الأغاني
المؤلفين الآخرين
مدقق لغوي ومترجم:
مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي
المجلدات : 25ج
لسان: العربية
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374
إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، و يكنى أبا العبّاس. و أمّه أم الحجّاج بنت محمد بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثّقفيّ ، و هي بنت أخي الحجّاج. و فيه يقول أبو نخيلة(1):
بين أبي العاصي و بين الحجّاج *** يا لكما نورا سراج وهّاج
عليه بعد عمّه عقد التّاج
و أم يزيد بن عبد الملك عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أميّة. و أمّها أم كلثوم بنت عبد اللّه بن عامر. و أمّ عبد اللّه بن عامر أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم؛ و لذلك قال الوليد بن يزيد:
نبيّ الهدى خالي و من يك خاله *** نبيّ الهدى يقهر به من يفاخر
و كان الوليد بن يزيد من فتيان بني أميّة و ظرفائهم و شعرائهم و أجوادهم و أشدّائهم، و كان فاسقا خليعا متّهما في دينه مرميّا بالزندقة؛ و شاع ذلك من أمره و ظهر حتى أنكره الناس فقتل. و له أشعار كثيرة تدلّ على خبثه و كفره. و من الناس من ينفي ذلك عنه و ينكره، و يقول: إنه نحله و ألصق إليه. و الأغلب الأشهر غير ذلك.
و بعث العبّاس بن الوليد بن عبد الملك و عقد له على أهل دمشق، قال له العباس: يا أمير المؤمنين، إن أهل العراق أهل غدر و إرجاف، و قد وجهتنا محاربين و الأحداث تحدث، و لا آمن أن يرجف أهل العراق و يقولوا: مات أمير المؤمنين و لم يعهد، فيفتّ ذلك في أعضاد أهل الشام؛ فلو عهدت عهدا لعبد العزيز بن الوليد! قال: غدا.
/و بلغ ذلك مسلمة بن عبد الملك، فأتى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، أيّما أحبّ إليك: ولد عبد الملك أو ولد الوليد؟ فقال: بل ولد عبد الملك. قال: أ فأخوك أحقّ بالخلافة أم ابن أخيك ؟ قال: إذا لم تكن في ولدي فأخي أحقّ بها من ابن أخي. قال: فابنك لم يبلغ، فبايع لهشام ثم لابنك بعد هشام - قال: و الوليد يومئذ ابن إحدى عشرة سنة - قال: غدا/أبايع له. فلما أصبح فعل ذلك و بايع لهشام، و أخذ العهد عليه ألاّ يخلع الوليد بعده و لا يغيّر عهده و لا يحتال عليه. فلما أدرك الوليد ندم أبوه، فكان ينظر إليه و يقول: اللّه بيني و بين من جعل هشاما بيني و بينك.
و توفّي يزيد سنة خمس و مائة و ابنه الوليد ابن خمس عشرة سنة. قالوا(1): فلم يزل الوليد مكرّما عند هشام رفيع المنزلة مدّة، ثم طمع في خلعه و عقد العهد بعده لابنه مسلمة بن هشام، فجعل يذكر الوليد بن يزيد و تهتّكه و إدمانه على الشراب، و يذكر ذلك في مجلسه و يقوم و يقعد به، و ولاّه الحجّ ليظهر ذلك منه بالحرمين فيسقط؛ فحجّ و ظهر منه فعل كثير مذموم، و تشاغل بالمغنّين و بالشّراب، و أمر مولّى له فحجّ بالناس. فلما حجّ طالبه هشام بأن يخلع نفسه فأبى ذلك؛ فحرمه العطاء و حرم سائر مواليه و أسبابه و جفاه جفاء شديدا. فخرج متبدّيا(2) و خرج معه عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدّبه(3)، و كان يرمى بالزندقة. و دعا هشام الناس إلى خلعه و البيعة لمسلمة بن هشام - و أمّه أم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاصي. و كان مسلمة يكنى أبا شاكر؛ كني بذلك لمولّى كان لمروان يكنى أبا شاكر، كان ذا رأي و فضل و كانوا يعظّمونه و يتبركون به - فأجابه إلى خلع الوليد و البيعة لمسلمة بن هشام محمد و إبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزوميّ و الوليد و عبد العزيز و خالد بن القعقاع بن خويلد العبسيّ و غيرهم من خاصّة هشام. و كتب إلى الوليد: ما تدع شيئا من المنكر إلاّ أتيته و ارتكبته غير متحاش و لا مستتر، فليت شعري ما دينك ؟! أ على الإسلام أنت أم لا؟! فكتب إليه الوليد بن يزيد - و يقال: بل قال(4) ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى و نحله إيّاه -:
يا أيّها السائل عن ديننا *** نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفا و ممزوجة *** بالسّخن أحيانا و بالفاتر
- غنّاه عمر الوادي رملا بالبنصر - فغضب هشام على ابنه مسلمة، و قال: يعيّرني بك الوليد و أنا أرشّحك للخلافة! فألزم الأدب، و احضر الصلوات. و ولاّه الموسم سنة سبع عشرة و مائة، فأظهر النّسك و قسم بمكة و المدينة أموالا. فقال رجل من موالي أهل المدينة:
يا أيّها السائل عن ديننا *** نحن على دين أبي شاكر
ص: 6
الواهب البزل(1) بأرسانها *** ليس بزنديق و لا كافر
قال المدائنيّ : و بلغ خالدا القسريّ ما عزم عليه هشام، فقال: أنا بريء من خليفة يكنى أبا شاكر؛ فبلغت هشاما عنه هذه، فكان ذلك سبب إيقاعه به.
أخبرني محمد بن الحسن الكنديّ المؤدّب قال حدّثني أبي عن العباس بن هشام قال:
دخل الوليد بن يزيد يوما مجلس هشام بن عبد الملك و قد كان في ذكره قبل أن يدخل، فحمّقه من حضر من بني أميّة. فلما جلس قال له العباس بن الوليد و عمر بن عبد الوليد: كيف حبّك يا وليد للروميّات، فإنّ أباك كان بهنّ مشغوفا؟ قال: إني لأحبهنّ ؛ و كيف لا أحبهنّ و لن تزال الواحدة منهن قد جاءت بالهجين مثلك - و كانت أمّ العباس روميّة - قال: اسكت فليس الفحل يأتي عسبه(2) بمثلي؛ فقال/له الوليد: اسكت يا بن البظراء! قال: أ تفخر عليّ بما قطع من بظر أمك. و أقبل هشام على الوليد فقال له: ما شرابك ؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين؛ و قام مغضبا فخرج. فقال هشام: أ هذا الذي تزعمون أنّه أحمق! ما هو أحمق، و لكني لا أظنّه على الملّة.
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال أخبرنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:
دخل الوليد بن يزيد يوما مجلس هشام/بن عبد الملك و فيه سعيد بن هشام بن عبد الملك و أبو الزّبير مولى مروان و ليس هشام حاضرا؛ فجلس الوليد مجلس هشام، ثم أقبل على سعيد بن هشام فقال له: من أنت ؟ و هو به عارف؛ قال: سعيد ابن أمير المؤمنين؛ قال: مرحبا بك. ثم نظر إلى أبي الزبير فقال: من أنت ؟ قال: أبو الزبير مولاك أيها الأمير؛ قال: أنسطاس أنت ؟ مرحبا بك. ثم قال لإبراهيم بن هشام: من أنت ؟ قال: إبراهيم بن هشام.
قال: من إبراهيم بن هشام ؟ و هو يعرفه؛ قال: إبراهيم بن هشام بن إسماعيل. قال: من إسماعيل ؟ و هو يعرفه؛ قال: إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة. قال: من الوليد بن المغيرة ؟ قال: الذي لم يكن جدّك يرى أنه في شيء حتى زوّجه أبي و هو بعض ولد ابنته. قال: يا بن اللّخناء! أ تقول هذا! و ائتخذا(3). و أقبل هشام؛ فقيل لهما: قد جاء أمير المؤمنين، فجلسا و كفّا. و دخل هشام؛ فما كاد الوليد يتنحّى له عن صدر مجلسه، إلا أنه زحل(4) له قليلا؛ فجلس هشام و قال له: كيف أنت يا وليد؟ قال: صالح. قال: ما فعلت/برابطك(5)؟ قال: معملة أو مستعملة. قال: فما فعل ندماؤك ؟ قال: صالحون، و لعنهم اللّه إن كانوا شرّا ممّن حضرك؛ و قام؛ فقال له هشام:
يا بن اللّخناء! جئوا عنقه؛ فلم يفعلوا و دفعوه رويدا. فقال الوليد:
أنا ابن أبي العاصي و عثمان والدي *** و مروان جدّي ذو الفعال و عامر
ص: 7
أنا ابن عظيم القريتين(1) و عرّها *** ثقيف و فهر و العصاة الأكابر
نبيّ الهدى خالي و من يك خاله *** نبيّ الهدى يقهر به من يفاخر
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال:
كان هشام بن عبد الملك يكثر تنقّص الوليد بن يزيد؛ فكان مسلمة يعاتب هشاما و يكفّه؛ فمات مسلمة؛ فغمّ الوليد و رثاه فقال:
أنانا بريدان من واسط *** يخبّان بالكتب المعجمة
أقول و ما البعد إلاّ الرّدى *** أ مسلم لا تبعدن(2) مسلمة
فقد كنت نورا لنا في البلاد *** تضيء فقد أصبحت مظلمة
كتمنا نعيّك نخشى اليقين *** فجلّى اليقين عن الجمجمة(3)
/و كم من يتيم تلافيته *** بأرض العدوّ و كم أيّمه
و كنت إذا الحرب درّت دما *** نصبت لها راية معلمه
/غنّى في هذه الأبيات التي أوّلها:
أقول و ما البعد إلا الرّدى
يونس خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و ذكر الهشاميّ أن فيه ثقيلا أوّل ينسب إلى أبي كامل(4) و عمر الوادي. و ذكر حبش أن ليونس فيه رملا بالبنصر.
أخبرني الطّوسيّ و الحرميّ بن أبي العلاء قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني موسى بن زهير بن مضرّس بن منظور بن زبّان بن سيّار عن أبيه قال:
رأيت هشام بن عبد الملك و أنا في عسكره يوم توفّي مسلمة بن عبد الملك و هشام في شرطته، إذ طلع الوليد بن يزيد على الناس و هو نشوان يجرّ مطرف خزّ عليه؛ فوقف على هشام فقال: يا أمير المؤمنين، إن عقبى من بقي لحوق من مضى؛ و قد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن يرى(5)، و اختلّ الثغر فوهى، و على أثر من سلف يمضي من
ص: 8
خلف؛ فتزوّدوا، فإنّ خير الزاد التّقوى. فأعرض عنه هشام و لم يردّ جوابا؛ و وجم الناس فما همس أحد بشيء.
قال: فمضى الوليد و هو يقول:
أ هينمة(1) حديث القوم أم هم *** سكوت بعد ما متع(2) النهار
عزيز كان بينهم نبيّا *** فقول القوم وحي لا يحار
كأنّا بعد مسلمة المرجّى *** شروب طوّحت بهم عقار
أو الاف هجان في قيود *** تلفّت كلّما حنّت ظؤار(3)
فليتك لم تمت و فداك قوم *** تريح غبيّهم عنّا(4) الدّيار
/سقيم الصّدر أو شكس نكيد *** و آخر لا يزور و لا يزار
يعني بالسّقيم الصدر يزيد بن الوليد، و يعني بالشّكس هشاما، و الذي لا يزور و لا يزار مروان بن محمد.
قال الزّبير و حدّثني محمد بن الضّحاك عن أبيه قال:
أراد هشام أن يخلع الوليد و يجعل العهد لولده؛ فقال الوليد:
كفرت يدا من منعم لو شكرتها *** جزاك بها الرحمن ذو الفضل و المنّ
رأيتك تبني جاهدا في قطعيتي *** و لو كنت ذا حزم لهدّمت ما تبنى
أراك على الباقين تجني ضغينة *** فيا ويحهم إن متّ من شرّ ما تجني
كأنّي بهم يوما و أكثر قولهم *** أيا ليت أنّا، حين «يا ليت» لا تغي
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:
عتب هشام على الوليد و خاصّته. فخرج الوليد و معه قوم من خاصّته و مواليه فنزل بالأبرق بين أرض بلقين و فزارة على ماء يقال له الأغدف، و خلّف بالرصافة كاتبه عياض بن مسلم مولى عبد الملك ليكاتبه بما يحدث، و أخرج معه عبد الصمد بن عبد الأعلى. فشربوا يوما؛ فقال له الوليد: يا أبا وهب، قل أبياتا نغنّي فيها؛ فقال أبياتا، و أمر عمر الوادي فغنّى فيها و هي:
تحيّر عن قصد مجراته *** إلى(1) الغور و التمس المطلعا
/فقلت و أعجبني شأنه *** و قد لاح إذ لاح لي مطمعا
لعلّ الوليد دنا ملكه *** فأمسى إليه(2) قد استجمعا
و كنّا نؤمّل في ملكه *** كتأميل ذي الجذب أن يمرعا
عقدنا له محكمات الأمو *** ر طوعا و كان لها موضعا
فروي هذا الشعر، و بلغ هشاما، فقطع عن الوليد ما كان يجري عليه و على أصحابه و حرمهم؛ و كتب إلى الوليد: قد بلغني أنّك اتّخذت عبد الصمد خذنا و محدّثا و نديما؛ و قد حقّق ذلك ما بلغني عنك، و لن أبرّئك من سوء؛ فأخرج عبد الصمد مذموما. قال: فأخرجه الوليد و قال:
لقد قذفوا أبا وهب بأمر *** كبير بل يزيد على الكبير
و أشهد أنهم كذبوا عليه *** شهادة عالم بهم خبير
فكتب الوليد إلى هشام بأنه قد أخرج عبد الصمد، و اعتذر إليه من منادمته، و سأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه - و كان من خاصّة الوليد - فضرب هشام ابن سهيل و نفاه و سيّره - و كان ابن سهيل من أهل النّباهة، و قد ولي الولايات، ولي دمشق مرارا و ولي غيرها - و أخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد فضربه ضربا مبرّحا و ألبسه المسوح و قيّده و حبسه، فغمّ ذلك الوليد فقال: من يثق بالناس! و من يصنع المعروف! هذا الأحول المشئوم قدّمه أبي على ولده و أهل بيته و ولاّه و هو يصنع بي ما ترون، و لا يعلم أنّ لي في أحد هوى إلاّ أضرّ به؛ كتب إليّ بأن أخرج عبد الصمد فأخرجته، و كتبت إليه في أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليّ فضربه و طرده و قد علم رأيي فيه؛ و عرف مكان عياض منّي و انقطاعه إليّ فضربه و حبسه، يضارّني بذلك؛ اللهمّ أجرني منه. ثم قال الوليد:
أنا النّذير لمسدي نعمة أبدا *** إلى المقاريف(3) لمّا يخبر الدّخلا
إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطروا *** و إن أهنتهم ألفيتهم ذللا
أ تشمخون و منّا رأس نعمتكم *** ستعلمون إذا أبصرتم الدّولا
انظر فإن أنت لم تقدر على مثل *** لهم سوى الكلب فاضربه لهم مثلا
بينا يسمّنه للصيد صاحبه *** حتى إذا ما استوى من بعد ما هزلا
عدا عليه فلم تضرره عدوته *** و لو أطاق له أكلا لقد أكلا
غنّاه مالك خفيف ثقيل من رواية الهشاميّ .
ص: 10
قال: و قال الوليد أيضا يفتخر على هشام:
أنا الوليد أبو العباس قد علمت *** عليا معدّ مدى كرّي و إقدامي
إني لفي الذّروة العليا إذا انتسبوا *** مقابل(1) بين أخوالي و أعمامي
/بنى لي المجد بان لم يكن وكلا *** على منار مضيئات و أعلام
حللت من جوهر الأعياص(2) قد علموا *** في باذخ مشمخرّ العزّ قمقام(3)
صعب المرام يسامي النّجم مطلعه *** يسمو إلى فرع طود شامخ سامي
غنّاه عمر الوادي خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
/و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدّثني مصعب الزّبيريّ قال:
بعث الوليد بن يزيد إلى هشام بن عبد الملك راويته فأنشده قوله:
أنا الوليد أبو العباس قد علمت *** عليا معدّ مدى كرّي و إقدامي
فقال هشام: و اللّه ما علمت له معدّ كرّا و لا إقداما، إلا أنه شرب مرّة مع عمّه بكّار بن عبد الملك فعربد عليه و على جواريه؛ فإن كان يعني ذلك بكّره و إقدامه فعسى.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن عمرو ابن أبي سعد قال حدّثت أن أبا الزّناد قال:
دخلت على هشام بن عبد الملك و عنده الزّهريّ و هما يعيبان الوليد، فأعرضت و لم أدخل في شيء من ذكره.
فلم ألبث أن استؤذن للوليد فأذن له، فدخل و هو مغضب فجلس قليلا ثم نهض. فلما مات هشام و ولي الوليد كتب إلى المدينة فحملت فدخلت عليه؛ فقال: أ تذكر قول الأحول و الزهريّ؟ قلت: نعم، و ما عرضت في شيء من أمرك؛ قال: صدقت؛ أ تدري من أبلغني ذلك ؟ قلت لا؛ قال: الخادم الواقف على رأسه، و ايم اللّه لو بقي الفاسق الزهريّ لقتلته. ثم قال: ذهب هشام بعمري؛ فقلت: بل يبقيك اللّه يا أمير المؤمنين، و قام و صلّى العصر. ثم جلس يتحدّث إلى المغرب ثم صلّى المغرب و دعا بالعشاء فتعشّيت معه ثم جلس يتحدّث حتى صلّى العتمة، ثم تحدّثنا قليلا ثم قال: اسقينني فأتينه(4) بإناء مغطّى، و جاء/جوار فقمن بيني و بينه فشرب و انصرفن؛ و مكث قليلا ثم قال:
ص: 11
اسقينني ففعلن مثل ذلك. و ما زال و اللّه ذلك دأبه حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحا.
و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب عن أبي الزّناد قال:
أجمع الزّهريّ على أن يدخل إلى بلاد الروم إن ولي الوليد بن يزيد؛ فمات الزهريّ قبل ذلك.
قال المدائنيّ : و بلغ الوليد أنّ العباس بن الوليد و غيره من بني مروان يعيبونه بالشّراب؛ فلعنهم و قال: إنهم ليعيبون عليّ ما لو كانت لهم فيه لذّة ما تركوه، و قال هذا الشعر، و أمر عمر الوادي أن يغنّي فيه - و هو من جيّد شعره و مختاره. و فيه غناء قديم ذكره يونس لعمر الوادي غير مجنّس -:
و لقد قضيت - و إن تجلّل لمّتي *** شيب - على رغم العدا لذّاتي
من كاعبات كالدّمى و مناصف *** و مراكب للصيد و النّشوات
في فتية تأبى الهوان وجوههم *** شمّ الأنوف جحاجح سادات
إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها *** أو يطلبوا لا يدركوا بترات
حدّثني(1) المنهال بن عبد الملك قال: كتب الوليد إلى هشام(2): «قد بلغني أحدث أمير/المؤمنين من قطع ما قطع عنّي و محو من محا من أصحابي، و أنّه حرمني و أهلي. و لم أكن أخاف أن يبتلي اللّه أمير المؤمنين بذلك فيّ و لا ينالني مثله/منه، و لم يبلغ استصحابي لابن سهيل و مسألتي في أمره أن يجري عليّ ما جرى. و إن كان ابن سهيل على ما ذكره أمير المؤمنين، فبحسب العير أن يقرب من الذئب. و على ذلك فقد عقد اللّه لي من العهد و كتب لي من العمر و سبّب لي من الرزق ما لا يقدر أحد دونه تبارك و تعالى على قطعه عنّي دون مدّته و لا صرفه عن مواقعه المحتومة له. فقدر اللّه يجري على ما قدّره فيما أحبّ الناس و كرهوا، لا تعجيل لآجله و لا تأخير لعاجله؛ و الناس بعد ذلك يحتسبون الأوزار و يقترفون الآثام على أنفسهم من اللّه بما يستوجبون العقوبة عليه. و أمير المؤمنين أحقّ بالنظر في ذلك و الحفظ له. و اللّه يوفّق أمير المؤمنين لطاعته، و يحسن القضاء له في الأمور بقدرته. و كتب إليه الوليد في آخر كتابه:
أ ليس عظيما أن أرى كلّ وارد *** حياضك يوما صادرا بالنّوافل
فأرجع محمود(3) الرّجاء مصرّدا *** بتحلئة عن ورد تلك المناهل
فأصبحت مما كنت آمل منكم *** و ليس بلاق ما رجا كلّ آمل
ص: 12
كمقتبض يوما على عرض هبوة(1) *** يشدّ عليها كفّه بالأنامل
فكتب إليه هشام: «قد فهم أمير المؤمنين ما كتبت به من قطع ما قطع و غير ذلك. و أمير المؤمنين يستغفر اللّه من إجرائه ما كان يجري عليك، و لا يتخوّف على نفسه اقتراف المآثم في الذي أحدث من قطع ما قطع و محو من محا من صحابتك، لأمرين: أمّا أحدهما فإنّ أمير المؤمنين يعلم مواضعك التي كنت تصرف إليها ما يجريه عليك.
و أما الآخر فإثبات صحابتك و أرزاقهم دارّة عليهم لا ينالهم ما نال المسلمين عند قطع البعوث عليهم و هم معك تجول بهم في سفهك. و أمير المؤمنين/يرجو أن يكفّر اللّه عنه ما سلف من إعطائه إيّاك باستئنافه قطعه عنك. و أما ابن سهيل، فلعمري لئن كان نزل منك بحيث يسوؤك ما جرى عليه لما جعله اللّه لذلك أهلا. و هل زاد ابن سهيل، للّه أبوك، على أن كان زفّانا(2) مغنّيا قد بلغ في السّفه غايته! و ليس مع ذلك ابن سهيل بشرّ ممّن كنت تستصحبه في الأمور التي ينزّه أمير المؤمنين نفسه عنها مما كنت لعمري أهلا للتوبيخ فيه. و أما ما ذكرت ممّا سبّبه اللّه لك، فإن اللّه قد ابتدأ أمير المؤمنين بذلك و اصطفاه له، و اللّه بالغ أمره. و لقد أصبح أمير المؤمنين و هو على يقين من رأيه إلاّ أنه لا يملك لنفسه مما أعطاه اللّه من كرامته ضرّا و لا نفعا، و إن اللّه وليّ ذلك منه و إنه لا بدّ له من مفارقته، و إنّ اللّه أرأف بعباده و أرحم من أن يولّي أمرهم غير من يرتضيه لهم منهم. و إن أمير المؤمنين مع حسن ظنّه بربّه لعلى أحسن الرجاء لأن يولّيه بسبب ذلك لمن هو أهله في الرّضا به لهم؛ فإنّ بلاء اللّه عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبلغه ذكره أو يوازيه شكره إلاّ بعون منه. و لئن كان قد قدر اللّه لأمير المؤمنين وفاة تعجيل، فإن في الذي هو مفض و صائر إليه من كرامة اللّه لخلفا/من الدنيا. و لعمري إن كتابك لأمير المؤمنين بما كتبت به لغير مستنكر من سفهك و حمقك، فأبق على نفسك و قصّر من غلوائها و اربع على ظلعك؛ فإنّ للّه سطوات و غيرا يصيب بها من يشاء من عباده.
و أمير المؤمنين يسأل اللّه العصمة و التوفيق لأحبّ الأمور إليه و أرضاها له. و كتب في أسفل الكتاب:
إذا أنت سامحت الهوى قادك الهوى *** إلى بعض ما فيه عليك مقال
و السلام.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة عن المدائنيّ عن جويرية بن أسماء(3) عن المنهال بن عبد الملك عن إسحاق بن أيّوب كلّهم عن أبي الزّبير المنذر بن عمرو - قال: و كان كاتبا للوليد بن يزيد - قال:
أرسل إليّ الوليد صبيحة اليوم الذي أتته فيه الخلافة فأتيته؛ فقال لي: يا أبا الزّبير، ما أتت عليّ ليلة أطول من هذه الليلة، عرضتني أمور و حدّثت نفسي فيها بأمور، و هذا الرجل قد أولع بي، فاركب بنا نتنفّس. فركب و سرت معه، فسار ميلين و وقف على تلّ فجعل يشكو هشاما، إذ نظر إلى رهج(4) قد أقبل - قال عمر بن شبّة في حديثه -
ص: 13
و سمع قعقعة البريد، فتعوّذ باللّه من شرّ هشام، و قال: إن هذا البريد قد أقبل بموت وحيّ (1) أو بملك عاجل.
فقلت: لا يسوؤك اللّه أيها الأمير بل يسرّك و يبقيك، إذ بدا رجلان على البريد يقبلان، أحدهما مولّى لآل أبي سفيان بن حرب؛ فلما قربا رأيا الوليد فنزلا يعدوان حتى دنوا فسلّما عليه بالخلافة فوجم، و جعلا يكرران عليه التسليم بالخلافة؛ فقال: ويحكم! ما الخبر؟ أمات هشام ؟ قالا نعم؛ قال: فمرحبا بكما! ما معكما؟ قالا: كتاب مولاك سالم بن عبد الرحمن؛ فقرأ الكتاب و انصرفنا. و سأل عن عيّاض بن مسلم كاتبه الذي كان هشام ضربه و حبسه، فقالا: يا أمير المؤمنين، لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام أمر اللّه، فلمّا صار إلى حال لا تزجى الحياة لمثله معها، أرسل عياض إلى الخزّان: احتفظوا بما في أيديكم فلا يصلن أحد إلى/شيء. و أفاق هشام إفاقة فطلب شيئا فمنعه، فقال: أرانا كنّا خزّانا للوليد؛ و قضى من ساعته. فخرج عياض من السجن ساعة قضى هشام، فختم الأبواب و الخزائن؛ و أمر بهشام فأنزل عن فراشه و منعهم أن يكفّنوه من الخزائن، فكفّنه غالب مولى هشام، و لم يجدوا قمقما(2) حتى استعاروه. و أمر الوليد بأخذ ابني هشام بن إسماعيل المخزوميّ ، فأخذا بعد أن عاذ إبراهيم بن هشام بقبر يزيد بن عبد الملك؛ فقال الوليد: ما أراه إلاّ قد نجا؛ فقال له يحيى بن عروة بن الزّبير و أخوه عبد اللّه: إن اللّه لم يجعل قبر أبيك معاذا للظالمين، فخذه برّد ما في يده من مال اللّه؛ فقال: صدقت، و أخذهما فبعث بهما إلى يوسف بن عمر، و كتب إليه أن يبسط عليهما العذاب حتى يتلفا، ففعل ذلك بهما و ماتا جميعا في العذاب بعد أن أقيم إبراهيم بن هشام للناس حتى اقتضوا(3) منه المظالم.
و قال عمر بن شبّة في خبره: إنه لمّا نعي له هشام قال: و اللّه لأتلقّينّ هذه النعمة بسكرة قبل الظهر؛ ثم أنشأ يقول:
طاب يومي و لذّ شرب السّلافه *** إذ أتاني نعيّ من بالرّصافه
/و أتانا البريد ينعي هشاما *** و أتانا بخاتم للخلافة
فاصطبحنا من خمر عانة(4) صرفا *** و لهونا بقينة عزّافه
ثم خلف ألاّ يبرح موضعه حتى يغنّى في هذا الشعر و يشرب عليه؛ فغنّي له فيه و شرب و سكر، ثم دخل فبويع له بالخلافة.
/قال: و سمع صياحا، فسأل عنه، فقيل له: هذا من دار هشام يبكيه بناته؛ فقال:
إني سمعت بليل *** ورا المصلّى برنّه
إذا بنات هشام *** يندبن والدهنّه
يندبن فرما جليلا *** قد كان يعضدهنّه
ص: 14
أنا المخنّث حقّا *** إن لم أنيكنّهنّه
و قال المدائنيّ في خبر أحمد بن الحارث: و شرب الوليد يوما، فلما طابت نفسه تذكّر هشاما، فقال لعمر الوادي غنّني:
إنّي سمعت بليل *** ورا المصلّى برنّه
فغنّاه فيه، فشرب عليه ثلاثة أرطال، ثم قال: و اللّه لئن سمعه منك أحد أبدا لأقبلنّك. قال: فما سمع منه بعدها و لا عرف.
طاب يومي و لذّ شرب السّلافه *** إذ أتانا نعيّ من في الرّصافه
غنّاه عمر الوادي خفيف رمل بالبنصر.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثني أبو غسّان قال قال حكم الوادي:
كنّا عند الوليد بن يزيد و هو يشرب، إذ جاءنا خصيّ فشقّ جيبه و عزّاه عن عمه هشام و هنأه بالخلافة و في يده قضيب و خاتم و طومار(1)؛ فأمسكنا ساعة و نظرنا إليه بعين الخلافة؛ فقال: غنّوني، غنّياني: قد طاب شرب السلافة... البيتين؛ فلم نزل نغنّيه بهما الليل كلّه.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدّثني مروان بن أبي حفصة قال:
دخلت على الرشيد أمير المؤمنين فسألني عن الوليد بن يزيد فذهبت أتزحزح، فقال: إن أمير المؤمنين لا ينكر ما تقول فقل؛ قلت: كان من أصبح الناس و أظرف الناس و أشعر الناس. فقال: أ تروى من شعره شيئا؟ قلت: نعم، دخلت عليه مع عمومتي و في يده قضيب و لي جمّة(2) فينانة فجعل يدخل القضيب في جمّتي و جعل يقول: يا غلام، ولدتك سكّر (و هي أمّ ولد كانت لمروان بن الحكم فزوّجها أبا حفصة) قال: فسمعته يومئذ ينشد:
ليت هشاما عاش حتى يرى *** مكياله الأوفر قد أترعا(3)
كلنا له الصاع التي(4) كالها *** فما ظلمناه بها أصوعا
ص: 15
لم نأت ما نأتيه عن بدعة *** أحلّه القرآن لي أجمعا
قال: فأمر الرشيد بكتابتها(1) فكتبت.
و للوليد أشعار جياد فوق هذا الشعر الذي اختاره/مروان. فمنها - و هو ما برّز فيه و جوّده و تبعه الناس جميعا فيه و أخذوه منه - قوله في صفة الخمر - أنشدنيه/الحسن بن عليّ قال أنشدني الحسين بن فهم قال أنشدني عمر بن شبّة قال أنشدني أبو غسّان محمد بن يحيى و غيره للوليد. قال: و كان أبو غسّان يكاد يرقص إذا أنشدها -:
اصدع نجيّ الهموم بالطرب *** و انعم على الدهر بابنة العنب
و استقبل العيش في غضارته *** لا تقف منه آثار معتقب
من قهوة زانها تقادمها *** فهي عجوز تعلو على الحقب
أشهى إلى الشّرب يوم جلوتها *** من الفتاة الكريمة النّسب
فقد تجلّت و رقّ جوهرها *** حتى تبدّت في منظر عجب
فهي بغير المزاج من شرر *** و هي لدى المزج سائل الذهب
كأنها في زجاجها قبس *** تذكو ضياء في عين مرتقب
في فتية من بني أميّة أه *** ل المجد و المأثرات و الحسب
ما في الورى مثلهم و لا فيهم(2) *** مثلي و لا منتم لمثل أبي
قال المدائنيّ في خبره: و قال الوليد حين أتاه نعي هشام:
طال ليلي فبتّ أسقى المداما *** إذ أتاني البريد ينعي هشاما
و أتاني بحلّة و قضيب *** و أتاني بخاتم ثم قاما
فجعلت الوليّ من بعد فقدي *** يفضل الناس ناشئا و غلاما
ذلك ابني و ذاك قرم قريش *** خير قرم و خيرهم أعماما
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائنيّ عن جرير قال قال لي عمر الوادي:
/كنت يوما أغنّي الوليد إذ ذكر هشاما؛ فقال لي: غنّني بهذه الأبيات؛ قلت: و ما هي يا أمير المؤمنين ؟ فأنشأ يقول:
ص: 16
هلك الأحول المشو *** م فقد أرسل المطر
ثمّت استخلف الولي *** د فقد أورق الشجر
و للولى في ذكر الخمر و صفتها أشعار كثيرة قد أخذها الشعراء فأدخلوها في أشعارهم، سلخوا معانيها، و أبو نواس خاصّة سلخ معانيه كلّها و جعلها في شعره فكرّرها في عدّة مواضع منه. و لو لا كراهة التطويل لذكرتها هاهنا، على أنها تنبئ عن نفسها.
و له أبيات أنشدنيها الحسن بن عليّ قال أنشدني الحسين بن فهم قال أنشدني عمر بن شبّة قال أنشدني أبو غسّان و غيره للوليد - و كان أبو غسان يكاد أن يرقص إذا أنشدها -:
اصدع نجيّ الهموم بالطرب *** و انعم على الدهر بابنة العنب
الأبيات التي مضت متقدّما. و هذا من بديع الكلام و نادره؛ و قد جوّد فيه منذ ابتدأ إلى أن ختم. و قد نقلها أبو نواس و الحسين بن الضحاك في أشعارهما.
و من جيّد معانيه قوله:
/
رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي *** و لو كنت ذا حزم لهدّمت ما تبني
و قد مضت في أخباره مع هشام.
و أنشدني الحسن بن عليّ عن الحسين بن فهم قال أنشدني عمرو بن أبي عمرو للوليد بن يزيد و كان يستجيده فقال:
/
إذا لم يكن خير مع الشرّ لم تجد *** نصيحا و لا ذا حاجة حين تفزع
و كانوا إذا همّوا بإحدى هناتهم *** حسرت لهم رأسي فلا أ تقنّع
و من نادر شعره قوله لهشام:
فإن تك قد مللت القرب منّي *** فسوف ترى مجانبتي و بعدي
و سوف تلوم نفسك إن بقينا *** و تبلو الناس و الأحوال بعدي
فتندم في الذي فرّطت فيه *** إذا قايست في ذمّي و حمدي
أخبرني الحسين بن يحيى قال حدّثنا ابن مهرويه و عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد قالا(1) حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن الحارث الحرشيّ قال حدّثنا محمد بن عائذ قال حدّثني الهيثم بن عمران قال سمعته يقول:
لما بويع الوليد سمعته على المنبر يقول بدمشق:
ص: 17
ضمنت لكم إن لم ترعني منيّتي *** بأنّ سماء الضرّ عنكم ستقلع
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال:
لمّا ولى الوليد بن يزيد كتب إلى أهل المدينة(1) و الشعر له:
محرّمكم(2) ديوانكم و عطاؤكم *** به يكتب الكتّاب و الكتب تطبع
ضمنت لكم إن لم تصابوا بمهجتي *** بأنّ سماء الضرّ عنكم ستقلع
و أوّل هذه الأبيات:
ألا أيّها الركب المخبّون أبلغوا *** سلامي سكّان البلاد فاسمعوا
/و قولوا أتاكم أشبه الناس سنّة *** بوالده فاستبشروا و توقّعوا
سيوشك إلحاق بكم و زيادة *** و أعطية تأتي تباعا فتشفع
و كان سبب مكاتبته أهل الحرمين بذلك أنّ هشاما لمّا خرج عليه زيد بن عليّ رضي اللّه عنه منع أهل مكة و أهل المدينة أعطياتهم سنة. فقال حمزة بن بيض يردّ على الوليد لمّا فعل خلاف ما قال:
وصلت سماء الضرّ بالضرّ بعد ما *** زعمت سماء الضرّ عنّا ستقلع
فليت هشاما كان حيّا يسوسنا *** و كنّا كما كنا نرجّي و نطمع
أخبرني أحمد قال حدّثني عمر بن شبّة قال روى جرير بن حازم عن الفضل بن سويد قال:
بعث الوليد بن يزيد إلى جماعة من أهله لمّا ولي الخلافة فقال: أ تدرون لم دعوتكم ؟ قالوا لا، قال: ليقل قائلكم؛ فقال رجل منهم: أردت يا أمير المؤمنين أن ترينا ما جدّد اللّه لك من نعمته و إحسانه؛ فقال: نعم، و لكني:
/
أشهد اللّه و الملائكة الأب *** رار و العابدين أهل الصلاح
أنني أشتهي السّماع و شرب ال *** كأس و العض للخدود الملاح
و النديم الكريم و الخادم الفا *** ره يسعى عليّ بالأقداح
قوموا إذا شئتم.
أخبرني إسماعيل بن يونس و أحمد بن عبد العزيز قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال:
ص: 18
عرضت على الوليد بن يزيد جارية صفراء كوفيّة مولّدة يقال لها سعاد، فقال لها: أيّ شيء تحسنين ؟ فقال:
أنا مغنّية؛ فقال لها: غنّيني، فغنّت:
/
لو لا الذي حمّلت من حبّكم *** لكان في إظهاره مخرج
أو مذهب في الأرض ذو فسحة *** أجل و من حجّت له مذحج
لكن سباني منكم شادن *** مربّب ذو غنّة أدعج
أغرّ ممكور(1) هضيم الحشى *** قد ضاق عنه الحجل و الدّملج
- الشعر للحارث بن خالد. و الغناء لابن سريج خفيف رمل بالبنصر. و فيه لدحمان هزج بالوسطى؛ و ذكر الهشاميّ أن الهزج ليحيى المكيّ - فطرب طربا شديدا و قال: يا غلام اسقني، فسقاه عشرين قدحا و هو يستعيدها.
ثم قال لها: لمن هذا الشعر؟ قالت: للحارث بن خالد. قال: و ممّن أخذتيه ؟ قالت: من حنين. قال: و أين لقيته ؟ قالت: ربيت بالعراق و كان أهلي يجيئون به فيطارحني. فدعا صاحبه فقال: اذهب فابتعها بما بلغت و لا تراجعني في ثمنها ففعل؛ و لم تزل عنده حظيّة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عبيد اللّه بن أحمد بن الحارث القرشيّ قال حدّثنا العباس بن الوليد قال حدّثنا ضمرة قال:
خرج عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام يوما إلى بعض الدّيارات فنزل فيه و هو وال على الرّملة؛ فسأل صاحب الدّير: هل نزل بك أحد من بني أميّة ؟ قال: نعم، نزل بي الوليد بن يزيد و محمد بن سليمان بن عبد الملك. قال:
فأيّ شيء صنعا؟ قال: شربا في ذلك الموضع، و لقد رأيتهما شربا في آنيتهما، ثم قال أحدهما لصاحبه: /هلمّ نشرب بهذا الجرن(2) - و أومأ إلى جرن عظيم من رخام - قال: أفعل؛ فلم يزالا يتعاطيانه بينهما و ينسربان و يشربان به حتى ثملا. فقال عبد الوهاب لمولى له أسود: هاته. قال ضمرة: و قد رأيته و كان يوصف بالشدّة، فذهب يحرّكه فلم يقدر. فقال الراهب: و اللّه لقد رأيتهما يتعاطيانه و كلّ واحد منهما يملؤه لصاحبه فيرفعه و يشربه غير مكترث.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو غسّان محمد بن يحيى قال:
وفد سعد بن مرّة بن جبير مولى آل كثير بن الصّلت، و كان شاعرا، على الوليد بن يزيد، فعرض له في يوم من أيام الربيع و قد خرج إلى متنزّه له، فصاح به: يا أمير المؤمنين، وافدك و زائرك و مؤمّلك؛ فتبادر الحرس إليه ليصدّوه عنه، فقال: دعوه، أدن إليّ فدنا إليه؛ فقال: من أنت ؟ قال: أنا رجل من أهل الحجاز شاعر؛ قال: تريد ما ذا؟ قال: تسمع منّي أربعة أبيات؛ قال: هات.
ص: 19
شمن المخايل نحو أرضك بالحيا *** و لقين ركبانا بعرفك قفّلا
قال: ثم مه؛ قال:
فعمدن نحوك لم ينخن(1) لحاجة *** إلاّ وقوع الطير حتى ترحلا
قال: إن هذا(2) السير حثيث؛ ثم ما ذا؟ قال:
يعمدن نحو موطّئ حجراته *** كرما و لم تعدل بذلك معدلا
/قال: فقد وصلت إليه، فمه؛ قال:
لاحت لها نيران حيي قسطل(3) *** فاخترن نارك في المنازل منزلا
قال: فهل غير هذا؟ قال لا؛ قال: أنجحت وفادتك، و وجبت ضيافتك؛ أعطوه أربعة آلاف دينار؛ فقبضها و رحل.
الغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو و الهشاميّ .
رجعت الرواية إلى الحديث المدائنيّ قال:
لمّا قدم العباس بن الوليد لإحصاء ما في خزائن هشام و ولده سوى مسلمة بن هشام فإنه كان كثيرا ما يكفّ أباه عن الوليد و يكلّمه فيه ألاّ يعرض له و لا يدخل منزله. و كانت عند مسلمة أمّ سلمة(4) بنت يعقوب المخزوميّة، و كان مسلمة يشرب. فلمّا قدم العبّاس لإحصاء ما كتب إليه الوليد، كتبت إليه أم سلمة: ما يفيق من الشّراب و لا يهتمّ بشيء مما فيه إخوته و لا بموت أبيه. فلما راح مسلمة بن هشام إلى العباس قال له: يا مسلمة، كان أبوك يرشّحك للخلافة و نحن نرجوك لما بلغني عنك، و أنّبه و عاتبه على الشراب؛ فأنكر مسلمة ذلك و قال: من أخبرك بهذا؟ قال:
كتبت إليّ به أمّ سلمة؛ فطلّقها في ذلك المجلس، فخرجت إلى فلسطين، و بها كانت تنزل، و تزوّجها أبو العباس السفّاح هناك.
و سلمى التي عناها الوليد هناك هي سلمى بنت سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفان؛ و أمها أمّ عمرو بنت مروان بن الحكم، و أمّها بنت عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ .
ص: 20
/فأخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلاّم و عن المدائنيّ عن جويرية بن أسماء:
أن يزيد بن عبد الملك كان خرج إلى قرين(1) متبدّيا(2) به، و كان هناك قصر لسعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان؛ و كانت بنته أمّ عبد الملك، و اسمها سعدة، تحت الوليد بن يزيد. فمرض سعيد في ذلك الوقت، و جاءه الوليد عائدا، فدخل فلمح سلمى بنت سعيد أخت زوجته و سترها حواضنها و أختها فقامت ففرعتهن(3) طولا، فوقعت بقلب الوليد. فلما مات أبوه طلّق أمّ عبد الملك زوجته و خطب سلمى إلى أبيها. و كانت لها أخت يقال لها أمّ عثمان تحت هشام بن عبد الملك؛ فبعثت إلى أبيها - و قيل: بعث إليه هشام -: أ تريد أن تستفحل الوليد لبناتك يطلّق هذه و ينكح هذه! فلم يزوّجه سعيد و ردّه أقبح ردّ. و هويها الوليد و رام السلوّ عنها فلم يسل؛ و كان يقول:
العجب لسعيد! خطبت إليه فردّني، و لو قد مات هشام و وليت لزوّجني! و هي طالق ثلاثا إن تزوّجتها حينئذ و إن كنت أهواها. فيقال: إنه لما طلّق سعدة ندم على ذلك/و غمّه. و كان لها من قلبه محلّ و لم تحصل له سلمى؛ فاهتمّ لذلك و جزع. و راسل سعدة، و قد كانت زوّجت غيره فلم ينتفع بذلك.
فأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و الحسن بن عليّ قالا حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن الجهم قال حدّثنا المدائنيّ قال:
بعث الوليد بن يزيد إلى أشعب بعد ما طلّق امرأته، فقال: يا أشعب، لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلغ رسالتي سعدة؛ فقال: أحضر العشرة الآلاف/الدرهم حتى انظر إليها؛ فأحضرها الوليد؛ فوضعها أشعب على عنقه و قال: هات رسالتك؛ قال: قل لها يقول لك أمير المؤمنين:
أ سعدة هل إليك لنا سبيل *** و هل حتى القيامة من تلاقي
بلى و لعلّ دهرا أن يؤاتي *** بموت من حليلك أو طلاق
فأصبح شامتا و تقرّ عيني *** و يجمع شملنا بعد افتراق
فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه، فأمرت لها ففرشت و جلست و أذنت له. فلما دخل أنشدها ما أمره؛ فقالت لخدمها: خذوا الفاسق! فقال: يا سيّدتي إنها بعشرة آلاف درهم. قالت: و اللّه لأقتلنك أو تبلّغه كما بلّغتني؛ قال: و ما تهبين لي ؟ قالت: بساطي الذي تحتي؛ قال: قومي عنه؛ فقامت فطواه و جعله إلى جانبه، ثم قال: هات رسالتك جعلت فداك؛ قالت: قل له:
أ تبكي على لبنى و أنت تركتها *** فقد ذهبت لبنى فما أنت صانع(4)
ص: 21
فأقبل أشعب فدخل على الوليد؛ فقال: فأنشده البيت؛ أوّه قتلتني يا بن الزانية! ما أنا صانع، فاختر أنت الآن ما أنت صانع (9) يا بن الزانية، إمّا أن أدلّيك/على رأسك منكّسا في بئر أو أرمي بك منكّسا من فوق القصر أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربة، هذا الذي أنا صانع، فاختر أنت الآن ما أنت صانع؛ فقال: ما كنت لتفعل شيئا من ذلك؛ قال: و لم يا بن الزانية ؟ قال: لم تكن عينين نظرتا إلى سعدة. قال: أوّه! أفلتّ و اللّه بهذا يا بن الزانية! اخرج عنّي. و قال الحسن في روايته: إنها قالت له أنشده:
أ تبكي على لبنى و أنت تركتها *** و أنت عليها بالملا(1) كنت أقدر
و في هذه الأبيات غناء هذه نسبته:
أرى بيت لبنى أصبح اليوم يهجر *** و هجران لبنى يا لك الخير منكر
فإن تكن الدنيا بلبنى تغيّرت *** فللدّهر و الدنيا بطون و أظهر
أ تبكي على لبنى و أنت تركتها *** و أنت عليها بالحرا(2) كنت أقدر
عروضه من الطويل. و الشعر لقيس بن ذريح. و الغناء في الثاني و الثالث للغريض ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو و الهشاميّ .، و فيهما(3) لعريب رمل بالبنصر. و فيه لشارية خفيف رمل بالوسطى عن الهشاميّ . و في الأوّل خفيف ثقيل مجهول.
قال ابن سلاّم و المدائنيّ في خبرهما: و خرج الوليد بن يزيد يريد فرتنى(4) لعلّه يراها؛ فلقيه زيّات معه حمار عليه زيت؛ فقال له: هل لك أن تأخذ فرسي هذا و تعطيني حمارك هذا بما عليه و تأخذ ثيابي و تعطيني ثيابك ؟ /ففعل الزيات ذلك. و جاء الوليد و عليه الثياب و بين يديه الحمار يسوقه متنكّرا حتى دخل قصر سعيد، /فنادى:
من يشتري الزيت، فاطّلع بعض الجواري فرأينه فدخلن إلى سلمى و قلن: إن بالباب زيّاتا أشبه الناس بالوليد، فاخرجي فانظري إليه؛ فخرجت فرأته و رآها، فرجعت القهقرى و قالت: هو و اللّه الفاسق الوليد! و قد رآني! فقلن له: لا حاجة بنا إلى زيتك؛ فانصرف و قال:
إنني أبصرت شيخا *** حسن الوجه مليح
ص: 22
و لباسي ثوب شيخ *** من عباء مسوح
و أبيع الزيت بيعا *** خاسرا غير ربيح
و قال أيضا:
فما مسك يعلّ بزنجبيل *** و لا عسل بألبان اللقاح
بأشهى من مجاجة ريق سلمى *** و لا ما في الزّقاق من القراح
و لا و اللّه لا أنسى حياتي *** وثاق الباب دوني و اطّراحي
قال: فلما ولى الخلافة أشخص إلى المغنّين فحضروه و فيهم معبد و ابن عائشة و ذووهما. فقال لابن عائشة:
يا محمد، إن غنّيتني صوتين في نفسي فلك عندي مائة ألف درهم؛ فغنّاه قوله:
إنني أبصرت شيخا
و غنّاه:
فما مسك يعلّ بزنجبيل
الأبيات، فقال الوليد: ما عدوت ما في نفسي؛ و أمر له بمائة ألف درهم و ألطاف و خلع، و أمر لسائر المغنّين بدون ذلك.
فما مسك يعلّ بزنجبيل *** و لا عسل بألبان اللّقاح
بأطيب من مجاجة ريق سلمى *** و لا ما في الزّقاق من القراح
غنّاه ابن عائشة، و لحنه ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ و حماد بن إسحاق.
قال المدائنيّ و ابن سلاّم: فلمّا طال بالوليد ما به كتب إلى أبيها سعيد:
أبا عثمان هل لك في صنيع *** تصيب الرشد في صلتي هديتا
فأشكر منك(1) ما تسدى و تحيى *** أبا عثمان ميّتة و ميتا
قالوا: فلم يجبه إلى ذلك حتى ولى الخلافة، فلما وليها زوّجه إياها؛ فلم يلبث إلاّ مدّة يسيرة حتى ماتت.
و قال فيها ليلة زفّت إليه:
خفّ من دار جيرتي *** يا بن داود أنسها
ص: 23
و هي طويلة. و فيها ممّا يغنّى به:
أو لا تخرج العرو *** س فقد طال حبسها
قد دنا الصبح أو بدا *** و هي لم يقض لبسها
برزت كالهلال في *** ليلة غاب نحسها
/بين خمس كواعب *** أكرم الخمس جنسها
غناء ابن سريج، فيما ذكره حبش، رمل بالبنصر، أوّله:
خفّ من دار جيرتي
و غناء معبد فيه خفيف ثقيل، أوّله:
و متى تخرج العروس
/في رواية الهشاميّ و ابن المكيّ . و غناء عمر الواديّ في الأربعة الأبيات الأخر خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. و ذكر في النسخة الثانية و وافقه الهشاميّ أنّ فيه هزجا بالوسطى ينسب إلى حكم و إلى أبي كامل و إلى عمر.
و قد أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا الأصمعيّ قال: رأيت حكما الوادي قد تعرّض للمهديّ و هو يريد الحجّ ، فوقف له في الطريق و كانت له شهرة، فأخرج دفّا له فنقر فيه و قال: أنا، أطال اللّه بقاءك، القائل:
و متى تخرج العرو *** س فقد طال حبسها
قد دنا الصبح أو بدا *** و هي لم يقض لبسها
قال: فتسرّع إليه الحرس، فصيح بهم، و إذا هو حكم الوادي؛ فأدخل إليه المضرب فوصله و انصرف.
نسبة أو لا تخرج العروس - قال: الشعر للوليد بن يزيد. و الغناء لعمر الواديّ . و فيه لحنان هزج خفيف بالخنصر في مجرى البنصر [و خفيف(1) رمل بالخنصر في مجرى البنصر جميعا عن إسحاق]؛ و ذكر حكم الواديّ أنّ الهزج له؛ و ذكر إسحاق أن لحن حكم خفيف رمل بالخنصر في مجرى الوسطى. و قال في كتاب يحيى: إن هذا اللحن لعمر الواديّ . و ذكر الهشاميّ أنّ فيه خفيف ثقيل لمعبد و رملا لابن سريج. و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه للدّلال خفيف ثقيل أوّل بالبنصر.
و قال المدائنيّ : مكثت عنده سلمى أربعين يوما ثم ماتت؛ فقال:
أ لمّا تعلما سلمى أقامت *** مضمّنة من الصحراء لحدا
ص: 24
لعمرك يا وليد لقد أجنّوا *** بها حسبا و مكرمة و مجدا
/و وجها كان يقصر عن مداه *** شعاع الشمس أهل أن يفدّى
فلم أر ميّتا أبكى لعين *** و أكثر جازعا و أجلّ فقدا
و أجدر أن تكون لديه ملكا *** يريك جلادة و يسرّ وجدا
ذكر أشعار الوليد التي قالها في سلمى و غنّى المغنّون فيها منها:
عرفت المنزل الخالي *** عفا من بعد أحوال
عفاه كلّ حنّان *** عسوف الوبل هطّال
لسلمى قرّة العين *** و بنت العمّ و الخال
بذلت اليوم في سلمى *** خطارا(1) أتلفت مالي
/كأنّ الريق من فيها *** سحيق(2) بين جريال
غنّاه عمر الواديّ هزجا بالوسطى عن عمرو. و ذكر ابن خرداذبه أنّ هذا اللحن للوليد بن يزيد. و فيه رمل ذكر الهشاميّ أنه لابن سريج.
و منها و هو الصوت الذي غنّاه أبو كامل فأعطاه الوليد قلنسيته(3):
منازل قد تحلّ بها سليمى *** دوارس قد أضرّ بها السّنون
أميت السرّ حفظا يا سليمى *** إذا ما السرّ باح به الحزون(4)
/غنّاه أبو كامل من الثقيل الأوّل. و فيه لابن سريج، و يقال للغريض، خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ ، و قيل: إنه لحكم أو لعمر الوادي.
و منها:
ص: 25
أراني قد تصابيت *** و قد كنت تناهيت(1)
و لو يتركني الحبّ *** لقد صمت و صلّيت
إذا شئت تصبّرت *** و لا أصبر إن شيت
و لا و اللّه لا يصب *** ر في الدّيمومة(2) الحوت
سليمى ليس لي صبر *** و إن رخّصت لي جيت
فقبّلتك ألفين *** و فدّيت و حيّيت
ألا أحبب بزور زا *** ر من سلمى ببيروت(3)
غزال أدعج العين(4) *** نقيّ الجيد و اللّيت(5)
غنّاه ابن جامع في البيتين الأوّلين هزجا بالوسطى، و غنّاه أبو كامل في الأبيات كلها على ما ذكرت بذل و لم تجنّسه. و غنّى حكم الوادي في الثالث و الرابع و السابع و الثامن خفيف رمل بالوسطى عن عمرو و الهشاميّ .
/و منها:
عتبت سلمى علينا سفاها *** أن سببت اليوم فيها أباها
كان حقّ العتب يا قوم منّي *** ليس منها كان قلبي فداها
فلئن كنت أردت بقلبي *** لأبي سلمى خلاف هواها
فثكلت اليوم سلمى فسلمى *** ملأت أرضي معا و سماها
غير أني لا أظن عدوّا *** قد أتاها كاشحا بأذاها(6)
فلها العتبى لدينا و قلّت *** أبدا حتى أنال رضاها
ص: 26
غنّاه أبو كامل خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه ليحيى المكيّ ثقيل أوّل من رواية عليّ بن يحيى. و فيه رمل يقال: إنه لابن جامع، و يقال: بل لحن ابن جامع خفيف رمل أيضا.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن عمرو قال:
لقي سعيد بن خالد الوليد بن يزيد و هو ممل؛ فقال له: يا أبا عثمان، /أ تردّني على(1) سلمى! و كأني بك لو قد وليت الخلافة خطبتني فلم أجبك؛ و إن تزوّجتها حينئذ فهي طالق ثلاثا. فقال له سعيد: إن المرء يجعل كريمته عند مثلك لحقيق بأكثر مما قلت؛ فأمضّه الوليد و شتمه و تسامعا و افترقا. و بلغ الوليد أنّ سلمى جزعت لما جرى و بكت و سبّت الوليد و نالت منه؛ فقال:
عتبت سلمى علينا سفاها *** أن هجوت اليوم فيها أباها
/و ذكر الأبيات. و قال أيضا في ذلك:
على الدّور(2) التي بليت سفاها(3) *** قفا يا صاحبيّ فسائلاها
دعتك صبابة و دعاك شوق *** و أخضل دمع عينك مأقياها(4)
و قالت عند هجوتنا(5) أباها *** أردت الصّرم فانتده انتداها(6)
أردت بعادنا بهجاء شيخي *** و عندك خلّة تبغي هواها
فإن رضيت فذاك و إن تمادت *** فهبها خطّة بلغت مداها
- غنّاه مالك بن أبي السّمح خفيف رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و للهذلي فيه ثاني ثقيل بالوسطى عن يونس و الهشاميّ ؛ و ذكر حبش: أنّ الثقيل الثاني لإسحاق - يعني بقوله:
أردت بعادنا بهجاء شيخي
أنه كان هجا سعيد بن خالد، فقال:
و من يك مفتاحا لخير يريده *** فإنك قفل يا سعيد بن خالد
قال المدائنيّ : لمّا غضبت سلمى من هجائه أباها قال يعتذر إليه بقوله:
ص: 27
ألا أبلغ أبا عثما *** ن عذرة معتب أسفا
فلست كمن يودّك بال *** لسان و يكثر الحلفا
/عتبت عليّ في أشيا *** ء كانت بيننا سرفا
فلا تشمت بي الأعدا *** ء و الجيران ملتهفا
تودّ لو أنّني لحم *** رأته الطير فاختطفا
و لا ترفع به رأسا(1) *** عفا الرحمن ما سلفا
و منها و هو من سخيف شعره:
خبّروني أن سلمى *** خرجت يوم المصلّى
فإذا طير مليح *** فوق غصن يتفلّى
قلت من يعرف سلمى *** قال ها ثم تعلّى
قلت يا طير ادن منّي *** قال ها ثم تدلّى
قلت هل أبصرت سلمى *** قال لا ثم تولّى
فنكا(2) في القلب كلما *** باطنا ثم تعلّى
/فيه ثقيل أوّل بالبنصر مطلق، ذكر الهشاميّ أنه لأبي كامل و لعمر الوادي، و ذكر حبش أنه لدحمان.
و منها:
اسقني يا ابن سالم قد أنارا *** كوكب الصبح و انجلى و استنارا
اسقني من سلاف ريق سليمى *** واسق هذا النديم كأسا عقارا
/غنّاه ابن قدح(3) ثاني ثقيل بالوسطى من رواية حبش.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني عمّي عبيد اللّه قال حدّثني أبي:
ص: 28
أنّ المأمون قال لمن حضره من جلسائه: أنشدوني بيتا لملك يدلّ البيت و إن لم يعرف قائله أنه شعر ملك؛ فأنشده بعضهم قول امرئ القيس:
أ من أجل أعرابيّة حلّ أهلها *** جنوب الملا(1) عيناك تبتدران
قال: و ما في هذا مما يدلّ على ملكه! قد يجوز أن يقول هذا سوقة من أهل الحضر، فكأنه يؤنّب نفسه على التعلّق بأعرابيّة؛ ثم قال: الشعر الذي يدلّ على أن قائله ملك قول الوليد:
اسقني من سلاف ريق سليمى *** و اسق هذا النديم كأسا عقارا
أما ترى إلى إشارته في قوله هذا النديم و أنها إشارة ملك. و مثل قوله:
لي المحض من ودّهم *** و يغمرهم نائلي
و هذا قول من يقدر بالملك على طويّات الرجال، يبذل(2) المعروف لهم و يمكنه استخلاصها لنفسه.
و في هذا البيت مع أبيات قبله غناء و هو قوله:
سقيت أبا كامل *** من الأصفر البابلي
و سقّيتها معبدا *** و كلّ فتى بازل(3)
/لي المحض من ودّهم *** و يغمرهم نائلي
فما لا مني فيهم *** سوى حاسد جاهل
غنّاه أبو كامل ثقيلا أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر.
و منها و هو من ملح(4) شعره:
أراني اللّه يا سلمى حياتي *** و في يوم الحساب كما أراك
ألا تجزين من تيّمت عصرا *** و من لو تطلبين لقد قضاك
و من لو متّ مات و لا تموتي *** و لو أنسي(5) له أجل بكاك
و من حقّا لو اعطي ما تمنّى *** من الدنيا العريضة ما عداك
ص: 29
و من لو قلت مت فأطاق موتا *** إذا ذاق الممات و ما عصاك
أثيبي عاشقا كلفا معنى *** إذا خدرت له رجل دعاك
كانت العرب تقول: إن الإنسان إذا خدرت قدمه دعا باسم أحبّ الناس إليه فسكنت. في الخبر أن رجل عبد اللّه بن عمر خدرت؛ فقيل له: ادع باسم أحبّ الناس إليك؛ فقال: /يا رسول اللّه، صلى اللّه على رسول اللّه و على(1) آله و سلّم. ذكر يونس أنّ في هذه الأبيات لحنا لسنان الكاتب، و ذكرت دنانير أنه لحكم و لم تجنّسه(2).
/و منها:
ويح سلمى لو تراني *** لعناها ما عناني
متلفا في اللهو ما لي *** عاشقا حور القيان
إنما أحزن قلبي *** قول سلمى إذ أتاني
و لقد كنت زمانا *** خالي الذّرع لشاني
شاق قلبي و عناني *** حبّ سلمى و براني
و لكم لام نصيح *** في سليمى و نهاني
غنّته فريدة خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه ثقيل أوّل ينسب إلى معبد؛ و هو فيما يذكر إسحاق يشبه غناءه و ليس تعرف صحّته له، و ذكر كثير الكبير أنه له، و ذكر الهشاميّ أنه لابن المكيّ . و فيه لحكم هزج صحيح.
/و منها:
بلّغا عنّي سليمى *** و سلاها لي عمّا
فعلت في شأن صبّ *** دنف أشعر همّا
و لقد قلت لسلمى *** إذ قتلت البين علما
أنت همّي يا سليمى *** قد قضاه الربّ حتما
نزلت في القلب قسرا *** منزلا قد كان يحمى
غنّاه حكم خفيف ثقيل. و لعمر الوادي فيه خفيف رمل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
و منها:
ص: 30
يا سليمى يا سليمى *** كنت للقلب عذابا
يا سليمى ابنة عمّي *** برد الليل و طابا
أيّما واش وشى بي *** فاملئي فاه ترابا
ريقها في الصبح مسك *** باشر العذب الرّضابا
غنّاه عمر الوادي هزجا بالبنصر عن الهشاميّ ، و ذكر ابن المكيّ أنّه لمعان(1). و في كتاب إبراهيم أنه لعطرّد.
و منها:
أسلمى تلك حيّيت *** قفي(2) نخبرك إن شيت
و قيلي ساعة نشك *** إليك الحبّ أو بيتي
فما صهباء لم تكس *** قذى من خمر بيروت
ثوت في الدّنّ أعواما *** ختيما عند حانوت
غنّاه عمر الوادي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو.
و منها:
يا من لقلب في الهوى متشعب *** بل من لقلب بالحبيب عميد
سلمى هواه ليس يعرف غيرها *** دون الطّريف و دون كلّ تليد
/إن القرابة و السعادة ألّفا *** بين الوليد و بين بنت سعيد
يا قلب كم كلف الفؤاد بغادة *** ممكورة ريّا العظام خريد
غنّاه عمر الوادي رملا بالبنصر عن عمرو.
و منها:
ص: 31
قد تمنّى معشر إذا أطربوا *** من عقار و سوام(1) و ذهب
ثم قالوا لي تمنّ و استمع *** كيف ننحو في الأماني و الطلب
فتمنّيت سليمى إنها *** بنت عمّي من لهاميم(2) العرب
فيه للهذليّ خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و ذكر الهشاميّ أن هذا الخفيف الثقيل لخالد صامة(3).
و ذكر ابن المكيّ أن فيه لمالك ثاني ثقيل بالوسطى.
و منها:
هل إلى أمّ سعيد *** من رسول أو سبيل
ناصح يخبر أنّي *** حافظ ودّ خليل
يبذل الودّ لغيري *** و أكافي بالجميل
لست أرضى لخليلي *** من وصالي بالقليل
غنّاه عمر الوادي هزجا خفيفا بالسبّابة في مجرى الوسطى.
/و منها:
طاف من سلمى خيال *** بعد ما نمت فهاجا
قلت عج نحوي أسائل *** ك عن الحبّ فعاجا
يا خليلي يا نديمي *** قم فأنفث(4) لي سراجا
بفلاة ليس ترعى *** أنبتت شيحا و حاجا(5)
غنّاه عمر الوادي ثانيّ ثقيل بالوسطى عن عمرو. و لابن سريج فيه خفيف رمل بالوسطى عن حبش. و لأبي سلمى المدنيّ ثقيل أوّل عن ابن خرداذبه.
و منها:
ص: 32
أمّ سلاّم أثيبي عاشقا *** يعلم اللّه يقينا ربّه
أنّكم من عيشه في نفسه *** يا سليمى فاعلميه حسبه
فارحميه إنه يهذي بكم *** هائم صبّ قد أودى قلبه
أنت لو كنت له راحمة *** لم يكدّر يا سليمى شربه
غنّاه حكم رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أن فيه لابن سريج/رملا بالوسطى.
و منها:
ربّ بيت كأنه متن سهم *** سوف نأتيه من قرى بيروت
من بلاد ليست لنا ببلاد *** كلما جئت نحوها حييت
/أمّ سلاّم لا برحت بخير *** ثم لا زلت جنّتي ما حييت
طربا نحوكم و توقا و شوقا *** لادّكاريكم(1) و طيب المبيت
حيثما كنت من بلاد و سرتم *** فوقاك الإله ما قد خشيت
في البيت الأوّل و الثاني لابن عائشة ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر عن الهشاميّ ، و ذكر غيره(2) أنه لإبراهيم. و في الثالث و ما بعده و الثاني لابن عائشة أيضا رمل بالوسطى، و لابن سريج خفيف رمل بالبنصر. و قيل:
إن الرّمل لعمر الوادي، و هو أن يكون له أشبه.
و منها:
طرقتني و صحابي هجوع *** ظبية أدماء مثل الهلال
مثل قرن الشمس لما تبدّت *** و استقلّت في رءوس(3) الجبال
تقطع الأهوال نحوي و كانت *** عندنا سلمى ألوف الحجال
كم أجازت نحونا من بلاد *** وحشة قتّالة للرجال
ص: 33
لابن محرز فيه ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق في الثاني و الثالث. و لابن سريج في الأوّل و ما بعده خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه لحن لابن عائشة ذكر الهشاميّ أنه رمل بالوسطى. و فيه خفيف رمل ينسب إلى ابن سريج و عمر الوادي.
/و منها:
أنا الوليد الإمام مفتخرا *** أنعم بالي و أتبع الغزلا
أهوى سليمى و هي تصرمني *** و ليس حقّا جفاء من وصلا
أسحب بردى إلى منازلها *** و لا أبالي مقال من عذلا
غنّى فيه أبو كامل رملا بالبنصر. و غنّى عمر الوادي فيه خفيف رمل بالوسطى، و يقال إن هذا اللحن للوليد.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال:
قال الوليد على لسان سلمى:
اقر منّي على الوليد السلاما *** عدد النجم قلّ ذا للوليد
حسدا ما حسدت أختي عليه *** ربّنا بيننا و بين سعيد
غنّاه الهذليّ خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن ابن المكيّ .
حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا خالد بن النّضر القرشيّ بالبصرة قال حدّثنا أبو حاتم السّجستانيّ قال حدّثنا العتبيّ قال:
كانت للوليد بن يزيد جارية يقال لها صدوف؛ فغاضبها، ثم لم يطعه قلبه فجعل يتسبّب لصلحها، فدخل عليه رجل قرشيّ من أهل المدينة فكلّمه في حاجة و قد عرف خبره، فبرم به؛ فأنشده:
/
أعتبت أن عتبت عليك صدوف *** و عتاب مثلك مثلها تشريف
/لا تقعدنّ تلوم نفسك دائما *** فيها و أنت بحبّها مشغوف
إن القطيعة لا يقوم لمثلها *** إلا القويّ ، و من يحبّ ضعيف
الحبّ أملك بالفتى من نفسه *** و الذلّ فيه مسلك مألوف
قال: فضحك و جعل ذلك سببا لصلحها، و أمر بقضاء حوائج القرشيّ كلّها.
أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال قال حمّاد الرّاوية:
ص: 34
استدعاني الوليد بن يزيد و أمر لي بألفين لنفقتي و ألفين لعيالي، فقدمت عليه. فلما دخلت داره قال لي الخدم: أمير المؤمنين من خلف الستارة الحمراء، فسلّمت بالخلافة؛ فقال لي: يا حمّاد؛ قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين؛ قال: «ثم ثاروا»؛ فلم أدر ما يعني فقال: ويحك يا حمّاد! «ثم ثاروا»؛ فقلت في نفسي: راوية أهل العراق لا يدري عمّا يسأل! ثم انتبهت فقلت:
ثم ثاروا إلى الصّبوح فقامت *** قينة في يمينها إبريق
قدّمته على عقار كعين *** الدّيك صفّى سلافها الرّاووق
ثم فضّ الختام عن حاجب(1) الدّ *** نّ و قامت لدى اليهوديّ سوق
فسباها منه أشمّ عزيز *** أريحيّ غذاه عيش رقيق
- الشعر لعديّ بن زيد. و الغناء لحنين خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و فيه لمالك خفيف رمل. و لعبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ رمل، كل ذلك عن الهشاميّ - قال: فإذا جارية قد أخرجت كفّا لطيفة من تحت الستر في يدها قدح، و اللّه ما أدري/أيّهما أحسن الكفّ أم القدح؛ فقال: ردّيه فما أنصفناه! تغدّينا و لم نغدّه! فأتيت بالغداء، و حضر أبو كامل مولاه فغنّاه:
أدر الكأس يمينا *** لا تدرها ليسار
اسق هذا ثم هذا *** صاحب العود النّضار
من كميت عتّقوها *** منذ دهر في جرار
ختموها بالأفاوي *** ه(2) و كافور وقار
فلقد أيقنت أنّي *** غير مبعوث لنار
سأروض الناس حتى *** يركبوا أير(3) الحمار
و ذروا من يطلب الج *** نة يسعى لتبار(4)
- فيه هزجان بالوسطى و البنصر لعمر الوادي و أبي كامل - فطرب و برز إلينا و عليه غلالة مورّدة، و شرب حتى سكر. فأقمت عنده مدّة ثم أذن بالانصراف؛ و كتب لي إلى عامله بالعراق بعشرة آلاف درهم.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:
لما ولي الوليد بن يزيد لهج بالغناء و الشّراب و الصيد، و حمل المغنّين من المدينة و غيرها إليه و أرسل إلى
ص: 35
أشعب فجاء(1) به، فألبسه سراويل من جلد قرد له ذنب، و قال/له: ارقص و غنّني شعرا يعجبني؛ فإن فعلت فلك ألف درهم؛ فغنّاه فأعجبه فأعطاه ألف درهم.
/و دخل إليه يوما، فلما رآه الوليد كشف عن أيره و هو منعظ - قال أشعب: فرأيته كأنه مزمار آبنوس مدهون - فقال لي: أ رأيت مثله قطّ؟ قلت: لا يا سيّدي؛ قال: فاسجد له، فسجدت ثلاثا؛ فقال: ما هذا؟ قلت: واحدة لأيرك و ثنتين لخصيتيك. قال: فضحك و أمر لي بجائزة.
قال: و تكلم بعض جلسائه و المغنّية تغنّي، فكره ذلك و أضجره؛ فقال لبعض جلسائه: قم فنكه، فقام فناكه و الناس حضور و هو يضحك.
و ذكرت جارية أنه واقعها يوما و هو سكران؛ فلما تنحّى عنها آذنه المؤذّن بالصلاة، فحلف ألاّ يصلّي بالناس غيرها؛ فخرجت متلثّمة فصلّت بالناس.
قال: و نزل على غدير ماء فاستحسنه. فلما سكر حلف ألاّ يبرح حتى يشرب ذلك الغدير كلّه و نام، فأمر العلاء بن البندار بالقرب و الرّوايا فأحضرت، فجعل ينزحه و يصبّه على الأرض و الكثب التي حولهم حتى لم يبق فيه شيء؛ فلما أصبح الوليد رآه قد نشف فطرب و قال: أنا أبو العباس! ارتحلوا. فارتحل الناس.
نسخت من كتاب الحسين بن فهم قال النّضر بن حديد حدّثني ابن أبي جناح قال أخبرني عمر بن جبلة:
أنّ الوليد بن يزيد بات عند امرأة وعدته المبيت؛ فقال حين انصرف:
قامت إليّ بتقبيل تعانقني *** ريّا العظام كأن المسك في فيها
أدخل فديتك لا يشعر بنا أحد *** نفسي لنفسك من داء تفدّيها
بتنا كذلك لا نوم على سرر *** من شدّة الوجد تدنيني و أدنيها
/حتى إذا ما بدا الخيطان(2) قلت لها *** حان الفراق فكاد الحزن يشجيها
ثم انصرفت و لم يشعر بنا أحد *** و اللّه عنّي بحسن الفعل يجزيها
و حدّثني النّضر بن حديد قال حدّثنا هشام بن الكلبيّ عن خالد بن سعيد قال:
مرّ الوليد بن يزيد و هو متصيّد بنسوة من بني كلب من بني المنجاب، فوقف عليهن و استسقاهنّ و حدّثهن و أمر لهنّ بصلة، ثم مضى و هو يقول:
و لقد مررت بنسوة أعشينني *** حور المدامع من بني المنجاب
فيهنّ خرعبة(3) مليح دلّها *** غرثى الوشاح دقيقة الأنياب
ص: 36
زين الحواضر ما ثوت في حضرها *** و تزين باديها من الأعراب
قال النّضر و حدّثني ابن الكلبيّ عن أبيه:
أن الوليد خرج يتصيّد ذات يوم، فصادت كلابه غزالا، فأتي به فقال: خلّوه(1)، فما رأيت أشبه منه جيدا و عينين بسلمى. ثم أنشأ يقول:
و لقد صدنا غزالا سانحا *** قد أردنا ذبحه لما سنح
فإذا شبهك ما ننكره *** حين أزجى(2) طرفه ثم لمح
فتركناه و لو لا حبّكم *** فاعلمي ذاك لقد كان انذبح
أنت يا ظبي طليق آمن *** فاغد في الغزلان مسرورا و رح
نسخت من كتاب الحسين بن فهم قال أخبرني عمرو عن أبيه عن عمرو بن واقد الدمشقيّ /قال:
/بعث الوليد بن يزيد إلى شراعة(3) بن الزّندبوذ، فلما قدم عليه قال: يا شراعة، إني لم أستحضرك لأسألك عن العلم و لا لأستفتيك في الفقه و لا لتحدّثني و لا لتقرئني القرآن؛ قال: لو سألتني عن هذا لوجدتني فيه حمارا.
قال: فكيف علمك بالفتوّة ؟ قال: ابن بجدتها، و على الخبير بها سقطت، فسل عما شئت. قال: فكيف علمك بالأشربة ؟ قال: ليسألني أمير المؤمنين عما أحبّ . قال: ما قولك في الماء؟ قال: هو الحياة، و يشركني فيه الحمار.
قال: فاللّبن ؟ قال: ما رأيته قطّ إلا ذكرت أميّ فاستحيت. قال: فالخمر؟ قال: تلك السارّة البارّة(4) و شراب أهل الجنة. قال: للّه درّك! فأيّ شيء أحسن ما يشرب عليه ؟ قال: عجبت لمن قدر أن يشرب على وجه السماء في كنّ من الحرّ و القرّ كيف يختار عليها شيئا!.
قال و أخبرنا عمرو عن أبيه عن يحيى بن سليم قال:
دعا الوليد بن يزيد ذات ليلة بمصحف؛ فلما فتحه وافق ورقة فيها: وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خٰابَ كُلُّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرٰائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقىٰ مِنْ مٰاءٍ صَدِيدٍ ، فقال: أ سجعا سجعا! علّقوه؛ ثم أخذ القوس و النّبل فرماه حتى مزّقه؛ ثم قال:
أتوعد كلّ جبّار عنيد *** فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا لاقيت ربّك يوم حشر *** فقل(5) للّه مزّقني الوليد
ص: 37
قال: فما لبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى قتل.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال حدّثني معاوية بن بكر عن يعقوب بن عيّاش المروزيّ (من أهل ذي(1) المروة) أن أباه حمل عدّة جوار إلى الوليد بن يزيد؛ فدخل إليه و عنده أخوه عبد الجبار و كان حسن الوجه و الشّعرة و فيّها؛ فأمر الوليد جارية منهنّ أن تغنّي:
لو كنت من هاشم أو من بني أسد *** أو عبد شمس أو أصحاب اللّوا الصّيد
و أمرها أخوه أن تغنّي:
أتعجب أن طربت لصوت حاد *** حدا بزلا يسرن ببطن واد
فغنّت ما أمرها به الغمر(2)؛ فغضب الوليد و احمرّ وجهه، و ظن أنها فعلت ذلك ميلا إلى أخيه. و عرفت الشرّ في وجهه، فاندفعت فغنّت:
أيها العاتب الذي خاف هجري *** و بعادي و ما عمدت(3) لذاكا
أ ترى أنّني بغيرك صبّ *** جعل اللّه من تظنّ فداكا
أنت كنت الملول في غير شيء *** بئس ما قلت ليس ذاك كذاكا
و لو أنّ الذي عتبت عليه *** خيّر الناس واحدا ما عداكا
فارض عنّي جعلت نعليك إنّي *** و العظيم الجليل أهوى رضاكا
/ - الشعر لعمر(4). و الغناء لمعبد من روايتي يونس و إسحاق، و لحنه من خفيف الثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. و ذكر حماد في أخبار ابن عائشة أن له فيه لحنا - قال: فسرّي عن الوليد و قال لها: ما منعك أن تغنّي ما دعوتك إليه ؟ قالت: لم أكن أحسنه، و كنت أحسن الصوت/الذي سألنيه، أخذته من ابن عائشة؛ فلما تبيّنت غضبك غنّيت هذا الصوت و كنت أخذته من معبد. تعني الذي اعتذرت به إليه.
ص: 38
لو كنت(1) من هاشم أو من بني أسد *** أو عبد شمس أو أصحاب اللّوا الصّيد(2)
أو من بني نوفل أو آل مطّلب *** أو من بني جمح الخضر الجلاعيد(3)
أو من بني زهرة(4) الأبطال قد عرفوا *** للّه درّك لم تهمم بتهديد
الشعر لحسّان بن ثابت، يقوله لمسافع بن عياض أحد بني تيم بن مرّة، و خبره يذكر بعد هذا. و الغناء لابن سريج خفيف رمل بالخنصر(5)، و قيل: إنه لمالك.
/و منها:
أتعجب أن طربت لصوت حاد *** حدا بزلا يسرن ببطن واد
فلا تعجب فإن الحبّ أمسى *** لبثنة في السّواد من الفؤاد
الشعر لجميل. و الغناء لابن عائشة رمل بالبنصر.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال:
عرضت على الوليد بن يزيد جارية مغنيّة؛ فقال لها: غنّي؛ فغنّت:
لو لا الذي حمّلت من حبّكم *** لكان من إظهاره مخرج
أو مذهب في الأرض ذو فسحة *** أجل و من حجّت له مذحج
لكن سباني منهم شادن *** مربّب بينهم أدعج
ص: 39
أغرّ ممكور هضيم الحشى *** قد ضاق عنه الحجل و الدّملج
فقال لها الوليد: لمن هذا الشعر؟ قالت: للوليد بن يزيد المخزوميّ . قال: فممّن أخذت الغناء؟ قالت: من حنين. فقال: أعيديه، فأعادته فأجادت؛ فطرب الوليد و نعر(1) و قال: أحسنت و أبى و جمعت كلّ ما يحتاج إليه في غنائك، و أمر بابتياعها، و حظيت عنده.
غنّى في هذا الصوت ابن سريج و لحنه رمل بالبنصر. و غنّى فيه إسحاق فيما ذكر الهشاميّ خفيف ثقيل.
/و ممّا يغنّى به من هذه القصيدة:
قد صرّح القوم و ما لجلجوا *** لجّوا علينا ليت لم يلججوا
باتوا و فيهم كالمها طفلة *** قد زانها الخلخال و الدّملج
غنّاه صباح(2) الخيّاط خفيف ثقيل بالبنصر. و غنّى فيه ابن أبي الكنّات خفيف ثقيل بالوسطى.
فأمّا خبر الشعر الذي قاله حسّان بن ثابت لمسافع بن عياض أحد بني تيم بن مرّة، فأخبرني به الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عثمان بن عبد الرحمن:
أنّ عبيد(3) اللّه بن معمر و عبد اللّه(4) بن عامر بن كريز اشتريا من عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه رقيقا ممّن سبي، ففضل عليهما ثمانون ألف درهم؛ فأمر بهما عمر أن يلزما(5). فمرّ/بهما طلحة(6) بن عبيد اللّه و هو يريد الصلاة في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم/فقال: ما لابن معمر يلازم ؟ فأخبر خبره؛ فأمر له بالأربعين ألفا(7) التي عليه تقضى عنه. فقال ابن معمر لابن عامر: إنها إن قضيت عنّي بقيت ملازما، و إن قضيت عنك لم يتركني طلحة حتى يقضي عنّي؛ فدفع إليه الأربعين ألفا(7) درهم فقضاها ابن عامر عن نفسه و خلّيت سبيله. فمرّ طلحة منصرفا من
ص: 40
الصلاة فوجد ابن معمر يلازم فقال: ما لابن معمر؟ أ لم آمر بالقضاء عنه! فأخبر بما صنع؛ فقال: أمّا ابن معمر فعلم أنّ له ابن عم لا يسلمه، احملوا عنه أربعين ألف درهم فاقضوها عنه، ففعلوا و خلّي سبيله. فقال حسّان بن ثابت لمسافع بن عياض بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة:
يا آل تيم أ لا تنهون جاهلكم *** قبل القذاف بصمّ كالجلاميد
فنهنهوه(1) فإنّي غير تارككم *** إن عاد ما اهتزّ ماء في ثرى عود
لو كنت من هاشم أو من بني أسد *** أو عبد شمس أو أصحاب اللّوا الصّيد
أو من بني نوفل أو آل مطّلب *** أو من بني جمح الخضر الجلاعيد
أو من بني زهرة الأبطال قد عرفوا *** للّه درّك لم تهمم بتهديد
أو في الذّؤابة من تيم إذا انتسبوا *** أو من بني الحارث البيض الأماجيد
لكن سأصرفها عنكم و أعدلها *** لطلحة بن عبيد اللّه ذي الجود
رجع الخبر إلى سياقة أخبار الوليد:
أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن عمرو قال قال الهيثم حدّثني ابن عيّاش قال:
/دخل أبو(2) الأقرع على الوليد بن يزيد؛ فقال له: أنشدني قولك في الخمر؛ فأنشده قوله:
كميت إذا شجّت و في الكأس وردة *** لها في عظام الشاربين دبيب
تريك القذى من دونها و هي دونه *** لوجه أخيها في الإناء قطوب
فقال الوليد: شربتها يا أبا الأقرع و ربّ الكعبة! فقال: يا أمير المؤمنين، لئن كان نعتي لها رابك لقد رابني معرفتك بها.
أخبرني الحسن قال حدّثني ابن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن عمرو قال قال المدائنيّ :
نظر الوليد بن يزيد إلى أم حبيب بنت عبد الرحمن بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف و قد مرّوا بين يديها بالشمع ليلا؛ فلما رآها أعجبته و راعه جمالها و حسنها؛ فسأل عنها فقيل له: إن لها زوجا؛ فأنشأ يقول:
ص: 41
إنما هاج لقلبي *** شجوه بعد المشيب
نظرة قد وقرت في ال *** قلب من أمّ حبيب
فإذا ما ذقت فاها *** ذقت عذبا ذا غروب(1)
خالط الراح بمسك *** خالص غير مشوب
/غنّاه ابن محرز خفيف رمل بالوسطى عن الهشاميّ ؛ و ذكر عمرو بن بانة أنه للأبجر، و هو الصحيح.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن النّضر بن عمرو عن العتبيّ قال:
لمّا ظهرت المسوّدة(2) بخراسان كتب نصر بن سيّار إلى الوليد(3) يستمدّه، فتشاغل عنه؛ فكتب إليه كتابا و كتب في أسفله يقول:
أرى خلل الرّماد وميض جمر *** و أحر بأن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى *** و إنّ الحرب مبدؤها الكلام
فقلت من التعجّب ليت شعري *** أ أيقاظ أميّة أم نيام
فكتب إليه الوليد: قد أقطعتك خراسان، فاعمل لنفسك أودع، فإني مشغول عنك بابن سريج و معبد و الغريض.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد عن ابن الصبّاح عن ابن الكلبيّ عن حمّاد الراوية قال:
دخلت يوما على الوليد و كان آخر يوم لقيته فيه، فاستنشدني فأنشدته كلّ ضرب من شعر أهل الجاهليّة و الإسلام؛ فما هشّ لشيء منه حتى أخذت في السّخف فأنشدته لعمّار(4) ذي مجنبذا(5):
/
أشتهي منك منك من *** ك مكانا مجنبذا(6)
ص: 42
فأجا(1) فيه فيه في *** ه بأير كمثل ذا
ليت أيري و حرك يو *** ما جميعا تجابذا(2)
فأخذ ذا بشعر ذا *** و أخذ ذا بقعر ذا
فضحك حتى استلقى و طرب، و دعا بالشراب فشرب؛ و جعل يستعيدني الأبيات فأعيدها حتى سكر و أمر لي بجائزة؛ فعلمت أن أمره قد أدبر. ثم أدخلت على أبي مسلم فاستنشدني فأنشدته، قول الأفوه(3):
لنا معاشر لم يبنوا لقومهم
فلما بلغت إلى قوله:
تهدى الأمور بأهل الرشد ما صلحت *** و إن تولّت فبالأشرار تنقاد
قال: أنا ذلك الذي تنقاد به الناس؛ فأيقنت حينئذ أنّ أمره مقبل.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: وجدت في كتاب(4) عن عبيد اللّه بن سعيد الزّهريّ عن عمر عن أبيه قال:
خرج الوليد بن يزيد و كان مع أصحابه على شراب؛ فقيل له: إن اليوم الجمعة؛ فقال: و اللّه لأخطبنّهم اليوم بشعر؛ فصعد المنبر فخطب فقال:
الحمد للّه وليّ الحمد *** أحمده في يسرنا و الجهد
و هو الذي في الكرب أستعين *** و هو الذي ليس له قرين
/أشهد في الدنيا و ما سواها *** أن لا إله غيره إلها
ما إن له في خلقه شريك *** قد خضعت لملكه الملوك
أشهد أن الدّين دين أحمد *** فليس من خالفه بمهتدي
و أنّه رسول ربّ العرش *** القادر الفرد الشديد البطش
أرسله في خلقه نذيرا *** و بالكتاب واعظا بشيرا
/ليظهر اللّه بذاك الدّينا *** و قد جعلنا قبل مشركينا
من يطع اللّه فقد أصابا *** أو يعصه أو الرسول خابا
ثم القرآن و الهدى السبيل *** قد بقيا لمّا مضى الرسول
ص: 43
كأنّه لما بقى لديكم *** حيّ صحيح لا يزال فيكم
إنّكم من بعد إن تزلّوا *** عن قصده أو نهجه تضلّوا
لا تتركن نصحي فإني ناصح *** إنّ الطريق فاعلمنّ واضح
من يتّق اللّه يجد غبّ التّقى *** يوم الحساب صائرا إلى الهدى
إن التّقى أفضل شيء في العمل *** أرى جماع البرّ فيه قد دخل
خافوا الجحيم إخوتي لعلّكم *** يوم اللقاء تعرفوا ما سرّكم
قد قيل في الأمثال لو علمتم *** فانتفعوا بذاك إن عقلتم
ما يزرع الزارع يوما يحصده *** و ما يقدّم من صلاح يحمده
فاستغفروا ربّكم و توبوا *** فالموت منكم فاعلموا قريب
ثم نزل.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن أبيه عن الوليد البندار(1) قال:
/حججت مع الوليد بن يزيد؛ فقلت له لما أراد أن يخطب الناس: أيها الأمير، إن اليوم يوم يشهده الناس من جميع الآفاق، و أريد أن تشرّفني بشيء. قال: و ما هو؟ قلت: إذا علوت المنبر دعوت بي فيتحدّث الناس بذلك و بأنك أسررت إليّ شيئا؛ فقال: أفعل. فلما جلس على المنبر قال: الوليد البندار؛ فقمت إليه؛ فقال: ادن منّي فدنوت؛ فأخذ بأذني ثم قال: البندار ولد زنا، و الوليد ولد زنا، و كلّ من ترى حولنا ولد زنا، أ فهمت ؟ قلت: نعم؛ قال: انزل الآن، فنزلت.
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ عن أشعب قال:
دخلت على الوليد بن يزيد الخاسر و قد تناول نبيذا، فقال لي: تمنّ ؛ فقلت: يتمنّى أمير المؤمنين ثم أتمنّى؛ قال: فإنما أردت أن تغلبني، فإني لأتمنّى ضعف ما تتمنّى به كائنا ما كان؛ قلت: فإني أتمنّى كفلين(2) من العذاب؛ فضحك ثم قال: إذا نوفّرهما عليك. ثم قال لي: ما أشياء تبلغني عنك ؟ قلت: يكذبون عليّ . قال: متى عهدك بالأصمّ؟ قلت: لا عهد لي به. فأخرج أيره كأنه ناي مدهون، فسجدت له ثلاث سجدات؛ فقال: ويلك إنما يسجد الناس سجدة واحدة؛ فقلت: واحدة للأصمّ و اثنتين لخصيتيك.
ص: 44
أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا محمد بن عليّ بن حمزة قال حدّثني عبد الصمد بن موسى الهاشميّ قال:
إنما أغلى الجوهر بنو أميّة؛ و لقد كان الوليد بن يزيد يلبس منه العقود و يغيّرها في اليوم مرارا كما تغيّر الثياب شغفا؛ فكان يجمعه من كلّ وجه و يغالي به.
قال: و كان يوما داره على فرس له و جارية تضرب بطبل قدّامه؛ فأخذه منها و وضعه على رقبته، و نفر الفرس من صوت الطبل فخرج به على أصحابه في هذه الهيئة، و كان خليعا.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الخرّاز عن المدائنيّ عن جويرية بن أسماء قال:
قدم/الوليد بن يزيد المدينة؛ فقلت لإسماعيل بن يسار: أحذنا(1) ممّا أعطاك اللّه؛ فقال: هلمّ أقاسمك إن قبلت، بعث إليّ براوية(2) من خمر.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قال حدّثني رجل قال:
كان الوليد بن يزيد إذا أصبح يوم الاثنين تغدّى و شرب رطلين ثم جلس للناس. قال: فحدّثني عمر الوادي قال: دخلت عليه و عنده أصحابه و قد تغدّى و هو يشرب؛ فقال لي: اشرب فشربت، و طرب، و غنّى صوتا واحدا و أخذ دفّافة فدفف بها، فأخذ كلّ واحد منا دفافة فدفف(3) بها، و قام و قمنا حتى بلغنا إلى الحاجب؛ فلما رآنا الحاجب صاح بالناس: الحرم الحرم؛ اخرجوا. و دخل الحاجب فقال: جعلني اللّه فداءك، اليوم يحضر فيه الناس؛ فقال له: اجلس و اشرب؛ فقال: إنما أنا حاجب فلا تحملني على الشّراب فما شربته قطّ؛ قال: اجلس فاشرب، فامتنع؛ فما(4) فارقناه حتى صببنا في حلقه بالقمع و قام و هو سكران.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن شريك قال حدّثني عمّي علي بن عمرو قرقارة قال حدّثني أنيف بن هشام بن الكلبيّ و مات قبل أبيه قال حدّثني أبي قال:
/خرج الوليد بن يزيد بن مقصورة له إلى مقصورة؛ فإذا هو ببنت له معها حاضنتها، فوثب عليها فاقترعها؛ فقالت له الحاضنة: إنها المجوسيّة؛ قال: اسكتي! ثم قال:
ص: 45
من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللذّة الجسور
و أحسب أنا أنّ هذا الخبر باطل؛ لأنّ هذا الشعر لسلم الخاسر، و لم يدرك زمن الوليد.
أخبرنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال أخبرني مسلمة بن سلّم الكاتب قال:
قال الوليد بن يزيد: وددت أنّ كل كأس تشرب من خمر بدينار، و أن كلّ حر في جبهة أسد، فلا يشرب إلا سخيّ ، و لا ينكح إلا شجاع.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قال: سمعت رجلا يحدّث أبي بالكوفة قال:
أرسلت إلى الوليد جفنة مملوءة قوارير فرعونيّة لم ير(1) مثلها قطّ. فلما أمسينا صببنا فيها الشراب في ليلة أربع عشرة، حتى إذا استوى القمر على رءوسنا و صار في الجفنة قال الوليد: في أيّ منزلة القمر الليلة ؟ فقال بعضهم: في الحمل، و قال بعضهم: في منزلة كذا و كذا من منازل القمر؛ فقال بعض جلسائه: القمر في الجفنة؛ قال: قاتلك اللّه! أصبت ما في نفسي! لتشربنّ الهفتجنّة(2). فقال مصعب: فسأل أبي عن الهفتجنّة فقال: شرب كانت الفرس تشربه سبعة أسابيع. فشرب تسعة و أربعين يوما.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزبير قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الزّهريّ عن عبد اللّه بن عمران بن أبي فروة قال أخبرني خالد صامة المغنّي و كان من أحسن الناس غناء على عود، قال:
بعث إليّ الوليد بن يزيد، فقدمت عليه، فوجدت عنده معبدا و مالكا و الهذليّ و عمر الوادي و أبا كامل؛ فغنّى القوم و نحن في مجلس يا له من مجلس! و غلام للوليد يقال له سبرة يسقي القوم الطّلاء، إذ جاءت نوبة الغناء إليّ ، فأخذت/عودي فغنّيت بأبيات قالها عروة بن أذينة يرثي أخاه بكرا:
سرى همّي و همّ المرء يسري *** و غار النجم إلا قيد(3) فتر
أراقب في المجرّة كلّ نجم *** تعرّض في المجرّة كيف يجري
ص: 46
بحزن ما أزال له مديما *** كأنّ القلب أسعر حرّ جمر
على بكر أخي ولّى حميدا *** و أيّ العيش يحسن بعد بكر
- غنّاه ابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى. و غنّى فيه ابن عبّاد الكاتب و لحنه رمل بالوسطى عن الهشاميّ - قال خالد: فقال لي الوليد: أعد يا صام فأعدت؛ فقال: من يقوله ويحك ؟ قلت: ابن أذينة؛ قال: هذا و اللّه العيش الذي نحن فيه على رغم أنفه، لقد تحجّر(1) واسعا. قال عبد الرحمن بن عبد اللّه قال عبد اللّه بن أبي فروة: و أنشدها ابن أذينة ابن أبي عتيق؛ فضحك ابن أبي عتيق و قال: كلّ العيش يحسن حتى الخبز و الزيت؛ فحلف ابن أذينة لا يكلّمه أبدا؛ فمات ابن أبي عتيق و ابن أذينة مهاجر له.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد قال: بلغني أن سكينة بنت الحسين رضي اللّه عنها أنشدت، و أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير عن مصعب قال: أنشدت سكينة، و أخبرني الحسين بن يحيى عن عبّاد عن أبيه عن أبي يحيى العباديّ :
أنّ سكينة أنشدت أبيات عروة بن أذينة في أخيه بكر؛ فلما انتهت إلى قوله:
على بكر أخي ولّى حميدا *** و أيّ العيش يحسن بعد بكر
قالت سكينة: و من أخوه بكر! أ ليس الدّحداح(2) الأسيّد القصير الذي كان يمرّ بنا صباحا و مساء؟ قالوا: نعم؛ قالت: كلّ العيش و اللّه يصلح و يحسن بعد بكر حتى الخبز و الزيت.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ عن إسحاق قال:
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة، فجمع المغنّين و سبّق(3) بينهم ببدرة، و قال: أيّكم كان أحسن غناء فهي له؛ فاجتمعوا. فبلغ الخبر ابن سريج، فجاء و قد أغلق الباب؛ فقال للحاجب: استأذن لي؛ قال: لا يمكن و قد أغلق الباب، و لو كنت جئت قبل أن يغلق الباب لاستأذنت لك. قال: فدعني أغنّ من شقّ الباب؛ قال نعم. فسكت حتى فرغ جميع المغنّين من غنائهم ثم اندفع فغنّى:
سرى همّي و همّ المرء يسري
فنظر المغنّون بعضهم إلى بعض و عرفوه؛ فلما فرغ قال سليمان: أحسن و اللّه! هذا و اللّه أحسن منكم غناء، أخرج يا غلام إليه بالبدرة، فأخرجها إليه.
ص: 47
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ عن ابن جعدبة:
أنّ رجلا أهدى إلى هشام بن عبد الملك خيلا، فكان فيها فرس مربوع(1) قريب الرّكاب؛ فعرف الوليد منه ما لم يعرف هشام، فنهر الرجل و شتمه و قال. أ تجيء بمثل هذا إلى أمير المؤمنين! ردّوه عليه، فردّوه. فلما خرج وجّه إليه بثلاثين ألف درهم و أخذه منه؛ فهو فرسه الذي يسمّيه السّنديّ .
فأخبرني بعض أصحابي أن الوليد خرج يوما يتصيّد وحده؛ فانتدب إليه مولّى لهشام يريد الفتك به. فلما بصر به الوليد حاوله فقهره بفرسه الذي كان/تحته فقتله. و قال في ذلك:
أ لم تر أنّي بين ما أنا آمن *** يخبّ بي السّنديّ قفرا فيافيا
تطلّعت من غور فأبصرت فارسا *** فأوجست منه خيفة أن يرانيا
و لما بدا لي أنما هو فارس *** وقفت له حتى أتى فرمانيا
رماني ثلاثا ثم إنّي طعنته *** فروّيت منه صعدتي و سنانيا
غنّاه أبو كامل لحنا من الماخوريّ بالبنصر. و لإبراهيم فيه ثقيل أوّل، و قيل: إن له فيه ماخوريّا آخر. و فيه لعمر الواديّ ثاني ثقيل. و لمالك رمل من رواية الهشاميّ .
قال: و قال الوليد أيضا في فرسه السّنديّ :
قد أغتدي بذي سبيب هيكل(2) *** مشرّب(3) مثل الغراب أرجل(4)
/أعددته لحلبات الأحول *** و كلّ نقع ثائر لجحفل
و كلّ خطب ذي شئون معضل
فقال هشام: لكنّا أعددنا له ما يسوؤه، نخلعه و نقصيه، فيكون مهانا مدحورا مطّرحا.
أربابها شفقا(1) عليها نومهم *** تحليل موضعها و لمّا يهجعوا
حتى إذا فسح الربيع ظنونهم *** نثر الخريف ثمارها فتصدّعوا
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي العالية، و أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن سعيد عن الزّبير بن بكّار عن عمّه:
أنّ الوليد بن يزيد لمّا انهمك على شربه و لذّاته و رفض الآخرة وراء ظهره و أقبل على القصف و العسف مع المغنّين مثل مالك و معبد و ابن عائشة و ذويهم، كان نديمه القاسم بن الطويل العباديّ ، و كان أديبا ظريفا شاعرا، فكان لا يصبر عنه؛ فغنّاه معبد ذات يوم شعر عديّ :
بكر العاذلون في وضح الصب *** ح يقولون لي أ لا تستفيق
لست أدري و قد جفاني خليلي *** أ عدوّ يلومني أم صديق
/ثم قالوا ألا اصبحونا فقامت *** قينة في يمينها إبريق
قدّمته على عقار كعين الدّ *** يك صفّى سلافها الرّاووق
- فيه لمعبد ثقيل و يقال إنه لحنين. و فيه لمالك خفيف رمل. و فيه لعبد اللّه بن العباس رمل كلّ ذلك عن الهشاميّ - قال: فاستحسنه الوليد و أعجب به و طرب عليه و جعل يشرب إلى أن غلب عليه السكر فنام في موضعه، فانصرف ابن الطويل. فلما أفاق الوليد سأل عنه، /فعرّف حين انصرافه؛ فغضب و قال و هو سكران لغلام كان واقفا على رأسه يقال له سبرة: اثنتي برأسه، فمضى الغلام حتى ضرب عنقه و أتاه برأسه فجعله في طست بين يديه؛ فلما رآه أنكره و سأل عن الخبر فعرّفه، فاسترجع و ندم على ما فرط منه، و جعل يقلّب الرأس بيده. ثم قال يرثيه:
قد كنت آوي من هوا *** ك إلى ذرى كهف ظليل
أصبحت بعدك واحدا *** فردا بمدرجة السيول
/ - غنّاه الغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. و غنّى فيه سليم لحنا من الثقيل الأوّل بالبنصر عن الهشاميّ ، و ذكر غيره أن لحن الغريض لدحمان، و ذكر حبش أنّه لأبي كامل، و ذكر غيره أن(1) لحن الغريض لدحمان - قال: ثم دخل إلى جواريه فقال: و اللّه ما أبالي متى جاءني الموت بعد الخليل ابن الطويل. فيقال: إنه لم يعش بعده إلا مديدة حتى قتل. و اللّه أعلم.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال روى الهيثم بن عديّ عن ابن عيّاش عن حمّاد الراوية قال:
دعاني الوليد يوما من الأيام في السّحر و القمر طالع و عنده جماعة من ندمائه و قد اصطبح؛ فقال: أنشدني في النّسيب؛ فأنشدته أشعارا كثيرة، فلم يهشّ لشيء منها، حتى أنشدته قول عمّار ذي كناز(2):
اصبح(3) القوم قهوة *** في الأباريق تحتذى
من كميت مدامة *** حبّذا تلك حبّذا
فطرب. ثم رفع رأسه إلى خادم و كان قائما كأنه الشمس، فأومأ إليه فكشف سترا خلف ظهره، فطلع منه أربعون وصيفا و وصيفة كأنهم اللؤلؤ المنثور في أيديهم الأباريق و المناديل؛ فقال: اسقوهم، فما بقي أحد إلا أسقي، و أنا في خلال ذلك أنشده الشعر؛ فما زال يشرب و يسقى إلى طلوع الفجر. ثم لم نخرج عن حضرته/حتى حملنا الفرّاشون في البسط فألقونا في دار الضيافة، فما أفقنا حتى طلعت الشمس. قال حمّاد: ثم أحضرني فخلع عليّ خلعا من فاخر ثيابه و أمر لي بعشرة آلاف درهم و حملني على فرس.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ عن أبي بكر الهذليّ قال:
كان بين الحكم بن الزّبير أخي أبي بكر بن كلاب و بين بكر بن نوفل أحد بني جعفر بن كلاب شيء في وكالة للوليد بن يزيد يخاصم الجعفريّ في الرّحبة(4) من أرض دمشق، و كان الجعفريّ قد استولى عليها فقطع شفره الأعلى، فاستعدى عليه هشاما فلم يعده؛ فقال الوليد في ذلك:
ص: 50
/
أيا حكم المتبول(1) لو كنت تعتزى(2)*** إلى أسرة ليسوا بسود زعانف
لأيقنت قد أدركت و ترك عنوة *** بلا حكم قاض بل بضرب السوالف
- غنّاه الهذليّ ثقيلا أوّل عن الهشاميّ و يونس - قال: فلما استخلف الوليد بعث إلى بكر بن نوفل الجعفريّ (3)فقال: أ لا(4) تعطي حكم بن الزّبير حقّه! قال: لا؛ فأمر به فشترت(5) عينه. ثم قال:
يا ربّ أمر ذي شئون جحفل(6) *** قاسيت فيه جلبات(7) الأحول
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال:
خرج الوليد إلى متصيّد له فأقام به، و مات له ابن يقال له مؤمن بن الوليد، فلم يقدر أحد أن ينعاه إليه، حتى ثمل فنعاه إليه سنان الكاتب و كان مغنّيا؛ فقال الوليد - و في هذا الشعر غناء من الأصوات التي اختيرت للواثق و الرشيد قبله -:
أتاني سنان بالوداع لمؤمن *** فقلت له إني إلى اللّه راجع
ألا أيّها الحاثي(8) عليه ترابه *** هبلت و شلّت من يديك الأصابع
يقولون لا تجزع و أظهر جلادة *** فكيف بما تحنى عليه الأضالع
عروضه من الطويل. غنّاه سنان الكاتب، و لحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لأبي كامل خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و قيل: إن فيه لحنا لعبد اللّه بن يونس صاحب أيلة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني عقيل بن عمرو قال:
ص: 51
قال يزيد بن أبي مساحق(1) السّلميّ مؤدّب الوليد شعرا و بعث به إلى النّوار جارية الوليد، فغنّته به، و هو:
مضى الخلفاء بالأمر الحميد *** و أصبحت المذمّة للوليد
تشاغل عن رعيّته بلهو *** و خالف فعل ذي الرأي الرشيد
/فكتب إليه الوليد:
ليت حظّي اليوم من كلّ معاش لي و زاد
قهوة أبذل فيها *** طارفي ثم تلادي
فيظلّ القلب منها *** هائما في كلّ واد
إنّ في ذاك صلاحي *** و فلاحي و رشادي
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إبراهيم بن الوليد الحمصيّ قال حدّثنا هارون بن الحسن العنبريّ قال:
قال الوليد بن يزيد: يا بني أميّة، إياكم و الغناء فإنّه ينقص الحياء و يزيد في الشهوة و يهدم المروءة و يثوّر على الخمر و يفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بدّ فاعلين، فجنّبوه النساء فإنّ الغناء رقية الزّنا. و إني لأقول ذلك فيه على أنه/أحبّ إليّ من كل لذّة و أشهى إليّ من الماء البارد إلى ذي الغلّة، و لكن الحقّ أحقّ أن يقال.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال حدّثني بعض موالي الوليد قال:
دخلت إليه و قد عقد لابنيه بعده و قدّم عثمان؛ فقلت له: يا أمير المؤمنين، أقول قول الموثوق بنصيحته أو يسعني السكوت ؟ قال: بل قل قول الموثوق به؛ فقلت: إن الناس قد أنكروا ما فعلت و قالوا: يبايع لمن لم يحتلم؛ و قد سمعت ما أكره فيك؛ فقال: عضّوا ببظور أمهاتكم، أ فأدخل بيني و بين ابني غيري؛ فيلقى منه كما لقيت من الأحول بعد أبي! ثم أنشأ يقول:
سرى طيف ذا الظبي بالعاقدا *** ن ليلا فهيّج قلبا عميدا
و أرّق عيني على غرّة *** فباتت بحزن تقاسى السّهودا
/نؤمل عثمان بعد الولي *** د للعهد فينا و نرجو سعيدا(2)
ص: 52
كما كان إذ كان في دهره *** يزيد يرجّي لتلك الوليدا
على أنها شسعت(1) شسعة *** فنحن نرجّي لها أن تعودا
فإن هي عادت فعاص(2) القري *** ب منها لتؤيس منها البعيدا
- غنّاه أبو كامل ثاني ثقيل بالبنصر من أصوات قليلة الأشباه. و ذكر عمرو بن بانة أن فيه لعمر الوادي لحنا من الماخوريّ بالوسطى. و ذكر الهشاميّ أن فيه خفيف رمل لحكم، و ذكرت دنانير عن حكم أنه لعمر الوادي، و ذكر حبش أن الثقيل الثاني لمالك و أن فيه لفضل النجّار رملا بالبنصر - أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن سعيد عن الزّبير بن بكّار قال: هو:
سرى طيف ظبي بأعلى الغوير
و لكن هذا تصحيف سليمان السّوادي أو قال: خليد.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال:
كان الوليد قد بايع لابنيه الحكم و عثمان، و هو أوّل من بايع لابن سرّيّة أمة، و لم يكونوا يفعلون ذلك، و أخذهما يزيد بن الوليد الناقص، فحبسهما ثم قتلهما؛ و فيهما يقول ابن أبي عقب:
/
إذا قتل الخلف المديم لسكره *** بقفر من البخراء(3) أسّس في الرّمل
و سيق بلا جرم إلى الحتف و الرّدى *** بنيّاه حتى يذبحا مذبح السّخل
فويل بني مروان ما ذا أصابهم *** بأيدي بني العباس بالأسر و القتل
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني علي بن محمد النّوفليّ قال حدّثني أبي عن العلاء البندار قال:
كان الوليد زنديقا، و كان رجل من كلب يقول بمقالته مقالة الثّنويّة(4)؛ فدخلت على الوليد يوما و ذلك الكلبيّ عنده، و إذا بينهما سفط قد رفع رأسه عنه فإذا ما يبدو لي منه حرير أخضر؛ فقال: ادن يا علاء فدنوت، فرفع الحريرة فإذا في السّفط صورة إنسان و إذا الزئبق و النوشادر قد جعلا في جفنه فجنفه يطرف كأنه يتحرّك؛ فقال:
يا علاء، هذا ماني(5)، لم يبتعث اللّه نبيّا قبله و لا يبتعث نبيّا بعده. فقلت: يا أمير المؤمنين، اتّق اللّه/و لا يغرّنّك
ص: 53
هذا الذي ترى عن دينك. فقال له الكلبيّ : يا أمير المؤمنين، أ لم أقل لك: إن العلاء لا يحتمل هذا الحديث. قال العلاء: و مكثت أياما، ثم جلست مع الوليد على بناء كان بناه في عسكره يشرف به و الكلبيّ عنده، إذ نزل من عنده و قد كان الولد حمله على برذون هملاج(1) أشقر من أفره ما سخّر، فخرج على برذونه ذلك فمضى به في الصحراء حتى غاب عن العسكر؛ فما شعر إلاّ و أعراب قد جاءوا به يحملونه منفسخة عنقه ميّتا/و برذونه يقاد حتى أسلموه.
فبلغني ذلك، فخرجت متعمّدا حتى أتيت أولئك الأعراب، و قد كانت لهم أبيات بالقرب منه في أرض البخراء لا حجر فيها و لا مدر، فقلت لهم: كيف كانت قصّة هذا الرجل ؟ فقالوا: أقبل علينا على برذون، فو اللّه لكأنه دهن يسيل على صفاة من فراهته، فعجبنا لذلك؛ إذ انقضّ رجل من السماء عليه ثياب بيض فأخذ بضبعيه(2) فاحتمله ثم نكسه و ضرب برأسه الأرض فدقّ عنقه ثم غاب عن عيوننا؛ فاحتملناه فجئنا به.
و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الخرّاز عن المدائنيّ قال:
لما أكثر الوليد بن يزيد التهتّك و انهمك في اللذّات و شرب الخمر و بسط المكروه على ولد هشام و الوليد و أفرط في أمره و غيّه، ملّ الناس أيامه و كرهوه. و كان قد عقد لابنيه بعده و لم يكونا بلغا؛ فمشى الناس بعضهم إلى بعض في خلعه، و كان أقواهم في ذلك يزيد الناقص بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، فمشى إلى أخيه العباس - و كان امرأ صدق و لم يكن في بني أميّة مثله، كان يتشبّه بعمر بن عبد العزيز - فشكا إليه ما يجري على الناس من الوليد؛ فقال له: يا أخي، إن الناس قد ملّوا بني مروان، و إنّ مشى بعضكم في أمر(3) بعض أكلتم، و للّه أجل لا بدّ أن يبلغه فانتظره. فخرج من عنده و مشى إلى غيره، فبايعه جماعة من اليمانية الوجوه؛ فعاد إلى أخيه و معه مولّى له و أعاد عليه القول و عرّض له بأنه قد دعي إلى الخلافة؛ فقال له: و اللّه لو لا أني لا آمنه عليك من تحامله لوجّهت بك إليه مشدودا؛ فنشدتك اللّه ألاّ تسعى في شيء من هذا. فانصرف/من عنده و جعل يدعو الناس إلى نفسه. و بلغ الوليد ذلك فقال يذكر قومه و مشى بعضهم إلى بعض في خلعه:
سلّ همّ النفس عنها *** بعلنداة(4) علاة
تتّقي الأرض و تهوي *** بخفاف مدمجات
ذاك أم ما بال قومي *** كسروا سنّ قناتي
و استخفّوا بي و صاروا *** كقرود خاسئات
ص: 54
الشعر للوليد بن يزيد بن عبد الملك. و الغناء لأبي كامل غزيّل الدّمشقيّ ماخوريّ بالبنصر. و في هذه القصيدة يقول الوليد بن يزيد:
أصبح اليوم وليد *** هائما بالفتيات
/عنده راح و إبري *** ق و كأس بالفلاة
ابعثوا خيلا لخيل *** و رماة لرماة
و أخبرني بالسبب في مقتله الحسن بن عليّ قال أخبرنا أحمد بن الحارث قال حدّثني المدائنيّ عن جويرية بن أسماء، و أخبرني به ابن أبي الأزهر عن حمّاد عن أبيه عن المدائنيّ عن جويرية بن أسماء قال: قال ابن(1) بشر بن الوليد بن عبد الملك:
لمّا أظهر الوليد بن يزيد أمره و أدمن على اللهو و الصيد و احتجب عن الناس و والى بين الشرب و انهمك في اللذّات، سئمه(2) الناس و وعظه من أشفق عليه من/أهله؛ فلما لم يقلع دبّوا في خلعه. فدخل أبي بشر بن الوليد على عمّي العباس بن الوليد و أنا معه، فجعل يكلّم عمّي في أن يخلع الوليد بن يزيد و معه عمي يزيد بن الوليد، فكان العبّاس ينهاه و أبي يردّ عليه؛ فكنت أفرح و أقول في نفسي: أرى أبي يجترئ أن يكلّم عمّي و يردّ عليه؛ فقال العباس: يا بني مروان، أظن أن اللّه قد أذن في هلاككم. ثم قال العباس:
إني أعيذكم باللّه من فتن *** مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إنّ البريّة قد ملّت سياستكم *** فاستمسكوا بعمود الدّين و ارتدعوا
لا تلحمنّ (3) ذئاب الناس أنفسكم *** إنّ الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا
لا تبقرنّ بأيديكم بطونكم *** فثمّ لا فدية تغني و لا جزع(4)
قال المدائنيّ عن رجاله: فلما استجمع ليزيد أمره و هو متبدّ أقبل إلى دمشق، و بين مكانه الذي كان متبدّيا فيه و بين دمشق أربع ليال، فأقبل إلى دمشق متنكّرا في سبعة أنفس على حمر و قد بايع له أكثر أهل دمشق و بايع له أكثر أهل المزّة. فقال مولّى لعبّاد بن زياد: إني لبجرود - و بين جرود و دمشق مرحلة - إذ طلع علينا سبعة معتمّون(5) على حمر فنزلوا، و فيهم رجل طويل جسيم، فرمى بنفسه فنام و ألقوا عليه ثوبا، و قالوا لي: هل عندك شيء نشتريه من طعام ؟ فقلت: أمّا بيع فلا، و عندي من قراكم ما يشبعكم؛ فقالوا: فعجّله؛ فذبحت لهم دجاجا و فراخا و أتيتهم بما حضر من عسل و سمن و شوانيز(6)، و قلت: أيقظوا صاحبكم/للغداء؛ فقالوا: هو محموم لا يأكل؛ فسفروا للغداء
ص: 55
فعرفت بعضهم، و سفر النائم فإذا هو يزيد بن الوليد، فعرفته فلم يكلمني. و مضوا ليدخلوا دمشق ليلا في نفر من أصحابه مشاة إلى معاوية بن مصاد(1) و هو بالمزّة - و بينها و بين دمشق ميل - فأصابهم مطر شديد، فأتوا منزل معاوية فضربوا بابه و قالوا: يزيد بن الوليد؛ فقال له معاوية: الفراش، ادخل أصلحك اللّه؛ قال: في رجلي طين و أكره أن أفسد عليك بساطك؛ فقال: ما تريدني(2) عليه أفسد. فمشى على البساط و جلس على الفراش، ثم كلّم معاوية فبايعه. و خرج إلى دمشق فنزل دار ثابت بن سليمان الحسنيّ (3) مستخفيا، و على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجّاج بن يوسف، فخاف عبد الملك الوباء فخرج فنزل قطنا(4)، و استخلف ابنه على دمشق و على شرطته أبو العاج كثير بن عبد اللّه السّلميّ . و تمّ ليزيد أمره فأجمع على الظهور. و قيل لعامل دمشق: إنّ يزيد خارج فلم يصدّق.
و أرسل يزيد/إلى أصحابه بين المغرب و العشاء في ليلة الجمعة من جمادى الآخرة سنة سبع(5) و عشرين و مائة، فكمنوا في ميضأة عند باب الفراديس(6)؛ حتى إذا أذّنوا العتمة دخلوا المسجد مع الناس فصلّوا. و للمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل؛ فإذا خرج الناس خرج الحرس و أغلق صاحب المسجد الأبواب، و دخل الدار من باب المقصورة فيدفع المفاتيح إلى من يحفظها/و يخرج. فلما صلّى الناس العتمة صاح الحرس بالناس فخرجوا، و تباطأ أصحاب يزيد الناقص، فجعلوا يخرجونهم من باب و يدخلون من باب، حتى لم يبق في المسجد إلا الحرس و أصحاب يزيد، فأخذوا الحرس. و مضى [يزيد بن](7) عنبسة [السّكسكيّ ](7) إلى يزيد فأخبره و أخذه بيده و قال: قم يا أمير المؤمنين و أبشر بعون اللّه و نصره؛ فأقبل و أقبلنا و نحن اثنا عشر رجلا. فلما كنّا عند سوق القمح لقيهم فيها مائتا رجل من أصحابهم، فمضوا حتى دخلوا المسجد و أتوا باب المقصورة، و قالوا: نحن رسل الوليد، ففتح لهم خادم الباب، و دخلوا فأخذوا الخادم، و إذا أبو العاج سكران فأخذوه و أخذوا خزّان البيت(8) و صاحب البريد؛ و أرسل إلى كلّ من كان يحذره فأخذه. و أرسل من ليلته إلى محمد بن عبيدة مولى سعيد بن العاص و هو على بعلبكّ ، و إلى عبد الملك بن محمد بن الحجّاج فأخذهما. و بعث أصحابه إلى الخشبيّة(9) فأتوه؛ و قال للبوّابين: لا تفتحوا الأبواب غدوة إلاّ لمن أخبركم بشعار كذا و كذا. قال: فتركوا الأبواب في السلاسل. و كان في المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة، فلم يكن الخزّان قبضوه، فأصابوا سلاحا كثيرا فأخذوه و أصبحوا، و جاء(10) أهل المزّة مع حريث بن أبي الجهم. فما انتصف النهار حتى بايع الناس يزيد و هو يتمثّل قول النابغة:
ص: 56
إذا استنزلوا عنهنّ للطعن أرقلوا *** إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
فجعل أصحابه يتعجّبون و يقولون: انظروا إلى هذا! كان قبيل [الصبح](1) يسبّح و هو الآن ينشد الشعر.
قال(2): و أمر يزيد عبد العزيز بن الحجّاج بن عبد الملك بن/مروان فوقف بباب الجابية فنادى: [من كان له عطاء فليأت إلى عطائه، و من لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة](3)؛ فبايع له الناس و أمر بالعطاء. قال: و ندب يزيد بن الوليد الناس إلى قتال الوليد بن يزيد مع عبد العزيز، و قال: من انتدب معه فله ألفان، فانتدب ألفا رجل؛ فأعطاهم و قال: موعدكم ذنبة(4)؛ فوافى ذنبة ألف و مائتا رجل؛ فقال: ميعادكم مصنعة بالبرّيّة و هي لبنى عبد العزيز بن الوليد؛ فوافاه ثمانمائة رجل، فسار فوافاهم ثقل(5) الوليد فأخذوه و مع عبد العزيز فرسان منهم منصور بن جمهور و يعقوب بن عبد الرحمن السّلميّ و الأصبغ بن ذؤالة و شبيب بن أبي مالك الغسّانيّ و حميد بن نصر اللّخميّ ، فأقبلوا فنزلوا قريبا من الوليد. فقال الوليد: أخرجوا لي سريرا فأخرجوه فصعد عليه. و أتاه خبر العباس بن الوليد: إنّي أجيئك. و أتى الوليد بفرسين الذائد(6) و السّنديّ ؛ و قال: أ عليّ يتواثب الرجال و أنا أثب على الأسد و أتخصّر(7) الأفاعي!. و هم ينتظرون العباس أن يأتيهم و لم يكن بينهم كبير قتال، فقتل/عثمان(8) الخشبيّ ، و كان من أولاد الخشبيّة الذين كانوا مع المختار(9). و بلغ عبد العزيز بن الحجّاج أن العباس بن الوليد يأتي الوليد؛ فأرسل منصور بن جمهور في جريدة(9) خيل و قال: إنكم تلقون العباس بن الوليد و معه بنوه في الشّعب فخذوه. و خرج منصور/في تلك الخيل و تقدّموا إلى الشّعب، و إذا العبّاس و معه ثلاثون(10) قد تقدّموا أصحابه؛ فقال له: اعدل إلى عبد العزيز، فشتمهم؛ فقال له منصور: و اللّه لئن تقدّمت لأنفذنّ حصينك(11) بالرّمح؛ فقال: إنا للّه! فأقبلوا به يسوقونه إلى عبد العزيز، فقال له عبد العزيز: بايع ليزيد؛ فبايع و وقف؛ و نصبوا(12) راية و قالوا: هذا العباس قد بايع. و نادى منادي عبد العزيز؛ من لحق بالعباس بن الوليد فهو آمن؛ فقال العباس: إنا للّه! خدعة من خدع الشيطان! هلك و اللّه بنو مروان!. فتفرّق الناس عن الوليد و أتوا العباس. و ظاهر الوليد في درعين و قاتلهم. و قال الوليد: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، فجاء جماعة بعدّة رءوس، فقال: اكتبوا أسماءهم؛ فقال له رجل من
ص: 57
مواليه: ليس هذا يا أمير المؤمنين يوما يعامل فيه بالنّسيئة. و ناداهم رجال: اقتلوا اللّوطيّ قتلة قوم لوط، فرموه بالحجارة. فلما سمع ذلك دخل القصر و أغلق الباب و قال:
دعوا لي سليمى و الطّلاء و قينة(1) *** و كأسا ألا حسبي بذلك مالا
إذا ما صفا عيش برملة عالج(2) *** و عانقت سلمى لا أريد بدالا
خذوا ملككم لا ثبّت اللّه ملككم *** ثباتا يساوي ما حييت عقالا
و خلّوا عناني قبل عير و ما جرى(3) *** و لا تحسدوني أن أموت هزالا
/ - غنّاه عمر الوادي رملا بالوسطى عن حبش - ثم قال لعمر الوادي: يا جامع لذتي، غنّني بهذا الشعر. و قد أحاط الجند بالقصر؛ فقال لهم الوليد من وراء الباب: أ ما فيكم رجل شريف له حسب و حياء أكلّمه ؟! فقال له يزيد بن عنبسة السّكسكيّ : كلّمني؛ فقال له الوليد: يا أخا السّكاسك، ما تنقمون منّي ؟ أ لم أزد في أعطياتكم و أعطية فقرائكم و أخدمت زمناكم و دفعت عنكم المؤن!؟ فقال: ما ننقم عليك في أنفسنا شيئا، و لكن ننقم عليك انتهاك ما حرّم اللّه و شرب الخمور و نكاح أمهات أولاد أبيك و استخفافك بأمر اللّه. قال: حسبك يا أخا السّكاسك! فلعمري لقد أغرقت(4) فأكثرت، و إنّ فيما أحلّ اللّه لسعة عمّا(5) ذكرت. و رجع إلى الدار فجلس و أخذ المصحف و قال: يوم كيوم(6) عثمان، و نشر المصحف يقرأ؛ فعلوا الحائط؛ فكان أوّل من علا الحائط يزيد بن عنبسة، فنزل و سيف الوليد إلى جنبه؛ فقال له يزيد: نحّ سيفك، فقال الوليد: لو أردت السيف لكانت لي و لك حالة غير هذه. فأخذ بيده و هو يريد أن يدخله بيتا(7) و يؤامر فيه، فنزل من الحائط عشرة فيهم منصور بن جمهور و عبد الرحمن و قيس مولى يزيد بن عبد الملك و السّريّ بن زياد بن أبي كبشة، فضربه عبد الرحمن السّلميّ (8) على رأسه ضربة و ضربه السّريّ بن زياد على وجهه، و جرّوه بين خمسة ليخرجوه؛ فصاحت امرأة كانت معه في الدار فكفّوا عنه فلم يخرجوه، و احتزّ رأسه
ص: 58
أبو علاقة القضاعيّ /و خاط الضربة/التي في وجهه بالعقب(1)، و قدم بالرأس على يزيد، قدم به روح بن مقبل، و قال: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الفاسق، فاستتمّ الأمر له و أحسن صلته. ثم كان من خلع يزيد بعد ذلك ما ليس هذا موضع ذكره.
قال: و لما قتل الوليد بن يزيد جعل أبو محجن مولى خالد القسريّ يدخل سيفه في است الوليد و هو مقتول.
فقال الأصبغ بن ذؤالة الكلبيّ في قتل الوليد و أخذهم ابنيه:
من مبلغ قيسا و خندف كلّها *** و ساداتهم من عبد شمس و هاشم
قتلنا أمير المؤمنين بخالد(2) *** و بعنا وليّ عهده بالدراهم
و قال أبو محجن مولى خالد:
لو شاهدوا حدّ سيفي حين أدخله *** في است الوليد لماتوا عنده كمدا
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن هشام بن الكلبيّ عن جرير قال:
قال لي عمر الوادي: كنت أغنّي الوليد أقول:
كذبتك نفسك أم رأيت بواسط *** غلس(3) الظلام من الرّباب خيالا
قال: فما أتممت الصوت حتى رأيت رأسه قد فارق بدنه و رأيته يتشحّط في دمه. يقال: إن اللحن في هذا الشعر لعمر الوادي، و يقال: لابن جامع.
قالوا: و كان عثمان و الحكم ابنا الوليد قد بايعهما بالعهد بعده، فتغيّبا فأخذهما يزيد بعد ذلك فحبسهما في الخضراء(4) و دخل عليهما يزيد الأفقم بن هشام فجعل يشتم أباهما الوليد و كان قد ضربه و حلقه(5)، فبكى الحكم، فقال عثمان أخوه: اسكت يا أخي؛ و أقبل على يزيد فقال: أ تشتم أبي! قال: نعم؛ قال: لكني لا أشتم عمّي هشاما، و و اللّه لو كنت من بني مروان ما شتمت أحدا منهم، فانظر إلى وجهك فإن كنت رأيت حكميّا(6) يشبهك أوله مثل وجهك فأنت منهم، لا و اللّه ما في الأرض حكميّ يشبهك.
ص: 59
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ عن مسلمة بن محارب قال:
لما قتل الوليد قال أيّوب(1) السّختيانيّ : ليت القوم تركوا لنا خليفتنا لم يقتلوه. قال: و إنما قال ذلك تخوّفا من الفتنة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ :
أن ابنا للغمر بن يزيد بن عبد الملك دخل على الرشيد، فقال: ممّن أنت ؟ قال: من قريش، قال: من أيّها؟ فأمسك قال: قل و أنت آمن، و لو أنك مروانيّ ، قال: أنا ابن الغمر بن يزيد. قال: رحم اللّه عمّك و لعن يزيد الناقص و قتلة عمّك جميعا، فإنهم قتلوا خليفة مجمعا عليه، ارفع إليّ حوائجك، فقضاها.
/رمى عند المهدي بالزندقة فدافع عنه:
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا الغلابيّ قال حدّثنا العلاء(2) بن سويد المنقريّ قال:
ذكر ليلة المهديّ أمير المؤمنين الوليد بن يزيد فقال: كان ظريفا أديبا. فقال له شبيب بن شيبة:
يا أمير المؤمنين إن رأيت ألاّ تجري ذكره على سمعك و لسانك فافعل فإنه كان زنديقا؛ فقال: اسكت، فما كان اللّه ليضع خلافته عند من يكفر به. هكذا رواه الصّوليّ .
و قد أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز إجازة قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرنا عقيل(3) بن عمرو قال أخبرني شبيب بن شيبة عن أبيه قال: كنّا جلوسا عند/المهديّ فذكروا الوليد بن يزيد، فقال المهديّ : أحسبه كان زنديقا، فقام ابن علاثة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين، اللّه عزّ و جلّ أعظم من أن يولّي خلافة النبوة و أمر الأمّة من لا يؤمن باللّه، لقد أخبرني من كان يشهده في ملاعبه و شربه عنه بمروءة في طهارته و صلاته، و حدّثني أنه كان إذا حضرت الصلاة يطرح ثيابا كانت عليه من مطيّبة و مصبّغة ثم يتوضأ فيحسن الوضوء و يؤتى بثياب بيض نظاف من ثياب الخلافة فيصلّي فيها أحسن صلاة بأحسن قراءة و أحسن سكوت و سكون و ركوع و سجود، فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب التي كانت عليه قبل ذلك، ثم يعود إلى شربه و لهوه؛ أ فهذه أفعال من لا يؤمن باللّه! فقال له المهديّ : صدقت بارك اللّه عليك يا ابن علاثة.
و في جملة المائة الصوت المختارة عدّة أصوات من شعر الوليد نذكرها هاهنا مع أخباره، و اللّه أعلم.
ص: 60
أمّ سلاّم ما ذكرتك إلاّ *** شرقت بالدموع منّي المآقي
أمّ سلاّم ذكركم حيث كنتم *** أنت دائي و في لسانك راقي
ما لقلبي يجول بين التّراقي *** مستخفّا يتوق كلّ متاق
حذرا أن تبين دار سليمى *** أو يصيح الداعي لها بفراق
غنّاه عمر الوادي، و لحنه المختار خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر. و ذكر عمرو بن بانة أنّ لسلاّمة القسّ فيه خفيف رمل بالوسطى، و لعلّه بمعنى هذا. و من الناس من يروى هذه الأبيات لعبد الرحمن بن أبي عمّار الجشميّ في سلاّمة القسّ ، و ليس ذلك له، هو للوليد صحيح، و هو كثيرا ما يذكر سلمى هذه في شعره بأمّ سلاّم و بسلمى، لأنه لم يكن يتصنّع في شعره و لا يبالي بما يقوله منه. و من ذلك قوله فيها:
أمّ سلاّم لو لقيت من الوج *** د عشير الذي لقيت كفاك
فأثيبي بالوصل صبّا عميدا *** و شفيقا شجاه ما قد شجاك
غنّاه مالك خفيف رمل بالبنصر عن الهشاميّ .
ص: 61
هو عمر بن داود بن زاذان. و جدّه زاذان مولى عمرو بن عثمان بن عفّان. و كان عمر مهندسا. و أخذ الغناء عنه حكم و ذووه من أهل وادي القرى. و كان قدم إلى الحرم فأخذ من غناء أهله فحذق و صنع فأجاد و أتقن. و كان طيّب الصوت شجيّه مطربا. و كان أوّل من غنّى من أهل وادي القرى؛ و اتصل بالوليد بن يزيد في أيام إمارته فتقدّم عنده جدّا، و كان يسمّيه جامع لذّاتي(1) و محيي طربي. و قتل الوليد و هو يغنّيه، و كان آخر عهده به من الناس. و في عمر يقول الوليد بن يزيد و فيه غناء:
/
إنّني فكّرت في عمر *** حين قال القول فاختلجا
إنّه للمستنير به *** قمر قد طمّس السّرجا
و يغنّي الشعر ينظمه *** سيّد القوم الذي فلجا
أكمل الواديّ صنعته *** في لباب الشعر فاندمجا
الشعر للوليد بن يزيد. و الغناء لعمر الوادي هزج خفيف بالبنصر في مجراها.
أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن مزيد قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
كان عمر الوادي يجتمع مع معبد و مالك و غيرهما من المغنّين عند الوليد بن يزيد، فلا يمنعه حضورهم من تقديمه و الإصغاء إليه و الاختصاص له. و بلغني أنه كان/لا يضرب و إنما كان مرتجلا، و كان الوليد يسمّيه جامع لذّاتي. قال: و بلغني أن حكما الواديّ و غيره من مغنّي وادي القرى أخذوا عنه الغناء و انتحلوا أكثر أغانيه.
قال إسحاق و حدّثني عبد السلام بن الرّبيع:
أنّ الوليد بن يزيد كان يوما جالسا و عنده عمر الوادي و أبو رقيّة، و كان ضعيف العقل و كان يمسك المصحف على أمّ الوليد؛ فقال الوليد لعمر الوادي و قد غنّاه صوتا: أحسنت و اللّه، أنت جامع لذّاتي، و أبو رقيّة مضطجع و هم
ص: 62
يحسبونه نائما، فرفع رأسه إلى الوليد فقال له: و أنا جامع لذّات أمّك؛ فغضب الوليد و همّ به؛ فقال له عمر الوادي:
جعلني اللّه فداك! ما يعقل أبو رقيّة و هو صاح، فكيف يعقل و هو سكران! فأمسك عنه.
قال إسحاق: و حدّثت عن عمر الوادي قال: بينا أنا أسير ليلة بين العرج(1) و السّقيا سمعت إنسانا يغنّي غناء لم أسمع قطّ أحسن منه و هو:
و كنت إذا ما جئت سعدى بأرضها *** أرى الأرض تطوى لي و يدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسها *** إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
فكدت أسقط عن راحلتي طربا؛ فقلت: و اللّه لألتمسنّ الوصول إلى هذا الصوت و لو بذهاب عضو من أعضائي حتى هبطت من الشّرف(2)، فإذا أنا برجل يرعى غنما و إذا هو صاحب الصوت، فأعلمته الذي أقصدني إليه و سألته إعادته عليّ ؛ فقال: و اللّه لو كان عندي قرى ما فعلت، و لكني أجعله قراك، فربما ترنّمت به/و أنا جائع فأشبع، و كسلان فأنشط و مستوحش فآنس؛ فأعاده عليّ مرارا حتى أخذته، فو اللّه ما كان لي كلام غيره حتى دخلت المدينة، و لقد وجدته كما قال. حدّثني بهذا الخبر الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني المؤمّل بن طالوت الواديّ قال حدّثني مكين العذريّ قال: سمعت عمر الواديّ يقول: بينا أنا أسير بين الرّوحاء(3)و العرج، ثم ذكر مثله، و قال فيه: فربما ترنّمت به و أنا غرثان فيشبعني، و مستوحش فيؤنسني، و كسلان فينشّطني.
قال: فما كان زادي حتى و لجت المدينة غيره(4)، و جرّبت ما وصفه الراعي فيه فوجدته كما قال.
لقد هجرت سعدى و طال صدودها *** و عاود عيني دمعها و سهودها
و كنت إذا ما زرت سعدى بأرضها *** أرى الأرض تطوى لي و يدنو بعيدها
منعّمة لم تلق بؤس معيشة *** هي الخلد في الدنيا لمن يستفيدها
هي الخلد ما دامت لأهلك جارة *** و هل دام في الدنيا لنفس خلودها
الشعر لكثيّر. و الغناء لابن محرز ثقيل أوّل مطلق بالبنصر عن يحيى المكيّ . و ذكر الهشاميّ أنّ فيه ليزيد
ص: 63
حوراء ثاني ثقيل. و فيه خفيف رمل ينسب إلى عمر الوادي، و هو بعض هذا اللحن الذي حكاه عن الراعي و لا أعلم لمن هو. و هذه الأبيات من قصيدة لكثيّر سائرها في الغزل و هي من جيّد غزله و مختاره. و تمام الأبيات بعد ما مضى منها:
/
فتلك التي أصفيتها بمودّتي *** وليدا و لمّا يستبن لي نهودها
و قد قتلت نفسا بغير جريرة *** و ليس لها عقل(1) و لا من يقيدها
فكيف يودّ القلب من لا يودّه *** بلى قد تريد النفس من لا يريدها
ألا ليت شعري بعدنا هل تغيّرت *** عن العهد أم أمست كعهدي عهودها
إذا ذكرتها النفس جنّت بذكرها *** و ريعت و حنّت و استخفّ جليدها
فلو كان ما بي بالجبال لهدّها *** و إن كان في الدنيا شديدا هدودها
و لست و إن أوعدت فيها بمنته *** و إن أوقدت نار فشبّ وقودها
أبيت نجيّا للهموم مسهّدا *** إذا أوقدت نحوي بليل وقودها(2)
فأصبحت ذا نفسين نفس مريضة *** من اليأس ما ينفكّ همّ يعودها
و نفس إذا ما كنت وحدي تقطّعت *** كما انسلّ من ذات النّظام فريدها
فلم تبد(3) لي يأسا ففي اليأس راحة *** و لم تبد لي جودا فينفع جودها
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أيّوب بن عباية قال:
قال عمر الوادي: خرج إليّ الوليد بن يزيد يوما و في يده خاتم ياقوت أحمر قد كاد البيت يلتمع من شعاعه؛ فقال لي: يا جامع لذّتي، أ تحبّ أن أهبه لك ؟ قلت: نعم و اللّه يا مولاي؛ فقال: غنّ في هذه الأبيات التي أنشدك فيها و اجهد نفسك، فإن أصبت إرادتي وهبته لك؛ فقلت: أجتهد و أرجو التوفيق.
أ لا يسليك عن سلمى *** قتير(4) الشّيب و الحلم
و أنّ الشكّ ملتبس *** فلا وصل و لا صرم
فلا و اللّه ربّ النا *** س مالك عندنا ظلم
ص: 64
و كيف بظلم جارية *** و منها اللّين(1) و الرّحم
فخلوت في بعض المجالس، فما زلت أديره حتى استقام، ثم خرجت إليه و على رأسه وصيفة، بيدها كأس و هو يروم [أن](2) يشربها(3) فلا يقدر خمارا؛ فقال: ما صنعت ؟ فقلت: فرغت ممّا أمرتني به؛ /و غنّيته، فصاح:
أحسنت و اللّه! و وثب قائما على رجليه و أخذ الكأس و استدناني فوضع يده اليسرى عليّ متّكئا و الكأس في يده اليمنى؛ ثم قال لي: أعد بأبي أنت و أمّي! فأعدته عليه فشرب و دعا بثانية(4) و ثالثة و رابعة و هو على حاله يشرب قائما حتى كاد أن يسقط تعبا؛ ثم جلس و نزع الخاتم و الحلّة التي كانت عليه، فقال: و اللّه العظيم لا تبرح هكذا حتى أسكر؛ فما زلت أعيده عليه و يشرب حتى مال على جنبه سكرا فنام.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه عن غرير(5) بن طلحة الأرقمي عن أبي الحكم عبد المطلب بن عبد اللّه بن يزيد بن عبد الملك قال: و اللّه إني لبالعقيق في قصر القاسم بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفّان و عندي أشعب و عمر الوادي/و أبو رقيّة، إذ دعوت بدينار فوضعته بين يديّ و سبّقتهموه في رجز فكان أوّل من خسق عمر الوادي(6) فقال:
أنا ابن داود أنا ابن زاذان *** أنا ابن مولى عمرو بن عثمان(7)
ثم خسق أبو رقيّة فقال:
أنا ابن عامر القاري *** أنا ابن أوّل أعجمي
تقدّم في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. ثم خسق أشعب فقال:
أنا ابن أمّ الخلنداج *** أنا ابن المحرّشة بين أزواج
النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم. قال أبو الحكم: فقلت له: أي أخزاك اللّه، هل سمعت أحدا قطّ فخر بهذا! فقال: و هل فخر أحد بمثل فخري! لو لا أن أمّي كانت عندهنّ ثقة ما قبلن منها حتى يغضب بعضهنّ على بعض.
ص: 65
اسمه الغزيّل، و هو مولى الوليد بن يزيد، و قيل: بل كان مولى أبيه، و قيل: بل كان أبوه مولى عبد الملك.
و كان مغنّيا محسنا و طيّبا مضحكا. و لم أسمع له بخبر بعد أيام بني أميّة؛ و لعلّه مات في أيامهم أو قتل معهم.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ : أن أبا كامل غنّى الوليد بن يزيد ذات يوم فقال:
نام من كان خليّا من ألم *** و بدائي بتّ ليلي لم أنم
أرقب الصبح كأني مسند *** في أكفّ القوم تغشاني الظّلم
إنّ سلمى و لنا من حبّها *** ديدن في القلب ما اخضرّ السّلم
قد سبتني بشتيت نبته *** و ثنايا لم يعبهنّ قضم(1)
قال فطرب الوليد و خلع عليه قلنسية وشي(2) مذهبة كانت على رأسه. فكان أبو كامل يصونها و لا يلبسها إلا من عيد إلى عيد و يمسحها بكمّه و يرفعها و يبكي و يقول: إنما أرفعها لأنّي أجد منها ريح سيّدي (يعني الوليد).
الغناء في هذا الصوت هزج بالوسطى، نسبه عمرو بن بانة إلى عمر الوادي، و نسبه غيره إلى أبي كامل، و زعم آخرون أنه لحكم، هكذا نسبه ابن المكيّ إلى حكم و زعم أنّه بالبنصر.
/أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة/قال حدّثني الأصمعيّ عن صفوان بن الوليد المعيطيّ قال:
غنّى أبو كامل ذات يوم الوليد بن يزيد في لحن لابن عائشة، و هو:
جنّباني أذاة كلّ لئيم *** إنّه ما علمت شرّ نديم
ص: 66
للوليد فيه أشعار كثيرة:
فخلع عليه ثيابه كلّها حتى قلنسيته. ثم ذكر باقي الخبر مثل الذي تقدّمه؛ و زاد فيه أنه أوصى أن تجعل في أكفانه. و للوليد في أبي كامل أشعار كثيرة. فمنها ممّا يغنّى به:
سقيت أبا كامل *** من الأصفر البابلي
و سقّيتها معبدا *** و كلّ فتى فاضل
و قال أيضا فيه:
و زقّ وافر الجنبين *** مثل الجمل البازل
به رحت إلى صحبي *** و ندماني أبي كامل
شربناه و قد بتنا *** بأعلى الدّير بالساحل
و لم نقبل من الواشي *** قبول الجاهل الخاطل
الغناء لأبي كامل خفيف رمل بالوسطى. و ذكر الهشاميّ أنه ليحيى المكي و أنّه نحله أبو كامل. و ذكر أن لعمر الواديّ أو لحكم فيه رملا بالوسطى و هو القائم.
و أخبرني أبو الحسن محمد بن إبراهيم قريش رحمه اللّه أنّ لينشو فيه خفيف رمل.
/و منها في قول الوليد:
سقيت أبا كامل *** من الأصفر البابلي
و سقّيتها معبدا *** و كلّ فتى فاضل
لي المحض من ودّهم *** و يغمرهم نائلي
و ما لا مني فيهم *** سوى حاسد جاهل
فيه هزج ينسب إلى أبي كامل و إلى حكم. و فيه لينشو ثقيل أوّل. أخبرني بذلك قريش و وجه الرّزّة جميعا.
كان المعتضد يمدح شعر الوليد و يقول: فيه شمائل الملوك:
و أخبرني قريش عن أحمد بن أبي العلاء قال:
كان للمعتضد عليّ صوتان من شعر الوليد، أحدهما:
سقيت أبا كامل *** من الأصفر البابلي
و الآخر:
إن في الكأس لمسكا *** أو بكفّي من سقاني
ص: 67
و كان يعجب بهما و يقول لجلسائه: أ ما ترون شمائل الملوك في شعره! ما أبينها(1):
لي المحض من ودّهم *** و يغمرهم نائلي
و حين يقول:
كلّلاني توّجاني *** و بشعري غنّياني
و قد نسب إلى الوليد بن يزيد في هذه المائة الصوت المختارة شعر صوتين؛ لأن ذكر سليمى في أحدهما، و لأن الصنعة في الآخر لأبي كامل(2)؛ فذكرت من ذلك هاهنا صوتين، أحدهما(3):
سليمى تلك في العير(4) *** قفي نخبرك أو سيري
إذا ما أنت لم ترثي *** لصبّ القلب مغمور
فلما أن دنا الصبح *** بأصوات العصافير
خرجنا نتبع الشمس *** عيونا كالقوارير
و فينا شادن أحو *** ر من حور اليعافير(5)
الشعر ليزيد بن ضبّة. و الغناء في اللحن المختار لإسماعيل بن الهربذ، و لحنه رمل مطلق في مجرى الوسطى.
هكذا ذكر إسحاق في كتاب شجا لابن الهربذ؛ و ذكر في موضع آخر أن فيه لحنا لابن زرزور الطائفي رملا آخر بالسبّابة في مجرى البنصر. و ذكر إبراهيم أنّ فيه لحنا لأبي كامل و لم يجنّسه. و ذكر حبش أن فيه لعطرّد هزجا بالوسطى.
ص: 68
أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم قال حدّثني أحمد بن الهيثم عن الحسن بن إبراهيم بن سعدان عن عبد العظيم بن عبد اللّه بن يزيد بن ضبّة الثّقفيّ قال:
كان جدّي يزيد بن ضبّة مولّى لثقيف. و اسم أبيه مقسم؛ و ضبّة أمّه غلبت على نسبه؛ لأن أباه مات و خلّفه صغيرا، فكانت أمّه تحضن أولاد المغيرة بن شعبة ثم أولاد ابنه عروة بن المغيرة، فكان جدّي ينسب إليها لشهرتها.
قال: و ولاؤه لبني مالك بن حطيط ثم لبني عامر بن يسار. قال عبد العظيم: و كان جدّي يزيد بن ضبّة منقطعا إلى الوليد بن يزيد في حياة أبيه متصلا به لا يفارقه.
فلما أفضت الخلافة إلى هشام أتاه جدّي مهنّئا بالخلافة. فلما استقرّ به المجلس و وصلت إليه الوفود و قامت الخطباء تثني عليه و الشعراء تمدحه، مثل جدّي بين السّماطين فاستأذنه في الإنشاد، فلم يأذن له، و قال: عليك بالوليد فامدحه و أنشده، و أمر بإخراجه. و بلغ الوليد خبره، فبعث إليه بخمسمائة دينار، و قال له: لو أمنت عليك هشاما لما فارقتني، و لكن اخرج إلى الطائف، و عليك بمالي هناك؛ فقد سوّغتك جميع غلّته، و مهما احتجت(1) إليّ من شيء بعد ذلك فالتمسه منّي. فخرج إلى الطائف، و قال يذكر ما فعله هشام به:
أرى سلمى تصدّ و ما صددنا *** و غير صدودها كنّا أردنا
لقد بخلت بنائلها علينا *** و لو جادت بنائلها حمدنا
و قد ضنّت بما وعدت و أمست *** تغيّر عهدها عمّا عهدنا
/و لو علمت بما لاقيت سلمى *** فتخبرني و تعلم ما وجدنا
تلمّ على تنائي الدار منّا *** فيسهرنا الخيال إذا رقدنا
أ لم تر أنّنا لمّا ولينا *** أمورا خرّقت فوهت سددنا
رأينا الفتق حين و هي عليهم *** و كم من مثله صدع رفأنا
/إذا هاب الكريهة من يليها *** و أعظمها الهيوب لها عمدنا
ص: 69
و جبّار تركناه كليلا *** و قائد فتنة طاغ أزلنا
فلا تنسوا مواطننا فإنّا *** إذا ما عاد أهل الجرم عدنا
و ما هيضت مكاسر من جبرنا *** و لا جبرت مصيبة من هددنا
ألا من مبلغ عنّي هشاما *** فما منّا البلاء و لا بعدنا
و ما كنّا إلى الخلفاء نفضي *** و لا كنّا نؤخّر إن شهدنا
أ لم يك بالبلاء لنا جزاء *** فنجزى بالمحاسن أم حسدنا
و قد كان الملوك يرون حقّا *** لوافدنا فنكرم إن وفدنا
ولينا الناس أزمانا طوالا *** و سسناهم و دسناهم و قدنا
أ لم تر من ولدنا كيف أشبى(1) *** و أشبينا و ما بهم قعدنا
نكون لمن ولدناه سماء *** إذا شيمت مخائلنا رعدنا
و كان أبوك قد أسدى إلينا *** جسيمة أمره و به سعدنا
كذلك أوّل الخلفاء كانوا *** بنا جدّوا كما بهم جددنا
هم آباؤنا و هم بنونا *** لنا جبلوا كما لهم جبلنا
و نكوي بالعداوة من بغانا *** و نسعد بالمودّة من وددنا
/نرى حقّا لسائلنا علينا *** فنحبوه و نجزل إن وعدنا
و نضمن جارنا و نراه منّا *** فنرفده فنجزل إن رفدنا
و ما نعتدّ دون المجد مالا *** إذا يغلى بمكرمة أفدنا
و أتلد مجدنا أنّا كرام *** بحدّ المشرفيّة عنه ذدنا
قال: فلم يزل مقيما بالطائف إلى أن ولي الوليد بن يزيد الخلافة، فوفد إليه. فلما دخل عليه و الناس بين يديه جلوس و وقوف على مراتبهم هنّأه بالخلافة؛ فأدناه الوليد و ضمّه إليه، و قبّل يزيد بن ضبّة رجليه و الأرض بين يديه؛ فقال الوليد لأصحابه: هذا طريد الأحول لصحبته إيّاي و انقطاعه إليّ . فاستأذنه يزيد في الإنشاد و قال له:
يا أمير المؤمنين، هذا اليوم الذي نهاني عمّك هشام عن الإنشاد فيه قد بلغته بعد يأس، و الحمد للّه على ذلك. فأذن له، فأنشده:
سليمى تلك في العير *** قفي أسألك أو سيري
ص: 70
إذا ما بنت لم تأوي *** لصبّ القلب مغمور
و قد بانت و لم تعهد *** مهاة في مها حور
و في الآل(1) حمول الح *** يّ تزهى كالقراقير(2)
يواريها و تبدو من *** ه آل(3) كالسّمادير(4)
/و تطفو حين تطفو في *** ه كالنّخل المواقير(5)
لقد لاقيت من سلمى *** تباريح التّناكير(6)
/دعت عيني لها قلبي *** و أسباب المقادير
و ما إن من به شيب *** إذا يصبو بمعذور
لسلمى رسم أطلال *** عفتها الرّيح بالمور(7)
خريق(8) تنخل التّرب *** بأذيال الأعاصير
فأوحش إذ نأت سلمى *** بتلك الدّور من دور
سأرمي قانصات البي *** د إن عشت بعسبور(9)
من العيس شجوجاة(10) *** طواها النّسع بالكور
إذا ما حقب(11) منها *** قرنّاه بتصدير
زجرنا العيس فارقدّت(12) *** بإعصاف و تشمير
ص: 71
تقاسيها على أين *** بإدلاج(1) و تهجير
/إذا ما اعصوصب(2) الآل *** و مال الظّلّ بالقور
و راحت تتّقي الشمس *** مطايا القوم كالعور
إلى أن يفضح(3) الصبح *** بأصوات العصافير
لتعتام(4) الوليد القر *** م أهل الجود و الخير
كريم يهب البزل *** مع الخور(5) الجراجير
تراعي حين تزجيها *** هويّا(6) كالمزامير
كما جاوبت النّيب *** رباع(7) الخلج الخور
و يعطى الذهب الأحم *** ر وزنا بالقناطير
بلوناه فأحمدنا *** ه في عسر و ميسور
كريم العود و العنص *** ر غمر غير منزور
له السّبق إلى الغايا *** ت في ضمّ المضامير
إمام يوضح الحقّ *** له نور على نور
مقال من أخي ودّ *** بحفظ الصدق مأثور
بإحكام و إخلاص *** و تفهيم و تحبير
قال: فأمر الوليد بأن تعدّ أبيات القصيدة و يعطى لكل بيت ألف درهم؛ فعدّت فكانت خمسين بيتا فأعطي خمسين ألفا. فكان أوّل خليفة عدّ أبيات الشعر/و أعطى على عددها لكل بيت ألف درهم؛ ثم لم يفعل ذلك إلاّ هارون الرشيد، فإنه بلغه خبر جدّي مع الوليد فأعطى مروان بن أبي حفصة و منصورا النّمريّ لمّا مدحاه و هجوا آل أبي طالب لكل بيت ألف درهم.
قال عبد العظيم و حدّثني أبي و جماعة من أصحاب الوليد:
أنّ الوليد خرج إلى الصيد و معه جدّي يزيد بن ضبّة، فاصطاد على فرسه السّنديّ صيدا حسنا، و لحق عليه
ص: 72
حمارا فصرعه؛ فقال لجدّي: صف فرسي هذا و صيدنا اليوم؛ فقال في ذلك:
/و أحوى سلس المرسن مثل الصّدع الشّعب(1)
سما فوق منيفات *** طوال كالقنا سلب(2)
طويل الساق عنجوج *** أشقّ أصمع الكعب(3)
على لأم أصمّ مضمّ *** ر الأشعر كالقعب(4)
ترى بين حواميه *** نسورا كنوى القسب(5)
معالى شنج الأنسا *** ء سام جرشع الجنب(6)
/طوى بين الشّراسيف *** إلى المنقب فالقنب(7)
يغوص الملحم القائ *** م ذو حدّ و ذو شغب
عتيد الشّدّ و التّقري *** ب و الإحضار و العقب(8)
صليب الأذن و الكاه *** ل و الموقف و العجب(9)
عريض الخدّ و الجبه *** ة و البركة و الهلب(10)
إذا ما حثّه حاثّ *** يباري الرّيح في غرب(11)
ص: 73
و إن وجّهه أسر *** ع كالخدروف(1) في الثّقب
و قفّاهنّ كالأجد *** ل لما انضمّ للضّرب
و والى الطعن يختار *** جواشن(2) بدّن قبّ
ترى كلّ مدلّ (3) قا *** ئما يلهث كالكلب
كأن الماء في الأعطا *** ف منه قطع العطب(4)
كأن الدّم في النّحر *** قذال علّ بالخضب
يزين الدار موقوفا *** و يشفي قرم(5) الرّكب
/قال: فقال له الوليد: أحسنت يا يزيد الوصف و أجدته، فاجعل لقصيدتك تشبيبا و أعطه الغزيّل و عمر الوادي حتى يغنيا فيه؛ فقال:
إلى هند صبا قلبي *** و هند مثلها يصبي
و هند غادة غيدا *** ء من جرثومة(6) غلب
و ما إن وجد الناس *** من الأدواء كالحبّ
لقد لجّ بها الإعرا *** ض و الهجر بلا ذنب
و لمّا أقض من هند *** و من جاراتها نحبي(7)
أرى و جدي بهند دا *** ئما يزداد عن غبّ (8)
و قد أطولت(9) إعراضا *** و ما بغضهم طبّي(10)
و لكن رقبة(11) الأع *** ين قد تحجز ذا اللّبّ
ص: 74
و رغم(1) الكاشح الراغ *** م فيها أيسر الخطب
/قال: و دفع هذه الأبيات إلى المغنّين فغنّوه فيها.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ عن الأصمعيّ ، و حدّثني به محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم قال حدّثنا الأصمعيّ قال:
كان يزيد بن ضبّة مولى ثقيف، و لكنّه كان فصيحا، و قد أدركته بالطائف، و قد كان يطلب القوافي المعتاصة و الحوشيّ من الشعر.
قال أبو حاتم في خبره خاصّة و حدّثني غسّان بن عبد اللّه بن عبد الوهاب الثقفيّ عن جماعة من مشايخ الطائفيّين و علمائهم قالوا: قال يزيد بن ضبّة ألف قصيدة، فاقتسمتها شعراء العرب و انتحلتها، فدخلت في أشعارها.
ص: 75
إسماعيل بن الهربذ مكيّ مولّى لآل الزّبير بن العوّام، و قيل: بل هو مولى بني كنانة. أدرك آخر أيام بني أميّة و غنّى للوليد بن يزيد، و عمّر إلى آخر أيام الرشيد.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه عن عبد اللّه بن أبي سعد عن محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ عن أبيه:
أن إسماعيل بن الهربذ قدم على الرشيد من مكة، فدخل إليه و عنده ابن جامع و إبراهيم و ابنه إسحاق و فليح و غيرهم و الرشيد يومئذ خاثر(1) به خمار شديد؛ فغنّى ابن جامع ثم فليح ثم إبراهيم ثم إسحاق، فما حرّكه أحد منهم و لا أطربه؛ فاندفع ابن الهربذ يغنّي، فعجبوا من إقدامه في تلك الحال على الرشيد، فغنّى:
يا راكب العيس التي *** وفدت من البلد الحرام
قل للإمام ابن الإما *** م أخي الإمام أبي الإمام
زين البريّة إذ بدا *** فيهم كمصباح الظلام
جعل الإله الهربذيّ *** فداك من بين الأنام
- الغناء لابن الهربذ رمل بالوسطى عن عمرو - قال فكاد الرشيد يرقص، و استخفّه الطرب حتى ضرب بيديه و رجليه، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن لهذا الصوت حديثا، فإن أذن مولاي حدّثته به؛ فقال: حدّث. قال: كنت مملوكا لرجل من ولد الزّبير، فدفع إليّ درهمين أبتاع/له بهما لحما، فرحت فلقيت جارية على رأسها جرّة مملوءة من ماء العقيق(2) و هي تغنّي هذا اللحن في شعر غير هذا الشعر على وزنه و رويّه؛ فسألتها أن تعلّمنيه؛ فقالت: لا و حقّ القبر(3) إلاّ بدرهمين؛ فدفعت إليها الدرهمين و علّمتنيه؛ فرجعت إلى مولاي
ص: 76
بغير لحم فضربني ضربا مبرّحا شغلت معه بنفسي فأنسيت الصوت. ثم دفع إليّ درهمين آخرين بعد أيام أبتاع له بهما لحما؛ فلقيتني الجارية فسألتها أن تعيد الصوت عليّ ؛ فقالت: لا و اللّه إلا بدرهمين؛ فدفعتهما إليها و أعادته عليّ مرارا حتى أخذته. فلما رجعت إلى مولاي أيضا و لا لحم معي قال: ما القصّة في هذين الدرهمين ؟ فصدقته القصّة و أعدت/عليه الصوت، فقبّل بين عينيّ و أعتقني. فرحلت(1) إليك بهذا الصوت، و قد جعلت ذلك اللحن في هذا الشعر؛ فقال: دع الأوّل و تناسه، و أقم على الغناء بهذا اللحن في هذا الشعر؛ فأمّا مولاك فسأدفع إليه بدل كلّ درهم ألف دينار؛ ثم أمر له بذلك فحمل إليه.
شعر نسب للوليد و ليس له:
و ممّا نسب إلى الوليد بن يزيد من الشعر و ليس له:
امدح الكأس و من أعملها *** و اهج قوما قتلونا بالعطش
إنما الكأس ربيع باكر *** فإذا ما غاب عنّا لم نعش
الشعر لنابغة بني شيبان. و الغناء لأبي كامل، و لحنه المختار من خفيف الثقيل الثاني بالوسطى، و هو الذي تسمّيه الناس اليوم الماخوريّ . و فيه لأبي كامل أيضا خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. و ذكر الهشاميّ أن فيه لمالك لحنا من الثقيل الأوّل بالوسطى، و لعمر الوادي ثاني ثقيل بالبنصر.
ص: 77
النابغة اسمه عبد اللّه بن المخارق بن سليم بن حصرة(1) بن قيس بن سنان بن حمّاد بن حارثة(2) بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. شاعر بدويّ من شعراء الدولة الأمويّة. و كان يفد إلى الشام إلى خلفاء بني أميّة فيمدحهم و يجزلون عطاءه. و كان فيما أرى(3) نصرانيّا لأنّي وجدته في شعره يحلف بالإنجيل و الرّهبان و بالأيمان التي يحلف بها النّصارى. و مدح عبد الملك بن مروان و من بعده من ولده؛ و له في الوليد مدائح كثيرة.
أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن سعد الكرانيّ قال حدّثني العمريّ عن العتبيّ قال:
لما همّ عبد الملك بخلع عبد العزيز أخيه و تولية الوليد ابنه العهد، كان(4) نابغة بني شيبان منقطعا إلى عبد الملك مدّاحا له؛ فدخل إليه في يوم حفل و الناس حواليه و ولده قدّامه، فمثل بين يديه و أنشده قوله:
/اشتقت(5)
و انهلّ دمع عينك أن *** أضحى قفارا من أهله طلح(6)
حتى انتهى إلى قوله:
أزحت عنّا آل الزبير و لو *** كانوا هم المالكين ما صلحوا
إن تلق بلوى فأنت مصطبر *** و إن تلاق النّعمى فلا فرح
ص: 78
ترمي بعيني أقنى على شرف *** لم يؤذه عائر و لا لحح(1)
آل أبي العاص آل مأثرة *** غرّ عتاق بالخير قد نفحوا
خير قريش و هم أفاضلها *** في الجدّ جدّ و إن هم مزحوا
أرحبها أذرعا و أصبرها *** أنتم إذا القوم في الوغى كلحوا(2)
/أمّا قريش فأنت وارثها *** تكفّ من صعبهم إذا طمحوا
حفظت ما ضيّعوا و زندهم *** اوريت إذ أصلدوا(3) و قد قدحوا
آليت جهدا - و صادق قسمي - *** بربّ عبد تجنّه الكرح(4)
يظلّ يتلو الإنجيل يدرسه *** من خشية اللّه قلبه طفح(5)
/لابنك أولى بملك والده *** و نجم من قد عصاك مطّرح
داود عدل فاحكم بسيرته *** ثم ابن حرب فإنّهم نصحوا
و هم خيار فاعمل بسنّتهم *** و احي بخير و اكدح كما كدحوا
قال: فتبسّم عبد الملك و لم يتكلم في ذلك بإنذار(6) و لا دفع؛ فعلم الناس أنّ رأيه خلع عبد العزيز. و بلغ ذلك من قول النابغة عبد العزيز، فقال(7): لقد أدخل ابن النّصرانيّة نفسه مدخلا ضيّقا فأوردها موردا خطرا؛ و باللّه عليّ لئن ظفرت به لأخضبنّ قدمه بدمه.
و قال أبو عمرو الشّيبانيّ : لما قتل يزيد بن المهلّب دخل النابغة الشّيبانيّ على يزيد بن عبد الملك بن مروان، فأنشده قوله في تهنئته بالفتح:
ألا طال التنظّر و الثّواء *** و جاء الصيف و انكشف الغطاء
و ليس يقيم ذو شجن مقيم *** و لا يمضي إذا ابتغى المضاء
ص: 79
طوال الدهر إلاّ في كتاب *** و مقدار يوافقه القضاء
فما يعطى الحريص غنى لحرص *** و قد ينمي لذي الجود الثّراء
و كلّ شديدة نزلت بحيّ *** سيتبعها إذا انتهت الرّخاء
يقول فيها:
أؤمّ فتى من الأعياص ملكا *** أغرّ كأن غرّته ضياء
لأسمعه غريب الشعر مدحا *** و أثني حيث يتّصل الثناء
يزيد الخير فهو يزيد خيرا *** و ينمي كلّما أبتغي النّماء
فضضت كتائب «الأزديّ » فضّا *** بكبشك حين لفّهما اللقاء
/سمكت(1) الملك مقتبلا جديدا *** كما سمكت على الأرض السماء
نرجّي أن تدوم لنا إماما *** و في ملك الوليد لنا رجاء
«هشام» و «الوليد»(2) و كلّ نفس *** تريد لك الفناء لك الفداء
و هي قصيدة طويلة، فأمر له بمائة ناقة من نعم كلب و أن توقّر له برّا و زبيبا، و كساه و أجزل صلته.
قال: و وفد إلى هشام لمّا ولي الخلافة؛ فلمّا رآه قال له: يا ماصّ ما أبقت المواسي من بظر أمّه! أ لست القائل:
هشام و الوليد و كلّ نفس *** تريد لك الفناء لك الفداء
أخرجوه عنّي! و اللّه لا يرزؤني(3) شيئا أبدا و حرمه. و لم يزل طول أيامه طريدا؛ حتى ولي الوليد بن يزيد؛ فوفد إليه و مدحه مدائح كثيرة، فأجزل صلته.
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عبيد اللّه بن محمد الكوفيّ عن العمريّ /الخصّاف عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الراوية أنه أنشده لنابغة بني شيبان:
أيها(4) الساقي سقتك مزنة *** من ربيع(5) ذي أهاضيب و طشّ
امدح الكأس و من أعملها *** و اهج قوما قتلونا بالعطش
ص: 80
إنما الكأس ربيع باكر *** فإذا ما غاب عنّا لم نعش
/و كأنّ الشّرب قوم موّتوا *** من يقم منهم لأمر يرتعش
خرس الألسن ممّا نالهم *** بين مصروع و صاح منتعش
من حميّا(1) قرقف حصّيّة *** قهوة حوليّة لم تمتحش
ينفع المزكوم منها ريحها *** ثم تنفى داءه إن لم تنشّ (2)
كلّ من يشربها يألفها *** ينفق الأموال فيها كلّ هشّ
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الجمحيّ - قال ابن أبي الأزهر:
و هو محمد بن سلاّم -:
غنّى أبو كامل مولى الوليد بن يزيد يوما بحضرة الوليد بن يزيد:
امدح الكأس و من أعملها *** و اهج قوما قتلونا بالعطش
فسأل عن قائل هذا الشعر فقيل: نابغة بني شيبان؛ فأمر بإحضاره فأحضر؛ فاستنشده القصيدة فأنشده إياها؛ و ظنّ أن فيها مدحا له فإذا هو يفتخر بقومه و يمدحهم؛ فقال له الوليد: لو سعد جدّك لكانت مديحا فينا لا في بني شيبان، و لسنا نخليك على ذلك من حظّ؛ و وصله و انصرف. و أوّل هذه القصيدة قوله:
خلّ (3) قلبي من سليمى نبلها *** إذ رمتني بسهام لم تطش
طفلة(4) الأعطاف رؤد دمية *** و شواها بختريّ لم يحش
/و كأنّ الدّرّ في أخراصها(5) *** بيض كحلاء أقرّته بعشّ
و لها عينا مهاة(6) في مها *** ترتعي نبت خزامى و نتش
حرّة الوجه رخيم صوتها *** رطب تجنيه كفّ المنتقش(7)
ص: 81
و هي في الليل إذا ما عونقت *** منية البعل و همّ المفترش
و فيها يقول مفتخرا:
و بنو شيبان حولي عصب *** منهم غلب(1) و ليست بالقمش
و ردوا المجد و كانوا أهله *** فرووا و الجود عاف(2) لم ينشّ
و ترى الجرد لدى أبياتهم *** أرنات(3) بين صلصال و جشّ
ليس في الألوان منها هجنة(4) *** وضح البلق و لا عيب البرش
فبها يحوون أموال العدا *** و يصيدون عليها كلّ وحش
/دميت أكفالها(5) من طعنهم *** بالرّدينيّات(6) و الخيل النّجش
ننهل الخطّيّ (7) من أعدائنا *** ثم نفري الهام إن لم نفترش
فإذا العيس من المحل غدت *** و هي في أعينها(8) مثل العمش
/حسّر الأوبار مما لقيت *** من سحاب حاد عنها لم يرشّ (9)
خسّف(10) الأعين ترعى جوفة(11) *** همدت أوبارها لم تنتفش
ننعش العافي و من لا ذبنا(12) *** بسجال الخير من أيد(13) نعش
ذاك قولي و ثنائي و هم *** أهل ودّي خالصا في غير غشّ
فسلوا شيبان إن فارقتهم *** يوم يمشون إلى قبري بنعش
ص: 82
هل غشينا محرما في قومنا *** أو جزينا جازيا فحشا بفحش
و مما يغنّي فيه من شعر نابغة بني شيبان:
ذرفت عيني دموعا *** من رسوم بحفير(1)
موحشات طامسات *** مثل آيات الزّبور
/و زقاق مترعات *** من سلافات العصير(2)
مجلخدّات(3) ملاء *** بطّنوهنّ (4) بقير
فإذا صارت إليهم *** صيّرت خير مصير(5)
من شباب و كهول *** حكموا كأس المدير
كم ترى فيهم نديما *** من رئيس و أمير
ذكر يونس أنّ فيه لمالك لحنا و لابن عائشة آخر، و لم يذكر طريقتهما؛ و فيه خفيف رمل معروف لا أدري لحن أيّهما هو.
يا عمر حمّ فراقكم عمرا *** و عزمت منّا النأي و الهجرا
إحدى بني أود(6) كلفت بها *** حملت بلا ترة لنا وترا
ص: 83
و ترى لها دلاّ إذا نطقت *** تركت بنات فؤاده صعرا(1)
كتساقط الرّطب الجنيّ *** من الأفنان لا بثرا(2) و لا نزرا
الشعر لأبي دهبل الجمحيّ . و الغناء لفزار المكّي، و لحنه المختار ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى عن الهشاميّ .
ص: 84
نسبه - فيما ذكر الزّبير بن بكّار و غيره - وهب بن زمعة بن أسيد بن أحيحة بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب. و لخلف بن وهب يقول عبد اللّه بن الزّبعري أو غيره:
خلف بن وهب كلّ آخر ليلة *** أبدا يكثّر أهله بعيال
سقيا لوهب كهلها و وليدها *** ما دام في أبياتها الذيّال(1)
/نعم الشباب شبابهم و كهولهم *** صيّابة(2) ليسوا من الجهّال
و أمّ أبي دهبل امرأة من هذيل. و إياها يعني بقوله:
أنا ابن الفروع الكرام التي *** هذيل لأبياتها سائلة(3)
هم ولدوني و أشبهتهم *** كما تشبه الليلة القابلة
و اسمها، فيما ذكر ابن الأعرابيّ ، هذيلة(4) بنت سلمة.
قال المدائنيّ : كان أبو دهبل رجلا جميلا شاعرا، و كانت له جمّة يرسلها فتضرب منكبيه، و كان عفيفا، و قال الشعر في آخر خلافة عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، و مدح(5) معاوية، و عبد اللّه بن الزّبير، و قد كان ابن الزبير ولاّه بعض أعمال اليمن.
حدّثنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثنا العمريّ عن الكلبيّ عن أبي مسكين،
ص: 85
و أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثني العباس بن هشام عن أبيه عن أبي مسكين:
أنّ قوما مرّوا براهب، فقالوا له: يا راهب، من أشعر الناس ؟ قال: مكانكم حتى انظر في كتاب عندي، فنظر في رقّ له عتيق ثم قال: وهب من وهبين، من جمح أو جمحين.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عليّ بن صالح عن عبد اللّه بن عروة قال:
قال أبو دهبل يفخر بقومه:
قومي بنو جمح قوم إذا انحدرت *** شهباء تبصر في حافاتها الزّغفا(1)
أهل الخلافة و الموفون إن وعدوا *** و الشاهد و الروع لا عزلا و لا كشفا(2)
قال الزبير و أنشدني عمّي قال أنشدني مصعب لأبي دهبل يفخر بقومه بقوله:
أنا أبو دهبل وهب لوهب *** من جمح في العز منها و الحسب
و الأسرة الخضراء و العيص(3) الأشب *** و من هذيل والدي عالي النّسب
أورثني المجد أب من بعد أب *** رمحي ردينيّ و سيفي المستلب
و بيضتي قونسها من الذّهب *** درعي دلاص سردها سرد عجب(4)
/و القوس فجّاء لها نبل ذرب *** محشورة أحكم منهن القطب(5)
ليوم هيجاء أعدّت للرّهب
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا محمد بن زهير قال حدّثنا المدائنيّ :
أنّ أبا دهبل كان يهوى امرأة من قومه يقال لها عمرة، و كانت امرأة جزلة(6) يجتمع إليها الرجال للمحادثة(7)و إنشاد الشعر و الأخبار، و كان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع إليها، و كانت هي أيضا محبّة له. و كان أبو دهبل رجلا سيّدا من أشراف بني جمح، و كان يحمل الحملات(8) و يعطي الفقراء و يقري الضيف. و زعمت بنو جمح أنه تزوّج عمرة هذه بعد ذلك، و زعم غيرهم أنه لم يصل إليها. و كانت عمرة توصيه بحفظ ما بينهما و كتمانه، فضمن لها ذلك و اتصل ما بينهما. فوقفت عليه زوجته فدسّت إلى عمرة امرأة داهية من عجائز أهلها؛ فجاءتها فحادثتها
ص: 86
طويلا ثم قالت لها في عرض حديثها: إني لأعجب لك كيف لا تتزوّجين/أبا دهبل مع ما بينكما! قالت: و أيّ شيء يكون بيني و بين أبي دهبل! قال: فتضاحكت و قالت: أ تسترين عنّي شيئا قد تحدّثت به أشراف قريش في مجالسها و سوقة أهل الحجاز في أسواقها و السّقاة في مواردها! فما يتدافع اثنان أنه يهواك و تهوينه؛ فوثبت عن مجلسها فاحتجبت و منعت كلّ من كان يجالسها من المصير إليها. و جاء أبو دهبل على عادته فحجبته و أرسلت إليه بما كره.
ففي ذلك يقول:
تطاول هذا الليل ما يتبلّج *** و أعيت غواشي عبرتي ما تفرّج
و بتّ كئيبا ما أنام كأنما *** خلال ضلوعي جمرة تتوهّج
فطورا أمني النفس من عمرة المنى *** و طورا إذا ما لجّ بي الحزن أنشج(1)
لقد قطع الواشون ما كان بيننا *** و نحن إلى أن يوصل الحبل أحوج
- الغناء في البيت الأوّل و بعده بيت في آخر القصيدة:
أخطّط في ظهر الحصير كأنّني *** أسير يخاف القتل و لهان ملفج(2)
لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى. و ذكر حمّاد عن أبيه في أخبار مالك أنه لحائد بن جرهد و أنّ مالكا أخذه عنه فنسبه الناس إليه، فكان إذا غنّاه و سئل عنه يقول: هذا و اللّه لحائد بن جرهد لا لي. و فيه لأبي عيسى بن الرشيد ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش. و في «لقد قطع الواشون» و قبله «فطورا أمني النفس» لمالك ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى عن حبش -.
رأوا غرّة فاستقبلوها بألبهم(3) *** فراحوا على ما لا نحبّ (4) و أدلجوا
و كانوا أناسا كنت آمن غيبهم *** فلم ينههم حلمي و لم يتحرّجوا
/فليت كوانينا(5) من أهلي و أهلها *** بأجمعهم في قعر دجلة لجّجوا(6)
هم منعونا ما نحبّ و أوقدوا *** علينا و شبّوا نار صرم تأجّج
و لو تركونا لا هدى اللّه سعيهم *** و لم يلحموا قولا من الشرّ ينسج
ص: 87
لأوشك صرف الدهر يفرق بيننا *** و لا يستقيم الدّهر و الدهر أعوج
عسى كربة أمسيت فيها مقيمة *** يكون لنا منها نجاة و مخرج
فيكبت أعداء و يجذل آلف *** له كبد من لوعة الحبّ تلعج
و قلت لعبّاد و جاء كتابها *** لهذا و ربّي كانت العين تخلج
و إنّي لمحزون عشيّة زرتها *** و كنت إذا ما جئتها لا أعرّج
أخطّط في ظهر الحصير كأنني *** أسير يخاف القتل و لهان ملفج
الملفج: الفقير(1) المحتاج.
و أشفق قلبي من فراق خليلة *** لها نسب في فرع فهر متوّج
و كفّ كهدّاب الدّمقس لطيفة *** بها دوس(2) حنّاء حديث مضرّج(3)
/يجول وشاحاها و يغتصّ (4) حجلها *** و يشبع منها وقف(5) عاج و دملج
فلما التقينا لجلجت في حديثها *** و من آية الصّرم الحديث الملجلج
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال أنشدني عمّي و محمد بن الضحّاك عن أبيه محمد بن خشرم و من شئت من قريش لأبي دهبل في عمرة:
يا عمر حمّ فراقكم عمرا *** و عزمت منّا النأي و الهجرا
يا عمر شيخك و هو ذو كرم *** يحمي الذّمار و يكرم الصّهرا
إن كان هذا السحر منك فلا *** ترعي(6) عليّ و جدّدي السّحرا
إحدى بني أود كلفت بها *** حملت بلا وتر لنا وترا
و ترى لها دلاّ إذا نطقت *** تركت بنات فؤاده صعرا
كتساقط الرّطب الجنيّ *** من الأفنان لا بثرا و لا نزرا
أقسمت ما أحببت حبّكم *** لا ثيّبا خلقت و لا بكرا
ص: 88
و مقالة فيكم عركت بها *** جنبي(1) أريد بها لك العذرا
و مريد سرّكم عدلت به *** فيما يحاول معدلا وعرا
قالت يقيم بنا لنجزيه *** يوما فخيّم عندها شهرا
ما إن أقيم لحاجة عرضت *** إلاّ لأبلي فيكم العذرا
قالوا: و فيها يقول:
يلومونني في غير ذنب جنيته *** و غيري في الذنب الذي كان ألوم
أمنّا أناسا كنت تأتمنينهم *** فزادوا علينا في الحديث و أوهموا(2)
و قالوا لنا ما لم يقل ثم كثّروا *** علينا و باحوا بالذي كنت أكتم
/ - غنّى في هذه الأبيات أبو كامل مولى الوليد رملا بالبنصر -.
و قد منحت عيني القذى لفراقهم *** و عاد لها تهتانها فهي تسجم
و صافيت نسوانا فلم أر فيهم *** هواي و لا الودّ الذي كنت أعلم
أ ليس عظيما أن نكون ببلدة *** كلانا بها ثاو و لا نتكلّم
أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان قال:
سمع أبو السائب المخزوميّ رجلا ينشد قول أبي دهبل:
أ ليس عجيبا أن نكون ببلدة *** كلانا بها ثاو و لا نتكلم
فقال [له](3) أبو السائب: قف يا حبيبي فوقف؛ فصاح بجارية: يا سلامة اخرجي فخرجت؛ فقال له: أعد بأبي أنت البيت فأعاده؛ فقال: بلى و اللّه إنه لعجيب عظيم و إلا فسلامة حرّة لوجه اللّه! اذهب فديتك مصاحبا. ثم دخل و دخلت الجارية تقول له: ما لقيت منك! لا تزال تقطعني عن شغلي فيما لا ينفعك و لا ينفعني!.
و حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: كنّا نختلف إلى أبي العباس المبرّد و نحن أحداث نكتب عن الرّواة ما يروونه من الآداب/و الأخبار، و كان يصحبنا فتى من أحسن الناس وجها و أنظفهم ثوبا و أجملهم زيّا و لا نعرف باطن أمره؛ فانصرفنا يوما من مجلس أبي العباس المبرّد و جلسنا في مجلس نتقابل بما كتبناه و نصحّح المجلس الذي
ص: 89
شهدناه؛ فإذا بجارية قد اطّلعت فطرحت في حجر الفتى رقعة ما رأيت أحسن من شكلها مختومة بعنبر؛ فقرأها منفردا بها ثم أجاب عنها و رمى بها إلى الجارية. فلم نلبث أن خرج خادم من الدار في يده كرش(1)، فدخل إلينا فصفع/الفتى به حتى رحمناه و خلّصناه من يده و قمنا أسوأ الناس حالا. فلما تباعدنا سألناه عن الرقعة، فإذا فيها مكتوب:
كفى حزنا أنّا جميعا ببلدة *** كلانا بها ثاو و لا نتكلّم
فقلنا له: هذا ابتداء ظريف، فبأيّ شيء أجبت أنت ؟ قال: هذا صوت سمعته يغنّى فيه، فلمّا قرأته في الرقعة أجبت عنه بصوت مثله. فسألناه ما هو؟ فقال: كتبت في الجواب:
أراعك بالخابور(2) نوق و أجمال
فقلنا له: ما وفّاك القوم حقك قط، و قد كان ينبغي أن يدخلونا معك في القصّة لدخولك في جملتنا، و لكنّا نحن نوفّيك حقّك؛ ثم تناولناه فصفعناه حتى لم يدر أيّ طريق يأخذ؛ و كان آخر عهده بالاجتماع معنا.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال حدّثنا صالح بن حسّان قال، و أخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني محمد بن عمر قال حدّثني محمد بن السّريّ قال حدّثنا هشام بن الكلبيّ عن أبيه، يزيد أحدهما على الآخر في خبره، و اللفظ لصالح بن حسان و خبره أتمّ ، قال:
حجّت عاتكة بنت معاوية بن أبي سفيان، فنزلت من مكة بذي طوي. فبينا هي ذات يوم جالسة و قد اشتد الحرّ و انقطع الطريق، و ذلك في وقت الهاجرة، إذ/أمرت جواريها فرفعن السّتر و هي جالسة في مجلسها عليها شفوف لها تنظر إلى الطريق، إذ مرّ بها أبو دهبل الجمحيّ ، و كان من أجمل الناس و أحسنهم منظرا؛ فوقف طويلا ينظر إليها و إلى جمالها و هي غافلة عنه؛ فلمّا فطنت له سترت وجهها و أمرت بطرح السّتر و شتمته. فقال أبو دهبل:
إني دعاني الحين فاقتادني *** حتى رأيت الظبي بالباب
يا حسنه إذ سبّني مدبرا *** مستترا عنّي بجلباب
سبحان من وقّفها حسرة *** صبّت على القلب بأوصاب
يذود عنها إن تطلّبتها *** أب لها ليس بوهّاب
أحلّها قصرا منيع الذّرى *** يحمى بأبواب و حجّاب
قال: و أنشد أبو دهبل هذه الأبيات بعض إخوانه، فشاعت بمكّة و شهرت و غنّى فيها المغنّون، حتى سمعتها
ص: 90
عاتكة إنشادا و غناء؛ فضحكت و أعجبتها و بعثت إليه بكسوة، و جرت الرسل بينهما. فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشام و نزل قريبا منها، فكانت تعاهده بالبرّ/و اللّطف(1) حتى وردت دمشق و ورد معها، فانقطعت عن لقائه و بعد من أن يراها، و مرض بدمشق مرضا طويلا. فقال في ذلك:
طال ليلي و بتّ كالمحزون *** و مللت الثّواء في جيرون(2)
و أطلت المقام بالشأم حتى *** ظنّ أهلي مرجّمات الظّنون
فبكت خشية التفرّق جمل *** كبكاء القرين إثر القرين
/و هي زهراء مثل لؤلؤة *** الغوّاص ميزت من جوهر مكنون
و إذا ما نسبتها لم تجدها *** في سناء من المكارم دون
ثم خاصرتها إلى القبّة الخض *** راء تمشي في مرمر مسنون(3)
قبّة من مراجل(4) ضربوها *** عند برد الشتاء في قيطون
عن يساري إذا دخلت من البا *** ب و إن كنت خارجا عن يميني
و لقد قلت إذ تطاول سقمي *** و تقلّبت ليلتي في فنون
ليت شعري أ من هوى طار نومي *** أم براني الباري قصير الجفون
قال: و شاع هذا الشعر حتى بلغ معاوية فأمسك عنه؛ حتى إذا كان في يوم الجمعة دخل عليه الناس و فيهم أبو دهبل؛ فقال معاوية لحاجبه: إذا أراد أبو دهبل الخروج فامنعه و اردده إليّ ؛ و جعل الناس يسلّمون و ينصرفون، فقام أبو دهبل لينصرف؛ فناداه معاوية: يا أبا دهبل إليّ ؛ فلما دنا إليه أجلسه حتى خلا به، ثم قال له: ما كنت ظننت أنّ في قريش أشعر منك حيث تقول:
و لقد قلت إذ تطاول سقمي *** و تقلّبت ليلتي في فنون
ليت شعري أ من هوى طار نومي *** أم براني الباري قصير الجفون
غير أنّك قلت:
و هي زهراء مثل لؤلؤة الغوّاص ميزت من جوهر مكنون
و إذا ما نسبتها لم تجدها *** في سناء من المكارم دون
و و اللّه إنّ فتاة أبوها معاوية و جدّها أبو سفيان و جدّتها هند بنت عتبة لكما ذكرت؛ و أيّ شيء زدت في قدرها! و لقد أسأت في قولك:
ص: 91
/
ثم خاصرتها إلى القبّة الخض *** راء تمشي في مرمر مسنون
فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين ما قلت هذا، و إنما قيل على لساني. فقال له: أمّا من جهتي فلا خوف عليك، لأنّي أعلم صيانة ابنتي نفسها، و أعرف أنّ فتيان الشعر لم يتركوا أن يقولوا النسيب في كلّ من جاز أن يقولوه فيه و كلّ من لم يجز، و إنما أكره لك جوار يزيد، و أخاف عليك وثباته، فإن له سورة الشباب و أنفة الملوك. و إنما أراد معاوية أن يهرب أبو دهبل فتنقضي المقالة عن ابنته؛ فحذر أبو دهبل فخرج إلى مكة هاربا على وجهه، فكان يكاتب عاتكة. فبينا معاوية ذات يوم في مجلسه إذ جاءه خصيّ له فقال: يا أمير المؤمنين، و اللّه لقد سقط إلى عاتكة اليوم كتاب، فلمّا قرأته بكت ثم أخذته فوضعته تحت مصلاّها، و ما زالت خاثرة/النفس منذ اليوم. فقال له: اذهب فالطف لهذا الكتاب حتى تأتيني به. فانطلق الخصيّ ، فلم يزل يلطف حتى أصاب منها غرّة فأخذ الكتاب و أقبل به إلى معاوية، فإذا فيه:
أ عاتك هلاّ إذ بخلت فلا ترى *** لذي صبوة زلفى لديك و لا حقّا(1)
رددت فؤادا قد تولّى به الهوى *** و سكّنت عينا لا تملّ و لا ترقا(2)
و لكن خلعت القلب بالوعد و المنى *** و لم أر يوما منك جودا و لا صدقا
أ تنسين أيّامي بربعك مدنفا *** صريعا(3) بأرض الشام ذا سقم ملقى
و ليس صديق يرتضى لوصيّة *** و أدعو لدائي بالشّراب فما أسقى
و أكبر همّي أن أرى لك مرسلا *** فطول نهاري جالس أرقب الطّرقا
فوا كبدي إذ ليس لي منك مجلس *** فأشكو الذي بي من هواك و ما ألقى
رأيتك تزدادين للصّبّ غلظة *** و يزداد قلبي كلّ يوم لكم عشقا
/قال: فلما قرأ معاوية هذا الشعر بعث إلى يزيد بن معاوية، فأتاه فدخل عليه فوجد معاوية مطرقا، فقال:
يا أمير المؤمنين، ما هذا الأمر الذي شجاك ؟ قال: أمر أمرضني و أقلقني منذ اليوم، و ما أدري ما أعمل في شأنه.
قال: و ما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال: هذا الفاسق أبو دهبل كتب بهذه الأبيات إلى أختك عاتكة، فلم تزل باكية منذ اليوم، و قد أفسدها، فما ترى فيه ؟ فقال: اللّه إن الرأي لهيّن. قال: و ما هو؟ قال: عبد من عبيدك يكمن له في أزقّة مكة فيريحنا منه. قال معاوية: أفّ لك! و اللّه إنّ امرأ يريد بك ما يريد و يسمو بك إلى ما يسمو لغير ذي رأي، و أنت قد ضاق ذرعك بكلمة و قصر فيها باعك حتى أردت أن تقتل رجلا من قريش! أ و ما تعلم أنك إذا فعلت ذلك صدّقت قوله و جعلتنا أحدوثة أبدا! قال: يا أمير المؤمنين، إنه قال قصيدة أخرى تناشدها أهل مكة و سارت حتى بلغتني و أوجعتني و حملتني على ما أشرت به فيه. قال: و ما هي ؟ قال قال(4):
ألا لا تقل مهلا فقد ذهب المهل *** و ما كلّ من يلحى محبّا له عقل
ص: 92
لقد كان في حولين حالا و لم أزر *** هواي و إن خوّفت عن حبها شغل
حمى الملك الجبّار عنّي لقاءها *** فمن دونها تخشى المتالف و القتل
فلا خير في حبّ يخاف و باله *** و لا في حبيب لا يكون له وصل
فوا كبدي إنّي شهرت بحبّها *** و لم يك فيما بيننا ساعة بذل
و يا عجبا إني أكاتم حبّها *** و قد شاع حتى قطّعت دونها السّبل
قال: فقال معاوية: قد و اللّه رفّهت عنّي، فما كنت آمن أنه قد وصل إليها؛ فأمّا الآن و هو يشكو أنّه لم يكن بينهما وصل و لا بذل فالخطب فيه يسير، قم عنّي؛ /فقام يزيد فانصرف. و حجّ معاوية في تلك السنة؛ فلما انقضت أيام الحجّ كتب أسماء وجوه قريش و أشرافهم و شعرائهم و كتب فيهم اسم أبي دهبل، ثم دعا بهم ففرّق في جميعهم صلات سنيّة و أجازهم جوائز كثيرة. فلما قبض أبو دهبل جائزته و قام لينصرف دعا به معاوية فرجع إليه؛ فقال له:
/يا أبا دهبل، ما لي رأيت أبا خالد يزيد ابن أمير المؤمنين عليك ساخطا في قوارص(1) تأتيه عنك و شعر لا تزال قد نطقت به و أنفذته إلى خصمائنا و موالينا، لا تعرض لأبي خالد. فجعل يعتذر إليه و يحلف له أنّه مكذوب عليه. فقال له معاوية: لا بأس عليك، و ما يضرّك ذلك عندنا؛ هل تأهّلت ؟ قال: لا. قال: فأيّ بنات عمّك أحبّ إليك ؟ قال:
فلانة؛ قال: قد زوّجتكها و أصدقتها ألفي دينار و أمرت لك بألف دينار. فلما قبضها قال: إن رأي أمير المؤمنين أن يعفو لي عمّا مضى! فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق منّي فقد أبحت به دمي و فلانة التي زوّجتنيها طالق البتّة. فسرّ بذلك معاوية و ضمن له رضا يزيد عنه و وعده بإدرار ما وصله به في كل سنة؛ و انصرف إلى دمشق. و لم يحجج معاوية في تلك السنة إلا من أجل أبي دهبل.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قال حدّثني إبراهيم بن عبد اللّه قال:
خرج أبو دهبل يريد الغزو، و كان رجلا صالحا و كان جميلا. فلما كان بجيرون جاءته امرأة فأعطته كتابا فقالت: اقرأ لي هذا الكتاب فقرأه لها، ثم ذهبت فدخلت قصرا ثم خرجت إليه فقالت: لو بلغت(2) القصر فقرأت الكتاب على امرأة كان لك/فيه أجر إن شاء اللّه، فإنه من غائب لها يعنيها أمره؛ فبلغ معها القصر؛ فلما دخلا إذا فيه جوار كثيرة، فأغلقن القصر عليه، و إذا فيه امرأة وضيئة، فدعته إلى نفسها فأبى، فأمرت به فحبس في بيت في القصر و أطعم و سقي قليلا قليلا حتى ضعف و كاد يموت، ثم دعته إلى نفسها فقال: لا يكون ذلك أبدا، و لكنّي أتزوّجك؛ قالت: نعم، فتزوّجها؛ فأمرت به فأحسن إليه حتى رجعت إليه نفسه، فأقام معها زمانا طويلا لا تدعه يخرج، حتى يئس منه أهله و ولده، و تزوّج بنوه و بناته و اقتسموا ماله، و أقامت زوجته تبكي عليه حتى عمشت و لم تقاسمهم ماله. ثم إنه قال لامرأته: إنك قد أثمت فيّ و في ولدي و أهلي؛ فأذني لي أطالعهم و أعود إليك؛ فأخذت
ص: 93
عليه أيمانا ألاّ يقيم إلا سنة حتى يعود إليها. فخرج من عندها يجرّ الدنيا(1) حتى قدم على أهله، فرأى حال زوجته و ما صار إليه ولده. و جاء إليه ولده؛ فقال لهم: لا و اللّه ما بيني و بينكم عمل، أنتم قد ورثتموني و أنا حيّ فهو حظّكم؛ و اللّه لا يشرك زوجتي فيما قدمت به أحد؛ ثم قال لها: شأنك به فهو لك كلّه. و قال في الشاميّة:
صاح حيّا الإله حيّا و دورا *** عند أصل القناة من جيرون
عن يساري إذا دخلت من البا *** ب و إن كنت خارجا عن يميني
فبذاك اغتربت في الشام حتى *** ظنّ أهلي مرجّمات الظنون
و هي زهراء مثل لؤلؤة الغوّاص *** ميزت من جوهر مكنون
و إذا ما نسبتها لم تجدها *** في سناء من المكارم دون
تجعل المسك و اليلنجوج(2) *** و النّدّ صلاء لها على الكانون
/ثم ماشيتها إلى القبّة الخض *** راء تمشي في مرمر مسنون
و قباب قد أسرجت و بيوت *** نظّمت بالرّيحان و الزّرجون(3)
/قبّة من مراجل ضربوها *** عند حدّ الشتاء في قيطون
ثم فارقتها على خير ما كا *** ن قرين مفارق لقرين
فبكت خشية التفرّق للبي *** ن بكاء الحزين إثر الحزين
و اسألي عن تذكّري و اطمئني *** لأناسي إذا هم عذلوني
فلما حلّ الأجل أراد الخروج إليها، فجاءه موتها فأقام.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قال:
و قد أبو دهبل الجمحيّ على ابن الأزرق عبد اللّه بن عبد الرحمن بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم، و كان يقال له ابن الأزرق و الهبرزيّ (4)، و كان عاملا لعبد اللّه بن الزبير على اليمن؛ فأنكره و رأى منه جفوة، فمضى إلى عمارة بن عمرو بن حزم، و هو عامل لعبد اللّه بن الزبير على حضرموت، فقال يمدحه و يعرّض بابن الأزرق:
يا ربّ حيّ بخير ما *** حيّيت إنسانا عماره
أعطي فأسنانا و لم *** يك من عطيّته الصّغاره(5)
ص: 94
و من العطيّة ما ترى *** جذماء ليس لها نزاره(1)
/حجرا تقلّبه و هل *** تعطي على المدح الحجاره
كالبغل يحمد قائما *** و تذمّ مشيته المصارة(2)
ثم رجع من عند عمارة بن عمرو بن حزم فقدم؛ فقال له حنين مولى ابن الأزرق في السرّ: أرى أنّك عجلت على ابن عمك و هو أجود الناس و أكرمهم، فعد إليه فإنه غير تاركك، و اعلم أنّا نخاف أن يكون قد عزل فلازمه و لا يفقدك؛ فإني أخاف أن ينساك؛ ففعل و أعطاه و أرضاه. فقال في ذلك:
يا حنّ إنّي لما حدّثتني أصلا *** مرنّح من صميم الوجد معمود
نخاف عزل امرئ كنّا نعيش به *** معروفه إن طلبنا الجود موجود
اعلم بأنّي لمن عاديت مضطغن *** ضبّا(3) و أنّي عليك اليوم محسود
و أنّ شكرك عندي لا انقضاء له *** ما دام بالهضب من لبنان جلمود
أنت الممدّح و المغلي به ثمنا *** إذ لا تمدّح صمّ الجندل السّود
إن تغد من منقلي(4) نجران مرتحلا *** يرحل من اليمن المعروف و الجود
ما زلت في دفعات الخير تفعلها *** لمّا اعترى الناس لأواء(5) و مجهود
حتى الذي بين عسفان إلى عدن *** لحب لمن يطلب المعروف أخدود(6)
قال: و أنشدنيها محمد بن الضحّاك بن عثمان قال سمعتها من أبي.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال أخبرني الزبير بن بكّار، و حدّثني حمزة بن عتبة قال:
قال أبو دهبل الجمحيّ : لما قلت أبياتي التي قلت فيها:
اعلم بأنّي لمن عاديت مضطغن *** ضبّا و أنّي عليك اليوم محسود
/قلت فيها نصف بيت
و أنّ شكرك عندي لا انقضاء له
ثم أرتج عليّ ، فأقمت حولين لا أقع على تمامه، حتى سمعت رجلا من الحاجّ في الموسم يذكر لبنان، فقلت: ما لبنان ؟ فقال: جبل بالشأم؛ فأتممت نصف البيت:
ما دام بالهضب من لبنان جلمود
ص: 95
قال الزبير و حدّثني محمد بن حبش المخزوميّ قال:
دخل نصيب على إبراهيم بن هشام و هو وال على المدينة فأنشده قصيدة مدحه فيها؛ فقال إبراهيم بن هشام:
ما هذا بشيء، أين هذا من قول أبي دهبل لصاحبنا ابن الأزرق حيث قال:
إن تغد من منقلي نجران مرتحلا *** يبن من اليمن المعروف و الجود
فغضب نصيب فحمي فنزع عمامته و طرحها و برك عليها؛ ثم قال: إن تأتونا برجال مثل ابن الأزرق نأتكم بمديح أجود من مديح أبي دهبل.
قال الزبير و حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد العزيز الزّهريّ قال حدّثني إسماعيل بن يعقوب بن مجمّع التّيميّ قال:
كان إبراهيم بن هشام جبّارا و كان يقيم بلا إذن إذ كان على المدينة الأشهر. فإذا أذن للناس أذن معهم لشاعر، فينشد قصيدة مديح لهشام بن عبد الملك و قصيدة مديح لإبراهيم بن هشام. فأذن لهم يوما، و كان الشاعر الذي أذن له معهم/نصيبا و عليه جبّة وشي؛ فاستأذنه في الإنشاد فأذن له؛ فأنشده قصيدة لهشام بن عبد الملك ثم قطعها و أنشد قصيدة مديح لإبراهيم بن هشام، و قصيدة هشام أشعر، فأراد الناس ممالحة نصيب فقالوا: ما أحسن هذا يا أبا محجن! أعد هذا البيت. فقال إبراهيم: أكثرتم، إنه لشاعر، و أشعر منه الذي يقول في ابن الأزرق:
إن تمس من منقلي نجران مرتحلا *** يبن من اليمن المعروف و الجود
ما زلت في دفعات الخير تفعلها *** لما اعترى الناس لأواء و مجهود
و حمي نصيب فقال: إنّا و اللّه ما نصنع المديح إلا على قدر الرجال، كما يكون الرجل يمدح. فعمّ الناس الضّحك و حلم عنه، و قال الحاجب: ارتفعوا، فلما صاروا في السّقيفة ضحكوا و قالوا: أ رأيتم مثل شجاعة هذا الأسود على هذا الجبّار! و حلم من غير حلم.
قال الزبير و حدّثني عمّي مصعب قال:
خرج أبو دهبل يريد ابن الأزرق فلقيه معزولا، فشقّ ذلك عليه و استرجع، فقال له ابن الأزرق: هوّن عليك! لم يفتك شيء، فأعطاه مائتي دينار(1). فقال في ذلك أبو دهبل:
أعطى أميرا و منزوعا و ما نزعت *** عنه المكارم تغشاه و ما نزعا
و حدّثني محمد بن الضحّاك مثل ذلك و أنشدني البيت.
و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أبو توبة صالح بن محمد بن درّاج قال حدّثنا أبو عمرو الشّيبانيّ قال:
ص: 96
/ولّى عبد اللّه بن الزبير ابنا لسعد بن أبي وقّاص يقال له إبراهيم مكان الثّبت بن عبد الرحمن بن الوليد الذي يقال له ابن الأزرق، فخرج حتى نزل بزبيد(1)، فقال لابن الأزرق: هلمّ حسابك؛ فقال: مالك عندي حساب و لا بيني و بينك عمل، و خرج متوجّها/إلى مكة. فاستأذنه أبو دهبل في صحبة الوقّاصيّ فأذن له فرجع معه، حتى إذا دخلوا صنعاء لقيهم بحير(2) بن ريسان في نفر كثير من الفرس و غيرهم، و مضى ابن الأزرق و معه ما احتمله من أموال اليمن؛ فسار يوما ثم نزل فضرب رواقه و دعا الناس فأعطاهم ذلك المال حتى لم يبق منه درهم. فقال أبو دهبل:
أعطى أميرا و منزوعا و ما نزعت *** عنه المكارم تغشاه و ما نزعا
و أقام أبو دهبل مع الوقّاصيّ ، فلم يصنع به خيرا. فقال أبو دهبل:
ما ذا رزئنا غداة الخلّ (3) من رمع(4) *** عند التفرّق من خيم و من كرم
ظلّ لنا واقفا يعطي فأكثر ما *** سمّى و قال لنا في قوله نعم
- نعم حرف موقوف فإذا حرّك أجريت حركته إلى الخفض لأنه أولى بالساكن -:
ثم انتحى غير مذموم و أعيننا *** لما تولّى بدمع واكف سجم(5)
تحمله الناقة الأدماء معتجرا *** بالبرد كالبدر جلّى ليلة الظّلم
و كيف أنساك لا أيديك واحدة *** عندي و لا بالذي أوليت من قدم
/حتى لقينا بحيرا عند مقدمنا *** في موكب كضباع الجزع(6) مرتكم
لما رأيت مقامي عند بابهم *** وددت أنّي بذاك الباب لم أقم
و بحير بن ريسان الذي يقول فيه أبو دهبل:
ص: 97
بحير بن ريسان الذي سكن الجند(1) *** يقول له الناس الجواد و من ولد
له نفحات حين يذكر فضله *** كسيل ربيع في ضحاضحة السّند(2)
في هذين البيتين هزج بالبنصر ذكر عمرو بن بانة أنه ليمان، و ذكر الهشاميّ أنّه لابن جامع.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أبو توبة عن أبي عمرو الشّيبانيّ قال:
كان ابن الزبير بعث عبد اللّه بن عبد الرحمن على بعض أعمال اليمن، فمدّ يده إلى أموالها و أعطى أعطية سنيّة و بثّ في قريش منها أشياء جزيلة فأثنت عليه قريش و وفدوا إليه فأسنى لهم العطايا. و بلغ ذلك عبد اللّه بن الزبير فحسده و عزله بإبراهيم بن سعد بن أبي وقّاص. فلما قدم عليه أراد أن يحاسبه، فقال له: مالك عندي حساب و لا بيني و بينك عمل، و قدم مكة؛ فخافت قريش ابن الزّبير عليه أن يفتّشه أو يكشفه فلبست السلاح و خرجت إليه لتمنعه؛ فلما لقيهم نزلت إليه قريش فسلّمت عليه و بسطت له أرديتها و تلقّته إماؤهم و ولائدهم بمجامر الألوّة(3)و العود المندليّ يبخّرون بين يديه حتى انتهى إلى المسجد و طاف بالبيت، ثم جاء إلى ابن الزبير فسلّم عليه/و هم معه مطيفون به. فعلم ابن الزبير أنّه لا سبيل له إليه فما عرّض و لا صرّح له بشيء. و مضى إلى منزله. فقال أبو دهبل:
فمن يك شان العزل أو هدّ ركنه *** لأعدائه يوما فما شانك العزل
و ما أصبحت من نعمة مستفادة *** و لا رحم إلا عليها لك الفضل
/و قال أبو دهبل أيضا فيه - أخبرني بذلك ابن المرزبان عن أبي توبة عن أبي عمرو الشّيبانيّ ؛ و أخبرني به الحرميّ عن الزبير عن عمّه -:
عقم النساء فلم يلدن شبيهه *** إن النساء بمثله عقم
متهلّل بنعم بلا متباعد *** سيّان منه الوفر و العدم
نزر الكلام من الحياء تخاله *** ضمنا(4) و ليس بجسمه سقم
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا أبو توبة عن أبي عمرو قال:
قال أبو دهبل يمدح ابن الأزرق:
بأبي و أمّي غير قول الباطل *** الكامل ابن الكامل ابن الكامل
ص: 98
و الحازم الأمر الكريم برأيه *** و الواصل الأرحام و ابن الواصل
جمع الرئاسة و السماح كليهما *** جمع الجفير(1) قداح نبل النابل
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثني محمد بن عمر قال حدّثني سليمان بن عبّاد قال حدّثني أبو جعفر الشّويفعي (رجل من أهل مكة) قال:
قدم سليمان بن عبد الملك مكة في حرّ شديد، فكان ينقّل سريره بفناء الكعبة و أعطى الناس العطاء. فلما بلغ بني جمح نودي بأبي دهبل، فقال سليمان: أين/أبو دهبل الشاعر؟ عليّ به؛ فأتي به؛ فقال سليمان: أنت أبو دهبل الشاعر؟ قال: نعم؛ قال: فأنت القائل:
فتنة يشعلها ورّادها *** حطب النار فدعها تشتعل
فإذا ما كان أمن فأتهم *** و إذا ما كان خوف فاعتزل
قال: نعم. قال: و أنت القائل:
يدعون مروان كيما يستجيب لهم *** و عند مروان خار(2) القوم أو رقدوا
قد كان في قوم موسى قبلهم جسد(3) *** عجل إذا خار فيهم خورة سجدوا
قال: نعم. قال: أنت القائل هذا ثم تطلب ما عندنا، لا و اللّه و لا كرامة! فقال: يا أمير المؤمنين، إن قوما فتنوا فكافحوكم بأسيافهم و أجلبوا عليكم بخيلهم و رجلهم ثم أدالكم اللّه منهم فعفوهم عنهم، و إنما فتنت فقلت بلساني، فلم لا يعفى عنّي! فقال سليمان: قد عفونا عنك و أقطعه قطيعة بحاذان(4) باليمن. فقيل لسليمان: كيف أقطعته هذه القطيعة! قال: أردت أن أميته و أميت ذكره بها.
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا المدائنيّ عن جماعة من الرّواة:
أن أبا دهبل كان يهوى امرأة من قومه يقال لها عمرة و كانت امرأة جزلة يجتمع الرجال عندها لإنشاد الشعر و المحادثة، و كان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع إليها، و كانت هي أيضا محبّة له. و كان أبو دهبل من أشراف بني جمح، /و كان يحمل الحمالة و كان مسوّدا؛ و زعمت بنو جمح أنه تزوّجها بعد، و زعم غيرهم من الرّواة أنه لم يصل إليها و لم يجر بينهما حلال و لا حرام. قال: و كانت عمرة تتقدّم/إلى(5) أبي دهبل في حفظ ما بينهما و كتمانه، فضمن ذلك لها. فجاء نسوة كنّ يتحدّثن إليها فذكرن لها شيئا من أبي دهبل و قلن: قد علق امرأة؛ قالت: و ما ذاك ؟ قلن: ذكر أنه عاشق لك و أنّك عاشقة له. فرفعت مجلسها و مجالسة الرجال ظاهرة و ضربت حجابا
ص: 99
بينهم و بينها، و كتبت إلى أبي دهبل تعذله و تخبره بما بلغها من سوء صنيعه. فعند ذلك يقول:
تطاول هذا الليل ما يتبلّج *** و أعيت غواشي عبرتي ما تفرّج
و بتّ كئيبا ما أنام كأنما *** خلال ضلوعي جمرة تتوهّج
فطورا أمني النفس من عمرة المنى *** و طورا إذا ما لجّ بي الحزن أنشج
لقد قطع الواشون ما كان بيننا *** و نحن إلى أن يوصل الحبل أحوج
رأوا غرّة فاستقبلوها بألبهم *** فراحوا على ما لا نحبّ و أدلجوا
و كانوا أناسا كنت آمن غيهم *** فلم ينههم حلم و لم يتحرّجوا
هم منعونا ما نحبّ و أوقدوا *** علينا و شبّوا نار صرم تأجّج
و لو تركونا لا هدى اللّه سعيهم *** و لم يلحموا قولا من الشر ينسج
لأوشك صرف الدهر يفرق بيننا *** و هل يستقيم الدّهر و الدهر أعوج
عسى كربة أمسيت فيها مقيمة *** يكون لنا منها نجاة و مخرج
فيكبت أعداء و يجذل آلف *** له كبد من لوعة الحب تنضج
و قلت لعبّاد و جاء كتابها *** لهذا و ربّي كانت العين تخلج
و خطّطت في ظهر الحصير كأنّني *** أسير يخاف القتل ولهان ملفج
/فلما التقينا لجلجت في حديثها *** و من آية الصّرم الحديث الملجلج
و إنّي لمحجوب عشيّة زرتها *** و كنت إذا ما جئتها لا أعرّج
و أعيا عليّ القول و القول واسع *** و في القول مستنّ (1) كثير و مخرج
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزبير بن بكّار قال حدّثني خالد بن بكر الصوّاف قال:
أتيت ابن أبي العراقيب فسألته أن يدخلني على جارية مغنّية لم ير أحد مثلها قط؛ فقال لي: إنّ في البيت و اللّه شيخين كريمين عليّ ، لا أدري ما يوافقهما من دخول أحد عليهما، فلو أقمت حتى أطّلع رأيهما في ذلك، فدخل ثم خرج إليّ فقال: ادخل فدخلت، فإذا أبو السائب المخزوميّ و أبو جندب الهذليّ ؛ و خرجت علينا الجارية قاطبة عابسة؛ فلما وضع العود في حجرها اندفعت تغنّي و تقول:
عسى كربة أمسيت فيها مقيمة *** يكون لنا منها نجاة و مخرج
و إنّي لمحجوب غداة أزورها *** و كنت إذا ما زرتها لا أعرّج
ص: 100
قال: ثم بكت؛ فوثبا عليه جميعا فقالا له: لعلك أربتها(1) بشيء، عليك و علينا إن لم تقم إليها حتى تقبّل رأسها و تترضّاها، ففعل.
تطاول هذا الليل ما يتبلّج *** و أعيت غواشي عبرتي ما تفرّج
أخطّط في ظهر الحصير كأنّني *** أسير يخاف القتل ولهان ملفج
/الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و فيه لحن لمالك ذكره حماد عن أبيه في أخبار مالك و لم يجنّسه. و حكي أن مالكا كان إذا سئل عنه يذكر أنه أخذه من حائد بن جرهد فقوّمه و أصلحه. و فيه لأبي عيسى بن الرشيد ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش و الهشاميّ .
لقد قطع الواشون ما كان بيننا *** و نحن إلى أن يوصل الحبل أحوج
فطورا أمني النفس من عمرة المنى *** و طورا إذا ما لجّ بي الهمّ أنشج
الغناء لمالك ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر حبش أن فيه لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قال:
قال أبو دهبل في قتل الحسين بن عليّ صلوات اللّه عليه و زكواته:
تبيت سكارى من أميّة نوّما *** و بالطّفّ قتلي ما ينام حميمها
و ما أفسد الإسلام إلا عصابة *** تأمّر نوكاها و دام نعيمها
فصارت قناة الدّين في كفّ ظالم *** إذا اعوجّ منها جانب لا يقيمها
قال الزبير و حدّثني يحيى بن مقداد بن عمران بن يعقوب الزّمعي قال حدّثني عمّي موسى بن يعقوب قال أنشدني أبو دهبل قصيدته التي يقول فيها:
سقى اللّه جازانا فمن حلّ وليه *** فكلّ فسيل من سهام و سردد(2)
ص: 101
/
و محصوله الدار التي خيّمت بها *** سقاها فأروى كلّ ربع و فدفد(1)
فأنت التي كلّفتني البرك(2) شاتيا *** و أوردتنيه فانظري أيّ (3) مورد
فوا ندمي أن(4) لم أعج إذ تقول لي *** تقدّم فشيّعنا إلى ضحوة الغد
تكن سكنا أو تقدر العين أنها *** ستبكي مرارا فاسل من بعد و احمد(5)
فأصبحت ممّا كان بيني و بينها *** سوى ذكرها كالقابض الماء باليد
- الغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لبذل الكبير رمل عن الهشاميّ :
لعلّك أن تلقى محبّا فتشتفي *** برؤية ريم بضّة المتجرّد
بلاد العدا لم تأتها غير أنها *** بها همّ نفسي من تهام و منجد(6)
و ما جعلت ما بين مكة ناقتي *** إلى البرك إلاّ نومة المتهجّد
و كانت قبيل الصبح تنبذ رحلها *** بدومة(7) من لغط القطا المتبدّد
/قال فقلت: يا عمّي(8) فما يمنعك أن تكتري دابّة بدرهمين فتشيّعها و تصبح معك؛ فضحك/و قال: نفع اللّه بك يا بن أخي، أ ما علمت أن النّدم توبة، و عمّك كان أشغل مما تحسب.
قال الزبير و حدّثني عمّي مصعب بن عبد اللّه قال:
أنشد رجل أبا السائب المخزوميّ قصيدة أبي دهبل:
سقى اللّه جازانا فمن حلّ وليه *** فكلّ فسيل من سهام و سردد
فلما بلغ قوله:
ص: 102
فوا ندمي أن(1) لم أعج إذ تقول لي *** تقدّم فشيّعنا إلى ضحوة الغد
قال أبو السائب: ما صنع شيئا! أ لا اكتري حمارا بدرهمين فشيّعهم و لم يقل «فوا ندمي» أو اعتذر! و إني أظنّ أنه قد كان له عذر. قال: و ما هو؟ قال: أظنه كان مثلي لا يجد شيئا.
فقال الزبير و حدّثني ابن مقداد قال حدّثني عمّي موسى بن يعقوب قال أنشدني أبو دهبل قوله:
ألا علق القلب المتيّم كلثما *** لجاجا و لم يلزم من الحبّ ملزما
خرجت بها من بطن مكة بعد ما *** أصات المنادي بالصلاة فأعتما(2)
فما نام من راع و لا ارتدّ سامر *** من الحيّ حتى جاوزت بي يلملما(3)
/و مرّت ببطن اللّيث(4) تهوي كأنما *** تبادر بالإدلاج نهبا مقسّما
- غنّى في هذه الأبيات ابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن الهشاميّ . قال: و فيه هزج يمان بالوسطى، و ذكر عمرو بن بانة أن خفيف الثقيل هو اليمانيّ . و فيه لفيل مولى العبلات رمل صحيح عن حمّاد عن أبيه عن الهشاميّ .
و قال الهشامي: فيه لحكم ثقيل أوّل. و ذكر أبو أيّوب المدينيّ في أغاني ابن جامع أنّ فيه لحنا و لم يجنّسه -:
و جازت(5) على البزوء و الليل كاسر *** جناحين بالبزواء وردا و أدهما
فما ذرّ قرن الشمس حتى تبيّنت *** بعليب(6) نخلا مشرفا أو مخيّما
و مرّت على أشطان رونق(7) بالضّحى *** فما خزّرت(8) للماء عينا و لا فما
و ما شربت حتى ثنيت زمامها *** و خفت عليها أن تخرّ و تكلما
فقلت لها قد بنت غير ذميمة *** و أصبح وادي البرك غيثا مديّما(9)
ص: 103
قال: فقلت له: ما كنت إلاّ على الريح؛ فقال: يا بن أخي، إن عمّك كان إذا همّ فعل، و هي الحاجة(1). أ ما سمعت قول أخي(2) بني مرّة:
/
إذا أقبلت قلت مشحونة *** أطاعت(3) لها الرّيح قلعا جفولا
و إن أدبرت قلت مذعورة *** من الرّبد(4) تتبع هيقا ذمولا(5)
و إن أعرضت خال فيها البصي *** ر مالا تكلّفه أن يميلا
يدا سرح مائل ضبعها *** تسوم و تقدم رجلا زحولا(6)
فمرّت على خشب غدوة *** و مرّت فويق أريك(7) أصيلا
تخبّط بالليل حزّانه(8)*** كخبط القويّ العزيز الذليلا
و أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثني جعفر بن الحسن اللّهبيّ قال: أنشدت/ريّان(9) السوّاق قول أبي دهبل:
أ ليس عجيبا أن نكون ببلدة *** كلانا بها ثاو و لا نتكلّم
و لا تصرميني أن تريني أحبّكم *** أبوء بذنب إنّني أنا أظلم
فقال: أحسن، أحسن اللّه إليه؛ ما بعد هذا شيء.
و في هذه القصيدة يقول:
أ منّا أناسا كنت قد تأمنينهم *** فزادوا علينا في الحديث و أوهموا(10)
/و قالوا لنا ما لم يقل ثم كثّروا *** علينا و باحوا بالذي كنت أكتم
ص: 104
لقد كحلت عيني القذى لفراقكم *** و عاودها تهتانها فهي تسجم
و أنكرت طيب العيش مني و كدّرت *** عليّ حياتي و الهوى متقسّم
الغناء لابن سريج رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لابن زرزور الطائفيّ خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه خفيفا رمل أحدهما بالوسطى لمتيّم و الآخر بالبنصر لعريب.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزبير قال حدّثني عمّي قال حدّثني القاسم بن المعتمر الزّهريّ قال:
قلت لأبي السائب المخزوميّ : يا أبا السائب، أما أحسن أبو دهبل حيث يقول:
أ أترك ليلى ليس بيني و بينها *** سوى ليلة إنّي إذا لصبور
هبوني امرأ منكم أضلّ بعيره *** له ذمّة إن الذّمام كبير
و للصّاحب المتروك أفضل ذمّة *** على صاحب من أن يضلّ بعير
قال: فقال لي: و بأبي أنت! كنت و اللّه لا أحبّك و تثقل عليّ ، فأنا الآن أحبّك و تخفّ عليّ .
و في هذه الأبيات غناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لعلّويه رمل بالوسطى من جامع أغانيه. و فيه للمازنيّ خفيف ثقيل آخر من رواية الهشاميّ و ذكاء و غيرهما. و أوّل هذا الصوت بيت لم يذكر في الخبر، و هو:
عفا اللّه عن ليلى الغداة فإنها *** إذا وليت حكما عليّ تجور
أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزبير قال حدّثني عمّي مصعب و محمد بن الضحّاك عن أبيه:
أن أبا ريحانة عمّ أبي دهبل كان شديد الخلاف على عبد اللّه بن الزبير، فتوعّده عبد اللّه(1) بن صفوان، فلحق بعبد الملك بن مروان، فاستمدّه الحجّاج فأمدّه عبد الملك بطارق مولى عثمان في أربعة آلاف؛ فأشرف أبو ريحانة على أبي قبيس فصاح أبو ريحانة: أ ليس قد أخزاكم اللّه يأهل مكة! فقال له ابن أبي عتيق: بلى و اللّه قد أخزانا اللّه.
فقال له ابن الزبير: مهلا يا بن أخي! فقال: قلنا لك ائذن لنا فيهم و هم قليل فأبيت حتى صاروا إلى ما ترى من الكثرة. قال: و قال أبو دهبل في وعيد عبد اللّه بن صفوان عمّه أبا ريحانة - و اسمه عليّ بن أسيد بن أحيحة -:
و لا توعد لتقتله عليّا *** فإن وعيده كلأ وبيل
و نحن ببطن مكّة إذ تداعى *** لرهطك من بني عمرو رعيل(2)
ص: 105
/
أولو الجمع المقدّم حين ثابوا *** إليك و من يودّعهم قليل
فلما أن تفانينا و أودى(1)*** بثروتنا الترحّل و الرحيل
جعلت لحومنا غرضا كأنا *** لتهلكنا عروبة أو سلول
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا أبو توبة عن أبي عمرو الشّيبانيّ قال:
مات ابن الأزرق و أبو دهبل حيّ فدفن بعليب، فلما احتضر أبو دهبل أيضا أوصى أن يدفن عنده. و فيه يقول أبو دهبل يرثيه - عن أبي عمرو الشيبانيّ -:
/
لقد غال هذا اللحد من بطن عليب *** فتى كان من أهل الندى و التكرّم
فتى كان فيما ناب يوما هو الفتى *** و نعم الفتى للطارق المتيمّم
أ الحقّ أنّي لا أزال على منّى *** إذا صدر الحجّاج عن كلّ موسم
سقى اللّه أرضا أنت ساكن قبرها *** سجال الغوادي من سحيل(2) و مبرم
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزبير قال حدّثني عمّي قال حدّثني إبراهيم بن أبي عبد اللّه قال:
وقع لأبي دهبل ميراث بمصر فخرج يريده؛ ثم رجع من الطريق فقال:
اسلمي أمّ دهبل بعد هجر *** و تقضّ من الزمان و عمر
و اذكري كرّي المطيّ إليكم *** بعد ما قد توجّهت نحو مصر
لا تخالي أنّي نسيتك لمّا *** حال بيش(3) و من به خلف ظهري
إن تكوني أنت المقدّم قبلي *** و أطع يثو عند قبرك قبري
قال إبراهيم: فوقفت على قبره إلى جانب قبرها بعليب.
ألا أيها الشادن الأكحل *** إلى كم تقول و لا تفعل
إلى كم تجود بما لا نري *** د منك و تمنع ما نسأل
الشعر للحسين بن الضحّاك. و الغناء لأبي زكّار الأعمى، و لحنه المختار هزج بالبنصر.
ص: 106
الحسين بن الضحّاك باهليّ صليبة(1)، فيما ذكر محمد بن داود بن الجرّاح؛ و الصحيح أنه مولى لباهلة. و هو بصريّ المولد و المنشأ، من شعراء الدولة العباسيّة، و أحد ندماء الخلفاء من بني هاشم. و يقال: إنه أوّل من جالس منهم محمد الأمين. شاعر أديب ظريف مطبوع حسن التصرّف في الشعر حلو المذهب، لشعره قبول و رونق صاف.
و كان أبو نواس يأخذ معانيه في الخمر فيغير عليها. و إذا شاع له شعر نادر في هذا المعنى نسبه الناس إلى أبي نواس.
و له معان في صفتها أبدع فيها و سبق إليها، فاستعارها أبو نواس، و أخبارهما في هذا المعنى و غيره تذكر في أماكنها.
و كان يلقّب الخليع و الأشقر، و هاجى مسلم بن الوليد فانتصف منه. و له غزل كثير جيّد. و هو(2) من المطبوعين الذين تخلو أشعارهم و مذاهبهم جملة من/التكلّف. و عمّر عمرا طويلا حتى قارب المائة السنة، و مات في خلافة المستعين أو المنتصر.
و حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال:
كان حسين بن الضحّاك بن ياسر مولى لباهلة، و أصله من خراسان؛ فكان ربما اعترف بهذا الولاء و ربما جحده، و كان يلقّب بالأشقر، و هو و محمد بن حازم الباهليّ ابنا خالة.
و حدّثني الصّوليّ عن إبراهيم بن المعلّى الباهليّ : أنه سأله عن نسب حسين بن الضحّاك فقال: هو حسين بن الضحّاك بن ياسر، من موالي سليمان بن ربيعة الباهليّ . قال الصوليّ : و سألت الطيّب بن محمد الباهليّ عنه فقال لي: هو الحسين/بن الضحّاك بن فلان بن فلان بن ياسر، قديم الولاء، و داره في بني مجاشع و فيها ولد الحسين، أرانيها صاحبنا سعيد بن مسلم.
أخبرني عليّ بن العبّاس بن أبي طلحة الكاتب و محمد بن يحيى الصّوليّ قالا: حدّثنا المغيرة بن محمد المهلّبيّ قال حدّثنا حسين بن الضحّاك قال: أنشدت أبا نواس لمّا حججت قصيدتي التي قلتها في الخمر و هي:
بدّلت من نفحات الورد بالآء(3) *** و من صبوحك درّ الإبل و الشاء
فلما انتهيت منها إلى قولي:
ص: 107
حتى إذا أسندت في البيت و احتضرت *** عند الصّبوح ببسّامين أكفاء
فضّت خواتمها في نعت واصفها *** عن مثل رقراقة(1) في جفن مرهاء(2)
قال: فصعق صعقة أفزعني، و قال: أحسنت و اللّه يا أشقر! فقلت: ويلك يا حسن! إنك أفزعتني و اللّه! فقال:
بلى و اللّه أفزعتني و رعتني، هذا معنى من المعاني التي كان فكري لا بدّ أن ينتهي إليها أو أغوص عليها و أقولها فسبقتني إليه و اختلسته منّي، و ستعلم لمن يروى أ لي أم لك؛ فكان و اللّه كما قال، سمعت من لا يعلم يرويها له.
أخبرني بهذا الخبر الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمد بن عبد اللّه مولى بني هاشم أبو جعفر قال:
سمعت الحسين بن الضحّاك يقول: لما قلت قصيدتي:
بدّلت من نفحات الورد بالآء
/أنشدتها أبا نواس؛ فقال: ستعلم لمن يرويها الناس أ لي أم لك؛ فكان الأمر كما قال، رأيتها في دفاتر الناس في أوّل أشعاره.
أخبرني جعفر بن قدامة عن أحمد بن أبي طاهر عن أحمد بن صالح عن الحسين بن الضحّاك، فذكر نحوا منه.
أخبرني الصّوليّ قال حدّثني عبد اللّه بن محمد الفارسيّ عن ثمامة بن أشرس، قال الصوليّ و حدّثنيه عون بن محمد عن عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الرّبيع قال:
لمّا قدم المأمون من خراسان و صار إلى بغداد، أمر بأن يسمّى له قوم من أهل الأدب ليجالسوه و يسامروه، فذكر له جماعة فيهم الحسين بن الضحّاك، و كان من جلساء محمد المخلوع؛ فقرأ أسماءهم حتى بلغ إلى اسم حسين، فقال: أ ليس هو الذي يقول في محمد:
هلاّ بقيت لسدّ فاقتنا *** أبدا و كان لغيرك التّلف
فلقد خلفت خلائفا سلفوا *** و لسوف يعوز بعدك الخلف
لا حاجة لي فيه، و اللّه لا يراني أبدا إلا في الطريق. و لم يعاقب الحسين على ما كان من هجائه/له و تعريضه به. قال: و انحدر حسين إلى البصرة فأقام بها طول أيام المأمون.
أخبرني عمّي و الكوكبيّ بهذا قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا عبد اللّه بن الحارث المروزيّ عن إبراهيم بن عبد اللّه ابن أخي السّنديّ بن شاهك، فذكر مثله سواء.
قال ابن أبي طاهر فحدّثني محمد بن عبد اللّه صاحب المراكب قال أخبرني أبي عن صالح بن الرشيد قال:
ص: 108
/دخلت يوما على المأمون و معي بيتان للحسين بن الضحّاك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحبّ أن تسمع مني بيتين؛ فقال: أنشدهما فأنشدته:
حمدنا اللّه شكرا إذ حبانا *** بنصرك يا أمير المؤمنينا
فأنت خليفة الرحمن حقّا *** جمعت سماحة و جمعت دينا
فقال: لمن هذان البيتان يا صالح ؟ فقلت: لعبدك يا أمير المؤمنين حسين بن الضحّاك؛ قال: قد أحسن.
فقلت: و له يا أمير المؤمنين أجود من هذا؛ فقال: و ما هو؟ فأنشدته قوله:
أ يبخل فرد الحسن فرد صفاته *** عليّ و قد أفردته بهوى فرد
رأى اللّه عبد اللّه خير عباده *** فملّكه و اللّه أعلم بالعبد
قال: فأطرق ساعة ثم قال: ما تطيب نفسي له بخير بعد ما قال في أخي محمد و قال.
قال أبو الفرج: و هذه الأبيات تروى لابن البوّاب، و ستذكر في أبوابه إن شاء اللّه تعالى، و على أن الذي رواها غلط في روايته غلطا بيّنا، لأنها مشهورة من شعر حسين بن الضحّاك. و قد روي أيضا في أخباره أنه دفعها إلى ابن البوّاب فأوصلها إلى ابن المأمون، و كان له صديقا. و لعلّ الغلط وقع من هذه الجهة.
الغناء في الأبيات المذكورة المنسوبة إلى حسين بن الضحّاك و إلى ابن البوّاب الدّاليّة لإبراهيم بن المهديّ خفيف ثقيل بالبنصر. و فيها لعبيد اللّه بن موسى الطائفيّ رمل بالبنصر.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا أحمد بن يزيد المهلّبيّ عن أبيه عن عمرو بن بانة أنّهم كانوا عند صالح بن الرشيد، فقال: لست تطرح على جواريّ و غلماني/ما أستجيده! فقال له: ويلك! ما أبغضك ابعث إلى منزلي فجيء بالدفاتر و اختر منها ما شئت حتى ألقيه عليهم؛ فبعث إلى منزلي فجيء إليه بدفاتر الغناء فأخذ منها دفترا ليتخيّر ممّا فيه، فمرّ به شعر الحسين بن الضحّاك يرثي الأمين و يهجو المأمون و هو:
أطل حزنا و ابك الإمام محمدا *** بحزن و إن خفت الحسام المهنّدا
فلا تمّت الأشياء بعد محمد *** و لا زال شمل الملك منها مبدّدا
و لا فرح المأمون بالملك بعده *** و لا زال في الدنيا طريدا مشرّدا
فقال لي صالح: أنت تعلم أنّ المأمون يجيء إليّ في كل ساعة، فإذا قرأ هذا ما تراه يكون فاعلا! ثم دعا بسكين فجعل يحكّه؛ و صعد المأمون من الدّرجة و رمى صالح الدفتر. فقال المأمون: يا غلام الدفتر. فأتي به، فنظر فيه و وقف على الحكّ فقال: إن قلت لكم: ما كنتم(1)/فيه تصدقوني ؟ قلنا: نعم. قال: ينبغي أن يكون أخي قال لك: ابعث فجيء بدفاترك ليتخيّر ما تطرح، فوقف على هذا الشعر فكره أن أراه فأمر بحكّه؛ قلنا: كذا كان. فقال:
ص: 109
غنّه يا عمرو؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، الشعر لحسين بن الضحّاك و الغناء لسعيد بن جابر؛ فقال: و ما يكون! غنّه فغنّيته؛ فقال: اردده فرددته ثلاث مرات؛ فأمر لي بثلاثين ألف درهم، و قال: حتى تعلم أنه لم يضررك عندي.
قال: و سعيد بن جابر الذي يقول فيه حسين بن الضحّاك، و كان نديمه و صديقه:
يا سعيد و أين منّي سعيد
و لحسين بن الضحّاك في محمد الأمين مراث كثيرة جياد، و كان كثير التحقّق(1) به و الموالاة له لكثرة أفضاله عليه و ميله إليه و تقديمه إيّاه. و بلغ من جزعه عليه أنّه/خولط؛ فكان ينكر قتله لمّا بلغه و يدفعه و يقول: إنه مستتر و إنه قد وقف على تفرّق دعاته في الأمصار يدعون إلى مراجعة أمره و الوفاء ببيعته ضنّا به و شفقة عليه. و من جيّد مراثيه إياه قوله:
سألونا أن كيف نحن فقلنا *** من هوى نجمه فكيف يكون
نحن قوم أصابنا حدث الده *** ر فظلنا لريبه نستكين
نتمنّى من الأمين إيابا *** لهف نفسي و أين منّي الأمين
في هذه الأبيات لسعيد بن جابر ثاني ثقيل بالوسطى. و فيها لعريب خفيف ثقيل.
و من جيّد قوله في مراثيه إيّاه:
أعزّى يا محمد عنك نفسي *** معاذ اللّه و الأيدي الجسام
فهلاّ مات قوم لم يموتوا *** و دوفع عنك لي يوم الحمام
كأن الموت صادف منك غنما *** أو استشفى بقربك من سقام
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا عليّ بن محمد النّوفليّ قال قال لي محمد بن عبّاد: قال لي المأمون و قد قدمت من البصرة: كيف ظريف شعرائكم و واحد مصركم ؟ قلت: ما أعرفه؛ قال: ذاك الحسين بن الضحّاك، أشعر شعرائكم و أظرف ظرفائكم. أ ليس هو الذي يقول:
رأى اللّه عبد اللّه خير عباده *** فملّكه و اللّه أعلم بالعبد
قال: ثم قال لي المأمون: ما قال فيّ أحد من شعراء زماننا بيتا أبلغ من بيته هذا؛ فاكتب إليه فاستقدمه؛ و كان حسين عليلا و كان يخاف بوادر المأمون لما/فرط منه؛ فقلت للمأمون: إنه عليل يا أمير المؤمنين، علّته تمنعه من الحركة و السفر. قال: فخذ كتابا إلى عامل خراجكم بالبصرة حتى يعطيه ثلاثين ألف درهم؛ فأخذت الكتاب بذلك و أنفذته إليه فقبض المال.
ص: 110
حدّثنا عليّ بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال سمعت أبا العباس محمد بن يزيد الأزديّ يقول: حسين بن الضحّاك أشعر المحدّثين حيث يقول:
أيّ ديباجة حسن *** هيّجت لوعة حزني
/إذ رماني القمر الزا *** هر عن فترة جفن
بأبي شمس نهار *** برزت في يوم دجن
قرّبتني بالمنى ح *** تى إذا ما أخلفتني
تركتني بين ميعا *** د و خلف و تجنّي
ما أراني(1) لي من الصب *** وة إلاّ حسن ظنّي
إنما دامت على الغد *** ر لما تعرف منّي
أستعيذ اللّه من إع *** راض من أعرض عنّي
أخبرني عليّ بن العباس قال حدّثني سوادة بن الفيض المخزوميّ قال حدّثني أبو الفيض بن سوادة عن جدّي قال:
لمّا وليّ المعتصم الخلافة سألني عن حسين بن الضحّاك، فأخبرته بإقامته بالبصرة لانحراف المأمون عنه؛ فأمر بمكاتبته بالقدوم عليه فقدم. فلما دخل و سلّم استأذن في الإنشاد فأذن له؛ فأنشده قوله:
هلاّ سألت تلذّذ(2) المشتاق *** و مننت قبل فراقه بتلاق
/إنّ الرقيب ليستريب تنفّسا *** صعدا إليك و ظاهر الإقلاق
و لئن أربت(3) لقد نظرت بمقلة *** عبري عليك سخينة الآماق
نفسي الفداء لخائف مترقّب *** جعل الوداع إشارة بعناق
إذ لا جواب لمفحم متحيّر *** إلا الدموع تصان بالإطراق
حتى انتهى إلى قوله:
خير الوفود مبشّر بخلافة *** خصّت ببهجتها أبا إسحاق
وافته في الشهر الحرام سليمة *** من كل مشكلة و كلّ شقاق
أعطته صفقتها الضمائر طاعة *** قبل الأكفّ بأوكد الميثاق
ص: 111
سكن الأنام إلى إمام سلامة *** عفّ الضمير مهذّب الأخلاق
فحمى رعيّته و دافع دونها *** و أجار مملقها من الإملاق
حتى أتمّها. فقال له المعتصم: أدن منّي فدنا منه؛ فملأ فمه جوهرا من جوهر كان بين يديه، ثم أمره بأن يخرجه من فيه فأخرجه، و أمر بأن ينظم و يدفع إليه و يخرج إلى الناس و هو في يده ليعلموا موقعه من رأيه و يعرفوا فعله. فكان أحسن ما مدح به يومئذ.
و ممّا قدّمه أهل العلم على سائر ما قالته الشعراء قول حسين بن الضحّاك حيث قال:
قل للألى صرفوا الوجوه عن الهدى *** متعسّفين تعسّف المرّاق
إني أحذّركم بوادر ضيغم *** درب بحطم موائل الأعناق
متأهب لا يستفزّ جنانه *** زجل الرّعود و لامع الإبراق
/لم يبق من متعرّمين(1) توثّبوا *** بالشأم غير جماجم أفلاق
من بين منجدل تمجّ عروقه *** علق(2) الأخادع أو أسير وثاق
/و ثنى الخيول إلى معاقل قيصر *** تختال بين أحزّة(3) و رقاق
يحملن كلّ مشمّر متغشّم *** ليث هزبر أهرت الأشداق(4)
حتى إذا أمّ الحصون منازلا *** و الموت بين ترائب و تراق(5)
هرّت بطارقها هرير قساور *** بدهت بأكره منظر و مذاق(6)
ثم استكانت للحصار ملوكها *** ذلاّ و ناط حلوقها بخناق(7)
هربت و أسلمت الصليب عشيّة *** لم يبق غير حشاشة الأرماق
قال: فأمر له المعتصم لكل بيت بألف درهم، و قال له: أنت تعلم يا حسين أنّ هذا أكثر ما مدحني به مادح في دولتنا. فقبّل الأرض بين يديه و شكره و حمل المال معه.
ص: 112
حدّثني عليّ قال حدّثني عثمان بن عمر الآجرّي قال: سمعت الرّياشيّ ينشد هذين البيتين و يستحسنهما و يستظرفهما جدّا و هما:
إذا ما الماء أمكنني *** و صفو سلافة العنب
صببت الفضّة البيضا *** ء فوق قراضة الذهب
/فقلت له: من يقولهما يا أبا الفضل ؟ قال: أرقّ الناس طبعا و أكثرهم ملحا و أكملهم ظرفا حسين بن الضحّاك.
أخبرني يحيى بن عليّ إجازة قال حدّثني أبي عن حسين بن الضحّاك قال: أنشدت يا أبا نواس قصيدتي:
و شاطريّ (1) اللسان مختلق التك *** ريه شاب المجون بالنّسك
حتى بلغت إلى قولي(2):
كأنما(3) نصب كاسه قمر *** يكرع في بعض أنجم الفلك
قال: فأنشدني أبو نواس بعد أيام لنفسه:
إذا عبّ فيها شارب القوم خلته *** يقبّل في داج من الليل كوكبا
قال: فقلت له: يا أبا عليّ هذه مصالتة(4). فقال لي: أ تظن أنه يروي لك في الخمر معنى جيّد و أنا حيّ !.
أخبرني به جعفر بن قدامة عن عليّ بن محمد بن نصر عن أحمد بن حمدون عن حسين بن الضحّاك فذكر مثله.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال:
أنشدت إبراهيم بن المدبّر قول حسين بن الضحّاك:
كأنما نصب كأسه قمر *** حاسده(5) بعض أنجم الفلك
/حتى إذا رنّحته سورتها *** و أبدلته السكون بالحرك
كشفت عن وزّة مسنّمة *** في لين صينيّة من الفلك(6)
فقال لي إبراهيم بن المدبّر: إن الحسين كان يزعم أن أبا نواس سرق منه هذا المعنى حين يقول:
ص: 113
يقبّل في داج من الليل كوكبا
فإن كان سرقه منه فهو أحقّ به لأنه قد برّز عليه، و إن كان حسين سرقه منه فقد قصّر عنه.
أخبرني محمد بن يحيى الخراسانيّ قال حدّثني محمد بن مخارق قال:
لمّا بويع الواثق بالخلافة و دخل(1) عليه الحسين بن الضحّاك فأنشده/قصيدته التي أوّلها:
أ لم يرع الإسلام موت نصيره *** بلى حقّ أن يرتاع من مات ناصره
سيسليك عمّا فات دولة مفضل *** أوائله محمودة و أواخره
ثنى اللّه عطفيه و ألّف شخصه *** على البرّ مذ شدّت عليه مآزره
يصبّ (2) ببذل المال حتى كأنما *** يرى بذله للمال نهبا يبادره
و ما قدّم الرحمن إلاّ مقدّما *** موارده محمودة و مصادره
فقال الواثق: إن كان الحسين لينطق عن حسن طويّة و يمدح بخلوص نيّة. ثم أمر بأن يعطى لكل بيت قاله من هذه القصيدة ألف درهم. فأعجبته الأبيات، حتى أمر فصنعت فيها عدّة ألحان، منها لعريب في طريقة الثقيل الأوّل.
و أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني محمد بن عمرو الرومي قال.
لمّا ولي الواثق الخلافة أنشده حسين بن الضحّاك قصيدة منها:
سيسليك عمّا فات دولة مفضل *** أوائله محمودة و أواخره
و ما قدّم الرحمن إلاّ مقدّما *** موارده محمودة و مصادره
قال: فأنشدت إسحاق الموصليّ هذا الشعر؛ فقال لي: نقل حسين كلام أبي العتاهية في الرشيد حتى جاء بألفاظه بعينها حيث يقول:
جرى لك من هارون بالسعد طائره *** إمام اعتزام لا تخاف بوادره
إمام له رأي حميد و رحمة *** موارده محمودة و مصادره
قال: فعجبت من رواية إسحاق شعر المحدثين، و إنما كان يروى للأوائل و يتعصّب على المحدّثين و على أبي العتاهية خاصّة.
في هذين الشعرين أغاني نسبتها:
ص: 114
جرى لك من هارون بالسعد طائره *** إمام اعتزام لا تخاف بوادره
إمام له رأى حميد و رحمة *** موارده محمودة و مصادره
هو الملك المجبول نفسا على التّقى *** مسلّمة من كل سوء عساكره
لتغمد سيوف الحرب فاللّه وحده *** وليّ أمير المؤمنين و ناصره
الشعر لأبي العتاهية، على ما ذكره الصّوليّ . و قد وجدت هذه القصيدة بعينها في بعض النسخ لسلم الخاسر.
و الغناء لإبراهيم، و له فيه لحنان خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو و ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشاميّ .
سيسليك عمّا فات دولة مفضل *** أوائله محمودة و أواخره
ثنى اللّه عطفيه و ألّف شخصه *** على البرّ مذ شدّت عليه مآزره
الشعر لحسين بن الضحّاك. و الغناء لعريب ثقيل أوّل مطلق. و فيه لقلم(1) الصالحيّة خفيف/رمل، و هو أغرب اللحنين و لحن عريب المشهور.
أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني محمد(2) بن يحيى قال حدّثني عليّ بن الصبّاح قال حدّثني عليّ بن صالح كاتب الحسن بن رجاء قال حدّثني إبراهيم بن الحسن بن سهل قال:
كنّا مع الواثق بالقاطول(3) و هو يتصيّد؛ فصاد صيدا حسنا و هو في الزّوّ(4) من الإوزّ و الدّرّاج و طير الماء و غير ذلك؛ ثم رجع فتغدّى، و دعا بالجلساء و المغنّين و طرب، و قال: من ينشدنا؟ فقام الحسين بن الضحّاك فأنشده:
سقى اللّه بالقاطول مسرح طرفكا *** و خصّ بسقياه مناكب قصركا
حتى انتهى إلى قوله:
تخيّن للدّرّاج في جنباته *** و للغرّ آجال قدرن بكفّكا
ص: 115
/
حتوفا إذا وجّهتهنّ قواضبا *** عجالا إذا أغريتهنّ بزجركا
أبحت حماما مصعدا و مصوّبا *** و ما رمت(1) في حاليك مجلس لهوكا
تصرّف فيه بين ناي و مسمع *** و مشمولة(2) من كفّ ظبي لسقيكا
قضيت لبانات و أنت مخيّم *** مريح و إن شطّت مسافة عزمكا
و ما نال طيب العيش إلاّ مودّع(3)*** و ما طاب عيش نال مجهود كدّكا
فقال الواثق: ما يعدل الراحة و لذّة الدّعة شيء. فلما انتهى إلى قوله:
خلقت أمين اللّه للخلق عصمة *** و أمنا فكلّ في ذراك و ظلّكا
وثقت بمن سمّاك بالغيب واثقا *** و ثبّت بالتأييد أركان ملككا
فأعطاك معطيك الخلافة شكرها *** و أسعد بالتقوى سريرة قلبكا
و زادك من أعمارنا، غير منّة *** عليك بها، أضعاف أضعاف عمركا
و لا زالت الأقدار في كلّ حالة *** عداة لمن عاداك سلما لسلمكا
إذا كنت من جدواك في كل نعمة *** فلا كنت إن لم أفن عمري بشكركا
فطرب الواثق فضرب الأرض بمخصرة كانت في يده، و قال: للّه درّك يا حسين! ما أقرب قلبك من لسانك! فقال: يا أمير المؤمنين، جودك ينطق المفحم بالشعر و الجاحد بالشكر. فقال له: لن تنصرف إلاّ مسرورا؛ ثم أمر له بخمسين ألف درهم.
حدّثنا عليّ بن العبّاس بن أبي طلحة قال حدّثنا أبو العبّاس الرّياشيّ قال حدّثنا الحسين بن الضحّاك قال:
دخلت على الواثق ذات يوم و في السماء لطخ(4) غيم، فقال لي: ما الرأي عندك في هذا اليوم ؟ فقلت:
يا أمير المؤمنين، ما حكم به و أشار إليه قبلي أحمد بن يوسف؛ فإنه أشار بصواب لا يردّ و جعله في شعر لا يعارض. فقال: و ما قال ؟ فقلت قال:
/
أرى غيما تؤلّفه جنوب *** و أحسبه سيأتينا بهطل
فعين الرأي أن تدعو برطل *** فتشربه و تدعو لي برطل
فقال: أصبتما؛ و دعا بالطّعام و بالشراب و المغنّين و الجلساء و اصطبحنا.
ص: 116
أخبرني عليّ بن العبّاس قال حدّثني الحسين بن علوان قال حدّثني العبّاس بن عبيد اللّه الكاتب قال:
/كان حسين بن الضحّاك ليلة عند الواثق و قد شربوا إلى أن مضى ثلث من الليل، فأمر بأن يبيت مكانه. فلما أصبح خرج إلى الندماء و هم مقيمون، فقال لحسين: هل وصفت ليلتنا الماضية و طيبها؟ فقال: لم يمض شيء و أنا أقول الساعة؛ و فكّر هينهة ثم قال:
حثّت(1) صبوحي فكاهة اللاّهي *** و طاب يومي بقرب أشباهي
فاستثر اللهو من مكامنه *** من قبل يوم منغّص ناهي(2)
بابنة كرم من كفّ منتطق(3) *** مؤزّر بالمجون تيّاه
يسقيك من طرفه و من يده *** سقى لطيف مجرّب داهي
كأسا فكأسا كأنّ شاربها *** حيران بين الذّكور و الساهي
قال: فأمر الواثق بردّ مجلسه كهيئته، و اصطبح يومه ذلك معهم؛ و قال: نحقّق قولك يا حسين و نقضي لك كلّ أرب و حاجة.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني محمد بن مغيرة المهلّبي قال حدّثنا حسين بن الضحّاك قال:
/كانت لي نوبة في دار الواثق أحضرها جلس أو لم يجلس. فبينا أنا نائم ذات ليلة في حجرتي، إذ جاء خادم من خدم الحرم فقال: قم فإن أمير المؤمنين يدعوك. فقلت له: و ما الخبر؟ قال: كان نائما و إلى جنبه حظيّة له فقام و هو يظنّها نائمة، فألمّ بجارية له أخرى و لم تكن ليلة نوبتها و عاد إلى فراشه؛ فغضبت حظيّته و تركته حتى نام، ثم قامت و دخلت حجرتها؛ فانتبه و هو يرى أنها عنده فلم يجدها، فقال: اختلست عزيزتي، ويحكم أين هي! فأخبر أنها قامت غضبى و مضت إلى حجرتها، فدعا بك. فقلت في طريقي:
غضبت أن زرت أخرى خلسة *** فلها العتبى لدينا و الرّضا
يا فدتك النفس كانت هفوة *** فاغفريها و اصفحي عمّا مضى
و اتركي العذل على من قاله *** و انسبي جوري إلى حكم القضا
فلقد نبّهتني من رقدتي *** و على قلبي كنيران الغضا
قال: فلما جئته خبّرني القصّة و قال لي: قل في هذا شيئا؛ ففكّرت هنيهة كأني أقول شعرا ثم أنشدته الأبيات.
فقال: أحسنت و حياتي! أعدها يا حسين؛ فأعدتها عليه حتى حفظها، و أمر لي بخمسمائة دينار، و قام فمضى إلى الجارية و خرجت أنا إلى حجرتي.
ص: 117
أخبرني عليّ بن العبّاس بن أبي طلحة قال حدّثني الغلابيّ قال حدّثني مهديّ بن سابق قال قال لي حسين بن الضحّاك:
كان الواثق يتحظّى جارية له فماتت فجزع عليها و ترك الشرب أياما ثم سلاها و عاد إلى حاله؛ فدعاني ليلة فقال لي: يا حسين، رأيت فلانة في النوم؛ فليت نومي كان طال قليلا لأتمتّع بلقائها؛ فقل في هذا شيئا. فقلت:
/
ليت عين الدهر عنّا غفلت *** و رقيب الليل عنّا رقدا
و أقام النوم فمي مدّته *** كالذي كان و كنّا أبدا
بأبي زور(1) تلفّتّ له *** فتنفّست إليه الصّعدا
/بينما أضحك مسرورا به *** إذ تقطّعت عليه كمدا
قال: فقال لي الواثق: أحسنت! و لكنّك وصفت رقيب الليل فشكوته و لا ذنب للّيل و إنما رأيت الرؤيا نهارا.
ثم عاد إلى منامه فرقد.
أخبرني جحظة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال حدّثني حسين بن الضحّاك، و أخبرني به جعفر بن قدامة عن عليّ بن يحيى عن حسين بن الضحّاك قال:
لقيني أبو نواس ذات يوم عند باب أم جعفر من الجانب الغربيّ ، فأنشدته:
أخويّ حيّ (2) على الصّبوح صباحا *** هبّا و لا تعدا الصباح رواحا
هذا الشّميط(3) كأنه متحيّر *** في الأفق سدّ طريقه فألاحا
ما تأمران بسكرة قروية *** قرنت إلى درك النجاح نجاحا
هكذا قال جحظة. و الذي أحفظه:
ما تأمران بقهوة قرويّة
قال: فلما كان بعد أيام لقيني في ذلك الموضع فأنشدني يقول:
ذكر الصّبوح بسحرة فارتاحا *** و أملّه ديك الصّباح صياحا
فقلت له: حسن يا بن الزانية! أ فعلتها! فقال: دع هذا عنك، فو اللّه لا قلت في الخمر شيئا أبدا و أنا حيّ إلاّ نسب لي.
ص: 118
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني محمد بن سعيد قال حدّثني أبو أمامة الباهليّ عن الحسين بن الضحّاك، قال محمد بن يحيى و حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبيّ :
أنّ الحسين بن الضحّاك شرب يوما عند إبراهيم بن المهديّ ، فجرت بينهما ملاحاة في أمر الدّين و المذهب؛ فدعا له إبراهيم بنطع و سيف و قد أخذ منه الشّراب؛ فانصرف و هو غضبان. فكتب إليه إبراهيم يعتذر إليه و يسأله أن يجيئه. فكتب إليه:
نديمي غير منسوب *** إلى شيء من الحيف
سقاني مثل ما يشر *** ب فعل الضّيف بالضيف
فلما دارت الكأس *** دعا بالنّطع و السيف
كذا من يشرب الخمر *** مع التّنّين في الصيف
قال: و لم يعد إلى منادمته مدّة. ثم إن إبراهيم تحمّل(1) عليه و وصله فعاد إلى منادمته.
حدّثني عمّي قال حدّثني ميمون بن هارون قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
كنت أنا و أبو نواس تربين، نشأنا في مكان واحد و تأدّبنا بالبصرة، و كنّا نحضر مجالس الأدباء متصاحبين، ثم خرج قبلي عن البصرة و أقام مدّة، و اتّصل بي ما آل إليه أمره، و بلغني إيثار السلطان و خاصّته له؛ فخرجت عن البصرة إلى بغداد و لقيت الناس و مدحتهم و أخذت جوائزهم و عددت في الشعراء، و هذا كلّه في أيام الرشيد، إلاّ أنّي لم أصل إليه و اتّصلت بابنه صالح فكنت في خدمته. فغنّي يوما بهذا الصوت:
أ أن زمّ (2) أجمال و فارق جيرة *** و صاح غراب البين أنت حزين
/فقال لي صالح: قل أنت في هذا المعنى شيئا؛ فقلت:
أ أن دبّ حسّاد و ملّ حبيب *** و أورق عود الهجر أنت حبيب(3)
/ليبلغ بنا هجر الحبيب مرامه *** هل الحبّ إلاّ عبرة و نحيب
كأنك لم تسمع بفرقة ألفة *** و غيبة وصل لا تراه يئوب
فأمر بأن يغنّى فيه. و اتّصلت بمحمد(4) ابن زبيدة في أيام أبيه و خدمته، ثم اتّصلت خدمتي له في أيّام خلافته.
ص: 119
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني أبو العيناء عن الحسين بن الضحّاك قال: كنت يوما عند صالح بن الرشيد، فجرى بيننا كلام على النّبيذ و قد أخذ منّي الشّراب مأخذا(1) قويّا، فرددت عليه ردّا أنكره و تأوّله على غير ما أردت، فهاجرني؛ فكتبت إليه:
يا بن الإمام تركتني هملا *** أبكي الحياة و أندب الأملا
ما بال عينك حين تلحظني *** ما إن تقلّ جفونها ثقلا
لو كان لي ذنب لبحت به *** كي لا يقال هجرتني مللا
إن كنت أعرف زلّة سلفت *** فرأيت ميتة و إحدى عجلا(2)
- فيه خفيف ثقيل ينسب إلى عبد اللّه بن العلاء و إلى عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ - قال: فكتب إليّ : قد تلافى لسانك بشعرك، ما جناه في وقت/سكرك. و قد رضيت عنك رضا صحيحا، فصر إليّ على أتمّ نشاطك، و أكمل بساطك. فعدت إلى خدمته فما سكرت عنده بعدها. قال: و كانت في حسين عربدة.
و أخبرني ببعضه محمد بن مزيد بن أبي الأزهر و محمد بن خلف بن المرزبان، و ألفاظهما تزيد و تنقص.
و أخبرني ببعضه محمد بن خلف وكيع عن آخره و قصّة وصوله إلى المأمون و لم يذكر ما قبل ذلك. قال: و حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه - و لم يقل وكيع: عن أبيه - و اللفظ في الخبر لابن أبي الأزهر و حديثه أتمّ ، قال:
كنت بين يدي المأمون واقفا، فأدخل إليه ابن البوّاب رقعة فيها أبيات و قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إنشادها؛ فظنّها له فقال: هات؛ فأنشده:
أجرني فإنّي قد ظمئت إلى الوعد *** متى تنجز الوعد المؤكّد بالعهد
أعيذك من خلف الملوك و قد بدا(3) *** تقطّع أنفاسي عليك من الوجد
أ يبخل فرد الحسن عنّي بنائل *** قليل و قد أفردته بهوى فرد
إلى أن بلغ إلى قوله:
رأى اللّه عبد اللّه خير عباده *** فملّكه و اللّه أعلم بالعبد
ألا إنّما المأمون للناس عصمة *** مميّزة بين الضّلالة و الرّشد
فقال المأمون: أحسنت يا عبد اللّه! فقال: يا أمير المؤمنين، أحسن قائلها؛ قال: و من هو؟ فقال: عبدك
ص: 120
حسين بن الضحّاك؛ فغضب(1) ثم قال: لا حيّا اللّه من ذكرت و لا بيّاه و لا قرّبه و لا أنعم به عينا! أ ليس القائل:
أ عينيّ جودا و ابكيا لي محمدا *** و لا تذخرا دمعا عليه و أسعدا
/فلا تمّت الأشياء بعد محمد *** و لا زال شمل الملك فيه مبدّدا
/و لا فرح المأمون بالملك بعده *** و لا زال في الدّنيا طريدا مشرّدا
هذا بذاك؛ و لا شيء له عندنا. فقال له ابن البوّاب: فأين فضل إحسان أمير المؤمنين و سعة حلمه و عادته في العفو! فأمره بإحضاره. فلما حضر سلّم، فردّ عليه السّلام ردّا جافيا؛ ثم أقبل عليه فقال: أخبرني عنك: هل عرفت يوم قتل أخي محمد هاشميّة قتلت أو هتكت ؟ قال لا. قال: فما معنى قولك:
و سرب ظباء من ذؤابة هاشم *** هتفن بدعوى خير حيّ و ميّت
أردّ يدا منّي إذا ما ذكرته *** على كبد حرّيّ و قلب مفتّت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة *** و لا بلغت آمالهم ما تمنّت
فقال: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتني، و روعة فاجأتني، و نعمة فقدتها بعد أن غمرتني؛ و إحسان شكرته فأنطقني، و سيّد فقدته فأقلقني. فإن عاقبت فبحقّك، و إن عفوت فبفضلك. فدمعت عينا المأمون و قال: قد عفوت عنك و أمرت بإدرار أرزاقك و إعطائك ما فات منها، و جعلت عقوبة ذنبك امتناعي من استخدامك.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبي قال:
لمّا أعيت حسين بن الضحّاك الحيلة في رضا المأمون عنه، رمى بأمره إلى عمرو بن مسعدة و كتب إليه:
أنت طودي من بين هذي الهضاب *** و شهابي من دون كلّ شهاب
أنت يا عمرو قوّتي و حياتي *** و لساني و أنت ظفري و نابي
أ تراني أنسى أياديك البي *** ض إذ اسودّ نائل الأصحاب
/أين عطف الكرام في مأقط(2) الحا *** جة يحمون حوزة الآداب
أين أخلاقك الرضيّة حالت *** فيّ أم أين رقّة الكتّاب
أنا في ذمّة السّحاب و أظما! *** إنّ هذا لوصمة في السّحاب
قم إلى سيّد البريّة عنّي *** قومة تستجرّ حسن خطاب
فلعلّ الإله يطفئ عنّي *** بك نارا عليّ ذات التهاب
قال: فلم يزل عمرو يلطف للمأمون حتى أوصله إليه و أدرّ أرزاقه.
ص: 121
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني الحسين بن الضحّاك قال:
غضب المعتصم عليّ في شيء جرى على النبيذ، فقال: و اللّه لأؤدّبنّه! و حجبني أياما. فكتبت إليه:
غضب الإمام أشدّ من أدبه *** و قد استجرت و عذت من غضبه
أصبحت معتصما بمعتصم *** أثنى الإله عليه في كتبه
لا و الذي لم يبق لي سببا *** أرجو النجاة به سوى سببه
ما لي شفيع غير حرمته *** و لكلّ من أشفى على عطبه
قال: فلمّا قرئ عليه التفت إلى الواثق ثم قال: بمثل هذا الكلام، يستعطف الكرام؛ ما هو إلاّ أن سمعت أبيات حسين هذه حتى أزالت ما في نفسي عليه. فقال له الواثق: هو حقيق بأن يوهب له ذنبه و يتجاوز عنه. فرضي عنّي و أمر بإحضاري.
قال الصوليّ فحدّثني/الحسين بن يحيى أنّ هذه الأبيات إنما كتب بها إلى المعتصم؛ لأنّه بلغه عنه أنه مدح العبّاس بن المأمون و تمنّى له الخلافة، فطلبه فاستتر و كتب بها إلى المعتصم على يدي الواثق فأوصلها و شفع له فرضي عنه و أمّنه فظهر إليه، و هجا العباس بن المأمون فقال:
/
خلّ اللّعين و ما اكتسب *** لا زال منقطع السّبب
يا عرّة الثّقلين لا *** دينا رعيت و لا حسب
حسد الإمام مكانه *** جهلا حذاك(1) على العطب
و أبوك قدّمه لها *** لما تخيّر و انتخب
ما تستطيع سوى التنفّس و التجرّع للكرب
ما زلت عند أبيك من *** تقص المروءة و الأدب
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيّات و ابن مهرويه قالا(2):
كنّا عند صالح بن الرشيد ليلة و معنا حسين بن الضحّاك و ذلك في خلافة المأمون، و كان صالح يهوى خادما له؛ فغاضبه في تلك الليلة فتنحّى عنه، و كان جالسا في صحن حوله نرجس في قمر طالع حسن؛ فقال للحسين: قل في مجلسنا هذا و ما نحن فيه أبياتا يغنّي فيها عمرو بن بانة. فقال الحسين:
ص: 122
وصف البدر حسن وجهك حتى *** خلت أنّي و ما أراك أراكا
و إذا ما تنفّس النرجس الغ *** ضّ توهّمته نسيم شذاكا
خدع للمنى تعلّلني في *** ك بإشراق ذا و نفحة ذاكا
لأدومنّ يا حبيبي على الع *** هد لهذا و ذاك إذ حكياكا
قال عمرو: فقال لي صالح: تغنّ فيها، فتغنّيت فيها من ساعتي.
لحن عمرو في هذه الأبيات ثقيل بالبنصر من روايته.
و قد حدّثني بهذا الخبر عليّ بن العباس بن أبي طلحة قال حدّثني عبيد اللّه بن زكريا الضّرير قال حدّثنا الجمّاز عن أبي نواس قال:
كنت أتعشّق ابنا للعلاء يقال له محمد، و كان حسين يتعشّق خادما لأبي عيسى بن الرشيد يقال له يسر؛ فزارني يوما فسألته عنه فقال: قد كاد قلبي أن يسلو عنه و عن حبّه. قال: و جاءني ابن العلاء صاحبي فدخل عليّ و في يده نرجس، فجلسنا نشرب و طلع القمر؛ فقلت له: يا حسين أيّما أحسن القمر(1) أم محمد؟ فأطرق ساعة ثم قال:
اسمع جواب الذي سألت عنه:
وصف البدر حسن وجهك حتى *** خلت أنّي و ما أراك أراكا
و إذا ما تنفّس النّرجس الغ *** ضّ توهّمته نسيم شذاكا
و أخال الذي لثمت أنيسي *** و جليسي ما باشرته يداكا
فإذا ما لثمت لثمك فيه *** فكأني بذاك قبّلت فاكا
خدع للمنى تعلّلني في *** ك بإشراق ذا و نفحة ذاكا
لأقيمنّ ما حييت على الشك *** ر لهذا و ذاك إذ حكياكا
/قال: فقلت له: أحسنت و اللّه ما شئت! و لكنّك يا كشخان(2) هو ذا تقدر أن تقطع الطريق في عملي! فقال:
يا كشخان أو شعري الذي سمعته في حاضر أم بذكر غائب! و اللّه للنّعل التي(3) يطأ عليها يسر أحسن عندي من صاحبك و من القمر و من كلّ ما أنتم فيه.
أخبرني عليّ بن العبّاس قال حدّثني أحمد بن سعيد بن عنبسة القرشيّ الأمويّ قال حدّثني عليّ بن الجهم قال:
ص: 123
/دخلت يوما على المتوكّل و هو جالس في صحن خلده(1) و في يده غصن آس و هو يتمثّل بهذا الشعر:
بالشّطّ لي سكن أفديه من سكن *** أهدى من الآس لي غصنين في غصن
فقلت إذ نظما إلفين و التبسا *** سقيا و رعيا لفأل فيكما حسن
فالآس لا شكّ آس من تشوّقنا *** شاف و آس لنا يبقى على الزمن
أ بشرتماني بأسباب ستجمعنا *** إن شاء ربي و مهما يقضه يكن
قال: فلما فرغ من إنشادها قال لي وكدت أنشقّ حسدا: لمن هذا الشعر يا عليّ؟ فقلت: للحسين بن الضحّاك يا سيّدي. فقال لي: هو عندي أشعر أهل زماننا و أملحهم مذهبا و أظرفهم نمطا(2). فقلت و قد زاد غيظي: في الغزل يا مولاي. قال: و في غيره و إن رغم أنفك و متّ حسدا. و كنت قد مدحته بقصيدة و أردت إنشادها يومئذ فلم أفعل، و علمت أنّي لا أنتفع مع ما جرى بيننا بشيء لا به و لا بالقصيدة، فأخّرتها إلى وقت آخر.
أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلّبيّ قال حدّثني أبي قال:
أحبّ المتوكّل على اللّه أن ينادمه حسين بن الضحّاك و أن يرى ما بقي من شهوته لما كان عليه؛ فأحضره و قد كبر و ضعف، فسقاه حتى سكر، و قال لخادمه شفيع: اسقه، فسقاه و حيّاه بوردة، و كانت على شفيع ثياب مورّدة؛ فمدّ الحسين يده إلى ذراع شفيع. فقال له المتوكل: يا حسين، أتجمّش(3) أخصّ خدمي عندي بحضرتي! فكيف لو خلوت! ما أحوجك إلى أدب! و قد كان المتوكّل غمز شفيعا/على العبث به. فقال الحسين: يا سيّدي، أريد دواة و قرطاسا، فأمر له بذلك، فكتب بخطّه:
و كالوردة الحمراء حيّا بأحمر *** من الورد يمشي في قراطق(4) كالورد
له عبثات عند كلّ تحيّة *** بعينيه تستدعي الحليم إلى الوجد
تمنّيت أن أسقى بكفّيه شربة *** تذكّرني ما قد نسيت من العهد
سقى اللّه دهرا لم أبت فيه ليلة *** خليّا و لكن من حبيب على وعد
ثم دفع الرقعة إلى شفيع و قال له: ادفعها إلى مولاك. فلما قرأها استملحها و قال: أحسنت و اللّه يا حسين! لو كان شفيع ممن تجوز هبته لوهبته لك، و لكن بحياتي إلاّ كنت ساقيه باقي يومه هذا و اخدمه كما تخدمني؛ و أمر له بمال كثير حمل معه لمّا انصرف. قال أحمد بن يزيد فحدّثني أبي قال: صرت إلى الحسين بعد انصرافه من عند المتوكّل بأيام، فقلت له: ويلك! أ تدري ما صنعت ؟! قال: نعم أدري، و ما كنت لأدع عادتي بشيء؛ و قد قلت بعدك:
ص: 124
لا رأى عطفة الأح *** بّة من لا يصرّح
أصغر الساقيين *** أشكل عندي و أملح
لو تراه كالظّبي يس *** نح حينا و يبرح
خلت غصنا على كثي *** ب بنور يرشّح
غنى عمرو بن بانة في هذه الأبيات ثاني ثقيل بالبنصر.
و قد أخبرني بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيديّ و قال حدّثني محمد بن أبي عون قال:
/حضرت المتوكّل و عنده محمد بن عبد اللّه بن طاهر و قد أحضر حسين بن الضحّاك للمنادمة، فأمر خادما كان واقفا على رأسه، فسقاه و حيّاه بتفّاحة عنبر. و قال لحسين: قل في هذا شيئا؛ فقال:
و كالدّرّة البيضاء حيّا بعنبر *** و كالورد يسعى في قراطق كالورد
له عبثات عند كلّ تحيّة *** بعينيه تستدعي الحليم إلى الوجد
تمنّيت أن أسقى بكفّيه(1) شربة *** تذكّرني ما قد نسيت من العهد
سقى اللّه عيشا لم أبت فيه ليلة *** من الدّهر إلا من حبيب على وعد
فقال المتوكل: يحمل إلى حسين لكل بيت مائة دينار. فالتفت إليه محمد بن عبد اللّه بن طاهر كالمتعجّب و قال: لم ذاك يا أمير المؤمنين! فو اللّه لقد أجاب فأسرع، و ذكّر فأوجع، و أطرب فأمتع؛ و لو لا أنّ يد أمير المؤمنين لا تطاولها يد لأجزلت له العطاء و لو أحاط بالطارف و التالد. فخجل المتوكّل و قال: يعطى حسين بكلّ بيت ألف دينار.
و قد أخبرني بهذا الخبر ابن قاسم الكوكبيّ قال حدّثنا بشر بن محمد قال و حدّثني علي بن الجهم: أنه حضر المتوكّل و قد أمر شفيعا أن يسقى حسين بن الضحّاك؛ و ذكر باقي الخبر نحو ما مضى من رواية غيره.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد المبرّد، و حدّثني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال أخبرني محمد بن مروان عن محمد بن عمرو الرّوميّ قال:
اجتمع حسين بن الضحّاك و عمرو بن بانة يوما عند ابن شغوف الهاشميّ فاحتبسهما عنده. و كان لابن شغوف خادم حسن يقال له مقحم، و كان عمرو بن/بانة يتعشّقه و يسرّ ذلك من ابن شغوف. فلمّا أكلوا و وضع النبيذ قال عمرو بن بانة للحسين: قل في مقحم أبياتا أغنّ فيها الساعة. فقال الحسين:
ص: 125
وا بأبي مقحم لعزّته *** قلت له إذ خلوت مكتتما
تحبّ باللّه من يخصّك بالو *** دّ فما قال لا و لا نعما
و غنّى فيه عمرو. قال: فبيناهم كذلك إذ جاء الحاجب فقال: إسحاق الموصليّ بالباب؛ فقال له عمرو: أعفنا من دخوله و لا تنغّص علينا ببغضه و صلفه و ثقله ففعل؛ و خرج الحاجب فاعتلّ على إسحاق حتى انصرف، و أقاموا يومهم و باتوا ليلتهم عند ابن شغوف. فلما أصبحوا مضى الحسين بن الضحّاك إلى إسحاق فحدّثه الحديث بنصّه.
فقال إسحاق:
/
يا ابن شغوف أ ما علمت بما *** قد صار في الناس كلّهم علما
دعوت عمرا فبات ليلته *** في كلّ ما يشتهي كما زعما
حتى إذا ما الظلام ألبسه *** سرى دبيبا فضاجع الخدما
ثمت لم يرض أن يضاجعهم *** سرّا و لكن أبدى الذي كتما
ثم تغنّى لفرط صبوته *** صوتا شفى من غليله السّقما:
«وا بأبي مقحم لعزّته *** قلت له إذ خلوت مكتتما»
«تحبّ باللّه من يخصّك بالو *** دّ فما قال لا و لا نعما»
قال: و شاعت الأبيات في الناس و غنّى فيها إسحاق أيضا فيما أظن؛ فبلغت ابن شغوف فحلف ألاّ يدخل عمرا داره أبدا و لا يكلّمه، و قال: فضحني و شهرني و عرّضني للسان إسحاق؛ فمات مهاجرا له. و قال ابن أبي سعد في خبره: إن إسحاق/غنّى فيها للمعتصم، فسأله عن خبرها فحدّثه بالحديث، فضحك و طرب و صفّق؛ و لم يزل يستعيد الصوت و الحديث و ابن شغوف يكاد أن يموت إلى أن سكر و نام.
لحن عمرو بن بانة في البيتين اللذين قالهما حسين في مقحم من الثقيل الثاني بالوسطى.
أخبرني عليّ بن العباس بن أبي طلحة قال حدّثني محمد بن موسى بن حمّاد قال سمعت مهديّ بن سابق يقول:
التقى أبو نواس و حسين بن الضحّاك، فقال أبو نواس: أنت أشعر [أهل](1) زمانك في الغزل؛ قال: و في أيّ ذلك ؟ قال: أ لا تعلم يا حسين ؟ قال لا؛ قال: في قولك:
وا بأبي مقحم لعزّته *** قلت له إذ خلوت مكتتما
نحبّ باللّه من يخصّك بالو *** دّ فما قال لا و لا نعما
ص: 126
ثم تولّى بمقلتي خجل *** أراد رجع الجواب فاحتشما
فكنت كالمبتغي بحيلته *** برءا من السّقم فابتدا سقما
فقال الحسين: ويحك يا أبا نواس(1)! فأنت لا تفارق مذهبك في الخمر البتّة؛ قال: لا و اللّه، و بذلك فضلتك و فضلت الناس جميعا.
أخبرني عليّ بن العباس قال أنشدنا أبو العباس ثعلب قال أنشدني حمّاد بن المبارك صاحب حسين بن الضحّاك قال أنشدني حسين لنفسه:
لا و حبّيك لا أصا *** فح بالدّمع مدمعا
من بكى شجوه استرا *** ح و إن كان موجعا
/كبدي من هواك أس *** قم من أن تقطّعا
لم تدع سورة الضّنى *** فيّ للسّقم موضعا
قال: ثم قال لنا ثعلب: ما بقي من يحسن أن يقول مثل هذا.
أخبرني عليّ قال حدّثني محمد بن الفضل الأهوازيّ قال سمعت عليّ بن العباس الروميّ يقول:
حسين بن الضحّاك أغزل الناس و أظرفهم. فقلت: حين يقول ما ذا؟ فقال: حين يقول:
يا مستعير سوالف الحشف *** اسمع لحلفة صادق الحلف
إن لم أصح ليلي: و يا حربي *** و من وجنتيك و فترة الطّرف
/فجحدت ربّي فضل نعمته *** و عبدته أبدا على حرف(2)
أخبرني عليّ بن العباس الروميّ قال حدّثني قتيبة عن عمرو السّكونيّ (3) بالكوفة قال حدّثني أبي قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
كانت تألفني مغنّية، و تجيئني دائما، و كنت أميل إليها و أستملحها، و كان يقال لها فتن. فكان يجيء معها
ص: 127
خادم لمولاتها يحفظها يسمّى نجحا، و كان بغيضا شرس الخلق، فإذا جاء معها توقّيته؛ فمرض، فجاءتني و معها غيره، فبلغت منها مرادي و تفرّجت يومي و ليلتي؛ فقلت:
/
لا تلمني على فتن *** إنها كاسمها فتن
فإذا لم أهم بها *** فبمن! لا بمن إذن
أين - لا أين - مثلها *** في جميع الورى سكن!
طيب نشر إذا لثم *** ت و غنج و محتضن
وال عشرا من الصّبو *** ح على وجهها الحسن
و على لفظها *** المنوّن للاّم بالغنن
لست أنسى من الغري *** رة إذ بحت بالشّجن
قولها إذ سلبتها *** عن كثيب و عن عكن:
ليس يرضيك يا فتى *** من هوى دون أن تهن
فامتزجنا معا مما *** زجة الرّوح للبدن
و كفينا من أن نرا(1)*** قب نجحا إذا فطن
و أمنّاه أن ينمّ *** و ما كان مؤتمن
كلّ ما كان من حبي *** بك مستظرف حسن
حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه الهشاميّ :
أنّ مخارقا و حسين بن الضحّاك تلاحيا في أبي العتاهية و أبي نواس أيّهما أشعر؛ فاتّفقا على اختيار شعر من شعريهما يتخايران فيه، فاختار الحسين بن الضحّاك شيئا من شعر أبي نواس جيّدا قويّا لمعرفته بذلك، و اختار مخارق شيئا من شعر أبي العتاهية ضعيفا سخيفا غزلا كان يغنّى فيه لا لشيء عرفه منه إلا لأنه استملحه و غنّى فيه، فخاير به لقلّة علمه و لما كان بينه و بين أبي العتاهية من المودّة؛ و تخاطرا(2) على مال، و تحاكما إلى/من يرتضيه الواثق باللّه و يختاره لهما؛ فاختار الواثق لذلك أبا محلّم؛ و بعث فأحضره و تحاكما إليه بالشعرين فحكم لحسين بن الضحّاك. فتلكّأ مخارق و قال: لم أحسن الاختيار للشعر و لحسين أعلم منّي بذلك، و لأبي العتاهية خير مما اخترت، و قد اختار حسين أجود ما قدر عليه لأبي نواس لأنه أعلم منّي بالشعر، و لكنّا نتخاير بالشاعرين ففيهما وقع الجدال؛ فتحاكما فحكم لأبي نواس، و قال: هو أشعر و أذهب في فنون الشعر و أكثر إحسانا في جميع تصرّفه. فأمر الواثق بدفع الخطر إلى حسين، و انكسر مخارق فما انتفع به بقيّة يومه.
ص: 128
أخبرني ابن أبي طلحة قال حدّثني سوادة بن/الفيض قال حدّثني أبي قال:
لمّا اطّرح المأمون حسين بن الضحّاك لهواه - كان - في أخيه محمد و جفاه، لاذ الحسين بن الضحّاك بالحسن بن سهل و طمع أن يصلحه له؛ فقال يمدحه:
أرى الآمال غير معرّجات *** على أحد سوى الحسن بن سهل
يباري يومه غده سماحا *** كلا اليومين بان بكلّ فضل
أرى حسنا تقدّم مستبدّا *** ببعد من رئاسته و قبل
فإن حضرتك(1) مشكلة بشكّ *** شفاك بحكمة و خطاب فصل
سليل مرازب برعوا(2) حلوما *** و راع صغيرهم بسداد كهل
ملوك إن جريت بهم أبرّوا *** و عزّوا أن توازنهم(3) بعدل
ليهنك أنّ ما أرجأت رشد *** و ما أمضيت من قول و فعل
/و أنك مؤثر للحقّ فينا *** أراك اللّه من قطع و وصل
و أنّك للجميع حيا ربيع *** يصوب على قرارة كلّ محل
قال: فاستحسنها الحسن بن سهل، و دعا بالحسين فقرّبه و آنسه و وصله و خلع عليه و وعده إصلاح المأمون له، فلم يمكنه ذلك لسوء رأي المأمون فيه و لما عاجل الحسن من العلّة.
قال عليّ بن العباس بن أبي طلحة و حدّثني أبو العباس أحمد بن الفضل المروزيّ قال: سمعت الحسن بن سهل يقول لحسين بن الضحّاك: ما عنيت بقولك:
يا خليّ الذّرع من شجني *** إنما أشكو لترحمني
قال: قد بيّنته؛ قال: بأيّ شيء؟ قال: قلت:
منعك الميسور يؤيسني *** و قليل اليأس يقتلني
فقال له أبو محمد: إنك لتضيع بالخلاعة، ما أعطيته من البراعة.
أخبرني عليّ بن العباس قال حدّثني أحمد بن القاسم المرّيّ قال حدّثنا أبو هفّان قال:
سألت حسين بن الضحّاك عن خبره المشهور مع الحسن بن سهل في اليوم الذي شرب معه فيه و بات عنده
ص: 129
و كيف كان ابتداؤه، فقلت له: إني أشتهي أن أسمعه منك. فقال لي: دخلت على الحسن بن سهل في فصل الخريف و قد جاء و سمي من المطر فرشّ رشّا حسنا، و اليوم في أحسن منظر و أطيبه، و هو جالس على سرير آبنوس و عليه قبّة فوقها طارمة(1) ديباج أصفر و هو يشرف على بستان في داره، و بين/يديه و صائف يتردّدن في خدمته و على رأسه غلام كالدّينار؛ فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام، و نظر إليّ كالمستنطق؛ فأنشأت أقول:
أ لست ترى ديمة تهطل *** و هذا صباحك مستقبل
فقال: بلى. فقلت:
و تلك المدام(2) و قد شاقنا *** برؤيته الشادن الأكحل
فقال: صدقت فمه؛ فقلت:
فعاد به و بنا سكرة(3) *** تهوّن مكروه ما نسأل(4)
فسكت. فقلت:
فإني رأيت له نظرة *** تخبّرني أنه يفعل
/ثم قال: مه؛ فقلت:
و قد أشكل العيش في يومنا *** فيا حبّذا عيشنا المشكل
فقال: العيش مشكل، فما ترى ؟ فقلت: مبادرة القصف و تقريب الإلف. قال: على أن تقيم معنا و تبيت عندنا. فقلت له: لك الوفاء و عليك مثله لي من الشرط. قال: و ما هو؟ قلت: يكون هذا الواقف على رأسك يسقيني. فضحك ثم قال: ذلك لك على ما فيه. و دعا بالطعام فأكلنا و بالشراب فشربنا أقداحا. و لم أر الغلام، فسألت عنه فقال لي: الساعة يجيء، فلم نلبث أن وافاني؛ فسألته أين كان ؟ فقال: كنت في الحمّام و هو الذي حبسني عنك. فقلت لوقتي:
/
وا بأبي أبيض في صفرة *** كأنه تبر على فضّة
جرّده الحمّام عن درّة *** تلوح فيها عكن بضّه
غصن تبدّى يتثنّى على *** مأكمة(5) مثقلة النّهضه
كأنما الرّشّ على خدّه *** طلّ على تفّاحة غضّه
صفاته فاتنة كلّها *** فبعضه يذكرني بعضه
يا ليتني زوّدني قبلة *** أو لا فمن وجنته عضّه
ص: 130
فقال لي الحسن: قد عمل فيك النبيذ؛ فقلت: لا و حياتك! فقال: هذا شرّ من ذلك. فقلت:
اسقياني و صرّفا *** بنت حولين قرقفا
و اسقيا المرهف الغري *** ر سقى اللّه مرهفا
لا تقولا نراه أك *** لف(1) نضوا مخفّفا
نعم ريحانة الندي *** م و إن كان مخطفا(2)
إن يكن أكلفا فإ *** ني أرى البدر أكلفا
بأبي ما جن السري *** رة يبدي تعفّفا
حفّ (3) أصداغه و عق *** ر(4) بها ثم صفّفا
وحشا مدرج القصا *** ص(5) بمسك و رصّفا
فإذا رمت منه ذا *** ك تأبّى و عنّفا
ليس إلاّ بأن ير *** نّحه السّكر مسعفا
/باكرا لا تسوّفا *** ني عدمت المسوّفا
أعجلاه و بالفضا(6) *** ضة في السّقي فاعنفا
و احملا شغبه و إن *** هو زنّى(7) و أفّفا
فإذا همّ للمنا *** م فقوما و خفّفا
فتغاضب الغلام و قام فذهب، ثم عاد فقال لي: أقبل على شرابك ودع الهذيان. و ناولني قدحا. و قام أبو محمد ليبول، فشربت و أعطاني نقلا فقلت: اجعل بدله قبلة؛ فضحك و قال: /أفعل، هذا وقته فبدا له و قال: لا أفعل؛ فعاودته فانتهرني. فقال له خادم للحسن(8) يقال له فرج: بحياتي يا بنيّ أسعفه بما طلب؛ فضحك ثم دنا منّي كأنّه يناولني نقلا و تغافل فاختلست منه قبلة؛ فقال لي: هي حرام عليك فقلت:
و بديع الدّلّ قصريّ الغنج *** مره(9) العين كحيل بالدّعج
ص: 131
سمته شيئا و أصغيت له *** بعد ما صرّف كأسا و مزج
و استخفّته على نشوته *** نبرات من خفيف و هزج
فتأبّى و تثنّى خجلا *** و ذرا الدمع فنونا و نشج
لجّ في «لو لا» و في «سوف ترى» *** و كذا كفكف(1) عنّي و خلج
ذهب الليل و ما نوّلني *** دون أن أسفر صبح و انبلج
/هوّن الأمر عليه فرج *** بتأتّيه(2) فسقيا لفرج
خمر النكهة لا من قهوة *** أرّج الأصداغ بالمسك أرج
و بنفسي نفس من قال، و قد *** كان ما كان، حرام و حرج
قال: ثم أسفر الصبح. فانصرفت و عدت من غد إلى الحسن؛ فقال لي: كيف كنت في ليلتك و كيف كنت عند(3) نومك ؟ فقلت له: أ أصف ذلك نثرا أم نظما؟ فقال: بل نظما فهو أحسن عندي، فقلت:
تألّفت طيف غزال الحرم *** فواصلني بعد ما قد صرم
و ما زلت أقنع من نيله *** بما تجتنيه بنان الحلم
بنفسي خيال على رقبة *** ألمّ به الشوق فيما زعم
أتاني يجاذب أردافه *** من البهر تحت كسوف الظّلم
تمجّ سوالفه مسكة *** و عنبرة ريقه و النّسم
تضمّخ من بعد تجميره(4) *** فطاب من القرن حتى القدم
يقول و نازعته توبه *** على أن يقول لشيء نعم
فغضّ الجفون على خجلة *** و أعرض إعراضة المحتشم
فشبّكت كفّي على كفّه *** و أصغيت ألثم درّا بفم
فنهنهني دفع لا مؤيس *** بجدّ و لا مطمع معتزم
إذا ما هممت فأدنيته *** تثنّى و قال لي الويل لم
فما زلت أبسطه مازحا *** و أفرط في اللهو حتى ابتسم
/و حكّمني الرّيم في نفسه *** بشيء و لكنّه مكتتم
فواها لذلك من طارق *** على أن ما كان أبقى سقم
ص: 132
قال: فقال لي الحسن: يا حسين يا فاسق! أظنّ ما ادّعيته على الطّيف في النوم كان في اليقظة مع الشخص نفسه، و أصلح الأشياء لنا بعد ما جرى أن نرحض(1) العار عن أنفسنا/بهبة الغلام لك، فخذه لا بورك لك فيه! فأخذته و انصرفت.
حدّثني عليّ بن العباس قال حدّثني أبو العيناء قال: أنشدني الحسين بن الضحّاك لنفسه في غلام للحسن بن سهل كان اجتمع معه في دار الحسن، ثم لقيه بعد ذلك فسلّم عليه فلم يكلّمه الغلام؛ فقال:
فديتك ما لوجهك صدّ عنّي *** و أبديت التّندّم بالسلام
أ حين خليتني(2) و قرنت قلبي *** بطرفك و الصّبابة في نظام
تنكّر ما عهدت لغبّ يوم *** فيا قرب الرّضاع من الفطام
لأسرع ما نهيت إلى همومي *** سروري بالزيارة و اللّمام
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني حسين بن الضحّاك الخليع قال:
كنت في المسجد الجامع بالبصرة، فدخل علينا أبو نواس و عليه جبّة خزّ جديدة. فقلت له: من أين هذه يا أبا نواس ؟ فلم يخبرني، فتوهّمت أنه أخذها من موسى بن عمران لأنه دخل(3) من باب بني تميم؛ فقمت فوجدت موسى قد لبس جبّة خزّ أخرى؛ فقلت له:
كيف أصبحت يا أبا عمران
/فقال: بخير صبّحك اللّه به. فقلت:
يا كريم الإخاء و الإخوان
فقال: أسمعك اللّه خيرا. فقلت:
إن لي حاجة فرأيك فيها *** إننا في قضائها سيّان
فقال: هاتها على اسم اللّه و بركته. فقلت:
جبّة من جبابك الخزّ حتى *** لا يراني الشتاء حيث يراني
قال: خذها على بركة اللّه، و مدّ كمّه فنزعتها و جئت و أبو نواس جالس؛ فقال: من أين لك هذه ؟ فقلت: من حيث جاءتك تلك.
ص: 133
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثني محمد بن موسى بن حمّاد قال أخبرني عبد اللّه بن الحارث عن إبراهيم بن عبد السلام عن الحسين بن الضحّاك قال:
دخلت أنا و محمد بن عمرو الرومي دار المعتصم، فخرج علينا كالحا. قال: فتوهّمنا أنه أراد النّكاح فعجز عنه. قال: و جاء إيتاخ(1) فقال: مخارق و علويه و فلان و فلان من أشباههما بالباب؛ فقال: اعزب عنّي، عليك و عليهم لعنة اللّه!. قال: فتبسّمت إلى محمد بن عمرو؛ و فهم المعتصم تبسّمي فقال لي: ممّ تبسمت ؟ فقلت: من شيء حضرني؛ فقال: هاته؛ فأنشدته:
انف عن قلبك الحزن *** باقتراب من السّكن
/و تمتّع بكرّ طر *** فك في وجهه الحسن
إنّ فيه شفاء صد *** رك من لاعج الحزن
قال: فدعا بألفي دينار: ألف لي و ألف لمحمد، فقلت: الشعر لي، فما معنى الألف لمحمد بن عمرو؟ قال:
لأنه جاءنا معك. ثم أذن لمخارق و علّويه فدخلا، فأمرهما بأن يغنّيا فيه ففعلا، فما زال يعيد هذا الشعر، و لقد قام ليبول فسمعته يردّده.
الغناء في هذا الشعر اشترك فيه مخارق و علّويه و هو من الثقيل الأوّل بالبنصر.
أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد/قال حدّثني محمد بن محمد بن مروان قال:
كان الحسين بن الضحّاك عند أبي كامل المهندس و أنا معهم حاضر، فرأى خادما فاستحسنه و أعجبه. فقال له بعض أصحابه: أ تحبّه ؟ قال: نعم و اللّه؛ قال: فأعلمه؛ قال: هو أعلم بحبّي له منّي به. ثم قال:
عالم بحبّيه *** مطرق من التّيه
يوسف الجمال و فر *** عون في تعدّيه
لا و حقّ ما أنا من *** عطفه أرجّيه(2)
ص: 134
ما الحياة نافعة *** لي على تأبّيه
النعيم يشغله *** و الجمال يطغيه
فهو غير مكترث *** للذي ألاقبه
تائه تزهّده *** فيّ رغبتي فيه
/قال محمد بن محمد: و غنّى في هذا الشعر عمرو بن بانة و عريب و سليم و جماعة من المغنّين.
حدّثني عمّي قال حدّثني ميمون بن هارون قال:
كان للحسين بن الضحّاك صديق و كان يتعشّق جارية مغنّية، فزاحمه فيها غلام كان في مرودته حسن الوجه؛ فلما خرجت لحيته جعل ينتف ما يخرج منها؛ و مالت القينة إليه لشبابه؛ فشكا ذلك إلى الحسين بن الضحّاك و سأله أن يقول فيها شعرا فقال:
خلّ الذي عنك لا تسطيع تدفعه *** يا من يصارع من لا شكّ يصرعه
جاءت طرائق شعر أنت ناتفها *** فكيف تصنع لو قد جاء أجمعه
اللّه أكبر لا أنفكّ من عجب *** أ أنت تحصد ما ذو العرش يزرعه
تبّا لسعيك بل تبّا لأمّك إذ *** ترعى حمى خالق الأحماء يمنعه
و قال فيه أيضا:
ثكلتك أمّك يا ابن يوسف *** حتّام ويحك أنت تنتف
لو قد أتى الصيف الذي *** فيه رءوس الناس تكشف
فكشفت عن خدّيك لي *** لكشفت عن مثل المفوّف(1)
أو مثل زرع ناله ال *** يرقان أو نكباء حرجف(2)
فغدا عليه الزارعو *** ن ليحصدوه و قد تقصّف
فظللت تأسف كالألى *** أسفوا و لم يغن التأسّف
حدّثني عليّ بن العباس قال حدّثني عمير بن أحمد بن نصر الكوفيّ قال حدّثني زيد بن محمد شيخنا قال:
قلت لحسين بن الضحّاك و قد قدم إلينا الكوفة: يا أبا عليّ شهرت نفسك و فضحتها في خادم، فألا اشتريته!.
ص: 135
فقال: فديتك! إن الحبّ لجاج كلّه، و كنت أحببت هذا الخادم و واقفني على أن يستبيع لأشتريه، فعارضني فيه صالح بن الرشيد فاختلسه منّي و لم أقدر على الانتصاف منه، و آثره الخادم و اختاره، و كلانا يحبّه إلا أن صالحا يناك و لا أناك و الخادم في الوسط بلا شغل. فضحكت من قوله، ثم سألته أن ينشدني شيئا من شعره، فأنشدني:
إنّ من لا أرى و ليس يراني *** نصب عيني ممثّل بالأماني
بأبي من ضميره و ضميري *** أبدا بالمغيب ينتجيان
نحن شخصان إن نظرت و روحا *** ن إذا ما اختبرت يمتزجان
فإذا ما هممت بالأمر أو *** همّ بشيء بدأته و بداني
كان وفقا ما كان منه و منّي *** فكأني حكيته و حكاني
خطرات الجفون منّا سواء *** و سواء تحرّك الأبدان
فسألته أن يحدّثني بأسرّ يوم مرّ له معه، فقال: نعم اجتمعنا يوما فغنّى مغنّ لنا بشعر قلته فيه فاستحسنه كلّ من حضر، ثم تغنّى بغيره؛ فقال لي: عارضه؛ فقلت: بقبلة فقال: هي لك، فقبّلته قبلة و قلت:
فدّيت من قال لي على خفره *** و غضّ من جفنه على حوره:
سمّع بي(1) شعرك المليح فما *** ينفكّ شاد به على وتره
حسبك بعض الذي أذعت و لا *** حسب لصبّ لم يقض من وطره
/و قلت يا مستعير سالفة الخش *** ف و حسن الفتور من نظره
لا تنكرنّ الحنين من طرب *** عاود فيك الصّبا على كبره
حدّثني الصّوليّ و عليّ بن العباس قالا حدّثنا المغيرة بن محمد المهلّبيّ قال: كان حسين بن الضحّاك يتعشّق خادما لأبي عيسى أو لصالح بن الرشيد أخيه؛ فاجتمعا يوما عند أخي مولى الخادم، فجعل حسين يشكو إليه ما به فلا يسمع به(2) و يكذّبه؛ ثم سكن نفاره و ضحك إليه و تحدّثا ساعة. فأنشدنا حسين قوله فيه:
سائل بطيفك عن ليلى و عن سهري *** و عن تتابع أنفاسي و عن فكري
لم يخل قلبي من ذكراك إذ نظرت *** عيني إليك على صحوى و لا سكرى
سقيا ليوم سروري إذ تنازعني *** صفو المدامة بين الأنس و الخفر
و فضل كأسك يأتيني فأشربه *** جهرا و تشرب كأسي غير مستتر
و كيف أشمله لثمي و ألزمه *** نحري و ترفعه كفّي إلى بصري
ص: 136
فليت مدّة يومي إذ مضى سلفا *** كانت و مدّة أيامي على قدر
حتى إذا ما انطوت عنّا بشاشته *** صرنا جميعا كذا جارين في الحفر
حدّثني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد بن مروان قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
كان صالح بن الرشيد يتعشّق غلاما يسمّى يسرا خادم أخيه أبي عيسى، فكان يراوده عن نفسه فيعده و لا يفي له. فأرسله أبو عيسى ذات يوم إلى صالح أخيه/في السّحر يقول له: يا أخي إني قد اشتهيت أن أصطبح اليوم، فبحياتي لما ساعدتني و صرت إليّ لنصطبح اليوم جميعا. فسار يسر إلى صالح أخيه في السّحر/و هو منتش قد شرب في السّحر، فأبلغه الرسالة؛ فقال: نعم و كرامة، اجلس أوّلا فجلس؛ فقال: يا غلام أحضرني عشرة آلاف درهم فأحضرها؛ فقال له: يا يسر دعني من مواعيدك و مطلك، هذه عشرة آلاف درهم فخذها و اقض حاجتي، و إلاّ فليس هاهنا إلا الغصب؛ فقال له: يا سيّدي؛ إني أقضي الحاجة و لا آخذ المال. ثم فعل ما أراد و طاوعه، فقضى حاجته، و أمر صالح بحمل العشرة الآلاف الدرهم معه. قال الحسين: ثم خرج إليّ صالح من خلوته فقال:
يا حسين، قد رأيت ما كنّا فيه، فإن حضرك شيء فقل: فقلت:
أيا من طرفه سحر *** و من ريقته خمر
تجاسرت فكاشفت *** ك لمّا غلب الصبر
و ما أحسن في مثل *** ك أن ينهتك السّتر
و إن لا مني الناس *** ففي وجهك لي عذر
فدعني من مواعيد *** ك إذ حيّنك الدهر
فلا و اللّه لا تبر *** ح أو ينقضي الأمر
فإمّا الغصب و الذمّ *** و إما البذل و الشكر
و لو شئت تيسّرت *** كما سمّيت يا يسر
و كن كاسمك لا تمن *** عك النّخوة و الكبر
فلا فزت بحظّي من *** ك إن داع له ذكر
قال الحسين: فضحك ثم قال: قد لعمري تيسّر يسر كما ذكرت. فقلت: نعم و من لا يتيسّر بعد أخذه الدّية! لو أردتني أيضا بهذا لتيسّرت. فضحك ثم قال: نعطيك/يا حسين الدّية لحضورك و مساعدتك، و لا نريدك لما أردنا له يسرا، فبئست المطيّة أنت؛ و أمر لي بها. ثم أمر عريب بعد ذلك فغنّت في بعض هذا الشعر.
ص: 137
حدّثني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد بن مروان قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
كنت عند عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الرّبيع و هو مصطبح و خادم له يسقيه؛ فقال لي: يا أبا عليّ ، قد استحسنت سقي هذا الغلام، فإن حضرك شيء في قصّتنا هذه فقل؛ فقلت:
أحيت صبوحي فكاهة اللاّهي *** و طاب يومي لقرب أشباهي
فاستثر اللهو من مكامنه *** من قبل يوم منغّص ناهي
بابنة كرم من كفّ منتطق *** مؤتزر بالمجون تيّاه
يسقيك من طرفه و من يده *** سقي لطيف مجرّب داهي
كأسا فكأسا كأن شاربها *** حيران بين الذّكور و الساهي
قال: فاستحسنه عبد اللّه، و غنّى فيه لحنا مليحا، و شربنا عليه بقيّة يومنا.
أخبرني عليّ بن العباس قال حدّثني سوادة بن الفيض المخزوميّ قال حدّثني أبي قال:
خرج حسين بن/الضحّاك إلى القفص(1) متنزّها و معه جماعة من إخوانه ظرفاء. و بلغ يسرا الخادم خروجه، فشدّ في وسطه خنجرا و خرج إليه فجاءه و هو على/غفلة؛ فسرّ به حسين و تلقّاه و أقام معه إلى آخر النهار يشربان.
فلما سكرا جمّشه حسين؛ فأخرج خنجره عليه و عربد؛ فأمسك حسين و عاد إلى شرابه، و قال في ذلك:
جمشت يسرا على تسكّره *** و قد دهاني بحسن منظره
فهمّ بالفتك بي فناشده *** فيّ (2) كريم من خير معشره
يا من رأى مثل شادن خنث *** يصول في خدره بزوّره
يسحب ذيل القميص صعتره(3) *** و واردات(4) من هدب مئزره
و لا يعاطي نديمه قدحا *** إلاّ بإبهامه و خنصره
أخاف من كبره بوادره *** أدالني(5) اللّه من تكبّره
ص: 138
قد قلت للشّرب إذ بدا فضلا(1) *** في ريطتيه(2) و في ممصّرة
ويلي على شادن توعّدني *** بسلّ سكّينه و خنجره
أ ما كفاه ما حزّ في كبدي *** بسحر أجفانه و محجره(3)
إذا نسيم الرياح قابلنا *** بالطّيب من مسكه و عنبره
هزّ قواما كأنه غصن *** و ارتجّ ما انحطّ من مخصّره
أخبرني عليّ بن العباس قال حدّثني سوادة بن الفيض قال حدّثني أبي قال:
حضرت حسين بن الضحّاك يوما و قد جاءه يسر فجلس عنده و أخذنا نتحدّث مليّا ثم غازله حسين، فقال له يسر: إيّاك و التعرّض لي، و اربح نفسك؛ فقال حسين:
أيّها النّفّاث في العقد *** أنا مطويّ على الكمد
إنما زخرفت لي خدعا *** قدحت في الرّوح و الجسد
هات يا خدّاع واحدة *** من كثير قلته وقدى(4)
ليت شعري بعد حلفك لي *** بوفاء العهد بعد غد
ما الذي باللّه صيّره *** بعد قرب في مدى الأبد
ما لأنس كان مبتذلا *** منك لي بالأمس لم يعد
إيه قل لي غير محتشم *** هل دهاني فيك من أحد
حبّذا و الكأس دائرة *** لهونا و الصّيد بالطّرد
و حديث في القلوب له *** أخذ(5) يصدعن في الكبد
يوم تعطيني و تأخذها *** دون ندماني يدا بيد
فإذا ألويت(6) هيّجني *** تلع من ظبية البلد
و إذا أصغيت ذكّرني *** نشر كافور على برد
ص: 139
/
ذاك يوم كان حاسدنا *** فيه معذورا على الحسد(1)
قال شعرا للمعتصم بدير مران سكر عليه و غنى به المغنون:
حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثنا عمرو بن بانة قال:
خرجنا مع المعتصم إلى الشام لمّا غزا؛ فنزلنا في طريقنا بدير مرّان(2) - و هو دير على/تلعة(3) مشرفة عالية تحتها مروج(4) و مياه حسنة - فنزل فيه المعتصم فأكل و نشط للشرب و دعا بنا؛ فلما شربنا(5) أقداحا قال لحسين بن الضحّاك: أين هذا المكان من ظهر بغداد! فقال: لا أين يا أمير المؤمنين! و اللّه لبعض الغياض و الآجام هناك أحسن من هنا؛ قال: صدقت و اللّه، و على ذلك فقل أبياتا يغنّ فيها عمرو؛ فقال: أمّا أن أقول شيئا في وصف هذه الناحية بخير فلا أحسب لساني ينطق به، و لكني أقول متشوّقا إلى بغداد: - فضحك و قال قل ما شئت -.
يا دير مديان(6) لا عرّيت من سكن(7) *** هيّجت لي سقما يا دير مديانا
هل عند قسّك من علم فيخبرنا *** أم كيف يسعف وجه الصبر من بانا
حثّ المدام فإن الكأس مترعة *** ممّا يهيج دواعي الشوق أحيانا
سقيا و رعيا لكرخايا(8) و ساكنها *** و للجنينة بالرّوحاء(9) من كانا
/فاستحسنها المعتصم، و أمرني و مخارقا فغنّينا فيها و شرب على ذلك حتى سكر، و أمر للجماعة بجوائز.
لحن عمرو بن بانة في هذه الأبيات رمل، و لحن مخارق هزج، و يقال: إنه لغيره.
ص: 140
عبث بخادم أبي عيسى فضربه فجفاه فقال شعرا:
أخبرني الصّوليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد قال:
كان حسين بن الضحّاك يميل إلى خادم لأبي عيسى بن الرشيد؛ فعبث به يوما على سكر؛ فأخذ قنّينة فضرب بها رأسه فشجّه شجّة منكرة؛ و شاع خبره و توجّع له إخوانه و عولج منها مدّة، فجفا(1) الخادم و اطّرحه و أبغضه و لم يعرض له بعدها. فرآه بعد ذلك في مجلس مولاه فعبث(2) به الخادم و غازله. فلما أكثر ذلك قال له الحسين:
تعزّ بيأس عن هواي فإنّني *** إذا انصرفت نفسي فهيهات عن ردّي
إذا خنتم بالغيب ودي فما لكم *** تدلّون إدلال المقم على العهد
و لي منك بدّ فاجتنبني مذمّما *** و إن خلت أنّي ليس لي منك من بدّ
الغناء في هذه الأبيات لعمرو بن بانة، و له فيه لحنان رمل و خفيف رمل.
حدّثني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدّثني عبد اللّه بن المؤمّل العسكريّ قال:
لمّا ولي الواثق الخلافة جلس للناس و دخل إليه المهنّئون و الشعراء فمدحوه و هنّئوه؛ ثم استأذن حسين بن الضحّاك بعدهم في الإنشاد، و كان(3) من الجلساء فترفّع عن الإنشاد مع الشعراء، فأذن له؛ فأنشده قوله:
/
أكاتم وجدي فما ينكتم *** بمن لو شكوت إليه رحم
و إنّي على حسن ظنّي به *** لأحذر إن بحت أن يحتشم
و لي عند لحظته روعة *** تحقّق ما ظنّه المتّهم
و قد علم الناس أنّي له *** محبّ و أحسبه قد علم
/ - و في هذا رمل لعبد اللّه بن العباس بن الرّبيع -:
و إنّي لمغض على لوعة *** من الشوق في كبدي تضطرم
عشيّة ودّعت عن مقلة *** سفوح و زفرة قلب سدم(4)
فما كان عند النّوى مسعد *** سوى العين تمزج دمعا بدم
سيذكر من بان أوطانه *** و يبكي المقيمين من لم يقم
ص: 141
إلى خازن اللّه في خلقه *** سراج النّهار و بدر الظّلم
رحلنا غرابيب(1) زفّافة *** بدجلة في موجها الملتطم
إذا ما قصدنا لقاطولها *** و دهم قراقيرها(2) تصطدم
سكنا إلى خير مسكونة *** تيمّمها راغب من أمم(3)
مباركة شاد بنيانها *** بخير المواطن خير الأمم
كأنّ بها نشر كافورة *** لبرد نداها و طيب النّسم
كظهر الأديم إذا ما السحا *** ب صاب على متنها و انسجم
مبرّأة من وحول الشتاء *** إذا ما طمى و حله و ارتكم
/فما إن يزال بها راجل *** يمرّ الهوينى و لا يلتطم
و يمشي على رسله آمنا *** سليم الشّرك نقّي القدم
و للنّون(4) و الضّب في بطنها *** مراتع مسكونة و النّعم
غدوت على الوحش مغترّة *** رواتع في نورها المنتظم
و رحت عليها و أسرابها *** تحوم بأكنافها تبتسم
ثم قال يمدح الواثق:
يضيق الفضاء به إن غدا *** بطودي أعاريبه و العجم
ترى النصر يقدم راياته *** إذا ما خفقن أمام العلم
و في اللّه دوّخ أعداءه *** و جرّد فيهم سيوف النّقم
و في اللّه يكظم من غيظه *** و في اللّه يصفح عمّن جرم
رأى شيم الجود محمودة *** و ما شيم الجود إلاّ قسم
فراح على «نعم» و اغتدى *** كأن ليس يحسن إلاّ نعم
قال: فأمر له الواثق بثلاثين ألف درهم، و اتّصلت أيامه بعد ذلك، و لم يزل من ندمائه.
حدّثني أحمد بن العباس قال حدّثنا محمد بن زكريّا الغلابيّ قال حدّثني مهديّ بن سابق قال:
ص: 142
قال الواثق لحسين بن الضحّاك: قل الساعة أبياتا ملاحا حتى أهب لك شيئا مليحا؛ فقال: في أيّ معنى يا أمير المؤمنين ؟ فقال: امدد طرفك و قل فيما شئت ممّا ترى بين يديك وصفه. فالتفتّ فإذا ببساط زهره قد تفتّحت أنواره و أشرق في نور الصبح؛ فأرتج عليّ ساعة حتى/خجلت و ضقت ذرعا. فقال لي الواثق: مالك ويحك! أ لست ترى نور صباح، و نور أقاح! فانفتح القول فقلت:
/
أ لست ترى الصبح قد أسفرا *** و مبتكر الغيث قد أمطرا
و أسفرت الأرض عن حلّة *** تضاحك بالأحمر الأصفرا
و وافاك نيسان(1) في ورده *** و حثّك في الشّرب كي تسكرا
و تعمل كأسين في فتية *** تطارد بالأصغر الأكبرا
يحثّ كئوسهم مخطف *** تجاذب أردافه المئزرا
ترجّل بالبان حتى إذا *** أدار غدائره وفّرا
و فضّض في الجلّنار(2) البها *** ر و الآبنوسة(3) و العبهرا(4)
فلمّا تمازج ما شذّرت *** مقاريض أطرافه شذّرا
فكلّ ينافس في برّه *** ليفعل في ذاته المنكرا
قال: فضحك الواثق و قال: سنستعمل كل ما قلت يا حسين إلا الفسق الذي ذكرته فلا و لا كرامة. ثم أمر بإحضار الطعام فأكل و أكلوا معه. ثم قال: قوموا بنا إلى حانة الشّطّ فقاموا إليها، فشرب و طرب، و ما ترك يومئذ أحدا من الجلساء و المغنّين و الحشم إلا أمر له بصلة. و كانت من الأيام التي سارت أخبارها و ذكرت في الآفاق. قال حسين: فلما كان من الغد غدوت إليه؛ فقال: أنشدني يا حسين شيئا إن كنت قلته في يومنا الماضي، فقد كان حسنا؛ فأنشدته:
يا حانة الشّطّ قد أكرمت مثوانا *** عودي بيوم سرور كالذي كانا
لا تفقدينا دعابات الإمام و لا *** طيب البطالة إسرارا و إعلانا
و لا تخالعنا في غير فاحشة *** إذا يطرّبنا الطّنبور أحيانا
/و هاج زمر زنام(5) بين ذاك لنا *** شجوا فأهدى لنا روحا و ريحانا
ص: 143
و سلسل الرّطل عمرو ثم عمّ به *** السّقيا فألحق أولانا بأخرانا
سقيا لشكلك من شكل خصصت به *** دون الدّساكر من لذّات دنيانا
حفّت رياضك جنّات مجاورة *** في كلّ مخترق نهرا و بستانا
لا زلت آهلة الأوطان عامرة *** بأكرم الناس أعراقا و أغصانا
قال: فأمر له الواثق بصلة سنيّة مجدّدة، و استحسن الصوت، و أمر فغنّى في عدّة أبيات منها. غنّت فريدة في البيتين الأوّلين من هذه الأبيات، و لحنها هزج مطلق.
حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال: اجتمعت أنا و حسين بن الضحّاك و أبو شهاب الشاعر و هو الذي يقول:
لقد كنت ريحانة في النّديّ *** و تفّاحة في يد الكاعب
و عمرو بن بانة يغنّيها - فتذاكرنا الدّوابّ ، و اتّصل الحديث إلى أن تلاحى حسين و أبو شهاب/في دابّتيهما و تراهنا على المسابقة بهما، فتسابقا فسبقه أبو شهاب. فقال حسين في ذلك:
كلوا و اشربوا هنّئتم و تمتعوا *** و عيشوا و ذمّوا الكودنين(1) جميعا
فأقسم ما كان الذي نال منهما *** مدى السبق إذ جدّ الجراء سريعا
/و هي قصيدة معروفة في شعره. فقال أبو شهاب يجيبه:
أيا شاعر الخصيان حاولت خطّة *** سبقت إليها و انكفأت سريعا
تحاول سبقي بالقريض سفاهة *** لقد رمت - جهلا - من حماي منيعا
و هي أيضا قصيدة. فكان ذلك سبب التباعد بينهما. و كنّا إذا أردنا العبث بحسين نقول له: أيا شاعر الخصيان، فيجنّ و يشتمنا.
حدّثني جعفر قال حدّثني عليّ بن يحيى قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال: كان يألفني إنسان من جند الشام عجيب الخلقة و الزّيّ و الشكل غليظ جلف جاف، فكنت أحتمل ذلك كلّه له و يكون حظّي التعجّب به، و كان يأتيني بكتب من عشيقة له ما رأيت كتبا أحلى منها و لا أظرف و لا أبلغ و لا أشكل من معانيها، و يسألني أن أجيب عنها؛
ص: 144
فأجهد نفسي في الجوابات و أصرف عنايتي إليها على علمي(1) بأن الشاميّ بجهله لا يميّز بين الخطأ و الصواب، و لا يفرّق بين الابتداء و الجواب. فلما طال ذلك عليّ حسدته و تنبّهت إلى إفساد حاله عندها. فسألته عن اسمها فقال:
«بصبص». فكتبت إليها عنه في جواب كتاب منها جاءني به:
أرقصني حبّك يا بصبص *** و الحبّ يا سيّدتي يرقص
أرمضت أجفاني(2) بطول البكا *** فما لأجفانك لا ترمص
وا بأبي وجهك ذاك الذي *** كأنه من حسنه عصعص
فجاءني بعد ذلك فقال لي: يا أبا عليّ ، جعلني اللّه فداءك، ما كان ذنبي إليك و ما أردت بما صنعت بي ؟ فقلت له: و ما ذاك عافاك اللّه ؟ فقال: ما هو و اللّه إلاّ أن وصل ذلك الكتاب إليها حتى بعثت إليّ : إنّي مشتاقة إليك، و الكتاب لا ينوب عن الرؤية، فتعال إلى الرّوشن(3) الذي بالقرب من بابنا فقف بحياله حتى أراك؛ فتزيّنت بأحسن /ما قدرت عليه و صرت إلى الموضع. فبينا أنا واقف أنتظر مكلّما أو مشيرا إليّ إذا شيء قد صبّ عليّ فملأني من قرني إلى قدمي و أفسد ثيابي و سرجي و صيّرني و جميع ما عليّ و دابّتي في نهاية السّواد و النتن و القذر، و إذا به ماء قد خلط ببول و سواد سرجين(4)، فانصرفت بخزي. و كان ما مرّ بي من الصبيان و سائر من مررت به من الضحك و الطّنز(5) و الصّياح بي أغلظ ممّا مرّ بي؛ و لحقني من أهلي و من في منزلي شرّ من ذلك و أوجع. و أعظم من ذلك أن رسلها انقطعت عنّي جملة. قال: فجعلت أعتذر إليه و أقول له: إنّ الآفة أنها لم تفهم معنى الشعر لجودته و فصاحته، و أنا أحمد اللّه على ما ناله و أسرّ الشّماتة به.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني ميمون بن هارون عن حسين بن الضحّاك قال:
كتب إليّ الحسن بن رجاء في يوم شكّ و قد أمر الواثق بالإفطار، فقال:
/
هززتك للصّبوح و قد نهاني *** أمير المؤمنين عن الصّيام
و عندي من قيان المصر عشر *** تطيب بهنّ عاتقة المدام
و من أمثالهن إذا انتشينا *** ترانا نجتني ثمر الغرام
فكن أنت الجواب فليس شيء *** أحبّ إليّ من حذف الكلام
قال: فوردت عليّ رقعته و قد سبقه إليّ محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر و وجّه إليّ بغلام نظيف الوجه كان يتحظّاه، و معه ثلاثة غلمة أقران(6) حسان الوجوه و معهم رقعة قد كتبها إليّ كما تكتب المناشير، و ختمها في أسفلها و كتب فيها يقول:
ص: 145
سر على اسم اللّه يا أش *** كل من غصن لجين
في ثلاث من بني الرو *** م إلى دار حسين
/فاشخص(1) الكهل إلى مو *** لاك يا قرّة عيني
أره العنف إذ استع *** صى و طالبه بدين
ودع اللفظ و خاطب *** ه بغمز الحاجبين
و احذر الرّجعة من وج *** هك في خفّي حنين
قال: فمضيت معهم، و كتبت إلى الحسن بن رجاء جواب رقعته:
دعوت إلى مماحكة الصّيام *** و إعمال الملاهي و المدام
و لو سبق الرسول لكان سعيي *** إليك ينوب عن طول الكلام
و ما شوقي إليك بدون شوقي *** إلى ثمر(2) التّصابي و الغرام
و لكن حلّ في نفر عسوف *** بمنشور محلّ المستهام
حسين، فاستباح له حريما *** بطرف باعث سبب الحمام
و أظهر نخوة وسطا و أبدى *** فظاظته بترك للسلام
و أزعجني بألفاظ غلاظ *** و قد أعطيته طرفي زمامي
و لو خالفته لم يخش قتلي *** و قنّعني سريعا بالحسام
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال حدّثني جعفر بن هارون بن زياد قال حدّثني أبي قال:
كان الواثق يلاعب حسين بن الضحّاك بالنّرد و خاقان غلام الواثق واقف على رأسه، و كان الواثق يتحظّاه، فجعل يلعب و ينظر إليه. ثم قال للحسين بن الضحّاك: إن قلت الساعة شعرا يشبه ما في نفسي وهبت لك ما تفرح به. فقال الحسين:
أحبّك حبّا شابه بنصيحة *** أب لك مأمون عليك شفيق
و أقسم ما بيني و بينك قربة *** و لكنّ قلبي بالحسان(3) علوق
فضحك الواثق و قال: أصبت ما في نفسي و أحسنت. و صنع الواثق فيه لحنا، و أمر لحسين بألفي دينار. لحن الواثق في هذين البيتين من الثقيل الأوّل بالوسطى.
ص: 146
أخبرني الحسن/بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن خلاّد قال:
أنشدني حسين بن الضحّاك لنفسه:
بدّلت من نفحات الورد بالآء *** و من صبوحك درّ الإبل و الشاء
حتى أتى على آخرها، و قال لي: ما قال أحد من المحدثين مثلها. فقلت: أنت تحوم حول أبي نواس في قوله:
دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء *** و دواني بالتي كانت هي الداء
و هي أشعر من قصيدتك. فغضب و قال: أ لي تقول هذا! عليّ و عليّ إن لم أكن نكت أبا نواس!. فقلت له:
دع ذا عنك، فإنه كلام في الشعر لا قدح في نسب، لو نكت أبا نواس و أمّه و أباه لم تكن أشعر منه. و أحبّ أن تقول لي: هل لك في قصيدتك بيت نادر غير قولك:
فضّت خواتمها في نعت واصفها *** عن مثل رقراقة في عين مرهاء
و هذه قصيدة أبي نواس يقول فيها:
دارت على فتية ذلّ الزمان لهم *** فما أصابهم إلاّ بما شاءوا
/صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها *** لو مسّها حجر مسّته سرّاء
فأرسلت من فم الإبريق صافية *** كأنما أخذها بالعقل إغفاء
و اللّه ما قدرت على هذا و لا تقدر عليه؛ فقام و هو مغضب كالمقرّ بقولي.
حدّثني الحسن قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال حدّثني أحمد بن المعتصم قال:
حجّ أبو نواس و حسين بن الضحّاك فجمعهما الموسم، فتناشدا قصيدتيهما: قول أبي نواس:
دع عنك لومي فإنّ اللّوم إغراء *** و داوني بالتي كانت هي الداء
و قصيدة حسين:
بدّلت من نفحات الورد بالآء
فتنازعا أيّهما أشعر في قصيدته؛ فقال أبو نواس: هذا ابن مناذر(1) حاضر الموسم و هو بيني و بينك. فأنشده قصيدته حتى فرغ منها؛ فقال ابن مناذر: ما أحسب أن أحدا يجيء بمثل هذه و همّ بتفضيله؛ فقال له الحسين: لا تعجل حتى تسمع؛ فقال: هات؛ فأنشده قوله:
بدّلت من نفحات الورد بالآء *** و من صبوحك درّ الإبل و الشاء
ص: 147
حتى انتهى إلى قوله:
فضّت خواتمها في نعت واصفها *** عن مثل رقراقة في عين مرهاء
فقال له ابن مناذر: حسبك، قد استغنيت عن أن تزيد شيئا، و اللّه لو لم تقل في دهرك كلّه غير هذا البيت لفضّلتك به على سائر من وصف الخمر؛ قم فأنت أشعر و قصيدتك أفضل. فحكم له و قام أبو نواس منكسرا.
أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد قال حدّثني كثير بن إسماعيل التحتكار قال:
لمّا قدم المعتصم بغداد، سأل عن ندماء صالح بن الرشيد و هم أبو الواسع و قنّينة و حسين بن الضحّاك و حاتم الرّيش و أنا، فأدخلنا عليه. فلشؤمي و شقائي كتبت بين عينيّ : «سيّدي هب لي شيئا». فلما رآني/قال: ما هذا على جبينك ؟! فقال حمدون(1) بن إسماعيل: يا سيّدي تطايب بأن كتب على جبينه: «سيّدي هب لي شيئا»!. فلم يستطب لي ذلك و لا استملحه، و دعا بأصحابي من غد و لم يدع بي. ففزعت إلى حسين بن الضحّاك؛ فقال لي: إنّي لم أحلل من أنسه بعد بالمحلّ الموجب أن أشفع إليه فيك، و لكني أقول لك بيتين من شعر و ادفعهما إلى حمدون بن إسماعيل يوصلهما، فإن ذلك أبلغ. فقلت: أفعل. فقال حسين:
قل لدنيا أصبحت تلعب بي *** سلّط اللّه عليك الآخرة
إن أكن أبرد من قنّينة *** و من الرّيش فأمّي فاجره
قال: فأخذتهما و عرّفت حمدون أنهما لي و سألته إيصالهما ففعل؛ فضحك المعتصم و أمر لي بألفي دينار و استحضرني و ألحقني بأصحابي.
أخبرني عمّي قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال قال لي أحمد(2) بن حمدون:
كان محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر لا يرى الصّبوح و لا يؤثر على الغبوق شيئا، و يحتجّ بأن من خدم الخلفاء كان اصطباحه استخفافا بالخدمة، لأنه لا يأمن أن/يدعى على غفلة و الغبوق يؤمّنه من ذلك، و كان المعتصم يحبّ الصبوح؛ فكان يلقّب ابن بُسخُنَّر الغبوقيّ . فإذا حضر مجلس المعتصم مع المغنّين منعه الصّبوح و جمع له مثل ما يشرب نظراؤه، فإذا كان الغبوق سقاه إيّاه جملة غيظا عليه؛ فيضجّ (3) من ذلك و يسأل أن يترك حتى يشرب مع النّدماء إذا حضروا(4) فيمنعه ذلك. فقال فيه حسين بن الضحّاك و في حاتم الرّيش الضّرّاط و كان من المضحكين:
حبّ أبي جعفر للغبوق *** كقبحك يا حاتم مقبلا
ص: 148
فلا ذاك يعذر في فعله *** و حقّك في الناس أن تقتلا
و أشبه شيء بما اختاره *** ضراطك دون الخلا في الملا
حدّثني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا محمد بن عليّ بن حمزة قال:
مزح أبو أحمد بن الرشيد مع حسين بن الضحّاك مزاحا أغضبه، فجاوبه حسين جوابا غضب منه أبو أحمد أيضا. فمضى إليه حسين من غد فاعتذر إليه و تنصّل و حلف؛ فأظهر له قبولا لعذره. و رأى ثقلا في طرفه و انقباضا عما كان يعهده منه؛ فقال في ذلك:
لا تعجبنّ لملّة صرفت *** وجه الأمير فإنه بشر
و إذا نبا بك في سريرته *** عقد الضمير نبا بك البصر
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني أبو محمد بن النشار قال:
كان أبي صديقا للحسين بن الضحّاك و كان يعاشره؛ فحملني معه يوما إليه، و جعل أبي يحادثه إلى أن قال له:
يا أبا عليّ ، قد تأخّرت أرزاقك و انقطعت موادّك و نفقتك كثيرة، فكيف يمشي أمرك ؟ فقال له: بلى و اللّه يا أخي، ما قوام أمري إلا ببقايا هبات الأمين محمد بن زبيدة و ذخائره و هبات جارية له - لم يسمّها - /أغنتني للأبد لشيء ظريف جرى على غير تعمّد؛ و ذلك أنّ الأمين دعاني يوما فقال لي: يا حسين، إن جليس الرجل عشيره و ثقته و موضع سرّه و أمنه، و إن جاريتي فلانة أحسن الناس/وجها و غناء، و هي منّي بحمل نفسي، و قد كدّرت عليّ صفوها و نغّصت عليّ النعمة فيها بعجبها بنفسها و تجنّيها(1) عليّ و إدلالها بما تعلم من حبّي إياها. و إني محضرها و محضر صاحبة لها ليست منها في شيء لتغنّي معها. فإذا غنّت و أومأت لك إليها - على أن أمرها أبين من أن يخفى عليك - فلا تستحسن الغناء و لا تشرب عليه؛ و إذا غنّت الأخرى فاشرب و اطرب و استحسن و اشقق ثيابك، و عليّ مكان كل ثوب مائة ثوب. فقلت: السمع و الطاعة. فجلس في حجرة الخلوة و أحضرني و سقاني و خلع عليّ ، و غنّت المحسنة و قد أخذ الشراب منّي، فما تمالكت أن استحسنت و طربت و شربت، فأومأ إليّ و قطّب في وجهي. ثم غنّت الأخرى فجعلت أتكلّف ما أقوله و أفعله. ثم غنّت المحسنة ثانية فأتت بما لم أسمع مثله قطّ حسنا، فما ملكت نفسي أن صحت و شربت و طربت، و هو ينظر إليّ و يعضّ شفتيه غيظا، و قد زال عقلي فما أفكّر فيه، حتى فعلت ذلك مرارا؛ و كلما ازداد شربي ذهب عقلي و زدت ممّا يكره؛ فغضب فأمضّني و أمر بجرّ رجلي من بين يديه و صرفي فجررت و صرفت، فأمر بأن أحجب. و جاءني الناس يتوجّعون لي و يسألوني عن قصّتي فأقول لهم: حمل عليّ النبيذ فأسأت أدبي، فقوّمني أمير المؤمنين بصرفي و عاقبني بمنعي من الوصول إليه. و مضى لما أنا فيه شهر، ثم جاءتني البشارة أنّه قد رضي عنّي، و أمر بإحضاري فحضرت و أنا خائف. فلما وصلت أعطاني الأمين يده فقبّلتها، و ضحك إليّ و قام و قال: اتبعني، و دخل إلى تلك الحجرة بعينها و لم يحضر غيري. و غنّت المحسنة التي نالني من أجلها ما
ص: 149
نالني فسكتّ (1)/فقال لي: قل ما شئت و لا تخف؛ فشربت و استحسنت. ثم قال لي: يا حسين، لقد خار اللّه لك بخلافي و جرى القدر بما تحبّ فيه. إن هذه الجارية عادت إلى الحال التي أريد منها و رضيت كلّ أفعالها؛ فأذكرتني بك و سألتني الرّضا عنك و الاختصاص لك؛ و قد فعلت و وصلتك بعشرة آلاف دينار، و وصلتك هي بدون ذلك. و اللّه لو كنت فعلت ما قلت لك حتى تعود إلى مثل هذه الحال ثم تحقد ذلك عليك فتسألني ألاّ تصل إليّ لأجبتها.
فدعوت له و شكرته و حمدت اللّه على توفيقه، و زدت في الاستحسان و السرور إلى أن سكرت و انصرفت و قد حمل معي المال. فما كان يمضي أسبوع إلاّ و صلاتها و ألطافها تصل إليّ من الجوهر و الثياب و المال بغير علم الأمين؛ و ما جالسته مجلسا بعد ذلك إلا سألته أن يصلني. فكلّ شيء أنفقته بعده إلى هذه الغاية فمن فضل مالها و ما ذخرت من صلاتها. قال ابن النشّار: فقال له أبي: ما سمعت بأحسن من هذا الحديث و لا أعجب ممّا وفّقه اللّه لك فيه.
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبي قال:
دخل حسين بن الضحّاك على محمد الأمين بعقب وقعة أوقعها أهل بغداد بأصحاب طاهر(2) فهزموهم و فضحوهم؛ فهنّأه بالظّفر ثم استأذنه في الإنشاد، فأذن له فأنشده:
أمين اللّه ثق باللّ *** ه تعط العزّ و النّصره
كل الأمر إلى اللّه *** كلاك(3) اللّه ذو القدره
/لنا النصر بإذن اللّ *** ه و الكرّة لا(4) الفرّه
/و للمرّاق أعدائ *** ك يوم السّوء و الدّبره(5)
و كأس تورد الموت *** كريه طعمها مرّه
سقونا و سقيناهم *** فكانت بهم الحرّه
كذاك الحرب أحيانا *** علينا و لنا مرّه
فأمر له بعشرة آلاف درهم، و لم يزل يتبسم و هو ينشده.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى أبو الحمار قال:
قال لي الحسين بن الضحّاك: شربنا يوما مع الأمين في بستان، فسقانا على الرّيق، و جدّ بنا في الشرب، و تحرّز من أن نذوق شيئا. فاشتدّ الأمر عليّ ، و قمت لأبول، فأعطيت خادما من الخدم ألف درهم على أن يجعل لي
ص: 150
تحت شجرة أومأت إليها رقاقة فيها لحم، فأخذ الألف و فعل ذلك. و وثب محمد فقال: من يكون منكم حماري ؟ فكلّ واحد منهم قال له: أنا، لأنه كان يركب الواحد منا عبثا ثم يصله؛ ثم قال: يا حسين، أنت أضلع(1) القوم.
فركبني و جعل يطوف و أنا أعدل به عن الشجرة و هو يمرّ بي إليها حتى صار تحتها، فرأى الرّقاقة فتطأطأ فأخذها فأكلها على ظهري، و قال: هذه جعلت لبعضكم؛ ثم رجع إلى مجلسه و ما وصلني بشيء. فقلت لأصحابي: أنا أشقى الناس، ركب ظهري و ذهب ألف درهم منّي و فاتني ما يمسك رمقي و لم يصلني كعادتي، ما أنا إلا كما قال الشاعر:
و مطعم الصيد يوم الصيد مطعمه *** أنّى توجّه و المحروم محروم
حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد النّحويّ المبرّد قال: كان حسين بن الضحّاك الأشقر، و هو الخليع، يهوى جارية لأمّ جعفر، و كانت/من أجمل الجواري، و كان لها صدغان معقربان، و كانت تخرج إليه إذا جاء فتقول له: ما قلت فينا؟ أنشدنا منه شيئا؛ فيخرج إليها الصحيفة، فتقول له: اقرأ معي، فيقرأ معها حتى تحفظه ثم تدخل و تأخذ الصحيفة. فشكا ذلك إلى عاصم الغسّانيّ الذي كان يمدحه سلّم الخاسر و كان مكينا عند أم جعفر، و سأله أن يستوهبها له فاستوهبها، فأبت عليه أمّ جعفر؛ فوجّه إلى الخليع بألف دينار و قال: خذ هذا الألف؛ فقد جهدت الجهد كلّه فيها فلم تمكني حيلة. فقال الحسين في ذلك:
رمتك غداة السبت شمس من الخلد(2) *** بسهم الهوى عمدا و موتك في العمد
مؤزّرة السّربال مهضومة الحشا *** غلاميّة التقطيع شاطرة(3) القدّ
محنّأة الأطراف رؤد شبابها *** معقربة الصّدغين كاذبة الوعد
أقول و نفسي بين شوق و زفرة *** و قد شخصت عيني و دمعي على الخدّ
أجيزي على من قد تركت فؤاده *** بلحظته بين التأسّف و الجهد
فقالت عذاب بالهوى مع قربكم *** و موت إذا أقرحت(4) قلبك بالبعد
لقد فطنت للجور فطنة عاصم *** لصنع الأيادي الغرّ في طلب الحمد
سأشكوك في الأشعار غير مقصّر *** إلى عاصم ذي المكرمات و ذي المجد
/لعلّ فتى غسّان يجمع بيننا *** فيأمن قلبي منكم روعة الصّدّ
حدّثني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني هارون بن مخارق قال:
ص: 151
أقطع المعتصم الناس الدّور بسرّمن رأى و أعطاهم النفقات لبنائها، و لم يقطع الحسين بن الضحّاك شيئا.
/
يا أمين اللّه لا خطّة(1) لي *** و لقد أفردت صحبي بخطط
أنا في دهياء من مظلمة *** تحمل الشيخ على كلّ غلط
صعبة المسلك يرتاع لها *** كلّ من أصعد فيها و هبط
بوّني(2) منك كما بوّأتهم *** عرصة تبسط طرفي ما انبسط
أبتني فيها لنفسي موطنا *** و لعقبي فرطا بعد فرط
لم يزل منك قريبا مسكني *** فأعد لي عادة القرب فقط
كلّ من قرّبته مغتبط(3)*** و لمن أبعدت خزي و سخط
قال: فأقطعه دارا و أعطاه ألف دينار لنفقته عليها.
أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال أخبرني عمّي الفضل عن الحسين بن الضحّاك قال:
كنت أمشي مع أبي العتاهية، فمررت بمقبرة و فيها باكية تبكي بصوت شج على ابن لها. فقال أبو العتاهية:
أ ما تنفكّ باكية بعين *** غزير دمعها كمد حشاها
أجز يا حسين؛ فقلت:
تنادي حفرة أعيت جوابا *** فقد ولهت(4) و صمّ بها صداها(5)
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى قال حدّثني الحسين بن الضحّاك قال:
كنت عازما على أن أرثي الأمين(6) بلساني كلّه و أشفي لوعتي. فلقيني أبو العتاهية فقال لي: يا حسين، أنا إليك مائل و لك محبّ ، و قد علمت مكانك من الأمين، و إنه لحقيق بأن ترثيه، إلاّ أنك قد أطلقت لسانك من التلهّف عليه و التوجّع له بما صار هجاء لغيره و ثلبا له و تحريضا عليه، و هذا المأمون منصب إلى العراق قد أقبل عليك؛ فأبق على نفسك؛ يا ويحك! أ تجسر على أن تقول:
ص: 152
تركوا
حريم أبيهم نفلا(1)*** و المحصنات صوارخ هتف
هيهات بعدك أن يدوم لهم *** عزّ و أن يبقى لهم شرف
اكفف غرب لسانك و اطو ما انتشر عنك و تلاف ما فرط منك. فعلمت أنه قد نصحني فجزيته الخير، و قطعت القول فنجوت برأيه و ما كدت أن أنجو.
حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني أبو العيناء قال:
وقف علينا حسين بن الضحّاك و معنا فتى جالس من أولاد الموالي جميل الوجه، فحادثنا طويلا و جعل يقبل على الفتى بحديثه و الفتى معرض عنه حتى طال ذلك؛ ثم أقبل عليه الحسين فقال:
تتيه علينا أن رزقت ملاحة *** فمهلا علينا بعض تيهك يا بدر
/لقد طالما كنّا ملاحا و ربما *** صددنا و تهنا ثم غيّرنا الدهر
و قام فانصرف.
أخبرني الحسن بن(2) القاسم الكوفيّ قال حدّثني ابن عجلان قال:
غنّى بعض المغنّين في مجلس محمد المخلوع بشعر حسين بن الضحّاك، و هو:
أ لست ترى ديمة تهطل *** و هذا صباحك مستقبل
و هذي العقار و قد راعنا *** بطلعته الشادن الأكحل
فعاد به و بنا سكرة *** تهوّن مكروه ما نسأل
فإني رأيت له نظرة(3) *** تخبّرنا أنه يفعل
قال: فأمر بإحضار حسين فأحضر، و قد كان محمد شرب أرطالا. فلما مثل بين يديه أمر فسقي ثلاثة أرطال، فلم يستوفها الحسين حتى غلبه السكر و قذف، فأمر بحمله إلى منزله فحمل. فلما أفاق كتب إليه:
إذا كنت في عصبة *** من المعشر الأخيب
و لم يك لي مسعد *** نديم سوى جعدب
ص: 153
فأشرب من رملة(1) *** و أسهر من قطرب(2)
و لمّا حباني الزما *** ن من حيث لم أحسب
و نادمت بدر السما *** ء في فلك الكوكب
/أبت لي غضوضيّتي(3) *** و لؤم من المنصب
فأسكرني مسرعا *** قويّ من المشرب
كذا النذل ينبو به *** منادمة المنجب
قال: فردّه إلى منادمته و أحسن جائزته و صلته.
أخبرني الكوكبيّ قال حدّثني عليّ بن محمد بن نصر عن خالد بن حمدون: أن الحسين بن الضحاك أنشده - و قد عاتبه خادم(4) من خدّام أبي أحمد بن الرشيد كان حسين يتعشّقه و لامه في أن قال فيه شعرا و غنّى فيه عمرو بن بانة؛ فقال حسين فيه -:
فدّيت من قال لي على خفره *** و غضّ جفنا له على حوره
سمّع بي شعرك المليح فما *** ينفكّ شاد به على وتره
فقلت يا مستعير سالفة ال *** خشف و حسن الفتور من نظره
لا تنكرنّ الحنين من طرب *** عاود فيك الصّبا على كبره
و غنّى فيه عمرو بن بانة هزجا مطلقا.
أخبرني الكوكبيّ قال حدّثني أبو سهل بن نوبخت(5) عن عمرو بن بانة قال:
لما مات أبو نواس كتب حسين بن الضحّاك على قبره:
كابر نيك الزمان يا حسن *** فخاب سهمي و أفلح الزمن
ص: 154
ليتك إذ لم تكن بقيت لنا *** لم تبق روح يحوطها بدن
/أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبي قال:
كان في جوار الحسين بن الضحّاك طبيب يداوي الجراحات يقال له نصير، و كان مخنّثا؛ فإذا كانت وليمة دخل مع المخنّثين، و إذا لم تكن عالج الجراحات. فقال فيه الحسين بن الضحّاك:
نصير ليس لمرد من شأنه *** نصير طبّ بالنّكاريش(1)
يقول للنّكريش في خلوة *** مقال ذي لطف و تجميش(2)
هل لك أن نلعب في فرشنا *** تقلّب الطير المراعيش(3)
يعني المبادلة. فكان نصير بعد ذلك يصيح به الصبيان: «يا نصير نلعب تقلّب الطير المراعيش» فيشتمهم و يرميهم بالحجارة.
حدّثني جعفر قال حدّثني عليّ بن يحيى عن حسين بن الضحّاك قال:
أنشدت ابن مناذر قصيدتي التي أقول فيها:
لفقدك ريحانة العسكر
و كانت من أوّل ما قلته من الشعر؛ فأخذ رداءه و رمى به إلى السقف و تلقاه برجله و جعل يردّد هذا البيت.
فقلنا لحسين: أ تراه فعل ذلك استحسانا لما قلت ؟ فقال لا؛ فقلنا: فإنما فعله طنزا(4) بك؛ فشتمه و شتمنا. و كنّا بعد ذلك نسأله إعادة هذا البيت فيرمي بالحجارة و يجدّد شتم ابن مناذر بأقبح ما يقدر عليه.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن أبي كامل قال:
مررت بباب حسين بن الضحّاك، و إذا أبو يزيد السّلوليّ و أبو حزرة الغنويّ و هما ينتظران المحاربيّ و قد استؤذن لهم على ابن الضحّاك؛ فقلت لهما: لم لا تدخلان ؟ فقال أبو يزيد: ننتظر اللؤم أن يجتمع، فليس في الدنيا أعجب مما اجتمع منا، الغنويّ و السّلوليّ ينتظران المحاربيّ ليدخلوا على باهليّ .
ص: 155
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
كان الواثق يميل إلى الفتح بن خاقان(1) و يأنس به و هو يومئذ غلام، و كان الفتح ذكيّا جيّد الطبع و الفطنة. فقال له المعتصم يوما و قد دخل على أبيه خاقان عرطوج: يا فتح أيّما أحسن: داري أو دار أبيك ؟ فقال له و هو غير متوقّف و هو صبيّ له سبع سنين أو نحوها: دار أبي إذا كنت فيها؛ فعجب منه و تبنّاه. و كان الواثق له بهذه المنزلة، و زاد المتوكل عليهما. فاعتلّ الفتح في أيام الواثق علّة صعبة ثم أفاق و عوفي، فعزم الواثق على الصّبوح، فقال لي:
يا حسين، اكتب بأبيات عنّي إلى الفتح تدعوه إلى الصّبوح؛ فكتبت إليه:
/
لمّا اصطبحت و عين اللهو ترمقني *** قد لاح لي باكرا في ثوب بذلته
ناديت فتحا و بشّرت المدام به *** لمّا تخلّص من مكروه علّته
ذبّ الفتى عن حريم الراح مكرمة *** إذا رآه امرؤ ضدّا لنحلته
فاعجل إلينا و عجّل بالسرور لنا *** و خالس الدهر في أوقات غفلته
فلما قرأها الفتح صار إليه فاصطبح معه.
أخبرني عمّي(2) قال حدّثني يعقوب بن نعيم و عبد اللّه بن أبي سعد قالا حدّثنا محمد بن محمد الأنباريّ قال حدّثني حسين بن الضحّاك قال:
/كنت عند عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الربيع و هو مصطبح و خادم له يسقيه؛ فقال لي: يا أبا عليّ ، قد استحسنت سقي هذا الخادم؛ فإن حضرك شيء في قصّتنا هذه فقل؛ فقلت:
أحيت صبوحي فكاهة اللاهي *** و طاب يومي بقرب أشباهي
فاستثر اللهو من مكامنه *** من قبل يوم منغّص ناهي
بابنة كرم من كفّ منتطق *** مؤتزر بالمجون تيّاه
يسقيك من طرفه و من يده *** سقي لطيف مجرّب داهي
كأسا فكأسا كأن شاربها *** حيران بين الذّكور و الساهي
ص: 156
قال: فاستحسنه عبد اللّه و غنّى فيه لحنا مليحا و شربنا عليه بقيّة يومنا.
أخبرني عليّ بن العباس قال حدّثني سوادة بن الفيض عن أبيه قال:
اتفق حسين بن الضحّاك و يسر مرّة عند بعض إخوانهما و شربا و ذلك في العشر الأواخر من شعبان. فقال حسين ليسر: يا سيّدي، قد هجم الصوم علينا، فتفضّل بمجلس نجتمع فيه قبل هجومه فوعده بذلك؛ فقال له: قد سكرت و أخشى/أن يبدو لك؛ فحلف له يسر أنّه يفي. فلما كان من الغد كتب إليه حسين و سأله الوفاء، فجحد الوعد و أنكره. فكتب إليه يقول:
تجاسرت على الغدر *** كعاداتك في الهجر
فأخلفت و ما استخلف *** ت من إخوانك الزّهر
لئن خست(1) لما ذل *** ك من فعلك بالنّكر
و ما أقنعني فعل *** ك يا مختلق العذر
بنفسي أنت إن سؤت *** فلا بدّ من الصبر
و إن جرّعني الغيظ *** و إن خشّن بالصدر(2)
و لو لا فرقي منك *** لسمّيتك في الشعر
و عنّفتك لا آلو *** و إن جزت مدى العذر(3)
أ ما تخرج من إخلا *** ف ميعادك في العشر
غدا يفطمنا الصوم *** عن الرّاح إلى الفطر
قال: فسألت الحسين بن الضحاك عمّا أثّر له هذا الشعر و ما كان الجواب؛ فقال: كان أحسن جواب و أجمل فعل، كان اجتماعنا قبل الصوم في بستان لمولاه، و تمّمنا سرورنا و قضينا أوطارنا إلى الليل، و قلت في ذلك:
سقى اللّه بطن الدّير من مستوى السّفح *** إلى ملتقى النّهرين فالأثل(4) فالطّلح(5)
ملاعب قدن القلب قسرا إلى الهوى *** و يسّرن ما أمّلت من درك النّجح
/أ تنسى فلا أنسى عتابك بينها *** حبيبك حتى انقاد عفوا إلى الصلح
سمحت لمن أهوى بصفو مودّتي *** و لكنّ من أهواه صيغ على الشّحّ
ص: 157
قال عليّ بن العبّاس: و أنشدني سوادة بن الفيض عن أبيه لحسين بن الضحّاك يصف أياما/مضت له بالبصرة و يومه بالقفص(1) و مجيء يسر إليه، و كان يسر سأله أن يقول في ذلك شعرا:
تيسّري للّمام(2) من أمم *** و لا تراعي حمامة الحرم
قد غاب - لا آب - من يراقبنا *** و نام - لا قام - سامر الخدم
فاستصحبي مسعدا يفاوضنا *** إذا خلونا في كلّ مكتتم
تبذّلي بدلة تقرّ بها ال *** عين و لا تحصري و تحتشمي
ليت نجوم السماء راكدة *** على دجى ليلنا فلم ترم
ما لسروري بالشكّ ممتزجا(3) *** حتى كأنّي أراه في حلم
فرحت حتى استخفّني فرحي *** و شبت عين اليقين بالتّهم
أمسح عيني مستثبتا نظري *** أخالني نائما و لم أنم
سقيا لليل أفنيت مدّته *** ببارد الرّيق طيّب النّسم
أبيض مرتجّة روادفه *** ما عيب من قرنه(4) إلى القدم
إذ قصبات العريش تجمعنا *** حتى تجلّت أواخر الظّلم
/و ليلة بتّها محسّدة(5) *** محفوفة بالظنون و التّهم
أبثّ عبراته على غصص *** يردّ أنفاسه إلى الكظم(6)
سقيا لقيطونها(7) و مخدعها *** كم من لمام به و من لمم
لا أكفر السّيلحين(8) أزمنة *** مطيعة بالنّعيم و النّعم
و ليلة القفص إن سألت بها *** كانت شفاء لعلّة السّقم
بات أنيسي صريع خمرته *** و تلك إحدى مصارع الكرم
ص: 158
و بتّ عن موعد سبقت به *** ألثم درّا مفلّجا بفم
وا بأبي من بدا بروعة «لا» *** و عاد من بعدها إلى «نعم»
أباحني نفسه و وسّدني *** يمنى يديه و بات ملتزمي
حتى إذا اهتاجت النوافس في *** سحرة أحوى أحمّ كالحمم
و قلت هبّا يا صاحبيّ و *** نبّهت أبانا فهبّ كالزّلم(1)
فاستنّها كالشّهاب ضاحكة *** عن بارق في الإناء مبتسم
صفراء زيتيّة موشّحة *** بأرجوان ملمّع ضرم
أخذت ريحانة أراح لها *** دبّ سروري بها دبيب دمي
فراجع العذر إن بدا لك في ال *** عذر و إن عدت لائما فلم
أخبرني عليّ بن العبّاس قال حدّثني سوادة بن الفيض المخزوميّ قال حدّثني المعتمر بن الوليد المخزوميّ قال: قال لي الحسين بن الضحّاك و هو على شراب له: ويحكم أحدّثكم عن يسر بأعجوبة ؟ قلنا: هات. قال: بلغ مولاه أنه جر له مع أخيه سبب، فحجبه كما تحجب النساء، و أمر بالحجر عليه، و أمره ألاّ يخرج عن داره إلا و معه حافظ له موكّل به. فقلت في ذلك:
/
ظنّ من لا كان ظنّا *** بحبيبي فحماه
أرصد الباب رقيبي *** ن له فاكتنفاه
فإذا ما اشتاق قربي *** و لقائي منعاه
جعل اللّه رقيبي *** ه من السوء فداه
و الذي أقرح في الشا *** دن قلبي و لواه
كلّ مشتاق إليه *** فمن السوء فداه
سيّما من حالت الأح *** راس من دون مناه
أخبرني عليّ بن العبّاس قال حدّثنا أحمد بن العباس الكاتب قال حدّثني عبد اللّه بن زكريّا الضّرير قال:
قال أبو نواس: قال لي حسين بن الضحّاك يوما: يا أبا عليّ ، أما ترى غضب يسر عليّ ! فقلت له: و ما كان سبب ذلك ؟ قال: حال أردتها منه فمنعنيها فغضبت؛ فأسألك أن تصلح بيني و بينه. فقلت: و ما تحبّ أن أبلغه عنك ؟ قال: تقول له:
ص: 159
بحرمة السّكر و ما كانا *** عزمت أن تقتل إنسانا!
أخاف أن تهجرني صاحيا *** بعد سروري بك سكرانا
/إنّ بقلبي روعة كلما *** أضمر لي قلبك هجرانا
يا ليت ظنّي أبدا كاذب *** فإنه يصدق أحيانا
قال: فقلت له: ويحك! أ تجتنبه و تريد أن تترضّاه و ترسل إليه بمثل هذه الرسالة! فقال لي: أنا أعرف به، و هو كثير التبذّل(1)، فأبلغه ما سألتك؛ فأبلغته فرضي عنه و أصلحت بينهما.
حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال:
جاءني يوما حسين بن الضحّاك، فقلت له: أيّ شيء كان خبرك أمس ؟ فقال لي: اسمعه شعرا و لا أزيدك على ذلك و هو أحسن؛ فقلت: هات يا سيّدي؛ فقال:
زائرة زارت على غفلة *** يا حبّذا الزّورة و الزائره
فلم أزل أخدعها ليلتي *** خديعة السّاحر للسّاحره
حتى إذا ما أذعنت بالرّضا *** و أنعمت دارت بها الدائره
بتّ إلى الصبح بها ساهرا *** و باتت الجوزاء بي ساهره
أفعل ما شئت بها ليلتي *** و ملء عيني نعمة ظاهره
فلم ننم إلاّ على تسعة *** من غلمة بي و بها ثائره
سقيا لها لا لأخي شعرة *** شعرته كالشّعرة الوافرة
و بين رجليه له حربة *** مشهورة في حقوه(2) شاهره
و في غد يتبعها لحية *** تلحقه بالكرّة الخاسره
قال: فقلت له: زنيت يعلم اللّه إن كنت صادقا. فقال: قل أنت ما شئت.
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أبو العيناء قال:
دخل حسين بن الضحاك على الواثق في خلافة المعتصم/في يوم طيّب، فحثّه على الصّبوح فلم ينشط له.
فقال: اسمع ما قلت؛ قال: هات؛ فأنشده:
استثر اللهو من مكامنه *** من قبل يوم منغّص ناهي
بابنة كرم من كفّ منتطق *** مؤتزر بالمجون تيّاه
ص: 160
يسقيك من لحظه و من يده *** سقى لطيف مجرّب داهي
كأسا فكأسا كأنّ شاربها *** حيران بين الذّكور و السّاهي
قال: فنشط الواثق و قال: إنّ فرصة العيش لحقيقة أن تنتهز؛ و اصطبح و وصل الحسين.
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم(1) بن مهرويه قال حدّثني أبو الشّبل عاصم بن وهب البرجمي قال:
حجّ الحسين بن الضحّاك، فمرّ في منصرفه على موضع يعرف بالقريتين(2)، فإذا جارية تطّلع في ثيابها و تنظر في حرها ثم تضربه بيدها و تقول: ما أضيعني و أضيعك! فأنشأ يقول:
مررت بالقريتين منصرفا *** من حيث يقضي ذوو النّهى النّسكا
إذا فتاة كأنها قمر *** للتّم لمّا توسّط الفلكا
واضعة كفّها على حرها *** تقول يا ضيعتي و ضيعتكا
/قال: فلما سمعت قوله ضحكت و غطّت وجهها و قالت: وا فضيحتاه! أ و قد سمعت ما قلت!.
حدّثني محمد الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن هارون قال:
كان الحسين بن الضحّاك صديقا لأبي، و كنت ألقاه معه كثيرا، و كانت نفسه قد تتبّعت شفيعا بعد انصرافه من مجلس المتوكل؛ فأنشدنا لنفسه فيه:
و أبيض في حمر الثياب كأنه *** إذا ما بدا نسرينة(3) في شقائق
سقاني بكفّيه رحيقا و سامني *** فسوقا بعينيه و لست بفاسق
و أقسم لو لا خشية اللّه وحده *** و من لا أسمّي كنت أوّل عاشق
و إنّي لمعذور على وجناته *** و إن و سمتني شيبة في المفارق
و لا عشق لي أو يحدث الدهر شرّة *** تعود بعادات الشباب المفارق
و لو كنت شكلا للصّبا لاتّبعته *** و لكن سنّي بالصّبا غير لائق
ص: 161
حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا ميمون بن هارون قال:
كان للحسين بن الضحّاك ابن يسمّى محمدا، له أرزاق، فمات فقطعت أرزاقه. فقال يخاطب المتوكّل و يسأله أن يجعل أرزاق ابنه المتوفّى لزوجته و أولاده:
إنّي أتيتك شافعا *** بوليّ عهد المسلمينا
و شبيهك المعتزّ أو *** جه شافع في العالمينا
يا ابن الخلائق الأوّلي *** ن و يا أبا المتأخّرينا
إنّ ابن عبدك مات وا *** لأيّام تخترم القرينا
و مضى و خلّف صبية *** بعراصه متلدّدينا(1)
/و مهيرة عبرى خلا *** ف أقارب مستعبرينا
أصبحن في ريب الحوا *** دث يحسنون بك الظّنونا
قطع الولاة جراية *** كانوا بها مستمسكينا
فامنن بردّ جميع ما *** قطعوه غير مراقبينا
أعطاك أفضل ما تؤوي *** مل أفضل المتفضّلينا
قال: فأمر المتوكل له بما سأل. فقال يشكره:
يا خير مستخلف من آل عبّاس *** اسلم و ليس على الأيّام من باس
أحييت من أملي نضوا تعاوره *** تعاقب اليأس حتى مات بالياس
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال:
كنّا في مجلس و معنا حسين بن الضحّاك و نحن على نبيذ؛ فعبث بالمغنّية و جمّشها(2)؛ فصاحت عليه و استخفّت به. فأنشأ يقول:
لها في وجهها عكن *** و ثلثا وجهها ذقن
و أسنان كريش *** البطّ بين أصولها عفن
قال: فضحكنا، و بكت المغنّية حتى قلت قد عميت؛ و ما انتفعنا بها بقيّة يومنا. و شاع هذان البيتان فكسدت من أجلهما. و كانت إذا حضرت في موضع أنشدوا البيتين فتجنّ . ثم هربت من سرّ من رأى، فما عرفنا لها بعد ذلك خبرا.
ص: 162
قال جعفر و حدّثنا أبو العيناء أنه حضر هذا المجلس، و حكى مثل ما حكاه محمد.
حدّثني عمّي قال حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ قال:
/سألت حسين بن الضحّاك و نحن في مجلس المتوكل عن سنّه؛ فقال: لست أحفظ السنة التي ولدت فيها بعينها، و لكنّي أذكر و أنا بالبصرة موت شعبة بن الحجّاج سنة ستين و مائة.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عليّ بن محمد بن نصر قال حدّثني خالي (يعني أحمد بن حمدون) قال:
أمر المتوكل أن ينادمه حسين بن الضحّاك و يلازمه؛ فلم يطق ذلك لكبر سنّه. فقال للمتوكل بعض من حضر عنده: هو يطيق الذّهاب إلى القرى و المواخير و السكر فيها و يعجز عن خدمتك!. فبلغه ذلك، فدفع إليّ أبياتا قالها و سألني إيصالها؛ فأوصلتها إلى المتوكّل، و هي:
أ ما في ثمانين وفّيتها *** عذير و إن أنا لم أعتذر
فكيف و قد جزتها صاعدا *** مع الصّاعدين بتسع أخر
و قد رفع اللّه أقلامه *** عن ابن ثمانين دون البشر
سوى من أصرّ على فتنة *** و ألحد في دينه أو كفر
و إنّي لمن أسراء الإل *** ه في الأرض نصب صروف القدر
فإن يقض لي عملا صالحا *** أثاب و إن يقض شرّا غفر
فلا تلح في كبر هدّني *** فلا ذنب لي أن بلغت الكبر
هو الشيب حلّ بعقب الشباب *** فأعقبني خورا من أشر
/و قد بسط اللّه لي عذره *** فمن ذا يلوم إذا ما عذر
و إنّي لفي كنف مغدق *** و عزّ بنصر أبي المنتصر
يباري الرياح بفضل السما *** ح حتى تبلّد أو تنحسر
/له أكّد الوحي ميراثه *** و من ذا يخالف وحي السّور
و ما للحسود و أشياعه *** و من كذّب الحقّ إلا الحجر
قال ابن حمدون: فلما أوصلتها شيّعتها بكلامي أعذره، و قلت: لو أطاق خدمة أمير المؤمنين لكان أسعد بها.
فقال المتوكل: صدقت، خذ له عشرين ألف درهم و احملها إليه؛ فأخذتها فحملتها إليه.
حدّثني عمّي قال حدّثني عليّ بن محمد بن نصر قال حدّثني خالي عن حسين بن الضحّاك قال:
ضربني الرشيد في خلافته لصحبتي ولده، ثم ضربني الأمين لممايلة ابنه عبد اللّه، ثم ضربني المأمون لميلي إلى
ص: 163
محمد، ثم ضربني المعتصم لمودّة كانت بيني و بين العبّاس بن المأمون، ثم ضربني الواثق لشيء بلغه من ذهابي إلى المتوكّل، و كلّ ذلك يجري مجرى الولع بي و التحذير لي. ثم أحضرني المتوكّل و أمر شفيعا بالولع بي، فتغاضب المتوكّل عليّ . فقلت له: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد أن تضربني كما ضربني آباؤك، فاعلم أنّ آخر ضرب(1)ضربته بسببك. فضحك و قال: بل أحسن إليك يا حسين و أصونك و أكرمك.
حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل قال حدّثني محمد بن محمد بن مروان الأبزاريّ (2) قال:
دخلت على حسين بن الضحّاك، فقلت له: كيف أنت ؟ جعلني اللّه فداءك! فبكى ثم أنشأ يقول:
أصبحت من أسراء اللّه محتبسا *** في الأرض نحو قضاء اللّه و القدر
إنّ الثمانين إذ وفّيت عدّتها *** لم تبق باقية منّي و لم تذر
ص: 164
قال أبو الفرج: أبو زكّار هذا رجل من أهل بغداد من قدماء المغنّين، و كان منقطعا إلى آل برمك، و كانوا يؤثرونه و يفضلون عليه إفضالا.
فحدّثني محمد بن جعفر بن قدامة قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ قال: سمعت مسرورا يحدّث أبي قال:
لمّا أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى، دخلت عليه و عنده أبو زكّار الأعمى و هو يغنّيه بصوت لم أسمع بمثله:
فلا تبعد(1) فكلّ فتى سيأتي *** عليه الموت يطرق أو يغادي
و كلّ ذخيرة لا بدّ يوما *** و إن بقيت تصير إلى نفاد
و لو يفدى من الحدثان شيء *** فديتك بالطّريف و بالتّلاد
فقلت له: في هذا و اللّه أتيتك! فأخذت بيده فأقمته و أمرت بضرب عنقه. فقال لي أبو زكّار: نشدتك اللّه إلاّ ألحقتني به. فقلت: و ما رغبتك في ذلك ؟ قال: إنه أغناني عمّن سواه بإحسانه، فما أحبّ أن أبقى بعده. فقلت:
أستأمر أمير المؤمنين في ذلك. فلما أتيت الرشيد برأس جعفر أخبرته بقصّة أبي زكّار؛ فقال لي: هذا رجل فيه مصطنع، فاضممه إليك و انظر/ما كان يجريه عليه فأتممه له.
حدّثني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق قال:
غنّى علّويه يوما بحضرة أبي؛ فقال أبي: مه! هذا الصوت معرق(2) في العمى. الشّعر لبشّار الأعمى، و الغناء لأبي زكّار الأعمى، و أوّل الصوت «عميت أمري».
ص: 165
ما جرت خطرة على القلب منّي *** فيك إلا استترت عن أصحابي
من دموع تجري، فإن كنت وحدي *** خاليا أسعدت دموعي انتحابي
إن حبّي إيّاك قد سلّ جسمي *** و رماني بالشيب قبل الشباب
لو منحت اللقا شفى بك صبّا *** هائم القلب قد ثوى في التراب
الشعر في الأبيات للسيّد الحميريّ . و الغناء لمحمد نعجة الكوفيّ ، مغنّ غير مشهور و لا ممّن خدم الخلفاء و ليس له خبر. و لحنه المختار ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر. و ذكر حبش أن لمحمد نعجة فيه أيضا خفيف رمل بالبنصر.
ص: 166
السيّد لقبه. و اسمه إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرّغ الحميريّ . و يكنى أبا هاشم. و أمه امرأة من الأزد ثم من بني الحدّان. و جدّه يزيد بن ربيعة، شاعر مشهور، و هو الذي هجا زيادا(1) و بنيه و نفاهم عن آل حرب؛ و حبسه عبيد(2) اللّه بن زياد لذلك و عذّبه، ثم أطلقه معاوية. و خبره في هذا طويل يذكر في موضعه(3) مع سائر أخباره؛ إذ كان الغرض هاهنا ذكر أخبار السيّد.
و وجدت في بعض الكتب عن إسحاق بن محمد النّخعيّ قال: سمعت ابن عائشة و القحذميّ يقولان: هو يزيد بن مفرّغ، و من قال: إنه يزيد بن معاوية فقد/أخطأ. و مفرّغ لقب ربيعة؛ لأنه راهن أن يشرب عسّا من لبن فشربه حتى فرّغه؛ فلقّب مفرّغا. و كان شعّابا(4) بسيالة، ثم صار إلى البصرة.
و كان شاعرا متقدّما مطبوعا. يقال: إن أكثر الناس شعرا في الجاهلية و الإسلام ثلاثة: بشّار، و أبو العتاهية، و السيّد؛ فإنه لا يعلم أن أحدا قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع.
و إنما مات ذكره و هجر الناس شعره لما كان يفرط فيه من سبّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أزواجه في شعره و يستعمله من قذفهم و الطعن عليهم، /فتحومي شعره من هذا الجنس و غيره لذلك، و هجره الناس تخوّفا و تراقبا(5). و له طراز من الشعر و مذهب قلّما يلحق فيه أو يقاربه. و لا يعرف له من الشعر كثير. و ليس يخلو من مدح بني هاشم أو ذمّ غيرهم ممّن هو عنده ضدّ لهم. و لو لا أنّ أخباره كلّها تجري هذا المجرى و لا تخرج عنه لوجب ألاّ نذكر منها شيئا؛ و لكنّا شرطنا أن نأتي بأخبار من نذكره من الشعراء؛ فلم نجد بدّا من ذكر أسلم ما وجدناه له و أخلاها من سيّئ اختياره(6) على قلّة ذلك..
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن إسماعيل بن الساحر راوية السيّد، قال ابن عمّار و حدّثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه:
ص: 167
أن أبوى السيّد كانا إباضيّين(1)، و كان منزلهما بالبصرة في غرفة بني ضبّة، و كان السيّد يقول: طالما سبّ أمير المؤمنين في هذه الغرفة. فإذا سئل عن التشيّع من أين وقع له، قال: غاصت عليّ الرحمة غوصا.
و روي عن السيّد أن أبويه لمّا علما بمذهبه همّا بقتله؛ فأتى عقبة(2) بن سلّم الهنائيّ فأخبره بذلك، فأجاره و بوّأه منزلا وهبه له، فكان فيه حتى ماتا فورثهما.
و قد أخبرني الحسن(3) بن علي البرّيّ عن محمد بن عامر عن القاسم بن الرّبيع عن أبي داود سليمان بن سفيان المعروف بالحنزق(4) راوية السيّد الحميريّ قال: ما مضى و اللّه إلاّ على مذهب الكيسانيّة(5). و هذه القصائد التي يقولها الناس مثل:
تجعفرت باسم اللّه و اللّه أكبر
و
تجعفرت باسم اللّه فيمن تجعفرا
و قوله:
أيا راكبا نحو المدينة جسرة(6) *** عذافرة تهوي بها كلّ سبسب
إذا ما هداك اللّه لاقيت جعفرا *** فقل يا أمين اللّه و ابن المهذّب
لغلام للسيّد يقال له قاسم الخيّاط، قالها و نحلها للسيّد، و جازت على كثير من الناس ممّن لم يعرف خبرها، بمحل قاسم منه و خدمته إيّاه.
أخبرني أحمد قال حدّثني محمد بن عبّاد عن أبي عمرو الشّيبانيّ عن لبطة(1) بن الفرزدق قال:
/تذاكرنا الشعراء عند أبي، فقال: إن هاهنا لرجلين لو أخذا في معنى الناس لما كنّا معهما في شيء. فسألناه من هما؟ فقال: السيّد الحميريّ و عمران بن حطّان السّدوسيّ (2)، و لكنّ اللّه عزّ و جلّ قد شغل كلّ واحد منهما بالقول في مذهبه.
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثني/عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني أبو جعفر ابن بنت الفضيل(3) بن بشار قال:
كان السيّد أسمر، تامّ الخلقة، أشنب، ذا وفرة، حسن الألفاظ، و كان مع ذلك أنتن الناس إبطين، لا يقدر أحد على الجلوس معه لنتن رائحتهما.
قال حدّثني التّوزيّ قال: رأى الأصمعيّ جزءا فيه من شعر السيّد، فقال: لمن هذا؟ فسترته عنه لعلمي بما عنده فيه؛ فأقسم عليّ أن أخبره فأخبرته؛ فقال: أنشدني قصيدة منه؛ فأنشدته ثم أخرى و هو يستزيدني، ثم قال:
قبحه اللّه ما أسلكه لطريق الفحول! لو لا مذهبه و لو لا ما في شعره ما قدّمت عليه أحدا من طبقته.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم قال: سمعت أبا عبيدة يقول: أشعر المحدثين السيّد الحميريّ و بشار.
ابن الساحر راويته: و اللّه ما رجع عن ذلك و لا القصائد الجعفريّات إلا منحولة له قيلت بعده. و آخر عهدي به قبل موته بثلاث و قد سمع رجلا(1) يروى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال لعليّ عليه السّلام: «إنه سيولد لك بعدي ولد و قد نحلته اسمي و كنيتي» فقال في ذلك و هي آخر قصيدة قالها:
أ شاقتك المنازل بعد هند *** و تربيها و ذات الدّلّ دعد
منازل أقفرت منهنّ محّت(2) *** معالمهن من سبل(3) و رعد
و ريح حرجف(4) تستنّ فيها *** بسافي التّرب تلحم ما تسدّي
أ لم يبلغك و الأنباء تنمي *** مقال محمد فيما يؤدّي
إلى ذي علمه الهادي على *** و خولة خادم في البيت تردي(5)
/أ لم تر أنّ خولة سوف تأتي *** بواري الزّند صافي الخيم(6) نجد
يفوز بكنيتي و اسمي لأنّي *** نحلتهماه(7) و المهديّ بعدي
يغيّب عنهم حتى يقولوا *** تضمّنه بطيبة بطن لحد
سنين و أشهرا و يرى برضوى *** بشعب بين أنمار و أسد
مقيم بين آرام و عين *** و حفّان(8) تروح خلال ربد
تراعيها السّباع و ليس منها *** ملاقيهنّ مفترسا بحدّ
أمنّ به الرّدى فرتعن طورا(9) *** بلا خوف لدى مرعى و ورد
حلفت بربّ مكة و المصلّى *** و بيت طاهر الأركان فرد
يطوف به الحجيج و كلّ عام *** يحلّ لديه وفد بعد وفد
لقد كان ابن خولة غير شك *** صفاء ولايتي و خلوص ودّي
فما أحد أحبّ إليّ فيما *** أسرّ و ما أبوح به و أبدي
سوى ذي الوحي أحمد أو عليّ *** و لا أزكى و أطيب منه عندي
ص: 170
/
و من ذا يا ابن خولة إذ رمتني *** بأسهمها المنيّة حين وعدي
يذبّب عنكم و يسدّ مما *** تثلّم من حصونكم كسدّي
و ما لي أن أمرّ به و لكن *** أؤمّل أن يؤخّر يوم فقدي
فأدرك دولة لك لست فيها *** بجبّار فتوصف بالتّعدّي
على قوم بغوا فيكم علينا *** لتعدي منكم(1) يا خير معد
لتعل بنا عليهم حيث كانوا *** بغور من تهامة أو بنجد
/إذا ما سرت من بلد حرام *** إلى من بالمدينة من معدّ
و ما ذا غرّهم و الخير منهم *** بأشوس(2) أعصل الأنياب ورد
و أنت لمن بغى وعدا و أذكى *** عليك الحرب و استرداك مرد
في البيتين الأوّلين من هذه القصيدة غناء، نسبته:
أ شاقتك المنازل بعد هند *** و تربيها و ذات الدّلّ دعد
منازل أقفرت منهنّ محّت *** معالمهن من سبل و رعد
عروضه من الوافر. الشعر للسيّد الحميريّ . و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن يحيى المكيّ . و ذكر الهشاميّ أنه لكردم. و ذكر عمرو بن بانة أن اللّحن لمالك ثقيل أوّل بالوسطى.
و قال إسماعيل بن الساحر راوية السيّد: كنت عنده يوما في جناح له، فأجال بصره فيه ثم قال: يا إسماعيل، طال و اللّه ما شتم أمير المؤمنين عليّ في هذا الجناح. قلت: و من كان يفعل ؟ قال: أبواي. و كان يذهب مذهب الكيسانيّة و يقول بإمامة محمد بن الحنفيّة، و له في ذلك شعر كثير. و قد روى بعض من لم تصحّ روايته أنه رجع عن مذهبه و قال بمذهب الإماميّة(3)، و له في ذلك:
تجعفرت باسم اللّه و اللّه أكبر *** و أيقنت أنّ اللّه يعفو و يغفر
/و ما وجدنا ذلك في رواية محصّل، و لا شعره أيضا من هذا الجنس و لا في هذا المذهب، لأن هذا شعر ضعيف يتبيّن التوليد فيه، و شعره في قصائده الكيسانيّة مباين لهذا جزالة و متانة، و له رونق و معنى ليسا لما يذكر عنه في غيره.
ص: 171
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد الثّماليّ قال حدّثني التّوّزيّ قال قال لي الأصمعيّ :
أحبّ أن تأتيني بشيء من شعر هذا الحميريّ فعل اللّه به و فعل؛ فأتيته بشيء منه؛ فقرأه فقال: قاتله اللّه! ما أطبعه و أسلكه لسبيل الشعراء! و اللّه لو لا ما في شعره من سبّ السّلف لما تقدّمه من طبقته أحد.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:
أتيت أبا عبيدة معمر بن المثنّى يوما و عنده رجل من بني هاشم يقرأ عليه كتابا؛ فلما رآني أطبقه. فقال له أبو عبيدة: إن أبا زيد ليس ممّن يحتشم منه، فأقرأ. فأخذ الكتاب و جعل يقرؤه، فإذا هو شعر السيّد. فجعل أبو عبيدة يعجب منه و يستحسنه. قال أبو زيد: و كان أبو عبيدة يرويه. قال: و سمعت محمد/بن أبي بكر المقدّميّ يقول:
سمعت جعفر(1) بن سليمان الضّبعي ينشد شعر السيّد.
أخبرني ابن دريد قال: سئل أبو عبيدة من أشعر المولّدين ؟ قال: السيّد و بشّار.
و قال الموصليّ حدّثني عمّي قال:
جمعت للسيّد في بني هاشم ألفين و ثلاثمائة قصيدة؛ فخلت أن قد استوعبت شعره، حتى جلس إليّ يوما رجل ذو أطمار رثّة، فسمعني أنشد شيئا من شعره، /فأنشدني له ثلاث قصائد لم تكن عندي. فقلت في نفسي: لو كان هذا يعلم ما عندي كلّه ثم أنشدني بعده ما ليس عندي لكان عجيبا، فكيف و هو لا يعلم و إنما أنشد ما حضره! و عرفت حينئذ أن شعره ليس ممّا يدرك و لا يمكن جمعه كله.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن ابن عائشة قال:
وقف السيّد على بشّار و هو ينشد الشعر؛ فأقبل عليه و قال:
أيّها المادح العباد ليعظى *** إنّ اللّه ما بأيدي العباد
فاسأل اللّه ما طلبت إليهم *** و ارج نفع المنزّل العوّاد
لا تقل في الجواد ما ليس فيه *** و تسمّي البخيل باسم الجواد
قال بشّار: من هذا؟ فعرّفه؛ فقال: لو لا أن هذا الرجل قد شغل عنّا بمدح بني هاشم لشغلنا، و لو شاركنا في مذهبنا لأتعبنا. و روي في هذا الخبر أنّ عمران بن حطّان الشّاري(2) خاطب الفرزدق بهذه المخاطبة و أجابه بهذا الجواب.
ص: 172
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش عن سعيد بن المسيّب عن أبي سعيد السكّريّ عن الطّوسيّ قال: إذا رأيت في شعر السيّد «دع ذا» فدعه؛ فإنه لا يأتي بعده إلا سبّ السّلف أو بليّة من بلاياه.
و روى الحسن بن عليّ بن المعتزّ الكوفيّ عن أبيه عن السيّد قال: رأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في النوم و كأنه(1) في حديقة سبخة(2) فيها نخل طوال و إلى جانبها أرض كأنها/الكافور ليس فيها شيء؛ فقال: أ تدري لمن هذا النخل ؟ قلت:
لا يا رسول اللّه؛ قال: لامرئ القيس بن حجر، فاقلعها و اغرسها في هذه الأرض ففعلت. و أتيت ابن سيرين فقصصت رؤياي عليه؛ فقال: أ تقول الشعر؟ قلت: لا؛ قال: أما إنك ستقول شعرا مثل شعر امرئ القيس إلا أنّك تقوله(3) في قوم بررة أطهار. قال: فما انصرفت إلاّ و أنا أقول الشعر.
قال الحسن و حدّثني غانم الورّاق قال: خرجت إلى بادية البصرة فصرت إلى عمرو بن تميم، فأثبتني بعضهم فقال: هذا الشيخ و اللّه راوية. فجلسوا إليّ و أنسوا بي، و أنشدتهم، و بدأت بشعر ذي الرمّة فعرفوه، و بشعر جرير و الفرزدق فعرفوهما؛ ثم أنشدتهم للسيّد:
أ تعرف رسما بالسّويّين(4) قد دثر *** عفته أهاضيب(5) السحائب و المطر
و جرّت به الأذيال ريحان خلفة *** صبا و دبور بالعشيّات و البكر
منازل قد كانت تكون بجوّها *** هضيم الحشاريّا الشّوى سحرها النظر
قطوف الخطا خمصانة بختريّة(6) *** كأنّ محيّاها سنا دارة القمر
رمتني ببعد بعد قرب بها النّوى *** فبانت و لمّا أقض من عبدة الوطر
و لما رأتني خشية البين موجعا *** أكفكف منّي أدمعا فيضها(7) درر
/أشارت بأطراف إليّ و دمعها *** كنظم جمان خانه السّلك فانتثر
و قد كنت ممّا أحدث البين حاذرا *** فلم يغن عنّي منه خوفي و الحذر
ص: 173
/قال: فجعلوا يمرّقون(1) لإنشادي و يطربون، و قالوا: لمن هذا؟ فأعلمتهم؛ فقالوا: هو و اللّه أحد المطبوعين، لا و اللّه ما بقي في هذا الزمان مثله.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن سعيد الدّمشقيّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال: سمعت عمّي يقول:
لو أنّ قصيدة السيّد التي يقول فيها:
إنّ يوم التطهير يوم عظيم *** خصّ بالفضل فيه أهل الكساء(2)
قرئت على منبر ما كان فيها بأس، و لو أن شعره كلّه كان مثله لرويناه و ما عيّبناه.
و أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا العباس بن ميمون طائع قال حدّثنا نافع عن التّوّزيّ بهذه الحكاية بعينها فإنّه قالها في:
إن يوم التّطهير يوم عظيم
قال: و لم يكن التّوّزيّ متشيّعا.
قال عليّ بن المغيرة حدّثني الحسين بن ثابت قال:
قدم علينا رجل بدويّ و كان أروى الناس لجرير، فكان ينشدني الشيء من شعره، فأنشد في معناه للسيّد حتى أكثرت. فقال لي: ويحك! من هذا؟ هو و اللّه أشعر من صاحبنا.
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ عن ابن عائشة قال:
لمّا استقام الأمر لبني العبّاس قام السيّد إلى أبي العباس السفّاح حين نزل عن المنبر فقال:
دونكموها يا بني هاشم *** فجدّدوا من عهدها(3) الدّراسا
دونكموها لا علا كعب(4) من *** كان عليكم ملكها نافسا
دونكموها فالبسوا تاجها *** لا تعدموا منكم له لابسا
ص: 174
لو خيّر المنبر فرسانه *** ما اختار إلاّ منكم فارسا
قد ساسها قبلكم ساسة *** لم يتركوا رطبا و لا يابسا
و لست من أن تملكوها إلى *** مهبط عيسى فيكم آيسا
فسّر أبو العباس بذلك، و قال له: أحسنت يا إسماعيل! سلني حاجتك؛ قال: تولّي سليمان بن حبيب الأهواز، ففعل.
و ذكر التّميميّ - و هو علي بن إسماعيل - عن أبيه قال: كنت عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمد إذ استأذن آذنه للسيّد، فأمره بإيصاله، و أقعد حرمه خلف ستر. و دخل فسلّم و جلس. فاستنشده فأنشده قوله:
امرر على جدث الحسي *** ن فقل لأعظمه الزكيّه
أ أعظما لا زلت من *** وطفاء(1) ساكبة رويّه
و إذا مررت بقبره *** فأطل به وقف المطيّة
/و ابك المطهّر *** للمطهّر و المطهّرة النّقيّه
كبكاء معولة أتت *** يوما لواحدها المنيّة
قال: فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحدّر على خدّيه، و ارتفع الصّراخ و البكاء من داره، /حتى أمره بالإمساك فأمسك. قال: فحدّثت أبي بذلك لمّا انصرفت؛ فقال لي: و يلي على الكيسانيّ الفاعل ابن الفاعل! يقول:
فإذا مررت بقبره *** فأطل به وقف المطيّة
فقلت: يا أبت، و ما ذا يصنع ؟ قال: أو لا ينحر! أ و لا يقتل نفسه! فثكلته أمّه!.
حدّثني أبو جعفر الأعرج - و هو ابن بنت الفضيل(2) بن بشّار - عن إسماعيل بن الساحر راوية السيّد - و هو الذي يقول فيه السيّد في بعض قصائده:
و إسماعيل يبرز من فلان *** و يزعم أنّه للنّار صالي(3)
قال: تلاحى رجلان من بني عبد اللّه بن دارم في المفاضلة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و آله؛ فرضيا بحكم أوّل من يطلع. فطلع السيّد، فقاما إليه و هما لا يعرفانه، فقال له مفضّل عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه منهما: إني و هذا اختلفنا في خير الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقلت: عليّ بن أبي طالب. فقطع السيّد كلامه ثم قال:
ص: 175
و أيّ شيء قال هذا الآخر ابن الزانية! فضحك من حضر و وجم الرجل و لم يحر جوابا.
و قال التّميميّ و حدّثني أبي قال قال لي فضيل الرسان(1):
/أنشد جعفر بن محمد قصيدة السيّد:
لأمّ عمرو باللّوى مربع *** دارسة أعلامه بلقع
فسمعت النّجيب من داره. فسألني لمن هي، فأخبرته أنها للسيّد، و سألني عنه فعرّفته وفاته؛ فقال: رحمه اللّه. قلت: إنّي رأيته يشرب النبيذ في الرّستاق(2)؛ قال: أ تعني الخمر؟ قلت نعم. قال: و ما خطر ذنب عند اللّه أن يغفره لمحبّ عليّ !.
و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن موسى قال: جاء رجل إلى السيّد فقال: بلغني أنك تقول بالرّجعة(3)؛ فقال: صدق الذي أخبرك، و هذا ديني. قال: أ فتعطيني دينارا(4) بمائة دينار إلى الرّجعة ؟ قال السيّد:
نعم و أكثر من ذلك إن وثّقت لي بأنك ترجع إنسانا. قال: و أيّ شيء أرجع! قال: أخشى أن ترجع كلبا أو خنزيرا فيذهب مالي؛ فأفحمه.
أخبرني(5) الحسن بن عليّ قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال قال جعفر بن عفّان الطائي الشاعر: أهدى إليّ سليمان(6) بن علي مهرا أعجبني و عزمت(7) تربيته. فلما مضت عليّ أشهر عزمت على الحجّ ، ففكّرت في صديق لي أودعه المهر ليقوم عليه، فأجمع رأيي على رجل من أهلي يقال له عمر بن حفص، فصرت إليه فسألته أن/يأمر سائسه بالقيام عليه و خبّرته بمكانه من قلبي؛ و دعا بسائسه فتقدّم إليه في ذلك؛ و وهبت للسائس دراهم و أوصيته به، و مضيت إلى الحجّ . ثم انصرفت و قلبي متعلّق، فبدأت بمنزل عمر بن حفص قبل منزلي لأعرف حال المهر، فإذا هو قد ركب حتى دبر ظهره و عجف من قلّة القيام عليه. فقلت له: يا أبا حفص، أ هكذا أوصيتك من هذا المهر! فقال:
و ما ذنبي! لم ينجع فيه العلف. فانصرفت به و قلت:
ص: 176
من عاذري من أبي حفص وثقت به *** و كان عندي له في نفسه خطر
فلم يكن عند ظنّي في أمانته *** و الظنّ يخلف و الإنسان يختبر
/أضاع مهري و لم يحسن ولايته *** حتى تبيّن فيه الجهد و الضّرر
عاتبته فيه في رفق فقلت له *** يا صاح هل لك من عذر فتعتذر
فقال داء به قدما أضرّ به *** و داؤه الجوع و الإتعاب و السفر
قد كان لي في اسمه عنه و كنيته *** لو كنت معتبرا ناه و معتبر
فكيف ينصحني أو كيف يحفظني *** يوما إذا غبت عنه و اسمه عمر
لو كان لي ولد شتّى لهم عدد *** فيهم سميّوه إن قلّوا و إن كثروا
لم ينصحوا لي و لم يبقوا عليّ و لو *** ساوى عديدهم الحصباء و الشجر
قال و حدّثني أبو سليمان النّاجي قال: جلس المهديّ يوما يعطي قريشا صلات لهم و هو وليّ عهد، فبدأ ببني هاشم ثم بسائر قريش. فجاء السيّد فرفع إلى الرّبيع(1) رقعة مختومة و قال: إن فيها نصيحة للأمير فأوصلها إليه، فأوصلها، فإذا فيها:
/
قل لابن عبّاس سمي محمد *** لا تعطينّ بني عديّ (2) درهما
احرم بني(3) تيم بن مرّة إنهم *** شرّ البريّة آخرا و مقدّما
إن تعطهم لا يشكروا لك نعمة *** و يكافئوك بأن تذمّ و تشتما
و إن ائتمنتهم أو استعملتهم *** خانوك و اتّخذوا خراجك مغنما
و لئن منعتهم لقد بدءوكم *** بالمنع إذ ملكوا و كانوا أظلما
منعوا تراث محمد أعمامه *** و ابنيه و ابنته عديلة مريما(4)
و تأمّروا من غير أن يستخلفوا *** و كفى بما فعلوا هنالك مأثما
لم يشكروا(5) لمحمد إنعامه *** أ فيشكرون لغيره إن أنعما
ص: 177
و اللّه منّ عليهم بمحمد *** و هداهم و كسا الجنوب و أطعما
ثم انبروا لوصيّه و وليّه *** بالمنكرات فجرّعوه العلقما
و هي قصيدة طويلة حذف باقيها لقبح ما فيه. قال: فرمى بها إلى أبي عبيد اللّه(1) ثم قال: اقطع العطاء فقطعه؛ و انصرف الناس؛ و دخل السيّد إليه، فلما رآه ضحك و قال: قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل، و لم يعطهم شيئا.
أخبرني به عمّي عن محمد بن داود بن الجرّاح عن إسحاق النّخعيّ عن أبي سليمان الريّاحيّ (2) مثله.
أخبرني الحسن بن محمد بن الجمهور القمّيّ (3) قال حدّثني أبي قال حدّثني أبو داود المسترق راوية السيّد:
أنه حضر يوما و قد ناظره محمد بن عليّ بن النعمان المعروف بشيطان الطّاق(4) في الإمامة، فغلبه محمد في دفع ابن الحنفيّة عن الإمامة؛ فقال السيّد:
ألا يا أيّها الجدل(5) المعنّي *** لنا، ما نحن ويحك و العناء!
أتبصر ما تقول و أنت كهل *** تراك عليك من ورع رداء(6)
ألا إن الأئمة من قريش *** ولاة الحقّ أربعة سواء
عليّ و الثلاثة(7) من بنيه *** هم أسباطه و الأوصياء
فأنّى في وصيّته إليهم *** يكون الشك منّا و المراء
/بهم(8) أوصاهم و دعا إليه *** جميع الخلق لو سمع الدّعاء
فسبط سبط إيمان و حلم *** و سبط غيّبته كربلاء
سقى جدثا تضمّنه ملثّ *** هتوف الرّعد مرتجز رواء(9)
تظلّ مظلّة منها عزال(10) *** عليه و تغتدي أخرى ملاء
ص: 178
/
و سبط(1) لا يذوق الموت حتى *** يقود الخيل يقدمها اللواء
من البيت المحجّب في سراة *** شراة لفّ بينهم الإخاء
عصائب ليس دون أغرّ أجلى *** بمكة قائم لهم انتهاء
- و هذه الأبيات بعينها تروى لكثيّر - ذكر ذلك ابن أبي سعد فقال و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني إبراهيم بن هاشم العبديّ البصريّ قال:
رأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في المنام و بين يديه السيّد الشاعر و هو ينشد:
أجدّ بآل فاطمة البكور *** فدمع العين منهمر غزير
حتى أنشده إيّاها على آخرها و هو يسمع. قال: فحدّثت هذا الحديث رجلا جمعتني و إياه طوس(2) عند قبر عليّ بن موسى الرّضا، فقال لي: و اللّه لقد كنت على خلاف فرأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في المنام و بين يديه رجل ينشد:
أجدّ بآل فاطمة البكور
إلى آخرها؛ فاستيقظت من نومي و قد رسخ في قلبي من حبّ عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه ما كنت أعتقده.
أخبرني وكيع قال حدّثني إسحاق بن محمد قال حدّثنا أبو سليمان النّاجي و محمد بن حليم(3) الأعرج قالا:
كان السيّد إذا استنشد شيئا من شعره لم يبدأ بشيء إلا بقوله:
أجدّ بآل فاطمة البكور *** فدمع العين منهمر غزير
قال إسحاق: و سمعت العتبيّ يقول: ليس في عصرنا هذا أحسن مذهبا في شعره و لا أنقى ألفاظا من السيّد، ثم قال لبعض من حضر: أنشدنا قصيدته اللاّميّة التي أنشدتناها اليوم؛ فأنشده قوله:
هل عند من أحببت تنويل *** أم لا فإن اللّوم تضليل
أم في الحشى منك جوى باطن(4) *** ليس تداويه الأباطيل
علّقت يا مغرور خدّاعة *** بالوعد منها لك تخييل
ص: 179
ريّا رداح(1) النوم خمصانة *** كأنها أدماء عطبول(2)
يشفيك منها حين تخلو بها *** ضمّ إلى النحر و تقبيل
و ذوق ريق طيّب طعمه *** كأنه بالمسك معلول
في نسوة مثل المها خرّد *** تضيق عنهنّ الخلاخيل
يقول فيها:
أقسم باللّه و آلائه *** و المرء عمّا قال مسئول
إنّ عليّ بن أبي طالب *** على التّقى و البرّ مجبول
/فقال العتبيّ : أحسن و اللّه ما شاء، هذا و اللّه الشعر الذي يهجم على القلب بلا حجاب.
في البيتين الأوّلين من هذه القصيدة لمخارق رمل بالبنصر عن الهشاميّ ، و ذكر حبش أنه للغريض. و فيه لحن لسليمان من كتب بذل غير مجنّس.
أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن داود بن الجرّاح قال حدّثني إسحاق بن محمد النّخعيّ عن عبد الحميد بن عقبة عن إسحاق بن ثابت العطّار قال:
/كنّا كثيرا ما نقول للسيّد: مالك لا تستعمل في شعرك من الغريب ما تسأل عنه كما يفعل الشعراء؟ قال: لأن أقول شعرا قريبا من القلوب يلذّه من سمعه خير من أن أقول شيئا متعقّدا تضلّ فيه الأوهام.
أخبرني أحمد بن عمّار قال أخبرنا يعقوب بن نعيم قال حدّثني إبراهيم بن عبد اللّه الطّلحيّ راوية الشعراء بالكوفة قال حدّثنا أبو مسعود عمرو بن عيسى الرّباح و محمد بن سلمة، يزيد بعضهم على بعض:
أن السيّد لمّا قدم الكوفة أتاه محمد بن سهل راوية الكميت؛ فأقبل عليه السيّد فقال: من الذي يقول:
يعيب عليّ أقوام سفاها *** بأن أرجي(3) أبا حسن عليّا
ص: 180
و إرجائي أبا حسن صواب *** عن العمرين(1) برّا أو شقيّا
فإن قدّمت قوما قال قوم *** أسأت و كنت كذّابا رديّا
إذا أيقنت أنّ اللّه ربّي *** و أرسل أحمدا حقّا نبيا
و أنّ الرّسل قد بعثوا بحق *** و أنّ اللّه كان لهم وليّا
فليس عليّ في الإرجاء بأس *** و لا لبس و لست أخاف شيّا؟
فقال محمد بن سهل: هذا يقوله محارب(2) بن دثار الذّهليّ : فقال السيّد: لا كان اللّه وليّا للعاضّ بظر أمّه! من ينشدنا قصيدة أبي الأسود:
/
أحبّ محمدا حبّا شديدا *** و عبّاسا و حمزة و الوصيّا
فأنشده القصيدة بعض من كان حاضرا؛ فطفق يسبّ محارب بن دثار و يترحّم على أبي الأسود. فبلغ الخبر منصورا النّمريّ فقال: ما كان على أبي هاشم لو هجاه بقصيدة يعارض بها أبياته، ثم قال:
يودّ محارب لو قد رآها *** و أبصرهم حواليها جثيّا
و أنّ لسانه من ناب أفعى *** و ما أرجى أبا حسن عليّا
و أنّ عجوزه مصعت(3) بكلب *** و كان دماء ساقيها جريّا
متى ترجئ أبا حسن عليّا *** فقد أرجيت يا لكع نبيّا
أخبرني محمد بن جعفر النحويّ قال حدّثنا أحمد بن القاسم البزّيّ (4) قال حدّثني إسحاق بن محمد النّخعيّ قال حدّثني إبراهيم بن الحسن الباهليّ قال:
دخلت على جعفر بن سليمان الضّبعيّ و معي أحاديث لأسأله عنها و عنده قوم لم أعرفهم، و كان كثيرا ما ينشد شعر السيّد، فمن أنكره عليه لم يحدّثه؛ فسمعته ينشدهم:
/
ما تعدل الدّنيا جميعا كلّها *** من حوض أحمد شربة من ماء
ثم جاءه خبر فقام. فقلت للذين كانوا عنده: من يقول هذا الشعر؟ قالوا: السيد الحميريّ .
حدّثني عمّي و الكرانيّ قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد عن عبد اللّه بن الحسين عن أبي عمرو الشّيبانيّ عن
ص: 181
الحارث بن صفوان، و أخبرني به الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه:
/أن السيّد كان بالأهواز؛ فمرّت به امرأة من آل الزبير تزفّ إلى إسماعيل بن عبد اللّه بن العباس، و سمع الجلبة فسأل عنها فأخبر بها؛ فقال:
أتتنا تزفّ على بغلة *** و فوق رحالتها قبّة
زبيريّة من بنات الذي(1) *** أحلّ الحرام من الكعبة
تزفّ إلى ملك ماجد *** فلا اجتمعا و بها الوجبه(2)
روى هذا الخبر إسماعيل بن الساحر فقال فيه: فدخلت في طريقها إلى خربة للخلاء، فنهشتها أفعى فماتت؛ فكان السيّد يقول: لحقتها دعوتي.
حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل عن أبي طالب الجعفريّ - و هو محمد بن عبد اللّه بن الحسين بن عبد اللّه بن إسماعيل بن جعفر - قال أخبرني أبي قال:
خرج أهل البصرة يستسقون و خرج فيهم السيّد و عليه ثياب خزّ و جبّة و مطرف و عمامة؛ فجعل يجرّ مطرفه و يقول:
اهبط إلى الأرض فخذ جلمدا *** ثم ارمهم يا مزن بالجلمد
لا تسقهم من سبل قطرة *** فإنهم حرب بني أحمد
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا محمد بن إسحاق البغويّ قال حدّثنا الحرمازيّ قال حدّثني رجل قال:
/كنت أختلف إلى ابني قيس، و كانا يرويان عن الحسن؛ فلقيني السيّد يوما و أنا منصرف من عندهما، فقال:
أرني ألواحك أكتب فيها شيئا و إلا أخذتها فمحوت ما فيها. فأعطيته ألواحي فكتب فيها:
لشربة من سويق عند مسغبة *** و أكلة من ثريد لحمه واري
أشدّ ممّا روى حبّا إليّ بنو *** قيس و ممّا روى صلت(3) بن دينار
ممّا رواه فلان عن فلانهم *** ذاك الذي كان يدعوهم إلى النار
ص: 182
أخبرني أحمد بن عليّ الخفّاف قال حدّثني أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل(1) بن إبراهيم بن حسن بن طباطبا قال: سمعت زيد بن موسى بن جعفر يقول:
رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في النوم و قدّامه رجل جالس عليه ثياب بيض؛ فنظرت إليه فلم أعرفه، إذ التفت إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: يا سيّد، أنشدني قولك:
لأمّ عمرو في اللّوى مربع
فأنشده إيّاها كلّها ما غادر منها بيتا واحدا، فحفظتها عنه كلّها في النوم. قال أبو إسماعيل: و كان زيد بن موسى لحّانة رديء الإنشاد، فكان إذا أنشد(2) هذه القصيدة لم يتتعتع(3) فيها و لم يلحن.
و قال(4) محمد بن داود بن الجرّاح في روايته عن/إسحاق النّخعيّ حدّثني عبد الرحمن بن محمد الكوفيّ عن عليّ بن إسماعيل الهيثميّ عن فضيل الرسان قال:
/دخلت على جعفر بن محمد أعزّيه عن عمّه زيد، ثم قلت له: أ لا أنشدك شعر السيّد؟ فقال: أنشد؛ فأنشدته قصيدة يقول فيها:
فالناس يوم البعث راياتهم *** خمس فمنها هالك أربع
قائدها العجل و فرعونهم *** و سامريّ الأمّة المفظع
و مارق من دينه مخرج *** أسود عبد لكع أوكع(5)
و راية قائدها وجهه *** كأنه الشمس إذا تطلع
فسمعت مجيبا من وراء الستور فقال: من قائل هذا الشعر؟ فقلت: السيّد! فقال: رحمه اللّه. فقلت: جعلت فداك! إني رأيته يشرب الخمر. فقال: رحمه اللّه! فما ذنب على اللّه أن يغفره لآل عليّ ! إن محبّ عليّ لا تزلّ له قدم إلا تثبت له أخرى.
حدّثني الأخفش عن أبي العيناء عن عليّ بن الحسن بن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جعفر بن محمد أنه ذكر السيّد فترحّم عليه و قال:
إن زلّت له قدم فقد ثبتت الأخرى.
ص: 183
نسخت من كتاب الشّاهيني حدّثني محمد بن سهل الحميريّ عن أبيه قال:
انحدر السيّد الحميريّ في سفينة إلى الأهواز، فماراه رجل في تفضيل عليّ و باهله(1) على ذلك. فلما كان(2)الليل قام الرجل ليبول على حرف السفينة، فدفعه السيّد فغرّقه؛ فصاح الملاحون: غرق و اللّه الرجل! فقال السيّد:
دعوه فإنّه باهليّ (3).
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثني التّوّزيّ قال:
جلس السيّد يوما إلى قوم، فجعل ينشدهم و هم يلغطون؛ فقال:
قد ضيّع اللّه ما جمّعت من أدب *** بين الحمير و بين الشّاء و البقر
لا يسمعون إلى قول أجيء به *** و كيف تستمع الأنعام للبشر
أقول ما سكتوا انس فإن نطقوا *** قلت الضفادع بين الماء و الشجر
أخبرني محمد بن جعفر النّحويّ قال حدّثنا أحمد بن القاسم البزّيّ قال حدّثنا إسحاق بن محمد النّخعيّ عن محمد بن الرّبيع عن(4) سويد بن حمدان بن الحصين قال:
كان السيّد يختلف إلينا و يغشانا، فقام من عندنا ذات يوم، فخلفه(5) رجل و قال: لكم شرف و قدر عند السلطان، فلا تجالسوا هذا فإنّه مشهور بشرب الخمر و شتم السلف. فبلغ ذلك السيّد فكتب إليه:
وصفت لك الحوض يا ابن الحصين *** على صفة الحارث الأعور(6)
فإن تسق منه غدا شربة *** تفز من نصيبك بالأوفر
فما لي ذنب سوى أنّني *** ذكرت الذي(7) فرّ عن خيبر
ص: 184
/
ذكرت امرأ فرّ عن مرحب(1)*** فرار الحمار من القسور(2)
فأنكر ذاك جليس لكم *** زنيم أخو خلق أعور
لحاني بحبّ إمام الهدى *** و فاروق(3) أمّتنا الأكبر
/سأحلق لحيته إنها *** شهود على الزّور و المنكر
قال: فهجر و اللّه مشايخنا جميعا ذلك الرجل و لزموا محبّة السيّد و مجالسته.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن زكريا الغلابيّ قال حدّثنا مهديّ بن سابق.
أن السيّد تقدّم إلى سوّار(4) القاضي ليشهد عنده، و قد كان دافع(5) المشهود له بذلك و قال: أعفني من الشهادة عند سوّار، و بذل له مالا فلم يعفه. فلما تقدّم إلى سوّار فشهد قال(6): أ لست المعروف بالسيّد! قال: بلى؛ قال:
استغفر اللّه من ذنب تجرّأت به على الشهادة عندي، قم لا أرضى بك. فقام مغضبا من مجلسه و كتب إلى سوّار رقعة فيها يقول:
إن سوّار بن عبد الل *** ه من شرّ القضاة
فلما قرأها سوّار وثب عن مجلسه و قصد أبا جعفر المنصور و هو يومئذ نازل بالجسر، فسبقه السيّد إليه فأنشده:
/
قل للإمام الذي ينجى بطاعته *** يوم القيامة من بحبوحة(7) النار
لا تستعينن جزاك اللّه صالحة *** يا خير من دبّ في حكم بسوّار
لا تستعن بخبيث الرأي ذي صلف *** جمّ العيوب عظيم الكبر جبّار
تضحي الخصوم لديه من تجبّره *** لا يرفعون إليه لحظ أبصار
تيها و كبرا و لو لا ما رفعت له *** من ضبعه(8) كان عين الجائع العاري
ص: 185
و دخل سوّار؛ فلما رآه المنصور تبسّم و قال: أ ما بلغك خبر إياس(1) بن معاوية حيث قبل شهادة الفرزدق و استزاد في الشهود! فما أحوجك للتعريض للسيد و لسانه! ثم أمر السيّد بمصالحته.
و قال إسحاق بن محمد النّخعيّ حدّثني عبد اللّه بن محمد الجعفريّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه الحميريّ قال:
دخل السيّد علي المهديّ لمّا بايع لابنيه موسى و هارون، فأنشأ يقول:
ما بال مجرى دمعك الساجم *** أ من قذى بات بها لازم
أم من هوّى أنت له ساهر *** صبابة من قلبك الهائم
/آليت لا أمدح ذا نائل *** من معشر غير بني هاشم
أولتهم عندي يد المصطفى *** ذي الفضل و المنّ أبي القاسم
فإنها بيضاء محمودة *** جزاؤها الشّكر على العالم
جزاؤها حفظ أبي جعفر *** خليفة الرحمن و القائم
و طاعة المهديّ ثم ابنه *** موسى علي ذي الإربة الحازم
و للرشيد الرّابع المرتضى *** مفترض من حقّه اللاّزم
ملكهم خمسون معدودة *** برغم أنف الحاسد الرّاغم
ليس علينا ما بقوا غيرهم *** في هذه الأمّة من حاكم
حتى يردّوها إلى هابط *** عليه عيسى منهم ناجم
/و قال عليّ بن المغيرة حدّثني عليّ بن عبد اللّه بن السّدوسيّ عن المدائنيّ قال:
كان السيّد يأتي الأعمش(2) فيكتب عنه فضائل عليّ رضي اللّه عنه و يخرج من عنده و يقول في تلك المعاني
ص: 186
شعرا. فخرج ذات يوم من عند بعض أمراء الكوفة و قد حمله على فرس و خلع عليه؛ فوقف بالكناسة(1) ثم قال:
يا معشر الكوفيّين، من جاءني منكم بفضيلة لعليّ بن أبي طالب لم أقل فيها شعرا أعطيته فرسي هذا و ما عليّ .
فجعلوا يحدّثونه و ينشدهم؛ حتى أتاه رجل منهم و قال:
إن أمير المؤمنين/عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه عزم على الركوب؛ فلبس ثيابه و أراد لبس الخفّ فلبس أحد خفّيه، ثم أهوى إلى الآخر ليأخذه فانقضّ عقاب من السماء فحلّق به ثم ألقاه فسقط منه أسود(2) و انساب فدخل جحرا؛ فلبس عليّ رضي اللّه عنه الخفّ . قال: و لم يكن قال في ذلك شيئا؛ ففكّر هنيهة ثم قال:
ألا يا قوم للعجب العجاب *** لخفّ أبي الحسين و للحباب(3)
أتى خفّا له و انساب فيه *** لينهش رجله منه بناب
فخرّ من السماء له عقاب *** من العقبان أو شبه العقاب
فطار به فحلّق ثم أهوى *** به للأرض من دون السّحاب
إلى جحر له فانساب فيه *** بعيد القعر لم يرتج بباب
كريه الوجه أسود ذو بصيص *** حديد النّاب أزرق ذو لعاب
و دوفع عن أبي حسن عليّ *** نقيع سمامه بعد انسياب
ثم حرّك فرسه و مضى و جعل تشبيبها بعد ذلك:
صبوت إلى سليمى و الرّباب *** و ما لأخي المشيب و للتّصابي
أخبرني أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد قال حدّثني عبد اللّه بن أحمد بن مستورد قال:
وقف السيّد يوما بالكوفة، فقال: من أتاني بفضيلة لعليّ بن أبي طالب ما قلت فيها شعرا فله دينار، و ذكر باقي الحديث. فأما العقاب الذي(4) انقضّ على خفّ عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه فحدّثني بخبره أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد الهمدانيّ قال/حدّثني جعفر بن علي بن نجيح قال حدّثنا أبو عبد الرحمن المسعوديّ عن أبي داود الطّهويّ عن أبي الزّعل المراديّ (5) قال:
قام عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه فتطهّر للصلاة، ثم نزع خفّه فانساب فيه أفعى، فلما عاد ليلبسه انقضّت عقاب فأخذته فحلّقت به ثم ألقته فخرج الأفعى منه. و قد روي مثل هذا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
حدّثني به أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد قال حدّثني محمد بن عبيد بن عقبة قال حدّثنا محمد بن الصّلت
ص: 187
قال حدّثنا حيّان بن علي عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال:
كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إذا أراد حاجة تباعد حتى لا يراه أحد، فنزع خفّه فإذا عقاب قد تدلّى فرفعه فسقط منه أسود سالخ. فكان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من شرّ ما يمشي على بطنه و من شرّ ما يمشي على رجليه و من شرّ ما يمشي على أربع و من شرّ الجن و الإنس».
قال أبو سعيد و حدّثنا/محمد بن إسماعيل الرّاشديّ قال حدّثنا عثمان بن سعيد قال حدّثنا حيّان بن علي عن سعد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس مثله.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا حاتم بن قبيصة قال:
سمع السيّد محدّثا يحدّث أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان ساجدا، فركب الحسن و الحسين على ظهره؛ فقال عمر رضي اللّه عنه: نعم المطيّ مطيّكما! فقال/النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «و نعم الراكبان هما». فانصرف السيّد من فوره فقال في ذلك:
أتى حسنا و الحسين النبيّ *** و قد جلسا حجرة(1) يلعبان
ففدّاهما ثم حيّاهما *** و كانا لديه بذاك المكان
فراحا و تحتهما عاتقاه *** فنعم المطيّة و الراكبان
وليدان أمّهما برّة *** حصان مطهّرة للحصان
و شيخهما(2) ابن أبي طالب *** فنعم الوليدان و الوالدان
خليليّ لا ترجيا و اعلما *** بأن الهدى غير ما تزعمان
و أنّ عمى الشكّ بعد اليقين *** و ضعف البصيرة بعد العيان
ضلال فلا تلججا فيهما *** فبئست لعمركما الخصلتان
أ يرجى عليّ إمام الهدى *** و عثمان ما أعند المرجيان(3)
و يرجى ابن حرب(4) و أشياعه *** و هوج الخوارج(5) بالنّهروان
ص: 188
يكون إمامهم في المعاد *** خبيث الهوى مؤمن الشّيصبان(1)
و ذكر(2) إسماعيل بن السّاحر قال أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني محمد عن أبيه قال حدّثني أبي و عمّي عن أحمد بن إبراهيم بن سليمان بن يعقوب بن سعيد بن عمرو قال حدّثنا الحارث بن عبد المطّلب قال:
كنت جالسا في مجلس أبي جعفر المنصور و هو بالجسر و هو قاعد مع جماعة على دجلة بالبصرة و سوّار بن عبد اللّه العنبريّ (3) قاضي البصرة جالس عنده و السيّد بن محمد بين يديه ينشد قوله:
إن الإله الذي لا شيء يشبهه *** أعطاكم الملك للدّنيا و للدّين
أعطاكم اللّه ملكا لا زوال له *** حتى يقاد إليكم صاحب الصّين
و صاحب الهند مأخوذا برمّته *** و صاحب التّرك محبوسا على هون
و المنصور يضحك سرورا بما ينشده؛ فحانت منه التفاتة فرأى وجه سوّار يتربّد غيظا و يسودّ حنقا و يدلك إحدى يديه بالأخرى و يتحرّق؛ فقال له المنصور: مالك! أرابك شيء؟ قال: نعم، هذا الرجل يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه، و اللّه يا أمير المؤمنين ما صدقك ما في نفسه، و إن الذين يواليهم لغيركم. فقال المنصور: مهلا! هذا شاعرنا و وليّنا، و ما عرفت منه إلا صدق محبّة و إخلاص نيّة. فقال له السيّد: يا أمير المؤمنين، و اللّه ما تحمّلت غضّكم لأحد، و ما وجدت أبويّ عليه فافتتنت بهما، و ما زلت مشهورا بموالاتكم في أيام عدوّكم. فقال له:
صدقت. قال: و لكن/هذا و أهلوه أعداء اللّه و رسوله قديما و الذين نادوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من وراء الحجرات(4)، فنزلت فيهم آية من القرآن أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ . و جرى بينهما خطاب طويل. فقال السيّد قصيدته التي أوّلها:
قف(5) بنا يا صاح و اربع *** بالمغاني الموحشات
أنشدها أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار [عن](6) النّوفليّ ، و أخبرنا محمد بخبره مع سوّار بالقصّة من هاهنا إلى آخرها؛ و قال فيها:
ص: 189
يا أمين اللّه يا من *** صور يا خير الولاة
إنّ سوّار بن عبد *** اللّه من شرّ القضاة
نعثليّ (1) جمليّ (2) *** لكم غير موات
جدّه سارق عنز(3) *** فجرة من فجرات
لرسول اللّه و القا *** ذفة بالمنكرات
و ابن من كان ينادي *** من وراء الحجرات
/يا هناة(4) اخرج إلينا *** إننا أهل هنات
مدحنا المدح و من نر *** م يصب بالزّفرات
فاكفينه لا كفاه اللّه *** شرّ الطارقات
فشكاه سوّار إلى أبي جعفر، فأمره بأن يصير إليه معتذرا؛ ففعل فلم يعذره؛ فقال:
أتيت دعيّ بني العنبر *** أروم اعتذارا فلم أعذر
فقلت لنفسي و عاتبتها *** على اللؤم في فعلها أقصري
أ يعتذر الحرّ مما أتى *** إلى رجل من بني العنبر
أبوك ابن سارق عنز النبي *** و أمّك بنت أبي جحدر
و نحن على رغمك الرّافضو *** ن لأهل الضّلالة و المنكر
قال: و بلغ السيّد أن سوّارا قد أعدّ جماعة يشهدون عليه بسرقة ليقطعه؛ فشكاه إلى أبي جعفر؛ فدعا بسوّار و قال له: قد عزلتك عن الحكم للسيّد أو عليه. فما تعرّض له بسوء حتى مات.
و روى عبد اللّه بن أبي بكر العتكيّ أن أبا الخلاّل العتكيّ دخل على عقبة(5) بن سلّم و السيّد عنده و قد أمر له
ص: 190
بجائزة، و كان أبو الخلاّل شيخ العشيرة و كبيرها، فقال له: أيها الأمير، أ تعطي هذه العطايا رجلا ما يفتر عن سبّ أبي بكر و عمر!. فقال له عقبة: ما علمت ذاك و لا أعطيته إلاّ على العشرة و المودّة القديمة و ما يوجبه حقّه و جواره مع ما هو عليه من موالاة قوم يلزمنا حقّهم و رعايتهم. فقال له أبو الخلاّل: فمره إن/كان صادقا أن يمدح أبا بكر و عمر حتى نعرف براءته مما ينسب إليه من الرّفض(1). فقال: قد سمعك، فإن شاء فعل. فقال السيّد:
إذا أنا لم أحفظ وصاة محمد *** و لا عهده يوم الغدير(2) المؤكدا
/فإنّي كمن يشري الضّلالة بالهدى *** تنصّر من بعد التّقى و تهوّدا
و ما لي و تيم أو عديّ و إنما *** أو لو نعمتي في اللّه من آل أحمدا
تتمّ صلاتي بالصلاة عليهم *** و ليست صلاتي بعد أن أتشهّدا
بكاملة إن لم أصلّ عليهم *** و أدع لهم ربّا كريما ممجّدا
بذلت لهم ودّي و نصحي و نصرتي *** مدى الدهر ما سمّيت يا صاح سيّدا
و إنّ امرأ يلحى على صدق ودّهم *** أحقّ و أولى فيهم أن يفنّدا
فإن شئت فاختر عاجل الغمّ صلة(3) *** و إلاّ فأمسك كي تصان و تحمدا
ثم نهض مغضبا. فقام أبو الخلاّل إلى عقبة فقال: أعذني من شرّه أعاذك اللّه من السوء أيها الأمير؛ قال: قد فعلت على ألاّ تعرض له بعدها.
و ممّا يحكى عنه أنه اجتمع في طريقه بامرأة تميميّة إباضيّة، فأعجبها و قالت: أريد أن أتزوّج بك و نحن على ظهر الطريق. قال: يكون كنكاح أمّ خارجة(4) قبل حضور وليّ و شهود. فاستضحكت و قالت: ننظر في هذا؛ و على ذلك فمن أنت ؟ فقال:
ص: 191
إن تسأليني بقومي تسألي رجلا *** في ذروة العزّ من أحياء ذي يمن
حولي بها ذو كلاع(1) في منازلها *** و ذو رعين(2) و همدان(3) و ذو يزن(4)
/و الأزد أزد [عمان](5) الأكرمون إذا *** عدّت مآثرهم في سالف الزمن
بانت كريمتهم(6) عنّي فدارهم *** داري و في الرّحب من أوطانهم وطني
لي منزلان بلحج(7) منزل وسط(8) *** منها و لي منزل للعزّ في عدن
ثمّ الولاء الذي أرجو النجاة(9) به *** من كبّة النار للهادي أبي حسن
فقالت: قد عرفناك، و لا شيء أعجب من هذا: يمان و تميميّة، و رافضيّ و إباضيّة، فكيف يجتمعان!. فقال:
بحسن رأيك فيّ تسخو نفسك، و لا يذكر أحدنا سلفا و لا مذهبا. قالت: أ فليس التزويج إذا علم انكشف معه المستور، و ظهرت خفيّات الأمور!. قال: فأنا أعرض عليك أخرى. قالت: ما هي ؟ قال: المتعة(10) التي لا يعلم بها
ص: 192
أحد. قالت: تلك أخت الزّنا. قال: أعيذك باللّه أن تكفري بالقرآن بعد الإيمان!. قالت: فكيف ؟ قال: قال اللّه تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ .
فقالت: أستخير(1) اللّه و أقلّدك أن(2) كنت صاحب قياس. ففعلت(3). فانصرفت معه و بات معرسا بها. و بلغ أهلها من الخوارج أمرها، فتوعّدوها بالقتل و قالوا: /تزوّجت بكافر! فجحدت ذلك و لم يعلموا بالمتعة. فكانت مدّة تختلف إليه على هذه السبيل من المتعة و تواصله حتى افترقا.
و قال الحسن بن علي بن المغيرة حدّثني أبي قال:
كنت مع السيّد على باب عقبة بن سلّم و معنا ابن لسليمان(4) بن عليّ ننتظره و قد أسرج له ليركب، إذ قال ابن سليمان بن عليّ يعرّض بالسيّد: أشعر الناس و اللّه الذي يقول:
محمد خير من يمشي على قدم *** و صاحباه و عثمان بن عفّانا
فوثب السيّد و قال: أشعر و اللّه منه الذي يقول:
/
سائل قريشا إذا ما كنت ذا عمه *** من كان أثبتها في الدّين أوتادا
من كان أعلمها علما و أحلمها *** حلما و أصدقها قولا و ميعادا
إن يصدقوك فلن يعدوا أبا حسن *** إن أنت لم تلق للأبرار حسّادا
ثم أقبل على الهاشميّ فقال: يا فتى، نعم الخلف أنت لشرف سلفك! أراك تهدم شرفك، و تثلب(5) سلفك، و تسعى بالعداوة على أهلك، و تفضّل من ليس أصلك من أصله على من فضلك من فضله؛ و سأخبر أمير المؤمنين عنك بذا حتى يضعك. فوثب الفتى خجلا و لم ينتظر عقبة بن سلّم. و كتب إليه صاحب خبره بما جرى عند الرّكوبة حتى خرجت الجائزة للسيّد.
أخبرني محمد بن جعفر النّحويّ قال حدّثنا ابن القاسم البزّيّ عن إسحاق بن محمد النّخعيّ عن عقبة بن مالك الدّيلي عن الحسن بن عليّ بن أبي حرب بن أبي الأسود الدّؤليّ قال:
/كنّا جلوسا عند أبي عمرو بن العلاء، فتذاكرنا السيّد، فجاء فجلس، و خضنا في ذكر الزرع و النخل ساعة فنهض. فقلنا: يا أبا هاشم، ممّ القيام ؟ فقال:
ص: 193
إني لأكره أن أطيل بمجلس *** لا ذكر فيه لفضل آل محمد
لا ذكر فيه لأحمد و وصيّه *** و بنيه ذلك مجلس نطف(1) ردي
إن الذي ينساهم في مجلس *** حتّى يفارقه لغير مسدّد
و روى أبو سليمان النّاجي: أن السيّد قدم الأهواز و أبو بجير بن سماك الأسديّ يتولاّها، و كان له صديقا.
و كان لأبي بجير مولى يقال له يزيد بن مذعور يحفظ شعر السيد ينشده أبا بجير، و كان أبو بجير يتشيّع. فذهب السيّد إلى قوم من إخوانه بالأهواز فنزل بهم و شرب عندهم؛ فلما أمسى انصرف، فأخذه العسس فحبس. فكتب من غده بهذه الأبيات و بعث بها إلى يزيد بن مذعور. فدخل على أبي بجير و قال: قد جنى عليك صاحب عسسك ما لا قوام لك به. قال: و ما ذلك ؟ قال: اسمع هذه الأبيات، كتبها السيّد من الحبس؛ فأنشده يقول:
قف بالدّيار و حيّها يا مربع *** و اسأل و كيف يجيب من لا يسمع
إنّ الدّيار خلت و ليس بجوّها *** إلاّ الضّوابح(2) و الحمام الوقّع
و لقد تكون بها أوانس كالدّمى *** جمل و عزّة و الرّباب و بوزع
حور نواعم لا ترى في مثلها *** أمثالهن من الصيانة أربع
فعرين(3) بعد تألّف و تجمّع *** و الدّهر - صاح - مشتّت ما تجمع
/فاسلم فإنّك قد نزلت بمنزل *** عند الأمير تضرّ فيه و تنفع
تؤتى هواك إذا نطقت بحاجة *** فيه و تشفع عنده فيشفّع
قل للأمير إذا ظفرت بخلوة *** منه و لم يك عنده من يسمع
هب لي الذي أحببته في أحمد *** و بنيه إنك حاصد ما تزرع
يختصّ آل محمد بمحبّة *** في الصدر قد طويت عليها الأضلع(4)
/في هذا الغناء لسعيد.
و حكى ابن الساحر: أنّ السيّد دعي لشهادة عند سوّار القاضي؛ فقال لصاحب الدّعوى: أعفني من الشهادة عند سوّار؛ فلم يعفه صاحبها منها و طالبه بإقامتها عند سوّار. فلما حضر عنده و شهد قال له: أ لم أعرفك و تعرفني!
ص: 194
و كيف مع معرفتك بي تقدم على الشهادة عندي! فقال له: إني تخوّفت إكراهه، و لقد افتديت شهادتي عندك بمال فلم يقبل منّي فأقمتها(1)؛ فلا يقبل اللّه لك صرفا و لا عدلا إن قبلتها، و قام من عنده؛ و لم يقدر سوّار له على شيء لما تقدّم به المنصور إليه في أمره، و اغتاظ غيظا شديدا و انصرف من مجلسه فلم يقض يومئذ بين اثنين. ثم إن سوّارا اعتلّ علّته التي مات فيها فلم يقدر السيّد على هجائه في حياته لنهي المنصور إيّاه عن ذلك. و مات سوّار فأخرج عشيّا و حفر له، فوقع الحفر في موضع كنيف. و كان بين الأزد و بين تميم عداوة، فمات عقب(2) موته عبّاد بن حبيب بن المهلّب؛ فهجا السيّد سوّارا في قصيدة رثى بها عبّادا و دفعها إلى نوائح الأزد لما بينهم و بين تميم من العداوة و لقربهم من دار سوّار ينحن(3) بها، و أوّلها:
/
يا من غدا حاملا جثمان سوّار *** من داره طاعنا منها إلى النار
لا قدّس اللّه روحا كان هيكلها *** فقد مضت بعظيم الخزي و العار
حتى هوت قعر برهوت(4) معذّبة *** و جسمه في كنيف بين أقذار
لقد رأيت من الرحمن معجبة *** فيه و أحكامه تجري بمقدار
فاذهب عليك من الرحمن بهلته(5)*** يا شرّ حيّ براه الخالق الباري
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عليّ بن محمد البقّال قال حدّثنا شيبان بن محمد الحرّاني - و كان يلقّب بعوضة و صار من سادات الأزد - قال:
كان السيّد جاري، و كان أدلم(6)، و كان ينادم فتيانا من فتيان الحيّ فيهم فتى مثله أدلم غليظ الأنف و الشّفتين مزنّج الخلقة. و كان السيّد من أنتن الناس إبطين. و كانا يتمازحان، فيقول له السيّد: أنت زنجيّ الأنف و الشّفتين، و يقول الفتى للسيّد: أنت زنجيّ اللون و الإبطين. فقال السيّد:
أعارك يوم بعناه رباح(7) *** مشافره و أنفك ذا القبيحا
و كانت حصّتي إبطيّ منه *** و لونا حالكا أمسى فضوحا
فهل لك في مبادلتيك إبطي *** بأنفك تحمد البيع الرّبيحا
فإنّك أقبح الفتيان أنفا *** و إبطي أنتن الآباط ريحا
ص: 195
أخبرني أحمد قال حدّثني شيبان قال:
مات(1) منّا رجل موسر و خلّف ابنا له فورث ماله و أتلفه بالإسراف، و أقبل على الفساد و اللهو، و قد تزوّج امرأة تسمّى ليلى، و اجتمع على السيّد و كان من أظرف/الناس، و كان الفتى لا يصبر عنه، و أنفق عليه مالا كثيرا؛ و كانت ليلى تعذله على إسرافه و تقول له: كأني بك قد افتقرت فلم يغن عنك شيئا. فهجاها السيّد. و كان/ممّا قال فيها:
أقول يا ليت ليلي في يدي حنق *** من العداوة من أعدى أعاديها
يعلو بها فوق رعن ثم يحدرها *** في هوّة فتدهدى يومها فيها
أوليتها في عمار البحر قد عصفت *** فيه الرّياح فهاجت من أواذيها(2)
أوليتها قرنت(3) يوما إلى فرسي(4) *** قد شدّ منها إلى هاديه(5) هاديها
حتى يرى لحمها من حضره زيما(6) *** و قد أتى القوم بعد الموت(7) ناعيها
فمن بكاها فلا جفّت مدامعه *** لا أسخن اللّه إلاّ عين باكيها
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني إسحاق بن محمد النّخعيّ و عبد الحميد بن عقبة قالا حدّثنا الحسن بن عليّ بن المغيرة الكسلان عن محمد بن كناسة قال:
أهدى بعض ولاة الكوفة إلى السيّد رداء عدنيّا؛ فكتب إليه السيّد فقال:
و قد أتانا رداء من هديّتكم *** فلا عدمتك طول الدهر من وال
هو الجمال جزاك اللّه صالحة *** لو أنّه كان موصولا بسربال
فبعث إليه بخلعة تامّة و فرس جواد و قال: يقطع عتاب أبي هاشم و استزادته إيانا.
حدّثني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ عن بعض البصريّين عن سليمان بن أرقم قال:
كنت مع السيّد، فمرّ بقاصّ على باب أبي سفيان بن العلاء و هو يقول: يوزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوم القيامة في كفّة
ص: 196
بأمّته أجمع فيرجح بهم، ثم يؤتى بفلان فيوزن بهم فيرجح ثم يؤتى بفلان فيوزن بهم فيرجح. فأقبل على أبي سفيان فقال: لعمري إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليرجح على أمته في الفضل، و الحديث حقّ ؛ و إنما رجح الآخران الناس في سيئاتهم؛ لأنّ من سنّ سنّة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها و وزر من عمل بها. قال: فما أجابه أحد. فمضى فلم يبق أحد من القوم إلاّ سبّه.
و قال أبو جعفر الأعرج حدّثني إسماعيل بن السّاحر قال:
خرجت من منزل نصر بن مسعود أنا و كاتب(1) عقبة بن سلّم و السيّد و نحن سكارى. فلما كنّا بزهران لقيتنا بنت الفجاءة بن عمرو بن قطريّ بن الفجاءة، و كانت امرأة برزة حسناء فصيحة، فواقفها السيّد و تخاطب عليها و أنشدها من شعره(2) بتجميش، فأعجب كلّ واحد منهما صاحبه. فقال السيّد(3):
من ناكثين و قاسطين الأروع(4) *** حول الأمين و قال هات ليسمعوا
قم يا ابن مذعور فأنشد نكّسوا *** خضع الرّقاب بأعين لا ترفع
لو لا حذار أبي بجير أظهروا *** شنآنهم و تفرّقوا و تصدّعوا
لا تجزعوا فلقد صبرنا فاصبروا *** سبعين عاما و الأنوف تجدّع
/إذ لا يزال يقوم كلّ عروبة(5) *** منكم بصاحبنا خطيب مصقع
مسحنفر(6) في غيّه متتايع(7) *** في الشّتم مثّله بخيل(8) يسجع
/ليسرّ مخلوقا و يسخط خالقا *** إن الشقيّ بكلّ شرّ مولع
فلما سمعها أبو بجير دعا صاحب عسسه فشتمه و قال: جنيت عليّ ما لا يد لي به؛ اذهب صاغرا إلى الحبس و قل: أيّكم أبو هاشم؛ فإذا أجابك فأخرجه و احمله على دابّتك و امش معه صاغرا حتى تأتيني به ففعل. فأبى السيّد و لم يجبه إلى الخروج إلا بعد أن يطلق له كلّ من أخذ معه. فرجع إلى أبي بجير فأخبره، فقال: الحمد للّه الذي لم يقل أخرجهم و أعط كلّ واحد منهم مالا، فما كنّا نقدر على خلافه؛ افعل ما أحبّ برغم أنفك الآن. فمضى فخلّى سبيله و سبيل كلّ من كان معه ممّن أخذ في تلك الليلة، و أتى به إلى أبي بجير. فتناوله بلسانه و قال: قدمت علينا
ص: 197
فلم تأتنا و أتيت بعض أصحابك(1) الفسّاق و شربت ما حرّم عليك حتى جرى ما جرى؛ فاعتذر من ذلك إليه؛ فأمر له أبو بجير بجائزة سنيّة و حمله و أقام عنده مدّة.
قال النّوفليّ و حدّثني أبي: أنّ جماعة من أهل الثغور قدموا على أبي بجير بتسبيب بهم(2) فأطلقهم، ثم جاءوه فعاتبوه على التشيّع و سألوه الرجوع؛ فغضب من ذلك و دعا بمولاه يزيد بن مذعور فقال: أنشدني ويلك لأبي هاشم.
فأنشده قوله:
يا صاحبيّ لدمنتين عفاهما *** مرّ الرّياح عليهما فمحاهما
حتى فرغ. ثم قال: هات النّونيّة؛ فأنشده:
يا صاحبيّ تروّحا و ذراني *** ليس الخليّ كمسعر الأحزان
/فلما فرغ قال: أنشدني الدمّاغة الرائيّة، فأنشده إيّاها. فلما فرغ أقبل عليه الثّغريّون فقالوا له: ما أعتبتنا فيما عاتبناك عليه. فقال: يا حمير! هل في الجواب أكثر مما سمعتم! و اللّه لو لا أنّي لا أعلم كيف يقع فعلي من أمير المؤمنين لضربت أعناقكم! قوموا إلى غير حفظ اللّه فقاموا. و بلغ السيّد الخبر فقال:
إذا قال الأمير أبو بجير *** أخو أسد لمنشده يزيدا
طربت إلى الكرام فهات فيهم *** مديحا من مديحك أو نشيدا
رأيت لمن بحضرته وجوها *** من الشّكّاك و المرجين سودا
كأنّ يزيد ينشد بامتداح *** أبا حسن نصارى أو يهودا
و روى أبو داود المسترق: أنّ السيّد و العبديّ اجتمعا؛ فأنشد السيّد:
إني أدين بما دان الوصيّ به *** يوم الخريبة(3) من قتل المحلّينا
و بالذي دان يوم النهروان به *** و شاركت كفّه كفّي بصفّينا
فقال له العبديّ : أخطأت، لو شاركت كفّك كفّه كنت مثله؛ و لكن قل: تابعت كفّي كفّه لتكون تابعا لا شريكا. فكان السيّد بعد ذلك يقول: أنا أشعر الناس إلاّ العبديّ .
و قال إسحاق النّخعي عن عبد الحميد بن عقبة عن أبي جعفر الأعرج عن إسماعيل بن السّاحر قال:
ص: 198
كنت مع السيّد و قد اكترينا سفينة إلى الأهواز؛ فجلس فيها معنا قوم شراة، فجعلوا ينالون من عثمان. فأخرج السيّد رأسه إليهم و قال:
/
شفيت من نعثل في نحت أثلته(1)*** فاعمد هديت إلى نحت الغويّين
اعمد(2) هديت إلى نحت اللّذين هما *** كانا عن الشرّ لو شاء اغنيّين
قال إسماعيل: فلما قدمنا الأهواز قدم السيّد و قد سكر، فأتي به أبا بجير بن سماك الأسديّ ؛ و كان ابن النّجاشيّ عند ابن سماك بعد العشاء الآخرة، و كان(3) يعرفه باسمه و لم يعرفه. فقال له: يا شيخ السّوء، تخرج سكران في هذا الوقت! لأحسننّ أدبك. فقال له: و اللّه لا فعلت، و لتكرمنّي و لتخلعنّ عليّ و تحملنّي و تجيزنّي.
قال: أو تهزأ أيضا! قال: لا و اللّه! ثم اندفع ينشده فقال:
من كان معتذرا من شتمه عمرا *** فابن النّجاشيّ منه غير معتذر
و ابن النجاشي براء - غير محتشم - *** في دينه من أبي بكر و من عمر
ثم أنشده قوله:
إحداهما(4) نمّت عليه حديثه *** و بغت(5) عليه نفسه إحداهما
فهما اللتان سمعت ربّ محمد *** في الذكر قصّ على العباد نباهما(6)
فقال: أبو هاشم ؟ فقال نعم. قال: ارتفع. فحمله و أجازه، و قال: و اللّه لأصدّقنّ قولك في جميع ما حلفت عليه.
قال إسماعيل: رأى أبو بجير السيّد متغيّر اللّون، فسأله عن حاله؛ فقال: فقدت الشراب الذي ألفته لكراهة الأمير إيّاه؛ قال: فاشربه، فإنّنا نحتمله لك. قال: ليس عندي. قال لكاتبه: اكتب له بمائتي دورق ميبختج(7). فقال له السيّد: ليس هذا من البلاغة. قال: و ما هي ؟ قال: البلاغة أن تأتي من الكلام بما يحتاج إليه و تدع ما يستغنى عنه. قال: و كيف ذلك ؟ قال: اكتب بمائتي دورق «مي» و لا تكتب «بختج»، فإنك تستغني عنه. فضحك، ثم أمر فكتب له بذلك. قال: و المي: النبيذ.
ص: 199
أظهرت المرجئة الشماتة بأبي بجير لما مرض فقال هو شعرا:
قال إسماعيل: و بلغ السيّد و هو بالأهواز(1) أن أبا بجير قد أشرف على الموت، فأظهرت المرجئة الشّماتة به.
فخرج السيّد متحرّقا حتى اكترى سفينة و خرج إليها، و أنشأ يقول:
تباشر أهل تدمر(2) إذ أتاهم *** بأمر أميرنا لهم بشير
و لا لأميرنا ذنب إليهم *** صغير في الحياة و لا كبير
سوى حبّ النبيّ و أقربيه *** و مولاهم بحبّهم جدير
و قالوا لي لكيما يحزنوني *** و لكن قولهم إفك و زور
لقد أمسى أخوك أبو بجير *** بمنزله يزار و لا يزور
و ظلّت شيعة الهادي عليّ *** كأنّ الأرض تحتهم تمور
فبتّ كأنّني مما رموني *** به في قد(3) ذي حلق أسير
/كأنّ مدامعي و جفون عيني *** توخّز(4) بالقتاد فهنّ عور
أقول عليّ للرحمن نذر *** صحيح حيث تحتبس النّذور
بمكة، إن لقيت أبا بجير *** صحيحا و اللّواء له يسير
/و هي قصيدة طويلة.
و روى محمد بن عاصم عن أبي داود المسترق عن السيّد:
أنه رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في النوم، فاستنشده فأنشده قوله:
لأمّ عمرو باللّوى مربع *** طامسة أعلامه بلقع
حتى انتهى إلى قوله:
قالوا له لو شئت أعلمتنا *** إلى من الغاية و المفزع
فقال: حسبك! ثم نقض يده و قال: قد و اللّه أعلمتهم.
فجلس ثم قال: اللهمّ أ هكذا جزائي في حبّ آل محمد! قال: فكأنها كانت نارا فطفئت عنه.
و أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ بإسناد له لم يحضرني و أنا أخرجه إن شاء اللّه تعالى قال:
حدّثني من حضر السيّد و قد احتضر فقال:
برئت إلى الإله من ابن(1) أروى *** و من دين الخوارج أجمعينا
/و من فعل برئت(2) و من فعيل *** غداة دعي أمير المؤمنينا
ثم كأنّ نفسه كانت حصاة فسقطت.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة عن أبي الهذيل العلاّف عن أبي جعفر المنصور قال:
بلغني أن السيّد مات بواسط فلم يدفنوه. و اللّه لئن تحقّق عندي لأحرقنّها!.
و وجدت في بعض الكتب: حدّثني محمد بن يحيى اللّؤلؤيّ قال حدّثني محمد بن عباد بن صهيب عن أبيه قال:
كنت عند جعفر بن محمد، فأتاه نعي السيّد، فدعا له و ترحّم عليه. فقال رجل: يا بن رسول اللّه، تدعو له و هو يشرب الخمر و يؤمن بالرّجعة! فقال: حدّثني أبي عن جدّي أن محبّي آل محمد لا يموتون إلاّ تائبين و قد تاب، و رفع مصلّى كانت تحته، فأخرج كتابا من السيّد يعرّفه فيه أنه قد تاب و يسأله الدعاء له.
و ذكر محمد بن إدريس العتبيّ (3) أنّ معاذ بن يزيد(4) الحميريّ حدّثه أن السيّد عاش إلى خلافة(5) هارون الرشيد و في أيامه مات، و أنّه مدحه بقصيدتين فأمر له ببدرتين ففرّقهما. فبلغ ذلك الرشيد فقال: أحسب أبا هاشم تورّع عن قبول جوائزنا.
أخبرني ابن عمّار قال حدّثنا يعقوب بن نعيم قال حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه الطّلحيّ قال حدّثني إسحاق بن محمد بن بشير بن عمّار الصّيرفيّ عن جدّه بشير بن عمّار قال:
ص: 201
/حضرت وفاة السيّد في الرّميلة(1) ببغداد، فوجّه رسولا إلى صفّ الجزّارين(2) الكوفيّين يعلمهم بحاله و وفاته؛ فغلط الرسول فذهب إلى صفّ السموسين(3)، فشتموه و لعنوه؛ فعلم أنه قد غلط، فعاد إلى الكوفيّين يعلمهم بحاله و وفاته؛ فوافاه سبعون كفنا. قال: و حضرناه جميعا و إنه ليتحسّر تحسّرا(4) شديدا و إن وجهه لأسود كالقار و ما يتكلّم، إلى أنا أفاق إفاقة و فتح عينيه فنظر إلى ناحية القبلة ثم قال: يا أمير المؤمنين، أ تفعل هذا بوليّك! قالها ثلاث مرّات مرّة بعد أخرى. قال: فتجلّى و اللّه في جبهته عرق بياض، فما زال يتّسع و يلبس وجهه حتى صار كلّه كالبدر(5)، و توفّي فأخذنا في جهازه و دفنّاه في الجنينة ببغداد، و ذلك في خلافة الرشيد.
ص: 202
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها *** إلى بلد ناء قليل الأصادق
و لا ذنب لي إذ قلت إذ نحن جيرة *** أثيبي بودّ قبل إحدى البوائق
عروضه من الطويل.
قوله: «فلا زلن حسرى»: دعاء على الإبل التي ظعنت بها و أبعدتها عنه. و حسرى: قد حسرن أي بلغ منهن الجهد فلم يبق فيهنّ بقيّة، يقال حسر ناقته فهو يحسرها، و هي حسرى، و الذّكر حسير(1)؛ قال اللّه عزّ و جلّ : يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خٰاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ . و في الحديث: «فإن أتعبتها حسرتها». و الظّلع في كل شيء: أن تألم رجله فلا يقدر أن يمشي عليها فيغمز في مشيه كالأعرج إذا مشى، و يقال: ظلع فهو ظالع. و النائي: البعيد، و النّية: الناحية التي تنوي إليها، و النّوى: البعد، و التنائي: التباعد. و البوائق: الحوادث التي تأتي بما يحذر بغتة، و هي مثل المصائب و النوائب.
البيت الأوّل من الشعر لكثيّر، و يقال: إنه لأبي جندب الهذليّ . و البيت الثاني لرجل من كنانة ثم من بني جذيمة، و زعم ابن دأب أنه عبد اللّه بن علقمة أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة، و قيل أيضا: إنه يقال له عمرو الذي قتله خالد بن الوليد في بعض مغازيه التي وجّهه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيها. /الغناء في اللحن المختار لمتيّم مولاة عليّ بن هشام و أمّ أولاده. و لحنها رمل بالبنصر، من رواية إسحاق و عمرو؛ و هو من الأرمال النادرة المختارة. و فيه خفيف ثقيل، يقال: إنه لحسين بن محرز، و يقال: إنه قديم من غناء أهل مكة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن زكريا الغلابيّ قال حدّثنا العباس بن بكّار قال حدّثنا ابن دأب قال:
كان من حديث عبد اللّه بن علقمة أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة أنه خرج مع أمّه و هو مع ذلك غلام يفعة(2) دون المحتلم لتزور جارة لها، و كان لها بنت يقال لها حبيشة بنت حبيش أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآها عبد اللّه بن علقمة أعجبته و وقعت في نفسه، و انصرف و ترك أمّه عند جارتها، فلبثت عندها يومين.
ص: 203
ثم أتاها عبد اللّه بن علقمة ليرجعها إلى منزلها، فوجد حبيشة قد زيّنت لأمر كان في الحيّ ، فازداد بها عجبا، و انصرف بأمّه في غداة تمطر، فمشى معها شيئا ثم أنشأ يقول:
و ما أدري بلى إنّي لأدري *** أصوب القطر أحسن أم حبيش
حبيشة و الذي خلق الهدايا *** و ما عن بعدها للصّبّ عيش
فسمعت ذلك أمّه فتغافلت عنه و كرهت قوله. ثم مشيا مليّا، فإذا هو بظبي على ربوة من الأرض، فقال:
يا أمّتا أخبريني غير كاذبة *** و ما يريد مسول الحقّ بالكذب
أ تلك أحسن أم ظبي برابية *** لا بل حبيشة في عيني و في أربي
/فزجرته أمّه و قالت له: ما أنت و هذا! نزوّجك بنت عمك فهي أجمل من تلك. و أتت امرأة/عمّه فأخبرتها خبره، و قالت: زيّني ابنتك له، ففعلت و أدخلتها عليه. فلما رآها أطرق. فقالت له أمّه: أيّهما الآن أحسن ؟ فقال:
إذا غيّبت عنّي حبيشة مرّة *** من الدّهر لم أملك عزاء و لا صبرا
كأنّ الحشى حرّ السّعير يحشّه(1) *** وقود الغضى و القلب مستعرا(2)
و جعل يراسل الجارية و تراسله حتى علقته كما علقها، و كثر قوله للشعر فيها. فمن ذلك قال:
حبيشة هل جدّي و جدّك جامع *** بشملكم شملي و أهلكم أهلي
و هل أنا ملتفّ بثوبك مرّة *** بصحراء بين الأليتين(3) إلى النخل
و هل أشتفي من ريق ثغرك مرّة *** كراح و مسك خالطا(4) ضرب النّحل
فلما بلغ أهلها خبرهما حجبوها عنه مدّة، و هو يزيد غراما بها و يكثر قول الشعر فيها. فأتوها فقالوا لها: عديه السّرحة، فإذا أتاك فقولي له: نشدتك اللّه إن كنت أحببتني فو اللّه ما على الأرض شيء أبغض إليّ منك، و نحن قريب نستمع ما تقولين. فوعدته و جلسوا قريبا يستمعون، و جلست عند السّرحة، و أقبل عبد اللّه لوعدها. فلما دنا منها دمعت عينها و التفتت إلى حيث أهلها جلوس، فعرف أنهم قريب فرجع. و بلغه ما قالوا لها أن تقوله فأنشأ يقول:
لو قلت ما قالوا لزدت جوى بكم *** على أنه لم يبق ستر و لا صبر
/و لم يك حبّي عن نوال بذلته *** فيسليني عنه التجهّم و الهجر
و ما أنس م الأشياء لا أنس دمعها *** و نظرتها حتى يغيّبني القبر
ص: 204
و بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم على أثر ذلك خالد بن الوليد إلى بني عامر بن عبد مناة بن كنانة و أمره أن يدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوه و إلاّ قاتلهم(1). فصبحهم(2) خالد بن الوليد بالغميصاء(3) و قد سمعوا به فخافوه فظعنوا، و كانوا قتلوا أخاه الفاكه بن الوليد و عمّه الفاكه بن المغيرة في الجاهليّة، و كانوا من أشدّ حيّ في كنانة بأسا يسمّون «لعقة الدّم». فلما صبحهم خالد و معه بنو سليم، و كانت بنو سليم طلبتهم بمالك بن خالد بن صخر بن الشّريد و إخوته كرز و عمرو و الحارث، و كانوا قتلوهم في موطن واحد. فلما صبحهم خالد في ذلك اليوم و رأوا معه بني سليم زادهم ذلك نفورا. فقال لهم خالد: أسلموا تسلموا. قالوا: نحن قوم مسلمون. قال: فألقوا سلاحكم و انزلوا. قالوا: لا و اللّه. فقال جذيمة(4) بن الحارث أحد بني أقرم: يا قوم، لا تضعوا سلاحكم، و اللّه ما بعد وضع السلاح إلاّ القتل.
قالوا: لا و اللّه لا نلقي سلاحنا و لا ننزل، ما نحن منك و لا لمن معك بآمنين. قال خالد: فلا أمان لكم/إن لم تنزلوا. فنزلت فرقة منهم فأسرهم، و تفرّق بقيّة القوم فرقتين، فأصعدت فرقة و سفلت فرقة أخرى.
قال ابن دأب: فأخبرني من لا أتّهم عن عبد اللّه بن أبي حدرد الأسلميّ قال: كنت يومئذ في جند خالد، فبعثنا في أثر ظعن(5) مصعدة يسوق بهنّ فتية، فقال: أدركوا أولئك. قال: فخرجنا في أثرهم حتى أدركناهم و قد مضوا، و وقف لنا غلام شابّ على الطريق. فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا و هو يقول:
/
بيّنّ (6) أطراف الذّيول و اربعن *** مشي حييّات كأن لم يفزعن
إن يمنع اليوم نساء تمنعن
فقاتلنا طويلا فقتلناه، و مضينا حتى لحقنا الظّعن، فخرج إلينا غلام كأنه الأوّل، فجعل يقاتلنا و يقول:
أقسم ما إن خادر(7) ذو لبدة *** يزأر بين أيكة و وهده
يفرس شبّان الرجال وحده *** بأصدق الغداة منّي نجده
فقاتلنا حتى قتلناه، و أدركنا الظّعن فأخذناهنّ ، فإذا فيهن غلام وضيء به صفرة في لونه كالمنهوك، فربطناه
ص: 205
بحبل و قدّمناه لنقتله؛ فقال لنا: هل لكم في خير؟ قلنا: و ما هو؟ قال: تدركون بي الظّعن أسفل الوادي ثم تقتلونني؛ قلنا: نفعل. فخرجنا حتى نعارض الظّعن أسفل الوادي. فلما كان بحيث يسمعن الصوت، نادى بأعلى صوته: اسلمي حبيش، عند نفاد العيش. فأقبلت إليه جارية بيضاء حسناء فقالت: /و أنت فاسلم على كثرة الأعداء، و شدّة البلاء. فقال: سلام عليكم دهرا، و إن(1) بقيت عصرا. قالت: و أنت سلام عليك عشرا، و شفعا تترى، و ثلاثا وترا. فقال:
إن يقتلوني يا حبيش فلم يدع *** هواك لهم منّي سوى غلّة الصدر
و أنت التي أخليت لحمي من دمي *** و عظمي و أسبلت الدموع على نحري
فقالت له:
و نحن بكينا من فراقك مرّة *** و أخرى و آسيناك في العسر و اليسر
و أنت - فلا تبعد فنعم فتى الهوى - *** جميل العفاف في المودّة و السّتر(2)
فقال لها:
أريتك إن طالبتكم فوجدتكم *** بحلية(3) أو أدركتكم بالخوانق(4)
أ لم يك حقّا أن ينوّل عاشق *** تكلّف إدلاج السّرى و الودائق(5)
فقالت: بلى و اللّه. فقال:
فلا ذنب لي إذ قلت إذ نحن جيرة *** أثيبي بودّ قبل إحدى البوائق
أثيبي بودّ قبل أن تشحط النّوى *** و ينأى خليط بالحبيب المفارق
قال ابن أبي حدرد: فضربنا عنقه، فتقحّمت الجارية من خدرها حتى أتت نحوه فالتقمت فاه، فنزعنا منها رأسه و إنها لتكسع(6) بنفسها حتى ماتت مكانها. و أفلت/من القوم غلام من بني أقرم يقال له السّميدع حتى اقتحم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبره بما صنع خالد و شكاه.
قال ابن دأب: فأخبرني صالح بن كيسان أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سأله: «هل أنكر عليه أحد ما صنع»؟ فقال: نعم، رجل أصفر ربعة و رجل أحمر طويل. فقال عمر: أنا و اللّه يا رسول اللّه أعرفهما، أمّا الأوّل فهو ابني وصفته، و أما
ص: 206
الثاني فهو سالم مولى/أبي حذيفة. و كان خالد قد أمر كلّ من أسر أسيرا أن يضرب عنقه، فأطلق عبد اللّه بن عمر و سالم مولى أبي حذيفة أسيرين كانا معهما. فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عليّا رضي اللّه عنه بعد فراغه من حنين و بعث معه بإبل و ورق و أمره أن يديهم فوداهم، ثم رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فسأله فقال عليّ : قدمت عليهم فقلت لهم: هل لكم أن تقبلوا هذا الجمل بما أصيب منكم من القتلى و الجرحى و تحلّلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ؟ قالوا نعم. فقلت لهم: فهل لكم أن تقبلوا الثاني بما دخلكم من الرّوع و الفزع ؟ قالوا نعم. فقلت لهم: فهل لكم أن تقبلوا الثالث و تحلّلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ممّا علم و ممّا لم يعلم ؟ قالوا نعم. قال: فدفعته إليهم، و جعلت أديهم، حتى إني لأدي ميلغة(1)الكلب، و فضلت فضلة فدفعتها إليهم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أ فقبلوها؟» قال نعم. قال: «فو الذي أنا عبده لهي أحبّ إليّ من حمر النّعم».
و قالت سلمى(2) بنت عميس:
و كم غادروا يوم الغميصاء من فتى *** أصيب فلم يجرح و قد كان جارحا
/و من سيّد كهل عليه مهابة *** أصيب و لمّا يعله الشيب واضحا
أحاطت(3) بخطّاب الأيامى و طلّقت *** غداتئذ من كان منهنّ ناكحا
و لو لا مقال القوم للقوم أسلموا *** للاقت سليم يوم ذلك ناطحا
قال ابن دأب: و أمّا سبب قتلهم القرشيّين، فإنه كان نفر من قريش بضعة عشر أقبلوا من اليمن حتى نزلوا على ماء من مياه بني عامر بن عبد مناة بن كنانة، و كان يقال لهم «لعقة الدّم» و كانوا ذوي بأس شديد. فجاءت إليهم بنو عامر فقالوا للقرشيّين: إيّاكم أن يكون معكم رجل من فهم؛ لأنه كان له عندهم ذحل. قالوا: لا و اللّه ما هو معنا، و هو معهم. فلما راحوا أدركهم العامريّون ففتّشوهم فوجدوا الفهميّ معهم في رحالهم، فقتلوه و قتلوهم و أخذوا أموالهم. فقال راجزهم:
إنّ قريشا غدرت و عاده *** نحن قتلنا منهم بغادة(4)
عشرين كهلا ما لهم زياده
و كان فيمن قتل يومئذ عفّان بن أبي العاصي أبو عثمان بن عفّان، و عوف بن عوف أبو عبد الرحمن بن عوف، و الفاكه بن المغيرة، و الفاكه بن الوليد بن المغيرة. فأرادت قريش قتالهم حتى خذلتهم بنو الحارث بن عبد مناة فلم
ص: 207
يفعلوا شيئا. و كان خالد بن عبيد اللّه أحد بني الحارث بن عبد مناة فيمن حضر الوقعة هو و ضرار(1). فأشار إلى ذلك ضرار بن الخطاب بقوله:
/
دعوت إلى خطّة خالدا *** من المجد ضيّعها خالد
فو اللّه أدري(2) أضاهى بها *** بني(3) العمّ أم صدره بارد
و لو خالد عاد في مثلها *** لتابعه عنق وارد(4)
و قال ضرار أيضا:
أرى ابني لؤيّ (5) أسرعا أن تسالما *** و قد سلكت أبناؤها كلّ مسلك
/فإن أنتم لم تثأروا برجالكم *** فدوكوا(6) الذي أنتم عليه بمدوك(7)
فإنّ أداة الحرب ما قد جمعتم *** و من يتّق الأقوام بالشّر يترك
فلما كان يوم فتح مكة بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالجيوش إلى قبائل بني كنانة حوله، فبعث إلى بني ضمرة نميلة بن عبد اللّه اللّيثيّ ، و إلى بني الدّئل عمرو بن أميّة الضّمريّ ، و بعث إلى بني مدلج عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ ، و بعث إلى بني بغيض و محارب بن فهر عبد اللّه بن نهيك أحد بني مالك بن حسل، و بعث إلى بني عامر بن عبد مناة خالدا.
فوافاهم خالد بماء يقال له الغميصاء؛ و قد كان خبره سقط إليهم، فمضى منهم سلف قتله بقوم منهم، يقال لهم بنو قيس(8) بن عامر و بنو قعين بن عامر و هم خير القوم و أشرفهم، فأصيب من أصيب. فلما أقبل خالد/و دخل المدينة قال له النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «يا خالد ما دعاك إلى هذا»! قال: يا رسول اللّه آيات سمعتهنّ أنزلت عليك. قال: «و ما هي»؟ قال: قول اللّه عزّ ذكره: قٰاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ و جاءني ابن أمّ أصرم فقال لي: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يأمرك أن تقاتل. فحينئذ بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فوداهم.
ص: 208
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا سعد بن أبي نصر قال حدّثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن رجل من مزينة يقال له ابن عاصم(1) عن أبيه قال:
بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في سريّة و أمرنا ألاّ نقتل أحدا إن رأينا مسجدا أو سمعنا أذانا - قال وكيع و أخبرني أحمد بن أبي خيثمة قال حدّثنا إبراهيم بن بشّار الرّماديّ قال حدّثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن نوفل عن ابن عاصم هذا عن أبيه بهذا الحديث قال -:
فبينا نحن نسير إذا بفتى يسوق ظعائن؛ فعرضنا عليه الإسلام فإذا هو لا يعرفه؛ فقال: ما أنتم صانعون بي إن لم أسلم ؟ قلنا: نحن قاتلوك. قال: فدعوني ألحق هذه الظعائن، فتركناه؛ فأتى هودجا منها و أدخل رأسه فيه و قال:
اسلمي حبيش، قبل نفاد العيش. فقالت: و أنت فاسلم تسعا وترا، و ثمانيا تترى، و عشرا أخرى. فقال لها:
فلا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرة *** أثيبي بودّ قبل إحدى البوائق
أثيبي بودّ قبل أن تشحط النّوى *** و ينأى أمير بالحبيب المفارق
/قال: ثم جاء فضربنا عنقه. فخرجت من ذلك الهودج جارية جميلة فجنأت(2) عليه، فما زالت تبكي حتى ماتت.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و عمرو بن عبد اللّه العتكيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:
يروى أن خالد بن الوليد كان جالسا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فسئل عن غزوته بني جذيمة فقال: إن أذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تحدّثت. فقال: «تحدّث». فقال: لقيناهم بالغميصاء عند وجه الصبح، فقاتلناهم حتى كاد قرن الشمس يغيب، فمنحنا اللّه أكتافهم فتبعناهم نطلبهم، فإذا بغلام له ذوائب على فرس ذنوب(3) في أخريات القوم، فبوّأت(4) له الرمح فوضعته بين كتفيه؛ فقال: لا إله، فقبضت عنه الرّمح؛ /فقال: إلاّ اللاّت أحسنت أو أساءت. فهمسته(5)همسة أذريته و وقيذا(6) ثم أخذته أسيرا فشددته وثاقا؛ ثم كلمته فلم يكلّمني، و استخبرته فلم يخبرني. فلما كان ببعض الطريق رأى نسوة من بني جذيمة يسوق بهنّ المسلمون، فقال: أيا خالد! قلت: ما تشاء؟ قال: هل أنت واقفي على هؤلاء النّسوة ؟! فأتيت على أصحابي ففعلت، و فيهن جارية تدعى حبيشة؛ فقال لها: ناوليني يدك فناولته يدها في ثوبها؛ فقال: اسلمي حبيش، قبل نفاد العيش. فقالت: حيّيت عشرا، و تسعا وترا، و ثمانيا تترى. فقال:
أريتك إن طالبتكم فوجدتكم *** بحلية أو أدركتكم بالخوانق
أ لم يك حقّا أن ينوّل عاشق *** تكلّف إدلاج السّرى و الودائق
/و قد قلت إذ أهلي لأهلك جيرة *** أثيبي بودّ قبل إحدى الصّعائق
ص: 209
أثيبي بودّ قبل أن تشحط النّوى *** و ينأ أمير بالحبيب المفارق
فإنّي لا ضيّعت سرّ أمانتي *** و لا راق عيني بعد عينك رائق(1)
سوى أنّ ما نال العشيرة شاغل *** عن الودّ إلا أن يكون التّوامق
فلما جاء على حاله تلك قدّمته(2) فضربت عنقه. فأقبلت الجارية و وضعت رأسه في حجرها و جعلت ترشفه و تقول:
لا تبعدن يا عمرو حيّا و هالكا *** فحقّ بحسن المدح مثلك من مثلي
لا تبعدن يا عمرو حيّا و هالكا *** فقد عشت محمود الثّنا ماجد الفعل
فمن لطراد الخيل تشجر(3) بالقنا *** و للفخر يوما عند قرقرة البزل(4)
و جعلت تبكي و تردّد هذه الأبيات حتى ماتت و إن رأسه لفي حجرها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لقد رفعت لي يا خالد و إن سبعين ملكا لمطيفون بك يحضّونك على قتل عمرو حتى قتلته».
أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد اللّه بن المنذر عن صفيّة بنت الزبير بن هشام قالت:
كان أبو السائب المخزوميّ رجلا صالحا زاهدا متقلّلا يصوم الدّهر، و كان أرقّ خلق اللّه و أشدّهم غزلا. فوجّه ابنه يوما يأتيه بما يفطر عليه، فأبطأ الغلام إلى العتمة. فلما جاء قال له: يا عدوّ نفسه، ما أخّرك إلى هذا الوقت ؟ قال: جزت بباب/بني فلان فسمعت منه غناء فوقفت حتى أخذته. فقال: هات يا بنيّ ، فو اللّه لئن كنت أحسنت لأحبونّك، و لئن كنت أسأت لأضربنّك. فاندفع يغنّي بشعر كثير:
و لما علوا شغبا(5) تبيّنت أنه *** تقطّع من أهل الحجاز علائقي(6)
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها *** إلى بلد ناء قليل الأصادق
فلم يزل يغنّيه إلى نصف الليل. فقالت له زوجته: يا هذا، قد انتصف الليل و ما أفطرنا. قال لها: أنت طالق إن كان
ص: 210
فطورنا غيره. فلم يزل يغنّيه إلى السّحر. فلما كان السّحر قالت له زوجته: هذا السّحر و ما أفطرنا! فقال: أنت طالق إن كان سحورنا غيره. فلما أصبح قال لابنه: /خذ جبّتي هذه و أعطني خلقك ليكون الحباء فضل ما بينهما. فقال له: يا أبت، أنت شيخ و أنا شابّ و أنا أقوى على البرد منك. قال: يا بنيّ ، ما ترك صوتك هذا للبرد عليّ سبيلا ما حييت(1).
شعر لسليمان بن أبي دباكل:
أخبرني وكيع قال أنشدنا أحمد بن يزيد الشّيبانيّ عن مصعب الزّبيريّ لسليمان ابن أبي دباكل(2) قال:
فهلا نظرت الصبح يا بعل زينب *** فتقضى لبانات الحبيب المفارق
يروح إذا يمسي حنينا و يغتدي *** و تهجيره عند احتدام الودائق
/فطر جاهدا أو كن حليفا لصخرة *** ممنّعة في رأس أرعن شاهق
فما زال هذا الدهر من شؤم صرفه *** يفرّق بين العاشقين الأوامق
فيبعدنا ممّن نريد اقترابه *** و يدني إلينا من نحبّ نفارق(3)
و لما علوا شغبا تبيّنت أنه *** تقطّع من أهل الحجاز علائقي
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها *** إلى بلد ناء قليل الأصادق
ص: 211
12 - ذكر متيّم الهشاميّة(1) و بعض أخبارها
كانت متيّم صفراء مولّدة من مولّدات البصرة، و بها نشأت و تأدّبت و غنّت. و أخذت عن إسحاق و عن أبيه من قبله و عن طبقتهما من المغنّين. و كانت من تخريج بذل و تعليمها. و على ما أخذت عنها كانت تعتمد. فاشتراها عليّ بن هشام(2) بعد ذلك، فازدادت(3) أخذا ممّن كان يغشاه من أكابر المغنّين. و كانت من أحسن الناس وجها و غناء و أدبا. و كانت تقول الشعر ليس ممّا يستجاد، و لكنّه يستحسن من مثلها. و حظيت عند عليّ بن هشام حظوة شديدة، و تقدّمت على جواريه جمع(4) عنده، و هي أمّ ولده كلّهم.
و قال عبد اللّه بن العنز فيما أخبرني عنه محمد بن إبراهيم قريش قال أخبرني الحسن بن أحمد المعروف بأبي عبد اللّه الهشاميّ قال:
كانت متيّم للبانة بنت عبد اللّه بن إسماعيل المراكبي(5) مولي(6) عريب، فاشتراها عليّ بن هشام منها بعشرين ألف درهم و هي إذ ذاك جويرية، فولدت له صفيّة/و تكنى أمّ العباس، ثم ولدت محمدا و يعرف بأبي عبد اللّه، ثم ولدت بعده ابنا يقال له هارون و يعرف بأبي جعفر، سمّاه المأمون و كنّاه لمّا ولد بهذا الاسم و الكنية. قال: و لما توفّي عليّ بن هشام عتقت.
و كان المأمون يبعث إليها فتجيئه فتغنّيه. فلما خرج المعتصم إلى سرّ من رأى أرسل إليها فأشخصها و أنزلها داخل الجوسق في دار كانت تسمّى الدّمشقيّ و أقطعها غيرها. و كانت تستأذن المعتصم في الدخول إلى بغداد إلى ولدها فتزورهم و ترجع، ثم ضمّها لما خرجت قلم. و قلم جارية كانت لعليّ بن هشام. و كانت متيّم صفراء حلوة الوجه.
ص: 212
فذكر محمد بن الحسن الكاتب أنّ الحسين بن يحيى بن أكثم حدّثه عن الحسن بن إبراهيم بن رياح(1) قال:
سألت عبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ : من أحسن من أدركت صنعة ؟ قال: إسحاق. قلت: ثم من ؟ قال: علويه.
قلت: ثم من ؟ قال: متيّم. قلت: ثم من ؟ قال: ثم أنا. فعجبت من تقديمه متيّم على نفسه؛ فقال: الحقّ أحقّ أن يتّبع.
أخبرني محمد بن الحسن قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:
/سئل عبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ عن أحسن الناس غناء. فذكر مثل هذه الحكاية، و زاد فيها أن قال له: ما أحسن أن أصنع كما صنعت متيّم في قوله:
فلا زلن حسرى ظلعا لم حملنها
و لا كما صنع علّويه في قول الصّمّة:
فوا حسرتي لم أقض منك(2) لبانة *** و لم أتمتّع بالجوار و بالقرب
/قال: فأين عمرو بن بانة ؟ قال: عمرو لا يضع نفسه في الصنعة هذا الموضع، و لكنّه صنع لحنا في هذا الغناء.
فوا حسرتي لم أقض منك لبانة *** و لم أتمتّع بالجوار و بالقرب
يقولون هذا آخر العهد منهم(3) *** فقلت و هذا آخر العهد من قلبي
ألا يا حمام الشّعب شعب مراهق *** سقتك الغوادي من حمام و من شعب
الشعر للصّمّة بن عبد اللّه القشيريّ . و الغناء فيه لعلّويه، ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى. و فيه لمخارق خفيف رمل بالوسطى، أوّله: «ألا يا حمام الشعب» ثم الثاني ثم الأوّل. و ذكر حبش أن فيه لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر.
و قال ابن المعتزّ أخبرني الهشاميّ قال:
ص: 213
كانت متيّم ذات يوم جالسة بين يدي المعتصم ببغداد و إبراهيم بن المهديّ حاضر؛ فغنّت متيّم في الثقيل الأوّل:
لزينب طيف تعتريني طوارقه *** هدوّا إذا ما النّجم لاحت لواحقه
فأشار إليها إبراهيم أن تعيده؛ فقالت متيّم للمعتصم: يا سيّدي، إبراهيم يستعيدني الصوت و كأنه يريد أن يأخذه؛ فقال لها: لا تعيديه. فلما كان بعد أيام كان إبراهيم حاضرا مجلس المعتصم و متيّم غائبة، فانصرف إبراهيم بعد حين إلى منزله و متيّم في منزلها بالميدان(1) و طريقه عليها و هي في منظرة لها مشرفة على الطريق و هي تغنّي هذا الصوت/و تطرحه على جواري عليّ بن هشام؛ فتقدّم إلى المنظرة و هو على دابّته فتطاول حتى أخذ الصوت، ثم ضرب باب المنظرة بمقرعته و قال: قد أخذناه بلا حمدك.
و قال ابن المعتزّ: و حدّثت أنّ المأمون سأل عليّ بن هشام أن يهبها له و كان بغنائها معجبا(2)؛ فدفعه بذلك و لم يكن له منها ولد. فلما ألحّ المأمون في طلبها حرص عليّ على أن تعلق منه حتى حبلت و يئس المأمون منها. فيقال إن ذلك كان سببا لغضبه عليه حتى قتله.
و حدّثني سليمان(3) الطّبّال أنه رأى متيّم في بعض مجالس المعتصم يمازحها و يجبذ بردائها.
و حكى عليّ بن محمد الهشاميّ قال:
أهدي إلى عليّ بن هشام برذون أشهب قرطاسيّ (4) و كان في النّهاية من الحسن و الفراهة، و كان عليّ به معجبا، و كان إسحاق يشتهيه شهوة شديدة، و عرّض لعليّ بطلبه مرارا فلم يرض أن يعطيه له. فسار إسحاق إلى عليّ يوما بعقب/صنعة متيّم «فلا زلن حسرى» فاحتبسه عليّ و بعث إلى متيّم أن تجعل صوتها هذا في صدر غنائها ففعلت، فأطرب إسحاق إطرابا شديدا، و جعل يستردّه، فتردّه و تستوفيه ليزيد في إطرابه إسحاق و هو يصغي إليها و يتفهّمه حتى صحّ له. ثم قال لعليّ : ما فعل البرذون الأشهب ؟ قال: على ما عهدت من حسنه و فراهته. قال:
فاختر الآن منّي خلّة من اثنتين: إما أن طبت لي نفسا به و حملتني عليه، و إما أن أبيت فأدّعي و اللّه هذا الصوت لي و قد أخذته، أ فتراك تقول: إنه لمتيّم و أقول: إنه لي و يؤخذ قولك/و يترك قولي ؟! قال: لا و اللّه ما أظنّ هذا و لا أراه؛ يا غلام قد(5) البرذون إلى منزل أبي محمد بسرجه و لجامه، لا بارك اللّه له فيه!.
ص: 214
قال عليّ بن محمد و حدّثني أحمد بن حمدون:
أن إسحاق قال لمتيّم لمّا سمع هذا الصوت منها: أنت أنا فأنا من! يريد أنها قد حلّت محلّه و ساوته.
قال عليّ بن محمد و قال جدّي أبو جعفر:
كانت متيّم تقول:
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها
الرّمل كلّه.
و حدّثني الهشاميّ قال مدّ عليّ بن هشام يده إلى بذل(1) جاريته في عتاب يعاتبها، ثم ندم على فعله ذلك، ثم أنشأ يقول:
فليت يدي بانت غداة مددتها *** إليك و لم ترجع بكفّ و ساعد
و غنّت متيّم جاريته فيه في الثقيل الأوّل؛ فكان يقال لبذل جارية عليّ بذل الصغيرة.
و حدّثني الهشاميّ قال:
كان(2) سبب موت بذل هذه أنها كانت ذات يوم جالسة عند المأمون فغنّته، و كان حاضرا في ذلك المجلس موسوس يكنى بأبي الكركدن من أهل طبرستان/يضحك منه المأمون، فعبثوا به فوثب عليهم و هرب الناس من بين يديه فلم يبق أحد حتى هرب المأمون، و بقيت بذل جالسة و العود في حجرها، فأخذ العود من يدها و ضرب به رأسها فشجّها في شابورتها(3) اليمنى؛ فانصرفت و حمّت، و كان سبب موتها.
و حدّثني الهشاميّ قال:
لما مات عليّ بن هشام و مات المأمون، أخذ المعتصم جواري عليّ بن هشام كلّهن فأدخلهنّ القصر، فتزوّج
ص: 215
ببذل المغنّية و بقيت عنده إلى أن مات؛ فخرجت بذل الكبيرة و الباقون إلا بذل الصغيرة لأنها كانت حرمته فلم يخرجوها(1).
و يقال: إنه لم يكن في المغنّين أحسن صنعة من علّويه و عبد اللّه بن العباس و متيّم.
و في أولادها يقول عليّ بن الجهم:
بني متيّم هل تدرون ما الخبر *** و كيف يستر أمر ليس يستتر
حاجيتكم من أبوكم يا بني عصب *** شتّى و لكنّكما للعاهر الحجر(2)
قال: و حدّثني جدّي قال: كلّم عليّ بن هشام متيّم فأجابته جوابا لم(3) يرضه، فدفع يده في صدرها، فغضبت و نهضت، فتثاقلت عن الخروج إليه. فكتب إليها:
فليت يدي بانت غداة مددتها *** إليك و لم ترجع بكفّ و ساعد
فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا *** فلست إلى يوم التّنادي بعائد
/غنّته متيّم خفيف رمل بالبنصر.
/عتبت على عليّ بن هشام و ترضاها ثم كتب إليها فرضيت:
قال: و عتبت عليه مرّة فتمادى عتبها، و ترضّاها فلم ترض؛ فكتب إليها(4): الإدلال يدعو إلى الإملال، و ربّ هجر دعا إلى صبر، و إنما سمّي القلب قلبا لتقلّبه. و لقد صدق العباس بن الأحنف حيث يقول:
ما أراني إلاّ سأهجر من لي *** س يراني أقوى على الهجران
قد حدا بي إلى الجفاء وفائي(5) *** ما أضرّ الوفاء بالإنسان
قال: فخرجت إليه من وقتها [و رضيت](6).
و حدّثني الهشاميّ قال:
ص: 216
كانت متيّم تحبّني حبّا شديدا يتجاوز محبّة الأخت لأخيها، و كانت تعلم أني أحبّ النّبق، فكانت لا تزال تبعث إليّ منه. فإنّي لأذكر في ليلة من الليالي في وقت السّحر إذا أنا ببابي يدقّ . فقيل: من هذا؟ فقالوا: خادم متيّم يريد أن يدخل إلى أبي عبد اللّه. فقلت: يدخل. فدخل و معه إليّ صينيّة فيها نبق؛ فقال لي: تقرئك السلام و تقول لك:
كنت عند أمير المؤمنين المعتصم باللّه فجاءوه بنبق من أحسن ما يكون؛ فقلت له: يا سيّدي، أطلب من أمير المؤمنين شيئا؟ فقال لي: تطلبين ما شئت. قالت: يطعمني أمير المؤمنين من هذا النّبق. فقال لسمانة(1):
اجعل من هذا النّبق في صينية و اجعلوها قدّام متيّم؛ فأخذته و ذلّلته [لك](2) و قد بعثت به إليك معي، /ثم دفعت إليّ دراهم و قالت: هب للحرّاس هذه الدراهم لكي يفتحوا الدّروب لك حتى تصير به إليه.
ثم حدّثنا الهشاميّ قال:
بعث عليّ بن هشام إلى إسحاق فجاء، فأخرج متيّم جاريته إليه؛ فغنّت بين يديه:
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها *** إلى بلد ناء قليل الأصادق
فاستعاده إسحاق و استحسنه، ثم قال له: بكم تشتري منّي هذا الصوت ؟ فقال له عليّ بن هشام: جاريتي تصنع هذا الصوت و أشتريه منك! قال: قد أخذته الساعة و أدّعيه، فقول من يصدّق، قولي أو قولك! فافتداه منه ببرذون اختاره له.
و حدّثني الهشاميّ قال:
سمع عليّ بن هشام قدّام المأمون من قلم جارية زبيدة صوتا عجيبا، فرشا لمن(3) أخرجه من دار زبيدة بمائة ألف دينار حتى صار إلى داره و طرح الصوت على جواريه. و لو علمت بذلك زبيدة لاشتدّ عليها، و لو سألها أن توجّه به ما فعلت.
و حدّثني يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم عن أبيه قال:
لمّا صنعت متيّم اللّحن في قوله:
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها
أعجب به عليّ بن هشام، و أسمعه إسحاق فاستحسنه و قال: من أين لك هذا؟ فقال: من بعض الجواري.
ص: 217
فقال(1): إنه لعريب؛ و لم يزل يستعيده حتى قال: إنه لمتيّم؛ فأطرق. و كان متحاملا على المغنّين شديد النّفاسة عليهم كثير الظلم لهم مسرفا/في حطّ درجاتهم، و ما رأيته في غنائه ذكر لعلّويه و لا مخارق و لا عمرو بن بانة و لا عبد اللّه بن عبّاس و لا محمد بن الحارث صوتا واحدا ترفّعا عن ذكرهم منتصبا(2) لهم، و ذكر في آخر الكتاب قوله:
فلا زلن حسرى ظلّعا لم حملنها *** إلى بلد ناء قليل الأصادق
و وقّع تحته «لمتيّم». و ذكر آخر كل صوت في الكتاب و نسب إلى كلّ مغنّ صوته غير مخارق و علّويه و عمرو بن بانة و عبد اللّه بن عباس فما ذكرهم بشيء.
أخبرنا أحمد بن جعفر جحظة/قال حدّثني ابن المكيّ عن أبيه قال قال لي عليّ بن هشام:
لمّا قدمت عليّ شاهك جدّتي من خراسان، قالت: اعرض جواريك عليّ ، فعرضتهنّ عليها. ثم جلسنا على الشّراب، و غنّتنا متيّم. و أطالت جدّتي الجلوس فلم أنبسط إلى جواريّ كما كنت أفعل؛ فقلت هذين البيتين:
أ نبقى على هذا و أنت قريبة *** و قد منع الزّوّار بعض التّكلّم
سلام عليكم لا سلام مودّع *** و لكن سلام من حبيب متيّم
و كتبتهما في رقعة و رميت بها إلى متيّم؛ فأخذتها و نهضت إلى الصلاة(3)، ثم عادت و قد صنعت فيه اللحن الذي يغنّي فيه اليوم، فغنّت. فقالت شاهك: ما أرانا إلاّ قد/ثقّلنا عليكم اليوم؛ و أمرت الجواري فحملن محفّتها، و أمرت بجوائز للجواري و ساوت(4) بينهنّ ، و أمرت لمتيّم بمائة ألف درهم.
ص: 218
و أخبرني قال: أوّل من عقد من النساء في طرف الإزار زنّارا(1) و خيط إبريسم(2) ثم تجعله في رأسها فيثبت الإزار و لا يتحرّك و لا يزول متيّم.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني ميمون بن هارون قال:
مرّت متيّم في نسوة و هي مستخفية بقصر عليّ بن هشام بعد أن قتل، فلما رأت بابه مغلقا لا أنيس عليه و قد علاه التراب و الغبرة و طرحت في أفنيته المزابل، وقفت عليه و تمثّلت:
صوت(3)
يا منزلا لم تبل أطلاله *** حاشا لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك لكنّني *** بكيت عيشي فيك إذ ولّى
/قد كان لي فيك هوّى مرّة *** غيّبه الترب و ما ملاّ(4)
فصرت أبكي جاهدا فقده *** عند اذكاري حيثما حلاّ
فالعيش أولى ما بكاه الفتى *** لا بدّ للمحزون أن يسلى
- فيه رمل بالوسطى لابن جامع - قال: ثم بكت حتى سقطت من قامتها، و جعل النّسوة يناشدنها و يقلن: اللّه اللّه في نفسك! فإنك تؤخذين الآن، فبعد لأيّ (5) ما حملت تتهادى بين امرأتين حتى تجاوزت الموضع.
نسخت من كتاب أبي سعيد السّكّريّ حدّثني الحارث بن أبي أسامة قال حدّثني محمد بن الحسن عن [عبد اللّه بن](6) العباس الرّبيعي قال: قالت لي متيّم:
بعث إليّ المعتصم بعد قدومه بغداد، فذهبت إليه، فأمرني بالغناء فغنّيت:
هل مسعد لبكاء *** بعبرة أو دماء
فقال: اعدلي عن هذا البيت إلى غيره؛ فغنّيته غيره من معناه؛ فدمعت عيناه و قال: غنّي غير هذا. فغنّيت في لحني:
ص: 219
أولئك قومي بعد عزّ و منعة *** تفانوا و إلاّ تذرف العين أكمد
فبكى و قال: ويحك! لا تغنّيني في هذا المعنى شيئا البتة(1). فغنّيت في لحني:
لا تأمن الموت في حلّ و في حرم *** إنّ المنايا تغشّى كلّ إنسان
/و اسلك طريقك هونا غير مكترث *** فسوف يأتيك ما يمني(2) لك الماني
فقال: و اللّه لو لا أني أعلم أنك إنما غنّيت بما في قلبك لصاحبك و أنّك لم تريدني لمثّلت بك؛ /و لكن خذوا بيدها فأخرجوها، فأخذوا بيدي فأخرجت.
هل مسعد لبكاء *** بعبرة أو دماء
و ذا لفقد خليل *** لسادة نجباء
الشعر لمراد شاعرة عليّ بن هشام ترثيه لمّا قتله المأمون. و الغناء لمتيّم. و لحنه من الثقيل الأوّل بالوسطى.
منها:
ذهبت(3)
من الدّنيا و قد ذهبت منّي*** ..........................
و قد أخرج في أخبار إبراهيم بن المهديّ لأنه من غنائه و شعره، و شرحت أخباره فيه. و لحنه رمل بالوسطى.
و منها:
أولئك قومي بعد عزّ و منعة *** تفانوا و إلاّ تذرف العين أكمد
/و قد أخرج في أخبار أبي سعيد مولى فائد و العبليّ و غنّيا فيه من مراثيهما في بني أميّة. و لحن متيّم هذا الذي غنّت فيه المعتصم ثاني ثقيل بالوسطى.
و منها:
ص: 220
لا تأمن الموت في حلّ و في حرم *** ..............................
ذكر الهشاميّ أنه ممّا وجده من غناء متيّم، غير أن لها لحنا فيه يذكر في موضع غير هذا على شرح(1) إن شاء اللّه تعالى، و إنما ألفت صوتا تولّعت به و غنّته فنسبه إليها(2).
و أخبرني قال: كنّا في مجلسنا نياما. فلما كان مع الفجر إذا متيّم قد دخلت علينا و قالت: أطعموني شيئا؛ فأخرجوا إليها شيئا تأكله، فأكلت، و دعت بنبيذ و ابتدأت الشرب، و دعت بعود فاندفعت تغنّي لنفسها و تشرب. و كان ممّا غنّت:
كيف الثّواء بأرض لا أراك بها *** يا أكثر الناس عندي منّة و يدا
- خفيف رمل - و قال: ما رأيت أحدا من المغنّين و المغنّيات إذا غنّوا لأنفسهم يكادون يغنّون إلاّ خفيف رمل.
و أخبرني قال حدّثني بعض أهلها قال: لما أصبنا بعليّ بن هشام، جاء النوائح، فطرح بعض من حضر من مغنّياته عليهنّ نوحا من نوح متيّم، و كان حسنا جيّدا، فأبطأ نوح النوائح اللاّتي جئن لحسنه و جودته. و كانت زين حاضرة فاستحسنه جدّا، و قالت: رضي اللّه عنك يا متيّم! كنت علما في السرور، و أنت علم في المصائب.
و أخبرني قال: إني لأذكر من بعض نوحها:
لعليّ و أحمد و حسين *** ثم نصر و قبله للخليل
هزج.
قال ابن المعتزّ: و أخبرني الهشاميّ قال: وجّهت مؤنسة جارية المأمون إلى متيّم جارية عليّ بن هشام في يوم
ص: 221
احتجمت فيه مخنقة(1) في وسطها حبّة لها قيمة جليلة كبيرة(2) و عن يمين الحبّة و يسارها أربع يواقيت و أربع زمرّدات و ما بينها من شذور الذهب، و باقي المخنقة قد طيّب بغالية.
و أخبرني قال: كانت متيّم يعجبها البنفسج جدّا، و كان عندها آثر من كلّ ريحان و طيب، حتى إنها من شدّة إعجابها [به](3) لا يكاد يخلو من/كمّها الرّيحان و لا نراه إلا كما قطف من البستان(4).
و قد أخبرني رحمه اللّه قال حدّثنا أبو جعفر بن الدّهقانة:
أنّ جارية للمعتصم قالت له لمّا ماتت متيّم و إبراهيم بن المهديّ و بذل: /يا سيّدي، أظن أنّ في الجنّة عرسا، فطلبوا هؤلاء إليه. فنهاها المعتصم عن هذا القول و أنكره. فلما كان بعد أيام، وقع حريق في حجرة هذه القائلة فاحترق كلّ ما تملكه. و سمع المعتصم الجلبة فقال: ما هذا؟ فأخبر عنه؛ فدعا بها فقال: ما قصّتك ؟ فبكت و قالت:
يا سيّدي، احترق كلّ ما أملكه. فقال: لا تجزعي، فإن هذا لم يحترق و إنما استعاره أصحاب ذلك العرس.
و قد ذكرت في متقدّم أخبار متيّم أنّها كانت تقول الشعر و لم أذكر شيئا. فمن ذلك ما أخبرنا به الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الحسن بن أحمد بن أبي طالب الدّيناريّ قال حدّثني الفضل بن العبّاس بن يعقوب قال حدّثني أبي قال:
قال المأمون لمتيّم جارية عليّ بن هشام: أجيزي لي هذين البيتين:
تعالي تكون الكتب بيني و بينكم *** ملاحظة نومي بها و نشير
و رسلي بحاجاتي و هنّ كثيرة *** إليك إشارات بها و زفير(5)
إنّ العيون التي في طرفها مرض *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللّبّ حتى لا حراك له *** و هنّ أضعف خلق اللّه أركانا
ص: 222
عروضه من البسيط. و الشعر لجرير. و الغناء لابن محرز. و لحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل. و في هذه القصيدة أبيات أخر تغنّى فيها ألحان سوى هذا اللحن، منها قوله:
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق *** هل ما ترى تارك للعين إنسانا
إن العيون التي في طرفها مرض *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
[الغناء في هذين البيتين ثقيل](1) أوّل مطلق بإطلاق الوتر في مجرى البنصر.
و منها أيضا:
بان الأخلاّ و ما ودّعت من بانا *** و قطّعوا من حبال الوصل أركانا
أصبحت لا أبتغي من بعدهم بدلا *** بالدار دارا و لا الجيران(2) جيرانا
و صرت مذ ودّع الأظعان ذا طرب(3) *** مروّعا من حذار البين محزانا
في الأوّل و الثاني و الثالث من الأبيات خفيف رمل بالبنصر. و فيها للغريض ثاني ثقيل بالبنصر، من رواية عمرو بن بانة و الهشاميّ . و ذكر حبش أن فيه لمالك خفيف رمل بالوسطى، و لابن سرجس في الأوّل و الثاني و بعدهما:
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق
رمل بالوسطى. و ذكر الهشاميّ أن لابن محرز في الأوّل و الثاني بعدهما «أتبعتهم مقلة» /لحنا من الثقيل الأوّل بالبنصر، و ذكر المكيّ أنه لمعبد.
انتهى الجزء السابع من كتاب الأغاني و يليه الجزء الثامن و أوّله نسب جرير و أخباره
ص: 223
ص: 224
الموضوع الصفحة
1 - أخبار الوليد بن يزيد و نسبه 5
2 - ذكر أخبار عمر الواديّ و نسبه 62
3 - أخبار أبي كامل 66
4 - أخبار يزيد بن ضبّه و نسبه 69
5 - أخبار إسماعيل بن الهربذ 76
6 - أخبار أبي دهبل و نسبه 85
7 - أخبار حسين بن الضحاك و نسبه 107
8 - أخبار أبي زكّار الأعمى 165
9 - أخبار السيّد الحميريّ 167
10 - أخبار عبد اللّه بن علقمة و حبيشة 205
11 - ذكر متيّم الهشامية و بعض أخبارها 212
فهرس الموضوعات 225
ص: 225