القرآن، و تنزّل حتى تحدّاهم على الإتيان بعشر سور، بل سورة من مثله.

و إنّ تحليل التاريخ المسطور يكشف لنا عجز العرب أمام هذا التحدّي، و ذلك أنّ النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله، قد بقي يطالب العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن مدّة عشرين سنة، مظهرا لهم النكير، زاريا على أديانهم، مسفّها آراءهم و أحلامهم، و هم أهل البلاغة و الفصاحة، و فيهم أساطينها و أركانها، و لكنهم مع ذلك لم ينبثوا ببنت شفة، و لم يجرء أحد منهم على إبداع كلام يعارض فيه القرآن، و إنّما سلكوا مسلكا آخر، فنابذوه و ناصبوه الحرب، حتى هلكت فيه النفوس، و أريقت المهج، و قطعت الأرحام، و ذهبت الأموال.

و لو كان ذلك في وسعهم و تحت إقدارهم، لم يتكلّفوا هذه الأمور الخطيرة، و لم يتركوا السهل الدمث من القول إلى الحزن الوعر من الفعل. هذا ما لا يفعله عاقل، و لا يختاره ذو لبّ . و قد كانت قريش موصوفين برزانة الأحلام و وفرة العقول و الألباب. و قد كان فيهم الخطباء المصاقع، و الشعراء المفلقون(2).

ص: 351


1- قد عرفت أنّ إعجاز القرآن يتقوم بأمور ثلاثة: التحدي، و خرق العادة، و عجز البشر عن الإتيان بمثله.
2- لاحظ بيان إعجاز القرآن، لأبي سليمان الخطابي، ص 9.

قال الشيخ عبد القاهر: «إنّ المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف و طبائعهم التي لا تتبدل، أن لا يسلّموا لخصومهم الفضيلة، و هم يجدون سبيلا إلى دفعها، و لا ينتحلون العجز و هم يستطيعون قهرهم و الظهور عليهم. كيف، و إنّ الشاعر أو الخطيب أو الكاتب، إذا بلغه أنّ بأقصى الإقليم من يباهي بشعره، أو بخطبته أو برسالته التي يعملها، يدخله من الأنفة و الحميّة ما يدعوه إلى معارضته، و إلى أن يظهر ما عنده من الفضل. هذا فيما لم ير ذلك الإنسان قطّ، و لم يكن منه إليه ما يهزّ و يحرّك، فكيف إذا كان المدعي بمرأى و مسمع منه، فإنّ ذلك ادعى له إلى مباراته، و أن يعرّف الناس أنّه لا يقصر عنه، أو أنّه منه أفضل، فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مباراته، فذلك الذي يسهر ليله و يسلبه القرار، حتى يتفرّغ مجهوده في جوابه، و يبلغ أقصى الحدّ في مناقضته.

هذا، فكيف إذا ظهر في صميم العرب و في مثل قريش، ذوي الأنفس الأبية، و الهمم العليّة، من يدّعي النبوة و يخبر أنّه مبعوث من اللّه تعالى إلى الخلق، ثم يقول و حجتي أنّ اللّه تعالى قد أنزل عليّ كتابا عربيا مبينا، تعرفون ألفاظه، و تفهمون معانيه، إلاّ أنّكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله، و لا بعشر سور منه، و لا بسورة واحدة و لو جمعتم جهدكم و اجتمع معكم الجن و الإنس.

فلا يتصور منهم السكوت و السكون في مقابل هذا الادعاء، إلاّ إذا كانوا عاجزين»(1).

دفع توهّم

ربما يتصور الغافل أنّ البلغاء المعاصرين لداعي الحق، قد عارضوه بكتاب أو سور مثل كتابه و سوره، و لكنه اختفى أثره في شعاع ضوء قدرة الإسلام و المسلمين و سلطانهم على الجزيرة و خارجها.

و الجواب: إنّه رجم بالغيب و تصوّر باطل لا تصدقه الموازين التاريخية و العلمية، إذ لو كانت ثمة معارضة و مقابلة، لما اختفى على العرب المعاصرين و لا

ص: 352


1- ثلاث رسائل، الرسالة الشافية، لعبد القاهر الجرجاني، ص 110.

على غيرهم. كيف، و إن الإتيان بمثل معجزته، يسجل للمعارض خلود الذكر و سموّ الشرف، بل لسعى أعداء الإسلام في نشره بين المعتنقين لدينه و غيرهم، لأنّهم يجدون فيه بغيتهم.

قال المحقق الخوئي - دام ظلّه -: «إنّ هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها، و شهرتها في مواسمها و أسواقها، و لأخذ منه أعداء الإسلام نشيدا يوقعونه في كل مجلس، و ذكرا يرددونه في كل مناسبة، و علّمه السلف للخلف، و تحفّظوا عليه تحفّظ المدعى على حجّته، و كان ذلك أقرّ لعيونهم من الاحتفاظ بتاريخ السلف. كيف، و أشعار الجاهلية ملأت كتب التاريخ و جوامع الأدب، مع أنا لا نرى أثرا لهذه المعارضة»(1).

يقول الخطابي: «إنّ هذا السؤال ساقط، و الأمر فيه خارج عمّا جرت به عادات الناس من التحدّث بالأمور التي لها شأن، و للنفوس بها تعلّق، و كيف يجوز ذلك عليهم في مثل هذا الأمر الذي قد انزعجت له القلوب، و سار ذكره بين الخافقين. و لو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عظم خطره، و جلالة قدره، لجاز أن يقال إنّه خرج في ذلك العصر نبي آخر و أنبياء ذوو عدد، و تنزّلت عليهم كتب من السماء، و جاءوا بشرائع مخالفة لهذه الشريعة، و كتم الخبر فيها فلم يظهر، و هذا ممّا لا يحتمله عقل»(2).

أقول: و ممّا يدلّ على عدم وجود هذه المعارضة اللائقة بالذكر، ما ضبطه التاريخ من كلام مسيلمة الكذاب و غيره ممّن ادّعوا النبوة و أرادوا أن يخدعوا بسطاء العقول، فجاءوا بجمل تافهة ساقطة، لا يقام لها وزن و لا قيمة، ما سيأتي عرضه و تحليله بعد هذا البحث.

على أنّ القرآن ما خصّ العرب الجاهليين بالتحدّي، بل تحدّى جميع الناس سالفهم و حاضرهم، و هناك مجموعة كثيرة من العرب لا يعتنقون دين الإسلام و يتبعون ثقافات حديثة، و تؤيدهم القوى الكبرى الكافرة. فلو كانت المكافحة

ص: 353


1- البيان في تفسير القرآن، ص 52.
2- بيان إعجاز القرآن، ص 50.

أمرا ممكنا لقام هؤلاء بهذه المهمة و أراحوا أنفسهم من بذل الأموال الطائلة في طريق الحط من كرامة هذا الدين، و النيل من نبيّه الأعظم و كتابه المقدّس، و لاحتفلوا بذلك في أنديتهم و مؤتمراتهم العالمية، و زعزعوا بذلك إيمان المسلمين، الذي هو أمنيتهم الكبرى. و مع ذلك، لا ترى من هذا الأمر عينا و لا أثرا.

ثم إنّه قد نقل في مواضع متفرقة من كتب التاريخ، عبارات و جمل منثورة، يشبه - بحسب الظاهر - أسلوبها أسلوب القرآن، زعم أنّها لأناس ادّعوا النبوّة، و عارضوا بها القرآن الكريم، و هذا ما نطرحه على بساط البحث فيما يلي.

هل عورض القرآن الكريم ؟

إنّ المؤرخين ذكروا أسماء قوم زعموا أنّهم عارضوا القرآن الكريم، و أنّ بعضهم ادّعى النبوة، و جعل ما يلقيه معجزة لكي لا تكون دعواه بلا أداة و بيّنة.

و نحن نذكر بعض من ذكرهم التاريخ، و ننقل بعض ما نسب إليهم، حتى يعلم أنّ ما سمّوه معارضا للقرآن الكريم، ليس إلاّ كلاما ساقطا، لا يقام له وزن، بل لا يداني بلاغة كلام الأدباء المعروفين.

قوم زعموا أنّهم عارضوا القرآن الكريم
1 - مسيلمة الكذاب
اشارة

ذكر ابن هشام أنّ مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه، سلام عليك. أمّا بعد، فإنّي قد أشركت في الأمر معك، و إن لنا نصف الأرض، و لقريش نصف الأرض، و لكن قريشا قوم يعتدون».

فلما جاء الكتاب، كتب رسول اللّه إلى مسيلمة: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب، السلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد، فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين».

ص: 354

و ذلك في آخر سنة عشر(1).

و ذكر الطبري أنّ وفد بني حنيفة أتوا رسول اللّه مع مسيلمة، فلما رجعوا و انتهوا إلى اليمامة، ارتدّ مسيلمة و تنبّأ و تكذّب له، و قال: «إنّي قد أشركت في الأمر معه». ثم جعل يسجع السجاعات و يقول لهم فيما يقول، مضاهاة للقرآن. و ذكر من كلامه هذا:

«لقد أنعم اللّه على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، بين صفاق وحشى»(2).

إنّ هذين الكلامين، يكفيان شاهدا على ما لم نذكره. أمّا كتابه، فهو دليل على أنّه جعل دعوى النبوّة، أداة للحكومة، فلأجل ذلك قسّم الأرض بينه و بين رسول اللّه. فانظر إلى جواب رسول اللّه، المقتبس من القرآن الكريم: إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (3).

و أما قرآنه المنحول، المفترى على اللّه سبحانه، فما هو إلاّ جمل و فصول توازن سجع الكهان، حاول أن يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه. و ممّا اصطنعه في هذا المجال:

«الفيل، ما الفيل، و ما أدراك ما الفيل، له ذنب و بيل، و خرطوم طويل».

«يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء و نصفك في الطين، لا الماء تكدّرين، و لا الشارب تمنعين».

و على هذا الغرار سائر كلمه المنسوبة إليه. و كلها تعرب عن جهل و حماقة فيه. و لذلك، لما ذهب الأحنف بن قيس مع عمّه إلى مسيلمة، و خرجا من

ص: 355


1- السيرة النبوية لابن هشام، ج 2، ص 600. و تاريخ الطبري، ج 2، ص 399.
2- تاريخ الطبري، ج 2، ص 394، و لكن رواه في ص 499 هكذا: «أ لم تر كيف فعل ربك بالحبلى، الخ». و الصفاق هو الجلد الأسفل الذي يمسك البطن، و هو الذي إذا انشق كان منه الفتق.
3- سورة الأعراف: الآية 128.

عنده، و قال الأحنف لعمّه. «كيف رأيته ؟»، قال: «ليس بمتنبئ صادق، و لا بكذّاب حاذق»(1).

ما هي حقيقة المعارضة ؟

معنى المعارضة أنّ الرجل إذا أنشأ خطبة أو قال شعرا، يجيء الآخر فيجاريه في لفظه و يباريه في معناه ليوازن بين الكلامين، فيحكم بالفلج على أحد الطرفين. و ليس معنى المعارضة أن يأخذ من أطراف كلام خصمه، ثم يبدل كلمة مكان كلمة، فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع و تلفيق، كما وقع في ذاك الكلام المنسوب إلى مسيلمة. و ها نحن نأتي ببعض المعارضات التي وقعت في العصر الجاهلي بين شاعرين كبيرين، فهذا النابغة الذبياني يصف ليله في أشعاره المعروفة التي يعتذر فيها للنعمان، و يقول:

كليني لهمّ يا أميمة ناصب *** و ليل أقاسيه بطيء الكواكب

تطاول حتى قلت ليس بمنقض *** و ليس الذي يرعى النجوم بآئب

بصدر أراح الليل عازب همّه *** تضاعف فيه الحزن من كل جانب

و نرى أنّ امرئ القيس يقول في نفس الموضوع:

و ليل كموج البحر أرخى سدوله *** عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه *** و أردف أعجاز و ناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي *** بصبح و ما الإصباح منك بأمثل

فيا لك من ليل كأن نجومه *** بكل مغار الفتل شدّت بيذبل

هذه هي حقيقة المعارضة؛ فقول النابغة متناه في الحسن، بليغ في وصف ما شكاه من همّه و طول ليله، و يقال إنّه لم يبتدئ شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام، خصوصا قوله: «بصدر أراح الليل عازب همّه». و هو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة و العذوبة. إلاّ أنّ في أبيات امرئ القيس من ثقافة الصنعة،

ص: 356


1- لاحظ ما نسب إليه في تاريخ الطبري، ج 2، ص 498-499، و ص 506.

و حسن التشبيه، و إبداع المعاني، ما ليس في أبيات النابغة، إذ جعل لليل صلبا و أعجازا و كلكلا، و شبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضا، و جعل النجوم كأنّها مشدودة بحبال وثيقة، فهي راكدة لا تزول و لا تبرح، و جعل يتمنى تصرّم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الرّوح، ثم ارتجع ما أعطى و استدرك ما كان قدّمه و أمضاه، فزعم أنّ البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف و انجلاء... إلى آخر ما في شعره من النكات.

فبمثل هذه الأمور تعتبر المعارضة، فيقع بها الفضل بين الكلامين، من تقديم لأحدهما، أو تأخير، أو تسوية بينهما. لا بمثل ما أتى به هؤلاء المهزّلون، من الاكتفاء بالوزن و الفواصل، من دون نظر إلى المعاني. و هذا هو السائد في كل المعارضات التي نسبت إلى المعارضين.

و للمعارضة صور أخرى ذكرها الخطابي في بيان إعجاز القرآن(1).

مثال آخر

نرى أنّ جريرا يمدح بني تميم و يعرفهم بأنّهم كل الناس، في قوله:

إذا غضبت عليك بنو تميم *** حسبت الناس كلّهم غضابا

و يقول أبو نواس في هذا الصدد:

ليس على اللّه بمستنكر *** أن يجمع العالم في واحد

و قد زاد عليه أبو نواس زيادة رشيقة، و ذلك أنّ جريرا جعل الناس كلّهم بني تميم، و لكنّ أبا نواس جعل العالم كلّهم في واحد. فكان ما قاله أبلغ و أدخل في المدح و الإعظام(2).

إذا ظهرت لك حقيقة المعارضة، فانظر إلى قوله سبحانه: اَلْحَاقَّةُ * مَا اَلْحَاقَّةُ * وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا اَلْحَاقَّةُ (3). و قوله سبحانه: اَلْقٰارِعَةُ * مَا اَلْقٰارِعَةُ * وَ مٰا

ص: 357


1- بيان إعجاز القرآن، ص 52-60.
2- لاحظ الطراز، ص 202-203.
3- سورة الحاقة: الآيات 1-3.

أَدْرٰاكَ مَا اَلْقٰارِعَةُ (1) ، ثم ما أتبع قوله هذا بذكر يوم القيامة و بيان أوصافها و عظيم أهوالها بقوله: يَوْمَ يَكُونُ اَلنّٰاسُ كَالْفَرٰاشِ اَلْمَبْثُوثِ * وَ تَكُونُ اَلْجِبٰالُ كَالْعِهْنِ اَلْمَنْفُوشِ (2).

فأين هو من قول القائل: «الفيل، ما الفيل، و ما أدراك ما الفيل، له ذنب و بيل، و خرطوم طويل». فإنّ مثل هذه الفاتحة تجعل مقدّمة لأمر عظيم الشأن متناه الغاية، فإذا بالمعارض يجعله مقدمة لذكر الذّنب و المشفر، و يتصور أنّه تحققت المعارضة، و يا ليته أتبع تلك المقدمة، بما أعطيت هذه البهيمة العجماء من الذهن و الفطنة التي به تفهم سائسها ما تريده، فلعلّه كان أقرب إلى مقصوده!!.

الشك في صحة نسبة هذه المعارضات

و هناك احتمال بأن لا تكون هذه الكلمات قد وضعت ليعارض بها القرآن، و إنّما وضعها أعداء مسيلمة للتفكّه و السّمر، أو وضعت لغاية دينية و هي تأكيد إعجاز القرآن عند ما تقارن هذه المفتريات إلى الآيات الباهرة في الكتاب العزيز.

مع أنّ إعجاز القرآن ليس في حاجة إلى مثل هذا بعد ما سكت فحول البلاغة عن معارضته.

و ممّا يثير الشكّ في كون مسيلمة قائل هذه الجمل التافهة، ما أثر عنه من بعض الكلمات التي هي في البلاغة بمكان عال، كقوله عند ما اجتمع مع سجاح التميمية: «هل لك أن أتزوّجك فآكل بقومي و قومك العرب ؟»(3). فإن هذه الكلمة تدلّ على مكانة الرجل في الفصاحة و جميل التأتي لما يريد. فخيّل لسجاح أنّه سيأكل بقومه و قومها العرب، و هل كانت تقصد سجاح غير هذا؟ و هل كان يقصد من اتبعوها إلاّ أكل العرب و الاستيلاء عليهم ؟ فإذا قارنّا بين كلمته هذه،

ص: 358


1- سورة القارعة: الآيات 1-3.
2- سورة القارعة: الآيتان 4 و 5.
3- تاريخ الطبري، ج 2، ص 499.

و ما عزي إليه من المعارضات، وجدنا فارقا كبيرا بينهما في الأسلوب و الروح.

فهذه الكلمة صادرة عن نفس جادة حازمة تتطلب أمرا عظيما، و أمّا ما نسب إليه فصادر عن نفس ماجنة عابثة، لا تدرك ما وراء هذه المغامرة من المخاطر.

و هناك كلمة أخرى نسبت إليه حين استحرّ القتل في قومه، و أخذتهم سيوف المسلمين من كل مكان، و قد سأله قومه ما وعد به، فقال: «أمّا الدين فلا دين، قاتلوا عن أحسابكم». فأي إيجاز، و أيّ قوة، و أيّ إيحاء و تحميس أقوى من هذا: قاتلوا عن أحسابكم ؟ و المنصف لا يشك في أنّ صاحب هذه الكلمات الموجزة ليس صاحب هذه المعارضات الركيكة المسهبة(1).

2 - طليحة بن خويلد الأسدي

قدم على النبي في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع، فأسلموا. ثم لما رجعوا، تنبّأ طليحة، و عظم أمره بعد أن توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله. و كان يزعم أنّ ذا النون يأتيه بالوحي.

و من كلماته: «إنّ اللّه لا يصنع بتعفير وجوهكم، و قبح أدباركم شيئا.

فاذكروا اللّه قياما، فإنّ الرغوة فوق الصريح»(2). فهو يريد بكلامه هيئة الصلاة من الركوع و السجود، فكانت الصلاة في شرعه قياما.

و منها: «و الحمام و اليمام، و الصّرد الصوام، ليبلغ ملكنا العراق و الشام».

و لو كان الرجل ذا لبّ و عقل، لما عارض القرآن الكريم بهذه الكلمات الساقطة. فانظر كيف حلف على أمر عظيم و هو بلوغ ملك العراق و الشام بهذه الطيور!!.

و ممّا يثير الشك في صحة عزو هذه الجمل الجوفاء إلى طليحة، ما نقله

ص: 359


1- لاحظ مقال الشيخ علي العماري المصري، في «رسالة الإسلام» العدد الثالث من السنة الحادية عشرة.
2- معجم البلدان، كما نقله الرافعي في إعجاز القرآن، ص 199-200.

الطبري(1) عنه، حيث قال: إنّ طليحة وفد على عمر - و كان طليحة قد أسلم - فقال له عمر: أنت قاتل عكاشة و ثابت - يريد عكاشة بن محصن و ثابت بن أكرم و هما سيدان من سادات المسلمين، و فارسان من فرسانهم - فقال طليحة في جواب عمر: «ما تهمّ من رجلين كرّمهما اللّه بيدي، و لم يهني بأيديهما».

فهناك فرق واضح بين ما عزي إليه من المعارضات، و عبارته أمام عمر، فإن كلمته الأخيرة فيها روح أمكن بها الرجل أن يؤثر على عمر، حيث قال له إن الرجلين ذهبا إلى الجنة، فأكرمهما اللّه على يدي طليحة. و أي شيء أحبّ إلى عمر من أن تكون الجنة نصيب عكاشة و ثابت!.

3 - سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية

إنّ قبيلة بني تغلب كانت راسخة في النصرانية، فادعت سجاح المذكورة، بعد وفاة رسول اللّه، النبوة، فاستجاب لها بعضهم، و ترك التنصّر، و كان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ و اشتدّت شوكة أهل اليمامة، فنهدت له بجمعها فمن قولها المزعوم: «إنّه الوحي، أعدّوا الركاب، و استعدوا للنّهاب، ثم أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب». فلما توجهت لحرب مسيلمة قالت: «عليكم باليمامة، و دفّوا دفيف الحمامة، فإنّها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة».

و خافها مسيلمة، ثم اجتمعا و عرض عليها أن يتزوجها، و قال: «هل لك أن أتزوجك، فآكل بقومي و قومك العرب»؟ فأجابت، و انصرفت إلى قومها.

فقالوا: «ما عندك»؟. قالت: «كان على الحق فاتبعته فتزوجته». و لم تدّع قرآنا، و إنّما كانت تزعم أنّه يوحى إليها بما تأمر، و تسجع في ذلك سجعا، كالنّموذجين المتقدمين.

و التاريخ يحكي أنّها أسلمت بعد و حسن إسلامها(2). و في الحقيقة لم تكن نبوتها إلاّ زفافا على مسيلمة، و ما كانت هي إلاّ امرأة!.

ص: 360


1- الطبري، ج 3، ص 239.
2- راجع فيما نقلناه تاريخ الطبري، ج 2، ص 496-500.
4 - الأسود العنسي

كان رجلا فصيحا معروفا بالكهانة، و السجع، و الخطابة، و الشعر، و النسب. و قد تنبّأ على عهد النبي و خرج باليمن و هو ممن أراد أن يحذو حذو نبينا الأمين، لكن بتسجيع الكلم وحده. فأراد أن يباري سورة الأعلى فقال:

«سبّح اسم ربّك الأعلى، الذي يسرّ على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى، من بين أضلاع وحشى، فمنهم من يموت و يدسّ في الثرى، و منهم من يعيش و يبقى». و هي - كما ترى - صفر من الحكمة العالية، إلاّ الجملة الأولى.

فقد جاء هؤلاء إلى حلبة المعارضة لأنّهم كانوا بمكان من الانحطاط الفكري و الأخلاقي، و أمّا المحنكون ذوو الضمائر الحرّة من العرب فلم ينزلوا إلى ميدان المعارضة لوقوفهم على أنها تبوء بالفشل، و حفظوا كرامتهم من التسرع إلى حركات صبيانية.

و أمّا هؤلاء فهمّوا أن يعارضوا القرآن، فكان ما أتوا به باسم المعارضة لا يخرج عن أن يكون مجادلات مضحكة مخجلة، أخجلتها أمام الجماهير و أضحكت الجماهير منهم، فباءوا بغضب من اللّه و سخط من الناس، فكان مصرعهم هذا، كسبا جديدا للحقّ ، و رهانا آخر على أنّ القرآن كلام اللّه القادر وحده، لا يستطيع معارضته إنس و لا جان، و من ارتاب فأمامه الميدان.

هؤلاء هم الذين حاولوا معارضة القرآن من القدماء، الذين عاصروا النبي أو عاشوا بعده برهة من الزمن، و لم يكن ما أتوا به إلاّ سقطات من الكلم أو الفاظا جوفاء، أو أسجاعا سخيفة. و هناك رجالات آخرون رموا بأنّهم عارضوا القرآن الكريم، و هم في الثقافة و الأدب بمكان عال، غير أنا نشك في صحة نسبة المعارضة إليهم، و إنّما رموا بها إمّا لكونهم من الملاحدة المعروفين كعبد اللّه بن المقفع، أو من الشخصيات البارزة التي يحسدها أعداؤها فأوقعوها بافتراءات الزندقة، ثم معارضة القرآن الكريم، فمنهم:

ص: 361

رجالات آخرون رموا بأنّهم عارضوا القرآن الكريم
1 - عبد اللّه بن المقفّع (م 145 ه)

عبد اللّه بن المقفع أحد الأدباء في القرن الثاني، كان مجوسيا و أسلم، و تضلّع في اللغتين العربية و الفارسية، و قام بترجمة بعضها إلى اللغة العربية، مثل كتاب «كليلة و دمنة». و الرجل مع أنّه رمي بالإلحاد، قد صرّح بإسلامه في مقدمة ترجمته، و قد قتل حرقا في التنور عام 145 ه لإفساده عقائد الناس. و على كل تقدير، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بتأليف كتاب الدّرة اليتيمة، و لكن لم يعلم إلى الآن أنّ الرجل قام بتأليف ذلك الكتاب لأجل هذه الغاية، و ليس فيه ما يصدّق ذلك، و الكتاب مطبوع منشور في عدّة طبعات.

2 - أحمد بن الحسين المتنبي (ت 303 - م 354)

من الشعراء البارزين الذين ربما يحتجّ أو يستشهد بكلامهم، و له ديوان كبير اعتنى به الأدباء بالشرح و التعليق، والده كوفي، ولد في بيت الإسلام، و لكن قيل إنّه تنبّأ عام 320 و له من العمر سبعة عشر عاما.

و نسب إليه أنّه تلا على أهل البادية كلاما زعم أنّه قرآن أنزل عليه، يحكون منه سورا. قال علي بن حامد: نسخت واحدة منها، فضاعت مني، و بقي في حفظي من أولها: «و النجم السيّار، و الفلك الدّوّار، و الليل و النّهار، إنّ الكافر لفي أخطار، امض على سنّتك، واقف أثر من قبلك من المرسلين، فإنّ اللّه قامع بك زيغ من ألحد في دينه و ضلّ عن سبيله»، هذا.

و لو كان للرجل سور كثيرة يحاول بها المعارضة، لحفظها التاريخ و لو ازدراء عليه، مع أنّه لم ينقل عنه إلاّ هذه الجمل(1).

و ما بقي من أشعاره تعرب عن أنانية الرجل و أنّه يرى نفسه مقدّما في كل شيء، كما يظهر من قوله:

الخيل و الليل و البيداء تعرفني *** و السيف و الرّمح و القرطاس و القلم

ص: 362


1- إعجاز القرآن للرافعي، ص 208.

و قد اكتسب شهرة في الأدب و الشعر، كما نال بذلك أعداء حاقدين، و من المحتمل أنّه عزي إليه التنبؤ و معارضة القرآن الكريم من جانب أعدائه.

و قد قتل عام (354)، و لم يكن قتله إلاّ لهجوه رجلا يسمّى ضبّة.

3 - أبو العلاء المعرّي (ت 363 - م 449)

أحمد بن عبد اللّه من معرّة النعمان، أحد الأدباء الفحول، و الشعراء البارزين، و بما أنّه كان أعمى، و كان حليف بيته في أخريات عمره، كان يسمّي نفسه رهين المحبسين، و قد كان معاصرا للسيد المرتضى، و كان بينهما مساجلات و مناظرات.

و مع ذلك لما سئل عن فضل السيد و كماله، أجاب بالبيتين التاليين:

يا سائلي عنه لما جئت تسأله *** ألا هو الرجل العاري من العار

لو جئته لرأيت الناس في رجل *** و الدّهر في ساعة و الأرض في دار

و مات و لم يتزوج و لم يعقّب، و أوصى أن يكتب على صخرة قبره:

هذا جناة أبي ع *** لي و ما جنيت على أحد

و قد اختلف المؤرخون في إيمانه و كفره، فهناك من الناس من يرمونه بالكفر كياقوت الحموي، و الذّهبي، و سعد الدين التفتازاني، و معاصره الخطيب البغدادي. و الأشعار التي عزيت إليه تدلّ على انحرافه عن الإسلام.

و هناك من ذهب إلى خلاف ذلك منهم كمال الدين عمر بن أحمد بن عديم الحلّي، المتوفى عام 660، ألّف كتابا باسم «الإنصاف و التحري في دفع الظلم و التجرّي عن أبي العلاء المعرّي». و قد طبعت خلاصته في تاريخ حلب، فطرح دلائل المتخاصمين في المعري، ثم قضى بينهم على نهج أدى به إلى الحكم بكونه رجلا غير منحرف عن الإسلام. و ممّا قال فيه: «إنّ سائر ما في ديوانه من الأشعار الموهمة، فهي إمّا مكذوبة عليه أو هي مؤولة»(1).

ص: 363


1- تاريخ حلب، ج 4، ص 77-180.

و ممّا يؤيّد قول ابن عديم، ما ذكره ياقوت من أنّ المعرّي كان يرمى من أهل الحسد له، بالتعطيل، و تعلّم تلامذته و غيرهم على لسانه الأشعار. يضمنونها أقاويل الملاحدة.

و الذي يمكن أن يقال إنّ بعض شعره يدلّ على سوء عقيدته، غير أنّ قيام الرجل بمعارضة القرآن، موضع شكّ و ترديد، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بكتاب أسماه: «الفصول و الغايات في مجاراة السور و الآيات»، و قد نشرت بعض فصوله.

و ممّا يورث الشكّ في كون الهدف من تأليف هذا الكتاب هو المعارضة، ما ذكره هو نفسه في مقدمته، قال: «علم ربّنا ما علم، أنّي ألّفت الكلم، آمل رضاه المسلّم، و اتّقي سخطه المؤلم، فهب لي ما أبلغ رضاك من الكلم، و المعاني الغراب»(1).

على أنّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد شكّ في صحّة نسبة هذا الكتاب إليه، في قوله: «و قد خيّل إلى بعضهم - إن كانت الحكاية صحيحة - شيء من هذا (و هو كون التحدّي إلى فصول الكلام بأن يكون لها أواخر أشباه القوافي)، حتى وضع على ما زعموا «فصول الكلام»، أواخرها كأواخر الآي، مثل:

«يعملون»، و «يؤمنون»، و أشباه ذلك»(2).

كما نسبت إليه الجمل التالية:

«أقسم بخالق الخيل، و الريح الهابّة بليل، بين الشرط مطلع سهيل، إنّ الكافر لطويل الويل، و إن العمر لمكفوف الذيل، تعدّى مدارج السيل، و طالع التوبة من قبيل، تنج و ما أخالك بناج».

و الذي يعرب عن كون هذه الجمل مفتريات على الرجل ما نقل عنه في كتابه «الغفران»، قال - ردا على ابن الراوندي -: «و أجمع ملحد و مهتدي، و ناكب

ص: 364


1- الفصول و الغايات، ص 62.
2- دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجرجاني، ص 297، ط المنار.

عن المحجة و مقتدي، أنّ هذا الكتاب الذي جاء به محمد كتاب بهر بالإعجاز، و لقي عدوه بالأرجاز، ما هذا على مثال، و لا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، و لا في الرجز من سهل و حزون، و لا شاكل خطابة العرب، و لا سجع الكهنة ذوي الإرب... و إنّ الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، و الزهرة البادية في جدوب ذات نسق، فتبارك اللّه أحسن الخالقين»(1).

هذا، و إن أكثر من ينسب المعارضات إلى أبي العلاء، يستند إلى ما كتبه ياقوت عنه. و يبدو للإنسان من مطالعة ما كتبه، أنّه متحامل على أبي العلاء، و يكفي في ذلك قوله: «كان المعرّى حمارا لا يفقه شيئا»!. و هذه عبارة لا يقولها إلاّ أشدّ الخصوم و المتعصبين على الرجل.

ص: 365


1- رسالة الغفران، ص 263.

ص: 366

الأمر الرابع الشواهد الدّالة على كونه كتابا سماويا
اشارة

قد تعرفت على الإعجاز البياني للقرآن الكريم و أنّه بفصاحته و بلاغته و نظمه و أسلوبه، تحدّى البشر، و أعجز أرباب النّهى، و قادة الكلام و البيان. فمن كان عربيا صميما، عارفا بأساليب الكلام، واقفا على خصوصيات اللغة، لا يتردد في كونه معجزا. و من لم يبلغ تلك المرتبة، أو لم يكن له إلمام بخصوصيات هذه اللغة، فعليه الرجوع إلى أهل الخبرة و المعرفة، حتى يقف على كونه معجزا.

غير أنّ حكمته سبحانه اقتضت أن يتم الحجّة على البشر أجمعين، عربيّهم و عجميّهم، و ذلك من طريق آخر غير الإعجاز البلاغي، فحضه سبحانه بقرائن و فيرة موجودة في نفس هذا الكتاب، و فيمن جاء به. و لو تدارس محايد هذا الكتاب، مجتنبا كل رأي مسبق، لوقف على أنّه من الممتنع أن يقوم بتأليف هذا الكتاب إنسان عادي، ليس له صلة بعالم الغيب، و هذا ما نبتغيه في هذا المقام، ذاكرين كلّ شاهد تحت عنوان خاص.

ص: 367

شواهد إعجاز القرآن
(1) أمّيّة حامل الرسالة

لم يختلف اثنان من الأمّة الإسلامية في أنّ النبيّ كان أمّيّا لا يحسن القراءة و الكتابة قبل بزوغ فجر دعوته، و صحائف حياته أوضح دليل على ذلك، فلم يدخل مدرسة، و لم يحضر على أحد للدراسة و تعلّم الكتابة، بل كان ربيب البادية، بعيدا عن حضائر الفنون، نائيا أيّ نأي عن محاضر الحكماء، و مجالس العلماء. بل ليس شيء في تاريخ النبي أوضح من أمّيّته.

و لم يكن هو فقط مختصا بهذا الوصف، بل كان علية القوم و السواد الأعظم في أمّ القرى و حولها، محرومين من هذا الكمال، و لأجل ذلك يصفهم القرآن بالأميين، في قوله سبحانه:

هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ ، وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ ، وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (1) .

كما يصف حال النبي بالنسبة إلى القراءة، و الكتابة بقوله: وَ مٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتٰابٍ وَ لاٰ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتٰابَ اَلْمُبْطِلُونَ (2).

و بالرغم من مغالطة قساوسة الغرب و المستغربة، و تشبثاتهم بمراسيل عن

ص: 368


1- سورة الجمعة: الآية 2.
2- سورة العنكبوت: الآية 48.

مجاهيل، و انتحالات الملاحدة في هذا الأمر، فإنّ أميّة النبي و قومه تموج بالشواهد الواضحة من الكتاب و التاريخ و الحديث(1).

لقد جاء قومه بهذا القرآن و بلاده آنذاك جرداء بلا مراء، كبعض القرى الوحشية، ببطنان بوادي إفريقيا، و خلو من وسائل العلم و العمران، و أهلوها البسطاء صفر الأكف من وسائل الرقي و الحضارة.

و كان الحجازيون من العرب ترتكز دائرة معارفهم، في أسواق عكاظ و مواسم الحجيج و النوادي، على الأمور التالية:

1 - أنساب القبائل و الخيل.

2 - القصائد و الأشعار في التهاني و المراثي، و الحماسة و الإغارة.

3 - علم القيافة(2).

4 - علم العيافة(3).

5 - علم الفراسة(4).

6 - علم الزجر(5).

7 - علم الرّيافة(6).

8 - تأويل الأطياف.

9 - أنواء النجوم و أسماء الكواكب، و الظواهر الجوية.

10 - الطب، و كان لا يتجاوز الكي و الميسم و عقاقير الحشائش.

ص: 369


1- و من أراد الوقوف على دلائله الساطعة و نقد تسويلات المستشرقين، فليرجع إلى «مفاهيم القرآن»، ج 3، ص 321-374.
2- علم القيافة: هو علم باحث عن تتبع آثار الأقدام و الأخفاف و الحوافر.
3- علم العيافة: هو علم زجر الطير ليتفأّل من كيفية طيرانها و جهته أو يتشأم. و هي مأخوذة من عاف الطير عيفا بمعنى استدارت و حامت حول الشيء. و النسور العوائف: التي تعيف على القتلى و تتردد.
4- علم الفراسة: هو علم الاستدلال بهيئة الإنسان و شكله و لونه و أقواله، على أخلاقه.
5- علم الزجر: هو علم الاستدلال بأصوات الحيوانات و حركاتها و سائر أحوالها، على الحوادث.
6- علم الريافة: هو علم استنباط وجود الماء في الأرض بشمّ التراب، أو برائحة بعض النباتات فيها، أو بحركة حيوان مخصوص.

11 - الموسيقى، و كانت لا تتجاوز حدّي الإبل.

12 - سحر النفّاثات.

13 - الكهانة و العرافة(1).

14 - الصنائع البدائية، و لا تتجاوز صنع السهام و الأقواس و الرماح و الجنان.

فهذا مبلغهم من العلم و الكمال. و أين هو ممّا جاء في القرآن الكريم في مجال العقائد و المعارف و التشريع العادل، و نظام المدنية و الأخلاق الفاضلة، و الأخبار الغيبية، إلى غير ذلك ممّا سيمرّ عليك من فنون المعارف.

فمن لاحظ هذا المعهد البسيط، يذعن بأنّ من الممتنع أن يخرج من هذا الحقل القاحل، شخصية فذّة كشخصية النبي، و كتاب مثل كتابه، إلاّ أن يكون له صلة بقدرة عظيمة مهيمنة على الكون.

و هذا أحد الشواهد الدالّة على أنّ الكتاب ليس من صنع النبي، بل هو كتاب سماوي، و إذا ضمّت إليه الشواهد الأخر الآتية تتجلى هذه الحقيقة بأوضح تجلّياتها.

***

ص: 370


1- الكهانة: ادّعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع في الأرض، و الأصل فيها التلقّي من الجن.

شواهد إعجاز القرآن

(2) عدم الاختلاف في الأسلوب

إنّ القرآن الكريم نزل نجوما في مدّة تقرب من ثلاث و عشرين سنة(1)، في فترات مختلفة و أحوال متفاوتة من ليل و نهار، و حضر و سفر، و حرب و سلم، و ضرّاء و سرّاء، و شدّة و رخاء، و من المعلوم أنّ هذه الأحوال تؤثّر في الفكر و التعقّل و في قرائح قادة الكلام، و أصحاب البلاغة، فربما يقدر البليغ على إلقاء خطابة بليغة في حالة، و لا يقدر عليها في أخرى. أو الشاعر المفلق يجود بقريض معجب في ظروف روحيّة خاصة، يعجز عنه في أخرى. و ذلك أمر ملموس لمن مارس إلقاء الخطب و نظم القريض.

و لكن القرآن جاء على خلاف هذه القاعدة، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة. كما أنّ الأسلوب في جميع السور النازلة في هذه المدة المديدة، واحد. «فسورة العلق» التي هي أوّل سورة نزلت على النبي، نظير سورة «النصر» التي نزلت عليه في أخريات أيامه، في الأسلوب و البيان، من دون أن يكون هناك اختلاف بينهما.

ص: 371


1- قد تضافرت الآيات على أنّ القرآن نزل نجوما، و كان هذا أحد الإشكالات التي وجهها الكفّار و المشركون إلى النبي صلى اللّه عليه و آله، فقد كانوا يطلبون منه أن يأتي بكتاب مجموع مدوّن مرة واحدة، و هذا ما يحكيه سبحانه مجيبا عنه في قوله: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً ، كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤٰادَكَ وَ رَتَّلْنٰاهُ تَرْتِيلاً (الفرقان: الآية 32).

إنّ السور المكية التي تتراوح بين ثلاث و ثمانين، و خمس و ثمانين سورة، نزلت كلّها في ظروف قاسية كانت الرهبة فيها حليف صاحب الرسالة، و كان الاستضعاف مسيطرا على المؤمنين به، و مع ذلك فهي لا تتفاوت في بداعة الأسلوب، و روعة النظم، و كمال الفصاحة و البلاغة، مع السور المدنية التي نزلت في ظروف هادئة كان الأمن و الهدوء مستتبين فيها. فلم يكن لتلك الأحوال القاسية، و لا لهذه الظروف الهادئة، تأثير في فصاحة القرآن و بلاغته، و روعة نظمه، و بداعة أسلوبه، فجاء الكلّ على نمط معجز لا يدرك شأوه، و لا يشقّ غباره.

فهذا يدلّ على أنّ هذا الكتاب، ليس وليد قريحة النبي و نتاج ذهنه و تفكّره، و إلاّ لكثر فيه الاختلاف و تفاوت في نظمه و بلاغته، فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز، و بعضه قاصرا عنه.

***

ص: 372

شواهد إعجاز القرآن

(3) عدم الاختلاف في المضمون

قد عرفت في القرينة السابقة أنّ المعجزة الخالدة نزلت على النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله، طيلة أعوام مختلفة من حيث الشدّة و الرخاء، و الرغبة و الرهبة، هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ الإنسان جبل على التكامل، فهو يرى نفسه في كل يوم أعقل من سابقه، و أنّ ما أتى به من عمل، أو اخترعه من صنعه، أو دبّره من رأي، أو أبدعه من نظر، يراه ناقصا مفتقرا إلى الإصلاح و التجديد. و هناك كلمة قيمة للكاتب الكبير عماد الدين أبو عبد اللّه محمد بن حامد الأصبهاني (ت 597)، يقول فيها: «إنّي رأيت أنّه لا يكتب إنسان كتابا في يومه، إلاّ قال في غده لو غيّر هذا لكان أحسن، و لو زيد كذا لكان يستحسن، و لو قدّم هذا لكان أفضل، و لو ترك هذا لكان أجمل. و هذا من أعظم العبر، و هو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر».

و هذا في الكاتب الصادق، و أمّا الكاتب الذي يبني أمره على الكذب و الافتراء في أنظاره و آرائه و أحكامه و إخباراته، فلا يمكن أن يتخلص عن التناقض و الاختلاف، و لا سيما إذا تعرّض لكثير من الأمور المهمة في مجال العقائد و التشريعات و النّظم الاجتماعية و الأخلاقية التي تتطلب لنفسها تبنّي أدقّ القواعد و أحكم الأسس، و لا سيما إذا طالت على ذلك المفترى أيام، و مرّت عليه عقود،

ص: 373

فإنّه سيرتبك و يقع في التناقض و التهافت من حيث لا يريد، و قد قيل قديما: «لا ذاكرة لكذوب».

و إنّا نرى العالم النابغ في علم معين، يؤلّف الكتاب و يستعين عليه بالباحثين، ثم يطيل التأمّل فيه و ينقّحه و يطبعه، فلا تمرّ سنوات قليلة إلاّ و يظهر له الخطأ و الاختلاف، فلا يعيد طبعه إلاّ بعد أن يغيّر منه و يصحح ما شاء.

و إنّ هذا القرآن قد تعرّض لمختلف الشئون، و توسّع فيها أحسن التوسّع، فبحث في الإلهيات و النبوات و سياسة المدن و نظم المجتمع، و قواعد الأخلاق، و قوانين السلم و الحرب، كما وصف الموجودات السماوية و الأرضية، من شمس و قمر و كواكب و رياح، و بحار و نبات، و حيوان و إنسان، و وصف أهوال القيامة و مشاهدها. و مع ذلك لا تجد فيه تناقضا و اختلافا، أو شيئا متباعدا عند العقل و العقلاء.

و العجب أنّه ربما يستعرض حادثة واحدة، فيطرحها مرتين أو مرّات، كقصة الكليم، و المسيح، و مع ذلك لا تجد فيها اختلافا في الجوهر.

و الحاصل أنّ الكتاب الذي يستعرض جميع الشئون المرتبطة بالإنسانية، كمعرفة المبدأ و المعاد و الفضائل الأخلاقية و القوانين الاجتماعية و الفردية، و القصص و العبر، و المواعظ و الأمثال، و ينزل في مدّة تعدل ثلاثا و عشرين سنة، على اختلاف الأحوال و الظروف و مع ذلك لا تجد في معارفه العالية، و حكمه السامية، و قوانينه الاجتماعية و الفردية، تناقضا و لا اختلافا، بل ينعطف آخره على أوله، و ترجع تفاصيله و فروعه إلى أصوله و عروقه.

إنّ مثل هذا الكتاب، يقضي الشعور الحي في حقّه أنّ المتكلم به ليس ممّن يحكم فيه مرور الأيام و يتأثّر بالظروف و الأحوال، بل هو اللّه الواحد القهار.

و لعلّ قوله سبحانه: أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ ، وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً (1)، ناظر إلى كلتا القرينتين، و يبين أنّ مقتضى الطبع

ص: 374


1- سورة النساء: الآية 82.

الإنساني الناقص إذا خلا من التسديد، العجز عن الإتيان بكتاب على سبك واحد، و مضمون يؤكّد بعضه بعضا، فكيف إذا كان يعتمد في ادّعائه على الكذب و الافتراء، فإنّ هذا سيكون وجها آخر لوقوعه في التهافت و التناقض.

و العرب أحسّوا بالاستقامة في أسلوب القرآن، و مرور الزمن قد أثبت عدم التناقض و التهافت في ما يدعو إليه.

و أمّا «كثيرا» في قوله سبحانه: اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً ، فهو وصف توضيحي لا احترازي، و المعنى: لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا، و كان ذلك الاختلاف كثيرا على حدّ الاختلاف الكثير الذي يوجد في كل ما هو من عند غير اللّه. و لا تهدف الآية إلى أنّ المرتفع عن القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير(1).

***

ص: 375


1- لاحظ الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 7.

شواهد إعجاز القرآن

(4) هيمنة القرآن على الكتب السماوية
اشارة

بعث النبي الأكرم و تحدّى بالقرآن المجيد، و لما أعجز فصحاء العرب و بلغاءهم في المعارضة، وجّهوا إليه سهام التهم. فكان ممّا ألصقوه بكرامة كتابه أنّه ليس سوى أساطير الأوّلين تملى عليه بكرة و أصيلا(1).

و ربما يتهمون النبي بأنّه يأخذه من بشر، كما يحكيه سبحانه بقوله: وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمٰا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ (2).

قال في الكشاف: «أراد بالبشر غلاما كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم و حسن إسلامه، اسمه عائش أو يعيش، و كان صاحب كتب. و قيل هو «جبر» غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي، و قيل عبدان «جبر» و «يسار»، كانا يصنعان السيوف بمكة و يقرآن التوراة و الإنجيل، و قيل هو سلمان الفارسي»(3).

ص: 376


1- اقتباس من قوله سبحانه: وَ قٰالُوا أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهٰا، فَهِيَ تُمْلىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (الفرقان: الآية 5) و فسّر في الكشاف قوله ب اِكْتَتَبَهٰا بمعنى اكتتبها لنفسه، فكأنّ التاء للدلالة على أنّ كتابته كانت لنفسه.
2- سورة النحل: الآية 103.
3- تفسير الكشاف، ج 3، ص 218.

و على كل تقدير، كان العدو يتهم النبي بأنّه أخذ ما جاء به، من الكتب السماوية الماضية.

فعلى ذلك، من الجدير أن نقارن بين القرآن، و سائر الكتب السماوية المتقدمة عليه، حتى يتّضح مدى الاختلاف بينهما. و هذه المقارنة من أحدث المناهج التطبيقية التي تفيد علما بأنّ النبي الأكرم لم يعتمد فيما جاء به على هذه الكتب. و لنركز على ما جاء به العهدان في مجال الأنبياء، فنذكر ما جاء به القرآن أوّلا، ثم نتبعه بما جاء فيهما.

و قبل الخوض في المقصود نذكر بأمرين:

الأول - إنّ الذكر الحكيم يعترف بعظمة التوراة و حجيتها، و أنّها كتاب سماوي مثل القرآن، و أنّه يجب على كل مسلم أن لا يفرّق بين نبيّ و آخر، و لا يفرق بين كتبهم، يقول سبحانه: آمَنَ اَلرَّسُولُ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ مَلاٰئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لاٰ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قٰالُوا سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا غُفْرٰانَكَ رَبَّنٰا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ (1).

إنّ القرآن يصف التوراة في آياته، بقوله:

إِنّٰا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْرٰاةَ فِيهٰا هُدىً وَ نُورٌ (2) .

وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْرٰاةُ فِيهٰا حُكْمُ اَللّٰهِ (3) .

كما يصف الإنجيل بقول: وَ آتَيْنٰاهُ اَلْإِنْجِيلَ ، فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ (4).

و يصفهما معا، بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقٰامُوا اَلتَّوْرٰاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ ، وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ (5).

ص: 377


1- سورة البقرة: الآية 285.
2- سورة المائدة: الآية 44.
3- سورة المائدة: الآية 43.
4- سورة المائدة: الآية 46.
5- سورة المائدة: الآية 66.

و على ضوء ذلك، فهذه الكتب السماوية كلّها نور و هداية، غير أنّه في مواضع أخرى يندد بعلماء اليهود و النصارى متهما إيّاهم بأنّهم حرّفوا كتبهم و دسّوا فيها ما ليس من اللّه، و كتموا آيات اللّه تبارك و تعالى.

يقول سبحانه: مِنَ اَلَّذِينَ هٰادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوٰاضِعِهِ (1).

و يقول: وَ قَدْ كٰانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاٰمَ اَللّٰهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مٰا عَقَلُوهُ (2).

و يقول: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلْبَيِّنٰاتِ وَ اَلْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي اَلْكِتٰابِ ، أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّٰعِنُونَ (3).

و في ضوء هذه الآيات يقف الباحث على أنّ سهم الاعتراض في هذا المجال ليس متوجها إلى الكتب الصحيحة السماوية، بل إلى المحرّف منها، الذي هو نتيجة تكالب الأحبار و الرهبان على الدنيا، و تغيير حكم اللّه طلبا لمرضاة الحكّام، و أصحاب الأموال.

و بما أنّ الموجود في زمن النبي، و الدارج عند نزول القرآن، هو الكتب المحرّفة لا الأصلية، فالبحث المقارن يثبت، أنّ النبي لم يعتمد على شيء من هذه الكتب، فيما يسرد من القصص و الأحكام، أو ما يبيّن من المعارف و العقائد، و إلاّ يجب أن تظهر فيه سمات الأخذ و التقليد. و لا يصحّ لأحد أن يحتمل أنّ النبي اطّلع على الصحيح من هذه الكتب، و ذلك لأنّ الأمة العربية كانت أميّة، غير واقفة على هذه الكتب، و لا متدارسة لها، و كانت إنّما توجد هذه الكتب عند الأحبار و الرهبان، و أولئك لم يكن في أيديهم إلاّ ما تطرّق إليه التحريف و الدسّ طيلة قرون.

الثاني: قد اخترنا في مجال المقارنة، موضوع الأنبياء، و ذلك لأنّ هذا

ص: 378


1- سورة النساء: الآية 46.
2- سورة البقرة: الآية 75.
3- سورة البقرة: الآية 159.

المجال من أبرز ما يفترق فيه القرآن عن العهدين. و الأنبياء هم رجال الوحي و الهداية، و رجال الإصلاح و التربية، قاموا بخدمة النوع الإنسانى، و لاقوا من المصائب و المتاعب الكثير في سبيل دعوتهم، فيصفهم سبحانه في القرآن بقوله:

وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ (1) .

و بقوله: إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (2).

إذا عرفت ذلك فلنبدأ بالمقارنة، و نكتفي بالأنبياء العظام: آدم، و نوح، و إبراهيم، و لوط، و يعقوب، و داود، و سليمان، و المسيح، عليهم السلام.

و بعد المقارنة يتجلى أنّ القرآن لم يتأثر في تقييمهم و توصيفهم بفضائل الأخلاق، بالعهدين الّذين يصفان رجال الوحى برذائل الأوصاف و سيئات الأعمال، كما سترى. نعوذ باللّه من سوء الظن برجالات الوحي و الهداية.

***

1 - آدم في القرآن و التوراة

يقول سبحانه في خلق الإنسان: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ * قٰالَ يٰا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ ، فَلَمّٰا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ قٰالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مٰا تُبْدُونَ وَ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ أَبىٰ وَ اِسْتَكْبَرَ وَ كٰانَ مِنَ اَلْكٰافِرِينَ * وَ قُلْنٰا يٰا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلاٰ مِنْهٰا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمٰا، وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ اَلظّٰالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطٰانُ عَنْهٰا فَأَخْرَجَهُمٰا مِمّٰا كٰانٰا فِيهِ ، وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَ لَكُمْ فِي

ص: 379


1- سورة ص: الآية 48.
2- سورة آل عمران: الآية 33.

اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ * فَتَلَقّٰى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰاتٍ فَتٰابَ عَلَيْهِ ، إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ (1) .

هذه هي قصة أول الخليقة، و تلك مكانته عند اللّه سبحانه، و ذلك سجود الملائكة إجلالا لمقامه، و تكريما له، و هذا علم آدم بالأسماء و حقائق الأشياء، و أنّ الشيطان وسوس إليه، فأزلّه، فأكل من الشجرة الممنوعة، فكانت النتيجة هبوطه إلى الأرض.

أمّا التوراة، فتذكر في الأصحاحين الثاني و الثالث من سفر التكوين قصة آدم و حواء فتقول في الأصحاح الثاني:

«و أخذ الرّب الإله، آدم، و وضعه في جنّة عدن ليعملها و يحفظها * و أوصى الرّب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا * و أما شجرة معرفة الخير و الشر فلا تأكل منها، لأنّك يوم تأكل منها تموت موتا». ثم بعد أن تروي خلقة حوّاء من ضلع آدم، تقول:

«و كانا كلاهما عريانين - آدم و امرأته - و هما لا يخجلان»(2).

ثم جاء في الأصحاح الثالث: «و كانت الحية أحيل جميع حيوانات البريّة التي عملها الرب الإله. فقالت للمرأة: أ حقا قال اللّه لا تأكلا من كلّ شجر الجنة * فقالت المرأة للحيّة: من ثمر الجنة نأكل * و أمّا ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، فقال اللّه لا تأكلا منه و لا تمسّاه لئلا تموتا * فقالت الحيّة للمرأة: لن تموتا * بل اللّه عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما، و تكونان كاللّه عارفين الخير و الشّرّ * فرأت المرأة أنّ الشجرة جيدة للأكل، و أنّها بهجة للعيون، و أنّ الشجرة شهيّة للنظر، فأخذت من ثمرها، و أكلت، و أعطت رجلها أيضا معها فأكل * فانفتحت أعينهما و علما أنّهما عريانان، فخاطا أوراق تين و صنعا لأنفسهما مآزر».

«و سمعا صوت الرّب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ

ص: 380


1- سورة البقرة: الآيات 31-37.
2- لأنّهما لم يكونا يدركان بعد الخير و الشر.

آدم و امرأته من وجه الرّبّ الإله في وسط شجر الجنة * فنادى الرّبّ الإله آدم و قال له: أين أنت ؟ * فقال سمعت صوتك في الجنة، فخشيت، لأنّي عريان فاختبأت * فقال من أعلمك أنّك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ * فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت».

إلى أن تقول: «و قال الرّبّ الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منّا عارفا الخير و الشر، و الآن لعلّه يمدّ يده و يأخذ من شجرة الحياة أيضا و يأكل و يحيا إلى الأبد * فأخرجه الرّب الإله من جنة ليعمل الأرض التي أخذ منها * و أقام شرقي جنّة عدن، الكروبيم، و لهيب سيف متقلّب، لحراسة طريق شجرة الحياة»(1).

إنّ في هذه الأسطورة، قضايا غريبة تمسّ اللّه جلّ جلاله و تحطّ من كرامة نبيّه، و كلّ واحدة منها إساءة في حدّ ذاتها، و خزي و عار.

أولا - تنسب الكذب إلى اللّه سبحانه كما في قوله: «و أمّا شجرة معرفة الخير و الشرّ، فلا تأكل منها، لأنّك يوم تأكل منها تموت موتا». و الحال أنّها شجرة المعرفة.

ثانيا - تنسب إلى اللّه تعالى أنّه خشي من معارضة آدم إياه، و أن يكون مثله في معرفة الخير و الشر، و الخلود، و لكن آدم نال المقام الأول (المعرفة)، و خشي سبحانه من نيله المقام الثاني (الخلود) فأخرجه.

ثالثا - تصفه سبحانه بالجسمية، إذ تقول: «و سمعا صوت الربّ الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار».

رابعا - تنسب الجهل إلى اللّه سبحانه، و أنّه غير عالم بما يحدث قريبا منه، إذ تقول: «فاختبأ آدم و امرأته من وجه الربّ الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الربّ الإله آدم، و قال له: أين أنت ؟ الخ».

ص: 381


1- لاحظ العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاحين الثاني و الثالث، ص 5-7، طبعه دار الكتاب المقدس.

خامسا - الحيّة (الشيطان) أعطف من اللّه على آدم، كما تقول: «بل اللّه عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما و تكونان كاللّه عارفين الخير و الشر».

سادسا - أنّه سبحانه عاقب الشيطان (الحيّة) من غير ذنب، و أقصى ما ارتكبه هو أنّه علّم آدم و ثقّفه، و نصحه، و أخرجه من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة.

سابعا - إنّما أخرج آدم من الجنة لكونه أصبح إنسانا عالما بالخير و الشر، فصار علمه وبالا عليه.

إلى غير ذلك من المخزيات الواردة في هذه القصة.

***

2 - نوح في القرآن و التوراة

إنّ الذكر الحكيم يعظّم شيخ الأنبياء نوحا و يصفه بأنّه «محسن»، و «مؤمن»، و «صالح»، و «شكور»، و مطّلع على المعارف الغيبية.

يقول سبحانه: سَلاٰمٌ عَلىٰ نُوحٍ فِي اَلْعٰالَمِينَ * إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ (1).

و يقول سبحانه: إِنَّهُ كٰانَ عَبْداً شَكُوراً (2).

و يقول سبحانه: ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَ اِمْرَأَتَ لُوطٍ، كٰانَتٰا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبٰادِنٰا صٰالِحَيْنِ (3).

و من أسمى المعارف التي أثرت عن شيخ الأنبياء أنّه كان يعتقد برابطة وثيقة بين عمل المجتمع، الحسن أو القبيح، و الظواهر الطبيعية. و أنّ عمل الإنسان،

ص: 382


1- سورة الصافات: الآيات 79-81.
2- سورة الإسراء: الآية 3.
3- سورة التحريم: الآية 10.

يؤثّر في انفتاح أبواب الخير من نزول المطر، و كثرة الأموال و الأولاد، و جريان الأنهار، و خصب الأرض.

و في هذا المجال يحكي عنه سبحانه قوله: فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً * يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ ، وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّٰاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهٰاراً (1).

و إنّ القرآن يصفه بالصمود و الثبات أمام أعداء دعوته، صمودا قليل النظير، و يقول حاكيا عنه: قٰالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهٰاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعٰائِي إِلاّٰ فِرٰاراً * وَ إِنِّي كُلَّمٰا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيٰابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اِسْتَكْبَرُوا اِسْتِكْبٰاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهٰاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرٰاراً (2).

و إنّك لترى صحيفة نضرة من صحائف ثباته في دعوته فيما يحكيه سبحانه من صنع سفينته، بقوله: وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّمٰا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ، قٰالَ : إِنْ تَسْخَرُوا مِنّٰا، فَإِنّٰا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمٰا تَسْخَرُونَ (3).

و ظلّ شيخ الأنبياء يعيش مع قومه الألداء ألف سنة إلاّ خمسين عاما، حتى جاء أمر اللّه، ففار التنور و غرق من غرق، و نجا من نجا، يقول سبحانه:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّٰ خَمْسِينَ عٰاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفٰانُ وَ هُمْ ظٰالِمُونَ * فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَصْحٰابَ اَلسَّفِينَةِ وَ جَعَلْنٰاهٰا آيَةً لِلْعٰالَمِينَ (4) .

هذه صحائف حياته المشرقة الوضّاءة، و في مقابل ذلك نقف على التصوير القاتم الذي تصوّره التوراة لهذا الرجل العظيم، تقول:

«و ابتدأ نوح يكون فلاحا و غرس كرما * و شرب من الخمر فسكر و تعرّى

ص: 383


1- سورة نوح: الآية 10-12.
2- سورة نوح: الآيات 5-9.
3- سورة هود: الآية 38.
4- سورة العنكبوت: الآيتان 14 و 15.

داخل خبائه * فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه و أخبر أخويه خارجا * فأخذ سام و يافث الرّداء و وضعاه على أكتافهما و مشيا إلى الوراء و سترا عورة أبيهما و وجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما * فلمّا استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير * فقال ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته»(1).

و لا نعلّق على هذا النصّ شيئا، و نحمّل القضاء فيه إلى الباحثين الكرام.

***

3 - إبراهيم في القرآن و التوراة

إنّ قصة إبراهيم في الذكر الحكيم تعرب عن مكانته السامية عند اللّه سبحانه، مكانة لا يصل إليها إلاّ الأمثل من الأنبياء، حيث إنّه سبحانه ذكر له ما يقرب من خمسة عشر وصفا، كل منها يدلّ على عظمته و سمو مكانته عند اللّه فهو: «إمام»، «صالح»، «حنيف»، «مسلم»، «موقن»، «أوّاه»، - «حليم»، «منيب»، «قانت»، «شاكر»، «مؤمن»، «أمّة» بنفسه، «خيّر»، «مصطفى»، و «صاحب قلب سليم».(2).

و هذه السمات بكثرتها و فخامتها، لم ترد في حق نبي آخر.

و أمّا بطولته و ثباته في مقابل الوثنيين، فحدّث عنها و لا حرج، و يكفي في ذلك أنّه دخل معبدهم، فَرٰاغَ إِلىٰ آلِهَتِهِمْ فَقٰالَ أَ لاٰ تَأْكُلُونَ * مٰا لَكُمْ لاٰ تَنْطِقُونَ * فَرٰاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ... (3).

ص: 384


1- العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح التاسع، الجملات 20-25، ص 5، ط دار الكتاب المقدّس.
2- لاحظ السور التالية: - البقرة: 124 و 130 - آل عمران: 67. - الأنفال: 65. - التوبة: 114. - هود: 75. - النحل: 120 و 121. - الصافات: 48 و 110. - ص: 47.
3- لاحظ سورة الصافات: الآيات 91 إلى 99.

و أي مقام أكرم و أعظم من إراءته ملكوت السموات و الأرض، كما يقول تعالى: وَ كَذٰلِكَ نُرِي إِبْرٰاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ (1).

و أي تفان في جنب اللّه، و طلب مرضاته سبحانه، أقوى من تفانيه باستعداده لتضحية ولده و ذبحه امتثالا لأمره سبحانه(2).

هذا هو إبراهيم، بطل التوحيد، في الذكر الحكيم، فهلم نقرأ صحيفة حياته التي صوّرتها التوراة المحرّفة، بما يندى له الجبين من قراءته و سماعه، تقول:

«و حدث جوع في الأرض فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرّب هناك، لأن الجوع في الأرض كان شديدا * و حدث لما قرب أن يدخل مصر أنّه قال لسار أي امرأته:

إني قد علمت أنّك امرأة حسنة المنظر * فيكون إذا رآك المصريون أنّهم يقولون هذه امرأته، فيقتلونني و يستبقونك * قولي إنّك أختي، ليكون لي خير بسببك، و تحيا نفسي من أجلك * فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أنّ المصريين رأوا المرأة أنّها حسنة جدا * و رآها رؤساء فرعون و مدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع إلى إبراهيم خيرا بسببها، و صار له غنم و بقر و حمير و عبيد و إماء و أتن و جمال * فضرب الربّ فرعون و بيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام * فدعا فرعون أبرام و قال: ما هذا الذي صنعت بي، لما ذا لم تخبرني أنّها امرأتك ؟ * لما ذا قلت هي أختي حتى أخذتها إليّ لتكون زوجتي. و الآن هو ذا امرأتك، خذها و اذهب * فأوصى عليه فرعون رجالا فشيّعوه و امرأته و كل ما كان له»(3).

فمغزى هذه الأسطورة أنّ إبراهيم صار سببا لأخذ فرعون سارة، زوجة

ص: 385


1- سورة الأنعام: الآية 75.
2- لاحظ سورة الصافات: الآيات 102 إلى 107.
3- العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح الثاني عشر، الجملات 10-20، ص 19، ط دار الكتاب المقدس.

إبراهيم، زوجة له. و حاشا إبراهيم، و هو من أكرم أنبياء اللّه، أن يرتكب ما لا يرتكبه أدنى الناس. و هو و إن فعل ذلك طلبا لنجاة نفسه، لكن أصحاب الغيرة و الشهامة من الرجال يضحّون بأنفسهم دون أعراضهم.

ثم من أين علم إبراهيم أنّه لو عرفها المصريون امرأته يقتلونه، مع أنّ المستقبل لم يصدّق ذلك، و أظهر فرعون رجلا موضوعيا، لا يتجاوز أعراض الناس.

***

4 - لوط في القرآن و التوراة

إنّ لوطا، أحد الأنبياء المعاصرين لإبراهيم المقتفين لشريعته، و كان رجلا صمودا في مجال النهي عن المنكر، يقول سبحانه إِذْ قٰالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لاٰ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ * وَ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ * أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرٰانَ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ * وَ تَذَرُونَ مٰا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عٰادُونَ * قٰالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يٰا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُخْرَجِينَ * قٰالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ اَلْقٰالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمّٰا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاّٰ عَجُوزاً فِي اَلْغٰابِرِينَ (1).

و القرآن يذكر لوطا في عداد الأنبياء العظام و يقول: وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً، وَ كلاًّ فَضَّلْنٰا عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (2).

و في آية أخرى يقول: وَ لُوطاً آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبٰائِثَ ، إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فٰاسِقِينَ (3).

فهلمّ نرى ما تذكره التوراة في حقّه تقول:

«و صعد لوط من صوغر و سكن في الجبل و ابنتاه معه، لأنّه خاف أن يسكن

ص: 386


1- سورة الشعراء: الآيات 161-171.
2- سورة الأنعام: الآية 86.
3- سورة الأنبياء: الآية 74.

في صوغر، فسكن في المغارة هو و ابنتاه * و قالت البكر للصغيرة أبونا قد شاخ و ليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كلّ الأرض * هلمّ نسقي أبانا خمرا و نضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا * فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، و دخلت البكر و اضطجعت مع أبيها، و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها * و حدث في الغد أنّ البكر قالت للصغيرة إنّي قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه، فنحيي من أبينا نسلا * فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، و قامت الصغيرة و اضطجعت معه، و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها * فحبلت ابنتا لوط من أبيهما * فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب، و هو أبو الموآبيين إلى اليوم * و الصغيرة أيضا ولدت ابنا و دعت اسمه بن عمّي، و هو أبو بني عمّون إلى اليوم»(1).

عجبا و اللّه، أي منطق هذا! و ما قيمة نبيّ لا يفرّق بين الخمر و الماء، و يسكر إلى حدّ يفعل ما ذكرته مع بنتيه. و لو صحت هذه القصة، فالموابيين، و بني عمّون، ينتهي نسبهم إلى الفسق و الفجور، أعاذنا اللّه من الوقيعة في الأنبياء.

و كفى في هذا النصّ دلالة على أنّ القرآن لم يتّخذ من التوراة، لأنّه لم يذكر في حقّ بنات نوح سوءا، و إنّما ندّد بزوجته، كما عرفت.

***

5 - يعقوب في القرآن و التوراة

إنّ يعقوب أحد الأنبياء العظام، يصفه سبحانه بأنّه كان محسنا، و صالحا، و مصطفى، و خيّرا، و بصيرا، و قد جعل النبوة في نسله.

يقول سبحانه: وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنٰا وَ نُوحاً هَدَيْنٰا مِنْ

ص: 387


1- العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح التاسع عشر، الجملات 30-38، ص 29، ط. دار الكتاب المقدس.

قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ ، وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (1) .

و يقول سبحانه: وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ نٰافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنٰا صٰالِحِينَ (2).

و يقول سبحانه: وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنٰا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتٰابَ ... (3).

و يقول سبحانه: وَ اُذْكُرْ عِبٰادَنٰا إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصٰارِ * إِنّٰا أَخْلَصْنٰاهُمْ بِخٰالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّٰارِ * وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ (4).

و لم يزل يعقوب يكافح الوثنية، و قد أوصى بالتوحيد أولاده في آخريات حياته، كما يقول سبحانه:

إِذْ قٰالَ لِبَنِيهِ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي، قٰالُوا نَعْبُدُ إِلٰهَكَ وَ إِلٰهَ آبٰائِكَ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ إِلٰهاً وٰاحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (5) .

فهلمّ معنا نقف على نصّ التوراة في حقّ هذا النبي العظيم، فهي تعرّفه بأنّه كاذب مخادع، كما تصف أباه بأنّه شارب للخمر.

إنّ إسحاق أراد أن يعطي ابنه «عيسو» بركة النبوة، فخادعه يعقوب و أوهمه أنّه «عيسو»، و قد كان أمر يعقوب «عيسو» أن يصنع طعاما كما يجب، و يأتي به ليأكل حتى يباركه قبل أن يموت. و قد علم بذلك يعقوب، تقول التوراة:

ص: 388


1- سورة الأنعام: الآية 84.
2- سورة الأنبياء: الآية 72.
3- سورة العنكبوت: الآية 27.
4- سورة ص: الآيات 45-47.
5- سورة البقرة: الآية 133.

«فدخل إلى أبيه و قال: يا أبي. فقال: ها أنا ذا، من أنت يا ابني * فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك، قد فعلت كما كلّمتني، قم اجلس و كل من صيدي لكي تباركني نفسك * فقال إسحاق لابنه: ما هذا الذي أسرعت لتجد يا ابني ؟! فقال إنّ الربّ إلهك قد يسّر لي * فقال إسحاق ليعقوب: تقدّم لأجسّك يا ابني، أ أنت هو ابني عيسو أم لا؟ * فتقدّم يعقوب إلى إسحاق أبيه، فجسّه، و قال: الصوت صوت يعقوب، و لكن اليدين يدا عيسو * و لم يعرفه، لأنّ يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه، فباركه * و قال هل أنت هو ابني عيسو، فقال: أنا هو * فقال: قدّم لي لآكل من صيد ابني حتى تباركك نفسي، فقدّم له، فأكل و أحضر له خمرا فشرب!!...» إلى أن تقول:

«و حدث عند ما فرغ إسحاق من بركة يعقوب، و يعقوب قد خرج من لدن إسحاق أبيه، أنّ عيسو أخاه أتى من صيده، فصنع هو أطعمة، و دخل بها إلى أبيه، و قال لأبيه: ليقم أبي و يأكل من صيد ابنه حتى تباركني نفسك * فقال له إسحاق: أبوه: من أنت ؟ فقال: أنا ابنك بكرك عيسو * فارتعد إسحاق ارتعادا عظيما»... «فقال: قد جاء أخوك بمكر و أخذ بركتك»(1).

6 - داود و سليمان في القرآن و العهدين

يحدّث القرآن عن داود و يصفه بالشجاعة، و أنّه أحد من أعطي الكتاب، و جعل خليفة في الأرض ليحكم بين الناس بالحق، و أنّه أوتي العلم و الحكمة و فصل الخطاب. و قد بلغت عظمته الروحية إلى حدّ أنّه كان عند ما يسبّح، تسبّح الجبال و الطير معه.

كما أنّه يصف ابنه سليمان بالعلم و السيطرة على الفضاء، و إليك بعض الآيات الواردة في هذا المجال.

ص: 389


1- العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح السابع و العشرون، لاحظ: الجملات 18-38، ص 42-43، ط دار الكتاب المقدس.

يقول سبحانه: وَ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّٰا يَشٰاءُ (1).

و يقول سبحانه: وَ آتَيْنٰا دٰاوُدَ زَبُوراً (2).

و يقول سبحانه: اِصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّٰابٌ * إِنّٰا سَخَّرْنَا اَلْجِبٰالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرٰاقِ * وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوّٰابٌ * وَ شَدَدْنٰا مُلْكَهُ وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ (3).

و يقول سبحانه: يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِالْحَقِّ (4).

هذا بعض ما ذكره القرآن في داود، كما يذكر ولده البارّ بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ عِلْماً وَ قٰالاَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي فَضَّلَنٰا عَلىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ * وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ وَ قٰالَ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ عُلِّمْنٰا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ (5).

و إليك ما ينسبه العهد القديم إليهما، ممّا يندى له الجبين:

«و أمّا داود فأقام في أورشليم * و كان في وقت المساء أنّ داود قام عن سريره، و تمشّى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم، و كانت المرأة جميلة المنظر جدا * فأرسل داود و سأل عن المرأة فقال واحد: أ ليست هذه بتشبع بنت أليعام، امرأة أوريا الحثيّ (6) * فأرسل داود رسلا و أخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها و هي مطهرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها * و حبلت المرأة فأرسلت و أخبرت داود و قالت: إنّي حبلى».

ثم يستمر في سرد هذه الخرافة، و أنّ داود استدعى زوجها و سأله عن مسار

ص: 390


1- سورة البقرة: الآية 251.
2- سورة النساء: الآية 163.
3- سورة ص: الآيات 17-20.
4- سورة ص: الآية 26.
5- سورة النمل: الآيتان 15-16. و قد اكتفينا بهذا المقدار من الآيات.
6- و هو من قادة جيوشه.

الحرب و وضع الجيوش، و أمره أن يرجع إلى بيته، لكن الزوج لم يرجع بل نام على باب بيت الملك، و لما علم داود بالأمر اعتذر الزوج بأنّه كيف يذهب إلى بيته ليأكل و يشرب و يضطجع مع امرأته و الجيوش نازلة في الصحراء و يهوذا ساكنون في الخيام، و في اليوم التالي أرسل داود رسالة إلى قائد جيشه يأمره فيها أن يجعل هذا الزوج في مقدم الجيوش ليقتل، ففعل ذلك، فقتل.

«فلما سمعت امرأة أوريا أنّه قد مات أوريا رجلها، ندبت بعلها * و لما مضت المناحة أرسل داود و ضمّها إلى بيته و صارت امرأة له و ولدت له ابنا، و أمّا الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرّبّ »(1).

هذا ما يذكره في حقّ الوالد، و أمّا الولد فيعرفه العهد القديم و الإنجيل أيضا بأنّه ابن داود من أوريا هذه(2).

و العجب أنّ الولد اقتفى أثر الوالد في المعاشقة و مغازلة النساء، فانظر إلى ما جاء في «الملوك الأول»:

«و أحب سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون، موآبيات، و عمّونيات، و أدوميات، و صيدونيات، و حثيات * من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم و هم لا يدخلون إليكم لأنّهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة * و كان له سبع مائة من النساء السيدات، و ثلاث مائة من السراري، فأمالت النساء قلبه * و كان في زمان شيخوخة سليمان أنّ نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، و لم يكن قلبه كاملا مع الربّ إلهه كقلب داود أبيه * فذهب سليمان وراء عشتروت إلاهة الصيدونيين، و ملكوم رجس العمونيين * و عمل سليمان الشرّ في عيني الرب و لم يتبع الرب تماما كداود أبيه * حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي

ص: 391


1- لاحظ: العهد القديم، صموئيل الثاني، الأصحاح الحادي عشر، ص 497-499، ط دار الكتاب المقدس.
2- العهد القديم، صموئيل الثاني، الأصحاح الثاني عشر، الجملة 24، ص 501. و إنجيل متى، الأصحاح الأول، الجملة السادسة، ص 2، ط دار الكتاب المقدس.

تجاه أورشليم و لمولك رجس بني عمّون * و هكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي يوقدن و يذبحن لآلهتهن * فغضب الربّ على سليمان...». و هكذا يتابع نقل غضب الرب عليه ثم تهديده إيّاه بتمزيق مملكته(1).

هب أنّ النبي لا يلزم أن يكون معصوما - مع أنّ الأدلّة العقلية قائمة على لزوم عصمته - فهل يجوز في حكم العقل أن يعبد الأصنام و يبني لها المرتفعات، ثم يكون داعية للناس إلى التوحيد و عبادة اللّه ؟!.

7 - المسيح في القرآن و الإنجيل

إنّ المسيح المبشّر بالنبي الأعظم، من الأنبياء العظام، وصفه سبحانه بقوله:

إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ (2) .

و بقوله: وَ آتَيْنٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنٰاتِ ، وَ أَيَّدْنٰاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ (3).

و قد بلغت عناية اللّه تعالى به أن أقدره على التكلّم و هو في المهد صبيا، يقول سبحانه: تُكَلِّمُ اَلنّٰاسَ فِي اَلْمَهْدِ (4).

و ممّا نلفت النظر إليه أنّه سبحانه ينقل عنه قوله: وَ جَعَلَنِي مُبٰارَكاً أَيْنَ مٰا كُنْتُ وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا * وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّٰاراً شَقِيًّا (5).

ص: 392


1- العهد القديم، الملوك الأول، الأصحاح الحادي عشر، الجملات 1-13، ص 553-554. ط دار الكتاب المقدس.
2- سورة النساء: الآية 171.
3- سورة البقرة: الآية 87.
4- سورة المائدة: الآية 110.
5- سورة مريم: الآيتان 31 و 32.

فاتل هذه الآية و تأمّل فيما أوصاه اللّه سبحانه من البرّ بوالدته، ثم قارن ذلك بما ينقله عنه الإنجيل من ترك إكرامه لوالدته، يقول الإنجيل:

«فجاءت حينئذ إخوته و أمّه و وقفوا خارجا و أرسلوا إليه يدعونه * و كان الجمع جالسا حوله فقالوا له هوذا أمّك و إخوتك خارجا يطلبونك * فأجابهم قائلا: من أمّي و إخوتي ؟ * ثم نظر حوله إلى الجالسين و قال: ها أمي و إخوتي، لأنّ من يصنع مشيئة اللّه هو أخي و أختي و أمّي»(1).

فأين المسيح الذي ينكر أمّه القديسة البارّة، و يحرمها رؤيته، و يعرّض بقداستها، و يفضّل تلاميذه عليها، من المسيح الذي عرّفه القرآن بقوله:

وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي ، مع أنّ هؤلاء التلاميذ هم الذين تركوه، و وصفهم المسيح بقوله: «ما بالكم خائفين هكذا، كيف إيمان لكم»(2).

المسيح يحول الماء خمرا ليشرب الناس

إنّ الخمر إحدى الخبائث التي حرّمها اللّه سبحانه في الشرائع السماوية، من غير فرق بين شريعة و أخرى، و ها هو سفر اللاويين، من العهد القديم يقول:

«و كلّم اللّه هارون قائلا، خمرا و مسكرا لا تشرب أنت و بنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع، لكيلا تموتوا، فرضا دهريا في أجيالكم، و للتمييز بين المقدّس و المحلّل، و بين النجس و الطاهر»(3).

و مع ذلك فالمسيح يصنع للمحتفلين بالعرس خمرا ليشربوا كما يقول الإنجيل:

«و في اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل و كانت أمّ يسوع هناك * و دعي أيضا يسوع و تلاميذه إلى العرس. و لما فرغت الخمر قالت أمّ يسوع له ليس لهم

ص: 393


1- إنجيل مرقس، الأصحاح الثالث، الجملات 31-35، ط دار الكتاب المقدس.
2- إنجيل مرقس، الأصحاح الرابع، الجملة 40، ط دار الكتاب المقدس.
3- سفر اللاويين، الأصحاح العاشر، الجملات 8-11، ص 171، ط دار الكتاب المقدس.

خمر * قال لها يسوع: ما لي و لك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد!! * قالت أمّه للخدّام: مهما قال لكم فافعلوه * و كانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود، يسع كل واحد مطرين أو ثلاثة * قال لهم يسوع: املئوا الأجران ماء، فملئوها إلى فوق * ثم قال لهم: استقوا الآن، و قدّموا إلى رئيس المتكأ، فقدّموا * فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرا - و لم يكن يعلم من أين هي لكن الخدّام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا - دعا رئيس المتكأ العريس * و قال له: كل إنسان إنّما يضع الخمر الجيدة أولا و متى سكروا فحينئذ الدون. أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن * هذه بداية الآيات التي فعلها يسوع في قانا الجليل، و أظهر مجده، فآمن به تلاميذه»(1).

***

هذه نماذج ممّا في العهدين من الأضاليل و الأباطيل التي لا تتفق مع البرهان، و لا يصدّقه المنطق، و هي تثبت أمرين:

الأول: أنّ هذه الكتب السخيفة ليست من وحي السماء، و إنّما هي من منشآت الأحبار و الرهبان، خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا، فموّهوا الكتب السماوية بخرافاتهم.

الثاني: أنّ النبي الأكرم لم يقتبس معارفه و قصصه و أحكامه من هذه الكتب، و إنّما هي مأخوذة من وحي السماء على قلبه، ليكون من المنذرين(2).

و بهذا تقف على مدى صدق قوله سبحانه: إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (3).

ص: 394


1- إنجيل يوحنا، الأصحاح الثاني، الجملات 1-12، ص 147-148، ط دار الكتاب المقدس.
2- أنظر للتبسط في هذا البحث: «الهدى إلى دين المصطفى»، و «الرحلة المدرسية» كلاهما لشيخنا الحجة البلاغي (م 1352). و «إظهار الحق» للعالم الهندي. و «أنيس الأعلام في نصرة الإسلام» لمحمد صادق فخر الإسلام في خمسة أجزاء، و غير ذلك.
3- سورة النمل: الآية 76.

و قوله سبحانه: وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ (1).

و لنكتف بهذا المقدار، و نترفع عن نقل العار، و أشنع القبائح، التي يرمي بها العهدان أنبياء اللّه تعالى، ممّا تشمئز النفوس من سماعه، و الأقلام عن الجريان به.

***

ص: 395


1- سورة المائدة: الآية 48.

شواهد إعجاز القرآن

(5) إعجازه من ناحية إتقان التشريع و التقنين
اشارة

جاء الإسلام برسالة عالمية، و بعقيدة و طقوس لا تنفرد بشعب أو مجتمع بعينه، و لا تختص بصقع أو أقطار معينة، بل ظهر دينا متكامل الجوانب في العقيدة و التشريع، يسري على الأفراد على اختلافهم في اللون، و الوطن، و اللسان، و لا يفترض لنفوذه حاجزا بين بني الإنسان، و لا يعترف بأيّة فواصل أو تحديدات عرقية أو إقليمية.

و يظهر هذا من تاريخ دعوة الرسول و سيرته في نشر دينه، و قبل كل شيء، نداءات القرآن و هتافاته الموجهة إلى الناس كلهم. و هذا ما يراد من كون الإسلام دينا عالميا.

و لم تكن هذه سمته الوحيدة بل له سمة أخرى هي سمة الخاتمية فهو خاتم الشرائع، كما أنّ نبيّه خاتم الأنبياء و على هذا كلمات الرسول و أوصيائه، و قبلها النصوص القرآنية(1).

كما أنّ له سمة ثالثة، و هو كونه دينا متكامل الجوانب، و شاملا لجميع النواحي الحيوية في حياة البشر، فلم يقتصر في تربية الإنسان و تنمية طاقاته على تشريع الأدعية و الطقوس فحسب، بل قرن إليها تشريعات و تقنينات رفع بها

ص: 396


1- سيأتي الكلام مفصلا في عالمية الرسالة الإسلامية و خاتميتها.

حاجة الإنسان إلى كل تشريع و تقنين، سواء في مجال الأخلاق أو الاجتماع أو السياسة و الإدارة، أو الاقتصاد.

و إنّ نفس وجود تلك القوانين في جميع تلك الجوانب، معجزة كبرى لا تقوم بها الطاقة البشرية، و اللجان الحقوقية، خصوصا مع اتّصافها بمرونة خاصة، تجامع كل الحضارات و المجتمعات البدائية، و الصناعية المتطورة.

ثم إنّه تظهر عظمة ذلك التقنين إذا وقفنا على أنّ دعوة الإسلام بزغت بين أقوام متأخرين في المجالات الخلقية و الثقافية، و لم يكن لهم منها نصيب سوى الإغارة و النهب و القتل و التفاخر. و يشهد لذلك صفحات تاريخ الجزيرة العربية، و لنكتف من ذلك بشاهد واحد يكشف لنا واقعية الحياة في ذلك العصر.

روى أهل السير و التاريخ أنّ رجلا من «زبيد» قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقّه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، و مخزوما، و جمحا، و سهما، و عدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل و انتهروه، فلما رأى الزبيدي الشرّ، أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس - و قريش في أنديتهم حول الكعبة - فنادى بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته *** ببطن مكة نائي الدار و النّفر

و محرم أشعث لم يقض عمرته *** يا للرجال و بين الحجر و الحجر

إنّ الحرام لمن تمّت كرامته *** و لا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، و قال: ما لهذا مترك.

فاجتمعت «هاشم» و «زهرة» و «تميم بن مرة»، في دار «عبد اللّه بن جدعان» فصنع لهم طعاما، و تحالفوا في ذي القعدة الحرام، فتعاقدوا و تعاهدوا باللّه ليكوننّ يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدّى إليه حقّه، أبدا.

فسمّت قريش ذلك الحلف، حلف الفضول، و قالوا: «لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر».

ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، و دفعوها

ص: 397

إليه(1)فهذه الحادثة تكشف عن أنّ المجتمع في الجزيرة العربية أو في قسم الحجاز، كان خلوا من أي محكمة و قضاء، و لم يكن سائدا فيها إلاّ قوة الزور و شريعة الغاب، فلما اتّحد هؤلاء للدفاع عن المظلوم، اشتهر اسم ذلك الحلف، و صار نجما لا معا بينهم، و كأنّ شيئا عجيبا قد حصل.

ففي مثل هذا المجتمع ظهر رجل، و في يده كتاب، يدعو إلى الأخوّة الدينية أوّلا، و صيانة حقوق الإنسان في ظل العدالة في جميع المجالات ثانيا، و أتى بتشريعات بعث بها النور و الحياة في المجتمع. و هذا أوضح دليل على أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة طبيعية للبيئة.

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى تبيين سمات التشريع الإسلامي، و ذكر نزر يسير منها في بعض المجالات، و المهم هو الوقوف على تلك السمات، و هي:

1 - مرونة التشريعات الإسلامية، و ملاءمتها لجميع الحضارات الماضية و السائدة، و الآتية.

2 - إنّ التشريعات القرآنية تعتمد قبل كل شيء على الفطرة الإنسانية التي لا تتغير في خضم التحوّلات و التبدّلات. فلا تجد تشريعا قرآنيا يضاد الفطرة.

3 - التشريع القرآني ينظر إلى الإنسان، بما هو موجود مركب من جسم و روح و مادة و معنى، و لكل حاجته و رغبته، فأباح اللذائذ الجسمانية في إطار لا يمسّ كرامة الإنسان، كما دعا إلى المثل الأخلاقية العليا، فصار بذلك دينا وسطا، لا يجنح إلى جانب خاص فينسى الجانب الآخر.

4 - الملاك في التشريع القرآني هو السعادة الإنسانية و مصالح المجتمع و مفاسده، فأرسى قوانينه على ذلك الأساس من دون جنوح إلى إرضاء عموم الناس و إشباع ميولهم، لأنّ إرضاءهم ربما يكون مخالفا لسعادتهم.

ص: 398


1- البداية و النهاية، لابن كثير (م 774)، ج 2، ص 241-242.

5 - إنّ التشريعات القرآنية ليست تقنينات جافة، خالية من الضمانات الإجرائية، بل لم تغفل عنها، فجعلت لتنفيذها ضمانات إجرائية داخلية و خارجية، فإيمان الرجل بدينه و قرآنه و ما يترتب عليه من مثوبات و عقوبات أخروية، أقوى و أعز داخلي و عاطفي في الإنسان يدفعه إلى التطبيق، و يردعه عن المخالفة. إضافة إلى العقوبات البدنية و الغرامات المالية التي حددها.

6 - إنّ التشريع القرآني ذو مادة حيوية، خلاقة للتفاصيل، بحيث يقدر معها علماء الأمة و الإحصائيون منهم على استنباط ما يحتاج إليه المجتمع في كل عصر. فإذا انضمت إليها الأحاديث النبوية، و ما وصل إلى الأمة، من أوصياء النبي، نجد التشريع الإسلامي وافيا باستنباط آلاف الفروع التي يحتاج إليها المجتمع على امتداد القرون و الأجيال.

هذا ما نتبناه في هذا البحث، و لا تظهر حقيقته إلاّ بشرح كل واحدة من هذه السمات شرحا إجماليا، يوقفنا على قوة التشريع القرآني و إتقانه.

السمة الأولى: مرونة التشريع القرآني
اشارة

من الأسباب، الدافعة إلى صلاح الإسلام للبقاء و الخلود، مرونة أحكامه التي تمكّنه من أن يماشي جميع الأزمنة، و الحضارات.

و قد تمثلت هذه المرونة بأمور نذكر منها اثنين:

أ - النظر إلى المعاني لا المظاهر

إنّ التشريعات القرآنية تنظر إلى المعاني و الحقائق لا إلى المظاهر و القشور، و لذلك لا تجد في الإسلام مظهرا خاصا من مظاهر الحياة له من القداسة ما يمنع من تغييره، و يوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص، و لأجل ذلك لا يقع التصادم بين تعاليمه و التقدم العلمي الهائل في مظاهره و أشكاله الخارجية، و إليك بعض الأمثلة:

ص: 399

1 - إنّ الإسلام دعا إلى بثّ العلم و التربية، و لكن الذي يهم الإسلام، في جميع الأزمنة هو الحقيقة و الجوهر من ذينك الأمرين، و أمّا الكيفية و الشكل، فلا يهمّانه، بل الهدف إشاعة العلم بأي وسيلة كانت، و إرساخ التربية في نفوس الناس بأي سبب تحقق.

و إنّ أجهزة نشر العلم، و أسباب التربية، قد ترقت من أبسط الأساليب إلى أعقدها، فمن الكتابة بالقصب على أوراق الشجر و عظام الحيوانات و جلودها، إلى نشر العلم عن طريق الأجهزة الإذاعية و الدوائر الإلكترونية.

فلو كانت هناك قداسة لأسباب معينة، كالكتابة بالحبر أو بالجصّ ، لما كتب للإسلام البقاء(1).

2 - إنّ القرآن يدعو الأمّة الإسلامية إلى التأهّب في مقابل الأعداء، و إعداد ما استطاعوا من قوة، يقول تعالى: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (2).

فما هو المطلوب، هو كسب القوة و الاقتدار على كفاح المخالفين.

و المراد من القوة هو الآلات الحربية و أدوات النضال، سواء أ كانت أسهما و رماحا و سيوفا، أو دبابات و مدافع و طائرات و صواريخ. فالكلّ أشكال، و اللّب واحد، و هو دوام الاستعداد في مقابل الأعداء.

فلو كانت الفروسية و الرمي بالسهام هي مظاهر الكفاح العسكري الذي يدعو إليه الإسلام، فقد حلّ مكانها أدوات مهيبة مدمّرة قويّة، و الاقتصار على الأولى كان سينجر حتما إلى إبادة المسلمين. غير أنّ الجهاد بالسهم و الرمح، أو الجهاد بالصواريخ و الدبابات، أشكال و ألبسة للحكم الإسلامي بالجهاد، فاللّباس يتغير و يحتفظ باللّب.

3 - القرآن يدعو المسلمين إلى العزّة و العظمة و الاستقلال، و رفض التبعية

ص: 400


1- لاحظ ما ورد حول بثّ العلم و الكتابة و التربية في الكتاب العزيز. و أظن أن الباحث الكريم في غنىّ عن الإشارة إلى الآيات الواردة في هذا المجال.
2- سورة الأنفال: الآية 60.

للأعداء. يقول سبحانه: وَ لِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لٰكِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ (1).

و لكن نيل هذا الهدف السامي لم يكن يتطلب في السابق ما يتطلبه اليوم من وجود الأخصائيين من المسلمين في المسائل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية.

فالقرآن يوجب على المسلمين دراسة هذه العلوم دراسة وافية، حتى تتحقق لهم العزّة. فليست هذه العلوم مطلوبة بالذات، بل المطلوب هو حفظ العزّة و العظمة و الاستقلال. و التدرع بهذه العلوم، ليس إلاّ سبب و أداة لنيل المطلوب.

4 - الإسلام يدعو المرأة إلى العفة و الستر و الحجاب خارج بيتها و في محيط عملها. و لكنه لم يقيّده بشكل خاص من اللباس، بل يكفي في ذلك كل لباس يكون مؤمّنا لهذا الغرض. فلو كان التشريع الإسلامي في هذا المجال على أساس إلزام المرأة باتّخاذ شكل خاص من الحجاب لربما تصادم مع حاجات الزمان المتطورة، أو استلزم تهديم التقاليد العرفية المحترمة عند الأمم. فلأجل ذلك ترك الكيفية و الشكل إلى المجتمع نفسه و طلب منه اللّب و هو الستر، و عدم الإغراء.

قال سبحانه: وَ لاٰ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّٰ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا، وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلىٰ جُيُوبِهِنَّ (2).

و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَ بَنٰاتِكَ وَ نِسٰاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاٰ يُؤْذَيْنَ (3).

5 - في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية الأصل الثابت هو رعاية مصالح الإسلام و المسلمين، و أمّا كيفية تلك الرعاية فتختلف باختلاف الظروف الزمانية و المكانية. فتارة تقتضي المصلحة، السلام و المهادنة، و مصالحة العدو. و أخرى تقتضي ضدّ ذلك.

ص: 401


1- سورة المنافقون: الآية 8.
2- سورة النور: الآية 31.
3- سورة الأحزاب: الآية 59.

يقول سبحانه: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (1).

و يقول سبحانه: لاٰ يَنْهٰاكُمُ اَللّٰهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ ، وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ ، أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ * إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اَللّٰهُ عَنِ اَلَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ ، أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ، وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ (2).

فالإسلام لا يفرض الحرب دائما مع الكفار، كما لا يفرض السلم و الصلح كذلك، و إنّما الحرب و السلم يتبعان مصالح الإسلام و المسلمين.

6 - العلاقات الدولية التجارية، و إنشاء مؤسسات صناعية مشتركة بين المسلمين و غيرهم، يتبع ذلك الأصل الثابت، و هو تبنّي صلاح الإسلام و المسلمين. و لأجل ذلك ربما يكون عقد اتفاقية تجارية حراما في ظرف و حلالا في ظرف آخر. فلو كان التحريم هو الحكم الثابت لما أمكن تطبيقه في الظروف التي توجب عقد الاتفاقية، و هكذا العكس. و هذا ما نرومه في هذا المقام من أنّ المعنى ثابت و التعابير مختلفة، و كل الاتفاقيات تستمدّ من الأصول الثابتة في الإسلام، كقوله سبحانه: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (3). و قوله سبحانه: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوٰالِكُمْ لاٰ تَظْلِمُونَ وَ لاٰ تُظْلَمُونَ (4).

و قس على ذلك سائر التشريعات؛ فللإسلام خاصيّة الاهتمام باللّب و الجوهر، و هذا أحد العناصر التي تجعله يساير و يماشي عامة الحضارات الإنسانية إلى قيام يوم الدين.

ب - الأحكام التي لها دور التحديد

من الأسباب الموجبة لانطباق التشريع القرآني على جميع الحضارات،

ص: 402


1- سورة النساء: الآية 141.
2- سورة الممتحنة: الآيتان 8 و 9.
3- سورة النساء: الآية 141.
4- سورة البقرة: الآية 279.

تشريعه لقوانين خاصة، لها دور التحديد و الرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته.

فهذه القوانين الحاكمة، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كل الأجيال و القرون.

يقول سبحانه: وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1).

و يقول سبحانه: يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ، وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ (2).

و يقول سبحانه: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لاٰ عٰادٍ، فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ (3).

و يقول سبحانه: وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّٰ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ (4).

و يقول سبحانه: إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ (5)و ما ورد حول النهي عن الضرر من الآيات، كلها تحدّد التشريعات القرآنية بحدود الحرج و العسر و الضرر. فإذا صارت الأحكام مبدأ لواحد منها، تكون مرتفعة غير لازمة الامتثال. فلو لا هذه التحديدات الحاكمة، لما كانت الشريعة الإسلامية مماشية لجميع الحضارات البشرية.

***

السمة الثانية: تشريعاته معتمدة على الفطرة

إنّ الحياة البشريّة في تغيّر دائم، و تبدّل مطّرد، و رسوم و تقاليد تزول، و أصول و حاجات جديدة تطرأ، تحتاج إلى تلبيتها و رفعها، هذا من جانب.

و من جانب آخر إنّ الهدف من التقنين هو رفع حاجات المجتمع في المجالين الفردي و الاجتماعي.

ص: 403


1- سورة الحج: الآية 78.
2- سورة البقرة: الآية 185.
3- سورة البقرة: الآية 173.
4- سورة الأنعام: الآية 119.
5- سورة النحل: الآية 106.

و بملاحظة هذين الجانبين، يتّضح أنّ أيّ تقنين لن تكتب له الحياة، و لن يكتسي ثوب البقاء إلاّ إذا كان متكئا و معتمدا في تقنينه على مبدأ و مرتكز ثابت لا يتبدل و لا يتغير، و ليس هو إلاّ الفطرة الإنسانية التي لا تتبدل مع الأجيال، و عبر القرون، و في خضم التحوّلات الطارئة على الحضارات الإنسانية.

و قد تنبّه التقنين القرآني إلى هذا الأساس فبنى مثله العليا و تشريعاته، على وفق ما تقتضيه الفطرة الإنسانية و يتماشى معها.

يقول سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا، لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ، ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (1).

فجعل الملاك في ثبات تشريعه و بقائه، خلقة الإنسان و طبعه، الثابتين في جميع ألوان الحياة و متغيراتها، فعلى الرغم من أنّ الحضارة الصناعية غيّرت لون الحياة، و رفعت الحواجز بين الإنسان و أمانيه، و قدّمت إليه حياة ناعمة كانت ممتنعة في عصر الحجر و السيف و السهم و الحضارات البدائية - فمع ذلك كلّه - لم تصل يد التغيّر إلى طبع الإنسان و فطرته، بل هي ثابتة كما كانت مذ داس الإنسان هذه الكرة، و لأجل ذلك ترى أمورا مشتركة بين الإنسان الذي عاش في الحضارات البدائية، و الذي يعاصر الحضارات الصناعية، و هكذا بين الإنسان القطبي و الإستوائي. و في ضوء ذلك جاء القرآن بقوانين ثابتة في عالم، التحوّل و التبدّل حليفة و أليفه. و إليك نماذج من هذه القوانين:

1 - إنّ التفاوت بين الرجل و المرأة أمر طبيعي محسوس. فهما موجودان مختلفان اختلافا عضويا و روحيا، على رغم كل الدعايات السخيفة الكاذبة التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما. و لأجل ذلك اختلفت أحكام كلّ منهما في التشريع الإسلامي اختلافا يقتضيه طبع كلّ منهما. فإذا كان التشريع مطابقا لفطرتهما، و مسايرا لطبعهما، ظلّ ثابتا لا يتغير بمرور الزمان، لثبات الموضوع، المقتضي لثبات محموله.

ص: 404


1- سورة الروم: الآية 30.

و من جملة تلك الأحكام قوله سبحانه: اَلرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى اَلنِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اَللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ ، وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ (1). فهو تشريع مطابق للفطرة.

2 - التشريع القرآني حريص جدا على صيانة الأخلاق و حفظها من الضياع و الانحلال، و ممّا لا يشك فيه أن شرب الخمر و اللعب بالميسر، و الإباحة الجنسية، ضربات تقصم ظهر القيم و الأخلاق. و لأجل ذلك حرّمها الإسلام و جعل الحدود على مقترفيها. فالأحكام المتعلقة بها، من الأحكام الثابتة، لأنّ ضررها ثابت لا يتغير بتغير الزمان، فالخمر يزيل العقل، و الميسر ينبت العداوة في المجتمع، و الإباحة الجنسية تفسد النّسل.

يقول سبحانه: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدٰاوَةَ وَ اَلْبَغْضٰاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ عَنِ اَلصَّلاٰةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (2).

إنّ الميل الجنسي من الميول الطبيعية التي لا تنفك عن الإنسان من زمان مراهقته إلى فترات متقدمة من عمره، فلأجل ذلك دعا إلى النكاح و حذّر من الرهبانية.

قال سبحانه: وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيٰامىٰ مِنْكُمْ وَ اَلصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ ، إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ (3).

و قد ورد في السّنة: «من سنتي التزويج، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(4).

3 - إنّ الجهاد - بمعنى السعي في طريق الحياة - من الأمور الطبيعية المشتركة

ص: 405


1- سورة النساء: الآية 34.
2- سورة المائدة: الآية 91.
3- سورة النور: الآية 32.
4- مستدرك الوسائل: ج 14، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح، الحديث 15، الطبعة الحديثة.

بين الإنسان و الحيوان، و حتى النبات. فجذور الشجرة المشتملة على الشعيرات الدقيقة، تشقّ طريقها في أعماق التراب لتنمو الشجرة و تبقى حية. و هكذا الكريات الحمراء في الدم، تلاحق باستمرار الجراثيم و الميكروبات الطارئة على البدن و تقتلها لتصون البدن عن الأمراض.

فالإنسان المثالي الذي يتبنّى إيديولوجية إلهية، لا مناص له في نشر دعوته و بثّ أفكاره عن السعي وراء هدفه. و هذا ما يعبر عنه القرآن بالجهاد في سبيل اللّه، و قد جاءت الكلمة (الجهاد) ثمانية و عشرين مرة مع مشتقاتها في الكتاب العزيز، و هذا يعرب عن أنّ مسألة الجهاد ليس مجرّد مسألة قتل و قتال و سفك دماء و تدمير بيوت، و إنّما هو سعي في نشر الإيديولوجية الإلهية بأنواع الوسائل الممكنة، فإذا واجه الداعي، في طريق نشر دعوته، مقاومة من العدو و منعا من الطواغيت، فلا مناص له عندئذ من رفع المانع بالجهاد و القتال.

يقول سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذٰا دَعٰاكُمْ لِمٰا يُحْيِيكُمْ ، وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (1).

4 - إنّ الميل إلى النظافة و الطهارة من الأمور الفطرية، و كل إنسان يشمئزّ من القذارة و الوساخة. و التشريع القرآني دعا إلى مقتضى الفطرة في هذا المجال فقال سبحانه: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا... مٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ، وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ (2).

السمة الثالثة: التقنين الوسط بين المادية و الروحية

إنّ الناس قبل ظهور الإسلام كانوا على قسمين:

قسم لا يهمهم إلاّ الحظوظ المادية، كاليهود و المشركين.

ص: 406


1- سورة الأنفال: الآية 24.
2- سورة المائدة: الآية 6.

و قسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة و ترك الدنيا و ما فيها من اللذات الجسمانية، كالنصارى و الصابئين و طوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات.

فجاء التقنين القرآني و جمع بين الحقّين: حقّ الروح و حقّ الجسد، و لعلّه إلى ذلك يشير قوله سبحانه: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (1). فعدّل الغرائز و الميول تعديلا يضمن سعادة الإنسان.

فدعا إلى الالتذاذ بملاذ الحياة و قال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّٰهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ اَلطَّيِّبٰاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ (2).

و في الوقت نفسه، دعا إلى النكاح و حسن معاشرة النساء و قال:

وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيٰامىٰ مِنْكُمْ وَ اَلصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ (3) و قال:

وَ عٰاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (4) .

و دعا إلى الضرب في الأرض سعيا لطلب الرزق، فقال: هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنٰاكِبِهٰا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ اَلنُّشُورُ (5).

و مع ذلك كلّه فلم يفسح له المجال للالتذاذ المطلق بل حدده في مجال إعمال الغريزة الجنسية و جمع الثروة و غير ذلك من ملاذ الحياة، بحدود و قيود. فمنع الفجور و الزّنا، و أكل المال بالباطل، و أخذ الربا، و غصب الأموال، و السرقة فالقرآن دعا إلى طلب الدنيا في نفس الوقت الذي دعا فيه إلى طلب الآخرة، فقال: وَ اِبْتَغِ فِيمٰا آتٰاكَ اَللّٰهُ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ ، وَ لاٰ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيٰا (6).

ص: 407


1- سورة البقرة: الآية 143.
2- سورة الأعراف: الآية 32.
3- سورة النور: الآية 32.
4- سورة النساء: الآية 19.
5- سورة الملك: الآية 15.
6- سورة القصص: الآية 77.
السمة الرابعة: رعاية الموضوعية في التقنين

التقنين القرآني يتبنّى الموضوعية في تشريعه و لا يتبنّى ترضية المجتمع و أهواء بني البشر، و بما أنّ الإنسان موجود مركّب من جسم و روح، فالتقنين القرآني يتبنّى سلامة الجسم و الروح معا، فما كان مضرّا بواحد منهما، يحرّمه، و إن كانت تلبية رغبات المجتمع على خلافه.

فحرّم الإسلام أكل الخنزير و شرب الخمر، و الدم، و كل خبيث، لأنّ كل ذلك ينافي صحة الإنسان في بدنه و عقله. كما حرّم الكذب، و التهمة، و النمامية، و الغيبة، و غير ذلك من رذائل الأخلاق، لأنّ في ذلك ضرر بالإنسان بجسمه و روحه، و فرده و مجتمعه. يقول سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ اَلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ اَلظَّنِّ إِثْمٌ وَ لاٰ تَجَسَّسُوا وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً (1).

السمة الخامسة: ضمان الإجراء

إنّ العصر الحديث يواجه في سبيل تطبيق قوانينه الوضعية، مشكلة كبرى، ناتجة عن فقدان قوانينه للضمانات الكفيلة بتطبيقها بنحو كامل، و ليس لديه غير عقوبات جزائية، من المعلوم أنّها لا تكفي في تطبيقها، ما لم يكن هناك وازع داخلي يمنع من التخلّف عنها و لأجل ذلك يواجه المجتمع البشري مشكلة انعدام الأمن الاجتماعي بألوانه و صوره.

و أمّا قوانين الإسلام التي نادى بها القرآن، ففيها الدوافع و الحوافز المفقودة في غيرها من القوانين، و ذلك لأسباب:

الأول - المجتمع الإسلامي يرى القانون مظهرا لإرادة اللّه سبحانه، و أنّ مخالفته، مخالفة لدعوة قدرة كبرى لا يمكن الفرار منها، و أنّ العقوبة لفي المرصاد

ص: 408


1- سورة الحجرات: الآية 12.

للمجرم، لا مفرّ له منها، و ستناله يد العدالة الإلهية، و إن كان غائبا عن أبصار الناس، مختليا بجرمه في أعماق مغارات الأرض.

إنّ الكون كلّه في نظر المؤمن المسلم عيون تراقب أفعاله، و أسماع تسمع كلامه، و تسجل كل ما يفعل و يقترف:

يقول سبحانه: هٰذٰا كِتٰابُنٰا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ، إِنّٰا كُنّٰا نَسْتَنْسِخُ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (1).

و يقول سبحانه: مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (2).

و إنّما تتجلى تلك الحقيقة إذا كان المجتمع معتقدا بأنّ العقاب الأخروي، وجود أخروي لعمل المرء الدنيوي، و أنّ لكل عمل - خيرا كان أو شرا - وجودين متناسبين لظروفهما، فاكتناز الذهب و الفضة، و عدم إنفاقهما في سبيل اللّه، يتمثّل في الآخرة، نارا تكوي جباه الكانزين و ظهورهم و جنوبهم، و يقال لهم: هذا الذي يكوي أعضاءكم هو نفس الذهب و الفضة التي كنزتموها(3).

الثاني - إنّ التشريع القرآني ليس دين الرهبة فقط، بل هو دين الرّغبة أيضا، حيث وعد المطيعين، ثوابا عظيما قال سبحانه: مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا (4).

و قال سبحانه: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا... (5).

الثالث - قرن هذا الوازع الداخلي بوازع خارجي، فأوعد المتمردين عقوبات دنيوية من حدود و تعزيرات، فأكمل بذلك حوافز التطبيق.

ص: 409


1- سورة الجاثية: الآية 29.
2- سورة ق: الآية 18.
3- سورة التوبة: الآيتان 34 و 35.
4- سورة الأنعام: الآية 160.
5- سورة النساء: الآية 13.

بل إنّه ضمّ إلى تلك الحوافز أمرا رابعا و هو أنّه فرض الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على المجتمع الإسلامي، فرأى سكوت المسلم و المجتمع أمام المخطئ و المجرم خطأ و جرما، قال سبحانه: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (1).

و بذلك أصبح التشريع القرآني متكامل الجوانب في مجالي التسنين و التطبيق.

***

السمة السادسة: سعة القوانين

إنّ التشريع الإسلامي، في مختلف الأبواب، مشتمل على أصول و قواعد عامة تفي باستنباط الآلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري، على امتداد القرون و الأجيال، و هذه الثروة العلمية التي اختصّت بها الأمّة الإسلامية من بين سائر الأمم، أغنت الشريعة الإسلامية عن التمسّك بكل تشريع سواها.

قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام - في هذا المجال -: «إنّ اللّه تعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة إلاّ أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله، و جعل لكل شيء حدّا، و جعل عليه دليلا يدلّ عليه»(2).

و الدليل الواضح على ذلك، أنّ المسلمين عند ما بسطوا ظلال دولتهم على أكثر من نصف المعمورة، و أمم الأرض المختلفة العادات و التقاليد و الوقائع و الأحداث، رفعوا - رغم ذلك - صرح الحضارة الإسلامية، و أداروا المجتمع الإسلامي طيلة قرون، في ظل الكتاب و السّنّة، من غير أن يستعينوا بتشريعات أجنبية. و هذا العلامة الحلّي أحد عظماء فقهاء الإمامية في القرن الثامن، ألّف كتابا باسم «تحرير الأحكام الشرعية»، أودع فيه من الأحكام و القوانين ما يربو

ص: 410


1- سورة آل عمران: الآية 104.
2- الكافي، ج 1، ص 59.

على أربعين ألف مسألة، استنبطها من الكتاب و السنة(1).

و هذا صاحب الجواهر جاء في مشروعه الوحيد «جواهر الكلام»، بأضعاف ما جاء به العلاّمة الحلي.

و قد استعارت منّا الأمم الغريبة كثيرا من قوانيننا، و ليس ذلك إلاّ لكون التقنين الإسلامي ذا قواعد متموجة تستطيع أن تجيب على كل ما يطرأ.

و هنا نكتة نلفت نظر الباحث إليها، و هي أنّ العدالة هي الركيزة الأولى للقوانين الإسلامية في مجالي التشريع و التطبيق، فما سنّ الإسلام قانونا إلاّ على أساس العدالة، و ما أمر بتطبيقه و إجرائه إلاّ بشكل عادل.

يقول سبحانه في القضاء - الذي يرجع إلى مجال تطبيق القانون: وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (2).

و يقول سبحانه: وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ (3).

و يقول سبحانه: فَلاٰ تَتَّبِعُوا اَلْهَوىٰ أَنْ تَعْدِلُوا (4).

كما أنّه أمر بالعدالة في التبادل الاقتصادي و قال: أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ (5).

كما أمر بها في إدارة أموال اليتامى، فقال: وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتٰامىٰ بِالْقِسْطِ (6).

و بالجملة يجب أن يكون التشريع و التطبيق على هذا الأساس. قال

ص: 411


1- الذريعة، ج 4، ص 378.
2- سورة النساء: الآية 58.
3- سورة الأنعام: الآية 152.
4- سورة النساء: الآية 135.
5- سورة الأنعام: الآية 152.
6- سورة النساء: الآية 127.

سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ ، وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1).

و قد استعان القرآن في تطبيق تشريعه، ببسط روح الأخوة في المجتمع الإنساني، فأعلن الوحدة و الترابط بين المسلمين، حتى كأنّهما غصنان من دوحة مثمرة. و ليست الأخوة الإسلامية أخوّة شعارية كالتي يحملها أبناء الماركسية، باسم الرفيق و الزميل، فإنّها شعارات فارغة عن كل حقيقة تربطهم إليها، فلأجل ذلك ترى أجسامهم متقاربة و لكن قلوبهم متشتتة، بل هي أخوّة عميقة راسخة على أساس الإيمان باللّه و اليوم الآخر، و على أساس أنّهما يرجعان إلى أصل واحد في الخلقة و الولادة، و أنّ الميزات القومية و القبليّة و الطبقيّة كلّها سدود اجتماعية لا قيمة لها عند اللّه، إلاّ أن تكون سببا للتعارف و رفعا للتناكر؛ قال سبحانه: إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا (2).

و عند ذلك لا يفقد المجتمع الإسلامي حافز التطبيق و الإجراء، بل يجد من داخله ما يبعثه إلى الأمانة، دون الخيانة، و الأخوّة دون العداوة، و غير ذلك ممّا يدعو إلى وحدة المجتمع و ترابطه و تراصّه.

ص: 412


1- سورة النحل: الآية 90.
2- سورة الحجرات: الآية 13.

شواهد إعجاز القرآن

(6) الإخبار عن الغيب
اشارة

الغيب في اللغة العربية يقابل الحضور، و يضاد الشهود. قال سبحانه:

عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ (1) .

و في الحديث النبوي: «ليبلّغ الشاهد الغائب»(2).

و في كلام علي عليه السلام: «و نصحت لكم فلم تقبلوا، أ شهود كغيّاب، و عبيد كأرباب»(3).

و أصول المغيّبات في القرآن ترجع إلى ثلاثة:

الأول: الإخبار عن اللّه سبحانه، و أسمائه و صفاته، و الإخبار عن الملائكة و الجن و عالم البرزخ و المعاد و ما فيه من نعيم أو جحيم، و القرآن يموج بهذه المعاني الغيبية، التي لا يتعرّف عليها الحسّ ، و لا تقع في أفقه في هذا الظرف.

الثاني: الإخبار عن بعض النواميس السائدة على الكون، و قد كانت مغيّبة، عند نزول الوحي، عن إدراك الحواس المجرّدة عن الأدوات المخترعة في

ص: 413


1- سورة الرعد: الآية 9.
2- مسند أحمد، ج 4، ص 31 و 32. و مواضع كثيرة أخرى.
3- نهج البلاغة، الخطبة 97.

هذا الزمان، و هذا ما نبحث عنه في المقام التالي، و هو إعجاز القرآن من جهة المعارف الكونية المستكشفة حديثا.

الثالث: الإخبار عن أمم قد خلت من قبل و طويت صفحات حياتها، فأصبحوا ممّا لا يرى حتى آثار مساكنهم و مواطنهم، من دون مراجعة إلى كتب السير و التاريخ، أو سؤال الكهنة و المؤرخين، و هي القصص الواردة في القرآن الكريم، التي تشكّل قسما وافرا من الآيات القرآنية.

و هناك قسم آخر من هذا، و هو الإخبار عن شئون البشر في مستقبل أدواره و أطواره، و الإخبار بملاحم و فتن و أحداث ستقع في مستقبل الزمن، و هذا ما نتبناه في هذا المقام.

إنّ الإخبار عن المغيبات و عن شئون البشر في مستقبل أدواره و أطواره، و ما يلم به من ملاحم و فتن، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على كون القرآن كتابا سماويا أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه الذين ارتضاهم من البشر، لأنّه أخبر عن حوادث كان التكهّن و الفراسة يقتضيان خلافها، و صدق هو في جميع ما أخبر به، و لم يخالف الواقع في شيء منها. و نحن نأتي هنا بقسم من تلك الإخبارات، و لا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة، أو على كونها على غرار إخبار الكهنة و العرّافين و المنجمين. فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم. على أنّ دأبهم هو التعبير عن أحداث المستقبل برموز و كنايات و إشارات، حتى لا يظهر كذبهم عند التخلّف و يقبل كلامهم التأويل، و هذا بخلاف إخبار القرآن، فإنّه ينطق عن الأحداث بحماس و منطق قاطع، و إليك الأمثلة:

1 - التنبؤ بعجز البشر عن معارضة القرآن

قال سبحانه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1).

ص: 414


1- سورة الإسراء: الآية 88. و لاحظ البقرة: الآيتان 23-24، يونس: الآية 38، هود: الآية 13.

ترى في هذه الآية و نظائرها التنبؤ الواثق، بعجز الجن و الإنس عن معارضة القرآن عجزا أبديا، و لكن المستقبل - كما يقال - غيب، لا يملكه النبيّ و لا الوصيّ و لا شخص آخر غيرهما. غير أنّ النبي صار صادقا في تنبؤه هذا، و لا يزال صادقا إلى الحال. فعلى أيّ مصدر اعتمد هو في هذا التحدّي غير الإيحاء إليه، الذي صدر عنه أيضا في جميع تشريعاته ؟.

2 - التنبؤ بانتصار الروم على الفرس

قال سبحانه: الم * غُلِبَتِ اَلرُّومُ * فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ، لِلّٰهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اَللّٰهِ ، يَنْصُرُ مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ * وَعْدَ اَللّٰهِ ، لاٰ يُخْلِفُ اَللّٰهُ وَعْدَهُ ، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (1).

ينقل التاريخ أنّ دولة الروم - و كانت دولة مسيحية - انهزمت أمام دولة الفرس و هي وثنيّة، بعد حروب طاحنة بينهما سنة 614 م، فاغتمّ المسلمون لكونها هزيمة لدولة إلهية أمام دولة وثنية، و فرح المشركون، و قالوا للمسلمين بشماتة: إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب و قد غلبهم المجوس، و أنتم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل عليكم، فسنغلبكم كما غلبت الفرس الروم.

فعند ذاك نزلت هذه الآيات الكريمات تنبئ بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار لهم في بضع سنين، و هي مدّة تتراوح بين ثلاث سنوات و تسع. تنبّأ بذلك، و كانت المقدمات و الأسباب على خلافه، لأنّ الحروب الطاحنة أنهكت الدولة الرومانية حتى غزيت في عقر دارها، كما يدلّ عليه قوله: فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ . و لأنّ دولة الفرس كانت دولة قوية، منيعة، و زادها الانتصار الأخير قوة و منعة. و لكن اللّه تعالى أنجز وعده، و حقّق تنبؤ القرآن، في بضع سنين، فانتصر الروم سنة 624 م، الموافقة للسنة الثانية للهجرة.

ص: 415


1- سورة الروم: الآيات 1-6.

و في الآية تنبؤ آخر، و هو البشارة بأنّ المسلمين سيفرحون في الوقت الذي ينتصر الروم فيه، و قد صدق اللّه وعده حيث وقع في ذلك الظرف ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى، فتحققت النبوءتان في وقت واحد.

3 - التنبؤ بصيانة النبي عن أذى الناس

قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ ، بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ ، وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ ، إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكٰافِرِينَ (1).

روى الفريقان(2) أنّ الآية نزلت يوم الغدير حينما أمر النبي بنصب علي عليه السلام إماما للناس، و كان على حذر منهم في تنصيب ابن عمه و صهره للخلافة، فأخبر اللّه سبحانه بأنّه سيعصمه من أذى الناس و شرّهم، و لا يتمكنون من اغتياله، و تحقّق نبأ القرآن، و صدّق الخبر الخبر.

4 - التنبؤ بالقضاء على العدو قبل لقائه

قال سبحانه: وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللّٰهُ إِحْدَى اَلطّٰائِفَتَيْنِ أَنَّهٰا لَكُمْ ، وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذٰاتِ اَلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، وَ يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ اَلْكٰافِرِينَ * لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبٰاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ (3).

نزلت الآيتان قبل لقاء المسلمين العدو في ساحة المعركة، فأخبر سبحانه عن هزيمة المشركين و استئصال شأفتهم، و محق قوتهم، كما يدلّ عليه قوله: وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ اَلْكٰافِرِينَ .. .

و ليس تنبؤ القرآن بالقضاء على مشركي قريش في معركة بدر منحصرا بهذه الآية، بل تنبّأ به في آية أخرى، و هي قوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ

ص: 416


1- سورة المائدة: الآية 67.
2- لاحظ الغدير، ج 1، ص 194-217. و وقاية المرام، ص 335.
3- سورة الأنفال: الآيتان 7 و 8.

مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ (1) .

فأخبر عن انهزام الكفار و فرارهم عن ساحة الحرب، و قد تحقق التنبؤ يوم بدر، و كانت المقدمات و الأسباب الطبيعية على خلاف النتيجة، حيث إنّ المشركين كانوا تامّي العدّة و وافري العدد، و لم يكن عدد المسلمين يتجاوز ثلث عدد المشركين، لكنّه سبحانه حقّق كلمته و صدّق نبأ نبيّه.

5 - التنبؤ بكثرة ذرّية النبي (صلى اللّه عليه و آله)

قال سبحانه: إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ اَلْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ * إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ (2).

الكوثر هو الخير الكثير، و المراد هنا، بقرينة قوله: إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ ، كثرة ذرّيته، و يؤيّده أنّ السورة إنّما نزلت ردّا على من عابه بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلا يبقون على مرّ الزمان.

قال الرازي: «فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلئ منهم، و لم يبق من بني أميّة أحد يعبأ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء، كالباقر، و الصادق، و الكاظم، و الرضا، و النفس الزكية، و أمثالهم»(3).

هذه نماذج من تنبؤات الذكر الحكيم، أتينا بها ليقف الباحث على معشار ما ورد فيه من التنبؤات الغيبية(4).

هذا و قد عرفت أنّ بعض العلماء، خصّوا إعجاز القرآن بإخباره عن الغيب، غير أنّه غير ظاهر بخصوصه، لأنّ القرآن يتحدّى حتى بسورة واحدة من سوره الكثيرة، و من المعلوم أنّه ليست كلّ سورة مشتملة على الأخبار الغيبية.

ص: 417


1- سورة القمر: الآيتان 44 و 45.
2- سورة الكوثر.
3- مفاتيح الغيب، ج 8، ص 498، ط مصر.
4- و من أراد استقصاء تنبؤات القرآن فليرجع إلى ما دوّنه الأستاذ دام ظلّه، في موسوعته «مفاهيم القرآن»، ج 3، ص 377-534.

شواهد إعجاز القرآن

(7) إخباره عن الظواهر و القوانين الكونية
اشارة

لا يصحّ لعارف أن يتجاهل أنّ القرآن كتاب الهداية و التزكية و ليس كتاب العلوم الطبيعية، يقول سبحانه: الم * ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ لاٰ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (1).

فالقرآن نزل لهداية الناس و سوقهم إلى الحياة السعيدة، و لم ينزل لتبيين القضايا الطبيعية، و القواعد الرياضية و ما يتعلق بعلم التشريح، و لا لتبيين خواصّ الأدوية و العقاقير.

و مع ذلك كلّه، ربما يتوقف غرض الهداية - خصوصا في الدراسات التوحيدية - على إظهار عظمة العالم و دقّة نظمه، و القوانين السائدة عليه، فعند ذلك يصحّ لهذا الكتاب الهادي، إلفات النظر إلى تلك المظاهر و القوانين الكونية.

و من هذا المنطلق، نرى أنّ القرآن أشار إلى رموز سائدة في الكون، و سنن جارية فيه، تتطابق مع القضايا العلمية الثابتة - حديثا - بالحسّ و اليقين. و قد كانت تلك السنن مجهولة على الأخصائيين في هذه العلوم، و أصحاب الحضارات في بلاد الفرس و الروم، و إنّما اهتدى إليها العلماء بعد قرون متطاولة من نزول القرآن و ذكره لها.

ص: 418


1- سورة البقرة: الآيتان 1 و 2.

روي عن ابن عباس أنّه قال: «القرآن يفسّره الزّمان»(1).

و هذه الكلمة سواء أصحّت نسبتها إلى تلميذ الإمام عليّ (عليه السلام) أو لا، كلمة قيمة، فإنّ مرور الزمان و تكامل الحضارات، يزيد من قدرة الإنسان على استجلاء حقائق القرآن و معارفه في شتى المجالات.

و ما هذا إلاّ لأنّ القرآن، كلام الموجود اللامتناهي، فيجب أن يكون في كلامه أثر من ذاته، فيكون ذا آفاق و أبعاد لا متناهية، و يجد الإنسان في كل جيل و عصر، الشيء الجديد فيه، الذي غفل عنه الأقدمون و لم يصلوا إليه. و على ذلك فلا غرو في أن نجتني نحن من هذه الدوحة المثمرة، ثمارا لم يجتنها الأوّلون، فما أعذب قول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، في جواب من سأله عن سبب غضاضة القرآن و طراوته في كل عصر، و أنّ النشر و الدراسة لا يزيده إلاّ طراوة: «إنّ اللّه تعالى، لم يجعله لزمان دون زمان و لا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، و عند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة»(2).

نعم، لسنا من المكثرين في تطبيق الآيات القرآنية على فروض متزلزلة، فإنّه دخول في المزالق الوعرة، فسوف تتبدل تلك الفروض بفروض أخرى، كما لسنا من المتحجرين الجامدين الذين يسدّون باب التعمّق و الإمعان في الآية. و إنّما نسلك في هذا طريقا وسطا، و هو أنّه إذا تمّت دلالة الآية على نظرية علمية، على ضوء القواعد الأدبية من دون تجشّم التأويل و التقدير، و ثبتت القضية العلمية ثبوتا واضحا حتى عدّت من القواعد الموضوعية، و دخلت في نطاق القوانين العلمية، كحركة الأرض و دورانها حول الشمس، و الزوجية في النباتات، و غير ذلك من الأصول العلمية التي أصبحت في عداد البديهيات، ففي هذه الظروف يصحّ لنا استنطاق الآية و القضاء بأنّها تشير إلى ذلك القانون العلمي الثابت.

و لأجل ذلك نأتي في المقام بنماذج في هذا المجال.

ص: 419


1- حكاه شيخنا المغفور له العلامة الشيخ محمد جواد مغنية عن مفتي موصل العبيدي في كتابه «النواة».
2- البرهان في تفسير القرآن، للعلاّمة البحراني، ج 1، ص 28.
1 - القرآن و الجاذبية العامة

اكتشف العالم الإنكليزي نيوتن (ت 1642 - م 1727) ناموس الجاذبية العامة، و أثبت به وجود جاذبية بين الكواكب و السيارات، و حتى في باطن الذرّة.

و قد كان لاكتشاف هذا القانون في القرن السابع عشر أهمية عظمى، حتى سمّي ذلك القرن باسم كاشفه.

و حاصل ما كشفه أنّ الأجرام السماوية كلّها متجاذبة فيما بينها و لا يشذّ جرم منها عن هذا الأثر العام، و أنّه كلما قربت الأجسام من بعضها، زادت الجاذبية بينها، و كلما تباعدت قلّت الجاذبية بينها. و على ضوء ذلك، فلو كان القانون السائد هو قانون الجاذبية فحسب، للزم صيرورة الكون كله كتلة واحدة، و لكن هناك قوّة أخرى مقابلة تحفظ النظام الكوني، هي قوة طاردة ناتجة عن الفرار من المركز. فالكواكب التي تدور حول الشمس، تتنازعها قوّتان، قوة جاذبة إلى الشمس، و قوة طاردة عنها، ناتجة من دورانها حولها. و في ظل تعادل هاتين القوتين، يأخذ النظام الكوني حالة الاستقرار، و تقع الأجرام الكبيرة في الفراغ من دون ماسك لها.

هذه خلاصة النظرية، بلفظها البسيط الواضح. و هي نظرية علمية محقّقة، هذا.

و بالرجوع إلى آيات الذكر الحكيم و التأمّل فيها، يظهر أنّ القرآن الكريم، قد أشار إلى هذا القانون الكوني، حيث يرى أنّ السموات مرفوعة في الفضاء بلا عمد مرئية، يقول تعالى: اَللّٰهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا، ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقٰاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (1).

إنّ الضمير في قوله: تَرَوْنَهٰا ، يرجع إلى عَمَدٍ لا إلى اَلسَّمٰاوٰاتِ ، لقرب الأول و بعد الثاني، و المعنى «اللّه الذي رفع السموات

ص: 420


1- سورة الرعد: الآية 2.

بعمد غير مرئية الخ». بمعنى: إنّ للسماوات عمدا، و لكن لا ترونها. فما هذه الأعمدة التي يثبتها القرآن للسماوات، و لا نراها؟. فإذا كانت الجاذبية العامة، و القوة المركزية الطاردة، عمد تمسك السموات، فتكون الآية ناظرة إلى تلكما القوتين المتعاندتين، و إنّما جاء القرآن بتعبير عام حتى يفهمه الإنسان في القرون الغابرة و الحاضرة، و لو أتى بما اكتشفه العلم الحديث، لرمي القرآن قبل الاكتشاف، بالخطإ و الزلل.

أضف إلى ذلك ما رواه الصدوق، عن أبيه، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: قلت له: «أخبرني عن قول اللّه تعالى:

... رَفَعَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا ». فقال: «سبحان اللّه، أ ليس يقول: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا ؟» فقلت:

«بلى». فقال: «ثمّ عمد، و لكن لا ترى»(1).

و روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «هذه النجوم التي في السماء مدائن، مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كل مدينة إلى عمود من نور». و في بعض النسخ: «عمودين من نور»(2).

و على كل تقدير فقد اختار القرآن في إفهام هذا الناموس تعبيرا صادقا في جميع الأدوار، مفهما أنّ هذه المعلّقات في الفضاء، تحملها أعمدة غير مرئية، ممسكة لها.

2 - القرآن و كروية الأرض

إنّ في القرآن الكريم آيات صريحة ناطقة بكروية الأرض، يعرفها من أمعن

ص: 421


1- البرهان، ج 22، ص 278.
2- سفينة البحار، مادة نجم، ج 2، ص 574. و راجع مجمع البحرين، مادة «كوكب»، و لعلّ المراد من عمودين، القوّتان الساريتان في الكون، الجاذبة و الطاردة.

فيها. يقول سبحانه: وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كٰانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ، مَشٰارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغٰارِبَهَا اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا (1)و يقول سبحانه: رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا وَ رَبُّ اَلْمَشٰارِقِ (2).

و يقول: فَلاٰ أُقْسِمُ بِرَبِّ اَلْمَشٰارِقِ وَ اَلْمَغٰارِبِ إِنّٰا لَقٰادِرُونَ (3).

و من المعلوم أنّ الأرض على فرض انبساطها لا تخلو من مشرق واحد و مغرب كذلك، و إنّما تتعدد مشارقها و مغاربها إذا كانت كروية، فتكون النقاط الشرقية، غربية لسكنة النقاط الشرقية، و النقاط الغربية، شرقية لسكنة النقاط الغربية.

روى زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول: صحبني رجل كان يمسي بالمغرب و يغلس بالفجر. و كنت أنا أصلي المغرب إذا غربت الشمس، و أصلي الفجر إذا استبان الفجر. فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ؟ فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا و تغرب عنا، و هي طالعة على قوم آخرين بعد. قال: فقلت: إنّما علينا أن نصلي إذا وجبت الشمس عنّا، و إذا طلع الفجر عندنا، ليس علينا إلاّ ذلك، و على أولئك أن يصلّوا إذا غربت الشمس، عنهم»(4).

و الظاهر من الرواية أنّ الإمام، و مصاحبه، كانا يتفقان على كروية الأرض، و أنّ الشمس تطلع على قوم قبل أن تطلع على قوم آخرين، و أنّها تغرب عن قوم قبل أن تغرب عن قوم آخرين، و لو كانت منبسطة لطلعت على الجميع مرة واحدة، و غربت عن الجميع كذلك غير أنّ الإمام عليه السلام يعتقد بأنّ على كل مكلّف رعاية مشرقه و مغربه، و طلوع الشمس عليه و غروبها عنه، و ليس

ص: 422


1- سورة الأعراف: الآية 137.
2- سورة الصافات: الآية 5.
3- سورة المعارج: الآية 40.
4- الوسائل، ج 3، كتاب الصلاة، الباب 13، أبواب المواقيت، الحديث 22.

طلوعها على قوم و غروبها عنهم ميزانا له، و لأجل ذلك جاء في بعض الأحاديث:

«إنّما عليك مشرقك و مغربك»(1).

نعم، كان للفلاسفة الأقدمين نظريات شتى حول شكل الأرض و كرويتها، و كان الاعتقاد بكرويتها منتشرا عند ظهور نظرية بطلميوس، غير أنها لم تكن معروفة في الحجاز، و إنّما كان تفكير الأميين من العرب حول الأرض، تفكير إنسان بدوي يعيش في الصحراء القاحلة. فالإجهار بهذه الحقيقة في تلك البيئة البعيدة عن الحضارة، لا يصحّ إلاّ إذا اعتمد المخبر، على منطق الوحي.

3 - القرآن و العالم الجديد

من الأسرار التي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرنا، وجود العالم الذي اكتشفه البحّار كريستوف كولمبوس.

قال سبحانه: رَبُّ اَلْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ اَلْمَغْرِبَيْنِ (2).

و قد شغلت الآية بال المفسّرين، ففسّروها تارة بمشرقي الشمس و القمر، و مغربيهما، و أخرى بمشرقي الصيف و الشتاء، و مغربيهما. و لكن الظاهر هو الإشارة إلى وجود قارة أخرى، على الوجه الآخر من الكرة الأرضية، يلازم شروق الشمس عليها، غروبها عنّا، و ذلك لقوله سبحانه - حاكيا عن المجرمين يوم القيامة -: حَتّٰى إِذٰا جٰاءَنٰا قٰالَ يٰا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ (3). فالظاهر أنّ المشرقين في الآيتين متحدّان أوّلا، و أنّ البعد بينهما أطول مسافة محسوسة للمتمني ثانيا. و ليست المسافة بين مشرقي الشمس و القمر أو مشرقي الصيف و الشتاء أطول مسافة محسوسة، فلا بدّ من أن يكون المراد منها

ص: 423


1- الوسائل، ج 3، كتاب الصلاة، الباب 20، من أبواب المواقيت، الحديث 2.
2- سورة الرحمن: الآية 17.
3- سورة الزخرف: الآية 38.

المسافة التي ما بين المشرق و المغرب. و معنى ذلك أن يكون المغرب مشرقا لجزء آخر من الكرة الأرضية، ليصحّ هذا التعبير. فالآية تدلّ على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلاّ بعد مئات السنين من نزول القرآن، كما أنّ إفراد المشرق و المغرب في قوله سبحانه: وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ (1)، لأجل الإشارة إلى المشرق و المغرب المحسوسين لمن يعيش على هذا الوجه من الأرض.

و بالجملة، إنّ تفسير المشرقين بالمعنى الأول و الثاني، بعيد عن الأفهام العرفية، و إنّما يختصّ التفسير بهما بالفلكيين الأخصائين في هذا الفن، و القرآن ينقله عن المجرم المتمني يوم القيامة.

***

4 - القرآن و حركة الأجرام السماوية

إنّ القرآن المجيد يخبر عن حركة الأجرام السماوية المحدودة، يقول سبحانه: لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهٰا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ، وَ لاَ اَللَّيْلُ سٰابِقُ اَلنَّهٰارِ، وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (2).

و الفلك في اللغة العربية - كما صرّح به الراغب في مفرداته - مجرى الكواكب، و تسميته بذلك لكونه كالفلك(3).

و على ذلك فالفلك ليس بجسم و إنّما هو مدار النجوم.

و قد شبّه سبحانه حركة الشمس و القمر، بحركة الأسماك في البحار حيث يقول: يَسْبَحُونَ و السّبح: المرّ السريع في الماء، و استعير لمرّ النجوم في الفلك(4).

ص: 424


1- سورة البقرة: الآية 115.
2- سورة يس: الآية 40.
3- مفردات الراغب، مادة فلك، ص 385.
4- مفردات الراغب، مادة سبح، ص 221.

و لعلّ قوله سبحانه: وَ اَلسّٰابِحٰاتِ سَبْحاً (1)، إشارة إلى سباحة النجوم في الفضاء.

يقول سبحانه: وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى (2).

و التحديد بقوله: لِأَجَلٍ مُسَمًّى سببه أنّ حركتيهما محدودتان إلى أمد معين، فإذا جاء أمر اللّه، ينطوي النظام الكوني و يتبدل. و ذلك عند ما يخطو العالم خطوته نحو الكهولة، و تستوي فيه الحرارة و البرودة. ففي ذلك الظرف تنتهي صفحة الحياة، و يطوى كتابها(3).

و ما ذكرنا لا يخالف ما ثبت من أنّ الشمس مركز للكواكب، فإنّ استقرارها استقرار نسبي بالنسبة إلى سائر المجموعة الشمسية، و لكن هذه المنظومة بعامّتها متحركة، في حركة داخل مجرّتها.

5 - القرآن و حركة الأرض

إنّ الهيئة اليونانية كانت تصرّ على سكون الأرض، و مركزيّتها بمعنى أنّ الشمس و جميع الكواكب و النجوم تدور حولها. و أوّل من خالف هذه النظرية - في الغرب - و كشف حركة الأرض حول نفسها و حول الشمس، العالم الپولوني «كوپرنيك» (1473 - 1534 م). و قد أيّده العالم الايطالي «جاليلو» (1554-1624 م) بعد أن صنع لنفسه منظارا فلكيّا صغيرا ليشهد به حركة الأرض بالدقّة و الحسّ . و لكنّه لقي بسبب تأييده هذا معارضة الكنيسة و ملاحقتها حتى حكم عليه بالاعدام بعد ما سجن طويلا. و لأجل ذلك كان العلماء يكتمون اكتشافاتهم خوفا من الكنيسة الرومية.

ص: 425


1- سورة النازعات: الآية 3.
2- سورة الرعد: الآية 2.
3- لاحظ برهان حدوث المادة الذي أشرنا إليه في الجزء الأول من هذا الكتاب، ص 73، الطبعة الأولى.

و لكن القرآن أشار إلى حركة الأرض بعبارات لم تتضح إلاّ بعد قرون من الزمن، و قد جاء ذلك في ضمن آيتين:

الأولى - قوله تعالى: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً (1) فقد استعار للأرض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع و يهزّ بهدوء لينام فيه مستريحا هادئا.

و كذلك الأرض، مهد للبشر، و ملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية و الانتقالية. فكما أنّ الغاية من حركة المهد رعاية الطفل و طمأنينته، فكذلك الأرض، فإنّ الغاية من حركتها اليومية و السنوية، تربية الإنسان، بل و جميع ما عليها من الحيوان و النبات و الجماد. و إنّما أشار إلى الحركة و لم يصرّح بها، لأنّها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها، حتى أنّه كان يعدّ من الضروريات التي لا تقبل التشكيك.

الثانية - قوله تعالى: وَ تَرَى اَلْجِبٰالَ تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً ، وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحٰابِ صُنْعَ اَللّٰهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَفْعَلُونَ (2).

إنّ بعض المفسّرين يخصّ الآية بيوم القيامة، لأنّها وردت في سياق آياتها، فقد ورد قبلها: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اَللّٰهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دٰاخِرِينَ (3).

و يلاحظ عليه أنّ الآية المتقدمة على هذه الآية، تبحث عن الحياة الدنيوية، يقول سبحانه: أَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهٰارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (4). فتوسّط الآية الراجعة إلى يوم القيامة، لا يمنع صلة الآية بالحياة الدنيوية، إذا كان هناك صلة و تناسب بين الآيات، هذا.

مع أنّ القرائن الموجودة في نفس الآية تؤيّد خلافه، أمّا أوّلا: فإنّه سبحانه يقول: تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً ، مع أنّ يوم القيامة، يوم ظهور الحقائق و كشف

ص: 426


1- سورة طه: الآية 53.
2- سورة النمل: الآية 88.
3- سورة النمل: الآية 87.
4- سورة النمل: الآية 86.

البواطن، و ليس هناك ظنّ و حسبان، بل كلّ ما هنالك إذعان و يقين، يقول سبحانه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ (1).

و ثانيا: فإنّ الآية تبحث عن الجبال الموجودة، مع أنّ يوم القيامة يوم تبدّل النظام و تغيّره، يقول سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ (2).

و يقول سبحانه: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبٰالِ ، فَقُلْ يَنْسِفُهٰا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهٰا قٰاعاً صَفْصَفاً (3).

و يقول سبحانه: وَ إِذَا اَلْجِبٰالُ سُيِّرَتْ (4).

و يقول سبحانه: وَ تَكُونُ اَلْجِبٰالُ كَالْعِهْنِ اَلْمَنْفُوشِ (5).

فالكل يدلّ على زوال النظام بما فيه الجبال، فكيف تكون الآية ناظرة إلى يوم القيامة ؟.

و ثالثا: إنّ قوله سبحانه في ذيل الآية: صُنْعَ اَللّٰهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ ، دليل على أنّه لا صلة للآية بالقيامة، إذ الصنع يناسب حياتنا الدنيوية، و أمّا يوم القيامة، فهو يوم إبادة نظام الحياة، فالجبال تتلاشى و تتمزق، فلا يناسبه التركيز على إتقان الصنع.

و رابعا: فإنّ قوله في ذيل الآية: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَفْعَلُونَ ، صريح في أنّ الآية راجعة إلى الحياة الدنيوية، و لو كانت ناظرة إلى يوم القيامة، لكان المناسب أن يقول: «خبير بما فعلتم».

ص: 427


1- سورة ق: الآية 22.
2- سورة إبراهيم: الآية 48.
3- سورة طه: الآيتان 105 و 106.
4- سورة التكوير: الآية 3.
5- سورة القارعة: الآية 5.

فهذه القرائن تؤيّد كون الآية راجعة إلى حياتنا الدنيوية.

و أمّا دلالتها على حركة الأرض، فلا شكّ أنّ حركة الجبال متّصلة بحركة الأرض و تابعة لها، لرسوخها فيها، و تشعّب أصولها في بواطنها، فحركتها تلازم حركة الأرض. و معنى الآية: إنّ الأرض و الجبال و ما عليها و ما فيها، في حركة مستمرة كحركة السحاب. و أمّا تخصيص الجبال بالذكر، فلأجل ما فيها من الوزن و الثقل و الارتفاع، و قدرة اللّه تسيرها كالسحاب. و القرآن ذكر الجبال لعظمتها و ثقلها، ليبرهن بها على أنّ قدرة اللّه نافذة في كل موجود، و وسعت كل شيء.

و أمّا تشبيه حركتها بحركة السّحاب، فلإفهام أمرين:

1 - كما أنّ حركة السّحاب تكون بسكون و هدوء، بدون صخب و اضطراب، فكذلك حركة الجبال تتحقق بسكون و طمأنينة.

2 - سرعة الحركة، حيث تتحرك كتحرك السحاب حين تهب الريح. فإنّ حركة السّحب عند هبوب الرياح و العواصف حركة سريعة، و لأجل ذلك يشبهون مرور الفرص بمرّ السحاب، كما يقولون: «الفرصة تمرّ مرّ السحاب».

6 - القرآن و زوجية الموجودات

إنّ القرآن يدعو المسلمين عامة إلى التدبّر في الآيات الكونية، و يجعل ذلك علامة للإيمان، و يقول:

وَ اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهٰا صُمًّا وَ عُمْيٰاناً (1) .

و يقول سبحانه: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً، سُبْحٰانَكَ فَقِنٰا عَذٰابَ اَلنّٰارِ (2).

ص: 428


1- سورة الفرقان: الآية 73.
2- سورة آل عمران: الآية 191.

فالتدبّر في الآيات الكونية، و كشف السنن السائدة عليها، آية الإيمان، و رمز العبودية.

و على ذلك، فهلمّ نتدبر في آي الذّكر الحكيم التي تصف النباتات بالزوجية.

يقول سبحانه: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (1).

و في آية أخرى يعمّم وصف الزوجية إلى جميع الموجودات، و يقول: وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (2).

و قد شغلت الآيتان، و ما ورد في مضمونهما، بال المفسّرين. ففسّروا الزوجية في النباتات بالأنواع و الأصناف المتشابهة. قال الراغب: «قوله:

أَزْوٰاجاً مِنْ نَبٰاتٍ شَتّٰى أي أنواعا متشابهة».

كما فسّروا الزوجية في الموجودات بتركّبها من جوهر و عرض، أو مادة و صورة، قال الراغب: «قوله: مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ تنبيه على أنّ الأشياء كلّها مركبة من جوهر و عرض، و مادة و صورة، و أن لا شيء يتعرى من تركيب يقتضي كونه مصنوعا، و أنّه لا بدّ له من صانع، تنبيها على أنّه تعالى هو الفرد، فبيّن أنّ كلّ ما في العالم زوج، حيث إنّ له ضدا، أو مثلا ما، أو تركيبا ما، بل لا ينفك بوجه من تركيب و إنّما ذكر هاهنا زوجين، تنبيها على أنّ الشيء و إن لم يكن له ضدّ و لا مثل، فإنّه لا ينفك من تركيب جوهر و عرض، و ذلك زوجان»(3).

و ما ذكره الراغب هو عصارة ما في التفسير، فترى أنّ تفسيرهم لا يخرج عن

ص: 429


1- سورة الشعراء: الآية 7. و بهذا المضمون طه: الآية 53، و لقمان: الآية 10، و الشعراء: الآية 7، و يس: الآية 36، و ق: الآية 7، و الرحمن: الآية 53.
2- سورة الذاريات: الآية 49.
3- مفردات الراغب، مادة زوج، صفحة 216.

كون ملاك الزوجية، هو وجود الأصناف المتشابهة، أو التركب من جوهر و عرض، أو مادة و صورة، أو كون الشيء ذا ضد.

و كان في وسع هؤلاء المفسّرين، مكان التفكر فيما ورثوا من العلوم الطبيعية من الأمم السالفة، سلوك طريق التجربة و الاختبار في المختبرات. و لو سلكوا هذا الطريق لربما كشفوا عن الزوجية الحقيقة في عالم النبات.

لقد توصل أحد علماء النبات، و هو «لينه»، إلى تلك الحقيقة، فأعلن أنّ في كل فصل و نوع من أنواع النباتات ذكرا و أنثى، و أنّ إنتاج الأثمار رهن هذه الزوجية، و قد يستقلّ الزوجان عن بعضهما فيحصل اللقاح بينهما بواسطة الريح أو الحشرات كالنحل، و قد يجتمعان في نبتة واحدة، و زهرة واحدة، كما هو مفصّل في الكتب العلمية. و كان لإظهار هذه النظرية ردّ فعل من أصحاب الكنائس، فأصدروا بيانا حكموا فيه بضلالة كتبه.

نعم، كان سكنة المناطق الحارة ملمّين بوجود الزوجية في النخيل، فأدركوا أنّه إذا لم يلقّح و يطعّم بمادة الذّكورية، لا يثمر، و لكن الحالة العامة لم تتجاوز هذه المعرفة، حتى اكتشف ذاك الناموس العام.

و أمّا في جانب الزوجية في عامة الموجودات، فقد توصّل العلم إلى أنّ المادة وجود متكاثف من الذرّات، و كل ذرّة تشتمل على نواة مكوّنة من جسيمات تحمل شحنات كهربية موجبة تسمى البروتونات، و جسيمات محايدة لا تحمل شحنات كهربية باسم النيوترونات، و يدور حولها جسيمات تحمل شحنات كهربية سالبة تعرب بالإلكترونات و عددها يساوي عدد البروتونات لتتعادل الذرّة كهربيا. فذرّة تعرب بالإلكترونات و عددها يساوي عدد البروتونات لتتعادل الذرّة كهربيا. فذرّة الأوكسجين، مثلا، في نواتها ثمانية بروتونات يدور حولها ثمانية الكترونات.

و قد عبّر القرآن عن هذين الجزءين الحاملين للشحنتين المختلفتين، بالزوجية، حتى لا يقع موقع التكذيب و الردّ، إلى أن يكشف الزمان مغزى الآية و مفادها.

و بذلك يتجلّى إعجاز القرآن، حيث كشف عن هاتين الزوجيتين، قبل

ص: 430

قرون من الزمن، في عصر متخلّف، منحط، تنعدم فيه كل وسائل التجربة و الاختبار.

و العجب أنّ تلميذ النبي الأعظم، و ربيبه، و وصيّه، علي بن أبي طالب عليه السلام، يفسّر الآية بقوله: «مؤلّف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها، و بتأليفها على مؤلّفها، و ذلك قوله: وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ »(1).

7 - القرآن و الحياة في الأجرام السماوية

لا يزل التحقيق و البحث مستمرا للتيقن من وجود حياة حيوانية في غير الكرة الأرضية، بعد أن كشف العلم عن وجود مظاهر للحياة النباتية على بعض الكرات، هذا. مع أنّ القرآن الكريم قد أخبر عن وجود الدوابّ في السموات و الأرض بقوله: وَ مِنْ آيٰاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَثَّ فِيهِمٰا مِنْ دٰابَّةٍ ، وَ هُوَ عَلىٰ جَمْعِهِمْ إِذٰا يَشٰاءُ قَدِيرٌ (2).

و الدّابّة، عبارة عن كل ما يدبّ و يتحرك، و بحكم عود ضمير التثنية (فيهما) إلى السموات و الأرض، نستكشف أنّ الحياة ليست مقصورة على الكرة الأرضية، و أنّها توجد أيضا في السموات و الأجرام العلوية.

و إلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بقوله: «هذه النّجوم التي في السماء مدائن، مثل المدائن التي في الأرض»(3).

ص: 431


1- التوحيد، للصدوق. الباب 43، الحديث الثاني، ص 308. و قد نقله في ص 37، باب التوحيد و نفي التشبيه، و الحديث الثاني عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام.
2- سورة الشورى: الآية 29.
3- سفينة البحار، مادة نجم، ج 2، ص 574.
8 - القرآن و دور الجبال في إثبات القشرة الأرضية

القرآن الكريم يبحث عن أسرار الجبال، و الآثار المترتبة عليها في آيات شتّى، تكشف لنا دورها في ثبات القشرة الأرضية، و تأثيرها في جريان الأنهار الكبيرة.

قال سبحانه: وَ أَلْقىٰ فِي اَلْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهٰاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (1).

و قال سبحانه: وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ شٰامِخٰاتٍ وَ أَسْقَيْنٰاكُمْ مٰاءً فُرٰاتاً (2).

و قال سبحانه: أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهٰاداً * وَ اَلْجِبٰالَ أَوْتٰاداً (3).

و يستفاد من هذه الآيات أنّ للجبال دورا عظيما في الأمور التالية:

1 - الجبال هي الحافظة لقطعات القشرة الأرضية، تقيها من التفرق و التبعثر، كما أنّ الأوتاد و المسامير تمنع القطعات الخشبية عن الانفصال.

2 - الجبال تمنع المواد السائلة الملتهبة الواقعة تحت الأرض، من الانفجار و الاندلاع، حسب طاقات المواد، و لولاها لكانت الأرض على غير هذه الصورة، و لوجدتها إثر الضغط المستمر الناتج بسبب المواد الكامنة في جوفها، في ميدان دائم و اضطراب، و إذا كنا نجد في بعض المواضع جبالا تتدفق منها الحمم فما ذلك إلاّ لبلوغ الضغط مبلغا عظيما في الشدّة، يفوق قدرة الجبال، و تنوء عن تحمّله.

3 - وجود علاقة بين الجبال و توفير الماء، حيث عطف قوله: وَ أَسْقَيْنٰاكُمْ مٰاءً فُرٰاتاً ، على قوله: وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ شٰامِخٰاتٍ .

و ذلك لأنّ ارتفاع الجبال يوجب انخفاض الحرارة فيها، و قلّة تأثير الشمس

ص: 432


1- سورة النّحل: الآية 15 و لاحظ سورة لقمان: الآية 10.
2- سورة المرسلات: الآية 27.
3- سورة النبأ: الآيتان 6 و 7.

عليها. فعندئذ تجتمع عليها الثلوج ثم تذوب في الفصول الحارّة، و تجري المياه الذائبة على وجه الأرض بهدوء و سكون، لتتشكل بعدها الأنهار و الجداول، و يرتوي منها الإنسان، و يروي دوابّه و مزارعه، و لو لا الجبال لانجذبت المياه إلى باطن الأرض، و لما استفاد منها الإنسان إلاّ بالمكائن و الأدوات الصناعية المعقّدة، و ربما لا تكون الآبار مفيدة و لا تسدّ حاجة المزارع و عموم الناس من الماء.

هذا بعض ما يرجع إلى فوائد الجبال التي يذكرها القرآن الكريم، ألمعنا إليها بصورة مبسطة. و أساتذة الفيزياء، و التضاريس الأرضية، يفسّرون كون الجبال أوتادا للأرض بشكل علمي خاص، لا يقف عليه إلاّ المتخصص في تلك العلوم، و المطّلع على قواعدها، و لأجل ذلك اكتفينا بما ذكرنا(1).

و في الختام نؤكّد ما سبق في صدر البحث من أنّ القرآن ليس كتابا يعالج قضايا العلوم الطبيعية و الرياضية و الهندسية، و إنّما يتعرض لبعض القوانين السائدة على الكون لأجل الاهتداء بها إلى المعارف و الأصول العقلية، كالتعرف على اللّه و صفاته و أفعاله، و على ذلك فلا يصحّ لنا الإكثار من هذا النوع من الإعجاز، و تطبيق الآيات على القوانين الكونية، حتى و إن لم يكن ظاهرا فيها. فما يرى من الإسراف في بعض التفاسير في هذا المجال، ليس بمرضيّ عند من يقف في تفسير القرآن الكريم على باب النصّ من نفس الكتاب، على اختلاف وجوهه و أقسامه، أو الأثر المأثور من صاحب الشريعة و آله، صلوات اللّه عليه و عليهم أجمعين.

ص: 433


1- و من أراد التفصيل فليرجع إلى تفسير الأستاذ - دام ظلّه - على سورة الرعد: «القرآن و أسرار الخلقة». و هو فارسي، لم يترجم بعد.

شواهد إعجاز القرآن

(8) الأخلاق

نزل القرآن الكريم على قلب سيد المرسلين صلى اللّه عليه و آله، في عصر الظلمة و الجهل، حيث لم يكن من فضائل الأخلاق و مكارمها، ذكر و لا أثر إلاّ النذر اليسير. ففي ذاك الظرف جاء القرآن مستقصيا للأخلاق الفاضلة، و مبيّنا للأخلاق الرذيلة، فدعا إلى التزيّن بالأولى، و الانتهاء عن الثانية، و أقام بذلك أشرف مدرسة أخلاقية زاهرة، بجمل كلمه و جوامعها، و يكفي في ذلك قوله سبحانه:

إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ ، وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ، وَ اَلْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللّٰهِ إِذٰا عٰاهَدْتُمْ ، وَ لاٰ تَنْقُضُوا اَلْأَيْمٰانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهٰا، وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللّٰهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً، إِنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ (1) .

و في الآيات التالية اجتمعت أصول أخلاقية عشرة فيها حياة المجتمع، قال سبحانه: قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً، وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ مِنْ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ ، وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ ، وَ لاٰ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ ،

ص: 434


1- سورة النحل: الآيتان 90-91.

ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَ لاٰ تَقْرَبُوا مٰالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ، لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا، وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ ، وَ بِعَهْدِ اَللّٰهِ أَوْفُوا، ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَ لاٰ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (1) .

هذه نماذج من الأصول الأخلاقية الواردة في القرآن الكريم، و للتوسع مجال ليس هنا موضعه.

نعم، نرى أنّ التوراة أمرت بني إسرائيل بالحكم بالعدل لأقربائهم، و نهتهم عن الحقد على أبناء شعبهم، و عن السعي بالوشاية و شهادة الزور على أقربائهم و أن يغدر أحدهم بصاحبه، و لكنها شوّهت جمال هذه الأصول الأخلاقية، بتخصيص تعاليمها ببني إسرائيل، و بتخصيصها بالقريب و الشعب و الصاحب. و هذا بخلاف القرآن، فإنّه يوجّه خطاباته الأخلاقية إلى الناس أجمعين، من دون فرق بين قوم و قوم، و عنصر و آخر.

و أمّا الأناجيل الرائجة، فقد أفرطت في الدعوة إلى التصوّف البارد، حتى نهت عن ردع الظالمين بالانتصاف من الظالم، و قطع مادة الفساد، بل قالت:

«لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدّك الأيمن، فحوّل له الآخر أيضا * و من اراد أن يخاصمك و يأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضا!!»(2).

إنّ للأخلاق القرآنية صبغة خاصة و ميزة فريدة، فلا هي أخلاق يونانية تجعل الغاية من التزين بالأخلاق هي النفع المادي العائد من الإنسان، كالدعوة إلى إكرام الجار، حتى لا يسرق متاعا عند غيابك، أو يردع الطاغية الظالم عنها.

و لا هو أخلاق روحانية بحتة، لا ترى إلاّ ترقية الروح و إسعادها، و تنسى أنّ البشر مخلوق ممزوج من مادة و معنى، و جسم و روح، و لا تتحقق السعادة إلاّ

ص: 435


1- سورة الأنعام: الآيات 151-153.
2- لاحظ العهد الجديد، إنجيل متى، الأصحاح الخامس، الجملتان 39 و 40، ص 9، ط دار الكتاب المقدس.

بإعطاء كلّ حقّه. بل هي مثل أخلاقية وسطى، تضمن سعادة الإنسان في كلا الجانبين.

هذه ثمانية من الشواهد الدالّة بوضوح على أنّ القرآن ليس تقوّلا على الوحي، و لا نتاج فكر إنسان عادي منقطع عن التعليم الإلهي، و أنّ هذا الكتاب بهذه المزايا و السمات، يمتنع أن يقوم به إنسان مهما بلغ في العقل و الذكاء، أو فاق أقرانه و أماثله من بني البشر، إلاّ أن يكون متصلا بالوحي السماوي، مستمدا تعاليمه من خالق البشر.

ص: 436

المقام الثاني الاستدلال على نبوته بمعاجزه الأخر
اشارة

إنّ أوّل ما كان الأنبياء يطالبون به - كوثيقة تثبت صحّة مدعاهم، و صحة انتسابهم إلى اللّه تعالى - هو الإتيان بالبيّنات و المعجزات. و هذا هو القرآن يحدّثنا أنّ صالحا عليه السلام عند ما حذّر قومه من سخط اللّه، و أخبرهم بأنّه رسوله إليهم، طالبوه بالمعجزة قائلين: مٰا أَنْتَ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا، فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ (1).

و قد جرت سيرة الناس مع النبي الأكرم على ذلك، حيث طالبوه بالإتيان بالمعاجز في بدء دعوته، و كان الرسول العظيم يلبّي طلباتهم. و بالرغم من كثرة هذه المعاجز التي حفظها الحديث و التاريخ، أبى بعض من ناوئ الإسلام، إلاّ إنكارها، و الإصرار على أنّ نبيّ الإسلام لم يأت بمعجزة سوى القرآن.

إنّ هذه الشبهة حول معاجز الرسول الأكرم، نجمت من الكتّاب المسيحيين، تقليلا من أهمية الدعوة المحمّدية، و حطّا من شأن الرسول الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم.

فهذا هو «فندر» - القسيس الألماني - يقول في كتابه «ميزان الحق»: إنّ

ص: 437


1- سورة الشعراء: الآية 154. و قد وردت آيات بهذا المضمون في سور شتّى.

محمدا لم يأت بأية معجزة قط»(1). و تبعه سائر القساوسة، و لاكوه بين أشداقهم، و ما زالوا إلى يومنا هذا. و إليك فيما يأتي تفنيد هذه المزعمة بأدلة ثلاثة.

1 - المحاسبة العقلية.

2 - الرجوع إلى نفس القرآن.

3 - معاجز الرسل في الحديث و التاريخ.

الدليل الأول - المحاسبة العقلية

إنّ القرآن الكريم وصف الرسول الأعظم بأنّه خاتم الأنبياء، و أنّ رسالته خاتمة الرسالات، و كتابه خاتم الكتب(2).

و أخبر عن وقوع معاجز على أيدي الرسل و الأنبياء، فنقل في شأن موسى قوله: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسىٰ تِسْعَ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ (3).

كما تحدّث عن المسيح و دعوته، و بيّناته فقال: وَ رَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمٰا تَأْكُلُونَ وَ مٰا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (4).

و في ضوء هذا، هل يصحّ للقرآن الكريم أن يخبر بهذه المعاجز للأنبياء، و يصف محمدا بأنّه خاتمهم و آخرهم، و أفضلهم، ثم لا يكون له معجزة ؟ و إذا طلبوا منه إظهار الإعجاز، يتهرب أو يسكت، أو يقول ليس لي معجزة ؟.

ص: 438


1- ميزان الحق، ص 277. و قد كتبه حول حياة الرسول.
2- لاحظ مفاهيم القرآن، ج 3، ص 118-180.
3- سورة الإسراء: الآية 101.
4- سورة آل عمران: الآية 49.

و لو فرضنا أنّ النبي الأعظم لم يكن إلاّ نابغة من النوابغ الذين نهضوا لإصلاح أمّتهم، متسترا برداء النبوة، لما صحّ له أن يخبر عن معاجز الأنبياء السالفين، ثم يصف نفسه بالخاتمية، و دينه بالأكملية، و ينكص عن الإتيان بمثل معاجزهم عند الطلب منه.

فالمحاسبة العقلية تحكم ببطلان مزعمة القساوسة، بل تثبت أنّ النبي الأعظم قد أظهر معاجز عديدة لقومه عند ما طلبوا منه ذلك، كيف و القرآن يصفه بما لا يصف به أحدا من أنبيائه، و هو يقتضي عقلا أن يكون له أفضل ما أوتي سائر الأنبياء.

الدليل الثاني - القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن
اشارة

إنّ القرآن يخبر بصراحة عن وقوع معاجز على يدي الرسول الأمين، و فيما يلي نذكر الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال.

1 - انشقاق القمر

قال سبحانه: اِقْتَرَبَتِ اَلسّٰاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ * وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَ كَذَّبُوا وَ اِتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ، مُسْتَقِرٌّ * وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنَ اَلْأَنْبٰاءِ مٰا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (1).

أطبق أكثر المفسّرين على أنّ المشركين اجتمعوا إلى رسول اللّه، فقالوا: إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فلقتين فقال لهم رسول اللّه: إن فعلت تؤمنون ؟.

قالوا: نعم. و كان ليلة بدر، فسأل رسول اللّه ربّه أن يعطيه ما قالوا: فانشق القمر فلقتين، و رسول اللّه ينادي: «يا فلان، يا فلان، اشهدوا»(2).

ص: 439


1- سورة القمر: الآية 1-4.
2- مجمع البيان، ج 5، ص 186. تفسير الرازي، ج 7، ص 748، ط مصر في ثمانية أجزاء، الكشاف، ج 3، ص 181.

و معنى قوله: اِقْتَرَبَتِ اَلسّٰاعَةُ ، أنّ القيامة قد قربت، و قرب موعد وقوعها، و الكفار يتصورونها بعيدة، قال سبحانه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَ نَرٰاهُ قَرِيباً (1).

و قوله: وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ ، يدلّ على وقوع انشقاق القمر، لأنّه فعل ماض. و حمله على المستقبل، لانشقاق القمر يوم القيامة، تأويل بلا جهة.

و أمّا وجه الربط بين الجملتين (اقتراب الساعة و انشقاق القمر)، فهو أنّ انشقاقه من علامة نبوّة نبينا، و نبوّته و زمانه من أشراط الساعة، و قد أخبر القرآن عن تحقق هذين الشرطين (ظهور نبي الإسلام، و انشقاق القمر) و قال: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسّٰاعَةَ ، أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جٰاءَ أَشْرٰاطُهٰا (2).

و في الآية قرينتان على أنّ المراد، انشقاق القمر بوصف الإعجاز، لا انشقاقه يوم القيامة.

الأولى: قوله: وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ، فالمراد من الآية، الآية المعجزة، غير الآيات القرآنية، و ذلك لأنّه لو كان المراد هو الآيات القرآنية، لكان المناسب أن يقول: و إن سمعوا آية، أو نزلت عليهم آية. و على هذا تكون الآية المرئية هي انشقاق القمر الذي تقدم ذكره في الآية.

الثانية: أنّ قوله: وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ، يعيّن ظرف هذا الحدث، و أنّه هو هذا العالم المنتظم لا يوم القيامة. إذ لو كان راجعا إليها، لما كان لأحد أن يتفوّه بغير الحق، أو يصف فعل الحق بالسحر، لأنّ ذلك الظرف ظرف الختم على الأفواه، و استنطاق الأيدي و الأرجل، قال سبحانه:

اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلىٰ أَفْوٰاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (3) .

ص: 440


1- سورة المعارج: الآيتان 6-7.
2- سورة محمد: الآية 18.
3- سورة يس: الآية 65.

فهذا المقطع من الآية يدلّ على أنّ ظرف الانشقاق كان في زمن الرسول، و لأجل ذلك اتّخذ منه المشركون موقفا متعنتا مجادلا، و قال قائلهم: «سحركم ابن أبي كبشة»(1). و قد كان المشركون يدعون الرسول الأعظم به، و أبو كبشة من أجداد النبي من ناحية أمه.

2 - إسراء و معراج النبي صلى اللّه عليه و آله

إنّ إسراء النبي ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أحد المعاجز العظيمة التي أنعم اللّه سبحانه بها على نبيه، و أخبر عنها القرآن حيث قال:

سُبْحٰانَ اَلَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بٰارَكْنٰا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيٰاتِنٰا، إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (2) .

و قد تحقق عبور تلك المسافة الطويلة في زمن قصير، في ظرف لم يكن يتوفّر فيه شيء ممّا يتوفر الآن من وسائل النقل السريعة، و هذا هو الوجه في إعجازها.

إنّ القرآن الكريم يثبت هذا الإعجاز، في سورة أخرى أيضا، و يدعمها بقوة لا تبقي في النفس شكا بها، و يخبر أنّ رحلة النبي تجاوزت المسجد الأقصى (الوارد في الآية السابقة) إلى سدرة المنتهى(3).

3 - مباهلة النبي لأهل الكتاب

تعرّض القرآن لقضية المباهلة، في قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ ، فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ (4).

إنّ قصة المباهلة مذكورة في التفاسير(5)، و معجزة النبي - و هي حلول

ص: 441


1- الدرّ المنثور، ج 6، ص 133، و قد جمع كلمات الصحابة حول شقّ القمر.
2- سورة الإسراء: الآية 1.
3- لاحظ سورة النجم: الآيات 5-18.
4- سورة آل عمران: الآية 61.
5- تقدمت إليها الإشارة في مباحث النبوة العامة.

العذاب على نصارى نجران - و إن لم تتحقق بسبب انصرافهم عن المباهلة، إلاّ أنّ ذهاب الرسول إلى المباهلة و استعداده لذلك من جانب، و انسحاب نصارى نجران من خوض معركة التباهل من جانب آخر، يكشفان عن أنّ حلول العذاب - بدعاء الرسول - كان حتميا لو تباهلوا، فقد أدركوا الخطر و أحسّوا بعواقب الموقف، فتنازلوا و تصالحوا.

4 - طلب المعاجز من النبي (ص) الواحدة تلو الأخرى

إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ النبي كان كلما أتى قومه بآية، طالبوه بآية أخرى، و كانوا يصرّون على أن تكون مثل معاجز السابقين، و هذا يدلّ على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن حتى جاء الطلب منهم بعد الطلب.

قال سبحانه: وَ إِذٰا جٰاءَتْهُمْ آيَةٌ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّٰى نُؤْتىٰ مِثْلَ مٰا أُوتِيَ رُسُلُ اَللّٰهِ (1) و ليس المراد من آيَةٌ نفس القرآن، و لا الآية القرآنية، لوجهين:

1 - أنّها جاءت بصورة النكرة، و هذا يكشف عن نوع خاص من الآيات.

2 - لو كان المقصود هو القرآن أو الآية القرآنية، كان المناسب إلقاء الكلام بنحو آخر بأن يقول بدل المجيء، «النزول»، فيقول: «إذا نزلت عليهم آية». و على هذا فلفظ «آية»، فيها، نظيرها في قوله سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ * وَ لَوْ جٰاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ (2).

و في قوله سبحانه حاكيا عن المسيح عليه السلام: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّٰهِ ... الآية(3).

ص: 442


1- سورة الأنعام: الآية 124.
2- سورة يونس: الآيتان 96 و 97.
3- سورة آل عمران: الآية 49.

و أمّا علّة اختلاف الأنبياء في أصناف المعاجز، فقد قدمنا ذكره في صدر هذا الفصل.

5 - وصف معاجز النبي بالسحر

إنّ هناك آيات تصرّح بأنّ المشركين كلما رأوا من الرسول آية، وصفوها بالسحر. قال سبحانه: وَ إِذٰا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَ قٰالُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ (1).

إنّ تنكير آيَةً ، و استعمال رَأَوْا ، دليل على أنّ المقصود من الآية، غير القرآن من المعاجز، و إلاّ لكان المناسب تعريف الآية، و وصفها بالسماع أو النزول.

و هذه الآية نظير قوله سبحانه: وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاٰ يُؤْمِنُوا بِهٰا.. (2).

6 - النبيّ الأعظم و بيّناته

يشير القرآن الكريم إلى أنّ النبيّ الأعظم بعث مع البينات، و المراد منها المعاجز، كما تشهد به الآيات الأخر.

قال سبحانه: كَيْفَ يَهْدِي اَللّٰهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جٰاءَهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ ، وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ (3).

و «البيّنات» جمع «البيّنة»، و هي الدليل على الشيء، و ربما يحتمل أنّ المراد هو القرآن، أو البشائر الواردة في الكتب النازلة قبله حول النبي، و لكن

ص: 443


1- سورة الصافات: الآيتان 14 و 15.
2- سورة الأنعام: الآية 25.
3- سورة آل عمران: الآية 86.

ملاحظة الآيات الأخر التي استعملت فيها هذه الكلمة، تؤيّد أنّ المراد المعاجز و الأعمال الخارقة للعادة.

قال سبحانه: وَ آتَيْنٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنٰاتِ (1).

و قال سبحانه: ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ (2).

و قال سبحانه: وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ (3).

و قال سبحانه: وَ لَقَدْ جٰاءَتْهُمْ رُسُلُنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ (4).

إلى غير ذلك ممّا ورد فيه لفظ البينات، و أريد منه الأفعال الخارقة للعادة.

و الظاهر أنّ المراد منه في الآية السابقة هو نظائر تلك المعاجز.

7 - إخبار النبي عن الغيب، كالمسيح

إنّ القرآن المجيد يعدّ إخبار المسيح عليه السلام، عن المغيبات، من معاجزه، في قوله - حاكيا عنه -: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمٰا تَأْكُلُونَ وَ مٰا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (5).

فإذا كان الإخبار عن الغيب، آية معجزة للمسيح، فقد أخبر النبي عن المغيّبات بكتابه الذي جاء به، كما تقدم في الشواهد على إعجاز الكتاب.

الدليل الثالث - معاجز النبيّ في الحديث و التاريخ
اشارة

إنّ كتب الحديث و التاريخ، زاخرة بمعاجز النبي، التي لا يمكن نقل

ص: 444


1- سورة البقرة: الآية 87.
2- سورة النساء: الآية 153.
3- سورة المائدة: الآية 110.
4- سورة المائدة: الآية 32.
5- سورة آل عمران: الآية 49.

معشارها في هذا الكتاب. و قد قام بعض المحدّثين، بتآليف مفردة في هذا المجال، أجمعها فيه ما ألّفه الشيخ الحرّ العاملي (م 1104)، و أسماه ب «إثبات الهداة بالنصوص و المعجزات»، و طبع في ثلاث مجلدات كبار. و قد جمع فيها معاجز النبي من كتب الشيعة و السنّة، جزاه اللّه عن الإسلام. خير الجزاء.

مقارنة بين معاجز النبي و غيره من الأنبياء

إنّ أحاديث المسلمين حول معاجز النبي، تمتاز على روايات اليهود و النصارى حول معاجز أنبيائهم من ناحيتين:

الأولى: قلّة الفترة الزمنية بيننا و بين حوادث العهد النبوي، و كثرتها بيننا و بين حوادث عهود النبيّين موسى و عيسى عليهما السلام، و غيرهما، و هذا يوجب الاطمئنان إلى روايات المسلمين أكثر من روايات غيرهم.

الثانية: تواتر الروايات الإسلامية حول معاجز النبي الأكرم و عدمه في الجانب الآخر، فإنّها تنتهي إلى أفراد قلائل.

و من أراد الوقوف على معاجز النبي فعليه المراجعة إلى الكتاب الذي أشرنا إليه حتى تتضح مصادر ما ذكره، و يتبين تواترها إجمالا، و إن لم يكن بعضها متواترا لفظا(1).

ص: 445


1- التواتر ينقسم إلى لفظي و معنوي و إجمالي، و الفرق بينهما واضح لمن كان له إلمام بعلم الدراية، و حاصله أنّ الحديث إذا كان بنصّه متواترا فهو التواتر اللفظي. و إذا كان كل واحد من الأحاديث غير متواتر نصّا لكن الجميع يشهد عن قدر مشترك بينها، كالأخبار الواردة حول سخاء خاتم، و بطولة الإمام علي، فإنّ كلّ واحد، و إن كان لا يتجاوز أخبار الآحاد، لكن الجميع يتفق في حكاية سماحة الأول، و شجاعة الثاني، فهذا الجامع، متواتر معنى. و أمّا الثالث فهو ما إذا كثرت الأخبار في موضوع، و نعلم بصدور عدّة منها، و إن لم يكن كل واحد معلوم الصدور، كما في المقام، فإنّ كلّ واحد من الأخبار حول معاجزه و إن كان غير متواتر، لكن نعلم بصدور البعض قطعا، فهو متواتر إجمالا.
خاتمة المطاف

لقد حصحص الحق، و ثبت لك وقوع المعاجز على يد النبي الأكرم، سواء معجزته الخالدة أم غيرها من المعاجز الواردة في القرآن، و كتب الحديث، و التاريخ. و ما ذكرناه كاف في إثبات نبوته، على وجه لا يدع لقائل مقالا، و لا لمرتاب شكّا و ريبة.

و قد عرفت في صدر الفصل أنّ للتعرف على صدق مدّعي النبوة طرقا ثلاثة:

الأول: التحدّي بالمعاجز.

الثاني: تنصيص النبي السابق على نبوّة النبي اللاحق.

الثالث: جمع القرائن و الشواهد القاضية بصدق المدّعي.

و قد فرغنا من سلوك الطريق الأول، و فيما يلي نسلك الطريق الثاني.

ص: 446

الطريق الثاني لإثبات نبوة نبي الإسلام بشائر خاتم الرسل في العهدين

إنّ النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلّم، كان يحتجّ على اليهود و النصارى، بأنّه قد بشّر به في العهدين، و أنّ الكليم و المسيح بشّرا برسالته، و أنّ أهل الكتاب لو رجعوا إلى كتبهم - حتى بعد التحريف - لوجدوا بشائره فيها، و تعرّفوا عليه، كتعرّفهم على أبنائهم. كان يحتجّ بهذه الكلمات، و لم يكن هناك أيّ ردّ من الأحبار و الرهبان في مقابله، بل غاية جوابهم كان السكوت و إخفاء الكتب، و عدم نشرها بين أتباعهم.

و لو كان النبي الأكرم غير صادق - و العياذ باللّه - في هذا الادّعاء، لثارت ثورتهم عليه، و لملئوا الأجواء و الطوامير بنقده و ردّه، غير أنّ صراحة النبي و صموده أمام علمائهم بشدّة، يكشف عن انهزام العدو أمام ذلك الادّعاء.

يقول القرآن الكريم: اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ ، يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ ، وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (1).

و يقول: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (2).

ص: 447


1- سورة البقرة: الآية 146.
2- سورة الأعراف: الآية 157.

و يقول: وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ ، وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ (1).

ثم إنّ علماء المسلمين في الأعصار السابقة نقبوا في العهدين، و جمعوا البشارات الواردة فيهما. و نقل هذه البشائر، يوجب الإسهاب في الكلام و الخروج عن وضع الكتاب، و نكتفي في ذلك بهذه البشارة التي تكشف عنها الآية الأخيرة، فإنّ فيها تنصيص على الاسم مكان التنصيص على الصفات، و هذه الإشارة وردت في إنجيل يوحنا في الأصحاحات: الرابع عشر، و الخامس عشر، و السادس عشر. و إليك نصوصها من الإنجيل الحالي المترجم إلى اللغة العربية:

1 - إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، و أنا أطلب من الأب فيعطيكم معزّيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد(2).

2 - و أمّا المعزّي، الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلّمكم كل شيء، و يذكّركم بكل ما قلته لكم(3).

3 - و متى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي و تشهدون أنتم أيضا لأنّكم معي من الابتداء(4).

4 - لكني أقول لكم الحق، إنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي، و لكن إن ذهبت أرسله إليكم * و متى جاء ذاك يبكّت العالم على خطيّة و على برّ و على دينونة(5).

5 - و أمّا متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه

ص: 448


1- سورة الصف: الآية 6.
2- إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملتان 15 و 16، ط دار الكتاب المقدس.
3- إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملة 26، ط دار الكتاب المقدس.
4- إنجيل يوحنا، الأصحاح الخامس عشر: الجملة 26، ط دار الكتاب المقدس.
5- إنجيل يوحنا، الأصحاح السادس عشر: الجملتان 7 و 8، ط دار الكتاب المقدس.

لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع، يتكلّم به، و يخبركم بامور آتية(1).

وجه الاستدلال يتوقف على بيان نكتة، و هي أنّ المسيح عليه السلام، كان يتكلم بالعبرية، و كان يعظ تلاميذه بهذا اللسان، لأنّه ولد و شبّ بين ظهرانيهم، و أمّه أيضا كانت عبرانية، هذا من جانب.

و من جانب آخر، إنّ المؤرّخين أجمعوا على أنّ الأناجيل الثلاثة غير متى، كتبت من أوّل يومها باللغة اليونانية، و أمّا إنجيل متى فكان عبريا من أوّل إنشائه.

و على هذا، فالمسيح بشّر بما بشّر باللغة العبرية أولا، و إنّما نقله إلى اليونانية، كاتب الإنجيل الرابع «يوحنا» و كان عليه التحفّظ على لفظ المسيح في مورد المبشّر به، لأنّ القاعدة الصحيحة، عدم تغيير الأعلام، و الإتيان بنصّها الأصلي، لا ترجمة معناها. و لكن «يوحنا» لم يراع هذا الأصل، و ترجمه إلى اليونانية، فضاع لفظه الأصلي الذي تكلّم به المسيح، و في غبّ ذلك حصل الاختلاف في المراد منه.

و أمّا اللفظ اليوناني الذي وضعه الكاتب «يوحنا» مكان اللفظ العبري، فهو مردد بين كونه «پاراقليطوس»(2) الذي هو بمعنى المعزّي و المسلّي و المعين و الوكيل، أو «پريقليطوس»(3) الذي هو بمعنى المحمود، الذي يرادف أحمد.

و لأجل تقارب الكلمتين في الكتابة و التلفظ و السماع، حصل التردد في المبشّر به.

و مفسّروا و مترجمو إنجيل يوحنا، يصرّون على الأول، و لأجل ذلك ترجموه إلى العربية ب «المعزّي»، و إلى اللغات الأخرى بما يعادله و يرادفه، و ادّعوا أنّ المراد منه هو روح القدس، و أنّه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقدان المسيح، كما ذكر تفصيله في كتاب أعمال الرسل(4). و زعموا أنّهم بذلك خلعوا

ص: 449


1- إنجيل يوحنا، الأصحاح السادس عشر: الجملة 13، ط دار الكتاب المقدس.
2- في اليونانية هكذا: IIapakahtoe . و بالأفرنجى هكذا: Paracletos .
3- في اليونانية هكذا: IIepikahote . و بالأفرنجية هكذا: Pericletos .
4- أعمال الرسل، الأصحاح الثاني: الجملات 1-4، يقول: و لما حضر يوم الخمسين كان،

المسلمين عن السلاح الذي كانوا يحتجون به عليهم.

و مع ذلك، فهناك قرائن تلقي الضوء على أنّ المبشّر به هو الرسول الأعظم، لا روح القدس، و إليك تلك القرائن:

1 - إنّ المسيح بدء خطابه إلى تلاميذه بقوله: إن كنتم تحبونني، فاحفظوا وصاياي، و أنا أطلب من الأب فيعطيكم «معزيا» آخر، ليمكث معكم إلى الأبد.

و هذا الخطاب يناسب أن يكون المبشّر به نبيا، لأنّ المسيح يحتمل - في هذا الكلام - أن يتخلّف عدّة منهم عن اقتفاء أثره و دينه، و لذلك أثار عواطفهم في هذا المجال لئلا يتخلّفوا. و لو كان المراد منه روح القدس لما احتاج إلى تلك المقدمة، لأنّ تأثيره في القلوب تأثير تكويني لا يمكن لأحد التخلّف عنه، و لا يبقى في القلوب معه شكّ ، و هذا بخلاف تأثير النبي فإنّه يؤثر ببيانه و كلامه في القلوب و الأرواح، و هو يختلف حسب اختلاف طبائع المخاطبين و استعدادهم.

و لأجل ذلك أصرّ على إيمانهم به في بعض خطاباته و قال: و قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون(1).

2 - إنّه وصف المبشّر به بلفظ «آخر»، و هذا لا يناسب كون المبشر به نظير روح القدس لعدم تعدده، و انحصاره في واحد، بخلاف الأنبياء فإنّهم يجيئون واحدا بعد الآخر، في فترة بعد فترة.

3 - إنّه ينعت ذلك المبشر به بقوله: ليمكث معكم إلى الأبد و هذا يناسب نبوة النبي الخاتم التي لا تنسخ.

ص: 450


1- إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملة 29، ط دار الكتاب المقدس.

4 - إنّه يقول: و أمّا «المعزّي الروح القدس» الذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، و يذكركم بكل ما قلته لكم و هذه الجملة تناسب أن يكون المبشر به نبيّا يأتي بعد فترة من رسالة النبي السابق بعد أن تصير الشريعة السابقة على و شك الاضمحلال و الاندثار. فيأتي النبي اللاحق، يذكر بالمنسيّ ، و يزيل الصدأ عن الدين.

و أمّا لو كان المراد هو روح القدس فقد نزل على الحواريين بعد خمسين يوما من فقد المسيح، حسب ما ينصّ عليه كتاب أعمال الرسل(1). أ فيظن أنّ الحواريين نسوا في هذه المدة اليسيرة معالم المسيح و تعاليمه حتى يكون النازل هو الموعود به ؟!.

5 - و يصف المسيح المبشر به، بقوله: فهو يشهد لي. و هذه العبارة تناسب أن يكون المبشر به هو النبي الخاتم حيث بعث مصدّقا للشرائع السابقة و الكتب السالفة، و قد أمره سبحانه أن يخاطب أهل الكتاب بقوله: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ آمِنُوا بِمٰا نَزَّلْنٰا مُصَدِّقاً لِمٰا مَعَكُمْ (2)، و غير ذلك. و من المعلوم أنّ الرسول الأكرم شهد برسالة المسيح، و نزّه أمّه و ابنها، عن كل عيب و شين، و ردّ كلّ ما ألصق بهما من جهلة اليهود من التهم التافهة. و هذا بخلاف ما إذا فسّر بروح القدس، إذ لم يكن للمسيح يوم ذاك أي حاجة لشهادته، و دينه و شريعته بعد غضّان طريّان.

6 - إنّه يقول: لأنّه إن لم انطلق، لا يأتيكم «المعزي»، و لكن إن ذهبت أرسله إليكم. و هذا يناسب أن يكون المبشّر به نبيا، حيث علّق مجيئه بذهابه، لأنّه جاء بشريعة عالمية، و لا تصحّ سيادة شريعتين مختلفتين على أمة واحدة.

و لو كان المبشّر به هو روح القدس، لما كان لهذا التعليق معنى، لأنّ روح

ص: 451


1- أعمال الرسل، الأصحاح الأول: الجملة 5. و الأصحاح الثاني: الجملات 1-4، ط دار الكتاب المقدس.
2- سورة النساء: الآية 47.

القدس حسب تصريح إنجيلي متى و لوقا، نزل على الحواريين عند ما بعثهم المسيح للتبشير و التبليغ(1).

7 - و يقول: و متى جاء ذاك يبكّت العالم على خطيّة، و على برّ، و على دينونة.... و هذا يؤيّد أن يكون المبشّر به نبيّا، إذ لو كان المراد هو روح القدس، فهو نزل في يوم الدار على الحواريين حسب زعمهم، فما و بخّ اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا، لعدم رؤيتهم إيّاه. و لم يوبخ الحواريين، لأنّهم كانوا مؤمنين به.

8 - و يقول: و متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، و يخبركم بأمور آتية.

و هذا يتناسب مع كون المبشّر به نبيّا خاتما، صاحب شريعة متكاملة، لا يتكلم إلاّ بما يوحى إليه، و هذه كلّها صفات الرسول الأكرم محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم.

فجميع هذه القرائن تشهد بوضوح على أنّ المراد من «المعزي» المبشّر به، هو النبي الأكرم لا روح القدس، و لو أمعنت النظر في سائر القرائن التي ذكرها المحققون من المسلمين في تفسير هذا اللفظ، لعالت القرائن(2).

غير أنّ البشارات لا تنحصر بذلك بل هي موجودة في العهدين، و استقصاء البحث و جمعها، يستدعي تأليف كتاب منفرد حافل، إلاّ أنّا نلفت إلى نكتة و هي:

إنّ الكتاب الذي جاء به المسيح كان كتابا واحدا، و هو عبارة عن هديه

ص: 452


1- لاحظ إنجيل متى: الأصحاح العاشر، الجملة الأولى فما بعدها. و إنجيل لوقا: الأصحاح العاشر، الجملة 11، و فيها: و لكن اعلموا هذا: إنّه قد اقترب منكم ملكوت اللّه.
2- من أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى كتاب أنيس الأعلام في نصرة الإسلام، ج 5، ص 139 - 172.

و بشارته بمن يجيء بعده، ليتم دين اللّه الذي شرعه على لسانه و ألسنة الأنبياء من قبله، فكان كل منهم يبين للناس منه ما يقتضيه استعدادهم، و إنّما كثرت الأناجيل لأنّ كلّ من كتب سيرته سماه إنجيلا، لاشتماله على ما بشّر و هدى به الناس، و من تلك الأناجيل إنجيل «برنابا». و «برنابا» حوريّ من أنصار المسيح الذي يلقّبهم رجال الكنيسة بالرّسل، صحبه «بولص» زمنا، بل كان هو الذي عرّف التلاميذ ببولص، بعد ما اهتدى بولص و رجع إلى أورشليم، و لم يكن من هذا الإنجيل أثر في المجتمع المسيحي حتى عثروا في أوروبا على نسخة منذ قرابة ثلاثة قرون، و هذا هو الإنجيل الذي حرم قراءته «جلاسيوس الأول» في أواخر القرن الخامس للميلاد.

و هذا الإنجيل يباين الأناجيل الأربعة في عدّة أمور:

1 - ينكر ألوهية المسيح و كونه ابن اللّه.

2 - يعرّف الذبيح بأنّه اسماعيل لا إسحاق.

3 - أنّ المسيح المنتظر هو «محمد»، و قد ذكر «محمد» باللفظ الصريح المتكرر في فصول ضافية الذيول.

4 - أنّ المسيح لم يصلب بل حمل إلى السماء، و أنّ الذي صلب إنّما كان يهوذا الخائن. فجاء مطابقا للقرآن.

و من أراد الوقوف على بشائر هذا الإنجيل بوضوح، فعليه بالرجوع إليه(1).

***

ص: 453


1- و قد قام بترجمته من الإنكليزية الدكتور خليل سعادة، و قدم له مقدمة نافعة، و طبع في مطبعة المنار بتقديم السيد محمد رشيد رضا أيضا، عام 1326 ه، 1908 م.

ص: 454

الطريق الثالث لإثبات نبوة نبي الإسلام

القرائن الدالّة على نبوّة الرسول الأعظم
اشارة

قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ من الطرق التي يستكشف بها صدق دعوى المدّعي للنبوّة، شهادة القرائن الداخلية و الخارجية.

و هذا الطريق متين يستخدم في المحاكم القضائية في هذا العصر، لتبيين صدق المدّعي و المنكر أو كذبهما، و التوصّل إلى كنه الحوادث(1). و لكنه لا يختصّ بالمحاكم، بل يمكن تعميمه إلى مسائل مهمّة، منها إثبات صدق دعوى المتنبّئ(2).

و أصول هذه القرائن في المقام عبارة عن الأمور التالية:

1 - سيرته النفسية و الخلقية قبل الدعوة و بعدها.

2 - الظروف التي فيها نشأ و تربّى و ادّعى النبوّة.

3 - المفاهيم التي تبنّاها و دعا إليها.

4 - الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته.

ص: 455


1- و الفرق بين هذا المقام و ما ذكرنا من الشواهد، هو أنّ الغاية من جمع الشاهد فيما مضى، إثبات كون القرآن كتابا سماويا، و لكن الغاية من جمع القرائن في المقام إثبات كون حامله رسولا إلهيا، لا مصلحا اجتماعيا.
2- و قد ذكرنا في النبوة العامة أنّ قيصر الروم هو أول من اعتمد هذا الأسلوب، و تبعه من أتى بعده.

5 - شخصية أتباعه الذين آمنوا به و لزموه و صحبوه.

6 - ثباته في سبيل أهدافه، و صموده في دعوته.

7 - أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها.

و من هذه القرائن يمكن أن يستنتج صدق الدعوى على وجه، و كذبها على وجه آخر، و لا ندّعي اختصاص القرائن بها، بل يمكن للممعن في رسالته، و حياته، استخراج قرائن أخر، يستدلّ بها على صدق دعواه، و إليك بيانها، واحدة بعد أخرى.

***

القرينة الأولى - سيرته النفسية و الخلقية قبل الدعوة و بعدها

نشأ النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله في أرفع بيت من بيوت قريش، و أعلاها كعبا، و أشرفها شأنا. فسيرة جدّه عبد المطلب، و عمّه أبي طالب، في الكرم و السخاء و إغاثة الملهوفين، و حماية الضعفاء، معروفة في التاريخ و السير.

و أمّا سيرة النبي الأكرم، فكفى في إشراقها أنّه كان يدعى ب «الأمين»، و كان محلّ ثقة و اعتماد العرب في فضّ نزاعاتهم. فالتاريخ يروي أنّه لو لا حنكة الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكّة. فالتاريخ يروى أنّه لو لا حنكة الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكّة، و إجماعهم على قبول قضائه، لسالت دماؤهم و هلكت نفوسهم. و ذلك أنّهم لما بلغوا في بناء الكعبة - التي هدمها السيل - موضع الركن، اختصموا في وضع الحجر الأسود مكانه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحالفوا و استعدّوا للقتال، فقرّبت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم و بنو عدي على الموت، و أدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، تفكّر في مخلص من هذه الورطة.

ثم إنّ أبا أمية ابن المغيرة، الذي كان أسن قريش كلها، اقترح عليهم اقتراحا، قال: «يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه، أوّل من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه». ففعلوا. فكان أول داخل

ص: 456

عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، فلما رأوه قالوا: «هذا «الأمين»، رضينا، هذا محمد»، فلما انتهى إليهم و أخبروه الخبر، قال صلى اللّه عليه و آله:

«هلمّ ثوبا»، فأتي به. فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده. ثم قال: «لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا». ففعلوا. حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثم بنوا عليه كما أرادوا.

و قد أنشد هبيرة بن وهب المخزومي هذه الحادثة بأبيات، منها:

رضينا و قلنا: العدل أوّل طالع *** يجيء من البطحاء من غير موعد

ففاجأنا هذا الأمين محمد *** فقلنا: رضينا بالأمين محمد

بخير قريش كلّها أمس شيمة *** و في اليوم مع ما يحدث اللّه في غد

فجاء بأمر لم ير الناس مثله *** أعمّ و أرضى في العواقب و ألبد

و تلك يد منه علينا عظيمة *** يروب لها هذا الزمان و يعتدي(1)

هذه لمحة موجزة عن خلقه و سيرته المحمودة المعروفة بين الناس، و قد احتفظ بها صاحب الرسالة بعد بعثته، و بعد غلبته على أعدائه الألداء، حتى في نصره النهائي حين فتح مكة و دخل صناديد قريش الكعبة، و هم يظنون أنّ السيف لا يرفع عنهم، فأخذ رسول اللّه بباب الكعبة، و قال: «لا إله إلاّ اللّه، أنجز وعده، و نصر عبده، و غلب الأحزاب وحده». ثم قال: «ما تظنون»؟.

فأجابت قريش «نظن خيرا، أخ كريم». فقال: «فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: لاٰ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ ، يَغْفِرُ اَللّٰهُ لَكُمْ ، وَ هُوَ أَرْحَمُ

ص: 457


1- السيرة النبوية لابن هشام، ج 1، ص 192-199. لاحظ الكافي للكليني، ج 4، ص 217-218.

اَلرّٰاحِمِينَ (1) »(2).

و العجب أنّ الذين أحاطوا ببيته ليلة الهجرة، و همّوا باغتياله، و إراقة دمه، كانت أموالهم بين يديه، و أمانة عنده، فلأجل ذلك لما همّ بالخروج من البيت و الهجرة إلى المدينة، أمر عليّا أن يقيم صارخا، يهتف بالأبطح، غدوة و عشيا:

«من كان له قبل محمد أمانة أو وديعة، فليأت، فلنؤدّ إليه أمانته»!.

فأقام عليّ بمكة ثلاث ليال و أيامها حتى أدّى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله الودائع التي كانت عنده للناس(3).

و من ظريف أخلاقه عفوه عن العدو الغادر، الذي أراد قتله، بمجرد التجائه إليه:

فقد نقل أصحاب المغازي أنّه في إحدى الغزوات، ذهب النبي الأكرم لحاجته، فأصابه المطر، فبلّ ثوبه، فنزعه صلى اللّه عليه و آله و نشره ليجف، فألقاه على شجرة، ثم اضطجع تحتها. فرآه العدو وحيدا بعيدا عن أصحابه، فاختار أحدهم سيفا صارما، ثم أقبل حتى قام على رأس النبي بالسيف المشهور، فقال: «يا محمد، من يمنعك مني اليوم ؟».

قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): «اللّه».

عندئذ وقع السيف من يده فأخذه الرسول الأكرم و قام به على رأسه فقال:

«من يمنعك مني اليوم ؟».

قال: «لا أحد». ثم قال: «فأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، و أنّ محمدا رسول اللّه، و اللّه لا أكثر عليك جمعا أبدا».

فأعطاه رسول اللّه سيفه، ثم أدبر الرجل، ثم أقبل بوجهه، فقال: «أما و اللّه، لأنت خير مني».

ص: 458


1- سورة يوسف: الآية 92.
2- بحار الأنوار، ج 21، ص 132، و غيره من المصادر المتوفرة.
3- سيرة ابن هشام، ج 1، ص 493. البحار، ج 19، ص 62.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «أنا أحقّ بذلك منك»(1).

هذه نبذة يسيرة من سيرته الحميدة المعترف بها عند الصديق و العدو، و لو أردنا الإسهاب لاحتجنا إلى تأليف رسالة حافلة، في أدبه و خلقه و سيرته، و لأجل ذلك اعتمد قيصر في استنطاقه أبا سفيان، على تلك السيرة، و جعلها جزء من القرائن التي استفاد منها كونه صادقا في دعوته(2).

***

القرينة الثانية - الظروف التي فيها نشأ و ادعى النبوّة

كان العرب الجاهليون يضمّون إلى صفاتهم الحسنة من سخاء في الطبع و إكرام للضيف، و صيانة للأمانة و التزام بالعهود، صفات ذميمة و أخلاق رذيلة، و عادات قبيحة، و عقائد خرافية.

فالصورة العامة التي يمكن رسمها عنه، أنّه كان مجتمعا غارقا إلى آذانه في عبادة الحجارة و الأوثان، و الفساد الذريع في الأخلاق، يظهر في شيوع القمار و الزنا، و وأد البنات، و أكل الميتة، و شرب الدم، و الغارات الثأريّة، و تغيير الأشهر الحرم، و غير ذلك من التقاليد و الأعمال السيئة التي نقلها المؤرخون، و لا حاجة للتفصيل(3).

هذه هي عقائدهم و تقاليدهم، و عاداتهم، و النبي الأكرم وليد هذه البيئة المتدهورة، نشأ و ترعرع فيها، و قضى أربعين عاما بينهم، فإذا به قد بعث بأصول و آداب و معارف، تضاد ما كان سائدا في تلك البيئة. فلو كان هو في تعاليمه، مستمدا من بيئته، لكان قد تأثّر بها و لو في بعض هذه الصفات و التقاليد.

إنّه ليس من الغريب أن تنبت الأرض الخصبة، الأشجار النضرة و الأزاهير

ص: 459


1- المغازي للواقدي، (م 207)، ج 1، ص 195، ط أكسفورد.
2- تاريخ الطبري، ج 2، ص 290-291، حوادث السنة السادسة للهجرة.
3- لاحظ للوقوف على تاريخ العرب الجاهليين، «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» للشيخ الآلوسى (م 1270). و تاريخ العرب للكاتب د. علي جواد، في عشرة أجزاء. و غير ذلك.

و الرياحين، و إنّما العجب أن ينبت كل أولئك من أرض مجدبة قاحلة، يلقي عليها شبح الموت ظلاله السوداء، و هكذا كانت شريعة محمد صلى اللّه عليه و آله في البيئة التي ظهرت فيها.

***

القرينة الثالثة - المفاهيم التي تبنّاها و دعا إليها

جاء الرسول الأعظم بمفاهيم راقية في جميع شئون الحياة البشرية و شجونها.

فدعا إلى التوحيد، و نبذ الوثنية، و تنزيهه سبحانه عن كل نقص و عيب، فعرّف الإله الخالق سبحانه، بقوله: هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ هُوَ اَلرَّحْمٰنُ اَلرَّحِيمُ * هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلاٰمُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّٰارُ اَلْمُتَكَبِّرُ، سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ * هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (1).

و أين هذا من مفاهيم الشرك و الوثنية التي كانت سائدة في ذلك الزمن.

و جاء بمفاهيم سامية حول الحياة الأخروية، فقرّر أنّ الموت ليس بمعنى ختم الحياة، و إنّما هو نافذة للحياة الأبدية، التي يحياها الإنسان بسعادة أو تعاسة، بحسب أعماله الحسنة أو السيئة، و أين هو من قولهم: مٰا هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا، وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلاَّ اَلدَّهْرُ (2).

و في حقل الأخلاق و التعاون و التآلف الاجتماعي، زرع في محيط البغضاء و الشحناء، بذور المحبة و المواساة، و جعل أبناء المجتمع الواحد إخوة في الدين، متعاضدين، متعاونين، كأنّهم جسد واحد، فقال: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (3).

ص: 460


1- سورة الحشر: الآيات 22-24.
2- سورة الجاثية: الآية 24.
3- سورة الحجرات: الآية 10.

و أرسى أركان الإحسان و العدالة الاجتماعية، و كافة أصول الشخصية الإنسانية الفاضلة، و حذّر من الفواحش و البغي و العدوان، فقال: إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1).

و أين هذا من أقبح الممارسات الأخلاقية الرائجة، و مفاهيم الثأر و العصبية و الانتقام المحقونة في نفوسهم، و التي خلّفت حروبا طاحنة، بين القبائل العربية، منها حرب الأوس و الخزرج التي دامت قرابة مائة و عشرين سنة.

يقول ابن خلدون: «العرب الجاهليون، بطبيعة التوحش الذي فيهم، أهل انتهاب و عيث، ينتهبون ما قدروا عليه، و كان ذلك عندهم ملذوذا.

فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، و أنّ رزقهم في ظلال رماحهم، و ليس عندهم في أخذ أموال الناس حدّ ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون، انتهبوه»(2).

و في الحقل الاقتصادي، جاء بأصول و مفاهيم بنى عليها بنيانا محكما من التشريعات الاقتصادية، في مختلف أبواب المعاملات.

فمن ذلك أنّه نادى بحرمة الرّبا الذي كان الشغل الشاغل في الجزيرة العربية، حتى أنّ ثقيف طائف لما أسلموا طلبوا من الرّسول أن يكتب لهم كتابا يحلّ لهم فيه الربا و الزّنا، فلما جاء مبعوثهم بكتابهم قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «اقرأ». فلما انتهى إلى الربا، قال: ضع يدي عليها في الكتاب، فوضع يده، فقال: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ ، وَ ذَرُوا مٰا بَقِيَ مِنَ اَلرِّبٰا (3) ثم محاها. فلما بلغ القارئ، الزنا، وضع يده عليها، و قال: وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلزِّنىٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ سٰاءَ سَبِيلاً (4) ثم محاها(5).

ص: 461


1- سورة النحل: الآية 90.
2- مقدمة ابن خلدون، ص 149.
3- سورة البقرة: الآية 278.
4- سورة الإسراء: الآية 32.
5- أسد الغابة، ج 1، ص 216 في ترجمة تميم بن جراشة الثقفي. و السيرة النبوية لابن هشام. ج 1، ص 540، و بينهما اختلاف.

و من ذلك، قوله تعالى: لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ (1).

و قوله تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا (2).

و لو أردنا أن نبين كافة التعاليم القرآنية في حقول المعارف، و السياسة، و الاجتماع، و الأخلاق، و الاقتصاد، لطال بنا الكلام، و فيما ذكرنا غنى و كفاية، و الكلّ يشهد على عظمة المفاهيم التي جاء بها الإسلام، و موافقتها لمقتضى حكم العقل الصريح، المتحرر عن قيود الشهوة و الخيال، و هو من أجلى القرائن على نبوّة من جاء بها.

***

القرينة الرابعة - الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته

لا شكّ أنّ النّبي الأعظم نجح في دعوته، و بلغ أهدافه التي قدّرها اللّه له، و لكنه لم يدرك تلك الغاية بالأساليب الملتوية، و لم يستعن في تحقيقها بكل وسيلة سائغة كانت أو محرمة، و لم يسلك سبيل الخداع و المكر و الحيلة باعتماد مبدأ:

«الغاية تبرر الوسيلة»، بل إنّ منطق النبي الأكرم و مسلكه - و كذا جميع الأنبياء - هو شقّ الطريق على نهج الصدق و العدل، و هذه حالته التي لم تتفاوت في سرّاء أو ضرّاء، أو شدّة أو رخاء،. و كان في كل ذلك ممتثلا قوله تعالى: وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ أَنْ تَعْتَدُوا (3)، و قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ، وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلاّٰ تَعْدِلُوا، اِعْدِلُوا، هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ ، وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (4).

و هذه التعاليم التي اقتدى بها النبي الأكرم في نشر دعوته، تدلّ على أنّه

ص: 462


1- سورة النساء: الآية 29.
2- سورة النساء: الآية 58.
3- سورة المائدة: الآية 2.
4- سورة المائدة: الآية 8.

(صلى اللّه عليه و آله) كان يعامل عدوّه بالعدل و الرأفة، و لم يكن من الذين تحجب العداوة بصائرهم، و يعمي الانتصار أعينهم عن رعاية الحق و العدل.

و بإمكاننا أن نلمس ذلك في توجيهاته إلى أمراء السرايا، فإنّه كان إذا أراد أن يبعث سرية، دعاهم فأجلسهم بين يديه، و قال: «سيروا باسم اللّه، و باللّه، و في سبيل اللّه، و على ملّة رسول اللّه، لا تغلّوا»(1)، و لا تمثّلوا، و لا تغدروا، و لا تقتلوا شيخا فانيا، و لا صبيا، و لا امرأة، و لا تقطعوا شجرة إلاّ أن تضطروا إليها، و أيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار، حتى يسمع كلام اللّه، فإن تبعكم، فأخوكم بالدين، و إن أبي فأبلغوه مأمنه، و استعينوا باللّه».

و في رواية أنّ النبي كان إذا بعث أميرا له على سرية، أمره بتقوى اللّه عز و جل في خاصّة نفسه، ثم في أصحابه عامة، ثم يقول: اغزوا باسم اللّه، و في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، لا تغدروا، و لا تغلّوا، و لا تمثّلوا، و لا تقتلوا وليدا و لا متبتّلا في شاهق، و لا تحرقوا النخل و لا تغرقوه بالماء، و لا تقطعوا شجرة مثمرة، و لا تحرقوا زرعا لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه. و إذا لقيتم عدوا للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث، فإن هم أجابوكم إليها فاقبلوا منهم و كفّوا عنهم الخ...»(2).

و لقد كان النبي الأكرم يتحرز عن التذرع بوسائل غير واقعية، حتى لو كانت الوسيلة مفيدة و نافعة لأهدافه الشخصية، و شخصيته الاجتماعية، بل كان يناهضها، و يبطلها، ليستقيم الناس على جادة الواقع و الحق.

فنحن نرى أنّ السياسيين المتصدرين لكراسي الرئاسة، يتجاوبون مع عقائد الناس و إن كانت مخالفة لعقيدتهم، و ذلك للتحفظ على مناصبهم و عروشهم.

ص: 463


1- من الغل، و هو الخيانة و الغش و الحقد.
2- وسائل الشيعة، ج 11، كتاب الجهاد، الباب 15 من أبواب جهاد العدو، الحديثين 2 و 3. و قد جاءت نماذج من هذه التعاليم في تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 59. و «الأموال» لأبي عبيد، ص 212.

فهذا «نهرو» بلغ من التجاوب مع قومه إلى حدّ أنّه كان يشترك معهم في مراسم عبادة البقر، و التبرّك بفضلاتها، لكونه مطلوبا عند الشعب، و مخالفة الرأي العام مضرّة بشخصيته و أهدافه.

فالسياسيون لا يتورعون في تحقيق أهدافهم، عن استغلال جهل شعوبهم.

و أمّا الأنبياء فقد بعثوا لمكافحة الجهل، سواء أ كان جهل الناس مفيدا لأحوالهم الشخصية أم نافعا، و نذكر لذلك نموذجا من سيرة النبي الأكرم:

عند ما توفي ولده إبراهيم، غشي الشمس كسوف، فتلقاه الناس أمرا معجزا، و أنّ المصيبة تركت أثرها في الأرض و السماء، و انكسفت الشمس لموت ولده. فلو كان النبي رجلا ماديا، طالبا للمنصب و المقام، لأصفق مع شعبه في هذه العقيدة، و تركهم عليها، و لكنه رجل إلهي واقعي، فصعد المنبر، و أماط الستر عن وجه الحقيقة، فقال:

«أيّها الناس، إنّ الشمس و القمر آيتان من آيات اللّه، يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد، و لا لحياته، فإذا انكسفا أو أحدهما، صلّوا».

ثم نزل من المنبر، فصلّى بالناس الكسوف، فلما سلّم، قال: «يا عليّ ، قم فجهّز ابني»(1).

و من دلائل كون النبي رجلا واقعيا، يطلب الحقائق، و لا يستعمل في أساليب دعوته الخدعة، هو أنّ نفرا من قريش طلبوا من النبي أن يعبد آلهتهم، حتى يعبدوا إلهه، فقام النبي في وجه المعترضين بصراحة، و قال: قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلْكٰافِرُونَ * لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * وَ لاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ * وَ لاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (2).

ص: 464


1- المحاسن، للبرقي، ص 313. و بحار الأنوار، ج 22، ص 156. و السيرة الحلبية، ج 3، ص 348.
2- سورة الكافرون.

و لكن دعاة الإصلاح الماديين، يتّخذون ذلك الاقتراح مطيّة لآمالهم، فيجيبونه، حتى إذا تغلّبوا على أعدائهم، خالفوهم، و قضوا عليهم و على معتقداتهم.

***

القرينة الخامسة - شخصية المؤمنين به

الناموس المطّرد في الشخصيات، هو أنّ كل إنسان بارز، يجذب إليه من يوافق أفكاره و عقلياته، فالشخصيات الصالحة تجتمع حولها، رجال الطهارة و الإيمان و النزاهة، كما أنّ الشخصيات الطالحة، تجذب إليها الأشرار و الأراذل و لأجل ذلك يقال في المثل السائد: «قل لي من تعاشر، أقل لك من أنت»، و يقول الشاعر:

عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه *** فكلّ قرين بالمقارن يقرن

و هذه و إن لم تكن قاعدة كلية، إلاّ أنّها قاعدة غالبية.

و على ضوء ذلك الناموس الاجتماعي، يمكن التعرّف على النبي عن طريق حوارييه و أصحابه. فنجد فيهم أصحاب عقل و عبقرية، يضنّ بهم الدهر إلاّ في فترات متباعدة، كالإمام علي بن أبي طالب، و سلمان الفارسي، و أبى ذرّ المجاهد الكبير، و خبّاب بن الأرت، و غيرهم من الشخصيات. و هذا كتاب الرسول، يأمره بمجالسة الذين يدعون ربّهم بالغداة و العشي و تجنّب معاشرة المترفين المغفّلين.

يقول سبحانه: وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَ لاٰ تَعْدُ عَيْنٰاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا، وَ لاٰ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ وَ كٰانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (1).

ص: 465


1- سورة الكهف: الآية 28.

و يكفي في ذلك أنّه تربّى في أحضانه، رجال متفانون في طريق الدين و تحقيق أهدافه، و كفى في إظهار ذلك أنّ النبيّ استشار أصحابه في محاربة قريش في معركة بدر، و قال: أشيروا عليّ أيّها النّاس.

فقام المقداد بن عمرو، و قال: يا رسول اللّه، امض لما أراك اللّه، فنحن معك. و اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون»، و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا فإنّا معكما مقاتلون.

فو الذي بعثك بالحق، لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا(1) و شوك الهراس(2) لخضناه معك(3).

و قال سعد بن معاذ: «فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد. و ما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا، و إنّا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعلّ اللّه يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة اللّه، وصل من شئت، و اقطع من شئت، و خذ من أموالنا ما شئت، و ما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا ممّا تركت»(4).

هؤلاء صحابة النبي و الرجال الذين التفوا حوله، فكانت حياتهم و كلماتهم: التفاني دون الحق، و العيش مع الرسول كيفما أراد. و لا نرى نظراءهم حول السياسيين من رجال الإصلاح، الذين يعيشون لأجل الأماني المادية.

نعم، وجود هذه الأنجم الزاهرة حول الرسول، كاف في كون دعوته إلهية، و لا يستلزم أن يكون كلّ من حوله رجلا مثاليا. و يكفي في ذلك ملاحظة التاريخ، و الآيات الواردة حول أصحابه و حوارييه.

***

ص: 466


1- النار المتّقدة.
2- شجر كبير الشوك.
3- السيرة النبوية، ج 1، ص 615، و تاريخ الطبري، ج 2، ص 140.
4- المغازي، للواقدي، ج 1، ص 48، و غيره.
القرينة السادسة - ثباته في طريق دعوته

إنّ ثبات المدّعي في طريق دعوته، آية إيمانه بها، فإذا رؤي فيه أنّه يضحّي بماله و نفسه و أقربائه و ولده في طريق دعوته، و يقتحم بنفسه المعارك الخطيرة، و لا يتجنّن بتقديم غيره، يستكشف من ذلك كونه مؤمنا بدعوته، صادقا في قوله.

و هذا علي بن أبي طالب يصف حال النبي في غزواته، و يقول:

«كنّا إذا احمرّ البأس، اتقينا برسول اللّه، صلى اللّه عليه و آله و سلم، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه»(1).

و قد اتّفق أهل المغازي و السير، على أنّ النبي لم يتراجع في حرب من الحروب، بل كان صمودا في وجه العدو، رغم ما كان يرد عليه من الجراحات، و شيوع اليأس في جيشه.

و يكفي في ذلك السبر في تاريخ حروبه لا سيما في أحد و غزوة حنين. ففي أحد عمّت الهزيمة جيشه، و لم يثبت معه في المعركة إلاّ أشخاص قلائل، فأخذ يدعو أصحابه و هم ينسحبون من أرض المعركة، و هو راسخ فيها كالجبل الأشمّ لا تحركه العواصف. يقول سبحانه، في حكايته لهذه الواقعة:

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لاٰ تَلْوُونَ عَلىٰ أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرٰاكُمْ ، فَأَثٰابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاٰ تَحْزَنُوا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ مٰا أَصٰابَكُمْ ، وَ اَللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (2) .

و أوضح من هذا، ثباته في مكة، و قد كان وحيدا في دعوته، لم يؤمن به حينها إلاّ عدّة قليلة يعيشون حالة الخوف و المطاردة، و الطوارئ الشديدة تنزل على النبي، الواحدة منها تلو الأخرى، و قد سطّر من تلك الحالات الكثير، منها:

تعرّض الأراذل له بالشتم، و إلقاء القذورات عليه، أو إلقاء عمامته في عنقه و جرّه بها، و غير ذلك، و هو صابر محتسب(3). كما كان يتعرض للأذي المستمر من

ص: 467


1- نهج البلاغة، قسم الحكم، فصل غريب كلامه، الرقم 9.
2- سورة آل عمران: الآية 153.
3- لاحظ السيرة الحلبية، ج 1، ص 293.

جانب عمّه أبي لهب و زوجته، و كان رسول اللّه يجاورهما، فلم يألوا جهدا في إزعاجه و إيذائه، فكم من مرّة ألقيا الرماد و التراب على رأسه و ثيابه، و كم من مرة نشرت أم جميل الشوك على طريقه، أو جمعته خلف باب بيته لتؤذيه عند خروجه، و لأجل هذا الإيذاء، يخصّ القرآن أبا لهب باللّعن، و يسميه و زوجته(1).

و كم تعرض أصحابه لألوان العذاب، كبلال الحبشي، و آل ياسر و غيرهم، الذين هم رموز الصمود و المقاومة، و أوسمة الفخر و الاستقامة. و قد قام عبد اللّه بن مسعود يوما في المسجد، و رفع عقيرته بقراءة القرآن لإسماع قريش، فقرأ: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ * اَلرَّحْمٰنُ * عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ ، فلم تمهله قريش حتى قامت إليه تضربه حتى أدمي وجهه و جسمه، و هو مع ذلك مسرور لإسماعهم كتاب اللّه العزيز و آياته المباركات(2).

***

القرينة السابعة - أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها

إنّ الإلمام العابر بأحوال العرب في شبه الجزيرة العربية، يكفي في إثبات أنّ الثورة العارمة على التقاليد و العادات السائدة هناك آنذاك، في مدّة لا تزيد على ثلاث و عشرين سنة، و صنع أمّة متحضرة منها، في هذه البرهة الوجيزة من الزمن، أمر يستحيل تحققه عن طريق العلل المادية، و الأساليب الإصلاحية، و قد شمل التحول جميع جوانب الثقافة و الفكر، و الاقتصاد، و النّظم الاجتماعية، و الطقوس الدينية.

و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ وراء هذه الثورة، إمدادات غيبية، نصرت الثائر، في جميع مواقفه، سواء أ كانت في مجال التبليغ و التبشير، أم في مجال الكفاح و الجدال، أم في قلب الأمة المتوحشة المستبدة، المتغلغلة في العداء البغضاء، أمّة موحّدة، متعاطفة و متآخية فيما بينها.

ص: 468


1- سورة المسد.
2- السيرة النبوية، ج 1، ص 314.

و هذا الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام، يصف وضع العرب الجاهليين في بعض خطبة، و يقول:

«و أنتم معشر العرب على شرّ دين، و في شرّ دار، منيخون بين حجارة خشن، و حيّات صم، تشربون الكدر، و تأكلون الجشب، و تسفكون دماءكم، و تقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، و الآثام بكم معصوبة»(1).

فهذه الأمة، على هذه الحال و هذه الأوصاف، تحولت إلى أمّة، عالمة، أرست قواعد الحضارة الإنسانية في مدّة قصيرة، و أخذت تكسح العراقيل أمامها، و تزعزع عروش الطواغيت في مشارق الأرض و مغاربها، حتى أرست بنيان دولة عظيمة، صارت همزة وصل بين الحضارة اليونانية القديمة و الحضارة الصناعية الحديثة.

***

هذه دراسة إجمالية للدعوة المحمدية، و تبيين القرائن الموجودة فيها، و الكلّ يشهد على أنّ الداعي كان صادقا في دعوته محقّا في نبوته، و هذا الطريق الثالث الذي سلكناه على وجه الإجمال، قابل للبسط و الإسهاب. ففي وسع المحققين في الحياة النبوية و الملمّين بكتابه و سنته، أن يشقوا هذا الطريق يشكل مسهب، حتى يتجلى صدق دعوته تجلّي الشمس في رائعة النّهار.

***

و بهذا البحث نختم البحث عن أصل النبوة الخاصة، و أمّا سمات دعوته من حيث كونها إقليمية أو عالمية، و كونها مرحلية أو خاتمة للرسالات، فالبحث عنه على عاتق علم التفسير. غير أنّ الإحالة، لما كانت عن المحذور غير خالية، نبحث فيما يلي عن تينك السّمتين بوجه الإجمال(2).

***

ص: 469


1- نهج البلاغة، الخطبة 25.
2- من أراد تفصيل البحث، فبإمكانه الرجوع إلى ما دوّنه الأستاذ دام ظلّه في موسوعته التفسيرية، «مفاهيم القرآن»، ج 3، ص 41-76 في العالمية، و ص 119-316 في الخاتمية.

ص: 470

سمات الدعوة الإسلامية
اشارة

السمة الأولى: عالمية الرسالة السمة الثانية: خاتمية الرسالة - أسئلة حول الخاتمية

ص: 471

ص: 472

السمة الأولى عالمية الرسالة
اشارة

الإسلام عقيدة و عمل، لا ينفرد بهما شعب أو مجتمع خاص، و لا يختصان ببلد معين، بل هو دين يعمّ المجتمع الإنساني ككل، على اختلافه في العنصر و الوطن و اللسان، و لا يفترض لنفوذه حاجزا بين أبناء الإنسان، و لا يعترف بأية فواصل و تحديدات جنسية أو إقليمية، و هذا ما ينصّ عليه الذكر الحكيم، و الأحاديث النبوية، و نلمسه من سيرة الرسول الأكرم في نشر دينه، و من تاريخ نشوء و تطور دعوته.

أمّا الكتاب العزيز، فإليك بعض نصوصه:

1 - قال تعالى: قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ، إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (1).

2 - قال تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً (2).

3 - قال تعالى: وَ أَرْسَلْنٰاكَ لِلنّٰاسِ رَسُولاً، وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً (3).

4 - قال تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ (4).

ص: 473


1- سورة الأعراف: الآية 158.
2- سورة سبأ: الآية 28.
3- سورة النساء: الآية 79.
4- سورة الأنبياء: الآية 107.

5 - قال تعالى: تَبٰارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقٰانَ عَلىٰ عَبْدِهِ ، لِيَكُونَ لِلْعٰالَمِينَ نَذِيراً (1).

6 - قال تعالى: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا اَلْقُرْآنُ ، لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (2).

أي كلّ من بلغه القرآن، و وصلت إليه تشريعاته في أقطار الأرض.

إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على شمول رسالته لعامة البشر.

و يمكن الاستدلال بوجه ثان، و هو أنّ القرآن كثيرا ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء، و يقول: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ، اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (3) فلو كان الإسلام دينا إقليميا، أو كانت رسالته لعصر خاص، فما معنى هذه النداءات العامة ؟.

و يمكن الاستدلال بوجه ثالث، و هو أنّه ربما يتّخذ القرآن الكريم عنوانا عاما لكثير من الأحكام، من غير تقييد بلون أو عنصر، كما في قوله تعالى: وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (4)، فأوجب الحجّ على الناس إذا استطاعوا، عربا كانوا أم غيرهم، و لو كانت رسالته عنصرية، لكان عليه أن يقول: «و للّه على الأمة العربية - مثلا - حجّ بيته».

و هناك وجه رابع لعموم دعوته، و هو أنّه يعرّف كتابه نورا و هدى للنّاس كلهم، و يقول: شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ ، هُدىً لِلنّٰاسِ (5)و يقول: وَ لَقَدْ ضَرَبْنٰا لِلنّٰاسِ فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (6).

هذه الوجوه الأربعة، تهدف إلى أمر واحد، و إن كانت تختلف في طريقة

ص: 474


1- سورة الفرقان: الآية 1.
2- سورة الأنعام: الآية 19.
3- سورة البقرة: الآية 21. و لاحظ سورة البقرة: الآية 168.
4- سورة آل عمران: الآية 97.
5- سورة البقرة: الآية 185.
6- سورة الزمر: الآية 27.

البرهنة، فقد اعتمد في الوجه الأول، على تصريح القرآن بعموم رسالته؛ و في الوجه الثاني، على نداءاته العامة؛ و في الوجه الثالث، على أنّ الموضوع لأحكامه و تشريعاته، أمر عام، و في الوجه الرابع، على أنّ القرآن يعرّف هدايته و إنذاره، أمرا عاما للناس كلّهم.

و هناك وجه خامس يتصل اتصالا وثيقا بطبيعة الإسلام و قوانينه و تشريعاته، و هو أنّ القرآن في تشريعاته لا يعتمد إلاّ على مقتضى الفطرة التي فطر عليها بنو البشر كلّهم، فإذا كان الحكم موضوعا على طبق الفطرة الإنسانية، الموجودة في جميع الأفراد، فلا وجه لاختصاصه بإقليم دون إقليم، أو شعب دون شعب.

هذا هو الإسلام، و تعاليمه القيمة و معارفه و سننه، فهل تجد فيها ما يشير إلى كونه دينا إقليميا، أو شريعة لفئة محدودة ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم و أمارات، أهمها أنّه يعتمد في معارفه و تشريعاته على ظروف بيئته و خصوصيات منطقته، بحيث لو فرض فقدانها، لأصبحت السنن و الطقوس التي يعتمد عليها الدين، سرابا يحسبه الظمآن ماء.

و نحن في غنى عن سرد آيات الذكر الحكيم التي تتبنى معارف و تشريعات تقتضي بطبيعتها كونها دواء للمجتمع الإنساني في جميع الأقطار و الأزمان، فقوله سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ الآية(1)؛ و قوله: إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (2)، و قوله: إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (3)، و غير ذلك من تشريعاته في حقول الاقتصاد و الاجتماع و السياسة و الأخلاق، مما تقتضي بطبيعتها، العمومية لجميع البشر و المجتمعات.

ص: 475


1- سورة النحل: الآية 90.
2- سورة النساء: الآية 58.
3- سورة المائدة: الآية 90.

و أمّا السنة الشريفة، فيكفي في ذلك قوله صلى اللّه عليه و آله، في الخطاب الذي ألقاه في داره، حينما وفد إليه أعمامه و أخواله، و من كانت له به صلة:

«و اللّه الذي لا إله إلاّ هو، إنّي رسول اللّه إليكم خاصة، و إلى الناس عامة»(1).

و أمّا في سيرته في حقل الدعوة، فيكفي في ذلك وثائقة السياسية، و مكاتيبه التي وجّهها إلى أصحاب العروش و ملوك العالم، ككسرى ملك الفرس، و قيصر ملك الروم، و المقوقس عظيم القبط، و النجاشي ملك الحبشة، و غيرهم(2).

هذا، و إنّ الإسلام حارب العصبية، و النعرات الطائفية، في ظل وحدات ثمان، أعني: وحدة الأمة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع، وحدة الأخوة الروحية، وحدة الجنسية الدولية، وحدة القضاء، و وحدة اللغة العربية، و هو القائل:

«أيّها الناس، إنّ اللّه أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تفاخرها بآبائها، ألا إنّكم من آدم، و آدم من طين، ألا إنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه».

و هو القائل: «إنّ العربية، ليست بأب والد، و لكنها لسان ناطق، فمن قصر عمله، لم يبلغ به حسبه».

و هو القائل: «إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل لعربيّ على عجميّ ، و لا لأحمر على أسود، إلاّ بالتقوى».

و هو القائل: «إنّما الناس رجلان، مؤمن تقي كريم على اللّه، و فاجر شقي هيّن على اللّه»(3).

أ فيصحّ بعد هذه الكلم الدّرّيّة، رمي رسالته، بالطائفية، و العنصرية، و الإقليمية ؟.

ص: 476


1- الكامل لابن الأثير، ج 2، ص 41، و غيره.
2- لاحظ للاطلاع على هذه النصوص، «مكاتيب الرسول»، ج 1، ص 91-240.
3- راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات: السيرة النبوية، ج 2، ص 412. و بحار الأنوار، ج 21، ص 105.
إزالة شبهات

شبهة - ربما يتمسّك بعض القساوسة لتحديد دعوته، بما في الكتاب العزيز من قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أُنْذِرَ آبٰاؤُهُمْ فَهُمْ غٰافِلُونَ (1).

غير أنّ الجواب واضح، أمّا نقضا، فإنّ في نفس هذه السورة التي ورد فيها قوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً ، ما يدلّ بصراحة على عموم دعوته، و هو قوله تعالى:

لِيُنْذِرَ مَنْ كٰانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ (2) .

و أما حلا فإنّ طبيعة إبلاغ الدعوة ربما تقتضي توجيه الكلام إلى قسم خاص، و إنّ كانت الدعوة عالمية، و الرسول في بدء دعوته، كان يمارس هداية قومه أوّلا، ثم من يليهم في منطقة الحجاز، ثم من يليهم، و لأجل ذلك خصّ الخطاب بقومه:

و الشاهد أنّه يقول في آية أخرى: قُلْ إِنَّمٰا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ، وَ لاٰ يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا مٰا يُنْذَرُونَ (3). فيخص الإنذار بالوحي بالمخاطبين، بينما يعمّ الإنذار به كلّ الناس في قوله: أَ كٰانَ لِلنّٰاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ اَلنّٰاسَ (4).

شبهة ثانية - و ربما يتمسك بتخصيص الإنذار بأمّ القرى و من حولها في قوله سبحانه: وَ هٰذٰا كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ مُبٰارَكٌ مُصَدِّقُ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرىٰ وَ مَنْ حَوْلَهٰا (5)، و أمّ القرى إمّا علم من أعلام مكّة، أو كلّي أطلق عليها، فتخصّ الآية دعوته بإطار أمّ القرى و من حولها.

و الجواب أما نقضا: فإنّ في نفس السورة التي وردت فيها تلك الآية ما يدلّ

ص: 477


1- سورة يس: الآية 6. و نظيره، القصص: الآية 46، سورة السجدة: الآية 3، سورة مريم: الآية 97.
2- سورة يس: الآية 70.
3- سورة الأنبياء: الآية 45.
4- سورة يونس: الآية 2.
5- سورة الأنعام: الآية 92، و نظيره سورة الشورى: الآية 7.

على عموم رسالته، لكل من بلغته، فإنّه يقول: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (1).

و أمّا حلا، فعين ما تقدّم في سابقه، من أنّ طبيعة الدعوة، ربما تقتضي توجيه الكلام إلى طائفة خاصة، و إن كانت الدعوة عالمية.

شبهة ثالثة - و ربما يستدلّ بقوله سبحانه: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ، فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2)، على تحديد رسالته، بتوهّم أنّ معنى الآية أنّ كل رسول يوافق لسانه لسان من أرسل إليهم.

و أنت خبير بأنّه تفسير خاطئ، فمعنى الآية هو موافقة لغة الرسول لسان قومه، لا اتحاد لغته مع لسان كل من أرسل إليهم، فمن الممكن أن يكون المرسل إليهم أوسع من قوم الرسول، فهذا إبراهيم دعا عرب الحجاز إلى الحج و هو ليس منهم. و هذا الكليم دعا فرعون إلى الإيمان، و هو عبري و المرسل إليه قبطي.

شبهة رابعة - و ربما يستدل أيضا، بقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هٰادُوا وَ اَلنَّصٰارىٰ وَ اَلصّٰابِئِينَ ، مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ (3)، على تحديد رسالته.

و حاصل الاستدلال هو أنّ المتبادر من الآية هو نجاة أصحاب الشرائع السابقة حتى بعد بعثة الرسول الأكرم، إذا كانوا مؤمنين باللّه و اليوم الآخر و عملوا صالحا. فهذه الآية تعطي الضوء الأخضر لنجاة اليهود و النصارى و الصابئين إذا كانوا ملتزمين بهذه الشروط، و إن لم يعتنقوا رسالة الرسول الأعظم، أو لم يعملوا بأحكامه و تشريعاته. و هذا لا يجتمع مع القول بأنّ رسالته عالمية يجب على كلّ الناس اعتناقها.

ص: 478


1- سورة الأنعام: الآية 19.
2- سورة إبراهيم: الآية 4.
3- سورة البقرة: الآية 62. و لاحظ المائدة: الآية 69.

و الجواب: إنّ الاستدلال نجم من الجمود على نفس الآية، و الغفلة عما ورد حولها من الآيات. و مثل هذه الآية لا يصح تفسيره إلاّ على نمط التفسير الموضوعي، و استنطاق الآية بأختها، و عرض البعض على البعض حتى يهتدى إلى معالمها. و سيوافيك أنّ الآية - بقرينة الآيات التي تتلوها - بصدد تفنيد المزاعم الباطلة لليهود و النصارى، و ليست بصدد إمضاء الشرائع السالفة، بعد ظهور النبي الأكرم، و إليك البيان.

1 - تفنيد فكرة الشعب المختار

كان اليهود و النصارى يتبنون فكرة الشعب المختار، فكل من الطائفتين تدعي أنّها أسمى بني البشر. و قد نقل القرآن الكريم هذه الفكرة السخيفة عن كلتا الطائفتين بقوله: وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصٰارىٰ نَحْنُ أَبْنٰاءُ اَللّٰهِ وَ أَحِبّٰاؤُهُ ، قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ... (1).

فقوله: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ، تفنيد لهذا الزّعم، و يدلّ على أنّهم و غيرهم عند اللّه سواسية، فهو سبحانه يثيب المطيع، و يعذب العاصي.

و قد بلغت أنانية اليهود و استعلاؤهم الزائف حدا، تفوهوا بما يحكيه سبحانه عنهم بقوله: وَ قٰالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّٰارُ إِلاّٰ أَيّٰاماً مَعْدُودَةً (2).

و القرآن يفنّد هذا الزعم، بشكل الاستفهام الإنكاري، و يقول: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ عَهْداً، فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّٰهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (3).

فهكذا، نستكشف من خلال هذه المزاعم و ردودها أنّ اليهود كانوا - و لا يزالون - يعدّون أنفسهم صفوة البشرية، و نخبة الشعوب. و كانوا يحاولون بمثل

ص: 479


1- سورة المائدة: الآية 18.
2- سورة البقرة: الآية 80.
3- سورة البقرة: الآية 80.

هذه المزاعم، فرض كيانهم على العالم، كأرفع نوع بشريّ انتخبه اللّه من بين سائر البشر، حتى كأنّهم أبناء اللّه المدلّلون.

2 - النجاة رهن العمل و الالتزام

كانت الطائفتان (اليهود و النصارى)، تزعمان أنّ الانتساب اسما إلى شريعة موسى أو المسيح، وسيلة النجاة. كما كان اليهود بالخصوص يزعمون أنّ الانتساب إلى «إسرائيل»، ينقذ من عذاب اللّه سبحانه؛ و لأجل ذلك قالوا:

لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّٰ مَنْ كٰانَ هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ (1) .

و معنى هذا القول، أنّ بإمكان الانتساب إلى «إسرائيل»، أو كون الإنسان يهوديّا أو نصرانيا بالاسم، أن يجعل الإنسان سعيدا، مالكا لمفاتيح الجنة. و يردّ القرآن عليهم، بأنّ الوسيلة الوحيدة لامتلاك الجنة، ليس هو «الانتساب»، و لا التجنّن «بالتسمية»، بل هو الإيمان الصادق و العمل الصالح، يقول تعالى: تِلْكَ أَمٰانِيُّهُمْ ، قُلْ هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * بَلىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ ، فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ (2).

فقوله: بَلىٰ مَنْ أَسْلَمَ ، يعني الإيمان الخالص، و التسليم الصادق للّه.

و قوله: وَ هُوَ مُحْسِنٌ ، يعني العمل بالشريعة التي يؤمن الفرد بها.

و كلتا الجملتين تدلاّن على أنّ السبيل الوحيد إلى النجاة في يوم القيامة هو الإيمان و العمل، لا اسم اليهودية أو النصرانية، و لا الانتساب إلى بيت النبوّة، فليست المسألة أسماء، و لا مسألة انتساب، و إنّما هي مسألة إيمان صادق، و عمل صالح.

ص: 480


1- سورة البقرة: الآية 111.
2- سورة البقرة: الآية 111 و 112.
3 - الأصالة للتوحيد لا لليهودية و لا للنصرانية

لقد كان لهاتين الطائفتين ادعاء ثالث، هو أنّ الهداية الحقيقة، في اعتناق اليهودية أو النصرانية، كما يحكيه عنهم القرآن بقوله: وَ قٰالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ تَهْتَدُوا (1).

و القرآن يردّ عليهم هذا الزعم الواهي بقوله: بَلْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (2). مشيرا إلى أنّ الهداية الحقيقية، هي في الأخذ بملة إبراهيم، و اعتناق مذهبه في التوحيد الخالص من كل شائبة. فإذا عمّتهما الهداية، فإنّما هو لأخذهم بالحنيفية الإبراهيمية، لا لاعتناق اليهودية و المسيحية، فلا أصالة لهما، إلاّ إذا كانتا مشتملين على جوهر التوحيد الإبراهيمي و حنيفيّته.

و قد بلغت جسارة الطائفتين إلى حدّ أنّهم حاولوا إضفاء طابع اليهودية و المسيحية على إبراهيم، ليحصلوا بذلك على دعم جديد لمعتقداتهما، و يضفوا الشرعية على مسلكيهما. و لكن القرآن عاد إلى تفنيد هذه المزعمة الثالثة، كما فند المتقدمتين، بقوله: مٰا كٰانَ إِبْرٰاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لاٰ نَصْرٰانِيًّا، وَ لٰكِنْ كٰانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (3).

فهذه المقدمات، تثبت أنّ اليهود و النّصارى كانوا يتبنون هذه الأفكار الواهية الثلاثة:

1 - الرفعة على البشر أجمعين.

2 - كفاية مجرد الانتساب إلى مذهبهما في النجاة.

3 - اختصاص سبيل الهداية بالطائفتين.

فجاء القرآن يفنّد كلّ واحدة من هذه المزاعم، مستقلاّ، بعد نقلها، بالآيات التي عرفت. ثم يفندها جميعها بصورة إجمالية، بالآية التي وقعت ذريعة

ص: 481


1- سورة البقرة: الآية 135.
2- الآية السابقة نفسها.
3- سورة آل عمران: الآية 67.

لمنكري عالمية الرسالة، و هدف الآية أنّ فكرة الشعب المختار، أو كون النجاة رهن الانتساب و التسمية، أو اختصاص الهداية بإحدى الطائفتين، أمر باطل لا أساس له، فإنّ النجاة و الجنة يعمّان جميع البشر و جميع الطوائف، إذا كانوا مؤمنين باللّه و اليوم الآخر، و عاملين بالصالحات، من غير فرق بين إنسان و إنسان، و شعب و آخر، فلا استعلاء و لا تفوق لطائفة على غيرها، و لا الانتساب و التسمية ينجيان أحدا في العالم، و لا الهداية رهن اعتناق أحد المذهبين، و إنّما النجاح و الفوز و الصلاح في الإيمان و العمل الصالح. و هذا الباب مفتوح في وجه كل إنسان، يهوديا كان أو نصرانيا أو صابئيا.

فالآية بصدد تفنيد هذه المزاعم، و أمّا الاعتراف بإقرار الإسلام لشرعية الشرائع السابقة، بعد ظهوره، فليس لها دلالة على ذلك و لا إشعار، بشرط التوقف و الإمعان في الأفكار التي كانت الطائفتان تتبناهما.

و ممّا يوضح المراد من هذه الآية، قوله: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْكِتٰابِ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَكَفَّرْنٰا عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ ، وَ لَأَدْخَلْنٰاهُمْ جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ (1). فتصرّح الآية بانفتاح أبواب الجنة في وجه البشر، من غير انحصار بجماعة دون جماعة، حتى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون، لقبلنا إيمانهم، و كفرنا عنهم سيئاتهم.

و مثله قوله سبحانه في سورة العصر: وَ اَلْعَصْرِ * إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ ، وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ (2).

و أمّا كفاية الإيمان و العمل الصالح، فقط، و عدم لزوم شيء آخر من المعارف و العقائد و الأعمال، فليست الآية، بصدد بيانها نفيا أو إثباتا، و إنّما يرجع فيها إلى الآيات الأخر.

و إذا أردت أن تصوغ الجواب في أسلوب منطقي، فقل: إنّ الحصر في

ص: 482


1- سورة المائدة: الآية 65.
2- سورة العصر.

الآية، حصر نسبي إضافي، بمعنى أنّ المؤثر في النجاة من النار، و الفوز بالجنة، إنّما هو الإيمان و العمل الصالح، و أمّا عدم دخالة شيء آخر كالأصول الثلاثة التي يتبناها اليهود و النصارى أو دخالته، فليست الآية في مقام تبيينه إثباتا أو نفيا، حتى يكون دليلا على إقرار الآية بشرعية الشرائع السابقة.

و بعبارة أخرى: إنّ الآية ساكتة عن بيان ما هو حقيقة الإيمان باللّه و ما هو شرطه، و ما هو المقصود من العمل الصالح، و كيف يتقبل، و إنّما يطلب ذلك من سائر الآيات.

و قد دلّت الآيات القرآنية على أنّ الإيمان باللّه لا ينفك عن الإيمان بأنبيائه، و الإيمان بأنبيائه، لا ينفك عن الإيمان بنبيه الخاتم، قال سبحانه: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مٰا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمٰا هُمْ فِي شِقٰاقٍ (1).

كيف و قد عدّت الآيات القرآنية الإيمان بالرسول مقوّما لحقيقة الإيمان، فقالت: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ (2)إلى هنا تمّ البحث عن عالمية رسالة الرسول الأكرم، و تمّ ردّ الشبهات التي قد تورد حوله، و يقع البحث في السمة الثانية لرسالته و هي خاتميتها، و هو من الموضوعات المهمّة التي لا يكون المسلم مسلما إلاّ بالإيمان بها.

ص: 483


1- سورة البقرة: الآية 137.
2- سورة النور: الآية 62.

ص: 484

السمة الثانية خاتمية الرسالة
اشارة

اتفقت الأمّة الإسلامية عن بكرة أبيها، على أنّ نبيّها محمدا صلى اللّه عليه و آله، خاتم النبيين، و أنّ شريعته خاتمة الشرائع، و كتابه خاتم الكتب و الصحف، فهو آخر السفراء الإلهيين، أوصد به باب الرسالة و النبوّة، و ختمت به رسالة السماء إلى الأرض، و أنّ دين نبيّها، دين اللّه الأبدي، و أنّ كتابه، كتاب اللّه الخالد، و قد أنهى اللّه إليه كل تشريع، فاكتملت بدينه و كتابه الشرائع السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض.

و يدلّ على ذلك نصوص من الكتاب و السنّة، نستعرضها فيما يلي:

أ - الخاتمية في الكتاب العزيز
اشارة

لقد نصّ القرآن الكريم على الخاتمية تنصيصا لا يقبل الشك، و لا يرتاب فيه من له أدنى إلمام باللغة العربية، و ذلك في مواضع:

1 - التنصيص على أنّه خاتم النبيين
اشارة

قال سبحانه: مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ ، وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ ، وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (1).

ص: 485


1- سورة الأحزاب: الآية 40.

و تتضح دلالة الآية بنقل سبب نزولها:

تبنّى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، زيدا، قبل بعثته. و كان العرب ينزّلون الأدعياء منزلة الأبناء في أحكام الزواج و الميراث، فأراد سبحانه أن ينسخ تلك السنة الجاهلية، فأمر رسوله بتزوّج زينب، زوجة زيد، بعد مفارقته لها.

فأوجد ذلك الزواج ضجة بين المنافقين، و المتوغلين في النزعات الجاهلية، فأخمد اللّه تعالى أصواتهم بقوله: مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ ، أي من الذين لم يلدهم، و منهم زيد، وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ و هو لا يترك ما أمره اللّه به، وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ أي آخرهم، ختمت به النبوة، فلا نبي بعده، و لا شريعة سوى شريعته، فنبوته أبدية، و شريعته باقية إلى يوم القيامة.

الخاتم و ما يراد منه

الخاتم، بفتح التاء، كما عليه قراءة عاصم، أو بكسرها كما عليه الباقون، يدلّ على أنّ باب النبوة ختمت به. و ذلك لأنّه على الكسر، اسم فاعل من ختم يختم، فهو خاتم، و على الفتح، يحتمل وجوها ثلاثة:

أ - إنّه اسم بمعنى ما يختم به، أي المختوم به باب النبوة، فوجوده صلى اللّه عليه و آله في سلسلة الأنبياء، كالختم و الإمضاء في الرسائل. فكما أنّ الرسائل تختم في نهايتها، بالختم و الإمضاء، فكذا سلسلة الأنبياء ختمت بوجوده، فهو خاتم الأنبياء.

ب - إنّه فعل، «خاتم» ك «ضارب»، فهو صلى اللّه عليه و آله ختم باب النبوة.

ج - إنّه اسم بمعنى «آخر»، أي آخر النبيين و نهايتهم.

قال أبو محمد الدميري في منظومته:

و الخاتم الفاعل قل بالكسر *** و ما به يختم فتحا يجري(1)

ص: 486


1- التيسير في علوم التفسير، ص 90.

فأشار في هذا البيت إلى الوجهين، و أنّه بالكسر اسم فاعل، و بالفتح اسم بمعنى ما يختم به.

و قال البيضاوي: «و خاتم النبيين: آخرهم الذي ختمهم»(1).

و في هذا إشارة إلى المعنى الثالث.

ثم إنّ الختم له أصل واحد، و هو بلوغ آخر الشيء، يقال: ختمت العمل، و ختم القارئ السورة. و الختم، و هو الطبع على الشيء، فذلك من هذا الباب أيضا، لأنّ الطبع على الشيء لا يكون إلاّ بعد بلوغ آخره(2).

و قد جاء هذا اللفظ في القرآن في موارد لا يشذّ واحد منها عن هذا الأصل، فمن ذلك.

قوله تعالى: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتٰامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذٰلِكَ فَلْيَتَنٰافَسِ اَلْمُتَنٰافِسُونَ (3)، أي من الشراب الخالص الذي لا غش فيه، تختم أوانيه و تسدّ بمسك.

و قوله تعالى: اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلىٰ أَفْوٰاهِهِمْ ، وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (4). أي نطبع على أفواههم، فتوصد، و تتكلم أيديهم و أرجلهم.

فاتضح مما ذكرناه، أنّ الآية صريحة في أنّ النبي الأكرم، نهاية سلسلة الأنبياء، و أنّه قد ختم بنبوته باب النبوة و أوصده إلى يوم القيامة.

ص: 487


1- أنوار التنزيل، في تفسير سورة الأحزاب، الآية 40.
2- مقاييس اللغة، مادة «ختم».
3- سورة المطففين: الآيتان 25 و 26.
4- سورة يس: الآية 65، و البقرة: الآية 7، و الأنعام: الآية 46، و الشورى: الآية 24، و الجاثية: الآية 23.
تشكيك ضئيل

إنّ هنا تشكيكا اختلقته بعض الطوائف(1) الخارجة عن الإسلام، العميلة لأعدائه، فقالت إنّ المراد من الخاتم في قوله، عزّ من قائل: خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ ، الحلية التي يزيّن بها الإصبع. و المراد أنّ النبي الأكرم زينة النبيين، كما أنّ الخاتم زينة يد الإنسان، فهو بين تلك العصابة، كالخاتم في يد لابسه.

و هذه شبهة واهية للغاية، نجمت - إن لم تكن متعمدة - من الجهل باللغة العربية، و ذلك لوجوه:

أولا - إنّه لم يعهد استعارة الخاتم في اللغة العربية، للزينة، فلا يقال إنّه خاتم القوم، أي زينتهم و حليتهم، فكيف يستعيره القرآن في هذا المعنى، و هو في قمة البلاغة ؟!.

و ثانيا - لو كان الهدف تشبيه النبي بالخاتم في كونه حلية، لكان المناسب أن يشبهه بالتاج و الإكليل، إذ هما أبلغ في بيان المقصود، أعني الزينة.

و ثالثا - إنّ الخاتم ليس له إلاّ أصل واحد، و هو ما يختم به، و لو استعمل في حلية الإصبع، فذلك من باب إطلاق الكلّي على الفرد، لأنّ الدارج في عهد الرسالة إنهاء الكتاب بالخاتم، فكانت خواتمهم أختامهم، لا أنّه وضع لحلية الإصبع وضعا على حدة.

و يدلّ على ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته، من أنّ رسول اللّه أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام و كتب إليهم كتبا، فقيل يا رسول اللّه: إنّ الملوك لا يقرءون كتابا إلاّ مختوما، فاتّخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يومئذ، خاتما من فضة، فصّه منه(2)، نقشه ثلاثة أسطر:

«محمد»، «رسول»، «اللّه»، و ختم به الكتب(3).

ص: 488


1- كالبهائية و القاديانيّة.
2- كذا في النسخة، و الأولى: «منها»، و لعل التذكير باعتبار رجوع الضمير إلى الخاتم.
3- الطبقات الكبرى، ج 1، ص 248. و لاحظ مقدمة ابن خلدون ج 1، ص 220، تجد فيه بسطا في الكلام.

فظهر ممّا قدمنا أنّ الخاتم بمعنى ما يختم به، و له مصاديق، فتارة يختم بحلية الإصبع، و أخرى بشيء مثل الشمع، و ثالثة بمثل الطين، و أشياء أخرى درجت حديثا.

و أضعف من ذلك احتمال أن يكون المراد من قوله تعالى: وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ ، أنّه مصدّق للنبيين، فاستعارة الخاتم له، لأجل أنّه صلى اللّه عليه و آله مصدّقهم كالخاتم المصدّق لمضامين الكتب.

و يردّه، أولا: لو كان المراد هو تصديق النبيين، فلم عدل عن التعبير الصريح، إلى هذا التعبير المعقد، مع أنّه استعمل لفظ مصدّق دون الخاتم عند ما أراد بيان تصديق نبيّ لنبيّ آخر؛ فقال: وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ (1).

و كذلك عند ما أراد بيان تصديق لكتاب لكتاب؛ فقال: وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ ، مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ (2).

و ثانيا - ليس الخاتم نفسه مصدّقا، و إنّما هو آلة التصديق، و ما يصدّق به، و إنّما المصدّق من يستعمل الختم، و هذا بخلاف النبي فإنّه بنفسه مصدق.

و لعمري، لو لا شيوع التشكيك بين البسطاء من غير العرب، لكان الأولى ترك التعرض له.

نعم، هنا تشكيك آخر قابل للطرح و الذكر، و إليك بيانه.

تشكيك آخر

إنّ المختوم في الآية المباركة هو منصب النبوة لا الرسالة، حيث قال:

خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ . و ختم باب النبوة، لا يلازم ختم باب الرسالة، فهو مفتوح على مصراعيه في وجه الأمة، و لم يوصد.

ص: 489


1- سورة الصف: الآية 6.
2- سورة المائدة: الآية 48.

و الجواب: إنّ رفع التشكيك يتوقف على تبيين الفرق بين النبوة و الرسالة، و بالتالي يعلم الفرق بين النبي و الرسول، فنقول:

النّبوّة منصب معنوي يستدعي الاتصال بالغيب بإحدى الطرق المألوفة، و الرسالة سفارة للمرسل (بالفتح) من جانبه سبحانه لإبلاغ ما أوحي إليه، إلى المرسل إليه، أو تنفيذ ما تحمّله منه سبحانه، في الخارج.

و بعبارة أخرى: النبوة، تحمل الأنباء؛ و الرسالة، إبلاغ ما تحمّله من الأنباء، بالتبشير و الإنذار، و التنفيذ.

و لأجل مناسبة الوحي لمقام النبوة، و التبليغ لمقام الرسالة، يقول سبحانه:

إِنّٰا أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ كَمٰا أَوْحَيْنٰا إِلىٰ نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ (1) .

و يقول: يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (2). و يقول:

قٰالَ إِنَّمٰا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا (3) .

و في ضوء هذا يعلم الفرق بين النبيّ و الرّسول، فالنبيّ هو الإنسان الموحى إليه بإحدى الطرق المعروفة، و الرسول هو(4) الإنسان القائم بالسفارة من اللّه، للتبشير، أو لتنفيذ عمل في الخارج، أيضا.

إذا عرفت ذلك؛ فنقول: لو فرض إيصاد باب النبوة، و ختم نزول الوحي إلى الإنسان، كما يفيده قوله: خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ ، فعند ذلك يختم باب الرسالة الإلهية أيضا، لأنّ الرسالة هي إبلاغ أو تنفيذ ما تحمله الرسول عن طريق الوحي، فإذا انقطع الوحي و الاتصال بالمبدإ الأول، فلا يبقى للرسالة موضوع.

ص: 490


1- سورة النساء: الآية 163.
2- سورة المائدة: الآية 67. هذا في مجال التبليغ.
3- سورة مريم: الآية 19. هذا في مجال التنفيذ.
4- المقصود تعريف الرسول المصطلح، فلا ينافي إطلاقه على الملك، مثل قوله تعالى: حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنٰا (سورة الأنعام: الآية 61). أو على الإنسان العادي: فَلَمّٰا جٰاءَهُ اَلرَّسُولُ قٰالَ اِرْجِعْ إِلىٰ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مٰا بٰالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاّٰتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ... (سورة يوسف: الآية 50).

فإذا كان النبي الأكرم خاتم النبيين، أي مختوما به الوحي و الاتصال بالغيب، فهو خاتم الرّسل أيضا. و هذا واضح لمن أمعن النظر في الفرق بين النبوة و الرسالة(1).

2 - التنصيص على أنّ القرآن لا يأتيه الباطل

قال سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّٰا جٰاءَهُمْ ، وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ * لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (2).

و المقصود من الذكر هو القرآن، لقوله سبحانه: ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْآيٰاتِ وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ (3).

أضف إليه أنّ قوله: وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ ، يفسّر الذكر، و هو لا ينطبق إلاّ على القرآن.

و الضمير في قوله: لاٰ يَأْتِيهِ ، يرجع إلى الذكر، و مفاد الآية أنّ الباطل لا يتطرق إليه، و لا يجد إليه سبيلا أبدا، بأي نحو كان، و دونك صورة:

1 - «لا يأتيه الباطل»، أي لا ينقص منه شيء و لا يزيد فيه شيء.

2 - «لا يأتيه الباطل»، أي لا يأتيه كتاب يبطله و ينسخه، فهو حق ثابت لا يبدّل و لا يغيّر و لا يترك.

3 - «لا يأتيه الباطل»، أي لا يتطرق الباطل إليه في إخباره عمّا مضى، و لا في إخباره عمّا يأتي، و لا يتخلف الواقع عنه قيد شعرة.

و على ضوء هذا، فإطلاق الآية ينفي كلّ باطل يتصور، و أنّ القرآن حقّ لا

ص: 491


1- إن لشيخنا الأستاذ، دام مجده، رسالة خاصة في الفرق بين النبي و الرّسول، لاحظ موسوعته القرآنية، مفاهيم القرآن، الجزء الرابع، ص 315-370.
2- سورة فصلت: الآيتان 41-42.
3- سورة آل عمران: الآية 58.

يدخله الباطل إلى يوم القيامة، و مثل هذا لا يصح أن يكون حجة في أمد محدود، بل يكون متّبعا، بلا حدّ، لأنّ خاصيّة الحقّ المطلق، و المصون عن تطرق الباطل مطلقا، هو كونه حجة لا إلى حدّ خاص، و اللّه سبحانه تعهد في الذكر الحكيم بإحقاق الحق و إبطال الباطل، كما قال: لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبٰاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ (1).

و بعبارة أخرى: إنّ الشريعة الجديدة، إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقّة - كما نصّت الآية - التي لا يقارنها و لا يدانيها الباطل، أو غيرها، كلاّ أو جزء.

فعلى الأول، يكون إنزال الشريعة الثانية لغوا.

و على الثاني، تكون كلتا الشريعتين حقّة، فيلزم كون المتناقضين حقّا، و هو غير معقول.

فالآية صريحة في نفي أي تشريع بعد القرآن، و شريعة غير الإسلام، فتدلّ بالملازمة على نفي النبوة التشريعية بعد نبوته.

نعم، الآية لا تفي بنفي النبوة الترويجية، التبليغية، لغير شريعة الإسلام، و إنّما المتكفل له هي الآية الأولى.

3 - التنصيص على الإنذار لكل من بلغ

قال سبحانه: قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهٰادَةً ، قُلِ اَللّٰهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (2).

فالآية صريحة في أنّ النبي صار مأمورا بالإنذار، بقرآنه، لكل من بلغه

ص: 492


1- سورة الأنفال: الآية 8.
2- سورة الأنعام: الآية 19.

إلى يوم القيامة. فمن بلغه القرآن، فكأنّما رأى محمدا صلى اللّه عليه و آله، و سمع منه، و حيثما يأتيه القرآن، فهو داع له و نذير.

و قوله: وَ مَنْ بَلَغَ ، معطوف على الضمير المنصوب المتصل في قوله:

لِأُنْذِرَكُمْ ، لا على الفاعل المستتر، أعني ضمير المتكلم. فمن بلغه القرآن، منذر (بالفتح) لا منذر.

4 - التنصيص على أنّه نذير للعالمين

قال تعالى: تَبٰارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقٰانَ عَلىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعٰالَمِينَ نَذِيراً (1).

هذه الآية كما تدلّ على عالمية رسالته، دالّة على خاتميته إلى يوم القيامة.

و اختلف أهل اللغة في مفاد العالمين(2)، و لكن المراد به في المقام كلّ الناس، و نظيره قوله تعالى - حاكيا عن لسان لوط عليه السلام -: قٰالَ إِنَّ هٰؤُلاٰءِ ضَيْفِي فَلاٰ تَفْضَحُونِ * وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ لاٰ تُخْزُونِ * قٰالُوا: أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ (3).

أي قالوا في جوابه: أو ليس كنا قد نهيناك أن تستضيف أحدا من الناس.

و بذلك يتضح عدم صحة ما يروى في تفسير العالمين بأنّ المراد الجن و الإنس، أو الجنّ و الملائكة، إذ لا معنى لنهي قوم لوط، نبيّهم عن استضياف هؤلاء.

ص: 493


1- سورة الفرقان: الآية 1.
2- و قد اختلف أهل اللغة في معني «العالم»، الذي يجمع على عالمين، على أقوال: 1 - إنّه اسم للفلك و ما يحويه من الجواهر و الأعراض، و هو في الأصل اسم لما يعلم به، كالطابع، و الخاتم، لما يطبع و يختم به. و أما جمعه، فلأنّ كلّ نوع من هذه قد يسمى عالما: عالم الإنسان، و عالم الماء، و عالم النّار... 2 - إنّه اسم لأصناف الخلائق من الملك و الجنّ و الإنس. 3 - إنّه الإنسان، و الجمع باعتبار كون كلّ واحد عالما. (مفردات الراغب، صفحة 349).
3- سورة الحجر: الآيات 68-70.

و نظيره قوله سبحانه - حكاية عن لوط عليه السلام في الردّ على قومه -:

أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرٰانَ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ (1) ، فالمراد منه هو الناس، بلا ريب، لا الجن و لا الملائكة.

و ما ذكرنا من المعنى هو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«عنى به الناس، و جعل كلّ واحد عالما»(2).

و على كل تقدير، فسواء أ كان المراد من العالمين في الآيات الأخر غير هذا، أو كان هذا، فالمراد من قوله: نذيرا للعالمين، عموم البشر، أو مطلق من يعقل. فالآية صريحة في أنّ إنذاره لا يختص بناس دون ناس، أو زمان دون زمان، فهو على إطلاقه، يعطي كونه نذيرا للأمم البشرية، بلا قيد و حدّ.

و ربما يقال إنّ «العالمين» يطلق و يراد منه الجمّ الغفير من الناس، كما في قوله سبحانه: يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (3) و يقال: «رأيت عالما من الناس»، يراد به الكثرة. و عند ذاك لا تكون الآية صريحة في عموم رسالته لجميع البشر إلى يوم القيامة.

و الجواب: إنّ المتبادر من اللفظ هو عموم الخلائق، كما في قوله سبحانه:

قٰالَ فِرْعَوْنُ : وَ مٰا رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ * قٰالَ : رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (4) . و استعماله في غير ذلك يحتاج إلى قرينة، و لأجل ذلك يحمل على المعنى الحقيقي في الآيات التالية:

وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعٰالَمِينَ (5) .

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُدىً لِلْعٰالَمِينَ (6) .

ص: 494


1- سورة الشعراء: الآية 165.
2- مفردات الراغب، ص 349.
3- سورة البقرة: الآية 47.
4- سورة الشعراء: الآيتان 23 و 24.
5- سورة آل عمران: الآية 108.
6- سورة آل عمران: الآية 96.

أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرٰانَ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ (1) .

أَ تَأْتُونَ اَلْفٰاحِشَةَ مٰا سَبَقَكُمْ بِهٰا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ (2) .

و أما ما ذكر من الآية، فليس ظاهرا في كون المراد منه الجمّ الغفير، بل كلّ الناس، غاية الأمر أنّها خصّصت بأهل عالمي زمانهم، مثل قوله سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفٰاكِ عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ (3).

و على أي تقدير فسواء فسّرت الآية، بالجمّ الكثير من الناس، أو خصّصت بأهل عالمي زمانهم، فإنّما هو لقرينة صارفة عن ظاهرها، حيث إنّ القرآن دلّ على أنّ الأمّة الإسلامية أفضل الأمم، مثل قوله سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (4). و دلّت الأحاديث على أنّ ابنة النبيّ الأكرم، فاطمة عليها السالم، مثل مريم أو أفضل منها(5). فهذه و تلك صارتا قرينتين على صرف الآيتين(6) عن ظاهريهما، و أمّا غيرهما فيحمل على المعنى الحقيقي، أي الناس كلّهم إلى يوم القيامة.

ص: 495


1- سورة الشعراء: الآية 165.
2- سورة الأعراف: الآية 80.
3- سورة آل عمران: الآية 42.
4- سورة آل عمران: الآية 110.
5- أخرج البخاري و مسلم و الترمذي في صحاحهم عن عائشة قالت: إنّ النّبيّ صلى اللّه عليه و آله قال لفاطمة في أخريات أيامه: «ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء المؤمنين أو سيّدة نساء هذه الأمّة»، (لاحظ التاج الجامع للأصول، ج 3، ص 314). و أخرج ابن سعد عن مسروق عن عائشة في حديث أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله أسرّ إلى فاطمة عند مرضه و قال: «أ ما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة، أو نساء العالمين». (الطبقات الكبرى، ج 8، ص 27. و حلية الأولياء، ج 2، ص 40)، و لو لا هذه الأحاديث لقلنا بتفضيل مريم على نساء العالمين إلى يوم القيامة، كما أنّه لو لا صراحة الآية في تفضيل هذه الأمة لقلنا بتفضيل بني إسرائيل على الناس كلّهم إلى يوم القيامة.
6- سورة البقرة: الآية 47 و سورة آل عمران: الآية 42.
5 - التنصيص على كونه مرسلا إلى الناس كافّة
اشارة

قال سبحانه: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً، وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (1).

المتبادر من الآية كون «كافّة»، حالا من النّاس، قدّمت على ذيها، و تقدير الآية: و ما أرسلناك إلاّ للناس كافّة، بشيرا و نذيرا، و قد استعمل «كافّة» بمعنى «عامّة»، في القرآن الكريم كثيرا، قال سبحانه: وَ قٰاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمٰا يُقٰاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (2). و الآية دليل على كون رسالته عالمية، كما أنّها دليل على أنّه كان مبعوثا إلى كافة الناس إلى يوم القيامة.

و أمّا جعل لفظ كَافَّةً حالا من الضمير المتصل في قوله:

أَرْسَلْنٰاكَ ، ليعود معنى الآية: و ما أرسلناك إلاّ أن تكفّهم و تردعهم، فبعيد عن الأذهان، أضف إلى ذلك أنّ قوله في ذيل الآية: بَشِيراً وَ نَذِيراً ، كاف في هذا المعنى، لأنّ التبشير و الإنذار يتكفلان الكفّ و الردع عن المحرمات، و قد فهم الصحابة من الآية ما ذكرناه(3).

إشارات إلى الخاتمية في الذكر الحكيم

ما ذكرنا من الآيات كانت تصريحات بالخاتمية، و هناك آيات تشير إليها إذا أمعن النظر في مضامينها، و إليك نقل بعضها.

1 - قال سبحانه: وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ ، وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ عَمّٰا جٰاءَكَ

ص: 496


1- سورة سبأ: الآية 28.
2- سورة التوبة: الآية 36. و لاحظ أيضا البقرة: 208، و التوبة: 122.
3- روى ابن سعد في طبقاته عن خالد بن معدان، قال: قال رسول اللّه (ص): «بعثت إلى الناس كافّة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب...» و في نقل آخر عن أبي هريرة: «أرسلت إلى الناس كافة، و بي ختم النبيون». (الطبقات الكبرى، ج 1، ص 172).

مِنَ اَلْحَقِّ ، لِكُلٍّ جَعَلْنٰا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهٰاجاً، وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً ، وَ لٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مٰا آتٰاكُمْ .. (1) .

المهيمن هو الرّقيب(2)، فكتاب النبي الأكرم مهيمن على جميع الكتب النازلة من قبل و هو (مهيمنا عليه) متمم لقوله: مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتٰابِ . تتميم إيضاح، إذ لولاه لأمكن أن يتوهم من تصديق القرآن للتوراة و الإنجيل أنّه يصدّق ما فيهما من الشرائع و الأحكام، تصديق إبقاء، من غير تغيير و تبديل، لكن توصيفه بالهيمنة يبين أنّ تصديقه لهما بمعنى تصديق أنّها شرائع حقّة من عند اللّه، و أنّ للّه أن يتصرف فيها ما يشاء بالنسخ و الإكمال، كما يشير إليه قوله - في ذيل الآية -: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ لٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مٰا آتٰاكُمْ .

2 - قال سبحانه: أَ فَغَيْرَ اَللّٰهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتٰابَ مُفَصَّلاً، وَ اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ، فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ * وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لاٰ مُبَدِّلَ لِكَلِمٰاتِهِ ، وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (3).

و قوله: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ... ، يدلّ على إيصاد باب الوحي، و انقطاعه إلى يوم القيامة، و تمامية الشرائع النازلة من اللّه سبحانه، طوال قرون، إلى سفرائه.

و المراد من الكلمة، الشرائع الإلهية، كما في قوله: وَ صَدَّقَتْ بِكَلِمٰاتِ رَبِّهٰا وَ كُتُبِهِ (4)، و معنى الآية: تمّت الشرائع السماوية بظهور الدعوة المحمدية، و نزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب، و صارت مستقرة في محلها، بعد ما

ص: 497


1- سورة المائدة: الآية 48.
2- فعيل بمعنى فاعل، أي مراقب.
3- سورة الأنعام: الآيتان 114 و 115.
4- سورة التحريم: الآية 12.

كانت تسير دهرا طويلا في مدارج التدرج، بمنح نبوّة بعد نبوّة، و إنزال شريعة بعد شريعة.

و الدليل على أنّ المراد من الكلمة، الشرائع الإلهية، هو قوله: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً ، أي جعلكم مقتفين لشريعة واحدة، و بما أنّ هذه الدعوة الإلهية الواردة في القرآن الكريم، صدق لا يشوبه كذب، و ما فيه من الأحكام عدل لا يخالطه ظلم، تمّت الشريعة السماوية، فلا تتبدل كلماتها و أحكامها من بعد. و هذا المعنى يظهر عند التأمل في سياق الآيات.

إلى هنا تم البحث عن الآيات الدالّة على الخاتمية بصراحة أو بالتلويح و الإشارة، و لأهمية الاعتقاد بها تضافرت فيها النصوص عن النبي الأكرم و عترته الظاهرة، غير أنّ سرد كل ما وقفنا عليه عنهم عليهم السلام، يستدعي وضع رسالة مستقلة، فنكتفي بنقل بعضها عن النبي الأكرم، و وصيّه الإمام عليّ عليه السلام، و نترك الباقي إلى محله.

ب - الخاتمية في الأحاديث الإسلامية
اشارة

لقد حصحص الحق، بما أوردناه من النصوص القرآنية، و انحسر الشّك عن محيّا اليقين، فلم تبق لمجادل شبهة في أنّ رسول اللّه، خاتم النبيين و المرسلين، و أنّ شريعته خاتمه الشرائع، و كتابه خاتم الكتب. و إليك فيما يلي كلم ذرّيّة، من صاحب الشريعة و وصيه في هذا المجال:

1 - خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله من المدينة إلى غزوة تبوك، و خرج الناس معه، فقال له عليّ (عليه السلام): «أخرج معك ؟». فقال: «لا»، فبكى عليّ ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»، أو «ليس بعدي نبي»؟.

و هذا الحديث هو المشهور بحديث المنزلة، لأنّ النبي نزّل نفسه منزلة

ص: 498

موسى، و نزّل عليّا مكان هارون، و هو صحيح متفق عليه بين الأمّة، لم يشكّ أحد في صحّة سنده، و لا سنح في خاطر كاتب أن يناقش في صدوره، و حسبك أنّه أخرجه البخاري في صحيحه، في غزوة تبوك(1)، و مسلم في صحيحه في باب فضائل عليّ عليه السلام(2)، و ابن ماجه في سننه في باب فضائل أصحاب النبي(3)، و الحاكم في مستدركه، في مناقب عليّ عليه السلام(4) و إمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة(5)، و أمّا الشيعة فقد أصفقوا على نقله في مجامعهم الحديثية(6).

و دلالة الحديث على الخاتمية واضحة، كدلالته على خلافة علي (عليه السلام) للنبي صلى اللّه عليه و آله بعد رحلته.

2 - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: إنّ مثلي و مثل الأنبياء من قبل، كمثل رجل بني بيتا، فأحسنه و أجمله، إلاّ موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به و يعجبون له، و يقولون: هلاّ وضعت هذه اللّبنة. قال: «فأنا اللّبنة، و أنا خاتم النبيين»(7).

3 - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: لي خمسة أسماء: أنا محمد؛ و أحمد؛ أنا الماحي، يمحو اللّه بي الكفر؛ و أنا الحاشر، يحشر الناس على

ص: 499


1- صحيح البخاري، ج 3، ص 58.
2- صحيح مسلم، ج 2، ص 323.
3- سنن ابن ماجه، ج 1، ص 28.
4- مستدرك الحاكم، ج 3، ص 109.
5- مسند أحمد، ج 1، ص 331، و ج 2، ص 369، 437.
6- لاحظ أمالي الصدوق، ص 29. و معاني الأخبار، ص 74. و كنز الفوائد ص 282. و الخرائج و الجرائح ص 75. و مناقب ابن شهرآشوب، ج 1، ص 222. و كشف الغمّة، ج 1، ص 44. و بحار الأنوار، ج 37، الباب 53 ص 254-289.
7- صحيح البخاري، ج 4، ص 226. و مسند أحمد، ج 2، ص 398 و 412. و لاحظ الدر المنثور للسيوطي، ج 5، ص 204. و للحديث صور مختلفة تشترك كلها في إثبات الخاتمية للنبي قال رسول اللّه: «فأنا موضع تلك اللبنة، فجئت فختمت الأنبياء». لاحظ التاج، ج 3، ص 22، نقلا عن البخاري و مسلم و الترمذي.

قدمي؛ و أنا العاقب، الذي ليس بعده النبي»(1).

4 - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «أرسلت إلى الناس كافة، و بي ختم النبيون»(2).

5 - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «فضّلت بست:

أعطيت جوامع الكلم، و نصرت بالرّعب، و أحلّت لي الغنائم، و جعلت لي الأرض طهورا و مسجدا، و أرسلت إلى الخلق كافّة، و ختم بي النبيون»(3).

هذه أحاديث خمسة عن خاتم النبيين، و المروي في هذا المجال عنه صلى اللّه عليه و آله أكثر من ذلك(4).

تنصيص الإمام عليّ على الخاتمية

6 - قال علي عليه السلام: «.. إلى أن بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه و آله، لإنجاز عدته، و تمام نبوّته، مأخوذا على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريما ميلاده»(5).

7 - قال علي عليه السلام: «أرسله على حين فترة من الرّسل، و تنازع من الألسن، فقفّى به الرسل، و ختم به الوحي»(6).

8 - قال علي عليه السلام و هو يلي غسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله:

«بأبي أنت و أمّي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك، من النّبوة و الإنباء، و أخبار السماء، خصصت حتى صرت مسلّيا عمن سواك، و عممت

ص: 500


1- صحيح مسلم، ج 8، ص 89. الطبقات الكبرى، ج 1، ص 65، مسند أحمد، ج 4، ص 81 و 84.
2- الطبقات الكبرى، ج 1، ص 128، و مسند أحمد، ج 2، صفحة 412.
3- الجامع الصغير، ج 2، ص 216، الرقم 5880، ط دار الفكر - بيروت.
4- سيوافيك الإحالة إلى المصدر الجامع لهذه الأحاديث.
5- نهج البلاغة، الخطبة الأولى. و الضميران في «عدته»، و «نبوته»، للّه تعالى.
6- نهج البلاغة، الخطبة 129.

حتى صار الناس فيك سواء»(1).

9 - قال علي عليه السلام: «أمّا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فخاتم النبيين، ليس بعده نبي و لا رسول، و ختم برسول اللّه الأنبياء إلى يوم القيامة»(2).

10 - قال علي عليه السلام في خطبة الأشباح: «... بل تعاهدهم (العباد) بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه، و متحملي ودائع رسالاته، قرنا فقرنا، حتى تمّت بنبينا محمد (صلى اللّه عليه و آله) حجّته، و بلغ المقطع عذره و نذره»(3).

ثم إنّه قد أورد على الخاتمية شبهات واهية، غنية عن الإجابة، يقف عليها كلّ من له إلمام بالكتاب و السّنة و الأدب العربي، و إنّما هي صخب و هياج و جدال باطل، يؤثّر في الجاهلين. و لأجل ذلك استخدمتها القاديانية، و البابية، و البهائية، ذريعة لاصطياد السذج من الناس غير العارفين باللّغة، و لا بالكتاب و السنّة، و لأجل إراءة ضآلة هذه الشبهات نأتي بشبهة واحدة منها، تعدّ من أقوى شبهاتهم، ثم نعطف عنان القلم إلى تحرير أسئلة صحيحة مطروحة حول الخاتمية، و هي قابلة للبحث و النقاش؛ فإليك البيان:

شبهة واهية

كيف يدّعي المسلمون انغلاق باب النبوة و الرسالة، مع أنّ صريح كتابهم قاض، بانفتاح بابها إلى يوم القيامة، و قد جاء في كتابهم قوله: يٰا بَنِي آدَمَ ،

ص: 501


1- نهج البلاغة، الخطبة 230. و مجالس المفيد، ص 527. و البحار، ج 22، ص 527.
2- الاحتجاج، ج 1، ص 220.
3- نهج البلاغة، الخطبة 87. و ما أوردناه نماذج من أحاديث الخاتمية اقتصرنا عليها روما للاختصار، و من أراد التفصيل و الإحاطة بأكثر ما ورد في هذا المجال من النبي و عترته الطاهرة فليرجع إلى مفاهيم القرآن، ج 3، ص 148-179. فقد وصل عدد الأحاديث في هذا المجال إلى 135 حديثا، و الكلّ يشهد على إيصاد باب النبوة و رسالة السماء إلى الأرض.

إِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيٰاتِي، فَمَنِ اِتَّقىٰ وَ أَصْلَحَ ، فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ (1) .

فقوله: إِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ - مقرونا بنون التأكيد - كاشف عن عدم إيصاد باب النبوة، و أنّه مفتوح.

و الجواب: إنّ هذه الشبهة حصلت من الجمود على نفس الآية، و الغفلة عن سياقها. فإنّ الآية تحكي خطابا خاطب به سبحانه بني آدم في بدء الخلقة، و في الظرف الذي هبط فيه آدم إلى الأرض، و قد شرع القرآن بنقل القصة و الخطابات في سورة الأعراف من الآية الحادية عشر، و ختمها في الآية السابعة و الثلاثين، فبدأ القصة بقوله:

وَ لَقَدْ خَلَقْنٰاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنٰاكُمْ ثُمَّ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ ، لَمْ يَكُنْ مِنَ اَلسّٰاجِدِينَ .

و ختمها بقوله:

قٰالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ * قٰالَ : فِيهٰا تَحْيَوْنَ ، وَ فِيهٰا تَمُوتُونَ وَ مِنْهٰا تُخْرَجُونَ (2) .

و عند ذلك، خاطب سبحانه أبناء آدم بخطابات أربعة، تهدف إلى لزوم الطاعة، و التحرز عن إطاعة الشيطان، و أنّ لهم في قصة أبيهم و أمهم، عبرة واضحة، فقال:

1 - يٰا بَنِي آدَمَ ، قَدْ أَنْزَلْنٰا عَلَيْكُمْ لِبٰاساً يُوٰارِي سَوْآتِكُمْ .. .

2 - يٰا بَنِي آدَمَ ، لاٰ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطٰانُ ، كَمٰا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ .. .

3 - يٰا بَنِي آدَمَ ، خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ... .

ص: 502


1- سورة الأعراف: الآية 35.
2- سورة الأعراف: الآيات 11-25.

4 - يٰا بَنِي آدَمَ ، إِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ .

فالخطاب الأخير، ليس إنشاء خطاب في عصر الرسالة، حتى ينافي ختمها، بل حكاية للخطاب الصادر بعد هبوط أبينا آدم إلى الأرض.

و الذي يوضح ذلك قوله سبحانه في سورة أخرى:

قٰالَ اِهْبِطٰا مِنْهٰا جَمِيعاً، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَإِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ، فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدٰايَ فَلاٰ يَضِلُّ وَ لاٰ يَشْقىٰ (1) .

فقوله: فَإِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ، يتحد مع الآية السابقة، مضمونا.

و هذا النموذج من الشبهات يوقفك على حالة سائر ما استدلّت به الفرق الباطلة في هذا المجال، من القرآن، و لذلك ضربنا عن هذه الشبهات صفحا(2). و نعرّج إلى أسئلة جديرة بالبحث و النقاش، حول الخاتمية طرحها مرور الزمان، و تكامل الحضارات، و تفتّح العقول، على بساط البحث. فلأجل أهميتها، نطرحها، ثم نجيب عنها بما يناسب وضع الكتاب.

ص: 503


1- سورة طه: الآية 123.
2- لاحظ - للوقوف عليها و على أجوبتها - «مفاهيم القرآن»، ج 3، ص 185-216.

أسئلة حول الخاتمية 1 - لما ذا حرمت الأمّة من النبوة التبليغية ؟.

2 - لما ذا حرمت الأمّة من الاطّلاع على الغيب ؟.

3 - كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ التحول ناموس عام ؟.

4 - كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكلّ عصر اقتضاء خاصا؟.

5 - هل القوانين المحدودة تفي بالحاجات غير المتناهية ؟.

ص: 504

أسئلة حول الخاتمية
السؤال الأول لما ذا حرمت الأمة من النبوة التبليغية ؟
اشارة

إنّ النبي إذا بعث بشريعة جديدة، و كتاب جديد، تكون نبوّته تشريعية، و إذا بعث لغاية دعم أحكام شريعة سالفة، فالنبوة ترويجية أو تبليغية. و القسم الأول من الأنبياء منحصر في خمسة، ذكرت أسماؤهم في القرآن(1). و أمّا القسم الثاني، فيشكّله أكثرية الأنبياء، لأنّهم بعثوا لترويج الدين النازل على أحد أولئك، فكانت نبوتهم تبليغية(2).

فعندئذ، يطرح السؤال التالي: إنّ نبيّ الإسلام جاء بأكمل الشرائع و أتمّها، و لذلك أوصد باب النبوة التشريعية، و لكن لما ذا أوصد باب النبوة التبليغية التي منحها اللّه للأمم السالفة، فإنّ الشريعة مهما بلغت من الكمال و التمام، لا تستغني عمن يقوم بنشرها و تجديدها، لكي لا تندرس، حتى يتم إبلاغها من السلف إلى الخلف بأسلوب صحيح. فلم أوصد هذا الباب، بعد ما كان مفتوحا في وجه الأمم الماضية ؟.

الجواب:

إنّ انفتاح باب النبوة التبليغية في وجه الأمم السالفة و إيصاده بعد

ص: 505


1- سورة الشورى: الآية 13.
2- الكلمة الدارجة لمعنى التبليغ في البيئات العربية، هي كلمة التشريع، و لكن كلمة التبليغ أولى و أليق، فهي مقتبسة من القرآن، و مدلولها اللغوي منطبق على المقصود.

نبي الإسلام، لا يعني أنّ الأمم السالفة تفرّدت بها لفضيلة استحقتها دون الخلف الصالح، أو أنّ الأمّة الإسلامية حرمت لكونها أقلّ شأنا من الأمم الخالية، بل الوجه هو حاجة الأمم السالفة إليها و غناء الأمة الإسلامية عنها، لأنّ المجتمعات تتفاوت إدراكا و رشدا فربّ مجتمع يكون في أخلاقه و شعوره كالفرد القاصر، لا يقدر على أن يحتفظ بالتراث الذي وصل إليه، بل يضيعه، كالطفل الذي يمزق كتابه و قرطاسه، غير شاعر بقيمتهما.

و مجتمع آخر بلغ من القيم، الفكرية و الأخلاقية و الاجتماعية، شأوا بعيدا، فيحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه، بل يستثمره استثمارا جيدا، و هو عند ذاك غني عن كل مروّج يروّج دينه، أو مبلّغ يذكّره بمنسيه، أو مربّ يرشده إلى القيم الأخلاقية، أو معلّم يعلّمه معالم دينه، إلى غير ذلك من الشئون.

فأفراد الأمم السالفة كانوا كالقصر، غير بالغين في العقلية الاجتماعية، فما كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الذي وصل إليهم، بل كانوا يلعبون به لعب الصبي في الكتاتيب، بكتابه أو قرطاسه، فيخرقه و يمزقه و لا يبقي شيئا ينتفع منه إلى آخر العام الدراسي. و لهذا كان على المولى سبحانه أن يبعث في كل جيل منهم نبيّا ليذكّرهم بدينهم، و يجدد به شريعة من قبله، و يزيل ما علاها من شوائب التحريف.

و أمّا المجتمع البشري بعد بعثه الرسول الأكرم (صلى اللّه عليه و آله و سلم) فقد بلغ من المعرفة و الإدراك و التفتّح العقلي شأوا، يتمكن معه من حفظ تراث نبيّه و صيانة كتابه عن طوارق التحريف و الضياع، حتى بلغت عنايته بكتابه الديني إلى حدّ تأسيس علوم عديدة لفهم كتابه. فازدهرت، تحت راية القرآن، ضروب من العلوم و الفنون. فلأجل ذلك الرشد الفكري، جعلت وظيفة التبليغ و الترويج و صيانة التراث على كاهل نفس الأمّة، حتى تبوّأت وظيفة الرسل في التربية و التبليغ، و استغنت عن بعث نبي مجدد.

و لأجل ذلك يقول سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (1).

ص: 506


1- سورة آل عمران: الآية 110.

و قال سبحانه: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ (1).

و قد ظهرت طلائع هذا الاعتماد على الأمّة من قوله سبحانه: فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (2).

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «إذا ظهرت البدع، فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل، فعليه لعنة اللّه»(3).

و قال الإمام الباقر: «إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء، و منهاج الصلحاء، و فريضة تقام بها الفرائض، و تؤمن المذاهب، و تحلّ المكاسب، و تردّ المظالم، و تعمر الأرض، و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر»(4).

و ما ذكرنا من الجواب يلائم أصول أهل السنة في دور الأمة و علمائها في حفظ الشريعة. و لكن هناك جواب آخر أصحّ و أجمع.

و حاصله: إنّ أئمّة الشيعة بحكم حديث الثّقلين، يحملون علم النبي في المجالات المختلفة سواء في مجال المعارف و العقائد، أو في مجال الأحكام و الوظائف، أو في مجال الاحتجاج و المناظرة، أو في مجال الأجوبة على الأسئلة المستجدة، كل ذلك بتعليم من اللّه سبحانه، من دون أن يكونوا أنبياء يوحى إليهم.

فلأجل ذلك، كل إمام في عصره، يقوم بمهمة التبليغ و الترويج، و يجلي الصدأ عن وجه الدين، و يردّ شبهات المبطلين، فاستغنت بهم الأمّة عن كل نبوة

ص: 507


1- سورة آل عمران: الآية 104.
2- سورة التوبة: الآية 122.
3- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف، الباب 40، الحديث 1.
4- وسائل الشيعة، ج 11، كتاب الأمر بالمعروف، الباب الأول، الحديث 6.

ترويجية، و التاريخ يشهد بأنّ كل إمام من أئمة الشيعة الاثني عشرية، قام بأعباء مهمة التبليغ، و إيصال مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى الأمة، و لقد عانوا في ذلك من المشاق، و لاقوا من الأهوال ما لاقاه جدّهم النبي الأكرم صلى اللّه عليه و آله و سلم(1).

ص: 508


1- بما أنّ الأبحاث المعقودة في فصل الإمامة و الخلافة تتكفل بإثبات ذلك، اكتفينا بهذا المقدار، و سيوافيك التفصيل فيه.

أسئلة حول الخاتمية

السؤال الثاني لما ذا حرمت الأمة من الاطلاع على الغيب ؟
اشارة

إنّ الشريعة الإسلامية، و إن كانت أكمل الشرائع، و الخلف من الأمّة، قادر على حفظ تراثه الديني، أو أنّ العترة الطاهرة تقوم بمهمة التبليغ، و لأجل ذلك أوصد باب النبوة التشريعية و التبليغية، إلاّ أنّ إيصادها على الإطلاق يستلزم انقطاع الفتوحات الباطنية عن طريق النبي المبعوث.

و ذلك، لأنّ انقطاع النبوة بمعنى انقطاع أخبار السماء عن أهل الأرض، و انقطاع الاطلاع على الغيوب، و هذا خسران للأمّة، مع أنّه كان مفتوحا في وجه الأمم السالفة، فهل معنى ذلك أنّ الأمّة الإسلامية أقلّ جدارة منها، و استحقاقا لها؟.

و حاصل السؤال أنّ إيصاد باب النبوة، لأجل كمال الشريعة و استغناء الأمّة عن نبي مبلغ، و إن كان أمرا لازما، غير أنّ سدّ باب النبوة يستلزم سدّ باب الفيوض المعنوية، و المكاشفات الغيبية، و المشاهدات الروحية التي تصل إلى الأمّة عن طريق نبيّها؛ فرفع النبوة و ختمها، يستلزم ذلك الحرمان.

الجواب:

إنّ سدّ باب النبوة لا يستتبع إلاّ سدّ باب الوحي في مجال تشريع الحكم، أو في مجال تبليغ الشريعة السابقة.

ص: 509

و أمّا سائر الفتوحات الباطنية فهي مفتوحة في وجه الأمّة إلى يوم القيامة، من غير فرق بين الاتصال بعالم الغيب عن طريق البرهنة و الاستدلال و التدبر في آياته الآفاقية، الذي يشير إليه تعالى بقوله: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ ، أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (1). و أمّا الاتصال به بلا توسيط برهان أو دليل، بل بمشاهده عين القلب و بصر الروح، و شهود الحقائق العلوية، و انكشاف ما وراء الحسّ و الطبيعة من العوالم الروحية، و معرفة ما يجري عليه قلمه تعالى في قضائه و قدره، و الاتصال بجنوده سبحانه و ملائكته، و استماع كلامهم و أصواتهم، إلى غير ذلك من الأمور، إلاّ أنّه مقام خطير يحصل لعدّة من المتحررين عن سلوك طريق الطبيعة، الحابسين أنفسهم في ذات اللّه، العاملين بكتابه و سنّة نبيّه، حسب ما لهم من المقدرة و الطاقة، لتحمل الأمور الغيبية، و مشاهدة جلاله و جماله، و كبريائه و عظمته، و ما لأوليائه من مقامات و درجات و ما لأعدائه من نار و لهيب و دركات.

و ليس ما ذكرنا من إمكان الاتصال، كلمة خطابية، أو عرفانية غير معتمدة على الكتاب و السنّة، بل الكتاب الحكيم يقضي بذلك عند التأمّل و الإمعان فيه:

1 - قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً (2)، أي يجعل في قلوبكم نورا تفرّقون به بين الحقّ و الباطل، و تميّزون به بين الصحيح و الزائف بالبرهنة و الاستدلال، أو بالشهود و المكاشفة.

2 - و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3).

و المراد من النور، هو ما يمشي المؤمن في ضوء هدايته في دينه و دنياه، و هذا النور الذي يغمره نتيجة إيمانه و تقاه، يوضحه قوله سبحانه: أَ وَ مَنْ كٰانَ مَيْتاً

ص: 510


1- سورة فصلت: الآية 53. و نظيره الذاريات: الآيتان 20 و 21.
2- سورة الأنفال: الآية 29.
3- سورة الحديد: الآية 28.

فَأَحْيَيْنٰاهُ وَ جَعَلْنٰا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّٰاسِ (1) .

3 - و قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا (2).

4 - و قال سبحانه: كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهٰا عَيْنَ اَلْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ (3).

و المراد رؤيتها قبل يوم القيامة، رؤية البصيرة، و هي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين، على ما يشير إليه قوله تعالى: وَ كَذٰلِكَ نُرِي إِبْرٰاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ (4). و هذه الرؤية القلبية، غير محققة قبل يوم القيامة لمن ألهاه التكاثر، بل ممتنعة في حقّه.

كما أنّ المراد من قوله: ثُمَّ لَتَرَوُنَّهٰا عَيْنَ اَلْيَقِينِ . هو مشاهدتها يوم القيامة، بقرينة قوله سبحانه بعد ذلك: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ .

فالمراد بالرؤية الأولى رؤيتها قبل يوم القيامة، و بالثانية رؤيتها يوم القيامة(5).

5 - و قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زٰادَهُمْ هُدىً وَ آتٰاهُمْ تَقْوٰاهُمْ (6).

فلو أنّ الإنسان جعل نفسه في مسير الهداية، و طلبها من اللّه سبحانه، لزاده تعالى هدى، و آتاه تقواه.

6 - و قال سبحانه: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْنٰاهُمْ هُدىً (7). و هذه الآية تبيّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم، و واجهوا المشاق في حفظ

ص: 511


1- سورة الأنعام: الآية 122.
2- سورة العنكبوت: الآية 69.
3- سورة التكاثر: الآيات 5-8.
4- سورة الأنعام: الآية 75.
5- لاحظ الميزان، ج 20، ص 496-497.
6- سورة محمد: الآية 17.
7- سورة الكهف: الآية 13.

إيمانهم و دينهم، فزاد اللّه من هداه في حقّهم، و ربط على قلوبهم، كما في الآية التالية:

7 - و قال سبحانه: وَ رَبَطْنٰا عَلىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قٰامُوا فَقٰالُوا رَبُّنٰا رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلٰهاً لَقَدْ قُلْنٰا إِذاً شَطَطاً (1).

إلى غير ذلك من الآيات التي تعرب عن عدم إيصاد هذا الباب.

ثم إنّ في السنّة النبوية الشريفة، و الخطب العلوية، تصريحات و إشارات إلى انفتاح هذا الباب.

فمن ذلك ما روته الصحاح عن النبي صلى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء»(2). و هذا هو المحدّث في مصطلح أهل الحديث. و قد تضافرت الروايات على أنّ مريم و فاطمة و عليا عليهم السلام كانوا محدّثين.

و يقول الإمام علي عليه السلام في كلام له، يحكي فيه عن صاحب التقوى: «قد أحيا عقله، و أمات نفسه، حتى دقّ جليله، و لطف غليظه، و برق له لامع كثير البرق، فأبان له الطّريق، و سلك به السّبيل، و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة، و دار الإقامة، و ثبتت رجلاه بطمأنينة في بدنه في قرار الأمن و الراحة، بما استعمل قلبه، و أرضى ربّه»(3).

و يقول عليه السلام، في كلمة أخرى تعرب عن رأي الإسلام في هذه المجال، قالها عند تلاوته قوله سبحانه: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ قال: «إنّ اللّه سبحانه جعل الذّكر جلاء للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، و تبصر به بعد العشوة، و تنقاد به بعد المعاندة، و ما برح للّه - عزّت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة، و في أزمان الفترات، عباد

ص: 512


1- سورة الكهف: الآية 14.
2- صحيح البخاري، ج 2، ص 149.
3- نهج البلاغة، الخطبة 215.

ناجاهم في فكرهم، و كلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار و الأسماع و الأفئدة، يذكّرون بأيّام اللّه، و يخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات... إلى أن قال: و إنّ للذّكر لأهلا أخذوه من الدّنيا بدلا، فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة، و يهتفون بالزواجر عن محارم اللّه، في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط، و يأتمرون به، و ينهون عن المنكر و يتناهون عنه، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة، و هم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنّما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، و حققت القيامة عليهم عداتها، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا، حتى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس، و يسمعون ما لا يسمعون...»(1).

و قد تربى في أحضان علي عليه السلام، صفوة من رجال الخير، يستدرّ بهم الغمام و يضنّ بهم الزمان، كزيد و صعصعة ابني صوحان، و أويس القرني، و الأصبغ بن نباتة، و رشيد الهجري، و ميثم التّمار، و كميل بن زياد، و أشباههم، و كان هؤلاء مثلا للفضيلة و خزانة للعلم و الأسرار، منحهم أمير المؤمنين عليه السلام من سابغ علمه، و استأمنهم على غامض أسراره، ممّا لا يقوى على احتماله غير أمثالهم، حتى زكت نفوسهم، و كادوا أن يكونوا بعد التصفية ملائكة مجردة عن النقائص، لا يعرفون الرذيلة و لا تعرفهم.

ص: 513


1- نهج البلاغة، الخطبة 217.

أسئلة حول الخاتمية

السؤال الثالث أ ليس التحول ناموسا عاما، فما معنى الشريعة الثابتة ؟
اشارة

ليس في الكون المادي، أمر خالد باق مدى الدهور و تعاقب الأجيال، لأنّ التحوّل ناموس عام في الطبيعة، و على ذلك، فكيف يقرر الإسلام سننا و قوانين ثابتة، منذ بعثة الرسول إلى يوم القيامة، فإنّ الاعتقاد بخاتمية الرسول و كتابه و سننه و تشريعاته، يلازم الاعتقاد بثباتها في هذا الكون الذي كتب على جبينه عدم القرار و الثبات.

الجواب:

إنّ السؤال نجم من الخلط بين الموجودات المادية و النواميس الحاكمة عليها، فالمتغيّر هو الأول دون الثاني، فإنّ السماء و الأرض و ما فيهما لا تستقرّ على حالة واحدة، و أمّا النواميس السائدة عليها فهي ثابتة أبدية لا يصيبها التبدّل، و لا تقع في إطار الحركة و التحوّل.

مثلا: المعادلات الرياضية، و قانون الجاذبيّة، و الثقل النوعي في الموجودات، و انكسار الضوء و أحكام العدسيّات و سرعة النور و غيرها من القوانين الفيزيائية، ثابتة غير متغيرة، سائدة في كل الظروف و الأزمنة.

و مثله: الأحكام الشرعية، المحمولة على الموضوعات الخارجية فالموضوعات و إن كانت تتغير، و المجتمع يتحول من حال إلى أخرى، و لكن لكلّ

ص: 514

موضوع في حال خاص حكم لا يتغير ما دام الموضوع موضوعا، و إذا تبدّل، فالتبدّل يستلزم رفع الحكم برفع موضوعه لا استبداله بحكم آخر.

و بذلك تقف على مدى وهن ما يعترض به على ثبات قوانين الإسلام، بأنّه ليس عندنا أصل ثابت و شيء مستقر، بل الكون بأجمعه يموج بالتحولات و التغيرات.

إذ فيه مضافا إلى ما ذكرنا من الخلط بين القانون و منطبقه، أنّ قولهم هذا بأنّه ليس عندنا علم ثابت، هو بحدّ ذاته، قانون ثابت لدى المعترض، فهو في الوقت الذي يعترض فيه على ثبات القوانين و بقائها، يعترف بقانون ثابت في العالم، و هو أنّه «ليس عندنا قانون ثابت».

ص: 515

أسئلة حول الخاتمية

السؤال الرابع كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكل عصر اقتضاء خاصّا؟
اشارة

السؤال الرابع كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكل عصر اقتضاء خاصّا؟(1)

التطور الاجتماعي يستلزم تطورا في قوانين المجتمع، و القانون الموضوع في ظرف خاص، ربما يكون مضرّا أو غير مفيد في ظرف آخر، و مقتضيات الزّمان (القوانين)، تختلف باختلاف ألوان الحياة و الظروف الطارئة على المجتمع، فما صحّ بالأمس، لا يصحّ اليوم، و ما يصحّ اليوم لا يصحّ غدا. و على هذا فلو كانت الحياة مستمرة على وتيرة واحدة، لساغ للتشريع الإلهي المحمدي أن يسود في جميع الظروف و الأحوال إلى يوم القيامة، لكنها لما كانت متغيرة و متحوّلة، فلا يصحّ للشريعة الإلهيّة السيادة على المجتمعات دائما، فكيف يصحّ القول بأنّ شريعة الإسلام شريعة خالدة، إذ لا يعنى من خاتمية النبوة، إلاّ خاتمية الشريعة و بقاؤها إلى الأبد.

الجواب:

إنّ هذه الشبهة من أهمّ الشبهات في موضوع الخاتمية، و منشؤها تخيل أنّ

ص: 516


1- الفرق بين هذا السؤال و سابقه واضح، فإنّ الأول، يعتمد على اصل فلسفي و هو شمول التحول لكلّ ما في الكون، و انطلاقا من هذا الأصل لا يمكن الاعتراف بثبات أصل و قانون. و السؤال الثاني سؤال اجتماعي، و هو لزوم اختلاف القوانين حسب اختلاف المقتضيات، و الاعتراف بهذا لا يجتمع مع القول بثبوت سنن الإسلام و قوانينه.

التحوّل يدبّ في جميع شئون الإنسان، و أمّا إذا قلنا بأنّ للإنسان - مع قطع النظر عمّا يحيط به من الظروف المختلفة - روحيات و غرائز لا تتغير أبدا، و لا تنفكّ عنه، و هي في الحقيقة مشخصات تكوينية له، بها يتميز عن سائر الحيوانات، فالشبهة مندفعة من رأس، فإنّ القوانين و السنن الراجعة إليها، تكون ثابتة خالدة، حسب خلودها، إذا كانت موافقة لما تقتضيه.

توضيحه: إنّ السائل قد قصر النظر على ما يحيط بالإنسان من الظروف المختلفة المتبدلة، التي هي نتيجة تكامل الحضارات و المجتمعات، و ذهل عن أنّ للإنسان غرائز ثابتة و روحيات خالدة، لا تستغني عن قانون ينظّم اتجاهاتها و تشريع يعدّلها، و يصونها عن الإفراط و التفريط، فبما أنّ هذه الغرائز و الفطريات، لا تمسّها يد التغيّر، فالتشريعات المطابقة لمقتضى الفطرة، و الصالحة لهدايتها، تخلد بخلودها و تثبت بثبوتها، فلو كان السائل واقفا على أنّ الإنسان مركب من مشخصات تكوينية أبدية، و مشخصات طارئة متغيرة، لوقف على أنّ القوانين الراجعة إلى هداية الفطرة و تعديلها، تثبت على جبين الدّهر، ما دام الإنسان إنسانا، و أمّا القوانين الراجعة إلى المشخصات الطارئة المتحولة، فلا تصلح للخلود و الثبات. و إليك فيما يلي أمثلة لما ذكرناه.

1 - الروابط العائلية، كرابطة الولد بوالديه، و الأخ بأخيه، هي روابط طبيعية، لوجود الوحدة الروحية، فالسنن الراجعة إلى تنظيم هذه الروابط، من التوارث أولا، و لزوم التكريم و الصّلة ثانيا، من الأحكام التي لا تتغيّر بتغيّر الزمان، فلا تجد مجتمعا ينادي بقطع التوارث بين الوالد و الولد، أو قطع الحضانة بين الأم و ولدها، أو ما شابه ذلك.

2 - إنّ التفاوت بين الرجل و المرأة أمر طبيعي محسوس، فهما موجودان بشريان مختلفان اختلافا عضويا و روحيا، على رغم كل الدعايات السخيفة التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما. و لأجل ذلك اختلفت أحكام كل منهما عن الآخر اختلافا يقتضيه طبع كل منهما. فإذا كان التشريع مطابقا لفطرتهما و مسايرا لطبعهما، ظلّ ثابتا لا يتغير بمرور الزمان لثبات الموضوع المقتضي لثبات محموله.

3 - الإنسان بما هو موجود اجتماعي، يحتاج لحفظ حياته و بقاء نسله، إلى

ص: 517

العيش الاجتماعي، و الحياة العائلية، و هذان الأمران من أسس حياة الإنسان، ما برحت تقوم عليهما - في جمله ما تقوم عليه - منذ تكون الإنسان.

و من المعلوم أنّ الحياة الاجتماعية و العائلية، ليستا غنيتين عن التشريع لتنظيمهما، فلو كان التشريع حافظا لحقوق الأفراد، خاليا عن الظلم و الجور، مبنيا على ملاكات واقعية، يدوم هذا القانون، ما دام مرتكزا على العدل و الصلاح.

4 - التشريع الإسلامي حريص جدا على صيانة الأخلاق و حفظها من الضياع و الانحلال، و مما لا يشك فيه أنّ الخمر و الميسر، و الإباحية الجنسية، ضربات تقصم ظهر الأخلاق و تقضي عليها، فالخمر يزيل العقل، و الميسر ينبت العداوة في المجتمع، و الإباحية الجنسية تفسد الحرث و النسل، فالأحكام الراجعة إليها ثابتة دائما.

و حصيلة البحث أنّ تطور الحياة الاجتماعية في بعض نواحيها، لا يوجب أن يتغير النظام السائد على مقتضى الفطرة و لا أن تتغير الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية من مصالح و مفاسد كامنة في موضوعاتها، فلو تغيّر لون الحياة في وسائل الركوب، و النقل، و معدات التكتيك الحربي، و..، فإنّ ذلك لا يقتضي أن تنسخ أحكام الفطرة أو تنسخ حرمة الظلم، و وجوب العدل، و لزوم أداء الأمانة، و الوفاء بالعهود و الأيمان، إلى غير ذلك من الأحكام الراجعة إلى التحسين و التقبيح العقليين، التي يستقل العقل ببقاء أحكامهما ما دام الموضوع موضوعا.

أجل، إنّ تقلب الأحوال، و تحوّل الأوضاع الاجتماعية يتطلب تحولا في السنن و الأنظمة، و تبدّلا في الأحكام و القوانين، غير أنّه لا يتطلب تحوّلا فيما يمسّ واقعية الإنسان الثابتة في جميع الظروف، كما لا يتطلب تحوّلا في القوانين الكونية التي تدير الكون بأصولها الثابتة، فلا تتغير النسب الرياضية، و لا القواعد الهندسية، و إن تطورت الأوضاع و تحولت(1).

ص: 518


1- قد مضى عند البحث في الشاهد الخامس من شواهد إعجاز القرآن الكريم، و هو اتقان التشريع و التقنين، ما يفيدك، فراجع.

أسئلة حول الخاتمية

السؤال الخامس هل القوانين المحدودة تفي بالحاجات غير المتناهية ؟
اشارة

إنّ توسع الحضارة يلزم المجتمع بتنظيم قوانين جديدة تفوق ما كان يحتاج إليها فيما مضى، و بما أنّ الحضارة و الحاجات في حال التزايد و التكامل، فكيف تعالج القوانين المحدودة الواردة في الكتاب و السنّة، الحاجات غير المحدودة.

و بما أنّ الإسلام نظام تشريعيّ كامل، تدخّل في شئون المجتمع كافّة، ثقافيّها، و سياسيّها، و اجتماعيّها، و عسكريّها، و عائليّها، و أغنى المجتمع عن كل تشريع سوى تشريعه، فعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه: إنّ القوانين الواردة في الكتاب و السنّة، محدودة مهما توسّع نطاقها، فكيف تغني المجتمع عن ممارسة التشريع في الحوادث و الموضوعات التي لم يكن بها عهد زمن نزول القرآن و بعثة الرسول.

نعم، المسيحية أراحت نفسها من الإجابة عن هذا السؤال بادّعاء أنّ نظامها لا يخرج عن الطقوس الفردية و العبادية، و إنّما هو الإسلام، الذي يدّعي إغناء المجتمع عن كل تشريع في جميع حقول الحياة.

الجواب:

إنّ خلود التشريع الإسلامي، و غناه عن كل تشريع، مبني على وجود أمرين فيه:

ص: 519

1 - أنّه ذو مادة حيوية، خلاّقة للتفاصيل مهما كثرت الحاجات، و استجدّت الموضوعات.

2 - أنّه ينظر إلى الكون و المجتمع بسعة و رحابة، مع مرونة خاصة تساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة. و إليك بيان كلا الأمرين:

أما الأمر الأول:
اشارة

فقد أحرزه بتنفيذ أمور:

1 - الاعتراف بحجيّة العقل في مجالات خاصة

اعترف القرآن و السنّة بحجيّة العقل في مجالات خاصة، مما يرجع إليه القضاء فيها، و لا يكون هو أجنبيّا بالنسبة إليها، و ذلك كما في باب الملازمات التي ستأتي الإشارة إلى عناوينها. و ليس المراد من حجّيته، أنّه يطلق سراحه في مجال التعبديّات التي لا طريق إليها إلاّ بالوحي، فإنّه لا صلاحية له في ذاك المجال.

و أمّا الملازمات التي تعدّ من الأحكام العقلية القطعية، و هي مرادهم من قولهم بأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع، فأمثلتها:

أ - الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته.

ب - الملازمة بين وجوب الشيء و حرمة ضده.

ج - الملازمة بين عدم جواز اجتماع الأمر و النهي، و بطلان العبادة.

د - الملازمة بين النهي عن العبادة و المعاملة، و فسادهما.

ه - الملازمة بين المنطوق و المفهوم في القضايا الشرطية، أو الوضعية، أو المغيّاة بغاية.

و نظير ذلك ما يستقل به العقل من أحكام عقلية تلازم أحكاما شرعية، كاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان، الملازم لعدم ثبوت الحرمة و الوجوب إلاّ بالبيان. و استقلاله بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهات التحريمية، و لزوم الموافقة القطعية في الشبهات الوجوبية، و استقلاله بإجزاء

ص: 520

إطاعة الأوامر الاضطرارية أو الأوامر الظاهرية، و غير ذلك. و لعلّ الكلّ يرجع إلى مبدأ واحد، و هو استقلاله بالتحسين و التقبيح الذاتيين، و هذا هو المنتج لهذه الملازمات و الأحكام.

و قد فتح هذا الاعتراف، للإسلام، باب البقاء و الخلود، و غدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة و شمول لكثير من الموضوعات المستجدة أو غيرها مما لم يذكر حكمه في الكتاب و السنّة.

نعم، من أعدم العقل و عزله عن الحكم في مجالاته الخاصة به، أعطى للإسلام و لقوانينه سمة الجمود، و عدم الشمول كما أنّ من فسح المجال للعقل، للحكم في كل مورد ليس له طريق إليه، جعل التشريع الإسلامي لعبة تتلاعب بها الأهواء.

و بما أنّ هذا البحث، بحث يرجع إلى علم أصول الفقه، نقتصر على هذا القدر، و نختم الكلام بحديث عن الإمام الطاهر، موسى بن جعفر الكاظم، و هو يخاطب تلميذه هشام بن الحكم، بقوله:

«إنّ للّه على الناس حجتين، حجة ظاهرة، و حجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل و الأنبياء، و الأئمة، و أمّا الباطنة فالعقول»(1).

2 - الاعتراف بتبعية الأحكام للمصالح و المفاسد

الأحكام الشرعية - حسب ما ينصّ عليه الكتاب - تابعة للمصالح و المفاسد، فلا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه، و لا فريضة إلاّ لمصلحة في الإتيان بها.

و لا يراد من المصالح و المفاسد خصوص الدنيوية، بل الأعمّ مما يرجع إلى سعادة البشر في دنياه، و في أخراه.

يقول سبحانه: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدٰاوَةَ وَ اَلْبَغْضٰاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ، وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ عَنِ اَلصَّلاٰةِ ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (2).

ص: 521


1- الكافي، ج 1، ص 16.
2- سورة المائدة: الآية 91.

فإذا كانت الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد، و كانت الغاية المتوخاة من تشريعها هي الوصول إلى المصالح و التحرز عن المفاسد، و بما أنّ المصالح و المفاسد ليست على وزان واحد، بل لها درجات و مراتب، عقد الفقهاء بابا لتزاحم الأحكام و تصادمها، فيقدمون الأهمّ على المهم، و الأكثر مصلحة على الأقل منه، و الأعظم مفسدة على الأحقر منه. و قد أعان فتح هذا الباب على حلّ كثير من المشاكل الاجتماعية، التي ربما يتوهّم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة.

و من أمثلته: إنّ تشريح بدن الإنسان في المختبرات، من الأمور الضرورية الحيوية التي يتوقف عليها نظام الطب اليوم. غير أنّ هذه المصلحة تصادمها حرمة التمثيل بالميّت، مسلما كان أو كافرا، و لكن عناية الشارع بالصحّة العامة تجعل إحراز هذه المصلحة مقدّمة على المصلحة الأخرى، و هي حرمة الميت، و لكن يقدم في هذا المجال بدن الكافر على المسلم، و المسلم غير المعروف على المعروف، و هكذا. و في ضوء هذا المثال نقدر على طرح أمثلة كثيرة.

3 - الكتاب و السنّة مادة خصبة للتشريع

إنّ الكتاب و السّنّة مشتملان على أصول و قواعد، تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري على امتداد القرون و الأجيال.

و هذه الثروة العلمية التي اختصّت بها الأمّة الإسلامية من بين سائر الأمم، أغنت المسلمين عن التمسّك بكل تشريع سواه.

و تتجلى تلك الحقيقة إذا وقفنا على مرمى حديث الثقلين، و أنّ العترة الطاهرة، قرناء القرآن و أعداله، لا يفترقان أبدا، ففي ضوء الأحاديث الواردة عن الأئمة الاثني عشر من أهل بيت الرسول الأعظم، قدر التشريع الإسلامي - على مذهب الإمامية - على استنباط أحكام الموضوعات المستجدة الكثيرة، بوضوح و انطلاق، و لم ير هناك قصور فيه.

نعم، إنّ من اقتصر في مجال السنّة على خصوص ما روته الصحابة عن

ص: 522

النبي الأكرم، لم ير بدّا من اللجوء إلى مقاييس و قواعد ظنية ما أنزل اللّه بها من سلطان، كالقول بالقياس و الاستحسان و الاستقراء، و غيرها من الظّنّيات التي نهى الشارع المقدس عن التعبد بها في مجال العبودية، بقوله: قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّٰهِ تَفْتَرُونَ ؟(1)هذا، و إنّ الأحاديث الإسلامية في مجال الأحكام الفرعية، الواردة عن طريق الصحابة، المنتهية إلى النبي الأكرم، لا تتجاوز خمسمائة حديث، تمدّها أربعة آلاف(2).

و من المعلوم أنّ هذا المقدار من الأحاديث لا يفي بحاجات المجتمع البشري إلى يوم القيامة، و هذا يعرب عن أنّ الرسول لم يترك الأمّة سدى، و لم يدفعهم إلى العمل بمقاييس ظنية لا دليل عليها، و إنّما عالج هذه الناحية الحيوية بالأمر بالرجوع إلى عترته الطاهرة.

إنّ من المؤسف جدا، رفض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، الذين اعترف القريب و البعيد بطهارتهم و وثاقتهم و علوّ شأنهم، و الأخذ بمقاييس ظنية، و إدارة رحى التشريع بها.

«ودع عنك نهبا صيح في حجراته».

4 - تشريع الاجتهاد

المراد من الاجتهاد هو بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية عن مصادرها المعيّنة، و هو رمز خلود الدين و بقاء قوانينه، لأنّه به تحفظ غضاضة الدين و طراوته، و يصان عن الاندراس، و بالتالي يستغني المسلمون عن موائد الأجانب.

أمّا لزوم فتح هذا الباب، و لا سيما في العصر الحاضر فليس شيئا يحتاج إلى

ص: 523


1- سورة يونس: الآية 59.
2- لاحظ الوحي المحمدي، لمحمد رشيد رضا، الطبعة السادسة، ص 212.

البرهنة، إذ لم تزل الأمّة الإسلامية، في أعصارها الغابرة و الحاضرة، أمام موضوعات مستجدة و طارئة، فيجب عليها عند ذلك أن تختار سلوك أحد السبل التالية:

- إمّا بذل الوسع في استنباط أحكامها من الكتاب و السّنّة و العقل.

- أو اتّباع القوانين الوضعية البشرية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة.

- أو الوقوف و السكوت من غير إفتاء.

و لا شك أن المتعين هو الأول.

و قد كان الاجتهاد مفتوحا بصورته البسيطة بين الصحابة فالتابعين، كما أنّه لم يزل مفتوحا على مصراعية بين أصحاب الأئمة الاثني عشر، و هم الذين قالوا لشيعتهم: «إنّما علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع»(1).

و إنّ من مواهب اللّه تعالى، العظيمة، على الأمّة الإسلامية، تشريع الاجتهاد، و فسح المجال لعلماء الأمّة لأن يناقشوا أفكارهم، فلم تقم للإسلام دعامة، و لا حفظ كيانه و نظامه إلاّ على ضوء هذه البحوث و المناقشات العلمية و ردّ صاحب فكر على ذي فكر آخر، و قد حكى شيخنا العلامة المتضلع، شيخ الشريعة الأصفهاني - رحمه اللّه - عن بعض الأعلام، قوله: «إنّ عدم محاباة العلماء، بعضهم لبعض، من أعظم مزايا هذه الأمّة، التي أعظم اللّه بها عليهم النعمة، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين، المؤدية إلى تحريف ما فيهما، و اندراس تينك الملتين، فلم يتركوا لقائل قولا فيه أدنى دخل إلاّ بيّنوه، و لفاعل فيه اعوجاج إلاّ قوّموه، حيث اتّضحت الآراء و انعدمت الأهواء، و دامت الشريعة البيضاء، على ملئ الآفاق بأضوائها، مأمونة عن التحريف، و مصونة عن التصحيف»(2).

و قد جنت بعض الحكومات الإسلامية، حيث أقفلت باب الاجتهاد، في

ص: 524


1- الوسائل، ج 18، كتاب القضاء، الباب السادس من أبواب صفات القاضي، الحديث 52.
2- إبانة المختار، ص 1.

أواسط القرن السابع، و حرمت الأمّة الإسلامية من هذه الموهبة العظيمة، يقول المقريزي:

«استمرت ولاية القضاة الأربعة، من سنة 665، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام، غير هذه الأربعة و عودي من تمذهب بغيرها، و أنكر عليه، و لم يولّ قاض، و لا قبلت شهادة أحد، ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب، و أفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار، في طول هذه المدة، بوجوب اتّباع هذه المذاهب و تحريم ما عداها، و العمل على هذا إلى اليوم»(1).

و من بوادر الخير أن وقف غير واحد من أهل النظر من علماء أهل السنة، وقفة موضوعية، و أحسّوا بلزوم فتح هذا الباب بعد قفله قرونا(2).

5 - حقوق الحاكم الإسلامي

من الأسباب الباعثة على كون التشريع الإسلامي، صالحا لحلّ المشاكل، أنّه منح للحاكم الإسلامي كافة الصلاحيات المؤدية إلى حقّ التصرّف المطلق في كل ما يراه ذا صلاحية للأمّة، و يتمتع بمثل ما يتمتع به النبي و الإمام من النفوذ المطلق، إلاّ ما يعد من خصائصهما.

مثلا: إذا رأى الحاكم أنّ المصلحة تقتضي فتح طريق أو شارع في أملاك الناس، فله أن يقرّر و ينفّذ ما يحقّق هذه الغاية في ضوء العدل و الإنصاف: فله أن يجبر أصحاب الأراضي التي يمرّ بها الطريق، على بيع أراضيهم أو يشتريها بثمن مناسب.

أو إذا أراد رفع المعيشة العامة إلى مستوى خاص، فله وضع الضريبة على صنف خاص من أبناء الشعب، أو كلّهم لتأمين هذه الغاية.

ص: 525


1- الخطط المقريزية، ج 2، ص 344.
2- لاحظ تاريخ حصر الاجتهاد، لشيخنا العلامة الطهراني، و دائرة المعارف لفريد و جدي، مادة «جهد» و «ذهب». و غير ذلك ممّا ألف في هذا المضمار.

كما أنّ له أن يقرر ما يراه مناسبا لتنظيم السير في الشوارع، متوخيا في ذلك سلامة النفوس، و سهولة الذهاب و الإياب، كلّ ذلك في إطار العدل و الإنصاف و القوانين العامة الإسلامية.

قال المحقق النائيني رحمه اللّه: «فوّض إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يراه لازما من المقررات، لمصلحة الجماعة و سدّ حاجاتها في إطار القوانين الإسلامية»(1).

و هذه الحقوق ثابتة للنبي الأكرم، لقوله سبحانه: اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (2).

كما أنّها ثابتة لخلفائه المعصومين، و بعدهم لعلماء الأمّة و فقهاء الدين الذين ألقيت على كواهلهم أمور تدبير حياة الأمّة، و صيانة الشريعة.

و هناك كلمة قيمة للإمام الخميني - قدّس سرّه - نأتي بنصّها:

«إنّ الحاكم الإسلامي إذا نجح في تأسيس حكومة إسلامية في قطر من أقطار الإسلام، أو في مناطقه كلّها، و توفرت فيه الشرائط و الصلاحيات اللازمة، و أخصّ بالذكر: العلم الوسيع، و العدل، يجب على المسلمين إطاعته، و له من الحقوق و المناصب و الولاية، ما للنبيّ الأكرم من إعداد القوات العسكرية، و دعمها بالتجنيد، و تعيين الولاة و أخذ الضرائب، و صرفها في محالّها، إلى غير ذلك...

و ليس معنى ذلك أنّ الفقهاء و الحكّام الإسلاميين، مثل النبي و الأئمة في جميع الشئون و المقامات، حتى الفضائل النفسانية، و الدرجات المعنوية، فإنّ ذلك رأي تافه لا يركن إليه، إذ إنّ البحث إنّما هو في الوظائف المحولة إلى الحاكم الإسلامي، و الموضوعة على عاتقه، لا في المقامات المعنوية و الفضائل النفسانية،

ص: 526


1- تنبيه الأمّة و تنزيه الملّة، ص 97.
2- سورة الأحزاب: الآية 6.

فإنّهم صلوات اللّه عليهم، في هذا المضمار، في درجة لا يدرك شأوهم، و لا يشق لهم غبار، حسب روائع نصوصهم و كلماتهم.

و ليست السلطة مفخرة للحاكم يعلو بها على سائر المحكومين، بل هي من وجهة النظر الإسلامية مسئولية اجتماعية كبرى أمام اللّه سبحانه أوّلا، و أمام المسلمين ثانيا. و الجهة الجامعة ما بين الحاكم و الإمام في إدارة دفة الحكم و سياسة العباد، ليس لها أي ارتباط بالمثل الخلقية و الصفات النفسانية»(1).

ثم إنّ البحث حول حقوق الحاكم الإسلامي، الذي يمهّد الطريق لسيادة الأحكام الإسلامية طويل الذيل يرجع فيه إلى مفاهيم القرآن(2).

و أمّا الأمر الثاني،
اشارة

و هو أنّ التشريع الإسلامي ينظر إلى الكون و المجتمع بسعة و رحابة، مع مرونة خاصة تساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة، فقد أحرز ذلك بتحقيق أمور ثلاثة:

1 - النظر إلى المعاني دون الظواهر

الإسلام يهتم بالمعنى دون الظاهر، و هذه إحدى العلل لبقاء أحكامه و خلودها، و قد أوضحنا حال ذلك عند البحث عن إتقان التشريع و التقنين الإسلامي.

ص: 527


1- ولاية الفقيه، للإمام السيد الخميني، ص 63-66. و قد كان سماحته حيّا يرزق و نحن نجري القلم على هذه المواضع، لكنه لبّى دعوة ربّه و التحق بالرفيق الأعلى ليلة الأحد التاسع و العشرين من شهر شوال عام 1409 للهجرة. و قد كان - قدّس اللّه سرّه - رجلا مثاليا في التقوى، و بطلا في العلم، و مجاهدا مناضلا في سبيل إعلاء كلمة الحق. و بالحق كان مصداقا لقول الشاعر: ليس من اللّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد أعلى اللّه مقامه، و رفع في الجنان درجته.
2- قد أشبع شيخنا الأستاذ - دام ظله - الكلام في هذا المضمار، فلاحظ «مفاهيم القرآن»، ج 2، ص 265-296.
2 - الأحكام التي لها دور التحديد

من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين و صلاحيته للبقاء، وجود قوانين حاكمة على القوانين العامة، مثل قاعدة، «لا حرج»، و «لا ضرر»، و غير ذلك مما أوضحنا حاله عند البحث عن إتقان التشريع و التقنين الإسلامي.

3 - الإسلام شريعة وسطى و الأمّة الإسلامية أمّة وسط

من الأسباب الدافعة إلى صلوح الإسلام للبقاء و الخلود، كونه دينا جامعا بين الدعوة إلى المادة، و الدعوة إلى الروح، و دينا وسطا بين المادية البحتة، و الروحيّة المحضة، و بذلك جاء شريعة تامّة لم تعطّل الفطرة في تشريعاتها، و لم تلقي حبلها على عاتقها لتخرج عن حدودها، فأخذت من الدنيا ما هو لصالح العباد، و من الآخرة مثله.

فكما أنّ الإسلام ندب إلى العبادة، ندب إلى طلب الرزق أيضا، بل ندب إلى ترويح النفس، و التخلية بينها و بين لذاتها.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «للمؤمن ثلاث ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، و ساعة يرمّ فيها معاشه، و ساعة يخلّي بين نفسه و لذّاتها»(1)..

فقد قرن بين عبادة اللّه، و طلب الرزق، و ترفيه النفس، بحيث جعل الجميع في مستوى واحد.

فكما أنّ أداء الصلاة و الصوم، و الحج، وظائف دينية، فكذلك إنّ شقّ الطريق لطلب الرزق و المعاش، و القيام بنزهة بين الرياض، أو سباحة في الأحواض، و الأعمال الرياضية البدنية، وظيفة دينية للمؤمن، و لأجل هذا ينسجم الإسلام مع الحضارات المتواصلة.

ص: 528


1- نهج البلاغة، باب الحكم، رقم 390.

هذه هي الخاتمية، و دلائلها المشرقة، و شبهاتها الضئيلة، و أسئلتها المهمة، و أجوبتها الرصينة، طرحناها معرض البحث و التنقيب، و لم يكن رائدنا إلاّ تبنّي الحقيقة، متجرّدين عن كل رأي مسبق لا دليل عليه.

تمّ الكلام بحمده تعالى في النّبوّة الخاصة.

ص: 529

ملحق(1)
تعليق للمؤلف

ملحق(1)

أما ما يرجع إلى آدم عليه السلام من النسيان - بل غيره من الصفات، كالعصيان - فمفتاح حلّه و فك عقدته أن يعلم أنّ الدار التي كان فيها آدم لم تكن دار تكليف، فلم تكن الأوامر التي تلقاها آدم، مولوية يترتب على فعلها الثواب و مخالفتها العقاب، بل كانت إرشادية إلى ما فيه المنفعة لا غير.

فإذا لم تكن تلك دار تكليف، و لا يترتب على نسيان آدم أي محذور عقلي من المحاذير المتقدمة، كأدائه إلى انتفاء الغرض من بعثه بتطرق احتمال النسيان إلى ما يحمله من شرع و يبلغه من مبادي، فلا مانع من تجويز السهو و النسيان عليه.

و أمّا ما وقع من موسى عليه السلام في الموردين، أعني قوله: «نسيا حوتهما»، و قوله «لا تؤاخذني بما نسيت»، فقد قيل إنّه بمعنى الترك، و ليس كذلك، لإباء السياق عنه أولا، و لأنّ الترك الذي يطلق عليه النسيان منشؤه إمّا ضعف القلب، أو الغفلة، أو القصد حتى ينحذف من القلب ذكره، و الأوّلان خلاف المطلوب و الثالث خلاف المورد و السياق.

و قال الشيخ الطوسي في التبيان، في قوله: نَسِيٰا حُوتَهُمٰا ؛ «إنّما نسيه يوشع بن نون - فتاه - و أضافه إليهما، كما يقال نسي القوم زادهم و إنّما نسيه بعضهم»(2). و لكنه لا ينفع في المراد، لأنّ يوشع بن نون نبي أيضا. نعم، لو

ص: 530


1- راجع إلى ص 199.
2- التبيان، ج 7، ص 66، ط النجف 1381.

لم يكن الفتى يوشع بن نون، لاتجه ما ذكره.

و قال في الآية الثانية: «و قيل في معنى نسيت ثلاثة أقوال:

أحدها: ما حكي عن أبيّ بن كعب أنّه قال: «معناه بما غفلت، من النسيان الذي هو ضدّ الذكر».

و الثاني: ما روي عن ابن عباس أنّه قال: «معناه بما تركت من عهدك».

و الثالث: لا تؤاخذني بما كأنّي نسيته، و لم ينسه في الحقيقة - في رواية أخرى عن أبيّ بن كعب»(1).

و اختار العلاّمة الطباطبائي في ميزانه وقوع النسيان من موسى في المورد الأول على حقيقته، قال: «فمعنى نسيا حوتهما بنسبة النسيان إليهما معا: نسيا حال حوتهما، فموسى نسي كونه في المكتل فلم يتفقده، و الفتى نسيه إذ لم يخبر موسى بعجيب ما رأى من أمره.

ثم قال في ذيل قول فتاه: أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنٰا إِلَى اَلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ وَ مٰا أَنْسٰانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ، «و لا ضير في نسبة الفتى نسيانه إلى تصرف من الشيطان بناء على أنّه كان يوشع بن نون النبي، و الأنبياء في عصمة إلهية من الشيطان لأنّهم معصومون مما يرجع إلى المعصية، و أما مطلق إيذاء الشيطان فيما لا يرجع إلى معصية فلا دليل يمنعه.

قال تعالى: وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا أَيُّوبَ إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطٰانُ بِنُصْبٍ وَ عَذٰابٍ (2).

و حمل النسيان في المورد الثّاني على ضرب من الاعتذار(3).

و الذي يمكن أن يقال جمعا بين ما أفاده العلمان، أن كون الفتى هو يوشع بن نون النبي غير مسلّم - و إن جاء في رواية العياشي عن أبي حمزة البطائني عن أبي

ص: 531


1- المصدر السابق، ص 74.
2- سورة ص: الآية 41، الميزان، ج 13، ص 339-341.
3- المصدر السابق، ص 344.

جعفر عليه السلام قال: «كان وصي موسى يوشع بن نون، و هو فتاة الذي ذكره في كتابه» - و لكنها مرسلة، فيقال هنا - حينئذ - إنّ الذي نسي هو الفتى و إنّما نسب إليهما، كما يقال: نسي القوم زادهم، و إنّما نسيه بعضهم، على ما ذكره الشيخ.

هذا في المورد الأول.

و أمّا في المورد الثاني، فهو ضرب من الاعتذار.

و بذلك ينجلي الحال فيما نسب إلى موسى من النسيان.

ص: 532

ملحق(2)

ملحق(1)

إنّ البحث عن الإعجاز البياني للقرآن الكريم بحث مهم لم يستوفه علماء العقائد في كتبهم الكلامية، و لأجل ذلك رأينا من اللازم الخوض فيه على وجه مبسوط مقنع. و قد كتبت حول هذا القسم من الإعجاز، كتب و رسائل، بيد أئمة البلاغة، قديما و حديثا و نشير هنا إلى بعض ما اعتمدنا عليه في تنظيم هذه المباحث، و استضأنا من أنواره:

1 - بيان إعجاز القرآن، لأبي سليمان، محمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت 319 - م 388).

2 - النكت في إعجاز القرآن، لأبي الحسن، علي بن عيسى الرماني، (ت 296 - م 386).

3 - الرسالة الشافية، لأبي بكر عبد القاهر عبد الرحمن الجرجاني المتوفى عام 471.

و هذه الرسائل الثلاث طبعت في مجموعة واحدة باسم «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن» في مصر.

4 - إعجاز القرآن: لأبي بكر محمد بن الطيّب الباقلاني، المتوفى عام 403.

5 - سر الفصاحة، لابن سنان الخفاجي، المتوفى عام 464 ه.

6 - الطراز المتضمن لأسرار البلاغة و علوم حقائق الإعجاز، تأليف السيد

ص: 533


1- راجع إلى ص 259.

يحيى بن حمزة العلوي اليمني متوفى عام 749 ه، طبع في مصر في ثلاثة أجزاء، طبعة المقتطف، عام 1333 ه. و هو كتاب قيّم، خصوصا الجزء الثالث منه.

7 - الإتقان في علوم القرآن، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى عام 911، أربع أجزاء في مجلدين.

8 - إعجاز القرآن و البلاغة النبوية، تأليف مصطفى صادق رافعي، الطبعة الثامنة.

9 - مناهل العرفان في علوم القرآن، تأليف محمد عبد العظيم الزرقاني، طبع في مصر في جزءين.

10 - إعجاز القرآن، تأليف عبد الكريم الخطيب، الطبعة الثانية، بيروت 1395.

11 - المعجزة الخالدة، تأليف العلامة هبة الدين الشهرستاني المتوفى عام 1386 طبعة 1339 ه.

12 - البيان في تفسير القرآن للعلامة المحقق السيد أبو القاسم الخوئي دام ظله.

و غير ذلك من عشرات الكتب التي رجعنا إليها في تدوين هذا القسم من الإعجاز.

ص: 534

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.