الإلهیات علی هدی الکتاب و السنة و العقل المجلد 2

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: السبحاني التبریزي ، جعفر، ‫ 1308 -

عنوان واسم المبدع: الإلهیات علی هدی الکتاب و السنة و العقل ‫/ محاضرات جعفر السبحاني التبریزي ‫؛ بقلم حسن محمد مکي العاملي .

مواصفات النشر: ‫قم ‫: موسسة الامام الصادق (ع) ‫، 1423 ق. ‫= 1381.

مواصفات المظهر: ‫4ج.

ISBN : ‫160000ریال ‫: دوره ‫ 964-357-054-1 : ؛ ‫ج.2 ‫ 964-357-055-X : ؛ ج.3 ‫ 964-357-056-8 : ؛ ج.4 ‫ 964-357-057-6 :

لسان : العربية.

ملحوظة: چاپ قبلی : المرکز العالمي للدراسات الاسلامیة ، 1369.

ملحوظة: ‫ج. 1 و 2 (چاپ هفتم: 1430 ق.= 1388).

ملحوظة: کتابنامه .

موضوع : کلام شیعه امامیه -- قرن 14

شیعه امامیه -- عقاید

معرف المضافة: مکی عاملی ، حسن

تصنيف الكونغرس: ‫ ‮ BP211/5 ‫ /س 18‮الف 7 1381

تصنيف ديوي: ‫ 297/4172

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 82-15822

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: سجل كامل

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

تتمة الفصل الثالث

الباب الرابع الصفات السلبية

اشارة

ص: 5

ص: 6

جرت عادة الإلهيين على تقسيم صفات اللّه تعالى الذاتية إلى قسمين:

صفات ثبوتية و صفات سلبية، و إن شئت قلت: صفات الجمال و الإكرام، و صفات الجلال و التنزيه.

و تهدف الأولى منها إلى توصيفه تعالى بما يعد كمالا للموصوف، و جمالا له، كالعلم و القدرة و الحياة و الاختيار.

و تهدف الثانية إلى تنزيهه سبحانه عن النقص و العيب. و قد تقدم منّا في أوائل البحث عن الصفات، أن مجموع صفاته الثبوتية ترجع إلى وصف واحد و هو كونه متّصفا بكل كمال يعد كمالا للموجود، بما هو موجود. و أن ما يذكر في مقام العدّ من العلم و القدرة الخ..... فهو من باب بيان المثال، و لا تنحصر بما عدوّه. كما أن مجموع الصفات السلبية التي ستتلى عليك إنشاء اللّه ترجع إلى أمر واحد و هو تنزيهه عن كل نقص و عيب. و ما يذكر من تلك الصفات من نفي الشريك و التركيب الخ..... فهو من باب المثال و إعطاء النموذج من تلك السّلوب. و كأنّ الموحّد لا يخرج عن إطار التوحيد حتى في مقام بيان صفاته، فيصفه بوصف واحد جامع لكل الكمالات، كما يسلب

ص: 7

عنه كل ما يتصور من النقص و العيب بسلب واحد جامع لجميع السلوب.

ثم إنّ بعض المتكلمين أرجع صفاته الثبوتية إلى السلبية أيضا و قال إنّ معنى قولنا إنه عالم، أنّه ليس بجاهل. و إنه قادر، أنّه ليس بعاجز، و كذا باقي الصفات. محتجا بأن المعقول لنا من صفاته ليس إلاّ السلوب و الإضافات. و أما كنه ذاته و صفاته فمحجوب عن نظر العقول، و لا يعلم ما هو إلاّ هو.

و هذا صحيح عند لحاظ عجز البشر عن معرفة اللّه سبحانه، و لكن إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبية على خلاف ما ورد في الذكر الحكيم فإنه سبحانه يصف نفسه بصفات ثبوتية، كما يصف نفسه بصفات سلبية.

يقول سبحانه: هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلاٰمُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّٰارُ اَلْمُتَكَبِّرُ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ * هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ (1).

فإن بعض ما جاء في هاتين الآيتين و إن كان من صفات الفعل، غير أنّ بعضها الآخر من صفات الذات، و الكل نحو إثبات له سبحانه، و إرجاعها إلى السلوب لا يخلو من تكلّف. نعم له سبحانه صفات سلبية بلا شك.

و يكفي في ذلك قوله: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (2).

فإذا وقفت على أنّ الصفات السلبية ليس لها حد و لا عد مصداقا، فلنشرع ببيان المصاديق البارزة منها، و أهمها مسألة نفي الشريك عنه و يعبّر عنها بالتوحيد.

ص: 8


1- سورة الحشر: الآيتان 23 و 24.
2- سورة الاخلاص: الآيتان 3 و 4.

الصفات السلبية

(1) التوحيد

اشارة

يحتل التوحيد، بمراتبه المختلفة، المكانة العليا في الشرائع السماوية، فإنّ أتباعها لا يختلفون في الصفات الثبوتية الذاتية اختلافا بارزا يفرّقهم و يبددهم إلى مذاهب و طوائف، فإنّ الكل يعتقد بعلم الإله و قدرته و حياته إلى غير ذلك من الصفات الكمالية، و إن اختلفوا في تفاصيلها، و أما الصفات السلبية التنزيهية فهي، بتمام معنى الكلمة، مفترق الطرق، منها تتكون المذاهب و تتشعب.

و هذه هي الديانات البراهمانيّة و البوذيّة و الهندية و المجوسية و المسيحية ترجع أصول اختلافها إلى مسألة التوحيد بشعبه التي ستقف عليها، فليست الثنوية إلاّ وليدة رفض التوحيد عن معترك العقائد و الاعتقاد بإله غير واحد.

و لأجل ذلك يجب على الإلهي التركيز على الصفات السلبية أكثر من الثبوتية، و بين الصفات السلبية التركيز على التوحيد أكثر من غيره. و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعرف هدف بعثة الأنبياء و إرسالهم، بالتركيز على صورة من صور التوحيد و هو التوحيد في العبادة: قال سبحانه: وَ لَقَدْ بَعَثْنٰا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّٰاغُوتَ (1).

ص: 9


1- سورة النحل: الآية 36.

و على ضوء هذا الأصل، ترى البحث في المقام مترامي الأطراف، واسع النطاق، و قد فصّلنا ما يرجع إلى التوحيد عما يرجع إلى غيره من الصفات السلبية حتى يقف الباحث على شعب التوحيد و أصنافه مستمدا من الكتاب العزيز و الأحاديث الإسلامية و العقل.

ص: 10

التوحيد في الذات
(1) واحد: ليس له نظير و لا مثيل
اشارة

إنّ من أبرز صفاته تعالى أنه تعالى واحد لا ثاني له، و هذا هو المصطلح عليه في ألسنة المتكلمين بالتوحيد الذاتي، يهدفون به نفي أي مثل له. و ربما يطلق التوحيد الذاتي على كونه سبحانه واحدا بمعنى أنّه بسيط لا جزء له. و لأجل التفريق بين هذين التوحيدين الذاتيين يعبرون عن الأول، بالتوحيد الواحدي، مشيرين إلى أنه لا ثاني له، و عن الثاني بالتوحيد الأحدي، مشيرين به إلى أنه تعالى لا جزء له. و قد أشار سبحانه إليهما في سورة (الإخلاص) فقال في صدر السورة قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ هادفا إلى أنه بسيط لا جزء له و قال في ختامها: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ بمعنى لا ثاني له و قد فسرت الآيتان على النحو الذي ذكرناه دفعا للزوم التكرار. و نحن نبحث عن كل قسم من التوحيدين في فصل خاص، و هذا الفصل مختص بالقسم الأول منهما.

ثم إنّه ربما يستعمل في هذا المقام «نفي الشّريك»، و لكنه أخص مما نتبناه، فإنه يهدف إلى تنزيهه سبحانه عن وجود شريك له في الخلق و التدبير و العبادة، مع أنّ البحث أوسع من ذلك، لأنه مركز على أنّه سبحانه واحد لا ثاني له (يمتنع تثنّيه)، سواء أ كان هناك خلق أم لا، أ كان هناك تدبير أم

ص: 11

لا، أ كانت هناك عبادة أم لا. و التوحيد في هذه المراحل الثلاث: الخلق و التدبير و العبادة، متأخر عن التوحيد الذاتي، بمعنى أن ذاته واحدة لا ثاني لها.

و قد استدل الإلهيون على توحيد وجوده ببراهين عقلية واضحة، كما أنه تعالى وصف نفسه في الذكر الحكيم بهذا الوصف مقترنا بالبرهان العقلي و نحن نكتفي من البراهين بأخصرها و أوضحها و لا نستقصيها جميعا، و نقدم البحث عن معنى كونه واحدا.

معنى كونه واحدا

الوحدة على قسمين:

1 - الوحدة العددية، و هي عبارة عن كون شيء واقعا تحت مفهوم عام وجد منه مصداق واحد، و ذلك مثل مفهوم الشمس الذي هو مفهوم وسيع قابل للانطباق على كثير، غير أنه لم يوجد في عالم الحسّ منه إلاّ مصداق واحد مع إمكان وجود مصاديق كثيرة له. و هذا هو المصطلح عليه ب «الواحد العددي».

2 - الوحدة الحقيقية، و هي عبارة عن كون الموجود لا ثاني له، بمعنى أنه لا يقبل الاثنينية، و لا التكثّر و لا التكرر. و ذلك كصرف الشيء المجرد عن كل خليط. مثلا: الوجود المطلق عن كل قيد، واحد بالوحدة الحقة، لأنّه لا ثاني له. لأن المفروض ثانيا - بما أنه لا يتميز عن الأول - لا يمكن أن يعد شيئا آخر، بل يرجع إلى الوجود الأول.

و على ضوء ذلك، فالمراد من كون الشمس واحدة هو أنها واحدة لا اثنتان و لا ثلاثة و لا... و لكن المراد، من كون الوجود المطلق، - منزها عن كل قيد - واحد، أنه لا ثاني له و لا مثيل و لا شبيه و لا نظير، أي لا تتعقل له الاثنينية و الكثرة لأن ما فرضته ثانيا، بحكم أنه منزه عن كل قيد و خليط يكون مثل الأول، فلا يتميز و لا

ص: 12

يتشخص، فلا يكون متحققا، لأن الكثرة رهن دخول شيء مغاير في حقيقة الشيء. مثلا: البياض بما هو بياض، لا يتصور له الاثنينية، إلاّ إذا دخل فيه شيء غيره، كتعدد المحل، فيتعدد البياض، و لو لا ذلك لصار البياض صرف الشيء، و هو غير قابل للكثرة. يقول الحكيم السبزواري في هذا الصدد:

و ما له تكثّر قد حصلا *** ففيه ما سواه قد تخلّلا

إنّ الوجود ما له من ثان *** ليس قرى وراء عبّادان(1)

و المراد من كونه سبحانه واحدا، هو الواحد بالمعنى الثاني، أي ليس له ثان، و لا تتصور له الاثنينية و التعدد.

و لأجل ذلك يقول سبحانه في تبيين هذه الوحدة: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ، أي واحد لا نظير له.

و العجب إنّ الإمام أمير المؤمنين عليا (عليه السّلام) قام بتفسير كونه تعالى واحدا، عند ما كان بريق السيوف يشد إليه العيون، و ضربات الطرفين تنتزع النفوس و الأرواح في معركة (الجمل)، فأحس (عليه السّلام) بأنّ تحكيم العقيدة و صرف الوقت في تبيينها لا يقصر في الأهمية عن خوض المعارك ضد أهل الباطل:

روى الصدوق أن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقال: «يا أمير المؤمنين أ تقول إنّ اللّه واحد، قال فحمل الناس عليه، و قالوا: يا أعرابي أ ما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب، فقال أمير المؤمنين: دعوه، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم»... ثم قال شارحا ما سأل عنه الأعرابي: «و قول القائل واحد، يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له، لا يدخل في باب الأعداد، أ ما ترى أنّه كفر من قال «ثالث ثلاثة»».

ص: 13


1- شرح المنظومة، ص 333.

ثم قال: «معنى هو واحد: أنّه ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا. و قول القائل إنه عز و جل أحديّ المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم، كذلك ربنا عز و جل»(1).

فالإمام (عليه السّلام) لم يكتف ببيان المقصود من توصيفه سبحانه بأنه واحد، بل أشار إلى معنى آخر من معاني توحيده و هو كونه أحديّ الذات، الذي يهدف إلى كونه بسيطا لا جزء له في الخارج و الذهن. و هذا المعنى هو الذي نطرحه على بساط البحث في القسم الثاني من التوحيد الذاتي.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى بيان البراهين العقلية على توحيده سبحانه بمعنى كونه واحدا لا ثاني له.

أدلة الوحدانية
1 - التعدد يستلزم التركيب

لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود، فلا بد من تميّز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك، كما هو الحال في كل مثلين. و ذلك يستلزم تركب كل منهما من شيئين: أحدهما يرجع إلى ما به الاشتراك، و الآخر إلى ما به الامتياز. و المركب بما أنه محتاج إلى أجزائه لا يكون متصفا بوجوب الوجود، بل يكون - لأجل الحاجة - ممكنا، و هو خلاف الفرض.

و باختصار، لو كان في الوجود واجبان للزم إمكانهما و ذلك أنهما يشتركان في وجوب الوجود فإن لم يتميزا لم تحصل الاثنينية، و إن تميزا لزم تركب كل واحد منهما مما به المشاركة و ما به الممايزة، و كل مركب ممكن، فيكونان ممكنين، و هذا خلاف الفرض.

ص: 14


1- توحيد الصدوق، ص 83-84.
2 - الوجود اللامتناهي لا يقبل التعدد

هذا البرهان مؤلف من صغرى و كبرى. و النتيجة هي وحدة الواجب و عدم إمكان تعدده. و إليك صورة القياس حتى نبرهن على كل من صغراه و كبراه.

وجود الواجب غير متناه.

و كل غير متناه واحد لا يقبل التعدد.

فالنتيجة: وجود الواجب واحد لا يقبل التعدد.

و إليك البرهنة على كل من المقدمتين.

أما الصغرى: فإنّ محدودية الموجود ملازمة لتلبّسه بالعدم. و لأجل تقريب هذا المعنى، لاحظ الكتاب الموضوع بحجم خاص، فإنك إذا نظرت إلى أي طرف من أطرافه ترى أنه ينتهي إليه و ينعدم بعده. و لا فرق في ذلك بين صغير الموجودات و كبيرها، حتى أنّ جبال الهملايا مع عظمتها، محدودة لا نرى أي أثر للجبل بعد حده. و هذه خصيصة كل موجود متناه زمانا أو مكانا أو غير ذلك.

فالمحدودية و التلبس بالعدم متلازمان.

و على هذا الأساس لا يمكن اعتبار ذاته سبحانه محدودة، لأن لازم المحدودية الانعدام بعد الحد كما عرفت، و ما هو كذلك لا يكون حقا مطلقا مائة بالمائة، بل يلابسه الباطل و الانعدام. مع أنّ اللّه تعالى هو الحق المطلق الذي لا يدخله باطل. و القرآن الكريم يصف وجوده سبحانه بالحق المطلق و غيره بالباطل و ما هذا إلا لأنّ وجود غيره وجود متلبس بالعدم و الفناء و أما وجود اللّه تعالى فطارد لكل عدم و بطلان. قال عزّ من قائل: ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبٰاطِلُ وَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ (1).

و بتقرير آخر: إنّ عوامل المحدودية تتمحور في الأمور التالية:

ص: 15


1- سورة الحج: الآية 62.

1 - كون الشيء محدودا بالماهية و مزدوجا بها. فإنها حد وجود الشيء.

و الوجود المطلق بلا ماهية غير محدّد و لا مقيد. و إنما يتحدد بالماهية.

2 - كون الشيء واقعا في إطار الزمان، فهذا الكم المتصل (الزمان) يحدد وجود الشيء في زمان دون آخر.

3 - كون الشيء في حيز المكان، و هو أيضا يحدد وجود الشيء و يخصه بمكان دون آخر.

و غير ذلك من أسباب التحديد و التضييق. و اللّه سبحانه وجود مطلق غير محدد بالماهية إذ لا ماهية له، كما سيوافيك البحث عنه. كما لا يحويه زمان و مكان. فتكون عوامل التناهي معدومة فيه، فلا يتصور لوجوده حد و لا قيد و لا يصح أن يوصف بكونه موجودا في زمان دون آخر أو مكان دون آخر. بل وجوده أعلى و أنبل من أن يتحدّد بشيء من عوامل التناهي.

و أما الكبرى: فهي واضحة بأدنى تأمل، و ذلك لأن فرض تعدد اللامتناهي يستلزم أن نعتبر كل واحد منهما متناهيا من بعض الجهات حتى يصح لنا أن نقول هذا غير ذاك. و لا يقال هذا إلاّ إذا كان كل واحد متميزا عن الآخر، و التّميّز يستلزم أن لا يوجد الأول حيث يوجد الثاني، و كذا العكس. و هذه هي «المحدودية» و عين «التناهي»، و المفروض أنه سبحانه غير محدود و لا متناه.

و اللّه سبحانه لأجل كونه موجودا غير محدود، يصف نفسه في الذكر الحكيم ب اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (1). و ما ذلك إلا لأن المحدود المتناهي مقهور للحدود و القيود الحاكمة عليه. فإذا كان قاهرا من كل الجهات لم تتحكم فيه الحدود، فكأن اللامحدودية تلازم وصف القاهرية، و قد عرفت أنّ

ص: 16


1- سورة الرعد: الآية 16.

ما لا حدّ له يكون واحدا لا يقبل التعدد. فقوله سبحانه، و هو الواحد القهار، من قبيل ذكر الشيء مع البينة و البرهان.

قال العلامة (الطباطبائي): «القرآن ينفي في تعاليمه الوحدة العددية عن الإله جلّ ذكره، فإن هذه الوحدة لا تتم إلاّ بتميّز هذا الواحد، من ذلك الواحد، بالمحدودية التي تقهره. مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّغناه في أوان كثيرة يصير ماء كلّ إناء ماء واحدا غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر، و إنما صار ماء واحدا يتميّز عما في الآخر لكون ما في الآخر مسلوبا عنه، غير مجتمع معه، و كذلك هذا الإنسان إنما صار إنسانا واحدا لأنه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر، و هذا إن دلّ فإنما يدل على أنّ الوحدة العددية إنما تتحقق بالمقهورية و المسلوبية أي قاهرية الحدود، فإذا كان سبحانه قاهرا غير مقهور و غالبا لا يغلبه شيء لم تتصور في حقه وحدة عددية، و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه عند ما يصف نفسه بالواحدية يتبعها بصفة القاهرية حتى تكون الثانية دليلا على الأولى - قال سبحانه:

أَ أَرْبٰابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللّٰهُ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (1) ، و قال: وَ مٰا مِنْ إِلٰهٍ إِلاَّ اَللّٰهُ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (2) و قال: لَوْ أَرٰادَ اَللّٰهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفىٰ مِمّٰا يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ ، سُبْحٰانَهُ هُوَ اَللّٰهُ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (3).

و باختصار: إنّ كلاّ من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع، أو الوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة، مقهور بالحد الذي يميز الفرد عن الآخر و النوع عن مثله، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء و هو القاهر فوق كل شيء فليس بمحدود في شيء، فهو موجود لا يشوبه عدم، و حق لا يعرضه بطلان، و حي لا يخالطه موت، و عليم لا يدبّ

ص: 17


1- سورة يوسف: الآية 39.
2- سورة ص: الآية 65.
3- سورة الزمر: الآية 4.

إليه جهل، و قادر لا يغلبه عجز، و عزيز لا يتطرق إليه ظلم، فله تعالى من كل كمال محضه»(1).

و من عجيب البيان ما نقل عن الإمام الثامن (علي بن موسى الرضا) (عليه السّلام) في هذا المجال في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء و قال في ضمن تحميده سبحانه:

ليس له حدّ ينتهي إلى حدّه، و لا له مثل فيعرف مثله(2).

ترى إنّ الإمام (عليه السّلام) بعد ما نفى الحد عن اللّه، أتى بنفي المثل له سبحانه، لارتباط و ملازمة بين اللامحدودية و نفي المثيل، و التقرير ما قد عرفت.

3 - صرف الوجود لا يتثنى و لا يتكرر

إنّ هذا البرهان مركب من صغرى و كبرى على الشكل التالي:

اللّه سبحانه وجود صرف.

و كل وجود صرف واحد لا يتثنّى و لا يتكرّر.

فالنتيجة: اللّه سبحانه واحد لا يتثنّى و لا يتكرّر.

أما الصغرى فإليك بيانها:

أثبتت البراهين الفلسفية أنّه سبحانه منزّه عن الماهية التي تحد وجوده. و تحليله يحتاج إلى بيان دور الماهية في وجود الشيء فنقول: كل ما يقع في أفق النظر من الموجودات الإمكانية فهو مؤلف من وجود هو رمز عينيته

ص: 18


1- الميزان، ج 6، ص 89/88 - بتلخيص.
2- توحيد الصدوق، ص 33.

في الخارج، و ماهية تحد الوجود و تبين مرتبته في عالم الشهود و الخارج.

مثلا: الزّهرة الماثلة أمام أعيننا، لها وجود به تتمثل أمام نظرنا، و لها ماهية تحددها بحد النباتية، و تميزها عن الجماد و الحيوان. و لأجل ذلك الحد نحكم عليها أنها قد ارتقت من عالم الجماد و لم تصل بعد إلى عالم الحيوان. و بذلك تعرف أن واقعية الماهية هي واقعية التحديد. هذا من جانب.

و من جانب آخر، الماهية إذا لوحظت من حيث هي هي، فهي غير الوجود كما هي غير العدم. بشهادة أنها توصف بالأول تارة و بالثاني أخرى و يقال: النبات موجود، كما يقال: غير موجود. و هذا يوضح أن مقام الحد و الماهية مقام التخلية عن الوجود و العدم، بمعنى أن الإنسان عند النظر إلى ذات الشيء يراه عاريا عن كل من الوجود و العدم. ثم يصفه في الدرجة الثانية بأحدهما. و أما وجه كون الشيء في مقام الذات غير موجود و لا معدوم فلأجل أنه لو كان في مقام الذات و الماهية موجودا - سواء أ كان الوجود جزءه أو عينه - يكون الوجود نابعا من ذاته، و ما هذا شأنه يكون واجب الوجود، يمتنع عروض العدم عليه. كما أنه لو كان في ذلك المقام معدوما - سواء أ كان العدم جزءه أو عينه - يكون العدم نفس ذاته، و ما هذا شأنه يمتنع عليه عروض الوجود. فلأجل تصحيح عروض كل من الوجود و العدم لا مناص عن كون الشيء في مقام الذات خاليا عن كلا الأمرين حتى يصح كونه معروضا لأحدهما. و إلى هذا يهدف قول الفلاسفة: «الماهية من حيث هي هي لا موجودة و لا معدومة». و مع هذا كلّه فهي في الخارج لا تخلو إما أن تكون موجودة أو معدومة. فالنبات و الحيوان و الإنسان في خارج الذهن لا تفارق أحد الوصفين. و بهذا تبين أنّ اتصاف الماهية بأحد الأمرين يتوقف على علة، لكن اتصافها بالوجود يتوقف على علة موجودة، و يكفي في اتصافها بالعدم، عدم العلة الموجودة. فاتصاف الماهيات بالأعدام الأزلية

ص: 19

خفيف المئونة، بخلاف اتصافها بالوجود فإنه رهن وجود علة حقيقية خارجية.

و على ضوء هذا البيان يتضح أنه سبحانه منزّه عن التحديد و الماهية و إلاّ لزم أن يحتاج في اتصاف ماهيته بالوجود إلى علة(1). و ما هذا شأنه لا يكون واجبا بل يكون ممكنا. و هذا يجرّنا إلى القول بأنه سبحانه صرف الوجود المنزه عن كل حد.

و أما الكبرى فإليك بيانها:

إن كل حقيقة من الحقائق إذا تجردت عن أي خليط و صارت صرف الشيء لا يمكن أن تتثنّى و تتعدد، من غير فرق بين أن تكون صرف الوجود أو تكون وجودا مقرونا بالماهية كالماء و التراب و غيرهما. فإنّ كل واحد منها إذا لوحظ بما هو هو عاريا عن كل شيء سواه لا يتكرر و لا يتعدد. فالماء بما هو ماء، لا يتصور له التعدد إلاّ إذا تعدد ظرفه أو زمانه أو غير ذلك من عوامل التعدد و التميز.

فالماء الصرف و البياض الصرف و السواد الصرف، و كل شيء صرف، في هذا الأمر سواسية. فالتعدد و الاثنينيّة رهن اختلاط الشيء مع غيره.

و على هذا، فإذا كان سبحانه - بحكم أنه لا ماهية له - وجودا صرفا، لا يتطرق إليه التعدد، لأنه فرع التميز، و التميز فرع وجود غيريّة فيه، و المفروض خلوّه عن كل مغاير سواه، فالوجود المطلق و التحقق بلا لون و لا تحديد، و العاري عن كل خصوصية و مغايرة، كلما فرضت له ثانيا يكون

ص: 20


1- و هنا يبحث عن العلة ما هي ؟ أ هي نفس الوجود العارض على الماهية أو وجود آخر. فإن كان الأول لزم الدور، و إن كان الثاني لزم التسلسل. و التفصيل يؤخذ من محله. لاحظ الأسفار ج 1 - فصل في أنه سبحانه صرف الوجود.

نفس الأول، لا شيئا غيره، فاللّه سبحانه، بحكم الصغرى صرف الوجود، و الصرف لا يتعدد و لا يتثنّى. فينتج أنّ اللّه سبحانه واحد لا يتثنّى و لا يتعدّد.

خرافة التثليث: الأب و الابن و روح القدس

قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام و الغموض كما تعانى منها عقيدة التثليث في المسيحية.

إنّ كلمات المسيحيين في كتبهم الكلامية تحكي عن أنّ الاعتقاد بالتثليث من المسائل الأساسية التي تبنى عليها عقيدتهم، و لا مناص لأي مسيحي من الاعتقاد به. و في الوقت نفسه يعتقدون بأنّه من المسائل التعبدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي، لأن التصورات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهمه، كما أن المقاييس التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث، لأن حقيقته حسب زعمهم فوق المقاييس المادية.

هذا و مع تركيزهم على التثليث في جميع أدوارهم و عصورهم يعتبرون أنفسهم موحدين غير مشركين، و أنّ الإله في عين كونه واحدا ثلاثة، و مع كونه ثلاثة واحد أيضا. و قد عجزوا عن تفسير الجمع بين هذين النقيضين، الذي تشهد بداهة العقل على بطلانه و أقصى ما عندهم ما يلي:

إنّ تجارب البشر مقصورة على المحدود، فإذا قال اللّه بأنّ طبيعته غير محدودة تتألف من ثلاثة أشخاص، لزم قبول ذلك، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك و إن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه. بل يكفي في ذلك ورود الوحي به، و أنّ هؤلاء الثلاثة يشكلون بصورة جماعية «الطبيعة الإلهية اللامحدودة» و كل واحد منهم في عين تشخصه و تميزه عن الآخرين، ليس بمنفصل و لا متميز عنهم، رغم أنه ليست بينهم أية شركة في الألوهية، بل

ص: 21

كل واحد منهم إله مستقل بذاته و مالك بانفراده لكامل الألوهية، فالأب مالك بانفراده لتمام الألوهية و كاملها، من دون نقصان. و الابن كذلك مالك بانفراده لتمام الألوهية، و روح القدس هو أيضا مالك بانفراده لكمال الألوهية، و أنّ الألوهية في كل واحد متحققة بتمامها دون نقصان.

هذه العبارات و ما يشابهها توحي بأنهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الاستدلال و البرهنة العقلية، و أنها بالتالي «منطقة محرمة على العقل»، فلا يصل إليها العقل بجناح الاستدلال. بل المستند في ذلك هو الوحي و النقل.

و يلاحظ عليه أولا: وجود التناقض الواضح في هذا التوجيه الذي تلوكه أشداق البطاركة و من فوقهم أو دونهم من القسيسين. إذ من جانب يعرّفون كل واحد من الآلهة الثلاثة بأنه متشخص و متميز عن البقية، و في الوقت نفسه يعتبرون الجميع واحدا حقيقة لا مجازا. أ فيمكن الاعتقاد بشيء يضاد بداهة العقل، فإنّ التميّز و التشخص آية التعدد، و الوحدة الحقيقية آية رفعهما، فكيف يجتمعان ؟.

و باختصار، إن «البابا» و أنصاره و أعوانه لا مناص أمامهم إلاّ الانسلاك في أحد الصفين التاليين: صف التوحيد و أنه لا إله إلاّ إله واحد، فيجب رفض التثليث، أو صفّ الشرك و الأخذ بالتثليث و رفض التوحيد. و لا يمكن الجمع بينهما.

ثانيا: إن عالم ما وراء الطبيعة و إن كان لا يقاس بالأمور المادية المألوفة، لكن ليس معناه أنّ ذلك العالم فوضوي، و غير خاضع للمعايير العقلية البحتة، و ذلك لأن هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش و الجدل، و عالم المادة و ما وراءه بالنسبة إليها سيان، و مسألة امتناع اجتماع النقيضين و امتناع ارتفاعهما و استحالة الدور و التسلسل و حاجة

ص: 22

الممكن إلى العلة، من تلك القواعد العامة السائدة على عالمي المادة و المعنى.

فإذا بطلت مسألة التثليث في ضوء العقل فلا مجال للاعتقاد بها. و أما الاستدلال عليها من طريق الأناجيل الرائجة فمردود بأنها ليست كتبا سماوية، بل تدل طريقة كتابتها على أنها ألّفت بعد رفع المسيح إلى اللّه سبحانه أو بعد صلبه على زعم المسيحيين. و الشاهد أنه وردت في آخر الأناجيل الأربعة كيفية صلبه و دفنه ثم عروجه إلى السماء.

ثالثا: إنهم يعرّفون الثالوث المقدس بقولهم: «الطبيعة الإلهية تتألف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر، أى الأب و الابن و روح القدس، و الأب هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن، و الابن هو الفادي، و روح القدس هو المطهر. و هذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك، ذات رتبة واحدة و عمل واحد».

فنسأل: ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة فإن لها صورتين لا تناسب أيّة واحدة منهما ساحته سبحانه:

1 - أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجود مستقل عن الآخر بحيث يظهر كل واحد منها في تشخّص و وجود خاص، و يكون لكل واحد من هذه الأقانيم أصل مستقل و شخصية خاصة متميزة عما سواها.

لكن هذا شبيه الشرك الجاهلي الذي كان سائدا في عصر الجاهلية و قد تجلى في النصرانية بصورة التثليث. و قد وافتك أدلة وحدانية اللّه سبحانه.

2 - أن تكون الأقانيم الثلاثة موجودة بوجود واحد، فيكون الإله هو المركب من هذه الأمور الثلاثة و هذا هو القول بالتركيب و سيوافيك أنه سبحانه بسيط غير مركب. لأن المركب يحتاج في تحققه إلى أجزائه، و المحتاج ممكن غير واجب.

ص: 23

هذه هي الإشكالات الأساسية المتوجهة إلى القول بالتثليث.

تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية

إنّ التاريخ البشري يرينا أنه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء - بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم - إلى الشرك و الوثنية، تحت تأثير المضلين. و بذلك كانوا ينحرفون عن جادّة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي و الغاية القصوى لبعثهم. إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب موسى (عليه السّلام)، أفضل نموذج لما ذكرناه، و هو مما أثبته القرآن و التاريخ. و على هذا فلا داعي إلى العجب إذا رأينا تسرب خرافة التثليث إلى العقيدة النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح (عليه السّلام) و غيابه عن أتباعه.

إن تقادم الزمن رسّخ موضوع التثليث و عمّقه في قلوب النصارى و عقولهم، بحيث لم يستطع أكبر مصلح مسيحي - أعني لوثر - الذي هذب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير و الخرافات، و أسس المذهب البروتستانتي، أن يبعد مذهبه عن هذه الخرافة.

إنّ القرآن الكريم يصرح بأن التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح من المذاهب السابقة عليها، حيث يقول تعالى: وَ قٰالَتِ اَلنَّصٰارىٰ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّٰهِ ، ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ يُضٰاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، قٰاتَلَهُمُ اَللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ (1).

لقد أثبتت الأبحاث التاريخية أنّ هذا التثليث كان في الديانة البرهمانية قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين. فقد تجلى الرب الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر و آلهة:

ص: 24


1- سورة التوبة: الآية 30.

1 - براهما (الخالق).

2 - فيشنو (الواقي).

3 - سيفا (الهادم).

و قد تسربت من هذه الديانة البراهمانية إلى الديانة الهندوكية، و يوضح الهندوس هذه الأمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي:

«براهما» هو المبتدئ بإيجاد الخلق، و هو دائما الخالق اللاهوتي، و يسمى بالأب.

«فيشنو» هو الواقي الذي يسمى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

«سيفا» هو المفني الهادم المعيد للكون إلى سيرته الأولى.

و بذلك يظهر قوة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي «غستاف لوبون» قال:

«لقد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأولى من حياتها، مع أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية و الدينية اليونانية و الشرقية، و هكذا أصبحت خليطا من المعتقدات المصرية و الإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوروبية حوالي القرن الأول الميلادي، فاعتنق الناس تثليثا جديدا مكونا من الأب و الابن و روح القدس، مكان التثليث القديم المكون من «نروبى تر» و «وزنون» و «نرو»(1).

القرآن و نفي التثليث

إنّ القرآن الكريم يذكر التثليث و يبطله بأوضح البراهين و أجلاها، يقول: مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ

ص: 25


1- قصة الحضارة.

صِدِّيقَةٌ ، كٰانٰا يَأْكُلاٰنِ اَلطَّعٰامَ (1) . و هذه الآية تبطل ألوهية المسيح و أمه، التي كانت معرضا لهذه الفكرة الباطلة، بحجة أن شأن المسيح شأن بقية الأنبياء و شأن الأم شأن بقية الناس، يأكلان الطعام. فليس بين المسيح و أمه، و بين غيرهما من الأنبياء و الرسل و سائر الناس أي فرق و تفاوت، فالكل كانوا يأكلون عند ما يجوعون و يتناولون الطعام كلما أحسوا بالحاجة إليه. و هذا العمل منضما إلى الحاجة إلى الطعام، آية المخلوقية.

و لا يقتصر القرآن على هذا البرهان، بل يستدل على نفي ألوهية المسيح بطريق آخر، و هو قدرته سبحانه على إهلاك المسيح و أمه و من في الأرض جميعا، و القابل للهلاك لا يكون إلها واجب الوجود.

يقول سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ ، قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً إِنْ أَرٰادَ أَنْ يُهْلِكَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً (2). و في هذه الآية وردت ألوهية المسيح و أبطلت من طريق قدرته سبحانه على إهلاكه. و يظهر من سائر الآيات أنّ ألوهيته كانت مطروحة بصورة التثليث، قال سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ ثٰالِثُ ثَلاٰثَةٍ ، وَ مٰا مِنْ إِلٰهٍ إِلاّٰ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ (3).

و على كل تقدير، فقدرته سبحانه على إهلاك المسيح (عليه السّلام) أدل دليل على كونه بشرا ضعيفا، و عدم كونه إلها، سواء أطرح بصورة التثليث أم غيره.

ثم إنّ القرآن الكريم كما يفنّد مزعمة كون عيسى بن مريم إلها ابنا للّه في الآيات المتقدمة، يرد استحالة الابن عليه تعالى أيضا على وجه الإطلاق

ص: 26


1- سورة المائدة: الآية 75.
2- سورة المائدة: الآية 17.
3- سورة المائدة: الآية 73.

سواء أ كان عيسى هو الابن أو غيره، بالبيانات التالية:

1 - إنّ حقيقة البنوة هو أن يجزّئ واحد من الموجودات الحيّة شيئا من نفسه ثم يجعله بالتربية التدريجية فردا آخر من نوعه مماثلا لنفسه يترتب عليه من الخواص و الآثار ما كان يترتب على الأصل. كالحيوان يفصل من نفسه النطفة ثم يأخذ في تربيتها حتى تصير حيوانا. و من المعلوم أنه محال في اللّه سبحانه، لاستلزامه كونه سبحانه جسما ماديا له الحركة و الزمان و المكان و التركب(1).

2 - إنّه سبحانه، لإطلاق ألوهيته و خالقيته و ربوبيته على ما سواه، يكون هو القائم بالنفس و غيره قائما به، فكيف يمكن فرض شيء غيره يكون له من الذات و الأوصاف و الأحكام ما له سبحانه من غير افتقار إليه ؟.

3 - إن تجويز الاستيلاد عليه سبحانه يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه و هو يستلزم دخوله تحت ناموس المادة و الحركة، و هو خلف، بل يقع ما شاء دفعة واحدة من غير مهلة و لا تدريج.

و الدقة في الآيتين التاليتين تفيد كل ما ذكرنا، قال سبحانه:

وَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ ، بَلْ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قٰانِتُونَ * بَدِيعُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2) .

فقوله: سُبْحٰانَهُ ، إشارة إلى الأمر الأول.

و قوله: لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قٰانِتُونَ ، إشارة إلى الأمر الثاني.

ص: 27


1- ستوافيك أدلة استحالة كونه جسما أو جسمانيا و ما يستتبعانه من الزمان و المكان و الحركة.
2- سورة البقرة: الآيتان 116 و 117.

و قوله: بَدِيعُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذٰا قَضىٰ ... ، إشارة إلى الأمر الثالث(1).

إنّ القرآن الكريم يفند مزعمة «التثليث» ببراهين عقلية أخرى، فمن أراد الوقوف على الآيات الواردة في هذا المجال و تفسيرها، فليرجع إلى الموسوعات القرآنية(2).

ص: 28


1- لاحظ (الميزان)، ج 3، ص 287.
2- لاحظ ما ذكره الأستاذ دام حفظه في موسوعته القرآنية (مفاهيم القرآن)، ج 1، ص 264-272.

التوحيد في الذات

(2) أحد: بسيط لا جزء له خارجا و لا ذهنا

قد عرفت أن التوحيد الذاتي يفسر بمعنيين: الأول: إنّه واحد لا مثل له، و الثاني: إنه أحد لا جزء له، و يعبر عن الأول بالتوحيد الواحدي و عن الثاني بالتوحيد الأحدي و قد عرفت دلائل التوحيد بالمعنى الأول، و إليك البحث في المعنى الثاني فنقول:

التركيب يتصور على قسمين:

الأول: التركيب الخارجي، كتركيب الشّيء من أجزاء خارجيّة، من عناصر مختلفة كالعناصر المعدنية و المركبات الكيميائية. و هذا القسم من التركيب مستحيل عليه سبحانه، لأن الشيء المركب من مجموعة أجزاء، محتاج في وجوده إليها، و المحتاج إلى غيره معلول له و لا يوصف بوجوب الوجود و الألوهية، هذا.

مضافا إلى أنّ الأجزاء المؤلّفة للذات الإلهية، إما أن تكون «واجبة الوجود» فيعود إلى تعدد الآلهة و تكثر واجب الوجود، و قد فرغنا عن امتناعه أو تكون ممكنة الوجود، و في هذه الصورة تكون نفس تلك الأجزاء محتاجة إلى غيرها، و يكون معنى هذا أنّ ما فرضناه «إلها واجب الوجود» معلول

ص: 29

لأمور ممكنة هي في حدّ نفسها معلولة لموجود أعلى، و هذا أمر محال.

الثاني: التركيب العقلي، و المراد منه هو كون الشيء بسيطا خارجا و لكنه ينحلّ عند العقل إلى شيئين و هذا كالجنس و الفصل و ما يقوم مقامهما، فإن وزان الجنس عند العقل غير وزان الفصل فواقع الإنسانية و إن كان شيئا واحدا في الخارج، لكنّه ينحل في العقل إلى ما به الاشتراك و هو الحيوانية، و ما به الامتياز و هو الناطقية.

و هناك قسم آخر من التركيب العقلي أدق من تركب الشيء من جنسه و فصله، و هو كون كل ممكن مركبا من وجود و ماهية حتى اشتهر قولهم: «كل ممكن زوج تركيبي له ماهية و وجود». و هذه الكلمة لا تعني أنّ هناك شيئا يقابل الوجود و شيئا آخر يقابل الماهية، بل ليس في الخارج إلاّ شيء واحد و هو الوجود، و لكن الماهية تبين مرتبته الوجودية كالجماد و النبات و الحيوان و غيرها كما أن الوجود يحكي عن عينيته الخارجية التي تطرد العدم.

و التركيب في هذا القسم أدقّ من التركيب في القسم السابق أي تركب الشيء من جنسه و فصله و مع ذلك كله فهذا النوع من التركيب محال عليه سبحانه، إذ لو كان له ماهية، و شأن الماهية في حد ذاتها أن تكون عارية عن الوجود و العدم، قابلة لعروضهما، فعندئذ يطرح السؤال نفسه: ما هي العلّة التي أفاضت عليها الوجود؟ و المحتاج إلى شيء آخر يفيض الوجود على ماهيته يكون ممكنا لا واجبا. و لأجل ذلك ذهب الحكماء من الإلهيين إلى بساطة ذاته و تنزيهه عن أي تركيب خارجي أو عقلي و بالتالي كونه منزها عن الماهية.

ثم إنّ ما جاء في صدر سورة التوحيد يمكن أن يكون دالا على هذا النوع من التوحيد، قال سبحانه:

ص: 30

قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ (1) فهو يقصد ردّ التثليث التركيبي الذي تتبناه النصارى أو ما يماثل ذلك التركيب.

و الدليل على ذلك هو أنّه لو كان المقصود من توصيفه ب «أحد» غير البساطة للزم التّكرار بلا جهة لتعقيبه ذلك بقوله في ذيل السورة: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ فصدر السورة ناظر إلى التوحيد بمعنى البساطة، كما أنّ ذيلها ناظر إلى التوحيد بمعنى نفي الشيء و النظير له، و يتضح ذلك إذا وقفنا على أن السورة برمتها نزلت في رد عقائد المسيحيين، و إن لم يرد ذكرهم بالاسم.

و بذلك تقف على قيمة كلمة قالها الإمام الطاهر علي بن الحسين السجاد (عليه السّلام): «إنّ اللّه عزّ و جلّ علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون، فأنزل اللّه عز و جل قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ، اَللّٰهُ اَلصَّمَدُ و الآيات من سورة الحديد... إلى قوله: وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ ، فمن رام ما وراء هنالك هلك(2).

و هناك حديث بديع عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) يشير فيه إلى كلا التوحيدين أي كونه واحدا لا مثيل له، و واحدا لا جزء له، قال (عليه السّلام): و أمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه فقول القائل:

1 - هو واحد ليس له في الأشياء شبه.

2 - إنّه عزّ و جلّ أحديّ المعنى: لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم»(3).

ص: 31


1- سورة الإخلاص: الآية 1.
2- توحيد الصدوق، ص 283-284، طبعة الغفاري.
3- توحيد الصدوق، ص 83-84. و هذه المفاهيم العالية الواردة في هذه الأحاديث آية كون العترة الطاهرة وارثة لعلوم النبي الأكرم و كونهم خلفاءه في الأرض.

ثم إن هناك قسما ثالثا من التركيب أوجد باختلاف الآراء منه فرقا و مناهج فكريه عديدة و هو زيادة صفاته على ذاته و هو ما نطرحه في القسم الثالث - التالي - من أقسام التوحيد.

ص: 32

التوحيد في الصفات
(3) صفاته عين ذاته
اشارة

اتّفق الإلهيون على كونه تعالى متصفا بصفات الكمال و الجمال، من العلم و القدرة و الحياة و غيرها من الصفات الذاتيّة، و لكنهم اختلفوا في كيفية إجرائها عليه سبحانه على أقوال:

الأول: نظرية المعتزلة

إنّ كيفية إجراء صفاته سبحانه على ذاته أوجد هوّة سحيقة بين المعتزلة و الأشاعرة فمشايخ الاعتزال - لأجل حفظ توحيده سبحانه و تنزيهه عن التركيب من الذات و الصفات - ذهبوا إلى أنّ ملاك إجراء هذه الصفات هو الذات و ليست هناك أية واقعية للصفات سوى ذاته.

توضيحه: إنّ حقيقة نظرية المعتزلة هي نظرية نيابة الذات عن الصفات من دون أن يكون هناك صفة و ذلك لأنهم رأوا أنّ الأمر في أوصافه سبحانه يدور بين محذورين:

أولهما: إنّا لو قلنا بأنّ له سبحانه صفات كالعلم، وجب الاعتراف بأنّ هناك ذاتا و صفة، لأنّ واقعية الصّفة هي مغايرتها للموصوف، و لا يمكن أن

ص: 33

يكون هنا صفة و لا تكون غير الموصوف، فعندئذ يلزم التركّب فيه سبحانه من ذات و صفة، و هو محال.

و ثانيهما - إنّ نفي العلم و القدرة و سائر الصفات الكمالية عنه سبحانه يستلزم النقص في ذاته أولا، و يكذّبه إتقان آثاره و أفعاله ثانيا.

فالمخلص و المفرّ من هذين المحذورين، انتخاب نظرية النيابة، و هي أن نقول بنيابة الذات مناب الصفات، و إن لم يكن هناك واقعية للصفات وراء الذات.

هذا هو المشهور عن المعتزلة و ممن صرح به منهم عبّاد بن سليمان قال: «هو عالم، قادر، حي، و لا أثبت له علما، و لا قدرة و لا حياة و لا أثبت سمعا و لا أثبت بصرا، و أقول هو عالم لا بعلم، و قادر لا بقدرة، و حيّ لا بحياة، و سميع لا بسمع، و كذلك سائر ما يسمّى من الأسماء التي يسمّى بها»(1).

يلاحظ عليه - أولا: إنّه لم يتحقق أنّ ما ذكر من قضية النيابة رأي جميع المعتزلة بل إن هناك جماعة منهم يذهبون إلى ما هو المختار عند الإمامية من عينية صفاته مع ذاته بمعنى أنّ الذّات هي نفس العلم و القدرة و الحياة لا أنها خالية عن الصفات تنوب منابها(2).

و ثانيا: إنّ المعتزلة يتصورون أنّ حقيقة الصفة ترجع إلى أمر زائد على الذات، و لا يتصور كون الشيء وصفا مع كونه نفس الذات و عينها و ما ذلك إلا لملاحظة الصفة في الموجودات الإمكانية فالعلم في الإنسان وصف و هو غير الذات، كما أنّ القدرة كذلك، فاتخذوه ضابطة كلية حتى في مقام

ص: 34


1- مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 225.
2- قد جمع الأستاذ دام حفظه كلمات المعتزلة في هذا المقام في محاضراته القيمة في الملل و النحل، ج 2 الفصل السادس عند البحث عن كون علمه زائدا على الذات أو لا.

الذات الإلهية، فجعلوا كون الشيء وصفا ملازما للزيادة و عارضا على الذات، فوقعوا في محذور خاص و هو أنّ إثبات الصفات يستلزم تركب الذات من ذات و وصف أولا، و خلو الذات عن الكمال ثانيا، كما تقدم في كلامهم، و لأجل رفع هذين المحذورين ذهبوا إلى نفي الصفات و قيام الذات منابها.

و لكنهم لو وقفوا على أنّ ما اتخذوه ضابطة (كون الصفة غير الذات) ليس ضابطة كلية و إنما يختص ببعض الموجودات الإمكانية، لوقفوا على أنّ من الممكن أن تبلغ الذات في الكمال و الجمال مرتبة عالية تكون نفس العلم و الانكشاف و نفس القدرة و الحياة، و لم يدل دليل على أنّ الصفة في جميع المراتب عرض قائم بالذات بل لهذه الأوصاف عرض عريض و مراتب متفاوتة. ففي مرتبة يكون العلم عرضا، كما في علمنا بالأشياء الخارجية، و في مرتبة يكون جوهرا كما في علمنا بأنفسنا، و في مرتبة يكون واجبا نفس الذات كما سيوافيك بيانه، و عدم إطلاق الصفة على مثل هذا العلم لغة، لا يضرنا لأن الحقائق لا تقتنص عن طريق اللّغة. و لو كان الداعي إلى القول بالنيابة هو التحفظ على التوحيد و بساطة الذات، فالتوحيد ليس رهن القول بها فقط، بل هو كما يحصل بها، يحصل بالقول الآخر الذي يتضمن عينية الصفات و الذات، مع الاعتراف بواقعية الصفة فيها و بذلك يتميز عن القول بالنيابة.

الثاني: نظرية الأشاعرة

إنّ الأشاعرة ذهبت إلى وجود صفات كمالية زائدة على ذاته سبحانه مفهوما و مصداقا، فلا تعدو صفاته صفات المخلوقين إلاّ في القدم و الحدوث فالصفات في الواجب و الممكن زائدة على الذات غير أن صفات الأول قديمة و في غيره حادثة.

ص: 35

و استدل عليه الأشعري في «اللّمع» و «الابانة» بوجهين:

الوجه الأول - إنّ كونه سبحانه عالما بعلم، لا يخلو عن صورتين:

1 - أن يكون عالما بنفسه.

2 - أن يكون عالما بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.

فإن كان الأول، كانت نفسه علما، و يستحيل أن يكون العلم عالما، أو العالم علما. و من المعلوم أنّ اللّه عالم. و من قال إنّ علمه نفس ذاته، لا يصح له أن يقول إنّه عالم، فإذا بطل هذا الشق، تعين الشق الثاني، و هو أنه يعلم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه(1).

و صلب البرهان يرجع إلى أنّ واقعية الصفة هي البينونة، فيجب أن يكون هناك ذات و عرض، ينتزع من اتّصاف الذات بالعرض عنوان العالم و القادر. فالعالم من له العلم، و القادر من له القدرة، لا من ذاته نفسهما فيجب أن نفترض ذاتا غير الوصف.

يلاحظ عليه بأنّه لم يدل دليل على أنّ الصفة يجب أن تكون مغايرة للموصوف، و إنما هو أمر سائد في الممكنات، فإنّ العلم في الإنسان ليس ذاته، بشهادة أنّه قد كان، و لم يكن عالما، و لكن يمكن أن تبلغ الذات في الكمال و الجمال مرتبة تكون نفس العلم و نفس القدرة من دون أن يكون العلم أو القدرة زائدين عليها. و القول بأنّ واقعية الصفة مغايرتها للموصوف ما هو إلاّ نتيجة ما اعتدنا عليه من ممارسة الممكنات العالمة و الأنس بها، فإنّ الصفة فيها عرض و الموصوف معروض، و العرض غير المعروض و لكن لا غرو في أن يكون هناك علم قائم بالذات، و قدرة قائمة بنفسها من دون أن تكون عرضا. نعم، تصور ذلك لمن يمارس الأمور الممكنة و لا يجرّد نفسه عن هذا المضيق أمر مشكل.

ص: 36


1- اللمع، ص 30.

و على ذلك فالعلم عرض في بعض مراتبه، و غيره في المراتب العليا، و مثله القدرة. و كون لفظ العالم موضوعا لمن يكون علمه غير ذاته لا يكون دليلا على أنّه سبحانه كذلك. فإذا قام الدليل على عينية صفاته لذاته كان إطلاق العالم عليه سبحانه بملاك غير إطلاقه على الممكنات.

الوجه الثاني - لو كان علمه سبحانه عين ذاته، لصح أن نقول: «يا علم اللّه اغفر لي و ارحمني»(1).

و يلاحظ عليه: إنّ الشيخ لم يشخّص محل البحث، فإنّ القائل بالوحدة لا يقول بوحدة الذات و الصفة مفهوما فإنّ ذلك باطل بالضرورة، فإن ما يفهم من «لفظ الجلالة» غير ما يفهم من لفظ «العالم» و إنكار ذلك إنكار للبداهة، بل القائل بالوحدة يقصد منها اتحاد واقعية العلم و واقعية ذاته، و أنّ وجودا واحدا مع بساطته و وحدته، مصداق لكلا المفهومين، و ليس ما يقابل لفظ الجلالة في الخارج مغايرا لما يقابل لفظ «العالم». و إنّ ساحة الحق جلّ و علا منزهة عن فقد أية صفة كمالية في مرتبة الذات، بل وجوده البحث البسيط، نفس النعوت و الأوصاف الكمالية، غير أنها مع الذات متكثرة في المفهوم و واحدة بالهويّة و الوجود.

و على كل تقدير فيرد على الأشعري أنّ القول بالزيادة يستلزم القول بتعدد القدماء بعدد الأوصاف الذاتية. فإذا كان المجوس قائلين بقديمين، و النصارى بثلاثة، فالقول بالزيادة لازمه القول بقدماء ثمانية، أ فهل يصح في منطق العقل الالتزام بذلك لأجل أن المتبادر من صيغة الفاعل زيادة المبدأ على الذات ؟.

ص: 37


1- الإبانة، ص 108.
الثالث: نظرية الإمامية: عينية الصفات و الذات

هذه النظرية لا تعني نظرية النيابة، فإن تلك مبنية على نفي العلم و القدرة عنه سبحانه، غير أن ما يترقب منهما يترتب على ذاته سبحانه، و قد اشتهر قول تلك الطائفة: «خذ الغايات و اترك المبادي»، فما هو المطلوب من العلم تقوم به الذات و إن لم يكن فيها علم و لا قدرة. أولئك هم المعروفون بنفاة الصفات، و قد فروا من مضاعفات القول بالصّفة أعني التركب، إلى نفي الصفات رأسا، و هو أشبه بالفرار من المطر إلى تحت الميزاب.

و أما نظرية العينية فهي تعترف بوجود العلم و القدرة في مقام الذات و لكن تدّعي أن العرضية ليست أمرا لازما للعلم، بل تارة يكون عرضا و أخرى يكون جوهرا كعلم النفس بذاتها، و ثالثة فوق العرض و الجوهر فيكون واجبا قائما بنفسه، فهذا يباين نظرية نفاة الصفات مباينة الشرق للغرب.

و الدليل على العينية هو أنّ القول باتحاد ذاته سبحانه مع صفاته يوجب غناءه في العلم بما وراء ذاته عن غيره، فيعلم بذاته كل الأشياء من دون حاجة إلى شيء وراء الذات و هذا بخلاف القول بالزيادة فإنه يستلزم افتقاره سبحانه في العلم بالأشياء و خلقه إياها إلى أمور خارجة عن ذاته، فهو يعلم بالعلم الذي هو سوى ذاته و يخلق بالقدرة التي هي خارجة عن حقيقته، و يحيا بحياة غير ذاته، و الواجب سبحانه منزه عن الاحتياج إلى غير ذاته، فهو غني في ذاته و فعله عمن سواه، و الأشاعرة و إن كانوا قائلين بأزلية الصفات مع زيادتها على الذات، لكن الأزلية لا تدفع الفقر و الحاجة عنه، لأن الملازمة غير العينية فكون ذاته سبحانه ملازمة لهذه الصفات المغايرة من الأزل غير كونها نفس هذه الصفات.

و باختصار، إنّ كون الصفات عندهم غير الذات عين القول بحاجته في العلم و الإيجاد إلى غير ذاته فإن نتيجة فصل الذات عن الصفات هي إنه

ص: 38

يستعين في تحصيل العلم بعلم منفصل، و في الإيجاد بقدرة خارجة عن ذاته. و بالجملة إنّ التحرّز عن تعدد القدماء أولا، و حاجته سبحانه في مقام الفعل إلى غير ذاته ثانيا، يجرنا - مع الاعتراف بأنّ له سبحانه أوصافا من علم و قدرة و غيرهما - إلى القول بعينية الصفات و الذات.

بساطة الذات و تعدد الصفات كيف يجتمعان ؟

لقد قادتنا البراهين السابقة إلى بساطة الذات الإلهية، و خلوها عن أي نوع من أنواع التركيب العقلي الخارجي و هنا يطرح هذا السؤال نفسه و هو:

كيف يجتمع تعدد الأسماء و الصفات مع بساطة الذات ؟ أ ليس يستلزم تعدد الصفات تركّب الذات الإلهية من صفات متعددة ؟.

و الجواب عن ذلك بوجهين:

الأول: إنّ السؤال إنما يتوجه إذا كان كل واحد من هذه الصفات يشكّل جزءا خاصا، و يحتل موضعا معينا من ذاته سبحانه و حينئذ يمكن القول بأنه يستلزم التركيب في ذاته سبحانه. و لكن إذا قلنا بأنّ كل واحد من هذه الصفات يشكل تمام الذات برمتها و أسرها، فحينئذ لا يبقى مجال لتصور التركيب في شأنه تعالى، إذ لا يمتنع كون الشيء على درجة من الكمال يكون فيها كلّه علما، و كلّه قدرة، و كلّه حياة، دون أن تظهر أية كثرة في ذاته. نعم، لو كانت هناك كثرة، فإنّما هي في عالم المفهوم دون الواقع الخارجي، إذ عندئذ تكون ذاته سبحانه مصداق العلم و مطابقه - و في الوقت نفسه - مصداق القدرة و مطابقها، بلا مغايرة و لا تعدد.

و لتقريب هذا المعنى نشير إلى مثال في عالم الممكنات و هو أنّ الإنسان الخارجي بتمام وجوده مخلوق للّه سبحانه و في الوقت نفسه معلوم له سبحانه. فمجموع الوجود الخارجي، كما هو مصداق لقولنا إنّه مخلوق للّه و مطابق له، مصداق و مطابق لقولنا إنّه معلوم للّه، من دون أن يخصّ جزء

ص: 39

بكونه معلوما و جزء بكونه مخلوقا، بل كله معلوم للّه في عين كونه مخلوقا له، و ليست جهة المعلومية في الخارج غير جهة المخلوقية.

و باختصار، يصح انتزاع المفاهيم الكثيرة من الواحد البسيط البحت، و هذا على التقريب كالنّور، فإنّ الإضاءة و الحرارة من خواصّ النور، و ليست الأولى مختصة بناحية من وجوده و الثانية بناحية أخرى منه، بل النور بتمامه مضيء كما أنّه بتمامه حار. فالشيء الخارجي، أعني النور، مصداق لمفهومين؛ المضيء و الحار.

الثاني: إنّ وجوده سبحانه هو الكمال المطلق و الوجود الأتم، و أمّا انتزاع المفاهيم الكثيرة مثل العالم و القادر، فإنما هو بالنظر إلى تجلياته المختلفة في العالم الإمكاني. فإن إتقان الفعل و ظرافته دليل كونه قادرا، كما أنّ الصنع على سنن معقدة آية كونه عالما بهذه السنن و النّظم، و هكذا. فتجلّيه سبحانه على العالم بالشئون المختلفة صار سببا لانتزاع مفاهيم كثيرة منه، هذا.

و لكنّ الجواب الأول أتقن و أنسب بالأسس التي قدمناها.

عينية الصفات و الذات في النّصوص الإسلامية

إنّ عينية الصفات و الذات مما قادنا إليه العقل و تظافرت عليه السنة عن سيد الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فهو سلام اللّه عليه أول من أصحر بالحقيقة و جهر بها في تلك العصور التي لم يكن فيها خبر عن نظرية المعتزلة (النيابة) و لا الأشاعرة (الزيادة).

قال أمير المؤمنين: «و كمال الإخلاص له نفي الصفات (الزائدة) عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة، فمن وصف اللّه (أي بوصف زائد على ذاته) فقد قرنه (أي قرن

ص: 40

ذاته بشيء غيرها) و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّاه، و من جزّاه فقد جهله»(1).

و في هذا الكلام تصريح بعينية الصفات للذات، و فيه إشارة إلى برهان الوحدة، و هو أنّ القول باتحاد صفاته مع ذاته يوجب تنزيهه تعالى عن التركيب و التجزئة و نفي الحاجة عن ساحته. و لكن إذا قلنا بالتعدد و الغيريّة فذلك يستلزم التركيب و يتولد منه التثنية. و التركيب آية الحاجة، و اللّه الغني المطلق لا يحتاج إلى من سواه.

و قال الإمام الصادق (عليه السّلام): «لم يزل اللّه جلّ و عزّ ربّنا و العلم ذاته و لا معلوم، و السمع ذاته و لا مسموع، و البصر ذاته و لا مبصر، و القدرة ذاته و لا مقدور»(2).

و الإمام (عليه السّلام) يشير إلى قسم خاص من علمه سبحانه - وراء عينية صفاته و ذاته - و هو وجود علمه بلا معلوم و سمعه بلا مسموع. و ما هذا إلا لأجل أنّ ذاته من الكمال و الجمال إلى حد لا يشذ عن حيطة وجوده أي شيء، و تشريح هذا القسم من العلم يطلب من الكتب الفلسفية.

و هناك روايات أخرى عن العترة الطاهرة يقف عليها من خاض أحاديثهم، و قد جمعها الشيخ الصدوق في كتاب (التوحيد)، و العلامة المجلسي في (كتاب البحار) و كل ذلك يدل على أنّ الأمة أخذت التوحيد في هذه المجالات عن باب علم النبي علي بن أبي طالب (عليه السّلام) و أنّ المعتزلة أخذوا ما قالوا به من التوحيد من ذلك المصدر، كيف و هم عيال عليه في تلك المباحث كلها(3).

ص: 41


1- نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
2- التوحيد للصدوق، ص 139.
3- إنّ حياة المعتزلة العلمية تدل على أنّ رئيسهم واصل بن عطاء تتلمذ على أبي هاشم ابن محمد بن الحنفية و هو على أبيه عن علي (عليه السّلام). و قد أوضح الأستاذ دام ظله انتهاء أصول المعتزلة إلى علي (عليه السّلام) في موسوعته الكبيرة «مفاهيم القرآن» فلاحظ ج 4 ص 379-381.

ص: 42

التوحيد في الخالقية
(4) لا خالق سوى اللّه
اشارة

دلّت البراهين العقلية على أنّه ليس في الكون خالق أصيل إلا اللّه سبحانه، و أنّ الموجودات الإمكانية و ما يتبعها من الأفعال و الآثار، حتى الإنسان و ما يصدر منه، مخلوقات للّه سبحانه بلا مجاز و لا شائبة عناية، غاية الأمر أنّ ما في الكون مخلوق له إمّا بالمباشرة أو بالتسبيب.

و ذلك لما عرفت من أنّه سبحانه هو الواجب الغني، و غيره ممكن بالذات و لا يعقل أن يكون الممكن غنيا في فعله و ذاته عن الواجب، فكما أنّ ذاته قائمة باللّه سبحانه، فهكذا فعله. و الحاجة في الذات إلى الواجب آية الحاجة في الفعل أيضا. و من عرف الممكن حق المعرفة و انه الفقير الفاقد لكل شيء، و الواجد - في ظل خالقه - فعله و أثره، لا يشك في استناد الأفعال و الآثار إلى اللّه سبحانه، و هذا ما يعبر عنه بالتوحيد في الخالقية و أنّ هنا خالقا واحدا أصيلا و هو اللّه سبحانه و أمّا غيره فبين غير خالق لشيء إلى خالق بإذنه و مشيئته و إقداره سبحانه.

هذا ما لدى العقل، و أما النّقل فقد تضافرت النصوص القرآنية على أنّ اللّه سبحانه هو الخالق، و لا خالق سواه (و سيوافيك أنّ المراد هو حصر

ص: 43

الخالقية بالأصالة على اللّه سبحانه، لا التبعة و الظلّيّة بإذنه)(1)، و إليك الآيات الواردة في هذا المجال.

قال سبحانه: قُلِ اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (2).

و قال سبحانه: اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (3).

و قال سبحانه: ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ (4).

و قال سبحانه: ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ (5).

و قال سبحانه: هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ (6).

و قال سبحانه: أَنّٰى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صٰاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ (7).

و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ (8).

و قال سبحانه: أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (9).

هذا هو حكم العقل و هذه نصوص القرآن الكريم لا يشك فيها إلا

ص: 44


1- لاحظ نظرية الأمر بين الأمرين في الفصل السادس من الكتاب.
2- سورة الرعد: الآية 16.
3- سورة الزمر: الآية 62.
4- سورة المؤمن: الآية 62.
5- سورة الأنعام: الآية 102.
6- سورة الحشر: الآية 24.
7- سورة الأنعام: الآية 101.
8- سورة فاطر: الآية 3.
9- سورة الأعراف: الآية 54.

المنحرف عن الفطرة، غير أنّ الذي يهمنا هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات.

و هناك احتمالان ذهب إلى كلّ طائفة من المتكلمين و نحن نذكرهما، و ندعم الحق منهما بالبرهان.

نظرية الأشاعرة في التوحيد في الخالقية

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ المراد من التوحيد في الخالقية هو حصر الخلق و الإيجاد على الإطلاق باللّه سبحانه و أنه ليس في صفحة الوجود مؤثر و موجد و خالق إلاّ اللّه سبحانه و أمّا غيره، فليس بمؤثر و لا خالق لا على وجه الاستقلال و لا على وجه التبعية.

و على ذلك الأساس أنكرت العلّية و المعلوليّة، و التأثير و التأثّر بين الموجودات الإمكانية فزعمت أنّ آثار الظواهر الطبيعية كلها مفاضة منه سبحانه، من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية و آثارها، فعلى مذهبهم «النار حارّة» بمعنى أنّه جرت سنّة اللّه على إيجاد الحرارة عند وجود النار مباشرة من دون أن تكون هناك رابطة بين النار و حرارتها، و الشمس و إضاءتها، و القمر و إنارته، بل اللّه سبحانه جرت عادته على إيجاد الضوء و النور مباشرة عقيب وجود الشمس و القمر من دون أن يكون هناك نظام و قانون تكويني باسم العلّية و المعلوليّة. و على ذلك فليس في صفحة الوجود إلاّ علة واحدة، و مؤثر واحد، يؤثر بقدرته و سلطانه في كل الأشياء، من دون أن يجري قدرته و يظهر سلطانه عن طريق إيجاد الأسباب و المؤثرات. بل هو بنفسه الشخصية قائم مقام جميع ما يتصور من العلل و الأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.

هذا ما يتبناه الأشعري و اتباعه. ناسبين إياه إلى أهل السنة و الجماعة،

ص: 45

فهم لا يقيمون للعلل الطبيعية وزنا، فعامل الحمى في المريض هو اللّه سبحانه و ليس للجراثيم دور في ظهورها فيه، و مثل ذلك سائر الظواهر الطبيعية من تفتح الأزهار و نمو الأشجار، فالكل مخلوق للّه سبحانه بلا واسطة و لا تسبيب سبب من الأسباب.

و على هذا الأصل جعلوا أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه مباشرة، و لم يقيموا للقدرة الحادثة في العبد وزنا و لم يعترفوا بتأثيرها في فعله فصار كل ما في الكون من آثار الفاعلين، عالمين كانوا أم لا، صادرا منه سبحانه مخلوقا له.(1).

تحليل نظرية الأشاعرة

إنّ تفسير التوحيد في الخالقية بهذا المعنى، بما أنّه لا يستند إلى دليل عقلي بل يستند إلى ظواهر الآيات التي وقفت عليها، فلا مناص في تحليله من الرجوع إلى نفس الذكر الحكيم حتى يعلم أنّه غير معترف بهذا التفسير بل ينكره جدا.

إنّ الآيات القرآنية تعترف بوضوح بقانون العليّة و المعلوليّة بين الظواهر الطبيعية و تسند الآثار إلى موضوعاتها - و في الوقت نفسه تسندها إلى اللّه سبحانه - حتى لا يغتر القارئ بأنّ آثار الموضوعات متحققة من تلقاء نفسها.

و الآيات الواردة في هذا المجال كثيرة نكتفي بالقليل منها.

1 - قال سبحانه: وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ (2).

ص: 46


1- سيأتي البحث و التحليل في خصوص هذه الناحية في مباحث الجبر و التفويض في الفصل السادس من الكتاب، بإذنه تعالى.
2- سورة البقرة: الآية 22.

2 - و قال عزّ من قائل أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا نَسُوقُ اَلْمٰاءَ إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعٰامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلاٰ يُبْصِرُونَ (1).

فالكتاب العزيز يصرّح في هاتين الآيتين بجلاء بتأثير الماء في الزرع إذ إنّ الباء في «به» في الموردين بمعنى السببية. و أوضح منهما الآية التالية.

3 - قال سبحانه: وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجٰاوِرٰاتٌ وَ جَنّٰاتٌ مِنْ أَعْنٰابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوٰانٌ وَ غَيْرُ صِنْوٰانٍ يُسْقىٰ بِمٰاءٍ وٰاحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهٰا عَلىٰ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (2).

فإنّ جملة «يسقى بماء واحد» كاشفة عن دور الماء و أثره في إنبات النباتات و إنماء الأشجار، و مع ذلك يتفضل بعض الثمار على بعضها. و من أمعن النظر في القرآن الكريم يقف على كيفية بيانه للمقدمات الطبيعية لنزول الثلج و المطر من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث و يطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية، و اكتشاف عللها و مقدماتها. و يتضح ذلك بدراسة الآيتين التاليتين:

4 - قال سبحانه: اَللّٰهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ فَتُثِيرُ سَحٰاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّمٰاءِ كَيْفَ يَشٰاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ فَإِذٰا أَصٰابَ بِهِ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ إِذٰا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (3).

فقوله سبحانه: «فَتُثِيرُ سَحٰاباً» صريح في أنّ الرياح تحرك السّحاب و تسوقها من جانب إلى جانب.

5 - قال سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يُزْجِي سَحٰاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ

ص: 47


1- سورة السجدة: الآية 27.
2- سورة الرعد: الآية 4.
3- سورة الروم: الآية 48.

يَجْعَلُهُ رُكٰاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ جِبٰالٍ فِيهٰا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشٰاءُ يَكٰادُ سَنٰا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصٰارِ (1) .

فالآية الرابعة تسند حركة السحاب إلى الرياح و تقول «فتثير سحابا» و هذه الآية تسندها إلى اللّه سبحانه و تقول «إنّ اللّه يزجي سحابا». و كلا الإسنادين صحيح، حيث إنّ الرياح جند من جنوده سبحانه و سبب من أسبابه التي تعلقت مشيئته على نزول الفيض من طريقها و لأجل ذلك يعدّ فعلها فعله. و الكلّ قائم به قيام الممكن بالواجب.

6 - قال سبحانه: وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هٰامِدَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (2).

فالآية تصرح بتأثير الماء في اهتزاز الأرض و ربوتها، ثم تصرح بإنبات الأرض من كل زوج بهيج.

7 - قال سبحانه: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنٰابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ (3).

فالآية تسند إنبات السبع سنابل إلى الحبة.

و حصيلة البحث أنّه سبحانه يسند الإنبات في هذه الآيات إلى الأرض و الحبّ و لكنه يسند - في الوقت نفسه - ذلك الفعل إلى ذاته و يقول:

وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ حَدٰائِقَ ذٰاتَ بَهْجَةٍ ، مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ

ص: 48


1- سورة النور: الآية 43.
2- سورة الحج: الآية 5.
3- سورة البقرة: الآية 261.

تُنْبِتُوا شَجَرَهٰا أَ إِلٰهٌ مَعَ اَللّٰهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (1) .

و يقول أيضا: وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (2). و لا اختلاف بين الآيات في جميع هذه المجالات إذ الفعل فعل اللّه سبحانه بما أنّه منشئ الكون و موجده، و مسبب الأسباب و مكونها. كما هو فعل السبب، لصلة بينه و بين آثاره. و الأسباب و العلل على مراتبها مخلوقات للّه مؤثرات بإذنه، و ليس الإسنادان في درجة واحدة و عرض واحد، بل أحدهما في طول الآخر.

8 - قال سبحانه: خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا وَ أَلْقىٰ فِي اَلْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ (3).

أي جعل على ظهر الأرض، الجبال الثوابت لئلا تضطرب بكم، فقد نسب صيانة الإنسان عن الاضطراب و الميدان إلى نفسه حيث قال «و ألقى». و إلى سببه حيث قال «رواسي أن تميد بكم»، أي لغاية أن تصونكم الرواسي عن ميدان الأرض بكم كرواسي السفن الصائنة لها عن الميدان و الاضطراب. و الكل يهدف إلى أمر واحد و هو الذي ورد في قوله سبحانه: هٰذٰا خَلْقُ اَللّٰهِ فَأَرُونِي مٰا ذٰا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ اَلظّٰالِمُونَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (4). أي هذا الذي تشاهدونه في السماء و الأرض و ما بينهما من الأسباب و المسبّبات كلّه مخلوق للّه، و الأسباب جنوده و الآثار آثار للسّبب و للمسبّب بالكسر. ما ذكرناه تحليل لنظرية الأشعري في ضوء الوحي، و قد عرفت أن الوحي يردها بحماس.

و هناك تحليل فلسفي لها و هو أنه لا شك أنّ كثيرا مما نجده من

ص: 49


1- سورة النمل: الآية 60.
2- سورة لقمان: الآية 10.
3- سورة لقمان: الآية 10.
4- سورة لقمان: الآية 11.

الموجودات الممكنة المادية تتوقف في وجودها على شروط لا تتحقق بدونها، كالإنسان الذي هو ابن فلان. فإن لوجود الابن توقفا على وجود الوالدين و على شرائط أخرى كثيرة زمانية و مكانية، فمن الضروري أنّ ما يتوقف عليه وجود الشيء يعدّ جزءا من العلة التامة. و على هذا، لا يصح عدّه سبحانه علة تامة وحدها لهذه الظاهرة أي كون زيد ابن فلان.

نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة، إذ لا يتوقف على شيء غيره سبحانه و أمّا سائر أجزاء العالم كوجود زيد فهو سبحانه جزء العلة التامة ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل و ما هو معه من الشرائط و المعدّات(1).

و الذي يوضح ذلك أنّ هناك أفعالا لا يمكن إسنادها إلى اللّه سبحانه مباشرة كأكل زيد و شربه و مشيه و قيامه و قعوده، فإنّ تحقق هذه العناوين يتوقف على وجود زيد و أعضائه من فمه و لسانه و رجليه و عضلاته فإنّ لها دخالة في تحقق هذه الأفعال، فكيف يمكن إنكار دخالتها؟ فهذه الأفعال لا تستند إلا إلى الموجود المادي مباشرة، و إلى الواجب سبحانه على وجه التسبيب و السببية الطولية(2).

فمن وقف على مجموعة كبيرة من الآيات في هذا المجال لم يشك في أنّ القرآن يعترف بناموس السببية بين الأشياء و آثارها و إنهاء كل الكون إلى ذاته تبارك و تعالى. فلا يصح عندئذ حصر الخالقية و العلية الأعم من الأصلية و التبعية باللّه سبحانه، و تصوير غيره من الأسباب أمورا عاطلة غير مفيدة لشيء. و جعل القدرة الحادثة في العبد شيئا مقترنا بايجاده سبحانه فعل العبد. و على ذلك فيجب تفسير حصر الخالقية و توحيدها على وجه يتناسب مع جميع الآيات الماضية التي تدل على الحصر و أنّه لا خالق غيره، و في الوقت نفسه يعترف بتأثير العلل و إيجادها. و هذه هي النظرية التي نتلوها عليك بإذنه سبحانه.

ص: 50


1- الميزان، ج 15، ص 138.
2- سيوافيك معنى أدقّ من السببيّة الطولية لخالقيته سبحانه عند البحث في الجبر و التفويض.
نظرية العدلية في التوحيد في الخالقية

إنّ هناك معنى آخر لحصر الخالقية باللّه سبحانه و نفيها عن غيره بالمعنى الذي يناسب شأنه سبحانه، و ما نذكره هو الذي يدعمه العقل و يوافقه القرآن و تعضده البحوث العلمية في الحضارات الإنسانية و إليك بيانه:

إنّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات، غير المعتمدة على شيء منحصرة باللّه سبحانه و لا يشاركه فيها شيء. و أمّا غيره سبحانه فإنما يقوم بأمر الخلق و الإيجاد بإذن منه و تسبيب و يعدّ الكلّ جنود اللّه سبحانه يعملون بتمكين منه لهم و يظهر هذا المعنى من ملاحظة الأمور التالية:

أ - لا يشك المتأمل في الذكر الحكيم في أنه كثيرا ما يسند آثارا إلى الموضوعات الخارجية، و الأشياء الواقعة في دار المادة كالسماء و كواكبها و نجومها، و الأرض و جبالها و بحارها و براريها و عناصرها و معادنها و السحاب و الرعد و البرق و الصواعق و الماء و الأعشاب و الأشجار و الحيوان و الإنسان إلى غير ذلك من الموضوعات الواردة في القرآن الكريم. فمن أنكر إسناد القرآن آثار تلك الأشياء إلى أنفسها فإنما أنكره باللسان، و قلبه مطمئن بخلافه. و قد ذكرنا نزرا من الآيات الواردة في هذا المجال.

ب - إنّ القرآن يسند إلى الإنسان أفعالا لا تقوم إلا به، و لا يصح إسنادها إلى اللّه سبحانه بلا واسطة، كأكله و شربه و مشيه و قعوده و نكاحه و نموه و فهمه و شعوره و سروره و صلاته و صيامه. فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه، فهو الذي يأكل و يشرب و ينمو و يفهم.

ج - إنّ اللّه سبحانه أمر الإنسان بالطاعة أمر إلزام، و نهاه عن المعصية نهي تحريم، فيجزيه بالطاعة و يعاقبه بالمعصية. فلو لم يكن للإنسان دور في ذلك المجال و تأثير في الطاعة و العصيان فما هي الغاية من الأمر و النهي، و ما معنى الجزاء و العقوبة.

ص: 51

و هذه الأمور الثلاثة إذا قورنت بقوله سبحانه: قُلِ اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ (1)، الذي يدل على بسط فاعليته و عليته على كل شيء، يستنتج أنّ النظام الامكاني على اختلاف هوياته و أنواعه فعّال و مؤثر في آثاره، لكن بتقديره سبحانه و مشيئته و إذنه و هو القائل جل و علا: اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ (2) و قال تعالى: وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ (3). فتنتهي وجودات هذه الأشياء و أعمالها و آثارها و حركاتها و سكناتها إلى قضائه و تقديره و هدايته و إجراء الأسباب في النظام الإمكاني.

فعلى هذا فالأشياء في جواهرها و ذواتها و حدود وجودها و خصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل تلك الخصوصيات تنتهي إليه أيضا و ليس العالم و مجموع الكون إلا مجموعة متوحدة، يتصل بعضها ببعض، و يتلاءم بعضها مع بعض، و يؤثر بعضها في بعض، و اللّه سبحانه وراء هذا النظام و معه و بعده، لا خالق و لا مدبر، حقيقة و بالأصالة، إلاّ هو، كما لا حول و لا قوة إلا باللّه.

و بهذه النظرية - أي نظرية كون العالم مخلوقا على النظام السببي و المسببي و أنّ فيه فواعل اضطرارية كما أنّ فيه فواعل اختيارية - تتناسق الأمور الثلاثة و تتوحد نتائجها، و هذا بخلاف ما قلناه في النظرية الأولى، فإنها توجب التضاد بين الأمور الثلاثة المسلّمة.

النظام الإمكاني نظام الأسباب و المسبّبات

إنّ الإمعان في الآيات الكريمة يدفع الإنسان إلى القول بأنّ الكتاب العزيز يعترف بأنّ النظام الإمكاني نظام الأسباب و المسبّبات، فلأجل ذلك ينسب الفعل الواحد إلى اللّه سبحانه و في الوقت نفسه إلى غيره من دون أن يكون هناك تضادّ في النسبة.

ص: 52


1- سورة الرعد: الآية 16.
2- سورة طه: الآية 50.
3- سورة الأعلى: الآية 3.

1 - يقول سبحانه: اَللّٰهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا (1). فينسب توفي الأنفس إلى نفسه، بينما نجده سبحانه ينسه إلى رسله و ملائكته و يقول: حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنٰا (2).

و لا يجد الإنسان العارف بالقرآن أي اختلاف في النسبة.

2 - إنّ الذكر الحكيم يصفه سبحانه أنه الكاتب لأعمال عباده و يقول:

وَ اَللّٰهُ يَكْتُبُ مٰا يُبَيِّتُونَ (3) . و لكن في الوقت نفسه ينسب الكتابة إلى رسله و يقول: بَلىٰ وَ رُسُلُنٰا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (4).

3 - إنّه سبحانه ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه و يقول: إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّٰا لَهُمْ أَعْمٰالَهُمْ (5). و في الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان و يقول: وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ أَعْمٰالَهُمْ وَ قٰالَ لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ (6).

و في آية أخرى ينسبها إلى قرنائهم و يقول: وَ قَيَّضْنٰا لَهُمْ قُرَنٰاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ (7) و لا تصح هذه النسب المختلفة ظاهرا إلا بالقول بأنّ الكون مبني على النظام السببي و المسبّبي و سببية كل شيء بتسبيب منه سبحانه و ينتهي الكل إليه فالفعل مع أنه فعل السبب فعل المسبّب بالكسر أيضا.

4 - لا شك أنّ التدبير كالخلقة منحصر في اللّه سبحانه (كما سيوافيك بيانه في القسم الآتي من التوحيد) حتى لو سئل بعض المشركين عن المدبّر

ص: 53


1- سورة الزمر: الآية 42.
2- سورة الأنعام: الآية 61.
3- سورة النساء: الآية 81.
4- سورة الزخرف: الآية 80.
5- سورة النمل: الآية 4.
6- سورة الأنفال: الآية 48.
7- سورة فصلت: الآية 25.

لأجاب بأنّ اللّه هو المدبر، كما يقول سبحانه: وَ مَنْ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اَللّٰهُ (1) لكن نرى أنّ القرآن يعترف بمدبريّة غير اللّه سبحانه حيث يقول:

فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (2) .

5 - إنّ القرآن يشير إلى كلتا النسبتين (أي نسبة الفعل إلى اللّه سبحانه إشارة إلى الجانب التسبيبي و إلى الإنسان إشارة إلى الجانب المباشري) بقوله: وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ (3).

فهو يصف النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله و سلم) بالرمي و ينسبه إليه حقيقة و يقول: «إذ رميت»، لكنه يصف اللّه سبحانه بأنه الرامي الحقيقي و ما ذلك إلا لأن النبي إنما قام بما قام بالقدرة التي منحها اللّه له، و كان مفيضا لها عليه حين الفعل، فيكون فعله فعلا للّه أيضا.

و هذه المجموعة من الآيات ترشدك إلى النظرية الحقّة في تفسير التوحيد في الخالقية. و في الحديث القدسي إشارة إليها.

يقول: «يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك، و بقوتي أدّيت إلي فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويا»(4).

ثم إنّ هذه النظرية، على تقاريرها المختلفة من حيث الدقّة و الرقّة(5)

ص: 54


1- سورة يونس: الآية 31.
2- سورة النازعات: الآية 5.
3- سورة الأنفال: الآية 17.
4- البحار، ج 5، ص 57.
5- إن تفسير مسألة «الأمر بين الأمرين» و أنّ فعل العبد في حال كونه فعله، فعلا للّه سبحانه يختلف حسب اختلاف الأفهام في المقام، فيفسره المتكلم على نمط يناسب أبحاثه، فيصور كونه سبحانه فاعلا بالتسبيب من حيث أنه أعطى القدرة و الحياة للعبد، فلولاه لما قدر العبد على العمل، و أما الحكيم الإلهي فيرى الموجودات على تباينها في الذوات و الصفات و الأفعال، و ترتبها في القرب و البعد من الحق تعالى، قائمة بذاته سبحانه، فهو مع بساطته ينفذ نوره في الموجودات الإمكانية، عامة. و لا يوجد ذرة من ذرات الأكوان الوجودية، إلا و نوره محيط بها، قاهر عليها و هو قائم على كل نفس بما كسبت و هو مع كل شيء لا بمقارنة و غير كل شيء لا بمزايلة. فإذا، كما أنه ليس في الوجود شأن إلاّ و هو شأنه كذلك ليس في الوجود فعل إلاّ و هو فعله، لا بمعنى أنّ فعل زيد ليس فعلا له بل بمعنى أنّ فعل زيد مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعله سبحانه كذلك. فهو مع غاية عظمته و علوه، ينزل منازل الأشياء و يفعل فعلها، كما أنّه مع غاية تجرّده و تقدسه لا يخلو منه أرض و لا سماء. فإذا نسبة الفعل و الإيجاد إلى العبد صحيحه، كما أنّ نسبتها إلى اللّه تعالى كذلك. و تفصيل ذلك يأتي عند البحث في الجبر و التفويض.

مما أطبقت على صحته الإمامية و المعتزلة و أيدته النصوص المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) و قد قال به بعض الأشاعرة أيضا كإمام الحرمين (أبي المعالي الجويني) و هو من أعلام القرن الخامس و الشيخ (الشعراني) و هو من أقطاب الحديث و الكلام في القرن العاشر، و الشيخ (محمد عبده) مفتي الديار المصرية في القرن الرابع عشر. و من أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلى مصادرها(1).

ثم إنّ هنا ضابطة لتمييز الأفعال التي تسند إلى الفاعل القريب عن الأفعال التي تسند إلى القريب و البعيد تفطّن إليها العلامة (الطباطبائي) في تفسيره فقال: «إن من الأفعال ما يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة كالأكل بمعنى الالتقام، و البلع و الشرب بمعنى المص و التجرع، و القعود بمعنى الجلوس، لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر، فإذا أمر السيد خادمه أن يأكل غذاء كذا و يشرب شرابا كذا، و يقعد على كرسي كذا، قيل:

«أكل الخادم و شرب و قعد، و لا يقال أكله سيده و شربه و قعد عليه.

و أما الأعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة و الحركات المادية التي تقوم بالفاعل المباشر للحركة كالقتل و الأسر و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و الإحسان و نظائرها فإنها تنسب إلى الفاعل القريب و البعيد على السوية، بل

ص: 55


1- الملل و النحل، ج 1، ص 98-99 نقل كلمة إمام الحرمين، و اليواقيت و الجواهر للشعراني، ص 139-141، و رسالة التوحيد، ص 59-62. و قد جاء الاستاذ دام ظله بنص كلامهم في كتابه (أبحاث في الملل و النحل).

ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب، كما إذا كان الفاعل البعيد أقوى وجودا و أشد سلطة و إحاطة، و بذلك يظهر سر نسبة التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه و يقول:

قٰاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (1) . كما يظهر أنّ القول بالتوحيد في الخالقية و استناد الحوادث و انتهائها إلى اللّه سبحانه لا يستلزم استناد القبائح إليه سبحانه، بل الأفعال التي تعتبر فيها خصوصيات المباشرة، كالنكاح و الزنا و الأكل المحرّم و المحلّل، فإنما تنسب إلى الإنسان فقط لأنه هو الموضوع المادي الذي يقوم بهذه الحركات و أما الذي يوجد هذا المتحرك الذي من جملة آثاره حركته - و ليس اللّه بنفسه متحركا بهذه الحركات و إنّما يوجدها إيجادا إذا تمت شرائطها و أسبابها - فلا يتصف بأنواع هذه الحركات حتى يتصف بفعل النكاح أو الزنا أو أي فعل قائم بعضو من أعضاء الإنسان»(2).

و أنت إذا أمعنت في هذه الضابطة تقدر على التفريق بين ما يصح فيه الإسناد و ما لا يصح، كما تقف على أن القول بالتوحيد في الخالقية على الوجه الذي فسرناه، لا يستلزم مضاعفات نظرية الأشاعرة، فإنها مبنية على إنكار رابطة العلية و المعلولية بين الإنسان و فعله، و فرض وجوده سبحانه قائما مقام جميع العلل، و سيوافيك ما يزيدك توضيحا عند البحث عن الجبر و الاختيار.

الثنوية باشكالها المختلفة
اشارة

إنّ التوحيد في الخالقية يقابله الاعتقاد بأنّ أمر الخلقة لا ينحصر باللّه سبحانه بل هناك وراءه سبحانه خالقا أو خالقين مستقلّين بأمر الخلقة يعتمدون على أنفسهم و قدرتهم من دون أن يستمدوا منه سبحانه أو يكونوا مؤتمرين

ص: 56


1- سورة التوبة: الآية 14.
2- لاحظ الميزان، ج 9، ص 193-197.

و خالقين بأمره و هذا ما يعبّر عنه في مصطلح المتكلمين بالثنوية سواء أ كان الشريك واحدا أو أكثر فهذه اللفظة رمز لمن يرفض التوحيد في الخالقية من غير فرق بين أن يعتقد باثنين أو بأكثر و لأجل ذلك يدخل تحت هذا العنوان كثير من الفرق التي لا تعتقد بانحصار الخالقية في اللّه سبحانه منها:

1 - المفوّضة:

و هم الذين يعتقدون بتفويض أفعال البشر إلى أنفسهم، فهم مستقلون في خلق الأفعال و إيجادها و لا صلة لها بخالق البشر. و قد رميت المعتزلة من المسلمين بهذه العقيدة، و هؤلاء لأجل التحفظ على عدله سبحانه و قسطه بين عباده التجئوا إليها زاعمين أن القول بعدم صلة أفعال البشر بخالقهم ينفعهم في القول بالعدل، و يكون البشر نفسه مسئولا عن فعله و عمله. غير أن النسبة لو تحققت يكون هذا العمل كالفرار من المطر إلى تحت الميزاب فإنهم و إن توفقوا في مجال توصيف الرب بالعدل، غير أنهم رسبوا في مجال التوحيد فجعلوا الإنسان خالقا في مقابل خالقه العظيم، فما قيمة توصيفه بالعدل إذا كان مستلزما للانسلاك في عداد المشركين ؟.

و لأجل ذلك ذهبت الأشاعرة إلى أنّ أفعال الإنسان أفعال للّه سبحانه مباشرة و بلا سبب كما ذهبت الإمامية من العدلية إلى أنّ أفعاله فعل للّه سبحانه و في الوقت نفسه فعل للبشر و النسبة إليهما مختلفة فأحد الفاعلين خالق بالتسبيب و الآخر خالق بالمباشرة على النحو الذي وقفت على بيانه.

2 - الزرادشتية:

و هم القائلون بأنّ في عالم الكون أمورا توصف بالخير و البركة كما أنّ هناك أمورا توصف بالشرور و البلايا فلا يصح إسناد كلا الصنفين من الأفعال إلى الخالق الحكيم فيجب الاعتقاد بأنّ خالق الخير غير خالق الشر. و قد اخترعوا عقيدة خيالية و هي: إنّ خالق الخير موجود يدعى ب «يزدان» كما إنّ خالق الشر موجود يدعى ب «أهريمن» و كلا الخالقين مخلوق للّه سبحانه. و بهذه الفرضية الخيالية، تمكنوا من إقناع أنفسهم بحلّ مشكلة الشرور و البلايا في صفحة الوجود.

ص: 57

و هناك طوائف أخرى تدعى بالثنوية لها عقائد خاصة متواجدة في بلاد الهند و جنوب شرق آسيا فمن أراد الوقوف على عقائدها فليرجع إلى الكتب المترجمة لها.

ص: 58

التوحيد في الرّبوبية
(5) انحصار التّدبير في اللّه سبحانه
اشارة

يستفاد بجلاء من مطالعة عقائد الوثنية في كتب الملل و النحل أنّ مسألة التّوحيد في الخالقية كانت موضع اتفاق، و أنّ الانحراف كان في مسألة التدبير أولا، و العبادة ثانيا. فكان الوثنيون موحدين في أمر الخلقة مشركين في الربوبية ثم في العبادة.

و كان الشّرك في العبادة عاما، بخلاف الشّرك في التدبير فلم يكن مثله في السعة و الشمول.

و ما ذكرناه يجده التالي للكتاب العزيز، قال سبحانه: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّٰهُ (1): و مثله في سورة الزّمر، الآية 38.

و قال سبحانه: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ (2).

و قال سبحانه: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللّٰهُ ، فَأَنّٰى

ص: 59


1- سورة لقمان: الآية 25.
2- سورة الزخرف: الآية 9.

يُؤْفَكُونَ (1) .

و هذه الآيات تعرفنا موقف الوثنيّين في مسألة التوحيد في الخالقية، و أنّ تلك العقيدة كانت عامة للمشركين أو لأكثرهم في الجزيرة العربية.

نعم، كان الاعتقاد بوجود مبدءين و خالقين لهذا العالم، أحدهما:

«يزدان» و الآخر «أهريمن» أمرا مشهورا بين «الزرادشتيين» و لكن عقيدتهم تحيط بها هالة من الإبهام و الغموض، كعقيدة البراهمة و البوذيين و الهندوكيين في هذا المجال و البحث فيه خارج عن إطار الموضوع و قد تقدم شيء عنهم آنفا.

و أمّا مسألة التوحيد في التدبير فلم تكن أمرا مسلّما عندهم، بل الشرك في التدبير كان شائعا بين الوثنيين، حيث كانوا يقولون بأنه ليس للكون سوى خالق واحد و هو موجد السّماوات و الأرض و خالقهما و لكنه بعد أن خلق الكون فوّض تدبير بعض أموره إلى واحد أو أكثر من خيار خلقه، و اعتزل هو أمر التدبير. و هذه المخلوقات المفوّض إليها أمر التدبير كانت في نظر هؤلاء عبارة عن «الملائكة» و «الجنّ » و «الكواكب» و «الأرواح المقدسة» و...

التي تكفلت كل واحدة منها تدبير جانب من جوانب الكون على حدّ زعمهم.

إنّ عبدة الكواكب و النجوم في عصر بطل التوحيد «إبراهيم» كانوا من المشركين في أمر التدبير، حيث كانوا يعتقدون بأنّ الأجرام العلوية هي المتصرفة في النظام السفلي من العالم و أنّ أمر تدبير الكون و منه الإنسان، فوّض إليها فهي أرباب لهذا العالم و مدبرات له لا خالقات له(2). و لأجل ذلك نجد أنّ إبراهيم يرد عليهم بإبطال ربوبيتها عن طريق الإشارة إلى أفولها و غروبها و يقول: إذا كانت هذه الأجرام حسب زعمكم هي المدبرات

ص: 60


1- سورة الزخرف: الآية 87.
2- سيأتي البحث في التفويض عند البحث في التوحيد في العبادة.

للموجودات الأرضية و منها الإنسان، فيجب أن يكون لها إشراف دائم على المدبّرات، و اتصال دائم بالعالم السفلي الذي يقع تحت تدبيرها و لكنه لا يجتمع مع الأفول و الغروب، لأنهما يستلزمان غيبة المدبّر عن مدبّره بالفتح و جهله بحاله، فيكون دليلا قاطعا على عدم كونها مدبّرة للموجودات الأرضية.

و لأجل أنّ شرك عبدة الأجرام كان شركا في الربوبية و التدبير نرى أنّ إبراهيم يستعمل في طرح عقيدتهم و ردّها لفظ «الربّ ». يقول سبحانه حاكيا عنه: فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأىٰ كَوْكَباً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي (1). و قال أيضا:

فَلَمّٰا رَأَى اَلْقَمَرَ بٰازِغاً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي (2) . فاستعمل لفظة «الربّ » فيهما و في غيرهما من الآيات الواردة في احتجاجه مع المشركين، و لم يستعمل كلمة «الخالق»، للفرق الواضح بين التوحيدين و عدم إنكارهم التوحيد الأول و إصرارهم على الشّرك في الثاني.

و أمّا لفظة «الرّب» في لغة العرب فهي بمعنى المتصرف و المدبّر و المتحمل أمر تربية الشيء، و كأنه بمعنى الصاحب. و هذه، أعني التدبير و التصرف، من لوازم كون الشخص صاحبا و مالكا. فربّ الضيعة يقوم بأمرها، و ربّ البيت و الغنم يقوم بالتصرف اللازم فيهما.

و باختصار، إنّ في زعم المشركين أنّ مقام الخلق غير التدبير و أنّ الذي يرتبط باللّه إنما هو الخلق و الإيجاد و أمّا التدبير فيتعلق بموجودات أخرى غير اللّه سبحانه و تعالى. فهي المتصرفات فيه و قد فوّض إليها تدبير عالم الطبيعة، و ليست للّه تعالى أية دخالة في أمر تدبير الكون و إدارته و تنظيم شئونه و التصرف فيه.

هذه حقيقة الشّرك في التدبير و وجه الفرق بينه و بين الشّرك في الخالقية

ص: 61


1- سورة الأنعام: الآية 76.
2- سورة الأنعام: الآية 77.

و نرى ذلك الشّرك في كلام (عمر بن لحيّ ) و هو أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة و نواحيها فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أناسا يعبدون الأوثان و عند ما سألهم عن شئونها قالوا:

«هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، و نستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أ فلا تعطونني منها فأسير بها إلى أرض العرب فيعبدوه». فاستصحب معه صنما كبيرا باسم «هبل» و وضعه على سطح الكعبة المشرّفة و دعى الناس إلى عبادته(1).

و هاهنا نكتة يجب التنبيه عليها و هي: إنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور أنّ الوثنية تعتقد بأنّ هذه الأصنام الحجرية و الخشبية هي ذاتها المتصرفة و المدبرة للكون إذ لا يصدر ذلك عن عاقل، بل كانوا يعتقدون بكونها أصناما للآلهة المدبّرة لهذا الكون فوّض إليها إدارته. و لما لم تكن هذه الآلهة المزعومة في متناول أيديهم و كانت عبادة الموجود البعيد عن متناول الحسّ و اللمس صعبة التصور، عمدوا إلى تجسيد تلك الآلهة و تصويرها في أوثان و أصنام و رسوم و أجسام و قوالب من الخشب و الحجر، و صاروا يعبدونها عوضا عن عبادة أصحابها الحقيقيين و هي الآلهة المزعومة.

ثم إنّ الاعتقاد بربوبية غير اللّه سبحانه كما يتصور في مسألة التكوين فيعتقد المشرك بكون الملك أو الجنّ أو غيرهما متصرفا في العالم، فكذلك يتصور في عالم التشريع. فمن أعطى زمام التشريع و التقنين أو الحلال و الحرام إلى الإنسان فقد اتخذه ربّا لنفسه و صاحبا لها، و لأجل ذلك نرى أنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ اليهود و النصارى اتخذوا الأحبار و الرّهبان أربابا لأنفسهم و لم يكن الاعتقاد بربوبيتهم بصورة الاعتقاد بتصرفهم في العالم السفلي و إنما كان يتجلّى في اتخاذهم أربابا و أصحابا لأنفسهم في إطار التقنين، فاستحلوا ما أحلّوه، و حرّموا ما حرموه. يقول سبحانه: اِتَّخَذُوا

ص: 62


1- سيرة ابن هشام، ج 1، ص 79.

أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ (1) و يقول عزّ و جل: وَ لاٰ يَتَّخِذَ بَعْضُنٰا بَعْضاً أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ (2).

و حصيلة البحث

1 - إنّ ربوبيّة اللّه عبارة عن مدبريته تعالى للعالم لا عن خالقيته.

2 - دلّت الآيات التي ذكرناها على أنّ مسألة التوحيد في التدبير «لم تكن موضع اتفاق، بخلاف مسألة «التوحيد في الخالقية» و أنّه كان في التاريخ ثمة فريق يعتقد بمدبريّة غير اللّه للكون كله أو بعضه، و كانوا يخضعون أمامها باعتقاد أنها أرباب.

3 - و بما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فقد تكون بعض الفرق موحدة في الثاني و مشركة في الأول فاليهود و النصارى تورطوا في «الشرك الربوبي التشريعي» لأنهم أعطوا زمام التقنين و التشريع إلى الأحبار و الرهبان و جعلوهم أربابا من هذه الجهة، فكأنهم فوّض أمر التشريع إليهم.

و بذلك يتجلّى أنّ التوحيد في الربوبية هو الاعتقاد بأنّ الخير و الشرّ و تدبير الحياة و الكون كلّها بيد اللّه سبحانه و أنّ الإنسان بل كل ما في الكون لا يملك لنفسه شيئا من التدبير، و أنّ مصير الإنسان في حياته كلها إليه سبحانه و لو كان في عالم الكون أسباب و مدبرات له، فكلها جنود له سبحانه يعملون بأمره و يفعلون بمشيئته. و يقابله الشرك في الربوبية و هو تصوّر أن هناك مخلوقات للّه سبحانه لكن فوّض إليها أمر تدبير الكون و مصير الإنسان في حياته تكوينا أو تشريعا و أنّه سبحانه اعتزل هذه الأمور بعد خلقهم و تفويض الأمر إليهم.

هذا خلاصة التوحيد و الشّرك في مجال الربوبية و إنما الكلام في إقامة الدليل عليه:

ص: 63


1- سورة التوبة: الآية 31.
2- سورة آل عمران: الآية 64.
أدلة التوحيد في الربوبية
1 - التدبير لا ينفك عن الخلق

إنّ النكتة الأساسية في خطأ المشركين تتمثل في أنهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أمور عائلة أو مؤسسة و تصوروا أنهما من نوع واحد.

إنّ تدبيره سبحانه لهذا العالم ليس كتدبير حاكم البلد بالنسبة إلى مواطنيه، أو ربّ البيت بالنسبة إلى أهله حيث إنّ ذاك التدبير يتمّ بإصدار الأوامر، و لكن التدبير في الكون في الحقيقة إدامة الخلق و الإيجاد و قد سبق أنّ الخالقية منحصرة في اللّه سبحانه فالقول بالتوحيد فيها يستلزم القول بالتوحيد في التدبير.

توضيح ذلك: إنّ كل فرد من النظام الإمكاني بحكم كونه فقيرا ممكنا فاقد للوجود الذاتي، لكن فقره ليس منحصرا في وجوده في بدء تحققه و إنما يستمر هذا الفقر معه في جميع الأزمنة و الأمكنة. فهو محتاج في إدامة وجوده بل حتى في علاقاته و روابطه و انسجامه مع مجموع العالم. و حقيقة التدبير ليست إلاّ خلق العالم و جعل الأسباب و العلل بحيث تأتي المعاليل و المسبّبات دبر الأسباب و عقيب العلل، و بحيث تظهر أجزاء الكون إلى الوجود وراء بعضها البعض تباعا، و بحيث يؤثر بعضها في البعض الآخر حتى يصل كل موجود إلى كماله المناسب و هدفه المطلوب. فإذا كان المراد من التدبير هو هذا، فهو بعينه عبارة عن مسألة الخلق، فكيف يمكن أن نعتقد بأنّ التدبير مغاير للخلق و نعتبرهما أمرين مختلفين ؟.

إن تدبير الوردة ليس إلا تكوّنها من المواد النيتروجينية الموجودة في التربة مع استنشاقها لثاني أو كسيد الكاربون من الهواء و امتصاصها لأشعة الشمس و حدوث سلسلة معقدة من التفاعلات الكيميائية في خلاياها نتيجة ذلك، لتنمو بالتدريج و تتفتّح و تخضر و تزهر. و ليس كل منها إلا شعبة من الخلق. و مثلها الجنين مذ تكونه في رحم الأم، فلا يزال يخضع لعمليات التفاعل و النمو حتى يخرج من بطنها، و ليست هذه التفاعلات إلاّ شعبة من عملية الخلق و فرع منه و إيجاد بعد إيجاد.

ص: 64

و لأجل وجود الصلة الشديدة بين التدبير و الخلق نرى أنه سبحانه بعد ما يذكر مسألة خلق السّماوات و الأرض يطرح مسألة تسخير الشمس و القمر(1)الذي هو نوع من التدبير.

و من هذا الطريق يوقفنا القرآن الكريم على حقيقة التدبير الذي هو نوع من الخلق و قد عرفت أن لا خالق إلاّ اللّه.

2 - وحدة النظام دليل على وحدة المدبّر
اشارة

إنّ مطالعة كل صفحة من صفحات الكتاب التكويني العظيم يقودنا إلى وجود نظام موحّد، و كأنّ أوراق الكتاب التكويني - على غرار الكتاب التدويني شدّ بعضها إلى بعض بيد واحدة و أخرجت في صورة موحدة.

إنّ القوانين و السنن الحاكمة على الموجودات الطبيعية كليّة و شاملة، بحيث لو أتيح لأحد أن يكشف ناموسا طبيعيا في نقطة من نقاط الكون فهو يكشف قانونا كليا سائدا على النظام من غير فرق بين أرضيّه و فلكيّه.

إنّ وحدة النظام و شمول السنن تقودنا إلى موضوعين:

1 - ليس للعالم إلاّ خالق واحد.

2 - ليس للعالم إلاّ مدبّر واحد.

و عند ذلك يتجلى مفاد قوله سبحانه: أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (2).

إنّ جملة «له الخلق» إشارة إلى التوحيد في الخالقية.

و جملة «و الأمر» إشارة إلى التوحيد في التدبير الذي هو نوع من الحاكمية.

و باختصار، إنّ وحدة النظام و انسجامه و تلاحمه لا تتحقق إلاّ إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم و مدبر واحد، و لو خضع الكون لإدارة مدبرين،

ص: 65


1- سورة الأعراف: الآية 54، سورة الرّعد: الآية 2.
2- سورة الأعراف: الآية 54.

لما كان من النظام الموحّد أي أثر لأن تعدد المدبّر و المنظّم - بحكم اختلافهما في الذات أو في المصنّفات و المشخصات - يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير و الإدارة، و يستلزم تعدد التدبير فناء النظام الموحد و غيابه.

و بعبارة أخرى، إنّ المدبرين إن كانا متساويين من كل الجهات لم يكن هنا اثنينية في المدبر، و إن لم يكونا متساويين بل كان هناك اختلاف بينهما في الذات أو في عوارضها، فالاختلاف فيها يؤثر اختلافا في التدبير و هو خلاف الحسّ .

إلى هنا خرجنا بهاتين النتيجتين:

الأولى: التدبير نوع من الخلق، و التوحيد في الثاني يلازمه في الأول.

الثانية: إن وحدة النظام و انسجامه و تلاصقه و تماسكه كاشف عن وحدة التدبير و المدبّر.

إجابة عن إشكال

إنّ هناك إشكالا دارجا في الألسن و هو أنّ الأرباب المفروضين و إن كانوا متكثري الذوات و متغايريها و يؤدي ذلك بالطبع إلى اختلاف الأفعال و تدافعها، لكن من الممكن أن يتواطئوا على التسالم و هم عقلاء، و يتوافقوا على التلاؤم رعاية لمصلحة النظام الواحد و تحفظا على بقائه. هذا هو الإشكال.

و أمّا الإجابة فبوجود الفرق الواضح بين العقلاء و الأرباب المفروضين فإنّ عمل العقلاء مبني على علومهم و ليست هي إلاّ قوانين كلية مأخوذة من النظام الخارجي الجاري في العالم. فللنظام الخارجي نوع تقدم على تلك الصور العلمية و هي تابعة لنفس النظام الخارجي، فعند ذلك يتصالح العقلاء المتنازعون حسب ما تنكشف لهم المصلحة، فيأخذون بالطريق الوسط الذي تجتمع فيه مصالحهم و أغراضهم و غاياتهم. هذا هو حكم العقلاء المتنازعين

ص: 66

أولا فالمتنازلين ثانيا حسب تطابق أعمالهم على النظام السائد.

و أما الأرباب المفروضون فالأمر فيهم على العكس لأن الكيفية الخارجية تتبع علمهم لما عرفت من أنّ التدبير ليس منفكا عن الخلق و الإيجاد، و ليس شأنهم شأن مدراء الدوائر و المنشآت حيث إنّ شأنهم التبعية للسنن السائدة فيها كما عرفت، فإنّ تدبير الآلهة تدبير تكويني ينشأ عن الخلق و الإيجاد و لو بقاء لا حدوثا، فعند ذلك يكون الخارج تابعا لعلمهم لا أنهم يتبعون السنن الموجودة فيه. و على ضوء ذلك فلا معنى للتوافق في التدبير.

و باختصار هناك فرق بين تدبير خال عن الإيجاد و الخلق كرئيسين بالنسبة إلى مرءوسيهما، فيمكن تصالحهما على كيفية الاستفادة منها، و بين تدبير ملازم للخلق و الإيجاد و إدامة الحياة و استمرار الوجود، فالرئيس في الأول يقتفي السنن السائدة و الرئيس في الثاني يوجد السنن و يبدعها.

3 - القرآن و التّوحيد في الرّبوبية

إنّ القرآن الكريم ينكر أي مدبّر سوى اللّه تعالى و يستدلّ على ذلك ببرهان ذي شقوق و قد جاء البرهان ضمن آيتين، تتكفل كل واحدة منهما ببيان بعض الشقوق منه، و إليك الآيتين:

لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ (1) .

وَ مٰا كٰانَ مَعَهُ مِنْ إِلٰهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ وَ لَعَلاٰ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يَصِفُونَ (2) .

و أمّا مجموع شقوق البرهان فبيانها بما يلي:

ص: 67


1- سورة الأنبياء: الآية 22.
2- سورة المؤمنون: الآية 91.

إنّ تصور تعدّد المدبر لهذا العالم يكون على وجوه:

1 - أن ينفرد كل واحد من الآلهة المدبرة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كل واحد ما يريده في الكون دون ما منازع، ففي هذه الصورة يلزم تعدّد التدبير، لأنّ المدبّر متعدّد و مختلف في الذات، و هذا يستلزم طروء الفساد على العالم. و هذا ما يشير إليه قوله سبحانه: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ .

2 - و إما أن يدبر كل واحد قسما من الكون الذي خلقه و عندئذ يجب أن يكون لكل جانب من الجانبين نظام خاص مغاير لنظام الجانب الآخر و غير مرتبط به أصلا و عندئذ يلزم انقطاع الارتباط و ذهاب الانسجام المشهود في الكون، في حين أننا لا نرى في الكون إلاّ نوعا واحدا من النظام يسود كل جوانبه من الذرّة إلى المجرّة و إلى هذا الشق أشار بقوله في الآية الثانية: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ .

3 - أن يتفضل أحد هذه الآلهة على البقية و يكون حاكما عليهم، و يوحّد جهودهم و أعمالهم، و يسبغ عليها الانسجام، و عندئذ يكون الإله الحقيقي هو هذا الحاكم دون البقية و إلى هذا يشير قوله سبحانه: وَ لَعَلاٰ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ .

فتلخص أنّ الآيتين بمجموعهما تشيران إلى برهان واحد، ذي شقوق تتكفل كل واحدة منهما ببيان بعضها.

التوحيد في التدبير في أحاديث أئمة أهل البيت (ع)

جاءت الأحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حول هذا القسم من التّوحيد مركزة على الدلائل التي تقدم ذكرها.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «فلما رأينا الخلق مسطما و الفلك جاريا، و اختلاف الليل و النهار و الشمس و القمر، دلّ صحة الأمر

ص: 68

و التدبير، و ائتلاف الأمر على أنّ المدبر واحد»(1).

و سأل هشام بن الحكم الإمام الصادق (عليه السلام): «ما الدليل على أنّ اللّه واحد؟» قال: «اتصال التدبير و تمام الصنع كما قال اللّه عزّ و جل: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا (2).

سؤال و جواب

إنّ التّوحيد في التدبير و أنّه لا مدبر سواه لا يجتمع مع تصريح القرآن بوجود مدبرات في الكون يقول سبحانه: فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (3) و يقول عز و جل: وَ هُوَ اَلْقٰاهِرُ فَوْقَ عِبٰادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً (4). و لا شك أنّ هؤلاء الحفظة إذ يراقبون البشر و يحفظونهم من الشر، فلا محالة يكونون مدبرين لهم بنحو ما.

و الجواب عنه بما عرفته منا غير مرة من أنّ معنى التّوحيد في الخالقية أو الربوبية ليس كونه سبحانه خالقا لجميع الأشياء مباشرة و بلا سبب و لا مدبرا كذلك، بل معناه أنّه ليس في الكون خالق أو مدبر مستقل سواه، و أنّ قيام الأشياء الأخرى بدور الخلقة و التدبير هو على وجه التبعية لإرادته سبحانه.

و الاعتراف بمثل هذه المدبرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في اللّه سبحانه. و من له أدنى إلمام بألف باء المعارف و المفاهيم القرآنية يقدر على الجمع بين تلكما الطائفتين من الآيات كما أوضحنا ذلك عند البحث عن الخالقية، و لأجل إيضاح الحال نأتي بكلام العلاّمة الطباطبائي في المقام.

ص: 69


1- توحيد الصدوق، ص 244.
2- المصدر السابق، ص 250.
3- سورة النّازعات: الآية 5.
4- سورة الأنعام: الآية 61.
الملائكة وسائط في التدبير

الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بدءا و عودا، على ما يعطيه القرآن الكريم، بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت و الانتقال إلى نشأة الآخرة، و بعده.

أمّا في العود، أعني حال ظهور آيات الموت و قبض الروح و إجراء السؤال و ثواب القبر و عذابه، و إماتة الكل بنفخ الصور و إحيائهم بذلك مجددا، و الحشر و إعطاء الكتاب و وضع الموازين، و الحساب، و السوق إلى الجنة أو النار فوساطتهم فيها غنية عن البيان. و الآيات الدّالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها و الأخبار المأثورة فيها عن النبي و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فوق حدّ الإحصاء. و كذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي و دفع الشياطين عن المداخلة فيه، و تسديد النبي، و تأييد المؤمنين و تطهيرهم بالاستغفار.

و أمّا وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة فيدل عليها قوله سبحانه: وَ اَلنّٰازِعٰاتِ غَرْقاً * وَ اَلنّٰاشِطٰاتِ نَشْطاً * وَ اَلسّٰابِحٰاتِ سَبْحاً * فَالسّٰابِقٰاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً (1).

فإنّ المراد من «النّازعات» التي أقسم بها القرآن هو الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد، و «غرقا» كناية عن الشديد في النزع. و المراد من «الناشطات» التي تخرج الأرواح برفق و سهولة. و «السابحات» النازلة من السماء مسرعة و السبح الإسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح إذا أسرع في جريه. و «السابقات» نفس الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير و الإيمان و العمل الصالح و «فالمدبّرات أمرا» الملائكة المدبرة لأمور الكون.

فشأن الملائكة أن يتوسطوا بينه تعالى و ينفذوا أمره كما يستفاد من قوله

ص: 70


1- سورة النّازعات: الآيات 1-5.

تعالى: بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ * لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (1).

و قوله: يَخٰافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ (2).

و لا ينافي ما ذكرنا (توسطهم بينه تعالى و بين الحوادث و كونهم أسبابا تستند إليها الظواهر الكونية) إسناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادية فإنّ السببية طولية لا عرضية فإنّ السبب القريب سبب للحادث، و السبب البعيد سبب للسبب.

كما لا ينافي توسطهم و استناد الحوادث إليهم، استناد الحوادث إلى اللّه تعالى، و كونه هو السبب الوحيد لها جميعا على ما يقتضيه توحيد الربوبية فإنّ السببية طولية كما سمعت لا عرضية. و لا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعية القريبة، و قد صدّق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعية كما صدّق استنادها إلى الملائكة.

و ليس لشيء من الأسباب استقلال في مقابله تعالى حتى ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه، إلى اللّه سبحانه على ما يقول به الوثنية من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقربين. فالتوحيد القرآني ينفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة، فالملائكة، لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرّا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا.

فمثل الأشياء في استنادها إلى الأسباب المترتبة: القريبة و البعيدة، و انتهائها إلى اللّه سبحانه بوجه بعيد، كمثل الكتابة يكتبها الإنسان بيده و بالقلم، فللكتابة استناد إلى القلم ثم إلى اليد التي توسلت إلى الكتابة بالقلم، و إلى الإنسان الذي توسل إليها باليد و القلم. و السبب الحقيقي هو الإنسان المستقل بالسببية من غير أن ينافي سببيته، استناد الكتابة بوجه إلى اليد و القلم(3).

ص: 71


1- سورة الأنبياء: الآيتان 26 و 27.
2- سورة النّحل: الآية 50.
3- الميزان، ج 20، صفحة 183-184 بتلخيص.

ص: 72

التوحيد في الحاكمية
(6) انحصار حق الحاكمية في اللّه سبحانه

إنّ التوحيد في الحاكمية من شئون التوحيد في الربوبية فإنّ الربّ بما أنّه صاحب المربوب و مالكه، و بعبارة ثانية خالقه و موجده من العدم، له حق التصرف و التسلط على النفوس و الأموال و إيجاد الحدود في تصرفاته. و هذا يحتاج إلى ولاية بالنسبة إلى المسلّط عليه، و لو لا ذلك لعدّ التصرف تصرفا عدوانيا. و بما أنّ جميع الناس أمام اللّه سواسية، و الكل مخلوق و محتاج إليه لا يملك شيئا حتى وجوده و فعله و فكره، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات و الأصالة، بل الولاية للّه المالك الحقيقي للإنسان و الكون و الواهب له وجوده و حياته كما يقول سبحانه: هُنٰالِكَ اَلْوَلاٰيَةُ لِلّٰهِ اَلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (1).

و الاستدلال بهذه الآية على انحصار الولاية في اللّه سبحانه مبني على أن يكون اسم الإشارة «هنالك» إشارة إلى الوقت الذي يتنازع فيه الكافر و المؤمن في هذه الدنيا، و أن تكون الولاية بمعنى تولي الأمور فهو الذي يتولى أمر عباده(2).

ص: 73


1- سورة الكهف: الآية 44.
2- لاحظ مجمع البيان، ج 3، ص 472.

و على هذا فالحاكمية خاصة باللّه سبحانه و هي منحصرة فيه و تعد من مراتب التّوحيد و لك أن تستظهر هذه الحقيقة من الآيات التالية:

إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ يَقُصُّ اَلْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفٰاصِلِينَ (1) .

أَلاٰ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحٰاسِبِينَ (2) .

لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولىٰ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (3) .

هذا من جانب، و من جانب آخر إنّ وجود الحكومة في المجتمع أمر ضروري. و المراد الحكومة التي تصون الحريات الفردية إلى جانب المصالح الاجتماعية، و تسعى إلى تنظيم الطاقات و تنمية المواهب، و توقف أبناء المجتمع على واجباتهم، و تجري القوانين و السّنن الإلهية و البشرية.

و من المعلوم أنّ تجسيم الحكومة و تجسيدها في الخارج و ممارسة الإمرة ليس من شأنه سبحانه بل هو شأن من يماثل المحكوم في الجنس و النوع و يشافهه و يقابله مقابلة الإنسان للإنسان. و على ذلك، فوجه الجمع بين حصر الحاكمية في اللّه سبحانه و لزوم كون الحاكم و الأمير بشرا كالمحكوم، هو لزوم كون من يمثل مقام الإمرة مأذونا من جانبه سبحانه لإدارة الأمور و التصرف، في النفوس و الأموال، و أن تكون ولايته مستمدة من ولايته سبحانه و منبعثة منها و لو لا ذلك لما كان لتنفيذ حكمه جهة و لا دليل.

و إن شئت قلت، إنّ المقصود هو حصر الولاية التي تنبعث منها الحاكمية في اللّه سبحانه، لا حصر الإمرة و التصدي لتنظيم البلاد، و إقرار الأمن في المجتمع. فالولاية و حق الحاكمية له سبحانه، و على ضوء ذلك يجب أن يكون المتمثل بها منصوبا من قبله سبحانه باسمه الخاص أو بوصفه المخصوص.

ص: 74


1- سورة الأنعام: الآية 57.
2- سورة الأنعام: الآية 62.
3- سورة القصص: الآية 70.

و لأجل ذلك نجد أنّ أمة كبيرة من جنس البشر تولوا منصة الحاكمية من جانب اللّه سبحانه و إذنه الخاص، يديرون شئون الحياة الاجتماعية للإنسان. و في ذلك يخاطب اللّه نبيّه داود و يقول:

يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لاٰ تَتَّبِعِ اَلْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ (1) .

إنّ الآية الكريمة و إن كانت واردة في تنصيب داود على القضاء، لكن نفوذ قضائه كان ناشئا من حاكميته الواسعة التي تشمل الحكم و الإمرة بحيث كان نفوذ قضائه من لوازمها و فروعها. و لم يكن القضاء في تلك الأعصار منفصلا عن سائر شئون الحكومة و لم يكن شأن داود منحصرا في بيان الأحكام و المعارف، بل كان يتمتع بسلطة تامة تشمل التنفيذية و القضائية، بل التشريعية أيضا بوحي من اللّه سبحانه. يقول سبحانه: وَ قَتَلَ دٰاوُدُ جٰالُوتَ وَ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّٰا يَشٰاءُ وَ لَوْ لاٰ دَفْعُ اَللّٰهِ اَلنّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ (2).

قال العلاّمة الطباطبائي: و يدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى قوله: إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ أَمَرَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ (3).. فالحكم للّه لا يشاركه فيه غيره على ظاهر ما يدل عليه غير واحد من الآيات، غير أنه سبحانه ربما ينسب الحكم و خاصة التشريعي منه في كلامه إلى غيره، كقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ (4)، و قوله للنبيّ : وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ (5). و قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ (6) و قوله: يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ (7) إلى غير ذلك

ص: 75


1- سورة ص: الآية 26.
2- سورة البقرة: الآية 251.
3- سورة يوسف: الآية 40.
4- سورة المائدة: الآية 95.
5- سورة المائدة: الآية 49.
6- سورة المائدة: الآية 48.
7- سورة المائدة: الآية 44.

من الآيات، فإذا انضم هذا القسم من الآيات إلى القسم الأول الحاصر له باللّه سبحانه يفيد أنّ الحكم الحق للّه سبحانه بالأصالة و أوّلا لا يستقل به أحد غيره، و يوجد لغيره بإذنه و بالعرض ثانيا، و لذلك عدّ تعالى نفسه أحكم الحاكمين و خيرهم لأنه لازم الأصالة و الاستقلال فقال: أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِأَحْكَمِ اَلْحٰاكِمِينَ (1) و قال: وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ (2)، و عمّ الحكم التكويني فلا يوجد - على ما أذكر - ما يدل على نسبته إلى غيره، و إن كان معاني عامة الصفات و الأفعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى عن الانتساب إلى غيره انتسابا إذنيا، كالعلم و القدرة و الحياة و الخلق و الرزق، و الإحياء و المشيئة التي انتسبت إلى غيره سبحانه في آيات كثيرة، و لعل عدم نسبة الحكم التكويني إلى غيره سبحانه لحرمة جانبه تعالى، لإشعار هذا الوصف بنوع من الاستقلال الذي لا مسوّغ لنسبته إلى هذه الأسباب المتوسطة. و نظيرها في ذلك ألفاظ البديع و البارئ و الفاطر و ألفاظ أخرى تجري مجراها في الإشعار بمعاني تنبئ عن نوع من الاختصاص، و إنما كفّ عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحرمة ساحة الربوبية(3).

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة و هي أنّ الحاكمية فرع الولاية على المحكوم، و لا ولاية إلاّ للّه سبحانه. فلا حكومة إلاّ له. غير أن تجسيد الحكومة في المجتمع، بمعنى الإمرة عليه، ليس من شئونه سبحانه، بل يقوم به المأذون من جانبه إمّا بالاسم كما مرّ في حق داود، أو بالوصف و العنوان كما هو الحال في حق العلماء و الفقهاء الذين لهم الحكم و الإمرة عند غيبة النبي أو الإمام المنصوص عليه بالاسم.

و على هذا فالحكومات القائمة في المجتمعات يجب أن تكون شرعيتها مستمدة من ولايته سبحانه و حكمه بوجه من الوجوه، و إذا كانت علاقتها

ص: 76


1- سورة التين: الآية 8.
2- سورة الأعراف: الآية 87.
3- الميزان، ج 7، ص 116-117. و سيوافيك معنى الحكم التكويني عند البحث عن القضاء و القدر التكويني، فإن الحكم التكويني هو القضاء التكويني.

منقطعة غير موصولة به سبحانه فهي حكومات طاغوتية لا قيمة لها، فلا حاكمية لأحد على أحد إلاّ من حكّمه اللّه على الإنسان في ظل شروط خاصة من العدل و القسط و رعاية الأحكام الإلهية.

ص: 77

ص: 78

التّوحيد في الطّاعة
(7) انحصار حق الطّاعة في اللّه سبحانه

إنّ انحصار حق الطّاعة في اللّه سبحانه من شئون انحصار الرّبوبية فيه سبحانه. فإنّ الربّ بما هو صاحب الإنسان و مدبر حياته و مخطط مساره، و خالقه على وجه، له حق الطاعة كما له حق الحاكمية، فليس هناك مطاع بالذات إلاّ هو فهو الذي يجب أن يطاع و يمتثل أمره و لا يجب إطاعة غيره إلاّ إذا كان بإذنه و أمره.

و بعبارة أخرى، إنّ المالك للوجود بأسره و ربّ الكون الذي منه و إليه الإنسان يجب أن يطاع دون سواه. و المراد من الطاعة هو أن نضع ما وهبنا من الآلاء، حتى وجودنا و إرادتنا، في الموضع الذي يرضاه. و المروق من هذه الطّاعة عدوان على المولى و ظلم له، الذي يقبحه العقل.

و أمّا غيره تعالى، فبما أنّه لا دخل له في وجود الإنسان و حياته و نعمه و آلائه بل هو أيضا إنسان محتاج مثله، فلا يتصور له حق الطاعة إلاّ إذا أمر المطاع بالذات بإطاعته.

و لأجل ذلك نجد الآيات على صنفين صنف يعرفه سبحانه مطاعا و يقول: وَ قٰالُوا سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا غُفْرٰانَكَ رَبَّنٰا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ (1).

ص: 79


1- سورة البقرة: الآية 285.

و صنف يعطف على إطاعة اللّه سبحانه إطاعة رسوله و لكن يجعل لزوم إطاعته مقيدا بإذنه سبحانه وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (1)و يقول: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اَللّٰهَ (2).

لا شك أنّ الرسول الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله)، و أولي الأمر، و الوالدين، و غيرهم يجب طاعتهم، و تحرم معصيتهم و مخالفتهم، لكن وجوب إطاعتهم إنما هو بأمر من اللّه سبحانه و لو لا أمره لما كان لأحد على أحد حقّ الطاعة و بذلك تقدر على تصنيف الآيات و جمعها.

نعم، ليست طاعة الرسول منحصرة في سماع الأحكام التي جاء بها و العمل على طبقها، بل للرسول الأعظم مناصب وراء بيان الوحي و تبيين الأحكام، و وراء تعليم القرآن و تلاوة آياته، و منها إصدار الأوامر و النواهي إلى المؤمنين في مختلف شئون الحياة فإذا أمر بتجهيز الجيش و النفر إلى الجهاد و مكافحة الظالمين فله حق الطاعة عليهم، و من خالفه فقد خالف الرسول و عصاه. و هذا بخلاف ما إذا بلّغ الرسول أحكام اللّه و رسالاته إلى الناس كالصلاة و الصيام فتركهما يعدّ معصية للّه سبحانه لا معصية للرسول.

فيجب على الموحّد الإمعان في هذه المجالات المختلفة و يعترف:

أوّلا: إنّ الطّاعة على وجه الإطلاق مختصة باللّه سبحانه و لا طاعة لغيره بالذات.

و ثانيا: إنّ الرسول الأعظم له مقامات فهو في مقام مبلغ و بشير و نذير، كما في إبلاغ رسالاته. و هو في الوقت نفسه في مقام آخر آمر و ناه له حق الأمر و النهي، كما هو في مقام ثالث فاصل للخصومات و قاض بين الناس فيجب تنفيذ حكمه. و تمييز هذه المقامات غير خفي لمن أمعن و تدبّر.

ص: 80


1- سورة النساء: الآية 64.
2- سورة النساء: الآية 80.
التوحيد في التشريع
(8) انحصار حق التقنين و التّشريع في اللّه سبحانه

إنّ التّوحيد في التشريع من فروع التّوحيد في الربوبية، فإذا كان اللّه سبحانه هو الربّ و المدبّر و المدير للكون و الإنسان، و المالك و الصاحب فلا وجه لسيادة رأي أحد على أحد. لأن النّاس في مقابلة سبحانه سواسية كأسنان المشط فلا فضل لأحد على أحد من حيث هو هو.

و بعبارة أخرى: إنّ المشرّع و المقنّن لا ينفك تشريعه و تقنينه عن إيجاد الضيق على الفرد و المجتمع، فينهى عن شيء تارة و يسوّغه أخرى، و يعاقب على العصيان و المخالفة. و من المعلوم أنّ هذا العمل يتوقف على ولاية المقنن على الفرد أو المجتمع و لا ولاية لأحد على أحد إلاّ اللّه سبحانه.

فلأجل ذلك لا مناص من القول بأنّ التقنين و التشريع الذي هو نوع تدبير لحياة الفرد و المجتمع مختص باللّه سبحانه و ليس لأحد ذلك الحق.

و على هذا الأساس لا يوجد في الإسلام أي سلطة تشريعية لا فردية و لا جماعية و لا مشرّع إلاّ اللّه وحده، و أمّا الفقهاء و المجتهدون فليسوا بمشرعين بل هم متخصصون في معرفة تشريعه سبحانه و وظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها و جعلها في متناول الناس.

و أمّا ما تعورف في القرن الأخير من إقامة مجالس النواب أو الأمة أو

ص: 81

الشورى في البلاد الإسلامية، فليست لها وظيفة سوى التخطيط لإعطاء البرامج للمسئولين في الحكومات في ضوء القوانين الإلهية لتنفيذها.

و التخطيط غير التقنين كما هو واضح.

و على ذلك فهناك مقنّن و مشرّع و هو اللّه سبحانه، كما أنّ هناك مبيّن و كاشف عن القوانين و هو الفقيه، و هناك جماعة الخبراء الواقفون على المصالح و المفاسد و شأنهم التخطيط و البرمجة في مجالات الزراعة و التنمية و الاقتصاد و الصناعة و غير ذلك ممّا لا تتم الحياة في هذه العصور إلاّ به و هم نواب الأمة و وكلاؤهم في تلك المجالس.

ثم إنّ هناك آيات في الذكر الحكيم تدل بوضوح على اختصاص التشريع باللّه سبحانه، نذكر بعضا منها:

قال سبحانه: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْكٰافِرُونَ (1).

و قال سبحانه: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ (2).

و قال سبحانه: وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ (3).

فهذه المقاطع الثلاثة تعرب عن انحصار حق التقنين باللّه سبحانه و ذلك لأنه يصف كل من حكم بغير ما أنزل اللّه تارة بالكفر و أخرى بالظلم و ثالثة بالفسق، فهم كافرون لأنهم يخالفون التشريع الإلهي بالرّد و الإنكار و الجحود، و ظالمون لأنهم يسلّمون حق التقنين الذي هو مختص باللّه سبحانه إلى غيره، و فاسقون لأنهم خرجوا بهذا الفعل عن طاعة اللّه تعالى.

ص: 82


1- سورة المائدة: الآية 44.
2- سورة المائدة: الآية 45.
3- سورة المائدة: الآية 47.

و باختصار، يعدّ الحكم صنفين: حكم اللّه تبارك و تعالى و حكم الجاهلية و يقول: أَ فَحُكْمَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (1).

«فالحكم حكمان، حكم اللّه و حكم أهل الجاهلية فمن أخطأ بحكم اللّه حكم بحكم أهل الجاهلية»(2).

و على ضوء ذلك فالسلطات التشريعية السائدة في العالم، إذا كان تشريعها مطابقا لتشريع اللّه سبحانه فهو حكم اللّه، و لو أضيف إلى المجالس فقد سبقه التشريع الإلهي و لم يكن حاجة لتشريعه. و إن كان على خلافه فهو حكم الجاهلية حسب النصّ الشريف.

نعم هاهنا أسئلة حول اختصاص التشريع باللّه سبحانه نترك الإجابة عنها إلى الأبحاث الفقهية. و لكن نأتي بنكتة و هي أنّ حق التشريع على العباد من شئون الربوبية فمن أعطى زمام التشريع إلى غيره سبحانه فقد اتخذه ربّا و لو في بعض الشئون لا كلّها. و لأجل ذلك نرى أنه سبحانه يرمي اليهود و النصارى بأنهم اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ (3) و لم يكن اتّخاذهم أربابا لأجل عبادتهم بل لأجل دفع حق التشريع إليهم.

روى الثعلبي في تفسيره عن علي بن حاتم قال: «أتيت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و في عنقي صليب من ذهب فقال لي: يا علي اطرح هذا الوثن من عنقك فطرحته ثم انتهيت إليه و هو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية: اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً حتى فرغ منها فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم فقال: أ ليس يحرمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه و يحلّون ما حرّم اللّه فتستحلّونه قال: فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم».

ص: 83


1- سورة المائدة: الآية 50.
2- من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 3.
3- سورة التوبة: الآية 31.

و روي عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) أنهما قالا: «أما و اللّه ما صاموا و لا صلّوا و لكنهم أحلّوا لهم حراما و حرّموا عليهم حلالا، فاتّبعوهم و عبدوهم من حيث لا يشعرون»(1).

ص: 84


1- مجمع البيان، ج 3، ص 23. فاتخاذ الرّب و إعطاء زمام التشريع كان على وجه الحقيقة، و في تسمية ذلك عبادة نوع تجوّز و توسع كما سيوافيك في معنى العبادة.
التوحيد في العبادة
(9) لا معبود سوى اللّه
اشارة

التّوحيد في العبادة ممّا اتفق على اختصاصه باللّه سبحانه جميع المسلمين بل الإلهيّين، فلا يسجل اسم أحد في سجلّ الموحدين أو المسلمين إلاّ أن يخصّص العبادة باللّه وحده فلو عممها له و لغيره، لا يكون مسلما و لا موحدا.

و هذه القاعدة الكلية لا يشك فيها أي مسلم، كيف و القرآن يصرّح بأن الغاية و الهدف الأسنى من بعث الأنبياء هو الدعوة إلى التوحيد في العبادة، قال سبحانه: وَ لَقَدْ بَعَثْنٰا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّٰاغُوتَ (1). و شعار المسلمين من لدن بعثة النبي (صلى اللّه عليه و آله) إلى يومنا هذا هو تخصيص العبادة باللّه سبحانه، كيف و هم يقرءون في صلواتهم: إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ (2). و كانت مكافحة النبي (صلى اللّه عليه و آله) للثنويين تتركز على هذه النقطة غالبا كما هو ظاهر لمن راجع القرآن الكريم.

و بالجملة، لا تجد مسلما ينكر أصل الضابطة و القاعدة بل الكل

ص: 85


1- سورة النّحل: الآية 36.
2- سورة الفاتحة: الآية 5.

متفقون على صحتها قائلون بأنّ استحقاق العبادة من شئون الربوبية، فمن كان ربّا فهو مستحق للعبادة، و إذ لا ربّ سواه فلا معبود سواه. و إنما الكلام في تشخيص مصاديقها و جزئياتها عن غيرها، و هذه هي المشكلة الوحيدة في هذا الفصل، فإنّ جلّ من يعدّون بعض الأفعال عبادة لم يتوفقوا في تحديد العبادة تحديدا منطقيا يتميز به مصداق العبادة عن غيرها. فلأجل ذلك ضربوا الكل بسهم واحد فخلطوا العبادة بغيرها، و أجروا على الكل حكم الشّرك. و من هنا يجب على الباحث الكلامي تحديد مفهوم العبادة حتى يتميز مصداقها عن مصداق غيرها كالخضوع و التعظيم.

و هذا البحث هو البحث الرئيسي في هذا الفصل و ليس للباحث غنى عنه، و نحن نرسل الكلام في الموضوع لما نجد فيه من الأهمية الخاصة في هذه الأعصار.

ما هي العبادة ؟
اشارة

لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء و الأرض و لكن مع وضوح مفهومها و حضور هذا المفهوم في الذهن يصعب التعبير عنه بالكلمات، فكما هي واضحة مفهوما، كذلك واضحة مصداقا بحيث يسهل تمييز مصاديقها عن مصاديق التعظيم و التكريم. فتقبيل العاشق دار معشوقته، أو تراب قبرها بعد موتها لا يوصف بالعبادة، كما أن ذهاب الناس إلى زيارة من يعينهم من الشخصيات، و الوفود إلى مقابرهم، أو الوقوف أمامها احتراما لا يعد عبادة و إن بلغ من الخضوع ما بلغ. و لكن لكي نعطي ضابطة كلية لتمييز المصاديق نأتي بتعاريف ثلاثة تتميز بها العبادة عن التكريم و التعظيم و إليك بيانها.

التعريف الأول

العبادة هي: «الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد بألوهية المخضوع له»(1) و يتضح صدق هذا التعريف ببيان أمرين:

ص: 86


1- سيوافيك فيما يأتي معنى الألوهية.

الأول: إن العرب الجاهليين الذين نزل القرآن في أوساطهم و بيئاتهم، بل كل الوثنيين و عبدة الشمس و الكواكب و الجن، كانوا يعتقدون بألوهية معبوداتهم، و يتخذونها آلهة صغيرة، و فوقها الإله الكبير الذي نسميه ب «اللّه» سبحانه و تعالى.

الثاني: إنّ العبادة عبارة عن القول أو العمل الناشئين من الاعتقاد بألوهية المعبود، و أنّه ما لم ينشأ الفعل أو القول من هذا الاعتقاد، فلا يكون الخضوع أو التعظيم و التكريم عبادة.

أما الأمر الأول فيدل عليه آيات كثيرة نشير إلى بعضها، يقول سبحانه:

اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (1) .

وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (2) .

أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اَللّٰهِ آلِهَةً أُخْرىٰ (3) .

وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْنٰاماً آلِهَةً (4) .

فهذه الآيات تشهد على أنّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهية أصنامهم و قد فسّر الشرك في بعض الآيات ب «اتخاذ الإله مع اللّه»، و ذلك في قوله سبحانه: وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ * إِنّٰا كَفَيْنٰاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ * اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (5).

ص: 87


1- سورة الحجر: الآية 96.
2- سورة مريم: الآية 81.
3- سورة الأنعام: الآية 19.
4- سورة الأنعام: الآية 74.
5- سورة الحجر: الآيات 94-96.

و في آية أخرى يفسّر حقيقة الشّرك ب «اعتقاد ألوهية المعبود» و ذلك في قوله سبحانه: أَمْ لَهُمْ إِلٰهٌ غَيْرُ اَللّٰهِ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ (1).

فجعل ملاك الشّرك الاعتقاد بألوهية غير اللّه و المراد من الشّرك هنا، الشّرك في العبادة.

فبهذه الآيات و نظائرها يتجلى بوضوح تام أنّ شركهم كان بسبب اعتقادهم ألوهية معبوداتهم و بسبب هذا الاعتقاد كانوا يعبدونها و يقدمون لها النذور و القرابين و غير ذلك من التقاليد و السنن العبادية. و بما أنّ كلمة التّوحيد تهدم عقيدتهم بألوهية غير اللّه سبحانه، كانوا يستكبرون عند سماعها كما قال عزّ و جل: إِنَّهُمْ كٰانُوا إِذٰا قِيلَ لَهُمْ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ يَسْتَكْبِرُونَ (2)أي يرفضون ما قيل لهم، لأنهم يعتقدون بألوهية معبوداتهم أيضا، و يعبدونها لأنها آلهة بحسب تصورهم.

و لأجل هذه العقيدة السخيفة كانوا إذا دعي اللّه وحده كفروا به، و إذا أشرك به آمنوا كما قال سبحانه: ذٰلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذٰا دُعِيَ اَللّٰهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلّٰهِ اَلْعَلِيِّ اَلْكَبِيرِ (3).

و أما الأمر الثاني: فيدل عليه الآيات التي تأمر بعبادة اللّه و تنهى عن عبادة غيره، مدلّلة ذلك بأنّه لا إله إلا اللّه كقوله سبحانه و تعالى: يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ (4) و معنى ذلك أنّ الذي يستحق العبادة هو من كان إلها، و ليس هو إلاّ اللّه. و عندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله. و كيف تتركون عبادة اللّه و هو الإله الذي يجب أن يعبد دون سواه ؟ و في هذا المضمون وردت آيات كثيرة أخرى(5).

ص: 88


1- سورة الطور: الآية 43.
2- سورة الصافات: الآية 35.
3- سورة غافر: الآية 12.
4- سورة الأعراف: الآية 59.
5- قد ورد هذا المضمون في عشرة موارد أو أكثر في القرآن الحكيم و يمكن للقارئ الكريم أن يراجع لذلك الآيات التالية الأعراف/ 65 و 73 و 85، هود/ 50 و 61 و 84، الأنبياء/ 25، المؤمنون/ 23 و 22، طه/ 14.

فهذه التعابير التي هي من قبيل تعليق الحكم على الوصف، تفيد أنّ العبادة هي الخضوع و التذلّل النابعين من الاعتقاد بألوهية المعبود، إذ نلاحظ بجلاء كيف أنّ القرآن استنكر عبادة المشركين غير اللّه بأنّ هذه المعبودات ليست بآلهة، و أنّ العبادة من شئون الألوهية، فإذا تحقق وصف الألوهية في شيء جازت عبادته و اتخاذه معبودا. و حيث أنّ هذا الوصف لا يوجد إلاّ في اللّه سبحانه وجب عبادته دون سواه.

فإلى هنا اتضح أنّ الحق في التعريف هو أن يقال: «إنّ العبادة هي الخضوع النابع عن الاعتقاد بألوهية المعبود» و إلى ذلك يشير العلاّمة الحجة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي في تفسيره المسمى ب «آلاء الرحمن» في معرض تفسيره و تحليله لحقيقة العبادة قال: «العبادة ما يرونه مشعرا بالخضوع لمن يتّخذه الخاضع إلها ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالألوهية»(1).

لقد صبّ العلامة البلاغي ما يدركه فطريا للعبادة في قالب الألفاظ و البيان. و الآيات المتقدمة تؤيد صحّة هذا التعريف و استقامته.

التّعريف الثاني

العبادة هي: «الخضوع أمام من يعتقد بأنه يملك شأنا من شئون وجود العابد و حياته و آجله و عاجله».

توضيح ذلك: إنّ العبودية من شئون المملوكية و مقتضياتها، فعند ما يحسّ العابد في نفسه بنوع من المملوكية، و يحسّ بالمالكية في الطرف الآخر، يفرغ إحساسه هذا، في الخارج، في ألفاظ و أعمال خاصة، و تصير الألفاظ و الأعمال تجسيدا لهذا الإحساس، و يكون كل عمل أو لفظ مظهر لهذا الإحساس العميق، عبادة.

ص: 89


1- آلاء الرحمن، ص 57، طبعة صيدا. و قد طبع من هذا التفسير جزءان فقط.

و لا شك أن ليس المقصود بالمالكية، مطلق المالكية، فالاعتقاد بالمالكية القانونية و الاعتبارية لا يكون أبدا موجبا لصيرورة الخضوع عبادة.

و البشر في عصور «العبوديات الفردية» بالأمس، و «العبودية الجماعية» في الحاضر، لا يعدون امتثالهم لأوامر أسيادهم عبادة. و إنما المقصود من المملوكية هنا، القائمة على أساس الخلق و التكوين و التسلّط على شأن من شئون التكوين. فالمالكيات الحقيقية لها مناشئ مختلفة و هاك بيانها:

1 - قد يوصف بالمالكية لكونه خالقا، و من هنا يكون اللّه سبحانه مالكا حقيقيا للبشر لأنه خالقه و موجده من العدم. و لهذا نجد القرآن الكريم يعتبر جميع الموجودات الشاعرة عبيدا للّه، و يصفهم تعالى بأنه مالكهم الحقيقي و ذلك لأنه خلقهم، إذ يقول سبحانه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ آتِي اَلرَّحْمٰنِ عَبْداً (1).

و لأجل ذلك أيضا نجده سبحانه يأمرهم بعبادة نفسه معللا بأنه هو ربّهم الذي خلقهم دون سواه، إذ يقول: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (2) و يقول جل شأنه: ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ (3).

2 - و يوصف بالمالكية لكونه رازقا و محييا و مميتا، و لذلك يحس كل إنسان سليم الفطرة بمملوكيته للّه تعالى، لأنّه سبحانه مالك حياته و مماته و رزقه. و من هنا يلفت القرآن نظر البشر إلى مالكية اللّه تعالى لرزق الإنسان و أنه تعالى هو الذي يميته و هو الذي يحييه، ليلفته من خلال ذلك إلى أنّ اللّه هو الذي يستحق العبادة فحسب، إذ يقول عزّ من قائل: اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (4). و يقول سبحانه: هَلْ لَكُمْ مِنْ مٰا

ص: 90


1- سورة مريم: الآية 93.
2- سورة البقرة: الآية 21.
3- سورة الأنعام: الآية 102.
4- سورة الروم: الآية 40.

مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ مِنْ شُرَكٰاءَ فِي مٰا رَزَقْنٰاكُمْ (1) و يقول تعالى: هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ (2).

3 - و يوصف بها لكون الشفاعة و المغفرة بيده، و حيث إنّ اللّه تعالى هو المالك للشفاعة المطلقة لقوله تعالى: قُلْ لِلّٰهِ اَلشَّفٰاعَةُ جَمِيعاً (3)، و لمغفرة الذنوب لقوله تعالى: وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّٰهُ (4)، بحيث لا يملك أن يشفع أحد لأحد من العباد إلاّ بإذنه، لذلك يشعر الإنسان في قرارة ضميره بأنّ اللّه سبحانه مالك مصيره من حيث السعادة الأخروية، و إذا أحس إنسان بمملوكية كهذه و مالكية كتلك، ثم جسّد هذا الإحساس في قالب اللفظ أو العمل، كان عابدا له بلا ريب.

و إلى ذلك يرجع ما ربما يفسّر العبادة بأنّها خضوع أمام من يعتقد بربوبيته، فمن كان خضوعه العملي، أو القولي أمام أحد نابعا من الاعتقاد بربوبيته، كان بذلك عابدا له. و يكون المقصود من لفظة «الرّب» في هذا التعريف هو المالك لشئون الشيء، القائم بتدبيره و تربيته.

و يدل على ذلك أنّ قسما من الآيات تعلل الأمر بحصر العبادة في اللّه وحده بأنّه الربّ ، فمن ذلك قوله سبحانه: وَ قٰالَ اَلْمَسِيحُ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ (5). و قوله سبحانه: إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (6). و قوله سبحانه إِنَّ اَللّٰهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ (7). و غير ذلك من الآيات التي تجعل العبادة دائرة مدار

ص: 91


1- سورة الروم: الآية 28.
2- سورة يونس: الآية 56.
3- سورة الزّمر: الآية 44.
4- سورة آل عمران: الآية 135.
5- سورة المائدة: الآية 72.
6- سورة الأنبياء: الآية 92.
7- سورة آل عمران: الآية 51.

الربوبية(1).

التعريف الثالث

و يمكننا أن نصبّ إدراكنا للعبادة في قالب ثالث فنقول: العبادة هي «الخضوع ممن يرى نفسه غير مستقل في وجوده و فعله، أمام من يكون مستقلا فيهما». و ليس الغني المستقل إلا اللّه سبحانه، و قد وصف نفسه تعالى في غير موضع من كتابه بالقيوم قال عز من قائل: اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ (2) و قال سبحانه: وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ (3). و لا يراد منه سوى كونه قائما بنفسه، ليس فيه أيّة شائبة من شوائب الفقر و الحاجة إلى الغير، بل كل ما سواه قائم به.

و بعبارة أخرى: العبادة نداء اللّه تعالى و سؤاله، و القيام بخضوع في محضره، و طلب حاجات الدنيا و الآخرة منه على أنه الفاعل المختار و المالك الحقيقي لأمور الدنيا و الآخرة كلها، و المتصرف فيها، فلو نودي موجود آخر بهذا الوصف، تماما أو بعضا، فالنداء عبادة له و شرك فيه، و المنادي مشرك بلا كلام. فالذي يجب التركيز عليه هو أن نعرف ما هو فعل اللّه سبحانه، و نميزه عن فعل غيره و صلاحيته، حتى لا نقع في ورطة الشرك عند طلب شيء من الأنبياء و الأولياء و غيرهم من الناس، فنقول:

إنّ من أقسام الشرك هو أن نطلب فعل اللّه تعالى من غيره. و من المعلوم أنّ فعل اللّه تعالى ليس هو مطلق الخلق و التدبير و الرزق سواء أ كان عن استقلال أم بإذن اللّه لأنه سبحانه نسبها إلى غيره في القرآن، بل هو القيام بالفعل مستقلا من دون استعانة بغيره، فلو خضع احد أمام آخر بما أنه

ص: 92


1- لاحظ الآيات الكريمات التاليات: يونس: الآية 3، الحجر: الآية 99، مريم: الآيتان 36 و 65، الزخرف: الآية 64.
2- سورة البقرة: الآية 255، و آل عمران: الآية 2.
3- سورة طه: الآية 111.

مستقل في فعله سواء أ كان الفعل فعلا عاديا كالمشي و التكلم، أم غير عادي كالمعجزات التي كان يقوم بها سيدنا المسيح (عليه السّلام) مثلا، من خلق الطّير من الطين و إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى و الإنباء بالمغيّبات، يعدّ الخضوع عبادة للمخضوع له.

توضيح ذلك: إنّ اللّه سبحانه غني في فعله، كما هو غني في ذاته عما سواه، فهو يخلق و يرزق و يحيي و يميت من دون أن يستعين بأحد - سواء في أفعاله المباشرية أو التسبيبية - أو يستعين في خلقه بمادة قديمة غير مخلوقة له. فلو اعتقدنا بأن أحدا مستغن في فعل العادي و غير العادي عمن سواه، و أنّه يقوم بما يريد من دون استمداد و احتياج إلى أحد حتى اللّه سبحانه، فقد أشركناه مع اللّه و اتخذناه ندّا له تعالى.

فالملاك في هذا التعريف هو «استقلال الفاعل» في فعله، و عدم استقلاله. و التوحيد بهذا المعنى مما يشترك فيه العالم و الجاهل.

نعم ما يدركه المتألّه المثالي من التفاصيل في مورد الاستقلال في المعبود، و عدمه في العابد على ضوء الأدلة العقلية و الكتاب العزيز، ممّا يدركه غيره أيضا بفطرته التي خلق عليها، فلا يلزم من اختصاص فهم التفاصيل بهذه الطبقة (أي المتألّهين البصيرين) حرمان الجاهليين من فهم معاني العبادة و مشتقاتها الواردة في القرآن و محاوراتهم العرفية، فالعبادة بهذا المعنى - أي باعتقاد كون المعبود مستقلا - يشترك فيه العالم و الجاهل، و الكامل و غير الكامل، غير أنّ كل فرد من الناس يفهمه على قدر ما أعطي من الفهم و الدرك كما قال سبحانه: فَسٰالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهٰا (1) و حيث أنّ الدارج في ألسنة المتكلمين في المقام، التعبير ب «التفويض» فلنشرح.

مقاصدهم.

ص: 93


1- سورة الرعد: الآية 17.
ما ذا يراد من التفويض ؟
اشارة

اتّفقت كلمة الموحدين على أنّ الاعتقاد بالتفويض موجب للشّرك، و أنّ الخضوع النابع من ذاك الاعتقاد يعدّ عبادة للمخضوع له، و التفويض يتصور في أمرين:

1 - تفويض اللّه تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة و الأنبياء و الأولياء، و يسمى بالتفويض التكويني.

2 - تفويض الشئون الإلهية إلى عباده كالتقنين و التشريع، و المغفرة و الشفاعة، مما يعد من شئونه سبحانه و يسمى بالتفويض التشريعي.

أمّا القسم الأول:

فلا شك أنّه موجب للشرك، فلو اعتقد أحد بأنّ اللّه فوّض أمور العالم و تدبيرها من الخلق و الرزق و الإماتة و نزول الثلج و المطر و غيرها من حوادث العالم إلى ملائكته أو صالحي عباده، فقد جعلهم أندادا له سبحانه، إذ لا يعنى من التفويض إلاّ كونهم مستقلين في أفعالهم، منقطعين عنه سبحانه فيما يفعلون و ما يريدون.

فالأمر دائر بين كون العبد ذا فعل بالاستقلال و الانقطاع عن اللّه سبحانه(1) أو كونه ذا شأن بأمره تعالى و إذنه و مشيئته و لا قسم ثالث. و الأول منهما هو التفويض. و أما الثاني و هو الاعتقاد بأنّ القديسين من الملائكة و الجنّ أو الأنبياء أو الأولياء مدبرون للعالم بإذنه و مشيئته و أمره و قدرته من دون أن يكونوا مستقلين فيما يفعلون، أو مفوّضين فيما يعملون، فليس موجبا

ص: 94


1- و هو قسمان استقلال العبد في الأفعال الراجعة إلى تدبير العالم و الحوادث الواقعة فيه و هو محل البحث. و استقلاله في أفعال نفسه كمشيه و تكلمه و هو ما يأتي البحث عنه في الجبر و التفويض و هو الفصل السّادس من الكتاب.

للشرك، بل أمره دائر حينئذ بين كونه صحيحا مطابقا للواقع - كما في الملائكة - أو غلطا مخالفا له، كما في الأنبياء و الأولياء، فإنهم غير واقعين في سلسلة العلل و الأسباب بل هم كسائر الناس يستفيدون من النظام الطبيعي بحيث يختل عيشهم و حياتهم عند اختلال تلك النّظم. و معلوم أنه ليس كل مخالف للواقع يعتبر شركا، إذ عند ذاك يحتل الولي مكان العلّة الطبيعية و النظم المادية، و ليس الاعتقاد بوجود هذا النوع من العلل و الأسباب مكان النظم المادية للظاهرة شركا.

و قد مرّ أنّ مشركي عهد الرسالة كانوا يعتقدون لآلهتهم نوعا من الاستقلال في الفعل و كانوا يتوجهون إليها على هذا الأساس. و قد جاء في السيرة أنه لما أصاب المسلمين مطر في الحديبية لم يبلّ أسفل نعالهم أي ليلا، فنادى منادي رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مناديه أن ينادي ألا صلّوا في رحالكم. و قال (صلّى اللّه عليه و آله) صبيحة ليلة الحديبية لما صلّى بهم: «أ تدرون ما قال ربّكم». قالوا: اللّه و رسوله أعلم. قال: قال اللّه عز و جل: «صبّح بي من عبادي مؤمن بي و كافر، فأمّا من قال: مطرنا برحمة اللّه و فضله، فهو مؤمن باللّه و كافر بالكواكب، و من قال: مطرنا بنجم كذا - و في رواية بنوء كذا و كذا - فهو مؤمن بالكواكب و كافر بي»(1).

و أمّا القسم الثاني

و هو الاعتقاد بأنّ اللّه سبحانه فوّض إلى أحد مخلوقاته بعض شئونه كالتقنين و التشريع و الشفاعة و المغفرة، فلا ريب أنه شرك باللّه، و اتخاذ ندّ له كما يقول سبحانه: وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَنْدٰاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّٰهِ (2) و الموجود لا يكون ندّا للّه سبحانه، إلاّ إذا كان قائما بفعل أو

ص: 95


1- السيرة الحلبية، ج 3، ص 29.
2- سورة البقرة: الآية 165.

شأن من أفعال اللّه و شئونه سبحانه مستقلا، لا ما إذا قام به بإذن اللّه و أمره، فلا يكون عندها ندّا، بل عبدا مطيعا له مؤتمرا بأمره، منفذا لمشيئته تعالى، هذا.

و قد كان أخف ألوان الشرك و أنواعه بين اليهود و النصارى و العرب الجاهليين اعتقاد فريق منهم بأنّ اللّه سبحانه فوّض حقّ التقنين و التشريع إلى الرهبان و الأحبار كما يقول القرآن الكريم: اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ (1)، و أنّ اللّه فوّض حقّ الشفاعة و المغفرة اللذين هما من حقوقه المختصة به - إلى أصنامهم و معبوداتهم، و أن هذه الأصنام و المعبودات «مستقلة» في التصرف في هذه الشئون، فهي شفعاؤهم عند اللّه، و لأجل ذلك كانوا يعبدونها، كما يقول عزّ من قائل: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ (2).

و لذلك أصرّت الآيات القرآنية على القول بأنّه لا يشفع أحد إلاّ بإذن اللّه، فلو كان المشركون يعتقدون بأنّ معبوداتهم تشفع لهم بإذن اللّه لما كان لهذا الإصرار على مسألة متفق عليها بين المشركين، أيّ مبرر. على أن ذلك الفريق من الجاهليين إنما كانوا يعبدون الأصنام لكونها تملك شفاعتهم، و أنّ عبادتها توجب التقرب إلى اللّه، لا لكونها خالقة أو مدبرة للكون، و في هذا يقول القرآن الكريم حاكيا مقالتهم: مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اَللّٰهِ زُلْفىٰ (3).

زبدة المقال

خلاصة القول في المقام، إنّ أي عمل ينبع من الاعتقاد بأنّ اللّه سبحانه إله العالم أو ربّه أو غني في فعله، و يكون كاشفا عن هذا النوع من التسليم المطلق، يعد عبادة له، و يكون صاحبه مشركا إذا فعل ذلك لغير اللّه.

ص: 96


1- سورة التوبة: الآية 31.
2- سورة يونس: الآية 18.
3- سورة الزمر: الآية 3.

و يقابل ذلك، القول و الفعل و الخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد.

فخضوع أحد أمام موجود و تكريمه - مبالغا في ذلك - من دون أن ينبع من الاعتقاد بألوهيته، لا يكون شركا و لا عبادة لهذا الموجود، و إن كان من الممكن أن يكون حراما. مثل سجود العاشق للمعشوقة أو المرأة لزوجها، فإنه و إن كان حراما في الشريعة الإسلامية لكنه ليس عبادة بل حرمته لوجه آخر فالعبادة و التحريم شيئان.

و من هذا البيان يتضح جواب سؤال يطرح نفسه في هذا المقام و هو:

إذا كان الاعتقاد بالألوهية أو الربوبية أو التفويض، شرطا في تحقق العبادة فيلزم من ذلك جواز السجود لأي شخص من دون ضمّ هذه النية.

و يجاب عليه: بأنّ السجود حيث إنّه وسيلة عامة للعبادة، و حيث إنّ اللّه تعالى يعبد بها عند جميع الأقوام و الملل و الشعوب، و صار بحيث لا يراد منه إلاّ العبادة، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد من هذه الوسيلة العالمية حتى في الموارد التي لا تكون عبادة. و هذا التحريم إنما هو من خصائص الإسلام إذ لم يكن حراما قبله، و إلاّ لما سجد يعقوب و أبناؤه ليوسف (عليه السّلام) إذ يقول عز و جل: وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً (1). و من هذا القبيل سجود الملائكة لآدم كما يقول سبحانه:

وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا... (2) فإنه لم يكن إلاّ سجود تكريم و احترام.

قال الجصاص: «قد كان السجود جائزا في شريعة آدم (عليه السّلام) للمخلوقين، و يشبه أن يكون قد كان باقيا إلى زمان يوسف (عليه السّلام) فكان فيما بينهم لمن يستحق ضربا من التعظيم و يراد إكرامه و تبجيله، بمنزلة المصافحة و المعانقة فيما بيننا، و بمنزلة تقبيل اليد، و قد روي عن النبي (عليه السّلام) في إباحة تقبيل اليد أخبار، و قد روي الكراهة إلاّ أنّ السجود

ص: 97


1- سورة يوسف: الآية 100.
2- سورة البقرة: الآية 34.

لغير اللّه على وجه التكرمة و التحية منسوخ بما روت عائشة و جابر و أنس إنّ النبي قال: «ما ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، و لو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها»(1).

و الحاصل: إنّ خضوع أحد أمام آخرين لا باعتقاد أنهم «آلهة» أو «أرباب» أو «مصادر للأفعال و الشئون الإلهية» بل لأن المخضوع لهم مستوجبون للتعظيم لأنهم: عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ * لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (2)، ليس هذا الخضوع و التعظيم و التواضع و التكريم عبادة قطعا.

و قد مدح اللّه تعالى فريقا من عباده بصفات تستحق التعظيم عند ما قال: إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (3). و قال في اصطفاء إبراهيم: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً (4). فهذه الأوصاف العظيمة توجب نفوذ محبتهم في القلوب و الأفئدة و تستوجب احترامهم في حياتهم و بعد مماتهم. بل إنّ بعض الأولياء (عليهم السّلام) فرضت على المسلمين محبتهم بنصّ القرآن إذ يقول سبحانه و تعالى: قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ (5).

و على ما ذكرنا لا يكون تقبيل يد النبي، أو الإمام، أو المعلم، أو الوالدين، أو تقبيل القرآن أو الكتب الدينية، أو أضرحة الأولياء و ما يتعلق بهم من آثار، إلا تعظيما و تكريما، لا عبادة.

إلى هنا تبينت و اتضحت حقيقة العبادة بالتعريفات الثلاثة التي ذكرناها و أسهبنا في توضيحها و يمكنك بعد ذلك أن تعرف مدى وهن التعريفات الأخرى التي تذكر للعبادة و نذكر منها التعريفين التاليين:

ص: 98


1- أحكام القرآن، ج 1، ص 32 لأبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصّاص المتوفى عام (370 ه ق).
2- سورة الأنبياء: الآيتان 26-27.
3- سورة آل عمران: الآية 33.
4- سورة البقرة: الآية 124.
5- سورة الشورى: الآية 23.
تعريفان ناقصان للعبادة

أ - العبادة: «خضوع و تذلّل».

و قد ورد هذا التعريف في كتب اللّغة، و لكنه لا يعكس المعنى الحقيقي للعبادة الذي نردده في قولنا: إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ .

و إنما هو معنى مجازي لمناسبة ما يلازم العبادة الحقيقية عادة من إظهار الخضوع و التذلّل. و قد استعملت العبادة في هذا المعنى المجازي في القرآن الكريم في حكايته قول موسى (عليه السّلام): وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهٰا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ (1) و يدلنا على أنّ هذا المعنى ليس حقيقيا للعبادة أمران:

الأول: لو كانت العبادة مرادفة في المعنى للخضوع و التذلّل، لما أمكننا أن نعتبر أي إنسان موحدا للّه، لأن البشر - بفطرته - يخضع لمن يتفوق عليه، معنويا أو ماديا، كالتلميذ يخضع لأستاذه، و الولد لوالديه، و المحب لحبيبه، و المستعطي لمعطيه.

الثاني: إنّ القرآن الكريم يأمر الإنسان بأن يتذلّل لوالديه فيقول:

وَ اِخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً (2) فلو كان الخضوع و التذلّل معناه عبادة من تذلّلت له، لاستلزم الحكم بكفر من يبرّ والديه، و الحكم بتوحيد من يعق والديه.

ب - العبادة: «نهاية الخضوع».

لقد حاول بعض المفسرين بعد أن أدركوا نقصان تعريف اللغويين للعبادة - ترميم هذا النقص و إصلاحه، فقالوا: «العبادة: نهاية الخضوع بين يدي من تدرك عظمته و كماله». و هذا التعريف يشترك مع سابقه في النقص و الإشكال و ذلك:

ص: 99


1- سورة الشعراء: الآية 22.
2- سورة الإسراء: الآية 24.

1 - لأنّ اللّه تعالى يأمر الملائكة بالسجود لآدم فيقول: وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ (1) و السجود هو نهاية التذلّل و الخضوع للمسجود له، فإذا كان معنى العبادة هو نهاية الخضوع فإنه يستلزم القول بكفر الملائكة الذين سجدوا لآدم امتثالا لأمره تعالى مع ما رواه فيه من الاختصاص بعلم الأسماء كلها.

2 - إنّ إخوة يوسف و والديه سجدوا جميعا ليوسف بعد استوائه على عرش الملك و السلطنة كما يقول تعالى: وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً، وَ قٰالَ يٰا أَبَتِ هٰذٰا تَأْوِيلُ رُءْيٰايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهٰا رَبِّي حَقًّا (2).

و الرؤيا التي أشار إليها يوسف في الآية هي ما أشار إليه تعالى بقوله:

إِذْ قٰالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يٰا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سٰاجِدِينَ (3) .

3 - إنّ كل المسلمين اقتداء برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقبّلون الحجر الأسود المستقر في زاوية الكعبة المشرّفة، و يتبركون به، و نفس العمل هذا يقوم به عبّاد الأصنام تجاه أصنامهم مع العلم أنّ عملهم ذلك شرك قطعا، و عمل المسلمين توحيد قطعا.

إذن ليس معنى العبادة نهاية الخضوع و التذلّل، و إن كان ذلك من أركانها، و لكنه ليس الركن الوحيد لأن العبادة كما عرفت هي الخضوع و التذلّل المقرون بالاعتقاد الخاص «و هو الاعتقاد بألوهية المعبود» على ما عرفت ذلك مفصلا.

ص: 100


1- سورة البقرة: الآية 34.
2- سورة يوسف: الآية 100.
3- سورة يوسف: الآية 4.
نتائج البحث

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة و هي: إنّ العبادة ليست سوى إظهار الخضوع أمام موجود يعتقد بأنّه إله أو ربّ أو مفوّض إليه الأفعال الإلهية، فلو كان الخضوع خاليا عن هذا الاعتقاد فلا يعد عبادة و لا شركا فيها. و أمّا كونه جائزا أو لا، نافعا أو لا، فالكل خارج عن إطار البحث. و بذلك يتضح أنّ كثيرا من الموضوعات التي تعرّفها فرقة الوهابية عبادة لغير اللّه و شركا به، ليس صحيحا على إطلاقه، و إنما هو شرك و عبادة على وجه، و خضوع عقلائي على وجه آخر. و لا يكون شركا إلاّ إذا كان المخضوع له معنونا بأحد العناوين الثلاثة الآتية:

1 - إنّه إله، ب - إنه رب، ج - إنه مفوّض إليه فعل الإله.

و من تلك الموضوعات:

1 - التوسل بأولياء اللّه.

2 - الاستعانة بأولياء اللّه في حياتهم.

3 - الاستعانة بأرواحهم بعد مماتهم.

4 - طلب الشفاعة منهم في الحياة و الممات.

5 - استحلاف اللّه سبحانه بحق الأولياء.

6 - الاستغاثة بأولياء اللّه.

7 - الحلف بغير اللّه.

8 - الاعتقاد بالقدرة الغيبية لأولياء اللّه.

9 - التبرك و الاستشفاء بآثارهم.

10 - النذر لأهل القبور.

و غير ذلك ما أوجد به الوهابيّون صخبا و هياجا بين السطحيين من المسلمين المتأثرين بأفكارهم.

فإن الكلمة الحاسمة في هذه الموضوعات من وجهة التوحيد و الشرك هي محاسبة عقيدة القائم بهذه الأفعال و الدقة فيما يعتقد به. فلو قام بها على

ص: 101

أنّ أولياء اللّه آلهة (آلهة صغيرة و إن كان فوقها إله كبير)، أو أنهم أرباب مدبرون و مديرون للكون كله أو بعضه، أو أنهم مفوّض إليهم أفعال اللّه سبحانه، فلا شك أنّ أقلّ عمل صادر من أي شخص بهذه النية، حتى و لو كان كتقبيل الضريح و لمس القبر، يتصف بالعبادة، و يكون العامل مشركا غير موحد في العبادة.

و أمّا إذا قام بها مجردة عن تلك العقيدة، بل بما أنهم عباد مخلصون مكرّمون، كرّسوا حياتهم في طريق رضا اللّه سبحانه، و قاموا ببذل النفس و النفيس في سبيله فلا يعد عبادة حتى و لو ركعوا و سجدوا لهم. و قد عرفت أنّ سجود الملائكة لآدم و يعقوب و أبنائه ليوسف كان مجسدا لأعظم خضوع و تعظيم، و لم يكن شركا في العبادة. و أنّ العرب الجاهليين كانوا واقعين في حبائل الشرك لا لأجل الخضوع المجرد للأصنام و الأوثان، بل لأجل اعتقاد الألوهية و الربوبية في حقهم و اعتقادهم باستقلالهم بالنفع و نفوذ المشيئة. يقول سبحانه موبخا إيّاهم يوم القيامة على ما اعتقدوه للأصنام من الاستقلال في إيصال النفع و دفع الضرر: أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اَللّٰهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (1). و يقول حاكيا اختصامهم يوم القيامة إنهم يخاطبون من اعتقدوا فيهم الربوبية و خصائصها: تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (2) فانظر إلى هذه التسوية التي اعترفوا بها حيث يصدق الكذوب و يندم المجرم حين لا ينفعه ندم. فالتسوية المذكورة هي التي صيّرتهم مشركين، سواء أ كانت تسوية في جميع الصفات أو في بعضها.

و ممّا يدل على اعتقادهم الربوبية في معبوداتهم، قوله سبحانه:

وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَنْدٰاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّٰهِ (3) ، و غير ذلك من الآيات الدّالة على أنهم كانوا يعتقدون في الأوثان و الأصنام شيئا من

ص: 102


1- سورة الشعراء: الآيتان 92 و 93.
2- سورة الشعراء: الآيتان 97 و 98.
3- سورة البقرة: الآية 165.

الألوهية و الربوبية و لمعة من التفويض. فلو لا هذا الاعتقاد لما اصطبغ العمل بالشرك بل صار بين كونه أمرا عقلائيا مفيدا كما إذا كان الخضوع عن حق كالخضوع للأنبياء و الأولياء و العلماء و الصلحاء و الآباء و المربّين، و كونه عملا لاغيا غير مفيد إذا وقع في غير محله على ما عرفت.

فأنت بعد ما وقفت على تحديد العبادة تقدر على القضاء في المسائل السابقة المطروحة من جانب الوهابية.

ص: 103

ص: 104

التوحيد في الشفاعة و المغفرة و...
(10) الشفاعة و المغفرة حقه سبحانه

قد تعرفت على أهم أصناف التوحيد و أقسامه و أنّ الموحد الحقيقي من يوحّد اللّه تعالى في جميع المجالات سواء فيما كان راجعا إلى ذاته و صفاته أو إلى أفعاله أو إلى تخصيص العبادة به. هذا هو التقسيم الدارج بين المتكلمين لا سيما العدلية منهم، فتراهم يقسّمون التّوحيد إلى المراتب المذكورة و يقولون: «ينقسم التّوحيد إلى: التوحيد الذاتي و التّوحيد الصفاتي و التّوحيد الأفعالي و التوحيد العبادي». و نحن حرصا على تفسير مراتب التوحيد فصلناه على النحو الذي تعرفت عليه. و الذي يجب التنبيه عليه أنّ التوحيد في الخالقية، و الربوبية، و الحاكمية، و التشريع من فروع التوحيد الأفعالي فهذا اللفظ يعمّ تلك الأقسام كلها التي ذكرناها، كما يعمّ ما لم نذكر من أفعاله سبحانه، كالمغفرة و حق الشفاعة و غيرهما. فمعنى التوحيد الأفعالي هو: تخصيص فعله سبحانه بذاته و أنّه لا يقوم به إلاّ هو و على ذلك فلو كنّا في مقام التفصيل لوجب علينا أن نقول: إنّ الموحّد من يشهد بأنّ كل فعل يعد من خصائصه سبحانه لا يسند إلاّ إليه، سواء أ كان من قبيل الخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و المغفرة و حق الشفاعة أو غيرها.

و إنما ذكرنا الشفاعة و المغفرة و خصصناهما بالذكر لوقوع الشرك فيهما بين المشركين في عصر الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)، كما أنّ جماعات

ص: 105

من المسيحيين مشركون في مجال المغفرة. فقد فوضت الطائفتان حق الشفاعة إلى بعض عباده سبحانه و عزلوه عن حقه و مقامه.

توضيح ذلك: إنّ هناك آيات تخص الشفاعة باللّه لا يشاركه فيها غيره مثل قوله سبحانه: وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخٰافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاٰ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (1).

و قوله سبحانه: قُلْ لِلّٰهِ اَلشَّفٰاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (2) و غير ذلك من الآيات.

غير أنّ بعض المشركين كانوا يعبدون الأصنام معتقدين بأنّ الشفاعة حق مطلق لهم، و أن اللّه فوّض ذلك الحقّ إليهم يقول سبحانه: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللّٰهَ بِمٰا لاٰ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ (3) و قال سبحانه: أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ شُفَعٰاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَعْقِلُونَ (4).

فهاتان الآيتان تردان على المشركين بأنّ الأصنام لا تملك شيئا، فكيف تشفع لهم ؟! و قد أبطل سبحانه هذه المزعمة بصور مختلفة قال سبحانه:

وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّٰهِ (5) و قال: وَ رَأَوُا اَلْعَذٰابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبٰابُ (6). فهذه الآيات التي مرّت عليك تخصّ حق الشفاعة باللّه سبحانه و تسلب عن الأصنام حقّها. فمن زعم أنّ الشفاعة على وجه الملكيّة التامة بيد المخلوق فهو مشرك.

ص: 106


1- سورة الأنعام: الآية 51.
2- سورة الزمر: الآية 44.
3- سورة يونس: الآية 18.
4- سورة الزّمر: الآية 43.
5- سورة الانفطار: الآية 19.
6- سورة البقرة: الآية 166.

و أمّا من قال بأنّ هناك عبادا صالحين تقبل شفاعتهم عند اللّه في إطار خاص و شرائط معينة في الشفيع و المشفوع له بإذن منه سبحانه، فهو لا ينافي اختصاص حقّ الشفاعة باللّه سبحانه. كيف و قد ورد النصّ بشفاعة طائفة عند اللّه بإذنه قال سبحانه: يَوْمَئِذٍ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً (1).

و بذلك يظهر حال المغفرة. فإنّ المغفرة و حطّ الذنوب و التكفير عن السيئات حقه سبحانه. و من زعم أنّ غيره سبحانه يملك أمر الذنوب و يغفرها و يكفر عنها فهو مشرك في مجال التّوحيد الأفعالي. و قد صرّح سبحانه في الذّكر الحكيم باختصاصها به قال عزّ و جل: أَلاٰ إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (2) و قال سبحانه: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّٰهُ (3). فالموحّد في هذا المجال لا يرى مثيلا للّه سبحانه في أمر المغفرة. و أما الأنبياء و الأولياء فلهم حقّ الاستغفار للمذنبين، كما أنّ للمذنبين الرجوع إليهم و الطلب منهم أن يستغفروا لهم قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّٰهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً (4). و قال سبحانه حاكيا عن أبناء يعقوب: قٰالُوا يٰا أَبٰانَا اِسْتَغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا إِنّٰا كُنّٰا خٰاطِئِينَ * قٰالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (5). و مع ذلك كله فالمغفرة بيد اللّه سبحانه.

هذا تمام الكلام في التوحيد بأقسامه و لنشرع في سائر صفاته الجلالية.

ص: 107


1- سورة طه: الآية 109.
2- سورة الشورى: الآية 5.
3- سورة آل عمران: الآية 135.
4- سورة النساء: الآية 64.
5- سورة يوسف: الآيتان 97 و 98.

ص: 108

الصّفات السّلبية

(2) ليس بجسم و لا في جهة و لا محلّ ، و لا حالّ و لا متّحد

اشارة

اتفقت كلمة أهل التنزيه تبعا للأدلة العقلية و النقلية على أنّه سبحانه جميل أتم الجمال، و كامل أشدّ الكمال لا يتطرق إليه الفقر و الحاجة، و هو غني بالذات، و غيره محتاج إليه كذلك.

أمّا العقل، فلأن كل متصوّر إمّا أن يكون واجب الوجود أو ممكنه أو ممتنعه. و الثالث غير مطروح في المقام. و الممكن لا يتصف بالألوهية، فيبقى أن يكون واجب الوجود هو الذي تنتهي إليه سلسلة الموجودات. و ما هو واجب الوجود لا يكون فقيرا و محتاجا في ذاته و فعله، لأنّ الفقر آية الإمكان.

و أمّا النقل، فيكفي في ذلك ما ورد من الآيات من توصيف نفسه بالغناء قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (1).

إنّ معنى كون أسمائه و صفاته توقيفية، لا يهدف إلاّ إلى أنّه ليس لإنسان تسميته باسم أو وصف إلاّ بما ورد في الكتاب و السّنة، و أمّا تنزيهه

ص: 109


1- سورة فاطر: الآية 15.

سبحانه عن كل شين و عيب، و عن كل ما يناسب صفة المخلوق فليس ذلك أمرا توقيفيا، و التوقف حتى في تنزيهه سبحانه عن صفات المخلوقين، و نقص الممكنات، ليس أمرا توقيفيا، و إلاّ لكان معنى ذلك تعطيل باب المعارف. و من يتوقف في تنزيهه عن هذه الصفات غير المناسبة لساحته سبحانه فهو معطّل في باب المعرفة، عنّين في ذلك المجال قال سبحانه:

وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ (1) .

و على ذلك يترتب نفي كل صفة تناسب صفة الممكنات و كل نقص لا يجتمع مع الغنى و وجوب الوجود، سواء أ كان داخلا فيما عددناه في عنوان البحث أو خارجا عنه، غير أنا توضيحا للبحث نشير إلى دليل كل واحد مما أوردناه في العنوان.

1 - ليس بجسم

عرّف الجسم بتعاريف مختلفة لا يتسع المجال لذكرها. و على كل تقدير فالجسم هو ما يشتمل على الأبعاد الثلاثة من الطول و العرض و العمق، و على قول ما يشتمل على الأبعاد الأربعة بإضافة البعد الزماني إلى الأبعاد الثلاثة المكانية.

و هو ملازم للتركيب، و المركّب محتاج إلى أجزائه، و المحتاج ممكن الوجود لا واجبه، و الممكن لا يكون إلها خالقا مدبّرا تنتهي إليه سلسلة الموجودات.

و بدليل آخر، إنّ كل جسم محتاج إلى الحيّز و المحل، و المحتاج إلى غيره ممكن لا واجب.

و بدليل ثالث، إنّ الحيّز أو المحل، إمّا أن يكون واجب الوجود كالحالّ ، فيلزم تعدد الواجب، و إمّا أن يكون ممكن الوجود، مخلوقا للّه

ص: 110


1- سورة الأنعام: الآية 91.

سبحانه فهذا يكشف عن أنه كان موجودا غنيا عن المحل و الحيز فخلقهما، فكيف يكون الغني عن الشيء محتاجا إليه.

2 - ليس في جهة و لا محل

و قد تبين حال استغنائه عنهما مما ذكرنا من الدليل على نفي الجسمية فلا نعيد.

3 - ليس حالاّ في شيء

إنّ المعقول من الحلول قيام موجود بموجود آخر على سبيل التبعية.

و هذا المعنى لا يصحّ في حقه سبحانه لاستلزامه الحاجة و قيامه في الغير.

أضف إلى ذلك أنّ ذلك الغير إما ممكن أو واجب، فلو كان ممكنا فهو مخلوق له سبحانه، فقد كان قبل إيجاده مستقلا غير قائم فيه، فكيف صار بعد خلقه قائما و حالاّ فيه، و لو كان واجبا يلزم تعدد الواجب و هو محال.

4 - ليس متّحدا مع غيره

حقيقة الاتحاد عبارة عن صيرورة الشيئين المتغايرين شيئا واحدا، و هو مستحيل في ذاته فضلا عن استحالته في حقه تعالى، فإنّ ذلك الغير بحكم انحصار واجب الوجود في واحد، ممكن. فبعد الاتحاد إمّا أن يكونا موجودين فلا اتحاد لأنهما اثنان أو يكون واحد منهما موجودا و الآخر معدوما.

و المعدوم إمّا هو الممكن، فيلزم الخلف و عدم الاتحاد، أو الواجب فيلزم انعدام الواجب و هو محال.

و بذلك تبين أنّ ما يدّعيه أصحاب الفرق الباطلة كالمسيحيين و الحلوليين من المسلمين، بل القائلين باتحاده سبحانه مع القديسين من الأنبياء و الصلحاء و الأقطاب و غيرهم، كلها من شطحات الغلاة و إرجاف الصوفية أعاذنا اللّه من شرورهم.

ص: 111

ثم إن تنزيهه سبحانه بحجة نفي الحاجة لا ينحصر في ما ذكرناه في عنوان البحث بل كل صفة و تعريف للّه سبحانه يستلزم تشبيهه بالمخلوقات، فهو منفي عنه.

و بذلك يعلم صحة نفي التركيب عنه الذي تقدم بحثه في التّوحيد الذاتي الأحدي.

الكتاب العزيز و نفي الجسميّة

إنّ التدبّر في الذكر الحكيم يوفّقنا على أنّه سبحانه منزّه عن كل نقص و شين، و أنّه ليس بجسم و لا جسماني. و هذا المعنى و إن لم يكن مصرّحا به في الكتاب، لكن التدبّر في آياته، الذي أمرنا به في ذلك الكتاب في قوله سبحانه: كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ إِلَيْكَ مُبٰارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيٰاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ (1). يوصلنا إلى ذلك. و لأجل إيقاف القارئ على موقف الكتاب في ذلك نشير إلى بعض الآيات:

1 - إنّ الذكر الحكيم يصف الواجب تعالى بقوله: يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) و الآية صريحة في سعة وجوده سبحانه، و أنّه معنا في كل مكان نكون فيه.

و ما هذا شأنه لا يكون جسما و لا حالاّ في محل أو موجودا في جهة. إذ لا شك أنّ الجسمين لا يجتمعان في مكان واحد و جهة واحدة، فالحكم بأنّه سبحانه معنا في أي مكان كنا فيه، لا يصحّ إلاّ إذا كان موجودا غير مادي و لا جسماني.

ثمّ إنّ المجسّمة، و من يتلو تلوهم إذا وقفوا على هذه الآية يؤولونها بأنّ

ص: 112


1- سورة ص: الآية 29.
2- سورة الحديد: الآية 4.

المراد إحاطة علمه، لا سعة وجوده. و لكنه تأويل باطل لا دليل عليه.

و العجب أنّ هؤلاء يفرّون من التأويل في الصفات الخبرية، و يرمون المؤوّلة بالتعطيل مع أنهم ارتكبوا ما ألصقوه بغيرهم.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه صرّح بإحاطة علمه بكل شيء في نفس الآية، و قال: يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا فإذا لا وجه لتكرار هذا المعنى بعبارة مبهمة، و على ذلك لا مناص من حمل الآية على سعة وجوده و إحاطته بكل شيء لا إحاطة حلوليّة حتى يحل في الأجسام و الإنسان، بل إحاطة قيّومية عبّر عنها في الآيات الأخر بقوله: اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ (1). أي قائما بالذات، و سائر الأشياء قائمة به. فليست كل إحاطة ملازمة للحلول و الاتحاد، و لا يمكن أن يكون ما تقوم الأشياء بذواتها به غائبا عنها غيبوبة الجسم عن الجسم.

2 - يقول سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مٰا يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ وَ لاٰ خَمْسَةٍ إِلاّٰ هُوَ سٰادِسُهُمْ وَ لاٰ أَدْنىٰ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْثَرَ إِلاّٰ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مٰا كٰانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (2).

و الآية صريحة في سعة وجوده و أنّه موجود في كل مكان و مع كل إنسان لكن لا بمعنى الحلول بل إحاطة قيومية قيام المعلول بالعلّة، و المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، و مع ذلك فلا يصل الإنسان إلى كنه هذه الإحاطة و هذه القيومية. فالآية تفيد المعية العلميّة و المعية الوجودية، فكلما فرض قوم يتناجون، فاللّه سبحانه هناك موجود سميع عليم.

و بعبارة أخرى إنّه سبحانه وصف نفسه في الآية بالعلم بما في السموات و ما في الأرض، ثم أتى بقوله: مٰا يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ ،

ص: 113


1- سورة البقرة: الآية 255. و آل عمران: الآية 2.
2- سورة المجادلة: الآية 7.

كالدليل على تلك الإحاطة العلمية، فبما أنّه يسع وجوده كل مكان وجهة، فهو عالم بكل ما يحويه المكان و الجهة.

و مثل هذا لا يمكن أن يكون جسما، لأنّ كل جسم إذا حواه مكان خلا منه مكان آخر.

3 - قال تعالى: وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ (1).

لمّا أمر سبحانه بالتوجه إلى القبلة - و ربما أوهم ذلك أنّ اللّه في مكان يستقر فيه - دفعه سبحانه بقوله: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ أي لا يخلو مكان عن ذاته و وجوده.

فالمراد من الوجه هنا هو الذات، قال ابن فارس: «و ربما عبّر عن الذات بالوجه قال:

أستغفر اللّه ذنبا لست محصيه *** ربّ العباد إليه الوجه و العمل»(2)

و لا ينحصر تفسير الوجه بالذات بهذه الآية بل هو كذلك في الآيتين التاليتين:

1 - قوله سبحانه: لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ (3).

2 - و قوله سبحانه: وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ (4).

و الدليل على أنّ الوجه في هاتين الآيتين بمعنى الذات، لا العضو المخصوص، واضح.

أمّا الآية الأولى، فلأنّه سبحانه بصدد بيان أنّ كل شيء يهلك و يفنى

ص: 114


1- سورة البقرة: الآية 115.
2- المقاييس، ج 6، ص 88، مادة «وجه». و غيره من المعاجم.
3- سورة القصص: الآية 88.
4- سورة الرحمن: الآية 27.

إلاّ نفسه و ذاته. و هذا لا يصحّ إلاّ أن يكون المراد من الوجه هو الذات لا العضو المخصوص.

و أمّا الآية الثانية، فلأنّه وصف الوجه بقوله: ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ ، بمعنى ذو الطّول و الإنعام و ما يقاربه. و من المعلوم أنهما من صفات نفس الربّ لا من صفات الوجه، أعني الجزء من الكل. و لو كان الوجه هنا، بمعنى العضو المخصوص لوجب أن يقول: «ذي الجلال و الإكرام» حتى يقع وصفا للربّ لا للوجه.

و يشهد على ذلك قوله سبحانه: تَبٰارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ (1). فلما كان الاسم غير المسمى وصف الرب بقوله «ذي الجلال»، و لم يصف الاسم به و إلاّ لقال «ذو الجلال».

فإذا تبين أنّ الوجه في هذه الآيات بمعنى الذات، أ فهل يجتمع قوله فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ مع كونه جسما محددا في جهة خاصة و موجودا فوق العرش، متمكنا فيه أو جالسا عليه، و ما أشبه ذلك ممّا يوجد في كلمات المجسّمة و من هو منهم، و إن كان يتبرأ من وصفه بالتجسيم.

4 - يقول سبحانه و تعالى: فٰاطِرُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً وَ مِنَ اَلْأَنْعٰامِ أَزْوٰاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ (2).

إنّ الآية بصدد نفي التشبيه على الإطلاق، و ليس من كلمة أجمع من قوله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ . أو ليس القول بكونه جسما ذا جهة و محل، موجودا فوق العرش متمكنا فيه أو جالسا عليه، تشبيه للخالق بالمخلوق ؟ صدق اللّه العلي العظيم إذ قال: وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ (3). فما هذا الصمم و العمى في الأسماع و الأبصار و القلوب ؟!!.

ص: 115


1- سورة الرحمن: الآية 78.
2- سورة الشورى: الآية 11.
3- سورة الأنعام: الآية 91.

نعم، ربما يتوهم القاصر، دلالة الآيتين التاليتين على كونه سبحانه في السماء و أنّه في جهة، و هما قوله سبحانه: أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّمٰاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ اَلْأَرْضَ فَإِذٰا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّمٰاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حٰاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (1)و لكن المتأمل فيما تقدمهما من الآيات يخرج بغير هذه النتيجة فإنه سبحانه يقول قبلهما: هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنٰاكِبِهٰا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ اَلنُّشُورُ (2).

فهذه الآية تذكر نعمة اللّه سبحانه على أهل الأرض ببيان أنّه جعل الأرض ذلولا فسهل سلوكها، و هيأ لهم رزقه فيها، و عند ذلك ينتقل في الآية الثانية إلى ذكر أنّ وفرة النعم على البشر يجب أن لا تكون سببا للغفلة و التمادي و العصيان، فليس من البعيد أن يخسف الأرض بهم، فإذا هي تمور و تتحرك و ترتفع فوقهم كما ليس من البعيد أن ينزل عليهم ريحا حاصبا ترميهم بالحصباء. فعند ذلك، عند معاينة العذاب، يخرجون من الغفلة و يعرفون الحق، و هذا هو هدف الآيات الثلاث.

و أمّا التعبير ب مَنْ فِي اَلسَّمٰاءِ فيحتمل أن يراد منه من سلطانه و قدرته في السماء، لأنه مسكن ملائكته و اللوح المحفوظ و منها تنزل قضاياه و كتبه و أوامره و نواهيه. كما أنّ منها ينزل رزق البشر، و فيها مواعيده:

وَ فِي اَلسَّمٰاءِ رِزْقُكُمْ وَ مٰا تُوعَدُونَ فيصح التعبير بمن في السّماء عن سلطانه و قدرته و كتبه و أوامره و نواهيه.

كما يحتمل أن يكون الكلام حسب اعتقادهم، بمعنى أ أمنتم من تزعمون أنّه في السّماء أن يعذبكم بخسف أو بحاصب، كما تقول لبعض المشبّهة: «أ ما تخاف من فوق العرش أن يعاقبك بما تفعل».

ص: 116


1- سورة الملك: الآيتان 16-17.
2- سورة الملك: الآية 15.

و هناك احتمال ثالث و هو أن يكون المراد من الموصول هو الملائكة الموكلون بالخسف و التدمير، فإنّ الخسف و الإغراق و إمطار الحجارة كانت بملائكته سبحانه في الأمم السالفة.

فبعد هذه الاحتمالات لا يبقى مجال لما يتوهمه المستدل.

أضف إلى ذلك أنه سبحانه يصرّح بكون إله السماء هو إله الأرض و يقول: وَ هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمٰاءِ إِلٰهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلٰهٌ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ (1). فليس الإله بمعنى المعبود كما هو بعض الأقوال في معنى ذلك اللفظ، بل «الإله» و «اللّه» بمعنى واحد، غير أنّ الأول جنس و الثاني علم. و لو فسّر أحيانا بالمعبود، فإنّما هو تفسير باللازم، فإنّ لازم الألوهية هو العبادة، لا أنه بمعنى المعبود بالدلالة المطابقية.

فعلى ذلك فمفاد الآية وجود إله واحد في السماء و الأرض و هذا يكون قرينة على أنّ المراد من قوله: مَنْ فِي اَلسَّمٰاءِ هو أحد الاحتمالات الماضية.

مكافحة علي (عليه السّلام) القول بالتجسيم

إنّ عليّا (عليه السّلام) و سائر الأئمة من أهل البيت مشهورون بالتنزيه الكامل. و كانوا يقولون إنّه سبحانه لا يشبهه شيء بوجه من الوجوه، و لا تدرك الأفهام و الأوهام كيفيته و لا كنهه. و يظهر ذلك من خطبه (عليه السّلام) و الآثار الواردة عن سائر أئمة أهل البيت (عليهم السّلام).

و قد وقف على ذلك القريب و البعيد. قال القاضي عبد الجبار: «و أمّا أمير المؤمنين (عليه السّلام) فخطبه في بيان نفي التشبيه و في إثبات العدل أكثر من أن تحصى»(2).

ص: 117


1- سورة الزخرف: الآية 84.
2- فضل الاعتزال، ص 163.

روى المبرّد في الكامل: «قال قائل لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: أين كان ربّنا قبل أن يخلق السّماوات و الأرض ؟ فقال علي (عليه السّلام): أين، سؤال عن مكان، و كان اللّه و لا مكان»(1).

و قال البغدادي: قال أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه: «إنّ اللّه تعالى خلق العرش إظهارا لقدرته، لا مكانا لذاته»، و قال أيضا: «قد كان و لا مكان و هو الآن على ما كان»(2).

و قد بلغ بعلي (عليه السّلام) من الأمر أنّه كان يراقب العوام و السّوقة في مجالسهم و ما يصدر منهم فدخل يوما سوق اللحامين و قال: «يا معشر اللحامين، من نفخ منكم في اللحم فليس منّا. فإذا هو برجل موليه ظهره، فقال: كلا و الذي احتجب بالسبع. فضربه على ظهره ثم قال يا لحّام، و من الذي احتجب بالسبع ؟ قال: ربّ العالمين يا أمير المؤمنين فقال:

اخطأت، ثكلتك أمك، إنّ اللّه ليس بينه و بين خلقه حجاب، لأنّه معهم أينما كانوا. فقال الرجل ما كفارة ما قلت يا أمير المؤمنين ؟ قال: أن تعلم أنّ اللّه معك حيث كنت. قال: أطعم المساكين ؟ قال: لا إنّما حلفت بغير ربّك»(3).

و هذه المعية التي ذكرها علي (عليه السّلام) قد وردت في آيات الذكر الحكيم، منها ما سبق و منها قوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ لاٰ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّٰهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ .. (4).

و قال (عليه السّلام): «و من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من قال «فيم ؟» فقد ضمّنه. و من قال «علام ؟» فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة،

ص: 118


1- الكامل، ج 2، ص 59.
2- الفرق بين الفرق، ص 200.
3- الغارات، ج 1، ص 112.
4- سورة النساء: الآية 108.

و غير كل شيء لا بمزايلة»(1).

و قال (عليه السّلام): «الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد، و لا تحويه المشاهد، و لا تراه النواظر، و لا تحجبه السواتر»(2).

و قال (عليه السّلام): «ما وحّده من كيّفه، و لا حقيقته أصاب من مثّله، و لا إياه عنى من شبّهه، و لا حمده من أشار إليه و توهّمه»(3).

و قال (عليه السّلام): «قد علم السرائر، و خبر الضمائر، له الإحاطة بكل شيء، و الغلبة لكل شيء و القوة على كل شيء»(4).

إلى غير ذلك من خطبه و كلمه في التنزيه و نفي الشبيه. و من أراد الإسهاب في ذلك و الوقوف على مكافحة أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) لعقيدة التشبيه و التكييف و التجسيم، فعليه مراجعة الأحاديث المروية عنهم في الجوامع الحديثية.(5).

ص: 119


1- نهج البلاغة، الخطبة الأولى، طبعة مصر.
2- نهج البلاغة، الخطبة 180، طبعة مصر.
3- نهج البلاغة، الخطبة 181، طبعة مصر.
4- نهج البلاغة، الخطبة 82، طبعة مصر.
5- راجع توحيد الصدوق باب التوحيد و نفي التشبيه، فقد نقل فيه (27) حديثا. و بحار الأنوار، ج 3 باب نفي الجسم و الصورة فقد نقل فيه (47) حديثا. و الجزء الرابع منه. و بذلك تعرف مدى وهن الكلمة التي نشرتها جريدة أخبار العالم الإسلامي العدد (1058) من السنة الثانية و العشرين المؤرخ: 29 جمادي الأولى، عام 1408 هجرية، للشيخ عبد اللّه بن عبد العزيز بن باز حيث نقد مقالة الدكتور محي الدين الصافي التي كتبها تحت عنوان «من أجل أن تكون أمة أقوى». و جاء في تلك المقالة «إنه قام الدليل اليقيني على أنّ اللّه ليس بجسم». فردّ عليه ابن باز بقوله: «هذا الكلام لا دليل عليه لأنّه لم يرد في الكتاب و لا في السنة وصف اللّه سبحانه بذلك و نفيه عنه. فالواجب السكوت عن مثل هذا لأنّ مأخذ صفات اللّه جلّ و علا توقيفي لا دخل للعقل فيه. فيوقف عند حدّ ما ورد في النصوص من الكتاب و السنة». و لا نعلّق على ذلك إلاّ بقوله سبحانه: وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، و أنّه نفس الدعوة إلى تعطيل عن المعارف و الأصول، على أنّك عرفت مفصلا تضافر النصوص. على تنزيهه سبحانه عن التجسم و التشبيه.

ص: 120

الصفات السّلبية

(3) ليس محلا للحوادث

اتفق الإلهيّون ما عدا الكرّاميّة على أنّ ذاته تعالى لا تكون محلا للحوادث، و يستحيل قيام الحوادث بذاته. و الدليل على ذلك أنّه لو قام بذاته شيء من الحوادث للزم تغيّره، و اللازم باطل، فالملزوم مثله.

بيان الملازمة: إنّ التغير عبارة عن الانتقال من حالة إلى أخرى.

فعلى تقدير حدوث ذلك الأمر القائم بذاته، يحصل في ذاته شيء لم يكن من قبل، فيحصل الانتقال من حالة إلى أخرى.

و أمّا بطلان اللازم: فلأن التغيّر مستلزم للانفعال أي التأثّر، و إلاّ لما حصل له، و الاستعداد يقتضي أنّ يكون ذلك الشيء له بالقوة، و ذلك من صفات الماديات، و اللّه تعالى منزّه عنها فلا يكون منفعلا، و لا يكون متغيّرا، و لا يكون محلا للحوادث.

و بعبارة ثانية: إنّ التغيّر نتيجة وجود استعداد في المادة التي تخرج تحت شرائط خاصة من القوة إلى الفعل. فالبذر الذي يلقى في الأرض و يقع تحت التراب، حامل للقوة و الاستعداد، و يخرج في ظل شرائط خاصة من تلك الحالة و يصير زرعا أو شجرا. فلو صحّ على الواجب كونه محلا للحوادث، لصحّ أن يحمل وجوده استعدادا للخروج من القوة إلى الفعلية.

ص: 121

و هذا من شئون الأمور المادية، و هو سبحانه أجلّ من أن يكون مادة أو مادّيا.

و بالجملة، لو وقفت الكرّاميّة على ما يترتب على قولهم من حلول الحوادث فيه من المفاسد، لما أصرّوا على ذلك. فإن ظهور الحوادث في الذات، سواء أ كان بمعنى تغيّر الذات و صفاتها و تبدلها، أو وجود الحركة فيها، عبارة أخرى عن كون وجوده ذا إمكان استعدادي يخرج من القوة إلى الفعل و من النقص إلى الكمال، كخروج عامة الموجودات الإمكانية صوب الفعلية، و نحو الكمال. و من كانت هذه صفته يعدّ من الممكنات.

و هناك بيان آخر لهذا المطلب، و هو أنّ وجوب الوجود يقتضي تحقق كل شئونه و كمالاته فيه طرّا، و ما لم يزل في طريق التكامل و التغاير، لا يتصف بوجوب الوجود. إذن، الوجوب يلازم الفعلية و يناقض التدرّج.

و على ذلك اعتمد المحقق الطوسي في التجريد(1).

ص: 122


1- لاحظ تجريد الاعتقاد، ص 180، طبعة صيدا، و إرشاد الطالبين، ص 232.

الصفات السلبية

(4) لا يقوم اللذة و الألم بذاته

قد يطلق الألم و اللذة و يراد منهما الألم و اللذة المزاجيان. و الألم حالة حاصلة من تغير المزاج إلى الفساد. و اللذة حالة حاصلة من تغير المزاج إلى الاعتدال، و عروض النشاط و السرور على الملتذ، و من كان متصفا بهما يجب أن يكون موجودا ماديا قابلا للانفعال. و من المعلوم لزوم تنزيهه سبحانه عن المزاج و الفعل و الانفعال لاستلزامه توالي فاسدة لا تحصى.

و بالجملة، فالألم و اللذة من توابع المزاج، منفيّان بانتفاء المتبوع.

و قد يطلقان و يراد منهما العقليان، و المراد منهما إدراك كل قوة عقلية ما يلائمها أو ينافيها. فالقوة العاقلة لها كمال و لذّة هي إدراكها للمعقولات الكليّة. و إنكار ذلك مكابرة. فإن العلماء الغائصين في لجج التحقيق لهم لذات لا يختارون اللذات الحسية بأجمعها على أقل مسألة من مسائلها، و يقابله الألم العقلي. و لأجل ذلك كلما كان المعقول أفضل و أتم، كانت اللذة أبلغ و أوفر.

فلذا يكون إدراك القوة العقلية للمعقولات أتم من إدراك الحس للمحسوسات، لأن القوة العقلية تصل إلى كنه المعقول و إلى ذاته و ذاتياته، فتكون اللذة العقلية أبلغ و أعظم من الحسية.

ص: 123

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الألم على وجه الإطلاق منفي عنه سبحانه، أمّا الألم المزاجي فلما عرفت، و أمّا الألم العقلي فلأنه إدراك المنافي من حيث هو مناف. و هو مستحيل عليه سبحانه، إذ لا منافي له لأن جميع ما عداه لوازم و معلولات له، و الكل في قبضة قدرته، مجتمع معه، غير مناف له.

و أمّا اللذة العقلية فإن بعض الحكماء نسبوها إلى اللّه تبارك و تعالى قائلين بأنّه مدرك لأكمل الموجودات - و هي ذاته - فيكون متلذذا.

و بعبارة أخرى: إنّ واجب الوجود الذي هو في غاية الجمال و الكمال و البهاء، إذا عقل ذاته فقد عقل أتم الموجودات و أكمل الأشياء، فيكون أعظم مدرك لأجلّ مدرك بأتم إدراك.

هذا ما عليه الحكماء. و لكن المتكلمين منعوا من توصيفه سبحانه باللذة على وجه الإطلاق مزاجيا كان أو عقليا، و لعل عذرهم في ذلك كون أسمائه و صفاته أمرا توقيفيا.

أقول: لا شك أنّ إطلاق الملتذ على اللّه سبحانه لا يجتمع مع القول بتوقيفية أسمائه و صفاته، و أما كونه مبتهجا بذاته ابتهاجا عقليا لإدراكه أتمّ الموجودات، و ملتذا في ظله، فليس شيء يمنع منه. و إنّ الحقيقة شيء و التسمية شيء آخر.

ص: 124

الصّفات السلبيّة

(5) امتناع رؤية اللّه سبحانه

اشارة

اتفقت العدلية على أنّه سبحانه لا يرى بالأبصار لا في الدنيا و لا في الآخرة. و أما غيرهم، فالكرّاميّة و المجسّمة الذين يصفونه سبحانه بالجسم و يثبتون له الجهة، جوزوا رؤيته بلا إشكال في الدارين. و أهل الحديث و الأشاعرة - مع عد أنفسهم من أهل التنزيه و تحاشيهم عن إثبات الجسمية و الجهة له سبحانه - قالوا برؤيته يوم القيامة و أنه ينكشف للمؤمنين انكشاف القمر ليلة البدر، تبعا لبعض الأحاديث، و استظهارا من بعض الآيات و قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالا مختلفة حول الرؤية ربما تناهز التسع عشر قولا، و أوردها الواحدة تلو الأخرى و أكثرها لا يستحق الذكر.

و من عجيب ما جاء في تلك الأقوال ما نقله عن «الضرار» و «حفص الفرد» من أنّ اللّه لا يرى بالأبصار و لكن يخلق لنا يوم القيامة حاسّة سادسة غير حواسنا، و ندرك ما هو بتلك الحاسّة. و قول البكرية: إنّ اللّه يخلق صورة يوم القيامة يرى فيها و يكلم خلقه منها. و قول حسين النجار إنه يجوز أن يحول العين إلى القلب و يجعل لها قوة العلم فيعلم بها، و يكون ذلك العلم رؤية له(1).

ص: 125


1- مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 261-265 و 314.

و هذه الأقوال الثلاثة، خصوصا الأخير منها إنكار للرؤية، و إن جاء بها الأشعري في عداد الأقوال المثبتة لها. نعم، ذكر أقوالا يشمئز الإنسان من سماعها مثلا: قال جماعة يجوز أن نرى اللّه بالأبصار في الدنيا و لسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات. و أجاز عليه بعضهم الحلول في الأجسام و أصحاب الحلول إذا رأوا إنسانا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه. و أجاز كثير ممن جوّز رؤيته في الدنيا مصافحته و ملامسته و مزاورته إياه. و غير ذلك من الأقوال السخيفة الساقطة التي نبتت في منابت الإعراض عن الأصول الصحيحة لتحليل العقائد.

و لنقدم البحث عن عقائد العدلية فإن في إثباتها كفاية لردّ سائر الأقوال و بيان وهنها. و لكن إكمالا للبحث نذكر بعده ما عليه الأشاعرة من التفصيل في الرؤية بين الدنيا و الآخرة.

ما هي حقيقة الرؤية

اختلف المتكلمون في حقيقة الإبصار تبعا للباحثين الطبيعيين و المشهور بينهم قولان:

الأول: خروج الشعاع على هيئة المخروط من العين بحيث يكون رأسه في العين و قاعدته منطبقة على المبصر. و هذا القول متروك بفضل ما توصلت إليه الأبحاث الحديثة.

الثاني: انعكاس صورة المرئي على العين. و قد أوضحته الأبحاث العلمية بما حاصله أنّ الأشياء الخارجية ترى إذا وصل نورها إلى العين إما نورها النابع منها إذا كانت منيرة بنفسها كالشمس، أو المنعكس عليها من مصدر منير إذا لم تكن منيرة كما هو الغالب. فإذا وصل النور إلى العين فإنه يخترق أوّلا القرنية و هي غطاء العين الخارجي شفافة و محدّبة، فينكسر ثم يعبر «العنبية»، و يرد «العدسية» فينكسر مرة أخرى و يتمركز على طبقة حساسة داخل كرة العين تسمى الشبكية موجدا صورة مضيئة مقلوبة عن صورة

ص: 126

المرئي الخارجي. و يتصل بهذه الشبكية أطراف أعصاب الرؤية، فيوجب انطباع الأشعة على الشبكية تحريك تلك الأعصاب و إرسال التموّجات المناسبة للأشعة المنطبقة إلى الدماغ، فيحللها الدماغ و يفسرها و يتعقلها بالشكل و الصورة التي نعرفها.

هذا هو واقع الإبصار و الرؤية، فيجب أن يكون كل من النفي و الإثبات على هذا المعنى الذي كشف عنه جهابذة العلم. و بذلك يعلم أنّ تفسير الإبصار و رؤيته سبحانه بالعلم به أو بإدراكه في القلب أو من طريق الشهود خروج عن البحث و نحن مركزون على إمكان رؤيته بهذه الأبصار التي يملكها كل إنسان، لأنّ هذا هو محط البحث بين العدلية و الأشاعرة فنقول:

يدل على امتناع الرؤية وجوه:

1 - إنّ الرؤية إنما تصح لمن كان مقابلا أو في حكم المقابل، و المقابلة إنما تتحقق في الأشياء ذوات الجهة، و اللّه تعالى منزه عنها فلا يكون مرئيا.

و بعبارة أخرى: إنّ المراد من الرؤية إما حقيقتها، أعني الإدراك بحس البصر، و هو مستلزم لإثبات الجهة له تعالى بالضرورة، سواء أقلنا بأنّ الإبصار يتحقق بانطباع صورة الشيء في العين أو بخروج الشعاع منها. و إما غير حقيقتها مما يعبر عنه بالإدراك العلمي و الشهود القلبي و غير ذلك مما لا يعرف حقيقته إلا القائل به، فهو حينئذ خارج عن محط البحث و مجال النزاع(1).

2 - إنّ الرؤية إما أن تقع على الذات كلها أو على بعضها. فعلى الأول يلزم أن يكون المرئي محدودا متناهيا محصورا شاغلا لناحية من النواحي، و خلو النواحي الأخرى منه تعالى. و على الثاني يلزم أن يكون مركبا متحيزا ذا جهة إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة، المرفوضة في حقه سبحانه.

ص: 127


1- لاحظ قواعد المرام في علم الكلام، ص 76. أنوار الملكوت في شرح الياقوت، ص 82.

3 - إنّ الرؤية لا تتحقق إلا بانعكاس الأشعة من المرئي إلى أجهزة العين، و هو يستلزم أن يكون سبحانه جسما ذا أبعاد، و معرضا لعوارض و أحكام جسمانية، و هو المنزه عن كل ذلك.

4 - إنّ الرؤية بأجهزة العين نوع إشارة إليه بالحدقة و هو سبحانه منزه عن الإشارة. فإنّ كل مرئي في جهة يشار إليه بأنه هنا أو هناك، و يصح أن يقال: إنه مقابل للرائي أو في حكمه. و هذا المعنى منتف في حقه سبحانه.

إنّ مجموع الأدلة الأربعة تعتمد على أمر واحد و هو أنّ تجويز الرؤية على اللّه سبحانه يستلزم كونه جسما أو جسمانيا. فالأول يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم أن يكون ذا جهة و تحيّز. و الثاني يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم تناهي ذاته إذا وقعت الرؤية على تمامها، أو مركبة إذا وقعت على بعضها.

و الثالث يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم أن يكون جسما و ذا عوارض جسمية.

و الرابع يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم الإشارة إليه تعالى، و هو فوق أن يقع في ذلك المجال. فروح الأدلة الأربعة يرجع إلى أمر واحد، و هو أنّ تجويز رؤيته معناه كونه سبحانه موجودا متحيزا و محدودا و ذا جهة و عوارض جسمانية و قابلا للإشارة و كل ذلك مستحيل، فتكون النتيجة امتناع وقوع الرؤية عليه.

و مبادي هذه البراهين أمور بديهية حسيّة يكفي في تصديقها تصور القضايا بموضوعاتها و محمولاتها و نسبها.

محاولة فاشلة

إنّ المتفكرين من الأشاعرة لما رأوا أنّ القول بإمكان رؤيته سبحانه يستلزم هذه المحاذير و يوجب خروج المجوّز عن صفوف المنزهين إلى عداد المجسمين، حاولوا تصحيح مقولتهم بوجوه خارجة عن محل النزاع، و إليك بعض ما ذكروه:

1 - قال الشهرستاني في نهاية الإقدام: «لم يصر صائر إلى تجويز اتصال أشعة من البصر بذاته أو انطباع شبح يتمثل في الحاسة منه و انفصال

ص: 128

شيء من الرائي و المرئي و اتصاله بهما، لكن أهل الأصول اختلفوا في أنّ الرؤية إدراك وراء العلم أم علم مخصوص. و من زعم أنّه إدراك وراء العلم اختلف في البنية، و اتصال الشعاع، و نفي القرب المفرط، و البعد المفرط، و توسط الهواء المشفّ (النور الحامل للصورة). فشرطها المعتزلة و نفوا رؤية الباري تعالى بالأبصار نفي الاستحالة، و الأشعري أثبتها إثبات الجواز على الإطلاق، و الوجوب بحكم الوعد»(1).

يلاحظ عليه: إنّ الرؤية التي يدعيها أهل الحديث تبعا لما يروونه في هذا المجال، و لما استظهروه من القرآن عبارة عن رؤية اللّه تبارك و تعالى بهذه الأبصار الحسية كرؤية القمر في ليلة البدر. و أما غير ذلك مما يدعيه العرفاء و أهل الكشف و الشهود، خارج عن محط البحث. و من المعلوم أنّ الرؤية بهذا المعنى لا تتحقق إلا بالشرائط التي أطبق عليها علماء الطبيعة، قديمها و حديثها، مع اختلاف في تحقيق الشرائط و تحليلها، فلو أريد من الرؤية غير هذا، لما ورد النفي و الإثبات على شيء واحد. و تمنّي الرؤية بلا هذه الشرائط كتمني رسم الأسد على عضد البطل من دون أن يكون له رأس و لا ذنب(2).

2 - قال الفاضل القوشجي بعد شرح معنى الرؤية إما بالارتسام أو خروج الشعاع: «إنا إذا عرفنا الشمس مثلا بحد أو رسم، كان نوعا من المعرفة، ثم إذا أبصرناها و غمضنا العين، كان نوعا آخر فوق الأول. ثم إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأوّلين نسميه الرؤية، و لا يتعلق في الدنيا إلا بما هو في جهة و مكان. فمحل النزاع أنّ مثل هذه الحالة الإدراكية يصح أن تقع بدون المقابلة، و تتعلق بذات اللّه منزهة عن الجهة و المكان،

ص: 129


1- نهاية الإقدام، ص 356.
2- مثل يضرب لتمني الشيء المحال و أصل القصة: إنّ بطلا ورد كانا يريد أن يضرب على بدنه صورة الأسد. فكان كلما وخزه صاحب الدكان بالإبرة صرخ و قال: ما ذا تضرب ؟ فيجيب: رأسه. فيقول: لا تضرب رأسه. فإذا وخزه أخرى صرخ و تأوّه و قال: ما ذا تضرب ؟ فيجيب: ذنبه. فيقول: لا تضربه. و هكذا. فضرب به المثل.

أولا؟»(1).

أقول: إنّ تمني الرؤية و الإبصار بغير المقابلة و الجهة مع تحققها بالعيون و الأبصار، أشبه بتمني وجود الشيء مع التأكيد على عدمه، و هذا نظير أن يقال حقيقة المربع عبارة عن وجود أضلاع متصلة، فهل يمكن أن تتحقق تلك الهيئة بدون الأضلاع(2).

و من أمعن النظر في كتب الأشاعرة خصوصا القدامى منهم، و بالأخص كتب أهل الحديث، و الحنابلة، يرى أنهم يفرون من هذه المحاولات و لا يرون لها قيمة في أوساطهم، و هم يتمسكون بالروايات و ما استظهروه من الآيات و يحكمون بالرؤية الحقيقية كرؤية القمر.

قال الشيخ الأشعري في الإبانة: «و ندين بأنّ اللّه تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)»(3).

و قال في اللمع: «إن قال قائل: لم قلتم إنّ رؤية اللّه بالأبصار جائزة من باب القياس. قيل له: قلنا ذلك لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به اللّه تعالى و يستحيل عليه، لا يلزم في القول بجواز الرؤية»(4).

ص: 130


1- شرح التجريد للقوشجي، ص 428.
2- و قد جمع الأستاذ حفظه اللّه مجلس مع بعض فضلاء الشام فانجرّ البحث إلى إمكان الرؤية فقال الشيخ الأستاذ: إنّ تجويز الرؤية يستلزم تجويز المقابلة و الجهة. فقال الشامي: كل شيء في الآخرة غيره في الدنيا. فأجابه: ما ذا تريد من كلامك «كل شيء في الآخرة غيره في الدنيا»، فهل تريد أن الأشياء الدنيوية توجد في الآخرة بوجودات كاملة، فهذا ما نعترف به. و إن أردت أنّ الأشياء الأخروية تضاد ماهياتها و حدودها، الموجود في الدنيا، فهذا مما لا يمكن التصديق به. فإنّ نتيجة ضرب اثنين في اثنين هو أربعة لا خمسة، و لا يمكن تكذيب هذه القضية بحجة أنّ كل شيء في الآخرة غيره في الدنيا. فإنّ هناك قضايا قطعية و علوما ضرورية صادقة في النشأتين من دون أن يختص امكانها بواحدة منهما. فالدور و التسلسل محالان في الدنيا و الآخرة، و قاعدة كل ممكن يحتاج إلى علّة صادقة في كلتا النشأتين فالتمسك بهذا الكلام نوع فرار من البحث و التحقيق.
3- الابانة، ص 21.
4- اللمع، ص 61 بتلخيص.
الأدلة العقلية للقائلين بالجواز

إنّ الشيخ الأشعري استدل على جواز الرؤية بوجوه عقلية نقتطف منها وجهين:

الأول - قال: «ليس في جواز الرؤية إثبات حدث، لأنّ المرئي لم يكن مرئيا لأنه محدث، و لو كان مرئيا لذلك للزمه أن يرى كل محدث و ذلك باطل عنده»(1).

يلاحظ عليه: إنّ الحدوث ليس شرطا كافيا في الرؤية حتى تلزم رؤية كل محدث، بل هو شرط لازم يتوقف على انضمام سائر الشروط التي أشرنا إليها. و بما أنّ بعضها غير متوفر في الموجودات المجردة المحدثة، لا تقع عليها الرؤية.

الثاني - قال: «ليس في اثبات الرؤية للّه تعالى تشبيها»(2).

يلاحظ عليه: إنّ حقيقة الرؤية قائمة بالمقابلة أو ما في حكمها، و هي لا تنفك عن كون المرئي في جهة و مكان. و هو يستلزم كونه سبحانه ذا جهة و مكان، فأي تشبيه أظهر من ذلك، و كيف يقول: إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم التشبيه ؟! «ما هكذا تورد يا سعد الابل».

ثم إنّ أئمة الأشاعرة في العصور المتأخرة لما وقفوا على وهن الدليلين السابقين، عدلوا إلى دليل عقلي آخر و حاصله أنّ ملاك الرؤية و المصحح لها أمر مشترك بين الواجب و غيره، قالوا: «إنّ الرؤية مشتركة بين الجوهر و العرض، و لا بد للرؤية المشتركة من علة واحدة. و هي إما الوجود أو الحدوث. و الحدوث لا يصلح للعلية لأنه أمر عدمي، فتعين الوجود. فينتج أنّ صحة الرؤية مشتركة بين الواجب و الممكن»(3).

ص: 131


1- اللمع، ص 61 و 62.
2- اللمع، ص 61 و 62.
3- تلخيص المحصّل، ص 317. و غاية المرام، ص 160، و شرح المواقف، ج 8، ص 115. و شرح التجريد للقوشجي، ص 431.

و هذا الدليل، مع أنه لم يتم عند المفكرين من الاشاعرة، ظاهر الضعف، إذ لقائل أن يقول إنّ الجهة المشتركة للرؤية في الجوهر و العرض ليس هو الوجود بما هو وجود، بل الوجود المقيّد بعدة قيود، و هو كونه ممكنا ماديا يقع في إطار شرائط خاصة، كشف عنها العلم في تحقيق الرؤية، فإنّ الإبصار رهن ظروف خاصة. و ادعاء كون الملاك هو الوجود بما هو وجود غفلة عما يثبته الحس و التجربة.

و العجب من هؤلاء كيف يدعون أنّ المصحح للرؤية هو الوجود مع أنّ لازمه صحة رؤية الأفكار و العقائد، و الروحيات و النفسانيات كالقدرة و الإرادة و غير ذلك من الأمور الروحية الوجودية الّتي لا تقع في مجال الرؤية.

الأدلة النقلية للقائلين بالرؤية

استدل القائلون بجواز الرؤية بآيات كثيرة، المهم منها آيتان نذكرهما:

الآية الأولى: قوله سبحانه: كَلاّٰ بَلْ تُحِبُّونَ اَلْعٰاجِلَةَ * وَ تَذَرُونَ اَلْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ * إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ * وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا فٰاقِرَةٌ (1).

قالوا: «إنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار، يستعمل بغير صلة، و يقال: «انتظرت». و إذا كان بمعنى الرؤية يستعمل ب «إلى». و النظر في هذه الآية استعمل بلفظ «إلى» فيحمل على الرؤية»(2).

و قد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة و المعتزلة، فالفرقة الأولى تصر على أنّ النظر هنا بمعنى الرؤية و الثانية تصر على أنها بمعنى الانتظار لا الرؤية قائلة بأنه يستعمل بمعنى الانتظار مع لفظة «إلى» أيضا قال الشاعر:

ص: 132


1- سورة القيامة: الآية: 20-25.
2- شرح التجريد للقوشجي، ص 334. و غيره.

وجوه ناظرات يوم بدر *** إلى الرّحمن يأتي بالفلاح

و لكن الحق أنّ الإصرار على أنّ النظر بمعنى الرؤية أو الانتظار يوجب كون الآية مجملة من حيث المراد، مع أنها من المحكمات و لا إجمال فيها.

و الذي يبطل الاستدلال هو أنّ النظر سواء أ كان بمعنى الرؤية أم بمعنى الانتظار لا يدل على أنّ المراد هو الرؤية الحقيقية، و يعلم ذلك بمقارنة بعض الآيات المذكورة ببعضها، و عندئذ يرتفع الإبهام عن وجهها. و إليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:

أ - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ يقابلها قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ .

ب - إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ يقابلها قوله: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهٰا فٰاقِرَةٌ .

و لا شك أنّ الفقرتين الأوليين واضحتان جدا، و إنما الكلام في الفقرة الثالثة فيجب رفع إبهامها عن طريق الفقرة الرابعة التي تقابلها.

و بما أن المراد من الفقرة الرابعة هو أنّ الطائفة العاصية التي عبّر عن صفتها بكونها ذات وجوه باسرة، تظن و تتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها و يقصم ظهرها، يكون ذلك قرينة على المراد من الفقرة الثالثة، و هو أنّ الطائفة المطيعة ذات وجوه ناضرة تتوقع عكس ما تتوقعه الطائفة الأولى، و تنتظر فضله و كرمه. هذا هو الذي يستظهره الذهن المجرد عن كل رأي مسبق، من مقابلة الآيتين.

و بعبارة أخرى: لا يصح لنا تفسير الفقرة الثالثة إلا بضد الفقرة الرابعة. فبما أنّ الفقرة الرابعة صريحة في أنّ المراد توقع العصاة العذاب الفاقر، يكون المراد من الفقرة الثالثة توقع الرحمة و الفضل و الكرم حتى و لو كان النظر بمعنى الرؤية، و لكن ليست كل رؤية معادلة للرؤية بالأبصار، بل ربما تكون الرؤية كناية عن التوقع و الانتظار مثلا يقال: «فلان ينظر إلى يد فلان» و يراد أنه رجل معدم محتاج ليس عنده شيء و إنما يتوقع عطاء الشخص، فما أعطاه ملكه و ما منعه حرم منه. و هذا مما درج عليه الناس في

ص: 133

محاوراتهم العرفية و يقال: «فلان ينظر إلى اللّه» ثم إليك. فالنظر و إن كان هنا بمعنى الرؤية لا الانتظار، و لكنه كناية عن توقع رحمته سبحانه أولا، و كرم الشخص المأمول ثانيا كما يقال: «يتوقع فضل اللّه سبحانه ثم كرمك».

و الآية نظير قول القائل:

إني إليك لما وعدت لناظر *** نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر

فمحور البحث و المراد هو توقع الرحمة و حصولها أو عدم توقعها و شمولها، فالطغاة يظنون شمول العذاب، و الصالحون يظنون عكسه و ضده و أما رؤية اللّه سبحانه و وقوع النظر إلى ذاته فخارج عما تهدف إليه الآية.

هذا هو مفتاح حل المشكلة المتوهمة في الآية. فتفسير الآية برؤية ذاته غفلة عن القرينة الموجودة فيها.

و في الختام نذكر نكتتين:

الأولى - إنّ هنا فرقا واضحا بين قولنا: «عيون يومئذ ناظرة» و قولنا:

«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ » . فلو كان المراد رؤية ذاته سبحانه لناسب التعبير بالأول، فالوجوه الناظرة غير العيون الناظرة، و الأول منهما يناسب التوقع و الانتظار دون الثاني.

الثانية - قال الزمخشري في كشّافه: «و سمعت سرويّة مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، و يأوون الى مقائلهم تقول: «عيينتيّ نويظرة إلى اللّه و إليكم» تقصد راجية و متوقعة لإحسانهم إليها(1).

الآية الثانية - قوله سبحانه: وَ لَمّٰا جٰاءَ مُوسىٰ لِمِيقٰاتِنٰا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قٰالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قٰالَ لَنْ تَرٰانِي وَ لٰكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ فَسَوْفَ تَرٰانِي، فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسىٰ صَعِقاً، فَلَمّٰا

ص: 134


1- الكشاف ج 4، ص 662.

أَفٰاقَ قٰالَ سُبْحٰانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ (1) .

احتجّت الأشاعرة بهذه الآية بوجهين و إليك بيانهما:

الوجه الأول

إنّ موسى (عليه السّلام) سأل الرؤية، و لو كانت ممتنعة لما سألها، لأنه إما أن يعلم امتناع الرؤية أو يجهله فإن علم فالعاقل لا يطلب المحال، و إن جهله فهو لا يجوز في حق موسى، فإنّ مثل هذا الشخص لا يستحق أن يكون نبيا.

و يلاحظ عليه: إنّ الاستدلال بآية واحدة، و ترك التدبّر في سائر الآيات الواردة في الموضوع، صار سببا للاستظهار المذكور. و لو اطّلعنا على مجموع ما ورد من الآيات في هذه القصة، لتجلى خطأ الاستظهار.

و إليك البيان:

إنّ الكليم (عليه السّلام) لما أخبر قومه بأنّ اللّه كلّمه و قرّبه و ناجاه، قالوا لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعت. فاختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه، فخرج بهم إلى طور سيناء و سأله سبحانه أن يكلمه. فلما كلّمه اللّه و سمعوا كلامه، قالوا لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة، فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم و عتوّهم و استكبارهم، و إلى هذه الواقعة تشير الآيات الثلاث التالية:

1 - وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً ، فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (2).

2 - يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتٰابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتٰاباً مِنَ اَلسَّمٰاءِ ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذٰلِكَ فَقٰالُوا أَرِنَا اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّٰاعِقَةُ

ص: 135


1- سورة الأعراف: الآية 143.
2- سورة البقرة: الآية 55.

بِظُلْمِهِمْ (1) .

3 - وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقٰاتِنٰا فَلَمّٰا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قٰالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّٰايَ أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهٰا مَنْ تَشٰاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشٰاءُ أَنْتَ وَلِيُّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا وَ اِرْحَمْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغٰافِرِينَ (2).

ثم إن الكليم طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم، فلربما قالوا إنك لم تكن صادقا في قولك إن اللّه يكلمك، ذهبت بهم فقتلتهم، فعند ذلك أحياهم اللّه و بعثهم معه، و إلى هذا الطلب يشير قول الكليم في الآية الثالثة: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّٰايَ أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ و عندئذ يطرح السؤال التالي: هل يصح أنّ ينسب إلى الكليم - بعد ما رأى بام عينه ما رأى القوم من الصاعقة و الدمار إثر سؤالهم الرؤية - أنه قام بالسؤال لنفسه بلا داع و سبب مبرر، أو إنه لم يسأل بعد هذه الواقعة إلا لضرورة ألجأته إليه ؟ و الجواب: إنّ الثاني هو المتعين، و ذلك لأنه (عليه السّلام) عرّف سؤال الرؤية بأنه فعل السفهاء في قوله: أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ ، و معه كيف يصح له الإقدام على الطلب بلا ملزم و مبرر. و عند ذلك يجب علينا أن نقف على العلّة الدافعة إلى السؤال.

الدافع إلى السؤال

إنّ قومه بعد الإحياء طلبوا منه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتى تحلّ رؤيته للّه مكان رؤيتهم، فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية، و عندئذ أقدم الكليم على السؤال تبكيتا لهؤلاء و إسكاتا لهم و بما أنه لم يقدم إلا اثر الإصرار من

ص: 136


1- سورة النساء: الآية 153.
2- سورة الأعراف: الآية 155.

جانبهم، لم يوجّه إلى الكليم من جانبه سبحانه أي لوم و عتاب أو مؤاخذة و عذاب، بل اكتفى تعالى بقوله:

لَنْ تَرٰانِي وَ لٰكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ فَسَوْفَ تَرٰانِي .

فلا يكون السؤال دليلا على إمكان الرؤية و بعبارة أخرى: إنّ موسى كان من أعلم الناس باللّه و صفاته و ما يجوز عليه و ما لا يجوز، و لكن ما كان طلب الرؤية إلا لتبكيت هؤلاء الذين دعاهم «سفهاء» و تبرأ من فعلهم. فبما أنهم لجّوا و تمادوا و قالوا بأنهم لا يؤمنون له حتى يسمعوا النص من عند اللّه باستحالة ذلك، و هو قوله: لَنْ تَرٰانِي فطلب موسى الرؤية ليتيقنوا و يزول ما دخلهم من الشبهة، فلأجل ذلك قال:

رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ و لم يقل ربّ أرهم ينظروا إليك.

و العجب أنّ الآية على خلاف مطلوب الأشاعرة أدلّ ، فإنه سبحانه رد طلب الكليم بقوله: «لن تراني» و «لن» للتأبيد، كقوله: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ (1).

و هاهنا نكتة ينبغي التنبيه عليها و هي أنّ الميقات الوارد في قوله تعالى: وَ لَمّٰا جٰاءَ مُوسىٰ لِمِيقٰاتِنٰا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ (2)، نفس الميقات الوارد في قوله سبحانه: وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقٰاتِنٰا (3). و لم يكن لموسى مع قومه إلا ميقات واحد و قد وقعت الحادثتان فيه في ظرف واحد، غير أن سؤال قومه رؤية اللّه كان قبل سؤال موسى الرؤية لنفسه.

الوجه الثّاني

إنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل، و هو أمر ممكن في نفسه، و المعلّق على الممكن، ممكن.

ص: 137


1- سورة الحج: الآية 73.
2- سورة الأعراف: الآية 143.
3- سورة الأعراف: الآية 155.

يلاحظ عليه: إنّ المعلق عليه في قوله: فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ ليس هو إمكان الاستقرار، بل وجود الاستقرار و تحققه بعد تجلّيه، و المفروض أنه لم يتحقق بعد التجلي. و إذا كان إمكان الرؤية معلقا على تحقق الاستقرار بعد التجلي فينتج أنّ الرؤية ليست أمرا ممكنا لفقدان المعلّق عليه و هذا نظير قول القائل:

و لو طار ذو حافر قبلها *** لطارت و لكنّه لم يطر

ثم إنّ الأشاعرة استدلت بعدّة أخرى من الآيات القرآنية، نتركها للباحث الكريم. كما أنهم استدلوا ببعض الروايات نحن في غنى عن الإجابة عنها بعد دلالة العقل السليم و الذكر الحكيم على امتناع الرؤية. و لكن إكمالا للبحث نأتي بأمرين:

الأمر الأول: جذور مسألة الرؤية

إنّ مسألة الرؤية إنما طرحت بين المسلمين من جانب الأحبار و الرهبان بتدليس خاص. فإنّ أهل الكتاب يدينون برؤيته سبحانه، و يظهر ذلك لمن راجع العهد القديم و إليك مقتطفات منه:

1 - «رأيت السيد جالسا على كرسي عال... فقلت: ويل لي لأن عينيّ قد رأتا الملك ربّ الجنود» (إشعيا 1:6-6). و المقصود من السيد هو اللّه جل ذكره.

2 - «كنت أرى أنه وضعت عروش و جلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج، و شعر رأسه كالصوف النقي و عرشه لهيب نار» (دانيال: 9:7).

3 - «أما أنا فبالبرّ أنظر وجهك» (مزامير داود 15:17).

4 - «فقال منوح لامرأته: نموت موتا لأننا قد رأينا اللّه» (القضاة:

13).

ص: 138

5 - «فغضب الربّ على سليمان، لأن قلبه مال عن الرب، إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين» (الملوك الأول: 11).

6 - «قد رأيت الرب جالسا على كرسيه و كل جند البحار وقوف لديه» (الملوك الأول: 22).

7 - «كان في سنه الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر و أنا بين المسبيين عند نهر خابور، إنّ السموات انفتحت فرأيت رؤى اللّه...

إلى أن قال: هذا منظر شبه مجد الرب و لما رأيته خررت على وجهي و سمعت صوت متكلم» (حزقيال: 1:1).

و القائلون بالرؤية من المسلمين، و إن استندوا إلى الكتاب و السنّة و دليل العقل، لكن غالب الظن أنّ القول بها تسرب إلى أوساطهم من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار و الرهبان، و ربما صاروا مصدرا لبعض الأحاديث في المقام و صار ذلك سببا لجرأة طوائف من المسلمين على جوازها، و استدعاء الأدلة عليها من العقل و النقل.

الأمر الثاني: الرؤية في كلمات أهل البيت (عليهم السّلام)

إنّ المراجع إلى خطب الإمام علي (عليه السّلام) في التوحيد و ما أثر عن أئمة العترة الطاهرة يقف على أنّ مذهبهم في ذلك امتناع الرؤية و أنه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب، فكيف بأبصار العيون. و إليك نزرا يسيرا مما ورد في هذا الباب:

1 - قال الإمام علي (عليه السّلام) في خطبة الاشباح: «الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، و الآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده، و الرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه»(1).

ص: 139


1- نهج البلاغة، الخطبة 87 طبعة مصر المعروف بطبعه عبده. و الأناسي جمع إنسان، و إنسان البصر هو ما يرى وسط الحدقة ممتازا عنها في لونها.

2 - و قد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين ؟ فقال (عليه السّلام): أ فأعبد ما لا أرى ؟ فقال: و كيف تراه ؟ فقال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان و لكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. قريب من الأشياء غير ملابس، بعيد منها غير مباين(1).

3 - و قال (عليه السّلام): «الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد، و لا تحويه المشاهد، و لا تراه النواظر، و لا تحجبه السواتر»(2).

إلى غير ذلك من خطبه (عليه السّلام) المطفوحة بتقديسه و تنزيهه عن إحاطة القلوب و الأبصار به(3).

و أما المروي عن سائر أئمة أهل البيت (عليهم السّلام)، فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في كتابه «الكافي» بابا خاصا للموضوع روى فيه ثمان روايات(4)، كما عقد الصدوق في كتاب التّوحيد بابا لذلك روى فيه إحدى و عشرين رواية يرجع قسم منها إلى نفي الرؤية الحسية البصرية و قسم منها يثبت رؤية معنوية قلبية سنشير إليه و في الكل نور للقلوب و شفاء للصدور(5).

الرؤية القلبية

قد اثر عن أئمة أهل البيت رؤية اللّه سبحانه بالقلب و قد أثر في ذلك روايات يقف عليها المتتبع في توحيد الصدوق و غيره.

منها: ما رواه الصدوق عن الرضا (عليه السّلام) في خطبة له قال:

«أحد لا بتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة»(6).

ص: 140


1- نهج البلاغة، الخطبة 174.
2- نهج البلاغة، الخطبة 180.
3- لاحظ الخطبتين 48 و 81 من الطبعة المذكورة.
4- الكافي، ج 1، ص 95، باب إبطال الرؤية.
5- التوحيد، الباب 8، ص 107-122.
6- التوحيد، باب التوحيد و نفي التشبيه، الحديث 2، ص 37.

و منها: ما رواه أيضا عن الصادق (عليه السّلام) في كلام له في التوحيد قال: «واحد، صمد، أزلي، صمدي، لا ظل له يمسكه، و هو يمسك الأشياء باظلتها، عارف بالمجهول، معروف عند كل جاهل، لا خلقه فيه و لا هو في خلقه»(1).

فقوله: معروف عند كل جاهل، لا يهدف إلى المعرفة الحاصلة بالاستدلال لعدم ثبوت هذه المعرفة لكل جاهل جاحد، فلا بد أن يكون المراد معرفة أخرى لا تزول صورتها عن الذهن.

إلى غير ذلك من الروايات التي مرّ بعضها(2). و أما البحث عن حقيقة تلك الرؤية القلبية التي هي غير الرؤية البصرية الحسية فموكول إلى محله الخاص.

ص: 141


1- التوحيد باب التوحيد و نفي التشبيه، الحديث 15، ص 57.
2- لاحظ التوحيد باب 8، الحديث 2 و 4 و 5 و 6 و 16 و 17 و 20 يقول الصدوق: «و قد تركت إيراد بعض الروايات في هذا المضمار خشية أن يقرأها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر باللّه عز و جل و هو لا يعلم».

ص: 142

الصّفات السلبيّة

(6) ليست حقيقته معلومة لغيره

إن أدوات المعرفة للإنسان عبارة عن القوى العقلية التي تقوم بالتعرف على الشيء بالوقوف على حدود وجوده و ماهيته. فإذا كان الشيء مركبا من وجود و ماهية، فالوقوف على حده تعرّف على كنهه. فإذا أردنا أن نعرف الإنسان لزم إعمال القوى العقلية حتى نقف على مرتبة وجوده و ذاته و ذاتياته التي جسّدها عروض الوجود عليها في الخارج. فيقال إنّ ماهية الإنسان هي الحيوان الناطق أي ذلك المفهوم عاريا عن الوجود و العدم، الذي إذا عرضه الوجود في الخارج جسّده و حققه.

و أما حقيقة الوجود العارض فلا يمكن للنفس التعرّف عليها، لعدم المسانخة بين أدوات المعرفة و المعرّف. فإن الإنسان إنما يحصّل المعرفة بفكره و ذهنه و المفاهيم التي تلقي ضوءا على الخارج. و مثل ذلك لا يمكن أن يتعرف إلاّ على ما يسانخه من المفاهيم و الماهيات. و أمّا الوجود المحقق للماهية فسنخه سنخ العينية و الواقعية و الخارجية، فلا يحصّل الإنسان واقعيته لعدم السنخية بين العاقل و المعقول.

و لأجل ذلك اتفق أهل المعقول على أن الإنسان يعرف ماهية الأشياء و حدودها لا حقيقة الوجود العارض عليها الذي ليس له واقعية إلا العينية

ص: 143

الخارجية. فإذا كان هذا حال الوجود العارض للأشياء، فكيف بالتعرف على وجوده سبحانه الذي هو وجود محض لا حدّ له، و حقيقة خارجية لا ماهية لها.

فليس في وسع الإنسان الذي تنحصر أدوات معرفته بالذهن و الفكر و القوى الموجودة فيهما، أن يتعرف على الحقيقة العينية الخارجية التي يمتنع أن تنعكس على الذهن و تتخذ منها صورة مسانخة لعمل الذهن.

و بعبارة أخرى: لو وقف الإنسان على مدى قدرته في التعرف على الحقائق و أدوات معرفته و القوى الموجودة في ذهنه لأذعن أنّ حقيقته سبحانه أعلى من أن تقع في إطار ذهن الإنسان و فكره. فالذهن يدرك المفاهيم و المعاني و الصور التي لا عينية لها إلاّ بالوجود، و اللّه سبحانه هو نفس الوجود، فكيف يمكن للذهن أن يدرك حقيقة الشيء الذي ليس بين المدرك و المدرك أي سنخية. و لأجل ذلك تنحصر معرفة الإنسان باللّه سبحانه بالعناوين و المعرّفات التي نسميها بالأسماء و الصفات و هي لا توقفه على حقيقته تبارك و تعالى، فإنها نوافذ على الغيب يشرف بها الإنسان البعيد عن ذلك العالم عليه إشرافا غير كامل، فلا تعدو المعرفة الحاصلة بها عن التعرف بالاسم. يقول ابن أبي الحديد:

فيك يا أعجوبة الكو *** ن غدا الفكر كليلا

أنت حيّرت ذوي اللّ *** ب و بلبلت العقولا

كلّما قدّم فكري في *** ك شبرا فرّ ميلا

ناكصا يخبط في *** عمياء لا يهدى سبيلا

و بذلك يعلم صدق ما ذكرناه عند البحث عن الأسماء و الصفات بأنّ الصفات الثبوتية لا تنحصر بالثمان المعروفة و لا الصفات السلبية بما ذكرناه، بل اللّه جل جلاله موجود تام من جميع الجهات، فكل كمال لا يشذ عن حيطة وجوده، كما أنّ وجوده مقدس عن كل نقص يتصور تَبٰارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ (1).

ص: 144


1- سورة الرحمن: الآية 78.

خاتمة أسماء اللّه تعالى في الكتاب و السنّة

اشارة

* هل الأسماء توقيفية أو لا؟

ص: 145

ص: 146

أسماؤه في الكتاب و السّنّة ورد في القرآن الكريم مائة و ثمانية و عشرون اسما للّه تعالى و هي:

الإله، الأحد، الأول، الآخر، الأعلى، الأكرم، الأعلم، أرحم الراحمين، أحكم الحاكمين، أحسن الخالقين، أهل التقوى، أهل المغفرة، الأقرب، الأبقى، البارئ، الباطن، البديع، البرّ، البصير، التوّاب، الجبّار، الجامع، الحكيم، الحليم، الحيّ ، الحقّ ، الحميد، الحسيب، الحفيظ، الحفيّ ، الخبير، الخالق، الخلاّق، الخير، خير الماكرين، خير الرازقين، خير الفاصلين، خير الحاكمين، خير الفاتحين، خير الغافرين، خير الوارثين، خير الراحمين، خير المنزلين، ذو العرش، ذو الطّول، ذو الانتقام، ذو الفضل العظيم، ذو الرحمة، ذو القوة، ذو الجلال و الإكرام، ذو المعارج، الرّحمن، الرحيم، الرءوف، الربّ ، رفيع الدرجات، الرزّاق، الرقيب، السميع، السلام، سريع الحساب، سريع العقاب، الشهيد، الشاكر، الشكور، شديد العقاب، شديد المحال، الصمد، الظاهر، العليم، العزيز، العفوّ، العليّ ، العظيم، علاّم الغيوب، عالم الغيب و الشهادة، الغني، الغفور، الغالب، غافر الذنب، الغفّار، فالق الأصباح، فالق الحب و النوى، الفاطر، الفتّاح، القوي، القدّوس، القيّوم، القاهر، القهّار، القريب،

ص: 147

القادر، القدير، قابل التوب، القائم على كل نفس بما كسبت، الكبير، الكريم، الكافي، اللطيف، الملك، المؤمن، المهيمن، المتكبر، المصور، المجيد، المجيب، المبين، المولى، المحيط، المقيت، المتعال، المحيي، المتين، المقتدر، المستعان، المبدئ، المعيد، مالك الملك، النّصير، النور، الوهّاب، الواحد، الولي، الوالي، الواسع، الوكيل، الودود، الهادي.

و أمّا في السنّة، فقد جاءت الروايات من طرق الخاصة و العامة على أنّ للّه تعالى تسعة و تسعين اسما من أحصاها دخل الجنة.

فمن روايات الخاصة ما رواه الصدوق بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ للّه تبارك و تعالى تسعة و تسعين اسما، مائة إلاّ واحدا، من أحصاها دخل الجنة و هي:

اللّه، الإله، الواحد، الأحد، الصمد، الأول، الآخر، السميع، البصير، القدير، القاهر، العلي، الأعلى، الباقي، البديع، البارئ، الأكرم، الظاهر، الباطن، الحي، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحقّ ، الحسيب، الحميد، الحفي، الربّ ، الرحمن، الرحيم، الذارئ، الرزّاق، الرقيب، الرءوف، الرائي، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبر، السيد، السبوح، الشهيد، الصادق، الصانع، الطاهر، العدل، العفوّ، الغفور، الغني، الغياث، الفاطر، الفرد، الفتّاح، الفالق، القديم، الملك، القدوس، القوي، القريب، القيوم، القابض، الباسط، قاضي الحاجات، المجيد، المولى، المنان، المحيط، المبين، المقيت، المصور، الكريم، الكبير، الكافي، كاشف الضرّ، الوتر، النور، الوهاب، الناصر، الواسع، الودود، الهادي، الوفي، الوكيل، الوارث، البر، الباعث، التوّاب، الجليل، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديّان، الشكور،

ص: 148

العظيم، اللطيف، الشافي»(1).

و المذكور في الحديث مائة اسم، لكن الظاهر أنّ لفظة الجلالة ليس من الأسماء الحسنى، و لا بدّ أن يكون ذكر بعنوان المسمى الجاري عليه الأسماء و بذلك يستقيم العدد.

و المراد من إحصائها ليس عدّها بل الإحاطة بها و الوقوف على معانيها، أو التمثل و التشبه بها ما أمكن.

و من روايات العامة ما في الدرّ المنثور قال: أخرج الترمذي، و ابن المنذر، و ابن حبان، و ابن مندة، و الطبراني، و الحاكم، و ابن مردويه، و البيهقي، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّ للّه تسعة و تسعين اسما مائة إلاّ واحد، من أحصاها دخل الجنة، إنّه وتر يحب الوتر: هو اللّه الذي لا إله إلاّ هو الرّحمن الرحيم، الملك، القدوس، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهّار، الوهّاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، البرّ، التواب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال و الإكرام، الوالي، المتعال، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع،

ص: 149


1- التوحيد للصدوق، ص 194، ح 8.

الضّارّ، النّافع، النّور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور(1).

هل أسماء اللّه تعالى توقيفية ؟

نقل غير واحد من المتكلمين و المفسّرين أنّ أسماءه تعالى و صفاته توقيفية، و جوّزوا إطلاق كل ما ورد في الكتاب و الأحاديث الصحيحة دعاء أو وصفا له و إخبارا عنه. و منعوا كل ما لم يرد فيهما، و سمّوا ذلك إلحادا في أسمائه، و على ذلك منع جمهور أهل السنّة كل ما لم يأذن به الشارع، مطلقا.

و جوّز المعتزلة ما صحّ معناه و دلّ الدليل على اتصافه به و لم يوهم إطلاقه نقصا. و قد مال إلى قول المعتزلة بعض الأشاعرة، كالقاضي أبي بكر الباقلاني، و توقف إمام الحرمين الجويني.

و التفصيل يقع في مقامين:

الأول - تفسير ما استدلوا به من الآية.

الثاني - تجويز ما لم يوهم إطلاقه نقصا.

أما الأول: فقد قال سبحانه: وَ لِلّٰهِ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ فَادْعُوهُ بِهٰا وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمٰائِهِ سَيُجْزَوْنَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (2).

الاستدلال مبني على أمرين:

أ - إنّ اللام في الأسماء الحسنى للعهد، تشير إلى الأسماء الواردة في الكتاب و السنّة الصحيحة.

ب - إنّ المراد من الإلحاد، التعدي إلى غير ما ورد.

و كلا الأمرين غير ثابت. أمّا الأول فالظاهر أنّ اللام للاستغراق قدّم عليها لفظ الجلالة لأجل إفادة الحصر، و معنى الآية إنّ كل اسم أحسن في

ص: 150


1- الدّرّ المنثور.
2- سورة الأعراف: الآية 180.

عالم الوجود فهو للّه سبحانه، لا يشاركه فيه أحد. فإذا كان اللّه سبحانه ينسب بعض هذه الأسماء إلى غيره كالعالم و الحي، فأحسنها للّه، أعني الحقائق الموجودة بنفسها الغنية عن غيرها. و الثابت لغيره من العلم و الحياة و القدرة المفاضة من جانبه سبحانه، من تجليات صفاته و فروعها و شئونها.

و الآية بمنزلة قوله سبحانه: أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّٰهِ جَمِيعاً (1).

و قوله: إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّٰهِ جَمِيعاً (2) إلى غير ذلك.

و على ذلك فمعنى الآية أنّ للّه سبحانه حقيقة كل اسم أحسن لا يشاركه غيره إلاّ بما ملّكهم منه، كيف ما أراد و شاء.

و أمّا الثاني: فلأن الإلحاد هو التطرف و الميل عن الوسط إلى أحد الجانبين، و منه لحد القبر، لكونه في جانبه. بخلاف الضريح الذي في الوسط، و أمّا الإلحاد في أسمائه فيتحقق بأمور:

1 - إطلاق أسمائه على الأصنام بتغيير ما، كإطلاق «اللات» المأخوذة من الإله بتغيير، على الصنم المعروف، و إطلاق «العزّى» المأخوذة من العزيز، و «المناة» المأخوذة من المنان، فيلحدون و يميلون عن الحق بسبب هذه الإطلاقات لإرادتهم التشريك و الحط من مرتبة اللّه و تعلية ما صنعوه من الأصنام. و سيجزي هؤلاء على طبق أعمالهم فلا يصل النقص إلى اللّه و لا يرتفع مقام مصنوعاته.

2 - تسميته بما لا يجوز وصفه به لما فيه من النقص، كوصفه سبحانه بأبيض الوجه و جعد الشعر.

و من هذا القبيل تسميته سبحانه بالماكر و الخادع تمسكا بقوله سبحانه:

وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ (3) . و قوله سبحانه: إِنَّ

ص: 151


1- سورة البقرة: الآية 165.
2- سورة يونس: الآية 65.
3- سورة آل عمران: الآية 54.

اَلْمُنٰافِقِينَ يُخٰادِعُونَ اَللّٰهَ وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ (1) . فإنّ المتبادر من هذين اللفظين غير ما هو المتبادر من الآية. فإنّ المتبادر منهما منفردين مفهوم يلازم النقص و العيب بخلاف المفهوم من الآيتين فإنه جزاء الخادع و الماكر على وجه لا يبقى لفعلهما أثر.

3 - تسميته ببعض أسمائه الحسنى دون بعض كأن يقولوا «يا اللّه» و لا يقولوا «يا رحمان» و قد قال اللّه تعالى: قُلِ اُدْعُوا اَللّٰهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمٰنَ أَيًّا مٰا تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ (2). و قال سبحانه: وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمٰنِ ، قٰالُوا وَ مَا اَلرَّحْمٰنُ أَ نَسْجُدُ لِمٰا تَأْمُرُنٰا وَ زٰادَهُمْ نُفُوراً (3).

إلى غير ذلك من أقسام الإلحاد و العدول عن الحق في أسمائه.

و بذلك يظهر أنّه لا مانع من توصيفه سبحانه بالواجب أو واجب الوجود أو الصانع أو الأزلي، أو الأبدي و إن لم ترد في النصوص، إذ ليس في إطلاقها عليه سبحانه طروء نقص أو إيماء إلى عيب، مع أنّه سبحانه يقول:

صُنْعَ اَللّٰهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ (4) .

هذا كله حول المقام الأول.

و أما المقام الثاني: و هو تجويز تسميته تعالى بكل ما يدل على الكمال أو يتنزّه عن النقص و العيب، فذلك لأن الألفاظ التي نستعملهما في حقه سبحانه لم توضع إلاّ لما نجده في حياتنا المشوبة بالنقص و العيب، فالعلم فينا الإحاطة بالشيء من طريق أخذ صورته من الخارج بوسائل مادّيّة، و القدرة فينا هي المنشئيّة للفعل بكيفيّة مادية موجودة في عضلاتنا. و من

ص: 152


1- سورة النساء: الآية 142.
2- سورة الإسراء: الآية 110.
3- سورة الفرقان: الآية 60.
4- سورة النمل: الآية 88.

المعلوم أنّ هذه المعاني لا يصح نسبتها إلى اللّه إلاّ بالتجريد. كأن يفسّر العلم بالإحاطة بالشيء بحضوره عند العالم، و القدرة بالمنشئية للشيء بإيجاده. و مثله مفاهيم الحياة و الإرادة و السمع و البصر فلا تطلق عليه سبحانه إلاّ بما يليق بساحة قدسه، منزّهة عن النقائص. فإذا كان الأمر على هذا المنوال في الأسماء التي وردت في النصوص فيسهل الأمر فيما لم يرد فيها، و كان رمزا للكمال أو معربا عن فعله سبحانه على صفحات الوجود، أو مشيرا إلى تنزيهه و غير ذلك من الملاكات المسوّغة لتسميته و توصيفه.

نعم بما أنّ العوام من الناس ربما لا يتبادر إلى أذهانهم ما يدلّ على الكمال أو يرمز إلى التنزيه أو لا أقل يخلو من الإشارة إلى النقص، فيبادرون إلى تسميته و توصيفه بأسماء و صفات فيها أحد المحاذير السابقة، فمقتضى الاحتياط في الدين الاقتصار في التسمية بما ورد من طريق السمع بل التجنّب عن الإجراء و الإطلاق عليه سبحانه و إن لم يكن هناك تسمية.

هذا تمام الكلام في الأسماء و الصفات.

ص: 153

ص: 154

الفصل الرابع القضاء و القدر

اشارة

* موقف النبي و أهل بيته.

* التقدير هو الراسم للحياة عند المشركين.

* الأمويون و تفسير القضاء بالجبر.

* مصادر القضاء و القدر في الكتاب و السنّة.

* تفسير القضاء و القدر العينيان * تفسير القضاء و القدر العلميان.

* القضاء و القدر في الصّحاح و المسانيد.

* الأحبار و إشاعة فكرة القدر بين المسلمين.

* «القدرية» في الحديث النبوي.

ص: 155

ص: 156

القضاء و القدر

اشارة

إنّ القضاء و القدر من الأصول الإسلامية الواردة في الكتاب و السنّة و ليس لمن له إلمام بهذين المصدرين الرئيسين أن ينكرهما أو ينكر واحدا منهما.

و ربما يصل إليهما العقل الفلسفي في تحليلاته و تفسيراته للكون المستند إلى الواجب سبحانه، و يخرج الجميع بنتيجة واحدة هي أنّ لوجود كل شيء تحديدا و تقديرا، كما أنّ له قضاء و حكما إبراميا. و أمّا ما هو المقصود منهما في الكتاب و السنّة أو فيما يرشد إليه العقل فسوف يظهر في الفصول الآتية، و قد أصبح لفظ «المصير» في مصطلح اليوم قائما مكان هذين اللفظين.

إنّ الوقوف على حقيقة المصير من المسائل الفلسفية التي يتشوق إليها الكل، حتى من لم يكن فيلسوفا، فإن المسائل الفلسفية على صنفين:

صنف مطروح للخواص و لا حظّ لغيرهم فيه و هذا كمسألة «عينية الصفات مع الذات»، أو كون «الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد» إلى غير ذلك من المسائل التي لا يقف على مغزاها و لا يتفكر فيها إلاّ الباحث في المسائل العقلية.

ص: 157

و هناك صنف اخر، و إن كان أقل من سابقه، مطروح لكل الناس و الفيلسوف و غيره في التشوق إلى فهمه متساويان و من هذا القسم فهم القضاء و القدر في الكتاب و السنّة و موقع الإنسان بالنسبة إليهما، و هل للإنسان في مقابل التقدير اختيار و حرية، و أنّ ما قدّر في الأزل، و قضي به لا يسلب حريّته، أو أنّ الإنسان بعد التقدير و القضاء، كالريشة المعلّقة في الهواء تقلبها الرياح كيفما مالت، و هل الإنسان على مسرح الحياة ممثّل أو مشاهد. فالمتعمقون من الناس يميلون إلى الأول، و السطحيون إلى الثاني. و لأجل ذلك ترى أن القضاء و القدر لعب دورا كبيرا في آداب الأمم و أشعارهم، فترى أنّ كل شاعر و أديب يفسّر القضاء و القدر على الوجه الذي يناسب نزعاته أو يؤيده بيئته و ظروفه الاجتماعية و من هنا نرى تناقضا واضحا للغاية بين الأدباء و الكتّاب في تحليل هذا الأصل.

إنّ مسألة التقدير - لأجل الخصيصة الماضية - قد ابتليت بتفسيرين مختلفين لا يجتمعان أبدا، بينهما بعد المشرقين، فالمأثور الصحيح عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و أهل بيته و بعض الصحابة أنّه لا صلة بين الاعتقاد بالقضاء و القدر و تبرير المعاصي و المساوي عن ذلك الطريق و أنّ القضاء و القدر ليسا سالبين للاختيار بل مؤيدان لحرية الإنسان في حياته.

و في مقابلهم جماعة سطحيون من الناس تدرعوا بالقضاء و القدر، و أخذوا يبرّرون أفعالهم فيهما و كأنه ليس في الحياة عامل مؤثر سواهما، و أنّ الإنسان في حياته مشاهد لما خطّط من قبل، و ليس ممثلا لشيء من الأشياء.

و لأجل إيقاف القارئ على موقف كلا الطائفتين، نورد كلماتهم في هذا المجال:

موقف النبي و أهل بيته و بعض الصحابة

1 - قال النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله): «سيأتي زمان على أمتي

ص: 158

يؤوّلون المعاصي بالقضاء، أولئك بريئون مني و أنا منهم براء»(1).

2 - قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «خمسة لا يستجاب لهم: أحدهم مرّ بحائط مائل و هو يقبل إليه، و لم يسرع المشي حتى سقط عليه...»(2).

3 - قيل لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «رقى يستشفى بها هل ترد من قدر اللّه فقال: إنها من قدر اللّه»(3). و الرقى جمع الرقية بمعنى العوذة. فقد جعل رسول اللّه التمسك بالأسباب جزءا من تقديره سبحانه، فأعلم بذلك أن ليس التقدير سالبا للاختيار، بل خيرة الإنسان و حريته في مجال الحياة من تقديره سبحانه.

4 - قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «في كل قضاء اللّه عز و جل خيرة للمؤمن»(4).

5 - و هذا أمير المؤمنين، باب علم النبي يوضح لنا مكانة التقدير بالنسبة إلى الاختيار. روى الأصبغ بن نباتة أن أمير المؤمنين (عليه السّلام) عدل من حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له يا أمير المؤمنين أ تفرّ من قضاء اللّه ؟ قال: «أفرّ من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عز و جل»(5).

6 - لما انصرف أمير المؤمنين (عليه السّلام) من صفين أقبل شيخ فجثا بين يديه ثم قال له يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام، أ بقضاء اللّه و قدره ؟ فقال: أجل يا شيخ، ما علوتم من طلعة، و لا هبطتم من واد، إلاّ بقضاء من اللّه و قدر فقال الشيخ: عند اللّه احتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال أمير المؤمنين: مه يا شيخ! فو اللّه لقد عظّم اللّه لكم الأجر

ص: 159


1- الصراط المستقيم، ص 32.
2- بحار الأنوار، ج 5، باب القضاء و القدر، ذيل الحديث 31، ص 105.
3- المصدر نفسه، الحديث الأول، ص 87.
4- التوحيد للصدوق ذيل الحديث الحادي عشر، ص 371.
5- التوحيد للصدوق، ص 369.

في مسيركم و أنتم سائرون، و في مقامكم و أنتم مقيمون، و في منصرفكم و أنتم منصرفون، و لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين و لا إليه مضطرين. فقال الشيخ: كيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين و لا إليه مضطرين و كان بالقضاء و القدر مسيرنا و منقلبنا و منصرفنا. فقال أمير المؤمنين: أو تظن أنّه كان قضاء حتما، و قدرا لازما؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثّواب و العقاب، و الأمر و النهي، و الزّجر من اللّه تعالى، و سقط معنى «الوعد و الوعيد» و لم تكن لائمة للمذنب، و لا محمدة للمحسن، و لكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، و لكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب... و تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان، و خصماء الرحمن، و حزب الشيطان، و قدريّة هذه الأمة و مجوسها(1). و إنّ اللّه كلف «تخييرا» و نهى «تحذيرا» و أعطى على القليل كثيرا، و لم يعص مغلوبا و لم يطع مكرها، و لم يملك مفوّضا، و لم يخلق السموات و الأرض و ما بينهما باطلا، و لم يبعث النبيين مبشرين و منذرين عبثا، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار(2).

7 - و قال أمير المؤمنين عند ما سئل عن القضاء و القدر: «لا تقولوا و كلهم اللّه إلى أنفسهم فتوهنوه، و لا تقولوا أجبرهم على المعاصي فتظلموه، و لكن قولوا الخير بتوفيق اللّه و الشر بخذلان اللّه، و كلّ سابق في

ص: 160


1- قد أطلق الإمام لفظ القدرية هنا على مثبتي القدر لا نفاته على خلاف ما اشتهر بين المتكلمين.
2- التوحيد للصدوق، ص 380، ح 28. و هذا الحديث الذي نقلناه ذكره الكليني المتوفى عام 329 ه في كافيه، و الشيخ الصدوق المتوفى عام 381 ه. في توحيده، و الشريف الرضي المتوفى عام 406 في نهج البلاغة. و ما أفرغه (عليه السّلام) في هذه الخطبة لا يمتاز عن سائر خطبه و كلمه. و العجب كل العجب من الدكتور علي سامي النشار الذي نقل الحديث في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج 1، ص 411، عن كتاب المنية لابن المرتضى، و زعم أنه من موضوعات المعتزلة و أنّ أسلوب الكلام فيه يمتاز عن أسلوب علي (عليه السّلام). و لكنه غفل عن أن الحديث منقول في كتب السلف من الشيعة الذين لا يمتّون إلى المعتزلة و لا إلى غيرهم من الفرق بصلة، و للتفصيل مجال آخر.

علم اللّه»(1).

8 - و قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «ما غلا أحد في القدر إلاّ خرج من الإسلام». و في نسخة «من الإيمان»(2).

9 - كتب الحسن بن أبي الحسن البصري إلى الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليهما يسأله عن القدر، فكتب إليه: «فاتبع ما شرحت لك في القدر مما أفضي إلينا أهل البيت، فإنه من لم يؤمن بالقدر خيره و شره فقد كفر، و من حمل المعاصي على اللّه عز و جل فقد افترى على اللّه افتراء عظيما، إنّ اللّه تبارك و تعالى لا يطاع بإكراه، و لا يعصى بغلبة و لا يهمل العباد في الهلكة، لكنه المالك لما ملكهم، و القادر لما عليه أقدرهم. فإن ائتمروا بالطاعة، لم يكن اللّه صادّا عنها مبطئا، و إن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمنّ عليهم فيحول بينهم و بين ما ائتمروا به فعل. و إن لم يفعل فليس هو حملهم عليها قسرا، و لا كلفهم جبرا بل بتمكينه إياهم بعد إعذاره و إنذاره لهم و احتجاجه عليهم، طوقهم و مكنهم و جعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه دعاهم، و ترك ما عنه نهاهم جعلهم مستطيعين لأخذ ما أمرهم به من شيء غير آخذيه. و لترك ما نهاهم عنه من شيء غير تاركيه، و الحمد للّه الذي جعل عباده أقوياء لما أمرهم به ينالون بتلك القوة، و ما نهاهم عنه. و جعل العذر لمن يجعل له السبيل حمدا متقبلا فأنا على ذلك أذهب و به أقول. و اللّه و أنا و أصحابي أيضا عليه و له الحمد»(3).

10 - و قال الإمام الصادق (عليه السّلام): «كما أنّ بادئ النعم من اللّه عز و جل و قد نحلكموه، كذلك الشرّ من أنفسكم و إن جرى به قدره»(4).

ص: 161


1- بحار الأنوار ج 5، باب القضاء و القدر، ح 16، ص 95.
2- المصدر نفسه، ح 60، ص 120.
3- المصدر نفسه، ح 71، ص 123.
4- المصدر نفسه، ح 42، ص 114.

11 - و قال الإمام الرضا (عليه السّلام)، فيما يصف به الربّ : «لا يجور في قضية، الخلق إلى ما علم منقادون، و على ما سطر في كتابه ماضون، لا يعملون خلاف ما علم منهم، و لا غيره يريدون»(1).

فقد صدّر كلامه (عليه السّلام) بقوله: «لا يجور في قضيته»، أي لا يكون جائرا في قضائه. و هو نفس القول بأنّ القضاء لا يجعل الإنسان مكتوف الأيدي. و أمّا قوله: «لا يعملون خلاف ما علم منهم» فلا يلازم الجبر، إذ فرق بين أن يقول «لا يعملون خلاف ما علم»، و قوله «لا يعملون خلاف ما علم منهم». فإنّ الثاني ناظر إلى أنّ علمه لا يقبل الخطأ، و أنّ علمه بأفعال العباد لا يتخلف، و لكن المعلوم له سبحانه هو صدور كل فعل من فاعله بما احتفّ من المبادي؛ من الاختيار أو ضده. و سيوافيك تفسيره.

هذا هو المأثور عن النبي الأعظم و أهل بيته الطاهرين، فالكل يركزون على أنّ القضاء و القدر لا يسلبان الحرية عن الإنسان. و لأجل اشتهار علي و أهل بيته في هذا المجال بهذا، قيل من قديم الأيام:

«الجبر و التشبيه أمويان، و العدل و التّوحيد علويان».

نعم وجد بين الصحابة من قال بهذا القول متأثرا بما سمعه من النبي الأكرم أو صحابته الوعاة و نأتي في المقام ببعض النماذج من هذه الكلمات:

12 - روى الطبري في تاريخه: «و قدم عمر بن الخطاب الشام فصادف الطّاعون بها فاشيا، فاستشار الناس فكل أشار عليه بالرجوع و أن لا يدخلها إلاّ أبا عبيدة ابن الجراح فإنه قال: «أ تفرّ من قدر اللّه» قال:

«نعم، أفرّ من قدر اللّه بقدر اللّه إلى قدر اللّه، لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!» فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف فروى لهم عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «إذا كنتم ببلاد الطّاعون فلا تخرجوا منها، و إذا قدمتم إلى

ص: 162


1- المصدر نفسه، ح 25، ص 101.

بلاد الطاعون فلا تدخلوها». فحمد اللّه على موافقة الخبر لما كان في نفسه و ما أشار به الناس و انصرف راجعا إلى المدينة»(1).

ترى أنّ الخليفة - مع أنه كان يعتقد بخلاف ذلك على ما أثر عنه في غزوة حنين كما سيأتي - لا يرى الاعتقاد بالقضاء و القدر مخالفا لكون الإنسان ممسكا إرادته أو مرخيا لها في الدخول إلى بلاد الطاعون.

و روى ابن المرتضى في طبقات المعتزلة عن عدة من الصحابة جملا تحكي عن كونهم متحيزين في مسألة القضاء و القدر إلى القول بالاختيار و إليك بعض ما نقله عنهم، قال:

13 - و قد أتي عمر بسارق فقال: لم سرقت فقال قضى اللّه عليّ .

فأمر به فقطعت يده و ضرب أسواطا، فقيل له في ذلك، فقال: القطع للسرقة و الجلد لما كذب على اللّه(2).

14 - و قيل لعبد اللّه بن عمر يا أبا عبد الرّحمن إنّ أقواما يزنون و يشربون الخمر و يسرقون و يقتلون النفس و يقولون: كان في علم اللّه فلم نجد بدا منه، فغضب ثم قال: سبحان اللّه العظيم، قد كان ذلك في علمه إنهم يفعلونها و لم يحملهم علم اللّه على فعلها.... الحديث(3).

15 - روى مجاهد عن ابن عباس أنّه كتب إلى قراء المجبرة بالشام:

أما بعد، أ تأمرون الناس بالتقوى و بكم ضل المتقون، و تنهون الناس عن المعاصي و بكم ظهر العاصون. يا أبناء سلف المقاتلين، و أعوان الظالمين، و خزان مساجد الفاسقين، و عمّار سلف الشياطين، هل منكم إلاّ مفتر على اللّه يحمل إجرامه عليه و ينسبها علانية إليه... الحديث.

و لعل وجه افترائهم على اللّه سبحانه هو تعليل أعمالهم الإجرامية بسبق

ص: 163


1- تاريخ الطبري، ج 3، ص 606 ذكره في حوادث عام 17.
2- طبقات المعتزلة لأحمد بن يحيى بن مرتضى، ص 11، طبعة بيروت 1380.
3- المصدر السابق، ص 12.

علمه سبحانه عليها، فصوروا أنفسهم مجبورين و مسيرين، فرد عليهم ابن عباس بما قرأت.

هذه هي الكلمات المأثورة عن النبي الأكرم و أهل بيته الطاهرين و بعض الصحابة و لكن تجاه هؤلاء جماعة يرون القضاء و القدر هو العامل المؤثر في الحياة، و أنّ الإنسان مكتوف اليدين في مصيره و مسيره. و ليست تلك الفكرة مختصة ببعض المسلمين، بل القرآن الكريم يحكيها عن بعض المشركين و إليك نقل ما وقفنا عليه في القرآن الكريم، و ما ضبط في التاريخ:

التقدير هو الراسم للحياة عند المشركين

تنص الآيات القرآنية على أنّ المشركين كانوا معتقدين بالتقدير أولا، و في الوقت نفسه يرونه مساوقا للجبر و راسما للحياة و معينا للمصير. و لعل ما لهج به بعض الصحابة من تفسير التقدير بالجبر و سلب الاختيار كان من آثار العهد الجاهلي التي بقيت في أذهانهم و سيوافيك كلامهم في هذا المجال.

و إليك فيما يلي نقل ما ذكره القرآن في عقيدة المشركين:

1 - قوله تعالى: سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا أَشْرَكْنٰا وَ لاٰ آبٰاؤُنٰا وَ لاٰ حَرَّمْنٰا مِنْ شَيْ ءٍ (1).

ترى أنّ المشركين يسندون شركهم إلى إرادة اللّه و مشيئته و أنّ المشيئة الإلهية هي التي دفعتهم إلى الدخول في حبائل الشرك و لولاها لما أشركوا و لما سوّوا أصنامهم بخالقهم كما يحكي عنهم سبحانه قولهم: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (2).

و لكن الذكر الحكيم يرد عليهم تلك المزعمة بقوله:

ص: 164


1- سورة الأنعام: الآية 148.
2- سورة الشعراء: الآية 98.

كَذٰلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّٰى ذٰاقُوا بَأْسَنٰا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنٰا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ تَخْرُصُونَ (1) .

2 - و يقول تعالى في آية أخرى حاكيا كلام المشركين في تعليل ارتكابهم الفحشاء بأمر اللّه و إرادته: وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اَللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا، قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (2).

3 - و يقول تعالى: وَ قٰالُوا لَوْ شٰاءَ اَلرَّحْمٰنُ مٰا عَبَدْنٰاهُمْ مٰا لَهُمْ بِذٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَخْرُصُونَ (3).

فهذه الآيات و ما يضاهيها من الآيات الأخر تبين لنا موقف المشركين من التقدير و تحليلهم لهذا الأصل، و لأجل ذلك يجب أن يكون تفسير التقدير على وجه لا يتفق مع زعم المشركين فيه. و العجب أنّ هذا الاستنتاج الباطل قد بقي بحاله في بعض الأذهان حتى بعد بزوغ فجر الإسلام و قد سجل التاريخ بعض المحادثات في هذا المجال نشير إليها:

1 - روى عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال: «أ رأيت الزنا بقدر؟ قال: نعم قال: فإنّ اللّه قدّرني عليه ثم يعذبني ؟ قال: نعم يا ابن اللّخناء. أما لو كان عندي إنسان أمرته أن يجفأ أنفك»(4).

فإنّ السائل أدرك في ضميره أنّ التقدير و المجازاة على العمل لا يجتمعان مع عدله سبحانه و قسطه، فلا بد من قبول أحد الأصلين و رفض الآخر و لما لم يجد الخليفة جوابا صالحا لسؤاله قام بتهديده كما سمعت في الخبر، و هذا يوضح أنّ التقدير في بعض الأذهان كان مساوقا للجبر و سلب

ص: 165


1- سورة الأنعام: الآية 148.
2- سورة الأعراف: الآية 28.
3- سورة الزخرف: الآية 20.
4- تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 95.

الاختيار و لو لا تلك المساوقة لما كان للسؤال موقع و لا لتهديده وجه.

2 - نقل الواقدي في مغازيه عند ما تعرض لغزوة حنين و هزيمة المسلمين أنّ أم الحارث الأنصارية رأت عمر بن الخطاب في حال الهزيمة و الفرار من أرض المعركة فقالت له ما هذا؟ فقال عمر: أمر اللّه!(1)

الأمويون و تفسير القضاء بالجبر

1 - قال أبو هلال العسكري في الأوائل: إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلها(2).

2 - روى الخطيب عن أبي قتادة عند ما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة: قالت عائشة: ما يمنعني ما بيني و بين عليّ أن أقول الحق، سمعت النبي يقول: تفترق أمّتي على فرقتين تمرق بينهما فرقة محلقون رءوسهم يحفون شواربهم، أزرهم إلى أنصاف سوقهم، يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم يقتلهم أحبّهم إليّ و أحبّهم إلى اللّه. قال: فقلت: يا أم المؤمنين: فأنت تعلمين هذا!! فلم كان الذي منك ؟ قالت: يا قتادة و كان أمر اللّه قدرا مقدورا، و للقدر أسباب(3).

3 - لقد سعى معاوية بن أبي سفيان - بعد ما سمّ الحسن (عليه السّلام) و رأى الجو السياسي مناسبا - إلى نصب ولده يزيد خليفة من بعده، فلما اعترض عليه عبد اللّه بن عمر، قال له: «إنّي أحذرك أن تشق عصا المسلمين و تسعى في تفريق ملئهم، و أن تسفك دماءهم و إنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء و ليس للعباد خيرة من أمرهم»(4).

و أجاب بهذا الكلام أيضا عائشة أم المؤمنين عند ما نازعته في هذا

ص: 166


1- المغازي للواقدي، ج 3، ص 904.
2- الأوائل، ج 2، ص 125.
3- تاريخ بغداد، ج 1، ص 160.
4- الإمامة و السياسة، لابن قتيبة، ج 1، ص 171.

الاستخلاف، فقال لها: «إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء، و ليس للعباد الخيرة من أمرهم»(1).

فإنك ترى أنّ معاوية يتوسل في تحقيق أهدافه بإيديولوجية دينية مسلّمة بين الناس من المعترضين و غيرهم و هي تفسير عمله بالتقدير و القضاء الإلهي.

و في هذا الصدد يقول أحد الكتّاب المصريين المعاصرين: «إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب و لكن بإيديولوجية تمس العقيدة في الصميم، و لقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه و بين علي (عليه السّلام) قد احتكما فيها إلى اللّه له على عليّ (عليه السّلام) و كذلك حين أراد أن بطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز، أعلن أن اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء ليس للعباد خيرة في أمرهم، و هكذا كاد أن يستقر في أذهان المسلمين أنّ كل ما يأمر به الخليفة حتى و لو كانت طاعة اللّه في خلافه فهو قضاء من اللّه قد قدّر على العباد»(2).

4 - و من مظاهر هذه الفكرة الخاطئة (مساوقة التقدير للجبر) تبرير عمر بن سعد بن أبي الوقاص قاتل الإمام الطاهر الحسين بن علي سلام اللّه عليه مبررا جنايته بأنها تقدير إلهي. و عند ما اعترض عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي بقوله: اخترت همدان و الري على قتل ابن عمك. قال عمر بن سعد: كانت أمورا قضيت من السماء و قد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلاّ ما أبى(3).

و على هذا الأصل قامت السلطة الأموية و نشأت و ارتقت فكان الخلفاء

ص: 167


1- المصدر نفسه، ص 167.
2- نظرية الإمامة عند الشيعة الإمامية للدكتور أحمد محمود، ص 334.
3- طبقات ابن سعد ج 5، ص 148، طبعة بيروت.

من هذا البيت يهددون من يخالفهم فيه، و يعاقبون بما هو مسجل مضبوط في التاريخ.

5 - إنّ الحسن البصري (ت 22 - م 110) من الشخصيات البارزة في عصره و كان يشغل منصة الوعظ و الخطابة و الإرشاد. و مع ذلك كله لم يكن معتقدا بالتقدير المصوّب عند الأمويين فلما خوّفه بعض أصدقائه من السلطان وعد أن لا يعود. روى ابن سعد في طبقاته عن أيوب قال: «نازلت الحسن في القدر غير مرة حتى خوّفته من السلطان فقال لا أعود بعد اليوم»(1).

6 - إنّ محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة التي قام بتلخيصها ابن هشام، اتهم بالمخالفة في التقدير و ضرب عدّة سياط تأديبا.

قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: إن محمد بن اسحاق اتهم بالقدر، و قال الزبير عن الدراوردي: و جلد ابن إسحاق، يعني في القدر(2).

7 - و روى ابن قتيبة أنّ عطاء بن يسار كان قاضيا للأمويين و يرى رأي معبد الجهني، فدخل على الحسن البصري و قال له: يا أبا سعيد إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين و يأخذون أموالهم و يقولون إنما تجري أعمالنا على قضاء اللّه و قدره، فقال له الحسن البصري: كذب أعداء اللّه(3). و نقل المقريزي أنّ عطاء بن يسار و معبد الجهني دخلا على الحسن البصري فقالا له: إنّ هؤلاء يسفكون الدماء و يقولون إنها تجري أعمالنا على قدر اللّه، فقال: كذب أعداء اللّه فطعن عليه بهذا(4).

8 - يقول ابن المرتضى: «ثم حدث رأي المجبّرة من معاوية و ملوك بني مروان فعظمت به الفتنة»(5).

ص: 168


1- طبقات ابن سعد ج 7، ص 167، طبعة بيروت.
2- تهذيب التهذيب، ج 9، ص 38 و 46.
3- المذاهب الإسلامية، زهرة، ص 175. و الملل و النحل، ج 1، ص 113.
4- الخطط المقريزية، ج 2، ص 356.
5- طبقات المعتزلة، ص 6، تأليف أحمد بن يحيى بن مرتضى المعتزلي.

هذه نماذج مما سجله التاريخ في شأن هذا الاستنتاج، نعم كان هناك فرق بين الحافز الذي دعى المشركين إلى استنتاج الجبر، و الحافز الذي ساق الأمويين إلى نشر تلك الفكرة، فإن الداعي عند المشركين كان داعيا دينيا محضا بينما كان عند الأمويين مشوبا بالسياسة و تبرير الأعمال المنحرفة و إخماد الثورات، و تخدير المجتمع من القيام في وجه السلطة، حتى يتسنى لهم بذلك الحكومة عليه، و استقرار عروشهم، و انغماسهم في ملذاتهم الدنيوية.

إلى هنا عرفت وجهة المسألة عبر العصور و القرون الأولى، و لكن أي الفريقين أحقّ أن يتبع، لا أرى في الإدلاء به إلزاما، فالأمر واضح عند كل ذي لب و بصيرة. و ما ذكرناه كان عرضا إجماليا لتاريخ المسألة تلقي ضوءا على فهم آيات الكتاب و السنّة الواردة في القضاء و القدر. فلنشرع ببيان مصادر المسألة في الكتاب و السنّة و تحليلها.

ص: 169

ص: 170

مصادر القضاء و القدر في الكتاب و السنّة

اشارة

الاعتقاد بالقضاء و القدر من صميم العقائد الإسلامية التي جاءت في الكتاب و السنة و ليس لمسلم واع إنكار وجودهما، إنما الكلام في تفسيرهما و تحليلهما. و قبل أن نذكر ما ورد في المصدرين نأتي بمقدمة يسهل معها تصنيف الآيات و الروايات:

إنّ «التقدير» - كما سيوافيك بيانه مفصلا - هو التحديد، و «القضاء» هو الحكم و الإبرام و كلاهما ينقسم إلى علمي و عيني.

«فالتقدير العلمي» عبارة عن تحديد كل شيء بخصوصياته في علمه الأزلي سبحانه قبل أن يخلق العالم أو قبل أن يخلق الأشياء الحادثة. فاللّه سبحانه يعلم حد كل شيء و مقداره و خصوصياته الجسمانية و المعنوية. كما أنّ المراد من «القضاء العلمي» هو علمه بضرورة وجود الأشياء و إبرامها، و أنّ أي شيء يتحقق بالضرورة و ما لا يتحقق كذلك. فعلمه السابق بحدود الأشياء و ضرورة وجودها، تقدير و قضاء علميان.

و أمّا «التقدير العيني» فهو عبارة عن الخصوصيات التي يكتسبها الشيء من علله عند تحققه و تلبّسه بالوجود الخارجي. كما أن المراد من «القضاء العيني» هو ضرورة وجود الشيء عند وجود علّته التامة ضرورة عينية خارجية.

فلو كان القدر و القضاء العلميان ناظرين إلى التقدير و الضرورة في علم

ص: 171

اللّه سبحانه، فالتقدير و القضاء العينيان ناظران إلى التقدير و الضرورة الخارجيين اللّذين يحتفان بالشيء الخارجي.

و التقدير و القضاء هناك مقدّمان على وجود الشيء و هاهنا مقارنان بل متحدان مع وجوده.

و الآيات الواردة في الكتاب على صنفين: صنف ينصّ على العلمي منهما و صنف على العيني منهما، و لأجل ذلك نفسّر الآيات و نصنّفها حتى يكون الباحث في المسألة على بصيرة:

التقدير و القضاء العلميان في الكتاب

1 - قال سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً (1).

و هذا كاشف عن أنّ مقدار حياة الإنسان مقدّر من قبل، لا يتخلف.

و الآية تعريض بما نقله تعالى عن بعض المنافقين في الآية التالية:

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قٰالُوا لِإِخْوٰانِهِمْ إِذٰا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كٰانُوا غُزًّى لَوْ كٰانُوا عِنْدَنٰا مٰا مٰاتُوا وَ مٰا قُتِلُوا (2) . فرد عليهم سبحانه بما عرفت في الآية.

2 - قال سبحانه: قُلْ لَنْ يُصِيبَنٰا إِلاّٰ مٰا كَتَبَ اَللّٰهُ لَنٰا هُوَ مَوْلاٰنٰا وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (3).

و الآية تهدف إلى أنّ ولاية أمرنا للّه سبحانه، كما يدل عليه قوله:

هُوَ مَوْلاٰنٰا ، و قد كتب كتابة حتم ما يصيبنا من حياة و شهادة. فلو أصابتنا الحياة كان المنّ له و إن أصابتنا الشهادة كانت المشيئة و الخيرة له، فالكل من

ص: 172


1- سورة آل عمران: الآية 145.
2- سورة آل عمران: الآية 156.
3- سورة التوبة: الآية 51.

اللّه و كلاهما حسنة و لأجل ذلك يقول: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنٰا إِلاّٰ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّٰهُ بِعَذٰابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينٰا فَتَرَبَّصُوا إِنّٰا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (1).

3 - قال سبحانه: وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوٰاجاً، وَ مٰا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثىٰ وَ لاٰ تَضَعُ إِلاّٰ بِعِلْمِهِ وَ مٰا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاٰ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ (2).

فالآية تنص على سبق علمه سبحانه على تحقق الأشياء و تكوّنها و تحددها و تقدرها، و كل ما يحف بها من الخصوصيات.

4 - قال تعالى: وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي اَلزُّبُرِ * وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (3).

«الزّبر» كتب الأعمال، و المراد بالصغير و الكبير، صغيرها و كبيرها و الكل مكتوب في كتاب خاص.

5 - قال تعالى: مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهٰا إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ (4).

المصيبة هي النائبة التي تصيب في الأرض كالجدب و عاهة الثمار و الزلزلة المخربة، أو التي تصيب في الأنفس، كالمرض و الجرح و الكسر و القتل، و المراد من الكتاب اللوح المكتوب فيه ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة. و إنما اقتصر على ذكر ما يصيب في الأرض أو في الأنفس من المصائب لكون كلامه فيهما، و إلاّ فالمكتوب لا يختص به.

و قوله: إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ دالّ على أنّ تقدير الحوادث قبل وقوعها و القضاء عليها بقضاء، لا صعوبة فيه.

ص: 173


1- سورة التوبة: الآية 52.
2- سورة فاطر: الآية 11.
3- سورة القمر: الآيتان 52-53.
4- سورة الحديد: الآية 22.

و يقول سبحانه بعد هذه الآية: لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ ، وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ (1).

و الآية بمنزلة التعليل للإخبار عن كتابة الحوادث قبل وقوعها.

و المعنى: أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل الوقوع لئلا تحزنوا على ما فاتكم من النّعم، و لا تفرحوا بما أعطاكم اللّه منها، لأنّ الإنسان إذا أيقن أنّ المصاب مقدر كائن لم يحزن لفوته و لم يفرح لمجيئه.

هذه بعض الآيات التي وردت في بيان أنّ خصوصيات الأشياء و ضرورة وجودها متحققة في علمه الأزلي أو مراتب علمه كالكتاب الوارد في الآيات الماضية. و إليك بيان القسم الثاني من التقدير و القضاء:

التقدير و القضاء العينيان في الكتاب

في هذا القسم من الآيات نقف على أنّ الخصوصيات المتحققة في الأشياء أو ضرورة وجودها كلاهما من اللّه سبحانه، فالتقدير و القضاء منه.

و إليك بعض ما يدل عليه:

1 - قال تعالى: إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (2).

قدر الشيء هو المقدار الذي لا يتعداه، و الحد الذي لا يتجاوزه من جانبي الزيادة و النقيصة.

2 - قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (3).

فلكل شيء حد محدود في خلقه لا يتعداه و صراط ممدود في وجوده يسلكه و لا يتخطاه.

ص: 174


1- سورة الحديد: الآية 23.
2- سورة القمر: الآية 49.
3- سورة الحجر: الآية 21.

3 - قال تعالى: اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اَللّٰهَ قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (1).

الضمير في «بينهن» يرجع إلى السّماوات و الأرض. و المراد من «الأمر» هو الأمر التكويني الذي ورد في قوله سبحانه: إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2). و المراد من تنزله هو أخذه بالنزول من مصدر الأمر حتى ينتهي إلى هذا العالم فيتكون ما قصد بالأمر من موت و حياة أو عزّة و ذلّة، أو خصب و جدب، إلى غير ذلك من الحوادث الأرضية و النفسية.

و هذه الآيات كافية في تبيين التقدير العيني. و هناك من الآيات ما يشير إلى القضاء العيني، و أنّ ضرورة تحقق الأشياء - عند اجتماع عللها التامة - من جانبه سبحانه. فكما أنّ التقدير من اللّه سبحانه فكذلك القضاء و الحكم بالشيء في عالم العين، منه سبحانه.

4 - قال تعالى: فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَ أَوْحىٰ فِي كُلِّ سَمٰاءٍ أَمْرَهٰا (3).

5 - قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً (4).

6 - قال تعالى: فَلَمّٰا قَضَيْنٰا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ مٰا دَلَّهُمْ عَلىٰ مَوْتِهِ إِلاّٰ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ (5).

و غيرها من الآيات الحاكية عن قضائه سبحانه بالشيء و إبرامه على صفحة الوجود.

ص: 175


1- سورة الطلاق: الآية 12.
2- سورة يس: الآية 82.
3- سورة فصلت: الآية 12.
4- سورة الأنعام: الآية 2.
5- سورة سبأ: الآية 14.

التقدير و القضاء في السّنة الصحيحة

روى السنة و الشيعة روايات كثيرة في هذا المجال، و لكن العبرة في الصحة بما لا يخالف القرآن. و إليك بعض ما وقفنا عليه في الجوامع الحديثية من الشيعة أولا و السّنّة ثانيا.

1 - روى الصدوق في الخصال بسنده عن علي (عليه السّلام) قال:

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة:

حتى يشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أني رسول اللّه بعثني بالحق، و حتى يؤمن بالبعث بعد الموت، و حتى يؤمن بالقدر»(1).

2 - و روى أيضا بسنده عن أبي أمامة الصحابي قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «أربعة لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة: عاقّ ، و منّان، و مكذّب بالقدر، و مدمن خمر»(2).

3 - و روى أيضا بسنده عن علي بن الحسين قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «ستة لعنهم اللّه و كل نبي مجاب: الزائد في كتاب اللّه، و المكذب بقدر اللّه، و التارك لسنتي، و المستحل من عترتي ما حرّم اللّه، و المتسلّط بالجبروت ليذل من أعزه اللّه و يعزّ من أذلّه اللّه، و المستأثر بفيء اللّه المستحل له»(3).

4 - و روى أيضا بسنده عن أبي الحسن الأول (موسى الكاظم) (عليه السّلام) قال: «لا يكون شيء في السّماوات و الأرض إلاّ بسبعة:

بقضاء، و قدر، و إرادة، و مشيئة، و كتاب، و أجل، و إذن. فمن قال غير هذا فقد كذب على اللّه أو ردّ على اللّه عزّ و جل»(4).

ص: 176


1- البحار ج 5 باب القضاء و القدر، الحديث 2، ص 87.
2- المصدر نفسه، الحديث 3.
3- المصدر نفسه، الحديث 4، و بهذا المضمون الحديث الخامس و السادس مع إضافة يسيرة.
4- المصدر نفسه، ح 7، ص 88.

5 - و روى الصدوق في عيون أخبار الرضا بسنده عن علي قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه عزّ و جل قدّر المقادير، و دبّر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام»(1).

و أما ما روي من طرق أهل السّنّة فالذي يمكن الأخذ به فهو الذي ننقله فيما يلي(2).

6 - روى الترمذي عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلم): «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره و شره و حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه و أنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه»(3).

هذه الرواية و نظائرها لا تنافي اختيار الإنسان و صحة التكليف لأن المراد مما يصيب و ما لا يصيب هو الأمور الخارجة عن إطار اختياره، كالمواهب و النوازل، فلا شك أنّ الإصابة و عدمها خارجان عن اختيار الإنسان و ليس له دور و إنما الكلام في حكومة القضاء و القدر على ما يناط به التكليف و يثاب به أو يعاقب فإن سيادة القضاء و القدر على اختيار الإنسان أمر لا يقبله العقل و لا يوافقه النقل، كما سيأتي. و قس على هذا باقي ما رواه أهل السنة في باب القضاء و القدر.

ص: 177


1- المصدر نفسه، حديث 12، ص 93.
2- سيوافيك في باب خاص أنّ أكثر ما رواه أهل الحديث في باب التقدير يلازم الجبر الباطل و يضاد كتاب اللّه، و أنّ كثيرا منها من الإسرائيليات التي بثها نظراء كعب الأحبار، فترقب.
3- جامع الأصول، ج 10، كتاب القدر، الحديث 7552، ص 511.

ص: 178

تفسير التقدير و القضاء

اشارة

قد عرفت أنّ القضاء و القدر من الأصول المسلّمة في الكتاب و السنّة و ليس لمسلم واع أن ينكر واحدا منهما. إلاّ أنّ المشكلة في توضيح ما يراد منهما، فإنه المزلقة الكبرى في هذا المقام. و لأجل ذلك نأتي في هذا الباب بالمعنى الصحيح لهذين اللفظين الذي يدعمه الكتاب، و أحاديث العترة، و براهين العقل السليم.

أما القدر، فالظاهر من موارد استعماله أنّه بمعنى الحدّ و المقدار و إليه تشير الآيات التالية:

يقول سبحانه: أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَسٰالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهٰا (1)و يقول سبحانه: قَدْ جَعَلَ اَللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (2).

و يقول سبحانه: وَ اَللّٰهُ يُقَدِّرُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ (3).

و يقول تعالى: وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (4).

ص: 179


1- سورة الرعد: الآية 17.
2- سورة الطلاق: الآية 3.
3- سورة المزّمّل: الآية 20.
4- سورة الحجر: الآية 21.

قال ابن فارس: «القدر بفتح الدال و سكونه حدّ كل شيء و مقداره و قيمته و ثمنه، و منه قوله تعالى: وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي قدر بمقدار قليل»(1).

قال الراغب: «القدر و التقدير تبيين كمية الشيء يقال قدرته و قدّرته و قدّره بالتشديد: أعطاه القدرة فتقدير الأشياء على وجهين: أحدهما بإعطاء القدرة (و هذا خارج عن موضوع البحث)، و الثاني بأن يجعلها على مقدار مخصوص و وجه مخصوص حسب ما اقتضت الحكمة» ثم قال: «إنّ فعل اللّه تعالى ضربان: ضرب أوجده بالفعل، و معنى إيجاده بالفعل أنّه أبدعه كاملا دفعة واحدة لا تعتريه الزيادة و النقصان إلى أن يشاء أن يفنيه أو يبدله كالسّماوات و ما فيها(2). و منها ما جعل أصوله موجودة بالفعل و أجزاءه بالقوة و قدّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدّره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون التفاح و الزيتون، و تقدير منيّ الإنسان أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوانات و على ذلك قوله تعالى: قَدْ جَعَلَ اَللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (3)و قوله: إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (4).

و قوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (5)»(6).

إلى هنا وقفت على معنى القدر حسب اللّغة.

و أما القضاء، فقد ذكروا له معاني كثيرة، حتى أنّ الشيخ المفيد قال باستعمالها في معاني الخلق، و الأمر و الإعلام، و القضاء بالحكم،

ص: 180


1- المقاييس، ج 5، ص 63.
2- الصحيح أن يمثل بالمجرّدات عن المادة فإنّ تقديرها هو اتصافها بالإمكان من دون أن يطرأ عليه التغيير و التبدّل و أما السّماوات فتغيرها أمر بديهي.
3- سورة الطلاق: الآية 3.
4- سورة القمر: الآية 49.
5- سورة عبس: الآية 19.
6- مفردات الراغب، مادة «قدر»، ص 409، تحقيق نديم مرعشلي، ط دار الكتاب العربي.

و استشهد لكلامه بآيات قرآنية(1).

و قال العلامة الحلّي باستعماله في معاني عشر، و استدل لكل معنى بآية(2).

و الظاهر أنّه ليس له إلا معنى واحد، و ما ذكر من المعاني كلها مصاديق معنى واحد و أول من تنبه لهذه الحقيقة هو اللغوي المعروف أحمد بن فارس بن زكريا يقول: «القضاء أصل صحيح يدل على إحكام أمر و إتقانه و إنفاذه لجهته قال اللّه تعالى: فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ أي أحكم خلقهن.... إلى أن قال: و القضاء الحكم قال اللّه سبحانه في ذكر من قال: فَاقْضِ مٰا أَنْتَ قٰاضٍ أي اصنع و أحكم و لذلك سمي القاضي قاضيا لانه يحكم الأحكام و ينفذها و سميت المنية قضاء لأنّها أمر ينفذ في ابن آدم و غيره من الخلق»(3).

و قال الراغب الأصفهاني: «القضاء فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، و كل واحد منهما على وجهين: إلهي و بشرى، فمن القول الإلهي:

وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ (4) أي أمر بذلك. و من الفعل الإلهي:

قوله سبحانه: فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ (5) إشارة إلى إيجاده الإبداعي و الفراغ منه. و من القول البشري نحو: «قضى الحاكم بكذا» و من الفعل البشري : فَإِذٰا قَضَيْتُمْ مَنٰاسِكَكُمْ (6)»(7).

و لا يخفى إن ما ذكره ابن فارس أدقّ و مجموع النّصين من العلمين يرجع إلى أنّ أي قول أو عمل إذا كان متقنا محكما، و جادا قاطعا، و فاصلا صارما لا يتغير و لا يتبدل، فذلك هو القضاء.

ص: 181


1- شرح تصحيح الاعتقاد، ص 19.
2- كشف المراد، ص 195، طبعة صيدا.
3- المقاييس، ج 5، ص 99.
4- سورة الاسراء: الآية 23.
5- سورة فصّلت: الآية 12.
6- سورة البقرة: الآية 200.
7- مفردات الرغب، مادة قضى، ص 421.

هذا ما ذكره أئمة اللغة، و قد سبقهما أئمة أهل البيت ففسروا القدر و القضاء على النحو التالي:

روى الكليني بسنده إلى يونس بن عبد الرحمن عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) و قد سأله يونس عن معنى القدر و القضاء فقال: «هي الهندسة و وضع الحدود من البقاء و الفناء، و القضاء هو الإبرام و إقامة العين»(1).

روى البرقي في محاسنه عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام): «قال: قلت: ما معنى «قدر»؟ قال: تقدير الشيء من طوله و عرضه، قلت: فما معنى «قضى»؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردّ له»(2).

روى البرقي في محاسنه أيضا بإسناده عن محمد بن إسحاق قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السّلام) ليونس مولى علي بن يقطين: «أ و تدرى ما «قدر» قال: لا. قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء. ثم قال: إنّ اللّه إذا شاء شيئا أراده، و إذا أراده قدّره، و إذا قدّره قضاه، و إذا قضاه أمضاه»(3).

و أنت إذا أمعنت النظر في مفاد هذه الروايات تقدر على تمييز ما يرجع فيها إلى التقدير و القضاء الكليين عمّا يرجع إلى العينيين منهما و لأجل ذلك تركنا التصنيف فيها.

فإذا اتّضح ما ذكرناه، فلنرجع إلى تفسير ما تهدف إليه الآيات و الروايات، و قد عرفت أنّ كلاّ من التقدير و القضاء على قسمين:

علمي و عيني. فلنقدم البحث في العيني منهما ثم نبحث عن العلمي منهما لأنّ استنتاج الجبر ربما يترتب عند القائل به على العلمي.

ص: 182


1- الكافي ج 1، ص 158. و رواه الصدوق في توحيده بتغيير يسير.
2- المحاسن، ص 244. و نقله المجلسي في البحار، ج 5، ص 122، الحديث 68.
3- المصدر نفسه، ص 244. و رواه المجلسي في بحاره، ج 5، ص 122، الحديث 69.

1 - تفسير القدر و القضاء العينيين

اشارة

حاصل التقدير العيني أنّ الموجودات الإمكانية على صنفين: موجود مجرد عن المادة و الزمان و المكان، فقدره هو ماهيته التي يتحدد بها وجوده.

و بما أنّ ماهية هذه الموجودات العليا خفية علينا، فنكتفي في بيان تقديرها بلفظ «الإمكان» و «الحاجة» فكلها مصبوغة بهذه الصبغة و لا تخرج عن هذا الإطار، و تلك كالملائكة و العقول و النفوس.

و موجود مادي خلق في إطار الزمان و المكان، فقدره عبارة عن جميع خصائصه الزمانية و المكانية و الكيفية و الكمية. و بعبارة أخرى: حدود وجوده، و خصوصياته التي تحف به من بدو تحققه إلى فنائه.

و أما القضاء، فهو عبارة عن الضرورة التي تحف وجود الشيء بتحقيق علته التامة بحيث يكون وجوده ضروريا مقطوعا به من ناحية علته الوجودية.

و على ذلك فكل ما في الكون لا يتحقق إلا بقدر و قضاء أما القدر فهو عبارة عن الخصوصيات الوجودية التي تبين مكانة وجود الشيء على صفحة الوجود، و أنّه من قبيل الجماد أو النبات أو الحيوان أو فوق ذلك، و أنّه من

ص: 183

الوجودات الزمانية، و المكانية إلى غير ذلك من الخصوصيات التي تبين وضع الشيء و موضعه في عالم الوجود.

و أمّا القضاء، فهو عبارة عن وصول الشيء حسب اجتماع أجزاء علته إلى حد يكون وجوده ضروريا و عدمه ممتنعا، بحيث إذا نسب إلى علته يوصف بأنّه ضروري الوجود.

فلأجل ذلك استعير لبيان مقدار الشيء من الخصوصيات لفظ «القدر»، و لتبيين ضرورة وجوده و عدم إمكان تخلفه، لفظ «القضاء» و لأجل ذلك فسر أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) القدر بالهندسة و وضع الحدود من البقاء و الفناء، و القضاء بالإبرام و إقامة العين.

و على ذلك فيجب علينا أن نبحث عن التقدير و القضاء العينيين اللّذين أخبر عنهما الكتاب العزيز و قال: إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (1).

و قال سبحانه: فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحىٰ فِي كُلِّ سَمٰاءٍ أَمْرَهٰا وَ زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ وَ حِفْظاً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (2).

فلا يوجد على صفحة الوجود الإمكاني شيء إلا بظل هذين الأمرين:

1 - تقدير وجود الشيء و تحديده بخصوصيات تناسب وجوده، فلا يوجد شيء خاليا عن الحد و التقدير سوى اللّه تعالى سبحانه.

2 - لزوم وجوده و ضرورة تحققه بتحقق علته التامة التي تضفي على الشيء وصف الضرورة و التحقق.

و إلى ذلك يشير النبي الأكرم بقوله: «لا يؤمن عبد حتّى يؤمن بأربعة»، و عدّ

ص: 184


1- سورة القمر: الآية 49.
2- سورة فصلت: الآية 12.

منها القدر(1). و يشير إليه الإمام الطاهر موسى بن جعفر بقوله: «لا يكون شيء في السموات و الأرض إلاّ بسبعة» و عدّ منها القضاء و القدر(2).

فالعالم المشهود لنا لا يخلو من تقدير و قضاء. فتقديره تحديد الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها، و آثار وجودها، و خصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود و الآثار بموجودات أخرى، أعني العلل و الشرائط، فيختلف وجودها و أحوالها باختلاف عللها و شرائطها، فهي متشكلة بأشكال تعطيها الحدود التي تحدها من الخارج و الداخل، و تعين لها الأبعاد من عرض و طول و شكل و هيئة و سائر الأحوال من مقدار الحياة و الصحة و العافية أو المرض و العاهة ما يناسب موقعها في العالم الإمكاني. فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدر له في مسير وجوده. قال تعالى: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰى * وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ أي هدى ما خلقه إلى ما قدر له. و قال سبحانه: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ (3).

و في قوله سبحانه ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ إشارة لطيفة إلى أنّ التقدير لا يسلب منه الاختيار، و في وسع الإنسان أن يبطل بعض التقدير أو يؤيده و يدعمه فيذهب عن نفسه العاهة أو يؤكدها و يثبتها.

و أما قضاؤه، فلما كانت الحوادث في وجودها و تحققها منتهية إليه سبحانه فما لم يتم لها العلل و الشرائط الموجبة لوجودها فإنها تبقى على حال التردد بين الوقوع و اللاوقوع فإذا تمّت عللها و عامة شرائطها و لم يبق لها إلا أن توجد، كان ذلك من اللّه قضاء و فصلا لها من الجانب الآخر و قطعا للإبهام.

يقول السيد الطباطبائي رحمه اللّه: «إنا نجد الحوادث الخارجية و الأمور الكونية بالقياس إلى عللها و الأسباب المقتضية لها على إحدى الحالتين فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها و قبل أن تتم الشرائط و ترتفع

ص: 185


1- البحار، ج 5، ص 87، ح 2.
2- المصدر نفسه، ص 88، ح 7.
3- سورة عبس: الآيتان 19 و 20.

الموانع التي يتوقف عليها حدوثها، لا يتعين لها التحقق و الثبوت.

فإذا تمت عللها الموجبة لها، و كملت ما تتوقف عليه من الشرائط و ارتفاع الموانع، خرجت من التردد و الإبهام و تعين لها أحد الطرفين و هذا هو القضاء و إلى ذلك يشير قوله سبحانه: فَإِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1).

و قال سبحانه: قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيٰانِ (2)»(3).

و بذلك يظهر أنّ التقدير، بمعنى إفاضة الحد على الشيء، و القضاء بمعنى إفاضة الضرورة على وجود الشيء، من صفاته الفعلية سبحانه، و إليه يشير الإمام الصادق (عليه السّلام) في قوله: «إنّ القضاء و القدر خلقان من خلق اللّه و اللّه يزيد في الخلق ما يشاء»(4).

و إنما يكون القضاء و القدر مخلوقين للّه تعالى من حيث إنّ وجود أيّة ظاهرة يكون ملازما مع قدرها الذي يعطي لها الحد و المقدار، و يخصّصها بشكل خاص كما يكون ملازما مع القضاء الذي هو ضرورة وجودها من قبل علتها فخالق الشيء خالق قدره و خالق قضائه.

التقدير مقدّم على القضاء

إذا كان التقدير بمعنى تحديد وجود الشيء و الحدّ الذي يتحدد به فهو مقدّم على القضاء بمعنى ضرورة وجوده، لأن الشيء إنما يتحدد، بكل جزء من أجزاء العلة فإن كل واحد منها يؤثر أثره في المعلول على حدته. فحيث إن أجزاء العلّة تتحقق قبل تمامها، و كل جزء منها يؤثر أثره في محيطه،

ص: 186


1- سورة غافر: الآية 68.
2- سورة يوسف: الآية 41.
3- الميزان ج 13 ص 72 بتلخيص.
4- التوحيد، ص 364.

و يكون أثره تحديد الموجود و صبغه، يجب أن يكون التقدير مقدما على القضاء فصانع الطائرة يهيئ لمصنوعه قطعا و أجزاء صناعية مختلفة، كل منها من صنع مصنع، ثم تركب هذه الأجزاء بعضها مع بعض، فيصل إلى حد القضاء، فتكون طائرة تحلق في السماء.

و مثله الثوب المخيط، فإنّ هناك عوامل مختلفة تعطيه صورة واحدة، مثل تفصيل القميص، و الخياطة الخاصة، و غير ذلك من الخصائص التي تحدد الثوب قبل وجود العلّة التامة.

و في ضوء هذا البيان يمكن أن يقال: إذا كان الشيء موجودا ماديا، و كانت علته علة مركبة من أجزاء، فتقديره مقدم على قضائه حيث إنّ تأثير الجزء مقدم على تأثير الكل. و أما الموجودات المجرّدة المتحققة بعلّة بسيطة، فالتقدير و القضاء العينيان فيها يكونان في آن واحد فإن الخلق و الإيجاد، الذي هو ظرف القضاء، هو نفس ظرف التقدير و التحديد.

و بهذا يتضح سر تأكيد الإمام (عليه السّلام) على تقدم القدر على القضاء.

روى البرقي في المحاسن بسنده عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام): «إنّ اللّه إذا أراد شيئا قدّره، فإذا قدّره قضاه، فإذا قضاه أمضاه»(1).

و روى أيضا بسنده عن محمد بن إسحاق قال: قال أبو الحسن ليونس مولى علي بن يقطين: «يا يونس لا تتكلم بالقدر، قال: إني لا أتكلم بالقدر، و لكن أقول: لا يكون إلا ما أراد اللّه و شاء و قضى و قدر. فقال:

ليس هكذا أقول، و لكن أقول: لا يكون إلا ما شاء اللّه و أراد و قدر و قضى»(2).

ص: 187


1- المحاسن، ص 243-244. و رواه المجلسي في البحار، ص 121، الحديث 64.
2- المحاسن، ص 244. و رواه المجلسي في البحار، ص 122، الحديث 69.

بقي هنا نكتتان هامتان يجب التنبيه عليهما:

الأولى: قد عرفت عناية النبي و أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) بالإيمان بالقدر، و أنّ المؤمن لا يكون مؤمنا إلا بالإيمان به، فما وجه هذه العناية ؟.

و الجواب: إنّ التقدير و القضاء العينيين من شعب الخلقة، و قد عرفت أنّ من مراتب التوحيد، التوحيد في الخالقية و أنه ليس على صفحة الوجود خالق مستقل سواه. و لو وصفت بعض الأشياء بالخالقية، فإنما هي خالقية ظليّة تنتهي إلى خالقيته سبحانه، انتهاء سلسلة الأسباب و المسببات إليه.

و لما كان القدر العيني، تأثر الشيء عن علله و ظروفه الزمانية و المكانية، و انصباغه بصفة خاصة فهو نوع تخلّق و تكوّن للشيء فلا محالة يكون المقدّر و المكوّن هو اللّه سبحانه.

و لما كان القضاء العيني، هو ضرورة تحققه و لزوم وجوده، فهو عبارة أخرى عن الخلقة الواجبة اللازمة، فلا محالة يستند إليه سبحانه.

فلأجل ذلك ترى أنه سبحانه تارة يسند التقدير إلى نفسه و يقول: قَدْ جَعَلَ اَللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (1) و يقول اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ (2).

و أخرى يسند القضاء و يقول: فَإِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (3) و يقول: فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ (4).

فبما أنّ التقدير و القضاء عبارة أخرى عن كيفية الخلقة، فلا يوجد شيء في صفحة الوجود إلا بهما، و إلى ذلك يشير ما تقدم من الإمام الصادق

ص: 188


1- سورة الطّلاق: الآية 3.
2- سورة الأعلى: الآية 3.
3- سورة البقرة: الآية 117.
4- سورة فصلت: الآية 12.

(عليه السّلام) من قوله: «إنّ القضاء و القدر خلقان من خلق اللّه و اللّه تزيد في الخلق ما يشاء»(1).

الثانية: إن كون التقدير و القضاء العينيّين منه سبحانه لا يلازم كون الإنسان مسلوب الاختيار، لأن المفروض أنّ الحرية و الاختيار من الخصوصيات الموجودة فيه، فاللّه سبحانه قدر وجوده بخصوصيات كثيرة منها كونه فاعلا بالاختيار مقابل الفواعل الطبيعية التي لا تفعل إلا عن جبر طبيعي.

كما أنّه سبحانه إذ قضى بأفعال الإنسان فإنما قضى على صدورها منه عن طريق المبادي الموجودة فيه التي منها الحرية و الاختيار. فقضى قضاء تكوينيّا بصدور فعل الإنسان منه عن اختياره و حريته التامة. و على ذلك فكون التقدير و القضاء العينيّين منه سبحانه لا يسلب الاختيار عن فاعل مختار مثل الإنسان.

نعم، لو قدره بغير هذه الخصوصية و قضى على صدور فعله منه لا عن هذا الطريق، لكان لما توهم مجال. و سيوافيك توضيح ذلك عند البحث عن العلميّين منهما.

هذان هما التقدير و القضاء العينيّان و هناك معنى آخر للعيني من القضاء و القدر يستفاد من آيات كثيرة، و المعنيان غير متزاحمين، غير أنا نعبر عن المعنى الأول بالقضاء و التقدير العينيّين الجزئيّين، و عن الآخر بالعينيّين الكلّيّين. و إليك بيان ذلك القسم الآخر:

القضاء و القدر العينيّان الكليّان

إن وجود السّنن الإلهية السائدة على الكون و المجتمع الإنساني و على أفراده مما لا ينكر، كما أنّ تأثير هذه السنن في السعادة و الشقاء أمر قاطع لا

ص: 189


1- التّوحيد، ص 364، الحديث 1.

يتخلف. و على ذلك فالسّنن الإلهية الواردة في الكتاب و السنّة، أو التي كشف عنها الإنسان عبر ممارساته و تجاربه، كلها من تقديره و قضائه سبحانه.

و الإنسان تجاه هذه النواميس و السنن السائدة حرّ مختار، فعلى أيّة واحدة منها طبّق حياته يرى نتيجة عمله، و إليك المثال:

إنّ التقدير الإلهي على أمة يعيش أكثرها في الفقر و الحرمان، و قليل منها بالغنى و الرفاه عن طريق الظلم و التعدّي على حقوق الآخرين، هو أن لا ترى الطائفة المرفّهة الراحة و لا الهناء بل لا تعيش إلا حياة القلق و الاضطراب خوفا من ثورة الكادحين و حذرا من بطشة المحرومين.

بينما تقديره تعالى على أمة تعيش آلام المحرومين و آمال الكادحين و تهيء لهم الحياة اللائقة بهم و تقلل من غلواء الطبقات المرفهة لصالح الفقراء، و تأخذ منهم حقوقهم التي جعلها اللّه لهم وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّٰائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ ، هو أن يعيشوا عيشة الثبات و الاستقرار و الرّقي و التقدم و التحرك و البناء.

و هذان التقديران واضحان محسوسان يستوي فيهما جميع أمم العالم و ليس هناك عامل خارج عن إطار اختيار الأمّة و إرادتها، يجبرها على اختيار أحدهما؛ فالأمّة إمّا أن تتبع العقل و الحكمة، أو تتبع الغرور و الشهوة. و كل تصل إلى النتيجة التي تترتب على عملها، و الكل بقضاء اللّه تعالى فإنه هو الذي أودع في الكون هذه السنن و جعل الناس أحرارا في اختيار سلوك أحد الطريقين.

فإذا كان ما مرّ من المثال راجعا إلى سنّة إلهيّة في حق المجتمع فهناك سنن راجعة إلى كل فرد من أفراد المجتمع مثلا: الشاب الذي يبدأ حياته بإمكاناته الحرة و أعصابه المتماسكة، و ذكائه المعتدل، فإما أن يصرف تلك المواهب في سبيل تحصيل العلوم و الفنون و الكسب و التجارة، فمصيره و تقديره هو الحياة السعيدة الرغيدة.

و إمّا أن يسيء الاستفادة من رصيده المادي و المعنوي و يصرفه

ص: 190

في الشهوات و اللذات الزائلة، فتقديره هو الحياة الشقيّة المظلمة.

و التقديران كلاهما من اللّه تعالى، و الشاب حر في اختيار أحد الطريقين و النتيجة التي تعود إليه، بقضاء اللّه و قدره. كما أنّ له أن يرجع أثناء الطريق فيختار بنفسه تقديرا آخر و يغيّر مصيره، و هذا أيضا يكون من تقدير اللّه عزّ و جلّ فإنه هو الذي خلقنا و خيّرنا و أقدرنا على الرجوع و فتح لنا باب التوبة.

و إليك مثالا ثالثا: المريض الذي يقع طريح الفراش أمامه تقديران:

1 - إما أن يرجع إلى الأطباء الخبراء و يعمل بالوصفة التي تعطى له، فعندئذ يكون البرء و الشفاء حليفه.

2 - أو يهمل نفسه و لا يشاور الطبيب أو لا يتناول الدواء فاستمرار المرض و الداء حليفه.

و التقديران كلاهما من اللّه تعالى و المريض حرّ في اختيار سلوك أي الطريقين شاء. و أنت إذا نظرت إلى الكون و المجتمع و الحياة الإنسانية تقدر على تمييز عشرات من هذه السنن السائدة، و تعرف أنها كلها من تقاديره سبحانه. و الإنسان حرّ في اختيار واحد منها. و لأجل ذلك نرى أن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقول: «خمسة لا يستجاب لهم: أحدهم مرّ بحائط مائل و هو يقبل إليه، و لم يسرع المشي حتى سقط عليه»(1).

و السر في عدم استجابة دعائه واضح، لأن تقديره سبحانه و قضاءه على الإنسان الذي لا يقوم من تحت ذلك الجدار المائل هو الموت و بذلك تقف على مغزى ما روي عن علي أمير المؤمنين عند ما عدل من حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له يا أمير المؤمنين: أ تفرّ من قضاء اللّه ؟ فقال (عليه السّلام): أفرّ من قضاء اللّه إلى قدره عز و جل(2)، يعني أنّ ذلك باختياري فإن شئت بقيت في هذا القضاء و إن شئت مضيت إلى قدر آخر. فإن بقيت اقتل

ص: 191


1- بحار الأنوار، ج 5، باب القضاء و القدر، ذيل الحديث 31، ص 105.
2- التّوحيد للصدوق، ص 369

بقضاء اللّه، و إن عدلت أبقى بتقدير منه سبحانه، و لكل تقدير مصير، فأيهما فعلت فقد اخترت ذلك المصير.

ثم إنّ في القرآن الكريم آيات كثيرة بصدد بيان السنن الإلهية السائدة على المجتمع الإنساني التي تعدّ الكل من تقديره و قضائه سبحانه، و المجتمع محكوم بنتائج هذه السنن حكما قطعيا و قضاء باتّا، و لكن له الاختيار في سلوك أي طريق شاء. و لأجل إيقافك على بعض هذه السنن التي تعد من القضاء و القدر العينيّين الكليّين نشير إلى بعضها:

السنن الإلهية في المجتمع البشري

ننقل في هذا الباب بعض الآيات التي تنص على قوانين كلية و سنن إلهية سائدة على المجتمع البشري من غير فرق بين مجتمع و آخر و إنما المهم هو اختيار أحد جانبي تلك السنن.

1 - قال سبحانه حاكيا عن شيخ الأنبياء نوح: فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً * يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّٰاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهٰاراً (1).

فترى أنّ نوحا (عليه السّلام) يجعل الاستغفار سببا مؤثرا في نزول المطر و كثرة الأموال و جريان الأنهار، و وفرة الأولاد. و إنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة. و موقف الاستغفار هنا موقف العلة التامة أو المقتضي بالنسبة إليها و الآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى اللّه و إقامة دينه و أحكامه يسوق المجتمع إلى النظم و العدل و القسط و في ظله تتركز القوى على بناء المجتمع على أساس صحيح، فتصرف القوى في العمران و الزراعة و سائر مجالات المصالح الاقتصادية العامة، كما أنّ العمل على خلاف هذه السنة، و هو رجوع المجتمع عن اللّه و عن الطهارة في القلب و العمل، ينتج خلاف ذلك.

ص: 192


1- سورة نوح: الآيات 10-12.

فللمجتمع الخيار في التمسك بأهداب أي من السنتين، فالكل قضاء اللّه و تقديره.

2 - قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (1).

3 - قال سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (2).

4 - و قال سبحانه: ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهٰا عَلىٰ قَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (3).

و التقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها.

5 - و قال سبحانه: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ (4).

نرى أنّ الآية تتكفل ببيان كلا طرفي السّنة الإلهية إيجابا و سلبا و تبين النتيجة المترتبة على كل واحد منهما. و الكل قضاؤه و تقديره و الخيار في سلوكهما للمجتمع.

6 - و قال سبحانه: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (5).

7 - و قال سبحانه: يُثَبِّتُ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثّٰابِتِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللّٰهُ اَلظّٰالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ (6).

ص: 193


1- سورة الأعراف: الآية 96.
2- سورة الرعد: الآية 11.
3- سورة الأنفال: الآية 53.
4- سورة إبراهيم: الآية 7.
5- سورة الطّلاق: الآيتان 2 و 3.
6- سورة إبراهيم: الآية 27.

فالمجتمع المؤمن باللّه و كتابه و سنة رسوله إيمانا راسخا يثبته اللّه سبحانه في الحياة الدنيا و في الآخرة، كما أنّ الظالم و العادل عن اللّه سبحانه يخذله اللّه سبحانه و لا يوفقه إلى شيء من مراتب معرفته و هدايته. و لأجل ذلك يرتب على تلك الآية قوله: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دٰارَ اَلْبَوٰارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهٰا وَ بِئْسَ اَلْقَرٰارُ (1).

8 - و قال سبحانه: وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ اَلصّٰالِحُونَ (2).

فالصالحون لأجل اتصافهم بالصلاح في العقيدة و العمل، يغلبون الظالمين و تكون السيادة لهم، و الذلة و الخذلان لمخالفيهم.

9 - و قال سبحانه: وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضىٰ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ (3).

فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان باللّه و العمل الصالح و إقامة دينه بتمام معنى الكلمة و يترتب عليه - وراء الاستخلاف - ما ذكره في الآية من التمكين و تبديل الخوف بالأمن.

10 - و قال سبحانه: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكٰافِرِينَ أَمْثٰالُهٰا (4).

و الآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض و الاعتبار بما جرى على الأمم السالفة لاجل عتوهم و تكذيبهم رسل اللّه سبحانه، كثيرة في القرآن

ص: 194


1- سورة إبراهيم: الآيتان 28 و 29.
2- سورة الأنبياء: الآية 105.
3- سورة النور: الآية 55.
4- سورة محمد: الآية 10.

الكريم تبين سنته السائدة على الأمم جمعاء.

11 - و قال سبحانه: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (1).

12 - و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (2).

13 - و قال سبحانه: مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلاٰ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاٰدِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزٰابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جٰادَلُوا بِالْبٰاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كٰانَ عِقٰابِ * وَ كَذٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ (3).

فالآية من أثبت الآيات المبينة لسنته تعالى في الذين كفروا فلا يصلح للمؤمن أن يغره تقلبهم في البلاد و عليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح و الأحزاب من بعدهم، حتى يقف على أنّ للباطل جولة و للحق دولة، و أنّ مردّ الكافرين إلى الهلاك و الدمار.

14 - و قال سبحانه: وَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ لَئِنْ جٰاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدىٰ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ نَذِيرٌ مٰا زٰادَهُمْ إِلاّٰ نُفُوراً * * اِسْتِكْبٰاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ وَ لاٰ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاّٰ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ سُنَّتَ اَلْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّٰهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّٰهِ تَحْوِيلاً (4).

ص: 195


1- سورة آل عمران: الآية 137.
2- سورة الأنفال: الآية 29.
3- سورة غافر: الآيات 4-6.
4- سورة فاطر: الآيتان 42-43. و راجع في الوقوف على هذه الآيات المبينة لسننه الكلية في الأمم السالفة الآيات التالية: يوسف: الآية 109، الحج: الآية 46، الروم: الآية 9 و 42، فاطر: الآية 44، غافر: الآية 120 و 82، الأنعام: الآية 11، النّحل: الآية 36، النّمل: الآية 69، العنكبوت: الآية 20.

و ما ذكرنا من الآيات نبذة من السنن الإلهية السائدة على الفرد و المجتمع. و في وسع الباحث أن يتفحص آيات الكتاب العزيز و يقف على سننه تعالى و قوانينه، ثم يرجع إلى تاريخ الأمم و أحوالها فيصدّق قوله سبحانه:

فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّٰهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّٰهِ تَحْوِيلاً (1) .

فقد خرجنا بهذه النتائج:

1 - إنّ التقدير العينيّ عبارة عن الخصوصيات و المشخّصات الموجودة في وجود الشيء المكتسبة من علله. و القضاء ضرورة وجوده عند وجود علته التامة، و الكل منته إلى اللّه سبحانه انتهاء الأسباب و المسبّبات إلى مسببها الأوّل.

و إنّ هذا التقدير و القضاء من شعب الخلقة فمقتضى التوحيد هو القول بأنّه لا مقدر و لا قاضي إلا اللّه سبحانه، لكن على التفصيل الذي سمعته منا في البحث السابق.

2 - إنّ الاعتقاد بهذا النوع من التقدير و القضاء لا ينتج مسألة الجبر، كما أنّ الاعتقاد بالتوحيد في الخالقية لا ينتجه، و قد مر بيانه.

3 - إنّ ما مضى من القضاء و القدر العينيّين إذا كان راجعا إلى خصوصيات وجود الشيء و ضرورة وجوده الخارجي فليسمّ بالجزئي منهما.

و إذا كان تقديره و قضاؤه على الإنسان و المجتمع بصورة تسنين قوانين كلية واسعة لا تتخلف في حق فرد دون فرد أو مجتمع دون مجتمع، فليسمّ بالتقدير و القضاء العينيّين الكليّين. و تصويب هذه السنن و إعطاء الاختيار إلى الإنسان المختار، نفس القول بحريته في معترك الحياة.

ص: 196


1- سورة فاطر: الآية 43.

2 - تفسير القدر و القضاء العلميّين

اشارة

إذا كان التقدير و القضاء العينيّان راجعين إلى إطار وجود الشيء في الخارج من اتصافه بالتقدير و الضرورة، يكون المراد من التقدير و القضاء العلميين، علمه سبحانه بمقدار الشيء و ضرورة وجوده في ظرف خاص، علما ثابتا في الذات أو علما مكتوبا في كتاب. و الأول يكون علما في مقام الذات و الآخر يكون علما في مقام الفعل.

و لكن الفلاسفة خصّوا القضاء بالجانب العلمي و القدر بالجانب العيني فقالوا: «القضاء» عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام و أكمل الانتظام و هو المسمى ب «العناية» التي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه و أكملها.

و «القدر» عبارة عن خروجها على الوجود العيني بأسبابها على الوجه الذي تقرر في القضاء».

كما أنّ الأشاعرة خصّوا «القضاء» بكون الشيء متعلقا للإرادة الأزلية قبل إيجادها، و «القدر» بإيجادها على قدر مخصوص، فقالوا: «إن «قضاء اللّه» هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال.

ص: 197

و «قدره» إيجاده إياها على قدر مخصوص و تقدير معين في ذواتها و أحوالها».

و المعتزلة أنكروا وقوع الأفعال الاختيارية الصادرة عن العبادة متعلقا للقضاء و القدر و أثبتوا علمه تعالى بهذه الأفعال، و لكن أنكروا إسناد وجودها إلى ذلك العلم، بل إلى اختيار العباد و قدرتهم(1).

و لكن الحق حسب ما تعطيه الآيات القرآنية أنّ كلاّ من القضاء و القدر على قسمين علمي و عيني. أمّا العيني فقد تقدّم، و أمّا العلمي فالتقدير منه هو علمه سبحانه بما تكون عليه الأشياء كلّها من حدود و خصوصيات. و القضاء منه، علمه سبحانه بحتميّة وجود تلك الأشياء عن عللها و مبادئها. و إليك فيما يلي بيان العلمي منهما، ثمّ بيان عدم استلزامه وجود الجبر في الأفعال الاختيارية للعبادة؛ فتارة نبحث عن كون أفعال العباد، معلومة للّه سبحانه في الأزل، و أخرى عن كونها متعلقة للإرادة الأزلية، حتى يكون البحث واضحا.

أفعال العباد و علمه الأزلي

لا شك أنّ اللّه سبحانه كان عالما بكل ما يوجد في هذا الكوكب و مطلق الكون، فكان واقفا على حركة الإلكترونات في بطون الذّرات، و على حفيف أوراق الأشجار في الحدائق و الغابات، و حركات الحيتان العظيمة في خضم أمواج المحيطات. كما أنه سبحانه كان عالما قبل أن يخلق العالم بأفعال المجرمين و قسوة السفّاكين، و طاعة الطائعين هذا من جانب.

و من جانب آخر: إنّ علمه تعالى بالأمور علم بالواقع و الحقيقة و هو لا يتخلف عن الواقع قيد شعرة و قد عرفت سعة علمه بالأشياء و قبل الكينونة في الآيات المتقدمة صدر الفصل. و قال سبحانه: وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (2).

ص: 198


1- شرح المواقف، ج 8، ص 180-181.
2- سورة الأنعام: الآية 59.

و قال سبحانه: قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (1).

و على هذين الأساسين ربما يتصور أنّ تعلق ذلك العلم بكل الأشياء عموما، و الأفعال الاختيارية للإنسان خصوصا، يجعل الإنسان مجبورا مضطرا متظاهرا بالحرية و الاختيار، لأنه سبحانه إذا كان يعلم من الأزل، أنّ هذا الشخص سيرتكب الذنب الفلاني في الساعة المعينة، فبما أنّ العلم الإلهي لا يتخلف عن معلومه يجب أن يكون الشخص مصدرا لهذا الذنب، و لا يستطيع أن يتخلف عنه بأية قوة و قدرة، بل لا يستطيع أن يغير من كميته و كيفيته، إذ تخلفه نفس تخلف علم اللّه عن الواقع، و صيرورة علمه جهلا تعالى اللّه عنه.

أقول: إنّ هذا المقام هو المزلقة الكبرى للسطحيّين الذين مالوا إلى الجبر، لأجل كون أفعال العباد متعلقة لعلمه تعالى، غير متخلفة عن متعلقها و لكنهم لو وقفوا على كيفية تعلق علمه بصدور أفعال العباد منهم، لرجعوا عن هذا الحكم الخاطئ.

و الجواب عن ذلك: إنّ علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أي أثر من مؤثره على أي وجه اتفق، و إنما تعلق علمه بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل. فإن كانت العلة علة طبيعية فاقدة للشعور و الاختيار أو واجدة للعلم فاقدة للاختيار، فتعلق علمه سبحانه بصدور فعلها و أثرها عنها بهذه الخصوصية، أي أن تصدر الحرارة من النار من دون أن تشعر فضلا عن أن تريد، و يصدر الارتعاش من الإنسان المرتعش عن علم و لكن لا بإرادة و اختيار، فالقول بصدور هذه الظواهر عن عللها بهذه الخصوصية يستلزم انطباق علمه على الواقع و عدم تخلفه عنه قيد شعرة.

و إن كانت العلّة عالمة و شاعرة و مريدة و مختارة كالإنسان، فقد تعلق علمه على صدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات و انصباغ فعلها بصبغة الاختيار و الحرية. فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية، لكان علمه مطابقا للواقع

ص: 199


1- سورة الطلاق: الآية 12.

غير متخلف عنه، و أمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر و اضطرار بلا علم و شعور، أو بلا اختيار و إرادة فعند ذلك يتخلف علمه عن الواقع.

نقول توضيحا لذلك، إنّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين:

قسم يصدر منه بلا شعور و لا إرادة كأعمال الجهاز الدموي و الجهاز المعوي و جهاز القلب، و الأحشاء، التي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية، غير الاختيارية.

و قسم آخر يصدر منه عن إرادة و اختيار. و يتسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية كدارسته و كتابته و تجارته و زراعته.

و على ما سبق من أنّ علم اللّه تعالى تعبير عن الواقع بما لا يتخلف عنه قيد شعرة، فتقع أعماله موردا لتعلق علم اللّه بها على ما هي عليه من الخصائص و الألوان. فتكون النتيجة أنه سبحانه يعلم من الأزل بصدور فعل معين في لحظة معينة من إنسان معين إمّا بالاضطرار و الإكراه أو بالاختيار و الحرية، و تعلق مثل هذا العلم لا ينتج الجبر، بل يلازم الاختيار. و لو صدر كل قسم على خلاف ما اتّسم به لكان ذلك تخلفا عن الواقع.

و بعبارة أخرى: إن علم اللّه بما أنّه يطابق الواقع الخارجي و لا يتخلف عنه أبدا، فيجب أن يقوم الإنسان بكل قسم من أعماله على حسب السمة التي اتّسم بها. فلو كان مصدرا لعمل الجهاز الدموي عن اختيار و قد تعلق علمه بصدوره عنه على وجه الاضطرار، لزم تخلف علمه عن معلومه. كما أنّه لو كان مصدرا للقسم الآخر من أفعاله ككتابته و خياطته على وجه الإلجاء و الاضطرار، لزم تخلف علمه عن الواقع لتعلق علمه بصدوره عنه بسمة الاختيار و سيوافيك نصوص من أئمة الحكماء كصدر المتألّهين و غيره عند البحث عن الجبر الأشعري.

فعلينا في هذا الموقف الالتفات إلى كيفية تعلق علمه بصدور الأفعال عن مبادئها و عللها. نعم، من أنكر وجود الأسباب و المسببات في الوجود، و اعترف بعلّة واحدة و سبب مفرد و هو اللّه سبحانه و جعله قائما مقام جميع العلل و الأسباب، و صار هو مصدرا لكل الظواهر و الحوادث مباشرة و لم يقم

ص: 200

للعلل الطبيعية و للإنسان و ما فيه من المبادي وزنا و قيمة، و لم يعترف بتأثيرها في تكوّن الظّواهر و الحوادث، لا مناص له عن القول بالجبر. و هو مصير خاطئ يستلزم بطلان بعث الأنبياء و إنزال الكتب.

تمثيل خاطئ

ربما يتمسك في تحليل علمه سبحانه بمثال خاص و يقال إنّ باستطاعة كثير من الأساتذة أن يتكهنوا بمستقبل تلامذتهم، فإنّ المعلم الذي يعرف حدود السعي و العمل و الاستعداد في تلميذه المعيّن، يستطيع أن يتكهن بنجاح التلميذ أو رسوبه بصورة قاطعة، فهل نستطيع أن نقول: إنّ علم المعلم بوضع التلميذ صار علّة لعدم نجاحه في الامتحان بحيث لو تكهّن المعلم بعكس هذا، لكان النجاح حليف التلميذ، أو إنّ السبب في فشله في الامتحان هو تكاسله أيام الدراسة، و إهماله طول السنة الدراسية مطالعة و مباحثة الكتاب المقرر. و صرفه أوقاته في الشّهوات.

إنّ هذا التمثيل نافع للأذهان البسيطة التي لا تفرق بين علم المعلم، و علمه سبحانه. و أما العارف بخصوصية علمه تعالى و أنّه نفس ذاته، و ذاته علّة لما سواه، فهو يرى قياس أحد العلمين بالآخر قياسا خاطئا، فإن علم المعلم ليس في سلسلة علل الحوادث، و في مورد المثال: رسوب التلميذ أو نجاحه. و هذا بخلاف علمه تعالى فإنه في سلسلة العلل، بل تنتهي إليه جميع الأسباب و المسببات. و قد عرفت أنّ القضاء عند الفلاسفة عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام و أكمل الانتظام، و هو المسمى عندهم بالعناية التي هي مبدأ لفيضان الموجودات، من حيث جملتها على أحسن الوجوه و أكملها. فعند ذلك يصبح التمثيل في مقام الإجابة أجنبيا عن الإشكال(1).

ص: 201


1- و سيأتي الإيماء إلى هذا الجواب عند البحث عن الأصول التي دفعت الأشاعرة إلى القول بالجبر، و منها علمه الأزلي.

و الحق في الإجابة ما ذكرنا من أنّ علمه العنائي الذي هو السبب لظهور الموجودات على صفحة الوجود، و إن كان علة لظهور الأشياء، لكنه ليس بالعلّة الوحيدة القائمة مقام الأسباب و العلل المتأخرة (كما عليه الأشاعرة المنكرين للأسباب و المسببات) بل هناك أسباب و مسببات كثيرة يؤثر كل سبب في مسببه بإذنه سبحانه و مشيئته. و في خلال تلك الأسباب سببية الإنسان لفعله بإذنه سبحانه، فتعلّق علمه على أن يكون الإنسان في معترك الحياة فاعلا مختارا و سببا حرّا لما يفعل و يترك. فكون مثل هذا السبب متعلقا لعلمه العنائي المبدأ لفيضان الموجودات، لا ينتج الجبر بل ينتج الاختيار.

أفعال العباد و إرادته الأزلية

قد عرفت أنّ القضاء العلمي عند الأشاعرة هو عبارة عن إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال. و عند ذلك يتحد هذا التفسير مع التفسير السابق إشكالا و جوابا. و بما أنّا سنبحث في فصل الجبر و الاختيار عن شمول إرادته سبحانه لأفعال العباد و عدمه، فنترك التفصيل إلى مكانه. و سيوافيك أنّ شمول إرادته سبحانه لجميع الكائنات عموما و أفعال الإنسان خصوصا، ممّا لا مناص عنه، كتابا و سنّة و عقلا (و إن خالف في ذلك كثير من العدلية حذرا من لزوم الجبر). لكن القول بعموم الإرادة و شمولها للأفعال الاختيارية لا ينتج الجبر كما أوضحنا حاله في العلم.

هذا حال التقدير و القضاء العلميين و النتيجة التي تترتب على هذه العقيدة حسب تحليل الأشاعرة و تحليلنا. و بقي هنا بحث و هو سرد بعض الروايات الواردة في القضاء و القدر في الصحاح و المسانيد التي لا تتخلف عن الجبر قيد شعرة، و عرضها على الكتاب و السنّة و العقل ليعلم ناسجها و مصدرها. و يتلوه بحث في تفسير «القدرية» الواردة في الأخبار.

ص: 202

القضاء و القدر في الصّحاح و المسانيد

اشارة

لقد عرفت أنّ القدر و القضاء أمر ثابت في الشريعة الإسلامية و لا يمكن إنكاره أبدا. و هما لا يعدوان العلمي و العيني، و أنّ كلاّ منهما غير سالب للاختيار. غير أنّ الظاهر ممّا رواه أصحاب الصّحاح و المسانيد أنّ القدر عامل غالب على الإنسان في أفعاله الاختيارية، يتحكّم بها، و يسلب عنه الاختيار رغم إرادة مخالفته. و أنّ الإنسان مسيّر في حياته يسير حسب ما قدر له و كتب عليه. فلنعرض بعض ما وقفنا عليه كنموذج من هذه الروايات:

1 - روى البخاري في صحيحه: «احتج آدم و موسى، فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيّبتنا، و أخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: يا موسى، اصطفاك اللّه بكلامه، و خطّ لك بيده، أ تلومني على أمر قدّر اللّه عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة»(1).

فآدم حسب هذا النقل يبرر عمله الذي وصفه سبحانه بقوله:

وَ عَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ (2) بالقدر، و كأن القدر عامل خارج عن إطار حياة

ص: 203


1- صحيح البخاري، ج 8، باب في القدر، ص 122.
2- سورة طه: الآية 121.

الإنسان، حاكم عليه، رغم أنّه يريد أن لا يطيعه.

2 - و روى أيضا عن زيد بن وهب عن عبد اللّه قال حدثنا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو الصادق المصدّق:.. إلى أن قال: «ثم يبعث اللّه ملكا فيؤمر بأربع: برزقه و أجله و شقي أو سعيد. فو اللّه إنّ أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل الكتاب حتى ما يكون بينه و بينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. و إنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها»(1).

3 - روى مسلم في صحيحه عن سراقة بن مالك بن جعشم أنه قال:

«يا رسول اللّه بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن، فيم عمل اليوم ؟ أ فيما جفت به الأقلام و جرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل ؟».

قال: «لا، بل فيما جفت به الأقلام و جرت به المقادير».

قال: «ففيم العمل ؟».

قال: «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له، و كل عامل بعمله»(2).

4 - و روى البخاري عن أبي هريرة قال: «قال لي النبي (صلّى اللّه عليه و آله): جفّ القلم بما أنت لاق»(3). و رواه مسلم في صحيحه.

و ينقل النّووي في شرح هذا الحديث: «و يقول الملك الموكل بالنطفة: «يا رب أ شقي أم سعيد» فيكتبان، و يكتب عمله و أثره، و أجله و رزقه ثم تطوى الصحف، فلا يزاد فيها و لا ينقص»(4).

5 - و روى مسلم عن حذيفة: «بعد ما يجعله اللّه سويّا أو غير سويّ ، ثم يجعله اللّه شقيا أو سعيدا، و ما من نفس منفوسة إلاّ و كتب اللّه مكانها من

ص: 204


1- المصدر نفسه، ص 123.
2- صحيح مسلم، ج 8، ص 44 - طبعة القاهرة، يلاحظ شرح النووي، ج 16 - ص 186
3- صحيح البخاري، ج 8، ص 1222.
4- صحيح مسلم، ج 8، ص 45. و شرح النووي، ج 16، ص 193.

الجنة و النار، إلاّ و قد كتبت شقية أو سعيدة»(1).

6 - روى الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: خرج علينا رسول اللّه و في يده كتابان قال: أ تدري ما هذان الكتابان. قلنا: لا يا رسول اللّه إلاّ أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنة و أسماء آبائهم و قبائلهم، ثم أجمل على اخرهم، فلا يزاد فيهم و لا ينقص منهم أبدا. و قال للذي في شماله: هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار و أسماء آبائهم و قبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم و لا ينقص منهم أبدا. قال أصحابه:

ففيم العمل يا رسول اللّه ؟ إن كان أمرا قد فرغ منه. فقال: سدّدوا و قاربوا، فإنّ صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة و إن عمل أي عمل. و إنّ صاحب النار يختم له بعمل أهل النار و إن عمل أي عمل. ثم قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بيده فنبذهما. ثم قال: فرغ ربّكم من العباد فريق في الجنة و فريق في السعير(2).

7 - و روى البخاري و مسلم و ابن داود عن عمران بن حصين قال: قال رجل يا رسول اللّه أعلم أهل الجنة من أهل النار؟.

قال: نعم.

قال: ففيم يعمل العاملون ؟.

قال (صلّى اللّه عليه و آله): «كل ميسّر لما خلق له». أخرجه مسلم و أبو داود.

و في رواية البخاري: أ يعرف أهل الجنة من أهل النار؟.

قال: نعم.

قال: فلم يعمل العاملون ؟.

قال: كل يعمل لما خلق له أو لما يسّر له.

ص: 205


1- صحيح مسلم. و شرح النووي له - الطبعة السابقة.
2- جامع الأصول، ج 10، كتاب القدر، الحديث 7555، ص 513.

و لمسلم من رواية أبي الأسود الدؤلي: قال لي عمران بن حصين:

أ رأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه ؟ أ شيء قضي عليهم و مضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به ممّا أتاهم به نبيّهم و ثبتت الحجة عليهم.

فقلت: بل شيء قضي عليهم و مضى.

قال: أ فلا يكون ظلما.

قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، و قلت: كل شيء خلق اللّه و ملك يده، فلا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون.

فقال لي: يرحمك اللّه: إنّي لم أرد بما سألتك إلاّ لأحرز عقلك فإن رجلين من مزينة أتيا رسول اللّه فقالا:

يا رسول اللّه أ رأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه أ شيء قضي عليهم و مضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم و ثبتت الحجة عليهم فقال: لا، بل شيء قضي عليهم و مضى فيهم و تصديق ذلك في كتاب اللّه وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا * فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا (1).

8 - و روى الترمذي عن عبد اللّه بن عمر قال: قال عمر: يا رسول اللّه أ رأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو مبتدأ أو فيما قد فرغ منه ؟ فقال بل فيما قد فرغ منه يا بن الخطاب، و كل ميسّر. أمّا من كان من أهل السعادة، فإنه يعمل للسعادة، و أمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء.

قال: لما نزلت «فمنهم شقي و سعيد» سألت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقلت يا نبي اللّه: فعلام نعمل، على شيء قد فرغ منه ؟ أو على شيء لم يفرغ منه ؟.

قال: بل على شيء قد فرغ منه و جرت به الأقلام يا عمر و لكن كل

ص: 206


1- جامع الأصول، ج 10، الحديث 7556، ص 514-515.

ميسّر لما خلق(1).

هذه نماذج مما ذكره القوم في باب القدر، و كأن القدر حاكم، متعنت، حمق، قاس، حقود، على المساكين العاجزين بلا سبب و مبرر، و بذلك شقيت الكفار و العصاة بشقاوة الأبد، و لا مجال بعد ذلك لرأفته سبحانه و رحمته و إحسانه.

بل لقد قدّر كل ذلك لجماعة آخرين غرباء لا يهمه أمرهم بلا جهة و لا سبب، كما في بعض رواياتهم: «خلقت هؤلاء للجنة و لا أبالي. و خلقت هؤلاء للنّار و لا أبالي».

عرض هذه الروايات على الكتاب

لا شك أنّ هذه الروايات مخالفة للكتاب و السنّة. فإنّ الكتاب يعرّف الإنسان في موقف الهداية و الضلالة موجودا مختارا و أنّ هدايته و ضلالته على عاتقه. قال سبحانه: إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً (2).

و قال سبحانه: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمٰا أَضِلُّ عَلىٰ نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمٰا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (3).

و قال سبحانه: قَدْ جٰاءَكُمْ بَصٰائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهٰا وَ مٰا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (4).

ص: 207


1- جامع الأصول - ج 10 - الحديث 7559، ص 516. ذكر العلامة الطباطبائي تفسيرا خاصا لهذا الحديث و أشباهه مما مر في رواية سراقة بن جعشم، فراجع الميزان، ج 11، ص 29. و سيوافيك توجيه آخر عند البحث عن السعادة و الشقاء و قد روى الصدوق في كتاب التّوحيد روايات أئمة أهل البيت ربما يتمكن بها الإنسان من تفسير ما ورد في الصحاح و الأسانيد فلاحظ ص 354-358.
2- سورة الدهر: الآية 3.
3- سورة سبأ: الآية 50.
4- سورة الأنعام: الآية 104.

و قال سبحانه: كُلُّ اِمْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ (1).

و قال سبحانه: إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (2).

و قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (3).

أ فبعد هذه الآيات المحكمات يصح لمسلم أن يؤمن بما جاء في هذه الروايات و يسندها إلى الرسول، حتى يبرر العصاة و الطغاة أعمالهم الإجرامية بسبق القدر، و جفاف القلم، و انطواء الكتب، بحيث لا يزيد و لا ينقص.

فعند ذلك يصير مثل الإنسان مثل الملقى في اليمّ مكتوف الأيدي، و مثل أمره و نهيه مثل أمر الملقى بأن لا يبتل بالماء. قال:

ألقاه في اليمّ مكتوفا و قال له *** إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء

إنّ صريح هذه الآيات هو أنّ صانع مصير الإنسان اختياره الذي تميز به عن سائر الموجودات بفضل منه سبحانه و أنّ له الخيرة في اختيار أي طريق يشاؤه من الهداية و الضلالة و السعادة و الشقاء، و ليس القدر عاملا صانعا للمصير في مجال أفعاله الاختيارية. نعم، هناك أمور خارجة عن اختياره ليس هو مسئولا عنها، و لا يعد صانعا بالنسبة إليها. و لكن كلامنا غايته في أفعاله النفسية من إطاعته و معصيته، و هذا هو الذي نقصده من اختيار الإنسان فيه، لا الأفعال و الحوادث الكونية الخارجة عن إطار قدرته.

و لكن الروايات المتقدمة، المبثوث إضعافها في الصحاح و المسانيد، تجعل من القدر قدرة صنّاعة لمصير البشر في الأفعال التي يسألون عنها، و هذا ممّا لا يصدقه الكتاب كما عرفت، و لا السنّة.

أمّا السنّة، فيكفي في كون ظواهر تلك الروايات غير مرادة، و أنها رويت على غير وجهها، ما رووه هم عن علي (عليه السّلام) عن رسول اللّه

ص: 208


1- سورة الطور: الآية 21.
2- سورة الطور: الآية 16.
3- سورة المدثّر: الآية 38.

(صلّى اللّه عليه و آله). قال علي (عليه السّلام): «كنّا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، فقعد و قعدنا حوله، و معه مخصرة. فنكس و جعل ينكت بمخصرته. ثم قال: ما منكم من أحد إلاّ و قد كتب مقعده من النّار و مقعده من الجنة. قالوا: يا رسول اللّه، أ فلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا. فكل ميسّر لما خلق له. أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة. و أمّا من كان من أهل الشقاء، فسيصير لعمل أهل الشقاء. ثم قرأ: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اِتَّقىٰ * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ الآية» أخرجه البخاري و مسلم.

و في رواية الترمذي قال: «كنّا في جنازة في بقيع الغرقد. فأتى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقعد و قعدنا حوله و معه مخصرة، فجعل ينكت بها، ثم قال ما منكم من أحد، أو من نفس منفوسة، إلاّ و قد كتب اللّه مكانها من الجنة و النار، و إلاّ قد كتبت شقية أو سعيدة، فقال رجل يا رسول اللّه، أ فلا نمكث على كتابنا و ندع العمل ؟ فمن كان منا من أهل السعادة، ليكونن إلى أهل السعادة، و من كان منا من أهل الشقاوة، ليكونن إلى أهل الشقاوة ؟.

فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): بل اعملوا، فكل ميسّر.

فأمّا أهل السعادة، فييسّرون لعمل أهل السعادة و أمّا أهل الشقاوة فييسّرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اِتَّقىٰ * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ * وَ أَمّٰا مَنْ بَخِلَ وَ اِسْتَغْنىٰ * وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرىٰ (1).

فلو كان كل إنسان ميسرا لخصوص ما خلق له، كما هو ظاهر الرواية، بمعنى أنّ أهل السعادة ميسرون للسعادة و أهل الشقاء ميسرون للشقاء بحيث لا يقدر كل صنف على الالتحاق بالصنف الآخر، فلما ذا قرأ

ص: 209


1- جامع الأصول، ج 10، الحديث 7557، ص 515-516.

قوله سبحانه في ذيل الحديث: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اِتَّقىٰ * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ * وَ أَمّٰا مَنْ بَخِلَ وَ اِسْتَغْنىٰ * وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرىٰ . فإنّ ظاهرها أنّ لكل إنسان الخيار بين الإعطاء و الاتقاء و التصديق بالحسنى، و ضدها. فهذه الرواية عن عليّ (عليه السّلام) تعرب عن أنّ كثيرا من روايات القدر، إمّا منحوتة و موضوعة على لسان رسول اللّه بهذا المعنى الذي شرحناه، أو منقولة بغير وجهها. أضف إلى ذلك أنّ الروايات مخالفة للفطرة الإنسانية التي فطر اللّه كل إنسان عليها.

و لأجل ذلك نرى أنّ أصحاب النبي بعد ما سمعوا حقيقة القدر على الوجه الذي جاء في الرواية، استوحشوا، فقالوا: «ففيم العمل يا رسول اللّه، إن كان أمر قد فرغ منه». و ما أجيبوا به من قوله (صلّى اللّه عليه و آله): سدّدوا و قاربوا إلخ، ليس جوابا قالعا للشبهة و رافعا للإشكال(1).

كما أنّ الإجابة بأن كلاّ ميسّر لما خلق، لا يحل العقدة إن لم يزدها تعقيدا. فإنّ مفاده أنّ أهل السعادة ميسرون للسعادة التي خلقوا لها و أهل الشقاء للشقاء الذي خلقوا له. و هذا نفس الإشكال الذي تردد في نفس السائل.

و في ذيل رواية عمران بن حصين يظهر أنّ القدر بالمعنى الوارد في الرواية مظنة كونه ظلما للعباد، و أنّ أبا الأسود الدؤلي فزع منه فزعا شديدا، و الجواب الذي ذكره أبو الأسود من أنّ كل شيء خلق اللّه و ملك يده فلا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون، لا يرد الشبهة بل يؤكّدها.

إنّ للعقيدة الإسلامية سمة البساطة لا التعقيد، و سهولة التكليف لا مشقته. أ في ميزان النّصفة يتّسم القدر - بهذا المعنى - بالبساطة و السهولة ؟! و سيوافيك أن يد الأحبار و الرهبان لعبت في هذا المجال، و أنهم هم الذين أوردوا القدر بهذا المعنى إلى الساحة الإسلامية، و غيّروا ما عليه الكتاب

ص: 210


1- لاحظ الحديث رقم (6) مما أوردنا فيما مضى.

و السنّة من التقدير غير السالب للاختيار، بل بمعنى علمه سبحانه المحيط بأفعال الإنسان خيرها و شرّها، حتى يترك الشرّ و ينحو نحو الخير.

روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السّلام) قال: «إنّ اللّه أكرم من أن يكلّف النّاس ما لا يطيقون، و اللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد»(1).

فالشقّ الأول من الحديث ينفي الجبر بتاتا سواء استند إلى القدر أو غيره. و الشقّ الثاني ينصّ على عموم إرادته سبحانه لكل الكائنات و الأفعال الاختيارية للعباد. و ستعرف عند البحث عن الجبر و التفويض أنّ شمول إرادته سبحانه لأفعال العباد لا يهدف إلى الجبر لأنه تعلقت إرادته بصدور كل فعل عن علّته بالخصوصيات و المبادي الكامنة فيها. و من المبادي الموجودة في الإنسان حريته و اختياره.

الأحبار و إشاعة فكرة القدر بين المسلمين

لقد ابتلي المسلمون بعد كعب الأحبار بكتابيّ آخر قد بلغ الغاية في بث الإسرائيليات بين المسلمين، هو وهب بن منبه، قال الذهبي: ولد في آخر خلافة عثمان، كثير النقل عن كتب الإسرائيليات. توفي سنة 114.

و قد ضعّفه الفلاّس(2).

و قال في (تذكرة الحفاظ): عالم أهل اليمن ولد سنة 34، و عنده من علم الكتاب شيء كثير، فإنه صرف عنايته إلى ذلك، و بالغ. و حديثه في الصحيحين عن أخيه همّام(3).

و يظهر من تاريخ حياته أنّه أحد المصادر لانتشار نظرية نفي الاختيار

ص: 211


1- البحار، ج 5، باب القضاء و القدر، الحديث 64، ص 41.
2- ميزان الاعتدال، ج 4، ص 352-353.
3- تذكرة الحفاظ، ج 1، ص 100-101.

و المشيئة عن الإنسان حتى المشيئة الظلية لمشيئته سبحانه التي لولاها لبطل التكليف و ألغيت الشريعة.

روى حماد بن سلمة عن أبي سنان قال: سمعنا وهب بن منبّه قال:

كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعا و سبعين كتابا من كتب الأنبياء في كلها:

«من جعل لنفسه شيئا من المشيئة فقد كفر»، فتركت قولي(1).

و المراد من «القدر» في قوله: «كنت أقول بالقدر»، هو القدرة الإنسانية التي عبّر عنها في ذيل كلامه بالاختيار و المشيئة. كما يمكن أن يكون المراد منه نفي القدر، كما ربما يقال «القدرية» على نفاة القدر و القضاء.

و هذا النقل يعطي أنّ القول بنفي المشيئة للإنسان ممّا ورد في أزيد من سبعين كتابا من كتب الأنبياء، حسب زعم هذا الكتابي، و منها تسرب هذا القول إلى الأوساط الإسلامية، حتى أصبح من قال بالمشيئة يكفر حسب نقل هذا الكتابي. و قد تسنم الرجل منبر التحدث عن الأنبياء يوم كان نقل الحديث عن النبي ممنوعا، و كان نتيجة ذلك التحدث انتشار الإسرائيليات الراجعة إلى حياة الأنبياء في العاصمة الإسلامية المدينة المنورة، و قد جمع ما ألقاه في مجلد أسماه في كشف الظنون: «قصص الأبرار و قصص الأخيار»(2).

القدرية في الحديث النبوي

روى الفريقان عن النبي الأكرم أنّه قال: «القدرية مجوس هذه الأمة». و كل من الفريقين فسّر «القدرية» بخصمه. فالقائلين بالقدر بالمعنى السالب للاختيار، يقولون إن المراد: المفوضة القائلة بالاختيار و عدم شمول القدر لأفعال الإنسان، فكانوا كالمجوس، القائلة بإلهين

ص: 212


1- ميزان الاعتدال، ج 4، ص 353.
2- كشف الظّنون، ج 2، ص 223، مادة «قصص».

و خالقين، و هؤلاء يقولون بأن هناك خالقا لجميع الكائنات و هو اللّه سبحانه، و خالق آخر لأفعاله و أعماله هو الإنسان، فهو عندهم إله ثان.

يلاحظ عليه، أولا: إنّ تفسير القدرية بنفاة القدر بعيد جدا، غير مأنوس في اللغة العربية، فالمتبادر من القدرية هم القائلون بالقدر، كما أن المتبادر من العدلية هم مثبتوا العدل لا نفاته، فإطلاق القدرية و إرادة الطائفة النافية أشبه بإطلاق الحميريّة و الهذيليّة و إرادة من لا يمتّ إليهما بصلة.

و ثانيا: إنّ القائلين بالقدر بالمعنى الذي عرفت، لا ينقصون عن المفوضة في التشبه بالمجوس، فإن القدر عندهم إله حاكم في الكون و أفعال الإنسان بل حاكم على أفعال الخالق و إرادته و مشيئته، بحيث لا يمكن تغييره و تبديله و لا النقيصة و الزيادة عليه. و لأجل ذلك يصبح الحديث على فرض صدوره عن النبي مجملا لا يمكن الاحتجاج به على طائفة، هذا.

و قد وردت القدرية في المرويات عن أئمة أهل البيت و استعملت تارة في «المثبت للقدر» و أخرى في «نافيه».

أمّا الأول فمنه ما رواه الصدوق عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال:

«ما يستطيع أهل القدر أن يقولوا و اللّه لقد خلق آدم للدنيا و أسكنه الجنة ليعصيه فيردّه إلى ما خلقه»(1).

و منه ما رواه الصدوق أيضا عن علي (عليه السّلام) في حديثه مع الشيخ الشامي عند منصرفه من صفين حيث قال الإمام: فو اللّه ما علوتم تلعة و لا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من اللّه و قدر. فقال الشيخ: عند اللّه أحتسب عنائي.

فقال (عليه السّلام): «مهلا يا شيخ لعلّك تظن قضاء حتما و قدرا لازما.. إلى أن قال: تلك مقالة عبدة الأوثان و خصماء الرّحمن و قدرية هذه

ص: 213


1- البحار، ج 5، باب القضاء و القدر، الحديث التاسع، ص 89.

الأمة و مجوسها»(1).

و منه ما رواه صاحب (الفائق) و غيره من علماء الإسلام عن محمد بن علي المكي بإسناده قال: «إنّ رجلا قدم على النبي فقال له رسول اللّه:

أخبرني بأعجب شيء رأيت. قال: رأيت قوما ينكحون أمهاتهم و بناتهم و أخواتهم، فإذا قيل لهم لم تفعلون ذلك، قالوا: قضاء اللّه تعالى علينا و قدره. فقال النبي (صلّى اللّه عليه و آله) سيكون من أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم، أولئك مجوس أمتي»(2).

و أمّا الثاني، فمنه ما رواه الحميري في (قرب الإسناد) بسنده عن الرضا، قال: كان علي بن الحسين إذا ناجى ربّه قال: «يا رب قويت على معصيتك بنعمتك»، قال: و سمعته يقول في قول اللّه تبارك و تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ ، وَ إِذٰا أَرٰادَ اَللّٰهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاٰ مَرَدَّ لَهُ ، فقال: إنّ القدرية يحتجون بأولها و ليس كما يقولون. أ لا ترى أنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: وَ إِذٰا أَرٰادَ اَللّٰهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاٰ مَرَدَّ لَهُ . و قال نوح على نبينا و آله و عليه السّلام: وَ لاٰ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كٰانَ اَللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ . قال: «الأمر إلى اللّه يهدي من يشاء»(3).

و منه ما رواه القمي في تفسيره في رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر قال: «و هم القدرية الذين يقولون: لا قدر، و يزعمون أنهم قادرون على الهدى و الضّلالة»(4).

و منه ما رواه القمي أيضا في تفسيره عن الرضا (عليه السّلام) قال:

«يا يونس لا تقل بقول القدرية فإنّ القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة و لا

ص: 214


1- توحيد الصّدوق باب القضاء و القدر، الحديث 28، ص 380.
2- البحار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الحديث 74، ص 47.
3- البحار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الحديث 4، ص 5.
4- المصدر نفسه، الحديث 13.

بقول أهل النار و لا بقول إبليس. فإنّ أهل الجنة قالوا: اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي هَدٰانٰا لِهٰذٰا. وَ مٰا كُنّٰا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاٰ أَنْ هَدٰانَا اَللّٰهُ . و لم يقولوا بقول أهل النار فإن أهل النار قالوا: رَبَّنٰا غَلَبَتْ عَلَيْنٰا شِقْوَتُنٰا . و قال إبليس: رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي . فقلت يا سيدي و اللّه ما أقول الخ....».

و منه ما رواه العياشي في تفسيره من احتجاج الإمام (عليه السّلام) مع القدري في الشام عند ما بعث عبد الملك بن مروان إلى عامل المدينة أن وجّه إليّ محمد بن علي بن الحسين و لا تهيّجه و لا تروّعه، و اقض له حوائجه.

و قد كان ورد على عبد الملك رجل من القدرية فحضر جميع من كان بالشام فأعياهم جميعا، فقال: ما لهذا إلاّ محمد بن علي.

فكتب إلى صاحب المدينة أن يحمل محمد بن علي إليه، فأتاه صاحب المدينة بكتابه، فقال له أبو جعفر (عليه السّلام): إني شيخ كبير لا أقوى على الخروج و هذا جعفر ابني يقوم مقامي، فوجّهه إليه، فلما قدم على الأموي أزراه لصغره، و كره أن يجمع بينه و بين القدري مخافة أن يغلبه، و تسامع الناس بالشام بقدوم جعفر لمخاصمة القدري، فلما كان من الغد اجتمع الناس بخصومتهما، فقال الأموي لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): إنّه قد أعيانا أمر هذا القدري و إنما كتبت إليك لأجمع بينك و بينه، فإنّه لم يدع عندنا أحدا إلاّ خصمه. فقال: إنّ اللّه يكفيناه.

قال: فلما اجتمعوا قال القدري لأبي عبد اللّه (عليه السّلام): سل عمّا شئت. فقال له: اقرأ، سورة الحمد، قال: فقرأها. و قال الأموي - و أنا معه -: ما في سورة الحمد غلبنا، إنّا للّه و إنّا إليه راجعون. قال:

فجعل القدري يقرأ سورة الحمد حتى بلغ قول اللّه تبارك و تعالى: إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ فقال له جعفر: قف، من تستعين ؟ و ما حاجتك إلى المئونة ؟ إنّ الأمر إليك. فبهت الذي كفر، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين(1)

ص: 215


1- البحار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الحديث 98، ص 55. و العياشي، ج 1، ص 23.

و منه ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: سألته عن الرّقى أ تدفع من القدر شيئا؟ فقال: هي من القدر. و قال (عليه السّلام): إنّ القدرية مجوس هذه الأمة و هم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله فأخرجوه من سلطانه، و فيهم نزلت هذه الآية:

يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي اَلنّٰارِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ (1) .

و الصنف الأول من الروايات أقوى سندا، و لعل كلمة القدرية تطورت من حيث المعنى في عصر الصادقين و بعدهما فاستعملت في غير معناها القياسي.

ثم إنّ الشيخ التفتازاني في (شرح المقاصد) أقام وجوها على أنّ المراد من القدرية نفاة القدر، كما أنّ العلامة أقام وجوها أخر على تطبيقها على مثبتي القدر. فليرجع إليهما(2).

التقدير و تشريع الأحكام

بقيت هنا كلمة و هي: إنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) فسّر القضاء و القدر للشامي الذي سأله عنهما بالأمر بالطاعة و النهي عن المعصية، و ذلك عند ما قال الرجل له: «فما القضاء و القدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين».

فقال: «الأمر بالطاعة و النهي عن المعصية و التمكين من فعل الحسنة و ترك السيئة، و المعونة على القربة إليه و الخذلان لمن عصاه و الوعد و الوعيد

ص: 216


1- سورة القمر: الآيتان 48-49. التّوحيد للصدوق، باب القضاء و القدر، ح 29، ص 382.
2- شرح المقاصد، ص 143. و كشف المراد، ص 196.

و الترغيب و الترهيب، كل ذلك قضاء اللّه في أفعالنا و قدره لأعمالنا، و أمّا غير ذلك فلا تظنه، فإن الظن له محبط للأعمال.

فقال الرجل: «فرّجت عني يا أمير المؤمنين فرّج اللّه عنك»(1).

و قد اختار هذا المعنى شيخنا المفيد رحمه اللّه في (تصحيح الاعتقاد) فقال: «و الوجه عندنا في القضاء و القدر بعد الذي بيّناه أنّ للّه تعالى في خلقه قضاء و قدرا، و في أفعالهم أيضا قضاء و قدرا معلوما. و يكون المراد بذلك أنّه قد قضى في أفعالهم الحسنة بالأمر بها. و في أفعالهم القبيحة بالنهي عنها... و في أنفسهم بالخلق لها، و فيما فعله فيهم بالإيجاد له، و القدر منه سبحانه فيما فعله إيقاعه في حقه و موضعه. و في أفعال عباده ما قضاه فيها من الأمر و النهي و الثواب و العقاب، لأن ذلك كله واقع موقعه»(2).

و قد ذكره المحقق الطوسي رحمه اللّه وجها في تفسير القضاء و القدر حيث قال: «و القضاء و القدر، إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال، أو الإلزام صحّ في الواجب خاصة، و الإعلام صحّ مطلقا»(3).

و أوضحه العلاّمة الحلّي رحمه اللّه بقوله: «ما ذا يعنى من القول بأن اللّه قضى أعمال العباد و قدّرها، فإن أرادوا به الخلق و الإيجاد، فهو باطل لأنّ الأفعال مستندة إلينا. و إن أرادوا به الإلزام لم يصح إلاّ في الواجب، و إن عني به أنّه تعالى بيّنها و كتبها و أعلم أنّهم سيفعلونها، فهو صحيح، لأنه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ و بيّنه لملائكته، و هذا المعنى الأخير هو المتعين»(4).

نقول: إنّ القضاء و القدر ممّا اتفق عليه جميع الملل، لكن القدر لا ينحصر في هذا فقط، حسب ما عرفت من الآيات و الروايات. و أما اكتفاء

ص: 217


1- بحار الأنوار، ج 5، باب القضاء و القدر، ح 74 - ص 126.
2- تصحيح الاعتقاد، ص 20.
3- كشف المراد، ص 194.
4- المصدر السابق.

الإمام بهذا الجواب فهو لملاحظة حال السائل، فلو كان مستطيعا لأن يتحمل بعض المعارف الإلهية لما اقتصر الإمام عليه.

و لأجل هذه الملاحظة كان الإمام (عليه السّلام) يجيب بعض من يسألوه عن القضاء و القدر بقوله: «طريق مظلم فلا تسلكوه، و بحر عميق فلا تلجوه، و سرّ اللّه فلا تتكلّفوه»(1).

و أمّا البحث عن التقدير المحتوم و غير المحتوم الذي يظهر من الآيات و الروايات فسيوافيك بيانه في الفصل التالي.

ص: 218


1- نهج البلاغة، قسم الحكم، الرقم 287.

الفصل الخامس البداء

اشارة

* تفسير لفظ البداء.

* إحاطة علمه تعالى بكل شيء.

* الكتاب و السنّة مليئان بالمجاز.

* تغيير المصير بالأعمال الصالحة و الطالحة.

* إمكان النسخ في التشريع و التكوين.

* حقيقة البداء في ضوء الكتاب و السنّة.

* الأثر التربوي للبداء.

* البداء ليس تغييرا في علمه و لا في إرادته سبحانه.

* البداء في التقدير الموقوف لا المحتوم.

* الأجل و الأجل المسمى.

* ما يترتب على البداء في مقام الإثبات.

ص: 219

ص: 220

البداء أو تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة.

اشارة

تحتل مسألة البداء في عقائد الشيعة الإمامية المكانة الأولى. و بقدر ما تحظى هذه المسألة من الاهتمام و العناية لديهم تلقى نقدا لاذعا و هجوما عنيفا من جانب علماء السنة. فلا يمرون عليها إلاّ و يهاجمونها بشدة و قسوة. و هذا من العجب أن تعتبر طائفة مسألة، من صميم الدين و جوهره، و أخرى تعتبرها فكرة هدّامة للدين.

و أعجب منه أنّ الباحث إذا نظر فيما سيأتي، يقف على أنّ النزاع القائم على قدم و ساق نزاع لفظي، لا يمت إلى النزاع المعنوي و الجوهري بصلة. و قد حصل النزاع من عدم إمعان المخالف فيما يتبناه الموافق. و لو وقف على مراده و مقصده لاتفق معه في هذه المسألة و قال: إنّ البداء بهذا المعنى هو عين ما نطق به الكتاب العزيز، و تحدثت عنه السنّة الطاهرة، و أذعن به جهابذة العلم من أهل السنة.

الأمر الأول - تفسير لفظ البداء.

إنّ البداء في اللغة هو الظهور بعد الخفاء. قال الراغب في (مفرداته): «بدا الشيء بدوءا و بداء: ظهر ظهورا بيّنا، قال تعالى:

ص: 221

وَ بَدٰا لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَ بَدٰا لَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا كَسَبُوا (1) »(2).

و البداء بهذا المعنى لا يطلق على اللّه سبحانه بتاتا. لاستلزامه حدوث علمه تعالى بشيء بعد جهله به، و لا يظن بمسلم عارف بالكتاب و السنة أن يطلق البداء بهذا المعنى على اللّه سبحانه. فالشيعة الإمامية الذين يسعون إلى تنزيهه سبحانه من كل نقص و عيب بحماس أكبر من سائر الفرق الإسلامية، يستحيل عليهم أن يطلقوا البداء على اللّه بهذا المعنى. بل لهم في ذلك تفسير آخر سيأتي بنص كلامهم.

الأمر الثاني - إحاطة علمه بكل شيء:

اتفقت الإمامية تبعا لنصوص الكتاب و السنة و البراهين العقلية على أنه سبحانه عالم بالأشياء و الحوادث كلها غابرها و حاضرها و مستقبلها، كلّيها و جزئيها، لا يخفى عليه شيء في السّماوات و الأرض.

قال سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَخْفىٰ عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ (3). و قال سبحانه: وَ مٰا يَخْفىٰ عَلَى اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ (4).

و قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «كل سر عندك علانية، و كل غيب عندك شهادة»(5).

و قال الإمام الباقر: (عليه السّلام): «كان اللّه و لا شيء غيره، و لم

ص: 222


1- سورة الزمر: الآيتان 47 و 48.
2- المفردات، مادة «بدا»، ص 40.
3- سورة آل عمران: الآية 5.
4- سورة إبراهيم: الآية 38.
5- نهج البلاغة، الخطبة 105، طبعة عبده.

يزل اللّه عالما بما كوّن، فعلمه به قبل كونه، كعلمه به بعد ما كوّنه»(1).

و قال الإمام الصادق (عليه السّلام): «من زعم أنّ اللّه عز و جل يبدو في شيء لم يعلمه أمس، فابرءوا منه»(2).

و قال أيضا: «فكل أمر يريده اللّه فهو في علمه قبل أن يصنعه ليس شيء يبدو له إلاّ و قد كان في علمه، إنّ اللّه لا يبدو له من جهل»(3).

و قال الإمام الكاظم (عليه السّلام): «لم يزل اللّه عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء»(4).

و قال الإمام أبو الحسن الرضا (عليه السّلام): «إن اللّه علم لا جهل فيه، حياة لا موت فيه، نور لا ظلمة فيه. قال: كذلك هو»(5).

هذه تصريحات أئمة الشيعة في سعة علمه سبحانه(6)، و امتناع البداء عليه بمعنى الظهور بعد الخفاء و هم في الوقت نفسه يقولون: «ما عبد اللّه بشيء مثل البداء». و يقولون: «ما بعث اللّه نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية، و خلع الأنداد، و أنّ اللّه يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء» و يقولون: «ما تنبّأ نبي قط حتى يقرّ للّه تعالى بخمس: «البداء و المشيئة... الخ» و يقولون: «لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر، ما فتروا

ص: 223


1- بحار الأنوار، ج 4، باب العلم و كيفيته، ج 23، ص 86.
2- المصدر السابق، ص 111، الحديث 30.
3- المصدر نفسه - ص 121 - الحديث 63.
4- الكافي ج 1، باب صفات الذات، ص 107.
5- بحار الأنوار، ج 4، ص 84، الحديث 17.
6- تقدم البحث مفصلا في سعة علمه تعالى، عند البحث عنه في الصفات الثبوتية في هذا الجزء.

عن الكلام فيه»(1).

أ فهل يصح أن ينسب إلى عاقل فضلا عن باقر العلوم و صادق الأمة القول بأنّ اللّه لم يعبد و لم يعظم إلاّ بالقول بظهور الحقائق له بعد خفائها عنه، و العلم بعد الجهل، كلا. كل ذلك يؤيد أنّ المراد من البداء في كلمات هؤلاء العظام غير ما يفهمه المعترضون سواء أ كان إطلاق البداء عليه حقيقة أم كان من باب المجاز.

الأمر الثالث - الكتاب و السنة مليئان بالمجاز

إن القرآن الكريم و سنّة النبي الأكرم مليئان بالمجاز و المشاكلة، فترى القرآن ينسب إلى اللّه تعالى «المكر» و «الكيد» و «الخديعة» و «النسيان» و «الأسف»، إذ يقول:

يَكِيدُونَ كَيْداً * وَ أَكِيدُ كَيْداً (2) .

وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنٰا مَكْراً (3) .

إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ يُخٰادِعُونَ اَللّٰهَ وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ (4) .

نَسُوا اَللّٰهَ فَنَسِيَهُمْ (5) .

فَلَمّٰا آسَفُونٰا اِنْتَقَمْنٰا مِنْهُمْ (6) .

إلى غير ذلك من الآيات و الموارد.

ص: 224


1- راجع للوقوف على هذه الأحاديث، بحار الأنوار، ج 4، الأحاديث 11، 19، 23، 26، ص 107-108.
2- سورة الطارق: الآيتان 15 و 16.
3- سورة النّمل: الآية 50.
4- سورة النساء: الآية 142.
5- سورة التّوبة: الآية 67.
6- سورة الزّخرف: الآية 55.

و ليس لأحد أن يغتر بظواهر هذه الآيات و الألفاظ فيثبت للّه سبحانه هذه الصفات بالمعاني المتبادرة منها، بل لا بد أن يمعن النظر في القرائن حتى يقف على المراد الواقعي، سواء أ كان موافقا للمعنى اللغوي أم لا(1).

و من هذا القبيل توصيفه سبحانه بالبداء في أحاديث أئمة أهل البيت و كلمات العلماء. فلا يصح الاغترار بظاهر هذه الكلمة.

الأمر الرابع - تغيير المصير بالأعمال الصالحة و الطالحة

اشارة

دلت الآيات و الأحاديث الصحيحة على أنّ الإنسان قادر على تغيير مصيره بحسن أفعاله و صلاح أعماله، بمثل الصدقة و الإحسان و صلة الأرحام و برّ الوالدين و الاستغفار و التوبة و شكر النعمة، إلى غير ذلك مما يوجب تغير المصير و تبدل المقدر السيئ، إلى المقدر الحسن. كما أنه قادر بسبب الأعمال الطالحة على تغيير مصيره من الحسن إلى السيئ بارتكاب طالح الأعمال و سيّئها. فليس الإنسان محكوما بمصير واحد و مقدّر غير قابل للتغيير، و لا أنّه يصيبه ما قدّر له شاء أم لم يشأ، بل المصير و المقدّر يتغيّر و يتبدل بشكر النعم، أو كفرانها، و بالتقوى و المعصية إلى غير ذلك من الأمور، من دون أن يمس ذلك بكمال علم اللّه سبحانه بأن يوجد فيه التغير و التبدل. كما سيوافيك بيانه.

و هناك آيات كثيرة و روايات صحيحة تنص على تغيير المصير بعمل الإنسان نذكر القليل منها:

القرآن و تأثير عمل الإنسان في تغيير مصيره:

1 - قال سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (2).

ص: 225


1- تقدم مفصلا بيان الطريق القويم في ذلك عند البحث في الصفات الخبرية من هذا الجزء.
2- سورة الرعد: الآية 11.

2 - و قال سبحانه حاكيا عن شيخ الأنبياء نوح (عليه السّلام):

فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً * يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً * وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّٰاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهٰاراً (1) .

3 - و قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ ، وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (2).

4 - و قال سبحانه: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ (3).

5 - و قال سبحانه: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ (4).

6 - و قال سبحانه: وَ نُوحاً إِذْ نٰادىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ (5).

7 - و قال سبحانه: وَ أَيُّوبَ إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّٰاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَكَشَفْنٰا مٰا بِهِ مِنْ ضُرٍّ... (6).

8 - و قال سبحانه: وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (7).

ص: 226


1- سورة نوح: الآيات 10-12.
2- سورة الأعراف: الآية 96.
3- سورة الطلاق: الآيتان 2-3.
4- سورة إبراهيم: الآية 7.
5- سورة الأنبياء: الآية 76.
6- سورة الأنبياء: الآيتان 83 و 84.
7- سورة الانفال: الآية 33.

9 - و قال سبحانه: فَلَوْ لاٰ أَنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنٰاهُ بِالْعَرٰاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ * وَ أَنْبَتْنٰا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (1).

10 - و قال سبحانه: فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ (2).

11 - و قال سبحانه: فَلَوْ لاٰ كٰانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهٰا إِيمٰانُهٰا إِلاّٰ قَوْمَ يُونُسَ لَمّٰا آمَنُوا كَشَفْنٰا عَنْهُمْ عَذٰابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ مَتَّعْنٰاهُمْ إِلىٰ حِينٍ (3).

و هناك آيات أخرى تدل على تأثير الأعمال الطالحة في تغيير المصير كقوله تعالى: ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً قَرْيَةً كٰانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهٰا رِزْقُهٰا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللّٰهِ فَأَذٰاقَهَا اَللّٰهُ لِبٰاسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بِمٰا كٰانُوا يَصْنَعُونَ (4).

و قوله تعالى: ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهٰا عَلىٰ قَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (5).

و قوله تعالى: لَقَدْ كٰانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ، جَنَّتٰانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمٰالٍ ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ وَ بَدَّلْنٰاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوٰاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِمٰا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجٰازِي

ص: 227


1- سورة الصافات: الآيات 143-146.
2- سورة الأنبياء: الآية 88.
3- سورة يونس: الآية 98.
4- سورة النّحل: الآية 112.
5- سورة الأنفال: الآية 53.

إِلاَّ اَلْكَفُورَ (1) .

فقوله سبحانه: وَ هَلْ نُجٰازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ بعد عرض القصة، نصّ في كونه ضابطة إلهية جارية في الأمم جمعاء، و ليست مجازاة الكفور إلاّ سلب النعمة عنه.

و في هذه الآيات - في كلا الطرفين - دليل على ما نقول و لأجل إكمال البحث نذكر بعض الأحاديث:

الروايات و تأثير العمل في تغيير المصير

1 - قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «أفضل ما توسّل به المتوسلون الإيمان باللّه و صدقة السر، فإنها تذهب الخطيئة و تطفئ غضب الرب، و صنائع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء و تقي مصارع الهوان»(2).

2 - و قال الإمام الباقر: «صلة الأرحام تزكي الأعمال، و تنمي الأموال، و تدفع البلوى، و تيسّر الحساب، و تنسئ في الأجل»(3).

3 - و قال الصادق (عليه السّلام): «إنّ الدعاء يرد القضاء، و إنّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق»(4).

4 - و قال الإمام موسى الكاظم (عليه السّلام): «عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء و الطّلبة إلى اللّه عزّ و جل يرد البلاء. و قد قدّر و قضى فلم يبق إلاّ إمضاؤه، فإذا دعي اللّه عز و جل و سئل صرف البلاء صرفه»(5).

5 - و قال الإمام أبو الحسن الرضا (عليه السّلام): «يكون الرّجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيره اللّه ثلاثين سنة

ص: 228


1- سورة سبأ: الآيات 15-17.
2- البحار، ج 90، كتاب الذكر و الدعاء، الباب 16، الحديث 2.
3- الكافي، ج 2، ص 470.
4- البحار، ج 90، كتاب الذكر و الدعاء، الباب 16.
5- البحار، ج 90، باب فضل الدعاء و الحث عليه، ص 295.

و يفعل اللّه ما يشاء»(1).

هذا بعض يسير مما روي عن أئمة أهل البيت و قد روى أهل السنّة نظير هذه الروايات نذكر بعضها:

6 - روى السيوطي عن علي رضي اللّه عنه أنّه سأل رسول اللّه عن هذه الآية: «يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ » ، فقال: «لأقرّنّ عينيك بتفسيرها. و لأقرّنّ عين أمتي بعدي بتفسيرها: الصّدقة على وجهها، و برّ الوالدين، و اصطناع المعروف، يحول الشقاء سعادة و يزيد في العمر، و يقي مصارع السوء»(2).

7 - و أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: «لا ينفع الحذر من القدر، و لكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر»(3).

8 - و عن أبي هريرة عن النبي قال: «لا يردّ القضاء إلاّ الدعاء، و لا يزيد في العمر إلاّ البرّ»(4).

9 - و روى الحاكم في المستدرك بسنده عن ثوبان، قال: قال رسول اللّه: «لا يرد القدر إلاّ الدعاء. و لا يزيد في العمر إلاّ البر. و إنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه»(5).

10 - و روى عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «الدعاء ينفع مما نزل و ممّا لم ينزل، فعليكم عباد اللّه بالدعاء»(6).

و هذا قليل من كثير، و غيض من فيض مما ورد في تغيير المصير

ص: 229


1- الكافي، ج 2، ص 470.
2- الدرّ المنثور، ج 4، ص 66.
3- الدر المنثور، ج 4، ص 66.
4- التاج، ج 5، ص 111.
5- المستدرك، ج 1، ص 493.
6- المصدر السابق.

بالأعمال الصالحة و الطالحة، و قد نقلها أصحاب الصحاح و المسانيد، فمن أراد استقصاءها فليرجع إلى مظانّها.

و في الختام نذكّر بأنّ القول بوجود الرابطة بين الحسنات و السيئات و الحوادث الكونية لا يهدف إلى إبطال العلل الطبيعية و إنكار تأثيرها، كما لا يهدف إلى تشريك الحسنات و السيئات مع العوامل المادية. بل المراد إثبات علة في طول علة و عامل معنوي فوق العوامل المادية و إسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن بالترتيب.

الأمر الخامس - إمكان النسخ في التشريع و التكوين

إنّ المعروف من عقيدة اليهود أنهم يمنعون النسخ سواء أ كان في التكوين أم في التشريع. و قد استدلوا على امتناعه في التشريع بوجوه مذكورة في الكتب الأصولية أوضحها هو أنّ رفع الحكم الثابت لموضوعه إما أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة و علم ناسخه بها، و إما أن يكون من جهة البداء و كشف الخلاف على ما هو الغالب في نسخ الأحكام العرفية، فالأول ينافي حكمة الجاعل مع أنه حكيم. و الثاني يستلزم جهله تعالى. و كلاهما ممتنع.

و أجيب عنه في الكتب الأصولية بما مثاله: إنّ النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة كما لا يلزم منه البداء المحال في حقه. لأن معنى النسخ ارتفاع الحكم المجعول المقيّد بزمان معلوم عند اللّه و مجهول عند الناس.

و يكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لأجل انتهاء أمده الذي قيّد به، و حلول غايته الواقعية التي أنيط بها. و من المعلوم أنّ للزمان دخالة في مناطات الأحكام فيمكن أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة في سنين ثم يخلو عن تلك المصلحة بعد انتهائها. و عندئذ ربما تقتضي المصلحة بيان الحكم من دون بيان حدّه مع أنّ المراد لبّا هو المحدود بالحد الزماني، فالنسخ بهذا المعنى تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان، و لا يستلزم أحدا من التاليين المذكورين في الاستدلال.

ص: 230

و استدلّ اليهود على امتناع النسخ في التكوين(1) بأنّ قلم التقدير و القضاء إذا جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه.

و بعبارة أخرى: ذهبوا إلى أنّ اللّه قد فرغ من أمر النظام، و جف القلم بما كان، فلا يمكن للّه سبحانه محو ما أثبت و تغيير ما كتبه أوّلا.

و يردّ عليهم سبحانه في بيان إمكان هذا النسخ في مجال التكوين بالآية التالية: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ (2). و على ذلك فإنّ اللّه سبحانه باسط اليدين في مجال التكوين و التشريع، يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء و يثبت ما يشاء و يمحو ما يشاء لا يمنعه من ذلك مانع. و ما تتخيله اليهود، و ما انتحلوه من أنّ اللّه قد فرغ من الأمر و انتهى من الإيجاد و التكوين فصار مكتوف اليدين، مسلوب القدرة، فتردّه هذه الآية و ما سبقها من الآيات و الأحاديث. و هذا هو القرآن الكريم يصرّح بكونه تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (3).

و يقول أيضا: أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (4).

و الآية مطلقة غير مقيدة بزمان دون زمان. و لأجل ذلك ينسب إلى نفسه كل ما يرجع إلى الخلق و الإيجاد و يبين ذلك بصيغ فعلية استقبالية دالة على الاستمرار، و ناصّة على أنّ الفيض و الخلق و الإيجاد و التدبير بعد مستمر.

يقول سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يُزْجِي سَحٰاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكٰاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ ، وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ جِبٰالٍ فِيهٰا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشٰاءُ (5).

ص: 231


1- الذي يراد منه في مورد الإنسان أنّه مخيّر في حياته، غير مسيّر، و أنّ له تغيير مصيره بتغييره مسيره على ما تقدّم.
2- سورة الرعد: الآية 39.
3- سورة الرّحمن: الآية 29.
4- سورة الأعراف: الآية 54.
5- سورة النور: الآية 43.

فالأفعال المتعددة الواردة في هذه الآية أعني قوله: «يزجي»، «يؤلف»، «يجعل»، «يخرج»، «ينزل» تكشف عن كونه كل يوم هو في شأن و أنّ أمر الخلق و الإيجاد و التصرف بعد مستمر و لم يفرغ منه سبحانه كما تدعيه اليهود.

و قد حكى سبحانه عقيدة اليهود بقوله: وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ ... (1). فقول اليهود: يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ يعكس عقيدتهم الكلية في حق اللّه سبحانه، و أنّه مسلوب الإرادة تجاه كل ما كتب و قدّر و بالنتيجة عدم قدرته على الإنفاق زيادة على ما قدّر و قضى. فردّ اللّه سبحانه عليهم بإبطال تلك العقيدة أوّلا بقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ .

و ثانيا بقوله: بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ . و لأجل ذلك فسّر الإمام الصادق الآية المذكورة بقوله:

«إنّ اليهود قالوا: قد فرغ من الأمر فلا يزيد و لا ينقص. فقال اللّه جل جلاله تكذيبا لقولهم: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ (2).

إلى هنا تبين أنّ القول بتغيير المصير بالأعمال الصالحة و الطالحة يوافق الكتاب و السنة. و القول بأنّ المقدر لا يتغير و أنّ اللّه فرغ من الأمر يوافق قول اليهود.

و العجب أنّ بعض العقائد اليهودية تسربت إلى المجتمعات الإسلامية في بعض الفترات، فهذا عبد اللّه بن طاهر دعى الحسين بن فضل و قال له:

أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي... قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ و قد صح أنّ القلم قد جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة.

ص: 232


1- سورة المائدة: الآية 64.
2- التوحيد، باب معنى قوله عز و جل وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ، الحديث الأول، ص 167.

فأجاب الحسين - متأثرا بالعقيدة اليهودية - بقوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فإنها شئون يبديها لا شئون يبتدئها»(1).

و هذه العبارة من المسئول تكشف عن تسرب عقيدة اليهود إلى تلك الأوساط. و هو باطل بنفس الآية لأن معناها أنّه يحدث الأشياء و يبتدئ بها لا أنّه يبديها بعد ما ابتدأها في الأزل. و يظهر ذلك جليا بالمراجعة إلى الأحاديث التي نقلناها عن الصحاح حول القدر، فإن مضامينها تطابق هذه النظرية، و تعرب عن أنّ القدر في نظر هؤلاء عامل حاكم على كل شيء.

حقيقة البداء في ضوء الكتاب و السنّة

إذا عرفت هذه الأمور، تقف على أنّ المراد من البداء عند الشيعة الإمامية ليس إلاّ تغيير المصير و المقدّر بالأعمال الصالحة و الطالحة.

فليس الإنسان في مقابل التقدير مسيّرا بل هو - بعد - مخيّر في أن يغيّره بصالح أعماله أو بطالحها، حتى أنّ هذا (تمكن الإنسان من تغيير المصير بالعمل) أيضا جزء من تقديره سبحانه.

فبما أنه سبحانه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (2). و بما أنّ مشيئته حاكمة على التقدير، و بما أنّ العبد مختار لا مسيّر، فله أن يغيّر مصيره و مقدّره بحسن فعله و يخرج نفسه من عداد الأشقياء و يدخلها في عداد السعداء، كما أنّ له عكس ذلك.

و بما أنّ اللّه لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ (3)، فاللّه سبحانه لا يغير قدر العبد إلاّ بتغيير من العبد بحسن عمله أو سوئه. و لا يعد تغيير

ص: 233


1- الكشّاف، ج 3، ص 189. تفسير سورة الرّحمن.
2- سورة الرّحمن: الآية 29.
3- سورة الرعد: الآية 11.

التقدير الإلهي بحسن الفعل أو سوئه معارضا لتقديره الأول سبحانه، بل هو أيضا جزء من قدره و سنته. فإنّ اللّه سبحانه إذا قدّر لعبده شيئا و قضى له بأمر، لم يقدره و لم يقضه عليه على وجه القطع و الحتم، بحيث لا يغير و لا يتبدل، بل قضاؤه و قدره على وجه خاص، و هو أنّ ما قدّر للعبد يجري عليه ما لم يغير حاله بحسن فعل أو سوئه، فإذا غيّر حاله تغيّر قدر اللّه و قضاؤه في حقه و حلّ مكان ذلك القدر قدر آخر، و مكان ذلك القضاء قضاء آخر.

و الجميع (من القضاء و القدر السابقين و اللاّحقين) قضاء اللّه و قدره، و هذا هو البداء الذي تتبناه الإمامية من مبدأ تاريخها إلى هذا الوقت. و لأجل إيقاف الباحث على صدق هذا المقال نأتي ببعض النصوص لأقطابها القدماء حتى يعرف أنّ ما نسب إليها من معنى البداء أمر لا حقيقة له.

قال الشيخ الصدوق (ت 306 - م 381) في باب الاعتقاد بالبداء:

«إنّ اليهود قالوا: إنّ اللّه تبارك و تعالى قد فرغ من الأمر، قلنا: بل هو تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (1) لا يشغله شأن عن شأن. يحيي و يميت و يخلق و يرزق و يفعل ما يشاء. و قلنا: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ (2)»(3).

و قال الشيخ المفيد (ت 336 - م 413) في (شرح عقائد الصدوق): «قد يكون الشيء مكتوبا بشرط فيتغير الحال فيه، قال اللّه تعالى: ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ (4). فتبين أنّ الآجال على ضربين، و ضرب منها مشترط يصح فيه الزيادة و النقصان. أ لا ترى قوله تعالى: وَ مٰا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاٰ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ (5).

ص: 234


1- سورة الرّحمن: الآية 29.
2- سورة الرعد: الآية 39.
3- عقائد الصدوق، المطبوع في ذيل شرح الباب الحادي عشر، ص 73.
4- سورة الأنعام: الآية 2.
5- سورة فاطر: الآية 11.

و قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ (1).

فبيّن أن آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبر، و الانقطاع عن الفسوق.

و قال تعالى فيما أخبر به عن نوح (عليه السّلام) في خطابه لقومه:

اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كٰانَ غَفّٰاراً يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً... (2) إلى آخر الآيات.

فاشترط لهم في مدّ الأجل و سبوغ النعم، الاستغفار. فلما لم يفعلوا، قطع آجالهم و بتر أعمالهم و استأصلهم بالعذاب، فالبداء من اللّه تعالى(3)يختص بما كان مشترطا في التقدير و ليس هو الانتقال من عزيمة الى عزيمة، تعالى اللّه عما يقول المبطلون علوا كبيرا»(4).

و قال أيضا في (أوائل المقالات): «أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ و أمثاله، من الإفقار بعد الإغناء، و الإمراض بعد الإعفاء، و بالإماتة بعد الإحياء، و ما يذهب إليه أهل العدل خاصة من الزيادة في الآجال و الأرزاق و النقصان منها بالأعمال»(5).

و قال الشيخ الطوسي (ت 385 - م 460) في (العدة): «البداء حقيقة في اللغة هو الظهور، و لذلك يقال «بدا لنا سور المدينة» و «بدا لنا وجه الرأي». و قال اللّه تعالى وَ بَدٰا لَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا عَمِلُوا (6).

وَ بَدٰا لَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا كَسَبُوا (7) . و يراد بذلك كله «ظهر».

ص: 235


1- سورة الأعراف: الآية 96.
2- سورة نوح: الآيتان 10 و 11.
3- سيوافيك وجه إطلاق البداء على اللّه و أنّه من مقولة المجاز، كما قوله سبحانه وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ ، تمثيلا لفعل الباري بفعل البشر.
4- تصحيح الاعتقاد، باب معنى البداء، ص 25.
5- أوائل المقالات، باب القول في البداء و المشيئة، ص 53.
6- سورة الجاثية: الآية 33.
7- سورة الزمر: الآية 48.

و قد يستعمل ذلك في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلا و كذلك في الظن. و أمّا إذا أضيفت هذه اللفظة إلى اللّه تعالى فمنه ما يجوز إطلاقه عليه و منه ما لا يجوز. فأما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه و يكون إطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع. و على هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين (عليهم السّلام) من الأخبار المتضمنة لإضافة البداء إلى اللّه تعالى، دون ما لا يجوز عليه: من حصول العلم بعد أن لم يكن. و يكون وجه إطلاق ذلك على اللّه تعالى، التشبيه و هو أنّه إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهرا لهم و يحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلا لهم أطلق على ذلك لفظ البداء»(1).

و يريد الشيخ أن إطلاق البداء على اللّه تعالى لأجل كونه بداء في أذهان الناس، و ظهورا بعد خفاء، فكان ذلك مصححا لإطلاقه على اللّه سبحانه بالمجاز و التوسع، كما عرفت نظيره في بعض الألفاظ.

هذا بعض ما أفاده علماء الشيعة القدامى، و أما ما كتبه المتأخرون حوله فحدث عنه و لا حرج و في وسعك المراجعة إليه(2).

هذا هو الذي تقول به الشيعة و تسميه بداء، و أما غيرهم فيقولون به حسب ما مرّ من الآيات و الروايات و لا يسمونه بداء، فالنزاع في الحقيقة إنما هو في التسمية، و لو عرف المخالف أنّ تسمية فعل اللّه سبحانه بالبداء من باب المجاز و التوسع لما شهر سيوف النقد عليهم. و إن أبى حتى الإطلاق التجوزي فعليه أن يتبع النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) حيث أطلق لفظ البداء عليه سبحانه بهذا المعنى المجازي الذي قلناه، في حديث

ص: 236


1- عدة الأصول، ج 2، ص 29. و له كلام آخر في كتاب «الغيبة»، ص 262-264، طبعة النجف يحذو فيه حذو ما ذكره في (العدة) فليرجع إليه.
2- لاحظ مصابيح الأنوار، للسيد شبّر، ج 1، أجوبة موسى جار اللّه للإمام شرف الدين ص 101-103.

الأقرع و الأبرص و الأعمى: «بدا للّه عزّ و جلّ أن يبتليهم»(1).

فبأي وجه فسّر كلام النبي يفسر به كلام أوصيائه.

فاتضح بذلك أنّ التسمية من باب المشاكلة و أنّه سبحانه يعبر عن فعل نفسه في مجالات كثيرة بما يعبر به الناس عن فعل أنفسهم، لأجل المشاكلة الظاهرية، و لكونه مقتضى المحاورة مع الناس و التحدث معهم. و قد ذكرنا نماذج من ذلك فيما سبق.

و باختصار: إنّ البحث في حقيقة البداء المقصودة للإمامية أمر اتفق المسلمون حسب نصوص كتابهم و أحاديث نبيّهم عليه، و لا يمكن لأحد إنكاره.

و أما التسمية بالبداء فمن باب المشاكلة و المجاز، فمن لم يستسغه فليسمه باسم آخر «و ليتّق اللّه ربه في أخيه المؤمن، و لا يبخس منه شيئا»؛ وَ لاٰ تَبْخَسُوا اَلنّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لاٰ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اَللّٰهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2).

و بذلك تقف على أنّ ما ذكره الإمام الأشعري في (مقالات الإسلاميين)(3) و البلخي في تفسيره(4)، و الرازي في (نقد المحصّل)(5)، و غيرهم حول البداء، لا صلة له بعقيدة الشيعة فيه. فإنهم فسروا البداء للّه بظهور ما خفي عليه و الشيعة براء منه، بل البداء عندهم تغيير التقدير بالفعل الصالح و الطالح فلو كان هناك ظهور بعد الخفاء فهو بالنسبة إلينا لا بالنسبة إلى اللّه تعالى، بل هو بالنسبة إليه إبداء ما خفي و إظهاره. و لو أطلق عليه فمن باب التوسع.

ص: 237


1- النهاية في غريب الحديث و الأثر، للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك ابن محمد الجزري، ج 1 - ص 109.
2- سورة هود: الآيتان 85 و 86.
3- مقالات الإسلاميين و اختلاف المصلين، ص 107 و 109 و 119، طبعة محي الدين عبد الحميد.
4- نقله شيخنا الأكبر الطوسي في تفسيره: التبيان، ج 1، ص 13-14، طبعة النجف.
5- نقد المحصّل، ص 421.

بقيت أمور يجب التنبيه عليها:

1 - الأثر التربوي للبداء

إنّ الأثر التربوي الذي يترتب على القول بالبداء أمر لا يمكن إنكاره، كيف و الاعتقاد بالبداء يبعث الرجاء في قلوب المؤمنين، كما أنّ إنكاره و الالتزام بأنّ ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة دون استثناء، يترتب عليه اليأس و القنوط. فيستمر الفاسق في فسقه و الطاغي في طغيانه، قائلين بأنه إذا كان قلم التقدير مضى على شقائنا، فلأي وجه نغير نمط أعمالنا بأعمال البر و التضرع و الدعاء.

إنّ الاعتقاد بالبداء يضاهي الاعتقاد بقبول التوبة و الشفاعة و تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، فإنّ الجميع يبعث الرجاء في النفوس و يشرح قلوب الناس أجمعين، عصاة و مطيعين حتى لا ييأسوا من روح اللّه و لا يتصوروا أنّهم إذا قدر كونهم من الأشقياء فلا فائدة في السعي و الكدح بل يعتقدوا بأنّ اللّه سبحانه لم يجف قلمه في لوح المحو و الإثبات، فله أن يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء، و يسعد من شاء، و يشقي من شاء، حسب ما يتحلى به العبد من مكارم الأخلاق و صالح الأعمال أو يرتكب من طالحها و فاسدها. و ليست مشيئته سبحانه جزافية غير تابعة لضابطة حكيمة، فلو تاب العبد و عمل بالفرائض، و تمسك بالعصم، خرج من صفوف الأشقياء و دخل في عداد السعداء و بالعكس.

و هكذا كل ما قدر في حق الإنسان من الحياة و الموت و الصحة و المرض و الغنى و الفقر يمكن تغييره بالدعاء و الصدقة و صلة الرحم و إكرام الوالدين، فالبداء يبعث نور الرجاء في قلوب هؤلاء.

2 - البداء ليس تغييرا في علمه و لا في إرادته سبحانه

إنّ علمه سبحانه ينقسم إلى علم ذاتي و علم فعلي، فعلمه الذاتي نفس ذاته و هو لا يتغير و لا يتبدل، و أما علمه الفعلي فهو عبارة عن لوح المحو

ص: 238

و الإثبات، فهو مظهر لعلم اللّه في مقام الفعل، فإذا قيل بدا للّه في علمه فمرادهم البداء في هذا المظهر.

و إن شئت قلت: إنّ مراتب علمه سبحانه مختلفة، و محالّها متعددة.

فأولها و أعلاها العلم الذاتي المقدس عن التكثر و التغير و هو محيط بكل شيء و كل شيء حاضر عنده بذاته. ثم يليه علمه الفعلي و له مراتب و مظاهر كاللوح المحفوظ و لوح المحو و الإثبات و نفوس الملائكة و الأنبياء. فلو كان هناك تغيير فإنما هو في هذه المظاهر، و بالأخص لوح المحو و الإثبات.

فيقدر في ذلك اللوح كون الشخص من السعداء و لكنه يرتكب عملا طالحا يوجب التغيير فيه فيكتب من الأشقياء، و مثله خلافه. و إليه يشير سبحانه:

يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ .

فالظاهر من الآية أنّ أم الكتاب هو الكتاب الوسيع الأصيل الذي يكتب فيه تقدير الكائنات بجملتها و منها الإنسان، و لأجل ذلك يكون مصونا من التغيير، لانعكاس جميع التقديرات فيه جملة واحدة و هذا بخلاف لوح المحو و الإثبات فيكتب فيه التقدير الأول و لكنه لما كان مشروطا بشرط غير متحقق، يغيره التقدير الثاني.

و بذلك يظهر أنّ التغيير في التقدير لا يلازم التغيّر في العلم و لا التغيّر في الإرادة، و إنما التغيير في مظاهر علمه الفعلي أي ما خلقه من الألواح و النفوس التي تنعكس فيها تقاديره.

و على ضوء ذلك فما أخذه أبو زهرة المصري في كتابه (الإمام الصادق)، على الشيعة الإمامية في مسألة البدء ناشئ عن الغفلة عن محل المحو و الإثبات و طروء التغير و التحول حيث قال: «من البداء الزيادة في الآجال و الأرزاق و النقصان منها بالأعمال و لا شك أنّ الزيادة في الآجال، إن أريد ما قدّره اللّه تعالى في علمه الأزلي و الزيادة عما قدر، فذلك يقتضي تغيير علم اللّه، و إن أريد الزيادة عما يتوقعه الناس فذلك مما ينطبق عليهم قوله تعالى:

ص: 239

وَ بَدٰا لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ »(1).

فيلاحظ عليه أو لا: إنّ زيادة الآجال و الأرزاق أو نقصانها بالأعمال مما لم تنفرد به الشيعة الإمامية. و من العجيب أن يغفل عما رواه أئمة أهل الحديث، و قد ذكرنا جملة منها فيما سبق.

و ثانيا: إنّ الزيادة في الآجال و الأرزاق و إن كانت توجب التغيير في التقدير، لكنها لا توجب التغيير في علم اللّه أو مشيئته و إرادته.

و منشأ الخلط بين الأمرين هو جعل تقديره سبحانه نفس علمه الذاتي، و توهم أنّ التغيير في الأول يوجب التغيير في الثاني. بل التقدير إنما هو في مظاهر علمه التي تسمى علما فعليا، و هي عبارة عن الألواح الواردة في الكتاب و السنة: من المحفوظ، و المحو و الإثبات. فزعم الكاتب أنّ للّه علما واحدا و هو علمه الأزلي و أنّه هو مركز التقدير و استنتج منه أنّ القول بالبداء يستلزم تغيير العلم الذاتي.

نعم هو سبحانه يعلم من الأزل أي عبد يختار أي واحد من التقديرين على مدى حياته، و أي عبد ينتقل من تقدير إلى تقدير، فليس هاهنا تقدير واحد بل التقديرات بجملتها موجودة هناك بوجود جمعي لا يستلزم الكثرة و التثني.

3 - البداء في التقدير الموقوف لا المحتوم

إنّ البداء (تغيير التقدير بالأعمال) إنما يتصور في التقدير الموقوف.

و أما القطعي المحتوم فلا يتصور فيه. و توضيح ذلك بما يلي:

إنّ للّه سبحانه قضاءين: قضاء قطعيا و قضاء معلقا، أما الأول فلا يتطرق إليه البداء و لا يتغير أبدا.

ص: 240


1- الإمام الصادق، لأبي زهرة، ص 238.

و أما الثاني فهو الذي يتغير بالأعمال الصالحة و الطالحة. و قد صرّح أئمتنا في أحاديثهم بهذا الأمر و نصّوا على هذا التقسيم.

و المراد من التقدير الحتمي ما لا يبدل و لا يغير و لو دعي بألف دعاء.

فلا تغيّره الصدقة و لا شيء من صالح الأعمال أو طالحها. و ذلك كقضائه سبحانه للشمس و القمر مسيرا إلى أجل معين، و للنظام الشمسي عمرا محددا، و تقديره في حق كل إنسان بأنه يموت، إلى غير ذلك من السنن الثابتة الحاكمة على الكون و الإنسان.

و المراد من الثاني الأمور المقدّرة على وجه التعليق، فقدّر أن المريض يموت في وقت كذا إلاّ إذا تداوى، أو أجريت له عملية جراحية أو دعي له و تصدّق عنه و غير ذلك من التقادير التي تتغير بإيجاد الشرائط و الموانع، و اللّه سبحانه يعلم في الأزل كلا التقديرين: الموقوف، و تحقّق الموقوف عليه و عدمه. و له نظائر حتى في التشريع الكلي و السنن الوسيعة الإلهية، فقد قضى سبحانه في حق المسرفين بأنهم أصحاب النار، و قال حاكيا عن مؤمن آل فرعون:

وَ أَنَّ مَرَدَّنٰا إِلَى اَللّٰهِ وَ أَنَّ اَلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ (1) .

غير أنّ هذا التقدير حتى بصورته الكلية ليس تقديرا قطعيا غير قابل للتغيير بشهادة قوله سبحانه: قُلْ يٰا عِبٰادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لاٰ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّٰهِ (2). و الهدف من الآيتين تقوية حرية الإنسان و تفهيمه بأن له الخيار في اختيار أي واحد شاء من التقديرين.

و إليك بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت حول هذا التقسيم:

سئل أبو جعفر الباقر (عليه السّلام) عن ليلة القدر، فقال: «تنزل فيها الملائكة و الكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما هو كائن في أمر السنة.

ص: 241


1- سورة غافر: الآية 43.
2- سورة الزّمر: الآية 53.

قال: و أمر موقوف للّه تعالى فيه المشيئة، يقدّم منه ما يشاء و يؤخر ما يشاء.

و هو قوله: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ »(1).

و روى الفضيل قال: سمعت أبا جعفر يقول: «من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة، و من الأمور أمور موقوفة عند اللّه يقدم منها ما يشاء، و يثبت منها ما يشاء، لم يطلع على ذلك أحدا - يعني الموقوفة - فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه و لا نبيه و لا ملائكته»(2).

و في حديث قال الرضا (عليه السّلام) لسليمان المروزي: «يا سليمان إنّ من الأمور أمورا موقوفة عند اللّه تبارك و تعالى يقدم منها ما يشاء و يؤخر ما يشاء»(3).

هذا بعض ما ورد في تقسيم التقدير إلى قسميه.

و قد خرجنا بهذه النتيجة و هي: إنّ التقدير على نوعين موقوف و غير موقوف، و اللّه سبحانه من وراء الكل واقف على تحقق الموقوف عليه.

4 - الأجل و الأجل المسمى:

إنّ القرآن الكريم يصف الكائنات السّماوية و الأرضية بأنّ لها «أجلا» و «أجلا مسمى». فما هو المراد منهما؟.

إنّ «الأجل» بلا قيد هو التقدير الموقوف. «و الأجل المسمى» هو المحتوم. و إليك بيانه:

قال سبحانه: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً، وَ أَجَلٌ

ص: 242


1- بحار الأنوار، ج 4، ص 102، باب البداء، الحديث 14، نقلا عن أمالي الطوسي.
2- المصدر السابق، ص 119، الحديث 58.
3- المصدر السابق، ص 95، الحديث 2.

مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (1) .

قال سبحانه: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً، وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّٰى مِنْ قَبْلُ ، وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2).

إنّ اللّه سبحانه جعل للإنسان في هاتين الآيتين أجلين مطلقا و مسمّى، كما أنّه جعل للشمس و القمر أجلا مسمّى، قال سبحانه: وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى (3). و مثله في سورة الزّمر المباركة، الآية الخامسة. و إليك توضيح مفهوم الأجلين بالمثال التالي:

إذا وهب اللّه تعالى لأحدنا ولدا و أجريت عليه مختلف الفحوص الطبية بحيث اطمأن الأطباء أنّ باستطاعة هذا الوليد أن يحمل أعباء الحياة إلى مائة سنة، فمن الواضح أنّ معنى هذا ليس أكثر من «الإمكان» أو «الاقتضاء».

و ليس معناه أنه يعيش هذه المدة كيفما كان، و في أي وضع كان، بل هو مشروط بشروط عديدة، منها استمرار صحته و عدم عروض مانع لاستمرار بقائه، حتى تصل هذه القابلية من القوة إلى الفعلية. و إلاّ فربما يموت قبل أن يصل إلى تلك المدة.

و على ضوء هذا فللطفل من يومه الأول أجلان:

1 - أجل مطلق، و هو إمكانه و اقتضاؤه للبقاء، و قابليته الجسمية لمدة مائة سنة من العمر. و حيث إنّ لاستمرار البقاء في هذا الكواكب سلسلة من الشرائط و المقتضيات، و لا يعلم بالجزم و اليقين تحققها، يكون هذا أجلا مبهما لا محتوما و مبرما.

2 - أجل محتوم، و هو مقدار عيشه حسب تحقق شروطه في الواقع

ص: 243


1- سورة الأنعام: الآية 2.
2- سورة غافر: الآية 67.
3- سورة الرعد: الآية 2.

و نفس الأمر، أو عدم تحققها. و هذا هو الذي لا يقف عليه إلاّ الخبير و المحيط بالعالم و تحقق الشرائط و عدمها و ما يعرض على الطفل في مسير حياته، و ليس هو إلاّ اللّه سبحانه. إذ هو الذي يعلم ما يعرض للطفل مما يوجب طول حياته أو قصرها.

و هذا تقدير مقطوع به بعيد عن أي إبهام و ترديد.

و قد عبّر القرآن الكريم عن الأول بالأجل، الشامل بإطلاقه للموقوف و المحتوم و الممكن و المتحقق، و عن الثاني بالأجل المسمّى، الشامل لخصوص المحتوم، و خصّ العلم بالأجل المسمّى بنفسه تعالى، دون العلم بالأجل المطلق، فقال: وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ . و لأجل أنّ شرائط الحياة للإنسان تختلف حسب توفر الشروط و عدمها جعل للإنسان أجلين، مع أنه لم يجعل للشمس و القمر إلاّ أجلا واحدا و هو الأجل المسمّى.

و إلى الأجل المسمى يشير قوله سبحانه: فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ (1).

و إلى ما ذكرنا من التفسير يشير الإمام الصادق بقوله: «أجل مسمى؛ و هو قوله تعالى: فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ و أجل غير مسمى يتقدم و يتأخر»(2).

و قال (عليه السّلام) أيضا في تفسير قوله سبحانه: ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ .

قال: «الأجل الذي غير مسمى موقوف يقدم منه ما يشاء و يؤخر منه ما شاء، و أما الأجل المسمى فهو الذي ينزل ممّا يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل، فذلك قول اللّه: فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ »(3).

ص: 244


1- سورة الأعراف: الآية 34 و سورة النحل: الآية 61.
2- أصول الكافي، ج 1، ص 71.
3- البحار، ج 4، ص 116، الحديث 44. و لاحظ الأحاديث 45 و 46 و 47.

و قد فسّر غير واحد من المفسرين كلا الأجلين بما ذكرنا، و ذكر الرازي الوجه المروي عن حكماء الإسلام و قال:

«إنّ لكل إنسان أجلين أحدهما: الآجال الطبيعية و الثاني الآجال الاخترامية. أما الآجال الطبيعية فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصونا عن العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني. و أمّا الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بالأسباب الخارجية كالغرق و الحرق و غيرهما من الأمور المنفصلة»(1).

و قال العلاّمة الطباطبائي: «إنّ الأجل أجلان: الأجل على إبهامه، و الأجل المسمى عند اللّه تعالى. و هذا هو الذي لا يقع فيه تغيير لمكان تقييده بقوله «عنده»، و قد قال تعالى: وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ بٰاقٍ . و هو الأجل المحتوم الذي لا يتغير و لا يتبدل، قال تعالى: إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ فَلاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ (2). فنسبة الأجل المسمى إلى الأجل غير المسمى، نسبة المطلق المنجز إلى المشروط المعلق، فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذي علّق عليه، بخلاف المطلق المنجز، فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البتة.

و التدبّر في الآيات يفيد أنّ الأجل المسمى هو الذي وضع في أم الكتاب، و غير المسمى من الأجل هو المكتوب فيما نسميه ب «لوح المحو و الإثبات».

و بتعبير آخر: إنّ أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى أسبابها التامة التي لا تتخلف عن تأثيرها، و لوح المحو الإثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب الناقصة التي ربما نسميها بالمقتضيات التي يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها»(3).

ص: 245


1- مفاتيح الغيب للرازي، سورة الأنعام، آية 2.
2- سورة يونس: الآية 49.
3- الميزان، ج 7، تفسير سورة الأنعام، الآية الثانية، ص 9.

نعم، يقع السؤال عن نكتة ذينك التحديدين، و أنه إذا كان الأجل غير المسمى يختلف مع المسمى غالبا، فأي فائدة في ترسيمه ؟.

و لكن الإجابة عنه واضحة، و هي أن ترسيمه يثير النشاط في المجتمع الإنساني حتى يقوم بتهيئة الشرائط و رفع الموانع للبلوغ إلى ذلك الأجل و العمر الطويل الذي حدّدوه بمائة و عشرين سنة.

أضف إلى ذلك أنّ هذين الترسيمين نتيجة ارتباط أجزاء الكون و تأثيره في الوجود الإنساني فإن التركيب الخاص للشخص الإنساني و إن كان يقتضي أن يعمّر العمر الطبيعي، و هذا يقتضي تحديدا له من حيث هو نفسه، و لكن بما أنّ أجزاء الكون مؤثرة في حياة الإنسان، فربما تفاعلت الأسباب و الموانع التي لا نحصيها و لا نحيط بها، فأدى إلى حلول أجله قبل أن ينقضي الأجل الطبيعي و هو المسمى بالموت الاخترامي. و ليس يختص الاخترامي بالحوادث المنفصلة كالموت و الحرق كما عليه الرازي في تفسيره، بل يعم فقدان شرائط الحياة، و سوء التغذية، و هجوم الغصص و الحوادث النفسية المؤلمة.

5 - ما يترتب على البداء في مقام الإثبات

إذا كان البداء هو تغيير المصير بالعمل الصالح و الطالح، و أنّه يقع في الأمور الموقوفة لا المحتومة، يسهل على الباحث علاج الإخبار بالمغيبات من جانب الأنبياء مع عدم تحققه.

و نرى من هذه الإخبارات نماذج في الكتاب و السنّة:(1) - رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل، و رؤيا الأنبياء وحي(1)، فتلك الرؤيا الصادقة تحكي عن حقيقة ثابتة و واقعية مسلّمة، و هو أمر اللّه لإبراهيم بذبح ولده أولا، و تحقق ذلك في عالم الوجود ثانيا، و كأنّ

ص: 246


1- لاحظ الدر المنثور، ج 5، 280.

قوله: إِنِّي أَرىٰ فِي اَلْمَنٰامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يكشف عن أمرين:

أ - الأمر بذبح الولد و هو أمر تشريعي.

ب - الحكاية عن تحقق ذلك في الواقع الخارجي. فقد أخبر إبراهيم بذلك من طريق الوحي. و أخبر هو ولده بذلك.

و مع ذلك كله لم يتحقق و نسخ نسخا تشريعيا، كما نسخ نسخا تكوينيا. و يحكي عن كلا الأمرين قوله سبحانه: وَ فَدَيْنٰاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ .

فينطرح في ذهن الإنسان: كيف يجوز أن يخبر النبي بشيء من المغيبات ثم لا يتحقق ؟! (1) - إنّ يونس (عليه السّلام) أخبر قومه بنزول العذاب و أنّه مصيبهم. و مع ذلك كله لم يأتهم(2) يقول سبحانه:

فَلَوْ لاٰ كٰانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهٰا إِيمٰانُهٰا إِلاّٰ قَوْمَ يُونُسَ لَمّٰا آمَنُوا كَشَفْنٰا عَنْهُمْ عَذٰابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ مَتَّعْنٰاهُمْ إِلىٰ حِينٍ (2) .(3) - ما جاء في قصة موسى بن عمران حيث إنّ موسى أخبرهم بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة كما عن ابن عباس حيث قال: «إنّ موسى قال لقومه إنّ ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه، و أخلف هارون فيكم، فلما فصل موسى إلى ربه زاده اللّه عشرا، فكانت فتنتهم في العشر التي زادها اللّه»(3). قال سبحانه: وَ وٰاعَدْنٰا مُوسىٰ ثَلاٰثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنٰاهٰا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقٰاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قٰالَ مُوسىٰ لِأَخِيهِ هٰارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاٰ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ (4).

ص: 247


1- سورة يونس: الآية 98.
2- مجمع البيان، ج 3، ص 135. و تفسير الطبري و تفسير الدر المنثور.
3- الدر المنثور، ج 3، ص 115.
4- سورة الأعراف: الآية 142.

هذه جملة الإخبارات التي وردت في القرآن و التي أخبر بها الأنبياء و لم تتحقق و قد جاء نظير ذلك في الروايات الإسلامية نذكر منها:

ما روي عن المسيح عيسى بن مريم أنّه مرّ بقوم مجلبين. فقال ما لهؤلاء؟ قيل يا روح اللّه إنّ فلانة بنت فلانة تهدى إلى فلان بن فلان في ليلتها هذه.

قال: يجلبون اليوم و يبكون غدا. فقال قائل منهم: و لم يا رسول اللّه ؟.

قال: لأن صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه... فلما أصبحوا جاءوا فوجدوها على حالها لم يحدث بها شيء.

فقالوا يا روح اللّه إنّ التي أخبرتنا أمس أنها ميتة لم تمت. فقال عيسى: يفعل اللّه ما يشاء فاذهبوا بنا إليها.. حتى قرعوا الباب فخرج زوجها فقال له عيسى استأذن لي على صاحبتك. فتخدرت، فدخل عليها. فقال لها: ما صنعت ليلتك هذه ؟ قالت كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. و إنّه جاءني في ليلتي هذه و أنا مشغولة بأمري و أهلي بمشاغل، فلما سمعت مقالته قمت متنكرة حتى نلته كما كنّا ننيله.

ففي هذه اللحظة قال عيسى لها تنحي عن مجلسك. فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة عاض على ذنبه.

فقال (عليه السّلام): بما صنعت صرف عنك هذا»(1).

و منها - ما روي أنّه مرّ يهودي بالنبي فقال: السام عليك، فقال النبي له: و عليك.

فقال أصحابه: إنما سلّم عليك بالموت، فقال الموت عليك! فقال النبي: و كذلك رددت.

ص: 248


1- بحار الأنوار، ج 4، ص 94، ذكرنا الرواية بتلخيص.

ثم قال (صلّى اللّه عليه و آله) لأصحابه: إنّ هذا اليهودي يعضه أسود في قفاه فيقتله.

فذهب اليهودي فاحتطب حطبا فاحتمله ثم لم يلبث أن انصرف. فقال له ضعه، فوضع الحطب: فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود.

فقال (صلّى اللّه عليه و آله). يا يهودي ما عملت اليوم ؟ قال ما عملت عملا إلاّ حطبي هذا فحملته فجئت به، و كان معي كعكتان فأكلت واحدة و تصدقت بواحدة على مسكين. فقال رسول اللّه: بها دفع اللّه عنه. و قال: إن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان(1).

و هناك نظائر لما مضى لا تخرج عن عدد الأصابع.

تبيين الحال في هذه الإخبارات الغيبية

يقع الكلام في هذه الملاحم و الأخبار الغيبية تارة من جهة أن الأنبياء كيف علموا بهذا الأمر الموقوف، و لم يعلموا بالأمر الموقوف عليه.

و أخرى أنّ هذا الإخبار مع عدم الوقوع كيف لا يعد تكذيبا لقولهم ؟ أما الأول، فلا شك أنّ النبي إذا أخبر بشيء ثم حصل البداء في تحققه فلا بد أن يستند في إخباره إلى شيء يكون مصدرا لإخباره و منشأ لاطلاعه. فيمكن أن يكون المصدر اتصاله بعالم لوح المحو و الإثبات، فاطلع على المقدّر، و لم يطلع على كونه معلقا على أمر غير واقع، لعدم إحاطة ذلك اللوح بجميع الأشياء.

كما أنه يمكن أن تتعلق مشيئته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه، لحكمة داعية إلى إظهاره، فيلهم أو يوحي إلى نبيه مع علمه سبحانه بأنه يمحوه.

نعم، من شملته العناية الإلهية و اتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ تنكشف عنده الواقعيات على ما هي عليها، و إن كان ذلك قليل كما يتفق ذلك لخاتم الأنبياء و بعض الأوصياء.

ص: 249


1- بحار الأنوار، ج 4، ص 118.

و على ضوء ذلك فالحكم الذي يوحى إلى الأنبياء، تارة يكون ظاهرا في الاستمرار و الدوام، مع أنه في الواقع له غاية و حدّ يعيّنه بخطاب آخر.

و أخرى يكون ظاهرا في الجد مع أنّه لا يكون جديا واقعا، بل لمجرد الاختبار و الابتلاء.

و ثالثة يوحى إليهم بالإخبار بوقوع عذاب لحكمة في هذا الإخبار، و مع ذلك لا يقع.

هذه هي الجهات التي يمكن أن تكون مصدرا لعلمه و اطلاعه. و الكل يرجع إلى وقوفه على المقتضيات و عدم وقوفه على العلة التامة. فلأجل ذلك صح له أن يخبر عن التقدير الأول لأجل وجود المقتضى، و لو اطلع على العلة التامة لأخبر عن التقدير الثاني. و لا بعد في أن يخفي تعالى على نبيه شرائط التقدير الأول و موانعه لأجل مصالح يعلمها اللّه سبحانه.

فقد كان هناك مصلحة في الإخبار عن تحقق ذبح إسماعيل، و نزول العذاب إلى قوم يونس، و كون الميقات ثلاثين يوما، و أنّ العروس و اليهودي يقتلان. فللّه سبحانه في إخباره و إظهاره حكم و مصالح نقف على بعضها و لا نحيط بجملتها.

هذا كله حول مصدر علم النبي في إخباره.

و أما الثاني، و هو أنّ إخبار النبي بشيء و عدم وقوعه يعد في نظر الناس تكذيبا للنبي. فنقول: إنّ المغيبات التي وقع فيها البداء إنما توجب معرضية الأنبياء لوصمة الكذب و التقول بالخلاف إذا لم يكن هناك قرائن تدل على صدق مقالهم، و لذلك نرى أن عيسى (عليه السّلام) لما أخبر أصحابه بأن العروس ستهلك، برهن على صدق مقاله بإراءة الأفعى تحت مجلسها كما أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) برهن على صدق إخباره بهلاك اليهودي بالأمر بوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود.

و نظيره قصة إبراهيم، فإن في التفدية بذبح عظيم دلالة على صدق ما أخبر به الخليل من الرؤيا. كما أنّ الحال كذلك في قصة يونس حيث أخبر عن العذاب، و قد رأى القوم طلائعه، فقال لهم العالم: افزعوا إلى اللّه

ص: 250

فلعله يرحمكم و يرد العذاب عنكم، فاخرجوا إلى المفازة، و فرّقوا بين النساء و الأولاد، و بين سائر الحيوانات و أولادها، ثم ابكوا و ادعوا ففعلوا فصرف عنهم العذاب(1).

و بالجملة، إذا كانت إخبارات النبي مقترنة بالقرائن الدالة على صدق اخباره، و أنّ الوقوع كان حتميا قطيعا لو لا فعل ما فعلوه، لما عدّ ذلك تقولا بالخلاف، بل يعد من دلائل الرسالة.

و على ذلك فإخباراتهم الغيبية إما كانت على وجه التعليق في اللفظ، كما في قصة يونس، حيث روي أنه قال لقومه: «إنّ العذاب مصبحكم بعد ثلاث إن لم تتوبوا»(2). أو في اللب، كما إذا دلت القرائن الماضية على أنّ كلامه كان معلقا على مشيئته سبحانه، و كانت مشيئته سبحانه معلقة على عدم صدور أمر يدفع العذاب.

و أنت إذا أحطّت بما ذكرنا من الأمور تقف على مدى صحة ما نقله الرازي عن سليمان بن جرير من أنّ أئمة الرافضة وضعوا القول بالبداء لشيعتهم، فإذا قالوا سيكون لهم أمر و شوكة ثم لا يكون الأمر على ما أخبروا، قالوا: بدا للّه تعالى(3)!. و كأنّ الرجل كان غافلا عن تلك المعارف العليا في الكتاب و السنّة.

و نضيف أخيرا بأنّ هذا النوع من الإخبارات التي تعد نتيجة للبداء لا نفس البداء، لا تتجاوز في كلمات الأئمة عن مواضع أربعة(4)، ذكر تفصيلها في موضعها، فكيف يدّعي الرازي وضع ضابطة كلية ؟!

ص: 251


1- مجمع البيان، ج 3، ص 153.
2- مجمع البيان، ج 3، ص 135.
3- نقد المحصل، للرازي، ص 421.
4- راجع في تفسير ذلك كتاب «البداء في ضوء الكتاب و السنة» للأستاذ دام حفظه ص 107-108.

ص: 252

الفصل السادس العدل الإلهي و أفعال العباد

اشارة

* الجبر الأشعريّ .

* الجبر الفلسفيّ .

* الجبر الماديّ .

* الاختيار المعتزليّ .

* الاختيار لدى الوجوديين.

* الاختيار في مذهب الأمر بين الأمرين.

ص: 253

ص: 254

العدل الإلهي و أفعال العباد

اشارة

قد عرفت أنّ العدل من صفاته سبحانه، و كأن هذا الوصف يقتضي البحث عن كيفية صدور أفعال العباد منهم، و هل هم فاعلون بالاختيار أو بالجبر و الإلجاء؟ و الأول موافق لعدله سبحانه و الثاني يخالفه. و لكننا أفردنا المسألة بالبحث لتشعب شقوقها و كثرة ما طرح فيها من الإشكالات و قبل الخوض في المقصود نقدم أمورا:

الأمر الأول: في كون المسألة عامة

إنّ الوقوف على كيفية صدور فعل الإنسان منه، و إن كان مسألة فلسفية، غاصّ فيها كبار المفكرين من الفلاسفة الذين يقدرون على تحليل المسائل العامة في الفلسفة الإلهية، إلاّ أنّ اشتمال المسألة على خصيصة خاصة و هي صلتها بمصير الإنسان في مسيره جعلتها مسألة مطروحة أيضا بين البسطاء و العاديين من الناس. و لأجل ذلك تغايرت فيها أفكارهم و آراؤهم.

فهذه المسألة من حيث العمومية كالمسائل الثلاث الفلسفية التي يتطلع

ص: 255

كل إنسان إلى حلّها سواء أقدر عليه أم لا و هي: من أين جاء؟ و لما ذا جاء؟ و إلى أين يذهب ؟.

و لأجل هذه الخصيصة في المسألة لا يمكن تحديد زمن تكوّن هذه المسألة في البيئات البشرية و مع ذلك فالمسألة كانت مطروحة في الفلسفة الإغريقية، إشراقيّها و مشّائيها، ثم تسربت إلى الأوساط الإسلامية و منها تسربت إلى المجتمعات الغربيّة، كغيرها من المسائل و العلوم الإسلامية.

الأمر الثاني: في الجبر بأقسامه

إن أحد شقوق هذه المسألة هو القول بالجبر، و أنّ الإنسان مسلوب الاختيار، و لكن تصويره يختلف حسب نفسيات الباحث و الملاكات التي يجعلها محور البحث. فالإلهي القائل بالجبر، يطرحه على نمط مغاير لما يطرحه المادي و الفلسفي القائلين به. فالإلهي لا يصوّر للجبر عاملا سوى ما يرتبط باللّه سبحانه من تقديره و قضائه أو علمه الأزلي أو مشيئته القديمة المتعلقة بأفعال الإنسان(1). و المادي بما أنه غير معتقد بهذه المبادي يسند الجبر إلى العامل المادي و هو «الوراثة» و «التعليم» و «البيئة»، التي تسمى بمثلث الشخصية، و أنّ نفسيات كل إنسان و روحياته تتكون في ظل هذه العوامل الثلاثة، و هي عوامل خارجة عن الاختيار. و من المعلوم أنّ فعل كل إنسان رد فعل لشخصيته و ملكاته التي اختصرت فيها.

و للفلاسفة القائلين بالجبر منحى آخر فيه. فتارة يستندون إلى أنّ الإرادة الإنسانية هي العلة التامة للفعل، بحيث إذا حصلت في ضمير الإنسان يندفع إلى الفعل بلا مهلة و انتظار، و بما أنّ الإرادة ليست أمرا

ص: 256


1- هذه ثلاثة من العوامل التي دفعت الأشاعرة إلى القول بالجبر. و هناك عامل رابع، و هو القول يكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه مباشرة. و عامل خامس و هو ما يبدو من القرآن الكريم من نسبة الهداية و الضلالة إلى اللّه سبحانه و هذه هي النقاط الرئيسية لأبحاثهم في المسألة.

اختياريا، تتسم أفعال الإنسان بسمة الجبر لانتهائها إليها.

و أخرى إلى انتهاء العلل الطولية إلى ذاته سبحانه فهو العلة التامة لتلك السلسلة، فيكون النظام الخارجي و منه الإنسان و فعله واجب التحقق و ضروري الكون.

و ثالثة إلى أن الشيء ما لم تجتمع أجزاء علته، فلا يتحقق في الخارج، فوجود كل شيء و منه فعل الإنسان ضروري التحقق عند اجتماع أجزاء علته التامة. و ما هو كذلك كيف يتسم بالاختيار. و إلى ذلك يشير قولهم: «الشيء ما لم يجب لم يوجد».

فهذه ملاكات ثلاثة للذهاب إلى الجبر عند بعض الفلاسفة.

و بذلك يتضح أنّ القول بالجبر ينقسم إلى أقسام تبعا للقول بملاكات خاصة فينقسم إلى:

1 - جبر إلهي مسند إلى علّة سماوية.

2 - جبر مادي مسند إلى علل مادية.

3 - جبر فلسفي مسند إلى علة نفسية و غيرها.

و لأجل ذلك يجب البحث عن كل قسم على حدة.

الأمر الثالث: في الاختيار بألوانه

و من شقوق هذه المسألة القول بالاختيار و هو ينقسم حسب انطلاق القائلين به عن مواضع مختلفة، إلى أقسام:

1 - الاختيار بمعنى التفويض، بمعنى أنه ليس للّه سبحانه أي صنع في فعل العبد، و أن ذات الإنسان و إن كانت مخلوقة للّه سبحانه، و لكن لا يمت فعله إليه بصلة، فهو مستقل في فعله و في إيجاده و تأثيره، حفظا لعدله سبحانه. فيكون الإنسان في هذه النظرية خالقا ثانيا في مجال أفعاله، كما أنه سبحانه خالق في سائر المجالات. و هذا مذهب «المعتزلة».

ص: 257

2 - الاختيار بمعنى تكوّن الإنسان بلا لون و ماهية، و أنّه مذ يرى النور يوجد بلا خصوصية و لا نفسية خاصة، بل يكتسب الكل بإرادته و فعله، لأنه لو ظهر على صفحة الوجود مع الخصوصية المعينة لزم كونه مجبورا في الحياة، و هذا هو منطق الوجوديين في الغرب.

و بذلك تقف على أنّ المعتزلة تنطلق من مبدأ العدل، كما أنّ الوجوديين ينطلقون من مبدأ تكون الإنسان بلا لون و لا ماهية.

3 - الاختيار بمعنى الأمر بين الأمرين لا على نحو الجبر و لا على نحو التفويض. و هذا هو موقف القرآن الكريم و أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) كما سيوافيك شرحه.

و بذلك تقف على أنّ الجبر لا يختص بالإلهي بل يعمه و المادي، كما أنّ الاختيار مثله. فالإلهي و المادي تجاه هذه المسألة متساويان و الاختلاف في ذلك ينطلق من الطرق التي يسلكها المستدل، فيلزم لتوضيح البحث إفراد كل واحد من هذه المناهج عن البقية حتى يكون الباحث على بصيرة.

الأمر الرابع: الجبر على مسرح التاريخ الإسلامي

الآيات القرآنية و المأثورات التاريخية تشهد بأن فكرة الجبر كانت موجودة قبل الإسلام و قد ذكرنا بعض الآيات الدالّة على أنّ المشركين كانوا معتقدين بذلك عند البحث عن القضاء و القدر.

و من المؤسف أن يكون الاعتقاد السائد بين بعض أهل الحديث هو القول بالجبر لعلل سياسية من السلطات الغاشمة، و احتكاكات ثقافية مشبوهة بين المستسلمين من الأحبار و الرهبان، و المسلمين. و قد وقفت على بعض النصوص في ذلك فيما مضى. و إليك ما له صلة بهذا المقام.

1 - نقل القاضي عبد الجبار عن أبي علي الجبّائي في كتاب (فضل الاعتزال): «ثم حدث رأي المجبرة من معاوية لما استولى على الأمر،

ص: 258

و حدث من ملوك بني أمية مثل هذا القول. فهذا الأمر الذي هو الجبر نشأ في بني أمية و ملوكهم و ظهر في أهل الشام ثم بقي في العامّة و عظمت الفتنة فيه»(1).

2 - و قال ابن المرتضى: «ثم حدث رأي المجبرة من معاوية و ملوك بني مروان فعظمت به الفتنة»(2).

3 - و هذا معبد الجهني و هو أول من قال بنفي القدر بمعنى نفي الجبر و نشر هذه الفكرة، فقتله الحجّاج بن يوسف الثقفي الذي تولى إمارة العراق من قبل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام 80. و قيل إنّ الذي تولى قتله صلبا هو نفس عبد الملك بن مروان(3).

4 - و هذا غيلان الدمشقي أخذ القول بالاختيار عن معبد الجهني، فنشر الفكرة في دمشق فكاد عمر بن عبد العزيز أن يقتله لو لا أن تراجع غيلان عن رأيه و أعلن توبته و لكنه عاد إلى هذا الكلام أيام هشام بن عبد الملك فأمر هشام بصلبه على باب دمشق، بعد أن أمر بقطع يديه و رجليه، عام 125(4).

5 - قال ابن الخياط: إنّ هشام بن عبد الملك لما بلغه قول غيلان بالاختيار، قال له: ويحك يا غيلان لقد أكثر الناس فيك، فنازعنا في أمرك، فإن. كان حقا اتّبعناك. فاستدعى هشام، ميمون بن مروان ليكلمه فقال له غيلان: أشاء اللّه أن يعصى. فأجابه ميمون: أ فعصي كارها؟ فسكت غيلان. فقطع هشام بن عبد الملك يديه و رجليه(5).

6 - و جاء في رواية ابن نباتة: إنّ عمر بن عبد العزيز لما بلغه قول

ص: 259


1- فضل الاعتزال، ص 122.
2- البحر الزخار، لابن المرتضى، ج 1، ص 39، س 17.
3- الكامل لابن الأثير ج 4، ص 456.
4- تاريخ الطبري ج 5، ص 516. و الكامل، ج 5، ص 363.
5- الانتظار لابن الخياط، ص 139.

غيلان بالاختيار استدعاه و قال له: ما تقول ؟ قال: أقول ما قال اللّه.

قال: و ما قال اللّه ؟ قال: إنّ اللّه يقول: هَلْ أَتىٰ عَلَى اَلْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً... حتى انتهى إلى قوله سبحانه: إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً .

قال له عمر بن عبد العزيز: اقرأ.

فلما بلغ إلى قوله سبحانه: وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً ، قال: يا ابن الأتانة، تأخذ بالفرع و تدع الأصل!!(1).

فهذه النصوص التاريخية تفيد أولا: إن السلطة الأموية من لدن عصر معاوية إلى آخر حكّامها كانت تروّج فكرة الجبر، و تسوس من يقول بالاختيار بسياسة الإرهاب و القمع، و تنكل بهم أشدّ التنكيل. و الغاية من إشاعة هذه الفكرة معلومة فإنها تخلق لهم المبررات لتصرفاتهم الوحشية و انهماكهم في الملذات و الشهوات و استئثارهم بالفيء، إلى غير ذلك من جرائم الأعمال و مساوئها.

و ثانيا: إنّ معبد الجهني في العراق و تلميذه غيلان الدمشقي في الشام كانا يتبنيان فكرة الاختيار و نفي الجبر لا فكرة نفي القدر و القضاء الواردين في القرآن الكريم. و الشاهد على ذلك أنّ معبد الجهني دخل على الحسن البصري و قال له: يا أبا سعيد إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين و يأخذون أموالهم و يقولون إنما تجري أعمالنا على قضاء اللّه و قدره. فقال له الحسن البصري: كذب أعداء اللّه. انتهى. و من المعلوم أنّ الحسن البصري لم يكن ينكر ما جاء في الكتاب العزيز من أنّ : وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي اَلزُّبُرِ * وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (2). و غير ذلك من الآيات التي مضت

ص: 260


1- لاحظ الشيعة بين الأشاعرة و المعتزلة، ص 174.
2- سورة القمر: الآيتان 52 و 53.

في الفصل الرابع، و إنما ينكر أن يكون القضاء و القدر مبررين لطغيان الطغاة و جرائم الطغمة الأثيمة من الحكّام. فبالنتيجة كان معبد و أستاذه الحسن من دعاة القول بالاختيار لا من دعاة منكري القضاء و القدر. و لما كان الأمويون، يرون أنّ القول بالقضاء و القدر يساوق الجبر و سلب الاختيار، اتهموا القائلين به بنفي القضاء و القدر مع أنّ بين القول بالاختيار و نفي القدر بونا بعيدا.

و يشهد على ذلك أيضا أنّ غيلان يعرب عن عقيدته في محاجته مع عمر بن عبد العزيز بالاستشهاد بقوله سبحانه: إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً ، فالرجل كان يتبنى الاختيار و يكافح الجبر، لا أنّه كان ينكر ما ثبت في الكتاب و السنّة الصحيحة. كما أنّه في محاجته مع ميمون بن مروان أعرب عن عقيدته بقوله: «أشاء اللّه أن يعصى ؟» قائلا بأنّه ليس هناك مشيئة سالبة للاختيار جاعلة الإنسان مجرد متفرّج في مسرح الحياة.

و أظن أنّ اتهام الرجلين و من جاء بعدهما بالقدرية تارة (نفي القضاء و القدر بالمعنى الصحيح) أو بالتفويض و أن الإنسان في غنى عن اللّه تعالى في أفعاله، أخرى، لم يكن في محله. فهؤلاء كانوا يكافحون فكرة الجبر لا نصوص الكتاب و السّنّة. و أما فكرة التفويض فإنما تمحضت و نضجت إثر إصرار الأمويين على الجبر، و اتخذته المعتزلة مذهبا في النصف الثاني من القرن الثاني، و إلاّ فالمتقدمون عليهم حتى مؤسس الاعتزال واصل بن عطاء مبرّءون عن فكرة التفويض.

فالقول بالتفويض الذي هو صورة مشوهة للاختيار، إنّما تولد من إصرار الأمويين و المتأثرين بهم من أهل الحديث على القول بالجبر من جهة، و إصرار هؤلاء الأقدمين على اختيار الإنسان و حريته في مجال الحياة.

و إلا فإنّه لم يكن من التفويض أثر في كلمات الأقدمين.

و من الأسف أنّ القول بالجبر قد بقي بين المسلمين بصورة خاصة حتى في المنهج الذي ابتدعه إمام الأشاعرة، إلى العصور الحاضرة. و المنكر إنما ينكر بلسانه و لكنه موجود في المنهج الذي ينتسب إليه.

ص: 261

و قد كان اليهود القاطنون في شبه الجزيرة العربية خير معين على إشاعة هذه الفكرة، بل منهم انبعثت.

نعم هناك رجال من أهل السنّة و الجماعة، متحررون عن عقيدة الجبر و في مقدمهم الشيخ محمد عبده فقد ردّ على من نسب الجبر إلى الكتاب العزيز أو المسلمين عامة و قال: «إن القول بالجبر قول طائفة ضئيلة انقرضت و غلب على المسلمين مذهب التوسط بين الجبر و الاختيار و هو مذهب الجد و العمل»(1).

و لا يخفى ما في كلام الأستاذ من الملاحظة فإن الأكثرية الساحقة من أهل السّنّة على مذهب الإمام الأشعري، و سيوافيك نصوصه على القول بالجبر، فكيف يمكن أن يقال إنّ الجبر قول طائفة ضئيلة.

و على كل تقدير فقد أجاد في هذا البيان و أبان القول الحق، كما سيوافيك.

الأمر الخامس: رءوس المجبرة و أقطابها في العصور الإسلامية الأولى

1 - الجهميّة

اعتبر أصحاب الملل و النحل الطائفة الجهمية(2) أول طائفة قالت بالجبر، و وصفوها بالجبرية الخالصة، و كان جهم يخرج بأصحابه فيقفهم على المجذومين و يقول: «انظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا!»، إنكارا لرحمته. و كان يقول: «لا فعل و لا عمل لأحد غير اللّه، و إنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز»(3).

ص: 262


1- رسالة «هل نحن مسيرون أم مخيّرون»، ص 11.
2- نسبة إلى جهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم، الذي قتله خالد بن عبد اللّه القسري سنة 124 ه.
3- الفرق بين الفرق، ص 128.

و قال الأشعري في (مقالات الإسلاميين): «تفرّد جهم بأمور منها:

إنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلاّ اللّه وحده، و إنّ الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز، كما يقال تحركت الشجرة، و دار الفلك، و زالت الشمس»(1).

و عرفهم الشّهرستاني بأنهم يقولون: «إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، و لا يوصف بالاستطاعة و إنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له و لا استطاعة و لا إرادة و لا اختيار و إنما يخلق اللّه تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات و إذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا»(2).

2 - النجاريّة

و يليهم في القول بالجبر الطائفة النجارية(3) فقالت: إنّ أعمال العباد مخلوقة للّه و هم فاعلون و إنه لا يكون في ملك اللّه سبحانه إلاّ ما يريده و إنّ الاستطاعة لا يجوز أن تتقدم على الفعل(4).

و عرفهم الشّهرستاني بأنهم يقولون إنّ الباري تعالى هو خالق أعمال العباد خيرها و شرها، حسنها و قبيحها، و العبد مكتسب لها، و يثبتون تأثيرا للقدرة الحادثة، و يسمّون ذلك كسبا(5).

و لأجل أنّ النجارية أضافت نظرية الكسب إلى القول بأنّ اللّه سبحانه خالق أفعال العباد، خرجت عن الجبرية الخالصة. و قد تبنّت هذه النظرية أيضا الطوائف الأخرى كما سيوافيك.

ص: 263


1- مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 312.
2- الملل و النحل، ج 1، ص 87.
3- هم أصحاب الحسين بن محمد بن عبد اللّه النجار، و له مناظرات مع النظام، توفي عام 230 ه.
4- مقالات الإسلاميين ج 1، ص 283.
5- الملل و النحل، ج 1، ص 89.
3 - الضراريّة

و يليهم في تبنّي الجبر، الطائفة الضرارية(1) فقالت: إنّ أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى حقيقة و العبد مكتسبها. و وافقت المعتزلة بأنّ الاستطاعة تحصل في العبد قبل الفعل(2).

و هذه الطائفة تسمى بالجبرية غير الخالصة أيضا، لإضافتها نظرية الكسب إلى أفعال العباد.

قال الشهرستاني: «الجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد و إضافته إلى الربّ تعالى فالجبرية أصناف: فالجبرية الخالصة هي التي لا تثبت للعبد فعلا و لا قدرة على الفعل أصلا. و الجبرية المتوسطة هي التي لا تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلا. و أمّا من أثبت للقدرة الحادثة أثرا ما في الفعل، و سمى ذلك كسبا، فليس بجبري. و المصنفون في المقالات، عدّوا النجارية و الضرارية من الجبرية»(3).

و لكن الحق أنّ إضافة نظرية الكسب من النجّارية و الضرارية، و من الأشاعرة تبعا لهم لا تسمن و لا تغني من جوع و لا تخرج القائل من القول بالجبر قدر شعرة، و إنما هو غطاء و تلبيس على القول بالجبر. و سيوافيك بحث الكسب بتفاسيره المختلفة من أئمة الأشاعرة. و يكفي في عد منهج الأشعري منهجا جبريا، ما ذكره في (الإبانة) و (مقالات الإسلاميين) عند بيان عقيدة أهل السنّة التي هي عقيدته (بعد رجوعه عن الاعتزال و التحاقه بمنهج أهل الحديث)، يقول: «و أقروا بأنه لا خالق إلاّ اللّه، و أنّ سيئات العباد يخلقها اللّه، و أن أعمال العبد يخلقها اللّه عز و جل. و أنّ العباد لا

ص: 264


1- هم أصحاب ضرار بن عمرو. و قد ظهر في أيام واصل بن عطاء، و قد ألف قيس بن المعتمر كتابا في الرد على ضرار سماه: «كتاب الرّد على ضرار».
2- الملل و النحل، ج 1، ص 90 و 91. و مقالات الإسلاميين، ص 129.
3- الملل و النحل، ج 2، ص 85 و 86.

يقدرون أن يخلقوا منها شيئا»(1).

فترى أنّ هذه الجمل لا تفترق عمّا ذكره الجهمية و الطائفتان الأخريان، و سيوافيك نظرية الإمام الأشعري بأدلتها و ملاحظاتها.

ص: 265


1- مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 321.

ص: 266

مناهج الجبر

(1) الجبر الأشعري

اشارة

قد عرفت الطوائف القائلة بالجبر في العصور الإسلامية الأولى، و لكنها انقرضت و لم يبق منها إلاّ الفكرة السائدة بين جماعة من أهل السنّة و هي نظرية الإمام الأشعري، و هي عند الشهرستاني جبرية غير خالصة و لكنها عندنا لا تفترق عن الجبرية الخالصة.

إنّ الأشاعرة و إن كانوا ينزهون أنفسهم عن كونهم مجبرة، لكن الأصول التي اعتقدوها و اتخذوها أداة للبحث، لا تنتج إلاّ القول بالجبر، و إليك فيما يلي أصولهم و ما يستندون إليه في تفسير أفعال العباد.

الأصل الأول: أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه
اشارة

الأصل الأول: أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه(1)

قد عرفت أنّ من فروع التوحيد القول بأنّه لا خالق إلاّ اللّه سبحانه من غير فرق بين الذوات و أفعال العباد، و الآيات الواردة في القرآن الكريم

ص: 267


1- عنون أوائل الأشاعرة هذه المسألة باسم خلق الأعمال. و لكن المتأخرين منهم بحثوا عنها تحت عنوان أن اللّه قادر على كل المقدرات، أو أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه سبحانه و تعالى وحدها، لاحظ (شرح المواقف)، ج 8، ص 145.

مطلقة تعمّ الجميع. و إنّما الاختلاف في تفسير هذا الأصل التوحيدي فالأشاعرة بما أنهم أنكروا وجود أي تأثير ظلّي لغيره سبحانه قالوا بوجود علّة واحدة قائمة مكان جميع العلل و الأسباب (المنتهية إلى اللّه سبحانه في منهج العليّة)، فلا تأثير لأي موجود سوى اللّه سبحانه، فهو الخالق و الموجد لكل شيء، و قد عرفت كلام الإمام الأشعري عند بيان معتقدات أهل السنّة و إليك كلامه في (الإبانة):

قال في الباب الثاني: «إنّه لا خالق إلاّ اللّه، و إنّ أعمال العبد مخلوقة للّه مقدرة كما قال: وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ (1). و إنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا و هم يخلقون، كما قال سبحانه: هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ (2)»(3).

قال شارح المواقف: «إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه سبحانه وحدها و ليس لقدرتهم تأثير فيها، و اللّه سبحانه أجرى عادته بأنّ يوجد في العبد قدرة و اختيارا. فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما، فيكون فعل العبد مخلوقا للّه إبداعا و إحداثا، و مكسوبا للعبد و المراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته و إرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير و مدخل في وجوده سوى كونه محلاّ له. و هذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري»(4).

أقول: يقع الكلام في مقامين:

الأول: تفسير عموم قدرته تعالى لعامة الكائنات و منها أفعال البشر و أنّه لا خالق إلاّ هو.

الثاني: تفسير حقيقة الكسب الذي تدرعت به الأشاعرة في مقابل العدلية.

ص: 268


1- سورة الصّافات: الآية 96.
2- سورة فاطر: الآية 3.
3- الإبانة، ص 20.
4- شرح المواقف للسيد الشريف الجرجاني، ج 8، ص 146.
المقام الأول: في عموم القدرة
اشارة

قد أوضحنا فيما مضى المراد من التّوحيد في الخالقية و قلنا: إنّ المراد من أنّه لا خالق إلاّ هو ليس هو نفي التأثير عن العلل الطولية المنتهية إليه، كيف و قد نصّ القرآن الكريم على تأثير العلل الطبيعية في آثارها كرارا، فيكون معنى التوحيد في الخالقية: إنّ الخالق الأصيل غير المعتمد على شيء هو اللّه سبحانه و إن قيام غيره بالخلق و الإيجاد، بقدرته و مشيئته و لطفه و عنايته. فالكل مستمد في وجوده و فعله منه، لا غنى لهم عنه في حال من الحالات، يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (1).

و نزيد هنا بيانا فلسفيا على إبطال النظرية التي تتبناها الأشاعرة.

الوجود حقيقة واحدة

إنّ سلب وصف المؤثريّة و العليّة عن كل شيء حتى على نحو التبعية و الظلية، مضافا إلى أنّه مخالف للحكم الفطري الذي يجده كل إنسان في نفسه حيث يعتقد بأنّ للأشياء و للعقاقير و النباتات آثارا، و لا معنى لخلقه سبحانه هذا الحكم الخاطئ و الباطل في نفوسنا، أقول - مضافا إلى ذلك - إنّ البرهان الفلسفي يرده بوضوح، و ذلك أنّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة في جميع مراتبها، من الواجب إلى الممكن، فالجميع يشترك في حقيقة واحدة نعبر عنها ب «طرد العدم». و لأجل تلك الوحدة نطلق الوجود على الجميع بمعنى واحد، و لو كانت حقيقته في الواجب مباينة لحقيقته في الممكن لوجب أن يكون لفظ الوجود مشتركا لفظيا بينهما، و أن يطلق على الواجب بملاك آخر.

فإذا كانت حقيقة الوجود بين عامة المراتب حقيقة واحدة، فإذا ثبت التأثير لمرتبة عليا منه، يجب أن يكون ثابتا للمراتب الدنيا أيضا لكن حسب ما يناسب شأنها، فإنّ حقيقة الوجود - حسب الفرض - موجودة في جميع

ص: 269


1- سورة فاطر: الآية 15.

المراتب فإذا كانت مؤثرة في مرتبة كالواجب، يجب أن تكون مؤثرة في غيرها أخذا بوحدة الحقيقة السائدة على المراتب.

نعم يمكن أن يقال إنّ التأثير من آثار شدة الوجود و قوته، فلا يصح تعميم أثر مرتبة إلى أخرى. و لكنه ليس بكلام تام، لأن الشدة ليست شيئا زائدا على نفس الحقيقة بل الشدة شدة الحقيقة و تأكدها، فإذا كانت الشدّة من سنخ الوجود و الحقيقة، يقتضي ذلك أن يكون الأثر لحقيقة الوجود، غاية الأمر كما تختلف المراتب من حيث الشدّة و الضعف، تختلف آثارها كذلك أيضا. فالحقيقة في جميع المراتب واحدة تختلف بالشدّة و الضعف، و الأثر المترتب على الحقيقة واحد لكنه يختلف بالشدّة و الضعف أيضا.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يحكي سريان العلم إلى جميع الموجودات حتى الجمادات بقوله: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمٰاوٰاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كٰانَ حَلِيماً غَفُوراً (1).

فاللّه سبحانه عالم، كما أنّ غيره عالم، و لكن يختلف الأثر باختلاف الموضوع. و بذلك يظهر أنّ القول بحصر الخالقية باللّه سبحانه و نفيها عن غيره بتاتا، حتى بنحو المعنى الحرفي، يخالف الآيات القرآنية أولا، و الفطرة الإنسانية ثانيا، و البرهان الفلسفي ثالثا. غير أنّ إكمال البحث يتوقف على تحليل ما اعتمد عليه الأشعري من البرهان العقلي في هذا المقام.

الأدلة العقلية على خلق الأعمال
اشارة

إنّ الشيخ الأشعري و تلاميذ منهجه أقاموا حججا و أدلة، بل شبهات و تشكيكات على خلق الأعمال، و أنّ أعمال العباد مخلوقة للّه سبحانه

ص: 270


1- سورة الإسراء: الآية 44.

مباشرة، و ليس لقدرة العبد فيها دور. و لأجل إيقاف الباحث على مدى وهن هذه الحجج نأتي ببعضها منهم.

الدليل الأول:

إنّ المؤمن ليس موجدا لإيمانه كما أنّ الكافر ليس موجدا لكفره، لأن الكافر يقصد الكفر بما أنه أمر حسن، و لكنه في الحقيقة قبيح، كما أنّ المؤمن يقصد الإيمان بما أنه غير متعب و هو ليس كذلك.

فينتج أنّه إذا لم يكن المحدث للإيمان و الكفر بما لهما من الخصوصيات، شخص المؤمن و الكافر، يكون المحدث هو اللّه سبحانه(1).

يلاحظ عليه: أولا، بالنقض بأنه لو صحّ هذا الدليل لوجب القول بأنّ شارب الماء الذي يتخيّل أنّه خمر، لم يشرب ماء و لم يصدر منه عمل و لا فعل لأنّه قصد شرب الخمر و كان الواقع شرب الماء، فما وقع لم يقصد و ما قصد لم يقع.

و ثانيا: إنّ ما ذكره خلط بين الصفات الواقعية الحقيقية و الصفات الانتزاعية. فالأولى كالحرارة و البرودة تحتاج إلى محدث كما يحتاج موصوفها إليه كذلك. و أمّا الثانية كالصغر و الكبر المنتزعين من مقايسة شيء إلى شيء فلا تحتاج إلى صانع وراء محدث ذات الشيء، لأن هذه الأوصاف من مصنوعات الذهن و مخترعاته، فالجسم الذي هو بقدر ذراع أكبر من الجسم الذي على نصفه، و الفاعل يوجد ذات الجسمين لا وصفهما و إنما ينتقل الإنسان إليهما عند المقايسة، و على ضوء ذلك فالموجد للإيمان إنما يوجد نفس الإيمان و الموجد للكفر يوجد ذات الكفر، و أمّا كون الأول مؤلما متعبا، و الثاني قبيحا فلا يحتاج إلى فاعل سوى الموجد الذي أوجد ذات الإيمان أو الكفر. فإن الوصفين أعني كون الإيمان متعبا و كون الكفر قبيحا إنما يحصلان عند المقايسة، فالإيمان بما أنّه يجعل الإنسان مسئولا أمام اللّه أولا، و أمام الناس ثانيا، يستتبع الإتعاب. و الكفر بما أنّه على خلاف

ص: 271


1- اللمع، ص 71-72. و عبارة اللمع غير خالية عن البسط المملّ و التعقيد المخل، و ما ذكرناه ملخّص مراده.

الفطرة و الحقيقة، فإذا قيس إليهما يتصف بالقبح، فالإتعاب و القبح لا يحتاجان إلى فاعل سوى موجد الإيمان و الكفر.

و العجب أنّ الأشعري يعترف بالحسن و القبح العقليين هنا مع أنّ منهجه فيهما غير ذلك كما وقفت عليه في محله.

الدليل الثاني:

لا شك أنّ الحركة الاضطرارية مخلوقة للّه سبحانه.

و ما هو الملاك لإسنادها إلى اللّه، هو الملاك في حركة الاكتساب (الحركة الاختيارية). فما دلّ على أنّ حركة الاضطرار مخلوقة للّه تعالى، يجب به القضاء على أنّ حركة الاكتساب مخلوقة للّه تعالى، و ذلك لوحدة ملاكهما، و هو الحدوث(1).

يلاحظ عليه، إنّ اشتراكهما في الملاك لا ينتج إلاّ أنّ للحركة الاكتسابية أيضا محدثا، و أمّا وحدة محدثيهما و أن محدث الأولى هو نفس محدث الثانية، فلا يدل عليه البرهان، لأن نسبة الحركة الاضطرارية إلى اللّه و سلبها عن الإنسان لأجل خروجها عن اختياره و إرادته، فتنسب إلى اللّه سبحانه. و أمّا الحركة الاكتسابية فهي واقعة في إطار اختيار الإنسان و إرادته فلا وجه لمقايسة إحداهما بالأخرى.

نعم، لو قال أحد بمقالة الأشعري، و أنّ القدرة الحادثة في العبد غير مؤثرة في وجود الفعل، كان له أن يسند الحركتين إلى اللّه سبحانه. و لكنه أوّل الكلام و الاستناد إلى ذلك الأصل أشبه بكون المدعى نفس الدليل.

ثم إنّ المتأخرين من الأشاعرة، كالرازي في (محصّله)، و الإيجي في (مواقفه)، و التفتازاني في (شرح مقاصده)، و القوشجي في (شرحه على التجريد)، بحثوا عن المسألة (خلق الأعمال) تحت عنوان عموم قدرته سبحانه لكل شيء و أن كل موجود واقع بقدرته، و لأجل إكمال البحث نأتي ببعض ما ذكروه من الأدلة.

ص: 272


1- اللمع، ص 74-75، و الدليل منقول بالمعنى.
الدليل الثالث -

لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه، لكان عالما بتفصيل أفعاله و هذا معنى قوله سبحانه: أَ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ (1). و بما أنّ الإنسان غير عالم بتفاصيل أفعاله بشهادة أنا نقصد الحركة من المبدأ إلى المنتهى، و لا نقصد جزئيات تلك الحركة، وجب القطع بأنّ العبد غير موجد لها(2).

يلاحظ عليه: إنّ الفاعل لو كان قاصدا للفعل بالتفصيل، يوجده به، و لو كان قاصدا بالإجمال يوجده كذلك، فصانع شربة كيميائية من عدة عناصر مختلفة يقصد إدخال كل عنصر فيها على وجه التفصيل، فيلزمه العلم بها تفصيلا، و القائم بالأكل و التكلم يقصد أصل الفعل على وجه التفصيل، و يقصد مضغ كل حبة أو التكلم بكل حرف و كلمة إجمالا، فيلزمه العلم بهما على وجه الإجمال.

الدليل الرابع -

لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد، فلو اختلفت القدرتان في المتعلق، مثل ما إذا أراد تعالى تسكين جسم و أراد العبد تحريكه، فإما أن يقع المرادان، و هو محال. أو لا يقع واحد منهما و هو أيضا محال، لاستلزامه ارتفاع النقيضين. أو يقع أحدهما دون الآخر و هو أيضا محال، لأن وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر لأن اللّه تعالى و إن كان قادرا على ما لا نهاية له و العبد ليس كذلك إلاّ أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة اللّه و قدرة العبد(3).

يلاحظ عليه: إننا نختار الشقّ الآخر أي وقوع مراد اللّه دون مراد العبد لأنّ قدرة اللّه في الصورة المفروضة، قدرة فعلية تامة في التأثير و قدرة العبد قدرة ممنوعة، و من شرائط القدرة الفعلية أن لا تكون ممنوعة من ناحية قدرة بالغة كاملة. فتعلق قدرته سبحانه و إرادته على الحركة تكون مانعة عن

ص: 273


1- سورة الملك: الآية 14.
2- الأربعون للرازي، ص 231-232. و شرح التجريد للقوشجي، ص 447.
3- الأربعون للرازي، ص 232.

وصول قدرة العبد إلى درجة التأثير و الإيجاد، فإحداهما مطلقة و الأخرى مشروطة.

الدليل الخامس:

إنّ نسبة ذاته إلى جميع الممكنات على السوية فيلزم أن يكون تعالى قادرا على جميع الممكنات و على جميع مقدورات العباد.

و على هذا ففعل العبد إمّا أن يقع بمجموع القدرتين، أعني قدرة اللّه و قدرة العبد، و إمّا أن لا يقع بواحدة منهما، و إمّا أن يقع بإحدى القدرتين دون الأخرى. و الأقسام الثلاثة باطلة، فوجب أن لا يكون العبد قادرا على الإيجاد و التكوين(1).

يلاحظ عليه: إنّ لعموم قدرته سبحانه تفسيرين:

1 - أن يتحقق كل شيء بقدرته سبحانه مباشرة، و بلا واسطة كما هو الحال في الصادر الأول في جميع المذاهب.

2 - أن يتحقق بقدرة مفاضة منه إلى العبد، فيقوم العبد بإيجاده بحول و قوّة منه سبحانه، فالفعل مقدور للعبد بلا واسطة و مقدور للّه سبحانه عن طريق القدرة التي تفضل بها عليه و أقدر عبده بها على الفعل. فيكون الفعل فعل اللّه من جهة و فعل العبد من جهة أخرى.

و بعبارة أخرى إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه فالجليل و الحقير و الثقيل و الخفيف عنده سواسية، لكن ليس معنى الاستواء قيامه بكل شيء مباشرة و خلع التأثير عن العلل و الأسباب، بل هو سبحانه يظهر قدرته و سلطانه عن طريق خلق الأسباب و بعث العلل نحو المسببات و المعاليل فالكل مخلوق له، و مظاهر قدرته و حوله.

فالأشاعرة خلعوا الأسباب و العلل و هي جنود اللّه سبحانه، عن مقام التأثير و الإيجاد. كما أنّ المفوضة عزلت سلطانه عن ملكه و جعلت بعضا منه

ص: 274


1- الأربعون للرازي، ص 232.

في سلطان غيره. و الحق الذي عليه البرهان و يصدقه الكتاب كون الفعل موجودا بقدرتين لكن لا بقدرتين متساويتين و لا بمعنى علتين تامتين بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأولى و شئونها و جنودها؛ وَ مٰا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّٰ هُوَ (1). و قد جرت سنة اللّه تعالى على خلق الأشياء بأسبابها فجعل لكل شيء سببا، و للسبب سببا إلى أن ينتهي إلى اللّه سبحانه، و المجموع من الأسباب الطولية علة واحدة تامة كافية لإيجاد الفعل و نكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصّادق (عليه السّلام):

قال: «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكل شيء سببا و جعل لكل سبب شرحا»(2).

ثم إنّ للقوم من المعتزلة و الأشاعرة أقوالا لا توافق الأصول الفلسفية و لا الكتاب العزيز، نذكرها في ملحق خاص آخر الكتاب خشية أن يطول المقام(3).

إلى هنا تم الكلام في المقام الأول و هو تفسير عموم قدرته تعالى و كون أفعال العباد مخلوقة له سبحانه.

***

المقام الثاني: في حقيقة الكسب
اشارة

إنّ القول بخلق الأفعال لما كان مستلزما للجبر حاول الأشعري معالجته بإضافة الكسب إلى الخلق، قائلا بأنّ اللّه هو الخالق و العبد هو الكاسب، و ملاك الطاعة و العصيان هو «الكسب»، دون «الخلق». فكل فعل صادر عن كل إنسان مريد يشتمل على جهتين: «الخلق» و «الكسب». فالخلق منه سبحانه و الكسب من الإنسان. و قد عرفت أنّ نظرية الكسب التي تدرع بها الأشاعرة أخذتها عن النجارية و الضرارية، فقد سبقتاها في تبني هذه

ص: 275


1- سورة المدثّر: الآية 31.
2- الكافي، ج 1، باب معرفة الإمام، الحديث 7، ص 183.
3- لاحظ الملحق الأول في آخر الكتاب.

النظرية حتى تخرج عن الجبرية الخالصة التي تتبناها الجهمية. و الحافز لإضافة هذا الأمر ليس إلاّ الخروج عن مضيق الجبر إلى فسيح الاختيار لكن مع الالتزام بالأصل الثابت عندهم أعني كونه سبحانه خالقا «لكل شيء مباشرة و بلا واسطة». و المهم هو الوقوف على حقيقة هذه النظرية، فقد اضطربت عبارات القوم في تفسيرها إلى حدّ صارت من الألغاز حتى قال الشاعر فيها:

مما يقال و لا حقيقة عنده *** معقولة تدنو إلى الأفهام

الكسب عند الأشعريّ ، و الحال *** عند البهشمي، و طفرة النّظّام(1)

و ها نحن نأتي فيما يلي بنصوصهم في المقام:

أ - الكسب: وقوع الشيء من المكتسب له بقوة محدثة

إنّ جماعة من الأشاعرة فسّروا الكسب بتأثير قدرة العبد المحدثة في الفعل و يظهر هذا التفسير من عدة:

منهم: الشيخ الأشعري حيث يقول عند إبداء الفرق بين الحركة الاضطرارية و الحركة الاكتسابية: «لما كانت القدرة موجودة في الحركة الثانية وجب أن يكون كسبا، لأن حقيقة الكسب هو أنّ الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة»(2).

و منهم: المحقق التفتازاني حيث يقول في شرح (العقائد النسفيّة):

«فإن قيل: لا معنى لكون العبد فاعلا بالاختيار إلاّ كونه موجدا لأفعاله بالقصد و الإرادة، و قد سبق أنّ اللّه تعالى مستقل بخلق الأفعال و إيجادها، و معلوم أنّ المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين.

ص: 276


1- القضاء و القدر لعبد الكريم الخطيب المصري، ص 185.
2- اللمع، ص 76. و لا يخفى أنّ ما نسبه إليه صاحب (شرح المواقف) في المقام و إن كان أوفق بمنهج الأشعري لكنه ينافي ما ذكره الشيخ في (اللمع). و قد ذكرنا كلام الشارح في صدر البحث فلاحظ.

قلنا: لا كلام في قوة هذا الكلام و متانته، إلاّ أنه لما ثبت (من جانب) بالبرهان أنّ الخالق هو اللّه تعالى و ثبت (من جانب آخر) بالضرورة أنّ لقدرة العبد و إرادته مدخلا في بعض الأفعال كحركة اليد دون البعض كحركة الارتعاش، احتجنا في التفصي عن هذا المضيق إلى القول بأنّ اللّه تعالى خالق و العبد كاسب»(1).

يلاحظ عليه: إنّه بعد لم يخرج عن هذا المضيق بل قال بأصلين متعارضين، فإذا ثبت بالبرهان أنّه لا خالق إلاّ هو تعالى، و فسّرت خالقيته العامة بكونه فاعلا مباشرا لكل فعل، لم يبق لتأثير قدرة العبد مجال. فالقول بالأصلين جمع بين المتعارضين.

و بعبارة ثانية، إنّ الخلق بتمام معنى الكلمة، إذا كان راجعا إليه و لا تصح نسبته إلى غيره كيف يكون للقوة المحدثة في العبد تأثير، فلو كان لها تأثير يكون الفعل مخلوقا للعبد أيضا لا للّه وحده.

و باختصار، لو كانت القدرتان في عرض واحد، فإنه يستلزم اجتماع القدرتين على مقدور واحد. و لو كانت قدرة العبد في طول قدرة اللّه سبحانه، يلزم كون الفعل مخلوقا للعبد أيضا، و هم يفرون من نسبة الخلق و الإيجاد إلى غير اللّه سبحانه.

و منهم: القاضي الباقلاني فقال: «قد قام الدليل على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست الأفعال أو وجوهها و اعتباراتها تقتصر على جهة الحدوث فقط، بل هاهنا وجوه أخر هي وراء الحدوث». ثم ذكر عدّة من الجهات و الاعتبارات، و قال: «إنّ الإنسان يفرّق فرقا ضروريا بين قولنا: «أوجد»، و قولنا: «صلى» و «صام» و «قعد» و «قام». و كما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى، فإذا جاز لكم إثبات

ص: 277


1- شرح العقائد النسفية، ص 115.

صفتين هما حالتان، جاز لي إثبات حالة هي متعلق القدرة الحادثة، و من قال هي حالة مجهولة، فبيّنا بقدر الإمكان جهتها، و عرّفنا أيّ شيء هي، و مثّلناها كيف هي»(1).

و حاصل كلامه: إنّ للقدرة الحادثة تأثيرا في حدوث العناوين و الخصوصيات التي هي ملاك الثواب و العقاب، و هذه العناوين وليدة قدرة العبد. مثلا: وجود الفعل مخلوق للّه سبحانه لكن تعنونه بعنوان الصوم و الصلاة و الأكل و الشرب راجع إلى العبد و القدرة الحادثة فيه.

يلاحظ عليه: إنّ هذه العناوين و الجهات لا تخلو من صورتين:

إمّا أن تكون من الأمور الوجودية فعندئذ تكون مخلوقة للّه سبحانه حسب الأصل المسلم.

و إمّا أن تكون من الأمور العدمية، فعندئذ لا يكون للكسب واقعية خارجية بل يكون أمرا ذهنيا غنيا عن الإيجاد و القدرة، فكيف تؤثر القدرة فيه، و كيف يكون ملاكا للثواب و العقاب.

و باختصار: إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية متحققة، فحينئذ يكون (الكسب) مخلوقا للّه تعالى و لا يكون للعبد نصيب في الفعل، أو لا تكون له تلك الواقعية بل يكون أمرا وهميا و ذهنيا فحينئذ لا يكون العبد مصدرا لشيء حتى يثاب أو يعاقب.

ب - الكسب: إيجاده سبحانه الفعل مقارنا لإرادة العبد و قدرته

يظهر من بعض أئمة الأشاعرة أنّ المراد من الكسب هو قيامه سبحانه بإيجاد الفعل مقارنا لإرادة العبد و قدرته من دون أن يكون لقدرة العبد تأثير.

و هذا يظهر من جماعة:

منهم: الغزالي و هو من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس

ص: 278


1- الملل و النّحل، ج 1، ص 97-98.

و أوائل السادس قال في (الاقتصاد) ما هذا حاصله: «إنما الحق إثبات القدرتين، على فعل واحد، و القول بمقدور منسوب إلى قادرين، فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد، و هذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان و اختلف وجه تعلقهما فتوارد القدرتين المتعلقتين على شيء واحد غير محال».

ثم حاول بيان تغاير الجهتين، فلاحظ(1).

و منهم، الفاضل القوشجي حيث قال: «و المراد بكسبه إياه، مقارنته لقدرته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له»(2).

يلاحظ عليهما: إنّ دور العبد في أفعاله على هذا التقرير ليس إلاّ دور المقارنة، فعند حدوث القدرة و الإرادة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل، و من المعلوم أنّ تحقق الفعل من اللّه مقارنا لقدرته، لا يصحح نسبة الفعل إلى العبد. و معه كيف يتحمل مسئوليته إذ لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوعه، و عندئذ تكون الحركة الاختيارية كالحركة الجبرية.

و الحق أنّ الأشاعرة مع أنهم مالوا يمينا و شمالا في توضيح الكسب لم يأتوا بعبارة واضحة مقنعة. و لأجل ذلك نرى أنّ التفتازاني يعترف بقصور العبارات عن تفهيم المراد حيث يقول: «إن صرف العبد قدرته و إرادته إلى الفعل كسب، و إيجاد اللّه تعالى عقيب ذلك خلق، و المقدور الواحد داخل تحت قدرتين لكن بجهتين مختلفتين، فالفعل مقدور للّه بجهة الإيجاد و مقدور العبد بجهة الكسب، و هذا القدر من المعنى ضروري، و إن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق اللّه تعالى و إيجاده مع ما فيه للعبد من القدرة و الاختيار(3).

ص: 279


1- الاقتصاد في الاعتقاد، ص 47، طبعة البابي الحلبي بمصر.
2- شرح التجريد له، ص 445.
3- شرح العقائد النسفية، ص 117.

يلاحظ عليه أمران:

1 - إنّ مراده من الصرف هو توجه قدرة العبد إلى الفعل، فمجرد نوجهها إلى الفعل و إن لم يكن دخيلا في وجود الفعل، كسب. و من المعلوم أنّ صرف التوجه لا يعدو عن نية الفعل فكما أنّها لا تؤثر في المسئولية إذا نوى هو و قام الآخر به، فهكذا في المقام.

2 - إنّ الشيخ التفتازاني يعترف بعجزه عن تفسير الكسب.

و هناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه قال: «إنّ فساد المذهب يعلم بأحد طريقين:

أحدهما: أن يتبين فساده بالدليل.

الثاني: أن يتبين أنّه غير معقول في نفسه.

و المقام (الكسب) من قبيل الثاني فإذا تبين أنّه غير معقول في نفسه كفيت نفسك مئونة الكلام عليه، لأن الكلام على ما لا يعقل لا يمكن.

و الذي يبين لك صحة ما نقوله أنّه لو كان معقولا لكان يجب أن يعقله مخالف المجبرة في ذلك من الزيدية و المعتزلة و الخوارج و الإمامية، فإن دواعيهم متوفرة و حرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى. فلما لم يوجد في واحد من هذه الطوائف على اختلاف مذاهبهم، و تنائي ديارهم، و تباعد أوطانهم، و طول مجادلتهم في هذه المسألة من ادعى أنه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهمه، دل على أنّ ذلك مما لا يمكن اعتقاده و الإخبار عنه البتّة.

و مما يدل على أنّ الكسب غير معقول هو أنّه لو كان معقولا لوجب - كما عقله أهل اللغة و عبروا عنه - أن يعقله غيرهم من أهل اللغات و أن يضعوا له عبارة تنبي عن معناه. فلما لم يوجد شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة دل على.

أنه غير معقول»(1).

ص: 280


1- شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار، ص 364-366.
إنكار الكسب من محققي الأشاعرة

الأشاعرة و إن أصرّوا على نظرية الكسب إلاّ أنّ هناك رجالا منهم أدركوا جفاف النظرية و مضاعفاتها السيئة، فنقضوا ما أبرموه و أجهروا بالحقيقة. و نخص بالذكر منهم رجالا ثلاثة:

الأول: إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (ت 478)، فقد صرّح بتأثير قدرة العباد في أفعالهم، و أنّ قدرتهم تنتهي إلى قدرة اللّه سبحانه، و أنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب و المسببات، و كل سبب يستمد من سببه المقدم عليه، و في الوقت نفسه يستمد ذاك السبب من آخر، إلى أن يصل إلى اللّه سبحانه و هو الخالق للأسباب و مسبباتها المستغني على الإطلاق»(1).

الثاني: الشيخ الشعراني (ت 973) و هو من أقطاب الحديث و الكلام في القرن العاشر فقد وافق إمام الحرمين في هذا المجال، و قال من زعم أنه لا عمل للعبد فقد عاند، فإن القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها و عدمها سواء.

و من زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك، فلا بد أنه مضطر على الاختيار(2).

الثالث: الشيخ محمد عبده (ت 1323) فقد خالف الرأي العام عند الأشاعرة و صرّح بتأثير قدرة العبد في فعله و لم يبال في ذلك باعتراض رجال الأزهر الذين كانوا يكفّرون من قال بالعلّة الطبيعية أو بمطلق العلّة غيره سبحانه و يرددون في ألسنتهم قول القائل:

و من يقل بالطّبع أو بالعلّة *** فذاك كفر عند أهل الملّة

ص: 281


1- لاحظ نص كلامه في الملل و النحل، ج 1، ص 98-99 و هو بشكل أدق خيرة الحكماء و الإمامية جمعاء.
2- اليواقيت و الجواهر في بيان عقيدة الأكابر، للشعراني، ص 139-141.

قال الإمام عبده في كلام طويل: منهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله و استقلاله المطلق و هو غرور ظاهر(1).

و منهم من قال بالجبر و صرّح به و منهم من قال به و تبرأ من اسمه(2) و هو هدم للشريعة و محو للتكاليف و إبطال لحكم العقل البديهي، و هو عماد الإيمان.

و دعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله(3) يؤدي إلى الإشراك باللّه - و هو الظلم العظيم - دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب و السنّة. فالإشراك اعتقاد أنّ لغير اللّه أثرا فوق ما وهبه اللّه من الأسباب الظاهرة، و أنّ لشيء من الأشياء سلطانا على ما خرج عن قدرة المخلوقين...»(4).

و قد وقف مفتي الديار المصرية على هذا النوع من التفكير عن طريق اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) و اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسدآبادي، فقد كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية و الفلسفية و الاجتماعية و السياسة.

بقيت هنا آراء غير قيّمة لبعض الأشاعرة في تفسير الكسب لا يهمنا ذكرها(5).

ص: 282


1- يريد المعتزلة.
2- يريد الأشاعرة.
3- يريد من الكسب، الإيجاد و الخلق لا الكسب المصطلح عند الأشاعرة كما هو واضح لمن لاحظ كلامه.
4- رسالة التوحيد، ص 59-62.
5- راجع في الوقوف عليها، «أبحاث في الملل و النحل» الجزء الثاني، ص 140-158.
القرآن و خلق الأعمال

قد عرفت الأدلة العقلية التي أقامتها الأشاعرة على مسألة خلق أعمال العباد بقدرة العباد وحدها، و لكن للقوم أدلّة سمعية نشير إلى بعضها. فقد استدل الشيخ الأشعري عليها في كتاب (الإبانة) بآيتين:

الآية الأولى: قوله سبحانه: أَ تَعْبُدُونَ مٰا تَنْحِتُونَ * وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ (1).

يلاحظ على الاستدلال أمران:

أ - إنّ الاستدلال مبني على كون «ما» في كلامه سبحانه، مصدرية و إنّ معنى الآية: و اللّه خلقكم و عملكم. و لكن الظاهر أن «ما» موصولة بقرينة قوله أَ تَعْبُدُونَ مٰا تَنْحِتُونَ ، و المراد من الموصول هناك الأصنام و الأوثان، و وحدة السياق تقتضي كون «ما» في الآية الثانية موصولة أيضا، فيكون معنى الآية: «أ تعبدون الأصنام التي تنحتونها و اللّه خلقكم أيها العبدة و الأصنام التي تعملونها». و تتم الحجة على المشركين بأنهم و معبوداتهم مخلوقات اللّه سبحانه، فلا وجه لترك عبادة الخالق و عبادة المخلوق.

و أمّا إذا قلنا بكون «ما» مصدرية، فتفقد الآية الثانية صلتها بالأولى و يكون مفاد الآيتين: «أ تعبدون الأصنام التي تنحتونها و اللّه خلقكم أيها العبدة و خلق أعمالكم و أفعالكم»، و الحال أنّه ليس لعملهم صلة بعبادة ما ينحتونه.

ب - إنّه لو كانت «ما» مصدرية لتمت الحجة على غير صالح الخليل و لانقلبت عليه، إذ عندئذ ينفتح لهم باب العذر بحجة أنّه لو كان اللّه سبحانه هو الخالق لأعمالنا فلما ذا توبخنا و تنددنا بعبادتنا إيّاهم.

الآية الثانية: قوله سبحانه: هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ

ص: 283


1- سورة الصافات: الآيتان 95 و 96.

اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ (1) .

يلاحظ عليه: إنّ الآيات الدّالة على حصر الخالقية باللّه سبحانه كثيرة في القرآن الكريم(2).

لكن المهم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات فإن لهذا القسم منها احتمالين لا يتعين أي منهما إلاّ باعتضاده بالآيات الأخر، و دونك الاحتمالين:

أ - حصر الخلق و الإيجاد على وجه الإطلاق باللّه سبحانه و نفيه عن غيره بتاتا على وجه الاستقلال و التبعية و هذا ما تتبناه الأشاعرة.

و يردّه ما مضى من الآيات الكثيرة الدّالة على أنّ للعلل الطبيعية دورا في عالم الوجود بإذن اللّه سبحانه(3).

ب - إنّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء منحصرة باللّه سبحانه، و لكن غيره يقوم بأمر الخلق و الإيجاد بمشيئته و إرادته، و الكل جنود للّه سبحانه. و يدل على هذه النظرية الآيات التي تثبت للموجودات تأثيرا و للإنسان دورا في أفعاله.

و نزيد هنا بيانا مضافا إلى ما مرّ في التوحيد في الخالقية: إنّ الآيات الواردة حول أفعال الإنسان على قسمين؛ قسم يعد الإنسان عاملا فاعلا لأفعاله، و قسم ينسب قسما من الأفعال إلى الإنسان. فمن القسم الأول قوله سبحانه: وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ (4).

و قوله سبحانه: أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لاٰ تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ (5).

و قوله سبحانه: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلاّٰ مٰا سَعىٰ * وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ

ص: 284


1- سورة فاطر: الآية 3.
2- لاحظ الأنعام: الآيتان 101 و 102. و الحشر: الآية 24. و الأعراف: الآية 54.
3- لاحظ بحث التّوحيد في الخالقية المتقدم.
4- سورة التوبة: الآية 105.
5- سورة محمد: الآية 33.

يُرىٰ (1) .

و أمّا القسم الثاني: فحدّث عنه و لا حرج، فقد نسب في الذكر الحكيم كثيرا من الأفعال إلى الإنسان كالجهاد، و الإنفاق، و الإحسان، و السرقة، و التطفيف، و الكذب و غير ذلك من صالح الأعمال و رديها.

فعل واحد ينسب إلى اللّه و إلى العبد معا

هناك قسم ثالث من الآيات ينسب الفعل الواحد إلى نفسه سبحانه، و إلى عبده في ضمن آيتين أو آية واحدة.

1 - يقول سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلرَّزّٰاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ اَلْمَتِينُ (2).

فيخصّ الرّازقية بنفسه بشهادة تقدم الضمير المنفصل «هو». و في الوقت نفسه يأمر الإنسان بالقيام بالرزق بالنسبة إلى من تحت يده و يقول: وَ لاٰ تُؤْتُوا اَلسُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيهٰا وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (3).

2 - يقول سبحانه: أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلزّٰارِعُونَ (4). فيخص الزارعية بنفسه و ذلك معلوم من سياق الآيات.

و في الوقت نفسه يعد الإنسان زارعا و يقول: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوىٰ عَلىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّٰاعَ ... (5). فكيف تجتمع هذه التوسعة مع الحصر السابق.

3 - يقول سبحانه: كَتَبَ اَللّٰهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي (6).

ص: 285


1- سورة النجم: الآيتان 39 و 40.
2- سورة الذاريات: الآية 58.
3- سورة النساء: الآية 5.
4- سورة الواقعة: الآيتان 63 و 64.
5- سورة الفتح: الآية 29.
6- سورة المجادلة: الآية 21.

فينسب الفعل الواحد و هو الغلبة في وقت واحد إلى نفسه و رسله.

4 - يقول سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ (1).

فيعد نفسه ناصرا و في الوقت نفسه يعد المؤمنين ناصرين أيضا.

5 - يقول سبحانه: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهٰا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي، وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِي (2). ترى أنّه سبحانه ينسب أمر الخلق إلى رسوله بصراحة، حتى أنّ الرسول يصف نفسه به و يقول أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ (3). و مع ذلك أنّ القرآن الكريم يخصّ الخالقية باللّه سبحانه في كثير من الآيات التي تعرفت عليها، و لا يحصل الجمع بين هذه الآيات إلاّ بالقول بأنّ الخالقية النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء تختص به سبحانه، و مثله سائر الأفعال من الرزق و الزرع و الغلبة و النصرة، فالكل بالمعنى السابق مختص به سبحانه لا يعدوه، لأنها من خصائص الواجب و لا يتصف بها الممكن. و أمّا الفعل المعتمد على الواجب المستمد منه فهو من شأن العبد يقوم به بإقدار منه سبحانه و إذن. و لأجل ذلك يكرر سبحانه لفظة «بإذني» أو «بإذن اللّه» في الآيات المتقدمة و هذا واضح لمن عرف الفباء القرآن. و الأشعري و من تبعه قصروا النظر على قسم واحد، و غفلوا عن القسم الآخر، و لا يقف على ذلك إلاّ من فسّر الآيات تفسيرا موضوعيا(4).

ص: 286


1- سورة محمد: الآية 7.
2- سورة المائدة: الآية 110.
3- سورة آل عمران: الآية 49.
4- المراد من التفسير الموضوعي هو جمع الآيات الواردة حول موضوع ما، ثم عرض بعضها على البعض الآخر، حتى يتبين المراد و المفهوم. و هذا نمط و طراز حديث من التفسير أبدعه شيخنا الأستاذ العلامة جعفر السبحاني و خرج منه أجزاء خمسة باسم «مفاهيم القرآن».
الأصل الثاني: علمه الأزلي المتعلق بأفعال العباد

هذا هو الأصل الثاني الذي اعتمد عليه اتباع الإمام الأشعري.

و بيانه: إنّ ما علم اللّه عدمه من أفعال العباد فهو ممتنع الصدور عن العبد، و إلاّ جاز انقلاب العلم جهلا. و ما علم اللّه وجوده من أفعاله، فهو واجب الصدور عن العبد، و إلاّ جاز ذلك الانقلاب، و لا مخرج عنهما لفعل العبد. فيبطل الاختيار إذ لا قدرة على الواجب، و الممتنع.

و كأن هذا الاستدلال، استدلال نقضي على القائلين بالاختيار.

و لأجل ذلك يقول المستدل بعد نقله: «إن ما ذكرنا يبطل التكليف لابتنائه على القدرة و الاختيار، فما لزم القائلين بمسألة خلق الأعمال فقد لزم غيرهم لأجل اعتقادهم بعلمه الأزلي المتعلق بالأشياء» حتى أنّ الإمام الرازي ذكر هذا الدليل متبجحا بقوله: «و لو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا إلا بالتزام مذهب هشام و هو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها»(1).

أقول: يلاحظ عليه: مضافا إلى أنّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم أمر غير ثابت و لم يقل به بعد انتمائه إلى الإمام الصادق (عليه السّلام): إنّ الإجابة عن هذا الاستدلال واضحة جدا، و إنّ زعم الرازي أنّ الثقلين لا يقدرون على حلّ عقدته، و هي كما أوضحناه عند البحث عن القضاء و القدر أنّ علمه الأزلي لم يتعلق على صدور كل فعل عن فاعله على وجه الإطلاق، بل تعلق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه. و على ضوء ذلك تعلق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر، بلا شعور و لا اختيار، كما تعلق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش على وجه الجبر عالما بلا اختيار، و لكن تعلق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار و الحرية. فتعلق علمه بوجود

ص: 287


1- شرح المواقف، ج 8، ص 155.

الإنسان و كونه فاعلا مختارا، و أنّ كل فعل منه يصدر اختيارا، و مثل هذا العلم يؤكد الاختيار و يدفع الجبر عن ساحة الإنسان، كما أوضحناه فيما مضى(1).

و في المقام كلمات للمحققين أوردناها في ملحق خاص، فلاحظ(2).

***

الأصل الثالث: إرادته الأزلية المتعلقة بأفعال العباد
اشارة

هذا هو الأصل الثالث الذي اعتمد عليه الأشاعرة، قالوا: ما أراد اللّه وجوده من أفعال العباد وقع قطعا، و ما أراد اللّه عدمه منها لم يقع قطعا، فلا قدرة له على شيء منهما(3).

يلاحظ عليه: إنّ هذا الاستدلال نفس الاستدلال السابق لكن بتبديل العلم بالإرادة، فيظهر الجواب عنه مما قدمناه من الجواب عن سابقه. و بما أنّ هذا البحث مما كثر النقاش فيه من جهات أخرى نفيض القول فيه حسب ما يسعه المقام، فيقع البحث في جهات:

الجهة الأولى:

هل إرادته سبحانه نفس علمه بالأصلح أو شيء آخر؟. قد أوضحنا الحال فيه عند البحث في الصّفات الثبوتية و قلنا إنّ الإرادة صفة كمال لا يمكن سلبها عن الذات بما هي كمال، و هي غير العلم. نعم، الإرادة المتجددة الحادثة المتدرجة الوجود، لا تليق بساحته سبحانه، و إنما اللائق بها كمال الإرادة متجردة عن وصمة الحدوث و التدريج و إن لم نعرف حقيقتها.

الجهة الثانية:

على القول بأنّ إرادته غير علمه وقع الكلام في شمول

ص: 288


1- راجع في توضيح الجواب بحث القضاء و القدر.
2- لاحظ الملحق الثاني في آخر الكتاب.
3- شرح المواقف، ج 8، ص 156.

إرادته سبحانه لأفعال الإنسان، أو أنّ أفعاله خارجة عن إطار الإرادة الإلهية.

فالمعتزلة على الثاني - حفظا لاختيار الإنسان و تجنبا عن القول بالجبر - و الأشاعرة على الأول لكن بالالتزام بتعلق إرادته سبحانه على أفعال البشر من غير واسطة كما هو الحال في غير الأفعال.

و أمّا الإمامية فقد اختلفت آراؤهم، فيظهر من الشيخ الصدوق سعة إرادته سبحانه لأفعال العباد، لكن بوجه مجمل لا يعلم كنه مراده منه.

و ذهب الشيخ المفيد إلى خلافه و قال: «إنّ اللّه تعالى لا يريد إلاّ ما حسن من الأفعال و لا يشاء إلا الجميل من الأعمال و لا يريد القبائح و لا يشاء الفواحش، تعالى اللّه عمّا يقول المبطلون علوا كبيرا. قال اللّه تعالى:

وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ و قال: يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ ...» إلى أن قال: «فلو كان سبحانه مريدا لمعاصيهم لنافى ذلك التخفيف و اليسر لهم، فكتاب اللّه شاهد على ضد ما ذهب إليه الضالون المفترون على اللّه الكذب»(1).

و قد صارت هذه المسألة مائزة بين الأشاعرة و المعتزلة و اتّخذ كل من الفريقين نتيجة رأيه شعارا لمنهجه. و لأجل ذلك لما دخل القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 415) دار الصاحب بن عباد فرأى فيه أبا إسحاق الأسفراييني الأشعري (ت 413)، قال القاضي: «سبحان من تنزّه عن الفحشاء» (يريد بذلك أنّ القول بسعة إرادته لأفعال الإنسان يستلزم أنّه أراد الفحشاء). فأجابه أبو إسحاق بقوله: «سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء» (مريدا بذلك أنّ القول بوقوع أفعال العباد بلا مشيئة منه سبحانه يستلزم القول بوجود أشياء في سلطانه و مملكته خارجة عن مشيئته)(2).

و على كل تقدير، فالحق تعلّق إرادته بكل ما يوجد في الكون من دون فرق بين فعل الإنسان و غيره، و لا يقع في ملكه إلاّ ما يشاء و لكن لا على

ص: 289


1- تصحيح الاعتقاد ص 16 بتلخيص.
2- شرح المقاصد، ج 2، ص 145.

الوجه الذي ذهبت إليه الأشاعرة من أنّ ما يدخل في الوجود فهو بإرادته تعالى من غير واسطة سواء أ كان من الأمور القائمة بذاتها أو التابعة لها من الأفعال بلا واسطة. فإنه رأي زائف، لما دللنا عليه من أنّ نظام الوجود، نظام الأسباب و المسببات و أنّه لا تتعلق إرادته سبحانه على خلق شيء بلا توسيط أسبابه و علله و قد عرفت البرهان الفلسفي على ذلك و الآيات القرآنية(1).

فالأشاعرة و إن أصابوا في القول بسعة الإرادة لكنهم أخطئوا في جعل متعلقها نفس الفعل بلا واسطة، و لا يترتب على ذلك سوى الجبر الذي يتبنونه. بل الحق تعلق إرادته على جميع الكائنات لكن عن طريق صدورها عن أسبابها و عللها. فإنّ القول بخروج أفعال العباد عن حيطة إرادته سبحانه لغاية تنزيهه تعالى عن وصمة القبائح و الشرور يستلزم القول بإثبات الشركاء للّه سبحانه بالحقيقة، لأنه يمثل الإنسان خالقا لأفعاله مستقلا في إيجادها، و هو كما قال صدر المتألهين: «أشنع من مذهب من جعل الأصنام و الكواكب شفعاء عند اللّه و يلزمهم أنّ ما أراد ملك الملوك لا يوجد في ملكه، و أنّ ما كرهه يكون موجودا فيه و ذلك نقصان شنيع، و قصور شديد في السلطنة و الملكوت تعالى القيوم عن ذلك علوّا كبيرا»(2).

و لكنّا، نعذّر الطائفتين، فإحداهما تعلقت فكرتها بتنزيهه سبحانه فلم تر بدّا من القول بعدم سعة إرادته لأفعال العباد و الأخرى أرادت توحيده و تنزيهه من الشرك و الثنويّة فلم تر بدا من القول بسعة إرادته.

و الحق إمكان الجمع بين التنزيه و التوحيد بالبيان التالي:

الجهة الثالثة -

إنّ القول بسعة إرادته سبحانه يبتني على مقدمات ثابتة:

1 - سعة قدرته و خالقيته سبحانه، و أنّ كل ما في صفحة الكون من

ص: 290


1- لاحظ ما ذكرناه عند البحث عن نظرية خلق الأعمال حيث قلنا بأنّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة و هو يقتضي أن يكون التأثير ملازما له في جميع المراتب. و لاحظ الآيات التي ذكرناها بعده.
2- الأسفار، ج 6، ص 370.

دقيق و جليل، و ذات و فعل، مخلوق للّه سبحانه على البيان الذي سمعت.

2 - إنّ الوجود الإمكاني وجود فقير قائم بالواجب غير مستغن عنه في شأن من شئونه لا في ذاته و لا في فعله، و إنّ غناء فعل الإنسان عن الواجب يستلزم خروجه عن حد الإمكان و انقلابه موجودا واجبا، و هذا خلف فما في الكون يجب أن يكون منتهيا إلى الواجب قائما به قيام المعنى الحرفي بالاسمي. فالقول باستقلال الإنسان في فعله أشبه بمقالة الثنوية.

3 - إرادته سبحانه نفس ذاته، فهو علم كله و قدرة كله، و حياة كله، و إرادة كله، و إن لم يتحقق لنا، كنه إرادته.

ففي ضوء هذه الأصول الثلاثة تثبت سعة إرادته بوضوح و لا يحتاج إلى التأكيد و التبيين.

هذا حال الدلائل العقلية، و هناك آيات في الذكر الحكيم تؤيد عموم إرادته:

1 - يقول سبحانه: وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (1).

2 - و يقول سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (2).

و الآية و إن كانت ناظرة إلى ظاهرة خاصة و هي الإيمان، و لكنها تؤدي ضابطة كلية في جميع الظواهر.

3 - و يقول سبحانه: مٰا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهٰا قٰائِمَةً عَلىٰ أُصُولِهٰا فَبِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ لِيُخْزِيَ اَلْفٰاسِقِينَ (3). و هذه الآية قرينة على أنّ الآية السابقة كنفس هذه الآية بصدد إعطاء الضابطة، و إن كان البحث فيهما في إطار الإيمان و قطع اللينات أو تركها.

ص: 291


1- سورة التكوير: الآية 29.
2- سورة يونس: الآية 100.
3- سورة الحشر: الآية 5.

و هناك آيات بهذا المضمون تركنا إيرادها(1).

هذا ما يرشدنا إليه الذكر الحكيم، و عليه تضافرت أحاديث أئمة أهل البيت.

1 - روى الصدوق في توحيده بسنده عن حفص بن قرط عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من زعم أنّ اللّه تعالى يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على اللّه، و من زعم أنّ الخير و الشر بغير مشيئة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه، و من زعم أنّ المعاصي من غير قوة اللّه، فقد كذب على اللّه، و من كذب على اللّه أدخله النّار»(2).

2 - روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «إنّ اللّه أكرم من أن يكلف النّاس ما لا يطيقون و اللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد»(3).

3 - و روى عن حمزة بن حمران قال: قلت له: «إنّا نقول إنّ اللّه لم يكلف العباد إلاّ ما آتاهم، و كل شيء لا يطيقونه فهو عنهم موضوع، و لا يكون إلاّ ما شاء اللّه، و قضى، و قدّر، و أراد. فقال: و اللّه إنّ هذا لديني و دين آبائي»(4).

4 - و روى الصدوق عن البزنطي أنّه قال لأبي الحسن الرضا (عليه السّلام): «إنّ أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر و بعضهم بالاستطاعة فقال لي: أكتب: قال اللّه تبارك و تعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء و بقوتي أديت إليّ فرائضي، و بنعمتي قويت على

ص: 292


1- راجع البقرة: الآيتان 249 و 251، الأعراف: الآية 58، الأنفال: الآية 66، آل عمران: الآية 49، النّساء: الآية 64 و غيرها.
2- توحيد الصدوق باب نفي الجبر و التفويض، الحديث 2، ص 359.
3- بحار الأنوار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الحديث 64، ص 41.
4- المصدر السابق، الحديث 65، ص 41.

معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويا»(1). الحديث.

و البرهان العقلي و آيات الذكر الحكيم و أحاديث العترة الطاهرة أثبتت سعة إرادته، و إنّما الكلام في أنّ القول بسعة الإرادة لا ينافي اختيار العبد و حريته، و هذا يبين في الجهة التالية:

الجهة الرابعة -

في أنّ سعة إرادته لأفعال الإنسان لا يستلزم الجبر، و ذلك لأن إرادته لم تتعلق على صدور فعل الإنسان منه سبحانه مباشرة و بلا واسطة، بل تعلقت على صدور كل فعل من علّته بالخصوصيات التي اكتنفتها.

مثلا تعلقت إرادته سبحانه على أن تكون النار مبدأ للحرارة بلا شعور و إرادة، كما تعلقت إرادته على صدور الرعشة من المرتعش مع العلم و لكن لا بإرادة و اختيار، و هكذا تعلقت إرادته في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان على صدورها منه مع الخصوصيات الموجودة فيه المكتنفة به من العلم و الاختيار و سائر الأمور النفسانية.

و صفحة الوجود الإمكاني مليئة بالأسباب و المسببات المنتهية إليه سبحانه فمثل هذه الإرادة المتعلقة على صدور فعل الإنسان منه بقدرته المحدثة و اختياره الفطري تؤكد الاختيار و لا تسلبه منه.

و مع ذلك كله ليس فعل الإنسان فعلا أجنبيا عنه سبحانه غير مربوط به، كيف و هو بحوله و قوّته يقوم و يقعد و يتحرك و يسكن. ففعل الإنسان مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز، فعل اللّه أيضا بالحقيقة فكل حول يفعل به الإنسان فهو حوله، و كل قوة يعمل بها فهي قوته.

قال العلاّمة الطباطبائي: «إنّ الإرادة الإلهية تعلقت بالفعل بجميع شئونه و خصوصياته الوجودية، و منها ارتباطه بعلله و شرائط وجوده، و بعبارة أخرى تعلقت الإرادة الإلهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقا، بل من

ص: 293


1- التوحيد، باب المشيئة و الإرادة، الحديث 6، ص 338. و نظيره الحديث 10 و 13.

حيث إنّه فعل اختياري صادر من فاعل كذا، في زمان كذا. فإذن تأثير الإرادة الإلهية في الفعل يوجب كونه اختياريا و إلاّ تخلف متعلق الإرادة عنها.

فالإرادة الإلهية في طول إرادة الإنسان و ليست في عرضها حتى تتزاحما و يلزم من تأثير الإرادة الإلهية بطلان تأثير الإرادة الإنسانية. فخطأ المجبرة في عدم تمييزهم كيفية تعلق الإرادة الإلهية بالفعل و عدم تفريقهم بين الإرادتين الطوليتين و الإرادتين العرضيتين، و حكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلق إرادة اللّه تعالى به»(1).

الجهة الخامسة -

في تفسير ما استدلّ به شيخنا المفيد من الآيات على خروج أفعال العباد عن حيطة إرادته سبحانه.

استدلّ القائلون بعدم سعة إرادته بآيات مثل قوله تعالى: وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ (2). و قوله: وَ لاٰ يَرْضىٰ لِعِبٰادِهِ اَلْكُفْرَ (3) و قوله:

وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْفَسٰادَ (4) و غير ذلك مما استند إليه شيخنا المفيد في «تصحيح الاعتقاد»(5).

يلاحظ عليه أولا: إنّ من المحتمل أن تكون الإرادة في المقام إرادة تشريعية لا تكوينية، و من المعلوم أنّ التشريعي من الإرادة، لا يتعلق إلاّ بما فيه الصلاح، و تتجلى بصورة الأمر بالمصالح و النهي عن المفاسد، فلا يأمر بالظلم و الفحشاء، قال سبحانه: قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (6).

ص: 294


1- الميزان، ج 1، ص 99-100، طبعة بيروت
2- سورة غافر: الآية 31.
3- سورة الزمر: الآية 7.
4- سورة البقرة: الآية 205.
5- تصحيح الاعتقاد، ص 16-18.
6- سورة الأعراف: الآية 28.

و ثانيا: نفترض أنّ الإرادة في قوله سبحانه: وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ (1) إرادة تكوينية، و تعرب الآية عن أنّ إرادته لا تتعلق بالظلم، و لكن المراد هو المشيئة التكوينية المتعلقة بالشيء من جانبه سبحانه من دون أن يكون للعبد فيها دور، بأن يقوم سبحانه بنفسه بأعمال الظلم و البغي على العباد، فيعذب البريء المطيع و ينعم المجرم الطاغي، إلى غير ذلك من الأفعال التي يستقل العقل بقبحها و شناعتها. و اللّه سبحانه أعلى و أجلّ من أن تتسم إرادته بهذا العنوان.

و أمّا مشيئته التكوينية المتعلقة بالأشياء لكن من خلال إرادة عباده و مشيئتهم، بحيث يكون لإرادتهم دور في تحقق المتعلق و اتصافه بالبغي و الظلم، فالآية ليست نافية له. و ذلك أنّ مشيئة العبد هي السبب الأخير لتعنون الفعل بالظلم و تلوّنه بالبغي، و لولاها لما كان عنهما خبر و لا أثر.

و لأجل دور العبد و دخالته في تحقق القبائح و المحرمات نرى أنّه سبحانه جعل - على ما في الحديث القدسي - حسنات العبد أولى إلى نفسه من العبد، و سيئاته على العكس، قال: «و ذلك أنا أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني»(2). و ما هذا إلاّ لأنه سبحانه قد هيّأ للعبد، تكوينا و تشريعا، كل شيء يسعده فلم يصنع سبحانه إلاّ الجميل. فما أصابه من حسنة فمنه سبحانه لأنه عمل الجميل بمعدات جميلة واقعة منه سبحانه، في اختيار العبد، و إن ارتكب البغي و الظلم فقد ارتكب القبيح بالجميل الذي صنعه سبحانه له حيث تفضّل عليه بالمشيئة و الاختيار و القدرة، و لكنه صرفها في غير محله فهو أولى بسيئاته من اللّه الجميل الفاعل له.

و باختصار، إنّ فعل العبد لا يقع في ملكه تعالى إلاّ بإرادته سبحانه جميع مقدماته التي منها اختيار العبد الموهوب من عنده سبحانه إليه، فتعلق مشيئته بأفعال العباد بمعنى أن اختيار العبد و حريته مراد للّه سبحانه، فهو

ص: 295


1- سورة غافر: الآية 31.
2- التّوحيد للصدوق أبواب المشيئة و الإرادة، الحديث 7، ص 338.

تعالى أراد أفعال العبد لأجل أنّه أراد اختياره و حريته. فسعة المشيئة لفعل العبد و إن كان هذا الفعل ظلما و بغيا، لا يحدث في ساحته سبحانه و صمة عيب أو شين. لأن المسئول عن تحقق القبيح هو العبد الذي صرف هواه في البغي بدلا من العدل.

و لعلك لو وقفت على ما سنذكره عند البحث عن الأمر بين الأمرين لسهل عليك تصديق ذلك.

ثم إنّ لصدر المتألهين و تلاميذ منهجه و أستاذه السيد المحقق الداماد أجوبة أخرى مذكورة في كتابه فلاحظها(1).

الأصل الرابع لزوم الفعل مع المرجّح الخارج عن اختياره
اشارة

هذا هو الأصل الرابع الذي اعتمد عليه الأشاعرة، و حاصله: إنّ العبد لو كان قادرا لكان ترجيحه لأحد الطرفين إمّا لا لمرجح (أي بلا علّة) فيلزم انسداد باب إثبات الصانع، و إمّا لمرجّح، فإن كان من العبد تسلسل و إن كان من اللّه تعالى فعند حصول ذلك المرجّح يجب الفعل، و عند عدمه يمتنع فلا يكون مقدورا(2).

و توضيحه على ما في المواقف و شرحه: إنّ العبد لو كان موجدا لفعله بقدرته فلا بدّ من أن يتمكن من فعله و تركه، و إلاّ لم يكن قادرا عليه، إذ القادر من يتمكن من كلا الطرفين. و على هذا يتوقف ترجيح فعله على تركه، على مرجح (علّة)، و إلاّ فلو وقع أحد الطرفين بلا مرجح يلزم وقوع أحد الجائزين بلا سبب و هو محال، فإذا توقف وجود الفعل على المرجح، فهذا المرجح إمّا أن يكون من العبد باختياره أو من غيره، فعلى الأول يلزم التسلسل لأنّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجح عن العبد فيتوقف صدوره

ص: 296


1- الأسفار، ج 6. الفصل الثاني عشر، ص 379-395.
2- إرشاد الطالبين، ص 565.

على مرجح ثان و هكذا. و على الثاني يكون الفعل عند ذلك المرجح واجب الصدور عن العبد بحيث يمتنع تخلفه عنه، و إلاّ فلو لم يكن الفعل مع ذلك المرجح واجب الصدور، و جاز وقوع الطرف الآخر، يلزم أن يكون تخصيص أحد الطرفين بالتحقق دون الآخر بلا دليل. فيجب أن يكون أحد الطرفين مع المرجح واجب الصدور و معه يكون اضطراريا لا اختياريا(1).

يلاحظ عليه: إنّ كل ممكن يكون الوجود و العدم بالنسبة إليه متساويان، و يتوقف خروج الممكن عن أحد الطرفين إلى علّة تامة تجعله واجبا و تجعل الطرف الآخر ممتنعا. و إلاّ فلو كان - مع وجود العلّة التامّة - وقوع الطرف الآخر ممكنا للزم خروج الممكن عن مركز التساوي إلى أحد الطرفين بلا سبب و علّة و قد برهن الحكماء على قاعدتهم: «الشيء ما لم يجب لم يوجد»، بما ذكرناه. و بذلك يظهر: إنّ التعبيرات الواردة في الاستدلال تعبيرات غير فنّية، فإنّ وقوع الممكن لا يتوقف على وجود المرجح مع إمكان وجود الآخر، بل يتوقف على وجود علّة تامة تجعل أحد الطرفين ضروري التحقق و الآخر ممتنعه.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ صدور الفعل من الإنسان يتوقف على مقدمات و مبادي و معدّات كتصور الشيء و التصديق بفائدته و الاشتياق إلى تحصيله و غير ذلك من المبادي النفسانية و الخارجية ممّا لا يمكن حصره.

فربما تكون هناك العشرات من المقدمات تؤثر في صدور الفعل عن الإنسان سواء التفت إليها الإنسان أو لا. و لكن هذه المقدمات لا تكفي في تحقق الفعل و صدوره منه إلاّ بحصول الإرادة النفسانية التي يندفع بها الإنسان نحو الفعل، و معها يكون أحد الطرفين واجب التحقق و الطرف الآخر ممتنعه.

و المرجح الذي تلهج به الأشاعرة مبهم ليس شيئا وراء تلك الإرادة التي إذا انضمت إلى المبادي المتقدمة عليها تخرج الفعل عن حد الإمكان إلى حد الوجوب و تضفي على الطرف الآخر صبغة الامتناع. و ليس ذلك المرجح

ص: 297


1- شرح المواقف، ج 8، ص 149-150 بتلخيص و تصرّف.

مستندا إلاّ إلى نفس الإنسان و ذاته، فإنها المبدأ لظهوره في الضمير.

إنما الكلام في كون هذا المرجح فعل اختياري للنفس أو لا.

فمن قال بأنّ الفعل الاختياري ما يكون مسبوقا بالإرادة، وقع في المضيق في جانب الإرادة. إذ على هذا تصير الإرادة فعلا غير اختياري، لأنها غير مسبوقة بإرادة أخرى كما هو واضح وجدانا، و على فرض احتماله ننقل الكلام إلى الإرادة الثانية، فإمّا أن يتوقف فيلزم كون الثانية غير اختيارية، أو يتسلسل و هو باطل.

و أمّا على القول المختار، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن الجبر الفلسفي، من أنّ التعريف المذكور مختص بالأفعال الجوارحية كالأكل و الشرب فإن الاختيارية منها ما يكون مسبوقا بالإرادة دون الأفعال الجوانحية للنفس، كالعزم و الإرادة، فإنّ ملاك اختياريتها ليس كونها مسبوقة بالإرادة بل كونها فعلا للفاعل المختار بالذات أعني النفس الناطقة، فإنّ الاختيار و الحرية نفس ذاته و حقيقته و سنبرهن على ذلك عند البحث عن الجبر الفلسفي.

و على هذا فالاستدلال مبتور جدا. أضف إلى ذلك: أنّ الظاهر من كلامهم أنّ المرجح للفعل شيء خارج عن محيط إرادة الفاعل و اختياره، و هو شيء يخالف الفطرة و الشهود الوجداني لكل فاعل. بل المرجح، و إن شئت قلت بعبارة صحيحة، الجزء الأخير من العلة التامة، هو الإرادة و هي فعل اختياري للنفس لا لكونها مسبوقة بالإرادة بل لكونها ظلالا للفاعل المختار بالذات، أعني النفس التي هي المثل الأعلى للّه سبحانه، فهو أيضا فاعل مختار بالذات تكون أفعاله أفعالا اختيارية لكونها ظلالا للفاعل المختار بالذات.

ثم إنّ بعض المحققين أجاب عن استدلال الأشاعرة بجواب غير تام و حاصله: إنّ الترجيح بلا مرجح لا مانع منه و إنّ وجود المرجح و أصل الفعل و طبيعته كاف و إن كانت أفراده متساوية من دون أن يكون لبعضها مرجح على

ص: 298

البعض الآخر(1).

و لا يخفى أنّ امتناع التّرجّح من غير مرجح (كامتناع تحقق الممكن بلا علّة) و امتناع التّرجيح بلا مرجح من باب واحد، و القول بالامتناع في الأول يستلزم الامتناع في الثاني. و ذاك لأن أصل الفعل كما لا يتحقق بلا علة، فكذلك الخصوصيات لا تتحقق إلاّ معها، فالجائع بالنسبة إلى الرغيفين و الهارب بالنسبة إلى الطريقين كذلك، فكما أنّ صدور أصل الأكل و الهرب يحتاج إلى علّة، لامتناع وجود الممكن بلا سبب، كذلك تخصيص أحد الرغيفين بالأكل و ترك الآخر، بما أنّه أمر وجودي يحتاج إلى علّة. و القول بأنّ وجود أصل الفعل يتوقف على علّة دون خصوصياته، يرجع إلى القول بوجود الممكن - و لو في بعض مراتبه - و تحققه بلا علّة. و لأجل ذلك يقول المحققون إنّ مآل تجويز الترجيح بلا مرجح إلى تجويز الترجّح بلا مرجح.

فلازم هذا الجواب أنّ الخصوصية لا تطلب العلّة، و هذا انخرام للقاعدة العقلية، من حاجة الممكن إلى علّة.

و أمّا التمثيل برغيفي الجائع و طريقي الهارب، فلا شك أنّ للفعل و الخصوصية هناك مرجح و هو أنّ الإنسان العادي يجد في نفسه ميلا إلى جانب اليمين من كل من الرغيف و الطريق، فالميل الطبيعي يكون مرجحا لانصراف الإرادة إليه دون طرف اليسار. نعم ربما ينعكس لأجل طواري في الواقعة تلتفت إليها النفس فتختار ما في جانب اليسار(2).

ص: 299


1- المحاضرات، ج 2، ص 47-49. و يظهر ذلك الجواب أيضا من العلاّمة في (نهج المسترشدون) لاحظ إرشاد الطالبين ص 266.
2- ثم إنّ للمحقق الطوسي في المقام كلاما و هو: «الوجوب للداعي لا ينافي القدرة كالواجب». و قد جعله العلاّمة جوابا عن الاستدلال الذي نقلناه عن الأشاعرة. و الظاهر أن هذه العبارة ناظرة إلى تحليل دليل آخر للقائلين بالجبر و هو أنّ القاعدة الفلسفية المسلمة أعني «الفعل ما لم يجب لم يوجد»، تقتضي صدور الفعل عن الإنسان عن وجوب و اضطرار. و هذا لا يجتمع مع القول بالاختيار. فأجاب عنه المحقق الطوسي بأنّ الوجوب العرضي للداعي لا ينافي القدرة و الاختيار فالفعل بالنظر إلى قدرة العبد ممكن، و بالنظر إلى داعيه واجب، و ذلك لا يستلزم الجبر. فإنّ كل قادر يجب صدور الأثر منه عند وجود الداعي كالواجب. و أنت تعلم أن هذا الجواب يمكن أن يكون رافعا للشبهة الثانية أعني وجوب الفعل عند وجوب العلّة، و لا يكون قالعا لما نحن فيه من الإشكال لأن كلام الأشاعرة مركز على أن هذا الداعي يوجد في النفس لا من جانب الإنسان بل من جانبه سبحانه و معه يكون الفعل واجبا ضروريا خارجا عن الاختيار، فالقول بأنّ الفعل واجب بالنظر إلى الداعي و هو لا ينافي القدرة و الإمكان بالنظر إلى نفس الفعل، لا يرتبط بالإشكال. نعم يمكن أن تكون عبارة المحقق جوابا نقضيا عن استدلال الأشاعرة ببيان أن ما ذكرتموه من الدليل في حق الإنسان قائم في حقه سبحانه حرفا بحرف كما نوّه به العلاّمة في (كشف المراد) و أوضحه شارح (المواقف) فلاحظهما. و قد خلط شيخنا المظفر في تقرير استدلال الأشاعرة، بين الدليلين. فلاحظ (دلائل الصدق)، ج 1، ص 511.
تشكيكات أخرى للأشاعرة

هذا هو المهم من الأصول التي اعتمد عليها الأشاعرة في إثبات الجبر و سلب الاختيار و لهم هناك تشكيكات واهية لا تستحق أن يطلق عليها اسم الاستدلال نكتفي بذكر أمرين منها:

الأول: التكليف واقع بمعرفة اللّه تعالى إجماعا، فإن كان التكليف في حال حصول المعرفة فهو تكليف بتحصيل الحاصل، و هو محال. و إن كان في حال عدمها فغير العارف بالمكلّف و صفاته المحتاج إليه في صحة التكليف منه، غافل عن التكليف. و تكليف الغافل تكليف بالمحال(1).

يلاحظ عليه: إنّ البحث في كون الإنسان مختارا أو مجبورا، و ليس البحث في جواز التكليف بالمحال و ما ذكر من الاستدلال راجع إلى الأول دون الثاني هذا أولا.

و ثانيا: إنّ التكليف بالمعرفة تكليف عقلي لا شرعي، و يكفي في التكليف العقلي التوجه الإجمالي إلى أنّ هناك منعما يجب معرفته و معرفة صفاته و أفعاله حتى يكون شاكرا في مقابل نعمه، أو يجب معرفته دفعا للضرر المحتمل على التقريرين في بيان لزوم معرفة الباري في مسلك المتكلمين.

و يكفي في حكم العقل التوجه الإجمالي لا التفصيلي. و على ذلك فنحن نختار الشقّ الأول من الاستدلال و لكن لا بمعنى المعرفة التفصيلية حتى

ص: 300


1- شرح المواقف، ج 28، ص 157.

يكون تحصيلا للحاصل، بل المعرفة الإجمالية الباعثة على التفصيلية منها.

الثاني: إنّ أبا لهب أمر بأن يؤمن دائما و هو ممتنع لأنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن. و الإيمان تصديق الرسول فيما علم مجيئه به، و ممّا جاء به أنّه لا يؤمن. فيكون هو في حال لزوم إيمانه على الاستمرار مأمورا بأن يؤمن بأنّه لا يؤمن، و يصدّق بأنه لا يصدق. و إيمانه المشتمل على ما ذكر محال لاستلزامه الجمع بين التصديق و التكذيب. فإذا كان المكلف به محالا، لم يكن للتكليف به فائدة(1).

يلاحظ عليه: إنّ الإيمان هو التصديق الإجمالي بأنّ ما جاء به النبي حق. و هذا كاف في عد الإنسان مؤمنا. و لا يشترط في تحقق الإيمان التصديق التفصيلي بكل واحد مما جاء به النبي. و على ضوء هذا كان أبو لهب مأمورا بالتصديق الإجمالي و هو توحيده سبحانه و الاعتقاد بأنّ رسالة ابن أخيه من اللّه سبحانه. و هذا أمر ممكن لكل أحد و قد كان في وسعه أيضا و لكنه لم يؤمن به و أمّا التصديق التفصيلي بكل ما جاء في القرآن و منه أنّ أبا لهب لا يؤمن بتاتا و أنّ النار مثواه فلم يكن ممّا يجب الإيمان به حتى يلزم منه التناقض.

إلى هنا تمّ إيراد جملة من تشكيكات الأشاعرة الواردة في مجال الأفعال الاختيارية و لا حاجة إلى الإسهاب أزيد من هذا و فيما ذكرناه غنى و كفاية لمن أراد الحق و ابتغاه.

نعم استدلت الأشاعرة بالآيات المصرّحة بأنّ الهداية و الإضلال و الختم من جانبه سبحانه و سنعقد له فصلا خاصا عند البحث عن مذهب الحق. و هو الأمر بين الأمرين.

ص: 301


1- شرح المواقف، ج 8، ص 157.

ص: 302

مناهج الجبر

(2) الجبر الفلسفي

اشارة

قد عرفت حقيقة الجبر الأشعري و أنّه كان يردّ الاختيار بعوامل غيبية و سماوية من القضاء و القدر و سبق العلم الأزلي و المشيئة الإلهية و عرفت بعض التشكيكات التي ذكروها في المقام.

و أمّا الجبر الفلسفي فهو يعتمد على قواعد فلسفية مسلّمة عند الإلهي و المادي و نذكر فيما يلي المهم من أدلته:

الدليل الأول: وجود الشيء مقارن لوجوبه

قد ثبت في الفن الأعلى من الفلسفة أنّ «الشيء ما لم يجب لم يوجد»، و هذه قاعدة مسلّمة عند الكل، و حاصل برهانها أنّ الشيء الممكن في حدّ ذاته لا يقتضي الوجود و لا العدم، فنسبة الوجود و العدم إليه متساوية، و لا يتسم بهما إلاّ بلحاظ أمر خارج عن ذاته، غير أن اتصافه بالوجود يتوقف على انضمام عامل إلى ماهية الممكن حتى يضفي عليها الوجود في حين أنّه يكفي في اتصافه بالعدم لحاظ عدم العامل و عدم العلّة.

و على هذا فلو وجد عامل خارجي يقتضي وجوده اقتضاء إيجابيا، يتحقق. و إلاّ يكون تطرق العدم إليه جائزا و ممكنا، و معه لا يمكن أن يتحقق و يتلبس بالوجود.

ص: 303

و بعبارة ثانية: إذا كان هناك ما يقتضي وجوده، فإمّا أن يقتضي وجوبه أيضا أو لا، فعلى الأول فقد وجب وجوده، و تثبت القاعدة، و على الثاني يعود السؤال بأنه إذا كان تطرق العدم أمرا ممكنا جائزا، فلما ذا اتصف بالوجود دون العدم مع انفتاح طريق كل منهما، إذ المفروض أنّ العلّة ما اقتضت وجوبه و لم تسد باب العدم على وجه القطع و البت، بل كان باب كل مفتوحا على الشيء و إن ترجّح جانب الوجود، و لكنه لم يمتنع بعد الجانب الآخر، و الأولوية العارضة لجانب الوجود غير كافية إذ المفروض أنّ طريق العدم معها بعد مفتوح، و مع ذلك اتصف بالوجود و لم يتصف بالعدم.

و عندئذ، ينطرح السؤال التالي:

لما ذا تحقق هذا و لم يتحقق ذاك ؟ و لأجل ذلك ذهب الحكماء إلى أنّ وجود الشيء رهن سد باب العدم على وجه القطع و البت و اتصافه بالوجود على وجه الوجوب حتى ينقطع السؤال بأنه لم اتصف بهذا دون ذاك.

هذا برهان القاعدة، و رتب عليها القول بالجبر، لأن فعل العبد لا يصدر منه إلاّ بالوجوب، و الوجوب ينافي الاختيار.

يلاحظ عليه: إنّ القاعدة قاعدة متقنة لا غبار عليها غير أنّ استنتاج الجبر من القاعدة أمر عجيب، لأنها لا تعطي أزيد من أنّ المعلول إنما يتحقق بالإيجاب و الإلزام، و أمّا كون الفاعل، فاعلا موجبا (بالفتح) و مجبورا فلا يستفاد منها.

توضيح ذلك: إنّ الفاعل لو كان فاعلا طبيعيا غير شاعر و لا مختار، أو شاعرا غير مختار، يصدر الفعل منه بالوجوب مع امتناع العدم و يكون الفعل واجبا و الفاعل موجبا (بالفتح). و أمّا إذا كان الفاعل مدركا و مختارا، فصدور الفعل منه يتوقف على اتّصاف فعله بالوجوب، و العامل الذي يضفي هذا الوصف على المعلول هو نفس الفاعل، فهو باختياره و حريته يوصل الفعل إلى حد يكون صدوره عنه على نحو الوجوب و اللزوم. فعندئذ يكون الفاعل المدرك المختار فاعلا موجبا أي معطيا الوجوب لفعله و من هو كذلك

ص: 304

لا يتصف هو و لا فعله بالجبر. فالاستنتاج نبع من المغالطة بين الفاعل الموجب و الفاعل الموجب، و هو أحد أقسام المغالطة(1).

الدليل الثاني - الإرادة ليست اختيارية

هذا الدليل الذي لجأ إليه الجبريون من الحكماء، هو المزلقة الكبرى، و الداهية العظمى في المقام و لقد زلّت في نقده و تحليله أقدام الكثير من الباحثين، و لا عتب علينا لو أسهبنا البحث فيه، فنقول:

قال المستدل: إنّ كل فعل اختياري بالإرادة، و لكنها ليست أمرا اختياريا و الا لزم أن تكون مسبوقة بإرادة أخرى، و ينقل الكلام إليها، فإمّا أن تقف السلسلة فيلزم الجبر في الإرادة النهائية و إمّا أن لا تقف فيلزم التسلسل.

و بعبارة ثانية: إنّ الفعل الاختياري ما كان مسبوقا بالإرادة، و أمّا نفسها، فلا تكون كذلك، لأنا ننقل الكلام إلى الثانية منها فهل هي كذلك أو لا؟ و على الثاني يثبت كونها غير اختيارية لعدم سبق إرادة عليها، و عدم نشوئها من إرادة أخرى. و على الأول ينقل الكلام إليها مثل الأولى فإما أن يتوقف في إرادة غير مسبوقة، أو يتسلسل. و الثاني محال. فيثبت الأول.

و قد نقل صدر المتألهين هذا الإشكال عن المعلّم الثاني الفارابي حيث قال في نصوصه: «إن ظن ظان أنّه يفعل ما يريد و يختار ما يشاء، استكشف عن اختياره هل هو حادث فيه بعد ما لم يكن أو غير حادث ؟ فإن كان غير حادث فيه لزم أن يصحبه ذلك الاختيار منذ أول وجوده، و لزم أن يكون مطبوعا على ذلك الاختيار لا ينفك عنه، و إن كان حادثا - و لكل حادث محدث -

ص: 305


1- إن للمغالطة أقساما كثيرة ربما تناهز الثلاثة عشر قسما، و منها هذا القسم الوارد في هذا البحث. لاحظ قسم المغالطة في شرح المنظومة للحكيم السبزواري (ص 105 - قسم المنطق) حيث يقول: أنواعها الثلاثة عشر كما قد ضبطوها من كلام القدماء

فيكون اختياره عن سبب اقتضاه و محدث أحدثه فإمّا أن يكون هو أو غيره، فإن كان هو نفسه، فإمّا أن يكون إيجاده للاختيار بالاختيار، و هذا يتسلسل إلى غير النهاية، أو يكون وجودا لاختيار فيه لا بالاختيار فيكون مجبورا على ذلك الاختيار من غيره، و ينتهي إلى الأسباب الخارجة عنه التي ليست باختياره»(1).

و أنت ترى أنّ هذا البرهان لو صحّ لكان المادي و الإلهي متساويين بالنسبة إليه. و حاصل هذا البرهان أنّ الإرادة تعرض للنفس في ظل عوامل داخلية و خارجية فيكون اجتماع تلك العوامل موجبا لظهورها على لوح النفس. و لأجل ذلك تتصف الإرادة بالجبر لكون وجودها معلولا لتلك العوامل النفسانية و غيرها. فالفعل الاختياري ينتهي إلى الإرادة و هي تنتهي إلى مقدماتها من التصور و التصديق و الميل النفساني المنتهية إلى أشياء خارجة عن ذات المريد، نعم الإلهي يرجع هذه المقدمات النفسانية أو الخارجية، بعد سلسلة الأسباب و المسببات إلى اللّه سبحانه، و المادي يرجعها إلى العوامل الموجودة في عالم المادة و لذلك ذكرنا هذا البرهان في فصل الجبر الفلسفي لا في الأشعري الذي ينسب الأشياء إلى اللّه سبحانه مباشرة، و لا في فصل الجبر المادي الذي لا يرى علّة للجبر إلاّ العوامل المادية، بل ذكرناه في هذا الفصل الذي يمكن أن يكون مختارا للإلهي كما يمكن أن يكون مختارا للمادي.

أقول: إنّ هذا الإشكال هو من أهم الإشكالات في هذا الباب، و ربما نرى أنّ بعض الماديين لجئوا إلى تنمية هذا الإشكال بشكل يناسب أبحاثهم، و يصرون على أنّ الإرادة في الإنسان تحصل باجتماع معدات و شرائط و مقدمات و بواعث يكون الإنسان مقهورا في إرادته، و إن كان يتصور

ص: 306


1- الأسفار، ج 6 ص 390. و يظهر هذا الإشكال من الشيخ الرئيس في الفن الثالث من طبيعيات الشفاء و في أول العاشرة من إلهيات الشفاء. و قد نقل صدر المتألهين نصوصه في المصدر نفسه، فلاحظ.

نفسه مختارا، و يرددون في أشداقهم كون الإنسان مسيرا بصورة المختار و نحن نأتي ببعض ما ذكر من الأجوبة، ثم نذكر المختار من الجواب عندنا.

الأجوبة المذكورة في المقام
الجواب الأول: هو ما أجاب به صدر المتألهين

قال: «المختار ما يكون فعله بإرادته، لا ما يكون إرادته بإرادته. و القادر ما يكون بحيث إن أراد الفعل، صدر عنه الفعل، و إلاّ فلا. لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل فعل، و إلاّ لم يفعل»(1).

يلاحظ عليه: إنّ ما ذكره من التعريف إنما هو راجع إلى الأفعال الجوارحية فالملاك في كونها أفعالا اختيارية أو جبرية هو ما ذكره و أمّا الأفعال الجوانحية الصادرة عن النفس و الضمير، فهي إمّا أفعال جبرية، أو إنّ لكونها أفعالا اختيارية ملاكا آخر يجب الإيعاز إليه.

و باختصار: إنّ البحث ليس في التسمية حتى يقال: إنّ التعريف المذكور للفعل الاختياري يوجب كون الإرادة و الفعل من الأمور الاختيارية، بل البحث في واقع الإرادة و حقيقتها، فإذا كانت ظاهرة في الضمير الإنساني في ظل عوامل نفسانية أو أرضية و سماوية، فلا تكون أمرا اختياريا. و بالنتيجة، لا يكون الفعل أيضا فعلا اختياريا.

الجواب الثاني: ما أفاده المحقق الخراساني

في الكفاية في بحث التجرّي من أنّ اختيارية الإرادة و إن لم تكن بالاختيار، إلاّ أنّ مبادئها يكون وجودها غالبا بالاختيار للتمكن من عدمه بالتأمل في ما يترتب على ما عزم عليه من اللوم و المذمة أو التبعة و العقوبة(2).

يلاحظ عليه: إنّه لا يدفع الإشكال، لأنّ تلك المبادي لا تخلو إمّا أن

ص: 307


1- الأسفار، ج 6 ص 388. و له جواب آخر عن الإشكال غير متين جدا، فمن أراد فليرجع إلى كتابه، كما نقل جوابا آخر عن أستاذه المفخم المحقق الداماد.
2- كفاية الأصول للمحقق الخراساني (ت 1255 - م 1329). ج 2، ص 14.

تكون مسبوقة بالإرادة أو لا، فعلى الأول يلزم عدم كونها أفعالا اختيارية و إن كانت أفعالا إرادية، و ذلك لأن الإرادة السابقة على تلك المبادي إرادة غير اختيارية و غير مسبوقة بإرادة أخرى، و إلاّ ينقل الكلام إليها و يلزم التسلسل.

و على الثاني يلزم عدم كونها فعلا إراديا للنفس أيضا، بل تكون أفعالا صادرة عن النفس بلا إرادة.

الجواب الثالث: ما ذكره شيخ المشايخ العلامة الحائري

و حاصله:

إنّ ما اشتهر من أنّ الإرادة لا تتعلق بها الإرادة و لا تكون مسبوقة بأخرى أمر غير صحيح بل تتحقق الإرادة لمصلحة في نفسها.

قال: «الدليل على ذلك هو الوجدان لأنّا نرى إمكان أن يقصد الإنسان البقاء في المكان الخاص عشرة أيام بملاحظة أنّ صحة الصوم و الصلاة تامة تتوقف على القصد المذكور، مع العلم بعدم كون هذا الأثر مرتبا على نفس البقاء واقعا فتتعلق بالإرادة، إرادة»(1).

يلاحظ عليه: إنّه لا يقلع الإشكال أيضا، إذ غايته كون الإرادة الأولى اختيارية لسبقها بإرادة ثانية و أمّا الإرادة الثانية فهي بعد باقية على صفة غير الاختيارية، لأنّ الميزان في الفعل الاختياري حسب معايير القوم كونه مسبوقا بالإرادة فلو سلمت هذه القاعدة لصارت الإرادة الثانية غير اختيارية.

الجواب الرابع: ما ذكره العلامة الطباطبائي

في ميزانه و حاصله: إنّ الحوادث بالنسبة إلى علتها التامة واجبة الوجود، و بالنسبة إلى أجزاء عللها ممكنة الوجود، فهذا هو الملاك في أعمال الإنسان و أفعاله فلها نسبتان:

نسبة إلى علّتها التامة و نسبة إلى أجزائها، فالنسبة الأولى ضرورية وجوبيه، و النسبة الثانية نسبة ممكنة. و كل فعل من الأفعال ضروري الوجود بملاحظة علله التامة و ممكن بملاحظة أجزاء علته(2).

ص: 308


1- الدرر للشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم (ت 1274 - م 1355)، ج 2، ص 15.
2- الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 99.

و بما إنّ الإرادة ليست علّة تامة للفعل، تكون نسبة الفعل إليها نسبة الإمكان لا نسبة الوجوب.

يلاحظ عليه: بنفس ما لوحظ على كلام صدر المتألهين إذ المفروض أنّ ما وراء الإرادة أمر خارج عن الاختيار. فإذا كانت الإرادة مثله في الخروج عن الاختيار فلا يتصف الفعل بالاختيار و لا الإرادة به. و ما ذكره مجرّد اصطلاح إذ لا شك أنّ نسبة الفعل إلى أجزاء العلّة التامة نسبة ضرورية و إلى بعضها إمكانية و لكنه لا يشفي العليل و لا يروي الغليل، إذ البحث في أنّ مدار اختيارية الفعل هو الإرادة، و الإرادة ليست اختيارية لأنها تطرأ على النفس في ظل عوامل خاصة من نفسية و غيرها، فالنسبتان المذكورتان لا تدفعان الإشكال.

نعم قد ذكر في ذيل كلامه هنا و في موضع آخر من تفسيره(1) كلاما حاصله: إنّ إرادته سبحانه لم تتعلق بصدور الفعل عن الإنسان بأي نحو اتفق و إنما تعلقت بالفعل بجميع شئونه و خصوصياته و منها أنها فعل اختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا إلى آخر ما أفاده. فهو جواب عن إشكال آخر تقدم عند البحث عن الجبر الأشعري(2) و ليس هذا جوابا عن الإشكال المطروح في المقام.

الجواب الخامس: ما أجاب به السيد المحقق الخوئي (دام ظله)

في محاضراته في كلام مفصل نأخذ المهم منه، و حاصله: منع كون الإرادة علّة تامة للفعل بل الفعل على الرغم من وجوده و تحققه يكون تحت اختيار النفس و سلطانها و لو كانت الإرادة علّة تامة لحركة العضلات و مؤثرة فيها لم يكن للنفس تلك السلطنة، و لكانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها..

ثم قال: «إنّ الميزان في الفعل الاختياري ما أوجدته النفس باختيارها و إعمال القدرة و السلطنة المعبر عنها بالاختيار و قد خلق اللّه النفس الإنسانية

ص: 309


1- لاحظ الميزان، ج 11، ص 21.
2- لاحظ الأصل الثالث من أصول الأشاعرة.

واجدة لهذه السلطنة و القدرة و هي ذاتية لها، و ثابتة في صميم ذاتها، و لأجل هذه السلطنة تخضع العضلات لها، و تنقاد في حركاتها، فلا تحتاج النفس في إعمالها لتلك السلطنة و القدرة إلى إعمال سلطنة»(1).

يلاحظ عليه أولا: إنّ الإصرار على أنّ الفعل بعد الإرادة تحت اختيار النفس و سلطانها و أنّ الإرادة ليست علّة تامة لصدور الفعل، إصرار غير لازم، إذ يكفي في ذلك إثبات كون الإرادة أمرا اختياريا و إن كان صدور الفعل بعدها أمرا إلزاميا. فالذي يجب التركيز عليه هو الأول (الإرادة فعل اختياري للنفس) لا الثاني (كون الفعل بعد الإرادة ممكن الصدور لا واجبه) و سيوافيك توضيحه في الجواب المختار.

و ثانيا: إنّ القاعدة الفلسفية القائلة بأنّ (الشيء ما لم يجب لم يوجد) غير قابلة للتخصيص، فكما هي تعم الأفعال الطبيعية، فهكذا تعم الأفعال النفسانية. و الملاك في الجميع واحد، و هو أنّ صدور الفعل يتوقف على سد باب العدم على الشيء و مع سدّه يتصف الفعل بالوجوب و لا يبقى لوصف الإمكان مجال كما أوضحناه.

و ثالثا: إنّ أعمال السلطنة و القدرة، فعل من أفعال النفس. فما هو الملاك لكونها اختيارية ؟، اللازم التركيز عليه بوجه واضح، و ما جاء في كلامه لا يزيد عن إشارات إلى البرهان و سيوافيك تفصيله.

الجواب السادس: ما أفاده السيد الأستاذ الإمام الخميني (دام ظله) بتوضيح و تحرير منا:

و حاصله: إنّ الكبرى ممنوعة و هي جعل ملاك الفعل الاختياري كونه مسبوقا بالإرادة حتى تخرج الإرادة عن إطار الفعل الاختياري، بل المناط في اختيارية الفعل سواء أ كان فعلا جوارحيا أو جوانحيا كونه صادرا عن فاعل مختار بالذات، غير مجبور في صميم ذاته، و لا مضطر في حاق وجوده، بل الاختيار مخمور في ذاته و واقع حقيقته،

ص: 310


1- المحاضرات، ج 1، ص 59-60 و قد أخذنا موضع الحاجة منه.

و الإنسان من مصاديق تلك الضابطة في أفعاله الاختيارية(1).

و إليك بيانه: إنّ ما يصدر من الإنسان من الأفعال على قسمين، قسم منه يصدر عن طريق الآلات و الأسباب الجسمانية كالخياطة و البناء، و هذا القسم من الفعل يكون مسبوقا بالتصور و التصديق و الشوق إلى الفعل و العزم و الجزم الذي يلازم تحريك العضلات نحو المراد. و هذا ما يسمى بالأفعال الجوارحية.

و قسم يصدر منه بلا آلة بل بخلاقية منها، و هذا كالأجوبة التي تصدر من العالم النحوي الذي له ملكة علم النحو عند السؤال عن مسائله. فإنّ هذه الأجوبة تصدر واحدة بعد الأخرى لا بتصور و لا بتصديق و لا بشوق و لا بعزم سابق على الأجوبة. و ليس صدور تلك الأجوبة عن النفس كصدور الأفعال الجوارحية من الأكل و الشرب مسبوقة بمبادئها، بل هي تظهر في لوح النفس و تصدر عنها بدون هذه التفاصيل.

و هذه الأجوبة التي تعد صورا علمية، موجودة للنفس مخلوقة لها، خلقا اختياريا بحيث لو شاء ترك، مع أنها ليست مسبوقة بالإرادة و لا بمبادئها، بل كفى في كونها اختيارية كون النفس «فاعلا مختارا بالذات» بحيث تكون حقيقتها كونها مختارة، و كونها مختارة نفس حقيقتها.

و بذلك يظهر أن وزان الإرادة بالنسبة إلى النفس وزان الصور العلمية.

فكما أنّ صدور الصور العلمية لا يتوقف على المبادي السابقة، فكذلك ظهور الإرادة في الضمير.

و كما أنّ ظهور تلك الأجوبة، ظهور اختياري لدى النفس، فكذلك الإرادة، و ليس مناط اختياريتها سبق إرادة أخرى، لما عرفت من عدم كونها مسبوقة بها، بل الملاك في اختياريتها كون النفس فاعلا مختارا بالذات و ليس الاختيار مفصولا عن ذاتها و هويتها.

ص: 311


1- لبّ الأثر في الجبر و القدر، تقرير لدرس السيد الإمام بقلم الأستاذ دام ظله، مخطوط.

و إن شئت فاستوضح الحال بأفعاله سبحانه، فإنها كلها اختيارية لكن لا بمعنى كونها مسبوقة بالإرادة التفصيلية الجزئية الحادثة لكونه سبحانه منزّها عن مثل هذه الإرادة، و قد عرفت أنّ حقيقة إرادته و واقع كونه مريدا هو كونه فاعلا مختارا بالذات، فلأجل ذلك تصبح أفعاله سبحانه في ظل هذا الاختيار الذاتي، أفعالا اختيارية و النفس الإنسانية في خلاقيتها بالنسبة إلى الصور العلمية و الإرادة التفصيلية مثال للواجب سبحانه، وَ لِلّٰهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىٰ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (1).

و ما اشتهر من أنّ ملاك الفعل الاختياري السبق بالإرادة، فإنّما هو ناظر إلى الأفعال الجوارحية الصادرة من الإنسان عن طريق الأسباب و الآلات و لا يعم كل فعل اختياري.

و يمكن أن يقال: إنّ تعريف الفعل الاختياري بسبق الإرادة من قبيل جعل ما بالعرض مكان ما بالذات، بل الملاك في كونه فعلا اختياريا للإنسان هو انتهاء الفعل إلى فاعل مختار بالذات، و صدوره عنه بالإرادة. غير أنّا لتسهيل الأمر على الطلاّب نتوافق على هذا التعريف في مورد الأفعال الجوارحية لا مطلقا.

إلى هنا خرجنا بهذه النتائج:

1 - إنّ الأفعال النفسانية تصدر عن النفس لا بإرادة مسبقة بل يكفي في صدورها الاختيار الذاتي الثابت للنفس.

2 - إنّ هذه الأفعال كما هي غير مسبوقة بالإرادة غير مسبوقة بمبادئها أيضا، فليس قبل صدورها تصوّر و لا تصديق و لا شوق و لا عزم و لا جزم.

3 - إنّ الأفعال القلبية اختيارية للنفس بملاك الاختيار الذاتي الثابت لها.

ص: 312


1- سورة النحل: الآية 60.

و أمّا الدليل على ثبوت اختيار ذاتي للنفس فيكفي في ذلك:

أولا: قضاء الفطرة و البداهة بذلك فإن كل نفس، كما تجد ذاتها حاضرة لديها فهكذا تجد كونها مختارة، و أنّ سلطان الفعل و الترك بيدها، و لها أن تقدم على عمل و أن لا تقدم عليه، و لا شيء أظهر عند النفس من هذا الاختيار، و إن أنكره الإنسان فإنما ينكره باللسان و هو معتقد به.

و ثانيا: إنّ فاقد الكمال لا يكون معطيه فالنفس واجدة للاختيار في مقام الفعل و يعد فعلها فعلا اختياريا لأجل كونه مسبوقا بالإرادة. فمفيض الاختيار في مقام الفعل واجد له في مقام الذات. و هذا نظير ما يقال: إنّ الصور التفصيلية الظاهرة في الضمير من أفعال النفس، و هي واجدة لها في مقام الذات، فمن كانت له ملكة علم النحو ثم سئل مسائل كثيرة فأجاب عنها واحدة بعد الأخرى بأجوبة تفصيلية فهي كانت موجودة في صميم الملكة و ذات النفس بوجود بسيط إجمالي، لا بوجود تفصيلي. و هذا يدلنا على أنّ كل ما يظهر للنفس في مقام الفعل و التفصيل، و منه الاختيار، فهي واجدة له في مقام الذات بوجه بسيط إجمالي مناسب لمقام الذات.

إذا عرفت ذلك فنحن في غنى عن إيضاح الجواب و لعل ما ذكرناه هو مقصود صاحب المحاضرات كما نقلنا عنه. و لكنه دام ظله يصرّ على أمر لا دخالة له في الإجابة و هو أنّه ليست الإرادة علّة تامة للفعل بل الفعل - على الرغم من وجوده و تحققه - يكون تحت اختيار النفس و سلطانها، و لو كانت الإرادة علّة تامة لحركة العضلات و مؤثرة فيها لم يكن للنفس تلك السلطنة و كانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها.

أقول: لو كانت الإرادة علّة تامة للفعل، أو كانت جزءا أخيرا من العلة التامة كما هو الحق بحيث يكون تحقق الفعل معها ضروريا، فلا ينافي ذلك سلطان النفس و اختيارها قبل الإرادة، إذ لها أن تتأمل فيما يترتب على الفعل و الإرادة من الآثار السيئة و لا تريدها، و لكنها باختيارها أوجدت الإرادة و حققتها، و معها وجب صدور الفعل من النفس. و مثل هذا لا يوجب خروج

ص: 313

الفعل عن كونه اختياريا. فالإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار، و الفعل و إن كان يتحقق وجوده بعدها لكن لا يخرجه اللزوم عن كونه فعلا اختياريا، و هذا كالملقي نفسه من شاهق باختيار، لا يعد هبوطه و سقوطه فعلا خارجا عن الاختيار، لكون مباديه بالاختيار. فالذي يجب التركيز عليه هو اختيارية الإرادة و لا يضر وجوب الفعل بعد حصولها إذا كانت الإرادة اختيارية.

فالتركيز على عدم وجوب الفعل بعد الإرادة - فرارا عن اضطرارية الفعل - ليس بأولى من التركيز على وجوب الفعل بعد الإرادة، إذا كانت الإرادة فعلا اختياريا للنفس باختيار ذاتي لها.

فالذي تنحل به العقدة هو كون الإرادة تحت سلطان النفس لا كون الفعل غير واجب بعد حصول الإرادة.

ص: 314

مناهج الجبر

(3) الجبر الماديّ

اشارة

قد تعرفت على القسمين الأولين من الجبر و هما الجبر الأشعري و الجبر الفلسفي و بقي الكلام في الجبر المادي الذي يحلل فعل الإنسان من خلال العلل المادية المكونة لشخصيته: روحياته و نفسانياته. و ليست هي إلاّ ما يعبّر عنه في ألسنتهم ب «مثلث الشخصية»، فإنها المكونة لحقيقة كل إنسان و واقعيته التي تسوقه إلى الفعل المناسب لها «و كل إناء بما فيه ينضح». و قبل تقرير دليلهم نأتي بكلمة:

الانعتاق من القيود تحت غطاء «الجبر»

إنّ الاعتقاد بالجبر شيء يصادم الوجدان و الفطرة، كما يصادم ما اتفق عليه العقلاء، حتى أنّ القائلين به في الأبحاث الفلسفية يدافعون عن الحرية في حياتهم الاجتماعية و يقفون في وجه المعتدي على حقوقهم و يشجبون عدوانه و يشكونه إلى المحاكم القانونية فهؤلاء جبريون في الفكر، و لكنهم ملتزمون بالاختيار في مقام العمل و المعاشرة، فعند ذلك ينطرح هذا السؤال:

ما هذا التناقض بين الفكر و العمل ؟ و لما ذا يدّعي هؤلاء أنّ الإنسان

ص: 315

مسيّر لا مخيّر، مع أنهم يعاملون الإنسان في حياتهم معاملة الموجود المختار؟.

الحق أنّ هنا دوافع مختلفة بعضها اجتماعية و بعضها الآخر سياسية.

أما الأولى: فلأنّ هؤلاء يريدون تجاهل القوانين و تجاوز الحدود و الحصول على الحرية المطلقة في العمل، و الانحلال عن كل قيد و رفض كل قاعدة اجتماعية و أخلاقية. و من الطبيعي أنّ هذا لا يجتمع مع تحمل المسئولية المترتبة على الحرية و الاختيار، فلا بدّ من اللجوء إلى أصل فلسفي يرفع عن كاهل الإنسان تلك المسئولية و ليس هو إلاّ القول بالجبر و كون الإنسان مسيّرا.

و أمّا الثانية: فأكثر أصحاب هذه الفكرة هم السلطات الغاشمة الفارضة نفسها و سلطانها على الناس بالقهر، فهم يروجون تلك الفكرة حتى يبرروا بها أفعالهم الإجرامية.

و لأجل ذلك يصوّر شاعر مبدع العامل الأول قائلا:

سألت المخنّث عن فعله *** علام تخنّثت يا ماذق

فقال ابتلاني بداء عضال *** و أسلمني القدر السّابق

و لمت الزّناة على فعلهم *** فقالوا بهذا قضى الخالق

و قلت لآكل مال اليتيم *** أكلت و أنت امرؤ فاسق

فقال و لجلج في قوله *** أكلت و أطعمني الخالق

و كل يحيل على ربّه *** و ما فيهمو أحد صادق

هذا فكر جبريّ العصور السابقة، و أمّا الجبريّ الماديّ المعاصر، فقد أخذ هذا المنطق و نسبه إلى العوامل المادية ليصل إلى ما وصل إليه الجبري السابق من الانحلال من القيود.

ص: 316

العوامل المكوّنة للشخصية

استند أصحاب هذه النظرية إلى أنّ الإنسان و إن كان حرّا في ظاهره و لكن إذا لوحظت العوامل التي تكوّن شخصيته الفكرية، لحكمنا بأنّه لا مناص له إلاّ بالجنوح إلى ما توحي إليه نفسيته.

و العوامل المكونة لشخصيته: تفكراته و تعقلاته، و روحياته و نفسانياته، تتلخص في النواميس التالية:

1 - الوراثة، 2 - الثقافة، 3 - البيئة.

ففي ناموس الوراثة، يرث الأولاد من آبائهم و أمهاتهم السجايا العليا أو الصفات الدنيئة، فهي تنتقل عن طريق الحيوان المنوي في الأب و البويضة في الأم إلى الوليد، و من خيوطهما تنسج خيوط شخصيته، و بحسبها يكون سلوكه.

و أما الثقافة و التعليم، فلهما أيضا تأثير في شخصية الإنسان، فمن هذا الطريق تزرع في كيانه الشخصي الأفكار الخاصة من توحيد أو إلحاد، و ثورة أو خمود، و قناعة أو حرص، إلى غير ذلك من الروحيات التي لها اقتضاء خاص و بحسبها يميل الإنسان إلى سلوك معين.

و أما البيئة و المحيط، فالإنسان وليد بيئته في سلوكه و خلقه، و لأجل ذلك نجد اختلاف السوالك في المجتمعات حسب اختلاف البيئات.

هذه هي العوامل البنّاءة لشخصية الإنسان و روحياته، و كل إنسان يحوك على نولها و يعمل بحسب اقتضائها. و على ضوء هذا، فكل فعل ينتهي إلى علّة موجبة لوجود الفعل، و ليست هي إلاّ شخصيته المتكونة من العوامل المحيطة به السائقة له نحو الفعل. حتى أنّ الإرادة التي تعدّ رمزا للاختيار، وليدة تلك العوامل في صقع النفس،. فإذا كانت هذه العوامل خارجة عن الاختيار، فما ينتهي إليها كذلك يلاحظ عليه: إنّه لا شك في تأثير هذه العوامل في تكوين الشخصية،

ص: 317

و لكن ليس تأثيرها إلى درجة يسلب الاختيار من الإنسان. إذ لو صحّ هذا، للزم بطلان جهود المربّين، و صيرورة أعمال المصلحين هواء في شبك. بل هذه العوامل لا تعدو عن كونها مقتضيات و أرضيات تطلب أمورا حسب طبيعتها، و لكن وراءها حرية الإنسان و اختياره. و قد خلط المادي في هذه النظرية بين الإيجاب و الاقتضاء، و العلّة التامة و العلّة الناقصة. و لأجل إيضاح مدى تأثير هذه العوامل نبحث عن كل واحدة منها على وجه الإجمال.

أما الوراثة فهي ناموس مقبول في الجملة، و لكن لا يعلم حدودها سعة و ضيقا، فلا شك أن الأولاد يرثون الصفات الخلقية و الروحية على وجه الإجمال و لكن ما يتركه الآباء و الأمهات في هذا المجال ينقسم إلى نوعين:

1 - ما يفرض على الأولاد فرضا لا يمكن إزالته مثل الحمق، و البلادة، و العقل و الذكاء، و الجبن و الشجاعة و غير ذلك مما لا يمكن إزالته في الأغلب بالجهود التربوية و الإصلاحية.

2 - ما يرثه الأولاد على وجه الأرضية و الاقتضاء، و بصورة تأثير العلّة الناقصة، فيمكن إزالة آثاره بالوسائل التربوية و الطرق العلمية و ذلك كالأمراض الموروثة كالسل و غيره، و مثل هذا القسم طائفة كبيرة من الروحيات كحالة الطغيان و التمرد فإنه يمكن إزالتها برفع مستوى فكر الإنسان و عقليته، و إيقافه على عواقب العصيان. فليس كل ما يرثه الأولاد من الآباء و الأمهات مصيرا لازما و قضاء حتما، بل هناك فوق بعض ذلك إرادة الإنسان و اختياره و سائر العوامل التربوية المغيرة لأرضية الوراثة.

و أما التعليم و الثقافة، فلا شك في تأثيرهما في شخصية الإنسان و لتأثيرهما شواهد جمّة في التاريخ، و لكن ليس دور التعليم في تكوين الشخصية على وجه الإيجاب، فله قبول ما يلقى إليه من المفاهيم و التعاليم، كما أنّ له رفضها، و لأجل ذلك يختلف خريجو الثقافة الواحدة بين قابل لما أوحته إليه، و رافض له. و هذا دليل على أنّ الثقافة لا تؤثر إلاّ بشكل غير إيجابي.

ص: 318

و أما الثالث من العوامل أعني البيئة، فلها دور خاص في تكوين الشخصية، فالقاطنون في المناطق الحارة تختلف طباعهم و روحياتهم عمن يعيشون في المناطق الباردة، لكن العوامل الطبيعية و الجغرافية كالعاملين السابقين لا تبلغ في التأثير حدّ الجبر بحيث لا يتمكن الإنسان من التخلص من أثرها.

فإذا كان تأثير كل منها تأثيرا اقتضائيا، فليس مجموعها أيضا مؤثرا على وجه الإيجاب بحيث لا يمكن تغيير آثارها بالعوامل المشابهة. و ليس الإنسان بعد ما تأثر بالوراثة و الثقافة و البيئة كمجسمة حجرية لا يمكن تغيير صفتها أو جزئها إلاّ بالقضاء عليها، بل الإنسان بعد ذلك قابل للتأثّر و التغيير في ظل عاملين مختلفين:

1 - التفكر و التدبّر في صالح أعماله و طالح أفعاله، و ما يترتب عليهما من الآثار و المضاعفات، سواء أ كانت الأفعال مناسبة لشخصيته المكونة في ظل تلك العوامل، أو منافية لها. و إنكار ذلك إنكار للبداهة.

2 - الوقوع في إطار ثقافة و بيئة تختلف عمّا كان فيه، فلا شك أنّ لهذين العاملين، حتى في السنين المتأخرة من العمر، تأثير في إزالة بعض أو كل ما خلفته العوامل السابقة. و هذا دليل على أنّ المثلث الماضي لم يكن مؤثرا بنحو الإيجاب حتى لا يمكن التخلّف عنه، بل التأثير بشكل الاقتضاء.

و في الختام، لا يمكن لإنسان أن ينكر دور الأنبياء و المصلحين في تغيير الأجيال و المجتمعات بعد ما تمت شخصيتهم و تكونت روحياتهم و نفسانياتهم و كم لذلك من شواهد تاريخية نتركها للباحث.

ص: 319

ص: 320

مناهج الاختيار

(1) الاختيار المعتزلي

اشارة

لقد وقفت في البحوث السابقة على مناهج الجبر و اختلافها، فحان وقت البحث عن مناهج الاختيار باختلافها، فأكثر المعتزلة إلاّ من شذّ - كالنجار و أبى الحسين البصري(1) - يقولون بأنّ أفعال العبد واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار(2).

و لب مذهبهم و من حذا حذوهم أنّ اللّه تعالى أوجد العباد و أقدرهم على أفعالهم و فوّض إليهم الاختيار. فهم مستقلون بإيجاد أفعالهم على وفق مشيئتهم، و طبق قدرتهم. و أنّ اللّه أراد منهم الإيمان و الطاعة و كره منهم الكفر و المعصية. قالوا: و على هذا يترتب أمور:

1 - فائدة التكليف بالأوامر و النواهي، و فائدة الوعد و الوعيد.

2 - استحقاق الثواب و العقاب.

3 - تنزيه اللّه سبحانه عن إيجاد القبائح و الشرور من أنواع الكفر و المعاصي و المساوئ.

ص: 321


1- لاحظ حاشية شرح المواقف، لعبد الحكيم السيالكوتي، ج 2، ص 146.
2- و لعل قولهم بلا إيجاب إشارة إلى أنّ الفعل حال الصدور لا يتصف بالوجوب أيضا و القاعدة الفلسفية (الشيء ما لم يجب لم يوجد) غير مقبولة عندهم.

قال السيد الشريف في (شرح المواقف): «إن المعتزلة استدلوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد و هو أنه لو لا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف، و بطل التأديب الذي ورد به الشرع، و ارتفع المدح و الذم، إذ ليس للفعل استناد إلى العبد أصلا، و لم يبق للبعثة فائدة، لأن العباد ليسوا موجدين لأفعالهم، فمن أين لهم استحقاق الثواب و العقاب»(1).

هذه هي النتائج المترتبة على أصلهم: استقلال العبد في أفعاله، و عدم وجود الصلة بينه و بين اللّه سبحانه.

و لأجل أن نقف على نصوص المعتزلة في هذا الباب نقتطف من شرح الأصول الخمسة لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد شيخ المعتزلة في عصره المتوفي عام 415، عدة مقاطع:

يقول: قد علم عقلا و سمعا فساد ما تقوله المجبرة الذين ينسبون أفعال العباد إلى اللّه تعالى و جملة القول في ذلك أن تصرفاتنا محتاجة إلينا و متعلقة بنا لحدوثها.

و عند جهم بن صفوان أنها لا تتعلق بنا و يقول إنما نحن كالظروف لها حتى إن خلق فينا كان، و إن لم يخلق لم يكن.

و عند ضرار بن عمرو أنها متعلقة بنا و محتاجة إلينا، لكن جهة الحاجة إنما هو الكسب و قد شارك جهما في المذهب و زاد عليه في الإحالة (الكسب). و ما ذكره جهم على فساده معقول و ما ذكره هو غير معقول أصلا.

فأمّا المتخلفون من المجبرة فقد قسموا التصرفات قسمين، فجعلوا أحد القسمين متعلقا بنا و هو المباشر، و القسم الآخر غير متعلق بنا و هو المتولد (كالإحراق المتولد من إلقاء القرطاس في النار).

ص: 322


1- شرح المواقف، ج 8، ص 154. و لاحظ الأسفار، ج 6، ص 370.

ثم استدل القاضي على مذهبه بوجوه نشير إلى بعضها:

قال: و الذي يدل على ذلك:

الأول: أن نفصل بين المحسن و المسيء، و بين حسن الوجه و قبيحه، فنحمد المحسن على إحسانه و نذم المسيء على إساءته. و لا تجوز هذه الطريقة في حسن الوجه و قبيحه، و لا في طول القامة و قصرها، حتى لا يحسن منا أن نقول للطويل لم طالت قامتك و لا للقصير لما قصرت.

كما يحسن أن نقول للظالم لم ظلمت و للكاذب لم كذبت، فلو لا أنّ أحدهما متعلق بنا و موجود من جهتنا بخلاف الآخر، و إلاّ لما وجب هذا الفصل، و لكان الحال في طول القامة و قصرها كالحال في الظلم و الكذب و قد عرف فساده.

الثاني: إنّه يلزم قبح مجاهدة أهل الروم و غيرهم من الكفار لأنّ للكفرة أن يقولوا: إن كان الجهاد على ما خلق فينا و جعلنا بحيث لا يمكننا مفارقته و الانفكاك عنه فذلك جهاد لا معنى له.

الثالث: ما ثبت من أنّ العاقل لا يشوّه نفسه كأن يعلق العظام في رقبته. و إذا وجب ذلك في الواحد منّا فلأن يجب في حق القديم تعالى و هو أحكم الحاكمين أولى و أحرى. و على مذهبهم (المجبرة) إنّه تعالى شوّه نفسه و سوّأ الثناء عليه و أراد منهم كل ذلك تعالى عمّا يقولون.

الرابع: إنّ في أفعال العباد ما هو ظلم و جور، فلو كان تعالى خالقا لها لوجب أن يكون ظالما و جائرا تعالى اللّه عن ذلك.

الخامس: الاستدلال بعدّة من الآيات منها قوله: مٰا تَرىٰ فِي خَلْقِ اَلرَّحْمٰنِ مِنْ تَفٰاوُتٍ (1). فقد نفى سبحانه التفاوت عن خلقه، و ليس المراد التفاوت في الخلق لوجوده فيه، بل المراد التفاوت من جهة الحكمة. إذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة اللّه تعالى لاشتمالها على التفاوت و غيره.

ص: 323


1- سورة الملك: الآية 3.

ثم إنّ القاضي يرد على أدلة الأشاعرة التي نقلناها عنهم(1).

و أنت خبير بأنّ هذه الدلائل على فرض تماميتها ترد القول بالجبر أي ارتباط أفعال العباد باللّه سبحانه و انقطاعها عن العبد و لا تثبت العكس، و أنّ فعل العبد مخلوق للعبد لا صلة له بنحو من الأنحاء باللّه سبحانه كما هو مدّعى المعتزلة، و لأجل ذلك هنا منهج ثالث و هو الأمر بين الأمرين كما سيوافيك:

و في الحقيقة، إنّ هذه الطائفة تنكر التوحيد الأفعالي الذي ركّز عليه النقل و العقل، و هو أنّه لا خالق إلاّ اللّه سبحانه.

توضيح ذلك: إنّ دافع المعتزلة إلى القول بالتفويض هو الحفاظ على وصف من أوصافه سبحانه و هو «العدل». فلما كان العدل عندهم هو الأصل و الأساس في سائر المباحث، عمدوا إلى تطبيق مسألة أفعال العباد عليه فخرجوا بهذه النتيجة: إنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه ينافي عدله. و لجئوا بعدها إلى القول بأنها من صنع العبد و ليس للّه فيها أي صنع. و لمّا كان الأصل عند الأشاعرة هو التوحيد الأفعالي و أنه لا مؤثر استقلالا و لا تبعا غيره سبحانه، عمدوا إلى تطبيق هذه المسألة على أساسهم. فجعلوا أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه و ليس للعبد فيها صنع.

فالطائفتان لم تتدبرا في مسألة أفعال العباد تدبرا عميقا، بل جعلتا النظر فيها فرعا للنظر في الأصل الذي تبنتاه. و قد غفلتا عن أنّ هناك طريقا ثالثا يجتمع فيه الأصلان: التوحيد الأفعالي و وصف العدل، مع القول بالاختيار، كما سيتضح ذلك عند البحث عن المنهج الثالث للاختيار.

فلنعطف عنان الكلام إلى الأصل الفلسفي الذي بني عليه القول بتفويض أفعال العباد إلى أنفسهم.

ص: 324


1- لاحظ شرح الأصول الخمسة، ص 332 و 336 و 344 و 345 و 355 و 372.
حاجة الممكن إلى العلّة تنحصر في حدوثه

قالوا: إنّ سرّ حاجة الممكن إلى الواجب و المعلول إلى العلّة هو حدوثه الذي يفسّر بالوجود المسبوق بالعدم و انقلاب العدم إليه. فإذا حدث الممكن ترتفع الحاجة، لأنّ البقاء شيء و الحدوث شيء آخر. إذ الحدوث لا ينطبق إلاّ على الوجود الأول القاطع للعدم. و أمّا الوجودات اللاحقة فلا تتصف بالحدوث بل تتصف بالبقاء. فعندئذ يكون الشيء في بقاء ذاته غير محتاج إلى العلّة. فإذا كان هذا حال الذات، فكيف حال الأفعال، فلا يحتاج في أعماله إلى العلّة.

و لأجل ذلك يفعل العباد أو يتركون بقدرة و إرادة من أنفسهم، و لا صلة في هذه الحال بين الذات و الأفعال، و الواجب الحكيم سبحانه.

يقول الشيخ الرئيس حاكيا عقيدة المفوضة: «و قد يقولون: إنّه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل حتى أنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجودا كما يشاهدونه من فقدان البنّاء و قوام البناء. و حتى أنّ كثيرا منهم لا يتحاشى أن يقول: لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم لأنّ العالم عندهم إنما احتاج إلى الباري تعالى في آن أوجده (أخرجه من العدم إلى الوجود) حتى كان بذلك فاعلا، فإذا جعل و حصل له الوجود من العدم، فكيف يخرج بعد ذلك الوجود عن العدم حتى يحتاج إلى الفاعل»(1).

تحليل هذا الأصل و نقده
اشارة

إنّ هذا الأصل الذي بنى عليه القوم نظريتهم في أفعال العباد، بل في أفعال و آثار كل الكائنات، باطل لوجوه نشير إليها:

الوجه الأول:

إنّ مناط حاجة المعلول إلى العلّة هو الإمكان أي عدم

ص: 325


1- الإشارات للشيخ الرئيس، ج 3، ص 68. لاحظ كشف المراد، الفصل الأول، المسألة 29، و المسألة 44. و الأسفار، ج 2، ص 203-204.

كون وجوده نابعا من ذاته، و كون الوجود و العدم بالنسبة إلى ذاته متساويان، و هذا الملاك موجود في حالتي البدء و البقاء، و أمّا الحدوث فليس ملاكا للحاجة فإنه عبارة عن تحقق الشيء بعد عدمه، و مثل هذا أمر انتزاعي ينتزع بعد اتصاف الماهية بالوجود، و ملاك الحاجة يجب أن يكون قبل الوجود لا بعده.

إنّ الحدوث أمر منتزع من الشيء بعد تحققه، و يقع في الدرجة الخامسة من محل حاجة الممكن إلى العلّة. و ذلك لأن الشيء يحتاج أولا ثم تقترنه العلة ثانيا، فتوجده ثالثا، فيتحقق الوجود رابعا، فينتزع منه وصف الحدوث خامسا. فكيف يكون الحدوث مناط الحاجة الذي يجب أن يكون في المرتبة الأولى و قد اشتهر قولهم: الشيء قرّر (تصوّر)، فاحتاج، فأوجد، فوجد، فحدث.

و بعبارة ثانية: ذهب الحكماء إلى أنّ مناط الحاجة هو كون الشيء (الماهية) متساوي النسبة إلى الوجود و العدم، و أنّه بذاته لا يقتضي شيئا واحدا من الطرفين و لا يخرج عن حد الاستواء إلاّ بعلة قاهرة تجره إلى أحد الطرفين، و تخرجه عن حالة اللااقتضاء إلى حالة الاقتضاء فإذا كان مناط الحاجة هو ذاك (إن الشيء بالنظر إلى ذاته لا يقتضي شيئا) فهو موجود في حالتي الحدوث و البقاء. و القول باستغناء الكون في بقائه، عن العلّة، دون حدوثه، تخصيص للقاعدة العقلية التي تقول: إنّ كل ممكن ما دام ممكنا بمعنى ما دام كون الوجود غير نابع من ذاته يحتاج إلى علّة، و تخصيص القاعدة العقلية مرفوض جدا.

و يشير الحكيم المتألّه الشيخ محمد حسين الأصفهاني في منظومته إلى هذا الوجه بقوله:

و الافتقار لازم الإمكان *** من دون حاجة إلى البرهان

لا فرق ما بين الحدوث و البقاء *** في لازم الذّات و لن يفترقا

الوجه الثاني:

إنّ القول بأنّ العالم المادي بحاجة إلى العلّة في

ص: 326

الحدوث دون البقاء، يشبه القول بأنّ بعض أبعاد الجسم بحاجة إلى العلة دون الأبعاد الأخرى. فإنّ لكل جسم بعدين، بعدا مكانيا و بعدا زمانيا، فامتداد الجسم في أبعاده الثلاثة، يشكل بعده المكاني. كما أنّ بقاءه في عمود الزمان يشكل بعده الزماني. فالجسم باعتبار أبعاضه، ذو أبعاد مكانية، و باعتبار استمرار وجوده مدى الساعات و الأيام ذو أبعاد زمانية. فكما أنّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختص ببعض أجزائه و أبعاضه بل الجسم في كل بعد من الأبعاد المكانية محتاج إلى العلّة، فكذا هو محتاج إليها في جميع أبعاده الزمانية، حدوثا و بقاء من غير فرق بين آن الحدوث و آن البقاء و الآنات المتتالية. فالتفريق بين الحدوث و البقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض أبعاضه عن العلّة. فالبعد الزماني و المكاني وجهان لعملة واحدة، و بعدان لشيء واحد فلا يمكن التفكيك بينهما.

و تظهر حقيقة هذا الوجه إذا وقفنا على أنّ العالم في ظل الحركة الجوهرية، في تبدل مستمر، و تغيير دائم نافذين في جوهر الأشياء و طبيعة العالم المادي، فذوات الأشياء في تجدد دائم و اندثار متواصل. و العالم حسب هذه النظرية أشبه بنهر جار تنعكس فيه صورة القمر، فالناظر الساذج يتصور أنّ هناك صورة منعكسة على الماء و هي باقية ثابتة و الناظر الدقيق على أنّ الصور تتبدل حسب جريان الماء و سيلانه، فهناك صور مستمرة.

و على ضوء هذه النظرية: العالم المادي أشبه بعين نابعة من دون توقف حتى لحظة واحدة. فإذا كان هذا حال العالم المادي، فكيف يصح لعاقل أن يقول: إنّ العالم و منه الإنسان إنما يحتاج إلى العلّة في حدوثه دون بقائه، مع أنّه ليس هنا أي بقاء و ثبات بل العالم في حدوث بعد حدوث و زوال بعد زوال، على وجه الاتصال و الاستمرار بحيث يحسبه الساذج بقاء، و هو في حال الزوال و التبدل و السيلان: وَ تَرَى اَلْجِبٰالَ تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحٰابِ (1).

ص: 327


1- سورة النمل: الآية 88. البحث عن الحركة الجوهرية طويل الذيل و قد أشبع الأستاذ الكلام فيها في بعض محاضراته. لاحظ كتاب «اللّه خالق الكون» ص 525-555 تجد فيه بغيتك.
الوجه الثالث:

إنّ القول بحاجة الممكن إلى العلة في حدوثه دون بقائه غفلة عن واقعية المعلول و نسبته إلى علّته فإن وزانه إليها وزان المعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي. فكما أنّه ليس للأول الخروج عن إطار الثاني في المراحل الثلاث: التصوّر، و الدّلالة، و التحقّق، فهكذا المعلول ليس له الخروج عن إطار العلّة في حال من الحالين الحدوث، و البقاء(1).

فإذا كان هذا حال المقاس عليه فاستوضح منه حال المقاس، فإنّ المفاض منه سبحانه هو الوجود و هو لا يخلو عن إحدى حالتين: إمّا وجود واجب أو ممكن، و الأول خلف لأن المفروض كونه معلولا، فثبت الثاني، و ما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه (الإمكان) فكما هو ممكن حدوثا، ممكن بقاء، و مثل ذلك لا يستغني عن الواجب في حال من الحالات لأن الاستغناء آية انقلابه عن الإمكان إلى الوجوب، و عن الفقر إلى الغنى.

نعم، ما ذكرنا من النسبة إنما يجري في العلل، و المعاليل الإلهية لا الفواعل الطبيعية، فالمعلول الإلهي بالنسبة إلى علته هو ما ذكرنا، و المراد من العلّة الإلهية، مفيض الوجود و معطيه كالنفس بالنسبة إلى الصور التي تخلقها في ضميرها، و الإرادة التي توجدها في موطنها، ففي مثل هذه المعاليل، تكون نسبة المعلول إلى العلّة، كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي.

و أمّا الفاعل الطبيعي، كالنار بالنسبة إلى الإحراق، فخارج عن إطار بحثنا، إذ ليس هناك عليّة حقيقية، بل حديث العلية هناك لا يتجاوز عن تبديل أجزاء النار إلى الحرارة. و ذلك كما هو الحال في العلل الفيزيائية

ص: 328


1- سيوافيك توضيح هذا التشبيه عند البحث عن المنهج الثالث للاختيار و هو القول بالأمر بين الأمرين.

و الكيميائية، فالعليّة هناك تبدل المادة إلى غيرها في ظل شرائط و خصوصيات توجب التبدّل و ليس هناك حديث عن الإيجاد و الإعطاء.

و على ذلك فالتفويض أي استقلال الفاعل في الفعل يستلزم انقلاب الممكن و صيرورته واجبا في جهتين:

الأولى: الاستغناء في جانب الذات من حيث البقاء.

الثانية: الاستغناء في جانب نفس الفعل مع أنّ الفعل ممكن مثل الذات.

الوجه الرابع:

إنّ القول بالتفويض يستلزم الشرك، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلين أحدهما العلّة العليا التي أحدثت الموجودات و الكائنات و الإنسان، و الأخرى الإنسان بل كل الكائنات فإنها تستقل بعد الخلقة و الحدوث في بقائها أولا و تأثيراتها ثانيا.

فلو قالت المعتزلة بالتفصيل بين الكائنات و الإنسان و نسبت آثار الكائنات إلى الواجب بحجة أنها لا تنافي العدل دون الإنسان، يكون التفصيل بلا دليل.

ثم إنّ القوم استدلوا على المسألة العقلية (غناء الممكن في بقائه عن العلّة) بالأمثلة المحسوسة، منها: بقاء البناء و المصنوعات بعد موت البنّاء و الصانع، و لكن التمثيل في غير محلّه لأنّ البنّاء و الصانع فاعلان للحركة أي ضم بعض الأجزاء إلى بعض و الحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلا عن موتهما. و أمّا بقاء البناء و المصنوعات فهو مرهون للنظم السائد فيهما فإن البناء يبقى بفضل القوى الطبيعية الكامنة فيه، التي أودعها اللّه سبحانه في صميم الأشياء فليس للبنّاء و الصانع فيها صنع، و أمّا الهيئة و الشكل فهما نتيجة اجتماع أجزاء صغيرة، فتحصل من المجموع هيئة خاصة و ليس لهما فيها أيضا صنع.

ص: 329

تمثيلان لإيضاح الحقيقة

الحق أنّ قياس المعقول بالمحسوس الذي ارتكبته المعتزلة قياس غير تام و لو أراد المحقق ارتكاب لهذا القياس و التمثيل فعليه أن يتمسك بالمثالين التاليين:

الأول: إنّ مثل الموجودات الإمكانية بالنسبة إلى الواجب، كمثل المصباح الكهربائي المضيء، فالحس الخاطئ يزعم أنّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضوء الأول، و يتصور أنّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولّد الكهربائي في حدوث الضوء، دون استمراره.

و الحال أنّ المصباح فاقد للإضاءة في مقام الذات محتاج في حصولها إلى ذلك المولد في كل لحظة، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنما هو استضاءة بعد استضاءة، و استنارة بعد استنارة من المولد الكهربائي. أ فلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الاتصال بينه و بين المولد؟ فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماما، فهو لكونه فاقدا للوجود الذاتي يحتاج إلى العلّة في حدوثه و بقائه لأنه يأخذ الوجود آنا بعد آن، و زمانا بعد زمان.

الثاني: نفترض منطقة حارّة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعتها المحرقة الشديدة. فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائما بتقطير الماء عليها، و إفاضته بما يشبه الرذاذ، فإن هذا الأمر يتوقف على استمرار تقاطر الماء عليها و لو انقطع لحظة ساد عليها الجفاف و صارت يابسة.

فمثل الممكن الذي يتصف بالوجود باستمرار، مثل هذه الأرض المتصفة بالرطوبة دائما، فكما أنّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء عليها آنا بعد آن، فهكذا الأول لا يتحقق إلاّ باستمرار إفاضة الوجود عليه آنا بعد آن. و لو انقطع الفيض و الصلة بينه و بين المفيض لانعدم و لم يبق منه أثر.

ص: 330

التفويض في الكتاب و السنّة

إنّ الذكر الحكيم يردّ التفويض بحماس و وضوح:

1 - يقول سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (1).

فالآية نصّ في كون الفقر ثابت للإنسان في جميع الأحوال، فكيف يستغني عنه سبحانه بعد حدوثه، و في بقائه. أو كيف يستغنى في فعله عن الواجب مع سيادة الفقر عليه.

2 - و يقول سبحانه: مٰا أَصٰابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ ، وَ مٰا أَصٰابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (2) فاللّه تعالى ينسب الحسنة الصادرة من العبد إليه تعالى. فلو لم تكن هناك صلة بين الخالق و فعل العبد فما معنى هذه النسبة ؟.

3 - و يقول سبحانه: وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (3).

4 - و يقول سبحانه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّٰهِ (4).

5 - و يقول سبحانه: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (5).

6 - و يقول سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً (6).

ص: 331


1- سورة فاطر: الآية 15.
2- سورة النساء: الآية 79.
3- سورة البقرة: الآية 102.
4- سورة البقرة: الآية 249.
5- سورة البقرة: الآية 251.
6- سورة آل عمران: الآية 145.

7 - و يقول سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (1).

إلى غير ذلك من الآيات التي تقيد فعل الإنسان بإذنه، و المراد منه مشيئته سبحانه. فيكون المراد أنّ أفعال العباد واقعة في إطار مشيئته تعالى، فكيف تستقل عنه سبحانه ؟ و ما ورد في الذكر الحكيم مما يفنّد هذه المزعمة أكثر من ذلك. و قد ذكرنا بعض الآيات عند البحث عن الجبر الأشعري فلاحظ.

و أمّا السنّة، فقد تضافرت الروايات على نقد نظرية التفويض بصور مختلفة نذكر بعضها:

1 - روى الصدوق في (الأمالي) عن هشام قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام): «إنّا لا نقول جبرا و لا تفويضا»(2).

2 - روى الصدوق في (الأمالي) أيضا عن حريز عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل زعم أنّ اللّه عز و جل أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم اللّه عز و جل في حكمه، و هو كافر. و رجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم فهذا وهن اللّه في سلطانه، فهو كافر. و رجل يقول: إنّ اللّه عزّ و جل كلّف العباد ما يطيقون و لم يكلفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن حمد اللّه و إذا أساء استغفر اللّه، فهذا مسلم بالغ»(3).

3 - روى الطّبرسي في (الاحتجاج) عن أبي حمزة الثمالي أنّه قال:

قال أبو جعفر للحسن البصري: «إيّاك أن تقول بالتفويض فإنّ اللّه عز و جل لم يفوّض الأمر إلى خلقه و هنا منه و ضعفا، و لا أجبرهم على معاصيه ظلما»(4).

ص: 332


1- سورة يونس: الآية 100.
2- البحار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، ص 4، ح 1.
3- المصدر السابق، ص 10، ح 14.
4- المصدر السابق، ح 26.

4 - روى الصدوق في (توحيده)، و البرقي في (محاسنه) عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «اللّه تبارك و تعالى أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون، و اللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد»(1).

5 - روى الصدوق في (توحيده) عن حفص بن قرط: عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من زعم أنّ اللّه تبارك و تعالى يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على اللّه. و من زعم أنّ الخير و الشر بغير مشيّة اللّه، فقد أخرج اللّه من سلطانه. و من زعم أنّ المعاصي بغير قوّة اللّه، فقد كذب على اللّه، و من كذب على اللّه أدخله اللّه النار»(2).

6 - روى الصدوق في (عيون أخبار الرضا) عن الرضا (عليه السّلام) أنّه قال: «مساكين القدرية، أرادوا أن يصفوا اللّه عزّ و جلّ بعدله فأخرجوه من قدرته و سلطانه»(3). و الحديث يشير إلى ما ذكرناه في صدر البحث من أنّ المعتزلة لما جعلوا العدل أصلا فرّعوا القول بالتفويض عليه، غافلين عن الطريق الذي يجمع بين العدل و وقوع الفعل في سلطانه سبحانه.

ص: 333


1- المصدر السابق، ح 64. و التّوحيد للصدوق باب نفي الجبر و التفويض، ص 360، ح 4.
2- المصدر السابق، ح 85. و التوحيد، ص 359، ح 2.
3- المصدر السابق، ص 54، ح 93.

ص: 334

مناهج الاختيار

(2) الاختيار لدى الوجوديين

اشارة

الاختيار لدى الوجوديين - الذائع الصيت في الغرب - يقوم مقام التفويض لدى المعتزلة في الشرق الإسلامي غير أنّ الداعي يختلف عند الفرقتين، فالمعتزلي الشرقي قال بثبوت الاختيار للإنسان في أفعاله بصورة التفويض حفاظا على العدل الإلهي. و الوجودي الغربي ذهب إلى أنّ الإنسان يتكون و يتولد مجردا عن كل لون و صبغة، و عن كل ميل و غريزة، للحفاظ على حريته و عدم انسياقه بالذات إلى جانب خاص.

و إذا كان التّفويض المعتزلي ردّ فعل على الجبر المعروف بين أهل الحديث و الحنابلة، ثم الأشاعرة، فالاختيار لدى الوجوديين بالنحو السابق ردّ فعل على الجبري المادي الذي يعتقد بأنّ الإنسان يتولد و هو أسير عامل الوراثة ثم الثقافة و البيئة. فالوجوديون تقدموا في إثبات الاختيار إلى حدّ أنكروا أن يكون لغير فعل الإنسان و عمله تأثير في تكوّن شخصيته.

و من روّاد هذا المسلك في الأوساط الغربية الفيلسوف الفرنسي جان يول سارتر(1) و حاصل مذهبه:

ص: 335


1- ولد في باريس عام 1905.

إنّ وجود الإنسان متقدم على طبيعته و ماهيته فهو يتكون بلا ماهية و يتولد بلا قيد. ثم إنّه بفعله و عمله في ظل إرادته و اختياره، يصنع لنفسه شخصية. و على ذلك فما اشتهر من وجود الميول و الغرائز في الوجود الإنساني التي تضفي على وجود الإنسان لونا و صبغة و توجد فيه انحيازا إلى نقطة و تمايلا إلى شيء، ليس بصحيح لأن الاعتراف بوجود هذه الغرائز، سواء أ كانت علوية أو سفلية يزاحم اختياره و حريته، و يسلب منه الحرية التامة و التساوي بالنسبة إلى كل شيء.

فلأجل الحفاظ على حرية الإنسان و كونه موجودا فعّالا بالاختيار و حرّا في الانتخاب يجب إنكار كل عقيدة مسبقة (يريد نفي القضاء و القدر)، و كل مصير يجعله مسيّرا. و هذا هو المراد ممّا اشتهر منهم بأنّ الإنسان يتكون بلا ماهية(1).

مناقشة النظرية
اشارة

إنّ للإنسان ماهيتين:

1 - ماهية عامة يتكون معها و يتولد بها.

2 - ماهية خاصة يكتسبها في ضوء إرادته عن طريق العمل.

و عدم التفرقة بين الماهيتين دفعهم إلى الاعتقاد بتكون الإنسان و تولده مجرّدا عن كل صبغة طبيعية و سائقة ذاتية.

أما الطبيعة العامة،

فهي عبارة عن الطاقات و المواهب الإلهية المودعة في وجوده و هي ميول طبيعية تسوقه إلى نقطة خاصة فيها سعادته أو شقاؤه و قد أعطى سبحانه، زمامها بيد الإنسان المختار في كيفية الاستفادة منها كمّا و كيفا. و نحن نعترف بأنّ هذه المواهب و الاستعدادات توجد في نفس الإنسان محدودية خاصة و تحقق في وجوده انحيازا إلى جانب، و لكنها لا تعدو عن كونها قابليات و اقتضاءات و أرضيات لأهداف خاصة، و لكن زمام

ص: 336


1- عصر التجزية و التحليل، ص 125.

الاختيار فيها بيد الإنسان المختار فله أن يتطلب بهذه المواهب ما شاء. كما له أن يترك الاستفادة منها، بل له أن يكافحها.

و الذي يدل على ذلك ما كشف عنه العلم من أنّ الإنسان يتولد و فيه طاقات و سوائق متضادة و مختلفة، و كل يطلب منشودا خاصا، و لو لا هذه الطاقات المتضادة لما وصل الإنسان إلى قمة التكامل. مثلا:

الإنسان جبل على حب النفس، و يظهر هذا منه من نعومة أظفاره، و في الوقت نفسه جبل على حب الخير و يظهر بعد سنين من حياته. فالإنسان المختار يستفيد من تلك الميول الطبيعية على حد لا يجعله حب الذات حيوانا ضاريا، كما لا يجعله حبّ الخير إنسانا تاركا و مهملا لحياته.

فالحفاظ على حرية الإنسان لا يتوقف على إنكار الفطريات و الغرائز بل يكفي في ذلك القول بأنّ للإنسان ماهية عامة موجودة في جميع الأفراد ليس للإنسان في الانطباع بها أي صنع و دخالة. و ماهية خاصة، يستحصلها عن طريق العمل كما سنشرحه.

و أمّا الطبيعة الخاصة،

فهي عبارة عمّا يتكون في نفس الإنسان من الروحيات العالية أو الدانية نتيجة استفادته من تلك المواهب الأولية، إفراطا أو تفريطا أو اعتدالا. مثلا قد أودعت يد الخلقة في وجود الإنسان ميولا سافلة كالغضب. و في الوقت نفسه أودعت ميولا عالية كالرحمة و الرأفة.

فربما يتجلى الإنسان في مسرح الحياة سبعا ضاريا لإفراطه في أعماله قوة الغضب، كما قد يتجلى إنسانا مهملا تاركا لحقوقه الفردية و الاجتماعية و فريسة للمعتدين لتفريطه في أعمالها. و قد يتجلى إنسانا مثاليا يستفيد منها على حدّ الاعتدال بالموازنة مع جانب الرحمة و الرأفة فيدفع عن نفسه الاعتداءات و في بعض الأحيان يؤثر غيره و يقوم بحاجات بني نوعه. فهناك شخصيات ثلاث تتكون في الفرد الإنساني حسب إعماله تلك الموهبة الإلهية. و قس عليه سائر الميول و الغرائز عالية كانت أو سافلة، إنسانية كانت أو حيوانية.

ص: 337

ثم إنّ سعادة الإنسان و شقاءه ليسا رهن الماهية العامة، و الاعتراف بها لا يمس بكرامة سعادته، كما لا يجعله في عداد الأتقياء. بل الماهيات العامة تعبّد له طريق السعادة خصوصا الفطريات العالية الإنسانية التي كشف عنها العلم و هي:

1 - روح الاستقراء و اكتشاف الحقائق.

2 - حب الخير و النزوع إلى البر و المعروف.

3 - علاقته بالجمال في مجالات الطبيعية و الصناعة.

4 - الشعور الديني الذي يتأجج لدى الشباب في سن البلوغ.

فهذه الميول النابعة من داخل الإنسان و فطرته هي ماهيته العامة و كلها تسوقه إلى الخير و تصده عن الشر، لكن على وجه الاقتضاء فهناك إنسان يستخدم تلك المواهب في ظل الاختيار و الإرادة و يكون عالما كاشفا عن السنن الكونية، و إنسانا بارّا يفعل الخير لبني نوعه، و موجودا فنّانا يصنع المصنوعات الدقيقة، و إنسانا إلهيا، يعتقد بأنّ وراء العالم عالما آخر و أنّ هناك خالقا للكون و له تجاه خالقه مسئوليات و تكاليف.

كما أنّ هناك إنسان يترك الاستفادة منها أو من بعضها فيسقط في المهاوي و يتجلّى على خلاف الإنسان المتقدم.

فالاعتراف بهذه الفطريات لا يجعل الإنسان جاهز الصنع، كما عرفت، فإن الذي يرتبط بهذه الفطريات إنما هي شخصيته العامة و أمّا شخصيته الخاصة فهي مصنوعة إرادته و اختياره.

و العجب أنّ مبدع النظرية لم يقدر على إنكار ماهية عامة للإنسان في بعض المجالات، فهو يعترف بأنّ الإنسان يتولد في إطار قيود خاصة منها أنّ وجوده متعلق بهذا العالم، و يعيش حياة اجتماعية، و أنّه موجود فان، و غير ذلك من الحدود و القيود.

أقول: إنّ الحدود و القيود التي تحدّ شخصية الإنسان لا من قبل نفسه

ص: 338

أكثر مما اعترف به، فكل إنسان يعيش بين أحضان العالم المادي محكوم بقوانين الكون الفيزيائية و الكيميائية.

و الظاهر أنّ أصحاب النظرية قد ابتدعوا المدعى و صاغوه في قالب خاص لغايات اجتماعية ثم ذهبوا - للحفاظ على المدعى - إلى إنكار الفطريات و الغرائز المودوعة في وجوده و هو أشبه باتخاذ موقف خاص في موضوع ثم تعمّل الدليل عليه.

ص: 339

ص: 340

مناهج الاختيار

(3) الاختيار في مذهب الأمر بين الأمرين

اشارة

إنّ أصحاب المناهج الفكرية، في مسألة أفعال الإنسان، اعتقدوا بأنّ الحق ينحصر في القول بالجبر أو التفويض و أنّه ليس هناك طريق ثالث يسلكه الإنسان الباحث و يحفظ أساس القول بهما. و قد عرفت أنّ الجنوح إلى الجبر في العصور الأولى كان لأجل التحفظ على التوحيد الأفعالي و أنّه لا خالق إلاّ هو. كما أنّ الانحياز إلى التفويض كان لغاية التحفظ على عدله سبحانه فالأشاعرة جنحوا إلى الجبر حرصا على الأصل الأول، و المعتزلة إلى الثاني حرصا على أصل العدل. و كلا الطرفين غفل عن نظرية ثالثة يوافقها العقل و يدعمها الكتاب و السّنّة و فيها الحفاظ على كل من أصل التوحيد و العدل، مع نزاهتها، عن مضاعفات القولين. فإنّ في القول بالجبر بطلان البعث و التكليف، و في القول بالتفويض الثنوية و الشرك.

فهذه النظرية الثالثة، جامعة و حافظة لما يتبناه الطرفان من الأصول و في الوقت نفسه منزّهة عن التوالي و المفاسد. و هذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الذي لم يزل أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) يحثون عليه، من لدن حمي و طيس الجدال في أفعال الإنسان من حيث القضاء و القدر أو غيرهما. غير أنّ أكثر المتكلمين من السّنّة لم يقفوا على تلك النظرية بتاتا أو لم يتأمّلوا فيها. و قلّ فيهم من تأمل فيها و صرّح بصدقها كالإمام الرّازي في

ص: 341

تفسيره و الشيخ عبده في رسالة التوحيد(1)، فهما من قادة هذا المذاهب بين أهل السنة، و لكن غيرهما بين جبري لا يرى للإنسان حرية و اختيارا، و تفويضي وقع في حبال الشرك. نعم، قد انقرضت الطائفة الثانية بانقراض المعتزلة بالسيوف التي سلطت عليهم فلم يبق منهم و لا من آثارهم و كتبهم إلاّ شيئا لا يذكر.

و أمّا حقيقة هذا المذهب فتتعين في ظل أمور:(2).

الأول - الإمكان في الماهية غير الإمكان في الوجود

إنّ الإمكان تارة يقع وصفا للماهية و أخرى وصفا للوجود، و المقصود منه في الأول تساوي ماهية الشيء بالنسبة إلى الوجود و العدم، بمعنى أنها واقعة في مركز الدائرة، فلا تخرج عنه إلى أحد الطرفين، إلاّ بعامل يخرجها عن حالة التساوي و يضفي عليها لزوم الاتصاف بأحدهما، و هذا واضح.

و أمّا إذا وقعت وصفا للوجود بما هو وجود الذي يعبر عنه بالوجود الإمكاني و يعدّ فعلا للواجب، فليس معنى إمكانه تساوي نسبته إلى الوجود و العدم، لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري، و سلبه عنه ممتنع فلا معنى لأن يقال إنّ نسبة الوجود إلى الوجود الإمكاني تساوي نسبته إلى العدم، بل نسبة الوجود إليه ضرورية و نسبة العدم إليه ممتنعة.

بل معنى توصيف الوجود بالإمكان عبارة عن كونه قائما بالعلّة بجميع شئونه و خصوصياته.

فكلما وصف الوجود بما هو وجود عار عن الماهية، و صادر عن العلّة الواجبة، يراد منه التعلّق و القيام، و الصلة و الارتباط لا التساوي. فافهم ذلك.

ص: 342


1- سيوافيك نصوصهما في مطاف البحث.
2- و قد أوعزنا إليها في الأبحاث السابقة عند الردّ على نظرية الطائفتين من الأشاعرة و المفوّضة فلاحظ.
الثاني - ما هو المراد من قيام المعلول بعلّته

إذا كان توصيف الوجود بالإمكان بمعنى قيامه بعلته، يقع الكلام في حقيقة ذلك القيام و أنّه من أي نوع من أنواعه. فهل هو من قبيل قيام العرض بموضوعه أو الجوهر بمحله ؟، أو أن قيامه بها يرجع إلى معنى دقيق و يشبه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي في المراحل الثلاث، التصور و الدلالة و التحقق ؟. إليك البيان:

إذا قلت: سرت من البصرة إلى الكوفة، فهناك معان اسمية هي السير و البصرة و الكوفة، و معنى حرفي و هو كون السير مبدوءا من البصرة و منتهيا إلى الكوفة. فالابتداء و الانتهاء المفهومان من كلمتي «من» و «إلى» فاقدان للاستقلال في مجال التصور فلا يتصوران مستقلين و منفكين عن تصور البصرة و الكوفة، و إلاّ لعاد المعنى الحرفي معنى اسميا، و لصار نظير قولنا:

«الابتداء خير من الانتهاء».

و كذلك فاقدان للاستقلال في مجال الدلالة فلا يدلان على شيء إذا انفكتا عن مدخوليهما.

كما هما فاقدان للاستقلال في مقام التحقق و الوجود، فليس للابتداء الحرفي وجود مستقل منفك عن متعلقه، كما ليس للانتهاء الحرفي وجود كذلك.

فالحافظ على المعنى الحرفي لا يتحقق إلاّ بثبوت عدم الاستقلال له في المجالات الماضية، و إلاّ لخرج عن كونه معنى حرفيا.

و على ضوء ذلك يتبين وزان الوجود الإمكاني الذي به تتجلى الأشياء و تتحقق الماهيات، و به تصير الماهيات كالشجر و الحيوان و الإنسان من الأعيان الخارجية، فإن وزانه إلى الواجب لا يعدو عن وزان المعنى الحرفي إلى الاسمي، و ذلك لأنّ الصادر من الواجب هو الوجود و هو لا يخلو من قسمين: إمّا واجب أو ممكن، و الأول خلف لكون المفروض معلوليته و صدوره عنه، و ما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه. فيتعين

ص: 343

الثاني. و قد عرفت أنّ معنى الإمكان في الوجود غير الإمكان في الماهية و أنّ معناه في الأول كونه متعلقا بالعلّة و قائما بها بجميع شئونه و خصوصياته، و الإمكان نافذ فيه و راسخ في واقعه رسوخ الحياة في الموجود الحيّ ، و عند ذلك يكون الفقر الارتباط بالعلّة و القيام بها غير خارج عن واقع الوجود الإمكاني و يكون الفقر و الربط نفس ذاته و عين واقعه، و إلاّ فلو كان في حاق الذات غنيا ثم عرض له الفقر يلزم الخلف، و خروج الموجود الغني عن كونه غنيا، إلى حيز الفقر و الحاجة.

و على هذا الأصل، لا يمكن إنكار صلة الوجودات الإمكانية باللّه سبحانه، من غير فرق بين الإنسان و غيره، و تبطل نظرية التفويض القائلة بانقطاع الصلة بين المبدأ و الموجودات الإمكانية. و هذه الحقيقة صادقة في الفواعل الإلهية و العلل غير الطبيعية ففيها يصدق ما ذكرنا من الوزان و المكانة و أمّا العلل الطبيعية فصدق العلّة عليها من باب المجاز، كما تقدم.

الثالث - وحدة حقيقة الوجود يلازم التأثير في جميع المراتب

قد وقع النزاع بين الفلاسفة في أنّ الوجود الواجب و الوجود الإمكاني هل هما حقيقتان متباينتان بحيث لا صلة جامعة بينهما أبدا، و أنّ إطلاق الوجود عليهما من باب إطلاق اللفظ الموضوع لمعنيين متباينين، كالعين الموضوعة تارة للشمس و أخرى للذهب، أو أنهما من مقولة واحدة يجمعهما قدر مشترك و هو الوجود و طرد العدم و ما يفيد ذلك(1). و أنّ الوجود يطلق عليهما بوضع واحد و بمعنى مفرد، و إطلاق المعنى الواحد على الشيئين يقتضي وجود قدر مشترك بينهما و إلاّ يلزم انتزاع المعنى الواحد بما هو معنى واحد من الأشياء الكثيرة التي لا جهة وحدة بينها.

ص: 344


1- و هذه العناوين ليست معرفات حقيقية بل هي عناوين مشيرة إلى حقيقة مجهولة فإنّ حقيقة الوجود لا يقدر الإنسان على دركها، لأنّ أدوات المعرفة لا تتجاوز الذهن و الذهنيات، و هي لا تدرك الحقيقة الخارجية بل المفاهيم العارية عنها كمفهوم النار. و أما حقيقة الوجود فهي نفس العينية الخارجية، فكيف يمكن أن تكون مدركة للذهن ؟!.

و الحق هو الثاني، لما عرفت من البرهان و عليه الحكماء غير المشائيين. و على ضوء هذا الأصل، إذا كانت الحقيقة في مرتبة من المراتب ذات أثر خاص، يجب أن يوجد ذلك الأثر في المراتب النازلة، أخذا بوحدة الحقيقة، نعم يكون الأثر من حيث الشدة و الضعف، تابعا للمؤثر من هذه الحيثية، فالوجود الواجب بما أنّه أقوى و أشد، يكون العلم و الدرك و الحياة و التأثير فيه مثله. و الوجود الإمكاني بما أن الوجود فيه أضعف يكون أثره مثله. و لأجل ذلك ذهب الإلهيون إلى القول بسريان العلم و الحياة و القدرة إلى جميع مراتب الوجود الإمكاني و قد أثبتوه بهذا البرهان و حكموا بصحته من طريق الكشف و الشهود، و يشهد الكتاب العزيز على صحة نظريتهم في مجال السريان العلمي و الدركي إلى جميع مراتب الوجود حتى الجماد(1).

و على ضوء هذا الأصل، تبطل نظرية الأشاعرة المخصصة للتأثير بالواجب سبحانه، و السالبة له عن سائر المراتب زاعمة أنه مقتضى التوحيد الأفعالي، مع أنه كما يتحقق بسلب التأثير عمّا سواه يتحقق بتخصيص التأثير الاستقلالي باللّه سبحانه و إرجاع تأثير الوجود في المراتب الإمكانية إلى إذنه و مشيئته. و الثاني هو المتعين لما عرفت من البرهان.

إذا وقفت على هذه الأصول تقف على النظرية الوسطى في المقام و أنه لا يمكن تصوير فعل العبد مستقلا عن الواجب، غنيا عنه، غير قائم به، قضاء لكون الفعل وجودا إمكانيا، و الوجود الإمكاني حقيقته التعلق و الصلة و الربط. كما أنه لا يمكن إنكار دور العبد بل سائر العلل في آثارها قضاء لحكم الأصل الثالث من أنّ الوجود، في أي مرتبة كان من المراتب لا يخلو عن تأثير و دخالة فيما يظهر منه من الآثار، أو يقوم به من الأفعال. فالفعل مستند إلى الواجب من جهة و مستند إلى العبد من جهة أخرى. فليس الفعل

ص: 345


1- و قد أوعزنا إلى الآيات الناظرة إلى سريان العلم و إن أردت التفصيل فلاحظ مفاهيم القرآن ، الجزء الأول، ص 207-238.

فعله سبحانه بحيث يكون منقطعا عن العبد بتاتا و يكون دوره دور المحل و الظرف لظهور الفعل، كما أنّه ليس فعل العبد فقط حتى يكون منقطعا عن الواجب، قضاء بكون الفعل بل الفاعل، أمرين ممكنين غير مستغنيين عن الواجب في آن من الآنات.

و في هذه النظرية جمال التوحيد الأفعالي منزّها عن الجبر. كما أن فيها محاسن العدل منزّها عن مغبة الشرك و الثنوية، يدرك ذلك كل من أمعن النظر. و ينطبق عليها قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام): «اليمين و الشمال مضلّة، و الطريق الوسطى هي الجادّة عليها باقي الكتاب و آثار النبوّة»(1).

هذا إجمال النظرية حسب ما تسوق إليه البراهين الفلسفية، و لكن رفع الستار عن وجهها يحتاج إلى تمثيل يحقق واقعية النظرية بشكل محسوس.

و ما ذكروا من الأمثلة يختلف حسب إدراك الممثل حقيقة هذه النظرية و إليك بعضها.

مثالين للأمر بين الأمرين:
أ - اللّه فاعل بالتسبيب و العبد بالمباشرة

إنّ كثيرا من محققي الإمامية صوّروا هذه النظرية بما يوجبه هذا العنوان فجعلوا نسبة الفعل إلى اللّه نسبة تسبيبية و نسبته إلى العبد نسبة مباشرية بحجة أنّ اللّه سبحانه وهب الوجود و الحياة و العلم و القدرة لعباده، و جعلها في اختيارهم. و أنّ العبد هو الذي يصرف الموهوب في أي مورد شاء، فينسب الفعل إليه سبحانه لأجل كونه معطي المبادي و مفيض الوجود و القدرة، و إلى العبد لأنه الذي يصرفها في أي مورد شاء. و المثال الذي يبين حقيقة النظريات الثلاث في هذا المجال هو ما ذكره المحقق الخوئي في تعاليقه القيّمة على أجود التقريرات، و محاضراته الملقاة على تلاميذه و إليك خلاصة البيان، قال:

ص: 346


1- نهج البلاغة، الخطبة 16.

لو فرضنا شخصا مرتعش اليد فاقد القدرة، فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفا قاطعا و هو يعلم أنّ السيف المشدود في يده سيقع على آخر و يهلكه، فإذا وقع السيف و قتل، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده.

و لو فرضنا أنّ رجلا أعطى سيفا لمن يملك حركة يده و تنفيذ إرادته فقتل هو به رجلا، فالأمر على العكس، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى.

و لكن لو فرضنا شخصا مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلاّ بإيصال رجل آخر التيار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوة و نشاطا بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آن انقطعت القوّة عن جسم هذا الشخص في الحال و أصبح عاجزا. فلو أوصل الرجل تلك القوّة إلى جسم هذا الشخص فذهب باختياره و قتل إنسانا و الرجل يعلم بما فعله، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما، أمّا إلى المباشر فلأنه قد فعل باختياره و إعمال قدرته، و أمّا إلى الموصل فلأنه أقدره و أعطاه التمكن حتى في حال الفعل و الاشتغال بالقتل، و كان متمكنا من قطع القوة عنه في كل آن شاء و أراد.

فالجبري يمثل فعل العبد بالنسبة إلى اللّه تعالى كالمثال الأول، حيث أنّ اليد المرتعشة فاقدة للاختيار و مضطرة إلى الإهلاك.

كما أنّ التفويضي يمثل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني، فهو يصوّر أنّ العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة و الحياة منه سبحانه حدوثا لا بقاء و العلّة الأولى كافية في بقاء القدرة فيه إلى نهاية المطاف، كما أنّه كان الأمر في المثال كذلك فكان الإنسان محتاجا إلى رجل آخر في أخذ السيف، و بعد الحصول عليه انقطعت حاجته إلى المعطي.

و القائل بالأمر بين الأمرين يصوّر النسبة كالمثال الثالث، فالإنسان في كل حال يحتاج إلى إفاضة القوة و الحياة منه إليه بحيث لو قطع الفيض في آن

ص: 347

واحد بطلت الحياة و القدرة، فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه و حياة كذلك من غير فرق بين الحدوث و البقاء. - إلى أن قال -: إنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين إحداهما نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره و إعمال قدرته، و ثانيهما نسبته إلى اللّه تعالى باعتبار أنه معطي الحياة و القدرة في كل آن و بصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل(1).

و هذا التمثيل مع كونه رفيع المنزلة في تبيين المقصود إلاّ أنّ الفلاسفة الإلهيين لا يرضون بالقول بأنّ النفس تستخدم القوى كمن يستخدم كاتبا أو نقاشا قائلين بأنّ مقام النفس بالنسبة إلى قواها أرفع من ذلك لأن مستخدم البنّاء لا يلزم أن يكون بنّاء، و مستخدم الكاتب لا يكون كاتبا، و مستخدم القوة السامعة و الباصرة (النفس) لا يجب أن يكون سميعا و بصيرا. مع أنّ النفس هي السميعة البصيرة، فإذا كانت نسبة النفس إلى قواها فوق التسبيب و الاستخدام فكيف مثله سبحانه و هو الخالق القيوم و ما سواه قائم به قوام المعنى الحرفي بالاسمي.

و لذا فإن لهم تمثيلا آخر في المقام و هو التالي:

ب - الفعل فعل العبد و في الوقت نفسه فعل اللّه

إنّ بعض المحققين من الإمامية و في مقدمهم معلّم الأمّة الشيخ المفيد و بعده صدر المتألّهين و تلاميذ نهجه يرون الموقف أدق من ذلك و يعتقدون أنّ للفعل نسبة حقيقية إلى اللّه سبحانه، كما أنّ له نسبة حقيقية إلى العبد، و لا تبطل إحدى النسبتين الأخرى، و نأتي لتبيين ذلك بمثالين:

أحدهما، ما ذكره معلّم الأمّة الشيخ المفيد (ت 336 - م 413)، على ما حكاه عنه العلاّمة الطباطبائي في محاضراته، و لم أقف عليه في كتب الشيخ المفيد و هو:

ص: 348


1- المحاضرات، ج 2، ص 87 و 88. أجود التقريرات، ج 1، ص 90.

نفترض أنّ مولى من الموالي العرفيين يختار عبدا من عبيده و يزوجه إحدى فتياته، ثم يقطع له قطيعة و يخصّه بدار و أثاث، و غير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود و أجل مسمّى.

فإن قلنا إنّ المولى و إن أعطى لعبده ما أعطى، و ملّكه ما ملك فإنه لا يملك، و أين العبد من الملك، كان ذلك قول المجبرة.

و إن قلنا: إنّ المولى بإعطائه المال لعبده و تمليكه، جعله مالكا و انعزل هو عن المالكية و كان المالك هو العبد، كان ذلك قول المعتزلة.

و لو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين، و قلنا: إنّ للمولى مقامه في المولوية، و للعبد مقامه في الرقيّة و إنّ العبد يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أنّ العبد مالك، فهنا ملك على ملك، كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) و قام عليه البرهان(1).

و في بعض الروايات إشارات رائعة إلى هذا التمثيل، منها:

ما رواه الصدوق في (توحيده) عن النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله) قال: قال اللّه عز و جل: «يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء و بإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد»(2).

ترى أنه يجعل مشيئة العبد و إرادته، مشيئة اللّه سبحانه و إرادته، و لا يعرّفهما مفصولتين عن اللّه سبحانه بل الإرادة في نفس الانتساب إلى العبد منتسبة إلى اللّه سبحانه.

ثانيهما: ما ذكره صدر المتألهين و قال ما هذا حاصله:

إذا أردت التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلا لشخصين على

ص: 349


1- الميزان، ج 1، ص 100. و قد أشار إلى هذا التنزيل في تعليقته على البحار، لاحظ ج 5، ص 83.
2- التوحيد باب المشيئة و الإرادة، ص 340، الحديث 10. و لاحظ بحار الأنوار كتاب العدل و المعاد ح 62 و 63 مع تعليقة العلاّمة الطباطبائي على الأول.

الحقيقة فلاحظ النفس الإنسانية، و قواها، فاللّه سبحانه خلقها مثالا، ذاتا و صفة و فعلا، لذاته و صفاته و أفعاله، قال سبحانه: وَ فِي اَلْأَرْضِ آيٰاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلاٰ تُبْصِرُونَ (1). و قد أثر عن النبي و الوصي القول بأنّه «من عرف نفسه، عرف ربّه»(2).

إنّ فعل كل حاسة و قوة من حيث هو فعل تلك القوة، فعل النفس أيضا. فالباصرة ليس لها شأن إلاّ إحضار الصورة المبصرة، أو انفعال البصر منها، و كذلك السامعة، فشأنها إحضار الهيئة المسموعة أو انفعالها بها، و مع ذلك فكل من الفعلين، كما هو فعل القوة، فعل النفس أيضا، لأنها السميعة البصيرة في الحقيقة و ليس شأن النفس استخدام القوى بل هو فوق ذلك. لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد أن نفوسنا بعينها الشاعرة في كل إدراك جزئي و شعور حسّي، كما أنها المتحرك بكل حركة طبيعية أو حيوانية منسوبة إلى قواها. و بهذا يتضح أنّ النفس بنفسها في العين قوة باصرة و في الأذن قوة سامعة و في اليد قوة باطشة، و في الرجل قوّة ماشية، و هكذا الأمر في سائر القوى التي في الأعضاء، فبها تبصر العين و تسمع الأذن و تمشي الرجل. فالنفس مع وحدتها و تجردها عن البدن و قواه و أعضائه، لا يخلو منها عضو من الأعضاء عاليا كان أو سافلا، و لا تبائنها قوة من القوى، مدركة كانت أو محركة، حيوانية كانت أو طبيعية.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه كما ليس في الوجود شأن إلاّ و هو شأنه، كذلك ليس في الوجود فعل إلاّ فعله، لا بمعنى أنّ فعل زيد مثلا ليس صادرا عنه، بل بمعنى أنّ فعل زيد مع أنّه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل اللّه بالحقيقة. فكما أنّ وجود زيد بعينه أمر متحقق في الواقع منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز، و هو مع ذلك شأن من شئون الحق الأول، فكذلك

ص: 350


1- سورة الذاريات: الآيتان 20 و 21.
2- غرر الحكم، ص 268، طبعة النجف. و روي عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قوله: «أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه». أمالي المرتضى، ج 2، ص 329.

علمه و إرادته و حركته و سكونه و جميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز و الكذب. فالإنسان فاعل لما يصدر عنه و مع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحق الأول على الوجه اللائق بذاته سبحانه(1).

هذا ما أفاده صدر المتألهين من التمثيل عند تبيين حقيقة النظرية، و في بعض الأحاديث إشارة إليه، روى الكليني في (الكافي)، عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر الباقر: إنّ اللّه جلّ جلاله قال: «ما يقرب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه، و إنّه ليتقرب إليّ بالنافلة، حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به و لسانه الذي ينطق به، و يده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته»(2).

إلى هنا تم تبيين التمثيل المبيّن لحقيقة النظرية، فسواء أ كان المختار هو البيان الأول المشهور بين الإمامية، أم كان ما ذكره صدر المتألّهين، فالتحقيق هو أنّ الفعل فعل اللّه و هو فعلنا إمّا بحديث التسبيب و الاستخدام أو لأجل أنّه لا يخلو شيء منه سبحانه، قال سبحانه: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ (3). و قال سبحانه: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ (4).

و اللّه سبحانه من وراء وجود فعل الإنسان و معه و بعده كالنفس بالنسبة إلى قواها و أفعالها. و قال سبحانه: وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىٰ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (5).

ثم إنّ القول بأنّ فعل العبد فعل اللّه سبحانه لا يصحح نسبة كل ما يصدر عن العبد إلى اللّه سبحانه كأكله و شربه و نكاحه، و قد ذكرنا ضابطة قيّمة لتمييز ما يصحّ نسبته إليه عمّا لا يصح مع كون السببية محفوظة في

ص: 351


1- الأسفار، ج 6 ص 377 إلى 378، و ص 374.
2- وسائل الشيعة، ج 3. أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، ب 17، ح 6.
3- سورة الحديد: الآية 4.
4- سورة ق: الآية 16.
5- سورة الروم: الآية 27.

الجميع عند البحث في التوحيد في الخالقية، فراجع(1).

بقي الكلام في الآيات و الروايات التي يستنبط منها هذه النظرية بوضوح.

الأمر بين الأمرين في الكتاب و السنّة

إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين و الإسنادين في فعل العبد، نسبة إلى اللّه سبحانه، و في الوقت نفسه نسبة إلى العبد، من دون أن تزاحم إحداهما الأخرى فإنّا نجد هاتين النسبتين في آيات:

1 - قوله سبحانه: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ قَتَلَهُمْ وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاٰءً حَسَناً إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (2).

فترى أنّه سبحانه ينسب الرمي إلى النبي، و في الوقت نفسه يسلبه عنه و ينسبه إلى ذاته، كما هو مفاد قوله: وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ . و لا يصح هذا الإيجاب في عين السلب إلاّ على الوجه الذي ذكرناه و هو أنّ نسبة الفعل إلى العبد ليست نسبة كاملة بأن يكون له الصلة، دون اللّه سبحانه. و مثله في جانبه تعالى. فلأجل ذلك تصح النسبتان، كما يصح سلبه عن أحدهما و إسناده إلى الآخر. فلو كانت نسبة الفعل إلى واحد منهما نسبة المعلول إلى العلّة التامة، لم يكن مجال إلاّ لإحداهما.

2 - قال سبحانه: قٰاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (3).

فالظاهر أنّ المراد من التعذيب هو القتل لأن التعذيب الصادر من اللّه تعالى بأيدي المؤمنين ليس إلاّ ذاك، لا العذاب البرزخي و لا الأخروي فإنهما راجعان إلى اللّه سبحانه دون المؤمنين. و على ذلك فقد نسب فعلا

ص: 352


1- لاحظ ص 399 و 400.
2- سورة الأنفال: الآية 17.
3- سورة التوبة: الآية 14.

واحدا إلى المؤمنين و خالقهم. و لا تصح تينك النسبتين إلاّ على هذا المنهج، و إلاّ ففي منهج الجبر لا تصح النسبة إلاّ إليه سبحانه، و في منهج التفويض على العكس و المنهج الّذي يصحح كلتا النسبتين هو منهج الأمر بين الأمرين، على البيان الماضي قال الرازي الأشعري المذهب: «احتجّ أصحابنا على قولهم بأنّ فعل العبد مخلوق للّه تعالى بقوله: يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ ، فإنّ المراد من هذا التعذيب القتل و الأسر. و ظاهر النّص يدل على أنّ ذلك القتل و الأسر فعل اللّه تعالى، إلاّ أنّه تعالى يدخله في عالم الوجود على أيدي العباد و هو صريح قولنا و مذهبنا»(1).

يلاحظ عليه: أنّ الآية ليست بصريحة و لا ظاهرة في الدلالة على مذهب الأشاعرة، فإنّ مذهبهم أنّ العباد بمنزلة الآلات المحضة بل أدون منها حيث لا تأثير لإرادتهم و قدرتهم، و هي قابلة للانطباق على مذهب العدلية، بمعنى أنّه سبحانه ينفذ إرادته من طريق إرادة المؤمنين لكونهم خاضعين له كخضوع العبد للمولى و المأمور للآمر. و قد شاع قولهم في التمثيل ب «فتح الأمير المدينة»، مع أنّ الفاتح هو الجيش، لكن بأمر الأمير.

ثم إنّ الجبّائي من المعتزلة أجاب عن استدلال الأشاعرة بأنّه لو صحّ أن يقال: إنّه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين لجاز أن يقال: إنّه يكذب أنبياءه بألسنتهم، و يلعن المؤمنين و يسبّهم بأفواههم، لأنّ المفروض أنّ اللّه خالق لذلك كله في كلا الجانبين.

و العجب أنّ الرازي قال في جواب الجبّائي: «و أجاب أصحابنا عنه فقالوا أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلاّ أنا لا نقوله باللسان»!!(2).

3 - هناك آيات نسب الفعل الواحد في آية منها إلى اللّه سبحانه و في

ص: 353


1- مفاتيح الغيب، ج 4، ص 418، الطبعة الأولى 1308.
2- مفاتيح الغيب، ج 4، ص 418، الطبعة الأولى 1308.

أخرى إلى المخلوق و لا تصح النسبتان إلاّ على هذا المبنى، و هي عديدة نكتفي بواحدة منها:

قال سبحانه: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجٰارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (1). و قال أيضا: وَ لٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (2). ففي هاتين الآيتين ينسب القسوة إلى نفس اليهود و كأنهم صاروا هم السبب لعروض هذه الحالة إلى قلوبهم بشهادة أنّ الآيتين في مقام الذمّ و اللوم، فلو لم يكن هناك سببية من جانبهم لما صح تقريعهم.

و في الوقت نفسه يعرّف فاعل هذه الحالة الطارئة بأنّه هو اللّه تعالى و يقول: فَبِمٰا نَقْضِهِمْ مِيثٰاقَهُمْ لَعَنّٰاهُمْ وَ جَعَلْنٰا قُلُوبَهُمْ قٰاسِيَةً (3).

4 - هناك مجموعة من الآيات تعرّف الإنسان بأنّه فاعل مختار في مجال أفعاله، و هي كثيرة أوعزنا إلى كثير منها فيما سبق.

فمنها قوله سبحانه: مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسٰاءَ فَعَلَيْهٰا وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ (4).

و منها قوله سبحانه: كُلُّ اِمْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ (5).

و منها قوله سبحانه: لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ (6).

و منها قوله سبحانه: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلاّٰ مٰا سَعىٰ * وَ أَنَّ سَعْيَهُ

ص: 354


1- سورة البقرة: الآية 74.
2- سورة الأنعام: الآية 43.
3- سورة المائدة: الآية 13.
4- سورة فصّلت: الآية 46.
5- سورة الطور: الآية 21.
6- سورة النور: الآية 11.

سَوْفَ يُرىٰ * ثُمَّ يُجْزٰاهُ اَلْجَزٰاءَ اَلْأَوْفىٰ (1) .

و منها قوله سبحانه: وَ قُلِ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شٰاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شٰاءَ فَلْيَكْفُرْ (2).

و منها قوله سبحانه: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لاٰ يَرْضىٰ لِعِبٰادِهِ اَلْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ (3).

و منها قوله سبحانه: إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً (4).

و منها قوله سبحانه: إِنَّ هٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شٰاءَ اِتَّخَذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً (5).

و منها قوله سبحانه: وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا * فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا * وَ قَدْ خٰابَ مَنْ دَسّٰاهٰا (6).

إلى غير ذلك من الآيات التي تعترف بدور الإنسان في حياته و كونه مالكا لمشيئته و معيّنا لمسيره في مصيره.

و هناك مجموعة أخرى من الآيات تصرّح بأنّ كل ما يقع في الكون من دقيق و جليل لا يقع إلاّ بإذنه سبحانه و مشيئته، و أنّ الإنسان لا يشاء لنفسه إلاّ ما شاء اللّه له و هي كثيرة نشير إلى بعضها:

منها - قوله سبحانه: وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (7).

ص: 355


1- سورة النجم: الآيات 39-41
2- سورة الكهف: الآية 29.
3- سورة الزمر: الآية 7.
4- سورة الإنسان: الآية 3.
5- سورة المزمل: الآية 19، المدثر: الآية 55، النبأ: الآية 39، و عبس: الآية 12.
6- سورة الشمس: الآيات 7-10.
7- سورة التكوير: الآية 29.

و منها - قوله سبحانه آمرا نبيّه: قُلْ لاٰ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لاٰ ضَرًّا إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ (1). و ليست الآية خاصة بالمواهب الطارئة عليه من غير طريق اكتسابه، بل تعمّها و تعمّ كل ضر و نفع يكسبهما بسعيه و فعله فلا يصل إليه الإنسان إلاّ عن طريق مشيئة اللّه سبحانه.

و منها - قوله سبحانه: وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (2).

و منها - قوله سبحانه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّٰهِ (3).

و منها - قوله سبحانه: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (4).

و منها - قوله سبحانه: وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ (5)إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ كل ما يقع في الكون أو يصدر من العباد فهو بمشيئة و إذن منه سبحانه.

فالمجموعة الأولى من الآيات تناقض الجبر و تفنده، كما أنّ المجموعة الثانية ترد التفويض و تبطله و مقتضى الجمع بين المجموعتين حسب ما يرشدنا إليه التدبر فيها ليس إلاّ التحفظ على النسبتين و أنّ العبد يقوم بكل فعل و ترك، باختيار و حرية، لكن بإقدار و تمكين منه سبحانه فليس العبد في غنى عنه سبحانه في فعله و تركه. فهو يعمل في ظل عناياته و توفيقاته و لعلّ المراجع إلى الذكر الحكيم يجد من الآيات الراجعة إلى المجموعتين أكثر مما ذكرنا، كما يجد فيها قرائن و شواهد تسوقه إلى نفي كل من الجبر و التفويض و اختيار الأمر بين الأمرين.

ص: 356


1- سورة الأعراف: الآية 188.
2- سورة البقرة: الآية 102.
3- سورة البقرة: الآية 249.
4- سورة البقرة: الآية 251.
5- سورة يونس: الآية 100.

هذا ما يرجع إلى الكتاب الحكيم و أمّا الروايات فنذكر النزر اليسير مما جمعه الشيخ الصدوق في (توحيده) و المجلسي في (بحاره).

1 - روى الصدوق عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السّلام) قالا: «إنّ اللّه عزّ و جلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب، ثم يعذبهم عليها و اللّه أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون. قال فسئلا (عليهما السّلام): هل بين الجبر و القدر منزلة ثالثة ؟ قالا: نعم أوسع ممّا بين السّماء و الأرض»(1).

2 - روى الصّدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) قال: «ذكر عنده الجبر و التفويض فقال: ألا أعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه، و لا تخاصمون عليه أحدا إلاّ كسرتموه، قلنا: إن رأيت ذلك. فقال: إنّ اللّه عزّ و جل لم يطع بإكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل العباد في ملكه. و هو المالك لما ملكهم، و القادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته، لم يكن اللّه عنها صادا، و لا منها مانعا، و إن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و إن لم يحل و فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثم قال (عليه السّلام): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه»(2).

3 - و روى الصدوق عن المفضل بن عمر عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين أمرين» قال:

فقلت: و ما أمر بين أمرين ؟ قال: مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته، فتركته، ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يقبل منك فتركته أنت الذي أمرته بالمعصية»(3).

4 - روى الصدوق في (معاني الأخبار) و (عيون أخبار الرضا) عن

ص: 357


1- التوحيد باب نفي الجبر و التفويض، الحديث 3، ص 360.
2- المصدر السابق، الحديث 7، و السند صحيح.
3- المصدر السابق، الحديث 8.

الفضل عن الرضا (عليه السّلام) فيما كتب للمأمون: «من محض الإسلام أن اللّه تبارك و تعالى لا يكلف نفسا إلاّ وسعها، و أن أفعال العباد مخلوقة للّه، خلق تقدير لا خلق تكوين، و اللّه خالق كل شيء و لا نقول بالجبر و التفويض»(1).

5 - روى السيد بن طاوس في (طرائفه) قال: روي أنّ الفضل بن سهل سأل الرضا (عليه السّلام) بين يدي المأمون فقال: «يا أبا الحسن الخلق مجبورون ؟ فقال: اللّه أعدل من أن يجبر خلقه ثم يعذبهم. قال:

فمطلقون ؟ قال: اللّه أحكم من أن يهمل عبده و يكله إلى نفسه»(2).

6 - و قد كتب الإمام العاشر أبو الحسن الثالث (صلوات اللّه عليه) رسالة في الردّ على أهل الجبر و التفويض، و إثبات العدل، و الأمر بين الأمرين، و هذه الرسالة نقلها صاحب تحف العقول في كتابه و ممّا جاء فيها:

«فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم أنّ اللّه جل و عز، أجبر العباد على المعاصي و عاقبهم عليها، و من قال بهذا القول فقد ظلّم اللّه في حكمه و كذّبه و ردّ عليه قوله: وَ لاٰ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (3)، و قوله:

ذٰلِكَ بِمٰا قَدَّمَتْ يَدٰاكَ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لَيْسَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ (4) ، و قوله: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَظْلِمُ اَلنّٰاسَ شَيْئاً وَ لٰكِنَّ اَلنّٰاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (5). فمن زعم أنّه مجبر على المعاصي، فقد أحال بذنبه على اللّه، و قد ظلّمه في عقوبته، و من ظلّم اللّه فقد كذّب كتابه، و من كذّب كتابه، فقد لزمه الكفر باجتماع الأمة. - إلى أن قال -: فمن زعم أنّ اللّه تعالى فوض أمره و نهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز... - إلى أن قال - لكن نقول: إنّ اللّه عز و جل خلق الخلق بقدرته، و ملّكهم استطاعة تعبّدهم بها فأمرهم و نهاهم بما أراد... إلى أن قال:

و هذا القول بين القولين ليس بجبر و لا تفويض و بذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم و يقعد و يفعل، فقال له أمير المؤمنين: سألت عن الاستطاعة، تملكها

ص: 358


1- البحار كتاب العدل و المعاد، ج 5، الحديث 38، ص 30.
2- المصدر السابق الحديث 120 ص 56.
3- سورة الكهف: الآية 49.
4- سورة الحج: الآية 10.
5- سورة يونس: الآية 44.

من دون اللّه أو مع اللّه ؟ فسكت عباية، فقال له أمير المؤمنين: قل يا عباية، قال: و ما أقول ؟. قال (عليه السّلام) إن قلت إنك تملكها مع اللّه قتلتك.

و إن قلت تملكها دون اللّه قتلتك. قال عباية: فما أقول يا أمير المؤمنين ؟ قال (عليه السّلام) تقول: إنك تملكها باللّه الذي يملكها من دونك. فإن يملّكها إياك كان ذلك من عطائه، و إن يسلبكها كان ذلك من بلائه، هو المالك لما ملّكك، و القادر على ما عليه أقدرك»(1).

قال العلاّمة الطباطبائي: اختلف في الاستطاعة قبل الفعل هل العبد مستقل بها بحيث يتصرف في الأسباب و آلات الفعل من غير أن يرتبط شيء من تصرفه باللّه، أم للّه فيها صنع، بحيث إنّ القدرة للّه مضافة إلى سائر الأسباب، و إنما يقدر العبد بتمليك اللّه إيّاه شيئا منها، المعتزلة على الأول و المتحصل من أخبار أهل البيت (عليهم السّلام) هو الثاني(2).

و لكن إنّ تمليكه سبحانه لا يبطل ملكه، فالمولى مالك لجميع ما يملكه في عين كونه ملكا للعبد(3).

و قد اكتفينا بهذا النزر اليسير، و هو غيض من فيض، و قليل من الكثير من الأحاديث الواردة في باب الجبر و التفويض، و باب القضاء و القدر. و قد تقدم إيراد مجموعة من هذه الأحاديث فيما مضى.

و من ظريف ما روي عن الشهيد السعيد زين الدين الجبعي العاملي (ت 909 - م 966) قوله:

لقد جاء في القرآن آية حكمة *** تدمّر آيات الضّلال و من يجبر

ص: 359


1- المصدر السابق كتاب العدل و المعاد الباب الثاني الحديث 1، ص 71-75. و هذا الحديث يفسّر ما رواه المجلسي عن أبي إبراهيم موسى الكاظم برقم 61، ص 39، المصدر السابق نفسه.
2- المصدر السابق، ص 39، تعليقة العلاّمة الطباطبائي رحمه اللّه.
3- لاحظ تعليقته الأخرى، ص 83.

و تخبر أنّ أنّ الاختيار بأيدينا *** فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر(1)

رجوع الرازي إلى القول بالأمر بين الأمرين

إن فخر الدين الرازي (ت 543 - م 606)، مع كونه متعصبا في الذبّ عن كلام الأشعري، رجع إلى القول بالأمر بين الأمرين و قال:

«هذه المسألة عجيبة، فإن الناس كانوا مختلفين فيها أبدا بسبب أنّ ما يمكن الرجوع فيها إليها متعارضة، فمعوّل الجبرية على أنّه لا بد لترجيح الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد، و معوّل القدرية على أنّ العبد لو لم يكن قادرا على فعل لما حسن المدح و الذمّ و الأمر و النهي». ثم ذكر أدلة الطائفتين إلى أن قال: «الحق ما قال بعض أئمة الدين إنّه لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين أمرين، و ذلك أنّ مبنى المبادي القريبة لأفعال العباد على قدرته و اختياره و المبادي البعيدة على عجزه و اضطراره، فالإنسان مضطر في صورة مختار كالقلم في يد الكاتب و الوتد في شق الحائط، و في كلام العقلاء قال الحائط للوتد: لم تشقّني ؟ فقال: سل من يدقّني»(2)

اعتراف شيخ الأزهر بصحة هذه النظرية

و ممن اعترف بالأمر بين الأمرين شيخ الأزهر في وقته، الشيخ محمد عبده في رسالته حول التوحيد، و قد أثّر كلامه في الأجيال المتأخرة من تلاميذ منهجه و مطالعي كتبه، قال: «جاءت الشريعة بتقرير أمرين عظيمين، هما ركنا السعادة و قوام الأعمال البشرية، الأول: إنّ العبد يكسب بإرادته و قدرته

ص: 360


1- مقدمة الروضة البهية للشهيد الثاني، ص 188.
2- بحار الأنوار، ح 5، ص 82. و لا يخفى إنّه مع اعترافه ببطلان الجبر و التفويض في ثنايا كلامه لم يفسّر نظرية الأمر بين الأمرين تفسيرا لائقا بها.

ما هو وسيلة لسعادته. و الثاني: إنّ قدرة اللّه هي مرجع لجميع الكائنات و إن من آثارها ما يحول بين العبد و إنفاذ ما يريده و إنّ لا شيء سوى اللّه يمكن له أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه...

و قد كلّفه سبحانه أن يرفع همته إلى استمداد العون منه وحده بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الكفر و إجادة العمل و هذا الذي قررناه قد اهتدى إليه سلف الأمة فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأمم و عوّل عليه من متأخرى أهل النظر إمام الحرمين الجويني رحمه اللّه، و إن أنكر عليه بعض من لم يفهمه»(1).

إلى هنا خرجنا بتوضيح حقيقة النظرية عن طريق البراهين العقلية و النقلية و لكن بقيت هاهنا أسئلة حول القول باختيار الإنسان نوردها واحدة بعد الأخرى فبعض هذه الأسئلة قرآني، و البعض الآخر روائي، و البعض الثالث فلسفي و الإجابة عليها تحل غالب المشاكل المحفوفة بنظرية الاختيار.

ص: 361


1- رسالة التّوحيد، ص 59-62 بتلخيص.

ص: 362

أسئلة و أجوبة حول اختيار الإنسان

اشارة

* هل الحسنة و السيئة من اللّه أو من العبد؟ * ما معنى السعادة و الشقاء الذاتيين ؟ * انتهاء الأمور إلى الإرادة الأزلية.

* ما معنى كون الهداية و الضّلالة بيده سبحانه ؟

ص: 363

ص: 364

أسئلة و أجوبة حول اختيار الإنسان

السؤال الأول هل الحسنة و السيئة من اللّه أو من العبد؟

ربما يتبادر إلى الذهن في بادئ النظر الاختلاف في قضاء القرآن في مبدأ الحسنة و السيئة حيث يرى في الآيتين التاليتين أقضية ثلاثة في مصادرهما و مباديهما:

1 - ما ينقل عن المنافقين حيث كانوا ينسبون الحسنة إلى اللّه و السيئة إلى النبي، كما يحكي عنه قوله تعالى: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ (1)، تطيّرا بوجود النبي، كما تطيروا بغيره في الأمم السالفة.

2 - ما يذكره سبحانه في نفس الآية ردّا عليهم بأنّ الحسنة و السيئة كلّ من عند اللّه، حيث قال: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ فَمٰا لِهٰؤُلاٰءِ اَلْقَوْمِ لاٰ يَكٰادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (2).

3 - ما ذكره تعالى في الآية التالية حيث نسب الحسنة إلى اللّه و السيئة إلى العبد فجعل منشأ الأولى هو الباري تعالى، و منشأ الثانية الإنسان يقول:

ص: 365


1- سورة النساء: الآية 78.
2- سورة النساء: الآية 78.

مٰا أَصٰابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ وَ مٰا أَصٰابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (1) .

فكيف التوفيق بين القضاء الثاني و الثالث.

أما الجواب، فنقول: إنّه سبحانه نقل عن الفراعنة نظرية أشدّ بطلانا مما نقله عن المنافقين، حيث كانوا ينسبون الحسنات إلى أنفسهم و السيئات إلى موسى (عليه السّلام). قال سبحانه: وَ لَقَدْ أَخَذْنٰا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قٰالُوا لَنٰا هٰذِهِ ، وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسىٰ وَ مَنْ مَعَهُ ، أَلاٰ إِنَّمٰا طٰائِرُهُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ (2)و القرآن يجيب عن هذا القضاء المنقول عن المنافقين و الفراعنة، فيرد على الأول بأنّه مبني على وجود مؤثرين مستقلين في عالم الوجود، لكل واحد فعل خاص ينافي فعل الآخر، حيث قال: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ فَمٰا لِهٰؤُلاٰءِ اَلْقَوْمِ لاٰ يَكٰادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (3).

كما ردّ على نظرية الفراعنة بقوله: أَلاٰ إِنَّمٰا طٰائِرُهُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ (4). فلا كلام في بطلان ما قضى به المنافقون و الفراعنة، و إنما نركز البحث على القضاءين المختلفين الواردين في القرآن الكريم فنقول:

إنّ المراد من الحسنة و السيئة في الآية، بقرينة وقوعها في سياق آيات الجهاد هو الغلبة فيه أو الهزيمة، فعمت الأولى المسلمين في غزوة بدر، كما شملتهم الهزيمة في أحد، فأراد المنافقون أو ضعفاء العقول الإزراء بالنبي، و أنّ الغلبة في غزوة بدر كانت من اللّه سبحانه و الهزيمة من النبي لسوء القيادة، فكانوا يتبجحون بهذه الفكرة تعبيرا بالنبي و تضعيفا لعقول المسلمين، فردّ اللّه سبحانه عليهم بأنّ الحسنة بقول مطلق كالفتوحات في

ص: 366


1- سورة النساء: الآية 79.
2- سورة الأعراف: الآيتان: 130 و 131.
3- سورة النساء: الآية 78.
4- سورة الأعراف: الآية 131.

مورد الآية، و كثرة الثمار و شمول الخصب كما في مورد الفراعنة، و السيئة بقول مطلق كالهزيمة في مورد البحث و نقص الثمرات و عموم الجدب في مورد الفراعنة، كلها من اللّه سبحانه، إذ لا مؤثر في الوجود إلاّ هو، و لا خالق غيره، فما يصيب الإنسان مما يستحسنه طبعه، أو يسوؤه كله من اللّه تعالى، فهو خالق الأكوان و الحوادث، و إنّ سلسلة الوجود تنتهي إليه سبحانه. و بذلك يعلم أنّ المراد من الحسنة و السيئة نظير هذه الأمور لا الأفعال الاختيارية التي يقوم بها الإنسان في حياته فالآيات الواردة في هذا المجال منصرفة عنه، فمقتضى التوحيد الأفعالي نسبة الكلّ إلى اللّه سبحانه. هذا هو وجه القضاء الأول.

و أمّا الآية الثانية التي تفكك بين الحسنة و السيئة، فتنسب الأولى إلى اللّه و السيئة إلى الإنسان فإنما هي ناظرة إلى مناشئهما و مباديهما، فلا شك أنّ الإنسان لا يستحق بذاته شيئا من النعم التي أنعمها اللّه عليه، و أنّ كل النعم و الحسنات تصيبه تفضلا من اللّه سبحانه و كرامة منه، و لأجل ذلك قال سبحانه: مٰا أَصٰابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ و الخطاب و إن كان للنبي، و لكنه من قبيل الخطابات القرآنية التي يخاطب بها النبي و يقصد منها كل الناس؛ قال سبحانه: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ (1). و من هنا يركز القرآن على أنّ مبدأ الحسنة هو اللّه سبحانه.

و أمّا السيئة فهي و إن كانت من عند اللّه و لكن لو استقرأ الإنسان مناشئ الهزائم و الانكسارات أو البلايا و النوازل يجد أن المجتمع الإنساني هو المنشأ لنزولها، و أخذهم بها. قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (2). و قد تقدم في البحث عند البداء ما يفيدك في المقام.

ص: 367


1- سورة الزمر: الآية 65.
2- سورة الأعراف: الآية 96

و بذلك يسهل عليك فهم ما جاء في الآية التالية من التفريق بين الهداية و الضّلالة حيث يقول سبحانه: قُلْ جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ مٰا يُبْدِئُ اَلْبٰاطِلُ وَ مٰا يُعِيدُ * قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمٰا أَضِلُّ عَلىٰ نَفْسِي، وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمٰا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (1) فترى أنّه سبحانه يأمر عبده بأن ينسب الضلالة إلى نفسه و الهداية إلى ربّه، مع أنّه سبحانه ينسبهما في آيات أخرى إلى نفسه و يقول:

فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2) . و ما هذا إلاّ لأن الهداية و الضلالة بما أنهما من الأمور الواقعية في الكون تنتهي وجودا إلى اللّه سبحانه، فينسبهما من حيث الوجود إلى نفسه سبحانه. و أمّا من حيث المناشئ و الحوافز التي تنزلهما إلى العبد، فبما أنّ الهداية نعمة من اللّه سبحانه لا يستحقها الإنسان بذاته، بل تعمه كرامة منه تعالى، فينسبها إلى اللّه تعالى من هذه الجهة و يقول: وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمٰا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي .

و بما أنّ الضلالة نقمة يستحقها الإنسان لتقصيره في اتباع الرسل و الاهتداء بالكتب، صارت أولى بأن تنسب إلى العبد، و يقول: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمٰا أَضِلُّ عَلىٰ نَفْسِي .

و بهذا البيان يرتفع ما يتراءى من الاختلاف بين نظائر هذه الآيات.

و بكلمة واحدة، إنّ الآيات من حيث المساق مختلفة، فعند ما يلاحظ الظاهرة - سواء أ كانت حسنة أو سيئة، هداية أو ضلالة - بما أنّها من الأمور الواقعية الإمكانية، لا تتحقق إلاّ بالانتماء إلى الواجب تعالى و الصدور منه، ينسبها إلى اللّه تعالى. و عند ما يلاحظها من حيث المناشئ و الدواعي التي تنزلها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فليس للحسنة و الهداية منشأ إلاّ اللّه تعالى، كما أنّه ليس للسيئة و الضلالة منشأ، سوى تقصير العبد في حياته كما عليه الآيات الكثيرة. و لأجل ذلك نرى أنّ الحديث القدسي المنقول عن

ص: 368


1- سورة سبأ: الآيتان 49 و 50.
2- سورة إبراهيم: الآية 4.

النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يفرق بين الحسنة و السيئة مع أنّ الكل يوجد بحوله و قوته سبحانه، يقول: «يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بنعمتي أدّيت إليّ فرائضي، و بقدرتي قويت على معصيتي، خلقتك سميعا بصيرا، أنا أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني»(1).

ص: 369


1- بحار الأنوار، ج 5، كتاب العدل و المعاد، الباب الأول الحديث 3، ص 4. و لاحظ ص 56.

ص: 370

السؤال الثاني ما معنى السعادة و الشقاء الذاتيين ؟

اشارة

قد اشتهر في ألسن الباحثين عن الجبر و الاختيار القول بأنّ الناس على صنفين سعيد و شقي، و أنّ سعادة كلّ و شقاءه مكتوب في علمه الأزلي سبحانه أولا، و محكوم بأحدهما آن كونه جنينا في بطن أمّه، و هذا يكشف عن أنّ الشقاء و السعادة ذاتيان، فكيف يمكن الحكم بالاختيار معهما.

أما الأول: أي كون كل واحد مكتوبا بأحد الوصفين في علمه الأزلي، فيستظهر من قوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِ لاٰ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ * فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّٰارِ لَهُمْ فِيهٰا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ * خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ * وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (1).

قال الرازي في تفسير الآية: اعلم أنّه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد، و على بعضهم بأنّه شقي، و من حكم اللّه عليه بحكم و علم فيه ذلك الأمر، امتنع كونه بخلافه، و إلاّ لزم أن يصير خبر اللّه تعالى

ص: 371


1- سورة هود: الآيات 105-108.

كذبا، و علمه جهلا و ذلك محال. فثبت أنّ السعيد لا ينقلب شقيا و أنّ الشقي لا ينقلب سعيدا». ثم استشهد لكلامه بما روي عن عمر أنّه قال:

«لما نزل قوله تعالى فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ قلت: يا رسول اللّه فعلى ما ذا نعمل ؟ على شيء قد فرغ منه، أم على شيء لم يفرغ منه، فقال: على شيء قد فرغ منه يا عمر، و جفّت به الأقلام، و جرت به الأقدار، و لكن كل ميسّر لما خلق له». قال: و قالت المعتزلة: نقل عن الحسن أنّه قال:

فمنهم شقي بعمله و سعيد بعمله. قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات و أيضا فلا نزاع أنّه إنما شقي بعمله و إنما سعد بعمله. و لكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء اللّه و قدره، كان الدليل الذي ذكرناه باقيا»(1). فقد استفاد الرازي من الآية أنّ السعادة و الشقاء من الأمور الذاتية للموصوف بهما حتى قال إنّ السعيد لا ينقلب شقيا.

و أمّا الثاني: فقد روى المحدثون عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «الشّقيّ من شقي في بطن أمّه. و السعيد من سعد في بطن أمّه»(2).

تحليل الشقاوة و السعادة في الآية و الحديث
اشارة

إنّ البحث في هذا المجال يتم في ضمن جهات:

الجهة الأولى - في تقسيم الناس إلى شقي و سعيد.

إنّ الناظر في الآيات الماضية لا يدرك سوى أنّ هناك جماعة متصفون بالسعادة و أخرى بالشقاوة، و أمّا كونهما ذاتيين لموصوفيهما أو ثابتين بإرادة أزلية لا يتخلف مرادها عنها، أو يثبتان لهما عن اكتساب و عمل مع كون الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتيهما، فلا نظر في الآيات إلى شيء

ص: 372


1- تفسير «مفاتيح الغيب» للرازي، ج 5، ص 93، الطبعة الأولى 1308 ه.
2- التوحيد باب السعادة و الشقاوة، الحديث 3، ص 356.

من ذلك، لو لم نقل إنها إلى الثالثة أقرب. لأن الآيات واقعة في سياق الدعوة إلى الإيمان و الندب إلى الطاعة و ترك المعصية، فيدل على تيسير سبيل الوصول إلى كل واحد منهما. قال سبحانه: ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ (1). و بذلك يظهر أنّ القول بدلالة الآيات على الذاتيين منهما، قول بلا دليل.

و أمّا ما اعتمد عليه الرازي من قوله: «إنّه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد و على بعضهم بأنّه شقي»، و أسماه دليلا قاطعا، فهو بالمغالطة أشبه منه بالدليل. و ذلك لأنّه أخذ زمان الحكم زمانا لنتيجته و أثره، فالحكم منه سبحانه و إن كان في زمن نزول الآية لكن زمان الاتصاف هو يوم القيامة، فكيف قال إنّه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد (فعلا) و على بعضهم بأنّه شقي (كذلك)، و إنما حكمت الآية في زمن النزول بأنّ الناس يتصفون في المستقبل بأحدهما لا في زمان الحكم القائم بالحاكم. فاستفادة كون الأشخاص سعداء أو أشقياء بالفعل و في زمن نزول الآية ناشئ عن الخلط بين زماني الحكم و الاتصاف، فالحكم فعلي و الاتصاف استقبالي. فعندئذ لا تدل على ما يتبناه من كون السعادة أو الشقاء حليف الإنسان و أليفه في الدنيا، و أنه بالفعل من زمن طفولته إلى كهولته و هرمه، محكوم بأحد الحكمين.

و أما إرادته سبحانه أو علمه الأزلي، فلا شك في عمومهما لكل حادثة و ظاهرة، و من المعلوم أنّه لا يتطرق التغير إليهما و إلاّ عاد جهلا. و لكنّ سبق تلك الإرادة و العلم لا يستلزم الجبر لو لم نقل إنّه يؤكد الاختيار، لما علمت من أنهما لم يتعلقا بصدور الفعل مجردا عن مباديهما و الخصوصيات المكتنفة بهما، و إنما تعلقا على أن يصدر كل منهما من الإنسان بالخصوصيات الموجودة فيه، و منها الاختيار. فقد تعلقت إرادته و قضى بعلمه سبحانه على

ص: 373


1- سورة عبس: الآية 20.

اتصاف صنف بالسعادة و صنف آخر بالشقاء من خلال اختيارهما أحد الأمرين.

قال العلاّمة الطباطبائي: «لو تعلق علمه تعالى مثلا بأن خشبة كذا ستحترق بالنار، لا يوجب ذلك العلم وجوب تحقق الاحتراق مطلقا، سواء أ كانت هناك نار أم لم تكن إذ لم يتحقق علم بهذه الصفة، و إنما يوجب وجوب تحقق الاحتراق المقيّد بالنار لأنّه الذي تعلق به العلم الحق، و كذا علمه تعالى بأنّ الإنسان سيعمل بإرادته و اختياره عملا أو سيشقى في ظل عمل اختياري، يوجب وجوب تحقق العمل من طريق اختيار الإنسان لا وجوب تحقق عمل كذا سواء أ كان هناك اختيار أو لم يكن، كان هناك إنسان أو لم يكن، حتى تنقطع به رابطة التأثير بين الإنسان و عمله، و نظيره علمه سبحانه بأن إنسانا كذا، سيشقى بكفره اختيارا يستوجب تحقق الشقوة التي هي نتيجة الكفر الاختياري دون الشقوة مطلقة سواء أ كان هناك كفر أو لا، و سواء أ كان هناك اختيارا أو لا»(1).

و أما الرواية التي استشهد بها الرازي فقد أوعزنا عند البحث عن القضاء و القدر إلى أنها أشبه بالإسرائيليات منها بالإسلاميات. و القرآن ينص على عدم الفراغ من العلم، قال سبحانه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (2). و قال سبحانه: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ (3). على أنّه يمكن توجيه قوله (عليه السّلام): «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له»، بأن المراد من الموصول في قوله: «لما خلق له»، هو معرفة اللّه سبحانه و عبادته، لا الكفر به و إنكاره قال سبحانه: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (4). فإذا كانت الغاية من الخلقة هي العبادة، يكون كلام الرسول «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له»، ناظرا إلى هذه الغاية فقط، لا

ص: 374


1- الميزان، ج 11، ص 21.
2- سورة الرحمن: الآية 29.
3- سورة الرعد: الآية 39.
4- سورة الذاريات: الآية 56.

إلى السعادة و الشقاء و يؤيد ذلك ما ورد في بعض الروايات أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) قرأ قوله: فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اِتَّقىٰ * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ (1). و قد ورد هذا التفسير في كلام الإمام الطاهر موسى بن جعفر حيث يقول بعد ما سئل عن قول رسول اللّه: «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له»: إنّ اللّه عز و جل خلق الجن و الإنس ليعبدوه و لم يخلقهم ليعصوه و ذلك قوله عز و جل: وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ ، فيسّر كلاّ لما خلق له، فالويل لمن استحب العمى على الهدى»(2).

نعم حاول العلاّمة الطباطبائي تصحيح الرواية بوجه خاص، فمن أراد الاطّلاع عليه فليرجع إلى كلامه(3).

الجهة الثانية - في معنى الرواية المروية عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله)

إنّ السعادة و الشقاء من المفاهيم الواضحة و لا يحتاجان إلى التفسير و لكنهما يتشعبان و يختلفان حسب اختلاف متعلقهما فسعادة كل شيء أن ينال ما لوجوده من الخير الذي يكمل بسببه، فهي في الإنسان - و هو مركب من روح و بدن - أن ينال الخير حسب قواه الجسمانية و الروحية فيتنعم به و يلتذ، و شقاؤه أن يفقد ذلك و يحرم منه. و على ضوء ذلك فالإنسان من حيث الصحة و السقم ينقسم إلى سعيد و شقي، و من حيث الغنى و الفقر في حوائج الحياة يتصف بأحدهما، كما هو كذلك إذا قيس إلى الزوجة و الرفيق و غير ذلك من ملابسات الإنسان، فيوصف بأنّه سعيد من هذه الجهة أو شقي و على ذلك فليس معنى السعيد على الإطلاق الخالد في الجنّة، و الشقي الخالد في النار، و إنما هما من أقسامهما و مصاديقهما. نعم، المراد منهما في الآية المتقدمة هو ذاك بشهادة قوله سبحانه: فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّٰارِ و أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ . و لكنه معلوم من سياق

ص: 375


1- سورة الليل: الآيات 5-7.
2- التوحيد، باب السعادة و الشقاء، الحديث الثالث.
3- الميزان، ج 11، ص 37-38.

الآية، لا أنّهما موضوعان للسعيد و الشقي في الآخرة ليس غير.

و على ضوء ذلك فالخبر المروي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ليس إلاّ قوله: «الشقي من شقي في بطن أمّه و السعيد من سعد في بطن أمّه»، و هو كلام مطلق لا قرينة فيه على أنّ المراد منه هو القسم الوارد في الآيات الكريمة، بل يمكن أن يقال إنّ المراد منه هو السعادة و الشقاء من حيث الخلقة و المزاج بقرينة قوله: «في بطن أمّه». فمن المحتمل إذا صحّ سند الحديث و ثبت صدوره من النبي أن يكون المراد إنّ الإنسان في بطن أمه على صنفين: شقي و سعيد.

فالجنين المتكون من نطفة و بويضة لأبوين سالمين روحا و جسما يتصف بالسعادة في بطن أمه و ترافقه في حياته الدنيوية، و هذا بخلاف الجنين المتكوّن من نطفة و بويضة لأبوين عليلين و مريضين جسما و روحا، فهو من هذا الآن محكوم بالشقاء، و إذا تولد رافقه إلى آخر عمره إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ .

فالرواية لا صلة لها بالسعادة و الشقاء الأخرويين. و بالنتيجة لا ترتبط ببحث الجبر و الاختيار، و إنما حملوها عليهما لأجل كون السعادة و الشقاء في الآية راجعين إلى الحياة الأخروية، و لكنه ليس بدليل.

نعم روى الصدوق عن محمد بن أبي عمير (م 217) قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السّلام) عن معنى قول رسول اللّه:

«الشقي من شقي في بطن أمّه و السعيد من سعد في بطن أمّه». فقال: «الشقي من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء. و السعيد من علم اللّه و هو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال السعداء»(1).

ص: 376


1- التوحيد باب السعادة و الشقاوة، الحديث 3، ص 356.
الجهة الثالثة - في تحليل السعادة و الشقاء من حيث الذاتية و الاكتسابية

الذاتي قد يطلق و يراد منه ذاتي باب «الإيساغوجي»(1). و أخرى يراد منه ذاتي باب «البرهان». أما الأول فالمراد منه ما لا يكون خارجا عن ذات الشيء و يقابله العرضي، فالجنس و الفصل و النوع ذاتيات بهذا المعنى و العرض الخاص و العام عرضيان بالنسبة إليها، و ذلك واضح لا يحتاج إلى البيان، فالحيوانية و الناطقية و الإنسانية تعدّ ذاتيات بالنسبة إلى كل فرد من أفراد الإنسان، و التعجب و المشي عرضيان بالنسبة إليه.

و أما الثاني، أعني ذاتي باب البرهان، فالمراد منه ما لا يكون جنسا و لا فصلا و لا نوعا، و لكنه ينتزع من نفس ذات الشيء و فرض حصوله في ظرف من الظروف من دون حاجة إلى ضم ضميمة خارجية إليه، بل يكفي وضع الموضوع في وضع المحمول. و هذا كالإمكان بالنسبة إلى ماهية الإنسان، و الزوجية بالنسبة إلى الأربعة. ففرض الإنسان في أي ظرف من الظروف، ذهنا كان أو خارجا، يصحح انتزاع الإمكان منه و حمله عليه، كما أنّ فرض الأربعة بالنسبة إلى الزوجية كذلك. فالإمكان و الزوجية ليسا جنسين و لا فصلين و لا نوعين بالنسبة إليهما، و لكن يكفي فرض الموضوع في فرض المحمول من دون حاجة إلى انضمام شيء و حيثية إلى جانب الإنسان أو الأربعة. فيطلق على كل واحد تارة «ذاتي باب البرهان» و أخرى «المحمول بالصميمة».

و يقابله ما لا يكون كذلك، أي يحتاج في توصيف الشيء به و حمله عليه إلى انضمام شيء إلى الموصوف حتى يصحّ في ضوئه حمله عليه، و ذلك كحمل الأبيض على الجسم فإن توصيفه به يتوقف على انضمام عرض كالبياض إليه و إلاّ ففرض الجسم في ظرف من الظروف لا يصحح الحمل كما لا يصحح اتصاف الجسم به. و مثله حمل الوجود على الماهية و اتصافها

ص: 377


1- الإيساغوجي في مصطلح المنطقيين اليونانيين يعادل «الكليّات الخمس» في مصطلح منطق الإسلاميين.

به، فإن فرضها بما هي هي، لا يكفي في اتصافها به بل يحتاج إلى ضم حيثية إلى الماهية تخرجها من حالة التساوي إلى أحد الجانبين. و هذه الحيثية هي الحيثية العلّية، و لولاها لما صح حمل الموجود عليها، فيطلق على البياض المنضم إلى الجسم «حيثية تقييدية»، كما يطلق على العلّة المخرجة للماهية من كتم العدم إلى الوجود «حيثية علية».

و لذلك اشتهر في كلامهم أنّ الذاتي في باب البرهان ما لا يحتاج في الحمل و الاتصاف إلى إحدى الحيثيتين، و غيره يتوقف صحة الحمل و الاتصاف فيه على ضم إحداهما(1).

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه لا يصحّ توصيف السعادة و لا الشقاء بالذاتي بكلا المعنيين.

أمّا الأول، فإن السعادة و الشقاء ليسا من مقولة الجنس و لا الفصل و لا النوع بالنسبة إلى الفرد المحكوم بأحدهما، و ذلك واضح لا يحتاج إلى بيان.

و أمّا الثاني، أعني «ذاتي باب البرهان» فقد عرفت أنّه عبارة عن الخارج عن ماهية الشيء (ليس جنسا و لا فصلا و لا نوعا) و لكن يحمل عليه بلا ضم ضميمة. و لكنهما ليسا كذلك إذ لا يكفي فرض فرد من الإنسان في اتصافه بأحدهما، بل يحتاج إلى ضم ضميمة إلى جانبه ككونه ذا عقائد حقّة و أعمال صالحة، أو ما يقابلها من العقائد الباطلة و الأعمال الطالحة، فيصحّ أن يطلق أنّه سعيد أو شقي، و في ضوء ذلك يجب أن يقال: إنّ السعادة و الشقاء من الأمور العرضية التي يكتسبها الإنسان في مدّة حياته.

و إن أريد أنّ مباديهما و مناشئهما من الأمور الذاتية التي تنتقل إلى

ص: 378


1- و إلى هذا التقسيم يشير الحكيم السبزواري في منظومته بقوله: و الخارج المحمول من صميمه يغاير المحمول بالضّميمة كذلك الذاتيّ بذا المكان ليس هو الذاتي في البرهاني

الإنسان بالوراثة و الثقافة و البيئة، فإن ما تتركه هذه الأمور من الآثار بما أنها خارجة عن اختيار الإنسان يطلق عليها الذاتي. فقد عرفت أنّ تأثير كل واحد من هذه العوامل الثلاث تأثير اقتضائي غير مفروض على الإنسان، بل فوقه حرية الإنسان و اختياره، فله أن يزيل ما تركته و فرضته هذه العوامل بقوة و شدة. و قد اشبعنا الكلام في ذلك فيما مضى فلاحظ.

أضف إلى ذلك: إنّ كثيرا من الملكات الصالحة أو الطالحة لا تحصل في الإنسان إلاّ بتكرار العمل، فالشرير الذي يسهل عليه قتل الأبرياء، لم يكن يوم ولد بهذه الدرجة من الجناية و إنما أوجد تكرار العمل تلك الدرجة الخاصة التي يكون قتل الإنسان و قتل البق عنده سواء. و هذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أنّ الملكات الصالحة أو الخبيثة التي يعبّر عنها بالسّعادة و الشقاء، الباعثة إلى الأعمال المناسبة لها، إنما يكتسبها الإنسان عن طريق تكرار العمل و مع ذلك فكيف تعد تلك الملكات أمورا ذاتية.

تقسيم الإنسان إلى شقيّ و سعيد

إنّه سبحانه يقسم مجموع الإنسان إلى شقي و سعيد حيث يقول:

يَوْمَ يَأْتِ لاٰ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ (1) . و لكنها لا تدل على أنّ الشقاء و السعادة من الأمور الذاتية اللاّزمة للإنسان لما عرفت من أنّ ظرف الحكم هو الدنيا و لكن ظرف الاتصاف في الآخرة. فاتصاف كل واحد بأحد الأوصاف لأجل الأعمال التي ارتكبها في حياته الدنيوية أو العقائد الباطلة التي اتصف بها فيها، و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يرتب على كون الإنسان شقيا بأنّ له في الحياة الأخروية، زفير و شهيق، و على السعيد بأن له الجنة(2).

و هذا يعرب عن أنّ الزفير و الشهيق أو النعمة و الجنة من آثار الشقاء و السعادة كما أنهما من آثار تكذيب الأنبياء أو قبول دعوتهم إلى غير ذلك من

ص: 379


1- سورة هود: الآية 105.
2- سورة هود: الآيتان 106 و 107.

الأعمال التي توجب الشقاء و السعادة، و يدلّك على ذلك قوله سبحانه في الآية المتقدمة: وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ وَ لٰكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمٰا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ اَلَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ مٰا زٰادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (1).

و بذلك يظهر ضعف ما اعتمد عليه المحقق الخراساني في معالجة مسألة العقاب حيث قال: «العقاب إنما يتبع الكفر و العصيان التابعين للاختيار (الإرادة) الناشئ عن مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية، اللازمة لخصوص ذاتهما، فإنّ السعيد سعيد في بطن أمه، و الشقي شقي في بطن أمّه»(2).

كيف و قد دلّت التجارب العلمية على أنّ كثيرا من الملكات و الصفات يكتسبها الإنسان على مدى حياته بممارسة الأعمال و الأفعال، و إلاّ فالإنسان يخلق على الفطرة الصحيحة السالمة قال سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (3)، فالآية تفسّر الدين الذي يجب التوجه إليه بقوله: فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا . و «الفطرة» بمعنى الخلقة بقرينة قوله سبحانه: لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ . و تشير الجملة إلى أنّ الذي يجب التوجّه إليه (لقوله فأقم وجهك للدين حنيفا) هو مما جبل الإنسان عليه، فإصغاؤه لدعوة الدين تلبية لنداء الفطرة، و من خلق على فطرة الدين كيف يكون شقيا بالذات ؟

تحليل لآية أخرى

ربما يتمسك في إثبات الشقاء الذاتي بقوله سبحانه، حاكيا عن

ص: 380


1- سورة هود: الآية 101.
2- كفاية الأصول، ج 1، بحث اتحاد الطلب و الإرادة، ص 100.
3- سورة الروم: الآية 30.

المجرمين يوم القيامة: قٰالُوا رَبَّنٰا غَلَبَتْ عَلَيْنٰا شِقْوَتُنٰا وَ كُنّٰا قَوْماً ضٰالِّينَ * رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا مِنْهٰا فَإِنْ عُدْنٰا فَإِنّٰا ظٰالِمُونَ (1). فيستظهر من إضافة الشقوة إلى أنفسهم أنّ شقاء المجرمين كان أمرا نابعا من ذواتهم، و لكنه ظهور بدوي يزال عن الذهن بعد التدقيق في مفاد الآيتين إذ لقائل أن يقول إنّ في إضافة الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أنّ لهم صنعا في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم، و الدليل على ذلك قولهم: رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا مِنْهٰا فَإِنْ عُدْنٰا فَإِنّٰا ظٰالِمُونَ . إذ هو وعد منهم بالإتيان بالحسنات بعد الخروج من النار، فلو لم تكن الشقوة مكتسبة لهم بالإرادة و الاختيار لم يكن للوعد معنى، لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبله. و هذا يدل على أنّ المجرمين كانوا واقفين على أنّ السعادة و الشقاء بأيديهم، فقد اكتسبوا الشقاء بسوء الاختيار. فلما رأوا نتيجة أعمالهم، صاروا يعدونه سبحانه بأنهم إن خرجوا يكتسبون السعادة بصالح أعمالهم.

على أنّ الاستدلال بكلام المجرمين في يوم القيامة، بكون الشقاء ذاتيا، غير تام جدا، مع دلالة الآيات على أنهم يكذبون يومئذ، و ينكرون أشياء مع ظهور الحق و معاينته، لاستقرار ملكة الكذب و الإنكار في نفوسهم. قال تعالى: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اَللّٰهِ قٰالُوا ضَلُّوا عَنّٰا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً (2). و قال سبحانه: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا وَ اَللّٰهِ رَبِّنٰا مٰا كُنّٰا مُشْرِكِينَ (3). فإذا كان المجرم يكذب على اللّه سبحانه بهذا النحو، فلا عتب عليه أن يسند ضلالته إلى شقوته تبرئة لنفسه.

و نختم البحث برواية الصدوق في (الأمالي) عن علي (عليه السّلام) أنّه قال: «حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة، و حقيقة الشقاء أن

ص: 381


1- سورة المؤمنون: الآيتان 106-107.
2- سورة غافر: الآيتان 73 و 74.
3- سورة الأنعام: الآية 23.

يختم المرء عمله بالشقاء»(1).

ثم إنّ العلاّمة الطباطبائي (ره) طرح البحث عن الروايات الواردة حول الشقاء و السعادة في تفسيره عند البحث عن قوله سبحانه: كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (2). فمن أراد الوقوف على مضامين هذه الروايات و علاج اختلافها فعليه أن يرجع إليه(3).

ص: 382


1- بحار الأنوار، ج 5، باب السعادة و الشقاء، ص 154، الحديث 5. و في هذا الباب روايات لا توافق محكمات القرآن و الأحاديث فلا بد من التوجيه إن صحّت أسنادها.
2- سورة الأعراف: الآية 29.
3- الميزان، ج 8، ص 95-109.

السؤال الثالث انتهاء الأمور إلى الإرادة الأزلية

اشارة

لا شك أنّ ما يوجد في الكون عن طريق الأسباب و العلل تنتهي تأثيراتها إلى الإرادة الأزلية، فهي المؤثر التام لما يوجد في الكون، فيكون الوجود الإمكاني معلولا لها، و واجبا بوجودها، و مع ذلك كيف يمكن أن يتصف بعض الوجود الإمكاني كأفعال الإنسان بالاختيار، و هذا ما اعتمد عليه المحقق الخراساني في بحث اتحاد الطلب و الإرادة و قال:

«إنّ الكفر و العصيان من الكافر و العاصي، و لو كانا مسبوقين بإرادتهما، إلاّ أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار. كيف، و قد سبقتهما الإرادة الأزلية و المشيئة الإلهية. و معه كيف تصح المؤاخذة على ما لا يكون أخيرا بلا اختيار»(1).

تحليل الإشكال

إنّ ما ذكر يتحد جوهرا مع ما مرّ في أدلّة الأشاعرة على الجبر و لكن التقرير مختلف، فإن مبدأ الإشكال هناك أنّ فعل العبد متعلق بمشيئته تعالى

ص: 383


1- كفاية الأصول، ج 1، ص 100.

و ما هو كذلك يكون متحققا إلزاما، فكيف يوصف بالاختيار.

و مبدأ الإشكال هنا هو أنّ مجموع الوجود الإمكاني معلول لوجود الواجب و إرادته، فإرادته سبحانه هي العلّة التامة لما سواه و معه كيف يتصف بعض الوجود الإمكاني كأفعال الإنسان بالاختيار؟. فالإشكالان متحدان جوهرا، مختلفان صورة و صياغة.

و لكن الجواب عن كلا الإشكالين، واحد، و لكي يكون الجواب مناسبا لهذا التقرير نقول:

إن فعل الإنسان إنما يتصف بالوجوب إذا نسب إلى جميع أجزاء العلّة التّامة المنتهية إلى الواجب و إرادته، و منها اختيار الإنسان و إرادته فإذا لوحظ الفعل بالنسبة إلى جميع أجزاء العلّة التامة يوصف بالوجوب، و هذا مما لا كلام فيه. إلاّ أنّ الكلام ملاحظة الفعل قبل اجتماع أجزاء العلّة التّامّة كالإنسان قبل أن يريد، فلا يوصف الفعل في هذه الحالة إلاّ بالإمكان، و بما أن ذات الإنسان و إرادته من أجزاء العلة أولا، و بما أنّ الإنسان فاعل مختار بالذات في إيجاد الجزء الأخير من العلّة التامة - أعني الإرادة - فلا يكون الفعل بالنسبة إليه فعلا إيجابيا، بل زمام الفعل بيده، فله أن يوجد الإرادة و له أن يترك، و قد تعلقت إرادته على اختياره أحد الطرفين باختيار ذاتي.

و بذلك يظهر أنّ نسبة الفعل تختلف حسب اختلاف المنسوب إليه، فلو نسب الفعل إلى مجموع أجزاء العلّة التّامّة من الواجب سبحانه إلى إرادة العبد فالفعل متصف بالوجوب.

و إن نسب إلى نفس الباري سبحانه مع حذف الوسائط و العلل فالنسبة تنقلب إلى الإمكان لعدم وجود العلّة التامة. كيف، و قد تعلقت مشيئته على صدور الفعل عن طريق العلل و الأسباب.

و إن لوحظ الفعل بالنسبة إلى نفس الإنسان بما أنّه فاعل مختار بالذات في إيجاد الإرادة في ضميره و عدمه، فالفعل فعل إمكاني، اختياري.

ص: 384

نعم، بعد ما أوجد الجزء الأخير من العلّة - أعني الإرادة - يتّصف الفعل بالوجوب و لكن لا يخرج عن كونه فعلا اختياريا للإنسان، لأن الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار.

و كأنّ الإشكال نسج على منهج الأشعري القائل بعلة واحدة - أعني الواجب - و قيامه مكان جميع العلل، و قد عرفت بطلانه.

ص: 385

ص: 386

السؤال الرابع ما معنى كون الهداية و الضلالة بيده سبحانه ؟

اشارة

دلّت الآيات القرآنية على أنّ الهداية و الضلالة بيده سبحانه، فهو يضل من يشاء و يهدي من يشاء. فإذا كان أمر الهداية مرتبطا بمشيئته، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية و لا في الضلالة، فالضال يعصي بلا اختيار، و المهتدي يطيع كذلك و هذا بالجبر، أشبه منه بالاختيار.

قال سبحانه: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (1).

و قال سبحانه: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً ، وَ لٰكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمّٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (2).

و قال سبحانه: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اَللّٰهَ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ (3).

ص: 387


1- سورة إبراهيم: الآية 4.
2- سورة النحل: الآية 93.
3- سورة فاطر: الآية 8.

إلى غير ذلك من الآيات المخصصة للهداية و الإضلال باللّه تعالى.

أمّا الجواب: فإن تحليل أمر الهداية و الضلالة الذي ورد في القرآن الكريم من المسائل الدقيقة المتشعبة الأبحاث و لا يقف على المحصل من الآيات إلاّ من فسّرها عن طريق التفسير الموضوعي، بمعنى جمع كل ما ورد في هذين المجالين في مقام واحد، ثم تفسير المجموع باتخاذ البعض قرينة على البعض الآخر. و بما أنّ هذا الطراز من البحث لا يناسب وضع الكتاب، نكتفي بما تمسك به الجبريون في المقام من الآيات لإثبات الجبر، و بتفسيرها و تحليلها يسقط أهم ما تسلحوا به من العصور الأولى.

حقيقة الجواب تتضح في التفريق بين الهداية العامة التي عليها تبتنى مسألة الجبر و الاختيار، و الهداية الخاصة التي لا تمت إلى هذه المسألة بصلة.

الهداية العامّة
اشارة

الهداية العامة من اللّه سبحانه تعمّ كل الموجودات عاقلها و غير عاقلها، و هي على قسمين:

أ - الهداية العامة التكوينية،

و المراد منها خلق كل شيء و تجهيزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها: قال سبحانه حاكيا كلام النبي موسى (عليه السّلام): رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ (1). و جهّز كل موجود بجهاز يوصله إلى الكمال، فالنبات مجهز بأدقّ الأجهزة التي توصله في ظروف خاصة إلى تفتح طاقاته؛ فالحبّة المستورة تحت الأرض ترعاها أجهزة داخلية و عوامل خارجية كالماء و النور إلى أن تصير شجرة مثمرة معطاءة. و مثله الحيوان و الإنسان، فهذه الهداية عامة لجميع الأشياء ليس فيها تبعيض و تمييز.

ص: 388


1- سورة طه: الآية 50.

قال سبحانه: سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى * اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰى * وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ (1).

و قال سبحانه: أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَ لِسٰاناً وَ شَفَتَيْنِ * وَ هَدَيْنٰاهُ اَلنَّجْدَيْنِ (2).

و قال سبحانه: وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا * فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا (3).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول الهداية التكوينية التي ترجع حقيقتها إلى الهداية النابعة من حاق ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من الأجهزة و الإلهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة و الطريق المهيع، من غير فرق بين المؤمن و الكافر. قال سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (4).

فهذا الفيض الإلهي الذي يأخذ بيد كل ممكن في النظام، عام لا يختص بموجود دون موجود، غير أن كيفية الهداية و الأجهزة الهادية لكل موجود تختلف حسب اختلاف درجات وجوده. و قد أسماه سبحانه في بعض الموجودات «الوحي» و قال: وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّٰا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (5).

و من الهداية التكوينية في الإنسان العقل الموهوب له، المرشد له إلى

ص: 389


1- سورة الأعلى: الآيات 1-3.
2- سورة البلد: الآيات 8-10.
3- سورة الشمس: الآيتان 7 و 8.
4- سورة الروم: الآية 30.
5- سورة النحل: الآيتان 68 و 69.

معالم الخير و الصلاح، و ما ورد في الذكر الحكيم من الآيات الحاثّة على التعقل و التفكر و التدبر خير دليل على وجود هذه الهداية العامة في أفراد الإنسان و إنّ كان قسم منه لا يستضيء بنور العقل و لا يهتدي بالتّفكّر و التّدبّر.

ب - الهداية العامّة التّشريعية:

إذا كانت الهداية التكوينية العامة أمرا نابعا من ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من أجهزة تسوقه إلى الخير و الكمال، فالهداية التشريعية العامة عبارة عن الهداية الشاملة للموجود العاقل المدرك، المفاضة عليه بتوسط عوامل خارجة عن ذاته، و ذلك كالأنبياء و الرسل و الكتب السماوية و أوصياء الرسل و خلفائهم و العلماء و المصلحين و غير ذلك من أدوات الهداية التشريعية العامة التي تعمّ جميع المكلفين. قال سبحانه:

وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّٰ خَلاٰ فِيهٰا نَذِيرٌ (1) .

و قال سبحانه: لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْمِيزٰانَ لِيَقُومَ اَلنّٰاسُ بِالْقِسْطِ (2).

و قال سبحانه: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ (3).

و قال سبحانه: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ إِلاّٰ رِجٰالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ (4). و أهل الذكر في المجتمع اليهودي هم الأحبار، و المجتمع المسيحي هم الرهبان.

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في القرآن الكريم التي تشير إلى أنّه سبحانه هدى الإنسان ببعث الرسل، و إنزال الكتب، و دعوته إلى إطاعة أولي الأمر و الرجوع إلى أهل الذكر.

ص: 390


1- سورة فاطر: الآية 24.
2- سورة الحديد: الآية 25.
3- سورة النساء: الآية 59.
4- سورة الأنبياء: الآية 7.

قال سبحانه مصرّحا بأنّ النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله) هو الهادي لجميع أمته: وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (1).

و قال سبحانه في هداية القرآن إلى الطريق الأقوم: إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (2).

هذا، و إن مقتضى الحكمة الإلهية أن يعمّ هذا القسم من الهداية العامة جميع البشر، و لا يختص بجيل دون جيل و لا طائفة دون طائفة.

و الهداية العامة بكلا قسميها في مورد الإنسان، ملاك الجبر و الاختيار فلو عمّت هدايته التكوينية و التشريعية في خصوص الإنسان كل فرد منه، لارتفع الجبر، و ساد الاختيار، لأنّ لكل إنسان أن يهتدي بعقله و ما حفّه سبحانه به من عوامل الهداية من الأنبياء و الرسل و المزامير و الكتب و غير ذلك.

و لو كانت الهداية المذكورة خاصة بأناس دون آخرين، و أنّه سبحانه هدى أمة و لم يهد أخرى، لكان لتوهم الجبر مجال و هو وهم واه، كيف و قد قال سبحانه: وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً (3) و قال سبحانه:

وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىٰ حَتّٰى يَبْعَثَ فِي أُمِّهٰا رَسُولاً (4) . و غير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنّ نزول العذاب كان بعد بعث الرسول و شمول الهداية العامّة للمعذبين و الهالكين، و بالتالي يدلّ على أنّ من لم تبلغه تلك الهداية لا يكون مسئولا إلاّ بمقدار ما يدلّ عليه عقله و يرشده إليه لبّه.

الهداية الخاصّة

و هناك هداية خاصة تختص بجملة من الأفراد الذين استضاءوا بنور

ص: 391


1- سورة الشورى: الآية 52.
2- سورة الإسراء: الآية 9.
3- سورة الإسراء: الآية 15.
4- سورة القصص: الآية 59.

الهداية العامة تكوينها و تشريعها، فيقعون موردا للعناية الخاصة منه سبحانه.

و معنى هذه الهداية هو تسديدهم في مزالق الحياة إلى سبل النجاة، و توفيقهم للتزود بصالح الأعمال، و يكون معنى الإضلال في هذه المرحلة هو منعهم من هذه المواهب، و خذلانهم في الحياة، و يدلّ على ذلك (أنّ هذه الهداية خاصة لمن استفاد من الهداية الأولى)، قوله سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنٰابَ (1). فعلّق الهداية على من اتصف بالإنابة و التوجّه إلى اللّه سبحانه.

و قال سبحانه: اَللّٰهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (2).

و قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا، وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ (3). فمن أراد وجه اللّه سبحانه يمده بالهداية إلى سبله.

و قال سبحانه: وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زٰادَهُمْ هُدىً (4).

و قال سبحانه: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْنٰاهُمْ هُدىً * وَ رَبَطْنٰا عَلىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قٰامُوا فَقٰالُوا رَبُّنٰا رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلٰهاً لَقَدْ قُلْنٰا إِذاً شَطَطاً (5).

و كما أنّه علق الهداية هنا على من جعل نفسه في مهب العناية الخاصّة، علّق الضلالة في كثير من الآيات على صفات تشعر باستحقاقه الضلال و الحرمان من الهداية الخاصة.

قال سبحانه: وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ (6).

ص: 392


1- سورة الرعد: الآية 27.
2- سورة الشورى: الآية 13.
3- سورة العنكبوت: الآية 69.
4- سورة محمد: الآية 17.
5- سورة الكهف: الآيتان 13 و 14.
6- سورة الجمعة: الآية 5.

و قال سبحانه: وَ يُضِلُّ اَللّٰهُ اَلظّٰالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ (1).

و قال سبحانه: وَ مٰا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفٰاسِقِينَ (2).

و قال سبحانه: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللّٰهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاٰ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاّٰ طَرِيقَ جَهَنَّمَ (3).

و قال سبحانه: فَلَمّٰا زٰاغُوا أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ (4).

فالمراد من الإضلال هو عدم الهداية لأجل عدم استحقاق العناية و التوفيق الخاص، لأنهم كانوا ظالمين و فاسقين. كافرين و منحرفين عن الحق. و بالمراجعة إلى الآيات الواردة حول الهداية و الضلالة يظهر أنّه سبحانه لم ينسب في كلامه إلى نفسه إضلالا إلاّ ما كان مسبوقا بظلم من العبد أو فسق أو كفر أو تكذيب و نظائرها التي استوجبت قطع العناية الخاصة و حرمانه منها.

إذا عرفت ما ذكرنا، تقف على أنّ الهداية العامة التي بها تناط مسألة الجبر و الاختيار، عامة شاملة لجميع الأفراد، ففي وسع كل إنسان أن يهتدي بهداها. و أمّا الهداية الخاصة و العناية الزائدة فتختص بطائفة المنيبين و المستفيدين من الهداية الأولى. فما جاء في كلام المستدل من الآيات من تعليق الهداية و الضلالة على مشيئته سبحانه ناظر إلى القسم الثاني لا الأول.

أما القسم الأول فلأن المشيئة الإلهية تعلقت على عمومها بكل مكلف بل بكل إنسان، و أما الهداية فقد تعلقت مشيئته بشمولها لصنف دون صنف و لم تكن مشيئته، مشيئة جزافية، بل الملاك في شمولها لصنف خاص هو

ص: 393


1- سورة إبراهيم: الآية 27.
2- سورة البقرة: الآية 26.
3- سورة النساء: الآيتان 168 و 169.
4- سورة الصف: الآية 5.

قابليته لأن تنزل عليه تلك الهداية، لأنّه قد استفاد من كل من الهداية التكوينية و التشريعية العامتين، فاستحق بذلك العناية الزائدة.

كما أنّ عدم شمولها لصنف خاص ما هو إلاّ لأجل اتصافهم بصفات رديئة لا يستحقون معها تلك العناية الزائدة.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه بعد ما يقول: فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ ، يذيله بقوله: وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (1)، مشعرا بأنّ الإضلال و الهداية كانا على وفاق الحكمة، فهذا استحق الإضلال و ذاك استحق الهداية.

بقي هنا سؤال، و هو أنّ هناك جملة من الآيات تعرب عن عدم تعلق مشيئته سبحانه بهداية الكل، قال سبحانه: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدىٰ فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ (2).

و قال سبحانه: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا أَشْرَكُوا وَ مٰا جَعَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (3).

و قال سبحانه: وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً (4).

و قال سبحانه: وَ عَلَى اَللّٰهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْهٰا جٰائِرٌ وَ لَوْ شٰاءَ لَهَدٰاكُمْ أَجْمَعِينَ (5).

و قال سبحانه: وَ لَوْ شِئْنٰا لَآتَيْنٰا كُلَّ نَفْسٍ هُدٰاهٰا (6).

ص: 394


1- سورة إبراهيم: الآية 4.
2- سورة الأنعام: الآية 35.
3- سورة الأنعام: الآية 107.
4- سورة يونس: الآية 99.
5- سورة النحل: الآية 9.
6- سورة السجدة: الآية 13.

و الجواب: إنّ هذه الآيات ناظرة إلى الهداية الجبرية بحيث تسلب عن الإنسان الاختيار و الحرية فلا يقدر على الطرف المقابل. و لما كان مثل هذه الهداية الخارجة عن الاختيار، منافيا لحكمته سبحانه، و لا يوجب رفع منزلة الإنسان، نفى تعلّق مشيئته بها، و إنّما يقدّر الإيمان الذي يستند إلى اختيار المرء، لا إلى الجبر و الإلحاد(1).

قد وقع الفراغ من تبييض هذه المحاضرات بفضل اللّه سبحانه في الخامس و العشرين من شهر رمضان المبارك من شهور عام 1408 للهجرة النبوية الشريفة بيد مؤلفها الفقير بذاته حسن بن محمد مكي العاملي، عامله اللّه بلطفه الخفي، راجيا منه سبحانه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم إنّه على ذلك قدير. و يتلوه الجزء الثاني حول النبوّات العامة و الخاصة و الخلافة و الوصاية و المعاد و حشر الأجساد و ما يرتبط بهذه الموضوعات من المسائل الهامة بإذنه سبحانه(2).

ص: 395


1- هذا بعض الكلام في الهداية و الضّلالة بالمقدار المناسب لوضع الكتاب، و البحث في المقام واسع يلاحظ فيه الموسوعات التفسيرية.
2- لا يفوتنا في الختام أن نبارك للمركز العالمي للدراسات الإسلامية قيامه بتكليف الدار الإسلامية في بيروت بنشر هذا الكتاب على نطاق واسع ليكون محور الدراسة في جامعة العلوم الإسلامية في قم المقدّسة و الفروع التابعة لها بإذن منه سبحانه.

الملحق الأول

الملحق الأول(1)

ذكرنا عند البحث عن الجبر الأشعري أنّ للمعتزلة و الأشاعرة أقوالا لا توافق الأصول الفلسفية و لا الكتاب العزيز، و هاك بيانها.

الأول: قول الإمام الأشعري بأنّ الفعل يقع بقدرة اللّه سبحانه وحدها.

الثاني: قول المعتزلة أو أكثرهم بأنه يقع بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال.

الثالث: قول القاضي الباقلاني من الأشاعرة بأنّ قدرة اللّه تتعلق بأصل الفعل، و قدرة العبد تتعلق بالعناوين الطارئة عليه كالطاعة و المعصية لأجل التأديب و الإيذاء في لطم اليتيم، فأصل اللطم واقع بقدرة اللّه، و كونه طاعة لأجل التأديب و معصية لأجل الإيذاء بقدرة العبد.

الرابع: ما حكاه الإيجي عن أستاذه بأنّه يقع بمجموع القدرتين العرضيّتين حيث جوّزوا اجتماع المؤثّرين على أثر واحد.

الخامس: ما ذهب إليه إمام الحرمين الجويني بأنّ قدرة اللّه تتعلق

ص: 396


1- راجع إلى ص 275.

بقدرة العبد و قدرة العبد تتعلق بالفعل. و هو باعتبار نفس ما اخترناه و هو خيرة الفلاسفة.

و لكن الحقيقة أدق ممّا نسب إلى إمام الحرمين حيث إنّه فرض قدرة اللّه منفصلة عن الفعل و لا تتعلّق به إلاّ بواسطة قدرة العبد. مع أنّ مقتضى البراهين الفلسفية أنّ قدرة العبد من شئون قدرة اللّه سبحانه و ليست شيئا منفصلا عنها، و أنّ نسبة إحدى القدرتين إلى الأخرى كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي، كما ستعرفه عند التعرّض للبحث في سائر أدلة الأشاعرة على الجبر(1).

ثم إن للقوم أيضا احتجاجات و تشكيكات أخرى في المقام ذكر بعضها العلاّمة في (إرشاد الطالبيين) و شرحها الفاضل المقداد في شرحه عليه(2).

ص: 397


1- راجع في الوقوف على أقوالهم شرح المواقف، ج 2، ص 146-148.
2- إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، ص 265-269.

الملحق الثاني

الملحق الثاني(1)

إن للمحققين كلمات مختلفة في تعلق علمه الأزلي بأفعال العباد ننقل بعضها:

قال صدر المتألهين: «إنّ علمه و إن كان سببا مقتضيا لوجود الفعل من العبد لكنه إنما اقتضى وجوده و صدوره المسبوق بقدرة العبد و اختياره أي إرادته لكونها من جملة أسباب الفعل و علله و الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحققه.

و نقل عن الإمام الرازي في المباحث المشرقية كلاما مفصلا، يقول هو في آخره ما يظهر منه الموافقة لهذا الأصل، و إليك نصه: «إذا من قضاء اللّه و قدره، وقوع بعض الأفعال تابعا لاختيار فاعله، و لا يندفع هذا إلاّ بإقامة البرهان على أن لا مؤثر في الوجود إلاّ هو»(2).

يقول العلاّمة الطباطبائي: «إن العلم الأزلي متعلق بكل شيء على ما هو عليه، فهو متعلق بالأفعال الاختيارية بما هي اختيارية، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية. و بعبارة أخرى: المقضيّ هو أن يصدر الفعل عن

ص: 398


1- راجع إلى ص 288.
2- الأسفار، ج 6، ص 385 و 387.

الفاعل الفلاني اختيارا، فلو انقلب الفعل من جهة تعلق هذا القضاء به، غير اختياري، ناقض القضاء نفسه»(1).

ثم إنّ شارح المواقف نقل جوابا آخر في المقام عن بعضهم و هو أنّ العلم تابع للمعلوم على معنى أنهما يتطابقان و الأصل في هذه المطابقة هو المعلوم. أ لا ترى أنّ صورة الفرس مثلا على الجدار إنما كانت على هذه الهيئة المخصوصة، لأن الفرس في حدّ نفسه هكذا، و لا يتصور أن ينعكس الحال بينهما، فالعلم بأنّ زيدا سيقوم غدا مثلا، إنما يتحقق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه دون العكس. فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل و امتناعه، و سلب القدرة و الاختيار و إلاّ لزم أن يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا و عدما(2).

و يلاحظ عليه - كما أوعزنا إليه عند البحث عن القضاء و القدر -: إنه خلط بين العلم الانفعالي كالصورة الواردة إلى النفس من ملاحظة ذيها، كما في المثال الذي ذكره، و بين العلم الفعلي الذي هو إما شرط لحصول المعلوم في الخارج أو سبب تام. فالأول كعلم المهندس المقدر لبناء البيت و المصوّر له. و الثاني كتصور السقوط من شاهق الذي يستلزمه. و علمه سبحانه ليس علما انفعاليا حتى يكون تابعا، بل هو في سلسلة العلل و إن لم يكن علّة تامة في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان ضرورة دور الإنسان في تحققها، فتكون المقايسة باطلة.

ص: 399


1- الأسفار، ج 6، تعليقة العلاّمة الطباطبائي، ص 318.
2- شرح المواقف، ج 8، ص 155-156.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.