الأغاني
المؤلفين الآخرين
مدقق لغوي ومترجم:
مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي
المجلدات : 25ج
لسان: العربية
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374
إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، و يكنى أبا العبّاس. و أمّه أم الحجّاج بنت محمد بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثّقفيّ، و هي بنت أخي الحجّاج. و فيه يقول أبو نخيلة(1):
بين أبي العاصي و بين الحجّاج *** يا لكما نورا سراج وهّاج
عليه بعد عمّه عقد التّاج
و أم يزيد بن عبد الملك عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة. و أمّها أم كلثوم بنت عبد اللّه بن عامر. و أمّ عبد اللّه بن عامر أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم؛ و لذلك قال الوليد بن يزيد:
نبيّ الهدى خالي و من يك خاله *** نبيّ الهدى يقهر به من يفاخر
و كان الوليد بن يزيد من فتيان بني أميّة و ظرفائهم و شعرائهم و أجوادهم و أشدّائهم، و كان فاسقا خليعا متّهما في دينه مرميّا بالزندقة؛ و شاع ذلك من أمره و ظهر حتى أنكره الناس فقتل. و له أشعار كثيرة تدلّ على خبثه و كفره. و من الناس من ينفي ذلك عنه و ينكره، و يقول: إنه نحله و ألصق إليه. و الأغلب الأشهر غير ذلك.
و بعث العبّاس بن الوليد بن عبد الملك و عقد له على أهل دمشق، قال له العباس: يا أمير المؤمنين، إن أهل العراق أهل غدر و إرجاف، و قد وجهتنا محاربين و الأحداث تحدث، و لا آمن أن يرجف أهل العراق و يقولوا: مات أمير المؤمنين و لم يعهد، فيفتّ ذلك في أعضاد أهل الشام؛ فلو عهدت عهدا لعبد العزيز بن الوليد! قال: غدا.
/و بلغ ذلك مسلمة بن عبد الملك، فأتى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، أيّما أحبّ إليك: ولد عبد الملك أو ولد الوليد؟ فقال: بل ولد عبد الملك. قال: أ فأخوك أحقّ بالخلافة أم ابن أخيك؟ قال: إذا لم تكن في ولدي فأخي أحقّ بها من ابن أخي. قال: فابنك لم يبلغ، فبايع لهشام ثم لابنك بعد هشام - قال: و الوليد يومئذ ابن إحدى عشرة سنة - قال: غدا/أبايع له. فلما أصبح فعل ذلك و بايع لهشام، و أخذ العهد عليه ألاّ يخلع الوليد بعده و لا يغيّر عهده و لا يحتال عليه. فلما أدرك الوليد ندم أبوه، فكان ينظر إليه و يقول: اللّه بيني و بين من جعل هشاما بيني و بينك.
و توفّي يزيد سنة خمس و مائة و ابنه الوليد ابن خمس عشرة سنة. قالوا(1): فلم يزل الوليد مكرّما عند هشام رفيع المنزلة مدّة، ثم طمع في خلعه و عقد العهد بعده لابنه مسلمة بن هشام، فجعل يذكر الوليد بن يزيد و تهتّكه و إدمانه على الشراب، و يذكر ذلك في مجلسه و يقوم و يقعد به، و ولاّه الحجّ ليظهر ذلك منه بالحرمين فيسقط؛ فحجّ و ظهر منه فعل كثير مذموم، و تشاغل بالمغنّين و بالشّراب، و أمر مولّى له فحجّ بالناس. فلما حجّ طالبه هشام بأن يخلع نفسه فأبى ذلك؛ فحرمه العطاء و حرم سائر مواليه و أسبابه و جفاه جفاء شديدا. فخرج متبدّيا(2) و خرج معه عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدّبه(3)، و كان يرمى بالزندقة. و دعا هشام الناس إلى خلعه و البيعة لمسلمة بن هشام - و أمّه أم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاصي. و كان مسلمة يكنى أبا شاكر؛ كني بذلك لمولّى كان لمروان يكنى أبا شاكر، كان ذا رأي و فضل و كانوا يعظّمونه و يتبركون به - فأجابه إلى خلع الوليد و البيعة لمسلمة بن هشام محمد و إبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزوميّ و الوليد و عبد العزيز و خالد بن القعقاع بن خويلد العبسيّ و غيرهم من خاصّة هشام. و كتب إلى الوليد: ما تدع شيئا من المنكر إلاّ أتيته و ارتكبته غير متحاش و لا مستتر، فليت شعري ما دينك؟! أ على الإسلام أنت أم لا؟! فكتب إليه الوليد بن يزيد - و يقال: بل قال(4) ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى و نحله إيّاه -:
يا أيّها السائل عن ديننا *** نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفا و ممزوجة *** بالسّخن أحيانا و بالفاتر
- غنّاه عمر الوادي رملا بالبنصر - فغضب هشام على ابنه مسلمة، و قال: يعيّرني بك الوليد و أنا أرشّحك للخلافة! فألزم الأدب، و احضر الصلوات. و ولاّه الموسم سنة سبع عشرة و مائة، فأظهر النّسك و قسم بمكة و المدينة أموالا. فقال رجل من موالي أهل المدينة:
يا أيّها السائل عن ديننا *** نحن على دين أبي شاكر
ص: 6
الواهب البزل(1) بأرسانها *** ليس بزنديق و لا كافر
قال المدائنيّ: و بلغ خالدا القسريّ ما عزم عليه هشام، فقال: أنا بريء من خليفة يكنى أبا شاكر؛ فبلغت هشاما عنه هذه، فكان ذلك سبب إيقاعه به.
أخبرني محمد بن الحسن الكنديّ المؤدّب قال حدّثني أبي عن العباس بن هشام قال:
دخل الوليد بن يزيد يوما مجلس هشام بن عبد الملك و قد كان في ذكره قبل أن يدخل، فحمّقه من حضر من بني أميّة. فلما جلس قال له العباس بن الوليد و عمر بن عبد الوليد: كيف حبّك يا وليد للروميّات، فإنّ أباك كان بهنّ مشغوفا؟ قال: إني لأحبهنّ؛ و كيف لا أحبهنّ و لن تزال الواحدة منهن قد جاءت بالهجين مثلك - و كانت أمّ العباس روميّة - قال: اسكت فليس الفحل يأتي عسبه(2) بمثلي؛ فقال/له الوليد: اسكت يا بن البظراء! قال: أ تفخر عليّ بما قطع من بظر أمك. و أقبل هشام على الوليد فقال له: ما شرابك؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين؛ و قام مغضبا فخرج. فقال هشام: أ هذا الذي تزعمون أنّه أحمق! ما هو أحمق، و لكني لا أظنّه على الملّة.
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال أخبرنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:
دخل الوليد بن يزيد يوما مجلس هشام/بن عبد الملك و فيه سعيد بن هشام بن عبد الملك و أبو الزّبير مولى مروان و ليس هشام حاضرا؛ فجلس الوليد مجلس هشام، ثم أقبل على سعيد بن هشام فقال له: من أنت؟ و هو به عارف؛ قال: سعيد ابن أمير المؤمنين؛ قال: مرحبا بك. ثم نظر إلى أبي الزبير فقال: من أنت؟ قال: أبو الزبير مولاك أيها الأمير؛ قال: أنسطاس أنت؟ مرحبا بك. ثم قال لإبراهيم بن هشام: من أنت؟ قال: إبراهيم بن هشام.
قال: من إبراهيم بن هشام؟ و هو يعرفه؛ قال: إبراهيم بن هشام بن إسماعيل. قال: من إسماعيل؟ و هو يعرفه؛ قال: إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة. قال: من الوليد بن المغيرة؟ قال: الذي لم يكن جدّك يرى أنه في شيء حتى زوّجه أبي و هو بعض ولد ابنته. قال: يا بن اللّخناء! أ تقول هذا! و ائتخذا(3). و أقبل هشام؛ فقيل لهما: قد جاء أمير المؤمنين، فجلسا و كفّا. و دخل هشام؛ فما كاد الوليد يتنحّى له عن صدر مجلسه، إلا أنه زحل(4) له قليلا؛ فجلس هشام و قال له: كيف أنت يا وليد؟ قال: صالح. قال: ما فعلت/برابطك(5)؟ قال: معملة أو مستعملة. قال: فما فعل ندماؤك؟ قال: صالحون، و لعنهم اللّه إن كانوا شرّا ممّن حضرك؛ و قام؛ فقال له هشام:
يا بن اللّخناء! جئوا عنقه؛ فلم يفعلوا و دفعوه رويدا. فقال الوليد:
أنا ابن أبي العاصي و عثمان والدي *** و مروان جدّي ذو الفعال و عامر
ص: 7
أنا ابن عظيم القريتين(1) و عرّها *** ثقيف و فهر و العصاة الأكابر
نبيّ الهدى خالي و من يك خاله *** نبيّ الهدى يقهر به من يفاخر
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال:
كان هشام بن عبد الملك يكثر تنقّص الوليد بن يزيد؛ فكان مسلمة يعاتب هشاما و يكفّه؛ فمات مسلمة؛ فغمّ الوليد و رثاه فقال:
أنانا بريدان من واسط *** يخبّان بالكتب المعجمة
أقول و ما البعد إلاّ الرّدى *** أ مسلم لا تبعدن(2) مسلمة
فقد كنت نورا لنا في البلاد *** تضيء فقد أصبحت مظلمة
كتمنا نعيّك نخشى اليقين *** فجلّى اليقين عن الجمجمة(3)
/و كم من يتيم تلافيته *** بأرض العدوّ و كم أيّمه
و كنت إذا الحرب درّت دما *** نصبت لها راية معلمه
/غنّى في هذه الأبيات التي أوّلها:
أقول و ما البعد إلا الرّدى
يونس خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و ذكر الهشاميّ أن فيه ثقيلا أوّل ينسب إلى أبي كامل(4) و عمر الوادي. و ذكر حبش أن ليونس فيه رملا بالبنصر.
أخبرني الطّوسيّ و الحرميّ بن أبي العلاء قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني موسى بن زهير بن مضرّس بن منظور بن زبّان بن سيّار عن أبيه قال:
رأيت هشام بن عبد الملك و أنا في عسكره يوم توفّي مسلمة بن عبد الملك و هشام في شرطته، إذ طلع الوليد بن يزيد على الناس و هو نشوان يجرّ مطرف خزّ عليه؛ فوقف على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، إن عقبى من بقي لحوق من مضى؛ و قد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن يرى(5)، و اختلّ الثغر فوهى، و على أثر من سلف يمضي من
ص: 8
خلف؛ فتزوّدوا، فإنّ خير الزاد التّقوى. فأعرض عنه هشام و لم يردّ جوابا؛ و وجم الناس فما همس أحد بشيء.
قال: فمضى الوليد و هو يقول:
أ هينمة(1) حديث القوم أم هم *** سكوت بعد ما متع(2) النهار
عزيز كان بينهم نبيّا *** فقول القوم وحي لا يحار
كأنّا بعد مسلمة المرجّى *** شروب طوّحت بهم عقار
أو الاف هجان في قيود *** تلفّت كلّما حنّت ظؤار(3)
فليتك لم تمت و فداك قوم *** تريح غبيّهم عنّا(4) الدّيار
/سقيم الصّدر أو شكس نكيد *** و آخر لا يزور و لا يزار
يعني بالسّقيم الصدر يزيد بن الوليد، و يعني بالشّكس هشاما، و الذي لا يزور و لا يزار مروان بن محمد.
قال الزّبير و حدّثني محمد بن الضّحاك عن أبيه قال:
أراد هشام أن يخلع الوليد و يجعل العهد لولده؛ فقال الوليد:
كفرت يدا من منعم لو شكرتها *** جزاك بها الرحمن ذو الفضل و المنّ
رأيتك تبني جاهدا في قطعيتي *** و لو كنت ذا حزم لهدّمت ما تبنى
أراك على الباقين تجني ضغينة *** فيا ويحهم إن متّ من شرّ ما تجني
كأنّي بهم يوما و أكثر قولهم *** أيا ليت أنّا، حين «يا ليت» لا تغي
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:
عتب هشام على الوليد و خاصّته. فخرج الوليد و معه قوم من خاصّته و مواليه فنزل بالأبرق بين أرض بلقين و فزارة على ماء يقال له الأغدف، و خلّف بالرصافة كاتبه عياض بن مسلم مولى عبد الملك ليكاتبه بما يحدث، و أخرج معه عبد الصمد بن عبد الأعلى. فشربوا يوما؛ فقال له الوليد: يا أبا وهب، قل أبياتا نغنّي فيها؛ فقال أبياتا، و أمر عمر الوادي فغنّى فيها و هي:
تحيّر عن قصد مجراته *** إلى(1) الغور و التمس المطلعا
/فقلت و أعجبني شأنه *** و قد لاح إذ لاح لي مطمعا
لعلّ الوليد دنا ملكه *** فأمسى إليه(2) قد استجمعا
و كنّا نؤمّل في ملكه *** كتأميل ذي الجذب أن يمرعا
عقدنا له محكمات الأمو *** ر طوعا و كان لها موضعا
فروي هذا الشعر، و بلغ هشاما، فقطع عن الوليد ما كان يجري عليه و على أصحابه و حرمهم؛ و كتب إلى الوليد: قد بلغني أنّك اتّخذت عبد الصمد خذنا و محدّثا و نديما؛ و قد حقّق ذلك ما بلغني عنك، و لن أبرّئك من سوء؛ فأخرج عبد الصمد مذموما. قال: فأخرجه الوليد و قال:
لقد قذفوا أبا وهب بأمر *** كبير بل يزيد على الكبير
و أشهد أنهم كذبوا عليه *** شهادة عالم بهم خبير
فكتب الوليد إلى هشام بأنه قد أخرج عبد الصمد، و اعتذر إليه من منادمته، و سأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه - و كان من خاصّة الوليد - فضرب هشام ابن سهيل و نفاه و سيّره - و كان ابن سهيل من أهل النّباهة، و قد ولي الولايات، ولي دمشق مرارا و ولي غيرها - و أخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد فضربه ضربا مبرّحا و ألبسه المسوح و قيّده و حبسه، فغمّ ذلك الوليد فقال: من يثق بالناس! و من يصنع المعروف! هذا الأحول المشئوم قدّمه أبي على ولده و أهل بيته و ولاّه و هو يصنع بي ما ترون، و لا يعلم أنّ لي في أحد هوى إلاّ أضرّ به؛ كتب إليّ بأن أخرج عبد الصمد فأخرجته، و كتبت إليه في أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليّ فضربه و طرده و قد علم رأيي فيه؛ و عرف مكان عياض منّي و انقطاعه إليّ فضربه و حبسه، يضارّني بذلك؛ اللهمّ أجرني منه. ثم قال الوليد:
أنا النّذير لمسدي نعمة أبدا *** إلى المقاريف(3) لمّا يخبر الدّخلا
إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطروا *** و إن أهنتهم ألفيتهم ذللا
أ تشمخون و منّا رأس نعمتكم *** ستعلمون إذا أبصرتم الدّولا
انظر فإن أنت لم تقدر على مثل *** لهم سوى الكلب فاضربه لهم مثلا
بينا يسمّنه للصيد صاحبه *** حتى إذا ما استوى من بعد ما هزلا
عدا عليه فلم تضرره عدوته *** و لو أطاق له أكلا لقد أكلا
غنّاه مالك خفيف ثقيل من رواية الهشاميّ.
ص: 10
قال: و قال الوليد أيضا يفتخر على هشام:
أنا الوليد أبو العباس قد علمت *** عليا معدّ مدى كرّي و إقدامي
إني لفي الذّروة العليا إذا انتسبوا *** مقابل(1) بين أخوالي و أعمامي
/بنى لي المجد بان لم يكن وكلا *** على منار مضيئات و أعلام
حللت من جوهر الأعياص(2) قد علموا *** في باذخ مشمخرّ العزّ قمقام(3)
صعب المرام يسامي النّجم مطلعه *** يسمو إلى فرع طود شامخ سامي
غنّاه عمر الوادي خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
/و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدّثني مصعب الزّبيريّ قال:
بعث الوليد بن يزيد إلى هشام بن عبد الملك راويته فأنشده قوله:
أنا الوليد أبو العباس قد علمت *** عليا معدّ مدى كرّي و إقدامي
فقال هشام: و اللّه ما علمت له معدّ كرّا و لا إقداما، إلا أنه شرب مرّة مع عمّه بكّار بن عبد الملك فعربد عليه و على جواريه؛ فإن كان يعني ذلك بكّره و إقدامه فعسى.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن عمرو ابن أبي سعد قال حدّثت أن أبا الزّناد قال:
دخلت على هشام بن عبد الملك و عنده الزّهريّ و هما يعيبان الوليد، فأعرضت و لم أدخل في شيء من ذكره.
فلم ألبث أن استؤذن للوليد فأذن له، فدخل و هو مغضب فجلس قليلا ثم نهض. فلما مات هشام و ولي الوليد كتب إلى المدينة فحملت فدخلت عليه؛ فقال: أ تذكر قول الأحول و الزهريّ؟ قلت: نعم، و ما عرضت في شيء من أمرك؛ قال: صدقت؛ أ تدري من أبلغني ذلك؟ قلت لا؛ قال: الخادم الواقف على رأسه، و ايم اللّه لو بقي الفاسق الزهريّ لقتلته. ثم قال: ذهب هشام بعمري؛ فقلت: بل يبقيك اللّه يا أمير المؤمنين، و قام و صلّى العصر. ثم جلس يتحدّث إلى المغرب ثم صلّى المغرب و دعا بالعشاء فتعشّيت معه ثم جلس يتحدّث حتى صلّى العتمة، ثم تحدّثنا قليلا ثم قال: اسقينني فأتينه(4) بإناء مغطّى، و جاء/جوار فقمن بيني و بينه فشرب و انصرفن؛ و مكث قليلا ثم قال:
ص: 11
اسقينني ففعلن مثل ذلك. و ما زال و اللّه ذلك دأبه حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحا.
و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب عن أبي الزّناد قال:
أجمع الزّهريّ على أن يدخل إلى بلاد الروم إن ولي الوليد بن يزيد؛ فمات الزهريّ قبل ذلك.
قال المدائنيّ: و بلغ الوليد أنّ العباس بن الوليد و غيره من بني مروان يعيبونه بالشّراب؛ فلعنهم و قال: إنهم ليعيبون عليّ ما لو كانت لهم فيه لذّة ما تركوه، و قال هذا الشعر، و أمر عمر الوادي أن يغنّي فيه - و هو من جيّد شعره و مختاره. و فيه غناء قديم ذكره يونس لعمر الوادي غير مجنّس -:
و لقد قضيت - و إن تجلّل لمّتي *** شيب - على رغم العدا لذّاتي
من كاعبات كالدّمى و مناصف *** و مراكب للصيد و النّشوات
في فتية تأبى الهوان وجوههم *** شمّ الأنوف جحاجح سادات
إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها *** أو يطلبوا لا يدركوا بترات
حدّثني(1) المنهال بن عبد الملك قال: كتب الوليد إلى هشام(2): «قد بلغني أحدث أمير/المؤمنين من قطع ما قطع عنّي و محو من محا من أصحابي، و أنّه حرمني و أهلي. و لم أكن أخاف أن يبتلي اللّه أمير المؤمنين بذلك فيّ و لا ينالني مثله/منه، و لم يبلغ استصحابي لابن سهيل و مسألتي في أمره أن يجري عليّ ما جرى. و إن كان ابن سهيل على ما ذكره أمير المؤمنين، فبحسب العير أن يقرب من الذئب. و على ذلك فقد عقد اللّه لي من العهد و كتب لي من العمر و سبّب لي من الرزق ما لا يقدر أحد دونه تبارك و تعالى على قطعه عنّي دون مدّته و لا صرفه عن مواقعه المحتومة له. فقدر اللّه يجري على ما قدّره فيما أحبّ الناس و كرهوا، لا تعجيل لآجله و لا تأخير لعاجله؛ و الناس بعد ذلك يحتسبون الأوزار و يقترفون الآثام على أنفسهم من اللّه بما يستوجبون العقوبة عليه. و أمير المؤمنين أحقّ بالنظر في ذلك و الحفظ له. و اللّه يوفّق أمير المؤمنين لطاعته، و يحسن القضاء له في الأمور بقدرته. و كتب إليه الوليد في آخر كتابه:
أ ليس عظيما أن أرى كلّ وارد *** حياضك يوما صادرا بالنّوافل
فأرجع محمود(3) الرّجاء مصرّدا *** بتحلئة عن ورد تلك المناهل
فأصبحت مما كنت آمل منكم *** و ليس بلاق ما رجا كلّ آمل
ص: 12
كمقتبض يوما على عرض هبوة(1) *** يشدّ عليها كفّه بالأنامل
فكتب إليه هشام: «قد فهم أمير المؤمنين ما كتبت به من قطع ما قطع و غير ذلك. و أمير المؤمنين يستغفر اللّه من إجرائه ما كان يجري عليك، و لا يتخوّف على نفسه اقتراف المآثم في الذي أحدث من قطع ما قطع و محو من محا من صحابتك، لأمرين: أمّا أحدهما فإنّ أمير المؤمنين يعلم مواضعك التي كنت تصرف إليها ما يجريه عليك.
و أما الآخر فإثبات صحابتك و أرزاقهم دارّة عليهم لا ينالهم ما نال المسلمين عند قطع البعوث عليهم و هم معك تجول بهم في سفهك. و أمير المؤمنين/يرجو أن يكفّر اللّه عنه ما سلف من إعطائه إيّاك باستئنافه قطعه عنك. و أما ابن سهيل، فلعمري لئن كان نزل منك بحيث يسوؤك ما جرى عليه لما جعله اللّه لذلك أهلا. و هل زاد ابن سهيل، للّه أبوك، على أن كان زفّانا(2) مغنّيا قد بلغ في السّفه غايته! و ليس مع ذلك ابن سهيل بشرّ ممّن كنت تستصحبه في الأمور التي ينزّه أمير المؤمنين نفسه عنها مما كنت لعمري أهلا للتوبيخ فيه. و أما ما ذكرت ممّا سبّبه اللّه لك، فإن اللّه قد ابتدأ أمير المؤمنين بذلك و اصطفاه له، و اللّه بالغ أمره. و لقد أصبح أمير المؤمنين و هو على يقين من رأيه إلاّ أنه لا يملك لنفسه مما أعطاه اللّه من كرامته ضرّا و لا نفعا، و إن اللّه وليّ ذلك منه و إنه لا بدّ له من مفارقته، و إنّ اللّه أرأف بعباده و أرحم من أن يولّي أمرهم غير من يرتضيه لهم منهم. و إن أمير المؤمنين مع حسن ظنّه بربّه لعلى أحسن الرجاء لأن يولّيه بسبب ذلك لمن هو أهله في الرّضا به لهم؛ فإنّ بلاء اللّه عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبلغه ذكره أو يوازيه شكره إلاّ بعون منه. و لئن كان قد قدر اللّه لأمير المؤمنين وفاة تعجيل، فإن في الذي هو مفض و صائر إليه من كرامة اللّه لخلفا/من الدنيا. و لعمري إن كتابك لأمير المؤمنين بما كتبت به لغير مستنكر من سفهك و حمقك، فأبق على نفسك و قصّر من غلوائها و اربع على ظلعك؛ فإنّ للّه سطوات و غيرا يصيب بها من يشاء من عباده.
و أمير المؤمنين يسأل اللّه العصمة و التوفيق لأحبّ الأمور إليه و أرضاها له. و كتب في أسفل الكتاب:
إذا أنت سامحت الهوى قادك الهوى *** إلى بعض ما فيه عليك مقال
و السلام.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة عن المدائنيّ عن جويرية بن أسماء(3) عن المنهال بن عبد الملك عن إسحاق بن أيّوب كلّهم عن أبي الزّبير المنذر بن عمرو - قال: و كان كاتبا للوليد بن يزيد - قال:
أرسل إليّ الوليد صبيحة اليوم الذي أتته فيه الخلافة فأتيته؛ فقال لي: يا أبا الزّبير، ما أتت عليّ ليلة أطول من هذه الليلة، عرضتني أمور و حدّثت نفسي فيها بأمور، و هذا الرجل قد أولع بي، فاركب بنا نتنفّس. فركب و سرت معه، فسار ميلين و وقف على تلّ فجعل يشكو هشاما، إذ نظر إلى رهج(4) قد أقبل - قال عمر بن شبّة في حديثه -
ص: 13
و سمع قعقعة البريد، فتعوّذ باللّه من شرّ هشام، و قال: إن هذا البريد قد أقبل بموت وحيّ (1) أو بملك عاجل.
فقلت: لا يسوؤك اللّه أيها الأمير بل يسرّك و يبقيك، إذ بدا رجلان على البريد يقبلان، أحدهما مولّى لآل أبي سفيان بن حرب؛ فلما قربا رأيا الوليد فنزلا يعدوان حتى دنوا فسلّما عليه بالخلافة فوجم، و جعلا يكرران عليه التسليم بالخلافة؛ فقال: ويحكم! ما الخبر؟ أمات هشام؟ قالا نعم؛ قال: فمرحبا بكما! ما معكما؟ قالا: كتاب مولاك سالم بن عبد الرحمن؛ فقرأ الكتاب و انصرفنا. و سأل عن عيّاض بن مسلم كاتبه الذي كان هشام ضربه و حبسه، فقالا: يا أمير المؤمنين، لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام أمر اللّه، فلمّا صار إلى حال لا تزجى الحياة لمثله معها، أرسل عياض إلى الخزّان: احتفظوا بما في أيديكم فلا يصلن أحد إلى/شيء. و أفاق هشام إفاقة فطلب شيئا فمنعه، فقال: أرانا كنّا خزّانا للوليد؛ و قضى من ساعته. فخرج عياض من السجن ساعة قضى هشام، فختم الأبواب و الخزائن؛ و أمر بهشام فأنزل عن فراشه و منعهم أن يكفّنوه من الخزائن، فكفّنه غالب مولى هشام، و لم يجدوا قمقما(2) حتى استعاروه. و أمر الوليد بأخذ ابني هشام بن إسماعيل المخزوميّ، فأخذا بعد أن عاذ إبراهيم بن هشام بقبر يزيد بن عبد الملك؛ فقال الوليد: ما أراه إلاّ قد نجا؛ فقال له يحيى بن عروة بن الزّبير و أخوه عبد اللّه: إن اللّه لم يجعل قبر أبيك معاذا للظالمين، فخذه برّد ما في يده من مال اللّه؛ فقال: صدقت، و أخذهما فبعث بهما إلى يوسف بن عمر، و كتب إليه أن يبسط عليهما العذاب حتى يتلفا، ففعل ذلك بهما و ماتا جميعا في العذاب بعد أن أقيم إبراهيم بن هشام للناس حتى اقتضوا(3) منه المظالم.
و قال عمر بن شبّة في خبره: إنه لمّا نعي له هشام قال: و اللّه لأتلقّينّ هذه النعمة بسكرة قبل الظهر؛ ثم أنشأ يقول:
طاب يومي و لذّ شرب السّلافه *** إذ أتاني نعيّ من بالرّصافه
/و أتانا البريد ينعي هشاما *** و أتانا بخاتم للخلافة
فاصطبحنا من خمر عانة(4) صرفا *** و لهونا بقينة عزّافه
ثم خلف ألاّ يبرح موضعه حتى يغنّى في هذا الشعر و يشرب عليه؛ فغنّي له فيه و شرب و سكر، ثم دخل فبويع له بالخلافة.
/قال: و سمع صياحا، فسأل عنه، فقيل له: هذا من دار هشام يبكيه بناته؛ فقال:
إني سمعت بليل *** ورا المصلّى برنّه
إذا بنات هشام *** يندبن والدهنّه
يندبن فرما جليلا *** قد كان يعضدهنّه
ص: 14
أنا المخنّث حقّا *** إن لم أنيكنّهنّه
و قال المدائنيّ في خبر أحمد بن الحارث: و شرب الوليد يوما، فلما طابت نفسه تذكّر هشاما، فقال لعمر الوادي غنّني:
إنّي سمعت بليل *** ورا المصلّى برنّه
فغنّاه فيه، فشرب عليه ثلاثة أرطال، ثم قال: و اللّه لئن سمعه منك أحد أبدا لأقبلنّك. قال: فما سمع منه بعدها و لا عرف.
طاب يومي و لذّ شرب السّلافه *** إذ أتانا نعيّ من في الرّصافه
غنّاه عمر الوادي خفيف رمل بالبنصر.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثني أبو غسّان قال قال حكم الوادي:
كنّا عند الوليد بن يزيد و هو يشرب، إذ جاءنا خصيّ فشقّ جيبه و عزّاه عن عمه هشام و هنأه بالخلافة و في يده قضيب و خاتم و طومار(1)؛ فأمسكنا ساعة و نظرنا إليه بعين الخلافة؛ فقال: غنّوني، غنّياني: قد طاب شرب السلافة... البيتين؛ فلم نزل نغنّيه بهما الليل كلّه.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدّثني مروان بن أبي حفصة قال:
دخلت على الرشيد أمير المؤمنين فسألني عن الوليد بن يزيد فذهبت أتزحزح، فقال: إن أمير المؤمنين لا ينكر ما تقول فقل؛ قلت: كان من أصبح الناس و أظرف الناس و أشعر الناس. فقال: أ تروى من شعره شيئا؟ قلت: نعم، دخلت عليه مع عمومتي و في يده قضيب و لي جمّة(2) فينانة فجعل يدخل القضيب في جمّتي و جعل يقول: يا غلام، ولدتك سكّر (و هي أمّ ولد كانت لمروان بن الحكم فزوّجها أبا حفصة) قال: فسمعته يومئذ ينشد:
ليت هشاما عاش حتى يرى *** مكياله الأوفر قد أترعا(3)
كلنا له الصاع التي(4) كالها *** فما ظلمناه بها أصوعا
ص: 15
لم نأت ما نأتيه عن بدعة *** أحلّه القرآن لي أجمعا
قال: فأمر الرشيد بكتابتها(1) فكتبت.
و للوليد أشعار جياد فوق هذا الشعر الذي اختاره/مروان. فمنها - و هو ما برّز فيه و جوّده و تبعه الناس جميعا فيه و أخذوه منه - قوله في صفة الخمر - أنشدنيه/الحسن بن عليّ قال أنشدني الحسين بن فهم قال أنشدني عمر بن شبّة قال أنشدني أبو غسّان محمد بن يحيى و غيره للوليد. قال: و كان أبو غسّان يكاد يرقص إذا أنشدها -:
اصدع نجيّ الهموم بالطرب *** و انعم على الدهر بابنة العنب
و استقبل العيش في غضارته *** لا تقف منه آثار معتقب
من قهوة زانها تقادمها *** فهي عجوز تعلو على الحقب
أشهى إلى الشّرب يوم جلوتها *** من الفتاة الكريمة النّسب
فقد تجلّت و رقّ جوهرها *** حتى تبدّت في منظر عجب
فهي بغير المزاج من شرر *** و هي لدى المزج سائل الذهب
كأنها في زجاجها قبس *** تذكو ضياء في عين مرتقب
في فتية من بني أميّة أه *** ل المجد و المأثرات و الحسب
ما في الورى مثلهم و لا فيهم(2) *** مثلي و لا منتم لمثل أبي
قال المدائنيّ في خبره: و قال الوليد حين أتاه نعي هشام:
طال ليلي فبتّ أسقى المداما *** إذ أتاني البريد ينعي هشاما
و أتاني بحلّة و قضيب *** و أتاني بخاتم ثم قاما
فجعلت الوليّ من بعد فقدي *** يفضل الناس ناشئا و غلاما
ذلك ابني و ذاك قرم قريش *** خير قرم و خيرهم أعماما
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائنيّ عن جرير قال قال لي عمر الوادي:
/كنت يوما أغنّي الوليد إذ ذكر هشاما؛ فقال لي: غنّني بهذه الأبيات؛ قلت: و ما هي يا أمير المؤمنين؟ فأنشأ يقول:
ص: 16
هلك الأحول المشو *** م فقد أرسل المطر
ثمّت استخلف الولي *** د فقد أورق الشجر
و للولى في ذكر الخمر و صفتها أشعار كثيرة قد أخذها الشعراء فأدخلوها في أشعارهم، سلخوا معانيها، و أبو نواس خاصّة سلخ معانيه كلّها و جعلها في شعره فكرّرها في عدّة مواضع منه. و لو لا كراهة التطويل لذكرتها هاهنا، على أنها تنبئ عن نفسها.
و له أبيات أنشدنيها الحسن بن عليّ قال أنشدني الحسين بن فهم قال أنشدني عمر بن شبّة قال أنشدني أبو غسّان و غيره للوليد - و كان أبو غسان يكاد أن يرقص إذا أنشدها -:
اصدع نجيّ الهموم بالطرب *** و انعم على الدهر بابنة العنب
الأبيات التي مضت متقدّما. و هذا من بديع الكلام و نادره؛ و قد جوّد فيه منذ ابتدأ إلى أن ختم. و قد نقلها أبو نواس و الحسين بن الضحاك في أشعارهما.
و من جيّد معانيه قوله:
/
رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي *** و لو كنت ذا حزم لهدّمت ما تبني
و قد مضت في أخباره مع هشام.
و أنشدني الحسن بن عليّ عن الحسين بن فهم قال أنشدني عمرو بن أبي عمرو للوليد بن يزيد و كان يستجيده فقال:
/
إذا لم يكن خير مع الشرّ لم تجد *** نصيحا و لا ذا حاجة حين تفزع
و كانوا إذا همّوا بإحدى هناتهم *** حسرت لهم رأسي فلا أ تقنّع
و من نادر شعره قوله لهشام:
فإن تك قد مللت القرب منّي *** فسوف ترى مجانبتي و بعدي
و سوف تلوم نفسك إن بقينا *** و تبلو الناس و الأحوال بعدي
فتندم في الذي فرّطت فيه *** إذا قايست في ذمّي و حمدي
أخبرني الحسين بن يحيى قال حدّثنا ابن مهرويه و عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد قالا(1) حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن الحارث الحرشيّ قال حدّثنا محمد بن عائذ قال حدّثني الهيثم بن عمران قال سمعته يقول:
لما بويع الوليد سمعته على المنبر يقول بدمشق:
ص: 17
ضمنت لكم إن لم ترعني منيّتي *** بأنّ سماء الضرّ عنكم ستقلع
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال:
لمّا ولى الوليد بن يزيد كتب إلى أهل المدينة(1) و الشعر له:
محرّمكم(2) ديوانكم و عطاؤكم *** به يكتب الكتّاب و الكتب تطبع
ضمنت لكم إن لم تصابوا بمهجتي *** بأنّ سماء الضرّ عنكم ستقلع
و أوّل هذه الأبيات:
ألا أيّها الركب المخبّون أبلغوا *** سلامي سكّان البلاد فاسمعوا
/و قولوا أتاكم أشبه الناس سنّة *** بوالده فاستبشروا و توقّعوا
سيوشك إلحاق بكم و زيادة *** و أعطية تأتي تباعا فتشفع
و كان سبب مكاتبته أهل الحرمين بذلك أنّ هشاما لمّا خرج عليه زيد بن عليّ رضي اللّه عنه منع أهل مكة و أهل المدينة أعطياتهم سنة. فقال حمزة بن بيض يردّ على الوليد لمّا فعل خلاف ما قال:
وصلت سماء الضرّ بالضرّ بعد ما *** زعمت سماء الضرّ عنّا ستقلع
فليت هشاما كان حيّا يسوسنا *** و كنّا كما كنا نرجّي و نطمع
أخبرني أحمد قال حدّثني عمر بن شبّة قال روى جرير بن حازم عن الفضل بن سويد قال:
بعث الوليد بن يزيد إلى جماعة من أهله لمّا ولي الخلافة فقال: أ تدرون لم دعوتكم؟ قالوا لا، قال: ليقل قائلكم؛ فقال رجل منهم: أردت يا أمير المؤمنين أن ترينا ما جدّد اللّه لك من نعمته و إحسانه؛ فقال: نعم، و لكني:
/
أشهد اللّه و الملائكة الأب *** رار و العابدين أهل الصلاح
أنني أشتهي السّماع و شرب ال *** كأس و العض للخدود الملاح
و النديم الكريم و الخادم الفا *** ره يسعى عليّ بالأقداح
قوموا إذا شئتم.
أخبرني إسماعيل بن يونس و أحمد بن عبد العزيز قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال:
ص: 18
عرضت على الوليد بن يزيد جارية صفراء كوفيّة مولّدة يقال لها سعاد، فقال لها: أيّ شيء تحسنين؟ فقال:
أنا مغنّية؛ فقال لها: غنّيني، فغنّت:
/
لو لا الذي حمّلت من حبّكم *** لكان في إظهاره مخرج
أو مذهب في الأرض ذو فسحة *** أجل و من حجّت له مذحج
لكن سباني منكم شادن *** مربّب ذو غنّة أدعج
أغرّ ممكور(1) هضيم الحشى *** قد ضاق عنه الحجل و الدّملج
- الشعر للحارث بن خالد. و الغناء لابن سريج خفيف رمل بالبنصر. و فيه لدحمان هزج بالوسطى؛ و ذكر الهشاميّ أن الهزج ليحيى المكيّ - فطرب طربا شديدا و قال: يا غلام اسقني، فسقاه عشرين قدحا و هو يستعيدها.
ثم قال لها: لمن هذا الشعر؟ قالت: للحارث بن خالد. قال: و ممّن أخذتيه؟ قالت: من حنين. قال: و أين لقيته؟ قالت: ربيت بالعراق و كان أهلي يجيئون به فيطارحني. فدعا صاحبه فقال: اذهب فابتعها بما بلغت و لا تراجعني في ثمنها ففعل؛ و لم تزل عنده حظيّة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عبيد اللّه بن أحمد بن الحارث القرشيّ قال حدّثنا العباس بن الوليد قال حدّثنا ضمرة قال:
خرج عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام يوما إلى بعض الدّيارات فنزل فيه و هو وال على الرّملة؛ فسأل صاحب الدّير: هل نزل بك أحد من بني أميّة؟ قال: نعم، نزل بي الوليد بن يزيد و محمد بن سليمان بن عبد الملك. قال:
فأيّ شيء صنعا؟ قال: شربا في ذلك الموضع، و لقد رأيتهما شربا في آنيتهما، ثم قال أحدهما لصاحبه: /هلمّ نشرب بهذا الجرن(2) - و أومأ إلى جرن عظيم من رخام - قال: أفعل؛ فلم يزالا يتعاطيانه بينهما و ينسربان و يشربان به حتى ثملا. فقال عبد الوهاب لمولى له أسود: هاته. قال ضمرة: و قد رأيته و كان يوصف بالشدّة، فذهب يحرّكه فلم يقدر. فقال الراهب: و اللّه لقد رأيتهما يتعاطيانه و كلّ واحد منهما يملؤه لصاحبه فيرفعه و يشربه غير مكترث.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو غسّان محمد بن يحيى قال:
وفد سعد بن مرّة بن جبير مولى آل كثير بن الصّلت، و كان شاعرا، على الوليد بن يزيد، فعرض له في يوم من أيام الربيع و قد خرج إلى متنزّه له، فصاح به: يا أمير المؤمنين، وافدك و زائرك و مؤمّلك؛ فتبادر الحرس إليه ليصدّوه عنه، فقال: دعوه، أدن إليّ فدنا إليه؛ فقال: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل الحجاز شاعر؛ قال: تريد ما ذا؟ قال: تسمع منّي أربعة أبيات؛ قال: هات.
ص: 19
شمن المخايل نحو أرضك بالحيا *** و لقين ركبانا بعرفك قفّلا
قال: ثم مه؛ قال:
فعمدن نحوك لم ينخن(1) لحاجة *** إلاّ وقوع الطير حتى ترحلا
قال: إن هذا(2) السير حثيث؛ ثم ما ذا؟ قال:
يعمدن نحو موطّئ حجراته *** كرما و لم تعدل بذلك معدلا
/قال: فقد وصلت إليه، فمه؛ قال:
لاحت لها نيران حيي قسطل(3) *** فاخترن نارك في المنازل منزلا
قال: فهل غير هذا؟ قال لا؛ قال: أنجحت وفادتك، و وجبت ضيافتك؛ أعطوه أربعة آلاف دينار؛ فقبضها و رحل.
الغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو و الهشاميّ.
رجعت الرواية إلى الحديث المدائنيّ قال:
لمّا قدم العباس بن الوليد لإحصاء ما في خزائن هشام و ولده سوى مسلمة بن هشام فإنه كان كثيرا ما يكفّ أباه عن الوليد و يكلّمه فيه ألاّ يعرض له و لا يدخل منزله. و كانت عند مسلمة أمّ سلمة(4) بنت يعقوب المخزوميّة، و كان مسلمة يشرب. فلمّا قدم العبّاس لإحصاء ما كتب إليه الوليد، كتبت إليه أم سلمة: ما يفيق من الشّراب و لا يهتمّ بشيء مما فيه إخوته و لا بموت أبيه. فلما راح مسلمة بن هشام إلى العباس قال له: يا مسلمة، كان أبوك يرشّحك للخلافة و نحن نرجوك لما بلغني عنك، و أنّبه و عاتبه على الشراب؛ فأنكر مسلمة ذلك و قال: من أخبرك بهذا؟ قال:
كتبت إليّ به أمّ سلمة؛ فطلّقها في ذلك المجلس، فخرجت إلى فلسطين، و بها كانت تنزل، و تزوّجها أبو العباس السفّاح هناك.
و سلمى التي عناها الوليد هناك هي سلمى بنت سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفان؛ و أمها أمّ عمرو بنت مروان بن الحكم، و أمّها بنت عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ.
ص: 20
/فأخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلاّم و عن المدائنيّ عن جويرية بن أسماء:
أن يزيد بن عبد الملك كان خرج إلى قرين(1) متبدّيا(2) به، و كان هناك قصر لسعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان؛ و كانت بنته أمّ عبد الملك، و اسمها سعدة، تحت الوليد بن يزيد. فمرض سعيد في ذلك الوقت، و جاءه الوليد عائدا، فدخل فلمح سلمى بنت سعيد أخت زوجته و سترها حواضنها و أختها فقامت ففرعتهن(3) طولا، فوقعت بقلب الوليد. فلما مات أبوه طلّق أمّ عبد الملك زوجته و خطب سلمى إلى أبيها. و كانت لها أخت يقال لها أمّ عثمان تحت هشام بن عبد الملك؛ فبعثت إلى أبيها - و قيل: بعث إليه هشام -: أ تريد أن تستفحل الوليد لبناتك يطلّق هذه و ينكح هذه! فلم يزوّجه سعيد و ردّه أقبح ردّ. و هويها الوليد و رام السلوّ عنها فلم يسل؛ و كان يقول:
العجب لسعيد! خطبت إليه فردّني، و لو قد مات هشام و وليت لزوّجني! و هي طالق ثلاثا إن تزوّجتها حينئذ و إن كنت أهواها. فيقال: إنه لما طلّق سعدة ندم على ذلك/و غمّه. و كان لها من قلبه محلّ و لم تحصل له سلمى؛ فاهتمّ لذلك و جزع. و راسل سعدة، و قد كانت زوّجت غيره فلم ينتفع بذلك.
فأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و الحسن بن عليّ قالا حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن الجهم قال حدّثنا المدائنيّ قال:
بعث الوليد بن يزيد إلى أشعب بعد ما طلّق امرأته، فقال: يا أشعب، لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلغ رسالتي سعدة؛ فقال: أحضر العشرة الآلاف/الدرهم حتى انظر إليها؛ فأحضرها الوليد؛ فوضعها أشعب على عنقه و قال: هات رسالتك؛ قال: قل لها يقول لك أمير المؤمنين:
أ سعدة هل إليك لنا سبيل *** و هل حتى القيامة من تلاقي
بلى و لعلّ دهرا أن يؤاتي *** بموت من حليلك أو طلاق
فأصبح شامتا و تقرّ عيني *** و يجمع شملنا بعد افتراق
فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه، فأمرت لها ففرشت و جلست و أذنت له. فلما دخل أنشدها ما أمره؛ فقالت لخدمها: خذوا الفاسق! فقال: يا سيّدتي إنها بعشرة آلاف درهم. قالت: و اللّه لأقتلنك أو تبلّغه كما بلّغتني؛ قال: و ما تهبين لي؟ قالت: بساطي الذي تحتي؛ قال: قومي عنه؛ فقامت فطواه و جعله إلى جانبه، ثم قال: هات رسالتك جعلت فداك؛ قالت: قل له:
أ تبكي على لبنى و أنت تركتها *** فقد ذهبت لبنى فما أنت صانع(4)
ص: 21
فأقبل أشعب فدخل على الوليد؛ فقال: فأنشده البيت؛ أوّه قتلتني يا بن الزانية! ما أنا صانع، فاختر أنت الآن ما أنت صانع (9) يا بن الزانية، إمّا أن أدلّيك/على رأسك منكّسا في بئر أو أرمي بك منكّسا من فوق القصر أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربة، هذا الذي أنا صانع، فاختر أنت الآن ما أنت صانع؛ فقال: ما كنت لتفعل شيئا من ذلك؛ قال: و لم يا بن الزانية؟ قال: لم تكن عينين نظرتا إلى سعدة. قال: أوّه! أفلتّ و اللّه بهذا يا بن الزانية! اخرج عنّي. و قال الحسن في روايته: إنها قالت له أنشده:
أ تبكي على لبنى و أنت تركتها *** و أنت عليها بالملا(1) كنت أقدر
و في هذه الأبيات غناء هذه نسبته:
أرى بيت لبنى أصبح اليوم يهجر *** و هجران لبنى يا لك الخير منكر
فإن تكن الدنيا بلبنى تغيّرت *** فللدّهر و الدنيا بطون و أظهر
أ تبكي على لبنى و أنت تركتها *** و أنت عليها بالحرا(2) كنت أقدر
عروضه من الطويل. و الشعر لقيس بن ذريح. و الغناء في الثاني و الثالث للغريض ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو و الهشاميّ.، و فيهما(3) لعريب رمل بالبنصر. و فيه لشارية خفيف رمل بالوسطى عن الهشاميّ. و في الأوّل خفيف ثقيل مجهول.
قال ابن سلاّم و المدائنيّ في خبرهما: و خرج الوليد بن يزيد يريد فرتنى(4) لعلّه يراها؛ فلقيه زيّات معه حمار عليه زيت؛ فقال له: هل لك أن تأخذ فرسي هذا و تعطيني حمارك هذا بما عليه و تأخذ ثيابي و تعطيني ثيابك؟ /ففعل الزيات ذلك. و جاء الوليد و عليه الثياب و بين يديه الحمار يسوقه متنكّرا حتى دخل قصر سعيد، /فنادى:
من يشتري الزيت، فاطّلع بعض الجواري فرأينه فدخلن إلى سلمى و قلن: إن بالباب زيّاتا أشبه الناس بالوليد، فاخرجي فانظري إليه؛ فخرجت فرأته و رآها، فرجعت القهقرى و قالت: هو و اللّه الفاسق الوليد! و قد رآني! فقلن له: لا حاجة بنا إلى زيتك؛ فانصرف و قال:
إنني أبصرت شيخا *** حسن الوجه مليح
ص: 22
و لباسي ثوب شيخ *** من عباء مسوح
و أبيع الزيت بيعا *** خاسرا غير ربيح
و قال أيضا:
فما مسك يعلّ بزنجبيل *** و لا عسل بألبان اللقاح
بأشهى من مجاجة ريق سلمى *** و لا ما في الزّقاق من القراح
و لا و اللّه لا أنسى حياتي *** وثاق الباب دوني و اطّراحي
قال: فلما ولى الخلافة أشخص إلى المغنّين فحضروه و فيهم معبد و ابن عائشة و ذووهما. فقال لابن عائشة:
يا محمد، إن غنّيتني صوتين في نفسي فلك عندي مائة ألف درهم؛ فغنّاه قوله:
إنني أبصرت شيخا
و غنّاه:
فما مسك يعلّ بزنجبيل
الأبيات، فقال الوليد: ما عدوت ما في نفسي؛ و أمر له بمائة ألف درهم و ألطاف و خلع، و أمر لسائر المغنّين بدون ذلك.
فما مسك يعلّ بزنجبيل *** و لا عسل بألبان اللّقاح
بأطيب من مجاجة ريق سلمى *** و لا ما في الزّقاق من القراح
غنّاه ابن عائشة، و لحنه ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ و حماد بن إسحاق.
قال المدائنيّ و ابن سلاّم: فلمّا طال بالوليد ما به كتب إلى أبيها سعيد:
أبا عثمان هل لك في صنيع *** تصيب الرشد في صلتي هديتا
فأشكر منك(1) ما تسدى و تحيى *** أبا عثمان ميّتة و ميتا
قالوا: فلم يجبه إلى ذلك حتى ولى الخلافة، فلما وليها زوّجه إياها؛ فلم يلبث إلاّ مدّة يسيرة حتى ماتت.
و قال فيها ليلة زفّت إليه:
خفّ من دار جيرتي *** يا بن داود أنسها
ص: 23
و هي طويلة. و فيها ممّا يغنّى به:
أو لا تخرج العرو *** س فقد طال حبسها
قد دنا الصبح أو بدا *** و هي لم يقض لبسها
برزت كالهلال في *** ليلة غاب نحسها
/بين خمس كواعب *** أكرم الخمس جنسها
غناء ابن سريج، فيما ذكره حبش، رمل بالبنصر، أوّله:
خفّ من دار جيرتي
و غناء معبد فيه خفيف ثقيل، أوّله:
و متى تخرج العروس
/في رواية الهشاميّ و ابن المكيّ. و غناء عمر الواديّ في الأربعة الأبيات الأخر خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. و ذكر في النسخة الثانية و وافقه الهشاميّ أنّ فيه هزجا بالوسطى ينسب إلى حكم و إلى أبي كامل و إلى عمر.
و قد أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا الأصمعيّ قال: رأيت حكما الوادي قد تعرّض للمهديّ و هو يريد الحجّ، فوقف له في الطريق و كانت له شهرة، فأخرج دفّا له فنقر فيه و قال: أنا، أطال اللّه بقاءك، القائل:
و متى تخرج العرو *** س فقد طال حبسها
قد دنا الصبح أو بدا *** و هي لم يقض لبسها
قال: فتسرّع إليه الحرس، فصيح بهم، و إذا هو حكم الوادي؛ فأدخل إليه المضرب فوصله و انصرف.
نسبة أو لا تخرج العروس - قال: الشعر للوليد بن يزيد. و الغناء لعمر الواديّ. و فيه لحنان هزج خفيف بالخنصر في مجرى البنصر [و خفيف(1) رمل بالخنصر في مجرى البنصر جميعا عن إسحاق]؛ و ذكر حكم الواديّ أنّ الهزج له؛ و ذكر إسحاق أن لحن حكم خفيف رمل بالخنصر في مجرى الوسطى. و قال في كتاب يحيى: إن هذا اللحن لعمر الواديّ. و ذكر الهشاميّ أنّ فيه خفيف ثقيل لمعبد و رملا لابن سريج. و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه للدّلال خفيف ثقيل أوّل بالبنصر.
و قال المدائنيّ: مكثت عنده سلمى أربعين يوما ثم ماتت؛ فقال:
أ لمّا تعلما سلمى أقامت *** مضمّنة من الصحراء لحدا
ص: 24
لعمرك يا وليد لقد أجنّوا *** بها حسبا و مكرمة و مجدا
/و وجها كان يقصر عن مداه *** شعاع الشمس أهل أن يفدّى
فلم أر ميّتا أبكى لعين *** و أكثر جازعا و أجلّ فقدا
و أجدر أن تكون لديه ملكا *** يريك جلادة و يسرّ وجدا
ذكر أشعار الوليد التي قالها في سلمى و غنّى المغنّون فيها منها:
عرفت المنزل الخالي *** عفا من بعد أحوال
عفاه كلّ حنّان *** عسوف الوبل هطّال
لسلمى قرّة العين *** و بنت العمّ و الخال
بذلت اليوم في سلمى *** خطارا(1) أتلفت مالي
/كأنّ الريق من فيها *** سحيق(2) بين جريال
غنّاه عمر الواديّ هزجا بالوسطى عن عمرو. و ذكر ابن خرداذبه أنّ هذا اللحن للوليد بن يزيد. و فيه رمل ذكر الهشاميّ أنه لابن سريج.
و منها و هو الصوت الذي غنّاه أبو كامل فأعطاه الوليد قلنسيته(3):
منازل قد تحلّ بها سليمى *** دوارس قد أضرّ بها السّنون
أميت السرّ حفظا يا سليمى *** إذا ما السرّ باح به الحزون(4)
/غنّاه أبو كامل من الثقيل الأوّل. و فيه لابن سريج، و يقال للغريض، خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ، و قيل: إنه لحكم أو لعمر الوادي.
و منها:
ص: 25
أراني قد تصابيت *** و قد كنت تناهيت(1)
و لو يتركني الحبّ *** لقد صمت و صلّيت
إذا شئت تصبّرت *** و لا أصبر إن شيت
و لا و اللّه لا يصب *** ر في الدّيمومة(2) الحوت
سليمى ليس لي صبر *** و إن رخّصت لي جيت
فقبّلتك ألفين *** و فدّيت و حيّيت
ألا أحبب بزور زا *** ر من سلمى ببيروت(3)
غزال أدعج العين(4) *** نقيّ الجيد و اللّيت(5)
غنّاه ابن جامع في البيتين الأوّلين هزجا بالوسطى، و غنّاه أبو كامل في الأبيات كلها على ما ذكرت بذل و لم تجنّسه. و غنّى حكم الوادي في الثالث و الرابع و السابع و الثامن خفيف رمل بالوسطى عن عمرو و الهشاميّ.
/و منها:
عتبت سلمى علينا سفاها *** أن سببت اليوم فيها أباها
كان حقّ العتب يا قوم منّي *** ليس منها كان قلبي فداها
فلئن كنت أردت بقلبي *** لأبي سلمى خلاف هواها
فثكلت اليوم سلمى فسلمى *** ملأت أرضي معا و سماها
غير أني لا أظن عدوّا *** قد أتاها كاشحا بأذاها(6)
فلها العتبى لدينا و قلّت *** أبدا حتى أنال رضاها
ص: 26
غنّاه أبو كامل خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه ليحيى المكيّ ثقيل أوّل من رواية عليّ بن يحيى. و فيه رمل يقال: إنه لابن جامع، و يقال: بل لحن ابن جامع خفيف رمل أيضا.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن عمرو قال:
لقي سعيد بن خالد الوليد بن يزيد و هو ممل؛ فقال له: يا أبا عثمان، /أ تردّني على(1) سلمى! و كأني بك لو قد وليت الخلافة خطبتني فلم أجبك؛ و إن تزوّجتها حينئذ فهي طالق ثلاثا. فقال له سعيد: إن المرء يجعل كريمته عند مثلك لحقيق بأكثر مما قلت؛ فأمضّه الوليد و شتمه و تسامعا و افترقا. و بلغ الوليد أنّ سلمى جزعت لما جرى و بكت و سبّت الوليد و نالت منه؛ فقال:
عتبت سلمى علينا سفاها *** أن هجوت اليوم فيها أباها
/و ذكر الأبيات. و قال أيضا في ذلك:
على الدّور(2) التي بليت سفاها(3) *** قفا يا صاحبيّ فسائلاها
دعتك صبابة و دعاك شوق *** و أخضل دمع عينك مأقياها(4)
و قالت عند هجوتنا(5) أباها *** أردت الصّرم فانتده انتداها(6)
أردت بعادنا بهجاء شيخي *** و عندك خلّة تبغي هواها
فإن رضيت فذاك و إن تمادت *** فهبها خطّة بلغت مداها
- غنّاه مالك بن أبي السّمح خفيف رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و للهذلي فيه ثاني ثقيل بالوسطى عن يونس و الهشاميّ؛ و ذكر حبش: أنّ الثقيل الثاني لإسحاق - يعني بقوله:
أردت بعادنا بهجاء شيخي
أنه كان هجا سعيد بن خالد، فقال:
و من يك مفتاحا لخير يريده *** فإنك قفل يا سعيد بن خالد
قال المدائنيّ: لمّا غضبت سلمى من هجائه أباها قال يعتذر إليه بقوله:
ص: 27
ألا أبلغ أبا عثما *** ن عذرة معتب أسفا
فلست كمن يودّك بال *** لسان و يكثر الحلفا
/عتبت عليّ في أشيا *** ء كانت بيننا سرفا
فلا تشمت بي الأعدا *** ء و الجيران ملتهفا
تودّ لو أنّني لحم *** رأته الطير فاختطفا
و لا ترفع به رأسا(1) *** عفا الرحمن ما سلفا
و منها و هو من سخيف شعره:
خبّروني أن سلمى *** خرجت يوم المصلّى
فإذا طير مليح *** فوق غصن يتفلّى
قلت من يعرف سلمى *** قال ها ثم تعلّى
قلت يا طير ادن منّي *** قال ها ثم تدلّى
قلت هل أبصرت سلمى *** قال لا ثم تولّى
فنكا(2) في القلب كلما *** باطنا ثم تعلّى
/فيه ثقيل أوّل بالبنصر مطلق، ذكر الهشاميّ أنه لأبي كامل و لعمر الوادي، و ذكر حبش أنه لدحمان.
و منها:
اسقني يا ابن سالم قد أنارا *** كوكب الصبح و انجلى و استنارا
اسقني من سلاف ريق سليمى *** واسق هذا النديم كأسا عقارا
/غنّاه ابن قدح(3) ثاني ثقيل بالوسطى من رواية حبش.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني عمّي عبيد اللّه قال حدّثني أبي:
ص: 28
أنّ المأمون قال لمن حضره من جلسائه: أنشدوني بيتا لملك يدلّ البيت و إن لم يعرف قائله أنه شعر ملك؛ فأنشده بعضهم قول امرئ القيس:
أ من أجل أعرابيّة حلّ أهلها *** جنوب الملا(1) عيناك تبتدران
قال: و ما في هذا مما يدلّ على ملكه! قد يجوز أن يقول هذا سوقة من أهل الحضر، فكأنه يؤنّب نفسه على التعلّق بأعرابيّة؛ ثم قال: الشعر الذي يدلّ على أن قائله ملك قول الوليد:
اسقني من سلاف ريق سليمى *** و اسق هذا النديم كأسا عقارا
أما ترى إلى إشارته في قوله هذا النديم و أنها إشارة ملك. و مثل قوله:
لي المحض من ودّهم *** و يغمرهم نائلي
و هذا قول من يقدر بالملك على طويّات الرجال، يبذل(2) المعروف لهم و يمكنه استخلاصها لنفسه.
و في هذا البيت مع أبيات قبله غناء و هو قوله:
سقيت أبا كامل *** من الأصفر البابلي
و سقّيتها معبدا *** و كلّ فتى بازل(3)
/لي المحض من ودّهم *** و يغمرهم نائلي
فما لا مني فيهم *** سوى حاسد جاهل
غنّاه أبو كامل ثقيلا أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر.
و منها و هو من ملح(4) شعره:
أراني اللّه يا سلمى حياتي *** و في يوم الحساب كما أراك
ألا تجزين من تيّمت عصرا *** و من لو تطلبين لقد قضاك
و من لو متّ مات و لا تموتي *** و لو أنسي(5) له أجل بكاك
و من حقّا لو اعطي ما تمنّى *** من الدنيا العريضة ما عداك
ص: 29
و من لو قلت مت فأطاق موتا *** إذا ذاق الممات و ما عصاك
أثيبي عاشقا كلفا معنى *** إذا خدرت له رجل دعاك
كانت العرب تقول: إن الإنسان إذا خدرت قدمه دعا باسم أحبّ الناس إليه فسكنت. في الخبر أن رجل عبد اللّه بن عمر خدرت؛ فقيل له: ادع باسم أحبّ الناس إليك؛ فقال: /يا رسول اللّه، صلى اللّه على رسول اللّه و على(1) آله و سلّم. ذكر يونس أنّ في هذه الأبيات لحنا لسنان الكاتب، و ذكرت دنانير أنه لحكم و لم تجنّسه(2).
/و منها:
ويح سلمى لو تراني *** لعناها ما عناني
متلفا في اللهو ما لي *** عاشقا حور القيان
إنما أحزن قلبي *** قول سلمى إذ أتاني
و لقد كنت زمانا *** خالي الذّرع لشاني
شاق قلبي و عناني *** حبّ سلمى و براني
و لكم لام نصيح *** في سليمى و نهاني
غنّته فريدة خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه ثقيل أوّل ينسب إلى معبد؛ و هو فيما يذكر إسحاق يشبه غناءه و ليس تعرف صحّته له، و ذكر كثير الكبير أنه له، و ذكر الهشاميّ أنه لابن المكيّ. و فيه لحكم هزج صحيح.
/و منها:
بلّغا عنّي سليمى *** و سلاها لي عمّا
فعلت في شأن صبّ *** دنف أشعر همّا
و لقد قلت لسلمى *** إذ قتلت البين علما
أنت همّي يا سليمى *** قد قضاه الربّ حتما
نزلت في القلب قسرا *** منزلا قد كان يحمى
غنّاه حكم خفيف ثقيل. و لعمر الوادي فيه خفيف رمل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
و منها:
ص: 30
يا سليمى يا سليمى *** كنت للقلب عذابا
يا سليمى ابنة عمّي *** برد الليل و طابا
أيّما واش وشى بي *** فاملئي فاه ترابا
ريقها في الصبح مسك *** باشر العذب الرّضابا
غنّاه عمر الوادي هزجا بالبنصر عن الهشاميّ، و ذكر ابن المكيّ أنّه لمعان(1). و في كتاب إبراهيم أنه لعطرّد.
و منها:
أسلمى تلك حيّيت *** قفي(2) نخبرك إن شيت
و قيلي ساعة نشك *** إليك الحبّ أو بيتي
فما صهباء لم تكس *** قذى من خمر بيروت
ثوت في الدّنّ أعواما *** ختيما عند حانوت
غنّاه عمر الوادي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو.
و منها:
يا من لقلب في الهوى متشعب *** بل من لقلب بالحبيب عميد
سلمى هواه ليس يعرف غيرها *** دون الطّريف و دون كلّ تليد
/إن القرابة و السعادة ألّفا *** بين الوليد و بين بنت سعيد
يا قلب كم كلف الفؤاد بغادة *** ممكورة ريّا العظام خريد
غنّاه عمر الوادي رملا بالبنصر عن عمرو.
و منها:
ص: 31
قد تمنّى معشر إذا أطربوا *** من عقار و سوام(1) و ذهب
ثم قالوا لي تمنّ و استمع *** كيف ننحو في الأماني و الطلب
فتمنّيت سليمى إنها *** بنت عمّي من لهاميم(2) العرب
فيه للهذليّ خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و ذكر الهشاميّ أن هذا الخفيف الثقيل لخالد صامة(3).
و ذكر ابن المكيّ أن فيه لمالك ثاني ثقيل بالوسطى.
و منها:
هل إلى أمّ سعيد *** من رسول أو سبيل
ناصح يخبر أنّي *** حافظ ودّ خليل
يبذل الودّ لغيري *** و أكافي بالجميل
لست أرضى لخليلي *** من وصالي بالقليل
غنّاه عمر الوادي هزجا خفيفا بالسبّابة في مجرى الوسطى.
/و منها:
طاف من سلمى خيال *** بعد ما نمت فهاجا
قلت عج نحوي أسائل *** ك عن الحبّ فعاجا
يا خليلي يا نديمي *** قم فأنفث(4) لي سراجا
بفلاة ليس ترعى *** أنبتت شيحا و حاجا(5)
غنّاه عمر الوادي ثانيّ ثقيل بالوسطى عن عمرو. و لابن سريج فيه خفيف رمل بالوسطى عن حبش. و لأبي سلمى المدنيّ ثقيل أوّل عن ابن خرداذبه.
و منها:
ص: 32
أمّ سلاّم أثيبي عاشقا *** يعلم اللّه يقينا ربّه
أنّكم من عيشه في نفسه *** يا سليمى فاعلميه حسبه
فارحميه إنه يهذي بكم *** هائم صبّ قد أودى قلبه
أنت لو كنت له راحمة *** لم يكدّر يا سليمى شربه
غنّاه حكم رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أن فيه لابن سريج/رملا بالوسطى.
و منها:
ربّ بيت كأنه متن سهم *** سوف نأتيه من قرى بيروت
من بلاد ليست لنا ببلاد *** كلما جئت نحوها حييت
/أمّ سلاّم لا برحت بخير *** ثم لا زلت جنّتي ما حييت
طربا نحوكم و توقا و شوقا *** لادّكاريكم(1) و طيب المبيت
حيثما كنت من بلاد و سرتم *** فوقاك الإله ما قد خشيت
في البيت الأوّل و الثاني لابن عائشة ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر عن الهشاميّ، و ذكر غيره(2) أنه لإبراهيم. و في الثالث و ما بعده و الثاني لابن عائشة أيضا رمل بالوسطى، و لابن سريج خفيف رمل بالبنصر. و قيل:
إن الرّمل لعمر الوادي، و هو أن يكون له أشبه.
و منها:
طرقتني و صحابي هجوع *** ظبية أدماء مثل الهلال
مثل قرن الشمس لما تبدّت *** و استقلّت في رءوس(3) الجبال
تقطع الأهوال نحوي و كانت *** عندنا سلمى ألوف الحجال
كم أجازت نحونا من بلاد *** وحشة قتّالة للرجال
ص: 33
لابن محرز فيه ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق في الثاني و الثالث. و لابن سريج في الأوّل و ما بعده خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه لحن لابن عائشة ذكر الهشاميّ أنه رمل بالوسطى. و فيه خفيف رمل ينسب إلى ابن سريج و عمر الوادي.
/و منها:
أنا الوليد الإمام مفتخرا *** أنعم بالي و أتبع الغزلا
أهوى سليمى و هي تصرمني *** و ليس حقّا جفاء من وصلا
أسحب بردى إلى منازلها *** و لا أبالي مقال من عذلا
غنّى فيه أبو كامل رملا بالبنصر. و غنّى عمر الوادي فيه خفيف رمل بالوسطى، و يقال إن هذا اللحن للوليد.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال:
قال الوليد على لسان سلمى:
اقر منّي على الوليد السلاما *** عدد النجم قلّ ذا للوليد
حسدا ما حسدت أختي عليه *** ربّنا بيننا و بين سعيد
غنّاه الهذليّ خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن ابن المكيّ.
حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا خالد بن النّضر القرشيّ بالبصرة قال حدّثنا أبو حاتم السّجستانيّ قال حدّثنا العتبيّ قال:
كانت للوليد بن يزيد جارية يقال لها صدوف؛ فغاضبها، ثم لم يطعه قلبه فجعل يتسبّب لصلحها، فدخل عليه رجل قرشيّ من أهل المدينة فكلّمه في حاجة و قد عرف خبره، فبرم به؛ فأنشده:
/
أعتبت أن عتبت عليك صدوف *** و عتاب مثلك مثلها تشريف
/لا تقعدنّ تلوم نفسك دائما *** فيها و أنت بحبّها مشغوف
إن القطيعة لا يقوم لمثلها *** إلا القويّ، و من يحبّ ضعيف
الحبّ أملك بالفتى من نفسه *** و الذلّ فيه مسلك مألوف
قال: فضحك و جعل ذلك سببا لصلحها، و أمر بقضاء حوائج القرشيّ كلّها.
أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال قال حمّاد الرّاوية:
ص: 34
استدعاني الوليد بن يزيد و أمر لي بألفين لنفقتي و ألفين لعيالي، فقدمت عليه. فلما دخلت داره قال لي الخدم: أمير المؤمنين من خلف الستارة الحمراء، فسلّمت بالخلافة؛ فقال لي: يا حمّاد؛ قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين؛ قال: «ثم ثاروا»؛ فلم أدر ما يعني فقال: ويحك يا حمّاد! «ثم ثاروا»؛ فقلت في نفسي: راوية أهل العراق لا يدري عمّا يسأل! ثم انتبهت فقلت:
ثم ثاروا إلى الصّبوح فقامت *** قينة في يمينها إبريق
قدّمته على عقار كعين *** الدّيك صفّى سلافها الرّاووق
ثم فضّ الختام عن حاجب(1) الدّ *** نّ و قامت لدى اليهوديّ سوق
فسباها منه أشمّ عزيز *** أريحيّ غذاه عيش رقيق
- الشعر لعديّ بن زيد. و الغناء لحنين خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و فيه لمالك خفيف رمل. و لعبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ رمل، كل ذلك عن الهشاميّ - قال: فإذا جارية قد أخرجت كفّا لطيفة من تحت الستر في يدها قدح، و اللّه ما أدري/أيّهما أحسن الكفّ أم القدح؛ فقال: ردّيه فما أنصفناه! تغدّينا و لم نغدّه! فأتيت بالغداء، و حضر أبو كامل مولاه فغنّاه:
أدر الكأس يمينا *** لا تدرها ليسار
اسق هذا ثم هذا *** صاحب العود النّضار
من كميت عتّقوها *** منذ دهر في جرار
ختموها بالأفاوي *** ه(2) و كافور وقار
فلقد أيقنت أنّي *** غير مبعوث لنار
سأروض الناس حتى *** يركبوا أير(3) الحمار
و ذروا من يطلب الج *** نة يسعى لتبار(4)
- فيه هزجان بالوسطى و البنصر لعمر الوادي و أبي كامل - فطرب و برز إلينا و عليه غلالة مورّدة، و شرب حتى سكر. فأقمت عنده مدّة ثم أذن بالانصراف؛ و كتب لي إلى عامله بالعراق بعشرة آلاف درهم.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:
لما ولي الوليد بن يزيد لهج بالغناء و الشّراب و الصيد، و حمل المغنّين من المدينة و غيرها إليه و أرسل إلى
ص: 35
أشعب فجاء(1) به، فألبسه سراويل من جلد قرد له ذنب، و قال/له: ارقص و غنّني شعرا يعجبني؛ فإن فعلت فلك ألف درهم؛ فغنّاه فأعجبه فأعطاه ألف درهم.
/و دخل إليه يوما، فلما رآه الوليد كشف عن أيره و هو منعظ - قال أشعب: فرأيته كأنه مزمار آبنوس مدهون - فقال لي: أ رأيت مثله قطّ؟ قلت: لا يا سيّدي؛ قال: فاسجد له، فسجدت ثلاثا؛ فقال: ما هذا؟ قلت: واحدة لأيرك و ثنتين لخصيتيك. قال: فضحك و أمر لي بجائزة.
قال: و تكلم بعض جلسائه و المغنّية تغنّي، فكره ذلك و أضجره؛ فقال لبعض جلسائه: قم فنكه، فقام فناكه و الناس حضور و هو يضحك.
و ذكرت جارية أنه واقعها يوما و هو سكران؛ فلما تنحّى عنها آذنه المؤذّن بالصلاة، فحلف ألاّ يصلّي بالناس غيرها؛ فخرجت متلثّمة فصلّت بالناس.
قال: و نزل على غدير ماء فاستحسنه. فلما سكر حلف ألاّ يبرح حتى يشرب ذلك الغدير كلّه و نام، فأمر العلاء بن البندار بالقرب و الرّوايا فأحضرت، فجعل ينزحه و يصبّه على الأرض و الكثب التي حولهم حتى لم يبق فيه شيء؛ فلما أصبح الوليد رآه قد نشف فطرب و قال: أنا أبو العباس! ارتحلوا. فارتحل الناس.
نسخت من كتاب الحسين بن فهم قال النّضر بن حديد حدّثني ابن أبي جناح قال أخبرني عمر بن جبلة:
أنّ الوليد بن يزيد بات عند امرأة وعدته المبيت؛ فقال حين انصرف:
قامت إليّ بتقبيل تعانقني *** ريّا العظام كأن المسك في فيها
أدخل فديتك لا يشعر بنا أحد *** نفسي لنفسك من داء تفدّيها
بتنا كذلك لا نوم على سرر *** من شدّة الوجد تدنيني و أدنيها
/حتى إذا ما بدا الخيطان(2) قلت لها *** حان الفراق فكاد الحزن يشجيها
ثم انصرفت و لم يشعر بنا أحد *** و اللّه عنّي بحسن الفعل يجزيها
و حدّثني النّضر بن حديد قال حدّثنا هشام بن الكلبيّ عن خالد بن سعيد قال:
مرّ الوليد بن يزيد و هو متصيّد بنسوة من بني كلب من بني المنجاب، فوقف عليهن و استسقاهنّ و حدّثهن و أمر لهنّ بصلة، ثم مضى و هو يقول:
و لقد مررت بنسوة أعشينني *** حور المدامع من بني المنجاب
فيهنّ خرعبة(3) مليح دلّها *** غرثى الوشاح دقيقة الأنياب
ص: 36
زين الحواضر ما ثوت في حضرها *** و تزين باديها من الأعراب
قال النّضر و حدّثني ابن الكلبيّ عن أبيه:
أن الوليد خرج يتصيّد ذات يوم، فصادت كلابه غزالا، فأتي به فقال: خلّوه(1)، فما رأيت أشبه منه جيدا و عينين بسلمى. ثم أنشأ يقول:
و لقد صدنا غزالا سانحا *** قد أردنا ذبحه لما سنح
فإذا شبهك ما ننكره *** حين أزجى(2) طرفه ثم لمح
فتركناه و لو لا حبّكم *** فاعلمي ذاك لقد كان انذبح
أنت يا ظبي طليق آمن *** فاغد في الغزلان مسرورا و رح
نسخت من كتاب الحسين بن فهم قال أخبرني عمرو عن أبيه عن عمرو بن واقد الدمشقيّ/قال:
/بعث الوليد بن يزيد إلى شراعة(3) بن الزّندبوذ، فلما قدم عليه قال: يا شراعة، إني لم أستحضرك لأسألك عن العلم و لا لأستفتيك في الفقه و لا لتحدّثني و لا لتقرئني القرآن؛ قال: لو سألتني عن هذا لوجدتني فيه حمارا.
قال: فكيف علمك بالفتوّة؟ قال: ابن بجدتها، و على الخبير بها سقطت، فسل عما شئت. قال: فكيف علمك بالأشربة؟ قال: ليسألني أمير المؤمنين عما أحبّ. قال: ما قولك في الماء؟ قال: هو الحياة، و يشركني فيه الحمار.
قال: فاللّبن؟ قال: ما رأيته قطّ إلا ذكرت أميّ فاستحيت. قال: فالخمر؟ قال: تلك السارّة البارّة(4) و شراب أهل الجنة. قال: للّه درّك! فأيّ شيء أحسن ما يشرب عليه؟ قال: عجبت لمن قدر أن يشرب على وجه السماء في كنّ من الحرّ و القرّ كيف يختار عليها شيئا!.
قال و أخبرنا عمرو عن أبيه عن يحيى بن سليم قال:
دعا الوليد بن يزيد ذات ليلة بمصحف؛ فلما فتحه وافق ورقة فيها: وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خٰابَ كُلُّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرٰائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقىٰ مِنْ مٰاءٍ صَدِيدٍ ، فقال: أ سجعا سجعا! علّقوه؛ ثم أخذ القوس و النّبل فرماه حتى مزّقه؛ ثم قال:
أتوعد كلّ جبّار عنيد *** فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا لاقيت ربّك يوم حشر *** فقل(5) للّه مزّقني الوليد
ص: 37
قال: فما لبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى قتل.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال حدّثني معاوية بن بكر عن يعقوب بن عيّاش المروزيّ (من أهل ذي(1) المروة) أن أباه حمل عدّة جوار إلى الوليد بن يزيد؛ فدخل إليه و عنده أخوه عبد الجبار و كان حسن الوجه و الشّعرة و فيّها؛ فأمر الوليد جارية منهنّ أن تغنّي:
لو كنت من هاشم أو من بني أسد *** أو عبد شمس أو أصحاب اللّوا الصّيد
و أمرها أخوه أن تغنّي:
أتعجب أن طربت لصوت حاد *** حدا بزلا يسرن ببطن واد
فغنّت ما أمرها به الغمر(2)؛ فغضب الوليد و احمرّ وجهه، و ظن أنها فعلت ذلك ميلا إلى أخيه. و عرفت الشرّ في وجهه، فاندفعت فغنّت:
أيها العاتب الذي خاف هجري *** و بعادي و ما عمدت(3) لذاكا
أ ترى أنّني بغيرك صبّ *** جعل اللّه من تظنّ فداكا
أنت كنت الملول في غير شيء *** بئس ما قلت ليس ذاك كذاكا
و لو أنّ الذي عتبت عليه *** خيّر الناس واحدا ما عداكا
فارض عنّي جعلت نعليك إنّي *** و العظيم الجليل أهوى رضاكا
/ - الشعر لعمر(4). و الغناء لمعبد من روايتي يونس و إسحاق، و لحنه من خفيف الثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. و ذكر حماد في أخبار ابن عائشة أن له فيه لحنا - قال: فسرّي عن الوليد و قال لها: ما منعك أن تغنّي ما دعوتك إليه؟ قالت: لم أكن أحسنه، و كنت أحسن الصوت/الذي سألنيه، أخذته من ابن عائشة؛ فلما تبيّنت غضبك غنّيت هذا الصوت و كنت أخذته من معبد. تعني الذي اعتذرت به إليه.
ص: 38
لو كنت(1) من هاشم أو من بني أسد *** أو عبد شمس أو أصحاب اللّوا الصّيد(2)
أو من بني نوفل أو آل مطّلب *** أو من بني جمح الخضر الجلاعيد(3)
أو من بني زهرة(4) الأبطال قد عرفوا *** للّه درّك لم تهمم بتهديد
الشعر لحسّان بن ثابت، يقوله لمسافع بن عياض أحد بني تيم بن مرّة، و خبره يذكر بعد هذا. و الغناء لابن سريج خفيف رمل بالخنصر(5)، و قيل: إنه لمالك.
/و منها:
أتعجب أن طربت لصوت حاد *** حدا بزلا يسرن ببطن واد
فلا تعجب فإن الحبّ أمسى *** لبثنة في السّواد من الفؤاد
الشعر لجميل. و الغناء لابن عائشة رمل بالبنصر.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال:
عرضت على الوليد بن يزيد جارية مغنيّة؛ فقال لها: غنّي؛ فغنّت:
لو لا الذي حمّلت من حبّكم *** لكان من إظهاره مخرج
أو مذهب في الأرض ذو فسحة *** أجل و من حجّت له مذحج
لكن سباني منهم شادن *** مربّب بينهم أدعج
ص: 39
أغرّ ممكور هضيم الحشى *** قد ضاق عنه الحجل و الدّملج
فقال لها الوليد: لمن هذا الشعر؟ قالت: للوليد بن يزيد المخزوميّ. قال: فممّن أخذت الغناء؟ قالت: من حنين. فقال: أعيديه، فأعادته فأجادت؛ فطرب الوليد و نعر(1) و قال: أحسنت و أبى و جمعت كلّ ما يحتاج إليه في غنائك، و أمر بابتياعها، و حظيت عنده.
غنّى في هذا الصوت ابن سريج و لحنه رمل بالبنصر. و غنّى فيه إسحاق فيما ذكر الهشاميّ خفيف ثقيل.
/و ممّا يغنّى به من هذه القصيدة:
قد صرّح القوم و ما لجلجوا *** لجّوا علينا ليت لم يلججوا
باتوا و فيهم كالمها طفلة *** قد زانها الخلخال و الدّملج
غنّاه صباح(2) الخيّاط خفيف ثقيل بالبنصر. و غنّى فيه ابن أبي الكنّات خفيف ثقيل بالوسطى.
فأمّا خبر الشعر الذي قاله حسّان بن ثابت لمسافع بن عياض أحد بني تيم بن مرّة، فأخبرني به الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عثمان بن عبد الرحمن:
أنّ عبيد(3) اللّه بن معمر و عبد اللّه(4) بن عامر بن كريز اشتريا من عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه رقيقا ممّن سبي، ففضل عليهما ثمانون ألف درهم؛ فأمر بهما عمر أن يلزما(5). فمرّ/بهما طلحة(6) بن عبيد اللّه و هو يريد الصلاة في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم/فقال: ما لابن معمر يلازم؟ فأخبر خبره؛ فأمر له بالأربعين ألفا(7) التي عليه تقضى عنه. فقال ابن معمر لابن عامر: إنها إن قضيت عنّي بقيت ملازما، و إن قضيت عنك لم يتركني طلحة حتى يقضي عنّي؛ فدفع إليه الأربعين ألفا(7) درهم فقضاها ابن عامر عن نفسه و خلّيت سبيله. فمرّ طلحة منصرفا من
ص: 40
الصلاة فوجد ابن معمر يلازم فقال: ما لابن معمر؟ أ لم آمر بالقضاء عنه! فأخبر بما صنع؛ فقال: أمّا ابن معمر فعلم أنّ له ابن عم لا يسلمه، احملوا عنه أربعين ألف درهم فاقضوها عنه، ففعلوا و خلّي سبيله. فقال حسّان بن ثابت لمسافع بن عياض بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة:
يا آل تيم أ لا تنهون جاهلكم *** قبل القذاف بصمّ كالجلاميد
فنهنهوه(1) فإنّي غير تارككم *** إن عاد ما اهتزّ ماء في ثرى عود
لو كنت من هاشم أو من بني أسد *** أو عبد شمس أو أصحاب اللّوا الصّيد
أو من بني نوفل أو آل مطّلب *** أو من بني جمح الخضر الجلاعيد
أو من بني زهرة الأبطال قد عرفوا *** للّه درّك لم تهمم بتهديد
أو في الذّؤابة من تيم إذا انتسبوا *** أو من بني الحارث البيض الأماجيد
لكن سأصرفها عنكم و أعدلها *** لطلحة بن عبيد اللّه ذي الجود
رجع الخبر إلى سياقة أخبار الوليد:
أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن عمرو قال قال الهيثم حدّثني ابن عيّاش قال:
/دخل أبو(2) الأقرع على الوليد بن يزيد؛ فقال له: أنشدني قولك في الخمر؛ فأنشده قوله:
كميت إذا شجّت و في الكأس وردة *** لها في عظام الشاربين دبيب
تريك القذى من دونها و هي دونه *** لوجه أخيها في الإناء قطوب
فقال الوليد: شربتها يا أبا الأقرع و ربّ الكعبة! فقال: يا أمير المؤمنين، لئن كان نعتي لها رابك لقد رابني معرفتك بها.
أخبرني الحسن قال حدّثني ابن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن عمرو قال قال المدائنيّ:
نظر الوليد بن يزيد إلى أم حبيب بنت عبد الرحمن بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف و قد مرّوا بين يديها بالشمع ليلا؛ فلما رآها أعجبته و راعه جمالها و حسنها؛ فسأل عنها فقيل له: إن لها زوجا؛ فأنشأ يقول:
ص: 41
إنما هاج لقلبي *** شجوه بعد المشيب
نظرة قد وقرت في ال *** قلب من أمّ حبيب
فإذا ما ذقت فاها *** ذقت عذبا ذا غروب(1)
خالط الراح بمسك *** خالص غير مشوب
/غنّاه ابن محرز خفيف رمل بالوسطى عن الهشاميّ؛ و ذكر عمرو بن بانة أنه للأبجر، و هو الصحيح.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن النّضر بن عمرو عن العتبيّ قال:
لمّا ظهرت المسوّدة(2) بخراسان كتب نصر بن سيّار إلى الوليد(3) يستمدّه، فتشاغل عنه؛ فكتب إليه كتابا و كتب في أسفله يقول:
أرى خلل الرّماد وميض جمر *** و أحر بأن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى *** و إنّ الحرب مبدؤها الكلام
فقلت من التعجّب ليت شعري *** أ أيقاظ أميّة أم نيام
فكتب إليه الوليد: قد أقطعتك خراسان، فاعمل لنفسك أودع، فإني مشغول عنك بابن سريج و معبد و الغريض.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد عن ابن الصبّاح عن ابن الكلبيّ عن حمّاد الراوية قال:
دخلت يوما على الوليد و كان آخر يوم لقيته فيه، فاستنشدني فأنشدته كلّ ضرب من شعر أهل الجاهليّة و الإسلام؛ فما هشّ لشيء منه حتى أخذت في السّخف فأنشدته لعمّار(4) ذي مجنبذا(5):
/
أشتهي منك منك من *** ك مكانا مجنبذا(6)
ص: 42
فأجا(1) فيه فيه في *** ه بأير كمثل ذا
ليت أيري و حرك يو *** ما جميعا تجابذا(2)
فأخذ ذا بشعر ذا *** و أخذ ذا بقعر ذا
فضحك حتى استلقى و طرب، و دعا بالشراب فشرب؛ و جعل يستعيدني الأبيات فأعيدها حتى سكر و أمر لي بجائزة؛ فعلمت أن أمره قد أدبر. ثم أدخلت على أبي مسلم فاستنشدني فأنشدته، قول الأفوه(3):
لنا معاشر لم يبنوا لقومهم
فلما بلغت إلى قوله:
تهدى الأمور بأهل الرشد ما صلحت *** و إن تولّت فبالأشرار تنقاد
قال: أنا ذلك الذي تنقاد به الناس؛ فأيقنت حينئذ أنّ أمره مقبل.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: وجدت في كتاب(4) عن عبيد اللّه بن سعيد الزّهريّ عن عمر عن أبيه قال:
خرج الوليد بن يزيد و كان مع أصحابه على شراب؛ فقيل له: إن اليوم الجمعة؛ فقال: و اللّه لأخطبنّهم اليوم بشعر؛ فصعد المنبر فخطب فقال:
الحمد للّه وليّ الحمد *** أحمده في يسرنا و الجهد
و هو الذي في الكرب أستعين *** و هو الذي ليس له قرين
/أشهد في الدنيا و ما سواها *** أن لا إله غيره إلها
ما إن له في خلقه شريك *** قد خضعت لملكه الملوك
أشهد أن الدّين دين أحمد *** فليس من خالفه بمهتدي
و أنّه رسول ربّ العرش *** القادر الفرد الشديد البطش
أرسله في خلقه نذيرا *** و بالكتاب واعظا بشيرا
/ليظهر اللّه بذاك الدّينا *** و قد جعلنا قبل مشركينا
من يطع اللّه فقد أصابا *** أو يعصه أو الرسول خابا
ثم القرآن و الهدى السبيل *** قد بقيا لمّا مضى الرسول
ص: 43
كأنّه لما بقى لديكم *** حيّ صحيح لا يزال فيكم
إنّكم من بعد إن تزلّوا *** عن قصده أو نهجه تضلّوا
لا تتركن نصحي فإني ناصح *** إنّ الطريق فاعلمنّ واضح
من يتّق اللّه يجد غبّ التّقى *** يوم الحساب صائرا إلى الهدى
إن التّقى أفضل شيء في العمل *** أرى جماع البرّ فيه قد دخل
خافوا الجحيم إخوتي لعلّكم *** يوم اللقاء تعرفوا ما سرّكم
قد قيل في الأمثال لو علمتم *** فانتفعوا بذاك إن عقلتم
ما يزرع الزارع يوما يحصده *** و ما يقدّم من صلاح يحمده
فاستغفروا ربّكم و توبوا *** فالموت منكم فاعلموا قريب
ثم نزل.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن أبيه عن الوليد البندار(1) قال:
/حججت مع الوليد بن يزيد؛ فقلت له لما أراد أن يخطب الناس: أيها الأمير، إن اليوم يوم يشهده الناس من جميع الآفاق، و أريد أن تشرّفني بشيء. قال: و ما هو؟ قلت: إذا علوت المنبر دعوت بي فيتحدّث الناس بذلك و بأنك أسررت إليّ شيئا؛ فقال: أفعل. فلما جلس على المنبر قال: الوليد البندار؛ فقمت إليه؛ فقال: ادن منّي فدنوت؛ فأخذ بأذني ثم قال: البندار ولد زنا، و الوليد ولد زنا، و كلّ من ترى حولنا ولد زنا، أ فهمت؟ قلت: نعم؛ قال: انزل الآن، فنزلت.
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ عن أشعب قال:
دخلت على الوليد بن يزيد الخاسر و قد تناول نبيذا، فقال لي: تمنّ؛ فقلت: يتمنّى أمير المؤمنين ثم أتمنّى؛ قال: فإنما أردت أن تغلبني، فإني لأتمنّى ضعف ما تتمنّى به كائنا ما كان؛ قلت: فإني أتمنّى كفلين(2) من العذاب؛ فضحك ثم قال: إذا نوفّرهما عليك. ثم قال لي: ما أشياء تبلغني عنك؟ قلت: يكذبون عليّ. قال: متى عهدك بالأصمّ؟ قلت: لا عهد لي به. فأخرج أيره كأنه ناي مدهون، فسجدت له ثلاث سجدات؛ فقال: ويلك إنما يسجد الناس سجدة واحدة؛ فقلت: واحدة للأصمّ و اثنتين لخصيتيك.
ص: 44
أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا محمد بن عليّ بن حمزة قال حدّثني عبد الصمد بن موسى الهاشميّ قال:
إنما أغلى الجوهر بنو أميّة؛ و لقد كان الوليد بن يزيد يلبس منه العقود و يغيّرها في اليوم مرارا كما تغيّر الثياب شغفا؛ فكان يجمعه من كلّ وجه و يغالي به.
قال: و كان يوما داره على فرس له و جارية تضرب بطبل قدّامه؛ فأخذه منها و وضعه على رقبته، و نفر الفرس من صوت الطبل فخرج به على أصحابه في هذه الهيئة، و كان خليعا.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الخرّاز عن المدائنيّ عن جويرية بن أسماء قال:
قدم/الوليد بن يزيد المدينة؛ فقلت لإسماعيل بن يسار: أحذنا(1) ممّا أعطاك اللّه؛ فقال: هلمّ أقاسمك إن قبلت، بعث إليّ براوية(2) من خمر.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قال حدّثني رجل قال:
كان الوليد بن يزيد إذا أصبح يوم الاثنين تغدّى و شرب رطلين ثم جلس للناس. قال: فحدّثني عمر الوادي قال: دخلت عليه و عنده أصحابه و قد تغدّى و هو يشرب؛ فقال لي: اشرب فشربت، و طرب، و غنّى صوتا واحدا و أخذ دفّافة فدفف بها، فأخذ كلّ واحد منا دفافة فدفف(3) بها، و قام و قمنا حتى بلغنا إلى الحاجب؛ فلما رآنا الحاجب صاح بالناس: الحرم الحرم؛ اخرجوا. و دخل الحاجب فقال: جعلني اللّه فداءك، اليوم يحضر فيه الناس؛ فقال له: اجلس و اشرب؛ فقال: إنما أنا حاجب فلا تحملني على الشّراب فما شربته قطّ؛ قال: اجلس فاشرب، فامتنع؛ فما(4) فارقناه حتى صببنا في حلقه بالقمع و قام و هو سكران.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن شريك قال حدّثني عمّي علي بن عمرو قرقارة قال حدّثني أنيف بن هشام بن الكلبيّ و مات قبل أبيه قال حدّثني أبي قال:
/خرج الوليد بن يزيد بن مقصورة له إلى مقصورة؛ فإذا هو ببنت له معها حاضنتها، فوثب عليها فاقترعها؛ فقالت له الحاضنة: إنها المجوسيّة؛ قال: اسكتي! ثم قال:
ص: 45
من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللذّة الجسور
و أحسب أنا أنّ هذا الخبر باطل؛ لأنّ هذا الشعر لسلم الخاسر، و لم يدرك زمن الوليد.
أخبرنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال أخبرني مسلمة بن سلّم الكاتب قال:
قال الوليد بن يزيد: وددت أنّ كل كأس تشرب من خمر بدينار، و أن كلّ حر في جبهة أسد، فلا يشرب إلا سخيّ، و لا ينكح إلا شجاع.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قال: سمعت رجلا يحدّث أبي بالكوفة قال:
أرسلت إلى الوليد جفنة مملوءة قوارير فرعونيّة لم ير(1) مثلها قطّ. فلما أمسينا صببنا فيها الشراب في ليلة أربع عشرة، حتى إذا استوى القمر على رءوسنا و صار في الجفنة قال الوليد: في أيّ منزلة القمر الليلة؟ فقال بعضهم: في الحمل، و قال بعضهم: في منزلة كذا و كذا من منازل القمر؛ فقال بعض جلسائه: القمر في الجفنة؛ قال: قاتلك اللّه! أصبت ما في نفسي! لتشربنّ الهفتجنّة(2). فقال مصعب: فسأل أبي عن الهفتجنّة فقال: شرب كانت الفرس تشربه سبعة أسابيع. فشرب تسعة و أربعين يوما.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزبير قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الزّهريّ عن عبد اللّه بن عمران بن أبي فروة قال أخبرني خالد صامة المغنّي و كان من أحسن الناس غناء على عود، قال:
بعث إليّ الوليد بن يزيد، فقدمت عليه، فوجدت عنده معبدا و مالكا و الهذليّ و عمر الوادي و أبا كامل؛ فغنّى القوم و نحن في مجلس يا له من مجلس! و غلام للوليد يقال له سبرة يسقي القوم الطّلاء، إذ جاءت نوبة الغناء إليّ، فأخذت/عودي فغنّيت بأبيات قالها عروة بن أذينة يرثي أخاه بكرا:
سرى همّي و همّ المرء يسري *** و غار النجم إلا قيد(3) فتر
أراقب في المجرّة كلّ نجم *** تعرّض في المجرّة كيف يجري
ص: 46
بحزن ما أزال له مديما *** كأنّ القلب أسعر حرّ جمر
على بكر أخي ولّى حميدا *** و أيّ العيش يحسن بعد بكر
- غنّاه ابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى. و غنّى فيه ابن عبّاد الكاتب و لحنه رمل بالوسطى عن الهشاميّ - قال خالد: فقال لي الوليد: أعد يا صام فأعدت؛ فقال: من يقوله ويحك؟ قلت: ابن أذينة؛ قال: هذا و اللّه العيش الذي نحن فيه على رغم أنفه، لقد تحجّر(1) واسعا. قال عبد الرحمن بن عبد اللّه قال عبد اللّه بن أبي فروة: و أنشدها ابن أذينة ابن أبي عتيق؛ فضحك ابن أبي عتيق و قال: كلّ العيش يحسن حتى الخبز و الزيت؛ فحلف ابن أذينة لا يكلّمه أبدا؛ فمات ابن أبي عتيق و ابن أذينة مهاجر له.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد قال: بلغني أن سكينة بنت الحسين رضي اللّه عنها أنشدت، و أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير عن مصعب قال: أنشدت سكينة، و أخبرني الحسين بن يحيى عن عبّاد عن أبيه عن أبي يحيى العباديّ:
أنّ سكينة أنشدت أبيات عروة بن أذينة في أخيه بكر؛ فلما انتهت إلى قوله:
على بكر أخي ولّى حميدا *** و أيّ العيش يحسن بعد بكر
قالت سكينة: و من أخوه بكر! أ ليس الدّحداح(2) الأسيّد القصير الذي كان يمرّ بنا صباحا و مساء؟ قالوا: نعم؛ قالت: كلّ العيش و اللّه يصلح و يحسن بعد بكر حتى الخبز و الزيت.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ عن إسحاق قال:
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة، فجمع المغنّين و سبّق(3) بينهم ببدرة، و قال: أيّكم كان أحسن غناء فهي له؛ فاجتمعوا. فبلغ الخبر ابن سريج، فجاء و قد أغلق الباب؛ فقال للحاجب: استأذن لي؛ قال: لا يمكن و قد أغلق الباب، و لو كنت جئت قبل أن يغلق الباب لاستأذنت لك. قال: فدعني أغنّ من شقّ الباب؛ قال نعم. فسكت حتى فرغ جميع المغنّين من غنائهم ثم اندفع فغنّى:
سرى همّي و همّ المرء يسري
فنظر المغنّون بعضهم إلى بعض و عرفوه؛ فلما فرغ قال سليمان: أحسن و اللّه! هذا و اللّه أحسن منكم غناء، أخرج يا غلام إليه بالبدرة، فأخرجها إليه.
ص: 47
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ عن ابن جعدبة:
أنّ رجلا أهدى إلى هشام بن عبد الملك خيلا، فكان فيها فرس مربوع(1) قريب الرّكاب؛ فعرف الوليد منه ما لم يعرف هشام، فنهر الرجل و شتمه و قال. أ تجيء بمثل هذا إلى أمير المؤمنين! ردّوه عليه، فردّوه. فلما خرج وجّه إليه بثلاثين ألف درهم و أخذه منه؛ فهو فرسه الذي يسمّيه السّنديّ.
فأخبرني بعض أصحابي أن الوليد خرج يوما يتصيّد وحده؛ فانتدب إليه مولّى لهشام يريد الفتك به. فلما بصر به الوليد حاوله فقهره بفرسه الذي كان/تحته فقتله. و قال في ذلك:
أ لم تر أنّي بين ما أنا آمن *** يخبّ بي السّنديّ قفرا فيافيا
تطلّعت من غور فأبصرت فارسا *** فأوجست منه خيفة أن يرانيا
و لما بدا لي أنما هو فارس *** وقفت له حتى أتى فرمانيا
رماني ثلاثا ثم إنّي طعنته *** فروّيت منه صعدتي و سنانيا
غنّاه أبو كامل لحنا من الماخوريّ بالبنصر. و لإبراهيم فيه ثقيل أوّل، و قيل: إن له فيه ماخوريّا آخر. و فيه لعمر الواديّ ثاني ثقيل. و لمالك رمل من رواية الهشاميّ.
قال: و قال الوليد أيضا في فرسه السّنديّ:
قد أغتدي بذي سبيب هيكل(2) *** مشرّب(3) مثل الغراب أرجل(4)
/أعددته لحلبات الأحول *** و كلّ نقع ثائر لجحفل
و كلّ خطب ذي شئون معضل
فقال هشام: لكنّا أعددنا له ما يسوؤه، نخلعه و نقصيه، فيكون مهانا مدحورا مطّرحا.
أربابها شفقا(1) عليها نومهم *** تحليل موضعها و لمّا يهجعوا
حتى إذا فسح الربيع ظنونهم *** نثر الخريف ثمارها فتصدّعوا
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي العالية، و أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن سعيد عن الزّبير بن بكّار عن عمّه:
أنّ الوليد بن يزيد لمّا انهمك على شربه و لذّاته و رفض الآخرة وراء ظهره و أقبل على القصف و العسف مع المغنّين مثل مالك و معبد و ابن عائشة و ذويهم، كان نديمه القاسم بن الطويل العباديّ، و كان أديبا ظريفا شاعرا، فكان لا يصبر عنه؛ فغنّاه معبد ذات يوم شعر عديّ:
بكر العاذلون في وضح الصب *** ح يقولون لي أ لا تستفيق
لست أدري و قد جفاني خليلي *** أ عدوّ يلومني أم صديق
/ثم قالوا ألا اصبحونا فقامت *** قينة في يمينها إبريق
قدّمته على عقار كعين الدّ *** يك صفّى سلافها الرّاووق
- فيه لمعبد ثقيل و يقال إنه لحنين. و فيه لمالك خفيف رمل. و فيه لعبد اللّه بن العباس رمل كلّ ذلك عن الهشاميّ - قال: فاستحسنه الوليد و أعجب به و طرب عليه و جعل يشرب إلى أن غلب عليه السكر فنام في موضعه، فانصرف ابن الطويل. فلما أفاق الوليد سأل عنه، /فعرّف حين انصرافه؛ فغضب و قال و هو سكران لغلام كان واقفا على رأسه يقال له سبرة: اثنتي برأسه، فمضى الغلام حتى ضرب عنقه و أتاه برأسه فجعله في طست بين يديه؛ فلما رآه أنكره و سأل عن الخبر فعرّفه، فاسترجع و ندم على ما فرط منه، و جعل يقلّب الرأس بيده. ثم قال يرثيه:
قد كنت آوي من هوا *** ك إلى ذرى كهف ظليل
أصبحت بعدك واحدا *** فردا بمدرجة السيول
/ - غنّاه الغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. و غنّى فيه سليم لحنا من الثقيل الأوّل بالبنصر عن الهشاميّ، و ذكر غيره أن لحن الغريض لدحمان، و ذكر حبش أنّه لأبي كامل، و ذكر غيره أن(1) لحن الغريض لدحمان - قال: ثم دخل إلى جواريه فقال: و اللّه ما أبالي متى جاءني الموت بعد الخليل ابن الطويل. فيقال: إنه لم يعش بعده إلا مديدة حتى قتل. و اللّه أعلم.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال روى الهيثم بن عديّ عن ابن عيّاش عن حمّاد الراوية قال:
دعاني الوليد يوما من الأيام في السّحر و القمر طالع و عنده جماعة من ندمائه و قد اصطبح؛ فقال: أنشدني في النّسيب؛ فأنشدته أشعارا كثيرة، فلم يهشّ لشيء منها، حتى أنشدته قول عمّار ذي كناز(2):
اصبح(3) القوم قهوة *** في الأباريق تحتذى
من كميت مدامة *** حبّذا تلك حبّذا
فطرب. ثم رفع رأسه إلى خادم و كان قائما كأنه الشمس، فأومأ إليه فكشف سترا خلف ظهره، فطلع منه أربعون وصيفا و وصيفة كأنهم اللؤلؤ المنثور في أيديهم الأباريق و المناديل؛ فقال: اسقوهم، فما بقي أحد إلا أسقي، و أنا في خلال ذلك أنشده الشعر؛ فما زال يشرب و يسقى إلى طلوع الفجر. ثم لم نخرج عن حضرته/حتى حملنا الفرّاشون في البسط فألقونا في دار الضيافة، فما أفقنا حتى طلعت الشمس. قال حمّاد: ثم أحضرني فخلع عليّ خلعا من فاخر ثيابه و أمر لي بعشرة آلاف درهم و حملني على فرس.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ عن أبي بكر الهذليّ قال:
كان بين الحكم بن الزّبير أخي أبي بكر بن كلاب و بين بكر بن نوفل أحد بني جعفر بن كلاب شيء في وكالة للوليد بن يزيد يخاصم الجعفريّ في الرّحبة(4) من أرض دمشق، و كان الجعفريّ قد استولى عليها فقطع شفره الأعلى، فاستعدى عليه هشاما فلم يعده؛ فقال الوليد في ذلك:
ص: 50
/
أيا حكم المتبول(1) لو كنت تعتزى(2)*** إلى أسرة ليسوا بسود زعانف
لأيقنت قد أدركت و ترك عنوة *** بلا حكم قاض بل بضرب السوالف
- غنّاه الهذليّ ثقيلا أوّل عن الهشاميّ و يونس - قال: فلما استخلف الوليد بعث إلى بكر بن نوفل الجعفريّ (3)فقال: أ لا(4) تعطي حكم بن الزّبير حقّه! قال: لا؛ فأمر به فشترت(5) عينه. ثم قال:
يا ربّ أمر ذي شئون جحفل(6) *** قاسيت فيه جلبات(7) الأحول
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال:
خرج الوليد إلى متصيّد له فأقام به، و مات له ابن يقال له مؤمن بن الوليد، فلم يقدر أحد أن ينعاه إليه، حتى ثمل فنعاه إليه سنان الكاتب و كان مغنّيا؛ فقال الوليد - و في هذا الشعر غناء من الأصوات التي اختيرت للواثق و الرشيد قبله -:
أتاني سنان بالوداع لمؤمن *** فقلت له إني إلى اللّه راجع
ألا أيّها الحاثي(8) عليه ترابه *** هبلت و شلّت من يديك الأصابع
يقولون لا تجزع و أظهر جلادة *** فكيف بما تحنى عليه الأضالع
عروضه من الطويل. غنّاه سنان الكاتب، و لحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لأبي كامل خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و قيل: إن فيه لحنا لعبد اللّه بن يونس صاحب أيلة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني عقيل بن عمرو قال:
ص: 51
قال يزيد بن أبي مساحق(1) السّلميّ مؤدّب الوليد شعرا و بعث به إلى النّوار جارية الوليد، فغنّته به، و هو:
مضى الخلفاء بالأمر الحميد *** و أصبحت المذمّة للوليد
تشاغل عن رعيّته بلهو *** و خالف فعل ذي الرأي الرشيد
/فكتب إليه الوليد:
ليت حظّي اليوم من كلّ معاش لي و زاد
قهوة أبذل فيها *** طارفي ثم تلادي
فيظلّ القلب منها *** هائما في كلّ واد
إنّ في ذاك صلاحي *** و فلاحي و رشادي
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إبراهيم بن الوليد الحمصيّ قال حدّثنا هارون بن الحسن العنبريّ قال:
قال الوليد بن يزيد: يا بني أميّة، إياكم و الغناء فإنّه ينقص الحياء و يزيد في الشهوة و يهدم المروءة و يثوّر على الخمر و يفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بدّ فاعلين، فجنّبوه النساء فإنّ الغناء رقية الزّنا. و إني لأقول ذلك فيه على أنه/أحبّ إليّ من كل لذّة و أشهى إليّ من الماء البارد إلى ذي الغلّة، و لكن الحقّ أحقّ أن يقال.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال حدّثني بعض موالي الوليد قال:
دخلت إليه و قد عقد لابنيه بعده و قدّم عثمان؛ فقلت له: يا أمير المؤمنين، أقول قول الموثوق بنصيحته أو يسعني السكوت؟ قال: بل قل قول الموثوق به؛ فقلت: إن الناس قد أنكروا ما فعلت و قالوا: يبايع لمن لم يحتلم؛ و قد سمعت ما أكره فيك؛ فقال: عضّوا ببظور أمهاتكم، أ فأدخل بيني و بين ابني غيري؛ فيلقى منه كما لقيت من الأحول بعد أبي! ثم أنشأ يقول:
سرى طيف ذا الظبي بالعاقدا *** ن ليلا فهيّج قلبا عميدا
و أرّق عيني على غرّة *** فباتت بحزن تقاسى السّهودا
/نؤمل عثمان بعد الولي *** د للعهد فينا و نرجو سعيدا(2)
ص: 52
كما كان إذ كان في دهره *** يزيد يرجّي لتلك الوليدا
على أنها شسعت(1) شسعة *** فنحن نرجّي لها أن تعودا
فإن هي عادت فعاص(2) القري *** ب منها لتؤيس منها البعيدا
- غنّاه أبو كامل ثاني ثقيل بالبنصر من أصوات قليلة الأشباه. و ذكر عمرو بن بانة أن فيه لعمر الوادي لحنا من الماخوريّ بالوسطى. و ذكر الهشاميّ أن فيه خفيف رمل لحكم، و ذكرت دنانير عن حكم أنه لعمر الوادي، و ذكر حبش أن الثقيل الثاني لمالك و أن فيه لفضل النجّار رملا بالبنصر - أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن سعيد عن الزّبير بن بكّار قال: هو:
سرى طيف ظبي بأعلى الغوير
و لكن هذا تصحيف سليمان السّوادي أو قال: خليد.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال:
كان الوليد قد بايع لابنيه الحكم و عثمان، و هو أوّل من بايع لابن سرّيّة أمة، و لم يكونوا يفعلون ذلك، و أخذهما يزيد بن الوليد الناقص، فحبسهما ثم قتلهما؛ و فيهما يقول ابن أبي عقب:
/
إذا قتل الخلف المديم لسكره *** بقفر من البخراء(3) أسّس في الرّمل
و سيق بلا جرم إلى الحتف و الرّدى *** بنيّاه حتى يذبحا مذبح السّخل
فويل بني مروان ما ذا أصابهم *** بأيدي بني العباس بالأسر و القتل
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني علي بن محمد النّوفليّ قال حدّثني أبي عن العلاء البندار قال:
كان الوليد زنديقا، و كان رجل من كلب يقول بمقالته مقالة الثّنويّة(4)؛ فدخلت على الوليد يوما و ذلك الكلبيّ عنده، و إذا بينهما سفط قد رفع رأسه عنه فإذا ما يبدو لي منه حرير أخضر؛ فقال: ادن يا علاء فدنوت، فرفع الحريرة فإذا في السّفط صورة إنسان و إذا الزئبق و النوشادر قد جعلا في جفنه فجنفه يطرف كأنه يتحرّك؛ فقال:
يا علاء، هذا ماني(5)، لم يبتعث اللّه نبيّا قبله و لا يبتعث نبيّا بعده. فقلت: يا أمير المؤمنين، اتّق اللّه/و لا يغرّنّك
ص: 53
هذا الذي ترى عن دينك. فقال له الكلبيّ: يا أمير المؤمنين، أ لم أقل لك: إن العلاء لا يحتمل هذا الحديث. قال العلاء: و مكثت أياما، ثم جلست مع الوليد على بناء كان بناه في عسكره يشرف به و الكلبيّ عنده، إذ نزل من عنده و قد كان الولد حمله على برذون هملاج(1) أشقر من أفره ما سخّر، فخرج على برذونه ذلك فمضى به في الصحراء حتى غاب عن العسكر؛ فما شعر إلاّ و أعراب قد جاءوا به يحملونه منفسخة عنقه ميّتا/و برذونه يقاد حتى أسلموه.
فبلغني ذلك، فخرجت متعمّدا حتى أتيت أولئك الأعراب، و قد كانت لهم أبيات بالقرب منه في أرض البخراء لا حجر فيها و لا مدر، فقلت لهم: كيف كانت قصّة هذا الرجل؟ فقالوا: أقبل علينا على برذون، فو اللّه لكأنه دهن يسيل على صفاة من فراهته، فعجبنا لذلك؛ إذ انقضّ رجل من السماء عليه ثياب بيض فأخذ بضبعيه(2) فاحتمله ثم نكسه و ضرب برأسه الأرض فدقّ عنقه ثم غاب عن عيوننا؛ فاحتملناه فجئنا به.
و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الخرّاز عن المدائنيّ قال:
لما أكثر الوليد بن يزيد التهتّك و انهمك في اللذّات و شرب الخمر و بسط المكروه على ولد هشام و الوليد و أفرط في أمره و غيّه، ملّ الناس أيامه و كرهوه. و كان قد عقد لابنيه بعده و لم يكونا بلغا؛ فمشى الناس بعضهم إلى بعض في خلعه، و كان أقواهم في ذلك يزيد الناقص بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، فمشى إلى أخيه العباس - و كان امرأ صدق و لم يكن في بني أميّة مثله، كان يتشبّه بعمر بن عبد العزيز - فشكا إليه ما يجري على الناس من الوليد؛ فقال له: يا أخي، إن الناس قد ملّوا بني مروان، و إنّ مشى بعضكم في أمر(3) بعض أكلتم، و للّه أجل لا بدّ أن يبلغه فانتظره. فخرج من عنده و مشى إلى غيره، فبايعه جماعة من اليمانية الوجوه؛ فعاد إلى أخيه و معه مولّى له و أعاد عليه القول و عرّض له بأنه قد دعي إلى الخلافة؛ فقال له: و اللّه لو لا أني لا آمنه عليك من تحامله لوجّهت بك إليه مشدودا؛ فنشدتك اللّه ألاّ تسعى في شيء من هذا. فانصرف/من عنده و جعل يدعو الناس إلى نفسه. و بلغ الوليد ذلك فقال يذكر قومه و مشى بعضهم إلى بعض في خلعه:
سلّ همّ النفس عنها *** بعلنداة(4) علاة
تتّقي الأرض و تهوي *** بخفاف مدمجات
ذاك أم ما بال قومي *** كسروا سنّ قناتي
و استخفّوا بي و صاروا *** كقرود خاسئات
ص: 54
الشعر للوليد بن يزيد بن عبد الملك. و الغناء لأبي كامل غزيّل الدّمشقيّ ماخوريّ بالبنصر. و في هذه القصيدة يقول الوليد بن يزيد:
أصبح اليوم وليد *** هائما بالفتيات
/عنده راح و إبري *** ق و كأس بالفلاة
ابعثوا خيلا لخيل *** و رماة لرماة
و أخبرني بالسبب في مقتله الحسن بن عليّ قال أخبرنا أحمد بن الحارث قال حدّثني المدائنيّ عن جويرية بن أسماء، و أخبرني به ابن أبي الأزهر عن حمّاد عن أبيه عن المدائنيّ عن جويرية بن أسماء قال: قال ابن(1) بشر بن الوليد بن عبد الملك:
لمّا أظهر الوليد بن يزيد أمره و أدمن على اللهو و الصيد و احتجب عن الناس و والى بين الشرب و انهمك في اللذّات، سئمه(2) الناس و وعظه من أشفق عليه من/أهله؛ فلما لم يقلع دبّوا في خلعه. فدخل أبي بشر بن الوليد على عمّي العباس بن الوليد و أنا معه، فجعل يكلّم عمّي في أن يخلع الوليد بن يزيد و معه عمي يزيد بن الوليد، فكان العبّاس ينهاه و أبي يردّ عليه؛ فكنت أفرح و أقول في نفسي: أرى أبي يجترئ أن يكلّم عمّي و يردّ عليه؛ فقال العباس: يا بني مروان، أظن أن اللّه قد أذن في هلاككم. ثم قال العباس:
إني أعيذكم باللّه من فتن *** مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إنّ البريّة قد ملّت سياستكم *** فاستمسكوا بعمود الدّين و ارتدعوا
لا تلحمنّ (3) ذئاب الناس أنفسكم *** إنّ الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا
لا تبقرنّ بأيديكم بطونكم *** فثمّ لا فدية تغني و لا جزع(4)
قال المدائنيّ عن رجاله: فلما استجمع ليزيد أمره و هو متبدّ أقبل إلى دمشق، و بين مكانه الذي كان متبدّيا فيه و بين دمشق أربع ليال، فأقبل إلى دمشق متنكّرا في سبعة أنفس على حمر و قد بايع له أكثر أهل دمشق و بايع له أكثر أهل المزّة. فقال مولّى لعبّاد بن زياد: إني لبجرود - و بين جرود و دمشق مرحلة - إذ طلع علينا سبعة معتمّون(5) على حمر فنزلوا، و فيهم رجل طويل جسيم، فرمى بنفسه فنام و ألقوا عليه ثوبا، و قالوا لي: هل عندك شيء نشتريه من طعام؟ فقلت: أمّا بيع فلا، و عندي من قراكم ما يشبعكم؛ فقالوا: فعجّله؛ فذبحت لهم دجاجا و فراخا و أتيتهم بما حضر من عسل و سمن و شوانيز(6)، و قلت: أيقظوا صاحبكم/للغداء؛ فقالوا: هو محموم لا يأكل؛ فسفروا للغداء
ص: 55
فعرفت بعضهم، و سفر النائم فإذا هو يزيد بن الوليد، فعرفته فلم يكلمني. و مضوا ليدخلوا دمشق ليلا في نفر من أصحابه مشاة إلى معاوية بن مصاد(1) و هو بالمزّة - و بينها و بين دمشق ميل - فأصابهم مطر شديد، فأتوا منزل معاوية فضربوا بابه و قالوا: يزيد بن الوليد؛ فقال له معاوية: الفراش، ادخل أصلحك اللّه؛ قال: في رجلي طين و أكره أن أفسد عليك بساطك؛ فقال: ما تريدني(2) عليه أفسد. فمشى على البساط و جلس على الفراش، ثم كلّم معاوية فبايعه. و خرج إلى دمشق فنزل دار ثابت بن سليمان الحسنيّ (3) مستخفيا، و على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجّاج بن يوسف، فخاف عبد الملك الوباء فخرج فنزل قطنا(4)، و استخلف ابنه على دمشق و على شرطته أبو العاج كثير بن عبد اللّه السّلميّ. و تمّ ليزيد أمره فأجمع على الظهور. و قيل لعامل دمشق: إنّ يزيد خارج فلم يصدّق.
و أرسل يزيد/إلى أصحابه بين المغرب و العشاء في ليلة الجمعة من جمادى الآخرة سنة سبع(5) و عشرين و مائة، فكمنوا في ميضأة عند باب الفراديس(6)؛ حتى إذا أذّنوا العتمة دخلوا المسجد مع الناس فصلّوا. و للمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل؛ فإذا خرج الناس خرج الحرس و أغلق صاحب المسجد الأبواب، و دخل الدار من باب المقصورة فيدفع المفاتيح إلى من يحفظها/و يخرج. فلما صلّى الناس العتمة صاح الحرس بالناس فخرجوا، و تباطأ أصحاب يزيد الناقص، فجعلوا يخرجونهم من باب و يدخلون من باب، حتى لم يبق في المسجد إلا الحرس و أصحاب يزيد، فأخذوا الحرس. و مضى [يزيد بن](7) عنبسة [السّكسكيّ](7) إلى يزيد فأخبره و أخذه بيده و قال: قم يا أمير المؤمنين و أبشر بعون اللّه و نصره؛ فأقبل و أقبلنا و نحن اثنا عشر رجلا. فلما كنّا عند سوق القمح لقيهم فيها مائتا رجل من أصحابهم، فمضوا حتى دخلوا المسجد و أتوا باب المقصورة، و قالوا: نحن رسل الوليد، ففتح لهم خادم الباب، و دخلوا فأخذوا الخادم، و إذا أبو العاج سكران فأخذوه و أخذوا خزّان البيت(8) و صاحب البريد؛ و أرسل إلى كلّ من كان يحذره فأخذه. و أرسل من ليلته إلى محمد بن عبيدة مولى سعيد بن العاص و هو على بعلبكّ، و إلى عبد الملك بن محمد بن الحجّاج فأخذهما. و بعث أصحابه إلى الخشبيّة(9) فأتوه؛ و قال للبوّابين: لا تفتحوا الأبواب غدوة إلاّ لمن أخبركم بشعار كذا و كذا. قال: فتركوا الأبواب في السلاسل. و كان في المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة، فلم يكن الخزّان قبضوه، فأصابوا سلاحا كثيرا فأخذوه و أصبحوا، و جاء(10) أهل المزّة مع حريث بن أبي الجهم. فما انتصف النهار حتى بايع الناس يزيد و هو يتمثّل قول النابغة:
ص: 56
إذا استنزلوا عنهنّ للطعن أرقلوا *** إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
فجعل أصحابه يتعجّبون و يقولون: انظروا إلى هذا! كان قبيل [الصبح](1) يسبّح و هو الآن ينشد الشعر.
قال(2): و أمر يزيد عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك بن/مروان فوقف بباب الجابية فنادى: [من كان له عطاء فليأت إلى عطائه، و من لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة](3)؛ فبايع له الناس و أمر بالعطاء. قال: و ندب يزيد بن الوليد الناس إلى قتال الوليد بن يزيد مع عبد العزيز، و قال: من انتدب معه فله ألفان، فانتدب ألفا رجل؛ فأعطاهم و قال: موعدكم ذنبة(4)؛ فوافى ذنبة ألف و مائتا رجل؛ فقال: ميعادكم مصنعة بالبرّيّة و هي لبنى عبد العزيز بن الوليد؛ فوافاه ثمانمائة رجل، فسار فوافاهم ثقل(5) الوليد فأخذوه و مع عبد العزيز فرسان منهم منصور بن جمهور و يعقوب بن عبد الرحمن السّلميّ و الأصبغ بن ذؤالة و شبيب بن أبي مالك الغسّانيّ و حميد بن نصر اللّخميّ، فأقبلوا فنزلوا قريبا من الوليد. فقال الوليد: أخرجوا لي سريرا فأخرجوه فصعد عليه. و أتاه خبر العباس بن الوليد: إنّي أجيئك. و أتى الوليد بفرسين الذائد(6) و السّنديّ؛ و قال: أ عليّ يتواثب الرجال و أنا أثب على الأسد و أتخصّر(7) الأفاعي!. و هم ينتظرون العباس أن يأتيهم و لم يكن بينهم كبير قتال، فقتل/عثمان(8) الخشبيّ، و كان من أولاد الخشبيّة الذين كانوا مع المختار(9). و بلغ عبد العزيز بن الحجّاج أن العباس بن الوليد يأتي الوليد؛ فأرسل منصور بن جمهور في جريدة(9) خيل و قال: إنكم تلقون العباس بن الوليد و معه بنوه في الشّعب فخذوه. و خرج منصور/في تلك الخيل و تقدّموا إلى الشّعب، و إذا العبّاس و معه ثلاثون(10) قد تقدّموا أصحابه؛ فقال له: اعدل إلى عبد العزيز، فشتمهم؛ فقال له منصور: و اللّه لئن تقدّمت لأنفذنّ حصينك(11) بالرّمح؛ فقال: إنا للّه! فأقبلوا به يسوقونه إلى عبد العزيز، فقال له عبد العزيز: بايع ليزيد؛ فبايع و وقف؛ و نصبوا(12) راية و قالوا: هذا العباس قد بايع. و نادى منادي عبد العزيز؛ من لحق بالعباس بن الوليد فهو آمن؛ فقال العباس: إنا للّه! خدعة من خدع الشيطان! هلك و اللّه بنو مروان!. فتفرّق الناس عن الوليد و أتوا العباس. و ظاهر الوليد في درعين و قاتلهم. و قال الوليد: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، فجاء جماعة بعدّة رءوس، فقال: اكتبوا أسماءهم؛ فقال له رجل من
ص: 57
مواليه: ليس هذا يا أمير المؤمنين يوما يعامل فيه بالنّسيئة. و ناداهم رجال: اقتلوا اللّوطيّ قتلة قوم لوط، فرموه بالحجارة. فلما سمع ذلك دخل القصر و أغلق الباب و قال:
دعوا لي سليمى و الطّلاء و قينة(1) *** و كأسا ألا حسبي بذلك مالا
إذا ما صفا عيش برملة عالج(2) *** و عانقت سلمى لا أريد بدالا
خذوا ملككم لا ثبّت اللّه ملككم *** ثباتا يساوي ما حييت عقالا
و خلّوا عناني قبل عير و ما جرى(3) *** و لا تحسدوني أن أموت هزالا
/ - غنّاه عمر الوادي رملا بالوسطى عن حبش - ثم قال لعمر الوادي: يا جامع لذتي، غنّني بهذا الشعر. و قد أحاط الجند بالقصر؛ فقال لهم الوليد من وراء الباب: أ ما فيكم رجل شريف له حسب و حياء أكلّمه؟! فقال له يزيد بن عنبسة السّكسكيّ: كلّمني؛ فقال له الوليد: يا أخا السّكاسك، ما تنقمون منّي؟ أ لم أزد في أعطياتكم و أعطية فقرائكم و أخدمت زمناكم و دفعت عنكم المؤن!؟ فقال: ما ننقم عليك في أنفسنا شيئا، و لكن ننقم عليك انتهاك ما حرّم اللّه و شرب الخمور و نكاح أمهات أولاد أبيك و استخفافك بأمر اللّه. قال: حسبك يا أخا السّكاسك! فلعمري لقد أغرقت(4) فأكثرت، و إنّ فيما أحلّ اللّه لسعة عمّا(5) ذكرت. و رجع إلى الدار فجلس و أخذ المصحف و قال: يوم كيوم(6) عثمان، و نشر المصحف يقرأ؛ فعلوا الحائط؛ فكان أوّل من علا الحائط يزيد بن عنبسة، فنزل و سيف الوليد إلى جنبه؛ فقال له يزيد: نحّ سيفك، فقال الوليد: لو أردت السيف لكانت لي و لك حالة غير هذه. فأخذ بيده و هو يريد أن يدخله بيتا(7) و يؤامر فيه، فنزل من الحائط عشرة فيهم منصور بن جمهور و عبد الرحمن و قيس مولى يزيد بن عبد الملك و السّريّ بن زياد بن أبي كبشة، فضربه عبد الرحمن السّلميّ (8) على رأسه ضربة و ضربه السّريّ بن زياد على وجهه، و جرّوه بين خمسة ليخرجوه؛ فصاحت امرأة كانت معه في الدار فكفّوا عنه فلم يخرجوه، و احتزّ رأسه
ص: 58
أبو علاقة القضاعيّ/و خاط الضربة/التي في وجهه بالعقب(1)، و قدم بالرأس على يزيد، قدم به روح بن مقبل، و قال: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الفاسق، فاستتمّ الأمر له و أحسن صلته. ثم كان من خلع يزيد بعد ذلك ما ليس هذا موضع ذكره.
قال: و لما قتل الوليد بن يزيد جعل أبو محجن مولى خالد القسريّ يدخل سيفه في است الوليد و هو مقتول.
فقال الأصبغ بن ذؤالة الكلبيّ في قتل الوليد و أخذهم ابنيه:
من مبلغ قيسا و خندف كلّها *** و ساداتهم من عبد شمس و هاشم
قتلنا أمير المؤمنين بخالد(2) *** و بعنا وليّ عهده بالدراهم
و قال أبو محجن مولى خالد:
لو شاهدوا حدّ سيفي حين أدخله *** في است الوليد لماتوا عنده كمدا
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن هشام بن الكلبيّ عن جرير قال:
قال لي عمر الوادي: كنت أغنّي الوليد أقول:
كذبتك نفسك أم رأيت بواسط *** غلس(3) الظلام من الرّباب خيالا
قال: فما أتممت الصوت حتى رأيت رأسه قد فارق بدنه و رأيته يتشحّط في دمه. يقال: إن اللحن في هذا الشعر لعمر الوادي، و يقال: لابن جامع.
قالوا: و كان عثمان و الحكم ابنا الوليد قد بايعهما بالعهد بعده، فتغيّبا فأخذهما يزيد بعد ذلك فحبسهما في الخضراء(4) و دخل عليهما يزيد الأفقم بن هشام فجعل يشتم أباهما الوليد و كان قد ضربه و حلقه(5)، فبكى الحكم، فقال عثمان أخوه: اسكت يا أخي؛ و أقبل على يزيد فقال: أ تشتم أبي! قال: نعم؛ قال: لكني لا أشتم عمّي هشاما، و و اللّه لو كنت من بني مروان ما شتمت أحدا منهم، فانظر إلى وجهك فإن كنت رأيت حكميّا(6) يشبهك أوله مثل وجهك فأنت منهم، لا و اللّه ما في الأرض حكميّ يشبهك.
ص: 59
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ عن مسلمة بن محارب قال:
لما قتل الوليد قال أيّوب(1) السّختيانيّ: ليت القوم تركوا لنا خليفتنا لم يقتلوه. قال: و إنما قال ذلك تخوّفا من الفتنة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ:
أن ابنا للغمر بن يزيد بن عبد الملك دخل على الرشيد، فقال: ممّن أنت؟ قال: من قريش، قال: من أيّها؟ فأمسك قال: قل و أنت آمن، و لو أنك مروانيّ، قال: أنا ابن الغمر بن يزيد. قال: رحم اللّه عمّك و لعن يزيد الناقص و قتلة عمّك جميعا، فإنهم قتلوا خليفة مجمعا عليه، ارفع إليّ حوائجك، فقضاها.
/رمى عند المهدي بالزندقة فدافع عنه:
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا الغلابيّ قال حدّثنا العلاء(2) بن سويد المنقريّ قال:
ذكر ليلة المهديّ أمير المؤمنين الوليد بن يزيد فقال: كان ظريفا أديبا. فقال له شبيب بن شيبة:
يا أمير المؤمنين إن رأيت ألاّ تجري ذكره على سمعك و لسانك فافعل فإنه كان زنديقا؛ فقال: اسكت، فما كان اللّه ليضع خلافته عند من يكفر به. هكذا رواه الصّوليّ.
و قد أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز إجازة قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرنا عقيل(3) بن عمرو قال أخبرني شبيب بن شيبة عن أبيه قال: كنّا جلوسا عند/المهديّ فذكروا الوليد بن يزيد، فقال المهديّ: أحسبه كان زنديقا، فقام ابن علاثة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين، اللّه عزّ و جلّ أعظم من أن يولّي خلافة النبوة و أمر الأمّة من لا يؤمن باللّه، لقد أخبرني من كان يشهده في ملاعبه و شربه عنه بمروءة في طهارته و صلاته، و حدّثني أنه كان إذا حضرت الصلاة يطرح ثيابا كانت عليه من مطيّبة و مصبّغة ثم يتوضأ فيحسن الوضوء و يؤتى بثياب بيض نظاف من ثياب الخلافة فيصلّي فيها أحسن صلاة بأحسن قراءة و أحسن سكوت و سكون و ركوع و سجود، فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب التي كانت عليه قبل ذلك، ثم يعود إلى شربه و لهوه؛ أ فهذه أفعال من لا يؤمن باللّه! فقال له المهديّ: صدقت بارك اللّه عليك يا ابن علاثة.
و في جملة المائة الصوت المختارة عدّة أصوات من شعر الوليد نذكرها هاهنا مع أخباره، و اللّه أعلم.
ص: 60
أمّ سلاّم ما ذكرتك إلاّ *** شرقت بالدموع منّي المآقي
أمّ سلاّم ذكركم حيث كنتم *** أنت دائي و في لسانك راقي
ما لقلبي يجول بين التّراقي *** مستخفّا يتوق كلّ متاق
حذرا أن تبين دار سليمى *** أو يصيح الداعي لها بفراق
غنّاه عمر الوادي، و لحنه المختار خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر. و ذكر عمرو بن بانة أنّ لسلاّمة القسّ فيه خفيف رمل بالوسطى، و لعلّه بمعنى هذا. و من الناس من يروى هذه الأبيات لعبد الرحمن بن أبي عمّار الجشميّ في سلاّمة القسّ، و ليس ذلك له، هو للوليد صحيح، و هو كثيرا ما يذكر سلمى هذه في شعره بأمّ سلاّم و بسلمى، لأنه لم يكن يتصنّع في شعره و لا يبالي بما يقوله منه. و من ذلك قوله فيها:
أمّ سلاّم لو لقيت من الوج *** د عشير الذي لقيت كفاك
فأثيبي بالوصل صبّا عميدا *** و شفيقا شجاه ما قد شجاك
غنّاه مالك خفيف رمل بالبنصر عن الهشاميّ.
ص: 61
هو عمر بن داود بن زاذان. و جدّه زاذان مولى عمرو بن عثمان بن عفّان. و كان عمر مهندسا. و أخذ الغناء عنه حكم و ذووه من أهل وادي القرى. و كان قدم إلى الحرم فأخذ من غناء أهله فحذق و صنع فأجاد و أتقن. و كان طيّب الصوت شجيّه مطربا. و كان أوّل من غنّى من أهل وادي القرى؛ و اتصل بالوليد بن يزيد في أيام إمارته فتقدّم عنده جدّا، و كان يسمّيه جامع لذّاتي(1) و محيي طربي. و قتل الوليد و هو يغنّيه، و كان آخر عهده به من الناس. و في عمر يقول الوليد بن يزيد و فيه غناء:
/
إنّني فكّرت في عمر *** حين قال القول فاختلجا
إنّه للمستنير به *** قمر قد طمّس السّرجا
و يغنّي الشعر ينظمه *** سيّد القوم الذي فلجا
أكمل الواديّ صنعته *** في لباب الشعر فاندمجا
الشعر للوليد بن يزيد. و الغناء لعمر الوادي هزج خفيف بالبنصر في مجراها.
أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن مزيد قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
كان عمر الوادي يجتمع مع معبد و مالك و غيرهما من المغنّين عند الوليد بن يزيد، فلا يمنعه حضورهم من تقديمه و الإصغاء إليه و الاختصاص له. و بلغني أنه كان/لا يضرب و إنما كان مرتجلا، و كان الوليد يسمّيه جامع لذّاتي. قال: و بلغني أن حكما الواديّ و غيره من مغنّي وادي القرى أخذوا عنه الغناء و انتحلوا أكثر أغانيه.
قال إسحاق و حدّثني عبد السلام بن الرّبيع:
أنّ الوليد بن يزيد كان يوما جالسا و عنده عمر الوادي و أبو رقيّة، و كان ضعيف العقل و كان يمسك المصحف على أمّ الوليد؛ فقال الوليد لعمر الوادي و قد غنّاه صوتا: أحسنت و اللّه، أنت جامع لذّاتي، و أبو رقيّة مضطجع و هم
ص: 62
يحسبونه نائما، فرفع رأسه إلى الوليد فقال له: و أنا جامع لذّات أمّك؛ فغضب الوليد و همّ به؛ فقال له عمر الوادي:
جعلني اللّه فداك! ما يعقل أبو رقيّة و هو صاح، فكيف يعقل و هو سكران! فأمسك عنه.
قال إسحاق: و حدّثت عن عمر الوادي قال: بينا أنا أسير ليلة بين العرج(1) و السّقيا سمعت إنسانا يغنّي غناء لم أسمع قطّ أحسن منه و هو:
و كنت إذا ما جئت سعدى بأرضها *** أرى الأرض تطوى لي و يدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسها *** إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
فكدت أسقط عن راحلتي طربا؛ فقلت: و اللّه لألتمسنّ الوصول إلى هذا الصوت و لو بذهاب عضو من أعضائي حتى هبطت من الشّرف(2)، فإذا أنا برجل يرعى غنما و إذا هو صاحب الصوت، فأعلمته الذي أقصدني إليه و سألته إعادته عليّ؛ فقال: و اللّه لو كان عندي قرى ما فعلت، و لكني أجعله قراك، فربما ترنّمت به/و أنا جائع فأشبع، و كسلان فأنشط و مستوحش فآنس؛ فأعاده عليّ مرارا حتى أخذته، فو اللّه ما كان لي كلام غيره حتى دخلت المدينة، و لقد وجدته كما قال. حدّثني بهذا الخبر الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني المؤمّل بن طالوت الواديّ قال حدّثني مكين العذريّ قال: سمعت عمر الواديّ يقول: بينا أنا أسير بين الرّوحاء(3)و العرج، ثم ذكر مثله، و قال فيه: فربما ترنّمت به و أنا غرثان فيشبعني، و مستوحش فيؤنسني، و كسلان فينشّطني.
قال: فما كان زادي حتى و لجت المدينة غيره(4)، و جرّبت ما وصفه الراعي فيه فوجدته كما قال.
لقد هجرت سعدى و طال صدودها *** و عاود عيني دمعها و سهودها
و كنت إذا ما زرت سعدى بأرضها *** أرى الأرض تطوى لي و يدنو بعيدها
منعّمة لم تلق بؤس معيشة *** هي الخلد في الدنيا لمن يستفيدها
هي الخلد ما دامت لأهلك جارة *** و هل دام في الدنيا لنفس خلودها
الشعر لكثيّر. و الغناء لابن محرز ثقيل أوّل مطلق بالبنصر عن يحيى المكيّ. و ذكر الهشاميّ أنّ فيه ليزيد
ص: 63
حوراء ثاني ثقيل. و فيه خفيف رمل ينسب إلى عمر الوادي، و هو بعض هذا اللحن الذي حكاه عن الراعي و لا أعلم لمن هو. و هذه الأبيات من قصيدة لكثيّر سائرها في الغزل و هي من جيّد غزله و مختاره. و تمام الأبيات بعد ما مضى منها:
/
فتلك التي أصفيتها بمودّتي *** وليدا و لمّا يستبن لي نهودها
و قد قتلت نفسا بغير جريرة *** و ليس لها عقل(1) و لا من يقيدها
فكيف يودّ القلب من لا يودّه *** بلى قد تريد النفس من لا يريدها
ألا ليت شعري بعدنا هل تغيّرت *** عن العهد أم أمست كعهدي عهودها
إذا ذكرتها النفس جنّت بذكرها *** و ريعت و حنّت و استخفّ جليدها
فلو كان ما بي بالجبال لهدّها *** و إن كان في الدنيا شديدا هدودها
و لست و إن أوعدت فيها بمنته *** و إن أوقدت نار فشبّ وقودها
أبيت نجيّا للهموم مسهّدا *** إذا أوقدت نحوي بليل وقودها(2)
فأصبحت ذا نفسين نفس مريضة *** من اليأس ما ينفكّ همّ يعودها
و نفس إذا ما كنت وحدي تقطّعت *** كما انسلّ من ذات النّظام فريدها
فلم تبد(3) لي يأسا ففي اليأس راحة *** و لم تبد لي جودا فينفع جودها
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أيّوب بن عباية قال:
قال عمر الوادي: خرج إليّ الوليد بن يزيد يوما و في يده خاتم ياقوت أحمر قد كاد البيت يلتمع من شعاعه؛ فقال لي: يا جامع لذّتي، أ تحبّ أن أهبه لك؟ قلت: نعم و اللّه يا مولاي؛ فقال: غنّ في هذه الأبيات التي أنشدك فيها و اجهد نفسك، فإن أصبت إرادتي وهبته لك؛ فقلت: أجتهد و أرجو التوفيق.
أ لا يسليك عن سلمى *** قتير(4) الشّيب و الحلم
و أنّ الشكّ ملتبس *** فلا وصل و لا صرم
فلا و اللّه ربّ النا *** س مالك عندنا ظلم
ص: 64
و كيف بظلم جارية *** و منها اللّين(1) و الرّحم
فخلوت في بعض المجالس، فما زلت أديره حتى استقام، ثم خرجت إليه و على رأسه وصيفة، بيدها كأس و هو يروم [أن](2) يشربها(3) فلا يقدر خمارا؛ فقال: ما صنعت؟ فقلت: فرغت ممّا أمرتني به؛ /و غنّيته، فصاح:
أحسنت و اللّه! و وثب قائما على رجليه و أخذ الكأس و استدناني فوضع يده اليسرى عليّ متّكئا و الكأس في يده اليمنى؛ ثم قال لي: أعد بأبي أنت و أمّي! فأعدته عليه فشرب و دعا بثانية(4) و ثالثة و رابعة و هو على حاله يشرب قائما حتى كاد أن يسقط تعبا؛ ثم جلس و نزع الخاتم و الحلّة التي كانت عليه، فقال: و اللّه العظيم لا تبرح هكذا حتى أسكر؛ فما زلت أعيده عليه و يشرب حتى مال على جنبه سكرا فنام.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه عن غرير(5) بن طلحة الأرقمي عن أبي الحكم عبد المطلب بن عبد اللّه بن يزيد بن عبد الملك قال: و اللّه إني لبالعقيق في قصر القاسم بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفّان و عندي أشعب و عمر الوادي/و أبو رقيّة، إذ دعوت بدينار فوضعته بين يديّ و سبّقتهموه في رجز فكان أوّل من خسق عمر الوادي(6) فقال:
أنا ابن داود أنا ابن زاذان *** أنا ابن مولى عمرو بن عثمان(7)
ثم خسق أبو رقيّة فقال:
أنا ابن عامر القاري *** أنا ابن أوّل أعجمي
تقدّم في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. ثم خسق أشعب فقال:
أنا ابن أمّ الخلنداج *** أنا ابن المحرّشة بين أزواج
النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم. قال أبو الحكم: فقلت له: أي أخزاك اللّه، هل سمعت أحدا قطّ فخر بهذا! فقال: و هل فخر أحد بمثل فخري! لو لا أن أمّي كانت عندهنّ ثقة ما قبلن منها حتى يغضب بعضهنّ على بعض.
ص: 65
اسمه الغزيّل، و هو مولى الوليد بن يزيد، و قيل: بل كان مولى أبيه، و قيل: بل كان أبوه مولى عبد الملك.
و كان مغنّيا محسنا و طيّبا مضحكا. و لم أسمع له بخبر بعد أيام بني أميّة؛ و لعلّه مات في أيامهم أو قتل معهم.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ: أن أبا كامل غنّى الوليد بن يزيد ذات يوم فقال:
نام من كان خليّا من ألم *** و بدائي بتّ ليلي لم أنم
أرقب الصبح كأني مسند *** في أكفّ القوم تغشاني الظّلم
إنّ سلمى و لنا من حبّها *** ديدن في القلب ما اخضرّ السّلم
قد سبتني بشتيت نبته *** و ثنايا لم يعبهنّ قضم(1)
قال فطرب الوليد و خلع عليه قلنسية وشي(2) مذهبة كانت على رأسه. فكان أبو كامل يصونها و لا يلبسها إلا من عيد إلى عيد و يمسحها بكمّه و يرفعها و يبكي و يقول: إنما أرفعها لأنّي أجد منها ريح سيّدي (يعني الوليد).
الغناء في هذا الصوت هزج بالوسطى، نسبه عمرو بن بانة إلى عمر الوادي، و نسبه غيره إلى أبي كامل، و زعم آخرون أنه لحكم، هكذا نسبه ابن المكيّ إلى حكم و زعم أنّه بالبنصر.
/أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة/قال حدّثني الأصمعيّ عن صفوان بن الوليد المعيطيّ قال:
غنّى أبو كامل ذات يوم الوليد بن يزيد في لحن لابن عائشة، و هو:
جنّباني أذاة كلّ لئيم *** إنّه ما علمت شرّ نديم
ص: 66
للوليد فيه أشعار كثيرة:
فخلع عليه ثيابه كلّها حتى قلنسيته. ثم ذكر باقي الخبر مثل الذي تقدّمه؛ و زاد فيه أنه أوصى أن تجعل في أكفانه. و للوليد في أبي كامل أشعار كثيرة. فمنها ممّا يغنّى به:
سقيت أبا كامل *** من الأصفر البابلي
و سقّيتها معبدا *** و كلّ فتى فاضل
و قال أيضا فيه:
و زقّ وافر الجنبين *** مثل الجمل البازل
به رحت إلى صحبي *** و ندماني أبي كامل
شربناه و قد بتنا *** بأعلى الدّير بالساحل
و لم نقبل من الواشي *** قبول الجاهل الخاطل
الغناء لأبي كامل خفيف رمل بالوسطى. و ذكر الهشاميّ أنه ليحيى المكي و أنّه نحله أبو كامل. و ذكر أن لعمر الواديّ أو لحكم فيه رملا بالوسطى و هو القائم.
و أخبرني أبو الحسن محمد بن إبراهيم قريش رحمه اللّه أنّ لينشو فيه خفيف رمل.
/و منها في قول الوليد:
سقيت أبا كامل *** من الأصفر البابلي
و سقّيتها معبدا *** و كلّ فتى فاضل
لي المحض من ودّهم *** و يغمرهم نائلي
و ما لا مني فيهم *** سوى حاسد جاهل
فيه هزج ينسب إلى أبي كامل و إلى حكم. و فيه لينشو ثقيل أوّل. أخبرني بذلك قريش و وجه الرّزّة جميعا.
كان المعتضد يمدح شعر الوليد و يقول: فيه شمائل الملوك:
و أخبرني قريش عن أحمد بن أبي العلاء قال:
كان للمعتضد عليّ صوتان من شعر الوليد، أحدهما:
سقيت أبا كامل *** من الأصفر البابلي
و الآخر:
إن في الكأس لمسكا *** أو بكفّي من سقاني
ص: 67
و كان يعجب بهما و يقول لجلسائه: أ ما ترون شمائل الملوك في شعره! ما أبينها(1):
لي المحض من ودّهم *** و يغمرهم نائلي
و حين يقول:
كلّلاني توّجاني *** و بشعري غنّياني
و قد نسب إلى الوليد بن يزيد في هذه المائة الصوت المختارة شعر صوتين؛ لأن ذكر سليمى في أحدهما، و لأن الصنعة في الآخر لأبي كامل(2)؛ فذكرت من ذلك هاهنا صوتين، أحدهما(3):
سليمى تلك في العير(4) *** قفي نخبرك أو سيري
إذا ما أنت لم ترثي *** لصبّ القلب مغمور
فلما أن دنا الصبح *** بأصوات العصافير
خرجنا نتبع الشمس *** عيونا كالقوارير
و فينا شادن أحو *** ر من حور اليعافير(5)
الشعر ليزيد بن ضبّة. و الغناء في اللحن المختار لإسماعيل بن الهربذ، و لحنه رمل مطلق في مجرى الوسطى.
هكذا ذكر إسحاق في كتاب شجا لابن الهربذ؛ و ذكر في موضع آخر أن فيه لحنا لابن زرزور الطائفي رملا آخر بالسبّابة في مجرى البنصر. و ذكر إبراهيم أنّ فيه لحنا لأبي كامل و لم يجنّسه. و ذكر حبش أن فيه لعطرّد هزجا بالوسطى.
ص: 68
أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم قال حدّثني أحمد بن الهيثم عن الحسن بن إبراهيم بن سعدان عن عبد العظيم بن عبد اللّه بن يزيد بن ضبّة الثّقفيّ قال:
كان جدّي يزيد بن ضبّة مولّى لثقيف. و اسم أبيه مقسم؛ و ضبّة أمّه غلبت على نسبه؛ لأن أباه مات و خلّفه صغيرا، فكانت أمّه تحضن أولاد المغيرة بن شعبة ثم أولاد ابنه عروة بن المغيرة، فكان جدّي ينسب إليها لشهرتها.
قال: و ولاؤه لبني مالك بن حطيط ثم لبني عامر بن يسار. قال عبد العظيم: و كان جدّي يزيد بن ضبّة منقطعا إلى الوليد بن يزيد في حياة أبيه متصلا به لا يفارقه.
فلما أفضت الخلافة إلى هشام أتاه جدّي مهنّئا بالخلافة. فلما استقرّ به المجلس و وصلت إليه الوفود و قامت الخطباء تثني عليه و الشعراء تمدحه، مثل جدّي بين السّماطين فاستأذنه في الإنشاد، فلم يأذن له، و قال: عليك بالوليد فامدحه و أنشده، و أمر بإخراجه. و بلغ الوليد خبره، فبعث إليه بخمسمائة دينار، و قال له: لو أمنت عليك هشاما لما فارقتني، و لكن اخرج إلى الطائف، و عليك بمالي هناك؛ فقد سوّغتك جميع غلّته، و مهما احتجت(1) إليّ من شيء بعد ذلك فالتمسه منّي. فخرج إلى الطائف، و قال يذكر ما فعله هشام به:
أرى سلمى تصدّ و ما صددنا *** و غير صدودها كنّا أردنا
لقد بخلت بنائلها علينا *** و لو جادت بنائلها حمدنا
و قد ضنّت بما وعدت و أمست *** تغيّر عهدها عمّا عهدنا
/و لو علمت بما لاقيت سلمى *** فتخبرني و تعلم ما وجدنا
تلمّ على تنائي الدار منّا *** فيسهرنا الخيال إذا رقدنا
أ لم تر أنّنا لمّا ولينا *** أمورا خرّقت فوهت سددنا
رأينا الفتق حين و هي عليهم *** و كم من مثله صدع رفأنا
/إذا هاب الكريهة من يليها *** و أعظمها الهيوب لها عمدنا
ص: 69
و جبّار تركناه كليلا *** و قائد فتنة طاغ أزلنا
فلا تنسوا مواطننا فإنّا *** إذا ما عاد أهل الجرم عدنا
و ما هيضت مكاسر من جبرنا *** و لا جبرت مصيبة من هددنا
ألا من مبلغ عنّي هشاما *** فما منّا البلاء و لا بعدنا
و ما كنّا إلى الخلفاء نفضي *** و لا كنّا نؤخّر إن شهدنا
أ لم يك بالبلاء لنا جزاء *** فنجزى بالمحاسن أم حسدنا
و قد كان الملوك يرون حقّا *** لوافدنا فنكرم إن وفدنا
ولينا الناس أزمانا طوالا *** و سسناهم و دسناهم و قدنا
أ لم تر من ولدنا كيف أشبى(1) *** و أشبينا و ما بهم قعدنا
نكون لمن ولدناه سماء *** إذا شيمت مخائلنا رعدنا
و كان أبوك قد أسدى إلينا *** جسيمة أمره و به سعدنا
كذلك أوّل الخلفاء كانوا *** بنا جدّوا كما بهم جددنا
هم آباؤنا و هم بنونا *** لنا جبلوا كما لهم جبلنا
و نكوي بالعداوة من بغانا *** و نسعد بالمودّة من وددنا
/نرى حقّا لسائلنا علينا *** فنحبوه و نجزل إن وعدنا
و نضمن جارنا و نراه منّا *** فنرفده فنجزل إن رفدنا
و ما نعتدّ دون المجد مالا *** إذا يغلى بمكرمة أفدنا
و أتلد مجدنا أنّا كرام *** بحدّ المشرفيّة عنه ذدنا
قال: فلم يزل مقيما بالطائف إلى أن ولي الوليد بن يزيد الخلافة، فوفد إليه. فلما دخل عليه و الناس بين يديه جلوس و وقوف على مراتبهم هنّأه بالخلافة؛ فأدناه الوليد و ضمّه إليه، و قبّل يزيد بن ضبّة رجليه و الأرض بين يديه؛ فقال الوليد لأصحابه: هذا طريد الأحول لصحبته إيّاي و انقطاعه إليّ. فاستأذنه يزيد في الإنشاد و قال له:
يا أمير المؤمنين، هذا اليوم الذي نهاني عمّك هشام عن الإنشاد فيه قد بلغته بعد يأس، و الحمد للّه على ذلك. فأذن له، فأنشده:
سليمى تلك في العير *** قفي أسألك أو سيري
ص: 70
إذا ما بنت لم تأوي *** لصبّ القلب مغمور
و قد بانت و لم تعهد *** مهاة في مها حور
و في الآل(1) حمول الح *** يّ تزهى كالقراقير(2)
يواريها و تبدو من *** ه آل(3) كالسّمادير(4)
/و تطفو حين تطفو في *** ه كالنّخل المواقير(5)
لقد لاقيت من سلمى *** تباريح التّناكير(6)
/دعت عيني لها قلبي *** و أسباب المقادير
و ما إن من به شيب *** إذا يصبو بمعذور
لسلمى رسم أطلال *** عفتها الرّيح بالمور(7)
خريق(8) تنخل التّرب *** بأذيال الأعاصير
فأوحش إذ نأت سلمى *** بتلك الدّور من دور
سأرمي قانصات البي *** د إن عشت بعسبور(9)
من العيس شجوجاة(10) *** طواها النّسع بالكور
إذا ما حقب(11) منها *** قرنّاه بتصدير
زجرنا العيس فارقدّت(12) *** بإعصاف و تشمير
ص: 71
تقاسيها على أين *** بإدلاج(1) و تهجير
/إذا ما اعصوصب(2) الآل *** و مال الظّلّ بالقور
و راحت تتّقي الشمس *** مطايا القوم كالعور
إلى أن يفضح(3) الصبح *** بأصوات العصافير
لتعتام(4) الوليد القر *** م أهل الجود و الخير
كريم يهب البزل *** مع الخور(5) الجراجير
تراعي حين تزجيها *** هويّا(6) كالمزامير
كما جاوبت النّيب *** رباع(7) الخلج الخور
و يعطى الذهب الأحم *** ر وزنا بالقناطير
بلوناه فأحمدنا *** ه في عسر و ميسور
كريم العود و العنص *** ر غمر غير منزور
له السّبق إلى الغايا *** ت في ضمّ المضامير
إمام يوضح الحقّ *** له نور على نور
مقال من أخي ودّ *** بحفظ الصدق مأثور
بإحكام و إخلاص *** و تفهيم و تحبير
قال: فأمر الوليد بأن تعدّ أبيات القصيدة و يعطى لكل بيت ألف درهم؛ فعدّت فكانت خمسين بيتا فأعطي خمسين ألفا. فكان أوّل خليفة عدّ أبيات الشعر/و أعطى على عددها لكل بيت ألف درهم؛ ثم لم يفعل ذلك إلاّ هارون الرشيد، فإنه بلغه خبر جدّي مع الوليد فأعطى مروان بن أبي حفصة و منصورا النّمريّ لمّا مدحاه و هجوا آل أبي طالب لكل بيت ألف درهم.
قال عبد العظيم و حدّثني أبي و جماعة من أصحاب الوليد:
أنّ الوليد خرج إلى الصيد و معه جدّي يزيد بن ضبّة، فاصطاد على فرسه السّنديّ صيدا حسنا، و لحق عليه
ص: 72
حمارا فصرعه؛ فقال لجدّي: صف فرسي هذا و صيدنا اليوم؛ فقال في ذلك:
/و أحوى سلس المرسن مثل الصّدع الشّعب(1)
سما فوق منيفات *** طوال كالقنا سلب(2)
طويل الساق عنجوج *** أشقّ أصمع الكعب(3)
على لأم أصمّ مضمّ *** ر الأشعر كالقعب(4)
ترى بين حواميه *** نسورا كنوى القسب(5)
معالى شنج الأنسا *** ء سام جرشع الجنب(6)
/طوى بين الشّراسيف *** إلى المنقب فالقنب(7)
يغوص الملحم القائ *** م ذو حدّ و ذو شغب
عتيد الشّدّ و التّقري *** ب و الإحضار و العقب(8)
صليب الأذن و الكاه *** ل و الموقف و العجب(9)
عريض الخدّ و الجبه *** ة و البركة و الهلب(10)
إذا ما حثّه حاثّ *** يباري الرّيح في غرب(11)
ص: 73
و إن وجّهه أسر *** ع كالخدروف(1) في الثّقب
و قفّاهنّ كالأجد *** ل لما انضمّ للضّرب
و والى الطعن يختار *** جواشن(2) بدّن قبّ
ترى كلّ مدلّ (3) قا *** ئما يلهث كالكلب
كأن الماء في الأعطا *** ف منه قطع العطب(4)
كأن الدّم في النّحر *** قذال علّ بالخضب
يزين الدار موقوفا *** و يشفي قرم(5) الرّكب
/قال: فقال له الوليد: أحسنت يا يزيد الوصف و أجدته، فاجعل لقصيدتك تشبيبا و أعطه الغزيّل و عمر الوادي حتى يغنيا فيه؛ فقال:
إلى هند صبا قلبي *** و هند مثلها يصبي
و هند غادة غيدا *** ء من جرثومة(6) غلب
و ما إن وجد الناس *** من الأدواء كالحبّ
لقد لجّ بها الإعرا *** ض و الهجر بلا ذنب
و لمّا أقض من هند *** و من جاراتها نحبي(7)
أرى و جدي بهند دا *** ئما يزداد عن غبّ (8)
و قد أطولت(9) إعراضا *** و ما بغضهم طبّي(10)
و لكن رقبة(11) الأع *** ين قد تحجز ذا اللّبّ
ص: 74
و رغم(1) الكاشح الراغ *** م فيها أيسر الخطب
/قال: و دفع هذه الأبيات إلى المغنّين فغنّوه فيها.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ عن الأصمعيّ، و حدّثني به محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم قال حدّثنا الأصمعيّ قال:
كان يزيد بن ضبّة مولى ثقيف، و لكنّه كان فصيحا، و قد أدركته بالطائف، و قد كان يطلب القوافي المعتاصة و الحوشيّ من الشعر.
قال أبو حاتم في خبره خاصّة و حدّثني غسّان بن عبد اللّه بن عبد الوهاب الثقفيّ عن جماعة من مشايخ الطائفيّين و علمائهم قالوا: قال يزيد بن ضبّة ألف قصيدة، فاقتسمتها شعراء العرب و انتحلتها، فدخلت في أشعارها.
ص: 75
إسماعيل بن الهربذ مكيّ مولّى لآل الزّبير بن العوّام، و قيل: بل هو مولى بني كنانة. أدرك آخر أيام بني أميّة و غنّى للوليد بن يزيد، و عمّر إلى آخر أيام الرشيد.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه عن عبد اللّه بن أبي سعد عن محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ عن أبيه:
أن إسماعيل بن الهربذ قدم على الرشيد من مكة، فدخل إليه و عنده ابن جامع و إبراهيم و ابنه إسحاق و فليح و غيرهم و الرشيد يومئذ خاثر(1) به خمار شديد؛ فغنّى ابن جامع ثم فليح ثم إبراهيم ثم إسحاق، فما حرّكه أحد منهم و لا أطربه؛ فاندفع ابن الهربذ يغنّي، فعجبوا من إقدامه في تلك الحال على الرشيد، فغنّى:
يا راكب العيس التي *** وفدت من البلد الحرام
قل للإمام ابن الإما *** م أخي الإمام أبي الإمام
زين البريّة إذ بدا *** فيهم كمصباح الظلام
جعل الإله الهربذيّ *** فداك من بين الأنام
- الغناء لابن الهربذ رمل بالوسطى عن عمرو - قال فكاد الرشيد يرقص، و استخفّه الطرب حتى ضرب بيديه و رجليه، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن لهذا الصوت حديثا، فإن أذن مولاي حدّثته به؛ فقال: حدّث. قال: كنت مملوكا لرجل من ولد الزّبير، فدفع إليّ درهمين أبتاع/له بهما لحما، فرحت فلقيت جارية على رأسها جرّة مملوءة من ماء العقيق(2) و هي تغنّي هذا اللحن في شعر غير هذا الشعر على وزنه و رويّه؛ فسألتها أن تعلّمنيه؛ فقالت: لا و حقّ القبر(3) إلاّ بدرهمين؛ فدفعت إليها الدرهمين و علّمتنيه؛ فرجعت إلى مولاي
ص: 76
بغير لحم فضربني ضربا مبرّحا شغلت معه بنفسي فأنسيت الصوت. ثم دفع إليّ درهمين آخرين بعد أيام أبتاع له بهما لحما؛ فلقيتني الجارية فسألتها أن تعيد الصوت عليّ؛ فقالت: لا و اللّه إلا بدرهمين؛ فدفعتهما إليها و أعادته عليّ مرارا حتى أخذته. فلما رجعت إلى مولاي أيضا و لا لحم معي قال: ما القصّة في هذين الدرهمين؟ فصدقته القصّة و أعدت/عليه الصوت، فقبّل بين عينيّ و أعتقني. فرحلت(1) إليك بهذا الصوت، و قد جعلت ذلك اللحن في هذا الشعر؛ فقال: دع الأوّل و تناسه، و أقم على الغناء بهذا اللحن في هذا الشعر؛ فأمّا مولاك فسأدفع إليه بدل كلّ درهم ألف دينار؛ ثم أمر له بذلك فحمل إليه.
شعر نسب للوليد و ليس له:
و ممّا نسب إلى الوليد بن يزيد من الشعر و ليس له:
امدح الكأس و من أعملها *** و اهج قوما قتلونا بالعطش
إنما الكأس ربيع باكر *** فإذا ما غاب عنّا لم نعش
الشعر لنابغة بني شيبان. و الغناء لأبي كامل، و لحنه المختار من خفيف الثقيل الثاني بالوسطى، و هو الذي تسمّيه الناس اليوم الماخوريّ. و فيه لأبي كامل أيضا خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. و ذكر الهشاميّ أن فيه لمالك لحنا من الثقيل الأوّل بالوسطى، و لعمر الوادي ثاني ثقيل بالبنصر.
ص: 77
النابغة اسمه عبد اللّه بن المخارق بن سليم بن حصرة(1) بن قيس بن سنان بن حمّاد بن حارثة(2) بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. شاعر بدويّ من شعراء الدولة الأمويّة. و كان يفد إلى الشام إلى خلفاء بني أميّة فيمدحهم و يجزلون عطاءه. و كان فيما أرى(3) نصرانيّا لأنّي وجدته في شعره يحلف بالإنجيل و الرّهبان و بالأيمان التي يحلف بها النّصارى. و مدح عبد الملك بن مروان و من بعده من ولده؛ و له في الوليد مدائح كثيرة.
أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن سعد الكرانيّ قال حدّثني العمريّ عن العتبيّ قال:
لما همّ عبد الملك بخلع عبد العزيز أخيه و تولية الوليد ابنه العهد، كان(4) نابغة بني شيبان منقطعا إلى عبد الملك مدّاحا له؛ فدخل إليه في يوم حفل و الناس حواليه و ولده قدّامه، فمثل بين يديه و أنشده قوله:
/اشتقت(5)
و انهلّ دمع عينك أن *** أضحى قفارا من أهله طلح(6)
حتى انتهى إلى قوله:
أزحت عنّا آل الزبير و لو *** كانوا هم المالكين ما صلحوا
إن تلق بلوى فأنت مصطبر *** و إن تلاق النّعمى فلا فرح
ص: 78
ترمي بعيني أقنى على شرف *** لم يؤذه عائر و لا لحح(1)
آل أبي العاص آل مأثرة *** غرّ عتاق بالخير قد نفحوا
خير قريش و هم أفاضلها *** في الجدّ جدّ و إن هم مزحوا
أرحبها أذرعا و أصبرها *** أنتم إذا القوم في الوغى كلحوا(2)
/أمّا قريش فأنت وارثها *** تكفّ من صعبهم إذا طمحوا
حفظت ما ضيّعوا و زندهم *** اوريت إذ أصلدوا(3) و قد قدحوا
آليت جهدا - و صادق قسمي - *** بربّ عبد تجنّه الكرح(4)
يظلّ يتلو الإنجيل يدرسه *** من خشية اللّه قلبه طفح(5)
/لابنك أولى بملك والده *** و نجم من قد عصاك مطّرح
داود عدل فاحكم بسيرته *** ثم ابن حرب فإنّهم نصحوا
و هم خيار فاعمل بسنّتهم *** و احي بخير و اكدح كما كدحوا
قال: فتبسّم عبد الملك و لم يتكلم في ذلك بإنذار(6) و لا دفع؛ فعلم الناس أنّ رأيه خلع عبد العزيز. و بلغ ذلك من قول النابغة عبد العزيز، فقال(7): لقد أدخل ابن النّصرانيّة نفسه مدخلا ضيّقا فأوردها موردا خطرا؛ و باللّه عليّ لئن ظفرت به لأخضبنّ قدمه بدمه.
و قال أبو عمرو الشّيبانيّ: لما قتل يزيد بن المهلّب دخل النابغة الشّيبانيّ على يزيد بن عبد الملك بن مروان، فأنشده قوله في تهنئته بالفتح:
ألا طال التنظّر و الثّواء *** و جاء الصيف و انكشف الغطاء
و ليس يقيم ذو شجن مقيم *** و لا يمضي إذا ابتغى المضاء
ص: 79
طوال الدهر إلاّ في كتاب *** و مقدار يوافقه القضاء
فما يعطى الحريص غنى لحرص *** و قد ينمي لذي الجود الثّراء
و كلّ شديدة نزلت بحيّ *** سيتبعها إذا انتهت الرّخاء
يقول فيها:
أؤمّ فتى من الأعياص ملكا *** أغرّ كأن غرّته ضياء
لأسمعه غريب الشعر مدحا *** و أثني حيث يتّصل الثناء
يزيد الخير فهو يزيد خيرا *** و ينمي كلّما أبتغي النّماء
فضضت كتائب «الأزديّ» فضّا *** بكبشك حين لفّهما اللقاء
/سمكت(1) الملك مقتبلا جديدا *** كما سمكت على الأرض السماء
نرجّي أن تدوم لنا إماما *** و في ملك الوليد لنا رجاء
«هشام» و «الوليد»(2) و كلّ نفس *** تريد لك الفناء لك الفداء
و هي قصيدة طويلة، فأمر له بمائة ناقة من نعم كلب و أن توقّر له برّا و زبيبا، و كساه و أجزل صلته.
قال: و وفد إلى هشام لمّا ولي الخلافة؛ فلمّا رآه قال له: يا ماصّ ما أبقت المواسي من بظر أمّه! أ لست القائل:
هشام و الوليد و كلّ نفس *** تريد لك الفناء لك الفداء
أخرجوه عنّي! و اللّه لا يرزؤني(3) شيئا أبدا و حرمه. و لم يزل طول أيامه طريدا؛ حتى ولي الوليد بن يزيد؛ فوفد إليه و مدحه مدائح كثيرة، فأجزل صلته.
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عبيد اللّه بن محمد الكوفيّ عن العمريّ/الخصّاف عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الراوية أنه أنشده لنابغة بني شيبان:
أيها(4) الساقي سقتك مزنة *** من ربيع(5) ذي أهاضيب و طشّ
امدح الكأس و من أعملها *** و اهج قوما قتلونا بالعطش
ص: 80
إنما الكأس ربيع باكر *** فإذا ما غاب عنّا لم نعش
/و كأنّ الشّرب قوم موّتوا *** من يقم منهم لأمر يرتعش
خرس الألسن ممّا نالهم *** بين مصروع و صاح منتعش
من حميّا(1) قرقف حصّيّة *** قهوة حوليّة لم تمتحش
ينفع المزكوم منها ريحها *** ثم تنفى داءه إن لم تنشّ (2)
كلّ من يشربها يألفها *** ينفق الأموال فيها كلّ هشّ
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الجمحيّ - قال ابن أبي الأزهر:
و هو محمد بن سلاّم -:
غنّى أبو كامل مولى الوليد بن يزيد يوما بحضرة الوليد بن يزيد:
امدح الكأس و من أعملها *** و اهج قوما قتلونا بالعطش
فسأل عن قائل هذا الشعر فقيل: نابغة بني شيبان؛ فأمر بإحضاره فأحضر؛ فاستنشده القصيدة فأنشده إياها؛ و ظنّ أن فيها مدحا له فإذا هو يفتخر بقومه و يمدحهم؛ فقال له الوليد: لو سعد جدّك لكانت مديحا فينا لا في بني شيبان، و لسنا نخليك على ذلك من حظّ؛ و وصله و انصرف. و أوّل هذه القصيدة قوله:
خلّ (3) قلبي من سليمى نبلها *** إذ رمتني بسهام لم تطش
طفلة(4) الأعطاف رؤد دمية *** و شواها بختريّ لم يحش
/و كأنّ الدّرّ في أخراصها(5) *** بيض كحلاء أقرّته بعشّ
و لها عينا مهاة(6) في مها *** ترتعي نبت خزامى و نتش
حرّة الوجه رخيم صوتها *** رطب تجنيه كفّ المنتقش(7)
ص: 81
و هي في الليل إذا ما عونقت *** منية البعل و همّ المفترش
و فيها يقول مفتخرا:
و بنو شيبان حولي عصب *** منهم غلب(1) و ليست بالقمش
و ردوا المجد و كانوا أهله *** فرووا و الجود عاف(2) لم ينشّ
و ترى الجرد لدى أبياتهم *** أرنات(3) بين صلصال و جشّ
ليس في الألوان منها هجنة(4) *** وضح البلق و لا عيب البرش
فبها يحوون أموال العدا *** و يصيدون عليها كلّ وحش
/دميت أكفالها(5) من طعنهم *** بالرّدينيّات(6) و الخيل النّجش
ننهل الخطّيّ (7) من أعدائنا *** ثم نفري الهام إن لم نفترش
فإذا العيس من المحل غدت *** و هي في أعينها(8) مثل العمش
/حسّر الأوبار مما لقيت *** من سحاب حاد عنها لم يرشّ (9)
خسّف(10) الأعين ترعى جوفة(11) *** همدت أوبارها لم تنتفش
ننعش العافي و من لا ذبنا(12) *** بسجال الخير من أيد(13) نعش
ذاك قولي و ثنائي و هم *** أهل ودّي خالصا في غير غشّ
فسلوا شيبان إن فارقتهم *** يوم يمشون إلى قبري بنعش
ص: 82
هل غشينا محرما في قومنا *** أو جزينا جازيا فحشا بفحش
و مما يغنّي فيه من شعر نابغة بني شيبان:
ذرفت عيني دموعا *** من رسوم بحفير(1)
موحشات طامسات *** مثل آيات الزّبور
/و زقاق مترعات *** من سلافات العصير(2)
مجلخدّات(3) ملاء *** بطّنوهنّ (4) بقير
فإذا صارت إليهم *** صيّرت خير مصير(5)
من شباب و كهول *** حكموا كأس المدير
كم ترى فيهم نديما *** من رئيس و أمير
ذكر يونس أنّ فيه لمالك لحنا و لابن عائشة آخر، و لم يذكر طريقتهما؛ و فيه خفيف رمل معروف لا أدري لحن أيّهما هو.
يا عمر حمّ فراقكم عمرا *** و عزمت منّا النأي و الهجرا
إحدى بني أود(6) كلفت بها *** حملت بلا ترة لنا وترا
ص: 83
و ترى لها دلاّ إذا نطقت *** تركت بنات فؤاده صعرا(1)
كتساقط الرّطب الجنيّ *** من الأفنان لا بثرا(2) و لا نزرا
الشعر لأبي دهبل الجمحيّ. و الغناء لفزار المكّي، و لحنه المختار ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى عن الهشاميّ.
ص: 84
نسبه - فيما ذكر الزّبير بن بكّار و غيره - وهب بن زمعة بن أسيد بن أحيحة بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب. و لخلف بن وهب يقول عبد اللّه بن الزّبعري أو غيره:
خلف بن وهب كلّ آخر ليلة *** أبدا يكثّر أهله بعيال
سقيا لوهب كهلها و وليدها *** ما دام في أبياتها الذيّال(1)
/نعم الشباب شبابهم و كهولهم *** صيّابة(2) ليسوا من الجهّال
و أمّ أبي دهبل امرأة من هذيل. و إياها يعني بقوله:
أنا ابن الفروع الكرام التي *** هذيل لأبياتها سائلة(3)
هم ولدوني و أشبهتهم *** كما تشبه الليلة القابلة
و اسمها، فيما ذكر ابن الأعرابيّ، هذيلة(4) بنت سلمة.
قال المدائنيّ: كان أبو دهبل رجلا جميلا شاعرا، و كانت له جمّة يرسلها فتضرب منكبيه، و كان عفيفا، و قال الشعر في آخر خلافة عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، و مدح(5) معاوية، و عبد اللّه بن الزّبير، و قد كان ابن الزبير ولاّه بعض أعمال اليمن.
حدّثنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثنا العمريّ عن الكلبيّ عن أبي مسكين،
ص: 85
و أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثني العباس بن هشام عن أبيه عن أبي مسكين:
أنّ قوما مرّوا براهب، فقالوا له: يا راهب، من أشعر الناس؟ قال: مكانكم حتى انظر في كتاب عندي، فنظر في رقّ له عتيق ثم قال: وهب من وهبين، من جمح أو جمحين.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عليّ بن صالح عن عبد اللّه بن عروة قال:
قال أبو دهبل يفخر بقومه:
قومي بنو جمح قوم إذا انحدرت *** شهباء تبصر في حافاتها الزّغفا(1)
أهل الخلافة و الموفون إن وعدوا *** و الشاهد و الروع لا عزلا و لا كشفا(2)
قال الزبير و أنشدني عمّي قال أنشدني مصعب لأبي دهبل يفخر بقومه بقوله:
أنا أبو دهبل وهب لوهب *** من جمح في العز منها و الحسب
و الأسرة الخضراء و العيص(3) الأشب *** و من هذيل والدي عالي النّسب
أورثني المجد أب من بعد أب *** رمحي ردينيّ و سيفي المستلب
و بيضتي قونسها من الذّهب *** درعي دلاص سردها سرد عجب(4)
/و القوس فجّاء لها نبل ذرب *** محشورة أحكم منهن القطب(5)
ليوم هيجاء أعدّت للرّهب
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا محمد بن زهير قال حدّثنا المدائنيّ:
أنّ أبا دهبل كان يهوى امرأة من قومه يقال لها عمرة، و كانت امرأة جزلة(6) يجتمع إليها الرجال للمحادثة(7)و إنشاد الشعر و الأخبار، و كان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع إليها، و كانت هي أيضا محبّة له. و كان أبو دهبل رجلا سيّدا من أشراف بني جمح، و كان يحمل الحملات(8) و يعطي الفقراء و يقري الضيف. و زعمت بنو جمح أنه تزوّج عمرة هذه بعد ذلك، و زعم غيرهم أنه لم يصل إليها. و كانت عمرة توصيه بحفظ ما بينهما و كتمانه، فضمن لها ذلك و اتصل ما بينهما. فوقفت عليه زوجته فدسّت إلى عمرة امرأة داهية من عجائز أهلها؛ فجاءتها فحادثتها
ص: 86
طويلا ثم قالت لها في عرض حديثها: إني لأعجب لك كيف لا تتزوّجين/أبا دهبل مع ما بينكما! قالت: و أيّ شيء يكون بيني و بين أبي دهبل! قال: فتضاحكت و قالت: أ تسترين عنّي شيئا قد تحدّثت به أشراف قريش في مجالسها و سوقة أهل الحجاز في أسواقها و السّقاة في مواردها! فما يتدافع اثنان أنه يهواك و تهوينه؛ فوثبت عن مجلسها فاحتجبت و منعت كلّ من كان يجالسها من المصير إليها. و جاء أبو دهبل على عادته فحجبته و أرسلت إليه بما كره.
ففي ذلك يقول:
تطاول هذا الليل ما يتبلّج *** و أعيت غواشي عبرتي ما تفرّج
و بتّ كئيبا ما أنام كأنما *** خلال ضلوعي جمرة تتوهّج
فطورا أمني النفس من عمرة المنى *** و طورا إذا ما لجّ بي الحزن أنشج(1)
لقد قطع الواشون ما كان بيننا *** و نحن إلى أن يوصل الحبل أحوج
- الغناء في البيت الأوّل و بعده بيت في آخر القصيدة:
أخطّط في ظهر الحصير كأنّني *** أسير يخاف القتل و لهان ملفج(2)
لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى. و ذكر حمّاد عن أبيه في أخبار مالك أنه لحائد بن جرهد و أنّ مالكا أخذه عنه فنسبه الناس إليه، فكان إذا غنّاه و سئل عنه يقول: هذا و اللّه لحائد بن جرهد لا لي. و فيه لأبي عيسى بن الرشيد ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش. و في «لقد قطع الواشون» و قبله «فطورا أمني النفس» لمالك ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى عن حبش -.
رأوا غرّة فاستقبلوها بألبهم(3) *** فراحوا على ما لا نحبّ (4) و أدلجوا
و كانوا أناسا كنت آمن غيبهم *** فلم ينههم حلمي و لم يتحرّجوا
/فليت كوانينا(5) من أهلي و أهلها *** بأجمعهم في قعر دجلة لجّجوا(6)
هم منعونا ما نحبّ و أوقدوا *** علينا و شبّوا نار صرم تأجّج
و لو تركونا لا هدى اللّه سعيهم *** و لم يلحموا قولا من الشرّ ينسج
ص: 87
لأوشك صرف الدهر يفرق بيننا *** و لا يستقيم الدّهر و الدهر أعوج
عسى كربة أمسيت فيها مقيمة *** يكون لنا منها نجاة و مخرج
فيكبت أعداء و يجذل آلف *** له كبد من لوعة الحبّ تلعج
و قلت لعبّاد و جاء كتابها *** لهذا و ربّي كانت العين تخلج
و إنّي لمحزون عشيّة زرتها *** و كنت إذا ما جئتها لا أعرّج
أخطّط في ظهر الحصير كأنني *** أسير يخاف القتل و لهان ملفج
الملفج: الفقير(1) المحتاج.
و أشفق قلبي من فراق خليلة *** لها نسب في فرع فهر متوّج
و كفّ كهدّاب الدّمقس لطيفة *** بها دوس(2) حنّاء حديث مضرّج(3)
/يجول وشاحاها و يغتصّ (4) حجلها *** و يشبع منها وقف(5) عاج و دملج
فلما التقينا لجلجت في حديثها *** و من آية الصّرم الحديث الملجلج
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال أنشدني عمّي و محمد بن الضحّاك عن أبيه محمد بن خشرم و من شئت من قريش لأبي دهبل في عمرة:
يا عمر حمّ فراقكم عمرا *** و عزمت منّا النأي و الهجرا
يا عمر شيخك و هو ذو كرم *** يحمي الذّمار و يكرم الصّهرا
إن كان هذا السحر منك فلا *** ترعي(6) عليّ و جدّدي السّحرا
إحدى بني أود كلفت بها *** حملت بلا وتر لنا وترا
و ترى لها دلاّ إذا نطقت *** تركت بنات فؤاده صعرا
كتساقط الرّطب الجنيّ *** من الأفنان لا بثرا و لا نزرا
أقسمت ما أحببت حبّكم *** لا ثيّبا خلقت و لا بكرا
ص: 88
و مقالة فيكم عركت بها *** جنبي(1) أريد بها لك العذرا
و مريد سرّكم عدلت به *** فيما يحاول معدلا وعرا
قالت يقيم بنا لنجزيه *** يوما فخيّم عندها شهرا
ما إن أقيم لحاجة عرضت *** إلاّ لأبلي فيكم العذرا
قالوا: و فيها يقول:
يلومونني في غير ذنب جنيته *** و غيري في الذنب الذي كان ألوم
أمنّا أناسا كنت تأتمنينهم *** فزادوا علينا في الحديث و أوهموا(2)
و قالوا لنا ما لم يقل ثم كثّروا *** علينا و باحوا بالذي كنت أكتم
/ - غنّى في هذه الأبيات أبو كامل مولى الوليد رملا بالبنصر -.
و قد منحت عيني القذى لفراقهم *** و عاد لها تهتانها فهي تسجم
و صافيت نسوانا فلم أر فيهم *** هواي و لا الودّ الذي كنت أعلم
أ ليس عظيما أن نكون ببلدة *** كلانا بها ثاو و لا نتكلّم
أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان قال:
سمع أبو السائب المخزوميّ رجلا ينشد قول أبي دهبل:
أ ليس عجيبا أن نكون ببلدة *** كلانا بها ثاو و لا نتكلم
فقال [له](3) أبو السائب: قف يا حبيبي فوقف؛ فصاح بجارية: يا سلامة اخرجي فخرجت؛ فقال له: أعد بأبي أنت البيت فأعاده؛ فقال: بلى و اللّه إنه لعجيب عظيم و إلا فسلامة حرّة لوجه اللّه! اذهب فديتك مصاحبا. ثم دخل و دخلت الجارية تقول له: ما لقيت منك! لا تزال تقطعني عن شغلي فيما لا ينفعك و لا ينفعني!.
و حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: كنّا نختلف إلى أبي العباس المبرّد و نحن أحداث نكتب عن الرّواة ما يروونه من الآداب/و الأخبار، و كان يصحبنا فتى من أحسن الناس وجها و أنظفهم ثوبا و أجملهم زيّا و لا نعرف باطن أمره؛ فانصرفنا يوما من مجلس أبي العباس المبرّد و جلسنا في مجلس نتقابل بما كتبناه و نصحّح المجلس الذي
ص: 89
شهدناه؛ فإذا بجارية قد اطّلعت فطرحت في حجر الفتى رقعة ما رأيت أحسن من شكلها مختومة بعنبر؛ فقرأها منفردا بها ثم أجاب عنها و رمى بها إلى الجارية. فلم نلبث أن خرج خادم من الدار في يده كرش(1)، فدخل إلينا فصفع/الفتى به حتى رحمناه و خلّصناه من يده و قمنا أسوأ الناس حالا. فلما تباعدنا سألناه عن الرقعة، فإذا فيها مكتوب:
كفى حزنا أنّا جميعا ببلدة *** كلانا بها ثاو و لا نتكلّم
فقلنا له: هذا ابتداء ظريف، فبأيّ شيء أجبت أنت؟ قال: هذا صوت سمعته يغنّى فيه، فلمّا قرأته في الرقعة أجبت عنه بصوت مثله. فسألناه ما هو؟ فقال: كتبت في الجواب:
أراعك بالخابور(2) نوق و أجمال
فقلنا له: ما وفّاك القوم حقك قط، و قد كان ينبغي أن يدخلونا معك في القصّة لدخولك في جملتنا، و لكنّا نحن نوفّيك حقّك؛ ثم تناولناه فصفعناه حتى لم يدر أيّ طريق يأخذ؛ و كان آخر عهده بالاجتماع معنا.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال حدّثنا صالح بن حسّان قال، و أخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني محمد بن عمر قال حدّثني محمد بن السّريّ قال حدّثنا هشام بن الكلبيّ عن أبيه، يزيد أحدهما على الآخر في خبره، و اللفظ لصالح بن حسان و خبره أتمّ، قال:
حجّت عاتكة بنت معاوية بن أبي سفيان، فنزلت من مكة بذي طوي. فبينا هي ذات يوم جالسة و قد اشتد الحرّ و انقطع الطريق، و ذلك في وقت الهاجرة، إذ/أمرت جواريها فرفعن السّتر و هي جالسة في مجلسها عليها شفوف لها تنظر إلى الطريق، إذ مرّ بها أبو دهبل الجمحيّ، و كان من أجمل الناس و أحسنهم منظرا؛ فوقف طويلا ينظر إليها و إلى جمالها و هي غافلة عنه؛ فلمّا فطنت له سترت وجهها و أمرت بطرح السّتر و شتمته. فقال أبو دهبل:
إني دعاني الحين فاقتادني *** حتى رأيت الظبي بالباب
يا حسنه إذ سبّني مدبرا *** مستترا عنّي بجلباب
سبحان من وقّفها حسرة *** صبّت على القلب بأوصاب
يذود عنها إن تطلّبتها *** أب لها ليس بوهّاب
أحلّها قصرا منيع الذّرى *** يحمى بأبواب و حجّاب
قال: و أنشد أبو دهبل هذه الأبيات بعض إخوانه، فشاعت بمكّة و شهرت و غنّى فيها المغنّون، حتى سمعتها
ص: 90
عاتكة إنشادا و غناء؛ فضحكت و أعجبتها و بعثت إليه بكسوة، و جرت الرسل بينهما. فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشام و نزل قريبا منها، فكانت تعاهده بالبرّ/و اللّطف(1) حتى وردت دمشق و ورد معها، فانقطعت عن لقائه و بعد من أن يراها، و مرض بدمشق مرضا طويلا. فقال في ذلك:
طال ليلي و بتّ كالمحزون *** و مللت الثّواء في جيرون(2)
و أطلت المقام بالشأم حتى *** ظنّ أهلي مرجّمات الظّنون
فبكت خشية التفرّق جمل *** كبكاء القرين إثر القرين
/و هي زهراء مثل لؤلؤة *** الغوّاص ميزت من جوهر مكنون
و إذا ما نسبتها لم تجدها *** في سناء من المكارم دون
ثم خاصرتها إلى القبّة الخض *** راء تمشي في مرمر مسنون(3)
قبّة من مراجل(4) ضربوها *** عند برد الشتاء في قيطون
عن يساري إذا دخلت من البا *** ب و إن كنت خارجا عن يميني
و لقد قلت إذ تطاول سقمي *** و تقلّبت ليلتي في فنون
ليت شعري أ من هوى طار نومي *** أم براني الباري قصير الجفون
قال: و شاع هذا الشعر حتى بلغ معاوية فأمسك عنه؛ حتى إذا كان في يوم الجمعة دخل عليه الناس و فيهم أبو دهبل؛ فقال معاوية لحاجبه: إذا أراد أبو دهبل الخروج فامنعه و اردده إليّ؛ و جعل الناس يسلّمون و ينصرفون، فقام أبو دهبل لينصرف؛ فناداه معاوية: يا أبا دهبل إليّ؛ فلما دنا إليه أجلسه حتى خلا به، ثم قال له: ما كنت ظننت أنّ في قريش أشعر منك حيث تقول:
و لقد قلت إذ تطاول سقمي *** و تقلّبت ليلتي في فنون
ليت شعري أ من هوى طار نومي *** أم براني الباري قصير الجفون
غير أنّك قلت:
و هي زهراء مثل لؤلؤة الغوّاص ميزت من جوهر مكنون
و إذا ما نسبتها لم تجدها *** في سناء من المكارم دون
و و اللّه إنّ فتاة أبوها معاوية و جدّها أبو سفيان و جدّتها هند بنت عتبة لكما ذكرت؛ و أيّ شيء زدت في قدرها! و لقد أسأت في قولك:
ص: 91
/
ثم خاصرتها إلى القبّة الخض *** راء تمشي في مرمر مسنون
فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين ما قلت هذا، و إنما قيل على لساني. فقال له: أمّا من جهتي فلا خوف عليك، لأنّي أعلم صيانة ابنتي نفسها، و أعرف أنّ فتيان الشعر لم يتركوا أن يقولوا النسيب في كلّ من جاز أن يقولوه فيه و كلّ من لم يجز، و إنما أكره لك جوار يزيد، و أخاف عليك وثباته، فإن له سورة الشباب و أنفة الملوك. و إنما أراد معاوية أن يهرب أبو دهبل فتنقضي المقالة عن ابنته؛ فحذر أبو دهبل فخرج إلى مكة هاربا على وجهه، فكان يكاتب عاتكة. فبينا معاوية ذات يوم في مجلسه إذ جاءه خصيّ له فقال: يا أمير المؤمنين، و اللّه لقد سقط إلى عاتكة اليوم كتاب، فلمّا قرأته بكت ثم أخذته فوضعته تحت مصلاّها، و ما زالت خاثرة/النفس منذ اليوم. فقال له: اذهب فالطف لهذا الكتاب حتى تأتيني به. فانطلق الخصيّ، فلم يزل يلطف حتى أصاب منها غرّة فأخذ الكتاب و أقبل به إلى معاوية، فإذا فيه:
أ عاتك هلاّ إذ بخلت فلا ترى *** لذي صبوة زلفى لديك و لا حقّا(1)
رددت فؤادا قد تولّى به الهوى *** و سكّنت عينا لا تملّ و لا ترقا(2)
و لكن خلعت القلب بالوعد و المنى *** و لم أر يوما منك جودا و لا صدقا
أ تنسين أيّامي بربعك مدنفا *** صريعا(3) بأرض الشام ذا سقم ملقى
و ليس صديق يرتضى لوصيّة *** و أدعو لدائي بالشّراب فما أسقى
و أكبر همّي أن أرى لك مرسلا *** فطول نهاري جالس أرقب الطّرقا
فوا كبدي إذ ليس لي منك مجلس *** فأشكو الذي بي من هواك و ما ألقى
رأيتك تزدادين للصّبّ غلظة *** و يزداد قلبي كلّ يوم لكم عشقا
/قال: فلما قرأ معاوية هذا الشعر بعث إلى يزيد بن معاوية، فأتاه فدخل عليه فوجد معاوية مطرقا، فقال:
يا أمير المؤمنين، ما هذا الأمر الذي شجاك؟ قال: أمر أمرضني و أقلقني منذ اليوم، و ما أدري ما أعمل في شأنه.
قال: و ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الفاسق أبو دهبل كتب بهذه الأبيات إلى أختك عاتكة، فلم تزل باكية منذ اليوم، و قد أفسدها، فما ترى فيه؟ فقال: اللّه إن الرأي لهيّن. قال: و ما هو؟ قال: عبد من عبيدك يكمن له في أزقّة مكة فيريحنا منه. قال معاوية: أفّ لك! و اللّه إنّ امرأ يريد بك ما يريد و يسمو بك إلى ما يسمو لغير ذي رأي، و أنت قد ضاق ذرعك بكلمة و قصر فيها باعك حتى أردت أن تقتل رجلا من قريش! أ و ما تعلم أنك إذا فعلت ذلك صدّقت قوله و جعلتنا أحدوثة أبدا! قال: يا أمير المؤمنين، إنه قال قصيدة أخرى تناشدها أهل مكة و سارت حتى بلغتني و أوجعتني و حملتني على ما أشرت به فيه. قال: و ما هي؟ قال قال(4):
ألا لا تقل مهلا فقد ذهب المهل *** و ما كلّ من يلحى محبّا له عقل
ص: 92
لقد كان في حولين حالا و لم أزر *** هواي و إن خوّفت عن حبها شغل
حمى الملك الجبّار عنّي لقاءها *** فمن دونها تخشى المتالف و القتل
فلا خير في حبّ يخاف و باله *** و لا في حبيب لا يكون له وصل
فوا كبدي إنّي شهرت بحبّها *** و لم يك فيما بيننا ساعة بذل
و يا عجبا إني أكاتم حبّها *** و قد شاع حتى قطّعت دونها السّبل
قال: فقال معاوية: قد و اللّه رفّهت عنّي، فما كنت آمن أنه قد وصل إليها؛ فأمّا الآن و هو يشكو أنّه لم يكن بينهما وصل و لا بذل فالخطب فيه يسير، قم عنّي؛ /فقام يزيد فانصرف. و حجّ معاوية في تلك السنة؛ فلما انقضت أيام الحجّ كتب أسماء وجوه قريش و أشرافهم و شعرائهم و كتب فيهم اسم أبي دهبل، ثم دعا بهم ففرّق في جميعهم صلات سنيّة و أجازهم جوائز كثيرة. فلما قبض أبو دهبل جائزته و قام لينصرف دعا به معاوية فرجع إليه؛ فقال له:
/يا أبا دهبل، ما لي رأيت أبا خالد يزيد ابن أمير المؤمنين عليك ساخطا في قوارص(1) تأتيه عنك و شعر لا تزال قد نطقت به و أنفذته إلى خصمائنا و موالينا، لا تعرض لأبي خالد. فجعل يعتذر إليه و يحلف له أنّه مكذوب عليه. فقال له معاوية: لا بأس عليك، و ما يضرّك ذلك عندنا؛ هل تأهّلت؟ قال: لا. قال: فأيّ بنات عمّك أحبّ إليك؟ قال:
فلانة؛ قال: قد زوّجتكها و أصدقتها ألفي دينار و أمرت لك بألف دينار. فلما قبضها قال: إن رأي أمير المؤمنين أن يعفو لي عمّا مضى! فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق منّي فقد أبحت به دمي و فلانة التي زوّجتنيها طالق البتّة. فسرّ بذلك معاوية و ضمن له رضا يزيد عنه و وعده بإدرار ما وصله به في كل سنة؛ و انصرف إلى دمشق. و لم يحجج معاوية في تلك السنة إلا من أجل أبي دهبل.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قال حدّثني إبراهيم بن عبد اللّه قال:
خرج أبو دهبل يريد الغزو، و كان رجلا صالحا و كان جميلا. فلما كان بجيرون جاءته امرأة فأعطته كتابا فقالت: اقرأ لي هذا الكتاب فقرأه لها، ثم ذهبت فدخلت قصرا ثم خرجت إليه فقالت: لو بلغت(2) القصر فقرأت الكتاب على امرأة كان لك/فيه أجر إن شاء اللّه، فإنه من غائب لها يعنيها أمره؛ فبلغ معها القصر؛ فلما دخلا إذا فيه جوار كثيرة، فأغلقن القصر عليه، و إذا فيه امرأة وضيئة، فدعته إلى نفسها فأبى، فأمرت به فحبس في بيت في القصر و أطعم و سقي قليلا قليلا حتى ضعف و كاد يموت، ثم دعته إلى نفسها فقال: لا يكون ذلك أبدا، و لكنّي أتزوّجك؛ قالت: نعم، فتزوّجها؛ فأمرت به فأحسن إليه حتى رجعت إليه نفسه، فأقام معها زمانا طويلا لا تدعه يخرج، حتى يئس منه أهله و ولده، و تزوّج بنوه و بناته و اقتسموا ماله، و أقامت زوجته تبكي عليه حتى عمشت و لم تقاسمهم ماله. ثم إنه قال لامرأته: إنك قد أثمت فيّ و في ولدي و أهلي؛ فأذني لي أطالعهم و أعود إليك؛ فأخذت
ص: 93
عليه أيمانا ألاّ يقيم إلا سنة حتى يعود إليها. فخرج من عندها يجرّ الدنيا(1) حتى قدم على أهله، فرأى حال زوجته و ما صار إليه ولده. و جاء إليه ولده؛ فقال لهم: لا و اللّه ما بيني و بينكم عمل، أنتم قد ورثتموني و أنا حيّ فهو حظّكم؛ و اللّه لا يشرك زوجتي فيما قدمت به أحد؛ ثم قال لها: شأنك به فهو لك كلّه. و قال في الشاميّة:
صاح حيّا الإله حيّا و دورا *** عند أصل القناة من جيرون
عن يساري إذا دخلت من البا *** ب و إن كنت خارجا عن يميني
فبذاك اغتربت في الشام حتى *** ظنّ أهلي مرجّمات الظنون
و هي زهراء مثل لؤلؤة الغوّاص *** ميزت من جوهر مكنون
و إذا ما نسبتها لم تجدها *** في سناء من المكارم دون
تجعل المسك و اليلنجوج(2) *** و النّدّ صلاء لها على الكانون
/ثم ماشيتها إلى القبّة الخض *** راء تمشي في مرمر مسنون
و قباب قد أسرجت و بيوت *** نظّمت بالرّيحان و الزّرجون(3)
/قبّة من مراجل ضربوها *** عند حدّ الشتاء في قيطون
ثم فارقتها على خير ما كا *** ن قرين مفارق لقرين
فبكت خشية التفرّق للبي *** ن بكاء الحزين إثر الحزين
و اسألي عن تذكّري و اطمئني *** لأناسي إذا هم عذلوني
فلما حلّ الأجل أراد الخروج إليها، فجاءه موتها فأقام.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قال:
و قد أبو دهبل الجمحيّ على ابن الأزرق عبد اللّه بن عبد الرحمن بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم، و كان يقال له ابن الأزرق و الهبرزيّ (4)، و كان عاملا لعبد اللّه بن الزبير على اليمن؛ فأنكره و رأى منه جفوة، فمضى إلى عمارة بن عمرو بن حزم، و هو عامل لعبد اللّه بن الزبير على حضرموت، فقال يمدحه و يعرّض بابن الأزرق:
يا ربّ حيّ بخير ما *** حيّيت إنسانا عماره
أعطي فأسنانا و لم *** يك من عطيّته الصّغاره(5)
ص: 94
و من العطيّة ما ترى *** جذماء ليس لها نزاره(1)
/حجرا تقلّبه و هل *** تعطي على المدح الحجاره
كالبغل يحمد قائما *** و تذمّ مشيته المصارة(2)
ثم رجع من عند عمارة بن عمرو بن حزم فقدم؛ فقال له حنين مولى ابن الأزرق في السرّ: أرى أنّك عجلت على ابن عمك و هو أجود الناس و أكرمهم، فعد إليه فإنه غير تاركك، و اعلم أنّا نخاف أن يكون قد عزل فلازمه و لا يفقدك؛ فإني أخاف أن ينساك؛ ففعل و أعطاه و أرضاه. فقال في ذلك:
يا حنّ إنّي لما حدّثتني أصلا *** مرنّح من صميم الوجد معمود
نخاف عزل امرئ كنّا نعيش به *** معروفه إن طلبنا الجود موجود
اعلم بأنّي لمن عاديت مضطغن *** ضبّا(3) و أنّي عليك اليوم محسود
و أنّ شكرك عندي لا انقضاء له *** ما دام بالهضب من لبنان جلمود
أنت الممدّح و المغلي به ثمنا *** إذ لا تمدّح صمّ الجندل السّود
إن تغد من منقلي(4) نجران مرتحلا *** يرحل من اليمن المعروف و الجود
ما زلت في دفعات الخير تفعلها *** لمّا اعترى الناس لأواء(5) و مجهود
حتى الذي بين عسفان إلى عدن *** لحب لمن يطلب المعروف أخدود(6)
قال: و أنشدنيها محمد بن الضحّاك بن عثمان قال سمعتها من أبي.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال أخبرني الزبير بن بكّار، و حدّثني حمزة بن عتبة قال:
قال أبو دهبل الجمحيّ: لما قلت أبياتي التي قلت فيها:
اعلم بأنّي لمن عاديت مضطغن *** ضبّا و أنّي عليك اليوم محسود
/قلت فيها نصف بيت
و أنّ شكرك عندي لا انقضاء له
ثم أرتج عليّ، فأقمت حولين لا أقع على تمامه، حتى سمعت رجلا من الحاجّ في الموسم يذكر لبنان، فقلت: ما لبنان؟ فقال: جبل بالشأم؛ فأتممت نصف البيت:
ما دام بالهضب من لبنان جلمود
ص: 95
قال الزبير و حدّثني محمد بن حبش المخزوميّ قال:
دخل نصيب على إبراهيم بن هشام و هو وال على المدينة فأنشده قصيدة مدحه فيها؛ فقال إبراهيم بن هشام:
ما هذا بشيء، أين هذا من قول أبي دهبل لصاحبنا ابن الأزرق حيث قال:
إن تغد من منقلي نجران مرتحلا *** يبن من اليمن المعروف و الجود
فغضب نصيب فحمي فنزع عمامته و طرحها و برك عليها؛ ثم قال: إن تأتونا برجال مثل ابن الأزرق نأتكم بمديح أجود من مديح أبي دهبل.
قال الزبير و حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد العزيز الزّهريّ قال حدّثني إسماعيل بن يعقوب بن مجمّع التّيميّ قال:
كان إبراهيم بن هشام جبّارا و كان يقيم بلا إذن إذ كان على المدينة الأشهر. فإذا أذن للناس أذن معهم لشاعر، فينشد قصيدة مديح لهشام بن عبد الملك و قصيدة مديح لإبراهيم بن هشام. فأذن لهم يوما، و كان الشاعر الذي أذن له معهم/نصيبا و عليه جبّة وشي؛ فاستأذنه في الإنشاد فأذن له؛ فأنشده قصيدة لهشام بن عبد الملك ثم قطعها و أنشد قصيدة مديح لإبراهيم بن هشام، و قصيدة هشام أشعر، فأراد الناس ممالحة نصيب فقالوا: ما أحسن هذا يا أبا محجن! أعد هذا البيت. فقال إبراهيم: أكثرتم، إنه لشاعر، و أشعر منه الذي يقول في ابن الأزرق:
إن تمس من منقلي نجران مرتحلا *** يبن من اليمن المعروف و الجود
ما زلت في دفعات الخير تفعلها *** لما اعترى الناس لأواء و مجهود
و حمي نصيب فقال: إنّا و اللّه ما نصنع المديح إلا على قدر الرجال، كما يكون الرجل يمدح. فعمّ الناس الضّحك و حلم عنه، و قال الحاجب: ارتفعوا، فلما صاروا في السّقيفة ضحكوا و قالوا: أ رأيتم مثل شجاعة هذا الأسود على هذا الجبّار! و حلم من غير حلم.
قال الزبير و حدّثني عمّي مصعب قال:
خرج أبو دهبل يريد ابن الأزرق فلقيه معزولا، فشقّ ذلك عليه و استرجع، فقال له ابن الأزرق: هوّن عليك! لم يفتك شيء، فأعطاه مائتي دينار(1). فقال في ذلك أبو دهبل:
أعطى أميرا و منزوعا و ما نزعت *** عنه المكارم تغشاه و ما نزعا
و حدّثني محمد بن الضحّاك مثل ذلك و أنشدني البيت.
و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أبو توبة صالح بن محمد بن درّاج قال حدّثنا أبو عمرو الشّيبانيّ قال:
ص: 96
/ولّى عبد اللّه بن الزبير ابنا لسعد بن أبي وقّاص يقال له إبراهيم مكان الثّبت بن عبد الرحمن بن الوليد الذي يقال له ابن الأزرق، فخرج حتى نزل بزبيد(1)، فقال لابن الأزرق: هلمّ حسابك؛ فقال: مالك عندي حساب و لا بيني و بينك عمل، و خرج متوجّها/إلى مكة. فاستأذنه أبو دهبل في صحبة الوقّاصيّ فأذن له فرجع معه، حتى إذا دخلوا صنعاء لقيهم بحير(2) بن ريسان في نفر كثير من الفرس و غيرهم، و مضى ابن الأزرق و معه ما احتمله من أموال اليمن؛ فسار يوما ثم نزل فضرب رواقه و دعا الناس فأعطاهم ذلك المال حتى لم يبق منه درهم. فقال أبو دهبل:
أعطى أميرا و منزوعا و ما نزعت *** عنه المكارم تغشاه و ما نزعا
و أقام أبو دهبل مع الوقّاصيّ، فلم يصنع به خيرا. فقال أبو دهبل:
ما ذا رزئنا غداة الخلّ (3) من رمع(4) *** عند التفرّق من خيم و من كرم
ظلّ لنا واقفا يعطي فأكثر ما *** سمّى و قال لنا في قوله نعم
- نعم حرف موقوف فإذا حرّك أجريت حركته إلى الخفض لأنه أولى بالساكن -:
ثم انتحى غير مذموم و أعيننا *** لما تولّى بدمع واكف سجم(5)
تحمله الناقة الأدماء معتجرا *** بالبرد كالبدر جلّى ليلة الظّلم
و كيف أنساك لا أيديك واحدة *** عندي و لا بالذي أوليت من قدم
/حتى لقينا بحيرا عند مقدمنا *** في موكب كضباع الجزع(6) مرتكم
لما رأيت مقامي عند بابهم *** وددت أنّي بذاك الباب لم أقم
و بحير بن ريسان الذي يقول فيه أبو دهبل:
ص: 97
بحير بن ريسان الذي سكن الجند(1) *** يقول له الناس الجواد و من ولد
له نفحات حين يذكر فضله *** كسيل ربيع في ضحاضحة السّند(2)
في هذين البيتين هزج بالبنصر ذكر عمرو بن بانة أنه ليمان، و ذكر الهشاميّ أنّه لابن جامع.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أبو توبة عن أبي عمرو الشّيبانيّ قال:
كان ابن الزبير بعث عبد اللّه بن عبد الرحمن على بعض أعمال اليمن، فمدّ يده إلى أموالها و أعطى أعطية سنيّة و بثّ في قريش منها أشياء جزيلة فأثنت عليه قريش و وفدوا إليه فأسنى لهم العطايا. و بلغ ذلك عبد اللّه بن الزبير فحسده و عزله بإبراهيم بن سعد بن أبي وقّاص. فلما قدم عليه أراد أن يحاسبه، فقال له: مالك عندي حساب و لا بيني و بينك عمل، و قدم مكة؛ فخافت قريش ابن الزّبير عليه أن يفتّشه أو يكشفه فلبست السلاح و خرجت إليه لتمنعه؛ فلما لقيهم نزلت إليه قريش فسلّمت عليه و بسطت له أرديتها و تلقّته إماؤهم و ولائدهم بمجامر الألوّة(3)و العود المندليّ يبخّرون بين يديه حتى انتهى إلى المسجد و طاف بالبيت، ثم جاء إلى ابن الزبير فسلّم عليه/و هم معه مطيفون به. فعلم ابن الزبير أنّه لا سبيل له إليه فما عرّض و لا صرّح له بشيء. و مضى إلى منزله. فقال أبو دهبل:
فمن يك شان العزل أو هدّ ركنه *** لأعدائه يوما فما شانك العزل
و ما أصبحت من نعمة مستفادة *** و لا رحم إلا عليها لك الفضل
/و قال أبو دهبل أيضا فيه - أخبرني بذلك ابن المرزبان عن أبي توبة عن أبي عمرو الشّيبانيّ؛ و أخبرني به الحرميّ عن الزبير عن عمّه -:
عقم النساء فلم يلدن شبيهه *** إن النساء بمثله عقم
متهلّل بنعم بلا متباعد *** سيّان منه الوفر و العدم
نزر الكلام من الحياء تخاله *** ضمنا(4) و ليس بجسمه سقم
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا أبو توبة عن أبي عمرو قال:
قال أبو دهبل يمدح ابن الأزرق:
بأبي و أمّي غير قول الباطل *** الكامل ابن الكامل ابن الكامل
ص: 98
و الحازم الأمر الكريم برأيه *** و الواصل الأرحام و ابن الواصل
جمع الرئاسة و السماح كليهما *** جمع الجفير(1) قداح نبل النابل
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثني محمد بن عمر قال حدّثني سليمان بن عبّاد قال حدّثني أبو جعفر الشّويفعي (رجل من أهل مكة) قال:
قدم سليمان بن عبد الملك مكة في حرّ شديد، فكان ينقّل سريره بفناء الكعبة و أعطى الناس العطاء. فلما بلغ بني جمح نودي بأبي دهبل، فقال سليمان: أين/أبو دهبل الشاعر؟ عليّ به؛ فأتي به؛ فقال سليمان: أنت أبو دهبل الشاعر؟ قال: نعم؛ قال: فأنت القائل:
فتنة يشعلها ورّادها *** حطب النار فدعها تشتعل
فإذا ما كان أمن فأتهم *** و إذا ما كان خوف فاعتزل
قال: نعم. قال: و أنت القائل:
يدعون مروان كيما يستجيب لهم *** و عند مروان خار(2) القوم أو رقدوا
قد كان في قوم موسى قبلهم جسد(3) *** عجل إذا خار فيهم خورة سجدوا
قال: نعم. قال: أنت القائل هذا ثم تطلب ما عندنا، لا و اللّه و لا كرامة! فقال: يا أمير المؤمنين، إن قوما فتنوا فكافحوكم بأسيافهم و أجلبوا عليكم بخيلهم و رجلهم ثم أدالكم اللّه منهم فعفوهم عنهم، و إنما فتنت فقلت بلساني، فلم لا يعفى عنّي! فقال سليمان: قد عفونا عنك و أقطعه قطيعة بحاذان(4) باليمن. فقيل لسليمان: كيف أقطعته هذه القطيعة! قال: أردت أن أميته و أميت ذكره بها.
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا المدائنيّ عن جماعة من الرّواة:
أن أبا دهبل كان يهوى امرأة من قومه يقال لها عمرة و كانت امرأة جزلة يجتمع الرجال عندها لإنشاد الشعر و المحادثة، و كان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع إليها، و كانت هي أيضا محبّة له. و كان أبو دهبل من أشراف بني جمح، /و كان يحمل الحمالة و كان مسوّدا؛ و زعمت بنو جمح أنه تزوّجها بعد، و زعم غيرهم من الرّواة أنه لم يصل إليها و لم يجر بينهما حلال و لا حرام. قال: و كانت عمرة تتقدّم/إلى(5) أبي دهبل في حفظ ما بينهما و كتمانه، فضمن ذلك لها. فجاء نسوة كنّ يتحدّثن إليها فذكرن لها شيئا من أبي دهبل و قلن: قد علق امرأة؛ قالت: و ما ذاك؟ قلن: ذكر أنه عاشق لك و أنّك عاشقة له. فرفعت مجلسها و مجالسة الرجال ظاهرة و ضربت حجابا
ص: 99
بينهم و بينها، و كتبت إلى أبي دهبل تعذله و تخبره بما بلغها من سوء صنيعه. فعند ذلك يقول:
تطاول هذا الليل ما يتبلّج *** و أعيت غواشي عبرتي ما تفرّج
و بتّ كئيبا ما أنام كأنما *** خلال ضلوعي جمرة تتوهّج
فطورا أمني النفس من عمرة المنى *** و طورا إذا ما لجّ بي الحزن أنشج
لقد قطع الواشون ما كان بيننا *** و نحن إلى أن يوصل الحبل أحوج
رأوا غرّة فاستقبلوها بألبهم *** فراحوا على ما لا نحبّ و أدلجوا
و كانوا أناسا كنت آمن غيهم *** فلم ينههم حلم و لم يتحرّجوا
هم منعونا ما نحبّ و أوقدوا *** علينا و شبّوا نار صرم تأجّج
و لو تركونا لا هدى اللّه سعيهم *** و لم يلحموا قولا من الشر ينسج
لأوشك صرف الدهر يفرق بيننا *** و هل يستقيم الدّهر و الدهر أعوج
عسى كربة أمسيت فيها مقيمة *** يكون لنا منها نجاة و مخرج
فيكبت أعداء و يجذل آلف *** له كبد من لوعة الحب تنضج
و قلت لعبّاد و جاء كتابها *** لهذا و ربّي كانت العين تخلج
و خطّطت في ظهر الحصير كأنّني *** أسير يخاف القتل ولهان ملفج
/فلما التقينا لجلجت في حديثها *** و من آية الصّرم الحديث الملجلج
و إنّي لمحجوب عشيّة زرتها *** و كنت إذا ما جئتها لا أعرّج
و أعيا عليّ القول و القول واسع *** و في القول مستنّ (1) كثير و مخرج
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزبير بن بكّار قال حدّثني خالد بن بكر الصوّاف قال:
أتيت ابن أبي العراقيب فسألته أن يدخلني على جارية مغنّية لم ير أحد مثلها قط؛ فقال لي: إنّ في البيت و اللّه شيخين كريمين عليّ، لا أدري ما يوافقهما من دخول أحد عليهما، فلو أقمت حتى أطّلع رأيهما في ذلك، فدخل ثم خرج إليّ فقال: ادخل فدخلت، فإذا أبو السائب المخزوميّ و أبو جندب الهذليّ؛ و خرجت علينا الجارية قاطبة عابسة؛ فلما وضع العود في حجرها اندفعت تغنّي و تقول:
عسى كربة أمسيت فيها مقيمة *** يكون لنا منها نجاة و مخرج
و إنّي لمحجوب غداة أزورها *** و كنت إذا ما زرتها لا أعرّج
ص: 100
قال: ثم بكت؛ فوثبا عليه جميعا فقالا له: لعلك أربتها(1) بشيء، عليك و علينا إن لم تقم إليها حتى تقبّل رأسها و تترضّاها، ففعل.
تطاول هذا الليل ما يتبلّج *** و أعيت غواشي عبرتي ما تفرّج
أخطّط في ظهر الحصير كأنّني *** أسير يخاف القتل ولهان ملفج
/الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و فيه لحن لمالك ذكره حماد عن أبيه في أخبار مالك و لم يجنّسه. و حكي أن مالكا كان إذا سئل عنه يذكر أنه أخذه من حائد بن جرهد فقوّمه و أصلحه. و فيه لأبي عيسى بن الرشيد ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش و الهشاميّ.
لقد قطع الواشون ما كان بيننا *** و نحن إلى أن يوصل الحبل أحوج
فطورا أمني النفس من عمرة المنى *** و طورا إذا ما لجّ بي الهمّ أنشج
الغناء لمالك ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر حبش أن فيه لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قال:
قال أبو دهبل في قتل الحسين بن عليّ صلوات اللّه عليه و زكواته:
تبيت سكارى من أميّة نوّما *** و بالطّفّ قتلي ما ينام حميمها
و ما أفسد الإسلام إلا عصابة *** تأمّر نوكاها و دام نعيمها
فصارت قناة الدّين في كفّ ظالم *** إذا اعوجّ منها جانب لا يقيمها
قال الزبير و حدّثني يحيى بن مقداد بن عمران بن يعقوب الزّمعي قال حدّثني عمّي موسى بن يعقوب قال أنشدني أبو دهبل قصيدته التي يقول فيها:
سقى اللّه جازانا فمن حلّ وليه *** فكلّ فسيل من سهام و سردد(2)
ص: 101
/
و محصوله الدار التي خيّمت بها *** سقاها فأروى كلّ ربع و فدفد(1)
فأنت التي كلّفتني البرك(2) شاتيا *** و أوردتنيه فانظري أيّ (3) مورد
فوا ندمي أن(4) لم أعج إذ تقول لي *** تقدّم فشيّعنا إلى ضحوة الغد
تكن سكنا أو تقدر العين أنها *** ستبكي مرارا فاسل من بعد و احمد(5)
فأصبحت ممّا كان بيني و بينها *** سوى ذكرها كالقابض الماء باليد
- الغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لبذل الكبير رمل عن الهشاميّ:
لعلّك أن تلقى محبّا فتشتفي *** برؤية ريم بضّة المتجرّد
بلاد العدا لم تأتها غير أنها *** بها همّ نفسي من تهام و منجد(6)
و ما جعلت ما بين مكة ناقتي *** إلى البرك إلاّ نومة المتهجّد
و كانت قبيل الصبح تنبذ رحلها *** بدومة(7) من لغط القطا المتبدّد
/قال فقلت: يا عمّي(8) فما يمنعك أن تكتري دابّة بدرهمين فتشيّعها و تصبح معك؛ فضحك/و قال: نفع اللّه بك يا بن أخي، أ ما علمت أن النّدم توبة، و عمّك كان أشغل مما تحسب.
قال الزبير و حدّثني عمّي مصعب بن عبد اللّه قال:
أنشد رجل أبا السائب المخزوميّ قصيدة أبي دهبل:
سقى اللّه جازانا فمن حلّ وليه *** فكلّ فسيل من سهام و سردد
فلما بلغ قوله:
ص: 102
فوا ندمي أن(1) لم أعج إذ تقول لي *** تقدّم فشيّعنا إلى ضحوة الغد
قال أبو السائب: ما صنع شيئا! أ لا اكتري حمارا بدرهمين فشيّعهم و لم يقل «فوا ندمي» أو اعتذر! و إني أظنّ أنه قد كان له عذر. قال: و ما هو؟ قال: أظنه كان مثلي لا يجد شيئا.
فقال الزبير و حدّثني ابن مقداد قال حدّثني عمّي موسى بن يعقوب قال أنشدني أبو دهبل قوله:
ألا علق القلب المتيّم كلثما *** لجاجا و لم يلزم من الحبّ ملزما
خرجت بها من بطن مكة بعد ما *** أصات المنادي بالصلاة فأعتما(2)
فما نام من راع و لا ارتدّ سامر *** من الحيّ حتى جاوزت بي يلملما(3)
/و مرّت ببطن اللّيث(4) تهوي كأنما *** تبادر بالإدلاج نهبا مقسّما
- غنّى في هذه الأبيات ابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن الهشاميّ. قال: و فيه هزج يمان بالوسطى، و ذكر عمرو بن بانة أن خفيف الثقيل هو اليمانيّ. و فيه لفيل مولى العبلات رمل صحيح عن حمّاد عن أبيه عن الهشاميّ.
و قال الهشامي: فيه لحكم ثقيل أوّل. و ذكر أبو أيّوب المدينيّ في أغاني ابن جامع أنّ فيه لحنا و لم يجنّسه -:
و جازت(5) على البزوء و الليل كاسر *** جناحين بالبزواء وردا و أدهما
فما ذرّ قرن الشمس حتى تبيّنت *** بعليب(6) نخلا مشرفا أو مخيّما
و مرّت على أشطان رونق(7) بالضّحى *** فما خزّرت(8) للماء عينا و لا فما
و ما شربت حتى ثنيت زمامها *** و خفت عليها أن تخرّ و تكلما
فقلت لها قد بنت غير ذميمة *** و أصبح وادي البرك غيثا مديّما(9)
ص: 103
قال: فقلت له: ما كنت إلاّ على الريح؛ فقال: يا بن أخي، إن عمّك كان إذا همّ فعل، و هي الحاجة(1). أ ما سمعت قول أخي(2) بني مرّة:
/
إذا أقبلت قلت مشحونة *** أطاعت(3) لها الرّيح قلعا جفولا
و إن أدبرت قلت مذعورة *** من الرّبد(4) تتبع هيقا ذمولا(5)
و إن أعرضت خال فيها البصي *** ر مالا تكلّفه أن يميلا
يدا سرح مائل ضبعها *** تسوم و تقدم رجلا زحولا(6)
فمرّت على خشب غدوة *** و مرّت فويق أريك(7) أصيلا
تخبّط بالليل حزّانه(8)*** كخبط القويّ العزيز الذليلا
و أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثني جعفر بن الحسن اللّهبيّ قال: أنشدت/ريّان(9) السوّاق قول أبي دهبل:
أ ليس عجيبا أن نكون ببلدة *** كلانا بها ثاو و لا نتكلّم
و لا تصرميني أن تريني أحبّكم *** أبوء بذنب إنّني أنا أظلم
فقال: أحسن، أحسن اللّه إليه؛ ما بعد هذا شيء.
و في هذه القصيدة يقول:
أ منّا أناسا كنت قد تأمنينهم *** فزادوا علينا في الحديث و أوهموا(10)
/و قالوا لنا ما لم يقل ثم كثّروا *** علينا و باحوا بالذي كنت أكتم
ص: 104
لقد كحلت عيني القذى لفراقكم *** و عاودها تهتانها فهي تسجم
و أنكرت طيب العيش مني و كدّرت *** عليّ حياتي و الهوى متقسّم
الغناء لابن سريج رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لابن زرزور الطائفيّ خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه خفيفا رمل أحدهما بالوسطى لمتيّم و الآخر بالبنصر لعريب.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزبير قال حدّثني عمّي قال حدّثني القاسم بن المعتمر الزّهريّ قال:
قلت لأبي السائب المخزوميّ: يا أبا السائب، أما أحسن أبو دهبل حيث يقول:
أ أترك ليلى ليس بيني و بينها *** سوى ليلة إنّي إذا لصبور
هبوني امرأ منكم أضلّ بعيره *** له ذمّة إن الذّمام كبير
و للصّاحب المتروك أفضل ذمّة *** على صاحب من أن يضلّ بعير
قال: فقال لي: و بأبي أنت! كنت و اللّه لا أحبّك و تثقل عليّ، فأنا الآن أحبّك و تخفّ عليّ.
و في هذه الأبيات غناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لعلّويه رمل بالوسطى من جامع أغانيه. و فيه للمازنيّ خفيف ثقيل آخر من رواية الهشاميّ و ذكاء و غيرهما. و أوّل هذا الصوت بيت لم يذكر في الخبر، و هو:
عفا اللّه عن ليلى الغداة فإنها *** إذا وليت حكما عليّ تجور
أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزبير قال حدّثني عمّي مصعب و محمد بن الضحّاك عن أبيه:
أن أبا ريحانة عمّ أبي دهبل كان شديد الخلاف على عبد اللّه بن الزبير، فتوعّده عبد اللّه(1) بن صفوان، فلحق بعبد الملك بن مروان، فاستمدّه الحجّاج فأمدّه عبد الملك بطارق مولى عثمان في أربعة آلاف؛ فأشرف أبو ريحانة على أبي قبيس فصاح أبو ريحانة: أ ليس قد أخزاكم اللّه يأهل مكة! فقال له ابن أبي عتيق: بلى و اللّه قد أخزانا اللّه.
فقال له ابن الزبير: مهلا يا بن أخي! فقال: قلنا لك ائذن لنا فيهم و هم قليل فأبيت حتى صاروا إلى ما ترى من الكثرة. قال: و قال أبو دهبل في وعيد عبد اللّه بن صفوان عمّه أبا ريحانة - و اسمه عليّ بن أسيد بن أحيحة -:
و لا توعد لتقتله عليّا *** فإن وعيده كلأ وبيل
و نحن ببطن مكّة إذ تداعى *** لرهطك من بني عمرو رعيل(2)
ص: 105
/
أولو الجمع المقدّم حين ثابوا *** إليك و من يودّعهم قليل
فلما أن تفانينا و أودى(1)*** بثروتنا الترحّل و الرحيل
جعلت لحومنا غرضا كأنا *** لتهلكنا عروبة أو سلول
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا أبو توبة عن أبي عمرو الشّيبانيّ قال:
مات ابن الأزرق و أبو دهبل حيّ فدفن بعليب، فلما احتضر أبو دهبل أيضا أوصى أن يدفن عنده. و فيه يقول أبو دهبل يرثيه - عن أبي عمرو الشيبانيّ -:
/
لقد غال هذا اللحد من بطن عليب *** فتى كان من أهل الندى و التكرّم
فتى كان فيما ناب يوما هو الفتى *** و نعم الفتى للطارق المتيمّم
أ الحقّ أنّي لا أزال على منّى *** إذا صدر الحجّاج عن كلّ موسم
سقى اللّه أرضا أنت ساكن قبرها *** سجال الغوادي من سحيل(2) و مبرم
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزبير قال حدّثني عمّي قال حدّثني إبراهيم بن أبي عبد اللّه قال:
وقع لأبي دهبل ميراث بمصر فخرج يريده؛ ثم رجع من الطريق فقال:
اسلمي أمّ دهبل بعد هجر *** و تقضّ من الزمان و عمر
و اذكري كرّي المطيّ إليكم *** بعد ما قد توجّهت نحو مصر
لا تخالي أنّي نسيتك لمّا *** حال بيش(3) و من به خلف ظهري
إن تكوني أنت المقدّم قبلي *** و أطع يثو عند قبرك قبري
قال إبراهيم: فوقفت على قبره إلى جانب قبرها بعليب.
ألا أيها الشادن الأكحل *** إلى كم تقول و لا تفعل
إلى كم تجود بما لا نري *** د منك و تمنع ما نسأل
الشعر للحسين بن الضحّاك. و الغناء لأبي زكّار الأعمى، و لحنه المختار هزج بالبنصر.
ص: 106
الحسين بن الضحّاك باهليّ صليبة(1)، فيما ذكر محمد بن داود بن الجرّاح؛ و الصحيح أنه مولى لباهلة. و هو بصريّ المولد و المنشأ، من شعراء الدولة العباسيّة، و أحد ندماء الخلفاء من بني هاشم. و يقال: إنه أوّل من جالس منهم محمد الأمين. شاعر أديب ظريف مطبوع حسن التصرّف في الشعر حلو المذهب، لشعره قبول و رونق صاف.
و كان أبو نواس يأخذ معانيه في الخمر فيغير عليها. و إذا شاع له شعر نادر في هذا المعنى نسبه الناس إلى أبي نواس.
و له معان في صفتها أبدع فيها و سبق إليها، فاستعارها أبو نواس، و أخبارهما في هذا المعنى و غيره تذكر في أماكنها.
و كان يلقّب الخليع و الأشقر، و هاجى مسلم بن الوليد فانتصف منه. و له غزل كثير جيّد. و هو(2) من المطبوعين الذين تخلو أشعارهم و مذاهبهم جملة من/التكلّف. و عمّر عمرا طويلا حتى قارب المائة السنة، و مات في خلافة المستعين أو المنتصر.
و حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال:
كان حسين بن الضحّاك بن ياسر مولى لباهلة، و أصله من خراسان؛ فكان ربما اعترف بهذا الولاء و ربما جحده، و كان يلقّب بالأشقر، و هو و محمد بن حازم الباهليّ ابنا خالة.
و حدّثني الصّوليّ عن إبراهيم بن المعلّى الباهليّ: أنه سأله عن نسب حسين بن الضحّاك فقال: هو حسين بن الضحّاك بن ياسر، من موالي سليمان بن ربيعة الباهليّ. قال الصوليّ: و سألت الطيّب بن محمد الباهليّ عنه فقال لي: هو الحسين/بن الضحّاك بن فلان بن فلان بن ياسر، قديم الولاء، و داره في بني مجاشع و فيها ولد الحسين، أرانيها صاحبنا سعيد بن مسلم.
أخبرني عليّ بن العبّاس بن أبي طلحة الكاتب و محمد بن يحيى الصّوليّ قالا: حدّثنا المغيرة بن محمد المهلّبيّ قال حدّثنا حسين بن الضحّاك قال: أنشدت أبا نواس لمّا حججت قصيدتي التي قلتها في الخمر و هي:
بدّلت من نفحات الورد بالآء(3) *** و من صبوحك درّ الإبل و الشاء
فلما انتهيت منها إلى قولي:
ص: 107
حتى إذا أسندت في البيت و احتضرت *** عند الصّبوح ببسّامين أكفاء
فضّت خواتمها في نعت واصفها *** عن مثل رقراقة(1) في جفن مرهاء(2)
قال: فصعق صعقة أفزعني، و قال: أحسنت و اللّه يا أشقر! فقلت: ويلك يا حسن! إنك أفزعتني و اللّه! فقال:
بلى و اللّه أفزعتني و رعتني، هذا معنى من المعاني التي كان فكري لا بدّ أن ينتهي إليها أو أغوص عليها و أقولها فسبقتني إليه و اختلسته منّي، و ستعلم لمن يروى أ لي أم لك؛ فكان و اللّه كما قال، سمعت من لا يعلم يرويها له.
أخبرني بهذا الخبر الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمد بن عبد اللّه مولى بني هاشم أبو جعفر قال:
سمعت الحسين بن الضحّاك يقول: لما قلت قصيدتي:
بدّلت من نفحات الورد بالآء
/أنشدتها أبا نواس؛ فقال: ستعلم لمن يرويها الناس أ لي أم لك؛ فكان الأمر كما قال، رأيتها في دفاتر الناس في أوّل أشعاره.
أخبرني جعفر بن قدامة عن أحمد بن أبي طاهر عن أحمد بن صالح عن الحسين بن الضحّاك، فذكر نحوا منه.
أخبرني الصّوليّ قال حدّثني عبد اللّه بن محمد الفارسيّ عن ثمامة بن أشرس، قال الصوليّ و حدّثنيه عون بن محمد عن عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الرّبيع قال:
لمّا قدم المأمون من خراسان و صار إلى بغداد، أمر بأن يسمّى له قوم من أهل الأدب ليجالسوه و يسامروه، فذكر له جماعة فيهم الحسين بن الضحّاك، و كان من جلساء محمد المخلوع؛ فقرأ أسماءهم حتى بلغ إلى اسم حسين، فقال: أ ليس هو الذي يقول في محمد:
هلاّ بقيت لسدّ فاقتنا *** أبدا و كان لغيرك التّلف
فلقد خلفت خلائفا سلفوا *** و لسوف يعوز بعدك الخلف
لا حاجة لي فيه، و اللّه لا يراني أبدا إلا في الطريق. و لم يعاقب الحسين على ما كان من هجائه/له و تعريضه به. قال: و انحدر حسين إلى البصرة فأقام بها طول أيام المأمون.
أخبرني عمّي و الكوكبيّ بهذا قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا عبد اللّه بن الحارث المروزيّ عن إبراهيم بن عبد اللّه ابن أخي السّنديّ بن شاهك، فذكر مثله سواء.
قال ابن أبي طاهر فحدّثني محمد بن عبد اللّه صاحب المراكب قال أخبرني أبي عن صالح بن الرشيد قال:
ص: 108
/دخلت يوما على المأمون و معي بيتان للحسين بن الضحّاك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحبّ أن تسمع مني بيتين؛ فقال: أنشدهما فأنشدته:
حمدنا اللّه شكرا إذ حبانا *** بنصرك يا أمير المؤمنينا
فأنت خليفة الرحمن حقّا *** جمعت سماحة و جمعت دينا
فقال: لمن هذان البيتان يا صالح؟ فقلت: لعبدك يا أمير المؤمنين حسين بن الضحّاك؛ قال: قد أحسن.
فقلت: و له يا أمير المؤمنين أجود من هذا؛ فقال: و ما هو؟ فأنشدته قوله:
أ يبخل فرد الحسن فرد صفاته *** عليّ و قد أفردته بهوى فرد
رأى اللّه عبد اللّه خير عباده *** فملّكه و اللّه أعلم بالعبد
قال: فأطرق ساعة ثم قال: ما تطيب نفسي له بخير بعد ما قال في أخي محمد و قال.
قال أبو الفرج: و هذه الأبيات تروى لابن البوّاب، و ستذكر في أبوابه إن شاء اللّه تعالى، و على أن الذي رواها غلط في روايته غلطا بيّنا، لأنها مشهورة من شعر حسين بن الضحّاك. و قد روي أيضا في أخباره أنه دفعها إلى ابن البوّاب فأوصلها إلى ابن المأمون، و كان له صديقا. و لعلّ الغلط وقع من هذه الجهة.
الغناء في الأبيات المذكورة المنسوبة إلى حسين بن الضحّاك و إلى ابن البوّاب الدّاليّة لإبراهيم بن المهديّ خفيف ثقيل بالبنصر. و فيها لعبيد اللّه بن موسى الطائفيّ رمل بالبنصر.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا أحمد بن يزيد المهلّبيّ عن أبيه عن عمرو بن بانة أنّهم كانوا عند صالح بن الرشيد، فقال: لست تطرح على جواريّ و غلماني/ما أستجيده! فقال له: ويلك! ما أبغضك ابعث إلى منزلي فجيء بالدفاتر و اختر منها ما شئت حتى ألقيه عليهم؛ فبعث إلى منزلي فجيء إليه بدفاتر الغناء فأخذ منها دفترا ليتخيّر ممّا فيه، فمرّ به شعر الحسين بن الضحّاك يرثي الأمين و يهجو المأمون و هو:
أطل حزنا و ابك الإمام محمدا *** بحزن و إن خفت الحسام المهنّدا
فلا تمّت الأشياء بعد محمد *** و لا زال شمل الملك منها مبدّدا
و لا فرح المأمون بالملك بعده *** و لا زال في الدنيا طريدا مشرّدا
فقال لي صالح: أنت تعلم أنّ المأمون يجيء إليّ في كل ساعة، فإذا قرأ هذا ما تراه يكون فاعلا! ثم دعا بسكين فجعل يحكّه؛ و صعد المأمون من الدّرجة و رمى صالح الدفتر. فقال المأمون: يا غلام الدفتر. فأتي به، فنظر فيه و وقف على الحكّ فقال: إن قلت لكم: ما كنتم(1)/فيه تصدقوني؟ قلنا: نعم. قال: ينبغي أن يكون أخي قال لك: ابعث فجيء بدفاترك ليتخيّر ما تطرح، فوقف على هذا الشعر فكره أن أراه فأمر بحكّه؛ قلنا: كذا كان. فقال:
ص: 109
غنّه يا عمرو؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، الشعر لحسين بن الضحّاك و الغناء لسعيد بن جابر؛ فقال: و ما يكون! غنّه فغنّيته؛ فقال: اردده فرددته ثلاث مرات؛ فأمر لي بثلاثين ألف درهم، و قال: حتى تعلم أنه لم يضررك عندي.
قال: و سعيد بن جابر الذي يقول فيه حسين بن الضحّاك، و كان نديمه و صديقه:
يا سعيد و أين منّي سعيد
و لحسين بن الضحّاك في محمد الأمين مراث كثيرة جياد، و كان كثير التحقّق(1) به و الموالاة له لكثرة أفضاله عليه و ميله إليه و تقديمه إيّاه. و بلغ من جزعه عليه أنّه/خولط؛ فكان ينكر قتله لمّا بلغه و يدفعه و يقول: إنه مستتر و إنه قد وقف على تفرّق دعاته في الأمصار يدعون إلى مراجعة أمره و الوفاء ببيعته ضنّا به و شفقة عليه. و من جيّد مراثيه إياه قوله:
سألونا أن كيف نحن فقلنا *** من هوى نجمه فكيف يكون
نحن قوم أصابنا حدث الده *** ر فظلنا لريبه نستكين
نتمنّى من الأمين إيابا *** لهف نفسي و أين منّي الأمين
في هذه الأبيات لسعيد بن جابر ثاني ثقيل بالوسطى. و فيها لعريب خفيف ثقيل.
و من جيّد قوله في مراثيه إيّاه:
أعزّى يا محمد عنك نفسي *** معاذ اللّه و الأيدي الجسام
فهلاّ مات قوم لم يموتوا *** و دوفع عنك لي يوم الحمام
كأن الموت صادف منك غنما *** أو استشفى بقربك من سقام
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا عليّ بن محمد النّوفليّ قال قال لي محمد بن عبّاد: قال لي المأمون و قد قدمت من البصرة: كيف ظريف شعرائكم و واحد مصركم؟ قلت: ما أعرفه؛ قال: ذاك الحسين بن الضحّاك، أشعر شعرائكم و أظرف ظرفائكم. أ ليس هو الذي يقول:
رأى اللّه عبد اللّه خير عباده *** فملّكه و اللّه أعلم بالعبد
قال: ثم قال لي المأمون: ما قال فيّ أحد من شعراء زماننا بيتا أبلغ من بيته هذا؛ فاكتب إليه فاستقدمه؛ و كان حسين عليلا و كان يخاف بوادر المأمون لما/فرط منه؛ فقلت للمأمون: إنه عليل يا أمير المؤمنين، علّته تمنعه من الحركة و السفر. قال: فخذ كتابا إلى عامل خراجكم بالبصرة حتى يعطيه ثلاثين ألف درهم؛ فأخذت الكتاب بذلك و أنفذته إليه فقبض المال.
ص: 110
حدّثنا عليّ بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال سمعت أبا العباس محمد بن يزيد الأزديّ يقول: حسين بن الضحّاك أشعر المحدّثين حيث يقول:
أيّ ديباجة حسن *** هيّجت لوعة حزني
/إذ رماني القمر الزا *** هر عن فترة جفن
بأبي شمس نهار *** برزت في يوم دجن
قرّبتني بالمنى ح *** تى إذا ما أخلفتني
تركتني بين ميعا *** د و خلف و تجنّي
ما أراني(1) لي من الصب *** وة إلاّ حسن ظنّي
إنما دامت على الغد *** ر لما تعرف منّي
أستعيذ اللّه من إع *** راض من أعرض عنّي
أخبرني عليّ بن العباس قال حدّثني سوادة بن الفيض المخزوميّ قال حدّثني أبو الفيض بن سوادة عن جدّي قال:
لمّا وليّ المعتصم الخلافة سألني عن حسين بن الضحّاك، فأخبرته بإقامته بالبصرة لانحراف المأمون عنه؛ فأمر بمكاتبته بالقدوم عليه فقدم. فلما دخل و سلّم استأذن في الإنشاد فأذن له؛ فأنشده قوله:
هلاّ سألت تلذّذ(2) المشتاق *** و مننت قبل فراقه بتلاق
/إنّ الرقيب ليستريب تنفّسا *** صعدا إليك و ظاهر الإقلاق
و لئن أربت(3) لقد نظرت بمقلة *** عبري عليك سخينة الآماق
نفسي الفداء لخائف مترقّب *** جعل الوداع إشارة بعناق
إذ لا جواب لمفحم متحيّر *** إلا الدموع تصان بالإطراق
حتى انتهى إلى قوله:
خير الوفود مبشّر بخلافة *** خصّت ببهجتها أبا إسحاق
وافته في الشهر الحرام سليمة *** من كل مشكلة و كلّ شقاق
أعطته صفقتها الضمائر طاعة *** قبل الأكفّ بأوكد الميثاق
ص: 111
سكن الأنام إلى إمام سلامة *** عفّ الضمير مهذّب الأخلاق
فحمى رعيّته و دافع دونها *** و أجار مملقها من الإملاق
حتى أتمّها. فقال له المعتصم: أدن منّي فدنا منه؛ فملأ فمه جوهرا من جوهر كان بين يديه، ثم أمره بأن يخرجه من فيه فأخرجه، و أمر بأن ينظم و يدفع إليه و يخرج إلى الناس و هو في يده ليعلموا موقعه من رأيه و يعرفوا فعله. فكان أحسن ما مدح به يومئذ.
و ممّا قدّمه أهل العلم على سائر ما قالته الشعراء قول حسين بن الضحّاك حيث قال:
قل للألى صرفوا الوجوه عن الهدى *** متعسّفين تعسّف المرّاق
إني أحذّركم بوادر ضيغم *** درب بحطم موائل الأعناق
متأهب لا يستفزّ جنانه *** زجل الرّعود و لامع الإبراق
/لم يبق من متعرّمين(1) توثّبوا *** بالشأم غير جماجم أفلاق
من بين منجدل تمجّ عروقه *** علق(2) الأخادع أو أسير وثاق
/و ثنى الخيول إلى معاقل قيصر *** تختال بين أحزّة(3) و رقاق
يحملن كلّ مشمّر متغشّم *** ليث هزبر أهرت الأشداق(4)
حتى إذا أمّ الحصون منازلا *** و الموت بين ترائب و تراق(5)
هرّت بطارقها هرير قساور *** بدهت بأكره منظر و مذاق(6)
ثم استكانت للحصار ملوكها *** ذلاّ و ناط حلوقها بخناق(7)
هربت و أسلمت الصليب عشيّة *** لم يبق غير حشاشة الأرماق
قال: فأمر له المعتصم لكل بيت بألف درهم، و قال له: أنت تعلم يا حسين أنّ هذا أكثر ما مدحني به مادح في دولتنا. فقبّل الأرض بين يديه و شكره و حمل المال معه.
ص: 112
حدّثني عليّ قال حدّثني عثمان بن عمر الآجرّي قال: سمعت الرّياشيّ ينشد هذين البيتين و يستحسنهما و يستظرفهما جدّا و هما:
إذا ما الماء أمكنني *** و صفو سلافة العنب
صببت الفضّة البيضا *** ء فوق قراضة الذهب
/فقلت له: من يقولهما يا أبا الفضل؟ قال: أرقّ الناس طبعا و أكثرهم ملحا و أكملهم ظرفا حسين بن الضحّاك.
أخبرني يحيى بن عليّ إجازة قال حدّثني أبي عن حسين بن الضحّاك قال: أنشدت يا أبا نواس قصيدتي:
و شاطريّ (1) اللسان مختلق التك *** ريه شاب المجون بالنّسك
حتى بلغت إلى قولي(2):
كأنما(3) نصب كاسه قمر *** يكرع في بعض أنجم الفلك
قال: فأنشدني أبو نواس بعد أيام لنفسه:
إذا عبّ فيها شارب القوم خلته *** يقبّل في داج من الليل كوكبا
قال: فقلت له: يا أبا عليّ هذه مصالتة(4). فقال لي: أ تظن أنه يروي لك في الخمر معنى جيّد و أنا حيّ!.
أخبرني به جعفر بن قدامة عن عليّ بن محمد بن نصر عن أحمد بن حمدون عن حسين بن الضحّاك فذكر مثله.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال:
أنشدت إبراهيم بن المدبّر قول حسين بن الضحّاك:
كأنما نصب كأسه قمر *** حاسده(5) بعض أنجم الفلك
/حتى إذا رنّحته سورتها *** و أبدلته السكون بالحرك
كشفت عن وزّة مسنّمة *** في لين صينيّة من الفلك(6)
فقال لي إبراهيم بن المدبّر: إن الحسين كان يزعم أن أبا نواس سرق منه هذا المعنى حين يقول:
ص: 113
يقبّل في داج من الليل كوكبا
فإن كان سرقه منه فهو أحقّ به لأنه قد برّز عليه، و إن كان حسين سرقه منه فقد قصّر عنه.
أخبرني محمد بن يحيى الخراسانيّ قال حدّثني محمد بن مخارق قال:
لمّا بويع الواثق بالخلافة و دخل(1) عليه الحسين بن الضحّاك فأنشده/قصيدته التي أوّلها:
أ لم يرع الإسلام موت نصيره *** بلى حقّ أن يرتاع من مات ناصره
سيسليك عمّا فات دولة مفضل *** أوائله محمودة و أواخره
ثنى اللّه عطفيه و ألّف شخصه *** على البرّ مذ شدّت عليه مآزره
يصبّ (2) ببذل المال حتى كأنما *** يرى بذله للمال نهبا يبادره
و ما قدّم الرحمن إلاّ مقدّما *** موارده محمودة و مصادره
فقال الواثق: إن كان الحسين لينطق عن حسن طويّة و يمدح بخلوص نيّة. ثم أمر بأن يعطى لكل بيت قاله من هذه القصيدة ألف درهم. فأعجبته الأبيات، حتى أمر فصنعت فيها عدّة ألحان، منها لعريب في طريقة الثقيل الأوّل.
و أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني محمد بن عمرو الرومي قال.
لمّا ولي الواثق الخلافة أنشده حسين بن الضحّاك قصيدة منها:
سيسليك عمّا فات دولة مفضل *** أوائله محمودة و أواخره
و ما قدّم الرحمن إلاّ مقدّما *** موارده محمودة و مصادره
قال: فأنشدت إسحاق الموصليّ هذا الشعر؛ فقال لي: نقل حسين كلام أبي العتاهية في الرشيد حتى جاء بألفاظه بعينها حيث يقول:
جرى لك من هارون بالسعد طائره *** إمام اعتزام لا تخاف بوادره
إمام له رأي حميد و رحمة *** موارده محمودة و مصادره
قال: فعجبت من رواية إسحاق شعر المحدثين، و إنما كان يروى للأوائل و يتعصّب على المحدّثين و على أبي العتاهية خاصّة.
في هذين الشعرين أغاني نسبتها:
ص: 114
جرى لك من هارون بالسعد طائره *** إمام اعتزام لا تخاف بوادره
إمام له رأى حميد و رحمة *** موارده محمودة و مصادره
هو الملك المجبول نفسا على التّقى *** مسلّمة من كل سوء عساكره
لتغمد سيوف الحرب فاللّه وحده *** وليّ أمير المؤمنين و ناصره
الشعر لأبي العتاهية، على ما ذكره الصّوليّ. و قد وجدت هذه القصيدة بعينها في بعض النسخ لسلم الخاسر.
و الغناء لإبراهيم، و له فيه لحنان خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو و ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشاميّ.
سيسليك عمّا فات دولة مفضل *** أوائله محمودة و أواخره
ثنى اللّه عطفيه و ألّف شخصه *** على البرّ مذ شدّت عليه مآزره
الشعر لحسين بن الضحّاك. و الغناء لعريب ثقيل أوّل مطلق. و فيه لقلم(1) الصالحيّة خفيف/رمل، و هو أغرب اللحنين و لحن عريب المشهور.
أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني محمد(2) بن يحيى قال حدّثني عليّ بن الصبّاح قال حدّثني عليّ بن صالح كاتب الحسن بن رجاء قال حدّثني إبراهيم بن الحسن بن سهل قال:
كنّا مع الواثق بالقاطول(3) و هو يتصيّد؛ فصاد صيدا حسنا و هو في الزّوّ(4) من الإوزّ و الدّرّاج و طير الماء و غير ذلك؛ ثم رجع فتغدّى، و دعا بالجلساء و المغنّين و طرب، و قال: من ينشدنا؟ فقام الحسين بن الضحّاك فأنشده:
سقى اللّه بالقاطول مسرح طرفكا *** و خصّ بسقياه مناكب قصركا
حتى انتهى إلى قوله:
تخيّن للدّرّاج في جنباته *** و للغرّ آجال قدرن بكفّكا
ص: 115
/
حتوفا إذا وجّهتهنّ قواضبا *** عجالا إذا أغريتهنّ بزجركا
أبحت حماما مصعدا و مصوّبا *** و ما رمت(1) في حاليك مجلس لهوكا
تصرّف فيه بين ناي و مسمع *** و مشمولة(2) من كفّ ظبي لسقيكا
قضيت لبانات و أنت مخيّم *** مريح و إن شطّت مسافة عزمكا
و ما نال طيب العيش إلاّ مودّع(3)*** و ما طاب عيش نال مجهود كدّكا
فقال الواثق: ما يعدل الراحة و لذّة الدّعة شيء. فلما انتهى إلى قوله:
خلقت أمين اللّه للخلق عصمة *** و أمنا فكلّ في ذراك و ظلّكا
وثقت بمن سمّاك بالغيب واثقا *** و ثبّت بالتأييد أركان ملككا
فأعطاك معطيك الخلافة شكرها *** و أسعد بالتقوى سريرة قلبكا
و زادك من أعمارنا، غير منّة *** عليك بها، أضعاف أضعاف عمركا
و لا زالت الأقدار في كلّ حالة *** عداة لمن عاداك سلما لسلمكا
إذا كنت من جدواك في كل نعمة *** فلا كنت إن لم أفن عمري بشكركا
فطرب الواثق فضرب الأرض بمخصرة كانت في يده، و قال: للّه درّك يا حسين! ما أقرب قلبك من لسانك! فقال: يا أمير المؤمنين، جودك ينطق المفحم بالشعر و الجاحد بالشكر. فقال له: لن تنصرف إلاّ مسرورا؛ ثم أمر له بخمسين ألف درهم.
حدّثنا عليّ بن العبّاس بن أبي طلحة قال حدّثنا أبو العبّاس الرّياشيّ قال حدّثنا الحسين بن الضحّاك قال:
دخلت على الواثق ذات يوم و في السماء لطخ(4) غيم، فقال لي: ما الرأي عندك في هذا اليوم؟ فقلت:
يا أمير المؤمنين، ما حكم به و أشار إليه قبلي أحمد بن يوسف؛ فإنه أشار بصواب لا يردّ و جعله في شعر لا يعارض. فقال: و ما قال؟ فقلت قال:
/
أرى غيما تؤلّفه جنوب *** و أحسبه سيأتينا بهطل
فعين الرأي أن تدعو برطل *** فتشربه و تدعو لي برطل
فقال: أصبتما؛ و دعا بالطّعام و بالشراب و المغنّين و الجلساء و اصطبحنا.
ص: 116
أخبرني عليّ بن العبّاس قال حدّثني الحسين بن علوان قال حدّثني العبّاس بن عبيد اللّه الكاتب قال:
/كان حسين بن الضحّاك ليلة عند الواثق و قد شربوا إلى أن مضى ثلث من الليل، فأمر بأن يبيت مكانه. فلما أصبح خرج إلى الندماء و هم مقيمون، فقال لحسين: هل وصفت ليلتنا الماضية و طيبها؟ فقال: لم يمض شيء و أنا أقول الساعة؛ و فكّر هينهة ثم قال:
حثّت(1) صبوحي فكاهة اللاّهي *** و طاب يومي بقرب أشباهي
فاستثر اللهو من مكامنه *** من قبل يوم منغّص ناهي(2)
بابنة كرم من كفّ منتطق(3) *** مؤزّر بالمجون تيّاه
يسقيك من طرفه و من يده *** سقى لطيف مجرّب داهي
كأسا فكأسا كأنّ شاربها *** حيران بين الذّكور و الساهي
قال: فأمر الواثق بردّ مجلسه كهيئته، و اصطبح يومه ذلك معهم؛ و قال: نحقّق قولك يا حسين و نقضي لك كلّ أرب و حاجة.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني محمد بن مغيرة المهلّبي قال حدّثنا حسين بن الضحّاك قال:
/كانت لي نوبة في دار الواثق أحضرها جلس أو لم يجلس. فبينا أنا نائم ذات ليلة في حجرتي، إذ جاء خادم من خدم الحرم فقال: قم فإن أمير المؤمنين يدعوك. فقلت له: و ما الخبر؟ قال: كان نائما و إلى جنبه حظيّة له فقام و هو يظنّها نائمة، فألمّ بجارية له أخرى و لم تكن ليلة نوبتها و عاد إلى فراشه؛ فغضبت حظيّته و تركته حتى نام، ثم قامت و دخلت حجرتها؛ فانتبه و هو يرى أنها عنده فلم يجدها، فقال: اختلست عزيزتي، ويحكم أين هي! فأخبر أنها قامت غضبى و مضت إلى حجرتها، فدعا بك. فقلت في طريقي:
غضبت أن زرت أخرى خلسة *** فلها العتبى لدينا و الرّضا
يا فدتك النفس كانت هفوة *** فاغفريها و اصفحي عمّا مضى
و اتركي العذل على من قاله *** و انسبي جوري إلى حكم القضا
فلقد نبّهتني من رقدتي *** و على قلبي كنيران الغضا
قال: فلما جئته خبّرني القصّة و قال لي: قل في هذا شيئا؛ ففكّرت هنيهة كأني أقول شعرا ثم أنشدته الأبيات.
فقال: أحسنت و حياتي! أعدها يا حسين؛ فأعدتها عليه حتى حفظها، و أمر لي بخمسمائة دينار، و قام فمضى إلى الجارية و خرجت أنا إلى حجرتي.
ص: 117
أخبرني عليّ بن العبّاس بن أبي طلحة قال حدّثني الغلابيّ قال حدّثني مهديّ بن سابق قال قال لي حسين بن الضحّاك:
كان الواثق يتحظّى جارية له فماتت فجزع عليها و ترك الشرب أياما ثم سلاها و عاد إلى حاله؛ فدعاني ليلة فقال لي: يا حسين، رأيت فلانة في النوم؛ فليت نومي كان طال قليلا لأتمتّع بلقائها؛ فقل في هذا شيئا. فقلت:
/
ليت عين الدهر عنّا غفلت *** و رقيب الليل عنّا رقدا
و أقام النوم فمي مدّته *** كالذي كان و كنّا أبدا
بأبي زور(1) تلفّتّ له *** فتنفّست إليه الصّعدا
/بينما أضحك مسرورا به *** إذ تقطّعت عليه كمدا
قال: فقال لي الواثق: أحسنت! و لكنّك وصفت رقيب الليل فشكوته و لا ذنب للّيل و إنما رأيت الرؤيا نهارا.
ثم عاد إلى منامه فرقد.
أخبرني جحظة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال حدّثني حسين بن الضحّاك، و أخبرني به جعفر بن قدامة عن عليّ بن يحيى عن حسين بن الضحّاك قال:
لقيني أبو نواس ذات يوم عند باب أم جعفر من الجانب الغربيّ، فأنشدته:
أخويّ حيّ (2) على الصّبوح صباحا *** هبّا و لا تعدا الصباح رواحا
هذا الشّميط(3) كأنه متحيّر *** في الأفق سدّ طريقه فألاحا
ما تأمران بسكرة قروية *** قرنت إلى درك النجاح نجاحا
هكذا قال جحظة. و الذي أحفظه:
ما تأمران بقهوة قرويّة
قال: فلما كان بعد أيام لقيني في ذلك الموضع فأنشدني يقول:
ذكر الصّبوح بسحرة فارتاحا *** و أملّه ديك الصّباح صياحا
فقلت له: حسن يا بن الزانية! أ فعلتها! فقال: دع هذا عنك، فو اللّه لا قلت في الخمر شيئا أبدا و أنا حيّ إلاّ نسب لي.
ص: 118
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني محمد بن سعيد قال حدّثني أبو أمامة الباهليّ عن الحسين بن الضحّاك، قال محمد بن يحيى و حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبيّ:
أنّ الحسين بن الضحّاك شرب يوما عند إبراهيم بن المهديّ، فجرت بينهما ملاحاة في أمر الدّين و المذهب؛ فدعا له إبراهيم بنطع و سيف و قد أخذ منه الشّراب؛ فانصرف و هو غضبان. فكتب إليه إبراهيم يعتذر إليه و يسأله أن يجيئه. فكتب إليه:
نديمي غير منسوب *** إلى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشر *** ب فعل الضّيف بالضيف
فلما دارت الكأس *** دعا بالنّطع و السيف
كذا من يشرب الخمر *** مع التّنّين في الصيف
قال: و لم يعد إلى منادمته مدّة. ثم إن إبراهيم تحمّل(1) عليه و وصله فعاد إلى منادمته.
حدّثني عمّي قال حدّثني ميمون بن هارون قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
كنت أنا و أبو نواس تربين، نشأنا في مكان واحد و تأدّبنا بالبصرة، و كنّا نحضر مجالس الأدباء متصاحبين، ثم خرج قبلي عن البصرة و أقام مدّة، و اتّصل بي ما آل إليه أمره، و بلغني إيثار السلطان و خاصّته له؛ فخرجت عن البصرة إلى بغداد و لقيت الناس و مدحتهم و أخذت جوائزهم و عددت في الشعراء، و هذا كلّه في أيام الرشيد، إلاّ أنّي لم أصل إليه و اتّصلت بابنه صالح فكنت في خدمته. فغنّي يوما بهذا الصوت:
أ أن زمّ (2) أجمال و فارق جيرة *** و صاح غراب البين أنت حزين
/فقال لي صالح: قل أنت في هذا المعنى شيئا؛ فقلت:
أ أن دبّ حسّاد و ملّ حبيب *** و أورق عود الهجر أنت حبيب(3)
/ليبلغ بنا هجر الحبيب مرامه *** هل الحبّ إلاّ عبرة و نحيب
كأنك لم تسمع بفرقة ألفة *** و غيبة وصل لا تراه يئوب
فأمر بأن يغنّى فيه. و اتّصلت بمحمد(4) ابن زبيدة في أيام أبيه و خدمته، ثم اتّصلت خدمتي له في أيّام خلافته.
ص: 119
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني أبو العيناء عن الحسين بن الضحّاك قال: كنت يوما عند صالح بن الرشيد، فجرى بيننا كلام على النّبيذ و قد أخذ منّي الشّراب مأخذا(1) قويّا، فرددت عليه ردّا أنكره و تأوّله على غير ما أردت، فهاجرني؛ فكتبت إليه:
يا بن الإمام تركتني هملا *** أبكي الحياة و أندب الأملا
ما بال عينك حين تلحظني *** ما إن تقلّ جفونها ثقلا
لو كان لي ذنب لبحت به *** كي لا يقال هجرتني مللا
إن كنت أعرف زلّة سلفت *** فرأيت ميتة و إحدى عجلا(2)
- فيه خفيف ثقيل ينسب إلى عبد اللّه بن العلاء و إلى عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ - قال: فكتب إليّ: قد تلافى لسانك بشعرك، ما جناه في وقت/سكرك. و قد رضيت عنك رضا صحيحا، فصر إليّ على أتمّ نشاطك، و أكمل بساطك. فعدت إلى خدمته فما سكرت عنده بعدها. قال: و كانت في حسين عربدة.
و أخبرني ببعضه محمد بن مزيد بن أبي الأزهر و محمد بن خلف بن المرزبان، و ألفاظهما تزيد و تنقص.
و أخبرني ببعضه محمد بن خلف وكيع عن آخره و قصّة وصوله إلى المأمون و لم يذكر ما قبل ذلك. قال: و حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه - و لم يقل وكيع: عن أبيه - و اللفظ في الخبر لابن أبي الأزهر و حديثه أتمّ، قال:
كنت بين يدي المأمون واقفا، فأدخل إليه ابن البوّاب رقعة فيها أبيات و قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إنشادها؛ فظنّها له فقال: هات؛ فأنشده:
أجرني فإنّي قد ظمئت إلى الوعد *** متى تنجز الوعد المؤكّد بالعهد
أعيذك من خلف الملوك و قد بدا(3) *** تقطّع أنفاسي عليك من الوجد
أ يبخل فرد الحسن عنّي بنائل *** قليل و قد أفردته بهوى فرد
إلى أن بلغ إلى قوله:
رأى اللّه عبد اللّه خير عباده *** فملّكه و اللّه أعلم بالعبد
ألا إنّما المأمون للناس عصمة *** مميّزة بين الضّلالة و الرّشد
فقال المأمون: أحسنت يا عبد اللّه! فقال: يا أمير المؤمنين، أحسن قائلها؛ قال: و من هو؟ فقال: عبدك
ص: 120
حسين بن الضحّاك؛ فغضب(1) ثم قال: لا حيّا اللّه من ذكرت و لا بيّاه و لا قرّبه و لا أنعم به عينا! أ ليس القائل:
أ عينيّ جودا و ابكيا لي محمدا *** و لا تذخرا دمعا عليه و أسعدا
/فلا تمّت الأشياء بعد محمد *** و لا زال شمل الملك فيه مبدّدا
/و لا فرح المأمون بالملك بعده *** و لا زال في الدّنيا طريدا مشرّدا
هذا بذاك؛ و لا شيء له عندنا. فقال له ابن البوّاب: فأين فضل إحسان أمير المؤمنين و سعة حلمه و عادته في العفو! فأمره بإحضاره. فلما حضر سلّم، فردّ عليه السّلام ردّا جافيا؛ ثم أقبل عليه فقال: أخبرني عنك: هل عرفت يوم قتل أخي محمد هاشميّة قتلت أو هتكت؟ قال لا. قال: فما معنى قولك:
و سرب ظباء من ذؤابة هاشم *** هتفن بدعوى خير حيّ و ميّت
أردّ يدا منّي إذا ما ذكرته *** على كبد حرّيّ و قلب مفتّت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة *** و لا بلغت آمالهم ما تمنّت
فقال: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتني، و روعة فاجأتني، و نعمة فقدتها بعد أن غمرتني؛ و إحسان شكرته فأنطقني، و سيّد فقدته فأقلقني. فإن عاقبت فبحقّك، و إن عفوت فبفضلك. فدمعت عينا المأمون و قال: قد عفوت عنك و أمرت بإدرار أرزاقك و إعطائك ما فات منها، و جعلت عقوبة ذنبك امتناعي من استخدامك.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبي قال:
لمّا أعيت حسين بن الضحّاك الحيلة في رضا المأمون عنه، رمى بأمره إلى عمرو بن مسعدة و كتب إليه:
أنت طودي من بين هذي الهضاب *** و شهابي من دون كلّ شهاب
أنت يا عمرو قوّتي و حياتي *** و لساني و أنت ظفري و نابي
أ تراني أنسى أياديك البي *** ض إذ اسودّ نائل الأصحاب
/أين عطف الكرام في مأقط(2) الحا *** جة يحمون حوزة الآداب
أين أخلاقك الرضيّة حالت *** فيّ أم أين رقّة الكتّاب
أنا في ذمّة السّحاب و أظما! *** إنّ هذا لوصمة في السّحاب
قم إلى سيّد البريّة عنّي *** قومة تستجرّ حسن خطاب
فلعلّ الإله يطفئ عنّي *** بك نارا عليّ ذات التهاب
قال: فلم يزل عمرو يلطف للمأمون حتى أوصله إليه و أدرّ أرزاقه.
ص: 121
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني الحسين بن الضحّاك قال:
غضب المعتصم عليّ في شيء جرى على النبيذ، فقال: و اللّه لأؤدّبنّه! و حجبني أياما. فكتبت إليه:
غضب الإمام أشدّ من أدبه *** و قد استجرت و عذت من غضبه
أصبحت معتصما بمعتصم *** أثنى الإله عليه في كتبه
لا و الذي لم يبق لي سببا *** أرجو النجاة به سوى سببه
ما لي شفيع غير حرمته *** و لكلّ من أشفى على عطبه
قال: فلمّا قرئ عليه التفت إلى الواثق ثم قال: بمثل هذا الكلام، يستعطف الكرام؛ ما هو إلاّ أن سمعت أبيات حسين هذه حتى أزالت ما في نفسي عليه. فقال له الواثق: هو حقيق بأن يوهب له ذنبه و يتجاوز عنه. فرضي عنّي و أمر بإحضاري.
قال الصوليّ فحدّثني/الحسين بن يحيى أنّ هذه الأبيات إنما كتب بها إلى المعتصم؛ لأنّه بلغه عنه أنه مدح العبّاس بن المأمون و تمنّى له الخلافة، فطلبه فاستتر و كتب بها إلى المعتصم على يدي الواثق فأوصلها و شفع له فرضي عنه و أمّنه فظهر إليه، و هجا العباس بن المأمون فقال:
/
خلّ اللّعين و ما اكتسب *** لا زال منقطع السّبب
يا عرّة الثّقلين لا *** دينا رعيت و لا حسب
حسد الإمام مكانه *** جهلا حذاك(1) على العطب
و أبوك قدّمه لها *** لما تخيّر و انتخب
ما تستطيع سوى التنفّس و التجرّع للكرب
ما زلت عند أبيك من *** تقص المروءة و الأدب
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيّات و ابن مهرويه قالا(2):
كنّا عند صالح بن الرشيد ليلة و معنا حسين بن الضحّاك و ذلك في خلافة المأمون، و كان صالح يهوى خادما له؛ فغاضبه في تلك الليلة فتنحّى عنه، و كان جالسا في صحن حوله نرجس في قمر طالع حسن؛ فقال للحسين: قل في مجلسنا هذا و ما نحن فيه أبياتا يغنّي فيها عمرو بن بانة. فقال الحسين:
ص: 122
وصف البدر حسن وجهك حتى *** خلت أنّي و ما أراك أراكا
و إذا ما تنفّس النرجس الغ *** ضّ توهّمته نسيم شذاكا
خدع للمنى تعلّلني في *** ك بإشراق ذا و نفحة ذاكا
لأدومنّ يا حبيبي على الع *** هد لهذا و ذاك إذ حكياكا
قال عمرو: فقال لي صالح: تغنّ فيها، فتغنّيت فيها من ساعتي.
لحن عمرو في هذه الأبيات ثقيل بالبنصر من روايته.
و قد حدّثني بهذا الخبر عليّ بن العباس بن أبي طلحة قال حدّثني عبيد اللّه بن زكريا الضّرير قال حدّثنا الجمّاز عن أبي نواس قال:
كنت أتعشّق ابنا للعلاء يقال له محمد، و كان حسين يتعشّق خادما لأبي عيسى بن الرشيد يقال له يسر؛ فزارني يوما فسألته عنه فقال: قد كاد قلبي أن يسلو عنه و عن حبّه. قال: و جاءني ابن العلاء صاحبي فدخل عليّ و في يده نرجس، فجلسنا نشرب و طلع القمر؛ فقلت له: يا حسين أيّما أحسن القمر(1) أم محمد؟ فأطرق ساعة ثم قال:
اسمع جواب الذي سألت عنه:
وصف البدر حسن وجهك حتى *** خلت أنّي و ما أراك أراكا
و إذا ما تنفّس النّرجس الغ *** ضّ توهّمته نسيم شذاكا
و أخال الذي لثمت أنيسي *** و جليسي ما باشرته يداكا
فإذا ما لثمت لثمك فيه *** فكأني بذاك قبّلت فاكا
خدع للمنى تعلّلني في *** ك بإشراق ذا و نفحة ذاكا
لأقيمنّ ما حييت على الشك *** ر لهذا و ذاك إذ حكياكا
/قال: فقلت له: أحسنت و اللّه ما شئت! و لكنّك يا كشخان(2) هو ذا تقدر أن تقطع الطريق في عملي! فقال:
يا كشخان أو شعري الذي سمعته في حاضر أم بذكر غائب! و اللّه للنّعل التي(3) يطأ عليها يسر أحسن عندي من صاحبك و من القمر و من كلّ ما أنتم فيه.
أخبرني عليّ بن العبّاس قال حدّثني أحمد بن سعيد بن عنبسة القرشيّ الأمويّ قال حدّثني عليّ بن الجهم قال:
ص: 123
/دخلت يوما على المتوكّل و هو جالس في صحن خلده(1) و في يده غصن آس و هو يتمثّل بهذا الشعر:
بالشّطّ لي سكن أفديه من سكن *** أهدى من الآس لي غصنين في غصن
فقلت إذ نظما إلفين و التبسا *** سقيا و رعيا لفأل فيكما حسن
فالآس لا شكّ آس من تشوّقنا *** شاف و آس لنا يبقى على الزمن
أ بشرتماني بأسباب ستجمعنا *** إن شاء ربي و مهما يقضه يكن
قال: فلما فرغ من إنشادها قال لي وكدت أنشقّ حسدا: لمن هذا الشعر يا عليّ؟ فقلت: للحسين بن الضحّاك يا سيّدي. فقال لي: هو عندي أشعر أهل زماننا و أملحهم مذهبا و أظرفهم نمطا(2). فقلت و قد زاد غيظي: في الغزل يا مولاي. قال: و في غيره و إن رغم أنفك و متّ حسدا. و كنت قد مدحته بقصيدة و أردت إنشادها يومئذ فلم أفعل، و علمت أنّي لا أنتفع مع ما جرى بيننا بشيء لا به و لا بالقصيدة، فأخّرتها إلى وقت آخر.
أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلّبيّ قال حدّثني أبي قال:
أحبّ المتوكّل على اللّه أن ينادمه حسين بن الضحّاك و أن يرى ما بقي من شهوته لما كان عليه؛ فأحضره و قد كبر و ضعف، فسقاه حتى سكر، و قال لخادمه شفيع: اسقه، فسقاه و حيّاه بوردة، و كانت على شفيع ثياب مورّدة؛ فمدّ الحسين يده إلى ذراع شفيع. فقال له المتوكل: يا حسين، أتجمّش(3) أخصّ خدمي عندي بحضرتي! فكيف لو خلوت! ما أحوجك إلى أدب! و قد كان المتوكّل غمز شفيعا/على العبث به. فقال الحسين: يا سيّدي، أريد دواة و قرطاسا، فأمر له بذلك، فكتب بخطّه:
و كالوردة الحمراء حيّا بأحمر *** من الورد يمشي في قراطق(4) كالورد
له عبثات عند كلّ تحيّة *** بعينيه تستدعي الحليم إلى الوجد
تمنّيت أن أسقى بكفّيه شربة *** تذكّرني ما قد نسيت من العهد
سقى اللّه دهرا لم أبت فيه ليلة *** خليّا و لكن من حبيب على وعد
ثم دفع الرقعة إلى شفيع و قال له: ادفعها إلى مولاك. فلما قرأها استملحها و قال: أحسنت و اللّه يا حسين! لو كان شفيع ممن تجوز هبته لوهبته لك، و لكن بحياتي إلاّ كنت ساقيه باقي يومه هذا و اخدمه كما تخدمني؛ و أمر له بمال كثير حمل معه لمّا انصرف. قال أحمد بن يزيد فحدّثني أبي قال: صرت إلى الحسين بعد انصرافه من عند المتوكّل بأيام، فقلت له: ويلك! أ تدري ما صنعت؟! قال: نعم أدري، و ما كنت لأدع عادتي بشيء؛ و قد قلت بعدك:
ص: 124
لا رأى عطفة الأح *** بّة من لا يصرّح
أصغر الساقيين *** أشكل عندي و أملح
لو تراه كالظّبي يس *** نح حينا و يبرح
خلت غصنا على كثي *** ب بنور يرشّح
غنى عمرو بن بانة في هذه الأبيات ثاني ثقيل بالبنصر.
و قد أخبرني بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيديّ و قال حدّثني محمد بن أبي عون قال:
/حضرت المتوكّل و عنده محمد بن عبد اللّه بن طاهر و قد أحضر حسين بن الضحّاك للمنادمة، فأمر خادما كان واقفا على رأسه، فسقاه و حيّاه بتفّاحة عنبر. و قال لحسين: قل في هذا شيئا؛ فقال:
و كالدّرّة البيضاء حيّا بعنبر *** و كالورد يسعى في قراطق كالورد
له عبثات عند كلّ تحيّة *** بعينيه تستدعي الحليم إلى الوجد
تمنّيت أن أسقى بكفّيه(1) شربة *** تذكّرني ما قد نسيت من العهد
سقى اللّه عيشا لم أبت فيه ليلة *** من الدّهر إلا من حبيب على وعد
فقال المتوكل: يحمل إلى حسين لكل بيت مائة دينار. فالتفت إليه محمد بن عبد اللّه بن طاهر كالمتعجّب و قال: لم ذاك يا أمير المؤمنين! فو اللّه لقد أجاب فأسرع، و ذكّر فأوجع، و أطرب فأمتع؛ و لو لا أنّ يد أمير المؤمنين لا تطاولها يد لأجزلت له العطاء و لو أحاط بالطارف و التالد. فخجل المتوكّل و قال: يعطى حسين بكلّ بيت ألف دينار.
و قد أخبرني بهذا الخبر ابن قاسم الكوكبيّ قال حدّثنا بشر بن محمد قال و حدّثني علي بن الجهم: أنه حضر المتوكّل و قد أمر شفيعا أن يسقى حسين بن الضحّاك؛ و ذكر باقي الخبر نحو ما مضى من رواية غيره.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد المبرّد، و حدّثني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال أخبرني محمد بن مروان عن محمد بن عمرو الرّوميّ قال:
اجتمع حسين بن الضحّاك و عمرو بن بانة يوما عند ابن شغوف الهاشميّ فاحتبسهما عنده. و كان لابن شغوف خادم حسن يقال له مقحم، و كان عمرو بن/بانة يتعشّقه و يسرّ ذلك من ابن شغوف. فلمّا أكلوا و وضع النبيذ قال عمرو بن بانة للحسين: قل في مقحم أبياتا أغنّ فيها الساعة. فقال الحسين:
ص: 125
وا بأبي مقحم لعزّته *** قلت له إذ خلوت مكتتما
تحبّ باللّه من يخصّك بالو *** دّ فما قال لا و لا نعما
و غنّى فيه عمرو. قال: فبيناهم كذلك إذ جاء الحاجب فقال: إسحاق الموصليّ بالباب؛ فقال له عمرو: أعفنا من دخوله و لا تنغّص علينا ببغضه و صلفه و ثقله ففعل؛ و خرج الحاجب فاعتلّ على إسحاق حتى انصرف، و أقاموا يومهم و باتوا ليلتهم عند ابن شغوف. فلما أصبحوا مضى الحسين بن الضحّاك إلى إسحاق فحدّثه الحديث بنصّه.
فقال إسحاق:
/
يا ابن شغوف أ ما علمت بما *** قد صار في الناس كلّهم علما
دعوت عمرا فبات ليلته *** في كلّ ما يشتهي كما زعما
حتى إذا ما الظلام ألبسه *** سرى دبيبا فضاجع الخدما
ثمت لم يرض أن يضاجعهم *** سرّا و لكن أبدى الذي كتما
ثم تغنّى لفرط صبوته *** صوتا شفى من غليله السّقما:
«وا بأبي مقحم لعزّته *** قلت له إذ خلوت مكتتما»
«تحبّ باللّه من يخصّك بالو *** دّ فما قال لا و لا نعما»
قال: و شاعت الأبيات في الناس و غنّى فيها إسحاق أيضا فيما أظن؛ فبلغت ابن شغوف فحلف ألاّ يدخل عمرا داره أبدا و لا يكلّمه، و قال: فضحني و شهرني و عرّضني للسان إسحاق؛ فمات مهاجرا له. و قال ابن أبي سعد في خبره: إن إسحاق/غنّى فيها للمعتصم، فسأله عن خبرها فحدّثه بالحديث، فضحك و طرب و صفّق؛ و لم يزل يستعيد الصوت و الحديث و ابن شغوف يكاد أن يموت إلى أن سكر و نام.
لحن عمرو بن بانة في البيتين اللذين قالهما حسين في مقحم من الثقيل الثاني بالوسطى.
أخبرني عليّ بن العباس بن أبي طلحة قال حدّثني محمد بن موسى بن حمّاد قال سمعت مهديّ بن سابق يقول:
التقى أبو نواس و حسين بن الضحّاك، فقال أبو نواس: أنت أشعر [أهل](1) زمانك في الغزل؛ قال: و في أيّ ذلك؟ قال: أ لا تعلم يا حسين؟ قال لا؛ قال: في قولك:
وا بأبي مقحم لعزّته *** قلت له إذ خلوت مكتتما
نحبّ باللّه من يخصّك بالو *** دّ فما قال لا و لا نعما
ص: 126
ثم تولّى بمقلتي خجل *** أراد رجع الجواب فاحتشما
فكنت كالمبتغي بحيلته *** برءا من السّقم فابتدا سقما
فقال الحسين: ويحك يا أبا نواس(1)! فأنت لا تفارق مذهبك في الخمر البتّة؛ قال: لا و اللّه، و بذلك فضلتك و فضلت الناس جميعا.
أخبرني عليّ بن العباس قال أنشدنا أبو العباس ثعلب قال أنشدني حمّاد بن المبارك صاحب حسين بن الضحّاك قال أنشدني حسين لنفسه:
لا و حبّيك لا أصا *** فح بالدّمع مدمعا
من بكى شجوه استرا *** ح و إن كان موجعا
/كبدي من هواك أس *** قم من أن تقطّعا
لم تدع سورة الضّنى *** فيّ للسّقم موضعا
قال: ثم قال لنا ثعلب: ما بقي من يحسن أن يقول مثل هذا.
أخبرني عليّ قال حدّثني محمد بن الفضل الأهوازيّ قال سمعت عليّ بن العباس الروميّ يقول:
حسين بن الضحّاك أغزل الناس و أظرفهم. فقلت: حين يقول ما ذا؟ فقال: حين يقول:
يا مستعير سوالف الحشف *** اسمع لحلفة صادق الحلف
إن لم أصح ليلي: و يا حربي *** و من وجنتيك و فترة الطّرف
/فجحدت ربّي فضل نعمته *** و عبدته أبدا على حرف(2)
أخبرني عليّ بن العباس الروميّ قال حدّثني قتيبة عن عمرو السّكونيّ (3) بالكوفة قال حدّثني أبي قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
كانت تألفني مغنّية، و تجيئني دائما، و كنت أميل إليها و أستملحها، و كان يقال لها فتن. فكان يجيء معها
ص: 127
خادم لمولاتها يحفظها يسمّى نجحا، و كان بغيضا شرس الخلق، فإذا جاء معها توقّيته؛ فمرض، فجاءتني و معها غيره، فبلغت منها مرادي و تفرّجت يومي و ليلتي؛ فقلت:
/
لا تلمني على فتن *** إنها كاسمها فتن
فإذا لم أهم بها *** فبمن! لا بمن إذن
أين - لا أين - مثلها *** في جميع الورى سكن!
طيب نشر إذا لثم *** ت و غنج و محتضن
وال عشرا من الصّبو *** ح على وجهها الحسن
و على لفظها *** المنوّن للاّم بالغنن
لست أنسى من الغري *** رة إذ بحت بالشّجن
قولها إذ سلبتها *** عن كثيب و عن عكن:
ليس يرضيك يا فتى *** من هوى دون أن تهن
فامتزجنا معا مما *** زجة الرّوح للبدن
و كفينا من أن نرا(1)*** قب نجحا إذا فطن
و أمنّاه أن ينمّ *** و ما كان مؤتمن
كلّ ما كان من حبي *** بك مستظرف حسن
حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه الهشاميّ:
أنّ مخارقا و حسين بن الضحّاك تلاحيا في أبي العتاهية و أبي نواس أيّهما أشعر؛ فاتّفقا على اختيار شعر من شعريهما يتخايران فيه، فاختار الحسين بن الضحّاك شيئا من شعر أبي نواس جيّدا قويّا لمعرفته بذلك، و اختار مخارق شيئا من شعر أبي العتاهية ضعيفا سخيفا غزلا كان يغنّى فيه لا لشيء عرفه منه إلا لأنه استملحه و غنّى فيه، فخاير به لقلّة علمه و لما كان بينه و بين أبي العتاهية من المودّة؛ و تخاطرا(2) على مال، و تحاكما إلى/من يرتضيه الواثق باللّه و يختاره لهما؛ فاختار الواثق لذلك أبا محلّم؛ و بعث فأحضره و تحاكما إليه بالشعرين فحكم لحسين بن الضحّاك. فتلكّأ مخارق و قال: لم أحسن الاختيار للشعر و لحسين أعلم منّي بذلك، و لأبي العتاهية خير مما اخترت، و قد اختار حسين أجود ما قدر عليه لأبي نواس لأنه أعلم منّي بالشعر، و لكنّا نتخاير بالشاعرين ففيهما وقع الجدال؛ فتحاكما فحكم لأبي نواس، و قال: هو أشعر و أذهب في فنون الشعر و أكثر إحسانا في جميع تصرّفه. فأمر الواثق بدفع الخطر إلى حسين، و انكسر مخارق فما انتفع به بقيّة يومه.
ص: 128
أخبرني ابن أبي طلحة قال حدّثني سوادة بن/الفيض قال حدّثني أبي قال:
لمّا اطّرح المأمون حسين بن الضحّاك لهواه - كان - في أخيه محمد و جفاه، لاذ الحسين بن الضحّاك بالحسن بن سهل و طمع أن يصلحه له؛ فقال يمدحه:
أرى الآمال غير معرّجات *** على أحد سوى الحسن بن سهل
يباري يومه غده سماحا *** كلا اليومين بان بكلّ فضل
أرى حسنا تقدّم مستبدّا *** ببعد من رئاسته و قبل
فإن حضرتك(1) مشكلة بشكّ *** شفاك بحكمة و خطاب فصل
سليل مرازب برعوا(2) حلوما *** و راع صغيرهم بسداد كهل
ملوك إن جريت بهم أبرّوا *** و عزّوا أن توازنهم(3) بعدل
ليهنك أنّ ما أرجأت رشد *** و ما أمضيت من قول و فعل
/و أنك مؤثر للحقّ فينا *** أراك اللّه من قطع و وصل
و أنّك للجميع حيا ربيع *** يصوب على قرارة كلّ محل
قال: فاستحسنها الحسن بن سهل، و دعا بالحسين فقرّبه و آنسه و وصله و خلع عليه و وعده إصلاح المأمون له، فلم يمكنه ذلك لسوء رأي المأمون فيه و لما عاجل الحسن من العلّة.
قال عليّ بن العباس بن أبي طلحة و حدّثني أبو العباس أحمد بن الفضل المروزيّ قال: سمعت الحسن بن سهل يقول لحسين بن الضحّاك: ما عنيت بقولك:
يا خليّ الذّرع من شجني *** إنما أشكو لترحمني
قال: قد بيّنته؛ قال: بأيّ شيء؟ قال: قلت:
منعك الميسور يؤيسني *** و قليل اليأس يقتلني
فقال له أبو محمد: إنك لتضيع بالخلاعة، ما أعطيته من البراعة.
أخبرني عليّ بن العباس قال حدّثني أحمد بن القاسم المرّيّ قال حدّثنا أبو هفّان قال:
سألت حسين بن الضحّاك عن خبره المشهور مع الحسن بن سهل في اليوم الذي شرب معه فيه و بات عنده
ص: 129
و كيف كان ابتداؤه، فقلت له: إني أشتهي أن أسمعه منك. فقال لي: دخلت على الحسن بن سهل في فصل الخريف و قد جاء و سمي من المطر فرشّ رشّا حسنا، و اليوم في أحسن منظر و أطيبه، و هو جالس على سرير آبنوس و عليه قبّة فوقها طارمة(1) ديباج أصفر و هو يشرف على بستان في داره، و بين/يديه و صائف يتردّدن في خدمته و على رأسه غلام كالدّينار؛ فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام، و نظر إليّ كالمستنطق؛ فأنشأت أقول:
أ لست ترى ديمة تهطل *** و هذا صباحك مستقبل
فقال: بلى. فقلت:
و تلك المدام(2) و قد شاقنا *** برؤيته الشادن الأكحل
فقال: صدقت فمه؛ فقلت:
فعاد به و بنا سكرة(3) *** تهوّن مكروه ما نسأل(4)
فسكت. فقلت:
فإني رأيت له نظرة *** تخبّرني أنه يفعل
/ثم قال: مه؛ فقلت:
و قد أشكل العيش في يومنا *** فيا حبّذا عيشنا المشكل
فقال: العيش مشكل، فما ترى؟ فقلت: مبادرة القصف و تقريب الإلف. قال: على أن تقيم معنا و تبيت عندنا. فقلت له: لك الوفاء و عليك مثله لي من الشرط. قال: و ما هو؟ قلت: يكون هذا الواقف على رأسك يسقيني. فضحك ثم قال: ذلك لك على ما فيه. و دعا بالطعام فأكلنا و بالشراب فشربنا أقداحا. و لم أر الغلام، فسألت عنه فقال لي: الساعة يجيء، فلم نلبث أن وافاني؛ فسألته أين كان؟ فقال: كنت في الحمّام و هو الذي حبسني عنك. فقلت لوقتي:
/
وا بأبي أبيض في صفرة *** كأنه تبر على فضّة
جرّده الحمّام عن درّة *** تلوح فيها عكن بضّه
غصن تبدّى يتثنّى على *** مأكمة(5) مثقلة النّهضه
كأنما الرّشّ على خدّه *** طلّ على تفّاحة غضّه
صفاته فاتنة كلّها *** فبعضه يذكرني بعضه
يا ليتني زوّدني قبلة *** أو لا فمن وجنته عضّه
ص: 130
فقال لي الحسن: قد عمل فيك النبيذ؛ فقلت: لا و حياتك! فقال: هذا شرّ من ذلك. فقلت:
اسقياني و صرّفا *** بنت حولين قرقفا
و اسقيا المرهف الغري *** ر سقى اللّه مرهفا
لا تقولا نراه أك *** لف(1) نضوا مخفّفا
نعم ريحانة الندي *** م و إن كان مخطفا(2)
إن يكن أكلفا فإ *** ني أرى البدر أكلفا
بأبي ما جن السري *** رة يبدي تعفّفا
حفّ (3) أصداغه و عق *** ر(4) بها ثم صفّفا
وحشا مدرج القصا *** ص(5) بمسك و رصّفا
فإذا رمت منه ذا *** ك تأبّى و عنّفا
ليس إلاّ بأن ير *** نّحه السّكر مسعفا
/باكرا لا تسوّفا *** ني عدمت المسوّفا
أعجلاه و بالفضا(6) *** ضة في السّقي فاعنفا
و احملا شغبه و إن *** هو زنّى(7) و أفّفا
فإذا همّ للمنا *** م فقوما و خفّفا
فتغاضب الغلام و قام فذهب، ثم عاد فقال لي: أقبل على شرابك ودع الهذيان. و ناولني قدحا. و قام أبو محمد ليبول، فشربت و أعطاني نقلا فقلت: اجعل بدله قبلة؛ فضحك و قال: /أفعل، هذا وقته فبدا له و قال: لا أفعل؛ فعاودته فانتهرني. فقال له خادم للحسن(8) يقال له فرج: بحياتي يا بنيّ أسعفه بما طلب؛ فضحك ثم دنا منّي كأنّه يناولني نقلا و تغافل فاختلست منه قبلة؛ فقال لي: هي حرام عليك فقلت:
و بديع الدّلّ قصريّ الغنج *** مره(9) العين كحيل بالدّعج
ص: 131
سمته شيئا و أصغيت له *** بعد ما صرّف كأسا و مزج
و استخفّته على نشوته *** نبرات من خفيف و هزج
فتأبّى و تثنّى خجلا *** و ذرا الدمع فنونا و نشج
لجّ في «لو لا» و في «سوف ترى» *** و كذا كفكف(1) عنّي و خلج
ذهب الليل و ما نوّلني *** دون أن أسفر صبح و انبلج
/هوّن الأمر عليه فرج *** بتأتّيه(2) فسقيا لفرج
خمر النكهة لا من قهوة *** أرّج الأصداغ بالمسك أرج
و بنفسي نفس من قال، و قد *** كان ما كان، حرام و حرج
قال: ثم أسفر الصبح. فانصرفت و عدت من غد إلى الحسن؛ فقال لي: كيف كنت في ليلتك و كيف كنت عند(3) نومك؟ فقلت له: أ أصف ذلك نثرا أم نظما؟ فقال: بل نظما فهو أحسن عندي، فقلت:
تألّفت طيف غزال الحرم *** فواصلني بعد ما قد صرم
و ما زلت أقنع من نيله *** بما تجتنيه بنان الحلم
بنفسي خيال على رقبة *** ألمّ به الشوق فيما زعم
أتاني يجاذب أردافه *** من البهر تحت كسوف الظّلم
تمجّ سوالفه مسكة *** و عنبرة ريقه و النّسم
تضمّخ من بعد تجميره(4) *** فطاب من القرن حتى القدم
يقول و نازعته توبه *** على أن يقول لشيء نعم
فغضّ الجفون على خجلة *** و أعرض إعراضة المحتشم
فشبّكت كفّي على كفّه *** و أصغيت ألثم درّا بفم
فنهنهني دفع لا مؤيس *** بجدّ و لا مطمع معتزم
إذا ما هممت فأدنيته *** تثنّى و قال لي الويل لم
فما زلت أبسطه مازحا *** و أفرط في اللهو حتى ابتسم
/و حكّمني الرّيم في نفسه *** بشيء و لكنّه مكتتم
فواها لذلك من طارق *** على أن ما كان أبقى سقم
ص: 132
قال: فقال لي الحسن: يا حسين يا فاسق! أظنّ ما ادّعيته على الطّيف في النوم كان في اليقظة مع الشخص نفسه، و أصلح الأشياء لنا بعد ما جرى أن نرحض(1) العار عن أنفسنا/بهبة الغلام لك، فخذه لا بورك لك فيه! فأخذته و انصرفت.
حدّثني عليّ بن العباس قال حدّثني أبو العيناء قال: أنشدني الحسين بن الضحّاك لنفسه في غلام للحسن بن سهل كان اجتمع معه في دار الحسن، ثم لقيه بعد ذلك فسلّم عليه فلم يكلّمه الغلام؛ فقال:
فديتك ما لوجهك صدّ عنّي *** و أبديت التّندّم بالسلام
أ حين خليتني(2) و قرنت قلبي *** بطرفك و الصّبابة في نظام
تنكّر ما عهدت لغبّ يوم *** فيا قرب الرّضاع من الفطام
لأسرع ما نهيت إلى همومي *** سروري بالزيارة و اللّمام
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني حسين بن الضحّاك الخليع قال:
كنت في المسجد الجامع بالبصرة، فدخل علينا أبو نواس و عليه جبّة خزّ جديدة. فقلت له: من أين هذه يا أبا نواس؟ فلم يخبرني، فتوهّمت أنه أخذها من موسى بن عمران لأنه دخل(3) من باب بني تميم؛ فقمت فوجدت موسى قد لبس جبّة خزّ أخرى؛ فقلت له:
كيف أصبحت يا أبا عمران
/فقال: بخير صبّحك اللّه به. فقلت:
يا كريم الإخاء و الإخوان
فقال: أسمعك اللّه خيرا. فقلت:
إن لي حاجة فرأيك فيها *** إننا في قضائها سيّان
فقال: هاتها على اسم اللّه و بركته. فقلت:
جبّة من جبابك الخزّ حتى *** لا يراني الشتاء حيث يراني
قال: خذها على بركة اللّه، و مدّ كمّه فنزعتها و جئت و أبو نواس جالس؛ فقال: من أين لك هذه؟ فقلت: من حيث جاءتك تلك.
ص: 133
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثني محمد بن موسى بن حمّاد قال أخبرني عبد اللّه بن الحارث عن إبراهيم بن عبد السلام عن الحسين بن الضحّاك قال:
دخلت أنا و محمد بن عمرو الرومي دار المعتصم، فخرج علينا كالحا. قال: فتوهّمنا أنه أراد النّكاح فعجز عنه. قال: و جاء إيتاخ(1) فقال: مخارق و علويه و فلان و فلان من أشباههما بالباب؛ فقال: اعزب عنّي، عليك و عليهم لعنة اللّه!. قال: فتبسّمت إلى محمد بن عمرو؛ و فهم المعتصم تبسّمي فقال لي: ممّ تبسمت؟ فقلت: من شيء حضرني؛ فقال: هاته؛ فأنشدته:
انف عن قلبك الحزن *** باقتراب من السّكن
/و تمتّع بكرّ طر *** فك في وجهه الحسن
إنّ فيه شفاء صد *** رك من لاعج الحزن
قال: فدعا بألفي دينار: ألف لي و ألف لمحمد، فقلت: الشعر لي، فما معنى الألف لمحمد بن عمرو؟ قال:
لأنه جاءنا معك. ثم أذن لمخارق و علّويه فدخلا، فأمرهما بأن يغنّيا فيه ففعلا، فما زال يعيد هذا الشعر، و لقد قام ليبول فسمعته يردّده.
الغناء في هذا الشعر اشترك فيه مخارق و علّويه و هو من الثقيل الأوّل بالبنصر.
أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد/قال حدّثني محمد بن محمد بن مروان قال:
كان الحسين بن الضحّاك عند أبي كامل المهندس و أنا معهم حاضر، فرأى خادما فاستحسنه و أعجبه. فقال له بعض أصحابه: أ تحبّه؟ قال: نعم و اللّه؛ قال: فأعلمه؛ قال: هو أعلم بحبّي له منّي به. ثم قال:
عالم بحبّيه *** مطرق من التّيه
يوسف الجمال و فر *** عون في تعدّيه
لا و حقّ ما أنا من *** عطفه أرجّيه(2)
ص: 134
ما الحياة نافعة *** لي على تأبّيه
النعيم يشغله *** و الجمال يطغيه
فهو غير مكترث *** للذي ألاقبه
تائه تزهّده *** فيّ رغبتي فيه
/قال محمد بن محمد: و غنّى في هذا الشعر عمرو بن بانة و عريب و سليم و جماعة من المغنّين.
حدّثني عمّي قال حدّثني ميمون بن هارون قال:
كان للحسين بن الضحّاك صديق و كان يتعشّق جارية مغنّية، فزاحمه فيها غلام كان في مرودته حسن الوجه؛ فلما خرجت لحيته جعل ينتف ما يخرج منها؛ و مالت القينة إليه لشبابه؛ فشكا ذلك إلى الحسين بن الضحّاك و سأله أن يقول فيها شعرا فقال:
خلّ الذي عنك لا تسطيع تدفعه *** يا من يصارع من لا شكّ يصرعه
جاءت طرائق شعر أنت ناتفها *** فكيف تصنع لو قد جاء أجمعه
اللّه أكبر لا أنفكّ من عجب *** أ أنت تحصد ما ذو العرش يزرعه
تبّا لسعيك بل تبّا لأمّك إذ *** ترعى حمى خالق الأحماء يمنعه
و قال فيه أيضا:
ثكلتك أمّك يا ابن يوسف *** حتّام ويحك أنت تنتف
لو قد أتى الصيف الذي *** فيه رءوس الناس تكشف
فكشفت عن خدّيك لي *** لكشفت عن مثل المفوّف(1)
أو مثل زرع ناله ال *** يرقان أو نكباء حرجف(2)
فغدا عليه الزارعو *** ن ليحصدوه و قد تقصّف
فظللت تأسف كالألى *** أسفوا و لم يغن التأسّف
حدّثني عليّ بن العباس قال حدّثني عمير بن أحمد بن نصر الكوفيّ قال حدّثني زيد بن محمد شيخنا قال:
قلت لحسين بن الضحّاك و قد قدم إلينا الكوفة: يا أبا عليّ شهرت نفسك و فضحتها في خادم، فألا اشتريته!.
ص: 135
فقال: فديتك! إن الحبّ لجاج كلّه، و كنت أحببت هذا الخادم و واقفني على أن يستبيع لأشتريه، فعارضني فيه صالح بن الرشيد فاختلسه منّي و لم أقدر على الانتصاف منه، و آثره الخادم و اختاره، و كلانا يحبّه إلا أن صالحا يناك و لا أناك و الخادم في الوسط بلا شغل. فضحكت من قوله، ثم سألته أن ينشدني شيئا من شعره، فأنشدني:
إنّ من لا أرى و ليس يراني *** نصب عيني ممثّل بالأماني
بأبي من ضميره و ضميري *** أبدا بالمغيب ينتجيان
نحن شخصان إن نظرت و روحا *** ن إذا ما اختبرت يمتزجان
فإذا ما هممت بالأمر أو *** همّ بشيء بدأته و بداني
كان وفقا ما كان منه و منّي *** فكأني حكيته و حكاني
خطرات الجفون منّا سواء *** و سواء تحرّك الأبدان
فسألته أن يحدّثني بأسرّ يوم مرّ له معه، فقال: نعم اجتمعنا يوما فغنّى مغنّ لنا بشعر قلته فيه فاستحسنه كلّ من حضر، ثم تغنّى بغيره؛ فقال لي: عارضه؛ فقلت: بقبلة فقال: هي لك، فقبّلته قبلة و قلت:
فدّيت من قال لي على خفره *** و غضّ من جفنه على حوره:
سمّع بي(1) شعرك المليح فما *** ينفكّ شاد به على وتره
حسبك بعض الذي أذعت و لا *** حسب لصبّ لم يقض من وطره
/و قلت يا مستعير سالفة الخش *** ف و حسن الفتور من نظره
لا تنكرنّ الحنين من طرب *** عاود فيك الصّبا على كبره
حدّثني الصّوليّ و عليّ بن العباس قالا حدّثنا المغيرة بن محمد المهلّبيّ قال: كان حسين بن الضحّاك يتعشّق خادما لأبي عيسى أو لصالح بن الرشيد أخيه؛ فاجتمعا يوما عند أخي مولى الخادم، فجعل حسين يشكو إليه ما به فلا يسمع به(2) و يكذّبه؛ ثم سكن نفاره و ضحك إليه و تحدّثا ساعة. فأنشدنا حسين قوله فيه:
سائل بطيفك عن ليلى و عن سهري *** و عن تتابع أنفاسي و عن فكري
لم يخل قلبي من ذكراك إذ نظرت *** عيني إليك على صحوى و لا سكرى
سقيا ليوم سروري إذ تنازعني *** صفو المدامة بين الأنس و الخفر
و فضل كأسك يأتيني فأشربه *** جهرا و تشرب كأسي غير مستتر
و كيف أشمله لثمي و ألزمه *** نحري و ترفعه كفّي إلى بصري
ص: 136
فليت مدّة يومي إذ مضى سلفا *** كانت و مدّة أيامي على قدر
حتى إذا ما انطوت عنّا بشاشته *** صرنا جميعا كذا جارين في الحفر
حدّثني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد بن مروان قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
كان صالح بن الرشيد يتعشّق غلاما يسمّى يسرا خادم أخيه أبي عيسى، فكان يراوده عن نفسه فيعده و لا يفي له. فأرسله أبو عيسى ذات يوم إلى صالح أخيه/في السّحر يقول له: يا أخي إني قد اشتهيت أن أصطبح اليوم، فبحياتي لما ساعدتني و صرت إليّ لنصطبح اليوم جميعا. فسار يسر إلى صالح أخيه في السّحر/و هو منتش قد شرب في السّحر، فأبلغه الرسالة؛ فقال: نعم و كرامة، اجلس أوّلا فجلس؛ فقال: يا غلام أحضرني عشرة آلاف درهم فأحضرها؛ فقال له: يا يسر دعني من مواعيدك و مطلك، هذه عشرة آلاف درهم فخذها و اقض حاجتي، و إلاّ فليس هاهنا إلا الغصب؛ فقال له: يا سيّدي؛ إني أقضي الحاجة و لا آخذ المال. ثم فعل ما أراد و طاوعه، فقضى حاجته، و أمر صالح بحمل العشرة الآلاف الدرهم معه. قال الحسين: ثم خرج إليّ صالح من خلوته فقال:
يا حسين، قد رأيت ما كنّا فيه، فإن حضرك شيء فقل: فقلت:
أيا من طرفه سحر *** و من ريقته خمر
تجاسرت فكاشفت *** ك لمّا غلب الصبر
و ما أحسن في مثل *** ك أن ينهتك السّتر
و إن لا مني الناس *** ففي وجهك لي عذر
فدعني من مواعيد *** ك إذ حيّنك الدهر
فلا و اللّه لا تبر *** ح أو ينقضي الأمر
فإمّا الغصب و الذمّ *** و إما البذل و الشكر
و لو شئت تيسّرت *** كما سمّيت يا يسر
و كن كاسمك لا تمن *** عك النّخوة و الكبر
فلا فزت بحظّي من *** ك إن داع له ذكر
قال الحسين: فضحك ثم قال: قد لعمري تيسّر يسر كما ذكرت. فقلت: نعم و من لا يتيسّر بعد أخذه الدّية! لو أردتني أيضا بهذا لتيسّرت. فضحك ثم قال: نعطيك/يا حسين الدّية لحضورك و مساعدتك، و لا نريدك لما أردنا له يسرا، فبئست المطيّة أنت؛ و أمر لي بها. ثم أمر عريب بعد ذلك فغنّت في بعض هذا الشعر.
ص: 137
حدّثني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد بن مروان قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
كنت عند عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الرّبيع و هو مصطبح و خادم له يسقيه؛ فقال لي: يا أبا عليّ، قد استحسنت سقي هذا الغلام، فإن حضرك شيء في قصّتنا هذه فقل؛ فقلت:
أحيت صبوحي فكاهة اللاّهي *** و طاب يومي لقرب أشباهي
فاستثر اللهو من مكامنه *** من قبل يوم منغّص ناهي
بابنة كرم من كفّ منتطق *** مؤتزر بالمجون تيّاه
يسقيك من طرفه و من يده *** سقي لطيف مجرّب داهي
كأسا فكأسا كأن شاربها *** حيران بين الذّكور و الساهي
قال: فاستحسنه عبد اللّه، و غنّى فيه لحنا مليحا، و شربنا عليه بقيّة يومنا.
أخبرني عليّ بن العباس قال حدّثني سوادة بن الفيض المخزوميّ قال حدّثني أبي قال:
خرج حسين بن/الضحّاك إلى القفص(1) متنزّها و معه جماعة من إخوانه ظرفاء. و بلغ يسرا الخادم خروجه، فشدّ في وسطه خنجرا و خرج إليه فجاءه و هو على/غفلة؛ فسرّ به حسين و تلقّاه و أقام معه إلى آخر النهار يشربان.
فلما سكرا جمّشه حسين؛ فأخرج خنجره عليه و عربد؛ فأمسك حسين و عاد إلى شرابه، و قال في ذلك:
جمشت يسرا على تسكّره *** و قد دهاني بحسن منظره
فهمّ بالفتك بي فناشده *** فيّ (2) كريم من خير معشره
يا من رأى مثل شادن خنث *** يصول في خدره بزوّره
يسحب ذيل القميص صعتره(3) *** و واردات(4) من هدب مئزره
و لا يعاطي نديمه قدحا *** إلاّ بإبهامه و خنصره
أخاف من كبره بوادره *** أدالني(5) اللّه من تكبّره
ص: 138
قد قلت للشّرب إذ بدا فضلا(1) *** في ريطتيه(2) و في ممصّرة
ويلي على شادن توعّدني *** بسلّ سكّينه و خنجره
أ ما كفاه ما حزّ في كبدي *** بسحر أجفانه و محجره(3)
إذا نسيم الرياح قابلنا *** بالطّيب من مسكه و عنبره
هزّ قواما كأنه غصن *** و ارتجّ ما انحطّ من مخصّره
أخبرني عليّ بن العباس قال حدّثني سوادة بن الفيض قال حدّثني أبي قال:
حضرت حسين بن الضحّاك يوما و قد جاءه يسر فجلس عنده و أخذنا نتحدّث مليّا ثم غازله حسين، فقال له يسر: إيّاك و التعرّض لي، و اربح نفسك؛ فقال حسين:
أيّها النّفّاث في العقد *** أنا مطويّ على الكمد
إنما زخرفت لي خدعا *** قدحت في الرّوح و الجسد
هات يا خدّاع واحدة *** من كثير قلته وقدى(4)
ليت شعري بعد حلفك لي *** بوفاء العهد بعد غد
ما الذي باللّه صيّره *** بعد قرب في مدى الأبد
ما لأنس كان مبتذلا *** منك لي بالأمس لم يعد
إيه قل لي غير محتشم *** هل دهاني فيك من أحد
حبّذا و الكأس دائرة *** لهونا و الصّيد بالطّرد
و حديث في القلوب له *** أخذ(5) يصدعن في الكبد
يوم تعطيني و تأخذها *** دون ندماني يدا بيد
فإذا ألويت(6) هيّجني *** تلع من ظبية البلد
و إذا أصغيت ذكّرني *** نشر كافور على برد
ص: 139
/
ذاك يوم كان حاسدنا *** فيه معذورا على الحسد(1)
قال شعرا للمعتصم بدير مران سكر عليه و غنى به المغنون:
حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثنا عمرو بن بانة قال:
خرجنا مع المعتصم إلى الشام لمّا غزا؛ فنزلنا في طريقنا بدير مرّان(2) - و هو دير على/تلعة(3) مشرفة عالية تحتها مروج(4) و مياه حسنة - فنزل فيه المعتصم فأكل و نشط للشرب و دعا بنا؛ فلما شربنا(5) أقداحا قال لحسين بن الضحّاك: أين هذا المكان من ظهر بغداد! فقال: لا أين يا أمير المؤمنين! و اللّه لبعض الغياض و الآجام هناك أحسن من هنا؛ قال: صدقت و اللّه، و على ذلك فقل أبياتا يغنّ فيها عمرو؛ فقال: أمّا أن أقول شيئا في وصف هذه الناحية بخير فلا أحسب لساني ينطق به، و لكني أقول متشوّقا إلى بغداد: - فضحك و قال قل ما شئت -.
يا دير مديان(6) لا عرّيت من سكن(7) *** هيّجت لي سقما يا دير مديانا
هل عند قسّك من علم فيخبرنا *** أم كيف يسعف وجه الصبر من بانا
حثّ المدام فإن الكأس مترعة *** ممّا يهيج دواعي الشوق أحيانا
سقيا و رعيا لكرخايا(8) و ساكنها *** و للجنينة بالرّوحاء(9) من كانا
/فاستحسنها المعتصم، و أمرني و مخارقا فغنّينا فيها و شرب على ذلك حتى سكر، و أمر للجماعة بجوائز.
لحن عمرو بن بانة في هذه الأبيات رمل، و لحن مخارق هزج، و يقال: إنه لغيره.
ص: 140
عبث بخادم أبي عيسى فضربه فجفاه فقال شعرا:
أخبرني الصّوليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد قال:
كان حسين بن الضحّاك يميل إلى خادم لأبي عيسى بن الرشيد؛ فعبث به يوما على سكر؛ فأخذ قنّينة فضرب بها رأسه فشجّه شجّة منكرة؛ و شاع خبره و توجّع له إخوانه و عولج منها مدّة، فجفا(1) الخادم و اطّرحه و أبغضه و لم يعرض له بعدها. فرآه بعد ذلك في مجلس مولاه فعبث(2) به الخادم و غازله. فلما أكثر ذلك قال له الحسين:
تعزّ بيأس عن هواي فإنّني *** إذا انصرفت نفسي فهيهات عن ردّي
إذا خنتم بالغيب ودي فما لكم *** تدلّون إدلال المقم على العهد
و لي منك بدّ فاجتنبني مذمّما *** و إن خلت أنّي ليس لي منك من بدّ
الغناء في هذه الأبيات لعمرو بن بانة، و له فيه لحنان رمل و خفيف رمل.
حدّثني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدّثني عبد اللّه بن المؤمّل العسكريّ قال:
لمّا ولي الواثق الخلافة جلس للناس و دخل إليه المهنّئون و الشعراء فمدحوه و هنّئوه؛ ثم استأذن حسين بن الضحّاك بعدهم في الإنشاد، و كان(3) من الجلساء فترفّع عن الإنشاد مع الشعراء، فأذن له؛ فأنشده قوله:
/
أكاتم وجدي فما ينكتم *** بمن لو شكوت إليه رحم
و إنّي على حسن ظنّي به *** لأحذر إن بحت أن يحتشم
و لي عند لحظته روعة *** تحقّق ما ظنّه المتّهم
و قد علم الناس أنّي له *** محبّ و أحسبه قد علم
/ - و في هذا رمل لعبد اللّه بن العباس بن الرّبيع -:
و إنّي لمغض على لوعة *** من الشوق في كبدي تضطرم
عشيّة ودّعت عن مقلة *** سفوح و زفرة قلب سدم(4)
فما كان عند النّوى مسعد *** سوى العين تمزج دمعا بدم
سيذكر من بان أوطانه *** و يبكي المقيمين من لم يقم
ص: 141
إلى خازن اللّه في خلقه *** سراج النّهار و بدر الظّلم
رحلنا غرابيب(1) زفّافة *** بدجلة في موجها الملتطم
إذا ما قصدنا لقاطولها *** و دهم قراقيرها(2) تصطدم
سكنا إلى خير مسكونة *** تيمّمها راغب من أمم(3)
مباركة شاد بنيانها *** بخير المواطن خير الأمم
كأنّ بها نشر كافورة *** لبرد نداها و طيب النّسم
كظهر الأديم إذا ما السحا *** ب صاب على متنها و انسجم
مبرّأة من وحول الشتاء *** إذا ما طمى و حله و ارتكم
/فما إن يزال بها راجل *** يمرّ الهوينى و لا يلتطم
و يمشي على رسله آمنا *** سليم الشّرك نقّي القدم
و للنّون(4) و الضّب في بطنها *** مراتع مسكونة و النّعم
غدوت على الوحش مغترّة *** رواتع في نورها المنتظم
و رحت عليها و أسرابها *** تحوم بأكنافها تبتسم
ثم قال يمدح الواثق:
يضيق الفضاء به إن غدا *** بطودي أعاريبه و العجم
ترى النصر يقدم راياته *** إذا ما خفقن أمام العلم
و في اللّه دوّخ أعداءه *** و جرّد فيهم سيوف النّقم
و في اللّه يكظم من غيظه *** و في اللّه يصفح عمّن جرم
رأى شيم الجود محمودة *** و ما شيم الجود إلاّ قسم
فراح على «نعم» و اغتدى *** كأن ليس يحسن إلاّ نعم
قال: فأمر له الواثق بثلاثين ألف درهم، و اتّصلت أيامه بعد ذلك، و لم يزل من ندمائه.
حدّثني أحمد بن العباس قال حدّثنا محمد بن زكريّا الغلابيّ قال حدّثني مهديّ بن سابق قال:
ص: 142
قال الواثق لحسين بن الضحّاك: قل الساعة أبياتا ملاحا حتى أهب لك شيئا مليحا؛ فقال: في أيّ معنى يا أمير المؤمنين؟ فقال: امدد طرفك و قل فيما شئت ممّا ترى بين يديك وصفه. فالتفتّ فإذا ببساط زهره قد تفتّحت أنواره و أشرق في نور الصبح؛ فأرتج عليّ ساعة حتى/خجلت و ضقت ذرعا. فقال لي الواثق: مالك ويحك! أ لست ترى نور صباح، و نور أقاح! فانفتح القول فقلت:
/
أ لست ترى الصبح قد أسفرا *** و مبتكر الغيث قد أمطرا
و أسفرت الأرض عن حلّة *** تضاحك بالأحمر الأصفرا
و وافاك نيسان(1) في ورده *** و حثّك في الشّرب كي تسكرا
و تعمل كأسين في فتية *** تطارد بالأصغر الأكبرا
يحثّ كئوسهم مخطف *** تجاذب أردافه المئزرا
ترجّل بالبان حتى إذا *** أدار غدائره وفّرا
و فضّض في الجلّنار(2) البها *** ر و الآبنوسة(3) و العبهرا(4)
فلمّا تمازج ما شذّرت *** مقاريض أطرافه شذّرا
فكلّ ينافس في برّه *** ليفعل في ذاته المنكرا
قال: فضحك الواثق و قال: سنستعمل كل ما قلت يا حسين إلا الفسق الذي ذكرته فلا و لا كرامة. ثم أمر بإحضار الطعام فأكل و أكلوا معه. ثم قال: قوموا بنا إلى حانة الشّطّ فقاموا إليها، فشرب و طرب، و ما ترك يومئذ أحدا من الجلساء و المغنّين و الحشم إلا أمر له بصلة. و كانت من الأيام التي سارت أخبارها و ذكرت في الآفاق. قال حسين: فلما كان من الغد غدوت إليه؛ فقال: أنشدني يا حسين شيئا إن كنت قلته في يومنا الماضي، فقد كان حسنا؛ فأنشدته:
يا حانة الشّطّ قد أكرمت مثوانا *** عودي بيوم سرور كالذي كانا
لا تفقدينا دعابات الإمام و لا *** طيب البطالة إسرارا و إعلانا
و لا تخالعنا في غير فاحشة *** إذا يطرّبنا الطّنبور أحيانا
/و هاج زمر زنام(5) بين ذاك لنا *** شجوا فأهدى لنا روحا و ريحانا
ص: 143
و سلسل الرّطل عمرو ثم عمّ به *** السّقيا فألحق أولانا بأخرانا
سقيا لشكلك من شكل خصصت به *** دون الدّساكر من لذّات دنيانا
حفّت رياضك جنّات مجاورة *** في كلّ مخترق نهرا و بستانا
لا زلت آهلة الأوطان عامرة *** بأكرم الناس أعراقا و أغصانا
قال: فأمر له الواثق بصلة سنيّة مجدّدة، و استحسن الصوت، و أمر فغنّى في عدّة أبيات منها. غنّت فريدة في البيتين الأوّلين من هذه الأبيات، و لحنها هزج مطلق.
حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال: اجتمعت أنا و حسين بن الضحّاك و أبو شهاب الشاعر و هو الذي يقول:
لقد كنت ريحانة في النّديّ *** و تفّاحة في يد الكاعب
و عمرو بن بانة يغنّيها - فتذاكرنا الدّوابّ، و اتّصل الحديث إلى أن تلاحى حسين و أبو شهاب/في دابّتيهما و تراهنا على المسابقة بهما، فتسابقا فسبقه أبو شهاب. فقال حسين في ذلك:
كلوا و اشربوا هنّئتم و تمتعوا *** و عيشوا و ذمّوا الكودنين(1) جميعا
فأقسم ما كان الذي نال منهما *** مدى السبق إذ جدّ الجراء سريعا
/و هي قصيدة معروفة في شعره. فقال أبو شهاب يجيبه:
أيا شاعر الخصيان حاولت خطّة *** سبقت إليها و انكفأت سريعا
تحاول سبقي بالقريض سفاهة *** لقد رمت - جهلا - من حماي منيعا
و هي أيضا قصيدة. فكان ذلك سبب التباعد بينهما. و كنّا إذا أردنا العبث بحسين نقول له: أيا شاعر الخصيان، فيجنّ و يشتمنا.
حدّثني جعفر قال حدّثني عليّ بن يحيى قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال: كان يألفني إنسان من جند الشام عجيب الخلقة و الزّيّ و الشكل غليظ جلف جاف، فكنت أحتمل ذلك كلّه له و يكون حظّي التعجّب به، و كان يأتيني بكتب من عشيقة له ما رأيت كتبا أحلى منها و لا أظرف و لا أبلغ و لا أشكل من معانيها، و يسألني أن أجيب عنها؛
ص: 144
فأجهد نفسي في الجوابات و أصرف عنايتي إليها على علمي(1) بأن الشاميّ بجهله لا يميّز بين الخطأ و الصواب، و لا يفرّق بين الابتداء و الجواب. فلما طال ذلك عليّ حسدته و تنبّهت إلى إفساد حاله عندها. فسألته عن اسمها فقال:
«بصبص». فكتبت إليها عنه في جواب كتاب منها جاءني به:
أرقصني حبّك يا بصبص *** و الحبّ يا سيّدتي يرقص
أرمضت أجفاني(2) بطول البكا *** فما لأجفانك لا ترمص
وا بأبي وجهك ذاك الذي *** كأنه من حسنه عصعص
فجاءني بعد ذلك فقال لي: يا أبا عليّ، جعلني اللّه فداءك، ما كان ذنبي إليك و ما أردت بما صنعت بي؟ فقلت له: و ما ذاك عافاك اللّه؟ فقال: ما هو و اللّه إلاّ أن وصل ذلك الكتاب إليها حتى بعثت إليّ: إنّي مشتاقة إليك، و الكتاب لا ينوب عن الرؤية، فتعال إلى الرّوشن(3) الذي بالقرب من بابنا فقف بحياله حتى أراك؛ فتزيّنت بأحسن /ما قدرت عليه و صرت إلى الموضع. فبينا أنا واقف أنتظر مكلّما أو مشيرا إليّ إذا شيء قد صبّ عليّ فملأني من قرني إلى قدمي و أفسد ثيابي و سرجي و صيّرني و جميع ما عليّ و دابّتي في نهاية السّواد و النتن و القذر، و إذا به ماء قد خلط ببول و سواد سرجين(4)، فانصرفت بخزي. و كان ما مرّ بي من الصبيان و سائر من مررت به من الضحك و الطّنز(5) و الصّياح بي أغلظ ممّا مرّ بي؛ و لحقني من أهلي و من في منزلي شرّ من ذلك و أوجع. و أعظم من ذلك أن رسلها انقطعت عنّي جملة. قال: فجعلت أعتذر إليه و أقول له: إنّ الآفة أنها لم تفهم معنى الشعر لجودته و فصاحته، و أنا أحمد اللّه على ما ناله و أسرّ الشّماتة به.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني ميمون بن هارون عن حسين بن الضحّاك قال:
كتب إليّ الحسن بن رجاء في يوم شكّ و قد أمر الواثق بالإفطار، فقال:
/
هززتك للصّبوح و قد نهاني *** أمير المؤمنين عن الصّيام
و عندي من قيان المصر عشر *** تطيب بهنّ عاتقة المدام
و من أمثالهن إذا انتشينا *** ترانا نجتني ثمر الغرام
فكن أنت الجواب فليس شيء *** أحبّ إليّ من حذف الكلام
قال: فوردت عليّ رقعته و قد سبقه إليّ محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر و وجّه إليّ بغلام نظيف الوجه كان يتحظّاه، و معه ثلاثة غلمة أقران(6) حسان الوجوه و معهم رقعة قد كتبها إليّ كما تكتب المناشير، و ختمها في أسفلها و كتب فيها يقول:
ص: 145
سر على اسم اللّه يا أش *** كل من غصن لجين
في ثلاث من بني الرو *** م إلى دار حسين
/فاشخص(1) الكهل إلى مو *** لاك يا قرّة عيني
أره العنف إذ استع *** صى و طالبه بدين
ودع اللفظ و خاطب *** ه بغمز الحاجبين
و احذر الرّجعة من وج *** هك في خفّي حنين
قال: فمضيت معهم، و كتبت إلى الحسن بن رجاء جواب رقعته:
دعوت إلى مماحكة الصّيام *** و إعمال الملاهي و المدام
و لو سبق الرسول لكان سعيي *** إليك ينوب عن طول الكلام
و ما شوقي إليك بدون شوقي *** إلى ثمر(2) التّصابي و الغرام
و لكن حلّ في نفر عسوف *** بمنشور محلّ المستهام
حسين، فاستباح له حريما *** بطرف باعث سبب الحمام
و أظهر نخوة وسطا و أبدى *** فظاظته بترك للسلام
و أزعجني بألفاظ غلاظ *** و قد أعطيته طرفي زمامي
و لو خالفته لم يخش قتلي *** و قنّعني سريعا بالحسام
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال حدّثني جعفر بن هارون بن زياد قال حدّثني أبي قال:
كان الواثق يلاعب حسين بن الضحّاك بالنّرد و خاقان غلام الواثق واقف على رأسه، و كان الواثق يتحظّاه، فجعل يلعب و ينظر إليه. ثم قال للحسين بن الضحّاك: إن قلت الساعة شعرا يشبه ما في نفسي وهبت لك ما تفرح به. فقال الحسين:
أحبّك حبّا شابه بنصيحة *** أب لك مأمون عليك شفيق
و أقسم ما بيني و بينك قربة *** و لكنّ قلبي بالحسان(3) علوق
فضحك الواثق و قال: أصبت ما في نفسي و أحسنت. و صنع الواثق فيه لحنا، و أمر لحسين بألفي دينار. لحن الواثق في هذين البيتين من الثقيل الأوّل بالوسطى.
ص: 146
أخبرني الحسن/بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن خلاّد قال:
أنشدني حسين بن الضحّاك لنفسه:
بدّلت من نفحات الورد بالآء *** و من صبوحك درّ الإبل و الشاء
حتى أتى على آخرها، و قال لي: ما قال أحد من المحدثين مثلها. فقلت: أنت تحوم حول أبي نواس في قوله:
دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء *** و دواني بالتي كانت هي الداء
و هي أشعر من قصيدتك. فغضب و قال: أ لي تقول هذا! عليّ و عليّ إن لم أكن نكت أبا نواس!. فقلت له:
دع ذا عنك، فإنه كلام في الشعر لا قدح في نسب، لو نكت أبا نواس و أمّه و أباه لم تكن أشعر منه. و أحبّ أن تقول لي: هل لك في قصيدتك بيت نادر غير قولك:
فضّت خواتمها في نعت واصفها *** عن مثل رقراقة في عين مرهاء
و هذه قصيدة أبي نواس يقول فيها:
دارت على فتية ذلّ الزمان لهم *** فما أصابهم إلاّ بما شاءوا
/صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها *** لو مسّها حجر مسّته سرّاء
فأرسلت من فم الإبريق صافية *** كأنما أخذها بالعقل إغفاء
و اللّه ما قدرت على هذا و لا تقدر عليه؛ فقام و هو مغضب كالمقرّ بقولي.
حدّثني الحسن قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال حدّثني أحمد بن المعتصم قال:
حجّ أبو نواس و حسين بن الضحّاك فجمعهما الموسم، فتناشدا قصيدتيهما: قول أبي نواس:
دع عنك لومي فإنّ اللّوم إغراء *** و داوني بالتي كانت هي الداء
و قصيدة حسين:
بدّلت من نفحات الورد بالآء
فتنازعا أيّهما أشعر في قصيدته؛ فقال أبو نواس: هذا ابن مناذر(1) حاضر الموسم و هو بيني و بينك. فأنشده قصيدته حتى فرغ منها؛ فقال ابن مناذر: ما أحسب أن أحدا يجيء بمثل هذه و همّ بتفضيله؛ فقال له الحسين: لا تعجل حتى تسمع؛ فقال: هات؛ فأنشده قوله:
بدّلت من نفحات الورد بالآء *** و من صبوحك درّ الإبل و الشاء
ص: 147
حتى انتهى إلى قوله:
فضّت خواتمها في نعت واصفها *** عن مثل رقراقة في عين مرهاء
فقال له ابن مناذر: حسبك، قد استغنيت عن أن تزيد شيئا، و اللّه لو لم تقل في دهرك كلّه غير هذا البيت لفضّلتك به على سائر من وصف الخمر؛ قم فأنت أشعر و قصيدتك أفضل. فحكم له و قام أبو نواس منكسرا.
أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد قال حدّثني كثير بن إسماعيل التحتكار قال:
لمّا قدم المعتصم بغداد، سأل عن ندماء صالح بن الرشيد و هم أبو الواسع و قنّينة و حسين بن الضحّاك و حاتم الرّيش و أنا، فأدخلنا عليه. فلشؤمي و شقائي كتبت بين عينيّ: «سيّدي هب لي شيئا». فلما رآني/قال: ما هذا على جبينك؟! فقال حمدون(1) بن إسماعيل: يا سيّدي تطايب بأن كتب على جبينه: «سيّدي هب لي شيئا»!. فلم يستطب لي ذلك و لا استملحه، و دعا بأصحابي من غد و لم يدع بي. ففزعت إلى حسين بن الضحّاك؛ فقال لي: إنّي لم أحلل من أنسه بعد بالمحلّ الموجب أن أشفع إليه فيك، و لكني أقول لك بيتين من شعر و ادفعهما إلى حمدون بن إسماعيل يوصلهما، فإن ذلك أبلغ. فقلت: أفعل. فقال حسين:
قل لدنيا أصبحت تلعب بي *** سلّط اللّه عليك الآخرة
إن أكن أبرد من قنّينة *** و من الرّيش فأمّي فاجره
قال: فأخذتهما و عرّفت حمدون أنهما لي و سألته إيصالهما ففعل؛ فضحك المعتصم و أمر لي بألفي دينار و استحضرني و ألحقني بأصحابي.
أخبرني عمّي قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال قال لي أحمد(2) بن حمدون:
كان محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر لا يرى الصّبوح و لا يؤثر على الغبوق شيئا، و يحتجّ بأن من خدم الخلفاء كان اصطباحه استخفافا بالخدمة، لأنه لا يأمن أن/يدعى على غفلة و الغبوق يؤمّنه من ذلك، و كان المعتصم يحبّ الصبوح؛ فكان يلقّب ابن بُسخُنَّر الغبوقيّ. فإذا حضر مجلس المعتصم مع المغنّين منعه الصّبوح و جمع له مثل ما يشرب نظراؤه، فإذا كان الغبوق سقاه إيّاه جملة غيظا عليه؛ فيضجّ (3) من ذلك و يسأل أن يترك حتى يشرب مع النّدماء إذا حضروا(4) فيمنعه ذلك. فقال فيه حسين بن الضحّاك و في حاتم الرّيش الضّرّاط و كان من المضحكين:
حبّ أبي جعفر للغبوق *** كقبحك يا حاتم مقبلا
ص: 148
فلا ذاك يعذر في فعله *** و حقّك في الناس أن تقتلا
و أشبه شيء بما اختاره *** ضراطك دون الخلا في الملا
حدّثني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا محمد بن عليّ بن حمزة قال:
مزح أبو أحمد بن الرشيد مع حسين بن الضحّاك مزاحا أغضبه، فجاوبه حسين جوابا غضب منه أبو أحمد أيضا. فمضى إليه حسين من غد فاعتذر إليه و تنصّل و حلف؛ فأظهر له قبولا لعذره. و رأى ثقلا في طرفه و انقباضا عما كان يعهده منه؛ فقال في ذلك:
لا تعجبنّ لملّة صرفت *** وجه الأمير فإنه بشر
و إذا نبا بك في سريرته *** عقد الضمير نبا بك البصر
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني أبو محمد بن النشار قال:
كان أبي صديقا للحسين بن الضحّاك و كان يعاشره؛ فحملني معه يوما إليه، و جعل أبي يحادثه إلى أن قال له:
يا أبا عليّ، قد تأخّرت أرزاقك و انقطعت موادّك و نفقتك كثيرة، فكيف يمشي أمرك؟ فقال له: بلى و اللّه يا أخي، ما قوام أمري إلا ببقايا هبات الأمين محمد بن زبيدة و ذخائره و هبات جارية له - لم يسمّها - /أغنتني للأبد لشيء ظريف جرى على غير تعمّد؛ و ذلك أنّ الأمين دعاني يوما فقال لي: يا حسين، إن جليس الرجل عشيره و ثقته و موضع سرّه و أمنه، و إن جاريتي فلانة أحسن الناس/وجها و غناء، و هي منّي بحمل نفسي، و قد كدّرت عليّ صفوها و نغّصت عليّ النعمة فيها بعجبها بنفسها و تجنّيها(1) عليّ و إدلالها بما تعلم من حبّي إياها. و إني محضرها و محضر صاحبة لها ليست منها في شيء لتغنّي معها. فإذا غنّت و أومأت لك إليها - على أن أمرها أبين من أن يخفى عليك - فلا تستحسن الغناء و لا تشرب عليه؛ و إذا غنّت الأخرى فاشرب و اطرب و استحسن و اشقق ثيابك، و عليّ مكان كل ثوب مائة ثوب. فقلت: السمع و الطاعة. فجلس في حجرة الخلوة و أحضرني و سقاني و خلع عليّ، و غنّت المحسنة و قد أخذ الشراب منّي، فما تمالكت أن استحسنت و طربت و شربت، فأومأ إليّ و قطّب في وجهي. ثم غنّت الأخرى فجعلت أتكلّف ما أقوله و أفعله. ثم غنّت المحسنة ثانية فأتت بما لم أسمع مثله قطّ حسنا، فما ملكت نفسي أن صحت و شربت و طربت، و هو ينظر إليّ و يعضّ شفتيه غيظا، و قد زال عقلي فما أفكّر فيه، حتى فعلت ذلك مرارا؛ و كلما ازداد شربي ذهب عقلي و زدت ممّا يكره؛ فغضب فأمضّني و أمر بجرّ رجلي من بين يديه و صرفي فجررت و صرفت، فأمر بأن أحجب. و جاءني الناس يتوجّعون لي و يسألوني عن قصّتي فأقول لهم: حمل عليّ النبيذ فأسأت أدبي، فقوّمني أمير المؤمنين بصرفي و عاقبني بمنعي من الوصول إليه. و مضى لما أنا فيه شهر، ثم جاءتني البشارة أنّه قد رضي عنّي، و أمر بإحضاري فحضرت و أنا خائف. فلما وصلت أعطاني الأمين يده فقبّلتها، و ضحك إليّ و قام و قال: اتبعني، و دخل إلى تلك الحجرة بعينها و لم يحضر غيري. و غنّت المحسنة التي نالني من أجلها ما
ص: 149
نالني فسكتّ (1)/فقال لي: قل ما شئت و لا تخف؛ فشربت و استحسنت. ثم قال لي: يا حسين، لقد خار اللّه لك بخلافي و جرى القدر بما تحبّ فيه. إن هذه الجارية عادت إلى الحال التي أريد منها و رضيت كلّ أفعالها؛ فأذكرتني بك و سألتني الرّضا عنك و الاختصاص لك؛ و قد فعلت و وصلتك بعشرة آلاف دينار، و وصلتك هي بدون ذلك. و اللّه لو كنت فعلت ما قلت لك حتى تعود إلى مثل هذه الحال ثم تحقد ذلك عليك فتسألني ألاّ تصل إليّ لأجبتها.
فدعوت له و شكرته و حمدت اللّه على توفيقه، و زدت في الاستحسان و السرور إلى أن سكرت و انصرفت و قد حمل معي المال. فما كان يمضي أسبوع إلاّ و صلاتها و ألطافها تصل إليّ من الجوهر و الثياب و المال بغير علم الأمين؛ و ما جالسته مجلسا بعد ذلك إلا سألته أن يصلني. فكلّ شيء أنفقته بعده إلى هذه الغاية فمن فضل مالها و ما ذخرت من صلاتها. قال ابن النشّار: فقال له أبي: ما سمعت بأحسن من هذا الحديث و لا أعجب ممّا وفّقه اللّه لك فيه.
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبي قال:
دخل حسين بن الضحّاك على محمد الأمين بعقب وقعة أوقعها أهل بغداد بأصحاب طاهر(2) فهزموهم و فضحوهم؛ فهنّأه بالظّفر ثم استأذنه في الإنشاد، فأذن له فأنشده:
أمين اللّه ثق باللّ *** ه تعط العزّ و النّصره
كل الأمر إلى اللّه *** كلاك(3) اللّه ذو القدره
/لنا النصر بإذن اللّ *** ه و الكرّة لا(4) الفرّه
/و للمرّاق أعدائ *** ك يوم السّوء و الدّبره(5)
و كأس تورد الموت *** كريه طعمها مرّه
سقونا و سقيناهم *** فكانت بهم الحرّه
كذاك الحرب أحيانا *** علينا و لنا مرّه
فأمر له بعشرة آلاف درهم، و لم يزل يتبسم و هو ينشده.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى أبو الحمار قال:
قال لي الحسين بن الضحّاك: شربنا يوما مع الأمين في بستان، فسقانا على الرّيق، و جدّ بنا في الشرب، و تحرّز من أن نذوق شيئا. فاشتدّ الأمر عليّ، و قمت لأبول، فأعطيت خادما من الخدم ألف درهم على أن يجعل لي
ص: 150
تحت شجرة أومأت إليها رقاقة فيها لحم، فأخذ الألف و فعل ذلك. و وثب محمد فقال: من يكون منكم حماري؟ فكلّ واحد منهم قال له: أنا، لأنه كان يركب الواحد منا عبثا ثم يصله؛ ثم قال: يا حسين، أنت أضلع(1) القوم.
فركبني و جعل يطوف و أنا أعدل به عن الشجرة و هو يمرّ بي إليها حتى صار تحتها، فرأى الرّقاقة فتطأطأ فأخذها فأكلها على ظهري، و قال: هذه جعلت لبعضكم؛ ثم رجع إلى مجلسه و ما وصلني بشيء. فقلت لأصحابي: أنا أشقى الناس، ركب ظهري و ذهب ألف درهم منّي و فاتني ما يمسك رمقي و لم يصلني كعادتي، ما أنا إلا كما قال الشاعر:
و مطعم الصيد يوم الصيد مطعمه *** أنّى توجّه و المحروم محروم
حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد النّحويّ المبرّد قال: كان حسين بن الضحّاك الأشقر، و هو الخليع، يهوى جارية لأمّ جعفر، و كانت/من أجمل الجواري، و كان لها صدغان معقربان، و كانت تخرج إليه إذا جاء فتقول له: ما قلت فينا؟ أنشدنا منه شيئا؛ فيخرج إليها الصحيفة، فتقول له: اقرأ معي، فيقرأ معها حتى تحفظه ثم تدخل و تأخذ الصحيفة. فشكا ذلك إلى عاصم الغسّانيّ الذي كان يمدحه سلّم الخاسر و كان مكينا عند أم جعفر، و سأله أن يستوهبها له فاستوهبها، فأبت عليه أمّ جعفر؛ فوجّه إلى الخليع بألف دينار و قال: خذ هذا الألف؛ فقد جهدت الجهد كلّه فيها فلم تمكني حيلة. فقال الحسين في ذلك:
رمتك غداة السبت شمس من الخلد(2) *** بسهم الهوى عمدا و موتك في العمد
مؤزّرة السّربال مهضومة الحشا *** غلاميّة التقطيع شاطرة(3) القدّ
محنّأة الأطراف رؤد شبابها *** معقربة الصّدغين كاذبة الوعد
أقول و نفسي بين شوق و زفرة *** و قد شخصت عيني و دمعي على الخدّ
أجيزي على من قد تركت فؤاده *** بلحظته بين التأسّف و الجهد
فقالت عذاب بالهوى مع قربكم *** و موت إذا أقرحت(4) قلبك بالبعد
لقد فطنت للجور فطنة عاصم *** لصنع الأيادي الغرّ في طلب الحمد
سأشكوك في الأشعار غير مقصّر *** إلى عاصم ذي المكرمات و ذي المجد
/لعلّ فتى غسّان يجمع بيننا *** فيأمن قلبي منكم روعة الصّدّ
حدّثني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني هارون بن مخارق قال:
ص: 151
أقطع المعتصم الناس الدّور بسرّمن رأى و أعطاهم النفقات لبنائها، و لم يقطع الحسين بن الضحّاك شيئا.
/
يا أمين اللّه لا خطّة(1) لي *** و لقد أفردت صحبي بخطط
أنا في دهياء من مظلمة *** تحمل الشيخ على كلّ غلط
صعبة المسلك يرتاع لها *** كلّ من أصعد فيها و هبط
بوّني(2) منك كما بوّأتهم *** عرصة تبسط طرفي ما انبسط
أبتني فيها لنفسي موطنا *** و لعقبي فرطا بعد فرط
لم يزل منك قريبا مسكني *** فأعد لي عادة القرب فقط
كلّ من قرّبته مغتبط(3)*** و لمن أبعدت خزي و سخط
قال: فأقطعه دارا و أعطاه ألف دينار لنفقته عليها.
أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال أخبرني عمّي الفضل عن الحسين بن الضحّاك قال:
كنت أمشي مع أبي العتاهية، فمررت بمقبرة و فيها باكية تبكي بصوت شج على ابن لها. فقال أبو العتاهية:
أ ما تنفكّ باكية بعين *** غزير دمعها كمد حشاها
أجز يا حسين؛ فقلت:
تنادي حفرة أعيت جوابا *** فقد ولهت(4) و صمّ بها صداها(5)
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى قال حدّثني الحسين بن الضحّاك قال:
كنت عازما على أن أرثي الأمين(6) بلساني كلّه و أشفي لوعتي. فلقيني أبو العتاهية فقال لي: يا حسين، أنا إليك مائل و لك محبّ، و قد علمت مكانك من الأمين، و إنه لحقيق بأن ترثيه، إلاّ أنك قد أطلقت لسانك من التلهّف عليه و التوجّع له بما صار هجاء لغيره و ثلبا له و تحريضا عليه، و هذا المأمون منصب إلى العراق قد أقبل عليك؛ فأبق على نفسك؛ يا ويحك! أ تجسر على أن تقول:
ص: 152
تركوا
حريم أبيهم نفلا(1)*** و المحصنات صوارخ هتف
هيهات بعدك أن يدوم لهم *** عزّ و أن يبقى لهم شرف
اكفف غرب لسانك و اطو ما انتشر عنك و تلاف ما فرط منك. فعلمت أنه قد نصحني فجزيته الخير، و قطعت القول فنجوت برأيه و ما كدت أن أنجو.
حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني أبو العيناء قال:
وقف علينا حسين بن الضحّاك و معنا فتى جالس من أولاد الموالي جميل الوجه، فحادثنا طويلا و جعل يقبل على الفتى بحديثه و الفتى معرض عنه حتى طال ذلك؛ ثم أقبل عليه الحسين فقال:
تتيه علينا أن رزقت ملاحة *** فمهلا علينا بعض تيهك يا بدر
/لقد طالما كنّا ملاحا و ربما *** صددنا و تهنا ثم غيّرنا الدهر
و قام فانصرف.
أخبرني الحسن بن(2) القاسم الكوفيّ قال حدّثني ابن عجلان قال:
غنّى بعض المغنّين في مجلس محمد المخلوع بشعر حسين بن الضحّاك، و هو:
أ لست ترى ديمة تهطل *** و هذا صباحك مستقبل
و هذي العقار و قد راعنا *** بطلعته الشادن الأكحل
فعاد به و بنا سكرة *** تهوّن مكروه ما نسأل
فإني رأيت له نظرة(3) *** تخبّرنا أنه يفعل
قال: فأمر بإحضار حسين فأحضر، و قد كان محمد شرب أرطالا. فلما مثل بين يديه أمر فسقي ثلاثة أرطال، فلم يستوفها الحسين حتى غلبه السكر و قذف، فأمر بحمله إلى منزله فحمل. فلما أفاق كتب إليه:
إذا كنت في عصبة *** من المعشر الأخيب
و لم يك لي مسعد *** نديم سوى جعدب
ص: 153
فأشرب من رملة(1) *** و أسهر من قطرب(2)
و لمّا حباني الزما *** ن من حيث لم أحسب
و نادمت بدر السما *** ء في فلك الكوكب
/أبت لي غضوضيّتي(3) *** و لؤم من المنصب
فأسكرني مسرعا *** قويّ من المشرب
كذا النذل ينبو به *** منادمة المنجب
قال: فردّه إلى منادمته و أحسن جائزته و صلته.
أخبرني الكوكبيّ قال حدّثني عليّ بن محمد بن نصر عن خالد بن حمدون: أن الحسين بن الضحاك أنشده - و قد عاتبه خادم(4) من خدّام أبي أحمد بن الرشيد كان حسين يتعشّقه و لامه في أن قال فيه شعرا و غنّى فيه عمرو بن بانة؛ فقال حسين فيه -:
فدّيت من قال لي على خفره *** و غضّ جفنا له على حوره
سمّع بي شعرك المليح فما *** ينفكّ شاد به على وتره
فقلت يا مستعير سالفة ال *** خشف و حسن الفتور من نظره
لا تنكرنّ الحنين من طرب *** عاود فيك الصّبا على كبره
و غنّى فيه عمرو بن بانة هزجا مطلقا.
أخبرني الكوكبيّ قال حدّثني أبو سهل بن نوبخت(5) عن عمرو بن بانة قال:
لما مات أبو نواس كتب حسين بن الضحّاك على قبره:
كابر نيك الزمان يا حسن *** فخاب سهمي و أفلح الزمن
ص: 154
ليتك إذ لم تكن بقيت لنا *** لم تبق روح يحوطها بدن
/أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبي قال:
كان في جوار الحسين بن الضحّاك طبيب يداوي الجراحات يقال له نصير، و كان مخنّثا؛ فإذا كانت وليمة دخل مع المخنّثين، و إذا لم تكن عالج الجراحات. فقال فيه الحسين بن الضحّاك:
نصير ليس لمرد من شأنه *** نصير طبّ بالنّكاريش(1)
يقول للنّكريش في خلوة *** مقال ذي لطف و تجميش(2)
هل لك أن نلعب في فرشنا *** تقلّب الطير المراعيش(3)
يعني المبادلة. فكان نصير بعد ذلك يصيح به الصبيان: «يا نصير نلعب تقلّب الطير المراعيش» فيشتمهم و يرميهم بالحجارة.
حدّثني جعفر قال حدّثني عليّ بن يحيى عن حسين بن الضحّاك قال:
أنشدت ابن مناذر قصيدتي التي أقول فيها:
لفقدك ريحانة العسكر
و كانت من أوّل ما قلته من الشعر؛ فأخذ رداءه و رمى به إلى السقف و تلقاه برجله و جعل يردّد هذا البيت.
فقلنا لحسين: أ تراه فعل ذلك استحسانا لما قلت؟ فقال لا؛ فقلنا: فإنما فعله طنزا(4) بك؛ فشتمه و شتمنا. و كنّا بعد ذلك نسأله إعادة هذا البيت فيرمي بالحجارة و يجدّد شتم ابن مناذر بأقبح ما يقدر عليه.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن أبي كامل قال:
مررت بباب حسين بن الضحّاك، و إذا أبو يزيد السّلوليّ و أبو حزرة الغنويّ و هما ينتظران المحاربيّ و قد استؤذن لهم على ابن الضحّاك؛ فقلت لهما: لم لا تدخلان؟ فقال أبو يزيد: ننتظر اللؤم أن يجتمع، فليس في الدنيا أعجب مما اجتمع منا، الغنويّ و السّلوليّ ينتظران المحاربيّ ليدخلوا على باهليّ.
ص: 155
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
كان الواثق يميل إلى الفتح بن خاقان(1) و يأنس به و هو يومئذ غلام، و كان الفتح ذكيّا جيّد الطبع و الفطنة. فقال له المعتصم يوما و قد دخل على أبيه خاقان عرطوج: يا فتح أيّما أحسن: داري أو دار أبيك؟ فقال له و هو غير متوقّف و هو صبيّ له سبع سنين أو نحوها: دار أبي إذا كنت فيها؛ فعجب منه و تبنّاه. و كان الواثق له بهذه المنزلة، و زاد المتوكل عليهما. فاعتلّ الفتح في أيام الواثق علّة صعبة ثم أفاق و عوفي، فعزم الواثق على الصّبوح، فقال لي:
يا حسين، اكتب بأبيات عنّي إلى الفتح تدعوه إلى الصّبوح؛ فكتبت إليه:
/
لمّا اصطبحت و عين اللهو ترمقني *** قد لاح لي باكرا في ثوب بذلته
ناديت فتحا و بشّرت المدام به *** لمّا تخلّص من مكروه علّته
ذبّ الفتى عن حريم الراح مكرمة *** إذا رآه امرؤ ضدّا لنحلته
فاعجل إلينا و عجّل بالسرور لنا *** و خالس الدهر في أوقات غفلته
فلما قرأها الفتح صار إليه فاصطبح معه.
أخبرني عمّي(2) قال حدّثني يعقوب بن نعيم و عبد اللّه بن أبي سعد قالا حدّثنا محمد بن محمد الأنباريّ قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
/كنت عند عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الربيع و هو مصطبح و خادم له يسقيه؛ فقال لي: يا أبا عليّ، قد استحسنت سقي هذا الخادم؛ فإن حضرك شيء في قصّتنا هذه فقل؛ فقلت:
أحيت صبوحي فكاهة اللاهي *** و طاب يومي بقرب أشباهي
فاستثر اللهو من مكامنه *** من قبل يوم منغّص ناهي
بابنة كرم من كفّ منتطق *** مؤتزر بالمجون تيّاه
يسقيك من طرفه و من يده *** سقي لطيف مجرّب داهي
كأسا فكأسا كأن شاربها *** حيران بين الذّكور و الساهي
ص: 156
قال: فاستحسنه عبد اللّه و غنّى فيه لحنا مليحا و شربنا عليه بقيّة يومنا.
أخبرني عليّ بن العباس قال حدّثني سوادة بن الفيض عن أبيه قال:
اتفق حسين بن الضحّاك و يسر مرّة عند بعض إخوانهما و شربا و ذلك في العشر الأواخر من شعبان. فقال حسين ليسر: يا سيّدي، قد هجم الصوم علينا، فتفضّل بمجلس نجتمع فيه قبل هجومه فوعده بذلك؛ فقال له: قد سكرت و أخشى/أن يبدو لك؛ فحلف له يسر أنّه يفي. فلما كان من الغد كتب إليه حسين و سأله الوفاء، فجحد الوعد و أنكره. فكتب إليه يقول:
تجاسرت على الغدر *** كعاداتك في الهجر
فأخلفت و ما استخلف *** ت من إخوانك الزّهر
لئن خست(1) لما ذل *** ك من فعلك بالنّكر
و ما أقنعني فعل *** ك يا مختلق العذر
بنفسي أنت إن سؤت *** فلا بدّ من الصبر
و إن جرّعني الغيظ *** و إن خشّن بالصدر(2)
و لو لا فرقي منك *** لسمّيتك في الشعر
و عنّفتك لا آلو *** و إن جزت مدى العذر(3)
أ ما تخرج من إخلا *** ف ميعادك في العشر
غدا يفطمنا الصوم *** عن الرّاح إلى الفطر
قال: فسألت الحسين بن الضحاك عمّا أثّر له هذا الشعر و ما كان الجواب؛ فقال: كان أحسن جواب و أجمل فعل، كان اجتماعنا قبل الصوم في بستان لمولاه، و تمّمنا سرورنا و قضينا أوطارنا إلى الليل، و قلت في ذلك:
سقى اللّه بطن الدّير من مستوى السّفح *** إلى ملتقى النّهرين فالأثل(4) فالطّلح(5)
ملاعب قدن القلب قسرا إلى الهوى *** و يسّرن ما أمّلت من درك النّجح
/أ تنسى فلا أنسى عتابك بينها *** حبيبك حتى انقاد عفوا إلى الصلح
سمحت لمن أهوى بصفو مودّتي *** و لكنّ من أهواه صيغ على الشّحّ
ص: 157
قال عليّ بن العبّاس: و أنشدني سوادة بن الفيض عن أبيه لحسين بن الضحّاك يصف أياما/مضت له بالبصرة و يومه بالقفص(1) و مجيء يسر إليه، و كان يسر سأله أن يقول في ذلك شعرا:
تيسّري للّمام(2) من أمم *** و لا تراعي حمامة الحرم
قد غاب - لا آب - من يراقبنا *** و نام - لا قام - سامر الخدم
فاستصحبي مسعدا يفاوضنا *** إذا خلونا في كلّ مكتتم
تبذّلي بدلة تقرّ بها ال *** عين و لا تحصري و تحتشمي
ليت نجوم السماء راكدة *** على دجى ليلنا فلم ترم
ما لسروري بالشكّ ممتزجا(3) *** حتى كأنّي أراه في حلم
فرحت حتى استخفّني فرحي *** و شبت عين اليقين بالتّهم
أمسح عيني مستثبتا نظري *** أخالني نائما و لم أنم
سقيا لليل أفنيت مدّته *** ببارد الرّيق طيّب النّسم
أبيض مرتجّة روادفه *** ما عيب من قرنه(4) إلى القدم
إذ قصبات العريش تجمعنا *** حتى تجلّت أواخر الظّلم
/و ليلة بتّها محسّدة(5) *** محفوفة بالظنون و التّهم
أبثّ عبراته على غصص *** يردّ أنفاسه إلى الكظم(6)
سقيا لقيطونها(7) و مخدعها *** كم من لمام به و من لمم
لا أكفر السّيلحين(8) أزمنة *** مطيعة بالنّعيم و النّعم
و ليلة القفص إن سألت بها *** كانت شفاء لعلّة السّقم
بات أنيسي صريع خمرته *** و تلك إحدى مصارع الكرم
ص: 158
و بتّ عن موعد سبقت به *** ألثم درّا مفلّجا بفم
وا بأبي من بدا بروعة «لا» *** و عاد من بعدها إلى «نعم»
أباحني نفسه و وسّدني *** يمنى يديه و بات ملتزمي
حتى إذا اهتاجت النوافس في *** سحرة أحوى أحمّ كالحمم
و قلت هبّا يا صاحبيّ و *** نبّهت أبانا فهبّ كالزّلم(1)
فاستنّها كالشّهاب ضاحكة *** عن بارق في الإناء مبتسم
صفراء زيتيّة موشّحة *** بأرجوان ملمّع ضرم
أخذت ريحانة أراح لها *** دبّ سروري بها دبيب دمي
فراجع العذر إن بدا لك في ال *** عذر و إن عدت لائما فلم
أخبرني عليّ بن العبّاس قال حدّثني سوادة بن الفيض المخزوميّ قال حدّثني المعتمر بن الوليد المخزوميّ قال: قال لي الحسين بن الضحّاك و هو على شراب له: ويحكم أحدّثكم عن يسر بأعجوبة؟ قلنا: هات. قال: بلغ مولاه أنه جر له مع أخيه سبب، فحجبه كما تحجب النساء، و أمر بالحجر عليه، و أمره ألاّ يخرج عن داره إلا و معه حافظ له موكّل به. فقلت في ذلك:
/
ظنّ من لا كان ظنّا *** بحبيبي فحماه
أرصد الباب رقيبي *** ن له فاكتنفاه
فإذا ما اشتاق قربي *** و لقائي منعاه
جعل اللّه رقيبي *** ه من السوء فداه
و الذي أقرح في الشا *** دن قلبي و لواه
كلّ مشتاق إليه *** فمن السوء فداه
سيّما من حالت الأح *** راس من دون مناه
أخبرني عليّ بن العبّاس قال حدّثنا أحمد بن العباس الكاتب قال حدّثني عبد اللّه بن زكريّا الضّرير قال:
قال أبو نواس: قال لي حسين بن الضحّاك يوما: يا أبا عليّ، أما ترى غضب يسر عليّ! فقلت له: و ما كان سبب ذلك؟ قال: حال أردتها منه فمنعنيها فغضبت؛ فأسألك أن تصلح بيني و بينه. فقلت: و ما تحبّ أن أبلغه عنك؟ قال: تقول له:
ص: 159
بحرمة السّكر و ما كانا *** عزمت أن تقتل إنسانا!
أخاف أن تهجرني صاحيا *** بعد سروري بك سكرانا
/إنّ بقلبي روعة كلما *** أضمر لي قلبك هجرانا
يا ليت ظنّي أبدا كاذب *** فإنه يصدق أحيانا
قال: فقلت له: ويحك! أ تجتنبه و تريد أن تترضّاه و ترسل إليه بمثل هذه الرسالة! فقال لي: أنا أعرف به، و هو كثير التبذّل(1)، فأبلغه ما سألتك؛ فأبلغته فرضي عنه و أصلحت بينهما.
حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال:
جاءني يوما حسين بن الضحّاك، فقلت له: أيّ شيء كان خبرك أمس؟ فقال لي: اسمعه شعرا و لا أزيدك على ذلك و هو أحسن؛ فقلت: هات يا سيّدي؛ فقال:
زائرة زارت على غفلة *** يا حبّذا الزّورة و الزائره
فلم أزل أخدعها ليلتي *** خديعة السّاحر للسّاحره
حتى إذا ما أذعنت بالرّضا *** و أنعمت دارت بها الدائره
بتّ إلى الصبح بها ساهرا *** و باتت الجوزاء بي ساهره
أفعل ما شئت بها ليلتي *** و ملء عيني نعمة ظاهره
فلم ننم إلاّ على تسعة *** من غلمة بي و بها ثائره
سقيا لها لا لأخي شعرة *** شعرته كالشّعرة الوافرة
و بين رجليه له حربة *** مشهورة في حقوه(2) شاهره
و في غد يتبعها لحية *** تلحقه بالكرّة الخاسره
قال: فقلت له: زنيت يعلم اللّه إن كنت صادقا. فقال: قل أنت ما شئت.
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أبو العيناء قال:
دخل حسين بن الضحاك على الواثق في خلافة المعتصم/في يوم طيّب، فحثّه على الصّبوح فلم ينشط له.
فقال: اسمع ما قلت؛ قال: هات؛ فأنشده:
استثر اللهو من مكامنه *** من قبل يوم منغّص ناهي
بابنة كرم من كفّ منتطق *** مؤتزر بالمجون تيّاه
ص: 160
يسقيك من لحظه و من يده *** سقى لطيف مجرّب داهي
كأسا فكأسا كأنّ شاربها *** حيران بين الذّكور و السّاهي
قال: فنشط الواثق و قال: إنّ فرصة العيش لحقيقة أن تنتهز؛ و اصطبح و وصل الحسين.
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم(1) بن مهرويه قال حدّثني أبو الشّبل عاصم بن وهب البرجمي قال:
حجّ الحسين بن الضحّاك، فمرّ في منصرفه على موضع يعرف بالقريتين(2)، فإذا جارية تطّلع في ثيابها و تنظر في حرها ثم تضربه بيدها و تقول: ما أضيعني و أضيعك! فأنشأ يقول:
مررت بالقريتين منصرفا *** من حيث يقضي ذوو النّهى النّسكا
إذا فتاة كأنها قمر *** للتّم لمّا توسّط الفلكا
واضعة كفّها على حرها *** تقول يا ضيعتي و ضيعتكا
/قال: فلما سمعت قوله ضحكت و غطّت وجهها و قالت: وا فضيحتاه! أ و قد سمعت ما قلت!.
حدّثني محمد الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن هارون قال:
كان الحسين بن الضحّاك صديقا لأبي، و كنت ألقاه معه كثيرا، و كانت نفسه قد تتبّعت شفيعا بعد انصرافه من مجلس المتوكل؛ فأنشدنا لنفسه فيه:
و أبيض في حمر الثياب كأنه *** إذا ما بدا نسرينة(3) في شقائق
سقاني بكفّيه رحيقا و سامني *** فسوقا بعينيه و لست بفاسق
و أقسم لو لا خشية اللّه وحده *** و من لا أسمّي كنت أوّل عاشق
و إنّي لمعذور على وجناته *** و إن و سمتني شيبة في المفارق
و لا عشق لي أو يحدث الدهر شرّة *** تعود بعادات الشباب المفارق
و لو كنت شكلا للصّبا لاتّبعته *** و لكن سنّي بالصّبا غير لائق
ص: 161
حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا ميمون بن هارون قال:
كان للحسين بن الضحّاك ابن يسمّى محمدا، له أرزاق، فمات فقطعت أرزاقه. فقال يخاطب المتوكّل و يسأله أن يجعل أرزاق ابنه المتوفّى لزوجته و أولاده:
إنّي أتيتك شافعا *** بوليّ عهد المسلمينا
و شبيهك المعتزّ أو *** جه شافع في العالمينا
يا ابن الخلائق الأوّلي *** ن و يا أبا المتأخّرينا
إنّ ابن عبدك مات وا *** لأيّام تخترم القرينا
و مضى و خلّف صبية *** بعراصه متلدّدينا(1)
/و مهيرة عبرى خلا *** ف أقارب مستعبرينا
أصبحن في ريب الحوا *** دث يحسنون بك الظّنونا
قطع الولاة جراية *** كانوا بها مستمسكينا
فامنن بردّ جميع ما *** قطعوه غير مراقبينا
أعطاك أفضل ما تؤوي *** مل أفضل المتفضّلينا
قال: فأمر المتوكل له بما سأل. فقال يشكره:
يا خير مستخلف من آل عبّاس *** اسلم و ليس على الأيّام من باس
أحييت من أملي نضوا تعاوره *** تعاقب اليأس حتى مات بالياس
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال:
كنّا في مجلس و معنا حسين بن الضحّاك و نحن على نبيذ؛ فعبث بالمغنّية و جمّشها(2)؛ فصاحت عليه و استخفّت به. فأنشأ يقول:
لها في وجهها عكن *** و ثلثا وجهها ذقن
و أسنان كريش *** البطّ بين أصولها عفن
قال: فضحكنا، و بكت المغنّية حتى قلت قد عميت؛ و ما انتفعنا بها بقيّة يومنا. و شاع هذان البيتان فكسدت من أجلهما. و كانت إذا حضرت في موضع أنشدوا البيتين فتجنّ. ثم هربت من سرّ من رأى، فما عرفنا لها بعد ذلك خبرا.
ص: 162
قال جعفر و حدّثنا أبو العيناء أنه حضر هذا المجلس، و حكى مثل ما حكاه محمد.
حدّثني عمّي قال حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ قال:
/سألت حسين بن الضحّاك و نحن في مجلس المتوكل عن سنّه؛ فقال: لست أحفظ السنة التي ولدت فيها بعينها، و لكنّي أذكر و أنا بالبصرة موت شعبة بن الحجّاج سنة ستين و مائة.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عليّ بن محمد بن نصر قال حدّثني خالي (يعني أحمد بن حمدون) قال:
أمر المتوكل أن ينادمه حسين بن الضحّاك و يلازمه؛ فلم يطق ذلك لكبر سنّه. فقال للمتوكل بعض من حضر عنده: هو يطيق الذّهاب إلى القرى و المواخير و السكر فيها و يعجز عن خدمتك!. فبلغه ذلك، فدفع إليّ أبياتا قالها و سألني إيصالها؛ فأوصلتها إلى المتوكّل، و هي:
أ ما في ثمانين وفّيتها *** عذير و إن أنا لم أعتذر
فكيف و قد جزتها صاعدا *** مع الصّاعدين بتسع أخر
و قد رفع اللّه أقلامه *** عن ابن ثمانين دون البشر
سوى من أصرّ على فتنة *** و ألحد في دينه أو كفر
و إنّي لمن أسراء الإل *** ه في الأرض نصب صروف القدر
فإن يقض لي عملا صالحا *** أثاب و إن يقض شرّا غفر
فلا تلح في كبر هدّني *** فلا ذنب لي أن بلغت الكبر
هو الشيب حلّ بعقب الشباب *** فأعقبني خورا من أشر
/و قد بسط اللّه لي عذره *** فمن ذا يلوم إذا ما عذر
و إنّي لفي كنف مغدق *** و عزّ بنصر أبي المنتصر
يباري الرياح بفضل السما *** ح حتى تبلّد أو تنحسر
/له أكّد الوحي ميراثه *** و من ذا يخالف وحي السّور
و ما للحسود و أشياعه *** و من كذّب الحقّ إلا الحجر
قال ابن حمدون: فلما أوصلتها شيّعتها بكلامي أعذره، و قلت: لو أطاق خدمة أمير المؤمنين لكان أسعد بها.
فقال المتوكل: صدقت، خذ له عشرين ألف درهم و احملها إليه؛ فأخذتها فحملتها إليه.
حدّثني عمّي قال حدّثني عليّ بن محمد بن نصر قال حدّثني خالي عن حسين بن الضحّاك قال:
ضربني الرشيد في خلافته لصحبتي ولده، ثم ضربني الأمين لممايلة ابنه عبد اللّه، ثم ضربني المأمون لميلي إلى
ص: 163
محمد، ثم ضربني المعتصم لمودّة كانت بيني و بين العبّاس بن المأمون، ثم ضربني الواثق لشيء بلغه من ذهابي إلى المتوكّل، و كلّ ذلك يجري مجرى الولع بي و التحذير لي. ثم أحضرني المتوكّل و أمر شفيعا بالولع بي، فتغاضب المتوكّل عليّ. فقلت له: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد أن تضربني كما ضربني آباؤك، فاعلم أنّ آخر ضرب(1)ضربته بسببك. فضحك و قال: بل أحسن إليك يا حسين و أصونك و أكرمك.
حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل قال حدّثني محمد بن محمد بن مروان الأبزاريّ (2) قال:
دخلت على حسين بن الضحّاك، فقلت له: كيف أنت؟ جعلني اللّه فداءك! فبكى ثم أنشأ يقول:
أصبحت من أسراء اللّه محتبسا *** في الأرض نحو قضاء اللّه و القدر
إنّ الثمانين إذ وفّيت عدّتها *** لم تبق باقية منّي و لم تذر
ص: 164
قال أبو الفرج: أبو زكّار هذا رجل من أهل بغداد من قدماء المغنّين، و كان منقطعا إلى آل برمك، و كانوا يؤثرونه و يفضلون عليه إفضالا.
فحدّثني محمد بن جعفر بن قدامة قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ قال: سمعت مسرورا يحدّث أبي قال:
لمّا أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى، دخلت عليه و عنده أبو زكّار الأعمى و هو يغنّيه بصوت لم أسمع بمثله:
فلا تبعد(1) فكلّ فتى سيأتي *** عليه الموت يطرق أو يغادي
و كلّ ذخيرة لا بدّ يوما *** و إن بقيت تصير إلى نفاد
و لو يفدى من الحدثان شيء *** فديتك بالطّريف و بالتّلاد
فقلت له: في هذا و اللّه أتيتك! فأخذت بيده فأقمته و أمرت بضرب عنقه. فقال لي أبو زكّار: نشدتك اللّه إلاّ ألحقتني به. فقلت: و ما رغبتك في ذلك؟ قال: إنه أغناني عمّن سواه بإحسانه، فما أحبّ أن أبقى بعده. فقلت:
أستأمر أمير المؤمنين في ذلك. فلما أتيت الرشيد برأس جعفر أخبرته بقصّة أبي زكّار؛ فقال لي: هذا رجل فيه مصطنع، فاضممه إليك و انظر/ما كان يجريه عليه فأتممه له.
حدّثني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق قال:
غنّى علّويه يوما بحضرة أبي؛ فقال أبي: مه! هذا الصوت معرق(2) في العمى. الشّعر لبشّار الأعمى، و الغناء لأبي زكّار الأعمى، و أوّل الصوت «عميت أمري».
ص: 165
ما جرت خطرة على القلب منّي *** فيك إلا استترت عن أصحابي
من دموع تجري، فإن كنت وحدي *** خاليا أسعدت دموعي انتحابي
إن حبّي إيّاك قد سلّ جسمي *** و رماني بالشيب قبل الشباب
لو منحت اللقا شفى بك صبّا *** هائم القلب قد ثوى في التراب
الشعر في الأبيات للسيّد الحميريّ. و الغناء لمحمد نعجة الكوفيّ، مغنّ غير مشهور و لا ممّن خدم الخلفاء و ليس له خبر. و لحنه المختار ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر. و ذكر حبش أن لمحمد نعجة فيه أيضا خفيف رمل بالبنصر.
ص: 166
السيّد لقبه. و اسمه إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرّغ الحميريّ. و يكنى أبا هاشم. و أمه امرأة من الأزد ثم من بني الحدّان. و جدّه يزيد بن ربيعة، شاعر مشهور، و هو الذي هجا زيادا(1) و بنيه و نفاهم عن آل حرب؛ و حبسه عبيد(2) اللّه بن زياد لذلك و عذّبه، ثم أطلقه معاوية. و خبره في هذا طويل يذكر في موضعه(3) مع سائر أخباره؛ إذ كان الغرض هاهنا ذكر أخبار السيّد.
و وجدت في بعض الكتب عن إسحاق بن محمد النّخعيّ قال: سمعت ابن عائشة و القحذميّ يقولان: هو يزيد بن مفرّغ، و من قال: إنه يزيد بن معاوية فقد/أخطأ. و مفرّغ لقب ربيعة؛ لأنه راهن أن يشرب عسّا من لبن فشربه حتى فرّغه؛ فلقّب مفرّغا. و كان شعّابا(4) بسيالة، ثم صار إلى البصرة.
و كان شاعرا متقدّما مطبوعا. يقال: إن أكثر الناس شعرا في الجاهلية و الإسلام ثلاثة: بشّار، و أبو العتاهية، و السيّد؛ فإنه لا يعلم أن أحدا قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع.
و إنما مات ذكره و هجر الناس شعره لما كان يفرط فيه من سبّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أزواجه في شعره و يستعمله من قذفهم و الطعن عليهم، /فتحومي شعره من هذا الجنس و غيره لذلك، و هجره الناس تخوّفا و تراقبا(5). و له طراز من الشعر و مذهب قلّما يلحق فيه أو يقاربه. و لا يعرف له من الشعر كثير. و ليس يخلو من مدح بني هاشم أو ذمّ غيرهم ممّن هو عنده ضدّ لهم. و لو لا أنّ أخباره كلّها تجري هذا المجرى و لا تخرج عنه لوجب ألاّ نذكر منها شيئا؛ و لكنّا شرطنا أن نأتي بأخبار من نذكره من الشعراء؛ فلم نجد بدّا من ذكر أسلم ما وجدناه له و أخلاها من سيّئ اختياره(6) على قلّة ذلك..
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن إسماعيل بن الساحر راوية السيّد، قال ابن عمّار و حدّثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه:
ص: 167
أن أبوى السيّد كانا إباضيّين(1)، و كان منزلهما بالبصرة في غرفة بني ضبّة، و كان السيّد يقول: طالما سبّ أمير المؤمنين في هذه الغرفة. فإذا سئل عن التشيّع من أين وقع له، قال: غاصت عليّ الرحمة غوصا.
و روي عن السيّد أن أبويه لمّا علما بمذهبه همّا بقتله؛ فأتى عقبة(2) بن سلّم الهنائيّ فأخبره بذلك، فأجاره و بوّأه منزلا وهبه له، فكان فيه حتى ماتا فورثهما.
و قد أخبرني الحسن(3) بن علي البرّيّ عن محمد بن عامر عن القاسم بن الرّبيع عن أبي داود سليمان بن سفيان المعروف بالحنزق(4) راوية السيّد الحميريّ قال: ما مضى و اللّه إلاّ على مذهب الكيسانيّة(5). و هذه القصائد التي يقولها الناس مثل:
تجعفرت باسم اللّه و اللّه أكبر
و
تجعفرت باسم اللّه فيمن تجعفرا
و قوله:
أيا راكبا نحو المدينة جسرة(6) *** عذافرة تهوي بها كلّ سبسب
إذا ما هداك اللّه لاقيت جعفرا *** فقل يا أمين اللّه و ابن المهذّب
لغلام للسيّد يقال له قاسم الخيّاط، قالها و نحلها للسيّد، و جازت على كثير من الناس ممّن لم يعرف خبرها، بمحل قاسم منه و خدمته إيّاه.
أخبرني أحمد قال حدّثني محمد بن عبّاد عن أبي عمرو الشّيبانيّ عن لبطة(1) بن الفرزدق قال:
/تذاكرنا الشعراء عند أبي، فقال: إن هاهنا لرجلين لو أخذا في معنى الناس لما كنّا معهما في شيء. فسألناه من هما؟ فقال: السيّد الحميريّ و عمران بن حطّان السّدوسيّ (2)، و لكنّ اللّه عزّ و جلّ قد شغل كلّ واحد منهما بالقول في مذهبه.
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثني/عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني أبو جعفر ابن بنت الفضيل(3) بن بشار قال:
كان السيّد أسمر، تامّ الخلقة، أشنب، ذا وفرة، حسن الألفاظ، و كان مع ذلك أنتن الناس إبطين، لا يقدر أحد على الجلوس معه لنتن رائحتهما.
قال حدّثني التّوزيّ قال: رأى الأصمعيّ جزءا فيه من شعر السيّد، فقال: لمن هذا؟ فسترته عنه لعلمي بما عنده فيه؛ فأقسم عليّ أن أخبره فأخبرته؛ فقال: أنشدني قصيدة منه؛ فأنشدته ثم أخرى و هو يستزيدني، ثم قال:
قبحه اللّه ما أسلكه لطريق الفحول! لو لا مذهبه و لو لا ما في شعره ما قدّمت عليه أحدا من طبقته.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم قال: سمعت أبا عبيدة يقول: أشعر المحدثين السيّد الحميريّ و بشار.
ابن الساحر راويته: و اللّه ما رجع عن ذلك و لا القصائد الجعفريّات إلا منحولة له قيلت بعده. و آخر عهدي به قبل موته بثلاث و قد سمع رجلا(1) يروى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال لعليّ عليه السّلام: «إنه سيولد لك بعدي ولد و قد نحلته اسمي و كنيتي» فقال في ذلك و هي آخر قصيدة قالها:
أ شاقتك المنازل بعد هند *** و تربيها و ذات الدّلّ دعد
منازل أقفرت منهنّ محّت(2) *** معالمهن من سبل(3) و رعد
و ريح حرجف(4) تستنّ فيها *** بسافي التّرب تلحم ما تسدّي
أ لم يبلغك و الأنباء تنمي *** مقال محمد فيما يؤدّي
إلى ذي علمه الهادي على *** و خولة خادم في البيت تردي(5)
/أ لم تر أنّ خولة سوف تأتي *** بواري الزّند صافي الخيم(6) نجد
يفوز بكنيتي و اسمي لأنّي *** نحلتهماه(7) و المهديّ بعدي
يغيّب عنهم حتى يقولوا *** تضمّنه بطيبة بطن لحد
سنين و أشهرا و يرى برضوى *** بشعب بين أنمار و أسد
مقيم بين آرام و عين *** و حفّان(8) تروح خلال ربد
تراعيها السّباع و ليس منها *** ملاقيهنّ مفترسا بحدّ
أمنّ به الرّدى فرتعن طورا(9) *** بلا خوف لدى مرعى و ورد
حلفت بربّ مكة و المصلّى *** و بيت طاهر الأركان فرد
يطوف به الحجيج و كلّ عام *** يحلّ لديه وفد بعد وفد
لقد كان ابن خولة غير شك *** صفاء ولايتي و خلوص ودّي
فما أحد أحبّ إليّ فيما *** أسرّ و ما أبوح به و أبدي
سوى ذي الوحي أحمد أو عليّ *** و لا أزكى و أطيب منه عندي
ص: 170
/
و من ذا يا ابن خولة إذ رمتني *** بأسهمها المنيّة حين وعدي
يذبّب عنكم و يسدّ مما *** تثلّم من حصونكم كسدّي
و ما لي أن أمرّ به و لكن *** أؤمّل أن يؤخّر يوم فقدي
فأدرك دولة لك لست فيها *** بجبّار فتوصف بالتّعدّي
على قوم بغوا فيكم علينا *** لتعدي منكم(1) يا خير معد
لتعل بنا عليهم حيث كانوا *** بغور من تهامة أو بنجد
/إذا ما سرت من بلد حرام *** إلى من بالمدينة من معدّ
و ما ذا غرّهم و الخير منهم *** بأشوس(2) أعصل الأنياب ورد
و أنت لمن بغى وعدا و أذكى *** عليك الحرب و استرداك مرد
في البيتين الأوّلين من هذه القصيدة غناء، نسبته:
أ شاقتك المنازل بعد هند *** و تربيها و ذات الدّلّ دعد
منازل أقفرت منهنّ محّت *** معالمهن من سبل و رعد
عروضه من الوافر. الشعر للسيّد الحميريّ. و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن يحيى المكيّ. و ذكر الهشاميّ أنه لكردم. و ذكر عمرو بن بانة أن اللّحن لمالك ثقيل أوّل بالوسطى.
و قال إسماعيل بن الساحر راوية السيّد: كنت عنده يوما في جناح له، فأجال بصره فيه ثم قال: يا إسماعيل، طال و اللّه ما شتم أمير المؤمنين عليّ في هذا الجناح. قلت: و من كان يفعل؟ قال: أبواي. و كان يذهب مذهب الكيسانيّة و يقول بإمامة محمد بن الحنفيّة، و له في ذلك شعر كثير. و قد روى بعض من لم تصحّ روايته أنه رجع عن مذهبه و قال بمذهب الإماميّة(3)، و له في ذلك:
تجعفرت باسم اللّه و اللّه أكبر *** و أيقنت أنّ اللّه يعفو و يغفر
/و ما وجدنا ذلك في رواية محصّل، و لا شعره أيضا من هذا الجنس و لا في هذا المذهب، لأن هذا شعر ضعيف يتبيّن التوليد فيه، و شعره في قصائده الكيسانيّة مباين لهذا جزالة و متانة، و له رونق و معنى ليسا لما يذكر عنه في غيره.
ص: 171
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد الثّماليّ قال حدّثني التّوّزيّ قال قال لي الأصمعيّ:
أحبّ أن تأتيني بشيء من شعر هذا الحميريّ فعل اللّه به و فعل؛ فأتيته بشيء منه؛ فقرأه فقال: قاتله اللّه! ما أطبعه و أسلكه لسبيل الشعراء! و اللّه لو لا ما في شعره من سبّ السّلف لما تقدّمه من طبقته أحد.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:
أتيت أبا عبيدة معمر بن المثنّى يوما و عنده رجل من بني هاشم يقرأ عليه كتابا؛ فلما رآني أطبقه. فقال له أبو عبيدة: إن أبا زيد ليس ممّن يحتشم منه، فأقرأ. فأخذ الكتاب و جعل يقرؤه، فإذا هو شعر السيّد. فجعل أبو عبيدة يعجب منه و يستحسنه. قال أبو زيد: و كان أبو عبيدة يرويه. قال: و سمعت محمد/بن أبي بكر المقدّميّ يقول:
سمعت جعفر(1) بن سليمان الضّبعي ينشد شعر السيّد.
أخبرني ابن دريد قال: سئل أبو عبيدة من أشعر المولّدين؟ قال: السيّد و بشّار.
و قال الموصليّ حدّثني عمّي قال:
جمعت للسيّد في بني هاشم ألفين و ثلاثمائة قصيدة؛ فخلت أن قد استوعبت شعره، حتى جلس إليّ يوما رجل ذو أطمار رثّة، فسمعني أنشد شيئا من شعره، /فأنشدني له ثلاث قصائد لم تكن عندي. فقلت في نفسي: لو كان هذا يعلم ما عندي كلّه ثم أنشدني بعده ما ليس عندي لكان عجيبا، فكيف و هو لا يعلم و إنما أنشد ما حضره! و عرفت حينئذ أن شعره ليس ممّا يدرك و لا يمكن جمعه كله.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن ابن عائشة قال:
وقف السيّد على بشّار و هو ينشد الشعر؛ فأقبل عليه و قال:
أيّها المادح العباد ليعظى *** إنّ اللّه ما بأيدي العباد
فاسأل اللّه ما طلبت إليهم *** و ارج نفع المنزّل العوّاد
لا تقل في الجواد ما ليس فيه *** و تسمّي البخيل باسم الجواد
قال بشّار: من هذا؟ فعرّفه؛ فقال: لو لا أن هذا الرجل قد شغل عنّا بمدح بني هاشم لشغلنا، و لو شاركنا في مذهبنا لأتعبنا. و روي في هذا الخبر أنّ عمران بن حطّان الشّاري(2) خاطب الفرزدق بهذه المخاطبة و أجابه بهذا الجواب.
ص: 172
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش عن سعيد بن المسيّب عن أبي سعيد السكّريّ عن الطّوسيّ قال: إذا رأيت في شعر السيّد «دع ذا» فدعه؛ فإنه لا يأتي بعده إلا سبّ السّلف أو بليّة من بلاياه.
و روى الحسن بن عليّ بن المعتزّ الكوفيّ عن أبيه عن السيّد قال: رأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في النوم و كأنه(1) في حديقة سبخة(2) فيها نخل طوال و إلى جانبها أرض كأنها/الكافور ليس فيها شيء؛ فقال: أ تدري لمن هذا النخل؟ قلت:
لا يا رسول اللّه؛ قال: لامرئ القيس بن حجر، فاقلعها و اغرسها في هذه الأرض ففعلت. و أتيت ابن سيرين فقصصت رؤياي عليه؛ فقال: أ تقول الشعر؟ قلت: لا؛ قال: أما إنك ستقول شعرا مثل شعر امرئ القيس إلا أنّك تقوله(3) في قوم بررة أطهار. قال: فما انصرفت إلاّ و أنا أقول الشعر.
قال الحسن و حدّثني غانم الورّاق قال: خرجت إلى بادية البصرة فصرت إلى عمرو بن تميم، فأثبتني بعضهم فقال: هذا الشيخ و اللّه راوية. فجلسوا إليّ و أنسوا بي، و أنشدتهم، و بدأت بشعر ذي الرمّة فعرفوه، و بشعر جرير و الفرزدق فعرفوهما؛ ثم أنشدتهم للسيّد:
أ تعرف رسما بالسّويّين(4) قد دثر *** عفته أهاضيب(5) السحائب و المطر
و جرّت به الأذيال ريحان خلفة *** صبا و دبور بالعشيّات و البكر
منازل قد كانت تكون بجوّها *** هضيم الحشاريّا الشّوى سحرها النظر
قطوف الخطا خمصانة بختريّة(6) *** كأنّ محيّاها سنا دارة القمر
رمتني ببعد بعد قرب بها النّوى *** فبانت و لمّا أقض من عبدة الوطر
و لما رأتني خشية البين موجعا *** أكفكف منّي أدمعا فيضها(7) درر
/أشارت بأطراف إليّ و دمعها *** كنظم جمان خانه السّلك فانتثر
و قد كنت ممّا أحدث البين حاذرا *** فلم يغن عنّي منه خوفي و الحذر
ص: 173
/قال: فجعلوا يمرّقون(1) لإنشادي و يطربون، و قالوا: لمن هذا؟ فأعلمتهم؛ فقالوا: هو و اللّه أحد المطبوعين، لا و اللّه ما بقي في هذا الزمان مثله.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن سعيد الدّمشقيّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال: سمعت عمّي يقول:
لو أنّ قصيدة السيّد التي يقول فيها:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم *** خصّ بالفضل فيه أهل الكساء(2)
قرئت على منبر ما كان فيها بأس، و لو أن شعره كلّه كان مثله لرويناه و ما عيّبناه.
و أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا العباس بن ميمون طائع قال حدّثنا نافع عن التّوّزيّ بهذه الحكاية بعينها فإنّه قالها في:
إن يوم التّطهير يوم عظيم
قال: و لم يكن التّوّزيّ متشيّعا.
قال عليّ بن المغيرة حدّثني الحسين بن ثابت قال:
قدم علينا رجل بدويّ و كان أروى الناس لجرير، فكان ينشدني الشيء من شعره، فأنشد في معناه للسيّد حتى أكثرت. فقال لي: ويحك! من هذا؟ هو و اللّه أشعر من صاحبنا.
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ عن ابن عائشة قال:
لمّا استقام الأمر لبني العبّاس قام السيّد إلى أبي العباس السفّاح حين نزل عن المنبر فقال:
دونكموها يا بني هاشم *** فجدّدوا من عهدها(3) الدّراسا
دونكموها لا علا كعب(4) من *** كان عليكم ملكها نافسا
دونكموها فالبسوا تاجها *** لا تعدموا منكم له لابسا
ص: 174
لو خيّر المنبر فرسانه *** ما اختار إلاّ منكم فارسا
قد ساسها قبلكم ساسة *** لم يتركوا رطبا و لا يابسا
و لست من أن تملكوها إلى *** مهبط عيسى فيكم آيسا
فسّر أبو العباس بذلك، و قال له: أحسنت يا إسماعيل! سلني حاجتك؛ قال: تولّي سليمان بن حبيب الأهواز، ففعل.
و ذكر التّميميّ - و هو علي بن إسماعيل - عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمد إذ استأذن آذنه للسيّد، فأمره بإيصاله، و أقعد حرمه خلف ستر. و دخل فسلّم و جلس. فاستنشده فأنشده قوله:
امرر على جدث الحسي *** ن فقل لأعظمه الزكيّه
أ أعظما لا زلت من *** وطفاء(1) ساكبة رويّه
و إذا مررت بقبره *** فأطل به وقف المطيّة
/و ابك المطهّر *** للمطهّر و المطهّرة النّقيّه
كبكاء معولة أتت *** يوما لواحدها المنيّة
قال: فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحدّر على خدّيه، و ارتفع الصّراخ و البكاء من داره، /حتى أمره بالإمساك فأمسك. قال: فحدّثت أبي بذلك لمّا انصرفت؛ فقال لي: و يلي على الكيسانيّ الفاعل ابن الفاعل! يقول:
فإذا مررت بقبره *** فأطل به وقف المطيّة
فقلت: يا أبت، و ما ذا يصنع؟ قال: أو لا ينحر! أ و لا يقتل نفسه! فثكلته أمّه!.
حدّثني أبو جعفر الأعرج - و هو ابن بنت الفضيل(2) بن بشّار - عن إسماعيل بن الساحر راوية السيّد - و هو الذي يقول فيه السيّد في بعض قصائده:
و إسماعيل يبرز من فلان *** و يزعم أنّه للنّار صالي(3)
قال: تلاحى رجلان من بني عبد اللّه بن دارم في المفاضلة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و آله؛ فرضيا بحكم أوّل من يطلع. فطلع السيّد، فقاما إليه و هما لا يعرفانه، فقال له مفضّل عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه منهما: إني و هذا اختلفنا في خير الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقلت: عليّ بن أبي طالب. فقطع السيّد كلامه ثم قال:
ص: 175
و أيّ شيء قال هذا الآخر ابن الزانية! فضحك من حضر و وجم الرجل و لم يحر جوابا.
و قال التّميميّ و حدّثني أبي قال قال لي فضيل الرسان(1):
/أنشد جعفر بن محمد قصيدة السيّد:
لأمّ عمرو باللّوى مربع *** دارسة أعلامه بلقع
فسمعت النّجيب من داره. فسألني لمن هي، فأخبرته أنها للسيّد، و سألني عنه فعرّفته وفاته؛ فقال: رحمه اللّه. قلت: إنّي رأيته يشرب النبيذ في الرّستاق(2)؛ قال: أ تعني الخمر؟ قلت نعم. قال: و ما خطر ذنب عند اللّه أن يغفره لمحبّ عليّ!.
و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن موسى قال: جاء رجل إلى السيّد فقال: بلغني أنك تقول بالرّجعة(3)؛ فقال: صدق الذي أخبرك، و هذا ديني. قال: أ فتعطيني دينارا(4) بمائة دينار إلى الرّجعة؟ قال السيّد:
نعم و أكثر من ذلك إن وثّقت لي بأنك ترجع إنسانا. قال: و أيّ شيء أرجع! قال: أخشى أن ترجع كلبا أو خنزيرا فيذهب مالي؛ فأفحمه.
أخبرني(5) الحسن بن عليّ قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال قال جعفر بن عفّان الطائي الشاعر: أهدى إليّ سليمان(6) بن علي مهرا أعجبني و عزمت(7) تربيته. فلما مضت عليّ أشهر عزمت على الحجّ، ففكّرت في صديق لي أودعه المهر ليقوم عليه، فأجمع رأيي على رجل من أهلي يقال له عمر بن حفص، فصرت إليه فسألته أن/يأمر سائسه بالقيام عليه و خبّرته بمكانه من قلبي؛ و دعا بسائسه فتقدّم إليه في ذلك؛ و وهبت للسائس دراهم و أوصيته به، و مضيت إلى الحجّ. ثم انصرفت و قلبي متعلّق، فبدأت بمنزل عمر بن حفص قبل منزلي لأعرف حال المهر، فإذا هو قد ركب حتى دبر ظهره و عجف من قلّة القيام عليه. فقلت له: يا أبا حفص، أ هكذا أوصيتك من هذا المهر! فقال:
و ما ذنبي! لم ينجع فيه العلف. فانصرفت به و قلت:
ص: 176
من عاذري من أبي حفص وثقت به *** و كان عندي له في نفسه خطر
فلم يكن عند ظنّي في أمانته *** و الظنّ يخلف و الإنسان يختبر
/أضاع مهري و لم يحسن ولايته *** حتى تبيّن فيه الجهد و الضّرر
عاتبته فيه في رفق فقلت له *** يا صاح هل لك من عذر فتعتذر
فقال داء به قدما أضرّ به *** و داؤه الجوع و الإتعاب و السفر
قد كان لي في اسمه عنه و كنيته *** لو كنت معتبرا ناه و معتبر
فكيف ينصحني أو كيف يحفظني *** يوما إذا غبت عنه و اسمه عمر
لو كان لي ولد شتّى لهم عدد *** فيهم سميّوه إن قلّوا و إن كثروا
لم ينصحوا لي و لم يبقوا عليّ و لو *** ساوى عديدهم الحصباء و الشجر
قال و حدّثني أبو سليمان النّاجي قال: جلس المهديّ يوما يعطي قريشا صلات لهم و هو وليّ عهد، فبدأ ببني هاشم ثم بسائر قريش. فجاء السيّد فرفع إلى الرّبيع(1) رقعة مختومة و قال: إن فيها نصيحة للأمير فأوصلها إليه، فأوصلها، فإذا فيها:
/
قل لابن عبّاس سمي محمد *** لا تعطينّ بني عديّ (2) درهما
احرم بني(3) تيم بن مرّة إنهم *** شرّ البريّة آخرا و مقدّما
إن تعطهم لا يشكروا لك نعمة *** و يكافئوك بأن تذمّ و تشتما
و إن ائتمنتهم أو استعملتهم *** خانوك و اتّخذوا خراجك مغنما
و لئن منعتهم لقد بدءوكم *** بالمنع إذ ملكوا و كانوا أظلما
منعوا تراث محمد أعمامه *** و ابنيه و ابنته عديلة مريما(4)
و تأمّروا من غير أن يستخلفوا *** و كفى بما فعلوا هنالك مأثما
لم يشكروا(5) لمحمد إنعامه *** أ فيشكرون لغيره إن أنعما
ص: 177
و اللّه منّ عليهم بمحمد *** و هداهم و كسا الجنوب و أطعما
ثم انبروا لوصيّه و وليّه *** بالمنكرات فجرّعوه العلقما
و هي قصيدة طويلة حذف باقيها لقبح ما فيه. قال: فرمى بها إلى أبي عبيد اللّه(1) ثم قال: اقطع العطاء فقطعه؛ و انصرف الناس؛ و دخل السيّد إليه، فلما رآه ضحك و قال: قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل، و لم يعطهم شيئا.
أخبرني به عمّي عن محمد بن داود بن الجرّاح عن إسحاق النّخعيّ عن أبي سليمان الريّاحيّ (2) مثله.
أخبرني الحسن بن محمد بن الجمهور القمّيّ (3) قال حدّثني أبي قال حدّثني أبو داود المسترق راوية السيّد:
أنه حضر يوما و قد ناظره محمد بن عليّ بن النعمان المعروف بشيطان الطّاق(4) في الإمامة، فغلبه محمد في دفع ابن الحنفيّة عن الإمامة؛ فقال السيّد:
ألا يا أيّها الجدل(5) المعنّي *** لنا، ما نحن ويحك و العناء!
أتبصر ما تقول و أنت كهل *** تراك عليك من ورع رداء(6)
ألا إن الأئمة من قريش *** ولاة الحقّ أربعة سواء
عليّ و الثلاثة(7) من بنيه *** هم أسباطه و الأوصياء
فأنّى في وصيّته إليهم *** يكون الشك منّا و المراء
/بهم(8) أوصاهم و دعا إليه *** جميع الخلق لو سمع الدّعاء
فسبط سبط إيمان و حلم *** و سبط غيّبته كربلاء
سقى جدثا تضمّنه ملثّ *** هتوف الرّعد مرتجز رواء(9)
تظلّ مظلّة منها عزال(10) *** عليه و تغتدي أخرى ملاء
ص: 178
/
و سبط(1) لا يذوق الموت حتى *** يقود الخيل يقدمها اللواء
من البيت المحجّب في سراة *** شراة لفّ بينهم الإخاء
عصائب ليس دون أغرّ أجلى *** بمكة قائم لهم انتهاء
- و هذه الأبيات بعينها تروى لكثيّر - ذكر ذلك ابن أبي سعد فقال و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني إبراهيم بن هاشم العبديّ البصريّ قال:
رأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في المنام و بين يديه السيّد الشاعر و هو ينشد:
أجدّ بآل فاطمة البكور *** فدمع العين منهمر غزير
حتى أنشده إيّاها على آخرها و هو يسمع. قال: فحدّثت هذا الحديث رجلا جمعتني و إياه طوس(2) عند قبر عليّ بن موسى الرّضا، فقال لي: و اللّه لقد كنت على خلاف فرأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في المنام و بين يديه رجل ينشد:
أجدّ بآل فاطمة البكور
إلى آخرها؛ فاستيقظت من نومي و قد رسخ في قلبي من حبّ عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه ما كنت أعتقده.
أخبرني وكيع قال حدّثني إسحاق بن محمد قال حدّثنا أبو سليمان النّاجي و محمد بن حليم(3) الأعرج قالا:
كان السيّد إذا استنشد شيئا من شعره لم يبدأ بشيء إلا بقوله:
أجدّ بآل فاطمة البكور *** فدمع العين منهمر غزير
قال إسحاق: و سمعت العتبيّ يقول: ليس في عصرنا هذا أحسن مذهبا في شعره و لا أنقى ألفاظا من السيّد، ثم قال لبعض من حضر: أنشدنا قصيدته اللاّميّة التي أنشدتناها اليوم؛ فأنشده قوله:
هل عند من أحببت تنويل *** أم لا فإن اللّوم تضليل
أم في الحشى منك جوى باطن(4) *** ليس تداويه الأباطيل
علّقت يا مغرور خدّاعة *** بالوعد منها لك تخييل
ص: 179
ريّا رداح(1) النوم خمصانة *** كأنها أدماء عطبول(2)
يشفيك منها حين تخلو بها *** ضمّ إلى النحر و تقبيل
و ذوق ريق طيّب طعمه *** كأنه بالمسك معلول
في نسوة مثل المها خرّد *** تضيق عنهنّ الخلاخيل
يقول فيها:
أقسم باللّه و آلائه *** و المرء عمّا قال مسئول
إنّ عليّ بن أبي طالب *** على التّقى و البرّ مجبول
/فقال العتبيّ: أحسن و اللّه ما شاء، هذا و اللّه الشعر الذي يهجم على القلب بلا حجاب.
في البيتين الأوّلين من هذه القصيدة لمخارق رمل بالبنصر عن الهشاميّ، و ذكر حبش أنه للغريض. و فيه لحن لسليمان من كتب بذل غير مجنّس.
أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن داود بن الجرّاح قال حدّثني إسحاق بن محمد النّخعيّ عن عبد الحميد بن عقبة عن إسحاق بن ثابت العطّار قال:
/كنّا كثيرا ما نقول للسيّد: مالك لا تستعمل في شعرك من الغريب ما تسأل عنه كما يفعل الشعراء؟ قال: لأن أقول شعرا قريبا من القلوب يلذّه من سمعه خير من أن أقول شيئا متعقّدا تضلّ فيه الأوهام.
أخبرني أحمد بن عمّار قال أخبرنا يعقوب بن نعيم قال حدّثني إبراهيم بن عبد اللّه الطّلحيّ راوية الشعراء بالكوفة قال حدّثنا أبو مسعود عمرو بن عيسى الرّباح و محمد بن سلمة، يزيد بعضهم على بعض:
أن السيّد لمّا قدم الكوفة أتاه محمد بن سهل راوية الكميت؛ فأقبل عليه السيّد فقال: من الذي يقول:
يعيب عليّ أقوام سفاها *** بأن أرجي(3) أبا حسن عليّا
ص: 180
و إرجائي أبا حسن صواب *** عن العمرين(1) برّا أو شقيّا
فإن قدّمت قوما قال قوم *** أسأت و كنت كذّابا رديّا
إذا أيقنت أنّ اللّه ربّي *** و أرسل أحمدا حقّا نبيا
و أنّ الرّسل قد بعثوا بحق *** و أنّ اللّه كان لهم وليّا
فليس عليّ في الإرجاء بأس *** و لا لبس و لست أخاف شيّا؟
فقال محمد بن سهل: هذا يقوله محارب(2) بن دثار الذّهليّ: فقال السيّد: لا كان اللّه وليّا للعاضّ بظر أمّه! من ينشدنا قصيدة أبي الأسود:
/
أحبّ محمدا حبّا شديدا *** و عبّاسا و حمزة و الوصيّا
فأنشده القصيدة بعض من كان حاضرا؛ فطفق يسبّ محارب بن دثار و يترحّم على أبي الأسود. فبلغ الخبر منصورا النّمريّ فقال: ما كان على أبي هاشم لو هجاه بقصيدة يعارض بها أبياته، ثم قال:
يودّ محارب لو قد رآها *** و أبصرهم حواليها جثيّا
و أنّ لسانه من ناب أفعى *** و ما أرجى أبا حسن عليّا
و أنّ عجوزه مصعت(3) بكلب *** و كان دماء ساقيها جريّا
متى ترجئ أبا حسن عليّا *** فقد أرجيت يا لكع نبيّا
أخبرني محمد بن جعفر النحويّ قال حدّثنا أحمد بن القاسم البزّيّ (4) قال حدّثني إسحاق بن محمد النّخعيّ قال حدّثني إبراهيم بن الحسن الباهليّ قال:
دخلت على جعفر بن سليمان الضّبعيّ و معي أحاديث لأسأله عنها و عنده قوم لم أعرفهم، و كان كثيرا ما ينشد شعر السيّد، فمن أنكره عليه لم يحدّثه؛ فسمعته ينشدهم:
/
ما تعدل الدّنيا جميعا كلّها *** من حوض أحمد شربة من ماء
ثم جاءه خبر فقام. فقلت للذين كانوا عنده: من يقول هذا الشعر؟ قالوا: السيد الحميريّ.
حدّثني عمّي و الكرانيّ قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد عن عبد اللّه بن الحسين عن أبي عمرو الشّيبانيّ عن
ص: 181
الحارث بن صفوان، و أخبرني به الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه:
/أن السيّد كان بالأهواز؛ فمرّت به امرأة من آل الزبير تزفّ إلى إسماعيل بن عبد اللّه بن العباس، و سمع الجلبة فسأل عنها فأخبر بها؛ فقال:
أتتنا تزفّ على بغلة *** و فوق رحالتها قبّة
زبيريّة من بنات الذي(1) *** أحلّ الحرام من الكعبة
تزفّ إلى ملك ماجد *** فلا اجتمعا و بها الوجبه(2)
روى هذا الخبر إسماعيل بن الساحر فقال فيه: فدخلت في طريقها إلى خربة للخلاء، فنهشتها أفعى فماتت؛ فكان السيّد يقول: لحقتها دعوتي.
حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل عن أبي طالب الجعفريّ - و هو محمد بن عبد اللّه بن الحسين بن عبد اللّه بن إسماعيل بن جعفر - قال أخبرني أبي قال:
خرج أهل البصرة يستسقون و خرج فيهم السيّد و عليه ثياب خزّ و جبّة و مطرف و عمامة؛ فجعل يجرّ مطرفه و يقول:
اهبط إلى الأرض فخذ جلمدا *** ثم ارمهم يا مزن بالجلمد
لا تسقهم من سبل قطرة *** فإنهم حرب بني أحمد
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا محمد بن إسحاق البغويّ قال حدّثنا الحرمازيّ قال حدّثني رجل قال:
/كنت أختلف إلى ابني قيس، و كانا يرويان عن الحسن؛ فلقيني السيّد يوما و أنا منصرف من عندهما، فقال:
أرني ألواحك أكتب فيها شيئا و إلا أخذتها فمحوت ما فيها. فأعطيته ألواحي فكتب فيها:
لشربة من سويق عند مسغبة *** و أكلة من ثريد لحمه واري
أشدّ ممّا روى حبّا إليّ بنو *** قيس و ممّا روى صلت(3) بن دينار
ممّا رواه فلان عن فلانهم *** ذاك الذي كان يدعوهم إلى النار
ص: 182
أخبرني أحمد بن عليّ الخفّاف قال حدّثني أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل(1) بن إبراهيم بن حسن بن طباطبا قال: سمعت زيد بن موسى بن جعفر يقول:
رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في النوم و قدّامه رجل جالس عليه ثياب بيض؛ فنظرت إليه فلم أعرفه، إذ التفت إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: يا سيّد، أنشدني قولك:
لأمّ عمرو في اللّوى مربع
فأنشده إيّاها كلّها ما غادر منها بيتا واحدا، فحفظتها عنه كلّها في النوم. قال أبو إسماعيل: و كان زيد بن موسى لحّانة رديء الإنشاد، فكان إذا أنشد(2) هذه القصيدة لم يتتعتع(3) فيها و لم يلحن.
و قال(4) محمد بن داود بن الجرّاح في روايته عن/إسحاق النّخعيّ حدّثني عبد الرحمن بن محمد الكوفيّ عن عليّ بن إسماعيل الهيثميّ عن فضيل الرسان قال:
/دخلت على جعفر بن محمد أعزّيه عن عمّه زيد، ثم قلت له: أ لا أنشدك شعر السيّد؟ فقال: أنشد؛ فأنشدته قصيدة يقول فيها:
فالناس يوم البعث راياتهم *** خمس فمنها هالك أربع
قائدها العجل و فرعونهم *** و سامريّ الأمّة المفظع
و مارق من دينه مخرج *** أسود عبد لكع أوكع(5)
و راية قائدها وجهه *** كأنه الشمس إذا تطلع
فسمعت مجيبا من وراء الستور فقال: من قائل هذا الشعر؟ فقلت: السيّد! فقال: رحمه اللّه. فقلت: جعلت فداك! إني رأيته يشرب الخمر. فقال: رحمه اللّه! فما ذنب على اللّه أن يغفره لآل عليّ! إن محبّ عليّ لا تزلّ له قدم إلا تثبت له أخرى.
حدّثني الأخفش عن أبي العيناء عن عليّ بن الحسن بن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جعفر بن محمد أنه ذكر السيّد فترحّم عليه و قال:
إن زلّت له قدم فقد ثبتت الأخرى.
ص: 183
نسخت من كتاب الشّاهيني حدّثني محمد بن سهل الحميريّ عن أبيه قال:
انحدر السيّد الحميريّ في سفينة إلى الأهواز، فماراه رجل في تفضيل عليّ و باهله(1) على ذلك. فلما كان(2)الليل قام الرجل ليبول على حرف السفينة، فدفعه السيّد فغرّقه؛ فصاح الملاحون: غرق و اللّه الرجل! فقال السيّد:
دعوه فإنّه باهليّ (3).
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثني التّوّزيّ قال:
جلس السيّد يوما إلى قوم، فجعل ينشدهم و هم يلغطون؛ فقال:
قد ضيّع اللّه ما جمّعت من أدب *** بين الحمير و بين الشّاء و البقر
لا يسمعون إلى قول أجيء به *** و كيف تستمع الأنعام للبشر
أقول ما سكتوا انس فإن نطقوا *** قلت الضفادع بين الماء و الشجر
أخبرني محمد بن جعفر النّحويّ قال حدّثنا أحمد بن القاسم البزّيّ قال حدّثنا إسحاق بن محمد النّخعيّ عن محمد بن الرّبيع عن(4) سويد بن حمدان بن الحصين قال:
كان السيّد يختلف إلينا و يغشانا، فقام من عندنا ذات يوم، فخلفه(5) رجل و قال: لكم شرف و قدر عند السلطان، فلا تجالسوا هذا فإنّه مشهور بشرب الخمر و شتم السلف. فبلغ ذلك السيّد فكتب إليه:
وصفت لك الحوض يا ابن الحصين *** على صفة الحارث الأعور(6)
فإن تسق منه غدا شربة *** تفز من نصيبك بالأوفر
فما لي ذنب سوى أنّني *** ذكرت الذي(7) فرّ عن خيبر
ص: 184
/
ذكرت امرأ فرّ عن مرحب(1)*** فرار الحمار من القسور(2)
فأنكر ذاك جليس لكم *** زنيم أخو خلق أعور
لحاني بحبّ إمام الهدى *** و فاروق(3) أمّتنا الأكبر
/سأحلق لحيته إنها *** شهود على الزّور و المنكر
قال: فهجر و اللّه مشايخنا جميعا ذلك الرجل و لزموا محبّة السيّد و مجالسته.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن زكريا الغلابيّ قال حدّثنا مهديّ بن سابق.
أن السيّد تقدّم إلى سوّار(4) القاضي ليشهد عنده، و قد كان دافع(5) المشهود له بذلك و قال: أعفني من الشهادة عند سوّار، و بذل له مالا فلم يعفه. فلما تقدّم إلى سوّار فشهد قال(6): أ لست المعروف بالسيّد! قال: بلى؛ قال:
استغفر اللّه من ذنب تجرّأت به على الشهادة عندي، قم لا أرضى بك. فقام مغضبا من مجلسه و كتب إلى سوّار رقعة فيها يقول:
إن سوّار بن عبد الل *** ه من شرّ القضاة
فلما قرأها سوّار وثب عن مجلسه و قصد أبا جعفر المنصور و هو يومئذ نازل بالجسر، فسبقه السيّد إليه فأنشده:
/
قل للإمام الذي ينجى بطاعته *** يوم القيامة من بحبوحة(7) النار
لا تستعينن جزاك اللّه صالحة *** يا خير من دبّ في حكم بسوّار
لا تستعن بخبيث الرأي ذي صلف *** جمّ العيوب عظيم الكبر جبّار
تضحي الخصوم لديه من تجبّره *** لا يرفعون إليه لحظ أبصار
تيها و كبرا و لو لا ما رفعت له *** من ضبعه(8) كان عين الجائع العاري
ص: 185
و دخل سوّار؛ فلما رآه المنصور تبسّم و قال: أ ما بلغك خبر إياس(1) بن معاوية حيث قبل شهادة الفرزدق و استزاد في الشهود! فما أحوجك للتعريض للسيد و لسانه! ثم أمر السيّد بمصالحته.
و قال إسحاق بن محمد النّخعيّ حدّثني عبد اللّه بن محمد الجعفريّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه الحميريّ قال:
دخل السيّد علي المهديّ لمّا بايع لابنيه موسى و هارون، فأنشأ يقول:
ما بال مجرى دمعك الساجم *** أ من قذى بات بها لازم
أم من هوّى أنت له ساهر *** صبابة من قلبك الهائم
/آليت لا أمدح ذا نائل *** من معشر غير بني هاشم
أولتهم عندي يد المصطفى *** ذي الفضل و المنّ أبي القاسم
فإنها بيضاء محمودة *** جزاؤها الشّكر على العالم
جزاؤها حفظ أبي جعفر *** خليفة الرحمن و القائم
و طاعة المهديّ ثم ابنه *** موسى علي ذي الإربة الحازم
و للرشيد الرّابع المرتضى *** مفترض من حقّه اللاّزم
ملكهم خمسون معدودة *** برغم أنف الحاسد الرّاغم
ليس علينا ما بقوا غيرهم *** في هذه الأمّة من حاكم
حتى يردّوها إلى هابط *** عليه عيسى منهم ناجم
/و قال عليّ بن المغيرة حدّثني عليّ بن عبد اللّه بن السّدوسيّ عن المدائنيّ قال:
كان السيّد يأتي الأعمش(2) فيكتب عنه فضائل عليّ رضي اللّه عنه و يخرج من عنده و يقول في تلك المعاني
ص: 186
شعرا. فخرج ذات يوم من عند بعض أمراء الكوفة و قد حمله على فرس و خلع عليه؛ فوقف بالكناسة(1) ثم قال:
يا معشر الكوفيّين، من جاءني منكم بفضيلة لعليّ بن أبي طالب لم أقل فيها شعرا أعطيته فرسي هذا و ما عليّ.
فجعلوا يحدّثونه و ينشدهم؛ حتى أتاه رجل منهم و قال:
إن أمير المؤمنين/عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه عزم على الركوب؛ فلبس ثيابه و أراد لبس الخفّ فلبس أحد خفّيه، ثم أهوى إلى الآخر ليأخذه فانقضّ عقاب من السماء فحلّق به ثم ألقاه فسقط منه أسود(2) و انساب فدخل جحرا؛ فلبس عليّ رضي اللّه عنه الخفّ. قال: و لم يكن قال في ذلك شيئا؛ ففكّر هنيهة ثم قال:
ألا يا قوم للعجب العجاب *** لخفّ أبي الحسين و للحباب(3)
أتى خفّا له و انساب فيه *** لينهش رجله منه بناب
فخرّ من السماء له عقاب *** من العقبان أو شبه العقاب
فطار به فحلّق ثم أهوى *** به للأرض من دون السّحاب
إلى جحر له فانساب فيه *** بعيد القعر لم يرتج بباب
كريه الوجه أسود ذو بصيص *** حديد النّاب أزرق ذو لعاب
و دوفع عن أبي حسن عليّ *** نقيع سمامه بعد انسياب
ثم حرّك فرسه و مضى و جعل تشبيبها بعد ذلك:
صبوت إلى سليمى و الرّباب *** و ما لأخي المشيب و للتّصابي
أخبرني أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد قال حدّثني عبد اللّه بن أحمد بن مستورد قال:
وقف السيّد يوما بالكوفة، فقال: من أتاني بفضيلة لعليّ بن أبي طالب ما قلت فيها شعرا فله دينار، و ذكر باقي الحديث. فأما العقاب الذي(4) انقضّ على خفّ عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه فحدّثني بخبره أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد الهمدانيّ قال/حدّثني جعفر بن علي بن نجيح قال حدّثنا أبو عبد الرحمن المسعوديّ عن أبي داود الطّهويّ عن أبي الزّعل المراديّ (5) قال:
قام عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه فتطهّر للصلاة، ثم نزع خفّه فانساب فيه أفعى، فلما عاد ليلبسه انقضّت عقاب فأخذته فحلّقت به ثم ألقته فخرج الأفعى منه. و قد روي مثل هذا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
حدّثني به أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد قال حدّثني محمد بن عبيد بن عقبة قال حدّثنا محمد بن الصّلت
ص: 187
قال حدّثنا حيّان بن علي عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال:
كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إذا أراد حاجة تباعد حتى لا يراه أحد، فنزع خفّه فإذا عقاب قد تدلّى فرفعه فسقط منه أسود سالخ. فكان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من شرّ ما يمشي على بطنه و من شرّ ما يمشي على رجليه و من شرّ ما يمشي على أربع و من شرّ الجن و الإنس».
قال أبو سعيد و حدّثنا/محمد بن إسماعيل الرّاشديّ قال حدّثنا عثمان بن سعيد قال حدّثنا حيّان بن علي عن سعد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس مثله.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا حاتم بن قبيصة قال:
سمع السيّد محدّثا يحدّث أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان ساجدا، فركب الحسن و الحسين على ظهره؛ فقال عمر رضي اللّه عنه: نعم المطيّ مطيّكما! فقال/النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «و نعم الراكبان هما». فانصرف السيّد من فوره فقال في ذلك:
أتى حسنا و الحسين النبيّ *** و قد جلسا حجرة(1) يلعبان
ففدّاهما ثم حيّاهما *** و كانا لديه بذاك المكان
فراحا و تحتهما عاتقاه *** فنعم المطيّة و الراكبان
وليدان أمّهما برّة *** حصان مطهّرة للحصان
و شيخهما(2) ابن أبي طالب *** فنعم الوليدان و الوالدان
خليليّ لا ترجيا و اعلما *** بأن الهدى غير ما تزعمان
و أنّ عمى الشكّ بعد اليقين *** و ضعف البصيرة بعد العيان
ضلال فلا تلججا فيهما *** فبئست لعمركما الخصلتان
أ يرجى عليّ إمام الهدى *** و عثمان ما أعند المرجيان(3)
و يرجى ابن حرب(4) و أشياعه *** و هوج الخوارج(5) بالنّهروان
ص: 188
يكون إمامهم في المعاد *** خبيث الهوى مؤمن الشّيصبان(1)
و ذكر(2) إسماعيل بن السّاحر قال أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني محمد عن أبيه قال حدّثني أبي و عمّي عن أحمد بن إبراهيم بن سليمان بن يعقوب بن سعيد بن عمرو قال حدّثنا الحارث بن عبد المطّلب قال:
كنت جالسا في مجلس أبي جعفر المنصور و هو بالجسر و هو قاعد مع جماعة على دجلة بالبصرة و سوّار بن عبد اللّه العنبريّ (3) قاضي البصرة جالس عنده و السيّد بن محمد بين يديه ينشد قوله:
إن الإله الذي لا شيء يشبهه *** أعطاكم الملك للدّنيا و للدّين
أعطاكم اللّه ملكا لا زوال له *** حتى يقاد إليكم صاحب الصّين
و صاحب الهند مأخوذا برمّته *** و صاحب التّرك محبوسا على هون
و المنصور يضحك سرورا بما ينشده؛ فحانت منه التفاتة فرأى وجه سوّار يتربّد غيظا و يسودّ حنقا و يدلك إحدى يديه بالأخرى و يتحرّق؛ فقال له المنصور: مالك! أرابك شيء؟ قال: نعم، هذا الرجل يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه، و اللّه يا أمير المؤمنين ما صدقك ما في نفسه، و إن الذين يواليهم لغيركم. فقال المنصور: مهلا! هذا شاعرنا و وليّنا، و ما عرفت منه إلا صدق محبّة و إخلاص نيّة. فقال له السيّد: يا أمير المؤمنين، و اللّه ما تحمّلت غضّكم لأحد، و ما وجدت أبويّ عليه فافتتنت بهما، و ما زلت مشهورا بموالاتكم في أيام عدوّكم. فقال له:
صدقت. قال: و لكن/هذا و أهلوه أعداء اللّه و رسوله قديما و الذين نادوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من وراء الحجرات(4)، فنزلت فيهم آية من القرآن أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ . و جرى بينهما خطاب طويل. فقال السيّد قصيدته التي أوّلها:
قف(5) بنا يا صاح و اربع *** بالمغاني الموحشات
أنشدها أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار [عن](6) النّوفليّ، و أخبرنا محمد بخبره مع سوّار بالقصّة من هاهنا إلى آخرها؛ و قال فيها:
ص: 189
يا أمين اللّه يا من *** صور يا خير الولاة
إنّ سوّار بن عبد *** اللّه من شرّ القضاة
نعثليّ (1) جمليّ (2) *** لكم غير موات
جدّه سارق عنز(3) *** فجرة من فجرات
لرسول اللّه و القا *** ذفة بالمنكرات
و ابن من كان ينادي *** من وراء الحجرات
/يا هناة(4) اخرج إلينا *** إننا أهل هنات
مدحنا المدح و من نر *** م يصب بالزّفرات
فاكفينه لا كفاه اللّه *** شرّ الطارقات
فشكاه سوّار إلى أبي جعفر، فأمره بأن يصير إليه معتذرا؛ ففعل فلم يعذره؛ فقال:
أتيت دعيّ بني العنبر *** أروم اعتذارا فلم أعذر
فقلت لنفسي و عاتبتها *** على اللؤم في فعلها أقصري
أ يعتذر الحرّ مما أتى *** إلى رجل من بني العنبر
أبوك ابن سارق عنز النبي *** و أمّك بنت أبي جحدر
و نحن على رغمك الرّافضو *** ن لأهل الضّلالة و المنكر
قال: و بلغ السيّد أن سوّارا قد أعدّ جماعة يشهدون عليه بسرقة ليقطعه؛ فشكاه إلى أبي جعفر؛ فدعا بسوّار و قال له: قد عزلتك عن الحكم للسيّد أو عليه. فما تعرّض له بسوء حتى مات.
و روى عبد اللّه بن أبي بكر العتكيّ أن أبا الخلاّل العتكيّ دخل على عقبة(5) بن سلّم و السيّد عنده و قد أمر له
ص: 190
بجائزة، و كان أبو الخلاّل شيخ العشيرة و كبيرها، فقال له: أيها الأمير، أ تعطي هذه العطايا رجلا ما يفتر عن سبّ أبي بكر و عمر!. فقال له عقبة: ما علمت ذاك و لا أعطيته إلاّ على العشرة و المودّة القديمة و ما يوجبه حقّه و جواره مع ما هو عليه من موالاة قوم يلزمنا حقّهم و رعايتهم. فقال له أبو الخلاّل: فمره إن/كان صادقا أن يمدح أبا بكر و عمر حتى نعرف براءته مما ينسب إليه من الرّفض(1). فقال: قد سمعك، فإن شاء فعل. فقال السيّد:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمد *** و لا عهده يوم الغدير(2) المؤكدا
/فإنّي كمن يشري الضّلالة بالهدى *** تنصّر من بعد التّقى و تهوّدا
و ما لي و تيم أو عديّ و إنما *** أو لو نعمتي في اللّه من آل أحمدا
تتمّ صلاتي بالصلاة عليهم *** و ليست صلاتي بعد أن أتشهّدا
بكاملة إن لم أصلّ عليهم *** و أدع لهم ربّا كريما ممجّدا
بذلت لهم ودّي و نصحي و نصرتي *** مدى الدهر ما سمّيت يا صاح سيّدا
و إنّ امرأ يلحى على صدق ودّهم *** أحقّ و أولى فيهم أن يفنّدا
فإن شئت فاختر عاجل الغمّ صلة(3) *** و إلاّ فأمسك كي تصان و تحمدا
ثم نهض مغضبا. فقام أبو الخلاّل إلى عقبة فقال: أعذني من شرّه أعاذك اللّه من السوء أيها الأمير؛ قال: قد فعلت على ألاّ تعرض له بعدها.
و ممّا يحكى عنه أنه اجتمع في طريقه بامرأة تميميّة إباضيّة، فأعجبها و قالت: أريد أن أتزوّج بك و نحن على ظهر الطريق. قال: يكون كنكاح أمّ خارجة(4) قبل حضور وليّ و شهود. فاستضحكت و قالت: ننظر في هذا؛ و على ذلك فمن أنت؟ فقال:
ص: 191
إن تسأليني بقومي تسألي رجلا *** في ذروة العزّ من أحياء ذي يمن
حولي بها ذو كلاع(1) في منازلها *** و ذو رعين(2) و همدان(3) و ذو يزن(4)
/و الأزد أزد [عمان](5) الأكرمون إذا *** عدّت مآثرهم في سالف الزمن
بانت كريمتهم(6) عنّي فدارهم *** داري و في الرّحب من أوطانهم وطني
لي منزلان بلحج(7) منزل وسط(8) *** منها و لي منزل للعزّ في عدن
ثمّ الولاء الذي أرجو النجاة(9) به *** من كبّة النار للهادي أبي حسن
فقالت: قد عرفناك، و لا شيء أعجب من هذا: يمان و تميميّة، و رافضيّ و إباضيّة، فكيف يجتمعان!. فقال:
بحسن رأيك فيّ تسخو نفسك، و لا يذكر أحدنا سلفا و لا مذهبا. قالت: أ فليس التزويج إذا علم انكشف معه المستور، و ظهرت خفيّات الأمور!. قال: فأنا أعرض عليك أخرى. قالت: ما هي؟ قال: المتعة(10) التي لا يعلم بها
ص: 192
أحد. قالت: تلك أخت الزّنا. قال: أعيذك باللّه أن تكفري بالقرآن بعد الإيمان!. قالت: فكيف؟ قال: قال اللّه تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ .
فقالت: أستخير(1) اللّه و أقلّدك أن(2) كنت صاحب قياس. ففعلت(3). فانصرفت معه و بات معرسا بها. و بلغ أهلها من الخوارج أمرها، فتوعّدوها بالقتل و قالوا: /تزوّجت بكافر! فجحدت ذلك و لم يعلموا بالمتعة. فكانت مدّة تختلف إليه على هذه السبيل من المتعة و تواصله حتى افترقا.
و قال الحسن بن علي بن المغيرة حدّثني أبي قال:
كنت مع السيّد على باب عقبة بن سلّم و معنا ابن لسليمان(4) بن عليّ ننتظره و قد أسرج له ليركب، إذ قال ابن سليمان بن عليّ يعرّض بالسيّد: أشعر الناس و اللّه الذي يقول:
محمد خير من يمشي على قدم *** و صاحباه و عثمان بن عفّانا
فوثب السيّد و قال: أشعر و اللّه منه الذي يقول:
/
سائل قريشا إذا ما كنت ذا عمه *** من كان أثبتها في الدّين أوتادا
من كان أعلمها علما و أحلمها *** حلما و أصدقها قولا و ميعادا
إن يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن *** إن أنت لم تلق للأبرار حسّادا
ثم أقبل على الهاشميّ فقال: يا فتى، نعم الخلف أنت لشرف سلفك! أراك تهدم شرفك، و تثلب(5) سلفك، و تسعى بالعداوة على أهلك، و تفضّل من ليس أصلك من أصله على من فضلك من فضله؛ و سأخبر أمير المؤمنين عنك بذا حتى يضعك. فوثب الفتى خجلا و لم ينتظر عقبة بن سلّم. و كتب إليه صاحب خبره بما جرى عند الرّكوبة حتى خرجت الجائزة للسيّد.
أخبرني محمد بن جعفر النّحويّ قال حدّثنا ابن القاسم البزّيّ عن إسحاق بن محمد النّخعيّ عن عقبة بن مالك الدّيلي عن الحسن بن عليّ بن أبي حرب بن أبي الأسود الدّؤليّ قال:
/كنّا جلوسا عند أبي عمرو بن العلاء، فتذاكرنا السيّد، فجاء فجلس، و خضنا في ذكر الزرع و النخل ساعة فنهض. فقلنا: يا أبا هاشم، ممّ القيام؟ فقال:
ص: 193
إني لأكره أن أطيل بمجلس *** لا ذكر فيه لفضل آل محمد
لا ذكر فيه لأحمد و وصيّه *** و بنيه ذلك مجلس نطف(1) ردي
إن الذي ينساهم في مجلس *** حتّى يفارقه لغير مسدّد
و روى أبو سليمان النّاجي: أن السيّد قدم الأهواز و أبو بجير بن سماك الأسديّ يتولاّها، و كان له صديقا.
و كان لأبي بجير مولى يقال له يزيد بن مذعور يحفظ شعر السيد ينشده أبا بجير، و كان أبو بجير يتشيّع. فذهب السيّد إلى قوم من إخوانه بالأهواز فنزل بهم و شرب عندهم؛ فلما أمسى انصرف، فأخذه العسس فحبس. فكتب من غده بهذه الأبيات و بعث بها إلى يزيد بن مذعور. فدخل على أبي بجير و قال: قد جنى عليك صاحب عسسك ما لا قوام لك به. قال: و ما ذلك؟ قال: اسمع هذه الأبيات، كتبها السيّد من الحبس؛ فأنشده يقول:
قف بالدّيار و حيّها يا مربع *** و اسأل و كيف يجيب من لا يسمع
إنّ الدّيار خلت و ليس بجوّها *** إلاّ الضّوابح(2) و الحمام الوقّع
و لقد تكون بها أوانس كالدّمى *** جمل و عزّة و الرّباب و بوزع
حور نواعم لا ترى في مثلها *** أمثالهن من الصيانة أربع
فعرين(3) بعد تألّف و تجمّع *** و الدّهر - صاح - مشتّت ما تجمع
/فاسلم فإنّك قد نزلت بمنزل *** عند الأمير تضرّ فيه و تنفع
تؤتى هواك إذا نطقت بحاجة *** فيه و تشفع عنده فيشفّع
قل للأمير إذا ظفرت بخلوة *** منه و لم يك عنده من يسمع
هب لي الذي أحببته في أحمد *** و بنيه إنك حاصد ما تزرع
يختصّ آل محمد بمحبّة *** في الصدر قد طويت عليها الأضلع(4)
/في هذا الغناء لسعيد.
و حكى ابن الساحر: أنّ السيّد دعي لشهادة عند سوّار القاضي؛ فقال لصاحب الدّعوى: أعفني من الشهادة عند سوّار؛ فلم يعفه صاحبها منها و طالبه بإقامتها عند سوّار. فلما حضر عنده و شهد قال له: أ لم أعرفك و تعرفني!
ص: 194
و كيف مع معرفتك بي تقدم على الشهادة عندي! فقال له: إني تخوّفت إكراهه، و لقد افتديت شهادتي عندك بمال فلم يقبل منّي فأقمتها(1)؛ فلا يقبل اللّه لك صرفا و لا عدلا إن قبلتها، و قام من عنده؛ و لم يقدر سوّار له على شيء لما تقدّم به المنصور إليه في أمره، و اغتاظ غيظا شديدا و انصرف من مجلسه فلم يقض يومئذ بين اثنين. ثم إن سوّارا اعتلّ علّته التي مات فيها فلم يقدر السيّد على هجائه في حياته لنهي المنصور إيّاه عن ذلك. و مات سوّار فأخرج عشيّا و حفر له، فوقع الحفر في موضع كنيف. و كان بين الأزد و بين تميم عداوة، فمات عقب(2) موته عبّاد بن حبيب بن المهلّب؛ فهجا السيّد سوّارا في قصيدة رثى بها عبّادا و دفعها إلى نوائح الأزد لما بينهم و بين تميم من العداوة و لقربهم من دار سوّار ينحن(3) بها، و أوّلها:
/
يا من غدا حاملا جثمان سوّار *** من داره طاعنا منها إلى النار
لا قدّس اللّه روحا كان هيكلها *** فقد مضت بعظيم الخزي و العار
حتى هوت قعر برهوت(4) معذّبة *** و جسمه في كنيف بين أقذار
لقد رأيت من الرحمن معجبة *** فيه و أحكامه تجري بمقدار
فاذهب عليك من الرحمن بهلته(5)*** يا شرّ حيّ براه الخالق الباري
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عليّ بن محمد البقّال قال حدّثنا شيبان بن محمد الحرّاني - و كان يلقّب بعوضة و صار من سادات الأزد - قال:
كان السيّد جاري، و كان أدلم(6)، و كان ينادم فتيانا من فتيان الحيّ فيهم فتى مثله أدلم غليظ الأنف و الشّفتين مزنّج الخلقة. و كان السيّد من أنتن الناس إبطين. و كانا يتمازحان، فيقول له السيّد: أنت زنجيّ الأنف و الشّفتين، و يقول الفتى للسيّد: أنت زنجيّ اللون و الإبطين. فقال السيّد:
أعارك يوم بعناه رباح(7) *** مشافره و أنفك ذا القبيحا
و كانت حصّتي إبطيّ منه *** و لونا حالكا أمسى فضوحا
فهل لك في مبادلتيك إبطي *** بأنفك تحمد البيع الرّبيحا
فإنّك أقبح الفتيان أنفا *** و إبطي أنتن الآباط ريحا
ص: 195
أخبرني أحمد قال حدّثني شيبان قال:
مات(1) منّا رجل موسر و خلّف ابنا له فورث ماله و أتلفه بالإسراف، و أقبل على الفساد و اللهو، و قد تزوّج امرأة تسمّى ليلى، و اجتمع على السيّد و كان من أظرف/الناس، و كان الفتى لا يصبر عنه، و أنفق عليه مالا كثيرا؛ و كانت ليلى تعذله على إسرافه و تقول له: كأني بك قد افتقرت فلم يغن عنك شيئا. فهجاها السيّد. و كان/ممّا قال فيها:
أقول يا ليت ليلي في يدي حنق *** من العداوة من أعدى أعاديها
يعلو بها فوق رعن ثم يحدرها *** في هوّة فتدهدى يومها فيها
أوليتها في عمار البحر قد عصفت *** فيه الرّياح فهاجت من أواذيها(2)
أوليتها قرنت(3) يوما إلى فرسي(4) *** قد شدّ منها إلى هاديه(5) هاديها
حتى يرى لحمها من حضره زيما(6) *** و قد أتى القوم بعد الموت(7) ناعيها
فمن بكاها فلا جفّت مدامعه *** لا أسخن اللّه إلاّ عين باكيها
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني إسحاق بن محمد النّخعيّ و عبد الحميد بن عقبة قالا حدّثنا الحسن بن عليّ بن المغيرة الكسلان عن محمد بن كناسة قال:
أهدى بعض ولاة الكوفة إلى السيّد رداء عدنيّا؛ فكتب إليه السيّد فقال:
و قد أتانا رداء من هديّتكم *** فلا عدمتك طول الدهر من وال
هو الجمال جزاك اللّه صالحة *** لو أنّه كان موصولا بسربال
فبعث إليه بخلعة تامّة و فرس جواد و قال: يقطع عتاب أبي هاشم و استزادته إيانا.
حدّثني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ عن بعض البصريّين عن سليمان بن أرقم قال:
كنت مع السيّد، فمرّ بقاصّ على باب أبي سفيان بن العلاء و هو يقول: يوزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوم القيامة في كفّة
ص: 196
بأمّته أجمع فيرجح بهم، ثم يؤتى بفلان فيوزن بهم فيرجح ثم يؤتى بفلان فيوزن بهم فيرجح. فأقبل على أبي سفيان فقال: لعمري إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليرجح على أمته في الفضل، و الحديث حقّ؛ و إنما رجح الآخران الناس في سيئاتهم؛ لأنّ من سنّ سنّة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها و وزر من عمل بها. قال: فما أجابه أحد. فمضى فلم يبق أحد من القوم إلاّ سبّه.
و قال أبو جعفر الأعرج حدّثني إسماعيل بن السّاحر قال:
خرجت من منزل نصر بن مسعود أنا و كاتب(1) عقبة بن سلّم و السيّد و نحن سكارى. فلما كنّا بزهران لقيتنا بنت الفجاءة بن عمرو بن قطريّ بن الفجاءة، و كانت امرأة برزة حسناء فصيحة، فواقفها السيّد و تخاطب عليها و أنشدها من شعره(2) بتجميش، فأعجب كلّ واحد منهما صاحبه. فقال السيّد(3):
من ناكثين و قاسطين الأروع(4) *** حول الأمين و قال هات ليسمعوا
قم يا ابن مذعور فأنشد نكّسوا *** خضع الرّقاب بأعين لا ترفع
لو لا حذار أبي بجير أظهروا *** شنآنهم و تفرّقوا و تصدّعوا
لا تجزعوا فلقد صبرنا فاصبروا *** سبعين عاما و الأنوف تجدّع
/إذ لا يزال يقوم كلّ عروبة(5) *** منكم بصاحبنا خطيب مصقع
مسحنفر(6) في غيّه متتايع(7) *** في الشّتم مثّله بخيل(8) يسجع
/ليسرّ مخلوقا و يسخط خالقا *** إن الشقيّ بكلّ شرّ مولع
فلما سمعها أبو بجير دعا صاحب عسسه فشتمه و قال: جنيت عليّ ما لا يد لي به؛ اذهب صاغرا إلى الحبس و قل: أيّكم أبو هاشم؛ فإذا أجابك فأخرجه و احمله على دابّتك و امش معه صاغرا حتى تأتيني به ففعل. فأبى السيّد و لم يجبه إلى الخروج إلا بعد أن يطلق له كلّ من أخذ معه. فرجع إلى أبي بجير فأخبره، فقال: الحمد للّه الذي لم يقل أخرجهم و أعط كلّ واحد منهم مالا، فما كنّا نقدر على خلافه؛ افعل ما أحبّ برغم أنفك الآن. فمضى فخلّى سبيله و سبيل كلّ من كان معه ممّن أخذ في تلك الليلة، و أتى به إلى أبي بجير. فتناوله بلسانه و قال: قدمت علينا
ص: 197
فلم تأتنا و أتيت بعض أصحابك(1) الفسّاق و شربت ما حرّم عليك حتى جرى ما جرى؛ فاعتذر من ذلك إليه؛ فأمر له أبو بجير بجائزة سنيّة و حمله و أقام عنده مدّة.
قال النّوفليّ و حدّثني أبي: أنّ جماعة من أهل الثغور قدموا على أبي بجير بتسبيب بهم(2) فأطلقهم، ثم جاءوه فعاتبوه على التشيّع و سألوه الرجوع؛ فغضب من ذلك و دعا بمولاه يزيد بن مذعور فقال: أنشدني ويلك لأبي هاشم.
فأنشده قوله:
يا صاحبيّ لدمنتين عفاهما *** مرّ الرّياح عليهما فمحاهما
حتى فرغ. ثم قال: هات النّونيّة؛ فأنشده:
يا صاحبيّ تروّحا و ذراني *** ليس الخليّ كمسعر الأحزان
/فلما فرغ قال: أنشدني الدمّاغة الرائيّة، فأنشده إيّاها. فلما فرغ أقبل عليه الثّغريّون فقالوا له: ما أعتبتنا فيما عاتبناك عليه. فقال: يا حمير! هل في الجواب أكثر مما سمعتم! و اللّه لو لا أنّي لا أعلم كيف يقع فعلي من أمير المؤمنين لضربت أعناقكم! قوموا إلى غير حفظ اللّه فقاموا. و بلغ السيّد الخبر فقال:
إذا قال الأمير أبو بجير *** أخو أسد لمنشده يزيدا
طربت إلى الكرام فهات فيهم *** مديحا من مديحك أو نشيدا
رأيت لمن بحضرته وجوها *** من الشّكّاك و المرجين سودا
كأنّ يزيد ينشد بامتداح *** أبا حسن نصارى أو يهودا
و روى أبو داود المسترق: أنّ السيّد و العبديّ اجتمعا؛ فأنشد السيّد:
إني أدين بما دان الوصيّ به *** يوم الخريبة(3) من قتل المحلّينا
و بالذي دان يوم النهروان به *** و شاركت كفّه كفّي بصفّينا
فقال له العبديّ: أخطأت، لو شاركت كفّك كفّه كنت مثله؛ و لكن قل: تابعت كفّي كفّه لتكون تابعا لا شريكا. فكان السيّد بعد ذلك يقول: أنا أشعر الناس إلاّ العبديّ.
و قال إسحاق النّخعي عن عبد الحميد بن عقبة عن أبي جعفر الأعرج عن إسماعيل بن السّاحر قال:
ص: 198
كنت مع السيّد و قد اكترينا سفينة إلى الأهواز؛ فجلس فيها معنا قوم شراة، فجعلوا ينالون من عثمان. فأخرج السيّد رأسه إليهم و قال:
/
شفيت من نعثل في نحت أثلته(1)*** فاعمد هديت إلى نحت الغويّين
اعمد(2) هديت إلى نحت اللّذين هما *** كانا عن الشرّ لو شاء اغنيّين
قال إسماعيل: فلما قدمنا الأهواز قدم السيّد و قد سكر، فأتي به أبا بجير بن سماك الأسديّ؛ و كان ابن النّجاشيّ عند ابن سماك بعد العشاء الآخرة، و كان(3) يعرفه باسمه و لم يعرفه. فقال له: يا شيخ السّوء، تخرج سكران في هذا الوقت! لأحسننّ أدبك. فقال له: و اللّه لا فعلت، و لتكرمنّي و لتخلعنّ عليّ و تحملنّي و تجيزنّي.
قال: أو تهزأ أيضا! قال: لا و اللّه! ثم اندفع ينشده فقال:
من كان معتذرا من شتمه عمرا *** فابن النّجاشيّ منه غير معتذر
و ابن النجاشي براء - غير محتشم - *** في دينه من أبي بكر و من عمر
ثم أنشده قوله:
إحداهما(4) نمّت عليه حديثه *** و بغت(5) عليه نفسه إحداهما
فهما اللتان سمعت ربّ محمد *** في الذكر قصّ على العباد نباهما(6)
فقال: أبو هاشم؟ فقال نعم. قال: ارتفع. فحمله و أجازه، و قال: و اللّه لأصدّقنّ قولك في جميع ما حلفت عليه.
قال إسماعيل: رأى أبو بجير السيّد متغيّر اللّون، فسأله عن حاله؛ فقال: فقدت الشراب الذي ألفته لكراهة الأمير إيّاه؛ قال: فاشربه، فإنّنا نحتمله لك. قال: ليس عندي. قال لكاتبه: اكتب له بمائتي دورق ميبختج(7). فقال له السيّد: ليس هذا من البلاغة. قال: و ما هي؟ قال: البلاغة أن تأتي من الكلام بما يحتاج إليه و تدع ما يستغنى عنه. قال: و كيف ذلك؟ قال: اكتب بمائتي دورق «مي» و لا تكتب «بختج»، فإنك تستغني عنه. فضحك، ثم أمر فكتب له بذلك. قال: و المي: النبيذ.
ص: 199
أظهرت المرجئة الشماتة بأبي بجير لما مرض فقال هو شعرا:
قال إسماعيل: و بلغ السيّد و هو بالأهواز(1) أن أبا بجير قد أشرف على الموت، فأظهرت المرجئة الشّماتة به.
فخرج السيّد متحرّقا حتى اكترى سفينة و خرج إليها، و أنشأ يقول:
تباشر أهل تدمر(2) إذ أتاهم *** بأمر أميرنا لهم بشير
و لا لأميرنا ذنب إليهم *** صغير في الحياة و لا كبير
سوى حبّ النبيّ و أقربيه *** و مولاهم بحبّهم جدير
و قالوا لي لكيما يحزنوني *** و لكن قولهم إفك و زور
لقد أمسى أخوك أبو بجير *** بمنزله يزار و لا يزور
و ظلّت شيعة الهادي عليّ *** كأنّ الأرض تحتهم تمور
فبتّ كأنّني مما رموني *** به في قد(3) ذي حلق أسير
/كأنّ مدامعي و جفون عيني *** توخّز(4) بالقتاد فهنّ عور
أقول عليّ للرحمن نذر *** صحيح حيث تحتبس النّذور
بمكة، إن لقيت أبا بجير *** صحيحا و اللّواء له يسير
/و هي قصيدة طويلة.
و روى محمد بن عاصم عن أبي داود المسترق عن السيّد:
أنه رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في النوم، فاستنشده فأنشده قوله:
لأمّ عمرو باللّوى مربع *** طامسة أعلامه بلقع
حتى انتهى إلى قوله:
قالوا له لو شئت أعلمتنا *** إلى من الغاية و المفزع
فقال: حسبك! ثم نقض يده و قال: قد و اللّه أعلمتهم.
فجلس ثم قال: اللهمّ أ هكذا جزائي في حبّ آل محمد! قال: فكأنها كانت نارا فطفئت عنه.
و أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ بإسناد له لم يحضرني و أنا أخرجه إن شاء اللّه تعالى قال:
حدّثني من حضر السيّد و قد احتضر فقال:
برئت إلى الإله من ابن(1) أروى *** و من دين الخوارج أجمعينا
/و من فعل برئت(2) و من فعيل *** غداة دعي أمير المؤمنينا
ثم كأنّ نفسه كانت حصاة فسقطت.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة عن أبي الهذيل العلاّف عن أبي جعفر المنصور قال:
بلغني أن السيّد مات بواسط فلم يدفنوه. و اللّه لئن تحقّق عندي لأحرقنّها!.
و وجدت في بعض الكتب: حدّثني محمد بن يحيى اللّؤلؤيّ قال حدّثني محمد بن عباد بن صهيب عن أبيه قال:
كنت عند جعفر بن محمد، فأتاه نعي السيّد، فدعا له و ترحّم عليه. فقال رجل: يا بن رسول اللّه، تدعو له و هو يشرب الخمر و يؤمن بالرّجعة! فقال: حدّثني أبي عن جدّي أن محبّي آل محمد لا يموتون إلاّ تائبين و قد تاب، و رفع مصلّى كانت تحته، فأخرج كتابا من السيّد يعرّفه فيه أنه قد تاب و يسأله الدعاء له.
و ذكر محمد بن إدريس العتبيّ (3) أنّ معاذ بن يزيد(4) الحميريّ حدّثه أن السيّد عاش إلى خلافة(5) هارون الرشيد و في أيامه مات، و أنّه مدحه بقصيدتين فأمر له ببدرتين ففرّقهما. فبلغ ذلك الرشيد فقال: أحسب أبا هاشم تورّع عن قبول جوائزنا.
أخبرني ابن عمّار قال حدّثنا يعقوب بن نعيم قال حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه الطّلحيّ قال حدّثني إسحاق بن محمد بن بشير بن عمّار الصّيرفيّ عن جدّه بشير بن عمّار قال:
ص: 201
/حضرت وفاة السيّد في الرّميلة(1) ببغداد، فوجّه رسولا إلى صفّ الجزّارين(2) الكوفيّين يعلمهم بحاله و وفاته؛ فغلط الرسول فذهب إلى صفّ السموسين(3)، فشتموه و لعنوه؛ فعلم أنه قد غلط، فعاد إلى الكوفيّين يعلمهم بحاله و وفاته؛ فوافاه سبعون كفنا. قال: و حضرناه جميعا و إنه ليتحسّر تحسّرا(4) شديدا و إن وجهه لأسود كالقار و ما يتكلّم، إلى أنا أفاق إفاقة و فتح عينيه فنظر إلى ناحية القبلة ثم قال: يا أمير المؤمنين، أ تفعل هذا بوليّك! قالها ثلاث مرّات مرّة بعد أخرى. قال: فتجلّى و اللّه في جبهته عرق بياض، فما زال يتّسع و يلبس وجهه حتى صار كلّه كالبدر(5)، و توفّي فأخذنا في جهازه و دفنّاه في الجنينة ببغداد، و ذلك في خلافة الرشيد.
ص: 202
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها *** إلى بلد ناء قليل الأصادق
و لا ذنب لي إذ قلت إذ نحن جيرة *** أثيبي بودّ قبل إحدى البوائق
عروضه من الطويل.
قوله: «فلا زلن حسرى»: دعاء على الإبل التي ظعنت بها و أبعدتها عنه. و حسرى: قد حسرن أي بلغ منهن الجهد فلم يبق فيهنّ بقيّة، يقال حسر ناقته فهو يحسرها، و هي حسرى، و الذّكر حسير(1)؛ قال اللّه عزّ و جلّ: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خٰاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ . و في الحديث: «فإن أتعبتها حسرتها». و الظّلع في كل شيء: أن تألم رجله فلا يقدر أن يمشي عليها فيغمز في مشيه كالأعرج إذا مشى، و يقال: ظلع فهو ظالع. و النائي: البعيد، و النّية: الناحية التي تنوي إليها، و النّوى: البعد، و التنائي: التباعد. و البوائق: الحوادث التي تأتي بما يحذر بغتة، و هي مثل المصائب و النوائب.
البيت الأوّل من الشعر لكثيّر، و يقال: إنه لأبي جندب الهذليّ. و البيت الثاني لرجل من كنانة ثم من بني جذيمة، و زعم ابن دأب أنه عبد اللّه بن علقمة أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة، و قيل أيضا: إنه يقال له عمرو الذي قتله خالد بن الوليد في بعض مغازيه التي وجّهه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيها. /الغناء في اللحن المختار لمتيّم مولاة عليّ بن هشام و أمّ أولاده. و لحنها رمل بالبنصر، من رواية إسحاق و عمرو؛ و هو من الأرمال النادرة المختارة. و فيه خفيف ثقيل، يقال: إنه لحسين بن محرز، و يقال: إنه قديم من غناء أهل مكة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن زكريا الغلابيّ قال حدّثنا العباس بن بكّار قال حدّثنا ابن دأب قال:
كان من حديث عبد اللّه بن علقمة أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة أنه خرج مع أمّه و هو مع ذلك غلام يفعة(2) دون المحتلم لتزور جارة لها، و كان لها بنت يقال لها حبيشة بنت حبيش أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآها عبد اللّه بن علقمة أعجبته و وقعت في نفسه، و انصرف و ترك أمّه عند جارتها، فلبثت عندها يومين.
ص: 203
ثم أتاها عبد اللّه بن علقمة ليرجعها إلى منزلها، فوجد حبيشة قد زيّنت لأمر كان في الحيّ، فازداد بها عجبا، و انصرف بأمّه في غداة تمطر، فمشى معها شيئا ثم أنشأ يقول:
و ما أدري بلى إنّي لأدري *** أصوب القطر أحسن أم حبيش
حبيشة و الذي خلق الهدايا *** و ما عن بعدها للصّبّ عيش
فسمعت ذلك أمّه فتغافلت عنه و كرهت قوله. ثم مشيا مليّا، فإذا هو بظبي على ربوة من الأرض، فقال:
يا أمّتا أخبريني غير كاذبة *** و ما يريد مسول الحقّ بالكذب
أ تلك أحسن أم ظبي برابية *** لا بل حبيشة في عيني و في أربي
/فزجرته أمّه و قالت له: ما أنت و هذا! نزوّجك بنت عمك فهي أجمل من تلك. و أتت امرأة/عمّه فأخبرتها خبره، و قالت: زيّني ابنتك له، ففعلت و أدخلتها عليه. فلما رآها أطرق. فقالت له أمّه: أيّهما الآن أحسن؟ فقال:
إذا غيّبت عنّي حبيشة مرّة *** من الدّهر لم أملك عزاء و لا صبرا
كأنّ الحشى حرّ السّعير يحشّه(1) *** وقود الغضى و القلب مستعرا(2)
و جعل يراسل الجارية و تراسله حتى علقته كما علقها، و كثر قوله للشعر فيها. فمن ذلك قال:
حبيشة هل جدّي و جدّك جامع *** بشملكم شملي و أهلكم أهلي
و هل أنا ملتفّ بثوبك مرّة *** بصحراء بين الأليتين(3) إلى النخل
و هل أشتفي من ريق ثغرك مرّة *** كراح و مسك خالطا(4) ضرب النّحل
فلما بلغ أهلها خبرهما حجبوها عنه مدّة، و هو يزيد غراما بها و يكثر قول الشعر فيها. فأتوها فقالوا لها: عديه السّرحة، فإذا أتاك فقولي له: نشدتك اللّه إن كنت أحببتني فو اللّه ما على الأرض شيء أبغض إليّ منك، و نحن قريب نستمع ما تقولين. فوعدته و جلسوا قريبا يستمعون، و جلست عند السّرحة، و أقبل عبد اللّه لوعدها. فلما دنا منها دمعت عينها و التفتت إلى حيث أهلها جلوس، فعرف أنهم قريب فرجع. و بلغه ما قالوا لها أن تقوله فأنشأ يقول:
لو قلت ما قالوا لزدت جوى بكم *** على أنه لم يبق ستر و لا صبر
/و لم يك حبّي عن نوال بذلته *** فيسليني عنه التجهّم و الهجر
و ما أنس م الأشياء لا أنس دمعها *** و نظرتها حتى يغيّبني القبر
ص: 204
و بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم على أثر ذلك خالد بن الوليد إلى بني عامر بن عبد مناة بن كنانة و أمره أن يدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوه و إلاّ قاتلهم(1). فصبحهم(2) خالد بن الوليد بالغميصاء(3) و قد سمعوا به فخافوه فظعنوا، و كانوا قتلوا أخاه الفاكه بن الوليد و عمّه الفاكه بن المغيرة في الجاهليّة، و كانوا من أشدّ حيّ في كنانة بأسا يسمّون «لعقة الدّم». فلما صبحهم خالد و معه بنو سليم، و كانت بنو سليم طلبتهم بمالك بن خالد بن صخر بن الشّريد و إخوته كرز و عمرو و الحارث، و كانوا قتلوهم في موطن واحد. فلما صبحهم خالد في ذلك اليوم و رأوا معه بني سليم زادهم ذلك نفورا. فقال لهم خالد: أسلموا تسلموا. قالوا: نحن قوم مسلمون. قال: فألقوا سلاحكم و انزلوا. قالوا: لا و اللّه. فقال جذيمة(4) بن الحارث أحد بني أقرم: يا قوم، لا تضعوا سلاحكم، و اللّه ما بعد وضع السلاح إلاّ القتل.
قالوا: لا و اللّه لا نلقي سلاحنا و لا ننزل، ما نحن منك و لا لمن معك بآمنين. قال خالد: فلا أمان لكم/إن لم تنزلوا. فنزلت فرقة منهم فأسرهم، و تفرّق بقيّة القوم فرقتين، فأصعدت فرقة و سفلت فرقة أخرى.
قال ابن دأب: فأخبرني من لا أتّهم عن عبد اللّه بن أبي حدرد الأسلميّ قال: كنت يومئذ في جند خالد، فبعثنا في أثر ظعن(5) مصعدة يسوق بهنّ فتية، فقال: أدركوا أولئك. قال: فخرجنا في أثرهم حتى أدركناهم و قد مضوا، و وقف لنا غلام شابّ على الطريق. فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا و هو يقول:
/
بيّنّ (6) أطراف الذّيول و اربعن *** مشي حييّات كأن لم يفزعن
إن يمنع اليوم نساء تمنعن
فقاتلنا طويلا فقتلناه، و مضينا حتى لحقنا الظّعن، فخرج إلينا غلام كأنه الأوّل، فجعل يقاتلنا و يقول:
أقسم ما إن خادر(7) ذو لبدة *** يزأر بين أيكة و وهده
يفرس شبّان الرجال وحده *** بأصدق الغداة منّي نجده
فقاتلنا حتى قتلناه، و أدركنا الظّعن فأخذناهنّ، فإذا فيهن غلام وضيء به صفرة في لونه كالمنهوك، فربطناه
ص: 205
بحبل و قدّمناه لنقتله؛ فقال لنا: هل لكم في خير؟ قلنا: و ما هو؟ قال: تدركون بي الظّعن أسفل الوادي ثم تقتلونني؛ قلنا: نفعل. فخرجنا حتى نعارض الظّعن أسفل الوادي. فلما كان بحيث يسمعن الصوت، نادى بأعلى صوته: اسلمي حبيش، عند نفاد العيش. فأقبلت إليه جارية بيضاء حسناء فقالت: /و أنت فاسلم على كثرة الأعداء، و شدّة البلاء. فقال: سلام عليكم دهرا، و إن(1) بقيت عصرا. قالت: و أنت سلام عليك عشرا، و شفعا تترى، و ثلاثا وترا. فقال:
إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع *** هواك لهم منّي سوى غلّة الصدر
و أنت التي أخليت لحمي من دمي *** و عظمي و أسبلت الدموع على نحري
فقالت له:
و نحن بكينا من فراقك مرّة *** و أخرى و آسيناك في العسر و اليسر
و أنت - فلا تبعد فنعم فتى الهوى - *** جميل العفاف في المودّة و السّتر(2)
فقال لها:
أريتك إن طالبتكم فوجدتكم *** بحلية(3) أو أدركتكم بالخوانق(4)
أ لم يك حقّا أن ينوّل عاشق *** تكلّف إدلاج السّرى و الودائق(5)
فقالت: بلى و اللّه. فقال:
فلا ذنب لي إذ قلت إذ نحن جيرة *** أثيبي بودّ قبل إحدى البوائق
أثيبي بودّ قبل أن تشحط النّوى *** و ينأى خليط بالحبيب المفارق
قال ابن أبي حدرد: فضربنا عنقه، فتقحّمت الجارية من خدرها حتى أتت نحوه فالتقمت فاه، فنزعنا منها رأسه و إنها لتكسع(6) بنفسها حتى ماتت مكانها. و أفلت/من القوم غلام من بني أقرم يقال له السّميدع حتى اقتحم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبره بما صنع خالد و شكاه.
قال ابن دأب: فأخبرني صالح بن كيسان أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سأله: «هل أنكر عليه أحد ما صنع»؟ فقال: نعم، رجل أصفر ربعة و رجل أحمر طويل. فقال عمر: أنا و اللّه يا رسول اللّه أعرفهما، أمّا الأوّل فهو ابني وصفته، و أما
ص: 206
الثاني فهو سالم مولى/أبي حذيفة. و كان خالد قد أمر كلّ من أسر أسيرا أن يضرب عنقه، فأطلق عبد اللّه بن عمر و سالم مولى أبي حذيفة أسيرين كانا معهما. فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عليّا رضي اللّه عنه بعد فراغه من حنين و بعث معه بإبل و ورق و أمره أن يديهم فوداهم، ثم رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فسأله فقال عليّ: قدمت عليهم فقلت لهم: هل لكم أن تقبلوا هذا الجمل بما أصيب منكم من القتلى و الجرحى و تحلّلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قالوا نعم. فقلت لهم: فهل لكم أن تقبلوا الثاني بما دخلكم من الرّوع و الفزع؟ قالوا نعم. فقلت لهم: فهل لكم أن تقبلوا الثالث و تحلّلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ممّا علم و ممّا لم يعلم؟ قالوا نعم. قال: فدفعته إليهم، و جعلت أديهم، حتى إني لأدي ميلغة(1)الكلب، و فضلت فضلة فدفعتها إليهم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أ فقبلوها؟» قال نعم. قال: «فو الذي أنا عبده لهي أحبّ إليّ من حمر النّعم».
و قالت سلمى(2) بنت عميس:
و كم غادروا يوم الغميصاء من فتى *** أصيب فلم يجرح و قد كان جارحا
/و من سيّد كهل عليه مهابة *** أصيب و لمّا يعله الشيب واضحا
أحاطت(3) بخطّاب الأيامى و طلّقت *** غداتئذ من كان منهنّ ناكحا
و لو لا مقال القوم للقوم أسلموا *** للاقت سليم يوم ذلك ناطحا
قال ابن دأب: و أمّا سبب قتلهم القرشيّين، فإنه كان نفر من قريش بضعة عشر أقبلوا من اليمن حتى نزلوا على ماء من مياه بني عامر بن عبد مناة بن كنانة، و كان يقال لهم «لعقة الدّم» و كانوا ذوي بأس شديد. فجاءت إليهم بنو عامر فقالوا للقرشيّين: إيّاكم أن يكون معكم رجل من فهم؛ لأنه كان له عندهم ذحل. قالوا: لا و اللّه ما هو معنا، و هو معهم. فلما راحوا أدركهم العامريّون ففتّشوهم فوجدوا الفهميّ معهم في رحالهم، فقتلوه و قتلوهم و أخذوا أموالهم. فقال راجزهم:
إنّ قريشا غدرت و عاده *** نحن قتلنا منهم بغادة(4)
عشرين كهلا ما لهم زياده
و كان فيمن قتل يومئذ عفّان بن أبي العاصي أبو عثمان بن عفّان، و عوف بن عوف أبو عبد الرحمن بن عوف، و الفاكه بن المغيرة، و الفاكه بن الوليد بن المغيرة. فأرادت قريش قتالهم حتى خذلتهم بنو الحارث بن عبد مناة فلم
ص: 207
يفعلوا شيئا. و كان خالد بن عبيد اللّه أحد بني الحارث بن عبد مناة فيمن حضر الوقعة هو و ضرار(1). فأشار إلى ذلك ضرار بن الخطاب بقوله:
/
دعوت إلى خطّة خالدا *** من المجد ضيّعها خالد
فو اللّه أدري(2) أضاهى بها *** بني(3) العمّ أم صدره بارد
و لو خالد عاد في مثلها *** لتابعه عنق وارد(4)
و قال ضرار أيضا:
أرى ابني لؤيّ (5) أسرعا أن تسالما *** و قد سلكت أبناؤها كلّ مسلك
/فإن أنتم لم تثأروا برجالكم *** فدوكوا(6) الذي أنتم عليه بمدوك(7)
فإنّ أداة الحرب ما قد جمعتم *** و من يتّق الأقوام بالشّر يترك
فلما كان يوم فتح مكة بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالجيوش إلى قبائل بني كنانة حوله، فبعث إلى بني ضمرة نميلة بن عبد اللّه اللّيثيّ، و إلى بني الدّئل عمرو بن أميّة الضّمريّ، و بعث إلى بني مدلج عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ، و بعث إلى بني بغيض و محارب بن فهر عبد اللّه بن نهيك أحد بني مالك بن حسل، و بعث إلى بني عامر بن عبد مناة خالدا.
فوافاهم خالد بماء يقال له الغميصاء؛ و قد كان خبره سقط إليهم، فمضى منهم سلف قتله بقوم منهم، يقال لهم بنو قيس(8) بن عامر و بنو قعين بن عامر و هم خير القوم و أشرفهم، فأصيب من أصيب. فلما أقبل خالد/و دخل المدينة قال له النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «يا خالد ما دعاك إلى هذا»! قال: يا رسول اللّه آيات سمعتهنّ أنزلت عليك. قال: «و ما هي»؟ قال: قول اللّه عزّ ذكره: قٰاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ و جاءني ابن أمّ أصرم فقال لي: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يأمرك أن تقاتل. فحينئذ بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فوداهم.
ص: 208
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا سعد بن أبي نصر قال حدّثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن رجل من مزينة يقال له ابن عاصم(1) عن أبيه قال:
بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في سريّة و أمرنا ألاّ نقتل أحدا إن رأينا مسجدا أو سمعنا أذانا - قال وكيع و أخبرني أحمد بن أبي خيثمة قال حدّثنا إبراهيم بن بشّار الرّماديّ قال حدّثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن نوفل عن ابن عاصم هذا عن أبيه بهذا الحديث قال -:
فبينا نحن نسير إذا بفتى يسوق ظعائن؛ فعرضنا عليه الإسلام فإذا هو لا يعرفه؛ فقال: ما أنتم صانعون بي إن لم أسلم؟ قلنا: نحن قاتلوك. قال: فدعوني ألحق هذه الظعائن، فتركناه؛ فأتى هودجا منها و أدخل رأسه فيه و قال:
اسلمي حبيش، قبل نفاد العيش. فقالت: و أنت فاسلم تسعا وترا، و ثمانيا تترى، و عشرا أخرى. فقال لها:
فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرة *** أثيبي بودّ قبل إحدى البوائق
أثيبي بودّ قبل أن تشحط النّوى *** و ينأى أمير بالحبيب المفارق
/قال: ثم جاء فضربنا عنقه. فخرجت من ذلك الهودج جارية جميلة فجنأت(2) عليه، فما زالت تبكي حتى ماتت.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و عمرو بن عبد اللّه العتكيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:
يروى أن خالد بن الوليد كان جالسا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فسئل عن غزوته بني جذيمة فقال: إن أذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تحدّثت. فقال: «تحدّث». فقال: لقيناهم بالغميصاء عند وجه الصبح، فقاتلناهم حتى كاد قرن الشمس يغيب، فمنحنا اللّه أكتافهم فتبعناهم نطلبهم، فإذا بغلام له ذوائب على فرس ذنوب(3) في أخريات القوم، فبوّأت(4) له الرمح فوضعته بين كتفيه؛ فقال: لا إله، فقبضت عنه الرّمح؛ /فقال: إلاّ اللاّت أحسنت أو أساءت. فهمسته(5)همسة أذريته و وقيذا(6) ثم أخذته أسيرا فشددته وثاقا؛ ثم كلمته فلم يكلّمني، و استخبرته فلم يخبرني. فلما كان ببعض الطريق رأى نسوة من بني جذيمة يسوق بهنّ المسلمون، فقال: أيا خالد! قلت: ما تشاء؟ قال: هل أنت واقفي على هؤلاء النّسوة؟! فأتيت على أصحابي ففعلت، و فيهن جارية تدعى حبيشة؛ فقال لها: ناوليني يدك فناولته يدها في ثوبها؛ فقال: اسلمي حبيش، قبل نفاد العيش. فقالت: حيّيت عشرا، و تسعا وترا، و ثمانيا تترى. فقال:
أريتك إن طالبتكم فوجدتكم *** بحلية أو أدركتكم بالخوانق
أ لم يك حقّا أن ينوّل عاشق *** تكلّف إدلاج السّرى و الودائق
/و قد قلت إذ أهلي لأهلك جيرة *** أثيبي بودّ قبل إحدى الصّعائق
ص: 209
أثيبي بودّ قبل أن تشحط النّوى *** و ينأ أمير بالحبيب المفارق
فإنّي لا ضيّعت سرّ أمانتي *** و لا راق عيني بعد عينك رائق(1)
سوى أنّ ما نال العشيرة شاغل *** عن الودّ إلا أن يكون التّوامق
فلما جاء على حاله تلك قدّمته(2) فضربت عنقه. فأقبلت الجارية و وضعت رأسه في حجرها و جعلت ترشفه و تقول:
لا تبعدن يا عمرو حيّا و هالكا *** فحقّ بحسن المدح مثلك من مثلي
لا تبعدن يا عمرو حيّا و هالكا *** فقد عشت محمود الثّنا ماجد الفعل
فمن لطراد الخيل تشجر(3) بالقنا *** و للفخر يوما عند قرقرة البزل(4)
و جعلت تبكي و تردّد هذه الأبيات حتى ماتت و إن رأسه لفي حجرها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لقد رفعت لي يا خالد و إن سبعين ملكا لمطيفون بك يحضّونك على قتل عمرو حتى قتلته».
أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد اللّه بن المنذر عن صفيّة بنت الزبير بن هشام قالت:
كان أبو السائب المخزوميّ رجلا صالحا زاهدا متقلّلا يصوم الدّهر، و كان أرقّ خلق اللّه و أشدّهم غزلا. فوجّه ابنه يوما يأتيه بما يفطر عليه، فأبطأ الغلام إلى العتمة. فلما جاء قال له: يا عدوّ نفسه، ما أخّرك إلى هذا الوقت؟ قال: جزت بباب/بني فلان فسمعت منه غناء فوقفت حتى أخذته. فقال: هات يا بنيّ، فو اللّه لئن كنت أحسنت لأحبونّك، و لئن كنت أسأت لأضربنّك. فاندفع يغنّي بشعر كثير:
و لما علوا شغبا(5) تبيّنت أنه *** تقطّع من أهل الحجاز علائقي(6)
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها *** إلى بلد ناء قليل الأصادق
فلم يزل يغنّيه إلى نصف الليل. فقالت له زوجته: يا هذا، قد انتصف الليل و ما أفطرنا. قال لها: أنت طالق إن كان
ص: 210
فطورنا غيره. فلم يزل يغنّيه إلى السّحر. فلما كان السّحر قالت له زوجته: هذا السّحر و ما أفطرنا! فقال: أنت طالق إن كان سحورنا غيره. فلما أصبح قال لابنه: /خذ جبّتي هذه و أعطني خلقك ليكون الحباء فضل ما بينهما. فقال له: يا أبت، أنت شيخ و أنا شابّ و أنا أقوى على البرد منك. قال: يا بنيّ، ما ترك صوتك هذا للبرد عليّ سبيلا ما حييت(1).
شعر لسليمان بن أبي دباكل:
أخبرني وكيع قال أنشدنا أحمد بن يزيد الشّيبانيّ عن مصعب الزّبيريّ لسليمان ابن أبي دباكل(2) قال:
فهلا نظرت الصبح يا بعل زينب *** فتقضى لبانات الحبيب المفارق
يروح إذا يمسي حنينا و يغتدي *** و تهجيره عند احتدام الودائق
/فطر جاهدا أو كن حليفا لصخرة *** ممنّعة في رأس أرعن شاهق
فما زال هذا الدهر من شؤم صرفه *** يفرّق بين العاشقين الأوامق
فيبعدنا ممّن نريد اقترابه *** و يدني إلينا من نحبّ نفارق(3)
و لما علوا شغبا تبيّنت أنه *** تقطّع من أهل الحجاز علائقي
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها *** إلى بلد ناء قليل الأصادق
ص: 211
12 - ذكر متيّم الهشاميّة(1) و بعض أخبارها
كانت متيّم صفراء مولّدة من مولّدات البصرة، و بها نشأت و تأدّبت و غنّت. و أخذت عن إسحاق و عن أبيه من قبله و عن طبقتهما من المغنّين. و كانت من تخريج بذل و تعليمها. و على ما أخذت عنها كانت تعتمد. فاشتراها عليّ بن هشام(2) بعد ذلك، فازدادت(3) أخذا ممّن كان يغشاه من أكابر المغنّين. و كانت من أحسن الناس وجها و غناء و أدبا. و كانت تقول الشعر ليس ممّا يستجاد، و لكنّه يستحسن من مثلها. و حظيت عند عليّ بن هشام حظوة شديدة، و تقدّمت على جواريه جمع(4) عنده، و هي أمّ ولده كلّهم.
و قال عبد اللّه بن العنز فيما أخبرني عنه محمد بن إبراهيم قريش قال أخبرني الحسن بن أحمد المعروف بأبي عبد اللّه الهشاميّ قال:
كانت متيّم للبانة بنت عبد اللّه بن إسماعيل المراكبي(5) مولي(6) عريب، فاشتراها عليّ بن هشام منها بعشرين ألف درهم و هي إذ ذاك جويرية، فولدت له صفيّة/و تكنى أمّ العباس، ثم ولدت محمدا و يعرف بأبي عبد اللّه، ثم ولدت بعده ابنا يقال له هارون و يعرف بأبي جعفر، سمّاه المأمون و كنّاه لمّا ولد بهذا الاسم و الكنية. قال: و لما توفّي عليّ بن هشام عتقت.
و كان المأمون يبعث إليها فتجيئه فتغنّيه. فلما خرج المعتصم إلى سرّ من رأى أرسل إليها فأشخصها و أنزلها داخل الجوسق في دار كانت تسمّى الدّمشقيّ و أقطعها غيرها. و كانت تستأذن المعتصم في الدخول إلى بغداد إلى ولدها فتزورهم و ترجع، ثم ضمّها لما خرجت قلم. و قلم جارية كانت لعليّ بن هشام. و كانت متيّم صفراء حلوة الوجه.
ص: 212
فذكر محمد بن الحسن الكاتب أنّ الحسين بن يحيى بن أكثم حدّثه عن الحسن بن إبراهيم بن رياح(1) قال:
سألت عبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ: من أحسن من أدركت صنعة؟ قال: إسحاق. قلت: ثم من؟ قال: علويه.
قلت: ثم من؟ قال: متيّم. قلت: ثم من؟ قال: ثم أنا. فعجبت من تقديمه متيّم على نفسه؛ فقال: الحقّ أحقّ أن يتّبع.
أخبرني محمد بن الحسن قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:
/سئل عبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ عن أحسن الناس غناء. فذكر مثل هذه الحكاية، و زاد فيها أن قال له: ما أحسن أن أصنع كما صنعت متيّم في قوله:
فلا زلن حسرى ظلعا لم حملنها
و لا كما صنع علّويه في قول الصّمّة:
فوا حسرتي لم أقض منك(2) لبانة *** و لم أتمتّع بالجوار و بالقرب
/قال: فأين عمرو بن بانة؟ قال: عمرو لا يضع نفسه في الصنعة هذا الموضع، و لكنّه صنع لحنا في هذا الغناء.
فوا حسرتي لم أقض منك لبانة *** و لم أتمتّع بالجوار و بالقرب
يقولون هذا آخر العهد منهم(3) *** فقلت و هذا آخر العهد من قلبي
ألا يا حمام الشّعب شعب مراهق *** سقتك الغوادي من حمام و من شعب
الشعر للصّمّة بن عبد اللّه القشيريّ. و الغناء فيه لعلّويه، ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى. و فيه لمخارق خفيف رمل بالوسطى، أوّله: «ألا يا حمام الشعب» ثم الثاني ثم الأوّل. و ذكر حبش أن فيه لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر.
و قال ابن المعتزّ أخبرني الهشاميّ قال:
ص: 213
كانت متيّم ذات يوم جالسة بين يدي المعتصم ببغداد و إبراهيم بن المهديّ حاضر؛ فغنّت متيّم في الثقيل الأوّل:
لزينب طيف تعتريني طوارقه *** هدوّا إذا ما النّجم لاحت لواحقه
فأشار إليها إبراهيم أن تعيده؛ فقالت متيّم للمعتصم: يا سيّدي، إبراهيم يستعيدني الصوت و كأنه يريد أن يأخذه؛ فقال لها: لا تعيديه. فلما كان بعد أيام كان إبراهيم حاضرا مجلس المعتصم و متيّم غائبة، فانصرف إبراهيم بعد حين إلى منزله و متيّم في منزلها بالميدان(1) و طريقه عليها و هي في منظرة لها مشرفة على الطريق و هي تغنّي هذا الصوت/و تطرحه على جواري عليّ بن هشام؛ فتقدّم إلى المنظرة و هو على دابّته فتطاول حتى أخذ الصوت، ثم ضرب باب المنظرة بمقرعته و قال: قد أخذناه بلا حمدك.
و قال ابن المعتزّ: و حدّثت أنّ المأمون سأل عليّ بن هشام أن يهبها له و كان بغنائها معجبا(2)؛ فدفعه بذلك و لم يكن له منها ولد. فلما ألحّ المأمون في طلبها حرص عليّ على أن تعلق منه حتى حبلت و يئس المأمون منها. فيقال إن ذلك كان سببا لغضبه عليه حتى قتله.
و حدّثني سليمان(3) الطّبّال أنه رأى متيّم في بعض مجالس المعتصم يمازحها و يجبذ بردائها.
و حكى عليّ بن محمد الهشاميّ قال:
أهدي إلى عليّ بن هشام برذون أشهب قرطاسيّ (4) و كان في النّهاية من الحسن و الفراهة، و كان عليّ به معجبا، و كان إسحاق يشتهيه شهوة شديدة، و عرّض لعليّ بطلبه مرارا فلم يرض أن يعطيه له. فسار إسحاق إلى عليّ يوما بعقب/صنعة متيّم «فلا زلن حسرى» فاحتبسه عليّ و بعث إلى متيّم أن تجعل صوتها هذا في صدر غنائها ففعلت، فأطرب إسحاق إطرابا شديدا، و جعل يستردّه، فتردّه و تستوفيه ليزيد في إطرابه إسحاق و هو يصغي إليها و يتفهّمه حتى صحّ له. ثم قال لعليّ: ما فعل البرذون الأشهب؟ قال: على ما عهدت من حسنه و فراهته. قال:
فاختر الآن منّي خلّة من اثنتين: إما أن طبت لي نفسا به و حملتني عليه، و إما أن أبيت فأدّعي و اللّه هذا الصوت لي و قد أخذته، أ فتراك تقول: إنه لمتيّم و أقول: إنه لي و يؤخذ قولك/و يترك قولي؟! قال: لا و اللّه ما أظنّ هذا و لا أراه؛ يا غلام قد(5) البرذون إلى منزل أبي محمد بسرجه و لجامه، لا بارك اللّه له فيه!.
ص: 214
قال عليّ بن محمد و حدّثني أحمد بن حمدون:
أن إسحاق قال لمتيّم لمّا سمع هذا الصوت منها: أنت أنا فأنا من! يريد أنها قد حلّت محلّه و ساوته.
قال عليّ بن محمد و قال جدّي أبو جعفر:
كانت متيّم تقول:
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها
الرّمل كلّه.
و حدّثني الهشاميّ قال مدّ عليّ بن هشام يده إلى بذل(1) جاريته في عتاب يعاتبها، ثم ندم على فعله ذلك، ثم أنشأ يقول:
فليت يدي بانت غداة مددتها *** إليك و لم ترجع بكفّ و ساعد
و غنّت متيّم جاريته فيه في الثقيل الأوّل؛ فكان يقال لبذل جارية عليّ بذل الصغيرة.
و حدّثني الهشاميّ قال:
كان(2) سبب موت بذل هذه أنها كانت ذات يوم جالسة عند المأمون فغنّته، و كان حاضرا في ذلك المجلس موسوس يكنى بأبي الكركدن من أهل طبرستان/يضحك منه المأمون، فعبثوا به فوثب عليهم و هرب الناس من بين يديه فلم يبق أحد حتى هرب المأمون، و بقيت بذل جالسة و العود في حجرها، فأخذ العود من يدها و ضرب به رأسها فشجّها في شابورتها(3) اليمنى؛ فانصرفت و حمّت، و كان سبب موتها.
و حدّثني الهشاميّ قال:
لما مات عليّ بن هشام و مات المأمون، أخذ المعتصم جواري عليّ بن هشام كلّهن فأدخلهنّ القصر، فتزوّج
ص: 215
ببذل المغنّية و بقيت عنده إلى أن مات؛ فخرجت بذل الكبيرة و الباقون إلا بذل الصغيرة لأنها كانت حرمته فلم يخرجوها(1).
و يقال: إنه لم يكن في المغنّين أحسن صنعة من علّويه و عبد اللّه بن العباس و متيّم.
و في أولادها يقول عليّ بن الجهم:
بني متيّم هل تدرون ما الخبر *** و كيف يستر أمر ليس يستتر
حاجيتكم من أبوكم يا بني عصب *** شتّى و لكنّكما للعاهر الحجر(2)
قال: و حدّثني جدّي قال: كلّم عليّ بن هشام متيّم فأجابته جوابا لم(3) يرضه، فدفع يده في صدرها، فغضبت و نهضت، فتثاقلت عن الخروج إليه. فكتب إليها:
فليت يدي بانت غداة مددتها *** إليك و لم ترجع بكفّ و ساعد
فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا *** فلست إلى يوم التّنادي بعائد
/غنّته متيّم خفيف رمل بالبنصر.
/عتبت على عليّ بن هشام و ترضاها ثم كتب إليها فرضيت:
قال: و عتبت عليه مرّة فتمادى عتبها، و ترضّاها فلم ترض؛ فكتب إليها(4): الإدلال يدعو إلى الإملال، و ربّ هجر دعا إلى صبر، و إنما سمّي القلب قلبا لتقلّبه. و لقد صدق العباس بن الأحنف حيث يقول:
ما أراني إلاّ سأهجر من لي *** س يراني أقوى على الهجران
قد حدا بي إلى الجفاء وفائي(5) *** ما أضرّ الوفاء بالإنسان
قال: فخرجت إليه من وقتها [و رضيت](6).
و حدّثني الهشاميّ قال:
ص: 216
كانت متيّم تحبّني حبّا شديدا يتجاوز محبّة الأخت لأخيها، و كانت تعلم أني أحبّ النّبق، فكانت لا تزال تبعث إليّ منه. فإنّي لأذكر في ليلة من الليالي في وقت السّحر إذا أنا ببابي يدقّ. فقيل: من هذا؟ فقالوا: خادم متيّم يريد أن يدخل إلى أبي عبد اللّه. فقلت: يدخل. فدخل و معه إليّ صينيّة فيها نبق؛ فقال لي: تقرئك السلام و تقول لك:
كنت عند أمير المؤمنين المعتصم باللّه فجاءوه بنبق من أحسن ما يكون؛ فقلت له: يا سيّدي، أطلب من أمير المؤمنين شيئا؟ فقال لي: تطلبين ما شئت. قالت: يطعمني أمير المؤمنين من هذا النّبق. فقال لسمانة(1):
اجعل من هذا النّبق في صينية و اجعلوها قدّام متيّم؛ فأخذته و ذلّلته [لك](2) و قد بعثت به إليك معي، /ثم دفعت إليّ دراهم و قالت: هب للحرّاس هذه الدراهم لكي يفتحوا الدّروب لك حتى تصير به إليه.
ثم حدّثنا الهشاميّ قال:
بعث عليّ بن هشام إلى إسحاق فجاء، فأخرج متيّم جاريته إليه؛ فغنّت بين يديه:
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها *** إلى بلد ناء قليل الأصادق
فاستعاده إسحاق و استحسنه، ثم قال له: بكم تشتري منّي هذا الصوت؟ فقال له عليّ بن هشام: جاريتي تصنع هذا الصوت و أشتريه منك! قال: قد أخذته الساعة و أدّعيه، فقول من يصدّق، قولي أو قولك! فافتداه منه ببرذون اختاره له.
و حدّثني الهشاميّ قال:
سمع عليّ بن هشام قدّام المأمون من قلم جارية زبيدة صوتا عجيبا، فرشا لمن(3) أخرجه من دار زبيدة بمائة ألف دينار حتى صار إلى داره و طرح الصوت على جواريه. و لو علمت بذلك زبيدة لاشتدّ عليها، و لو سألها أن توجّه به ما فعلت.
و حدّثني يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم عن أبيه قال:
لمّا صنعت متيّم اللّحن في قوله:
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها
أعجب به عليّ بن هشام، و أسمعه إسحاق فاستحسنه و قال: من أين لك هذا؟ فقال: من بعض الجواري.
ص: 217
فقال(1): إنه لعريب؛ و لم يزل يستعيده حتى قال: إنه لمتيّم؛ فأطرق. و كان متحاملا على المغنّين شديد النّفاسة عليهم كثير الظلم لهم مسرفا/في حطّ درجاتهم، و ما رأيته في غنائه ذكر لعلّويه و لا مخارق و لا عمرو بن بانة و لا عبد اللّه بن عبّاس و لا محمد بن الحارث صوتا واحدا ترفّعا عن ذكرهم منتصبا(2) لهم، و ذكر في آخر الكتاب قوله:
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها *** إلى بلد ناء قليل الأصادق
و وقّع تحته «لمتيّم». و ذكر آخر كل صوت في الكتاب و نسب إلى كلّ مغنّ صوته غير مخارق و علّويه و عمرو بن بانة و عبد اللّه بن عباس فما ذكرهم بشيء.
أخبرنا أحمد بن جعفر جحظة/قال حدّثني ابن المكيّ عن أبيه قال قال لي عليّ بن هشام:
لمّا قدمت عليّ شاهك جدّتي من خراسان، قالت: اعرض جواريك عليّ، فعرضتهنّ عليها. ثم جلسنا على الشّراب، و غنّتنا متيّم. و أطالت جدّتي الجلوس فلم أنبسط إلى جواريّ كما كنت أفعل؛ فقلت هذين البيتين:
أ نبقى على هذا و أنت قريبة *** و قد منع الزّوّار بعض التّكلّم
سلام عليكم لا سلام مودّع *** و لكن سلام من حبيب متيّم
و كتبتهما في رقعة و رميت بها إلى متيّم؛ فأخذتها و نهضت إلى الصلاة(3)، ثم عادت و قد صنعت فيه اللحن الذي يغنّي فيه اليوم، فغنّت. فقالت شاهك: ما أرانا إلاّ قد/ثقّلنا عليكم اليوم؛ و أمرت الجواري فحملن محفّتها، و أمرت بجوائز للجواري و ساوت(4) بينهنّ، و أمرت لمتيّم بمائة ألف درهم.
ص: 218
و أخبرني قال: أوّل من عقد من النساء في طرف الإزار زنّارا(1) و خيط إبريسم(2) ثم تجعله في رأسها فيثبت الإزار و لا يتحرّك و لا يزول متيّم.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني ميمون بن هارون قال:
مرّت متيّم في نسوة و هي مستخفية بقصر عليّ بن هشام بعد أن قتل، فلما رأت بابه مغلقا لا أنيس عليه و قد علاه التراب و الغبرة و طرحت في أفنيته المزابل، وقفت عليه و تمثّلت:
صوت(3)
يا منزلا لم تبل أطلاله *** حاشا لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك لكنّني *** بكيت عيشي فيك إذ ولّى
/قد كان لي فيك هوّى مرّة *** غيّبه الترب و ما ملاّ(4)
فصرت أبكي جاهدا فقده *** عند اذكاري حيثما حلاّ
فالعيش أولى ما بكاه الفتى *** لا بدّ للمحزون أن يسلى
- فيه رمل بالوسطى لابن جامع - قال: ثم بكت حتى سقطت من قامتها، و جعل النّسوة يناشدنها و يقلن: اللّه اللّه في نفسك! فإنك تؤخذين الآن، فبعد لأيّ (5) ما حملت تتهادى بين امرأتين حتى تجاوزت الموضع.
نسخت من كتاب أبي سعيد السّكّريّ حدّثني الحارث بن أبي أسامة قال حدّثني محمد بن الحسن عن [عبد اللّه بن](6) العباس الرّبيعي قال: قالت لي متيّم:
بعث إليّ المعتصم بعد قدومه بغداد، فذهبت إليه، فأمرني بالغناء فغنّيت:
هل مسعد لبكاء *** بعبرة أو دماء
فقال: اعدلي عن هذا البيت إلى غيره؛ فغنّيته غيره من معناه؛ فدمعت عيناه و قال: غنّي غير هذا. فغنّيت في لحني:
ص: 219
أولئك قومي بعد عزّ و منعة *** تفانوا و إلاّ تذرف العين أكمد
فبكى و قال: ويحك! لا تغنّيني في هذا المعنى شيئا البتة(1). فغنّيت في لحني:
لا تأمن الموت في حلّ و في حرم *** إنّ المنايا تغشّى كلّ إنسان
/و اسلك طريقك هونا غير مكترث *** فسوف يأتيك ما يمني(2) لك الماني
فقال: و اللّه لو لا أني أعلم أنك إنما غنّيت بما في قلبك لصاحبك و أنّك لم تريدني لمثّلت بك؛ /و لكن خذوا بيدها فأخرجوها، فأخذوا بيدي فأخرجت.
هل مسعد لبكاء *** بعبرة أو دماء
و ذا لفقد خليل *** لسادة نجباء
الشعر لمراد شاعرة عليّ بن هشام ترثيه لمّا قتله المأمون. و الغناء لمتيّم. و لحنه من الثقيل الأوّل بالوسطى.
منها:
ذهبت(3)
من الدّنيا و قد ذهبت منّي*** ..........................
و قد أخرج في أخبار إبراهيم بن المهديّ لأنه من غنائه و شعره، و شرحت أخباره فيه. و لحنه رمل بالوسطى.
و منها:
أولئك قومي بعد عزّ و منعة *** تفانوا و إلاّ تذرف العين أكمد
/و قد أخرج في أخبار أبي سعيد مولى فائد و العبليّ و غنّيا فيه من مراثيهما في بني أميّة. و لحن متيّم هذا الذي غنّت فيه المعتصم ثاني ثقيل بالوسطى.
و منها:
ص: 220
لا تأمن الموت في حلّ و في حرم *** ..............................
ذكر الهشاميّ أنه ممّا وجده من غناء متيّم، غير أن لها لحنا فيه يذكر في موضع غير هذا على شرح(1) إن شاء اللّه تعالى، و إنما ألفت صوتا تولّعت به و غنّته فنسبه إليها(2).
و أخبرني قال: كنّا في مجلسنا نياما. فلما كان مع الفجر إذا متيّم قد دخلت علينا و قالت: أطعموني شيئا؛ فأخرجوا إليها شيئا تأكله، فأكلت، و دعت بنبيذ و ابتدأت الشرب، و دعت بعود فاندفعت تغنّي لنفسها و تشرب. و كان ممّا غنّت:
كيف الثّواء بأرض لا أراك بها *** يا أكثر الناس عندي منّة و يدا
- خفيف رمل - و قال: ما رأيت أحدا من المغنّين و المغنّيات إذا غنّوا لأنفسهم يكادون يغنّون إلاّ خفيف رمل.
و أخبرني قال حدّثني بعض أهلها قال: لما أصبنا بعليّ بن هشام، جاء النوائح، فطرح بعض من حضر من مغنّياته عليهنّ نوحا من نوح متيّم، و كان حسنا جيّدا، فأبطأ نوح النوائح اللاّتي جئن لحسنه و جودته. و كانت زين حاضرة فاستحسنه جدّا، و قالت: رضي اللّه عنك يا متيّم! كنت علما في السرور، و أنت علم في المصائب.
و أخبرني قال: إني لأذكر من بعض نوحها:
لعليّ و أحمد و حسين *** ثم نصر و قبله للخليل
هزج.
قال ابن المعتزّ: و أخبرني الهشاميّ قال: وجّهت مؤنسة جارية المأمون إلى متيّم جارية عليّ بن هشام في يوم
ص: 221
احتجمت فيه مخنقة(1) في وسطها حبّة لها قيمة جليلة كبيرة(2) و عن يمين الحبّة و يسارها أربع يواقيت و أربع زمرّدات و ما بينها من شذور الذهب، و باقي المخنقة قد طيّب بغالية.
و أخبرني قال: كانت متيّم يعجبها البنفسج جدّا، و كان عندها آثر من كلّ ريحان و طيب، حتى إنها من شدّة إعجابها [به](3) لا يكاد يخلو من/كمّها الرّيحان و لا نراه إلا كما قطف من البستان(4).
و قد أخبرني رحمه اللّه قال حدّثنا أبو جعفر بن الدّهقانة:
أنّ جارية للمعتصم قالت له لمّا ماتت متيّم و إبراهيم بن المهديّ و بذل: /يا سيّدي، أظن أنّ في الجنّة عرسا، فطلبوا هؤلاء إليه. فنهاها المعتصم عن هذا القول و أنكره. فلما كان بعد أيام، وقع حريق في حجرة هذه القائلة فاحترق كلّ ما تملكه. و سمع المعتصم الجلبة فقال: ما هذا؟ فأخبر عنه؛ فدعا بها فقال: ما قصّتك؟ فبكت و قالت:
يا سيّدي، احترق كلّ ما أملكه. فقال: لا تجزعي، فإن هذا لم يحترق و إنما استعاره أصحاب ذلك العرس.
و قد ذكرت في متقدّم أخبار متيّم أنّها كانت تقول الشعر و لم أذكر شيئا. فمن ذلك ما أخبرنا به الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الحسن بن أحمد بن أبي طالب الدّيناريّ قال حدّثني الفضل بن العبّاس بن يعقوب قال حدّثني أبي قال:
قال المأمون لمتيّم جارية عليّ بن هشام: أجيزي لي هذين البيتين:
تعالي تكون الكتب بيني و بينكم *** ملاحظة نومي بها و نشير
و رسلي بحاجاتي و هنّ كثيرة *** إليك إشارات بها و زفير(5)
إنّ العيون التي في طرفها مرض *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللّبّ حتى لا حراك له *** و هنّ أضعف خلق اللّه أركانا
ص: 222
عروضه من البسيط. و الشعر لجرير. و الغناء لابن محرز. و لحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل. و في هذه القصيدة أبيات أخر تغنّى فيها ألحان سوى هذا اللحن، منها قوله:
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق *** هل ما ترى تارك للعين إنسانا
إن العيون التي في طرفها مرض *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
[الغناء في هذين البيتين ثقيل](1) أوّل مطلق بإطلاق الوتر في مجرى البنصر.
و منها أيضا:
بان الأخلاّ و ما ودّعت من بانا *** و قطّعوا من حبال الوصل أركانا
أصبحت لا أبتغي من بعدهم بدلا *** بالدار دارا و لا الجيران(2) جيرانا
و صرت مذ ودّع الأظعان ذا طرب(3) *** مروّعا من حذار البين محزانا
في الأوّل و الثاني و الثالث من الأبيات خفيف رمل بالبنصر. و فيها للغريض ثاني ثقيل بالبنصر، من رواية عمرو بن بانة و الهشاميّ. و ذكر حبش أن فيه لمالك خفيف رمل بالوسطى، و لابن سرجس في الأوّل و الثاني و بعدهما:
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق
رمل بالوسطى. و ذكر الهشاميّ أن لابن محرز في الأوّل و الثاني بعدهما «أتبعتهم مقلة» /لحنا من الثقيل الأوّل بالبنصر، و ذكر المكيّ أنه لمعبد.
انتهى الجزء السابع من كتاب الأغاني و يليه الجزء الثامن و أوّله نسب جرير و أخباره
ص: 223
ص: 224
الموضوع الصفحة
1 - أخبار الوليد بن يزيد و نسبه 5
2 - ذكر أخبار عمر الواديّ و نسبه 62
3 - أخبار أبي كامل 66
4 - أخبار يزيد بن ضبّه و نسبه 69
5 - أخبار إسماعيل بن الهربذ 76
6 - أخبار أبي دهبل و نسبه 85
7 - أخبار حسين بن الضحاك و نسبه 107
8 - أخبار أبي زكّار الأعمى 165
9 - أخبار السيّد الحميريّ 167
10 - أخبار عبد اللّه بن علقمة و حبيشة 205
11 - ذكر متيّم الهشامية و بعض أخبارها 212
فهرس الموضوعات 225
ص: 225
الأغاني
سایر نویسندگان
مصحح و مترجم:
مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربی
المجلدات : 25ج
زبان: عربی
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سال نشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
کد کنگره: PJA 3892 /الف 6 1374
تنظیم متن دیجیتال میثم حیدری
ص: 226
ص: 227
ص: 228
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *
جرير بن عطيّة بن الخطفى. و الخطفى لقب، و اسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار. و يكنى أبا حزرة. و لقّب الخطفى لقوله:
يرفعن للّيل(1) إذا ما أسدفا(2) *** أعناق جنّان و هاما رجّفا
و عنقا(3) بعد الكلال خيطفا
و يروى: خطفى.
/و هو و الفرزدق و الأخطل المقدّمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية جميعا. و مختلف في أيّهم المتقدّم؛ و لم يبق أحد من شعراء عصرهم إلاّ تعرّض لهم فافتضح و سقط و بقوا يتصاولون؛ على أن الأخطل إنما دخل بين جرير و الفرزدق في آخر أمرهما و قد أسنّ و نفد أكثر عمره. و هو و إن كان له فضله و تقدّمه فليس(4) نجره(5)من نجار هذين في شيء؛ و له أخبار مفردة عنهما ستذكر بعد هذا مع ما يغنّى من شعره.
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحيّ قال حدّثنا محمد بن سلاّم الجمحيّ، و أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ و عليّ بن سليمان الأخفش قالا حدّثنا أبو سعيد السّكّريّ عن محمد بن حبيب و أبي غسّان دماذ
ص: 229
و إبراهيم بن سعدان عن أبيه جميعا عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى، بنسب جرير على ما ذكرته و سائر ما أذكره في الكتاب من أخباره فأحكيه عن أبي عبيدة أو عن محمد بن سلاّم. قالوا جميعا:
و أمّ جرير أمّ قيس بنت معيد(1) بن عمير(2) بن مسعود بن حارثة بن عوف بن كليب بن يربوع. و أمّ عطيّة النّوار بنت يزيد بن عبد العزّى بن مسعود بن حارثة بن عوف بن كليب.
قال أبو عبيدة و محمد بن سلاّم و وافقهما الأصمعيّ فيما أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبّة عنه(3):
/اتفقت العرب على أن أشعر أهل الإسلام ثلاثة: جرير و الفرزدق و الأخطل، و اختلفوا في تقديم بعضهم على بعض. قال محمد بن سلاّم: و الراعي معهم في طبقتهم و لكنّه آخرهم، و المخالف في ذلك قليل. و قد سمعت يونس يقول: ما شهدت مشهدا قط قد ذكر فيه جرير و الفرزدق فاجتمع أهل المجلس على أحدهما. و كان يونس فرزدقيّا.
قال ابن سلاّم: و قال ابن دأب: الفرزدق أشعر عامّة و جرير أشعر خاصّة. و قال أبو عبيدة: كان أبو عمرو يشبّه جريرا بالأعشى، و الفرزدق بزهير، و الأخطل بالنابغة. قال أبو عبيدة: يحتجّ من قدّم جريرا بأنه كان أكثرهم فنون شعر، و أسهلهم ألفاظا، و أقلّهم تكلّفا، و أرقّهم نسيبا، و كان ديّنا عفيفا. و قال عامر بن عبد الملك: جرير كان أشبههما(4) و أنسبهما.
و نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ: قال خالد بن كلثوم: ما رأيت أشعر من جرير و الفرزدق؛ قال الفرزدق بيتا مدح فيه قبيلتين و هجا قبيلتين، قال:
عجبت لعجل إذ تهاجي عبيدها *** كما آل يربوع هجوا آل دارم(5)
/يعني بعبيدها بني حنيفة. و قال جرير بيتا هجا فيه أربعة:
إن الفرزدق و البعيث و أمّه *** و أبا البعيث لشرّ ما إستار(6)
قال: و قال جرير: لقد هجوت التّيم في ثلاث كلمات ما هجا فيهنّ شاعر شاعرا قبلي، قلت:
من الأصلاب ينزل لؤم تيم *** و في الأرحام يخلق و المشيم
ص: 230
/و قال محمد بن سلاّم: قال العلاء بن جرير العنبريّ و كان شيخا و قد جالس الناس: إذا لم يجيء الأخطل سابقا فهو سكّيت(1)، و الفرزدق لا يجيء سابقا و لا سكّيتا، و جرير يجيء سابقا و مصلّيا(2) و سكّيتا. قال محمد بن سلاّم: و رأيت أعرابيّا من بني أسد أعجبني ظرفه و روايته، فقلت له: أيّهما عندكم أشعر؟ قال: بيوت الشعر أربعة:
فخر و مديح و هجاء و نسيب، و في كلّها غلب جرير؛ قال في الفخر:
إذا غضبت عليك بنو تميم *** حسبت الناس كلّهم غضابا
و المديح:
أ لستم خير من ركب المطايا *** و أندى العالمين بطون راح
و الهجاء:
فغضّ الطّرف إنك من نمير *** فلا كعبا بلغت و لا كلابا
و النّسيب:
إنّ العيون التي في طرفها حور *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
قال أبو عبد اللّه محمد بن سلاّم: و بيت النّسيب عندي:
فلما التقى الحيّان ألقيت العصا *** و مات الهوى لما أصيبت مقاتله
قال كيسان(3): أما و اللّه لقد أوجعكم (يعني في الهجاء). فقال: يا أحمق! أ و ذاك يمنعه أن يكون شاعرا!.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني عمر بن شبّة قال قال أبو عبيدة، و أخبرنا أبو خليفة قال حدّثني محمد بن سلاّم الجمحيّ قال حدّثني أبان بن عثمان البلخيّ قال:
/تنازع في جرير و الفرزدق رجلان(4) في عسكر المهلّب، فارتفعا إليه و سألاه؛ فقال: لا أقول بينهما شيئا و لكنّي أدلّكما على من يهون عليه سخطهما: عبيدة(5) بن هلال اليشكريّ - و كان بإزائه مع قطريّ(6) و بينهما نهر.
و قال عمر بن شبّة: في هؤلاء الخوارج من تهون عليه سبال(7) كلّ واحد منهما - فأمّا أنا فما كنت لأعرّض نفسي لهما. فخرج أحد الرجلين و قد تراضيا بحكم الخوارج؛ فبدر من الصفّ ثم دعا بعبيدة بن هلال للمبارزة فخرج إليه.
ص: 231
فقال: إني أسألك عن شيء تحاكمنا إليك فيه؛ فقال: و ما هو؟ عليكما لعنة اللّه. قال: فأيّ الرجلين عندك أشعر:
أ جرير أم الفرزدق؟ فقال: لعنكما اللّه و لعن جريرا و الفرزدق! أ مثلى يسأل عن هذين الكلبين! قالا: لا بدّ من حكمك. قال: فإنّي سائلكم قبل ذلك عن ثلاث. قالوا: سل. قال: ما تقولون في إمامكم إذا فجر؟ قالوا: نطيعه و إن عصى اللّه عزّ و جلّ. قال: قبحكم اللّه! فما تقولون في كتاب اللّه و أحكامه؟ قالوا: ننبذه وراء ظهورنا و نعطّل أحكامه. /قال: لعنكم اللّه إذا! فما تقولون في اليتيم؟ قالوا: نأكل ماله و ننيك أمّه. قال: أخزاكم اللّه إذا! و اللّه لقد زدتموني فيكم(1) بصيرة. ثم ذهب لينصرف؛ فقالوا له: إن الوفاء يلزمك، و قد سألتنا فأخبرناك و لم تخبرنا؛ فرجع فقال: من الذي يقول:
/
إنّا لنذعر يا قفير(2) عدوّنا *** بالخيل لاحقة(3) الاباطيل قودا
و تحوط حوزتنا و تحمي سرحنا *** جرد ترى لمغارها(4) أخدودا
أجرى قلائدها و قدّد لحمها *** ألاّ يذقن مع الشّكائم عودا
و طوى القياد مع الطّراد متونها *** طيّ التّجار بحضرموت برودا
قالا: جرير، قال: فهو ذاك، فانصرفا.
أخبرني عمّ أبي عبد العزيز بن أحمد قال حدّثنا الرّياشيّ قال قال الأصمعيّ و ذكر جريرا فقال(5):
كان ينهشه ثلاثة و أربعون شاعرا فينبذهم وراء ظهره و يرمي بهم واحدا واحدا، و منهم من كان ينفحه(6) فيرمي به، و ثبت له الفرزدق و الأخطل. و قال جرير: و اللّه ما يهجوني الأخطل وحده و إنه ليهجوني معه خمسون شاعرا كلّهم عزيز(7) ليس بدون الأخطل، و ذلك أنه كان إذا أراد هجائي جمعهم على شراب، فيقول هذا بيتا و هذا بيتا، و ينتحل هو القصيدة بعد أن يتمّموها.
قال ابن سلاّم: و حدّثني أبو البيداء الرّياحيّ قال قال الفرزدق: إنّي و إيّاه لنغترف من بحر واحد و تضطرب دلاؤه عند طول النهر.
/أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني زيرك بن هبيرة المنانيّ قال:
كان جرير ميدان الشعر، من لم يجر فيه لم يرو شيئا، و كان من هاجى جريرا فغلبه جرير أرجح عندهم ممّن هاجى شاعرا آخر غير جرير فغلب.
ص: 232
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال: تذاكروا جريرا و الفرزدق في حلقة يونس(1) بن معاوية بن أبي عمرو بن العلاء و خلف الأحمر و مسمع و عامر ابنا عبد الملك المسمعيّان، فسمعت عامرا و هو شيخ بكر بن وائل يقول: كان جرير و اللّه أنسبهما و أسبّهما و أشبههما.
قال ابن سلاّم: و حدّثني أبو البيداء قال: مرّ راكب بالراعي و هو يغنّي بيتين لجرير، و هما:
و عاو عوى من غير شيء رميته *** بقارعة أنفاذها تقطر الدّما
خروج بأفواه الرّواة كأنّها *** قرا هندوانيّ(2) إذا هزّ صمّما
فأتبعه الراعي رسولا يسأله لمن البيتان؟ قال: لجرير. قال: لو اجتمع على هذا جميع الجنّ و الإنس ما أغنوا فيه شيئا. ثم قال لمن حضر: ويحكم أ ألام على أن يغلبني مثل هذا!.
قال ابن سلاّم: و سألت بشّارا المرعّث: أيّ الثلاثة أشعر؟ فقال: لم يكن الأخطل مثلهما و لكنّ ربيعة تعصّبت له و أفرطت فيه. قلت: فهذان؟ قال: كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق، و لقد ماتت النّوار فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير. فقلت لبشّار: و أيّ شيء لجرير من المراثي إلاّ التي رثى بها امرأته! فأنشدني لجرير يرثي ابنه سوادة و مات بالشأم:
قالوا نصيبك من أجر لهم *** كيف العزاء و قد فارقت أشبالي
/فارقتني حين كفّ الدهر من بصري *** و حين صرت كعظم الرّمة البالي
أمسى سوادة يجلو مقلتي لحم(3) *** باز يصرصر فوق المربأ العالي
قد كنت أعرفه منّي إذا غلقت *** رهن الجياد و مدّ الغاية الغالي(4)
إنّ الثّويّ(5) بذي الزّيتون فاحتسبي *** قد أسرع اليوم(6) في عقلي و في حالي
إلاّ تكنّ لك بالدّيرين معولة *** فربّ باكية بالرّمل معوال
ص: 233
كأمّ بوّ عجول عند معهده *** حنّت إلى جلد(1) منه و أوصال
حتى إذا عرفت أن لا حياة به *** ردّت هماهم(2) حرّى الجوف مثكال
زادت على وجدها وجدا و إن رجعت(3) *** في الصدر منها خطوب ذات بلبال
أخبرني عبد الواحد بن عبيد عن قعنب بن المحرز الباهليّ عن المغيرة بن حجناء و عمارة بن عقيل قالا:
/خرج جرير إلى دمشق يؤمّ الوليد، فمرض ابن له يقال له سوادة، و كان به معجبا، فمات بالشأم، فجزع عليه و رثاه جرير فقال:
أودى سوادة يجلو مقلتي لحم *** باز يصرصر فوق المربأ العالي
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أحمد بن معاوية قال حدّثني رجل من أصحاب الحديث يقال له الحسن قال حدّثني أبو نصر اليشكريّ عن مولى لبني هاشم قال:
امترى(4) أهل المجلس في جرير و الفرزدق أيّهما أشعر، فدخلت على الفرزدق فما سألني عن شيء حتى قال:
يا نوار، أدركت برنيّتك؟ قالت: قد فعلت أو كادت. قال: فابعثي بدرهم فاشتري لحما، ففعلت و جعلت تشرّحه و تلقيه على النار و يأكل. ثم قال: هاني برنيّتك، فشرب قدحا ثم ناولني، و شرب آخر ثم ناولني. ثم قال: هات حاجتك يا ابن أخي، فأخبرته؛ قال: أ عن ابن الخطفى تسألني! ثم تنفّس حتى قلت: انشقّت حيازيمه(5)، ثم قال:
قاتله اللّه! فما أخشن ناحيته و أشرد قافيته! و اللّه لو تركوه لأبكى العجوز على شبابها، و الشابّة على أحبابها، و لكنهم هرّوه(6) فوجدوه عند الهراش نابجا و عند الجراء(7) قارحا، و قد قال بيتا لأن أكون قلته أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس:
إذا غضبت عليك بنو تميم *** حسبت الناس كلّهم غضابا
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أبي عبيدة، قالا:
/نزل الفرزدق على الأحوص حين قدم المدينة. فقال الأحوص: ما تشتهي؟ قال: شواء و طلاء(8) و غناء.
قال: ذلك لك؛ و مضى به إلى قينة بالمدينة؛ فغنّته:
ص: 234
ألا حيّ الديار بسعد(1) إنّي *** أحبّ لحبّ فاطمة الدّيارا
إذا ما حلّ أهلك يا سليمى *** بدارة صلصل(2) شحطوا مزارا
أراد الظاعنون ليحزنوني *** فهاجوا صدع قلبي فاستطارا
- /غنّاه ابن محرز خفيف ثقيل أوّل بالبنصر - فقال الفرزدق: ما أرقّ أشعاركم يأهل الحجاز و أملحها! قال: أ و ما تدري لمن هذا الشعر؟ قال: لا و اللّه. قال: فهو و اللّه لجرير يهجوك به. فقال: ويل ابن المراغة! ما كان أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري، و أحوجني مع شهواتي إلى رقّة شعره!.
أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق الموصليّ، و أخبرني محمد بن مزيد عن حمّاد عن أبيه قال [قال](3) إسحاق بن يحيى بن طلحة:
قدم علينا جرير المدينة فحشدنا له، فبينا نحن عنده ذات يوم إذ قام لحاجته، و جاء الأحوص فقال: أين هذا؟ فقلنا: قام آنفا، ما تريد منه؟ قال: أخزيه، و اللّه إن الفرزدق لأشعر منه و أشرف. فأقبل جرير علينا و قال: من الرجل؟ قلنا: الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. قال: هذا الخبيث بن الطيّب. ثم أقبل عليه فقال: قد قلت:
يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها *** و أحسن شيء ما به العين قرّت
/فإنه يقرّ بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر، أ فيقرّ ذلك بعينك؟ - قال: و كان الأحوص يرمى بالأبنة - فانصرف و أرسل إليه بتمر و فاكهة. و أقبلنا نسأل جريرا و هو في مؤخّر البيت و أشعب عند الباب؛ فأقبل أشعب يسأله؛ فقال له جرير: و اللّه إنك لأقبحهم وجها و لكنّي أراك أطولهم حسبا، و قد أبرمتني. فقال: أنا و اللّه أنفعهم لك. فانتبه جرير فقال: كيف؟ قال: إني لأملّح شعرك؛ و اندفع يغنّيه قوله:
يا أخت ناجية السلام عليكم *** قبل الفراق و قيل لوم العذّل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم *** يوم الفراق فعلت ما لم أفعل
قال: فأدناه جرير منه حتى ألصق ركبته بركبته و جعله قريبا منه؛ ثم قال: أجل! و اللّه إنك لأنفعهم لي و أحسنهم تزيينا(4) لشعري، أعد؛ فأعاده عليه و جرير يبكي حتى اخضلّت لحيته، ثم وهب لأشعب دراهم كانت معه و كساه حلّة من حلل الملوك. و كان يرسل إليه طول مقامه بالمدينة فيغنّيه أشعب و يعطيه جرير شعره فيغنّي فيه قال:
ص: 235
و كان أشعب من أحسن الناس صوتا. قال حماد: و الغناء الذي غنّاه فيه أشعب لابن سريج.
أخبرني عليّ بن سليمان قال حدّثنا أبو سعيد السّكّريّ عن الرّياشيّ عن الأصمعيّ قال و ذكر المغيرة بن حجناء قال حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه يحيى(1) بن أعين، و ذكر ذلك هشام بن الكلبيّ قال حدّثني النّهشليّ من بني مسعود بن خالد بن مالك بن ربعيّ بن سلمى بن جندل قال حدّثني مسحل بن كسيب بن عمران بن عطاء بن الخطفى، /و أمّه الرّبداء بنت جرير - و هذا الخبر و إن كان فيه طول محتو على سائر أخبار من ناقض جريرا أو اعتنّ(2) بينه و بين الفرزدق و غيره فذكرته هنا لاشتماله على ذلك في بلاغ و اختصار -:
أنّ جريرا قدم على الحكم بن أيوب بن يحيى بن الحكم بن أبي عقيل، و هو خليفة للحجّاج يومئذ، فمدحه جرير فقال:
أقبلت(3) من ثهلان أو جنبي خيم *** على قلاص مثل خيطان(4) السّلم
/ثهلان: جبل كان لباهلة ثم غلبت عليه نمير. وخيم: جبل يناوحه من طرفه الأقصى فيما بين ركنه الأقصى و بين مطلع الشمس، به ماء و نخل -
قد طويت بطونها طيّ الأدم *** يبحثن بحثا كمضلاّت الخدم(5)
إذا قطعن علما بدا علم *** حتى تناهين(6) إلى باب الحكم
خليفة الحجّاج غير المتّهم *** في معقد(7) العزّ و بؤبؤ الكرم
بعد انفضاج(8) البدن و اللحم زيم فلما قدم عليه استنطقه فأعجبه ظرفه و شعره؛ فكتب إلى الحجّاج: إنه قدم عليّ أعرابيّ شيطان من الشياطين. فكتب إليه أن أبعث به إليّ، ففعل. فقدم/عليه فأكرمه الحجّاج و كساه جبّة صبريّة(9) و أنزله فمكث أياما. ثم أرسل إليه بعد نومه فقالوا: أجب الأمير؛ فقال: ألبس ثيابي؛ فقالوا: لا! و اللّه لقد أمرنا أن نأتيه بك على الحال التي نجدك عليها؛ ففزع جرير و عليه قميص غليظ و ملاءة صفراء. فلما رأى ما به رجل من الرّسل دنا منه و قال: لا بأس عليك، إنما دعاك للحديث. قال جرير: فلما دخلت عليه قال: إيه يا عدوّ اللّه! علام تشتم الناس و تظلمهم؟ فقلت: جعلني اللّه فداء الأمير، و اللّه إني ما أظلمهم و لكنّهم يظلمونني فأنتصر. ما لي و لابن أمّ غسّان! و ما لي و للبعيث! و ما لي
ص: 236
و للفرزدق! و ما لي و للأخطل! و ما لي و للتّيميّ! حتى عدّدهم واحدا واحدا. فقال الحجاج: ما أدري مالك و لهم! قال: أخبر الأمير أعزّه اللّه: أمّا غسّان بن ذهيل فإنه رجل من قومي هجاني و هجا عشيرتي و كان شاعرا. قال: فقال لك ما ذا؟ قال قال لي:
لعمري لئن كانت بجيلة زانها *** جرير(1) لقد أخزي كليبا جريرها
رميت نضالا عن كليب فقصّرت *** مراميك حتى عاد صفرا جفيرها(2)
و لا يذبحون الشاة إلا بميسر(3) *** طويل تناجيها صغار قدورها
قال: فما قلت له؟ قال قلت:
ألا ليت شعري عن سليط(4) أ لم تجد *** سليط سوى غسّان جارا يجيرها
فقد ضمّنوا الأحساب صاحب سوأة *** يناجي بها نفسا خبيثا ضميرها
/كأنّ سليطا في جواشنها الخصى *** إذا حلّ بين الأملحين وقيرها(5)
أضجّوا الرّوايا بالمزاد فإنّكم *** ستكفون ركض الخيل تدمى نحورها(6)
كأنّ السّليطيّات مجناة كمأة *** لأوّل جان بالعصا يستشيرها(7)
عضاريط يشوون الفراسن بالضّحى *** إذا ما السّرايا حثّ ركضا مغيرها(8)
فما في سليط فارس ذو حفيظة *** و معقلها يوم الهياج جعورها(9)
عجبت من الدّاعي جحيشا و صائدا *** و عيساء يسعى بالعلاب نفيرها(10)
ص: 237
قال: ثم منّ؟ قال: البعيث. قال: مالك و له؟ قال: اعترض دونه ابن أمّ غسّان يفضّله عليّ و يعينه. قال: فما قال لك؟ قال قال لي:
/
كليب لئام الناس قد تعلمونه *** و أنت إذا عدّت كليب لئيمها
أ ترجو كليب أن يجيء حديثها *** بخير و قد أعيا كليبا قديمها
/قال: فما قلت له؟ قال قلت:
أ لم تر أنّي قد رميت ابن فرتنى *** بصمّاء لا يرجو الحياة أميمها(1)
له أمّ سوء بئس ما قدّمت له *** إذا فرط(2) الأحساب عدّ قديمها
قال: ثم من؟ قلت: الفرزدق. قال: و ما لك و له؟ قلت: أعان البعيث عليّ.
قال: فما قلت له؟ قال قلت:
تمنّى رجال من تميم لي الرّدى *** و ما ذاد عن أحسابهم ذائد مثلي
كأنّهم لا يعلمون مواطني *** و قد جرّبوا أنّي أنا السابق المبلى(3)
فلو شاء قومي كان حلمي فيهم *** و كان على جهّال أعدائهم جهلي
و قد زعموا أنّ الفرزدق حيّة *** و ما قتل الحيّات من أحد قبلي
قال: ثم من؟ قلت: الأخطل. قال: مالك و له؟ قلت: رشاه محمد بن عمير ابن عطارد زقّا من خمر و كساه حلّة على أن يفضّل عليّ الفرزدق و يهجوني. قال: فما قال لك؟ قال قال:
إخسأ إليك كليب إنّ مجاشعا *** و أبا الفوارس نهشلا أخوان
و إذا وردت الماء كان لدارم *** جمّاته و سهولة الأعطان(4)
و إذا قذفت أباك في ميزانهم *** رجحوا و شال أبوك في الميزان
قال: فما قلت له؟ قال قلت:
يا ذا العباءة(5) إنّ بشرا قد قضى *** ألاّ تجوز حكومة النّشوان(6)
/فدعوا الحكومة لستم من أهلها *** إنّ لحكومة في بني شيبان
قتلوا كليبكم بلقحة جارهم *** يا خزر تغلب لستم بهجان(7)
ص: 238
قال: ثم من؟ قلت: عمر بن لجأ التّيميّ. قال: مالك و له؟ قال: قلت بيتا من شعر فقبّحه و قاله على غير ما قلته؟ قلت:
لقومي أحمى للحقيقة منكم *** و أضرب للجبّار و النّقع ساطع
و أوثق عند المرهفات عشيّة *** لحاقا إذا ما جرّد السيف لامع(1)
فزعم أنّي قلت:
و أوثق عند المردفات عشيّة *** لحاقا إذا ما جرّد السيف لامع
فقال: لحقتهنّ عند العشيّ و قد أخذن غدوة، و اللّه ما يمسين حتى يفضحن.
قال: فما قلت له؟ قال قلت:
يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم *** لا يوقعنّكم في سوأة عمر
خلّ الطريق لمن يبني المنار به *** و ابرز ببرزة(2) حيث اضطرّك القدر
حتى أتى على الشعر. قال: ثم من؟ قلت: سراقة بن مرداس البارقيّ. قال: مالك و له؟ قال قلت: لا شيء، حمله بشر بن مروان و أكرهه على هجائي، ثم بعث إليّ رسولا و أمرني أن أجيبه. قال: فما/قال لك؟ قال قال:
إنّ الفرزدق برّزت أعراقه *** عفوا و غودر في الغبار جرير
ما كنت أوّل محمر(3) قعدت به *** مسعاته إنّ اللئيم(4) عثور
هذا قضاء البارقيّ و إنه *** بالميل في ميزانكم لبصير
/قال: فما قلت له؟ قال قلت:
يا بشر حقّ لوجهك التبشير *** هلاّ غضبت لنا و أنت أمير
بشر أبو مروان إن عاسرته *** عسر و عند يساره ميسور
إنّ الكريمة ينصر الكرم ابنها *** و ابن اللئيمة للّئام نصور
قد كان حقّك أن تقول لبارق *** يا آل بارق فيم سبّ جرير
و كسحت باستك للفخار و بارق *** شيخان أعمى مقعد و كسير
قال: ثم من؟ قلت: البلتع و هو المستنير(5) بن سبرة العنبريّ. قال: مالك و له؟ قلت: أعان عليّ ابن لجأ.
قال: فما قال لك؟ قلت قال:
ص: 239
إنّ التي ربّتك(1) لما طلّقت *** قعدت على جحش المراغة(2) تمرغ
أ تعيب من رضيت قريش صهره *** و أبوك عبد بالخورنق أذلغ(3)
قال: فما قلت له؟ قال قلت:
فما مستنير الخبث إلا فراشة *** هوت بين مؤتجّ(4) الحريقين ساطع
نهيت بنات المستنير(5) عن الرّقى *** و عن مشيهنّ الليل بين المزارع
و يروى ... بين مؤتجّ من النار ساطع /قال: ثم من؟ قلت: راعي الإبل. قال: مالك و له؟ قلت: قدمت البصرة و كان بلغني أنه قال لي:
يا صاحبيّ دنا الرّواح فسيرا *** غلب الفرزدق في الهجاء جريرا
و قال أيضا:
رأيت الجحش جحش بني كليب *** تيمّم حوض دجلة ثم هابا
فقلت: يا أبا جندل، إنك شيخ مضر و شاعرها، و قد بلغني أنك تفضّل عليّ الفرزدق، و أنت يسمع قولك، و هو ابن عمّي دونك؛ فإن كان لا بدّ من تفضيل فأنا أحقّ به لمدحي قومك و ذكري إيّاهم. قال: و ابنه جندل على فرس له، فأقبل يسير بفرسه حتى ضرب عجز دابّتي و أنا قائم فكاد يقطع إصبع رجلي و قال: لا أراك واقفا على هذا الكلب من بني كليب؛ فمضى، و ناديته:(6) أنا ابن يربوع! إنّ أهلك بعثوك مائرا من هبّود(7) و بئس المائر، و إنما بعثني أهلي لأقعد على قارعة هذا المربد فلا يسبّهم أحد إلاّ سببته، و إنّ عليّ نذرا إن جعلت في عيني غمضا حتى أخزيك. قال:
فما أصبحت حتى هجوته فقلت:
فغضّ الطّرف إنك من نمير *** فلا كعبا بلغت و لا كلابا
قال فغدوت عليه من الغد فأخذت بعنانه، فما فارقته حتى أنشدته إيّاها. فلما مررت على قولي:
/
أ جندل ما تقول بنو نمير *** إذا ما الأير في است أبيك غابا
ص: 240
قال: فأرسل يدي و قال: يقولون و اللّه شرّا.
قال: ثم من؟ قلت: العباس بن يزيد الكنديّ قال: مالك و له؟ قال لمّا قلت:
/
إذا غضبت عليك بنو تميم *** حسبت الناس كلّهم غضابا
قال:
ألا رغمت أنوف بني تميم *** فساة التمر إن كانوا غضابا
لقد غضبت عليك بنو تميم *** فما نكأت بغضبتها ذبابا
لو اطّلع الغراب على تميم *** و ما فيها من السّوءات شابا
قال: فتركته خمس سنين لا أهجوه، ثم قدمت الكوفة فأتيت مجلس كندة، فطلبت إليهم أن يكفّوه عنّي؛ فقالوا: ما نكفّه و إنه لشاعر و أوعدوني؛ فقلت:
ألا أبلغ بني حجر بن وهب *** بأنّ التمر حلو في الشتاء
فعودوا للنّخيل فأبّروها(1) *** و عيثوا بالمشقّر فالصّفاء
قال: فمكثت قليلا، ثم بعثوا إليّ راكبا فأخبروني بمثالبه و جواره في طيّ ء حيث جاور عتّابا، و حبّل أخته هضيبة حيث حبلت. قال: فقلت ما ذا؟ قال قلت:
إذا جهل الشّقيّ و لم يقدّر *** لبعض الأمر أو شك أن يصابا
أ عبدا حلّ في شعبى(2) غريبا *** أ لؤما لا أبا لك و اغترابا
فما خفيت هضيبة حين جرّت(3) *** و لا إطعام سخلتها الكلابا
تخرّق بالمشاقص(4) حالبيها *** و قد بلّت مشيمتها الترابا
فقد حملت ثمانية و أوفت *** بتاسعها و تحسبها كعابا
/قال: ثم من؟ قلت: جفنة الهزّانيّ بن جعفر بن عباية بن شكس من عنزة. قال: و مالك و له؟ قال: أقبل سائلا حتى أتاني و أنا أمدر(5) حوضا لي، فقال: يا جرير، قم إليّ هاهنا؛ قلت نعم. ثم أتيته فقلت: ما حاجتك؟ قال: مدحتك فاستمع منّي. قلت: أنشدني فأنشد؛ فقلت: قد و اللّه أحسنت و أجملت؛ فما حاجتك؟ قال: تكسوني الحلّة التي كساكها الوليد بن عبد الملك العام. فقلت: أنّي لم أقف فيها بالموسم، و لا بدّ من أن أقف فيها العام،
ص: 241
و لكنّي أكسوك حلّة خيرا منها كان كسانيها الوليد عاما أوّل. فقال: ما أقبل غيرها بعينها. فقلت: بلى، فاقبل و أزيدك معها دنانير نفقة. فقال: ما أفعل؛ و مضى فأتى المرّار بن منقذ أحد بني العدويّة، فحمله على ناقة له يقال لها القصواء. فقال جفنة:
لعمرك للمرّار يوم لقيته *** على الشّحط خير من جرير و أكرم
قال: فما قلت له؟ قال قلت:
لقد بعثت هزّان جفنة مائرا *** فآب و أحذى(1) قومه شرّ مغنم
فيا راكب القصواء ما أنت قائل *** لهزّان إذ أسلمتها شرّ مسلم
أظنّ عجان(2) التّيس هزّان طالبا *** علالة(3) سبّاق الأضاميم مرجم
/كأنّ بني هزّان حين رديتهم *** وبار(4) تضاغت تحت غار مهدّم
بني عبد عمرو قد فرغت إليكم *** و قد طال زجري لو نهاكم تقدّمي
/و رصعاء هزّانيّة قد تحفّشت(5) *** على مثل حرباء الفلاة المعمّم
قال: ثم من؟ قلت: المرّار بن منقذ. قال: مالك و له؟ قلت: أعان عليّ الفرزدق. قال: فما قلت له؟ قال قلت:
بني منقذ لا صلح حتى تضمّكم *** من الحرب صمّاء القناة زبون(6)
و حتى تذوقوا كأس من كان قبلكم *** و يسلح(7) منكم في الحبال قرين
فإن كنتم كلبى(8) فعندي شفاؤكم *** و للجنّ إن كان اعتراك جنون
قال: ثم من؟ قلت: حكيم بن معيّة من بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. قال: و مالك و له؟ قلت:
بلغني أنه أعان عليّ غسّان السّليطيّ. قال: فما قلت له؟ قال قلت:
ص: 242
إذا طلع الرّكبان نجدا و غوّروا *** بها فارجزا(1) يا بني معيّة أو دعا
أ تسمن أستاه المجرّ(2) و قد رأوا *** مجرّا بوعساوي(3) رماح مصرعا
ألا إنّما كانت غضوب(4) محاميا *** غداة اللّوى لم تدفع الضّيم مدفعا
/قال: ثم من؟ قلت [ثور بن](5) الأشهب بن رميلة النّهشليّ. قال: و مالك و له؟ قلت: أعان عليّ الفرزدق.
قال: فما قلت له؟ قال قلت:
سيخزى إذا ضنّت(6) حلائب مالك *** ثوير(7) و يخزى عاصم و جميع(8)
و قبلك ما أعيا الرّماة إذا رموا *** صفا ليس في قاراتهنّ(9) صدوع
قال: ثم من؟ قلت: الدّلهمس أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة. قال: مالك و له؟ قلت: أعان عليّ الفرزدق. قال: فما قلت له؟ قال قلت:
لقد نفخت منك الوريدين(10) علجة *** خبيثة ريح المنكبين(11) قبوع
و لو أنجبت أمّ الدّلهمس لم يعب(12) *** فوارسنا لا عاش(13) و هو جميع
أ ليس ابن حمراء العجان كأنّما *** ثلاثة غربان عليه وقوع
فلا تدنيا رحل(14) الدّلهمس إنه *** بصير بما يأتي اللئام سميع(15)
هو النّخبة(16) الخوّار ما دون قلبه *** حجاب و لا حول الحجاب ضلوع
ص: 243
قال: ثم مررت على مجلس لهم فاعتذرت إليهم فلم يقبلوا عذري، و أنشدوني شعرا لم يخبروني من قاله:
/
غضبت علينا أن علاك ابن غالب(1)*** فهلاّ على جدّيك في ذاك تغضب
هما إذ علا بالمرء مسعاة قومه *** أناخا فشدّاك العقال المؤرّب(2)
قال: فعلمت أنه شعر قبضة(3) الكلب. قال: فجمعتهم في شعري فقلت:
[و](4) أكثر ما كانت ربيعة أنها *** خباءان(5) شتّى لا أنيس و لا قفر
محالفهم فقر شديد و ذلّة *** و بئس الحليفان المذلّة و الفقر
فصبرا على ذلّ ربيع بن مالك *** و كلّ ذليل خير عادته الصبر
/قال: ثم من؟ قلت: هبيرة بن الصّلت الرّبعيّ من ربيعة بن مالك أيضا، كان يروي شعر الفرزدق. قال: فما قلت له؟ قال قلت:
يمشي هبيرة بعد مقتل شيخه *** مشي المراسل(6) أوذنت بطلاق
ما ذا أردت إليّ حين تحرّقت *** ناري و شمّر مئزري عن ساقي
إنّ القراف(7) بمنخريك لبيّن *** و سواد وجهك يا ابن أمّ عفاق(8)
/سيروا فربّ مسبّحين و قائل *** هذا شقا(9) لبني ربيعة باقي
أ بني ربيعة قد أخسّ بحظّكم *** لؤم الجدود و دقّة(10) الأخلاق
قال: ثم من؟ قلت: علقة(11) و السّرندى من بني الرّباب كانا يعينان ابن لجأ. قال: فما قلت لهما؟ قال قلت:
ص: 244
عضّ السّرندي على تثليم ناجذه *** من أمّ علقة بظرا غمّه(1) الشّعر
و عضّ علقة لا يألو بعرعرة(2) *** من بظر أم السّرندى و هو منتصر
قال: ثم من؟ قلت: الطّهويّ، كان يروي شعر الفرزدق. قال: ما قلت له؟ قال قلت:
أ تنسون وهبا يا بني زبد استها *** و قد كنتم جيران وهب بن أبجرا(3)
فما تتّقون الشرّ حتّى يصيبكم *** و لا تعرفون الأمر إلا تدبّرا
ألا ربّ أعشى ظالم متخمّط(4) *** جعلت لعينيه جلاء(5) فأبصرا
قال: ثم من؟ قلت: عقبة بن السّنيع(6) الطّهويّ و كان نذر دمي. قال: فما قلت له: قال قلت:
يا عقب يا ابن سنيع ليس عندكم *** مأوى الرّفاق و لا ذو الراية الغادي(7)
/يا عقب يا ابن سنيع بعض قولكم *** إن الوثاب لكم عندي بمرصاد
ما ظنّكم بيني ميثاء إن فزعوا *** ليلا و شدّ عليهم حيّة الوادي
يغدو عليّ أبو ليلى ليقتلني *** جهلا عليّ و لم يثأر بشدّاد(8)!
ارووا(9) عليّ و أرضوا بي صديقكم *** و استسمعوا يا بني ميثاء إنشادي
ميثاء هي بنت زهير بن شدّاد الطّهويّ و هي أم عوف بن أبي سود بن مالك ابن حنظلة.
و قال أيضا لبني ميثاء:
نبّئت عقبة خصّافا(10) توعّدني *** يا ربّ آدر من ميثاء مأفون
لو في طهيّة أحلام لما اعترضوا *** دون الذي كنت أرميه و يرميني
قال: ثم من؟ قلت: سحمة(11) الأعور النّبهانيّ، كانت له امرأة من طيّئ ولدت في بني سليط فأعطوه و حملوه عليّ. فسألني فاشتطّ، و لم يكن عندي فحرمته، فقال:
ص: 245
أقول لأصحابي النّجاء فإنه *** كفى الذّم أن يأتي الضيوف جرير(1)
جرير ابن ذات البظر هل أنت زائل *** لقدرك(2) دون النازلين ستور
/و هل يكرم الأضياف كلب لكلبة(3) *** لها عند أطناب البيوت هرير
فلو عند غسّان السّليطيّ عرّست(4) *** رغا(5) قرن منها و كاس عقير
/فتى هو خير منك نفسا و والدا *** عليك إذا كان الجوار يجير
فقال(6) جرير:
وجدنا بني نبهان أذناب طيّ ء *** و للناس أذناب ترى و صدور
تغنّى(7) ابن نبهانيّة طال بظرها *** و باع ابنها عند الهياج قصير
و أعور من نبهان أمّا نهاره *** فأعمى و أمّا ليلة فبصير(8)
ستأتي بني نبهان منّي قصائد *** تطلع(9) من سلمى(10) و هنّ وعور
ترى قزم المعزى مهور نسائهم *** و في قزم المعزى لهنّ مهور(11)
قال: و طلع الصبح فنهض و نهضت. قال: فأخبرني من كان قاعدا معه أنه قال: قاتله اللّه أعرابيّا! إنه لجرو هراش.
أخبرني عليّ بن سليمان قال حدّثنا أبو سعيد السّكّريّ عن الرّياشيّ عن الأصمعيّ قال و ذكر المغيرة بن حجناء قال حدّثني أبي عن أبيه قال:
كان راعي(12) الإبل يقضي للفرزدق على جرير و يفضّله، و كان راعي الإبل قد ضخم أمره و كان من شعراء
ص: 246
الناس. فلما أكثر من ذلك خرج جرير إلى رجال من قومه فقال: هلاّ تعجبون لهذا الرجل الذي يقضي للفرزدق عليّ و هو يهجو قومه و أنا أمدحهم! قال جرير: فضربت(1) رأيي فيه. ثم خرج جرير ذات يوم يمشي و لم يركب دابّته، و قال: و اللّه ما يسرّني أن يعلم(2) أحد. و كان لراعي الإبل و الفرزدق و جلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها. قال: فخرجت أتعرّض له لألقاه من حيال حيث كنت أراه يمرّ إذا انصرف من مجلسه، و ما يسرّني أن يعلم أحد، حتى إذا هو قد مرّ على بغلة له و ابنه جندل يسير وراءه على مهر له أحوى(3) محذوف الذّنب و إنسان يمشي معه يسأله عن بعض السّبب، فلما استقبلته قلت: مرحبا بك يا أبا جندل! و ضربت بشمالي على معرفة بغلته، ثم قلت: يا أبا جندل! إن قولك يستمع و إنك تفضّل الفرزدق عليّ تفضيلا قبيحا و أنا أمدح قومك و هو يهجوهم و هو ابن عمي، و يكفيك من ذاك هيّن(4): إذا ذكرنا أن تقول كلاهما شاعر كريم، و لا تحتمل مني و لا منه لائمة. قال:
فبينا أنا و هو كذاك واقفا عليّ. و ما ردّ عليّ بذلك شيئا حتى/لحق ابنه جندل، فرفع كرمانيّة(5) معه فضرب بها عجز بغلته ثم قال: لا أراك واقفا على كلب من بني كليب كأنك تخشى منه شرّا أو ترجو منه خيرا! و ضرب البغلة ضربة، فرمحتني(6) رمحة وقعت منها قلنسوتي، فو اللّه لو يعرّج عليّ الراعي لقلت سفيه غوى - يعني جندلا ابنه - و لكن لا و اللّه ما عاج عليّ، فأخذت قلنسوتي فمسحتها ثم أعدتها على رأسي ثم قلت:
أ جندل ما تقول بنو نمير *** إذا ما الأير في است أبيك غابا
فسمعت الرّاعي قال لابنه: أما و اللّه لقد طرحت قلنسوته طرحة مشئومة. قال جرير: و لا و اللّه ما القلنسوة بأغيظ أمره إليّ لو كان عاج عليّ. فانصرف جرير غضبان حتى إذا صلّى العشاء بمنزله في علّيّة(7) له قال: ارفعوا إليّ باطية من نبيذ و أسرجوا لي، فأسرجوا له و أتوه بباطية من نبيذ. قال: فجعل يهمهم(8)؛ فسمعت صوته عجوز في الدار فاطّلعت في الدّرجة/حتى نظرت إليه، فإذا هو يحبو على الفراش عريانا لما هو فيه، فانحدرت فقالت: ضيفكم مجنون! رأيت منه كذا و كذا! فقالوا لها: اذهبي لطيّتك، نحن أعلم به و بما يمارس. فما زال كذلك حتى كان السّحر، ثم إذا هو يكبّر قد قالها ثمانين بيتا في بني نمير. فلما ختمها بقوله:
فغضّ الطّرف إنّك من نمير *** فلا كعبا بلغت و لا كلابا
كبّر ثم قال: أخزيته و ربّ الكعبة. ثم أصبح، حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد، و كان يعرف
ص: 247
مجلسه و مجلس الفرزدق، دعا بدهن/فادّهن و كفّ(1) رأسه، و كان حسن الشّعر، ثم قال: يا غلام، أسرج لي، فأسرج له حصانا، ثم قصد مجلسهم؛ حتى إذا كان بموضع(2) السلام قال: يا غلام - و لم يسلّم - قل لعبيد: أبعثك نسوتك تكسبهنّ المال بالعراق! أما و الذي نفس جرير بيده لترجعنّ إليهنّ بمير يسوؤهن و لا يسرّهنّ! ثم اندفع فيها فأنشدها. قال: فنكس الفرزدق و راعى الإبل و أرمّ(3) القوم، حتى إذا فرغ منها سار(4)، و ثبت راعي الإبل ساعة ثم ركب بغلته بشرّ و عرّ و خلّى المجلس حتى ترقّى إلى منزله(5) الذي ينزله ثم قال لأصحابه: ركابكم ركابكم، فليس لكم هاهنا مقام، فضحكم و اللّه جرير! فقال له بعض القوم: ذاك شؤمك و شؤم ابنك. قال: فما كان إلا ترحّلهم. قال فسرنا إلى أهلنا سيرا ما ساره أحد، و هم بالشّريف و هو أعلى دار بني نمير. فيحلف باللّه راعى الإبل إنّا وجدنا في أهلنا:
فغضّ الطّرف إنك من نمير و أقسم باللّه ما بلّغه إنسيّ قطّ، و إنّ لجرير لأشياعا من الجنّ. فتشاءمت به بنو نمير و سبّوه و ابنه، فهم يتشاءمون به إلى الآن.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن أبيه قال حدّثني مولى لبني كليب بن يربوع كان يبيع الرّطب بالبصرة أنسيت اسمه قال:
/كنت أجمع شعر جرير و أشتهي أن أحفظه و أرويه. فجاءني ليلة فقال: إن راعي الإبل النّميريّ قد هجاني، و إنّي آتيك الليلة فأعدّ لي شواء رشراشا(6) و نبيذا مخفسا(7)؛ فأعددت له ذلك. فلما أعتم جاءني فقال: هلمّ عشاءك، فأتيته به، فأكل ثم قال: هلمّ نبيذك، فأتيته به، فشرب أقداحا ثم قال: هات دواة و كتفا(8)؛ فأتيته بهما، فجعل يملي عليّ قوله:
أقلّي اللوم عاذل و العتابا *** و قولي إن أصبت لقد أصابا
حتى بلغ إلى قوله:
فغضّ الطّرف إنك من نمير فجعل يردّده و لا يزيد عليه حتى حملتني عيني، فضربت بذقني صدري نائما، فإذا به قد وثب حتى أصاب السّقف رأسه و كبّر ثم صاح: أخزيته و اللّه! أكتب:
فلا كعبا بلغت و لا كلابا
ص: 248
غضضته(1) و قدّمت إخوته عليه! و اللّه لا يفلح بعدها [أبدا]. فكان و اللّه كما قال ما أفلح هو و لا نميريّ بعدها.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة قال:
أقبل راكب من اليمامة؛ فمرّ بالفرزدق و هو جالس في المربد؛ فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من اليمامة.
فقال: هل رأيت ابن المراغة؟ قال نعم؟ قال: فأيّ شيء أحدث بعدي؟ فأنشده:
هاج الهوى لفؤادك المهتاج /فقال الفرزدق:
فانظر بتوضح(2) باكر الأحداج فأنشده الرجل:
/هذا هوى شغف الفؤاد مبرّح فقال الفرزدق:
و نوّى تقاذف غير ذات خلاج(3)
فأنشده الرجل:
إن الغراب بما كرهت لمولع
فقال الفرزدق:
بنوى الأحبّة دائم التّشحاج(4)
فقال الرجل: هكذا و اللّه، قال أ فسمعتها من غيري؟ قال: لا! و لكن هكذا ينبغي أن يقال؛ أ و ما علمت أن شيطاننا واحد! ثم قال: أمدح بها الحجّاج؟ قال نعم. قال: إياه أراد.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا محمد بن إسحاق بن عبد الرحمن قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال حدّثني أبو عبيدة قال:
التقى جرير و الفرزدق بمنى و هما حاجّان؛ فقال الفرزدق لجرير:
فإنك لاق بالمنازل من منى *** فخارا فخبّرني بمن أنت فاخر
ص: 249
/فقال له جرير: بلبّيك اللهم(1) لبيك. قال إسحاق: فكان أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير و يعجبون(2)منه.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم، و أخبرني وكيع عن محمد بن إسماعيل [عن ابن(3) سلاّم] قال حدّثنا أبو الخطّاب عن أبيه عن حجناء بن جرير قال:
قلت لأبي: يا أبت، ما هجوت قوما قطّ إلاّ أفسدتهم سوى التّيم. فقال: إنّي لم أجد حسبا أضعه، و لا بناء أهدمه.
قال ابن سلاّم أخبرني أبو قيس(4) عن عكرمة بن جرير قال: قلت لأبي: يا أبت، من أشعر الناس؟ فقال:
الجاهلية تريد أم الإسلام؟ قلت: أخبرني عن الجاهلية. قال: شاعر الجاهلية زهير. قلت: فالإسلام؟ قال: نبعة الشعر الفرزدق. قلت: فالأخطل؟ قال: يجيد صفة الملوك و يصيب نعت الخمر. قلت: فما تركت لنفسك؟ قال:
دعني فإني نحرت(5) الشعر نحرا.
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثني الحسن بن عليل قال حدّثني محمد بن عبد اللّه العبديّ عن عمارة بن عقيل عن جدّه قال:
وقف الفرزدق على أبي بمربد البصرة و هو ينشد قصيدته التي هجا بها الرّاعي؛ فلما بلغ إلى قوله:
فغضّ الطّرف إنك من نمير *** فلا كعبا بلغت و لا كلابا
أقبل الفرزدق على روايته فقال: غضّه(6) و اللّه فلا يجيبه أبدا و لا يفلح بعدها. فلما بلغ إلى قوله:
/بها برص بجانب إسكتيها(7)وضع الفرزدق يده على فيه و غطّى عنفقته(8)؛ فقال أبي:
كعنفقة الفرزدق حين شابا فانصرف الفرزدق و هو يقول: اللهم أخزه! و اللّه لقد علمت حين بدأ بالبيت أنه لا يقول غير هذا، و لكن طمعت ألاّ
ص: 250
يأبه فغطّيت وجهي، فما أغناني ذلك شيئا. قال العنزيّ حدّثني مسعود بن بشر عن أبي عبيدة قال قال يونس: ما أرى جريرا قال هذا المصراع إلا حين غطّى الفرزدق عنفقته، فإنه نبّهه عليه بتغطيته إيّاها.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا المدائنيّ عن أبي بكر الهذليّ قال:
قال رجل من بني دارم للفرزدق و هو بالبصرة: يا أبا فراس، هل تعلم اليوم أحدا يرمي معك؟ فقال: لا! و اللّه ما أعرف نابحا إلا و قد استكان و لا ناهشا إلا و قد انجحر إلا القائل:
/
فإن لم أجد في القرب و البعد حاجتي *** تشأمت أو حوّلت وجهي يمانيا
فردّي جمال الحيّ ثم تحمّلى *** فمالك فيهم من مقام و لا ليا
فإنّي لمغرور أعلّل بالمنى *** ليالي أرجو أنّ مالك ماليا
و قائلة و الدمع يحدر كحلها *** أبعد جرير تكرمون المواليا
بأيّ نجاد تحمل السيف بعد ما *** قطعت القوى من محمل كان باقيا
بأيّ سنان تطعن القرم(1) بعد ما *** نزعت سنانا من قناتك ماضيا
/لساني و سيفي صارمان كلاهما *** و للسّيف أشوى(2) وقعة من لسانيا
قال: و هذا الشعر لجرير.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد عن عمارة بن عقيل عن أبيه قال:
قال جرير: وفدت إلى يزيد بن معاوية و أنا شابّ [يومئذ](3)؛ فاستؤذن لي عليه في جملة الشعراء؛ فخرج الحاجب إليّ و قال: يقول لك أمير المؤمنين: إنه لا يصل إلينا شاعر لا نعرفه و لا نسمع بشيء من شعره، و ما سمعنا لك بشيء فنأذن لك على بصيرة. فقلت له: تقول لأمير المؤمنين: أنا القائل:
و إنّي لعفّ الفقر مشترك الغنى *** سريع إذا لم أرض داري انتقاليا
جريء الجنان لا أهاب من الردى *** إذا ما جعلت السيف قبض بنانيا
و ليس لسيفي في العظام بقيّة *** و للسّيف أشوى وقعة من لسانيا
فدخل الحاجب عليه فأنشده الأبيات؛ ثم خرج إليّ و أذن لي، فدخلت و أنشدته و أخذت الجائزة مع الشعراء؛ فكانت أوّل جائزة أخذتها من خليفة، و قال لي: لقد فارق أبي الدنيا و ما يظنّ أبياتك التي توسّلت بها إليّ إلاّ لي.
ص: 251
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الراوية قال:
أتيت الفرزدق فأنشدني، ثم قال لي: هل أتيت الكلب جريرا؟ قلت نعم. قال: فأنا أشعر أو هو؟ فقلت: أنت في بعض الأمر و هو في بعض. /فقال: لم تناصحني. فقلت: هو أشعر إذا أرخى من خناقه، و أنت أشعر منه إذا خفت أو رجوت. فقال: و هل الشعر إلا في الخوف و الرجاء و عند الخير و الشرّ!.
أخبرني عمّي قال حدّثني أحمد بن الحارث قال حدّثنا المدائنيّ عن يحيى بن عنبسة القرشيّ و عوانة بن الحكم:
أنّ جريرا و الفرزدق اجتمعا عند بشر بن مروان؛ فقال لهما بشر: إنكما قد تقارضتما الأشعار و تطالبتما الآثار و تقاولتما الفخر و تهاجيتما. فأمّا الهجاء فليست بي إليه حاجة، فجدّدا بين يديّ فخرا و دعاني مما مضى. فقال الفرزدق:
نحن السّنام و المناسم(1) غيرنا *** فمن ذا يساوي بالسّنام المناسما!
فقال جرير:
على موضع الأستاه أنتم زعمتم *** و كلّ سنام تابع للغلاصم(2)
فقال الفرزدق:
على محرث(3) للفرث أنتم زعمتم *** ألا إنّ فوق الغلصمات الجماجما
/فقال جرير:
و أنبأتمونا أنكم هام قومكم *** و لا هام إلا تابع للخراطم
فقال الفرزدق:
فنحن الزّمام القائد المقتدى به *** من الناس، ما زلنا و لسنا لهازما(4)
فقال جرير:
فنحن بني زيد قطعنا زمامها *** فتاهت كسار طائش الرأس عارم(5)
/فقال بشر: غلبته يا جرير بقطعك الزّمام و ذهابك بالناقة. و أحسن الجائزة لهما و فضّل جريرا.
ص: 252
جرير و سكينة بنت الحسين:
قال المدائنيّ و حدّثني عوانة بن الحكم قال:
جاء جرير إلى باب سكينة بنت الحسين عليه السّلام يستأذن عليها فلم تأذن له، و خرجت إليه جارية لها فقالت: تقول لك سيّدتي: أنت القائل:
طرقتك صائدة القلوب و ليس ذا *** حين الزيارة فارجعي بسلام
قال نعم. قالت: فألاّ أخذت بيدها فرحّبت بها و أدنيت مجلسها و قلت لها ما يقال لمثلها! أنت عفيف و فيك ضعف، فخذ هذين الألفي الدرهم فالحق بأهلك.
قال المدائنيّ في خبره هذا و حدّثني أبو يعقوب الثّقفيّ عن الشّعبيّ: أنّ الفرزدق خرج حاجّا؛ فلما قصى حجّه عدل إلى المدينة فدخل إلى سكينة بنت الحسين عليهما السلام فسلّم. فقالت له: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال:
أنا. قالت: كذبت! أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنّبه عزيز *** عليّ و من زيارته لمام
و من أمسي و أصبح لا أراه *** و يطرقني إذا هجع النّيام
فقال: و اللّه لو أذنت لي لأسمعتك أحسس منه. قالت: أقيموه فأخرج ثم عاد إليها من الغد فدخل عليها، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس. قال: أنا. قالت: كذبت! صاحبك جرير أشعر منك حيث يقول:
لو لا الحياء لعادني استعبار *** و لزرت قبرك و الحبيب يزار
كانت إذا هجر الضّجيع فراشها *** كتم الحديث و عفّت الأسرار(1)
/لا يلبث القرناء أن يتفرّقوا *** ليل يكرّ عليهم و نهار
/فقال: و اللّه لئن أذنت لي لأسمعنّك أحسن منه، فأمرت به فأخرج. ثم عاد إليها في اليوم الثالث و حولها مولّدات لها كأنهنّ التماثيل؛ فنظر الفرزدق إلى واحدة منهنّ فأعجب بها و بهت ينظر إليها. فقالت له سكينة: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت! صاحبك أشعر منك حيث يقول:
إنّ العيون التي في طرفها مرض *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللّبّ حتى لا حراك به *** و هنّ أضعف خلق اللّه أركانا
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق *** هل ما ترى تارك للعين إنسانا
فقال: و اللّه لئن تركتني لأسمعنّك أحسن منه؛ فأمرت بإخراجه. فالتفت إليها و قال: يا بنت رسول اللّه - صلى اللّه عليه و سلّم - إنّ لي
ص: 253
عليك حقّا عظيما. [قالت: و ما(1) هو؟ قال:] ضربت إليك [آباط الإبل](1) من مكة إرادة التسليم عليك، فكان جزائي من ذلك تكذيبي و طردي و تفضيل جرير عليّ و منعك إيّاي أن أنشدك شيئا من شعري، و بي ما قد عيل منه صبري، و هذه المنايا تغدو و تروح، و لعلّي لا أفارق المدينة حتى أموت؛ فإذا أنا متّ فمري بي أن أدرج في كفني و أدفن في حر هذه (يعني الجارية التي أعجبته). فضحكت سكينة و أمرت له بالجارية، فخرج بها آخذا بريطتها(2)؛ و أمرت الجواري فدفعن في أقفيتهما، و نادته. يا فرزدق احتفظ بها و أحسن صحبتها فإني آثرتك بها على نفسي.
قال المدائنيّ في خبره هذا و حدّثني أبو عمران بن عبد الملك بن عمير عن أبيه، و حدّثنيه عوانة أيضا قالا:
/صنع عبد الملك بن مروان طعاما فأكثر و أطاب و دعا إليه الناس فأكلوا. فقال بعضهم: ما أطيب هذا الطعام! ما نرى أن أحدا رأى أكثر منه و لا أكل أطيب منه. فقال أعرابيّ من ناحية القوم: أمّا أكثر فلا، و أمّا أطيب فقد و اللّه أكلت أطيب منه، فطفقوا(3) يضحكون من قوله. فأشار إليه عبد الملك فأدني منه؛ فقال: ما أنت بمحقّ فيما تقول إلاّ أن تخبرني بما يبين به صدقك. فقال: نعم يا أمير المؤمنين؛ بينا أنا بهجر(4) في برث(5) أحمر في أقصى حجر(6)، إذ توفّي أبي و ترك كلاّ(7) و عيالا، و كان له نخل، فكانت فيه نخلة لم ينظر الناظرون إلى مثلها، كأن تمرها أخفاف الرّباع(8) لم ير تمر قطّ أغلظ و لا أصلب و لا أصغر نوّى و لا أحلى حلاوة منه(9). و كانت تطرقها أتان وحشيّة قد ألفتها تأوي الليل تحتها، فكانت تثبت رجليها في أصلها و ترفع يديها و تعطو(10) بفيها فلا تترك فيها إلا النّبيذ(11)و المتفرّق؛ فأعظمني ذلك و وقع منّي كلّ موقع، فانطلقت بقوسي و أسهمي و أنا أظنّ أنّي أرجع من ساعتي؛ فمكثت يوما و ليلة لا أراها، حتى إذا كان السّحر أقبلت، فتهيأت لها فرشقتها فأصبتها و أجهزت عليها، ثم عمدت إلى سرّتها فاقتددتها(12)، ثم عمدت إلى حطب جزل فجمعته إلى رضف(13) و عمدت إلى زندي فقدحت و أضرمت النار في ذلك الحطب، و ألقيت/سرّتها فيه؛ و أدركني نوم الشّباب(14) فلم يوقظني إلاّ حرّ الشمس في ظهري؛ فانطلقت إليها
ص: 254
فكشفتها و ألقيت ما عليها من قذى و سواد و رماد، ثم قلبت [منها(1)] مثل الملاءة البيضاء، فألقيت عليها من رطب تلك النخلة المجزّعة(2) و المنصّفة، فسمعت لها أطيطا(3) كتداعي عامر و غطفان، ثم أقبلت أتناول الشّحمة و اللحمة فأضعها بين التمرتين و أهوي إلى فمي، فبما أحلف إنّي(4) ما أكلت طعاما مثله قطّ. فقال له عبد الملك: لقد أكلت طعاما طيّبا، فمن أنت؟ قال: أنا رجل جانبتني عنعنة(5) تميم و أسد و كشكشة(6) ربيعة و حوشيّ(7) أهل اليمن و إن كنت منهم. فقال: من أيّهم أنت؟ قال: من أخوالك من عذرة. قال: أولئك فصحاء الناس؛ فهل لك علم بالشعر؟ قال: سلني عمّا بدا لك يا أمير المؤمنين. قال: أيّ بيت قالته العرب أمدح؟ قال: قول جرير:
أ لستم خير من ركب المطايا *** و أندى العالمين بطون راح
/قال: و كان جرير في القوم، فرفع رأسه و تطاول لها. ثم قال: فأيّ بيت قالته العرب أفخر؟ قال: قول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم *** حسبت الناس كلّهم غضابا
/قال: فتحرّك [لها(8) جرير]. ثم قال له: فأيّ بيت أهجى؟ قال: قول جرير:
فغضّ الطّرف إنك من نمير *** فلا كعبا بلغت و لا كلابا
قال: فاستشرف لها جرير. قال: فأيّ بيت أغزل؟ قال: قول جرير:
إن العيون التي في طرفها مرض *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
قال: فاهتزّ جرير و طرب. ثم قال له: فأيّ بيت قالته العرب أحسن تشبيها؟ قال: قول جرير:
سرى نحوهم ليل كأنّ نجومه *** قناديل فيهنّ الذّبالى(9) المفتّل
فقال جرير: جائزتي للعذريّ يا أمير المؤمنين. فقال له عبد الملك: و له مثلها من بيت المال، و لك جائزتك يا جرير لا تنتقص منها شيئا. و كانت جائزة جرير أربعة آلاف درهم و توابعها من الحملان و الكسوة. فخرج العذريّ و في يده اليمنى ثمانية آلاف درهم و في اليسرى رزمة ثياب.
ص: 255
أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا المدائنيّ عن أبي عبد الرحمن(1) عن عبد اللّه بن عيّاش الهمدانيّ قال:
بينا المهلّب ذات يوم [أو ليلة(2)] بفارس و هو يقاتل الأزارقة إذ سمع في عسكره جلبة و صياحا؛ فقال: ما هذا؟ قالوا: جماعة من العرب تحاكموا إليك في شيء. فأذن لهم فقالوا: إنّا اختلفنا في جرير و الفرزدق؛ فكلّ فريق منّا يزعم أنّ أحدهما أشعر من الآخر، و قد رضينا بحكم الأمير. فقال: كأنكم أردتم [أن(2)] تعرّضوني/لهذين الكلبين فيمزّقا جلدتي! لا أحكم بينهما، و لكنّي أدلّكم على من يهون عليه سبال جرير و سبال(3) الفرزدق، عليكم بالأزارقة، فإنّهم قوم عرب يبصرون بالشعر(4). و يقولون فيه بالحق. فلما كان الغد خرج عبيدة بن هلال اليشكريّ و دعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر المهلّب كان لقطريّ صديقا؛ فقال له: يا عبيدة، سألتك اللّه إلاّ أخبرتني عن شيء أسألك عنه. قال: سل. قال: أو تخبرني؟ قال: نعم إن كنت أعلمه. قال: أ جرير أشعر أم الفرزدق؟ قال: قبحك اللّه! أ تركت القرآن و الفقه و سألتني عن الشعر! إنا تشاجرنا في ذلك و رضينا بك. فقال من الذي يقول:
و طوى الطّراد(5) - مع القياد بطونها *** طيّ التّجار بحضر موت برودا
فقال: جرير. قال: هذا أشعر الرجلين.
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا الرّياشيّ عن العتبيّ قال:
قال جرير: ما عشقت قطّ، و لو عشقت لنسبت نسيبا تسمعه العجوز فتبكي على ما فاتها من شبابها، و إني لأرى من الرّجز أمثال آثار الخيل في الثّرى، و لو لا أنّي أخاف أن يستفرغني(6) لأكثرت منه.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و عمّي قالا حدّثنا ابن الأعرابيّ قال حدّثنا عبد الرحمن بن سعيد بن بيهس بن صهيب الجرميّ [عن عامر(7) بن شبل الجرميّ] قال:
ص: 256
/قدم جرير على عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك و هو نازل بدير مرّان(1)؛ فكنا نغدو إليه بكرا(2)، فيخرج إلينا و يجلس في برنس خزّ له لا يكلّمنا كلمة حتى يجيء طبّاخ عبد العزيز إليه بقدح من طلاء مسخّن/يفور، و بكتلة من سمن كأنها هامة رجل فيخوضها فيه، ثم يدفعه إليه فيأتي عليه، و يقبل علينا و يحدّثنا في كل فنّ، و ينشدنا لنفسه و لغيره؛ حتى يحضر غداء عبد العزيز فنقوم إليه جميعا. و كان يختم مجلسه بالتسبيح فيطيل. فقال له رجل: ما يغني عنك هذا التسبيح مع قذفك للمحصنات! فتبسّم و قال: يا ابن أخي (خلطوا عملا صالحا و آخر سيّئا عسى اللّه أن يتوب عليهم) إنهم و اللّه يا ابن أخي يبدءوني ثم لا أحلم.
وفد رجل من قبيلة الفرزدق على امرأة من بني حنيفة فأسمعته هجو جرير لهم و قصة عشقها لابن عم محمد:
أخبرني عمّي قال حدّثنا ابن أبي سعد قال حدّثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن سعيد بن جعفر بن يوسف بن محمد بن موسى(3) قال حدّثني الأخفش عن أبي محذورة الورّاق عن أبي مالك الراوية قال سمعت الفرزدق يقول:
و أخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني إبراهيم بن محمد الطائفيّ قال حدّثني محمد بن مسعدة(4) الأخفش عن أبي محذورة الورّاق عن أبي مالك الراوية قال:
سمعت الفرزدق يقول: أبق غلامان لرجل منا يقال له الخضر، فحدّثني قال: خرجت في طلبهما و أنا على ناقة لي عيساء(5) كوماء أريد اليمامة؛ فلما صرت في ماء لبني حنيفة يقال له الصّرصران ارتفعت سحابة فرعدت و برقت و أرخت عزاليها(6)؛ /فعدلت إلى بعض ديارهم و سألت القرى فأجابوا (فدخلت دارا لهم و أنخت الناقة و جلست تحت ظلّة لهم من جريد النخل، و في الدار جويرية لهم سوداء، إذ دخلت جارية كأنها سبيكة فضة و كأن عينيها كوكبان درّيان؛ فسألت الجارية: لمن هذه العيساء؟ (تعني ناقتي) فقالت: لضيفكم هذا. فعدلت إليّ فقالت:
السلام عليكم، فرددت عليها السلام. فقالت لي: ممّن الرجل؟ فقلت: من بني حنظلة. فقالت: من أيّهم؟ فقلت:
من بني نهشل. فتبسّمت و قالت: أنت إذا ممّن عناه الفرزدق بقوله:
إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتا دعائمه أعزّ و أطول
بيتا بناه لنا المليك و ما بنى *** ملك السماء فإنه لا ينقل
بيتا زرارة محتب بفنائه *** و مجاشع و أبو الفوارس نهشل
قال: فقلت: نعم جعلت فداك! و أعجبني ما سمعت منها. فضحكت و قالت: فإن ابن الخطفى قد هدم عليكم بيتكم هذا الذي فخرتم به حيث يقول:
ص: 257
أخزى الذي رفع السماء مجاشعا *** و بنى بناءك(1) بالحضيض الأسفل
بيتا يحمّم(2) قينكم بفنائه *** دنسا مقاعده خبيث المدخل
قال: فوجمت. فلما رأت ذلك في وجهي قالت: لا عليك؛ فإن الناس يقال فيهم و يقولون. ثم قالت: أين تؤمّ؟ قلت: اليمامة. فتنفّست الصّعداء ثم قالت: ها هي تلك أمامك؛ ثم أنشأت تقول:
تذكّرني بلادا خير أهلي *** بها أهل المروءة و الكرامة
/ألا فسقى الإله أجشّ صوبا *** يسحّ بدرّه بلد اليمامه
و حيّا بالسلام أبا نجيد *** فأهل للتحيّة و السلامه
/قال: فأنست بها و قلت لها: أ ذات خدن أم ذات بعل؟ فأنشأت تقول:
إذا رقد النّيام فإن عمرا *** تؤرّقه الهموم إلى الصباح
تقطّع قلبه الذّكرى و قلبي *** فلا هو بالخليّ و لا بصاح
سقى اللّه اليمامة دار قوم *** بها عمرو و يحنّ إلى الرّواح
فقلت لها: من عمرو هذا؟ فأنشأت تقول:
سألت و لو علمت كففت عنه *** و من لك بالجواب سوى الخبير
فإن تك ذا قبول إن عمرا *** هو القمر المضيء المستنير(3)
و مالي بالتبعّل مستراح *** و لو ردّ التبعّل لي أسيري
قال: ثم سكتت سكتة كأنها تتسمّع(4) إلى كلام، ثم تهافتت(5) و أنشأت تقول:
يخيّل لي هيا عمرو بن كعب *** كأنك قد حملت على سرير
يسير بك الهوينى القوم لما *** رماك الحبّ بالعلق(6) العسير
فإن تك هكذا يا عمرو إنّي *** مبكّرة عليك إلى القبور
ثم شهقت شهقة فخرّت ميّتة. فقلت لهم: من هذه؟ فقالوا: هذه عقيلة بنت الضحّاك بن عمرو بن محرّق بن النّعمان بن المنذر بن ماء السماء. فقلت لهم: فمن عمرو هذا؟ قالوا: ابن عمّها عمرو بن كعب بن محرّق بن
ص: 258
النعمان بن المنذر؛ فارتحلت من عندهم. فلما دخلت اليمامة سألت عن عمرو هذا فإذا هو قد دفن في ذلك الوقت الذي قالت فيه ما قالت.
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدّثنا محمد بن الحكم، و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو الهيثم بدر بن سعيد العطّار قال حدّثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال:
لمّا استخلف عمر بن عبد العزيز جاءه الشعراء فجعلوا لا يصلون إليه؛ فجاء عون بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود و عليه عمامة قد أرخى طرفيها فدخل؛ فصاح به جرير:
يا أيّها القارئ(1) المرخى عمامته *** هذا زمانك إنّي قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه *** أنّي لدى الباب كالمصفود في قرن
قال: فدخل على عمر فاستأذن له، فأدخله عليه. و قد كان هيأ له شعرا، فلما دخل عليه غيّره و قال:
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا *** من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدرا *** كما أتى ربّه موسى على قدر
أ أذكر الجهد و البلوى التي نزلت *** أم تكتفي بالذي بلّغت من خبري
ما زلت بعدك في دار تعرّفني(2) *** قد طال بعدك إصعادي و منحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا *** و لا يجود لنا باد على حضر
كم بالمواسم من شعثاء أرملة *** و من يتيم ضعيف الصوت و البصر
يدعوك دعوة ملهوف كأنّ به *** خبلا من الجنّ أو مسّا من النّشر(3)
/ممّن يعدّك تكفي فقد والده *** كالفرخ في العشّ لم ينهض و لم يطر
/قال: فبكى عمر ثم قال: يا ابن الخطفى، أ من أبناء المهاجرين أنت فنعرف لك حقّهم، أم من أبناء الأنصار فيجب لك ما يجب لهم، أم من فقراء المسلمين فنأمر صاحب صدقات قومك فيصلك بمثل ما يصل به قومك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما أنا بواحد من هؤلاء، و إني لمن أكثر قومي مالا، و أحسنهم حالا، و لكنّي أسألك ما عوّدتنيه الخلفاء: أربعة آلاف درهم و ما يتبعها من كسوة و حملان. فقال له عمر: كلّ امرئ يلقى فعله، و أمّا أنا فما أرى لك في مال اللّه حقّا، و لكن انتظر، يخرج عطائي، فأنظر ما يكفي عيالي سنة منه فادّخره لهم، ثم إن فضل فضل صرفناه إليك. فقال جرير: لا، بل يوفّر أمير المؤمنين و يحمد و أخرج راضيا؛ قال: فذلك أحبّ إليّ؛ فخرج. فلما ولّى قال عمر: إن شرّ هذا ليتّقى؛ ردّوه إليّ، فردّوه فقال: إن عندي أربعين دينارا و خلعتين إذا غسلت إحداهما
ص: 259
لبست الأخرى، و أنا مقاسمك ذلك، على أن اللّه جلّ و عزّ يعلم أن عمر أحوج إلى ذلك منك. فقال له: قد وفّرك اللّه يا أمير المؤمنين و أنا و اللّه راض. قال: أمّا و قد حلفت فإن ما وفّرته عليّ و لم تضيّق به معيشتنا آثر في نفسي من المدح، فامض مصاحبا؛ فخرج. فقال له أصحابه و فيهم الفرزدق: ما صنع بك أمير المؤمنين يا أبا حزرة؟ قال:
خرجت من عند رجل يقرّب الفقراء و يباعد الشعراء و أنا مع ذلك عنه راض ثم وضع رجله في غرز راحلته و أتى قومه. فقالوا له: ما صنع بك أمير المؤمنين أبا حرزة؟ فقال:
تركت لكم بالشأم حبل جماعة *** أمين القوى مستحصد(1) العقد باقيا
وجدت رقى الشيطان لا تستفزّه *** و قد كان شيطاني من الجنّ راقيا
هذه رواية عمر بن شبّة. و أما اليزيديّ فإنه قال في خبره: فقال له جرير يا أمير المؤمنين، فإنّي ابن سبيل. قال: لك ما لأبناء السبيل، زادك و نفقة تبلّغك/و تبدّل راحلتك إن لم تحملك. فألحّ عليه؛ فقالت له بنو أميّة: يا أبا حزرة، مهلا عن أمير المؤمنين، و نحن نرضيك من أموالنا عنه، فخرج. و جمعت له بنو أميّة مالا عظيما؛ فما خرج من عند خليفة بأكثر ممّا خرج من عند عمر.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة قال:
رأت أمّ جرير و هي حامل به كأنها ولدت حبلا من شعر أسود، فلما سقط منها جعل ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه حتى فعل ذلك برجال كثير، فانتبهت فزعة فأوّلت الرّؤيا فقيل لها: تلدين غلاما شاعرا ذا شرّ و شدّة شكيمة و بلاء على الناس. فلما ولدته جريرا باسم الحبل الذي رأت أنه خرج منها. قال: و الجرير: الحبل.
قال إسحاق و قال الأصمعيّ حدّثني بلال بن جرير - أو حدّثت عنه - أنّ رجلا قال لجرير: من أشعر الناس؟ قال له: قم حتى أعرّفك الجواب؛ فأخذ بيده و جاء به إلى أبيه عطيّة و قد أخذ عنزا له فاعتقلها و جعل يمصّ ضرعها، فصاح به: اخرج يا أبت؛ فخرج شيخ دميم رثّ الهيئة و قد سال لبن العنز على لحيته؛ فقال: أ لا(2) ترى هذا؟ قال نعم. قال: أو تعرفه؟ قال لا. هذا أبي، أ فتدري لم كان يشرب من ضرع العنز؟ قلت لا. قال: مخافة أن يسمع صوت الحلب فيطلب منه لبن. ثم قال: أشعر الناس/من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعرا و قارعهم به فغلبهم جميعا.
حدّثني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عبد اللّه بن محمد بن موسى مولى بني هاشم قال حدّثني عمّارة بن عقيل عن المغيرة بن حجناء عن أبيه قال:
/ولد جرير لسبعة أشهر؛ فكان الفرزدق يعيّره ذلك(3)، و فيه يقول:
و أنت ابن صغرى لم تتمّ شهورها
ص: 260
قال و ولد عطيّة جريرا - و أمّه أمّ قيس بنت معيد من بني كليب - و عمرا و أبا الورد. فأمّا أبو الورد فكان يحسد جريرا؛ فذهبت لجرير إبل فشمت به أبو الورد فقال له جرير:
أبا الورد أبقى اللّه منها بقيّة *** كفت كلّ لوّام خذول و حاسد
و أما عمرو فكان أكبر من جرير، و كان يقارضه الشعر. فقال له جرير:
و عمرو(1) قد كرهت عتاب عمرو *** و قد كثر المعاتب و الذّنوب
و قد صدّعت صخرة من رماكم *** و قد يرمى بي الحجر الصّليب
و قد قطع الحديد فلا تماروا *** فرند لا يفلّ و لا يذوب
قال: و أوّل شعر قاله جرير في زمن معاوية، قاله لابنه:
فردّي جمال البين ثم تحمّلي *** فما لك فيهم من مقام و لا ليا
لقد قادني الجيران يوما و قدتهم *** و فارقت حتّى ما تصبّ(2) جماليا
و إنّي لمغرور أعلّل بالمنى *** ليالي أرجو أن مالك ماليا
بأيّ سنان تطعن القرم بعد ما *** نزعت سنانا من قناتك ماضيا
بأيّ نجاد تحمل السيف بعد ما *** قطعت القوى من محمل كان باقيا
قال: و كان يزيد بن معاوية عاتب أباه بهذه الأبيات و نسبها إلى نفسه؛ لأن جريرا لم يكن شعره شهر حينئذ. فقدم جرير على يزيد في خلافته فاستؤذن له/مع الشعراء، فأمر يزيد ألاّ يدخل عليه شاعر إلاّ من عرف شعره؛ فقال جرير: قولوا له: أنا القائل:
فردّيي جمال الحيّ ثم تحمّلي *** فما لك فيهم من مقام و لا ليا
فأمر بإدخاله. فلمّا أنشده قال يزيد: لقد فارق أبي الدنيا و ما يحسب إلاّ أنّي قائلها، و أمر له بجائزة و كسوة.
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا محمد بن صالح بن النطّاح قال قال أبو عبيدة قال أبو عمرو:
استعار جرير من أبيه فحلا يطرقه في إبله، فلما استغنى عنه جاءه أبوه في بتّ(3) خلق يستردّه؛ فدفعه إليه و قال: يا أبت، هذا «تردّ إلى عطيّة تعتل». يعرّض بقول الفرزدق فيه:
ليس الكرام بناحليك أباهم *** حتى تردّ عطيّة تعتل(4)
ص: 261
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ و عمر بن شبّة قالا حدّثنا الأصمعيّ قال أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال:
جلس جرير يملي على رجل قوله:
ودّع أمامة حان منك رحيل *** إنّ الوداع لمن تحبّ قليل
فمرّوا عليه بجنازة؛ فقطع الإنشاد و جعل يبكي، ثم قال: شيّبتني هذه الجنازة. قال أبو عمرو: /فقلت له: فعلام تقذف المحصنات منذ كذا و كذا! فقال: إنهم يبدءونني ثم لا أعفو.
أخبرني عمّي قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلبيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن المعذّل قال:
كان أبي و جماعة من علمائنا يقولون: إنما فضّل جرير لمقاومته الفرزدق، و أفضل(1) شعر قاله جرير:
حيّ الهدملة من ذات المواعيس(2)
أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال حدّثنا أبو الغرّاف قال:
أتى الفرزدق مجلس بني الهجيم(3) في مسجدهم فأنشدهم؛ و بلغ ذلك جريرا فأتاهم من الغد لينشدهم كما أنشدهم الفرزدق. فقال له شيخ منهم: يا هذا اتّق اللّه! فإنّ هذا المسجد إنما بني لذكر اللّه و الصلاة. فقال جرير:
أقررتم للفرزدق و منعتموني! و خرج مغضبا و هو يقول:
إنّ الهجيم قبيلة ملعونة *** حصّ(4) اللّحى متشابهو الألوان
هم يتركون بنيهم و بناتهم *** صعر الأنوف لريح كلّ دخان
لو يسمعون بأكلة أو شربة *** بعمان أصبح جمعهم بعمان
قال: و خفّة اللّحى في بني هجيم ظاهرة. و قيل لرجل منهم: ما بالكم يا بني الهجيم حصّ اللحى؟ قال: إن الفحل واحد.
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن آدم قال سمعت عمارة بن عقيل يحدّث عن أبيه عن جدّه قال:
ص: 262
/قال عبد الملك أو الوليد ابنه لجرير: من أشعر الناس؟ قال فقال: ابن العشرين(1). قال: فما رأيك في ابنيّ(2) أبي سلمى؟ قال: كان شعرهما نيّرا يا أمير المؤمنين. قال: فما تقول في امرئ القيس؟ قال: اتّخذ الخبيث الشعر نعلين، و أقسم باللّه لو أدركته لرفعت ذلاذله(3). قال: فما تقول في ذي الرّمّة؟ قال: قدر من ظريف الشعر و غريبه و حسنه [على](4) ما لم يقدر عليه أحد. قال: فما تقول في الأخطل؟ قال: ما أخرج لسان ابن النّصرانية ما في صدره من الشعر حتى مات. قال: فما تقول في الفرزدق؟ قال: في يده و اللّه يا أمير المؤمنين نبعة من الشعر قد قبض عليها. قال: فما أراك أبقيت لنفسك شيئا! قال: بلى و اللّه يا أمير المؤمنين! إنّي لمدينة الشعر التي منها يخرج و إليها يعود، نسبت فأطربت، و هجوت فأرديت، و مدحت فسنّيت(5)، و أرملت فأغزرت، و رجزت(6) فأبحرت؛ فأنا قلت ضروب الشعر كلّها، و كلّ واحد منهم قال نوعا منها. قال: صدقت.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا عليّ بن الصبّاح عن ابن الكلبيّ قال:
كانت لجرير أمة و كان بها معجبا، فاستخفّت المطعم و الملبس و الغشيان و استقلّت ما عنده، و كانت قبله عند قوم يقال لهم بنو زيد، أهل خصب و نعمة، فسامته أن يبيعها و ألحّت في ذلك؛ فقال فيها:
/
تكلّفني معيشة آل زيد *** و من لي بالمرفّق و الصّناب(7)
تقول أ لا تضمّ كضمّ زيد *** و ما ضمّي و ليس معي شبابي
فقال الفرزدق يعيّر ذلك(8):
فإن تفقرك علجة آل زيد *** و يعجزك المرقّق و الصّناب(9)
/فقدما كان عيش أبيك مرّا *** يعيش بما تعيش به الكلاب(10)
ص: 263
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا العباس بن ميمون قال حدّثنا التّوّزيّ عن أبي عبيدة عن أيّوب بن كسيب قال:
دخل جرير على المهاجر بن عبد اللّه و هو والي اليمامة و عنده ذو الرّمّة ينشده. فقال المهاجر بن عبد اللّه لجرير:
كيف ترى؟ قال: لقد قال و ما أنعم. فغضب ذو الرّمّة و نهض و هو يقول:
أنا أبو الحارث و اسمي غيلان فنهض جرير و قال.
إنّي(1) امرأ خلقت شكسا أشوسا *** إن تضرساني تضرسا مضرسا(2)
قد لبس الدهر و أبقى ملبسا *** من شاء من نار الجحيم اقتبسا
قال: فجلس ذو الرّمّة و حاد عنه فلم يجبه.
/أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا ابن النّطّاح عن أبي عبيدة قال:
كان ذو الرّمّة ممّن أعان على جرير و لم يصحر(3) له؛ فقال جرير فيه:
أقول نصاحة لبني عديّ *** ثيابكم و نضح دم القتيل
و هي قصيدة. قال: و كانوا يتعاونون عليه و لا يصحرون له.
أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال حدّثني أبو الغرّاف قال:
قال الفرزدق لذي الرّمّة: ألهاك البكاء في الديار و هذا العبد يرجز بك (يعني هشاما المرئيّ) بمقبرة بني حصن.
قال: و كان السبب في الهجاء بين ذي الرّمة و هشام أن ذا الرمّة نزل بقرية لبني امرئ القيس يقال لها: مرأة(4)، فلم يقروه و لم يعلفوا له، فارتحل و هو يقول:
نزلنا و قد طال(5) النهار و أوقدت *** علينا حصى المعزاء(6) شمس تنالها
أنخنا فظلّلنا بأبراد يمنة(7) *** رقاق و أسياف قديم صقالها
ص: 264
فلمّا رآنا أهل مرأة أغلقوا *** مخادع(1) لم ترفع لخير ظلالها
و قد سمّيت باسم امرئ القيس قرية *** كرام صواديها(2) لئام رجالها
/يظلّ الكرام المرملون بجوّها *** سواء عليهم حملها و حيالها(3)
و لو وضعت أكوارها عند بيهس *** على ذات غسل لم تشمّس رحالها(4)
فقال جرير لهشام، و كان يتّهم ذا الرّمة بهجائه التّيم و هم إخوة عديّ: عليك العبد (يعني ذا الرّمة). قال: فما أصنع يا أبا حزرة و هو يقول القصيد و أنا أقول الرّجز، و الرجز لا يقوم للقصيد؟ فلو رفدتني! قال: قل له:
عجبت لرجل من عديّ مشمّس *** و في أيّ يوم لم تشمّس رحالها
و فيم عديّ عند تيم من العلا *** و أيّامنا اللاّتي يعدّ فعالها
مددت بكفّ من عديّ قصيرة *** لتدرك من زيد يدا لا تنالها
و ضبّة عمّي يا ابن جلّ(5) فلا ترم *** مساعي قوم ليس منك سجالها
يماشي عديّا لؤمها ما تجنّه *** من الناس ما ماشت عديّا ظلالها
فقل لعديّ تستعن بنسائها *** عليّ فقد أعيا عديّا رجالها
/أ ذا الرّمّ قد قلّدت(6) قومك رمّة *** بطيئا بأيدي المطلقين انحلالها
ترى اللّؤم ما عاشت عديّ مخلّدا *** سرابيلها منه و منه نعالها
قال: فلجّ الهجاء بين ذي الرمّة و هشام. فلما أنشد المرئيّ هذه الأبيات و سمعها ذو الرّمّة قال: كذب العبد السّوء! ليس هذا الكلام له، هذا كلام نجديّ حنظليّ، /هذا كلام ابن(7) الأتان. قال: و لم يزل ذو الرمّة مستعليا على هشام حتى لقيه جرير فرفده هذه الأبيات.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عدنان قال حدّثني أبو صخر(8) من ولد حجناء بن نوح بن جرير قال: سمعت أبي يحدّث عن أبيه قال:
أتى هشام بن قيس المرئيّ أبي (يعني جريرا) فاسترفده على ذي الرمّة، و قد كانا تهاجيا دهرا، و كان سبب ذلك
ص: 265
أن ذا الرّمّة نزل على أهل قرية لبني امرئ القيس فلم يدخلوا رحله، فذمّهم في القرى، و مدح بيهسا صاحب ذات غسل - و هو مرئيّ. و ذات غسل: قرية له - فقال ذو الرّمّة:
و لمّا وردنا مرأة اللّؤم أغلقت *** دساكر لم تفتح لخير ظلالها
و لو عرّيت أصلابها(1) عند بيهس *** على ذات غسل لم تشمّس رحالها
إذا ما امرؤ القيس ابن لؤم تطعّمت *** بكأس الندامى خبّثتها(2) سبالها
فقال جرير للمرئيّ: قل له:
غضبت لرحل من عديّ مشمّس *** و في أيّ يوم لم تشمّس رحالها
و ذكر الأبيات الماضية المذكورة في رواية أبي خليفة. قال: فلقى ذو الرّمّة جريرا فقال له: تعصّبت للمرئيّ و أنا خالك!. قال: حين قلت ما ذا؟ قال: حين قلت له أن يقول لي:
عجبت لرحل من عديّ مشمّس /فقال له جرير: لا! بل ألهاك البكاء في دارميّة حتى أبيحت محارمك. قال: و كان قد بلغ جريرا ميل ذي الرّمة عليه، فجعل يعتذر إليه و يحلف له. فقال له جرير: اذهب الآن فقل للمرئيّ:
يعدّ الناسبون إلى تميم *** بيوت المجد أربعة كبارا
يعدّون الرّباب و آل سعد *** و عمرا ثم حنظلة الخيارا
و يهلك بينها المرئيّ لغوا *** كما ألغيت في الدّية الحوارا(3)
فقال ذو الرمّة قصيدته التي أوّلها:
نبت عيناك عن طلل بجزوى(4) *** عفته الرّيح و امتنح القطارا
و ألحق فيها هذه الأبيات. فلما أنشدها و سمعها المرئيّ جعل يلطم رأسه و وجهه و يدعو بويله و حربه و يقول: ما لي و لجرير! فقيل له: و أين جرير منك! هذا رجل يهاجيك و تهاجيه! فقال: هيهات! لا و اللّه ما يحسن ذو الرّمّة أن يقول:
و يذهب بينها المرئيّ لغوا *** كما ألغيت في الدّية الحوارا
هذا و اللّه كلام جرير ما تعدّاه قطّ. قال: و مرّ الفرزدق بذي الرّمّة و هو ينشد هذه القصيدة؛ فلما أنشد الأبيات الثلاثة فيها قال له الفرزدق: أعد يا غيلان، فأعاد؛ فقال له: أ أنت/تقول هذا؟ قال: نعم يا أبا فراس. قال: كذب فوك! و اللّه لقد نحلكها أشدّ لحيين منك، هذا شعر ابن الأتان. قال: و جاء المرثيّون إلى جرير فقالوا: يا أبا حزرة، قد
ص: 266
استعلى علينا ذو الرمّة، فأعنّا على عادتك الجميلة. فقال: هيهات! قد و اللّه ظلمت خالي لكم مرّة و جاءني فاعتذر و حلف، و ما كنت لأعينكم عليه بعدها. قال: و مات ذو الرّمّة في تلك الأيام.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثني العمريّ عن لقيط قال حدّثني أبو بكر بن نوفل قال حدّثني من سأل النّصيب قال: قلت له: يا أبا محجن، بيت قلته نازعك فيه جرير و جميل، فأحبّ أن تخبرني أيّكم فيه أشعر؟ قال: و ما هو؟ قلت قولك:
أضرّ بها التهجير حتى كأنها *** أكبّ عليها جازر متعرّق(1)
و قال جميل:
أضرّ بها التهجير حتى كأنها *** بقايا سلال(2) لم يدعها سلالها
و قال جرير:
إذا بلغوا المنازل لم تقيّد *** و في طول الكلال لها قيود
فقال نصيب: قاتل اللّه ابن الخطفى! ما أشعره!. قال: فقال له الرجل: أمّا أنت فقد فضلته؛ فقال: هو ما أقول لك.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عبد الرحمن بن القاسم العجليّ قال حدّثني الحسن بن علي المنقريّ قال قال مسعود بن بشر:
قلت لابن مناذر بمكة: من أشعر الناس؟ قال: من إذا شئت(3) لعب، و إذا شئت جدّ؛ فإذا لعب أطعمك لعبه فيه، و إذا رمته بعد عليك؛ و إذا جدّ فيما قصد له أيأسك من نفسه. قلت: مثل من؟ قال: مثل جرير حين يقول إذا لعب:
إنّ الّذين غدوا بلبّك غادروا *** وشلا بعينك ما يزال معينا
/ثم قال حين جدّ:
إنّ الذي حرم المكارم تغلبا *** جعل الخلافة و النبوّة فينا
مضر أبي و أبو الملوك فهل لكم *** يا آل تغلب من أب كأبينا
هذا ابن عمّي في دمشق خليفة *** لو شئت ساقكم إليّ قطينا(4)
ص: 267
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثني الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ عن أبي عمرو قال:
لمّا بلغ عبد الملك قول جرير:
هذا ابن عمّي في دمشق خليفة *** لو شئت ساقكم إليّ قطينا
قال: ما زاد ابن المراغة على أن جعلني شرطيّا! أما إنّه لو قال:
لو شاء ساقكم إليّ قطينا لسقتهم إليه كما قال.
أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال:
سألت بشّارا العقيليّ عن الثلاثة فقال: لم يكن الأخطل مثلهما، و لكنّ ربيعة تعصّبت له و أفرطت فيه. قلت:
فجرير و الفرزدق؟ قال: كان جرير يحسن ضروبا من الشعر لا يحسنها الفرزدق، و فضّل جريرا عليه.
و قال ابن سلاّم: قال العلاء بن جرير - و كان قد أدرك الناس و سمع -: كان يقال: الأخطل إذا لم يجيء سابقا فهو سكّيت، و الفرزدق لا(1) يجيء سابقا و لا سكّيتا فهو بمنزلة المصلّى/أبدا، و جرير يجيء سابقا و مصلّيا و سكّيتا. قال ابن سلاّم: و تأويل قوله: إن للأخطل خمسا أو ستّا أو سبعا طوالا روائع غررا جيادا هو بهنّ سابق، و سائر شعره دون أشعارهما، فهو فيما بقي بمنزلة السّكّيت - و السكّيت: آخر الخيل/في الرّهان - و الفرزدق دونه في هذه الروائع و فوقه في بقيّة شعره، فهو كالمصلّي أبدا - و هو الذي يجيء بعد السابق و قبل السكّيت - و جرير له روائع هو بهنّ سابق، و أوساط هو بهنّ مصلّ، و سفسافات(2) هو بهنّ سكّيت.
أخبرنا أبو خليفة قال حدّثني محمد بن سلاّم قال حدّثني حاجب بن زيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة قال:
قال جرير بالكوفة:
لقد قادني من حبّ ماويّة الهوى *** و ما كنت تلقاني الجنيبة أقودا(3)
أحبّ ثرى نجد و بالغور حاجة *** فغار الهوى يا عبد قيس و أنجدا
أقول له يا عبد قيس صبابة *** بأيّ ترى مستوقد النار أوقدا
فقال أرى نارا يشبّ وقودها *** بحيث استفاض الجزع شيحا و غرقدا(4)
ص: 268
فأعجبت الناس و تناشدوها. قال: فحدّثني جابر بن جندل قال: فقال لنا جرير: أعجبتكم هذه الأبيات؟ قالوا: نعم.
قال: كأنكم بابن القين(1) و قد قال:
أعد نظرا يا عبد قيس لعلّما *** أضاءت لك النار الحمار(2) المقيّدا
قال: فلم يلبثوا أن جاءهم قول الفرزدق هذا البيت و بعده:
حمار بمرّوت السّحامة قاربت *** وظيفيه حول البيت حتى تردّدا(3)
/كليبيّة لم يجعل اللّه وجهها *** كريما و لم يسنح بها الطير أسعدا
قال: فتناشدها الناس. فقال الفرزدق: كأنكم بابن المراغة قد قال:
و ما عبت من نار أضاء وقودها *** فراسا و بسطام بن قيس(4) مقيّدا
قال فإذا بالبيت قد جاء لجرير و معه:
و أوقدت بالسّيدان نارا ذليلة *** و أشهدت من سوءات جعثن(5) مشهدا
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن آدم بن جشم عن عمارة بن عقيل عن أبيه قال:
وقف جرير على باب عبد الملك بن مروان و الأخطل داخل عنده، و قد كانا تهاجيا و لم ير أحد منهما صاحبه، فلما استأذنوا عليه لجرير أذن له فدخل فسلّم ثم جلس و قد عرفه الأخطل، فطمح طرف جرير إلى الأخطل و قد رآه ينظر إليه نظرا شديدا فقال له: من أنت؟ فقال: أنا الذي منعت نومك و تهضّمت قومك. فقال له جرير: ذلك أشقى لك كائنا من كنت. ثم أقبل على عبد الملك بن مروان فقال: من هذا يا أمير المؤمنين؟ جعلني اللّه فداءك! فضحك ثم قال: هذا الأخطل يا أبا حرزة. فردّ عليه بصره ثم قال: فلا حيّاك اللّه يا ابن النصرانية! أمّا منعك نومي فلو نمت عنك لكان خيرا لك. و أما تهضّمك قومي فكيف تهضّمهم و أنت ممن ضربت عليه الذّلّة و باء بغضب من اللّه و أدّى الجزية عن يد و هو صاغر. و كيف تتهضّم لا أمّ لك فيهم/النبوّة و الخلافة و أنت لهم عبد مأمور و محكوم عليه/لا حاكم. ثم أقبل على عبد الملك فقال: ائذن لي يا أمير المؤمنين في ابن النّصرانية؛ فقال: لا يجوز أن يكون ذلك بحضرتي.
ص: 269
أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال حدّثني أبو يحيى الضّبّيّ قال:
نازع جرير بني حمّان(1) في ركيّة لهم؛ فصاروا إلى إبراهيم(2) بن عديّ باليمامة يتحاكمون إليه؛ فقال جرير:
أعوذ(3) بالأمير غير الجبّار *** من ظلم حمّان و تحويل الدار
ما كان قبل حفرنا من محفار *** و ضربي المنقار(4) بعد المنقار
في جبل أصمّ غير خوّار *** يصيح بالجبّ(5) صياح الصّرّار(6)
له صهيل كصهيل الأمهار(7) *** فاسأل بني صحب(8) و رهط الجرّار
و السّلميّين(9) العظام الأخطار *** و الجار قد يخبر عن دار الجار
فقال الحمّانيّ(10):
ما لكليب من حمى و لا دار *** غير مقام أتن و أعيار(11)
قعس الظهور داميات الأثفار(12)/قال فقال جرير: فعن مقامهنّ، جعلت فداك، أجادل. فقال ابن عديّ للحمّانيّ: قد أقررت لخصمك؛ و حكم بها لجرير.
قال ابن سلاّم و أخبرني أبو يحيى الضّبّيّ قال:
بينا جرير يسير على راحلته إذ هجم على أبيات من مازن و هلال - و هما بطنان من ضبّة - فخافهم، لسوء أثره في ضبّة، فقال:
فلا خوف عليك و لن تراعي *** بعقوة(13) مازن و بني هلال
ص: 270
هما الحيّان إن فزعا يطيرا *** إلى جرد كأمثال السّعالي(1)
أ مازن يا ابن كعب إنّ قلبي *** لكم طول الحياة لغير قالي
غطاريف يبيت الجار فيهم *** قرير العين في أهل و مال
قال(2): أجل يا أبا حزرة فلا خوف عليك.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال شعيب بن صخر حدّثني هارون بن إبراهيم قال:
رأيت جريرا و الفرزدق في مسجد دمشق و قد قدماها على الوليد بن عبد الملك و الناس عنق(3) واحد على جرير: [قيس(4) و موالي بني أمية] يسلّمون عليه و يسألونه كيف كنت يا أبا حزرة في مسيرك، و كيف أهلك و أسبابك. و ما يطيف بالفرزدق/إلاّ نفر من خندف جلوس معه. قال شعيب: فقلت لهارون: و لم ذلك؟ قال:
لمدحه قيسا و قوله في العجم:
فيجمعنا و الغرّ أولاد سارة(5) *** أب لا نبالي بعده من تعذّرا
قال شعيب: بلغني أنه أهديت له يومئذ مائة حلّة، أهداها إليه الموالي سوى غيرهم، و أخبرني بهذا الخبر أبو خليفة عن محمد بن سلاّم عن شعيب بن صخر، فذكر نحوا من حكاية أبي زيد، إلا أنها أتمّ من حكاية ابن سلاّم. و قال أبو خليفة في خبره: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال يقول: وافته في يومه ذلك مائة حلّة من بني الأحرار(6).
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني أحمد بن الهيثم الفراسيّ قال:
بينا جرير بقباء إذ طلع الأحوص/و جرير ينشد قوله:
لو لا الحياء لعادني استعبار *** و لزرت قبرك و الحبيب يزار
فلما نظر إلى الأحوص قطع الشعر و رفع صوته يقول:
ص: 271
عوى(1)
الشعراء بعضهم لبعض *** عليّ فقد أصابهم انتقام
إذا أرسلت قافية شرودا *** رأوا أخرى تحرّق فاستداموا(2)
/فمصطلم(3) المسامع أو خصيّ *** و آخر عظم هامته حطام
ثم عاد من حيث قطع. فلما فرغ قيل له: و لم قلت هذا؟ قال: قد نهيت الأحوص أن يعين عليّ الفرزدق، فأنا و اللّه يا بني عمرو بن عوف ما تعوّذت من شاعر قطّ، و لو لا حقّكم ما تعوّذت منه.
أخبرنا علي بن سليمان الأخفش قال حدّثنا الحسن بن الحسين السّكّريّ قال: قال عمارة بن عقيل حدّثني أبي عن أبيه:
أن الحجّاج أوفد ابنه محمّد بن الحجّاج إلى عبد الملك و أوفد إليه جريرا معه و وصّاه به و أمره بمسألة عبد الملك في الاستماع منه و معاونته عليه. فلما وردوا استأذن له محمد على عبد الملك، فلم يأذن له، و كان لا يسمع من شعراء مضر و لا يأذن لهم، لأنهم كانوا زبيريّة. فلما استأذن له محمد على عبد الملك و لم يأذن له أعلمه أن أباه الحجاج يسأله في أمره و يقول: إنه لم يكن ممّن والى ابن الزبير و لا نصره بيده و لا لسانه، و قال له محمد: يا أمير المؤمنين، إنّ العرب لتحدّث أنّ عبدك و سيفك الحجّاج شفع في شاعر قد لاذ به و جعله وسيلته ثم رددته؛ فأذن له فدخل فاستأذن في الإنشاد؛ فقال له: و ما عساك أن تقول فينا بعد قولك في الحجّاج! أ لست القائل:
من سدّ مطّلع النّفاق عليكم *** أم من يصول كصولة الحجاج
إن اللّه لم ينصرني بالحجّاج و إنما نصر دينه و خليفته. أ و لست القائل:
أم من يغار على النساء حفيظة *** إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
يا عاضّ كذا و كذا من أمّه! و اللّه لهممت أن أطير بك طيرة بطيئا سقوطها، أخرج عنّي، فأخرج بشرّ. فلما كان بعد ثلاث شفع إليه محمد لجرير و قال له: /يا أمير المؤمنين، إني أدّيت رسالة عبدك الحجّاج و شفاعته في جرير، فلما أذنت له خاطبته بما أطار لبّه منه و أشمت به عدوّه، و لو لم تأذن له لكان خيرا له مما سمع. فإن رأيت أن تهب كلّ ذنب له لعبدك الحجّاج و لي فافعل، فإذن له. فاستأذنه في الإنشاد، فقال: لا تنشدني إلاّ في الحجاج فإنما أنت للحجاج خاصّة. فسأله أن ينشده مديحه فيه، فأبى و أقسم ألاّ ينشده إلاّ من قوله في الحجّاج؛ فأنشده و خرج بغير جائزة. فلما أزف الرّحيل قال جرير لمحمد: إن رحلت عن أمير المؤمنين و لم يسمع منّي و لم آخذ له جائزة سقطت آخر الدهر، و لست بارحا بابه أو يأذن لي في الإنشاد. و أمسك عبد الملك عن الإذن له. فقال جرير: ارحل أنت و أقيم أنا. فدخل محمد على عبد الملك فأخبره بقول جرير و استأذنه له و سأله أن يسمع منه و قبّل يده و رجله، فإذن
ص: 272
له. فدخل فاستأذن في الإنشاد، فأمسك عبد الملك. فقال له محمد: أنشد ويحك! فأنشده قصيدته/التي يقول فيها:
أ لستم خير من ركب المطايا *** و أندى العالمين بطون راح
فتبسّم عبد الملك و قال: كذلك نحن و ما زلنا كذلك. ثم اعتمد على ابن الزّبير فقال:
دعوت الملحدين أبا خبيب(1) *** جماحا هل شفيت من الجماح
و قد وجدوا الخليفة هبرزيّا(2) *** ألّف(3) العيص ليس من النّواحي
و ما شجرات عيصك في قريش *** بعشّات(4) الفروع و لا ضواحي
/قال: ثم أنشده إيّاها حتى أتى على ذكر زوجته فيها فقال:
تعزّت أمّ حزرة ثم قالت *** رأيت الموردين ذوي لقاح
تعلّل و هي ساغبة بنيها *** بأنفاس(5) من الشّبم القراح
فقال عبد الملك: هل ترويها مائة لقحة؟ فقال: إن لم يروها ذلك فلا أرواها اللّه! فهل إليها - جعلني اللّه فداك يا أمير المؤمنين - من سبيل؟ فأمر له بمائة لقحة و ثمانية من الرّعاء. و كانت بين يديه جامات من ذهب؛ فقال له جرير: يا أمير المؤمنين، تأمر لي بواحدة منهنّ تكون محلبا؟ فضحك و ندس(6) إليه واحدة منهنّ بالقضيب و قال: خذها لا نفعتك! فأخذها و قال: بلى و اللّه يا أمير المؤمنين لينفعنّي كلّ ما منحتنيه، و خرج من عنده. قال: و قد ذكر ذلك جرير في شعره فقال يمدح يزيد بن عبد الملك.
أعطوا هنيدة(7) يحدوها ثمانية *** ما في عطائهم منّ و لا سرف
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا دماذ أبو غسّان عن أبي عبيدة قال:
بذل محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة أربعة آلاف درهم و فرسا لمن فضّل من الشعراء الفرزدق على جرير، فلم يقدم عليه أحد منهم إلا سراقة البارقيّ فإنه قال يفضل الفرزدق:
ص: 273
أبلغ تميما غثّها و سمينها *** و الحكم يقصد مرّة و يجور
أنّ الفرزدق برّزت أعراقه *** سبقا و خلّف في الغبار جرير
/ذهب الفرزدق بالفضائل(1) و العلا *** و ابن المراغة مخلف محسور
هذا قضاء البارقيّ و إنني *** بالميل في ميزانهم لبصير
قال أبو عبيدة فحدّثني أيّوب بن كسيب قال حدّثني أبي قال: كنت مع جرير، فأتاه رسول بشر بن مروان فدفع إليه كتابه، و قال له: إنه قد أمرني أن أوصله إليك و لا أبرح حتى تجيب عن العشر في يومك إن لقيتك نهارا أو ليلتك إن لقيتك ليلا، و أخرج إليه كتاب بشر و قد نسخ له القصيدة و أمره بأن يجيب عنها. فأخذها و مكث ليلته يجتهد أن يقول شيئا فلا يمكنه؛ فهتف به صاحبه من الجنّ من زاوية البيت فقال له: أ زعمت أنك تقول الشعر! ما هو إلاّ أن غبت عنك ليلة حتى لم تحسن أن تقول شيئا(2)! فهلاّ قلت:
يا بشر حقّ لوجهك التبشير *** هلاّ قضيت لنا و أنت أمير
/فقال له جرير: حسبك كفيتك. قال: و سمع قائلا يقول لآخر: قد أنار الصبح؛ فقال جرير:
يا صاحبيّ هل الصباح منير *** أم هل للوم عواذلي تفتير(3)
إلى أن فرغ منها. و فيها يقول:
قد كان حقّك أن تقول لبارق *** يا آل بارق فيم سبّ جرير
يعطى النساء مهورهنّ كرامة *** و نساء بارق ما لهنّ مهور
فأخذها الرسول و مضى بها إلى بشر، فقرئت بالعراق و أفحم سراقة فلم ينطق بعدها بشيء من مناقضته.
أخبرني أبو خليفة قال حدّثني محمد بن سلاّم حدّثني أبو يحيى الضّبّيّ قال:
كان الذي هاج الهجاء بين جرير و عمر بن لجأ أن عمر كان ينشد أرجوزة له يصف فيها إبله و جرير حاضر، فقال فيها:
قد وردت قبل إنا ضحائها *** تفرّس الحيّات في خرشائها(4)
[جرّ العجوز الثّني من ردائها(5)] فقال له جرير: أخفقت. فقال: كيف أقول؟ قال تقول:
جرّ العروس الثّني من ردائها
ص: 274
فقال له التّيميّ أنت أسوأ قولا منّي حيث تقول:
و أوثق عند المردفات عشيّة *** لحاقا إذا ما جرّد السيف لامع
فجعلتهنّ مردفات غدوة ثم تداركتهنّ عشيّة. فقال: كيف أقول؟ قال تقول:
و أوثق عند المرهفات عشيّة
فقال جرير: و اللّه لهذا البيت أحبّ إليّ من بكري حزرة، و لكنك مجلب(1) للفرزدق(2). و قال فيه جرير:
هلاّ سوانا ادّرأتم يا بني لجأ *** شيئا يقارب أو وحشا لها غرر(3)
أ حين كنت سماما يا بني لجأ *** و خاطرت بي عن أحسابها مضر!
/خلّ الطريق لمن يبني المنار به *** و ابرز ببرزة(4) حيث اضطرّك القدر
أنت ابن برزة منسوبا إلى لجأ *** عند العصارة و العيدان تعتصر
و يروي:
أ لست نزوة خوّار على أمة *** عند العصارة و العيدان تعتصر
فقال ابن لجأ يردّ عليه:
لقد كذبت و شرّ القول أكذبه *** ما خاطرت بك عن أحسابها مضر
بل أنت(5) نزوة خوّار على أمة *** لا يسبق الحلبات اللؤم و الخور
ما قلت من هذه إلا سأنقضها *** يا ابن الأتان بمثلى تنقض المرر
و قال عمر بن لجأ(6):
عجبت لما لاقت رياح(7) من الأذى *** و ما اقتبسوا منّي و للشّر قابس
غضابا لكلب من كليب فرسته *** هوى و لشدّات الأسود فرائس
إذا ما ابن يربوع أتاك لمأكل *** على مجلس إن الأكيل مجالس
فقل لابن يربوع أ لست براحض *** سبالك عنّا إنهنّ نجائس
ص: 275
/
تمسّح يربوع سبالا لئيمة *** بها من منيّ العبد رطب و يابس(1)
قال: ثم اجتمع جرير و ابن لجأ بالمدينة و قد وردها الوليد بن عبد الملك، و كان يتألّه(2) في نفسه، فقال: أ تقذفان المحصنات و تغضبانهنّ! ثم أمر أبا بكر محمد بن حزم/الأنصاريّ - و كان واليا له بالمدينة - بضربهما، فضربهما و أقامهما على البلس(3) مقرونين، و التّيميّ يومئذ أشبّ من جرير، فجعل يشول(4) بجرير و جرير يقول و هو المشول به:
فلست مفارقا قرنيّ حتى *** يطول تصعّدي بك و انحداري
فقال ابن لجأ:
و لمّا أن قرنت إلى جرير *** أبى ذو بطنه(5) إلاّ انحدارا
فقال له قدامة بن إبراهيم الجمحيّ: و بئسما قلت! جعلت نفسك المقرون إليه! قال: فكيف أقول؟ قال تقول:
و لمّا لزّ في قرني جرير فقال: جزيت خيرا، لا أقوله و اللّه أبدا إلا هكذا.
حدّثني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه العبديّ قال حدّثني عمارة بن عقيل عن أبيه قال:
وقف جرير على باب عبد الملك بن مروان و الأخطل داخل عنده، و قد كانا تهاجيا و لم يلق أحدهما صاحبه.
فلما استأذنوا لجرير أذن له فسلّم و جلس، و قد عرفه الأخطل، فطمح بصر جرير إليه فقال له: من أنت؟ فقال: أنا الذي منعت نومك و هضمت قومك. فقال له جرير: ذاك أشقى لك كائنا من كنت. ثم أقبل على عبد الملك فقال:
من هذا يا أمير المؤمنين؟ فضحك و قال: هذا الأخطل يا أبا حزرة. فردّ بصره إليه و قال: فلا حيّاك اللّه يا ابن النصرانية! أمّا/منعك نومي فلو نمت عنك لكان خيرا لك. و أما تهضّمك قومي فكيف تهضّمهم و أنت ممن ضربت عليهم الذّلّة و المسكنة و باءوا بغضب من اللّه!. ائذن لي يا أمير المؤمنين في ابن النصرانيّة. فقال: لا يكون ذلك بين يديّ. فوثب جرير مغضبا. فقال عبد الملك: قم يا أخطل و اتبع صاحبك؛ فإنما قام غضبا علينا فيك؛ فنهض الأخطل. فقال عبد الملك لخادم له: انظر ما يصنعان إذا برز له الأخطل. فخرج جرير فدعا بغلام له فقدّم إليه حصانا له أدهم فركبه و هدر و الفرس يهتزّ من تحته، و خرج الأخطل فلاذ بالباب و توارى خلفه، و لم يزل واقفا حتى مضى جرير. فدخل الخادم إلى عبد الملك فأخبره؛ فضحك و قال: قاتل اللّه جريرا! ما أفحله! أما و اللّه لو كان النصرانيّ برز إليه لأكله.
ص: 276
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ عن أبي عمرو قال:
سئل جرير أيّ الثلاثة أشعر؟ فقال: أمّا الفرزدق فيتكلّف منّي ما لا يطيقه؛ و أمّا الأخطل فأشدّنا اجتراء و أرمانا للغرض؛ و أما أنا فمدينة الشعر. و قد حدّثني بهذا الخبر حبيب بن نصر عن عمر بن شبّة عن الأصمعيّ فذكر نحو ما ذكره الرّياشيّ، و قال في خبره: و أما الأخطل فأنعتنا للخمر و أمدحنا للملوك.
أخبرنا عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن عطاء بن مصعب قال:
قلت لأبي مهديّ الباهليّ و كان من علماء العرب: أيّما أشعر أ جرير أم الفرزدق؟ فغضب ثم قال: جرير أشعر العرب كلّها؛ ثم قال: /لا يزال الشعراء موقوفين يوم القيامة حتى يجيء جرير فيحكم بينهم.
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثني العباس بن ميمون قال سمعت أبا عثمان المازنيّ يقول:
/قال جرير: هجوت بني طهيّة أنواع الهجاء، فلم يحفلوا بقولي حتى قلت في قصيدة الراعي:
كأنّ بني طهيّة رهط سلمى *** حجارة خارئ يرمي كلابا
فجزعوا حينئذ و لا ذوا بي.
كان عاقا لأبيه و ابنه عاق له:
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز قال حدّثنا المدائنيّ قال:
كان جرير من أعقّ الناس بأبيه(1)، و كان بلال ابنه أعقّ الناس به. فراجع جرير بلالا الكلام يوما؛ فقال له بلال: الكاذب منّي و منك ناك أمّه. فأقبلت أمّه عليه و قالت له: يا عدوّ اللّه! أ تقول هذا لأبيك! فقال جرير: دعيه، فو اللّه لكأنه سمعها(2) منّي و أنا أقولها لأبي.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أحمد بن الهيثم قال حدّثنا العمريّ عن لقيط قال:
كان عمر بن يزيد بن عمير الأسديّ يتعصّب للفرزدق على جرير. فتزوّج امرأة من بني عدس بن زيد بن عبد اللّه بن دارم؛ فقال جرير:
نكحت إلى بني عدس بن زيد *** فقد هجّنت خيلهم العرابا
أ تنسى يوم مسكن(3) إذ تنادي *** و قد أخطأت بالقدم الرّكابا
ص: 277
و هي قصيدة، فاجتمعوا على عمر بن يزيد. و لم يزالوا به حتى خلعوا المرأة منه.
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثني محمد بن الهيثم قال حدّثني عمّي أبو فراس قال حدّثني ودقة بن معروف قال:
نزل جرير على عنبسة(1) بن سعيد بواسط، و لم يكن أحد يدخلها إلا بإذن الحجّاج. فلما دخل على عنبسة، قال له: ويحك! لقد غرّرت بنفسك! فما حملك على ما فعلت؟ قال: شعر قلته اعتلج في صدري و جاشت به نفسي و أحببت أن يسمعه الأمير. قال: فعنّفه و أدخله بيتا في جانب داره و قال: لا تطلعنّ رأسك حتى ننظر كيف تكون الحيلة لك. قال: فأتاه رسول الحجّاج من ساعته يدعوه في يوم قائظ، و هو قاعد في الخضراء(2) و قد صبّ فيها ماء استنقع(3) في أسفلها و هو قاعد على سرير و كرسيّ موضوع ناحية. قال عنبسة: فقعدت على الكرسيّ، و أقبل عليّ الحجّاج يحدّثني. فلما رأيت تطلّقه و طيب نفسه قلت: أصلح اللّه الأمير! رجل من شعراء العرب قال فيك شعرا أجاد فيه، فاستخفّه عجبه به حتى دعاه إلى أن رحل إليك و دخل مدينتك من غير أن يستأذن له. قال: و من هو؟ قلت: ابن الخطفى. قال: و أين هو؟ قلت: في المنزل. قال: يا غلام! فأقبل الغلمان يتسارعون. قال: صف لهم موضعه من دارك؛ فوصفت لهم البيت الذي هو فيه، فانطلقوا حتى جاءوا به، فأدخل عليه و هو مأخوذ بضبعيه حتى رمي به في الخضراء، فوقع على وجهه في الماء ثم قام يتنفّش كما يتنفش الفرخ. فقال له: هيه! ما أقدمك علينا بغير إذننا/لا أمّ لك؟ قال: اصلح اللّه الأمير! قلت في الأمير شعرا لم يقل مثله أحد، فجاش به صدري و أحببت أن يسمعه منّي الأمير، فأقبلت به إليه. قال: فتطلّق الحجّاج و سكن، و استنشده فأنشده. ثم قال: يا غلام! فجاءوا يسعون. فقال: عليّ بالجارية/التي بعث بها إلينا عامل اليمامة؛ فأتي بجارية بيضاء مديدة القامة. فقال: إن أصبت صفتها فهي لك. فقال: ما اسمها؟ قال: أمامة؛ فأنشأ يقول:
ودّع أمامة حان منك رحيل *** إنّ الوداع لمن تحبّ قليل
مثل الكثيب تهيّلت أعطافه *** فالريح تجبر متنه و تهيل
تلك القلوب صواديا تيّمتها *** و أرى الشفاء و ما إليه سبيل
فقال: خذ بيدها. فبكت الجارية و انتحبت. فقال: ادفعوها إليه بمتاعها و بغلها و رحالها.
أخبرنا أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلام قال حدّثني أبو الغرّاف قال:
قال الحجّاج لجرير و الفرزدق و هو في قصره بجزيز(4) البصرة: ائتياني في لباس آبائكما في الجاهليّة. فلبس
ص: 278
الفرزدق الدّيباج و الخزّ و قعد في قبّة. و شاور جرير دهاة بني يربوع فقالوا له: ما لباس آبائنا إلاّ الحديد؛ فلبس جرير درعا و تقلّد سيفا و أخذ رمحا و ركب فرسا لعبّاد بن الحصين يقال له المنحاز(1) و أقبل في أربعين فارسا من بني يربوع، و جاء الفرزدق في هيئته؛ فقال جرير:
لبست سلاحي و الفرزدق لعبة *** عليه وشاحا كرّج(2) و جلاجله(3)
/أعدّوا مع الحلي(4) الملاب(5) فإنما *** جرير لكم بعل و أنتم حلائله
ثم رجعا، فوقف جرير في مقبرة بني حصن و وقف الفرزدق في المربد. قال: فأخبرني أبي عن محمد بن زياد قال:
كنت أختلف إلى جرير و الفرزدق، و كان جرير يومئذ كأنه أصغرهما في عيني.
أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال حدّثنا أبو اليقظان عن جويرية بن أسماء قال:
قدم الفرزدق اليمامة و عليها المهاجر بن عبد اللّه الكلابيّ فقال: لو دخلت على هذا فأصبت منه شيئا و لم يعلم بي جرير! فلم تستقرّ به الدار حتى قال جرير:
رأيتك إذ لم يغنك اللّه بالغنى *** رجعت إلى قيس و خدّك ضارع
و ما ذاك إن أعطى الفرزدق باسته *** بأوّل ثغر ضيّعته مجاشع
فلما بلغ ذلك الفرزدق قال: لا جرم و اللّه لا أدخل عليه و لا أرزؤه شيئا و لا أقيم باليمامة، ثم رحل.
أخبرنا أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال قال أبو البيداء:
لقي الفرزدق عمر بن عطيّة أخا جرير، و هو حينئذ يهاجي ابن لجأ، فقال له: ويلك! قل لأخيك: ثكلتك أمّك! ائت التّيميّ من عل كما أصنع أنا بك. و كان الفرزدق قد أنف لجرير و حمي من أن يتعلّق به التيميّ. قال ابن سلاّم. فأنشدني له خلف الأحمر يقوله للتّيميّ:
و ما أنت إن قرما تميم تساميا *** أخا التّيم إلا كالوشيظة(6) في العظم
/فلو كنت مولى العزّ أو في ظلاله *** ظلمت و لكن لا يدي لك بالظلم
فقال له التّيميّ:
كذبت أنا القرم الذي دقّ مالكا *** و أفناء يربوع و ما أنت بالقرم
قال ابن سلاّم فحدّثني أبو الغرّاف: أن رجال تميم مشت بين جرير و التّيميّ و قالوا: و اللّه ما شعراؤنا إلا بلاء علينا
ص: 279
ينشرون مساوينا و يهجون أحياءنا و موتانا؛ فلم يزالوا بهما حتى/أصلحوا بينهما بالعهود و المواثيق المغلّظة ألاّ يعودا في هجاء. فكفّ التّيميّ، و كان جرير لا يزال يسلّ(1) الواحدة بعد الواحدة فيه؛ فيقول التّيميّ: و اللّه ما نقضت هذه و لا سمعتها؛ فيقول جرير: هذه كانت قبل الصلح.
قال ابن سلاّم فحدّثني عثمان بن عثمان عن عبد الرحمن بن حرملة قال: لمّا ورد علينا هجاء جرير و التّيميّ، قال [لي](2) سعيد بن المسيّب تروّ(3) شيئا مما قالا؛ فأتيته و قد استقبل القبلة يريد أن يكبّر، فقال لي: أرويت؟ قلت نعم. فأقبل عليّ بوجهه فأنشدته للتّيميّ و هو يقول: هيه هيه! ثم أنشدته لجرير، فقال: أكله أكله!.
قال ابن سلاّم و حدّثني الرازيّ عن حجناء بن جرير قال: قلت لأبي: يا أبت، ما هجوت قوما قطّ إلا فضحتهم إلاّ التّيم. فقال: يا بنيّ، لم أجد بناء أهدمه و لا شرفا أضعه و كانت تيم رعاء غنم يغدون في غنمهم ثم يروحون، و قد جاء كلّ رجل منهم بأبيات فينتحلها ابن لجأ. فقيل لجرير: ما صنعت في التّيم شيئا؛ فقال: إنهم شعراء لئام.
أخبرنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني ابن النطّاح قال حدّثني أبو اليقظان قال:
قال جرير لرجل من بني طهيّة: أيّما أشعر أنا أم الفرزدق؟ فقال له: أنت عند العامة و الفرزدق عند العلماء.
فصاح جرير: أنا أبو حرزة! غلبته و ربّ الكعبة! و اللّه ما في كل مائة رجل عالم واحد.
حدّثنا أحمد بن عمّار قال حدّثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني ابن النطّاح قال؛ و حدّثني أبو الأخضر لمخارق بن الأخضر القيسيّ قال(4): إنّي كنت و اللّه الذي لا إله إلا هو أخصّ الناس بجرير، و كان ينزل إذا قدم على الوليد بن عبد الملك عند سعيد بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد، و كان عديّ بن الرقاع خاصّا بالوليد مدّاحا له؛ فكان جرير يجيء إلى باب الوليد فلا يجالس أحدا من النّزاريّة و لا يجلس إلا إلى رجل من اليمن بحيث يقرب من مجلس بن الرّقاع إلى أن يأذن الوليد للناس فيدخل. فقلت له: يا أبا حزرة، اختصصت عدوّك بمجلسك! فقال: إني و اللّه ما أجلس إليه إلا لأنشده أشعارا تخزيه و تخزي قومه. قال: و لم يكن ينشده شيئا من شعره، و إنما كان ينشده شعر غيره ليذلّه و يخوّفه نفسه. فأذن الوليد للناس ذات عشيّة فدخلوا و دخلنا، فأخذ الناس مجالسهم، و تخلّف جرير فلم يدخل حتى دخل الناس و أخذوا مجالسهم و اطمأنّوا فيها. فبينما هم كذلك إذا بجرير قد مثل بين السّماطين يقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه، إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ابن الرّقاع المتفرّقة أؤلّف
ص: 280
بعضها إلى بعض! - قال: و أنا جالس أسمع - فقال الوليد: و اللّه لهممت أن أخرجه على ظهرك إلى الناس. فقال جرير و هو قائم كما هو:
/
فإن تنهني عنه فسمعا و طاعة *** و إلا فإنّي عرضة للمراجم(1)
قال فقال له الوليد: لا كثّر اللّه في الناس أمثالك. فقال له جرير: يا أمير المؤمنين، إنما أنا واحد قد سعرت(2)الأمّة، فلو كثر أمثالي لأكلوا الناس أكلا. قال: فنظرت و اللّه إلى الوليد تبسّم حتى بدت ثناياه تعجّبا من جرير و جلده. قال: ثم أمره فجلس.
أخبرني ابن عمّار قال حدّثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثنا ابن النّطاح عن أبي عبيدة قال:
كان/جرير عند الوليد و عديّ بن الرّقاع ينشده. فقال الوليد لجرير: كيف تسمع؟ قال: و من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: عديّ بن الرّقاع. قال: فإن شر الثياب الرّقاع، ثم قال جرير: عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ تَصْلىٰ نٰاراً حٰامِيَةً (3)؛ فغضب الوليد و قال: يا ابن اللّخناء! ما بقى لك إلا أن(4) تتناول كتاب اللّه! و اللّه ليركبنّك! يا غلام أوكفه(5) حتى يركبه. فغمز عمر بن الوليد الغلام الذي أمره الوليد فأبطأ بالإكاف. فلما سكن غضب الوليد قام إليه عمر فكلّمه و طلب إليه و قال: هذا شاعر مضر و لسانها، فإن رأى أمير المؤمنين ألاّ يغضّ منه! و لم يزل به حتى أعفاه، و قال له:
و اللّه لئن هجوته أو عرّضت به لأفعلنّ بك و لأفعلنّ!. فقال فيه تلك القصيدة التي يقول فيها:
أقصر فإن نزارا لن يفاخرها *** فرع لئيم و أصل غير مغروس
و ذكر وقائع نزار في اليمن؛ فعلمنا أنّه عناه. و لم يجبه الآخر بشيء.
حدّثني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن العتبيّ قال:
/قال هشام بن عبد الملك لشبّة بن عقال و عنده جرير و الفرزدق و الأخطل، و هو يومئذ أمير أ لا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزّقوا أعراضهم و هتكوا أستارهم و أغروا بين عشائرهم في غير خير و لا برّ و لا نفع أيّهم أشعر؟ فقال شبّة: أما جرير فيغرف من بحر، و أما الفرزدق فينحت من صخر، و أما الأخطل فيجيد المدح و الفخر. فقال هشام:
ما فسّرت لنا شيئا نحصّله. فقال ما عندي غير ما قلت. فقال لخالد بن صفوان: صفهم لنا يا ابن الأهتم؛ فقال: أما أعظمهم فخرا، و أبعدهم ذكرا، و أحسنهم عذرا؛ و أسيرهم(6) مثلا، و أقلّهم غزلا، و أحلاهم عللا؛ الطامي إذا زخر، و الحامي إذا زأر، و السامي إذا خطر؛ الذي إن هدر قال، و إن خطر صال؛ الفصيح اللسان، الطويل العنان؛ فالفرزدق. و أما أحسنهم نعتا، و أمدحهم بيتا، و أقلّهم فوتا؛ الذي إن هجا وضع، و إن مدح رفع، فالأخطل. و أما أغزرهم بحرا، و أرقّهم شعرا، و أهتكهم لعدوّه سترا؛ الأغرّ الأبلق، الذي أن طلب لم يسبق، و إن طلب لم يلحق؛
ص: 281
فجرير. و كلّهم ذكيّ الفؤاد، رفيع العماد، واري الزّناد. فقال له مسلمة بن عبد الملك: ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأوّلين و لا رأينا في الآخرين؛ و أشهد أنك أحسنهم وصفا، و ألينهم عطفا؛ و أعفّهم مقالا، و أكرمهم فعالا. فقال خالد: أتمّ اللّه عليكم نعمه، و أجزل لديكم قسمه؛ و آنس بكم الغربة، و فرّج بكم الكربة. و أنت، و اللّه ما علمت أيّها الأمير، كريم الغراس، عالم بالناس؛ جواد في المحل، بسّام عند البذل؛ حليم عند الطّيش، في ذروة قريش؛ و لباب عبد شمس، و يومك خير من أمس. فضحك هشام و قال: ما رأيت كتخلّصك يا ابن صفوان في مدح هؤلاء و وصفهم حتى أرضيتهم جميعا و سلمت منهم(1).
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني مصعب الزّبيريّ قال حدّثني إبراهيم بن عبد اللّه مولى بني زهرة قال:
حضرت عمر بن لجأ و جرير بن الخطفى موقوفين للناس بسوق المدينة لمّا تهاجيا و تقاذفا و قد أمر بهما عمر بن عبد العزيز فقرنا و أقيما. قال: و عمر بن لجأ شابّ كأنه حصان، و جرير شيخ قد أسنّ و ضعف. قال فيقول ابن لجأ:
/
رأوا قمرا بساحتهم منيرا *** و كيف يقارن القمر الحمارا
قال: ثم ينزو به و هما مقرونان في حبل فيسقطان إلى الأرض، فأمّا ابن لجأ فيقع قائما، و أمّا جرير فيخرّ لركبتيه و وجهه، فإذا قام نفض الغبار عنه. ثم قال بغنّته قولا يخرج الكلام به من أنفه - و كان كلامه كأنّ فيه نونا -:
فلست مفارقا قرنيّ حتّى *** يطول تصعّدي بك و انحداري
قال فقال رجل من جلساء عمر له حين حضر غداؤه: لو دعا الأمير بأسيريه فغدّاهما معه! ففعل ذلك عمر. و إنما فعله بهما لأنهما تقاذفا، و كان جرير قال له:
تقول و العبد مسكين يجرّرها *** أرفق فديتك أنت الناكح الذّكر
قال: و هذه قصيدته التي يقول فيها:
يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم *** لا يوقعنّكم في سوأة عمر
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني على بن محمد النّوفليّ قال حدّثني أبي قال:
كنت باليمامة و أنا واليها فكان ابن لجرير يكثر عندي [الدخول(2)] و كنت أوثره فلم أقل له قطّ أنشدني أجود شعر لأبيك إلا أنشدني الداليّة:
/
أهوى أراك برامتين وقودا(3)*** أم بالجنينة من مدافع أودا(4)
ص: 282
فأقول له: ويحك! لا تزيدني على هذه! فيقول سألتني عن أجود شعر أبي و هذه أجود شعره، و قد كان يقدّمها على جميعه.
حدّثني ابن عمّار قال حدّثني النّوفليّ قال حدّثني علي بن عبد الملك الكعبيّ من ولد كعب مولى الحجّاج قال حدّثني فلان العلاّمة التّميميّ يرويه عن جرير قال:
ما ندمت على هجائي بني نمير قطّ إلا مرّة واحدة، فإنّي خرجت إلى الشام فنزلت بقوم نزول في قصر لهم في ضيعة من ضياعهم، و قد نظرت إليه من بين القصور مشيّدا حسنا و سألت عن صاحبه فقيل لي: هو رجل من بني نمير. فقلت: هذا شآم و أنا بدويّ لا يعرفني، فجئت فاستضفت. فلما أذن لي و دخلت عليه عرفني فقراني أحسن القرى ليلتين، فلما أصبحت جلست، و دعا بنيّة له فضمّها إليه و ترشّفها، فإذا هي أحسن الناس وجها و لها نشر لم أشمّ أطيب منه. فنظرت إلى عينيها فقلت: تاللّه ما رأيت أحسن من عيني هذه الصبيّة و لا من حورها قطّ، و عوّذتها:
فقال لي: يا أبا حزرة، أ سوداء المحاجر(1) هي؟ فذهبت أصف طيب رائحتها. فقال: أصنّ وبر هي(1)؟ فقلت:
يرحمك اللّه! إنّ الشاعر ليقول، /و و اللّه لقد ساءني ما قلته، و لكن صاحبكم بدأني فانتصرت، و ذهبت أعتذر.
فقال: دع ذا عنك أبا حزرة، فو اللّه ما لك عندي إلا ما تحبّ. قال: و أحسن و اللّه إليّ و زوّدني و كساني، فانصرفت و أنا أندم الناس على ما سلف منّي إلى قومه.
أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن يعقوب بن داود قال حدّثني ابن أبي علقمة الثّقفيّ قال:
كان المفضّل يقدّم الفرزدق، فأنشدته قول جرير:
حيّ الهدملة من ذات المواعيس *** فالحنو أصبح قفرا غير مأنوس(2)
/و قلت أنشدني لغيره مثلها فسكت. قال: و كان الفرزدق إذا أنشدها يقول: مثلها فليقل ابن اللّخناء.
أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال حدّثنا محمد بن سلام قال حدّثني عبد الجبّار بن سعيد بن سليمان المساحقيّ عن المحرّر(3) بن أبي هريرة قال:
ص: 283
إنّي لفي عسكر سليمان بن عبد الملك و فيه جرير و الفرزدق في غزاة، إذ أتانا الفرزدق في غداة، ثم قال، اشهدوا أنّ محمد ابن أخي(1)، ثم أنشأ يقول:
فبتّ(2) بديري أريحاء(3) بليلة *** خداريّة يزداد طولا تمامها
/أكابد فيها نفس أقرب من مشى *** أبوه بأمّ غاب عنها نيامها(4)
و كنّا نرى من غالب في محمد *** شمائل تعلو الفاعلين كرامها
و كان ذا ما حلّ أرضا تزيّنت *** بزينتها صحراؤها و إكامها
سقى أريحاء الغيث و هي بغيضة *** إلينا و لكن بي لتسقاه هامها(5)
قال: ثم انصرف. و جاء جرير فقال: قد رأيت هذا و سمعت ما قال في ابن أخيه؛ و ما ابن أخيه فعل اللّه به و فعل! قال: و مضى جرير، فو اللّه ما لبثنا إلا جمعا حتى جاءنا جرير فقام مقامه و نعى ابنه سوادة فقال:
أودى سوادة يجلو مقلتي لحم *** باز يصرصر فوق المربأ العالي
فارقتني حين كفّ الدهر من بصري *** و حين صرت كعظم الرّمّة البالي
إلاّ تكن لك بالدّيرين باكية *** فربّ باكية بالرّمل معوال
قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم *** كيف العزاء و قد فارقت أشبالي
أخبرنا أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال حدّثني حاجب بن زيد و أبو الغرّاف قالا:
تزوّج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس على حكم أبيها، فاحتكم مائة من الإبل. فدخل على الحجّاج يسأله ذلك؛ فعذله و قال له: أ تتزوّج امرأة على حكمها!. فقال عنبسة بن سعيد و أراد نفعه: إنما هي من حواشي إبل الصّدقة، فأمر له الحجّاج بها. فوثب جرير فقال:
يا زيق قد كنت من شيبان في حسب *** يا زيق ويحك من أنكحت يا زيق
/أنكحت ويحك قينا باسته حمم *** يا زيق ويحك هل بارت بك السّوق
ص: 284
غاب المثنّى(1) فلم يشهد نجيّكما(2) *** و الحوفزان(3) و لم يشهدك مفروق(4)
يا رب قائلة بعد البناء بها *** لا الصّهر راض و لا ابن القين معشوق
أين الألى استنزلوا النّعمان ضاحية *** أم أين أبناء شيبان الغرانيق(5)
قال: فلم يجبه الفرزدق عنها. فقال جرير أيضا:
فلا أنا معطي الحكم عن شفّ(6) منصب *** و لا عن بنات الحنظليّين راغب
و هنّ(7) كماء المزن يشفى به الصّدى *** و كانت ملاحا(8) غيرهنّ(9) المشارب
فلو كنت حرّا كان عشرا سياقكم(9) *** إلى آل زيق و الوصيف المقارب(10)
/فقال الفرزدق:
فنل مثلها(11) من مثلهم ثم لمهم *** على دارميّ بين ليلى و غالب
/هم زوّجوا قبلي لقيطا و أنكحوا *** ضرارا و هم أكفاؤنا في المناسب
و لو قبلوا منّي عطيّة سقته *** إلى آل زيق من وصيف مقارب
و لو تنكح الشمس النجوم بناتها *** إذا لنكحناهنّ قبل الكواكب
قال ابن سلاّم فحدّثني الرّازيّ عن أبيه قال: ما كانت امرأة من بني حنظلة إلاّ ترفع لجرير اللّويّة في عظمها لتطرفه بها لقوله:
و هنّ كماء يشفى به الصّدى *** و كانت ملاحا غيرهنّ المشارب
فقلت للرّازيّ: ما اللّويّة؟ قال: الشّريحة من اللحم، أو الفدرة(12) من التمر، أو الكبّة من الشحم، أو الحفنة من الأقط؛ فإذا ذهب الألبان و ضاقت المعيشة كانت طرفة عندهم.
ص: 285
قال: و قال جرير أيضا في شأن حدراء:
أ ثائرة حدراء من جرّ بالنّقا *** و هل لأبي حدراء في الوتر طالب
أ تثأر بسطاما إذا ابتلّت استها *** و قد بوّلت في مسمعيه الثعالب(1)
قال ابن سلاّم: و النّقا الذي عناه جرير هو الموضع الذي قتلت فيه بنو ضبّة بسطاما، و هو بسطام بن قيس. قال:
فكرهت بنو شيبان أن يهتك جرير أعراضهم. فلما أراد الفرزدق نقل حدراء اعتلّوا عليه و قالوا له إنها ماتت. فقال جرير:
فأقسم ما ماتت و لكنّما التوى *** بحدراء قوم لم يروك لها أهلا
رأوا أنّ صهر القين عار عليهم *** و أنّ لبسطام على غالب فضلا
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا ابن أبي سعد قال حدّثنا محمد ابن إدريس اليماميّ قال حدّثنا عليّ بن عبد اللّه بن محمد بن مهاجر عن أبيه عن جدّه قال:
دخلنا على جرير في نفر من قريش نعوده في علّته التي مات فيها، فالتفت إلينا فقال:
أهلا و سهلا بقوم زيّنوا حسبي *** و إن مرضت فهم أهلي و عوّادي
إن تجر طير بأمر فيه عافية *** أو بالفراق فقد أحسنتم زادي
لو أن ليثا أبا شبلين أو عدني *** لم يسلموني لليث الغابة العادي
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا محمد بن صالح بن النطّاح قال حدّثني أبو جناح أحد بني كعب بن عمرو بن تميم قال:
نعي الفرزدق إلى المهاجر بن عبد اللّه و جرير عنده فقال:
مات الفرزدق بعد ما جدّعته *** ليت الفرزدق كان عاش قليلا
فقال له المهاجر: بئس لعمر اللّه ما قلت في ابن عمك! أ تهجو ميّتا! أما و اللّه لو رثيته لكنت أكرم العرب و أشعرها.
فقال: إن رأى الأمير أن يكتمها عليّ فإنها سوأة؛ ثم قال من وقته:
فلا وضعت بعد الفرزدق حامل *** و لا ذات بعل من نفاس تعلت(2)
/هو الوافد الميمون و الرائق الثأي(3) *** إذا النعل يوما بالعشيرة زلّت
/قال: ثم بكى ثم قال: أما و اللّه إنّي لأعلم أنّي قليل البقاء بعده، و لقد كان نجمنا واحدا و كل واحد منا مشغول
ص: 286
بصاحبه، و قلّما مات ضدّ أو صديق إلاّ تبعه صاحبه. فكان كذلك، مات بعد سنة. و قد زاد الناس في بيتي جرير هذين أبياتا أخر، و لم يقل غيرهما و إنما أضيف إلى ما قاله.
رحل الخليط جمالهم بسواد *** و حدا على إثر البخيلة حادي
ما إن شعرت و لا علمت بينهم *** حتى سمعت به الغراب ينادي
الشعر لجميل. و الغناء لإبراهيم، و لحّنه المختار من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.
ص: 287
هو جميل بن عبد اللّه(1) بن معمر بن الحارث(2) بن ظبيان و قيل ابن معمر بن حنّ(3) بن ظبيان بن قيس بن جزء بن ربيعة بن حرام بن ضنّة(4) بن عبد بن كثير بن عذرة بن سعد - و هو هذيم، و سمّي بذلك إضافة لاسمه إلى عبد لأبيه يقال له هذيم كان يحضنه فغلب عليه - ابن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. و النسّابون مختلفون في قضاعة، فمنهم من يزعم أن قضاعة ابن معدّ و هو أخو نزار بن معدّ لأبيه و أمّه، و هي معانة بنت جوسم(5) بن جلهمة بن عامر بن عوف بن عديّ بن دبّ بن جرهم؛ و منهم من يزعم أنهم من حمير. و قد ذكر جميل ذلك في شعره فانتسب معدّيّا فقال:
أنا جميل في السّنام من معدّ *** في الأسرة الحصداء(6) و العيص الأشدّ
و قال راجز من قضاعة ينسبهم إلى حمير:
قضاعة الأثرون خير معشر *** قضاعة بن مالك بن حمير
و لهم في هذا أراجيز كثيرة. إلاّ أنّ قضاعة اليوم تنسب كلّها في حمير، فتزعم أن قضاعة ابن مالك بن مرّة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب/بن قحطان. و قال القحذميّ: اسم سبأ عامر؛ و إنما قيل له سبأ لأنه أوّل من سبى النساء. و كان يقال له عب الشمس(7)، أي عديل الشمس؛ سمّي بذلك لحسنه. و من زعم من هؤلاء أنّ قضاعة ليس ابن معدّ ذكر أن أمّه عكبرة(8) (امرأة من سبأ) كانت تحت مالك بن عمر فمات عنها و هي حامل، فخلفه عليها معدّ بن عدنان، فولدت قضاعة على فراشه. و قال: مؤرّج بن عمرو: هذا قول أحدثوه بعد و صنعوا شعرا ألصقوه به ليصحّحوا هذا القول، و هو:
يا أيّها الدّاعي اد عنا و أبشر *** و كن قضاعيّا و لا تنزّر
ص: 288
قضاعة الأثرون خير معشر *** قضاعة بن مالك بن حمير
/النسب المعروف غير المنكر
قال مؤرّج: و هذا شيء قيل في آخر أيام بني أميّة. و شعراء قضاعة في الجاهليّة و الإسلام كلها تنتمي إلى معدّ. قال جميل:
و أيّ معدّ كان فيء(1) رماحهم *** كما قد أفأنا و المفاخر منصف
و قال زيادة بن زيد يهجو بني عمّه بني عامر رهط هدبة بن خشرم:
و إذا معدّ أوقدت نيرانها *** للمجد أغضت عامر و تضعضعوا
و جميل شاعر فصيح مقدّم جامع للشعر و الرواية، كان راوية هدبة بن خشرم، و كان هدبة شاعرا راوية للحطيئة، و كان الحطيئة شاعرا راوية لزهير و ابنه. و قال أبو محلّم: آخر من اجتمع له الشعر و الرواية كثيّر، و كان راوية جميل، و جميل راوية هدبة، و هدبة راوية الحطيئة، و الحطيئة راوية زهير.
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل عن القحذميّ قال: كان جميل يهوى بثينة بنت حبإ بن ثعلبة بن الهوذ بن عمرو بن الأحبّ بن حنّ بن ربيعة [تلتقي هي و جميل في حنّ من ربيعة(2)] في النسب.
حدّثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأسديّ و هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعيّ قالا حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ عن ابن أبي الزّناد قال:
كان كثيّر راوية جميل، و كان يقدّمه على نفسه و يتّخذه إماما، و إذا سئل عنه قال: و هل علّم اللّه عزّ و جلّ ما تسمعون إلاّ منه!.
أخبرني محمد بن مزيد عن حمّاد عن أبيه عن صباح بن خاقان عن عبد اللّه بن معاوية الزّبيريّ قال:
كان كثيّر إذا ذكر له جميل قال: و هل علّم اللّه ما تسمعون إلا منه!.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن المسور بن عبد الملك عن نصيب مولى عبد العزيز بن مروان قال:
قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهلها بالشعر، فقيل لي: الوليد بن سعيد بن أبي سنان الأسلميّ، فوجدته بشعب سلع(3) مع عبد الرحمن بن حسّان و عبد الرحمن بن أزهر. فإنّا لجلوس إذ طلع علينا رجل طويل بين المنكبين
ص: 289
طوال(1) يقود راحلة عليها بزّة حسنة. فقال عبد الرحمن بن حسّان لعبد الرحمن بن أزهر: يا أبا جبير(2)، هذا جميل، فادعه لعلّه أن ينشدنا. فصاح به عبد الرحمن: هيا جميل هيا جميل! /فالتفت فقال: من هذا؟ فقال: أنا عبد الرحمن بن أزهر. فقال: قد علمت أنه لا يجترئ عليّ إلا مثلك.
فأتاه فقال له أنشدنا، فأنشدهم:
نحن منعنا يوم أول(3) نساءنا *** و يوم أفيّ(4) و الأسنّة ترعف
و يوم ركايا ذي الجذاة(5) و وقعة *** ببنيان(6) كانت بعض ما قد تسلّفوا
يحبّ الغواني البيض ظلّ لوائنا *** إذا ما أتانا الصارخ المتلهّف
نسير أمام الناس و الناس خلفنا *** فإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا
فأيّ معدّ كان فيء رماحه *** كما قد أفأنا و المفاخر ينصف
و كنّا إذا ما معشر نصبوا لنا(7) *** و مرّت جواري طيرهم و تعيّفوا
وضعنا لهم صاع القصاص رهينة *** بما سوف نوفيها إذ الناس طفّفوا
/إذا استبق(8) الأقوام مجدا وجدتنا *** لنا مغرفا مجد و للناس مغرف
قال: ثم قال له: أنشدنا هزجا. قال: و ما الهزج؟ لعله هذا القصير؟ قال نعم، فأنشده - قال الزّبير: لم يذكر في هذا الخبر من هذه القصيدة الهزج سوى بيتين، و أنشدنا باقيها بهلول بن سليمان بن قرضاب البلويّ -.
بين علياء وابش فبليّ *** فالغميم الذي إلى جبله(1)
واقفا في ديار أمّ جسير(2) *** من ضحى يومه إلى أصله
يا خليليّ إن أمّ جسير(3) *** حين يدنو الضجيع من علله
روضة ذات حنوة و خزامى *** جاد فيها الربيع من سبله(4)
بينما هنّ بالأراك معا *** إذ بدا راكب على جمله
فتأطّرن ثم قلن لها *** أكرميه حيّيت في نزله(5)
فظللنا بنعمة و اتّكأنا(6) *** و شربنا الحلال من قلله
/قد أصون الحديث دون خليل(7) *** لا أخاف الأذاة من قبله
غير ما بغضة و لا لاجتناب *** غير أنّي ألحت من وجله(8)
و خليل صاقبت(9) مرتضيا(10) *** و خليل فارقت من ملله
قال: فأنشده إياها حتى فرغ منها ثم اقتاد راحلته مولّيا. فقال ابن الأزهر: هذا أشعر أهل الإسلام. فقال ابن حسّان:
نعم و اللّه و أشعر أهل الجاهليّة، و اللّه ما لأحد منهم مثل هجائه و لا نسيبه. فقال عبد الرحمن بن الأزهر: صدقت.
قال نصيب: و أنشدت الوليد فقال لي: أنت أشعر أهل جلدتك، و اللّه ما زاد عليها. فقلت: يا أبا محجن، أ فرضيت منه بأن تكون أشعر السّودان؟ قال: وددت و اللّه يا ابن أخي أنه أعطاني أكثر من هذا، و لكنه لم يفعل، و لست بكاذبك.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال:
كان لكثيّر في النّسيب حظّ وافر و جميل مقدّم عليه و على أصحاب النسيب في النسيب؛ و كان كثيّر راوية
ص: 291
جميل، و كان جميل صادق الصّبابة و العشق، و لم يكن كثيّر بعاشق و لكنه كان يتقوّل. و كان الناس يستحسنون بيت كثيّر في النسيب:
أريد لأنسى ذكرها فكأنّما *** تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل
قال: و رأيت من يفضّل عليه بيت جميل:
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما *** قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
/قال ابن سلاّم: و هذا البيت الذي لكثيّر أخذه من جميل حيث يقول:
/
أريد لأنسى ذكرها فكأنّما *** تمثّل لي ليلى على كلّ مرقب
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن أبي شهاب عن طلحة بن عبد اللّه بن عوف قال:
لقي الفرزدق كثيّرا بقارعة البلاط(1) و أنا و هو نمشي نريد المسجد؛ فقال له الفرزدق: يا أبا صخر، أنت أنسب العرب حين تقول:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل
يعرّض له بسرقته من جميل. فقال له كثيّر: و أنت يا أبا فراس أفخر الناس حين تقول:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا *** و إن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا
- قال عبد العزيز: و هذا البيت أيضا لجميل سرقه الفرزدق - فقال الفرزدق لكثيّر: هل كانت أمّك مرّت بالبصرة؟ قال: لا! و لكن أبي، فكان نزيلا لأمّك(2). قال طلحة بن عبد اللّه: فو الذي نفسي بيده لعجبت من كثيّر و جوابه، و ما رأيت أحدا قطّ أحمق منه، رأيتني دخلت عليه يوما في نفر من قريش و كنّا كثيرا ما نتهزّأ به، فقلنا: كيف تجدك يا أبا صخر؟ قال: بخير، أ ما سمعتم الناس يقولون شيئا؟ قلنا: نعم، يتحدّثون أنك الدجّال. فقال: و اللّه لئن قلتم ذاك إني لأجد في عيني هذه ضعفا منذ أيام.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال كتب إليّ أبو محمد إسحاق بن إبراهيم يقول حدّثني أبو عبيدة عن جويرية بن أسماء قال:
كان أبو صخر كثيّر صديقا لي، و كان يأتيني كثيرا، فقلّما استنشدته إلاّ بدأ بجميل و أنشد له ثم أنشد لنفسه، و كان يفضّله و يتّخذه إماما.
قال الزبير و كتب إليّ إسحاق يقول حدّثني صباح بن خاقان عن عبد اللّه بن معاوية بن عاصم بن المنذر بن الزّبير قال:
ص: 292
ذكر جميل لكثيّر، فقالوا: ما تقول فيه؟ فقال: منه علّم اللّه عزّ و جلّ.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو يحيى الزّهريّ عن إسحاق بن قبيصة الكوفيّ عن رجل سمّاه قال:
سألت نصيبا: أ جميل أنسب أم كثيّر؟ فقال: أنا سألت كثيّرا عن ذاك فقال: و هل وطّأ لنا النّسيب إلاّ جميل!.
قال عمر بن شبّة و قال إسحاق حدّثني السّعيدي عن أبي مالك النّهديّ قال:
جلس إلينا نصيب فذكرنا جميلا، فقال: ذاك إمام المحبّين، و هل هدى اللّه عزّ و جلّ لما ترى إلاّ بجميل.
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة عن جويرية بن أسماء قال: ما استنشدت كثيّرا قطّ إلا بدأ بجميل و أنشدني له ثم أنشدني بعده لنفسه، و كان يفضّله و يتخذه إماما.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني بهلول بن سليمان بن قرضاب البلويّ قال:
/كان جميل ينسب بأمّ الجسير، و كان أوّل ما علق بثينة أنه أقبل يوما بإبله حتى أوردها واديا يقال له بغيض(1)، فاضطجع و أرسل إبله مصعدة، و أهل بثينة بذنب الوادي؛ فأقبلت بثينة و جارة لها واردتين الماء، فمرّتا على فصال له بروك فعرمتهنّ(2) بثينة - يقول: نفّرتهنّ - و هي إذ ذاك جويرية صغيرة؛ فسبّها جميل، فافترت عليه، فملح إليه سبابها/فقال:
و أوّل(3) ما قاد المودّة بيننا *** بوادي بغيض يا بثين سباب
و قلنا لها قولا فجاءت بمثله *** لكلّ كلام يا بثين جواب
قال الزّبير و حدّثني محمد بن إسماعيل بن جعفر عن سعيد بن نبيه بن الأسود العذريّ - و كانت بثينة عند أبيه نبيه بن الأسود، و إياه يعني جميل بقوله:
لقد أنكحوا جهلا نبيها ظعينة *** لطيفة طيّ الكشح ذات شوى خدل(4)
- قال الزّبير و حدّثني أيضا الأسباط بن عيسى بن عبد الجبّار العذريّ أن جميل بن معمر خرج في يوم عيد و النساء إذ ذاك يتزيّنّ و يبدو بعضهن لبعض و يبدون للرجال، و أن جميلا وقف على بثينة و أختها أمّ الجسير في نساء من بني الأحبّ و هنّ بنات عمّ عبيد اللّه بن قطبة أخي أبيه لحّا(5)، فرأى منهنّ منظرا و أعجبنه و عشق بثينة و قعد/معهنّ، ثم راح و قد كان معه فتيان من بني الأحبّ، فعلم انّ القوم قد عرفوا في نظره حبّ بثينة و وجدوا عليه، فراح و هو يقول:
ص: 293
عجل الفراق و ليته لم يعجل *** و جرت بوادر دمعك المتهلّل
طربا و شاقك ما لقيت و لم تخف *** بين الحبيب غداة برقة مجول(1)
و عرفت أنك حين رحت و لم يكن *** بعد اليقين و ليس ذاك بمشكل
لن تستطيع إلى بثينة رجعة *** بعد التفرّق دون عام مقبل
قال: و إنّ بثينة لمّا أخبرت أن جميلا قد نسب بها حلفت باللّه لا يأتيها على خلاء إلاّ خرجت إليه و لا تتوارى منه، فكان يأتيها عند غفلات الرجال فيتحدّث إليها و مع أخواتها، حتى نمي إلى رجالها أنه يتحدّث إليها إذا خلا منهم، و كانوا أصلافا غيرا - أو قال غيارى - فرصدوه بجماعة نحو من بضعة عشر رجلا و جاء على الصّهباء(2) ناقته حتى وقف على بثينة و أمّ الجسير و هما يحدّثانه و هو ينشدهما يومئذ:
حلفت بربّ الراقصات إلى منّى *** هويّ القطا يجتزن بطن دفين(3)
لقد ظنّ هذا القلب أن ليس لاقيا *** سليمى و لا أمّ الجسير لحين
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي *** و همّوا بقتلي يا بثين لقوني
فبينا هو على تلك الحال إذ وثب عليه القوم فرماهم بها فسبقت به و هو يقول:
إذا جمع الاثنان(4) جمعا رميتهم *** بأركانها حتى تخلّى سبيلها
فكان هذا أوّل سبب المهاجاة بينه و بين عبيد اللّه بن قطبة.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثنا بهلول بن سليمان عن مشيخة من عذرة:
أنّ بثينة(5) واعدت جميلا أن يلتقيا في بعض المواضع فأتى لوعدها. و جاء أعرابيّ يستضيف القوم فأنزلوه و قروه؛ فقال لهم: قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرّقين متوارين في الشجر، و أنا خائف عليكم أن يسلبوا بعض إبلكم؛ فعرفوا أنه جميل و صاحباه، فحرسوا بثينة و منعوها من الوفاء بوعده. فلما أسفر له الصبح انصرف كئيبا سيئ الظنّ بها و رجع إلى/أهله؛ فجعل نساء الحيّ يقرّعنه بذلك و يقلن له: إنما حصلت منها على الباطل و الكذب و الغدر، و غيرها أولى بوصلك منها، كما أنّ غيرك يحظى بها. فقال في ذلك:
ص: 294
أ بثين إنّك قد ملكت فأسجحي *** و خذي بحظك من كريم واصل
فأجبتها في القول بعد تستّر *** حبّي بثينة عن وصالك شاغلي(1)
فلربّ عارضة علينا وصلها *** بالجدّ تخلطه بقول الهازل
لو كان في صدري كقدر قلامة *** فضلا وصلتك أو أتتك رسائلي
- الغناء ليحيى المكّي ثقيل أوّل بالوسطى من رواية ابنه أحمد عنه -:
و يقلن إنك قد رضيت بباطل *** منها فهل لك في اجتناب الباطل
و لباطل ممّا أحبّ حديثه *** أشهى إليّ من البغيض الباذل
ليزلن عنك هواي ثم يصلنني *** و إذا هويت فما هواي بزائل
- الغناء لسليم رمل بالوسطى عن عمرو، و ذكر في نسخته الثانية أنه ليزيد حوراء. و روى حمّاد عن أبيه في أخبار ابن سريج أنّ لابن سريج فيه لحنا و لم يجنّسه -:
صادت فؤادي يا بثين حبالكم *** يوم الحجون و أخطأتك حبائلي
منّيتني فلويت ما منّيتني *** و جعلت عاجل ما وعدت كآجل
و تثاقلت لمّا رأت كلفي بها *** أحبب إليّ بذاك من متثاقل
و أطعت فيّ عواذلا فهجرتني *** و عصيت فيك و قد جهدن عواذلي
حاولنني لأبتّ حبل وصالكم *** منّي، و لست و إن جهدن بفاعل
فرددتهن و قد سبعين بهجركم *** لمّا سعين له بأفوق ناصل(2)
يعضضن من غيظ عليّ أناملا *** و وددت لو يعضضن صمّ جنادل
و يقلن إنك يا بثين بخيلة *** نفسي فداؤك من ضنين باخل
قالوا: و قال جميل في وعد بثينة بالتّلاقي و تأخّرها قصيدة أوّلها:
يا صاح عن بعض الملامة أقصر *** /إنّ المنى للقاء أمّ المسور
فمما يغنّى فيه منها قوله:
ص: 295
و كأنّ طارقها على علل الكرى *** و النجم وهنا قد دنا لتغوّر
يستاف(1) ريح مدامة معجونة *** بذكيّ مسك أو سحيق العنبر
/الغناء لابن جامع ثقيل أوّل بالبنصر من رواية الهشاميّ. و ذكر عمرو بن بانة أنه لابن المكيّ.
و مما يغني فيه منها قوله:
/
إنّي لأحفظ غيبكم و يسرّني *** إذ تذكرين بصالح أن تذكري
و يكون يوم لا أرى لك مرسلا *** أو نلتقي فيه عليّ كأشهر
يا ليتني ألقى المنيّة بغتة *** إن كان يوم لقائكم لم يقدر
أو أستطيع تجلّدا عن ذكركم *** فيفيق(2) بعض صبابتي و تفكّري
الغناء لابن محرز خفيف رمل بالوسطى عن الهشاميّ. و فيه يقول:
لو قد تجنّ كما أجنّ من الهوى *** لعذرت أو لظلمت إن لم تعذر
و اللّه ما للقلب من علم بها *** غير الظنون و غير قول المخبر
لا تحسبي أنّي هجرتك طائعا *** حدث لعمرك رائع أن تهجري
فلتبكينّ الباكيات و إن أبح *** يوما بسرّك معلنا لم أعذر
يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت *** يتبع صداي صداك بين الأقبر
إنّي إليك بما وعدت لناظر *** نظر الفقير إلى الغنيّ المكثر
يعد الديون و ليس ينجز موعدا *** هذا الغريم لنا و ليس بمعسر
ما أنت و الوعد الذي تعدينني *** إلاّ كبرق سحابة لم تمطر
قلبي نصحت له فردّ نصيحتي *** فمتى هجرتيه فمنه تكثّري(3)
/الغناء في هذه الأبيات لسليم رمل عن الهشاميّ. و فيه قدح طنبوريّ أظنّه لجحظة أو لعليّ بن مودّة(4).
قالوا: و قال في إخلافها إياه هذا الموعد:
ص: 296
ألا ليت ريعان الشباب جديد *** و دهرا تولّى يا بثين يعود
فنغنى(1) كما كنّا نكون و أنتم *** قريب و إذ ما تبذلين زهيد
و يروى.
و ممّا لا يزيد(2) بعيد
و هكذا يغنّى فيه:
الغناء لسليم خفيف ثقيل أوّل بالوسطى. و مما يغنّى فيه من هذه القصيدة:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** بوادي القرى إنّي إذا لسعيد
و هل ألقين فردا بثينة مرّة *** تجود لنا من ودّها و نجود
علقت الهوى منها وليدا فلم يزل *** إلى اليوم ينمي حبّها و يزيد
و أفنيت عمري بانتظاري وعدها *** و أبليت فيها الدهر و هو جديد
فلا أنا مردود بما جئت طالبا *** و لا حبّها فيما يبيد يبيد
الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى. و مما يغنّى فيه منها:
و ما أنس م الأشياء لا أنس قولها *** و قد قربت بصرى(3) أ مصر تريد
/و لا قولها لو لا العيون التي ترى *** لزرتك فاعذرني فدتك جدود
خليليّ ما ألقى من الوجد قاتلي *** و دمعي بما قلت الغداة شهيد
يقولون جاهد يا جميل بغزوة *** و أيّ جهاد غيرهنّ أريد
لكلّ حديث بينهنّ بشاشة *** و كلّ قتيل عندهنّ شهيد
الغناء للغريض خفيف ثقيل من رواية حمّاد عن أبيه. و في هذه القصيدة يقول:
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي *** من الحبّ قالت ثابت و يزيد
يا جميل بغزوة *** و أيّ جهاد غيرهنّ أريد
و إن قلت ردّي بعض عقلي أعش به *** مع الناس قالت ذاك منك بعيد
ص: 297
ألا قد أرى و اللّه أن ربّ عبرة *** إذا الدّار شطّت بيننا سترود(1)
إذا فكّرت قالت قد أدركت ودّه *** و ما ضرّني بخلي فكيف أجود
فلو تكشف الأحشاء صودف تحتها *** لبثنة حبّ طارف و تليد
تذكّرنيها كلّ ريح مريضة *** لها بالتّلاع القاويات وئيد(2)
و قد تلتقي الأشتات بعد تفرّق *** و قد تدرك الحاجات و هي بعيد
أخبرني عليّ بن صالح قال حدّثني عمر بن شبّة عن إسحاق قال:
لقي جميل بثينة بعد تهاجر كان بينهما طالت مدّته، فتعاتبا طويلا فقالت له: ويحك يا جميل! أ تزعم أنك تهواني و أنت الذي تقول:
رمى اللّه في عيني بثينة بالقذى *** و في الغرّ من أنيابها بالقوادح!
فأطرق طويلا يبكي ثم قال: بل أنا القائل:
ألا ليتني أعمى أصمّ تقودني *** بثينة لا يخفى عليّ كلامها
/فقالت له: ويحك! ما حملك على هذه المنى! أ و ليس في سعة العافية ما كفانا جميعا!.
قال إسحاق و حدّثني أيّوب بن عباية قال:
سعت أمة لبثينة بها إلى أبيها و أخيها و قالت لهما: إن جميلا عندها الليلة؛ فأتياها مشتملين على سيفين، فرأياه جالسا حجرة منها يحدّثها و يشكو إليها بثّة، ثم قال لها: يا بثينة، أ رأيت ودّي إياك و شغفي بك أ لا تجزينيه؟ قالت:
بما ذا؟ قال: بما يكون بين المتحابّين. فقالت له: يا جميل، أ هذا تبغي! و اللّه لقد كنت عندي بعيدا منه، و لئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي أبدا. فضحك و قال: و اللّه ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، و لو علمت أنك تجيبينني إليه لعلمت أنك تجيبين(3) غيري، و لو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، و لو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد؛ أ و ما سمعت قولي:
و إنّي لأرضى من بثينة بالذي *** لو أبصره الواشي لقرّت بلابله
بلا و بأن لا أستطيع و بالمنى *** و بالأمل المرجوّ قد خاب آمله
و بالنّظرة العجلى و بالحول تنقضي *** أواخره لا نلتقي و أوائله
قال فقال أبوها لأخيها: قم بنا، فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها، /فانصرفا و تركاهما.
ص: 298
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أيّوب بن عباية عن رجل من عذرة قال:
كنت تربا لجميل و كان يألفني، فقال لي ذات يوم: هل تساعدني على لقاء بثينة؟ فمضيت معه، فكمن لي في الوادي و بعث بي إلى راعي بثينة بخاتمه، فدفعته/إليه، فمضى به إليها ثم عاد بموعد منها إليه. فلما كان الليل جاءته فتحدّثا طويلا حتى أصبحا ثم ودّعها و ركب ناقته. فلما استوى في غرزها(1) و هي باركة قالت له: ادن منّي يا جميل(2).
إنّ المنازل هيّجت أطرابي *** و استعجمت آياتها بجوابي
قفرا تلوح بذي اللّجين كأنها *** أنضاء رسم أو سطور كتاب
لما وقفت بها القلوص تبادرت *** منّي الدموع لفرقة الأحباب
و ذكرت عصرا يا بثينة شاقني *** و ذكرت أيّامي و شرخ شبابي
الغناء في هذه الأبيات للهذليّ ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق الموصليّ عن السّعيديّ، و أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال حدّثنا أبو مالك النّهديّ قال:
جلس إلينا كثيّر ذات يوم فتذاكرنا جميلا؛ فقال: لقيني مرّة فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من عند أبي الحبيبة (أعني بثينة). فقال: و إلى أين تمضي؟ قلت: إلى الحبيبة (أعني عزّة). فقال: لا بدّ من أن ترجع عودك على بدئك فتستجدّ لي موعدا من بثينة. فقلت: عهدي بها الساعة و أنا أستحيي أن أرجع. فقال: لا بدّ من ذلك. فقلت له: فمتى عهدك ببثينة؟ فقال: في أوّل الصيد و قد وقعت سحابة بأسفل وادي(3) الدّوم فخرجت و معها جارية لها تغسل ثيابها(4)؛ فلما أبصرتني/أنكرتني، فضربت بيديها إلى ثوب في الماء فالتحفت به، و عرفتني الجارية، فأعادت الثوب في الماء، و تحدّثنا حتى غابت الشمس. و سألتها الموعد فقالت: أهلي سائرون؛ و ما وجدت أحدا آمنه فأرسله إليها. فقال له كثيّر: فهل لك في أن آتي الحيّ فأنزع(5) بأبيات من شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها؟. قال: ذلك الصواب، فأرسله إليها؛ فقال له: انتظرني ثم خرج كثيّر حتى أناخ بهم. فقال له أبوها: ما ردّك؟ قال: ثلاثة أبيات عرضت لي فأحببت أن أعرضها عليك. قال: هاتها. قال كثيّر: فأنشدته و بثينة تسمع:
ص: 299
فقلت لها يا عزّ أرسل صاحبي *** إليك(1) رسولا و الموكّل مرسل
بأن تجعلي بيني و بينك موعدا *** و أن تأمريني ما الذي فيه أفعل
و آخر عهدي منك يوم لقيتني *** بأسفل وادي الدّوم و الثوب يغسل
قال: فضربت بثينة جانب خدرها و قالت: إخسأ إخسأ! فقال أبوها: مهيم(2) يا بثينة؟ قالت: كلب يأتينا إذا نوّم الناس من وراء الرّابية. ثم قالت للجارية: ابغينا من الدّومات حطبا/لنذبح لكثيّر شاة و نشويها له. فقال كثيّر: أنا أعجل من ذلك. و راح إلى جميل فأخبره. فقال له جميل: الموعد الدّومات. و قالت لأم الحسين و ليلى و نجيّا بنات خالتها و كانت قد أنست إليهنّ و اطمأنّت بهنّ: إني قد رأيت في نحو نشيد كثيّر أن جميلا معه. و خرج كثيّر و جميل حتى أتيا الدّومات، و جاءت بثينة و من معها، فما برحوا حتى برق الصبح. فكان كثيّر يقول: ما رأيت مجلسا قطّ أحسن من ذلك و لا مثل علم أحدهما بضمير الآخر! ما أدري أيّهما كان أفهم!
أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ، و أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال قال لي صالح بن حسّان:
هل تعرف بيتا نصفه أعرابيّ(3) في شملة و آخره مخنّث من أهل العقيق يتقصف تقصّفا؟ قلت: لا. قال: قد أجّلتك حولا. قلت: لا أدري ما هو! فقال قول جميل:
ألا أيّها النّوّام ويحكم هبّوا
كأنه أعرابيّ في شملة. ثم أدركه ما يدرك العاشق فقال:
أسائلكم هل يقتل الرجل الحبّ
كأنه من كلام مخنّثي العقيق.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير بن حرب قال أخبرنا عبد اللّه بن أبي كريم عن أبي عمرو و إسحاق بن مروان قال(4):
عشق جميل بثينة و هو غلام، فلما بلغ خطبها فمنع منها، فكان يقول فيها الأشعار، حتى اشتهر و طرد، فكان يأتيها سرّا ثم تزوّجت فكان يزورها في بيت زوجها [في الحين] خفية إلى أن استعمل دجاجة بن ربعيّ على وادي القرى فشكوه إليه فتقدّم إليه ألاّ يلمّ بأبياتها و أهدر دمه لهم إن عادوا زيارتها، فاحتبس حينئذ.
ص: 300
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدّثنا أحمد بن أبي العلاء قال حدّثني إبراهيم الرّمّاح قال حدّثنا جابر أبو العلاء التّنوخيّ قال:
/لما نذر أهل بثينة دم جميل و أهدره لهم السلطان ضاقت الدنيا بجميل، فكان يصعد بالليل على قور(1) رمل يتنسّم الريح من نحو حيّ بثينة و يقول:
أيا ريح الشّمال أ ما تريني *** أهيم و أنّني بادي النّحول
هبي لي نسمة من ريح بثن *** و منّي بالهبوب إلى جميل
و قولي يا بثينة حسب نفسي *** قليلك أو أقلّ من القليل
فإذا بدا وضح الصبح انصرف. و كانت بثينة تقول لجوار من الحيّ عندها: ويحكنّ! إني لأسمع أنين جميل من بعض القيران! فيقلن لها: اتّقي اللّه! فهذا شيء يخيّله لك الشيطان لا حقيقة له.
حدّثني أحمد بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن نعيم قال حدّثني أحمد بن يعلى قال حدّثني سويد بن عصام قال حدّثني روح أبو نعيم(2) قال:
التقى جميل و كثيّر فتذاكرا النّسيب؛ فقال كثيّر: يا جميل، أ ترى بثينة لم تسمع بقولك:
يقيك جميل كلّ سوء، أ ما له *** لديك حديث أو إليك رسول
و قد قلت في حبّي لكم و صبابتي *** محاسن شعر ذكرهنّ يطول
/فإن لم يكن قولي رضاك فعلّمي *** هبوب الصّبايا بثن كيف أقول
فما غاب عن عيني خيالك لحظة *** و لا زال عنها، و الخيال يزول
فقال جميل: أ ترى عزّة قد حال يا كثيّر لم تسمع بقولك:
يقول العدا يا عزّ قد حال دونكم *** شجاع على ظهر الطريق مصمّم
فقلت لها و اللّه لو كان دونكم *** جهنّم ما راعت فؤادي جهنّم
/و كيف يروع القلب يا عزّ رائع *** و وجهك في الظّلماء للسّفر معلم
و ما ظلمتك النفس يا عزّ في الهوى *** فلا تنقمي حبّي فما فيه منقم
قال: فبكيا قطعة من الليل ثم انصرفا.
و قال الهيثم بن عديّ و من ذكر روايته معه من أصحابه:
زار جميل بثينة ذات يوم، فنزل قريبا من الماء يترصّد أمة لها أو راعية؛ فلم يكن نزوله بعيدا من ورود أمة حبشيّة معها قربة، و كانت به عارفة و بما(3) بينها و بينه. فسلّمت عليه و جلست معه، و جعل يحدّثها و يسألها عن
ص: 301
أخبار بثينة و يحدّثها بخبره بعدها و يحمّلها رسائله. ثم أعطاها خاتمه و سألها دفعه إلى بثينة و أخذ موعد عليها، ففعلت و انصرفت إلى أهلها و قد أبطأت عليهم. فلقيها أبو بثينة و زوجها و أخوها فسألوها عما أبطأ بها، فالتوت عليهم و لم تخبرهم و تعلّلت؛ فضربوها ضربا مبرّحا؛ فأعلمتهم حالها مع جميل و دفعت إليهم خاتمه. و مرّ بها في تلك الحال فتيان من بني عذرة فسمعا القصّة كلّها و عرفا الموضع الذي فيه جميل، فأحبّا أن يثبّطا عنه فقالا للقوم:
إنكم إن لقيتم جميلا و ليست بثينة معه ثم قتلتموه لزمكم في ذلك كلّ مكروه؛ و أهل بثينة(1) أعزّ عذرة، فدعوا الأمة توصّل خاتمه إلى بثينة، فإذا زارها بيّتموهما جميعا؛ قالوا: صدقتما لعمري إنّ هذا الرأي. فدفعوا الخاتم إلى الأمة و أمروها بإيصاله و حذّروها أن(2) تخبر بثينة بأنهم علموا القصّة، ففعلت. و لم تعلم بثينة بما جرى. و مضى الفتيان فأنذرا جميلا؛ فقال: و اللّه ما أرهبهم، و إن في كنانتي ثلاثين سهما و اللّه لا أخطأ كلّ واحد منها رجلا منهم، و هذا سيفي و اللّه ما أنا به رعش اليد و لا جبان الجنان. فناشداه اللّه و قالا: البقية(3) أصلح، فتقيم عندنا في بيوتنا حتى /يهدأ الطلب، ثم نبعث إليها فتزورك و تقضي من لقائها و طرا و تنصرف سليما غير مؤبّن(4). فقال أمّا الآن فابعثا إليها من ينذرها؛ فأتياه براعية لهما و قالا له: قل بحاجتك؛ فقال: ادخلي إليها و قولي لها: إني أردت اقتناص ظبي فحذره ذلك جماعة اعتوروه من القنّاص ففاتني الليلة. فمضت فأعلمتها ما قال لها؛ فعرفت قصّته و بحثت عنها فعرفتها؛ فلم تخرج لزيارته تلك الليلة و رصدوها فلم تبرح مكانها و مضوا يقتصّون أثره فرأوا بعر ناقته فعرفوا أنه قد فاتهم، فقال جميل في ذلك:
خليليّ عوجا اليوم حتى تسلّما *** على عذبة الأنياب طيّبة النّشر
ألمّا بها ثم اشفعا لي و سلّما *** عليها سقاها اللّه من سبل(5) القطر(6)
***
إذا ما دنت زدت اشتياقا و إن نأت *** جرعت لنأي الدار منها و للبعد
/أبى القلب إلا حبّ بثنة لم يرد *** سواها و حبّ القلب بثنة لا يجدي
قال: و قال أيضا: و من الناس من يضيف هذه الأبيات إلى هذه القصيدة؛ و فيها أبيات معادة القوافي تدلّ على أنها مفردة عنها، و هي:
ص: 302
أ لم تسأل الدار القديمة هل لها *** بأمّ جسير بعد عهدك من عهد
و فيها يقول:
سلي الرّكب هل عجنا لمغناك مرّة *** صدور المطايا و هي موقرة تخدي
و هل فاضت العين الشّروق بمائها *** من أجلك حتى اخضلّ من دمعها بردي
الغناء لأحمد بن المكيّ ثاني ثقيل بالوسطى: -
و إنّي لأستجري لك الطير جاهدا *** لتجري بيمن من لقائك من(1) سعد
و إنّي لأستبكي إذا الركب غرّدوا *** بذكراك أن يحيا بك الركب إذ يخدي(2)
فهل تجزينّي أمّ عمرو بودّها *** فإنّ الذي أخفي بها فوق ما أبدي
و كلّ محبّ لم يزد فوق جهده *** و قد زدتها في الحبّ منّي على الجهد
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمر بن إبراهيم و غيره و بهلول بن سليمان البلويّ:
أنّ رهط بثينة ائتمنوا عليها عجوزا منهم يثقون بها يقال لها أمّ منظور. فجاءها جميل فقال لها: يا أمّ منظور، أريني بثينة. فقالت: لا! و اللّه لا أفعل، قد ائتمنوني عليها. فقال: أما و اللّه لأضرّنّك؛ فقالت: المضرّة و اللّه في أن أريكها. فخرج من عندها و هو يقول:
ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت *** بالحجر(3) يوم جلتها أمّ منظور
و لا انسلابتها(4) خرسا جبائرها *** إليّ من ساقط الأوراق(5) مستور
/قال: فما كان إلاّ قليل حتى انتهى إليهم هذان البيتان. قال: فتعلّقوا بأمّ منظور فحلفت لهم بكلّ يمين فلم يقبلوا منها. هكذا ذكر الزّبير بن بكّار في خبر أمّ منظور، و قد ذكر فيه غير ذلك.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عديّ، و أخبرني به ابن أبي الأزهر عن حمّاد عن أبيه عن الهيثم بن عديّ:
ص: 303
أن رجلا أنشد مصعب بن الزّبير قول جميل:
ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت *** بالحجر يوم جلتها أمّ منظور
فقال: لوددت أنّي عرفت كيف جلتها. فقيل له: إن أم منظور هذه حيّة. فكتب في حملها إليه مكرّمة فحملت إليه.
فقال لها: أخبريني عن قول جميل:
ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت *** بالحجر يوم جلتها أمّ منظور
كيف كانت هذه الجلوة؟ قالت(1): ألبستها قلادة بلح و مخنقة بلح واسطتها تفّاحة، و ضفرت شعرها و جعلت في فرقها شيئا من الخلوق. و مرّ بنا جميل راكبا ناقته فجعل ينظر إليها بمؤخّر عينه و يلتفت إليها حتى غاب عنا. فقال لها مصعب: فإنّي أقسم عليك/إلاّ جلوت عائشة بنت طلحة مثل ما جلوت بثينة، ففعلت: و ركب مصعب ناقته و أقبل عليهما و جعل ينظر إلى عائشة بمؤخّر عينه و يسير حتى غاب عنهما ثم رجع.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني بهلول عن بعض مشايخه:
أنّ جميلا جاء إلى بثينة ليلة و قد أخذ ثياب راع لبعض الحيّ، فوجد عندها ضيفانا لها، فانتبذ ناحية، فسألته:
من أنت؛ فقال: مسكين مكاتب(2)، فجلس/وحده، فعشّت ضيفانها و عشّته وحده. ثم جلست هي و جارية لها على صلائهما و اضطجع القوم منتحين. فقال جميل:
هل البائس المقرور دان فمصطل *** من النار أو معطى لحافا فلابس
فقالت لجاريتها: صوت جميل و اللّه! اذهبي فانظري!. فرجعت إليها فقالت: هو و اللّه جميل! فشهقت شهقة سمعها القوم فأقبلوا يجرون و قالوا مالك؟ فطرحت بردا لها من حبرة في النار و قالت: احترق بردي، فرجع القوم. و أرسلت جاريتها إلى جميل، فجاءتها به، فحبسته عندها ثلاث ليال، ثم سلّم عليها و خرج.
و قال الهيثم و أصحابه في أخبارهم:
كانت بثينة قد واعدت جميلا للالتقاء في بعض المواضع، فأتى لوعدها. و جاء أعرابيّ يستضيف القوم فأنزلوه و قروه، فقال لهم: إني قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرّقين متوارين في الشجر و أنا خائف عليكم أن يسلّوا(3) بعض إبلكم. فعرفوا أنه جميل و صاحباه، فحرسوا بثينة و منعوها من الوفاء بوعده. فلما أسفر له الصبح انصرف كئيبا سيّئ الظنّ بها و رجع إلى أهله، فجعل نساء الحيّ يقرّعنه بذلك و يقلن له: إنما حصلت منها على الباطل و الكذب و الغدر، و غيرها أولى بوصلك منها، كما أن غيرك يحظى بها. فقال في ذلك:
أ بثين إنك قد ملكت فأسجحي *** و خذي بحظّك من كريم واصل
ص: 304
فلربّ عارضة علينا وصلها *** بالجدّ تخلطه بقول الهازل
فأجبتها بالقول بعد تستّر *** حبّي بثينة عن وصالك شاغلي
/لو كان في قلبي كقدر قلامة *** فضلا وصلتك أو أتتك رسائلي
- الغناء ليحيى المكّيّ ثقيل أوّل بالوسطى من رواية أحمد -
و يقلن أنك قد رضيت بباطل *** منها فهل لك في اجتناب الباطل
و لباطل ممّن أحبّ حديثه *** أشهى إليّ من البغيض الباذل
الغناء لسليم رمل بالوسطى عن عمرو. و ذكر عمر أنه ليزيد حوراء.
و ذكر الهيثم بن عديّ و أصحابه أن جماعة من بني عذرة حدّثوا أن جميلا رصد بثينة ذات ليلة في نجعة لهم، حتى إذا صادف منها خلوة سكر و دنا منها و ذلك في ليلة ظلماء ذات غيم و ريح و رعد، فحذفها بحصاة فأصابت بعض أترابها، ففزعت و قالت: و اللّه ما حذفني في هذا الوقت بحصاة إلا الجنّ! فقالت لها بثينة و قد فطنت: إن جميلا فعل ذلك فانصرفي ناحية إلى منزلك حتى ننام، فانصرفت و بقيت مع بثينة أمّ الجسير و أمّ منظور، فقامت إلى جميل/فأدخلته الخباء معها و تحدّثا طويلا، ثم اضطجع و اضطجعت إلى جنبه فذهب النوم بهما حتى أصبحا و جاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها، فرآها نائمة مع جميل، فمضى لوجهه حتى خبّر سيّده. و رأته ليلى و الصّبوح معه و قد عرفت خبر جميل و بثينة فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله و بعثت بجارية لها و قالت حذّري بثينة و جميلا، فجاءت الجارية فنبّهتهما. فلما تبيّنت بثينة الصبح قد أضاء و الناس منتشرين ارتاعت و قالت: يا جميل! نفسك نفسك! فقد جاءني غلام نبيه بصبوحي من اللبن فرآنا نائمين! فقال لها جميل و هو غير مكترث لما خوّفته منه:
لعمرك ما خوّفتني من مخافة *** بثين و لا حذّرتني موضع الحذر
فأقسم لا يلقى لي اليوم غرّة *** و في الكفّ منّي صارم قاطع ذكر
/فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النّضد(1) و قالت: إنما أسألك ذلك خوفا على نفسي من الفضيحة لا خوفا عليك، ففعل ذلك و نامت كما كانت، و اضطجعت أمّ الجسير إلى جانبها و ذهبت خادم ليلى إليها فأخبرتها الخبر فتركت العبد يمضي إلى سيّده فمضى و الصّبوح معه و قال له: إني رأيت بثينة مضطجعة و جميل إلى جنبها. فجاء نبيه إلى أخيها و أبيها فأخذ بأيديهما و عرّفهما الخبر و جاءوا بأجمعهم إلى بثينة و هي نائمة فكشفوا عنها الثوب فإذا أمّ الجسير إلى جانبها نائمة. فخجل زوجها و سبّ عبده و قالت ليلى لأخيها و أبيها: قبحكما اللّه! أ في كلّ يوم تفضحان فتاتكما و يلقاكما هذا الأعور فيها بكلّ قبيح! قبحه اللّه و إياكما! و جعلا يسبّان زوجها و يقولان له كلّ قول قبيح. و أقام جميل عند بثينة حتى أجنّه الليل ثم ودّعها و انصرف. و حذرتهم بثينة لما جرى من لقائه إيّاها فتحامته مدّة، فقال في ذلك:
ص: 305
أ أن هتفت ورقاء ظلت سفاهة *** تبكّي على جمل لورقاء تهتف
فلو كان لي بالصرم يا صاح طاقة *** صرمت و لكنّي عن الصرم أضعف
للهذليّ في هذين البيتين لحنان أحدهما ثقيل أوّل بالسّبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، و الآخر خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو، و ذكر غيره لابن جامع. و فيه لبذل الكبرى خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن أحمد بن المكّي. و مما يغنّى فيه من هذه القصيدة قوله:
لها في سواد القلب بالحبّ ميعة(1) *** هي الموت أو كادت على الموت تشرف
و ما ذكرتك النفس يا بثن مرّة *** من الدهر إلا كادت النفس تتلف
و إلاّ اعترتني زفرة و استكانة *** و جاد لها سجل من الدمع يذرف
و ما استطرفت نفسي حديثا لخلّة *** أسرّ به إلا حديثك أطرف
الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ. و أوّل هذه القصيدة:
/
أ من منزل قفر تعفّت رسومه *** شمال تغاديه و نكباء(2) حرجف
فأصبح قفرا بعد ما كان آهلا *** و جمل المنى تشتو به و تصيّف
ظللت و مستنّ(3) من الدمع هامل *** من العين لما عجت بالدّار ينزف
أ منصفتي جمل فتعدل بيننا *** إذا حكمت و الحاكم العدل ينصف
تعلّقتها و الجسم منّي مصحّح *** فما زال ينمي حبّ جمل و أضعف
إلى اليوم حتى سلّ جسمي و شفني *** و أنكرت من نفسي الذي كنت أعرف
قناة من المرّان(4) ما فوق حقوها *** و ما تحته منها نقا يتقصّف
لها مقلتا ريم و جيد جداية(5)*** و كشح كطيّ السابريّة(6) أهيف
و لست بناس أهلها حين أقبلوا *** و جالوا علينا بالسيوف و طوّفوا
/و قالوا جميل بات في الحيّ عندها *** و قد جرّدوا أسيافهم ثم وقّفوا
ص: 306
و في البيت ليث الغاب لو لا مخافة *** على نفس جمل و الإله لأرعفوا(1)
هممت و قد كادت مرارا تطلّعت *** إلى حربهم نفسي و في الكفّ مرهف
و ما سرّني غير الذي كان منهم *** و منّي و قد جاءوا إليّ و أوجفوا
فكم مرتج أمرا أتيح له الرّدى *** و من خائف لم ينتقصه التخوّف
حدّثني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ، و أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال، قال لي صالح بن حسان:
هل تعرف بيتا نصفه أعرابيّ في شملة و آخره مخنّث يتفكّك من مخنّثي العقيق؟ فقلت: لا أدري. قال: قد أجّلتك فيه حولا. فقلت: لو أجّلتني حولين ما علمت. قال: قول جميل:
ألا أيّها النّوّام ويحكم هبّوا
هذا أعرابيّ في شملة. ثم قال:
نسائلكم هل يقتل الرجل الحبّ
كأنه و اللّه من مخنّثي العقيق. في هذا الشعر غناء، نسبته و شرحه:
ألا أيّها النّوّام ويحكم هبّوا *** نسائلكم هل يقتل الرجل الحبّ
ألا ربّ ركب قد دفعت وجيفهم(2) *** إليك و لو لا أنت لم يوجف الرّكب
/الغناء لابن محرز خفيف رمل بالسبّابة و الوسطى عن يحيى المكي، و ذكره إسحاق في هذه الطريقة و لم ينسبه إلى أحد. و فيه لسليم ما خوريّ عن الهشاميّ. و فيه لمالك ثاني ثقيل بالسّبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، و قيل:
إنه لمعبد. و فيه لعريب هزج من رواية ابن المعتزّ. و ذكر عبد اللّه بن موسى أن لحن مالك من الثقيل الأوّل و أن خفيف الرّمل لابن سريج و أن الهزج لحمدونة بنت الرّشيد.
أخبرنا الحسين بن يحيى المرداسيّ قال أخبرنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أيّوب ابن عباية المحرزيّ عن شيخ من رهط جميل من عذرة:
أن بثينة لما علقت حجنة الهلاليّ جفاها جميل. قال: و أنشدني لجميل في ذلك:
ص: 307
بينا حبال ذات عقد لبثنة *** أتيح لها بعض الغواة فحلّها
فعدنا كأنّا لم يكن بيننا هوى *** و صار الذي حلّ الحبال هوى لها
و قالوا نراها يا جميل تبدّلت *** و غيّرها الواشي فقلت لعلّها
الغناء للهذليّ خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى. و ذكره إسحاق في هذه الطريقة و الإصبع و لم ينسبه إلى أحد.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثنا أبو عوف عن عبد الرحمن بن مقرّن قال:
بعثني المنصور لأبتاع له جارية من المدينة و قال لي: اعمل برأي ابن نفيس؛ فكنت أفعل ذلك، و أغشى ابنه، و كانت له جارية مغنية قد كلف بها فتى من/آل عثمان بن عفّان، فكان يبيع عقدة(1) عقدة من ماله و ينفق ثمنها عليها. و ابتلي برجل من أهل إفريقيّة و معه ابن له، فغشي ابن الإفريقيّ بيت ابن نفيس فجعل يكسو الجارية و أهلها و يبرّهم حتى حظي عندهم و غلب عليهم و تثاقلوا العثمانيّ. فقضي أن اجتمعنا عشيّة عندها و حضر ابن الإفريقيّ و العثمانيّ؛ فنزع ابن الإفريقيّ خفّه فتناثر المسك منه، و أراد العثمانيّ أن يكيده بفعله. فجلسنا ساعة؛ فقال لها ابن الإفريقيّ: غنّي:
بينا حبال ذات عقد لبثنة *** أتيح لها بعض الغواة فحلّها
يعرّض بالعثمانيّ. فقال لها العثمانيّ: لا حاجة لنا في هذا، و لكن غنّي:
و من يرع نجدا يلفني قد رعيته *** بجنيته(2) الأولى و يورد على وردي
قال: فنكس ابن الإفريقيّ رأسه و خرج العثمانيّ فذهب، و خمد أهل البيت فما انتفعوا بقيّة يومهم.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي و بهلول بن سليمان البلويّ:
أن جميلا قال لما زوّجت بثينة نبيها:
أ لا ناد عيرا(3) من بثينة ترتعي *** نودّع على شحط النّوى و نودّع
و حثّوا على جمع الرّكاب و قرّبوا *** جمالا و نوقا جلّة لم تضعضع
في هذين البيتين رمل لابن سريج عن الهشاميّ. و مما يغنّى فيه من هذه القصيدة:
ص: 308
أعيذك بالرحمن من عيش شقوة *** و أن تطمعي يوما إلى غير مطمع
إذا ما ابن ملعون تحدّر رشحه *** عليك فموتي بعد ذلك أودعي
مللن و لم أملل و ما كنت سائما *** لأجمال سعدى ما أ نحن بجعجع(1)
و حثّوا على جمع الرّكاب و قرّبوا *** جمالا و نوقا جلّة لم تضعضع
ألا قد أرى إلاّ بثينة هاهنا *** لنا بعد ذا المصطاف و المتربّع
لمعبد في الثالث و الرابع من هذه الأبيات ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى عن/إسحاق. و لابن سريج في الأوّل و الثاني و الخامس خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. و للأبجر في الأوّل و الخامس و الثالث و الرابع رمل بالبنصر.
و في الأول و الثاني خفيف ثقيل ينسب إلى معبد و غيره، و لم تعرف صحته من جهة يوثق بها.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال أنشدنا بهلول بن سليمان لجميل لما بعد عن بثينة و خاف السلطان، و كان بهلول يعجب به،:
ألا قد أرى إلا بثينة للقلب *** بوادي بدا لا بحسمى و لا الشّغب(2)
و لا ببصاق(3) قد تيمّمت فاعترف *** لما أنت لاق أو تنكّب عن الرّكب
أ في كلّ يوم أنت محدث صبوة *** تموت لها بدّلت غيرك من قلب
أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا أبي عن يعقوب بن محمد الزّهريّ عن سليمان بن صخر الحرشيّ قال حدّثنا سليمان بن زياد الثّقفي:
أن بثينة دخلت على عبد الملك بن مروان. فرأى امرأة خلفاء(4) مولّية؛ فقال لها: ما الذي رأى فيك جميل؟ قالت: الذي رأى فيك الناس حين استخلفوك: فضحك عبد الملك حتى بدت له سنّ سوداء كان يسترها.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمر بن إبراهيم العويثيّ:
أن جمل جميل الذي كان يزور عليه بثينة يقال له «جديل» و فيه يقول:
ص: 309
أنخت جديلا عند بثنة ليلة *** و يوما أطال اللّه رغم جديل
أ ليس مناخ النّضو يوما و ليلة *** لبثنة فيما بيننا بقليل؟
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان محمد بن يحيى المكّي:
أنّ جميلا لما اشتهرت بثينة بحبّه إياها اعترضه عبيد اللّه بن قطبة أحد بني الأحبّ و هو من رهطها الأدنين فهجاه؛ و بلغ ذلك جميلا فأجابه، و تطاولا فغلبه جميل و كفّ عنه ابن قطبة، و اعترضه عمير بن رمل (رجل من بني الأحبّ) فهجاه. و إياه عنى جميل بقوله:
إذا الناس هابوا خزية ذهبت(1) بها *** أحبّ المخازي كهلها و وليدها
لعمر عجوز طرّقت(2) بك إنني *** عمير بن رمل لابن حرب أقودها
بنفسي فلا تقطع فؤادك ظلّة *** كذلك حزني وعثها و صعودها
/قال: فاستعدوا عليه عامر بن ربعيّ بن دجاجة، و كانت إليه بلاد عذرة، و قالوا: يهجونا و يغشى بيوتنا و ينسب بنسائنا! فأباحهم دمه، و طلب فهرب منه. و غضبت بثينة لهجائه أهلها جميعا. فقال جميل:
و ما صائب من نابل(3) قذفت به *** يد و ممرّ(4) العقدتين وثيق
له من خوافي النّسر حمّ نظائر(5) *** و نصل كنصل الزّاعبيّ(6) فتيق
على نبعة(7) زوراء أمّا خطامها *** فمتن و أمّا عودها فعتيق
بأوشك قتلا منك يوم رميتني *** نوافذ لم تظهر لهنّ خروق
تفرّق أهلانا بثين فمنهم *** فريق أقاموا و استمرّ فريق
/فلو كنت خوّارا لقد باح مضمري(8) *** و لكنّني صلب القناة عريق
كأن لم نحارب يا بثين لو انه *** تكشّف غمّاها و أنت صديق
قال و يدلّ على طلب عامر بن ربعيّ إيّاه قوله:
ص: 310
أضرّ بأخفاف البغلية أنّها *** حذار ابن ربعيّ بهنّ رجوم(1)
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه الحزنبل الأصبهانيّ قال حدّثني عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ عن أبيه قال حدّثني بعض رواة عذرة:
/أن السلطان أهدر دم جميل لرهط بثينة إن وجدوه قد غشي دورهم. فحذرهم مدّة، ثم وجدوه عندها، فأعذروا إليه و توعّدوه و كرهوا أن ينشب بينهم و بين قومه حرب في دمه، و كان قومه أعز من قومها، فأعادوا شكواه إلى السلطان، فطلبه طلبا شديدا، فهرب إلى اليمن فأقام بها مدّة. و أنشدني له في ذلك:
ألمّ خيال من بثينة طارق *** على النّأي مشتاق إليّ و شائق
سرت من تلاع الحجر حتى تخلّصت *** إليّ و دوني الأشعرون و غافق(2)
كأنّ فتيت المسك خالط نشرها *** تغلّ(3) به أردانها و المرافق
تقوم إذا قامت به عن فراشها *** و يغدو به من حضنها من تعانق
قال أبو عمرو و حدّثني هذا العذريّ:
أنّ جميلا لم يزل باليمن حتى عزل ذلك الوالي عنهم، و انتجعوا ناحية الشام فرحل إليهم. قال: فلقيته فسألته عما أحدث بعدي؛ فأنشدني:
سقى منزلينا يا بثين بحاجر *** على الهجر منّا صيّف و ربيع
و دورك يا ليلى و إن كنّ بعدنا *** بلين بلى لم تبلهنّ ربوع
و خيماتك اللاّتي بمنعرج اللّوى *** لقمريّها بالمشرقين سجيع(4)
تزعزع(5) منها الريح كلّ عشيّة *** هزيم بسلاّف الرياح رجيع
/و إنّي أن يعلى بك اللّوم أو تري *** بدار أذى من شامت لجزوع
و إنّي على الشيء الذي يلتوى به *** و إن زجرتني زجرة لو ريع(6)
فقدتك من نفس شعاع فإنّني *** نهيتك عن هذا و أنت جميع
ص: 311
فقرّبت لي غير القريب و أشرفت *** هناك ثنايا ما لهنّ طلوع
يقولون صبّ بالغواني موكّل *** و هل ذاك من فعل الرجال بديع!
و قالوا رعيت اللّهو و المال ضائع *** فكالناس فيهم صالح و مضيع
الغناء لصالح بن الرشيد رمل بالوسطى عن الهشاميّ و ابن خرداذبه و إبراهيم. و ذكر حبش أنّ في هذه الأبيات لإسحاق لحنا من الثقيل بالوسطى؛ و لم يذكر هذا أحد غيره و لا سمعناه و لا قرأناه إلا في كتابه. و من الناس من يدخل هذه الأبيات في قصيدة المجنون التي على رويّ و قافية هذه القصيدة، و ليست له.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّليّ(1) عن أبي عبيدة عن أبيه قال:
دخل علينا كثيّر/يوما و قد أخذ بطرف ريطته و ألقى طرفها الآخر و هو يقول: هو و اللّه أشعر الناس حيث يقول:
و خبّرتماني أنّ تيماء منزل *** لليلى إذا ما الصّيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنّي قد انقضت *** فما للنّوى ترمي بليلى المراميا
و يجرّ ربطته حتى يبلغ إلينا، ثم يولّي عنّا و يجرّها و يقول: هو و اللّه أشعر الناس حيث يقول:
/
و أنت التي إن شئت كدّرت عيشتي *** و إن شئت بعد اللّه أنعمت باليا
و أنت التي ما من صديق و لا عدا *** يرى نضو ما أبقيت إلاّ رثى ليا
ثم يرجع إلينا و يقول: هو و اللّه أشعر الناس. فقلنا: من تعني يا أبا صخر؟ فقال: و من أعني سوى جميل! هو و اللّه أشعر الناس حيث يقول هذا!. و تيماء خاصّة: منزل لبنى عذرة، و ليس من منازل عامر؛ و إنما يرويه عن المجنون من لا يعلمه.
و في هذه القصيدة يقول جميل:
و ما زلتم يا بثن حتّى لو أنّني *** من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا
إذا خدرت رجلي و قيل شفاؤها *** دعاء حبيب كنت أنت دعائيا
و ما زادني النّأي المفرّق بعدكم *** سلوّا و لا طول التلاقي تقاليا(2)
و لا زادني الواشون إلاّ صبابة *** و لا كثرة الناهين إلا تماديا
أ لم تعلمي يا عذبة الرّيق أنّني *** أظلّ إذا لم ألق وجهك صاديا
ص: 312
لقد خفت أن ألقى المنيّة بغتة *** و في النفس حاجات إليك كما هيا
أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني بعض أصحابنا عن محمد بن معن الغفاريّ عن الأصبغ بن عبد العزيز قال:
كنت عند طلحة بن عبد اللّه بن عوف؛ فدخل عليه كثيّر؛ فلما دخل من الباب أخذ برجله فثناها ثم حجل حتى بلغ الفراش و هو يقول: جميل و اللّه أشعر العرب حيث يقول:
و خبّرتماني أنّ تيماء منزل
ثم ذكر باقي الخبر الذي رواه محمد بن مزيد.
أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزّبير قال حدّثني عمر بن إبراهيم السّعديّ.
أنّ رهط بثينة قالوا إنما يتبع جميل أمة لنا. فواعد جميل بثينة حين لقيها ببرقاء ذي ضال، فتحادثا ليلا طويلا حتى أسحرا(1). ثم قال لها: هل لك أن ترقدي؟ قالت: ما شئت، و أنا خائفة أن نكون قد أصبحنا. فوسّدها جانبه ثم اضطجعا و نامت؛ فانسلّ و استوى على راحلته فذهب، و أصبحت في مضجعها، فلم يرع الحيّ إلاّ بها راقدة عند مناخ راحلة جميل. فقال جميل في ذلك:
فمن يك في حبّي بثينة يمتري *** فبرقاء ذي عليّ شهيد
أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن شبيب عن الحزامي عن فليح بن إسماعيل بمثل هذه القصة، و زاد فيها: فلما انتبهت بثينة علمت ما أراده جميل بها، فهجرته و آلت ألاّ تظهر له، فقال:
/
ألا هل إلى إلمامة أن ألمّها *** بثينة يوما في الحياة سبيل؟
فإن هي قالت لا سبيل فقل لها *** عناء على العذريّ منك طويل
على حين يسلو الناس عن طلب الصّبا *** و ينسى اتّباع الوصل منه خليل
و قال الهيثم و أصحابه في أخبارهم:
تشكّى زوج بثينة إلى أبيها و أخيها إلمام جميل بها. فوجّهوا إلى جميل و أعذروا إليه و شكوه إلى عشيرته و أعذروا إليهم فيه و توعّدوه، و أتاهم فلامه أهله و عنّفوه و قالوا: إنّا نستحلف إليهم و نتبرّأ منك و من جريرتك. فأقام مدة لا يلمّ بها، ثم لقي ابني عمّه روقا و مسعودا، فشكا إليهما ما به و أنشدهما قوله:
و إنّي على الشيء الذي يلتوى به *** و إن زجرتني زجرة لوريع
/فقدتك من نفس شعاع فإنني *** نهيتك عن هذا و أنت جميع
فقرّبت لي غير القريب و أشرفت *** هناك ثنايا ما لهنّ طلوع
ص: 313
يقولون صبّ بالغواني موكّل *** و هل ذاك من فعل الرجال بديع
و قالوا رعيت اللّهو و المال ضائع *** فكالنّاس فيهم صالح و مضيع
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثني مصعب بن عبد اللّه قال:
كانت تحت محمد بن عبد اللّه بن حسن امرأة من ولد الزّبير يقال لها فليحة، و كانت لها صبيّة يقال لها رخيّة، قد ربّتها لغير رشدة، و كانت من أجمل النساء وجها. فرأت محمدا و قد نظر إليها ذات يوم نظرا شديدا، ثم تمثّل قول جميل:
بثينة من صنف يقلّبن أيدي الرّم *** اة و ما يحملن قوسا و لا نبلا
و لكنّما يظفرن بالصيد كلّما *** جلون الثّنايا الغرّ و الأعين النّجلا
يخالسن ميعادا يرعن لقولها(1) *** إذا نطقت كانت مقالتها فصلا
يرين قريبا بيتها و هي لا ترى *** سوى بيتها بيتا قريبا و لا سهلا
فقالت له فليحة: كأنك تريد رخيّة! قال: إي و اللّه! قالت: إنّي أخشى أن تجيء منك بولد و هي لغير رشدة. فقال لها: إنّ الدّنس لا يلحق الأعقاب و لا يضرّ الأحساب. فقالت له: فما يضرّ إذا! و اللّه ما يضرّ إلا الأعقاب و الأحساب، و قد وهبتها لك. فسرّ بذلك و قال: أما و اللّه لقد أعطيتك خيرا منها. قالت: و ما هو؟ قال: أبيات جميل التي أنشدتك إيّاها؛ لقد مكثت أسعى في طلبها حولين. فضحكت و قالت: ما لي و لأبيات جميل! و اللّه ما ابتغيت إلا مسرّتك. /قال: فولدت منه غلاما. و كانت فليحة تدعو اللّه ألاّ يبقيه. فبينا محمد في بعض هربه من المنصور و الجارية و ابنها معه إذ رهقهما الطلب، فسقط الصبيّ من الجبل فتقطّع. فكان محمد بعد ذلك يقول: أجيب في هذا الصبي دعاء فليحة.
و قال الهيثم بن عديّ و أصحابه في أخبارهم:
لمّا نذر أهل بثينة دم جميل و أباحهم السلطان قتله، أعذروا إلى أهله. و كانت منازلهم متجاورة، إنما هم بيوتات يفترقون كما يفترق البطون و الأفخاذ و القبائل غير متباعدين؛ أ لم تر إلى/قول جميل:
أبيت مع الهلاّك(2) ضيفا لأهلها *** و أهلي قريب موسعون أولو فضل
فمشت مشيخة الحيّ إلى أبيه - و كان يلقّب صباحا و كان ذا مال و فضل و قدر في أهله - فشكوه إليه و ناشدوه اللّه و الرّحم و سألوه كفّ ابنه عمّا يتعرّض له و يفضحهم به في فتاتهم؛ فوعدهم كفّه و منعه ما استطاع، ثم انصرفوا. فدعا به فقال له: يا بنيّ! حتى متى أنت عمه في ضلالك، لا تأنف من أن تتعلق بذات بعل يخلو بها و ينكحها و أنت عنها بمعزل ثم تقوم من تحته إليك فتغرّك بخداعها و تريك الصفاء و المودّة و هي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرّة لمن
ص: 314
ملكها، فيكون قولها لك تعليلا و غرورا، فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة؛ إن هذا لذلّ و ضيم! ما أعرف أخيب سهما و لا أضيع عمرا منك. فأنشدك اللّه إلاّ كففت و تأملت أمرك؛ فإنك تعلم أنّ ما قلته حقّ، و لو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها، و لكنّ هذا أمر قد فات و استبدّ به من قدّر له، و في النساء عوض.
فقال له جميل: الرأي ما رأيت، و القول كما قلت؛ فهل رأيت قبلي أحدا قدر أن يدفع عن/قلبه هواه، أو ملك أن يسلي نفسه، أو استطاع أن يدفع ما قضي عليه! و اللّه لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي أو أزيل شخصها عن عيني لفعلت، و لكن لا سبيل إلى ذلك، و إنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي، و أنا أمتنع من طروق هذا الحيّ و الإلمام بهم و لو متّ كمدا؛ و هذا جهدي و مبلغ ما أقدر عليه. و قام و هو يبكي؛ فبكى أبوه و من حضر جزعا لما رأوا منه.
فذلك حين يقول جميل:
ألا من لقلب لا يملّ فيذهل *** أفق فالتّعزي عن بثينة أجمل
سلا كلّ ذي ودّ علمت مكانه *** و أنت بها حتى الممات موكّل
فما هكذا أحببت من كان قبلها *** و لا هكذا فيما مضى كنت تفعل
*- الغناء لمالك ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق -*
فيا قلب دع ذكرى بثينة إنّها *** و إن كنت تهواها تضنّ و تبخل
و قد أيأست من نيلها و تجهّمت *** و لليأس إن لم يقدر النّيل أمثل
و إلاّ فسلها نائلا قبل بينها *** و أبخل بها مسئولة حين تسأل
و كيف ترجّي وصلها بعد بعدها *** و قد جدّ حبل الوصل ممن تؤمّل
و إنّ التي أحببت قد حيل دونها *** فكن حازما، و الحازم المتحوّل
ففي اليأس ما يسلي و في الناس خلّة *** و في الأرض عمّن لا يواتيك معزل
بدا كلف منّي بها فتثاقلت *** و ما لا يرى من غائب الوجد أفضل
هبيني بريئا نلته بظلامة *** عفاها لكم أو مذنبا يتنصّل
قناة(1) من المرّان ما فوق حقوها *** و ما تحته منها نقّا يتهيّل
/قال و قال أيضا في هذه الحال:
أ عن ظعن الحيّ الألى كنت تسأل *** بليل فردّوا عيرهم و تحمّلوا
فأمسوا و هم أهل الديار و أصبحوا *** و من أهلها الغربان بالدار تحجل
- في هذين البيتين لسياط خفيف رمل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو -
ص: 315
على
حين ولّى الأمر عنّا و أسمحت(1)*** عصا البين و انبتّ الرجاء المؤمّل
فما هو إلاّ أن أهيم بذكرها *** و يحظى بجدواها سواي و يجذل
و قد أبقت الأيّام منّي على العدا *** حساما إذا مسّ الصريبة يفصل
و لست كمن إن سيم ضيما أطاعه *** و لا كامرئ إن عضّه الدهر ينكل
لعمري لقد أبدى لي البين صفحه(2)*** و بيّن لي ما شئت لو كنت أعقل
و آخر عهدي من بثينة نظرة *** على موقف كادت من البين تقتل
فللّه عينا من رأى مثل حاجة *** كتمتكها و النفس منها تململ
و إني لأستبكي إذا ذكر الهوى *** إليك و إنّي من هواك لأوجل
نظرت ببشر نظرة ظلت أمتري *** بها عبرة و العين بالدمع تكحل
إذا ما كررت الطّرف نحوك ردّه *** من البعد فيّاض من الدمع يهمل(3)
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أيّوب بن عباية قال:
/لمّا أراد جميل الخروج إلى الشام، هجم ليلا على بثينة و قد وجد غفلة. فقالت له: أهلكتني و اللّه و أهلكت نفسك! ويحك! أ ما تخاف!. فقال لها: هذا وجهي إلى الشام، إنما جئتك مودّعا. فحادثها طويلا ثم ودّعها، و قال: يا بثينة، ما أرانا نلتقي بعد هذا، و بكيا طويلا. ثم قال لها و هو يبكي:
ألا لا أبالي جفوة الناس ما بدا *** لنا منك رأي يا بثين جميل
و ما لم تطيعي كاشحا أو تبدّلي *** بنا بدلا أو كان منك ذهول
و إنّي و تكراري الزيارة نحوكم *** بثين بذي هجر بثين يطول(4)
و إن صباباتي بكم لكثيرة *** بثين و نسيانيكم لقليل
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكار قال حدّثني شيوخ من عذرة:
أنّ مروان بن الحكم خرج مسافرا في نفر من قريش و معه جميل بن معمر و جوّاس بن قطبة أخو عبيد اللّه بن قطبة. فقال مروان لجوّاس: انزل فارجز بنا، و هو يريد أن يمدحه. فنزل جوّاس و قال:
يقول أميري هل تسوق ركابنا *** فقلت له حاد لهنّ سوائيا
ص: 316
تكرّمت عن سوق المطيّ و لم يكن *** سياق(1) المطيّ همّتي و رجائيا
/جعلت أبي رهنا و عرضي سادرا *** إلى أهل بيت لم يكونوا كفائيا
إلى شرّ بيت من قضاعة منصبا *** و في شرّ قوم منهم قد بدا ليا(2)
/فقال مروان: اركب لا ركبت!. ثم قال لجميل: انزل فارجز بنا، و هو يريد أن يمدحه. فنزل جميل فقال:
أنا جميل في السّنام الأعظم *** الفارع الناس الأعزّ الأكرم
أحمي ذماري و وجدت أقرمي *** كانوا على غارب طود خضرم
أعيا على النّاس فلم يهدّم
فقال: عدّ عن هذا. فقال جميل:
لهفا على البيت المعدّي لهفا *** من بعد ما كان قد استكفّا
و لو دعا اللّه و مدّ الكفّا *** لرجفت منه الجبال رجفا
فقال له اركب لا ركبت!.
قال الزّبير و حدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّليّ قال:
كان جميل مع الوليد بن عبد الملك في سفر و الوليد على نجيب؛ فرجز به مكين العذريّ فقال:
يا بكر هل تعلم من علاكا *** خليفة اللّه على ذراكا
فقال الوليد لجميل: انزل فارجز، و ظنّ الوليد أنه يمدحه. فنزل فقال:
أنا جميل في السّنام من معدّ *** في الذّروة العلياء و الرّكن الأشدّ
و البيت من سعد بن زيد و العدد *** ما يبتغي الأعداء منّي و لقد
أضري(3) بالشّتم لساني و مرد *** أقود من شئت و صعب لم أقد
فقال له الوليد: اركب لا حملك اللّه!. قال: و ما مدح جميل أحدا قطّ.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا يونس بن عبد اللّه(4) بن سالم قال:
/وقف جميل على الحزين الدّيليّ و الحزين ينشد الناس. فقال له الحزين و هو لا يعرفه: كيف تسمع شعري؟
ص: 317
قال: صالح وسط. فغضب الحزين و قال له: ممّن أنت؟ فو اللّه لأهجونّك و عشيرتك!. فقال جميل: إذا تندم. فأقبل الحزين يهمهم يريد هجاءه. فقال جميل:
الدّيل أذناب بكر حين تنسبهم *** و كلّ قوم لهم من قومهم ذنب
فقامت له بنو الدّيل و ناشدوه اللّه إلاّ كفّ عنهم، و لم يزالوا به حتى أمسك و انصرف.
أخبرني الحرميّ و محمد بن مزيد - و اللفظ له - قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن الضحّاك عن أبيه قال:
لمّا هاجى عبيد اللّه بن قطبة جميلا و استعلى عليه جميل، أعرض عنه، و اعترضه أخوه جوّاس بن قطبة فهجاه و ذكر أختا لجميل. و كان جميل قبل ذلك يحتقره و لا ينصب(1) له، حتى هجا أخته فقال فيهما ذكرها به من شعره:
إلى فخذيها العبلتين و كانتا *** بعهدي لفّاوين(2) أردفتا ثقلا
فغضب جميل حينئذ فواعده للمراجزة. قال الزّبير فحدّثني بعض آل العبّاس بن سهل بن سعد عن عبّاس قال:
قدمت من عند عبد الملك بن مروان و قد أجازني و كساني بردا، كان ذلك البرد أفضل جائزتي، فنزلت وادي القرى فوافقت الجمعة بها فاستخرجت بردي/الذي من عند عبد الملك و قلت أصلّي مع الناس؛ فلقيني جميل، و كان صديقا لي، فسلّم بعضنا على بعض و تساءلنا ثم افترقنا. فلما أمسيت إذا هو قد أتاني في رحلي/فقال: البرد الذي رأيته عليك تعيرنيه حتى أتجمّل به؛ فإنّ بيني و بين جوّاس مراجزة، و تحضر فتسمع. قال قلت: لا! بل هو لك كسوة، فكسوته إيّاه، و قلت لأصحابي: ما من شيء أحبّ إليّ من أن أسمع مراجزتهما. فلمّا أصبحنا جعل الأعاريب يأتون أرسالا حتى اجتمع منهم بشر كثير، و حضرت و أصحابي، فإذا بجميل قد جاء و عليه حلّتان ما رأيت مثلهما على أحد قطّ، و إذا بردي الذي كسوته إيّاه قد جعله جلاّ لجمله؛ فتراجزا فرجز جميل، و كانت بثينة تكنى أمّ عبد الملك، فقال:
يا أمّ عبد الملك اصرميني *** فبيني صرمى أو صليني
أبكي و ما يدريك ما يبكيني *** أبكي حذار أن تفارقيني
و تجعلي أبعد منّي دوني *** إنّ بني عمّك أوعدوني
أن يقطعوا رأسي إذا لقوني *** و يقتلوني ثم لا يدوني(3)
كلاّ و ربّ البيت لو لقوني *** شفعا و وترا لتواكلوني(4)
قد علم الأعداء أنّ دوني *** ضربا كإيزاغ(5) المخاض الجون
ص: 318
ألا أسبّ القوم إذ سبّوني *** بلى و ما مرّ على دفين(1)
و سابحات بلوي الحجون(2) *** قد جرّبوني ثم جرّبوني
حتى إذا شابوا و شيّبوني *** أخزاهم اللّه و لا يخزيني
أشباه أعيار على معين(3) *** أحسن حسّ أسد حرون
فهنّ يضرطن من اليقين *** أنا جميل فتعرّفوني
/و ما تقنّعت فتنكروني *** و ما أعيّنكم لتسألوني
أنمى إلى عاديّة طحون *** ينشقّ عنها السّيل ذو الشئون
غمر يدقّ رجح(4) السّفين *** ذو حدب(5) إذا يرى حجون
تنحلّ أحقاد الرجال دوني
قال: و رجز جميل أيضا:
أنا جميل في السّنام من معدّ
و قد تقدّمت هذه الأرجوزة. ثم رجز بعده جوّاس فلم يصنع شيئا. قال: فما رأيت غلبة مثلها قطّ.
أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا بهلول بن سليمان عن العلاء بن سعيد البلويّ و جماعة غيره من قومه:
أنّ رجلا من بني عذرة كان يقال له خوّات، أمّه بلويّة، و كان شاعرا، و كان جميل ابن جذاميّة. فخرج جميل إلى أخواله بجذام و هو يقول:
جذام سيوف اللّه في كلّ موطن *** إذا أزمت يوم اللّقاء أزام(6)
هم منعوا ما بين مصر فذي القرى *** إلى الشام من حلّ به و حرام
بضرب يزيل الهام عن سكناته(7) *** و طعن كإيزاغ المخاض تؤام
/إذا قصرت يوما أكفّ قبيلة *** عن المجد نالته أكفّ جذام
فأعطوه مائة بكرة. قال: و خرج خوّات إلى أخواله من بليّ و هو يقول:
إنّ بليّا غرّة يهتدى بها *** كما يهتدي الساري بمطلع النجم
هم ولدوا أمّي و كنت ابن أختهم *** و لم أتخوّل(8) جذم قوم بلا علم
ص: 319
/قال: فأعطوه مائة غرّة ما بين فرس إلى وليدة؛ ففخر على صاحبه، و ذكر أن الغرّة الواحدة ممّا أتى به ممّا معه تعدل كلّ شيء أتى به جميل. فقال عبيد اللّه بن قطبة:
ستقضي بيننا حكماء سعد *** أ قطبة كان خيرا أم صباح
قال: و كان عبد اللّه بن معمر أبو جميل يلقّب صباحا. و كان عبيد اللّه بن قطبة يلقّب حماظا(1). فقال النّخار العذريّ أحد بني الحارث بن سعد: قطبة(2) كان خيرا من صباح. فقال جميل يهجو بني الأحبّ رهط قطبة و يهجو النّخّار:
إنّ أحبّ سفّل(3) أشرار *** حثالة عودهم خوّار
أذلّ قوم حين يدعى الجار *** كما أذلّ الحارث النّخّار
و قال الأبيرق العتبي(4): قطبة كان خيرا من صباح. فقال جميل:
يا بن الأبيرق و طب بتّ(5) مسنده *** إلى وسادك من حمّ الذّرى جون
و أكلتان إذا ما شئت مرتفقا *** بالسير من نغل الدفين مدهون(6)
أذكر(7) و أمّك منّي حين تنكبني(8) *** جنّي فيغلب جنّي كلّ مجنون
/و قال جماعة من شعراء سعد في تفضيل قطبة على صباح أقوالا أجابهم عنها جميل فأفحمهم؛ حتى قال له جعفر بن سراقة أحد بني قرّة:
نحن منعنا ذا القرى من عدوّنا *** و عذرة إذ نلقى يهودا و يعشرا(9)
منعناه من عليا معدّ و أنتم *** سفاسيف روح بين قرح(10) و خيبرا
فريقان رهبان بأسفل ذي القرى *** و بالشأم عرّافون فيمن تنصّرا
فلمّا بلغت جميلا اتّقاه و علم أنه سيعلو عليه؛ فقال جميل:
بنى عامر أنّى انتجعتم و كنتم *** إذا حصّل الأقوام كالخصية الفرد
فأنتم و لأيّ موضع الذّلّ حجرة *** و قرّة أولى بالعلاء و بالمجد
ص: 320
فأعرض عنه جعفر - قال الزبير: بنو عامر بن ثعلبة بن عبد اللّه بن ذبيان بن الحارث بن سعد رهط هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حيّة بن الكاهن و هو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد اللّه بن ذبيان بن سعد هذيم بن زيد. و زيادة ابن زيد بن مالك بن عامر بن قرّة بن خنبس بن عمرو بن ثعلبة بن عبد اللّه(1) بن ذبيان بن الحارث بن سعد هذيم.
و لأي بن عبد مناة بن الحارث بن سعد هذيم - قال: فدخل جميل على هدبة بن خشرم السجن و هو محبوس بدم زيادة بن زيد، و أهدى له بردين من ثياب كساه إيّاهما سعيد بن العاصي، و جاءه بنفقة؛ فلما دخل عليه عرض ذلك عليه؛ فقال هدبة: أنت يا بن قميئة(2) الذي تقول:
بني عامر أنّى انتجعتم و كنتم *** إذا عدّد الأقوام كالخصية الفرد
/أما و اللّه لئن خلّص اللّه لي ساقيّ لأمدّنّ لك مضامرك؛ خذ برديك و نفقتك. فخرج جميل؛ فلما بلغ باب السجن خارجا قال: اللهمّ أغن عنّي أجدع بني عامر!. و كانت بنو عامر قد قلّوا فحالفوا لأيا.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء و محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم المخزوميّ قال حدّثني شيخ من أهلي عن أبيه عن الحارث مولى هشام بن المغيرة الذي يقول له عمر بن أبي ربيعة:
يا أبا الحارث قلبي طائر
قال: شهدت عمر بن أبي ربيعة و جميل بن عبد اللّه بن معمر و قد اجتمعا بالأبطح؛ فأنشد جميل قصيدته:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي *** بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
يقولون مهلا يا جميل و إنني *** لأقسم ما بي من بثينة من مهل
أ حلما فقبل اليوم كان أوانه *** أم أخشى فقبل اليوم أوعدت بالقتل
لقد أنكحوا حربي نبيها ظعينة *** لطيفة طيّ البطن ذات شوى خذل
و كم قد رأينا ساعيا بنميمة *** لآخر لم يعمد بكفّ و لا رجل
ا إذ ما تراجعنا الذي كان بيننا *** جرى الدمع من عيني بثينة بالكحل
كلانا بكى أو كاد يبكي صبابة *** إلى إلفه و استعجلت عبرة قبلي
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها *** و لكن طلابيها لما فات من عقلي
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها *** و يا ويح أهلي ما أصيب به أهلي
ص: 321
/
و قالت لأتراب لها لا زعانف *** قصار و لا كسّ الثّنايا و لا ثعل(1)
إذا حميت شمس النّهار اتقينها *** بأكسية الدّيباج و الخزّ ذي الخمل
تداعين فاستعجمن مشيا بذي الغضا *** دبيب القطا الكدريّ في الدّمث السّهل
إذا ارتعن أو فزّعن قمن حوالها *** قيام بنات الماء في جانب الضّحل(2)
أجدّي لا ألقى بثينة مرّة *** من الدهر إلا خائفا أو على رجل(3)
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما *** قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
قال: و أنشده عمر قوله:
جرى ناصح بالودّ بيني و بينها *** فقرّبني يوم الحصاب إلى قتلي
فما أنس م الأشياء أنس موقفي *** و موقفها وهنا(4) بقارعة النخل
فلمّا تواقفنا عرفت الذي بها *** كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
فقلن لها هذا عشاء و أهلنا *** قريب أ لمّا تسأمي مركب البغل
فقالت فما شئتنّ قلن لها انزلي *** فللأرض خير من وقوف على رحل
فأقبلن أمثال الدّمى فاكتنفنها *** و كلّ يفدّي بالمودّة و الأهل
نجوم دراريّ تكنّفن صورة *** من البدر وافت غير هوج و لا ثجل(5)
/فسلّمت و استأنست خيفة أن يرى *** عدوّ مكاني أو يرى كاشح فعلي
فقالت و ألقت جانب السّتر إنما *** معي فتحدّث غير ذي رقبة أهلي
/فقلت لها ما بي لهم من ترقّب *** و لكنّ سرّي ليس يحمله مثلي
فلما اقتصرنا دونهن حديثنا *** و هنّ طيبات بحاجة ذي التّبل(6)
عرفن الذي نهوى(7) فقلن ائذني لنا *** نطف ساعة في برد ليل و في سهل
فقالت فلا تلبثن قلن تحدّثي *** أتيناك و انسبن انسياب مها الرمل
و قمن و قد أفهمن ذا اللّبّ أنما *** أتين الذي يأتين من ذاك من أجلي
ص: 322
فقال جميل: هيهات يا أبا الخطّاب: لا أقول و اللّه مثل هذا سجيس(1) الليالي! و ما خاطب النساء مخاطبتك أحد؛ و قام مشمّرا.
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما *** قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
أبيت مع الهلاّك ضيفا لأهلها *** و أهلي قريب موسعون ذوو فضل
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها *** و لكن طلابيها لما فات من عقلي
الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. و ذكر حمّاد و الهشاميّ أن فيه لنافع الخير مولى عبد اللّه بن جعفر لحنا من الثقيل الأوّل.
و منها:
ألا أيّها البيت الذي حيل دونه *** بنا أنت من بيت(2) و أهلك من أهل
/ثلاثة أبيات فبيت أحبّه *** و بيتان ليسا من هواي و لا شكلي
كلانا بكى أو كاد يبكي صبابة *** إلى إلفه و استعجلت عبرة قبلي
الغناء لإسحاق خفيف ثقيل الثاني بالبنصر.
و منها:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي *** بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
يقولون مهلا يا جميل و إنني *** لأقسم ما بي عن بثينة من مهل
الغناء لابن محرز من كتاب يونس و لم يجنّسه، و ذكر إسحاق أنه مما ينسب إلى ابن محرز و ابن مسجح، و لم يصحّ عنده لأيّهما هو و لا ذكر طريقته.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني غير واحد من الرواة عن صالح بن حسّان قال أخبرني نافع مولى عبد اللّه بن جعفر - و ما رأيت أحدا قطّ كان أشكل ظرفا و لا أزين في مجلس و لا أحسن غناء منه - قال:
قدمنا مع عبد اللّه بن جعفر مرّة على معاوية؛ فأرسل إليّ يزيد يدعوني ليلا؛ فقلت: أكره أن يعلم أمير المؤمنين مكاني عندك فيشكوني إلى ابن جعفر. قال فامهل حتى إذا سمر أمير المؤمنين فإن ابن جعفر يكون معه فلا يفتقدك
ص: 323
و نخلو نحن بما نريد قبل قيامهما. /فأتيته فغنّيته؛ فو اللّه ما رأيت فتى أشرف أريحيّة منه؛ و اللّه لألقى عليّ من الكسا الخزّ و الوشي و غيره ما لم أستطع حمله، ثم أمر لي بخمسمائة دينار. قال: و ذهب بنا الحديث و ما كنّا فيه، حتى قام معاوية و نهض ابن جعفر معه، و كان باب يزيد في سقيفة معاوية؛ فسمع صوتي، فقال لابن جعفر: ما هذا يا بن جعفر؟ قال: هذا و اللّه صوت نافع. فدخل علينا؛ فلما أحسّ به يزيد تناوم. /فقال له معاوية: مالك يا بنيّ؟ قال:
صدعت فرجوت أن يسكن عنّي بصوت هذا. قال: فتبسّم معاوية و قال: يا نافع، ما كان أغنانا عن قدومك!. فقال له ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، إن هذا في بعض الأحايين يذكي(1) القلب. قال: فضحك معاوية و انصرف. فقال لي ابن جعفر: ويلك! هل شرب شيئا؟ قلت: لا و اللّه. قال: و اللّه إنّي لأرجو أن يكون من فتيان بني عبد مناف الذين ينتفع بهم. قال نافع: ثم قدمنا على يزيد مع عبد اللّه بن جعفر بعد ما استخلف، فأجلسه معه على سريره و دخلت حاشيته تسلّم عليه و دخلت معهم. فلما نظر إليّ تبسّم. ثم نهض ابن جعفر و تبعناه. فقيل له: نظر إلى نافع و تبسم.
فقال ابن جعفر: هذا تأويل تلك الليلة. فقضى حوائج ابن جعفر و أضعف ما كان يصله به معاوية. فلما أراد الانصراف أتاه يودعه و نحن معه؛ فأرسل إليّ يزيد فدخلت عليه. قال: ويحك يا نافع! ما أخّرتك إلا لأتفرّغ لك.
هات لحنك:
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما *** قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
فأسمعته؛ فقال: أعد ويلك! فأعدته، ثم قال: أعد فأعدته ثلاثا. فقال: أحسنت؛ فسل حاجتك. فما سألته في ذلك اليوم شيئا إلا أعطانيه. ثم قال: إن يصلح لنا هذا الأمر من قبل ابن الزّبير فلعلّنا أن نحجّ فتلقانا بالمدينة! فإنّ هذا الأمر لا يصلح إلاّ هناك. قال نافع: فمنعنا و اللّه من ذلك شؤم ابن الزّبير.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفريّ قال حدّثنا القاسم بن أبي الزّناد قال:
/خرج عمر بن أبي ربيعة يريد الشام، فلما كان بالجناب(2) لقيه جميل؛ فقال له عمر: أنشدني، فأنشده:
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما *** قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
ثم قال جميل: أنشدني يا أبا الخطّاب، فأنشده:
أ لم تسأل الأطلال و المتربّعا *** ببطن حليّات دوارس بلقعا
فلما بلغ إلى قوله:
فلما توافقنا و سلّمت أشرقت *** وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا
تبالهن بالعرفان لمّا عرفنني(3) *** و قلن امرؤ باغ أكلّ و أوضعا
ص: 324
و قرّبن أسباب الهوى لمتيّم *** بقيس ذراعا كلّما قسن إصبعا
قال: فصاح جميل و استخذى و قال: ألا إن النّسيب أخذ من هذا، و ما أنشده حرفا، فقال له عمر: اذهب بنا إلى بثينة حتى نسلّم عليها. فقال له جميل: قد أهدر لهم السلطان دمي إن وجدوني عندها، و هاتيك أبياتها. فأتاها عمر حتى وقف على أبياتها و تأنّس حتى كلّم؛ فقال: /يا جارية، أنا عمر بن أبي ربيعة، فأعلمي بثينة مكاني. فخرجت إليه بثينة في مباذلها و قالت: و اللّه يا عمر لا أكون من نسائك اللاّتي يزعمن أن قد قتلهنّ الوجد بك؛ فانكسر عمر؛ قال و إذا امرأة أدماء طوالة.
و أخبرني بهذا الخبر عليّ بن صالح عن أبي هفّان عن إسحاق عن المسيّبيّ و الزّبير فذكر مثل ما ذكره الزبير و زاد فيه قال: فقال لها قول جميل:
/
و هما قالتا لو أنّ جميلا *** عرض اليوم نظرة فرآنا
بينما ذاك منهما و إذا بي(1)*** أعمل النّصّ(2) سيرة زفيانا
نظرت نحو تربها ثم قالت *** قد أتانا - و ما علمنا - منانا
فقالت: إنه استملى منك فما أفلح؛ و قد قيل: اربط الحمار مع الفرس، فإن لم يتعلّم من جريه تعلّم من خلقه.
و ذكر الهيثم بن عديّ و أصحابه في أخبارهم: أن جميلا طال مقامه بالشأم ثم قدم، و بلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحيّ تذكر شوقها إليه و وجدها به و طلبها للحيلة في لقائه، و واعدته لموضع يلتقيان فيه؛ فسار إليها و حدّثها طويلا و أخبرها خبره بعدها. و قد كان أهلها رصدوها، فلما فقدوها تبعها أبوها و أخوها حتى هجما عليهما، فوثب جميل فانتضى سيفه و شدّ عليهما فاتّقياه بالهرب؛ و ناشدته بثينة اللّه إلاّ انصرف، و قالت له: إن أقمت فضحتني، و لعل الحيّ أن يلحقوك. فأبى و قال: أنا مقيم و امضي أنت و ليصنعوا ما أحبّوا. فلم تزل تناشده حتى انصرف. و قال في ذلك و قد هجرته و انقطع التلاقي بينهما مدّة:
أ لم تسأل الربع الخلاء فينطق *** و هل تخبرنك اليوم بيداء سملق(3)
وقفت بها حتى تجلّت عمايتي *** و ملّ الوقوف الأرحبيّ(4) المنوّق
تعزّ و إن كانت عليك كريمة *** لعلّك من رقّ لبثنة تعتق
لعمركم إن البعاد لشائقي *** و بعض بعاد البين و النأي أشوق
/لعلّك محزون و مبد صبابة *** و مظهر شكوى من أناس تفرّقوا
و بيض غريرات تثنّي خصورها *** إذا قمن أعجاز ثقال و أسؤق
ص: 325
غرائز لم يلقين بؤس معيشة *** يجنّ بهنّ الناظر(1) المتنوّق
و غلغلت(2) من وجد إليهنّ بعد ما *** سريت و أحشائي من الخوف تخفق
معي صارم قد أخلص القين صقله *** له حين أغشيه الضّريبة رونق
فلو لا احتيالي ضقن ذرعا بزائر *** به من صبابات إليهنّ أولق(3)
تسوك بقضبان الأراك مفلّجا *** يشعشع فيه الفارسيّ(4) المروّق
أ بثنة للوصل الذي كان بيننا *** نضا مثل ما ينضوا الخضاب فيخلق
أ بثنة ما تنأين إلا كأنّني *** بنجم الثّريّا ما نأيت معلّق
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
دخلت على الرشيد يوما فقال لي: يا إسحاق، أنشدني أحسن ما تعرف في عتاب محبّ و هو ظالم متعتّب(5).
/فقلت: يا أمير المؤمنين قول جميل:
رد الماء ما جاءت بصفو ذنائبه(6) *** ودعه إذا خيضت بطرق(7) مشاربه
أعاتب من يحلو لديّ عتابه *** و أترك من لا أشتهي و أجانبه
و من لذّة الدنيا و إن كنت ظالما *** عناقك مظلوما و أنت تعاتبه
/فقال: أحسن و اللّه! أعدها عليّ؛ فأعدتها حتى حفظها، و أمر لي بثلاثين ألف درهم و تركني و قام فدخل إلى دار الحرم.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن السّعيديّ(8) قال: حدّثني رجل كان يصحب جميلا من أهل تيماء قال:
كنت يوما جالسا مع جميل و هو يحدّثني و أحدّثه، إذ ثار و تربّد وجهه، فأنكرته و رأيت منه غير ما كنت أرى، و وثب نافرا مقشعرّ الشعر متغيّر اللون، حتى أتى بناقة له قريبة من الأرض مجتمعة موثّقة الخلق فشدّ عليها رحله، ثم أتى بمحلب فيه لبن فشربه، ثم ثنّى فشربت حتى رويت؛ ثم قال لي: اشدد أداة رحلك و اشرب و اسق جملك
ص: 326
فإني ذاهب بك إلى بعض مذاهبي، ففعلت. فجال في ظهر ناقته و ركبت ناقتي، فسرنا بياض يومنا و سواد ليلتنا، ثم أصبحنا فسرنا يومنا كلّه، لا و اللّه ما نزلنا إلا للصّلاة، فلما كان اليوم الثالث دفعنا إلى نسوة فمال إليهنّ، و وجدنا الرجال خلوفا(1)، و إذا قدر لبن ثمّ و قد جهدت جوعا و عطشا. فلما رأيت القدر اقتحمت عن بعيري و تركته جانبا، ثم أدخلت رأسي في القدر ما يثنيني حرّها حتى رويت؛ فذهبت أخرج رأسي من القدر فضاقت عليّ و إذا هي على رأسي قلنسية، فضحكن منّي و غسلن ما أصابني. و أتى جميل بقرى فو اللّه ما التفت إليه. فبينا هو يحدّثهنّ إذا رواعي(2) الإبل، و قد كان السلطان أحلّ لهم دمه إن وجدوه في بلادهم؛ و جاء الناس فقالوا له: ويحك! انج و تقدّم! فو اللّه ما أكبرهم كلّ الإكبار. و غشيه الرجال فجعلوا يرمونه و يطردونه، فإذا قربوا منه قاتلهم و رمى فيهم. و هام بي جملي، فقال لي يسّر: /لنفسك مركبا خلفي، فأردفني خلفه. و لا و اللّه ما انكسر و لا انحلّ عن فرصته(3) حتى رجع إلى أهله، و قد سار ستّ ليال و ستة أيّام و ما التفت إلى طعام.
و شكا زوج بثينة إلى أبيها و أخيها إلمام جميل بها؛ فوجّهوا إلى جميل فأعذروا إليه و شكوه إلى عشيرته و أعذروا إليهم و توعّدوه و إيّاهم. فلامه أهله و عنّفوه و قالوا: استخلص إليهم و نبرأ منك و من جريرتك. فأقام مدّة لا يلمّ بها. ثم لقي ابني عمّه روقا و مسعدة، فشكا إليهما ما به و أنشدهما قوله:
زورا بثينة فالحبيب مزور *** إن الزيارة للمحبّ يسير
إنّ الترحّل، إن تلبّس أمرنا *** و اعتاقنا قدر أحمّ، بكور
- الغناء لعريب رمل بالوسطى -
إنّي عشيّة رحت و هي حزينة *** تشكو إليّ صبابة لصبور
/و تقول بت عندي فديتك ليلة *** أشكو إليك فإنّ ذاك يسير
- الغناء لسليم خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه ثقيل أوّل بالبنصر ذكر الهشاميّ أنه لمخارق، و ذكر حبش أنه لإبراهيم. و ذكر حبش أن لحن مخارق خفيف رمل -
غرّاء مبسام كأنّ حديثها *** درّ تحدّر نظمه منثور
محطوطة(4) المتنين مضمرة الحشى *** ريّا الرّوادف خلقها ممكور
/لا حسنها حسن و لا كدلالها *** دلّ و لا كوقارها توقير
ص: 327
إنّ اللسان بذكرها لموكّل *** و القلب صاد و الخواطر صور(1)
و لئن جزيت الودّ منّي مثله *** إني بذلك يا بثين جدير
فقال له روق: إنك لعاجز ضعيف في استكانتك لهذه المرأة و تركك الاستبدال بها مع كثرة النساء و وجود من هو أجمل منها، و إنّك منها بين فجور أرفعك عنه، أو ذلّ لا أحبّه لك، أو كمد يؤدّيك إلى التّلف، أو مخاطرة بنفسك لقومها إن تعرّضت(2) لها بعد أعذارهم إليك. و إن صرفت نفسك عنها و غلبت هواك فيها و تجرّعت مرارة الحزم حتى تألفها و تصبر نفسك عليها طائعة أو كارهة ألفت ذلك و سلوت. فبكى جميل و قال: يا أخي، لو ملكت اختياري لكان ما قلت صوابا، و لكني لا أملك الاختيار و لا أنا إلاّ كالأسير لا يملك لنفسه نفعا، و قد جئتك لأمر أسألك ألاّ تكدر ما رجوته عندك فيه بلوم، و أن تحمل على نفسك في مساعدتي. فقال له: فإن كنت لا بدّ مهلكا نفسك فاعمل على زيارتها ليلا؛ فإنها تخرج مع بنات عمّ لها إلى ملعب لهنّ، فأجيء معك حينئذ سرّا، و لي أخ من رهط بثينة من بني الأحبّ، نأوي عنده نهارا، و أسأله مساعدتك على هذا، فتقيم عنده أيّاما نهارك و تجتمع معها بالليل إلى أن تقضي أربك؛ فشكره. و مضى روق إلى الرجل الذي من رهط بثينة، فأخبره الخبر و استعهده كتمانه و سأله مساعدته فيه.
فقال له: لقد جئتني بإحدى العظائم؛ ويحك! إن في هذا معاداتي الحيّ جميعا إن فطن به. فقال: أنا أتحرّز في أمره من أن يظهر، فواعده في ذلك؛ و مضى إلى جميل فأخبره بالقصة، فأتيا الرجل ليلا فأقاما عنده. و أرسل إلى بثينة بوليدة له بخاتم جميل فدفعته إليها؛ فلما رأته عرفت، فتبعتها و جاءته فتحدّثا ليلتهما. و أقام بموضعه ثلاثة أيام ثم ودّعها، /و قال لها: عن غير قلى و اللّه و لا ملل يا بثينة كان وداعي لك، و لكنّي قد تذممت من هذا الرجل الكريم و تعريضه نفسه لقومه، و أقمت عنده ثلاثا و لا مزيد على ذلك، ثم انصرف. و قال في عذل روق ابن عمه إيّاه:
لقد لامني فيها أخ ذو قرابة *** حبيب إليه في ملامته رشدي
و قال أفق حتى متى أنت هائم *** ببثنة فيها قد تعيد و قد تبدي
فقلت له فيها قضى اللّه ما ترى *** عليّ و هل فيما قضى اللّه من ردّ
فإن بك رشدا حبّها أو غواية *** فقد جئته ما كان منّي على عمد
لقد لجّ ميثاق من اللّه بيننا *** و ليس لمن لم يوف اللّه من عهد
فلا و أبيها الخير ما خنت عهدها *** و لا لي علم بالذي فعلت بعدي
و ما زادها الواشون إلا كرامة *** عليّ و ما زالت مودّتها عندي
- الغناء لمتيّم ثقيل أوّل عن الهشاميّ، و ذكر ابن المعتزّ أنه لشارية، و ذكر ابن خرداذبه أنه لقلم الصالحيّة -
أ في الناس أمثالي أحبّ فحالهم *** كحالي أم أحببت من بينهم و حدي
ص: 328
و هل هكذا يلقى المحبّون مثل ما *** لقيت بها أم لم يجد أحد وجدي
و قال جميل فيها:
خليليّ عوجا اليوم حتى تسلّما *** على عذبة الأنياب طيّبة النّشر
ألمّا بها ثم اشفعا لي و سلّما *** عليها سقاها اللّه من سائغ القطر
و بوحا بذكرى عند بثنة و انظرا *** أ ترتاح يوما أم تهشّ إلى ذكرى
فإن لم تكن تقطع قوى الودّ بيننا *** و لم تنس ما أسلفت في سالف الدهر
/فسوف(1) يرى منها اشتياق و لوعة *** ببين و غرب من مدامعها يجري
و إن تك قد حالت عن العهد بعدنا *** و أصغت إلى قول المؤنّب و المزري
فسوف يرى منها صدود و لم تكن *** بنفسي من أهل الخيانة و الغدر
أعوذ بك اللّهمّ أن تشحط النّوى *** ببثنة في أدنى حياتي و لا حشري
و جاور إذا ما متّ بيني و بينها *** فيا حبّذا موتي إذا جاورت قبري
عدمتك من حبّ أ ما منك راحة *** و ما بك عنّي من توان و لا فتر
ألا أيّها الحبّ المبرّح هل ترى *** أخا كلف يغري بحبّ كما أغري
أجدّك لا تبلى و قد بلى الهوى *** و لا ينتهي حبيّ بثينة للزجر
أغري أجدّك لا تبلى و قد بلي الهوى *** و لا ينتهي حبّي بثينة للزّجر
هي البدر حسنا و النساء كواكب *** و شتّان ما بين الكواكب و البدر
لقد فضّلت حسنا على الناس مثلما *** على ألف شهر فضّلت ليلة القدر
غنّت شارية في هذين البيتين خفيف رمل من رواية ابن المعتزّ.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرنا إسحاق بن محمد بن أبان قال حدّثني الرّحال بن سعد المازنيّ قال: وقع بين جميل و بثينة هجر في غيرة كان غارها عليها من فتى كان يتحدّث إليها من بني عمها، فكان جميل يتحدّث إلى غيرها، فيشقّ ذلك على بثينة و على جميل، و جعل كلّ واحد منهما يكره أن يبدي لصاحبه شأنه. فدخل جميل يوما و قد غلبه الأمر إلى البيت الذي كان يجتمع فيه مع بثينة. فلما رأته بثينة جاءت إلى البيت و لم تبرز له؛ فجزع لذلك جميل؛ و جعل كلّ واحد منهما يطالع صاحبه؛ و قد بلغ الأمر من جميل كلّ مبلغ، /فأنشأ يقول:
/
لقد خفت أن يغتالني الموت عنوة *** و في النفس حاجات إليك كما هيا
و إني لتثنيني الحفيظة كلّما *** لقيتك يوما أن أبثّك ما بيا
ص: 329
أ لم تعلمي يا عذبة الرّيق أنّني *** أظلّ إذا لم أسق ريقك صاديا
قال: فرقّت له بثينة، و قالت لمولاة لها كانت معها: ما أحسن الصدق بأهله! ثم اصطلحا. فقالت له بثينة: أنشدني قولك:
تظلّ وراء السّتر ترنو بلحظها *** إذا مرّ من أترابها من يروقها
فأنشدها إيّاها؛ فبكت و قالت: كلاّ يا جميل! و من ترى أنه يروقني غيرك!.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبي قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال ذكر أيوب بن عباية قال: خرجت من تيماء في أغباش(1) السّحر، فرأيت عجوزا على أتان، فتكلّمت فإذا أعرابية فصيحة. فقلت: ممن أنت؟ فقالت: عذريّة. فأجريت ذكر جميل و بثينة؛ فقالت: و اللّه إنّا لعلى ماء لنا بالجناب و قد تنكّبنا الجادّة(2) لجيوش كانت تأتينا من قبل الشام تريد الحجاز، و قد خرج رجالنا لسفر و خلّفوا معنا أحداثا؛ فانحدروا ذات عشيّة إلى صرم(3)قريب منا يتحدّثون إلى جوار منهم، فلم يبق غيري و غير بثينة، إذ انحدر علينا منحدر من هضبة تلقاءنا، فسلّم و نحن مستوحشون وجلون. فتأمّلته و رددت السلام فإذا جميل. فقلت: أ جميل؟ قال: إي و اللّه؛ و إذا به لا يتماسك جوعا، فقمت إلى قعب لنا فيه أقطّ(4) مطحون و إلى عكّة(5) فيها سمن و ربّ(6)، فعصرتها على الأقط/ثم أدنيتها منه و قلت:
أصب من هذا، فأصاب منه؛ و قمت إلى سقاء فيه لبن فصببت عليه ماء باردا فشرب منه و تراجعت نفسه. فقلت له: لقد بلغت و لقيت شرّا، فما أمرك؟ قال: أنا و اللّه في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ما أريمها أنتظر أن أرى فرجة، فلما رأيت منحدر فتيانكم أتيتكم لأودّعكم و أنا عامد إلى مصر. فتحدّثنا ساعة ثم ودّعنا و شخص، فلم تطل غيبته أن جاءنا نعيه. فزعموا أنه قال حين حضرته الوفاة:
صدع(7) النّعيّ و ما كنى بجميل *** و ثوى بمصر ثواء غير قفول
و لقد أجر الذّيل في وادي القرى *** نشوان بين مزارع و نخيل
قومي بثينة فاندبي بعويل *** و ابكي خليلك دون كلّ خليل
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثني محمد بن القاسم عن الأصمعيّ قال: حدّثني رجل شهد جميلا لمّا حضرته الوفاة بمصر أنه دعاه فقال: هل لك في أن أعطيك كلّ ما أخلّفه على أن تفعل شيئا أعهده إليك؟ فقال قلت:
اللهم نعم. قال: إذا أنا متّ فخذ حلّتي هذه التي في عيبتي فاعزلها جانبا ثم كلّ شيء سواها لك، و ارحل إلى رهط بني الأحبّ من عذرة - و هم رهط بثينة - فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه و اركبها، ثم البس حلّتي هذه و اشققها
ص: 330
ثم اعل على شرف و صح بهذه الأبيات و خلاك ذمّ. ثم أنشدني هذه الأبيات:
/
صدع النّعيّ و ما كنى بجميل *** و ثوى بمصر ثواء غير قفول
- و ذكر الأبيات المتقدّمة - فلما قضى و واريته أتيت رهط بثينة ففعلت ما أمرني به جميل، فما استتممت الأبيات حتى برزت إليّ امرأة يتبعها نسوة قد فرعتهنّ/طولا و برزت أمامهن كأنها بدر قد برز في دجنّة و هي تتعثّر في مرطها(1) حتى أتتني، فقالت: يا هذا، و اللّه لئن كنت صادقا لقد قتلتني، و لئن كنت كاذبا لقد فضحتني. قلت:
و اللّه ما أنا إلاّ صادق، و أخرجت حلّته. فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها و صكّت وجهها، و اجتمع نساء الحيّ يبكين معها و يندبنه حتى صعقت فمكثت مغشيّا عليها ساعة، ثم قامت و هي تقول:
و إنّ سلوي عن جميل لساعة *** من الدّهر ما حانت و لا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر *** إذا متّ بأساء الحياة و لينها
قال: فلم أر يوما كان أكثر باكيا و باكية منه يومئذ.
أمسى الشباب مودّعا محمودا *** و الشيب مؤتنف(2) المحلّ جديدا
و تغيّر البيض الأوانس بعد ما *** حمّلتهنّ مواثقا و عهودا
عروضه من الكامل. الشعر ليزيد بن الطّثريّة، و الغناء لإسحاق، و لحنه المختار من الثقيل الأوّل بالبنصر.
و فيه لبابويه خفيف ثقيل بالوسطى، كلاهما من رواية عمرو بن بانة.
ص: 331
3 - ذكر يزيد بن الطّثريّة(1) و أخباره و نسبه
ذكر ابن الكلبيّ أنّ اسمه يزيد بن الصّمّة أحد بني سلمة الخير بن قشير. و ذكر البصريّون أنه من ولد الأعور بن قشير. و قال أبو عمرو الشّيبانيّ: اسمه يزيد بن سلمة بن سمرة بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. و إنما قيل له سلمة الخير لأنه كان لقشير ابن آخر يقال له سلمة الشّرّ. قال: و قد قيل: إنه يزيد بن المنتشر بن سلمة. و الطّثرية أمّه، فيما أخبرني به عليّ بن سليمان الأخفش عن السّكّريّ عن محمد بن حبيب، امرأة من طثر، و هم حيّ من اليمن عدادهم في جرم. و قال غيره: إن طثرا من عنز(2) بن وائل إخوة بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. و كان أبو جراد أحد بني المنتفق بن عامر بن عقيل أسر طثرا فمكث عنده زمانا ثم خلاّه و أخذ عليه إصرا(3) ليبعثنّ إليه بفدائه أو ليأتينّه بنفسه و أهله فلم يجد فداء، فاحتمل بأهله حتى دخل على أبي جراد فوسمه/سمة إبله، فهم حلفاء لبني المنتفق إلى اليوم نحو من خمسمائة رجل متفرّقين في بني عقيل يوالون(4) بني المنتفق، و هم يعيّرون ذلك(5) الوسم. و قال بعض من يهجوهم:
عليه الوسم و سم أبي جراد
و فيهم يقول يزيد بن الطّثريّة:
ألا بئسما أن تجرموني(6) و تغضبوا *** عليّ إذا عاتبتكم يا بني طثر
/و زعم بعض البصريين: أن الطّثريّة أمّ يزيد كانت مولعة بإخراج زبد اللّبن، فسمّيت الطّثريّة. و طثرة اللبن:
زبدته.
ص: 332
و يكنى يزيد أبا المكشوح(1). و كان يلقّب مودّقا؛ سمّي بذلك لحسن وجهه و حسن شعره و حلاوة حديثه، فكانوا يقولون: إنه إذا جلس بين النساء ودّقهنّ(2).
أخبرني محمد بن خلف عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
كان يزيد بن الطّثريّة يقول: من أفحم عند النساء فلينشد من شعري. قال: و كان كثيرا ما يتحدّث إلى النساء، و كان يقال: إنه عنّين.
و روى عنه(3) عبد اللّه بن عمر عن يحيى بن جابر أحد بني عمرو بن كلاب عن سعاد بنت يزيد بن زريق(4) امرأة منهم:
/أنّ يزيد بن الطّثريّة كان من أحسن من مضى وجها و أطيبه حديثا، و أنّ النساء كانت مفتونة به، و ذكر الناس أنه كان عنّينا، و ذلك أنه لا عقب له، و أنّ الناس أمحلوا(5) حتى ذهبت الدقيقة من المال و نهكت(6) الجليلة؛ فأقبل صرم(7) من جرم ساقته السّنة و الجدب من بلاده إلى بلاد بني قشير، و كان بينهم و بين بني قشير حرب عظيمة؛ فلم يجدوا بدّا من رمي قشير بأنفسهم لما قد ساقهم من الجدب و المجاعة و دقّة الأموال و ما أشرفوا عليه من الهلكة.
و وقع الربيع في بلاد بني قشير فانتجعها الناس و طلبوها؛ فلم يعد أن لقيت جرم قشيرا، فنصبت قشير لهم الحرب.
فقالت جرم: إنما جئنا مستجيرين غير محاربين. قالوا: مما ذا؟ قالوا: من السّنة و الجدب و الهلكة التي لا باقية لها.
فأجارتهم قشير و سالمتهم و أرعتهم طرفا من بلادها. و كان في جرم فتى يقال له ميّاد، و كان غزلا حسن الوجه تامّ القامة آخذا بقلوب النساء. و الغزل في جرم جائز حسن، و هو في قشير نائرة(8). فلمّا نازلت جرم قشيرا و جاورتها أصبح ميّاد الجرميّ فغدا إلى القشيريّات يطلب منهنّ الغزل و الصّبا و الحديث و استبراز الفتيات(9) عند غيبة الرّجال و اشتغالهم بالسّقي و الرّعية و ما أشبه ذلك؛ فدفعنه عنهنّ و أسمعنه ما يكره. و راحت رجالهنّ عليهنّ و هنّ مغضبات؛ فقال عجائز منهنّ: و اللّه ما ندري أرعيتم جرما المرعى أم أرعيتموهم نساءكم! فاشتدّ ذلك عليهم فقالوا: و ما إدراكنّه(10)؟ قلن: رجل منذ اليوم ظلّ مجحرا(11) لنا/ما يطلع منا(12) رأس واحدة، يدور بين بيوتنا. فقال بعضهم:
ص: 333
بيّتوا جرما فاصطلموها(1). و قال بعضهم: قبيح! قوم قد سقيتموهم مياهكم و أرعيتموهم مراعيكم و خلطتموهم بأنفسهم و أجرتموهم من القحط و السّنة تفتاتون عليهم هذا الافتيات! لا تفعلوا، و لكن تصبحوا(2) و تقدّموا إلى هؤلاء القوم في هذا الرجل، فإنه سفيه من سفهائهم فليأخذوا على يديه. فإن يفعلوا فأتمّوا لهم إحسانكم، و إن يمتنعوا و يقرّوا ما كان منه يحلّ لكم البسط عليهم و تخرجوا من ذمّتهم؛ فأجمعوا على ذلك. فلما أصبحوا غدا نفر منهم إلى جرم فقالوا: ما هذه البدعة التي قد جاورتمونا بها! إن كانت هذه البدعة سجيّة لكم فليس لكم عندنا إرعاء و لا إسقاء، فبرّزوا عنّا أنفسكم و أذنوا بحرب. و إن كان افتتانا فغيّروا(3) على من فعله. و إنهم لم يعدوا أن قالوا لجرم ذلك. فقام رجال من جرم و قالوا: ما هذا الذي نالكم؟ قالوا: رجل منكم أمس ظلّ يجرّ أذياله بين أبياتنا ما ندري علام كان أمره! فقهقهت جرم من جفاء/القشيريّين و عجرفيّتها و قالوا: إنكم لتحسّون من نسائكم ببلاء؛ ألا فابعثوا إلى بيوتنا رجلا و رجلا. فقالوا: و اللّه ما نحسّ من نسائنا ببلاء، و ما نعرف منهنّ إلا العفّة و الكرم، و لكن فيكم الذي قلتم. قالوا: فإنّا نبعث رجلا إلى بيوتكم يا بني قشير إذا غدت الرجال و أخلف النساء، و تبعثون رجلا إلى البيوت، و نتحالف أنّه لا يتقدّم رجل منّا إلى زوجة و لا أخت و لا بنت و لا يعلمها بشيء مما دار بين القوم؛ فيظلّ كلاهما في بيوت أصحابه حتى يردا علينا عشيّا الماء و تخلى لهما البيوت(4)، و لا تبرز عليهما امرأة و لا تصادق منهما واحدا فيقبل منهما صرف و لا(5) عدل إلا بموثق يأخذه عليها و علامة/تكون معه منها. قالوا: اللّهمّ نعم. فظلّوا يومهم ذلك و باتوا ليلتهم، حتى إذا كان من الغد غدوا(6) إلى الماء و تحالفوا أنّه لا يعود إلى البيوت منهم أحد دون الليل. و غدا ميّاد الجرميّ إلى القشيريّات، و غدا يزيد بن الطّثريّة القشيريّ إلى الجرميّات؛ فظل عندهنّ بأكرم مظلّ لا يصير إلى واحدة منهنّ إلا افتتنت به و تابعته إلى المودّة و الإخاء و قبض منها رهنا و سألته ألاّ يدخل من بيوت جرم إلاّ بيتها، فيقول لها: و أيّ شيء تخافين و قد أخذت منّي المواثيق و العهود و ليس لأحد في قلبي نصيب غيرك؛ حتى صلّيت العصر. فانصرف يزيد بفتخ(7) كثير [و ذبل](8) و براقع و انصرف مكحولا مدهونا شبعان ريّان مرجّل اللّمّة(9).
و ظلّ ميّاد الجرميّ يدور بين بيوت القشيريّات مرجوما مقصى لا يتقرّب إلى بيت إلا استقبلته الولائد بالعمد(10)و الجندل، فتهالك لهنّ و ظنّ أنه ارتياد(11) منهنّ له، حتى أخذه ضرب كثير بالجندل و رأى البأس(12) منهنّ و جهده العطش، فانصرف حتى جاء إلى سمرة(13) قريبا إلى نصف النهار، فتوسّد يده و نام تحتها نويمة حتى أفرجت عنه
ص: 334
الظّهيرة و فاءت الأظلال و سكن بعض ما به من ألم الضرب و برد عطشه قليلا، ثم قرب إلى الماء حتى ورد على القوم قبل يزيد، فوجد أمة تذود غنما في بعض الظّعن(1)، فأخذ برقعها فقال: هذا برقع واحدة من/نسائكم، فطرحه بين يدي القوم؛ و جاءت الأمة تعدو فتعلّقت ببرقعها فردّ عليها و خجل ميّاد خجلا شديدا. و جاء يزيد ممسيا و قد كاد القوم أن يتفرّقوا، فنثر كمّه بين أيديهم ملآن براقع [و ذبلا] و فتخا، و قد حلف القوم ألاّ يعرف رجل شيئا إلاّ رفعه. فلمّا نثر ما معه اسودّت وجوه جرم و أمسكوا بأيديهم(2) إمساكه. فقالت(3) قشير: أنتم تعرفون ما كان بيننا أمس من العهود و المواثيق و تحرّج الأموال و الأهل، فمن شاء أن ينصرف إلى حرام فليمسك يده؛ فبسط كلّ رجل يده إلى ما عرف فأخذه و تفرّقوا عن حرب؛ و قالوا: هذه مكيدة يا قشير. فقال في ذلك يزيد بن الطّثرية:
فإن شئت يا ميّاد زرنا و زرتم *** و لم ننفس(4) الدّنيا على من يصيبها
أ يذهب ميّاد بألباب نسوتي *** و نسوة ميّاد صحيح قلوبها
و قال ميّاد الجرميّ:
لعمرك إنّ جمع بني قشير *** لجرم في يزيد لظالمونا
/أ ليس الظلم أنّ أباك منّا *** و أنك في كتيبة آخرينا
أ حالفة عليك بنو قشير *** يمين الصّبر(5) أم متحرّجونا
قال: ويلي يزيد بعشق جارية من جرم في ذلك اليوم يقال لها وحشية، و كانت من أحسن النساء. و نافرتهم جرم فلم يجد إليها سبيلا، فصار من العشق إلى أن أشرف على الموت و اشتدّ به الجهد؛ فجاء إلى ابن عمّ له يقال له خليفة بن بوزل(6)، بعد اختلاف الأطبّاء إليه و يأسهم منه، فقال [له](7): يا ابن عمّ، قد تعلم أنه ليس إلى هذه المرأة سبيل، /و أنّ التعزّي أجمل، فما أربك في أن تقتل نفسك و تأثم بربّك!. قال: و ما همّي يا ابن عمّ بنفسي و ما لي فيها أمر و لا نهي، و لا همّي إلا نفس الجرميّة؛ فإن كنت تريد حياتي فأرنيها. قال: كيف الحيلة؟ قال: تحملني إليها.
فحمله إليها و هو لا يطمع في الجرميّة، إلا أنهم كانوا إذا قالوا له نذهب بك إلى وحشيّة أبلّ قليلا و راجع و طمع، و إذا أيس منها اشتدّ به الوجع. فخرج به خليفة بن بوزل فحمله فتخلّل به اليمن، حتى إذا دخل في قبيلة انتسب إلى أخرى و يخبر أنه طالب حاجة. و أبلّ حتى صلح بعض الصّلاح، و طمع فيه ابن عمّه، و صارا(8) بعد زمان إلى حيّ
ص: 335
وحشيّة فلقيا الرّعيان و كمنّا في جبل من الجبال. فجعل خليفة ينزل فيتعرّض لرعيان الشّاء فيسألهم عن راعي وحشيّة(1)، حتى لقي غلامها و غنمها؛ فواعدهم موعدا و سألهم ما حال وحشيّة؟ فقال غلامها: هي و اللّه بشرّ! لا حفظ اللّه بني قشير و لا يوما رأيناهم فيه! فما زالت عليلة منذ رأيناهم - و كان بها طرف مما بابن الطّثريّة - فقال:
ويحك! فإنّ هاهنا إنسانا يداويها، فلا تقل لأحد غيرها. قال: نعم إن شاء اللّه تعالى. فأعلمها الراعي ما قال له الرجل حين صار إليها. فقالت له: ويحك! فجيء به. ثم إنه خرج فلقيه بالغد فأعلمه، و ظلّ عنده يرعى غنمه، و تأخّر عن الشاء حتى تقدمته الشاء و جنح الليل، و انحدر بين يدي غنمه حتى أراحها(2). و مشى فيها يزيد حتى(3) قربت من البيت على أربع و تجلّل شملة سوداء بلون شاة من الغنم؛ فصار إلى وحشية، فسرّت به سرورا شديدا، و أدخلته سترا لها و جمعت عليه من الغد من تثق به من صواحباتها و أترابها. و قد كان عهد إلى ابن عمّه أن يقيم/في الجبل ثلاث ليال، فإن لم يره فلينصرف. فأقام يزيد عندها ثلاث ليال و رجع إلى أصحّ ما كان عليه، ثم انصرف فصار إلى صاحبه. فقال: ما وراءك يا يزيد؟ و رأى من سروره و طيب نفسه ما سرّه. فقال:
لو أنّك شاهدت الصّبا يا ابن بوزل *** بفرع الغضى إذ راجعتني غياطله(4)
لشاهدت لهوا بعد شحط من النّوى *** على سخط الأعداء حلوا شمائله
و يوما كإبهام(5) القطاة مزيّنا *** لعيني ضحاه غالبا لي باطله
غنى في البيت الثالث و بعده البيت الثاني، و روايته:
تشاهد لهوا بعد شحط من النوى مخارق ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن عمرو قال حدّثني عليّ بن الصبّاح قال:
قال أبو محضة(6) الأعرابيّ و أنشد هذه الأبيات ليزيد/بن الطّثرية، فلمّا بلغ إلى قوله:
بنفسي من لو مرّ برد بنانه *** على كبدي كانت شفاء أنامله
و من هابني في كل أمر و هبته *** فلا هو يعطيني و لا أنا سائله
طرب(7) لذلك و قال: هذا و اللّه من مغنج الكلام.
ص: 336
و نسخت من كتاب الحسن بن عليّ: حدّثنا عبد اللّه بن عمرو قال حدّثني هشام بن محمد بن موسى قال حدّثنا عبد اللّه بن إبراهيم الطائيّ قال حدّثني عبد اللّه بن روح الغنويّ قال حدّثتني ظبية بنت وزير الباهليّة قالت(1):
كتب يزيد بن الطّثريّة إلى وحشيّة:
أحبّك أطراف النهار بشاشة *** و باللّيل يدعوني الهوى فأجيب
لئن أصبحت ريح المودّة بيننا *** شمالا لقدما كنت و هي جنوب
فأجابته بقولها:
أحبّك حبّ اليأس إن نفع الحيا(2) *** و إن لم يكن لي من هواك طبيب
أخبرني يحيى بن عليّ إجازة عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني هانئ بن سعد:
أنّ ابن الطّثريّة و ابن بوزل، و هو قطريّ(3) بن بوزل، خرجا يسيران حتى نزلا برملة حائل(4) بين قفار الملح؛ فقال يزيد لابن بوزل: اذهب فاسق راحلتك و اسقنا. فلمّا جاوز أوفى يزيد على أجرع(5)، فرأى أشباحا فأتاها.
فقيل له: هذه و اللّه فلانة و أهلها عجيبة بها (أي معجبون بها). فأتاها فظلّ عشيّته و بات ليلته و أقام الغد حتى راح عشيّا و قد لقي ابن بوزل كلّ شرّ و مات غيظا. فلما دنا منه قال:
لو أنّك شاهدت الصّبا يا ابن بوزل *** بجزع الغضى إذ راجعتني غياطله
/بأسفل خلّ(6) الملح إذ دين ذي الهوى *** مؤدّى و إذ خير الوصال(7) أوائله
لشاهدت يوما بعد شحط من النّوى *** و بعد تنائي الدار حلوا شمائله
- و قد روي:
و غيم(8) الصّبا إذ راجعتني غياطله فاخترط(9) سيفه ابن بوزل؛ و حاوطه(10) يزيد بعصاه(11)، ثم اعتذر إليه و أخبره خبره فقبل منه. و قد روى هذه الأبيات أبو عمرو الشّيبانيّ و غيره فزاد فيها على إسحاق هذه الأبيات:
ص: 337
ألا حبّذا عيناك يا أمّ شنبل *** إذا الكحل في جفنيهما جال جائله
فداك من الخلاّن كلّ ممزّج(1) *** تكون لأدنى من يلاقي و سائله(2)
فرحنا(3) تلقّانا به أمّ شنبل *** ضحيّا و أبكتنا عشيّا أصائله
و كنت كأنّي حين كان كلامها *** وداعا و خلّى موثق العهد حامله
رهين(4) بنفس لم تفكّ كبوله *** عن الساق حتى جرد السيف قاتله
فقال دعوني سجدتين و أرعدت *** حذار الرّدى أحشاؤه و مفاصله(5)
/قال إسحاق و قال أبو عثمان سعيد بن طارق:
نزلت سارية(6) من بني سدرة على بني قشير بمالهم؛ فجعلت فتيان قشير تترجّل و تتزيّن و تزور بيوت سدرة.
فاستنهوهم(7)؛ فقال يزيد بن/الطّثريّة: و ما في هذا عليكم! زوروا بيوتنا كما نزور بيوتكم، و قال:
دعوهنّ يتبعن الصّبا و تبادلوا *** بنا ليس بأس بيننا بالتّبادل
ثم إنّ بني سدرة قالوا لنسائهم: ويحكنّ فضحتنّنا! نأتي نساء هؤلاء فلا نقدر عليهنّ و يأتونكنّ فلا تحتجبن عنهم.
فقالت كهلة منهنّ: مروا نساءكم يجتمعن إلى بيتي، فإذا جاءوا لم يجدوا امرأة إلا عندي، فإن يزيد أتاني لم يعد في بيوتكم ففعلوا. فجاء يزيد فقال:
سلام عليكنّ الغداة فما لنا *** إليكنّ إلا أن تشأن سبيل
فقالت الكهلة: و من أنت؟ فقال:
أنا الهائم الصّبّ الذي قاده الهوى *** إليك فأمسى في حبالك مسلما
برته دواعي الحبّ حتى تركنه *** سقيما و لم يتركن لحما و لا دما
فقالت: اختر إحدى ثلاث خصال: إمّا أن تمضي ثم ترجع علينا فإنّا نرقب عيون الرجال فإنهم قد سبّونا فيك؛ و إمّا أن تختار أحبّنا إليك، و أن تطلب امرأة واحدة خير من أن يشهرك الناس، و نسي الثالثة. فقال: سآخذ إحداهن، فاختاري أنت إحدى ثلاث خصال. قالت: و ما هنّ؟ قال: إما أن أحملك على مرضوف(8) من أمري فتركبيه، و إما
ص: 338
أن تحمليني على مشروج(1) من أمرك فأركبه، و إما أن تلزّي بكري/بين قلوصيك. قالت: لو وقع بكرك بين قلوصيّ لطمرتا(2) به طمرة يتطامن(3) عنقه منها. قال: كلاّ! إنه شديد الوجيف(4)، عارم الوظيف(5)، فغلبها. فلما أتاها القوم قالت لهم: إنه أتاني رجل لا تمتنع عليه امرأة. فإمّا أن تغمضوا له، و إمّا أن ترحلوا عن مكانكم هذا؛ فرحلوا و ذهبوا. فقال حكيم بن أبي الخلاف السّدريّ في قصيدة له يذكر أنه إنما ارتحلوا عنهم لأنهم آذوهم بكثرة ما يصنعون بهم:
فكان الذي تهدون للجار منكم *** بخاتج حبّات(6) كثيرا سعالها
قال إسحاق فأخبرني الفزاريّ: أنّ قوما من بني نمير و قوما من بني جعفر تزاوروا؛ فزار شبّان من بني جعفر بيوت بني نمير، فقبلوا و حدّثوا، و زار بنو نمير بني جعفر فلم يقبلوا؛ فاستنجدوا ابن الطّثريّة فزار معهم بيوت بني جعفر، فأنشدهنّ و حدّثهنّ فأعجبن به و اجتمعن إليه من البيوت. فتوعّد(7) بنو جعفر ابن الطّثريّة، فتتاركوا و أمسك بعضهم عن بعض. فأرسلت أسماء الجعفريّة إلى ابن الطّثريّة أن لا تقطعني، و إن منعت فإنّي سأتخلّص إلى لقائك.
فأنشأ يقول:
خليليّ بين المنحنى من مخمّر(8) *** و بين اللّوى من عرفجاء(9) المقابل
قفا بين أعناق اللّوى(10) لمرية *** جنوب تداوي غلّ شوق مماطل
/لكيما أرى أسماء أو لتمسّني *** رياح بريّاها لذاذ الشّمائل
لقد حادلت(11) أسماء دونك باللّوى *** عيون العدا سقيا لها من محادل
و دسّت رسولا أنّ حولي عصابة *** هم الحرب(12) فاستبطن سلاح المقاتل
/عشيّة مالي من نصير بأرضها *** سوى السّيف ضمّته إليّ حمائلي
فيا أيّها الواشون بالغشّ بيننا *** فرادى و مثنى من عدوّ و عاذل
ص: 339
دعوهن يتبعن الهوى و تبادلوا *** بنا، ليس بأس بيننا بالتّبادل
تروا حين نأتيهنّ نحن و أنتم *** لمن و على من وطأة المتثاقل
و من عرّيت للّهو قدما ركابه *** و شاعت قوافي شعره في القبائل
تبرّز وجوه السابقين و يختلط *** على المقرف(1) الكافي غبار القنابل
فإن تمنعوا أسماء أو يك نفعها *** لكم أو تدبّوا بيننا بالغوائل
فلن(2) تمنعوني أن أعلّل صحبتي *** على كل شيء(3) من مدى العين قابل(4)
قال إسحاق و حدّثني أبو زياد الكلابيّ:
أن يزيد بن الطّثرية كان شريفا متلافا يغشاه الدّين؛ فإذا أخذ به قضاه عنه أخ له يقال له ثور، ثم إنه كثر عليه دين لمولى لعقبة بن شريك الحرشيّ يقال له البربريّ فحبسه له عقبة بالعقيق من بلاد بني عقيل، و عقبة عليها يومئذ أمير. و قال المفضّل بن سلمة قال أبو عمرو الشّيبانيّ: كان يزيد قد هرب منه، فرجع إليه من حبّ/أسماء، و كانت جارة البربريّ، فأخذه البربريّ. و يقال: إنه أعطاه بعيرا من إبل ثور أخيه. فقال يزيد في السجن:
قضى غرمائي حبّ أسماء بعد ما *** تخوّنني ظلم لهم(5) و فجور
فلو قلّ دين البربريّ قضيته *** و لكنّ دين البربريّ كثير
و كنت إذا حلّت عليّ ديونهم *** أضمّ جناحي منهم فأطير
عليّ لهم في كل شهر أديّة(6) *** ثمانون واف نقدها و جزور
نجيء(7) إلى ثور ففيم رحيلنا *** و ثور علينا في الحياة صبور
أشدّ على ثور و ثور إذا رأى *** بنا خلّة جزل العطاء غفور
فذلك دأبي ما بقيت و ما مشى *** لثور على ظهر البلاد بعير
و يروى: «فهذا له ما دمت حيّا» ثم إن عقبة حجّ على جمل له يقال له ابن الكميت أنجب ما ركب الناس، و ثبت ابن
ص: 340
الطّثرية في السجن حتى انصرف عقبة بن شريك من مكة، فأرسل ابن الكميت في مخاضه(1) مستقبلة الرّبيع و هي حاضرة العقيق، تأكل الغضى و تشرب بأحسائه(2)، و انحدر عقبة نحو اليمامة و عليها المهاجر بن عبد اللّه الكلابيّ.
فلمّا ضاقت بابن الطّثريّة المخارج قال له صاحب له: لا أعلم لك أنجى إن قدرت على الخروج من السجن إلا أن تركب ابن الكميت فينجيك نحو بلد من البلاد. فلم يزل حتى جعل للحدّاد(3)، على أن يرسله ليلة إلى ابن عمّه، جعلا؛ فشكا إليه وجده/بها فأرسله. فمضى يزيد نحو الإبل عشاء فاحتكم ابن الكميت حتى جلس عليه فوجهه قصد اليمامة يريد عقبة بن شريك؛ و قال في طريقه:
لعمري إن ابن الكميت على الوجا(4) *** و سيري خمسا بعد خمس مكمّل
/لطلق الهوادي بالوجيف إذا ونى *** ذوات البقايا(5) و العتيق الهمرجل
فورد اليمامة فأناخ بابن الكميت على باب المهاجر(6)، فكان أوّل من خرج عليه عقبة بن شريك. فلما نظر إليه عرفه و عرف الجمل فقال: ويحك! أ يزيد أنت؟ قال نعم و هذا ابن الكميت؟ قال نعم قال: ويحك!. فما شأنك؟ قال: يا عقبة، فارّ منك إليك؛ و أنشده قصيدته التي يقول فيها:
يا عقب قد شذب اللّحاء عن العصا *** عنّي و كنت مؤزّرا محمودا
صل لي جناحي و اتّخذني(7) عدّة *** ترمي بي المتعاشي الصّنديدا
فقال له عقبة - و كانت من خير فعلة علمناه فعلها -: أشهدكم أنّي قد أبرأته من دين البربريّ و أن له ابن الكميت؛ و أمره أن يحتكم فيما سوى ذلك من ماله. و هذان البيتان من القصيدة التي أوّلها:
أمسى الشباب مودّعا محمودا و هي من جيّد شعره، يقول فيها:
و مدلّة(8) عند التبذّل(9) يفتري(10) *** منها الوشاح(11) مخصّرا أملودا
/نازعتها غنم الصّبا إنّ الصّبا *** قد كان منّي للكواعب عيدا
يا للرّجال و إنما يشكو الفتى *** مرّ الحوادث أو يكون جليدا
ص: 341
بكرت نوار تجدّ(1) باقية القوى *** يوم الفراق و تخلف الموعودا
و لربّ أمر هوى يكون ندامة *** و سبيل مكرهة يكون رشيدا
ثم قال يفخر:
لا اتّقي حسك(2) الضّغائن بالرّقى *** فعل الذّليل و إن بقيت وحيدا
لكن أجرّد للضغائن مثلها *** حتى تموت و للحقود حقودا
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد قال حدّثنا عليّ بن الصّباح قال:
قال أبو محضة الأعرابيّ و أنشد هذه الأبيات ليزيد بن الطّثرية: هي و اللّه من مغنج الكلام:
بنفسي من لو مرّ برد بنانه *** على كبدي كانت شفاء أنامله
و من هابني في كلّ شيء و هبته *** فلا هو يعطيني و لا أنا سائله
و هذه الأبيات من قصيدته التي قالها في وحشيّة الجرميّة التي مضى ذكرها.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثتني ظبية قالت:
مرّ يزيد بن الطّثريّة بأعداء له؛ فأرادوه و هو على راحلته فركضها و ركضوا الإبل على أثره؛ فخشي أن يدركوه و كانت(3) نفسه عنده أوثق من الراحلة، فنزل فسبقهم عدوا، و أدركوا الراحلة فعقروها. فقال في ذلك:
/
ألا هل أتى ليلى على نأي دارها *** بأن لم أقاتل يوم صخر(4) مذوّدا
و أنّي أسلمت الرّكاب فعقّرت *** و قد كنت مقداما بسيفي مفردا
/أثرت فلم أسطع قتالا و لا ترى *** أخا شيعة يوما كآخر أوحدا(5)
فهل تصرمنّ الغانيات مودّتي *** إذا قيل قد هاب المنون فعرّدا(6)
أخبرني يحيى إجازة عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أبي زياد قال:
كان يزيد بن الطّثريّة يتحدّث إلى نساء فديك بن حنظلة الجرميّ، و منزلهما بالفلج(7) فبلغ ذلك فديكا فشقّ عليه فزجر نساءه عن ذلك، فأبين إلاّ أن يدخل عليهنّ يزيد. فدخل عليهنّ فديك ذات يوم و قد جمعهنّ جميعا
ص: 342
أخواته و بنات عمّه و غيرهن من حرمه، ثم قال لهنّ: قد بلغني أنّ يزيد دخل عليكنّ و قد نهيتكنّ عنه، و إن للّه عليّ نذرا واجبا - و اخترط سيفه - إن لم أضرب أعناقكنّ به. فلما ملأهنّ رعبا ضرب عنق غلام له مولّد يقال له عصام فقتله، ثم أنشأ يقول:
جعلت عصاما عبرة حين رابني *** أناسيّ من أهلي مراض قلوبها
ثم إنّ فديكا رأى يزيد قائما عند باب أهله، فظنّ أنه يواعد بعض نسائه، فارتصده على طريقه(1) و أمر بزبية(2)فحفرت على الطريق ثم أوقد فيها نارا ليّنة ثم اختبأ في مكان و معه عبدان له و قال لهما: تبصّرا هل تريان أحدا؛ فلم يلبثا إلاّ قليلا حتى خرجت بنت أخي فديك، و كان يقال لها وحشيّة، تتهادى في برودها لميعاد يزيد؛ فأيقظه /العبدان؛ و مضت حتى وقعت على الزّبية فاحترق بعضها، و أمر بها فأخرجت، و احتملها العبدان فانطلقا بها إلى داره. فقال فديك:
شفى النفس من وحشيّة اليوم أنّها *** تهادى و قد كانت سريعا عنيقها(3)
فإلاّ تدع خبط الموارد في الدّجى *** تكن قمنا(4) من غشية لا تفيقها
دواء طبيب كان يعلم أنّه *** يداوي المجانين المخلّى طريقها
فبلغ ذلك يزيد فقال:
ستبرأ من بعد الضّمانة(5) رجلها *** و تأتي الذي تهوى مخلّى طريقها
عليّ هدايا البدن إن لم ألاقها *** و إن لم يكن إلا فديك يسوقها
يحصّنها منّي فديك سفاهة *** و قد ذهبت فيها الكباس(6) و حوقها
تذيقونها شيئا من النّار كلّما *** رأت من بني كعب غلاما يروقها
قال: و إنما كانت وضعت رجلها فأحرقتها النار.
و قال يزيد أيضا:
يا سخنة العين(7) للجرميّ إذ جمعت *** بيني و بين نوار وحشة الدار
خبّرتهم عذّبوا بالنار جارتهم *** و من يعذّب غير اللّه بالنار
فبلغ ذلك فديكا فقال:
ص: 343
أ حالفة عليك بنو قشير *** يمين الصّبر(1) أم متحرّجونا
/ - و يروى: يمين اللّه -
فإن تنكل قشير تقض جرم *** و تقض لها(2) مع الشبه اليقينا
أ ليس الجور أنّ أباك منّا *** و أنّك في قبيلة آخرينا
/لعمر اللّه أنّ بني قشير *** لجرم في يزيد لظالمونا
فإلاّ يحلفوا فعليك شكل(3)*** و نجر(4) ليس مما يعرفونا
و أعرف فيك سيّما آل صقر *** و مشيتهم إذا يتخيّلونا
قال: و كانت جرم تدّعيه، و قشير تدّعيه؛ فأراد أن يخبر أنه دعيّ.
و قال فديك بن حنظلة يهجوه:
و إنّا لسيّارون بالسّنّة التي *** أحلّت(5) و فينا جفوة حين نظلم
و منّا الذي لاقته أمّك خاليا *** فلم تدر ما أيّ الشهور المحرّم
فقال يزيد يهجو فديكا:
أنعت عيرا من عيور القهر *** أقمر من شرّ خمير قمر(6)
صبّح أبيات فديك يجري *** منزلة اللّؤم و دار الغدر
فلقيته عند باب العقر(7) *** ينشطها و الدّرع عند الصّدر
نشطك بالدّلو قراح الجفر(8)
أخبرنا يحيى بن عليّ إجازة عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثنا أبو الحارث هانئ بن سعد الخفاجيّ قال:
/ذكرت ليزيد بن الطّثريّة امرأة حدثة جميلة؛ فخرج حتى يدفع إليها، فوجد عندها رجلين قاعدين يتحدّثان، فسلّم عليهم؛ فأوجست أنه يزيد و لم تتثبّت(9)، و رأت عليه مسحة. فقالت: أيّ ريح جاءت بك يا رجل؟ قال:
ص: 344
الجنوب. قالت: فأيّ طير جرت لك الغداة؟ قال: عنز زنمة(1) رأيتها يداورها ثعلبان؛ فانقضّ عليها سرحان(2) فراغ الثعلبان. قال: فطفرت وراء سترها، و عرفت أنه يزيد.
قال إسحاق و حدّثني عطرّد قال:
قال قطريّ بن بوزل ليزيد بن الطّثريّة: انطلق معي إلى فلانة و فلانة فإنهنّ يبرزن لك و يستترن عنّي، عسى أن أراهنّ اليوم على وجهك. فذهب به معه، فخرج عليهما النّسوة و ظلاّ يتحدّثان عندهن حتّى تروّحا. و قال يزيد في ذلك:
على قطريّ نعمة إن جرى بها *** يزيد و إلاّ يجزه اللّه لي أجرا
دنوت به حتّى رمى الوحش بعد ما *** رأى قطريّ من أوائلها نفرا
أخبرنا يحيى إجازة عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن عطرّد قال:
نزل نفر من صداء(3) بناحية العقيق، و هو منزل ابن الطّثريّة، نصف النهار فلم يأتهم أحد؛ فأبصرهم ابن الطّثريّة فمرّ عليهم و هو منصرف و ليسوا قريبا من أهله. فلما رآهم مرملين(4) أنفذ إليهم هديّة و مضى على حياله و لم يراجعهم. فسألوا عنه بعد حتى عرفوه، فحلا عندهم و أعجبهم. ثم إنّ فتى منهم وادّه فآخاه فأهدى له بردا و جبّة /و نعلين. ثم أغار المقدّم بن عمرو بن همّام بن مطرّف بن الأعلم بن ربيعة بن عقيل على ناس من خثعم. و في ذلك يقول الشاعر:
مغار ابن همّام على حيّ خثعما
فأخذ منهم إبلا و رقيقا، و كانت فيهنّ جارية من حسان الوجوه، و كان يهواها الذي آخى يزيد، فأصابه عليها بلاء عظيم حتى نحل جسمه و تغيّرت حاله؛ فأقبل الفتى حتّى نزل العقيق متنكّرا؛ فشكا إلى يزيد ما أصابه في تلك الجارية. /فقال: أ فيك خير؟ قال نعم. قال: فإنّي أدفعها إليك. فخبأه في عريش له أيّاما حتى خطف الجارية فدفعها إليه. فبعث إليها قطريّ بن بوزل، فاعترض لها بين أهلها و بين السوق فذهب بها حتى دفعها إليه و قد وطّن له ناقة مفاجّة(5) فقال: النّجاة فإنك لن تصبح حتى تخرج من بلاد قشير و تصير إلى دار نهد فقد نجوت؛ و أنا أخفي أثرك فعفّى أثره، و قال لابنة خمّارة كان يشرب عندها: اسحبي ذيلك على أثره ففعلت. ثم بحث على ذلك حتى
ص: 345
قيل: قد كان قطريّ أحدث الناس بها عهدا؛ فاستعدى عليه فظفر بيزيد فأخذ مكانه فحبس بحجر(1)، حبسه المهاجر. ففي ذلك يقول يزيد:
ألا لا أبالي إن نجا لي ابن بوزل *** ثوائي و تقييدي بحجر لياليا
إذا حمّ أمر فهو لا بدّ واقع *** له لا أبالي ما عليّ و لا ليا
هو العسل الماذيّ طورا و تارة *** هو السّمّ و الذّيفان(2) و اللّيث عاديا
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب عن محمد بن سلاّم الجمحيّ قال حدّثني أبو الغرّاف قال.
/كان يزيد بن الطّثريّة صاحب غزل و محادثة للنساء، و كان ظريفا جميلا من أحسن الناس كلّهم شعرا، و كان أخوه ثور سيّدا كثير المال و النّخل و الرّقيق، و كان متنسّكا كثير الحج و الصّدقة كثير الملازمة لإبله و نخله، فلا يكاد يلمّ بالحيّ إلا الفلتة(3) و الوقعة، و كانت إبله ترد مع الرّعاء على أخيه يزيد بن الطّثريّة فتسقى على عينه. فبينا يزيد مارّ(4) في الإبل و قد صدر عن الماء إذ مرّ بخباء فيه نسوة من الحاضر؛ فلما رأينه قلن: يا يزيد، أطعمنا لحما.
فقال: اعطينني سكّينا فأعطينه، و نحر لهنّ ناقة من إبل أخيه. و بلغ الخبر أخاه؛ فلما جاءه أخذ بشعره و فسّقه و شتمه. فأنشأ يزيد يقول:
يا ثور لا تشتمن عرضي فداك أبي *** فإنما الشتم للقوم العواوير(5)
ما عقر ناب لأمثال الدّمى خرد *** عين كرام و أبكار معاصير(6)
عطفن حولي يسألن القرى أصلا *** و ليس يرضين منّي بالمعاذير
هبهنّ ضيفا عراكم بعد هجعتكم *** في قطقط(7) من سقيط(8) اللّيل منثور(9)
و ليس قربكم شاء و لا لين *** أ يرحل الضيف عنكم غير مجبور
ما خير واردة للماء صادرة *** لا تنجلي عن عقير(10) الرّجل(11) منحور
ص: 346
أخبرني أبو خليفة قال ابن سلاّم:
كان يزيد بن الطّثريّة يتحدّث إلى امرأة و يعجب بها. فبينما هو عندها إذ حدث لها شابّ سواه قد طلع عليه، ثم جاء آخر ثم آخر، فلم يزالوا كذلك حتى تمّوا سبعة و هو الثامن؛ فقال:
أرى سبعة يسعون للوصل كلّهم *** له عند ليلى دينة يستدينها
فألقيت سهمي وسطهم حين أوخشوا(1) *** فما صار لي من ذاك إلاّ ثمينها
و كنت عزوف النّفس أشنأ أن أرى *** على الشّرك من ورهاء طوع قرينها(2)
فيوما تراها بالعهود وفيّة *** و يوما على دين ابن خاقان دينها
/يدا بيد من جاء بالعين منهم *** و من لم يجيء بالعين حيزت رهونها
و قال فيها و قد صارمها:
ألا بأبي من قد برى الجسم حبّه *** و من هو موموق إليّ حبيب
و من هو لا يزداد إلا تشوّقا *** و ليس يرى إلاّ عليه رقيب
و إنّي و إن أحموا(3) عليّ كلامها *** و حالت أعاد دونها و حروب
لمثن على ليلى ثناء يزيدها *** قواف بأفواه الرّواة تطيب
أ ليلى احذري نقض القوى لا يزل لنا *** على النأي و الهجران منك نصيب
و كوني على الواشين لدّاء شغبة *** كما أنا للواشي ألدّ شغوب
فإن خفت ألا تحكمي مرّة القوى *** فردّي فؤادي و المزار قريب
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمه عن رجل من بني عامر ثم من بني خفاجة قال:
استعدت جرم على ابن الطّثريّة في وحشيّة (امرأة منهم كان يشبّب بها) فكتب بها صاحب اليمامة إلى ثور أخي يزيد بن الطّثريّة و أمره بأدبه، فجعل عقوبته حلق لمّته فحلقها، فقال يزيد:
أقول لثور و هو يحلق لمّتي *** بحجناء(4) مردود عليها نصابها
ص: 347
- قال عبد الرحمن: كان عمّي يحتجّ في تأنيث الموسى بهذا البيت -
ترفّق بها يا ثور ليس ثوابها *** بهذا و لكن غير هذا ثوابها
ألا ربّما يا ثور قد غلّ(1) وسطها *** أنامل رخصات حديث خضابها
و تسلك(2) مدرى العاج في مدلهمّة *** إذا لم تفرّج مات غمّا صوابها
فراح بها ثور ترفّ(3) كأنها *** سلاسل درع خيرها(4) و انسكابها
منعّمة كالشّرية(5) الفرد جادها *** نجاء الثّريّا هطلها و ذهابها
/فأصبح رأسي كالصّخيرة أشرفت *** عليها عقاب ثم طارت عقابها
و نظير هذا الخبر أخبار من حلقت جمّته فرثاها، و ليس من هذا الباب، و لكن يذكر الشيء بمثله:
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عبد الرحمن عن عمه قال:
شرب طخيم الأسديّ بالحيرة، فأخذه العبّاس بن معبد المرّيّ، و كان على شرط يوسف بن عمر، فحلق رأسه؛ فقال:
و بالحيرة البيضاء شيخ مسلّط *** إذا حلف الأيمان باللّه برّت
لقد حلقوا منّا غدافا كأنها *** عناقيد كرم أينعت فاسبطرّت(6)
يظلّ العذارى حين تحلق لمّتي *** على عجل يلقطنها حين جزّت
أخبرني محمد عن(7) عبد الرحمن عن عمه عن بعض بني كلاب قال:
أخذ فتى منّا مع بعض فتيات الحيّ، فحلق رأسه فقال:
يا لمّتي و لقد خلقت(8) جميلة *** و كرمت حين أصابك الجلمان
ص: 348
/
أمست تروق الناظرين و أصبحت *** قصصا(1) تكون(2) فواصل المرجان
أخبرني وكيع قال حدّثني عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى قال حدّثنا أبو محلّم قال:
كان ليزيد بن الطّثريّة أخ يقال له ثور أكبر منه، فكان يزيد يغير على ماله و يتلفه، فيتحمّله ثور لمحبته إيّاه.
فقال يزيد في ذلك:
/
نغير على ثور و ثور يسرّنا *** و ثور علينا في الحياة صبور
و ذلك دأبي ما حييت و ما مشى *** لثور على عفر التّراب بعير
و قتل يزيد بن الطّثريّة في خلافة بني العبّاس(3)، قتلته بنو حنيفة.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد السّكّريّ عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل بن سلمة عن أبي عبيدة و ابن الكلبيّ، و أخبرنا يحيى بن عليّ عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أبي الجرّاح العقيلي قال:
أغارت بنو حنيفة على طائفة من بني عقيل و معهم رجل من بني قشير جار لهم؛ فقتل القشيريّ و رجل من بني عقيل و اطّردت(4) إبل من العقيليّين؛ فأتى الصّريخ(5) عقيلا فلحقوا القوم فقاتلوهم فقتلوا من بني حنيفة رجلا و عقروا أفراسا ثلاثة من خيل حنيفة و انصرفوا، فلبثوا سنة. ثم إن عقيلا انحدرت منتجعة من بلادها إلى بلاد بني تميم، فذكر لحنيفة و هم بالكوكبة(6) و القيضاف، فغزتهم حنيفة، و حذر العقيليّون و أتتهم النّذر من نمير فانكشفوا فلم يقدروا عليهم؛ فبلغ ذلك من بني عقيل و تلهفوا على بني حنيفة، فجمعوا جمعا ليغزوا حنيفة، ثم تشاوروا.
فقال بعضهم: لا تغزوا قوما/في منازلهم و دورهم فيتحصّنوا دونكم و يمتنعوا منكم، و لا نأمن أن يفضحوكم، فأقاموا بالعقيق. و جاءت حنيفة غازية كعبا لا تتعدّاها حتى وقعت بالفلج، فتطاير الناس، و رأس حنيفة يومئذ المندلف، و جاء صريخ كعب إلى أبي لطيفة بن مسلم العقيليّ و هو بالعقيق أمير عليها؛ فضاق بالرسول ذرعا و أتاه
ص: 349
هول شديد، فأرسل في عقيل يستمدّها؛ فأتته ربيعة بن عقيل و قشير بن كعب و الحريش بن كعب و أفناء خفاجة، و جاش(1) إليه الناس؛ فقال: إني قد أرسلت طليعة فانتظروها حتى تجيء و نعلم ما تشير(2) به. قال أبو الجرّاح:
فأصبح صبح ثالثة على فرس له يهتف: أعزّ اللّه نصركم و أمتعنا بكم! انصرفوا راشدين فلم يكن بأس؛ فانصرف الناس؛ و صار في بني عمّه و رهطه دنية. و إنما فعل ذلك لتكون له السّمعة و الذّكر. فكان فيمن سار معه القحيف بن خمير(3) و يزيد بن الطّثريّة الشاعران؛ فساروا حتى واجهوا القوم، فواقعوهم، فقتلوا المندلف، رموه في عينه، و سبوا و أسروا و مثّلوا بهم و قطعوا أيدي اثنين منهم و أرسلوهما إلى اليمامة و صنعوا(4) ما أرادوا. و لم يقتل ممن كان مع أبي لطيفة غير يزيد بن الطّثريّة، نشب ثوبه في جذل(5) من عشرة فانقلب، و خبطه القوم فقتل. فقال القحيف يرثيه:
ألا نبكي سراة بني قشير *** على صنديدها و على فتاها
فإن يقتل يزيد فقد قتلنا *** سراتهم الكهول على لحاها
/أبا المكشوح بعدك من يحامي *** و من يزجي المطيّ على وجاها
/و قال القحيف أيضا يرثيه:
إن تقتلوا منّا شهيدا صابرا *** فقد تركنا منكم مجازرا
عشرين لمّا يدخلوا المقابرا *** قتلى أصيبت قعصا(6) نحائرا
نعجا(7) ترى أرجلها شواغرا و هذه من رواية ابن حبيب وحده. و قال القحيف أيضا و لم يروها إلا ابن حبيب:
يا عين بكّي هملا على همل *** على يزيد و يزيد بن حمل
قتّال أبطال و جرّار حلل قال: و يزيد بن حمل قشيريّ قتل يومئذ أيضا. و قالت زينب بنت الطّثريّة ترثي أخاها يزيد - و عن أبي عمرو الشّيبانيّ أنّ الأبيات لأمّ يزيد، قال: و هي من الأزد. و يقال: إنها لوحشيّة الجرميّة: -
أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري *** مقيما و قد غالت يزيد غوائله
ص: 350
فتى قد قد السّيف لا متضائل *** و لا رهل لبّاته و بآدله(1)
فتى لا ترى قد القميص بخصره *** و لكنّما توهي القميص كواهله
إذا نزل الضّيفان كان عذوّرا(2) *** على الحيّ حتى تستقلّ مراجله
يسرّك(3) مظلوما و يرضيك ظالما *** و كلّ الذي حمّلته فهو حامله
/إذا جدّ عند الجد(4) أرضاك جدّه *** و ذو باطل إن شئت ألهاك باطله
إذا القوم أمّوا بيته فهو عامد *** لأفضل ما أمّوا له فهو فاعله(5)
مضى و ورثناه دريس مفاضة(6) *** و أبيض هنديّا طويلا حمائله
و قد كان يحمي المحجرين(7) بسيفه *** و يبلغ أقصى حجرة(8) الحيّ نائله
فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى *** بصاحبه يوما دما فهو آكله
سيبكيه مولاه إذا ما ترفّعت *** عن الساق عند الرّوع يوما ذلاذله
الذّلذل(9): هدب الثياب.
و قد أخبرنا الحرميّ عن الزّبير عن عمر بن إبراهيم السّعديّ عن عباس بن عبد الصمد قال:
قال هشام بن عبد الملك للعجير السّلوليّ: أصدقت فيما قلت في ابن عمّك(10)؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ألا إنّي قلت:
فتى قد قد السيف لا متضائل *** و لا رهل لبّاته و أباجله(11)
/فذكر هذا البيت وحده و نسبه إلى العجير السّلوليّ من الأبيات المنسوبة إلى أخت يزيد بن الطّثريّة أو إلى أمّه و أتى بأبيات أخر ليست منها، و سيذكر ذلك في أخبار العجير مشروحا إن شاء اللّه تعالى.
ص: 351
و ممّا يغنّى فيه من شعر يزيد بن الطّثريّة قوله:
بنفسي من لا بدّ أنّي هاجره *** و من أنا في الميسور و العسر ذاكره
/و من قد رماه الناس بي فاتّقاهم *** ببغضي إلاّ ما تجنّ ضمائره
عروضه من الطويل. غنّى في هذين البيتين عبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ لحنا من خفيف الثقيل بالبنصر. و غنّت فيه عريب و في أبيات أضافتها إليها لحنا من خفيف الثقيل الأوّل آخر. و غنّت عليّة بنت المهديّ فيها خفيف رمل. و ذكر الهشاميّ أن لإبراهيم فيها لحنا ماخوريّا. و الأبيات المضافة:
بنفسي من لا أخبر الناس باسمه *** و إن حملت حقدا عليّ عشائره
بأهلي و مالي من جلبت له الأذى *** و من ذكره منّي قريب أسامره
و من لو جرت شحناء بيني و بينه *** و حاورني لم أدر كيف أحاوره
شأتك المنازل بالأبرق *** دوارس كالعين في المهرق
لآل جميلة قد أخلقت *** و مهما يطل عهده يخلق
فإن يقل الناس لي عاشق *** فأين الذي هو لم يعشق
و لم يبك نؤيا على عبرة *** بداء الصّبابة و المعلق
/شأتك: بعدت عنك. و الشأو. البعد. يقال: جرى الفرس شأوا، يريد طلقا. و المهرق: الصحيفة، و الجمع المهارق. يريد أنّ الدار قد بقيت منها طرائق كالصّحف و ما فيها.
الشعر للأحوص. و الغناء لجميلة. و لحنها المختار خفيف رمل بالوسطى(1) عن إسحاق. و فيه لعطرّد ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى. و فيه لمعبد خفيف ثقيل عن حبش: و فيه رمل يقال: إنه لفريدة، و يقال: إنه لمالك. و قيل: إن الثقيل الأوّل لابن عائشة. و ذكر عمرو بن بانة أن خفيف الرمل لعطرّد أيضا.
ص: 352
هي جميلة مولاة بني سليم ثم مولاة بطن منهم يقال لهم بنو بهز، و كان لها زوج من موالي بني الحارث بن الخزرج، و كانت تنزل فيهم، فغلب عليها ولاء زوجها، فقيل: إنها مولاة للأنصار، تنزل بالسّنح(1) و هو الموضع الذي كان ينزله أبو بكر الصّدّيق؛ ذكر ذلك إبراهيم بن زياد الأنصاري الأمويّ السّعيدي. و ذكر عبد العزيز بن عمران أنها مولاة للحجّاج بن علاط السّلميّ و هي أصل من أصول الغناء، و عنها أخذ معبد و ابن عائشة و حبابة و سلاّمة و عقيلة العقيقية و الشّمّاسيّتان خليدة و ربيحة. و فيها يقول عبد الرحمن بن أرطأة:
إنّ الدّلال و حسن الغنا *** ء سط بيوت بني الخزرج
/و تلكم جميلة زين النساء *** إذا هي تزدان للمخرج
إذا جئتها بذلت ودّها *** بوجه منير لها أبلج
الشعر لعبد الرحمن بن أرطأة. و الغناء لمالك خفيف ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى، و يقال: فيه الدّلال و جميلة لحنان.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أبي جعفر القرشيّ عن المحرزيّ(2) قال:
كانت جميلة أعلم خلق اللّه بالغناء؛ و كان معبد يقول: أصل الغناء جميلة و فرعه نحن، و لو لا جميلة لم نكن نحن مغنّين.
قال إسحاق و حدّثني أيّوب بن عباية قال حدّثني رجل من الأنصار قال:
سئلت جميلة: أنّى لك هذا الغناء؟ قالت: و اللّه ما هو إلهام و لا تعليم و لكنّ أبا جعفر سائب خاثر كان لنا جارا و كنت أسمعه يغنّي و يضرب بالعود فلا أفهمه، فأخذت تلك النّغمات فبنيت عليها غنائي، فجاءت أجود من تأليف ذلك الغناء، فعلمت و ألقيت، فسمعني موالياتي(3) يوما و أنا أغنّي سرّا ففهمنني و دخلن عليّ و قلن: قد علمنا فما تكتمينا. فأقسمن عليّ، فرفعت صوتي و غنّيتهنّ بشعر زهير بن أبي سلمى:
ص: 353
و ما ذكرتك إلاّ هجت لي طربا *** إنّ المحبّ ببعض الأمر معذور
ليس المحبّ بمن(1) إن شطّ غيّره *** هجر الحبيب و في الهجران تغيير
نام الخليّ فنوم العين تعذير(2) *** مما ادّكرت و همّ النفس مذكور
ذكرت سلمى و ما ذكري براجعها *** و دونها سبسب يهوي به المور(3)
- الشعر لزهير. و الغناء في هذين البيتين لجميلة فقط رمل بالوسطى عن حبش - فحينئذ ظهر أمري و شاع ذكري، فقصدني الناس و جلست للتعليم؛ فكان الجواري يتكاوسنني(4)، فربما انصرف أكثرهنّ و لم يأخذن شيئا سوى ما سمعنني أطارح لغيرهنّ، و لقد كسبت لمواليّ ما لم يخطر لهنّ ببال، و أهل ذلك كانوا و كنت.
و حدّثني أبو خليفة قال حدّثني ابن سلاّم قال حدّثني مسلمة بن محمد بن مسلمة الثّقفيّ قال:
كانت جميلة ممّن لا يشكّ في فضيلتها في الغناء، و لم يدّع أحد مقاربتها(5) في ذلك، و كلّ مدنيّ و مكيّ يشهد لها بالفضل.
قال إسحاق و حدّثني هشام بن المرّيّة المدنيّ قال حدّثني جرير المدنيّ - قال إسحاق: و كانا جميعا مغنّيين حاذقين شيخين جليلين عالمين ظريفين، و كانا قد أسنّا، فأمّا هشام فبلغ الثمانين، و أمّا جرير فلا أدري - قال جرير:
وفد ابن سريج و الغريض و سعيد بن مسجح و مسلم بن محرز المدينة لبعض من وفدوا عليه، فأجمع رأيهم على النزول على جميلة مولاة بهز، فنزلوا عليها فخرجوا يوما إلى العقيق متنزّهين، فوردوا على معبد و ابن عائشة فجلسوا إليهما فتحدّثوا ساعة؛ ثم سأل معبد ابن سريج و أصحابه أن يعرضوا عليهم بعض ما ألّفوا. فقال ابن عائشة:
إنّ للقوم أعمالا كثيرة حسنة و لك أيضا يا أبا عبّاد، و لكن قد اجتمع علماء مكة، و أنا و أنت من أهل المدينة، فليعمل كلّ واحد منّا صوتا ساعته ثم يغنّ به. قال/معبد: يا ابن عائشة، قد أعجبتك نفسك حتى بلّغتك هذه المرتبة!. قال ابن عائشة: أو غضبت يا أبا عبّاد! إنّي لم أقل هذا و أنا أريد أن أتنقّصك فإنك لأنت المفاد منه. قال معبد: أمّا إذ قد اختلفنا و أصحابنا المكّيّون سكوت فلنجعل بيننا حكما. قال ابن عائشة: إنّ أصحابنا شركاء في الحكومة. قال ابن سريج: على شريطة؛ قال(6): على أن يكون ما نغنّي به من الشعر ما حكّمت فيه امرأة. قال ابن عائشة/و معبد:
ص: 354
رضينا، و هي أمّ جندب. فأجمع رأيهم على الاجتماع في منزل جميلة من غد. فلما حضروا قال ابن عائشة: ما ترى يا أبا عبّاد؟ قال: أرى أن يبتدئ أصحابنا أو أحدهم. قال ابن سريج: بل أنتما أولى. قالا: لم نكن لنفعل. فأقبل ابن سريج على سعيد بن مسجح فسأله أن يبتدئ فأبى. فأجمع رأي المكيّين على أن يبتدئ ابن سريج. فغنّى ابن سريج:
ذهبت من الهجران في غير مذهب *** و لم يك حقّا كلّ هذا التجنّب
خليليّ مرّا بي على أمّ جندب *** أقضّ(1) لبانات الفؤاد المعذّب
فإنّكما إن تنظراني ساعة *** من الدّهر تنفعني لدى أمّ جندب
أ لم ترياني كلّما جئت طارقا *** وجدت بها طيبا و إن لم تطيّب
- الشعر لامرئ(2) القيس. و لابن سريج فيه لحنان ثاني ثقيل بالسّبابة في مجرى الوسطى، و خفيف رمل بالسّبابة في مجرى الوسطى جميعا عن إسحاق - و غنّى معبد:
و قالت فإن يبخل عليك و يعتلل *** يسؤك و إن يكشف غرامك تدرب(1)
و إنّك لم يفخر عليك كفاخر(2) *** ضعيف و لم يغلبك مثل مغلّب
و إنك لم تقطع لبانة عاشق *** بمثل بكور أو رواح مؤوّب(3)
/بأدماء حرجوج كأنّ قتودها *** على أبلق الكشحين ليس بمغرب(4)
يغرّد بالأسحار في كلّ سدفة *** تغرّد ميّاح النّدامى المطرّب(5)
و غنّى ابن عائشة:
فللسّوط ألهوب و للساق درّة *** و للزّجر منه وقع أخرج مهذب(1)
فأدرك لم يجهد و لم يبل شدّه *** يمرّ كخذروف الوليد المثقّب(2)
تذبّ به طورا و طورا تمرّه *** كذّب البشير بالرّداء المهذّب(3)
إذا ما ضربت الدّفّ أو صلت صولة *** ترقّب منّي غير أدنى ترقّب(4)
و غنّى الغريض:
أ خائفة لا يلعن الحيّ شخصه *** صبورا على العلاّت غير مسبّب(5)
رأينا شياها يرتعين خميلة *** كمشي العذارى في الملاء المجوّب(6)
/و ما أنت أم ما ذكرها ربعيّة *** تحلّ بإير أو بأكناف شربب(7)
أطعت الوشاة و المشاة بصرمها *** فقد أنهجت حبالها للتقضّب(8)
فقالت جميلة: كلّكم محسن و كلّكم مجيد في معناه و مذهبه. قال ابن عائشة: ليس هذا بمقنع دون التفضيل.
فقالت: أمّا أنت يا أبا يحيى(9) فتضحك الثّكلى بحسن صوتك و مشاكلته للنفوس. و أمّا أنت يا أبا عبّاد فنسيج وحدك(10) بجودة تأليفك و حسن نظمك مع عذوبة غنائك. و أمّا أنت يا أبا عثمان فلك أوّليّة هذا الأمر و فضيلته و أمّا أنت يا أبا جعفر فمع الخلفاء تصلح. و أمّا أنت يا أبا الخطّاب فلو قدّمت أحدا على نفسي لقدّمتك. و أمّا أنت يا
ص: 357
مولى العبلات فلو ابتدأت لقدّمتك عليهم. ثم سألوها جميعا أن تغنّيهم لحنا كما غنّوا؛ فغنّتهم بيتا لامرئ القيس و أربعة أبيات لعلقمة و هي:
خليليّ مرّا بي على أمّ جندب *** أقضّ لبانات الفؤاد المعذّب
ليالي لا تبلى(1) نصيحة بيننا *** ليالي حلّوا بالسّتار(2) فغرّب
/مبتّلة(3) كأنّ أنضاء حليها *** على شادن من صاحة متربّب
محال(4) كأجواز الجراد و لؤلؤ *** من القلقيّ و الكبيس الملوّب
إذا ألحم الواشون للشرّ بيننا *** تبلّغ رسّ الحبّ غير المكذّب(5)
فكلّهم أقرّوا لها و فضّلوها. فقالت لهم: أ لا أحدّثكم بحديث يتمّ به حسن غنائكم(6) و تمام اختياركم؟ قالوا: بلى و اللّه. قال الغريض: قد و اللّه فهمته يا سيّدتي قالت: لعنك اللّه يا مخنّث! ما أجود فهمك و أحسن وجهك! و ما يلام فيك أبو يحيى إذ عرفته؛ فهاته حدّثنا. قال: يا سيّدتي و سيّدة من حضر، و اللّه لا نطقت بحرف منه و أنت حاضرة، و لك الفضل و العتبى. قالت: نازع امرؤ القيس علقمة بن عبدة الفحل الشعر؛ فقال له: قد حكّمت(7) بيني و بينك /امرأتك أمّ جندب؛ قال: قد رضيت. فقالت لهما: قولا شعرا على رويّ واحد و قافية واحدة صفا فيه الخيل.
فقال امرؤ القيس:
خليليّ مرّا بي على أمّ جندب *** أقضّ لبانات الفؤاد لمعذّب
/و قال علقمة:
ذهبت من الهجران في غير مذهب *** و لم يك حقّا كلّ هذا التجنّب
و أنشداها، فغلّبت علقمة. فقال لها زوجها: بأيّ شيء غلّبته؟ قالت: لأنك قلت:
ص: 358
فللسّوط ألهوب و للساق درّة *** و للزّجر منه وقع أهوج منعب(1)
فجهدت فرسك بسوطك، و مريته(2) بساقك و زجرك، و أتعبته بجهدك. و قال علقمة:
فولّى على آثارهنّ بحاصب *** و غيبة شؤبوب من الشّدّ ملهب(3)
فأدركهنّ ثانيا من عنانه *** يمرّ كمرّ الرائح المتحلّب(4)
فلم يضرب فرسه بسوط، و لم يمره بساق، و لم يتعبه بزجر. فقال ابن عائشة: جعلت فداك! أ تأذنين أن أحدّث؟ قالت: هيه. قال: إنما تزوج أمّ جندب حين هرب من المنذر بن ماء السماء فأتى جبلي طيّ ء، و كان مفرّكا(5). فبينا هو معها ذات ليلة إذ قالت له: قم يا خير الفتيان فقد أصبحت. فلم يقم؛ فكرّرت عليه فقام فوجد الفجر لم يطلع، فرجع فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فأمسكت. و ألحّ عليها فقالت: حملني أنك ثقيل الصدر، خفيف العجيزة، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة. فعرف تصديق قولها و سكت. فلما أصبح أتى علقمة و هو في خيمته و خلفه أمّ جندب، فتذاكروا الشعر، فقال امرؤ القيس: أنا أشعر منك، و قال علقمة مثل ذلك، فتحاكما إلى أمّ جندب، ففضّلت أمّ جندب علقمة على امرئ القيس. /فقال لها: بم فضّلته عليّ؟ قالت: فرس ابن عبدة أجود من فرسك.
زجرت و ضربت و حرّكت ساقيك، و ابن عبدة جامد لا مقتدر(6). فغضب من قولها و طلّقها، و خلف عليها علقمة.
فقالت جميلة: ما أحسن مجلسنا لو دام اجتماعنا!. ثم دعت بالغداء فأتى بألوان الأطعمة و أنواع من الفاكهة. ثم قالت: لو لا شناعة(7) مجلسنا لكان الشراب معدّا و لكنّ الليل بيننا. فلم يزالوا يومهم ذلك بأطيب مجلس و أحسن حديث. فلما جنّهم الليل دعت بالشراب و دعت لكل رجل منهم بعود، و أخذت هي عودا فضربت، ثم قالت:
اضربوا فضربوا عليها بضرب واحد، و غنّت بشعر امرئ القيس:
أ أذكرت نفسك ما لن يعودا *** فهاج التّذكّر قلبا عميدا
تذكّرت هندا و أترابها *** و أيّام كنت لها مستقيدا(8)
و يعجبك اللّهو و المسمعات *** فأصبحت أزمعت منها صدودا
و نادمت قيصر في ملكه *** فأوجهني(9) و ركبت البريدا
فما سمع السامعون بشيء أحسن من ذلك. ثم قالت: تغنّوا جميعا بلحن واحد؛ فغنّوها هذا الشعر و الصوت بعينه
ص: 359
كما غنّته. و علم القوم ما أرادت بهذا الشعر؛ فقال ابن عائشة: جعلت/فداك! نرجو أن يدوم مجلسنا، و يؤثر أصحابنا المقام بالمدينة فنواسيهم من كل ما نملكه. قال أبو عبّاد: و كيف بذاك!. فباتوا بأنعم ليلة و أحسنها. قال إسحاق قال أبي قال لي يونس: قال أبو عبّاد: لا أعرف يوما واحدا منذ عقلت و لا ليلة عند خليفة و لا غيره مثل ذلك اليوم، و لا أحسبه/يكون بعد. قال يونس: و لا أدركنا نحن مثل ذلك اليوم و لا بلغنا. قال إسحاق: و لا أنا، و لا أحسب ذلك اليوم يكون بعد.
و حدّثني أبي قال حدّثنا يونس قال قال لي أبو عبّاد:
أتيت جميلة يوما و كان لي موعد ظننت(1) أنّي سبقت الناس إليها، فإذا مجلسها غاصّ؛ فسألتها أن تعلّمني شيئا؛ فقالت لي: إنّ غيرك قد سبقك و لا يجمل تقديمك على من سواك فقلت: جعلت فداك! إلى متى(2) تفرغين ممّن سبقني! قالت: هو ذاك، الحقّ يسعك و يسعهم. فبينا نحن كذلك إذ أقبل عبد اللّه بن جعفر - و إنه لأول يوم رأيته و آخره و كنت صغيرا كيّسا، و كانت جميلة شديدة الفرح - فقامت و قام الناس، فتلقّته و قبّلت رجليه و يديه، و جلس في صدر المجلس على كوم لها و تحوّق(3) أصحابه حوله، و أشارت إلى من عندها بالانصراف، و تفرّق الناس، و غمزتني أن لا أبرح فأقمت. و قالت: يا سيّدي و سيّد آبائي و مواليّ، كيف نشطت إلى أن تنقل قدميك إلى أمتك؟ قال: يا جميلة، قد علمت ما آليت على نفسك ألاّ تغنّي أحدا إلاّ في منزلك، و أحببت الاستماع و كان ذلك طريقا مادّا فسيحا. قالت: جعلت فداك! فأنا أصير إليك و أكفّر. قال: لا أكلّفك ذلك، و بلغني أنك تغنّين بيتين لامرئ القيس تجيدين الغناء فيهما، و كان اللّه أنقذ بهما جماعة من المسلمين من الموت. قالت: يا سيّدي نعم! فاندفعت تغنّي فغنّت بعودها، فما سمعت منها قبل ذلك و لا بعد إلى أن ماتت مثل ذلك الغناء؛ فسبّح عبد اللّه بن جعفر و القوم معه. و هما:
/
و لما رأت أنّ الشّريعة همّها *** و أنّ البياض من فرائصها دامي(4)
تيمّمت العين التي عند ضارج *** يفيء عليها الظّلّ عرمضها طامي(5)
- و لابن مسجح في هذا الشعر صوت و هذا أحسنهما - فلما فرغت قالت جميلة: أي سيّدي أزيدك؟ قال: حسبي.
فقال بعض من كان معه: بأبي جعلت فداك! و كيف أنقذ اللّه من المسلمين جماعة بهذين البيتين؟ قال: نعم، أقبل
ص: 360
قوم من أهل اليمن يريدون النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فضلّوا(1) الطريق و وقعوا على غيرها و مكثوا ثلاثا لا يقدرون على الماء، و جعل الرجل منهم يستذري(2) بفيء السّمر و الطّلح يائسا من الحياة، إذ أقبل راكب على بعير له، و أنشد بعض القوم هذين البيتين فقال:
و لما رأت أن الشّريعة همّها *** و أن البياض من فرائصها دامي
تيمّمت العين التي عند ضارج *** يفيء عليها الظّلّ عرمضها طامي
فقال الراكب: من يقول هذا؟ قال: امرؤ القيس. قال: و اللّه ما كذب؛ هذا ضارج عندكم، و أشار لهم إليه؛ فحبوا على الرّكب فإذا ماء(3) عذب و إذا عليه العرمض و الظلّ يفيء عليه، فشربوا منه ريّهم و حملوا ما اكتفوا به حتى بلغوا الماء، فأتوا/النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم/فأخبروه و قالوا: يا رسول اللّه، أحيانا اللّه عزّ و جلّ ببيتين من شعر امرئ القيس، و أنشدوه الشعر. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ذلك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسيّ في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار». فكلّ استحسن الحديث. و نهض عبد اللّه بن جعفر و نهض القوم معه. فما رأيت مجلسا كان أحسن منه.
قال إسحاق: حدّثني بعض أهل العلم عن ابن عيّاش عن الشّعبيّ قال:
رأيت دغفلا النسّابة يحدّث أنه رأى العباس بن عبد المطّلب سأل عمر بن الخطّاب عن الشعراء، فقال: امرؤ القيس سابقهم خسف لهم عين الشعر فافتقر عن(4) معان عور أصحّ بصرا(5)، قال إسحاق: معنى خسف: احتفر.
و هو من كندة من اليمن، و ليست لهم فصاحة مضر، و لا شعرهم بجيّد. فجعل معاني اليمن معاني عورا و ما قاله:
أصحّ بصرا(5) أي أجود شعرا. و معنى افتقر: احتفر. و الفقيرة: الحفيرة تحفر للفسيلة لتغرس. و كل ما ابتدأت حفره فهو فقير. و المعنى أنه قال شعرا جيّدا و ليس هو في معنى شعر مضر.
و قال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى:
سمعت أبي يقول: دخل جدّي على بعض ملوك بني أمية؛ فقال: أ لا تخبرني عن الشعراء؟ قال بلى. قال: من أشعر الناس؟ قال: ابن العشرين (يعني طرفة). قال: فما تقول في امرئ القيس؟ قال: اتخذ الخبيث الشعر نعلين، فأقسم باللّه لو أدركته لرفعت له ذلاذله(6). قال: فما رأيك في ابن أبي سلمى؟ قال: كان يبري/الشعر. قال: فما رأيك في ذي الرّمّة؟ قال: قدر من طريف الكلام و غريبه و حسنه على ما لم يقدر عليه أحد حتى صنّف الشعر.
ص: 361
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني أيّوب بن عباية عن رجل من الأنصار قال:
زار معبد مالك بن أبي السّمح؛ فقال له: هل لك أن نصير إلى جميلة؟ فمضيا جميعا فقصداها؛ فأذنت لهما فدخلا، فأخرجت إليهما رقعة فيها أبيات، فقالت لمعبد: بعث بهذه الرقعة إليّ فلان أغنّي فيها(1). فقال معبد:
فابتدئي؛ فابدأت جميلة فغنّت:
إنما الذّلفاء همّي *** فليدعني من يلوم
فغنّى معبد:
أحسن الناس جميعا *** حين تمشي و تقوم
فغنّت جميلة:
حبّب الذّلفاء عندي *** منطق منها رخيم
فغنّى معبد:
أصل الحبل لترضى *** و هي للحبل صروم
فغنّت جميلة:
حبّها في القلب داء *** مستكنّ لا يريم
طريقة واحدة - الشعر للأحوص. و ذكر ابن النّطاح أنه للبختريّ(2) العباديّ. و الغناء لمعبد، و له فيه لحنان خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن ابن/المكيّ، و ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و ذكر أحمد بن سعيد المالكيّ أن له فيه خفيف ثقيل آخر. و ذكر حمّاد بن إسحاق أن فيه لمالك و جميلة لحنين - و قالت لمعبد و لمالك:
يغنّي كلّ واحد منكما لحنا مما عمله. فغنّاها معبد بشعر قاله فيها الأحوص يصفها به، و كان معجبا بها، و كانت هي له/مكرمة، و هو قوله:
شأتك المنازل بالأبرق *** دوارس كالعين في المهرق
لآل جميلة قد أخلقت *** و مهما يطل عهده يخلق
فإن يقل الناس لي عاشق *** فأين الذي هو لم يعشق
و لم يبك نؤيا على عبرة *** بداء الصّبابة و المعلق
- في هذه الأبيات ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى، ذكر إسحاق أنه لعطرّد، و ذكر ابن المكيّ أنه لجميلة.
و فيها خفيف رمل بالوسطى في مجراها، ذكر إسحاق أنه لعطرّد أيضا و عمرو، و ذكر الهشاميّ أنّ الثقيل الأوّل لابن
ص: 362
عائشة. و ذكر حبش أنّ فيه خفيف ثقيل لمعبد و أن خفيف الرّمل لمالك - قال معبد: فسّرت جميلة بما غنّيتها به و تبسّمت و قالت: حسبك يا أبا عبّاد! و لم تكنني قبلها و لا بعدها. ثم قالت لمالك: يا أخا طيّئ هات ما عندك و جنّبنا مثل قول عبد ابن قطن(1)؛ فاندفع و غنّى بلحن لها، و قد تغنّى به أيضا معبد لها. و اللحن:
ألا من لقلب لا يملّ فيذهل *** أفق فالتعزّي عن بثينة أجمل
فما هكذا أحببت من كان قبلها *** و لا هكذا فيما مضى كنت تفعل
فإنّ التي أحببت قد حيل دونها *** فكن حازما و الحازم المتحوّل
- لحن جميلة هكذا ثقيل أوّل بالبنصر. و فيه ألحان عدّة مع أبيات أخر من القصيدة، و هي لجميل - فقالت جميلة:
أحسنت و اللّه في غنائك و في الأداء عنّى. /أمّا قوله: «شأتك» فأراد بعدت عنك. و الشّأو: البعد، يقال: جرى الفرس شأوا أو شأوين أي طلقا أو طلقين. و المهرق: الصحيفة بما فيها من الكتاب، و الجمع مهارق؛ قال ذو الرمّة:
كمستعبر في رسم دار كأنّها *** بوعساء تنضوها الجماهير(2) مهرق
و العين أن تتعيّن الإداوة أو القربة التي تخرز و يسيل الماء عن عيون الخرز. فشبّه ما بقي من الدار بتعيّن القربة و طرائق خروقها التي ينزل منها الماء شيئا بعد شيء. فأما الذّلفاء التي ذكرت فيها فهي التي فتن بها أهل المدينة.
و قال بعض من كانت عنده بعد ما طلّقها:
لا بارك اللّه في دار عددت بها *** طلاق ذلفاء من دار و من بلد
فلا يقولن ثلاثا قائل أبدا *** إني وجدت ثلاثا أنكد العدد
فكان إذا عدّ شيئا يقول: واحد اثنان أربعة و لا يقول ثلاثة.
و قالت جميلة: حدّثتني بثينة - و كانت صدوقة(3) اللسان جميلة الوجه حسنة البيان عفيفة البطن و الفرج - قالت: و اللّه ما أرادني جميل رحمة اللّه عليه بريبة قطّ و لا حدّثت أنا نفسي بذلك منه. و إنّ الحيّ انتجعوا موضعا، و إني لفي هودج لي أسير إذا أنا بهاتف ينشد أبياتا، فلم أتمالك أن رميت بنفسي و أهل الحيّ ينظرون، فبقيت أطلب المنشد فلم أقف عليه، فناديت: أيها الهاتف بشعر جميل ما وراءك منه؟ و أنا أحسبه قد قضى نحبه و مضى لسبيله، فلم يجيبني مجيب؛ فناديت ثلاثا، و في كل ذلك لا يردّ عليّ أحد شيئا. فقال صواحباتي: أصابك يا بثينة طائف /من الشيطان؟ فقلت: كلاّ! لقد سمعت قائلا يقول! قلن: /نحن معك و لم نسمع! فرجعت فركبت مطيّتي و أنا حيرى والهة العقل كاسفة البال، ثم سرنا. فلما كان في الليل إذا ذلك الهاتف يهتف بذلك الشعر بعينه، فرميت بنفسي و سعيت إلى الصوت، فلما قربت منه انقطع؛ فقلت: أيها الهاتف، ارحم حيرتي و سكّن عبرتي بخبر هذه
ص: 363
الأبيات؛ فإن لها شأنا! فلم يردّ عليّ شيئا. فرجعت إلى رحلي فركبت و سرت و أنا ذاهبة العقل؛ و في كل ذلك لا يخبرني صواحباتي أنهنّ سمعن شيئا. فلما كانت الليلة القابلة نزلنا و أخذ الحيّ مضاجعهم و نامت كلّ عين، فإذا الهاتف يهتف بي و يقول: يا بثينة، أقبلي إليّ أنبئك عمّا تريدين. فأقبلت نحو الصوت، فإذا شيخ كأنه من رجال الحيّ، فسألته عن اسمه و بيته. فقال: دعي هذا و خذي فيما هو أهمّ عليك(1). فقلت له: و إن هذا لممّا يهمّني.
قال: اقنعي بما قلت لك. قلت له: أنت المنشد الأبيات؟ قال نعم. قلت: فما خبر جميل؟ قال: نعم فارقته و قد قضى نحبه و صار إلى حفرته رحمة اللّه عليه. فصرخت صرخة آذنت(2) منها الحيّ، و سقطت لوجهي فأغمي عليّ، فكأنّ صوتي لم يسمعه أحد، و بقيت سائر ليلتي، ثم أفقت عند طلوع الفجر و أهلي يطلبونني فلا يقفون على موضعي، و رفعت صوتي بالعويل و البكاء و رجعت إلى مكاني. فقال لي أهلي: ما خبرك و ما شأنك؟ فقصصت عليهم القصّة. فقالوا: يرحم اللّه جميلا. و اجتمع نساء الحيّ و أنشدتهنّ الأبيات فأسعدنني بالبكاء، فأقمن(3) كذلك لا يفارقنني ثلاثا، و تحزّن الرجال أيضا و بكوا و رثوه و قالوا كلّهم: يرحمه اللّه، فإنه كان عفيفا صدوقا! فلم أكتحل بعده بإثمد و لا فرقت رأسي بمخيط(4) و لا مشط و لا دهنته إلا من صداع خفت على/بصري منه و لا لبست خمارا مصبوغا و لا إزارا و لا أزال أبكيه إلى الممات. قالت جميلة: فأنشدتني الشعر كلّه و هذا الغناء بعضه، و هو:
ألا من لقلب لا يملّ فيذهل *** أفق فالتعزّي عن بثينة أجمل
قال ابن سلاّم حدّثني جرير قال:
زار ابن سريج جميلة ليسمع منها و يأخذ عنها. فلما قدم عليها أنزلته و أكرمته و سألته عن أخبار مكة فأخبرها.
و بلغ معبدا الخبر(5). [و كانت تطارحه و تسأله عن أخبار مكة فيخبرها]. و كانت عندها جارية محسنة لبقة ظريفة، فابتدأت تطارحها. فقال ابن سريج: سبحان اللّه! نحن كنّا أحقّ بالابتداء. قالت جميلة: كلّ إنسان في بيته أمير و ليس للداخل أن يتأمّر عليه. فقال ابن سريج: صدقت جعلت فداءك! و ما أدري أيّهما أحسن أدبك أم غناؤك!.
فقالت له: كفّ يا عبيد، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «احثوا في وجوه المدّاحين التراب»(6). فسكت ابن سريج. و طارحت الجارية بشعر حاتم الطائي:
أ تعرف آثار الديار توهّما(7) *** كخطّك في رقّ كتابا منمنما
ص: 364
أذاعت به الأرواح(1) بعد أنيسها *** شهورا و أيّاما و حولا مجرّما(2)
فأصبحن(3) قد غيّرن ظاهر تربه *** و غيّرت الأنواء ما كان معلما
/و غيّرها طول التقادم و البلى *** فما أعرف الأطلال إلا توهّما
قال(4): فحدّثت أنه حضر ذلك المجلس جماعة من حذّاق أهل الغناء، فكلّهم قال: مزامير داود!. قال ابن سريج لها: أ فأسمعك صوتا لي في هذا الشعر؟ قالت: هاته؛ فغنّى:
ديار التي قامت تريك و قد عفت *** و أقوت من الزّوّار كفّا و معصما
تهادى عليها حليها ذات بهجة *** و كشحا كطيّ السابريّة(5) أهضما
فبانت لطيّات(6) لها و تبدّلت *** به بدلا مرّت به الطير أشؤما
و عاذلتان هبّتا بعد هجعة *** تلومان متلافا مفيدا ملوّما
قالت جميلة: أحسنت يا عبيد، و قد غفرنا لك زلّتك لحسن غنائك. قال معبد: جعلت فداءك! أ فلا أسمعك أنا أيضا لحنا عملته في هذا الشعر؟ قالت: هات و إنّي لأعلم أنك تحسن. فاندفع فغنّى:
فقلت و قد طال العتاب عليهما *** و أوعدتاني أن تبينا و تصرما
ألا لا تلوماني على ما تقدّما *** كفى بصروف الدّهر للمرء محكما
تلومان لما غوّر النجم ضلّة *** فتى لا يرى الإنفاق في الحقّ مغرما(7)
قالت جميلة: ما عدوت الظنّ بك و لا تجاوزت الطريقة التي أنت عليها. قال: مالك: أ فلا أغنّيك أنا أيضا؟ قالت:
ما علمتك إلاّ تجيد الغناء و تحسن، فهات. فاندفع فغنّى في هذا الشعر:
يضيء لنا البيت الظّليل(8) خصاصه(9) *** إذا هي ليلا حاولت أن تبسّما
/إذا انقلبت(10) فوق الحشيّة مرّة *** ترنّم وسواس الحليّ ترنّما
و نحرا كفاثور(11) اللّجين يزينه *** توقّد ياقوت و شذر(12) منظّما
ص: 365
كجمر الغضى هبّت(1) به بعد هجعة *** من الليل أرواح الصّبا فتنسّما(2)
فقالت: جميل ما قلت و حسن ما نظمت، و إنّ صوتك يا مالك لممّا يزيد العقل قوّة و النفس طيبا و الطبيعة سهولة، و ما أحسب أن مجلسنا هذا إلاّ سيكون علما و في آخر الزمان متواصفا؛ و الخبر ليس كالمشاهدة، و الواصف ليس كالمعاين و خاصّة في الغناء.
و حدّثني الحسن بن عتبة اللّهبيّ قال حدّثني من رأى ابن أبي عتيق و ابن أبي ربيعة و الأحوص بن محمد الأنصاريّ و قد أتوا منزل جميلة فاستأذنوا عليها فأذنت لهم، فلما جلسوا سألت عمر و أحفت؛ فقال لها: إنّي قصدتك من مكة للسلام عليك. فقالت له: أهل الفضل أنت. قال: و قد أحببت أن تفرّغي لنا نفسك اليوم و تخلي لنا مجلسك؛ قالت: أفعل. قال لها الأحوص: أحبّ ألاّ تغنّي إلاّ ما أسألك. قالت: ليس المجلس لك، و القوم شركاؤك فيه. قال: أجل. قال عمر: إن ترد أن تفعل ذلك بك يكن. قال الأحوص: كلاّ!. قال عمر: فإنّي أرى أن نجعل الخيار إليها. قال ابن أبي عتيق: وفّقك اللّه. فدعت بالعود و غنّت:
/
تمشي الهوينى إذا مشت فضلا *** مشي النّزيف المخمور في الصّعد(3)
تظلّ من زور(4) بيت جارتها *** واضعة كفّها على الكبد
/يا من لقلب متيم سدم *** عال رهين مكلّم كمد(5)
أزجره و هو غير مزدجر *** عنها و طرفي مكحّل السّهد
فلقد سمعت للبيت زلزلة و للدار همهمة. فقال عمر: للّه درّك يا جميلة! ما ذا أعطيت! أنت أوّل الغناء و آخره!. ثم سكتت ساعة و أخذوا في الحديث، ثم أخذت العود و غنّت:
شطّت سعاد و أمسى البين قد أفدا *** و أورثوك سقاما يصدع الكبدا
لا أستطيع لها هجرا و لا ترة *** و لا تزال أحاديثي بها جددا
- الغناء فيه لسياط خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق. و لم يذكر حبش لحن جميلة. و ذكر إبراهيم أن فيه لحنا لحكم الوادي. و ذكر الهشاميّ و ابن خرداذبه أنه من ألحان عمر بن عبد العزيز بن مروان في سعاد(6) و أن طريقته من الثقيل الثاني بالوسطى. و ذكر إبراهيم أن لابن جامع فيه أيضا صنعة - فاستخفّ(7) القوم أجمعين، و صفقوا بأيديهم و فحصوا بأرجلهم و حرّكوا رءوسهم، و قالوا: نحن فداؤك من السوء و وقاؤك من المكروه، ما أحسن ما غنّيت و أجمل ما قلت!. و أحضر الغداء فتغدّى القوم بأنواع من الأطعمة الحارّة و الباردة و من الفاكهة
ص: 366
الرّطبة و اليابسة، ثم دعت بأنواع من الأشربة. فقال عمر: لا أشرب، و قال ابن أبي عتيق مثل ذلك، فقال الأحوص:
لكنّني أشرب؛ و ما جزاء جميلة أن يمتنع/من شرابها!. قال عمر: ليس ذلك كما ظننته. قالت جميلة: من شاء أن يحملني بنفسه و يخلط روحي بروحه شكرناه، و من أبى ذلك عذرناه، و لم يمنعه ذلك عندنا ما يريد من قضاء حوائجه و الأنس بمحادثته. قال ابن أبي عتيق: ما يحسن بنا إلا مساعدتك. قال عمر: لا أكون أخسّكم، افعلوا ما شئتم تجدوني سميعا مطيعا. فشرب القوم أجمعون. فغنّت صوتا بشعر لعمر:
و لقد قالت لجارات لها *** كالمها يلعبن في حجرتها
خذن عنّي الظّلّ لا يتبعني *** و مضت تسعى إلى قبّتها
لم تعانق(1) رجلا فيما مضى *** طفلة غيداء في حلّتها
لم يطش قطّ لها سهم و من *** ترمه لا ينج من رميتها
- لم يذكر طريقة لحنها في هذا الصوت. و ذكر الهشاميّ أنّ فيه لابن المكّيّ رملا بالبنصر. و ذكر عليّ بن يحيى أنّ فيه لابن سريج رملا بالوسطى - فصاح عمر: ويلاه! ويلاه! ثلاثا ثم عمد إلى جيب قميصه فشقّه إلى أسفله فصار قباء، ثم آب إليه عقله فندم و اعتذر و قال: لم أملك من نفسي شيئا. قال القوم: قد أصابنا كالذي(2) أصابك و أغمي علينا، غير أنّا فارقناك في تخريق الثياب. فدعت جميلة بثياب فخلعتها على عمر، فقبلها و لبسها، و انصرف القوم إلى منازلهم. و كان عمر نازلا على ابن أبي عتيق، فوجّه عمر إلى جميلة بعشرة آلاف درهم و بعشرة أثواب كانت معه، فقبلتها جميلة. و انصرف عمر إلى مكة جذلان مسرورا.
قال إسحاق و حدّثني أبي عن سياط و ابن جامع عن يونس قالا(3): حجّت جميلة، و أخبرني/إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق/ابن إبراهيم قال حدّثني أبي عن سياط و ابن جامع عن يونس الكاتب، و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن سعيد الدّمشقيّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قالوا جميعا:
إنّ جميلة حجّت - و قد جمعت رواياتهم لتقاربها، و أحسب الخبر كلّه مصنوعا و ذلك بيّن فيه - فخرج معها من المغنّين مشيّعين حتى وافوا مكة و رجعوا معها من الرجال المشهورين الحذّاق بالغناء هيت(4) و طويس و الدّلال و برد الفؤاد و نومة الضّحى و فند و رحمة(5) و هبة اللّه - هؤلاء مشايخ و كلّهم طيّب الغناء - و معبد و مالك و ابن عائشة و نافع بن طنبورة و بديح المليح و نافع الخير، و من المغنّيات الفرهة [و](6) عزّة الميلاء و حبابة و سلاّمة و خليدة
ص: 367
و عقيلة و الشّمّاسيّة و فرعة و بلبلة(1) و لذّة العيش و سعيدة و الزّرقاء، و من غير المغنّين ابن أبي عتيق و الأحوص و كثيّر عزّة و نصيب و جماعة من الأشراف، و كذلك من النساء من مواليها و غيرهنّ(2). و أما سياط فذكر أنه حجّ معها من القيان مشيّعات لها و معظّمات لقدرها و لحقّها زهاء خمسين قينة، وجّه بهنّ مواليهنّ معها فأعطوهنّ النفقات و حملوهنّ على الإبل في الهوادج و القباب و غير ذلك؛ فأبت جميلة أن تنفق واحدة منهنّ درهما فما فوقه حتى رجعن. و أما يونس فذكر أنه حجّ معها من الرجال المغنين مع من سمّينا زهاء ثلاثين رجلا، و تخايروا في اتخاذ أنواع اللّباس العجيب الظّريف و كذلك في الهوادج و القباب. و قيل، فيما/قال أهل المدينة،: إنهم ما رأوا مثل(3) ذلك الجمع سفرا طيبا و حسنا و ملاحة. قالوا: و لما قاربوا مكة تلقّاهم سعيد بن مسجح و ابن سريج و الغريض و ابن محرز و الهذليّون و جماعة من المغنّين من أهل مكة و قيان كثير لم يسمّين لنا، و من غير المغنّين عمر بن أبي ربيعة و الحارث بن خالد المخزوميّ و العرجيّ و جماعة من الأشراف. فدخلت جميلة مكة و ما بالحجاز مغنّ حاذق و لا مغنّية إلا و هو معها و جماعة من الأشراف ممن سمّينا و غيرهم من الرجال و النساء. و خرج أبناء أهل مكة من الرجال و النساء ينظرون إلى جمعها و حسن هيئتهم. فلما قضت حجّها سألها المكيّون أن تجعل لهم مجلسا. فقالت: للغناء أم للحديث؟ قالوا: لهما جميعا. قالت: ما كنت لأخلط جدّا بهزل، و أبت أن تجلس للغناء. فقال عمر بن أبي ربيعة: أقسمت على من كان في قلبه حبّ لاستماع غنائها إلاّ خرج معها إلى المدينة، فإني خارج. فعزم القوم الذين سمّيناهم كلّهم على الخروج و معهم جماعة ممّن نشط، فخرجت في جمع أكثر من جمعها بالمدينة. فلما قدمت المدينة تلقّاها أهلها و أشرافهم من الرجال و النساء، فدخلت أحسن مما خرجت به منها، و خرج الرجال و النساء من بيوتهم فوقفوا على أبواب دورهم ينظرون إلى جمعها و إلى القادمين معها. فلما دخلت منزلها و تفرّق الجمع إلى منازلهم و نزل أهل مكة على أقاربهم و إخوانهم أتاها الناس مسلّمين، و ما استنكف من ذلك كبير و لا صغير. فلما مضى لمقدمها عشرة أيام جلست للغناء؛ فقالت لعمر بن أبي ربيعة: إني جالسة لك و لأصحابك، و إذا شئت/فعد الناس لذلك اليوم، فغصّت الدار بالأشراف من الرجال و النساء. فابتدأت جميلة فغنّت صوتا بشعر عمر:
/
هيهات من أمة الوهّاب منزلنا *** إذا حللنا بسيف البحر من عدن
و احتلّ أهلك أجيادا(4) فليس لنا *** إلا التذكّر أو حظّ من الحزن
لو أنها أبصرت بالجزع عبرته *** و قد تغرّد قمريّ على فنن
إذا رأت غير ما ظنّت بصاحبها *** و أيقنت أن عكّا(5) ليس من وطني
ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها *** و موقفي و كلانا ثمّ ذو شجن
ص: 368
و قولها للثّريّا و هي باكية(1) *** و الدمع منها على الخدّين ذو سنن
باللّه قولي له في غير معتبة *** ما ذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو نعمت بها *** فما أصبت بترك الحجّ من ثمن
فكلّهم استحسن الغناء، و ضجّ القوم من حسن ما سمعوا. و يقال: إنهم ما سمعوا غناء قطّ أحسن من غنائها ذلك الصوت في ذلك اليوم. و دمعت عين عمر حتى جرى الدمع على ثيابه و لحيته. و إنه ما رئي عمر كذلك في محفل غيره(2) قطّ. ثم أقبلت على ابن سريج فقالت: هات؛ فاندفع يغنّي و رفع صوته بشعر عمر(3):
أ ليست بالتي قالت *** لمولاة لها ظهرا
أشيري بالسلام له *** إذا هو نحونا نظرا
و قولي في ملاطفة *** لزينب نوّلي عمرا
و هذا سحرك النّسوا *** ن قد خبّرتني الخبرا
فسمع من ابن سريج في هذا اللّحن من الحسن ما يقال إنه ما سمع مثله. ثم قالت لسعيد بن مسجح: هات يا أبا عثمان؛ فاندفع فغنّى:
قد قلت قبل البين لمّا خشيته *** لتعقب ودّا أو لتعلم ما عندي
لك الخير هل من مصدر تصدرينه(4) *** يريح كما سهّلت لي سبل الورد
فلمّا شكوت الحبّ صدّت كأنّما *** شكوت الذي ألقى إلى حجر صلد
تولّت فأبدت غلّة دون نقعها *** كما أرصدت من بخلها إذا بدا وجدي
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني *** يمينك فانظر أيّ كفّ تبدّل
قالت جميلة: أحسنت يا معبد اختيار الشعر و الغناء - هذا الشعر لمعن(1) بن أوس -
ثم قالت: هات يا ابن محرز؛ فإنّي لم أؤخّرك لخساسة بك و لا جهلا بالذي يجب في الصناعة، و لكنّني رأيتك تحبّ من الأمور كلّها أوسطها و أعدلها، فجعلتك حيث تحبّ واسطة بين/المكيّين و المدنيّين. فغنّى:
وقفت بربع قد تحمّل أهله *** فأذريت دمعا يسبق الطّرف هامله
/بسائلة الرّوحاء أو بطن مثغر(2) *** لها الضاحكات الرابيات سواهله(3)
هو الموت إلاّ أن للموت مدّة *** متى يلق يوما فارغا فهو شاغله
فقالت جميلة: يا أبا الخطّاب، كيف بدا لك في ثلاثة(4) و أنت لا ترى ذلك؟! قال: أحببت أن أواسي معبدا. قال معبد: و اللّه ما عدوت ما أردت(5). ثم قالت للغريض: هات يا مولى العبلات فاندفع يغنّي:
فوا ندمي على الشّباب و وا ندم *** ندمت و بان اليوم منّي بغير ذم
و إذ إخوتي حولي و إذ أنا شائخ *** و إذ لا أجيب العاذلات من الصّمم
أرادت عرارا(6) بالهوان و من يرد *** عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم
قالت جميلة: أحسن عمرو بن شأس و لم تحسن إذا أفسدت غناءك بالتعريض. و اللّه ما وضعناك إلاّ موضعك و لا نقصنا من حظّك! فبما ذا أهنّاك! ثم أقبلت على الجماعة فقالت: يا هؤلاء، اصدقوه و عرّفوه نفسه ليقنع بمكانه.
فأقبل القوم عليه و قالوا له: قد أخطأت إن كنت عرّضت. فقال: قد كان ذلك، و لست بعائد. و قام إلى جميلة فقبّل طرف ثوبها و اعتذر فقبلت عذره و قالت له: لا تعد. ثم أقبلت على ابن عائشة فقالت: يا أبا جعفر هات؛ فتغنّى بشعر النابغة(7):
ص: 370
/
سقى الغيث قبرا بين بصرى و جاسم(1)*** عليه من الوسميّ جود و وابل
و أنبت حوذانا(2) و عوفا منوّرا *** سأتبعه من خير ما قال قائل
بكى حارث الجولان(3) من هلك ربّه *** فحوران منه خاشع متضائل
و ما كان بيني لو لقيتك سالما *** و بين الغنى إلاّ ليال قلائل(4)
قالت جميلة: حسن ما قلت يا أبا جعفر. ثم أقبلت على نافع و بديح فقالت: أحبّ أن تغنّياني صوتا واحدا؛ فغنّيا جميعا بصوت واحد و لحن واحد:
ألا يا من يلوم على التصابي *** أفق شيئا لتسمع من جوابي
بكرت تلومني في الحبّ جهلا *** و ما في حبّ مثلي من معاب
/أ ليس من السعادة غير شكّ *** هوى متواصلين على اقتراب
كريم نال ودّا في عفاف *** و ستر من منعّمة كعاب
فقالت جميلة: هواكما و اللّه واحد و غناؤكما واحد، و أنتما نحتّما من بقيّة الكرم و واحد الشرف: عبد(5) اللّه بن جعفر بن أبي طالب. ثم أقبلت على الهذليّين الثلاثة فقالت: غنّوا صوتا واحدا؛ فاندفعوا فغنّوا بشعر عنترة العبسيّ:
ص: 371
حيّيت من طلل تقادم عهده *** أقوى و أقفر بعد أمّ الهيثم
كيف المزار و قد تربّع أهلها *** بعنيزتين(1) و أهلنا بالغيلم
/إن كنت أزمعت الفراق فإنما *** زمّت ركابكم بليل مظلم
شربت بماء الدّحرضين(2) فأصبحت *** زوراء تنفر عن حياض الدّيلم
قالت: ما رأيت شيئا أشبه بغنائكم من اتّفاق أرواحكم. ثم أقبلت على نافع بن طنبورة فقالت: هات يا نقش الغضار(3) و يا حسن اللسان؛ فاندفع يغنّي:
يا طول ليلي و بتّ لم أنم *** و سادي الهمّ مبطن سقمي
أن قمت يوما على البلاط فأب *** صرت رقاشا و ليت لم أقم
فقالت جميلة: حسن و اللّه - و لابن سريج في هذا اللحن أربعة أبيات في صوت -
ثم قالت: يا مالك هات؛ فإنّي لم أؤخّرك لأنك في طبقة آخرهم، و لكنّي أردت أن/أختم بك يومنا تبرّكا بك و كي يكون أوّل مجلسنا كآخره و وسطه كطرفه، و إنك عندي و معبدا لفي طريقة واحدة و مذهب واحد، لا يدفع ذلك إلا ظالم و لا ينكره إلا عاضل. الحقّ أقول، فمن شاء فلينكر؛ فسكت القوم كلّهم إقرارا لما قالت. و اندفع يغنّي:
عدوّ لمن عادت و سلّم لسلمها *** و من قرّبت سلمى أحبّ و قرّبا
هبيني امرأ إمّا بريئا ظلمته *** و إمّا مسيئا تاب بعد(4) و أعتبا
أقول التماس العذر لمّا ظلمتني *** و حمّلتني ذنبا و ما كنت مذنبا
ليهنئك إشمات العدوّ بهجرنا *** و قطعك حبل الوصل حتى تقضّبا
قالت جميلة: ليت صوتك يا مالك قد دام لنا و دمنا له. و قطعت المجلس و انصرف عامّة الناس و بقي خواصّهم.
فلما كان اليوم الثاني حضر القوم جميعا. فقالت لطويس: هات يا أبا عبد النّعيم. قال: فأنكر ما فعلت جميلة في
ص: 372
اليوم الأوّل؛ لأنّ طويسا لم يكن يرضى بذلك. فأخبرني ابن جامع أن جميلة صنّفتهم(1) طويسا(2) و أصحابه و ابن سريج و أصحابه، ثم أقرعت بينهم؛ فخرجت القرعة الأولى لابن سريج و أصحابه و الثانية لطويس و أصحابه. فابتدأ طويس(3) فغنّى:
قد طال ليلي و عاد لي طربي *** من حبّ خود كريمة الحسب
غرّاء مثل الهلال آنسة *** أو مثل تمثال صورة الذّهب
صادت فؤادي بجيد مغزلة(4) *** ترعى رياضا ملتفّة العشب
فقالت جميلة: حسن و اللّه يا أبا عبد النّعيم. ثم قالت للدّلال: هات يا أبا يزيد؛ فاندفع فغنّى:
قد كنت آمل فيكم أملا *** و المرء ليس بمدرك أمله
حتى بدا لي منكم خلف *** فزجرت قلبي فارعوى جهله(5)
ليس الفتى بمخلد أبدا *** حيّا و ليس بفائت أجله
حيّ البغوم و من بعقوتها(6) *** وقفا العمود و إن خلا أهله(5)
قالت: حسن و اللّه يا أبا يزيد. ثم قالت لهيت: إنّا نجلّك اليوم لكبر سنّك و رقّة عظمك. قال: أجل يا ماما. ثم قالت لبرد الفؤاد و نومة الضّحى: هاتيا جميعا لحنا واحدا؛ فغنّيا(7):
/
إني تذكّرت فلا تلحنى *** لؤلؤة مكنونة تنطق
مسكنها طيبة لم يغذها *** بؤس و لا وال بها يخرق
قد قلت و العيس سراع بنا *** ترقل إرقالا و ما تعنق(8)
يا صاحبي شوقي أرى قاتلي *** و موردي منها جوى يقلق
قالت جميلة: أحسنتما. ثم قالت لفند و رحمة و هبة اللّه: هاتوا جميعا صوتا واحدا فإنكم متّفقون في الأصوات و الألحان؛ فاندفعوا فغنّوا:
ص: 373
أشاقك من نحو العقيق بروق *** لوامع تخفى تارة و تشوق
و ما لي لا أهوى جواري بربر *** و روحي إلى أرواحهن تتوق
لهنّ جمال فائق و ملاحة *** و دلّ على دلّ النساء يفوق
/و كان بربر حاضرا، فقال: جواريّ و اللّه على ما وصفتم، فمن شاء أقرّ و من شاء أنكر.
فقالت جميلة: صدق. ثم غنّت جميلة بشعر الأعشى - و لمعبد فيه صوت أخذه عنها -:
بانت سعاد و أمسى حبلها انقطعا *** و احتلّت الغور فالجدّين فالفرعا(1)
و استنكرتني و ما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلا الشّيب و الصّلعا
تقول بنتي و قد قرّبت مرتحلا *** يا ربّ جنّب أبي الأوصاب و الوجعا
و كان شيء إلى شيء فغيّره *** دهر ملحّ على تفريق ما جمعا
فلم يسمع شيء(2) أحسن من ابتدائها بالأمس و ختمها في اليوم الثاني. و قطعت المجلس فانصرف القوم و أقام آخرون(3). فلما كان اليوم الثالث اجتمع الناس، فضربت ستارة و أجلست الجواري كلّهن فضربن و ضربت فضربن على خمسين وترا فتزلزلت الدار؛ ثم غنّت على عودها و هنّ يضربن على ضربها بهذا الشعر:
فإن خفيت كانت لعينك قرّة *** و إن تبد يوما لم يعمّمك(4) عارها
من الخفرات البيض لم تر غلظة *** و في الحسب الضّخم الرّفيع نجارها
فما روضة بالحزن طيّبة الثّرى *** يمجّ النّدا جثجاثها و عرارها(5)
بأطيب من فيها ذا جئت طارقا *** و قد أوقدت بالمندل الرّطب نارها
فدمعت أعين كثير منهم حتى بلّ ثوبه و تنفّس الصّعداء و قال: بنفسي أنت يا جميلة!. ثم قالت للجواري: اكففن فكففن؛ و قالت: يا عزّ غنّي؛ فغنّت بشعر لعمر:
ص: 374
/
تذكّرت هندا و أعصارها(1)*** و لم تقض نفسك أوطارها
تذكّرت النفس ما قد مضى *** و هاجت على العين عوّارها(2)
لتمنح رامة منّا الهوى *** و ترعى لرامة أسرارها
إذا لم نزرها حذار العدا *** حسدنا على الزّور زوّارها
فقالت جميلة: يا عزّ، إنك لباقية على الدهر، فهنيئا لك حسن هذا الصوت مع جودة هذا الغناء. ثم قالت لحبابة و سلاّمة: هاتيا لحنا واحدا؛ فغنّتا:
/
كفى حزنا أنى أغيب و تشهد *** و ما نلتقي و القلب حرّان مقصد
و من عجب(3) أنّى إذا الليل جنّني *** أقوم من الشوق الشديد و أقعد
أحنّ إليكم مثل ما حنّ تائق *** إلى الورد عطشان الفؤاد مصرّد(4)
و لي كبد حرّى يعذّبها الهوى *** و لي جسد يبلى و لا يتجدد
فاستحسن غناؤهما. ثم أقبلت على خليدة فقالت لها: بنفسي أنت! غنّي؛ فغنّت:
ألا يا من يلوم على التّصابي *** أفق شيئا لتسمع من جوابي
بكرت تلومني في الحبّ جهلا *** و ما في حبّ مثلي من معاب
أ ليس من السعادة غير شكّ *** هوى متواصلين على اقتراب
كريم نال ودّا في عفاف *** و ستر من منعّمة كعاب
فاستحسن منها ما غنّت، و هو بلحنها حسن جدّا. [ثم قالت لعقيلة و الشّماسيّة: هاتيا، فغنّتا:
/
هجرت الحبيب اليوم في غير ما اجترم *** و قطّعت من ذي ودّك الحبل فانصرم
أطعت الوشاة الكاشحين و من يطع *** مقالة واش يقرع السنّ من ندم(5)]
ثم قالت لفرعة و بلبلة و لذّة العيش: هاتين فغنّين؛ فاندفعن بصوت واحد:
ص: 375
لعمري لئن كان الفؤاد من الهوى *** بغى سقما إنّي إذا لسقيم
عليّ دماء البدن إن كان حبّها *** على النأي في طول الزمان يريم
تلمّ ملمّات فينسين بعدها *** و يذكر منها العهد و هو قديم
فأقسم ما صافيت بعدك خلّة *** و لا لك عندي في الفؤاد قسيم
قالت: أحسنتنّ! و هو لعمري حسن. و قالت لسعدة و الزّرقاء: غنيّا؛ فغنّتا:
قد أرسلوني يعزّوني فقلت لهم *** كيف العزاء و قد سارت بها الرّفق
استهدت الرّيم عينيه فجادلها *** بمقلتيه و لم تترك له عنق
فاستحسن ذلك. ثم قالت للجماعة فغنّوا، و انقضى المجلس و عاد كلّ إنسان إلى وطنه. فما رثي مجلس و لا جمع أحسن من اليوم الأوّل ثم الثاني ثم الثالث.
و حدّثتني(1) عمّتي - و كانت أسنّ من أبي و عمّرت بعده - قالت: كان السبب في طلب أبيك الغناء و المواظبة عليه لحنا سمعه لجميلة في منزل يونس بن محمد الكاتب، فانصرف و هو كئيب حزين مغموم لم يطعم و لم يقبل علينا بوجهه كما كان يفعل. فسألته عن السبب فأمسك، فألححت عليه فانتهرني، و كان لي مكرما، فغضبت و قمت من ذلك المجلس إلى بيت آخر، فتبعني و ترضّاني و قال لي: أحدّثك و لا كتمان منك: عشقت صوتا لامرأة قد ماتت، فأنا بها و بصوتها هائم إن لم يتداركني اللّه منه برحمته. فقالت: /أ تظنّ أن اللّه يحيي لك ميّتا! قال: بل لا أشكّ. قالت: فما تعليقك قلبك بما لا يعطاه إلا نبيّ و لا نبيّ بعد محمد صلّى اللّه عليه و سلّم!. و أمّا عشقك الصوت فهو أن تحذقه و تغنّيه عشر مرار، فتملّه و يذهب عشقك له!. فكأنه ارعوى(2) و رجع إلى نفسه، و قام فقبّل رأسي و يدي و رجلي و قال لي: فرّجت عنّي ما كنت فيه من الكرب و الغمّ، /ثم تمثّل: «حبّك الشيء يعمي و يصمّ و لزم بيت يونس حتى حذق الصوت و لم يمكث إلا زمنا يسيرا حتى مات يونس و انضمّ إلى سياط، و كان من أحذق أهل زمانه بالغناء و أحسنهم أداء عمّن مضى. قالت عمّتي: فقلت لإبراهيم: و ما الصوت؟ فأنشدني الشعر و لم يحسن أداء الغناء:
من البكرات عراقيّة *** تسمّى سبيعة أطريتها
من آل أبي بكرة الأكرمين *** خصصت بودّي فأصفيتها
و من حبّها زرت أهل العراق *** و أسخطت أهلي و أرضيتها
أموت إذا شحطت دارها *** و أحيا إذا أنا لاقيتها
فأقسم لو أنّ ما بي بها *** و كنت الطبيب لداويتها
ص: 376
قالت عمّتي: هذا شعر حسن، فكيف به إذا قطّع و مدد تمديد الأطربة(1) و ضرب عليها بقضبان الدّفلى(2) على بطون المعزى! فما مضت الأيام و الليالي حتى سمعت اللحن مؤدّى، فما خرق مسامعي شيء قطّ أحسن منه؛ و لقد أذكرني بما يؤثر من حسن صوت داود و جمال يوسف. فبينا أنا يوما جالسة(3) إذ طلع عليّ إبراهيم ضاحكا مستبشرا؛ فقال لي: أ لا أحدّثك بعجب؟ قلت: و ما هو؟ قال: إن لي شريكا/في عشق صوت جميلة. قلت: و كيف ذلك؟ قال:
كنت عند سياط في يومنا هذا و أنا أغنّيه الصوت و قد وقّفني فيه على شيء لم أكن أحكمته عن يونس، و حضر عند سياط شيخ نبيل فسبّح على الصوت تسبيحا طويلا، فظننت أنه فعل ذلك لاستحسانه الصوت. فلما فرغت أنا و سياط من اللحن قال الشيخ: ما أعجب أمر هذا الشعر و أحسن ما غنّي به و أحسن ما قال قائله!. فقلت له دون القوم: و ما بلغ من العجب به؟ قال: نعم! حجّت سبيعة من ولد عبد الرحمن بن أبي بكرة، و كانت من أجمل النساء، فأبصرها عمر بن أبي ربيعة، فلما انحدرت إلى العراق اتّبعها يشيّعها حتى بلغ معها موضعا يقال له الخورنق. فقالت له: لو بلغت إلى أهلي و خطبتني لزوّجوك. فقال لها: ما كنت لأخلط تشييعي إياك بخطبة، و لكن أرجع ثم آتيكم خاطبا؛ فرجع و مرّ بالمدينة فقال فيها:
من البكرات عراقيّة *** تسمّى سبيعة أطريتها
ثم أتى بيت جميلة فسألها أن تغنّي بهذا الشعر ففعلت. فأعجبه ما سمع من حسن غنائها و جودة تأليفها، فحسن موقع ذلك منه، فوجّه إلى بعض موالياته ممن كانت تطلب الغناء أن تأتي جميلة و تأخذ الصوت منها؛ فطارحتها إياه أيّاما حتى حذقت و مهرت به. فلما رأى ذلك عمر قال: أرى أن تخرجي إلى سبيعة و تغنّيها هذا الصوت و تبلّغيها رسالتي؛ قالت: نعم. جعلني اللّه فداك. فأتتها فرحّبت بها، و أعلمتها الرسالة، فحيّت و أكرمت، ثم غنّتها فكادت أن تموت فرحا و سرورا لحسن الغناء و الشعر. ثم عادت رسول عمر فأعلمته ما كان و قالت له: إنها خارجة في تلك السنة.
فلما كان أوان الحج استأذنت سبيعة أباها في الحج، فأبى عليها و قال لها: قد حججت حجّة الإسلام. قالت له: تلك الحجّة هي التي أسهرت ليلي و أطالت/نهاري/و توقتني(4) إلى أن أعود و أزور البيت و ذلك القبر؛ و إن أنت لم تأذن لي متّ كمدا و غمّا؛ و ذلك أن بقائي إنما كان لحضور الوقت، فإن يئست فالموت لا شكّ نازل بي.
فلما رأى ذلك أبوها رقّ لها و قال: ليس يسعني منعها مع ما أرى بها، فأذن لها. و وافى عمر المدينة ليعرف خبرها؛ فلما قدمت علم بذلك. و سألها أن تأتى منزل جميلة، و قد سبق إليه عمر، فأكرمتها جميلة و سرّت بمكانها. فقالت لها سبيعة: جعلني اللّه فداك! أقلقني و أسهرني صوتك بشعر عمر فيّ، فأسمعيني إيّاه. قالت جميلة: و عزازة لوجهك الجميل! فغنّتها الصوت، فأغمي عليها ساعة حتى رشّ على وجهها الماء و ثاب إليها عقلها. ثم قالت: أعيدي عليّ، فأعادت الصوت مرارا في كل مرّة يغشى عليها. ثم خرجت إلى مكة و خرج معها. فلما رجعت مرّت بالمدينة و عمر
ص: 377
معها، فأتت جميلة فقالت لها: أعيدي عليّ الصوت ففعلت؛ و أقامت عليها(1) ثلاثا تسألها أن تعيد الصوت. فقالت لها جميلة: إني أريد أن أغنّيك صوتا فاسمعيه. قالت: هاتيه يا سيّدتي؛ فغنّتها:
أبت المليحة أن تواصلني *** و أظنّ أني زائر رمسي
لا خير في الدنيا و زينتها *** ما لم توافق نفسها نفسي
لا صبر لي عنها إذا حسرت *** كالبدر أو قرن من الشمس
و رمت فؤادك عند نظرتها *** بملاحة الإيثار(2) و الأنس
قالت سبيعة: لو لا أنّ الأوّل شعر عمر لقدّمت هذا على كلّ شيء سمعته. فقال عمر: فإنه و اللّه أحسن من ذلك، فأمّا الشعر فلا. قالت جميلة: صدقت و اللّه. قالت عمّتي قال لها أبي: لعمري إنّ ذلك على ما قالا.
/و لابن سريج في هذا الشعر لحن عن جميلة و ربما حكي بزيادة أو نقصان أو مثلا بمثل.
أخبرني من يفهم الغناء قال:
بلغني أنّ جميلة قعدت يوما على كرسيّ لها و قالت لآذنتها: لا تحجبي عنّا أحدا اليوم، و اقعدي بالباب، فكل من يمرّ بالباب فاعرضي عليه مجلسي؛ ففعلت ذلك حتى غصّت الدار بالناس؛ فقالت جميلة: اصعدوا إلى العلاليّ؛ فصعدت جماعة حتى امتلأت السطوح. فجاءتها بعض جواريها فقالت لها: يا سيّدتي، إن تمادى أمرك على ما أرى لم يبق في دارك حائط إلاّ سقط، فأظهري ما تريدين. قالت: اجلسي. فلما تعالى النهار و اشتدّ الحرّ استسقى الناس الماء فدعت لهم بالسّويق(3)، فشرب من أراد؛ فقالت: أقسمت على كل رجل و امرأة دخل منزلي إلاّ شرب، فلم يبق في سفل الدار و لا علوها أحد إلاّ شرب، و قام على رءوسهم الجواري بالمناديل و المراوح الكبار، و أمرت جواريها فقمن على كراسيّ(4) صغار فيما بين كلّ عشرة نفر جارية تروّح. ثم قالت لهم: إنّي قد رأيت في منامي شيئا أفزعني و أرعبني(5)، و لست أعرف ما سبب ذلك، و قد خفت أن يكون قرب أجلي، و ليس ينفعني إلاّ صالح عملي، و قد رأيت أن أترك الغناء كراهة أن يلحقني منه شيء عند ربي. فقال قوم منهم: وفّقك اللّه و ثبّت عزمك! و قال آخرون: بل لا حرج عليك في الغناء. و قال شيخ منهم ذو سنّ و علم و فقه و تجربة: قد تكلمت الجماعة، و كلّ حزب بما لديهم فرحون، و لم أعترض عليهم في قولهم و لا شركتهم في رأيهم، فاستمعوا الآن لقولي و أنصتوا/و لا تشغبوا إلى وقت انقضاء كلامي؛ فمن قبل قولي فاللّه موفّقه، و من خالفني فلا بأس عليه إذ كنت في طاعة ربي.
فسكت القوم جميعا. فتكلّم الشيخ فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على محمد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ثم قال: يا معشر أهل الحجاز، إنكم متى تخاذلتم فشلتم و وثب عليكم عدوّكم و ظفر بكم و لا تفلحوا بعدها أبدا. إنكم قد انقلبتم على
ص: 378
أعقابكم لأهل العراق و غيرهم ممّن لا يزال ينكر عليكم ما هو وارثه عنكم، لا ينكره عالمكم و لا يدفعه عابدكم بشهادة شريفكم و وضيعكم يندب إليه كما يندب جموعكم و شرفكم و عزكم(1). فأكثر ما يكون عند عابدكم فيه الجلوس عنه لا للتحريم له لكن للزهد في الدنيا؛ لأن الغناء من أكبر اللذات و أسرّ النفوس من جميع الشهوات؛ يحيي القلب و يزيد في العقل و يسرّ النفس و يفسح في الرأي و يتيسّر به العسير و تفتح به الجيوش و يذلّل به الجبّارون حتى يمتهنوا أنفسهم عند استماعه، و يبرئ المرضى و من مات قلبه و عقله و بصره، و يزيد أهل الثروة غنى و أهل الفقر قناعة و رضا باستماعه فيعزفون(2) عن طلب الأموال. من تمسّك به كان عالما و من فارقه كان جاهلا؛ لأنه لا منزلة أرفع و لا شيء أحسن منه؛ فكيف يستصوب تركه و لا يستعان به على النشاط في عبادة ربّنا عزّ و جلّ. و كلام كثير غير هذا ذهب عن(3) المحدّث به، فما ردّ عليه أحد و لا أنكر ذلك منهم بشر، و كلّ عاد بالخطإ على نفسه و أقرّ بالحق(4) له. ثم قال لجميلة: أوعيت ما قلت و وقع من نفسك ما ذكرت؟ قالت: أجل و أنا أستغفر اللّه. قال لها:
فاختمي مجلسنا و فرّقي جماعتنا بصوت فقط؛ فغنّت:
أ في رسم دار دمعك المترقرق *** سفاها! و ما استنطاق ما ليس ينطق
/بحيث التقى جمع و أقصى محسّر(5) *** مغانيه قد كادت عن العهد تخلق
مقام لنا بعد العشاء و منزل *** به لم يكدّره علينا معوّق
فأحسن شيء كان أوّل ليلنا *** و آخره حزن إذا نتفرّق
فقال الشيخ: حسن و اللّه! أمثل هذا يترك(6)! فيم نتشاهد الرجال! لا و اللّه و لا كرامة لمن خالف الحقّ. ثم قام و قام الناس معه، و قال: الحمد للّه الذي لم يفرّق جماعتنا على اليأس من الغناء و لا جحود فضيلته، و سلام عليك و رحمة اللّه يا جميلة.
و قال أبو عبد اللّه: جلست جميلة يوما و لبست برنسا طويلا، و ألبست من كان عندها برانس دون ذلك، و كان في القوم ابن سريج، و كان قبيح الصّلع قد اتخذ وفرة شعر(7) يضعها على رأسه، و أحبّت جميلة أن ترى صلعته.
فلما بلغ البرنس إلى ابن سريج قال: دبّرت عليّ و ربّ الكعبة! و كشف صلعته و وضع القلنسية على رأسه، و ضحك القوم من قبح صلعته؛ ثم قامت جميلة و رقصت و ضربت بالعود و على رأسها البرنس الطويل و على عاتقها بردة يمانية و على القوم أمثالها، و قام ابن سريج يرقص و معبد و الغريض و ابن عائشة و مالك و في يد كلّ واحد منهم عود يضرب به على ضرب جميلة و رقصها؛ فغنّت و غنّى القوم على غنائها:
ص: 379
ذهب الشباب و ليته لم يذهب *** و علا المفارق وقع شيب مغرب(1)
/و الغانيات يردن غيرك صاحبا *** و يعدنك الهجران بعد تقرّب
/إنّي أقول مقالة بتجارب *** حقّا و لم يخبرك مثل مجرّب
صاف الكريم و كن لعرضك صائنا *** و عن اللّئيم و مثله فتنكّب
ثم دعت بثياب مصبّغة و وفرة شعر مثل وفرة ابن سريج فوضعتها على رأسها، و دعت للقوم بمثل ذلك فلبسوا، ثم ضربت بالعود و تمشّت و تمشّى القوم خلفها، و غنّت و غنّوا بغنائها بصوت واحد:
يمشين مشي قطا البطاح تأوّدا *** قبّ البطون رواجح الأكفال
فيهنّ آنسة الحديث حيّية *** ليست بفاحشة و لا متفال(2)
و تكون ريقتها إذا نبّهتها *** كالمسك فوق سلافة الجريال(3)
ثم نعرت و نعر القوم طربا، ثم جلست و جلسوا و خلعوا ثيابهم و رجعوا إلى زيّهم، و أذنت لمن كان ببابها فدخلوا؛ و انصرف المغنّون و بقي عندها من يطارحها من الجواري.
و حدّثتني عمّتي قالت: سمعت سياطا يحدّث أباك يوما جميلة فقال: بنفسي هي و أمّي! فما كان أحسن وجهها و خلقها(4) و غناءها! ما خلّفت النساء مثلها شبيها؛ فأعجبني ذلك. ثم قال سياط: جلست جميلة يوما للوفادة عليها، و جعلت على رءوس جواريها شعورا مسدلة كالعناقيد إلى أعجازهنّ، و ألبستهنّ أنواع الثياب المصبّغة و وضعت فوق الشعور التيجان، و زينتهنّ بأنواع الحليّ، و وجّهت إلى عبد اللّه بن جعفر تستزيره، و قالت لكاتب أملت عليه: «بأبي أنت و أمّي! قدرك يجلّ عن رسالتي و كرمك(5) يحتمل زلّتي؛ و ذنبي لا تقال عثرته و لا تغفر حوبته. فإن /صفحت فالصفح لكم معشر أهل البيت يؤثر، و الخير و الفضل كله(6) فيكم مدّخر، و نحن العبيد و أنتم الموالي.
فطوبى لمن كان لكم مقاربا والي وجوهكم ناظرا! و طوبى لمن كان لكم(7) مجاورا، و بعزّكم قاهرا، و بضيائكم مبصرا! و الويل لمن جهل قدركم و لم يعرف ما أوجبه اللّه على هذا الخلق لكم! فصغيركم كبير بل لا صغير فيكم، و كبيركم جليل بل الجلالة التي وهبها اللّه عزّ و جلّ للخلق هي لكم و مقصورة عليكم. و بالكتاب نسألك و بحقّ الرسول ندعوك إن كنت نشيطا لمجلس هيّأته لك لا يحسن إلاّ بك و لا يتمّ إلا معك، و لا يصلح أن ينقل عن موضعه، و لا يسلك به غير طريقه». فلما قرأ عبد اللّه الكتاب قال: إنّا لنعرف تعظيمها لنا و إكرامها لصغيرنا و كبيرنا.
و قد علمت أنّها قد آلت ألية ألاّ تغنّي أحدا إلاّ في منزلها. و قال للرسول: و اللّه قد كنت على الركوب إلى موضع
ص: 380
كذا(1) و كان في عزمي المرور بها. فأمّا إذا وافق ذلك مرادها فإنّي جاعل بعد رجوعي طريقي عليها. فلمّا صار إلى بابها أدخل بعض من كان معه إليها و صرف بعضهم. فنظر إلى ذلك الحسن البارع و الهيئة الباذّة(2)، فأعجبه و وقع من نفسه؛ فقال: يا جميلة! لقد أوتيت خيرا كثيرا، ما أحسن ما صنعت!. فقالت: يا سيّدي، إنّ الجميل للجميل يصلح، و لك هيّأت هذا المجلس. فجلس عبد اللّه بن جعفر و قامت على رأسه و قامت الجواري صفّين؛ /فأقسم عليها فجلست غير بعيد. ثم قالت: يا سيّدي، أ لا أغنّيك؟ قال: بلى! فغنّت:
/
بني شيبة(3) الحمد الّذي كان وجهه *** يضيء ظلام اللّيل كالقمر البدر
كهولهم خير الكهول و نسلهم *** كنسل الملوك لا يبور و لا يحرى(4)
أبو عتبة الملقي إليك جماله *** أغرّ هجان اللّون من نفر زهر
لساقي(5) الحجيج ثم للخير هاشم *** و عبد مناف ذلك السيّد الغمر
أبوكم قصيّ كان يدعى مجمّعا *** به جمّع اللّه القبائل من فهر
فقال عبد اللّه: أحسنت يا جميلة و أحسن حذافة ما قال! باللّه أعيديه عليّ فأعادته، فجاء الصوت أحسن من الارتجال. ثم دعت لكل جارية بعود و أمرتهنّ بالجلوس على كراسيّ صغار قد أعدّتها لهنّ، فضربن و غنّت عليهنّ هذا الصوت و غنّى جواريها على غنائها. فلمّا ضربن جميعا قال عبد اللّه: ما ظننت أنّ مثل هذا يكون! و إنّه لممّا يفتن القلب! و لذلك كرهه كثير من الناس لما علموا فيه. ثم دعا ببغلته فركبها و انصرف إلى منزله. و قد كانت جميلة أعدّت طعاما كثيرا، و كان أراد المقام، فقال لأصحابه: تخلّفوا للغداء، فتغدّوا و انصرفوا مسرورين. و هذا الشعر لحذافة(6) بن غانم(7) بن عبيد اللّه بن عويج بن عديّ بن كعب يمدح به عبد المطّلب.
قال و حدّثني بعض المكّيين قال:
كان العرجيّ (و هو عبد اللّه بن عمرو بن عثمان) شاعرا سخيّا شجاعا أديبا ظريفا. و يشبّه شعره بشعر عمر بن أبي ربيعة و الحارث بن خالد بن هشام و إن كانا قدّما عليه؛ و قد نسب كثير من شعره إلى شعرهما، و كان صاحب صيد. فخرج يوما متنزّها من مكّة و معه جماعة من غلمانه و مواليه و معه كلابه و فهوده و صقوره و بوازيه نحو الطائف
ص: 381
إلى مال له بالعرج - و بهذا الموضع سمّي العرجيّ - فجرى بينه و بين مولى لبني أميّة كلام، فأمضّه المولى فكفّ عنه العرجيّ حتى أوى إلى منزله، ثم هجم عليه و معه غلمانه فأمرهم أن يوثقوه، ثم أمرهم أن ينكحوا امرأته و هو يراهم ففعلوا، ثم أخرجه فقتله. فبلغ أمير مكة ما فعل فطلبه، فخرج من منزله و أخرج معه غلمانه و مواليه و آلة الصّيد و توجّه نحو المدينة و قد ركب أفراسه و أعدّ عدّته. فلم يزل يتصيّد و يقصف في طريقه حتى دخل المدينة ليلا، و أراد المقام في منزل جميلة، و كانت آلت ألاّ تغنّي بشعره و لا تدخله منزلها لكثرة عبثه و سفهه و حداثة سنّه. فلما أعلمت بمكانه ليلا قالت: طارق! إن له لشأنا! فاستخبرت خبره فقيل لها: إنه قدم مستخفيا، و لم ير بالمدينة موضعا هو أطيب له من منزلك، و الأيمان تكفّر، و الأشراف لا يردّون. فقالت لرسولها إليه: منزلي منزل جواز. و لا يمكن مثلك الاستخفاء فيه، فعليك بالأحوص - و كان الأحوص مجانبا له لشيء جرى بينه و بينه في منزل جميلة - فقال:
أنّى لي بالأحوص مع الذي كان بيننا! قالت: ائته عنّي و قل له: قد غنّينا بذلك الشعر؛ فأنّ أحببت أن تظهر و تبقى مودّتنا لك، فأصلح ما بينك و بين عبد اللّه، إذ أصلح ما بيننا، و أنزله منزلك. قال لها: ليس هذا بمقنعي؛ أمّا إذ أبيت أن أقيم بمنزلك فوجّهي معي رسولا إلى الأحوص؛ فإنّ منزله/أحبّ المنازل إليّ بعد منزلك. /فوجّهت معه إلى الأحوص بعض مولياتها؛ فأنزله الأحوص و أكرمه و أحسن جواره و ستر أمره. فقال شعرا و وجّه به إلى جميلة:
ألا قاتل اللّه الهوى كيف أخلقا *** فلم تلفه إلاّ مشوبا ممذّقا(1)
و ما من حبيب يستزير حبيبه *** يعاتبه في الودّ إلا تفرّقا
أمرّ وصال الغانيات فأصبحت *** مضاضته يشجى بها من تمطّقا(2)
تعلّق هذا القلب للحين معلقا *** غزالا تحلّى عقد درّ و يارقا(3)
إذا قلت مهلا للفؤاد عن الّتي *** دعتك إليها العين أغضى و أطرقا
دعانا فلم نستبق حبّا بما نرى *** فما منك هذا العذل إلا تخرّقا(4)
فقد سنّ هذا الحبّ من كان قبلنا *** و قاد الصّبا المرء الكريم فأعنقا(5)
فلمّا قرأت شعره رقّت له و قالت: كيف لي بإيلائي ألاّ يدخل منزلي و لا أغنّيه بشعره؟! فقيل لها: يدخل منزلك و تغنّين و تكفّرين عن يمينك. فوجّهت إليه أن صر إلينا و الأحوص في تلك الليلة، فجاءاها؛ و عرّفت الأحوص تكفير اليمين؛ فقال لها: و أنا و اللّه شفيعه إليك؛ ففرّجي ما به من غمّ فقد فارق من يحبّ و يهوى، فتؤنسينه و تسرّينه و تغنّينه بشعره. فغنّت:
ألا قاتل اللّه الهوى كيف أخلقا *** فلم تلفه إلاّ مشوبا ممذّقا
ص: 382
و حدّثني بعض أهلنا قال قال يونس بن محمد:
كان الأحوص معجبا بجميلة، و لم يكن يكاد يفارق منزلها إذا جلست. فصار إليها يوما بغلام جميل الوجه يفتن من رآه، فشغل أهل المجلس، و ذهبت اللحون عن/الجواري و خلطن في غنائهنّ. فأشارت جميلة إلى الأحوص أن أخرج الغلام؛ فالخلل قد عمّ مجلسي و أفسد عليّ أمري. فأبى الأحوص و تغافل، و كان بالغلام معجبا، فآثر لذّته بالنظر إلى الغلام مع السماع. و نظر الغلام إلى الوجوه الحسان من الجواري و نظرن إليه، و كان مجلسا عاما. فلما خافت عاقبة المجلس و ظهور أمره أمرت بعض من حضر بإخراج الغلام فأخرج؛ و غضب الأحوص و خرج مع الغلام و لم يقل شيئا؛ فأحمد(1) أهل المجلس ما كان من جميلة، و قال لها بعضهم: هذا كان الظنّ بك، أكرمك اللّه! فقالت: إنه و اللّه ما استأذنني في المجيء به و لا علمت به حتى رأيته في داري، و لا رأيت له وجها قبل ذلك؛ و إنه ليعزّ عليّ غضب الأحوص، و لكن الحقّ أولى، و كان ينبغي له ألاّ يعرّض نفسه و إيّاي لما نكره مثله. فلمّا تفرّق أهل المجلس بعثت إليه: الذنب لك و نحن منه برءاء؛ إذ كنت قد عرفت مذهبي؛ فلم عرّضتني للّذي كان؛ فقد ساءني ذلك و بلغ منّي؛ و لكن لم أجد بدّا من الذي رأيت إمّا حياء و إمّا تصنّعا. فردّ عليها: ليس هذا لك بعذر إنّ لم تجعلي لي و له مجلسا نخلو فيه جميعا تمحين به ما كان منك. قالت: أفعل ذلك سرّا؛ قال الأحوص: قد رضيت. فجاءاها ليلا فأكرمتهما، و لم تظهر واحدة من جواريها على ذلك إلاّ عجائز من مواليها.
و سألها الأحوص و أقسم عليها أن تغنّيه/من شعره:
و بالقفر دار من جميلة هيجت *** سوالف حبّ في فؤادك منصب
و كانت إذا تنأى نوى أو تفرّقت *** شداد الهوى لم تدر ما قول مشغب(2)
أسيلة مجرى الدمع خمصانة الحشا *** برود الثّنايا ذات خلق مشرعب(3)
/ترى العين ما تهوى و فيها زيادة *** من الحسن إذ تبدو و ملهى لملعب(4)
قال يونس: ما لها صوت أحسن منه، و ابن محرز يغنّيه و عنها أخذه، و أنا أغنّيه فتعجبني نفسي و يدخلني(5) شيء لا أعرفه من النّخوة و التّيه. و قال المحدّث لي بهذا الحديث عن يونس: إنّ هذا للأحوص في جميلة. و الذي عندي أنه لطفيل الغنويّ قاله في ابن زيد الخيل، و هو زيد بن(6) المهلهل بن المختلس بن عبد رضا أحد بني نبهان، و نبهان
ص: 383
لقب له، و لكنه سودان(1) بن عمرو بن الغوث بن طيّئ، أغار على بني عامر فأصاب بني كلاب و بني كعب، و استحرّ القتل(2) في غنيّ بن أعصر و مالك بن أعصر؛ و أعصر هو الدخان، و لذلك قيل لهما ابنا دخان، و أخوهما الحارث و هو الطّفاوة(3) و هو مالك بن سعد بن قيس بن عيلان، و غطفان بن سعد عمّهم. و كانت غنيّ مع بني عامر في دارهم موالي(4) لنمير، و كان فيهم فرسان و شعراء. ثم إنّ غنيّا أغارت على طيّئ و عليهم سيار(5) بن هريم؛ فقال في ذلك قصيدته الطويلة:
و بالقفر دار من جميلة هيّجت *** سوالف شوق في فؤادك منصب
و حدّثني أيّوب بن عباية قال:
كان عمرو بن(6) أحمر بن العمرّد بن عامر بن عبد شمس بن فرّاص بن معن بن مالك ابن أعصر بن قيس بن عيلان بن مضر من شعراء الجاهليّة المعدودين، و كان ينزل الشام، و قد أدرك الإسلام و أسلم، و قال في الجاهليّة و الإسلام شعرا كثيرا و في الخلفاء الذين أدركهم: عمر بن الخطاب فمن دونه إلى عبد الملك(7) بن مروان، و كان في خيل خالد بن الوليد حين وجّه أبو بكر خالدا إلى الشام؛ و لم يأت أبا بكر. و قال في خالد رحمه اللّه:
إذا قال سيف اللّه كرّوا عليهم *** كررت بقلب رابط الجأش صارم
و قال في عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قصيدة له طويلة جيّدة:
أدركت آل أبي حفص و أسرته *** و قبل ذاك و دهرا بعده كلبا
قد ترتمى بقواف بيننا دول *** بين الهناتين(8) لا جدّا و لا لعبا
اللّه يعلم ما قولي و قولهم *** إذ يركبون جنانا(9) مسهبا و ربا
و قال في عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه:
حثّى فليس إلى عثمان مرتجع *** إلاّ العداء و إلاّ مكنع(10) ضرر
ص: 384
/
إخالها سمعت عزفا فتحسبه *** إهابة القسر ليلا حين تنتشر(1)
و قال في عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه:
/
من مبلغ مألكا عنّي أبا حسن *** فارتح لخصم هداك اللّه مظلوم
فلما أنشدت جميلة قصيدته في عمر بن الخطاب، قالت: و اللّه لأعملنّ فيها لحنا لا يسمعه أحد أبدا إلا بكى. قال إبراهيم: و صدقت؛ و اللّه ما سمعته قطّ إلا أبكاني؛ لأني أجد حين أسمعه شيئا يضغط قلبي و يحرقه فلا أملك عيني، و ما رأيت أحدا قطّ سمعه إلا كانت هذه حاله.
يا دار عبلة من مشارق مأسل *** درس الشئون و عهدها لم ينجل
فاستبدلت عفر الظّباء كأنما *** أبعارها في الصّيف حبّ الفلفل
تمشي النّعام به خلاء حوله *** مشي النّصارى حول بيت الهيكل
احذر محلّ السّوء لا تحلل به *** و إذا نبا بك منزل فتحوّل
الشعر، فيما ذكر يحيى بن عليّ عن إسحاق، لعنترة بن شدّاد العبسيّ. و ما رأيت هذا الشعر في شيء من دواوين شعر عنترة، و لعله من رواية لم تقع إلينا؛ فذكر غير أبي أحمد أنّ الشعر لعبد قيس بن خفاف البرجميّ، إلا أنّ البيت الأخير لعنترة صحيح لا يشكّ فيه. و الغناء لأبي دلف القاسم بن عيسى العجليّ، و لحنه المختار، على ما ذكره/أبو أحمد، من الثقيل الأوّل. و ذكر ابن خرداذبه أنّ لحن أبي دلف خفيف ثقيل بالوسطى. و ذكر إسحاق أنّ فيه لمعبد لحنا من الثقيل الأوّل المطلق في مجرى الوسطى، و أن فيه لأبي دلف لحنا و لم يجنّسه. و ذكر حبش أن فيه لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى، و أن لابن سريج في البيت الثاني ثقيلا أوّل، و ذكر ابن خرداذبه أن خفيف الثقيل لمالك، و ليس ممن يعتمد على قوله. و قد ذكر يونس أيضا أن فيه غناء لمالك و لم يذكر جنسه و لا طريقته.
ص: 385
هو عنترة بن شدّاد، و قيل: ابن عمرو بن شدّاد، و قيل: عنترة بن شدّاد بن عمرو بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة، و قيل: مخزوم بن عوف بن مالك ابن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الرّيث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. و له لقب يقال له عنترة الفلحاء؛ و ذلك لتشقّق شفتيه. و أمّه أمة حبشيّة يقال لها زبيبة، و كان لها ولد عبيد من غير شدّاد، و كانوا إخوته لأمّه. و قد كان شدّاد نفاه مرّة ثم اعترف به فألحق بنسبه.
و كانت العرب تفعل ذلك، تستعبد بني الإماء، فإن أنجب اعترفت به و إلاّ بقي عبدا.
فأخبرني عليّ بن سليمان النحويّ الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكّريّ عن محمد بن حبيب، قال أبو سعيد و ذكر ذلك أبو عمرو الشّيبانيّ، قالا: كان عنترة قبل أن يدّعيه أبوه حرّشت عليه امرأة أبيه و قالت: إنه يراودني عن نفسي؛ فغضب من ذلك شدّاد غضبا شديدا و ضربه ضربا مبرّحا و ضربه بالسيف؛ فوقعت عليه امرأة أبيه و كفّته عنه. فلما رأت ما به من الجراح بكت - و كان اسمها سميّة و قيل: سهيّة(1) - فقال عنترة:
أ من سميّة دمع العين مذروف *** لو أنّ ذا منك(2) قبل اليوم معروف
/كأنّها يوم صدّت ما تكلّمني *** ظبي بعسفان(3) ساجي العين(4) مطروف
تجلّلتني إذ أهوى العصا قبلي *** كأنّها صنم يعتاد معكوف
العبد عبدكم و المال مالكم *** فهل عذابك عنّي اليوم مصروف
تنسى بلائي إذا ما غارة لحقت *** تخرج منها الطّوالات السّراعيف
ص: 386
يخرجن منها و قد بلّت رحائلها *** بالماء تركضها(1) الشّمّ الغطاريف
قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض *** تصفرّ كفّ أخيها و هو منزوف
غنّى في البيت الأوّل و الثاني علّوية، و لحنه من الثقيل الأوّل مطلق في مجرى البنصر، و قيل: إنه لإبراهيم. و فيهما رمل بالوسطى يقال: إن لابن سريج، و هو من منحول ابن المكيّ.
قوله «مذروف»: من ذرفت عينه، يقال: ذرفت تذرف ذريفا و ذرفا، و هو قطر يكاد يتصل. و قوله: «لو أنّ ذا منك قيل اليوم معروف». أي قد أنكرت هذا الحنوّ و الإشفاق منك، لأنه لو كان معروفا قبل ذلك لم ينكره.
«ساجي العين». ساكنها. و الساجي: الساكن من كل شيء. «مطروف»: أصابت عينه طرفة، و إذا كان كذلك فهو أسكن لعينه. «تجللتني»: ألقت نفسها عليّ. و «أهوى»: اعتمد. «صنم يعتاد» أي يؤتى مرّة بعد مرّة. و «معكوف»:
يعكف عليه. و «السّراعيف»: السّراع، واحدتها سرعوفة. و «الطّوالات»: الخيل. و الرحائل: السروج. و الشمم:
ارتفاع في الأنف. و «الغطاريف»: الكرام و السادة أيضا. و الغطرفة: ضرب من السير و المشي يختال فيه.
و «النجلاء»: الواسعة، /يقال: سنان منجل: واسع الطعنة: «عن عرض» أي عن شقّ و حرف. و قال غيره: أعترضه اعتراضا حين أقتله.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثني عمّي عن ابن الكلبيّ، و أخبرني إبراهيم بن أيّوب عن ابن قتيبة قال قال ابن الكلبيّ:
شدّاد جدّ عنترة غلب على نسبه، و هو عنترة بن عمرو بن شدّاد؛ و قد سمعت من يقول: إنما شدّادا عمّه، كان نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه. قال: و إنمّا ادّعاه أبوه بعد الكبر؛ و ذلك لأن أمّه كانت أمة سوداء يقال لها زبيبة، و كانت العرب في الجاهليّة إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبدوه. و كان لعنترة إخوة من أمّة عبيد. و كان سبب ادّعاه أبي عنترة إيّاه أنّ بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس فأصابوا منهم و استاقوا إبلا، فتبعهم العبسيّون فلحقوهم فقاتلوهم عمّا معهم و عنترة يومئذ فيهم؛ فقال له أبوه: كرّ يا عنترة. فقال عنترة: العبد لا يحسن الكرّ، إنما يحسن الحلاب و الصّرّ. فقال: كرّ و أنت حرّ. فكرّ و هو يقول:
أنا الهجين عنتره *** كلّ امرئ يحمي حره
أسوده و أحمره *** و الشّعرات [المشعرة](2)
الواردات مشفره(3)و قاتل يومئذ قتالا حسنا، فادّعاه أبوه بعد ذلك و ألحق به نسبه.
و حكى غير ابن الكلبيّ/أنّ السبب في هذا أنّ عبسا أغاروا على طيّئ، فأصابوا نعما، فلما أرادوا القسمة قالوا لعنترة: لا نقسم لك نصيبا مثل أنصبائنا لأنك عبد. فلما طال الخطب بينهم كرّت عليهم طيّئ؛ فاعتزلهم عنترة
ص: 387
و قال: دونكم القوم، فإنّكم/عددهم. و استنقذت طيّئ الإبل. فقال له أبوه: كرّ يا عنترة. فقال: أو يحسن العبد الكرّ! فقال له أبوه: العبد غيرك، فاعترف به، فكّر و استنقذ النّعم. و جعل يقول:
أنا الهجين عنتره *** كلّ امرئ يحمي حره
الأبيات.
قال ابن الكلبيّ: و عنترة أحد أغربة العرب، و هم ثلاثة(1): عنترة و أمّه زبيبة، و خفاف بن عمير الشّريديّ و أمّه ندبة، و السّليك بن عمير السّعديّ و أمّه السّلكة، و إليهنّ ينسبون. و في ذلك يقول عنترة:
إنّي امرؤ من خير عبس منصبا *** شطري و أحمي سائري بالمنصل
و إذا الكتيبة أحجمت و تلاحظت *** ألفيت خيرا من معمّ مخول
يقول: إنّ أبي من أكرم عبس بشطري، و الشطر الآخر ينوب عن كرم أمّي فيه ضربي بالسيف، فأنا خير في قومي ممن عمّه و خاله منهم و هو لا يغني غنائي. و أحسب أنّ هذه القصيدة هي التي يضاف إليها البيتان اللذان يغنّى فيهما، و هذه الأبيات قالها في حرب داحس و الغبراء(2).
قال أبو عمرو الشّيبانيّ: غزت بنو عبس بني تميم و عليهم قيس بن زهير، فانهزمت بنو عبس و طلبتهم بنو تميم، فوقف لهم عنترة، و لحقتهم كبكبة من الخيل، فحامى عنترة عن الناس فلم يصب مدبر(3). و كان قيس بن زهير سيّدهم، فساءه ما صنع عنترة يومئذ، فقال حين رجع: و اللّه ما حمى الناس إلا ابن السوداء. و كان قيس أكولا.
فبلغ عنترة ما قال؛ فقال يعرّض به قصيدته التي يقول فيها:
بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني *** أصبحت عن عرض الحتوف بمعزل
فأجبتها أنّ المنيّة منهل *** لا بدّ أن أسقى بكأس المنهل
فاقنى حياءك لا أبا لك و اعلمي *** أنّي امرؤ سأموت إن لم أقتل
إنّ المنيّة لو تمثّل مثّلت *** مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
إني امرؤ من خير عبس منصبا *** شطري و أحمي سائري بالمنصل
و إذا الكتيبة أحجمت و تلاحظت *** ألفيت خيرا من معمّ مخول
ص: 388
و الخيل تعلم و الفوارس أنّني *** فرّقت جمعهم بصربة فيصل
إذ لا أبادر في المضيق فوارسي *** أو لا(1) أوكّل بالرّعيل الأوّل
إن يلحقوا أكرر و إن يستلحموا *** أشدد و إن يلفوا بضنك(2) أنزل
حين النزول يكون غاية مثلنا *** و يفرّ كلّ مضلّل مستوهل(3)
و الخيل ساهمة الوجوه كأنما *** تسقى فوارسها نقيع الحنظل
/و لقد أبيت على الطّوى و أظلّه *** حتى أنال به كريم المأكل
/عروضه من الكامل. غنّت في الأربعة الأبيات الأول و البيت الثاني عريب خفيف رمل بالبنصر من رواية الهشاميّ و ابن المعتزّ و أبي العبيس.
«الحتوف»: ما عرض للإنسان من المكاره و المتالف. «عن عرض» أي ما يعرف منها. «بمعزل» أي في ناحية معتزلة عن ذلك. و «منهل»: مورد. و قوله: «فاقني حياءك» أي احفظيه و لا تضيّعيه. و «الضّنك» الضيق. يقول: إن المنيّة لو خلقت مثالا لكانت في مثل صورتي. و «المنصب»: الأصل. و «المنصل»: السيف، و يقال منصل أيضا بفتح الصاد. و أحجمت: كعّت(4). و «الكتيبة»: الجماعة إذا اجتمعت و لم تنتشر(5). و «تلاحظت»: نظرت من يقدم على العدوّ. و أصل التلاحظ النظر من القوم بعضهم إلى بعض بمؤخر العين. و «الفيصل»: الذي يفصل بين الناس.
و قوله: «لا أبادر في المضيق فوارسي» أي لا أكون أوّل منهزم و لكني أكون حاميتهم. و «الرعيل»: القطعة من كل شيء. و «يستلحموا»: يدركوا(6). و المستلحم: المدرك؛ و أنشد الأصمعيّ:
نجّى علاجا و بشرا كلّ سلهبة(7) *** و استلحم الموت أصحاب البراذين
و «ساهمة»: ضامرة متغيّرة، قد كلح(8) فوارسها لشدّة الحرب و هولها. و قوله: «و لقد أبيت على الطوى و أظله». قال الأصمعيّ: أبيت بالليل على الطّوى و أظلّ بالنهار كذلك حتى أنال به كريم المأكل أي ما لا عيب فيه عليّ، و مثله /قوله: إنه ليأتي عليّ اليومان لا أذوقهما طعاما و لا شرابا أي لا أذوق فيهما. و الطّوى: خمص البطن، يقال: رجل طيّان و طاوي البطن.
و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا ابن عائشة قال:
أنشد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قول عنترة:
ص: 389
و لقد أبيت على الطّوى و أظلّه *** حتّى أنال به كريم المأكل
فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما وصف لي أعرابيّ قطّ فأحببت أن أراه إلاّ عنترة».
أخبرني عليّ بن سليمان قال حدّثنا أبو سعيد السكّريّ عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ و أبي عبيدة:
أن عنترة كان له إخوة من أمّه، فأحبّ عنترة أن يدّعيهم قومه؛ فأمر أخا له كان خيرهم في نفسه يقال له «حنبل»، فقال له: أرو مهرك من اللّبن ثم مرّ به عليّ عشاء. فإذا قلت لكم: ما شأن مهركم متخدّدا(1) مهزولا ضامرا، فاضرب بطنه بالسيف كأنّك تريهم أنك قد غضبت مما قلت: فمرّ عليهم، فقال له: يا حنبل، ما شأن مهركم متخدّدا أعجر(2) من اللبن؟ فأهوى أخوه بالسيف إلى بطن مهره فضربه فظهر اللبن. فقال في ذلك عنترة:
أ بني زبيبة ما لمهركم *** متخدّدا و بطونكم عجر
أ لكم بإيغال الوليد على *** أثر الشّياه بشدّة خبر(3)
/و هي قصيدة. قال: فاستلاطه(4) نفر من قومه و نفاه آخرون. ففي ذلك يقول عنترة:
ألا يا دار عبلة بالطّويّ *** كرجع الوشم في كفّ الهديّ(5)
و هي طويلة يعدّد فيها بلاءه و آثاره عند قومه.
أخبرني عمّي قال أخبرني الكرانيّ عن/النّضر بن عمرو عن الهيثم بن عديّ قال:
قيل لعنترة: أنت أشجع العرب و أشدّها؟ قال لا. قيل: فبما ذا شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما، و أحجم إذا رأيت الإحجام حزما، و لا أدخل إلا موضعا(6) أرى لي منه مخرجا، و كنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشّجاع فأثني عليه فأقتله.
أخبرني حبيب بن نصر و أحمد بن عبد العزيز قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:
قال عمر بن الخطاب للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازم. قال: و كيف يكون ذلك؟ قال: كان قيس بن زهير فينا و كان حازما فكنا لا نعصيه. و كان فارسنا عنترة فكنّا نحمل إذا حمل و نحجم إذا أحجم.
و كان فينا الرّبيع بن زياد و كان ذا رأي فكنا نستشيره و لا نخالفه. و كان فينا عروة بن الورد فكنّا نأتمّ بشعره، فكنا كما وصفت لك. فقال عمر: صدقت.
ص: 390
أخبرني عليّ بن سليمان قال حدّثنا أبو سعيد السكريّ قال قال محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل عن أبي عبيدة(1) و ابن الكلبيّ قالا:
أغار عنترة على بني نبهان من طيّئ فطرد(2) لهم طريدة و هو شيخ كبير، فجعل يرتجز و هو يطردها و يقول:
آثار ظلمان بقاع محرب(3)قال: و كان زرّ(4) بن جابر النّبهانيّ في فتوّة، فرماه و قال: خذها و أنا ابن سلمى، فقطع مطاه(5)؛ فتحامل بالرّمية حتى أتى أهله؛ فقال و هو مجروح:
و إنّ ابن سلمى عنده فاعلموه دمي *** و هيهات لا يرجى ابن سلمى و لا دمي
يحلّ بأكناف الشّعاب و ينتمي(6) *** مكان الثّريّا ليس بالمتهضّم
رماني و لم يدهش بأزرق لهذم *** عشيّة حلّوا بين نعف(7) و مخرم
قال ابن الكلبي: و كان الذي قتله يلقّب بالأسد الرهيص(8). و أما أبو عمرو الشّيبانيّ فذكر أنه غزا طيّئا مع قومه، فانهزمت عبس، فخرّ عن فرسه و لم يقدر من الكبر أن يعود فيركب؛ فدخل دغلا، و أبصره ربيئة(9) طيّئ فنزل إليه، و هاب أن يأخذه أسيرا فرماه و قتله.
و ذكر أبو عبيدة أنه كان قد أسنّ و احتاج و عجر بكبر سنّه عن الغارات، و كان له على رجل من غطفان بكر، فخرج يتقاضاه إيّاه، فهاجت عليه ريح من صيف و هو بين شرج(10) و ناظرة، فأصابته فقتلته.
قال أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال:
كان عمرو بن معد يكرب يقول: ما أبالي من لقيت من فرسان العرب ما لم يلقني حرّاها و هجيناها. يعني بالحرّين عامر بن الطّفيل و عتيبة بن الحارث بن شهاب، و بالعبدين عنترة و السّليك بن السّلكة.
ص: 391
هذه أخبار عنترة قد ذكرت فيها ما حضر.
***
و أمّا عبد قيس بن خفاف البرجميّ فإنّي لم أجد له خبرا أذكره إلاّ ما أخبرني به جعفر بن قدامة قال: قرأت في كتاب لأبي عثمان المازنيّ: كان عبد قيس بن خفاف البرجميّ أتى حاتم طيّئ في دماء حملها عن قومه فأسلموه فيها و عجز عنها، فقال: و اللّه لآتينّ من يحملها عنّي، و كان شريفا شاعرا شجاعا؛ فقدم على حاتم و قال له: إنه وقعت بيني و بين قومي دماء فتواكلوها، و إني حملتها في مالي و أهلي، فقدّمت مالي و أخّرت أهلي، و كنت أوثق الناس في نفسي. فإن تحمّلتها فكم من حقّ قضيته و همّ/كفيته، و إن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك و لم أنس غدك؛ ثم أنشأ يقول:
حملت دماء للبراجم جمّة *** فجئتك لمّا أسلمتني البراجم
و قالوا سفاها لم حملت دماءنا *** فقلت لهم يكفي الحمالة حاتم
متى آته فيها يقل لي مرحبا *** و أهلا و سهلا أخطأتك الأشائم
فيحملها عنّي و أن شئت زادني *** زيادة من حيزت إليه المكارم
يعيش النّدى ما عاش حاتم طيّئ *** و إن مات قامت للسخاء مآتم
ينادين مات الجود معك فلا نرى *** مجيبا له ما حام في الجوّ حائم
و قال رجال أنهب العام ماله *** فقلت لهم إنّي بذلك عالم
و لكنه يعطى من اموال طيّئ *** إذا حلق المال الحقوق اللّوازم
/فيعطي الّتي فيها الغنى و كأنه *** لتصغيره تلك العطيّة جارم
بذلك أوصاه عديّ(1) و حشرج *** و سعد و عبد اللّه تلك القماقم
فقال له حاتم: إني كنت لأحبّ أن يأتيني مثلك من قومك، و هذا مرباعي(2) من الغارة على بني تميم فخذه وافرا، فإن و فى بالحمالة و إلا أكملتها لك، و هي مائتا بعير سوى نيبها(3) و فصالها، مع أنّي لا أحبّ أن تؤبّس(4) قومك بأموالهم. فضحك أبو جبيل(5) و قال: [لكم ما أخذتم منّا و لنا ما أخذنا(6) منكم]، و أيّ بعير دفعته إليّ و ليس ذنبه في يد صاحبه فأنت منه بريء. فأخذها و زاده مائة بعير، و انصرف راجعا إلى قومه. فقال حاتم:
ص: 392
أتاني
البرجميّ أبو جبيل *** لهمّ في حمالته طويل
فقلت له خذ المرباع منها *** فإنّي لست أرضى بالقليل
على حال و لا عوّدت نفسي *** على علاّتها علل البخيل
فخذها إنها مائتا بعير *** سوى الناب الرذيّة و الفصيل
و لا منّ عليك بها فإنّي *** رأيت المنّ بزري بالجميل
فآب البرجميّ و ما عليه *** من اعباء الحمالة من فتيل
يجرّ الذّيل ينفض مذرويه(1)*** خفيف الظهر من حمل ثقيل
ص: 393
هو القاسم بن عيسى بن إدريس، أحد بني عجل بن لجيم بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل. و محلّه في الشجاعة و علوّ المحلّ عند الخلفاء و عظم الغناء في المشاهد و حسن الأدب و جودة الشعر محلّ ليس لكبير أحد(1)من نظرائه. و ذكر ذلك أجمع مما لا معنى له لطوله؛ و في هذا القدر من أخباره مقنع. و له أشعار جياد، و صنعة كثيرة حسنة. فمن جيّد شعره و له فيه صنعة قوله:
بنفسي يا جنان و أنت منّي *** محلّ الروح من جسد الجبان
/و لو أنّي أقول مكان نفسي *** خشيت عليك بادرة الزمان
لإقدامي إذا ما الخيل حامت *** و هاب كماتها حرّ الطّعان
و له فيه لحن. و هذا البيت الأوّل أخذه من كلام إبراهيم النّظّام(2).
أخبرني به عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن الحسن بن الحرون قال:
لقي إبراهيم النظّام غلاما حسن الوجه، فاستحسنه و أراد كلامه فعارضه، ثم قال له: يا غلام، إنك لو لا ما سبق من قول الحكماء مما جعلوا به السبيل لمثلي إلى مثلك في قولهم: لا ينبغي لأحد أن يكبر عن أن يسأل، كما أنه لا ينبغي لأحد أن يصغر عن أن يقول، لما أنبت(3) إلى مخاطبتك و لا انشرح صدري لمحادثتك، لكنه سبب الإخاء و عقد المودّة، و محلّك من قلبي محلّ الروح من جسد الجبان. فقال له الغلام/ - و هو لا يعرفه -: لئن قلت ذلك أيها الرجل لقد قال أستاذنا إبراهيم النظّام: الطبائع تجاذب ما شاكلها بالمجانسة، و تميل إلى ما قاربها بالموافقة؛ و كياني مائل إلى كيانك بكلّيّتي. و لو كان الذي انطوى عليه عرضا لم أعتدّ به ودّا، و لكنه جوهر جسمي؛ فبقاؤه ببقاء النفس، و عدمه بعدمها؛ و أقول كما قال الهذليّ:
فتيقّني أن قد كلفت بكم *** ثم افعلي ما شئت عن علم
ص: 394
فقال له النظّام: إنما كلّمتك بما سمعت و أنت عندي غلام مستحسن؛ و لو علمت أنّ محلّك مثل محلّ معمر(1)و طبقته في الجدل لما تعرّضت لك. قال أبو الحسن: و من هذا أخذ أبو دلف قوله:
أحبّك يا جنان و أنت منّي *** محلّ الرّوح من جسد الجبان
و من جيّد شعره و له فيه صنعة قوله:
في كلّ يوم أرى بيضاء طالعة *** كأنما أنبتت في ناظر البصر
لئن قصصتك بالمقراض عن بصري *** لما قطعتك عن همّي و عن فكري
أخبرني عليّ بن عبد العزيز الكاتب قال حدّثني أبي قال سمعت عبد العزيز بن دلف بن أبي دلف يقول: حدّثتني ظبية جارية أبي(2) قالت: إنّي لمعه ليلة بالسّرادن(3) و هو جالس يشرب معي و عليه ثياب ممسّكة، إذ أتاه الصريخ بطروق الشّراة أطراف عسكره؛ فلبس الجوشن و مضى فقتل و أسر و انصرف إليّ في آخر اللّيل و هو يغنّي - قالت:
و الشعر له -:
ليلتي بالسّرادن *** كلّلت بالمحاسن
و جوار أوانس *** كالظّباء الشّوادن
بدّلت بالممسّكا *** ت ادّراع الجواشن
الشعر لأبي دلف. و الغناء له رمل بالسبّابة في مجرى البنصر.
و قال أحمد بن أبي طاهر: كان أبو دلف القاسم بن عيسى في جملة من كان مع الأفشين(4) خيذر بن كاووس
ص: 395
لمّا خرج لمحاربة بابك(1)، ثم تنكّر له؛ فوجّه يوما بمن جاء به ليقتله. و بلغ المعتصم الخبر، فبعث إليه بأحمد/بن أبي دواد و قال له: أدركه، و ما أراك تلحقه، فاحتل في خلاصه منه كيف شئت. قال ابن أبي دواد: فمضيت ركضا حتى وافيته، فإذا أبو دلف واقف بين يديه و قد أخذ بيديه غلامان له تركيّان، فرميت بنفسي على البساط، و كنت إذا جئته دعا لي بمصلّى، فقال لي: سبحان اللّه! ما حملك على هذا؟ قلت: أنت أجلستني هذا المجلس. ثم كلّمته في القاسم و سألته فيه و خضعت له، فجعل لا يزداد إلاّ غلظة. فلما رأيت ذلك قلت: هذا عبد و قد أغرقت في الرّفق به فلم ينفع، و ليس إلا أخذه بالرّهبة و الصّدق؛ فقمت/فقلت: كم تراك قدرت! تقتل أولياء أمير المؤمنين واحدا بعد واحد، و تخالف أمره في قائد بعد قائد! قد حملت إليك هذه الرسالة عن أمير المؤمنين، فهات الجواب!. قال:
فذلّ حتى لصق بالأرض و بان لي الاضطراب فيه. فلما رأيت ذلك نهضت إلى أبي دلف و أخذت بيده، و قلت له: قد أخذته بأمر أمير المؤمنين. فقال: لا تفعل يا أبا عبد اللّه. فقلت: قد فعلت و أخرجت القاسم فحملته على دابّة و وافيت المعتصم. فلما بصر بي قال: بك يا أبا عبد اللّه وريت زنادي، ثم ردّ عليّ خبري مع الأفشين حدسا بظنّه ما أخطأ فيه حرفا؛ ثم سألني عما ذكره لي و هو كما قال، فأخبرته أنه لم يخطئ حرفا.
و قال عليّ بن محمد حدّثني جدّي قال:
كان أحمد بن أبي دواد ينكر أمر الغناء إنكارا شديدا. فأعلمه المعتصم أن صديقه أبا دلف يغنّي؛ فقال: ما أراه مع عقله يفعل ذلك. فستر أحمد بن أبي دواد في موضع و أحضر أبا دلف و أمره أن يغنّي، ففعل ذلك و أطال؛ ثم أخرج أحمد بن أبي دواد عليه من موضعه و الكراهة ظاهرة في وجهه. فلما رآه أحمد قال له: سوأة لهذا من فعل(2)! بعد هذه السّنّ و هذا المحلّ تضع نفسك كما أرى! فحجل أبو دلف و تشوّر(3)، و قال: إنهم أكرهوني على ذلك. فقال: هبهم أكرهوك على الغناء أ فأكرهوك على الإحسان و الإصابة!.
قال عليّ و حدّثني جدّي: أنّ سبب منادمته للمعتصم أنه كان نديما للواثق، و كان أبو دلف قد وصف للمعتصم فأحب أن يسمعه، و سأل الواثق عنه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أنا على الفصد غدا و هم عندي. فقال له المعتصم:
أحبّ ألاّ تخفي عليّ/شيئا من خبركم. و فصد الواثق، فأتاه أبو دلف و أتته رسل الخليفة بالهدايا، و أعلمهم الواثق حضور أبي دلف عنده؛ فلم يلبث أن أقبل الخدم يقولون: قد جاء الخليفة. فقام الواثق و كلّ من عنده حتى تلقّوه حين برز من الدّهليز إلى الصّحن؛ فجاء حتى جلس، و أمر بندماء الواثق فردّوا إلى مجالسهم. قال حمدون(4):
و خنست عن مجلسي الذي كنت فيه لحداثتي؛ فنظر المعتصم إلى مكاني خاليا، فسأل عن صاحبه فسمّيت له، فأمر بإحضاري فرجعت إلى مكاني، و أمر بأن يؤتى برطل من شرابه فأتي به؛ فأقبل على أبي دلف فقال له: يا قاسم، غنّ
ص: 396
أمير المؤمنين صوتا؛ فما حصر و لا تثاقل و قال: أغنّي أمير المؤمنين صوتا بعينه أو ما(1) اخترته؟ قال: بل غنّ صنعتك في شعر جرير:
بان الخليط برامتين فودّعوا فغنّاه إيّاه. فقال المعتصم: أحسن! أحسن! ثلاثا، و شرب الرّطل، و لم يزل يستعيده و يشرب عليه حتى والى بين سبعة أرطال، ثم دعا بحمار فركبه، و أمر أبا دلف أن ينصرف معه، و أمرني بالانصراف معهما، فخرجت أسعى/مع ركابه، فثبّتّ في ندمائه من ذلك اليوم، و أمر لأبي دلف بعشرين ألف دينار.
بان الخليط برامتين فودّعوا *** أو كلّما اعتزموا لبين تجزع
كيف العزاء و لم أجد مذ غبتم *** قلبا يقرّ و لا شرابا ينقع
عروضه من الكامل. الشعر لجرير، و الغناء لأبي دلف ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشاميّ و عمرو بن بانة.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:
كان جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكرديّة يستخفّ مطيع بن إياس، و كان منقطعا إليه و له منه منزلة حسنة. فذكر له مطيع بن إياس حمّادا الراوية، و كان مطّرحا مجفوّا في أيّامهم. فقال له: دعني، فإنّ دولتي كانت في بني أميّة و ما لي عند هؤلاء خير. فأبى مطيع إلا الذهاب به إليه. فاستعار سوادا و سيفا؛ ثم أتاه فدخل على جعفر فسلّم عليه و جلس. فقال له جعفر: أنشدني. فقال: لمن أيها الأمير؟ قال: لجرير. قال حماد: فسلخ اللّه شعره أجمع من قلبي إلاّ قوله:
بان الخليط برامتين فودّعوا فاندفعت أنشده إيّاه حتى بلغت إلى قوله:
و تقول بوزع قد دببت على العصا *** هلاّ هزئت(2) بغيرنا يا بوزع
قال حمّاد فقال لي جعفر: أعد هذا البيت فأعدته؛ فقال: إيش هو بوزع؟ قلت: اسم امرأة. قال: امرأة اسمها بوزع! هو بريء من اللّه و رسوله و من العبّاس بن عبد المطّلب إن كانت بوزع إلا غولا من الغيلان! تركتني و اللّه يا هذا لا أنام الليل من فزع بوزع! يا غلمان، قفاه. قال: فصفعت و اللّه حتى لم أدر أين أنا. ثم قال: جرّوا برجله، فجرّوا برجلي
ص: 397
حتى أخرجت من بين يديه و قد تخرّق السواد و انكسر جفن السيف و لقيت شرّا عظيما مما جرى من ذلك. و كان أغلظ من ذلك عليّ غرامتي السواد و السيف. فلما انصرف إليّ مطيع جعل يتوجّع لي. فقلت له: أ لم أخبرك أنّي لا أصيب منهم خيرا و أنّ حظّي قد مضى مع من مضى من بني أمية!.
/رجع الحديث إلى أخبار أبي دلف.
و كان أبو دلف جواد ممدّحا؛ و فيه يقول عليّ بن جبلة:
إنما الدّنيا أبو دلف *** بين مغزاه و محتضره
و إذا ولّى أبو دلف *** ولّت الدّنيا على أثره
و هي من جيّد شعره و حسن مدائحه. و فيها يقول:
ذاد و رد الغيّ عن صدره *** و ارعوى(1) و اللّهو من وطره
ندمي أنّ الشّباب مضى *** لم أبلّغه مدى أشره
حسرت عنّي بشاشته *** و ذوى المحمود من ثمره
و دم أهدرت من رشأ *** لم يرد عقلا على هدره
فأتت دون الصّباهنة *** قلبت فوقي(2) على وتره
/دع جدا قحطان أو مضر *** في يمانيه و في مضره
و امتدح من وائل رجلا *** عصر الآفاق من عصره
المنايا في مقانبه *** و العطايا في ذرا(3) حجره
ملك تندى أنامله *** كانبلاج النّوء عن مطره
مستهلّ عن مواهبه *** كابتسام الرّوض عن زهره
جبل عزّت مناكبه *** أمنت عدنان في نفره
إنما الدّنيا أبو دلف *** بين مغزاه و محتضره
فإذا ولّى أبو دلف *** ولّت الدنيا على أثره
/كلّ من في الأرض من عرب *** بين باديه إلى حضره(4)
ص: 398
مستعير منه مكرمة *** يكتسيها يوم مفتخره
و هذان البيتان هما اللّذان أحفظا المأمون على عليّ بن جبلة حتى سلّ لسانه من قفاه، و قوله في أبي دلف أيضا:
أنت الذي تنزل الأيّام منزلها *** و تنقل الدهر من حال إلى حال
و ما مددت مدى طرف إلى أحد *** إلاّ قضيت بأرزاق و آجال
و سنذكر ذلك في موضعه من أخبار عليّ بن جبلة إن شاء اللّه تعالى؛ إذ كان القصد هاهنا أمر أبي دلف.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال:
كنّا عند أبي العباس المبرّد يوما و عنده فتى من ولد أبي البختري وهب بن وهب القاضي أمرد حسن الوجه، و فتى من ولد أبي دلف العجليّ شبيه به في الجمال. فقال المبرّد لابن أبي البختريّ: أعرف لجدّك قصّة ظريفة من الكرم حسنة لم يسبق إليها. قال: و ما هي؟ قال: دعي رجل من أهل الأدب إلى بعض المواضع، فسقوه نبيذا غير الذي كانوا يشربون منه؛ فقال فيهم:
نبيذان في مجلس واحد *** لإيثار مثر على مقتر
فلو كان فعلك ذا في الطعام *** لزمت قياسك في المسكر
و لو كنت تطلب شأو الكرام *** صنعت صنيع أبي البختري
تتبّع إخوانه في البلاد *** فأغنى المقلّ عن المكثر
/فبلغت الأبيات أبا البختريّ فبعث إليه بثلاثمائة دينار. قال ابن عمّار: فقلت: قد فعل جدّ هذا الفتى في هذا المعنى ما هو أحسن من هذا. قال: و ما فعل؟ قلت: بلغه أنّ رجلا افتقر بعد ثروة، فقالت له امرأته: افترض في الجند؛ فقال:
إليك عنّي فقد كلّفتني شططا *** حمل السلاح و قيل الدّارعين قف
تمشي المنايا إلى غيري(1) فأكرهها *** فكيف أمشي إليها عاري الكتيف
حسبت أنّ نفاد المال غيّرني *** و أنّ روحي في جنبي أبي دلف
فأحضره أبو دلف ثم قال له: كم أمّلت امرأتك أن يكون رزقك؟ قال: مائة دينار. قال: و كم/أمّلت أن تعيش؟ قال: عشرين سنة. قال: فذلك لك عليّ على ما أمّلت امرأتك في مالنا دون مال السلطان؛ و أمر بإعطائه إيّاه. قال:
فرأيت وجه ابن أبي دلف يتهلّل، و انكسر ابن أبي البختريّ انكسارا شديدا.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد المبرّد قال أخبرني عليّ بن القاسم قال:
قال عليّ بن جبلة: زرت أبا دلف بالجبل(2)، فكان يظهر من إكرامي و برّي و التّحفّي بي أمرا مفرطا، حتى
ص: 399
تأخّرت عنه حينا حياء. فبعث إليّ معقل بن عيسى، فقال: يقول لك الأمير: قد انقطعت عنّي، و أحسبك استقللت برّي بك، فلا يغضبنك ذلك، فسأزيد فيه حتى ترضى. فقلت: و اللّه ما قطعني إلاّ إفراطه في البرّ، و كتبت إليه.
هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة *** و هل يرتجى نيل الزيادة بالكفر
/و لكنّني لمّا أتيتك زائرا *** فأفرطت في برّي عجزت عن الشكر
فم الآن لا آتيك إلا مسلّما *** أزورك في الشهرين يوما أو الشهر
فإن زدتني برّا تزايدت جفوة *** و لم تلقني طول الحياة إلى الحشر
فلمّا قرأها معقل استحسنها جدّا و قال: أحسنت و اللّه! أما إنّ الأمير لتعجبه هذه المعاني. فلما أوصلها إلى أبي دلف قال: قاتله اللّه. ما أشعره و أدقّ معانيه! فأعجبته فأجابني لوقته - و كان حسن البديهة حاضر الجواب -:
ألا ربّ ضيف طارق قد بسطته *** و آنسته قبل الضّيافة بالبشر
أتاني يرجّيني فما حال دونه *** و دون القرى و العرف من نائلي ستري
وجدت له فضلا عليّ بقصده *** إليّ و برّا زاد فيه على برّي
فزوّدته مالا يقلّ بقاؤه *** و زوّدني مدحا يدوم على الدهر
قال: و بعث إليّ بالأبيات مع وصيف له و بعث معه إليّ بألف دينار؛ فقلت حينئذ:
إنما الدنيا أبو دلف
.
الأبيات.
أخبرني عليّ بن سليمان قال أخبرنا المبرّد قال أخبرني إبراهيم بن خلف قال:
بينا أبو دلف يسير مع معقل، و هما إذ ذاك بالعراق، إذ مرّا بقصر، فأشرفت منه جاريتان؛ فقالت إحداهما للأخرى: هذا أبو دلف الذي يقول فيه الشاعر:
إنما الدنيا أبو دلف فقالت الأخرى: أ و هذا! قد و اللّه كنت أحبّ أن أراه منذ سمعت ما قيل فيه. فالتفت أبو دلف إلى معقل فقال: ما أنصفنا عليّ بن جبلة و لا وفيناه حقّه، و إن ذلك لمن كبير همّي. قال: و كان أعطاه ألف دينار.
العبّاس بن يزيد بن الأسود الكنديّ و إلى العجير السّلوليّ و إلى عمرو بن عقيل بن الحجّاج الهجيميّ و هو أصح الأقوال؛ رواه ثعلب عن أبي نصر عن الأصمعيّ. و على أنّ في هذه الروايات أبياتا ليست مما يغنّى فيه و أبياتا ليست في الرواية(1). و قد روي أيضا أنّ الجماعة المذكورة تساجلوا هذه الأبيات فقال كل واحد منهم بعضا. و أخبار ذلك و ما يحتاج إليه في شرح غريبه يذكر بعد هذا. و الغناء في اللحن المختار لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالوسطى. و في هذين البيتين مع أبيات أخر من القصيدة اشتراك كثير بين المغنّين يتقدّم بعض الأبيات فيه بعضا و يتأخّر بعضها عن بعض على اختلاف تقديم ذلك و تأخيره. و الأبيات تكتب هاهنا ثم تنسب صنعة كلّ صانع في شيء منها إليه؛ و هي بعد البيتين الأوّلين، إذ كانا قد مضيا و استغني عن إعادتهما،:
لمّا تبدّى لها طارت و قد علمت *** أن قد أظل و أنّ الحيّ غاشيها
/تشتقّ(2) في حيث لم تبعد مصعّدة *** و لم تصوّب إلى أدنى مهاويها
تنتاش(3) صفراء مطروقا بقيّتها *** قد كاد يأزي عن الدّعموص آزيها
ما هاج عينك أم قد كاد يبكيها *** من رسم دار كسحق(4) البرد باقيها
فلا غنيمة توفّي بالذي وعدت *** و لا فؤادك حتى الموت ناسيها
بسيط مولى عبد اللّه بن جعفر خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر من رواية إسحاق في «أمّا القطاة» و الذي بعده، و «تنتاش(5) صفراء» خفيف ثقيل نصر عن عمرو. و لإبراهيم الموصليّ في «لما تبدّى لها» و «أمّا القطاة» خفيف رمل عن الهشاميّ. و لعمر الواديّ في «أمّا القطاة» ثقيل بالوسطى. و لابن جامع في «لما تبدّى لها» و بعده «أمّا القطاة» خفيف رمل. و لسياط في الأوّل و الثاني و بعدهما «تشتق في حيث لم تبعد» خفيف ثقيل بالبنصر، و من الناس من ينسب لحنه إلى عمر الواديّ و ينسب لحن عمر إليه. و لعلّويه في «أمّا القطاة» و الذي بعده رمل هو من صدور أغانيه و مقدّمها. فجميع ما وجدته في هذه الأبيات من الصنعة أحد عشر لحنا(6).
فأمّا خبر هذا الشعر، فإن ابن الكلبيّ زعم أنّ السبب فيه أنّ العجير السّلوليّ أوس بن غلفاء الهجيميّ و مزاحما العقيليّ و العباس بن يزيد بن الأسود الكنديّ و حميد بن ثور الهلاليّ اجتمعوا فتفاخروا بأشعارهم و تناشدوا و ادّعى كل واحد منهم أنه أشعر من صاحبه. و مرّ بهم سرب قطا؛ فقال أحدهم: تعالوا حتى نصف القطا ثم نتحاكم إلى من نتراضى به، فأيّنا كان أحسن وصفا لها غلب أصحابه؛ فتراهنوا على ذلك. فقال أوس بن غلفاء الأبيات المذكورة و هي «أمّا القطاة». و قال حميد أبياتا وصف ناقته فيها، ثم خرج إلى صفة القطاة فقال:
ص: 401
/
كما انصلتت(1) كدراء تسقي فراخها *** بشمظة(2) رفها و المياه شعوب
غدت لم تباعد في السماء و دونها *** إذا ما علت أهويّة(3) و صبوب
قرينة سبع(4) إن تواترن(5) مرّة *** ضربن فصفّت أرؤس و جنوب
/فجاءت و ما جاء القطا ثم قلّصت(6)*** بمفحصها و الواردات تنوب
و جاءت و مسقاها الذي وردت به *** إلى الصّدر مشدود(7) العصام كتيب
تبادر أطفالا مساكين دونها *** فلا لا تخطّاه العيون رغيب(8)
وصفن لها مزنا بأرض تنوفة(9)*** فما هي إلاّ نهلة و تئوب
و قال العباس بن يزيد بن الأسود - هكذا ذكر ابن الكلبيّ، و غيره يرويها لبعض بني مرّة -:
حذّاء(10) مدبرة سكّاء مقبلة *** للماء في النحر منها نوطة(11) عجب
تسقى أزيغب ترويه مجاجتها(12) *** و ذاك من ظماءة من ظمئها(13) شرب
/منهرت الشّدق لم تنبت قوادمه *** في حاجب العين من تسبيده(14) زبب
تدعو القطا بقصير الخطو ليس له *** قدّام منحرها ريش و لا زغب
تدعو القطا و به تدعى إذا انتسبت *** يا صدقها حين تدعوه و تنتسب
و قال مزاحم العقيليّ:
أ ذلك أم كدريّة هاج وردها *** من القيظ يوم واقد و سموم
ص: 402
غدت كنواة القسب(1) لا مضمحلّة *** وناة(2) و لا عجلى الفتور سئوم
تواشك رجع المنكبين و ترتمى *** إلى كلكل، للهاديات(3) قدوم
فما انخفضت حتى رأت ما يسرّها *** و فيء الضّحى قد مال فهو ذميم
أباطح و انتصّت(4) على حيث تستقي *** بها شرك للواردات مقيم
سقتها سيول المدجنات فأصبحت *** علاجيم تجري مرّة و تدوم(5)
فلما استقت من بارد الماء و انجلى *** عن النفس منها لوحة(6) و هموم
دعت باسمها حين استقت فاستقلّها *** قوادم حجن(7) ريشهنّ مليم
بجوز(8) كحقّ الها جريّة زانه *** بأطراف عود الفارسيّ وشوم
- يعني حقّ الطيب. شبّه حوصلتها به. و الوشوم يعني الشّية(9) التي في صدرها -:
لتسقي زغبا بالتّنوفة لم يكن *** خلاف مولاّها لهنّ حميم
ترائك(10) بالأرض الفلاة و من بدع *** بمنزلها الأولاد فهو مليم
إذا استقبلتها الريح طمّت(11) رفيقة *** و هنّ بمهوى كالكرات جثوم
يراطنّ(12) وقصاء(13) القفا وحشة الشّوى *** بدعوى القطا لحن لهنّ قديم
فبتن قريرات العيون و قد جرى *** عليهن شرب فاستقين منيم
صبيب سقاء نيط قد بركت به *** معاودة سقي الفراخ رءوم
و قال العجير - فيما روى ابن الكلبيّ، و قد تروى لغيره -:
سأغلب و السماء و من بناها *** قطاة مزاحم و من انتحاها
ص: 403
قطاة مزاحم و أبي المثنّى *** على حوزيّة(1) صلب شواها
غدت كالقطرة السّفواء(2) تهوي *** أمام مجلجل(3) زجل نفاها
/تكفّأ كالجمانة لا تبالي *** أبا الموماة أضحت أم سواها
نبت منها العجيزة فاحزألّت(4) *** و نبّس(5) للتقتّل منكباها
/كأنّ كعوبها أطراف نبل *** كساها الرّازقيّة(6) من براها
قال: و احتكموا إلى ليلى الأخيليّة، فحكمت لأوس بن غلفاء.
و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا يعقوب بن إسرائيل عن قعنب بن محرز الباهليّ قال حدّثني رجل عن أبي عبيدة قال أخبرنا حميد(7) بن ثور و العجير السّلوليّ و مزاحم العقيليّ و أوس بن غلفاء الهجيميّ أنهم تحاكموا إلى ليلى الأخيليّة لمّا وصفوا القطاة أيّهم أحسن وصفا لها؛ فقالت:
ألا كلّ ما قال الرّواة و أنشدوا *** بها غير ما قال السّلوليّ بهرج
و حكمت له. فقال حميد بن ثور يهجوها:
كأنّك ورهاء(8) العنانين بغلة *** رأت حصنا فعارضتهنّ تشحج
و وجدت هذه الحكاية عن أبي عبيدة مذكورة عن دماذ عنه و أنّه سأله عن أبيات العجير فأنشده:
تجوب الدّجى سكّاء من دون فرخها *** بمطلى أريك نفنف(9) و سهوب
فجاءت و قرن الشمس باد كأنّه *** هجان بصحراء الخبيب(10) شبوب
لتسقي أفراخا لها قد تبلّلت *** حلاقيم أسماط(11) لها و قلوب
قصار الخطا زغب الرءوس كأنها *** كرات تلظّى مرّة و تلوب(12)
ص: 404
/فأمّا ما ذكرت من رواية ثعلب في الأبيات التي فيها الغناء فإنه أنشدها عن أبي حاتم عن الأصمعيّ أن أبا الحضير أنشده لعمرو بن عقيل بن الحجّاج الهجيميّ:
أمّا القطاة فإني سوف أنعتها *** نعتا يوافق نعتي بعض ما فيها
صفراء مطروقة في ريشها خطب *** صفر قوادمها سود خوافيها
منقارها كنواة القسب قلّمها *** بمبرد حاذق الكفّين يبريها
تمشي كمشي فتاة الحيّ مسرعة *** حذار قوم إلى ستر يواريها
- قال الأصمعيّ: مطروقة يعني أنّ ريشها بعضه فوق بعض. و الخطب: لون الرماد، يقال للمشبّه به أخطب -:
تنتاش صفراء مطروقا بقيّتها *** قد كاد يأزي عن الدّعموص آزيها
- تنتاش: تتناول بقية من الماء. و المطروق: الماء الذي قد خالطه البول. و قوله: يأزى أي يقلّ عن الدعموص فيخرج منه لقلته. و الدّعموص: الصغير من الضفادع و جمعه دعاميص -
تسقي رذيّين بالموماة قوتهما *** في ثغرة النّحر من أعلى تراقيها
- الرذيّ: الساقط من الضعف. يعني فرخيها -
كأنّ هيدبة(1) من فوق جؤجئها *** أو جرو حنظلة لم يعد راميها
- جرو الحنظل: صغاره. و قوله: لم يعد من العداء، أي لم يعد عليها فيكسرها - /
تشتقّ من حيث لم تبعد مصعّدة *** و لم تصوّب إلى أدنى مهاويها
حتى إذا استأنسا للوقت و احتضرت(2)*** توجّسا الوحي منها عند غاشيها
- و يروى: حتى إذا استأنسا للصوت. و توجّسا: تسمّعا. وحيها أي سرعة طيرانها. و غاشيها أي حين تغشاهما و تنتهي إليهما - /
ترفّعا عن شئون غير ذاكية *** على لديدي أعالي المهد أدحيها(3)
- الذاكية: الشديدة الحركة. و المهد: أفحوصها. و لديداه: جانباه -
مدّا إليها بأفواه مزيّنة *** صعدا ليستنزلا الأرزاق من فيها
كأنّها حين مدّاها لجنأتها *** طلى بواطنها بالورس طاليها
- جنأتها أي جنأت عليهما بصدرها لتزقّهما -
حثلين رضّا رفاض البيض عن زغب *** ورق(4) أسافلها بيض أعاليها
حثلين: دقيقين ضاويين. رضّا: كسرا. و الرّفاض: ما ارفضّ و تفرّق -
ص: 405
ترأّدا حين قاما ثمّت احتطبا *** على نحائف منآد محانيها
ترأّدا: تثنّيا. و احتطبا: دنوا. و المنآد: المنعطف. و محانيها: حيث انحنت -
تكاد من لينها تنآد أسؤقها *** تأوّد الرّبل(1) لم تعرم نواميها
- تعرم: تشتد. و نواميها: أعاليها -:
لا أشتكي نوشة(2) الأيّام من ورقي *** إلاّ إلى من أن سوف يشكيها(3)
لدلهم مأثرات قد عددن له *** إن المآثر معدود مساعيها
تنمي به في بني لأي دعائمها *** و من جمانة لم نخضع سواريها
بنى له في بيوت المجد والده *** و ليس من ليس يبنيها كبانيها
و أنشدني هذه الأبيات الحسن بن محمد الضّبعيّ الشاعر المعروف بابن الحدّاد قال: وجدتها بخط محمد بن داود بن الجرّاح عن إسماعيل بن يونس الشّيعي شيخنا رحمه/اللّه عن أخيه عن أبيّ محلم مثل رواية ثعلب و زاد فيها: قال أبو محلّم: جمانة ابن جرير بن عبد ثعلبة بن سعد بن الهجيم، و هم أخوال(4) دلهم هذا الممدوح. و دلهم من بني لأي ثم من بني يزيد بن هلال بن بذل بن عمرو بن الهيثم، و كان أحد الشّجعان، و هو قتل الضحّاك(5) بن قيس الخارجيّ بيده مع مروان بن محمد ليلة كفرتوثا(6).
أيّها القلب لا أراك تفيق *** طالما قد تعلّقتك العلوق(7)
من يكن من هوى حبيب قريبا *** فأنا النازح البعيد السّحيق
قدّر الحبّ بيننا فالتقينا *** و كلانا إلى اللقاء مشوق
الشعر لعمر بن أبي ربيعة و قد مضت أخباره. و الغناء في اللحن المختار لبابويه الكوفيّ/خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لابن سريج ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه أيضا
ص: 406
لمخارق(1) خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ. و فيه لعلّويه رمل بالبنصر عنه(2) و عن الهشاميّ. و بابويه رجل من أهل الكوفة قليل الصنعة، ليس ممن خدم الخلفاء و لا الأكابر، و لا أعلم له خبرا فأذكره.
من لقلب أضحى بكم مستهاما *** خائفا للوشاة يخفي الكلاما
إنّ طرفي رسول نفسي و نفسي *** عن فؤادي تقرأ عليك السلاما
لم يقع إلينا قائل الشعر فنذكر خبره. و الغناء لرياض جارية أبي حمّاد خفيف ثقيل بالوسطى. و كان أبو حماد هذا أحد القوّاد الخراسانية و من أولاد الدّعاة، و كان يعاشر إسحاق و يبرّه و يهاديه، فأخذت رياض عنه غناء كثيرا؛ و كانت محسنة ضاربة كثيرة الرواية؛ و أحبّ إسحاق أن ينوّه باسمها و يرفع من شأنها، فذكر صنعتها في هذا الصوت فيما اختاره للواثق قضاء لحقّ مولاها. و ليس فيما قلته في هذا لأنّ الصوت غير مختار و لكن في الغناء ما هو أفضل منه بكثير و لم يذكره؛ و قد فعل ذلك بجماعة ممن كان يودّه و يتعصّب له مثل متيّم و أبي دلف و غيرهم. و من يعلم هذه الصناعة يعرف صحّة ما قلناه. و ماتت رياض هذه مملوكة لمولاها لم تخرج من يده و لا شهرت و لا روي لها خبر.
راح صحبي و عاود القلب داء *** من حبيب طلابه لي عناء
حسن الرأي و المواعيد لا يل *** فى لشيء مما يقول وفاء
من تعزّى عمن يحبّ فإني *** ليس لي ما حييت عنه عزاء
أمّ عثمان قد قتلت قتيلا *** عمد عين قتلته لا خطاء
لم يقع إلينا قائل هذا الشعر فنذكره. و الغناء لنافع بن طنبورة، و لحنه المختار خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و في هذا الشعر لحن لعبد اللّه بن طاهر ثاني ثقيل/من جيّد صنعته، و كان نسبه إلى لميس جاريته، و له خبر سنذكره في أخباره إذا انتهينا. و كان نافع بن طنبورة يكنى أبا عبد اللّه، مغنّ(3) محسن من أهل المدينة، حسن الوجه نظيف الثوب، يلقّب نقش الغضار لحسن وجهه. و جعلته جميلة في المرتبة، لمّا اجتمع المغنّون إليها، بعد نافع و بديح و قبل مالك بن أبي السّمح. و غنّاها يومئذ:
يا طول ليلي و بتّ لم أنم *** و سادي الهمّ مبطن سقمي
أن قمت يوما على البلاط و أب *** صرت رقاشا فليت لم أقم(4)
ص: 407
فقالت جميلة: أحسنت و اللّه يا نقش الغضار و يا حلو اللسان و يا حسن البيان!. و لم يفارق/ابن طنبورة الحجاز و لا خدم الخلفاء و لا انتجعهم بصنعة فخمل ذكره.
عتق الفؤاد من الصّبا *** و من السّفاهة و العلاق
و حططت رحلي عن قلو *** ص الغيّ في قلص عتاق
و رفعت فضل إزاري ال *** مجرور عن قدمي و ساقي
و كففت غرب النفس حتّ *** ى ما تتوق إلى متاق
الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت. و الغناء لابن عبّاد الكاتب. و لحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لإبراهيم خفيف ثقيل، و قيل: إنه لغيره.
ص: 408
و قد مضى نسبه في نسب جدّه حسّان بن ثابت متقدّما. و هو شاعر من شعراء الدولة الأمويّة، متوسّط في طبقته ليس معدودا في الفحول. و قد وفد إلى الخلفاء من بني أميّة فمدحهم و وصلوه. و لم تكن له نباهة أبيه و جدّه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثني أبو عمرو الخصّاف عن العتبيّ قال:
خرج سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان مع جماعة من قريش إلى الشام في خلافة هشام بن عبد الملك، و سألهم معاونته، فلم يصادفوا من هشام له نشاطا. و كان الوليد بن يزيد قد طلّق امرأته العثمانيّة ليتزوّج أختها، فمنعه هشام عن ذلك و نهى أباها أن يزوّجه. فمرّ يوما بالوليد و قد خرج من داره ليركب؛ فلما رآه وقف؛ فأمر به الوليد فدعي إليه؛ فلما جاءه قال: أنت ابن عبد الرحمن بن حسّان؟ قال: نعم أيها الأمير. فقال له: ما أقدمك؟ قال: وفدت على أمير المؤمنين منتجعا و مادحا و مستشفعا بجماعة صحبتهم من أهله، فلم أنل منه خطوة و لا قبولا. قال: لكنك تجد عندي ما تحبّ، فأقم حتى أعود. فأقام ببابه حتى دخل إلى هشام و خرج من عنده؛ فنزل و دعا بسعيد، فدخل إليه، فأمر بتغيير هيئته و إصلاح شأنه؛ ثم قال له: أنشدني قصيدة بلغتني لك فشوّقتني إليك، و غنّيت في بعضها، فلم أزل أتمنّى لقاءك. فقال: أيّ قصيدة أيها الأمير؟ قال قولك:
أبائنة سعدى و لم توف بالعهد *** و لم تشف قلبا تيّمته على عمد
/نعم أ فمؤد أنت إن شطّت النّوى *** بسعدى و ما من فرقة الدهر من ردّ(1)
كأن قد رأيت البين لا شيء دونه *** فم الآن أعلن ما تسرّ من الوجد
لعلك منها بعد أن تشحط النّوى *** ملاق كما لاقى ابن عجلان(2) من هند
فويل ابن(3) سلمى خلّة غير أنها *** تبلّغ منّي و هي مازحة جدّي
/و تدنو لنا في القول و هي بعيدة *** فما إن بسلمى(4) من دنوّ و لا بعد
ص: 409
و مهما أكن جلدا عليه فإنّني *** على هجرها غير الصّبور و لا الجلد
إذا سمت نفسي هجرها قطعت(1) به *** فجانبته فيما أسرّ و ما أبدي
كأنّي أرى في هجرها، أيّ ساعة *** هممت به، موتى و في وصلها خلدي
و من أجلها صافيت من لا تردّني *** عليه له قربى و لا نعمة عندي
و أغضيت عيني من رجال على القذى *** يقولون أقوالا أمضّوا بها جلدي
و أقصيت من قد كنت أدنى مكانه *** و أدنيت من قد كنت أقصيته جهدي
فإن يك أمسى وصل سلمى خلابة *** فما أنا بالمفتون في مثلها وحدي
فأصبح ما منّتك دينا مسوّفا *** لواه غريم ذو اعتلال و ذو جحد
تجود بتقريب الذي هو آجل *** من الوعد ممطول و تبخل بالنّقد
و قد قلت إذ أهدت إلينا تحيّة *** عليها سلام اللّه من نازح مهدي
سقي الغيث ذاك الغور ما سكنت به *** و نجدا إذا صارت نواها إلى نجد
/قال: فجعل ينشدها و دموع الوليد تنحدر على خدّيه حتى فرغ منها. ثم قال له: لن تحتاج إلى رفد أحد و لا معونته ما بقيت، و أمر له بخمسمائة درهم، و قال: ابعث بها إلى أهلك و أقم عندي، فلن(2) تعدم ما تحبّه ما بقيت.
فلم يزل معه زمانا، ثم استأذنه و انصرف. و في بعض هذه الأبيات غناء نسبته:
أبائنة سعدى و لم توف بالعهد *** و لم تشف قلبا أقصدته على عمد
و مهما أكن جلدا عليه فإنني *** على هجرها غير الصبور و لا الجلد
الغناء لمالك خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ. من هذه القصيدة:
و أغضيت عيني من رجال على القذى *** يقولون أقوالا أمضّوا بها جلدي
إذا سمت نفسي هجرها قطعت به *** فجانبته فيما أسرّ و ما أبدي
الغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو.
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي و محمد بن الضحّاك بن عثمان قالا(3):
ص: 410
وفد سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان على هشام بن عبد الملك و كان حسن الوجه؛ فاختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدّب الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فأراده على نفسه، و كان لوطيّا زنديقا؛ فدخل سعيد على هشام مغضبا و هو يقول:
إنه و اللّه لو لا أنت لم *** ينج منّي سالما عبد الصّمد
/فقال له هشام: و لما ذا؟ قال:
إنه قد رام منّي خطّة *** لم يرمها قبله منّي أحد
/فقال: و ما هي؟ قال:
رام جهلا بي و جهلا بأبي *** يدخل الأفعى إلى خيس الأسد
قال: فضحك هشام و قال له: لو فعلت به شيئا لم أنكر عليك.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عمر بن شبّة قال أخبرنا ابن عائشة [لا أعلمه(1) إلا عن أبيه] قال:
سأل سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان صديقا له حاجة - و قال هشام بن محمد في خبره: سأل سعيد بن عبد الرحمن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حاجة - يكلّم فيها سليمان بن عبد الملك فلم يقضها له، ففزع فيها إلى غيره فقضاها؛ فقال:
سئلت فلم تفعل و أدركت حاجتي *** تولّى سواكم حمدها و اصطناعها
أبى لك كسب الحمد رأي مقصّر *** و نفس أضاق اللّه بالخير باعها
إذا ما أرادته على الخير مرّة *** عصاها و إن همّت بشرّ أطاعها
قال ابن عمّار: و قد أنشدنا هذه الأبيات سليمان بن أبي شيخ لسعيد بن عبد الرحمن و لم يذكر لها خبرا.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا محمد بن زكريا الغلابيّ عن ابن عائشة قال:
قال رجل من الأنصار لعديّ بن الرّقاع: أكتبني(2) شيئا من شعرك. قال: و من أيّ العرب أنت؟ قال: أنا رجل من الأنصار. قال: و من منكم القائل:
/
إنّ الحمام إلى الحجاز بهيج لي *** طربا ترنّمه إذا يترنّم
و البرق حين أشيمه متيامنا *** و جنائب الأرواح حين تنسّم
ص: 411
فقال له: سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت. فقال: عليكم بصاحبكم فاكتب شعره، فلست تحتاج معه إلى غيره.
و في أوّل هذه القصيدة غناء نسبته:
برح الخفاء فأيّ ما بك تكتم *** و الشّوق(1) يظهر ما تسرّ فيعلم
و حملت سقما من علائق حبّها *** و الحبّ يعلقه الصحيح فيسقم
الغناء لحكم خفيف رمل بالوسطى عن الهشاميّ، و ذكره إبراهيم له و لم يجنّسه و في هذه القصيدة يقول:
علويّة أمست و دون وصالها *** مضمار مصر و عابد(2) و القلزم
خود تطيف بها نواعم كالدّمى *** مما اصطفى ذو النّقية(3) المتوسّم
حلّين مرجان البحور و جوهرا *** كالجمر فيه على النحور ينظّم
قالت و ماء العين يغسل كحلها *** عند الفراق بمستهلّ يسجم
يا ليت أنك يا سعيد بأرضنا *** تلقي المراسي ثاويا و تخيّم
فتصيب(4) لذّة عيشنا و رخاءه *** فنكون أجوارا فما ذا تنقم
/لا ترجعنّ إلى الحجاز فإنه *** بلد به عيش الكريم مذمّم
و هلمّ جاورنا فقلت لها اقصري *** عيش بطيبة ويح غيرك أنعم
/أ يفارق الوطن الحبيب لمنزل *** ناء و يشرى(5) بالحديث الأقدم
إنّ الحمام إلى الحجاز يهيج لي *** طربا ترنّمه إذا يترنّم
و البرق حين أشيمه متيامنا *** و جنائب الأرواح حين تنسّم
لو لحّ ذو قسم على أن لم يكن *** في الناس مشبهها لبرّ المقسم
من أجلها تركي القرار و خفضه *** و تجشّمي ما لم أكن أتجشّم
و لقد كتمت غداة بانت حاجة(6) *** في الصدر لم يعلم بها متكلّم
تشفي برؤيتها السقيم و ترتمى *** حبّ القلوب، رميّها لا يسلم
ص: 412
رقراقة في عنفوان شبابها *** فيها عن الخلق الدّنيّ تكرّم
ضنّت على مغرى بطول سؤالها *** صبّ كما يسل الغنيّ المعدم
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو مسلم عن الحرمازيّ قال:
خرج سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان إلى عسكر يزيد بن عبد الملك، فأتى عنبسة بن سعيد بن العاصي، و كان أبوه صديقا لأبيه، فسأله أن يرفع أمره إلى الخليفة، فوعده أن يفعل؛ فلم يمكث إلاّ يسيرا حتى طرقه لصّ فسرق متاعه و كلّ شيء كان معه؛ فأتى عنبسة فتنجّزه ما وعده؛ فاعتلّ عليه و دافعه؛ فرجع سعيد من عنده فارتجل و قال:
أ عنبس قد كنت لا تعتزي(1) *** إلى عدّة منك كانت ضلالا
/وعدت عدات لو انجزتها *** إذا لحمدت و لم ترز(2) مالا
و ما كان ضرّك لو قد شفعت *** فأعطى الخليفة عفوا نوالا
و قد ينجز الحرّ موعوده *** و يفعل ما كان بالأمس قالا
فيا ليتني و المنى كاسمها *** و قد يصرف الدهر حالا فحالا
قعدت و لم ألتمس ما وعدت *** و يا ليت وعدك كان اعتلالا
و كانت نعم منك مخزونة *** و قلت من أوّل يوم ألالا
أرى كذب القول من شرّ ما *** يعدّ إذا الناس عدوّا الخصالا
فأبقيت لي عنك مندوحة *** و نفسا عزوفا تقلّ السؤالا
فإن عدت أرجوكم بعدها *** فبدّلت بعد العلاء السّفالا
أ أرجوك من بعد ما قد عزفت(3) *** لعمري لقد جئت شيئا عضالا
نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ يأثره عن أبيه قال:
كان سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان إذا وفد إلى الشام نزل على الوليد بن يزيد، فأحسن نزله و أعطاه و كساه و شفع له. فلما حجّ الوليد لقيه سعيد بن عبد الرحمن في أوّل من لقيه، فسلّم عليه، فردّ الوليد عليه السّلام و حيّاه و قرّبه و أمر بإنزاله معه و بسطه، و لم يأنس بأحد أنسه به. و أنشده سعيد قوله فيه:
يا لقومي للهجر بعد التّصافي *** و تنائى الجميع بعد ائتلاف
/ما شجا القلب بعد طول اندمال *** غير هاب(4) كالفرخ بين أثافي
ص: 413
و نعيب الغراب في عرصة الدا *** ر و نؤي تسقي عليه السّوافي
/و قد روى عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان قال: رأى عليّ ابن عمر أوضاحا(1) فقال: ألقها عنك فقد كبرت.
ما جرت خطرة على القلب منّي *** فيك إلاّ استترت(2) عن أصحابي
من دموع تجري فإن(3) كنت وحدي *** خاليا أسعدت دموعي انتحابي
إنّ حبّي إيّاك قد سلّ جسمي *** و رماني بالشيب قبل الشّباب
ارحمي(4) عاشقا لك اليوم صبّا *** هائم العقل قد ثوى في التّراب
الشعر للسيّد الحميريّ، و الغناء لمحمد نعجة خفيف رمل أيضا. و لم أجد لهذا المغنّي خبرا و لا ذكرا في موضع من المواضع أذكره. و قد مضت أخبار السيّد متقدما.
أكرع الكرعة الرويّة منها *** ثم أصحو و ما شفيت غليلي
كم أتى دون عهد أمّ جميل *** من أنّي(5) حاجة و لبث طويل
و صياح الغراب أن سر فأسرع *** سوف تحظى بنائل و قبول
الشعر للأحوص. و الغناء للبردان خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر.
ص: 414
البردان لقب غلب عليه. و من الناس من يقول: بردان من أهل المدينة، و أخذ الغناء عن معبد و قبله عن جميلة و عزّة الميلاء. و كان معدّلا مقبول الشّهادة، و كان متولّي السّوق بالمدينة.
قال هارون بن الزيّات حدّثني أبو أيّوب المدينيّ عن محمد بن سلاّم قال: هو بردان بضم الباء و تسكين الراء.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر و حسين بن يحيى قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه، و أخبرني عليّ بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال قال إسحاق:
كان بردان متولّي السوق بالمدينة. فقدّم إليه رجل خصما يدّعي عليه حقّا؛ فوجب الحكم عليه فأمر به إلى الحبس. فقال له الرجل: أنت بغير هذا أعلم منك بهذا. فقال: ردّوه فردّ؛ فقال: لعلك تعني الغناء! إني و اللّه به لعارف؛ و لو سمعت شيئا جاء البارحة لازددت علما بأني عارف، و مهما جهلت فإني بوجوب الحقّ عليك عالم؛ اذهبوا به إلى الحبس حتى يخرج إلى غريمه من حقّه.
قال و حدّثني أبو أيّوب عن حمّاد عن أبيه عن ابن جامع عن سياط قال:
رأيت البردان بالمدينة يتولّى سوقها و قد أسنّ؛ فقلت له: يا عمّ، إني/رويت لك صوتا صنعته، و أحببت أن تصحّحه لي. فضحك ثم قال: نعم يا بنيّ و حبّا و كرامة. لعله:
كم أتى دون عهد أمّ جميل فقلت: قال: مل بنا إلى هاهنا؛ فمال بي إلى دار في السّوق، ثم قال: غنّه؛ فقلت: بل تتمّ إحسانك يا عمّ و تغنّيني به فإنه أطيب لنفسي؛ فإن سمعته كما أقول/غنّيته و أنا غير متهيّب، و إن كان فيه مستصلح استعدته(1). فضحك ثم قال: أنت لست تريد أن تصحّح غنائك، إنما تريد أن تقول سمعتني و أنا شيخ و قد انقطعت و أنت شابّ. فقلت للجماعة(2): إن رأيتم أن تسألوه أن يشفّعني فيما طلبت منه! فسألوه، فاندفع فغنّاه فأعاده ثلاث مرّات؛ فما رأيت أحسن من غنائه على كبر سنّه و نقصان صوته. ثم قال: غنّه فغنّيته؛ فطرب الشيخ حتى بكى، و قال: اذهب يا بنيّ،
ص: 415
فأنت أحسن الناس غناء، و لئن عشت ليكوننّ لك شأن. قال: و كان بردان خفيف الرّوح طيّب(1) الحديث مليح النادرة مقبول الشهادة قد لقي الناس، فكان بعد ذلك إذا رآني يدعوني فيأخذني معه إلى منزله و يسألني أن أغنّيه فأفعل؛ فإذا طابت نفسه سألته أن يطرح عليّ شيئا من أغاني القدماء فيفعل إلى أن أخذت عنه عدّة أصوات.
لمن الدّيار بحائل(2) فوعال *** درست و غيّرها سنون خوالي
درج البوارح(3) فوقها فتنكّرت *** بعد الأنيس معارف الأطلال
/دمن تذعذعها(4) الرياح و تارة *** تعفو بمرتجز السّحاب ثقال
فكأنما هي من تقادم عهدها *** ورق نشرن من الكتاب بوالي
الشعر للأخطل، و الغناء لسائب خاثر، و لحنه المختار من الثقيل الأوّل بالبنصر من أصوات قليلة الأشباه. و ذكر عمرو بن بانة أنّ في الثاني و الرابع من الأبيات للأبجر ثقيلا أوّل. و ذكر حبش أنّ لمعبد فيه ثقيلا أوّل بالوسطى و أنّه أحد السبعة(5)، و أن لإسحاق فيه ثاني ثقيل، و ذكر الهشاميّ أنّ لحن إسحاق خفيف ثقيل.
ص: 416
هو غياث بن غوث بن الصّلت بن الطّارقة، و يقال ابن سيحان بن عمرو بن الفدوكس بن عمرو بن مالك بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمر بن غنم بن تغلب. و يكنى أبا مالك. و قال المدائنيّ: هو غياث بن غوث بن سلمة بن طارقة، قال: و يقال لسلمة سلمة اللحّام(1). قال: و بعث النّعمان بن المنذر بأربعة أرماح لفرسان العرب، فأخذ أبو براء عامر بن مالك رمحا، و سلمة بن طارقة اللحّام(1) رمحا و هو جدّ الأخطل، و أنس بن مدرك رمحا، و عمرو بن معد يكرب رمحا.
و الأخطل لقب غلب عليه. ذكر هارون بن الزيّات عن ابن النطّاح عن أبي عبيدة أنّ السبب فيه أنه هجا رجلا من قومه؛ فقال له: يا غلام، إنك لأخطل، فغلبت عليه. و ذكر يعقوب بن السّكّيت أنّ عتبة بن الزّعل(2) بن عبد اللّه بن عمر بن عمرو بن حبيب/بن الهجرس(3) بن تيم بن سعد بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب حمل حمالة، فأتى قومه يسأل فيها؛ فجعل الأخطل يتكلّم و هو يومئذ غلام. فقال عتبة: من هذا الغلام الأخطل؟! فلقّب به.
قال يعقوب و قال غير أبي عبيدة: إنّ كعب بن جعيل كان شاعر تغلب، و كان لا يأتي منهم قوما إلا أكرموه و ضربوا له قبّة؛ حتى إنه كان تمدّ له حبال بين و تدين فتملأ له غنما. فأتى في مالك بن جشم ففعلوا ذلك به؛ فجاء الأخطل و هو/غلام فأخرج الغنم و طردها؛ فسبّه عتبة و ردّ الغنم إلى مواضعها؛ فعاد و أخرجها و كعب ينظر إليه؛ فقال: إنّ غلامكم هذا لأخطل - و الأخطل: السفيه - فغلب عليه. و لجّ الهجاء بينهما؛ فقال الأخطل فيه:
سمّيت كعبا بشرّ العظام *** [و كان(4) أبوك يسمّى الجعل
و إنّ محلّك من وائل *** محلّ القراد من است الجمل]
فقال كعب: قد كنت أقول لا يقهرني إلاّ رجل له ذكر و نبأ، و لقد أعددت هذين البيتين لأن أهجى بهما منذ كذا و كذا، فغلب عليهما هذا الغلام.
ص: 417
و قال هارون بن الزيّات حدّثني قبيصة بن معاوية المهلّبيّ قال حدّثني عيسى بن إسماعيل قال حدّثني القحذميّ قال:
وقع بين ابني جعيل و أمّهما ذرء(1) من كلام، فأدخلوا الأخطل بينهم؛ فقال الأخطل:
لعمرك إنّني و ابني جعيل *** و أمّهما لإستار(2) لئيم
فقال ابن جعيل: يا غلام، إنّ هذا لخطل من رأيك؛ و لو لا أنّ أمّي سميّة أمّك لتركت أمّك يحدو بها الرّكبان؛ فسمّي الأخطل بذلك. و كان اسم أمّهما و أمّ الأخطل ليلى.
و قال هارون حدّثني إسماعيل بن مجمّع عن ابن الكلبيّ عن قوم من تغلب في قصّة كعب بن جعيل و الأخطل بمثل ما ذكره يعقوب عن غير أبي عبيدة ممن لم يسمّه، و قال فيها: و كان الأخطل يومئذ يقرزم(3) - و القرزمة:
الابتداء بقول/الشعر - فقال له أبوه: أ بقرزمتك تريد أن تقاوم ابن جعيل! و ضربه. قال: و جاء ابن جعيل على تفئة(4) ذلك فقال: من صاحب الكلام؟ فقال أبوه: لا تحفل به فإنه غلام أخطل. فقال له كعب:
شاهد هذا الوجه غبّ الحمّه فقال الأخطل:
فناك كعب بن جعيل أمّه فقال كعب: ما اسم أمّك؟ قال: ليلى. قال: أردت أن تعيذها باسم أمّي. قال: لا أعاذها اللّه إذا. و كان اسم أمّ الأخطل(5) ليلى، و هي امرأة من إياد؛ فيسمّي الأخطل يومئذ، و قال:
هجا الناس ليلى أمّ كعب فمزّقت *** فلم يبق إلا نفنف(6) أنا رافعه
و قال فيه أيضا:
هجاني المنتنان ابنا جعيل *** و أيّ الناس يقتله الهجاء
ولدتم بعد إخوتكم من است *** فهلاّ جئتم من حيث جاءوا
فانصرف كعب، و لجّ الهجاء بينهما.
و كان نصرانيّا من أهل الجزيرة(7). و محلّه في الشعر أكبر من أن يحتاج إلى وصف. و هو و جرير و الفرزدق
ص: 418
طبقة واحدة، فجعلها ابن سلاّم أوّل طبقات الإسلام. و لم يقع إجماع على أحدهم أنه أفضل، و لكل واحد منهم طبقة تفضّله عن(1) الجماعة.
/أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمّي الفضل قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم عن أبي عبيدة قال:
جاء رجل إلى يونس فقال له: من أشعر الثلاثة؟ قال: الأخطل. /قلنا: من الثلاثة؟ قال: أيّ ثلاثة ذكروا فهو أشعرهم. قلنا: عمّن تروي هذا؟ قال: عن عيسى بن عمر و ابن أبي إسحاق الحضرميّ(2) و أبي عمرو بن العلاء و عنبسة الفيل و ميمون الأقرن الذين ماشوا(3) الكلام و طرقوه. أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز قال قال أبو عبيدة عن يونس، فذكر مثله و زاد فيه: لا كأصحابك هؤلاء لا بدويّون و لا نحويّون. فقلت(4) للرجل: سله و بأيّ شيء فضّلوه؟ قال: بأنه كان أكثرهم عدد طوال جياد ليس فيها سقط و لا فحش و أشدّهم تهذيبا للشعر. فقال أبو وهب الدقّاق: أما إنّ حمّاد(5) و جنّادا كانا لا يفضّلانه. فقال: و ما حمّاد و جنّاد! لا نحويّان و لا بدويّان و لا يبصران الكسور و لا يفصحان، و أنا أحدّثك عن أبناء تسعين أو أكثر أدّوا إلى أمثالهم ماشوا الكلام و طرقوه حتى وضعوا أبنيته فلم تشذّ عنهم زنة كلمة، و ألحقوا السليم بالسليم و المضاعف بالمضاعف و المعتلّ بالمعتلّ و الأجوف بالأجوف و بنات الياء بالياء و بنات الواو بالواو، فلم تخف عليهم كلمة عربيّة، و ما علم حمّاد و جنّاد!.
/قال هارون حدّثني القاسم بن يوسف عن الأصمعيّ:
أنّ الأخطل كان يقول تسعين بيتا ثم يختار منها ثلاثين فيطيّرها(6).
أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال أخبرنا محمد بن سلاّم قال سمعت سلمة بن عيّاش و ذكر أهل المجلس جريرا و الفرزدق و الأخطل ففضّله سلمة عليهما. قال: و كان إذا ذكر الأخطل يقول: و من مثل الأخطل و له في كل [بيت] شعر بيتان! ثم ينشد قوله:
و لقد علمت إذا العشار تروّحت *** هدج الرّئال تكبّهنّ شمالا(7)
أنّا نعجّل بالعبيط(8) لضيفنا *** قبل العيال و نضرب الأبطالا
ص: 419
ثم يقول و لو قال:
و لقد علمت إذا العشا *** ر تروّحت هدج الرئال
كان شعرا، و إذا زدت فيه تكبهنّ شمالا، كان أيضا شعرا من رويّ آخر.
أخبرنا أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال حدّثني أبو يحيى الضّبّيّ قال:
كعب بن جعيل لقّبه الأخطل، سمعه ينشد هجاء فقال: يا غلام إنك لأخطل اللّسان؛ فلزمته.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أحمد بن معاوية قال حدّثنا بعض أصحابنا عن رجل من بني سعد قال:
/كنت مع نوح بن جرير في ظلّ شجرة، فقلت له: قبحك اللّه و قبح أباك! أمّا أبوك فأفنى عمره في مديح عبد ثقيف (يعني الحجّاج). و أمّا أنت فامتدحت قثم بن العبّاس فلم تهتد لمناقبه و مناقب آبائه حتى امتدحته بقصر بناه.
فقال: و اللّه لئن سؤتني في هذا الموضع لقد سؤت فيه أبي: بينا أنا آكل معه يوما و في فيه لقمة و في يده أخرى، فقلت: يا أبت، أنت أشعر أم الأخطل؟ فجرض(1) باللّقمة التي في فيه و رمى بالتي في يده و قال: يا بنيّ، لقد سررتني و سؤتني. فأمّا سرورك إيّاي فلتعهّدك لي مثل هذا و سؤالك عنه. و أما ما سؤتني به فلذكرك رجلا قد مات.
يا بنيّ أدركت الأخطل و له ناب واحد، و لو أدركته و له ناب آخر لأكلني به، و لكني أعانتني عليه خصلتان: كبر سنّ، و خبث دين.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد و قال:
سئل حمّاد الراوية عن الأخطل، فقال: ما تسألوني عن رجل قد حبّب شعره إليّ/النّصرانية!.
قال إسحاق و حدّثني أبو عبيدة قال قال أبو عمرو: لو أدرك الأخطل يوما واحدا من الجاهليّة ما قدّمت عليه أحدا.
قال إسحاق و حدّثني الأصمعيّ أن أبا عمرو أنشد بيت شعر، فاستجاده و قال: لو كان للأخطل ما زاد.
و ذكر يعقوب بن السّكّيت عن الأصمعيّ عن أبي عمرو:
أنّ جريرا سئل أيّ الثلاثة أشعر؟ فقال: أمّا الفرزدق فتكلّف منّي ما لا يطيق. و أمّا الأخطل فأشدّنا اجتراء و أرمانا للفرائض. و أمّا أنا فمدينة الشعر.
/و قال ابن النطّاح حدّثني الأصمعيّ قال:
إنما أدرك جرير الأخطل و هو شيخ قد تحطّم. و كان الأخطل أسنّ من جرير، و كان جرير يقول: أدركته و له
ص: 420
ناب واحد، و لو أدركت له نابين لأكلني. قال: و كان أبو عمرو يقول: لو أدرك الأخطل يوما واحدا من الجاهليّة ما فضّلت عليه أحدا.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال:
قال العلاء بن جرير: إذا لم يجيء الأخطل سابقا فهو سكّيت، و الفرزدق لا يجيء سابقا [و لا سكّيتا، و جرير يجيء(1) سابقا] و مصلّيا و سكّيتا.
و قال يعقوب بن السّكّيت قال الأصمعيّ:
قيل لجرير: ما تقول في الأخطل؟ قال: كان أشدّنا اجتزاء بالقليل و أنعتنا للحمر(2) و الخمر.
و روى إسماعيل عن عبيد اللّه عن مؤرّج عن شعبة عن سماك بن حرب:
أنّ الفرزدق دخل الكوفة، فلقيه ضوء بن اللّجلاج(3)؛ فقال له: من أمدح أهل الإسلام؟ فقال له: و ما تريد إلى ذلك؟ قال: تمارينا فيه. قال: الأخطل أمدح العرب.
و قال هارون بن الزيّات حدّثني هارون بن مسلم عن حفص بن عمر قال:
سمعت شيخا كان يجلس إلى يونس كان يكنى أبا حفص، فحدّثه أنه سأل جريرا عن الأخطل فقال: أمدح الناس لكريم و أوصفه للخمر. قال: و كان أبو عبيدة يقول: شعراء الإسلام الأخطل ثم جرير ثم الفرزدق. قال أبو عبيدة: و كان أبو عمرو يشبّه الأخطل بالنابغة لصحّة شعره.
/و قال ابن النطّاح حدّثني عبد اللّه بن رؤبة بن العجاج قال:
كان أبو عمرو يفضّل الأخطل.
و قال ابن النطّاح حدّثني عبد الرحمن بن برزج قال: كان حمّاد يفضّل الأخطل على جرير و الفرزدق. فقال له الفرزدق: إنما تفضّله لأنه فاسق مثلك. فقال: لو فضّلته بالفسق لفضّلتك.
قال ابن النطّاح قال لي إسحاق بن مرّار الشّيبانيّ: الأخطل عندنا أشعر الثلاثة. فقلت: يقال إنه أمدحهم! فقال: لا و اللّه! و لكن أهجاهم. من منهما يحسن أن يقول:
و نحن رفعنا عن سلول رماحنا *** و عمدا رغبنا عن دماء بني نصر
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن موسى عن أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال:
قال الأخطل: أشعر الناس قبيلة بنو قيس بن ثعلبة، و أشعر الناس بيتا آل أبي(4) سلمى و أشعر الناس رجل(5)في قميصي.
ص: 421
أخبرني الحسن قال حدّثني محمد قال حدّثني الخرّاز عن المدائنيّ عن عليّ بن حمّاد - هكذا قال؛ و أظنه عليّ بن مجاهد - قال:
قال الأخطل لعبد الملك: يا أمير المؤمنين، زعم ابن المراغة أنه يبلغ مدحتك في ثلاثة أيّام و قد أقمت في مدحتك:
خفّ القطين فراحوا منك أو بكروا /سنة فما بلغت كلّ ما أردت. فقال عبد الملك: فأسمعناها(1) يا أخطل؛ فأنشده إيّاها؛ فجعلت أرى عبد الملك يتطاول لها؛ ثم قال: ويحك/يا أخطل! أ تريد أن أكتب إلى الآفاق أنك أشعر العرب؟ قال: أكتفي بقول أمير المؤمنين. و أمر له بجفنة كانت بين يديه فملئت دراهم و ألقى عليه خلعا، و خرج به مولى لعبد الملك على الناس يقول: هذا شاعر أمير المؤمنين، هذا أشعر العرب.
و قال ابن الزيّات حدّثني جعفر بن محمد بن عيينة بن المنهال عن هشام عن عوانة قال:
أنشد عبد الملك قول كثيّر فيه:
فما تركوها عنوة عن مودّة *** و لكن بحدّ المشرفيّ استقالها
فأعجب به. فقال له الأخطل: ما قلت لك و اللّه يا أمير المؤمنين أحسن منه. قال: و ما قلت؟ قال قلت:
أهلّوا(2) من الشهر الحرام فأصبحوا *** موالي ملك لا طريف و لا غضب
جعلته لك حقّا و جعلك أخذته غصبا؛ قال: صدقت.
قال أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال أخبرنا عمر بن شبّة قال أخبرنا أبو دقاقة(3) الشاميّ مولى قريش عن شيخ من قريش قال:
رأيت الأخطل خارجا من عند عبد الملك؛ فلما انحدر دنوت منه فقلت: يا أبا مالك، من أشعر العرب؟ قال:
هذان الكلبان المتعاقران من بني تميم. فقلت: فأين أنت منهما؟ قال: أنا و اللاّت أشعر منهما. قال: فحلف باللاّت هزؤا و استخفافا بدينه.
/و روى هذا الخبر أبو أيّوب المدينيّ عن المدائنيّ عن عاصم بن شبل الجرميّ أنه سأل الأخطل عن هذا، فذكر نحوه، و قال: و اللاّت و العزّى.
ص: 422
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال ذكر الحرمازيّ:
أنّ رجلا من بني شيبان جاء إلى الأخطل فقال له: يا أبا مالك، إنّا، و إن كنّا بحيث تعلم من افتراق العشيرة و اتّصال الحرب و العداوة، تجمعنا ربيعة، و إنّ لك عندي نصحا. فقال: هاته، فما كذبت. فقلت: إنك قد هجوت جريرا و دخلت بينه و بين الفرزدق و أنت غنيّ عن ذلك و لا سيما أنه يبسط لسانه بما ينقبض عنه لسانك و يسبّ ربيعة سبّا لا تقدر على سبّ مضر بمثله و الملك فيهم و النبوّة قبله؛ فلو شئت أمسكت عن مشارّته و مهارّته. فقال: صدقت في نصحك و عرفت مرادك، وصلتك رحم! فو الصّليب و القربان لأتخلّصنّ إلى كليب خاصّة دون مضر بما يلبسهم خزيه و يشملهم عاره. ثم اعلم أنّ العالم بالشعر لا يبالي و حقّ الصليب إذا مرّ به البيت المعاير(1) السائر الجيّد، أ مسلم قاله أم نصراني.
أخبرني وكيع قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ عن أبي الحسن المدائنيّ قال: أصبح عبد الملك يوما في غداة باردة، فتمثّل قول الأخطل:
إذا اصطبح الفتى منها ثلاثا *** بغير الماء حاول أن يطولا
مشى قرشيّة لا شكّ فيها *** و أرخى من مآزره الفضولا
ثم قال: كأنّي انظر إليه الساعة مجلّل(2) الإزار مستقبل الشمس في حانوت من حوانيت دمشق؛ ثم بعث رجلا يطلبه فوجده كما ذكره.
و قال هارون بن الزيّات حدّثني طائع عن الأصمعيّ قال: أنشد أبو حيّة النّميريّ يوما أبا عمرو:
يا لمعدّ و يا للنّاس كلّهم *** و يا لغائبهم يوما و من شهدا
/كأنه معجب بهذا البيت؛ فجعل أبو عمرو يقول له: إنك لتعجب بنفسك كأنك الأخطل.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الغلابيّ عن عبد الرحمن التّيميّ عن هشام بن سليمان المخزوميّ:
أن الأخطل قدم على عبد الملك، فنزل على ابن سرحون(3) كاتبه. فقال عبد الملك: على من نزلت؟ قال:
ص: 423
على فلان. قال: قاتلك اللّه! ما أعلمك بصالح المنازل! فما تريد أن ينزلك(1)؟ قال: درمك(2) من درمككم هذا و لحم و خمر من بيت رأس(3). فضحك عبد الملك ثم قال له: ويلك! و على أيّ شيء اقتتلنا إلا على هذا!. ثم قال:
أ لا تسلم فنفرض لك في الفيء(4) و نعطيك عشرة آلاف؟ قال: فكيف بالخمر؟ قال: و ما تصنع بها و إنّ أوّلها لمرّ و إن آخرها لسكر! فقال: أمّا إذا قلت ذلك فإن فيما بين هاتين لمنزلة ما ملكك فيها إلاّ كعلقة ماء من الفرات بالإصبع.
فضحك ثم قال: ألاّ تزور الحجّاج! فإنه كتب يستزيرك. فقال: أ طائع أم كاره؟ قال: بل طائع. قال: ما كنت لأختار نواله على نوالك و لا قربه على قربك؛ إنني إذا لكما قال الشاعر:
/
كمبتاع ليركبه حمارا *** تخيّره(5) من الفرس الكبير
فأمر له بعشرة آلاف درهم و أمره بمدح الحجّاج؛ فمدحه بقوله:
صرمت حبالك زينب و رعوم(6) *** و بدا المجمجم(7) منهما المكتوم
و وجّه بالقصيدة مع ابنه إليه و ليست من جيّد شعره.
و قال هارون بن الزيّات حدّثني محمد بن إسماعيل عن أبي غسّان قال:
ذكروا الفرزدق و جريرا في حلقة المدائنيّ؛ فقلت لصباح بن خاقان: أنشدك بيتين للأخطل و تجيء لجرير و الفرزدق بمثلهما؟ قال: هات؛ فأنشدته:
أ لم يأتها أنّ الأراقم(8) فلّقت *** جماجم قيس بين راذان و الحضر(9)
جماجم قوم لم يعافوا ظلامة *** و لم يعرفوا أين الوفاء من الغدر
قال: فسكت.
قال إسحاق و حدّثني أبو عبيدة أن يونس سئل عن جرير و الفرزدق و الأخطل: أيهم أشعر؟ قال: أجمعت العلماء على الأخطل. فقلت لرجل إلى جنبه: سله و من هم؟ فقال: من شئت، ابن أبي إسحاق و أبو عمرو بن العلاء و عيسى بن عمر و عنبسة الفيل و ميمون الأقرن، هؤلاء طرقوا الكلام و ماشوه لا كمن تحكمون عنه لا بدويّين
ص: 424
و لا نحويّين. فقلت للرجل: سله: و بأيّ شيء فضّل على هؤلاء؟ قال: بأنه كان أكثرهم عدد قصائد طوال جياد ليس فيها فحش و لا سقط. قال أبو عبيدة: /فنظرنا في ذلك فوجدنا للأخطل عشرا بهذه الصفة و إلى جانبها عشرا إن لم تكن مثلها فليست بدونها؛ و وجدنا لجرير بهذه الصفة ثلاثا. قال إسحاق: فسألت أبا عبيدة عن العشر فقال:
عفا واسط(1) من آل رضوى(2) فنبتل(3)و تأبّد الرّبع من سلمى بأحفار(4)و خفّ القطين فراحوا منك و ابتكروا و كذبتك عينك أم رأيت بواسط و دع المعمّر لا تسأل بمصرعه و لمن الديار بحائل فوعال قال إسحاق: و لم أحفظ بقيّة العشر. قال: و قصائد جرير:
حيّ الهدملة من ذات المواعيس(5)و ألا طرقتك و أهلي هجود و أهوّى أراك برامتين وقودا قال و قال أبو عبيدة: /الأخطل أشبه بالجاهليّة و أشدّهم أسر شعر و أقلّهم سقطا و أخبرنا الجوهريّ عن عمر بن شبّة عن أبي عبيدة مثله. و في بعض هذه القصائد التي ذكرت للأخطل أغان هذا موضع ذكرها.
/منها:
تأبّد الرّبع من سلمى بأحفار *** و أقفرت من سليمى دمنة الدار
و قد تحلّ بها سلمى تجاذبني *** تساقط الحلي حاجاتي و أسراري
غنّاه عمر الواديّ هزجا بالسبّابة في مجرى الوسطى. و سنذكر خبر هذا الشعر في أخبار عبد الرحمن بن حسّان لمّا هجاه الأخطل و هجا الأنصار، إذ كان هذا الشعر قيل في ذلك.
و منها:
ص: 425
خفّ القطين فراحوا منك و ابتكروا *** و أزعجتهم نوى في صرفها غير
كأنّني شارب يوم استبدّ بهم *** من قهوة ضمّنتها حمص أو جدر(1)
جادت بها من ذوات القار مترعة *** كلفاء(2) ينحتّ عن خرطومها المدر
غنّاه إبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر. و لابن سريج فيه رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه رمل آخر يقال: إنه لعلّويه، و يقال: إنه لإبراهيم. و فيه لعلّويه خفيف ثقيل آخر لا يشكّ فيه.
و قال هارون بن الزيّات حدّثني ابن النطّاح عن أبي عمرو الشّيبانيّ عن رجل من كلب يقال له مهوش عن أبيه:
أنّ عمر بن الوليد بن عبد الملك سأل الأخطل عن أشعر الناس؛ قال: الذي كان إذا مدح رفع، و إذا هجا وضع. قال: و من هو؟ قال: الأعشى. قال: ثم من؟ قال: ابن العشرين (يعني طرفة). قال: ثم من؟ قال: أنا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال أخبرنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو بكر العليميّ قال حدّثنا أبو قحافة المرّيّ عن أبيه قال:
دخل الأخطل على بشر بن مروان و عنده الراعي؛ فقال له بشر: أنت أشعر أم هذا؟ قال: أنا أشعر منه و أكرم.
فقال للراعي: ما تقول! قال: أمّا أشعر منّي فعسى، و أمّا أكرم فإن كان في أمّهاته من ولدت مثل الأمير فنعم. فلمّا خرج الأخطل قال له رجل: أ تقول لخال الأمير أنا أكرم منك!. قال: ويلك! إنّ أبا نسطوس وضع في رأسي أكؤسا ثلاثا، فو اللّه ما أعقل معها.
قال: و دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان، فاستنشده؛ فقال: قد يبس حلقي، فمر من يسقيني. فقال:
اسقوه ماء. فقال: شراب الحمار، و هو عندنا كثير. قال: فاسقوه لبنا. قال: عن اللبن فطمت. قال: فاسقوه عسلا. قال: شراب المريض. قال: فتريد ما ذا؟ قال: خمرا يا أمير المؤمنين. قال: أو عهدتني أسقي الخمر لا أمّ لك! لو لا حرمتك بنا لفعلت بك و فعلت!. فخرج فلقي فرّاشا لعبد الملك فقال: ويلك! إنّ أمير المؤمنين استنشدني و قد صحل(3) صوتي، فاسقني شربة خمر فسقاه؛ فقال: اعدله بآخر فسقاه آخر. فقال: تركتهما يعتركان في بطني، اسقني ثالثا فسقاه ثالثا. فقال: تركتني أمشي على واحدة، اعدل ميلي برابع فسقاه رابعا؛ فدخل على عبد الملك فأنشده:
/
خفّ القطين فراحوا منك و ابتكروا *** و أزعجتهم نوى في صرفها غير
ص: 426
فقال عبد الملك: خذ بيده يا غلام فأخرجه، ثم ألق(1) عليه من الخلع ما يغمره، و أحسن جائزته، و قال: إنّ لكل قوم شاعرا و إنّ شاعر بني أميّة الأخطل.
أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلاّم قال قال أبان بن عثمان حدّثني سماك بن حرب عن ضوء بن(2)اللّجلاج قال:
دخلت حمّاما بالكوفة و فيه الأخطل؛ قال فقال: ممّن الرجل؟ قلت: من بني ذهل. قال: أ تروي للفرزدق شيئا؟ قلت نعم. قال: ما أشعر خليلي! على أنه ما أسرع ما رجع في هبته. قلت: و ما ذاك؟ قال قوله:
أ بنى غدانة(3) إنّني حرّرتكم *** فوهبتكم لعطيّة بن جعّال
لو لا عطيّة لاجتدعت أنوفكم *** من بين ألام آنف و سبال(4)
وهبهم في الأول و رجع في الآخر. فقلت: لو أنكر الناس كلّهم هذا ما كان ينبغي أن تنكره أنت. قال: كيف؟ قلت:
هجوت زفر(5) بن الحارث ثم خوّفت الخليفة منه فقلت:
بني أميّة إنّي ناصح لكم *** فلا يبيتنّ فيكم آمنا زفر
مفترشا كافتراش اللّيث كلكله *** لوقعة كائن فيها له جزر(6)
و مدحت عكرمة بن ربعيّ فقلت:
قد كنت أحسبه قينا و أخبره *** فاليوم طيّر عن أثوابه الشّرر
/قال(7): لو أردت المبالغة في هجائه ما زدت على هذا. [فقال له الأخطل(8)]: و اللّه لو لا أنك من قوم سبق لي منهم ما سبق لهجوتك هجاء يدخل معك قبرك. ثم قال:
ما كنت هاجي قوم بعد مدحهم *** و لا تكدّر نعمى بعد ما تجب
أخرج عنّي.
ص: 427
و قال هارون بن الزيّات حدّثني أحمد بن إسماعيل الفهريّ عن أحمد(1) بن عبد العزيز بن عليّ بن ميمون عن معن بن خلاد عن أبيه قال:
لمّا استنزل عبد الملك زفر بن الحارث الكلابيّ من قرقيسيا(2)، أقعده معه على سريره؛ فدخل عليه ابن ذي الكلاع(3). فلما نظر إليه مع عبد الملك على السرير بكى. فقال له: ما يبكيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كيف لا أبكي و سيف هذا يقطر من دماء قومي في طاعتهم لك و خلافه عليك، ثم هو معك على السرير و أنا على الأرض! قال: إني لم أجلسه معي أن يكون أكرم عليّ منك؛ و لكنّ لسانه لساني و حديثه يعجبني. فبلغت الأخطل و هو يشرب فقال: أما و اللّه لأقومنّ في ذلك مقاما لم يقمه ابن ذي الكلاع! ثم خرج حتى دخل على عبد الملك. فلما ملأ عينه منه قال:
و كأس مثل عين الدّيك صرف *** تنسّي الشاربين لها العقولا
إذا شرب الفتى منها ثلاثا *** بغير الماء حاول أن يطولا
مشى قرشيّة لا شكّ فيها *** و أرخى من مآزره الفضولا
/فقال له عبد الملك: ما أخرج هذا منك يا أبا مالك إلا خطّة في رأسك. قال: أجل و اللّه يا أمير المؤمنين حين تجلس عدوّ اللّه هذا معك على السرير و هو القائل بالأمس:
و قد ينبت المرعى على دمن الثّرى(4) *** و تبقى حزازات النفوس كما هيا
/قال: فقبض عبد الملك رجله ثم ضرب بها صدر زفر فقلبه عن السرير و قال: أذهب اللّه حزازات تلك الصدور.
فقال: أنشدك اللّه يا أمير المؤمنين و العهد الذي أعطيتني!. فكان زفر يقول: ما أيقنت بالموت قطّ إلا تلك الساعة حين قال الأخطل ما قال.
و قال هارون بن الزيّات حدّثني هارون بن مسلم عن سعيد بن الحارث عن عبد الخالق بن حنظلة الشّيبانيّ قال:
قال الأخطل: فضلت الشعراء في المديح و الهجاء و النّسيب بما لا يلحق بي فيه. فأمّا النّسيب فقولي:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر *** و إن كان حيّانا عدى(5) آخر الدّهر
ص: 428
من الخفرات البيض أمّا وشاحها *** فيجري و أمّا القلب(1) منها فلا يجري
تموت و تحيا بالضجيع و تلتوي *** بمطّرد المتنين منبتر الخصر
و قولي في المديح:
نفسي فداء أمير المؤمنين إذا *** أبدى النّواجذ يوما عارم ذكر(2)
الخائض الغمرة الميمون طائره *** خليفة اللّه يستسقى به المطر
/و قولي في الهجاء:
و كنت إذا لقيت عبيد تيم *** و تيما قلت أيّهم العبيد
لئيم العالمين يسود تيما *** و سيّدهم و إن كرهوا مسود
قال عبد الخالق: و صدق لعمري، لقد فضلهم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني عمر بن شبّة عن أحمد بن معاوية عن محمد بن داود قال:
طلّق أعرابيّ امرأته فتزوّجها الأخطل؛ و كان الأخطل قد طلّق امرأته قبل ذلك. فبينا هي معه إذ ذكرت زوجها الأوّل فتنفّست؛ فقال الأخطل:
كلانا على همّ يبيت كأنما *** بجنبيه من مسّ الفراش قروح
على زوجها الماضي تنوح و إنني *** على زوجتي الأخرى كذلك أنوح
أخبرني الحسن بن عليّ قال أخبرنا أحمد بن زهير بن حرب عن خالد بن خداش:
أنّ الأخطل قال لعبد الملك بن المهلّب: ما نازعتني نفسي قطّ إلى مدح أحد ما نازعتني إلى مدحكم؛ فأعطني عطيّة تبسط بها لساني؛ فو اللّه لأردّينكم أردية لا يذهب صقالها إلى يوم القيامة. فقال: أعلم و اللّه يا أبا مالك أنك بذلك مليء، و لكني أخاف أن يبلغ أمير المؤمنين أنّي أسأل في غرم و أعطى الشعراء فأهلك و يظنّ ذلك منّي حيلة.
فلما قدم على إخوته لاموه كل اللّوم فيما فعله. فقال: قد أخبرته بعذري.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال قال أبو الخطّاب حدّثني نوح بن جرير قال:
/قلت لأبي: أنت أشعر أم الأخطل؟ فنهرني و قال: بئس ما قلت! و ما أنت و ذاك لا أمّ لك! فقلت: و ما أنا و غيره! قال: لقد أعنت عليه بكفر و كبر سنّ، و ما رأيته إلاّ خشيت أن يبتلعني.
ص: 429
أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن دماذ عن أبي عبيدة قال:
قال رجل لأبي عمرو: يا عجبا للأخطل! نصرانيّ كافر يهجو المسلمين!. فقال أبو عمرو: /يا لكع! لقد كان الأخطل يجيء و عليه جبّة خزّ و حرز خزّ، في عنقه سلسلة ذهب فيها صليب ذهب تنفض لحيته خمرا حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن.
و قال هارون حدّثني أحمد بن إسماعيل الفهريّ عن أحمد بن عبد اللّه بن عليّ الدّوسيّ عن معقل بن فلان عن أبيه عن أبي العسكر قال:
كنّا بباب مسلمة بن عبد الملك، فتذاكرنا الشعراء الثلاثة؛ فقال أصحابي: حكّمناك و تراضينا بك. فقلت:
نعم، هم عندي كأفراس ثلاثة أرسلتهن في رهان، فأحدها سابق الدهر كلّه، و أحدها مصلّ، و أحدها يجيء أحيانا سابق الريح و أحيانا سكّيتا و أحيانا متخلّفا. فأمّا السابق في كل حالاته فالأخطل. و أمّا المصلّى في كل حالاته فالفرزدق. و أمّا الذي يسبق الريح أحيانا و يتخلّف أحيانا فجرير؛ ثم أنشد له:
سرى لهم ليل كأنّ نجومه *** قناديل فيهنّ الذّبال المفتّل
و قال: أحسن في هذا و سبق. ثم أنشد:
التّغلبيّة مهرها فلسان *** و التغلبيّ جنازة الشّيطان
و قال: تخلّف في هذه. فخرجنا من عنده على هذا.
و قال هارون بن الزيّات حدّثني محمد بن عمرو الجرجانيّ عن أبيه:
أنّ الفرزدق و الأخطل؛ بيناهما يشربان و قد اجتمعا بالكوفة في إمارة بشر بن مروان إذ دخل عليهما فتى من أهل اليمامة؛ فقالا له: هل تروي لجرير شيئا؟ فأنشدهما:
لو قد بعثت على الفرزدق ميسمي *** و على البعيث لقد نكحت الأخطلا
فأقبل الفرزدق فقال: يا أبا مالك، أ تراه إن و سمني يتورّكك على كبر سنّك! ففزع الفتى فقام و قال: أنا عائذ باللّه من شرّكما. فقالا: اجلس لا بأس عليك! و نادماه بقية يومهما.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال أخبرنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو يعلى قال حدّثني عبد السلام بن حرب قال:
نزل الفرزدق على الأخطل ليلا و هو لا يعرفه، فجاءه بعشاء ثم قال له: إنّي نصرانيّ و أنت حنيف، فأيّ الشراب أحبّ إليك؟ قال: شرابك. ثم جعل الأخطل لا ينشد بيتا إلا أتمّ الفرزدق القصيدة. فقال الأخطل: لقد نزل
ص: 430
بي الليلة شرّ، من أنت؟ قال: الفرزدق بن غالب. قال: فسجد لي و سجدت له. فقيل للفرزدق في ذلك، فقال:
كرهت أن يفضلني. فنادى الأخطل: يا بني تغلب هذا الفرزدق. فجمعوا له إبلا كثيرة. فلما أصبح فرّقها ثم شخص.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:
كان ممّا يقدّم به الأخطل أنه كان أخبثهم هجاء في عفاف عن(1) الفحش. و قال الأخطل: ما هجوت أحدا قطّ بما تستحي العذراء أن تنشده أباها.
أخبرني أحمد و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا بن شبّة قال حدّثني محمد بن عبّاد الموصليّ قال:
خرج يزيد بن معاوية معه عام حجّ بالأخطل. فاشتاق يزيد أهله فقال:
بكى كلّ ذي شجو من الشام شاقه *** تهام فأنّى يلتقي الشّجيان
أجز يا أخطل، فقال:
/
يغور الذي بالشأم أو ينجد الذي *** بغور تهامات فيلتقيان
أخبرني أحمد و حبيب قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:
قيل لأبي العبّاس أمير المؤمنين: إنّ رجلا شاعرا قد مدحك، فتسمع شعره؟ قال: و ما عسى أن يقول فيّ بعد قول ابن النّصرانيّة في بني أميّة:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم *** و أعظم الناس أحلاما إذا قدروا
أخبرني به وكيع عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عديّ بمثله.
قال هارون و حدّثني هارون بن سليمان عن الحسن بن مروان التّميميّ عن أبي بردة الفزاريّ عن رجل من تغلب قال:
لحظ الأخطل شكوة(2) لأمّه فيها لبن و جرابا فيه تمر و زبيب، و كان جائعا و كان يضيّق عليه؛ فقال لها: يا أمّه، آل فلان يزورونك و يقضون حقّك و أنت لا تأتينهم و عندهم عليل، فلو أتيتهم لكان أجمل و أولى بك. قالت: جزيت خيرا يا بنيّ! لقد نبهت على مكرمة. و قامت فلبست ثيابها و مضت إليهم. فمضى الأخطل إلى الشّكوة ففرّغ ما فيها
ص: 431
و إلى الجراب فأكل التمر و الزّبيب كلّه. /و جاءت فلحّظت موضعها فرأته فارغا، فعلمت أنه قد دهاها، و عمدت إلى خشبة لتضربه بها؛ فهرب و قال:
ألمّ على عنبات العجوز *** و شكوتها من غياث(1) لمم
فظلّت تنادي ألا ويلها *** و تلعن و اللعن منها أمم(2)
و ذكر يعقوب بن السّكّيت هذه القصة، فحكى أنها كانت مع امرأة لأبيه لها منه بنون، فكانت تؤثرهم باللّبن و التمر و الزبيب و تبعث به يرعى أعنزا لها. و سائر القصة و الشعر متّفق. و قال في خبره: و هذا أوّل شعر قاله الأخطل.
أخبرني الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه عن عليّ بن فيروز عن الأصمعيّ عن أمامة و رعوم اللّتين قال فيهما الأخطل:
صرمت أمامة حبلها و رعوم و رعوم و أمامة بنتا سعيد بن إياس بن هانئ بن قبيصة، و كان الأخطل نزل عليه فأطعمه و سقاه خمرا و خرجتا و هما جويريتان فخدمتاه. ثم نزل عليه ثانية و قد كبرتا فحجبتا عنه؛ فسأل عنهما و قال: فأين ابنتاي؟ فأخبر بكبرهما، فنسب بهما. قال: و الرّعوم هي التي كانت عند قتيبة بن مسلم و كان يقال لها أمّ الأخماس، تزوّجت في أخماس(3)البصرة محمد بن المهلّب و عامر بن مسمع و عبّاد بن الحصين و قتيبة بن مسلم؛ و كان يقال لها الجارود.
أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيدي قال حدّثنا الخرّاز عن المدائنيّ قال قال أبو عبد الملك:
كانت بكر بن وائل إذا تشاجرت في شيء رضيت بالأخطل، و كان يدخل المسجد فيقدمون إليه. قال: فرأيته بالجزيرة و قد شكي إلى القسّ و قد أخذ بلحيته و ضربه بعصاه(4) و هو يصيء(5) كما يصيء الفرخ. فقلت له: أين هذا مما كنت فيه بالكوفة؟ فقال: يا ابن أخي، إذا جاء الدّين ذللنا.
و قال يعقوب بن السّكّيت زعم غيلان عن يحيى بن بلال عن عمر بن عبد اللّه عن داود بن المساور قال:
دخلت إلى الأخطل فسلّمت عليه، فنسبني(6) فانتسبت، و استنشدته فقال: أنشدك حبّة قلبي، ثم أنشدني:
ص: 432
/
لعمري لقد أسريت لا ليل عاجز *** بسلهبة(1) الخدّين ضاوية القرب(2)
إليك أمير المؤمنين رحلتها *** على(3) الطائر الميمون و المنزل الرّحب
فقلت: من أشعر الناس؟ قال: الأعشى. قلت: ثمّ من؟ قال: ثم أنا.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه عن أبي أيّوب المدينيّ عن المدائنيّ قال:
امتدح الأخطل هشاما فأعطاه خمسمائة درهم، فلم يرضها و خرج فاشترى بها تفّاحا و فرّقه على الصّبيان. فبلغ ذلك هشاما فقال: قبحه اللّه! ما ضرّ إلاّ نفسه.
و قال يعقوب بن السّكّيت حدّثني سلمة النّميريّ - و توفّي و له مائة و أربعون سنة - أنه حضر هشاما و له يومئذ تسع عشرة سنة و حضر جرير و الفرزدق و الأخطل عنده؛ فأحضر هشام ناقة له فقال متمثّلا:
أنيخها ما بدا لي ثم أرحلها ثم قال: أيّكم أتمّ البيت كما أريد فهي له. فقال جرير:
كأنّها نقنق(4) يعدو بصحراء فقال: لم تصنع شيئا. فقال الفرزدق:
كأنّها كاسر(5) بالدّوّ فتخاء فقال: لم تغن شيئا. فقال الأخطل:
ترخي المشافر و اللّحيين إرخاء فقال: اركبها لا حملك اللّه!
و قال هارون بن الزيّات حدّثني الخرّاز عن المدائنيّ قال:
هجت الأخطل جارية من قومه؛ فقال لأبيها: يا أبا الدّلماء، إنّ ابنتك تعرّضت لي فاكففها. فقال له: هي امرأة مالكة لأمرها. فقال الأخطل.
ألا أبلغ أبا الدّلماء عنّي *** بأن سنان شاعركم قصير
ص: 433
فإن يطعن فليس بذي غناء *** و إن يطعن فمطعنه يسير
متى ما ألقه و معي سلاحي *** يخرّ على قفاه فلا يحير(1)
فمشى(2) أبوها في رجال من قومه إلى الأخطل فكلّموه؛ فقال: أمّا ما مضى فقد مضى و لا أزيد.
أخبرنا أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلاّم قال:
لمّا حضرت الأخطل الوفاة قيل له: يا أبا مالك، أ لا توصي؟ فقال:
أوصي الفرزدق عند الممات *** بأمّ جرير و أعيارها
و زار القبور أبو مالك *** برغم العداة و أوتارها
أخبرنا أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلاّم قال قال لي معاوية بن أبي عمرو بن العلاء: أيّ البيتين عندك أجود: قول جرير:
أ لستم خير من ركب المطايا *** و أندى العالمين بطون راح
أم قول الأخطل:
شمس العداوة حتى يستفاد لهم *** و أعظم الناس أحلاما إذا قدروا
فقلت: بيت جرير أحلى و أسير، و بيت الأخطل أجزل و أرزن. فقال: صدقت، و هكذا كانا في أنفسهما عند الخاصّة و العامّة.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الحلبيّ و جعفر بن سعيد أنّ رجلا سأل حمّادا الراوية عن الأخطل فقال: ويحكم! ما أقول في شعر رجل قد و اللّه حبّب(3) إليّ شعره النّصرانية!.
و قال هارون بن الزيّات حدّثني أبو عثمان المازنيّ عن العتبيّ عن أبيه:
أنّ سليمان بن عبد الملك سأل عمر بن عبد العزيز: أ جرير أشعر أم الأخطل؟ فقال له: أعفني. قال: لا و اللّه لا أعفيك. قال: إنّ الأخطل ضيّق عليه كفره القول، و إنّ جريرا وسّع عليه إسلامه قوله؛ و قد بلغ الأخطل منه حيث رأيت. فقال له سليمان: فضّلت و اللّه الأخطل.
قال هارون و حدّثني أبو عثمان عن الأصمعيّ عن خالد بن كلثوم قال:
قال عبد الملك للفرزدق: من أشعر الناس في الإسلام؟ قال: كفاك بابن النّصرانيّة إذا مدح.
أخبرنا أحمد و حبيب قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:
حدّثت أنّ الحجّاج بن يوسف أوفد وفدا إلى عبد الملك و فيهم جرير. فجلس لهم ثم أمر بالأخطل فدعي له؛ فلما دخل عليه قال له: يا أخطل، هذا سبّك - يعني جريرا - و جرير جالس - فأقبل عليه جرير فقال: أين تركت خنازير أمّك؟! قال: راعية مع أعيار أمّك(1)؛ و إن أتيتنا قريناك منها. فأقبل جرير على عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ رائحة الخمر لتفوح منه. قال: صدق يا أمير المؤمنين، و ما اعتذاري من ذلك!.
تعيب الخمر و هي شراب كسرى *** و يشرب قومك العجب العجيبا
منيّ العبد عبد أبي سواج *** أحقّ من المدامة أن تعيبا
فقال عبد الملك: دعوا هذا، و أنشدني يا جرير، فأنشده ثلاث قصائد كلّها في الحجّاج يمدحه بها، فأحفظ عبد الملك، و قال له: يا جرير، إنّ اللّه لم ينصر الحجّاج و إنما نصر خليفته و دينه. ثم أقبل على الأخطل فقال:
/
شمس العداوة حتى يستقاد لهم *** و أعظم الناس أحلاما إذا قدروا
فقال عبد الملك: هذه المزمّرة؛ و اللّه لو وضعت على زبر(2) الحديد لأذابتها. ثم أمر له بخلع فخلعت عليه حتى غاب فيها، و جعل يقول: إنّ لكل قوم شاعرا، و إنّ الأخطل شاعر بني أميّة.
فأمّا قول الأخطل:
منيّ العبد عبد أبي سواج
فأخبرني بخبر أبي سواج عليّ بن سليمان الأخفش و محمد بن العبّاس اليزيديّ قالا حدّثنا أبو سعيد السّكّريّ قال حدّثنا محمد بن حبيب و أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى أنّ أبا سواج و هو عبّاد بن خلف الضّبّيّ
ص: 435
جاور بني يربوع، و كانت له فرس يقال لها بذوة(1)، و كان لصرد بن جمرة اليربوعيّ فرس يقال لها القضيب، فتراهنا عشرين بعشرين، فسبقت بذوة فظلمه ابن جمرة حقّه و منعه سبقه(2)، و جعل يفجر بامرأته. ثم إنّ أبا سواج ذهب إلى البحرين يمتار؛ فلما أقبل راجعا، و كان رجلا شديدا معجبا بنفسه، جعل يقول و هو يحدو:
يا ليت شعري هل بغت من بعدي
فسمع قائلا يقول من خلفه:
نعم بمكويّ قفاه جعدي
فعاد إلى قوله فأجابه بمثل ذلك. و قدم إلى منزله فأقام به مدّة، فتغاضب صرد على امرأة أبي سواج و قال: لا أرضى أو تقدّي من است أبي سواج سيرا. فأخبرت/زوجها بذلك فقام إلى نعجة له فذبحها و قد من باطن أليتيها سيرا فدفعه إليها؛ فجعله/صرد بن جمرة في نعله، فقال لقومه: إذا أقبلت و فيكم أبو سواج فسلوني من أين أقبلت ففعلوا، فقال: من ذي بليّان(3) و أريد ذابليّان، و في نعلي شراكان، من است إنسان. فقام أبو سواج: فطرح ثوبه و قال: أنشدكم اللّه! هل ترون بأسا؟ ثم أمر أبو سواج غلامين له راعيين أن يأخذا أمة له فيتراوحاها؛ و دفع إليهما عسّا و قال: لئن قطرت منكما قطرة في غير العسّ لأقتلنّكما. فباتا يتراوحانها و يصبّان ما جاء منهما في العسّ، و أمرهما أن يحلبا عليه فحلبا حتى ملآه؛ ثم قال لامرأته: و اللّه لتسقينّه صرد أو لأقتلنّك: و اختبأ و قال: ابعثي إليه حتى يأتيك ففعلت. و أتاها لعادتها كما كان يأتيها، فرحّبت به و استبطأته ثم قامت إلى العسّ فناولته إيّاه. فلما ذاقه رأى طعما خبيثا و جعل يتمطّق(4) من اللّبن الذي يشرب و قال: إني أرى لبنكم خاثرا، أحسب إبلكم رعت السّعدان.
فقالت: إنّ هذا من طول مكثه في الإناء، أقسمت عليك إلاّ شربته. فلما وقع في بطنه وجد الموت، فخرج إلى أهله و لا يعلم أصحابه بشيء من أمره. فلما جنّ على أبي سواج اللّيل أتى أهله و غلمانه فانصرفوا إلى قومه و خلّف الفرس و كلبه في الدار؛ فجعل الكلب ينبح و الفرس يصهل؛ و ذلك ليظنّ القوم أنّه لم يرتحل. فساروا ليلتهم و الدار ليس فيها غيره و كلبه و فرسه و عسّه. فلما أصبح ركب فرسه و أخذ العسّ فأتى مجلس بني يربوع فقال: جزاكم اللّه من جيران خيرا! فقد أحسنتم الجوار، و فعلتم ما كنتم له أهلا. فقالوا له: يا أبا سواج، ما بدا لك في الانصراف عنّا؟ قال: إنّ صرد بن جمرة لم يكن فيما بيني و بينه محسنا، و قد قلت في ذلك:
/
إنّ المنيّ إذا سرى *** في العبد أصبح مسمغدّا(5)
أ تنال سلمى باطلا *** و خلقت يوم خلقت جلدا
صرد بن جمرة هل لقي *** ت رثيئة لبنا و عصدا(6)
ص: 436
و اعلموا أنّ هذا القدح قد أحبل منكم رجلا و هو صرد بن جمرة. ثم رمى بالعسّ على صخرة فانكسر و ركض فرسه.
و تنادوا: عليكم الرجل، فأعجزهم و لحق بقومه. و قال في ذلك عمر بن لجأ التّيميّ:
تمسّح يربوع سبالا لئيمة *** بها من منيّ العبد رطب و يابس
و إيّاه عنى الأخطل بقوله:
و يشرب قومك العجب العجيبا
أخبرنا أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال زعم محمد بن حفص بن عائشة التّيميّ عن إسحاق بن عبد اللّه بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلّب قال:
قدمت الشام و أنا شابّ مع أبي، فكنت أطوف في كنائسها و مساجدها؛ فدخلت كنيسة دمشق، و إذا الأخطل فيها محبوس، فجعلت انظر إليه. فسأل عنّي فأخبر بنسبي، فقال: يا فتى، إنك لرجل شريف، و إنى أسألك حاجة.
فقلت: حاجتك مقضيّة. قال إنّ القسّ حبسني هاهنا فتكلّمه ليخلّي عنّي. فأتيت القسّ فانتسبت له، فرحّب و عظّم، قلت: إنّ لي إليك حاجة. قال: ما حاجتك؟ قلت: /الأخطل تخلّي عنه. قال: أعيذك باللّه من هذا! مثلك لا يتكلّم فيه، فاسق يشتم أعراض الناس و يهجوهم! فلم أزل أطلب إليه حتى مضى معي متّكئا على عصاه، فوقف عليه /و رفع عصاه و قال: يا عدوّ اللّه! أ تعود تشتم الناس و تهجوهم و تقذف المحصنات! و هو يقول: لست بعائد و لا أفعل، و يستخذي له. قال: فقلت له: يا أبا مالك، الناس يهابونك و الخليفة يكرمك و قدرك في الناس قدرك، و أنت تخضع لهذا هذا الخضوع و تستخذي له!. قال: فجعل يقول لي: إنّه الدّين! إنه الدّين!.
أخبرنا اليزيديّ عن عمه عبيد اللّه عن ابن حبيب عن الهيثم بن عديّ قال:
كانت امرأة الأخطل حاملا، و كان متمسّكا بدينه. فمرّ به الأسقفّ يوما. فقال لها: الحقية فتمسّحي به؛ فعدت فلم تلحق إلاّ ذنب حماره فتمسّحت به و رجعت. فقال لها: هو و ذنب حماره سواء.
أخبرنا أبو خليفة قال حدّثنا ابن سلاّم قال حدّثني يونس قال قال أبو الغرّاف. سمع هشام بن عبد الملك الأخطل و هو يقول:
و إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد *** ذخرا يكون كصالح الأعمال
فقال: هنيئا لك أبا مالك هذا الإسلام!. فقال له: يا أمير المؤمنين(1)، ما زلت مسلما في ديني.
ص: 437
أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا ابن سلاّم قال حدّثني يونس و عبد الملك و أبو الغرّاف فألّفت ما قالوا، قالوا:
أتى الأخطل الكوفة، فأتى الغضبان بن القبعثري(1) الشيباني فسأله في حمالة، فقال: إن شئت أعطيتك ألفين، و إن شئت أعطيتك درهمين. قال: و ما بال الألفين/و ما بال الدرهمين؟ قال: إن أعطيتك ألفين لم يعطكها إلاّ قليل، و إن أعطيتك درهمين لم يبق في الكوفة بكريّ إلاّ أعطاك درهمين؛ و كتبنا إلى إخواننا بالبصرة فلم يبق بكريّ بها إلاّ أعطاك درهمين، فخفّت عليهم المئونة و كثر لك النّيل. فقال: فهذه إذا. فقال: نقسمها لك على أن ترد علينا. فكتب بالبصرة إلى سويد بن منجوف(2) السّدوسيّ فقدم البصرة - فقال يونس في حديثه - فنزل على آل الصّلت بن حريث الحنفي فأخبر من سمعه يقول(3): و اللّه لا أزال أفعل ذلك. ثم رجع الحديث الأوّل: فأتى سويدا فأخبره بحاجته. فقال نعم! و أقبل على قومه فقال: هذا أبو مالك قد أتاكم يسألكم أن تجمعوا له، و هو الذي يقول:
إذا ما قلت قد صالحت بكرا *** أبى البغضاء و النّسب البعيد
و أيّام لنا و لهم طوال *** يعضّ الهام فيهنّ الحديد
و مهراق الدماء بواردات(4) *** تبيد المخزيات و لا تبيد
هما أخوان يصطليان نارا *** رداء الحرب بينهما جديد
فقالوا: فلا و اللّه لا نعطيه شيئا. فقال الأخطل:
فإن تبخل سدوس بدرهميها *** فإنّ الرّيح طيّبة قبول(5)
تواكلني(6) بنو العلاّت(7) منهم *** و غالت مالكا و يزيد غول(8)
/صريعا(9) وائل هلكا جميعا *** كأنّ الأرض بعدهما محول(10)
و قال في سويد بن منجوف - و كان رجلا ليس بذي منظر -:
/
و ما جذع سوء خرّب السّوس أصله *** لما حمّلته وائل بمطيق
ص: 438
أخبرنا أبو خليفة قال قال محمد بن سلاّم:
كان الأخطل مع مهارته و شعره يسقط أحيانا: كان مدح سماكا الأسديّ، و هو سماك الهالكيّ من بني عمرو بن أسد، و بنو عمرو يلقّبون القيون، و مسجد سماك بالكوفة معروف، و كان من أهلها؛ فخرج أيام عليّ هاربا فلحق بالجزيرة، فمدحه الأخطل فقال:
نعم المجير سماك من بني أسد *** بالقاع إذ قتلت جيرانها مضر
قد كنت أحسبه قينا و أخبره *** فاليوم طيّر عن أثوابه الشّرر
إنّ سماكا بني مجدا لأسرته *** حتى الممات و فعل الخير يبتدر
فقال سماك: يا أخطل: أردت مدحي فهجوتني، كان الناس يقولون قولا فحقّقته. فلما هجا سويدا قال له سويد:
و اللّه يا أبا مالك، ما تحسن تهجو و لا تمدح(1)؛ لقد أردت مدح الأسديّ فهجوته - يعني قوله:
قد كنت أحسبه قينا و أنبؤه *** فاليوم طيّر عن أثوابه الشّرر
إنّ سماكا بني مجدا لأسرته *** حتى الممات و فعل الخير يبتدر
- و أردت هجائي فمدحتني، جعلت وائلا حمّلتني أمورها، و ما طمعت في بني تغلب فضلا عن بكر.
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال حدّثني أبان البجليّ قال:
مرّ الأخطل بالكوفة في بني رؤاس(2) و مؤذّنهم ينادي بالصلاة. فقال له بعض فتيانهم: أ لا تدخل يا أبا مالك فتصلّي؟ فقال:
أصلّي حيث تدركني صلاتي *** و ليس البرّ عند بني رؤاس
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال حدّثني أبو الحصين الأمويّ قال:
بينا الأخطل قد خلا بخميرة له في نزهة مع صاحب له، و طرأ عليهما طارئ لا يعرفانه و لا يستخفّانه، فشرب شرابهما و ثقيل عليهما. فقال الأخطل في ذلك:
و ليس القذى بالعود يسقط في الإنا *** و لا بذباب خطبه أيسر الأمر
و لكنّ شخصا لا نسرّ بقربه *** رمتنا به الغيطان من حيث لا ندري
ص: 439
و يروى:
و لكن قذاها زائر لا نحبّه
و هو الجيّد. الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و قد أخبرنا بهذا الخبر محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثنا العمريّ قال حدّثنا الهيثم بن عديّ عن ابن عيّاش قال:
بينا الأخطل جالس عند امرأة من قومه، و كان أهل البدو إذ ذاك يتحدّث رجالهم إلى النساء لا يرون بذلك بأسا، و بين يديه باطية شراب و المرأة تحدّثه و هو يشرب، إذ دخل رجل فجلس، فثقل على الأخطل و كره أن يقول له قم استحياء منه. و أطال الرجل الجلوس إلى أن أقبل ذباب فوقع في الباطية في شرابه؛ فقال الرجل: يا أبا مالك، الذّباب في شرابك. فقال:
/
و ليس القذى بالعود يسقط في الخمر *** و لا بذباب نزعه أيسر الأمر
و لكن قذاها زائر لا نحبّه *** رمتنا به الغيطان من حيث لا ندري
قال: فقام الرجل فانصرف.
و أخبرني عمّي رحمه اللّه بهذا الحديث عن الكرانيّ عن الزّياديّ عن عليّ بن الحفّار أخي أبي الحجّاج(1):
أنّ الأخطل جاء إلى معبد في قدمة قدمها إلى الشام. فقال له معبد: إنّي أحبّ محادثتك. فقال له: و أنا أحبّ ذلك. و قاما يتصبّحان(2) الغدران حتى وقفا على غدير فنزلا و أكلا؛ فتبعهما(3) أعرابيّ فجلس معهما. و ذكر الخبر مثل الذي قبله.
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال قال أبان بن عثمان حدّثني أبي قال:
دعا الأخطل شابّ من شباب أهل الكوفة إلى منزله. فقال له: يا ابن أخي، أنت لا تحتمل المئونة و ليس عندك معتمد؛ فلم يزل به حتى انتجعه، فأتى الباب فقال: يا شقراء، فخرجت إليه امرأة، فقال لأمّه: هذا أبو مالك قد أتاني؛ فباعت غزلا لها و اشترت له لحما و نبيذا و ريحانا. فدخل خصّا لها فأكل معه و شرب، و قال في ذلك:
و بيت كظهر الفيل جلّ متاعه *** أباريقه و الشارب المتقطر(4)
ترى فيه أثلام الأصيص(5) كأنها *** إذا بال فيها الشيخ جفر(6) معوّر
لعمرك ما لاقيت يوم معيشة *** من الدهر إلاّ يوم شقراء أقصر
حواريّة لا يدخل الذّمّ بيتها *** مطهّرة يأوي إليها مطهّر
ص: 440
/و ذكر هارون بن الزيّات هذا الخبر عن حمّاد عن أبيه أنه كان نازلا على عكرمة الفيّاض و أنه خرج من عنده يوما، فمرّ بفتيان يشربون و معهم قينة يقال لها شقراء. و ذكر الخبر مثل ما قبله، و زاد فيه: فأقام عندهم أربعة أيّام. و ظنّ عكرمة أنه غضب فانصرف عنه. فلما أتاه أخبره بخبره، فبعث إلى الفتيان بألف درهم و أعطاه خمسة آلاف، فمضى بها إليهم و قال: استعينوا بهذه على أمركم. و لم يزل ينادمهم حتى رحل.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال حدّثني أبو يحيى الضّبّيّ قال:
اجتمع الفرزدق و جرير و الأخطل عند بشر بن مروان، و كان بشر يغري بين الشعراء. فقال للأخطل: احكم بين الفرزدق و جرير. فقال: أعفني أيها الأمير. قال: احكم بينهما، فاستعفاه بجهده فأبى إلا أن يقول؛ فقال: هذا حكم مشئوم؛ ثم قال: الفرزدق ينحت من صخر، و جرير يغرف من بحر. فلم يرض بذلك جرير، و كان سبب الهجاء بينهما. فقال جرير في حكومته:
يا ذا الغباوة(1) إنّ بشرا قد قضى *** ألاّ تجوز حكومة النّشوان
فدعوا الحكومة لستم من أهلها *** إنّ الحكومة في بني شيبان
قتلوا كليبكم(2) بلقحة جارهم *** يا خزر تغلب لستم بهجان
فقال الأخطل يردّ على جرير:
و لقد تناسبتم(3) إلى أحسابكم *** و جعلتم حكما من السّلطان
/فإذا كليب لا تساوي دارما *** حتى يساوي حزرم(4) بأبان
/و إذا جعلت أباك في ميزانهم *** رجحوا و شال أبوك في الميزان
و إذا وردت الماء كان لدارم *** عفواته(5) و سهولة الأعطان
ثم استطارا في الهجاء.
أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال حدّثنا أبو الغراف قال:
لما قال جرير:
إذا أخذت قيس عليك و خندف *** بأقطارها لم تدر من أين تسرح
ص: 441
قال الأخطل(1). لا أين! سد و اللّه عليّ الدنيا. فلما أنشد قوله:
فما لك في نجد حصاة تعدّها *** و ما لك من غوري تهامة أبطح
قال الأخطل: لا أبالي و اللّه ألاّ يكون فتح لي و الصّليب القول؛ ثم قال:
و لكن لنا برّ العراق و بحره *** و حيث ترى القرقور(2) في الماء يسبح
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال حدّثني محمد بن الحجّاج الأسيّديّ قال:
خرجت إلى الصائفة(3) فنزلت منزلا ببني تغلب فلم أجد به طعاما و لا شرابا و لا علفا لدوابّي شرى و لا قرى و لم أجد ظلاّ؛ فقتل لرجل منهم: ما في داركم هذه مسجد/يستظلّ فيه؟ فقال: ممّن أنت؟ قلت: من بني تميم.
قال: ما كنت أرى عمّك جريرا إلاّ قد أخبرك حين قال:
فينا المساجد و الإمام و لا ترى *** في آل تغلب مسجدا معمورا
أخبرني أبو خليفة قال أنبأنا محمد بن سلاّم قال حدّثني شيخ من ضبيعة قال:
خرج جرير إلى الشام فنزل منزلا ببني تغلب فخرج متلثّما عليه ثياب سفره، فلقيه رجل لا يعرفه. فقال: ممّن الرجل؟ قال: من بني تميم. قال: أ ما سمعت ما قلت لغاوي بني تميم؟! فأنشده مما قال لجرير. فقال: أ ما سمعت ما قال لك غاوي بني تميم؟! فأنشده. ثم عاد الأخطل و عاد جرير في نقضه حتى كثر ذلك بينهما. فقال التغلبيّ: من أنت؟ لا حيّاك اللّه! و اللّه لكأنك جرير. قال: فأنا جرير. قال: و أنا الأخطل.
أخبرني عمّي قال أنبأنا الكرانيّ قال أنبأنا أبو عبد الرحمن عن المدائنيّ قال:
دخل الأخطل على عبد الملك و قد شرب، فكلّمه فخلّط في كلامه. فقال له: ما هذا؟ فقال:
إذا شرب الفتى منها ثلاثا *** بغير الماء حاول أن يطولا
مشى قرشيّة لا عيب فيها *** و أرخى من مآزره الفضولا
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل قال أخبرني إسماعيل بن أبي محمد اليزيديّ قال أخبرني أبو محمد اليزيديّ قال:
خرج الفرزدق يؤمّ بعض الملوك من بني أميّة، فرفع له في طريقه بيت أحمر من أدم، فدنا منه و سأل فقيل
ص: 442
له: [بيت](1) الأخطل. فأتاه فقال: انزل. فلمّا نزل قام/إليه الأخطل و هو لا يعرفه إلا أنه ضيف؛ فقعدا يتحدّثان.
فقال له الأخطل: ممّن الرجل؟ قال: من بني تميم. قال: فإنك إذا من رهط أخي الفرزدق. فقال: تحفظ من شعره شيئا؟ قال: نعم كثيرا. فما زالا يتناشدان و يتعجّب الأخطل من حفظه شعر الفرزدق إلى أن عمل فيه الشراب، و قد كان الأخطل قال له قبل ذلك: أنتم معشر/الحنفيّة لا ترون أن تشربوا من شرابنا. فقال له الفرزدق: خفّض قليلا و هات من شرابك فاسقنا. فلمّا عملت الرّاح في أبي فراس قال: أنا و اللّه الذي أقول في جرير فأنشده. فقام إليه الأخطل فقبّل رأسه و قال: لا جزاك اللّه عنّي خيرا! لم كتمتني نفسك منذ اليوم! و أخذا في شرابهما و تناشدهما، إلى أن قال له الأخطل: و اللّه إنك و إيّاي لأشعر منه و لكنه أوتي من سير الشعر ما لم نؤته؛ قلت أنا بيتا ما أعلم أنّ أحدا قال أهجى منه، قلت:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم *** قالوا لأمّهم بولي على النار
فلم يروه إلاّ حكماء أهل الشعر. و قال هو:
و التغلبيّ إذا تنحنح للقرى *** حكّ استه و تمثّل الأمثالا
فلم تبق سقاة و لا أمثالها إلا رووه. فقضيا له أنه أسير شعرا منهما.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال قال المدائنيّ:
كان للأخطل الشاعر دار ضيافة، فمرّ به عكرمة الفيّاض و هو لا يعرفه، فقيل له: هذا رجل شريف قد نزل بنا.
فلمّا أمسى بعث إليه فتعشّى معه، ثم قال له: أ تصيب من الشراب شيئا؟ قال: نعم. قال: أيه؟ قال: كلّه إلاّ شرابك. فدعا له بشراب يوافقه، و إذا عنده قينتان هما خلفه و بينه و بينهما ستر، و إذا الأخطل أشهب اللّحية له ضفيرتان؛ فغمز الستر بقضيب في يده و قال: غنيّاني بأردية الشعر، فغنّتاه بقول عمرو بن شأس:
/
و بيض تطلّى بالعبير كأنما *** يطأن و إن أعنقن(2) في جدد وحلا
لهونا بها يوما و يوما بشارب *** إذا قلت مغلوبا وجدت له عقلا
فأما السبب في مدح الأخطل عكرمة بن ربعيّ الفيّاض فأخبرنا به أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال:
قدم الأخطل الكوفة فأتى حوشب بن رويم الشّيبانيّ، فقال: إني تحملت حمالتين لأحقن بهما دماء قومي فنهره، فأتى سيّار بن البزيعة، فسأله فاعتذر إليه، فأتى عكرمة الفيّاض، و كان كاتبا لبشر بن مروان، فسأله و أخبره بما ردّ عليه الرجلان؛ فقال: أمّا إني لا أنهرك و لا أعتذر إليك، و لكني أعطيك إحداهما عينا و الأخرى عرضا. قال:
و حدث أمر بالكوفة فاجتمع له الناس في المسجد، فقيل له: إن أردت أن تكافئ عكرمة يوما فاليوم. فلبس جبّة خزّ و ركب فرسا و تقلّد صليبا من ذهب و أتى باب المسجد و نزل عن فرسه. فلما رآه حوشب و سيّار نفسا عليه ذلك،
ص: 443
و قال له عكرمة: يا أبا مالك، فجاء فوقف و ابتدأ ينشد قصيدته(1):
لمن الدّيار بحائل فوعال
حتى انتهى إلى قوله:
إنّ ابن ربعيّ كفاني سيبه *** ضغن العدوّ و غدرة المحتال(2)
أغليت حين تواكلتني وائل *** إنّ المكارم عند ذاك غوال
و لقد مننت على ربيعة كلّها *** و كفيت كلّ مواكل خذال
كابن البزيعة أو كآخر مثله *** أولى(3) لك ابن مسيمة الأجمال
/إنّ اللّئيم إذا سألت بهرته *** و ترى الكريم يراح(4) كالمختال
/و إذا عدلت به رجالا لم تجد *** فيض الفرات كراشح الأوشال
قال: فجعل عكرمة يبتهج و يقول: هذه و اللّه أحبّ إليّ من حمر النّعم.
و مما في شعر الأخطل من الأصوات المختارة:
أراعك بالخابور(5) نوق(6) و أجمال *** و دار عفتها الرّيح بعدي بأذيال
و مبنى قباب المالكيّة حولنا *** و جرد تغادى بين سهل و أجبال
عروضه من الطويل. الشعر للأخطل. و الغناء لابن محرز، و لحنه المختار من خفيف الثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه خفيف رمل في هذا الوجه نسبه يحيى المكيّ إلى ابن محرز، و ذكر الهشاميّ أنه منحول. و فيه لحنين الحيريّ ثقيل أوّل عن الهشاميّ.
ص: 444
كان سائب خاثر مولى بني ليث. و أصله من فيء كسرى، و اشترى عبد اللّه بن جعفر ولاءه من مواليه، و قيل:
بل اشتراه فأعتقه، و قيل: بل كان على ولائه لبني ليث، و إنما انقطع إلى عبد اللّه بن جعفر فلزمه و عرف به. و كان يبيع الطعام بالمدينة. و اسم أبيه الذي أعتقه بنو ليث «يشا»(1).
قال ابن الكلبيّ و أبو غسّان و غيرهما: هو أوّل من عمل العود بالمدينة و غنّى به. و قال ابن خرداذبه: كان عبد اللّه بن عامر اشترى إماء صنّاجات(2) و أتى بهنّ المدينة، فكان لهنّ يوم في الجمعة يلعبن فيه، و سمع الناس منهنّ، فأخذ عنهنّ. ثم قدم رجل فارسيّ يسمّى بنشيط، فغنّى فأعجب عبد اللّه بن جعفر به. فقال له سائب خاثر:
أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسيّ بالعربيّة، ثم غدا على عبد اللّه بن جعفر و قد صنع:
لمن الدّيار رسومها قفر
قال ابن الكلبيّ: و هو أوّل صوت غنّي به في الإسلام من الغناء العربيّ المتقن الصنعة. قال: ثم اشترى عبد اللّه بن جعفر نشيطا بعد ذلك، فأخذ عن سائب خاثر الغناء العربيّ و أخذ عنه ابن سريح و جميلة و عزّة الميلاء و غيرهم.
قال ابن الكلبيّ و حدّثني أبو مسكين قال:
كان سائب خاثر يكنى أبا جعفر، و لم يكن يضرب بالعود إنما كان يقرع بقضيب و يغنّي مرتجلا، و لم يزل يغنّي. و قتل يوم الحرّة. و مرّ به بعض القرشيّين و هو قتيل، فضربه برجله و قال: إنّ هاهنا لحنجرة حسنة. و كان سائب من ساكني المدينة.
قال ابن الكلبيّ: و كان سائب تاجرا موسرا يبيع الطعام، و كان تحته أربع نسوة، و كان انقطاعه إلى عبد اللّه بن جعفر، و كان مع ذلك يخالط سروات الناس و أشرافهم لظرفه و حلاوته و حسن صوته. و كان قد آلى ألا يغنّي أحدا سوى عبد اللّه بن جعفر، إلا أن يكون خليفة أو وليّ عهد أو ابن خليفة؛ فكان على ذلك إلى أن قتل. قال: و أخذ
ص: 445
معبد عنه غناء كثيرا فنحل الناس بعضه إليه(1)، و أهل العلم بالغناء يعرفون ذلك. و زعم ابن خرداذبه أنّ أمّ محمد /ابن عمرو الواقديّ القاضي المحدّث بنت عيسى بن جعفر بن سائب خاثر.
و قال ابن الكلبيّ: سائب خاثر أوّل من غنّى بالعربيّة الغناء الثقيل؛ و أوّل لحن صنعه منه:
لمن الدّيار رسومها قفر
قال: فألفت هذا الصوت الفروح.
قال و حدّثني محمد بن يزيد أنّ أوّل صوت صنعه في شعر امرئ القيس:
أ فاطم مهلا بعض هذا التدلّل
و أنّ معبدا أخذ لحنه فيه فغنّى عليه:
أ من آل ليلى باللّوى متربّع
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن ابن الكلبيّ عن لقيط قال:
وفد عبد اللّه بن جعفر على معاوية و معه سائب خاثر فوقّع له في حوائجه، ثم عرض عليه حاجة لسائب خاثر؛ فقال معاوية: من سائب خاثر؟ قال: رجل من أهل المدينة ليثيّ يروي الشعر. قال: أو كلّ من روى الشعر أراد أن نصله! قال: إنه حسّنه. قال: و إن حسّنه! قال: أ فأدخله إليك يا أمير المؤمنين؟ قال نعم. قال: فألبسته ممصّرتين(2)إزارا و رداء. فلما دخل قام على الباب ثم رفع صوته يتغنّى:
لمن الديار رسومها قفر
فالتفت معاوية إلى عبد اللّه بن جعفر فقال: أشهد لقد حسّنه! فقضى حوائجه و أحسن إليه.
القرشيّين من السبعة المعدودين من شعراء العرب. و الغناء(1) لسائب خاثر ثقيل أوّل بالسبّابة عن الكلبيّ و حبش، و ذكر أنّ لحن سائب خاثر ثقيل/أوّل بالوسطى، و وافق إسحاق في ذلك، و ذكر أنّ الثقيل الأوّل لنشيط. و ذكر يونس أن فيه لحنا لمعبد و لم يجنّسه، و ذكر الهشاميّ أن لحن معبد خفيف ثقيل، و أنّ فيه لابن سريج خفيف رمل.
أخبرنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و إسماعيل بن يونس قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني قبيصة بن عمرو قال حدّثنا محمد بن المنهال عن رجل حدّثه، و ذكر ذلك أيضا ابن الكلبيّ عن لقيط قال:
أشرف معاوية بن أبي سفيان ليلا على منزل يزيد ابنه، فسمع صوتا أعجبه، و استخفّه السماع فاستمع قائما حتى ملّ، ثم دعا بكرسيّ فجلس عليه، و اشتهى الاستزادة فاستمع بقية ليلته حتى ملّ. فلما أصبح غدا عليه يزيد.
فقال له: يا بنيّ! من كان جليسك البارحة؟ قال: أيّ جليس يا أمير المؤمنين؟ و استعجم عليه. قال: عرّفني فإنه لم يخف عليّ شيء من أمرك. قال: سائب خاثر. قال: فأخثر(2) له يا بنيّ من برّك وصلتك، فما رأيت بمجالسته بأسا.
قال ابن الكلبيّ: قدم معاوية المدينة في بعض ما كان يقدم؛ فأمر حاجبه بالإذن للناس؛ فخرج الآذن ثم رجع فقال: ما بالباب أحد. فقال معاوية: و أين الناس؟ قال: عند ابن جعفر. فدعا ببغلته فركبها ثم توجّه إليهم. فلما جلس قال بعض القرشيّين/لسائب خاثر: مطرفي هذا لك - و كان من خزّ - إن أنت اندفعت تغنّي و مشيت بين السّماطين و أنت تغنّي. فقام و مشى بين السماطين و غنّى:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى *** و أسيافنا يقطرن من نجدة دما
فسمع منه معاوية و طرب و أصغى إليه حتى سكت و هو مستحسن لذلك، ثم قام و انصرف إلى منزله. و أخذ سائب خاثر المطرف.
أخبرني حبيب بن نصر عن عمر بن شبّة عن الزّبيريّ، و أخبرني أبو بكر بن أبي شيبة البزّار قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:
قتل سائب خاثر يوم الحرّة، و كان خشي على نفسه من أهل الشام فخرج إليهم و جعل يحدّثهم و يقول: أنا مغنّ، و من حالي و قصّتي كيت و كيت؛ و قد خدمت أمير المؤمنين يزيد و أباه قبله. قالوا: فغنّ لنا، فجعل يغنّي؛ فقام إليه أحدهم فقال له: أحسنت و اللّه! ثم ضربه بالسيف فقتله. و بلغ يزيد خبره و مرّ به اسمه في أسماء من قتل يومئذ فلم يعرفه و قال: من سائب خاثر هذا؟ فقيل له: هو سائب خاثر المغنّي. فعرفه فقال: ويله!! ما له و لنا! أ لم
ص: 447
نحسن إليه و نصله و نخلطه بأنفسنا! فما الذي حمله على عداوتنا! لا جرم أن بغيه صرعه. و قال المدائنيّ في خبره:
فقال إنّ اللّه! أو بلغ القتل إلى سائب خاثر و طبقته! ما أرى أنه بقي بالمدينة أحد. ثم قال: قبحكم اللّه يأهل الشام! تجدهم صادفوه في حديقة أو حائط مستترا منهم فقتلوه.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال أنبأنا عمر بن شبّة قال حدّثني قبيصة بن عمرو قال حدّثني حاتم بن قبيصة قال حدّثني ابن جعدبة قال حدّثني مويلك عن أبيه قال قال لي سائب خاثر يوم الحرّة: هل سمعت شيئا صنعته؟ فغنّاني صوتا:
لمن طلل بين الكراع(1) إلى القصر *** يغيّب عنا آيه سبل القطر
إلى خالدات ما تريم و هامد *** و أشعث(2) ترسيه(3) الوليدة بالفهر(4)
/قال: فسمعت عجبا معجبا، ثم ذكر أهله و ولده فبكى. فقلت له: و ما يمنعك منهم؟ فقال: أمّا بعد شيء سمعته و رأيته من يزيد بن معاوية فلا! ثم تقدّم حتى قتل.
أقفر من أهله مصيف *** فبطن(5) نخلة فالعريف(6)
هل تبلغنّي ديار قومي *** مهريّة(7) سيرها زفيف
يا أمّ نعمان نوّلينا *** قد ينفع النائل الطّفيف
أعمامها الصّيد من لؤيّ *** حقّا و أخوالها ثقيف
الشعر لأبي فرعة الكنانيّ، و الغناء لجرادتي عبد اللّه بن جدعان، و لحنه من خفيف الثقيل. و فيه في الثالث و الرابع ثقيل أوّل مطلق.
ص: 448
هو عبد اللّه بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيّم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب.
قال ابن الكلبيّ: كانت لابن جدعان أمتان تسمّيان الجرادتين تتغنّيان في الجاهليّة، سمّاهما(1) بجرادتي عاد.
و وهبهما عبد اللّه بن جدعان لأميّة بن أبي الصّلت الثّقفيّ، و قد كان امتدحه. و كان ابن جدعان سيّدا جوادا، فرأى أميّة ينظر إليهما هو عنده فأعطاه إيّاهما.
و أخبرني أبو اللّيث نصر بن القاسم الفرائضيّ قال حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدّثنا حفص بن غياث عن داود عن الشّعبيّ عن مسروق عن عائشة قالت:
قلت: يا رسول/اللّه إن ابن جدعان كان في الجاهليّة يصل الرّحم و يطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال:
«لا لم يقل يوما اغفر لي خطيئتي يوم الدّين».
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني جعفر بن الحسين قال حدّثني إبراهيم بن أحمد قال:
قدم أميّة بن أبي الصّلت على عبد اللّه بن جدعان؛ فلما دخل عليه قال له عبد اللّه: أمر ما أتى بك! فقال أميّة:
كلاب غرماء نبحتني و نهشتني. فقال له عبد اللّه: قدمت عليّ و أنا عليل من حقوق لزمتني و نهشتني، فأنظرني قليلا، ما في يدي(2)، و قد ضمنتك قضاء دينك و لا أسأل عن مبلغه. قال: فأقام أميّة أيّاما، فأتاه فقال:
/
أ أذكر حاجتي أم قد كفاني *** حياؤك إن شيمتك الحياء
و علمك بالأمور و أنت قرم *** لك الحسب المهذّب و السّناء
كريم لا يغيّره صباح *** عن الخلق السّنيّ و لا مساء
ص: 449
تباري الرّيح مكرمة و جودا(1) *** إذا ما الكلب أحجره الشتاء
إذا أثنى عليك المرء يوما *** كفاه من تعرّضه الثناء
إذا خلّفت عبد اللّه فاعلم *** بأن القوم ليس لهم جزاء
فأرضك كلّ مكرمة بناها *** بنو تيم و أنت لهم سماء
فأبرز فضله حقّا عليهم *** كما برزت لناظرها السماء
فهل تخفى السماء على بصير *** و هل بالشمس طالعة خفاء
فلما أنشده أميّة هذا الشعر كانت عنده قينتان فقال: خذ أيّتهما شئت؛ فأخذ إحداهما و انصرف. فمرّ بمجلس من مجالس قريش فلاموه على أخذها و قالوا له: لقد لقيته عليلا، فلو رددتها عليه، فإن الشيخ يحتاج إلى خدمتها، كان ذلك أقرب لك عنده و أكثر من كل حقّ ضمنه لك، فوقع الكلام من أميّة موقعا و ندم، و رجع إليه ليردّها عليه. فلما أتاه بها قال له ابن جدعان: لعلك إنّما رددتها لأن قريشا لاموك على أخذها و قالوا كذا و كذا، فوصف لأميّة ما قال له القوم. فقال أميّة: و اللّه ما أخطأت يا أبا زهير. فقال عبد اللّه بن جدعان: فما الذي قلت في ذلك: فقال أميّة:
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته *** ببذل و ما كلّ العطاء يزين
و ليس بشين لامرئ بذل وجهه *** إليك كما بعض السؤال يشين
/غنّت فيه جرادتا عبد اللّه بن جدعان - فقال عبد اللّه لأميّة: خذ الأخرى؛ فأخذهما جميعا و خرج. فلما صار إلى القوم بهما أنشأ يقول - و قد أنشدنا هذه الأبيات أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ عن عمر بن شبّة و فيها زيادة -:
و ما لي لا أحيّيه و عندي *** مواهب يطّلعن من النّجاد
لأبيض من بني تيم بن كعب *** و هم كالمشرفيّات الحداد
/لكل قبيلة هاد(2) و رأس *** و أنت الرأس تقدم كلّ هادي
له بالخيف قد علمت معدّ *** و إن البيت يرفع بالعماد
له داع بمكّة مشمعلّ(3) *** و آخر فوق دارته ينادي
إلى ردح(4) من الشّيزي ملاء *** لباب البرّ يلبك بالشّهاد
و قال فيه أيضا:
ذكر ابن جدعان بخي *** ر كلّما ذكر الكرام
ص: 450
من لا يخون و لا يعقّ *** و لا تغيّره اللئام
نجب(1) النّجيبة و النجي *** ب له الرّحالة و الزّمام
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا محمد بن إسحاق البغويّ قال حدّثنا الأثرم عن أبي عبيدة قال:
كان ابن جدعان سيّدا من قريش؛ فوفد على كسرى فأكل عنده الفالوذ، فسأل عنه فقيل له: هذا الفالوذ. قال:
و ما الفالوذ؟ قالوا(2): لباب البرّ يلبك مع عسل/النحل. قال: ابغوني غلاما يصنعه؛ فأتوه بغلام يصنعه فابتاعه ثم قدم به مكة معه، ثم أمره فصنع له الفالوذ بمكة، فوضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذ فليحضر فحضر الناس؛ فكان فيمن حضر أميّة بن أبي الصّلت؛ فقال فيه:
و ما لي لا أحيّيه و عندي *** مواهب يطّلعن من النّجاد
إليّ و إنّه للناس نهي(3) *** و لا يعتلّ بالكلم الصّوادي(4)
و ذكر باقي الأبيات التي مضت متقدّما.
حدّثنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال أخبرنا يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدّثني محمد بن عمران الجرجانيّ - و ليس بصاحب إسحاق الموصليّ؛ قال: و هو شيخ لقيته بجرجان - قال حدّثنا الحسين بن الحسن المروزيّ قال:
سألت سفيان بن عيينة فقلت: يا أبا محمد، ما تفسير قول النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «كان من أكثر دعاء الأنبياء قبلي لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير» و إنما هو ذكر و ليس فيه من الدعاء شيء؟ فقال لي: أعرفت حديث مالك بن الحارث: يقول اللّه جلّ ثناؤه: «إذا شغل عبدي ثناؤه عليّ عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»؟ قلت: نعم! أنت حدّثتنيه عن منصور عن مالك بن الحارث. قال: فهذا تفسير ذلك، ثم قال: أ ما علمت ما قال أميّة بن أبي الصّلت حين خرج إلى ابن جدعان يطلب نائله و فضله. قلت: لا أدري؟ قال قال:
/
أ أذكر حاجتي أم قد كفاني *** حياؤك إنّ شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما *** كفاه من تعرّضه الثناء
ثم قال سفيان: فهذا مخلوق ينسب إلى الجود فقيل له: يكفينا من مسألتك أن نثني عليك و نسكت حتى تأتي على حاجتنا، فكيف بالخالق!.
ص: 451
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا حميد بن حميد قال حدّثني جبّار ابن جابر قال:
دخل أميّة بن أبي الصّلت على عبد اللّه بن جدعان و هو يجود بنفسه؛ فقال له أميّة: كيف تجدك أبا زهير؟ قال:
إني لمدابر (أي/ذاهب). فقال أميّة:
علم ابن جدعان بن عم *** رو أنّه يوما مدابر
و مسافر سفرا بعي *** دا لا يئوب به المسافر
فقدوره بفنائه *** للضيف مترعة زواخر
تبدو الكسور(1) من انضرا(2) *** ج الغلي فيها و الكراكر
فكأنهنّ بما حمي *** ن و ما شحنّ(3) بها ضرائر
بذّ المعاشر كلّها *** بالفضل قد علم المعاشر
و علا علوّ الشمس حتّى *** ما يفاخره مفاخر
دانت له أبناء فه *** ر من بني كعب و عامر
أنت الجواد ابن الجوا *** د بكم ينافر من ينافر
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا أبو سعيد السّكّريّ قال أخبرني أبو عبد الرحمن الغلابيّ عن الواقديّ عن ابن أبي الزّناد قال:
ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهليّة إلاّ ترك الخمر استحياء ممّا فيها من الدّنس؛ و لقد عابها ابن جدعان قبل موته فقال:
شربت الخمر حتى قال قومي *** أ لست عن السّفاة بمستفيق
و حتى ما أوسّد في مبيت *** أنام به سوى التّرب السّحيق
و حتى أغلق(4) الحانوت رهني *** و آنست الهوان من الصديق
قال: و كان سبب تركه الخمر أن أميّة بن أبي الصّلت شرب معه فأصبحت عين أميّة مخضّرة يخاف عليها الذّهاب.
فقال له: ما بال عينك؟ فسكت. فلما ألحّ عليه قال له: أنت صاحبها أصبتها البارحة. فقال: أو بلغ منّي الشّراب
ص: 452
الذي(1) أبلغ معه من جليسي هذا! لا جرم لأدينّها لك ديتين؛ فأعطاه عشرة آلاف درهم، و قال: الخمر عليّ حرام أن أذوقها أبدا، و تركها من يومئذ.
قد لعمري بتّ ليلي *** كأخي الداء الوجيع
و نجيّ الهمّ منّي *** بات أدنى من ضجيعي
كلما أبصرت ربعا *** خاليا فاضت دموعي
/لا تلمنا إن خشعنا *** أو هممنا بالخشوع
إذا فقدنا سيّدا كا *** ن لنا غير مضيع
الشعر للأحوص. و الغناء لسلاّمة القسّ. و لحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالوسطى في مجراها.
و قد قيل: إن الشعر و الغناء جميعا لها، و قد قيل: إن الغناء لمعبد و إنها أخذته عنه.
ص: 453
كانت سلاّمة مولّدة من مولّدات المدينة و بها نشأت. و أخذت الغناء عن معبد و ابن عائشة و جميلة و مالك بن أبي السّمح و ذويهم فمهرت. و إنما سمّيت سلاّمة القسّ لأن رجلا يعرف بعبد الرحمن بن أبي عمّار الجشميّ من قرّاء أهل مكة، و كان يلقّب بالقسّ لعبادته، شغف بها و شهر، فغلب عليها لقبه. و اشتراها يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان، و عاشت بعده، و كانت إحدى من اتّهم به الوليد من جواري أبيه حين قال له قتلته: ننقم عليك أنك تطأ جواري أبيك. و قد ذكرنا ذلك في خبر مقتله.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:
كانت حبابة و سلاّمة القسّ من قيان أهل المدينة، و كانتا حاذقتين ظريفتين ضاربتين و كانت سلاّمة أحسنهما غناء، و حبابة أحسنهما وجها، و كانت سلاّمة تقول الشعر، و كانت حبابة تتعاطاه فلا تحسن. و أخبرني بذلك المدائنيّ عن جرير.
و حدّثني الزّبيريّ قال حدّثني من رأى سلاّمة قال:
ما رأيت من قيان المدينة فتاة و لا عجوزا أحسن غناء من سلاّمة. و عن جميلة أخذت الغناء.
حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و إسماعيل بن يونس قالا حدّثنا أبو زيد عمر بن شبّة قال حدّثني المدائنيّ قال:
كانت حبابة و سلاّمة قينتين بالمدينة؛ أمّا سلاّمة فكانت لسهيل بن عبد الرحمن، و لها يقول ابن قيس الرّقيّات:
/
لقد فتنت ريّا و سلاّمة القسّا *** فلم تتركا للقسّ عقلا و لا نفسا
فتاتان أمّا منهما فشبيهة ال *** هلال و أخرى منهما تشبه الشمسا
و غنّاه مالك بن أبي السّمح. و فيها يقول ابن قيس الرّقيّات:
أختان إحداهما كالشمس طالعة *** في يوم دجن و أخرى تشبه القمرا
قال: و فتن القسّ بسلاّمة، و فيها يقول:
أهابك أن أقول بذلت نفسي *** و لو أنّي أطيع القلب قالا
حياء منك حتى سلّ جسمي *** و شقّ عليّ كتماني و طالا
ص: 454
قال: و القسّ هو عبد الرحمن بن أبي عمّار من بني جشم بن معاوية، و كان منزله بمكة. و كان سبب افتتانه بها فيما حدّثني خلاّد الأرقط قال سمعت من شيوخنا أهل مكة يقولون: كان القسّ من أعبد أهل مكة، و كان يشبّه بعطاء بن أبي رباح، و أنّه سمع غناء سلاّمة القسّ على غير تعمّد منه لذلك. فبلغ غناؤها منه كلّ مبلغ؛ فرآه مولاها فقال له:
هل لك أن أخرجها إليك أو تدخل فتسمع! فأبى. فقال مولاها: أنا أقعدها في موضع تسمع غناءها و لا تراها فأبى؛ فلم يزل به حتى دخل فأسمعه غناءها فأعجبه. فقال له: هل لك في أن أخرجها إليك؟ فأبى. فلم يزل به حتى أخرجها فأقعدها بين يديه، فتغنّت فشغف بها و شغفت به، و عرف ذلك أهل مكة. فقالت له يوما: أنا و اللّه أحبّك.
قال: و أنا و اللّه أحبّك. قالت: و أحبّ أن أضع فمي على فمك. قال: و أنا و اللّه أحبّ ذاك. قالت: فما يمنعك! فو اللّه إنّ الموضع لخال. قال: إنّي سمعت/اللّه عزّ و جلّ يقول: اَلْأَخِلاّٰءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (1) و أنا أكره أن تكون خلّة ما بيني و بينك تؤول إلى عداوة. ثم قام و انصرف و عاد إلى ما كان عليه من النّسك؛ و قال من فوره(1) فيها:
/
إنّ التي طرقتك بين ركائب *** تمشي بمزهرها و أنت حرام
لتصيد قلبك أو جزاء مودّة *** إنّ الرفيق له عليك ذمام
باتت تعلّلنا و تحسب أنّنا *** في ذاك أيقاظ و نحن نيام
حتى إذا سطع الضّياء لناظر *** فإذا و ذلك بيننا أحلام
قد كنت أعذل في السّفاهة أهلها *** فاعجب لما تأتى به الأيّام
فاليوم أعذرهم و أعلم أنما *** سبل الضّلالة و الهدى أقسام
و من قوله فيها:
أ لم ترها لا يبعد اللّه دارها *** إذا رجّعت في صوتها كيف تصنع
تمدّ نظام القول ثم تردّه *** إلى صلصل(2) في صوتها يترجّع
و فيها يقول:
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر *** و هل أنت عن سلاّمة اليوم مقصر
ألا ليت أنّي حين صارت بها النّوى *** جليس لسلمى كلّما عجّ(3) مزهر
و قال في قصيدة له:
سلاّم ويحك هل تحيين من ماتا *** أو ترجعين على المحزون ما فاتا
و قال أيضا:
ص: 455
سلاّم هل لي منكم ناصر *** أم هل لقلبي عنكم زاجر
قد سمع الناس بوجدي بكم *** فمنهم اللاّئم و العاذر
في أشعار كثيرة يطول ذكرها.
و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني الجمحيّ قال:
كانت سلاّمة و ريّا أختين، و كانتا من أجمل النساء و أحسنهن غناء. فاجتمع الأحوص و ابن قيس الرقيّات عندهما؛ فقال لهما ابن قيس الرقيّات: إنّي أريد أن أمدحكما بأبيات و أصدق فيها و لا أكذب؛ فإن أنتما غنّيتماني بذلك و إلاّ هجوتكما و لا أقربكما. قالتا: فما قلت؟ قال قلت:
لقد فتنت ريّا و سلاّمة القسّا *** فلم تتركا للقسّ عقلا و لا نفسا
فتاتان أمّا منهما فشبيهة ال *** هلال و أخرى منهما تشبه الشمسا
تكنّان أبشارا رقاقا و أوجها *** عتاقا(1) و أطرافا مخضّبة ملسا
فغنّته سلاّمة و استحسنتاه. و قالتا للأحوص: ما قلت يا أخا الأنصار؟ قال قلت:
أ سلام هل لمتيّم تنويل *** أم هل صرمت و غال ودّك غول
لا تصرفي عنّي دلالك إنّه *** حسن لديّ و إن بخلت جميل
/أ زعمت أنّ صبابتي أكذوبة *** يوما و أنّ زيارتي تعليل
- الغناء لسلامة القسّ خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن الهشاميّ و حمّاد. و فيه لإبراهيم لحنان، أحدهما خفيف ثقيل بالبنصر في مجراها عن إسحاق و عمرو، و الآخر ثقيل أوله استهلال عن الهشاميّ - فغنّت الأبيات. فقال ابن قيس الرّقيّات: يا سلاّمة! أحسنت و اللّه! و أظنّك عاشقة لهذا الحلقيّ(2)! فقال له الأحوص: ما الذي أخرجك(3) إلى هذا؟ قال: حسن غنائها بشعرك، فلو لا أنّ لك في قلبها محبّة مفرطة ما جاءها هكذا حسنا على هذه البديهة. فقال له الأحوص: على قدر حسن شعري على شعرك هكذا حسن الغناء به، /و ما هذا منك ألاّ حسد، و نبيّن لك الآن ما حسدت عليه. فقالت سلاّمة: لو لا أنّ الدخول بينكما يوجب بغضة لحكمت بينكما حكومة لا يردّها أحد. قال الأحوص: فأنت من ذلك آمنة. قال ابن قيس الرقيّات: كلاّ! قد أمنت أن تكون الحكومة عليك، فلذلك سبقت بالأمان لها. قال الأحوص: فرأيك يدلّك على أن معرفتك بأنّ المحكوم عليه أنت؛ و تفرّقا. فلما صار الأحوص إلى منزله جاءه ابن قيس الرقيّات فقرع بابه، فأذن له و سلّم عليه و اعتذر.
و مما قاله الأحوص في سلاّمة القسّ و غنّي به:
ص: 456
أ سلام إنك قد ملكت فأسجحي *** قد يملك الحرّ الكريم فيسجح
منّي على عان أطلت عناءه *** في الغلّ عندك و العناة تسرّح
إنّي لأنصحكم و أعلم أنّه *** سيّان عندك من يغشّ و ينصح
و إذا شكوت إلى سلامة حبّها *** قالت أجدّ منك ذا أم تمزح
الشعر للأحوص. و الغناء لابن مسجح في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و لدحمان في الأربعة الأبيات ثقيل أوّل بالبنصر فيه استهلال. و فيه خفيف ثقيل يقال: إنه لمالك؛ و يقال: إنه لسلاّمة القسّ.
أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه قال قال أيّوب بن عباية:
كان عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أبي عمّار من بني جشم بن معاوية، و كان فقيها عابدا من عبّاد مكة، يسمّى القسّ لعبادته؛ و كانت سلاّمة بمكة لسهيل، و كان يدخل عليها الشعراء فينشدونها و تنشدهم و تعنّي من أحبّ الغناء؛ ففتن بها عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أبي عمّار القسّ؛ فشاع ذاك و ظهر، فسمّيت سلاّمة القسّ بذلك.
قال إسحاق و حدّثني أيوب بن عباية قال: سألها عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أبي عمّار القسّ أن تغنّيه بشعر مدحها به ففعلت، و هو:
ما بال قلبك لا يزال يهيمه *** ذكر عواقب غيّهنّ سقام
إنّ التي طرقتك بين ركائب *** تمشي بمزهرها و أنت حرام
لتصيد قلبك أو جزاء مودّة *** إنّ الرفيق له عليك ذمام
باتت تعلّلنا و تحسب أننا *** في ذاك أيقاظ و نحن نيام
/حتى إذا سطع الصباح لناظر *** فإذا و ذلك بيننا أحلام
قد كنت أعذل في السّفاهة أهلها *** فاعجب لما تأتي به الأيّام
فاليوم أعذرهم و أعلم أنما *** سبل الغواية و الهدى أقسام
قال إسحاق و حدّثني المدائنيّ قال حدّثني جرير قال:
لمّا قدم يزيد بن عبد الملك مكة و أراد شراء سلاّمة القسّ و عرضت عليه، أمرها أن تغنّيه، فكان أوّل صوت غنّته:
إنّ الّتي طرقتك بين ركائب *** تمشي بمزهرها و أنت حرام
و البيض تمشي كالبدور و الدّمى *** و نواغم يمشين في الأرقام(1)
ص: 457
لتصيد قلبك أو جزاء مودّة *** إنّ الرفيق له عليك ذمام
فاستحسنه يزيد فاشتراها. فكان أوّل صوت غنّته لمّا اشتراها:
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر *** و هل أنت عن سلاّمة اليوم مقصر
ألا ليت أنّي حين صار بها النّوى *** جليس لسلمى حيث ما عجّ مزهر
/و إنّي إذا ما الموت زال(1) بنفسها *** يزال بنفسي قبلها حين تقبر
إذا أخذت في الصوت كاد جليسها *** يطير إليها قلبه حين ينظر
كأنّ حماما راعبيّا(2) مؤدّيا *** إذا نطقت من صدرها يتغشمر(3)
فقال لها يزيد: يا حبيبتي، من قائل هذا الشعر؟ فقصّت عليه القصّة، فرقّ له و قال: أحسن و أحسنت!.
قال إسحاق و حدّثني المدائنيّ قال:
لمّا اشترى يزيد بن عبد الملك سلاّمة، و كان الأحوص معجبا بها و بحسن غنائها و بكثرة مجالستها؛ فلما أراد يزيد الرّحلة، قال أبياتا و بعث بها إلى سلاّمة. فلما جاءها الشعر غنّت به يزيد و أخبرته الخبر، و هو:
عاود القلب من سلامة نصب(4) *** فلعينيّ من جوى الحبّ غرب
و لقد قلت أيها القلب ذو الشو *** ق، الّذي لا يحبّ حبّك حبّ
إنه قد دنا فراق سليمى *** و غدا(5) مطلب عن الوصل صعب
غنّاه ابن محرز ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لابن مسجح خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه لابن عبّاد و علّويه رملان. و فيه لدحمان خفيف رمل. هذه الحكايات الثلاث عن الهشاميّ. و ذكر حبش أنّ لسلاّمة القسّ فيه ثاني ثقيل بالوسطى.
قال إسحاق و حدّثني أيّوب بن عباية قال: كانت سلاّمة و ريّا لرجل واحد، و كانت حبابة لرجل، و كانت المقدّمة منهنّ سلاّمة، حتى صارتا إلى يزيد بن عبد الملك، فكانت حبابة تنظر إلى سلاّمة بتلك العين الجليلة المتقدّمة و تعرف فضلها عليها. فلمّا رأت أثرتها عند يزيد و محبّة يزيد لها استخفّت بها. فقالت لها سلاّمة! أي
ص: 458
أخيّة! نسيت لي فضلي عليك! ويلك! أين تأديب الغناء و أين حقّ التعليم! أنسيت قول جميلة يوما [و هي](1)تطارحنا و هي تقول لك: خذي إحكام ما أطارحك من أختك سلاّمة، و لن تزالي بخير ما بقيت لك و كان/أمركما مؤتلفا!. قالت: صدقت خليلتي! و اللّه لا عدت إلى شيء تكرهينه؛ فما عادت لها إلى مكروه. و ماتت حبابة و عاشت سلاّمة بعدها دهرا.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب عن عبد الرحمن بن المغيرة الحزاميّ الأكبر قال:
لمّا قدم عثمان بن حيّان المرّيّ المدينة واليا عليها، قال له قوم من وجوه الناس: إنّك قد وليت على كثرة من الفساد؛ فإن كنت تريد أن تصلح فطهّرها من الغناء و الزّنا. فصاح في ذلك و أجلّ أهلها ثلاثا يخرجون فيها من المدينة. و كان ابن أبي عتيق غائبا، و كان من أهل الفضل و العفاف و الصلاح. فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم فقال: لا أدخل منزلي حتى أدخل على سلاّمة القسّ. فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلي حتّى جئتكم أسلّم عليكم. قالوا: ما أغفلك عن أمرنا! و أخبروه الخبر. فقال: اصبروا عليّ(2) الليلة. فقالوا: نخاف ألاّ يمكنك شيء و ننكظ(3). /قال: إن خفتم شيئا فاخرجوا في السّحر. ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيّان فأذن له، فسلّم عليه و ذكر له غيبته و أنه جاءه ليقضي حقّه، ثم جزاه خيرا على ما فعل من إخراج أهل الغناء و الزّنا، و قال: أرجو ألاّ تكون عملت عملا هو خير لك من ذلك. قال عثمان: قد فعلت ذلك و أشار به عليّ أصحابك. فقال: قد أصبت، و لكن ما تقول - أمتع اللّه بك - في امرأة كانت هذه صناعتها و كانت تكره على ذلك ثم تركته و أقبلت على الصّلاة و الصيام و الخير، و أتى رسولها إليك تقول: أتوجّه إليك و أعوذ بك أن تخرجني من جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و مسجده؟ قال: فإنّي أدعها لك و لكلامك. قال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، و لكن تأتيك و تسمع من كلامها و تنظر إليها، فإن رأيت أنّ مثلها ينبغي أن يترك تركتها؛ قال نعم. فجاءه بها و قال لها: اجعلي(4) معك سبحة و تخشعي ففعلت.
فلمّا دخل على عثمان حدّثته، و إذا هي من أعلم الناس بالناس و أعجب بها، و حدّثته عن آبائه و أمورهم ففكه لذلك. فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير فقرأت له؛ فقال لها احدي له ففعلت، فكثر تعجّبه. فقال: كيف لو سمعتها في صناعتها! فلم يزل ينزله شيئا شيئا حتى أمرها بالغناء. فقال لها ابن أبي عتيق: غنّي، فغنّت:
سددن خصاص(5) الخيم لمّا دخلنه *** بكلّ لبان (6) واضح و جبين
فغنّته؛ فقام عثمان من مجلسه فقعد بين يديها ثم قال: لا و اللّه ما مثل هذه تخرج!. قال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، يقولون: أقرّ سلاّمة و أخرج غيرها. قال: فدعوهم جميعا؛ فتركوهم جميعا.
ص: 459
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي فروة قال:
قدمت رسل يزيد بن عبد الملك المدينة فاشتروا سلاّمة المغنّية من آل رمّانة بعشرين ألف دينار. فلما خرجت من ملك أهلها طلبوا إلى الرّسل أن يتركوها عندهم أيّاما ليجهّزوها بما يشبهها من حليّ و ثياب و طيب و صبغ. فقالت لهم الرسل: هذا كلّه معنا لا حاجة بنا إلى شيء منه، و أمروها بالرّحيل. فخرجت حتى نزلت سقاية سليمان بن عبد الملك و شيّعها الخلق من أهل المدينة، فلما بلغوا السّقاية قالت للرسل: قوم كانوا يغشونني/و يسلّمون عليّ، و لا بدّ لي من وداعهم و السلام عليهم، فأذن للناس عليها فانقضّوا حتى ملئوا رحبة القصر(1) و وراء ذلك؛ فوقفت بينهم(2) و معها العود، فغنّتهم:
فارقوني و قد علمت يقينا *** ما لمن ذلق ميتة من إياب
إنّ أهل الحصاب قد تركوني *** مولعا موزعا بأهل الحصاب
أهل بيت تتايعوا(3) للمنايا *** ما على الدهر بعدهم من عتاب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مو *** سى إلى النخل من صفيّ السّباب(4)
كم بذاك الحجون(5) من حيّ صدق *** و كهول أعفّة و شباب
قال عيسى(6): و كنت في الناس، فلم تزل تردّد هذا الصوت حتى راحت؛ و انتحب الناس بالبكاء عند ركوبها، فما شئت أن أرى باكيا إلاّ رأيته.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:
وجّه يزيد بن عبد الملك إلى الأحوص في القدوم عليه، و كان الغريض معه، فقال له: اخرج معي حتى آخذ لك جائزة أمير المؤمنين و تغنّيه؛ فإنّي لا أحمل إليه شيئا هو أحبّ إليه منك، فخرجا. فلمّا قدم الأحوص على يزيد جلس له و دعا به. فأنشده مدائح فاستحسنها، و خرج من عنده؛ فبعثت إليه سلاّمة جارية يزيد بلطف. فأرسل إليها:
إن الغريض عندي قدمت به هديّة إليك. فلمّا جاءها الجواب اشتاقت إلى الغريض و إلى الاستماع منه. فلمّا دعاها أمير المؤمنين تمارضت و بعثت إلى الأحوص: إذا دعاك أمير المؤمنين فاحتل له في أن تذكر له الغريض. فلما دعا يزيد الأحوص قال له يزيد: ويحك يا أحوص! هل سمعت شيئا في طريقك تطرفنا به؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين،
ص: 460
مررت في بعض الطريق فسمعت صوتا أعجبني حسنه و جودة شعره؛ فوقفت حتى استقصيت خبره، فإذا هو الغريض، و إذا هو يغنّي بأحسن صوت و أشجاه:
ألا هاج التذكّر لي سقاما *** و نكس الداء و الوجع الغراما(1)
سلامة إنها(2) همّي و دائي *** و شرّ الداء ما بطن العظاما
فقلت له و دمع العين يجري *** على الخدّين أربعة سجاما(3)
عليك لها السلام فمن لصبّ *** يبيت الليل يهذي مستهاما
قال يزيد: ويلك يا أحوص! أنا ذاك في هوى خليلتي؛ و ما كنت أحسب مثل هذا يتّفق، و إنّ ذاك لمما يزيد لها في قلبي. فلما صنعت يا أحوص حين/سمعت ذاك؟ قال: سمعت ما لم أسمع يا أمير المؤمنين أحسن منه، فما صبرت حتى أخرجت الغريض معي و أخفيت أمره، و علمت أنّ أمير المؤمنين يسألني عما رأيت في طريقي. فقال له يزيد: ائتني بالغريض ليلا و أخف أمره. فرجع الأحوص إلى منزله و بعث إلى سلاّمة بالخبر. فقالت للرسول: قل له جزيت خيرا، قد انتهى إليّ كلّ ما قلت، و قد تلطّفت و أحسنت. فلمّا وارى الليل أهله بعث إلى الأحوص أن عجّل المجيء إليّ مع ضيفك. فجاء الأحوص مع الغريض فدخلا عليه. فقال غنّني الصوت الذي أخبرني الأحوص أنه سمعه منك - و كان الأحوص قد أخبر الغريض الخبر؛ /و إنما ذلك شعر قاله الأحوص يريد يحرّكه به على سلاّمة و يحتال للغريض في الدخول عليه - فقال: غنّني الصوت الذي أخبرني الأحوص. فلما غنّاه الغريض دمعت عين يزيد ثم قال: ويحك!. هل يمكن أن تصير إلى مجلسي؟ قيل له: هي صالحة. فأرسل إليها فأقبلت. فقيل ليزيد: قد جاءت؛ فضرب لها حجاب فجلست، و أعاد عليه(4) الغريض الصوت؛ فقالت: أحسن و اللّه يا أمير المؤمنين، فاسمعه منّي؛ فأخذت العود فضربته و غنّت الصوت، فكاد يزيد أن يطير فرحا و سرورا، و قال: يا أحوص، إنّك لمبارك! يا غريض غنّني في ليلتي هذا الصوت؛ فلم يزل يغنّيه حتى قام يزيد و أمر لهما بمال، و قال: لا يصبح الغريض في شيء من دمشق. فارتحل الغريض من ليلته، و أقام الأحوص بعده أيّاما ثم لحق به؛ و بعثت سلاّمة إليهما بكسوة و لطف كثير.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني رجل من أهلي من بني نوفل قال:
قدمت في جماعة من قريش على يزيد بن عبد الملك، فألفيناه في علّته التي مات فيها بعد وفاة حبابة، فنزلنا منزلا لاصقا بقصر يزيد، فكنّا إذا أصبحنا بعثنا بمولى لنا يأتينا بخبره، و ربما أتينا الباب فسألنا، فكان يثقل في كلّ يوم. فإنّا لفي منزلنا ليلة إذ سمعنا همسا من بكاء ثم يزيد ذلك، ثم سمعنا صوت سلاّمة القسّ و هي رافعة صوتها تنوح و تقول:
ص: 461
لا تلمنا إن خشعنا *** أو هممنا بخشوع
قد لعمري بتّ ليلي *** كأخي الداء الوجيع
كلّما أبصرت ربعا *** خاليا فاضت دموعي
قد خلا من سيّد كا *** ن لنا غير مضيع
ثم صاحت وا أمير المؤمنين! فعلمنا وفاته، فأصبحنا فغدونا في جنازته.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه قال:
قال يزيد بن عبد الملك ما يقرّ عيني ما أوتيت من أمر الخلافة حتى أشتري سلاّمة جارية مصعب بن سهيل الزّهريّ و حبابة جارية آل لاحق المكيّة؛ فأرسل فاشترتا له. فلمّا اجتمعتا عنده قال: أنا الآن كما قال الشاعر:
فألقت عصاها و استقرّ بها النّوى *** كما قرّ عينا بالإياب المسافر
فلمّا توفّي يزيد رثته سلاّمة فقالت و هي تنوح عليه هذا الشعر:
لا تلمنا إن خشعنا *** أو هممنا بخشوع
إذ فقدنا سيّدا كا *** ن لنا غير مضيع
و هو كاللّيث إذا ما *** عدّ أصحاب الدروع
يقنص الأبطال ضربا *** في مضيّ و رجوع
أخبرنا الحسين بن يحيى قال حدّثنا الزّبير و المدائنيّ أن سلاّمة كانت لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف، فاشتراها يزيد بن عبد الملك، و كانت مغنّية حاذقة جميلة ظريفة تقول الشعر، فما رأيت خصالا أربعا(1) اجتمعن في امرأة مثلها: حسن وجهها و حسن غنائها و حسن شعرها. قال: و الشعر الذي كانت تغنّي به:
/
لا تلمنا إن خشعنا *** أو هممنا بخشوع
للّذي حلّ بنا اليو *** م من الأمر الفظيع
و ذكر باقي الأبيات مثل ما ذكره غيره.
قال إسحاق و حدّثني الجمحيّ قال حدّثنا من رأى سلاّمة تندب يزيد بن عبد الملك بمرثية رثته بها، فما سمع السامعون بشيء أحسن من ذلك و لا أشجى؛ و لقد أبكت العيون و أحرقت القلوب و أفتنت(2) الأسماع، و هي:
يا صاحب القبر الغريب *** بالشأم في طرف الكثيب
بالشأم بين صفائح *** صمّ ترصّف بالجبوب(3)
ص: 462
لمّا سمعت أنينه *** و بكاءه عند المغيب
أقبلت أطلب طبّه *** و الداء يعضل بالطبيب
/الشعر لرجل من العرب كان خرج بابن له من الحجاز إلى الشام بسبب امرأة هويها و خاف أن يفسد بحبّها، فلما فقدها مرض بالشأم و ضني فمات و دفن بها. كذا ذكر ابن الكلبيّ، و خبره يكتب عقب أخبار سلاّمة القسّ. و الغناء لسلاّمة ثقيل أوّل بالوسطى عن حبش. و فيه لحكم رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لحن لابن غزوان الدّمشقيّ من كتاب ابن خرداذبه غير مجنّس.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني الجمحيّ قال:
حدّثني من حضر الوليد بن يزيد و هو يسأل سلاّمة أن تغنّيه شعرها في يزيد و هي تتنغّص من ذلك و تدمع عيناها؛ فأقسم عليها فغنّته؛ فما سمعت شيئا أحسن من ذلك. فقال لها الوليد: رحم اللّه أبي و أطال عمري و أمتعني بحسن غنائك يا سلاّمة!. بم كان أبي يقدّم عليك حبابة؟ قالت: لا أدري و اللّه!. قال لها، لكنّني و اللّه أدري! ذلك بما قسم اللّه لها. قالت: يا سيّدي أجل.
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثني عبد اللّه بن عبد الملك الهداديّ عن بعض رجاله عن إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال:
سمعت نائحة مدنيّة تنوح بهذا الشعر:
قد لعمري بتّ ليلي *** كأخي الداء الوجيع
و نجيّ الهمّ منّي *** بات أدنى من ضلوعي
كلّما أبصرت ربعا *** دارسا فاضت دموعي
مقفرا من سيّد كا *** ن لنا غير مضيع
و الشعر للأحوص. و النّوح لمعبد؛ و كان صنعه لسلاّمة و ناحت به سلاّمة على يزيد. فلما سمعته منها استحسنته و اشتهيته و لهجت به، فكنت أترنّم به كثيرا. فسمع ذلك/منّي أبي فقال: ما تصنع بهذا؟ قلت: شعر قاله الأحوص و صنعه معبد لسلاّمة و ناحت به سلاّمة على يزيد. ثم ضرب الدهر؛ فلما مات الرشيد إذا رسول أمّ جعفر قد وافاني فأمرني بالحضور. فسرت إليها؛ فبعثت إليّ: إني قد جمعت بنات الخلفاء و بنات هاشم لننوح(1) على الرشيد في ليلتنا هذه؛ فقل الساعة أبياتا رقيقة و اصنعهن صنعة حسنة حتى أنوح بهن. فأردت نفسي على أن أقول شيئا فما حضرني و جعلت ترسل إليّ تحثّني، فذكرت هذا النّوح فأريت/أنّي أصنع شيئا، ثم قلت: قد حضرني القول و قد صنعت فيه ما أمرت؛ فبعثت إليّ بكنيزة و قالت: طارحها حتى تطارحنيه. فأخذت كنيزة العود و ردّدته عليها حتى أخذته، ثم دخلت فطارحته أمّ جعفر؛ فعبثت إليّ بمائة ألف درهم و مائة ثوب.
ص: 463
لقد فتنت ريّا و سلاّمة القسّا *** فلم تتركا للقسّ عقلا و لا نفسا
فتاتان أمّا منهما فشبيهة ال *** هلال و أخرى منهما تشبه الشمسا
الشعر لعبد اللّه بن قيس الرّقيّات. و الغناء لمالك خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لابن سريح ثقيل أوّل عن الهشاميّ. و زعم عمرو بن بانة أن خفيف الثقيل لحنين الحيري. و قيل: إنّ الثقيل الأوّل لدحمان.
و منها الشعر الذي أوّله:
أهابك أن أقول بذلت نفسي
أ أثلة جرّ(1) جيرتك الزّيالا(2) *** و عاد ضمير ودّكم خبالا
فإنّي مستقيلك أثل لبّي *** و لبّ المرء أفضل ما استقالا
أهابك أن أقول بذلت نفسي *** و لو أنّي أطيع القلب قالا
حياء منك حتى سلّ جسمي *** و شقّ عليّ كتماني و طالا
الشعر للقسّ. و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر. و فيه لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى، أوّله:
أهابك أن أقول بذلت نفسي
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا بكّار بن رباح قال:
كان عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أبي عمّار من بني جشم بن معاوية، و قد كانت أصابت جدّه منّة من صفوان بن أميّة، و كان ينزل مكة، و كان من عبّاد أهلها، فسمّي القسّ من عبادته. فمرّ ذات يوم بسلاّمة و هي تغنّي فوقف فتسمّع(3) غناءها. فرآه مولاها فدعاه إلى أن يدخله إليها فيسمع منها، فأبى عليه. فقال له: فإني أقعدك في مكان تسمع منها و لا تراها. فقال: أمّا هذا فنعم. فأدخله داره و أجلسه حيث يسمع غناءها؛ ثم أمرها فخرجت إليه. فلمّا رآها علقت بقلبه فهام بها، و اشتهر و شاع خبره بالمدينة. قال: و جعل يتردّد إلى منزل مولاها مدّة طويلة. ثم إنّ /مولاها خرج يوما لبعض شأنه و خلّفه مقيما عندها؛ فقالت له: أنا و اللّه أحبّك! فقال لها: و أنا و اللّه الذي لا إله إلا
ص: 464
هو. قالت: و أنا و اللّه أشتهي أن أعانقك و أقبّلك! قال: و أنا و اللّه. قالت: و أشتهي و اللّه أن أضاجعك و أجعل بطني على بطنك و صدري على صدرك! قال: و أنا و اللّه. قالت: فما يمنعك من ذلك؟ فو اللّه إنّ المكان لخال!. قال:
يمنعني منه قول اللّه عزّ و جل: اَلْأَخِلاّٰءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ فأكره أن تحول مودّتي لك عداوة يوم القيامة. ثم خرج من عندها و هو يبكي؛ فما عاد إليها بعد ذلك.
و أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن المدائنيّ قال:
لما ملك يزيد بن عبد الملك حبابة و سلاّمة القسّ تمثّل:
/
فألقت عصاها و استقرّ بها النّوى *** كما قرّ عينا بالإياب المسافر
ثم قال: ما شاء بعد من أمر الدنيا فليفتني.
و إنّي ليرضيني قليل نوالكم *** و إن كنت لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني و بينكم *** من الوصل إلاّ عدتم بجميل
الشعر للعبّاس بن الأحنف. و الغناء لسليمان الفزاريّ. و لحنه المختار من الرّمل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه خفيف رمل أوّله الثاني ثم الأوّل، ينسب إلى حكم الواديّ و إلى سليمان أيضا. و فيه لحن من الثقيل الأوّل يقال: إنه لمخارق، ذكر حبش أنّ لحن مخارق ثاني ثقيل.
ص: 465
هو - فيما ذكر ابن النطّاح - العبّاس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة ابن جدّان(1) بن كلدة(2) من بني عديّ بن حنيفة.
و أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني القاسم بن إسماعيل قال سمعت إبراهيم بن العبّاس يقول:
العبّاس بن الأحنف بن الأسود بن قدامة بن هميان من بني هفان بن الحارث بن الذّهل بن الدّول(3) بن حنيفة.
قال: و كان حاجب بن قدامة عمّ العبّاس من رجال الدّولة.
قال محمد بن يحيى و حدّثني أبو عبد اللّه الكنديّ قال حدّثني محمد بن بكر الحنفيّ الشاعر قال حدّثني أبي قال:
سمعت العبّاس بن الأحنف يذكر أنّ هوذة بن عليّ الحنفيّ قد ولده من قبل بعض أمهاته.
و كان العبّاس شاعرا غزلا ظريفا(4) مطبوعا، من شعراء الدّولة العبّاسيّة، و له مذهب حسن، و لديباجة شعره رونق، و لمعانيه عذوبة و لطف. و لم يكن يتجاوز الغزل إلى مديح و لا هجاء، و لا يتصرّف في شيء من هذه المعاني. و قدّمه أبو العباس المبرّد في كتّاب الرّوضة على نظرائه، و أطنب في وصفه، و قال: رأيت جماعة من /الرّواة للشعر يقدّمونه. قال: و كان العبّاس من الظّرفاء، و لم يكن من الخلعاء(5)، و كان غزلا و لم يكن فاسقا، و كان ظاهر النّعمة ملوكيّ المذهب شديد التّترّف(6)، و ذلك بيّن في شعره. و كان قصده الغزل و شغله النسيب، و كان حلوا مقبولا غزلا غزير الفكر واسع الكلام كثير التصرّف في الغزل وحده، و لم يكن هجّاء و لا مدّاحا.
أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا أبو ذكوان قال:
ص: 466
سمعت إبراهيم بن العباس يصف العبّاس بن الأحنف، فقال: كان و اللّه ممّن إذا تكلّم لم يحبّ سامعه أن يسكت، و كان فصيحا جميلا ظريف اللّسان، لو شئت أن تقول كلامه كله شعر لقلت.
حدّثني محمد بن يحيى قال حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر قال:
رأيت نسخا من شعر العبّاس بن الأحنف بخراسان، و كان عليها مكتوب: «شعر الأمير أبي الفضل العبّاس».
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد قال حدّثني صالح بن عبد الوهاب:
أنّ العبّاس بن الأحنف كان من عرب خراسان، و منشؤه ببغداد، و لم تزل العلماء/تقدّمه على كثير من المحدثين، و لا تزال قد ترى له الشيء البارع جدا حتى تلحقه بالمحسنين.
/أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا يموت بن المزرّع قال.
سمعت خالي (يعني الجاحظ) يقول: لو لا أنّ العبّاس بن الأحنف أحذق الناس و أشعرهم و أوسعهم كلاما و خاطرا ما قدّر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه، لأنه لا يهجو و لا يمدح و لا يتكسّب و لا يتصرّف، و ما نعلم شاعرا لزم فنا واحدا لزومه فأحسن فيه و أكثر.
حدّثني محمد بن يحيى قال حدّثنا محمد بن القاسم بن خلاّد قال: أنشد الحرمازيّ أبو عليّ و أنا حاضر للعبّاس بن الأحنف:
لا جزى اللّه دمع عيني خيرا *** و جزى اللّه كلّ خير لساني
نمّ دمعي فليس يكتم شيئا *** و رأيت اللّسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طيّ *** فاستدلّوا عليه بالعنوان
- الغناء لعريب رمل - ثم قال الحرمازيّ: هذا و اللّه طراز يطلب الشعراء مثله فلا يقدرون عليه.
أخبرني محمد قال حدّثني حسين بن فهم قال سمعت العطويّ يقول:
كان العبّاس بن الأحنف شاعرا مجيدا غزلا، و كان أبو الهذيل العلاّف يبغضه و يلعنه لقوله:
إذا أردت سلوا كان ناصركم *** قلبي، و ما أنا من قلبي بمنتصر
فأكثروا أو أقلّوا من إساءتكم *** فكلّ ذلك محمول على القدر
قال: فكان أبو الهذيل يلعنه لهذا و يقول: يعقد الكفر و الفجور في شعره.
/قال محمد بن يحيى: و أنشدني محمد بن العباس اليزيديّ شعرا للعباس أظنّه يهجو به أبا الهذيل - و ما سمعت للعبّاس هجاء غيره -:
ص: 467
يا من يكذّب أخبار الرسول لقد *** أخطأت في كلّ ما تأتي و ما تذر
كذّبت بالقدر الجاري عليك فقد *** أتاك منّي بما لا تشتهي القدر
حدثني محمد بن يحيى قال حدّثني محمد بن سعيد عن الرياشيّ قال:
قيل للأصمعيّ - أو قلت له - ما أحسن ما تحفظ للمحدثين؟ قال: قول العبّاس بن الأحنف:
لو كنت عاتبة لسكّن روعتي *** أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة *** صدّ الملول خلاف صدّ العاتب
الغناء للعبّاس أخي بحر رمل.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ و محمد بن العبّاس اليزيديّ قالا، و اللفظ لهاشم، قال حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ قال:
دخل عمّي على الرشيد و العبّاس بن الأحنف عنده، فقال العبّاسي للرشيد: دعني أعبث بالأصمعيّ. قال له الرشيد: إنه ليس ممن يحتمل العبث. فقال: لست أعبث به عبثا يشقّ عليه. قال: أنت أعلم. فلما دخل عمّي قال له:
يا أبا سعيد، من الذي يقول:
إذا أحببت أن تصن *** ع شيئا يعجب الناسا
فصوّر هاهنا فوزا *** و صوّر ثمّ عبّاسا
فإن لم يدنوا حتّى *** ترى رأسيهما راسا
فكذّبها بما قاست *** و كذّبه بما قاسى
/فقال له عمّي يعرّض بأنه نبطيّ: قاله الذي يقول:
إذا أحببت أن تبص *** ر شيئا يعجب الخلقا
فصوّر هاهنا دورا *** و صوّر هاهنا فلقا(1)
فإن لم يدنوا حتّى *** ترى خلقيهما خلقا
فكذّبها بما لاقت *** و كذّبه بما يلقى
قال: فخجل العبّاس، و قال له الرشيد: قد نهيتك فلم تقبل.
ص: 468
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أنشدني إبراهيم بن العبّاسي للعبّاس بن الأحنف:
قالت ظلوم سميّة الظّلم *** ما لي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فاقصده *** أنت العليم بموضع السّهم
فقلت له: إن أبا حاتم السّجستانيّ حكى عن الأصمعيّ أنه أنشد للعبّاس بن الأحنف:
أ تأذنون لصبّ في زيارتكم *** فعندكم شهوات السمع و البصر
لا يضمر السّوء إن طال الجلوس به *** عفّ الضمير و لكن فاسق النظر
فقال الأصمعيّ: ما زال هذا الفتى يدخل يده في جرابه فلا يخرج شيئا، حتى أدخلها فأخرج هذا، و من أدمن طلب شيء ظفر ببعضه. فقال إبراهيم بن العبّاس: أنا لا أدري ما قال الأصمعيّ، و لكن أنشدك للعبّاس ما لا تدفع أنت و لا غيرك فضله، ثم أنشدني قوله:
/
و اللّه لو أنّ القلوب كقلبها *** ما رقّ للولد الضعيف الوالد
و قوله:
لكن مللت فلم تكن لي حيلة *** صدّ الملول خلاف صدّ العاتب
و قوله:
حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى *** جاءت أمور لا تطاق كبار
ثم قال: هذا و اللّه ما لا يقدر أحد على أن يقول مثله أبدا.
حدّثني عمّي قال حدّثني ميمون بن هارون قال: كنّا عند الحسن بن وهب فقال لبنان: غنّيني:
أ تأذنون لصبّ في زيارتكم *** فعندكم شهوات السّمع و البصر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به *** عفّ الضمير و لكن فاسق النظر
قال: فضحكت ثم قالت: فأيّ خير فيه إن كان كذا أو أيّ معنى! فخجل الحسن من نادرتها(1) عليه، و عجبنا من حدّة جوابها و فطنتها.
ص: 469
حدّثني الصّوليّ قال أخبرنا أحمد بن إسماعيل النّصيبيني قال سمعت سعيد بن جنيد(1) يقول: ما أعرف أحسن من شعر العبّاس في إخفاء أمره حيث يقول:
/
أريدك بالسلام فاتّقيهم *** فأعمد بالسلام إلى سواك
و أكثر فيهم ضحكي ليخفى *** فسنّي ضاحك و القلب باك
حدّثني الصّولي قال حدّثني عليّ بن محمد بن نصر قال حدّثني خالي أحمد بن حمدون قال:
كان بين الواثق و بين بعض جواريه شرّ فخرج كسلان، فلم أزل أنا و الفتح بن خاقان نحتال لنشاطه، فرآني أضاحك الفتح فقال: قاتل اللّه ابن الأحنف حيث يقول:
/
عدل من اللّه أبكاني و أضحكها *** فالحمد للّه عدل كلّ ما صنعا
اليوم أبكي على قلبي و أندبه *** قلب ألحّ عليه الحبّ فانصدعا
فقال الفتح: أنت و اللّه يا أمير المؤمنين في وضع التّمثّل موضعه أشعر منه و أعلم و أظرف.
أخبرني الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلّبيّ عن أبيه قال:
قالت للواثق جارية له كان يهواها و قد جرى بينهما عتب: إن كنت تستطيل بعزّ الخلافة فأنا أدلّ بعزّ الحبّ.
أتراك لم تسمع بخليفة عشق قبلك قطّ فاستوفى من معشوقه حقّه؛ و لكنّي لا أرى لي نظيرا في طاعتك. فقال الواثق:
للّه درّ ابن الأحنف حيث يقول:
أ ما تحسبيني أرى للعاشقين *** بلى، ثم لست أرى لي نظيرا
لعلّ الذي بيديه الأمور *** سيجعل في الكره خيرا كثيرا
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبيّ قال: سمعت الزبير يقول: ابن الأحنف أشعر الناس في قوله:
تعتلّ بالشّغل عنّا ما تكلّمنا *** الشغل للقلب ليس الشغل للبدن
و يقول: لا أعلم شيئا من أمور الدنيا خيرها و شرّها إلا و هو يصلح أن يتمثّل فيه بهذا النصف الأخير.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني محمد بن سعيد عن حماد بن إسحاق قال: كان أبي يقول: لقد ظرف ابن الأحنف في قوله يصف طول عهده بالنّوم:
ص: 470
قفا خبّراني أيّها الرجلان *** عن النوم إنّ الهجر عنه نهاني
و كيف يكون النوم أم كيف طعمه *** صفا النّوم لي إن كنتما تصفان
قال: على قلّة إعجابه بمثل هذه الأشعار.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن هارون بن مخلد قال حدّثنا أحمد بن إبراهيم قال: رأيت سلمة بن عاصم و معه شعر العباس بن الأحنف، فعجبت منه و قلت: مثلك - أعزّك اللّه - يحمل هذا! فقال: أ لا أحمل شعر من يقول:
أسأت أن أحسنت ظنّي بكم *** و الحزم سوء الظنّ بالنّاس
يقلقني الشوق فآتيكم *** و القلب مملوء من الياس
غنّى هذين البيتين حسين بن محرز خفيف رمل بالوسطى. و أوّل الصوت:
يا فوز يا منية(1) عبّاس *** وا حربا من قلبك القاسي
و روى أحمد بن إبراهيم قال: أتاني أعرابيّ فصيح ظريف، فجعلت أكتب عنه أشياء/حسانا؛ ثم قال:
أنشدني لأصحابكم الحضريّين. فأنشدته للعبّاس بن الأحنف:
ذكرتك بالتّفّاح لمّا شممته *** و بالرّاح لما قابلت أوجه الشّرب
تذكّرت بالتفّاح منك سوالفا *** و بالرّاح طعما من مقبّلك العذب
فقال: هذا عندك و أنت تكتب عنّي! لا أنشدك حرفا بعد هذا.
فضل العباس بن الفضل بعض شعره على قول أهل العراق:
و حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى الكاتب قال سمعت عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل يقول: ما
سبحان ربّ العلا ما كان أغفلني *** عما رمتني به الأيام و الزمن
من لم يذق فرقة الأحباب ثم يرى *** آثارهم بعدهم لم يدر ما الحرن
قال أبو بكر: و قد غنّى عبد اللّه بن العبّاس فيه صوتا خفيف رمل.
ص: 471
حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا ميمون بن هارون قال: سمعت حسين بن الضّحّاك يقول:
لو جاء العبّاس بن الأحنف بقوله ما قاله في بيتين في أبيات لعذر، و هو قوله:
لعمرك ما يستريح المحبّ *** حتى يبوح بأسراره
فقد يكتم المرء أسراره *** فتظهر في بعض أشعاره
ثم قال: أمّا قوله في هذا المعنى الذي لم يتقدّمه فيه أحد فهو:
الحبّ أملك للفؤاد بقهره *** من أن يرى للسّتر فيه نصيب
و إذا بدا سرّ اللبيب فإنّه *** لم يبد إلاّ و الفتى مغلوب
أخبرني الصّوليّ قال حدّثني الغلابيّ قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال قال أبو العتاهية: ما حسدت أحدا إلا العبّاس بن الأحنف في قوله:
إذا امتنع القريب فلم تنله *** على قرب فذاك هو البعيد
فإني كنت أولى به منه و هو بشعري أشبه منه بشعره. فقلت له: صدقت، هو يشبه شعرك.
أخبرني الصّوليّ قال حدّثني أبو الحسن الأنصاريّ قال: سمعت الكنديّ يقول: العباس بن الأحنف مليح ظريف حكيم جزل في شعره، و كان قليلا ما يرضيني الشعر. فكان ينشد له كثيرا:
أ لا تعجبون كما أعجب *** حبيب يسيء و لا يعتب
و أبغي رضاه على سخطه *** فيأبى عليّ و يستصعب
فيا ليت حظّي إذا ما أسأ *** ت أنّك ترضى و لا تغضب
/كان إبراهيم الموصلي مشغوفا بشعره كثير الغناء فيه:
أخبرني الصوليّ قال حدّثنا محمد بن الفضل قال حدّثني حماد بن إسحاق قال:
كان جدّي إبراهيم مشغوفا بشعر العبّاس، فتغنّى في كثير من شعره، فذكر أشعارا كثيرة حفظت منها:
و قد ملئت ماء الشّباب كأنّها *** قضيب من الرّيحان ريّان أخضر
هم كتموني سيرهم حين أزمعوا *** و قالوا اتّعدنا للرّواح و بكّروا
/ذكر الهشاميّ أنّ اللحن في هذين البيتين لعلّويه رمل، و في كتاب ابن المكيّ أنه لابن سريح، و هو غلط.
ص: 472
و قد أخبرني الحسن بن عليّ عن الحسين بن فهم قال:
أنشد المأمون قول عبّاس بن الأحنف:
هم كتموني سيرهم حين أزمعوا *** و قالوا اتّعدنا للرّواح و بكّروا
فقال المأمون: سخروا بأبي الفضل.
قال: و حفظت منها:
تمنّى رجال ما أحبّوا و إنما *** تمنّيت أن أشكو إليك و تسمعا
أرى كلّ معشوقين(1) غيري و غيرها *** قد استعذبا طول الهوى و تمتّعا
الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل بالبنصر. و فيه ثقيل أوّل بالوسطى ينسب إلى يزيد حوراء و إلى سليم بن سلاّم.
/قال و حفظت منها:
بكت عيني لأنواع *** من الحزن و أوجاع
و أني كلّ يوم عن *** دكم يحظى بي السّاعي
أعيش الدّهر إن عشت *** بقلب منك مرتاع
و إن حلّ بي البعد *** سينعاني لك النّاعي
الغناء لإبراهيم الموصليّ ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. و في كتاب إبراهيم بن المهديّ الذي رواه الهشاميّ عنه أن لإبراهيم بن المهديّ فيه لحنين: ثقيلا أوّل و ماخوريا. و فيه هزج محدث.
أخبرني الصوليّ قال حدّثنا أصحابنا عن محمد بن الفضل عن حمّاد بن إسحاق قال:
ما غنّى جدّي في شعر أحد من الشعراء أكثر ممّا غنّى في شعر ذي الرّمّة و عبّاس بن الأحنف.
أخبرني الصّوليّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه التّميميّ قال:
كنا في مجلس ابن الأعرابيّ، إذ أقبل رجل من ولد سعيد بن سالم كان يلزم ابن الأعرابيّ، و كان يحبّه و يأنس به، فقال له: ما أخّرك عنّي؟ فاعتذر بأشياء ثم قال: كنت مع مخارق عند بعض بني الرّشيد فوهب له مائة ألف درهم على صوت غنّاه به، فاستكثر ذلك ابن الأعرابيّ و استهاله و عجب منه، و قال: ما هو؟ قال: غنّاه بشعر عبّاس بن الأحنف:
ص: 473
بكت عيني لأنواع *** من الحزن و أوجاع
و أني كل يوم عن *** دكم يحظى بي السّاعي
فقال ابن الأعرابيّ: أمّا الغناء فما أدري ما هو، و لكن هذا و اللّه كلام قريب مليح.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا محمد بن الهيثم قال حدّثني محمد بن عمرو الرّوميّ(1) قال:
كنّا عند الواثق فقال: أريد أن أصنع لحنا في شعر معناه أنّ الإنسان كائنا من كان لا يقدر على الاحتراس من عدوّه، فهل تعرفون في هذا شيئا؟ فأنشدنا ضروبا من الأشعار؛ فقال: ما جئتم بشيء مثل قول عبّاس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرّني داعي *** يكثر أسقامي و أوجاعي
كيف احتراسي من عدوّي إذا *** كان عدوّي بين أضلاعي
/أسلمني للحبّ أشياعي *** لمّا سعى بي عندها السّاعي
لقلّما أبقى على كلّ ذا *** يوشك أن ينعاني النّاعي
قال: فعمل فيه الواثق لحنه الثقيل الأوّل، النّشيد(2) بالوسطى.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني محمد بن موسى أو حدّثت به عنه عن عليّ بن الجهم قال:
انصرفت ليلة من عند المتوكل، فلما دخلت منزلي جاءني رسوله يطلبني، فراعني ذلك و قلت: بلاء تتبّعت به بعد انصرافي، فرجعت إليه وجلا، فأدخلت عليه و هو في مرقده. فلما رآني ضحك، فأيقنت بالسلامة؛ فقال: يا عليّ، أنا مذ فارقتك ساهر؛ خطر(3) على قلبي هذا الشعر الذي يغنّي فيه أخي، قول الشاعر:
قلبي إلى ما ضرّني داعي الأبيات. فحرصت أن أعمل مثل هذا فلم يجئني، أو أن أعمل مثل اللّحن فما أمكنني؛ فوجدت في نفسي نقصا، فقلت: يا سيّدي، كان أخوك خليفة يغنّي و أنت خليفة لا تغنّى؛ فقال: قد و اللّه أهديت إلى عيني نوما، أعطوه ألف دينار، فأخذتها و انصرفت.
وجدت في كتاب الشّاهيني بغير إسناد:
أنشد أبو الحارث جمّيز(4) قول العباس بن الأحنف.
قلبي إلى ما ضرّني داعي
ص: 474
الأبيات. فبكى ثم قال: هذا شعر رجل جائع في جارية طبّاخة مليحة، فقلت له: من أين قلت ذاك؟ قال: لأنه بدأ فقال:
قلبي إلى ما ضرّني داعي
و كذلك الإنسان يدعوه قلبه و شهوته إلى ما يضرّه من الطّعام و الشّراب فيأكله، فتكثر علله و أوجاعه، و هذا تعريض، ثم صرّح فقال:
كيف احتراسي من عدوّي إذا *** كان عدوّي بين أضلاعي
و ليس للإنسان عدوّ بين أضلاعه إلاّ معدته، فهي تتلف ماله، و هي سبب أسقامه، و هي مفتاح كلّ بلاء عليه، ثم قال:
إن دام لي هجرك يا مالكي *** أوشك أن ينعاني النّاعي
فعلمت أنّ الطبّاخة كانت صديقته، و أنها هجرته ففقدها و فقد الطّعام، فلو دام ذلك عليه لمات جوعا و نعاه النّاعي.
و حدّثني الصّوليّ قال حدّثني محمد بن عيسى قال:
جاء عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع إلى الحسن بن وهب، و عنده بنان جارية محمد بن حمّاد، و هي نائمة سكرى و هو يبكي عندها. فقال له: مالك؟ قال: قد كنت نائما فجاءتني فأنبهتني و قالت: اجلس حتى تشرب فجلست، فو اللّه ما غنّت/عشرة أصوات حتى نامت و ما شربت إلاّ قليلا، فذكرت قول أشعر الناس و أظرفهم، العبّاس بن الأحنف.
أبكى الذين أذاقوني مودّتهم *** حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
فأنا أبكي و أنشد هذا البيت.
و حدّثني الصّوليّ قال حدّثني القاسم بن إسماعيل قال:
سمعت إبراهيم بن العبّاس يقول: ما رأيت كلاما محدثا أجزل في رقّة، و لا أصعب في سهولة، و لا أبلغ في إيجاز، من قول العباس بن الأحنف:
تعالي تجدّد دارس العهد بيننا *** كلانا على طول الجفاء ملوم
قال الصّوليّ: و وجدت بخطّ عبد اللّه بن الحسن: أنشد أبو محمد الحسن بن مخلد قال: أنشدني إبراهيم بن العباس بن الأحنف:
إن قال لم يفعل و إن سيل لم *** يبذل و إن عوتب لم يعتب
ص: 475
صبّ بعصياني و لو قال لي *** لا تشرب(1) البارد لم أشرب
إليك أشكو ربّ ما حلّ بي *** من صدّ هذا المذنب المغضب
غنّى في هذه الأبيات أحمد بن صدقة هزجا بالوسطى. و فيها لحن آخر لغيره - قال الحسن بن مخلد(2): ثم قال لي إبراهيم بن العباس: هذا و اللّه الكلام الحسن المعنى، السهل المورد، القريب المتناول، المليح اللفظ، العذب المستمع.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلّبيّ قال:
سمعت عليّ بن يحيى يقول: من الشعر المرزوق(3) من المغنّين خاصّة [شعر(4)] العباس بن الأحنف، و خاصّة قوله:
نام من أهدى لي الأرقا *** مستريحا سامني قلقا
فإنه غنّى فيه جماعة من المغنّين، منهم إبراهيم الموصليّ و ابنه إسحاق و غيرهما. قال: و كان يستحسن هذا الشعر، و أظن استحسانه إيّاه حمله على أن قال في رويّه و قافيته:
بأبي و اللّه من طرقا *** كابتسام البرق إذ خفقا
و عمل فيه لحنا من خفيف الثقيل في الإصبع الوسطى. هكذا رواه الصّوليّ:
و أخبرني جحظة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال: قال أبي: هذا الصوت:
نام من أهدى لي الأرقا
من الأشعار المحظوظة في الغناء لكثرة ما فيه من الصّنعة و اشتراك المغنين في ألحانه. و ذكر محمد بن الحسن الكاتب عن عليّ بن محمد بن نصر عن جدّه حمدون(5) أنّه قال ذلك و لم يذكره عن إسحاق.
نام من أهدى لي الأرقا *** مستريحا زادني قلقا
لو يبيت الناس كلّهم *** بسهادي بيّض الحدقا
/كان لي قلب أعيش به *** فاصطلى بالحبّ فاحترقا
ص: 476
أنا لم أرزق مودّتكم *** إنما للعبد ما رزقا
لإسحاق في هذا الشعر خفيف بالوسطى في مجراها. و لأبيه إبراهيم أيضا فيه خفيف ثقيل آخر. و لابن جامع فيه لحنان: رمل مطلق في مجرى الوسطى في الأوّل و الثالث، و خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى أيضا في الأبيات كلها. و فيه لسليم هزج، و فيه لعلوية ثقيل أوّل.
/
بأبي و اللّه من طرقا *** كابتسام البرق إذ خفقا
زادني شوقا بزورته *** و ملا قلبي به حرقا
من لقلب هائم دنف *** كلّما سلّيته قلقا
زارني طيف الحبيب فما *** زاد أن أغرى بي الأرقا
الشعر لعليّ بن يحيى، و ذكر الصّوليّ أن الغناء له خفيف ثقيل أوّل بالوسطى.
و ذكر أبو العبيس بن حمدون أنّ هذا الخفيف الثقيل من صنعته. و فيه لعريب ثاني ثقيل بالوسطى أيضا.
حدّثني الصّوليّ قال: سمعت عبد اللّه بن المعتزّ يقول: لو قيل: ما أحسن شيء تعرفه؟ قلت: شعر العبّاس بن الأحنف:
قد سحّب الناس أذيال الظنون بنا *** و فرّق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمي بالحبّ غيركم *** و صادق ليس يدري أنّه صدقا
/قال: و للمسدود(1) في هذا الشعر لحن. قال: و لم يغنّ المسدود أحسن من غنائه في شعر العبّاس بن الأحنف. هكذا ذكر الصّوليّ، و لم يأت بغير هذا. و لإسحاق في هذين البيتين ثقيل أوّل بالبنصر من نسخة عمرو بن بانة الثانية. و لابن جامع ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ. و ليزيد حوراء خفيف ثقيل عنه. و للمسدود رمل.
و لعبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ خفيف رمل.
و أخبرني الصّوليّ قال حدّثني محمد بن سعيد قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
غضب الفضل بن الربيع على جارية له كانت أحبّ الناس إليه، فتأخّرت عن استرضائه، فغمّه ذلك، فوجّه إلى
ص: 477
أبي يعلمه و يشكوها إليه. فكتب إليه أبي: لك العزّة و الشرف، و لأعدائك الذّل و الرّغم. و استعمل قول العباس بن الأحنف:
تحمّل عظيم الذنب ممّن تحبّه *** و إن كنت مظلوما فقل أنا ظالم
فإنك إلاّ تغفر الذنب في الهوى *** يفارقك من تهوى و أنفك راغم
فقال: صدقت، و بعث إليها فترضّاها.
أخبرني الصّوليّ قال حدّثني أبو بكر بن أبي خيثمة قال:
قيل لمصعب الزّبيري: إن الناس يستبردون شعر العباس بن الأحنف. فقال: لقد ظلموه، أ ليس الذي يقول:
قالت ظلوم سميّة الظّلم *** ما لي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فاقصده *** أنت العليم بموقع السّهم
الغناء لأبي العبيس أو ابنه إبراهيم، ماخوريّ.
أخبرني الصّوليّ قال حدّثنا ميمون بن هارون قال حدّثني أبو عبد اللّه الهشاميّ الحسن بن أحمد(1) قال حدّثنا عمرو بن بانة قال:
كنّا في دار أمّ جعفر جماعة من الشعراء و المغنّين، فخرجت جارية لها و كمّها مملوء دراهم، فقالت: أيّكم القائل:
/
من ذا يعيرك عينة تبكي بها *** أ رأيت عينا للبكاء تعار
فأومئ إلى العباس بن الأحنف، فنثرت الدراهم في حجره فنفضها فلقطها الفرّاشون، ثم دخلت و معها ثلاثة نفر من الفرّاشين على عنق كلّ فرّاش بدرة فيها دراهم، فمضوا بها إلى منزل العبّاس بن الأحنف:
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن موسى قال:
أنشد الرشيد قول العبّاس بن الأحنف:
من ذا يعيرك عينه تبكي بها
فقال: من لا صحبه اللّه و لا حاطه.
ص: 478
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمّد الكنديّ قال:
/كنّا مع مخلد الموصليّ في مجلس و كان معنا عبد اللّه بن ربيعة الرّقّيّ؛ فأنشد مخلد الموصلي قصيدة له يقول فيها:
كلّ شيء أقوى عليه و لكن *** ليس لي بالفراق منك يدان
فجعل يستحسنه و يردّده، فقال له عبد اللّه: أنت الفداء لمن ابتدأ هذا المعنى فأحسن فيه حيث يقول:
سلبتني من السّرور ثيابا *** و كستني من الهموم ثيابا
كلما أغلقت من الوصل بابا *** فتحت لي إلى المنيّة بابا
عذّبيني بكلّ شيء سوى الص *** دّ فما ذقت كالصدود عذابا
قال: فضحك الموصليّ. و الشعر للعباس بن الأحنف.
و أخبرني الصّوليّ قال حدّثني أبو الحسن الأسديّ قال:
سمع الرّياشيّ يقول، و قد ذكر عنده العباس بن الأحنف: و اللّه لو لم يقلّ من الشعر إلا هذين البيتين لكفيا:
أحرم منكم بما أقول و قد *** نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت *** تضيء للنّاس و هي تحترق
و في هذين البيتين لحن لعبد اللّه بن العبّاس من الثقيل الثاني بالبنصر. و فيه لخزرج رمل أوّل عن عبد اللّه بن العبّاس:
أنت لا تعلمين ما الهمّ و الحز *** ن و لا تعلمين ما الأرق(1)
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثني بعض مشايخ الأزد عن إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال:
كان الرشيد يقدّم أبا العتاهية حتى يجوز الحدّ في تقديمه، و كنت أقدّم العبّاس بن الأحنف؛ فاغتابني بعض الناس عند الرشيد و عابني عنده، و قال عقب ذلك: و بحسبك يا أمير المؤمنين أنه يخالفك في العباس بن الأحنف على حداثة سنّه و قلّة حذقه و تجريبه، و يقدّمه على أبي العتاهية مع ميلك إليه. و بلغني الخبر فدخلت على الرّشيد؛
ص: 479
فقال لي ابتداء: أيما أشعر عندك: العباس بن الأحنف أو أبو العتاهية؟ فعلمت الذي يريد، فأطرقت كأني مستثبت ثم قلت: أبو العتاهية أشعر. قال: أنشدني لهذا و لهذا؛ قلت: فبأيّهما أبدأ؟ قال: بالعباس. قال: فأنشدته أجود/ما أرويه للعبّاس، و هو قوله:
أحرم منكم بما أقول و قد *** نال به العاشقون من عشقوا
فقال لي: أحسن، فأنشدني لأبي العتاهية، فأنشدته أضعف ما أقدر عليه، و هو قوله:
كأنّ عتّابة من حسنها *** دمية قسّ فتنت قسّها
يا ربّ لو أنسيتنيها بما *** في جنّة الفردوس لم أنسها
إني إذا مثل التي لم تزل *** دائبة في طحنها كدسها(1)
حتى إذا لم يبق منها سوى *** حفنة برّ قتلت نفسها
قال: أ تعيّره(2) هذا! فأين أنت عن قوله:
قال لي أحمد و لم يدر ما بي *** أ تحبّ الغداة عتبة حقّا
فتنفّست ثم قلت نعم حبّ *** ا جرى في العروق عرقا فعرقا
/ويحك! أ تعرف لأحد مثل هذا، أو تعرف أحدا سبقه إلى قوله: «فتنفّست ثم قلت كذا و كذا»! اذهب ويحك فاحفظها؛ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، و لو كنت سمعت بها لحفظتها. قال إسحاق: و ما أشكّ إني كنت أحفظ لها حينئذ من أبي العتاهية، و لكنّي إنما أنشدت ما أنشدت تعصّبا.
قال محمد بن يزيد:
و حدّثت من غير وجه أنّ الرشيد ألف العباس بن الأحنف؛ فلما خرج إلى خراسان طال مقامه بها، ثم خرج إلى أرمينية و العباس معه ماشيا إلى بغداد، فعارضه في طريقه فأنشده:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا
ما أقدر اللّه أن يدني على شحط *** سكان دجلة من سكّان جيحان(3)
متى الذي كنت أرجوه و آمله *** أمّا الذي كنت أخشاه فقد كانا
عين الزمان أصابتنا فلا نظرت *** و عذّبت بصنوف الهجر ألوانا
- في هذين البيتين الأخيرين رمل بالوسطى ينسب إلى مخارق و إلى غيره - قال فقال له الرشيد: قد اشتقت يا عبّاس و أذنت لك خاصة، و أمر له بثلاثين ألف درهم.
ص: 480
أخبرني الصّوليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم قال: سمعت مصعبا الزّبيريّ يقول: العباس بن الأحنف و عمرو العرّاف(1) ما ابتدلا شعرهما في رغبة و لا رهبة، و لكن فيما أحبّاه، فلزما فنّا واحدا لو لزمه غيرهما ممّن يكثر إكثارهما لضعف فيه.
ص: 481
منها:
توهّمت بالخيف رسما محيلا *** لعزّة تعرف منه الطّلولا
تبدّل بالحيّ صوت الصّدى *** و نوح الحمامة تدعو هديلا
عروضه من المتقارب. الخيف الذي عناه كثيّر ليس بخيف منّي، بل هو موضع آخر في بلاد ضمرة.
و الطّلول: جمع طلل، و هو ما كان(1) له شخص و جسم عال من آثار الدّيار. و الرّسم/ما لم يكن له شخص [و جسم](2). و الصّدى هاهنا: طائر، و في موضع آخر: العطش. و يزعم أهل الجاهليّة أن الصّدى طائر يخرج من رأس المقتول فلا يزال يصيح [اسقوني](2) حتى يدرك بثأره. قال طرفة:
كريم يروّي نفسه في حياته *** ستعلم إن متنا صدى أيّنا الصّدي(3)
و الحمام: القماريّ و نحوها من الطير. و الهديل: أصواتها.
الشعر لكثيّر و الغناء لعبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر، و نسبه إلى جاريته و كنى عنها، فذكر أن الصّنعة لبعض من كثرت دربته بالغناء و عظم علمه و أتعب نفسه حتى جمع النّغم العشر في هذا الصوت، و ذكر أن طريقته من الثقيل الأوّل، و أنّه ليس يجوز أن ينسبه إلى موضع إصبع مفردة؛ لأن ابتداءه على المثنى مطلقا، ثم بسبّابة المثنى، ثم وسطى المثنى، ثم بنصر المثنى، ثم خنصر المثنى، ثم سبّابة الزّير، ثم وسطاه، ثم بنصره، ثم خنصره، ثم النّغمة الحادّة، و هي العاشرة. و فيه لابن محرز ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر. و فيه لابن الهربذ رمل بالوسطى عن عمرو، و هذا الصوت من الثقيل/الثاني، و هو الذي ذكر إسحاق في كتاب النّغم و عللها أن لحن ابن محرز فيه يجمع ثمانيا من النغم العشر، و أنه لا يعرف صوتا(4) يجمعها غيره، و أنه يمكن من كان له علم ثاقب بالصناعة أن يأتي في صوت واحد بالنّغم العشر، بعد تعب طويل و معاناة شديدة. و ذكر عبيد اللّه أن صانع هذا الصوت الذي كنى عنه فعل ذلك و تلطّف له حتى أتى بالنغم العشر في هذا متوالية من أوّلها إلى آخرها، و أتى بها في الصوت الذي بعده متفرّقة على غير توال إلاّ أنها كلّها فيه، و ذكر أن ذلك الصوت أحسن مسموعا و أحلى. و حكى ذلك أيضا عنه
ص: 482
يحيى بن عليّ بن يحيى في «كتاب النّغم». و إذ فرغت من حكاية ما ذكره و حكاه عبيد اللّه في نسبة هذا الصوت فقد ينبغي ألاّ أجرى الأمر فيه على التقليد دون القول الصحيح فيما ذكره و حكاه. و الذي وصفه من جهة النغم العشر متوالية في صوت واحد محال لا حقيقة له، و لا يمكن أحدا بتّة(1) أن يفعله. و أنا أبيّن العلّة في ذلك على تقريب، إذ كان استقصاء شرحها طويلا. و قد ذكرته في رسالة إلى بعض إخواني في علل النغم، و شرحت هناك العلّة في أن قسّم الغناء قسمين و جعل على مجريين: الوسطى و البنصر دون غيرهما، حتى لا يدخل(2) واحدة منهما على صاحبتها في مجراها قرب مخرج الصوت، إذا كان على الوسطى منه [أو](3) إذا كان على البنصر و شبهه به. فإذا أراد مريد إلحاق هذا بهذا لم يمكنه بتّة على وجه و لا سبب؛ و لا يوجد في استطاعة حيوان أن يتلو إحداهما بالأخرى. و إذا أتبعت(4) إحداهما بالأخرى في ناي أو آلة من آلات الزمر تفصّلت إحداهما/من الأخرى. و إنما قلّت النغم في غناء الأوائل لأنهم قسّموها قسمين بين هاتين الإصبعين، فوجدوهما إذا دخلت إحداهما مع الأخرى في طريقتها لم يكن ذلك إلا بعد أن يفصل بينهما بنغم أخرى للسبّابة و الخنصر يدخل بينهما حتى تتباعد المسافة بينهما، ثم لا يكون لذلك الغناء ملاحة و لا طيب للمضادّة في المجريين، فتركوه و لم يستعملوه؛ فإن كان صحّ لعبيد اللّه عمل في النغم العشر في صوت، /فلعلّه صحّ له في الصوت الذي ذكر أنه فرّقها فيه؛ فأما المتوالية - على ما ذكره هاهنا - فمحال، و لست أقدر في هذا الموضع على شرح أكثر من هذا، و هو في الرسالة التي ذكرتها مشروح.
*** انتهى الجزء الثامن من كتاب الأغاني و يليه الجزء التاسع و أوّله نسب كثير و أخباره
ص: 483
ص: 484
<كتاب الأغاني> تأليف أبي الفرج الأصفهاني ترجمة حارثة بن بدر لحق بالجزء الثامن من طبعة دار الكتب بتحقيق إبراهيم الأبياري
ص: 485
ص: 486
<تقديم> (1) هذه الترجمة، من تراجم الجزء الحادي و العشرين. و تقع فيه بعد ترجمة «أم جعفر» و قبل ترجمة «خالد الكاتب»، و قد رمزنا إلى هذا الجزء الحادي و العشرين بالحرف «س».
(2) لم يورد ابن واصل هذه الترجمة، و هو الذي أورد في كتابه «تجريد الأغاني» جميع التراجم المزيدة التي انفرد بها الجزء الحادي و العشرون.
(3) ذكر أبو الفرج حديثه عن «الصوت من المائة المختارة» هناك (148:7 طبعة بلاق - 235:8 طبعة دار الكتب)، و هو يقدم لعنترة، ثم كرره هنا بنصه - مع خلاف يسير - و هو يترجم لحارثة بن بدر.
(4) قوبلت هذه الترجمة على مخطوطتين من مخطوطات «الأغاني» المحفوظة في دار الكتب:
(أ) الأولى من هاتين المخطوطتين قطعة قديمة كانت من بين مخطوطات مكتبة «الظافر» الخليفة الفاطمي.
و تقع هذه المخطوطة في مائة و خمس و سبعين ورقة، و أخبار حارثة تشغل الثماني عشرة ورقة الأخيرة منها؛ و هذه النسخة تحمل رقم 427 أدب، و قد رمزنا إليها أثناء المقابلة بحرف «أ».
(ب) و ثانية المخطوطتين، مصوّرة مأخوذة عن نسخة مكتبة «فيض اللّه» بتركيا، و يرجع تاريخ نسخها إلى القرن التاسع أو العاشر الهجري، و تضم مائة لوحة؛ تقع أخبار «حارثة» في اللوحات من 80 إلى 89. و هذه النسخة تحمل رقم 19020 ز. و قد رمزنا إليها بحرف «ب».
(5) تتفق المخطوطتان على إيراد أخبار «حارثة بن بدر» قبل أخبار «أبي دلف»، و بعد أخبار «جميلة».
ص: 487
صوت(1)من المائة المختارة
يا دار عبلة من مشارق مأسل *** درس الشّئون و عهدها لم ينجل(2)
و استبدلت عفر الظّباء كأنما *** أبعارها في الصّيف حبّ الفلفل
ذكر يحيى بن عليّ أن الشعر لعنترة بن شدّاد، و ليس ذلك بصحيح. و ذكر غيره من الرّواة أنه لعبد قيس بن خفاف البرجمي، و ليس ذلك بصحيح أيضا، و الشعر لحارثة بن بدر الغداني من قصيدة له طويلة يفتخر فيها و يذكر سالف أيامه. و قد ذكرت المختار منها بعقب أخبار حارثة و بعد انقضائها. و الغناء المختار لأبي دلف العجلي، و لحنه في المختار [ثقيل أول، و فيه ألحان كثيرة(3)].
ص: 488
15 - نسب حارثة بن بدر و أخباره(1)
حارثة بن بدر بن حصين بن قطن بن غدانة بن يربوع.
و قال خالد بن حبل:
و أم حارثة بن بدر امرأة من بني صريم بن الحارث، يقال لها: الصّدوف، بنت صدى(4).
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني العلاء بن الفضل بن [عبد الملك بن(5)] أبي سويّة المنقري، قال:
مرّ عمرو بن الأهتم بحارثة بن بدر، و الأحنف بن قيس، و زيد بن جبلة، و هم مجتمعون، فسلّم عليهم، ثم بقي مفكرا، فقالوا: مالك؟ فقال: ما في الأرض ثلاثة أنجب من آبائكم، حيث جاءوا بأمثالكم من أمثال أمهاتكم! فضحكوا منه.
قال:
و أم الأحنف: الزّافرية، و اسمها حبّي، من باهلة، و أم زيد بن جبلة: عمرة بنت حذلم، من بني الشّعيراء. و أم حارثة: الصّدوف بنت صدى(4)، من بني صريم بن الحارث.
و قد مضى نسب بني يربوع في نسب جرير و غيره [من عشيرته(6)] من هذا الكتاب.
ص: 489
و في بني غدانة يقول الفرزدق:
أ بني غدانة إنّني حرّرتكم *** فوهبتكم(1) لعطيّة بن جعال
لو لا عطيّة لاجتدعت أنوفكم *** من بين ألأم أعين و سبال(2)
و كان عطية استوهب منه أعراضهم لصهر كان بينه و بينهم، و كان عطية سيّدا من سادات بني تميم. فلما سمع هذا الشعر قال: و اللّه لقد امتن عليّ أبو فراس بهذه الهبة و ما(3) تممها حتى ارتجعها، و وصل الامتنان بتحريرهم بأقبح هجاء لهم.
قال:
و كان عطية هذا جوادا، و فيه يقول جرير(4):
إن الجواد على المواطن كلها *** و ابن الجواد عطية بن جعال
يهب النجائب لا يملّ عطاءها *** و المقربات كأنهن سعالى(5)
و حارثة بن بدر من فرسان بني تميم و وجوهها و ساداتها [و جودائها(6)]، و أحسب أنه قد أدرك النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في حال صباه و حداثته. و هو من ولد(7) بني الأحنف بن قيس، و ليس بمعدود في فحول الشعراء، و لكنه كان يعارض نظراءه الشّعر، و له من ذلك أشياء كثيرة ليست مما يلحقه بالمتقدمين في الشعر و المتصرفين في فنونه.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز [الجوهري(8)]، قال: أنبأنا عمر بن شبّة، قال: أنبأنا المدائني، قال:
كان زياد مكرما لحارثة بن بدر، قابلا لرأيه، محتملا لما يعلمه من تناوله الشراب. [فلما ولي عبيد اللّه بن زياد أخّر حارثة بعض التأخير، فعاتبه على ذلك. فقال له عبيد اللّه: إنك تتناول الشراب(9)]. فقال له: قد كان أبوك يعلم
ص: 490
هذا منّي، و يقربني(1) و يكرمني. فقال له: إن أبي كان لا يخاف من القالة في تقريبك ما أخاف، و إنّ اللسان إليّ فيك لأسرع منه إلى أبي. فقال حارثة:
و كم من أمير قد تجبّر بعد ما *** مريت له الدنيا بسيفي فدرّت(2)
إذا ما هي احلولت نفى حق مقسمي *** و يقسم لي منها إذا ما أمرّت(3)
إذا زبنته عن فواق يريده *** دعيت و لا أدعى إذا ما أقرّت(4)
و قال حارثة بن بدر أيضا، و [قد(5)] شاوره عبيد اللّه في بعض الأمر:
أهان و أقصى ثم ينتصحونني *** و من ذا الذي يعطى نصيحته قسرا
رأيت أكفّ المصلتين عليكم *** ملاء و كفّي من عطاياكم صفرا
متى تسألوني ما عليّ و تمنعوا *** الذي لي لم أسطع على ذلكم صبرا(6)
فقال له عبيد اللّه: فإني معوّضك و مولّيك، فولاّه.
أخبرني يحيى بن علي(7) إجازة، قال: أنبأنا أحمد بن يحيى بن جابر البلاذريّ، قال: قال لي أبو اليقظان:
حوّل زياد دعوة حارثة بن بدر و «ديوانه» في قريش، لمكانه منه، فقال(8) [فيه] رجل من بني كليب يهجوه بذلك:
شهدت بأن حارثة بن بدر *** غدانيّ اللّهازم و الكلام(9)
سجاح في كتاب اللّه أدنى *** له من نوفل و بني هشام
يعني: سجاح، التي ادّعت النبوة، و هي امرأة من بني تميم.
قال أحمد بن يحيى: و قال المدائني:
احترقت دار حارثة بن بدر بالبصرة، أحرقها بعض أعدائه من بني عمه، فقال في ذلك:
ص: 491
رأيت المنايا بادئات و عوّدا *** إلى دارنا سهلا إليها طريقها(1)
لها نبعة(2) كانت تقينا فروعها *** فقد تلفت إلاّ قليلا عروقها
قال:
و كان لحارثة أخ يقال له: دارع(3)، فأحرق مع ابن الحضرمي بالبصرة.
و قال أحمد يحيى أيضا:
كان عطية بن جعال يهاجي حارثة بن بدر، ثم اصطلحا. و كان أيضا يهاجيه من قومه العكمص، و كانت بنو سليط تروي هجاءه لحارثة بن بدر، فقال حارثة يهجوهم:
/
أ راوية عليّ بنو سليط *** هجاء الناس يا لبني سليط
فما لحمي لتأكله سليط *** شبيها بالذكيّ و لا العبيط(4)
أخبرنا أحمد بن محمد [بن عبد اللّه(5)] بن صالح بن سمح بن عمرة(6) الأسدي أبو الحسن، قال: أنبأنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: قال: روح بن السّكن:
كان أنس بن زنيم الليثي صديقا لعبيد اللّه بن زياد، فرأى منه جفوة و أثرة لحارثة بن بدر الغداني، فقال:
أهان(7) و أقصى ثم ترجى نصيحتي *** و أيّ امرئ يعطي نصيحته قسرا
رأيت أكفّ المصلتين عليكم *** ملاء و كفّي من عطاياكم صفرا
فإن تسألوني ما عليّ و تمنعوا الّ *** ذي لي لم أسطع على ذلكم صبرا
رأيتكم تعطون من ترهبونه *** زربية قد و شحّت(8) حلقا(9) صفرا
و إنّي مع الساعي عليكم بسيفه(10) *** إذا عظمكم يوما رأيت به كسرا
ص: 492
فقال عبيد اللّه بن زياد لحارثة بن بدر: أجبه. فاستعفاه(1) لمودة كانت بينهما، فأكرمه على ذلك و أقسم عليه [ليجيبنّه(2)]، فقال:
/
تبدلت من أنس إنّه *** كذوب المودّة خوّانها
أراه بصيرا بضرّ الخليل *** و خير(3) الأخلاّء عورانها(4)
فأجابه أنس فقال:
إن الخيانة شرّ الخليل *** و الكفر عندك ديوانها
بصرت به في قديم الزمان *** كما بصر(5) العين إنسانها
فأجابه حارثة بن بدر فقال:
ألكنى(6) إلى أنس إنّه *** عظيم الحواشة(7) عندي مهيب
فما أبتغي عثرات الخليل *** و لا أبغين(8) عليه الوثوب(9)
و ما إن أرى ماله مغنما *** من الدهر إن أعوزتني الكسوب(10)
فقال أنس:
أ حار بن بدر و أنت امرؤ *** لعمري المتاع إليّ الحبيب(11)
متى كان مالك لي مغنما *** من الدهر إن أعوزتني الكسوب(12)
و شرّ الأخلاّء عند البلاء *** و عند الرزيّة خلّ(13) كذوب
/قال: فتهادى أنس و حارثة الشعر عند عبيد اللّه زمانا، و وقع بينهما شرّ حتى قدم سلّم بن زياد من عند يزيد بن معاوية عاملا على خراسان و سجستان، فجعل ينتخب ناسا من أهل البصرة و الكوفة، و كان الذي بين عبيد اللّه و بين سلم شيئا(14)، فأرسل سلّم إلى أنس يعرض عليه صحبته و جعل له أن يستعمله على كورة، فقال له أنس: أمهلني حتى انظر في أمري، و كتب إلى عبيد اللّه بن زياد.
ص: 493
أ لم ترني خيّرت و الأمر واقع(1) *** فما كنت لما قلت بالمتخيّر
رضاك على شيء سواه و من يكن *** إذا اختار ذا حزم من الأمر(2) يظفر
فعدت لترضى عن جهاد و صاحب *** شفيق قديم الودّ كان موقّري(3)
على أحد الثّغرين ثم تركته *** و قد كنت في تأميره غير ممتري
فأمسكت عن سلم عناني(4) و صحبتي *** ليعرف وجه العذر قبل التعذر
فإن كنت لما تدر ما هي شيمتي *** فسل بي أكفائي و سل بي معشري
أ لست مع الإحسان و الجود ذا غنى *** و بأس إذا ما كفّروا في التّستّر(5)
و رأي(6) و قد أعصى الهوى خشية الرّدى *** و أعرف غبّ الأمر قبل التّدبّر
و ما كنت لو لا ذاك ترتدّ بغبتي *** عليّ ارتداد المظلم المتجبّر
قال: و دفعها إلى عبيد اللّه [بن(7) زياد] في صحيفة، فقرأها ثم دفعها إلى حارثة بن بدر، و قال له: اردد على أنس صحيفته فلا حاجة لنا فيها(8). فقال حارثة:
/ألكني إلى من قال هذا و قل له *** كذبت فما إن أنت بالمتخيّر
و إنك لو صاحبت سلما وجدته *** كعهدك عهد السّوء لم يتغيّر
أ تنصح لي يوما و لست بناصح *** لنفسك فاغشش ما بدا لك أو ذر
كذبت و لكن أنت رهن بخزية(9) *** و يوم كأيام عبوس مذكّر(10)
كأشقر أضحى بين رمحين إن مضى *** على الرّمح ينحر أو تأخّر يعقر
(قال): و أعجبت(11) عبيد اللّه، و قال: لعمري لقد أجبته. على إرادتي و أمسك عبيد اللّه في يده الصحيفة، فلما دخل عليه أنس دفعها إليه، فنظر فيها، ثم قال لعبيد اللّه: لقد ردّ عليّ من لا أستطيع جوابه. و ظنّ أن عبيد اللّه قالها(12)، و خرج أنس و الصحيفة في يده، فلقيه عبد الرحمن بن رألان فدفعها إليه أنس، فلما قرأها قال: هذا شعر حارثة بن بدر، أعرفه. فقال له أنس: صدقت و اللّه، ثم قال لحارثة:
عجبت لهرج(13) من زمان مضلّل *** و رأي لألباب الرجال مغيّر
و من حقبة عوجاء(14) غول تلبست *** على الناس جلد الأربد المتنمّر
فلا يعرف المعروف فيه لأهله *** و إن قيل فيه منكر لم ينكّر
ص: 494
لحارثة الهدي الخنى لي ظالما *** و لم أر مثل مدّر صيد مدّري(1)
لحار(2) بن بدر قد أتتني(3) مقالة *** فما بال نكر منك من غير منكر(4)
/أ يروي عليك الناس ما لا تقوله *** فتعذر أم أنت امرؤ غير معذر
فإن يك حقا ما يقال فلا يكن *** دبيبا و جاهرني فما من تستّر
أقلّدك(5) إن كنت امرأ خان عرضه *** قوافي من باقي الكلام المشهّر
و قد كنت قبل اليوم جرّبت أنني *** أشقّ على ذي الشّعر و المتشعّر(6)
و أن لساني بالقصائد ماهر *** تعنّ له غرّ(7) القوافي و تنبري
أصادفها حينا يسيرا و أبتغي *** لها مرّة شزرا إذا لم تيسّر(8)
تناولني بالشتم في غير كنهه *** فمهلا(9) أبا الخيماء(10) و ابن المعذّر
هجوت(11) و قد ساماك في الشعر خطّة ال *** ذّليل و لم يفعل(12) كأفعال منكر
قال: و قال أنس بن زنيم لعبيد اللّه بن زياد، و فيه غناء:
سل أميري ما الذي غيّره *** عن وصالي اليوم حتى ودّعه(13)
لا تهنّي بعد إكرامك(14) لي *** فشديد عادة منتزعه
لا يكن وعدك برقا خلّبا *** إنّ خير البرق ما الغيث معه
أخبرني محمد بن مزيد [بن أبي الأزهر(15)]، قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، قال:
ص: 495
زعم عاصم بن الحدثان(1) أنّ حارثة بن بدر قال لعبيد اللّه بن ظبيان، و كانا في عرس لابن مسمع: هل لك في شراب؟ قال: نعم، فأتيا بنبيذ من زبيب و عسل، فأخذ ابن ظبيان العسّ فكرع فيه حتى كاد يأتي عليه(2)، ثم ناوله حارثة. فقال له حارثة: [يا بن ظبيان]، إنك لطب بحسوها(3). فقال: أجل، و اللّه إنّي لأشربها حلالا و أجاهر بها إذا أخفى غيري شرب الحرام. فقال له حارثة: من غيرك هذا؟ قال: سائلي عن هذا الأمر. فقال حارثة:
إذا كنت ندماني فخذها و سقّني(4) *** ودع عنك من رآك تكرع في الخمر
فإنّي امرؤ و لا أشرب الخمر في الدّجا *** و لكنني أحسو النبيذ من التمر
حيا و تقا للّه و اللّه عالم *** بكل الذي نأتيه في السّر و الجهر(5)
و مثلك قد جرّبته و خبرته *** أبا مطر(6) و الحين(7) أسبابه تجري
حساها كمستدمى الغزال عتيقة *** إذا شعشعت بالماء طيّبة النّشر(8)
أقام عليها دهره كل ليلة *** يشافهها حتى يرى وضح الفجر
/فأصبح ميتا ميتة الكلب ضحكة *** لأصحابه حتى يدهده في القبر(9)
فما إن بكاه غير دنّ و مزهر *** و غانية كالبدر واضحة الثّغر
و باطية كانت له خدن زنية(10) *** يعاقرها(11) و اللّيل معتكر السّتر
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا الكرانيّ، قال: حدثنا العمري عن عاصم بن الحدثان، قال:
عاتب الأحنف بن قيس حارثة بن بدر على معاقرة الشّراب و قال له: قد فضحت نفسك و أسقطت قدرك، و أوجعه عتابا. فقال له: إني سأعتبك(12). فانصرف(13) الأحنف طامعا في صلاحه، فلما أمسى راح إليه فقال له:
اسمع يا أبا بحر(14) ما قلت لك. فقال: هات، فأنشده:
ص: 496
يذمّ أبو بحر أمورا يريدها *** و يكرهها للأريحيّ المسوّد
فإن كنت عيّابا(1) فقل ما تريده *** ودع عنك شربي لست فيه بأوحد(2)
سأشربها صهباء كالمسك ريحها *** و أشربها في كل ناد و مشهد
فنفسك فانصح يا بن قيس و خلّني *** و رأيي فما رأيي برأي مفنّد(3)
و قائلة يا حار هل أنت ممسك *** عليك من التبذير قلت لها اقصدي
و لا تأمريني بالسّداد فإنني *** رأيت الكثير المال غير مخلّد
و لا عيب لي إلاّ اصطباحي قهوة *** متى يمتزجها(4) الماء في الكأس تزبد
/معتّقة صهباء كالمسك ريحها *** إذا هي فاحت(5) أذهبت غلّة الصّدي
ألا إنما الرّشد المبين طريقه *** خلاف الذي قد قلت إذ أنت مرشدي
سأشربها ما حجّ للّه راكب *** مجاهرة وحدي و مع كل مسعد
و أسعد ندماني و أتبع شهوتي *** و أبذل عفوا كلّ ما ملكت يدي
كذا العيش لا عيش ابن قيس و صحبه *** من الشّرب للماء القراح المصرّد(6)
فقال له الأحنف: حسبك، فإني أراك غير مقلع عن غيّك، و لن أعاتبك بعدها أبدا.
قال عاصم: ثم كان بعد ذلك بن الأحنف و حارثة كلام و خصومة، فافترقا عن مجلسهما متغاضبين، فبلغ حارثة أن الأحنف قال: أما و اللّه لو لا ما يعلم لقلت فيه ما هو أهله. فقال حارثة: و هل يقدر على أن يذمني بأكثر من الشراب و حبّي له؟ و ذلك أمر لست أعتذر منه إلى أحد، ثم قال في ذلك:
و كم لائم لي في الشراب زجرته *** فقلت له دعني و ما «أنا شارب
فلست عن الصهباء ما عشت مقصرا *** و إن لا مني فيها اللئام الأشائب(7)
أ أترك لذّاتي و آتي هواكم *** ألا ليس مثلي يا بن قيس يخالب(8)
أنا الليث معدوّا عليه و عاديا *** إذا سلّت البيض الرّقاق القواضب
فأنت(9) حليم تزجر الناس عن هوى *** نفوسهم جهلا و حلمك عازب
ص: 497
فحلمك صنه لا تذله(1) و خلّني *** و شأني و أركب كلّ ما أنت راكب
/فإنّي امرؤ عوّدت نفسي عادة *** و كل امرئ لا شك ما اعتاد طالب(2)
أجود بمالي ما حييت سماحة *** و أنت بخيل يجتويك(3) المصاحب
فما أنت أو ما غيّ من كان غاويا *** إذا أنت لم تسدد عليك المذاهب
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: أنبأنا أبو الأسود الخليل بن أسد، قال: أنبأنا العمري عن العتبي، قال:
أجرى الوليد بن عبد الملك الخيل و عنده حارثة بن بدر الغداني، و هو حينئذ في ألف و ستمائة من العطاء، فسبق الوليد، فقال حارثة: هذه فرصة. فقام فهنّاه و دعا له، ثم قال:
إلى الألفين(4) مطّلع قريب *** زيادة أربع لي قد بقينا
فإن أهلك فهنّ لكم و إلا *** فهنّ من المتاع لكم(5) سنينا
فقال له الوليد: فتشاطرني ذلك: لك مائتان و لي مائتان. فصيّر عطاءه ألفا و ثمانمائة. ثم أجرى الوليد الخيل(6)، فسبق أيضا، فقال حارثة: هذه فرصة [أخرى(7)]. فقام فهنأه و دعا له، ثم قال:
و ما احتجب الألفان إلاّ بهيّن *** هما الآن أدنى منهما قبل ذالكا
فجد بهما تفديك نفسي فإنني *** معلّق آمالي ببعض حبالكا
فأمر الوليد له بالمائتين، فانصرف و عطاؤه ألفان.
أخبرني(8) محمد بن يحيى، أنبأنا محمد بن زكريا، قال: أنبأنا مهدي بن سابق، قال: أنبأنا عبد الرحمن بن شبيب بن شيبة، عن أبيه، قال:
قال زياد يوما لحارثة بن بدر: من أخطب الناس، أنا أو أنت؟ فقال: الأمير أخطب مني إذا توعّد و وعد، و أعطى و منع، و برق و رعد، و أنا أخطب منه في الوفادة و في الثناء و التّحبير، و أنا أكذب إذا خطبت، فأحشو كلامي بزيادة مليحة شهيّة، و الأمير يقصد إلى الحقّ و ميزان العدل و لا يزيد فيه شعيرة و لا ينقص منه. فقال له زياد: قاتلك
ص: 498
اللّه! فلقد أجدت تخليص صفتك و صفتي، من حيث أعطيت نفسك الخطابة كلّها و أرضيتني و تخلّصت. ثم التفت إلى أولاده فقال: هذا لعمركم البيان الصريح.
أخبرني محمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن زكريا عن الحرمازيّ، قال:
شرب حارثة بن بدر مع بني زياد ليلة إلى الصّبح فأكثر، و صرف(1) و مزجوا، فلما أن غدا على زياد كان وجهه شديد الحمرة، ففطن له زياد، فقال: مالك يا حارثة؟ فقال: أكلت البارحة رمّانا فأكثرت. قال: قد عرفت مع من أكلته، و لكنهم قشّروه و أكلته بقشره فأصارك إلى ما ترى.
قال الحرمازي:
قال بعض أهل العلم: إنّ زيادا استعمل حارثة على سرّق(2). فمات زياد و هو بها، ثم إنه بلغه موته، فقال حارثة يرثيه:
/
إن الرزيّة في قبر بمنزلة *** تجري عليها بظهر الكوفة المور(3)
أدّت إليه قريش نعش سيدها *** ففيه ضافي النّدى و الحزم مقبور
أبا المغيرة و الدنيا مغيّرة *** و إنّ من غرّ بالدنيا لمغرور
قد كان عندك للمعروف معرفة *** و كان عندك للنّكراء تنكير
و كنت تؤتي فتعطي الخير عن سعة *** فاليوم بابك دون الهجر مهجور
و لا تلين إذا عوسرت مقتسرا(4)*** و كلّ أمرك ما يوسرت ميسور
قال: و كان الذي أتاه بنعيه مسعود بن عمرو الأزديّ، فقال حارثة:
لقد جاء مسعود أخو الأزد غدوة *** بداهية غرّاء باد حجولها(5)
من الشر ظلّ الناس فيها كأنهم *** و قد جاء بالأخبار من لا يحيلها
أخبرني الحسن بن عليّ، قال: أنبأنا العمري عن أحمد بن خالد بن منجوف، عن مؤرّج السّدوسي، قال:
دخل حارثة بن بدر على عبيد اللّه بن زياد و عنده سعد الرّابية أحد بني عمرو بن يربوع بن حنظلة، و كان شريرا يضحك ابن زياد و يلهيه، و له يقول الفرزدق:
ص: 499
إني لأبغض سعدا أن أجاوره *** و لا أحبّ بني عمرو بن يربوع
قوم إذا حاربوا لم يخشهم أحد *** و الجار فيهم ذليل غير ممنوع(1)
/فلما جلس حارثة قال له سعد: يا حارثة، أينع الكرم؟ قال: نعم، و استودع ماءه الأصيص(2)، فمه؟ قال:
إني لم أرد بأسا. قال: أجل! و لست من أهل البأس: و لكن هل لك علم بالأتان إذا اعتاص رحمها(3)، كيف يسطى عليها، أ كما يسطى على الفرس، أم كيف؟ قال: واحدة بواحدة، و البادي أظلم، سألتني عما لا علم لي به، و سألتك عما تعلم. قال: أنت بما سألتك عنه أعلم مني بما سألتني عنه، و لكن من شاء جهّل نفسه و أنكر ما يعرف. و قال حارثة يهجو سعدا:
لا ترج مني يا بن سعد هوادة *** و لا صحبة ما أرزمت أمّ حائل(4)
أ عند الأمير ابن الأمير تعيبني *** و أنت ابن عمرو مضحك في القبائل
و لو غيرنا يا سعد رمت حريمه *** بخسف لقد غودرت لحما لآكل
فشالت بك العنقاء أو صرت لحمة *** لأغبس عوّاء العشيّات عاسل(5)
أخبرني هاشم بن محمد، قال: أنبأنا الرّياشي عن الأصمعي و أبي عبيدة، قالا:
كان حارثة بن بدر يجالس مالك بن مسمع فإذا جاء وقت يشرب فيه قام، فأراد مالك أن يعلم من حضره أنه قام ليشرب، فقال له: إلى أين تمضي يا أبا العنبس؟ قال، أجيء بعبّاد بن الحصين يفقأ عينك الأخرى - و قال الأصمعيّ: «أمضي فأفقأ عين عبّاد بن الحصين لآخذ لك بثأرك - و كان عباد فقأ عين مالك يوم المربد(6).
قال:
و ذكر المدائنيّ أن حارثة بن بدر كان يومئذ - و هو يوم فتنة مسعود - على خيل حنظلة بإزاء بكر بن وائل، فجعل عبس بن مطلق بن ربيعة الصّريمي على الخيل بحيال الأزد، و معه سعد و الرّباب و الأساورة، و قال حارثة بن بدر:
سيكفيك عبس أخو كهمس *** مقارعة الأزد بالمربد(7)
ص: 500
و يكفيك عمرو و أشياعه *** لكيز بن أفصى و ما عدّدوا
و أكفيك بكرّا إذا أقبلت *** بطعن يشيب له الأمرد
فلما اصطف الناس، أرسل مالك بن مسمع إلى ضرار بن القعقاع يسأله الصلح على أن يعطيه ما أحبّ، فقال له حارثة: إنه و اللّه ما أرسل إليك نظرا لك و لا إبقاء عليك، و لكنه أراد أن يغري بينك و بين سعد. فمضى ضرار إلى راية الأحنف فحملها و حمل على مالك فهزمه، و فقئت عينه يومئذ.
أخبرني محمد بن يحيى قال: أنبأنا محمد بن زكريا، عن محمد بن سلام، عن أبي اليقظان قال:
مرّ حارثة بن بدر بالمسجد الذي يقال له «مسجد الأحامرة» بالبصرة فرأى مشيخة قد خضبوا لحاهم بالحنّاء فقال: ما هذه الأحامرة؟ فالمسجد الآن يلقّب «مسجد الأحامرة» منذ يوم قال حارثة هذا القول.
أخبرني محمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن زكريا، عن القحذمي، قال: عرض لحارثة بن بدر رجل من الخلج(1) في أمر كرهه عند زياد، فقال فيه حارثة:
/
لقد عجبت و كم للدهر من عجب *** مما تزيّد في أنسابها الخلج
كانوا خسّا أو زكّا من دون أربعة *** لم يخلقوا و جدود الناس تعتلج(2)
الخسا: الفرد، و الزّكا: الزوج.
أخبرني الحسن بن عليّ، قال: أنبأنا أحمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن عمر بن زياد الكندي، قال: أنبأنا يحيى بن آدم، عن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبي، قال:
كنت عند عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب فأنشدته لحارثة بن بدر:
و كان لنا نبع تقينا عروقه *** فقد بلغت إلا قليلا حلوقها(3)
و شيّب رأسي و استخفّ حلومنا *** رعود المنايا فوقنا و بروقها
و إنّا لتستحلي (4) المنايا نفوسنا *** و نترك أخرى مرّة ما تذوقها
رأيت المنايا بادئات و عودا *** إلى دارنا سهلا إليها طريقها
فقد قسّمت نفسي فريقين منهما *** فريق مع الموتى و عندي فريقها
ص: 501
قال الشّعبي: فقال لي ابن جعفر: نحن كنا أحقّ بهذا الشعر. و جاءه غلامه بدراهم في منديل، فقال له: هذه غلّة أرضك بمكان كذا و كذا. فقال: ألقها في حجر الشّعبي. فألقاها في حجري.
أخبرني الحسن بن علي، قال: أنبأنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائني، عن مسلمة بن محارب:
أن زيادا استعمل حارثة بن بدر على كوار(1)، و هو إذ ذاك عامل عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه على فارس، و كان حارثة بن بدر صاحب شراب، فكتب زياد إلى حارثة يحثّه على جباية الخراج، فكتب إليه علقمة بن معبد المازني:
/
أ لم تر أنّ حارثة بن بدر *** يصلّي و هو أكفر من حمار(2)
و أن المال يعرف من حواه *** و يعرف بالزّواني و العقار(3)
و قال المدائني في خبره هذا:
حمل زياد بن أبيه حارثة بن بدر على بغلة يقال لها «أطلال» كان خرزاذ بن الهربد ابتاعها بأربعة آلاف درهم و أهداها له، فركبها حارثة، و كان فيها نفار، فصرعته عن ظهرها، فقام فركبها، و قال:
ما هاج أطلال بجنبي حرمه *** تحمل وضّاحا رفيع الحكمة(4)
قرما إذا زاحم قرما زحمه
أخبرني(5) محمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن زكرياء، قال: أنبأنا إبراهيم بن عمر عن أبي عبيدة و عبد اللّه بن محمد، قالا:
مرّ سليمان بن عمرو بن مرثد بحارثة بن بدر و هو بفارس يريد خراسان، فأنزله و قراه و قرى أصحابه، و حملهم و إياه، فلما ركبوا للمسير قال سليمان(6):
ص: 502
/
قريت فأحسنت القرى و سقيتنا *** معتّقة صهباء كالعنبر الرّطب
و واسيتنا(1) فيما ملكت تبرّعا *** و كنت ابن بدر نعم ذو منزل الرّكب
و أنت لعمري في تميم عمادها(2)*** إذا ما تداعت للعلى موضع القطب
و فارسها في كل يوم كريهة *** و ملجؤها(3) إن حلّ خطب من الخطب
و عندكم نال الغنى(4) من أراده *** إذا ما خطرتم كالضّراغمة الغلب
يرى الحلق الماذيّ(5) فوق حمامتهم(6)*** إذا الحرب شبّت بالمهنّدة القضب(7)
و عند الرّخا و الأمن غيث و رحمة *** لمن يعتريهم خائفا صولة الحرب
وجدتهم جودا صباحا وجوههم *** كراما على العلاّت في فادح الخطب(8)
كأن دنانيرا على قسماتهم *** إذا جئتهم قد خفت نكبا من النّكب
فمن مبلغ عنّي تميما فخيركم *** غدانة حقّا قاله غير ذي لعب
فقال حارثة يجيبه:
و أسحم ملآن جررت لفتية *** كرام أبوهم خير بكر بن وائل(9)
و أطولهم كفّا و أصدقهم حيا *** و أكرمهم عند اختلاف المناصل
من المرثديّين الذين إذا انتدوا *** رأيت نديّا جدّه غير(10) خامل
فعالهم زين لهم و وجوههم *** تزين الذي يأتونه في المحافل
فسقيا و رعيا لابن عمرو بن مرثد *** سليمان ذي المجد التليد الحلاحل(11)
/فتى لم يزل يسمو إلى كل نجدة *** فيدرك ما أعيت(12) يد المتناول
فحسبك بي علما به و بفضله *** إذا ذكر الأقوام أهل الفضائل
ص: 503
أخبرني(1) عمي، قال: أنبأنا الكراني، قال: أنبأنا العمري، عن عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان، قال:
دخل أنس بن زنيم على عبيد اللّه بن زياد، و عنده حارثة بن بدر، و كان بينهما تعارض و مقارضة قبل ذلك، فلما خرج أنس قال عبيد اللّه لحارثة: أيّ رجل هو أنس عندك؟ قال: هو عندي - أصلح اللّه الأمير - كما قلت فيه:
يبيت بطينا من لحوم صديقه *** خميصا من التّقوى و من طلب الحمد
ينام إذا ما الليل جنّ ظلامه *** و يسري إلى حاجاته نومة الفهد(2)
يراعي عذارى قومه كلما دجا *** له الليل و السوآت كالأسد الورد
جريئا على أكل الحرام و فعله *** جبانا عن الأقران معترم الكرد(3)
فلما كان من الغد، دخل أنس على عبيد اللّه، فقال له عبيد اللّه، بحضرة حارثة: إني سألت هذا عنك فأخبرني بما كرهته لك، و لم أكن إخالك كما نعتّ لي - فقال: أصلح اللّه الأمير، إن يكن قال خيرا فأنا أهله، و إن قال غير ذلك فلم يعد ما هو أولى به منّي، أما و اللّه لو كان - أصلح اللّه الأمير - حقّا، لحفظ غيبتي، فلقد أوليته حسن الثّناء بما ليس أهله، و اللّه يعلم أني كنت كاذبا، و ما إخال ما قاله فيّ إلاّ عقوبة، فإن عقوبة الكذب حاضرة، و ثمرة الكذب الندامة، فقد لعمري أجنيتها بكذبي و قولي فيه ما ليس فيه. و هو عندي كما أقول - أصلح اللّه الأمير - و أنشد:
/
يحلى لي الطرف ابن بدر و إنني *** لأعرف في وجه ابن بدر لي البغضا
رآني شجّا في حلقه ما يسيغه *** فما إن يزال الدهر يجرض بي جرضا(4)
و ما لي من ذنب إليه علمته *** سوى أن رآني في عشيرته محضا
و إنّ ابن بدر في تميم مكركس *** إذا سيم خسفا أو مشنّعة أغضى(5)
فعش يا بن بدر ما بقيت كما أرى *** كثير الخنا لا تسأم الذلّ و الغضّا
تعيب الرجال الصالحين و فعلهم *** و تبذل بخلا دون ما نلته العرضا
و ترضى بما لا يرتضي الحرّ مثله *** و ذو الحلم بالتّخييس و الذّلّ لا يرضى(6)
قال: و قال أنس في حارثة بن بدر ينسبه إلى الخمر و الفجور:
أ حار بن بدر باكر الراح إنها *** تنسّيك ما قدّمت في سالف الدّهر
ص: 504
تنسّيك أسبابا عظاما ركبتها *** و أنت على عمياء في سنن تجري
أتذكر ما أسديت و اخترت فعله *** و جئت من المكروه و الشّر و النّكر
إذا قلت مهلا نلت عرضي فما الذي *** تعيب على مثلي هبلت أبا عمرو
أ ليس عظيما أن تكايد حرة *** مهفهفة الكشحين طيبة النّشر
فإن كنت قد أزمعت بشرك بالذي *** عرفت به إذ أنت تخزي و لا تدري
فدع عنك شرب الخمر و ارجع إلى التي *** بها يرتضي أهل النباهة و الذّكر
عليك نبيذ التمر إن كنت شاربا *** فإن نبيذ التمر خير من الخمر
ألا إنّ شرب الخمر يزري بذي الحجى *** و يذهب بالمال التّلاد و بالوفر
/فصبرا عن الصّهباء و اعلم بأنني *** نصيح و أنّي قد كبرت عن الزّجر
و أنك إن كفكفتني عن نصيحة *** تركتك يا حار بن بدر إلى الحشر
أ أبذل نصحي ثمّ تعصي نصيحتي *** و تهجرني عنها هبلت أبا بدر
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد، عن أبيه، قال:
[لما(1)] ولي حارثة بن بدر سرّق(2) خرج معه المشيّعون من البصرة و فيهم أبو الأسود الدّؤلي، فلما انصرف المشيعون دنا منه أبو الأسود فقال [له(3)]:
أ حار بن بدر قد وليت إمارة *** فكن جرذا فيها تخون و تسرق(4)
و لا تحقرن يا حار شيئا تصيبه *** فحظّك من ملك العراقين سرّق
فإن جميع الناس إما مكذّب *** يقول بما يهوى و إما مصدّق
يقولون أقوالا بظنّ و شبهة *** فإن قيل هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا
فلا تعجزن فالعجز أبطأ مركب *** و ما كل من يدعى إلى الرّزق يرزق(5)
و كاثر تميما(6) بالغنى إن للغنى *** لسانا به يسطو العييّ و ينطق(7)
ص: 505
فقال له حارثة:
جزاك مليك الناس خير جزائه *** فقد قلت معروفا و أوصيت كافيا
أمرت بحزم لو أمرت بغيره *** لألفيتني فيه لرأيك عاصيا
ستلقى أخا يصفيك بالود حاضرا *** و يوليك حفظ الغيب إن كنت نائيا
أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدّثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن عاصم ابن الحدثان، قال:
لما ندب حارثة بن بدر لقتال الأزارقة بدولاب لقيهم، فلما حميت الحرب بينهم و اشتدّت، قال حارثة لأصحابه:
كرنبوا و دولبوا *** و حيث شئتم فاذهبوا(1)
ثم انهزم، فقال غوث بن الحباب يهجوه و يعيّره(2) بالفرار، و يعيره بشرب الخمر [و معاقرتها(3)].
أ حار بن بدر دونك الكأس إنها *** بمثلك أولى من قراع الكتائب
عليك بها صهباء كالمسك ريحها *** يظلّ أخوها للعدا غير هائب
فدع عنك أقواما وليت قتالهم *** فلست صبورا عند وقع القواضب
و خذها كعين الدّيك تشفي من الجوى *** و تترك ذا الهمّات(4) حصر المذاهب(5)
إذا شعشعت بالماء خلت حبابها *** نظائم درّ أو عيون الجنادب
كأنك إذ تحسو ثلاثة أكؤس *** من التّيه قرم من قروم المرازب(6)
ودع عنك أبناء الحروب و شدّهم *** إذا خطروا مثل الجمال المصاعب
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية، قال: حدّثني أبي، قال:
/كانت في تميم حمالتان(7)، فاجتمعوا في مقبرة بني شيبان، فقال لهم الأحنف: لا تعجلوا حتى يحضر
ص: 506
سيّدكم. فقالوا: من(1) سيدنا غيرك؟ قال: حارثة بن بدر. قال: و قدم حارثة من الأهواز بمال كثير فبلغه ما قال الأحنف، فقال: اغرمنيها و اللّه ابن الزّافريّة! ثم أتاهم كأنه لم يعلم فيما اجتمعوا، [فقال فيم اجتمعتم؟ فأخبروه].
فقال(2): لا تلقوا فيهما أحدا [فهما عليّ(2)]، ثم أتى منزله فقال:
خلت الديار فسدت غير مسوّد *** و من الشّقاء(3) تفرّدي بالسّودد
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدثنا أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه، قال:
خرج أصحاب الحديث(4) إلى سفيان بن عيينة فازدحموا، فقال: لقد هممت أ لا أحدثكم شهرا. فقام إليه شاب من أهل العراق، فقال له: يا أبا محمد، ألن جانبك، و حسّن قولك، و تأسّ بصالحي سلفك، و أجمل مجالسة جلسائك، فقد أصبحت بقية الناس، و أمينا للّه و رسوله على العلم، و اللّه إن الرجل ليريد الحجّ فتتعاظمه مشقته حتى يكاد أن يقيم، فيكون لقاؤه إياك و طمعه فيك أكثر(5) ما يحرّكه عليه. قال: فخضع سفيان [و تواضع(2)] و رقّ و بكى، ثم تمثّل بقول(6) حارثة:
خلت الديار فسدت غير مسوّد *** و من الشقاء(7) تفرّدي بالسّودد
ثم حدّثهم بعد ذلك بكل ما أرادوا إلى أن رحلوا.
/أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ و محمد بن الحسين الكندي، قالا: حدثنا الخليل بن أسد، قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عديّ، عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة(8):
أن حارثة بن بدر الغداني كان سعى في الأرض فسادا، فأهدر(9) عليّ ابن أبي طالب عليه السّلام دمه، فهرب فاستجار(10) بأشراف الناس، فلم يجره أحد، فقيل له: عليك بسعيد بن قيس الهمدانيّ فلعله [أن(11)] يجيرك. فطلب سعيدا فلم يجده، فجلس في طلبه حتى جاء، فأخذ بلجام فرسه فقال(12)]: أجرني أجارك اللّه، قال: ويحك، مالك؟ قال: أهدر(13) أمير المؤمنين دمي. قال: و فيم [ذاك(14)]؟ قال: سعيت في الأرض فسادا. قال: و من أنت؟ قال:
حارثة بن بدر الغداني. قال: أقم. و انصرف إلى عليّ عليه السّلام فوجده قائما على المنبر يخطب، فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الّذين يحاربون اللّه و رسوله و يسعون في الأرض فسادا؟ قال: أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض. قال: يا أمير المؤمنين، إلاّ من؟ قال: إلاّ من تاب. قال: فهذا حارثة بن
ص: 507
بدر قد جاء تائبا، و قد أجرته. قال: أنت رجل من المسلمين و قد أجرنا من أجرت. ثم قال(1) عليّ عليه السّلام و هو على المنبر: أيها الناس(2)، إني كنت/نذرت دم حارثة بن بدر، فمن لقيه فلا يعرض(3) له. فانصرف إليه سعيد بن قيس فأعلمه و حمله و كساه(4)، و أجازه [بجائزة سنية(5)]، فقال فيه حارثة:
اللّه يجزي سعيد الخير نافلة *** أعني سعيد بن قيس قرم همدان
أنقدني من شفا غبراء مظلمة *** لو لا شفاعته ألبست أكفاني
قالت تميم بن مرّ لا نخاطبه *** و قد أبت ذلكم قيس بن عيلان
قال الهيثم:
لم يكن الحسن بن عمارة يروي من هذا الشعر غير هذه الثلاثة الأبيات، و أخذت الشعر كلّه من حماد الرّاوية، فقلت له: ممّن أخذته قال: من سمّاك ابن حرب. و هو:
أساغ في الحلق ريقا كان يجرضني(6) *** و أظهر اللّه سرّي بعد كتمان
إني تداركني عفّ شمائله *** آباؤه حين ينمى خير قحطان
ينميه قيس و زيد و الفتى كرب *** و ذو جبائر من أولاد عثمان
و ذو رعين و سيف و ابن ذي يزن *** و علقم قبلهم أعني ابن نبهان(7)
قال(8): فلما أراد الانصراف إلى البصرة شيّعه سعيد بن قيس إلى نهر البصريين(9) في ألف راكب، و حمله و جهزه، فقال حارثة:
/
لقد سررت غداة النهر إذ برزت *** أشياخ همدان فيها المجد و الخير
يقودهم ملك جزل مواهبه *** واري الزّناد لدى الخيرات مذكور
أعني سعيد بن قيس خير ذي يزن(10)*** سامي العماد(11) لدى السّلطان محبور
ما إن يلين إذا ما سيم منقصة(12)*** لكن له غضب فيها و تنكير(13)
أغرّ أبلج يستسقى الغمام به *** جنابه الدهر يضحي و هو ممطور(14)
ص: 508
أخبرني(1) محمد بن يحيى، قال: حدّثنا محمد بن زكريا، قال: حدّثنا محمد ابن معاوية الزيادي، عن القحذمي، قال:
كان حارثة بن بدر فصيحا بليغا عارفا بأخبار الناس و أيامهم، حلوا شاعرا ذا فكاهة، فكان زياد يأنس به طول حياته، فلما مات و ولي عبيد اللّه ابنه، كان يجفوه، فدخل إليه في جمهور الناس، فجلس متواريا منه حتى خفّ الناس، ثم قام فأذكره بحقوقه على زياد و أنسه به. فقال له: ما أعرفني بما قلت! غير أنّ أبي كان قد عرفه الناس و عرفوا سيرته، فلم يكن يلصق به من أهل الرّيبة مثل ما يلحقني، مع الشباب و قرب العهد بالإمارة، فأما إن قلت ما قلت فاختر مجالستي إن شئت ليلا و إن شئت نهارا. فقال: الليل أحبّ إليّ. فكان يدعوه ليلا فيسامره، فلما عرفه استحلاه، فغلب عليه ليله و نهاره حتى كان يغيب فيبعث من يحضره، فجاءه ليلة و بوجهه آثار، فقال له: ما هذا يا حار؟ قال: /ركبت فرسي الأشقر(2) فلجّج بي مضيقا(3) فسحجني. قال: لكنك لو ركبت أحد الأشهبين لم يصبك شيء من هذا. يعني: اللبن و الماء(3).
أخبرني محمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن زكريا، قال: أنبأنا محمد ابن معاوية الزيادي، عن القحذمي، عن عمه، قال:
خرج حارثة بن بدر إلى سلّم بن زياد بخراسان فأوصى رجلا من غدانة أن يتعاهد امرأته الشّماء و يقوم بأمرها، فكان الغدانيّ يأتيها فيتحدث عندها و يطيل، حتى أحبّها و صبا بها، فكتب إلى حارثة يخبره أنها فسدت عليه و تغيّرت، و يشير عليه بفراقها، و يقول له: إنها قد فضحتك من تلعّب الرجال بها. فكتب إليها بطلاقها، و كتب في آخر كتابه:
أ لا آذنا شمّاء بالبين إنه *** أبى أود الشمّاء أن يتقوّما
قال: فلما طلّقها و قضت عدّتها، خطبها الغدانيّ فتزوجها، و كان حارثة شديد الحبّ لها، و بلغه ذلك، و ما صنعت، فقال:
لعمرك ما فارقت شمّاء عن قلى *** و لكن أطلت النّأي عنها فملّت
مقيما بمرورّوذ لا أنا قافل *** إليها و لا تدنو إذا هي حلّت
أخبرني محمد بن يحيى، قال: أنبأنا محمد بن زكريا، قال: أنبأنا مهدي بن سابق، قال: أنبأنا عطاء، عن عاصم بن الحدثان، قال:
ص: 509
تزوج حارثة بن بدر ميسة بنت جابر، و كانت تذكر بجمال و عقل و لسان، فلما هلك حارثة تزوّجها بشر بن شعاف بعده فلم تحمده، فقالت ترثي حارثة:
/
بدّلت بشرا شقاء أو معاقبة *** من فارس كان قدما غير خوّار
يا ليتني قبل بشر كان عاجلني *** داع من اللّه أو داع من النّار
و قالت أيضا فيه:
ما خار لي ذو العرش لمّا استخرته *** و عذّبني أن صرت لابن شعاف
فما كان لي بعلا و ما كان مثله *** يكون حليفا أو ينال إلا في
فيا ربّ قد أوقعتني في بليّة *** فكن لي حصنا منه ربّ و كاف(1)
و نحّ إلهي ربقتي من يد امرئ *** شتيم محيّاه لكل مصافي(2)
هو السّوأة السّواء لا خير عنده *** لطالب خير أو أحذّ قوافي(3)
يرى أكلة إن نلتها قلع ضرسه *** و ما تلك زلفى يا لعبد مناف
و إن حادث عضّ الشّعافيّ لم يكن *** صليبا و لا ذا تدرأ و قذاف(4)
أخبرني محمد بن مزيد(5)، قال: أنبأنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن عاصم ابن الحدثان، قال:
لقي أنس بن زنيم الدّئلي حارثة بن بدر فقال له: يا حارثة، قد قلت لك أبياتا فاسمعها. فقال: هاتها، فأنشده:
فحتّى متى أنت ابن بدر مخيّم *** و صحبك يحسون الحليب من الكرم
فإن كان شرّا فاله عنه و خلّه *** لغيرك من أهل التّخبّط و الظّلم
/و إن كان غنما يا بن بدر فقد أرى *** سئمت من الإكثار من ذلك الغنم
و إن كنت ذا علم بها و احتسائها(6) *** فما لك تأتي ما يشينك عن علم
تق اللّه و أقبل يا بن بدر نصيحتي *** و دعها لمن أمسى بعيدا من الحزم
فلو أنها كانت شرابا محلّلا *** و قلت لي اتركها لأوضعت(7) في الحكم(8)
و أيقنت أن القول(9) ما قلت فانتفع *** بقولي و لا تجعل كلامي من الجرم
ص: 510
فربّ نصيح الجيب ردّ انتصاحه *** عليه بلا ذنب و عوجل بالشّتم(1)
فقال له حارثة: لقد قلت فأحسنت، و نصحت فبالغت(2)، جزيت الخير أبا زنيم(3). فلما رجع إلى منزله، أتاه ندماؤه فذكر لهم ما قال ابن زنيم، فقالوا: و اللّه ما نرى ذلك إلا حسدا(4). ثم قال حارثة بن بدر لابن زنيم:
يعيب عليّ الرّاح من لو يذوقها *** لجنّ بها حتى يغيّب في القبر
فدعها(5) أو امدحها فإنّا نحبّها *** صراحا كما أغراك ربّك بالهجر(6)
علام تذمّ الرّاح و الرّاح كاسمها *** تريح الفتى من همّه آخر الدّهر
فلمني فإن اللّوم فيها يزيدني *** غراما بها إن الملامة قد تغرى
و باللّه أولي صادقا لو شربتها *** لأقصرت عن عذلي و ملت إلى عذري(7)
/و إن شئت(8) جرّبها و ذقها عتيقة *** لها أرج كالمسك محمودة الخبر
فإن أنت لم تخلع عذارك فالحني *** و قل لي لحاك اللّه من عاجز غمر
و قبلك ما قد لامني في اصطباحها *** و في شربها(9) بدر فأعرضت عن بدر
و حاسيتها قوما(10) كأنّ وجوههم *** دنانير في اللأواء و الزّمن النّكر
فدعني من التّعذل فيها فإنني *** خلقت أبيّا لا ألين على القسر
أجود و أعطي المنفسات تبرّعا *** و أغلي بها عند اليسارة و العسر
و أشربها حتى أخّر مجدّلا *** معتّقة صهباء طيّبة النّشر
و لو لا النّهى لم أصح ما عشت ساعة *** و لكنني نهنهت نفسي عن الهجر
فقصّرت عنها بعد طول لجاجة *** و حبّ لها في سرّ أمري و في الهجر(11)
و حقّ لمثلي أن يكفّ عن الخنى *** و يقصر عن بعض الغواية و النّكر(12)
أخبرني الحسين(13) بن يحيى، عن حمّاد عن أبيه، عن أبي عبيدة:
أن عبيد اللّه بن زياد استعمل حارثة بن بدر على نيسابور(14) فغاب عنه أشهرا، ثم قدم فدخل عليه، فقال له: ما جاء بك و لم أكتب إليك؟ قال: استنظفت خراجك(15) و جئت به و ليس لي [بها](16) عمل، فما مقامي؟ قال: أو بذلك
ص: 511
أمرتك؟ ارجع فاردد عليهم الخراج و خذه منهم نجوما حتى تنقضي السنة و قد فرغت من/ذلك(1)، فإنه أرفق بالرعيّة و بك، و احذر أن تحملهم على بيع غلاّتهم و مواشيهم و لا التّعنيف عليهم(2). فرجع فردّ الخراج عليهم، و أقام يستخرجه منهم نجوما حتى مضت السنة.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدّثنا الرياشيّ عن الأصمعي، قال:
قال الأحنف بن قيس: ما غبت عن أمر قطّ فحضره حارثة بن بدر إلا وثقت بإحكامه إيّاه و جودة عقده له، و كان حارثة بن بدر من الدّهاة.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابيّ، قال:
كان حارثة بن بدر يصيب من الشراب، و كان حظيّا عند زياد، فعوتب زياد على رأيه فيه. فقال: أ تلومونني على حارثة؟ فو اللّه ما تفل في مجلسي قطّ، و لا حكّ ركابه ركابي، و لا سار معي في علاوة الريح(3) فغبّر عليّ، و لا دعوته قطّ فاحتجت إلى تجشّم الالتفات إليه حتى يوازيني، و لا شاورته في شيء إلا نصحني، و لا سألته عن شيء من أمر العرب و أخبارها إلا وجدته به بصيرا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز [الجوهري](4) و أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قالا: حدّثنا عمر بن شبّة، قال:
حدّثنا الأصمعيّ، قال:
/لما كان يوم دولاب و أفضت الحرب إلى حارثة بن بدر صاح: من جاءنا من الموالي فله فريضة العرب، و من جاءنا من الأعراب فله فريضة المهاجر(5). فلما رأى ما يلقى أصحابه من الأزارقة قال:
أير الحمار فريضة لشبابكم *** و الخصيتان فريضة الأعراب
عضّ الموالي جلد أير أبيهم *** إن الموالي معشر الخيّاب
ثم قال:
كرنبوا و دولبوا *** و شرّقوا و غرّبوا
و حيث شئتم فاذهبوا
يعني بقوله «كرنبوا» أي خذوا طريق كرنبى، و «دولبوا»: خذوا طريق دولاب(6).
ص: 512
أخبرني محمد بن زكريا الصحّاف، قال: حدّثنا قعنب بن محرز، قال: حدثنا الهيثم بن عديّ، عن ابن عيّاش(1)، عن المغيرة بن المنتشر، قال:
إنّا عند(2) عبيد اللّه بن زياد، و عنده الأحنف [بن قيس](3) و حارثة بن بدر، و كان حارثة يتّهم بالشراب. فقال له عبيد اللّه: يا حارثة، أيّ الشراب أطيب؟ قال: برّة طبريّة(4)؛ بأقطة عنزيّة، بسمنة عربيّة، بسكرة سوسيّة(5). فتبسّم عبيد اللّه، ثم قال للأحنف: يا أبا بحر، أيّ الشّراب أطيب؟ قال: الخمر. فقال له عبيد اللّه: و ما يدريك و لست(6) من أهلها؟ قال: من يستحلّها لا يعدوها إلى غيرها، و من يحرّمها يتأوّل فيها حتى يشربها. قال: فضحك عبيد اللّه.
أخبرني أحمد بن محمد أبو الحسن الأسدي(7) و عمرو بن عبد اللّه العتكي، قالا: حدّثنا الرياشيّ. و قال العتكي في خبره: «عن أبي عبيدة»، و لم يقله الأسديّ و لا تجاوز الرياشيّ به:
إن حارثة كان بكوار(8) من أردشير(9) خره [يتنزه](10) فقال:
أ لم تر أن حارثة بن بدر *** أقام بدير أبلق(11) من كوارا
ثم قال لجند كانوا معه: من أجاز هذا البيت فله حكمه. فقال له رجل منهم: أنا أجيزه على أن تجعل لي الأمان من غضبك، و تجعلني رسولك إلى البصرة، و تطلب لي القفل(12) من الأمير. قال: ذلك لك. قال: ثم رد عليه نشيد البيت، فقال الرجل:
مقيما يشرب الصّهباء صرفا *** إذا ما قلت تصرعه استدارا
فقال له حارثة: لك شرطك، و لو كنت قلت لنا شيئا يسرنا لسررناك.
كتب إليّ أبو خليفة الفضل بن الحباب، أخبرنا محمد بن سلاّم، قال: قدم الأبيرد الرّياحيّ على حارثة بن بدر
ص: 513
فقال له: اكسني ثوبين أدخل بهما(1) على الأمير. فكساه ثوبين لم يرضهما، فقال فيه:
/
أ حارث أمسك فضل برديك إنما *** أجاع و أعرى اللّه من كنت كاسيا
و كنت إذا استمطرت منك سحابة *** لتمطرني عادت عجاجا و سافيا(2)
أ حارث عاود شربك الخمر إنني *** رأيت زيادا عنك أصبح لاهيا(3)
فبلغت زيادا، و بلغت حارثة، فقال: قبحه اللّه! لقد شهد [عليّ(4)] بما لم يعلم، و لم أدع(5) جوابه إلاّ لما يعلم.
أخبرني محمد بن مزيد، قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن عاصم ابن الحدثان، قال:
كان الحكم بن المنذر بن الجارود يشرب الشراب، فقيل له في ذلك و عوتب، و عرف أن الصّلتان العبدي هجاه فقال فيه:
ترك الأشياء طرّا و انحنى(6) *** يشرب الصّهباء من ماء العنب
لا يخاف الناس قد أدمنها *** و هي تزري باللّئيم المؤتشب(7)
و هي بالأشراف أزرى و إلى *** غاية التّأنيب تدعو ذا الحسب
فدع الخمر أبا حرب و سد(8) *** قومك الأدنين من بين العرب
فقال: لعنه اللّه! و اللّه ما ترك للصلح موضعا، و لقد صدق، و لو لا الشرب(9) لكنت الرجل الكامل، و ما يخفي عليّ قبيحه(10) و سوء القالة فيه، و لكني سمعت حارثة بن بدر الغداني أنشد أبياتا يوما فحملتني على المجاهرة الشراب، و إن كان ذلك إليّ بغيضا. قيل له: و ما الأبيات؟ قال: سمعته ينشد:
/
أذهب عني الغمّ و الهمّ و الذي *** به تطرد(11) الأحداث شرب المروّق
فو اللّه ما أنفكّ(12) بالرّاح مهترا(13)*** و لو لا لام فيها كلّ حرّ موفّق
ص: 514
فما لائمي فيها و إن كان ناصحا *** بأعلم منّي بالرّحيق المعتق
و لكنّ قلبي مستهام بحبها *** و حبّ القيان رأي كلّ محمّق
أحبّ التي لا أملك الدّهر بغضها *** و ذلك فعل معجب كلّ أخرق
سأشربها صرفا و أسقي صحابتي *** و أطلب غرّات الغزال المنطّق(1)
أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن عاصم بن الحدثان، قال:
كان لحارثة بن بدر نديم من قريش يصيب معه الشراب، و لا يفارقه إذا شرب، و قال فيه.
و أبيض من أولاد سعد بن مالك *** سقيت من الصّهباء حتى تقطّرا(2)
و حتى رأى الشّخص القريب بسكره *** شخوصا فنادى يا لسعد و كبّرا
فقلت أ سكران؟ فقال مكابرا(3) *** أبى اللّه لي أن أستخفّ و أسكرا
فقلت له اشرب هذه بابليّة *** تخال بها مسكا ذكيا و عنبرا(4)
فلما حساها هرّها(5) ثمّ إنّه *** تماسك شيئا واجما متفكّرا
/و قال أعدها قلت صبرا سويعة *** فهوّم شيئا ثم قام فبربرا(6)
فقلت له نم ساعة علّ ما أرى(7) *** من السّكر يبدي منك صرما مذكّرا(8)
قال إسحاق: قال عاصم بن الحدثان:
الخمر قدرك و مروءتك. قال له: دع عنك هذا الجنون و هلمّ نتساعد و اسمع ما قلت.
قال: هاته، فأنشده:
غدا ناصحا لم يأل جهدا مخارق *** يلوم على شرب السّلاف المعتق
فقلت أبا صخر دع الناس يجهلوا *** و دونكها صهباء ذات تألّق
تراها إذا ما الماء خالط جسمها *** تخايل في كفّ الوصيف المنطّق(1)
لها أرج كالمسك تذهب ريحها *** عماية حاسيها بحسن ترفّق
و كم لائم فيها بصير بفضلها *** رمته بسهم صائب متزلّق(2)
فظلّ لريّاها يعضّ ندامة *** يديه و أرغى بعد طول تمطّق(3)
و قال لك العذر ابن بدر على التي *** تسلّي هموم المستهام المشوّق
/فلست ابن صخر تاركا شرب قهوة *** لقول لئيم جاهل(4) متحذلق
يعيب عليّ الشّرب و الشرب همّه *** ليحسب ذا رأي أصيل مصدّق
فما أنا بالغرّ ابن صخر و لا الذي *** يصمّم في شيء من الأمر موبق(5)
فقال له مخارق بن صخر: إنما عاتبتك لأن الناس قد كثّروا(6) فيك، و رأيت النصيحة للّه واجبة عليّ، و كرهت(7) أن تضع لذّتك قدرك، فإن أطعتني في تركها و إلاّ فلا تجاهر بها، فإنك قادر [على(8)] أن تبلغ حاجتك في ستر. فقال حارثة: ما عندي غير ما سمعت، فتركه و انصرف.
بحمّام(1) فيل، و خرجوا(2) فتغدّوا عنده، و ركب فيل و أصحابه الهماليج و المقاريف(3) و البغال، و اجتاز بهم معه(4)على حارثة بن بدر و أبي الأسود الدّؤليّ و هما جالسان، فقال أبو الأسود:
/
لعمر أبيك ما حمّام كسرى *** على الثّلثين من حمّام فيل
فقال له حارثة:
و ما إيجافنا خلف الموالي *** بسنّتنا على عهد الرّسول
أخبرني محمد بن مزيد، قال: أنبأنا حماد عن أبيه، عن عاصم بن الحدثان، قال: حدثني عمي عن الحارث الهجيمي، قال:
ذكر حلم الأحنف بن قيس عند عبيد اللّه بن زياد و عنده حارثة بن بدر، فنفس عليه حارثة ذلك، فقال لعبيد اللّه:
أيها الأمير(5)، ما يبلغ حلم من لا قدرة له و لا يملك لعدوّه ضرّا و لا لصديقه نفعا. و إنما يتكلّف الدخول فيما لا يعنيه؟ فبلغ ذلك من قوله. الأحنف فقال: أهون بحارثة و كلامه؟ و ما حارثة و مقداره؟ أ ليس الذي يقول - قبح اللّه رأيه - في قوله:
إذا ما شربت الراح أبدت مكارمي *** وجدت بما حازت يداي من الوفر
و إن سبّني جهلا نديمي لم أزد *** على اشرب سقاك اللّه طيّبة النّشر
أرى ذاك حقّا واجبا لمنادمي *** إذا قال لي غير الجميل من النّكر
أخبرني عمّي، قال: أنبأنا الكرانيّ، قال: أنبأنا الرياشيّ عن الأصمعي(6)، قال:
كان لحارثة بن بدر جارية يقال لها «ميسة» و كان بها مشغوفا، فلما مات تزوجت بعده بشر بن شغاف. فهؤلاء الشّغافيون(7) من ولدها، و فيها يقول حارثة:
/
خليليّ لو لا حبّ ميسة لم أبل *** أ في اليوم لاقيت المنيّة أم غدا
خليليّ إن أفشيت سرّي إليكما *** فلا تجعلا سرّي حديثا مبدّدا(8)
ص: 517
و إن أنتما أفشيتماه فلا رأت *** عيونكما يوم الحساب محمّدا
و لا زلتما في شقوة ما بقيتما *** تذوقان عيشا سيّئ الحال(1) أنكدا
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ، قال: أنبأنا الحسين بن عليل، قال: أنبأنا مسعود بن بشر عن أبي عبيدة، قال:
اجتاز حارثة بن بدر الغداني بمجلس من مجالس قومه [من(2)] بني تميم و معه كعب مولاه، فكلما اجتاز بقوم قاموا إليه و قالوا: مرحبا بسيدنا، فلما ولّى قال له كعب: ما سمعت كلاما قطّ أقرّ لعيني و لا ألذّ بسمعي(3) من هذا الكلام الذي سمعته اليوم. فقال له حارثة: لكني لم أسمع كلاما قطّ أكره لنفسي و أبغض إليّ مما سمعته. قال:
و لم! قال: ويحك يا كعب! إنما سوّدني قومي حين(4) ذهب خيارهم و أماثلهم، فاحفظ عني هذا البيت:
خلت الدّيار فسدت غير مسوّد *** و من الشّقاء(5) تفرّدي بالسّودد
قال:
و اشتكى حارثة [بن بدر] و أشرف(6) على الموت، فجعل قومه يعودونه(7) فقالوا له(8): هل لك من حاجة أو شيء تريده؟ قال: نعم، اكسروا رجل مولاي كعب لئلا يبرح من عندي فإنه يؤنسني. ففعلوا، و أنشأ(9) يقول:
/
يا كعب مهلا فلا تجزع على أحد *** يا كعب لم يبق منّا غير أجساد
يا كعب ما راح من قوم و لا بكروا(10)*** إلا و للموت في آثارهم حادي
يا كعب ما طلعت شمس و لا غربت *** إلاّ تقرّب آجالا(11) لميعاد
يا كعب كم من حمى قوم نزلت به(12)*** على صواعق من زجر و إيعاد
ص: 518
فإن لقيت بواد حيّة ذكرا *** فاذهب و دعني(1) أمارس حيّة الوادي(2)
جاء بعقب هذه الترجمة في الجزء الحادي و العشرين:
عش فحبّيك سريعا قاتلي *** و الضّنى إن لم تصلني واصلي
ظفر الشّوق بقلب دنف *** فيك و السّقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئاب و ضنى *** تركاني كالقضيب الذّابل
الشعر لخالد الكاتب، و الغناء للمسدود، رمل مطلق في مجرى الوسطى. و ذكر جحظة أن هذا الرمل أخذ عنه، و أنه أول صوت سمعه فكتبه.
* ثم جاءت بعد هذا أخبار خالد الكاتب.
ص: 519
الموضوع الصفحة
جرير 229
جميل 288
يزيد بن الطئرية 332
جميلة 353
عنترة 386
عبد قيس بن خفاف البرجمي 392
أبو دلف 394
سعيد بن عبد الرحمن 409
البردان 415
الأخطل 417
سائب خاثر 445
جرادتا عبد اللّه بن جدعان 449
سلامة القس 454
العباس بن الأحنف 466
ترجمة حارثة بن بدر 485
نسبه و أخباره 489
فهرس التراجم التي في الجزء الثامن 521
ص: 520