الأغاني المجلد 5-6

هویة الکتاب

الأغاني

المؤلفين الآخرين

مدقق لغوي ومترجم:

مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي

المجلدات : 25ج

لسان: العربية

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374

إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري

ص: 1

المجلد 5

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

من كتاب الأغاني بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

تتمة التراجم

1 - ذكر النابغة الجعدي و نسبه و أخباره و السبب الذي من أجله قيل هذا الشعر

اشارة

1 - ذكر النابغة الجعدي و نسبه و أخباره و السبب الذي من أجله قيل(1) هذا الشعر

نسبه و كنيته:

هو - على ما ذكر أبو عمرو الشّيبانيّ و القحذميّ، و هو الصحيح، - حبّان(2) بن قيس بن عبد اللّه بن وحوح بن عدس(3) - و قيل ابن عمرو بن عدس مكان وحوح - ابن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. هذا النسب الذي عليه الناس اليوم مجتمعون. و قد روى ابن الكلبيّ و أبو اليقظان و أبو عبيدة و غيرهم في ذلك روايات تخالف هذا، فمنها أن [ابن](4) الكلبيّ ذكر عن أبيه أن خصفه الذي يقول الناس إنه ابن قيس بن عيلان ليس كما قالوا، و أن عكرمة ابن قيس بن عيلان و خصفة أمه، و هي امرأة من أهل هجر. و قيل: /بل هي حاضنته؛ و كان قيس بن عيلان قد مات و عكرمة صغير فربّته حتى كبر، و كان قومه يقولون: هذا عكرمة بن خصفة، فبقيت/عليه؛ و من لا يعلم يقول:

عكرمة بن خصفة بن قيس، كما يقال خندف(5)، و إنما هي امرأة و زوجها إلياس بن مضر. و قالوا في صعصعة بن

ص: 5


1- في م: «قال» و المراد بهذا الشعر ما ورد في آخر الجزء الرابع من هذه الطبعة و نسب للنابغة.
2- كذا في «أسد الغابة» (ج 5 ص 2) و «خزانة الأدب» (ج 1 ص 512) «و الإصابة» (ج 6 ص 218) «و الاستيعاب» (ج 1 ص 320). و في جميع الأصول: «حسان».
3- عدس: هو بضم العين و فتح الدال، و كذا ضبط كل من اسمه عدس في العرب إلا عدس بن زيد بن عبد اللّه بن دارم فهو وحده بضم العين و الدال. (راجع «مختلف القبائل و مؤتلفها» لابن حبيب ص 4 طبع أوروبا).
4- التكملة عن م.
5- خندف (كزبرج) هي ليلى بنت حلوان بن عمران زوج إلياس بن مضر، و أولادهما: عمرو و هو مدركة و عامر و هو طابخة و عمير و هو قمعة، و زعموا أن سبب هذه التسمية أن إلياس خرج مرة في نجعة فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها عمرو فأدركها، و خرج عامر فتصيدها و طبخها، و انقمع عمير في الخباء، و خرجت أمهم ليلى تسرع، فقال لها إلياس: أين تخندفين؟ فقالت: ما زلت أخندف في أثركم. فلقبوا مدركة و طابخة و قمعة و خندف فذهب لها اسما و لولدها نسبا «شرح القاموس» مادة خندف).

معاوية: إن الناقمية(1) بنت عامر بن مالك، و هو الناقم، سمّي بذلك لأنه انتقم بلطمة لطمها، و هو ابن سعد(2) بن جدّان(3) بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، كانت عند معاوية بن بكر بن هوازن فمات عنها أو طلّقها و هي نسء(4)، فتزوّجها سعد بن زيد مناة بن تميم، فولدت على فراشه صعصعة بن معاوية، ثم ولدت هبيرة و نجدة و جنادة؛ فلما مات سعد اقتسم بنوه الميراث و أخرجوا صعصعة منه، و قالوا: أنت ابن معاوية بن بكر؛ فلما رأى ذلك أتى بني معاوية بن بكر فأقرّوا بنسبه و دفعوه عن الميراث؛ فلما رأى ذلك أتى سعد بن الظّرب العدوانيّ فشكا إليه ما لقي، فزوّجه بنت أخيه عمرة بنت عامر بن الظّرب، و أبوها عامر الذي يقال له: ذو الحلم(5)؛ و عمرة ابنته هذه هي التي كانت تقرع(6) له العصا إذا سها في الحكم؛ و له(7) يقول الشاعر(8):

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا *** و ما علّم الإنسان إلا ليعلما

قال: و كانت عمرة يوم زوّجها عمّها نسئا من ملك من ملوك اليمن يقال له: الغافق بن العاصي الأزديّ، و الملك يومئذ في الأزد، فولدت على فراش صعصعة عامر بن صعصعة، فسمّاه صعصعة عامرا بجدّه عامر بن الظّرب. و قال في ذلك حبيب بن وائل بن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن:

ص: 6


1- في «شرح القاموس» مادة «نقم»: «و الناقمية هي رقاش بنت عامر و بنوها بطن من عبد القيس نسبوا إلى أمهم. و قال ابن الأثير: هي أم ثعلبة و سعد ابني مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بها يعرفون. و قال الكلبي: تزوج غنم بن حبيب بن كعب بن بكر بن وائل الناقمية و هي رقاش بنت عامر و هي عجوز فقيل: ما تريد منها؟ فقال: لعلي أتغبر منها غلاما فولدت منه غلاما فولدت منه غلاما سمي عيز و أنشد الجوهري لسعد بن زيد مناة: لقد كنت أهوى الناقمية حقبة فقد جعلت آسان وصل تقطع» الآسان: جمع أسن بضمتين و بالكسر و تسكين السين و كعتل: الحبل. و كتب مصحح «شرح القاموس» بهامشه ما نصه: «قوله: أتغبر كذا بالنسخ و حرره» و لم نجد هذه الكلمة في مادتها في الكتب التي بين أيدينا؛ و قد استقصيناها فوجدنا صوابها في «شرح القاموس» في مادة «غبر» حيث قال: «و تزوّج غنم (و في «القاموس» عثمان و هو غلط) بن حبيب بن كعب بن بكر بن يشكر بن وائل امرأة مسنة اسمها رقاش بنت عامر فقيل له: إنها كبيرة السن! فقال: لعلي أتغبر منها ولدا أي أستفيده فلما ولد له سماه غبر كزفر فهو أبو قبيلة» اه. و جاء في «لسان العرب» مادة «غبر» ما نصه: «تزوّج رجل من العرب امرأة قد أسنت فقيل له في ذلك فقال: لعلي أتغبر منها ولدا فولدت له غبر، مثل عمر، و هو غبر بن غنم بن يشكر بن بكر بن وائل، و معنى أتغبر منها ولدا: أستفيد منها ولدا» اه. و قد ورد أيضا في «المشتبه» للذهبي و «مختلف القبائل و مؤتلفها» لابن حبيب (ص 23 طبع أوروبا): «غبر (بالغين المعجمة و بالباء الموحدة) ابن غنم بن حبيب بن معاذ بن عمرو بن الحارث بن معاوية بن بكر بن هوازن» اه.
2- كذا في «شرح القاموس» و «الصحاح» للجوهري (مادة نقم). و في جميع الأصول: «مسعود».
3- كذا في «شرح القاموس» مادة جدد و كتاب «مختلف القبائل و مؤتلفها» (طبع أوروبا ص 3) و هو قريب لما جاء في نسخة م من التصحيف فقد ورد فيها: «حدان» بالحاء المهملة. و في سائر الأصول: «خندف» و هو خطأ.
4- النسء (بالتثليث): المرأة المظنون بها الحمل، و قيل: التي ظهر حملها.
5- كذا في م و هو الموافق لما جاء في «اللسان» و «القاموس» (مادة قرع) «و مجمع الأمثال» للميداني (طبع بولاق ج 1 ص 32). و في سائر الأصول: «الحكم» بالكاف و ظاهر أنه تحريف.
6- قيل: إن أول من قرعت له العصا عمرو بن مالك بن ضبيعة أخو سعد بن مالك الكناني، و قيل: خالد بن ذي الجدّين حكم ربيعة، و قيل: هو ربيعة بن مخاشن حكم تميم، و قيل: هو عمرو بن حممة الدوسي حكم اليمن. (راجع «شرح القاموس» مادة قرع و «مجمع الأمثال» للميداني).
7- كذا في م. و في باقي الأصول: «و لهما يقول الشاعر».
8- نسب هذا البيت في «اللسان» و «شرح القاموس» (مادة قرع) إلى المتلمس.

/

أ زعمت أنّ الغافقيّ أبوكم *** نسب لعمر أبيك غير مفنّد(1)

و أبوكم ملك ينتف باسته *** هلباء(2) عافية كعرف الهدهد

جنحت عجوزكم إليه فردّها *** نسئا بعامركم و لمّا يؤيد

و يكنى النابغة أبا ليلى.

و أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال:

هو قيس بن عبد اللّه بن عدس بن ربيعة بن [جعدة(3) بن كعب بن ربيعة بن عامر بن] صعصعة. و قال ابن الأعرابيّ: هو قيس بن عبد اللّه بن عمرو بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة، و وافق ابن سلاّم في باقي نسبه(4). و هذا وهم ممن قال: إن اسمه قيس(5)؛ و ليس يشكّ في أنه كان له أخ يقال له وحوح بن قيس، و هو الذي قتله بنو أسد؛ و خبره يذكر بعد هذا ليصدق نسب النابغة.

و أمه فاخرة بنت عمرو بن جابر بن شحنة الأسديّ.

سبب لقبه النابغة:

و إنما سمّي النابغة لأنه أقام مدّة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله.

/أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد: قرأت على القحذميّ:

قال الجعديّ الشعر في الجاهلية ثم أجبل(6) دهرا ثم نبغ بعد في الشعر في الإسلام.

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

أقام النابغة الجعديّ ثلاثين سنة لا يتكلّم، ثم تكلّم بالشعر.

عمره و شعره فيه:
اشارة

قال القحذميّ في رواية حمّاد عنه: كان الجعديّ أسنّ من نابغة بني ذبيان.

ص: 7


1- مفند: مكذب.
2- هلباء: كثيرة الشعر، يقال: رجل أهلب و امرأة هلباء. و الهلباء صفة غالبة على الاست. و عافية: طويلة الشعر غزيرته، يقال: عفا شعر البعير إذا طال و كثر فغطى دبره، و فلان عفا شعره و أعفاه: تركه حتى طال و كثر.
3- التكملة عن م «و طبقات الشعراء» لابن سلام (ص 26 طبع ليدن).
4- كذا في م. و في سائر النسخ: «في بعض نسبه».
5- ورد في كتاب «المعمرين» لأبي حاتم السجستاني (ص 71 طبع ليدن) أن اسمه قيس بن عبد اللّه. و قد استدل المؤلف على بطلان قولهم بأن له أخا يسمى وحوح بن قيس، و إذا فقيس اسم أبيه لا اسمه. قال في الإصابة: «و يحتمل أن يكون أخاه لأمه». و لعل مصدر هذا الاحتمال قول النابغة: أ لم تعلمي أني رزئت محاربا فما لك منه اليوم شيء و لا ليا و من قبله ما قد رزئت بوحوح و كان «ابن أمّي» و الخليل المصافيا و التعبير عن الأخ بابن الأم يحتمل معه أن يكون الأخوان لأب واحد أو لأبوين. و ذكر ابن قتيبة في كتابه «طبقات الشعراء» (ص 158 طبع ليدن) ما نصه: «هو عبد اللّه بن قيس من جعدة... إلخ».
6- أجبل الشاعر: صعب عليه القول.

قال ابن سلاّم في رواية أبي خليفة عنه: كان الجعديّ(1) النابغة قديما شاعرا طويلا مفلقا طويل البقاء في الجاهلية و الإسلام، و كان أكبر من الذّبيانيّ؛ و يدلّ على ذلك قوله:

و من(2) يك سائلا عنّي فإني *** من الفتيان أيام الخنان(3)

/أتت مائة لعام ولدت فيه *** و عشر بعد ذاك و حجّتان

فقد أبقت خطوب الدّهر منّي *** كما أبقت من السيف اليماني

[قال(4) و عمّر بعد ذلك عمرا طويلا. سئل محمد بن حبيب عن أيام الخنان ما هي؟ فقال: وقعة لهم؛ فقال قائل منهم و قد لقوا عدوّهم: خنّوهم(5) بالرماح، فسمّي ذلك/العام الخنان. و يدل على أنه أقدم من النابغة الذبيانيّ أنه عمّر مع المنذر بن المحرّق قبل النعمان بن المنذر، و كان النابغة الذبيانيّ مع النعمان بن المنذر و في عصره، و لم يكن له قدم إلا أنه مات قبل الجعديّ، و لم يدرك الإسلام. و الجعديّ الذي يقول:

تذكّرت شيئا قد مضى لسبيله *** و من عادة المحزون أن يتذكّرا

نداماي عند المنذر بن محرّق *** أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرا

كهول و فتيان كأنّ وجوههم *** دنانير ممّا شيف(6) في أرض قيصرا]

أخبرني أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني عبد اللّه بن محمد بن حكيم عمن كان يأخذ العلم عنه و لم يسمّ إليّ أحدا في هذا(7): أن النابغة عمّر مائة و ثمانين سنة، و هو القائل:

لبست أناسا فأفنيتهم *** و أفنيت بعد أناس أناسا

ثلاثة أهلين أفنيتهم *** و كان الإله هو المستآسا(8)

و هي قصيدة طويلة، يقول فيها، و فيه غناء:

صوت

و كنت غلاما أقاسي الحرو *** ب يلقى المقاسون منّي مراسا

فلمّا دنونا لجرس(9) النّبا *** ح لم نعرف الحيّ إلا التماسا

ص: 8


1- عبارة ابن سلام في كتابه «طبقات الشعراء» (ص 26): «و كان النابغة شاعرا قديما مفلقا في الجاهلية و الإسلام و كان... إلخ».
2- ورد هذا الشطر في كتاب «الشعر و الشعراء» (ص 162) «و شرح القاموس» مادة خنن هكذا: و من يحرص على كبرى فاني
3- الخنان (كغراب): داء يأخذ الطير في حلوقها و في العين و زكام للإبل، و زمن الخنان كان في عهد المنذر بن ماء السماء، قال الأصمعيّ: كان الخنان داء يأخذ الإبل في مناخرها و تموت منه، فصار ذلك تاريخا لهم.
4- هذا الخبر الموضوع بين قوسين مذكور في س، م دون سائر الأصول.
5- خنوهم: اقطعوهم.
6- كذا في «جمهرة أشعار العرب»، و شاف الدينار أو السيف: جلاه. و في م، س المذكور فيهما هذا الخبر: «سيق» بالسين و القاف، و هو تحريف.
7- كذا في م. و في باقي الأصول: «و لم يسم أحدا إلا في هذا».
8- المستآس: المستعاض و المستعان، من الأوس، و هو العوض و العطية.
9- جرس النباح: صوت نباح الكلاب.

أضاءت لنا النّار وجها أغ *** رّ ملتبسا بالفؤاد التباسا

غنّى في هذه الثلاثة الأبيات فليح بن أبي العوراء خفيف ثقيل أوّل بالوسطى.

/رجع الخبر إلى رواية عمر بن شبّة:

قال: و قال أيضا:

ألا زعمت بنو سعد بأنّي *** - ألا كذبوا - كبير السنّ فاني

أتت مائة لعام ولدت فيه *** و عشر بعد ذاك و حجّتان

قال: و أنشد عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أبياته التي يقول فيها:

ثلاثة أهلين أفنيتهم

فقال له عمر رضي اللّه تعالى عنه: كم لبثت مع كل أهل؟ قال: ستين سنة.

سمع أعجميّ بشعره فقال إنه مشئوم:

و أخبرني بعض أصحابنا عن أبي بكر بن دريد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه قال:

أنشد رجل من العجم قول النابغة الجعديّ:

لبست أناسا فأفنيتهم *** و أفنيت بعد أناس أناسا

قيل إنه عاش 220 سنة:

و فسّر له، فقال: «بدين شان بود»، أي هذا رجل مشئوم. و أما ابن قتيبة فإنه ذكر ما رواه لنا عنه إبراهيم بن محمد أنه عمّر مائتين و عشرين سنة، و مات بأصبهان. و ما ذاك بمنكر؛ لأنه(1) قال لعمر رضي اللّه تعالى عنه: إنه أفنى ثلاثة قرون كلّ قرن ستون سنة، فهذه مائة و ثمانون، [ثم عمّر(2) بعده فمكث بعد قتل عمر خلافة عثمان و عليّ و معاوية و يزيد، و قدم على عبد اللّه بن الزبير بمكة و قد دعا لنفسه، فاستماحه و مدحه؛ و بين عبد اللّه بن الزبير و بين عمر] نحو مما ذكر ابن قتيبة؛ بل/لا أشك أنه قد بلغ هذه السنّ و هاجى أوس بن مغراء بحضرة الأخطل و العجّاج و كعب بن جعيل فغلبه أوس، و كان مغلّبا(3).

أنشد النبي شعرا فدعا له:

حدّثنا أحمد بن عمر بن موسى القطّان المعروف بابن زنجويه قال حدّثنا إسماعيل بن عبد اللّه السكّريّ قال حدّثنا يعلى بن الأشدق العقيليّ قال حدّثني نابغة بني جعدة قال:

أنشدت النبيّ صلى اللّه عليه و سلم هذا الشعر فأعجب به:

ص: 9


1- كذا في م. و في باقي الأصول: «إلا أنه... إلخ» و هو تحريف.
2- هذا ما ورد في م. و في باقي الأصول: «ثم عمر بعدهم فمكث بعد قتل عمر إلى خلافة عثمان... و بين هؤلاء و عمر نحو... .... إلخ».
3- يقال: شاعر مغلب أي كثيرا ما يغلب.

بلغنا السماء مجدنا و جدودنا(1) *** و إنا لنبغي فوق ذلك مظهرا

/فقال النبيّ صلى اللّه عليه و سلم: «فأين المظهر يا أبا ليلى»؛ فقلت: الجنة؛ فقال: «قل إن شاء اللّه»؛ فقلت: إن شاء اللّه.

و لا خير في حلم إذا لم يكن له *** بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا

و لا خير في جهل إذا لم يكن له *** حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

فقال النبيّ صلى اللّه عليه و سلم: «أجدت لا يفضض اللّه فاك»؛ قال: فلقد رأيته و قد أتت عليه مائة سنة أو نحوها و ما انفضّ من فيه سنّ.

أنكر الخمر في الجاهلية و هجر الأزلام و الأوثان:

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة قال:

/كان النابغة الجعديّ ممن فكّر في الجاهلية و أنكر الخمر و السّكر و ما يفعل بالعقل، و هجر الأزلام(2)و الأوثان(3)، و قال في الجاهلية كلمته التي أوّلها:

الحمد للّه لا شريك له *** من لم يقلها فنفسه ظلما

وفد على النبي و أسلم:

و كان يذكر دين إبراهيم و الحنيفيّة، و يصوم و يستغفر، و يتوقّى(4) أشياء لعواقبها. و وفد على النبيّ صلى اللّه عليه و سلم فقال:

أتيت رسول اللّه إذ جاء بالهدى *** و يتلو كتابا كالمجرّة(5) نيّرا

و جاهدت حتى ما أحسّ و من معي *** سهيلا إذا ما لاح ثمّت غوّرا

أقيم على التقوى و أرضى بفعلها(6) *** و كنت من النار المخوفة أوجرا(7)

و حسن إسلامه، و أنشد النبيّ صلى اللّه عليه و سلم؛ فقال له: «لا يفضض اللّه فاك»؛ و شهد مع عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه صفّين. و قد ذكر خبره [مع عمر رضي اللّه عنه(8)؛ و أما خبره] مع عثمان فأخبرنا به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال قال مسلمة بن محارب:

ص: 10


1- في «جمهرة أشعار العرب» (طبع مطبعة بولاق الأميرية): بلغنا السما مجدا وجودا و سؤددا و إنا لنرجو فوق ذلك مظهرا و في «اللسان» (مادة ظهر): بلغنا السماء مجدنا و سناؤنا........
2- الأزلام: قداح كانت في الجاهلية مكتوب عليها الأمر و النهي: افعل و لا تفعل، كان الرجل منهم يضعها في وعاء له، فإذا أراد أمرا مهما من سفر أو زواج، أدخل يده فأخرج منها زلما (الزم بفتحتين أو بضم ففتح) فإن خرج الأمر مضى لشأنه، و إن خرج النهي كف عنه و لم يفعله.
3- الوثن: الصنم ما كان، و قيل: الصنم الصغير، و قال ابن الأثير: الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب و الحجارة كصورة الآدميّ تعمل و تنصب فتعبد، و الصنم: الصورة بلا جثة، و منهم من لم يفرق بينهما و أطلقهما على المعنيين.
4- كذا في م. و في باقي الأصول: «يتوقع»، و هو تحريف.
5- المجرة: نجوم كثيرة لا تدرك بمجرّد البصر و إنما ينتشر ضوأها فيرى كأنه بقعة بيضاء.
6- كذا في م و هو الموافق لما في «الإصابة». و في باقي الأصول: «بفعله».
7- أوجر: خائف، يقال: وجر من الشيء إذا خاف، و بابه كفرح، و الوصف منه وجر و أوجر.
8- التكملة عن م.
استأذن عثمان في سكنى البادية:

دخل النابغة الجعديّ على عثمان رضي اللّه تعالى عنه فقال: أستودعك اللّه يا أمير المؤمنين؛ قال: و أين تريد يا أبا ليلى؟ قال: ألحق بإبلي فأشرب من ألبانها فإني منكر لنفسي؛ فقال: أ تعرّبا(1) بعد الهجرة يا أبا ليلى! أ ما علمت أن ذلك مكروه؟! قال: ما علمته، و ما كنت لأخرج حتى أعلمك. قال: فأذن له، و أجّل له في ذلك أجلا؛ فدخل على الحسن و الحسين ابني عليّ فودّعهما؛ فقالا له: أنشدنا من شعرك يا أبا ليلى؛ فأنشدهما:

الحمد للّه لا شريك له *** من لم يقلها فنفسه ظلما

فقالا: يا أبا ليلى، ما كنا نروي هذا الشعر إلا لأميّة بن أبي الصّلت؛ فقال: يا بني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إني لصاحب هذا الشعر و أوّل من قاله، و إن السّروق(2) لمن سرق شعر أمية.

كان مغلبا ما هاجى قط إلا غلب:

قال أبو زيد عمر(3) بن شبّة في خبره:

كان النابغة شاعرا متقدّما، و كان مغلّبا ما هاجى قطّ إلا غلب، هاجى أوس بن مغراء و ليلى الأخيليّة و كعب بن جعيل فغلبوه جميعا.

مهاجاته أوس بن مغراء:

و قال أبو عمرو الشّيبانيّ: كان بدء حديث النابغة و أوس بن مغراء أنّ معاوية لما وجّه بسر بن أرطاة(4) الفهريّ لقتل شيعة عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه، /قام إليه معن بن يزيد بن الأخنس السّلميّ و زياد بن الأشهب بن ورد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة، فقالا: يا أمير المؤمنين، نسألك باللّه و بالرحم ألاّ تجعل لبسر على قيس سلطانا، فيقتل(5) قيسا بمن قتلت بنو/سليم من بني فهر و بني كنانة يوم دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مكة؛ فقال معاوية: يا بسر لا أمر(6) لك على قيس؛ و سار بسر حتى أتى المدينة، فقتل(7) ابني عبيد اللّه بن العباس، و فرّ أهل المدينة و دخلوا الحرّة (حرّة بني سليم). ثم سار بسر حتى أتى الطائف؛ فقالت له ثقيف: ما لك علينا سلطان، نحن من قيس؛ فسار حتى أتى همدان و هم في جبل لهم يقال له شبام، فتحصّنت فيه همدان، ثم نادوا: يا بسر نحن همدان و هذا شبام، فلم يلتفت إليهم؛ حتى إذا اغترّوا و نزلوا إلى قراهم، أغار عليهم فقتل و سبى نساءهم؛ فكنّ أوّل مسلمات سبين في

ص: 11


1- يقال: تعرّب الرجل: صار أعرابيا بعد أن كان عربيا و في الحديث: ثلاث من الكبائر: منها التعرّب بعد الهجرة و هو أن يعود إلى البادية و يقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا.
2- في م: «إن السروق عين السروق من...».
3- في الأصول: «قال أبو زيد قال عمر.... إلخ» بزيادة «قال» و هو خطأ، إذ أبو زيد كنية عمر بن شبة. و في م: «قال أبو زيد في خبره» دون «عمر بن شبة».
4- في «أسد الغابة» «و قيل: ابن أبي أرطاة» و مثله في «طبقات ابن سعد». و في «الاستيعاب»: «بسر بن أرطاة بن أبي أرطاة» و هو أحد من بعثه عمر بن الخطاب مددا لعمرو بن العاص لفتح مصر و شهد صفين مع معاوية و كان شديدا على عليّ و أصحابه.
5- كذا في م. و في باقي الأصول: «فيجعل قيسا...» و هو تحريف.
6- في م: «لا إمرة على قيس... إلخ».
7- في الطبري «و المعارف» لابن قتيبة أن قتلهما كان باليمن، و قد كان أبوهما واليا عليها من قبل عليّ، فلما بلغه مسير بسر فرّ إلى الكوفة، فكان من أمر ابنيه الطفلين ما ذكر.

الإسلام. و مرّ بحيّ من بني سعد نزول بين ظهري بني جعدة بالفلج(1)، فأغار بسر على الحيّ السّعديّين فقتل منهم و أسر؛ فقال أوس بن مغراء في ذلك:

مشرّين ترعون النّجيل و قد غدت *** بأوصال قتلاكم كلاب مزاحم

- المشرّ: الذي قد بسط ثوبه في الشمس. و النجيل: جنس من الحمض - فقال النابغة يجيبه:

/

متى أكلت لحومكم كلابي *** أكلت يديك من جرب تهام(2)

أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب مما أجاز لنا روايته عنه من حديثه و أخباره مما ذكره منها عن محمد بن سلاّم الجمحيّ عن أبي الغرّاف، و أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر، قالا حدّثنا عمر بن شبّة [عن محمد(3) بن سلاّم] عن أبي الغرّاف(4):

أن النابغة هاجى أوس بن مغراء؛ قال: و لم يكن أوس مثله و لا قريبا منه في الشعر؛ فقال النابغة: إني و إياه لنبتدر بيتا، أيّنا سبق إليه غلب صاحبه؛ فلما بلغه قول أوس:

لعمرك ما تبلى سرابيل عامر *** من اللؤم ما دامت عليها جلودها

قال النابغة: هذا البيت الذي كنا نبتدر إليه. فغلّب أوس عليه.

قال أبو زيد(5): فحدّثني المدائنيّ أنهما اجتمعا في المربد(6) فتنافرا و تهاجيا، و حضرهما العجّاج و الأخطل و كعب بن جعيل، فقال أوس:

/

لمّا رأت جعدة منا وردا(7)*** ولّوا نعاما في البلاد(8) ربدا(9)

إنّ لنا عليكم معدّا(10)*** كاهلها و ركنها الأشدّا

ص: 12


1- الفلج (بالتحريك): موضع لبني جعدة بن قيس بنجد، و هو في أعلى بلاد قيس، و فيه قال الراجز: نحن بنو جعدة أرباب الفلج نضرب بالبيض و نرجو بالفرج (راجع «معجم ما استعجم» ج 2 ص 714).
2- تهام: منسوب إلى تهامة. و يجوز في النسبة إلى تهامة تهامى (بكسر التاء و تشديد الياء) و تهام (بفتح التاء و حذف الياء) كيمان و شآم، أي إذا فتحت التاء حذفت الياء. و قال سيبويه: و منهم من يقول: تهاميّ و يمانيّ و شآميّ بالفتح و التشديد. و الألف في تهام (بفتح التاء و حذف الياء) أصلية و في يمان و شآم عارضة. و قيل: إن تهاميا (بتخفيف الياء) منسوب إلى تهم بمعنى تهامة، فلما حذفت إحدى الياءين عوّضت عنها الألف. و على هذا تكون الألف عارضة في الكل.
3- التكملة عن م. إذ لم نجد في المراجع التي بين أيدينا أنّ عمر بن شبة يروى عن أبي الغرّاف و إنما الذي يروى عنه هو محمد بن سلام.
4- كذا في م، ج (بالغين المعجمة)، و هو الموافق لما في «طبقات الشعراء» للجمحيّ ص 81 و «النقائض» ص 240)، و هو أبو الغرّاف الضبيّ. و في باقي الأصول: «العرّاف» بالعين المهملة، و هو تصحيف.
5- في م: «قال ابن دريد فحدّثني أبو زيد أنهما...».
6- المربد (كمنبر): موضع بالبصرة كان مجتمعا للقوم.
7- الورد (بالكسر): الجيش، و هو أيضا الإشراف على الماء و غيره دخله أو لم يدخله.
8- في م: «في الفلاة».
9- ربدا: جمع ربداء و هي من النعام ما كان لونها سودا مختلطا، و قيل: ما كان كله سوادا، و قيل: ما كان بين السواد و الغبرة.
10- معدّ: أبو حيّ من العرب. و إلى معد ينتسب أوس بن مغراء، و بهذا النسب يفخر على النابغة. و كاهل القوم: معتمدهم في الملمات و سندهم في المهمات، و هو مأخوذ من كاهل الظهر لأن عنق الفرس يتساند إليه إذا أحضر. قال الشاعر:

فقال العجاج:

كل امرئ يعدو بما استعدّا

و قال الأخطل يعين أوس بن مغراء و يحكم له:

و إني لقاض بين جعدة عامر *** و سعد قضاء بيّن الحقّ فيصلا

أبو جعدة الذئب الخبيث طعامه *** و عوف بن كعب أكرم الناس أوّلا

و قال كعب بن جعيل:

إنّي لقاض قضاء سوف يتبعه *** من أمّ قصدا و لم يعدل إلى أود(1)

فصلا من القول تأتمّ القضاة به *** و لا أجور و لا أبغي على أحد

ناكت بنو عامر سعدا و شاعرها *** كما تنيك بنو عبس(2) بني أسد

مهاجاته ليلى الأخيلية:

و قال أبو عمرو الشيبانيّ: كان سبب المهاجاة بين ليلى الأخيليّة و بين الجعديّ أنّ رجلا/من قشير - يقال له ابن الحيا (و هي أمه) و اسمه سوّار بن أوفى بن سبرة - هجاه و سبّ أخواله من أزد في أمر كان بين قشير و بين بني جعدة و هم بأصبهان/متجاورون، فأجابه النابغة بقصيدته التي يقال لها الفاضخة - سمّيت بذلك لأنه ذكر فيها مساوي قشير و عقيل و كلّ ما كانوا يسبّون به، و فخر بمآثر قومه و بما كان لسائر بطون بني عامر سوى هذين الحيّين من قشير و عقيل -:

جهلت عليّ ابن الحيا و ظلمتني *** و جمّعت قولا جاء بيتا مضلّلا

و قال في هذه القصّة أيضا قصيدته التي أوّلها:

إمّا ترى(3) ظلل الأيّام قد حسرت *** عنّي و شمّرت ذيلا كان ذيّالا(4)

و هي طويلة، يقول فيها:

ص: 13


1- الأود: العوج.
2- في م: «بنو عمرو».
3- هذا شرط جوابه في البيت الذي يلي هذا البيت و هو: و عممتني بقايا الدهر من قطن فقد أنفج ذا فرقين ميالا و هذا البيت مذكور ضمن قصيدة طويلة في نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية بعنوان «شعر النابغة الجعدي» ضمن مجموعة تحت رقم 1845 أدب.
4- ذيل ذيال: طويل.

و يوم مكّة إذ ماجدتم(1) نفرا *** حاموا(2) على عقد الأحساب أزوالا(3)

عند النّجاشيّ إذ تعطون أيديكم(4) *** مقرّنين و لا ترجون إرسالا

إذ تستحبّون(5) عند الخذل أنّ لكم *** من آل جعدة أعماما و أخوالا

لو تستطيعون أن تلقوا جلودكم *** و تجعلوا جلد عبد اللّه سربالا

- يعني عبد اللّه(6) بن جعدة بن كعب -:

/

إذا تسربلتم فيه لينجيكم *** ممّا يقول ابن ذي الجدّين إذ قالا

حتّى وهبتم لعبد اللّه صاحبه *** و القول فيكم بإذن اللّه ما فالا(7)

تلك(8) المكارم لا قعبان من لبن *** شيبا(9) بماء فعادا بعد أبوالا

يعني بهذا البيت أن ابن الحيا فخر عليه بأنهم سقوا رجلا من جعدة أدركوه في سفر و قد جهد عطشا لبنا و ماء فعاش.

و قال في هذه القصّة أيضا قصيدته التي أوّلها:

أبلغ قشيرا و الحريش(10) فما *** ذا ردّ في أيديكم شتمي

و فخر عليهم بقتل علقمة الجعفيّ يوم وادي نساح(11) و قتل شراحيل(12) بن الأصهب الجعفيّ، و بيوم رحرحان(13) أيضا، فقال فيه:

ص: 14


1- ماجدتم: فاخرتم و سابقتم في المجد.
2- يقال: حامي عن الشيء إذا دافع عنه، و حامى عليه إذا احتفل له. قال الشاعر: حاموا على أضيافهم فشووا لهم من لحم منقية و من أكباد فيحتمل هنا أن يكون المراد المعنى الأوّل و تكون «على» بمعنى «عن»، أو المعنى الثاني و يكون معنى الاحتفال بعقد الأحساب (و هي الأواصر التي تربط ذوي الأرحام بعضهم ببعض) هو القيام بما تقتضيه من نصر من يتصل بهم و الدفاع عنه.
3- أزوال: جمع زول، و هو الفتى الخفيف الظريف و الجواد.
4- إعطاء اليد: كناية عن الانقياد و المذلة. و مقرنين: مشدودين في القرن و هو الحبل.
5- كذا في النسخة المخطوطة المذكورة. و في جميع الأصول: «تستحقون».
6- هو عبد اللّه بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة خال النابغة الجعديّ (راجع النسخة المذكورة).
7- قال: أخطأ. و في الأصول: «قال». و لعل ما رجحناه هو الصواب.
8- روى صاحب «العقد الفريد» هذا البيت ضمن أبيات لأبي الصلت والد أمية بن «أبي الصلت يمدح بها سيف بن ذي يزن مطلعها: لم يدرك الثأر أمثال ابن ذي يزن لجج في البحر للأعداء أحوالا (صوابه: ليطلب الثأر). و مثله في «معجم البلدان» لياقوت في كلامه على غمدان «و الشعر و الشعراء» في ترجمة أمية بن أبي الصلت (ص 279-282 طبع أوروبا) و ابن جرير الطبري (طبع أوروبا قسم 3 ص 956).
9- شيبا: خلطا.
10- كذا في س «الحريش» (بالحاء المهملة) و كذلك صححه المرحوم الشيخ الشنقيطي في نسخته، و هو الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، و في باقي الأصول: «الجريش» بالجيم المعجمة، و هو تصحيف. (راجع «القاموس» و «شرحه» مادة حرش و كتاب «الاشتقاق» لابن دريد).
11- وادي نساح (بكسر النون): باليمامة.
12- أو هو شرحبيل (عن «القاموس» مادتي شراحيل و شرحبيل).
13- رحرحان: جبل قريب من عكاظ خلف عرفات، قيل: هو لغطفان، و كان للعرب فيه يومان سيأتي كلام عليهما في هذا الجزء.

هلاّ(1)

سألت بيومي رحرحان و قد *** ظنّت هوازن أنّ العزّ قد زالا

/فلما ذكر ذلك النابغة قال:

تلك المكارم لا قعبان من لبن *** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

ففخر بما له و غضّ مما لهم. و دخلت ليلى الأخيلية بينهما فقالت:

و ما كنت لو قاذفت(2) جلّ عشيرتي *** لأذكر قعبي حازر(3) قد تثمّلا

و هي كلمة(4). فلما بلغ النابغة قولها قال:

ألا حيّيا ليلى و قولا لها هلا(5) *** فقد ركبت أبرا(6) أغرّ محجّلا

و قد أكلت بقلا و خيما نباته *** و قد شربت من آخر الصيف(7) أيّلا(8)

- يعني ألبان الأيّل -.

/

دعي عنك تهجاء الرجال و أقبلي *** على أذلغيّ(9) يملأ استك فيشلا

/و كيف أهاجي شاعرا رمحه استه *** خضيب البنان لا يزال مكحّلا

فردّت عليه ليلى الأخيليّة فقالت:

أ نابغ لم تنبغ(10) و لم تك أوّلا *** و كنت صنيّا بين ضدّين مجهلا(11)

ص: 15


1- في النسخة المخطوطة: «نحن الفوارس يومي... إلخ».
2- كذا في كتاب «أشعار النساء» (تأليف أبي عبيد اللّه محمد بن عمران المرزباني ج 3 ص 2 المخطوط المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 8 أدب ش). و في الأصول: «فارقت».
3- كذا في ح و الحازر: اللبن الحامض. و في ب و س: «خازر» (بالخاء المعجمة). و تمثل: صار كتلا من الرغوة، و الثمالة: الرغوة. (عن كتاب «أشعار النساء»).
4- المراد بالكلمة هنا القصيدة، يقال: قال الشاعر كلمة أي قصيدة.
5- هلا: كلمة زجر، تزجر بها الإناث من الخيل إذا أنزى عليها الفحل لنقر و تسكن.
6- كذا في كتاب «أشعار النساء». و في جميع الأصول: «أمرا» بالميم، و ظاهر أنه تحريف.
7- في م: «الليل».
8- كذا في ح، م. و الأيل (وزان سيد و ميت): الذكر من الأوعال، أو هو ذو القرن الأشعث الضخم مثل الثور الأهليّ. و المراد: إذا شربت ألبانه، كما قال المؤلف. و كانوا يزعمون أن ألبان الأيل تغلم شاربها. قال أبو الهيثم: هذا محال، و من أين توجد ألبان الأيايل! و ذهب إلى أن الأيل (بضم الهمزة): الألبان الخاثرة، يقال: آل اللبن يئول أولا و إيالا إذا خثر فاجتمع بعضه إلى بعض، فالوصف للواحد اثل و الجمع أيل، و قيل: إن اللبن الآئل مما يسمن و يغلم. و اعترض على هذا التفسير بأن فعلا يكون جمعا لفاعل إذا كان وصفا لحيوان، فأجيب بأن ذلك هو الغالب الكثير. و اعترض أيضا بأنه كان ينبغي أن يكون أوّلا، لأنه واوي العين؛ فأجيب بأن سيبويه أجاز الإعلال في مثله، نحو صيم و قيم في صوّم و قوّم. و قال أبو منصور في تفسير الأيل: «هو البول الخاثر بالنصب (يريد بفتح الهمزة) من أبوال الأروية إذا شربته المرأة اغتلمت». و في سائر الأصول: «أبلا» بالباء الموحدة، و هو تصحيف.
9- الأذلغيّ (بالذال و الغين المعجمتين): الضخم الطويل من الأيور، قيل: هو منسوب إلى أذلغ بن شدّاد من بني عبادة بن عقيل و كان نكاحا. و في الأصول: «أدلفيّ» بالدال المهملة و الفاء، و هو تحريف، و التصويب عن «اللسان» «و شرح القاموس» في مادّة ذلغ و قد وضعه «القاموس» في مادة دلع (بالدال و العين المهملتين) و خطأه شارحه.
10- نبغ في الشعر: أجاده، و هو بفتح عينه في الماضي و تثليثها في المضارع.
11- المجهل كمقعد: أرض لا يهتدي فيها، لا يثني و لا يجمع.

- الصنيّ: شعب صغير يسيل منه الماء. و صدّان: جبلان -.

أ نابغ إن تنبغ بلؤمك لا تجد *** للؤمك إلاّ وسط جعدة مجعلا

تعيّرني داء بأمّك مثله *** و أيّ حصان(1) لا يقال لها هلا

فغلبته. فلما أتى بني جعدة قولها هذا، اجتمع ناس منهم فقالوا: و اللّه لنأتين صاحب المدينة، أو أمير المؤمنين، فليأخذنّ لنا بحقّنا من هذه الخبيثة، فإنها قد شتمت أعراضنا و افترت علينا، فتهيّئوا لذلك؛ و بلغها أنهم يريدون أن يستعدوا عليها، فقالت:

/

أتاني من الأنباء أنّ عشيرة *** بشوران(2) يزجون المطيّ المذلّلا(3)

يروح و يغدو وفدهم بصحيفة *** ليستجلدوا لي، ساء ذلك معملا

و قد أخبرني ببعض هذه القصّة أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبّة فجاء بها مختلطة، و هذا أوضح و أصحّ.

يوم وادي نساح:

قال أبو عمرو: فأما ما فخر به النابغة من الأيام، فمنها يوم علقمة الجعفيّ، فإنه غدا في مدحج و معه زهير الجعفيّ، فأتى بني(4) عقيل بن كعب فأغار عليهم، و في بني عقيل بطون من سليم يقال لهم بنو بجلة، فأصاب سبيا و إبلا كثيرة، ثم انصرف راجعا بما أصاب، فاتّبعه بنو كعب، و لم يلحق به من بني عقيل إلا عقال بن خويلد بن عامر بن عقيل، فجعل يأخذ أبعار إبل الجعفيّين فيبول عليها حتى يندّيها، ثم يلحق ببني كعب فيقول: إيه فدى لكم أبواي، قد لحقتم القوم؛ حتى وردوا عليهم النخيل في يوم قائظ، و رأس زهير في حجر جارية من سليم من بني بجلة سباها يومئذ و هي تفليه، و هو متوسّد قطيفة حمراء و هي تضفر سعفاته - أي أعلى رأسه - بهدب القطيفة؛ فلم يشعروا إلا بالخيل؛ فكان أوّل من لحق زهيرا ابن النّهاضة(5)، فضرب وجه زهير بقوسه حتى كسر أنفه، ثم لحقه عقال بن خويلد، فبعج بطنه، فسال من بطنه برير و حلب - و البرير: ثمر الأراك. و الحلب: لبن كان قد اصطبحه - /فذلك يوم يقول أبو حرب أخو عقال بن خويلد: و اللّه لا أصطبح لبنا حتى آمن من الصّباح(6). قال: و هذا اليوم هو يوم وادي نساح و هو باليمامة.

يوم شراحيل:

قال: و أمّا يوم شراحيل(7) بن الأصهب الجعفيّ فإنه يوم مذكور تفتخر به مضر كلّها. و كان شراحيل خرج

ص: 16


1- كذا في م. و في كتاب «أشعار النساء» للمرزباني: «و أيّ جواد لا يقال لها هلا»، و الجواد يطلق على الأنثى أيضا. و في سائر الأصول: «و أي نجيب لا يقال له...» و قد آثرنا ما في م لقول «اللسان» (مادة هلا): «... هلا زجر للخيل و قد يستعمل للإنسان...» و استشهد بالبيت كما ورد في م. و على هذا تكون الحصان (بفتح الحاء) المرأة العفيفة.
2- شوران (بفتح أوله و إسكان ثانيه بعده راء مهملة): جبل في ديار بني جعدة و هو مطل على السّدّ، و فيه مياه سماء يقال لها البحرات، فيها سمك أسود مقدار الذراع أطيب ما يكون و أمرؤه. (راجع «معجم ما استعجم» ص 462، 822).
3- في «أشعار النساء» للمرزباني «و معجم ما استعجم»: «المنعلا»، و نعّل البعير: وضع في خفه جلدا لئلا يحفى.
4- كذا في م، و كذلك صححه المرحوم الشيخ الشنقيطي بنسخته. و في سائر الأصول: «فأتى به عقيل»، و هو تحريف.
5- في م: «ابن النفاضة».
6- الصباح: الغارة صبحا.
7- انظر الحاشية رقم 6 ص 15 من هذا الجزء.

مغيرا في جمع عظيم من اليمن، و كان قد طال عمره و كثر تبعه و بعد صيته و اتصل ظفره، و كان قد صالح بني عامر على أن يغزو العرب مارّا بهم في بدأته و عودته لا يعرض أحد منهم لصاحبه(1)؛ فخرج غازيا في بعض غزواته فأبعد، ثم رجع إليهم فمرّ على بني جعدة فقرته و نحرت له؛ فعمد ناس من أصحابه سفهاء فتناولوا إبلا لبني جعدة فنحروها؛ فشكت ذلك بنو جعدة إلى شراحيل، فقالوا: قريناك و أحسنّا ضيافتك ثم لم تمنع أصحابك مما يصنعون! فقال: إنهم قوم مغيرون، و قد أساءوا لعمري! و إنما يقيمون عندكم يوما أو يومين ثم يرتحلون عنكم. فقال الرّقاد/بن عمرو بن ربيعة بن جعدة لأخيه ورد بن عمرو - و قيل: بل قال ذلك لابن أخيه الجعد بن ورد -: دعني أذهب إلى بني قشير - قال: و جعدة و قشير أخوان لأمّ و أب، أمّهما ريطة بنت قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور - فأدعوهم، و اصنع أنت يا هذا لشراحيل طعاما حسنا كثيرا، و ادعه و أدخله إليك فاقتله، فإن احتجت إلينا فدخّن، فإني إذا رأيت الدّخان أتيتك بهم فوضعنا سيوفنا(2) على القوم. فعمد و رد هذا إلى طعام فأصلحه، /و دعا شراحيل و ناسا من أصحابه و أهله و بني عمه، فجعلوا كلّما دخل البيت رجل قتله ورد، حتى انتصف النهار؛ فجاء أصحاب شراحيل يتبعونه، فقال لهم ورد: تروّحوا(3) فإنّ صاحبكم قد شرب و ثمل و سيروح [فرجعوا](4)؛ و دخّن ورد، و جاءت قشير، فقتلوا من أدركوا من أصحابه، و سار سائرهم؛ و بلغهم قتل شراحيل، فمرّوا على بني عقيل، و هم إخوتهم، فقالوا: لنقتلنّ مالك بن المنتفق؛ فقال لهم مالك: أنا آتيكم بورد؛ فركب ببني عقيل إلى بني جعدة و قشير ليعطوهم وردا؛ فامتنعوا من ذلك و ساروا بأجمعهم فذبّوا عن عقيل، حتى تفرّق من كان مع شراحيل. فقال في ذلك بحير(5) [بن](6) عبد اللّه بن سلمة:

أ حيّ يتبعون العير نحرا(7) *** أحبّ إليك أم حيّا هلال

لعلك قاتل وردا و لمّا *** تساق(8) الخيل بالأسل النّهال

ص: 17


1- كذا في ط. و في باقي الأصول: «... في بدأته و عودته و لا يعرض واحد منهم صاحبه...».
2- وضعنا سيوفنا على القوم: ألقينا بها و أسقطناها عليهم أي ضربناهم بها؛ يقال: وضع السيف إذا ضرب به؛ قال سديف: فضع السيف و ارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أمويا
3- تروّح فلان: سار في الرواح، أي العشيّ، مثل راح.
4- زيادة عن ط، ء.
5- كذا ورد هذا الاسم في عدة مواضع من كتاب «النقائض» و كتاب «أشعار النساء» للمرزباني، و هو بالباء الموحدة من تحت و الحاء المهملة على وزان أمير. و في الأصول «بجير» بالجيم، و هو تصحيف.
6- التكملة عن ط، م، ء و كتاب «النقائض» و «أشعار النساء» للمرزبانيّ.
7- كذا ورد هذا البيت في أكثر الأصول، و ورد في م: «يبتغون... تجرا» بالجيم. و أورد المرزباني هذا البيت، ببعض اختلاف في كلماته عما هنا، ضمن أبيات قالها بحير هذا في قصة له خلاصتها أن ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير تزوّجت من هوذة ابن علي الحنفي الذي كان يمدحه الأعشى فمات عنها و أصابت منه مالا كثيرا، فخطبها ابن عمها بحير بن عبد اللّه بن سلمة فلم تزوّجه، فخطبها عبد اللّه بن جدعان التيميّ إلى أبيها فزوّجه إياها، فلما أهديت إليه قال ابن عمها بحير: لنعم الحيّ لم تربع عليهم ضباعة يوم منقى اللحم غال و نعم الحيّ حيّ بني أبيها إذا قرع المقانب بالعوالي أقوم يقتنون الإبل تجرا أحب إليك أم قوم حلال حلال: مقيمون. و في هذا الشعر على هذه الرواية إقواء، و هو اختلاف حركة الرويّ. «و تجر» إما أن يكون مصدرا نصب على التعليل أو جمعا لتاجر كصحب جمعا لصاحب.
8- تساق: أصله تتساقى و في الأصول: «تساقى» ببقاء حرف العلة في آخره و هو مجزوم. و الأسل: الرماح. و النهال: الريانة، واحدها: ناهل، و يطلق الناهل أيضا على العطشان، فهو من الأضداد.

ألا يا مال ويح سواك أقصر *** أ ما ينهاك حلمك عن ضلال

يوما رحرحان:

و أمّا يوما رحرحان، فأحدهما مشهور قد ذكر في موضع آخر من هذا الكتاب بعقب أخبار الحارث بن ظالم، و هذا اليوم(1) الثاني، فكان الطمّاح الحنفيّ أغار في بني حنيفة و بني قيس بن ثعلبة على بني الحريش بن كعب و بني عبادة بن عقيل و طوائف من بني عبس يقال لهم بنو(2) حذيفة؛ فركبت بنو جعدة و بنو أبي بكر بن كلاب، و لم يشهد ذلك من بني كلاب غير بني أبي بكر، فأدركوا الطمّاح من يومهم، فاستنفذوا ما أخذه و أصابوا ما كان معه، و قتلوا عددا من أصحابه و هزموهم.

كعب الفوارس و مقتله:

قال: و أما ما ذكره(3) من إدراكهم بثأر كعب الفوارس، فإن كعب الفوارس - و هو ابن معاوية بن عبادة بن البكّاء - مرّ على بني نهد و عليه سلاحه، فحمل عليه/رجل من نهد(4) يقال له خليف فقتله و أخذ فرسه و سلاحه؛ ثم إن خليفا بعد ذلك بدهر مرّ على بني جعدة، فرآه مالك بن عبد اللّه بن جعدة و عليه جبّة كعب و فيها أثر الطعنة، و كان محرما فلم يقدر على قتله، فقال: يا هذا! أ لا رقعت هذا الخرق الذي في جبّتك! و جعل يترصّده بعد ذلك، حتى بلغه بعد دهر أنه مرّ ببني جعدة، فركب مالك بن عبد اللّه بن جعدة فرسا له و قد أخبر أن خليفا مرّ بجنباتهم(5)، فأدركه فقتله، ثم قال: بؤ بكعب. ثم غزا نواحيهم عبد اللّه بن ثور بن معاوية بن عبادة بن البكّاء: جرما و نهدا، و هم يومئذ في بني الحارث، فناداهم بنو البكّاء: ليس معنا أحد من قومنا غيرنا و إنّ النهديّ قتل صاحبنا محرما؛ فقاتلهم نهد و جرم جميعا يومئذ، و كان عبد اللّه بن ثور يومئذ على فرس ورد، فأصابوا من نهد يومئذ غنيمة عظيمة، و قتلوا قتلى كثيرة. فقال عبد اللّه في ذلك:

/

فسائل بني جرم إذا ما لقيتهم *** و نهدا إذا حجّت عليك بنو نهد

فإن يخبروك الحقّ عنا تجدهم *** يقولون أبلى صاحب الفرس الورد

ص: 18


1- ذكر في كتاب «النقائض» (المطبوع في مدينة ليدن ص 1060) تفصيل ليومي رحرحان، فأما الأوّل منهما فهو أن يثربيّ بن عدس بن زيد بن عبد اللّه بن دارم غزا بني عامر بن صعصعة و على بني عامر يومئذ الأحوص بن جعفر فالتقوا فاقتتلوا، فقتل من بني عامر قريط بن عبد اللّه بن أبي بكر بن كلاب و قتل يثربيّ يومئذ. و أما يوم رحرحان الثاني فمذكور أيضا في كتاب «النقائض» كما هو وارد في «الأغاني» (في الجزء العاشر من طبعة بولاق ص 31) و هو الموضع الذي نبه المؤلف هنا أنه ذكر فيه. و يلاحظ بعد هذا أن ما ذكره المؤلف من قوله: «فكان الطماح الحنفيّ... إلخ» غير واضح الاتصال بأحد هذين اليومين و لا الأسماء التي ذكرت في هذا الخبر مذكورة في الأسماء التي ذكرت في أحد هذين اليومين.
2- في م: «بنو خزيمة، فركبت بنو خزيمة». و في ط: «جذيمة».
3- يلاحظ أيضا أنه لم يتقدّم لهذا الخبر ذكر. و قد ذكر مقتل كعب الفوارس هذا و الأخذ بثأره، كما هو وارد هنا، في كتاب «النقائض» متصلا بأخبار «يوم فيف الريح» و هو يوم كان بين بني عامر و بين بني الحارث و من تبعهم من قبائل جعفيّ و زبيد و قبائل سعد العشيرة و مراد و صداء و نهد و استعانوا أيضا بخثعم، (راجع كتاب «النقائض» ص 469). و لعل مقتل كعب الفوارس ورد في شعر للنابغة الجعديّ لم يقع إلينا في أصول «الأغاني» التي بين أيدينا.
4- في «النقائض» (ص 471): «قتله خليف بن عبد العزي بن عائذ النهدي»، و أول كلام المؤلف هنا و آخره يؤيد ما أثبتناه و هو أنه من «نهد». و في الأصول: «من جهم» و هو تحريف.
5- جنباتهم: نواحيهم، واحده جنبة بالفتح. و في م: «حيفاتهم» و الحيفة (بالكسر): الناحية أيضا.
يوم الفلج:

قال: و أما يوم الفلج، فإن بكر بن وائل بعثت عينا على بني كعب بن ربيعة حتى جاء الفلج - و هو ماء - فوجد النّعم بعضه قريبا من بعض، و وجد الناس قد احتملوا، فليس في النّعم إلا من لا طباخ(1) به من راع أو ضعيف؛ فجاءهم عينهم بذلك، فركبت بكر بن وائل يريدونهم، حتى إذا كانوا منهم بحيث يسمعون أصواتهم، سمعوا الصّهيل و أصوات الرجال؛ فقالوا لعينهم: ما هذا ويلك؟! قال: و اللّه ما أدري، و إن هذا لمما لم أعهد، فأرسلوا من يعلم علمهم؛ فرجع فأخبرهم أن الرجال قد رجعوا، و رأى/جمعا عظيما و خيولا كثيرة(2)؛ فكّروا راجعين من ليلتهم؛ و أصبحت بنو كعب فرأوا الأثر فاتبعوهم، فأصابوا من أخرياتهم رجالا و خيلا، فرجعوا بها.

خداش بن زهير و هبيرة بن عامر:

قال: و أما قوله:

لو تستطيعون أن تلقوا جلودكم *** و تجعلوا جلد عبد اللّه سربالا

فإن السبب في ذلك أن هبيرة(3) بن عامر بن سلمة بن قشير، لقي خداش(4) بن زهير البكّائيّ، فتنافرا على مائة من الإبل، و قال كل منهما لصاحبه: أنا أكرم و أعزّ منك؛ فحكّما في ذلك رجلا من بني ذي الجدّين، فقضى بينهما أنّ أعزّهما و أكرمهما أقربهما من عبد اللّه بن جعدة نسبا؛ فقال خداش(4) بن زهير: أنا أقرب إليه، أمّ عبد اللّه بن جعدة عمّتي - و هي أميمة بنت عمرو بن عامر - و إنما أنت أدنى إليه منّي منزلة بأب؛ فلم يزالا يختصمان في القرابة لعبد اللّه دون المكاثرة بآبائهما إقرارا له بذلك، حتى فلج(5) هبيرة القشيريّ و ظفر.

عبد اللّه بن جعدة:

قال أبو عمرو: و كان عبد اللّه بن جعدة سيّدا مطاعا، و كانت له إتاوة بعكاظ يؤتى بها، يأتيه(6) بها هذا الحيّ من الأزد و غيرهم؛ فجاء سمير(7) بن سلمة القشيريّ و عبد اللّه جالس على ثياب قد جمعت له من إتاوته، فأنزله عنها و جلس مكانه؛ فجاء رياح(8) بن عمرو بن ربيعة بن عقيل - و هو الخليع، سمّي بذلك لتخلّعه عن/الملوك لا يعطيهم الطاعة - فقال للقشيريّ: مالك و لشيخنا تنزله عن إتاوته و نحن هاهنا حوله! فقال القشيريّ: كذبت، ما هي له! ثم مدّ القشيريّ رجله فقال: هذه رجلي فاضربها إن كنت عزيزا؛ قال: لا! لعمري لا أضرب رجلك؛ فقال له القشيريّ: فامدد لي رجلك حتى تعلم أ أضربها أم لا؛ فقال: و لا أمدّ لك رجلي، و لكن أفعل ما لا تنكره العشيرة

ص: 19


1- الطباخ (رواه الإيادي بفتح الطاء و الأزهريّ بضمها): القوّة و السمن.
2- كذا في ط، ء، م. و في سائر الأصول: «و خلقا كثيرا».
3- كذا في ط، ء، م و كتاب «النقائض» و فيما سيأتي في كل الأصول. و في باقي الأصول هنا: «زهير» و هو تحريف.
4- كذا في ط، ء، م و كتاب «النقائض» و كذلك صححه الأستاذ الشنقيطي في نسخته. و في باقي الأصول: «خراش» بالراء، و هو تحريف.
5- فلج: فاز و غلب.
6- كذا في ط، ء، م. و في باقي الأصول: «.. و يأتيه بها...» بزيادة الواو، و هو تحريف.
7- في ط، م، ء: «فجاء سليمان بن سلمة...».
8- كذا في ط، ء: و كذلك صححه المرحوم الأستاذ الشنقيطي في نسخته. و في م: «رماح» بالميم. و في باقي الأصول: «رباح» بالباء الموحدة، و كلاهما تحريف.

و ما هو أعزّ لي و أذلّ لك؛ ثم أهوى إلى رجل القشيريّ فسحبه على قفاه و نحّاه، و أقعد عبد اللّه بن جعدة مكانه.

قال: و عبد اللّه بن جعدة أوّل من صنع الدّبّابة(1)؛ و كان السبب في ذلك أنهم انتجعوا(2) ناحية البحرين، فهجموا على عبد لرجل يقال له كودن(3) في قصر حصين، فدخّن العبد و دعا النساء و الصبيان، فظنوا أنه يطعمهم ثريدا، حتى إذا امتلأ القصر منهم أغلقه عليهم، فصاح النساء و الصبيان، و قام العبد و من معه على شرف القصر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا رماه؛ فلما رأى ذلك عبد اللّه بن جعدة صنع دبّابة على جذوع النخل و ألبسها جلود الإبل، ثم جاء بها و القوم يحملونها حتى أسندوها إلى القصر، ثم حفروا حتى خرقوه(4)؛ فقتل العبد/و من كان معه و استنقذ صبيانهم و نساءهم. فذلك قول النابغة:

و يوم دعا ولدانكم عبد كودن *** فخالوا لدى الدّاعي ثريدا مفلفلا

و في ابن زياد و هو عقبة خيركم *** هبيرة ينزو في الحديد مكبّلا

يعني هبيرة بن عامر بن سلمة بن قشير، و كان عبد اللّه بن مالك بن عدس بن ربيعة بن جعدة خرج و معه مالك بن عبد اللّه بن جعدة، حتى مرّوا على بني(5) زياد/العبسيّين و الرجال غيب، فأخذوا ابنا لأنس(6) بن زياد و انطلقوا به يرجون الفداء؛ و انطلق عمّه عمارة بن زياد حتى أتى بني كعب، فلقي هبيرة بن عامر بن سلمة بن قشير، فقال له: يا هبيرة إن الناس يقولون: إنك بخيل؛ قال: معاذ اللّه! قال: فهب لي جبّتك هذه؛ فأهوى ليخلعها، فلما وقعت(7) في رأسه وثب عليه فأسره، ثم بعث إلى بني قشير: عليّ و عليّ إن قبلت من هبيرة أقلّ من فدية حاجب(8)إلا أن يأتوني بابن أخي الذي في أيدي بني جعدة؛ فمشت بنو قشير إلى بني جعدة، فاستوهبوه منهم فوهبوه لهم، فافتدوا به هبيرة.

وحوح أخو النابغة:

و أما خبر وحوح أخي النابغة الذي تقدّم ذكره مع نسب أخيه النابغة، فإن أبا عمرو ذكر أن بني كعب أغارت على بني أسد فأصابوا سبيا و أسرى، فركبت بنو أسد في آثارهم حتى لحقوهم بالشّريف(9)، فعطفت بنو عدس بن

ص: 20


1- الدبابة: آلة تتخذ من جلود و خشب للحرب يدخل فيها الرجال و يقربونها من الحصن المحاصر لينقبوه و هم في جوفها فتقيهم ما يرمون به من فوقهم.
2- الانتجاع: طلب الكلى و مساقط الغيث.
3- في م: «كوذن» بالذال المعجمة.
4- كذا في ط، ء، م. و في سائر الأصول: «حفروه».
5- كذا في ط، ء: «بني زيد العبسيين». و في م: «بني زيد و العبسيين» و كلاهما تحريف.
6- كذا في ط، ء، م، و هو أنس بن زياد العبسيّ و يسمى أنس الفوارس، س و له حديث في يوم أقرن. (راجع «النقائض» ص 194، 679). و في سائر الأصول: «أوس»، و هو تحريف.
7- في ط، ء، م: «وقفت» بالفاء.
8- هو حاجب بن زرارة، و هو من الذين يضرب المثل بفدائهم في الوفرة، و مثله في ذلك بسطام بن قيس و الأشعث بن قيس بن معديكرب الكندي. (راجع «كتاب ما يعوّل عليه في المضاف و المضاف إليه» - حرف الفاء). و سيأتي خبر أسر حاجب بن زرارة هذا و فدائه في «الأغاني» (ج 10 ص 42 طبع بولاق).
9- كذا في ط، ء، و الشريف (بصيغة التصغير): ماء لبني نمير، و قيل: إنه واد بنجد. و في سائر الأصول: «السديف» (بالسين و الدال المهملتين) و هو تحريف.

ربيعة بن جعدة، فذادوا بني أسد حتى قتلوا منهم ثلاثين رجلا و ردّوهم؛ و لم يظفروا منهم بشيء. و تعلّقت امرأة من بني أسد بالحكم بن عمرو بن عبد اللّه بن جعدة و قد أردفها خلفه، فأخذت بضفيرته و مالت به فصرعته، فعطف عليه عبد اللّه بن مالك بن عدس و هو أبو صفوان، فضرب يدها بالسيف فقطعها و تخلّصه. و طعن يومئذ وحوح بن/قيس أخو النابغة الجعديّ، فارتثّ(1) في معركة القوم، فأخذه خالد بن نضلة الأسديّ؛ و عطف عليه يومئذ أخوه النابغة، فقال له خالد بن نضلة: هلمّ إليّ و أنت آمن؛ فقال له النابغة: لا حاجة لي في أمانك، أنا على فرسي و معي(2)سلاحي و أصحابي قريب، و لكنّي أوصيك بما في العوسجة(3) (يعني أخاه وحوح بن قيس)؛ فعدل إليه خالد فأخذه و ضمّه إليه و منع من قتله و داواه حتى فدي بعد ذلك. قال: ففي ذلك يقول مدرك العبسيّ(4):

أقمت على الحفاظ و غاب فرج *** و في فرج عن الحسب انفراج

كذلك فعلنا و حبال عمّي *** وردن بوحوح فلج(5) الفلاج(6)

شعر للنابغة الجعدي:
اشارة

و مما قاله النابغة في هذه المفاخرة و غنّي فيه قوله و قد جمع معه كلّ ما يغنّي فيه من القصيدة -:

الصوت

هل بالدّيار الغداة من صمم *** أم هل بربع الأنيس من قدم

أم ما تنادي من ماثل درج السّ *** يل عليه كالحوض منهدم

غرّاء كالليلة المباركة القم *** راء تهدي أوائل الظّلم

أكنى بغير اسمها و قد علم ال *** لّه خفيّات كلّ مكتتم

/كأنّ فاها إذا تبسّم من *** طيب مشمّ و طيّب(7) مبتسم

/يسنّ(8) بالضّرو من براقش أو *** هيلان أو ضامر(9) من العتم

عروضه من المنسرح. و في الأوّل و الثاني و الثالث من الأبيات خفيف ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى

ص: 21


1- ارتث: ضرب في الحرب فأثخن و حمل و به رمق.
2- في ط، ء، م: «و عليّ سلاحي».
3- العوسجة: واحدة العوسج و هو شجر شائك له ثمر أحمر مدوّر، و لعله يريد بالعوسجة حظيرة أو مظلة متخذة من شجر العوسج.
4- في ح: «الفقعسيّ».
5- فلج (بالتحريك): مدينة بأرض اليمامة لبني جعدة و قشير و كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، و فلج أيضا: مدينة قيس بن عيلان بن مضر، و يقال لها: فلج الأفلاج. و أصل الفلج النهر أو الماء الجاري، و لعله يقال أيضا: فلج الفلاج، كما ورد في الشعر هنا، لأن فعلا (بالتحريك) يجمع على أفعال و فعال.
6- في هذا الشعر إقواء و هو اختلاف حركة الرويّ.
7- في ط، ء: «و حسن مبتسم».
8- يسنّ (يسناك). و الضرو: شجر يسناك به. و براقش و هيلان: مدينتان عاديتان باليمن خربتا.
9- في «اللسان» (مادة برقش) «و معجم ما استعجم» للبكري «و معجم البلدان» لياقوت (في الكلام على براقش): «أو ناضر». و العتم (بضمتين): شجر الزيتون.

البنصر(1)، ذكره إسحاق و لم ينسبه إلى أحد، و ذكر ابن المكيّ و الهشاميّ أنه لمعبد، و أظنه من منحول يحيى، و ذكر حبش أنه لإبراهيم. و في الثالث و ما بعده لابن سريح رمل بالبنصر، و ذكر حبش أنّ فيها لإسحاق رملا آخر؛ و لابن مسجح فيها ثقيل أوّل بالبنصر.

أوّل من سبق إلى الكناية عمن يعني بغيره:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: أوّل من سبق إلى الكناية عن اسم من يعني بغيره في الشعر الجعديّ، فإنه قال:

أكني بغير اسمها و قد علم ال *** لّه خفيّات كلّ مكتتم

فسبق(2) الناس جميعا إليه و اتّبعوه فيه. و أحسن من أخذه و ألطفه فيه أبو نواس حيث يقول:

أسأل القادمين من حكمان(3) *** كيف خلفتم أبا عثمان

فيقولون لي جنان كما *** سرّك في حالها فسل عن جنان

ما لهم لا يبارك اللّه فيهم *** كيف لم يغن عندهم كتماني

ذكره الفرزدق و تحدّث عن شعره:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو بكر الباهليّ قال حدّثني الأصمعيّ قال:

ذكر الفرزدق نابغة بني جعدة فقال: كان صاحب خلقان عنده مطرف بألف، و خمار(4) بواف، (يعني درهما)(5).

وفد على ابن الزبير و مدحه فوصله:

و حدّثني خبره مع ابن الزبير جماعة، منهم حبيب بن نصر المهلّبيّ و عمر بن عبد العزيز بن أحمد و الحرميّ بن أبي العلاء و وكيع و محمد بن جرير الطبريّ حدّثنيه من حفظه، قالوا حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثنا أخي هارون بن أبي بكر(6) عن يحيى بن إبراهيم عن سليمان(7) بن محمد بن يحيى بن عروة عن أبيه عن عمّه عبد اللّه بن عروة قال:

ص: 22


1- في ط،: «في مجرى الخنصر».
2- كذا في ط، ء، ح. و في سائر الأصول: «يسبق» و هو تحريف.
3- حكمان (بالتحريك): اسم لضياع بالبصرة سميت بالحكم بن أبي العاص الثقفيّ. و هذا اصطلاح لأهل البصرة إذا سموا ضيعة باسم زادوا عليه ألفا و نونا، حتى سموا عبد اللان في قرية سميت بعبد اللّه. و كانت هذه الضيعة لبني عبد الوهاب الثقفيين موالي جنان صاحبة أبي نواس (انظر «معجم ياقوت» في اسم خكمان).
4- الخمار (بالكسر): النصيف و هو ما تغطي به المرأة رأسها، و قد يطلق على العمامة، لأن الرجل يغطي بها رأسه كما تغطيه المرأة بخمارها؛ و في حديث أم سلمة «أنه كان يسمح على الخف و الخمار» أي العمامة.
5- الذي في معاجم اللغة أن الوافي درهم و أربعة دوانق أو درهم و دانقان، يعني الفرزدق أن في شعره الجيد المتين و الرديء الضعيف. و قال المرزباني في كتابه الموشح في كلامه على النابغة الجعديّ بعد أن ذكر قول الفرزدق هذا: «قال الأصمعيّ: و صدق الفرزدق، بينا تجد النابغة في كلام أسهل من الزلال و أشدّ من الصخر إذ لان...» ثم ذكر قصيدته التي منها: سما لك هم و لم تطرب و بت ببث و لم تنصب و بيّن ما فيها من شعر جيد و آخر رديء.
6- هذه كنية أبيه بكار.
7- في ب و س: «سليمان محمد». و لعل لفظة «ابن» سقطت سهوا أثناء الطبع.

أقحمت(1) السنة نابغة بني جعدة، فدخل على ابن الزبير المسجد الحرام، فأنشده:

حكيت لنا الصّدّيق لمّا وليتنا *** و عثمان و الفاروق فارتاح معدم

أتاك أبو ليلى يجوب به الدّجى *** دجى الليل جوّاب الفلاة عثمثم(2)

لتجبر منه جانبا زعزعت(3) به *** صروف الليالي و الزمان المصمّم

/فقال له ابن الزبير: هوّن عليك أبا ليلى، فإنّ الشعر أهون و سائلك عندنا، أمّا صفوة ما لنا فلآل الزبير، و أما عفوته(4) فإنّ بني(5) أسد بن عبد العزّى تشغلها عنك و تيما معها، و لكن لك في مال اللّه حقّان: حقّ برؤيتك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و حقّ بشركتك أهل الإسلام في فيئهم؛ ثم أخذ بيده فدخل به دار النّعم، فأعطاه قلائص(6) سبعا و جملا رجيلا(7)؛ و أوقر له الإبل برّا و تمرا و ثيابا، فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحبّ صرفا؛ فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلي! لقد بلغ به الجهد؛ فقال النابغة: أشهد أني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «ما وليت قريش فعدلت و استرحمت فرحمت و حدّثت فصدقت و وعدت خيرا فأنجزت فأنا و النبيّون فرّاط(8) القاصفين» و قال الحرميّ: «فرّاط لها ضمن». قال الزّبيريّ: كتب يحيى بن معين هذا الحديث عن أخي.

ضربه أبو موسى الأشعري أسواطا فهجاه:

أخبرني أبو الحسن الأسديّ أحمد بن محمد بن عبد اللّه/بن صالح و هاشم بن محمد الخزاعيّ أبو دلف قالا حدّثنا الرّياشيّ قال قال أبو سليمان عن الهيثم بن عديّ [قال](9):

رعت بنو عامر بالبصرة في الزرع، فبعث أبو موسى الأشعريّ في طلبهم، فتصارخوا: يا آل عامر، يا آل عامر! فخرج النابغة الجعديّ و معه عصبة له؛ فأتي به إلى أبي موسى الأشعريّ، فقال له: ما أخرجك؟ قال: سمعت داعية قومي؛ قال: فضربه أسواطا؛ فقال النابغة:

رأيت البكر بكر بني ثمود *** و أنت أراك بكر الأشعرينا

ص: 23


1- أقحمته: ألقته و رمت به. و السنة: الجدب، أي أخرجه الجدب من البادية و أدخله الريف حيث الخضرة و الماء.
2- العثمثم: الجمل الشديد الطويل.
3- في ط، ء: «ذعذعت» بالذال المعجمة و هي بمعنى «زعزعت».
4- عبارة ابن الأثير في «النهاية» (مادة عفا) و نقلها عنه صاحب «اللسان»: «... أنه قال للنابغة: أما صفو أموالنا فلآل الزبير، و أما عفوه فإن تيما و أسدا تشغله عنك. قال الحربيّ: العفو: أحل المال و أطيبه. و قال الجوهريّ: عفو المال ما يفضل عن النفقة. و كلاهما جائز في اللغة و الثاني أشبه بهذا الحديث»، و هذا التوجيه الأخير لابن الأثير. و أما عفوة المال و الطعام و الشراب (بالفتح) و عفوته (بالكسر عن كراع): فهي خياره و ما صفا منه و كثر. و ظاهر أنها لا تلائم سياق الحديث، لذلك نرى أن رواية النهاية في هذا الأثر أصح مما ورد في الأصول هنا.
5- بنو أسد: قبيلة منها الزبير بن العوّام والد عبد اللّه هذا. و تيم: قبيلة منها أبو بكر الصدّيق رضوان اللّه عليه و هو جدّ ابن الزبير لأمه.
6- القلائص: جمع قلوص و هي الشابة من الإبل بمنزلة الجارية من النساء.
7- في ح: «رحيلا» بالحاء المهملة، و الرجيل و الرحيل من الإبل: القوي على السير.
8- كذا في «النهاية» في «غريب الحديث» و «الدر النثير» للسيوطي (مادتي فرط و قصف)، و فيه رواية أخرى أشار إليها السيوطي في «الدر النثير» (مادة قصف) و هي «فراط القاصفين»، و بهذه الرواية ورد الحديث في م «و اللسان» (مادتي فرط و قصف). و قد وردت كلمة «القاصفين» في أكثر الأصول هاهنا مضطربة، ففي ط، ء: «فرّاط لها ضفن و قال الحرميّ... إلخ». و في باقي الأصول: «فراط لها ضمين و قال الحرميّ... إلخ». الفرّاط: المتقدمون إلى الشفاعة أو إلى الحوض. و القاصفون: المزدحمون. و ضمن: كافلون.
9- هذه الكلمة ساقطة في ب، س.

فإن يكن ابن عفّان أمينا *** فلم يبعث بك البرّ الأمينا

فيا قبر النبيّ و صاحبيه *** ألا يا غوثنا لو تسمعونا

ألا صلّى إلهكم عليكم *** و لا صلّى على الأمراء فينا

خبره مع عليّ و معاوية:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و يحيى بن عليّ بن يحيى قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا بعض أصحابنا عن ابن دأب(1) قال:

لما خرج عليّ رضي اللّه تعالى عنه إلى صفّين خرج معه نابغة بني جعدة؛ فساق به يوما فقال:

/

قد علم المصران(2) و العراق *** أنّ عليّا فحلها العتاق(3)

أبيض جحجاح له رواق *** و أمّه غالى بها الصّداق

أكرم من شدّ به(4) نطاق *** إنّ الألى جاروك لا أفاقوا

لهم سياق(5) و لكم سياق *** قد علمت ذلكم الرّفاق

سقتم إلى نهج الهدى و ساقوا *** إلى التي ليس لها عراق(6)

في ملّة عادتها النّفاق

فلما قدم معاوية بن أبي سفيان الكوفة، قام النابغة بين يديه فقال:

أ لم تأت أهل المشرقين رسالتي *** و أيّ(7) نصيح لا يبيت على عتب

ملكتم فكان الشرّ آخر عهدكم *** لئن لم تدارككم حلوم بني حرب

و قد كان معاوية كتب إلى مروان فأخذ أهل النابغة و ماله؛ فدخل النّابغة على معاوية، و عنده عبد اللّه بن عامر و مروان، فأنشده:

من راكب يأتي ابن هند بحاجتي *** على(8) النّأي و الأنباء تنمى و تجلب

ص: 24


1- هو عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب و يكنى أبا الوليد كان هو و أبوه و أخوه من العلماء بأشعار العرب و أخبارهم و أيامهم و كان أثيرا عند الهادي و له معه أخبار طويلة. (انظر «مروج الذهب» للمسعودي ج 6 ص 264-265 طبع أوروبا «و المحاسن و المساوئ» ص 613-614 طبع أوروبا).
2- المصران: الكوفة و البصرة.
3- كذا في أكثر الأصول. و الذي في «معاجم اللغة» أن العتاق (وزان غراب): الخمر الحسنة القديمة. و لعله يريد بفحلها العتاق فحلها الكريم. و في م: «الفناق» بالفاء و النون.
4- في ط، ء، م: «بها».
5- كذا في ح، م و كذلك صححه المرحوم الشنقيطي بنسخته. و في سائر الأصول: «سباق» بالباء الموحدة و هو تصحيف.
6- يريد إلى مضلة لا نهاية لها و لا غاية.
7- في ط، ء: «و إني».
8- في ط، ء: «... لحاجتي بكوفان...» و كوفان هي الكوفة، و هي أيضا قرية بهراة.

و يخبر عنّي ما أقول ابن عامر *** و نعم الفتى يأوي إليه المعصّب(1)

/فإن تأخذوا أهلي و مالي بظنّة *** فإنّي لحرّاب الرجال محرّب(2)

صبور على ما يكره المرء كلّه *** سوى الظلم إني إن ظلمت سأغضب

فالتفت معاوية إلى مروان فقال: ما ترى؟ قال: أرى ألاّ تردّ عليه شيئا؛ فقال: ما أهون و اللّه عليك أن ينجحر هذا في غار ثم يقطع عرضي عليّ ثم تأخذه العرب فترويه، أمّا(3) و اللّه إن كنت لممن يرويه! أردد عليه كلّ شيء أخذته منه. و هذا الشعر يقوله النّابغة(4) الجعديّ لعقال بن خويلد العقيليّ يحذّره غبّ الظلم لمّا أجار بني وائل بن معن، و كانوا قتلوا رجلا من جعدة، فحذّرهم مثل حرب البسوس إن أقاموا على ذلك فيهم.

شعره في عقال بن خويلد و سببه:

قال أبو عمرو الشّيبانيّ: /كان السبب في قول الجعديّ هذه القصيدة أن المنتشر الباهليّ خرج فأغار على اليمن ثم رجع مظفّرا. فوجد بني جعدة قد قتلوا ابنا له يقال له سيدان(5)، و كانت باهلة في بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ثم في بني جعدة، فلمّا أن علم ذلك المنتشر و أتاه الخبر أغار على بني جعدة ثم على بني سبيع في وجهه ذلك، فقتل منهم ثلاثة نفر؛ فلما فعل ذلك تصدّعت باهلة، فلحقت فرقة منهم يقال لهم بنو وائل بعقال بن خويلد العقيليّ، و لحقت فرقة أخرى يقال لهم بنو قتيبة و عليهم حجل الباهليّ بيزيد بن عمرو بن الصّعق الكلابيّ، فأجارهم يزيد، و أجار عقال وائلا. فلما رأت بنو ذلك بنو جعدة أرادوا قتالهم، فقال لهم عقال: لا تقاتلوهم/فقد أجرتهم؛ فأمّا أحد الثلاثة القتلى منكم فهو بالمقتول، و أمّا الآخران فعليّ عقلهما(6)؛ فقالوا: لا نقبل إلا القتال و لا نريد من وائل غيرا(7) (يعني الدية)؛ فقال: لا تفعلوا فقد أجرت القوم؛ فلم يزل بهم حتى قبلوا الدية. و انتقلت وائل إلى قومهم. فقال النابغة في ذلك قصيدته التي(8) ذكر فيها عقالا:

فابلغ عقالا أنّ غاية داحس(9) *** بكفّيك فاستأخر لها أو تقدّم

تجير علينا وائلا في دمائنا(10) *** كأنك عما ناب(11) أشياعنا(12) عم

ص: 25


1- المعصب هو الذي عصبته السنون أي أكلت ماله، و المعصب أيضا: الذي يعصب بطنه بالخرق من الجوع.
2- كذا في أكثر الأصول. و حربه: أغضبه، يريد أن يصف نفسه بأنه شديد الكيد و النكاية و في ب، س: «مجرب» بالجيم.
3- في ط، ء: «أم و اللّه» و يكون معناها الإضراب مثل «بل».
4- في ب، س، ح: «نابغة الجعديّ» بدون أل.
5- في ط، ء: «سذان» و في م: «سيدار».
6- العقل: الدية.
7- الغير (وزان عنب): قيل: إنه مفرد جمعه أغيار، و قيل: هو جمع غيرة (بالكسر) و هي الدية.
8- عبارة ط، ء: «... قصيدته و هذه الأبيات التي ذكر فيها عقالا منها».
9- داحس: اسم فرس أضيفت إليه حرب كانت بين عبس و ذبيان، و هي حرب داحس، و ذلك أن قيس بن زهير صاحب داحس تراهن هو و حذيفة بن بدر على عشرين بعيرا و جعلا الغاية مائة غلوة و المضمار أربعين ليلة، فأجرى قيس داحسا و الغبراء، و حذيفة الخطار و الحنفاء، فوضعت بنو فزارة رهط حذيفة كمينا في الطريق فردوا الغبراء و لطموها و كانت سابقة، فهاجت الحرب بين عبس و ذبيان أربعين سنة (عن «القاموس» مادّة دحس). و النابغة يهدّد عقالا في هذه القصيدة بحرب كحرب داحس.
10- في ط: «بدمائنا».
11- في ح و هامش ط و «الموشح» للمرزباني: «نال» باللام.
12- في كتاب «الموشح» للمرزباني: «أشياعها»، و يكون المعنى على هذه الرواية أن النابغة يهدّد عقالا و يحذره ما أصاب وائلا منهم من بأس.

كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** و أيسر جرما منك ضرّج بالدّم

رمى ضرع ناب(1) فاستمرّ بطعنة *** كحاشية البرد اليماني المسهّم(2)

و ما يشعر الرمح الأصمّ كعوبه *** بثروة(3) رهط الأبلخ(4) المتظلّم

/و قال لجسّاس أغثني بشربة *** تفضّل بها طولا عليّ و أنعم

فقال تجاوزت الأحصّ(5) و ماءه *** و بطن شبيث و هو ذو مترسّم(6)

كليب وائل و مقتله و حرب البسوس و ما قيل فيها من الشعر:

و كان السبب(7) في قتل كليب بن ربيعة - فيما ذكره أبو عبيدة عن مقاتل الأحول بن سنان بن مرثد بن عبد بن عمرو بن بشر بن عمرو بن مرثد أخي بني قيس بن ثعلبة، و نسخت بعضه من رواية الكلبيّ، و أخبرنا به محمد بن العباس اليزيديّ عن عمّه عبيد اللّه عن ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل، فجمعت من روايتهم ما احتيج إلى ذكره مختصر اللفظ كامل المعنى - أنّ كليبا كان قد عزّ و ساد في ربيعة فبغى بغيا شديدا، و كان هو الذي ينزلهم منازلهم و يرحّلهم، و لا ينزلون و لا يرحلون إلا بأمره. فبلغ من عزّه و بغيه أنه اتخذ جرو كلب(8)، فكان إذا نزل منزلا به كلاّ قذف ذلك الجرو فيه فيعوي، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه، و كان يفعل هذا بحياض الماء، فلا يردها أحد إلا بإذنه أو من آذن بحرب؛ /فضرب به المثل في العزّ، فقيل: «أعزّ من كليب وائل» و كان يحمي الصيد، و يقول: صيد ناحية كذا و كذا في جواري؛ فلا يصيد أحد منه شيئا؛ و كان لا يمرّ بين يديه أحد إذا جلس، و لا يحتبي أحد في مجلسه غيره؛ فقتله جسّاس بن مرّة.

و قال أبو عبيدة: قال أبو(9) برزة القيسيّ و هو من ولد عمرو بن مرثد:

ص: 26


1- الناب: الناقة المسنة.
2- المسهم: المخطط بصور على شكل السهام، و في حديث جابر: أنه كان يصلي في برد مسهم أخضر، أي فيه وشي كالسهام.
3- في رواية: «بنزوة...» كما في كتاب «الموشح».
4- كذا في ط، ء «و الموشح» للمرزباني. و الأبلخ (بالخاء المعجمة في آخره): العظيم في نفسه الجرىء على ما أتى من الفجور. و المتظلم: الذي يظلم الناس حقوقهم، و هذا الوصف هو الذي يناسب كليبا لعتوّه. و في باقي الأصول: «الأبلج المتوسم» بالجيم. و المتوسم: المتحلى بسمة الشيوخ.
5- سيذكر أبو الفرج في سياق هذا الخبر أن الأحص و شبيثا نهيان (النهي: الغدير)، و في «القاموس» أنهما موضعان بنجد. و في كتاب «معجم ما استعجم» أن الأحص واد، و أن شبيثا ماء معروف لبني تغلب. و هذا النظم للنابغة مأخوذ من قول جساس حين طعن كليبا فقصم صلبه فوقع كليب و هو يفحص برجله ثم قال لجساس: «أغثني بشربة»، فقال له جساس: «تجاوزت شبيثا و الأحص»، يعني: ليس هذا وقت طلب الماء. و قد صار فيما بعد مثلا يضرب لمن يطلب شيئا في غير وقته. و لفظ المثل في الميداني «تخطى إليّ شبيثا و الأحص».
6- المترسم: موضع الماء لمن طلبه (عن «معجم ما استعجم»).
7- إلى هنا ينتهي حديث المؤلف عن النابغة الجعدي ثم استطرد إلى كلام عن حرب بكر و تغلب و ما كان بين كليب و جساس بمناسبة ذكرهما في شعر النابغة من غير أن يعقد لذلك عنوانا خاصا. و لذلك وضعنا هذه النجوم للدلالة على الفصل بين الخبرين و وضعنا في أعلى الصفحة عنوان [رب بكر و تغلب] بين قوسين مربعين للإشارة إلى أنه زيادة من عندنا و لم يضعه المؤلف.
8- كان اسم «كليب» «وائلا». و سبب تسميته «بكليب» أنه كان عنده كليب - تصغير كلب، و هو ما عبر عنه هنا «بجرو كليب» - يرمي به فحيث بلغ عواء هذا الكليب كان حمى لا يرعى؛ و من ذلك قيل المثل: «أعز من كليب وائل». ثم غلب هذا الاسم عليه حتى ظنوه اسمه. (انظر كتاب «مجمع الأمثال» للميدانيّ).
9- في ط، ء: «أبو بردة» بالدال المهملة، و كذلك ورد هذا الاسم فيهما في كل المواضع التي سيذكر فيها فيما بعد.

و كان كليب بن ربيعة ليس على الأرض بكريّ و لا تغلبيّ أجار رجلا و لا بعيرا إلا بإذنه، و لا يحمي حمى إلا بأمره، و كان إذا حمى حمى لا يقرب؛ و كان لمرّة بن ذهل/بن شيبان بن ثعلبة عشرة بنين جسّاس أصغرهم، و كانت أختهم عند كليب. و قال مقاتل و فراس: و أمّ جسّاس هيلة بنت منقذ بن سليمان(1) بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة، ثم خلف عليها سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بعد مرّة بن ذهل، فولدت له مالكا و عوفا و ثعلبة. قال فراس بن خندق(2) البسوسيّ(3): فهي أمّنا. و خالة جسّاس البسوس - و قال أبو برزة: البسوسيّة - و هي التي يقال لها: «أشأم من البسوس»(4). فجاءت فنزلت على ابن أختها جسّاس فكانت جارة لبني مرّة، و معها ابن لها، و لهم ناقة خوّارة(5) من نعم بني سعد و معها فصيل.

أخبرني عليّ بن سليمان قال قال أبو برزة: و قد كان كليب قبل ذلك قال لصاحبته أخت جسّاس: هل تعلمين على الأرض عربيّا أمنع منّي ذمّة؟ فسكتت ثم أعاد عليها الثانية فسكتت ثم أعاد عليها الثالثة، فقالت: نعم أخي جساس و ندمانه(6)/ابن عمّه عمرو(7) المزدلف بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان. و زعم مقاتل: أن امرأته كانت أخت جسّاس، فبينا هي تغسل رأس كليب و تسرّحه ذات يوم إذ قال: من أعزّ وائل؟ فصمتت(8)، فأعاد عليها؛ فلما أكثر عليها قالت: أخواي جسّاس و همّام؛ فنزع رأسه من يدها و أخذ القوس فرمى فصيل ناقة البسوس خالة جسّاس و جارة بني مرّة فقتله؛ فأغمضوا على ما فيه و سكتوا على ذلك. ثم لقي كليب ابن البسوس(9) فقال: ما فعل فصيل ناقتكم؟ قال: قتلته و أخليت لنا لبن أمّه؛ فأغمضوا على هذه أيضا. ثم إنّ كليبا أعاد على امرأته فقال: من أعزّ وائل؟ فقالت: أخواي؛ فأضمرها و أسرّها في نفسه و سكت، حتى مرّت به إبل جسّاس، فرأى الناقة فأنكرها، فقال:

ما هذه الناقة؟ قالوا: لخالة جسّاس؛ قال: أو قد بلغ من أمر ابن السّعديّة أن يجير عليّ بغير إذني! ارم ضرعها يا غلام. قال فراس: فأخذ القوس فرمى ضرع الناقة فاختلط دمها بلبنها؛ و راحت الرّعاة على جسّاس فأخبروه بالأمر؛ فقال: احلبوا لها مكيالي لبن بمحلبها و لا تذكروا لها من هذا شيئا؛ ثم أغمضوا عليها أيضا. قال مقاتل:

حتى أصابتهم سماء، فغدا في غبّها يتمطّر(10)، و ركب جسّاس بن مرّة و ابن عمه عمرو بن الحارث بن ذهل - و قال أبو

ص: 27


1- في ط، ء، م: «سلمان».
2- كذا في ط، م، ء و كتاب «النقائض» في أكثر من موضع و الطبري (قسم أول ص 1061). و في باقي الأصول: «فراس بن خندف» بالفاء بدل القاف، و هو تحريف.
3- في «النقائض»: «القيسي». و هذه الكلمة ساقطة من ط، ء.
4- كذا في «مجمع الأمثال» (ج 1 ص 330 طبع بولاق) و هي بنت منقذ التميمية و هي خالة جساس. و في الأصول: «بسوسة» بزيادة التاء في الآخر.
5- ناقة خوّارة: رقيقة حسنة.
6- الندمان: الذي يرافقك و ينادمك على الشراب، و قد يكون جمعا.
7- كذا في أكثر الأصول، و المزدلف لقب عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل و هو ابن عم جساس بن مرة، لقب به لأنه ألقى برمحه في حرب فقال: ازدلفوا إليه، كما قال ابن دريد، أو لاقترابه من الأقران في الحروب و ازدلافه إليهم، كما نقله ابن حبيب. (عن «القاموس» و «شرحه» مادة زلف). و في ب، س: «... و ندمانه ابن عمه عمرو و المزدلف.....» بزيادة واو العطف سهوا من الطابع.
8- في ط، ء: «فضمزت»، و ضمزت: سكتت.
9- في م: «جساسا».
10- يتمطر: يتنزه. و قوله: «في غبها» كذا في الأصول، و لم نجد في «معاجم اللغة» التي بين أيدينا أن كلمة «غب» و هي بمعنى «بعد» تجرّ بفي. و هذا الاستعمال نفسه ورد في «اللسان» و «القاموس» و «شرحه» بدون حرف الجر.

برزة: بل عمرو ابن أبي ربيعة - و طعن عمرو كليبا فحطم صلبه؛ و قال أبو برزة: فسكت جسّاس، /حتى ظعن(1)ابنا وائل؛ فمرّت بكر بن وائل على نهي(2) يقال له شبيث فنفاهم كليب عنه و قال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مرّوا على نهي آخر يقال له الأحصّ فنفاهم عنه و قال: لا يذوقون منه قطرة؛ ثم مرّوا على بطن الجريب(3) فمنعهم إيّاه؛ فمضوا حتى نزلوا الذّنائب(4)، و اتّبعهم كليب و حيّه حتى نزلوا عليه؛ ثم مرّ عليه جسّاس و هو واقف على غدير الذنائب فقال: طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشا! فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلا و نحن له شاغلون؛ فمضى جسّاس و معه ابن عمه المزدلف. و قال بعضهم: بل جسّاس ناداه فقال: هذا كفعلك بناقة خالتي؛ فقال له: أو قد ذكرتها! أما إني لو وجدتها في غير إبل مرّة لاستحللت تلك الإبل بها. فعطف عليه جسّاس فرسه فطعنه برمح فأنفذ حضنيه(5)؛ فلما تداءمه(6) الموت قال: يا جسّاس اسقني من الماء؛ قال: ما عقلت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمّك إلا ساعتك هذه!. قال أبو برزة: /فعطف عليه المزدلف(7) عمرو بن أبي ربيعة فاحتزّ رأسه.

و أمّا مقاتل فزعم أن عمرو بن الحارث بن ذهل الذي طعنه فقصم صلبه. [قال](8): و فيه يقول مهلهل:

قتيل ما قتيل المرء عمرو *** و جسّاس بن مرّة ذو ضرير(9)

/و قال العباس بن مرداس السّلميّ يحذّر كليب(10) بن عهمة السّلميّ ثم الظّفريّ لما مات حرب بن أمية و خنقت الجنّ مرداسا و كانوا شركاء في القرية(11) فجحدهم كليب حظّهم منها - و سنذكر خبر ذلك في آخر هذه الأخبار إن شاء اللّه تعالى - فحذّره غبّ الظلم فقال:

أ كليب مالك كلّ يوم ظالما *** و الظلم أنكد وجهه ملعون

ص: 28


1- كذا في ب. و في سائر الأصول: «طعن» بالطاء المهملة.
2- النهي (بالكسر في لغة أهل نجد، و غيرهم يقوله بالفتح): الغدير، و هو أيضا الموضع الذي له حاجز ينهى الماء أن يفيض منه.
3- الجريب: واد عظيم بين أجلي و بين الذنائب و جبر، تجيء أعاليه من قبل اليمن حتى يصب في الرمة. و الرمة: فضاء به أودية كثيرة بأرض نجد. قال الهمداني: هذا الجريب جريب نجد، و في تهامة جريب آخر. (عن «معجم ما استعجم» و «معجم البلدان» لياقوت).
4- الذنائب: موضع بنجد.
5- الحضن: ما دون الإبط إلى الكشح.
6- تداءمه: تراكم عليه و تزاحم.
7- في الأصول: «... المزدلف بن عمرو بن أبي ربيعة» بزيادة كلمة «ابن» و هو تحريف. (راجع الحاشية رقم 8 ص 35 من هذا الجزء).
8- زيادة عن ط، ء، م.
9- الضرير: الشدة، و يقال: فلان ذو ضرير إذا كان ذا صبر على الشرّ و مقاساة له. و ذو ضرير هنا صفة لقتيل.
10- كذا ورد هذا الاسم في جميع الأصول هنا و كتاب «النقائض» (ص 907). و ورد في الأصول التي بين أيدينا من «الأغاني» في أول أخبار أبي سفيان التي تقع في ج 6 ص 92 طبع بولاق: «كليب بن أبي عهمة السلميّ».
11- ذكر أبو الفرج في ج 6 ص 92 و ج 20 ص 135 طبع بولاق: أن حرب بن أمية لما انصرف من حرب عكاظ هو و أخوته مرّ بالقرية و هي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام، فقال له مرداس بن أبي عامر: أما ترى هذا الموضع؟ قال بلى؛ قال: نعم المزدرع هو، فهل لك أن نكونا شريكين فيه و نحرق هذه الغيضة ثم نزدرعه بعد ذلك؟ قال نعم؛ فأضرما النار في الغيضة، فلما استطارت و علا لهبها سمع من الغيضة أنين و ضجيج كثير ثم ظهرت منها حيات بيض تطير حتى قطعتها و خرجت منها، فلم يلبث حرب بن أمية و مرداس بن أبي عامر أن ماتا، فأما مرداس فدفن بالقرية، ثم ادّعاها بعد ذلك كليب بن أبي عهمة السلمي ثم الظفري. و قال أبو الفرج عند إيراده هذا الخبر في ذلك الموضع: «و هذا شيء قد ذكرته العرب في أشعارها و تواترت الرواية بذكره، فذكرته، و اللّه أعلم».

فافعل بقومك ما أراد بوائل *** يوم الغدير سميّك المطعون

و قال رجل من بني بكر بن وائل في الإسلام و هي تنحل للأعشى:

و نحن قهرنا تغلب ابنة وائل *** بقتل كليب إذ طغى و تخيّلا(1)

أبأناه(2) بالناب التي شقّ ضرعها *** فأصبح موطوء الحمى متذلّلا

قال: و مقتل كليب بالذّنائب عن يسار فلجة(3) مصعدا إلى مكة، و قبره بالذنائب. و فيه يقول المهلهل:

و لو نبش المقابر عن كليب *** فيخبر(4) بالذنائب أيّ زير

/قال أبو برزة: فلما قتله أمال يده بالفرس حتى انتهى إلى أهله. قال: و تقول أخته حين رأته لأبيها: إنّ ذا لجسّاس أتى خارجا ركبتاه؛ قال: و اللّه ما خرجت ركبتاه إلا لأمر عظيم!. قال: فلما جاء قال: ما وراءك يا بنيّ؟ قال: ورائي أني قد طعنت طعنة لتشغلنّ بها شيوخ وائل زمنا؛ قال: أ قتلت كليبا؟ قال نعم؛ قال: وددت أنك و إخوتك كنتم متّم قبل هذا، ما بي إلا أن تتشاءم بي أبناء وائل. و زعم مقاتل أن جسّاسا قال لأخيه نضلة بن مرّة - و كان يقال له عضد الحمار -:

و إني قد جنيت عليك حربا *** تغصّ الشيخ بالماء القراح

مذكّرة(5) متى ما يصح عنها *** فتى نشبت(6) بآخر غير صاح

تنكّل عن ذباب(7) الغيّ قوما *** و تدعو آخرين إلى الصّلاح

فأجابه نضلة:

فإن(8) تك قد جنيت عليّ حربا *** فلا وان و لا رثّ السّلاح

قال أبو برزة:

و كان همّام بن مرة اخى مهلهلا و عاقده ألاّ يكتمه شيئا؛ فجاءت [إليه](9) أمة له فأسرّت إليه قتل جسّاس كليبا؛ فقال [له](9) مهلهل: ما قالت؟ فلم يخبره؛ فذكّره/العهد بينهما؛ فقال: أخبرت أنّ جسّاسا قتل كليبا؛

ص: 29


1- تخيل: تكبر.
2- أباء القاتل بالقتيل: قتله به.
3- فلجة: منزل على طريق مكة من البصرة بعد أبرقي حجر.
4- نصب «فيخبر» لما في «لو» من معنى التمني. «و أي زير» مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قال: أي زير أنا.
5- مذكرة: شديدة.
6- في ط، ء: «تشبب لآخر...».
7- كذا في ط، ء، م. و المعنى الذي يمكن أن يراد من معاني الذباب هنا و هو مضاف إلى الغيّ: الجنون أو الشرّ، أي إنها تصرف قوما عن جنون غيهم و طيشهم و تردّهم إلى صوابهم. و في باقي الأصول: «عن ذئاب الغيّ». و ورد هذا الشطر في كتاب بكر و تغلب ابني وائل (طبع مطبعة نخبة الأخبار سنة 1305 ه، و منه نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 20 أدب ش): تثكل دانيات البغي قوما
8- في ط، ء، م: «إن تك...» بدون فاء. و هذا على أنه أوّل القصيدة، و حينئذ يكون فيه الخرم، و بحر الوافر مما يجوز فيه الخرم.
9- زيادة عن ط، ء.

فقال: است(1) أخيك أضيق من ذلك. و زعم مقاتل: أنّ همّاما كان اخى مهلهلا و كان عاقده ألاّ يكتمه شيئا؛ فكانا جالسين، فمرّ جسّاس يركض به فرسه مخرجا فخذيه؛ فقال همّام: إنّ له لأمرا، و اللّه ما رأيته كاشفا فخذيه قطّ في ركض؛ فلم يلبث إلا قليلا حتى جاءته الخادم فسارّته أنّ جسّاسا قتل كليبا؛ فقال له مهلهل: ما أخبرتك؟ قال:

أخبرتني أن أخي قتل أخاك؛ قال: هو أضيق استا من ذلك. و تحمّل القوم، و غدا مهلهل بالخيل.

و قال المفضّل في خبره: فلما قتل كليب قالت بنو تغلب بعضهم لبعض: لا تعجلوا على إخوتكم حتى تعذروا بينكم و بينهم؛ فانطلق رهط من أشرافهم و ذوي أسنانهم حتى أتوا مرّة بن ذهل، /فعظّموا ما بينهم و بينه، و قالوا له:

اختر منّا خصالا: إمّا أن تدفع إلينا جسّاسا فنقتله بصاحبنا فلم يظلم من قتل قاتله، و إمّا أن تدفع إلينا همّاما، و إمّا أن تقيدنا من نفسك؛ فسكت، و قد حضرته وجوه بني بكر بن وائل فقالوا: تكلّم غير مخذول؛ فقال: أمّا جسّاس فغلام حديث السنّ ركب رأسه فهرب حين خاف فلا علم لي به، و أمّا همّام فأبو عشرة و أخو عشرة(2)، و لو دفعته إليكم لصيّح(3) بنوه في وجهي و قالوا: دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره؛ و أمّا أنا فلا أتعجل الموت، و هل تزيد الخيل على أن تجول جولة فأكون أوّل قتيل! و لكن هل لكم في غير ذلك؟ هؤلاء بنيّ، فدونكم أحدهم فاقتلوه به، و إن شئتم فلكم ألف ناقة تضمنها/لكم بكر بن وائل؛ فغضبوا و قالوا: إنّا لم نأتك لترذل(4) لنا بنيك و لا لتسومنا اللبن؛ فتفرّقوا، و وقعت الحرب. و تكلّم في ذلك عند الحارث بن عباد، فقال: «لا ناقة لي في هذا و لا جمل»، و هو أوّل من قالها و أرسلها مثلا.

يوم عنيزة:

قالوا جميعا: كانت حربهم أربعين سنة، فيهنّ خمس وقعات مزاحفات، و كانت تكون بينهم مغاورات(5)، و كان الرجل يلقى الرجل و الرجلان الرجلين و نحو هذا. و كان أوّل تلك الأيام يوم عنيزة، و هي عند فلجة، فتكافئوا فيه لا لبكر و لا لتغلب؛ و تصديق ذلك قول مهلهل:

يوم عنيزة:

كأنّا غدوة و بنى أبينا *** بجنب عنيزة رحيا مدير

و لو لا الريح أسمع من بحجر(6) *** صليل البيض تقرع بالذّكور

ص: 30


1- تضرب العرب ضيق الاست مثلا في الذلة و الضعف. قال في «اللسان»: «و يقال للرجل الذي يستذل و يستضعف: است أمك أضيق و استك أضيق من أن تفعل كذا و كذا».
2- في «أمثال العرب» للمفضل الضبي (المطبوع بمطبعة الجوائب بالقسطنطينية سنة 1300 ه ص 56) زيادة: «و عم عشرة» بعد قوله: «... و أخو عشرة».
3- صيح الرجل: بالغ في الصياح.
4- كذا في ط، ء و أمثال العرب للمفضل الضبي، و فسرها بقوله: «أي تعطينا رذال بنيك». و رذال الشيء (بالضم): أردؤه. و في باقي الأصول: «لتؤدّي لنا بنيك»، و هو تحريف.
5- يقال: غاور القوم إذا أغار بعضهم على بعض.
6- فسر أبو علي القالي في «أماليه» (ج 2 ص 134 طبعة دار الكتب المصرية) «حجرا» بأنها قصبة اليمامة، و ضبطها «القاموس» بالفتح، و وردت مضبوطة في ط بالضم، و حجر (بالضم): موضع باليمن. و الصليل: الصوت. و الذكور: السيوف.
يوم واردات:

فتفرّقوا، ثم غبروا زمانا. ثم التقوا يوم واردات(1)، و كان لتغلب على بكر، و قتلوا بكرا أشدّ القتل، و قتلوا بجيرا؛ و ذلك قول مهلهل:

فإني قد تركت بواردات *** بجيرا في دم مثل العبير

هتكت به بيوت بني عباد *** و بعض الغشم(2) أشفى للصدور

قال مقاتل: [إنه](3) إنما التقط توّا. و سيجيء حديثه أسفل من هذا(4). التوّ: الفرد، يقال: وجدته توّا، أي وحده.

/قال أبو برزة: ثم انصرفوا بعد يوم واردات غير بني ثعلبة بن عكابة و رأسوا على أنفسهم الحارث بن عباد، فاتّبعتهم بنو ثعلبة بن عكابة، حتى التقوا بالحنو(5)، فظهرت بنو ثعلبة على تغلب.

يوم القصيبات و يوم قضة:
اشارة

قال مقاتل: ثم التقوا يوم بطن السّرو، و هو يوم القصيبات(6)، و ربما قيل يوم القصيبة(7)، و كان لبني تغلب على بكر، حتى ظنّت بكر أن سيقتلونها(8) - قال مقاتل: و قتلوا يومئذ همّام بن مرّة -. ثم التقوا يوم قضة و هو يوم التحالق و يوم الثّنيّة(9). و يوم قضة و يوم الفصيل لبكر على تغلب. قال أبو برزة: اتّبعت تغلب بكرا فقطعوا رملات خزازي(10)

ص: 31


1- واردات: موضع عن يسار طريق مكة.
2- الغشم: الظلم.
3- زيادة عن ط، ء.
4- في ب، س، ح: «... أسفل من هذا حديثه». بزيادة كلمة «حديثه»، و ظاهر أنه زيد سهوا من الناسخ.
5- الحنو: موضع في ديار بكر و تغلب.
6- القصيبات: موضع في ديار بكر و تغلب.
7- كذا في م و به يستقيم الكلام. و في باقي الأصول: «... و ربما قيل القصيبة و هي القصبات لبني تغلب...».
8- في ط، ء، م: «أن سيقتلوها» و «أن» يجوز فيها أن تكون مخففة من الثقيلة و أن تكون ناصبة للفعل بعد الظن، و لكن وجود السين في الفعل بعدها يعين أنها مخففة، فيجب رفع الفعل. و في ب، س، ح: «... أن سيقتلوا معا». و في كتاب «الكامل» لابن الأثير (ج 1 ص 395 طبع أوروبا) - و لعله هو الصحيح -: «... حتى ظنوا أنهم لن يستقيلوا».
9- الثنية هنا: الطريقة في الجبل كالنقب. و يوم الثنية معطوف على «يوم التحالق» على أنه تفسير آخر ل «يوم قضة» كما يعينه إيراد الخبر في كتاب «معجم ما استعجم» في كلامه على «واردات»، و نصه بعد أن ذكر الأيام التي قبله: «... و الخامس يوم قضة و هو يوم التحالق و يوم الثنية، و قال أبو عبيدة: و هو أول يوم شهده الحارث بن عباد...». و ظاهر أن الثنية التي أضيف إليها هذا اليوم هي الثنية التي وقع فيها الجمل فسدّها حين طعنه عوف بن مالك ليسدّ الطريق دون قومه ثم تحالقوا لتعرفهم النساء، كما سيجيء ذلك بعد أسطر.
10- خزازي (و يقال فيه أيضا خزاز كسحاب و خزاز بالبناء على الكسر كقطام): جبل في ناحية منعج دون إمرة و فوق عاقل، على يسار طريق البصرة إلى المدينة، بإزاء حمى ضرية. و الرغام: اسم رملة بعينها (كما في «القاموس»)، و ذكر ياقوت في «معجم البلدان» أنها من نواحي اليمامة. و في كتاب «صفة جزيرة العرب» للهمداني (طبع ليدن ص 153) بعد أن عرض لذكر القصبتين اللتين ذكرتا في أخبار بني وائل و إحداهما قصبة الرغام، قال: «... و الرغام جماع منها سفوح و أرطاة و البردان و الطويل، و كل ذا فيه نخل كثير، و رميلة هي رملة الرغام مشرفة على ثرمداء...».

و الرّغام ثم مالوا لبطن الحمارة(1)؛ فوردت بكر قضة فسقت و أسقت/ثم صدرت و حلئوا(2) تغلب، و نهضوا في نجعة(3) يقال لها موبية لا يجوز فيها إلا بعير بعير؛ فلحق رجل من الأوس بن تغلب بغليّم من بني تيم اللاّت بن ثعلبة يطرد ذودا له(4)، قطعن في بطنه بالرمح ثم رفعه(5) فقال: تحدّبي أمّ البوّ على بوّك. فرآه عوف بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، فقال: أنفذوا(6) جمل أسماء (ابنته) فإنه أمضى جمالكم و أجودها منفذا، فإذا نفذ تبعته النّعم؛ /فوثب الجمل في المويبة، حتى إذا نهض على يديه و ارتفعت رجلاه ضرب عرقوبيه و قطع بطان الظّعينة فوقع فسدّ الثنية - ثم قال عوف: أنا البرك أبرك حيث أدرك، فسمّي البرك - و وقع الناس إلى الأرض لا يرون مجازا، و تحالقوا لتعرفهم النساء؛ فقال جحدر بن ضبيعة بن قيس أبو المسامعة - و اسمه ربيعة؛ قال: و إنما سمّي جحدرا لقصره(7) -: لا تحلقوا رأسي فإني رجل قصير، لا تشينوني، و لكنّي أشتريه منكم بأوّل(8) فارس يطلع عليكم من القوم؛ فطلع ابن عناق فشدّ عليه فقتله. فقال رجل من بكر بن وائل يمدح مسمع ابن مالك بذلك:

يا ابن الذي لمّا حلقنا اللّمما *** ابتاع منا رأسه تكرّما

بفارس أوّل من تقدّما

و قال البكريّ:

و منّا الذي فادى من القوم رأسه *** بمستلئم(9) من جمعهم غير أعزلا

فأدّى إلينا بزة(10) و سلاحه *** و منفصلا من عنقه قد تزيّلا

/قال: و كان جحدر يرتجز يومئذ و يقول:

ردّوا عليّ الخيل إن ألمّت *** إن لم أقاتلهم فجزّوا لمّتي

و زعم عامر بن عبد الملك المسمعيّ أنه لم يقلها، و أن صخر بن عمرو السّلميّ قائلها؛ فقال مسمع: كردين(11)(كذب) عامر. و قال البكريّ:

ص: 32


1- كذا في الأصول. و الحمارة (بلفظ تأنيث الحمار): اسم حرة. غير أن سياق عبارة الهمداني (في كتابه «صفة جزيرة العرب» ص 152-153) يدل على أن التي تصاقب الرغام هي «الحمادة» بالدال لا الحمارة بالراء. و الحمادة (بالفتح) كما في «معجم ياقوت»: ناحية باليمامة أيضا.
2- حلئوا تغلب: منعوها الماء.
3- في ط، ء: «نجفة» بالفاء.
4- الذود: ثلاثة أبعرة إلى التسعة و قيل إلى العشرة و قيل غير ذلك، و لا يكون إلا من الإناث، و هو يستعمل بمعنى الواحد و بمعنى الجمع.
5- في ح: «دفعه».
6- في ط، ء: «قدموا».
7- عبارة ط، ء: «قال: و إنما جحدره قصره».
8- في ط، ء: «بأكرم فارس».
9- المستلئم: لابس اللأمة: و هي السلاح كلها. يقال: استلأم الرجل إذا لبس ما عنده من عدّة: رمح و بيضة و مغفر و سيف و نبل و درع.
10- البز (بالفتح): نوع من الثياب. و في ط، ء: «ثوبه».
11- كذا في ط، م، ء. و كردين: كلمة فارسية معناها: حائد عن الصواب. و قد رجح لدينا أن كلمة «كذب» أثبتت تفسيرا من المؤلف لكلمة «كردين» فوضعناها بين علامتي التفسير إشارة إلى ذلك. و في ح: «كذب ابن كاذب عامر». و في ب، س: «كاذب بن كاذب عامر».

و منّا الذي سدّ الثنية غدوة *** على حلفة لم يبق فيها تحلّلا

بجهد يمين اللّه لا يطلعونها *** و لمّا نقاتل جمعهم حين أسهلا

و أمّا مقاتل فزعم أنهم قالوا: اتّخذوا علما يعرف به بعضكم بعضا، فتحالقوا(1). و فيه يقول طرفة(2):

صوت

سائلوا عنّا الذي يعرفنا *** بقوانا(3) يوم تحلاق اللّمم

يوم تبدي البيض عن أسؤقها(4) *** و تلفّ الخيل أعراج النّعم

/غنّى في هذين البيتين ابن محرز خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ، و ذكر أحمد بن المكيّ أنه لمعبد.

همام بن مرة و مقتله:

و زعم مقاتل أنّ همّام بن مرّة بن ذهل بن شيبان، لم يزل قائد بكر حتى قتل يوم القصيبات، و هو قبل(5) يوم قضة، [و يوم قضة] على أثره. و كان من حديث مقتل همّام أنه وجد غلاما مطروحا، فالتقطه و ربّاه و سمّاه ناشرة فكان عنده لقيطا؛ فلما شبّ تبيّن أنه من بني تغلب؛ فلمّا التقوا يوم القصيبات جعل همّام يقاتل، فإذا عطش رجع إلى قربة فشرب منها ثم وضع سلاحه؛ فوجد ناشرة من همّام غفلة، فشدّ عليه بالعنزة(6) فأقصده فقتله، و لحق بقومه تغلب. فقال باكي همّام:

لقد عيّل(7) الأقوام طعنة ناشرة *** أنا شرّ لا زالت يمينك آشره(8)

الحارث بن عباد و أخذه بثأر ابنه بجير:

ثم قتل ناشرة رجل من بني يشكر. فلمّا كان يوم قضة و تجمعت إليهم بكر، جاء إليهم الفند الزّمّانيّ أحد بني

ص: 33


1- كذا في ط، ء. و في باقي الأصول: «فتحالفوا» بالفاء، و هو تصحيف.
2- ذكر هذان البيتان في «ديوان طرفة» ضمن قصيدة أثبتها له أبو عبيدة و المفضل و أبو عمرو الشيباني، و زعم الأصمعي أنها مصنوعة و أنه أدرك قائلها (عن «شرح ديوانه» ص 104 طبع مدينة شالون سنة 1900 م).
3- كذا في ح، س و عدة أصول من «ديوان طرفة». و في باقي الأصول: «بوفانا» بالفاء و هو تحريف.
4- أسؤق: جمع لساق، همزت الواو فيه لتحمل الضمة، أي يوم تكشف النساء البيض عن سيقانها من الفزع. و تلف: تجمع. و أعراج: جمع عرج (بالفتح و يكسر) و هو القطيع من الإبل نحو الثمانين أو منها إلى تسعين أو هو مائة و خمسون و فويقها أو من خمسمائة إلى ألف. و النعم (بالتحريك و قد تسكن عينه): الإبل.
5- كذا في ط، ء: و هو الموافق لما أجمعت عليه المصادر التي بين أيدينا و منها كتاب «الأغاني» نفسه فيما تقدّم في أول هذا الخبر: من أن يوم القصيبات كان قبل يوم قضة ثم كان بعده يوم قضة. و قد وضعنا هذه الزيادة التي نعتقد أنها سقطت سهوا من الناسخ ليستقيم بها الكلام. و في باقي الأصول: «... يوم القصيبات و هو بعد يوم قضة القصيبات على أثره...» و هو على ما فيه من اضطراب يخالف ما أثبته «الأغاني» نفسه قبلا.
6- العنزة (محركة): شبيه العكازة أطول من العصا و أقصر من الرمح و لها زج من أسفلها.
7- في م، ح «و اللسان» (مادة أشر): «الأيتام» بدل الأقوام. و عيلتهم الطعنة: أفقرتهم و أحوجتهم، إذ كان المطعون معتمدهم و سندهم.
8- آشرة: قال في «اللسان» (مادة أشر) بعد أن ذكر البيت: «أي لا زالت يمينك مأشورة «مشقوقة» أو ذات أشر، كما قال عزّ و جلّ: خُلِقَ مِنْ مٰاءٍ دٰافِقٍ أي مدفوق، و مثل قوله عزّ و جلّ: عِيشَةٍ رٰاضِيَةٍ * أي مرضية، و ذلك أن الشاعر إنما دعا على ناشرة لا له، بذلك أتى الخبر و إياه حكت الرواة. و ذو الشيء قد يكون مفعولا كما يكون فاعلا... إلخ».

زمّان بن مالك بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل من اليمامة، قال عامر/بن عبد الملك المسمعيّ: فرأسوه عليهم؛ فقلت أنا لفراس/بن خندق(1): إن عامرا يزعم أن الفند كان رئيس بكر يوم قضة؛ فقال: رحم اللّه أبا عبد اللّه! كان أقلّ الناس حظّا في علم قومه. و قال فراس: كان رئيس بكر بعد همّام الحارث بن عباد. قال مقاتل:

و كان الحارث بن عباد قد اعتزل يوم قتل كليب، و قال: لا أنا من هذا و لا ناقتي و لا جملي و لا عدلي، و ربما قال:

لست من هذا و لا جملي و لا رحلي، و خذل بكرا عن تغلب، و استعظم قتل كليب لسؤدده في ناقة. فقال سعد بن مالك يحضض الحارث بن عباد:

يا بؤس للحرب التي *** وضعت أراهط(2) فاستراحوا

و الحرب لا يبقى لصا *** حبها(3) التّخيّل و المراح(4)

إلاّ الفتى الصبّار في النّ *** جدات و الفرس الوقاح(5)

فلمّا أخذ بجير(6) بن الحارث بن عباد توّا بواردات - و إنما سلّ و لم يؤخذ في مزاحفة - قال له مهلهل: من خالك يا غلام؟!. قال(7) امرؤ القيس بن أبان التّغلبيّ لمهلهل: إني أرى غلاما ليقتلنّ به رجل لا يسأل عن خاله، و ربما قال عن حاله - /قال: فكان و اللّه امرؤ القيس هو المقتول به، قتله الحارث بن عباد يوم قضة بيده - فقتله مهلهل. قال: فلمّا قتل مهلهل بجيرا قال: بؤبشسع(8) نعل كليب؛ فقال له الغلام: إن رضيت بذلك بنو ضبيعة بن قيس رضيت. فلما بلغ الحارث قتل بجير ابن أخيه - و قال أبو برزة: بل بجير ابن الحارث بن عباد نفسه - قال: نعم الغلام غلام أصلح بين ابني وائل و باء بكليب. فلما سمعوا قول الحارث: قالوا له: إنّ مهلهلا لمّا قتله قال له: بؤبشسع نعل كليب - و قال مهلهل:

كلّ قتيل في كليب حلاّم(9) *** حتى ينال القتل آل همّام

و قال أيضا:

ص: 34


1- انظر الحاشية رقم 3 ص 35 من هذا الجزء.
2- أراهط: جمع أرهط الذي هو جمع رهط. و قال سيبويه: إن أرهط جمع لرهط على غير قياس.
3- بين سطور ط: «لجاحمها» و كتبت أمامها كلمة «صح». و جاحم الحرب: موقدها و مثيرها. و في ء: «لحاجمها» بتقديم الحاء على الجيم و هو مصحف عما ثبت في رواية ط.
4- التخيل: التكبر. و المراح: الأشر و البطر.
5- الوقاح (بالفتح): الصلب القويّ.
6- كذا في ب، س. و سيرد في سياق كلام المؤلف بعد قليل أن بجيرا ابن أخي الحارث و أن أبا برزة قال: إنه ابن الحارث نفسه. و نسبه على أنه ابن أخي الحارث هو، كما ورد في ح: «فلما أخذ بجير بن عمرو ابن مرة بن عباد الحارث عم أبيه». و «الحارث عم أبيه» جملة حالية سيقت لبيان ما بين بجير و الحارث من آصرة قربى. و في ط، ء، م: «و لما أخذ بجير بن عمرو بن مرة بن الحارث بن عباد توا بواردات...» و غير خاف ما فيها من تحريف.
7- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «قال يقول امرؤ القيس...». و لو كان في ب، س: «فقال» بالفاء، كما ورد في جميع الأصول فيما يأتي، لكان أوجه.
8- باء دمه بدمه: عدله و كافأه، و باء فلان بفلان: قتل به.
9- قتيل حلام: ذهب باطلا. و أصل الحلام (بضم الحاء و تشديد اللام و تخفيفها): الصغير من ولد الغنم، و يقال فيه حلان أيضا، و قد روى بهما بيت مهلهل، و الشطر الثاني في رواية «حلان»: «حتى ينال القتل آل شيبان». يقول: كل من قتل في كليب ناقص عن الوفاء به إلا آل همام أو شيبان. (عن «اللسان» مادة حلم ببعض تصرف).

كلّ قتيل في كليب غرّه(1) *** حتى ينال القتل آل مرّه

- فغضب الحارث عند ذلك فنادى بالرّحيل(2). قال مقاتل: و قال الحارث بن عباد:

قرّبا مربط النّعامة(3) منّي *** لقحت(4) حرب وائل عن حيال

لا بجير أغنى قتيلا و لا ره *** ط كليب تزاجروا عن ضلال

لم أكن من جناتها علم اللّ *** ه و إنّي بحرّها اليوم صال

أسر مهلهل و نجاته ثم لحاقه باليمن و شعره في ذلك:

قال: و لم يصحّح عامر و لا مسمع غير هذه الثلاثة الأبيات. و زعم أبو برزة قال: كان أوّل فارس لقي مهلهلا يوم واردات بجير بن الحارث بن عباد، فقال: من خالك يا غلام، و بوّأ نحوه(5) الرمح؛ فقال له امرؤ القيس بن أبان التّغلبيّ - و كان على(6) مقدّمتهم في حروبهم -: مهلا يا مهلهل! فإنّ عمّ هذا و أهل بيته قد اعتزلوا حربنا و لم يدخلوا في شيء مما نكره، و و اللّه لئن قتلته ليقتلنّ به رجل لا يسأل عن نسبه؛ فلم يلتفت مهلهل إلى قوله و شدّ عليه فقتله، و قال: بؤبشسع نعل كليب؛ فقال الغلام: إن رضيت بهذا بنو ثعلبة(7) فقد رضيته. قال: ثم غبروا زمانا، ثم لقي همّام بن مرّة فقتله أيضا. فأتى الحارث بن عباد فقيل له: قتل مهلهل هماما؛ فغضب و قال: ردّوا الجمال على عكرها(8) «الأمر(9) مخلوجة ليس بسلكي»؛ و جدّ في قتالهم. قال مقاتل: /فكان حكم بكر بن وائل يوم قضة الحارث بن عباد؛ و كان الرئيس الفند، و كان فارسهم جحدر، و كان شاعرهم سعد بن مالك بن ضبيعة، و كان الذي سدّ الثنيّة عوف بن مالك بن ضبيعة؛ و كان عوف أنبه من أخيه سعد. و قال فراس بن خندق(10): بل كان رئيسهم يوم قضة الحارث بن عباد. قال مقاتل: فأسر الحارث بن عباد عديّا - و هو مهلهل - بعد انهزام الناس و هو لا يعرفه؛ /فقال له: دلّني على المهلهل؛ قال: و لي دمي؟ قال: و لك دمك؛ قال: و لي ذمّتك و ذمّة أبيك؟ قال: نعم، ذلك لك؛ قال: فأنا مهلهل. قال: دلّني على كفء لبجير؛ قال: لا أعلمه إلا امرأ القيس بن أبان، هذاك علمه؛ فجزّ ناصيته(11) و قصد قصد امرئ القيس فشدّ عليه فقتله. فقال الحارث في ذلك:

ص: 35


1- الغرة: العبد و الأمة. و معنى هذا البيت معنى الذي قبله.
2- في م: «فدعا بالرجل» بالجيم. و من معاني الرجل (بالكسر): الجيش، شبه لكثرته برجل الجراد و هو الكثير منه.
3- النعامة: اسم فرس كانت للحارث بن عباد.
4- أصل اللقاح الحمل. و عن بمعنى بعد. و حيال: مصدر حالت الأنثى إذا لم تحمل. و المراد أن حرب وائل هاجت بعد سكون.
5- بوّأ نحوه الرمح: قابله به و سدّده نحوه.
6- عبارة ط، ء: «و كان يلي مقدّمتهم...».
7- كذا في أكثر الأصول. و ثعلبة جدّ أعلى من جدود آل عباد الذين منهم بجير هذا، إذ آل عباد من ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، و ينتهي نسب ثعلبة إلى بكر بن وائل. و في ب، س: «بنو تغلب»، و هو تحريف.
8- العكر: (محركة و قد تسكن) جمع عكرة: و هي القطيع الضخم من الإبل، أي ردوا ما تفرق من الإبل إلى معظمها.
9- في «لسان العرب» (مادة خلج): «الرأي مخلوجة ليس بسلكي». و في «فرائد اللآل» (ص 32) «و مجمع الأمثال» (ج 1 ص 29): «الأمر سلكى و ليس بمخلوجة». و السلكى: الطعنة المستقيمة و هي التي تقابل المطعون فتكون أسلك فيه. و المخلوجة: المعوجة. يضرب هذا المثل في استقامة الأمر و نفى ضدّها.
10- راجع الحاشية رقم 3 ص 35 من هذا الجزء.
11- الناصية: الشعر في مقدم الرأس فوق الجبهة، و كان من عادة العرب أنهم إذا أنعموا على الرجل الشريف بعد اسره جزوا ناصيته و أطلقوه فتكون الناصية عند من جزها يفخر بها. و ربما جزت ناصية الأسير شريفا كان أو غير شريف و أخذت للافتخار، و العرب متفاوتون في ذلك. قال زهير من قصيدة مدح بها هرم بن سنان المرّي أحد الأجواد في الجاهلية: عظمت دسيعته و فضله جز النواصي من بني بدر و قالت الخنساء مفتخرة: جززنا نواصي فرسانها و كانوا يظنون ألا تجزا و من ظن ممن يلاقي الحروب بألا يصاب فقد ظن عجزا

لهف نفسي على عديّ و لم أع *** رف عديّا إذ أمكنتني اليدان

طلّ(1) من طلّ في الحروب و لم أو *** تر بجيرا أبأته(2) ابن أبان

فارس يضرب الكتيبة بالسي *** ف و تسموا أمامه العينان

و زعم حجر أنّ مهلهلا قال: لا و اللّه أو يعهد لي غيرك؛ قال الحارث: اختر من شئت؛ قال: أختار الشيخ القاعد عوف بن محلّم؛ قال الحارث: يا عوف أجره؛ قال: لا! حتى يقعد خلفي؛ فأمره فقعد خلفه؛ فقال: أنا مهلهل. و أمّا مقاتل فقال: إنما أخذه في دور الرّحى(3) و حومة القتال و لم يقعد أحد بعد، فكيف يقول الشيخ القاعد!. قال مقاتل: و شدّ عليهم جحدر، فاعتوره عمرو و عامر، فطعن/عمرا بعالية(4) الرمح و طعن عامرا بسافلته فقتلهما عداء(5) و جاء ببزّهما. قال عامر بن عبد الملك المسمعي: فحدّثني رجل عالم قال: سألني الوليد بن يزيد:

من قتل عمرا و أخاه عامرا؟ قلت: جحدر؛ قال: صدقت، فهل تدري كيف قتلهما؟ قلت: نعم، قتل عمرا بسنان(6)الرمح، و قتل عامرا بزجّه. قال: و قتل جحدر أيضا أبا مكنف. قال مقاتل: فلمّا رجع مهلهل بعد الوقعة و الأسر إلى أهله، جعل النساء و الولدان يستخبرونه: تسأل المرأة عن زوجها و ابنها(7) و أخيها، و الغلام عن أبيه و أخيه؛ فقال:

ليس مثلي يخبّر الناس عن آ *** بائهم قتّلوا و ينسى القتالا

لم أرم(8) عرصة الكتيبة حتّى ان *** تعل الورد(9) من دماء نعالا

عرفته رماح بكر فما يأ *** خذن إلا لبانه(10) و القذالا

غلبونا، و لا محالة يوما *** يقلب الدهر ذاك حالا فحالا

ص: 36


1- طل دم القتيل: ذهب هدرا.
2- أباء القاتل بالقتيل: قتله به.
3- في ط، ء، م: «أخذه في المرحى». و المرحى: حومة الحرب.
4- عالية الرمح: سنانه. و سافلته: زجه. و زج الرمح: حديدة في أسفله.
5- يقال: عادي الفارس بين صيدين و بين رجلين إذا طعنهما طعنتين متواليتين، و العداء بالكسر، و المعاداة: الموالاة و المتابعة بين الاثنين يصرع أحدهما على إثر الآخر في طلق واحد، و أنشد لامرئ القيس: فعادى عداء بين ثور و نعجة دراكا و لم ينضح بماء فيغسل
6- في ب، س، ح: «بعالية الرمح».
7- في ب، س، ح: «و أبيها».
8- لم أرم: لم أبرح.
9- الورد من الخيل: بين الكميت و الأشقر؛ أو هو الأحمر الضارب إلى الصفرة.
10- كذا في أكثر الأصول، و اللبان: الصدر. و في ب، س: «لباته» بالتاء بدل النون، و اللبة: المنحر.

ثم خرج حتّى لحق بأرض اليمن، فكان في جنب(1)، فخطب إليه أحدهم ابنته فأبى أن يفعل، فأكرهوه فأنكحها إياه؛ فقال في ذلك مهلهل:

/

أنكحها فقدها الأراقم(2) في *** جنب و كان الحباء(3) من أدم

لو بأبانين(4) جاء يخطبها *** ضرّج ما أنف خاطب بدم

أصبحت لا منفسا(5) أصبت و لا *** أبت كريما حرّا من النّدم

هان على تغلب بما لقيت *** أخت بني المالكين من جشم

ليسوا بأكفائنا الكرام و لا *** يغنون من عيلة و لا عدم

/ثم إنّ مهلهلا انحدر، فأخذه عمرو بن مالك بن ضبيعة، فطلب إليه أخواله بنو يشكر - و أمّ مهلهل المرادة(6)بنت ثعلبة بن جشم بن غبر(7) اليشكريّة، و أختها منّة(8) بنت ثعلبة أمّ حييّ(9) بن وائل، و كان المحلّل(10) بن ثعلبة خالهما - فطلب إلى عمرو أن يدفعه إليه فيكون عنده ففعل(11)؛ فسقاه خمرا، فلما طابت نفسه تغنّى:

طفلة(12) ما ابنة المحلّل بيضا *** ء لعوب لذيذة في العناق

القبائل التي انضمت إلى بكر في حربهم مع تغلب:

حتى فرغ من القصيدة، فأدّى ذلك من سمعه من المهلهل إلى عمرو، فحوّله إليه و أقسم ألاّ يذوق عنده خمرا و لا ماء و لا لبنا حتى يرد ربيب الهضاب (جمل له كان أقلّ وروده في الصيف الخمس)(13)؛ فقالوا له: يا خير الفتيان، أرسل إلى ربيب فلتؤت به قبل وروده، ففعل فأوجره(14) ذنوبا من ماء؛ فلما تحلّل من يمينه سقاه من ماء الحاضرة، و هو أوبأ ماء رأيته، فمات. فتلك الهضاب التي كان يرعاها ربيب يقال لها هضاب ربيب، طالما رعيتهنّ

ص: 37


1- جنب: حي باليمن من مذحج، و هم ستة رجال: منبه و الحارث و العلي و سبحان و شمران و هفان يقال لهم جنب لأنهم جانبوا أخاهم صداء. (راجع «معجم البلدان» لياقوت ج 1 ص 77 طبع أوروبا).
2- الأراقم: حيّ من تغلب.
3- كذا في ط، ء «و عيون الأخبار» (ج 3 ص 91) طبع دار الكتب المصرية، و كذلك صححها المرحوم الشنقيطي بنسخته. و في باقي الأصول: «الخباء» بالخاء المعجمة، و هو تصحيف و قد وقع في هذا التصحيف ابن دريد كما في «المزهر» للسيوطي (ج 2 ص 186).
4- أبانان: جبلان، قيل: يقال لأحدهما أبان الأبيض و للآخر أبان الأسود، و قيل: هو تثنية أبان و متالع غلب أحدهما، كما قالوا العمران و القمران في أبي بكر و عمر و في الشمس و القمر. (انظر «معجم البلدان» لياقوت).
5- المنفس: المال الكثير الذي له قدر و خطر.
6- في ط، ء: «المرداة». و في ح: «المرتادة».
7- كذا في ط، ء، و هو الموافق لما في «شرح القاموس» «مادة غبر» و في الأصول «عبد» و هو تحريف.
8- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «أمية».
9- كذا في ط، ء، م. و في باقي الأصول: «بنت ثعلبة حي من وائل».
10- كذا في ط، ء، م و الطبري (قسم 2 ج 3 ص 884 طبع أوروبا). و في باقي الأصول و هامش الطبري: «المجلل» بالجيم.
11- في ط، ء، م: «ففعل المحلل ثم شرب مهلهل يوما و هو عند المحلل خمرا...».
12- الطفلة: الرخصة الناعمة.
13- الخمس بالكسر: من أظماء الإبل و هو أن ترد الإبل الماء في اليوم الخامس.
14- أوجره ذنوبا من ماء: أي جعله في فيه. و الذنوب: الدلو التي لها ذنب، و لا تكون ذنوبا إلا و هي ملأى، و لا تسمى خالية ذنوبا.

و رأيتهنّ. قال مقاتل: و لم يقاتل معنا من بني يشكر و لا من بني لجيم و لا ذهل بن ثعلبة غير ناس من بني يشكر و ذهل قاتلت بأخرة(1)، ثم جاء ناس من بني لجيم يوم قضة مع الفند. و في ذلك يقول سعد بن مالك:

إنّ لجيما قد أبت كلّها *** أن يرفدونا رجلا واحدا

و يشكر أضحت على نأيها *** لم تسمع الآن لها حامدا

و لا بنو ذهل و قد أصبحوا *** بها حلولا(2) خلفا ماجدا

القائدي الخيل لأرض العدا *** و الضاربين الكوكب الوافدا(3)

و قال البكريّ:

و صدّت لجم للبراءة إذ رأت *** أهاضيب(4) موت تمطر الموت معضلا

و يشكر قد مالت قديما و أرتعت *** و منّت بقرباها إليهم لتوصلا

و قالوا جميعا: مات جسّاس حتف أنفه و لم يقتل.

عدد القتلى من بكر و تغلب و الاستشهاد على ذلك بشعر مهلهل:

قال عامر بن عبد الملك: لم يكن بينهم من قتلى تعدّ و لا تذكر إلا ثمانية نفر من تغلب و أربعة من بكر عدّدهم مهلهل في شعريه(5)، يعني قصيدتيه:

أ ليلتنا بذي حسم(6) أنيري *** إذا أنت انقضيت فلا تحوري

فإن يك بالذّنائب طال ليلي *** فقد أبكي من الليل القصير

فلو نبش المقابر عن كليب *** فيعلم بالذنائب أيّ زير

بيوم الشّعثمين(7) أقرّ عينا *** و كيف لقاء من تحت القبور

ص: 38


1- بأخرة: أخيرا، يقال جاء أخرة و بأخرة (بفتح الهمزة و الخاء و بضم الهمزة).
2- كذا في ح. و في ب، س: «حلولا خلقا ماجدا». و في ط، ء: «حلولا حلقا ماجدا». و في م: «حلوما خلفا ماجدا».
3- كذا في ب. و الكوكب: سيد القوم و فارسهم، و الرجل بسلاحه. و الوافد: القادم. و في باقي الأصول: «الواقدا» بالقاف، و لعله تصحيف.
4- الأهاضيب: جمع أهضوبة و هي الدفعة من المطر.
5- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «في شعره يعني من قصيدته».
6- ذو حسم: موضع بالبادية. و تحوري: ترجعي.
7- يوم الشعثمين: هو يوم واردات، كما في «العقد الفريد»، بيد أن شعر الأخطل الآتي يدل على أنه يوم الذنائب. و الشعثمان هما شعثم و عبد شمس ابنا معاوية بن عامر بن ذهل بن ثعلبة، كما في العقد الفريد»، و قيل: هما شعثم و شعيث، و قيل في اسميهما غير ذلك. و أضيف هذا اليوم إليهما لأنهما قتلا فيه. و قد جمعهما الأخطل في قصيدة يفتخر فيها بقومه بني تغلب على «شعاثم»، يريد ابني معاوية و من قتل معهما في ذلك اليوم، فقال: بقوم هم يوم الذنائب أهلكوا «شعاثم» رهط الحارث بن عباد و قال أبو علي القالي في أماليه: «الشعثمان: موضع معروف». و ردّ قوله هذا بأنه لم يذكره أحد ممن شرح حرب البسوس و ذكر أيامها. (راجع «شرح شواهد المغني» للبغدادي ج 2 ص 234 من النسخة المخطوطة المحفوظة بدار الكتب المصرية برقم 2 نحو ش و «العقد الفريد» ج 3 ص 95). و أقرّ عينا: جواب «لو» الشرطية في البيت الذي قبل هذا البيت. و «رواية الأمالي»: «لقرّ عينا» باللام. و قد تقدّم في ص 38 أن هذا الفعل نصب لما في «لو» من معنى التمني.

و إنّي قد تركت بواردات(1) *** بجيرا في دم مثل العبير(2)

هتكت به بيوت بني عباد *** و بعض الغشم أشفى للصّدور

على أن ليس يوفي من كليب *** إذا برزت مخبّأة الخدور

/و همّام بن مرّة قد تركنا *** عليه القشعمان(3) من النسور

ينوء بصدره و الرمح فيه *** و يخلجه(4) خدبّ كالبعير

فلو لا الريح أسمع من بحجر *** صليل البيض تقرع بالذكور(5)

/فدى لبني شقيقة يوم جاءوا *** كأسد الغاب لجّت في الزّئير

كأنّ رماحهم أشطان(6) بئر *** بعيد بين جاليها(7) جرور

غداة كأنّنا و بنى أبينا *** بجنب عنيزة رحيا(8) مدير

تظلّ الخيل عاكفة عليهم *** كأنّ الخيل ترحض(9) في غدير

فهؤلاء أربعة من بني بكر بن وائل. و قال أيضا:

طفلة ما ابنة المحلّل بيضا *** ء لعوب لذيذة في العناق

فاذهبي ما إليك غير بعيد *** لا يؤاتي العناق من في الوثاق

ضربت نحرها إليّ و قالت *** يا عديّا لقد وقتك الأواقي(10)

ما أرجّي في العيش بعد نداما *** ي أراهم سقوا بكأس حلاق(11)

/بعد عمرو و عامر و حييّ *** و ربيع الصّدوف(12) و ابني عناق

ص: 39


1- واردات: موضع عن يسار طريق مكة، و به سمي «يوم واردات».
2- العبير: الزعفران.
3- القشعم: النسر الذكر العظيم. و يروي كما في «الأمالي» لأبي علي القالي ج 2 ص 132 طبع دار الكتب المصرية: «عليه القشعمين» على أنه معمول لتركنا، و بالرفع على أنه جملة حالية استغنت في الربط بالهاء عن الواو. على أنه يجوز أن يكون القشعمان مفردا و تلحق حركة الإعراب فيه النون لا الألف، و قد تضم القاف و العين كما في ثعلبان و قد تفتحان كما في عقربان.
4- يخلجه: يجذبه. و الخدب: الضخم.
5- تقدّم تفسير هذا البيت في ص 41 في الحاشية رقم 3 من هذا الجزء.
6- الأشطان: جمع شطن و هو الحبل الشديد الفتل يستقي به.
7- جال البئر: ناحيتها. و الجرور من الآبار: البعيدة القعر.
8- في «شرح شواهد المغني» للبغدادي: «قال أبو عبيد البكري في «شرح نوادر القالي» المسمى «قرة النواظر في شرح النوادر»: الرحيان إذا أدارهما مدير أثرت إحداهما في الأخرى و هما من معدن واحد، و كذلك هؤلاء هم من أصل واحد يتماحقون و يقتتلون».
9- ترحض: تغسل.
10- الأواقي: جمع واقية.
11- الحلاق: المنية معدولة عن الحالقة لأنها تحلق أي تقشر، و بنيت على الكسر لأنه حصل فيها العدل و التأنيث و الصفة الغالبة.
12- كذا في أكثر الأصول و في «شرح شواهد العيني» المطبوع بهامش «خزانة الأدب» للبغدادي (ج 4 ص 213 طبع بولاق)، و قد فسره العيني بقوله: «الصدوف بفتح الصاد المهملة و في آخره فاء: اسم فرس الربيع الذي أضيف إليها و قيل: اسم امرأة». و في س: «الصدوق» بالقاف، و هو تصحيف.

و امرئ القيس ميّت يوم أودى *** ثم خلّى عليّ ذات العراقي(1)

و كليب سمّ(2) الفوارس إذ ح *** مّ رماه الكماة بالإيفاق(3)

إنّ تحت الأحجار حدّا(4) ولينا *** و خصيما ألدّ ذا معلاق(5)

حيّة في الوجار(6) أربد لا تن *** فع منه السليم نفثة راق

فهؤلاء ثمانية من تغلب. قال عامر: و الدليل على أنّ القتلى كانوا قليلا أنّ آباء القبائل هم الذين شهدوا تلك الحروب، فعدّوهم و عدّوا بنيهم و بني بنيهم، فإن كانوا خمسمائة فقد صدقوا، فكم عسى أن يبلغ عدد القتلى و القبائل. قال مسمع: إنّ أخي مجنون، و كيف يحتجّ بشعر المهلهل، و قد قتل جحدر أبا مكنف يوم قضة فلم يذكره في شعره، و قتل اليشكريّ ناشرة فلم يذكره في الشعر، و قتل حبيب يوم واردات، و قتل سعد بن مالك يوم قضة ابن القبيحة فلم يذكر، فهؤلاء أربعة. و قال البكريّ:

تركنا حبيبا يوم أرجف جمعه *** صريعا بأعلى واردات مجدّلا

/و قال مهلهل أيضا:

لست أرجو لذّة العيش ما *** أزمت(7) أجلاد قد بساقي

جلّلوني جلد حوب(8) فقد *** جعلوا نفسي عند التّراقي

و قال آخر(9) يفخر بيوم واردات:

و مهراق الدماء بواردات *** تبيد المخزيات و ما تبيد

فقلت لعامر: ما بال مسمع و ما احتجّ به من هؤلاء الأربعة؟ فقال عامر: و ما أربعة إن كنت أغفلتهم(10) فيما يقولون! إنّهم قتلوا يوم كذا(11) ثلاثة آلاف، و يوم كذا(11) أربعة آلاف، و اللّه ما أظنّ جميع القوم كانوا يومئذ ألفا! فهاتوا فعدّوا أسماء القبائل و أبناءهم و انزلوا معهم [إلى](12) أبناء أبنائهم، فكم عسى أن يكونوا!

ص: 40


1- ذات العراقي: الداهية.
2- في ب، س: «شمّ» بالشين، و هو تصحيف.
3- كذا في «شرح شواهد العيني»، و الإيفاق (بكسر الهمزة و سكون الياء بعدها فاء و بعد الألف قاف): إيتار السهم ليرمي به، من أوفقت السهم إذا وضعته على فوقه. و في الأصول: «بالاتفاق» و هو تصحيف.
4- كذا في م، ح. و الحدّ: الحدة. و في سائر الأصول: «جدا» بالجيم.
5- المعلاق: اللسان البليغ كأنه يعلق بخصمه، و يروى: «مغلاق» بالغين المعجمة، كأنه يغلق الحجة على خصمه.
6- الحية يطلق على الذكر و الأنثى. و الوجار: حجر الضبع و يستعار لغيرها. و الأربد: الذي يضرب لونه إلى السواد.
7- أزمت: تقبضت و انضمت.
8- كذا صحح هذه الكلمة المرحوم الشيخ الشنقيطي في نسخته. و الحوب (بالحاء المهملة المفتوحة و الواو): الضخم من الجمال. و البعير إذا زجر قيل له حوب و لذلك سمى حوبا بزجره كما سمى البغل عدسا بزجره و سمي الغراب غاقا بصوته. و في ط، ء، م: «جوب» بالجيم و الجوب الترس، و هو بعيد عن السياق. و في باقي الأصول: «حرف» بالحاء المهملة و الراء. و الحرف الناقة الضامرة الصلبة.
9- هو جرير العجلي و قيل: هو الأخطل. «انظر «اللسان» مادة هرق».
10- كذا في ط، ء، م. و في سائر الأصول: «لأعقلهم».
11- كذا في ط، ء، م. و في باقي الأصول: «و يوم كذا و كذا...».
12- الزيادة عن ط.
نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني
صوت

أزجر العين أن تبكّي الطّلولا *** إنّ في الصدر من كليب غليلا

إنّ في الصدر حاجة لن تقضّى *** ما دعا في الغصون داع هديلا

كيف أنساك يا كليب و لمّا *** أقض حزنا ينو بني و غليلا

/أيّها القلب أنجز اليوم نحبا(1) *** من بني الحصن(2) إذ غدوا و ذحولا(3)

كيف يبكي الطلول من هو رهن *** بطعان الأنام جيلا فجيلا

أنبضوا(4) معجس القسيّ و أبرق *** نا كما توعد الفحول الفحولا

و صبرنا تحت البوارق حتّى *** ركدت فيهم السيوف طويلا

لم يطيقوا أن ينزلوا و نزلنا *** و أخو الحرب من أطاق النّزولا

الشعر لمهلهل - قال أبو عبيدة: اسمه عديّ، و قال يعقوب بن السّكّيت: اسمه امرؤ القيس - و هو ابن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب؛ و إنما لقّب مهلهلا لطيب شعره و رقّته، و كان أحد من غنّي من العرب في شعره. و قيل: إنه أوّل من قصّد القصائد و قال الغزل؛ فقيل: قد هلهل الشعر، أي أرقّه. و هو أوّل من كذب في شعره(5). و هو خال امرئ القيس بن حجر الكنديّ. و كان فيه خنث و لين، و كان كثير المحادثة للنّساء، فكان كليب يسمّيه «زير النّساء»؛ فذلك قوله:

و لو نبش المقابر عن كليب *** فيعلم بالذنائب أيّ زير

الغناء لابن محرز في الأوّل و الثاني من الأبيات ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و للغريض فيهما لحن في هذه الطريقة و الإصبع(6) و المجرى، و الذي فيه سجحة منها(7) لابن محرز. و لمعبد لحنان أحدهما في الأوّل و السادس ثقيل أوّل مطلق/في مجرى البنصر، و الآخر خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و لإبراهيم في الأوّل و الثاني خفيف ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى. و لإسحاق في الأوّل و الثالث ماخوريّ. و لعلّويه في الأوّل و الثاني خفيف ثقيل أوّل بالبنصر، و لمالك فيهما خفيف رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و لابن سريج في السادس و السابع خفيف رمل بالسبّابة في مجرى البنصر. و لابن سريج أيضا في الأوّل و الثامن خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و للغريض في الأوّل

ص: 41


1- النحب: النذر.
2- الحصن: هو ثعلبة بن عكابة.
3- الذحول: جمع ذحل و هو الثأر.
4- أنبض الرامي القوس و عن القوس: جذب و ترها لتصوّب. و معجس كمجلس: مقبض القوس.
5- حكم عليه بهذا لقوله: «فلو لا الريح...» البيت، لأن قتالهم كان بالجزيرة و حجر قصبة اليمامة، و بين الموضعين مسافة عظيمة. (راجع «أمالي أبي علي القالي» ج 2 ص 134 طبع دار الكتب المصرية و كتاب «الشعر و الشعراء» ص 164).
6- في ط: «و الإصبع في المجرى».
7- لعل الصواب: «منهما» على أن يكون مرجع الضمير اللحنين.

و الثاني خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و للهذليّ في الأوّل و الثاني و السابع خفيف ثقيل أوّل بالوسطى من رواية حماد عن أبيه. و لمالك في الأوّل و الثاني و الخامس خفيف ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق و عمرو بن بانة.

و منها:

صوت

ثكلتني عند(1) الثّنيّة أمّي *** و أتاها نعيّ عمّي و خالي

إن لم أشف النفوس من حيّ بكر *** و عديّ تطأه بزل الجمال(2)

غنّاه ابن سريج ثقيلا أوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى من رواية إسحاق، و غنّاه الغريض ثقيلا أوّل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة.

/و منها:

صوت

قرّبا مربط النّعامة منّي *** لقحت حرب وائل عن حيال(3)

قرّباها في مقربات(4) عجال *** عابسات يثبن وثب السّعالي

لم أكن من جناتها علم اللّه و إنّي بحرّها اليوم صال الشعر للحارث بن عباد. و الغناء للغريض ثقيل أوّل بالبنصر. و فيه لحن آخر يقال إنه لابن سريج.

و منها:

صوت

يا لبكر أنشروا لي كليبا *** يا لبكر أين أين الفرار

يا لبكر(5) فاظعنوا أو فحلّوا *** صرّح الشرّ و بان السّرار

ص: 42


1- في ط، ء، م: «على».
2- رواية هذا البيت في كتاب بكر و تغلب ابني وائل: إن لم أشف النفوس من تغلب الغد ر بيوم تذل بزل الجمال و لعله: «يزلّ بزل الجمال» و بهذا يكون البيت واضح العبارة و المعنى. و قد ورد في ب، س عقب هذين البيتين جملة: «الشعر مجهول»، و هي حشو لأن هذا الشعر للحارث بن عباد كما سيذكر المؤلف بعد قليل.
3- تقدّم شرح هذا البيت في الحاشيتين رقم 5، 6 ص 47 من هذا الجزء.
4- المقربات: جمع مقربة و هي الفرس التي يقرب مربطها و معلفها لكرامتها. و السعالى: جمع سعلاة و هي الغول أو ساحرة الجن. و رواية هذا البيت في كتاب بكر و تغلب: قربا مربط النعامة مني ساريات يقفزن قفز السعالى و هي رواية غير جيدة.
5- في ط، ء: «يا لبكر اظعنوا...» بدون فاء.

الشعر لمهلهل. و الغناء لابن سريج، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالسبابة في مجرى البنصر من رواية إسحاق. و غنّاه الأبجر خفيف رمل بالوسطى من رواية عمرو.

و منها:

صوت

أ ليلتنا بذي حسم أنيري *** إذا أنت انقضيت فلا تحوري

فإن يك بالذّنائب طال ليلي *** فقد أبكى من الليل القصير

/كأنّ الجدي جدي(1) بنات نعش *** يكبّ(2) على اليدين بمستدير(3)

و تحبو(4) الشّعريان(5) إلى سهيل *** يلوح كقمّة(6) الجمل الكبير

فلو لا الريح أسمع أهل حجر *** صليل البيض تقرع بالذّكور

الشعر لمهلهل. و الغناء لابن محرز في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل بالبنصر، و له في الأبيات كلها خفيف ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى، عن إسحاق جميعا. و في الأبيات كلّها على الولاء للأبجر ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو. و يقال: إن فيها لحنا للغريض أيضا.

الهجرس بن كليب و ثأره لأبيه من خاله جساس:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال أخبرنا الحسن بن الحسين السّكّريّ قال حدّثنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل عن أبي عبيدة:

/أن آخر من قتل في حرب بكر و تغلب جسّاس بن مرّة بن ذهل بن شيبان، و هو قاتل كليب بن ربيعة، و كانت أخته تحت كليب، فقتله جسّاس و هي حامل، فرجعت إلى أهلها و وقعت الحرب، فكان من الفريقين ما كان؛ ثم صاروا إلى الموادعة بعد ما كادت القبيلتان تتفانيان؛ فولدت أخت جسّاس غلاما فسمّته(7) الهجرس و ربّاه جساس، فكان لا يعرف أبا غيره، و زوّجه ابنته. فوقع بين الهجرس و بين رجل من بني بكر بن وائل كلام؛ فقال له البكريّ: ما

ص: 43


1- قال ابن سيده: الجدي من النجوم جديان: أحدهما الذي يدور مع بنات نعش، و الآخر الذي بلزق الدلو و هو من البروج و لا تعرفه العرب. و كلاهما على التشبيه بالجدي في مرآة العين.
2- يكب: ينكس. يقال: كب فلان فلانا إذا صرعه فأكب هو؛ و هذا من النادر، و هو أن يكون الفعل المجرد من الهمزة متعديا و ذو الهمزة لازما.
3- كذا في ب، س، ح. و في ط، ء، م: «كمستدير».
4- تحبو: تدنو، يقال: حبا الشيء إلى كذا إذا دنا إليه أو اتصل به. و في الأصول الموجود بها هذا البيت: «تخبو» بالخاء المعجمة، و ظاهر أنه تصحيف، و رواية «كتاب بكر و تغلب» (ص 70): «تحنو» بالحاء المهملة و النون. و البيت ساقط من ط، ء.
5- الشعريان: كوكبان، أحدهما في الجوزاء و طلوعه بعدها في شدّة الحر، و يقال له الشعري اليمانية و تلقب بالعبور، و الآخر في الذراع و يقال له الشعري الغميصاء، و تزعم العرب أنهما أختا سهيل. و سهيل: كوكب يمان.
6- رواية كتاب بكر و تغلب: «كهيئة».
7- كذا في ط، ء و «ابن الأثير» (ج 1 ص 393) طبع ليدن. و في باقي الأصول اختلاف في عطف بعض هذه الأفعال على بعض بالواو أو بالفاء.

أنت بمنته حتى تلحقك بأبيك؛ فأمسك عنه و دخل إلى أمه كئيبا، فسألته عما به فأخبرها الخبر؛ فلما أوى إلى فراشه و نام إلى جنب امرأته وضع أنفه بين ثدييها، فتنفّس تنفّسة تنفّط(1) ما بين ثدييها من حرارتها؛ فقامت الجارية فزعة قد أقلّتها رعدة حتى دخلت على أبيها، فقصّت عليه قصّة الهجرس؛ فقال جسّاس: ثائر و ربّ الكعبة! و بات جسّاس على مثل الرّضف(2) حتى أصبح؛ فأرسل إلى الهجرس فأتاه، فقال له: إنما أنت ولدي و منّي بالمكان الذي قد علمت، و قد/زوّجتك ابنتي و أنت معي، و قد كانت الحرب في أبيك زمانا طويلا حتى كدنا نتفانى، و قد اصطلحنا و تحاجزنا، و قد رأيت أن تدخل فيما دخل فيه الناس من الصلح، و أن تنطلق حتى نأخذ عليك مثل ما أخذ علينا و على قومنا؛ فقال الهجرس: أنا فاعل، و لكنّ مثلي لا يأتي قومه إلا بلأمته(3) و فرسه؛ فحمله جسّاس على فرس و أعطاه لأمة و درعا؛ فخرجا حتى أتيا جماعة من قومهما، فقصّ عليهم جسّاس/ما كانوا فيه من البلاء و ما صاروا إليه من العافية، ثم قال: و هذا الفتى ابن أختي قد جاء ليدخل فيما دخلتم فيه و يعقد ما عقدتم؛ فلما قرّبوا(4) الدم و قاموا إلى العقد أخذ الهجرس بوسط رمحه، ثم قال: و فرسي و أذنيه، و رمحي و نصليه، و سيفي و غراريه، لا يترك الرجل قاتل أبيه و هو ينظر إليه؛ ثم طعن جسّاسا فقتله، ثم لحق بقومه؛ فكان آخر قتيل في بكر بن وائل.

ترحيل أخت كليب لجليلة عن مأتم زوجها و شعر جليلة في ذلك:

قال أبو الفرج: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثني عمّي عن العبّاس بن هشام عن أبيه عن الشّرقيّ(5) بن القطاميّ قال:

لمّا قتل جسّاس بن مرّة كليب بن ربيعة، و كانت جليلة بنت مرّة أخت جساس تحت كليب، اجتمع نساء الحيّ للمأتم، فقلن لأخت كليب: رحّلي جليلة عن مأتمك، فإنّ قيامها فيه شماتة و عار علينا عند العرب؛ فقالت لها:

يا هذه اخرجي عن مأتمنا، فأنت أخت واترنا و شقيقة قاتلنا؛ فخرجت و هي تجرّ أعطافها؛ فلقيها أبوها مرّة، فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، و حزن الأبد؛ و فقد حليل، و قتل أخ عن قليل؛ و بين ذين غرس الأحقاد، و تفتّت الأكباد؛ فقال لها: أو يكفّ ذلك كرم الصّفح و إغلاء الدّيات؟ فقالت جليلة: أمنيّة مخدوع و ربّ الكعبة! أبا لبدن تدع لك تغلب دم ربّها!. قال: و لمّا رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدي و فراق الشامت، ويل غدا لآل مرّة، من الكرّة بعد الكرة!. فبلغ قولها جليلة، فقالت: و كيف تشمت الحرّة بهتك سترها /و ترقّب وترها! أسعد اللّه جدّ أختي، أ فلا قالت: نفرة الحياء، و خوف الاعتداء!. ثم أنشأت(6) تقول:

ص: 44


1- تنفط: احترق.
2- الرضف (بالفتح، واحده رضفة): الحجارة المحماة يوغر (يسخن) بها اللبن، و يقال: هو على الرضف إذا كان قلقا مشخوصا به أو مغتاظا.
3- لأمته: سلاحه. و تطلق اللامة على كل عدّة للحرب من درع و رمح و بيضة و مغفر و سيف و نبل.
4- كان من عادة العرب أن يحضروا في جفنة طيبا أو دما أو رمادا فيدخلوا فيه أيديهم عند التحالف ليتم عقدهم عليه باشتراكهم في شيء واحد.
5- في بعض الأصول: «الشرفي» بالفاء، و هو تصحيف، و قد ضبطه السمعاني بفتح الشين و سكون الراء و القطامي بضم القاف و فتح الطاء و كسر الميم. و ضبط كذلك بالعبارة في «تهذيب التهذيب» و الخلاصة بفتح الشين و الراء و قطامي بضم القاف و فتح الميم.
6- قال أبو عبيد اللّه محمد بن عمران المرزباني في الجزء الثالث من «أشعار النساء» بعد أن ذكر هذه الأبيات و نسبها لجليلة كما ذكر المؤلف هنا: «و وجدت بخط حرميّ بن أبي العلاء قال محمد بن خلف بن المرزبان: هذه الأبيات لفاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن مرّة أخت كليب و مهلهل ابني ربيعة التغلبيين ترثي أخاها كليبا و قتله زوجها جساس» اه.

يا ابنة الأقوام إن شئت فلا *** تعجلي باللّوم حتى تسألني

فإذا أنت تبيّنت الذي *** يوجب اللّوم فلومي و اعذلي

إن تكن أخت امرئ ليمت على *** شفق منها عليه فافعلي

جلّ عندي فعل جسّاس فيا *** حسرتي عما انجلت أو تنجلي

فعل جسّاس على وجدي به *** قاطع ظهري و مدن أجلي

لو بعين فقئت عيني سوى *** أختها فانفقأت لم أحفل

تحمل العين قذى العين كما *** تحمل الأمّ أذى ما تفتلي(1)

يا قتيلا قوّض الدهر به *** سقف بيتيّ جميعا من عل

هدم البيت الذي استحدثته *** و انثنى في هدم بيتي الأوّل

و رماني قتله من كثب(2) *** رمية المصمي به المستأصل

يا نسائي دونكنّ اليوم قد *** خصّني الدهر برزء معضل

/خصّني قتل كليب بلظّى *** من ورائي و لظّى مستقبلي(3)

/ليس من يبكي ليومين(4) كمن *** إنما يبكي ليوم ينجلي(5)

يشتفي المدرك بالثأر و في *** دركي ثأري ثكل المثكل(6)

ليته كان دمي فاحتلبوا *** بدلا منه دما من أكحلي(7)

إنني قاتلة مقتولة *** و لعلّ اللّه أن يرتاح لي

ص: 45


1- تفتلي: تربي، و في الأصول: «تعتلي» بالعين المهملة، و هو تحريف.
2- من كثب: من قرب. و أصماه: قتله في مكانه.
3- كذا في ط، ء، م، و هو الموافق لما في الجزء الثالث من «أشعار النساء» للمرزباني (ص 50) «و نهاية الأرب» (ج 5 ص 215) طبع دار الكتب المصرية. و في سائر النسخ: «من أسفلي».
4- هذه رواية «نهاية الأرب». و في الأصول: «ليوميه».
5- كذا في «نهاية الأرب». و في أكثر الأصول: «بجل». و في ب، س: «يجل» و هما تحريف.
6- المثكل: التي لازمها الحزن. و رواية ط، م، ء: «ثكل مثكلي». و رواية أشعار النساء: درك الثائر شافيه و في درك الثائر قتل مثكلي
7- كذا في الجزء الثالث من «أشعار النساء» للمرزباني. و الأكحل: عرق في الذراع يقصد، و قيل: هو عرق الحياة و يدعى نهر البدن، و لا يقال فيه عرق الأكحل. و في الأصول: ليته كان دما فاحتلبوا دررا منه دمي من أكحلي و لو كانت الرواية فيه. ليته كان دما فاحتلبوا بدلا منه دمي من أكحلي لكان أجود.

2 - ذكر الهذلي و أخباره

نسب الهذلي و صناعته:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

الهذليان أخوان يقال لهما سعيد و عبد آل ابنا مسعود؛ فالأكبر منهما يقال له سعيد، و يكنى أبا مسعود، و أمه امرأة يقال لها أمّ فيعل، و كان كثيرا ما ينسب إليها، و كان ينقش الحجارة بأبي قبيس، و كان فتيان من قريش يروحون إليه كلّ عشيّة فيأتون بطحاء يقال لها بطحاء قريش فيجلسون عليها، و يأتيهم فيغنّي لهم و يكون معهم. و قد قيل: إن الأكبر هو عبد آل، و الأصغر سعيد.

كان يغني فتيان قريش و هو يزاول صناعته في نقش الحجارة:

قال هارون و حدّثني الزبير بن بكّار قال حدّثني حمزة بن عتبة اللهبيّ:

أنّ الهذليّ كان نقّاشا يعمل البرم من حجارة الجبل، و كان يكنى أبا عبد الرحمن، و كان إذا أمسى راح فأشرف على المسجد ثم غنّى، فلا يلبث أن يرى الجبل كقرص الخبيص(1) صفرة و حمرة من أردية قريش؛ فيقولون: يا أبا عبد الرحمن، أعد؛ فيقول: أمّا و اللّه و هاهنا حجر أحتاج إليه لم يرد الأبطح فلا؛ فيضعون أيديهم في الحجارة حتى يقطعوها له و يحدروها إلى الأبطح، و ينزل معهم حتى يجلس على أعظمها حجرا و يغنّي لهم.

/قال هارون و حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبي مسعود بن(2) أبي جناح قال أخبرني أبو لطيف و عمارة قالا:

تغنّى الهذليّ الأكبر، و كان من أنفسهم، و كان فتيان قريش يروحون كلّ عشيّة حتى يأتوا بطحاء يقال لها بطحاء قريش قريبا من داره، فيجلسون عليها و يأتيهم فيغنيهم.

أجازه الحارث بن خالد لما سمع غناءه:

قال: و أخبرني ابن أبي طرفة عن الحسن بن عبّاد الكاتب مولى آل الزّبير قال:

هجم الحارث بن خالد، و هو يومئذ أمير مكة، على الهذليّ و هو مع فتيان قريش بالمفجر(3) يغنّيهم و عليه جبّة صوف، فطرح عليه مقطّعات خزّ، فكانت هذه أوّل ما تحرّك لها.

ص: 46


1- الخبيص: نوع من الحلواء يعمل من التمر و السمن.
2- في ط، ء، م: «عن أبي مسعود عن أبي جناح».
3- المفجر بالفتح ثم السكون و فتح الجيم: موضع بمكة ما بين الثنية التي يقال لها الخضراء إلى خلف دار يزيد بن منصور (انظر «معجم البلدان» لياقوت).
تزوّج بنت ابن سريج و أخذ عنها غناء أبيها و انتحل أكثره:

قال هارون: و حدّثني حماد عن أبيه قال:

ذكر ابن جامع عن ابن عبّاد أن ابن سريج لما حضرته الوفاة نظر إلى ابنته فبكى، فقالت له: ما يبكيك؟ قال:

أخشى عليك الضيعة بعدي! فقالت له: لا تخف فما من غنائك شيء إلا و قد أخذته؛ قال: فغنّيني فغنّته، فقال: قد طابت نفسي، ثم دعا بالهذليّ فزوّجها منه؛ فأخذ الهذليّ غناء أبيها كلّه عنها فانتحل أكثره؛ فعامّة غناء الهذليّ لابن سريج مما أخذه عن ابنته و هي زوجته.

حدره الحارث بن خالد من منى ثم أذن له فرجع إليها:

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن يحيى أبو غسّان قال:

كان الهذليّ منزله بمنى، و كان فتيان قريش يأتونه فيغنّيهم هناك، ثم أقبل مرّة حتى جلس على جمرة العقبة فغنّى هناك، فحدره الحارث من منى، و كان عاملا على مكة، ثم أذن له فرجع إلى منى.

قصته مع فتية من قريش غناهم فطربوا له و استعادوه:

قال هارون: و حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ/قال حدّثني أبي قال:

كان الهذليّ النقّاش يغدو إليه فتيان قريش و قد عمل عمله بالليل، و معهم الطعام و الشراب و الدراهم، فيقولون له: غنّنا؛ فيقول لهم: الوظيفة(1)، فيقولون: قد جئنا بها؛ فيقول: الوظيفة الأخرى، أنزلوا أحجاري، فيلقون ثيابهم و يأتزرون بأزرهم و ينقلون الحجارة و ينزلونها، ثم يجلس على شنخوب(2) من شناخيب الجبل فيجلسون تحته في السّهل فيشربون و هو يغنّيهم حتى المساء، و كانوا كذلك مدّة؛ فقال له يوما ثلاثة فتية من قريش: قد جاءك كلّ واحد منا بمثل وظيفتك على الجماعة من غير أن تنقص وظيفتك عليهم، و قد اختار كل واحد منا صوتا من غنائك ليجعله حظّه اليوم، فإن وافقت الجماعة هوانا كان ذلك مشتركا بيننا، و إن أبوا غنّيت لهم ما أرادوا و جعلت هذه الثلاثة الأصوات لنا بقية يومنا؛ قال: هاتوا، فاختار أحدهم:

عفت عرفات فالمصايف من هند

و اختار الآخر:

ألمّ بنا طيف الخيال المهجّد(3)

/و اختار الآخر:

هجرت سعدى فزادني كلفا

فغنّاهم إياها، فما سمع السامعون شيئا كان أحسن من ذلك؛ فلما أرادوا الانصراف قال لهم: إني قد صنعت صوتا البارحة ما سمعه أحد، فهل لكم فيه؟ قالوا: هاته منعما بذلك؛ فاندفع فغنّاهم:

ص: 47


1- الوظيفة: ما يقدّر من عمل و طعام و رزق و غير ذلك.
2- الشنخوب: رأس الجبل و أعلاه.
3- هجدت الرجل (بالتضعيف): أيقظته.

أ أن هتفت ورقاء ظلت سفاهة *** تبكّي على جمل لورقاء تهتف

فقالوا: أحسنت و اللّه، لا جرم لا يكون صبوحنا في غد إلا عليه، فعادوا و غنّاهم إياه و أعطوه وظيفته؛ و لم يزالوا يستعيدونه إياه باقي يومهم.

نسبة ما في هذا الخبر من الأصوات
اشارة

من ذلك:

صوت

عفت عرفات فالمصايف من هند *** فأوحش ما بين الجريبين(1) فالنّهد(2)

و غيّرها طول التقادم و البلى *** فليست كما كانت تكون على العهد

الشعر للأحوص، و قيل: إنه لعمر. و الغناء للهذليّ، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالخنصر في مجرى البنصر.

/و منها:

صوت من المائة المختارة
اشارة

ألمّ بنا طيف الخيال المهجّد *** و قد كادت الجوزاء في الجوّ تصعد

ألمّ يحيّينا و من دون أهلها *** فياف تغور الريح فيها و تنجد

عروضه من الطويل. لم يقع لنا اسم شاعره و نسبه. و الغناء للهذليّ ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، و هو اللحن المختار، و فيه ليحيى المكّيّ هزج. و لحن الهذليّ هذا مما اختير للرشيد و الواثق بعده من المائة الصوت المذكورة.

و منها:

صوت

هجرت سعدى فزادني كلفا *** هجران سعدى و أزمعت خلفا

/و قد على حبّها حلفت لها *** لو أنّ سعدى تصدّق الحلفا

ما علق القلب غيرها بشرا *** و لا سواها من معلق عرفا

ص: 48


1- كذا في «ديوان عمر بن أبي ربيعة» (ج 2 ص 231 طبع مدينة ليبسك). و الجريب: يطلق على مواضع كثيرة. و ما أثبتناه قريب مما ورد في نسختي ب، س فقد وردت فيهما هذه الكلمة هكذا: «الحرييين». و في ط، م، ء: «الحريين» و كلاهما تحريف. و في ج: «الحريمين» بالميم. و الحريم اسم لمواضع كثيرة في بغداد و غيرها.
2- النهد (و يقال له عين النهد): اسم موضع بالفرع على الطريق من مكة إلى المدينة. روى الزبير عن رجاله أن أسماء بنت أبي بكر قالت لابنها عبد اللّه: يا بنيّ أعمر الفرع، فعمل عبد اللّه بن الزبير بالفرع عين الفارعة و السنام، و عمل عروة أخوه عين النهد و عين عسكر. (انظر بقية الكلام على ذلك في «معجم ما استعجم» ج 2 ص 707).

فلم تجبني و أعرضت صلفا *** و غادرتني بحبّها كلفا

الغناء للهذليّ ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.

رقص أشعب ابنه و قال هذا ابن مزامير داود:

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق قال:

زوّج ابن سريج لما حضرته الوفاة الهذليّ الأكبر بابنته، فأخذ عنها أكثر غناء أبيها، و ادّعاه فغلب عليه. قال:

و ولدت منه ابنا؛ فلما أيفع جاز يوما بأشعب و هو جالس في فتية من قريش، فوثب فحمله على كتفه و جعل يرقّصه و يقول: هذا ابن دفّتي المصحف و هذا ابن مزامير داود؛ فقيل له: ويلك! ما تقول/و من هذا الصبيّ؟ فقال: أ و ما تعرفونه! هذا ابن الهذليّ من ابنة ابن سريج، ولد على عود، و استهلّ(1) بغناء، و حنّك(2) بملوى(3)، و قطعت سرّته بوتر(4)، و ختن بمضراب.

إسحاق الموصلي و حديثه عن مطرف أخذه من إبراهيم بن المهدي:

و ذكر يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن عبد اللّه بن عيسى الماهانيّ قال:

دخلت يوما على إسحاق بن إبراهيم الموصليّ في حاجة، فرأيت عليه مطرف خزّ أسود ما رأيت قطّ أحسن منه؛ فتحدّثنا إلى أن أخذنا في أمر المطرف، فقال: لقد كان لكم أيّام حسنة و دولة عجيبة؛ فكيف ترى هذا؟ فقلت له: ما رأيت مثله؛ فقال: إنّ قيمته مائة ألف درهم، و له حديث عجيب؛ فقلت: ما أقوّمه إلا بنحو مائة دينار؛ فقال إسحاق: شربنا يوما من الأيام فبتّ و أنا مثخن(5)، فانتبهت لرسول محمد الأمين، فدخل عليّ فقال: يقول لك أمير المؤمنين: عجّل؛ و كان بخيلا على الطعام، فكنت آكل قبل أن أذهب إليه؛ فقمت فتسوّكت و أصلحت شأني، و أعجلني الرسول عن الغداء فقمت معه فدخلت عليه، و إبراهيم بن المهديّ قاعد عن يمينه و عليه هذا المطرف و جبّة خزّ دكناء(6)؛ فقال لي محمد: يا إسحاق، أ تغدّيت؟ قلت: نعم يا سيّدي؛ قال: إنك لنهم، أ هذا وقت غداء! فقلت: أصبحت يا أمير المؤمنين و بي خمار فكان ذلك مما حداني على الأكل؛ فقال لهم: كم شربنا؟ فقالوا: ثلاثة أرطال، فقال: اسقوه إياها؛ فقلت: إن رأيت أن تفرّق عليّ!؛ فقال: يسقى رطلين و رطلا؛ فدفع إليّ رطلان فجعلت أشربهما/و أنا أتوهم أن نفسي تسيل معهما، ثم دفع إليّ رطل آخر فشربته، فكأنّ شيئا انجلى عني؛ فقال غنّني:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا

فغنّيته، فقال: أحسنت و طرب؛ ثم قام فدخل - و كان كثيرا [ما] يدخل إلى النساء و يدعنا - فقمت في إثر

ص: 49


1- استهل الصبيّ: رفع صوته بالبكاء عند الولادة.
2- التحنيك: أن تمضغ التمر ثم تدلكه بحنك الصبي، و في حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: أنه كان يحنك أولاد الأنصار.
3- الملوى: من أجزاء العود (انظر الكلام على العود و أجزائه في مقدمة الجزء الأوّل من هذا الكتاب طبع دار الكتب المصرية).
4- في ط، ء، م: «بزير» و الزير: أحد أوتار العود.
5- يقال: أثخنته الجراحة: أوهنته و أضعفته، و المراد هنا غلبة السكر عليه.
6- الدكناء: المائلة إلى السواد.

قيامه، فدعوت غلاما لي، فقلت: اذهب إلى بيتي و جئني ببزماوردتين(1) و لفّهما في منديل و اذهب ركضا و عجّل، فمضى الغلام و جاءني بهما، فلما وافى الباب و نزل عن دابّته انقطع فنفق(2) من شدّة ما ركض عليه، و أدخل إليّ البزماوردتين، فأكلتهما و رجعت نفسي إليّ و عدت إلى مجلسي؛ فقال لي إبراهيم: لي إليك حاجة أحبّ أن تقضيها لي؛ فقلت: إنما أنا عبدك و ابن عبدك، فقل ما شئت؛ قال: تردّد عليّ: «كليب لعمري» و هذا المطرف لك؛ فقلت:

أنا لا آخذ منك مطرفا على هذا، و لكنني أصير إلى منزلك فألقيه على الجواري و أردّده عليك مرارا؛ فقال: أحبّ أن تردّده عليّ الساعة و أن تأخذ هذا فإنه من لبسك/و هو من حاله كذا و كذا؛ فردّدت عليه الصوت مرارا حتى أخذه، ثم سمعنا حركة محمد فقمنا حتى جاء و جلس، ثم قعدنا فشرب و تحدّثنا؛ فغنّاه إبراهيم: «كليب لعمري»، فكأني و اللّه لم أسمعه قبل ذلك حسنا؛ و طرب محمد طربا شديدا و قال: أحسنت و اللّه! يا غلام، عشر بدر لعمّي السّاعة! فجاءوا بها؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي فيها شريكا؛ قال: من هو؟ قال: إسحاق؛ قال: و كيف؟ فقال: إنما أخذته منه لمّا قمت؛ فقلت أنا: و لم! أضاقت الأموال على أمير/المؤمنين حتى تريد أن تشرك فيما يعطي! قال:

أمّا أنا فأشركك و أمير المؤمنين أعلم؛ فلما انصرفنا من المجلس أعطاني ثمانين ألفا، و أعطاني هذا المطرف، فهذا أخذ به مائة ألف درهم، و هي قيمته.

صوت من المائة المختارة

من رواية جحظة عن أصحابه:

علّل القوم يشربوا *** كي يلذّوا و يطربوا

إنما ضلّل الفؤا *** د غزال مربّب(3)

فرشته على النّما *** رق سعدى و زينب

حال دون الهوى و دو *** ن سرى الليل مصعب(4)

و سياط على أك *** فّ رجال تقلّب

الشعر لعبيد اللّه بن قيس الرّقيّات. و الغناء في اللحن المختار لمالك بن أبي السّمح، و لحنه من الثقيل الأوّل بالسبابة في مجرى الوسطى. و فيه لإسحاق ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر. و لابن سريج في الرابع و الخامس و الأوّل ثاني ثقيل في مجرى الوسطى. و لمعبد في الثاني و ما بعده خفيف ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى الوسطى.

ص: 50


1- البزماورد: طعام يسمى لقمة القاضي، و فخذ الست، و لقمة الخليفة، و هو مصنوع من اللحم المقلي بالزبد و البيض. (انظر الحاشية رقم 2 ج 4 ص 353 من هذه الطبعة).
2- نفق: مات. و ذكر الضمير لأن الدابة تطلق على الحيوان مذكرا كان أو مؤنثا، و الدابة هنا مذكر.
3- كذا في أكثر الأصول و كذلك صححها الأستاذ الشنقيطي في نسخته، يقال: رب الصبي و ريبه أي رباه. و في ب، س و ديوانه طبع أوروبا: «مربرب».
4- هو مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري كما في كتاب «المعارف» لابن قتيبة (ص 123 طبع جوتنجن) و كما سيذكره المؤلف بعد قليل في ترجمة عبيد اللّه بن قيس الرقيات.

3 - ذكر عبيد الله بن قيس الرقيّات و نسبه و أخباره

نسب عبيد اللّه بن قيس الرقيات من قبل أبويه:

هو عبيد اللّه بن قيس بن شريح(1) بن مالك بن ربيعة بن أهيب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص(2) بن عامر بن لؤيّ بن غالب. و أمّه قتيلة ابنة وهب بن عبد اللّه بن ربيعة بن طريف بن عديّ بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني محمد بن محمد بن أبي قلامة العمريّ قال حدّثني محمد بن طلحة، قال الزبير و حدّثنيه أيضا محمد بن الحسن المخزوميّ، قالا جميعا:

كان يقال لبني معيص بن عامر بن لؤيّ و بني محارب بن فهر: الأجربان من أهل تهامة، و كانا متحالفين، و إنما قيل لهما الأجربان من شدّة بأسهما و عرّهما(3) من ناوأهما كما يعرّ الجرب.

سبب لقبه بالرقيات:

و إنما لقّب عبيد اللّه بن قيس الرّقيّات لأنه شبّب بثلاث نسوة سمّين جميعا رقيّة، منهنّ رقيّة بنت عبد الواحد بن أبي سعد بن قيس بن وهب بن أهبان(4) بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤيّ، و ابنة عمّ لها يقال لها رقيّة، /و امرأة من بني أميّة يقال لها رقيّة. و كان هواه في رقيّة بنت عبد الواحد؛ و كان عبد الواحد - فيما أخبرني الحرميّ بن أبي/العلاء عن الزبير - ينزل الرّقّة. و إياه عنى ابن قيس بقوله:

ما خير عيش بالجزيرة بعد ما *** عثر الزمان و مات عبد الواحد

و له في الرقيّات عدّة أشعار يغنّى فيها تذكر بعقب هذا الخبر. و الأبيات الثانية التي فيها اللحن المختار يقولها في مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزّهريّ، و كان صاحب شرطة مروان بن الحكم بالمدينة.

مصعب بن عبد الرحمن والي المدينة:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني عمّي قال:

ص: 51


1- كذا في ط، ء: و ديوانه المخطوط بقلم الشيخ الشنقيطي المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 88 أدب ش و ديوانه المطبوع بقينا سنة 1902 و «خزانة الأدب» للبغدادي (ج 3 ص 267 طبع بولاق). و في باقي الأصول: «سريج» بالسين و الجيم، و هو تصحيف.
2- كذا في ديوانه المخطوط و المطبوع و «الخزانة» و «شرح القاموس» مادّة معص. و في ط، ء: «معيض» بالضاد المعجمة، و في باقي الأصول: «بغيض»، و كلاهما تحريف.
3- يقال: عره بمكروه يعره عرا: أصابه به. و المراد هنا إلحاقهما الشر بأعدائهما كما يلحق الجرب الشرّ بمن يصيبه.
4- في «خزانة الأدب»: «وهبان» بالواو.

لما ولي مروان بن الحكم المدينة ولّى مصعب بن عبد الرحمن بن عوف شرطته؛ فقال: إني لا أضبط المدينة بحرس المدينة، فابغني رجالا من غيرها، فأعانه بمائتي رجل من أهل أيلة(1)، فضبطها ضبطا شديدا. فدخل المسور(2) بن مخرمة على مروان فقال: أما ترى ما يشكوه الناس من مصعب! فقال:

ليس بهذا من سياق عتب *** يمشي القطوف و ينام الركب(3)

و قال غير مصعب في هذا الخبر و ليس من رواية الحرميّ: إنه بقي إلى أن ولي عمرو(4) بن سعيد المدينة و خرج الحسين رضي اللّه تعالى عنه و عبد اللّه بن الزبير؛ /فقال له عمرو: اهدم دور بني هاشم و آل الزبير؛ فقال: لا أفعل، فقال: انتفخ سحرك(5) يا ابن أمّ حريث! ألق سيفنا! فألقاه و لحق بابن الزبير. و ولّى عمرو بن سعيد شرطته عمرو بن الزبير بن العوّام و أمره بهدم دور بني هاشم و آل الزبير، ففعل و بلغ منهم كلّ مبلغ، و هدم دار ابن(6) مطيع التي يقال لها العنقاء، و ضرب محمد بن المنذر بن الزبير مائة سوط؛ ثم دعا بعروة بن الزبير ليضربه؛ فقال له محمد: أ تضرب عروة! فقال: نعم يا سبلان(7) إلا أن تحتمل ذلك عنه؛ فقال: أنا أحتمله، فضربه مائة سوط أخرى؛ و لحق عروة بأخيه. و ضرب عمرو الناس ضربا شديدا، فهربوا منه إلى ابن الزبير، و كان المسور بن مخرمة أحد من هرب منه؛ و لما أفضى الأمر إلى ابن الزّبير أقاد منه و ضربه بالسوط ضربا مبرّحا فمات فدفنه في غير مقابر المسلمين، و قال للناس، فيما ذكر عنه: إن عمرا مات مرتدّا عن الإسلام.

هو شاعر قريش:

أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزّبير قال:

سألت عمّي مصعبا و محمد بن الضحّاك و محمد بن حسن عن شاعر قريش في الإسلام، فكلّهم قالوا: ابن قيس الرقيّات؛ و حكي ذلك عن عديّ و عن الضحاك بن عثمان؛ و حكاه محمد بن الحسن عن عثمان بن عبد الرحمن اليربوعيّ. قال الزبير: و حدّثني بمثله غمامة بن عمرو السّهميّ عن مسور بن عبد الملك اليربوعيّ.

عرض شعره على طلحة الزهري فمدحه:

أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ و الحرميّ بن أبي العلاء و غيرهما قالوا حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه الزّهريّ عن عمه محمد بن عبد العزيز:

أنّ ابن قيس الرقيّات أتى إلى طلحة بن عبد اللّه بن عوف الزهريّ فقال له:

ص: 52


1- أيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام، و قيل: هي في آخر الحجاز و أوّل الشام.
2- هو المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري قتل في حصار مكة مع ابن الزبير. (انظر الطبري في حوادث سنة 64 ه).
3- السياق: السوق. و القطوف من الدواب: البطيء، و المراد وصف الرجل بحسن السياسة و أنه يبلغ الغاية من غير أن يعنف في السوق أي إنه يسوس الناس من غير أن يجهدهم.
4- هو عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق، ولاه يزيد بن معاوية إمرة المدينة سنة 60 ه. (انظر الطبري في حوادث السنة المذكورة).
5- انتفخ سحرك: كلمة تقال للجبان. و السحر: الرئة. (انظر الحاشية رقم 1 ج 4 ص 187 من هذه الطبعة).
6- هو عبد اللّه بن مطيع أخو بني عديّ بن كعب، ولي الكوفة لعبد اللّه بن الزبير. (انظر الطبري في حوادث سنة 60 ه).
7- كذا في جميع الأصول، و لعلها لقب له أو محرفة عن سبلاني (بزيادة ياء مشدّدة). و السبلانيّ: الطويل السبلة (بالتحريك) و هي شعرات تكون في المنحر، و هي أيضا مقدم اللحية، و ما على الشفة العليا من الشعر يجمع الشاربين، أو لعلها كلمة تهكمية لها مغزى خاص.

يا عمّي، إني قد قلت شعرا فاسمعه فإنك ناصح لقومك، فإن كان جيّدا قلت، و إن كان رديئا كففت؛ فقال له: أنشد، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

منع اللهو و الهوى *** و سرى الليل مصعب

و سياط على أك *** فّ رجال تقلّب

/فقال: قل يا ابن أخي فإنك شاعر.

كان زبيري الهوى و خرج على عبد الملك ثم استجار بابن جعفر فعفا عنه:

و كان عبيد اللّه بن قيس الرقيّات زبيريّ الهوى، و خرج مع مصعب بن الزبير على عبد الملك؛ فلما قتل مصعب و قتل عبد اللّه هرب فلجأ إلى عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، فسأل عبد الملك في أمره فأمّنه.

و أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ و الحرميّ بن أبي العلاء و غيرهما قالوا حدّثنا الزّبيريّ(1) قال حدّثني عبد اللّه بن البصير(2) البربريّ مولى قيس بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه قال:

قال عبيد اللّه بن قيس الرقيّات: خرجت مع مصعب بن الزبير حين بلغه شخوص عبد الملك بن مروان إليه، فلما نزل مصعب بن الزبير بمسكن(3)، و رأى معالم الغدر/ممن معه، دعاني و دعا بمال و مناطق، فملأ المناطق من ذلك المال و ألبسني منها، و قال لي: انطلق حيث شئت فإني مقتول؛ فقلت له: لا و اللّه لا أريم(4) حتى أرى(5)سبيلك؛ فأقمت معه حتى قتل؛ ثم مضيت إلى الكوفة، فأوّل بيت صرت إليه دخلته، فإذا فيه امرأة لها ابنتان كأنهما ظبيتان، فرقيت في درجة لها إلى مشربة(6) فقعدت فيها، فأمرت لي المرأة بما أحتاج إليه من الطعام و الشراب و الفرش و الماء للوضوء، فأقمت كذلك عندها أكثر من حول، تقيم لي ما يصلحني و تغدو عليّ في كل صباح فتسألني بالصّباح و الحاجة(7)، و لا تسألني من أنا و لا أسألها من هي، و أنا في ذلك أسمع الصّياح فيّ و الجعل؛ فلما طال بي المقام و فقدت الصياح فيّ و غرضت(8) بمكاني غدت عليّ تسألني بالصباح و الحاجة، فعرّفتها أني قد غرضت و أحببت الشّخوص إلى أهلي؛ فقالت لي: نأتيك بما تحتاج إليه إن شاء اللّه تعالى؛ فلمّا أمسيت و ضرب الليل بأرواقه رقيت إليّ و قالت: إذا شئت! فنزلت و قد أعدّت راحلتين عليهما ما أحتاج إليه و معهما(9) عبد، و أعطت العبد نفقة الطريق، و قالت: العبد و الراحلتان لك؛ فركبت و ركب العبد معي حتى طرقت أهل مكة، فدققت منزلي؛ فقالوا لي: من هذا؟ فقلت: عبيد اللّه بن قيس الرقيّات؛ فولولوا و بكوا، و قالوا: ما فارقنا طلبك إلا في هذا الوقت؛

ص: 53


1- في م، ح: «الزبير» بدون ياء.
2- في ح: «عبد اللّه بن النضير اليزيديّ» و سيرد في ص 90 من هذا الجزء: «عبد اللّه بن النضير» في كل الأصول.
3- مسكن: موضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق، به كانت الوقعة بين عبد الملك بن مروان و مصعب بن الزبير في سنة 72 ه و به قتل مصعب، و قبره هناك معروف (عن «معجم البلدان» لياقوت ج 4 ص 529).
4- لا أريم: لا أبرح.
5- في ط، ء: «حتى آتي سبيلك».
6- المشربة: الغرفة و العلية.
7- يريد: كيف أصبحت و ما حاجتك؟
8- غرض: ضجر.
9- في ب، س: «عليهما».

فأقمت عندهم حتى أسحرت(1)، ثم نهضت و معي العبد حتى قدمت المدينة، فجئت عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب عند المساء و هو يعشّي أصحابه، فجلست معهم و جعلت أتعاجم و أقول: يار يار(2)/ابن طيّار(3)؛ فلما خرج أصحابه كشفت له عن وجهي، فقال: ابن قيس؟ فقلت: ابن قيس، جئتك عائذا بك؛ قال: ويحك! ما أجدّهم في طلبك و أحرصهم على الظّفر بك! و لكني سأكتب إلى أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان فهي زوجة الوليد بن عبد الملك، و عبد الملك أرقّ شيء عليها. فكتب إليها يسألها أن تشفع له إلى عمّها، و كتب إلى أبيها يسأله أن يكتب إليها كتابا يسألها الشفاعة؛ فدخل عليها عبد الملك كما كان يفعل و سألها؛ هل من حاجة؟ فقالت: نعم لي حاجة، فقال: قد قضيت كل حاجة لك إلا ابن قيس الرقيّات؛ فقالت: لا تستثن عليّ شيئا! فنفح(4) بيده فأصاب خدّها، فوضعت يدها على خدّها؛ فقال لها: يا بنتي ارفعي يدك، فقد قضيت كلّ حاجة لك و إن كانت ابن قيس الرقيّات؛ فقالت: إنّ حاجتي ابن قيس الرقيات تؤمّنه، فقد كتب إليّ أبي يسألني أن أسألك ذلك؛ قال: فهو آمن، فمريه يحضر مجلسي العشيّة؛ فحضر/ابن قيس و حضر الناس حين بلغهم مجلس عبد الملك، فأخّر الإذن، ثم أذن للناس، و أخّر إذن ابن قيس الرقيّات حتى أخذوا مجالسهم، ثم أذن له؛ فلما دخل عليه قال عبد الملك: يأهل الشام، أ تعرفون هذا؟ قالوا: لا؛ فقال: هذا عبيد اللّه بن قيس الرقيّات الذي يقول:

كيف نومي على(5) الفراش و لمّا *** تشمل الشام غارة شعواء

تذهل الشيخ عن بنيه و تبدي *** عن خدام(6) العقيلة العذراء

مدح عبد الملك بما لم يرضه فأمنه و قطع عطاءه فتعهد له به ابن جعفر طول حياته:

فقالوا: يا أمير المؤمنين اسقنا دم هذا المنافق! قال: الآن و قد أمّنته و صار في منزلي و على بساطي! قد أخّرت الإذن له لتقتلوه فلم تفعلوا. فاستأذنه ابن قيس الرقيّات أن ينشده مديحه فأذن له، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

عاد له من كثيرة الطرب *** فعينه بالدموع تنسكب(7)

كوفيّة نازح محلّتها *** لا أمم دارها و لا صقب

و اللّه ما إن صبت إليّ و لا *** إن كان بيني و بينها سبب(8)

ص: 54


1- أسحر: دخل في السحر.
2- يار: كلمة فارسية، و معناها: الصاحب و الشفيق و المعين.
3- الطيار: لقب جعفر بن أبي طالب والد عبد اللّه هذا، و كان قد قطعت يداه في غزوة مؤتة فأثابه اللّه بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. (انظر «سيرة ابن هشام» ج 2 ص 795 طبع أوروبا).
4- نفح بيده: ضرب بها ضربة خفيفة.
5- كذا في ط، ء، م و كذلك صححها المرحوم الأستاذ الشنقيطي في نسخته و هي «الرواية المشهورة». و في ب، س، ح: «إلى».
6- الخدام: جمع خدمة (بالتحريك) و هي الخلخال. و قد أورد صاحب «اللسان» هذين البيتين في مادة خدم ثم قال: «أراد و تبدى عن خدام العقيلة. و خدام هاهنا في نية عن خدامها، و عدّي تبدي بعن لأن فيه معنى تكشف كقوله: تصدّ و تبدي عن أسيل و تتقي أي تكشف عن أسيل أو تسفر عن أسيل».
7- سيشرح أبو الفرج بعض هذا الشعر فيما يأتي.
8- في ديوانه المخطوط: و اللّه ما إن صبت إليّ و لا يعلم بيني و بينها سبب

إلا الذي أورثت كثيرة في ال *** قلب و للحبّ سورة عجب

حتى قال فيها:

إنّ الأغرّ الذي أبوه أبو ال *** عاصي عليه الوقار و الحجب

يعتدل التاج فوق مفرقه *** على جبين كأنه الذهب

فقال له عبد الملك: يا ابن قيس تمدحني بالتاج كأني من العجم و تقول في مصعب:

إنما مصعب شهاب من ال *** لّه تجلّت عن وجهه الظلماء

ملكه ملك عزّة ليس فيه *** جبروت منه و لا كبرياء

أمّا الأمان فقد سبق لك، و لكن و اللّه لا تأخذ مع المسلمين عطاء أبدا!. قال: و قال ابن قيس الرقيّات لعبد اللّه بن جعفر: ما نفعني أماني، تركت حيّا كميت لا آخذ مع الناس عطاء أبدا؛ فقال له عبد اللّه بن جعفر: كم بلغت من السنّ؟ قال: ستين سنة؛ قال: فعمّر نفسك؛ قال: عشرين سنة من ذي قبل(1)؛ /فذلك ثمانون سنة؛ قال: كم عطاؤك؟ قال: ألفا درهم؛ فأمر له بأربعين ألف درهم، و قال: ذلك لك عليّ إلى أن تموت على تعميرك نفسك؛ فعند ذلك قال عبيد اللّه بن قيس الرقيّات يمدح عبد اللّه بن جعفر:

نقدّت بي الشّهباء نحو ابن جعفر *** سواء عليها ليلها و نهارها(2)

تزور امرأ قد يعلم اللّه أنه *** تجود له كفّ قليل غرارها

أتيناك نثني بالذي أنت أهله *** عليك كما يثني على الروض جارها

فو اللّه لو لا أن تزور ابن جعفر *** لكان قليلا في دمشق قرارها

إذا متّ لم يوصل صديق و لم تقم *** طريق من المعروف أنت منارها

ذكرتك أن فاض الفرات بأرضنا *** و فاض بأعلى الرّقّتين(3) بحارها

و عندي مما خوّل اللّه هجمة(4) *** عطاؤك منها شولها و عشارها

مباركة كانت عطاء مبارك *** تمانح(5) كبراها و تنمي صغارها

ص: 55


1- يقال: أفعل ذلك من ذي قبل (وزان سبب و عنب): أي أفعله في المستقبل.
2- سيشرح أبو الفرج بعض هذا الشعر فيما يأتي.
3- كذا في ديوانه ص 164 طبع أوروبا و «معجم البلدان» (ج 2 ص 799، 801) و كذلك صححه الأستاذ الشنقيطي بنسخته. و الرقتان يراد بهما الرقة و الرافقة، كما يقال العراقان للبصرة و الكوفة. و الرقة: مدينة مشهورة على الفرات بينها و بين حرّان ثلاثة أيام. و الرافقة: بلد متصل البناء بالرقة يقع على الفرات أيضا بينه و بين الرقة ثلاثمائة ذراع. و في الأصول: «الرقمتين» بزيادة ميم، و هو تحريف.
4- الهجمة من الإبل: أولها أربعون إلى ما زادت أو ما بين السبعين إلى المائة. و الشول: جمع شائلة و هي من الإبل ما أتى عليها من يوم نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية فارتفع ضرعها و خف لبنها، و العشار: جمع عشراء - بضم العين و فتح الشين كنفساء و نفاس و لا ثالث لهما في اللغة - و هي التي مضى لحملها عشرة أشهر.
5- ما نحت الناقة: درّت في الشتاء بعد ما ذهبت ألبان الإبل.
اعترض عليه عبد الملك في شعر له فأجابه:

أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير قال حدّثنا مصعب بن عبد الملك قال:

/قال عبد الملك بن مروان لعبيد اللّه بن قيس الرقيّات: ويحك يا ابن قيس! أ ما اتّقيت اللّه حين تقول لابن جعفر:

تزور امرأ قد يعلم اللّه أنه *** تجود له كفّ قليل غرارها

أ لا قلت: قد يعلم الناس و لم تقل: قد يعلم اللّه! فقال ابن قيس: قد و اللّه علمه اللّه [و علمته(1) أنت] و علمته أنا و علمه الناس.

رواية أخرى في شفاعة ابن جعفر له عند عبد الملك:

أخبرنا الحسين بن يحيى قال قال حمّاد بن إسحاق:

قرأت على أبي أن عبيد اللّه بن قيس الرقيّات منعه عبد الملك بن مروان عطاءه من بيت المال و طلبه ليقتله، فاستجار بعبد اللّه بن جعفر، و قصده فألفاه نائما، و كان صديقا لسائب خاثر، فطلب الإذن على ابن جعفر فتعذّر، فجاء سائب خاثر ليستأذن له عليه؛ قال سائب: فجئت من قبل رجل عبد اللّه بن جعفر فنبحت نباح الجرو الصغير، فانتبه و لم يفتح عينيه، و ركلني برجله، فدرت إلى عند رأسه، فنبحت نباح الكلب الهرم، فانتبه و فتح عينيه فرآني؛ فقال: ما لك؟ ويحك! فقلت: ابن قيس الرقيّات بالباب؛ قال: ائذن له، فأذنت له، فدخل إليه فرحّب ابن جعفر به و قرّبه؛ فعرّفه ابن قيس خبره، فدعا بظبية(2) فيها دنانير، و قال: عدّ له منها؛ فجعلت أعدّ و أترنّم(3) و أحسّن صوتي بجهدي حتى عددت ثلاثمائة دينار، فسكتّ؛ فقال لي عبد اللّه: مالك ويلك سكتّ! ما هذا وقت قطع الصوت الحسن، فجعلت أعدّ حتى نفد ما كان في الظّبية، و فيها ثمانمائة دينار، فدفعتها إليه؛ فلما قبضها قال لابن جعفر:

اسأل أمير المؤمنين في أمري؛ قال: نعم، فإذا/دخلت إليه معي و دعا بالطعام، فكل أكلا فاحشا. فركب ابن جعفر، فدخل معه إلى عبد الملك؛ فلما قدّم الطعام جعل يسيء الأكل؛ فقال عبد الملك لابن جعفر: من هذا؟ فقال: هذا إنسان لا يجوز إلا أن يكون صادقا إن استبقي، و إن قتل كان أكذب الناس، قال: و كيف ذلك! قال: لأنه يقول:

ما نقموا من بني أميّة إلا *** أنهم يحلمون إن غضبوا

فإن قتلته لغضبك عليه أكذبته فيما مدحكم به؛ قال: فهو آمن، و لكن لا أعطيه عطاء من بيت المال؛ قال:

و لم و قد وهبته لي؟ فأحبّ أن تهب لي عطاءه أيضا كما وهبت لي دمه و عفوت لي عن ذنبه؛ قال: قد فعلت، قال:

و تعطيه ما فاته من العطاء؛ قال: قد فعلت، و أمرت له بذلك.

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي قال:

كان ابن قيس الرقيّات منقطعا إلى ابن جعفر، و كان يصله و يقضي عنه دينه، ثم استأمن له عبد الملك فأمّنه،

ص: 56


1- هذه الجملة ساقطة من ط، ء، م.
2- الظبية: الجراب، و قيل: الجراب الصغير خاصة.
3- في ط، ء، م: «و أطرّب».

و حرمه عطاءه؛ فأمره عبد اللّه أن يقدّر لنفسه ما يكفيه أيام حياته ففعل ذلك، فأعطاه عبد اللّه ما سأل و عوّضه من عطائه أكثر منه؛ ثم جاءت عبد اللّه صلة من عبد الملك و ابن قيس غائب، فأمر عبد اللّه خازنه فخبأ له صلته، فلما قدم دفعها إليه؛ و أعطاه جارية حسناء؛ فقال ابن قيس:

إذا زرت عبد اللّه نفسي فداؤه *** رجعت بفضل من نداه و نائل

و إن غبت عنه كان للودّ حافظا *** و لم يك عنّي في المغيب بغافل

/تداركني عبد الإله و قد بدت *** لذي الحقد و الشّنآن منّي مقاتلي

فأنقذني من غمرة الموت بعد ما *** رأيت حياض الموت جمّ المناهل

حباني لمّا جئته بعطيّة *** و جارية حسناء ذات خلاخل

نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني
اشارة

منها:

صوت

عاد له من كثيرة الطّرب *** فعينه بالدموع تنسكب

كوفيّة نازح محلّتها *** لا أمم دارها و لا صقب

و اللّه ما إن صبت إليّ و لا *** يعرف بيني و بينها سبب

إلا الذي أورثت كثيرة في ال *** قلب و للحبّ سورة عجب

عروضه من المنسرح، غنّاه معبد ثقيلا أوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. قوله: «لا أمم دارها» يعني أنها ليست بقريبة. و يقال: ما كلّفتني أمما من الأمر فأفعله: أي قريبا من الإمكان؛ و يقال: إن فلانا لأمم من أن يكون فعل كذا و كذا. قال الشاعر:

أ طرقته أسماء أم حلما *** بل لم تكن من رحالنا أمما(1)

أي قريبة. و قال الراجز:

كلّفها عمرو نقال الضّبعان(2) *** ما كلّفت من أمم و لا دان

/و قال آخر:

ص: 57


1- هذا البيت من المنسرح، و قد دخل على التفعيلة الأولى منه الخبل، و هو حذف الثاني و الرابع الساكنين، و روايته في ط، ء: أ طرقته أسماء أم حلما بل لم تكن من رحلنا أمما و على هذه الرواية يكون من الكامل. و لم نعثر عليه في مصدر آخر حتى نستطيع ترجيح إحدى الروايتين.
2- كذا في ط، ء. و في ب، س: «ثقال الضبعان» و في ح، م: «ثقال الصنعان». و نحن لم نوفق إلى صاحب هذا الرجز و لا ما قيل فيه حتى نتبين وجه الصواب فيه أو المراد منه. على أنه لا يبعد أن يكون هذا البيت في ناقة أو فرس، و تكليفها تقال الضبعان مسايرتها له و مناقلتها إياه. و الضبعان (بالكسر): ذكر الضبع.

إنك إن سألت شيئا أمما *** جاء به الكري(1) أو تجشّما

و الصّقب: الملاصقة. تقول: و اللّه ما صاقبت فلانا و لا صاقبني، و دار فلان مصاقبة لدار فلان؛ و في الحديث: «الجار أحقّ بصقبه» أي بما لاصقه، أي إنه أحقّ بشفعته. و السّورة: شدّة الأمر، و منه يقال: ساور فلان فلانا، و تساور الرجلان إذا تغالبا و تشادّا؛ و قيل إن السّورة: البقيّة أيضا.

و منها:

صوت

ما نقموا من بني أميّ *** ة إلاّ أنهم يحلمون إن غضبوا

و أنّهم سادة الملوك فما *** تصلح إلاّ عليهم العرب

غنّت في هذين البيتين حبابة، و هما من(2) القصيدة التي أوّلها:

عاد له من كثيرة الطّرب

قال الأصمعيّ: كثيرة هذه امرأة نزل بها بالكوفة فآوته. قال ابن قيس: فأقمت عندها سنة تروح و تغدو عليّ بما أحتاج إليه، و لا تسألني عن حالي و لا نسبي؛ فبينا أنا بعد سنة مشرق من جناح(3) إلى الطريق، إذا أنا بمنادي عبد الملك ينادي ببراءة الذمّة ممن أصبت عنده؛ فأعلمت المرأة أني راحل؛ فقالت: لا يروعنّك ما سمعت، فإن هذا نداء شائع منذ نزلت بنا، فإن أردت المقام ففي الرّحب و السّعة، و إن أردت الانصراف أعلمتني؛ فقلت لها:

لا بدّ لي من الانصراف؛ فلما كان الليل، قدّمت إليّ راحلة عليها جميع ما أحتاج إليه في سفري؛ فقلت لها: من /أنت - جعلت فداءك - لأكافئك؟ قالت: ما فعلت هذا لتكافئني؛ فانصرفت و لا و اللّه ما عرفتها إلا أني سمعتها تدعى باسمها «كثيرة»، فذكرتها في شعري.

فتك عبد اللّه بن علي ببني أمية لشعر له:

و ذكر الزبير بن بكّار عن عمّه/مصعب أن عبد اللّه بن عليّ بن عبد اللّه بن عبّاس صاحب بني أمية بنهر أبي فطرس، إنما بعثه على قتلهم أنه أنشده بعض الشعراء ذات يوم مديحا مدح به بني هاشم؛ فقال لبعضهم: أين هذا مما كنتم تمدحون به! فقال: هيهات أن يمدح أحد بمثل قول ابن قيس فينا:

ما نقموا من بني أميّة إ *** لا أنهم يحلمون إن غضبوا

البيتين؛ فقال له عبد اللّه بن عليّ: أ لا أرى المطمع في الملك في نفسك بعد يا ماصّ كذا من أمّه! ثم أوقع بهم.

ص: 58


1- الكريّ: الذي يكري الدواب.
2- كذا في م. و في سائر الأصول: «و هي» بالإفراد.
3- الجناح: الروشن (الروشن: الكوة) يقال: أشرع فلان جناحا إلى الطريق أي روشنا.
سمع الرشيد قينة تغنى بشعره في مدح بني أمية فغضب فحرّفته:
اشارة

أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي عن جدّي عبد اللّه بن مصعب(1) قال:

اعترض هارون الرشيد قينة فغنّت:

ما نقموا من بني أميّة إلّ *** ا أنهم يحلمون إن غضبوا

فلما ابتدأت به تغيّر وجه الرشيد، و علمت أنها قد غلطت و أنها إن مرّت فيه قتلت، فغنّت:

ما نقموا من بني أميّة إلّ *** ا أنهم يجهلون إن غضبوا

و أنهم معدن النّفاق فما *** تفسد إلا عليهم العرب

/فقال الرشيد ليحيى بن خالد: أسمعت يا أبا عليّ؟ فقال: يا أمير المؤمنين تبتاع و تسنى(2) لها الجائزة و يعجّل لها الإذن ليسكن قلبها؛ قال: ذلك جزاؤها، قومي فأنت منّي بحيث تحبّين. قال: فأغمي على الجارية.

فقال يحيى بن خالد:

جزيت أمير المؤمنين بأمنها *** من اللّه جنات تفوز بعدنها

و منها:

صوت

تقدّت بي الشّهباء نحو ابن جعفر *** سواء عليها ليلها و نهارها

تزور امرأ قد يعلم اللّه أنه *** تجود له كفّ بطيء غرارها

و و اللّه لو لا أن تزور اين جعفر *** لكان قليلا في دمشق قرارها

عروضه من الطويل. غنّاه معبد ثاني ثقيل بالبنصر. قوله: «تقدّت» أي سارت سيرا ليس بعجل و لا مبطئ، فيقال: تقدّى فلان إذا سار سير من لا يخاف فوت مقصده فلم يعجل. و قوله: «بطيء غرارها» يعني أن منعها المعروف بطيء. و أصل الغرار: أن تمنع الناقة درّتها، ثم يستعار في كل ما أشبه ذلك؛ و منه قول الراجز:

إنّ لكلّ نهلات شرّه *** ثم غرارا كغرار الدّرّه

و قال جميل في مثل ذلك:

لاحت لعينك من بثينة نار *** فدموع عينك درّة و غرار

ص: 59


1- في ط، ء، م: «حدّثني عمي مصعب» بحذف جدّه من السند. و الزبير بن بكار عمه مصعب بن عبد اللّه بن مصعب و جدّه عبد اللّه بن مصعب.
2- تسنى: تجزل حتى تكون سنية. و في ب، س: «تثني» بالثاء المثلثة، و هو تحريف.
شيء مما عيب عليه في شعره:
اشارة

قال الزّبير: و هذا البيت مما عيب على ابن قيس، لأنه نقض صدره بعجزه، فقال في أوّله: [إنه](1) سار سيرا بغير عجل، ثم قال:

سواء عليها ليلها و نهارها

و هذا(2) غاية الدّأب في السّير، فناقض معناه في بيت واحد. و مما عيب على ابن قيس الرّقيّات قوله - و في هذين البيتين غناء -:

صوت

ترضع شبلين وسط غيلهما(3) *** قد ناهزا للفطام أو فطما

/ما مرّ يوم إلاّ و عندهما *** لحم رجال أو يولغان(4) دما

- غنّاه الغريض خفيف ثقيل أوّل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة - و هي قصيدة مدح بها عبد العزيز بن مروان، و فيها يقول:

أعني ابن ليلى عبد العزيز ببا *** بليون(5) تغدو جفانه رذما(6)

/الواهب النّجب(7) و الولائد كال *** غزلان و الخيل تعلك اللّجما

و كان قال في قصيدته هذه: «أو يالغان دما» بالألف، و كذلك روي عنه، ثم غيّرته الرواة.

قال يونس عنه: إنه ليس بفصيح و لا ثقة:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز قال:

سمعت ابن الأعرابيّ يقول: سئل يونس عن قول ابن قيس الرقيّات:

ص: 60


1- الزيادة عن ط، ء.
2- كذا في ط، ء، م. و في سائر الأصول: «و هذه».
3- الغيل (بالكسر): موضع الأسد. و في «اللسان» (مادة نهز): «في مغارهما».
4- ولغ السبع و الكلب و كل ذي خطم يلغ و ولغ يولغ مثل وجل يوجل: شرب ماء أو دما.
5- كذا في «ديوانه» (ص 255 طبع فينا) و «اللسان» (مادة رذم). و بابليون: حصن بناه الفرس أيام تملكهم لمصر، و كان يسميه العرب قصر الشمع و كان على الضفة الشرقية من النيل قرب الكنيسة المعلقة في مصر القديمة فتحه عمرو بن العاص و بفتحه تم الصلح مع المقوقس. (راجع الحاشية رقم 2 ص 4 و رقم 1 ص 18 من الجزء الأوّل من «النجوم الزاهرة» طبع دار الكتب المصرية) و عبد العزيز بن مروان هذا كان واليا على مصر من قبل أبيه مروان و أقره عليها أخوه عبد الملك بعد مبايعته بالخلافة (راجع «ولاة مصر و قضائها» للكندي ص 46، 48، 49 طبع بيروت و «المقريزي» ج 1 ص 302 و «النجوم الزاهرة» ج 1 ص 172 طبع دار الكتب المصرية).
6- الرذم (بضمتين أو فتحتين و بكلتيهما روى البيت): جمع رذوم، قال الجوهري «و جفان رذم و رذم مثل عمود و عمد و عمد و لا تقل رذم (بالكسر)». و الرذوم من الجفان: التي كأنها تسيل دسما لامتلائها. و ذهب ابن سيده إلى أن روايته بالتحريك، كما رواه الأصمعيّ، إنما هي تسمية بالمصدر. (ملخص عن «اللسان» مادة رذم).
7- كذا في أكثر الأصول، و النجب (بضمتين و قد يسكن كما هنا): جمع نجيب و هو الكريم الحسيب من الإنسان و الحيوان. و الولائد: جمع وليدة و هي الصبية و الأمة. و تعلك اللجم: تلوكها و تحركها في فيها. و في ط، ء: «البخت» بالتاء و الخاء و هي الإبل الخراسانية، معرب و قيل عربي.

ما مرّ يوم إلا و عندهما *** لحم رجال أو يولغان دما

فقال يونس: يجوز يولغان و لا يجوز يالغان؛ فقيل له: فقد قال ذلك ابن قيس الرقيّات و هو حجازيّ فصيح؛ فقال: ليس بفصيح و لا ثقة، شغل نفسه بالشرب بتكريت(1).

انتقد ابن أبي عتيق شعرا له:
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد: قرأت على أبي: أ و بلغك أن ابن أبي عتيق أنشد قول ابن قيس:

سواء عليها ليلها و نهارها

فقال: كانت هذه يا ابن أمّ فيما أرى عمياء.

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني عمي مصعب عن جديّ [عن](2) هشام بن سليمان المخزوميّ قال:

/قال ابن أبي عتيق لعبيد اللّه بن قيس و قد مرّ به فسلّم عليه فقال: و عليك السلام يا فارس العمياء؛ فقال له:

ما هذا الاسم الحادث يا أبا محمد! بأبي أنت! قال: أنت سمّيت نفسك حيث تقول:

سواء عليها ليلها و نهارها

فما يستوي الليل و النهار إلا على عمياء(3)؛ قال: إنما عنيت التعب، قال: فبيتك هذا يحتاج إلى ترجمان يترجم عنه.

و منها:

صوت

ذكرتك أن فاض الفرات بأرضنا *** و فاضت بأعلى الرّقّتين(4) بحارها

و حولي مما خوّل اللّه هجمة *** عطاؤك منها شولها و عشارها

فجئناك نثني بالذي أنت أهله *** عليك كما أثنى على الروض جارها

إذا متّ لم يوصل صديق و لم تقم *** طريق من المعروف أنت منارها

- الشول: النّوق التي شالت بأذنابها و كرهت الفحل، و ذلك حين تلقح، واحدتها شائل - غنّاه حكم الوادي ثقيلا أوّل بالوسطى.

حكم الوادي و دنانير:

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق بن إبراهيم قال قال لي أبي:

ص: 61


1- تكريت: بلدة مشهورة بين بغداد و الموصل، و هي إلى بغداد أقرب، بينها و بين بغداد ثلاثون فرسخا.
2- التكملة عن ط، ء، م.
3- في ط، ء، م: «إلا على أعمى».
4- انظر الحاشية رقم 2 ص 80 من هذا الجزء.

قال حكم الوادي: دخلت يوما على يحيى بن خالد. فقال لي: يا أبا يحيى، ما رأيك في خمسمائة دينار قد حضرت؟ قلت: و من لي بها؟ قال: تلقي لحنك في:

ذكرتك أن فاض الفرات بأرضنا

/على دنانير فها هي ذه، و هذا سلام واقف معك و مخرجها إليك، و أنا راكب إلى أمير المؤمنين، و لست أنصرف من مجلس المظالم إلى وقت الظهر، فكدّها فيه، فإذا أحكمته فلك خمسمائة؛ فقالت دنانير: يا سيّدي، أبو يحيى يأخذ خمسمائة دينار و ينصرف و أنا أبقى معك أقاسيك عمري كلّه! فقال لها: إن حفظتيه فلك ألف/دينار، و قام فمضى؛ فقلت لها: يا سيّدتي اشغلي نفسك بذا، فإنك أنت تهبين لي الخمسمائة الدينار بحفظك إيّاه و تفوزين بالألف الدينار، و إلا بطل هذا، فلم أزل معها أكّدها و نفسي و تغنّيني حتى انصرف يحيى، فدعا بماء و طست، ثم قال: يا أبا يحيى، غنّ الصوت كما كنت تغنّيه - فقلت: هلكت! يسمعه منّي، و ليس هو بمن يخفى عليه، ثم يسمعه منها فلا يرضاه - فلم أجد بدّا من الغناء؛ ثم قال: غنّيه أنت الآن؛ فغنّت؛ فقال: و اللّه ما أرى إلا خيرا؛ فقلت: جعلت فداءك! أنا أمضغ هذا منذ أكثر من خمسين سنة كما أمضغ الخبز، و هذه أخذته الساعة و هو يذلّ لها بعدي و تجترئ عليه و يزداد(1) حسنا في صوتها؛ فقال: صدقت، هات يا سلام خمسمائة دينار و لها ألف دينار، ففعل؛ فقالت له: و حياتك يا سيّدي لأشاطرنّ أستاذي الألف الدينار؛ قال: ذلك إليك، ففعلت؛ فانصرفت و قد أخذت بهذا الصوت ألف دينار.

رجع الحديث إلى عبيد اللّه بن قيس الرقيات.

شعر ابن قيس الرقيات في كثيرة التي نزل بها بالكوفة:
اشارة

قال الزبير بن بكار حدّثني عبد اللّه بن النّضير عن أبيه:

أن ابن قيس الرقيّات قال في الكوفيّة التي نزل عليها:

بانت(2) لتحزننا كثيرة *** و لقد تكون لنا أميره

/حلّت فلاليج(3) السّوا *** د و حلّ أهلي بالجزيره

قال: و لقد رحل من عندها و ما يتعارفان.

قال: و قال فيها أيضا - و فيه لحن من خفيف الثقيل لابن المكيّ -:

صوت

لججت بحبّك أهل العراق *** و لو لا كثيرة لم تلجج

فليت كثيرة لم تلقني *** كثيرة أخت بني الخزرج

ص: 62


1- كذا في ط، ء، م. و في باقي الأصول: «و تزداد» بالتاء.
2- هذان البيتان من قصيدة عدد أبياتها خمسة و عشرون بيتا، و هي مذكورة في ديوانه المخطوط بقلم المرحوم الشيخ الشنقيطي المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 88 أدب ش و ديوانه المطبوع بقينا (ص 115).
3- فلاليج السواد: قراه، واحدها فلوجة. و المراد بالسواد العراق، سمي بذلك لسواده بالزروع و النخيل و الأشجار.
سعيد بن المسيب و ابن قيس الرقيات:
اشارة

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عبد اللّه بن عاصم القحطانيّ قال حدّثني أبي عن عبد الرحيم بن حرملة قال:

كنت عند سعيد بن المسيّب، فجاء ابن قيس الرقيّات، فهشّ و قال: مرحبا بظفر من أظفار العشيرة، ما أحدثت بعدي؟ قال: قد قلت أبياتا و أستفتيك في بيت منها فاسمعها؛ قال: هات؛ فأنشده:

هل للديار بأهلها علم *** أم هل تبين فينطق الرسم

قالت رقيّة فيم تصرمنا *** أ رقيّ ليس لوجهك الصّرم

تخطو بخلخالين حشوهما *** ساقان مار(1) عليهما اللحم

يا صاح هل أبكاك موقفنا *** أم هل علينا في البكا إثم

فقال سعيد: لا و اللّه ما أبكاني؛ قال ابن قيس الرقيّات:

بل ما بكاؤك منزلا خلقا *** قفرا يلوح كأنه الوشم(2)

/فقال سعيد: اعتذر الرجل. ثم أنشد:

أتلبث في تكريت لا في عشيرة *** شهود و لا السلطان منك قريب

و أنت امرؤ للحزم عندك منزل *** و للدّين و الإسلام منك نصيب

/فقال سعيد: لا مقام على ذلك، فاخرج منها؛ قال: قد فعلت؛ قال: قد أصبت أصاب اللّه بك.

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء.

صوت

قامت بخلخالين حشوهما *** ساقان مار عليهما اللحم

يا صاح هل أبكاك موقفنا *** أم هل علينا في البكا إثم

غنّى فيهما ابن سريج رملا بالبنصر.

ابن قيس الرقيات و عمر بن أبي ربيعة:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه البكريّ و هارون بن أبي بكر عن عبد الجبّار بن سعيد المساحقيّ عن أبيه عن سعيد بن مسلم بن وهب مولى بني عامر بن لؤيّ عن أبيه قال:

دخلت مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مع نوفل بن مساحق و إنه لمعتمد(3) [على يدي] إذ مررنا بسعيد بن المسيّب في

ص: 63


1- مار: تردّد و تحرّك و اضطرب.
2- كذا في ط، ء، م، و هو الموافق لما في ديوانه المخطوط و المطبوع (ص 130). و في باقي الأصول: «الرسم» بالراء و السين و هو تحريف، و العرب كثيرا ما تشبه هذا التشبيه قال طرفة: لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
3- الزيادة و التصحيح عن «الأغاني» (ج 1 ص 113 طبع دار الكتب المصرية). و في م: «و إنه لمعتمد عليّ» و في ط، ء: «و إنه لمعتمد إذ

مجلسه فسلّمنا عليه فردّ سلامنا؛ ثم قال لنوفل(1): يا أبا سعيد من أشعر، أ صاحبنا أم صاحبكم؟ يعني: عبيد اللّه بن قيس/الرقيّات أو عمر بن أبي ربيعة؛ فقال نوفل: حين يقولان ما ذا؟ فقال: حين يقول صاحبنا:

خليليّ ما بال المطيّ كأنّما *** نراها على الأدبار بالقوم تنكص

و قد أبعد الحادي سراهنّ و انتحى *** بهنّ فما يألوا عجول مقلّص

[و قد قطّعت أعناقهنّ صبابة *** فأنفسنا ممّا تكلّف شخّص](2)

يزدن بنا قربا فيزداد شوقنا *** إذا زاد طول العهد و البعد ينقص

و يقول صاحبكم ما شئت؛ قال: فقال له نوفل: صاحبكم أشهر بالقول في الغزل أمتع اللّه بك، و صاحبنا أكثر أفانين شعر؛ قال: صدقت؛ فلما انقضى ما بينهما من ذكر الشعر، جعل سعيد يستغفر اللّه و يعقد بيده و يعدّه بالخمس كلّها حتى وفّى مائة.

قال البكريّ في حديثه عن عبد الجبّار: فقال مسلم بن وهب: فلما فارقناه قلت لنوفل: أ تراه أستغفر اللّه من إنشاده الشعر في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قال: كلاّ! هو كثير الإنشاد و الاستنشاد للشعر، و لكنّي أحسبه للفخر بصاحبه.

وفد على حمزة بن الزبير فوصله:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير قال حدّثنا محمد بن الضحاك عن أبيه قال:

استأذن عبيد اللّه بن قيس الرقيات على حمزة بن عبد اللّه بن الزبير؛ فقالت له الجارية: ليس عليه إذن الآن؛ فقال: أما إنه لو علم بمكاني ما احتجب عنّي! قال: فدخلت الجارية على حمزة فأخبرته، فقال: ينبغي أن يكون هذا ابن قيس الرقيّات، ائذني له، فأذنت له؛ فقال: مرحبا بك يا ابن قيس، هل من حاجة/نزعت بك؟ قال: نعم، زوّجت بنين لي ثلاثة ببنات أخ لي ثلاث، و زوّجت ثلاثة من بني أخ لي بثلاث بنات لي؛ قال: فلبنيك الثلاثة أربعمائة دينار أربعمائة دينار، و لبني أخيك الثلاثة أربعمائة دينار أربعمائة دينار، و لبناتك الثلاث ثلاثمائة دينار ثلاثمائة دينار، و لبنات أخيك الثلاث ثلاثمائة دينار، ثلاثمائة دينار، هل بقيت لك من حاجة يا ابن قيس؟ قال: لا و اللّه إلا مئونة السفر؛ فأمر له بما يصلحه لسفره حتى رقاع أخفاف(3) الإبل.

ص: 64


1- في ب، س: «ثم قال نوفل» و هو تحريف.
2- الزيادة عن ط، ء، م: و «الأغاني» في الموضع الذي أشير إليه في الصفحة السابقة.
3- في الأصول «خفاف» بدون ألف، و قد صحح المرحوم الشيخ الشنقيطي هذه الكلمة بإثبات الألف في نسخته، و هو الموافق لما في كتب اللغة من أن الخف للبعير يجمع على أخفاف و الخف الذي يلبس يجمع على خفاف.
ذكر ما قاله ابن قيس الرقيات و غنّي فيه
صوت

أمست رقيّة دونها البشر(1) *** فالرّقّة السّوداء(2) فالغمر

غناه يونس ثقيلا أوّل بالوسطى، و فيه لعزّة الميلاء ثاني ثقيل.

و منها:

صوت

رقيّ بعيشكم لا تهجرينا *** و منّينا المنى ثم امطلينا

عدينا في غد ما شئت إنّا *** نحبّ و إن مطلت الواعدينا

/أغرّك أنني لا صبر عندي *** على هجر و أنّك تصبرينا

و يوم تبعتكم و تركت أهلي *** حنين العود(3) يتّبع القرينا

عروضه من الوافر. غنّاه ابن محرز ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى.

و منها:

صوت

رقيّة تيّمت قلبي *** فوا كبدي من الحبّ

نهاني إخوتي عنها *** و ما بالقلب من عتب

غنّاه مالك ثاني ثقيل أوّل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة. و قد ذكرت بذل أنّ فيه لابن المكيّ لحنا.

فضل ابن أبي عتيق شعره على شعر كثير:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير قال حدّثني سعيد بن عمرو بن الزّبير قال حدّثني إبراهيم(4) بن عبد اللّه قال: أنشد كثير ابن أبي عتيق كلمته التي يقول فيها:

و لست براض من خليل بنائل *** قليل و لا أرضى له بقليل

ص: 65


1- البشر: اسم جبل يمتدّ من عرض إلى الفرات من أرض الشام من جهة البادية، و هو من منازل بني تغلب بن وائل. (عن «معجم البلدان» لياقوت). و الغمر: علم على مواضع كثيرة.
2- كذا في ط، ء، م و ديوانه (ص 275 طبع أوروبا) و هو الموافق لما في «معجم ياقوت» عند الكلام على البشر. و الرقة السوداء: قرية كبيرة ذات بساتين كثيرة. و في باقي الأصول: «الرقة البيضاء»، و هي مدينة مشهورة على الفرات بينها و بين حرّان ثلاثة أيام، معدودة في بلاد الجزيرة. (انظر ياقوت في اسم الرقة).
3- العود (بالفتح): الجمل المسن و فيه بقية. و قال الجوهري: هو الذي جاوز في السن البازل و المخلف، جمعه: عودة كديكة.
4- في ط، ء، م: «إبراهيم بن أبي عبد اللّه».

فقال له: هذا كلام مكافئ ليس بعاشق، القرشيان أقنع و أصدق منك: ابن أبي ربيعة حيث يقول:

ليت حظّي كلحظة العين منها *** و كثير منها القليل المهنّا

و قوله أيضا:

فعدي نائلا و إن لم تنيلي *** إنه يقنع المحبّ الرجاء

/و ابن قيس الرقيّات حيث يقول:

رقيّ بعيشكم لا تهجرينا *** و منّينا المنى ثم امطلينا

عدينا في غد ما شئت إنّا *** نحبّ و إن مطلت الواعدينا

فإمّا تنجزي عدتي و إمّا *** نعيش بما نؤمّل منك حينا

قال: فذكرت ذلك لأبي السائب المخزوميّ و معه ابن المولى، فقال: صدق ابن أبي عتيق وفّقه اللّه، أ لا قال المديون كثيّر كما قال هذا حيث يقول:

و أبكي فلا ليلى بكت من صبابة *** لباك و لا ليلى لذي الودّ تبذل

و اخنع بالعتبى إذا كنت مذنبا *** و إن أذنبت كنت الذي أتنصّل

صادف رقية بنت عبد الواحد في الطواف فشبب بها:
اشارة

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال سمعت عبيدة بن أشعب بن جبير قال حدّثني أبي قال حدّثني فند مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقّاص قال:

حجّت رقيّة بنت عبد الواحد بن أبي سعد العامريّة، فكنت آتيها و أحدّثها فتستظرف(1) حديثي و تضحك منّي؛ فطافت ليلة/بالبيت ثم أهوت لتستلم الركن الأسود و قبّلته، و قد طفت مع عبيد اللّه بن قيس الرقيّات، فصادف فراغنا فراغها و لم أشعر بها، فأهوى ابن قيس يستلم الركن الأسود و يقبّله، فصادفها قد سبقت إليه، فنفحته(2) بردنها فارتدع؛ و قال لي: من هذه؟ فقلت: أو لا تعرفها! هذه رقيّة بنت عبد الواحد بن أبي سعد؛ فعند ذلك قال:

من عذيري ممن يضن بمبذو *** ل لغيري عليّ عند الطّواف

/يريد أنها تقبّل الحجر الأسود و تضنّ عنه بقبلتها. و قال في ذلك:

حدّثوني هل على رجل *** عاشق في قبلة حرج

و فيه غناء ينسب بعد هذا الخبر. قال: و لما نفحته بردنها فاحت منه رائحة المسك حتى عجب من في المسجد، و كأنما فتحت بين أهل المسجد لطيمة(3) عطّار، فسبّح من حول البيت. قال: و قال فند: فقلت بعد انصرافها لابن قيس: هل وجدت رائحة ردنها لشيء طيبا؟ فعند ذلك قال أبياته التي يقول فيها:

ص: 66


1- في ط، ء، م: «فتستطرف» بالطاء المهملة.
2- نفحته: أصابته. و الردن: الكم، و قيل: مقدمه، و قيل: أصله. و الردع: أثر الطيب، و ارتدع: تطيب بالطيب.
3- اللطيمة: وعاء المسك.
صوت

سائلا فندا خليلي *** كيف أردان رقيّة

إنّني علّقت خودا *** ذات دلّ بختريّه(1)

غنّاه فند، و لحنه ثقيل أوّل بالبنصر عن حبش.

نسبة هذا الصوت الذي في الخبر المتقدّم و خبره و هو أيضا مما قاله ابن قيس في رقيّة
صوت

حبّ ذاك(2) الدّلّ و الغنج *** و التي في عينها دعج

و التي إن حدّثت كذبت *** و التي في وعدها خلج(3)

/و ترى في البيت صورتها *** مثلما في البيعة(4) السّرج

خبّروني هل على رجل *** عاشق في قبلة حرج

الشعر لابن قيس الرقيّات يقوله في رقيّة بنت عبد الواحد. و الغناء لمالك خفيف ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر. و فيه خفيف ثقيل آخر لابن محرز من رواية عمرو بن بانة، و قيل: بل هو هذا.

عود إلى تفضيل ابن أبي عتيق له على كثير:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني سليمان بن عيّاش السّعديّ قال حدّثني سائب راوية كثيّر قال:

كان كثيّر مديونا، فقال لي يوما و نحن بالمدينة: اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدّث عنده؛ قال: فذهبت إليه معه؛ فاستنشده ابن أبي عتيق، فأنشده قوله:

أبائنة سعدى نعم ستبين

حتى بلغ إلى قوله:

و أخلفن ميعادي و خنّ أمانتي *** و ليس لمن خان الأمانة دين

فقال له ابن أبي عتيق: أعلى الأمانة تبعتها! فانكفّ و استغضب نفسه و صاح و قال:

ص: 67


1- الخود: الفتاة الشابة الحسنة الخلق. و البخترية: المتبخترة في مشيها، و هي مشية المتكبر المعجب بنفسه، أو هي حسنة المشي و الجسم.
2- الدل و الدلال من المرأة: تدللها على زوجها و ذلك أن تريه جراءة عليه في تغنج و تشكل كأنها تخالفه و ليس بها خلاف، أو هو حسن الحديث و حسن المزح و الهيئة. و الغنج (بالضم و بضمتين): حسن الدل. و الدعج: شدّة سواد العين مع سعتها.
3- الخلج: الاضطراب و عدم الثبات على حال، و المراد أنها لاضطرابها لا تثبت على حال في الوفاء بوعدها.
4- البيعة: متعبد النصارى أو اليهود.

كذبن صفاء الودّ يوم محلّه *** و أنكدنني من وعدهن ديون

فقال له ابن أبي عتيق: ويلك! هذا أملح لهنّ و أدعى للقلوب إليهنّ، سيّدك ابن قيس الرقيّات/كان أعلم منك و أوضع للصواب موضعه فيهنّ؛ أ ما سمعت قوله:

حبّ ذاك الدلّ و الغنج *** و التي في عينها دعج

و التي إن حدّثت كذبت *** و التي في وعدها خلج

/و ترى في البيت صورتها *** مثلما في البيعة السّرج

خبّروني هل على رجل *** عاشق في قبلة حرج

قال: فسكن كثيّر و استحلى ذلك، و قال: لا! إن شاء اللّه؛ فضحك ابن أبي عتيق حتى ذهب به.

أنشد أبو السائب المخزومي شعره فمدحه:
اشارة

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثنا عبد الرحمن بن غرير الزّهريّ قال: أنشدت أبا السائب المخزوميّ قول ابن قيس الرقيّات:

صوت

قد أتانا من آل سعدى رسول *** حبّذا ما يقول لي و أقول

من فتاة كأنها قرن شمس *** ضاق عنها دمالج(1) و حجول

حبّذا ليلتي بمزّة(2) كلب *** غال عنّي بها الكوانين غول

فقال لي: يا ابن الأمير ما تراه كان يقول و تقول؟ فقلت:

حديثا كما يسري النّدى لو سمعته *** شفاك من ادواء كثير و أسقما

فطرب و قال بأبي أنت و أمي! ما زلت أحبّك، و لقد أضعف حبّي إياك حين تفهم عني هذا الفهم.

/غنّى في هذه الأبيات ابن سريج ثقيلا أوّل بالوسطى. و لمالك فيها ثاني ثقيل، كلاهما عن الهشاميّ.

أنشد أشعب من شعره محمد بن عبد اللّه فمدحه:

أخبرني محمد بن جعفر الصّيدلانيّ النحويّ صهر المبرّد قال حدّثني طلحة بن عبد اللّه أبو إسحاق الطّلحيّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفّان قال: أنشد أشعب بن جبير أبي أبيات عبيد اللّه بن قيس الرقيّات التي يقول فيها:

ص: 68


1- دمالج: جمع دملج و هو المعضد من الحلى (حلية تلبس في العضد). و الحجول: جمع حجل و هو الخلخال. يريد أنها بضة سمينة ضاقت عنها دمالجها و حجولها.
2- في الأصول «بمرّة كلب» بالراء المهملة و هو تصحيف، و الصواب ما أثبتناه عن «معجم ياقوت» في اسم المزة بكسر الميم و تشديد الزاي المعجمة، و عن تصحيح الأستاذ الشنقيطي أيضا في نسخته. قال ياقوت: و هي قرية كبيرة غناء في وسط بساتين دمشق، بينها و بين دمشق نصف فرسخ و بها فيما يقال قبر دحية الكلبي صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و الكوانين: الثقلاء من الناس. و الغول (بالضم): الذاهية.

قد أتانا من آل سعدى رسول *** حبّذا ما يقول لي و أقول

فقال أبي: ويحك يا أشعب! ما تراه قال و قالت له؟ فقال:

حديثا لو أنّ اللحم يصلي بحرّه *** غريضا(1) أتى أصحابه و هو منضج

ذكر شوقا و وصف توقا، و وعد و وفى، و التقيا(2) بمزّة كلب فشفى و اشتفى، فذلك قوله:

حبّذا ليلتي بمزّة كلب *** غال عنّي بها الكوانين غول

فقال له: إنك لعلاّمة بهذه الأحوال؛ قال أجل! بأبي أنت! فاسأل عالما عن علمه.

و مما في المائة الصوت المختارة من شعر عبيد اللّه بن قيس الرقيّات.

صوت من المائة المختارة

يا قلب ويحك لا تذهب بك الحرق *** إنّ الألى كنت تهواهم قد انطلقوا

و ذكر أنه لوضّاح(3)، و قد أخرج في موضع آخر.

ص: 69


1- غريضا: طريا.
2- كذا في ط، ء، م. و في سائر الأصول: «فالتقيا».
3- هو وضاح اليمن عبد الرحمن بن إسماعيل الشاعر؛ و له ترجمة في «الأغاني» (ج 6 ص 32 طبع بولاق).

4 - ذكر مالك بن أبي السّمح و أخباره و نسبه

نسبه و كنيته و بعض صفاته:

هو مالك بن أبي السّمح. و اسم أبي السمح جابر بن ثعلبة الطائي أحد بني ثعل(1) ثم أحد بني عمرو بن درماء(2). و يكنى أبا الوليد. و أمه قرشيّة من بني مخزوم، و قيل: بل أمّ أبيه منهم، و هو الصحيح.

و قال ابن الكلبي: هو مالك بن أبي السمح بن سليمان بن أوس بن سماك(3) بن سعد بن أوس بن عمرو بن درماء أحد بني ثعل. و أمّ أبيه بنت مدرك بن عوف بن عبيد بن عمرو بن مخزوم. و كان أبوه منقطعا إلى عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب و يتيما في حجره أوصى به أبوه إليه، فكان ابن جعفر يكفله و يمونه، و أدخله و سائر إخوته في دعوة بني هاشم، فهم معهم إلى اليوم. و كان أحول طويلا أحنى(4). قال الوليد بن يزيد فيه يعارض الحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العبّاس بن عبد المطلب في قوله فيه:

أبيض كالبدر أو كما يلمع ال *** سارق في حالك من الظّلم

فقال له الوليد: بل أنت.

أحول كالقرد أو كما يرقب ال *** سارق في حالك من الظّلم

أساتذته في الغناء و موته في خلافة المنصور:

و أخذ الغناء عن جميلة و معبد و عمر(5) حتى أدرك الدولة العباسيّة، و كان منقطعا إلى بني سليمان بن عليّ، و مات في خلافة أبي جعفر المنصور.

كان أبوه منقطعا إلى ابن جعفر و السبب في ذلك:

أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حمّاد: قرأت على أبي:

أنّ السبب في انقطاع أبي السّمح إلى ابن جعفر أنّ السّنة أقحمت طيّئا، فكان ثعلبة جدّ مالك أحدهم، فولد أبو السّمح بالمدينة؛ و كان صديقا للحسين بن عبد اللّه الهاشميّ، و كان سبب ذلك مودّة كانت بينه و بين آل شعيب(6)

ص: 70


1- بنو ثعل (كصرد): حي من طيء، و ليس بمعدول إذ لو كان معدولا لم يصرف.
2- بنو درماء: أولاد عمرو بن عوف بن ثعلبة بن سلامان بن ثعل الطائي، و درماء أمهم، و كانوا بالشأم بقلعة الداروم و ما يجاورها. (انظر «القاموس» و «شرحه» في «مستدرك» مادة درم).
3- هذا الاسم ساقط في ط، ء، م.
4- أحنى: في ظهره احديداب.
5- هو عمر الوادي المغني، و قد كان معاصرا له و كان أستاذا مبرزا في الغناء (انظر ترجمته في «الأغاني» ج 6 ص 141 طبع بولاق).
6- هو شعيب بن محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن العاص كما سيذكره المؤلف في ص 107 من هذا الجزء. و قد اضطربت الأصول هنا في ذكره في هذا السطر و الذي يليه بين «سعيد» و «شعيب». (راجع كتاب «المعارف» لابن قتيبة ص 146).

السّهميين؛ فلما تزوّج حسين عابدة(1) بنت شعيب السّهميّة خاصمهم بسببها؛ و كان جدّ مالك معه و عونا له مع من عاونه، فنشبت بذلك حال بينه و بين بني هاشم، حتى ولد مالك في دورهم، فصارت دعوته فيهم.

أدرك الدولة العباسية و قدم على سليمان بن علي فأجازه:

أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد: قرأت على أبي:

و عمّر مالك حتى أدرك دولة بني العباس، و قدم على سليمان بن عليّ بالبصرة، فمتّ إليه بخئولته في قريش، و دعوته لبني هاشم، و انقطاعه إلى ابن جعفر، فعجّل له سليمان صلته و كساه و كتب له بأوساق(2) من تمر.

ملازمته في أول أمره باب حمزة بن الزبير و أخذه الغناء عن معبد:

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني ميمون بن هارون قال حدّثني القاسم بن يوسف قال أخبرني الوردانيّ قال:

كان مالك بن أبي السّمح المغنّي من طيء، فأصابتهم حطمة(3) في بلادهم بالجبلين، فقدمت به أمه و بإخوة له و أخوات أيتام لا شيء لهم؛ فكان يسأل الناس على باب/حمزة بن عبد اللّه بن الزّبير، و كان معبد منقطعا إلى حمزة يكون عنده في كل يوم يغنّيه؛ فسمع مالك غناءه فأعجبه و اشتهاه، فكان لا يفارق باب حمزة يسمع غناء معبد إلى الليل، فلا يطوف بالمدينة و لا يطلب من أحد شيئا و لا يريم موضعه، فينصرف إلى أمه و لم يكتسب شيئا، فتضربه، و هو مع ذلك يترنّم بألحان معبد و يؤدّيها دورا دورا في مواضع صيحاته و إسجاحاته و نبراته(4) نغما بغير لفظ و لا رواية شيء من الشعر؛ و جعل حمزة كلّما غدا و راح رآه ملازما لبابه؛ فقال لغلامه يوما: أدخل هذا الغلام الأعرابيّ إليّ؛ فأدخله؛ فقال له: من أنت؟ فقال: /أنا غلام من طيء أصابتنا حطمة بالجبلين فحطّتنا إليكم و معي أمّ لي و إخوة، و إني لزمت بابك فسمعت من دارك صوتا أعجبني، فلزمت بابك من أجله؛ قال: فهل تعرف منه شيئا؟ قال: أعرف لحنه كلّه و لا أعرف الشعر؛ فقال: إن كنت صادقا إنك(5) لفهم. و دعا بمعبد فأمره أن يغنّي صوتا فغنّاه، ثم قال لمالك: هل تستطيع أن تقوله؟ قال نعم؛ قال: هاته؛ فاندفع فغنّاه فأدّى نغمه بغير شعر، يؤدّي مدّاته و ليّاته و عطفاته و نبراته و تعليقاته لا يخرم حرفا؛ فقال لمعبد: خذ هذا الغلام إليك و خرّجه، فليكوننّ له شأن؛ قال معبد: و لم أفعل ذلك؟ قال: لتكون محاسنه منسوبة إليك، و إلاّ عدل إلى غيرك فكانت محاسنه منسوبة إليه؛ فقال:

غير الذي أنت له مستحقّ من الباطل أ كنت ترضى بذلك؟ قال لا؛ قال: و كذلك لا يسرّك أن تحمد بما لم تفعل؛ قال نعم؛ قال: فو اللّه ما شبعت على/بابك شبعة قطّ و لا انقلبت منه إلى أهلي بخير؛ فأمر له و لأمّه و لإخوته بمنزل، و أجرى لهم رزقا و كسوة، و أمر لهم بخادم يخدمهم و عبد يسقيهم الماء، و أجلس مالكا معه في مجالسه، و أمر معبدا

ص: 71


1- كذا في ط، ء و فيما سيأتي في أكثر الأصول. و في سائر الأصول هنا: «عائدة».
2- الأوساق: جمع وسق (بالفتح) و هو ثلاثمائة و عشرون رطلا عند أهل الحجاز و أربعمائة و ثمانون رطلا عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع و المدّ.
3- الحطمة: السنة و الجدب. و المراد بالجبلين أجأ و سلمى لأنهما جبلا طيء (انظر «معجم ياقوت» في الكلام عليهما).
4- قال في «اللسان» (مادّة نبر): «و نبرة المغني: رفع صوته عن خفض».
5- لعله جواب لما قبله على تقدير القسم، أي على تقدير: لئن كنت... إلخ، و لو كان جوابا للشرط من غير تقدير القسم لوجب اقترانه بفاء الجزاء.

أن يطارحه، فلم ينشب(1) أن مهر و حذق؛ و كان ذلك بعقب مقتل هدبة بن خشرم؛ فخرج مالك يوما فسمع امرأة تنوح على زيادة الذي قتله هدبة بن خشرم بشعر أخي(2) زيادة:

أبعد الذي بالنّعف(3) نعف كويكب *** رهينة رمس ذي تراب و جندل

أذكّر بالبقيا على من أصابني *** و بقياي أنّي جاهد غير مؤتلي

فلا يدعني قومي لزيد بن مالك *** لئن لم أعجّل ضربة أو أعجّل

و إلاّ أنل ثأري من اليوم أو غد *** بني عمّنا فالدهر ذو متطوّل

أنختم علينا كلكل الحرب مرّة *** فنحن منيخوها عليكم بكلكل

فغنّى في هذا الشعر لحنين، أحدهما نحا فيه نحو المرأة في نوحها و رقّقه و أصلحه و زاد فيه، و الآخر نحا فيه نحو معبد في غنائه؛ ثم دخل على حمزة فقال له: أيها الأمير، إني قد صنعت غناء في شعر سمعت بعض أهل المدينة ينشده و قد أعجبني، فإن أذن الأمير غنّيته فيه؛ قال: هاته، فغنّاه اللحن الذي نحا فيه نحو معبد؛ فطرب حمزة و قال له: أحسنت يا غلام، هذا الغناء غناء معبد و طريقته؛ فقال: لا تعجل أيها الأمير و اسمع منّي شيئا ليس من غناء معبد و لا طريقته؛ قال: هات، فغنّاه اللحن الذي تشبّه فيه بنوح المرأة، فطرب حمزة حتى ألقى عليه حلّة كانت عليه/قيمتها مائتا دينار؛ و دخل معبد فرأى حلّة حمزة عليه فأنكرها؛ و علم حمزة بذلك فأخبر معبدا بالسبب، و أمر مالكا فغنّاه الصوتين؛ فغضب معبد لما سمع الصوت الأوّل و قال: قد كرهت أن آخذ هذا الغلام فيتعلّم غنائي فيدّعيه لنفسه؛ فقال له حمزة: لا تعجل و اسمع غناء صنعه ليس من شأنك و لا غنائك، و أمره أن يغنّي الصوت الآخر فغنّاه؛ فأطرق معبد؛ فقال له حمزة: و اللّه لو انفرد بهذا لضاهاك ثم يتزايد على الأيام، و كلما كبر و زاد شخت أنت و نقصت، فلأن يكون منسوبا إليك أجمل؛ فقال له معبد و هو/منكسر: صدق الأمير. فأمر حمزة لمعبد بخلعة من ثيابه و جائزة حتى سكن و طابت نفسه؛ فقام مالك على رجله فقبّل رأس معبد، و قال له: يا أبا عبّاد أساءك ما سمعت منّي؟ و اللّه لا أغنّي لنفسي شيئا أبدا ما دمت حيّا، و إن غلبتني نفسي فغنّيت في شعر استحسنته لا نسبته إلا إليك، فطب نفسا و ارض عنّي؛ فقال له معبد: أو تفعل هذا و تفي به؟ قال: إي و اللّه و أزيد؛ فكان مالك بعد ذلك إذا غنّى صوتا و سئل عنه قال: هذا لمعبد، ما غنّيت لنفسي شيئا قطّ، و إنما آخذ غناء معبد فأنقله إلى الأشعار و أحسّنه و أزيد فيه و أنقص منه.

كان يغني ليلة الجمعة:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثنا الحسن بن عتبة اللهبيّ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد اللّه أحد بني الحارث بن عبد المطلب قال:

خرجت من مكة أريد العراق، فحملت معي مالك بن أبي السّمح من المدينة، و ذلك في أيام أبي العبّاس

ص: 72


1- يقال: لم ينشب أن فعل كذا أي لم يلبث. و حقيقته: لم يتعلق بشيء غيره و لا اشتغل بسواه.
2- هو عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة بن زيد المقتول، كما في «الشعر و الشعراء» في «ترجمة هدبة بن خشرم» (ص 436 طبع أوروبا) و «الأغاني» (ج 21 ص 271 طبع أوروبا) في «ترجمة هدبة المذكور».
3- النعف: ما انحدر عن غلظ الجبل و ارتفع عن مجرى السيل كالخيف.

السّفاح، فكان إذا كانت عشيّة الخميس قال لنا: يا معشر الرّفقة إن الليلة ليلة الجمعة و أنا أعلم أنكم تسألوني الغناء، و عليّ و عليّ إن غنّيت ليلة/الجمعة، فإن أردتم شيئا فالساعة اقترحوا ما أحببتم؛ فنسأله فيغنّينا، حتى إذا كادت الشمس أن تغيب طرب ثم صاح: الحريق في دار شلمغان، ثم يمرّ في الغناء فما يكون في ليلة أكثر غناء منه في تلك الليلة بعد الأيمان المغلّظة.

مالك بن أبي السمح و سليمان بن علي:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

كان سليمان بن عليّ يسمع من مالك بن أبي السّمح بالسّراة(1)، لأنه كان إذا قدم الشام على الوليد بن يزيد، عدل إليهم في بدأته و عودته لانقطاعه إليهم، فيبرّونه و يصلونه؛ فلما أفصى إليهم الأمر رأى سليمان مالكا على باب ابنه جعفر؛ فقال له: يا بنيّ، لقد رأيت ببابك أشبه الناس بمالك؛ فقال له جعفر: و من مالك؟ - يوهمه أنه لا يعرفه - فتغافل عنه سليمان لئلا ينبهه عليه فيطلبه، و توهّم أنه لم يعرفه و لا سمع غناءه.

قال حمّاد: و حدّثني أبي عن جدّي إبراهيم أنه أخبره أنه رأى مالكا بالبصرة على باب جعفر بن سليمان، أو أخيه محمد، و لم يعرفه، فسأل عنه بعد ذلك فعرفه و قد كان خرج عن البصرة؛ قال: فما لي حسرة مثل حسرتي بأني ما سمعت غناءه.

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو غسّان محمد بن يحيى قال:

كان مالك بن أبي السّمح يتيما في حجر عبد اللّه بن جعفر، و كان أبوه أبو السمح صار إلى عبد اللّه بن جعفر و انقطع إليه، فلما احتضر أوصى بمالك إليه، فكفله و عاله و ربّاه، و أدخله في دعوة بني هاشم، فهو فيهم(2) إلى اليوم. ثم خطب حسين/بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العبّاس العابدة(3) بنت شعيب [بن محمد](4) بن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فمنعه بعض أهلها منها و خطبها لنفسه، فعاون مالك حسينا، و كانت العابدة تستنصحه، و كانت بين أبيها شعيب و بينه مودّة، فأجابت حسينا و تزوّجته، فانقطع مالك إلى حسين؛ فلما أفضى الأمر إلى بني هاشم قدم البصرة على سليمان بن عليّ، فلما دخل إليه متّ بصحبته عبد اللّه بن جعفر و دعوته في بني هاشم و انقطاعه إلى حسين؛ فقال له سليمان: أنا عارف بكلّ ما قلته يا مالك، و لكنك كما تعلم، و أخاف أن تفسد عليّ أولادي، و أنا واصلك و معطيك ما تريد و جاعل لك/شيئا أبعث به إليك ما دمت حيّا في كل عام، على أن تخرج عن البصرة و ترجع إلى بلدك؛ قال: أفعل جعلني اللّه فداك؛ فأمر له بجائزة و كسوة و حمله و زوّده إلى المدينة.

مالك بن أبي السمح في كبره:

أخبرني عمّي الحسن بن محمد قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني محمد بن هارون بن جناح قال أخبرني يعقوب بن إبراهيم الكوفيّ عمن أخبره قال:

ص: 73


1- يريد بالسراة هنا مكانا بعينه لم نستطع تعيينه من «معاجم البلدان».
2- في ط، ء، م: «و أدخلهم في دعوة بني هاشم فهم فيها إلى اليوم».
3- في ح هنا: «العائذة» بالذال المعجمة. و انظر الحاشية رقم 2 ص 102 من هذا الجزء.
4- التكملة عن كتاب «المعارف» لابن قتيبة (ص 146، و انظر الحاشية رقم 1 ص 102 من هذا الجزء).

دخلت المدينة حاجّا فدخلت الحمّام، فبينا أنا فيه إذ دخل صاحب الحمام فغسله و نظّفه، ثم دخل شيخ أعمى له هيئة، مؤتزر بمنديل أبيض؛ فلما جلس خرجت إلى صاحب الحمّام فقلت له: من هذا الشيخ؟ قال: هذا مالك بن أبي السمح المغنّي، فدخلت عليه فقلت له: يا عمّاه، من أحسن الناس غناء؟ فقال: يا ابن أخي، «على الخبير سقطت»(1)، أحسن الناس غناء أحسنهم صوتا.

/أخبرني عمّي قال حدّثني أبو أيوب المدينيّ قال حدّثني أبو يحيى العباديّ عن إسحاق قال:

كان فتية من قريش جلوسا في مجلس، فمرّ بهم مالك بن أبي السّمح، فقال بعضهم لبعض: لو سألنا مالكا فغنّانا صوتا! فقام إليه بعضهم فسأله النزول عندهم، فعدل إليهم؛ فسألوه أن يغنّيهم؛ فقال: نعم و اللّه بالحبّ و الكرامة، ثم اندفع يغني، و أوقع بالمقرعة على قربوس(2) سرجه، فرفع صوته فلم يقدر، ثم خفضه فلم يقدر، فجعل يبكي و يقول: وا شباباه.

أخبرني عمّي قال حدّثني هارون بن محمد عن الزّبير بن بكّار عن عمه عن جدّه أنه كان في هؤلاء الفتية الذين كانوا سألوه الغناء؛ و ذكر باقي الخبر مثل ما ذكره إسحاق.

مالك بن أبي السمح و عجاجة المخنث:

أخبرني عمّي قال حدّثني أبو أيوب المدينيّ قال حدّثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه قال حدّثني صالح بن أبي الصّقر قال:

قدم مالك بن أبي السّمح المغنّي البصرة، فلقيه عجاجة المخنّث، و كان أشهر من بها من المخنّثين، و قال له:

فديتك يا أبا الوليد، إني كنت أحبّ أن ألقاك و أن أعرض عليك صوتا من غنائك أخذته عن بعض المخنّثين، فإن رأيت أن تنزل عندي فعلت؛ فنزل مالك عنده فبسط له المخنّث جرد(3) قطيفة كانت عنده فجلس، ثم أخذ عجاجة الدفّ فغنّى:

/

حبّ إنّ الخمار كان عليها *** شاهدا يوم زارت الجوشنيّة(4)

قد سبته بدلّها حين جاءت *** تتهادى في مشية بختريّه

فجعل مالك يقول له: ويلك! من قال هذا! لعنه اللّه! ويحك من غنّى هذا! قبّحه اللّه! ويحك من روى عنّي هذا! أخزاه اللّه! ثم قام فركب و هو يضحك عجبا من عجاجة.

مالك و معبد و ابن عائشة عند يزيد بن عبد الملك:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن ابن جناح قال حدّثني مصعب بن عثمان قال حدّثني عبد اللّه بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزّبير قال حدّثني مالك بن أبي السّمح قال:

ص: 74


1- هذا مثل يضرب حين يقع السائل على العليم بالأمر الذي يسأل عنه.
2- القربوس (بفتح القاف و الراء): حنو السرج أي جانبه و هو الخشبة التي بها اعوجاج. و لكل سرج أربعة قرابيس: اثنان مقدّمان و اثنان مؤخران.
3- الجرد (بالفتح): الخلق من الثياب، و في حديث أبي بكر رضي اللّه عنه «ليس عندنا من مال المسلمين إلا جرد هذه القطيفة» أي الذي انجرد و خلق.
4- الجوشنية: لعلها نسبة إلى جوشن الذي هو بطن من غطفان.

قدمنا على يزيد بن عبد الملك أوّل قدومنا عليه مع معبد و ابن عائشة، فغنّياه ليلة فأطربناه، فأمر لكل واحد منّا بألف دينار و كتب لنا بها إلى كاتبه، فغدونا عليه بالكتاب؛ فلما رآه أنكره و قال: أ يؤمر لمثلكم بألف دينار ألف دينار! لا و اللّه و لا حبّا و لا كرامة!. فرجعنا إلى يزيد فأخبرناه بمقالته و كررنا عليه؛ فقال: كأنه استنكر ذلك؟ فقلنا:

نعم؛ فقال: مثله و اللّه يستنكره و دعاه؛ فلما حضر و رآنا عنده استأمره فيها، /فأطرق مستحييا؛ و قال له: إني قد قلتها لهم و لا يجمل أن أرجع عما قلت، و لكن قطّعها عليهم. قال مالك: فمات و اللّه يزيد، و قد بقي لكل واحد منا أربعمائة دينار.

غنى جعفرا و محمدا ابني سليمان بن علي فلامهما أبوهما:
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حمّاد قال قرأت على أبي، و حدّثنا الحسن بن محمد قال:

/لمّا انهزم عبد اللّه بن عليّ من أبي مسلم قدم البصرة، و كان عند سليمان بن عليّ، و كان مالك بن أبي السمح يومئذ بها، فاستزاره جعفر و محمد فزارهما، و غنّاهما مالك في جوف الليل في دار سليمان بن عليّ، و بلغ الخبر سليمان، فدخل عليهم فعذل جعفرا و محمدا، و قال: نحن نتوقّع الطامّة الكبرى و أنتم تسمعون الغناء! فقالا: أ لا تجلس و تسمع! ففعل، فغنّاهم مالك:

صوت

ما كنت أوّل من خاس(1) الزمان به *** قد كنت ذا نجدة أخشى و ذا بأس

أبلغ أبا معبد عنّي و إخوته *** شوقي إليهم و أحزاني و وسواسي

فخرج و تركهم و لم ينكر عليهم شيئا.

مدحه الحسين بن عبد اللّه بشعر:
اشارة

و في مالك بن أبي السمح يقول الحسين [بن عبد اللّه](2) بن عبيد اللّه بن العبّاس:

صوت

لا عيش إلا بمالك بن أبي ال *** سّمح فلا تلحني و لا تلم

أبيض كالبدر أو كما يلمع ال *** بارق في حالك من الظّلم

من ليس يعصيك إن رشدت و لا *** يهتك حقّ الإسلام و الحرم

يصيب من لذّة الكريم و لا *** يجهل آي الترخيص في اللّمم(3)

يا ربّ ليل لنا كحاشية ال *** برد و يوم كذاك لم يدم

ص: 75


1- يقال: خاس الزمان به إذا غدر به.
2- التكملة عن «الأغاني» ص 101 من هذا الجزء و «أمالي القالي» (ج 3 ص 128 طبع دار الكتب المصرية).
3- اللمم: مقاربة الذنب من غير مواقعة و قيل: هو ما دون الكبائر من الذنوب و في التنزيل العزيز: اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ أي صغائر الذنوب.

نعمت فيه و مالك بن أبي *** السمح الكريم الأخلاق و الشّيم

/ - غنّاه مالك في الأوّل و الثاني و الثالث رملا بالبنصر في مجراها - فيقال: إن مالكا قال له: لا و اللّه و لا إن غويت أيضا أعصيك؛ ذكر ذلك الزبير عن عمّه مصعب. و يقال: إنه قال هذه المقالة للوليد بن يزيد، فسرّ بذلك و أجزل صلته.

غنى الوليد فلم يطربه ثم غناه ثانيا فأطربه:

أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حمّاد قال حدّثني أبي قال قال ابن الكلبيّ:

قال الوليد بن يزيد لمعبد قد آذتني ولولتك(1) هذه، و قال لابن عائشة: قد آذاني استهلالك هذا، فانظرا لي رجلا يكون مذهبه متوسّطا بين مذهبيكما؛ فقالا له: مالك بن أبي السّمح؛ فكتب في إشخاصه إليه و سائر مغنّي الحجاز المذكورين؛ فلمّا قدم مالك على الوليد بن يزيد فيمن معه من المغنّين نزل على الغمر بن يزيد، فأدخله على الوليد فغنّاه فلم يعجبه؛ فلما انصرف الغمر قال له: إن أمير المؤمنين لم يعجبه شيء من غنائك؛ فقال له: جعلني اللّه فداك! اطلب لي الإذن عليه مرّة واحدة، فإن أعجبه شيء مما أغنّيه و إلا انصرفت إلى بلادي. فلما جلس الوليد في مجلس اللهو ذكره الغمر و طلب له الإذن، و قال له: إنه هابك فحصر؛ قال: فأذن له، فبعث إليه؛ فأمر مالك الغلام فسقاه ثلاث صراحيّات(2) صرفا؛ فخرج حتى دخل عليه يخطر في مشيته. و قال غير ابن الكلبيّ: إنه قال /لفرّاش للوليد: اسقني عسّا(3) من شراب و لك دينار، فسقاه إيّاه و أعطاه الدينار؛ ثم قال له: زدني آخر فأزيدك /آخر، ففعل حتى شرب ثلاثة، ثم دخل على الوليد يخطر في مشيته؛ فلما بلغ باب المجلس وقف و لم يسلم، و أخذ بحلقة الباب فقعقعها، ثم رفع صوته فغنّى:

لا عيش إلا بمالك بن أبي *** السمح فلا تلحني و لا تلم

فطرب الوليد، و رفع يديه، حتى بدا إبطاه إليه مادّا لهما، و قام فاعتنقه قائما، و قال له: اذن يا ابن أخي، فدنا حتى اعتنقه؛ ثم أخذ في صوته ذلك، فلم يزالوا فيه أياما، و أجزل صلته حين أراد الانصراف. قال: و لما أتى مالك على قوله:

أبيض كالسيف أو كما يلمع ال *** بارق في حالك من الظّلم

قال له الوليد:

أحول كالقرد أو كما يرقب *** السارق في حالك من الظّلم

كان يأخذ أغاني غيره و يغيرها، و رأى إسحاق في ذلك:

و كان مالك طويلا(4) أجنى فيه حول. و قد قال قوم: إنّ مالكا لم يصنع لحنا قطّ غير هذا - أعني: «لا عيش إلاّ

ص: 76


1- في ح: «و أوأتك». و الوأوأة: صياح ابن آوى، و قيل: ليست خاصة به.
2- صراحيات: جمع صراحية و هي إناء من آنية الخمر و لا يعرف أصلها. و قيل عربية صحيحة استعملها الفرس و الروم لزجاجة معروفة يوضع فيها الشراب. (راجع «القاموس» و «شرحه» و «اللسان» مادة صرح، و «المخصص» ج 11 ص 58، و «شفاء الغليل» ص 144).
3- العس: القدح الضخم يروي الثلاثة و الأربعة. و جمعه: عسسة.
4- كذا في أكثر الأصول، و الأجنى (بالقصر) لغة في الأجنأ (بالهمز) و هو الذي أشرف كاهله على صدره. و في م: «أحنى» (بالحاء المهملة) و الأحنى: الأحدب.

بمالك بن أبي السّمح» - و إنه كان يأخذ غناء الناس فيزيد فيه و ينقص منه و ينسبه الناس إليه، و كان إسحاق ينكر ذلك غاية الإنكار، و يقول: غناء مالك كلّه مذهب واحد لا تباين فيه، و لو كان كما يقول الناس لاختلاف غناؤه، و إنما كان إذا غنّى ألحان معبد الطّوال خفّفها و حذف بعض نغمها، و قال: أطاله معبد و مطّطه، و حذفته أنا و حسّنته، فأمّا ألاّ يكون صنع شيئا فلا.

/أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حمّاد: قرأت(1) على أبي و ذكر بكّار بن النبال(2):

أن الوليد قال لمالك: هل تصنع الغناء؟ قال: لا، و لكنّي أزيد فيه و أنقص منه؛ فقال له: فأنت المحلّي إذا.

قال إسحاق و ذكر الحسن بن عتبة اللّهبي عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللّه الهاشميّ الحارثيّ(3) الذي يقال له سنابل - و فيه يقول الشاعر:

فإن هي ضنّت عنك أو حيل دونها *** فدعها و قل في ابن الكرام سنابل

- قال: خرجت من مكة أريد أبا العبّاس أمير المؤمنين، فمررت على المدينة فحملت معي مالك بن أبي السّمح، فسألته يوما عن بعض ما ينسب إليه من الغناء؛ فقال: يا أبا الفضل، عليه و عليه إن كان غنّى صوتا قطّ، و لكني آخذه و أحسّنه و أهيئه و أطيّبه، فأصيب و يخطئون فينسب إليّ. قال إسحاق: و ليس الأمر هكذا، لمالك صنعة كثيرة حسنة، و صنعته تجري في أسلوب واحد، و يشبه بعضها بعضا، و لو كان كما قيل لاختلف غناؤه. و قد قيل: إنّ مالكا كان ينتفي من الصنعة لأن أكثر الأشراف هناك كانوا ينكرون عليه، فكان يتبدّل به عند من يراه، و ينكره عند من يذمّه، لمحلّه في بني هاشم.

/و أخبرني بخبر سنابل هذا محمد بن مزيد قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني حمزة بن عتبة اللّهبي عن سنابل، فذكر الخبر و خالف ما رواه إسحاق أنّ الحسن بن عتبة حدّثه و حكاه عن حمزة بن عتبة أخيه.

أخذ صوتا من حمار:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن هشام بن الكلبيّ عن أبيه عن محمد/بن يزيد اللّيثيّ قال:

سئل مالك بن أبي السّمح عن صنعته في:

لاح بالدّير من أمامة نار

فقال: أخذته و اللّه من خربنده(4) بالشأم يسوق أحمرة، فكان يترنّم بهذا اللّحن بلا كلام، فأخذته فكسوته هذا الشعر.

ص: 77


1- وردت هذه العبارة في ح هكذا: «قرأت على أبي بكر و ذكر بكار أن ابن الوليد... إلخ»، و هو تحريف، إذ لم تعرف لحماد رواية عن أبي بكر و لكنه يروى كثيرا عن أبيه. كما أن المذكور في سياق الخبر هو الوليد لا ابنه.
2- في ء: «الينال». و ورد في ط مهملا من غير نقط.
3- في ط، ء: «الجاري».
4- كذا في ب، س، م. و الخربندة: المكاري، و هي كلمة فارسية مركبة من «خر» و هو الحمار و «بنده» و هو الخادم. و في سائر الأصول: «خربندج». و العرب تضع بدل الهاء في آخر الكلمة الفارسية جميعا أو قافا للتعريب؛ مثل طازج و فالوذج في تازه و بالوده، و خندق و فستق في كنده و بسنه.
أخذ صوتا من حائك:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:

نزل مالك بن أبي السّمح عند رجل بمكة مخزوميّ، و كان له غلام حائك، فأتاه آت فقال: أ ما سمعت غناء غلامك الحائك؟ قال: لا! أ و يغنّي؟ قال: نعم بشعر لأبي دهبل الجمحيّ؛ فبعث إليه فأتاه، فقال: تغنّه؛ فقال: ما أحسن ذاك إلا على حفّي(1)؛ فخرج مولاه و معه مالك إلى بيته، فلما جلس على حفّه تغنّى:

تطاول هذا الليل ما يتبلّج

/فأخذه مالك عنه و غنّاه فنسبه الناس إليه؛ و كان يقول: و اللّه ما غنيته قطّ و لا غنّاه إلاّ الحائك.

نسبة هذين الصوتين
صوت

لاح بالدّير من أمامة نار *** لمحبّ له بيثرب دار

قد تراها و لو تشاء من القر *** ب لأغناك عن نداها(2) السّرار

الشعر للأحوص، و يقال: إنه لعبد الرحمن بن حسّان بن ثابت. و الغناء لمالك بن أبي السّمح ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. و فيه لحن لمعبد ذكره إسحاق.

صوت

تطاول هذا الليل ما يتبلّج *** و أعيت غواشي سكرتي ما تفرّج

أبيت بهمّ ما أنام كأنما *** خلال ضلوعي جمرة تتوهّج

فطورا أمني النفس من تكتم(3) المنى *** و طورا إذا ما لجّ بي الحبّ أنشج(4)

عروضه من الطويل، الشعر لأبي دهبل، و الغناء لمالك بن أبي السّمح ثقيل أوّل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة.

هرب مع ابن عائشة يوم مقتل الوليد:
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن جدّه قال:

قال ابن عائشة: حضرت الوليد بن يزيد يوم قتل، و كان معنا مالك بن أبي السّمح و كان من أحمق الناس، فلما قتل الوليد قال: اهرب بنا؛ فقلت: و ما يريدون منا؟ قال: و ما يؤمّنك أن يأخذوا رأسينا فيجعلوا رأسه بينهما

ص: 78


1- كذا في ح. و الحف (بالفتح): المنوال و المنسج، و هو أيضا القصبة التي تجيء و تذهب. و في سائر الأصول: «حقي» بالقاف، و هو تصحيف.
2- الندى (بالفتح مقصورا): بعد الصوت.
3- كذا في أكثر الأصول. و تكتم (على وزن الفعل المبني للمجهول): اسم المرأة المشبب بها. و في م: «يكتم الهوى». و في «الشعر و الشعراء» (ص 391): «عمرة المنى».
4- نشج (من باب ضرب): غص بالبكاء في حلقة من غير التحاب.

ليحسّنوا أمرهم بذلك!؛ قال ابن عائشة: فما رأيت منه عقلا قطّ قبل ذلك اليوم.

لما كبر كان يعلم ابنه الغناء:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال الزبير بن بكار حدّثتني ظبية قالت: رأيت مالك بن أبي السّمح و هو على منامته يلقى على ابنه و قد كبر و انقطع:

صوت

اعتاد هذا القلب بلباله(1) *** إذ قرّبت للبين أجماله

خود(2) إذا قامت إلى خدرها *** قامت قطوف(3) المشي مكساله

تفترّ(4) عن ذي أشر بارد *** عذب إذا ما ذيق سلساله

الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و لمالك بن أبي السّمح فيه ثلاثة ألحان: خفيف ثقيل(5) مطلق/في مجرى الوسطى، و ثقيل أوّل بالوسطى مجراها جميعا عن إسحاق، و خفيف(6) رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة، و قيل: إنه لابن سريج، و فيه رمل ينسب إلى ابن جامع و ابن سريج.

شعر في رثائه:

أخبرني وكيع قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال قال أبو عبيدة: سمعت منشدا ينشد لنفسه يرثي مالكا بهذه القصيدة:

يا مال إني قضت نفسي عليك و ما *** بيني و بينك من قربى و لا رحم

إلا الذي لك في قلبي خصصت به *** من المودّة في ستر و في كرم

قال إسحاق قال أبو عبيدة: هو مالك بن أبي السمح. [انقضت(7) أخباره].

صوت من المائة المختارة

من رواية هارون بن الحسن بن سهل و ابن المكّيّ و أبي العبيس و من روى جحظة عنه:

فإلاّ تجلّلها(8) يعالوك فوقها *** و كيف توقّى ظهر ما أنت راكبه

ص: 79


1- البلبال (بفتح الباء): شدة الهم و الوسواس.
2- الخود: الفتاة الشابة الحسنة الخلق.
3- قطوف المشي: ضيقة الخطى بطيئة المشي.
4- تفتر: تبسم. و الأشر (بضمتين و بضم ففتح): حدّة ورقة في أطراف الأسنان.
5- في ح: «خفيف أوّل مطلق.... إلخ».
6- في ط، ء، م: «خفيف ثقيل بالوسطى... إلخ».
7- زيادة عن م.
8- تجلل الرجل البعير: علا ظهره. و عالي فلان الشيء: رفعه.

هم قتلوه كي يكونوا مكانه *** كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

بني هاشم ردّوا سلاح ابن أختكم *** و لا تنهبوه لا تحلّ مناهبه

عروضه من الطويل. البيت الأوّل من الشعر لرجل من بني نهد جاهليّ، و باقي الأبيات للوليد بن عقبة بن أبي معيط. و الغناء لابن محرز، و لحنه من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن يونس و إسحاق، و هو اللحن المختار. و فيه للغريض ثقيل أوّل بالسّبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لمعبد ثقيل أوّل آخر مطلق في مجرى الوسطى عن عمرو و عن الهشاميّ. و فيه لسلسل في الثاني و الثالث ثقيل أوّل بالبنصر عن حبش، و فيه لعطرّد خفيف ثقيل.

ص: 80

5 - خبر النّهديّ في هذا الشعر و خبر الوليد بن عقبة و قد مضى نسبه في أوّل الكتاب

الحارث بن مارية و زهير بن جناب:

اخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عمي عن ابن الكلبي عن أبيه عن عبد الرحمن المدائني، و كان عالما بأخبار قومه، قال و حدّثنيه أبو مسكين(1) أيضا، قالا:

كان الحارث بن مارية الغسّاني الجفنيّ مكرما لزهير بن جناب الكلبيّ ينادمه و يحادثه، فقدم على الملك رجلان من بني نهد بن زيد يقال لهما حزن و سهل ابنا رزاح، و كان عندهما حديث من أحاديث العرب، فاجتباهما الملك و نزلا بالمكان الأثير منه، فحسدهما زهير بن جناب، فقال: أيها الملك، هما و اللّه عين لذي القرنين عليك (يعني المنذر الأكبر جدّ النعمان بن المنذر)، و هما يكتبان إليه بعورتك و خلل ما يريان منك؛ قال: كلاّ! فلم يزل به زهير حتى أوغر صدره، و كان إذا ركب يبعث إليهما ببعيرين يركبان معه، فبعث إليهما بناقة واحدة؛ فعرفا الشرّ فلم يركب أحدهما و توقّف؛ فقال له الآخر:

فإلاّ تجلّلها يعالوك فوقها *** و كيف توقّى ظهر ما أنت راكبه

فركبها مع أخيه، و مضى بهما فقتلا، ثم بحث عن أمرهما بعد ذلك فوجده باطلا فشتم/زهيرا و طرده، فانصرف إلى بلاد قومه؛ و قدم رزاح أبو الغلامين إلى الملك، و كان شيخا عالما مجرّبا، فأكرمه الملك و أعطاه دية ابنيه؛ و بلغ زهيرا مكانه، فدعا ابنا له يقال له عامر، و كان من فتيان العرب لسانا و بيانا، فقال له: إنّ رزاحا قد قدم على الملك، فالحق به و احتل في أن تكفينيه، و قال له: اذممني/عند الملك و نل منّي، و أثّر به آثارا؛ فخرج الغلام حتى قدم الشام، فتلطّف للدخول على الملك حتى وصل إليه؛ فأعجبه ما رأى منه؛ فقال له: من أنت؟ قال: أنا عامر بن زهير بن جناب؛ قال: فلا حيّاك اللّه و لا حيّا أباك الغادر الكذوب السّاعي! فقال الغلام: نعم، فلا حيّاه اللّه! انظر أيها الملك ما صنع بظهري! و أراه آثار الضرب؛ فقبل ذلك منه و أدخله في ندمائه؛ فبينا هو يحدّثه يوما إذ قال له: أيها الملك، إنّ أبي و إن كان مسيئا فلست أدع أن أقول الحقّ، قد و اللّه نصحك أبي، ثم أنشأ يقول:

فيا لك نصحة لمّا نذقها *** أراها نصحة ذهبت ضلالا

ثم تركه أيّاما، و قال له بعد ذلك: أيها الملك، ما تقول في حيّة قد قطع ذنبها و بقي رأسها؟ قال: ذاك أبوك و صنيعه بالرجلين ما صنع؛ قال: أبيت اللّعن! و اللّه ما قدم رزاح إلا ليثأر بهما؛ فقال له: و ما آية ذلك؟ قال: اسقه الخمر ثم ابعث إليه عينا يأتك بخبره؛ فلما انتشى صرفه إلى قبّته و معه بنت له، و بعث عليه عيونا؛ فلما دخل قبّته قامت إليه ابنته تسانده فقال:

ص: 81


1- في ط، م، ء: «ابن مسكين».

دعيني من سنادك إنّ حزنا *** و سهلا ليس بعدهما رقود

أ لا تسلين عن شبليّ ما ذا *** أصابهما إذا اهترش(1) الأسود

فإنّي لو ثأرت المرء حزنا *** و سهلا قد بدا لك ما أريد

فرجع القوم إلى الملك فأخبروه بما سمعوا، فأمر بقتل النّهديّ رزاح، و ردّ زهيرا إلى موضعه.

شعر للوليد بن عقبة أجابه عنه الفضل بن العباس:
اشارة

و قد أنشدني محمد بن العباس اليزيديّ قال: أنشدنا محمد بن حبيب أبيات الوليد هذه على الولاء(2)، و هي:

ألا من لليل لا تغور كواكبه *** إذا لاح نجم لاح نجم يراقبه(3)

بني هاشم ردّوا سلاح ابن أختكم(4) *** و لا تنهبوه لا تحلّ مناهبه

بني هاشم لا تعجلوا(5) بإقادة *** سواء علينا قاتلوه و سالبه

فقد يجبر العظم الكسير و ينبري *** لذي الحقّ يوما حقّه فيطالبه

و إنّا و إيّاكم و ما كان منكم *** كصدع الصّفا لا يرأب الصّدع شاعبه

بني هاشم كيف التعاقد(6) بيننا *** و عند عليّ سيفه و حرائبه(7)

لعمرك لا أنسى ابن أروى و قتله *** و هل ينسينّ الماء ما عاش شاربه

هم قتلوه كي يكونوا مكانه *** كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

و إنّي لمجتاب إليكم بجحفل *** يصمّ السّميع جرسه(8) و جلائبه

و قد أجاب الفضل بن عبّاس بن عتبة بن أبي لهب الوليد عن هذه الأبيات، و قيل: بل أبوه العبّاس بن عتبة المجيب له أيضا. و الجواب:

ص: 82


1- الاهتراش: التقاتل و التواثب.
2- الولاء: المتابعة، يقال: افعل هذه الأشياء على الولاء أي متابعة.
3- في ح، م و الاستيعاب (ج 2 ص 262): «إذا لاح نجم غار نجم يراقبه».
4- في ط، م، ء: «ابن عمكم». و عثمان بن عفان يمت إلى بني هاشم بالخئولة و العمومة و قد روى في ص 117 من هذا الجزء: «ابن أختكم» في جميع النسخ. و كذلك فيما سيلي قريبا.
5- في ح: «لا تعجلونا فإنه».
6- في ط، م، ء: «التعاذر» و سيرد قريبا بروايتين أخريين هما: «كيف الهوادة» و «كيف التواصل».
7- كذا في ط، ء. و الحرائب: جمع حريبة و هي مال الرجل الذي يعيش به، و قيل: ما يسلب من المال. و في م: «لجائبه». و في سائر الأصول: «جرائبه» و هما تحريف، و سيرد قريبا: «نجائبه».
8- الجرس: الصوت.
صوت

فلا تسألونا بالسلاح فإنه *** أضيع و ألقاه لدى الرّوع صاحبه

و شبّهته كسرى و قد(1) كان مثله *** شبيها بكسرى هديه و عصائبه

ذكر أحمد بن المكيّ أنّ لابن مسجح فيه لحنا و أن لحنه من الثقيل الأوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى، و قال غيره: إنه من منحول أبيه يحيى إلى ابن مسجح.

ص: 83


1- في «الاستيعاب» (ج 4 ص 533): «و ما كان مثله».

6 - ذكر باقي خبر الوليد بن عقبة و نسبه

نسب الوليد بن عقبة و ولايته الكوفة ثم عزله و حدّه بالشراب:

الوليد بن عقبة بن أبي معيط، و قد مضى نسبه مع أخبار ابنه(1) أبي قطيفة. و يكنى الوليد أبا وهب. و هو أخو عثمان بن عفّان لأمّه، أمهما أروى بنت كريز، و أمها البيضاء بنت عبد المطلب. و كان من فتيان قريش و شعرائهم و شجعانهم و أجوادهم(2)، و كان فاسقا، و ولي لعثمان رضي اللّه عنه الكوفة بعد سعد بن أبي وقّاص، فشرب الخمر و شهد عليه بذلك، فحدّه و عزله. و هو الذي يقول يرثي عثمان رضي اللّه عنه و يحرّض معاوية:

رثاؤه عثمان و تحريضه معاوية على الأخذ بثأره:

و اللّه ما هند بأمّك إن مضى *** النهار و لم يثأر بعثمان ثائر

أ يقتل عبد القوم سيّد أهله *** و لم تقتلوه ليت أمّك عاقر

و إنا متى نقتلهم لا يقد بهم *** مقيد فقد(3) دارت عليك الدوائر

كان يجالس عثمان على سريره فقال شعرا ولاه به الكوفة:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن أبيه قال:

لم يكن يجلس مع عثمان رضي اللّه عنه على سريره إلا العباس بن عبد المطلب و أبو سفيان بن حرب و الحكم بن أبي العاصي و الوليد بن عقبة، فأقبل الوليد يوما فجلس، ثم أقبل الحكم، فلما رآه عثمان زحل(4) له عن مجلسه، فلما قام الحكم قال له الوليد: و اللّه يا أمير المؤمنين، لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك /آثرت عمك على ابن أمّك؛ فقال له عثمان رضي اللّه تعالى عنه: إنه شيخ قريش، فما البيتان اللذان قلتهما؟ قال قلت:

رأيت لعمّ المرء زلفى قرابة *** دوين أخيه حادثا لم يكن قدما

فأمّلت عمرا أن يشبّ(5) و خالدا *** لكي يدعواني يوم مزحمة عمّا

يعني عمرا و خالدا ابني عثمان. قال: فرقّ له عثمان، و قال له: قد ولّيتك العراق (يعني الكوفة).

ص: 84


1- كذا في م، ح. و في سائر الأصول: «أبيه» و هو تحريف.
2- في ط، ء: «جودائهم». و جوداء (وزان كرماء): من جموع جواد.
3- في ب، س، ح: «و قد».
4- زحل: تنحى و تباعد.
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «يشيب».
خلف سعد بن أبي وقاص على الكوفة و قصته معه حين قدم عليه:

أخبرني أحمد قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني بعض أصحابنا عن ابن دأب قال:

لما ولّي عثمان رضي اللّه عنه الوليد بن عقبة الكوفة قدمها و عليها سعد بن أبي وقّاص، فأخبر بقدومه؛ فقال:

و ما صنع؟ قال: وقف في السوق فهو يحدّث الناس هناك و لسنا ننكر شيئا من شأنه؛ فلم يلبث أن جاءه نصف النهار، فاستأذن على سعد فأذن له، فسلّم عليه بالإمرة و جلس معه؛ فقال له سعد: ما أقدمك أبا وهب؟ قال:

أحببت زيارتك؛ قال: و على ذلك أ جئت بريدا؟ قال: أنا أرزن من ذلك، و لكن القوم احتاجوا إلى عملهم فسرّحوني إليه، و قد استعملني أمير المؤمنين على الكوفة؛ فمكث طويلا ثم قال: لا و اللّه ما أدري أصلحت بعدنا/أم فسدنا بعدك! ثم قال:

خذيني فجرّيني ضباع و أبشري(1) *** بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره(2)

/فقال: أما و اللّه(3) لأنا أقول للشعر و أروى له منك، و لو شئت لأجبتك، و لكنّي أدع ذلك لما(4) تعلم؛ نعم و اللّه قد أمرت بمحاسبتك و النظر في أمر عمّالك؛ ثم بعث إلى عمّاله فحبسهم و ضيّق عليهم، فكتبوا إلى سعد يستغيثون، فكلّمه فيهم؛ فقال له: أو للمعروف عندك موضع؟ قال: نعم و اللّه! فخلّي سبيلهم.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني عمر قال حدّثنا جنّاد(5) بن بشر قال: حدّثني جرير(6) عن مغيرة(7)بنحوه.

قال أبو زيد عمر بن شبّة أخبرنا أبو بكر الباهليّ قال حدّثنا هشيم عن العوّام بن حوشب:

أنه لمّا قدم على سعد قال له سعد: ما أدري أ كست بعدنا أم حمقنا بعدك؟ فقال: لا تجزعنّ أبا إسحاق، فإنما هو الملك يتغدّاه قوم و يتعشّاه آخرون؛ فقال له سعد: أراكم و اللّه ستجعلونه ملكا.

أخبرني أحمد قال حدّثني عمر قال حدّثني المدائني عن بشر بن عاصم عن الأعمش عن شقيق(8) بن سلمة قال:

قدم الوليد بن عقبة عاملا لعثمان على الكوفة و عبد اللّه بن مسعود على بيت المال، و كان سعد قد أخذ مالا، فقال الوليد لعبد اللّه: خذه بالمال، فكلّمه عبد اللّه بمحضر من الوليد في ذلك؛ فقال سعد: آتى أمير المؤمنين، فإن أخذني به/أدّيته. فغمز الوليد عبد اللّه، و نظر إليهما سعد فنهض و قال: فعلتماها! و دعا اللّه أن يغري بينهما و أدّى المال.

ص: 85


1- في س: «و إنما».
2- في ب، س: «ناشره».
3- في ط، ء: «أم».
4- كذا في س: و في سائر الأصول: «لما لا تعلم».
5- في ح: «حيان».
6- هو جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي كما في «تهذيب التهذيب».
7- هو المغيرة بن مقسم الضبي كما في «تهذيب التهذيب».
8- كذا في ح، م. و هو شقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي الراوي و هو الذي يروى عنه الأعمش. و في سائر الأصول: «سفيان» و هو تحريف. (راجع «تهذيب التهذيب»، و «الاستيعاب» في اسم شقيق).
صلى بالناس الصبح أربع ركعات:

أخبرني أحمد قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثنا هارون بن معروف قال حدّثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب قال: صلّى الوليد بن عقبة بأهل الكوفة الغداة أربع ركعات، ثم التفت إليهم فقال: أ أزيدكم؟ فقال عبد اللّه بن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم.

شعر الحطيئة فيه:

أخبرني أحمد قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن حميد قال حدّثنا جرير(1) عن الأجلح(2) عن الشّعبيّ(3) في حديث الوليد بن عقبة حين شهدوا عليه [قال](4): قال(5) الحطيئة(6):

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه *** أنّ الوليد أحقّ بالعذر(7)

نادى و قد تمّت صلاتهم *** أ أزيدكم - سكرا - و ما يدري

فأبوا أبا وهب و لو أذنوا *** لقرنت بين الشفع و الوتر

كفّوا عنانك إذ جريت و لو *** تركوا عنانك لم تزل تجري

و قال الحطيئة أيضا:

تكلّم في الصلاة و زاد فيها *** علانية و جاهر بالنّفاق

و مجّ الخمر في سنن المصلّي *** و نادى و الجميع إلى افتراق

أزيدكم على أن تحمدوني *** و مالكم و مالي من خلاق

شرب الخمر و صلى بالناس فضرب الحدّ:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال حماد بن إسحاق حدّثني أبي قال ذكر أبو عبيدة و هشام بن الكلبيّ و الأصمعيّ قالوا(8):

كان الوليد بن عقبة زانيا(9) شرّيب خمر، فشرب الخمر بالكوفة و قام ليصلّي بهم الصبح في المسجد الجامع، فصلّى بهم أربع ركعات، ثم التفت إليهم/و قال لهم: أزيدكم؟ و تقيّأ في المحراب، و قرأ بهم في الصلاة و هو رافع صوته:

علق القلب الرّبابا *** بعد ما شابت و شابا

ص: 86


1- هو جرير بن عبد الحميد المذكور في الصفحة السابقة.
2- هو الأجلح بن عبد اللّه بن حجية الكندي كما في «تهذيب التهذيب».
3- هو أبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبي كما في «تهذيب التهذيب» و ابن خلكان.
4- زيادة يقتضيها السياق.
5- في ب، ح، س: «فقال».
6- هذه الكلمة ساقطة في س.
7- هذا البيت من الكامل الضرب الأحذ المضمر، و باقي الأبيات من الكامل الأحذ الثالث.
8- في ب، ح، س: «قال» و المناسب منا أثبتناه.
9- في ط، ء: «دنيا» و الدنى (كغنى): الساقط الضعيف.

فشخص أهل الكوفة إلى عثمان، فأخبروه خبره و شهدوا عليه بشربه الخمر، فأتي به، فأمر رجلا بضربه الحدّ؛ فلما دنا منه قال له: نشدتك اللّه و قرابتي من أمير المؤمنين فتركه؛ فخاف عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه أن يعطّل الحدّ، فقام إليه فحدّه؛ فقال له الوليد: نشدتك باللّه و بالقرابة؛ فقال له عليّ: اسكت أبا وهب فإنما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود، فضربه و قال: لتدعونّي قريش بعد هذا جلاّدها. قال إسحاق: فأخبرني مصعب الزّبيريّ قال: قال الوليد بن عقبة بعد ما جلد: اللهمّ إنهم شهدوا عليّ بزور، فلا ترضهم عن أمير و لا ترض عنهم أميرا.

فقال الحطيئة يكذّب عنه:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه *** أنّ الوليد أحقّ بالعذر

خلعوا عنانك إذ جريت و لو *** تركوا عنانك لم تزل تجري

و رأوا شمائل ماجد أنف(1) *** يعطي على الميسور و العسر

فنزعت مكذوبا عليك و لم *** تنزع إلى طمع(2) و لا فقر(3)

/فقال رجل من بني عجل يردّ على الحطيئة:

نادى و قد تمّت صلاتهم *** أ أزيدكم - ثملا - و ما يدري

ليزيدهم خيرا و لو قبلوا *** لقرنت بين الشّفع و الوتر

فأبوا أبا وهب و لو فعلوا *** وصلت صلاتهم إلى العشر

و روى العبّاس بن(4) ميمون طائع عن ابن عائشة قال حدّثني أبي قال:

لما أحضر عثمان رضي اللّه عنه الوليد لأهل الكوفة في شرب الخمر، حضر الحطيئة فاستأذن على عثمان و عنده بنو أمية متوافرون، فطمعوا أن يأتي الوليد بعذر، فقال:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه *** أنّ الوليد أحقّ بالعذر

خلعوا عنانك إذ جريت و لو *** تركوا عنانك لم تزل تجري

و رأوا شمائل ماجد أنف *** يعطي على الميسور و العسر

فنزعت مكذوبا عليك و لم *** تنزع إلى طمع و لا فقر

قال: فسرّوا بذلك و ظنّوا أن قد قام بعذره؛ فقال رجل من بني عجل يردّ على الحطيئة:

نادى و قد تمّت صلاتهم *** أ أزيدكم - ثملا - و ما يدري

فأبوا أبا وهب و لو فعلوا *** وصلت صلاتهم إلى العشر

ص: 87


1- الأنف (وزان كنف): الذي يأبى أن يضام.
2- في ح: «طبع» و الطبع: الدنس.
3- في «ديوان الحطيئة» (ص 186 طبع مدينة ليبزج، و نسخة خطية منه بدار الكتب المصرية رقم 3 أدب ش): تردد إلى عوز و لا فقر
4- كذا في أكثر الأصول. و في ط، م، ء: «العباس بن ميمون طابع»، و ورد فيما تقدّم في ح في أخبار الحكم بن عبدل و نسبه (ج 2 ص 422 طبع دار الكتب المصرية): «العباس بن محمد بن طائع». و لم نعثر على اسمه في المراجع التي بين أيدينا.

فوجم القوم و أطرقوا، فأمر به عثمان رضي اللّه تعالى عنه فحدّ.

قصة رجل معيطيّ شهد عليه عند الأمير:

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ(1) قال حدّثني محمد بن الفضل من حفظه قال حدّثنا عمر بن شبّة من حفظه، و نسخت من كتاب لهارون ابن الزيات بخطه عن عمر بن شبة، و روايته أتمّ، فحكيت لفظه، قال:

شهد رجل عند أبي العجّاج، و كان على البصرة، على رجل من المعيطيّين شهادة، و كان الرجل/الشاهد سكران؛ فقال المشهود عليه و هو المعيطيّ: أعزّك اللّه إنه لا يحسن أن يقرأ من السكر؛ فقال الشاهد: بلى إني لأحسن؛ فقال: اقرأ؛ فقال:

علق القلب الرّبابا *** بعد ما شابت و شابا

قال: و إنما تماجن بذلك على المعيطيّ، ليحكى به ما صنع الوليد بن عقبة في محراب الكوفة و قد تقدّم للصلاة و هو سكران، فأنشد في صلاته هذا الشّعر؛ و كان أبو العجّاج محمّقا فظنّ أن هذا قرآن، فقال: صدق اللّه و رسوله، ويلكم! فلم تعلمون و لا تعملون!. و لقد روي أيضا في الشهادة على الوليد في السّكر غير ما ذكر من زيادته في الصلاة.

ثبت لدى عثمان أنه سكر فأمر بجلده الحدّ:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال عرضت على المدائنيّ عن مبارك بن سلاّم عن فطر(2) بن خليفة عن أبي الضّحى(3) قال:

/كان أبو زينب الأزديّ و أبو مورّع(4) يطلبان عثرة الوليد بن عقبة، فجاءا يوما فلم يحضر الصلاة، فسألا عنه و تلطّفا حتى علما أنه يشرب، فاقتحما عليه الدار فوجداه يقيء، فاحتملاه و هو سكران فوضعاه على سريره و أخذا خاتمه من يده، فأفاق فافتقد خاتمه فسأل عنه؛ فقالوا: لا ندري و قد رأينا رجلين دخلا الدار فاحتملاك فوضعاك على سريرك؛ فقال: صفوهما لي؛ فقالوا: أحدهما آدم(5) طويل حسن الوجه، و الآخر عريض مربوع عليه خميصة(6)؛ فقال: هذا(7) أبو زينب و أبو مورّع. و لقي أبو زينب و صاحبه عبد اللّه بن حبيش(8) الأسدي و علقمة(9) بن

ص: 88


1- كذا في ط، ء، م. و في سائر الأصول: «المكيّ»، و أبو الفرج يروي كثيرا عن الصوليّ كما تقدّم غير مرة في الأجزاء السالفة.
2- كذا في «التهذيب» و «المعارف» لابن قتيبة و الطبري (ق 1 ص 3181) و في جميع الأصول: «قطن» بالقاف و النون و هو تحريف.
3- كذا في ط، م، ء، و اسمه: مسلم بن صبيح الهمداني أحد شيوخ فطر بن خليفة المتقدّم. و في سائر الأصول: «أبو الضحاك» و هو تحريف. (راجع «التهذيب» و «الخلاصة» في اسم مسلم بن صبيح).
4- كذا في ط، ء، م. و هو أبو مورّع الأسدي كما في الطبري و ابن الأثير. و في ح: «ابن مزرع». و في ب، س: «أبو مزرع»، و كلاهما تحريف.
5- الآدم: الأسمر.
6- الخميصة: كساء أسود مربع له علمان.
7- في الأصول: «هذا».
8- كذا في ب، ح، س. و في سائر الأصول: «خنيس».
9- كذا في ب، س. و في م: «علقمة بن زيد». و في ح: «عقبة بن يزيد». و ف ط، ء: «عقبة بن زيد»، و لم نوفق إلى وجه الصواب فيه.

يزيد البكريّ و غيرهما فأخبراهم، فقالوا: اشخصوا إلى أمير المؤمنين فأعلموه؛ فقال بعضهم: لا يقبل قولنا في أخيه؛ فشخصوا إليه و قالوا: إنما جئناك في أمر و نحن مخرجوه إليك من أعناقنا، و قد قلنا: إنك لا تقبله، قال: و ما هو؟ قالوا: رأينا الوليد و هو سكران من خمر قد شربها و هذا خاتمه أخذناه و هو لا يعقل؛ فأرسل إلى عليّ رضي اللّه تعالى عنه فشاوره؛ فقال: أرى أن تشخصه، فإن شهدوا عليه بمحضر منه حددته؛ فكتب عثمان رضي اللّه تعالى عنه إلى الوليد بن عقبة فقدم عليه، فشهد عليه أبو زينب/و أبو مورّع و جندب الأسديّ(1) و سعد بن مالك الأشعريّ، و لم يشهد(2) عليه إلاّ يمان؛ فقال عثمان لعليّ: قم فاضربه؛ فقال عليّ للحسن: قم فاضربه؛ فقال الحسن: مالك و لهذا! يكفيك غيرك؛ فقال عليّ لعبد اللّه بن جعفر: قم فاضربه، فضربه بمخصرة(3) فيها سير له رأسان، فلما بلغ أربعين قال له عليّ: حسبك.

ما وقع بين عثمان و عائشة بسبب الوليد بن عقبة:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا المدائنيّ عن الوقّاصيّ(4) عن الزّهريّ قال: خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد، فقال: أ كلّما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل! لئن أصبحت لكم لأنكّلنّ بكم؛ فاستجاروا بعائشة؛ و أصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا و كلاما فيه بعض الغلظة، فقال: أ ما يجد مرّاق أهل العراق و فسّاقهم ملجأ إلا بيت عائشة! فسمعت فرفعت نعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قالت: تركت سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم صاحب هذه(5) النعل؛ فتسامع الناس فجاءوا حتى ملئوا المسجد، فمن قائل: أحسنت، و من قائل: ما للنساء و هذا! حتى تحاصبوا(6) و تضاربوا بالنّعال؛ و دخل رهط من/أصحاب رسول اللّه/صلّى اللّه عليه و سلّم على عثمان، فقالوا له: اتّق اللّه و لا تعطّل الحدّ، و اعزل أخاك عنهم؛ فعزله عنهم.

ضرب عثمان رجلا شهد عليه:

أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا المدائنيّ عن أبي محمد النّاجي عن مطر الورّاق قال:

قدم رجل المدينة فقال لعثمان رضي اللّه عنه: إني صلّيت الغداة خلف الوليد بن عقبة، فالتفت إلينا فقال:

أ أزيدكم؟ إنّي أجد اليوم نشاطا، و أنا أشمّ منه رائحة الخمر؛ فضرب عثمان الرجل؛ فقال الناس: عطّلت الحدود و ضربت الشهود.

الوليد بن عقبة و عديّ بن حاتم:

أخبرني أحمد قال حدّثني عمر قال حدّثنا أبو بكر الباهليّ عن بعض من حدّثه قال:

ص: 89


1- كذا في ب، ح، س. و في سائر الأصول: «الأزدي». و الأسد «بإسكان السين»: لغة في الأزد، يقال في أزد شنوءة: أسد شنوءة.
2- يريد أن كل شهوده من اليمن، و قد جاء في «نهاية الأرب» (ح 2 ص 297) في الكلام على يمن: أن الأشعر و الأزد قبيلتان منها، و قد جاء في الطبري (ق 1 ص 2849) أن أبا مورّع و أبا زينب أزديان. و قد سقطت هذه الجملة من ط، م، ء.
3- المخصرة: ما اختصره الإنسان بيده فأمسكه من عصا أو مقرعة أو عنزة أو عكازة و ما أشبهها، و قد يتكأ عليها.
4- كذا في ط، م، ء. و اسمه: عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، و هو ممن يروون عن الزهري. و في سائر الأصول: «الرقاشي». و لم نجد في المراجع التي بين أيدينا رقاشيا له رواية عن الزهري.
5- في جميع الأصول: «هذا» و هو تحريف لأن الفعل مؤنثة.
6- في ط، م، ء: «تخاصموا».

لما شهد على الوليد عند عثمان بشرب الخمر كتب إليه يأمره بالشخوص، فخرج و خرج معه قوم يعذرونه، فيهم عديّ بن حاتم، فنزل الوليد يوما يسوق بهم، فقال يرتجز:

لا تحسبنّا قد نسينا الإيجاف(1) *** و النّشوات من عتيق أو صاف

و عزف قينات علينا عزاف

فقال عديّ: إلى أين تذهب بنا! أقم!.

أخبار تتعلق بجلد الوليد الحدّ:

أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر قال عرضت على المدائنيّ عن قيس بن الرّبيع عن الأجلح(2) عن الشّعبيّ(3) عن جندب قال:

/كنت فيمن شهد على الوليد، فلما استتممنا عليه الشهادة حبسه عثمان، ثم ذكر باقي خبره و ضرب عليّ عليه السلام إيّاه، و قول الحسن: «ما لك و لهذا!»، فزاد فيه: فقال له عليّ: لست إذا مسلما، أو من المسلمين.

حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه المخزوميّ قال حدّثنا سعيد بن محمد المخزوميّ قال حدّثنا ابن عليّة(4) قال حدّثنا سعيد بن أبي عروبة عن عبد اللّه الدّاناج(5) قال سمعت الحضين(6) بن المنذر أبا ساسان يحدّث، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن حاتم قال حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عليّة قال حدّثنا سعيد بن أبي عروبة قال حدّثنا عبد اللّه الدّاناج عن حضين أبي ساسان قال:

لما جيء بالوليد بن عقبة إلى عثمان بن عفّان و قد شهدوا عليه بشرب الخمر، قال لعليّ: دونك ابن عمك فأقم عليه الحدّ؛ فأمر به فجلد أربعين. ثم ذكر نحو هذا الحديث و قال فيه: فقال عليّ للحسن: بل ضعفت و وهنت و عجزت، قم يا عبد اللّه بن جعفر، فقام فجلده و عليّ يعدّ حتى بلغ أربعين، فقال عليّ: أمسك، /جلد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أربعين، و جلد أبو بكر أربعين، و أتمّها عمر ثمانين، و كلّ سنّة.

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر قال حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد قال:

لما ضرب عثمان الوليد الحدّ قال: إنك لتضربني اليوم بشهادة قوم ليقتلنّك عاما قابلا.

ص: 90


1- الإيجاف: العنق في السير، و هو سير فسيح واسع للإبل.
2- انظر الحاشية رقم 2 ص 125 من هذا الجزء.
3- انظر الحاشية رقم 3 ص 125 من هذا الجزء.
4- كذا في أكثر الأصول و هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، و علية: أمّه، و هذا هو الصواب. و في ط، ء: «علبة» بالباء الموحدة. (راجع «المؤتلف و المختلف» في أسماء نقلة الحديث ص 98، و «الطبقات» ق 2 ح 7 ص 70، و «تهذيب التهذيب» في اسم سعيد بن أبي عروبة).
5- كذا في ح، و هو عبد اللّه بن فيروز الداناج البصري. و الداناج (بفتح الدال و النون): العالم، معرّب دانا. و هو ممن يروي عن حضين و يروي عنه سعيد بن أبي عروبة. و في سائر الأصول: «عبد اللّه الرياحي» و هو خطأ. (راجع «القاموس» مادة: دنج، و «الخلاصة في أسماء الرجال» ص 210 طبع بولاق، و «تهذيب التهذيب» في اسم عبد اللّه بن فيروز الداناج، و سعيد بن أبي عروبة، و حضين بن المنذر).
6- هو حضين بن المنذر الرقاشي أبو ساسان صاحب راية عليّ يوم صفين، و لا يعرف حضين بالضاد المعجمة غيره (راجع «المؤتلف و المختلف» في أسماء نقلة الحديث ص 33، و «المشتبه» ص 166، و «تهذيب التهذيب» في اسم حضين، و «القاموس» مادة حضن).
كان أبو زبيد من ندمائه و قال شعرا فيه لما عزل:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ عن عمّه عبيد اللّه قال أخبرني محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد، و أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدّثنا عبد اللّه بن مسلم، قالوا جميعا:

كان أبو زبيد الطائي نديما للوليد بن عقبة أيّام ولايته الكوفة، فلما شهد عليه بالسكر من الخمر و خرج من الكوفة قال أبو زبيد - و اللفظ في القصيدة لليزيديّ لأنها في روايته أتمّ -:

/

من يرى العير لابن أروى(1) على ظه *** ر المروري(2) حداتهنّ عجال

مصعدات و البيت بيت أبي وه *** ب خلاء تحنّ فيه الشّمال

يعرف الجاهل المضلّل أنّ ال *** دهر فيه النّكراء و الزّلزال

ليت شعري كذا كم العهد أم كا *** نوا أناسا كمن يزول فزالوا

بعد ما تعلمين يا أمّ زيد *** كان فيهم عزّ لنا و جمال

و وجوه بودّنا(3) مشرقات *** و نوال إذا أريد النّوال

/أصبح البيت قد تبدّل بال *** حيّ وجوها كأنّها الأقتال(4)

كلّ شيء يحتال فيه الرجال *** غير أن ليس للمنايا احتيال

و لعمر الإله لو كان للسي *** ف مصال(5) أو للّسان مقال

ما تناسيتك الصفاء و لا الودّ *** و لا حال دونك الأشغال

و لحرّمت لحمك المتعضّى(6)*** ضلّة(7) ضلّ حلمهم ما اغتالوا

قولهم شربك الحرام و قد كا *** ن شراب سوى الحرام حلال

و أبى الظّاهر العداوة إلاّ *** شنآنا و قول ما لا يقال

من رجال تقارضوا منكرات *** لينالوا الذي أرادوا فنالوا

غير ما طالبين ذخلا(8) و لكن *** قال دهر على أناس فمالوا

من يخنك الصّفاء أو يتبدّل *** أو يزل مثل ما تزول الظّلال

ص: 91


1- ابن أروى هو الوليد بن عقبة و أروى أمه و أم عثمان بن عفان كما تقدّم في أوّل الترجمة.
2- سيشرح أبو الفرج هذه الكلمة في أول صفحة 135.
3- في ط، ء، م: «تودّتا» بالتاء.
4- الأقتال: الأعداء، جمع قتل (بالكسر). و يطلق أيضا على الصديق، فهو من أسماء الأضداد.
5- يقال: صال على قرنه يصول إذا وثب عليه و استطال.
6- كذا في ط، ء. و المتعضي: المتقطع و المتفرّق. و في سائر الأصول: «المتقصى»، و هو اسم مفعول من تقصى الشيء إذا طلبه و بالغ في البحث عنه.
7- في ط، ء: «حدّة».
8- الذحل: الثأر.

فاعلمن أنّني أخوك أخو ال *** ودّ حياتي حتى تزول الجبال

ليس بخلا عليك عندي بمال *** أبدا ما أقلّ نعلا قبال(1)

و لك النّصر باللسان و بال *** كفّ إذا كان لليدين مصال

نسبة ما في هذا الشعر من الغناء
صوت

من يرى العير لابن أروى على ظه *** ر المروري حداتهنّ عجال

مصعدات و البيت بيت أبي وه *** ب خلاء تحنّ فيه الشّمال

/عروضه من الخفيف. المروري: جمع مروراة و هي الصحراء. غنى الدّلال فيه خفيف ثقيل(2) بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق و غيره.

لام أهل الكوفة الوليد لأنه أنزل أبا زبيد بدار على باب المسجد:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

لما قدم الوليد بن عقبة الكوفة قدم عليه أبو زبيد، فأنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد و هي دار القبطي(3)، فكان مما احتجّ به عليه أهل الكوفة أنّ أبا زبيد كان يخرج إليه من داره يخترق المسجد و هو نصرانيّ(4)فيجعله طريقا.

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمّي عبيد اللّه(5) عن(6) أبي حبيب بن جبلة عن ابن الأعرابيّ:

أن أبا زبيد وفد على الوليد حين استعمله عثمان على الكوفة، فأنزله الوليد دار لعقيل بن أبي طالب على باب المسجد، فاستوهبها منه فوهبها له، فكان ذلك أوّل الطّعن عليه من أهل/الكوفة؛ لأن أبا زبيد كان يخرج من منزله حتى يشقّ الجامع إلى الوليد، فيسمر عنده و يشرب معه و يخرج فيشقّ المسجد و هو سكران، فذلك نبّههم عليه.

ص: 92


1- أقل الشيء: حمله و رفعه. و قبال النحل (بالكسر): زمامها و هو السير الذي يكون بين الإصبعين. و في «الشعر و الشعراء» (ص 168 طبع أوروبا): «ما أقل سيفا حمال».
2- في ط، ء، م: «خفيف ثقيل الأوّل بإطلاق... إلخ».
3- كذا في جميع الأصول.
4- كذا في أكثر الأصول، و قد كان أبو زبيد نصرانيا. و في م هنا: «و هو سكران» كما سيرد في جميع الأصول في الخبر الآتي.
5- هو عبيد اللّه بن محمد اليزيدي.
6- كذا في م. و في ط، ء: «عبيد اللّه عن ابن جبلة... إلخ». و في سائر الأصول: «عبيد اللّه بن أبي حبيب عن ابن الأعرابي». و لعل صحة هذا السند هي: «حدّثني عمي عبيد اللّه عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي» لأن الذي عرفت روايته عن ابن الأعرابي و تسمى بابن حبيب هو أبو جعفر محمد بن حبيب، و قد قرأ على ابن الأعرابي «كتاب النوادر» و توفي سنة 245 ه، و حبيب: أمه نسب إليها لعدم معرفة أبيه. و قد ورد هذا السند بعينه في صفحتي 133 و 137 و هو يؤيد صحة ما ذهبنا إليه. (راجع «إنباه الرواة» ق 1 ج 2 ص 92 و «معجم الأدباء» ج 6 ص 473 و «بغية الوعاة» ص 29 طبع مصر).
ولاه عمر صدقات بني تغلب ثم عزله:

قال: و قد كان عمر بن الخطّاب رضي اللّه تعالى عنه ولّي الوليد بن عقبة صدقات بني تغلب، فبلغه عنه بيت قاله و هو:

إذا ما شددت الرأس منّي بمشوذ(1) *** فغيّك(2) منّي(3) تغلب ابنة وائل

فعزله.

مدحه أبو زبيد لأنه استخلص له إبلا أودعها بني تغلب:

و كان أبو زبيد قد استودع بني كنانة بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب إبلا فلم يردّوها عليه حين طلبها، و كانت بنو تغلب أخوال أبي زبيد، فوجد الوليد بني تغلب ظالمين لأبي زبيد، فأخذ له الوليد بحقّه؛ فقال يمدح الوليد:

يا ليت شعري بأنباء أنبّئها *** قد كان يعيا بها صدري و تقديري

عن امرئ ما يزده اللّه من شرف *** أفرح به و مريّ غير مسرور

(يعني مريّ بن أوس بن حارثة بن لأم). و هي طويلة يقول فيها:

إنّ الوليد له عندي و حقّ له *** ودّ الخليل و نصح غير مذخور

لقد رعاني و أدناني و أظهرني *** على الأعادي بنصر غير تعذير(4)

فشذّب(5) القوم عنّي غير مكترث *** حتى تناهوا على رغم و تصغير

نفسي فداء أبي وهب و قلّ له *** يا أمّ عمرو فحلّي اليوم أو سيري

و في رواية ابن حبيب: «يا أمّ زيد»، يعني: يا أم أبي زبيد.

أقطع أبا زبيد أرضا واسعة فمدحه بشعر:

أخبرني محمد بن العبّاس عن عمّه عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

كان الوليد بن عقبة قد استعمل الرّبيع بن مريّ بن أوس بن حارثة بن لأم الطائيّ على الحمى فيما بين الجزيرة و ظهر الحيرة، فأجدبت الجزيرة، و كان أبو زبيد في تغلب، فخرج بهم ليرعيهم؛ فأبى عليه الأوسيّ و قال: إن شئت أن أرعيك وحدك فعلت و إلاّ فلا؛ فأتى أبو زبيد الوليد بن عقبة، فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة و جعله له حمى، و أخذها من الآخر. هكذا روى ابن حبيب. و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال: كانت الجنينة(6) في يد مريّ بن أوس، فلمّا قدم الوليد بن عقبة الكوفة انتزعها منه و دفعها

ص: 93


1- المشوذ: العمامة.
2- يريد غيالك ما أطوله مني. (راجع «اللسان» مادة شوذ).
3- كذا في ب، ح، س و «اللسان» (مادة شوذ) و في سائر الأصول: «عني».
4- كذا في ط، ء، م. و التعذير في الأمر: التقصير فيه. و في سائر الأصول: «تقدير».
5- شذب: طرد و دفع.
6- الجنينة: علم على مواضع كثيرة. (انظر «معجم البلدان» لياقوت في الكلام على الجنينة).

إلى أبي زبيد. و القول الأوّل أصح، و شعر أبي زبيد يدلّ عليه في قوله في الوليد بن عقبة يمدحه:

لعمر أبيك يا ابن أبي مريّ *** لغيرك من أباح لها(1) الدّيارا

أباح لها(1) أبارق(2) ذات نور *** ترعى القفّ(3) منها و العرارا(4)

بحمد اللّه ثم فتى قريش *** أبي وهب غدت بطنا غزارا(5)

أباح لها و لا يحمى عليها *** إذا ما كنتم سنة جزارا

يريد جزرا من الجدب و الشدّة.

/

فتى طالت يداه إلى المعالي *** و طحطحتا(6) المقطّعة(7) القصارا

و هي أبيات.

نزع منه سعيد بن العاص هذه الأرض فقال شعرا:

قال(8) عمر بن شبّة في خبره خاصّة: فلما عزل الوليد و وليها سعيد انتزعها منه/و أخرجها من يده؛ فقال:

و لقد متّ غير أنّي حيّ *** يوم بانت بودّها خنساء

من بني عامر لها شقّ نفسي *** قسمة مثل ما يشقّ الرداء

أشربت لون صفرة في بياض *** و هي في ذاك لدنة غيداء(9)

كلّ عين ممّن يراها من النّا *** س إليها مديمة حولاء

فانتهوا إن للشدائد أهلا *** و ذروا ما تزيّن الأهواء

ليت شعري و أين منّي ليت *** إنّ ليتا و إنّ لوّا عناء

أيّ ساع سعى ليقطع شربي *** حين لاحت للصابح الجوزاء(10)

ص: 94


1- في ط، ء، م: «لنا».
2- الأبارق: جمع الأبرق كسر تكسير الأسماء لغلبته. و الأبرق: البرقة إذا اتسعت و هي أرض غليظة فيها حجارة و رمل و طين مختلطة، و تنبت أسنادها و ظهورها البقل و الشجر نباتا كثيرا يكون إلى جنبها الروض أحيانا.
3- القف (بفتح القاف): ما يبس من البقول و تناثر حبه و ورقه فالإبل ترعاه و تسمن عليه.
4- كذا في ح، م. و العرار (بالفتح): نبت أصفر طيب الريح، و قيل: هو بهار البر، واحدته عرارة. و في سائر الأصول: «القفارا». و يناسب هذه الرواية: القف (بضم القاف): و هو ما غلظ من الأرض و ارتفع، و قيل: يكون في القف رياض و قيعان.
5- غزارا: جمع غزيرة، و هي من الإبل الكثيرة اللبن.
6- كذا في ط، ء. و طحطح الرجل ماله: فرقه. و في ب، س: «طحطحن».
7- المقطعة: الثياب القصار أو هي برود عليها وشي.
8- كذا في ح، م. و في سائر الأصول: «و قال... إلخ».
9- اللدنة: الناعمة. و الغيداء: المتثنية من النعمة و هي أيضا الطويلة العنق.
10- الشرب (بالكسر): المورد. و الصابح: الذي يصبح إبله الماء أي يسقيها صباحا. و الجوزاء: نجم يقال: إنه يعترض في جوز السماء أي وسطها، و إذا طلعت الجوزاء اشتدّ الحرّ، و العرب تقول: إذا طلعت الجوزاء توقدت المعزاء.

و استظلّ(1) العصفور كرها مع ال *** ضبّ و أوفى في عوده الحرباء

و نفى الجندب الحصا بكراعي *** ه و أذكت نيرانها المعزاء(2)

من سموم كأنها حرّ نار *** سفعتها(3) ظهيرة غرّاء

/و إذا أهل(4) بلدة أنكروني *** عرفتني الدّوّيّة(5) الملساء

عرفت ناقتي الشمائل منّي *** فهي إلاّ بغامها(6) خرساء

عرفت ليلها الطويل و ليلي *** إنّ ذا الليل(7) للعيون غطاء

نسبة ما يغنّي فيه من هذا الشعر
صوت

أيّ ساع سعى ليقطع شربي *** حين لاحت للصابح الجوزاء

و استكنّ العصفور كرها مع ال *** ضبّ و أوفى في عوده الحرباء

و إذا الدار أهلها أنكروني *** عرفتني الدّوّيّة الملساء

عرفت ناقتي الشمائل منّي *** فهي إلا بغامها خرساء

عرفت ليلها الطويل و ليلي *** إنّ ذا الليل للعيون غطاء

عروضه من الخفيف. غناه ابن سريج خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، و غنّى داود بن العبّاس الهاشميّ في الخامس ثم الثالث خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو.

شعر أبي زبيد في تشوّقه للكوفة:

قال(8) ابن حبيب في خبره: و قال أبو زبيد يتشوّق إلى الوليد لمّا خرج عن الكوفة:

/

لعمري لئن أمسى الوليد ببلدة *** سواي(9) لقد أمسيت للدهر معورا(10)

ص: 95


1- ستأتي رواية فيه في الصفحة التالية: «و استكن».
2- الجندب: الجراد الصغير. و كراعا الجندب: رجلاه. و المعزاء: الأرض الحزفة الغليظة ذات الحجارة. و قيل: هي الصحراء فيها إشراف و غلظ.
3- يريد أنها أثرت فيها بحرارتها.
4- سترد فيه رواية أخرى بعد أسطر: «و إذا الدار أهلها أنكروني».
5- الدوّية: الفلاة، سميت بذلك لما يسمع فيها من دويّ.
6- بغام الناقة: صوت لا تفصح به، و قيل: إذا قطعت الحنين و لم تمده.
7- في م و «الخزانة» للبغداديّ (ج 3 ص 283): «النوم».
8- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «و قال».
9- في ح: «سوى تا» بإضافة سوى إلى اسم الإشارة و هو تا. أي سوى هذه البلدة.
10- كذا في أكثر الأصول. و المعور: الذي لا حافظ له. و في ح، م: «مثأرا» أي محلا لثأره.

[قال ابن حبي: «و يروي سويّ لقد...» و هي لغة طيّ ء](1).

خلا أنّ رزق اللّه غاد و رائح *** و أنّي له راج و إن سرت أشهرا

و كان هو الحصن الذي ليس مسلمي *** إذا أنا بالنّكراء هيّجت(2) معشرا

إذا صادفوا دوني الوليد كأنما *** يرون بوادي ذي(3) حماس مزعفرا(4)

خضيب بنان ما يزال براكب *** يخبّ و ضاحي جلده قد تقشّرا(5)

و هي طويلة.

افتخر الوليد على عليّ بن أبي طالب فأجابه و أسكته:

حدّثني إسحاق بن بنان الأنماطيّ قال حدّثنا حبيش بن مبشّر قال حدّثنا عبيد اللّه(6) بن موسى قال حدّثنا ابن أبي ليلى عن الحكم(7) عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس/قال:

قال الوليد بن عقبة لعليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه: أنا أحدّ منك سنانا، و أبسط منك لسانا، و أملأ للكتيبة طعانا؛ فقال له عليّ رضي اللّه تعالى عنه: اسكت! فإنما أنت فاسق؛ فنزل القرآن: أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لاٰ يَسْتَوُونَ .

أرسله النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم على صدقات بني المصطلق فأخبره بردتهم فأرسل خالدا فكذبه:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن حاتم قال حدّثنا يونس بن محمد قال حدّثنا شيبان(8) عن قتادة(9) في قوله تعالى: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ قال: هذا ابن أبي معيط الوليد بن عقبة، بعثه النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إلى بني المصطلق مصدّقا، فلما رأوه أقبلوا نحوه فهابهم؛ فرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبره أنهم قد ارتدّوا عن الإسلام؛ فبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم خالد بن الوليد و أمره أن يتثبّت و لا يعجل؛ فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه؛ فلمّا جاءوه أخبروه بأنهم متمسّكون بالإسلام و سمعوا أذانهم و صلاتهم؛ فلمّا أصبحوا أتاهم خالد فرأى ما يعجبه، فرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبره.

ص: 96


1- زيادة عن م. يشير إلى جواز قلب ألف المقصور ياء عند إضافته إلى ياء المتكلم. و قد وردت هذه الزيادة في ح أيضا باختلاف في كلمة سوى فكتبت فيها: «سوى تا».
2- في ح: «هايجت».
3- ذو حماس: موضع تلقاء عرعر، و قيل: هو مأسدة. (راجع «معجم ما استعجم» ح 1 ص 286).
4- المزعفر: الأسد الورد، لأنه ورد اللون، و قيل: لما عليه من أثر الدم.
5- في ط، ء، م: «تسيرا» و هو بمعنى تقشر.
6- كذا في أكثر الأصول، و هو عبيد اللّه بن موسى بن باذام العبسي أحد الذين يروون عن ابن أبي ليلى محمد بن عبد الرحمن. و في م: «عبد اللّه»، و هو تحريف. (راجع الطبري ق 1 ص 289، و «تهذيب التهذيب» في اسم محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى).
7- هو الحكم بن عتيبة الكندي أبو محمد كما في «تهذيب التهذيب».
8- هو شيبان بن عبد الرحمن التميمي كما في «تهذيب التهذيب».
9- هو قتادة بن دعامة بن قتادة أبو الخطاب السدوسي كما في «تهذيب التهذيب».
شكته زوجه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فأجارها منه فأخفر جواره فدعا عليه:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عبيد اللّه بن موسى قال حدّثنا نعيم بن حكيم عن أبي مريم(1) عن عليّ(2):

أنّ امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم تشتكي الوليد و قالت: إنه يضربها؛ فقال لها: «ارجعي و قولي إن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلّم - قد أجارني»، فانطلقت فمكثت ساعة، ثم رجعت فقالت: ما أقلع عنّي؛ فقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هدبة من ثوبه ثم قال: «امضي بهذا ثم قولي إنّ رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلّم - أجارني»؛ فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت:

يا رسول اللّه ما زادني إلاّ ضربا؛ فرفع يديه و قال: «اللهمّ عليك الوليد» مرّتين أو ثلاثا.

مدح النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم على رءوس الصبيان يوم الفتح و لم يمسسه:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر بن شبّة، و حدّثني أبو عبيد الصّيرفيّ قال حدّثني الفضل بن الحسن البصريّ(3) قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أيّوب بن عمر قال/حدّثنا عمر بن أيّوب قال حدّثنا جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجّاج عن أبي موسى(4) عبد اللّه الهمداني:

أنّ الوليد بن عقبة قال: لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مكة، جعل أهل مكّة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة و يمسح على رءوسهم، فجيء بي إليه و أنا مخلّق(5) فلم يمسسني، و ما منعه إلا أن أمّي خلّقتني بخلوق فلم يمسسني من أجل الخلوق.

كان عنده كاهن فقتله جندب بن كعب خشية الفتنة:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا خلف بن الوليد قال حدّثنا المبارك بن فضالة عن الحسن(6):

أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يريه كتيبتين تقتتلان، فتحمل إحداهما على الأخرى فتهزمها؛ فقال له الساحر: أ يسرّك أن أريك هذه المنهزمة تغلب الغالبة فتهزمها؟ قال: نعم؛ و أخبر جندب بذلك، فاشتمل على السيف ثم جاء فقال: أفرجوا، فضربه حتى قتله، ففزع الناس و خرجوا؛ فقال: يا أيها الناس لا عليكم، إنما قتلت هذا الساحر لئلا يفتنكم في دينكم؛ فحبسه قليلا ثم تركه.

قتل دينار بن دينار لإطلاقه رجلا أمر بحبسه:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عمر بن سعيد الدّمشقيّ، و حدّثنا سعيد بن عبد العزيز عن الزّهريّ(7):

ص: 97


1- هو أبو مريم الثقفي كما في «تهذيب التهذيب».
2- هو علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
3- كذا في أكثر الأصول. و في ط، ء: «المصري».
4- في ط، ء، م: «عن أبي عبد اللّه الهمداني عن أبي موسى» و في سائر الأصول. «عن أبي عبيد اللّه الهمداني عن أبي موسى». و الصواب ما أثبتناه عن «تهذيب التهذيب» في اسم ثابت بن الحجاج.
5- المخلق: المطيب بالخلوق، و هو ضرب من الطيب مائع فيه صفرة لأن أعظم أجزائه من الزعفران.
6- هو الحسن البصري.
7- هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.

أنّ رجلا من الأنصار نظر إلى رجل يستعلن بالسّحر، فقال: أو إن السّحر ليعلن به في دين محمد! فقتله؛ فأتي به الوليد بن عقبة فحبسه؛ فقال له دينار بن دينار: فيم حبست؟ فأخبره فخلّي سبيله؛ فأرسل/الوليد إلى دينار فقتله.

جندب بن كعب الأسدي و شيء من سيرته:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا موسى بن إسماعيل قال حدّثنا حمّاد بن سلمة قال حدّثنا أبو عمران الجونيّ:

أنّ ساحرا كان عند الوليد بن عقبة، فجعل يدخل في جوف بقرة و يخرج منه؛ فرآه جندب، فذهب إلى بيته فاشتمل على سيف، فلما دخل الساحر في جوف البقرة، قال: أ تأتون السّحر و أنتم تبصرون، ثم ضرب وسط البقرة فقطعها و قطع الساحر في البقرة فانذعر(1) الناس، فسجنه الوليد و كتب بذلك إلى عثمان رضي اللّه عنه؛ و كان [السجّان](2) يفتح له الباب بالليل فيذهب إلى أهله فإذا أصبح دخل السجن.

أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا حجّاج بن نصير قال حدّثنا قرّة(3) عن محمد بن سيرين قال:

انطلق بجندب بن كعب إلى سجن خارج من الكوفة و على السجن رجل نصرانيّ، فلما رأى جندب بن كعب يصوم النهار و يقوم الليل، قال النّصرانيّ: و اللّه إنّ قوما هذا شرّهم لقوم صدق؛ فوكّل بالسجن رجلا و دخل الكوفة فسأل عن أفضل أهل الكوفة، فقالوا: الأشعث بن قيس؛ فاستضافه، فجعل يرى أبا محمد ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه؛ فخرج من عنده فسأل: أيّ أهل الكوفة أفضل؟ فقالوا: جرير بن عبد اللّه؛ فوجده ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه، فاستقبل القبلة ثم قال: ربّي ربّ جندب و ديني على دين جندب، و أسلم.

حدّثني عمي الحسن بن محمد قال حدّثنا الخزّاز(4) عن المدائنيّ عن عليّ بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن الزّهريّ و غيره، قالوا:

/لما انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من غزوة بني المصطلق، نزل رجل فساق بالقوم و رجز، ثم نزل آخر فساق بالقوم و رجز، ثم بدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يواسي أصحابه، فنزل فجعل يقول(5): «جندب و ما جندب و الأقطع(6) الخير زيد»؛ فدنا منه أصحابه و قالوا: يا رسول اللّه ما ينفعنا مشيك مخافة أن تلسعك دابّة الأرض أو تصيبك نكبة؛ فركب و دنوا منه فقالوا: لقد قلت قولا ما ندري ما هو؟ قال: «و ما ذاك»؟: قالوا: قولك «جندب و ما جندب و الأقطع الخير زيد»؛ فقال: «رجلان يكونان في هذه الأمّة يضرب أحدهما ضربة يفرق بين الحق و الباطل و تقطع يد الآخر في سبيل اللّه فيتبع اللّه آخر جسده بأوّله»؛ فكان زيد بن صوحان، قطعت يده يوم جلولاء(7) و قتل يوم الجمل مع عليّ. و أما

ص: 98


1- في ح، ط، ء: «فابذعرّ». و ابذعرّ الناس: تفرقوا.
2- زيادة عن س.
3- هو قرة بن خالد السدوسي. (راجع «تهذيب التهذيب» في اسم قرة و حجاج بن نصير).
4- هو أحمد بن الحارث الخزاز الذي تقدّم ذكره كثيرا في «رجال السند».
5- في س: «و جعل يقول رجزا و جعل يقول إلخ».
6- الأقطع: المقطوع اليد.
7- جلولاء: اسم لبليدة و نهر عليه عدّة قرى من سواد بغداد، في طريق خراسان من بغداد. و هناك كانت وقعة جلولاء المشهورة التي كانت للمسلمين على الفرس، و بين جلولاء و بين مدينة خانقين سبعة فراسخ.

جندب فإنه رجل دخل على الوليد بن عقبة و عنده ساحر يكنى أبا شيبان يأخذ أعين الناس فيخرج مصارين بطنه ثم يعيدها فيه؛ فجاء من خلفه فقتله، و قال:

العن وليدا و أبا شيبان *** و ابن حبيش راكب الشّيطان

رسول فرعون إلى هامان

ولاية سعيد بن العاص الكوفة بعد الوليد بن عقبة:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إبراهيم بن المنذر الحزاميّ(1) قال حدّثني ابن وهب(2) عن يونس عن الزّهريّ قال:

/نزع عثمان بن عفّان الوليد بن عقبة عن الكوفة و أمّر عليها سعيد بن العاص. قال أبو زيد: فحدّثني عبد اللّه بن عبد الرحمن قال حدّثنا سعيد بن جامع الهجيميّ قال:

لما أقبل سعيد من المدينة عامدا للكوفة بعد/ما خرج واليا لعثمان جعل يرتجز في طريقه:

ويل نسيّات(3) العراق منّي *** كأنني سمعمع(4) من جنّ

أخبرني أحمد قال حدّثني عمر قال حدّثني المدائنيّ عن أبي علقمة عن سعيد بن أشوع(5) قال قال عديّ بن حاتم:

قدم سعيد بن العاص الكوفة فقال: اغسلوا هذا المنبر، فإن الوليد كان رجسا نجسا؛ فلم يصعده حتى غسل، عيبا على الوليد. و كان الوليد أسنّ منه و أسخى نفسا و ألين جانبا و أرضى عندهم، فقال بعض شعرائهم:

يا ويلنا قد ذهب الوليد *** و جاءنا من بعده سعيد

ينقص في الصّاع و لا يزيد

و قال آخر:

فررت من الوليد إلى سعيد *** كأهل الحجر(6) إذ جزعوا فباروا

يلينا من قريش كلّ عام *** أمير محدث أو مستشار

لنا نار تحرّقنا(7) فنخشى *** و ليس لهم فلا يخشون نار

ص: 99


1- قد ورد هذا الاسم في جميع الأصول مضطربا و الصواب ما أثبتناه. راجع «تهذيب التهذيب» في اسم إبراهيم بن المنذر، و عبد اللّه بن وهب.
2- هو عبد اللّه بن وهب بن مسلم القرشي شيخ إبراهيم بن المنذر و أحد الذين يروون عن يونس بن يزيد. و قد ذكر في جميع الأصول: «أبو وهب» و هو تحريف. (راجع «التهذيب» في ترجمة إبراهيم بن المنذر، و عبد اللّه بن وهب، و يونس بن يزيد).
3- في م: «ويل لشبان».
4- السمعمع: السريع الخفيف و الخبيث اللبق.
5- كذا في ح، و هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي القاضي. و في سائر الأصول: «سعيد بن أسرع» و هو تحريف. (راجع «القاموس» و «شرحه» مادة شوع و «تهذيب التهذيب» في سعيد بن أشوع).
6- الحجر: اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة و الشام. (راجع «معجم ياقوت» ح 2 ص 208).
7- في ح: «تخوفها».
زيارة الوليد الكوفة بعد عزله و ما حصل بيته و بين أهلها:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر قال حدّثنا المدائنيّ قال:

قدم الوليد بن عقبة الكوفة زائرا للمغيرة بن شعبة، فأتاه أشراف أهل الكوفة يسلّمون عليه، فقالوا: و اللّه ما رأينا بعدك مثلك؛ فقال: أخيرا أم شرّا؟ فقالوا: بل خيرا؛ قال: و لكنّي و اللّه ما رأيت بعدكم شرّا منكم؛ فأعادوا الثناء عليه؛ فقال: بعض ما تثنون به، فو اللّه إن بغضكم لتلف، و إن حبّكم لصلف.

ما حصل بينه و بين قبيصة بن جابر بحضرة معاوية:

قال أبو زيد: و ذكروا أن قبيصة بن جابر كان ممن كثّر(1) على الوليد؛ فقال معاوية يوما و الوليد و قبيصة عنده:

يا قبيصة، ما كان شأنك و شأن الوليد؟ فقال: خيرا يا أمير المؤمنين، في أوّل وصل الرّحم و أحسن الكلام فلا تسألنّ عن الشكر و حسن الثناء، ثم غضب على الناس و غضبوا عليه و كنّا منهم، فإمّا ظالمون فنستغفر اللّه، و إمّا مظلومون فغفر اللّه له، و خذ في غير هذا يا أمير المؤمنين، فإنّ الحديث ينسي القديم؛ قال: و لم؟ فو اللّه لقد أحسن السّيرة و بسط الخير و كفّ الشرّ؛ قال: فأنت أقدر على ذلك يا أمير المؤمنين منه فافعل؛ قال: اسكت لا سكتّ، فسكت و سكت القوم؛ فقال له: مالك لا تتحدّث؟ قال: نهيتني عما كنت أحبّ فسكتّ عما أكره.

دفن هو و أبو زبيد في موضع واحد و شعر أشجع السلميّ في ذلك:

أخبرني أحمد قال حدّثني عمر قال حدّثني المدائنيّ قال:

مات الوليد بن عقبة فويق الرّقّة، و مات أبو زبيد، فدفنا جميعا في موضع واحد. فقال في ذلك أشجع السّلميّ و قد مرّ بقبريهما:

مررت على عظام أبي زبيد *** و قد لاحت ببلقعة صلود(2)

و كان له الوليد نديم صدق *** فنادم قبره قبر الوليد

/و ما أدري بمن تبدا المنايا *** بأحمد(3) أو بأشجع أو يزيد

خرج غازيا للروم و قال شعرا:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن ابن الكلبيّ عن أبيه قال:

خرج الوليد بن عقبة غازيا للرّوم و على مقدّمته عتبة بن فرقد، فلقيه الروم فقاتلوه؛ فقال له رجل من العرب نصرانيّ: لست على دينكم و لكنّي أنصحكم للنّسب، فالقوم مقاتلوكم إلى نصف/النهار، فإن رأوكم ضعفاء أفنوكم

ص: 100


1- أي أكثر القول في عيبه و التشنيع عليه.
2- البلقع و البلقعة: الأرض القفر. و الصلود من الأرض: الغليظة الصلبة التي لا تنبت شيئا.
3- كذا ورد فيما سيأتي في نسب أشجع و أخباره في الجزء السابع عشر من «الأغاني» طبع بولاق. و أحمد و يزيد هما أخوا أشجع، و قد ماتوا جميعا كما رتبوا في هذا الشعر، أوّلهم أحمد ثم أشجع ثم يزيد. و أحمد هذا كما قال الصولي: «شاعر قليل المدح للناس، يتغزل في شعره و يذهب مذهب ابن أبي أمية، و كان أسنّ من أشجع». و في جميع الأصول هنا: «بحمزة» موضع «بأحمد».

و إن صبرتم هربوا و تركوكم؛ فقال سلمان(1) بن ربيعة: يا معشر المسلمين، ما عذركم عند اللّه غدا إن أصيب عتبة بن فرقد و أصحابه و لم يعنهم أحد منكم!؛ فركب معه ثلاثة آلاف رجل على البغال يجنبون(2) الخيل، فلحقوا عتبة و أصحابه، فقاتلوا معهم قتالا شديدا حتى هزم اللّه الروم. فقال الوليد بن عقبة:

أتاني من الفجّ(3) الذي كنت آمنا *** بقيّة شذّاذ(4) من الخيل ظلّع(5)

عليها العبيد يضربون جنوبها *** و نازل منّا كلّ خرق سميذع(6)

فإنّي زعيم أن تصيح نساؤهم *** صياح دجاج القرية المتوزّع(7)

مدحه الحطيئة و كذبه الحليس النهديّ:

و قال الحطيئة يمدح الوليد بذلك، و كان قد وصله و كان الوليد جوادا:

أرى(8) لابن أروى خلّتين اصطفاهما *** قتال إذا يلقى العدوّ و نائله

فتى يملأ الشّيزى(9) و يروى بكفّه *** سنان الرّدينيّ الأصمّ و عامله(10)

يؤمّ العدوّ حيث كان بجحفل *** يصمّ السميع حرسه و صواهله

إذا حان منه منزل الليل أوقدت *** لأخراه في أعلى اليفاع(11) أوائله

نفيت(12) الجعاد(13) البيض عن حرّ دارهم *** فلم يبق إلا حيّة أنت قاتله

ص: 101


1- كذا في ط، ء: و هو سلمان بن ربيعة الباهلي. و في سائر الأصول: «سليمان»، و هو تحريف. (راجع الطبري قسم 1 ص 2805، و «المعارف» لابن قتيبة ص 221).
2- جنب الدابة: قادها إلى جنبه.
3- الفج: الطريق الواسع بين جبلين و هو أوسع من الشعب.
4- الشذاذ: القلال و المتفرّقون.
5- ظلع: جمع ظالع و هو الذي في مشيته غمز يشبه العرج.
6- الخرق من الفتيان: الظريف في سماحة و نجدة. و السميذع: السيد الكريم الموطأ الأكناف.
7- المتوزع: المتفرق.
8- ورد هذا البيت في ديوانه المخطوط رواية أبي سعيد السكري المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 3 أدب ش و ديوانه المطبوع بأوروبا المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 1189 أدب هكذا: «أبي لابن أروى خلتان...». و ورد فيهما عقب هذا البيت ما نصه: «أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس و هي أم عثمان بن عفان رحمه اللّه تعالى و أمها أم حكيم بنت عبد المطلب البيضاء توأمة عبد اللّه أبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و كان يقال لها: الحصان لا تكلم و الصناع لا تعلم».
9- الشيزى: خشب أسود تعمل منه القصاع، و يطلق على ما صنع من ذلك فيقال للجفان: شيزى. و قد ورد في ديوانه المخطوط و المطبوع ما نصه: «قال الأصمعيّ: كان يرى أنها من شيز لسوادها و إنما هي جوز قد اسودّت من الدسم».
10- الردينيّ: الرمح نسبة إلى ردينة، و هي امرأة رجل اسمه سمهر كان يبيع الرماح بالخط (موضع) فإذا غاب باعت ردينة مكانه، و كانا يثقفان الرماح، فالردينية منسوبة إلى ردينة، و السمهرية منسوبة إلى سمهر. و عامل الرمح: صدره.
11- اليفاع كسحاب: التل.
12- رواية البيت في ديوانه المخطوط و المطبوع هكذا: نفيت الجعاد الغر من عقر دارهم
13- الجعاد: جمع جعد، يقال: رجل جعد القفا إذا كان لئيم الحسب، و يقال: الجعد: البخيل و الكريم أيضا فهو من أسماء الأضداد، و يريد بالجعاد البيض: الروم.

فقال الحليس بن نعيم النّهديّ يكذّب الحطيئة:

و أبلغ أبا وهب إذا ما لقيته *** فقد حاربتك الروم فيمن تحارب

و في الأرض حيّات و أسد كثيرة *** عدوّ و لكنّ الحطيئة كاذب

بعض شعره في مقتل عثمان لما أخذ عليّ أموال الخلافة من بيته:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عليّ بن محمد عن أبي مخنف عن خالد بن قطن عن أبيه قال:

لمّا قتل عثمان أرسل عليّ فأخذ كلّ ما كان في داره من السلاح و إبلا من إبل الصدقة، فلذلك قال الوليد بن عقبة:

بني هاشم ردّوا سلاح ابن أختكم *** و لا تنهبوه لا تحلّ مناهبه

و يروى:

و لا تهبوه لا تحلّ مواهبه

بني هاشم كيف الهوادة بيننا

و عند عليّ سيفه و نجائبه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه

كما فعلت يوما بكسرى مرازبه

هكذا في الخبر:

و لا تهبوه لا تحلّ مواهبه

أخبزه بجاد مولى عثمان بمقتل عثمان فقال شعرا:
اشارة

أخبرني الطّوسيّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد اللّه بن إسحاق الجعفريّ:

أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط لقي بجادا مولى عثمان، فأخبره أنّ عثمان قد قتل؛ فقال:

ليت أنّي هلكت قبل حديث *** سلّ جسمي و ريع منه فؤادي

يوم لاقيت بالبلاط(1) بجادا *** ليت أنّي هلكت قبل بجاد

/و قد زيد في هذا الشعر بيت و نقص منه آخر مكانه و غنّي فيه، و هو:

صوت

طال ليلي و ملّني عوّادي *** و تجافى عن الضلوع مهادي

/من حديث نمي إليّ فما ير *** قأ دمعي و لا أحسّ رقادي

يوم لاقيت بالبلاط بجادا *** ليت أنّي هلكت قبل بجاد

و بنفسي التي أحبّ و أهلي *** و بمالي و طارفي و تلادي

ص: 102


1- البلاط: موضع بالمدينة مبلط بالحجارة بين مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و بين سوق المدينة.

قلت لا تغضبي فذلك قولي *** بلساني و ما يجنّ فؤادي

غنّى فيه ابن عبّاد ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر في الأوّل و الرابع من الأبيات، و ذكر عمرو بن بانة أنه لابن محرز، و من الناس من ينسبه إلى ابن سريج في هذه الطريقة في الأوّل و الثاني، و ذكر ابن المكّيّ أنه للغريض ثاني قيل بالخنصر في مجرى البنصر، و وافقه يونس. و ذكر أنّ في هذا الشعر لابن سريج و الغريض لحنين في الخمسة الأبيات. و ذكر حبش أنّ فيها لمعبد ثقيلا أوّل بالوسطى، و لعبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ ثاني قيل بالوسطى، و للغريض خفيف رمل بالوسطى، و لسليم ثقيل أوّل بالوسطى. و ذكر أحمد بن عبيد أن فيه رملا لابن جامع في البيت الأوّل وحده، و أنّ فيه هزجا لا يعرف صانعه.

غنت جارية للأمين من شعره فتطير:

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني أبي قال:

أرسل إليّ محمد بن زبيدة في ليلة من ليالي الصيف مقمرة: يا عم إنّ الجرب بيني و بين طاهر بن الحسين قد سكنت، فصر إليّ، فإني إليك مشتاق؛ فجئته/و قد بسط له على سطح زبيدة، و عنده سليمان بن جعفر عليه كساء روذباريّ(1) و قلنسوة طويلة، و جواريه بين يديه، و ضعف» جاريته عنده، فقال لها: غنّيني فقد سررت بعمومتي؛ فاندفعت تغنّيه:

هم قتلوه كي يكونوا مكانه *** كما فعلت يوما بكسرى مرازبه

بني هاشم كيف التواصل بيننا *** و عند أخيه سيفه و نجائبه

هكذا غنّت؛ و إنما هو:

و عند عليّ سيفه و نجائبه

فغضب و تطيّر و قال لها: ما قصّتك ويحك! انثنى و انتهى و غنّيني ما يسرّني! فاندفعت و غنّت:

هذا مقام مطرد *** هدمت منازله و دوره

فازداد تطيّرا، ثم قال لها: ويحك! انتهى، غنّيني غير هذا، فغنّت:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** و أيسر جرما منك ضرّج بالدّم

فقال لها: قومي إلى لعنة اللّه! فوثبت و كان بين يديه قدح بلّور و كان لحبّه إيّاه سمّاه باسمه محمدا، فأصابه طرف ذيلها فسقط على بعض الصواني فانكسر و تفتّت؛ فأقبل عليّ و قال: أرى و اللّه يا عمّ أن هذا آخر أيامنا؛ فقلت:

كلا! بل يبقيك اللّه يا أمير المؤمنين و يسرّك؛ قال: و دجلة و اللّه يا بنيّ هادئة ما فيها صوت مجداف و لا أحد يتحرّك و هي كالطّست هادئة، فسمعت هاتفا يهتف: «قضي الأمر الّذي فيه تستفتيان». قال: فقال لي: أسمعت ما سمعت يا عمّ؟ فقلت: و ما هو؟ و قد و اللّه سمعته - فقال: الصوت الذي جاء الساعة من دجلة؛ فقلت: ما سمعت شيئا، /و ما هذا إلاّ توهّم؛ فإذا الصوت قد عاد يقول: «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان». فقال: انصرف يا عمّ بيّتك اللّه بخير، فمحال ألاّ تكون الآن قد سمعت ما سمعت؛ فانصرفت، و كان/آخر العهد به.

ص: 103


1- روذباري: نسبة إلى روذبار و هو اسم يطلق على مواضع كثيرة في أصبهان و بغداد و غيرهما.
وفد على معاوية فخدعه عن مال له ثم استجدى معاوية فوبخه و شعره في ذلك وصلة معاوية له:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و محمد بن يحيى الصّوليّ و اللفظ له، قالا حدّثنا محمد بن زكريا الغلابيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن الضّحّاك عن هشام بن محمد عن أبيه، قال محمد: و حدّثنا عبد اللّه(1) بن محمد و محمد بن عبد الرحمن جميعا عن مطرّف بن عبد اللّه عن عيسى بن يزيد، قال:

وفد الوليد بن عقبة، و كان جوادا، على معاوية؛ فقيل له: هذا الوليد بن عقبة بالباب؛ فقال: و اللّه ليرجعنّ(2)معطيا غير معطى، فإنه الآن قد أتانا يقول: عليّ دين و عليّ كذا و كذا؛ يا غلام ائذن له، فأذن له؛ فسأله و تحدّث معه، ثم قال: أما و اللّه إن كنّا لنحبّ إيثار(3) مالك بالوادي و قد أعجب أمير المؤمنين، فإن رأيت أن تهبه ليزيد فعلت؛ فقال الوليد: هو ليزيد، ثم خرج و جعل يختلف إلى معاوية أياما، فقال له يوما: انظر يا أمير المؤمنين في شأني، فإنّ عليّ مئونة و قد أرهقني دين؛ فقال له معاوية: أ لا تستحي لحسبك و نسبك! تأخذ ما تأخذ فتبذّره ثم لا تنفكّ تشكو دينا!؛ فقال له الوليد: أفعل، ثم انطلق مكانه(4) فصار إلى الجزيرة، فقال:

فإذا سئلت تقول لا *** و إذا سألت تقول هات

تأبى فعال الخير لا *** تروي و أنت على الفرات

أ فلا تميل إلى نعم *** أو ترك لا حتى الممات

/قال: فبلغ معاوية مقدمه الجزيرة، فخافه و كتب إليه: أن أقبل إليّ؛ فكتب إليه:

أعفّ و أستحيي(5) كما قد أمرتني *** فأعط سواي ما بدا لك و انحل

سأحدو ركابي عنك إنّ عزيمتي *** إذا نابني أمر كسلّة منصل(6)

و إني امرؤ للرأي منّي تطرّف *** و ليس شبا قفل عليّ بمقفل

و رحل إلى الحجاز، فبعث إليه معاوية بجائزة.

[انقضت أخبار الوليد بن عقبة](7).

صوت من المائة المختارة

ربما نبّهني الإخ *** وان و الليل بهيم

حين غارت و تدلّت *** في مهاويها النجوم

ص: 104


1- في ح: «عبيد اللّه».
2- في م: «مغيظا».
3- في ط، ء، م: «إتيان».
4- يريد أنه انطلق من فوره.
5- كذا في ح، م. و في باقي الأصول: «و أستغني».
6- المنصل (بضمتين و كمكرم): السيف.
7- زيادة عن م.

و نعاس الليل في عي *** نيّ كالثّاوي مقيم

للّتي تعصر لمّا *** أينعت منها الكروم

أنا بالرّيّ مقيم *** في قرى الرّيّ أهيم

ما أراني عن قرى ال *** رّيّ مدى دهري أريم

الشعر و الغناء لإبراهيم الموصليّ. و لحنه المختار ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.

و لإبراهيم أيضا فيه خفيف ثقيل، و قيل: إنه لابنه إسحاق. و فيه لأحمد بن يحيى المكيّ ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ و أحمد بن عبيد.

ص: 105

7 - نسب إبراهيم الموصليّ و أخباره

نسب إبراهيم الموصليّ و نشأته:

هو - فيما أخبرنا به يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم عن حمّاد عن أبيه، و أخبرني به عبد اللّه بن الرّبيع عن وسواسة، و هو أحمد(1) بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصليّ عن أبيه عن جدّه و عن حمّاد عن أبيه - إبراهيم بن ميمون أو ابن ماهان بن بهمن(2) بن نسك، و كان سبب نسبه إلى ميمون أنه كتب إلى صديق له فعنون كتابه: من إبراهيم بن ماهان؛ فقال له بعض فتيان الكوفة: أ ما تستحي من هذا الاسم! فقال: هو اسم أبي؛ فقال:

غيّره؛ فقال: و كيف أغير! فأخذ الكتاب فمحا ماهان و كتب ميمون، فبقي إبراهيم بن ميمون.

قال إسحاق عن أبيه: و أصلنا من فارس، و لنا بيت شريف في العجم، و كان جدّنا ميمون هرب من جور بعض عمّال بني/أميّة، فنزل بالكوفة في بني عبد اللّه بن دارم، فكان بين إبراهيم و بين ولد نضلة بن نعيم رضاع. و أمّ إبراهيم امرأة من بنات الدّهاقين(3) الذين هربوا من فارس لما هرب ميمون أبو إبراهيم، فنزلوا جميعا بالكوفة في بني عبد اللّه بن دارم، فتزوّجها ماهان(4) بالكوفة فولدت إبراهيم و مات/في الطاعون(5) الجارف، و خلّف إبراهيم طفلا.

و كان مولد إبراهيم سنة خمس و عشرين و مائة بالكوفة، و توفّي ببغداد سنة ثمان و ثمانين و مائة، و له ثلاث و ستون سنة.

مات أبوه و هو صغير فكفله آل خزيمة بن خازم:

قال أحمد(6) بن أحمد بن إسماعيل وسواسة في خبره: و مات ماهان و خلّف إبراهيم طفلا، فكفله آل خزيمة بن خازم.

ص: 106


1- كذا ورد هذا الاسم في جميع النسخ هنا و سيرد فيما سيأتي في الصفحة التالية مضطربا فقد ورد في ب، س: «أحمد بن أحمد بن إسماعيل» و في ط: «محمد بن أحمد بن إسماعيل» و في ح: «أحمد بن إسماعيل وسوامة» و في م: «محمد بن إسماعيل وسوامة».
2- في م: «بهتر».
3- الدهاقين: جمع دهقان، و هو زعيم فلاحي العجم، و قيل: رئيس الإقليم.
4- هو الذي يعرف بميمون كما تقدّم.
5- المعروف في كتب التاريخ أن الطاعون الجارف وقع بالبصرة في سنة تسع و ستين هجرية، و هو سابع طاعون في الإسلام، فإن الأوّل كان على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و الثاني طاعون عمواس في عهد عمر رضي اللّه عنه، و الثالث بالكوفة في زمن أبي موسى الأشعري، و الرابع بالكوفة أيضا في زمن المغيرة بن شعبة، و الخامس الطاعون الذي مات فيه زياد، ثم الطاعون بمصر في سنة ست و ستين، ثم الطاعون الجارف في سنة تسع و ستين، و الطاعون الثامن بالشأم في سنة تسع و سبعين، ثم الطاعون التاسع و هو طاعون القينات في سنة ست و ثمانين، و سمي بذلك لأنه بدأ في النساء و كان بالشأم و واسط و البصرة، ثم طاعون غراب بالشأم في سنة سبع و عشرين و مائة (انظر «النجوم الزاهرة» ج 1 ص 140، 199، 209، 212، 304 طبع دار الكتب المصرية). و لعل المؤلف يريد بالجارف وصف طاعون وقع بالكوفة بعد سنة خمس و عشرين و مائة (التي ولد فيها إبراهيم الموصلي) بسنتين أو ثلاث.
6- انظر الحاشية رقم 1 في الصفحة السابقة من هذا الجزء.

و قال يحيى بن عليّ في خبره: إنه كان لإبراهيم لما مات أبوه سنتان أو ثلاث، و خلّف معه أخوين له من غير أمّه أكبر منه، فأقام إبراهيم مع أمّه و أخواله حتى ترعرع، فكان مع ولد خزيمة بن خازم في الكتّاب(1)، فبهذا السبب صار ولاؤه لبني تميم. و سأله الرشيد فقال: ما السبب بينك و بين بني تميم؟ فاقتصّ عليه قصّته، /و قال: ربّونا يا أمير المؤمنين فأحسنوا تربيتنا، و نشأت فيهم و كان بيننا و ضاع، فتولّونا بهذا السبب؛ فقال له الرشيد: ويحك! فما أراك إذا إلاّ مولاي؛ فقال: فهذه و اللّه قصّتي يا أمير المؤمنين.

ما قيل في سبب نسبته إلى الموصل:

قال يحيى بن عليّ في خبره: و كان سبب قولهم إبراهيم الموصليّ أنه لما نشأ و اشتدّ(2) و أدرك، صحب الفتيان و اشتهى الغناء طلبه، و اشتدّ أخواله عليه في ذلك و بلغوا(3) منه، فهرب منهم إلى الموصل، فأقام بها نحوا من سنة، فلما رجع إلى الكوفة قال له إخوانه من الفتيان: مرحبا بالفتى الموصليّ، فلقّب به(4). و قال أحمد في خبره: إن سبب طلبه الغناء أنه خرج إلى الموصل، فصحب جماعة من الصعاليك كانوا يصيبون الطريق و يصيبه معهم، و يجمعون ما يفيدونه فيقصفون(5) و يشربون و يغنّون، فتعلّم منهم شيئا من الغناء و شدا، فكان أطيبهم و أحذقهم، فلمّا أحسّ بذلك من نفسه اشتهى الغناء و طلبه و سافر إلى المواضع البعيدة فيه. و ذكر ابن خرداذبه(6)

ص: 107


1- قال الجوهري في «الصحاح»: «الكتاب و المكتب واحد و جمعه كتاتيب». و نقل صاحب «اللسان» هذا القول ثم نقل عن المبرد قوله: إن من جعل الموضع الكتاب فقد أخطأ، و قال: المكتب: موضع التعليم و الكتاب: الصبيان. و ذكر شارح «القاموس» عن شرح الشفاء أن استعمال الكتاب للمكتب وارد في كلامهم و أنه استفاض بهذا المعنى كقوله: و أتى بكتاب لو انبسطت يدي فيهم رددتهم إلى الكتاب (انظر «الصحاح» و «الأساس» و «اللسان» و «القاموس» و «شرحه» مادة كتب).
2- اشتد: قوي و هذه الكلمة مثبتة في م، س و ساقطة من باقي النسخ.
3- أي استقصوا في إيذائه و تعنيفه.
4- في ط، م، ء: «فلجت عليه»، يريد: لصقت به و غلبت عليه.
5- يقصفون: يرقصون و يلعبون. و في «القاموس» و «شرحه»: «و أما القصف من اللهو و اللعب فغير عربيّ. و نص «الصحاح» يقال: إنها مولدة. و قال ابن دريد في الجمهرة: فأما القصف من اللهو فلا أحسبه عربيا صحيحا، و هكذا نقله الصاغاني. و يقال: هو الجلبة و الإعلان باللهو. و في الأساس: هو الرقص مع الجلبة... إلخ».
6- يلاحظ أن المؤلف وصف ابن خرداذبه بهذه العبارة في غير موضع من كتابه، مع أن ابن النديم ذكر ابن خرداذبه و مؤلفاته في كتابه «الفهرست» (ص 149 طبع أوروبا) و لم يتهمه أو يصفه بقلة التحصيل و ضعف الرواية و خصوصا كتابه: «المسالك و الممالك» المطبوع بمدينة ليدن سنة 1306 ه فإنه معدود من المصادر القيمة التي يعوّل عليها و يوثق بها. و قد اعتمد عليه في النقل ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان». و وصفه المسعودي المؤرّخ المشهور - و هو من معاصري ابن خرداذبه و أبي الفرج - في مقدمة كتابه «التنبيه و الإشراف» (ص 75 طبع مدينة ليدن) بقوله: «... و أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه بن خرداذبه في كتاب المعروف «بالمسالك و الممالك»، و هو أعم هذه الكتب شهرة في خواص الناس و عوامهم في وقتنا هذا». و لعل سبب هذه الخصومة التي حملت أبا الفرج على أن يتحامل على ابن خرداذبه هو المنافسة و المعاصرة. و قد وصف المسعودي المنافسة و الحسد بين المعاصرين في مقدّمة كتابه «التنبيه و الإشراف» (ص 76، 77) بقوله: «على أن من شيم كثير من الناس الإطراء للمتقدّمين و تعظيم كتب السالفين، و مدح الماضي و ذم الباقي، و إن كان في كتب المحدثين ما هو أعظم فائدة و أكثر عائدة. و قد ذكر أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: أنه كان يؤلف الكتاب الكثير المعاني الحسن النظم، فينسبه إلى نفسه فلا يرى الأسماع تصغي إليه، و لا الإرادات تيمم نحوه؛ ثم يؤلف ما هو أنقص منه مرتبة و أقل فائدة، ثم ينحله عبد اللّه ابن المقفع أو سهل بن هارون أو غيرهما من المتقدّمين و من قد طارت أسماؤهم في المصنفين، فيقبلون على كتبها و يسارعون إلى نسخها، لا لشيء إلا لنسبتها إلى المتقدّمين، و لما يداخل أهل هذا العصر من حسد من هو في عصرهم و منافسته على المناقب التي يخص بها و يعني بتشييدها. و هذه طائفة لا يعبأ بها كبار الناس، و إنما العمل على ذوي النظر و التأمل الذين أعطوا كل شيء حقه من العدل، و وفوه قسطه من الحق،

- و هو قليل التحصيل لما يقوله و يضمّنه كتبه - أن سبب نسبته إلى الموصل أنه كان إذا سكر، كثيرا ما يغنّي على سبيل الولع:

/

أ ناجت من طرق موصل *** أحمل قلل خمريا(1)

من شارب الملوك فلا *** بدّ من سكريا

و ما سمعت بهذه الحكاية إلا عنه؛ و إنما ذكرتها على غثاثتها لشهرتها عند الناس، و أنها عندهم كالصحيح من الرواية في نسبة إبراهيم إلى الموصل، فذكرته دالاّ على عواره.

أخبرني الحسين بن يحيى المرداسيّ و ابن أبي الأزهر قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: أسلم أبي إلى الكتّاب فكان لا يتعلّم شيئا، و لا يزال يضرب و يحبس و لا ينجع ذلك فيه، فهرب إلى الموصل و هناك تعلّم الغناء، ثم صار إلى الرّي و تعلّم بها أيضا، و مهر و تزوّج هناك امرأته دوشار - و تفسير هذا الاسم أسدان(2) - /و طال مقامه هناك، و أخذ الغناء الفارسيّ و العربيّ، و تزوّج بها أيضا شاهك أمّ إسحاق ابنه و سائر ولده. قال: و في دوشار هذه يقول إبراهيم، و له فيه غناء من الهزج:

دوشار يا سيّدتي *** يا غايتي و منيتي

و يا سروري من جمي *** ع الناس ردّي سنتي

أوّل مال وصله على الغناء من خادم لأبي جعفر، أنفقه في تعلم صنعة الغناء:

قال إسحاق و حدّثني أبي قال: أوّل شيء أعطيته بالغناء أنّي كنت بالرّيّ أنادم أهلها بالسّويّة لا أرزؤهم شيئا، و لا أنفق إلا من بقيّة مال كان معي انصرفت به من الموصل؛ فمرّ بنا خادم أنفذه أبو جعفر المنصور إلى بعض عمّاله برسالة، فسمعني عند رجل من أهل الرّيّ، فشغف بي و خلع عليّ دوّاج سمّور(3)، له قيمة، و مضى بالرسالة و رجع و قد وصله العامل بسبعة آلاف درهم و كساه كسوة كثيرة، فجاءني إلى منزلي الذي كنت أسكنه فأقام عندي ثلاثة أيام، و وهب لي نصف الكسوة التي معه و ألفي درهم، فكان ذلك أوّل ما اكتسبته بالغناء، فقلت: و اللّه لا أنفق هذه الدراهم إلا على الصناعة التي أفادتنيها، و وصف لي رجل بالأبلّة(4) يقال له جوانويه(5) كان حاذقا، فخرجت إليه و صحبت فتيانها، فأخذت عنهم و غنّيتهم فشغفوا بي.

قصته مع جوانويه الذي أراد أن يتعلم منه ثم سبب اتصاله بالمهدي:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن جدّه قال:

ص: 108


1- لعل هذا الشعر من لغة العامة في ذلك العهد ك «الأغاني» التي يتغنى بها العامة الآن.
2- الأسد بالفارسية: «شر». و لعل «شار» لغة أو لهجة في هذه اللفظة. و «دو» بمعنى اثنين.
3- دوّاج سمور: ضرب من الثياب يتخذ من جلد حيوان يشبه السنور و هي فراء ثمينة تتخذ للينها و خفتها و إدفائها و حسنها. و في س: «دراج سمور» بالراء، و هو تحريف.
4- الأبلة (بضم الهمزة و الباء الموحدة و تشديد اللام و فتحها): بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة، و هي أقدم من البصرة، لأن البصرة مصرت في أيام عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، و كانت الأبلة حينئذ مدينة فيها مسالح من قبل كسرى و قائد.
5- في م: «خولويه».

لما أتيت جوانويه لم أصادفه في منزله، فانتظرته حتى جاء، فلمّا رآني احتشمني و كان مجوسيّا، فأخبرته بصناعتي و الحال التي قصدته فيها؛ فرحّب بي و أفرد لي جناحا في داره، و وكّل بي أخته(1)، فقدّمت إليّ ما أحتاج إليه؛ فلما كان العشيّ عاد إلى منزله و معه جماعة من الفرس ممّن يغنّي، فنزلت إليه، فجلسنا في مجلس قد صفّى(2) لنا فيه نبيذ و أعدّت لنا فاكهة و رياحين، فجلسنا و أخذوا في شأنهم و ضربوا و غنّوا، فلم أجد عند أحد منهم فائدة؛ و بلغت النّوبة إليّ، فضربت و غنّيت، فقاموا كلّهم إليّ و قبّلوا رأسي، و قالوا: سخرت منّا، نحن إلى تعليمك و أمرني بملازمته؛ فقلت له: أيها الأمير، إن لست أتكسّب بالغناء و إنما ألتذّه فلذلك تعلّمته، و أريد العود إلى الكوفة، فلم أنتفع بذلك عنده و أخذني بملازمته، و سألني: من أين أنا؟ فانتسبت إلى الموصل، فلزمتني و عرفت بها؛ و لم أزل عنده أثيرا مكرّما حتى قدم عليه خادم من خدم المهديّ، فلما رآني عنده قال له: أمير المؤمنين أحوج إلى هذا منك، فدافعه عنّي؛ فلما قدم الرسول على المهديّ سأله عما رأى في طريقه و مقصده، فأخبره بذلك حتى انتهى إلى ذكري فوصفني له؛ فأمره المهديّ بالرجوع إلى محمد و إشخاصي إليه، ففعل ذلك و جاء فأشخصني إلى المهديّ، فحظيت عنده و قدّمني.

أوّل هاشميّ صحبه و أوّل خليفة سمعه:

قال وسواسة في خبره عن إسحاق فحدّثني أبي قال:

/كان أوّل هاشميّ صحبته(3) عليّ بن سليمان بن عليّ أخو جعفر و محمد، و كان فتاهم ظرفا و لهوا و سماحة، و وصفني له جوانويه و مضى بي إليه، فوقعت من قلبه كلّ موقع. و أوّل خليفة سمعني المهديّ، وصفت له فأخذني من عليّ بن سليمان، و ما سمع قبلي من المغنّين أحدا سوى فليح بن أبي العوراء و سياط، فإن الفضل بن الرّبيع وصلهما به.

نهاه المهدي عن الشرب و مصاحبة ابنيه موسى و هارون فلما أبى ضربه و حبسه:

قال إسحاق: فحدّثني أبي قال: كان المهديّ لا يشرب فأرادني على ملازمته و ترك الشرب فأبيت عليه، و كنت أغيب عنه الأيام، فإذا جئته جئته منتشيا، فغاظه ذلك منّي فضربني و حبسني، فحذقت الكتابة و القراءة في الحبس، ثم دعاني يوما فعاتبني على شربي في منازل الناس و التّبذّل معهم؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما تعلّمت/هذه الصناعة للذّتي و عشرتي لإخواني، و لو أمكنني تركها لتركتها و جميع ما أنا فيه للّه جلّ و عزّ؛ فغضب غضبا شديدا و قال: لا تدخل على موسى و هارون البتّة، فو اللّه لئن دخلت عليهما لأفعلنّ و لأصنعنّ؛ فقلت: نعم؛ ثم بلغه أني دخلت عليهما و شربت معهما، و كانا مستهترين بالنبيذ، فضربني ثلاثمائة سوط، و قيّدني و حبسني.

قال أحمد بن إسماعيل في خبره قال عمّي إسحاق فحدّثني أبي:

أنه كان معهما في نزهة لهما و معهم أبان الخادم، فسعى بهما و بي إلى المهديّ و حدّثه بما كنّا فيه، فدعاني

ص: 109


1- في م: «جارية».
2- في «مختار الأغاني» لابن منظور (ص 103 طبع مصر): «هيئ».
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «عيسى»، و هو تحريف. (راجع «المعارف» لابن قتيبة ص 190).

فسألني فأنكرت، فأمر بي فجرّدت فضربت ثلاثمائة و ستين سوطا؛ فقلت له و هو يضربني: إن جرمي ليس من الأجرام التي يحلّ لك بها سفك/دمي، و اللّه لو كان سرّ ابنيك تحت قدميّ ما رفعتهما عنه و لو قطعتا، و لو فعلت ذلك لكنت في حالة أبان السّاعي العبد؛ فلمّا قلت له هذا ضربني بالسيف في جفنه(1) فشجّني به، و سقطت مغشيّا عليّ ساعة، ثم فتحت عينيّ فوقعتا على عيني المهديّ، فرأيتهما عيني نادم؛ و قال لعبد اللّه بن مالك: خذه إليك.

قال: و قبل ذلك ما تناول عبد اللّه بن مالك السوط من يد سلاّم الأبرش فضربني، فكان ضرب عبد اللّه عندي بعد ضرب سلاّم عافية، ثم أخرجني عبد اللّه إلى داره و أنا أرى الدنيا في عيني صفراء و خضراء [و حمراء](2) من حرّ السّوط، و أمره أن يتّخذ لي شبيها بالقبر فيصيّرني فيه؛ فدعا عبد اللّه بكبش فذبح و سلخ و ألبسني جلده ليسكن الضرب، و دفعني إلى خادم له يقال له أبو عثمان سعيد التركيّ فصيّرني في ذلك القبر، و وكّل بي جارية له يقال لها جشّة(3)؛ فتأذّيت ينزّ كان في ذلك(4) القبر و بالبقّ، و كان فيه حليّ(5) أستريح إليه، فقلت لجشّة: اطلبي لي آجرّة عليها فحم و كندر(6) يذهب عنّي هذا البقّ، فأتتني بذلك، فلما دخّنت أظلم القبر عليّ و كادت نفسي تخرج من الغمّ، فاسترحت من أذاه إلى النّزّ فألصقت به أنفي حتى خفّ الدّخان، فلمّا ظننت أني قد استرحت ممّا كنت فيه، إذا حيّتان مقبلتان نحوي من شقّ القبر تدوران حولي بحفيف شديد، فهممت أن آخذ واحدة بيدي اليمنى و الأخرى بيدي /اليسرى فإمّا عليّ و إمّا لي، ثم كفيتهما، فدخلتا من الثّقب الذي خرجتا منه، فمكثت في ذلك القبر ما شاء اللّه، ثم أخرجت منه؛ و وجّهت إلى أبي عثمان الخادم أسأله أن يبيعني جشّة لأكافئها عمّا أولتني ففعل، فزوّجتها من حاجب لي، و لم تزل عندنا. قال إسحاق: مكثت عندنا حتى ماتت، و بقيت بنت لها يقال لها جمعة، فزوّجتها من مولى لي في سنة أربع و ثلاثين و مائتين.

قال إبراهيم: و قلت في الحبس [و أنا مقيّد](7):

ألا طال ليلي أراعي النجوم *** أعالج في السّاق كبلا ثقيلا

بدار الهوان و شرّ الديار *** أسام بها الخسف صبرا جميلا

كثيرا الأخلاّء عند الرّخاء *** فلمّا حبست أراهم قليلا

لطول بلائي ملّ الصديق *** فلا يأمننّ خليل خليلا

صنع و هو في الحبس لحنا في شعر أبي العتاهية:
اشارة

قال: ثم أخرجني المهديّ و أحلفني بالطّلاق و العتاق و كلّ يمين لا فسحة لي فيها ألاّ أدخل على ابنيه موسى

ص: 110


1- جفن السيف: غمده.
2- زيادة عن م.
3- في ح: «حسنة».
4- كذا في م، و هو قريب مما جاء في «مختار الأغاني» لابن منظور (ص 104 طبع مصر) فقد ذكر فيه: «فتأذيت بنتن كان في ذلك القبر و بالبق». و في سائر الأصول: «فتأذيت بنز عيسى باذ و بالبق في ذلك القبر». و عيسى باذ: محلة كانت بشرقي بغداد منسوبة إلى عيسى بن المهدي، و كانت إقطاعا له.
5- كذا في ط، ء. و الحليّ (وزان غني): يبيس ضرب من الكلأ يسمى النصيّ، و في سائر الأصول: «و كان فيه خلاء».
6- الكندر (بضم فسكون فضم): اللبان الذكر.
7- زيادة عن ح.

و هارون أبدا و لا أغنّيهما، و خلّى سبيلي. قال: و صنعت في الحبس لحنا(1)/في شعر أبي العتاهية لمّا حبسه المهديّ بسبب عتبة، و هو:

صوت

أيا ويح قلبي من نجيّ البلابل *** و يا ويح ساقي من قروح السّلاسل

و يا ويح نفسي ويحها ثم ويحها *** أ لم تنج يوما من شباك الحبائل

و يا ويح عيني قد أضرّ بها البكا *** فلم يغن عنها طبّ ما في المكاحل

ذريني أعلّل نفسي اليوم إنها *** رهينة رمس في ثرى و جنادل

ذريني أعلّل بالشّراب فقد أرى *** بقيّة عيشي هذه غير طائل

/الشعر لأبي العتاهية، و ذكر حمّاد أنه لجدّه إبراهيم. و الغناء لإبراهيم رمل بالوسطى في الثلاثة الأبيات الأوّل، و له في البيتين الأخيرين ثقيل أوّل بالوسطى.

طلبه الهادي لما ولي الخلافة و كان استتر منه برّا بيمينه للمهديّ:
اشارة

قال حمّاد: فلما ولي موسى الهادي الخلافة استتر جدّي منه و لم يظهر له بسبب الأيمان التي حلّفه بها المهديّ، فكانت منازلنا تكبس في كل وقت و أهلنا يروّعون بطلبه حتى أصابوه فمضوا به إليه، فلما عاينه قال:

يا سيّدي، فارقت أمّ ولدي و أعزّ خلق اللّه عليّ، ثم غنّاه لحنه في شعره:

صوت

يا ابن خير الملوك لا تتركنّي *** غرضا للعدوّ يرمي حيالي(2)

فلقد في هواك فارقت أهلي *** ثم عرّضت مهجتي للزوال

و لقد عفت في هواك حياتي *** و تغرّبت بين أهلي و مالي

الشّعر و الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى. قال إسحاق: فموّله(3) و اللّه الهادي و خوّله، و بحسبك أنه أخذ منه في يوم واحد مائة و خمسين ألف دينار(4)، و لو عاش لنا لبنينا حيطان دورنا بالذهب و الفضة.

ما وصل إليه من الأموال و ما تركه و شيء عن مروءته:

قال حمّاد قال لي أبي: نظرت إلى ما صار إلى جدك من الأموال و الغلاّت(5) و ثمن ما باع من جواريه، فوجدته أربعة و عشرين ألف ألف درهم سوى أرزاقه الجارية، و هي عشرة آلاف درهم في كلّ شهر، و سوى غلاّت

ص: 111


1- كذا في ح، م. و في سائر الأصول: «من شعر... إلخ».
2- كذا في ط، ء، م. و في سائر الأصول: «حبالى» بالباء، و هو تصحيف.
3- موّله و خوّله: أعطاه مالا و خولا.
4- في «مختار الأغاني»: «درهم».
5- في ط، ء، م: «و الصلات».

ضياعه، و سوى الصّلات النّزرة التي لم يحفظها؛ و لا و اللّه ما رأيت أكمل مروءة منه، كان له طعام/معدّ في كل وقت؛ فقلت لأبي: أ كان يمكنه ذلك؟ فقال: كان له في كل يوم ثلاث شياه: واحدة مقطّعة في القدور، و أخرى مسلوخة و معلّقة، و أخرى حيّة، فإذا أتاه قوم طعموا ما في القدور، فإذا فرغت قطّعت الشاة المعلّقة و نصبت القدور و ذبحت الحيّة فعلّقت و أتى بأخرى فجعلت و هي حيّة في المطبخ؛ و كانت وظيفته لطعامه و طيبه و ما يتّخذ له في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجري و سوى كسوته؛ و لقد اتفق عندنا مرّة من الجواري الودائع لإخوانه ثمانون جارية، ما منهنّ واحدة إلا و يجري عليها من الطعام و الكسوة و الطّيب مثل ما يجري لأخصّ جواريه، فإذا ردّت الواحدة منهنّ إلى مولاها وصلها و كساها، و مات و ما في ملكه إلا ثلاثة آلاف دينار، و عليه من الدّين سبعمائة دينار قضيت منها.

اشترى منه الرشيد جارية و سأله الحطيطة من ثمنها فكان منه ما دل على سمو نفسه:

أخبرني محمد بن خلف وكيع و يحيى بن عليّ بن يحيى و ابن/المرزبان قالوا أخبرنا حمّاد بن إسحاق قال:

كان أبي يحدّث أن الرشيد اشترى من جدّي جارية بستة و ثلاثين ألف دينار، فأقامت عنده ليلة، ثم أرسل إلى الفضل بن الربيع: إنا اشترينا هذه الجارية من إبراهيم، و نحن نحسب أنها من بابتنا(1) و ليست كما ظننتها، و ما قربتها، و قد ثقل عليّ الثمن و بينك و بينه ما بينكما، فاذهب إليه فسله أن يحطّنا من ثمنها ستة آلاف دينار؛ قال:

فصار الفضل إليه فاستأذن [عليه](2) فخرج جدّي فتلقّاه؛ فقال: دعني من هذه الكرامة التي لا مئونة بيننا فيها، لست ممّن يخدع، و قد جئتك في أمر أصدقك عنه، ثم أخبره الخبر كلّه؛ فقال له إبراهيم: إنه أراد أن يبلو قدرك عندي؛ قال: ذاك/أراد! قال: فمالي كلّه صدقة في المساكين إن لم أضعّفه لك، قد حططتك(3) اثني عشر ألف دينار؛ فرجع الفضل إليه بالخبر؛ فقال: ويلك! ادفع إلى هذا ماله، فما رأيت سوقة قطّ أنبل نفسا منه. قال أبي: و كنت قد أتيت جدّك فقلت: ما كان لحطيطة هذا المال معنى و ما هو بقليل، فتغافل عنّي و قال: أنت أحمق، أنا أعرف الناس به، و اللّه لو أخذت المال منه كملا(4) ما أخذته إلا و هو كاره، و يحقد ذلك عليّ و كنت أكون عنده صغير القدر، و قد مننت عليه و على الفضل، و انبسطت نفسه و نشط و عظم قدري عنده، و إنما اشتريت الجارية بأربعين ألف درهم، و قد أخذت بها أربعة و عشرين ألف دينار، فلما حمل المال إليه بلا حطيطة دعاني فقال لي: كيف رأيت يا إسحاق! من البصير أنا أم أنت؟ فقلت: بل أنت جعلني اللّه فداءك.

حوار الفضل بن يحيى له و قد رآه خارجا من عند الفضل بن الربيع:

حدّثني وكيع قال حدّثنا حمّاد قال حدّثني أبي قال:

ص: 112


1- البابة: الوجه و الطريق، و يقال: هذا شيء من بابتك، أي يصلح لك (راجع الحاشية رقم 9 ص 179 من الجزء الأوّل من هذا الكتاب طبع دار الكتب المصرية).
2- زيادة عن م.
3- كذا في ط، ء. و في م: «حططته». و في سائر الأصول: «حططت».
4- كملا (بفتحتين) أي كاملا وافيا. قال الليث: هكذا يتكلم به في الجمع و الوحدان سواء لا يثني و لا يجمع و ليس بمصدر و لا نعت و إنما هو كقولك: أعطيته المال كله. (انظر «المصباح المنير» و «اللسان» مادة كمل).

لقي الفضل بن يحيى أبي و هو خارج من عند الفضل بن الرّبيع، و كانا متجاورين في الشّمّاسيّة(1)، فقال: من أين يا أبا إسحاق؟ أ من عند الفضل بن الربيع؟ قلت: نعم، غير معتذر من ذلك؛ فقال: خروج من عند الفضل بن الربيع إلى الفضل بن يحيى! هذان و اللّه أمران لا يجتمعان لك! فقال: و اللّه لئن لم يكن فيّ ما يتّسع لكما حتى يكون الوفاء لكما جميعا واحدا ما فيّ خير، و اللّه لا أترك واحدا منكما/لصاحبه، فمن قبلني على هذا قبلني، و من لم يقبلني فهو أعلم؛ فقال له الفضل بن يحيى: أنت عندي غير متّهم، و الأمر كما قلت، و قد قبلتك على ذلك.

كان في الحبس فذكر للرشيد فأحضره فغناه فوصله:

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال حدّثني أبي:

أن الرشيد غضب عليه فقيّده و حبسه بالرّقّة(2)، ثم جلس للشرب يوما في مجلس قد زيّنه و حسّنه، فقال لعيسى بن جعفر: هل لمجلسنا عيب؟ قال: نعم، غيبة إبراهيم الموصلي عنه؛ فأمر بإحضاري فأحضرت في قيودي، ففكّت عنّي بين يديه، و أمرهم فناولوني عودا و قال: غنّني يا إبراهيم؛ فغنّيته:

تضوّع مسكا بطن(3) نعمان أن مشت *** به زينب في نسوة خفرات(4)

فاستعاده و شرب و طرب، و قال: هنأتني يومي و سأهنئك بالصّلة، و قد وهبت لك الهنيء و المريء(5)؛ فانصرفت، فلما أصبحت عوّضت منهما مائتي ألف درهم.

نسبة هذا الصوت
صوت

تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت *** به زينب في نسوة خفرات

مررن بفخّ(6) رائحات عشيّة *** يلبّين للرّحمن معتمرات

/يخمّرن(7) أطراف البنان من التّقي *** و يقتلن بالألحاظ مقتدرات(8)

ص: 113


1- الشماسية: محلة مجاورة لدار الروم التي في أعلى مدينة بغداد و إليها ينسب باب الشماسية. و فيها كانت دار معز الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه.
2- الرقة: مدينة على الجانب الشرقي من الفرات بينها و بين حرّان ثلاثة أيام.
3- بطن نعمان: واد بين مكة و الطائف كثير الأراك.
4- في م: «عطرات».
5- يريد أنه أقطعه ضيعتهما؛ و الهنيء و المريء كما في ياقوت: نهران بإزاء الرقة و الرافقة حفرهما هشام بن عبد الملك و أحدث فيهما مدينة «واسط الرقة». قال ياقوت نقلا عن البلاذري: ثم إن تلك الضيعة (أعني الهنيء و المريء) قبضت في أوّل الدولة العباسية و انتقلت إلى أم جعفر و زادت في عمارتها، ثم قال: و هما يسقيان عدّة بساتين، مستمدها من الفرات و مصبهما فيه.
6- فخ: موضع بينه و بين مكة ثلاثة أميال؛ روى أن النبيّ صلى اللّه عليه و سلّم اغتسل به قبل دخوله مكة، و به كانت وقعة الحسين و عقبة، و به مقابر المهاجرين كل من جاور بمكة منهم فمات يوارى هناك. («معجم ما استعجم» للبكري).
7- يخمرن: يغطين.
8- روى المبرد هذا البيت في الكامل هكذا: يخبأن أطراف البنان من التقى و يخرجن شطر الليل معتجرات و معتجرات: مختمرات بالمعاجر، و المعجر: ثوب تشده المرأة على رأسها.

و لما رأت ركب النّميريّ أعرضت *** و كنّ من أن يلقينه حذرات

الشعر للنّميريّ(1) الثّقفيّ. و الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق و يحيى المكّيّ و عمرو بن بانة. و ذكر حبش أن فيه لعزّة الميلاء لحنا من الثقيل الأوّل.

أنشده يحيى بن خالد بيتا فثناه و غنى فيه فأجازه:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد و أحمد بن جعفر جحظة قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال، و أخبرني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد جميعا عن إسحاق عن أبيه قال:

رأيت يحيى بن خالد خارجا من قصره الذي عند باب الشّمّاسيّة يريد قصره الذي بباب البردان(2) و هو يتمثّل:

صوت

هوّى بتهامة و هوى بنجد *** فأبلتني(3) التّهائم و النّجود

قال أبي: فزدته عليه:

أقيم بذا و أذكر عهد هذا *** فلي ما بين ذين هوى جديد

/قال: و صنعت فيه لحنا - قال الصّوليّ في خبره: و هو من خفيف الثّقيل - ثم صرت إليه فغنّيته إيّاه؛ فأمر لي بألف دينار و بدابّته التي(4) كانت تحته يومئذ بسرجها و لجامها؛ فقلت له: جزاك اللّه من سيّد خيرا، فإنك تأتي الأنفس و هي شوارد فتقرّها، و الأهواء و هي سقيمة فتصحّها؛ فأمر لي بألف دينار أخرى.

قال إبراهيم: ثم ضرب الدهر من ضربه(5)، فبينا أنا أسير معه إذ لقيه العبّاس بن الأحنف، و كان ساخطا عليه لشيء بلغه عنه، فترجّل له و أنشده:

صوت

باللّه يا غضبان إلاّ رضيت *** أذاكر للعهد أم قد نسيت

فقال: بل ذاكر يا أبا الفضل؛ فأضفت إلى هذا البيت:

لو كنت أبغي غير ما تشتهي *** دعوت أن تبلى كما قد بليت

و صنعت فيه لحنا - قال الصّوليّ في خبره: هو ثقيل أوّل - قال: و غنّيته به، فأمر لي بألفي دينار و ضحك؛ فقلت: من أيّ شيء تضحك يا سيّدي؟ لا زلت ضاحكا مسرورا! فقال: ذكرت ما جرى في الصوت الأوّل و أنه كان

ص: 114


1- هو محمد بن عبد اللّه بن نمير، شاعر غزل، من شعراء الدولة الأموية، مولده و منشؤه بالطائف. و كان يهوى زينب بنت يوسف بن الحكم أخت الحجاج بن يوسف، و له فيها أشعار كثيرة يتشبب بها. و له ترجمة في «الأغاني» (ج 6 ص 24 طبع بولاق).
2- البردان (بفتح الباء الموحدة و الراء و الدال المهملتين): قرية من قرى بغداد عامرة و هي على شاطئ دجلة الشرقيّ، و بينها و بين بغداد خمسة فراسخ.
3- في م: «فأبكتني» بالكاف.
4- في ط، ء: «بدابته الذي كان...» و الدابة تطلق على المذكر و المؤنث.
5- أي مرّ من مروره و مضى بعضه. (انظر «اللسان» مادة ضرب).

مع الجائزة دابّة بسرجه و لجامه(1)، و لن تنصرف الليلة إلا على مثله، فقمت فقبّلت يده؛ فأمر لي بألفي دينار آخرين، و قال: تلك الكرّة شكرت على الجائزة بكلام فزدناك، و الآن شكرت بفعل أوجب الزيادة، و لو لا أنّي مضيق في هذا الوقت لضاعفتها، و لكنّ الدهر بيننا مستأنف جديد.

غنى الرشيد في طريقه إلى طوس بشعر له فاستحسن الغناء دون الشعر:
اشارة

حدّثني جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ عن أبيه قال:

/لمّا نزل الرشيد في طريقه إلى طوس(2) بشبداز(3) جلس يشرب عنده، فكان إبراهيم الموصليّ أوّل من غنّاه، فابتدأ بهذا الصوت، و الشعر له:

صوت

رأيت الدّين و الدّنيا *** مقيمين بشبداز

أقاما بين(4) حجّاج *** و غاز أيّما غاز

- و هو من الثقيل الأوّل - فأمر له بألف دينار، و لم يستحسن الشعر، و قال له: يا إبراهيم صنعتك فيه أحسن من شعرك؛ فخجل و قال: يا سيّدي شغل خاطري الغناء فقلت لوقتي ما حضرني؛ فضحك الرشيد من قوله و قال له:

صدقت.

كان كثير الأصدقاء من الأشراف:

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:

كان جدّك محبّا للأشراف كثير الأصدقاء منه، حتى إن كان الرشيد ليقول كثيرا: ما أعرف أحدا أكثر أصدقاء من إبراهيم.

كان مع الغناء كاتبا و شاعرا و خطيبا:

قال إسحاق: و ما سمعت أحسن غناء من أربعة: أبي، و حكم الوادي، و فليح ابن أبي العوراء، و سياط؛ فقلت له: و ما بلغ من حذقهم؟ قال: كانوا يصنعون فيحسنون، و يؤدّون غناء غيرهم فيحسنون؛ فقلت: فأيّهم كان أحذق؟ قال: كانوا/بمنزلة خطيب أو كاتب أو شاعر يحسن صناعته، فإذا انتقل عنها إلى غيرها لم يبلغ منها ما

ص: 115


1- كذا في ط، ء، و هو الذي يوافق الضمير في: «إلا على مثله». و في باقي الأصول: «بسرجها و لجامها».
2- طوس (بضم أوّله و سين مهملة): مدينة معروفة ما بين الريّ و نيسابور في أوّل عمل خراسان و فيها دفن هارون الرشيد. قال ابن حوقل: و على ربع فرسخ منها قبر علي بن موسى الرضا.
3- كذا في ط، ء. و شبداز: موضع بين حلوان و قرميسين تبعد عن قرميسين يسرة بأقل من فرسخين. و في سائر الأصول: «شيراز» و هو تحريف. (راجع «معجم البلدان» في الكلام على شبداز و «المسالك و الممالك» لابن خرداذبه في كلامه على الطريق من مدينة السلام إلى أقاصي خراسان ص 18 طبع مدينة ليدن).
4- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «أقاما مع حجاج». و الحجاج: الكثير الحج. يريد أن الدين و الدنيا قد اجتمعا للرشيد الذي كان كثير الحج و الغزو.

يبلغ من صناعته، و كان جدّك كرجل مفوّه، إن خطب أجزل، و إن كتب رسالة أحسن، و إن قال شعرا أحسن، و لم يكن فيهم مثله.

هو أوّل من علم الجواري الحسان الغناء و شعر أبي عيينة في ذلك:

أخبرني الحسين بن يحيى قال حدّثنا حمّاد عن أبيه، و أخبرني عليّ بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه، و أخبرني إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبّة جميعا عن إسحاق قال:

لم يكن الناس يعلّمون الجارية الحسناء الغناء، و إنما كانوا يعلّمونه الصّفر و السّود؛ و أوّل من علّم الجواري المثمّنات أبي، فإنه بلغ بالقيان كلّ مبلغ، و رفع من أقدارهنّ. و فيه يقول أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة المهلّبيّ و قد كان هوي جارية يقال لها أمان فأغلى بها مولاها السّوم، و جعل يردّدها إلى إبراهيم و إسحاق ابنة فتأخذ عنهما، فكلما زادت في الغناء زاد في سومه، فقال أبو عيينة:

قلت لمّا رأيت مولى أمان *** قد طغى سومه بها طغيانا

لا جزى اللّه الموصليّ أبا إس *** حاق عنّا خيرا و لا إحسانا

جاءنا مرسلا بوحي من الشّي *** طان أغلى به علينا القيانا

من غناء كأنه سكرات ال *** حبّ يصبي القلوب و الآذانا

شعر ابن سيابة فيه:
اشارة

و قال فيه ابن سيابة(1):

صوت

ما لإبراهيم في العل *** م بهذا الشأن ثاني

إنما عمر أبي إس *** حاق زين للزمان

/جنّة الدّنيا أبو إس *** حاق في كلّ مكان

فإذا غنّى أبو إسحا *** ق أجابته المثاني(2)

منه يجنى ثمر الله *** و و ريحان الجنان

لإبراهيم في هذا الشعر لحنان: خفيف ثقيل بالبنصر، و خفيف رمل بالوسطى عن عمرو و الهشاميّ.

شعر أبي العتاهية فيه و هو محبوس:

أخبرني عمّي عن أحمد بن أبي طاهر عن أبي دعامة(3) قال:

ص: 116


1- هو إبراهيم بن سيابة مولى بني هاشم، و له ترجمة في الجزء الحادي عشر من «الأغاني» طبع بولاق.
2- سهل الهمز في «إسحاق» لضرورة الشعر.
3- هو علي بن يزيد أبو دعامة، و قد مر في الجزء الرابع من هذا الكتاب ص 8 طبع دار الكتب المصرية.

كان سلم الخاسر عند أبي العتاهية، فأخبره سلم أنّ الرشيد حبس إبراهيم الموصلي في المطبق(1)؛ فأقبل عليه أبو العتاهية فقال:

سلم يا سلم ليس دونك ستر(2) *** حبس الموصليّ فالعيش مرّ

/ما استطاب اللّذات مذ سكن المط *** بق رأس اللّذات في الناس حرّ

ترك الموصليّ من خل *** ق اللّه جميعا و عيشهم مقشعرّ

حبس اللهو و السرور فما في ال *** أرض شيء يلهى به أو يسرّ

و أنشدني بعض أصحابنا عن ابن المرزبان عن أحمد بن أبي طاهر عن ابن أبي فنن لأبي العتاهية يخاطب إبراهيم الموصليّ لمّا حبس:

أيا غمّي لغمّك يا خليلي *** و يا ويلي عليك و يا عويلي

يعزّ عليّ أنّك لا تراني *** و أنّي لا أراك و لا رسولي

و أنك في محلّ أذى و ضنك *** و ليس إلى لقائك من سبيل

و أني لست أملك عنك دفعا *** و قد فوجئت بالخطب الجليل

قصته مع إبراهيم بن المهدي في لحن غناه عند الرشيد:

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن عمر قال حدّثني أبو توبة صالح بن محمد عن القطرانيّ المغنّي عن محمد بن جبر، و كان المهديّ رباه، قال حدّثني إبراهيم بن المهديّ قال:

انصرفت ليلة من الشّمّاسيّة فمررت بدار إبراهيم الموصليّ، و إذا هو في روشن(3) له و قد صنع لحنه:

ألا ربّ ندمان عليّ دموعه *** تفيض على الخدّين سحّا سجومها(4)

و هو يعيده و يلعب به بنغمه و يكرّره لتستوي له أجزاؤه، و جواريه يضربن عليه، فوقفت تحت الرّوشن حتى أخذته ثم انصرفت إلى منزلي، فما زلت أعيده حتى بلغت فيه الغاية، و أصبحت فغدوت إلى الشّمّاسيّة و اجتمعنا عند الرشيد، فاندفع إبراهيم فغنّاه أوّل شيء غنّى، فلمّا سمعه الرشيد طرب و استحسنه و شرب عليه، ثم قال له: لمن هذا يا إبراهيم؟ قال: لي يا سيّدي، صنعته البارحة؛ فقلت: كذب يا أمير المؤمنين، هذا الصوت قديم و أنا أغنّيه؛ فقال لي: غنّه يا حبيبي، فغنّيته كما غنّاه؛ فبهت إبراهيم و غضب الرشيد، و قال له(5): يا ابن الفاجرة! أ تكذبني و تدّعي ما ليس لك!. قال: فظلّ إبراهيم بأسوإ حال؛ فلمّا صلّيت العصر قلت للرشيد: يا أمير المؤمنين، الصوت و حياتك

ص: 117


1- المطبق: السجن تحت الأرض.
2- في ح: «سرّ».
3- الروشن: خشب يخرج من حائط الدار إلى الطريق و لا يصل إلى جدار آخر يقابله و هو الشرفة.
4- سجوم الدمع: سيلانه كثيرا كان أو قليلا.
5- في الأصول ما عدا ح: «و قال لي بابن الفاجرة» و لا يستقيم به الكلام. و كلمة «لي» ساقطة من ح.

له و ما كذب، و لكنّي مررت به البارحة و هو يردّده على جارية له فوقفت حتى دار لي و استوى فأخذته منه؛ فدعا به الرشيد و رضي عنه، و أمر له بخمسة آلاف دينار.

نسبة هذا الصوت
صوت

ألا ربّ ندمان عليّ دموعه *** تفيض على الخدّين سحّا سجومها

حليم إذا ما الكأس دارت و هرّها(1) *** رجال لديها قد تخفّ حلومها

الغناء لإبراهيم رمل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق.

قصته مع إبراهيم بن المهدي و ابن جامع عند الرشيد:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا أبي عن طيّاب(2) بن إبراهيم الموصليّ قال:

كان إبراهيم بن المهديّ يقدّم ابن جامع و لا يفضّل عليه أحدا، فأخبرني إبراهيم بن المهديّ قال: كنا في مجلس الرشيد و قد/غلب النبيذ على ابن جامع، فغنّى صوتا فأخطأ في أقسامه؛ فالتفت إليّ إبراهيم فقال: قد خري(3) قد خرى أستاذك فيه! و فهمت صدقه فيما قال؛ قال: فقلت له: انتبه أيها الشيخ و أعد الصوت، ففطن و أعاده و تحفّظ فيه و أصاب؛ فغضب إبراهيم و أقبل عليّ فقال:

أعلّمه الرّماية كلّ يوم *** فلمّا استدّ(4) ساعده رماني

و تنكّر لي و حلف ألاّ يكلّمني؛ فقلت للرشيد بعد أيام: إن لي حاجة؛ قال: و ما هي؟ قلت: تأمر إبراهيم الموصليّ أن يرضى عنّي و يعود إلى ما كان عليه؛ فقال: /و من إبراهيم حتى يطلب(5) رضاه! فقلت:

يا أمير المؤمنين، إن الذي أريده منه لا ينال إلا برضاه؛ فقال: قم إليه يا إبراهيم فقبّل رأسه؛ [فقام إليّ ليقبّل(6)رأسي]، فلما أكبّ عليّ قال: تعود؟ قلت: لا؛ قال: قد رضيت عنك رضا صحيحا، و عاد إلى ما كان عليه.

خرج مع الرشيد إلى الحيرة و غناه فأجازه:
اشارة

أخبرني أبو الحسن أحمد بن يحيى بن عليّ بن يحيى قال: سمعت جدّي عليّا يحدّث عن إسحاق قال:

قال أبي: خرجت مع الرشيد إلى الحيرة، فساعة نزل بها دعا بالغداء فتغدّى ثم نام، فاغتنمت قائلته فذهبت

ص: 118


1- هرّ فلان الكأس: كرهها.
2- كذا في أكثر الأصول هنا و فيما يأتي في جميع الأصول في أكثر من موضع. و في ط، ء هنا: «طباب» بالباء الموحدة من تحت.
3- في ح: «قد خزي أستاذك فيه» بالزاي و بدون تكرار.
4- كذا في ط، ء، س و إحدى روايتي ح، و هي الرواية المشهورة. و استدّ: استقام. و في سائر الأصول «اشتدّ» بالشين المعجمة. قال الأصمعيّ: اشتدّ بالشين المعجمة ليس بشيء. و قال ابن برّي: هذا البيت ينسب إلى معن بن أوس قاله في ابن أخت له. و قال ابن دريد: هو لمالك بن فهم الأزدي، و كان اسم ابنه سليمة، رماه بسهم فقتله فقال البيت. قال ابن برّي: و رأيته في شعر عقيل بن علقة يقوله في ابنه عميس حين رماه بسهم. و بعده. فلا ظفرت يمينك حين ترمي و شلت منك حاملة البنان
5- في ح، م: «تطلب».
6- الزيادة عن م.

فركبت أدور في ظهر الحيرة، فنظرت إلى بستان فقصدته فإذا على بابه شابّ حسن الوجه، فاستأذنته في الدخول فأذن لي، فدخلت فإذا جنّة من الجنان في أحسن تربة و أغزرها ماء، فخرجت فقلت له: لمن هذا البستان؟ فقال:

لبعض الأشاعثة(1)؛ فقلت له: أ يباع؟ فقال: نعم و هو على سوم؛ فقلت: كم بلغ؟ فقال: أربعة عشر ألف دينار؛ قلت: و ما يسمّى هذا الموضع؟ قال: شمارى؛ فقلت:

صوت

جنان شمارى ليس مثلك منظر *** لذي رمد أعيا عليه طبيب

ترابك كافور و نورك(2) زهرة *** لها أرج بعد الهدوّ يطيب(3)

/قال: و حضرتني فيه صنعة حسنة؛ فلما جلس الرشيد و أمر بالغناء غنّيته إياه أوّل ما غنّيت؛ فقال: ويلك! و أين شمارى؟ فأخبرته القصّة؛ فأمر لي بأربعة عشر ألف دينار؛ و غمزني جعفر بن يحيى فقال: خذ توقيعه بها إليّ؛ و تشاغل الرّشيد عنّي، فأعدت الصوت، فقال: ويلكم! أعطوا هذا دنانيره؛ فوثبت و قلت: يا سيّدي، وقّع لي بها إلى جعفر بن يحيى؛ فقال: أفعل، و وقّع لي بها إليه؛ فلمّا حصل التوقيع عند جعفر أطلق لي المال و خمسة آلاف دينار من عنده؛ فلما حصل المال عندي كان أحبّ إليّ و أحسن في عيني من شمارى.

عرض الرشيد أبياتا ليجيزها الشعراء ثم أمره فغنى فيها:

أخبرني(4) جعفر بن قدامة قال أخبرني أبو العيناء قال:

خرج الفضل بن الرّبيع يوما من حضرة الرشيد و معه رقعة فيها أربعة أبيات، فقال: إن أمير المؤمنين يأمر كلّ من حضر ممن يقول الشعر أن يجيزها، و هي:

أهدى الحبيب مع الجنوب سلامه *** فاردد إليه مع الشّمال سلاما

و اعرف بقلبك ما تضمّن قلبه *** و تداولا بهواكما الأيّاما

و إذا بكيت له فأيقن أنه *** ستجود أدمعه عليك رهاما(5)

فاحبس دموعك رحمة لدموعه *** إن كنت تحفظ أو تحوط ذماما

/فلم يوجد من يجيزها، فأمر إبراهيم فغنّى فيها لحنا من خفيف الثقيل.

انقطع عن الرشيد في سفره عند خمار و شعره في ذلك:
اشارة

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني أبو العبّاس البصريّ(6) قال حدّثني عبد اللّه بن الفضل بن الرّبيع قال سمعت أبي يقول:

ص: 119


1- الأشاعثة: منسوبون إلى الأشعث بن قيس بن معديكرب الكندي أبي محمد الصحابي، وفد على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و روى عنه و عن عمر رضي اللّه عنه، و نزل الكوفة و مات بها في آخر سنة أربعين هجرية و هو ابن ثلاث و ستين سنة.
2- في ح: «و نبتك».
3- في ح: «و طيب».
4- هذا الخبر الذي يبتدئ من قوله: «أخبرني جعفر» إلى قوله: «لحنا من خفيف الثقيل» ساقط من ط، ء، م.
5- الرهام: جمع رهمة (بالكسر) و هي المطر الضعيف.
6- في ح: «النصرى» بالنون.

/لمّا خرج الرشيد إلى الرّقّة(1) أخرج معه إبراهيم الموصليّ، و كان به مشغوفا، ففقده في بعض المنازل أيّاما و طلبه فلم يخبره أحد بقصّته؛ ثم أتاه، فقال له: ويحك! ما خبرك و أين كانت غيبتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، حديثي عجيب، نزلنا بموضع كذا و كذا، فوصف لي خمّار، من ظرفه و من نظافة منزله كيت و كيت، فتقدّمت أمام ثقلى(2) و أتيته مخفّا، فوافيت(3) أطيب منزل و أوسع رحل و أطيب طعام و أسخى نفس، من شابّ حسن الوجه ظريف العشرة، فأقمت عنده، فلمّا أردت اللّحاق بأمير المؤمنين أقسم عليّ و أخرج لي من الشراب ما هو أطيب و أجود مما رأيت، فأقمت ثلاثا، و وهبت له دنانير كانت معي و كسوة، و قلت فيه:

صوت

سقيا لمنزل خمّار قصفت(4) به *** وسط الرّصافة يوما بعد يومين

ما زلت أرهن أثوابي و أشربها *** صفراء قد عتّقت في الدّنّ حولين

حتى إذا نفدت منّي بأجمعها *** عاودته بالرّبا دنّا بدنّين

فقال «ازل بشين» حين ودّعني *** و قد لعمرك زلنا عنه بالشّين

- الشعر و الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر. قوله: «ازل بشين» كلمة سريانية، تفسيرها: امض بسلام، دعا له بها لما ودّعه - قال إبراهيم: فقال لي الرشيد: غنّني هذا الصوت، فغنّيته إيّاه و زمر عليه برصوما، فوهب لي الرشيد مائة ألف درهم و أقطعني ضيعة، و بعث إلى الحمّار فأحضر(5)، و أهدى إلى الرشيد من ذلك الشراب فوصله؛ و وهب له إبراهيم عشرة آلاف درهم.

قصته مع ابن جامع و رؤياه:

أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن مزيد و وكيع قالوا جميعا حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبي قال:

قال ابن جامع يوما لأبي: رأيت في منامي كأنّي و إيّاك راكبان في محمل، فسفلت حتى كدت تلصق بالأرض، و علا الشّقّ الذي أنا فيه، فلأعلونّك في الغناء؛ فقال إبراهيم: الرؤيا حقّ و التأويل باطل، إنّي و إيّاك كنّا في ميزان، فرجحت بك و شالت كفّتك و علوت فلصقت بالأرض، فلأبقينّ بعدك و لتموتنّ قبلي. قال إسحاق: فكان كما قال أبي، علا عليه و أفاد أكثر من فوائده، و مات ابن جامع قبله و عاش أبي بعده.

ألقى على جارية عبد اللّه بن الربيع صوتا أعجب ابن جامع فأخذ يستعيدها إياه:
اشارة

أخبرني عبد اللّه بن الرّبيع الرّبيعيّ قال حدّثتني خديجة بنت هارون بن عبد اللّه بن الرّبيع قالت حدّثتني خمار(6)

ص: 120


1- في ح: «الكوفة».
2- الثقل (وزان سبب): متاع المسافر و حشمه و كل شيء نفيس مصون.
3- كذا في م. و في ط، ء: «فأتيت». و في سائر الأصول: «فوافقت»، و هو تحريف.
4- انظر الحاشية رقم 4 ص 156 من هذا الجزء.
5- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «فأحضره».
6- في ط: «قمار».

جارية أبي - و كانت قندهاريّة(1)، اشتراها جدّي عبد اللّه و هي صبيّة ريّض(2) من آل يحيى بن معاذ بمائتي ألف درهم - قالت:

ألقى عليّ إبراهيم الموصليّ لحنه في هذين البيتين:

صوت

إذا سرّها أمر و فيه مساءتي *** قضيت لها فيما تريد على نفسي

و ما مرّ يوم أرتجي فيه راحة *** فأذكره إلاّ بكيت على أمس

/الشعر لأبي حفص(3) الشّطرنجيّ، و الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل بالوسطى - فسمعني ابن جامع/يوما و أنا أغنّيه، فسألني: ممن أخذته؟ فأخبرته؛ فقال: أعيديه، فأعدته مرارا، و ما زال ابن جامع يتنغّم(4) به معي حتى ظننت أنه قد أخذه، ثم كان كلما جاءنا قال لي: يا صبيّة، غنّي ذلك الصوت، فكان صوته عليّ.

قصته مع مخارق في أخذه دراهم من يحيى البرمكي و أولاده:
اشارة

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبّة قال قال مخارق:

أذن لنا أمير المؤمنين الرشيد أن نقيم في منازلنا ثلاثة أيّام، و أعلمنا أنه مشتغل فيها مع الحرم، فمضى الجلساء أجمعون إلى منازلهم - و أخبرني وسواسة و هو أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصليّ بهذا الخبر فقال حدّثني أبي عن أبيه عن مخارق قال: اشتغل الرشيد يوما و اصطبح مع الحرم و قد أصبحت السماء متغيّمة، فانصرفنا إلى منازلنا. و لم يذكر في الخبر ما ذكره عمر بن شبّة مما قدمت ذكره، و اتفقا هاهنا في أكثر الحكايات، و اللفظ فأكثره لرواية ابن الموصليّ - قال مخارق: و أصبحت السماء متغيّمة تطشّ طشّا خفيفا، فقلت: و اللّه لأذهبنّ إلى أستاذي إبراهيم فأعرف خبره ثم أعود، فأمرت من عندي أن يسوّوا مجلسا لنا إلى وقت رجوعي؛ فجئت إلى إبراهيم الموصليّ فإذا الباب مفتوح و الدّهليز قد كنس و البوّاب قاعد؛ فقلت: ما خبر أستاذي؟ فقال: ادخل، فدخلت فإذا هو جالس في رواق له و بين يديه قدور تغرغر(5) و أباريق تزهر، و الستارة منصوبة و الجواري خلفها، و إذا قدّامه طست فيه رطليّة و كوز و كأس، فدخلت أترنّم ببعض الأصوات، و قلت له: ما بال/الستارة لست أسمع من ورائها صوتا؟ فقال: اقعد ويحك! إني أصبحت على الذي ظننت؛ فأتاني خبر ضيعة تجاورني، قد و اللّه طلبتها زمانا و تمنّيتها فلم أملكها، و قد أعطي بها مائة ألف درهم؛ فقلت: و ما يمنعك منها؟ فو اللّه لقد أعطاك اللّه أضعاف هذا المال و أكثر؛ قال: صدقت، و لكن لست أطيب نفسا أن أخرج هذا المال؛ فقلت: فمن يعطيك الساعة مائة ألف درهم؟ و اللّه ما أطمع في ذلك من الرشيد، فكيف بمن دونه! فقال: اجلس، خذ هذا الصوت، و نقر بقضيب معه على الدواة و ألقى عليّ:

ص: 121


1- قندهارية: نسبة إلى قندهار، و هي بلد من بلاد السند أو الهند مشهورة في الفتوح.
2- الرّيض كسيد: الدابة أوّل ما تراض، يطلق على الذكر و الأنثى، يقال: غلام ريض، و ناقة ريض.
3- هو أبو حفص عمر بن عبد العزيز مولى بني العباس، نشأ في دار المهدي و تأدّب و كان لاعبا بالشطرنج مشغوفا به فلقب به لغلبته عليه، فلما مات المهدي انقطع إلى علية ابنته. و له ترجمة في الجزء التاسع عشر من «الأغاني» طبع بولاق.
4- تنغم المغني: طرّب في الغناء.
5- غرغرت القدر، صاتت عند الغلي.
صوت

نام الخليّون من همّ و من سقم *** و بتّ من كثرة الأحزان لم أنم

يا طالب الجود و المعروف مجتهدا *** اعمد ليحني حليف الجود و الكرم

- الشعر لأبي النضير(1)، و الغناء لإبراهيم الموصليّ ثقيل أوّل بالبنصر - قال: فأخذته فأحكمته؛ ثم قال لي:

امض الساعة إلى باب الوزير يحيى بن خالد، فإنك تجد الناس عليه و تجد الباب قد فتح و لم يجلس بعد، فاستأذن عليه قبل أن يصل إليه أحد، فإنه سينكر عليك مجيئك و يقول: من أين أقبلت في هذا الوقت؟ فحدّثه بقصدك إياي و ما ألقيت إليك من خبر الضّيعة، و أعلمه أنّي صنعت هذا/الصوت و أعجبني، و لم أر أحدا يستحقّه إلا فلانة جاريته، و أني ألقيته عليك حتى أحكمته لتطرحه عليها؛ فسيدعو بها و يأمر بالسّتارة أن تنصب و يوضع له كرسيّ و يقول لك: اطرحه عليها بحضرتي، فافعل و ائتني بالخبر بعد ذلك. قال: فجئت باب يحيى فوجدته كما وصف، و سألني فأعلمته ما أمرني به، ففعل كلّ شيء قاله لي/إبراهيم، و أحضر الجارية فألقيته عليها؛ ثم قال لي: تقيم عندنا يا أبا المهنّأ أو تنصرف؟ فقلت: أنصرف أطال اللّه بقاءك فقد علمت ما أذن لنا فيه، قال: يا غلام، احمل مع أبي المهنّأ عشرة آلاف درهم، و احمل إلى أبي إسحاق مائة ألف درهم ثمن هذه الضّيعة، فحملت العشرة الآلاف الدرهم إليّ، و أتيت منزلي فقلت: أسرّ يومي هذا و أسرّ من عندي، و مضى الرسول إليه بالمال؛ فدخلت منزلي و نثرت على من عندي من الجواري دراهم من تلك البدرة، و توسّدتها و أكلت و شربت و طربت و سررت يومي كلّه؛ فلما أصبحت قلت: و اللّه لآتينّ أستاذي و لأعرفنّ خبره، فأتيته فوجدت الباب كهيئته بالأمس، و دخلت فوجدته على مثل ما كان عليه، فترنّمت و طربت فلم يتلقّ ذلك بما يجب؛ فقلت له: ما الخبر؟ أ لم يأتك المال؟ قال: بلى! فما كان خبرك أنت بالأمس؟ فأخبرته بما كان وهب لي و قلت: ما(2) ينتظر من خلف الستارة، فقال: ارفع السّجف فرفعته فإذا عشر(3) بدر؛ فقلت: و أيّ شيء بقي عليك في أمر الضيعة؟ قال: ويحك! ما هو و اللّه إلا أن دخلت منزلي حتى شححت عليها فصارت مثل ما حويت قديما؛ فقلت: سبحان اللّه العظيم! فتصنع ما ذا! قال: قم حتى ألقي عليك صوتا صنعته يفوق ذلك الصوت؛ فقمت و جلست بين يديه، فألقى عليّ:

صوت

و يفرح بالمولود من آل برمك *** بغاة النّدى و السيف و الرمح ذو النصل(4)

ص: 122


1- ورد هذا الاسم في ح: «لأبي النضر». و في سائر الأصول: «لأبي بصير»، و كلاهما تحريف عن «أبي النضير». و اسمه عمر بن عبد الملك البصري مولى بني جمح، شاعر من شعراء البصرة صالح المذهب ليس من المعمودين المتقدمين و لا من المولدين الساقطين، و كان يغني بالبصرة على جوار له مولدات، و يظهر الخلاعة و المجون و الفسق، و يعاشر جماعة ممن يعرف بذلك الشأن، و كان أبان اللاحقي يعاشره ثم تصار ما و هجاه و هجا جواريه و افترقا على قلي؛ ثم انقطع أبو النضير إلى البرامكة فأغنوه إلى أن مات. (راجع ترجمته في «الأغاني» 10 ص 100 طبع بولاق).
2- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «ما كان ينتظر من خلف الستارة» و عبارة نهاية الأرب (ج 4 ص 354 طبع دار الكتب المصرية): «فأخبرته بما كان و قلت: ما تنتظر؟ فقال: ارفع السجف... إلخ».
3- كذا في ح. و في سائر النسخ: «عشرة» بتأنيث العدد.
4- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «بغاة الندى و السيف و الرمح و النصل» و كذلك في «نهاية الأرب» (ج 4 ص 354 طبع دار الكتب المصرية) و القافية فيه مرفوعة، و آخر البيت الثاني فيه: «و لا سيما إن كان والده الفضل».

و تنبسط الآمال فيه لفضله *** و لا سيما إن كان من ولد الفضل

- الشعر لأبي النّضير(1). و الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل بالبنصر عن الهشاميّ، و ذكر عمرو بن بانة أنه لإسحاق، و هو الصحيح. و فيه خفيف ثقيل، أظنه لحن إبراهيم. أخبرني إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبّة عن إسحاق أن أباه صنع هذا الصوت في طريقة خفيف الثقيل و عرضه على الفضل، فاستحسنه و أمر مخارقا بإلقائه على جواريه فألقاه على مراقش و قضيب فأخذتاه عنه - قال مخارق: فلما ألقى عليّ الصوت سمعت ما لم أسمع مثله قطّ، و صغر عندي الأوّل فأحكمته؛ ثم قال: انهض الساعة إلى الفضل بن يحيى، فإنك تجده لم يأذن لأحد بعد، و هو يريد الخلوة مع جواريه اليوم، فاستأذن عليه و حدّثه بحديثنا أمس، و ما كان من أبيه إلينا و إليك، و أعلمه أنّي قد صنعت هذا الصوت و كان عندي أرفع منزلة من الصوت الذي صنعته بالأمس، و أني ألقيته عليك حتى أحكمته و وجّهت بك قاصدا لتلقيه على فلانة جاريته؛ فصرت إلى باب الفضل فوجدت الأمر على ما ذكر، فاستأذنت فوصلت؛ و سألني:

ما الخبر؟ فأعلمته بخبري في اليوم الماضي و ما وصل إليّ و إليه من المال؛ فقال: أخزى اللّه إبراهيم فما أبخله على نفسه!؛ ثم دعا خادما فقال: اضرب السّتارة فضربها، فقال لي: ألقه، فلمّا غنّيته لم أتمّه حتى أقبل يجرّ مطرفه، ثم قعد على وسادة دون السّتارة، و قال: أحسن و اللّه/أستاذك و أحسنت أنت يا مخارق؛ فلم أخرج حتى أخذته الجارية و أحكمته، فسرّ بذلك سرورا شديدا، و قال: أقم عندي اليوم؛ فقلت: يا سيدي إنما بقي لنا/يوم واحد، و لو لا أنّي أحبّ سرورك لم أخرج من منزلي؛ فقال: يا غلام احمل مع أبي المهنأ عشرين ألف درهم و احمل إلى إبراهيم مائتي ألف درهم؛ فانصرفت إلى منزلي بالمال، ففتحت بدرة فنثرت منها على الجواري و شربت و سررت أنا و من عندي يومنا؛ فلما أصبحت بكّرت إلى إبراهيم أتعرّف خبره و أعرّفه خبري، فوجدته على الحال التي كان عليها أوّلا و آخرا، فدخلت أترنّم و أصفّق؛ فقال لي: ادن؛ فقلت: ما بقي؟ فقال: اجلس و ارفع سجف هذا الباب فإذا عشرون بدرة مع تلك العشر(2)؛ فقلت: ما تنتظر الآن؟ فقال: ويحك! ما هو و اللّه إلا أن حصلت حتى جرت مجرى ما تقدّم؛ فقلت: و اللّه ما أظن أحدا نال في هذه الدولة ما نلته! فلم تبخل على نفسك بشيء تمنّيته دهرا و قد ملّكك اللّه أضعافه! ثم قال: اجلس فخذ هذا الصوت؛ و ألقى عليّ صوتا أنساني و اللّه صوتي الأوّلين:

صوت

أ في كلّ يوم أنت صبّ و ليلة *** إلى أمّ بكر لا تفيق فتقصر

أحبّ على الهجران أكناف بيتها *** فيا لك من بيت يحبّ و يهجر

إلى جعفر سارت بنا كلّ جسرة(3) *** طواها سراها نحوه و التهجّر

إلى واسع للمجتدين فناؤه *** تروح عطاياه عليهم و تبكر

- الشعر لمروان بن أبي حفصة يمدح به جعفر بن يحيى. و الغناء لإبراهيم، و لم تقع إلينا طريقته - قال مخارق: ثم قال لي إبراهيم: هل سمعت مثل هذا؟ /فقلت: ما سمعت قطّ مثله. فلم يزل يردّده عليّ حتى أخذته،

ص: 123


1- راجع الحاشية رقم 1 ص 179 من هذا الجزء.
2- كذا في ح، و في سائر الأصول: «مع تلك العشرة» بتأنيث العدد.
3- كذا في ط، ء و «نهاية الأرب» (ج 4 ص 355 طبع دار الكتب المصرية) و الجسرة: الناقة العظيمة. و في سائر الأصول: «حرة».

ثم قال لي: امض إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأخيه و أبيه؛ قال: فمضيت ففعلت مثل ذلك و خبّرته ما كان منهما و عرضت عليه الصوت، فسر به و دعا خادما فأمره بضرب الستارة و أحضر الجارية و قعد على كرسيّ، ثم قال: هات يا مخارق؛ فاندفعت فألقيت الصوت عليها حتى أخذته؛ فقال: أحسنت و اللّه يا مخارق و أحسن أستاذك، فهل لك في المقام عندنا اليوم؟ فقلت: يا سيّدي هذا آخر أيّامنا، و إنما جئت لموقع الصوت منّي حتى ألقيته على الجارية؛ فقال: يا غلام احمل معه ثلاثين ألف درهم و إلى الموصليّ ثلاثمائة ألف درهم؛ فصرت إلى منزلي بالمال، فأقمت و من معي مسرورين نشرب بقيّة يومنا و نطرب، ثم بكّرت إلى إبراهيم فتلقّاني قائما و قال لي: أحسنت يا مخارق؛ فقلت: ما الخبر؟ فقال: اجلس فجلست، فقال لمن خلف الستارة: خذوا فيما أنتم فيه، ثم رفع السّجف فإذا المال؛ فقلت: ما خبر الضّيعة؟ فأدخل يده تحت مسورة(1) هو متّكئ عليها فقال: هذا صكّ الضيعة، سئل عن صاحبها فوجد ببغداد، فاشتراها منه يحيى بن خالد، و كتب إليّ: قد علمت أنك لا تسخو(2) نفسا بشراء الضيعة من مال يحصل لك و لو حيزت لك الدّنيا كلّها، و قد ابتعتها لك من مالي و وجّهت لك بصكّها؛ و وجّه إليّ بصكها و هذا المال كما ترى؛ ثم بكى و قال لي: يا مخارق إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء، و إذا خنكرت فخنكر(3) لمثل هؤلاء؛ /هذه ستّمائة ألف و ضيعة بمائة ألف و ستون ألف درهم لك، حصّلنا ذلك أجمع و أنا جالس في مجلسي لم أبرح منه، /فمتى يدرك مثل هؤلاء!.

طلب إليه موسى الهادي أن يغنيه و له حكمه:

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني أبي عن إسحاق قال:

كان موسى الهادي شكس الأخلاق صعب المزاج(4)، من توقّاه و عرف أخلاقه أعطاه ما أمّل، و من فتح فاه فاتّفق له أن يفتحه بغير ما يهواه أقصاه و اطّرحه، فكان(5) لا يحتجب عن ندمائه و لا عن المغنّين، و كان يكثر جوائزهم و صلاتهم و يواترها(6)؛ فتغنّى أبي عنده يوما؛ فقال له: يا إبراهيم غنّني جنسا من الغناء ألذّ به و أطرب له و لك حكمك؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن لم يقابلني زحل ببرده رجوت أن أصيب ما في نفسك. قال: و كنت لا أراه يصغي إلى شيء من الأغاني إصغاءه إلى النّسيب و الرّقيق منه، و كان مذهب ابن سريج عنده أحمد من مذهب معبد، فغنّيته(7):

و إنّي لتعروني لذكراك هزّة(8) *** كما انتفض العصور بلّله القطر

ص: 124


1- المسورة: الوسادة من جلد.
2- في ط، ء: «لا تسخو نفسك».
3- لعله يريد: إذا غنيت فغن لمثل هؤلاء، فقد ورد في «الأغاني» (ج 17 ص 123 طبعة بولاق) في تعنيف الفضل بن الربيع لحفيده عبد اللّه بن عباس على تعلمه الغناء: «... و فضحت آباءك في قبورهم و سقطت الأبد إلا من المغنين و طبقة الخيناكرين». و قال صاحب «كتاب الألفاظ الفارسية المعربة»، بعد أن أشار إلى هذه القصة: «هي جمع خيناگر و معناه المغني». و أخبرنا ممن لديهم معرفة باللغة الفارسية أن «الخيناكر» هو المغني المضحك.
4- كذا في ح، م. و في سائر الأصول: «المرام».
5- لعله: «و كان» بالواو.
6- واتر الصلات و غيرها: جعل بعضها يتبع بعضا.
7- في ب، س: «فغنيته قوله» بزيادة كلمة «قوله»، و لعلها زيدت سهوا من الطابع.
8- كذا في هامش ح، و «الأمالي» (ح 1 ص 149 طبع دار الكتب المصرية)، و هي الرواية المشهورة في هذا البيت و التي تلائم الشطر

فضرب بيده إلى جيب(1) درّاعته فحطّها ذراعا، ثم قال: أحسنت و اللّه! زدني، فغنّيت:

فيا حبّها زدني جوى كلّ ليلة *** و يا سلوة الأيّام موعدك الحشر

/فضرب بيده إلى درّاعته فحطّها ذراعا آخر أو نحوه، و قال: زدني ويلك! أحسنت و اللّه، و وجب حكمك يا إبراهيم؛ فغنّيت:

هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى *** و زرتك حتى قيل ليس له صبر

فرفع صوته و قال: أحسنت، للّه(2) أبوك! هات ما تريد؛ قلت: يا سيّدي، عين مروان بالمدينة؛ فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان، و قال: يا ابن اللّخناء أردت أن تشهرني بهذا المجلس فيقول الناس: أطربه فحكّمه، فتجعلني سمرا و حديثا! يا إبراهيم الحرّاني: خذ بيد هذا الجاهل إذا قمت، فأدخله في بيت مال الخاصّة، فإن أخذ كلّ ما فيه فخلّه و إيّاه؛ فدخلت فأخذت خمسين ألف دينار.

نسبة هذا الصوت
صوت

عجبت لسعي الدّهر بيني و بينها *** فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر

فيا حبّها زدني جوى كلّ ليلة *** و يا سلوة الأيّام موعدك الحشر

و يا هجر ليلى قد بلغت بي المدى *** و زدت على ما ليس يبلغه الهجر

و إني لتعروني لذكراك هزّة *** كما انتفض العصفور بلّله القطر

هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى *** و زرتك حتى قيل ليس له صبر

أما و الذي أبكي و أضحك و الذي *** أمات و أحيا و الذي أمره أمر

لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى *** أليفين منها لا يروعهما الذّعر(3)

- الشعر لأبي صخر الهذليّ. و الغناء لمعبد، و أوّل لحنه «و يا هجر ليلى» و بعده الثاني ثم الأوّل من الأبيات ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. و لابن سريج في السادس/و السابع و الرابع و الخامس ثقيل أوّل عن الهشاميّ.

و لعريب في السادس و السابع/و الرابع و الخامس ثقيل أوّل أيضا، و للواثق فيها رمل، و هو مما صنعه الواثق قبلها فعارضته بلحنها. و قد نسب قوم لحن معبد إلى ابن سريج و لحن ابن سريج إلى معبد.

اشترى جارية لجعفر بن يحيى فاستكثر ثمنها فأجابه:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

اشترى جدّك إبراهيم لجعفر بن يحيى جارية مغنّية بمال عظيم، فقال جعفر: أيّ شيء تحسن هذه الجارية

ص: 125


1- الدراعة: جبة مشقوقة المقدم. و جيبها: طوقها.
2- في ح: «للّه درك».
3- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «النفر».

حتى بلغت بها هذا المال كلّه؟ قال: لو لم تحسن شيئا إلا أنها تحكي قولي:

لمن الدّيار ببرقة(1) الرّوحان

لكانت تساويه و زيادة؛ فضحك جعفر و قال: أفرطت!

نسبة هذا الصوت
صوت

لمن الديار ببرقة الرّوحان *** إذ لا نبيع زماننا بزمان

صدع الغواني إذ رمين فؤاده *** صدع الزّجاجة ما لذاك تدان

إن زرت أهلك لم أنوّل حاجة *** و إذا هجرتك شفّني هجراني

الغناء لمعبد، فيما ذكره الهشاميّ و أحمد بن المكيّ، ثقيل أوّل بالوسطى، و نسبه غيرهما إلى حنين، و قال آخرون: إنه للغريض، و ذكر حبش أنه ليزيد حوراء. و فيه لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر.

عدد أصواته:

أخبرني الحسين عن حمّاد قال قال لي أبي:

صنع جدّك تسعمائة صوت، منها ديناريّة، و منها درهميّة، و منهما فلسيّة، و ما رأيت أكثر من صنعته؛ فأمّا ثلاثمائة منها فإنه تقدّم الناس جميعا فيها، و أمّا ثلاثمائة، فشاركوه و شاركهم فيها، و أمّا الثلاثمائة الباقية، فلعب و طرب؛ قال: ثم أسقط أبي الثلاثمائة الآخرة بعد ذلك من غناء أبيه، فكان إذا سئل عن صنعة أبيه قال: هي ستّمائة صوت.

و قال أحمد بن حمدون قال لي إسحاق: من غناء أبي الذي أكرهه و أستزريه صوته في شعر العبّاس بن الأحنف:

أبكي و مثلي بكى من حبّ جارية

فما أعلم له فيه معنى إلا استحسانه للشعر، فإن العباس أحسن فيه جدّا.

نسبة هذا الصوت
صوت

أبكي و مثلي بكى من حبّ جارية *** لم يخلق اللّه لي في قلبها لينا

هل تذكرين وقوفي عند بابكم *** نصف النهار و أهل الدار لاهونا

الشعر للعبّاس بن الأحنف، و الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى.

ص: 126


1- برقة الروحان: روضة باليمامة تنبت الرمث (و هو شجر يشبه الغضي).
سئل ابنه إسحاق عن طعنه على أبيه في صوت له فأجاب:

أخبرني جحظة قال أخبرني حمّاد بن إسحاق قال:

قال رجل لأبي: أخبرني عنك، لم طعنت على أبيك في صنعته:

قال لي فيها عتيق مقالا *** فجرت مما يقول الدموع

قال: لأنه تعرّض لابن عائشة و له في هذا الشعر صنعة، و ابن عائشة ممن لا يعارض فلم يقاربه، و على أن صنعة أبي من جيّد الغناء لو كان صنعها في غير هذا الشعر، و لكنها اقترنت/بصنعة ابن عائشة فلم تقاربها، فسقط عندي لذلك.

نسبة هذا الصوت
صوت

قال لي فيها عتيق مقالا *** فجرت ممّا يقول الدموع

قال لي ودّع سليمى ودعها *** فأجاب القلب لا أستطيع

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو، و قيل: إنه لابن عائشة. و فيه ثاني ثقيل ينسب إلى الهذليّ. و فيه خفيف ثقيل ينسب إلى ابن عائشة و إلى إبراهيم.

قصته بالريّ مع جارية من تلميذاته:

أخبرني الحسن بن عليّ قال أخبرني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد(1) بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني إسحاق عن أبيه قال:

دخلت الرّيّ(2) فكنت آلف فتيانا من أهل النّعم بها و هم لا يعرفونني، فطال ذلك عليّ إلى أن دعاني أحدهم ليلة إلى منزله فبتّ عنده، فأخرج جارية له و مدّ لها ستارة فتغنّت خلفها، فرأيتها صالحة الأداء كثيرة الرواية، فشوّقتني إلى العراق و ذكّرتني أيّامي بها، فدعوت بعود، فلما جيء به اندفعت فغنّيت صوتي في شعري:

أنا بالرّيّ مقيم *** في قرى الرّيّ أهيم

و قد كنت صنعت هذا اللحن قديما بالرّيّ؛ فخرجت الجارية من وراء السّتارة مبادرة إليّ، فأكبّت على رأسي و قالت: أستاذي و اللّه!؛ فقال لها مولاها: أيّ أستاذيك هذا؟ قالت: إبراهيم الموصليّ؛ فإذا هي إحدى الجواري اللاّتي أخذن/عني و طال العهد بها؛ فأكرمني مولاها و برّني و خلع عليّ، فأقمت مدّة بعد ذلك بالرّيّ و انتشر خبري بها، ثم كتب بحملي إلى والي البلد فأشخصت.

ص: 127


1- كذا في ط، ء، هنا و فيما سيأتي في جميع الأصول في أكثر من موضع. و في سائر الأصول هنا: «محمد بن عبد الملك» و هو تحريف.
2- الريّ: مدينة مشهورة من أمهات البلاد و أعلام المدن كثيرة الفواكه و الخيرات، و هي محط الحاج على طريق السابلة، و قصبة بلاد الجبال، بينها و بين نيسابور مائة و ستون فرسخا و إلى قزوين سبعة و عشرون فرسخا. (راجع «معجم ياقوت» في كلامه عليها).
أرسل و هو في الحبس شعرا لبعض إخوانه فلما وقف عليه المهدي رق له و أطلقه:

أخبرني الحسن قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أبو توبة صالح بن محمد قال حدّثني القطرانيّ عن محمد بن جبر عن يحيى المكّيّ قال:

كنّا يوما بين يدي المهديّ و قد حبس إبراهيم الموصليّ و ضربه و أمر بأن يلبس جبّة صوف، و كان يخرج على تلك الحال فيطرح على الجواري؛ فكتب إلينا ذات يوم، و نحن مصطبحون و قد جادت(1) السماء بمطر صيّف(2)، و بحضرتنا شيء من ورد مبكّر:

ألا من مبلغ قوما *** من اخواني و جيراني

هنيئا لكم الشّرب *** على ورد و تهتان(3)

و أنّي مفرد وحدي *** بأشجاني و أحزاني

فمن جفّ له جفن *** فجفناي يسيلان

قال: فوقف المهديّ على رقعته و قرأها فرقّ له و أمر بطلبه في الوقت، ثم أطلقه بعد بأيّام.

شغف بجارية عليّ اليماني و قال فيها شعرا:
اشارة

أخبرني الحسن قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني ابن المكّيّ عن أبيه قال:

كانت لعليّ اليمانيّ جارية فهويها إبراهيم و استهيم بها زمانا، و قال فيها:

صوت

كنت حرّا فصرت عبد اليماني *** من هوى شادن هواه براني

/و هو نصفان من قضيب و دعص(4) *** زان صدر القضيب رمّانتان

اللحن لإبراهيم في هذين البيتين ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. و قد زعم قوم أن الشعر للحسين(5) بن الضّحاك.

نصح ابنه إسحاق بعض آل نهيك في الغناء فلامه فلما عرف هو أدب النهيكي عنى به:

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق قال:

كان بعض أهل نهيك(6) قد تعاطى الغناء، فلمّا ظنّ أنه قد أحكمه شاورني و أبي حاضر، فقلت له: إن قبلت

ص: 128


1- في الأصول: «جاءت».
2- الصيف (بتشديد الياء): المطر الذي يجيء في الصيف، واحده صيفة (بتشديد الياء)، يقال: أصابتنا صيفة غزيرة أي مطرة غزيرة في الصيف.
3- هتنت السماء (من باب ضرب) هتنا و هتونا و هتنانا و تهتانا: انصبت.
4- الدعص (بالكسر): كثيب الرمل.
5- كذا في ط، ء. و قد أورد له أبو الفرج ترجمة في (ج 6 ص 170 طبع بولاق). و في سائر الأصول: «للحسن»، و هو تحريف.
6- لعله من أسرة عثمان بن نهيك أحد قوّاد المنصور و الذي كلفه المنصور قتل أبي مسلم الخراساني حين يدخل عليه.

منّي فلا تغنّ فلست فيه كما أرضى؛ فصاح أبي عليّ صيحة شديدة ثم قال لي: و ما يدريك يا صبيّ! ثم أقبل على الرجل فقال: أنت يا حبيبي بضدّ ما قال، و إن لزمت الصّناعة برعت فيها؛ فلما خلا بي قال لي: يا أحمق! ما عليك أن يخزي اللّه مائة ألف مثل هذا! هؤلاء أغنياء ملوك، و هم يعيّروننا بالغناء، فدعهم يتهتكوا به و يعيّروا و يفتضحوا و يحتاجوا إلينا فننتفع بهم، و يبين فضلنا لدى الناس بأمثالهم. قال: و لزمه النّهيكيّ يأخذ عنه و يبرّه فيجزل، فكان إذا غنّى فأحسن قال له: بارك اللّه فيك، و إذا أساء قال: بارك اللّه عليك؛ و كثر ذلك منه حتّى عرف النّهيكيّ معناه فيه، فغنّى يوما و أبي ساه عنه فسكت و لم يقل له شيئا؛ فقال له: جعلت فداك، يا أستاذي، أ هذا الصوت من أصوات «فيك» /أم «عليك»؟ فضحك أبي و لم يكن علم(1) أنه قد فطن لقوله، ثم قال له: و اللّه لأقبلنّ عليك حتّى تصير كما تشتهي، فإنك ظريف أديب؛ و غني به حتى حسن غناؤه و تقدّم. و فيه يقول أبي:

أوجب اللّه لك الح *** قّ على مثلي بظرفك

لن تراني بعد هذا *** ناطقا إلاّ بوصفك

و ترى القوّة فيما *** تشتهيه بعد ضعفك

احتكم إليه مخارق و إسحاق فحكم لإسحاق:

أخبرني إسماعيل قال حدّثني عمر بن شبّة عن إسحاق، أخبرني به الصّوليّ عن عون بن محمد عن إسحاق قال:

غنّى مخارق بين يدي الرشيد صوتا فأخطأ في قسمته؛ فقلت له: أعد فأعاده، و كان الخطأ خفيّا، فقلت للرّشيد: يا سيّدي، قد أخطأ فيه؛ فقال لإبراهيم بن المهديّ: ما تقول فيما ذكره إسحاق؟ قال: ليس الأمر كما قال، و لا هاهنا خطأ؛ فقلت له: أ ترضى بأبي؟ قال: إي و اللّه، و كان أبي في بقايا علّة؛ فأمر الرشيد بإحضاره و لو محمولا، فجيء به في محفّة؛ فقال لمخارق: أعد الصوت، فأعاده: فقال: ما عندك يا إبراهيم في هذا الصوت؟ فقال: قد أخطأ فيه؛ فقال له: هكذا قال ابنك إسحاق، و ذكر أخي إبراهيم أنه صحيح؛ فنظر إليّ ثم قال: هاتوا دواة، فأتي بها و كتب شيئا لم يقف عليه أحد ثم قطعه و وضعه بين يدي الرشيد، و قال لي: اكتب بذكر الموضع الفاسد من قسمة هذا الصوت، فكتبته و ألقيته فقرأه و سرّ، و قام فألقاه بين يدي الرشيد، فإذا الذي قلناه جميعا متفق؛ فضحك و عجب، و لم يبق/أحد في المجلس إلا قرّظ و أثنى و وصف، و لا أحد خالف إلاّ خجل و ذلّ و أذعن.

و قال أبي في ذلك:

ليت من لا يحسن العل *** م كفانا شرّ علمه

فاخبر الحقّ ابتداء *** و قس العلم بفهمه

طيّب الرّيحان لا تع *** رفه إلا بشمّه

حديث بين ابنه إسحاق و الرشيد في المال الذي أخذه هو من الرشيد:

حدّثني جحظة قال حدّثني هبة اللّه، و حدّثني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

غنّى أبي يوما بحضرة الرشيد:

ص: 129


1- كذا في ح. و في أ، م: «و لم يكن علم اللّه أنه... إلخ». و في سائر الأصول: «و لم يكن علم أبي أنه... إلخ».

سلي هل قلاني من عشير صحبته *** و هل ذمّ رحلي في الرّفاق رفيق

فطرب و استعاده و أمر له بعشرين ألف درهم، فلما كان بعد سنين(1)، خطر ببالي ذلك الصوت و ذكرت قصّته، فغنّيته إياه؛ فطرب و شرب، ثم قال لي: يا إسحاق، كأني في نفسك ذكرت حديث أبيك و أنّي أعطيته ألف دينار على هذا الصوت فطمعت في الجائزة!؛ فضحكت ثم قلت: و اللّه يا سيّدي ما أخطأت؛ فقال: قد أخذ ثمنه أبوك مرّة فلا تطمع؛ فعجبت من قوله، ثم قلت: يا سيّدي، قد أخذ أبي منك أكثر من مائتي(2) ألف دينار ما رأيتك ذكرت منها غير هذا الألف على بختي(3) أنا؛ فقال: ويحك! أكثر من مائتي(2) ألف دينار؟! قلت: إي و اللّه!؛ فوجم و قال:

أستغفر اللّه من ذلك، ويحك! فما الذي خلّف منها؟ قلت: خلّف/عليّ ديونا مبلغها خمسة آلاف دينار قضيتها عنه؛ فقال: ما أدري أيّنا أشدّ تضييعا! و اللّه المستعان.

نسبة هذا الصوت
صوت

سلي هل قلاني من عشير صحبته *** و هل ذمّ رحلي في الرّفاق رفيق

و هل يحتوي القوم الكرام صحابتي *** إذا اغبرّ مخشيّ الفجاج عميق(4)

و لو تعلمين الغيب أيقنت أنّني *** لكم و الهدايا المشعرات(5) صديق

الشعر ينسب إلى مضرّس بن قرط(6) الهلاليّ و إلى قيس بن ذريح، و فيه بيت يقال: إنه لجرير. و الغناء مختلط في أشعار الثلاثة المذكورين، و نسبته تأتي في أخبار قيس بن ذريح، إلا أن الغناء في هذه الثلاثة الأبيات لمعبد ثقيل أوّل بالخنصر في(7) مجرى البنصر عن إسحاق.

رأى و هو في سرداب له سنورتين تغنيان فحفظ الصوت:

أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثتني نشوة الأشنانية(8) قالت أخبرني أبو عثمان يحيى المكيّ قال:

تشوّق يوما إبراهيم الموصليّ إلى سرداب له، و كانت فيه بركة ماء تدخل من موضع إليه و تخرج إلى بستان، فقال: أشتهي أن أشرب يومي و أبيت ليلتي في هذا/السرداب ففعل ذلك، فبينا هو نائم في نصف الليل فإذا

ص: 130


1- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «سنتين».
2- في م: «مائة ألف دينار».
3- قال صاحب «المصباح»: البخت: الحظ وزنا و معنى و هو أعجميّ و من هنا توقف بعضهم في كون البخت التي هي أصل البخاتي (أي الإبل) عربية. و في «الصحاح» و «القاموس» و «شرحه»: أنه معرّب أو مولد. و في «شفاء الغليل» و «اللسان»: أن العرب تكلمت به. و قال الأزهريّ: لا أدري أ عربيّ هو أم لا.
4- كذا في ط، ء، و هو الموافق لما جاء في «الأمالي» (ج 2 ص 257 طبع دار الكتب المصرية). و في سائر الأصول: «مخشيّ العجاج سحيق».
5- الهدايا: ما يهدي إلى البيت الحرام من النعم لتنحر. و المشعرات: المعلمات بعلامة يعرف بها أنها هدى.
6- كذا في ط، ء و «الأمالي». و في سائر الأصول: «قرظة» و هو تحريف.
7- كذا في ط، ء، م. و في سائر الأصول: «ثقيل أول بالخنصر و مجرى البنصر».
8- في ط، ء: «نشو الأشناسية».

سنّورتان(1) قد نزلتا من درجة السّرداب، بيضاء و سوداء، فقالت إحداهما: أ تراه نائما(2)؟ فقالت السوداء: هو نائم؛ فاندفعت السوداء فغنّت بأحسن صوت:

عفا مزج(3) إلى لصق(4) *** إلى الهضبات من هكر(5)

إلى قاع النّقير(6) إلى *** قرار حلال(7) ذي حدر(8)

قال: فمات إبراهيم فرحا و قال: يا ليتهما أعاداه! فأعاداه مرارا حتى أخذه، ثم تحرّك فقامت السّنّورتان، و سمع إحداهما تقول للأخرى: و اللّه لا طرحه على أحد إلا جنّ، فطرحه من غد على جارية له فجنّت.

نسبة هذا الصوت

الغناء فيه لمالك ثقيل أوّل بالوسطى عن يحيى المكّي و عمرو بن بانة.

طلب من الفضل بن يحيى مالا فحصل له عليه ممن قضى حوائجهم:

أخبرني الحسن بن عليّ و عمّي قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني أبو محمد إسحاق بن إبراهيم عن أبيه قال:

/أتيت الفضل بن يحيى يوما، فقلت له: يا أبا العبّاس، جعلت فداك! هب لي دراهم فإنّ الخليفة قد حبس يده؛ فقال: ويحك يا أبا إسحاق! ما عندي مال أرضاه لك، ثم قال: هاه! إلاّ أن هاهنا خصلة(9) أتانا رسول صاحب اليمن فقضينا حوائجه، و وجّه إلينا بخمسين ألف دينار يشتري لنا بها محبّتنا؛ فما فعلت ضياء جاريتك؟ قلت: عندي، جعلت فداك!؛ قال: فهو ذا، أقول لهم يشترونها منك فلا تنقصها من خمسين ألف دينار؛ فقبّلت رأسه ثم انصرفت؛ فبكّر عليّ رسول صاحب اليمن و معه صديق لي، فقال: جاريتك فلانة عندك؟ فقلت: عندي؛ فقال: اعرضها عليّ، فأخرجتها؛ قال: بكم؟ قلت: بخمسين ألف دينار و لا أنقص منها دينارا واحدا، و قد أعطاني بها الفضل بن يحيى أمس هذه العطيّة؛ فقال لي: أريدها له؛ فقلت له: أنت أعلم، إذا اشتريتها فصيّرها لمن شئت؛

ص: 131


1- السنورة: الهرّة.
2- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «نرى نائما».
3- كذا في أكثر الأصول. و مزج (بالضم ثم السكون): ماء بينه و بين المدينة ثلاثون فرسخا أو نحوها. و في ب، ح. س: «مزح» (بالحاء المهملة)، و هو تصحيف.
4- كذا في جميع الأصول، و لم نعثر على هذا الاسم في المرجع التي بين أيدينا. و لعله مصحف عن «لصف» (بالفاء)، و هو بركة غربيّ طريق مكة بين المغيثة و العقبة على ثلاثة أميال من صبيب غربيّ واقصة. (راجع «معجم البلدان» لياقوت و «القاموس» و «شرحه» في «لصف»).
5- هكر (بفتح أوّله و كسر ثانيه و راء مهملة): موضع على نحو أربعين ميلا من المدينة.
6- كذا في ط، ء. و النقير (بفتح أوله و كسر ثانيه): موضع بين هجر و البصرة. و في سائر الأصول: «البقير» بالباء الموحدة، و لم نعثر عليه في المراجع التي بين أيدينا.
7- حلال (بكسر الحاء و تخفيف اللام): من نواحي اليمن.
8- كذا في ط، ء. و الحدر (بالدال المهملة): ما انحدر من الأرض و هو الصبب. و في سائر الأصول: «ذي حذر» بالذال المعجمة، و هو تصحيف.
9- كذا في الأصول، و ظاهر سياق الكلام يقتضي أن يكون المراد مخرجا أو فرصة و نحو ذلك. فلعل كلمة «خصلة» محرّفة عما يؤدّي هذا المعنى.

فقال لي: هل لك في ثلاثين ألف دينار مسلّمة لك؟ قال: و كان شراء الجارية على أربعمائة دينار، فلما وقع في أذني ذكر ثلاثين ألفا أرتج عليّ و لحقني زمع(1)، و أشار عليّ صديقي الذي معه البيع، و خفت و اللّه أن يحدث بالجارية حدث أو بي بالفضل بن يحيى، فسلّمتها و أخذت المال؛ ثم بكّرت على الفضل بن يحيى، فإذا هو جالس وحده؛ فلما نظر إليّ ضحك، ثم قال لي: يا ضيّق الحوصلة(2)! حرمت نفسك عشرين ألف دينار؛ فقلت له: جعلت فداك، دع ذا عنك، فو اللّه لقد دخلني شيء أعجز عن وصفه و خفت أن تحدث بي حادثة أو بالجارية أو بالمشتري أو بك، أعاذك اللّه من/كل سوء، فبادرت بقبول الثلاثين ألف دينار؛ فقال: لا ضير، يا غلام جيء بالجارية، فجاء بجاريتي بعينها؛ فقال: خذها مباركا لك فيها، فإنما أردنا منفعتك و لم نرد الجارية؛ فلما نهضت(3)، قال لي: مكانك، إنّ صاحب إرمينية قد جاءنا فقضينا حوائجه و نفذنا كتبه، و ذكر أنه قد جاءنا بثلاثين ألف دينار يشتري لنا بها ما نحبّ، فاعرض عليه جاريتك هذه و لا تنقصها من ثلاثين ألف دينار؛ فانصرفت بالجارية و بكّر إليّ رسول صاحب إرمينية و معه صديق لي آخر، فقاولني بالجارية، فقلت: لست أنقصها من ثلاثين ألف دينار؛ فقال لي: معي على الباب عشرون ألف دينار تأخذها مسلّمة، بارك اللّه لك فيها؛ فدخلني و اللّه مثل الذي دخلني في المرّة الأولى و خفت مثل خوفي الأوّل، فسلّمتها و أخذت المال؛ و بكّرت على الفضل بن يحيى فإذا هو وحده؛ فلما رآني ضحك و ضرب برجله الأرض و قال: ويحك! حرمت نفسك عشرة آلاف دينار؛ فقلت: أصلحك اللّه، خفت و اللّه ما خفت في المرّة الأولى؛ قال: لا ضير، أخرج يا غلام جاريته؛ فجاء بجاريتي بعينها، فقال: خذها، ما أردناها و لا أردنا إلا منفعتك(4)؛ فلما ولّت الجارية صحت بها: ارجعي فرجعت؛ فقلت: أشهدك، جعلت فداك، أنها حرّة لوجه اللّه و أني قد تزوّجتها على عشرة آلاف درهم، كسبت لي في يومين/خمسين ألف دينار، فما جزاؤها إلا هذا؛ فقال:

وفّقت إن شاء اللّه.

سمع أحد الخمارين غناءه فبهت:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال أخبرني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني إسحاق قال قال لي أبي:

/كنت في شبابي ألازم أصحاب قطربل(5) و باري(6) و بنّى(7) و ما أشبه هذه المنازل(8)، فأتخذ فيهم الخمّار

ص: 132


1- الزمع (بالتحريك): شبه رعدة تأخذ الإنسان.
2- ضيق الحوصلة هنا كناية عن التسرّع و شدّة الحرص. و في كتاب «ما يعوّل عليه في المضاف و المضاف إليه» أن ضيق الحوصلة يكنى به عن البخل.
3- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «ذهبت لأقوم».
4- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «ما أردنا إلا منفعتك».
5- قطربل (بضم أوّله و إسكان ثانيه و ضم الراء المهملة أو فتحها، و تشديد الباء المضمومة، و يروى بفتح أوّله و طائه): قرية بين بغداد و عكبرا تنسب إليها الخمر، كانت متنزها للبطالين و حانة للخمارين و قد أكثر الشعراء من ذكرها. (راجع «معجم البلدان» لياقوت و «معجم ما استعجم» للبكري).
6- باري (بكسر الراء): قرية من أعمال كلواذي من نواحي بغداد، كانت بها بساتين و متنزهات، يقصدها أهل البطالة.
7- بنى (بكسر أوّله و تشديد ثانيه و القصر): قرية على شاطئ دجلة من نواحي بغداد بينهما نحو فرسخين، و هي تحت كلواذي، و كانت في بغداد قريتان تسميان بهذا الاسم. و إحداهما أراد أبو نواس حين قال: ما أبعد الرشد من قلب تضمنه قطر بل فقري بني فكلواذي (انظر «معجم البلدان» لياقوت).
8- في ط، ء: «المواخير».

اللطيف، يحسبوني(1) بالشراب الجيّد و يخبؤه لي، فجئت إلى باري يوما فلقيني خمّاري، فقال لي: يا أبا إسحاق عندي شيء من بابتك(2)، و قد كنت عملت لحني هذا:

صوت

اشرب الرّاح و كن في *** شربك الرّاح وقورا

فاشرب الرّاح رواحا *** و ظلاما و بكورا

- الشعر و الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى(3). و فيه لمنصور زلزل الضارب خفيف رمل عن حبش - قال: فدخلت بيته و بزلت(4) دنّه و جعلت أرجّع الصوت؛ فبهت ينظر إليّ و النبيذ يجري حتى امتلأ الإناء و فاض؛ فقلت له: ويحك! شرابك قد فاض؛ فقال: دعني من شرابي، باللّه مات لك إنسان في هذه الأيام؟ فقلت:

لا؛ قال: فما بال حلقك هذا حزينا(5)؟.

ألقى على مخارق صوتا فلما أخذه بكى و مدحه:
اشارة

أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن عمّه طيّاب بن إبراهيم قال:

دخلت على أبي يوما و عنده مخارق و أبي يلقي عليه هذا الصوت:

صوت

طربت و أنت معنيّ كئيب *** و قد يشتاق ذو الحزن الغريب

و شاقك بالموقّر(6) أهل خاخ(7) *** فلا أمم هناك و لا قريب

و كم لك دونها من عرض أرض *** كأنّ سرابها الجاري سبيب

لعمرك إنّني برقيم(8) قيس *** و جارة أهلها لأنا الحريب

ص: 133


1- كذا في ط، ء، م. و في باقي الأصول: «فيجيئني».
2- البابة: الوجه و المذهب. و في «اللسان»: «يقال: هذا شيء من بابتك أي يصلح لك».
3- في ط، ء: «في مجرى البنصر».
4- بزل الدنّ: ثقبه ليسيل ما به من خمر.
5- في ب، س: «زين» بدون ألف في آخره. و في سائر الأصول: «حزين حزين» مكرّرا.
6- الموقر: اسم موضع من عمل البلقاء بنواحي دمشق. ثم قال البكريّ في «معجم ما استعجم»: «و في شعر الأحوص ما ينبئك أن الموقر من شق اليمن قال: ألا طرقتنا بالموقر شغفر و من دون مسراها قديد و عزور بواد يمان نازح جل نبته غضا و أراك ينضح الماء أخضر»
7- خاخ: موضع بين الحرمين، و يقال له: روضة خاخ بالقرب من حمراء الأسد بالمدينة.
8- لم نوفق إلى «رقيم قيس» في المراجع التي بين أيدينا، و الموجود «الرقيم» بدون إضافة، و هو موضع بقرب البلقاء من أطراف الشام، كان ينزله يزيد بن عبد الملك. فلعل رقيم قيس هو هذا الرقيم. و يرجح هذا أن الشعر هنا يدل على أن «رقيم قيس» قريب من «الموقر» الذي هو بجهة البلقاء. و قد ورد «الرقيم» مع «الموقر» هذا في شعر كثير يمدح يزيد بن عبد الملك: يزرن على تنائيه يزيدا بأكناف الموقر و الرقم

- الشعر للأحوص، و الغناء لإبراهيم ما خوريّ بالبنصر عن عمرو - قال: فلما أخذه مخارق جعل أبي يبكي، ثم قال له: يا مخارق، نعم وسيلة(1) إبليس أنت في الأرض، أنت و اللّه بعدي صاحب اللّواء في هذا الشأن.

استفزه ابنه إسحاق فتفاخرا في الغناء فحكم له:

أخبرني الحسن بن عليّ و عمّي قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك عن إسحاق قال:

لما صنع أبي لحنه في:

ليت هندا أنجزتنا ما تعد *** و شفت أنفسنا مما تجد

خاصمته و عبته في صنعته، و قلت له: أما بإزائك من ينتقد أنفاسك و يعيب محاسنك و أنت لا تفكّر! تجيء إلى صوت قد عمل فيه ابن سريج لحنا فتعارضه بلحن لا يقاربه و الشعر أوسع من ذلك! فدع ما قد اعتورته(2) صناعة القدماء و خذ في غيره؛ فغضب، و كنت لا أزال أفاخره بصنعتي و أعيب ما يعاب من صنعته، فإن قبل منّي فذلك، و إن غضب داريته و ترضّيته؛ فقال لي: ما يعلم اللّه أني أدعك أو تفاخرني بخير صوت صنعته في الثقيل الثاني في طريقة هذا الصوت؛ فلمّا رأيت الجدّ منه اخترت صنعتي في هذا اللّحن:

قل لمن صدّ عاتبا *** و نأى عنك جانبا

/قد بلغت الذي أرد *** ت و إن كنت لاعبا

و كان ما تجاريناه و نحن نتساير خارجين إلى الصحراء نقطع فضلة خمار بنا(3)؛ فقال: من تحبّ أن يحكم بيني و بينك؟ فقلت: من ترى أن يحكم هاهنا؟ قال: أوّل من يطلع [علينا](4) أغنّيه لحني و تغنّيه لحنك؛ فطمعت فيه و قلت نعم؛ فأقبل شيخ نبطيّ يحمل شوكا على حمار له، فأقبل عليه أبي فقال: إنّي و صاحبي هذا قد تراضينا بك في شيء؛ قال: و أيّ شيء هو؟ فقلنا: زعم كلّ واحد منّا أنه أحسن غناء من صاحبه، /فتسمع منّي و منه و تحكم؛ فقال: على اسم اللّه؛ فبدأ أبي فغنّى لحنه، و تبعته فغنّيت لحني، فلما فرغت أقبل عليّ فقال لي: قد حكمت عليك عافاك اللّه و مضى؛ فلطمني أبي لطمة ما مرّ بي مثلها منه قطّ، و سكتّ فما أعدت عليه حرفا و لا راجعته بعد ذلك في هذا المعنى حتى افترقنا.

نسبة هذين الصوتين
صوت

ليت هندا أنجزتنا ما تعد *** و شفت أنفسنا ممّا تجد

و استبدّت مرّة واحدة *** إنما العاجز من لا يستبدّ

ص: 134


1- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «نعم فيشلة...».
2- اعتور الشيء: تداوله و تعاطاه.
3- كذا في ط، ء و الخمار: بقبة السكر. و في سائر الأصول: «خمارينا» بالتثنية.
4- زيادة عن ط، ء.

زعموها سألت جاراتها(1) *** ذات يوم و تعرّت تبترد(2)

أ كما ينعتني تبصرنني *** عمركنّ اللّه أم لا يقتصد

فتضاحكن(3) و قد قلن لها *** حسن في كلّ عين من تودّ

حسدا حمّلنه من أجلها *** و قديما كان في الناس الحسد

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و لحن إبراهيم فيه ثاني ثقيل بالوسطى. و فيه لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر. و فيه لمالك خفيف ثقيل بالخنصر و البنصر عن يحيى المكيّ، و ذكره إسحاق في هذه الطريقة و لم ينسبه إلى أحد، و قال الهشاميّ: أدلّ شيء على أنه لمالك شبهه للحنه:

اسلمي يا دار من هند

/و فيه لمتيّم ثقيل أوّل. و أما لحن إسحاق الذي فاخر به صنعة أبيه، فقد كتب شعره و الصنعة فيه - و هما(4)جميعا لإسحاق، و لحنه ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو - في أخبار إسحاق.

كان زلزل في الحبس فعمل فيه إبراهيم شعرا و غناه الرشيد فأطلقه:

و ذكر أحمد بن أبي طاهر أنّ حمّاد بن إسحاق حدّثه عن أبيه قال:

كان الرشيد قد وجد على منصور زلزل لشيء بلغه عنه، فحبسه(5) عشر سنين أو نحوها؛ فقام الرشيد يوما لحاجته، فجعل إبراهيم يغنّي صوتا صنعه في شعر كان قاله في حبس زلزل، و هو:

هل دهرنا بك راجع يا زلزل *** أيّام يبغينا العدوّ المبطل

أيام أنت من المكاره آمن *** و الخير متّسع علينا مقبل

يا بؤس من فقد الإمام و قربه *** ما ذا به من ذلّة لو يعقل

ما زلت بعدك في الهموم مردّدا *** أبكي بأربعة(6) كأنّي مثكل

- الشعر و الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو - قال: و دخل الرشيد و هو في ذلك/فجلس في مجلسه، ثم قال: يا إبراهيم، أيّ شيء كنت تقول؟ فقال: خيرا يا سيّدي؛ فقال: هاته فتلكّأ، فغضب الرشيد و قال:

هاته فلا مكروه عليك، فردّ الغناء؛ فقال له: أ تحبّ أن تراه؟ فقال: و هل ينشر أهل القبور؟ فقال: هاتوا زلزلا، فجاءوا به و قد ابيضّ رأسه و لحيته فسرّ به إبراهيم؛ و أمره فجلس، و أمر/إبراهيم فغنّى و ضرب عليه فزلزلا الدنيا، و شرب الرشيد على ذلك رطلا، و أمر بإطلاق زلزل و أسنى جائزتهما و رضي عنه و صرفه إلى منزله. قال: و زلزل

ص: 135


1- في ب، س: «جارتها» بالإفراد.
2- تبترد: تغتسل بالماء البارد.
3- في «الكامل» للمبرد: «فتهانفن». و الإهناف و المهانفة و التهانف: ضحك فيه فتور كضحك المستهزئ. و خصه بعضهم بضحك النساء. (راجع «الكامل» للمبرد ص 594 طبع ليبزج و الحاشية رقم 3 ص 186 من الجزء الأول من «الأغاني» من هذه الطبعة).
4- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «و الشعر جميعا...».
5- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «فحبسه عنه» بزيادة كلمة عنه.
6- يريد بالأربعة: اللحاظين و الموقين للعنيين، فإن الدمع يجري من الموقين فإذا غلب و كثر جرى من اللحاظين أيضا.

أوّل من أحدث هذه العيدان الشّبابيط(1)، و كانت قديما على عمل عيدان الفرس، فجاءت عجبا من العجب. قال:

و كانت أخت زلزل تحت إبراهيم، و قد ولدت منه.

حديثه عن أوّل أستاذ له في الغناء:

أخبرني محمد بن مزيد عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

أوّل من تعلّمت منه الغناء مجنون، كان إذا صيح به: يا مضر، يهيج و يرجم؛ فبلغني أنه يغنّي أصواتا فيجيدها، أخذها عن قدماء أهل الحجاز، فكنت أدخله إليّ فأطعمه و أسقيه و أخدعه حتى آخذ عنه، و كان حاذقا؛ فأوّل صوت أخذته عنه:

أرسلي بالسّلام يا سلم إنّي *** منذ علّقتكم غنيّ فقير

فالغنى إن ملكت أمرك و الفق *** ر بأنّي أزور من لا يزور

ويح نفسي! تسلو النفوس و نفسي *** في هوى الرّيم ذكرها ما يحور

من لنفس تتوق أنت هواها *** و فؤاد يكاد فيك يطير

ثم مكثت زمانا آخذ عنه، و كان إذا عاد إليه عقله من أحذق الناس و أقومهم على ما يؤدّيه؛ ثم غاب عنّي فما أعرف خبره.

و هذا الشعر للوليد بن يزيد. و الغناء ليونس خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، و ذكر غيره أنه لعمر(2) الواديّ، و فيه لوجه القرعة ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش.

خرج مع الرشيد إلى الشام فأحسن إليه و خلع عليه ثيابه:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن جدّه قال:

خرجت مع الرشيد إلى الشام لمّا غزا، فدعاني يوما فدخلت إليه إلى مجلس لم أر أحسن منه مفروش بأنواع الرّخام، فأكل و أمرني فأكلت معه، و جعلت أتولّى خدمته إلى العصر، ثم دعا بالنبيذ فشرب و سقاني معه، ثم خلع عليّ خلعة وشى من ثيابه و أمر لي بألف دينار، ثم قال: انظر يا إبراهيم، كم من يد أوليتك إيّاها اليوم! نادمتني مفردا، و آكلتني، و خلعت عليك ثيابي من بدني، و وصلتك، و أجلستك في إيوان مسلمة بن عبد الملك تشرب معي؛ فقلت: يا سيّدي، ما ذهب عليّ شيء من تفضّلك، و إنّ نعمك عندي لأكثر من أن تحصى، و قبّلت رجله و الأرض بين يديه.

هو أوّل من غنى الرشيد بعد أن ولى الخلافة بشعر له فيه:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال قال دعبل بن عليّ:

لمّا ولى الرشيد الخلافة و جلس للشرب بعد فراغه من إحكام الأمور و دخل عليه المغنّون، كان أوّل من غنّاه إبراهيم الموصليّ بشعره فيه، و هو:

ص: 136


1- الشبابيط: جمع شبوط، و هو ضرب من السمك دقيق الذنب عريض الوسط لين المس صغير الرأس كأنه بربط: (عود).
2- في ب، س: «لعمرو الوادي»، و هو تحريف.
صوت

إذا ظلم البلاد(1) تجلّلتنا *** فهارون الإمام لها(2) ضياء

بهارون استقام العدل فينا *** و غاض الجور و انفسح الرجاء

/رأيت الناس قد سكنوا إليه *** كما سكنت إلى الحرم الظّباء

تبعت من الرسول سبيل حقّ *** فشأنك في الأمور به اقتداء

/فقال له الخادم من خلف الستارة: أحسنت يا إبراهيم في شعرك و غنائك، و أمر له بعشرين ألف درهم.

لحن إبراهيم في هذا الصوت ثقيل أوّل بالسبّابة و الوسطى عن أحمد بن المكّي.

دخل على قوم يغنيهم هاشم بن سليمان فلما عرفوه أكرموه، و شعره في ذلك:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثني أبي قال:

كنت أنا و أبو سعيد النّهديّ(3) و هاشم بن سليمان المغنّي يوما مجتمعين في بستان لنا و نحن نشرب و هاشم يغنّينا؛ فلمّا توسّطنا أمرنا إذا نحن برجل قد دخل علينا البستان جميل الهيئة حسن الزّيّ، فلمّا بصرنا به من بعيد، وثب هاشم يعدو حتى لقيه، فقبّل يده و عانقه، و لم يعرفه أحد منا، فجاء و سلّم سلام الصّديق على صديقه، ثم قال: خذوا في شأنكم، فإني اجتزت بكم فسمعت غناء أبي القاسم فاستخفّني و أطربني، فدخلت إليكم واثقا بأنه لا يعاشر إلاّ فتى ظريفا يستحسن هذا الفعل و يسرّه، و لي في هذا إمام و هو عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام، فإنه سمع غناء عند قوم فدخل بغير إذن ثم قال: إنما أدخلني عليكم مغنّيكم لمّا غنّى:

قل لكرام ببابنا يلجوا *** ما في التّصابي على الفتى حرج

و أنا أعلم أنّ نفوسكم متعلقة بمعرفتي، فمن عرفني فقد اكتفى، و من جهلني فأنا إبراهيم الموصليّ؛ فقمنا فقبّلنا رأسه و سررنا به أتمّ سرور، و انعقدت بيننا و بينه يومئذ مودّة، ثم غاب عنّا غيبة طويلة، و إذا هاشم قد أنفذ إلينا منه رقعة فيها:

أ هاشم هل لي من سبيل إلى التي *** تفرّق همّ النفس في كل مذهب

معتّقة صرفا كأنّ شعاعها *** تضرّم نار أو توقّد كوكب

/ألا ربّ يوم قد لهوت و ليلة *** بها و الفتى النّهديّ و ابن المهلّب

ندير مداما بيننا بتحيّة *** و تفدية بالنفس و الأمّ و الأب

سرق عقعق لابنه إسحاق خاتما له فهجاه:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

ص: 137


1- كذا في الأصول. و مع استقامة الكلام به لا يبعد أن يكون: «إذا ظلم البلاء...».
2- في ط، ء: «لنا».
3- كذا في ب، س، م، أ. و في ط، ء، ح: «المهري» بالميم و الراء. و سيذكر هذا الاسم في الشعر الآتي مضطربا أيضا ففي ب، س: «النهدي». س، م، أ: «المهدي». و في ح: «البهري» و في ط، ء: «المهري»، و «النهديّ» و «المهريّ» من النسب المعروفة و لم نوفق إلى وجه الصواب في هذا الاسم.

كان(1) لي و أنا صبيّ عقعق(2) قد ربّيته و كان يتكلّم بكلّ شيء سمعه، فسرق خاتم ياقوت كان لأبي(3) قد وضعه على تكأته و دخل الخلاء ثم خرج و لم يجده، فطلبه و ضرب غلامه الذي كان واقفا، فلم يقف له على خبر؛ فبينا أنا ذات يوم في دارنا إذ أبصرت العقعق قد نبش ترابا فأخرج الخاتم منه و لعب به طويلا، ثم ردّه فيه و دفنه، فأخذته و جئت به إلى أبي، فسرّ بذلك و قال يهجو العقعق:

إذا بارك اللّه في طائر *** فلا بارك اللّه في العقعق

طويل الذّنابى(4) قصير الجناح *** متى ما يجد غفلة يسرق

يقلّب عينين في رأسه *** كأنهما قطرتا زئبق

قصته مع ابن جامع بين يدي الرشيد و ما كان منه في رضا الرشيد عن محمد الزف:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أحمد بن المكّيّ، و ذاكرت أبا أحمد بن جعفر جحظة بهذا الخبر فقال حدّثني به محمد بن أحمد بن يحيى المكي/المرتجل(5) عن أبيه عن جدّه، و وجدت هذا الخبر في بعض الكتب عن عليّ بن محمد بن نصر عن جدّه حمدون بن إسماعيل فجمعت الروايات كلّها:

/أنّ الرشيد قال يوما لجعفر بن يحيى: قد طال سماعنا هذه العصابة على اختلاط الأمر فيها فهلمّ أقاسمك إياها و أخايرك، فاقتسما المغنّين، على أن جعلا بإزاء كل رجل نظيره، و كان ابن جامع في حيّز الرشيد و إبراهيم في حيّز جعفر بن يحيى، و حضر الندماء لمحنة(6) المغنّين، و أمر الرشيد ابن جامع فغنّى صوتا أحسن فيه كلّ الإحسان و طرب الرشيد غاية الطرب، فلما قطعه قال الرشيد لإبراهيم: هات يا إبراهيم هذا الصوت فغنّه؛ فقال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين ما أعرفه، و ظهر الانكسار فيه؛ فقال الرشيد لجعفر: هذا واحد، ثم قال لإسماعيل بن جامع: غنّ يا إسماعيل، فغنّى صوتا ثانيا أحسن من الأول و أرضى في كل حال، فلما استوفاه قال الرشيد لإبراهيم: هاته يا إبراهيم، قال: و لا أعرف هذا؛ فقال: هذان اثنان، غنّ يا إسماعيل، فغنّى ثالثا يتقدّم الصوتين الأوّلين و يفضلهما، فلما أتى على آخره، قال: هاته يا إبراهيم، قال: و لا أعرف هذا أيضا؛ فقال له جعفر: أخزيتنا أخزاك اللّه. قال: و أتمّ ابن جامع يومه و الرشيد مسرور به، و أجازه بجوائز كثيرة و خلع عليه خلعا فاخرة، و لم يزل إبراهيم منخذلا منكسرا حتى انصرف. قال: فمضى إلى منزله، فلم يستقرّ فيه حتى بعث إلى محمد المعروف بالزّف(7)، و كان محمد من المغنّين المحسنين، و كان أسرع من عرف في أيامه في أخذ صوت يريده أخذه، و كان الرشيد قد وجد عليه في بعض ما يجده الملوك على أمثاله فألزمه بيته و تناساه؛ فقال إبراهيم للزّف: إني اخترتك على من هو

ص: 138


1- في ب، س، م: «و كان».
2- العقعق: طائر على قدر الحمامة و هو على شكل الغراب، و جناحاه أكبر من جناحي الحمامة، و العرب تتشاءم به و تضرب به المثل في السرقة و الخيانة و الخبث.
3- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «فوضعه».
4- الذنابي: الذنب.
5- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «المرتحل» بالحاء المهملة، و هو تصحيف.
6- المحنة: الاختبار، يقال: محنه إذا اختبره و جرّبه.
7- في ط، ء: «الرف» (بالراء المهملة). (راجع الحاشية رقم 2 ص 306 من الجزء الأوّل من «الأغاني» من هذه الطبعة).

أحبّ إليّ منك، لأمر لا يصلح له غيرك، فانظر كيف تكون(1)! قال: أبلغ في ذلك محبّتك إن شاء اللّه تعالى؛ فأدّى إليه الخبر و قال: أريد أن تمضي الساعة/إلى ابن جامع، فتعلمه أنك صرت إليه مهنّئا بما تهيّأ له عليّ، و تنقّصني(2)و تثلبني(3) و تشتمني، و تحتال في أن تسمع منه الأصوات و تأخذها منه، و لك ما تحبّه من جهتي من عرض من الأعراض مع رضا الخليفة إن شاء اللّه. قال: فمضى من عنده و أستأذن على ابن جامع فأذن له، فدخل و سلّم عليه و قال: جئتك مهنّئا بما بلغني من خبرك، و الحمد للّه الذي أخزى ابن الجرمقانيّة(4) على يدك، و كشف الفضل في محلّك من صناعتك؛ قال: و هل بلغك خبرنا؟ قال: هو أشهر من أن يخفى على مثلي؛ قال: ويحك! إنه يقصر عن العيان؛ قال: أيها الأستاذ، سرّني بأن أسمعه من فيك حتى أرويه عنك، و أسقط بيني و بينك الأسانيد؛ قال: أقم عندي حتى أفعل؛ قال: السمع و الطاعة؛ فدعا له ابن جامع بالطعام فأكلا و دعا بالشراب، ثم ابتدأ فحدّثه بالخبر حتى انتهى إلى خبر الصوت الأوّل؛ فقال له الزّف: و ما هو أيها الأستاذ؟ فغنّاه ابن جامع إياه، فجعل محمد يصفّق و ينعر(5) و يشرب و ابن جامع مجتهد في شأنه حتى أخذه عنه. ثم سأله عن الصوت الثاني، فغنّاه إياه، و فعل مثل فعله في الصوت الأوّل، ثم كذلك في الصوت الثالث؛ فلما أخذ الأصوات الثلاثة كلّها و أحكمها قال له: يا أستاذ، قد بلغت ما أحبّ، فتأذن لي في الانصراف؟ قال: إذا شئت؛ فانصرف محمد من وجهه إلى إبراهيم؛ /فلما طلع من باب داره قال له: ما وراءك؟ قال: كلّ ما تحب، ادع لي بعود، فدعا له به، فضرب و غنّاه الأصوات؛ قال إبراهيم:

و أبيك/هي بصورها(6) و أعيانها، ردّدها عليّ الآن، فلم يزل يردّدها حتى صحّت لإبراهيم، و انصرف الزّف إلى منزله؛ و غدا إبراهيم إلى الرشيد، فلما دعا بالمغنّين دخل فيهم، فلما بصر به قال له: أو قد حضرت! أ ما كان ينبغي لك أن تجلس في منزلك شهرا بسبب ما لقيت من ابن جامع! قال: و لم ذلك يا أمير المؤمنين؟ جعلني اللّه فداءك! و اللّه لئن أذنت لي أن أقول لأقولنّ؛ قال: و ما عساك أن تقول؟ قل؛ فقال: إنه ليس ينبغي لي و لا لغيري أن يراك نشيطا لشيء فيعارضك، و لا أن تكون متعصّبا لحيّز و جنبة(7) فيغالبك، و إلا فما في الأرض صوت لا أعرفه، قال:

دع ذا عنك، قد أقررت أمس بالجهالة بما سمعت من صاحبنا، فإن كنت أمسكت عنه بالأمس على معرفة كما تقول فهاته اليوم، فليس هاهنا عصبيّة و لا تمييز، فاندفع فأمرّ الأصوات كلّها، و ابن جامع مصغ يسمع منه، حتى أتى على آخرها؛ فاندفع ابن جامع فحلف بالأيمان المحرجة أنه ما عرفها قطّ و لا سمعها و لا هي إلا من صنعته، و لم تخرج إلى أحد غيره؛ فقال له: ويحك! فما أحدثت بعدي؟ قال: ما أحدثت حدثا؛ فقال: يا إبراهيم بحياتي اصدقني! فقال: و حياتك لأصدقنّك، رميته بحجره(8)، فبعثت له بمحمد الزّف و ضمنت له ضمانات، أوّلها رضاك عنه،

ص: 139


1- في ب، س، ح: «كيف يكون».
2- كذا في ب، س. و في ط، ء: «و تقصبني» بالباء الموحدة أي تعيبني و تشتمني.
3- ثلبه: عابه و تنقصه.
4- الجرمقاني، و مثله الجرمقي: واحد الجرامقة، و هم قوم من العجم صاروا بالموصل في أوائل الإسلام. (انظر «القاموس» و «شرحه» مادّة جرمق).
5- نعر الرجل (من بابي ضرب و منع): صاح و صوّت بخيشومه.
6- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «بصورتها».
7- الجنبة: الناحية.
8- في أساس البلاغة: «و رمى فلان بحجره إذا قرن بمثله».

فمضى فاحتال(1) لي عليه حتى أخذها عنه و نقلها إليّ، و قد(2) سقط الآن اللّوم عنّي بإقراره، لأنه ليس عليّ أن أعرف ما صنعه هو و لم يخرجه إلى الناس، و هذا باب من الغيب، و إنما يلزمني أن يعرف(3) هو شيئا من غناء الأوائل و أجهله أنا، و إلاّ فلو لزمني أن أروى صنعته للزمه أن/يروى صنعتي، و لزم كلّ واحد منا لسائر(4) طبقته و نظرائه مثل ذلك، فمن قصّر عنه كان مذموما ساقطا؛ فقال له الرشيد: صدقت يا إبراهيم، و نضحت(5) عن نفسك، و قمت بحجّتك؛ ثم أقبل على ابن جامع فقال له: يا إسماعيل، أتيت أتيت! دهيت دهيت! أبطل عليك الموصليّ ما فعلته به أمس و انتصف اليوم منك؛ ثم دعا بالزّفّ فرضي عنه.

الأصوات التي غنى بها ابن جامع و بيان ما يتصل بها:
اشارة

قال عليّ بن محمد: سألت خالي أبا عبد اللّه بن حمدون و قد تجارينا هذا الخبر: هل تعرف أصوات ابن جامع هذه؟ فأخبرني أنه سمع إسحاق يحكى هذه القصّة، و ذكر أنّ الصوت الأوّل منها:

صوت

بكيت نعم بكيت و كلّ إلف *** إذا بانت قرينته بكاها

و ما فارقت لبنى عن تقال(6) *** و لكن شقوة بلغت مداها

الشعر لقيس بن ذريح. و الغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى. و فيه ليحيى المكيّ ثاني ثقيل آخر بالخنصر و البنصر من كتابه. و فيه لإبراهيم ثقيل(7) أوّل عن الهشاميّ.

قال: و الثاني منها.

صوت

عفت دار سلمى بمفضى الرّغام *** رياح تعاقبها(8) كلّ عام

خلاف(9) الحلول بتلك الطّلول *** و سحب الذّيول بذاك المقام

/و أنس الديار و قرب الجوار *** و طيب المزار و ردّ السلام

و دهر غرير(10) و عيش السّرور *** و نأى الغيور و حسن الكلام

الشعر لحمّاد الرّاوية. و الغناء لابن جامع ثقيل أوّل بالبنصر؛ [ذكر(11) ذلك الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو].

ص: 140


1- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «فمضى حتى احتال... إلخ».
2- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «و نقلتها حتى سقط».
3- في ب، س: «ألا يعرف». و ظاهر أنه تحريف.
4- كذا في ط، ء، ح. و في سائر الأصول: «كسائر»، و هو تحريف.
5- كذا في ط، ء. و نضح الرجل عن نفسه: دفع عنها بالحجة. و في سائر الأصول: «نصحت» بالصاد المهملة، و هو تصحيف.
6- كذا في أكثر الأصول. و التقالي: التباغض. و في ب، ح: «ثقال» (بالثاء المثلثة) و هو تصحيف.
7- في ط، ء: «ثقيل أوّل آخر».
8- في ط، ء: «توارثها».
9- كذا في ط، ء، ح. أي بعده. و في باقي الأصول: «خلال» باللام.
10- كذا في ح، ط، ء. و في سائر الأصول: «عزيز».
11- زيادة عن ط، ء.

قال ابن حمدون: و هذا الصوت عجيب الصنعة، كثير النّغم، محكم العمل، من صدور أغاني ابن جامع و متقدّم صنعته، و كان المعتصم معجبا به، و كثيرا ما كان يسكت المغنّين إذا غنّي بحضرته فلا يسمع سائر يومه غيره.

قال: و الثالث منها:

صوت

نزف البكاء دموع عينك فاستعر *** عينا لغيرك دمعها مدرار

من ذا يعيرك عينه تبكي بها *** أ رأيت عينا للبكاء تعار

الشعر للعبّاس بن الأحنف. و الغناء لابن جامع ثقيل أوّل بالوسطى؛ و قال ابن حمدون: و عارضه إبراهيم بعد ذلك في [هذا] (1) الشعر، فصنع فيه لحنا من الرّمل بالبنصر في مجراها، فلم يلحقه و لا قاربه. قال: و قد صنع أيضا في هذا الشعر لحن خفيف فاسد الصنعة محدث ليس ينبغي أن يذكر هاهنا.

حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني أبو عبد اللّه الحزنبل قال حدّثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل عن أبيه قال:

أنشد بشار قول العبّاس بن الأحنف:

نزف البكاء دموع عينك فاستعر *** عينا لغيرك دمعها مدرار

/فقال بشار: لحق و اللّه هذا الفتى بالمحسنين، و ما زال يدخل نفسه معنا و نحن نخرجه حتى قال هذا الشعر.

حدّثني محمد بن يحيى قال حدّثني ميمون بن هارون عن إسحاق قال:

أنشد الرشيد قول العباس:

من ذا يعيرك عينه تبكي بها *** أ رأيت عينا للبكاء تعار

فقال: يعيره من لا حاطه اللّه و لا حفظه.

و مما يغنّى فيه من قصيدة العبّاس بن الأحنف الرائيّة التي هذا الصوت(1) الأخير منها قوله:

صوت

الحبّ أوّل ما يكون لجاجة *** تأتي به و تسوقه الأقدار

حتى إذا سلك الفتى لجج الهوى *** جاءت أمور لا تطاق كبار

غنّاه ابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر. و فيه لشاطرة امرأة منصور زلزل ثقيل(2) أوّل بالوسطى عن الهشامي. و ذكر

ص: 141


1- في س، ب، م: «التي هي الصوت الآخر منها». و في ح: «التي هي الصوت الأوّل منها».
2- في ح: «ثاني ثقيل أوّل بالوسطى».

ابن المكيّ المرتجل أنّ هذه الأصوات الثلاثة المسروقة(1) من ابن جامع:

/

يا قبر بين بيوت آل محرّق(2)

و:

عفا طرف القريّة(3) فالكثيب

و أسقط منها قوله:

نزف البكاء دموع عينك فاستعر

و:

بكيت نعم بكيت و كلّ إلف

نسبة هذين الصوتين
صوت

يا قبر بين بيوت آل محرّق *** جادت عليك رواعد و بروق

/أمّا البكاء فقلّ عنك كثيره *** و لئن بكيت فبالبكاء حقيق(4)

/الشعر لرجل من بني أسد يرثي خالد بن نضلة(5) و رجلا آخر(6) من بني أسد كانا نديمين للمنذر(7) بن ماء

ص: 142


1- في ط، ء: «المعروفة».
2- آل محرق هنا: هم ملوك الحيرة من لخم، و محرّق الذي أضيفوا إليه هو امرؤ القيس بن عمرو بن عدي أحد ملوكهم، و يقال له: المحرّق الأكبر. و لقب به أيضا من اللخميين عمرو بن هند من ملوكهم، و يقال له: المحرق الثاني، و ابن النعمان بن المنذر شاعر. و فيهم يقول الأسود بن يعفر: ما ذا أؤمل بعد آل محرّق تركوا منازلهم و بعد إياد و محرق - أيضا -: لقب الحارث بن عمرو أبي شمر ملك الشام من آل جفنة لأنه أوّل من حرق العرب في ديارهم. و يقال لآل جفنة أيضا: آل محرّق (ملخص عن «اللسان»، و «القاموس» و «شرحه» مادة حرق، و «المعارف» لابن قتيبة ص 317).
3- القرية (بضم أوّله و فتح ثانيه و تشديد الياء تصغير قرية): تطلق على عدّة أماكن كما ذكر ياقوت في معجمه، و منها موضع بنواحي المدينة ذكره ابن هرمة في قوله: انظر لعلك أن ترى بسويقة أو بالقرية دون مفضي عاقل و القرية أيضا: من أشهر قرى اليمامة، لم تدخل في صلح خالد بن الوليد يوم قتل مسيلمة الكذاب. و المرجح أنها هي المعنية بهذا الشعر، و ذلك لذكرها مع ملحاء التي هي واد من أعظم أودية اليمامة، و ستأتي فيما بعد عند ذكر الشعر.
4- في ط، ء: «خليق».
5- كذا في جميع الأصول هنا و «معجم ما استعجم» للبكري (ص 694 طبع أوروبا) و «الشعر و الشعراء» لابن قتيبة (ص 144 طبع أوروبا) و «سيرة ابن هشام» (ج 1 ص 401 طبع أوروبا) و «معجم البلدان» لياقوت (ج 3 ص 792 طبع أوروبا). و في «أمالي القالي» (ج 3 ص 195 طبع دار الكتب المصرية) و «شرح قصيدة ابن عبدون» (ص 132 طبع أوروبا) و «الأغاني» (ج 19 ص 86 طبع بولاق): «خالد بن المضلل». و كلاهما محتمل هنا أن يكون هو المراد و لا سيما أنهما كانا يظلهما عصر واحد و أن كليهما أسدى. و قد عنى هذين الخالدين الأسود بن يعفر في قوله: فإن يك يومي قد دنا و إخاله كواردة يوما إلى ظمء منهل فقبلي مات الخالدان كلاهما عميد بني حجوان و ابن المضلل
6- هو عمرو بن مسعود. و قد رثتهما هند بنت معبد بن نضلة - كما في «سيرة ابن هشام» و «معجم ما استعجم» للبكريّ. و هذا يرجح أنه خالد بن نضلة - قالت لما قتلا: ألا بكر الناعي بخيري بني أسد بعمرو بن مسعود و بالسيد الصمد و تعني بالسيد الصمد: خالد بن نضلة عمها.
7- يؤيد الأصول هنا في أن صاحب القصة هو المنذر بن ماء السماء ما ورد في «أمالي القالي» (ج 3 ص 195 طبع دار الكتب المصرية)

السماء، فقتلهما في سخطه عليهما؛ و خبر ذلك مشهور في أخبار ابن(1) جامع. و الغناء لابن جامع، و له فيه لحنان:

ثقيل أوّل بالوسطى، و رمل بالبنصر، و قيل: إن الرّمل لابن سريج. و ذكر حبش أن لمحمد صاحب البرام فيه لحنا من الثقيل الثاني بالوسطى.

/و منها:

صوت

عفا رسم(2) القريّة فالكثيب *** إلى ملحاء(3) ليس بها عريب(4)

تأبّد(5) رسمها و جرى عليها *** سفيّ(6) الريح و التّرب الغريب

فإنك و اطّراحك وصل سعدى *** لأخرى في مودّتها نكوب

كثاقبة لحلي مستعار *** بأذنيها فشأنهما(7) الثّقوب

فردّت حلي جارتها إليها *** و قد بقيت بأذنيها ندوب(8)

الشعر لابن هرمة. و الغناء لابن جامع ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. [عن إسحاق](9). و فيه للغريض ثاني ثقيل آخر بالبنصر عن عمرو. و قال عمرو: فيه لحن للهذليّ، و لم يجنّسه.

أخبرني(10) محمد بن خلف وكيع قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني عيسى بن أيوب القرشيّ قال حدّثني غيث بن عبد الكريم عن فليح بن إسماعيل عن إسماعيل بن جعفر الفقيه مولى حرب(11)عن أبيه قال:

/مررت بابن هرمة و هو جالس على دكّان(12) في بني زريق، فقلت له: يا أبا إسحاق، ما يجلسك هاهنا؟ قال: بيت كنت قلته ثم انقطع عليّ الرويّ فيه و تعذّر عليّ ما أشتهيه، فأبغضته و تركته؛ قلت: ما هو؟ قال:

ص: 143


1- بالبحث في أخبار ابن جامع التي ذكرت في الجزء السادس من «الأغاني» طبع بولاق لم نجد بينها هذا الخبر، و إنما وجد في أخبار عبيد بن الأبرص في الجزء التاسع عشر طبع بولاق.
2- فيما تقدم في جميع الأصول و في ط، ء هنا: «طرف القرية».
3- ملحاء: واد من أعظم أودية اليمامة.
4- عريب: أحد.
5- تأبد المنزل: أقفر.
6- السفيّ: التراب المنذري المتبدد.
7- في ط، ء: «فشانتها».
8- الندوب: آثار الجرح في الجسم.
9- الزيادة عن ط، ء.
10- كذا ورد هذا الخبر مقدما في ط، ء على الذي يليه، و هو الذي يناسب اطراد السياق.
11- في ط، ء: «مولى خزاعة».
12- الدكان: الدكة المبنية للجلوس عليها.

فإنك و اطّراحك وصل سعدى *** لأخرى في مودّتها نكوب

قال: قلته ثم انقطع بي فيه؛ فمرّت بي جويرية صفراء مليحة كنت أستحسنها أبدا و أكلّمها إذا مرّت بي، فمرّت اليوم فرأيتها و قد ورم وجهها و تغيّر خلقها، [عما أعرف](1)، فسألتها عن خبرها فقالت: [كان في بني فلان عرس أردت حضوره](1) فاستعار لي أهلي حليا و ثقبوا أذني لألبسه فورم وجهي و أذناي كما ترى، فردّوه و لم أشهد العرس؛ قال ابن هرمة: فاطّرد لي الشعر فقلت:

كثاقبة لحلي مستعار *** بأذنيها فشأنهما الثقوب

فردّت حلّي جارتها إليها *** و قد بقيت بأذنيها ندوب

سرق إبراهيم بن المهدي شعره و لحنه و غنى به الرشيد:
اشارة

أخبرني الحسين بن القاسم قال حدّثني العبّاس بن الفضل قال حدّثني أبي قال:

قال الرشيد لإبراهيم بن المهديّ و إبراهيم الموصليّ و ابن جامع و ابن أبي الكنّات: باكروني غدا، و ليكن كلّ واحد قد قال شعرا إن كان يقدر أن يقوله، و غنّى فيه لحنا، و إن لم يكن شاعرا غنّى في شعر غيره. قال إبراهيم بن المهديّ: فقمت في السّحر و جهدت أن أقدر على شيء أصنعه فلم يتّفق لي، فلمّا خفت طلوع الفجر دعوت بغلماني و قلت لهم: إني أريد أن أمضي إلى موضع و لا يشعر بي أحد/حتى أصير إليه، و كانوا(2) يبيتون على باب داري، فقمت فركبت و قصدت دار إبراهيم الموصليّ، و كان قد حدّثني أنه إذا أراد الصنعة لم ينم حتى يدبّر ما يحتاج إليه، و إذا قام لحاجته في السّحر(3) اعتمد على خشبة له في المستراح، فلم يزل يقرع عليها حتى يفرغ من الصوت و يرسخ في قلبه، فجئت حتى وقفت تحت مستراحه، فإذا هو يردّد هذا الصوت:

صوت

إذا سكبت في الكأس قبل مزاجها *** ترى لونها في جلدة الكأس مذهبا

و إن مزجت راعت بلون تخاله *** إذا ضمّنته الكأس في الكأس كوكبا

أبوها نجاء(4) المزن و الكرم أمّها *** فلم أر زوجا(5) منه أشهى و طيبا

فجاءتك(6) صفرا أشبهت غير جنسها *** و ما أشبهت في اللون أمّا و لا أبا

قال: فما زلت واقفا أستمع منه الصوت حتى أخذته؛ ثم غدونا إلى الرشيد، فلمّا جلسنا للشّرب خرج الخادم إليّ فقال: يقول لك أمير المؤمنين: يا ابن أمّ غنّني؛ فاندفعت فغنّيت هذا الصوت و الموصليّ في الموت حتى فرغت

ص: 144


1- الزيادة عن ط، ء.
2- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «و كانوا في زبيديات لي يبيتون فيها على باب داري فقمت فركبت في إحداها و قصدت...». و لم ندر ما الزبيديات التي كانوا يبيتون فيها ثم ركب هو إحداها. و لعلها ضرب من العجل (العربات) نسب إلى زبيدة زوج الرشيد.
3- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «في استحى». و الحش (مثلث الحاء) في الأصل: البستان، و أطلق على موضع قضاء الحاجة و المتوضأ لأنهم كانوا يذهبون عند قضاء الحاجة إلى البساتين. و الجمع: حشوش.
4- النجاء: جمع النجو و هو السحاب الذي قد هراق ماءه ثم مضى، و قيل: هو السحاب أوّل ما ينشأ.
5- الزوج: النوع و الصنف.
6- كذا في ط، ء: و في سائر الأصول: «مخائل صفرا» و هو تحريف.

منه، فشرب عليه و أمر لي بثلاثمائة ألف/درهم؛ فوثب إبراهيم الموصليّ فحلف بالطلاق و حياة/الرشيد أنّ الشعر له قاله البارحة و غنّى فيه، ما سبقه إليه أحد؛ فقال إبراهيم: يا سيّدي، فمن أين هو لي أنا لو لا كذبه و بهته(1)! و إبراهيم يضطرب و يضجّ(2)؛ فلمّا قضيت أربا من العبث به قلت للرشيد: الحقّ أحقّ أن يتّبع، و صدقته؛ فقال للموصليّ: أمّا أخي فقد أخذ المال و لا سبيل إلى ردّه، و قد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضا مما جرى عليه، فلو بدأت أنت بالصوت لكان هذا حظّك؛ فأمر له بها فحملت إليه.

سأله محمد بن يحيى أن يقيم عنده في يوم مهرجان و له كل الهدايا التي تهدى إليه، فلما صارت إليه فرّقها جميعا:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن مخارق قال:

أتى إبراهيم الموصليّ محمد بن يحيى بن خالد في يوم مهرجان، فسأله محمد أن يقيم عنده؛ فقال: ليس يمكنني لأن رسول أمير المؤمنين قد أتاني(3)؛ قال: فتمرّ بنا إذا انصرفت و لك عندي كلّ ما يهدى إليّ اليوم؟ فقال:

نعم، و ترك في المجلس صديقا له يحصي ما يبعث [به](4) إليه؛ قال: فجاءت هدايا عجيبة من كلّ ضرب؛ قال:

و أهدي إليه تمثال فيل من ذهب عيناه ياقوتتان؛ فقال محمد للرجل: لا تخبره بهذا حتى نبعث به إلى فلانة ففعل؛ و انصرف إبراهيم إليه فقال: أحضرني ما أهدي لك، فأحضره ذلك كلّه إلا التمثال، و قال: لا بدّ من صدقك، كان من الأمر كذا و كذا؛ فقال: لا! إلاّ على الشّريطة و كما ضمنت، فجيء بالتمثال؛ فقال إبراهيم: أ ليس الهديّة لي فأعمل فيها ما أريد؟ قال: بلى، قال: فردّ التمثال على الجارية؛ و جعل يفرّق الهدايا على جلساء محمد شيئا شيئا و على جميع من حضر من إخوانه و غلمانه و على من في دور الحرم(5) من جواريه حتى لم يبق منها شيء، ثم أخذ من/المجلس تفّاحتين لمّا أراد الانصراف و قال: هذا لي، و انصرف؛ فجعل محمد يعجب من كبر نفسه و نبله.

زاره الرشيد ليلا و غنته جواريه:

و قال أحمد بن المرزبان حدّثني بعض كتاب السلطان:

أنّ الرشيد هبّ ليلة من نومه، فدعا بحمار كان يركبه في القصر أسود قريب من الأرض فركبه، و خرج في درّاعة وشي متلثّما بعمامة و شيء ملتحفا بإزار وشي، بين يديه أربعمائة/خادم أبيض(6) سوى الفرّاشين، و كان مسرور(7) الفرغانيّ جريئا عليه لمكانه عنده، فلما خرج من باب القصر قال: أين يريد أمير المؤمنين في هذه الساعة؟ قال: أردت منزل الموصليّ. [قال مسرور:](8) فمضى و نحن معه و بين يديه حتى انتهى إلى منزل إبراهيم؛ فخرج فتلقّاه و قبّل حافر حماره و قال له: يا أمير المؤمنين، أ في مثل هذه الساعة تظهر! قال: نعم، شوق طرق لك

ص: 145


1- البهت (بالضم): الافتراء و الكذب.
2- في ط، ء: «و يصيح».
3- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «لأن رسول أمير المؤمنين قاعد».
4- الزيادة عن ط، ء.
5- في ب، س: «في دور الخدام».
6- في ط، ء: «أسود».
7- كذا في ط، ء. و في باقي الأصول: «منذر الفرغاني». و لم نعثر على هذا الاسم فيما بين أيدينا من الكتب التي تحدّثت عن حياة الرشيد الخاصة و العامة.
8- الزيادة عن ط، ء.

بي؛ ثم نزل فجلس في طرف الإيوان و أجلس إبراهيم؛ فقال له إبراهيم: يا سيّدي أ تنشط لشيء تأكله؟ فقال: نعم، خاميز(1) ظبي، فأتي به كأنما كان معدّا له، فأصاب منه شيئا يسيرا، ثم دعا بشراب حمل معه؛ فقال الموصليّ:

يا سيّدي، أ أغنّيك أم تغنّيك إماؤك؟ فقال: بل الجواري؛ فخرج جواري إبراهيم فأخذن صدر الإيوان و جانبيه؛ فقال: أ يضربن كلّهن أم واحدة؟ فقال: بل تضرب اثنتان اثنتان و تغنّي واحدة/فواحدة، ففعلن ذلك حتى مرّ صدر الإيوان و أحد جانبيه و الرشيد يسمع و لا ينشط(2) لشيء من غنائهنّ، إلى أن غنّت صبيّة من حاشيته(3).

يا موري الزّند قد أعيت قوادحه *** اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس

ما أقبح الناس في عيني و أسمجهم *** إذا نظرت فلم أبصرك في الناس

قال: فطرب لغنائها و استعاد الصوت مرارا و شرب أرطالا، ثم سأل الجارية عن صانعه فأمسكت، فاستدناها فتقاعست، فأمر بها فأقيمت حتى وقفت(4) بين يديه، فأخبرته بشيء أسرّته إليه؛ فدعا بحماره فركبه و انصرف، ثم التفت إلى إبراهيم فقال: ما ضرّك ألاّ تكون خليفة!؛ فكادت نفسه تخرج، حتى دعا به و أدناه بعد ذلك. قال: و كان الذي خبّرته [به](5) أن الصنعة في الصوت لأخته عليّة بنت المهديّ، و كانت الجارية لها وجّهت بها إلى إبراهيم يطارحها، فغار الرشيد. و لحن الصوت خفيف رمل.

شعره في ابنة خمارة كان يألفها:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

كان أبي يألف خمّارة بالرّقة يقال لها بشرة(6) تنزل الهنيء(7) و المريء، و كانت لها بنت من أحسن الناس وجها فكان أبي يتحلاّها(7)، ثم رحل الرشيد عن الرّقة إلى بلاد الروم [في بعض غزواته](8)، فقال أبي فيها:

/

أيا بنت بشرة ما عاقني *** عن العهد بعدك من عائق

نفى النّوم عنّي سنا بارق *** و أشهقني في ذرى شاهق

قال: و فيها يقول [أيضا](9) من أبيات له، و له فيها صنعة من الرّمل الأوّل:

ص: 146


1- الخاميز: اسم أعجمي تعريبه عامص و آمص، و بعضهم يقول: عاميص و آميص، و هو طعام يتخذ من لحم عجل بجلده، أو مرق السكباج (الأكارع تطبخ بمرق فيه عصير الليمون ثم تغرف بمرقتها و تترك حتى تبرد و يجمد المرق فيكون في قوام الفالوذج، و هو أيضا لحم أو سمك يطبخ بخل) المبرد المصفى من الدهن.
2- في ط، ء: «و لا ينبسط».
3- أي من حاشية الإيوان. و في ط، ء و «مختار الأغاني»: «من حاشية الصفة». و الصفة: شبه البهو الواسع الطويل السمك، و هي أيضا: طرته، أي طرفه و حرفه.
4- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «أوقفت» بزيادة الهمزة، و هي لغة رديئة.
5- الزيادة عن ط، ء.
6- في «شرح القاموس» (مادة بشر): «و بشرة بالكسر اسم جارية عون بن عبد اللّه»، ثم ذكر البيت إلا أنه نسبه إلى إسحاق لا إلى أبيه.
7- راجع الحاشية رقم 4 ص 166 من هذا الجزء.
8- تحلى الشيء و استحلاه و احلولاه بمعنى.
9- زيادة عن ط، ء.
صوت

و زعمت أنّي ظالم فهجرتني *** و رميت في قلبي بسهم نافذ

و نعم ظلمتك فاغفري و تجاوزي *** هذا مقام المستجير العائذ

ذكر حمّاد في هذا الخبر أن لحن جدّه من الرّمل. و وجدت في كتاب أحمد بن المكيّ أنّ له فيهما لحنين:

أحدهما ثقيل أوّل و الآخر ثاني ثقيل.

أغانيه في السجن:

حدّثني عيسى بن الحسين(1) الورّاق قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد(2) قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ قال:

حبس الرشيد إبراهيم الموصليّ عند أبي العبّاس (يعني أباه عبد اللّه(3) بن مالك) فسمعناه ليلة و قد/صنع هذا اللحن و هو يكرره حتى يستوي(4) له:

يا أخلاّء قد مللت مكاني *** و تذكّرت ما مضى من زماني

شربي الراح إذ تقوم علينا *** ذات دلّ كأنّها غصن بان

قال: و غنّى في الحبس أيضا:

سألا طال ليلي أراعي النّجوم *** أعالج في السّاق كبلا(5) ثقيلا

زعم علويه الأعسر أنه دخل عليه في مرضه في علته و هو يترنم فأنكر ابنه إسحاق ذلك:
اشارة

حدّثني عيسى قال حدّثني عبد اللّه قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني علّويه الأعسر قال:

دخلت على إبراهيم الموصليّ في علّته التي توفّى فيها و هو في الأبزن(6) و به القولنج(7) الذي مات فيه، و هو يترنّم بهذا الصوت:

صوت

تغيّر مني كلّ حسن و جدّة *** و عاد على ثغري فأصبح أثرما

و محل أطرافي فزالت فصوصها *** و حنّى عظامي عوجها و المقوّما

ص: 147


1- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «الحسن»، و هو تحريف.
2- في ب، س في هذا الموضع: «عبد اللّه بن أبي محمد»، و هو تحريف.
3- كان صاحب الشرطة في أيام المهدي فالهادي فالرشيد و كان من أكابر القوّاد و تولى أرمينية و أذربيجان. (انظر الحاشية رقم 1 من «كتاب التاج» للجاحظ ص 81 طبع بولاق).
4- كذا في ط، ء. و في باقي الأصول: «حتى تسوّى له».
5- الكبل (بالفتح و يكسر): القيد.
6- الأبزن (مثلث الهمزة): حوض من حديد أو من نحاس مصنوع على شكل التابوت على قدر قامة الإنسان أو أقصر منها، عليه غطاء مثقوب، يضع فيه الأطباء المريض و يخرجون رأسه من الثقب فيداوونه بصب المطبوخات أو الماء المغلي بالأدوية الحارة.
7- القولنج (و قد تكسر لامه أو هو مكسور اللام و تفتح القاف و تضم): مرض معوي مؤلم يعسر معه خروج الثفل و الريح.

قال محمد: فحدّثت بهذا الحديث إسحاق الموصليّ، فقال: كذب ابن الزانية! و اللّه ما كان يجترئ [أن](1)يدخل إلى أبي إسحاق و هو جالس للناس إلا بعد جهد، فكيف يدخل إلى أبي إسحاق و هو جالس في الأبزن.

نسبة هذا الصوت

الشعر و الغناء لإبراهيم، و له فيه لحنان ماخوريّ بالوسطى عن عمرو، و ثاني ثقيل عن ابن المكيّ.

غنت المقتدر إحدى جواريه لحنا له:

حدّثني جحظة قال:

كان المقتدر يدعونا في الأحايين، فكان يحضر من المغنّين إبراهيم بن أبي العبيس و كنيز و إبراهيم بن قاسم و أنا و وصيف الزّامر، و كان أكثر ما ندعى له أنّ جواريه/ [كنّ](2) يطالبنه بإحضارنا ليأخذن منّا أصواتا قد عرفتها و يسمعننا، فنغنّي فيأخذن ما يستحسنّه، فإذا انصرفنا أمر لكلّ واحد من إبراهيم و كنيز دبّة و إبراهيم بثلاثمائة دينار، و لي بمائتي دينار، و لوصيف بمائتي دينار، و لسائر من لعلّه أن يحضر معنا بمائتين إلى المائة الدّينار إلى الألف الدّرهم(3)، فيكون(4) إذا حضرنا من وراء ستارة و هو جالس مع الجواري، فإذا أراد اقتراح شيء جاءنا الخدم فأمرونا أن نغنّيه، و بين يدي كلّ واحد منا قنّينة فيها خمسة أرطال نبيذ و قدح و مغسل(5) و كوز ماء؛ فغنّت يوما صلفة جارية زرياب بصنعة إبراهيم الموصليّ:

تغيّر منّي كلّ حسن و جدّة *** و عاد على ثغري فأصبح أثرما

فشربت عليه، فاستعاده المقتدر مرارا و أنا أشرب عليه؛ فأخذ إبراهيم بن أبي العبيس بكتفي و قال: يا مجنون! إنما دعيت لتغنّي لا لتغنّي و تطرب و تشرب، فلعلّك تسكر، حسبك!؛ فأمسكت طمعا أن تردّه بعد ذلك، فما فعلت و لا اجتمعنا بعدها، و ما سمعت قبل ذلك و لا بعده أحدا غنّى هذا الصوت أحسن مما غنّته. قال: و كان المقتدر(6)ابتاعها من زرياب.

رأى سوداء بمكة تبكي زوجها بشعر فبحث عنه حتى ردّه إليها:

أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن(7) أبي سعد قال حدّثني أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان بن عليّ قال حدّثني إسحاق الموصليّ عن أبيه قال:

/بينا أنا بمكة أجول في سككها إذا أنا بسوداء قائمة ساهية باكية، فأنكرت حالها و أدمنت النظر إليها؛ فبكت و قالت:

ص: 148


1- زيادة يقتضيها السياق، و في ط، ء: «ما كان غيري يدخل على أبي إسحاق... إلخ».
2- الزيادة عن ط، ء.
3- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «بمائتين المائة الدينار إلى المائة الدرهم».
4- كذا في ط. و في سائر الأصول: «فنكون» بالنون.
5- المغسل (بكسر السين و فتحها): ما يغسل فيه.
6- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «المعتضد». و يلاحظ أن جميع النسخ قد اتفقت في أوّل الخبر على أنه المقتدر.
7- كذا في ط، ء هنا و فيما سيأتي في جميع الأصول و فيما مر في الجزء الثالث (ص 192 من هذه الطبعة). و في سائر الأصول هنا: «عبيد اللّه»، و هو تحريف.

أ عمرو علام تجنّبتني *** أخذت فؤادي و عذّبتني

فلو كنت يا عمرو و خبّرتني(1) *** أخذت حذاري فما نلتني

فقلت لها: يا هذه، من عمرو؟ قالت: زوجي؛ قلت: و ما شأنه؟ قالت: أخبرني أنه يهواني و ما زال يطلبني حتى تزوّجته، فلبث معي قليلا ثم مضى إلى جدّة و تركني؛ فقلت لها: صفيه لي؛ قالت: أحسن من أنت رائيه سمرة و أحلاهم حلاوة و قدّا؛ فركبت رواحلي مع غلماني و صرت إلى جدّة، فوقفت في موضع المرفأ أتبصّر من يحمل من السفن، و أمرت من يصوت: يا عمرو يا عمرو، و إذا أنا به خارجا(2) من سفينة على عنقه صنّ(3) فيه طعام، فعرفته بصفتها و نعتها إياه، فقلت:

أ عمرو علام تجنّبتني *** أخذت فؤادي و عذّبتني

فقال: هيه(4)! أ رأيتها و سمعت منها؟ فقلت: نعم، فأطرق هنيهة يبكي، ثم اندفع فغنّى به أملح غناء سمعته، و ردّده عليّ حتى أخذته منه، و إذا هو أحسن الناس غناء؛ فقلت له: أ لا ترجع إليها؟ فقال: طلب المعاش يمنعني؛ فقلت: كم يكفيك معها في كلّ سنة؟ فقال: ثلاثمائة درهم - قال إسحاق: قال لي أبي: فو اللّه يا بنيّ لو قال ثلاثمائة دينار لطابت نفسي بها - فدعوت به فأعطيته ثلاثة آلاف درهم، و قلت له: هذا/لعشر سنين على أن تقيم معها، فلا تطلب المعاش إلا حيث هي مقيمة معك، و يكون ذلك فضلا؛ و رددته معي إليها.

كان يغني الرشيد ليلة فبلغه ما أغضبه فما زال يغنيه حتى سرّ الرشيد و أجزل صلته:
اشارة

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عليّ بن محمد النّوفليّ(5) قال حدّثنا صالح بن عليّ (يعني الأضخم)(6) عن إبراهيم الموصليّ - قال: و كان صالح جاره - قال:

بينا أنا عشيّة في منزلي إذ أتاني خادم من خدم الرشيد فاستحثّني بالركوب [إليه](7) فخرجت شبيها بالراكض، فلما صرت إلى الدّار عدل بي عن المدخل إلى طرق لا أعرفها، فانتهي بي إلى دار حديثة البناء، فدخلت صحنا واسعا، و كان الرشيد يشتهي الصّحون الواسعة، فإذا هو جالس على كرسيّ في وسط ذلك الصّحن، ليس عنده أحد إلا خادم يسقيه، و إذا هو في لبسته التي كان يلبسها في الصيف: غلالة(8) رقيقة متوشّح عليها بإزار رشيديّ(9)عريض العلم مضرّج(10)؛ فلما رآني هشّ لي و سرّ، و قال: يا موصليّ، إني اشتهيت أن أجلس في هذا الصّحن فلم

ص: 149


1- في ط، ء: «حذرتني».
2- في الأصول: «خارج».
3- كذا في أكثر الأصول. و الصنّ (بالفتح): شبه السلة المطبقة، يجعل فيها الطعام و الخبز. و في ب، س: «ضبن» بالضاد و الباء، و الضبن: الحمل، و هو لا يلتئم مع ما بعده.
4- هيه (بكسر الهاء الأخيرة و فتحها): معناه طلب الحديث و الاستزادة منه.
5- كذا في ط، ء، و هو الموافق لما جاء في «الأغاني» (ج 3 ص 174 من هذه الطبعة) و الطبري (قسم 3 ص 596 طبع أوروبا). و في سائر الأصول: «محمد بن يحيى النوفلي».
6- في ب، س: «الأضحم» بالحاء المهملة، و هو تصحيف. (انظر الطبري قسم 3 ص 596).
7- زيادة عن ط، ء.
8- الغلالة: الشعار الذي يلبس تحت الثياب و يلي شعر الجسد.
9- في «مختار الأغاني»: «سندي».
10- مضرج: مصبوغ بضرب من الصبغ أحمر.

يتّفق لي إلا اليوم، و أحببت ألاّ يكون معي و معك أحد، ثم صاح بالخدّام(1)، فوافاه مائة وصيف، و إذا هم بالأرقة مستترون بالأساطين(2) حتى لا يراهم، فلما ناداهم جاءوا جميعا، فقال: مقطّعة لإبراهيم، و كان هو أوّل من قطع المصلّيات، فأتيت بمقعد فألقي لي تجاه وجهه بالقرب منه؛ /و دعا بعود فقال: بحياتي أطربني بما قدرت؛ قال:

ففعلت و اجتهدت في ذلك و نشطت و رجوت الجائزة في عشيّتي؛ فبينا أنا كذلك إذ جاءه مسرور الكبير، فقام مقامه الذي كان إذا قامه علم الرشيد أنه يريد أن يسارّه بشيء، فأومأ إليه بالدنوّ، [فدنا](3) فألقي في أذنه كلمة خفيفة(4) ثم تنحى، فاستشاط غضبا و احمرّت عيناه/و انتفخت أوداجه، ثم قال: حتّام أصبر على آل بني أبي طالب! و اللّه لأقتلنّهم و لأقتلنّ شيعتهم و لأفعلنّ و لأفعلنّ!؛ فقلت: إنا للّه! ليس عند هذا أحد يخرج غضبه عليه، أحسبه و اللّه سيوقع بي، فاندفعت أغنّي:

صوت

نعم عونا على الهموم ثلاث *** مترعات من بعدهنّ ثلاث

بعدها أربع تتمّة عشر *** لا بطاء لكنّهنّ حثاث(5)

فإذا ناولتكهنّ جوار *** عطرات بيض الوجوه خناث

تمّ فيها لك السرور و ما *** طيّب عيشا إلا الخناث الإناث

قال: ويلك! اسقني ثلاثا لا أمت(6) همّا؛ فشرب ثلاثا متتابعة، ثم قال: غنّ فغنّيت، فلمّا قلت:

... ثلاث

مترعات من بعدهنّ ثلاث

قال: هات ويلك ثلاثا!، ثم قال لي: غنّ، فلمّا غنّيته قال: حثّ عليّ بأربع تتمة العشر، ففعل؛ فو اللّه ما استوفى آخرهنّ حتى سكر، فنهض ليدخل، ثم قال: قم يا موصليّ فانصرف، يا مسرور، أقسمت عليك بحياتي و بحقّي إلاّ سبقته(7) إلى منزله/بمائة ألف درهم، لا أستأمر فيها و لا في شيء منها؛ فخرجت و اللّه و قد أمنت خوفي و أدركت ما أمّلت، و وافيت منزلي و قد سبقتني المائة الألف الدّرهم إليه.

أخذ عن ابن جامع في سكره صوتا غنى به الرشيد فطرب و قرّبه:

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني يحيى بن الحسن(8) بن عبد الخالق قال حدّثني عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الرّبيع قال:

ص: 150


1- عبارة ط، ء: «.... ثم صاح يا غلام... إلخ».
2- الأساطين: الأعمدة.
3- زيادة عن ط، ء.
4- في ب، س، ح: «خفية».
5- حثاث: مسرعات.
6- كذا في ط، ء، أ. و في سائر الأصول: «لا أموت».
7- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «إلا شيعته».
8- كذا في ط، ء و الطبري (قسم 3 ص 322 طبع أوروبا). و في سائر الأصول: «الحسين»، و هو تحريف.

خرج [رسول](1) الرشيد ذات ليلة إلى المغنّين فقال: غنّوا:

يا خليليّ قد مللت ثوائي *** بالمصلّى و قد سئمت(2) البقيعا(3)

بلّغاني(4) ديار هند و سعدى *** و ارجعاني فقد هويت الرجوعا

قال: فغنّاه ابن جامع، فلمّا فرغ منه طرب الرشيد و شرب؛ فقال له إبراهيم الموصليّ: يا سيّدي، فاسمعه من نبيطيّك فغنّاه، فجعل ابن جامع يزحف من أوّل البيت إلى آخره، و طرب هارون فقال: ارفعوا الستارة؛ فقال له ابن جامع: منّي و اللّه أخذه يا أمير المؤمنين؛ فأقبل على إبراهيم فقال: بحياتي صدق؟ قال: صدق و حياتك يا سيّدي؛ قال: و كيف أخذته و هو أبخل(5) الناس إذا سئل شيئا؟ قال: تركته يغنّيه و كان إذا سكر يسترسل فيه فيغنّيه مستويا و لا يتحرّز منّي، فأخذته على هذا منه حتى وفيت(6) به.

كانت لزلزل جارية مطبوعة فلما مات عنها أخبر هو بها الرشيد فابتاعها و أعتقها:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

كان برصوما الزّامر و زلزل الصارب من سواد أهل الكوفة من أهل الخشنة(7) و البذاذة و الدناءة، فقدم بهما أبي معه سنة حجّ، و وقفهما على الغناء العربيّ و أراهما وجوه النّغم و ثقّفهما حتى بلغا المبلغ الذي بلغاه من خدمة الخليفة، و كان أطبع أهل دهرهما في صناعتهما؛ فحدّثني أبي قال: كان لزلزل جارية قد ربّاها و علّمها الضرب و سألني مطارحتها [فطارحتها](8)، و كانت مطبوعة حاذقة؛ قال: فكان يصونها أن يسمعها أحد؛ فلما مات بلغني أنها تعرض في ميراثه للبيع، فصرت إليها لأعترضها؛ فغنّت:

أقفر من أوتاره العود *** فالعود للأوتار معمود

و أوحش المزمار من صوته *** فما له بعدك تغريد

/من للمزامير و عيدانها *** و عامر اللّذات مفقود

الخمر تبكي في أباريقها *** و القينة الخمصانة الرّود(9)

قال: و هذا شعر رثاه به صديق له كان بالرّقّة(10)؛ قال: فأبكت و اللّه عيني و أوجعت قلبي. فدخلت على الرشيد

ص: 151


1- التكملة عن ط، ء، إذ المعروف عن الخلفاء أنهم كانوا يجلسون وراء ستارة بينها و بين الندماء عشرون ذراعا، و كان يوكل بهذه الستارة حاجب ينهى إلى المغنين ما يريده الخليفة. (انظر «كتاب التاج» للجاحظ ص 37 طبع بولاق) في كلامه على الرشيد و غيره من ملوك الإسلام و الفرس، و سيأتي في بقية الخبر ما يؤيد ذلك.
2- في ط، ء: «شنئت».
3- المصلي و البقيع: موضعان بالمدينة.
4- في ط، ء: «بلغا بي... و راجعا بي».
5- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «قال: و كيف أخذته؟ قال: هو أبخل الناس إذا سئل شيئا، فتركته... إلخ».
6- يريد: جئت به وافيا تاما لم أنقص منه شيئا.
7- كذا في أكثر الأصول. و الخشنة (بضم أوله و تسكين ثانيه): الخشونة، و رجل ذو خشنة: صعب لا يطاق. و البذاذة: رثاثة الهيئة. و في أ: «الخسة» بالسين المهملة.
8- زيادة عن ط، ء.
9- الرؤد (وزان قفل و سهلت همزته): الشابة الناعمة الحسنة.
10- كذا في ط، ء. و في باقي الأصول: «رثاه به صديق له كان يألفه فأبكت... إلخ».

فحدّثته بحديثها، فأمر بإحضارها فحضرت؛ فقال لها: غنّي الصوت الذي حدّثني إبراهيم عنك أنك غنّيته، فغنته و هي تبكي؛ فرقّ الرشيد لها و تغرغرت(1) عيناه، و قال لها: أ تحبّين أن أشتريك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، /لقد عرضت عليّ ما يقصر عنه الأمل، و لكن ليس من الوفاء أن يملكني أحد بعد سيّدي فينتفع بي؛ فازداد رقّة عليها، و قال: غنّي صوتا آخر، فغنّت:

العين تظهر كتماني و تبديه *** و القلب يكتم ما ضمّنته فيه

فكيف ينكتم المكتوم بينهما *** و العين تظهره و القلب يخفيه

فأمر بأن تبتاع و تعتق، و لم يزل يجري عليها إلى أن ماتت.

قصته مع الرشيد بشأن الجارية التي عرض بها في مجلسه:
اشارة

أخبرنا محمد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه عن جدّه قال:

قال لي الرشيد يوما: يا إبراهيم، بكّر عليّ غدا حتى نصطبح؛ فقلت(2) له: أنا و الصبح كفرسي رهان؛ فبكّرت فإذا أنا به خاليا(3)، و بين يديه جارية كأنها خوط بان أو جدل عنان، حلوة المنظر، دمثة الشمائل، و في يدها عود؛ فقال لها: غنّى، فغنت في شعر أبي نواس و هو:

توهمه قلبي فأصبح خدّه *** و فيه مكان الوهم من نظري أثر(4)

و مرّ بفكري خاطرا فجرحته *** و لم أر جسما قطّ يجرحه الفكر

و صافحه قلبي فآلم كفّه *** فمن غمز قلبي في أنامله عقر

قال إبراهيم: فذهبت و اللّه بعقلي حتى كدت أن أفتضح، فقلت: من هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه التي يقول فيها الشاعر:

لها قلبي الغداة و قلبها لي *** فنحن كذاك في جسدين روح

/ثم قال لها: غنّى، فغنّت:

صوت

تقول غداة البين إحدى نسائهم *** لي الكبد الحريّ فسر و لك الصّبر

و قد خنقتها عبرة فدموعها *** على خدّها بيض و في نحرها صفر

- الشعر لأبي الشّيص. و الغناء لعمرو بن بانة، خفيف رمل بالوسطى من كتابه و فيه لمتيّم ثاني ثقيل و خفيف رمل آخر - قال: فشرب و سقاني ثم سقاها، ثم قال: غنّ يا إبراهيم؛ فغنّيت حسب ما في قلبي غير متحفّظ من شيء:

ص: 152


1- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «فغنته و هي تبكي فتغرغرت عينا الرشيد... إلخ».
2- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «فكنت أنا و الصبح... إلخ».
3- في الأصول: «خال» بالرفع، و القواعد تأباه، إذ هو حال من الضمير في «به».
4- أثر الجرح (بالضم و بضمتين أيضا): أثره يبقى بعد ما يبرأ.

تشرّب قلبي حبّها و مشى به *** تمشّي حميّا الكأس في جسم شارب

و دبّ هواها في عظامي فشفّها *** كما دبّ في الملسوع سمّ العقارب

قال: ففطن بتعريضي، و كانت جهالة منّي؛ قال: فأمرني بالانصراف، و لم يدعني شهرا و لا حضرت مجلسه؛ فلما كان بعد شهر دسّ إليّ خادما معه رقعة، فيها مكتوب:

قد تخوّفت أن أموت من الوج *** د و لم يدر من هويت بما بي

/يا كتابي فأقر السّلام على من *** لا أسمّي و قل له يا كتابي

إنّ كفّا إليك قد بعثتني(1) *** في شقاء مواصل و عذاب

فأتاني الخادم بالرقعة؛ فقلت له: ما هذا؟ قال: رقعة الجارية فلانة التي غنّتك بين يدي أمير المؤمنين؛ فأحسنت القصّة فشتمت الخادم و وثبت عليه و ضربته ضربا شفيت به نفسي و غيظي، و ركبت إلى الرشيد من فوري فأخبرته القصّة/و أعطيته الرقعة؛ فضحك حتى كاد يستلقى، ثم قال: على عمد فعلت ذلك بك لأمتحن مذهبك و طريقتك، ثم دعا بالخادم؛ فلما خرج رآني فقال لي: قطع اللّه يديك و رجليك، ويحك! قتلتني؛ فقلت: القتل و اللّه كان بعض حقّك لما وردت به عليّ، و لكن رحمتك فأبقيت عليك، [و أخبرت أمير المؤمنين ليأتي في عقوبتك بما تستحقه. فأمر لي الرشيد بصلة سنيّة](2)؛ و اللّه يعلم أني ما فعلت الذي فعلت عفافا و لكن خوفا.

سأله الرشيد كيف يصنع ألحانه فأجابه:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال:

أخبرني أبي أنه سمع الرشيد و قد سأل جدّي إبراهيم كيف يصنع إذا أراد أن يصوغ الألحان، فقال:

يا أمير المؤمنين، أخرج الهمّ من فكري و أمثّل الطرب بين عينيّ، فتسوغ(3) لي مسالك الألحان [التي أريد](3)فأسلكها بدليل الإيقاع، فأرجع مصيبا ظافرا بما أريد؛ فقال: يحقّ لك يا إبراهيم أن تصيب و تظفر، و إنّ حسن وصفك لمشاكل حسن صنعتك و غنائك.

فراسة يونس الكاتب فيه:

أخبرني ابن المرزبان قال حدّثني حمّاد عن أبيه عن جدّه قال:

أدركت يونس الكاتب و هو شيخ كبير فعرضت عليه غنائي؛ فقال: إن عشت كنت مغنّي دهرك.

كان أحد من يتصرّفون في كل مذهب من الأغاني:

قال حمّاد قال لي محمد بن الحسن: كان لكلّ واحد من المغنّين مذهب في الخفيف و الثقيل، و كان معبد ينفرد بالثقيل، و ابن سريج بالرّمل، و حكم بالهزج، /و لم يكن في المغنّين أحد يتصرّف في كل مذهب من الأغاني إلا ابن سريج و إبراهيم جدّك و أبوك إسحاق.

ص: 153


1- في ط، ء و «مختار الأغاني»: «إن كفا إليكم كنيتني».
2- الزيادة عن ط، ء. و «مختار الأغاني».
3- كذا في ط، ء. و في ح: «فيشرع». و في سائر الأصول: «فيسرع».
رآه ثمامة بن أشرس مع يزيد حوراء مصطبحين يغنياه فأعجب بما كانا فيه:
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثني أحمد بن الطّيّب السّرخسيّ قال حدّثني أحمد بن ثابت العبديّ عن أبي الهذيل العلاّف رأس المعتزلة عن ثمامة بن أشرس قال:

مررت بإبراهيم الموصليّ و يزيد حوراء و هما مصطبحان(1)، و قد أخذا بينهما صوتا يغنّيانه: هذا بيتا و هذا بيتا، و هو:

صوت

أيا جبلي نعمان باللّه خلّيا *** سبيل(2) الصّبا يخلص إليّ نسيمها

فإنّ الصّبا ريح إذا ما تنسّمت *** على نفس مهموم تجلّت همومها

طلب الخلوة في بيته يوما فزعم بأن إبليس زاره و طارحه الغناء:
اشارة

أخبرنا محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن جدّه إبراهيم قال:

سألت الرشيد أن يهب لي يوما في الجمعة لا يبعث فيه إليّ بوجه و لا بسبب، لأخلو فيه بجواريّ و إخواني، فأذن لي في يوم السبت، و قال لي(3): هو يوم أستثقله، فاله فيه بما شئت؛ فأقمت يوم(4) السبت بمنزلي و تقدّمت في إصلاح(5) طعامي و شرابي بما احتجت إليه، و أمرت بوّابي فأغلق الأبواب و تقدّمت(6) إليه ألاّ يأذن/عليّ لأحد؛ فبينا أنا في مجلس و الخدم(7) قد حفّوا بي و جواريّ يترددن بين يديّ، إذا أنا بشيخ ذي هيئة و جمال، عليه خفّان قصيران و قميصان ناعمان، /و على رأسه قلنسوة لاطئة(8)، و بيده عكّازة مقمّعة بفضّة، و روائح المسك تفوح منه حتى ملأ البيت و الدار؛ فداخلني بدخوله عليّ مع ما تقدّمت فيه غيظ ما تداخلني قطّ مثله، و هممت بطرد بوّابي و من حجبني لأجله؛ فسلّم عليّ أحسن سلام فرددت عليه، و أمرته بالجلوس فجلس، ثم أخذ [بي](9) في أحاديث الناس و أيام العرب و أحاديثها و أشعارها حتى سلّى(10) ما بي من الغضب، و ظننت أنّ غلماني تحرّوا مسرّتي بإدخالهم مثله عليّ لأدبه و ظرفه؛ فقلت: هل لك في الطعام؟ فقال: لا حاجة لي فيه؛ فقلت: هل لك في الشراب؟ فقال: ذلك إليك، فشربت رطلا و سقيته مثله؛ فقال لي: يا أبا إسحاق، هل لك أن تغنّي لنا شيئا من صنعتك و ما(11) قد نفقت به

ص: 154


1- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «مصطحبان».
2- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «نسيم الصبا».
3- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «فقال: هو... إلخ».
4- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «فأقمت في يوم... إلخ».
5- في ب: «في اصطلاح» و هو تحريف.
6- تقدمت إليه: أمرته.
7- في ب، س، م: «و الحرم».
8- يقال: تقلس باللاطئة و هي قلنسوة صغيرة تلطأ (تلزق) بالرأس.
9- زيادة عن ط، ء، ح.
10- لعله ضمن «سلى» معنى أذهب و أزال، على أنه لا يبعد أن يكون أصله «سل». و في ط، ء: «سلا».
11- كذا في ب، س، ح و «مختار الأغاني» لابن منظور. و في ط، ء: «من صنعتك ما قد فقت به... إلخ». و في م: «من صنعتك ما قد تغنيت به... إلخ».

عند الخاصّ و العامّ؟ فغاظني قوله، ثم سهّلت على نفسي أمره فأخذت العود فجسسته ثم ضربت فغنّيت؛ فقال:

أحسنت يا إبراهيم؛ فازداد غيظي و قلت: ما رضي بما فعله من دخوله عليّ بغير إذن و اقتراحه أن أغنيه حتى سمّاني و لم يكنّني و لم يجمل مخاطبتي!. ثم قال: هل لك أن تزيدنا؟ فتذمّمت(1) فأخذت العود فغنّيت؛ فقال: أجدت يا أبا إسحاق! /فأتم(2) حتى نكافئك و نغنّيك؛ فأخذت العود و تغنّيت و تحفّظت و قمت بما غنّيته إياه [قياما](3) تامّا ما تحفّظت مثله و لا قمت بغناء كما قمت به له بين يدي خليفة قطّ و لا غيره، لقوله لي: أكافئك؛ فطرب و قال:

أحسنت(4) يا سيّدي، ثم قال: أ تأذن لعبدك بالغناء؟ فقلت: شأنك، و استضعفت عقله في أن يغنّيني بحضرتي بعد ما سمعه منّي؛ فأخذ العود و جسّه و حبسه، فو اللّه لخلته ينطق بلسان عربيّ لحسن ما سمعته من صوته(5)، ثم تغنّى:

صوت

و لي كبد مقروحة من يبيعني *** بها كبدا ليست بذات قروح

أباها عليّ الناس لا يشترونها *** و من يشتري ذا علّة(6) بصحيح

أئنّ من الشوق الذي في جوانبي *** أنين غصيص بالشراب جريح

قال إبراهيم: فو اللّه لقد ظننت الحيطان و الأبواب و كلّ ما في البيت يجيبه و يغنّي معه من حسن غنائه، حتى خلت و اللّه أنّي أسمع أعضائي(7) و ثيابي تجاوبه، و بقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام و لا الجواب و لا الحركة لما خالط قلبي؛ ثم غنّى:

صوت

ألا يا حمامات اللّوى عدن عودة *** فإنّي إلى أصواتكنّ حزين

فعدن فلما عدن كدن يمتنني *** و كدت بأسراري لهنّ أبين

/دعون بترداد الهدير كأنما *** سقين حميّا أو بهنّ جنون

فلم تر عيني مثلهنّ حمائما *** بكين و لم تدمع لهنّ عيون

- لم أعرف في هذه الأبيات لحنا ينسب إلى إبراهيم، و الذي عرفته لمحمد بن الحارث بن بُسخُنَّر(8) خفيف رمل - فكاد، و اللّه أعلم، عقلي أن يذهب طربا و ارتياحا لما سمعت؛ ثم غنّى:

ص: 155


1- تذمم الرجل: استنكف، يقال: لو لم أترك الكذب تأثما لتركته تذمما، أي مجانبة للذم.
2- في ط، ء و «مختار الأغاني»: «فأتمم هزارك». و الهزار: كلمة فارسية من معانيها الأنشودة و المقطوعة.
3- الزيادة عن ط، ء.
4- في ط، ء: «أحسنت يا سيدي و يا أوثق عددي».
5- في ط، ء: «من ضربه».
6- في ط، ء: «ذا عرّة». و العرّة: الجرب.
7- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «أني و عظامي و ثيابي... إلخ».
8- كذا في ط، ء. و قد صححه الأستاذ الشنقيطي في عدّة مواضع بنسخته الخاصة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (144 أدب ش). و قد ورد في سائر الأصول: «بشخير» و هو تصحيف.
صوت

/

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد *** لقد زادني مسراك وجدا على وجد

أ أن هتفت ورقاء في رونق الضّحى(1)*** على فنن(2) غضّ النّبات من الرّند(3)

بكيت كما يبكي الحزين صبابة *** و ذبت من الحزن المبرّح و الجهد(4)

و قد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا(5)*** يملّ و أنّ النأى يشفي(6) من الوجد

بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا *** على أنّ(7) قرب الدار خير من البعد

/ثم قال: يا إبراهيم، هذا الغناء الماخوريّ فخذه و انح نحوه في غنائك و علّمه جواريك؛ فقلت: أعده عليّ، فقال: لست(8) تحتاج، قد أخذته و فرغت منه، ثم غاب من بين يديّ(9)؛ فارتعت(10) و قمت إلى السيف فجرّدته، و عدوت نحو أبواب الحرم فوجدتها مغلقة، فقلت للجواري: أيّ شيء سمعتنّ عندي؟ فقلن(11): سمعنا أحسن غناء سمع قطّ؛ فخرجت متحيّرا إلى باب الدار فوجدته مغلقا، فسألت البوّاب عن الشيخ؛ فقال لي: أيّ شيخ هو؟ و اللّه ما دخل إليك اليوم أحد؛ فرجعت لأتأمل أمري، فإذا هو قد هتف [بي](12) من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك يا أبا إسحاق، أنا إبليس و أنا كنت جليسك و نديمك اليوم، فلا ترع. فركبت إلى الرشيد و قلت: لا أطرفه(13) أبدا بطرفة مثل هذه، فدخلت إليه فحدّثته بالحديث؛ فقال: ويحك! تأمّل هذه الأصوات(14)، هل أخذتها؟ فأخذت العود أمتحنها، فإذا هي راسخة في صدري كأنها لم تزل؛ فطرب الرشيد [عليها](15) و جلس يشرب و لم يكن عزم على الشراب، و أمر لي بصلة و حملان(9) و قال: الشيخ كان أعلم بما قال لك من أنك أخذتها و فرغت منها، فليته أمتعنا بنفسه يوما واحدا كما أمتعك.

ص: 156


1- رونق الضحى: حسنه و إشراقه.
2- كذا في ط، ء و «شرح الحماسة» للتبريزي (ج 3 ص 145). و في سائر الأصول و «ديوان ابن الدمينة» المخطوط المحفوظ بدار الكتب المصرية ضمن مجموعة تحت رقم (6 أدب ش): «غصن».
3- الرند: شجر طيب الرائحة من شجر البادية. و قد ورد هذا البيت في أكثر الأصول بعد البيت الذي يليه، و قد وضعناه كما ورد في ط، لانسجام الكلام بذلك.
4- روى هذا البيت في «شرح الحماسة» هكذا: بكيت كما يبكي الوليد و لم تكن جليدا و أبديت الذي لم تكن تبدي
5- كذا في ط، ء، م و «الأغاني» (ج 15 ص 156 طبع بولاق) و هو الموافق لما جاء في شرح ديوان الحماسة» للتبريزي و «ديوانه». و في سائر الأصول: «إذا نأى».
6- في ط، ء: «يسلي».
7- في ط، ء و «شرح الحماسة»: «على ذاك قرب... إلخ».
8- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «ليس».
9- في ط، ء و «مختار الأغاني»: «من بين عينيّ».
10- كذا في ط، ء و «مختار الأغاني». و في سائر الأصول: «فارتفعت».
11- في ب، س: «فقلنا» و هو تحريف.
12- الزيادة عن ط، ء و «مختار الأغاني».
13- أطرفه: أتحفه و أتاه بالحديث الجديد.
14- كذا في ط، ء و «مختار الأغاني». و في سائر الأصول: «الأبيات».
15- الحملان (بالضم): ما يحمل عليه من الدواب في الهبة خاصة.
نسبة هذه الأصوات
اشارة

أمّا الصوت الأوّل فالذي أعرفه فيه خفيف رمل لمحمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، و لم يقع إليّ فيه صنعة لإبراهيم. و الصوت الثاني الذي أوّله:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

فشعره ليزيد(1) بن الطّثريّة(2)، و الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو. و فيه لمحمد بن الحسن بن مصعب ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ و عمرو. و ذكر إبراهيم أنّ فيه لحنا لدحمان و لحنا لابنه الزّبير، و لم يذكر في أيّ طريقة هما.

هكذا حدّثنا ابن أبي الأزهر بهذا الخبر؛ و ما أدري ما أقول فيه، و لعل إبراهيم صنع هذه الحكاية ليتنفّق بها، أو صنعت و حكيت عنه. إلا أنّ للخبر أصلا الأشبه بالحق منه ما حدّثني به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الموصليّ عن أبيه قال:

صنعت لحنا فأعجبني، و جعلت أطلب شعرا فعسر ذلك عليّ، و رأيت في المنام كأنّ رجلا لقيني فقال:

يا إبراهيم، أ أعياك شعر لغنائك هذا الذي تعجب به؟ قلت نعم؛ قال: فأين أنت من قول ذي الرّمّة حيث قال:

/

ألا يا اسلمي يا دارميّ عن البلى *** و لا زال منهلاّ بجرعائك(3) القطر

/و إن لم تكوني غير شام(4) بقفرة *** تجرّبها الأذيال صيفيّة(5) كدر

قال: فانتبهت و أنا فرح(6) بالشعر، فدعوت من ضرب عليّ و غنيته فإذا هو أوفق ما خلق اللّه، فلمّا علمت [ذلك، و عملت](7) هذا الغناء في شعر ذي الرّمة، تنبّهت عليه و على شعره فصنعت فيه ألحانا ماخوريّة، منها:

صوت

أ منزلتي ميّ سلام عليكما *** هل الأزمن اللائي مررن رواجع

و هل يرجع التسليم أو يكشف العمى *** ثلاث الأثافي(8) أو رسوم بلاقع

ص: 157


1- كذا في جميع الأصول و «الأمالي» لأبي على القالي (ج 3 ص 104 طبع دار الكتب المصرية). و قد نسبت هذه الأبيات في «الأغاني» (ج 15 ص 156 طبع بولاق) و «شرح الحماسة» للتبريزي (ج 3 ص 145) لعبد اللّه بن الدمينة، و هي مذكورة في «ديوانه».
2- في ب، ح: «الطبرية» بالباء الموحدة، و هو تصحيف.
3- الجرعاء: الرملة المستوية لا تنبت شيئا.
4- كذا في جميع الأصول و «ديوان ذي الرمة» طبع أوروبا. و الشام: جمع شامة، و هي بقعة تخالف لون الأرض؛ أي و إن أصبحت جزءا أسود من الأرض قد فقد كل ما كان له من معالم. و قد ذكر ذو الرمة هذا المعنى أيضا في قوله: كأن ديار الحيّ بالزرق خلقة من الأرض أم مكتوبة بمداد أي كأنها خلقة من الأرض سوداء. و الزرق: كئيب بالدهناء.
5- الصيفية: رياح الصيف. و الكدر: جمع كدراء و هي التي في لونها غبرة.
6- في ب، ح: «جموح».
7- الزيادة عن ط، ء.
8- كذا في ط، ء هنا. و فيما سيأتي في «الأغاني» (ج 16 ص 129 طبع بولاق) و «المخصص» (ج 17 ص 100، 125): ثلاث الأثافي و الديار البلاقع

صنعة إبراهيم في هذين الشعرين جميعا من الماخوريّ بالوسطى، و هو خفيف الثقيل الثاني. و أخباره كلها في هذا المعنى تأتي في أخبار ذي الرّمّة مشروحة.

سأل الرشيد أن يختصه بالغناء في شعر ذي الرمة و كان الرشيد يؤثره:

حدّثني [محمد بن](1) مزيد قال حدّثني حمّاد عن أبيه قال قال [لي](1) أبي:

قال [لي](1) جعفر بن يحيى يوما و قد علم أنّ الرشيد أذن لي و للمغنّين في الانصراف يومئذ: صر إليّ حتى أهب(2) لك شيئا حسنا - فصرت إليه فقال لي: أيّما أحبّ إليك: أهب لك الشيء الحسن الذي وعدتك به، أم(3)أرشدك إلى شيء تكسب به ألف ألف درهم؟ فقلت: بل يرشدني الوزير - أعزّه اللّه - إلى هذا الوجه فإنه يقوم مقام إعطائه إيّاي هذا الحسن(4)؛ فقال: إنّ أمير المؤمنين يحفظ شعر ذي الرّمّة حفظ الصّبا(5) و يعجبه و يؤثره، فإذا سمع فيه غناء، أطربه أكثر مما يطربه غيره مما لا يحفظ شعره؛ فإذا غنّيته فأطربته و أمر لك بجائزة، فقم على رجليك قائما و قبّل الأرض بين يديه و قل له: لي حاجة غير هذه الجائزة أريد أن أسألها أمير المؤمنين، و هي حاجة تقوم عندي مقام كل فائدة و لا تضرّه و لا ترزؤه؛ فإنه سيقول لك: أيّ شيء حاجتك؟ فقل: قطيعة تقطعنيها سهلة عليك لا قيمة لها و لا منفعة فيها لأحد؛ فإذا أجابك إلى ذلك، فقل له: تقطعني شعر ذي الرمّة أغنّي فيه ما أختاره و تحظر على المغنّين جميعا أن(6) يداخلوني فيه، فإني أحبّ شعره و أستحسنه فلا أحبّ أن ينغّصه عليّ أحد منهم، و توثّق منه في ذلك؛ فقبلت ذلك القول منه، و ما انصرفت من عنده بعد ذلك إلا بجائزة؛ /و توخّيت وقت الكلام في هذا المعنى حتى وجدته، فقمت فسألت كما قال لي، و تبيّنت السرور في وجهه، و قال: ما سألت شططا، قد(7) أقطعتك سؤلتك؛ فجعلوا يتضاحكون من قولي و يقولون: لقد استضخمت القطيعة و هو ساكت؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، أ تأذن لي في التوثّق؟ قال: توثّق كيف شئت؛ فقلت: باللّه و بحقّ رسوله و بتربة أمير المؤمنين المهديّ إلاّ جعلتني على ثقة من ذلك بأنك [تحلف(8) لي أنك] لا تعطي أحدا من المغنّين جائزة على شيء يغنّيه في شعر ذي الرّمّة فإنّ ذلك وثيقتي؛ فحلف مجتهدا لهم لئن غنّاه أحد منهم في شعر ذي الرّمّة لا أثابه بشيء و لا برّه و لا سمع غناءه؛ فشكرت فعله و قبّلت الأرض بين يديه و انصرفنا. فغنّيت مائة صوت و زيادة(9) في شعر ذي الرّمّة، فكان إذا سمع منها صوتا

ص: 158


1- التكملة عن ط، ء.
2- كذا في ط، ء، و هو الصواب لأن «وهب» يتعدى إلى المفعول الأوّل باللام، و قد جاء في التنزيل: لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا. و أنكر سيبويه أن يقال: أهبك كذا؛ و نقل عن أبي عمرو أنه سمع أعرابيا يقول لآخر: انطلق معي أهبك نبلا. و في سائر الأصول: «حتى أهبك».
3- يراد هنا التعيين، فلهذا وضعنا «أم» بدل «أو» التي وردت في الأصول.
4- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «المال».
5- في ط، ء: «كأنه حفظ الصبيّ».
6- كذا في ط، ء، أ. و في سائر الأصول: «ألا يداخلوني».
7- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «و قال: أقطعتك... إلخ».
8- زيادة عن ط.
9- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و زيادة عليها في شعر... إلخ».

طرب و زاد طربه و وصلني فأجزل، و لم ينتفع به أحد منهم غيري؛ فأخذت منه و اللّه بها ألف ألف درهم و ألف ألف درهم.

رأى في منامه من أرشده إلى الغناء في شعر ذي الرمة فغنى به الرشيد فأجزل صلته:

أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب قال حدّثني(1) هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني أبو خالد الأسلميّ قال حدّثني محمد بن عمر الجرجانيّ قال:

قال إبراهيم الموصليّ: أرتج عليّ فلم أجد شعرا أصوغ فيه غناء أغنّي فيه الرشيد، /فدخلت إلى بعض حجر داري مغموما، فأسبلت الستور عليّ و غلبتني عيني، فتمثّل لي/في البيت شيخ أشوه الخلقة، فقال لي: يا موصليّ، ما لي أراك مغموما؟ قلت: لم أصب شعرا أغنّي فيه الرشيد الليلة؛ قال: فأين أنت عن قول ذي الرّمّة:

ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى *** و لا زال منهلاّ بجرعائك(2) القطر

و إن(3) لم تكوني غير شام بقفرة *** تجرّبها الأذيال صيفيّة كدر(4)

أقامت(5) بها حتى ذوي العود في الثّرى(6) *** و ساق الثريّا في ملاءته(7) الفجر

و حتى اعتلى(8) البهمى(9) من الصيف نافض *** كما نفضت خيل نواصيها شقر

قال: و غنّاني فيه بلحن و كرّره حتى علقته(10) فانتبهت و أنا أديره، فناديت جارية لي و أمرتها بإحضار عود، و ما زلت أترنّم بالصوت و هي تضرب حتى استوى [لي](11)؛ ثم صرت إلى هارون فغنّيته إيّاه، فأسكت(12) المغنّين، ثم قال: أعد فأعدت، فما زال ليلته يستعيدنيه، فلما أصبح أمر لي بثلاثين ألف درهم و بفرش البيت الذي كنّا فيه، و قال: عليك بشعر ذي الرّمّة فغنّ فيه؛ فصنعت فيه غناء كثيرا، فكنت أغنّيه به [فيعجبه](11) و يجزل صلتي.

ص: 159


1- كذا ورد هذا السند في ط، ء قد ورد في سائر الأصول هكذا: «أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب قال حدّثني هارون بن عمرو الجرجاني قال... إلخ».
2- راجع الحاشية رقم 1 ص 236 من هذا الجزء.
3- في ط، ء و «ديوانه» طبع أوروبا: «فإن لم» بالفاء.
4- راجع الحاشية رقم 3 ص 236 من هذا الجزء.
5- في ط، ء: «أقاموا» بالواو.
6- في «شرح شواهد الكبرى» للإمام العيني («الموضوع على هامش الخزانة» للبغدادي ج 2 ص 7 طبع بولاق): «و التوى».
7- ملاءة الفجر: بياضه؛ شبه بالملاءة و هي الثوب الأبيض.
8- في ديوانه و شرح الشواهد الكبرى المذكور: «اعترى».
9- البهمي (للواحد و الجمع): نبت تجد به الغنم وجدا شديدا ما دام أخضر، فإذا يبس و عظم خرج له شوك مثل شوك السنبل ثم كان كلأ يرعاه الناس حتى يصيبه المطر من عام مقبل و ينبت من تحته حبه الذي سقط من سنبله. و النافض: يبس يقع فيها فينفضها؛ و هذا في أوّل القيظ قبل شدّة الحر. قال أبو عمرو: نافض: يريد ريح الصيف، و شبه شوك البهمي إذا وقعت عليه فابيض بنواصي خيل شقر. (انظر «شرح ديوان ذي الرمة» طبع أوروبا).
10- كذا في ط، ء. يريد: حتى علمته و حفظته، يقال: علق فلان أمره إذا علمه. و في سائر الأصول: «عقلته».
11- زيادة عن ط، ء.
12- في ط، ء: «فأمسك المغنون بإسكاته ثم قال... إلخ».
غنى الرشيد و معه زلزل و برصوما فأطربوه:
اشارة

أخبرني عمّي و ابن المرزبان و الحسن بن عليّ قالوا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه السّلميّ قال حدّثنا أبو غانم مولى جبلة(1) بن يزيد السّلميّ قال:

اجتمع إبراهيم الموصليّ و زلزل و برصوما بين يدي الرشيد، فضرب زلزل و زمر برصوما و غنّى إبراهيم:

صوت

صحا قلبي و راع(2) إليّ عقلي *** و أقصر باطلي و نسيت جهلي

رأيت الغانيات و كنّ صورا(3) *** إليّ صرمنني و قطعن حبلي

فطرب هارون حتى وثب على رجليه و صاح: يا آدم، لو رأيت من يحضرني(4) من ولدك اليوم لسرّك! ثم جلس و قال: أستغفر اللّه.

الشعر الذي غنّى فيه إبراهيم لأبي العتاهية. و الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر.

غاضب الرشيد جارية يحبها فغناه بشعر للعباس بن الأحنف فترضاها:

حدّثني جحظة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

كان الرشيد يجد بماردة وجدا شديدا؛ فغضبت عليه و غضب عليها، و تمادى بينهما الهجر أياما؛ فأمر جعفر بن يحيى العباس بن الأحنف فقال:

راجع أحبّتك الذين هجرتهم *** إنّ المتيّم قلّما يتجنّب

إنّ التجنّب إن تطاول منكما *** دبّ السّلوّ له فعزّ المطلب

/و أمر إبراهيم الموصليّ فغنّى فيه الرشيد؛ فلما سمعه بادر إلى ماردة فترضّاها؛ فسألت عن السبب في ذلك فعرفته، فأمرت لكل واحد من العبّاس و إبراهيم بعشرة آلاف درهم، و سألت الرشيد أن يكافئهما عنها، فأمر لهما بأربعين ألف درهم.

نال أوّل جائزة خرجت لشاعر من الرشيد:
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة عن حمّاد عن أبيه قال:

أوّل جائزة خرجت لشاعر من الرشيد لمّا ولي الخلافة جائزة لإبراهيم(5)، فإنه قال يمدحه لمّا ولي:

ص: 160


1- في ط، ء: «مولى يزيد بن جبلة».
2- كذا في أكثر الأصول. و راع بمعنى: رجع. و في ب، س: «راغ» بالغين المعجمة، و هو تصحيف.
3- كذا في ح. و صور إلى كذا (من باب علم) إذا أمال عنقه و وجهه إليه فهو أصور و الأنثى صوراء و الجمع: صور. و في سائر الأصول: «خزرا».
4- في ط، ء: «من بحضرتي».
5- كذا في ط، ء. و إبراهيم هذا هو إبراهيم الموصلي صاحب الترجمة، و في ابن خلكان في «ترجمة يحيى البرمكيّ» ج 2 ص 360 إلى 366 بعد أن ذكر قصة هذا الشعر قال: «و في ذلك يقول الموصليّ و أظنه إبراهيم النديم أو ابنه إسحاق». و في سائر الأصول: «لأبي فائد» و هو تحريف.
صوت

/

أ لم تر أنّ الشمس كانت مريضة *** فلمّا ولي هارون أشرق نورها

فألبست(1) الدّنيا جمالا بوجهه *** فهارون و اليها و يحيى وزيرها

و غنّى فيه، فأمر له بمائة ألف درهم، و أمر له يحيى بخمسين ألف درهم.

قامر الرشيد بالنرد فتقامر له:

أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن(2) مالك قال حدّثني إسحاق الموصليّ:

أنّ أباه لعب يوما مع الرشيد بالنّرد في الخلعة التي كانت على(3) الرشيد و الخلعة التي كانت عليه هو، فتقامر(4) للرشيد، فلمّا قمره قام إبراهيم فنزع ثيابه، ثم قال للرشيد: حكم النّرد الوفاء به، و قد قمرت و وفّيت لك، فالبس ما كان عليّ؛ /فقال له الرشيد: ويلك! أنا ألبس ثيابك!؛ فقال: إي و اللّه إذا أنصفت، و إذا لم تنصف قدرت و أمكنك؛ قال: ويلك! أ و أفتدي منك؟ قال: نعم؛ قال: و ما الفداء؟ قال: قل أنت يا أمير المؤمنين فإنك أولى بالقول؛ فقال: أعطيك كلّ ما عليّ؛ قال: فمر به يا أمير المؤمنين و أنا أستخير اللّه في ذلك؛ فدعا بغير ما عليه فلبسه و نزع ما كان عليه فدفعه إلى إبراهيم.

فطنة ابن جامع و إبراهيم في صناعة الموسيقى:

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني عليّ بن عبد الكريم قال:

زار ابن جامع إبراهيم [الموصليّ](5)؛ فأخرج إليه ثلاثين جارية فضربن جميعا طريقة واحدة و غنّين؛ فقال ابن جامع. في الأوتار وتر غير مستو؛ فقال إبراهيم: يا فلانة شدّي مثناك، فشدّته فاستوى؛ فعجبت أوّلا من فطنة ابن جامع لوتر في مائة و عشرين وترا غير مستو، ثم ازداد عجبى من فطنة إبراهيم له بعينه.

غناؤه عند خمار بالرقة:
اشارة

أخبرني إسماعيل بن يونس و حبيب بن نصر [المهلّبيّ](5) قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال حدّثني أبي قال:

كنّا مع الرشيد بالرّقّة و كان هناك خمّار أقصده أشتري منه شرابا حسنا طيّبا، و ربما شربت في حانته، فأتيته يوما فبزل(6) لي دنّا في باطية(7) له، فرأيت لونه حسنا صافيا، فاندفعت أغنّي:

ص: 161


1- في ط، ء: «تلبست».
2- كذا في ط، ء، و فيما سبق في مواضع كثيرة في جميع الأصول و فيما سيأتي أيضا. و في سائر الأصول هنا: «محمد بن عبد الملك»، و هو تحريف.
3- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «مع» و هو تحريف.
4- كذا في ط، ء، و لعله يريد أنه تظاهر بالغلب للرشيد. و في سائر الأصول: «فتقامر الرشيد».
5- زيادة عن ط، ء.
6- كذا في ط، ء. و بزل الدن: ثقبه، و يقال: بزل الشراب إذا صفاه. و في سائر الأصول: «فنزل» بالنون، و هو تصحيف.
7- الباطية: إناء من الزجاج يملأ من الشراب و يوضع بين الشرب يغترفون منه.
صوت

اسقني صهباء صرفا *** لم تدنّس بمزاج

اسقني و الليل داج *** قبل أصوات الدّجاج

يا أبا وهب خليلي *** كلّ همّ لانفراج

حين توّهت(1) بقلبي *** في أعاصير الفجاج(2)

- الغناء في هذه الأبيات لإبراهيم هزج بالوسطى عن عمرو. و فيها لسياط ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق - قال: فدهش الخمّار يسمع صوتي، فقلت له: ويحك! قد فاض النبيذ من الباطية؛ فقال: دعني من النبيذ يا أبا إسحاق، ما لي أرى صوتك حزينا حريقا(3)، مات لك باللّه إنسان؟؛ فلما جئت إلى الرشيد حدّثته بذلك فجعل يضحك.

قصته مع الجواري اللاتي عقنه عن موعد الرشيد و خروج الرشيد إليهن معه متخفيا:

و ذكر أحمد بن أبي طاهر أنّ المدائنيّ حدّث قال:

[قال](4) إبراهيم الموصليّ قال لي الرشيد يوما: يا إبراهيم، إني قد جعلت غدا للحريم، و جعلت ليلته للشرب مع الرجال، و أنا مقتصر عليك من المغنّين، فلا تشتغل غدا بشيء و لا تشرب نبيذا، و كن بحضرتي في وقت العشاء الآخرة؛ فقلت: السمع و الطاعة لأمير المؤمنين؛ فقال: و حقّ أبي لئن تأخرت أو اعتللت بشيء لأضربنّ /عنقك، أ فهمت؟ فقلت: نعم، و خرجت فما جاءني أحد من إخواني إلا احتجبت عنه/و لا قرأت رقعة لأحد، حتى إذا صلّيت المغرب ركبت قاصدا إليه، فلما قربت من فناء داره مررت بفناء قصر، و إذا زنبيل(5) كبير مستوثق منه بحبال و أربع عرى أدم و قد دلّي من القصر، و جارية قائمة تنتظر إنسانا قد وعد ليجلس فيه، فنازعتني نفسي إلى الجلوس فيه، ثم قلت: هذا خطأ، و لعله أن يجري سبب يعوقني عن الخليفة فيكون الهلاك، فلم أزل أنازع نفسي و تنازعني حتى غلبتني، فنزلت فجلست فيه، و مدّ الزنبيل حتى صار في أعلى القصر، ثم خرجت فنزلت، فإذا جوار كأنهنّ المها جلوس، فضحكن و طربن، و قلن: قد جاء و اللّه من أردناه؛ فلما رأينني من قريب تبادرن إلى الحجاب و قلن: يا عدوّ اللّه، ما أدخلك إلينا؟ فقلت: يا عدوّات اللّه، و من الذي أردتنّ إدخاله؟ و لم صار أولى بهذا منّي؟ فلم يزل هذا دأبنا و هنّ يضحكن و أضحك معهنّ؛ ثم قالت إحداهنّ: أمّا من أردناه فقد فات، و ما هذا إلا ظريف، فهلمّ نعاشره عشرة جميلة؛ فأخرج إليّ طعام و دعيت إلى أكله، فلم يكن فيّ فضل إلاّ أنّي كرهت أن أنسب إلى سوء العشرة، فأصبت منه إصابة معذّر(6)، ثم جيء بالنبيذ فجعلنا نشرب، و أخرجن إليّ ثلاث جوار لهنّ فغنّين غناء

ص: 162


1- كذا في ط، ء، ح. و في سائر الأصول: «نوهت» بالنون، و هو تصحيف.
2- الفجاج: جمع فجّ و هو الطريق الواسع الواضح بين جبلين و هو أوسع من الشعب. و في ط، ء، ح: «في أعاصير العجاج» بالعين المهملة بدل الفاء.
3- في ط، ء، ح: «حرفا».
4- زيادة عن ط، ء.
5- في ط، ء: «زبيل» و هي بمعنى «الزنبيل».
6- كذا في ط، ء. و المعذر: المعتذر. و في باقي الأصول: «إصابة مقدرة»، بالقاف و الدال المهملة.

مليحا، فغنّت إحداهنّ صوتا لمعبد، فقالت إحدى الثلاث من وراء الستر: أحسن إبراهيم، هذا له؛ فقلت: كذبت ليس هذا له، هذا لمعبد؛ فقالت: يا فاسق، و ما يدريك الغناء ما هو؛ ثم غنّت الأخرى صوتا للغريض، فقالت [تلك](1): أحسن إبراهيم، هذا له أيضا؛ فقلت: كذبت يا خبيثة، هذا للغريض؛ فقالت: اللهم أخزه، ويلك! /و ما يدريك! ثم غنّت الجارية صوتا لي، فقالت تلك: أحسن ابن سريج، هذا له(2)؛ فقلت: كذبت هذا لإبراهيم، و أنت تنسبين غناء الناس إليه و غناءه إليهم؛ فقالت: ويحك! و ما يدريك!؛ فقلت: أنا إبراهيم، فتباشرن بذلك جميعا و طربن كلّهن و ظهرن كلّهن لي و قلن: كتمتنا نفسك و قد سررتنا(3)؛ فقلت: أنا الآن أستودعكنّ اللّه؛ فقلن:

و ما السبب؟ فأخبرتهنّ بقصتي مع الرشيد؛ فضحكن و قلن: الآن و اللّه طاب حبسك، علينا و علينا إن خرجت أسبوعا؛ فقلت: هو و اللّه القتل؛ قلن: إلى لعنة اللّه. فأقمت و اللّه عندهنّ أسبوعا لا أزول، فلما كان بعد الأسبوع ودّعنني و قلن: إن سلّمك اللّه فأنت بعد ثلاث عندنا، قلت نعم؛ فأجلسنني في الزنبيل و سرّحت؛ فمضيت لوجهي حتى أتيت دار الرشيد، و إذا النداء قد أشيع ببغداد في طلبي و أنّ من أحضرني فقد سوّغ ملكي و أقطع مالي؛ فاستأذنت فتبادر الخدم حتى أدخلوني على الرشيد؛ فلما رآني شتمني و قال: السيف و النّطع! إيه يا إبراهيم، تهاونت بأمري و تشاغلت بالعوامّ عما أمرتك به و جلست مع أشباهك من السفهاء حتى أفسدت(4) عليّ لذّتي!؛ فقلت:

يا أمير المؤمنين، أنا بين يديك، و ما أمرت به غير فائت، و لي حديث عجيب ما سمع بمثله قطّ و هو الذي قطعني عنك ضرورة لا اختيارا، فاسمعه، فإن كان عذرا فاقبله و إلاّ فأنت أعلم؛ قال: هاته فليس ينجيك؛ فحدّثته، فوجم ساعة ثم قال: إن هذا لعجب، أ فتحضرني معك هذا الموضع؟ قلت: نعم، و أجلسك معهنّ إن شئت قبلي حتى تحصل/عندهنّ، و إن شئت فعلى موعد؛ قال: بل على موعد؛ قلت: أفعل؛ فقال: انظر؛ قلت: ذلك حاصل إليك متى شئت؛ فعدل عن رأيه فيّ و أجلسني و شرب/و طرب؛ فلما أصبحت أمرني بالانصراف و أن أجيئه من عندهنّ؛ فمضيت إليهنّ في وقت الوعد، فلما وافيت الموضع إذا الزنبيل معلّق، فجلست فيه و مدّه الجواري فصعدت، فلما رأينني تباشرن و حمدن اللّه على سلامتي، و أقمت ليلتي(5)، فلما أردت الانصراف قلت لهنّ: إن لي أخا هو عدل(6) نفسي عندي، و قد أحبّ معاشرتكن و وعدته بذلك؛ فقلن: إن كنت ترضاه فمرحبا به؛ فوعدتهن ليلة غد و انصرفت و أتيت الرشيد و أخبرته؛ فلما كان الوقت خرج معي متخفّيا(7) حتى أتينا الموضع، فصعدت و صعد بعدي و نزلنا(8) جميعا، و قد كان اللّه وفّقني لأن قلت لهن: إذا جاء صديقي فاستترن عني و عنه و لا يسمع لكنّ نطقة، و ليكن ما تخترنه من غناء أو تقلنه من قول مراسلة؛ فلم يتعدّين ذلك و أقمن على أتمّ ستر و خفر، و شربنا شربا كثيرا، و قد كان أمرني ألاّ أخاطبه بأمير المؤمنين، فلما أخذ منّي النبيذ قلت سهوا: يا أمير المؤمنين، فتواثبن من وراء الستارة حتى غابت عنّا حركاتهنّ؛ فقال لي: يا إبراهيم لقد أفلتّ من أمر عظيم، و اللّه لو برزت إليك واحدة

ص: 163


1- زيادة عن ط، ء.
2- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «هذا له أيضا» بزيادة كلمة «أيضا»، و هو تحريف.
3- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «سررنا».
4- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «حتى فسدت لذتي».
5- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «ليلتين».
6- العدل: النظير.
7- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «مختفيا».
8- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «و بتنا».

منهنّ لضربت عنقك، قم بنا، فانصرفنا؛ و إذا هنّ له، قد كان غضب عليهنّ فحبسهنّ في ذلك القصر؛ ثم وجّه من غد بخدم فردّوهنّ إلى قصره، و وهب لي مائة ألف درهم، و كانت الهدايا و الألطاف تأتيني بعد ذلك [منهنّ](1).

غنى الرشيد فأجزل صلته:

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني أبي قال:

/دخلت على الرشيد [يوما](2) فقال لي: أنا اليوم كسلان خاثر(3)، فإن غنّيتني صوتا يوقظ نشاطي أحسنت صلتك؛ فغنيته:

و لم ير في الدنيا محبّان مثلنا *** على ما نلاقي من ذوي الأعين الخزر

صفيّان لا نرضى الوشاة إذا وشوا *** عفيفان لا نغشى(4) من الأمر ما يزري

فطرب، و دعا بالطعام فأكل و شرب، و أمر لي بخمسين ألف درهم.

طلب إليه يحيى بن خالد أن يمتحن صوتا لدنانير ثم أجازه:

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال قال لي أبي قال لي يحيى بن خالد:

إنّ ابنتك دنانير قد عملت صوتا أعجبني و أعجبت أيضا هي به، فقلت لها: لا تعجبي به حتّى أعرضه على أبيك أبي إسحاق؛ فقلت له: و اللّه ما في معرفة الوزير - أعزّه اللّه - به و لا بغيره(5) من الصنائع مطعن، و إنه لأصحّ العالم تمييزا و أثقبه فطنة، و ما أعجبه إلاّ و هو صحيح حسن؛ فقال: إن كنت كما تقول أيضا، فإنّ أهل كلّ صناعة يمارسونها أفهم بها ممّن يعلمها عن عرض من غير ممارسة، و لو كنا في هذه الصناعة متساويين لكان الاستظهار برأيك أجود، لأنّ ميلي إلى صانعة الصوت ربما حسّن عندي ما ليس بالحسن، و إنما يتمّ سروري به بعد سماعك إياه و استحسانك له على الحقيقة؛ فمضيت فوجدت ستارة منصوبة و أمرا قد تقدّم فيه قبلي؛ فجلست فسلّمت على الجارية، و قلت لها: تغنّيني الصّوت الذي/ذكره لي الوزير أعزه اللّه؛ فقالت: إن الوزير قال لي: إن استجاده فعرّفيني ليتمّ سروري به، و إلاّ فاطو الخبر عني لئلاّ تزول رتبته عندي؛ فقلت: هاتيه حتى أسمعه؛ فغنّت تقول:

/

نفسي أ كنت عليك مدّعيا *** أم حين أزمع بينهم خنت

إن كنت هائمة بذكرهم *** فعلى فراقهم ألا حمت

قال: فأحسنت و اللّه و ما قصرت، فاستعدته لأطلب فيه موضعا لأصلحه فيكون لي فيه معنى فما وجدت؛ قلت: أحسنت و اللّه يا بنيّة ما شئت؛ ثم عدت إلى يحيى فحلفت له بأيمان رضيها أنّ كثيرا من حذّاق المغنّين لا يحسنون أن يصنعوا مثله، و لقد استعدته لأرى فيه موضعا يكون لي فيه عمل فما وجدت؛ فقال: وصفك لها من

ص: 164


1- زيادة عن ط، ء.
2- زيادة عن ط، ء.
3- كذا في ط، ء. و خثرت نفسه: غثت و اختلطت. و في سائر الأصول: «حائر» و هو تحريف.
4- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «نخشى» بالخاء المعجمة، و هو تحريف.
5- في ط، ء: «بهذه الصناعة و لا غيرها من الصنائع... إلخ».

أجله(1) يقوم مقام تعليمك إياها، فقد و اللّه سررتني و سأسرّك، فلمّا انصرفت أتبعني بخمسين ألف درهم.

قصته مع فتاة شاعرة بحضرة الرشيد:
اشارة

حدّثني عمي و ابن المرزبان قالا حدّثنا ابن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه السّلميّ قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق، و لم يقل عن أبيه، قال:

و اللّه إني لفي منزلي ذات يوم و أنا مفكّر في الرّكوب مرّة و في القعود مرّة، إذا غلامي قد دخل و معه خادم الرشيد يأمرني بالحضور من وقتي، فركبت و صرت إليه؛ فقال لي: اجلس يا إبراهيم حتى أريك عجبا، فجلست؛ فقالت: عليّ بالأعرابية و ابنتها؛ فأخرجت إليّ أعرابيّة و معها بنيّة لها عشر أو أرجح؛ فقال: يا إبراهيم، إن هذه الصّبيّة تقول الشعر؛ فقلت لأمّها: ما يقول أمير المؤمنين؟ فقالت: هي هذه قدّامك فسلها؛ فقلت: يا حبيبة، أ تقولين الشعر؟ فقالت نعم؛ فقلت: أنشديني بعض ما قلت؛ فأنشدتني:

صوت

تقول لأتراب لها و هي تمتري(2) *** دموعا على الخدّين من شدّة الوجد

أ كلّ فتاة لا محالة نازل *** بها مثل ما بي أم بليت به وحدي

براني له حبّ تنشّب في الحشى *** فلم يبق من جسمي سوى العظم و الجلد

وجدت الهوى حلوا لذيذا بديئة(3) *** و آخره مرّ لصاحبه مردي

قال الشّبّيّ(4) في خبره: قال إسحاق: و كان أبي حاضرا، فقال: و اللّه لا تبرح يا أمير المؤمنين أو نصنع في هذه الأبيات لحنا؛ فصغت فيها أنا و أبي و جميع من حضر. و قال الآخرون: قال إبراهيم: فما برحت حتى صنعت فيه لحنا و تغنّيت به و هي حاضرة تسمع. قال ابن المرزبان في خبره، و لم يذكره عمّي، فقالت: يا أمير المؤمنين، قد أحسن رواية ما قلت، أ فتأذن لي أن أكافئه بمدح أقوله فيه؟ قال: افعلي؛ فقالت:

صوت

ما لإبراهيم في العل *** م بهذا الشأن ثاني

إنما عمر أبي إس *** حاق زين للزمان

منه يجنى ثمر اللّه *** و و ريحان الجنان

جنّة الدنيا أبو إس *** حاق في كلّ مكان

قال: فأمر لها الرشيد بجائزة، و أمر لي بعشرة آلاف درهم، فوهبت لها شطرها.

ص: 165


1- كذا في أ، م. و في سائر الأصول: «من أجلك».
2- تمتري دموعا: تستدرّها و تستخرجها.
3- في الأصول: «بدينه» و هو تحريف.
4- الشبي: هو أبو زيد عمر بن شبة، منسوب إلى والده شبة، و عمر بن شبة هو الذي تقدم في الخبر. و في الأصول: «الشعبي»، و هو تحريف.

/اللحن الذي صنعه إبراهيم في شعر الأعرابيّة ثقيل أوّل بالوسطى. و فيه لعلّويه ثاني ثقيل. و أما/الشعر الثاني فهو لابن سيابة لا يشكّ فيه. و لإبراهيم فيه لحن من خفيف الثقيل.

غنى للرشيد و غناه غيره فأجازهم، و غناه علويه فغضب عليه:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

كنت أخذت بالمدينة من مجنون بها هذا الصوت، و غنّيته الرشيد و قلت:

صوت

هما فتاتان لمّا(1) تعرفا(2) خلقي *** و بالشّباب على شيبي تدلاّن(2)

رأيت عرسيّ لمّا ضمّني كبرى *** و شخت أزمعتا صرمي و هجراني

كلّ الفعال الذي يفعلنه حسن *** يصبي فؤادي و يبدي سرّ أشجاني

بل احذرا صولة من صول شيخكما *** مهلا على الشيخ مهلا يا فتاتان

فطرب و أمر لي بظبية(3) كانت ملقاة بين يديه، فيها ألف دينار مسيّفة(4)؛ و كان ابن جامع حاضرا، فقال:

اسمع يا أمير المؤمنين غناء العقلاء ودع غناء المجانين، و كان أشدّ خلق اللّه حسدا، فغنّاه:

صوت

و لقد قالت لأتراب لها *** كالمها يلعبن في حجرتها

خذن عنّي الظّلّ لا يتبعني *** و مضت(5) سعيا إلى قبّتها

/فطرب و شرب، و أمر له بألف و خمسمائة دينار. ثم تبعه محمد بن حمزة وجه القرعة [فغنّى](6):

صوت

يمشون فيها بكلّ سابغة *** أحكم فيها القتير(7) و الحلق

يعرف إنصافهم إذا شهدوا *** و صبرهم حين تشخص الحدق

فاستحسنه و شرب عليه، و أمر له بخمسمائة دينار. ثم غنّى علّويه:

ص: 166


1- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «لم» و لا يستقيم بها الوزن.
2- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «يعرفا» و «يدلان» بالياء المثناة من تحت، و مرجع الضمير مؤنث.
3- الظبية: الجراب، و قيل: الجراب الصغير خاصة.
4- يقال: درهم مسيف إذا كانت جوانبه نقية من النقش.
5- من ط، ء: «وعدت».
6- زيادة عن ط، ء.
7- القتير: رءوس المسامير في الدرع.
صوت

يجحدن ديني بالنّهار و أقتضي *** ديني إذا و قد(1) النّعاس الرّقّدا

و أرى الغواني لا يواصلن امرأ *** فقد الشّباب و قد يصلن الأمردا

فدعا به الرشيد و قال له: يا عاضّ بظر أمّه! أ تغنّي في مدح المرد و ذمّ الشّيب و ستارتي منصوبة و قد شبت و كأنك تعرّض بي! ثم دعا مسرورا فأمره أن يأخذ بيده فيضربه ثلاثين درّة و يخرجه من مجلسه، ففعل؛ و ما انتفعنا به بقيّة يومنا و لا انتفع بنفسه، و جفا علّويه شهرا، ثم سألناه فيه فأذن له(2).

[قال أبو الفرج](3): لإبراهيم أخبار مع خنث المعروفة بذات الخال، و كان يهواها، جعلتها في موضع آخر من هذا الكتاب(4)؛ لأنها منفردة بذاتها مستغنية عن إدخالها في غمار أخباره. و له في هذه الجارية شعر كثير فيه غناء له و لغيره؛ و قد شرطت أن/الشيء من أخبار الشعراء [و] المغنّين إذا كانت هذه سبيله أفرده، لئلا يقطع بين القرائن و النظائر مما تضاف إليه و تدخل فيه.

شعره و مرضه و زيارة الرشيد له و موته:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى قال:

سمعت إسحاق الموصليّ/يقول: لمّا دخلت سنة ثمان و ثمانين و مائة اشتدّ أمر القولنج على أبي و لزمه، و كان يعتاده أحيانا، فقعد عن(5) خدمة الخليفة و عن نوبته في داره؛ فقال في ذلك:

صوت

ملّ و اللّه طبيبي *** من(6) مقاساة الذي بي

سوف أنعى عن قريب *** لعدوّ و حبيب

و غنّى فيه لحنا من الرّمل، فكان آخر شعر قاله و آخر لحن صنعه.

أخبرني الصّوليّ عن محمد بن موسى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه:

أن الرشيد ركب حمارا و دخل إلى إبراهيم يعوده و هو في الأبزن جالس، فقال له: كيف أنت يا إبراهيم؟ فقال: أنا و اللّه يا سيّدي كما قال الشاعر:

ص: 167


1- وقذه النعاس: أسقطه و غلبه.
2- في الأصول هنا، ما عدا ط، ء، بعد هذا الكلام هذه العبارة: «نسبة ما في هذا الخبر من «الأغاني» لم يذكرها»، و لعلها زيدت سهوا من النساخ، إذ لا معنى لها في سياق الكلام.
3- زيادة عن ط، ء. و في باقي الأصول: «و لإبراهيم» بزيادة الواو.
4- هذا الموضع يقع في الجزء الخامس عشر طبع بولاق ص 79-85.
5- كذا في أكثر النسخ. و في ب، س: «فقعد في الأبزن عن خدمة... إلخ».
6- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «عن».

سقيم ملّ منه أقربوه *** و أسلمه المداوي و الحميم

فقال الرشيد: إنّا للّه! و خرج، فلم يبعد حتى سمع الواعية(1) عليه.

أمر الرشيد ابنه المأمون أن يصلي عليه مع آخرين:

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبّة قال:

مات إبراهيم الموصليّ سنة ثمان و ثمانين و مائة، و مات في ذلك اليوم الكسائي النحويّ و العباس بن الأحنف الشاعر و هشيمة(2) الخمّارة، فرفع ذلك إلى الرشيد، فأمر المأمون أن يصلّي عليهم، فخرج فصفّوا بين يديه؛ فقال:

من هذا الأوّل؟ قيل: إبراهيم؛ فقال: أخّروه و قدّموا العبّاس بن الأحنف، فقدّم فصلّى عليهم؛ فلما فرغ و انصرف، دنا منه هاشم بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ فقال: يا سيّدي، كيف آثرت العبّاس بالتّقدمة على من حضر؟ قال:

لقوله:

و سعى بها ناس فقالوا إنّها *** لهي التي تشقى بها و تكابد(3)

فجحدتهم ليكون غيرك ظنّهم(4) *** إنّي ليعجبني المحبّ الجاحد

ثم قال: أ تحفظها؟ قلت نعم؛ فقال: أنشدني باقيها؛ فأنشدته:

لمّا رأيت الليل سدّ طريقه *** عنّي و عذّبني الظلام الراكد

و النّجم في كبد السماء كأنه *** أعمى تحيّر ما لديه قائد

ناديت من طرد الرّقاد بصدّه *** عمّا(5) أعالج و هو خلو هاجد

يا ذا الذي صدع الفؤاد بهجره *** أنت البلاء طريفه و التّالد

ألقيت بين جفون عيني حرقة *** فإلى متى أنا ساهر يا راقد

/فقال المأمون: أ ليس من قال هذا الشعر حقيقا بالتقدمة؟ فقلت: بلى و اللّه يا سيّدي.

ذهاب برصوما الزامر مع ابنه إسحاق إلى المجلس الذي كان يجلس فيه و بكاؤه عليه:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبي قال:

قال لي برصوما الزامر: أ ما في حقّي و خدمتي و ميلي إليكم و شكري لكم ما أستوجب به أن تهب لي يوما من عمرك تفعل فيه ما أريد و لا تخالفني في شيء؟ فقلت: بلى و وعدته بيوم؛ فأتاني فقال: مر لي بخلعة، ففعلت و جعلت فيها جبّة وشى؛ فلبسها ظاهرة و قال: امض بنا إلى المجلس الذي كنت آتي أباك فيه؛ فمضينا جميعا إليه و قد خلّقته و طيّبته؛ فلما صار على باب المجلس رمى بنفسه إلى الأرض فتمرّغ في التّراب و بكى و أخرج نايه و جعل

ص: 168


1- كذا في ط، ء، ح. و الواعية: الصراخ على الميت. و في سائر الأصول: «الناعية».
2- هكذا وردت مضبوطة في ط (بضم الهاء و فتح الشين)، و هي: امرأة كانت تبيع الخمر، و كانت جارة لإسحاق الموصلي، و قد رثاها بأبيات يرميها فيها بالقيادة. (انظر ترجمة إسحاق الموصلي فيما سيأتي من هذا الجزء).
3- في ط، ء: «و تجاهد».
4- في ط، ء: «همهم».
5- كذا في ط، ء و «ديوانه». و في سائر الأصول: «عمن».

ينوح/في زمره و يدور في المجلس و يقبّل المواضع التي كان أبو إسحاق يجلس فيها و يبكي و يزمر حتّى قضى من ذلك و طرا، ثم ضرب بيده إلى ثيابه فشقّها(1)، و جعلت أسكّته و أبكي معه، فما سكن إلا بعد حين؛ ثم دعا بثيابه فلبسها و قال: إنما سألتك أن تخلع عليّ لئلا يقال: إن برصوما إنما خرق ثيابه ليخلع(2) عليه ما هو خير منها؛ ثم قال: امض بنا إلى منزلك فقد اشتفيت مما أردت؛ فعدت إلى منزلي و أقام عندي يومه، و انصرف بخلعة مجدّدة.

المراثي التي قبلت فيه:

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبة قال حدّثني القاسم(3) بن يزيد قال:

/لمّا مات إبراهيم الموصليّ دخلت على إبراهيم بن المهديّ و هو يشرب و جواريه يغنّين، فذكرنا(4) إبراهيم الموصليّ و حذقه و تقدّمه، فأفضنا في ذلك و إبراهيم مطرق، فلمّا طال كلامنا و قال كلّ واحد منا مثل ما قاله صاحبه، اندفع إبراهيم بن المهديّ يغنّي في شعر لابن سيابة يرثي [به](5) إبراهيم - و يقال: إن الأبيات لأبي الأسد(6) -:

تولّى الموصليّ فقد تولّت *** بشاشات المزاهر و القيان

و أيّ بشاشة بقيت فتبقى *** حياة الموصليّ على الزمان

ستبكيه المزاهر(7) و الملاهي *** و تسعدهنّ عاتقة الدّنان

و تبكيه الغويّة إذ تولّى *** و لا تبكيه تالية القران(8)

قال: فأبكى من حضر؛ و قلت أنا في نفسي: أ فتراه هو إذا مات من يبكيه: المحراب أم المصحف؟! قال:

و كان كالشامت بموته.

أخبرني يحيى بن عليّ قال قال أنشدني حمّاد قال: أنشدني أبي لنفسه يرثي أباه، و أنشدها غير يحيى و فيها زيادة على روايته:

أقول له لما وقفت بقبره *** عليك سلام اللّه يا صاحب القبر

أيا قبر إبراهيم حيّيت حفرة *** و لا زلت تسقى الغيث من سبل(9) القطر

/لقد عزّني(10) وجدي عليك فلم يدع *** لقلبي نصيبا من عزاء و لا صبر

ص: 169


1- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «يشقها».
2- كذا في ط، ء و في سائر الأصول: «ليخلع عليه هو خيرا منها».
3- في ط، ء: «القاسم بن يزيد الموصلي».
4- كذا في ط، ء: و في سائر الأصول: «فذكرن».
5- زيادة عن ط، ء.
6- كذا في ط، ء: و هو نباتة بن عبد اللّه الحماني، من شعراء الدولة العباسية، و قد أورد له أبو الفرج ترجمة في (ج 12 ص 174 طبع بولاق)، و قد ذكرت في ترجمته هذه الأبيات يرثي بها إبراهيم الموصلي. و في سائر الأصول: «الأسل» باللام، و هو تحريف.
7- في س: «المزامر» بالميم.
8- القرآن: القرآن.
9- السبل (بالتحريك): ما سال من المطر.
10- عزه الوجد: غلبه.

و قد كنت أبكي من فراقك ليلة *** فكيف و قد صار الفراق إلى الحشر

أخبرني أحمد بن محمد بن إسماعيل [بن إبراهيم](1) الموصليّ الملقب بوسواسة(2) قال: أنشدني حمّاد لأبيه إسحاق يرثي أباه إبراهيم الموصليّ:

سلام على القبر الذي لا يجيبنا *** و نحن نحيّي تربه و نخاطبه

ستبكيه أشراف الملوك إذا رأوا *** محلّ التصابي قد خلا منه جانبه

و يبكيه أهل الظّرف طرّا كما بكى *** عليه أمير المؤمنين و حاجبه

و لمّا بدا لي اليأس منه و أنزفت(3) *** عيون بواكيه و ملّت نوادبه

و صار شفاء النفس(4) من بعض ما بها *** إفاضة دمع تستهلّ سواكبه

جعلت على عينيّ للصبح عبرة *** و للّيل أخرى ما بدت لي كواكبه

قال: و أنشدني أيضا حمّاد لأبيه يرثي أباه:

عليك سلام اللّه من قبر فاجع *** و جادك من نوء السّماكين وابل(5)

/هل أنت محيّي القبر أم أنت سائل *** و كيف تحيّا تربة و جنادل

أظلّ كأني لم تصبني مصيبة *** و في الصّدر من وجد عليك بلابل

و هوّن عندي فقده أنّ شخصه *** على كل حال بين عينيّ ماثل

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبو أيوب المدينيّ قال أنشدني إبراهيم بن عليّ بن هشام لرجل يرثي إبراهيم الموصليّ:

/

أصبح اللهو تحت عفر التراب *** ثاويا في محلّة الأحباب

إذ ثوى الموصليّ فانقرض اللّه *** و بخير الإخوان و الأصحاب

بكت المسمعات حزنا عليه *** و بكاه الهوى و صفو الشراب

و بكت آلة المجالس حتى *** رحم العود دمعة المضراب(6)

ذكره ابنه إسحاق عند الرشيد و بكى فلاطفه و وصله:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:

ص: 170


1- زيادة عن ط، ء.
2- في الأصول: «وسواسة» و لقب تتعدّى بالباء.
3- أنزفت العين: فنى ماؤها، و يقال أنزف الرجل البئر إذا استخرج ماءها كله، فهو لازم متعد.
4- كذا في ط، ء. و في باقي الأصول: «شفاء الناس».
5- وردت هذه الأبيات في ط، ء بزيادة هاء للوصل على رويها و ورد فيها الشطر الأخير من البيت الثاني هكذا: «و كيف يحيا تربه و جنادله».
6- في ط، ء: «دمعة المحراب». و من معاني المحراب صدر البيت و أكرم موضع فيه.

دخلت إلى الرشيد بعقب(1) وفاة أبي، و ذلك بعد شهر من يوم وفاته، فلمّا جلست و رأيت موضعه الذي كان يجلس فيه خاليا دمعت عيني، فكففتها و تصبّرت؛ و لمحني الرشيد فدعاني إليه و أدناني منه، فقبّلت يده و رجله و الأرض بين يديه، فاستعبر، و كان رقيقا؛ فوثبت قائما ثم قلت:

في بقاء الخليفة الميمون *** خلف من مصيبة المحزون

لا يضير المصاب رزء إذا ما *** كان ذا مفزع إلى هارون

فقال لي: كذاك و اللّه هو، و لن تفقد من أبيك ما دمت حيّا إلا شخصه؛ و أمر بإضافة(2) رزقه إلى رزقي؛ فقلت: بل يأمر أمير المؤمنين به إلى ولده، ففي خدمتي إياه ما يغنيني؛ فقال: اجعلوا رزق إبراهيم لولده و أضعفوا رزق إسحاق.

صوت من المائة المختارة
أحد الأصوات من المائة المختارة:

يا دار سعدى بالجزع(3) من ملل(4) *** حيّيت من دمنة(5) و من طلل

إنّي إذا ما البخيل أمّنها *** باتت ضموزا(6) منّي على وجل(7)

لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلا قريبة الأجل

العوذ: الإبل التي قد نتجت، واحدتها عائذ. يقول: أنحرها و أولادها للأضياف فلا أمتعها. و الضّموز:

الممسكة عن أن تجتر. ضمز الجمل بجرّته إذا أمسك عنها، و دسع(8) بها إذا استعملها. يقول: فهذه الناقة من شدة خوفها على نفسها مما رأت من نحر نظائرها قد امتنعت من جرّتها فهي ضامزة.

الشعر لابن هرمة. و الغناء في اللحن المختار لمرزوق الصراف(9) ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر

ص: 171


1- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «بعقيب». و العقيب: المعاقب، و يستقيم الكلام به على تقدير محذوف، أي بوقت عقيب وقت وفاة أبيه، أو على أن يكون مصغرا.
2- في ط، ء: «بإفاضة».
3- الجزع (بالكسر و يفتح): منعطف الوادي و وسطه أو منقطعه. و في ط، ء: «الخيف» و هو ما انحدر عن غلف الجبل و ارتفع عن مسيل الماء.
4- ملل (بالتحريك): منزل على طريق المدينة إلى مكة بينه و بين المدينة ثمانية و عشرون ميلا.
5- في ب: «دجنة» بالجيم، و هو تحريف.
6- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «بانت ضمورا» و هو تصحيف.
7- ورد هذا البيت و الذي بعده في «الأمالي» (ج 3 ص 110 طبع دار الكتب المصرية) بتقديم الذي بعده عليه، و هو الأنسب ليرجع الضمير فيه إلى مذكور. و في تفسير المؤلف للبيتين ما يشعر بهذا الترتيب.
8- كذا في ط، ء. و دسع الرجل: قاء ملء الفم. و في ب، س: «رسغ» (بالراء و الغين المعجمة). و في سائر الأصول: «رسع» بالراء و العين المهملة، و كلاهما تحريف.
9- كذا في ط، ء، أ هنا و فيما سبق في جميع الأصول في الجزء الرابع في آخر ترجمة فليح بن أبي العوراء. و في سائر الأصول هنا: «لمرزوق الضراب».

عن إسحاق، و يقال إنه ليحيى بن واصل. و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه لدحمان لحنا من الثقيل الأوّل بالبنصر، [و أن فيه لابن محرز لحنا من/الثقيل الثاني بالبنصر](1) في الثالث ثم الثاني، و وافقه ابن المكيّ. قال: و فيه لدحمان خفيف رمل بالوسطى في الأول و الثالث؛ و ذكر الهشاميّ/أنّ هذا اللحن بعينه ليونس و أن الثقيل الثاني لإبراهيم، و أنّ لمعبد فيه لحنا من الثقيل الأوّل بالوسطى، و أن فيه للهذليّ خفيف ثقيل، و أن فيه رملا ينسب إلى ابن محرز [أيضا](1).

8 - شيء من ذكر ابن هرمة أيضا

طلب يحيى بن عروة من ابنة ابن هرمة زادا فردّته فذكرها بقول أبيها:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد العزيز الزّهريّ و نوفل بن ميمون عن يحيى بن عروة بن أذينة قال:

خرجت في حاجة لي، فلمّا كنت بالسّيالة(2) وقفت على منزل إبراهيم بن عليّ بن هرمة، فصحت: يا أبا إسحاق، فأجابتني ابنته: من هذا؟ فقلت: انظري، فخرجت إليّ فقلت: أعلمي أبا إسحاق؛ فقالت: خرج و اللّه آنفا؛ قال: فقلت: هل من قرّى؟ فإني مقو(3) من الزاد؛ قالت: لا و اللّه، ما صادفته حاضرا؛ قلت: فأين قول أبيك:

لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلا قريبة الأجل

قالت: بذاك(4) و اللّه أفناها - أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أيّوب بن عباية بمثل هذا الخبر سواء، و زاد فيه: - قال: فأخبرت إبراهيم بن هرمة بقولها، فضمّها إليه و قال: بأبي أنت و أمي! أنت و اللّه ابنتي حقا، الدار و المزرعة لك.

ذكر بشعر له في الكرم فأنهب غنمه الناس و كان بخيلا:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني نوفل بن ميمون قال حدّثني مرقّع(5) قال:

كنت مع ابن هرمة في سقيفة(6) أمّ أذينة، فجاءه راع بقطعة(7) من غنم يشاوره فيما يبيع منها، و كان قد أمره ببيع بعضها؛ قال مرقّع: فقلت: يا أبا إسحاق، أين عزب عنك قولك:

لا غنمي مدّ في الحياة لها *** إلا لدرك(8) القرى و لا إبلي

و قولك فيها أيضا:

لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** و لا أبتاع إلا قريبة الأجل

ص: 172


1- زيادة عن ط، ء.
2- السيالة (بفتح أوّله و تخفيف ثانيه): أوّل مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة.
3- أقوى القوم: فتى زادهم.
4- في ط، ء، ح: «فذاك».
5- في ط، ء: «موقع» بالواو.
6- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «سفينة ابن أذينة».
7- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «بقطيعة»، و هو تحريف.
8- في ط، ء: «إلا دراك».

فقال لي: مالك أخزاك اللّه! من أخذ منها شيئا فهو له؛ فانتهبناها(1) حتى وقف الراعي و ما معه منها شيء.

و حدّثنا بهذا الخبر أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن أبيه:

أن ابن هرمة كان اشترى غنما للربح(2)، فلقيه رجل فقال له: أ لست القائل:

لا غنمي مدّ في الحياة لها *** إلا لدرك القرى و لا إبلي

قال: نعم؛ قال: فو اللّه إني لأحسبك تدفع عن هذه الغنم المكروه بنفسك، و إنك لكاذب؛ فأحفظه [ذلك](3)فصاح: من أخذ منها شيئا فهو له؛ فانتهبها الناس جميعا؛ و كان ابن هرمة أحد البخلاء.

أوّل شعر قاله ابن هرمة:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني نوفل بن ميمون قال حدّثني زفر بن محمد(4) الفهري: أن هذه القصيدة أول شعر قاله ابن هرمة.

سمع مزيد بيتا له في الفخر فتهكم به:

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال قرأت على أبي: حدّثنا عبد اللّه بن الوليد الأزديّ قال حدّثني جعفر بن محمد بن زيد بن عليّ بن الحسين(5) قال:

سمع مزبد(6) قول ابن هرمة:

/

لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلاّ قريبة الأجل

قال: صدق ابن الخبيثة، إنّما كان يشتري الشاة للأضحى فيذبحها من ساعته.

ذهب إليه قوم من قريش للعبث به فكان بينهم حوار ظريف:

أخبرنا وكيع قال حدّثنا حمّاد عن أبيه [عن عبد اللّه بن الوليد عن جعفر بن محمد بن زيد عن أبيه](7) قال:

اجتمع قوم من قريش أنا فيهم، فأحببنا أن نأتي ابن هرمة فنعبث به، فتزوّدنا زادا كثيرا ثم أتيناه لنقيم عنده، فلما انتهينا إليه خرج إلينا فقال: ما جاء بكم؟ فقلنا: سمعنا شعرك فدعانا إليك لما سمعناك قلت:

/

إنّ امرأ جعل الطريق لبيته *** طنبا(8) و أنكر حقّه للئيم

ص: 173


1- كذا في ح. و في ط، ء: «فانتهبنا». و في سائر الأصول: «فانتهبناها له...».
2- كذا في ح، ط، ء. و في سائر الأصول: «للذبح»، و هو تحريف.
3- زيادة عن ط، ء.
4- في ط، ء: «زفر بن الحارث الفهري».
5- كذا في ط، ء و هو الموافق لما جاء في كتاب «المعارف» لابن قتيبة (ص 111 طبع أوروبا). و في سائر الأصول: «الحسن».
6- كذا في ط، ء و كتاب «البخلاء» للجاحظ (ص 9 طبع أوروبا) و «عيون الأخبار» طبع دار الكتب المصرية (انظر مقدّمته ص م حاشية رقم 3). و في «شرح القاموس» (مادة زبد): مزبد كمحدث اسم رجل صاحب «النوادر»، و ضبط كمعظم، و وجد بخط الذهبي ساكن الزاي مكسور العين. (باختصار). و في سائر الأصول: «مزيد» بالياء المثناة التحتية، و هو تصحيف.
7- التكملة عن ط، ء.
8- الطنب (بضم النون و تسكينها): حبل الخباء و السرادق و نحوهما، و قد يستعار للطرف و الناحية. فلعله يريد أنه أقام بيته على الطريق فكانت الطريق طرفا له. و في الحديث: «ما بين طنبي المدينة أحوج مني إليها» أي ما بين طرفيها. و في ح: «ضرب الطريق... طزقا... إلخ».

و سمعناك تقول:

و إذا تنوّر طارق(1) مستنبح *** نبحت فدلّته عليّ كلابي

و عوين يستعجلنه فلقينه *** يضربنه بشراشر(2) الأذناب

و سمعناك تقول:

كم ناقة قد وجأت(3) منحرها *** بمستهلّ الشّؤبوب أو جمل

لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلاّ قريبة الأجل

قال: فنظر إلينا طويلا ثم قال: ما على وجه الأرض عصابة أضعف عقولا و لا أسخف دينا منكم؛ فقلنا له:

يا عدوّ اللّه يا دعيّ، أتيناك زائرين [و](4) تسمعنا هذا الكلام؛ فقال: أ ما سمعتم اللّه تعالى يقول للشّعراء: وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ أ فيخبركم اللّه أنّي أقول ما لا أفعل و تريدون منّي أن أفعل ما أقول؛ [قال](4) فضحكنا منه و أخرجناه معنا، فأقام عندنا في نزهتنا يشركنا في زادنا حتى انصرفنا إلى المدينة.

إعجاب الأصمعي به:

أخبرنا عمّي قال حدّثني محمّد بن سعيد الكرانيّ عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعيّ عن عمّه قال:

/الحكم الخضريّ، و ابن ميّادة، و رؤبة، و ابن هرمة، و طفيل الكنانيّ، و مكين العذريّ، كانوا على ساقة(5)الشعراء، و تقدّمهم ابن هرمة بقوله:

لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلاّ قريبة الأجل

قال عبد الرحمن: و كان عمّي معجبا بهذا البيت مستحسنا له، و كان كثيرا ما يقول: أ ما ترون كيف قال! و اللّه لو قال هذا حاتم لما زاد و لكان كثيرا؛ ثم يقول: ما يؤخّره عن الفحول إلا قرب عهده. انتهى.

تفضيل مروان بن أبي حفصة له:

أخبرني محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى و وكيع عن حمّاد عن أبيه قال:

قلت لمروان بن أبي(6) حفصة: من أشعر المحدثين من طبقتكم عندك؟ لا أعنيك؛ قال: الذي يقول:

لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلا قريبة الأجل

ناقض ابن الكوسج شعرا له فتهدّد مواليه إن لم يأتوه به مربوطا:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن أبي حذافة قال:

لمّا قال ابن هرمة:

ص: 174


1- في ط، ء: «راكب».
2- شراشر الأذناب: أطرافها.
3- وجأه: ضربه بسكين و نحوه.
4- زيادة عن ط، ء.
5- الساقة: المؤخرة، يقال: فلان في ساقة الجيش أي في مؤخرته.
6- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «مروان بن حفصة»، و هو تحريف.

لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلا قريبة الأجل

قال ابن الكوسج مولى آل حنين يجيبه:

ما يشرب البارد القراح و لا *** يذبح من جفرة(1) و لا حمل(2)

كأنّه قردة يلاعبها *** قرد بأعلى الهضاب من ملل

/قال: فقال ابن هرمة: لئن لم أوت به مربوطا لأفعلنّ بآل حنين و لأفعلنّ؛ فوهبوا لابن/الكوسج مائة درهم و ربطوه و أتوا به ابن هرمة فأطلقه(3)؛ فقال ابن الكوسج: و اللّه لئن عاد لمثلها لأعودنّ(4).

غنى ابن جامع الرشيد ما شغله به عن غيره فعلم إبراهيم مخارقا لحنا تفوّق به عليه:

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني هارون بن مخارق عن أبيه قال:

كنّا عند الرشيد في بعض أيامنا و معنا ابن جامع، فغنّاه ابن جامع و نحن يومئذ بالرّقّة:

هاج شوقا فراقك الأحبابا *** فتناسيت أو نسيت الرّباب

حين صاح الغراب بالبين منهم *** فتصاممت إذ سمعت الغرابا

لو علمنا أنّ الفراق وشيك *** ما انتهينا حتى نزور القبابا

أو علمنا حين استقلّت نواهم *** ما أقمنا حتّى نزمّ(5) الرّكابا

- الغناء لابن جامع رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق، و له فيه أيضا ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و ذكرت دنانير عن فليح أنّ فيه لابن سريج و ابن محرز لحنين -. قال: فاستحسنه الرشيد و أعجب به و استعاده مرارا و شرب عليه أرطالا حتى سكر، و ما سمع غيره و لا أقبل على أحد، و أمر لابن جامع بخمسة آلاف دينار؛ فلمّا انصرفنا قال لي إبراهيم: لا ترم(6) منزلك حتى أصير إليك؛ فصرت/إلى منزلي، فلم أغيّر ثيابي حتى أعلمني الغلام بموافاته، فتلقّيته في دهليزي(7)، فدخل و جلس و أجلسني بين يديه ثم قال لي: يا مخارق، أنت فسيلة(8) منّي و حسني لك و قبيحي عليك، و متى تركنا ابن جامع على ما ترى غلبنا على الرّشيد، و قد صنعت صوتا على طريقة

ص: 175


1- الجفرة: من أولاد الشاء إذا عظم و استكرش، قال أبو عبيد: إذا بلغ ولد المعزى أربعة أشهر و جفر جنباه و فصل عن أمه و أخذ في الرعي فهو: جفر، و الأنثى جفرة.
2- كذا في ط، ء، ح، و هو الأنسب للمعنى. و في سائر الأصول: «جمل» بالجيم.
3- عبارة ط، ء: «فأطلقه و قال: و اللّه لئن عاد إلى مثلها لأعودنّ». و هي تفيد أن المهدّد ابن هرمة لا ابن الكوسج، على خلاف ما يفيده باقي الأصول.
4- إلى هنا انتهى المؤلف من أخبار ابن هرمة و عاد إلى إبراهيم الموصلي، و لهذا عنونا به هذه الصفحة و ما بعدها إلى أخبار إسحاق.
5- زم البعير: خطمه و وضع فيه الزمام.
6- رام المكان يريمه: برحه، و أكثر ما يستعمل منفيا.
7- الدهليز (بالكسر): اسم الممر الذي بين باب الدار و وسطها، فارسيّ معرّب. قال يحيى بن خالد: «ينبغي للإنسان أن يتأنق في دهليزه، لأنه وجه الدار، و منزل الضيف، و موقف الصديق حتى يؤذن له، و موضع العلم، و مقيل الخدم، و منتهى حدّ المستأذن».
8- الفسيلة: النخلة الصغيرة تقلع من الأرض أو تقطع من الأم فنغترس.

صوته الذي غنّاه أحسن صنعة منه و أجود و أشجى، و إنما يغلبني عند هذا الرجل بصوته، و لا مطعن على صوتك، و إذا أطربته و غلبته عليه بما تأخذه مني قام ذلك لي(1) مقام الظّفر؛ و سيصبح أمير المؤمنين غدا فيدخل الحمام و نحضر ثم يخرج فيدعو بالطعام و يدعو بنا و يأمر ابن جامع فيردّ الصوت الذي غناه و يشرب عليه رطلا و يأمر له بجائزة، فإذا فعل فلا تنتظره أكثر من أن يردّ ردّته حتى تغنّي ما أعلّمك إياه الساعة، فإنه يقبل عليك و يصلك، و لست أبالي ألاّ يصلني بعد أن يكون إقباله عليك؛ فقلت: السمع و الطاعة؛ فألقى عليّ لحنه:

يا دار سعدى بالجزع من ملل

و ردّده(2) حتى أخذته و انصرف؛ ثم بكّر عليّ فاستعاد الصوت فردّدته حتى رضيه، ثم ركبنا و أنا أدرسه حتى صرنا إلى دار الرشيد؛ فلمّا دخلنا فعل الرشيد جميع ما وصفه إبراهيم شيئا فشيئا، و كان إبراهيم أعلم الناس به، ثم أمر ابن جامع فردّ الصوت و دعا برطل فشربه، و لما استوفاه و استوفى ابن جامع صوته لم أدعه يتنفّس حتى اندفعت فغنّيت صوت إبراهيم، فلم يزل يصغى إليه و هو باهت حتى استوفيته؛ /فشرب و قال: أحسنت و اللّه! لمن هذا الصوت؟ فقلت: لإبراهيم؛ فلم يزل يستدنيني حتى صرت قدّام سريره، و جعل يستعيد الصّوت فأعيده و يشرب [عليه](3) رطلا، فأمر لإبراهيم بجائزة سنيّة و أمر لي بمثلها؛ و جعل ابن جامع يشغب و يقول: يجيء بالغناء فيدسّه في أستاه الصّبيان! إن كان محسنا فليغنّه هو، و الرشيد يقول [له](3): دع ذا عنك، فقد و اللّه استقاد منك و زاد عليك.

صوت من المائة المختارة

تولّى شبابك إلا قليلا *** و حلّ المشيب فصبرا جميلا

كفى حزنا بفراق الصّبا *** و إن أصبح الشّيب منه بديلا

الشعر و الغناء لإسحاق. و لحنه المختار ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق بن عمرو.

ص: 176


1- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «قام ذلك مني».
2- في م: «و رددته».
3- الزيادة عن ط، ء.

9 - أخبار إسحاق بن إبراهيم

نسب إسحاق الموصلي و كنيته:

قد مضى نسبه مشروحا في نسب أبيه؛ و يكنى أبا محمد، و كان الرشيد(1) يولع به فيكنيه أبا صفوان، و هذه كنية أوقعها عليه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب مزحا.

منزلته في العلوم و تقدير الخلفاء و الناس له:

و موضعه من العلم، و مكانه من الأدب، و محلّه من الرواية، و تقدّمه في الشعر، و منزلته في سائر المحاسن، أشهر من أن يدلّ عليه فيها بوصف؛ و أما الغناء فكان أصغر علومه و أدنى ما يوسم به و إن كان الغالب عليه و على ما كان يحسنه؛ فإنه كان له في سائر أدواته نظراء و أكفاء و لم يكن له في هذا نظير؛ فإنه لحق بمن مضى فيه و سبق من بقي، و لحب(2) للناس جميعا طريقه فأوضحها، و سهّل عليهم سبيله و أنارها؛ فهو إمام أهل صناعته جميعا، و رأسهم و معلّمهم؛ يعرف ذلك منه الخاصّ و العامّ، و يشهد به الموافق(3) و المفارق؛ على أنه كان أكره الناس للغناء و أشدّهم بغضا لأن يدعى إليه أو يسمّى به. و كان يقول: لوددت أن أضرب، كلما أراد مريد مني أن أغنّي و كلما قال قائل إسحاق الموصلي المغنّي، عشر مقارع، لا أطيق أكثر من ذلك، و أعفى من الغناء و لا ينسبني من يذكرني إليه.

و كان المأمون يقول: لو لا ما سبق على ألسنة الناس و شهر به عندهم من الغناء لولّيته القضاء بحضرتي، فإنه أولى به /و أعفّ و أصدق و أكثر دينا و أمانة من هؤلاء القضاة.

مشايخة الذين تلقى عنهم:

و قد روى الحديث و لقي أهله: مثل مالك بن أنس، و سفيان بن عيينة، و هشيم بن بشير(4)، و إبراهيم(5) بن

ص: 177


1- كذا في جميع الأصول، و المعروف أن الرشيد لم يعاصر إسحاق بن إبراهيم بن مصعب في بغداد، و أن إسحاق المصعبي و أهل بيته من أهل يوشنج من أعمال خراسان و لم يدخلوا بغداد إلا بعد دخول المأمون فيها، و معلوم أيضا أن إسحاق المصعبي هو الذي أوقع هذه الكنية على إسحاق كما سيجيء في شعر للموصلي بعث به إليه، و الغالب أن في الأصول تحريفا، و الأجدر به أن يكون «المأمون» بدل «الرشيد» ليتسق التاريخ و تتلاءم الحوادث بعضها مع بعض (انظر «التاج» للجاحظ الحاشية رقم 1 ص 31 طبع المطبعة الأميرية).
2- لحب الطريق: سلكه و أوضحه، و يستعمل لازما فيقال: لحب الطريق إذا وضح. و في س «ألحب» و هو بمعنى «لحب» المتعدّي.
3- لعله «المرافق و المفارق» أي القريب و البعيد.
4- هو هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار السلمي، يكنى أبا معاوية، مات في خلافة الرشيد سنة 183 ه.
5- هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري و يكنى أبا إسحاق، و كان ثقة كثير الحديث و ربما أخطأ فيه، توفي ببغداد سنة 183 ه.

سعد، و أبي معاوية(1) الضّرير، و روح(2) بن عبادة، و غيرهم من شيوخ العراق و الحجاز. و كان مع كراهته الغناء أضنّ خلق اللّه و أشدّهم بخلا به على كل أحد حتى على جواريه و غلمانه و من يأخذ عنه منتسبا إليه متعصّبا له فضلا عن غيرهم.

هو الذي صحح أجناس الغناء بطبعه من غير أن يطلع على كتب القدماء:

و هو الذي صحّح أجناس الغناء و طرائقه و ميّزه تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله و لا تعلّق به أحد بعده، و لم يكن قديما مميزا على هذا الجنس، إنما كان يقال الثقيل، و ثقيل الثقيل، و الخفيف، و خفيف الخفيف. و هذا عمرو بن بانة، و هو من تلاميذه، يقول في كتابه: الرمل الأوّل، و الرمل الثاني؛ ثم لا يزيد في ذكر الأصابع على الوسطى و البنصر، و لا يعرف المجاري التي ذكرها إسحاق في كتابه، مثل ما ميّز الأجناس، فجعل الثقيل الأوّل أصنافا، فبدأ فيه بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، ثم تلاه بما كان منه بالبنصر في مجراها، ثم بما كان بالسبّابة في مجرى البنصر، ثم فعل هذا بما كان منه بالوسطى على هذه المرتبة؛ ثم جعل الثقيل الأوّل صنفين، الصنف الأوّل منهما هذا الذي ذكرناه، و الصنف الثاني القدر الأوسط من الثقيل الأوّل، و أجراه المجرى الذي تقدّم من تمييز الأصابع و المجاري، و ألحق جميع الطرائق و الأجناس بذلك و أجراها على هذا الترتيب. ثم لم يتعلّق بفهم ذلك أحد بعده فضلا عن أن يصنّفه في كتابه؛ فقد ألف جماعة من المغنّين كتبا، منهم يحيى المكيّ - /و كان شيخ الجماعة و أستاذهم، و كلّهم كان يفتقر إليه و يأخذ عنه غناء الحجاز، و له صنعة كثيرة حسنة متقدّمة، و قد كان إبراهيم الموصليّ و ابن جامع يضطران إلى الأخذ عنه - ألّف كتابا جمع فيه الغناء القديم، و ألحق فيه ابنه الغناء المحدث إلى آخر أيّامه، فأتيا فيه في أمر الأصابع بتخليط عظيم، حتى جعلا أكثر ما جنّساه من ذلك مختلطا فاسدا، و جعلا بعضه، فيما زعما، تشترك الأصابع كلّها فيه؛ و هذا محال؛ و لو اشتركت الأصابع لما احتيج إلى تمييز الأغاني و تصييرها مقسومة على صنفين: الوسطى و البنصر. و الكلام في هذا طويل ليس موضعه هاهنا؛ و قد ذكرته في رسالة عملتها لبعض إخواني ممن سألني شرح هذا، فأثبتّه و استقصيته استقصاء يستغنى به عن غيره. و هذا كله فعله إسحاق و استخرجه بتمييزه، حتى أتى على كل ما رسمته الأوائل مثل إقليدس و من قبله و من بعده من أهل العلم بالموسيقى، و وافقهم بطبعه و ذهنه فيما قد أفنوا فيه الدهور، من غير أن يقرأ لهم كتابا أو يعرفه.

فأخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجم قال:

كنت عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فسأل إسحاق الموصليّ - أو سأله محمد بن الحسن بن مصعب - بحضرتي، فقال له: يا أبا محمد، أ رأيت لو أنّ الناس جعلوا للعود وترا خامسا للنّغمة الحادّة التي هي العاشرة على مذهبك، أين كنت تخرج منه؟ فبقي إسحاق واجما ساعة طويلة مفكرا، و احمرّت أذناه و كانتا عظيمتين، و كان إذا ورد عليه مثل هذا احمرّتا و كثر ولوعه بهما؛ فقال لمحمد بن الحسن: الجواب في هذا لا يكون كلاما إنما يكون بالضرب، فإن كنت تضرب أريتك أين تخرج؛ فخجل و سكت عنه مغضبا، لأنه كان أميرا و قابله من الجواب بما لا يحسن، فحلم عنه. قال عليّ بن يحيى: فصار إليّ به و قال لي: يا أبا الحسن، إنّ هذا/الرجل سألني عما سمعت، و لم يبلغ علمه أن يستنبط مثله بقريحته، و إنما هو شيء قرأه من كتب الأوائل، و قد بلغني أنّ التراجمة

ص: 178


1- اسمه محمد بن خازم مولى لبني عمرو بن سعد، و كان ثقة كثير الحديث يدلس، توفي بالكوفة سنة 195 ه.
2- هو روح بن عبادة القيسي من بني قيس بن ثعلبة و يكنى أبا محمد و كان ثقة، توفي سنة 205 ه.

عندهم يترجمون لهم كتب الموسيقى، فإذا خرج إليك منها شيء فأعطنيه؛ فوعدته بذلك، و مات قبل أن يخرج إليه شيء منها. و إنما ذكرت هذا بتمام أخباره كلّها و محاسنه و فضائله، لأنه من أعجب شيء يؤثر عنه: أنه استخرج بطبعه علما رسمته الأوائل لا يوصل إلى معرفته إلا بعد علم كتاب إقليدس الأوّل في الهندسة ثم ما بعده من الكتب الموضوعة في الموسيقى، ثم تعلّم ذلك و توصّل إليه و استنبطه بقريحته، فوافق ما رسمه أولئك، و لم يشذّ عنه شيء يحتاج إليه منه، و هو لم يقرأه و لا(1) له مدخل إليه و لا عرفه، ثم تبيّن بعد هذا، بما أذكره من أخباره و معجزاته في صناعته، فضله على أهلها كلّهم و تميّزه عنهم، و كونه سماء هم أرضها، و بحرا هم جداوله.

اسم أمه و جنسها:

و أمّ إسحاق امرأة من أهل الرّيّ يقال لها شاهك؛ و ذكر قوم أنها دوشار التي كانت تغنّى/بالدّفّ، فهويها إبراهيم و تزوّجها. و هذا خطأ، تلك لم تلد من إبراهيم إلا بنتا، و إسحاق و سائر ولد إبراهيم من شاهك هذه.

برنامج دراسته اليومي:

أخبرني يحيى بن عليّ المنجم قال أخبرني أبي عن إسحاق قال:

بقيت دهرا من دهري أغلّس في كلّ يوم إلى هشيم فأسمع منه، ثم أصير إلى الكسائيّ أو الفرّاء أو ابن غزالة(2) فأقرأ عليه جزءا من القرآن، ثم آتي منصور/زلزل(3) فيضار بني طرقين(4) أو ثلاثة، ثم آتي عاتكة(5) بنت شهدة فآخذ منها صوتا أو صوتين، ثم آتي الأصمعيّ و أبا عبيدة فأناشدهما و أحدّثهما فأستفيد منهما، ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت و من لقيت و ما أخذت و أتغدّى معه، فإذا كان العشاء رحت إلى أمير المؤمنين الرشيد.

تعلم الضرب بالعود من زلزل:

أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

أخذ منّي منصور زلزل إلى أن تعلّمت مثل ضربه بالعود أكثر من مائة ألف درهم.

جاء إلى ابن عائشة فأكرمه:

أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة قال:

كنت عند ابن عائشة فجاءه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، فرحّب به و قال: هاهنا يا أبا محمد إلى جنبي، فلئن بعّدت بيننا الأنساب، لقد قرّبت بيننا الآداب.

ص: 179


1- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «و هو لم يقرأه و لا المدخل إليه... إلخ».
2- كذا في جميع الأصول. و قد جاء في «شرح القاموس» (مادة غزل): «و عبد الواحد بن أحمد بن غزال مقرئ».
3- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «ثم آتي منصورا زلزلا». و إذا اجتمع علمان لمسمى واحد جازت الإضافة و الاتباع على أن يكون الثاني بدلا أو عطف بيان.
4- كذا في أ، م. و الطرق (بالفتح): صوت أو نغمة بالعود و نحوه، يقال: تضرب هذه الجارية كذا طرفا. و في ب، س، ح: «طرفين» بالفاء. و في ء: «طريقين»، و كلاهما تحريف.
5- عاتكة بنت شهدة: إحدى المغنيات المحسنات، و أمها جارية الوليد بن يزيد و كانت مغنية أيضا. (انظر الكلام عليها في «الأغاني» ج 6 ص 57 طبع بولاق).
تقدير المأمون له:

أخبرني الحسن(1) بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثنا ابن(2) شبيب من جلساء المأمون عنه: أنه قال يوما و إسحاق غائب عن مجلسه: لو لا/ما سبق على ألسنة الناس و اشتهر به عندهم من الغناء لولّيته القضاء، فما أعرف مثله ثقة و صدقا و عفة و فقها. هذا مع تحصيل المأمون و عقله و معرفته.

سأل الفضل بن الربيع أن يوصي به سفيان بن عيينة في رواية الحديث و تقدير سفيان له:

أخبرنا يحيى بن علي قال حدّثنا الفضل بن العبّاس الورّاق قال حدّثنا المخرّميّ(3) عن أبيه قال: سمعت إسحاق الموصليّ يقول:

صرت إلى سفيان بن عيينة لأسمع منه، فتعذّر ذلك عليّ و صعب مرامه، فرأيته عند الفضل بن الرّبيع، فسألته أن يعرّفه موضعي من عنايته و مكاني من الأدب و الطلب و أن يتقدّم إليه بحديثي؛ ففعل و أوصاه بي فقال: إنّ أبا محمد من أهل العلم و حملته. قال: فقلت: تفرض لي عليه ما يحدّثني به؛ فسأله في ذلك، ففرض لي خمسة عشر حديثا في كل مجلس؛ فصرت إليه فحدّثني بما فرض لي؛ فقلت له: أعزّك اللّه، صحيح كما حدّثتني به؟ قال: نعم، و عقد بيده شيئا؛ قلت: أ فأرويه عنك؟ قال: نعم، و عقد بيده شيئا آخر، ثم قال: هذه خمسة و أربعون حديثا، و ضحك إليّ و قال: قد سرّني ما رأيت من تقصّيك في الحديث و تشدّدك فيه على نفسك، فصر إليّ متى شئت حتى أحدّثك بما شئت.

تقدير أبي معاوية الضرير له:

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى أبو الجمان و عون بن محمد الكنديّ قالا:

سمعنا إسحاق الموصليّ يقول:

جئت يوما إلى أبي معاوية الضّرير و معي مائة حديث، فوجدت حاجبه يومئذ رجلا ضريرا؛ فقال لي: إنّ أبا معاوية قد ولاّني اليوم حجبته لينفعني؛ فقلت: معي مائة حديث و قد جعلت لك مائة درهم إذا قرأتها؛ فدخل و استأذن لي فدخلت؛ /فلما عرفني أبو معاوية دعاه فقال له: أخطأت، و إنما جعلت لك مثل هذا من ضعفاء أصحاب الحديث فأمّا أبو محمد و أمثاله فلا؛ ثم أقبل عليّ يرغبني في الإحسان إليه و يذكر ضعفه و عنايته به؛ فقلت له: احتكم في أمره، فقال: مائة/دينار؛ فأمرت بإحضارها الغلام، و قرأت عليه ما أردت و انصرفت.

كان يجري على ابن الأعرابي ثلاثمائة دينار في كل سنة و إكبار ابن الأعرابيّ له:

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني عليّ بن محمد الأسديّ قال حدّثني أحمد بن يحيى الشّيباني ثعلب قال:

وقف أبو عبد اللّه بن الأعرابيّ على المدائنيّ، فقال له: إلى أين يا أبا عبد اللّه؟ فقال: أمضي إلى رجل هو كما قال الشاعر:

ص: 180


1- في الأصول هنا: «الحسين»، و هو تحريف.
2- في ح، ء و هامش أ: «حدثنا من شئت من جلساء المأمون».
3- المخرميّ: نسبة إلى المخرم (بضم الميم و فتح الخاء المعجمة و تشديد الراء مع الكسر): محلة ببغداد.

نحمل أشباحنا إلى ملك *** نأخذ من ماله و من أدبه

فقال له: و من ذلك يا أبا عبد اللّه؟ قال: أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصليّ. قال أبو بكر: و البيت لأبي تمّام الطائيّ.

و قد أخبرني بهذا الخبر عن ثعلب محمد بن القاسم الأنباريّ فقال فيه:

كان إسحاق يجري على ابن الأعرابيّ في كلّ سنة ثلاثمائة دينار، و أهدى له ابن الأعرابيّ شيئا من كتاب النوادر كتبه له بخطّه؛ فمرّ ابن الأعرابيّ يوما على باب دار الموصليّ و معه صديق له؛ فقال له صديقه: هذه دار صديقك أبي محمد إسحاق؛ فقال: هذه دار الذي نأخذ من ماله و من أدبه.

رأى في المنام جريرا يلقى كبة شعر في فيه فأوّل ذلك بتوريثه الشعر:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

رأيت في منامي كأنّ جريرا جالس ينشد شعره و أنا أسمع منه، فلمّا فرغ أخذ بيده كبّة شعر فألقاها في فمي فابتلعتها؛ فأوّل ذلك بعض من ذكرته له أنّه ورّثني الشعر. قال يزيد بن محمد: و كذلك كان، لقد مات إسحاق و هو أشعر أهل زمانه.

تعلم الضرب بالعود من زلزل و أعطاه مالا كثيرا:

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى و محمد بن مزيد قالا(1) حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال: قال لي أبي:

أعطيت منصورا زلزلا من مالي خاصّة حتّى تعلمت ضربه بالعود نحوا من مائة ألف درهم سوى ما أخذته له من الخلفاء و من أبي. قال: و كانت في زلزل قبل أن يعرف الصوت و يفهمه بلادة أوّل ما يسمعه، حتى لو ضرب هو و غلامه على صوت لم يعرفاه قبل لكان غلامه أقوى منه؛ فإذا تفهّمه جاء فيه من الضرب بما لا يتعلّق به أحد البتّة.

ثناء أبي زياد الكلابي عليه حين أجاز بيتا له ارتجالا:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمّي الفضل عن إسحاق، [و أخبرني به الأخفش عن الفضل عن إسحاق، و أخبرني به يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن إسحاق](2)، و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ عن إسحاق قال:

قال لي أبو زياد الكلابيّ: أولم جار لي يكنى أبا سفيان وليمة و دعاني لها، فانتظرت رسوله حتى تصرّم يومي فلم يأت، فقلت لامرأتي:

إنّ(3)

أبا سفيان ليس بمولم *** فقومي فهاتي فلقة من حوارك(4)

ص: 181


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «قال» و هو تحريف.
2- هذه الزيادة ساقطة من ب، س.
3- في ب، س: «و إن». و ظاهر من سياق الكلام أن البيت لم يتقدّمه شعر.
4- كذا فيما سيأتي في الأصول. و الفلقة: القطعة. و الحوار (بالضم و قد يكسر): ولد الناقة من حين يوضع إلى أن يفطم و يفصل. و في الأصول هنا: «قفرة من حوارك»، و هو تحريف.

قال إسحاق: فقلت له: أ ليس غير هذا؟ فقال: لا، إنما أرسلته يتيما؛ فقلت: أ فلا أجيزه؟ قال: شأنك؛ فقلت له:

فبيتك خير من بيوت كثيرة *** و قدرك خير من وليمة جارك

/قال: فضحك ثم قال: أحسنت بأبي أنت و أمي، جئت و اللّه به قبلا(1) ما انتظرت به القرب، و ما ألوم الخليفة أن يجعلك في سمّاره و يتملّح بك، و إنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله، و لو كان الشباب يشترى لا انتعته لك بإحدى عينيّ و يمنى يديّ، و على أن فيك بحمد اللّه و منّه بقيّة تسرّ الودود، و ترغم الحسود. هذا لفظ يزيد المهلّبيّ و الأخفش. و أخبرني بهذا الخبر محمد بن عبد اللّه بن عمّار فقال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال قال لي إمّا/شدّاد بن عقبة و إما أبو مجيب(2):

قالت امرأة القتّال الكلابيّ له: هل لك في فلقة من حوار نطبخها لك؟ فقال: لا و اللّه، نحن على وليمة أبي سفيان و دعوته، و كان أبو سفيان رجلا من الحيّ زفّت إليه امرأته تلك الليلة؛ فجعل ينظر دخانا فلا يراه، فقال:

إنّ أبا سفيان ليس بمولم *** فقومي فهاتي فلقة من حوارك

ثم ذكر باقي الخبر على ما تقدّم من الذي قبله.

أنشد أعرابيا شعرا له فمدحه:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبيّ قال حدّثني إسحاق قال:

أنشدت أعرابيّا فهما شعرا لي، فقال: أقفرت و اللّه يا أبا محمد؛ قلت: و ما أقفرت؟ قال: رعيت قفرة لم ترع قبلك. (يريد: أبدعت).

دخل على المأمون و عقيد يغنيه فتبين خطأ في الغناء لم يتبينه أحد ممن حضر:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش و عمّي قالا حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثني بعض أصحاب السلطان بمدينة السلام قال سمعت إسحاق الموصليّ يقول:

دخلت على المأمون يوما و عقيد يغنّيه ارتجالا و غيره يضرب عليه؛ فقال: يا إسحاق، كيف تسمع مغنّينا هذا؟ فقلت: هل سأل أمير المؤمنين عن هذا غيري؟ قال: نعم، سألت عمّي إبراهيم فوصفه و قرّظه و استحسنه؛ فقلت له:

يا أمير المؤمنين - أدام اللّه سرورك، و أطاب عيشك - إنّ الناس قد أكثروا في أمري حتى نسبتني فرقة إلى التّزيّد في علمي؛ فقال لي: فلا يمنعك ذلك من قول الحق إذا لزمك؛ فقلت لعقيد: اردد هذا الصوت الذي غنّيته آنفا، و تحفّظ فيه و ضرب ضاربه عليه؛ فقلت لإبراهيم بن المهديّ: كيف رأيته؟ فقال: ما رأيت شيئا يكره و لا سمعته؛

ص: 182


1- القبل (بالتحريك): الارتجال أي التكلم بكلام لم يكن قد أعدّه، يقال: تكلم قبلا فأجاد، و اقتبل الكلام و الخطبة اقتبالا إذا ارتجلهما و لم يكن أعدّهما. و القبل أيضا: أن يورد الرجل إبله فيستقي على أفواهها و لم يكن هيأ لها قبل ذلك شيئا. و القرب (بالتحريك): أن يكون بين القوم و بين الماء ليلة أو عشية فيعجلون بإبلهم و يسوقونها إليه سوقا شديدا. يريد أنه جاء به ارتجالا و عفو الخاطر من غير أن يتريث به و يكد سعيا في طلبه.
2- كذا في ح و كذلك صححه المرحوم الشنقيطي في نسخته، و هو أبو مجيب الريفي، كما سيأتي ذكره بعد قليل في أخبار إسحاق. و قد جاء مضطربا في سائر الأصول هنا.

فأقبلت على عقيد فقلت له حين استوفاه: في أيّ طريقة هذا الصوت الذي غنّيته؟ قال: في الرّمل؛ فقلت للضارب:

في أي طريقة ضربت أنت؟ قال: في الهزج الثقيل؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما عسيت أن أقول في صوت يغنّي مغنّيه رملا و يضرب ضاربه هزجا، و ليس هو صحيحا في إيقاعه الذي ضرب عليه!. قال: و تفهّمه إبراهيم بن المهديّ بعدي، فقال: صدق يا أمير المؤمنين، الأمر فيه الآن بيّن؛ فغاظني، فقلت له: بأيّ شيء بان الآن ما لم يكن بيّنا قبل؟ أتوهم أنك استنبطت معرفة هذا! و إنما قلته لمّا علمته من جهتي كما يقوله الغلمان العجم و سائر من حضر اتّباعا لي و اقتداء بقولي. فقال له المأمون: صدق، فأمسك؛ و جعل يتعجّب من ذهاب ذلك على كل من حضر، و كنّاني في ذلك اليوم مرّتين.

إعجاب الأصمعي ببيتين له في الفخر:

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن حمدون قال حدّثني أبي:

/أنّ الأصمعيّ أنشد قول إسحاق يذكر ولاءه لخزيمة(1) بن خازم:

إذا كانت الأحرار أصلي و منصبي *** و دافع ضيمي خازم و ابن خازم

عطست بأنف شامخ و تناولت *** يداي الثريّا قاعدا غير قائم

قال: فجعل الأصمعيّ يعجب منهما و يستحسنهما، و كان بعد ذلك يذكرهما و يفضّلهما.

سبب ولائه لخازم بن خزيمة:

قال ابن حمدون: و كان السبب في تولّي إسحاق خازم بن خزيمة بن خازم، أنّ مناظرة جرت بينه و بين ابن جامع بحضرة الرشيد فتغالظا(2)، فقال له ابن جامع: يا من إذا قلت له يا ابن زانية لم أخف أن يكذّبني أحد؛ فمضى إلى خازم بن خزيمة، فتولاّه و انتمى إليه، فقبل ذلك منه، و قال هذين البيتين.

امتحنه المعتصم في صوت فأجاب بأنه محدث لامرأة و كان لعريب:

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال: قال إسحاق: كانت عندي(3)/صنّاجة كنت بها معجبا؛ و اشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون؛ فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا ببابي يدقّ دقّا شديدا، فقلت:

انظروا من هذا؛ قالوا: رسول أمير المؤمنين؛ فقلت: ذهبت صنّاجتي، تجده ذكرها له ذاكر فبعث إليّ فيها؛ فلمّا مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب و أنا مثخن(4)، فدخلت فسلّمت، فردّ السلام، و نظر إلى تغيّر وجهي فقال:

اسكن فسكنت؛ و سألني عن صوت و قال: أ تدري لمن هو؟ فقلت: أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء اللّه بذلك؛ فأمر/جارية من وراء الستارة فغنته و ضربت، فإذا هي قد شبّهته بالقديم؛ فقلت: زدني معها عودا آخر فإنه أثبت

ص: 183


1- هو خزيمة بن خازم بن خزيمة، كان هو و أبوه من أشراف الدولة العباسية، و قد ولى أبوه خراسان و عمان لأبي جعفر المنصور، و كان هو من قوّاد الرشيد المبرزين الذين قاموا له بجلائل الأعمال (انظر كتاب «المعارف» لابن قتيبة ص 213 و «تاريخ الطبري» قسم 3 ص 602 و 648 و 683 إلخ).
2- كذا في ب. و تغالظا: تعاديا و تشاتما، و المغالظة: شبه المعارضة، يقال: مالك تغالطني و تغالظني، و تعارضني و تغايظني. و في سائر الأصول: «تغالطا» بالطاء المهملة، و المغالطة: الإيقاع في الغلط.
3- الصناجة: الضاربة بالصنج. و الصنج (لفظ دخيل): صفيحة مدورة تتخذ من صفر يضرب بها على أخرى مثلها للطرب.
4- مثخن: مهموم محزون، يقال: أثخنه الهم إذا غلبه.

لي، فزادني عودا آخر؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا الصوت محدث لا مرأة ضاربة؛ فقال: من أين قلت ذلك؟ فقلت: لمّا سمعته و سمعت لينه عرفت أنه من صنعة النساء؛ و لمّا رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته ضاربة؛ فقال: من أين قلت ذلك؟ فقلت: لأنها قد حفظت مقاطعه و أجزاءه، ثم طلبت عودا آخر ليكون أثبت لي فلم أشكك؛ فقال: صدقت، الغناء لعريب.

امتحن بإدخال لحن رومي في شعر عربي و غنى في درج أصوات، فلما سمعه عرفه و استخرجه:

نسخت من كتاب ابن أبي سعيد(1): حدّثني إسحاق بن إبراهيم الطّاهريّ(2) قال: حدّثتني مخارق مولاتنا قالت:

كان لمولاي الذي علّمني الغناء فرّاش روميّ، و كان يغنّي بالروميّة صوتا مليح اللحن؛ فقال لي مولاي:

يا مخارق، خذي هذا اللحن الروميّ فانقليه إلى شعر من أصواتك العربيّة حتى امتحن به إسحاق الموصليّ فأعلم أين يقع من معرفته، ففعلت ذلك؛ و صار إليه إسحاق فاحتبسه مولاي، فأقام و بعث إليّ أن ادخلي اللحن الروميّ في وسط غنائك؛ فغنّيته إياه في درج أصوات مرّت قبله، فأصغى إليه إسحاق، و جعل يتفهّمه و يقسّمه و يتفقّد أوزانه و مقاطعه و يوقع عليه بيده، ثم أقبل على مولاي فقال: هذا صوت روميّ اللحن، فمن أين وقع إليك؟ /فكان مولاي بعد ذلك يقول: ما رأيت شيئا أحسن من استخراجه لحنا روميّا لا يعرفه و لا العلّة فيه، و قد نقل إلى غناء عربيّ و امتزجت نغمه حتى عرفه و لم يخف عليه.

فضل في مجلس الواثق زلزلا على ملاحظ فتحدّاه ملاحظ فأظهر هو براعة فائقة:

أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن موسى قال حدّثني عبد اللّه(3) بن عمرو عن محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني علّويه الأعسر، و وجدت هذا الخبر في بعض الكتب عن عليّ بن محمد بن نصر الشاميّ عن جدّه حمدون بن إسماعيل قال:

تناظر المغنّون يوما عند الواثق، فذكروا الضّرّاب و حذقهم، فقدّم إسحاق زلزلا على ملاحظ، و لملاحظ في ذلك الرئاسة على جميعهم؛ فقال له الواثق: هذا حيف و تعدّ منك؛ فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، اجمع بينهما و امتحنهما، فإن الأمر سينكشف لك فيهما؛ فأمر بهما فأحضرا؛ فقال له إسحاق؛ إن للضّرّاب أصواتا معروفة، أ فأمتحنهما بشيء منها؟ قال: أجل، افعل؛ فسمّى ثلاثة أصوات كان أوّلها:

علّق قلبي ظبية السّيب(4)

فضربا عليه، فتقدّم زلزل و قصّر عنه ملاحظ؛ فعجب الواثق من كشفه عما ادّعاه في مجلس واحد. فقال له

ص: 184


1- هو أبو عبيد اللّه بن أبي سعيد الوراق، و كان أخبار يا نسابة راوية للشعر. و في ب، س: «ابن أبي سعد»، و هو تحريف.
2- كذا في ح (بالطاء المهملة)، و قد صححه كذلك الأستاذ الشنقيطي في نسخته. و هو إسحاق بن إبراهيم بن مصعب حاكم بغداد في أيام المأمون و المعتصم و الواثق، و هو من قرابة طاهر بن الحسين، و إليه ينسب. و في باقي الأصول هنا: «الظاهري» بالظاء المعجمة، و هو تصحيف. على أنه سيأتي في الأصول جميعا أكثر من مرة «الطاهري» بالمهملة كما في ح هنا.
3- تكرر هذا السند أكثر من مرة في أخبار إسحاق، و فيه عبد اللّه بن أبي سعد بدل عبد اللّه بن عمرو.
4- السيب (بكسر أوّله و سكون ثانيه): كورة من سواد الكوفة، و هو أيضا نهر بالبصرة فيه قرية كبيرة، و موضع بخوارزم. (مختصر من «معجم البلدان» لياقوت).

ملاحظ: فما باله يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس! و لم لا يضرب هو! فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لم يكن أحد في زماني أضرب مني إلا أنكم أعفيتموني، فتفلّت منّي؛ و على أن معي بقية لا يتعلّق بها أحد من/هذه الطبقة؛ /ثم قال: يا ملاحظ، شوّش عودك و هاته، ففعل ذلك ملاحظ؛ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يخلّط الأوتار تخليط متعنّت فهو لا يألو ما أفسدها، ثم أخذ العود فجسّه ساعة حتى عرف مواقعه(1)، ثم قال: يا ملاحظ، غنّ أيّ صوت شئت، فغنّى ملاحظ صوتا، و ضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية فلم يخرجه عن لحنه في موضع واحد حتى استوفاه عن نقرة واحدة، و يده تصعد و تنحدر على الدّساتين(2)؛ فقال له الواثق: لا و اللّه ما رأيت مثلك و لا سمعت به! اطرح هذا على الجواري؛ فقال: هيهات يا أمير المؤمنين، هذا لا تعرفه الجواري و لا يصلح لهنّ، إنما بلغني أنّ الفهليذ ضرب يوما بين يدي كسرى فأحسن، فحسده رجل من حذّاق أهل صنعته، فترقّبه حتّى قام لبعض شأنه، ثم خالفه إلى عوده فشوّش بعض أوتاره، فرجع فضرب و هو لا يدري، و الملوك لا تصلح في مجالسها العيدان، فلم يزل يضرب بذلك العود الفاسد إلى أن فرغ، ثم قام على رجله فأخبر الملك بالقصّة، فامتحن العود فعرف ما فيه، ثم قال: «زه(3) و زه و زهان زه»، و وصله بالصّلة التي كان يصل بها من خاطبه هذه المخاطبة؛ فلمّا تواطأت الرواية بهذا أخذت نفسي و رضتها عليه و قلت: لا ينبغي أن يكون الفهليذ أقوى على هذا منّي، فما زلت أستنبطه بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأرض موضع على طبقة من الطبقات إلا و أنا أعرف نغمته كيف هي، و المواضع التي يخرج النغم كلها/منه فيها، من أعاليها إلى أسافلها، و كلّ شيء منها يجانس شيئا غيره، كما أعرف ذلك في مواضع الدّساتين؛ و هذا شيء لا تفي(4) به الجواري. قال له الواثق: صدقت، و لئن متّ لتموتنّ هذه الصناعة معك؛ و أمر له بثلاثين ألف درهم.

نسبة هذا الصوت
صوت

علّق قلبي ظبية السّيب *** جهلا فقد أغري بتعذيبي

نمّت عليها حين مرّت بنا *** مجاسد(5) ينفحن بالطّيب

تصدّها عنّا عجوز لها(6) *** منكرة(7) ذات أعاجيب

ص: 185


1- كذا في «مختار الأغاني» لابن منظور. و في الأصول: «حتى عرف مواقعه فغنى، ثم قال... إلخ» بزيادة كلمة «فغنى»، و ظاهر أنها مقحمة.
2- كذا في ح. و الدساتين: و الدستانات: ما عليه أطراف أوتار العود من مقدمه، و هي كلمة فارسية، و تسمى العرب ذلك: العتب (بالتحريك). و في سائر الأصول: «الرساتين» بالراء، و هو تحريف.
3- كلمة فارسية و معناها: أحسنت أحسنت.
4- كذا في ح و «مختار الأغاني»، إلا أنه رسم في ح: «لا تفيء» بالهمز، و لعله تحريف من الناسخ. و لا تفي: لا تأتي به وافيا، أي إن الجواري يقصرن عنه و لا يستطعن أداءه. و في سائر الأصول: «لا تغني».
5- المجاسد: القمصان، واحدها مجسد (بضم الميم من أجسده بالهمز، أو جسده بالتضعيف) و هو ما صبغ بالجسد أي الزعفران.
6- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «لنا».
7- منكرة: مبغضة مكروهة.

فكلّما همت(1) بإتيانها *** قالت: توقّي عدوة الذّئب

الشعر و الغناء لإبراهيم، هزج ثقيل بالسبّابة في مجرى البنصر.

أخذت عنه جاريته دمن صوتا على غرة منه لبخله بالغناء:
اشارة

حدّثني عليّ بن هارون قال حدّثني محمد بن موسى اليزيديّ قال حدّثتني دمن جارية إسحاق الموصليّ، و كانت من كبار جواريه و أحظى من عنده، و لقيتها فقلت لها: أيّ شيء أخذت عن مولاك من الغناء؟ فقالت: لا و اللّه ما أخذت أنا عنه و لا واحدة من جواريه صوتا قطّ! كان أبخل بذلك، و ما أخذت منه قطّ إلاّ صوتا واحدا، و ذلك أنه انصرف من دار الخليفة و هو مثخن سكرا(2)، فدخل/إلى بيت كان ينام فيه، فرأى عودا معلّقا فأخذه بيده، و قال لخادمه: يا غلام، صح لي بدمن؛ فجاءني الغلام فخرجت، فلما بلغت الباب إذا هو مستلق على فراشه و العود في يده و هو يصنع هذا الصوت و يردّده، و قد اسحنفر(3) في نغمه و تنوق(4) فيها حتى/استقام له، و هو:

صوت

ألا ليلك لا يذهب *** و نيط الطّرف بالكوكب

و هذا الصّبح لا يأتي *** و لا يدنو و لا يقرب

فلمّا سمعته علمت أنّي [إن](5) دخلت إليك أمسك، فوقفت أستمعه حتى فرغ منه و أخذته عنه؛ فلما فرغ منه وضع العود من يده، و ذكر أنه قد طلبني فقال: يا غلام، أين دمن؟ فقلت: ها أنا ذي؛ فقال: مذ كم أنت واقفة؟ فقلت: منذ ابتدأت بالصوت و قد أخذته؛ فنظر إليّ نظر مغضب أسف، ثم قال: غنّيه، فغنّيته حتى استوفيته؛ فقال لي و قد فتر و خجل: قد بقيت عليك فيه بقيّة أنا أصلحها لك؛ فقلت: لست أحتاج إلى إصلاحك إياه، و قد و اللّه أخذته على رغمك؛ فضحك. لحن هذا الصوت من الهزج بالبنصر، و الشعر و الغناء لإسحاق.

غنى إبراهيم بن المهديّ عند المعتصم صوتا لابن جامع فأظهر هو خطأ فيه ثم هزأ بإبراهيم:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال قال لي إسحاق:

كنت عند المعتصم و عنده إبراهيم بن المهديّ، فغنّى إبراهيم صوتا لابن جامع أخلّ ببعضه، ثم قال:

يا أمير المؤمنين، ترك ابن جامع الناس يحجلون خلفه و لا يلحقونه. و في هذا الصوت خاصّة؛ فقلت: و اللّه يا أمير المؤمنين، ما صدق، /و ما هذا الصوت بتامّ الأجزاء؛ فقال: كذب و اللّه يا أمير المؤمنين؛ فقلت: يا سيّدي، أنا أوقفه على نقصانه، فمره فليعد يا أمير المؤمنين؛ فأعاد البيت الأوّل فأقامه و طمع في الإصابة؛ فقلت: آفته في

ص: 186


1- همت: أصله «هممت» حذفت إحدى الميمين تخفيفا. و شرط جواز هذا الحذف في الماضي أن تكون عينه مكسورة نحو ظل تقول فيه: «ظللت» على الإتمام و «ظلت» (بفتح أوّله أو بكسره بنقل حركة عين الفعل إلى الفاء) على الحذف. و لكن ابن الأنباري حكى «همت» في هممت مع أنه مفتوح العين. و هم بالشيء: نواه و أراده.
2- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «و هو مثخن سكران».
3- كذا صححه الأستاذ الشنقيطي في نسخته. و اسحنفر في الشيء: مضى فيه و لم يتمكث. و في الأصول: «استخفر».
4- تنوّق في الشيء: جوّده و تأنق فيه.
5- التكملة عن أ، ح، م.

البيت الثاني، فليردده؛ فردّه فنقص من أجزائه و فسمته، فعرّفته فأقرّ به؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي و صناعة آبائي و إبراهيم يكلّمني فيها، و أنا أسأله عن ثلاثين مسألة من باب واحد في طريق الغناء لا يعرف منها مسألة واحدة؛ فقال: أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه؟ فأعفاه.

و قد أخبرني بهذا الخبر الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبي عن إسحاق؛ فذكر نحوا مما ذكره يحيى، و ذكر أنّ القصة كانت بين يدي المعتصم؛ و زاد فيها فقال:

أنا أسأله عن ثلاثين مسألة و أوقفه على خطئه فيها، فإن لم يقرّ بذلك أقرّ به مخارق و علّويه؛ فقال: أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه! فإنه يعدل عندي البختج(1)؛ قلت: يا أمير المؤمنين، و ما يفعل البختج؟ قال: يسلح؛ قلت(2): قد و اللّه فعل ذلك كلامي به، و منه هرب؛ فضحك و غطّى فاه و قام؛ فظنّ إسحاق بن إبراهيم المصعبيّ أنّي قد أغضبته، فضرب بيده إلى السيف؛ فقلت له: لا تحسب أنّي أغضبته؛ فما كنت لأكلّم عمّه بين يديه بهزء(3) من غير إذنه، فأمسك؛ و كان لا يقدم أحد أن يكلّم الخليفة بحضرته بما فيه الوهن إلا بادر إلى سيفه تعظيما للأمير(4)و إجلالا له.

عرف في مجلس المأمون خطأ في وتر بين ثمانين وترا و عشرين جارية يغنين:

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن القاسم الهاشميّ عن إسحاق، و أخبرني الحسين بن يحيى قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

/دعاني المأمون و عنده إبراهيم بن المهديّ، و في مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرا عن يمينه و عشرا عن يساره و معهنّ العيدان يضربن بها؛ فلمّا دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته؛ فقال المأمون: يا إسحاق، أ تسمع خطأ؟ فقلت: نعم و اللّه يا أمير المؤمنين؛ فقال لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فقال: لا؛ فأعاد عليّ السؤال، فقلت: بلى و اللّه/يا أمير المؤمنين، و إنه لفي الجانب الأيسر؛ فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين، ما في هذه الناحية خطأ؛ فقلت يا أمير المؤمنين: مر الجواري اللواتي على اليمين يمسكن، فأمرهنّ فأمسكن؛ فقلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فتسمّع ثم قال: ما هاهنا خطأ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، يمسكن و تضرب الثامنة. فأمسكن و ضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هاهنا خطأ؛ فقال عند ذلك لإبراهيم: يا إبراهيم، لا تمار إسحاق بعدها؛ فإن رجلا فهم الخطأ بين ثمانين وترا و عشرين حلقا لجدير ألاّ تماريه؛ فقال: صدقت يا أمير المؤمنين. و قال الحسين بن يحيى في خبره: و كان في الأوتار كلّها مثنى فاسد التسوية. و قال فيه: فطرب أمير المؤمنين المأمون، و قال: للّه درّك يا أبا محمد؛ فكنّاني يومئذ.

ثناء الواثق عليه:

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني أحمد بن حمدون قال:

ص: 187


1- البختج (كقنفذ كما جاء في «شرح القاموس»): العصير المطبوخ.
2- في جميع الأصول: «قال» و هو لا يتفق مع السياق.
3- في ح: «بهرا» بالراء، و البهر: القذف و البهتان. و في أ، ء، م: «بهذا».
4- في ح، ء: «للأمر».

سمعت الواثق يقول: ما غنّاني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي، و لا سمعته يغنّي غناء ابن سريج إلا ظننت أنّ ابن سريج قد نشر، و إنه ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضرا، فيتقدّمه عندي و في نفسي بطيب(1)الصوت، حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو و رأيت من ظننته يتقدّمه ينقص؛ و إنّ إسحاق لنعمة/من نعم الملك التي لم يحظ(2) بمثلها؛ و لو أنّ العمر و الشباب و النشاط مما يشترى لأشتريتهنّ له بشطر ملكي.

سأل المأمون أن يكون دخوله إليه مع العلماء ثم مع الفقهاء:

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال:

سأل إسحاق الموصليّ المأمون أن يكون دخوله إليه مع أهل العلم و الأدب و الرّواة لا مع المغنّين، فإذا أراده للغناء غنّاه؛ فأجابه إلى ذلك؛ ثم سأله بعد حين أن يأذن له في الدخول مع الفقهاء؛ فأذن له. قال: فحدّثني محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر أنه كان هو و مخارق و علّويه جلوسا في حجرة لهم ينتظرون جلوس المأمون و خروج الناس من عنده، إذ دخل يحيى بن أكثم و عليه سواده(3) و طويلته، و يده في يد إسحاق يماشيه، حتى جلس معه بين يدي المأمون، فكاد علّويه أن يجنّ، و قال: يا قوم، أسمعتم بأعجب من هذا! يدخل قاضي القضاة و يده في يد مغنّ حتى يجلسا بين يدي الخليفة!. ثم مضت على ذلك مدّة، فسأل إسحاق المأمون أن يأذن له في لبس السواد يوم الجمعة و الصلاة معه في المقصورة؛ قال: فضحك المأمون و قال: و لا كلّ ذا يا إسحاق! و قد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف درهم؛ و أمر له بها.

ما كان يمتاز به في مجلس الواثق:

حدّثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه بن حمدون قال:

كان المغنّون جميعا يحضرون مجلس الواثق و عيدانهم معهم إلا إسحاق، فإنه كان يحضر بلا عود للشرب و المجالسة؛ فإن أمره الخليفة أن يغنّي أحضر له عودا، فإذا غنّى و فرغ سلّ من بين يديه إلى أن يطلبه. و كان الواثق كثيرا ما يكنّيه، رفعا له/من أن يدعوه باسمه؛ و كان إذا غنّى و فرغ الواثق من شرب قدحه قطع الغناء و لم يعد منه حرفا إلا أن يكون في بعض بيت فيتمّه، ثم يقطع و يضع العود من يده.

علي بن يحيى يحدث عن تفوّقه في فنه:

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه في خبر ذكر إسحاق(4) فيه، فقال: و عارض معبدا و ابن سريج فانتصف منهما، و كان إبراهيم بن المهديّ يناظره و يجادله في الغناء و ينازعه في صناعته، /و لم يبلغه؛ و ما رأيت بعد إسحاق مثله.

ص: 188


1- في ب، س: «يطيب الصوت» بالياء المثناة التحتية، و هو تصحيف.
2- في ب، س: «لم يحظ أحد بمثلها».
3- السواد: شعار بني العباس كان يرتديه أشياعهم. و الطويلة: قلنسوة عالية مدعمة بعيدان كان يلبسها القضاة. (انظر الحاشيتين رقم 2، 3 من الجزء الأوّل من هذا الكتاب ص 414، من هذه الطبعة). و في ب، ح، س: «سوادة و طيلية». و في أ، ء، م: «سوادة و طويلة»، و كلاهما تحريف.
4- في الأصول: «في خبر ذكره إسحاق فيه».
عابه إبراهيم بن المهدي بترك التحريك في الغناء فبعث هو إليه بكلام غاظه:

أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال قال لي محمد بن راشد الخنّاق(1):

سمعت علّويه يقول لإسحاق بن إبراهيم الموصليّ: إن إبراهيم بن المهديّ يعيبك بتركك تحريك الغناء؛ فقال له إسحاق: ليتنا نفي بما علمناه، فإنا لا نحتاج إلى الزيادة فيه. [ثم](2) قال له: فإنه يزعم أنّ حلاوة الغناء تحريكه، و تحريكه عنده أن يكون كثير النّغم، و ليس يفعل ذلك، إنما يسقط بعض عمله لعجزه عنه، فإذا فعل ذلك فهو بالإضافة إلى حاله الأولى بمنزلة الأسكدار(3) للكتاب، و هو حينئذ بأن يسمّى المحذوف أشبه منه بأن يسمّى المحرّك؛ فضحك علّويه ثم قال: فإن إبراهيم يسمّي غناءكم هذا الممسك المناديّ؛ قال إسحاق: هذا من لغات الحاكة؛ لأنهم يسمّون الثوب الجافى(4) الكثير العرض و الطول المداديّ؛ و على هذا القياس فينبغي لنا أن نسمّي غناءه المحرّك الضّرابيّ، و هو الخفيف السخيف(5) من الثياب في لغة الحاكة، حتى ندخل الغناء/في جملة الحياكة و نخرجه عن جملة الملاهي؛ ثم قال لعلّويه؛ بحياتي عليك إلاّ ما أعدت عليه ما جرى؛ فقال له: لا و حياتك لا فعلت؛ فإنه يعلم ميلي إليكم، و لكن عليك بأبي جعفر محمد بن راشد الخنّاق؛ فكلمه إسحاق و أقسم عليه أن يؤيده(6)، ففعل و سار إلى إبراهيم فأخبره، فجعل كلّما أخبره شيئا تغيّظ و شتم إسحاق بأقبح شتم؛ ثم جاءه ابن راشد فأخبره؛ فجعل(7) كلّما أخبره بشيء من ذلك ضحك و صفّق سرورا لغيظ إبراهيم من قوله.

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثني علي بن محمد النّوفليّ قال أخبرني محمد بن راشد الخنّاق قال:

إني لفي منزلي يوما مع الظهر إذ دخل عليّ إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، فسررت بمكانه؛ فقال: قد جاءت بي إليك حاجة؛ قال قلت: قل ما شاء اللّه؛ قال: دعني في بيتك، و دع غلاميك عندي: بديحا و سليمان - و كانا خادمين مغنّيين - و مرهما أن يغنّياني، و ائتني بفلان ليغنّيني أيضا، بحياتي عليك، و انطلق إلى إبراهيم ابن المهديّ، فإنه سيسرّ بمكانك، فاشرب معه أقداحا، ثم قل [له](8): يا سيّدي، أسألك عن شيء، فإذا قال: سل، فقل له:

أخبرني عن قولك:

ذهبت من الدنيا و قد ذهبت منّي

أيّ شيء كان معنى صنعتك فيه؟ و أنت تعلم أنه لا يجوز في غنائك الذي صنعته فيه إلا أن تقول: «ذهبتو» بالواو، فإن قلت: «ذهبت» و لم تمدّها انقطع اللحن و الشعر، و إن مددتها قبح الكلام و صار على كلام النّبط؛ فقلت له: يا أبا محمد، كيف أخاطب/إبراهيم بهذا؟ فقال: هو حاجتي إليك و قد كلّفتك إياها، فإن استحسنت أن تردّني

ص: 189


1- كذا في ب، ح هنا و فيما سيأتي في أكثر الأصول، و في سائر الأصول هنا: «الخفاف».
2- زيادة يقتضيها السياق.
3- الأسكدار: كلمة فارسية معناها حامل البريد.
4- الجافي من الثياب: الغليظ.
5- السخيف من الثياب: القليل الغزل.
6- كذا في الأصول. و لعل صوابه: «يؤديه» أي يبلغه.
7- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فجعل كلما جاءه و أخبره... إلخ» و ظاهر أن كلمة «جاءه و» هنا مقحمة.
8- الزيادة عن ح.

فأنت أعلم؛ قال: أفعل ذلك لموضعك على ما فيه عليّ؛ ثم أتيت إبراهيم، و جلست عنده مليّا، و تجارينا(1)الحديث إلى أن خرجنا إلى ذكر الغناء، فخاطبته بما قال لي إسحاق، فتغيّر لونه و انكسر، ثم قال: يا محمد، ليس هذا من كلامك، هذا من كلام الجرمقانيّ(2) ابن الزانية؛ قل له عنّي: أنتم تصنعون هذا للصناعة، و نحن نصنعه للّهو و اللعب و العبث. قال: فخرجت إلى إسحاق فحدّثته بذلك فقال: الجرمقانيّ و اللّه منا أشبهنا بالجرامقة لغة و هو الذي يقول: «ذهبتو»؛ و أقام عندي يومه فرحا بما بلّغته إبراهيم عنه من توقيفه على/خطئه.

كان محمد بن راشد صديقا له فنقل عنه حديثا لابن المهدي ففسد ما بينهما و شعره في ذلك:

قال عليّ بن محمد قال لي أبي:

كان محمد بن راشد صديقا لإسحاق ثم فسد ما بينهما؛ فإنه طابق(3) إبراهيم بن المهديّ عليه، و بلغه عنه من توقيعه أنه يذكره. و كان في محمد بن راشد رداءة و نقل للأحاديث؛ فقال فيه إسحاق:

و ندمان صدق لا تخاف أذاته *** و لا يلفظ الأخبار لفظ ابن راشد

دعاني إلى ما يشتهي فأجبته *** إجابة محمود الخلائق ماجد

فلا خير في اللّذات إلاّ بأهلها *** و لا عيش إلا بالخليل المساعد

قال: فجمع ابن راشد عدّة من الشعراء و أمرهم بهجاء إسحاق؛ فهجوه بأشعار لم تبلغ مراده، فلم يظهرها.

و بلغ ذلك إسحاق فقال فيه:

/

و أبيات شعر رائعات كأنها *** إذا أنشدت في القوم من حسنها سحر

تحفّز و اقلولى(4) لردّ جوابها *** أبو جعفر يغلي كما غلت القدر

فلم يستطعها غير أن قد أعانه *** عليها أناس كي يكون له ذكر

فيا ضيعة الأشعار إذ يقرضونها *** و أضيع منها من يرى أنها شعر

قال: فعاذ محمد بن راشد بإسحاق و استكفّه و صالحه، فرجع إليه.

أخذ إبراهيم بن المهدي صوتا له و غير فيه فلما عرف ذلك غضب:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثني عليّ بن محمد بن نصر الشاميّ قال حدّثني منصور بن محمد بن واضح:

أن إبراهيم بن المهديّ طرح في منزل أبيه:

ص: 190


1- كذا في الأصول، و لعله «تجاذبنا الحديث».
2- راجع الحاشية رقم 3 ص 207 من هذا الجزء.
3- طابقه على الأمر: وافقه و مالأه.
4- كذا في ح، و كذلك صححها الأستاذ الشنقيطي في نسخته. و تحفز الرجل و اقلولى: إذا استقل على رجليه و لما يستو قائما و قد تهيأ للوثوب. و في سائر الأصول: «تحفر» (بالراء المهملة)، و هو تصحيف.
صوت

أ من آل ليلى عزفت الطّلولا *** بذي حرض(1) ما ثلات مثولا

بلين و تحسب آياتهنّ *** عن فرط حولين رقا محيلا(2)

- الشعر لكعب بن زهير(3). و الغناء لإسحاق، و له فيه لحنان: ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر، و ماخوريّ بالوسطى. و فيه للزّبير بن دحمان خفيف ثقيل - قال: فجاءنا إسحاق يوما، و أقام عند أبي، و أخرجنا إليه جوارينا، و مرّ الصوت الذي طرحه إبراهيم/بن المهديّ من غنائه؛ فقال إسحاق: من أين لك هذا؟ قال: طرحه أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ أعزّه اللّه تعالى؛ فقال إسحاق: و ما لأبي إسحاق أعزّه اللّه و لهذا الصوت! هذا أنا صنعته، و ليس هو كما طرّحه. قال: فسأله أبي أن يغنّيه، فغنّاه و ردّده(4) حتى صحّ لمن عنده؛ فقال لي أبي: اكتب إلى أبي إسحاق أن أبا محمد أعزّه اللّه صار إليّ فاحتبسته، و أنه غنّى بحضرتي الصوت الذي ألقيته في منزلك الذي أسكنه، فزعم أنه صنعه، و أنه ليس على ما أخذه الجواري عنك، فأحببت أن أعلم ما عندك، جعلني اللّه فداك. قال: فكتبت(5) الرّقعة و أنفذتها إلى إبراهيم. فكتب: نعم، جعلت فداك، صدّق أبو محمد أعزّه اللّه، الصوت له، و هو على ما ذكره، لكنّي لعبت في وسطه لعبا أعجبني. قال: فقرأ إسحاق الرقعة فغضب غضبا شديدا، ثم قال لي: اكتب إليه: «إذا أردت يا هذا أن تلعب فالعب في غناء نفسك لا في غناء الناس، و ما حاجتك إلى هذا الشعر أكثر من ذلك، فاصنع أنت إن كنت تحسن، و العب في صنعتك كما تشتهي مبتدئا باللهو و اللعب غير مشارك في جدّ الناس بلعبك و مفسد له بما لا تعلمه. يا أبا/إسحاق، أيّدك اللّه، ليس هذا الصوت مما يتهيّأ لك أن تمخرق(6) فيه و تقول: جندرته». قال: و كان إبراهيم يقول: إنه يجندر صنعة القدماء و يحسّنها.

مناظرته إبراهيم بن المهدي في الغناء بين يدي المعتصم:

قال عليّ بن محمد حدّثني جدّي حمدون:

أن إسحاق قال لإبراهيم بن المهديّ بحضرة المعتصم: ما تقول فيمن يزعم أنّ ابن سريج و ابن محرز و معبدا و مالكا و ابن عائشة لم يكونوا يحسنون تمام الصّنعة/و لا استيفاء الغناء، و يعجزون عما به يكمل و يتمّ و يحسن،

ص: 191


1- ذو حرض: واد لبني عبد اللّه بن غطفان، بينه و بين معدن النقرة خمسة أميال. (انظر «معجم ياقوت» في اسم ذي حرض و النقرة).
2- فرط الشيء: مضى و ذهب. و أحال: أتى عليه أحوال أي سنون.
3- ورد هذا الشعر في «ديوان زهير بن أبي سلمى» و «شرحه» للأعلم الشنتمري و ثعلب و غيرهما من النسخ المخطوطة و المطبوعة المحفوظة بدار الكتب المصرية ضمن قصائده، و قد مدح به سنان بن أبي حارثة أبا هرم و هما ممدوحاه و لم يكونا ممدوحي كعب حيث يقول فيه: إليك سنان الغداة الرحي ل أعصى النهاة و أمضى الفئولا كما ذكره لزهير أيضا أبو عبيد البكري و ياقوت الحموي في معجميهما أثناء كلامهما على «حرض»، و ذكره المؤلف له أيضا في ترجمته (ج 9 ص 152 طبع بولاق) و قد ورد في جميع هذه المصادر «سلمى» بدل «ليلى» و سلمى هذه محبوبته التي يشبب بها في شعره.
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فردده» بالفاء بدل الواو.
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فكتبته الرقعة»، و هو تحريف.
6- مخرق: موّه. و جندره: أصلحه و صقله. قال في «اللسان» (مادة جدر): «قال الجوهري: و جندرت الكتاب إذا أمررت القلم على ما درس منه ليتبين. و كذلك الثوب إذا أعدت وشيه بعد ما كان ذهب، قال: و أظنه معرّبا».

و أنه أقدر على الصنعة منهم؟ قال: أقول: إنه جاهل أحمق؛ قال: فأنت تزعم أنه قد كانت بقيت عليهم أشياء لم يهتدوا لها و لم يحسنوها، فتنبّهت عليها أنت و تممتها و حسّنتها بجندرتك؛ قال: فضحك المعتصم و بقي إبراهيم واجما مطرقا، و لم ينتفع بنفسه بقيّة يومه؛ و ما سمعته أنا و لا غيري بعد ذلك اليوم يتبجّح بغناء يصلحه من غناء المتقدّمين، حتى يطنب في صنعته و يشتهى استماعه منه، كما كان يدّعي قديما. قال: و كان حمدون يقول: كان إبراهيم يأكل المغنّين أكلا، حتى يحضر إسحاق، فيداريه إبراهيم و يطلب مكافأته، و لا يدع إسحاق تبكيته و معارضته؛ و كان إسحاق آفته، كما أنّ لكل شيء آفة.

غنى المأمون بشعر ذي الرمة فأجازه:
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

خرجت يوما من داري و أنا مخمور أتنسّم الهواء، فمررت برجل ينشد رجلا معه لذي الرّمّة:

صوت

أ لم تعلمي يا ميّ أنّي و بيننا *** مهاو لطرف العين فيهنّ مطرح(1)

ذكرتك أن مرّت بنا أمّ شادن(2) *** أمام المطايا تشرئبّ و تسنح

من المؤلفات الرمل أدماء(3) حرّة *** شعاع الضّحى في متنها يتوضّح

/هي الشّبه أعطافا و جيدا و مقلة *** و ميّة منها بعد أبهى و أملح

كأن البرى(4) و العاج عيجت متونه *** على عشر نهّى(5) به السيل أبطح

لئن كانت الدنيا عليّ كما أرى *** تباريح من ميّ فللموت أروح

فأعجبني، فصنعت فيه لحنا غنّيت به المأمون، فأخذت به منه مائة ألف درهم. لحن إسحاق في هذه الأبيات أوّل مطلق في مجرى البنصر.

ص: 192


1- مهاو: جمع مهواة و هي ما بين الجبلين. يريد الشاعر أن يصفها بأنها مهاو بعيدة يسرح فيها البصر فلا يرده شيء.
2- أم شادن: كنية الظبية، و الشادن: ولدها الذي قد قوي و طلع قرناه و استغنى عن أمه. و يقال: ظبية مشدن أي ذات شادن يتبعها. و تشرئب: ترفع رأسها لتنظر، و كل رافع رأسه مشرئب. و في ب، ح: «تستريب» و هو تحريف. و تسنح: تعرض، و قيل: تسنح: تأتي عن شمالك.
3- كذا في س، و «ديوان ذي الرمة» (ص 80) طبع كلية كمبردج. و يروى «من الآلفات الرمل»، يقال: آلف المكان و ألفه. و في سائر الأصول: «المولعات». و يروى: من الموطنات. و الأدماء: واحدة الأدم، و هي - كما قال الأصمعيّ -: الظباء البيض تعلوهن جدد فيهن غبرة، فإن كانت خالصة البياض فهي الآرام. و حرة: كريمة. و يتوضح: يبرق.
4- البرى: الخلاخيل، الواحدة برة، و كل حلقة تسميها العرب برة. و العاج: أسورة تتخذها نساء العرب من العاج، و عيجت: لويت. و العشر: شجر ناعم لين مستو. شبه ساعديها و ساقيها بشجر العشر في الاستواء و اللين.
5- كذا في ح و «ديوانه» و وردت مصححة بخط الأستاذ الشنقيطي أيضا. و نهى الشيء: أبلغه و أوصله، و نهاه: بلغ نهايته (بالتضعيف فيهما)، و هذا المعنى غير مراد. و في سائر الأصول: «تهمى» و هو تحريف. و الأبطح: بطن الوادي. و مرجع الضمير في «به» شجر العشر مرادا به مكانه الذي ينبت فيه. و عدّي «نهى» بالباء لأنه ضمن معنى «حبس»، أي إن بطن الوادي حمل السيل و أبلغه للمكان الذي ينبت فيه شجر العشر و حبسه به فهو لذلك ريان ممتلئ. (انظر نسخة مخطوطة من «ديوان ذي الرمة» بشرح الأعلم الشنتمري محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1840 أدب ص 43).
دس إليه أبو أحمد بن الرشيد غلامين على أنهما لأحد وجوه خراسان مع هدية ليعلمهما، و قصة ذلك أمام الواثق:

حدّثني يحيى بن محمد الطّاهريّ قال حدّثني ينشو مولى أبي أحمد بن الرشيد قال:

اشتراني مولاي أبو أحمد بن الرشيد، و اشترى رفيقي محموما(1)، فدفعنا إلى وكيل له أعجميّ خراسانيّ، و قال له: انحدر بهذين الغلامين إلى بغداد إلى إسحاق الموصليّ؛ و دفع إليه مائة ألف درهم، و شهريّا(2) بسرجه و لجامه، و ثلاثة أدراج(3) من فضّة/مملوءة طيبا، و سبعة تخوت(4) من بزّ خراسانيّ، و عشرة أسفاط(5) من بزّ مصر، و خمسة تخوت وشي كوفيّ، و خمسة تخوت خزّ سوسيّ، و ثلاثين ألف درهم للنفقة؛ و قال للرسول: عرّف إسحاق أنّ هذين الغلامين لرجل من وجوه أهل خراسان، وجّه بهما إليه ليتفضّل و يعلّمهما أصواتا اختارها، و كتبها له في درج(6)، و قال له: كلما علّمهما صوتا ادفع إليه ألف درهم، حتى يتعلّما بها مائة صوت، فإذا علّمهما الصوتين اللذين بعد المائة فادفع إليه الشّهريّ، ثم إذا علمهما الثلاثة التي بعد الصوتين، فادفع إليه بكل صوت درجا من/الأدراج، ثم لكل صوت بعد ذلك تختا أو سفطا، حتى ينفد ما بعثت به معك؛ ففعل، و انحدرنا إلى بغداد، فأتينا إسحاق، و غنّينا بحضرته، و بلّغه الوكيل الرسالة؛ فلم يزل يلقى علينا الأصوات حتى أخذناها كل أمرنا سيّدنا.

ثم سرنا(7) إلى سرّ من رأى، فدخلنا إليه و غنّيناه جميع ما أخذناه فسرّه ذلك. و قدم إسحاق سرّ من رأى، و لقيه مولانا، فدعا بنا و أوصانا بما أراد، و غدا بنا إلى الواثق و قال: إنكما ستريان إسحاق بين يديه، فلا تسلّما عليه و لا توهماه أنكما رأيتماه قطّ، و ألبسنا أقبية خراسانية و مضينا معه؛ فلمّا دخلنا على الواثق قال له: يا سيّدي، هذان غلامان اشتريا لي من خراسان يغنّيان بالفارسيّة؛ فقال: غنّيا، فضربنا ضربا فارسيّا و غنّينا غناء فهليذيّا؛ فطرب الواثق و قال: أحسنتما، فهل تغنّيان بالعربية؟ قلنا: نعم، و اندفعنا نغنّي ما أخذناه عن إسحاق/و هو ينظر إلينا و نحن نتغافل عنه، حتى غنّينا أصواتا من غنائه؛ فقام إسحاق ثم قال للواثق: و حياتك يا سيّدي و بيعتك، و إلاّ كلّ ملك لي صدقة و كل مملوك لي حرّ إن لم يكن هذان الغلامان من تعليمي و من قصّتهما كيت و كيت؛ فقال له أبو أحمد: ما أدري ما تقول! هذان اشتريتهما من رجل نخّاس خراسانيّ؛ فقال له: بلغ و لعك(8) إليّ! و نخّاس خراسانيّ من أين يحسن [أن] يختار مثل تلك الأغاني!؛ فضحك أبو أحمد ثم قال: صدق، أنا احتلت عليه، و لو رمت أن يعلّمهما ما أخذاه منه إذا علم أنهما لي بعشرة أضعاف ما أعطيته لما فعل؛ فقال له إسحاق: قد تمّت عليّ حيلته. و قال أبو أحمد للواثق: إن أردتهما فخذهما؛ فقال: لا أفجعك بهما يا عمّ، و لكن لا تمنعني حضورهما؛ فقال له: قد بذلت

ص: 193


1- في ح: «بجمجما».
2- الشهرية (بالكسر): ضرب من البراذين و هو بين البرذون و المقرف من الخيل، و في الأساس: «بين الرمكة و الفرس العتيق». و الرمكة: البرذونة، و الجمع الشهارى.
3- الأدراج: جمع درج (بالضم) و هو سفيط صغير تدخر فيه المرأة طيبها و أداتها، و يجمع أيضا على درجة (بكسر ففتح).
4- التخت: وعاء تصان فيه الثياب، فارسيّ، و قد تكلمت به العرب.
5- أسفاط: جمع سفط (بالتحريك) و هو ما يعبئ فيه الطيب و ما أشبهه من أدوات النساء، و قيل: هو كالجوالق أو كالقفة.
6- الدرج (بالفتح و بالتحريك): الذي يكتب فيه، يقال: أنفذته في درج الكتاب أي في طيه. و هو يطلق على الصحيفة من أي نوع و من أي مقياس. و قد فصل القلقشندي في «صبح الأعشى» (ج 6 ص 189-196) مقادير قطع الورق و ما يناسب كل مقدار منها من الأقلام و مقادير البياض في أوّل الدرج و حاشيته و بعد ما بين السطور في الكتابات فارجع إليه.
7- في أ، ء، م: «ثم سرنا ثم دخلنا إلى سرّ من رأى».
8- الولع: الكذب.

لك الملك فلم تؤثره، أ فتراني أمنعك الخدمة! فكنّا نخدمه بنوبة.

كان في مجلس الواثق مع الندماء لا المغنين فإذا أمره الواثق بالغناء أتى له بعود فغناه:

حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه بن حمدون قال حدّثني ابن فيلا الطّنبوريّ و كان قد دخل على الواثق و غنّاه، قال:

قال الواثق في بعض العشايا: لا يبرح أحد من المغنّين الليلة، فقد عزمت على الصّبوح في غد؛ فأمسكوا جميعا عن معارضته إلا إسحاق فإنه قال له: لا و حياتك ما أبيت؛ قال: فلا و اللّه ما كان له عند الواثق معارضة أكثر من أن قال له: فبحياتي إلاّ بكّرت(1) يا أبا محمد. قال: فرأيت مخارقا و علّويه قد تقطّعا غيظا؛ و بتنا في بعض الحجر، فقالا لي(2): اجلس على باب الحجرة، فإذا جاء إسحاق فعرّفنا حتى ندخل بدخوله؛ فلم نلبث أن جاء إسحاق مع أحمد بن أبي داود يماشيه في زيّه و سواده و طريلته(3) مثل طويلته، فدخلت فأعلمتهما؛ فقامت على علّويه القيامة/و قال: يا هؤلاء، خيناگر(4) يدخل إلى الخليفة مع قاضي القضاة! أسمعتم بأعجب من هذا البخت قطّ!؛ فقال له مخارق: دع هذا عنك، فقد و اللّه بلغ ما أراد. و لم نلبث أن خرج ابن أبي دواد و دعي(5) بنا فدخلنا، فإذا إسحاق جالس في صف الندماء لا يخرج منه، فإذا أمره الواثق أن يغنّي خرج عن صفّهم قليلا و أتى بعود فغنّى الصوت الذي يأمره به؛ فإذا فرغ من القدح قطع الصوت الذي يأمره به حيث بلغ و لم يتمّه، و رجع إلى صفّ الجلساء.

قصته مع إبراهيم بن المهديّ في مجلس الرشيد:

أخبرني محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصليّ الملقّب بوسواسة قال حدّثني حمّاد قال:

قال لي أبي: كنت عند الرشيد يوما، و عنده ندماؤه و خاصّته و فيهم إبراهيم/بن المهديّ، فقال لي الرشيد:

يا إسحاق تغنّ:

شربت مدامة و سقيت أخرى *** و راح المنتشون و ما انتشيت

فغنّيته؛ فأقبل عليّ إبراهيم بن المهديّ فقال لي: ما أصبت يا إسحاق و لا أحسنت؛ فقلت: ليس هذا مما تحسنه و لا تعرفه، و إن شئت فغنّه، فإن لم أجدك أنك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال. ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي و صناعة أبي، و هي التي قرّبتنا منك و استخدمتنا لك و أوطأتنا بساطك، فإذا نازعناها(6) أحد بلا علم لم نجد بدّا من الإيضاح و الذبّ؛ فقال: لا غرو(7) و لا لوم عليك؛ فقام الرشيد ليبول؛ فأقبل إبراهيم بن المهديّ عليّ و قال: /ويلك يا إسحاق! أ تجترئ عليّ و تقول ما قلت يا ابن الفاعلة!

ص: 194


1- في الأصول: «إلا بكر».
2- في الأصول: «فقال لي»، و هو تحريف.
3- انظر الحاشيتين رقم 2 و 3 ص 414 من الجزء الأوّل من طبعة هذا الكتاب.
4- انظر الحاشية رقم 3 ص 183 من هذا الجزء.
5- في أ، ء، س: «و دعا بنا».
6- كذا في ح، م، ء. و في سائر الأصول: «نازعنا بها».
7- في أ، ء: «لا عدو». و العدو (وزان غزو): الظلم.

لا يكني؛ فداخلني ما لم أملك نفسي معه؛ فقلت له: أنت تشتمني، و أنا لا أقدر على إجابتك و أنت ابن الخليفة و أخو الخليفة، و لو لا ذلك لكنت أقول لك: يا ابن الزّانية؛ أو ترى أنّي كنت لا أحسن أن أقول لك: يا ابن الزانية؛ و لكن قولي في ذمّك ينصرف جميعه إلى خالك الأعلم(1)، و لولاك لذكرت صناعته و مذهبه - قال إسحاق: و كان ببطارا - قال: ثم سكتّ، و علمت أنّ إبراهيم يشكوني و أن الرشيد سوف يسأل من حضر مما جرى فيخبرونه، فتلافيت ذلك(2)، ثم قلت: أنت تظنّ أنّ الخلافة تصير إليك فلا تزال تهدّدني بذلك و تعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك حسدا له و لولده على الأمر! فأنت تضعف عنه و عنهم و تستخفّ بأوليائهم تشفّيا؛ و أرجو ألاّ يخرجها اللّه عن يد الرشيد و ولده، و أن يقتلك دونها؛ فإن صارت إليك - و باللّه العياذ - فحرام عليّ العيش يومئذ، و الموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذ ما بدا لك. قال: فلمّا خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه فقال:

يا أمير المؤمنين، شتمني و ذكر أمّي و استخفّ بي؛ فغضب و قال: ما تقول؟ ويلك! قلت: لا أعلم، فسل من حضر؛ فأقبل على مسرور(3) و حسين؛ فسألهما عن القصّة؛ فجعلا يخبرانه و وجهه يتربّد(4) إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة، فسرّي عنه و رجع لونه، و قال لإبراهيم: ما له ذنب، شتمته فعرّفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك و أمسك عن هذا. فلما انقضى المجلس و انصرف الناس، أمر بألاّ أبرح، و خرج كلّ من حضر حتى لم يبق غيري؛ فساء ظنّي و أهمّتني نفسي؛ فأقبل عليّ و قال: ويلك/يا إسحاق! أ تراني لم أفهم قولك و مرادك! قد و اللّه زنّيته(5)ثلاث مرات، أ تراني لا أعرف وقائعك و أقدامك و أين ذهبت! ويلك! لا تعد؛ حدّثني عنك، لو ضربك إبراهيم، أ كنت أقتصّ لك منه فأضربه و هو أخي يا جاهل؟! أتراك لو أمر غلمانه فقتلوك أ كنت أقتله بك؟! فقلت:

يا أمير المؤمنين، قد و اللّه قتلتني بهذا الكلام، و لئن بلغه ليقتلنّي، و ما أشك في أنه قد بلغه الآن؛ فصاح بمسرور الخادم و قال: عليّ بإبراهيم الساعة فأحضر، و قال: قم فانصرف؛ و قلت لجماعة من الخدم، و كلّهم كان لي محبّا و إليّ مائلا و لي مطيعا: أخبروني بما يجري، فأخبروني من غد أنه لمّا دخل وبّخه و جهّله و قال له: أ تستخفّ بخادمي و صنيعتي و نديمي و ابن نديمي/و ابن خادمي و صنيعتي و صنيعة أبي في مجلسي، و تقدم عليّ و تستخفّ بمجلسي و حضرتي؟ هاه هاه(6).! أتقدم على هذا و أمثاله! و أنت مالك و للغناء، و ما يدريك ما هو! و من أخذك(7) به و طارحك إياه حتى تتوهّم أنك تبلغ مبلغ إسحاق الذي غذي به و علّمه و هو صناعته! ثم تظن أنك تخطّئه فيما لا تدريه، و يدعوك إلى إقامة الحجة عليك فلا تثبت لذلك و تعتصم بشتمه! أ ليس هذا مما يدلّ على السقوط و ضعف العقل و سوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك و غلبة لذّتك على مروءتك و شرفك ثم إظهارك إياه و لم تحكمه، و ادّعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك الناس إلى الجهل المفرط! أ لا تعلم - ويلك - أنّ هذا سوء أدب و قلّة معرفة و قلة مبالاة بالخطإ و التكذيب و الردّ القبيح!. ثم قال: و اللّه العظيم و حقّ رسوله، و إلا فأنا نفيّ من المهديّ، لئن أصابه

ص: 195


1- الأعلم: الذي بشفته العليا أو في جانبيها شق.
2- عبارة «مختار الأغاني» لابن منظور: «فتلافيت ذلك بأن قلت...».
3- مسرور و حسين: خادمان كانا للرشيد.
4- تريد وجهه: تغير و تعبس.
5- زناء (بالتشديد): قذفه و نسبه إلى الزنا.
6- هاه هاه: تكون حكاية لضحك الضاحك و للوعيد. و تكون أيضا في موضع آه التي للتوجع.
7- كذا في ح و المختصر. و في سائر الأصول: «و من أخذ لحنه و طارحك... إلخ».

أحد بسوء، أو سقط عليه حجر من السماء، أو سقط من على دابّته، أو سقط/عليه سقفه، أو مات فجأة، لأقتلنّك به؛ و اللّه! و اللّه! و اللّه! فلا تعرض له و أنت أعلم، قم الآن فاخرج؛ فخرج و قد كاد أن يموت. فلما كان بعد ذلك دخلت إليه و إبراهيم عنده، فأعرضت عن إبراهيم؛ و جعل ينظر إليه مرّة و إليّ مرّة و يضحك، ثم قال له: إني لأعلم محبّتك في إسحاق و ميلك إليه و إلى الأخذ عنه، و إنّ هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلاّ بعد أن يرضى، و الرضا لا يكون بمكروه، و لكن أحسن إليه و أكرمه و اعرف حقّه و برّه وصله، فإذا فعلت ذلك ثم خالفك فيما تهواه عاقبته بيد منبسطة و لسان منطلق؛ ثم قال لي: قم إلى مولاك و ابن مولاك فقبّل رأسه؛ فقمت إليه و قام إليّ و أصلح الرشيد بيننا.

نسبة الصوت المذكور في هذا الخبر
صوت

أعاذل قد نهيت فما انتهيت *** و قد طال العتاب فما ارعويت

أعاذل ما كبرت وفيّ ملهى *** و لو أدركت غايتك انتهيت

شربت مدامة و سقيت أخرى *** و راح المنتشون و ما انتشيت

أبيت معذّبا قلقا كئيبا *** لما ألقاه من ألم و فوت(1)

الغناء لابن محرز ثقيل عن ابن المكّيّ. و فيه رمل بالوسطى.

أرسل إليه الرشيد ذات ليلة فحضر ثم غناه و نادمه:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

أرسل إليّ الرشيد ذات ليلة، فدخلت إليه فإذا هو جالس و بين يديه جارية عليها قميص مورّد و سراويل مورّدة و قناع مورّد كأنها ياقوتة على وردة؛ فلما رآني قال لي: اجلس، فجلست؛ فقال لي: غنّ، فغنّيت:

/

تشكّى الكميت الجري لما جهدته *** و بيّن لو يسطيع أن يتكلّما

فقال: لمن هذا اللحن؟ فقلت: لي يا أمير المؤمنين؛ فقال: هات لحن ابن سريج، فغنّيته إياه؛ فطرب و شرب رطلا و سقي الجارية رطلا و سقاني رطلا؛ ثم قال: غنّ، فغنّيته:

صوت

/

هاج شوقي بعد ما *** شيّب أصداغي بروق

موهنا(2) و البرق ممّا *** ذا الهوى قدما يشوق

فقال: لمن هذا الصوت؟ فقلت: لي؛ فقال: قد كنت سمعت فيه لحنا آخر؛ فقلت: نعم، لحن ابن محرز؛ قال: هاته، فغنّيته فطرب و شرب رطلا، ثم سقى الجارية رطلا و سقاني رطلا؛ ثم قال: غنّ، فغنّيته:

ص: 196


1- في هذا الشعر إقواء و هو اختلاف حركة الرويّ.
2- الموهن، و مثله الوهن: نحو من نصف الليل، و قيل: هو بعد ساعة منه، و قيل: هو حين يدبر الليل.

أ فاطم مهلا بعض هذا التدلّل *** و إن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

فقال لي: ليس هذا اللحن أريد، غنّ رمل ابن سريج؛ فغنّيته و شرب رطلا و سقي الجارية رطلا، ثم قال:

حدّثني، فجعلت أحدّثه بأحاديث القيان و المغنّين طورا، و أحاديث العرب و أيامها و أخبارها تارة، و أنشده أشعار القدماء و المحدثين في خلال ذلك، إذ دخل الفضل بن الرّبيع، فحدّثه حديث ثلاث جوار ملكهنّ و وصفهنّ بالحسن و الإحسان و الظّرف و الأدب؛ فقال له: يا عبّاسيّ، هل تسخو نفسك بهنّ؟ و هل لك من سلوة عنهنّ؟ فقال له: و اللّه يا أمير المؤمنين، إني لأسخو بهنّ و بنفسي، فبها فداك اللّه؛ ثم قام فوجّه بهنّ إليه، فغلبن على قلبه، و هنّ سحر و ضياء و خنث ذات الخال؛ و فيهنّ يقول:

/

إنّ سحرا و ضياء و خنث *** هنّ سحر و ضياء و خنث

أخذت سحر و لا ذنب لها *** ثلثي قلبي و ترباها الثّلث

نزل على عبيد اللّه بن محمد بن عائشة بالبصرة و نادمه:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن هارون عن إسحاق قال:

أتيت عبيد اللّه بن محمد بن عائشة بالبصرة، فلمّا دخلت إليه حصرت؛ فقال لي: إنّ الحصر رائد(1) الحياء، و الحياء عقيد الإيمان، فانبسط و أزل الوحشة، فلئن باعدت بيننا الأحساب، لقد قرّبت بيننا الآداب؛ فقلت [له](2):

و اللّه لقد سررتني بخطابك، و زدتني ببرّك عجزا عن جوابك؛ و اللّه درّ القطاميّ حيث يقول:

أمّا قريش فلن تلقاهم أبدا *** إلاّ و هم خير من يحفى و ينتعل

أهدى له أحمد بن هشام زعفرانا و كتب له شعرا فرد هو عليه بشعر:

أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم قال حدّثني أبو هفّان قال:

وجه أحمد بن هشام إلى إسحاق الموصليّ بزعفران رطب و كتب إليه:

اشرب على الزعفران الرّطب متّكئا *** و انعم نعمت بطول اللّهو و الطّرب

فحرمة الكأس بين الناس واجبة *** كحرمة الودّ و الأرحام و الأدب

قال: فكتب إليه إسحاق:

أذكر أبا جعفر حقّا أمتّ به *** أنّي و إياك مشغوفان بالأدب

و أننا قد رضعنا الكأس درّتها(3) *** و الكأس حرمتها أولى من النّسب

ودع الفضل بن يحيى في خروجه إلى خراسان بشعر فوصله:

حدّثنا الصّوليّ قال حدّثني محمد بن موسى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

ص: 197


1- كذا صححها الأستاذ الشنقيطي في نسخته. و في الأصول: «زائد» بالزاي المعجمة.
2- زيادة عن ب، ح، م.
3- أصل الدرة: اللبن.

لمّا أراد الفضل بن يحيى الخروج إلى خراسان ودّعته، ثم أنشدته بعد التوديع:

/

فراقك مثل فراق الحياة *** و فقدك مثل افتقاد الدّيم

عليك السلام فكم من وفاء *** أفارق فيك و كم من كرم

قال: فضمني إليه، و أمر لي بألف دينار، و قال لي: يا أبا محمد، لو حلّيت هذين البيتين بصنعة/و أودعتهما من يصلح من الخارجين معنا، لأهديت بذلك إليّ أنسا و أذكرتني بنفسك؛ ففعلت ذلك و طرحته على بعض المغنّين؛ فكان كتابه لا يزال يرد عليّ و معه ألف دينار يصلني بذلك كلما غنّى بهذا الصوت. قال الصّوليّ: و هو من طريقة الرّمل.

حديثه عما حمله الأصمعي من كتب حين خرجا مع الرشيد إلى الرقة:

أخبرني عمي قال حدّثني عمر بن شبّة عن إسحاق قال:

قال لي الأصمعيّ: لمّا خرجنا مع الرشيد إلى الرّقّة قال لي: هل حملت معك شيئا من كتبك؟ فقلت: نعم، حملت منها ما خفّ حمله؛ فقال: كم؟ فقلت: ثمانية عشر صندوقا؛ فقال: هذا لمّا خفّفت، فلو ثقّلت كم كنت تحمل؟ فقلت: أضعافها؛ فجعل يعجب.

شعر إسحاق في المعتصم حين ولي الخلافة:
اشارة

أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال:

لمّا ولي المعتصم دخلت إليه في جملة الجلساء و الشعراء؛ فهنّأه القوم نظما و نثرا و هو ينظر إليّ مستنطقا؛ فأنشدته:

صوت

لاح بالمفرق(1) منك القتير(2) *** و ذوى غصن الشّباب النّضير

هزئت أسماء منّى و قالت *** أنت يا ابن الموصليّ كبير

/و رأت شيبا برأسي(3) فصدّت *** و ابن ستّين بشيب جدير

لا يروعنّك شيبي فإنّي *** مع هذا الشّيب حلو مزير(4)

قد يفلّ(5) السيف و هو جراز *** و يصول الليث و هو عقير(6)

يا بني العبّاس أنتم شفاء *** و ضياء للقلوب و نور

أنتم أهل الخلافة فينا *** و لكم منبرها و السرير

ص: 198


1- المفرق (كمقعد و مجلس): وسط الرأس و هو الذي يفرق فيه الشعر.
2- القتير: الشيب، و قيل: هو أوّل ما يظهر منه.
3- في «تجريد الأغاني» لابن واصل: «علاني».
4- المزير: الظريف.
5- الفل: ثلم ينال حد السيف. و الجراز (بالضم): الماضي القطاع.
6- عقير: مجروح أو مقطوع القوائم.

لا يزال الملك فيكم مدى الدّه *** ر مقيما ما أقام ثبير(1)

و أبو إسحاق خير إمام *** ما له في العالمين نظير

ما له فيما يريش و يبري *** غير توفيق الإله وزير

واضح الغرّة للخير فيه *** حين يبدو شاهد و بشير

زانه هدي تقى و جلال *** و عفاف و وقار و خير

لو تباري جوده الريح يوما *** نزعت و هي طليح(2) حسير

شعره في المعتصم يوم مقدمه من غزاة:
اشارة

قال: فأمر لي بجائزة فضّلني بها على الجماعة. ثم دخلت إليه يوم مقدمه من غزاته، فأنشدته قولي فيه:

صوت

لأسماء رسم عفا باللّوى *** أقام رهينا لطول البلى

تعاوره الدهر في صرفه *** بكرّ الجديدين حتى عفا

إذ(3) البين لم تخش روعاته *** و لم يصرف الحيّ صرف الرّدى

/و إذ ميعة(4) اللهو تجري بنا *** و حبل الوصال متين القوى

فذلك دهر مضى فابكه *** و من ضاق ذرعا بأمر بكى

و هل يشفينّك من غلّة *** بكاؤك في إثر ما قد مضى

إلى ابن الرشيد إمام الهدى *** بعثنا المطيّ تجوب الفلا

/إلى ملك حلّ من هاشم *** ذؤابة مجد منيف الذّرى

إذا قيل أيّ فتى هاشم *** و سيّدها كان ذاك الفتى

به نعش اللّه آمالنا *** كما نعش الأرض صوب الحيا

إذا ما نوى فعل أكرومة *** تجاوز من جوده ما نوى

كساه الإله رداء الجمال *** و نور الجلال و هدى التقى

قال: فأمر(5) لي بجائزة، و قال: لست أحسب هذا لك إلا بعد أن تقرن صناعتك فيه بالأخرى (يعني أن أغنّي فيه و في:

«هزئت أسماء منى»

)؛ فصنعت في:

هزئت أسماء منى.....

ص: 199


1- ثبير: من جبال مكة بينها و بين عرفة.
2- طليح: تعب هزيل. و حسير: كليل معي.
3- في الأصول: «إذا».
4- ميعة اللهو و الشباب و النهار و السكر و كل شيء: أوله و أصله.
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «قال فأمر له»، و هو تحريف.

لحنا، و في:

لأسماء رسم عفا باللّوى

لحنا آخر و غنّيته بهما، فأمر لي بألفي دينار.

نسبة هذين الصوتين

هزئت أسماء منّى و قالت *** أنت يا ابن الموصليّ كبير

لحن إسحاق في أربعة أبيات متوالية من الشعر ثقيل أوّل بالوسطى. و الآخر:

لأسماء رسم عفا باللّوى *** أقام رهينا لطول البلى

الغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالوسطى.

غنى أحمد بن عبيد اللّه بن أبي العلاء لحنا له فنظر إليه مخارق شزرا ثم بين له السبب:

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن أبي العلاء قال: غنّيت يوما بين يدي الواثق لحن إسحاق في:

هزئت أسماء منّى و قالت *** أنت يا ابن الموصليّ كبير

قال: فنظر إليّ مخارق نظرا شزرا و عضّ شفته عليّ؛ فلما خرجنا من بين يدي الواثق قلت: يا أستاذ، لم نظرت إليّ ذلك النظر؟ أ أنكرت عليّ شيئا أم أخطأت في غنائي؟ فقال لي: ويحك! أ تدري أيّ صوت غنّيت! إن إسحاق جعل صيحة هذا الصوت بمنزلة طريق ضيّق وعر صعب المرتقى، أحد جانبي ذلك الطريق حرف الجبل، و عن جانبه الآخر الوادي؛ فإن مال مرتقيه عن محجّته إلى جانب الوادي هوى، و إن مال إلى الجانب الآخر نطحه حرف الجبل فتكسّر؛ صر إليّ غدا حتى أصحّحه لك.

بنى لحنه في «هزئت أسماء» على أذان عبد الوهاب المؤذن:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد قال حدّثت من غير وجه:

أن إسحاق بات ليلة عند المعتصم و هو أمير، فسمع لحنا لعبد الوهاب المؤذّن أذّن به على باب المعتصم، فأصغى إليه فأعجبه، فأعاد المبيت ليلة أخرى عنده حتى استقام له اللحن؛ فبنى عليه لحنه:

هزئت أسماء منّى و قالت

فصد إبراهيم بن المهديّ يوما فأرسل هو إليه غلامه بديحا بلحن له يغنيه إياه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ:

أنّ إبراهيم بن المهديّ فصد يوما، فكتب إليه إسحاق يتعرّف خبره و يدعو له بالسلامة و حسن العقبى، و كتب إليه: إني سأهدي إليك هديّة للفصد حسنة؛ فوجّه إليه بديحا غلامه، فغنّاه لحنه في:

/هزئت أسماء منّى و قالت

فاستحسنه إبراهيم و قال له: قد قبلنا الهديّة، فإن كان أن لك في طرحه على الجواري فافعل؛ فقال له: بذلك

ص: 200

أمرني، و قال لي: إنك ستقول لي هذا القول، فقال: إن قاله لك فقل له: لو لم آمرك بطرحه لم يكن هديّة؛ فضحك إبراهيم، /و ألقاه بديح على جواريه. و قد ذكر عليّ بن محمد بن نصر هذا الخبر، فذكر أنه كتب(1) إلى أبيه بهذه الهديّة؛ و هذا خطأ، لأن الشعر في تهنئة المعتصم بالخلافة، و إبراهيم الموصليّ مات في حياة الرشيد، فكيف يهدى إليه هذا الصوت!.

غنى محمد بن الحارث بصوت له أمام مخارق فأعجب به:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال حدّثني أحمد بن أبي العلاء(2) قال:

اندفع محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر يوما يغنّي هذا الصوت؛ فالتفت إلينا مخارق فقال: خرج(3) ابن الزانية!.

محاورته لعلويه في مجلس الفضل بن الربيع أو علي بن هشام و دفعه ما اتهمه به:
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثني أبو جعفر محمد بن الدّهقانة النّديم قال حدّثني أحمد بن يحيى المكيّ قال:

دعاني الفضل بن الرّبيع و دعا علّويه و مخارقا، و ذلك في أيام المأمون بعد رجوعه و رضاه عنه إلا أنّ حاله كانت ناقصة متضعضعة؛ فلمّا اجتمعنا عنده كتب إلى إسحاق الموصليّ يسأله أن يصير إليه و يعلمه الحال في اجتماعنا عنده؛ فكتب إليهم: لا تنتظروني بالأكل فقد أكلت، و أنا أصير إليكم بعد ساعة؛ فأكلنا و جلسنا نشرب حتى قرب العصر، ثم وافى إسحاق فجلس، و جاء غلامه بقطرميز(4) نبيذ فوضعه/ناحية، و أمر صاحب الشراب بإسقائه منه، و كان علّويه يغنّي الفضل بن الرّبيع في لحن لسياط اقترحه الفضل عليه و أعجبه، و هو:

فإن تعجبي أو تبصري الدّهر طمّني(5) *** بأحداثه طمّ المقصّص بالجلم(6)

فقد أترك الأصياف تندى رحالهم *** و أكرمهم بالمحض و التّامك السّنم(7)

- و لحنه من الثقيل الثاني - فقال له إسحاق: أخطأت يا أبا الحسن في أداء هذا الصوت، و أنا أصلحه لك؛ فجنّ علّويه و اغتاظ و قامت قيامته؛ ثم أقبل على علّويه فقال له: يا حبيبي، ما أردت الوضع منك بما قلته لك، و إنما أردت تهذيبك و تقويمك، لأنك منسوب الصواب و الخطأ إلى أبي و إليّ، فإن كرهت ذلك تركتك و قلت لك:

أحسنت و أجملت؛ فقال له علّويه: و اللّه ما هذا أردت، و لا أردت إلا ما لا تتركه أبدا من سوء عشرتك! أخبرني عنك حين تجيء هذا الوقت لمّا دعاك الأمير و عرّفك أنه قد نشط للاصطباح: ما حملك على الترفّع عن مباكرته و خدمته مع صنائعه عندك، و ما كان ينبغي أن يشغلك عنه شيء إلا الخليفة! ثم تجيئه و معك قطرميز نبيذ ترفّعا عن شرابه كما ترفّعت عن طعامه و مجالسته إلا كما تشتهي و حين تنشط، كما تفعل الأكفاء، بل تزيد على فعل الأكفاء؛

ص: 201


1- في الأصول: «فذكر أنك كتبت إلى أبيه بهذه الهدية... إلخ»، و ظاهر أنه تحريف.
2- ورد هذا الاسم فيما سبق - قبل هذا الخبر بخبرين -: «... أحمد بن عبيد اللّه بن أبي العلاء».
3- خرج: نبغ.
4- القطرميز: قلة كبيرة من الزجاج. قال الشاعر: أنا لا أرتوي بطاس و كاس فاسقنيها بالزق و القطرميز
5- طمني: غمرني.
6- الجلم (بالتحريك): الذي يجز به الشعر و الصوف، و مثله الجلمان بلفظ التثنية.
7- المحض: اللبن الخالص بلا رغوة. و التامك: العظيم السنام من الإبل، و مثله السنم.

ثم تعمد إلى صوت قد اشتهاه و اقترحه و سمعه جميع من حضر فما عابه منهم أحد فتعيبه ليتمّ تنغيصك إياه لذّته!؛ أما و اللّه لو(1) الفضل بن يحيى أو أخوه(2) جعفر دعاك إلى مثل/ما دعاك إليه الأمير، بل بعض أتباعهم، لبادرت و باكرت و ما تأخّرت و لا اعتذرت؛ قال: فأمسك الفضل عن الجواب إعجابا بما خاطب به علّويه إسحاق؛ فقال له إسحاق: أمّا ما ذكرته من تأخّري عنه إلى الوقت الذي حضرت فيه، فهو يعلم أنّي لا أتأخر عنه إلا بعائق قاطع، إن وثق بذلك منّي و إلاّ ذكرت له الحجة سرّا من حيث لا يكون لك و لا لغيرك فيه مدخل. و أما ترفّعي عنه، فكيف أترفّع عنه و أنا أنتسب إلى صنائعه و أستمنحه و أعيش من فضله مذ كنت، و هذا تضريب(3) لا أبالي به منك. و أما حملي النبيذ معي، فإنّ لي في النبيذ شرطا من طعمه و ريحه، /و إن لم أجده لم أقدر على الشرب و تنغّص عليّ يومئذ، و إنما حملته ليتمّ نشاطي و ينتفع بي. و أما طعني على ما اختاره، فإني لم أطعن على اختياره، و إنما أردت تقويمك، و لست و اللّه تراني متتبعا لك بعد هذا اليوم و لا مقوّما شيئا من خطئك؛ و أنا أغنّي له - أعزّه اللّه - هذا الصوت فيعلم و تعلم و يعلم من حضر أنك أخطأت فيه و قصّرت. و أما البرامكة و ملازمتي لهم فأشهر من أن أجحده، و إني لحقيق فيه بالمعذرة، و أحرى أن أشكرهم على صنيعهم و بأن أذيعه و أنشره، و ذلك و اللّه أقلّ ما يستحقّونه منّي.

ثم أقبل على الفضل - و قد غاظه مدحه لهم - فقال: اسمع منّي شيئا أخبرك به مما فعلوه ليس هو بكبير في صنائعهم عندي و لا عند أبي قبلي، فإن وجدت لي عذرا و إلا فلم: كنت في ابتداء أمري نازلا مع أبي في داره، فكان لا يزال يجري بين غلماني و غلمانه و جواريّ و جواريه الخصومة، كما تجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه، فأتبيّن الضّجر و التنكّر في وجهه؛ فاستأجرت دارا بقربه و انتقلت إليها أنا و غلماني و جواريّ، و كانت دارا واسعة، فلم أرض ما معي من الآلة لها و لا لمن يدخل إليّ من إخواني أن يروا مثله عندي؛ ففكرت في ذلك و كيف/أصنع، و زاد فكري حتى خطر بقلبي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة، و أني لا آمن في وقت أن يستأذن عليّ [صاحب داري](4)، و عندي من أحتشمه و لا يعلم حالي، فيقال صاحب دارك، أو يوجّه في وقت فيطلب أجرة الدار و عندي من أحتشمه؛ فضاق بذلك صدري ضيقا شديدا حتى جاوز الحدّ؛ فأمرت غلامي بأن يسرج لي حمارا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرّج فيها مما دخل على قلبي، فأسرجه و ركبت برداء و نعل؛ فأفضى بي المسير و أنا مفكر لا أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد؛ فتواثب غلمانه إليّ؛ و قالوا: أين هذا الطريق؟ فقلت: إلى الوزير؛ فدخلوا فاستأذنوا لي؛ و خرج الحاجب فأمرني بالدخول، و بقيت خجلا، قد وقعت في أمرين فاضحين: إن دخلت إليه برداء و نعل و أعلمته أنّي قصدته في تلك الحال كان سوء أدب، و إن قلت له: كنت مجتازا و لم أقصدك فجعلتك طريقا كان قبيحا؛ ثم عزمت فدخلت؛ فلمّا رآني تبسّم و قال: ما هذا الزّيّ يا أبا محمد! احتبسنا لك بالبر و القصد و التفقّد ثم علمنا أنك جعلتنا طريقا؛ فقلت: لا و اللّه يا سيّدي، و لكني أصدقك؛ قال:

هات؛ فأخبرته القصّة من أوّلها إلى آخرها؛ فقال: هذا حقّ مستو، أ فهذا شغل قلبك؟ قلت: إي و اللّه! و زاد فقال:

لا تشغل قلبك بهذا، يا غلام، ردّوا حماره و هاتوا له خلعة؛ فجاءوني بخلعة تامّة من ثيابه فلبستها، و دعا بالطعام فأكلت و وضع النبيذ فشربت و شرب فغنّيته، و دعا في وسط ذلك بدواة و رقعة و كتب أربع رقاع ظننت بعضها توقيعا

ص: 202


1- كذا في ح و «مختار الأغاني» لابن منظور (ص 147). و في سائر الأصول: «لو لا الفضل»، و هو تحريف.
2- كذا في «مختار الأغاني» لابن منظور. و في الأصول: «الفضل بن يحيى و أخوه... إلخ» بالواو، و لا تستقيم بها العبارة.
3- التضريب: الإغراء بين القوم.
4- التكملة عن «مختار الأغاني».

لي بجائزة، فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرّقاع و سارّه بشيء، فزاد طمعي في الجائزة؛ و مضى الرجل و جلسنا نشرب و أنا أنتظر شيئا فلا أراه إلى العتمة؛ ثم اتّكأ يحيى فنام، فقمت و أنا منكسر خائب فخرجت و قدّم لي /حماري؛ فلمّا تجاوزت الدار قال لي غلامي: إلى أين تمضي؟ قلت: إلى البيت؛ قال: قد و اللّه بيعت دارك، و أشهد على/صاحبها، و ابتيع الدّرب كلّه و وزن ثمنه، و المشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرّفك، و أظنه اشترى ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في استعجاله و استحثاثه أمرا سلطانيا؛ فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسابي، و جئت و أنا لا أدري ما أعمل؛ فلمّا نزلت على باب داري إذا أنا بالوكيل الذي سارّه يحيى قد قام إليّ فقال لي:

ادخل - أيّدك اللّه - دارك حتى أدخل إلى مخاطبتك في أمر أحتاج إليك فيه؛ فطابت نفسي بذلك، و دخلت و دخل إليّ فأقر أني توقيع يحيى: «يطلق لأبي محمد إسحاق مائة ألف درهم يبتاع له بها داره و جميع ما يجاورها و يلاصقها».

و التوقيع الثاني إلى ابنه الفضل: «قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره، فأطلق إليه مثلها لينفقها على إصلاح الدار كما يريد و بنائها على ما يشتهي». و التوقيع الثالث إلى جعفر: «قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها منزل يسكنه، و أمر له أخوك بدفع مائة ألف [درهم](1) ينفقها على بنائها و مرمّتها على ما يريد، فأطلق له أنت مائة ألف درهم يبتاع بها فرشا لمنزله». و التوقيع الرابع إلى محمد: «قد أمرت لأبي محمد إسحاق أنا و أخواك بثلاثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه و نفقة ينفقها عليه و فرش يبتذله، فمر له أنت بمائة ألف درهم يصرفها في سائر نفقته». و قال الوكيل: قد حملت المال و اشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم، و هذه كتب الابتياعات باسمي و الإقرار لك، و هذا المال بورك لك فيه فاقبضه؛ فقبضته و أصبحت أحسن حالا من أبي في منزلي و فرشي و آلتي؛ و لا و اللّه ما هذا بأكبر شيء فعلوه لي، أ فألام على شكر هؤلاء! فبكى/الفضل بن الربيع و كل من حضر(2)، و قالوا: لا و اللّه لا تلام على شكر هؤلاء. ثم قال الفضل: بحياتي غنّ الصوت و لا تبخل على أبي الحسن بأن تقوّمه له؛ فقال: أفعل؛ و غنّاه، فتبيّن علّويه أنه كما قال، فقام فقبّل رأسه و قال: أنت أستاذنا و ابن أستاذنا و أولى بتقويمنا و احتمالنا من كل أحد؛ و ردّه(3) إسحاق مرّات حتى استوى لعلّويه.

و لقد روي في هذا الخبر بعينه أن هذه القصّة كانت عند عليّ بن هشام، و قد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني ميمون بن هارون و أبو عبد اللّه الهاشميّ قالا:

دعا عليّ بن هشام إسحاق الموصليّ و سأله أن يصطبح عنده و يبكّر فأجابه؛ فلمّا كان الغد وافاه ظهرا و عنده مخارق و علّويه؛ فقال له عليّ بن هشام: أين كنت الساعة يا أبا محمد؟ قال: عاقني أمر لم أجد من القيام به بدّا؛ فدعا له بطعام فأصاب منه، ثم قعدوا على نبيذهم، و تغنّى علّويه صوتا، الشعر فيه لابن ياسين، و هو:

صوت

إلهي منحت الودّ منّي بخيلة *** و أنت على تغيير ذاك قدير

شفاء الهوى بثّ الهوى و اشتكاؤه *** و إنّ امرأ أخفى الهوى لصبور

- الغناء لسليمان أخي أحيحة، خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو - فقال له إسحاق: أخطأت ويلك! فوضع

ص: 203


1- الزيادة عن م، و «مختار الأغاني» لابن منظور.
2- كذا في «مختار الأغاني». و في الأصول: «حضره» بزيادة الهاء.
3- رده: أعاده مثل ردّده.

علّويه العود و شرب رطلا و شرب عليّ بن هشام؛ ثم تناول العود و غنّى:

صوت

و لقد أسمو إلى غرف *** في طريق موحش جدده(1)

حوله الأحراس تحرسه *** و لديه جاثما أسده

- الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو - فقال له إسحاق: أخطأت ويلك! فوضع العود من يده ثم أقبل على إسحاق فقال له: دعاك الأمير - أعزّه اللّه - لتبكّر إليه، فجئته ظهرا، و غنّيت صوتين يشتهيهما الأمير - أعزّه اللّه - عليّ فخطّأتني فيهما، و زعمت أنك لا تغنّي بين يدي الأمير - أعزّه اللّه - و لا تغنّي إلا بين يدي خليفة أو وليّ عهد، و لو دعاك بعض البرامكة لكنت تسرع إليه ثم تغنّى منذ غدوة إلى الليل!؛ فقال إسحاق: إني و اللّه ما أردت انتقاصا منك، و لا أقول مثله لغيرك و لا أريد ازدراء من أحد، و لكني أردت بك خاصّة التقويم و التأديب؛ فإن ساءك ذلك تركتك في خطئك. ثم أقبل على عليّ بن هشام، فقال له: أعزّك اللّه، إني أحدّثك عن البرامكة بما يقيم عذري فيما ذكره: دخلت على يحيى بن خالد يوما، و لم أكن أردت الدخول عليه، و إنما ركبت متبذّلا(2) لهمّ أهمّني، و كنت نازلا مع أبي في داره، فضقت صدرا بذلك و أحببت النّقلة عنه، و نظرت فإذا يدي تقصر عما يصلحني؛ ثم ذكر الخبر نحوا مما قلته. و زاد فيه: أنه دخل إلى يحيى بن خالد و هو مصطبح، فلما رآه نعر(3) و صفّق، و أنه وقّع له بمائتي ألف درهم، و وقّع له كلّ من جعفر و الفضل بمائة و خمسين ألفا، و كلّ واحد من موسى و محمد بمائة ألف مائة ألف. و قال فيه: فبكى عليّ بن هشام و من حضر، و قالوا: /لا يرى و اللّه مثل هؤلاء أبدا؛ و أخذ إسحاق العود فغنّى الصوتين فأتى فيهما بالعجائب؛ فقام علّويه فقبّل رأسه و قال له: أنت أستاذنا و ابن أستاذنا، و ما بنا عن تقويمك غنّى؛ ثم غنّى بعد ذلك لحنه: «تشكّى الكميت الجري»، و لم يزل يغنّي بقيّة يومه كلّما شرب عليّ بن هشام؛ ثم انصرف فأتبعه عليّ بن هشام بجائزة سنيّة.

قال عبد اللّه بن العباس الربيعي: إنه لا يقاربه في الصنعة أحد:
اشارة

حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا عون بن محمد قال حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ قال:

أحضرني إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلمّا جلست و اطمأننت، أخرج إليّ خادمه رقعة، فقال: اقرأ ما فيها و اعمل بما رسمه الأمير أعزّه اللّه؛ فقرأتها فإذا فيها قوله:

صوت

يرتاح للدّجن(4) قلبي و هو مقتسم *** بين الهموم ارتياح الأرض للمطر

إني جعلت لهذا الدّجن نحلته(5) *** ألاّ يزول و لي في اللهو من وطر

ص: 204


1- جدده (بضم ففتح): معالمه، واحده جدّة.
2- التبذل: ترك التزين و التهيؤ بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التواضع.
3- نعر: صاح و صوّت.
4- الدجن: إلباس الغيم الأرض، و قيل: إلباسه أقطار السماء.
5- النحلة: المذهب و النوع، يعني أنه جعل لهذا الدجن ما يناسبه من الشراب و اللهو، و كان من عادتهم أنهم يستحسنون ذلك إذا أدجن اليوم.

و تحت هذين البيتين: «تقدّم - جعلت فداك - إلى من بخصرتك من المغنّين بأن يغنّوا في هذين البيتين، و ألق جميع ما يصنعونه على فلانة؛ فإذا أخذته فأنفذها إليّ مع رسولي»؛ فقلت: السمع و الطاعة لأمر الأمير أعزّه اللّه، فهل صنع فيهما أحد قبلي؟ فقال: نعم، إسحاق الموصليّ؛ فقلت: و اللّه لو كلّف إبليس أن يصنع فيهما صنعة يفضل إسحاق فيها بل يساويه بل يقاربه، ما قدر على ذلك و لا بلغ مبلغه؛ فضحك حتى استلقى، و قال: صدقت و اللّه! و هكذا يقول من/يعقل لا كما يقول/هؤلاء الحمقى، و لكن اصنع فيهما على كل حال كما أمر؛ فقلت: أفعل و قد برئت من العهدة؛ فانصرفت فصنعت فيهما صنعة كانت و اللّه عند صنعة إسحاق بمنزلة غناء القرّادين.

أخبره أحد الخلفاء بظهور الشيب فيه فبكى و قال في ذلك شعرا و غنى فيه:

حدّثني جحظة قال حدّثني ميمون قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال:

قال لي المعتصم أو قال لي الواثق: لقد ضحك الشّيب في عارضيك؛ فقلت: نعم يا سيّدي، و بكيت؛ ثم قلت أبياتا في الوقت و غنّيت فيها:

تولّى شبابك إلا قليلا *** و حلّ المشيب فصبرا جميلا

كفى حزنا بفراق الصّبا *** و إن أصبح الشيب منه بديلا

و لمّا رأى الغانيات المشي *** ب أغضين دونك طرفا كليلا

سأندب عهدا مضى للصّبا *** و أبكي الشباب بكاء طويلا

فبكى الواثق و حزن و قال: و اللّه لو قدرت على ردّ شبابك لفعلت بشطر ملكي؛ فلم يكن لكلامه عندي جواب إلا تقبيل البساط بين يديه.

جهد المغنون أن يأخذوا لحنا له فلم يستطيعوا أن يفوا به:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني حمدون بن إسماعيل قال: لمّا صنع أبوك لحنه في:

قف بالديار التي عفا القدم *** و غيّرتها الأرواح(1) و الدّيم

رأيتهم (يعني المغنّين) يأخذونه عنه و يجهدون فيه؛ فتوفّي و اللّه و ما أخذوا منه إلا رسمه.

نسبة هذا الصوت
صوت

قف بالديار التي عفا القدم *** و غيّرتها الأرواح و الدّيم

لمّا وقفنا بها نسائلها *** فاضت من القوم أعين سجم(2)

ص: 205


1- الأرواح: جمع ريح كالأرياح و الرياح.
2- سجم: جمع سجوم، يقال: سجمت العين الدمع (من بابي ضرب و قعد): أسالته قليلا كان أو كثيرا، فالعين ساجمة و سجوم. و يقال: سجم الدمع (من باب قعد): سال، فالفعل لازم متعد.

ذكرا لعيش مضى إذا ذكروا *** ما فات منه فإنه سقم

و كل عيش دامت غضارته *** منقطع مرّة و منصرم

الشعر و الغناء لإسحاق، ثقيل أوّل بالوسطى من جميع أغانيه.

حدّثني أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني هارون اليتيم قال حدّثني عجيف بن عنبسة قال:

كنت عند أمير المؤمنين المعتصم و عنده إسحاق الموصليّ، فغنّاه:

قل لمن صدّ عاتبا *** و نأى عنك جانبا

فأمره بإعادته، فأعاده ثلاثا، و شرب عليه ثلاثا، فقال له إبراهيم بن المهديّ: قد استحسنت هذا الصوت يا أمير المؤمنين، أ فنأخذه؟ قال: نعم، خذوه فقد أعجبني؛ فاجتمع جماعة المغنّين: مخارق و علّويه و عمرو بن بانة و غيرهم، فأمره المعتصم أن يلقيه عليهم حتى يأخذوه؛ فقال عجيف: فعددت خمسين مرّة قد أعاده فيها عليهم و هم يظنّون أنهم قد أخذوه و لم يكونوا أخذوه. قال هارون: فنحن في هذا الحديث إذ دخل علينا محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، فقال له عجيف: يا أبا جعفر، كنت أحدّث أبا موسى بحديثنا البارحة مع إسحاق في الصوت/و أنّي عددت خمسين مرة؛ /فقال محمد: إي و اللّه! - أصلحك اللّه - و لقد عددت أنا أكثر من سبعين مرّة و ما في القوم أحد إلا و هو يظن أنه قد أخذه، و اللّه ما أخذه أحد منهم و أنا أوّلهم ما قدرت - علم اللّه - على أخذه على الصحة و أنا أسرعهم أخذا، فلا أدري: أ لكثرة زوائده فيه أم لشدّة صعوبته؛ و من يقدر أن يأخذ من ذلك الشيطان شيئا!. أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني عجيف بن عنبسة بهذا الخبر فذكر مثله سواء.

مر على المعتصم شعر أعجبه وزنه دون معناه فصاغ هو فيه معنى أعجبه فأجازه:
اشارة

قال أبو أيّوب و حدّثني حمّاد عن أبيه قال:

كنت يوما عند المعتصم، فمرّ شعر على هذا الوزن فقال: وددت أنه على غير ما هو؛ فقلت له: أنا لك به على هذا الوزن في أحسن من هذا الشعر:

صوت

قل لمن صدّ عاتبا *** و نأى عنك جانبا

قد بلغت الذي أرد *** ت و إن كنت لاعبا

فأعجبه، و قال لي: قد و اللّه أحسنت! و أمر لي بألفي دينار، و و اللّه ما كانت قيمتهما عندي دانقين(1).

الشعر و الغناء في هذين البيتين لإسحاق، ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى.

غضب عليه الأمين فتشفع إليه بالفضل بن الربيع ثم دخل عليه بالأنبار و غناه فأطربه فأجازه:
اشارة

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني ابن المكّيّ عن إسحاق قال:

ص: 206


1- الدانق: سدس الدرهم معرب «دانك» بالفارسية.

غضب عليّ المخلوع(1) فأقصاني و جفاني، فاشتدّ ذلك عليّ - قال: و جفاني و هو يومئذ بالأنبار - فحملت عليه بالفضل بن الربيع، فطلب إليه فشفّعه المخلوع و دعاني/و هو مصطبح، فلم أزل متوقّفا و قد لبست قباء و خفّا أحمر و اعتصبت بعصابة صفراء و شددت وسطي بشقّة حمراء من حرير، فلما أخذوا(2) في الأهزاج دخلت و في يديّ صفّاقتان و أنا أتغنّى:

صوت

اسمع لصوت طريب(3) *** من صنعة الأنباري(4)

صوت مليح خفيف *** يطير في الأوتار

- الشعر و الغناء لإسحاق، هزج بالبنصر - فسرّ بذلك محمد، و كان صوتهم في يومهم ذلك، و أمر لي بثلاثمائة ألف درهم. و أخبرني جحظة بهذا الخبر عن محمد بن أحمد بن يحيى المكّيّ قال حدّثني أبي أن إسحاق حدّثه بهذا الخبر، و ذكر مثل ما ذكره يحيى؛ و زاد فيه قال: و كان سبب تسمية محمد لي ب «الأنباري» أني دخلت عليه يوما و قد لثت(5) عمامتي على رأسي لوثا غير مستحسن، فقال لي: يا إسحاق، كأنّ عمامتك من عمائم أهل الأنبار.

أنشد الأصمعي شعرا له فأعجب به فلما علم أنه له غير رأيه فيه:
اشارة

أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني عمّي الفضل عن إسحاق، و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني عمّي الفضل عن إسحاق، و أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثني أبي:

قال إسحاق: قلت في ليلة من الليالي:

صوت

هل إلى نظرة إليك سبيل *** يرو(6) الصّدى و يشفى الغليل

إنّ ما قلّ منك يكثر عندي *** و كثير ممن تحبّ القليل

قال: فلمّا أصبحت أنشدتهما الأصمعيّ، فقال: هذا الدّيباج الخسروانيّ(7)، هذا الوشي/الإسكندرانيّ، لمن هذا؟ فقلت له: إنه ابن ليلته؛ فتبيّنت الحسد في وجهه، و قال: أفسدته! أفسدته! أما إنّ التوليد فيه لبيّن. في هذين البيتين لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر.

ص: 207


1- المخلوع: هو محمد الأمين الخليفة ابن هارون الرشيد.
2- في أ، ء، م: «فلما دخلوا».
3- في ح: «ظريف».
4- كذا في ح. و الأنباري: نسبة إلى الأنبار، و هي مدينة على الفرات في غربي بغداد بينهما عشرة فراسخ. و في سائر الأصول: «... الأنبار» بدون ياء النسبة، و هو تحريف.
5- لاث العمامة على رأسه يلوثها لوثا: لفها و عصبها.
6- جزم الفعل هنا لضرورة الشعر.
7- الخسرواني: نوع من الثياب منسوب إلى خسرو شاه من الأكاسرة.
كان يعجب بمعنى و يرى أنه ما سبق إليه فلما أنشد له هذا المعنى لأعرابي حلف أنه ما سمعه:
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال حدّثني إسحاق بهذا الخبر، فذكر مثل ما ذكره من قدّمت الرواية عنه، و زاد فيه: فقال لي عليّ بن يحيى بعقب هذا الخبر: كان إسحاق يعجب بهذا المعنى و يكرره في شعره، و يرى أنه ما سبق إليه؛ فمن ذلك قوله:

صوت

أيّها الظّبي الغرير *** هل لنا منك مجير

إنّ ما نوّلتني من *** ك و إن قلّ كثير

- لحن إسحاق خفيف ثقيل بالوسطى - فقلت: إنك قد سبقت إلى هذا المعنى، فقال: ما علمت أنّ أحدا سبقني إليه؛ فأنشدته لأعرابيّ من بني عقيل:

قفي ودّعينا يا مليح بنظرة *** فقد حان منّا يا مليح رحيل

/أ ليس قليلا نظرة إن نظرتها *** إليك و كلاّ ليس منك قليل

عقيليّة أمّا ملاث(1) إزارها *** فوعث و أما خصرها فضئيل

صوت

أيا جنّة الدنيا و يا غاية المنى *** و يا سؤل نفسي هل إليك سبيل

أ راجعة نفسي إليّ فأغتدي *** مع الرّكب لم يقتل عليك قتيل

فما كلّ يوم لي بأرضك حاجة *** و لا كلّ يوم لي إليك رسول

قال: فحلف أنه ما سمع بذلك قطّ. قال عليّ بن يحيى: و صدق، ما سمع بها. الغناء في الأبيات الأخيرة من أبيات العقيليّ.

عاتبه إبراهيم بن المهدي في ترك المجيء له فكان بينهما حوار لطيف:

حدّثني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الحسين(2) بن محمد بن أبي طالب الدّيناريّ بمكة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال:

عاتبني إبراهيم بن المهديّ في ترك المجيء إليه، فقال لي: من جمع لك مع المودّة الصادقة رأيا حازما،

ص: 208


1- ملاث الشيء: الموضع الذي يدار فيه ذلك الشيء و يلف. و ملاث الإزار: ما دون الخصر أي العجز و ما تحته. و وعث: لين، يقال: امرأة وعثة، و وعثة الأرداف، كأن الأصابع تسوخ فيها من لينها و كثرة لحمها.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول هنا: «الحسن»، و لعل هذا تحريف، إذ سيأتي في جميع الأصول: «الحسين بن طالب». و الظاهر من مقارنة الأسانيد بعضها ببعض في عدة أخبار هنا أن «الحسين بن طالب» هو «الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري». على أنه يبقى من بعد ذلك: أ جدّه «طالب» أم «أبو طالب».

فاجمع له مع المحبة الخالصة طاعة لازمة؛ فقلت له: جعلني اللّه فداك، إذا ثبتت الأصول في القلوب، نطقت الألسن بالفروع، و اللّه يعلم أنّ قلبي لك شاكر، و لساني بالثناء عليك ناثر(1)؛ و ما يظهر الودّ المستقيم، إلا من القلب /السليم؛ قال: فأبرئ ساحتك عندي بكثرة مجيئك إليّ؛ فقلت: أجعل مجيئي إليك في الليل و النهار نوبا أتيقّظ لها كتيقّظي للصلوات الخمس، و أكون بعد ذلك مقصّرا؛ فضحك و قال: من يقدر على جواب المغنّين!؛ فقلت:

من اتخذ الغناء لنفسه و لم يتخذه لغيره؛ فضحك أيضا، و أمر لي بخلع و دنانير و برذون و خادم. و بلغ الخبر المعتصم، فضاعف لإبراهيم ما أعطاني، فرحت و قد ربحت و أربحت.

عتب عليه الفضل بن الربيع فكتب إليه:

حدّثنا الحرميّ قال حدّثنا الدّيناريّ قال حدّثني إسحاق قال:

عتب عليّ الفضل بن الرّبيع في شيء بلغه عنّي؛ فكتبت إليه: «إنّ لكل ذنب عفوا و عقوبة؛ فذنوب الخاصة عندك مستورة مغفورة، فأمّا مثلي من العامّة فذنبه لا يغفر، و كسره لا يجبر؛ فإن كنت لا بدّ معاقبي فإعراض لا يؤدّي إلى مقت».

جواب الأعرابيّ الذي كان عنده للفضل بن الربيع حين سأله عما كانوا فيه:

/حدّثني الحرميّ قال حدّثنا الدّيناريّ قال حدّثني إسحاق قال:

كان يختلف إليّ رجل من الأعراب، و كان الفضل بن الربيع يقرّ به و يستظرف كلامه، و كان عندي يوما و جاء رسول الفضل يطلبه فمضى إليه؛ فقال له الفضل: فيم كنتم؟ قال: كنا في قدر تفور، و كأس تدور، و غناء يصور(2)، و حديث لا يحور(3).

كان يصنع الشعر و ينحله الأعراب:

حدّثنا الحرميّ قال حدّثنا الحسين بن طالب(4) قال:

كان إسحاق يقول الشعر على ألسن الأعراب، و ينشده للأعراب، و كان يعايي بذلك أصحابه و يغرب عليهم به؛ فمن ذلك ما أنشدنيه لأعرابيّ:

/

لفظ الخدور عليك حورا عينا *** أنسين ما جمع الكناس قطينا(5)

فإذا بسمن فعن كمثل غمامة *** أو أقحوان الرمل بات معينا(6)

ص: 209


1- في أ، ء، م: «ناطق».
2- يصور: يصوت.
3- لا يحور: لا يرجع، يريد أنه دائما مجدّد طلى غير معاد. و في م: «لا يجور» بالجيم.
4- تراجع الحاشية رقم 2 من الصفحة السالفة.
5- لفظ: أخرج. و القطين: اسم جمع لقاطن، و هو من قطن بالمكان إذا أقام به و توطنه.
6- معين: ريان، يقال: معن الموضع و النبت (بكسر العين في الماضي و فتحها في المضارع) إذا روى من الماء. و يقال: معن المطر الأرض إذا تتابع عليها فأرواها. فيحتمل هنا أن يكون «معين» فعيلا بمعنى فاعل على المعنى الأوّل، و أن يكون فعيلا بمعنى مفعول على المعنى الثاني، أي تتابع عليه المطر فأرواه.

و أصحّ من رأت العيون محاجرا *** و لهنّ أمرض ما رأيت عيونا

و كأنما تلك الوجوه أهلّة *** أقمرن(1) بين العشر و العشرينا

و كأنهنّ إذا نهضن لحاجة *** ينهضن بالعقدات(2) من يبرينا

قال: و أنشدني أيضا مما كان ينسبه إلى الأعراب و هو له:

و مكحولة العينين من غير ما كحل *** مهفهفة الكشحين ذات شوى(3) خدل

منعّمة الأطراف مفعمة البرى(4) *** روادفها تحكي الدّهاس(5) من الرمل

صيود لألباب الرجال، متى رنت(6) *** إلى ذي نهى جلد القوى وافر العقل

تخلّى النّهى عنه و حالفه الصّبا *** و أسلمه الرأي الأصيل إلى الجهل

/شبيبة(7) كثبان يروقك تحتها *** عنا قيد كرم جادها غدق الوبل

رمتني فحلّت نائطيّ(8) و لم تصب *** لها نائطي قلب و لا مقتلا نبلي

أنشد الرشيد شعرا له فأعجبه و أجازه:
اشارة

حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثت عن الأصمعيّ قال:

دخلت أنا و إسحاق الموصليّ يوما على الرشيد فرأيناه لقس(9) النّفس؛ فأنشده إسحاق يقول:

صوت

و آمرة بالبخل قلت لها اقصري *** فذلك شيء ما إليه سبيل(10)

أرى الناس خلاّن الكرام و لا أرى *** بخيلا له حتّى الممات خليل

و إني رأيت البخل يزري بأهله *** فأكرمت نفسي أن يقال بخيل

ص: 210


1- أقمر الهلال: صار قمرا.
2- العقدات: جمع عقدة (بفتح فكسر و بالتحريك لغة) و هي ما تراكم من الرمل و تعقد. و يبرين: من أصقاع البحرين، و هناك الرمل المعروف بالكثرة. و الظاهر أنه يريد أن يصف أعجازهن بالضخامة حتى كأنهن إذا نهضن ينهضن بكثبان يبرين. يشبه أعجازهن بالكثبان. و في الأصول: «بالعقرات» بالراء المهملة، و هو تحريف.
3- الشوى: الأطراف. و خدل (بالخاء المعجمة و الدال المهملة): ممتلئ ضخم، أي هي ممتلئة الذراعين و الساقين. و في الأصول: «جدل» بالجيم، و التصويب للأستاذ الشنقيطي في نسخته.
4- البري: جمع برة، و هي الحلقة سوارا كانت أو خلخالا أو قرطا. يصف ذراعيها و ساقيها بالامتلاء.
5- الدهاس (بالفتح): المكان اللين السهل الذي تغيب فيه القوائم للينه. أي إن روادفها ضخمة في لبن. و يقال: امرأة دهاس، أي عظيمة العجيزة.
6- في ح: «إذا رتت».
7- كذا في أكثر الأصول. و في أ، ء، م: «شنيبة» بالنون قبل الياء، و هو على كلتا الروايتين غير واضح.
8- النائط: العرق المستبطن الصلب تحت المتن.
9- كذا في ح. و لقست نفسه (من باب فرح): غثت و خبئت. و في سائر الأصول: «لقيس النفس»، و هو تحريف.
10- وردت هذه الأبيات في «أمالي القالي» (ج 1 ص 31 طبع دار الكتب المصرية) مع اختلاف في بعض الكلمات.

و من خير حالات الفتى لو علمته *** إذا نال خيرا أن يكون ينيل

فعالى فعال المكثرين تجمّلا *** و مالي كما قد تعلمين قليل

و كيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى *** و رأي أمير المؤمنين جميل

قال: فقال الرشيد: لا تخف إن شاء اللّه؛ ثم قال: للّه درّ أبيات تأتينا بها؛ ما أشدّ أصولها، و أحسن فصولها، و أقلّ فضولها! و أمر له بخمسين ألف درهم؛ فقال له إسحاق: وصفك و اللّه يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة! فضحك الرشيد و قال: اجعلوها لهذا القول مائة ألف درهم. قال الأصمعيّ: /فعلمت يومئذ أنّ إسحاق أحذق بصيد الدراهم/منّي. و أخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة عن حمّاد عن أبيه، و أخبرنا به يحيى بن عليّ عن أبيه عن إسحاق فذكر معنى الخبر قريبا مما ذكره الأصمعيّ و الألفاظ تختلف.

دخل على الفضل بن الربيع ابن ابنه فقال هو فيه شعرا سره، و قيل: بل قاله الفضل بن يحيى في ابنه:
اشارة

أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق، و أخبرني به جعفر بن قدامة و وكيع عن حمّاد عن أبيه قال:

كنت عند الفضل بن الرّبيع يوما، فدخل إليه ابن ابنه عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل و هو طفل، و كان يرقّ عليه لأن أباه مات في حياته، فأجلسه في حجره و ضمّه إليه و دمعت عليناه؛ فأنشأت أقول:

صوت

مدّ لك اللّه الحياة مدّا *** حتى يكون ابنك هذا جدّا

مؤزّرا بمجده مردّى(1) *** ثم يفدّى مثل ما تفدّى

أشبه منك سنّة و خدّا(2) *** و شيما مرضيّة و مجدا

كأنه أنت إذا تبدّى *** شمائلا محمودة و قدّا

قال: فتبسّم الفضل و قال: أمتعني اللّه بك يا أبا محمد، فقد عوّضت من الحزن سرورا و تسلّيت بقولك، و كذلك يكون إن شاء اللّه. قال جعفر بن قدامة: و حدّثني بهذا الحديث عليّ بن يحيى، فذكر أن إسحاق قال هذه الأبيات للفضل بن يحيى و قد دخل عليه و في حجره ابن له.

/غنّى في هذه الأبيات أبو عيسى بن المتوكّل لحنا من الرّمل، يقال: إنه صنعه و قد ولد للمعتمد ولد ثم غنّى به. و أخبرني ذكاء وجه الرزّة عن بدعة الكبيرة: أنّ الرمل لعريب، و أنّ لحن أبي عيسى خفيف رمل.

دخل على الفضل بن الربيع عائدا و قال فيه شعرا عمر الفضل به:

حدّثني عمّي قال حدّثني الفضل بن محمد اليزيديّ عن إسحاق قال:

أتيت الفضل بن الربيع يوما عائدا و جاءه بنو هاشم يعودونه؛ فقلت في مجلسي ذلك:

ص: 211


1- مؤزر: من الإزار. و مردّي: من الرداء.
2- كذا في ح و في سائر الأصول: «و جدّا» بالجيم، و هو تصحيف. و السنة: الوجه لصقالته و ملاسته، أو هي الجبهة و الجبينان.

إذا ما أبو العباس عيد و لم يعد *** رأيت معودا أكرم الناس عائدا

و جاء بنو العباس يبتدرونه *** مراضا لما يشكوه مثنى و واحدا

يفدّونه عند السلام و كلّهم *** مجلّ له يدعوه عمّا و والدا

قال: و كان الفضل مضطجعا، فأمر خادما له فأجلسه، ثم قال لي: أعد يا أبا محمد فأعدت، فأمرني فكتبتها، و سرّ بها و جعل يردّدها حتى حفظها.

غضب عليه الفضل بن الربيع مرة فاسترضاه بشعر:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال أخبرني أبي قال قال إسحاق، و أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن(1) مالك عن إسحاق قال:

جاءني الزّبير بن دحمان يوما مسلّما فاحتبسته؛ فقال لي: أمرني الفضل بن الربيع بالمسير إليه؛ فقلت له:

أقم يا أبا العوّام ويحك نشرب *** و نله مع اللاّهين يوما و نطرب

إذا ما رأيت اليوم قد جاء خيره *** فخذه بشكر و اترك الفضل يغضب

/فأقام عندي و سررنا يومنا؛ ثم صار إلى الفضل؛ فسأله عن سبب تأخّره عنه؛ فحدّثه الحديث و أنشده البيتين؛ فغضب و حوّل وجهه عنّي، و أمر عونا حاجبه بألاّ يدخلني إليه و لا يستأذن لي عليه و لا يوصل لي رقعة؛ فقلت:

/

حرام عليّ الكأس ما دمت غضبانا *** و ما لم يعد عنّي رضاك كما كانا

فأحسن فإنّي قد أسأت و لم تزل *** تعوّدني عند الإساءة إحسانا

قال: و أنشدته إيّاهما، فضحك و رضي عنّي و عاد إلى ما كان عليه. و قد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه، فذكر مثله و زاد فيه: فقلت في عون حاجبه:

عون يا عون ليس مثلك عون *** أنت لي عدّة إذا كان كون

لك عندي و اللّه إن رضى الفض *** ل غلام يرضيك أو برذون

قال: فأتى عون الفضل بالشّعرين جميعا؛ فقرأهما و ضحك و قال: ويحك! إنما عرض لك بقوله: «غلام يرضيك» بالسّوأة؛ قال: قد وعدني ما سمعت، فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم!؛ فأمره أن يرسل إليّ؛ فأتاني رسوله فصرت إليه فرضي عنّي.

أخبرني جحظة قال حدّثني محمد بن أحمد بن يحيى المكّيّ المرتجل قال حدّثني أبي قال حدّثني الزّبير بن دحمان قال:

دخلت يوما على الفضل بن الرّبيع مسلّما؛ فقال لي: قد عزمت غدا على الصّبوح، فصر إليّ بكرة؛ فكنت أنا و الصبح كفرسي رهان؛ فلما أصبحت في غد جعلت طريقي على إسحاق بن إبراهيم فدخلت إليه، فلما جلست قال لي: أقم اليوم عندي؛ فعرّفته خبري؛ فقال:

ص: 212


1- كذا في ح، و قد ورد كذلك في الأصول في غير هذا الموضع غير مرة. و في سائر الأصول هنا: «ابن أبي مالك»، و هو خطأ.

/

أقم يا أبا العوّام ويحك نشرب *** و نله مع اللاّهين يوما و نطرب

إذا ما رأيت اليوم قد جاء خيره *** فخذه بشكر و اترك الفضل يغضب

فقلت: إني لا آمن غضبه، و أنا بين يديك؛ فقال لي: أنت تعلم أن صبوح الفضل أبدا في وقت غبوق الناس، فأقم و ارفق بنفسك ثم امض إليه؛ فأجبته إلى ذلك؛ فلمّا شربنا طاب لي الموضع، فأقمت حتى سكرت. و ذكر باقي الخبر نحوا مما ذكر إسحاق. انتهى.

كان المغنون يجتهدون و يطمعون في غلبة فإذا غنى هو بذهم:

حدّثني جحظة قال حدّثني محمد بن المكّيّ المرتجل قال: قلت لزرزور الكبير: كيف كان إسحاق ينفق(1)على الخلفاء معكم و أنت و إبراهيم بن المهديّ و مخارق أطيب أصواتا و أحسن نغمة؟ قال: كنّا و اللّه يا بنيّ نحضر معه فنجتهد في الغناء و نقيم الوهج(2) فيه و يقبل علينا الخلفاء، حتى نطمع فيه و نظنّ أنا قد غلبناه، فإذا غنّى عمل في غنائه أشياء من مداراته(3) و حذقه و لطفه حتى يسقطنا كلّنا و يقبل عليه الخليفة دوننا و يجيزه دوننا و يصغى إليه، و نرى أنفسنا اضطرارا دونه.

هو أوّل من أحدث التخنيث في الغناء ليوافق صوته:

حدّثنا جحظة قال حدّثني محمد بن أحمد المكّيّ قال حدّثني أبي قال: كان المغنّون يجتمعون مع إسحاق و كلّهم أحسن صوتا منه، و لم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه؛ فلا يزال بلطفه و حذقه و معرفته حتى يغلبهم و يبذّهم(4) جميعا و يفضلهم و يتقدّمهم. قال: و هو أوّل من أحدث التخنيث ليوافق صوته و يشاكله، /فجاء معه عجبا من العجب؛ و كان في حلقه نبوّ عن الوتر. أخبرني يحيى بن عليّ قال أخبرنا أبو العبيس(5) بن حمدون: أنّ إسحاق أوّل من جاء بالتخنيث في الغناء و لم يكن يعرف، و إنما احتال بحذقه لمنافرة حلقه الوتر، حتى صار يجيبه ببعض التخنيث فيكون أحسن له في السمع.

كان المغنون يتهاونون في غيبته فإذا حضر جدّوا:

أخبرنا جحظة قال حدّثني الهشاميّ عن أبيه قال:

كان المغنّون إذا حضروا/و ليس إسحاق معهم غنّوا هوينى و هم غير مفكرين؛ فإذا حضر إسحاق لم يكن إلاّ الجدّ.

قصته مع جعفر بن يحيى و نافذ حاجبه:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال:

ص: 213


1- نفق الشيء: راج و رغب فيه. و لعله هنا مضمن معنى «يغلب» لكي تصح تعديته ب «على».
2- كذا في أكثر الأصول. و الوهج: التوقد، و لعله هنا كناية عن اضطرام الأمر و حدته فيما هم فيه من شأن الغناء. و في ح: «الرهج» بالراء، و هو الغبار أو ما أثير منه.
3- داريت الظبي مداراة: احتلت له و ختلته حتى أصيده. و لعله يريد أن إسحاق يحتال للأنغام حتى يؤلف بينها و يأتي في ذلك بما يعجز عنه غيره.
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و ينبذهم».
5- في ب، س، ح: «أبو العنبس» بالنون و الباء الموحدة. (انظر الحاشية رقم 4 ص 96 ج 1 «أغاني» من هذه الطبعة).

قال لي أبي و قد انصرف من دار الرشيد: رأيت الأمير جعفر بن يحيى يستبطئك و يقول: لست أراه و لا يغشاني؛ فقلت: إني لآتيه كثيرا فأحجب عنه و يصرفني نافذ حاجبه و يقول: هو على شغل؛ قال: فبلّغه أبي ذلك؛ فقال له: قل له: أنكه أمّه إذا فعل؛ فأقمت أيّاما ثم كتبت إليه:

جعلت فداءك من كل سوء *** إلى حسن رأيك أشكو أناسا

يحولون بيني و بين السلام *** فلست أسلّم إلاّ اختلاسا

و أنفذت أمرك في نافذ *** فما زاده ذاك إلاّ شماسا(1)

و قد أخبرني الخبر محمد بن مزيد عن حمّاد عن أبيه، فذكر مثله و قال: كان خادم يحجبه يقال له: نافذ، فقال: إذا حجبك فنكه؛ فلما كتبت إليه بهذه الأبيات بعث فأحضرني؛ فلما دخلت إليه أحضر نافذا و قرأ الأبيات عليه، و قال لي: أ فعلتها/يا عدوّ اللّه! فغضب نافذ حتى كاد يبكي، و جعل جعفر يضحك و يصفّق؛ ثم ما عاد بعد ذلك يتعرّض لي.

غضب المأمون عليه و شك أبي الفرج في ذلك:

حدّثني الحسين(2) بن أبي طالب قال حدّثني عبيد اللّه بن المأمون، و أخبرنا اليزيديّ عن عمّه عبيد اللّه عن أبيه قال:

غضب المأمون على إسحاق بن إبراهيم، ثم كلّم فيه فرضي عنه و دعا به؛ فلمّا وقف بين يديه اعتذر و قبّل الأرض بين يديه و استقاله(3)؛ فأجابه المأمون جوابا جميلا، ثم قال له في أثناء كلامه:

فلا أنت أعتبت من زلّة *** و لا أنت بالغت في المعذرة

و لا أنت ولّيتني أمرها *** فأغفر ذنبك عن مقدره

هكذا في الخبر؛ و أظنّه إسحاق بن إبراهيم الطاهريّ لا الموصليّ.

أنشد أبا الأشعث الأعرابيّ شعرا له فأعجب به:

أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الحسين بن أبي طالب قال حدّثني إسحاق قال:

أنشدت أبا الأشعث الأعرابيّ شعرا لي، فقال: و الذي أصوم له مخافته و رجاءه، إنك لمن طراز ما رأيت بالعراق شيئا منه، و لو كان شباب يشترى لاشتريته لك و لو بإحدى يديّ، و إنّ في كبرك لما زان الجليس و سرّه.

حديث له مع زهراء الكلابية:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الدّيناريّ قال حدّثنا إسحاق قال:

قالت لي زهراء الكلابيّة: ما فعل عبد اللّه بن خرداذبه؟ فقلت: مات؛ فقالت: غير ذميم و لا لئيم، غفر اللّه لصداه(4)، لقد كان يحبّك و يعجبه ما سرّك. قال: فقلت لزهراء: حدّثيني عن قول الشاعر:

ص: 214


1- شماسا: عنادا.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «الحسن». (راجع الحاشية رقم 2 ص 319 من هذا الجزء).
3- استقاله: طلب منه أن يقيله.
4- الصدى: جسد الإنسان بعد موته.

/

أحبّك أن أخبرت أنّك فارك(1)*** لزوجك إني مولع بالفوارك

ما أعجبه من بغضها لزوجها؟ فقالت: عرّفته أنّ في نفسها فضلة من جمال و شمخا بأنفها و أبّهة، فأعجبته.

غنى المعتصم و هو لقس النفس فأطربه فأجازه:
اشارة

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثت عن غير واحد:

أنّ إسحاق الموصليّ دخل على المعتصم يوما من الأيّام فرآه لقس(2) النّفس، فقال له: أما ترى يا أمير المؤمنين طيب هذا اليوم و حسنه!؛ فقال المعتصم: ما يدعوني حسنه إلى شيء مما تريد و لا أنشط له؛ فقال:

يا أمير المؤمنين، إنه يوم أكل و شرب؛ فاشرب حتى أنشّطك؛ قال: أو تفعل؟ قال: نعم؛ قال: يا غلمان، قدّموا الطعام و الشراب/و مدّوا الستارة، و أحضروا الندماء و المغنّين؛ فأتي بالطعام فأكل و بالشراب فشرب و حضر الندماء و المغنّون؛ فغنّاه إسحاق:

صوت

سقيت الغيث يا قصر السلام *** فنعم محلّة الملك الهمام

لقد نشر الإله عليك نورا *** و خصّك بالسّلامة و السلام

- الشعر و الغناء لإبراهيم الموصليّ رمل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر حبش أنّ فيه للزّبير بن دحمان لحنا من الرّمل بالوسطى - قال: فطرب المعتصم و شرب شربا كثيرا، و لم يبق أحد بحضرته إلاّ وصله و خلع عليه و حمله؛ و فضّل إسحاق في ذلك أجمع.

أول جائزة نالها من الرشيد ألف دينار:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا ابن أبي سعد قال حدّثنا عليّ بن الصبّاح عن إسحاق قال:

أوّل جائزة أخذتها من الرشيد ألف دينار في أوّل يوم دخلت إليه فغنّيته:

علق القلب بزوعا(3)

فاستحسنه و استعاده ثلاث مرّات و شرب عليه ثلاثة أرطال و أمر لي بألف دينار؛ فكان أوّل جائزة أجازنيها.

أبي القدح من يد غلام قبيح الوجه و قال شعرا فجيء له بوصيفة:

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال:

كان أبي ذات يوم عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما جلسوا للشراب جعل الغلمان يسقون من حضر، و جاء غلام قبيح الوجه إلى أبي بقدح نبيذ فلم يأخذه؛ و رآه إسحاق فقال له: لم لا تشرب؟ فكتب إليه أبي:

ص: 215


1- الفارك من النساء: التي تبغض زوجها.
2- في ب، س: «لقيس النفس» بالياء بعد القاف، و هو تحريف.
3- زوع: من أسماء النساء.

اصبح نديمك أقداحا يسلسلها *** من الشّمول(1) و أتبعها بأقداح

من كفّ ريم مليح الدّلّ ريقته *** بعد الهجوع كمسك أو كتفّاح

لا أشرب الرّاح إلا من يدي رشأ *** تقبيل راحته أشهى من الرّاح

فضحك و قال: صدقت و اللّه، ثم دعا بوصيفة كأنها صورة، تامّة الحسن لطيفة الخصر في زيّ غلام عليها أقبية(2) و منطقة، فقال لها: تولّى سقي أبي محمد؛ فما زالت تسقيه حتى سكر؛ ثم أمر بتوجيهها و كلّ ما لها في داره إليه، فحملت معه.

كانت بينه و بين زهراء الكلابية مودة فكتبت إليه شعرا فرد عليها:

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عليّ بن الصّبّاح قال:

/كانت امرأة من بني كلاب يقال لها زهراء تحدّث إسحاق و تناشده، و كانت تميل إليه، و تكني عنه في عشيرتها إذا ذكرته بجمل؛ قال: فحدّثني إسحاق أنها كتبت إليه و قد غابت عنه تقول:

وجدي بجمل على أنّي أحمجمه(3) *** وجد السّقيم ببرء بعد إدناف

أو وجد ثكلى أصاب الموت واحدها *** أو وجد مغترب من بين ألاّف

قال: فأجبتها:

أقر السلام على الزّهراء إذ شحطت *** و قل لها قد أذقت القلب ما خافا

أ ما رثيت لمن خلّفت مكتئبا *** يذري مدامعه سحّا و توكافا(4)

فما وجدت على إلف أفارقه *** وجدي عليك و قد فارقت ألاّفا

أنشد محمد بن عبد اللّه بن مالك شعرا فسأله عن قصته فلم يخبره:

أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال/أنشدني إسحاق لنفسه:

سقى اللّه يوم الماوشان(5) و مجلسا *** به كان أحلى عندنا من جنى النّحل

غداة اجتنينا اللّهو غضّا و لم نبل(6) *** حجاب أبي نصر و لا غضبة الفضل

ص: 216


1- الشمول: الخمر.
2- الأقبية: (جمع قباء بالفتح) و هو ثوب يلبس فوق الثياب، و قيل: ثوب يلبس فوق القميص و يتمنطق عليه.
3- أجمجمه: أكتمه و أخفيه.
4- يقال: وكف الدمع توكافا، إذا سال و قطر قليلا قليلا.
5- كذا في ح و «معجم البلدان» لياقوت، و هو ناحية و قرى، في واد في سفح جبل أروند من همذان، و هو موضع نزه فرح. و في سائر الأصول «الماوسان» بالسين المهملة، و هو تصحيف.
6- لم نبل: أصله نبالي، حذف حرف العلة للجازم ثم سكنت اللام للتخفيف، كما حذفت النون في «لم نك» بعد تسكينها، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين.

غدونا صحاحا ثم رحنا كأنّنا *** أطاف بنا شرّ شديد من الخبل

فسألته أن يكتبها ففعل؛ فقلت له: ما حديث الماوشان؟ فضحك و قال: لو لم أكتبك الأبيات لما سألت عما لا يعنيك؛ و لم يخبرني.

كان ابن الأعرابي يعجب به و يستحسن شعرا له:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني أحمد بن الحارث و أبو مسلم عن ابن الأعرابيّ:

أنه كان يصف إسحاق الموصليّ و يقرّظه و يثني عليه و يذكر أدبه و حفظه و علمه و صدقه، و يستحسن قوله:

صوت

هل إلى أن تنام عيني سبيل *** إنّ عهدي بالنوم عهد طويل

غاب عنّي من لا أسمّي فعيني *** كلّ يوم وجدا عليه تسيل

- الشعر و الغناء لإسحاق رمل بالوسطى - قال: و كان إسحاق إذا غنّاه تفيض دموعه على لحيته و يبكي أحرّ بكاء. و أخبرنا به يحيى بن عليّ عن أبيه عن إسحاق. و حديث موسى عن حمّاد أتمّ، و اللفظ له.

أوّل صوت و آخر صوت صنعه:

أخبرني الصّوليّ و الحسن بن عليّ قالا حدّثنا محمد بن موسى عن حمّاد بن إسحاق قال:

أوّل صوت صنعه أبي:

إني لأكني بأجبال عن اجبلها *** و باسم أودية عن اسم واديها

و آخر صوت صنعة مختارا:

قف نحيّ المغانيا *** و الطّلول البواليا

ثم قطع الصنعة حتى أمره الواثق بأن يعارض صنعته في:

لقد بخلت حتى لو أنّي سألتها

اتهمه المغنون بانتحال غناء أبيه بعد وفاته فامتحنه الرشيد ثم أذعنوا:

قال حمّاد و حدّثني أبي قال:

كان المغنّون يحسدونني مذ كنت غلاما، فلمّا مات أبي صنعت هذا الصوت، فهو أوّل صوت صنعته بعد وفاته، و هو:

/

أ من آل ليلى عرفت الطّلولا *** بذي حرض ماثلات مثولا(1)

فقالوا للرشيد: هذا من صنعة أبيه فقد انتحله؛ فقال لي الرشيد في ذلك؛ فقلت: هذا و مائة بعده خير منه لهم؛ فقال: اصنع في شعر الأخطل:

ص: 217


1- انظر الحاشية رقم 2 ص 290 من هذا الجزء.

أ عاذلتيّ اليوم ويحكما مهلا *** و كفّا الأذى عنّي و لا تكثرا العذلا

فصنعت فيه كما أمرني؛ فلمّا سمعوا بذلك و ما جاء بعده أذعنوا، و زال عن قلب الرشيد ما كان ظنّه بي. و قد ذكر غير حمّاد أنّ اللحن الذي اختبره به الرشيد قوله:

كنت صبّا و قلبي اليوم سال *** عن حبيب يسيء في كل حال

و ذكر أنّ الفضل بن الرّبيع قال الشعر في ذلك الوقت و دفعه إليه و أمره الرشيد أن يصنع فيه ففعل. و أخبرني بذلك محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق، و أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد قال:

أوّل ما سمعه الرشيد من/غناء أبي:

أ لم تسأل فتخبرك المغاني *** و كيف و هنّ مذ حجج ثماني

برئت من المنازل غير شوق *** إلى الدار التي بلوي أبان

ديار للّتي لجلجت فيها *** و لو أعربت لجّ بها لساني

فكاد يظلّ للعينين غرب *** بربعي دمنة لا ينطقان

قال: فحدّثني أبي أن المغنّين قالوا للرشيد: هذا من صنعة أبيه انتحله بعد وفاته؛ فقلت له: أنا أدع لهم هذا و مائة صوت بعده؛ ثم نظروا إلى ما جاء بعد ذلك فأذعنوا.

نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء
صوت

قف نحيّ المغانيا *** و الطّلول البواليا

و على أهلها فنح *** و ابك إن كنت باكيا

الشعر لابن ياسين. و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل بالوسطى.

صوت

أ من آل ليلى عرفت الطّلولا *** بذي حرض ماثلات مثولا

بلين و تحسب آياتهنّ *** عن فرط حولين رقّا محيلا

الشعر لكعب(1) بن زهير. و الغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر.

صوت

أ عاذلتيّ اليوم ويحكما مهلا *** و كفّا الأذى عنّي و لا تكثرا العذلا

دعاني تجدّ كفّي بمالي فإنني *** سأصبح لا أسطيع جودا و لا بخلا

ص: 218


1- انظر الحاشية رقم 4 ص 290 من هذا الجزء.

إذا وضعوا فوق الصّفيح(1) جنادلا *** عليّ و خلّفت المطيّة و الرّحلا

فلا أنا مجتاز إذا ما نزلته *** و لا أنا لاق ما ثويت به أهلا

الشعر للأخطل، و الغناء لإسحاق، ثقيل أوّل بالوسطى.

صوت

إنّي لأكني بأجبال عن اجبلها *** و باسم أودية عن اسم واديها

عمدا ليحسبها الواشون غانية *** أخرى و تحسب(2) أنّي لا أباليها

/و لا يغيّر ودّي أن أهاجرها *** و لا فراق نوى في الدار أنويها

و للقلوص و لي منها إذا بعدت *** بوارح الشّوق تنضيني و أنضيها

الشعر لأعرابيّ، و الغناء لإسحاق هزج بالبنصر.

حديثه مع الواثق بشأن الأهزاج من الأغاني:

حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن حمدون قال:

قال إسحاق للواثق يوما: الأهزاج من أملح الغناء؛ فقال الواثق: أمّا إذا كانت مثل صوتك:

إنّي لأكنى بأجبال عن اجبلها *** و باسم أودية عن اسم واديها

فهي كذلك.

غنى لطلحة بن طاهر مرارا و أخذ جوائزه:

قال أحمد بن أبي طاهر حدّثني أحمد بن يحيى الرازيّ عن محمد بن المثنّى عن الحجّاج بن قتيبة بن مسلم قال:

قال إسحاق: بعث إليّ طلحة بن طاهر و قد انصرف من وقعة/للشّراة(3) و قد أصابته ضربة في وجهه؛ فقال لي الغلام: أجب؛ فقلت: و ما يعمل؟ قال: يشرب؛ فمضيت إليه فإذا هو جالس قد عصب ضربته و تقلنس بقلنسوة؛ فقلت له: سبحان اللّه أيها الأمير! ما حملك على لبس هذا؟ قال: التبرّم بغيره، ثم قال: غنّ:

إنّي لأكنى بأجبال عن اجبلها

قال: فغنّيته إياه، فقال: أحسنت و اللّه! أعد! فأعدت و هو يشرب حتى صلّى العتمة و أنا أغنّيه؛ فأقبل على خادم له بالحضرة و قال له: كم عندك؟ قال: مقدار سبعين ألف درهم؛ قال: تحمل معه. فلمّا خرجت من عنده تبعني جماعة من الغلمان يسألوني، فوزّعت المال بينهم؛ فرفع الخبر إليه فأغضبه و لم يوجّه إليّ ثلاثا؛ فجلست ليلا و تناولت الدّواة و القرطاس فقلت:

ص: 219


1- الصفيح: حجارة رقيقة عريضة يسقف بها القبر.
2- المعنى على نصب الفعل واضح، و هو أنه يريد أن يعمي عليها كما عمي على الواشين فيجعلها تحسب أنه لا يباليها. و لا يبعد أن يرفع الفعل على أن يكون المعنى أنه يتسبها إلى الخطأ في هذا الظن و ينكره عليها.
3- الشراة: الخوارج.

/

علّمني جودك السّماح فما *** أبقيت شيئا لديّ من صلتك

لم أبق شيئا إلاّ سمحت به *** كأنّ لي قدرة كمقدرتك

تتلف في اليوم بالهبات و في *** الساعة ما تجتنيه في سنتك

فلست أدري من أين تنفق لو *** لا أنّ ربّي يجزى على صلتك

فلما كان في اليوم الرابع بعث إليّ، فصرت إليه و دخلت عليه فسلّمت؛ فرفع بصره إليّ و قال: اسقوه رطلا فسقيته، و أمر لي بآخر و آخر فشربت ثلاثا؛ ثم قال لي: غنّ:

إني لأكنى بأجبال عن اجبلها

فغنّيته ثم أتبعته بالأبيات التي قلتها، و قد كنت غنّيت فيها لحنا في طريقة الصوت؛ فقال: ادن فدنوت، و قال:

اجلس فجلست، فاستعاد الصوت الذي صنعته فأعدته. فلما فهمه و عرف معنى الشعر قال لخادم له: أحضرني فلانا فأحضره؛ فقال: كم قبلك من مال الضّياع؟ قال: ثمانمائة ألف درهم؛ فقال: احضر بها الساعة؛ فجيء بثمانين بدرة؛ فقال للخادم: جئني بثمانين غلاما مملوكا، فأحضروا؛ فقال: احملوا هذا المال؛ ثم قال: يا أبا محمد، خذ المال و المماليك حتى لا تحتاج أن تعطي لأحد منهم شيئا.

مهاجاته محمد بن راشد و ما كان بينهما:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الحسين بن محمد بن طالب قال:

كان إسحاق بن إبراهيم الموصليّ كثير الغشيان لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب و الحضور لسمرة، و كان إسحاق بن إبراهيم يرى ذلك له و يسني جوائزه و يواتر(1) صلاته و يشاوره في بعض أموره و يسمع منه؛ فأصيب إسحاق ببصره قبل موته بسنتين، /فترك زيارة إسحاق و غيره ممن كان يغشاهم و لزم بيته. و خرج إسحاق يوما إلى بستان له بباب قطربّل و خرج معه ندماؤه و فيهم موسى بن صالح بن شيخ(2) بن عميرة و محمد بن راشد الخنّاق و الحرّاني؛ فجرى ذكر إسحاق الموصليّ، فتوجّع له إسحاق و ذكر أنسه(3) به و تمنّى حضوره، و ذكر [ه] القوم فأطنبوا في نشر محاسنه و شيّعوا ما ذكره به إسحاق بما حسن موقعه لهم عنده؛ و ذكره محمد بن راشد ذكرا لم يحمده أصحابه عليه، و زجره إسحاق، فأمسك عنه؛ فلما انصرفوا من مجلسهم نمي إلى إسحاق الموصليّ ما كان فيه القوم في يومهم و ما جرى من ذكره؛ فكتب إلى موسى بن صالح:

/

ألا قل لموسى الخير موسى بن صالح *** و من هو دون الخلق إلفي و خلصاني(4)

و من لو سألت الناس عنه لأجمعوا *** على أنّه أفتى(5) معدّ و قحطان

ص: 220


1- يواتر: يتابع.
2- كذا في ء. و في ح، م: «شيخ عميرة». و في أ، ب، س: «سنح بن عميرة» بالسين و النون و الحاء المهملة، و كلاهما تحريف. (راجع الطبري في اسمي موسى بن صالح بن شيخ و عميرة أبي شيخ بن عميرة الأسدي قسم 3 ص 1641، 935).
3- في جميع الأصول: «و ذكر أنسه كان به». و ظاهر أن كلمة «كان» هنا مقحمة.
4- الخلصان: الخالص من الأخدان، يستوي فيه الواحد و الجمع، يقال: هم خلصاني، و هو خلصاني.
5- أفتى: أفعل تفضيل من الفتوّة و هي الكرم و المروءة.

لعمري لئن كان الأمير تمنّاني *** بمجلس لذّات و نزهة بستان

لقد زادني ما كان منه صبابة *** و جدّد لي شوقا إليه و أبكاني

و ما زال ممتنّا عليّ يخصّني *** بما لست أحصي من أياد و إحسان

هو السيّد القرم الذي ما يرى له *** من النّاس إن حصّلته أبدا ثاني

نمته روابي مصعب و بنى له *** كريم المساعي في أرومته باني

يعزّ عليّ أن تفوزوا بقربه *** و لست إليه بالقريب و لا الدّاني

فيا ليت شعري هل أروحنّ مرّة *** إليه فيلقاني كما كان يلقاني

/و هل أرين يوما غضارة ملكه *** و سلطانه لا زال في عزّ سلطان

و هل أسمعن ذاك المزاح الذي به *** إذا جئته سلّيت همّي و أحزاني

إذا قال لي «يا مرد مي خر» و كرّها *** عليّ و كنّاني مزاحا(1) بصفوان

(هذا كلام بالفارسية تفسيره: يا رجل اشرب النبيذ):

فيا لك من ملهى أنيق و مجلس *** كريم و من مزح كثير بألوان

و هل يغمزن بي ذو الهنات ابن راشد *** و ذاك الكريم الجدّ من آل حرّان

و هل أرين موسى الكريم ابن صالح *** ينازعني صوتا إذا هو غنّاني

(يريد الغناء في:

فلم أر كالتّجمير منظر ناظر *** و لا كليالي النّفر أفتنّ ذا هوى)

إذا صاح بالتجمير ثم أعاده *** بتحقيق إعراب صحيح و تبيان

أولئك إخواني الذين أحبّهم *** و أوثرهم بالودّ من بين إخواني

و ما منهم إلاّ كريم مهذّب *** حبيب إلى إخوانه غير خوّان

فأجابه محمد بن راشد:

بعثت بشعر فيه أنّ رسالة *** أتتك لموسى عن جماعة إخوان

بشوق و ذكر للجميل و لم يكن *** لموسى لعمري في سلامته ثاني

و لكن نطقنا بالذي أنت أهله *** و ما تستحقّ من صديق و ندمان

و موسى كريم لم يحط بك خبره(2) *** كخبر ندامى قد بلوك و إخوان

و لو قد بلاك قال فيك كقول من *** فسدت عليه من خليل و خلصان

ص: 221


1- في ح: «مرارا».
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «خبرة».

و لم يعره شوق إليك و لم يجد *** لفقدك مسّا عند نزهة بستان

/حمدت النّدامى كلّهم غير إنسان(1) *** ألا إنما يجني على نفسه الجاني

فلا(2) تعتب الإخوان من بعدها فما *** تنقّص إخوان المودّة من شاني

قال: فأجابه إسحاق:

عجبت لمخذول تعرّض جانيا(3) *** لليث أبي شبلين من أسد خفّان(4)

/أتانا بشعر قاله مثل وجهه *** تزخرف فيه و استعان بأعوان

فجاء بألفاظ ضعاف سخيفة *** و مضّغها تمضيغ أهوج سكران

دعوا الشعر للشيخ الذي تعرفونه *** و إلاّ وسمتم أو رميتم بشهبان

فإنكم و الشعر إذ تدّعونه *** كمعتسف في ظلمة الليل حيران

صه لا تعودوا للجواب فإنما *** ترومون صعبا من شماريخ(5) ثهلان

أنا الأسد الورد(6) الذي لا يفلّه *** تظاهر أعداء عليه و أقران

و من قد أردتم جاهدين سقاطه *** فأعياكم في كلّ سرّ و إعلان

لعمري لئن قلتم بما أنا أهله *** ليستنفدنّ(7) القول تعظيمكم شاني

و جحدكم إياي ما تعلمونه *** و إقراركم عندي بذلك سيّان

ألا يزجر الجهّان عنّا أميرنا *** و موسى و ذاك الشيخ من آل حرّان

و لا سيّما من بان للناس شرّه *** فما يتمارى في مذاهبه اثنان

ذكر في مجلس محمد بن عمر الجرجاني فأثنى عليه:

حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل قرقارة قال:

/قال لي محمد بن عمر الجرجانيّ و قد تذاكرنا إسحاق يوما بحضرته: ما تذكرون من إسحاق شيئا تقاربون به وصفه. كان و اللّه إسحاق غرّة في زمانه، و واحدا في دهره علما و فقها و أدبا و وقارا و وفاء و جودة رأي و صحّة مودّة.

كان و اللّه يخرس الناطق إذا نطق، و يحيّر السامع إذا تحدّث، لا يملّ جليسه مجلسه، و لا تمجّ الآذان حديثه، و لا تنبو النفوس عن مطاولته. إن حدّثك ألهاك، و إن ناظرك أفادك، و إن غنّاك أطربك. و ما كنت ترى خصلة من الأدب و لا جنسا من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مساجلته و مباراته.

ص: 222


1- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س. «أنسه».
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فما».
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «جانبا» بالباء الموحدة، و هو تصحيف.
4- خفان (بفتح أوله و تشديد ثانيه): موضع قرب الكوفة يسلكه الحاج أحيانا و هو مأسدة.
5- الشماريخ: رءوس الجبال و أعاليها. و ثهلان: جبل باليمن، و قيل: بالعالية.
6- الورد: الجريء.
7- كذا في ح. و في سائر الأصول: «لا يستبعدن القول»، و هو تحريف.
أمره المأمون أن يغني في شعر رآه مكتوبا في بساط فأعجبه:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثني أحمد بن يحيى المكيّ قال:

أمر المأمون يوما بالفرش الصّيفيّ أن يخرج؛ فأخرج فيما أخرج منه بساط طبريّ أو أصبهبذانيّ(1)، مكتوب في حواشيه:

صوت

لجّ بالعين واكف *** من هوى لا يساعف

كلّما جفّ دمعه *** هيّجته المعازف

إنما الموت أن تفا *** رق من أنت آلف

لك حبّان في الفؤا *** د تليد و طارف

قال: فاستحسن المأمون هذه الأبيات، و بعث إلى إسحاق فأحضره و أمره أن يصنع فيها لحنا و يعجّل به؛ فصنع فيها الهزج الذي يغنّى به اليوم. قال أحمد: /و سمعها أبي منه(2) فقال: لو كان هذا الهزج لحكم الوادي لكان قد أحسن. يريد أنّ حكما كان صاحب الأهزاج.

أعجب يحيى المكي بصنعة له و مدحه و كذلك الواثق:
اشارة

أخبرني الحسن قال حدّثني يزيد بن محمد قال حدّثني ابن المكيّ قال:

تذاكرنا يوما عند أبي صنعة إسحاق، و قد كنّا بالأمس عند المأمون فغنّاه إسحاق لحنا صنعه في شعر ابن ياسين:

صوت

/

الطّلول الدّوارس *** فارقتها الأوانس

أوحشت بعد أهلها *** فهي قفر بسابس(3)

- الغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر - قال: فقال أبي: لو لم يكن من بدائع إسحاق غير هذا لكفى، «الطلول الدوارس» كلمتان، و «فارقتها الأوانس» كلمتان، و قد غنّى فيهما استهلالا و بسيطا و صاح و سجح و رجّع النغمة و استوفى ذلك كلّه في أربع كلمات و أتى بالباقي مثله؛ فمن شاء فليفعل مثل هذا أو ليقاربه. ثم قال: إسحاق(4) و اللّه في زماننا فوق ابن سريج و الغريض و معبد، و لو عاشوا حتى يروه لعرفوا فضله و اعترفوا له به. و أخبرني عمّي عن يزيد بن محمد المهلّبيّ: أنه كان عند الواثق فغنّته شجا هذا الصوت؛ فقال الواثق مثل هذا القول. و المذكور أنّ ابن

ص: 223


1- أصبهبذان: مدينة في بلاد الديلم، بينها و بين البحر ميلان.
2- في ح: «معه».
3- البسابس: جمع بسبس و هو القفر.
4- في الأصول: «ثم قال: إسحاق و اللّه ما في... إلخ» بزيادة «ما». و لعلها مقحمة من الناسخ.

المكيّ قاله؛ فلا أدري أ هذا و هم من يزيد، أو اتّفق أن قال فيه الواثق كما قال يحيى، أو اتّفقت عليه قريحتاهما.

أعجب هو و الزبير بن دحمان بغناء خباز فلامه الزبير على ضنه بغنائه و الخباز يبتذله:
اشارة

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي عن إسحاق قال:

/أرسل إليّ الفضل بن الرّبيع يوما و إلى الزّبير بن دحمان، فوافق مجيئنا شغلا كان له، فصرنا إلى بعض حجره، فنعست فنمت فإذا زبير يحرّكني فانتبهت فإذا خبّاز في مطبخ الفضل يضرب بالشّوبق(1) يغنّي:

صوت

بدير(2) القائم الأقصى *** غزال شفّني أحوى

برى حبّي له جسمي *** و ما يدري بما ألقى

و أخفي حبّه جهدي *** و لا و اللّه ما يخفى

- الشعر و الغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر - قال: فقال لي الزّبير: تضنّ بهذا و انظر من يبتذله!؛ فقلت: لا أضنّ بغناء بعد هذا.

غنى للمأمون بأصوات له فأعجب بها فلما غناها هو لم يستحسنها منه، و حواره للمغنين:
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثني أحمد بن الطيّب السّرخسيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أحمد بن معاوية بن بكر قال قال لي صالح بن الرشيد:

كنّا أمس عند أمير المؤمنين المأمون و عنده جماعة من المغنّين، فيهم إسحاق و علّويه و مخارق و عمرو بن بانة؛ فغنّى مخارق في الثقيل الأوّل:

صوت

أعاذل لا آلوك إلاّ خليقتي *** فلا تجعلي فوقي لسانك مبردا

ذريني أكن للمال ربّا و لا يكن *** لي المال ربّا تحمدي غبّه غدا

/ذريني يكن مالي لعرضي وقاية *** يقي(3) المال عرضي قبل أن يتبدّدا

أ لم تعلمي أنّي إذا الضيف نابني *** و عزّ القرى أقري السّديف(4) المسرهدا

فقال له المأمون: لمن هذا اللحن؟ قال: لهذا الهزبر الجالس (يعني إسحاق)؛ فقال المأمون لمخارق: قم فاقعد بين يديّ و أعد الصوت؛ فقام فجلس بين يديه و أعاده فأجاده، و شرب المأمون عليه رطلا؛ ثم التفت إلى إسحاق فقال له: غنّ هذا الصوت؛ فغنّاه فلم يستحسنه كما استحسنه من مخارق؛ ثم دار الدور إلى علّويه، فقال له: غنّ فغنّى في الثقيل الأوّل أيضا:

ص: 224


1- الشوبق: خشبة الخباز، و المشهور «الشوبك» بالكاف و فتح الشين.
2- دير القائم الأقصى: موضع على شاطئ الفرات من الجانب الغربي في طريق الرقة من بغداد.
3- في ب: «يفي» بالفاء. و في س: «بقي» بالباء و القاف، و كلاهما تصحيف.
4- السديف: السنام و قيل: شحمه. و المسرهد: المقطع أو السمين.
صوت

أريت اليوم نارك لم أغمّض *** بواقصة(1) و مشربنا برود(2)

فلم أر مثل موقدها و لكن *** لأيّة نظرة زهر(3) الوقود

فبتّ بليلة لا نوم فيها *** أكابدها و أصحابي رقود

كأن نجومها ربطت بصخر *** و أمراس(4) تدور و تستزيد(5)

فقال له المأمون: لمن هذا الصوت؟ فقال: لهذا الجالس - و أشار إلى إسحاق - فقال لعلّويه: أعده فأعاده، فشرب عليه رطلا؛ ثم قال لإسحاق. غنّه فغنّاه، فلم/يطرب له طربه لعلّويه. فالتفت إليّ إسحاق ثم قال لي: أيها الأمير، لو لا أنه مجلس سرور و ليس مجلس لجاج و جدال لأعلمته أنه طرب على خطأ، و أنّ الذي استحسنه إنما هو تزايد(6) منهما يفسد قسمة اللحن و تجزئته، و أنّ الصوت ما غنّيته لا ما زادا(7). ثم أقبل عليهما فقال: يا مخنّثان(8)، قد علمت أنكما لم تريدا بما فعلتماه مدحي و لا رفعتي، و أنا على مكافأتكما قادر؛ فضحك المأمون و قال له: ما كان ما رأيته من طربي لهما إلاّ استحسانا لأصواتهما لا تقديما لهما و لا جهلا بفضلك.

دخل على المعتصم و بين يديه صيد فغناه فطرب و أجازه:
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ قال حدّثني إسحاق قال:

دخلت يوما على المعتصم و قد رجع من الصيد و بين يديه ظباء مذبّحة و طير ماء و غير ذلك من الصيد و هو يشرب؛ فأمرني بالجلوس و الغناء؛ فجلست و غنّيته:

صوت

اشتهينا في ربيع مرّة *** زهم(9) الوحش على لحم الإبل

فغدونا بطوال هيكل(10) *** كعسيب النخل ميّاد خضل

ص: 225


1- واقصة: منزل بطريق مكة بعد القرعاء نحو مكة، و قيل: العقبة لبني شهاب من طيء، و يقال لها: واقصة الحزون، و هي دون زبالة بمرحلتين. (انظر «معجم البلدان» لياقوت في اسم واقصة).
2- البرود: البارد.
3- زهر الوقود: أضاءت ناره.
4- الأمراس: الحبال.
5- كذا في الأصول «تستزيد» بالزاي المعجمة. و لعلها «تستريد» بالراء المهملة. و تستريد: تذهب و تجيء؛ إذ الشاعر يريد أن يصف ليلته بالطول حتى كأن نجومها ربطت بأمراس شدّت بصخر فهي تدور و ترجع إلى حيث كانت و لا تغور.
6- يقال: تزايد فلان في كلامه و تزيد: إذا تكلف الزيادة فيه و جاوز ما ينبغي.
7- كذا في أ، ح، م. و في باقي الأصول: «زاد» بدون ألف بعد الدال.
8- في الأصول: «يا مخنثين» بالياء.
9- الزهم (بالتحريك): شحم الوحش من غير أن يكون فيه زهومة، أي كراهة ريح أو تغير.
10- الهيكل: الضخم من كل الحيوان.

- الشعر يقال: إنه لأعشى همدان، و الغناء لأحمد(1) النّصبيّ خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق - فتبسّم و قال: و أين رأيت لحم الإبل! فغنّيته:

صوت

ليس الفتى فيهم إذا *** شرب الشراب مؤنّبا

لكن يروح مرنّحا *** حسن الثياب مطيّبا

يسقونه صرفا على *** لحم الظباء مضهّبا(2)

فقال: هذا أشبه، و شرب. ثم غنّيته بشعر وضّاح اليمن - قال: و الغناء لابن محرز ثقيل أوّل -:

صوت

أبى القلب اليمانيّ *** الذي تحمد أخلاقه

و يرفضّ له اللحن *** فما تفتق أرتاقه

غزال أدعج العين *** ربيب خدلّج(3) ساقه

رماني فسبى قلبي *** و أرميه فأشتاقه

فطرب و قال: هذا و اللّه أحسن صيد و ألذّه، و شرب عليه بقيّة يومه و خلع عليّ و أمر لي/بجائزة. هكذا ذكر في هذا الخبر أن الثقيل الأوّل لابن محرز و قد قيل ذلك. و ذكر عمرو بن بانة أنّ الثقيل الأوّل بالبنصر لابن طنبورة، و أن لحن ابن محرز خفيف ثقيل.

دقته في الوصف و إعجاب فضل اليزيدي به:

حدّثني عمي قال حدّثني فضل اليزيديّ قال:

قال لي إسحاق يوما في عرض حديثه: دخلت على المعتصم ذات يوم و عليه قميص دبيقيّ(4) كأنما قد من جرم الزّهرة(5)؛ فضحكت؛ فقال: ما أضحكك؟ فقلت: /من مبالغتك في الوصف، فتبسّم. قال الفضل: و ما سمعت محدّثا قطّ و لا واصفا أبلغ منه و لا أحسن لفظا و تشبيها.

ص: 226


1- كذا في ح في ترجمته (و هي تقع في ج 5 ص 161 طبع بولاق) و هو منسوب إلى النصب (بالفتح) و هو ضرب من الغناء أرق من الحداء. و قد ورد في جميع الأصول هنا و كذلك في ترجمته مضطربا.
2- لحم مضهب: مقطع.
3- الخدلج (بتشديد اللام): الممتلئ الساقين.
4- دبيقيّ: منسوب إلى دبيق و هي بليدة كانت بين الفرما و تنيس من أعمال مصر، و قد خرجت و لم يبق منها شيء، و تنسب إليها الثياب الدبيقية و هي من دق الثياب كانت تتخذ بها، و كانت العمامة منها طولها مائة ذراع و فيها رقمات منسوجة بالذهب، تبلغ العمامة من الذهب خمسمائة دينار سوى الحرير و الغزل. (راجع «معجم ياقوت» و «شرح القاموس» مادة «دبق»). و في ب، س: «ديبقي» بتقديم المثناة على الموحدة، و هو تصحيف.
5- الزهرة (بضم ففتح): كوكب من السيارة معروف.
تبرمه بالغناء و بالتسمية به:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن مالك قال:

قال لي إسحاق: وددت أنّ كل يوم قيل لي: غنّ أو قيل لي عند ذكري: المغنّي، ضرب رأسي خمسة عشر سوطا، لا أقوى على أكثر منها، و لم يقل لي ذلك.

صنع لحنا على لحن أذان سمعه:

أخبرنا يحيى قال حدّثنا حمّاد قال: صنع أبي لحنه في: «تشكّى الكميت الجري» على لحن أذان سمعه.

كثرة حفظه لأهزاج القدماء:

أخبرنا يحيى قال حدّثنا حمّاد قال:

تذاكرنا يوما الهزج عند المأمون؛ فقال عمرو بن بانة: ما أقله في الغناء القديم!؛ فقال إسحاق: ما أكثره فيه! ثم غنّاهم ثلاثين هزجا في إصبع واحدة و مجرى واحد، ما عرفوا جميعا منها إلا نحو سبعة أصوات.

تقدير زرزور لقدرته في الغناء:

حدّثني يحيى قال حدّثني أخي قال حدّثني عافية بن شبيب قال:

قلت لزرزور: ما لكم تذلّون لإسحاق هذا الذلّ، و ما فيكم أحد إلا و هو أطيب صوتا منه، و ما في صنائعكم وصمة! فقال لي: لا تقل ذلك، فو اللّه لو رأيتنا معه لرحمتنا و رأيتنا نذوب كما يذوب الرّصاص في النار!.

غضب عليه الفضل بن الربيع فمدحه بشعر و توسل له بعون حاجبه:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني إسحاق قال:

لاعبت الفضل بن الربيع بالنّرد، فوقع بيننا خلاف، فحلف و حلفت، فغضب عليّ و هجرني، فكتبت إليه:

/

يقول أناس شامتون و قد رأوا *** مقامي و إغبابي الرواح إلى الفضل

لقد كان هذا خصّ بالفضل مرّة *** فأصبح منه اليوم منصرم الحبل

و لو كان لي في ذاك ذنب علمته *** لقطّعت نفسي بالملامة و العذل

و عرضت الأبيات عليه؛ فلمّا قرأها ضحك و قال: أشدّ من ذنبك أنك لا ترى لنفسك بذلك الفعل ذنبا؛ و اللّه لو لا أنّي أدّبتك أدب الرجل ولده، و أنّ حسنك و قبيحك مضافان إليّ لأنكرتني؛ فأصلح الآن قلب عون - و كان يحجبه - فخاطبته في ذلك فكلّمني بما كرهت؛ فقلت: أ تدخل بيني و بين الأمير أعزّه اللّه!؛ و كان عون يرمى بالأبنة فقلت فيه:

و ذاكر أمر ضاق ذرعا بذكره *** و ناس لداء منه متّسع الخرق

قال: ثم علمت أنه لا يتمّ لي رضا الفضل إلا بعد أن يرضى عون، فقلت فيه:

عون يا عون ليس مثلك عون *** أنت لي عدّة إذا كان كون

لك عندي و اللّه إن رضي الفض *** ل غلام يرضيك أو برذون

ص: 227

فدخل إلى الفضل فترضاه لي فرضي؛ ثم قال له: ويلك يا عون! إنه و اللّه إنما هجاك و أنت ترى أنه قد مدحك، أ لا ترى إلى قوله: «غلام يرضيك»! هذا تعريض بك؛ قال: فكيف أصنع به مع محلّه عند الأمير!.

شكا إليه المأمون أصحابه ثم غناه و أطربه فأجازه:
اشارة

أخبرني الصّوليّ قال حدّثني عون عن إسحاق، و أخبرني بعض الخبر/إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبّة عن إسحاق، و لفظ الخبر و سياقته للصّوليّ، قال:

استدناني المأمون(1) يوما و هو مستلق على فراش حتى صارت ركبتي على الفراش، ثم قال لي: يا إسحاق، أشكو إليك أصحابي: فعلت بفلان كذا ففعل كذا، و فعلت/بفلان كذا ففعل كذا؛ حتى عدّد جماعة من خواصّه؛ فقلت له: أنت يا سيّدي بتفضّلك عليّ و حسن رأيك فيّ ظننت أنّي ممّن يشاور في مثل هذا، فجاوزت بي حدّي، و هذا رأي يجلّ عنّي و لا يبلغه قدري؛ فقال: و لم و أنت عندي عالم عاقل ناصح؟ فقلت: هذه المنزلة عند سيّدي علّمتني ألاّ أقول إلاّ ما أعرف و لا أطلب إلا ما أنال؛ فضحك و قال: قد بلغني أنّك في هذه الأيام صنعت لحنا في شعر الرّاعي و لم أسمعه منك؛ فقلت: يا سيّدي، ما سمعه أحد إلا جواريّ، و لا حضرت عندك للشرب منذ صنعته؛ فقال: غنّه؛ فقلت: الهيبة و الصّحو يمنعاني أن أؤدّيه كما تريد، فلو آنس أمير المؤمنين عبده بشيء يطربه و يقوي به طبعه كان أجود؛ قال: صدقت، ثم أمر بالغداء فتغدّينا، و مدّت الستارة فغنّي من ورائها و شربنا أقداحا؛ فقال:

يا إسحاق، أ ما جاء أوان ذلك الصوت؟ فقلت: بلى يا سيّدي، و غنيته لحني في شعر الراعي:

صوت

أ لم تسأل بعارمة(2) الديارا *** عن الحيّ المفارق أين صارا(3)

بلى ساءلتها فأبت جوابا *** و كيف تسائل الدّمن القفارا

- لحن إسحاق في هذين البيتين خفيف ثقيل بالوسطى - قال: فاستحسنه و ما زال يشرب عليه سائر يومه، و قال لي: يا إسحاق، لا طلب بعد وجود البغية، ما أشرب بقيّة يومي هذا إلاّ على هذا الصوت؛ ثم وصلني و خلع عليّ خلعة من ثيابه.

مدح أعرابية له:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني إسحاق قال:

كانت أعرابيّة تقدم عليّ من البادية فأفضل عليها، و كانت فصيحة؛ فقالت لي ذات يوم: و الذي يعلم مغزى كل ناطق لكأنك في علمك ولدت فينا و نشأت معنا. و لقد أريتني نجدا بفصاحتك، و أحللتني الرّبيع بسماحتك؛ فلا اطّرد لي قول إلاّ شكرتك، و لا نسمت لي ريح إلاّ ذكرتك.

ص: 228


1- في «مختار الأغاني» (ص 156): «الأمين».
2- عارمة: موضع في ديار بني عامر بنجد، و قيل: ماء لبني تميم بالرمل. (انظر «معجم البلدان» لياقوت و «معجم ما استعجم» للبكري في الكلام على عارمة).
3- في «مختار الأغاني» (ص 157) و «شرح القاموس» و «اللسان» مادة (عرم): «سارا» بالسين المهملة.
أنحل أبا المجيب الربعي صداقا و داعبه بشعر:

حدّثني الصّوليّ(1) قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبيّ عن إسحاق قال:

كان أبو المجيب الرّبعيّ فصيحا عالما، فقال لي: يا أبا محمد، قد عزمت على التزوّج فأعنّي و قوّني؛ قال:

فأعطيته دنانير و ثيابا. فغاب عنّي أياما ثم عاد؛ فقلت: يا أبا مجيب، هاهنا أبيات فاسمعها؛ فقال: هاتها؛ فقلت:

يا ليت شعري عن أبي مجيب *** إذ بات في مجاسد(2) و طيب

معانقا للرّشإ الرّبيب *** أ أحمد(3) المحفار في القليب

أم كان رخوا ذابل القضيب

قال: فقال لي: الأخير و اللّه يا أبا محمد.

عاتب الخليل بن هشام بشعر و كان بينهما تهاجر فعادا إلى ما كانا عليه:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني إسحاق قال:

كانت بيني و بين الخليل بن هشام صداقة ثم استوحشنا، فمررت ببابه يوما، فتذمّمت(4) أن أجوزه و لا أدخل إليه، فدعوت بدواة و قرطاس و كتبت إليه:

/

رجعنا بالصفاء إلى الخليل *** فليس إلى التّهاجر من سبيل

عتاب في مراجعة و صفح *** أحقّ بنا و أشبه بالجميل

قال: و وجّهت بالرّقعة و قصدت بابه، فخرج إليّ حتى تلقّاني، و رجعنا إلى ما كنّا عليه.

تعقب فيما يرويه من الأخبار فوجد صادقا:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عبد اللّه بن المعتزّ عن الهشاميّ قال:

كان أهلنا يعتبرون(5) على إسحاق ما يقوله في نسبة الغناء و أخباره، بأن يجلسوا كاتبتين فهمتين خلف السّتارة، فتكتبان ما يقوله و تضبطانه، ثم يتركونه مدّة حتى ينسى ما جرى، ثم يعيدون تلك المسألة عليه، فلا يزيد فيها و لا ينقص منها حرفا كأنه يقرؤها من دفتر؛ فعلموا حينئذ أنه لا يقول في شيء يسأل عنه إلاّ الحقّ.

غنى علويه لحنا لأبيه فخطأه هو في مجلس المأمون:
اشارة

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن(6) مزيد المهلّبيّ قال حدّثني أبي عن إسحاق قال:

ص: 229


1- في جميع الأصول: «حدّثني عون بن محمد الصوليّ» و هو خطأ، فإن اسم الصولي «محمد بن يحيى». و قد تقدّم هذا السند بنصه في أكثر من موضع، و سيأتي كذلك في الخبر الذي يلي هذا الخبر.
2- المجاسد: جمع مجسد، و هو القميص الذي يلي البدن.
3- أحمد الشيء: أتى ما يحمد عليه. و المحفار: المسحاة و ما يحفر به، و هو مستعمل هنا على سبيل المجاز.
4- تذممت: استنكفت.
5- اعتبر الشيء: اختبره و نظر فيه و ردّه إلى نظيره فحكم عليه بحكمه.
6- كذا في جميع الأصول، و لم يتقدّم لهذا الاسم ذكر قبل ذلك و لم نعثر عليه في كتب التراجم. و المعروف أن الصولي يروي عن محمد بن يزيد المهلبي و عن يزيد بن محمد المهلبي، كما تقدّم في هذا الكتاب أكثر من مرة.

كنّا عند المأمون، فغنّاه علّويه:

صوت

لعبدة دار ما تكلّمنا الدار *** تلوح مغانيها كما لاح أسطار

أسائل أحجارا و نؤيا(1) مهدّما *** و كيف يردّ القول نؤي و أحجار

- الشعر لبشّار، و الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق - قال: فقال المأمون: لمن هذا اللحن؟ فقلت: لعبد أمير المؤمنين أبي، و قد أخطأ/فيه علّويه؛ قال: فغنّه أنت فغنّيته، فاستعادنيه مرارا و شرب عليه أقداحا؛ ثم تمثل قول جرير:

و ابن اللّبون(2) إذا ما لزّ في قرن *** لم يستطع صولة البزل القناعيس

ثم أمر لي بخمسين ألف درهم. و وجدت هذا الخبر بخطّ أبي العبّاس ثوابة، فقال فيه: حدّثني أحمد بن إسماعيل أبو حاتم قال حدّثني عبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ قال:

اجتمعنا بين يدي المعتصم، فغنّى علّويه:

لعبدة دار ما تكلّمنا الدار

فقال له إسحاق: أخطأت فيه، ليس هو هكذا؛ فقال علّويه؛ أمّ من أخذناه عنه هكذا زانية؛ فقال إسحاق:

شتمنا قبحه اللّه، و سكت و بان ذلك فيه؛ و كان علّويه أخذه من إبراهيم.

حواره مع علويه حين أغرى الواثق بينهما:

حدّثني جحظة قال حدّثني أبو العبيس بن حمدون عن أبيه عن جدّه قال:

كان إسحاق بعد وفاة المأمون لا يغنّي إلا الخليفة أو وليّ عهده أو رجلا من الطاهريّة مثل إسحاق بن إبراهيم و طبقته؛ فاجتمعنا عند الواثق و هو وليّ عهد المعتصم، فاشتهى الواثق أن يضرب(3) بين مخارق و علّويه و إسحاق، ففعل حتى تهاتروا؛ ثم قال لإسحاق: كيف هما الآن عندك؟ فقال: أمّا مخارق فمناد(4) طيّب الصوت؛ /و أمّا علّويه فهو خير حماري العباديّ(5)، و هو على كل حال شيء(6) (يريد تصغيره)؛ فوثب علّويه مغضبا، ثم قال

ص: 230


1- النؤى: الحفير أو الحاجز حول الخباء أو الخيمة يدفع عنها السيل يمينا و شمالا و يبعده.
2- ابن اللبون: ولد الناقة إذا كان في العام الثاني و استكمله، و قيل: إذا دخل في الثالث، و الأنثى: ابنة لبون، سمي بذلك لأن أمه وضعت غيره فصار لها لبن. و لز: شدّ و لصق. و القرن (بالتحريك): الحبل الذي يقرن به البعيران. و البزل: جمع بازل، و هو البعير الذي فطرنا به أي انشق. قال الأصمعي و غيره: يقال للبعير إذا استكمل السنة الثامنة و طعن في التاسعة و فطر نابه: بازل. و القناعيس: جمع قنعاس، و هو الجمل الضخم العظيم الشديد.
3- التضريب: الإغراء.
4- كذا في «مختار الأغاني»، و هو الذي يناسب السياق. و في الأصول: «فمياد» بالياء المثناة من تحت بدل النون.
5- يشير بهذا إلى المثل المشهور، و هو ما يقال من أنه كان لعبادي (نسبة إلى العباد قوم من العرب نزلوا الحيرة و كانوا نصارى) حماران، فقيل له: أيّ حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا. و يروى أنه قال حين سئل عنهما: هذا هذا، أي لا فضل لأحدهما على الآخر. يضرب خلتين إحداهما شر من الأخرى. (انظر «أمثال الميداني» ج 2 ص 92 طبع بولاق).
6- كذا في «مختار الأغاني». و في الأصول: «شيء» بدون تصغير.

للواثق: جواريه حرائر و نساؤه طوالق، لئن لم تستحلفه بحياتك و حقّ أبيك، أن يصدق عما أسأله(1) عنه، لأتوبنّ عن الغناء ما عشت؛ فقال له الواثق: لا تعربد يا عليّ، نحن نفعل ما سألت؛ ثم حلّف إسحاق أن يصدق فحلف؛ فقال له: من أحسن الناس اليوم صنعة بعدك؟ قال: أنت. قال: فمن أضرب الناس بعد ثقيف؟ قال: أنت. قال فمن أطيب الناس صوتا بعد مخارق؟ قال: أنت. قال علّويه لإسحاق: أ هذا/قولك فيّ و أنت تعلم أنّي مصلّي(2) كلّ سابق فاضل، و أنّي ثالث ثلاثة أنت أحدهم لم يكن في الدنيا مثلهم و لا يكون! فما أنت و غناؤك الذي لا يسمع انخفاضا!؛ فغضب إسحاق، و انتهر الواثق علّويه. ثم أخذ إسحاق عودا فنقل مثناه إلى موضع البمّ(3)، وزيره إلى موضع المثلث، و جعل البمّ و المثلث مكان الزير و المثنى، و ضرب و قال: ليغنّ من شاء منكم؛ فغنّى مخارق عليه:

تقطّع من ظلاّمة الوصل أجمع *** أخيرا على أن لم يكن يتقطّع

و ضرب عليه إسحاق فلم يبن في الأوتار خلاف و لا فقد من الإيقاع شيء و لا بان فيه اختلال؛ فعظم عجب الواثق من فعله؛ و قام إسحاق فرقص طربا، فكان و اللّه/أحسن رقصا من كبيش و عبد السلام - و كانا من أرقص الناس - فقال الواثق: لا يكمل أحد أبدا في صناعته كمثل كمال إسحاق.

مدح لعبد اللّه بن طاهر فيه:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني إسحاق قال:

دخلت على عبد اللّه بن طاهر و هو يلاعب إبراهيم بن وهب بالشّطرنج، فغلبه عبد اللّه، و أومأ إليّ بأن أكايده؛ فقلت:

قد ذهبت منك أبا إسحاق *** مثل ذهاب الشهر بالمحاق(4)

فقال لي عبد اللّه: إنّ فضائلك يا أبا محمد لتتكاثر عندنا، كما قال الشاعر في إبله:

إذا أتاها طالب يستامها *** تكاثرت فى عينه كرامها

صنع لحنا في بيتين و غناه الواثق فاستعاده حتى أخذه و أجازه:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال ذكر عليّ بن الحسن بن عبد الأعلى عن إسحاق قال:

أنشدتني أمّ محمد الأعرابية لنفسها هذين البيتين و أنا حاجّ، فاستحسنتهما، و صنعت فيهما لحنا غنّيته الواثق؛ فاستعاده حتى أخذه، و أمر لي بثلاثين ألف درهم؛ و هما:

عسى اللّه يا ظمياء أن يعكس الهوى *** فتلقين ما قد كنت منك لقيت

ثراء فتحتاجي إليّ فتعلمي *** بأنّ به أجزيك حين غنيت

ص: 231


1- كذا في «مختار الأغاني». و في الأصول: «تسأله».
2- المصلى: التالي للسابق من خيل السباق. و السابق: الأوّل.
3- البم: الوتر الغليظ من أوتار المزاهر. و قد جاء في مقدّمة الجزء الأول من «الأغاني» من هذه الطبعة كل ما يتعلق بآلات العود و أسمائها، فارجع إليه.
4- المحاق (بالضم و الكسر): آخر الشهر إذا امحق الهلال فلم ير.
شوّش عودا في مجلس المعتصم و تحدّى ابن المهدي أن يضرب به ثم أظهر هو براعة فائقة:

حدّثني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن مروان قال قال لي يحيى بن معاذ:

كان إسحاق الموصليّ و إبراهيم بن المهديّ إذا خلوا فهما أخوان، و إذا التقيا عند خليفة تكاشحا أقبح تكاشح؛ فاجتمعا يوما عند المعتصم؛ فقال لإسحاق: يا إسحاق، أن إبراهيم يثلبك و يغضّ منك و يقول: إنك تقول: إنّ مخارقا لا يحسن شيئا/و يتضاحك منك؛ فقال إسحاق: لم أقل يا أمير المؤمنين: إن مخارقا لا يحسن شيئا، و كيف أقول ذلك و هو تلميذ أبي و تخريجه و تخريجي! و لكن قلت: إنّ مخارقا يملك من صوته ما لا يملكه أحد، فيتزايد فيه تزايدا لا يبقي عليه و يتغيّر في كل حال، فهو أحلى الناس مسموعا و أقلّه نفعا لمن يأخذ عنه، لقلّة ثباته على شيء واحد. و لكنّي أفعل الساعة فعلا إن زعم إبراهيم أنه يحسنه فلست أحسن شيئا، و إلاّ فلا ينبغي له أن يدّعي ما ليس يحسنه. ثم أخذ عودا فشوّش أوتاره، ثم قال لإبراهيم: غنّ على هذا أو يغنّي غيرك و تضرب عليه؛ فقال المعتصم: يا إبراهيم، قد سمعت، فما عندك؟ قال: ليفعله هو إن كان صادقا؛ فقال له إسحاق: غنّ حتى أضرب عليك فأبى؛ فقال لزرزور: غنّ فغنّى و إسحاق يضرب عليه حتى فرغ من الصوت ما علم أحد أنّ/العود مشوّش. ثم قال: هاتوا عودا آخر؛ فشوّشه و جعل كلّ وتر منه في الشدّة و اللين على مقدار العود المشوّش الأوّل حتى استوفى؛ ثم قال لزرزور: خذ أحدهما فأخذه، ثم قال: انظر إلى يدي و اعمل كما أعمل و اضرب ففعل؛ و جعل إسحاق يغنّي و يضرب و زرزور ينظر إليه و يفعل كما يفعل؛ فما ظنّ أحد أن في العود [ين](1) شيئا من الفساد لصحة نغمهما جميعا إلى أن فرغ من الصوت. ثم قال لإبراهيم: خذ الآن أحد العودين، فاضرب به مبدأ أو عمود طريقة أو كيف شئت إن كنت تحسن شيئا؛ فلم يفعل و انكسر انكسارا شديدا؛ فقال له المعتصم: أ رأيت مثل هذا قطّ؟ قال: لا، و اللّه ما رأيت و لا ظننت أنّ مثله يكون.

أعجبه يوم فتمثل فيه بشعر:

حدّثني أبو عبد اللّه محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني عمّي الفضل قال:

/دعاني إسحاق يوما، فمضيت إليه و عنده الزّبير بن دحمان و علّويه و حسين بن الضحّاك، فمرّ لنا أحسن يوم؛ فالتفت إليّ إسحاق ثم قال: يومنا هذا و اللّه يا أبا العبّاس كما قال الشاعر:

أنت و اللّه من الأي *** ام لدن الطّرفين

كلّما قلّبت عينيّ *** ففي قرّة عين

غنى الواثق فشرب و خلع عليه:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

دخلت يوما على الواثق فقال لي: يا إسحاق، إني أصبحت اليوم قرما(2) إلى غنائك فغنّني؛ فغنّيته:

من الظباء ظباء همّها السّخب(3) *** ترعى القلوب و في قلبي لها عشب

ص: 232


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- القرم (بالتحريك) في الأصل: شدة الشهوة إلى اللحم، ثم كثر حتى قالوا: قرمت إلى لقائك.
3- كذا في ح، و فيما سيأتي في أكثر الأصول. و السخب (بضمتين): جمع سخاب (ككتاب) و هي قلادة تتخذ من قرنفل و غيره؛ و قال

لا يغتربن و لا يسكنّ بادية *** و ليس يدرين ما ضرع و لا حلب

إذا يد سرقت فالقطع يلزمها *** و القطع في سرق بالعين لا يجب

قال: فشرب عليه بقيّة يومه و بعض ليلته، و خلع عليّ خلعة من ثيابه.

خرج مع الواثق إلى الصالحية فحنّ إلى بغداد و أنشده شعرا فأجازه و صرفه:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

خرجت مع الواثق إلى الصالحيّة(1) و هو يريد النزهة، فذكرت بغداد و عيالي و أهلي و ولدي بها فبكيت؛ فقال لي: بحياتي أذكرت بغداد فبكيت شوقا إليها؟ فقلت: نعم، و غنّيته:

صوت

و ما زلت أبكي في الديار و إنما *** بكائي على الأحباب ليس على الدار

قال: فأمر لي بمائة ألف درهم و صرفني.

و أخبرني محمد بن مزيد بهذا الخبر عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه، و حدّثني به عليّ بن هارون عن عمّه عن حمّاد عن أبيه و خبره أتمّ، قال:

ما وصلني أحد من الخلفاء قطّ بمثل ما وصلني به الواثق. و لقد انحدرت معه إلى النّجف(2)، فقلت له:

يا أمير المؤمنين، قد قلت في النجف قصيدة؛ فقال: هاتها؛ فأنشدته:

يا راكب العيس لا تعجل بنا وقف *** نحيّ دارا لسعدى ثم ننصرف

حتى أتيت على قولي:

لم ينزل الناس في سهل و لا جبل *** أصفى هواء و لا أعذى(3) من النّجف

حفّت ببرّ و بحر من جوانبها *** فالبرّ في طرف و البحر في طرف

/و ما يزال نسيم من يمانية(4) *** يأتيك منها بريّا روضة(5) أنف

/فقال: صدقت يا إسحاق، هي كذلك. ثم أنشدته حتى أتيت على قولي في مدحه:

ص: 233


1- الصالحية: محلة ببغداد تنسب إلى صالح بن المنصور المعروف بالمسكين.
2- النجف (بالتحريك): موضع يظهر الكوفة و هو دومة الجندل بعينها، و بالقرب منه قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه.
3- كذا ورد في «معجم البلدان» لياقوت (بالعين المهملة) في الكلام على النجف. و أعذى: أطيب هواء، يقال: عذا المكان يعذو إذا طاب هواؤه. و منه الأرض العذاة و هي الأرض البعيدة عن الأحساء و النزوز و الريف، السهلة المريئة التي يكون كلؤها ناجعا مريئا. و في الأصول: «أغذى» بالغين المعجمة، و هو تصحيف.
4- في «معجم البلدان»: «.... من أيا منه يأتيك منه....»
5- الروضة الأنف (بضم الهمزة و النون): التي لم يرعها أحد.

لا يحسب الجود يفني ماله أبدا *** و لا يرى بذل ما يحوي من السّرف

و مضيت فيها حتى أتممتها؛ فطرب و قال: أحسنت و اللّه يا أبا محمد، و كنّاني يومئذ، و أمر لي بمائة ألف درهم؛ و انحدر إلى الصالحيّة التي يقول فيها أبو نواس:

بالصالحيّة من أكناف كلواذ(1)

فذكرت الصبيان و بغداد فقلت:

أ تبكي على بغداد و هي قريبة *** فكيف إذا ما ازددت منها غدا بعدا

لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى *** لو أنّا وجدنا عن فراق لها بدّا

إذا ذكرت بغداد نفسي تقطّعت *** من الشوق أو كادت تموت بها وجدا

كفى حزنا أن رحت لم أستطع لها *** وداعا و لم أحدث بساكنها عهدا

قال: فقال لي: يا موصليّ، اشتقت إلى بغداد؟ فقلت: لا و اللّه يا أمير المؤمنين، و لكن من أجل الصبيان، و قد حضرني بيتان؛ فقال: هاتهما؛ فأنشدته:

/

حننت إلى الأصيبية الصّغار *** و شاقك منهم قرب المزار

و أبرح ما يكون الشوق يوما(2)*** إذا دنت الدّيار من الديار

فقال لي: يا إسحاق، صر إلى بغداد فأقم مع عيالك شهرا ثم صر إلينا، و قد أمرت لك بمائة ألف درهم.

صنع الواثق لحنا و أمره أن يغني فيه فصنع هو لحنا أحسن منه:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال أخبرني أبي قال:

لمّا صنع الواثق لحنه في:

أيا منشر الموتى أقدني من التي *** بها نهلت(3) نفسي سقاما و علّت

لقد بخلت حتى لو أنّي سألتها *** قذى العين من سافي التراب لضنّت

ص: 234


1- كلواذا (بفتح فسكون و آخرها ألف مقصورة. و لعل أبا نواس كسرها هنا للقافية، فقد أوردها بالفتح في قوله: أ حين ودّعنا يحيى لرحلته و خلف الفرك و استعلى لكلواذا) مدينة كانت قرب بغداد في ناحية الجانب الشرقي منها. و هذا الشطر من قصيدة لأبي نواس وردت في «ديوانه»، و قد ورد فيها على غير رواية الأصول هنا، مطلعها: و قائل هل تريد الحج قلت له نعم إذا نفدت لذات بغذاذ أما و قطر بل منها بحيث أرى فقبة الفرك من أكناف كلواذ فالصالحية فالكرخ التي جمعت شذاذ بغذاذ ما هم لي بشذاذ و للفرك (بالكسر): قرية كانت قرب كلواذا.
2- ستأتي في «الأغاني» (ج 8 ص 168 طبع بولاق) رواية أخرى لهذا الشطر: و كل مفارق يزداد شوقا
3- النهل (بالتحريك): الشرب الأوّل، يقال: نهلت الإبل و أنهلتها أنا، و هو أن تسقي في أوّل الورد فترد إلى العطن (مناخ الإبل و مبركها) ثم تسقى الثانية و هو العلل فتردّ إلى المرعى.

أعجب به إعجابا شديدا؛ فوجّه بالشعر إلى إسحاق الموصليّ و أمره أن يغنّي فيه؛ فصنع(1) فيه لحنه الثقيل الأوّل، و هو من أحسن صنعة إسحاق؛ فلمّا سمعه الواثق عجب منه و صغر لحنه في عينه، و قال: ما كان أغنانا أن نأمر إسحاق بالصنعة في هذا الشعر، لأنه قد أفسد علينا لحننا. قال عليّ بن يحيى قال إسحاق: ما كان يحضر مجلس الواثق أعلم منه بهذا الشأن.

نسبة هذين الصوتين
صوت

أيا منشر الموتى أقدني من التي *** بها نهلت نفسي سقاما و علّت

لقد بخلت حتى لو أنّي سألتها *** قذى العين من سافي التراب لضنّت

/الشعر لأعرابيّ، و الغناء للواثق ثاني ثقيل في مجرى البنصر. و فيه لمخارق رمل، و لعريب رمل. و من الناس من ينسب هذا الشعر إلى كثيّر، و هو خطأ من قائله.

أنشدني هذه الأبيات عمّي قال: أنشدني هارون بن عليّ بن يحيى، و أنشدنيها عليّ بن هارون عن أبيه عن جدّه عن إسحاق أنه أنشده لأعرابيّ فقال:

صوت

ألا قاتل اللّه الحمامة غدوة *** على الغصن ما ذا هيّجت حين غنّت

تغنّت بصوت أعجميّ فهيّجت(2) *** من الشوق ما كانت ضلوعي أجنّت

غنّى في هذين البيتين عمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى.

فلو قطرت عين امرئ من صبابة *** دما قطرت عيني دما فألمّت

فما سكتت(3) حتى أويت لصوتها *** و قلت ترى هذي الحمامة جنّت

و لي زفرات لو يدمن قتلنني *** بشوق إلى نأي(4) التي قد تولّت

إذا قلت هذي زفرة اليوم(5) قد مضت *** فمن لي بأخرى في غد قد أظلّت

فيا محيي الموتى أقدني من التي *** بها نهلت نفسي سقاما و علّت

لقد بخلت حتى لو أنّي سألتها *** قذى العين من سافي التراب لضنّت

فقلت ارحلا يا صاحبيّ فليتني *** أرى كلّ نفس أعطيت ما تمنّت

ص: 235


1- كذا في ب، س، ح. و في سائر الأصول: «فغنى».
2- كذا في ح و فيما سيأتي (ج 8 ص 166 طبع بولاق). و في سائر الأصول هنا: «فهاجني». و قد وردت ثلاثة أبيات من هذه الأبيات في «أمالي القالي» (ج 1 ص 131 طبع دار الكتب المصرية) مع اختلاف في بعض الكلمات.
3- كذا فيما سيأتي. و في الأصول هنا: «سكنت» بالنون.
4- فيما سيأتي: «نادى».
5- كذا فيما سيأتي. و في الأصول هنا: «زفرة الموت»، و هو مما يأباه سياق البيت.

/

حلفت لها باللّه ما أمّ(1) واحد *** إذا ذكرته آخر الليل حنّت

و ما وجد أعرابيّة قذفت بها *** صروف النّوى من حيث لم تك ظنّت

إذا ذكرت ماء العضاه(2) و طيبه *** و برد الحمى من بطن خبت(3) أرنّت

بأكثر منّي لوعة غير أنني *** أجمجم(4) أحشائي على ما أجنّت

و أما لحن إسحاق فإنه غنّى في:

لقد بخلت حتى لو أنّي سألتها

و أضاف إليه شيئا آخر و ليس من ذلك الشعر، و هو:

فإن بخلت فالبخل منها سجيّة *** و إن بذلت أعطت قليلا و أكدت(5)

قال: و لحنه ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى.

كاده مخارق عند الواثق فغضب عليه و لما عرف الحق من أمره رضي عنه:

أخبرني الحسن بن عليّ و محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ، و حدّثني به عمّي عن أبي جعفر بن دهقانة النّديم عن أبيه قال:

كان الواثق إذا صنع صوتا قال لإسحاق: هذا وقع إلينا البارحة فاسمعه، فكان ربّما أصلح فيه الشيء بعد الشيء. فكاده مخارق عنده و قال له: إنما يستجيد صنعتك إذا حضر ليقاربك و يستخرج ما عندك، فإذا فارق حضرتك قال في صنعتك غير ما تسمع؛ قال الواثق: فأنا أحب أن أقف على ذلك؛ فقال له مخارق: فأنا أغنيه «أيا منشر/الموتى» فإنه لم يعلم أنه لك و لا سمعه من أحد؛ قال: فافعل. فلمّا دخل إسحاق غنّاه مخارق و تعمّد لأن يفسده بجهده، و فعل ذلك في مواضع خفيّة لم يعلمها الواثق من قسمته؛ فلمّا غنّاه قال له الواثق: كيف ترى هذا الصوت؟ قال له: فاسد غير مرضيّ؛ فأمر به فسحب من المجلس حتى أخرج عنه، و أمر بنفيه إلى بغداد. ثم جرى ذكره يوما. فقالت له فريدة: يا أمير المؤمنين، إنما كاده مخارق فأفسد عليه الصوت من حيث أوهمك أنه زاد فيه بحذقه نغما و جودة، و إسحاق يأخذ نفسه بقول الحق في كل شيء ساءه أو سرّه، و يفهم من غامض علل الصنعة ما لا يفهمه غيره؛ فليحضره أمير المؤمنين و يحلّفه بغليظ الأيمان أن يصدقه عما يسمع، /و أغنّيه إياه حتى يقف على حقيقة الصوت؛ فإن كان فاسدا فصدق عنه لم يكن عليه عتب، و وافقناه عليه حتى يستوي، فليس يجوز أن نتركه(6)

ص: 236


1- كذا في أ، ء، م و نسخة الأستاذ الشنقيطي مصححة بخطه و فيما سيأتي (ج 8 ص 166 طبع بولاق). و في سائر الأصول: «يا أم واحد»، و هو تحريف.
2- العضاه: ضرب من الشجر له شوك.
3- الخبت: الوادي العميق الوطيء ينبت ضروب العضاه، و قيل: ما اطمأن من الأرض و اتسع، و هو أيضا علم لصحراء بين مكة و المدينة يقال لها خبت الجميش. و أرنت المرأة في نوحها: صاحت مع البكاء، و قيل: الإرنان: الصيحة الشديدة و الصوت الحزين عند البكاء.
4- يقال: جمجم شيئا في صدره إذا أخفاه و لم يبده. يريد أنه طوى أحشاءه على ما أجنته و جعلها غطاء له.
5- أكدت: قللت عطاءها و منعته، و في التنزيل العزيز: وَ أَعْطىٰ قَلِيلاً وَ أَكْدىٰ.
6- في الأصول: «.... أن يتركه...» بالياء المثناة من تحت بدل النون، و التصويب عن «مختار الأغاني».

فاسدا إذا كان فيه فساد؛ و إن كان صحيحا قال فيه ما عنده؛ فأمر بالكتاب(1) بحمله فحمل و أحضر، فأظهر الرضا عنه و لزمه أيّاما؛ ثم أحلفه ليصدقنّ عما يمرّ في مجلسه فحلف له. ثم غنّى الواثق أصواتا يسأله عنها أجمع فيخبر فيها بما عنده؛ ثم غنّته فريدة هذا الصوت و سأله الواثق عنه، فرضيه و استجاده، و قال له: ليس على هذا سمعته في المرّة الأولى، و أبان عن المواضع الفاسدة و أخبر بإفساد مخارق إياها؛ فسكن غضبه و وصل إسحاق و تنكّر لمخارق مدّة.

قصة له مع الواثق بشأن الغناء و الألحان:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني إسحاق الموصليّ:

/أنه دخل على إسحاق بن إبراهيم الطّاهريّ، و قد كان تكلّم له في حاجة فقضيت، فقال له: أعطاك اللّه أيها الأمير ما لم تحط به أمنيّة و لا تبلغه رغبة. قال: فاشتهى هذا الكلام و استعاده منّي فأعدته. ثم مكثنا ما شاء اللّه، و أرسل الواثق إلى محمد(2) بن إبراهيم يأمره بإخراجي إليه في الصوت الذي أمرني به بأن أغنّي فيه، و هو:

لقد بخلت حتّى لو أنّي سألتها

فغنّيته إيّاه، فأمر لي بمائة ألف درهم. فخرجت و أقمت ما شاء اللّه ليس أحد من مغنّيهم يقدر أن يأخذ هذا الغناء منّي. فلمّا طال مقامي قلت له: يا أمير المؤمنين، ليس أحد من هؤلاء المغنّين يقدر أن يأخذ هذا الصوت منّي؛ فقال لي: و لم؟ ويحك! فقلت: لأني لا أصحّحه و لا تسخو نفسي به لهم؛ فما فعلت الجارية التي أخذتها منّي؟ (يعني شجا، و هي التي كان أهداها إلى الواثق و عمل مجرّد أغانيها و جنّسه و نسبه إلى شعرائه و مغنّيه، و هو الذي في أيدي الناس إلى اليوم)؛ فقال: و كيف؟ قال: لأنها تأخذه منّي و يأخذونه هم منها؛ فأمر بها فأخرجت و أخذته على المكان؛ فأمر لي بمائة ألف درهم و أذن لي في الانصراف؛ و كان إسحاق بن إبراهيم الطاهريّ حاضرا، فقلت للواثق عند وداعي له: أعطاك اللّه يا أمير المؤمنين ما لم تحط به أمنيّة و لم تبلغه رغبة؛ فالتفت إليّ إسحاق بن إبراهيم فقال لي: أي إسحاق أ تعيد الدعاء! فقلت: إي و اللّه أعيده قاض أنا أو مغنّ. و قدمت بغداد، فلمّا وافى إسحاق جئته مسلّما عليه؛ فقال لي: ويحك يا إسحاق! أ تدري ما قال أمير المؤمنين بعد خروجك من عنده؟ قلت:

لا أيها الأمير؛ قال قال لي: ويحك! كنّا أغنى/الناس عن أن نبعث إسحاق على لحننا حتى أفسده علينا. قال عليّ بن يحيى: فحدّثني إسحاق قال: استأذنت الواثق عدّة دفعات في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي، فصنعت لحنا في:

خليليّ عوجا من صدور الرّواحل

ثم غنّيته الواثق فاستحسنه و عجب من صحّة قسمته و مكث صوته أيّاما، ثم قال لي: يا إسحاق، قد صنعت

ص: 237


1- في الأصول: «فأمر بالكتاب بحمله فحمله و أحضر...» و عبارة «مختار الأغاني»: «فأمر بحمله فحمل و أظهر له الرضا عنه...».
2- هو محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق أخو إسحاق بن إبراهيم الطاهري، كان من القوّاد الكبار في أيام المعتصم و الواثق و المتوكل، قتل في خلافة المتوكل سنة 236 ه (راجع الطبري ص 1290-1292، 1298-1300، 1404-1406 من القسم الثالث).

لحنا في صوتك في إيقاعه و طريقته، و أمر من وراء السّتارة(1) فغنّوه؛ فقلت: قد و اللّه يا أمير المؤمنين بغّضت إليّ لحني و سمّجته عندي؛ و قد كنت استأذنته في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي؛ فلمّا صنع هذا اللّحن و قلت له ما قلت، أتبعته بأن قلت له: قد و اللّه يا أمير المؤمنين اقتصصت منّي في «لقد/بخلت» و زدت؛ فأذن لي بعد ذلك.

نسبة هذا الصوت
صوت

خليليّ عوجا من صدور الرّواحل *** بجرعاء(2) حزوى فابكيا في المنازل

لعلّ انحدار الدّمع يعقب راحة *** من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل(3)

الشعر لذي الرّمّة، و الغناء لإسحاق رمل بالوسطى في البيتين. و للواثق في البيت الثاني وحده رمل بالبنصر.

تأسى ابن عياش بشعر ذي الرمة في البكاء عند المصائب:

أخبرني أحمد بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن نعيم قال حدّثني كثير بن أبي جعفر الحزاميّ(4) الكوفيّ عن أحمد بن جوّاس الحنفيّ عن أبي بكر بن عيّاش قال:

كنت إذا أصابتني المصيبة تصبّرت و أمسكت عن البكاء، فأجد ذلك يشتدّ عليّ، حتّى مررت ذات يوم بالكناسة(5)، فإذا أنا بأعرابيّ واقف على ناقة له و هو ينشد:

خليليّ عوجا من صدور الرّواحل *** بجرعاء حزوى فابكيا في المنازل

لعلّ انحدار الدّمع يعقب راحة *** من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل

فسألت عنه فقيل لي: هذا ذو الرّمّة؛ فكنت بعد إذا أصابتني مصيبة بكيت فأجد لذلك راحة؛ فقلت: قاتل اللّه الأعرابيّ! ما كان أعلمه و أفصح لهجته!.

سئل أيهما أجود لحنك أم لحن الواثق فأجاب:

أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبيه قال:

قلت لإسحاق: أيّما أجود، لحنك في «خليليّ عوجا» أم(6) لحن الواثق؟ فقال: لحني أجود قسمة و أكثر عملا، و لحنه أطرب، لأنه جعل ردّته من نفس قسمته، و ليس يقدر على أدائه إلاّ متمكن من نفسه. قال عليّ بن

ص: 238


1- راجع أحوال خلفاء بني أمية و الدولة العباسية في الشرب و اللهو و احتجابهم عن الندماء و المغنين بالستارة في كتاب «التاج في أخلاق الملوك» للجاحظ (ص 31-45 طبع المطبعة الأميرية).
2- الجرعاء: الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل، و قيل: هي الرملة السهلة المستوية. و حزوى (بضم أوله و سكون ثانيه مقصورا): موضع بنجد في ديار تميم، و قال الأزهري: جبل من جبال الدهناء. و في «ديوانه» طبع أوروبا و «معجم ياقوت»: «جمهور حزوي». و الجمهور: الرملة العظيمة المشرفة على ما حولها.
3- البلابل: الهموم في الصدور.
4- في ج: «الحرامي» بالراء المهملة.
5- الكناسة (بضم الكاف): محلة بالكوفة.
6- في الأصول: «أو»، و السياق يقتضي «أم».

يحيى: فتأمّلت اللحنين بعد ذلك فوجدتهما كما ذكر إسحاق. قال و قال لي إسحاق: ما كان بحضرة الواثق أعلم منه بالغناء.

فضل ابن المعتز لحنا للواثق على لحنه:

أخبرني عليّ بن هارون قال:

كان عبد اللّه بن المعتزّ يحلف أنّ الواثق ظلم نفسه في تقديمه لحن إسحاق في «لقد بخلت». قال: و من الدّليل على ذلك أنه قلّما غنّي في صوت واحد بلحنين/فسقط أجودهما و شهر الدّون، و لا يشهر من اللحنين إلا أجودهما، و لحن الواثق أشهرهما، و ما يروي لحن إسحاق إلا العجائز و من كثرت روايته.

كان الواثق يعرض عليه صنعته فيصلح فيها:

حدّثني جحظة عن ابن المكيّ المرتجل عن أبيه أحمد بن يحيى قال:

كان الواثق يعرض صنعته على إسحاق فيصلح فيها الشيء بعد الشيء.

آخر صوت صنعه:

أخبرنا حسين(1) بن يحيى عن حمّاد:

أنّ آخر صوت صنعه أبوه: «لقد بخلت»، ثم ما صنع شيئا حتى مات.

غنى للمعتصم بشعر أبي القنافذ فأجازهما:

أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثني أبو زيد عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال:

دخل أعرابيّ من بني سليم سرّ من رأى - و كان يكنى أبا القنافذ - فحضر باب المعتصم مع الشعراء فأذن له؛ فلمّا مثل بين يديه أنشده:

مراض العيون خماص البطون *** طوال المتون قصار الخطا

عتاق(2) النّحور قاق الثغور *** لطاف الخصور خدال(3) الشّوى

عطابيل(4) من كلّ رقراقة(5) *** تلوث الإزار بدعص(6) النّقا

/إذا هنّ منّيننا نائلا *** أبى البخل منهنّ ذاك المنى

إلى النّفر البيض أهل البطاح *** و أهل السّماح طلبنا النّدى

ص: 239


1- في الأصول: «حسن بن يحيى»، و هو تحريف.
2- عتاق النحور: جميلاتها.
3- خدال: جمع خدلة و هي من النساء: الغليظة الساق المستديرتها. و الشوى: الأطراف.
4- عطابيل: جمع عطبولة و عطبول و هي الجارية الفتية الجميلة الممتلئة الطويلة العنق. قال ابن بري: و لا يقال: رجل عطبول إنما يقال: رجل أجيد، إذا كان طويل العنق.
5- جارية رقراقة: كأن الماء يجري في وجهها.
6- الدعص: كثيب الرمل المجتمع.

/

لهم سطوات إذا هيّجوا *** و حلم إذا الجهل حلّ الحبا(1)

يبين لك الخير في أوجه *** لهم كالمصابيح تجلو الدّجى

سعى الناس كي يدركوا فضلهم *** فقصّر عن سعيهم من سعى

سعى للخلافة فاقتادها *** و برّز في السّبق لمّا جرى

قال: فاستحسنها المعتصم و أمرني فغنّيت فيها، و أمر للأعرابيّ بعشرين ألف درهم و لي بثلاثين ألف درهم؛ و ما خرج الناس يومئذ إلاّ بهذه الأبيات.

طلب من علي بن هشام نبيذا فأرسله إليه:

حدّثني عمّي قال حدّثني فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:

كتبت إلى عليّ بن هشام أطلب منه نبيذا، فبعث إليّ جمان(2) بما التمست، و كتب إليّ: قد بعثت إليك بشراب أصلب من الصّخر، و أعتق من الدهر، و أصفى من القطر.

تخلف عن عبد اللّه بن طاهر فكلف لميس أن تسرق لحنا له و تذيعه:

حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه الهشاميّ عن أحمد المكيّ قال:

لمّا صنع إسحاق لحنه في الرّمل:

أ ماويّ(3) إنّ المال غاد و رائح *** و يبقى من المال الأحاديث و الذّكر

و قد علم الأقوام لو أنّ حاتما *** يريد ثراء المال كان له وفر

/و هو رمل نادر، ابتداؤه صياح، ثم لا يزال ينزل على تدريج حتى يقطعه على سجحة، و كان كثير الملازمة لعبد اللّه بن طاهر، ثم تخلّف عنه مدّة و ذلك في أيّام المأمون؛ فقال عبد اللّه للميس جاريته: خذي لحن إسحاق في:

أ ماويّ إنّ المال غاد و رائح

فاخلعيه عليّ:

و هبّت شمال آخر اللّيل قرّة(4) *** و لا ثوب إلاّ بردها و ردائيا

و ألقيه على كلّ جارية تعلّمينها و اشهريه و ألقيه على من يجيده من جواري زبيدة، و قولي: أخذته من بعض عجائز المدينة؛ ففعلت، و شاع أمره حتّى غنّي به بين يدي المأمون؛ فقال المأمون للجارية: ممّن أخذت هذا؟ فقالت: من دار عبد اللّه بن طاهر من لميس جاريته، و أخبرتني أنها أخذته من بعض عجائز المدينة. فقال المأمون

ص: 240


1- الحبا: جمع حبوة (بضم الأوّل و كسره في المفرد و الجمع)، و هي الثوب الذي يحتبى به. و الاحتباء: ضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما. و يكنى بحل الحبا عن القيام كما يكنى بعقدها عن القعود. يريد: أن للممدوحين حلما إذا استفز الجهل أهل الجهل غضبا و طيشا.
2- لعله يريد بجمان هذا: قهرمانا أو وكيلا لعلي بن هشام، و قد سقطت هذه الكلمة في ج.
3- الشعر لحاتم الطائي، يخاطب ماوية بنت عفزر و قد خطبها حاتم إلى أهلها، و له في ذلك معها حديث طويل. (انظر كتاب «الشعر و الشعراء» ص 126 طبع أوروبا، و «الأغاني» ج 16 ص 105 طبع بولاق).
4- قرة: باردة.

لإسحاق: ويلك! قد صرت تسرق الغناء و تدّعيه، اسمع هذا الصوت؛ فسمعه فقال: هذا و حياتك لحني، و قد وقع عليّ فيه نقب من لصّ حاذق، و أنا أغوص عليه حتّى أعرفه؛ ثم بكّر إلى عبد اللّه بن طاهر فقال: أ هذا حقّي و حرمتي و خدمتي! تأخذ لميس لحني في:

أ ماويّ أنّ المال غاد و رائح

فتغنّيه في: «و هبّت شمال»! و ليس بي ذلك، و لكن بي أنّها فضحتني عند الخليفة و ادّعت أنها أخذته من بعض عجائز المدينة؛ فضحك عبد اللّه و قال: لو كنت تكثر عندنا كما كنت تفعل لم تقدم عليك لميس و لا غيرها؛ فاعتذر فقبل عذره، و قال له: أيّ شيء تريد؟ قال: أريد أن تكذّب نفسها عند من ألقته عليها حتى/يعلم الخليفة بذلك؛ قال: أفعل؛ و مضى إسحاق إلى المأمون و أخبره القصّة؛ فاستكشفها من لميس حتى وقف عليها، و جعل يعبث بإسحاق بذلك مدّة.

غنى محمدا الأمين في شعر له فيه فأجازه:
اشارة

حدّثني جحظة قال حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر قال/حدّثتني شهوات(1) الصّنّاجة التي كان إسحاق أهداها إلى الواثق:

أن محمدا الأمين لمّا غنّاه إسحاق لحنه الذي صنعه في شعره و هو الثقيل الأوّل:

صوت

يا أيّها القائم الأمين فدت *** نفسك نفسي بالمال و الولد

بسطت للنّاس إذ وليتهم *** يدا من الجود فوق كلّ يد

فأمر له بألف ألف درهم؛ فرأيتها قد وصلت إلى داره يحملها مائة فرّاش.

سأله الواثق، و هو يغنيه شعرا، عن أحسن ما فيه أعجب بجوابه و أجازه:
اشارة

حدّثني جحظة و محمد بن خلف بن المرزبان قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

غنّيت الواثق:

صوت

عفا طرف القريّة فالكثيب *** إلى ملحاء ليس بها عريب(2)

تأبّد رسمها و جرى عليها *** سوافي الريح و التّرب الغريب

- و لحنه ثقيل ثان - قال: فقال لي: يا إسحاق، قد أحسن ابن هرمة في البيتين، فأيّ شيء هو أحسن فيهما من جميعهما؟ قال قلت: قوله: «الترب الغريب»، يريد أنّ الريح جاءت إلى الأرض بتراب ليس منها فهو غريب جاءت به من موضع بعيد؛ فقال: صدقت و أحسنت؛ و أمر لي بخمسين ألف درهم.

ص: 241


1- في «مختار الأغاني» (ص 159): «شهوار» بالراء المهملة.
2- تقدّم هذا الشعر في ص 214 من هذا الجزء مع التعليقات عليه فراجعه.
أمر ابن المدبر مغنيا أن يزيد بيتا على لحن له:
اشارة

حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن الحسن بن الحرون قال:

كنّا يوما عند أحمد بن المدبّر، فغنّاه مغنّ كان عنده لحن إسحاق:

صوت

فأصبحت كالحومان(1) ينظر حسرة *** إلى الماء عطشانا و قد منع الوردا

و قال ابن المدبّر: زد فيه:

و أمسيت كالمسلوب مهجة نفسه *** يرى الموت في صدّ الحبيب إذا صدّا

لحن إسحاق في هذا البيت من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر.

أنشد مروان بن أبي حفصة شعرا له فأدهشه:

حدّثني الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد الأزديّ قال حدّثني شيخ من ولد المهلّب قال:

دخل مروان بن أبي حفصة يوما على إبراهيم الموصليّ، فجعلا يتحدّثان إلى أن أنشد إسحاق بن إبراهيم مروان بن أبي حفصة لنفسه:

إذا مضر الحمراء(2) كانت أرومتي *** و قام بنصري خازم و ابن خازم(3)

عطست بأنف شامخ و تناولت *** يداي الثّريّا قاعدا غير قائم

/قال: و جعل إبراهيم يحدّث مروان و هو عنه ساه مشغول، فقال له: مالك لا تجيبني؟ قال: إنك و اللّه لا تدري ما أفرغ ابنك هذا في أذني.

طرب لشعر أعرابي و سكر حتى انصرف محمولا:
اشارة

حدّثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني موسى بن هارون عن يعقوب بن بشر قال:

كنت مع إسحاق الموصليّ في نزهة، فمرّ بنا أعرابيّ، فوجّه إسحاق خلفه بغلامه زياد الذي يقول فيه:

و قولا لساقينا زياد يرقّها *** فقد هدّ(4) بعض القوم سقي زياد

ص: 242


1- الحومان: العطشان، من حام يحوم إذا عطش. و في ح: «كالحيران»، و لعل صوابها «الحرّان»، و الحرّان: الشديد العطش.
2- قيل لمضر: مضر الحمراء (بالإضافة) لأن أباهم مضر لما اقتسم هو و ربيعة الميراث أعطى مضر الذهب (و هو يؤنث) و أعطى ربيعة الخيل، فقيل لهذا: مضر الحمراء و لذاك ربيعة الفرس. و يقال: لأنه كان شعار مضر في الحرب العمائم و الرايات الحمر. (راجع «لسان العرب» مادة «مضر»).
3- تقدّم هذان البيتان في أوّل ترجمة إسحاق (ص 278 من هذا الجزء) برواية البيت الأوّل هكذا: إذا كانت الأحرار أصلي و منصبي و دافع ضيمي... إلخ و هي الرواية التي تتفق مع الواقع، إذ إسحاق الموصلي لم تكن أرومته مضر الحمراء بل كان أصله فارسيا. و ورد في بعض الأصول هنا: «حازم و ابن حازم» بالحاء المهملة، و هو تصحيف.
4- هدّه الأمر: بلغ منه و أعياه.

قال: فوافانا الأعرابيّ، فلمّا شرب و سمع حنين الدّواليب قال:

صوت

بكرت تحنّ و ما بها وجدي *** و أحنّ من وجد إلى نجد

فدموعها تحيا الرّياض بها *** و دموع عيني أقرحت خدّي

و بساكني نجد كلفت و ما *** يغني لهم كلفي و لا وجدي

لو قيس وجد العاشقين إلى *** وجدي لزاد عليه ما عندي

قال: فما انصرف إسحاق إلى بيته إلاّ محمولا سكرا، و ما شرب إلاّ على هذه الأبيات.

و الغناء فيها لإسحاق هزج بالبنصر.

قصته مع الفضل بن الربيع بشأن البساط:

أخبرني محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه، و أخبرني به الحسن بن عليّ عن عبد اللّه بن أبي سعد عن محمد بن عبد اللّه عن إسحاق قال:

/دخلت على الفضل بن الرّبيع و هو على بساط سوسنجرديّ(1) ستيني مذهب يلمع عليه مكتوب: «مما أمر بصنعته حمّاد عجرد»؛ فقال لي: أ تدري من حمّاد عجرد؟ قلت: لا؛ قال: حمّاد عجرد كان والي تلك الناحية؛ أ فرأيت مثله قطّ؟ قلت: لا، فسكت؛ ثمّ قلت: أ هكذا يفعل الناس؟ قال: أيّ شيء يفعلونه؟ قلت: تهبه لي؛ قال:

لا أفعل؛ قلت: إذا أغضب؛ قال: ما شئت افعل؛ فخرجت متغاضبا؛ فلمّا وافيت منزلي إذا برسوله قد لحقني بالبساط؛ فكتبت إليه بيتين لحمزة بن مضر:

و لقد عددت فلست أحصي كلّ ما *** قد نلت منك من المتاع المونق

بخديعتي فأراك منخدعا لها *** و فكاهتي و تغضّبي و تملّقي

- قال ابن أبي سعد في خبره: - فلمّا دخلت عليه ضحك و قال لي: البيتان خير من البساط، فالفضل الآن لك علينا.

رآه ابن بانة يناظر إبراهيم بن المهدي فلم يفهم ما يقولان:

أخبرني يحيى بن عليّ و أحمد بن جعفر جحظة عن أبي العبيس بن حمدون عن عمرو بن بانة قال:

رأيت إبراهيم بن المهديّ يناظر إسحاق في الغناء، فتكلّما بما فهماه و لم أفهم منه شيئا؛ فقلت لهما: لئن كان ما أنتما فيه من الغناء فما نحن منه في قليل و لا كثير.

شعره في الواثق:
اشارة

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال حدّثني إسحاق قال:

قدمت على الواثق في بعض قدماتي، فقال لي: أ ما اشتقت إليّ؟ فقلت: بلى و اللّه يا أمير المؤمنين، و أنشدته:

ص: 243


1- في أ، ء، م هكذا: «سوء منجرد ستيني». و في سائر الأصول: «سوسنجرد» من غير ياء النسب. و سوسنجرد: قرية من قرى بغداد.

/

أشكو إلى اللّه بعدي عن خليفته *** و ما أعالج من سقم و من كبر

لا أستطيع رحيلا إن هممت به *** يوما إليه و لا أقوى على السّفر

أنوي الرّحيل إليه ثمّ يمنعني *** ما أحدث الدهر و الأيام في بصري

قال: [و](1) قال و قد أشخصه إليه قصيدته الداليّة:

صوت

ضنّت سعاد غداة البين بالزاد *** و أخلفتك فما توفي بميعاد

ما أنس لا أنس منها إذ تودّعنا *** و الحزن منها و إن لم تبده بادي

لإسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى، يقول فيها:

لمّا أمرت بإشخاصي إليك هفا *** قلبي حنينا إلى أهلي و أولادي

/ثم اعتزمت و لم أحفل بينهم *** و طابت النفس عن فضل و حمّاد

كم نعمة لأبيك الخير أفردني *** بها و عمّ بأخرى بعد إفراد

فلو شكرت أياديكم و أنعمكم *** لما أحاط بها وصفي و تعدادي

لأشكرنّك ما ناح الحمام و ما *** حدا على الصبح في إثر الدّجى حادي

قال عليّ بن يحيى: قال لي أحمد بن إبراهيم: يا أبا الحسن، لو قال الخليفة لإسحاق: أحضرني فضلا و حمّادا أ ليس كان قد افتضح من دمامة خلقهما و تخلّف شاهدهما.

كتب إليه ابن المهدي يأسف لفقدان من يحكم بينهما:

حدّثني جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ قال:

كتب أبي إلى إسحاق في شيء خالفه فيه من التّجزئة و القسمة: «إلى من أحاكمك و النّاس بيننا حمير!».

قصة ذهابه إلى تل عزاز حين خرج مع الرشيد:
اشارة

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا سليمان بن أيّوب قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ قال حدّثنا إسحاق قال:

كنت مع الرشيد حين خرج إلى الرّقّة، فدخل يوما إلى النساء، و خرجت فمضيت إلى تلّ عزاز(2)، فنزلت عند خمّارة هناك فسقتني شرابا لم أر مثله حسنا و طيبا و طيب رائحة في بيت مرشوش و ريحان غضّ، و برزت بنت لها كأنّها خوط(3) بان أو جدل عنان، لم أر أحسن منها قدّا، و لا أسيل خدّا، و لا أعتق وجها، و لا أبرع ظرفا، و لا أفتن طرفا، و لا أحسن كلاما، و لا أتمّ تماما؛ فأقمت عندها ثلاثا و الرشيد يطلبني فلا يقدر عليّ؛ ثم انصرفت فذهبت بي

ص: 244


1- الزيادة عن أ، ء، م.
2- عزاز: ذكره ياقوت في «معجمة» فقال: «ذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب «الديرة»: أن عزاز بالرقة، و أنشد عليه لإسحاق الموصلي...». ثم ساق ياقوت بعد ذلك البيتين الأولين من الأربعة الأبيات التالية.
3- الخوط: الغصن الناعم. و الجدل: الحبل المفتول.

رسله، فدخلت عليه و هو غضبان؛ فلمّا رأيته خطرت في مشيتي و رقصت، و كانت في فضلة من السّكر، و غنّيت:

صوت

إنّ قلبي بالتّلّ تلّ عزاز *** عند ظبي من الظّباء الجوازي(1)

شادن يسكن الشّام و فيه *** مع دلّ العراق ظرف الحجاز

يا لقومي لبنت قسّ أصابت *** منك صفو الهوى و ليست تجازي

حلفت بالمسيح أن تنجز الوع *** د و ليست تجود بالإنجاز

- الغناء لإسحاق خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة - قال إسحاق: فسكن غضبه، ثم قال لي: أين كنت؟ فأخبرته؛ فضحك و قال: إنّ مثل هذا إذا اتّفق/لطيّب، أعد غناءك، فأعدته، فأعجب به، و أمرني أن أعيده ليلة من أوّلها إلى آخرها؛ و أخذها(2) المغنّون منّي جميعا و شربنا إلى طلوع الفجر، ثم انصرفنا فصلّيت الصبح و نمت؛ فما استقررنا حتى أتى إليّ رسول الرشيد فأمرني بالحضور، فركبت و مضيت؛ فلمّا دخلت وجدت ابن جامع قد طرح نفسه يتمرّغ على دكّان(3) في الدار لغلبة السّكر عليه، ثم قال: أ تدري لم دعينا؟ فقلت: لا و اللّه؛ قال: لكنّي أدري، دعينا بسبب نصرانيّتك الزانية، عليك و عليها لعنة اللّه؛ فضحكت. فلمّا دخلت على الرشيد أخبرته بالقصة، فضحك و قال: صدق، عودوا فيه فإنّي اشتقت إلى ما كنّا فيه لمّا فارقتموني؛ فعدنا فيه يومنا كلّه حتى انصرفنا.

شعره إلى المأمون حين وجد عليه لما ترك الغناء:
اشارة

أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال:

كان إسحاق قد أظهر التوبة و غيّر زيّه و احتجر(4) من حضور دار/السلطان. فبلغه أنّ المأمون وجد عليه من ذلك و تنكّر؛ فكتب إسحاق إليه و غنّى فيه بعد ذلك:

صوت

يا ابن عمّ النبيّ سمعا و طاعه *** قد خلعنا الرّداء و الدّرّاعه

و رجعنا إلى الصّناعة لمّا *** كان سخط الإمام ترك الصّناعه

الغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو - و قد ذكر الغلابيّ أن هذا الشعر لأبي العتاهية، قاله لمّا حبسه الرشيد و أمره بأن يقول الشعر - و ذكر حبش أن هذا اللحن لإبراهيم.

تفصيل لحنين له على لحني ابن سريج و معبد:

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال:

ص: 245


1- الجوازي (أصله بالهمز): جمع جازئة، و هي من الظباء التي استغنت بالرطب (الرعي الأخضر من البقل و الشجر) عن الماء.
2- كذا في جميع الأصول، و لعله: «و أخذه» أي الغناء.
3- الدكان: مقعد يدك و يجلس عليه و هو يشبه ما يسمى بالمصطبة الآن.
4- احتجر: امتنع. و في ء: «احتجز» بالزاي المعجمة، و معناه امتنع أيضا.

قال لي محمد بن الحسن بن مصعب، و كان بصيرا بالغناء و النّغم: لحن إسحاق في «تشكّى الكميت الجري» أحسن من لحن ابن سريج، و لحنه في «يوم تبدى لنا قتيلة» أحسن من لحن معبد، و ذلك من أجود صنعة معبد.

قال: فأخبرت إسحاق بقوله، فقال: قد و اللّه أخذت بزمامي راحلتيهما و زعزعتهما(1) و أنخت بهما فما بلغتهما.

فأخبرت بذلك محمد بن الحسن؛ فقال: هو و اللّه يعلم أنه برّز عليهما، و لكنه لا يدع تعصّبه للقدماء.

و أخبرني جحظة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق:

أنّ رجلا سأل أباه فقال له: إنّ الناس قد كثّروا في صوتيك: «تشكّى الكميت الجري» و «يوم تبدى لنا قتيلة»، و قالوا: إنهما أجود من لحني ابن سريج و معبد؛ قال أبي: ويحك! رميت في هذين الصوتين بمعبد و ابن سريج و هما هما، فقربت و وقع القياس بيني و بينهما، و على ذلك فقد و اللّه أخذت بزمامي راحلتيهما و انتصفت منهما.

تحليل غنائه:

قرأت في بعض الكتب أن محمد بن الحسن - أظنّه ابن مصعب - ذكر إسحاق الموصليّ فقال:

كانت صنعته محكمة الأصول، و نغمته عجيبة الترتيب، و فسمته معدّلة الأوزان، و كان يتصرّف في جميع بسط الإيقاعات، فأيّ بساط منها أراد أن يتغنّى فيه صوتا قصد أقوى صوت جاء في ذلك البساط لحذّاق القدماء فعارضه:

و قد كان يذهب مذهب الأوائل، و يسلك سبيلهم، و يقتحم طرقهم؛ فيبني على الرّسم فيصنعه، /و يحتذى على المثال فيحكيه(2)، فتأتي صنعته قويّة وثيقة يجمع فيها حالتين: القوّة في الطّبع و سهولة المسلك، و خنثا بين كثرة النّغم و ترتيبها في الصّياح و الإسجاح؛ فهي بصنعة الأوائل أشبه منها بصنعة المتوسّطين من الطبقات؛ فأما المتأخرون فأحسن أحوالهم أن يرووها فيردّوها. و كان حسن الطبع في صياحه، حسن التلطّف، لتنزيله(3) من الصّياح إلى الإسجاح على ترتيب بنغم يشاكله، حتّى تعتدل و تتّزن أعجاز الشعر في القسمة بصدوره. و كذلك أصواته كلّها، و أكثرها يبتدئ الصوت فيصيح فيه - و ذلك مذهبه في جلّ غنائه؛ حتى كان كثير من المغنّين يلقّبونه الملسوع؛ لأنه يبدأ بالصّياح في أحسن نغمة فتح بها أحد فاه - ثم يردّ نغمته فيرجّحها ترجيحا و ينزّلها تنزيلا حتى يحطّها من تلك الشدّة إلى ما يوازيها من اللين، ثم يعود فيفعل مثل ذلك، فيخرج من شدّة إلى لين و من لين إلى شدّة؛ و هذا أشدّ ما يأتي في الغناء و أعزّ ما يعرف من الصّنعة. قال يحيى بن عليّ بن يحيى و قد ذكر إسحاق في صدر كتابه الذي ألّف في أخباره [و زاد في بعض ما صنعه](4): «و كان إسحاق أعلم أهل زمانه بالغناء، و أنفذهم في جميع فنونه، و أضربهم بالعود و بأكثر آلات الغناء، و أجودهم صنعة، و قد تشبّه بالقديم و زاد في بعض ما صنعه عليه، و عارض ابن سريج و معبدا فانتصف منهما؛ و كان إبراهيم بن المهديّ ينازعه في هذه الصناعة و لم يبلغه فيها، و لم يكن بعد إسحاق مثله».

ص: 246


1- زعزعهما: ساقهما سوقا عنيفا.
2- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «فيحكمه».
3- لعله «لتنزله». و التنزل: النزول في مهلة.
4- كذا في أكثر الأصول. و في س: «و زاد في بعض ما صنعوا». على أنه غير واضح وجه ارتباط هذه العبارة بما يتصل بها، فلعلها زيدت سهوا من النساخ.
تشبيهه لصوت له:
اشارة

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني إبراهيم بن عليّ بن هشام:

/قال إسحاق و ذكر صوته:

صوت

كان افتتاح بلائي النّظر *** فالحين سبّب ذاك و القدر

قد كان باب الصّبر مفتتحا *** فاليوم أغلق بابه النّظر

- الشعر و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر. و فيه لأحمد بن المكّيّ خفيف ثقيل، و لعريب ثاني ثقيل، جميعا عن الهشاميّ - قال إسحاق: ما شبّهت صوتي هذا إلاّ بإنسان أخذ الكرة على الطّبطابة(1) و أهل الميدان جميعا خلفه، فلمّا بلغ أقصى ضربها أحجزها.

قصته مع يحيى بن معاذ و الأمين:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن يزيد المهلّبيّ قال حدّثني إسحاق، و أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبي أيّوب المدينيّ عن ابن المكّيّ عن إسحاق قال:

صنعت هذا الصوت في آخر أيام الرشيد و كان إذ ذاك يحيى بن معاذ يشرب النبيذ؛ فلمّا كان في أيام محمد غنّيته، فاشتهاه و اشتهر به، و بعث إلى يحيى بن معاذ و أنا أغنّيه:

اسقني و ابن نهيك *** و ابن يحيى بن معاذ

فلمّا حضر يحيى غنّيت:

فاسقني واسق نهيكا *** واسق يحيى بن معاذ

فبعث إليه محمد فأحضره(2) فقال: لتشربنّ أو لأعاقبنّك؛ فلم يبرح حتى شرب قدحا، و غلّفه(3) و أمر له بمال، و سرّ بذلك محمد و وهب لي عليه مالا، و انصرفت إلى/البيت؛ فجاءني رسول يحيى بن معاذ فصرت إليه، فلم يزل يستحلفني ألاّ أعود في هذا الصوت قدّام محمد أبدا، و أمر لي من المال بشيء فلم أقبله، و لم أعد فيه.

نسبة هذا الصوت
صوت
شعر عليّ بن هشام الذي غنى فيه:

يومنا يوم رذاذ *** و اصطباح و التذاذ

ص: 247


1- الطبطابة: خشبة عريضة يلعب بها بالكرة.
2- سياق الكلام يقتضي أن تكون العبارة بعد البيت: «فقال محمد: لتشربن... إلخ». مع حذف الباقي، و لعله زيد سهوا.
3- غلفه: طيبه بالطيب. و كان من أخلاق الملك تفرده بالتطيب و التجمل و نحوهما و لا تشركه في ذلك بطانته و ندماؤه. (راجع كتاب «التاج» للجاحظ طبع بولاق ص 46-49).

فاسقنى و ابن نهيك *** و ابن يحيى بن معاذ

من كميت(1) عتّقت للش *** يخ كسرى بن قباذ

ليس للمرء من الهمّ *** سواها من ملاذ

الشعر لعليّ بن هشام، و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو.

أخبرني بقوله عليّ بن هشام و الحسن بن عليّ قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أحمد بن/القاسم الهاشميّ(2) قال حدّثني أبو عبد اللّه الهلاليّ قال:

كنت عند عليّ بن هشام يوما إذ رشّت السماء رشّا و طشّت؛ فأنشأ عليّ يقول:

يومنا يوم رذاذ *** و اصطباح و التذاذ

- و ذكر الأبيات الأربعة - ثم قال لغلامه: اذهب إلى أحمد بن يحيى بن معاذ و قل له: يقول لك أخوك: هذا يوم طيّب، فتعال أنت و غلاماك بنان و عثعث؛ فجاء إلى بابه الرسول و عليه غرماء له، فمنعوه الدخول عليه؛ فقال لهم: كم لكم عليه؟ قالوا: مائتا ألف درهم؛ فرجع الغلام إلى عليّ بن هشام فأخبره بالخبر و مبلغ مالهم عليه من الدّين؛ فقال له: احمل إليه مائتي ألف درهم و جيء به و بغلاميه الساعة فحملها؛ فجاء أحمد بن يحيى و معه غلاماه، فقال لعليّ بن هشام: لم تحمّلت هذا لي! أنا و اللّه/منتظر ما لا يجيء فأعطيهم؛ فقال له: مالي و مالك واحد. فتغدّيت معهما حتى جاءت الحلواء؛ فقال: أكثر من الحلواء فلست تدخل معنا في ديواننا (يعني الشّرب)؛ فأكلت و غسلت يديّ؛ فقال لغلامه سراج: احمل مع أبي عبد اللّه الهلاليّ ثلاثين ألف درهم؛ فانصرفت و هي معي.

تذكر في كبره شعرا له في صباه فبكى:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا سليمان المدائنيّ عن ابن المكّيّ عن أبيه قال حدّثني إسحاق قال:

تعشّقت جارية فقلت فيها:

هل إلى أن تنام عيني سبيل *** إنّ عهدي بالنوم عهد طويل

غاب عنّي من لا أسمّي فعيني *** كلّ يوم عليه حزنا تسيل

- الشعر و الغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو. و فيه لعريب خفيف رمل آخر. و فيه لمحمد بن حمزة وجه القرعة خفيف ثقيل، و قيل: إنه لابن المكّيّ. و فيه رمل بالوسطى ينسب إلى علّويه و إلى حسين بن محرز - قال إسحاق: ثم ملكتها، فكنت مشغوفا بها، حتى كبرت و اعتلّت عليّ عيناي، فذكرت هذا الصوت و أيامه المتقدّمة، فما زلت أبكي و أذكر دهري الذي تولّى. و أخبرني بهذا الخبر الحسن بن عليّ عن يزيد المهلّبيّ عن إسحاق؛ و ليس هذا على التمام.

حكم يحيى المكي على لحن له عند المأمون:

أخبرني جحظة عن محمد بن أحمد بن يحيى المكّيّ عن أبيه قال:

ص: 248


1- الكميت: الخمر التي فيها سواد و حمرة.
2- في ج: «الهشامي».

دعا المأمون بإسحاق فأحضره، فأمره أن يغنّي في هذا الصوت [فغنّى](1):

هل إلى أن تنام عيني سبيل

/فغنّاه؛ و كنت حاضرا فقلت: أحسن و اللّه يا أمير المؤمنين، و ما عدا بلحنه معنى شعره؛ فقال المأمون: فإنّا نردّ الحكم إلى من هو أعلم بذلك منك؛ فبعث إلى أبي (يعني يحيى المكيّ) فجيء به، فخبّره بما قلت و ما قال، و أمر إسحاق بردّ الصوت فردّه؛ فقال يحيى: أحسن إسحاق في غنائه و أحسن ابني في استحسانه، إلاّ أنّ هذا اللحن يحتاج أن يسمع من غير حلق إسحاق؛ فضحك المأمون، و أمر لإسحاق بمال و أمر لأبي بمثله و لي بمثله.

قال: و لم يكن في إسحاق شيء يعاب إلاّ حلقه، و كان يغلب الناس جميعا بطبعه و حذقه.

ضعف بصره و السبب في ذلك:
اشارة

قال: و أما السبب في علّة عين إسحاق و ضعف بصره، فأخبرني به محمد بن خلف وكيع قال حدّثني به أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ:

أنّ إبراهيم ابن أخي سلمة(2) الوصيف نازع إسحاق في شيء بين يدي الرشيد من الغناء، فردّ عليه، فشتمه، فردّ عليه إسحاق و أربى في الردّ؛ فقال له إبراهيم: /أ تردّ عليّ و أنا مولى أمير المؤمنين! فقال له: اسكت فإنك من موالي العيدين(3)؛ فقال له الرشيد: و أيّ شيء موالي العيدين؟ قال: يا أمير المؤمنين، يشترى للخلفاء كلّ صانع و كلّ ضرب في العبيد للعتق؛ فيكون فيهم الحجّام و الحائك و السائس؛ فهو أحد هؤلاء الذين ذكرت. قال: و خرج إبراهيم فوقف له على طريقه، فلمّا جاز عليه منصرفا ضرب رأسه بمقرعة فيها معول؛ فكان ذلك سبب ضعف بصر إسحاق. و بلغ الرشيد الخبر، فأمر بأن يحجب عنه إبراهيم، و حلف ألاّ يدخل عليه؛ فدسّ إلى الرشيد من غنّاه:

صوت

من لعبد أذلّه مولاه *** ما له شافع إليه سواه

يشتكي ما به إليه و يخشا *** ه و يرجوه مثل ما يخشاه

- الشعر لأبي العتاهية، و الغناء لإبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف خفيف رمل. و فيه لعريب ثقيل أوّل. و قيل:

إن لابن جامع فيه خفيف رمل آخر - فلمّا غنّي الرشيد بهذه الأبيات، سأل عن صاحب لحنها فعرّفه، فحلف ألاّ يرضى عنه حتى يرضى إسحاق، فقام إسحاق فقال: قد رضيت عنه يا سيّدي رضاء حسنا، و قبّل الأرض بين يديه شكرا لما كان من قوله؛ فرضي عنه و أحضر و أمره بترضّي إسحاق ففعل.

قصته مع إبراهيم ابن أخي سلمة بسبب الدخول على الرشيد:

و أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:

جاء إبراهيم ابن أخي سلمة إلى الرشيد فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّي أحبّ أن تشرّفني بأن تكون نوبتي و نوبة

ص: 249


1- سياق الكلام يأبى هذه الكلمة، و لعلها زيدت من النساخ.
2- في جميع الأصول هنا: «إبراهيم بن أبي سلمة»، و قد آثرنا ما أثبتناه لأن الأصول قد اتفقت عليه عند ذكره في المرّات التالية.
3- في ح، س، ب: «موالي العيرين» بالراء المهملة.

إسحاق الموصليّ في مكان، و أن يكون دخولي إليك و دخوله في مكان، فإن رأيت أن تجعل ذلك كما سألت فعلت؛ قال: قد فعلت؛ و لم أكن حاضرا لمسألته. فلمّا كان يوم دخولي عليه جاءني إبراهيم فدقّ بابي دقّا عنيفا و عرّفني الغلام خبره؛ فقلت له: يدخل؛ فأبى و قال له: قل له اخرج أنت؛ فساء ظنّي و اغتممت، فخرجت إليه فقلت له: ما الخبر؟ قال: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بالحضور و يأمرك أ لا تدخل الدار إلاّ معي بعد أن أوجّه إليك فتركب إليّ و تمضي معي؛ فمضيت معه على رغمي و أنا منكسر، و كنت بقيّة يومي على تلك الحال. ثم ركبت إلى الفضل بن الرّبيع فشكوت ذلك إليه؛ فقال: ما أرى أمير المؤمنين يحلّك هذا المحلّ؛ قم بنا إليه؛ فقمت معه، فدخل إلى الرشيد فقال له: يا أمير المؤمنين، إسحاق و خدمته و حقوق أبيه عليك و على أمير المؤمنين/المهديّ تضع مقداره أن تجعله مضموما إلى إبراهيم ابن أخي سلمة؛ قال: لا و اللّه ما فعلت هذا؛ قال: إنه قد جاءني يبكي و يحلف إن جرى عليه هذا تاب من الغناء و تركه جملة، ثم لو قتل لم يعد إليه؛ فقال: ويحك! و اللّه ما جرى من هذا شيء، إلاّ أنّ إبراهيم ابن أخي سلمة جاء فقال: تشرّفني أن تجعل نوبتي مع نوبة إسحاق و وصولي مع وصوله ففعلت؛ فقل له: يجيء متى شاء و ينفرد عنه و لا يجيء معه و لا كرامة؛ فأخبرني فرجعت. فلمّا كانت نوبتي جاء إبراهيم إليّ ففعل مثل فعله؛ فقلت لغلامي: اخرج إليه فقل له: و لا كرامة لك يا زاني يا ابن الزانية، لا أجيء معك و لا أدعك تجيء معي أيضا، و شتمه أقبح شتم؛ فخرج الغلام فأدّى إليه/الرسالة؛ فعلم أن هذا لم يتجرّأ عليه إلاّ بعد توثّق فخجل، فقال له: قل له: و من أكرهك على هذا! إنما أحببت أن نصطحب و نتأنّس في طريقنا، فإن كرهت هذا فلا تفعله؛ و انصرف و لم يعاودني بعدها.

كان له صوت إذا غناه أخذ بلحيته و بكى:

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن ابن المكّيّ عن أبيه قال:

كان إسحاق إذا غنّى هذا الصوت يأخذ بلحيته و يبكي:

إذا المرء قاسى الدهر و ابيضّ رأسه *** و ثلّم تثليم الإناء جوانبه

فللموت خير من حياة خسيسة *** تباعده طورا و طورا تقاربه

الشعر لزبّان بن سيّار الفزاريّ، حدّثني بذلك الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير بن بكّار عن عمّه. و الغناء لإسحاق رمل بالوسطى.

جفاه المأمون فأمر هو علويه أن يغنيه بشعر له فرضي عنه:
اشارة

أخبرنا محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه، و أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبيه عن إسحاق قال:

/أقام المأمون بعد قدومه عشرين شهرا لا يسمع حرفا من الأغاني، فكان أوّل من تغنّى بحضرته أبو عيسى بن الرشيد، ثم واظب على السماع متستّرا متشبّها في أوّل أمره بالرشيد، فأقام كذلك أربع حجج، ثم ظهر إلى النّدماء و المغنّين. و كان حين أحبّ السماع سأل عنّي، فجرحت بحضرته، و قال الطاعن عليّ: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة! قال المأمون: ما أبقى هذا من التيه شيئا إلا استعمله. فأمسك عن ذكري، و جفاني من كان يصلني، لسوء رأيه الذي ظهر فيّ؛ فأضرّ ذلك بي؛ حتى جاءني علّويه يوما فقال لي: أ تأذن لي في ذكرك؟ فإنّا قد

ص: 250

دعينا اليوم؛ فقلت: لا! و لكن غنّه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك: لمن هذا؛ فإذا سألك انفتح لك ما تريد، و كان الجواب أسهل عليك من الابتداء؛ فقال: هات، فألقيت عليه لحني في شعري:

صوت

يا سرحة(1) الماء قد سدّت موارده *** أما إليك طريق غير مسدود

لحائم حام حتّى لا حيام(2) له *** محلّإ عن طريق الماء مطرود

- الغناء لإسحاق رمل بالوسطى عنه و عن عمرو - قال: فمضى علّويه، فلما استقرّ به المجلس، غنّاه بالشعر الذي أمرته؛ فما عدا المأمون أن يسمع الغناء حتى قال: ويحك يا علّويه! لمن هذا؟ قال: يا سيّدي، لعبد من عبيدك جفوته و اطّرحته من غير جرم؛ فقال: أ إسحاق تعني؟ قال: نعم؛ قال: يحضر الساعة؛ فجاءني رسوله/فصرت إليه. فلمّا دخلت عليه قال: ادن فدنوت، فرفع يديه مادّهما، فانكببت عليه، و احتضنني بيديه، و أظهر من برّي و إكرامي ما لو أظهره صديق مؤانس لصديقه لبرّه.

غنى المعتضد بشعر له فمدحه:

أخبرني محمد بن إبراهيم الجرجاني قريض قال: قال لي أحمد بن أبي العلاء:

غنّيت المعتضد يوما و هو أمير صوت إسحاق:

يا سرحة الماء قد سدّت موارده *** أما إليك طريق غير مسدود

فطرب و استعاده مرارا، و قال: هذا و اللّه الغناء الذي يخالط الرّوح و يمازج اللحم و الدم.

صوته في شعر له، كان الناس يتهادونه كالطرف:
اشارة

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو العبيس بن حمدون قال أخبرني أبي قال:

لمّا غنّى إسحاق في شعره هذا:

صوت

لأسماء رسم عفا باللّوى *** أقام رهينا لطول البلى

تعاوره الدهر في صرفه *** بكرّ الجديدين حتّى عفا

- الشعر لإسحاق من قصيدة مدح بها الرشيد، و الغناء له ثاني ثقيل بالوسطى. و فيه لسليم ثقيل أوّل من رواية الهشاميّ، و ذكر حبش أنه لإبراهيم بن المهديّ - قال: فكان الناس يتهادونه كما يتهادون الطّرفة و الباكورة. و قال أبو العبيس حدّثني ابن مخارق: أنّ الواثق بعث إلى أبيه مخارق لمّا صنع إسحاق هذا الصوت ليلقيه عليه، فصادفه عليلا

ص: 251


1- سرحة الماء: كنى بها هنا عن المرأة، قال الأزهري: «العرب تكنى عن المرأة بالسرحة النابتة على الماء»، و استشهد بهذين البيتين. و المحلأ: المطرود عن الماء، يقال: حلأه عن الماء: إذا طرده و منعه وروده.
2- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «لا حوام له». و لم نجد الحوام مصدرا من مصادر حام. و في «اللسان» و «مختار الأغاني»: «لا حراك به».

- و لم يكن أحد يلقن عن إسحاق طرح الغناء كما يلقنه مخارق - فأعاد إليه الرسول و معه محفّة، و قال: لا بدّ أن يجيء على كلّ حال؛ فتحامل و صار إليه حتى أخذ الصوت عن إسحاق و رجع.

كان يحب الشجاعة و الفروسية و شعر أخيه فيه حين أصابه سهم:

و ذكر محمد بن الحسين الكاتب عن أبي حارثة الباهليّ عن أخيه أبي معاوية:

أنّ إسحاق كان يتحلّى بالشجاعة و الفروسيّة و يحبّ أن ينسب إليهما، و يركب الخيل و يتعلّم بها آفة من الآفات المعترضة على العقول. و كان قد شهد بعض مشاهد الحروب فأصابه سهم فنكص على عقبيه؛ فقال أخوه طيّاب فيه:

و أنت تكلّفت ما لا تطيق *** و قلت أنا الفارس الموصلي

فلمّا أصابتك نشّابة *** رجعت إلى سنّك(1) الأوّل

حديث حمزة الزيات معه:

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن إسحاق قال:

قال حمزة الزّيات القارئ(2): يا موصليّ، إنّ لي فيك رأيا، أ فترضى مع فهمك و أدبك و رأيك أن يكون عوضك من الآخرة فضل مطعم على مطعم!.

شعر الأصمعي أو ابن المنذر العروضي فيه:

حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال أنشدني أبو سعيد السّكّري قال أنشدني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ لعمّه يقول لإسحاق:

أ إن تغنّيت للشّرب الكرام «أ لا *** ردّ الخليط جمال الحيّ فانفرقوا»

و قيل أحسنت فاستدعاك ذاك إلى *** ما قلت ويحك لا يذهب بك الخرق

و قيل أنت حسان الناس كلّهم *** و ابن الحسان فقد قالوا و قد صدقوا

فما بهذا تقوم النادبات و لا *** يثنى عليك إذا ما ضمّك الخرق

قال يحيى بن عليّ: إنّ هذه الأبيات تروى لابن المنذر العروضيّ و للأصمعيّ.

فسد ما بينه و بين الأصمعي و سبب ذلك و نتائجه و شعره فيه:

قال مؤلف هذا الكتاب: كان إسحاق يأخذ عن الأصمعيّ و يكثر الرواية عنه، ثم فسد ما بينهما، فهجاه إسحاق و ثلبه و كشف للرشيد معايبه، و أخبره بقلّة شكره و بخله و ضعة نفسه و أنّ الصّنيعة لا تزكو عنده، و وصف له أبا عبيدة

ص: 252


1- كذا في الأصول. و لعله محرف عن: «إلى شأنك» و نحوه مما يستقيم به الكلام.
2- يلاحظ أن حمزة الزيات القارئ (صاحب قراءة القرآن المعروفة) توفي سنة ست و خمسين و مائة في خلافة أبي جعفر المنصور بمدينة حلوان و هي في أواخر سواد العراق مما يلي بلاد الجبل (كما في كتاب «الطبقات الكبير في الكوفيين» لابن سعد - ج 6 ص 268 طبع مدينة ليدن سنة 1325 ه و «فهرست ابن النديم» ص 29 طبع أوروبا و «تاريخ ابن خلكان» ج 1 ص 235 طبع بولاق) و أن إسحاق الموصلي ولد سنة خمسين و مائة، فكيف يعقل أن يكون بينهما مثل هذا الحديث و إسحاق في هذه السن.

معمر بن المثنّى بالثقة و الصدق و السماحة و العلم؛ و فعل مثل ذلك للفضل بن الرّبيع و استعان به؛ و لم يزل حتى وضع مرتبة الأصمعيّ و أسقطه عندهم، و أنفذوا إلى أبي عبيدة من أقدمه.

أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

أنشدت الفضل بن الرّبيع أبياتا كان الأصمعيّ أنشدنيها في صفة فرس:

كأنه في الجلّ(1) و هو سامي *** مشتمل(2) جاء من الحمّام

/يسور(3) بين السّرج و اللّجام *** سور القطاميّ(4) إلى اليمام

قال: و دخل الأصمعيّ فسمعني أنشدها، فقال: هات بقيّتها؛ فقلت له: أ لم تقل إنه لم يبق منها شيء؟ فقال:

ما بقي منها إلاّ عيونها، ثم أنشد بعد هذه الأبيات ثلاثين بيتا منها، فغاظني فعله؛ فلمّا خرج عرّفت الفضل بن الربيع قلّة شكره لعارفة(5) و بخله بما عنده؛ و وصفت له فضل أبي عبيدة معمر بن المثنّى و علمه و نزاهته و بذله لما عنده و اشتماله على جميع علوم العرب، و رغّبته فيه، حتى أنفذ إليه مالا جليلا و استقدمه؛ فكنت سبب مجيئه به من البصرة.

أخبرني عمّي قال حدّثنا فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:

/جاء عطاء الملك بجماعة من أهل البصرة إلى قريب أبي الأصمعيّ، و كان ندلا من الرجال، فوجده ملتفّا في كسائه نائما في الشمس، فركضه برجله و صاح به: يا قريب، قم ويلك! فقال له: هل لقيت أحدا من أهل العلم قطّ أو من أهل اللغة أو من العرب أو من الفقهاء أو من المحدّثين؟ قال: لا و اللّه؛ قال: و لا سمعت شيئا ترويه لنا أو تنشدناه أو نكتبه عنك؟ قال: لا و اللّه؛ فقال لمن حضر: هذا أبو الأصمعيّ، فاشهدوا لي عليه و على ما سمعتم منه، لا يقل لكم غدا أو بعده: حدّثني أبي أو أنشدني أبي؛ ففضحه. قال الفضل: ثم مرض الأصمعيّ، و كان الحال بينه و بين إسحاق الموصليّ انفرجت؛ فعاده أبو ربيعة، و كان يرغب في الأدب و يبرّ أهله؛ فقال له الأصمعيّ: أقرضني خمسة آلاف درهم؛ فقال: أفعل. فقال له أبو ربيعة: فأيّ شيء تشتهي سوى هذا؟ فقال: أشتهي أن تهدي إليّ فصّا حسنا و سيفا قاطعا و بردا(6) حسنا و سرجا محلّى؛ فقال: أفعل، و بعث بذلك إليه لمّا عاد إلى منزله. و بلغ ذلك إسحاق فقال:

أ ليس من العجائب أنّ قردا *** أصيمع باهليّا يستطيل

و يزعم أنه قد كان يفتي *** أبا عمرو(7) و يسأله الخليل(8)

ص: 253


1- الجل للدابة: كالثوب للإنسان تصان به. و قد وردت هذه الكلمة في ب، س: «الحل» بالحاء المهملة، و هو تصحيف.
2- اشتمل الرجل: تلفف بثوبه و أداره على جسده كله.
3- يسور: يثب و يثور.
4- القطامي (بفتح أوّله و يضم): الصقر.
5- العارفة: المعروف.
6- كذا في ح: و في سائر الأصول: «برذونا». و الشعر الآتي يؤيد ما أثبتناه.
7- هو أبو عمرو بن العلاء أحد أئمة اللغة و الأدب، كان إمام أهل البصرة في القراءات و النحو و اللغة، أخذ عن جماعة من التابعين؛ قال أبو عبيدة: أبو عمرو أعلم الناس بالقراءات و العربية و أيام العرب و الشعر؛ و كان من أشراف العرب و وجهائها، مدحه الفرزدق و وثقه يحيى بن معين و غيره. مات سنة أربع و قيل: سنة تسع و خمسين و مائة.
8- هو الخليل بن أحمد اللغوي النحوي العروضي، الذي ابتدع علم العروض. مات سنة سبعين و مائة و قيل: سنة خمس و سبعين.

إذا ما قال قال أبي عجبنا *** لما يأتي به و لما يقول

و ما إن كان يدري ما دبير(1) *** أبوه إن سألت و ما قبيل

/و جلّله عطاء الملك عارا *** تزول الراسيات و لا يزول

نصحت أبا ربيعة فيه جهدي *** و بعض النصح أحيانا ثقيل

فقل لأبي ربيعة إذ عصاني *** و جار به عن القصد السبيل

لقد ضاعت برودك فاحتسبها(2) *** و ضاع الفصّ و السيف الصقيل

و سرج كان للبرذون زينا *** له في إثره جزعا صهيل

و أمّا الخمسة الآلاف فاعلم *** بأنّك غبنها لا تستقيل

و أنّ قضاءها فتعزّ عنها *** سيأتي دونه زمن طويل

أعجبته وصيفة عند الواثق فأنشده شعرا للمرار و غناه فيه فوهبها له:

حدّثني محمد بن مزيد قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

كنت جالسا بين يدي الواثق و هو وليّ عهد، إذ خرجت وصيفة من القصر كأنها خوط بان، أحسن من رأته عيني قطّ، تقدم عدّة وصائف بأيديهن المذابّ(3) و المناديل و نحو ذلك، فنظرت إليها نظر/دهش و هو يرمقني.

فلمّا تبيّن إلحاح نظري قال: مالك يا أبا محمد قد انقطع كلامك و بانت الحيرة فيك! فتلجلجت؛ فقال لي: رمتك و اللّه هذه الوصيفة فأصابت قلبك!؛ فقلت: غير ملوم؛ فضحك ثم قال: أنشدني في هذا المعنى؛ فأنشدته قول المرّار(4):

ألكني(5) إليها عمرك اللّه يا فتى *** بآية ما قالت متى هو رائح

و آية ما قالت لهنّ عشيّة *** و في السّتر حرّات الوجوه ملائح

/تخيّرن أرماكنّ فارمين رمية *** أخا أسد إذ طرّحته(6) الطوارح

فلبّسن مسلاس الوشاح كأنها *** مهاة لها طفل برمّان راشح(7)

فقال له الواثق: أحسنت بحياتي و ظرفت، اصنع فيها لحنا؛ فإن جاء كما نريد و أطربنا فالوصيفة لك؛ فصنعت

ص: 254


1- يقال: فلان لا يعرف ما قبيله و ما دبيره: أي لا يعرف ما قدامه و ما خلفه.
2- في أكثر الأصول: «فاحتبسها» بتقديم الباء على السين، و التصويب عن ح.
3- المذاب: جمع مذبة و هي ما يذب به كالمروحة.
4- هو المرار بن سعيد الفقعسي و له ترجمة في الجزء التاسع من هذا الكتاب (ص 158 طبع بولاق).
5- ألكني إلى فلان: أبلغه عني و تحمل إليه رسالتي.
6- صححها الأستاذ الشنقيطي في نسخته «طوّحته الطوائح». و طوّحته الطوائح: قذفته القواذف و رمت به الحوادث، و لا يقال المطوّحات و هو من النوادر.
7- قصر الرمان: بنواحي واسط القصب، و هي التي خربها الحجاج و سمي باسمها «واسط الحجاج». و الراشح: الصغير إذا قوي و مشي مع أمه و سعى خلفها، و يقال لأمه: راشح أيضا و مرشح (من أرشح) و مرشح (من رشح بالتضعيف).

فيه لحنا و غنّيته إيّاه، فاصطبح عليه و شرب بقيّة يومه و ليلته حتى سكر، [و](1) لم يقترح عليّ غيره، و انصرفت بالجارية.

غنى الواثق و هو لقس النفس فأطربه:

حدّثني عمّي قال حدّثني فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:

دخلت على الواثق يوما و هو خاثر(2) النفس، فأخذت عودا من الخزانة و وقفت بين يديه فغنّيته:

من الظباء ظباء همّها السّخب(3) *** ترعى القلوب و في قلبي لها عشب

أهوى الظباء اللواتي لا قرون لها *** و حليّها الدّرّ و الياقوت و الذهب

لا يغتربن و لا يسكنّ بادية *** و ليس يعرفن ما صرّ(4) و لا حلب

و في الذين غدوا، نفسي الفداء لهم *** شمس تبرقع أحيانا و تنتقب

يا حسن ما سرقت عيني و ما انتهيت *** و العين تسرق أحيانا و تنتهب

إذا يد سرقت فالقطع يلزمها *** و القطع في سرق العينين(5) لا يجب

/قال: فهشّ إليّ و نشط و دعا بطعام خفيف و أكلنا و اصطبح و أمر لي بمائة ألف درهم. [و] أخبرني به الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه عن عليّ بن الحسن عن إبراهيم بن محمد الكرخيّ عن إسحاق، فذكر مثله؛ و قال فيه: فأمر لي بعشرة آلاف درهم.

طلب من المأمون أن يدخل المقصورة معه يوم الجمعة فاشترى ذلك منه بمال:

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني [عبيد اللّه بن](6) عبد اللّه بن طاهر عن أخيه محمد قال:

كان إسحاق الموصليّ يدخل في مبطّنة و طيلسان مثل زيّ الفقهاء على المأمون؛ فسأله أن يأذن له في دخول المقصورة يوم الجمعة بدرّاعة سوداء و طيلسان أسود؛ فتبسّم المأمون و قال له: و لا كلّ هذا بمرّة يا إسحاق، و لكن قد اشترينا منك هذه المسألة بمائة ألف درهم حتى لا تغتمّ، و أمر بحملها إليه فحملت.

كان أبو خالد الأسلمي يمدحه و يقدم شعره:

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات عن أبي خالد الأسلميّ:

أنه ذكر إسحاق يوما و كان يفضّله و يعظّم شأنه و يقدّمه في الشعر تقديما مفرطا، فقال: ما قولكم في رجل محدث تشبّه بذي الرّمّة و قال على لسانه شعرا و غنّى فيه و نسبه إليه، فلم يشكك أحد سمعه أنه له و لا فطن لما فعل

ص: 255


1- التكملة عن ح.
2- خاثر النفس: ثقيلها غير طيب و لا نشيط.
3- راجع الحاشية رقم 2 ص 355 من هذا الجزء.
4- في أ، ء، م: «ما ضرع». و كذلك وردت في جميع الأصول فيما مضى.
5- في أ، ء، م: «في سرق بالعين».
6- هذه الكلمة ساقطة في ب، س سهوا من الطابع.

أحد إلاّ من حصّل شعر ذي الرمّة كلّه و رواه؛ فسئل أبو خالد عن هذا الشعر فقال:

/

و مدرجة(1) للريح تيهاء لم تكن *** ليجشمها زمّيلة غير حازم

يضلّ بها الساري و إن كان هاديا *** و تقطع أنفاس الرياح النواسم

/تعسّفت أفري جوزها(2) بشملّة *** بعيدة ما بين القرا و المناسم

كأنّ شرار المرو(3) من نبذها به *** نجوم هوت أخرى(4) الليالي العواتم

غنى المأمون بشعر في اللذات فردّ عليه:

حدّثني عمّي و أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:

غنّيت المأمون يوما هذين البيتين:

لأحسن من قرع المثاني و رجعها *** تواتر صوت الثغر يقرع بالثغر

و سكر الهوى أروى لعظمي و مفصلي *** من الشّرب في الكاسات من عاتق الخمر

فقال لي المأمون: أ لا أخبرك بأطيب من ذلك و أحسن؟ الفراغ و الشباب و الجدة.

أعتق غلامه فتحا لحسن جوابه:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى قال:

كان لإسحاق غلام يقال له فتح، يستقي الماء لأهل داره على بغلين من بغاله دائما؛ فقال إسحاق: قلت له يوما: أيّ شيء خبرك يا فتح؟ قال: خبري أنه ليس في هذه الدار أحد أشقى منّي و منك؛ قلت: و كيف ذلك؟ قال:

أنت تطعم أهل الدار الخبز و أنا أسقيهم الماء؛ فاستظرفت قوله و ضحكت منه، [ثم] قلت له: فأيّ شيء تحبّ؟ قال: تعتقني و تهب لي البغلين أستقي عليهما؛ فقلت له: قد فعلت.

شعره في أبي البصير و كان يدّعي الغناء بغير علم:

أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد الأسديّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال:

كان لأبي البصير الشاعر قيان، و كان يتكلّم في الغناء بغير علم و لا صواب فيضحك منه، فقال أبي فيه:

/

سكتّ عن الغناء فما أماري *** بصيرا لا و لا غير البصير

مخافة أن أجنّن فيه نفسي *** كما قد جنّ فيه أبو البصير

نهاه الرشيد عن الغناء إلا له أو لجعفر بن يحيى و قصته مع الفضل في ذلك:

أخبرني الحسين بن يحيى المرداسيّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

ص: 256


1- المدرجة: الطريق. و التيهاء: المفازة التي لا يهتدي فيها. و الزميلة: الضعيف الجبان.
2- جوز الشيء: وسطه و معظمه. و الشملة: الناقة السريعة. و القرا: الظهر. و المناسم: الأخفاف.
3- المرو: حجارة بيض رقاق برّاقة.
4- في أ، ء، م: «إحدى الليالي».

نهاني الرشيد أن أغنّي أحدا غيره، ثم استوهبني جعفر بن يحيى و سأله أن يأذن لي في أن أغنّيه ففعل، و اتّفقنا يوما عند جعفر بن يحيى و عنده أخوه الفضل، و الرشيد يومئذ يعقب علّة قد عوفي منها و ليس يشرب؛ فقال لي الفضل: انصرف إليّ الليلة حتى أهب لك مائة ألف درهم؛ فقلت له: إنّ الرشيد(1) قد نهاني ألاّ أغنّي إلاّ له أو لأخيك، و ليس يخفى عليه خبري، و أنا متّهم عنده بالميل إليكم، و لست أتعرّض له و لا أعرّضك، و لم أجبه. فلمّا نكبهم الرشيد قال: إيه يا إسحاق، تركتني بالرّقّة و جلست ببغداد تغنّي للفضل بن يحيى! فحلفت بحياته أنّي ما جالسته قطّ إلاّ على المذاكرة و الحديث، و أنه ما سمعني قطّ أغنّي إلا عند أخيه جعفر، و حلفت بتربة المهديّ أن يسأل عن هذا جميع من في الدار من نسائه؛ فسأل عنه فحدّثنه بمثل ما ذكرته له، و عرف خبر المائة الألف الدرهم التي بذلها لي فرددتها عليه. فلما دخلت عليه ضحك إليّ ثم قال: قد سألت عن أمرك فعرفت منه مثل ما عرّفتني، و قد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضا مما بذله لك الفضل.

تحدث بحديث لا إسناد فيه و سئل عن ذلك فأجاب:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن هارون عن إسحاق أنه كان يقول: الإسناد قيد الحديث؛ فتحدّث مرّة بحديث لا إسناد له، فسئل عن/إسناده، فقال: هذا من المرسلات عرفا.

أنشد الفضل شعر نصيب فأجازه:
اشارة

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن هارون عن أبيه، و حدّثني عمّي عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك عن إسحاق قال: أنشدت الفضل بن يحيى قول أبي الحجناء نصيب مولى المهديّ فيهم:

صوت

عند الملوك مضرّة و منافع *** و أرى البرامك لا تضرّ و تنفع

إنّ كان شرّ كان غيرهم له *** أو كان خير فهو فيهم أجمع

إنّ العروق إذا استسرّ(2) بها الثّرى *** أشر(3) النبات بها و طاب المزرع

فإذا جهلت من امرئ أعراقه *** و قديمه فانظر إلى ما يصنع

قال فقال: كأنّا و اللّه لم نسمع هذا الشعر قطّ، قد كنا وصلناه بثلاثين ألف درهم، و إذا نجدّد له الساعة صلة له و لك معه لحفظك الأبيات؛ فوصلنا بثلاثين ألف درهم.

عتب عليه المأمون في شيء فاسترضاه بشعر:

و أخبرني الصّوليّ قال حدّثني الحسن بن يحيى الكاتب أبو الجمّاز قال:

عتب المأمون على إسحاق في شيء؛ فكتب إليه رقعة و أوصلها إليه من يده؛ ففتحها المأمون فإذا فيها قوله:

ص: 257


1- في أ، ح، م: «إنه الرشيد و قد نهاني».
2- استسر: خفي.
3- أشر النبات: مرح و طال.

لا شيء أعظم من جرمي سوى أملي *** لحسن(1) عفوك عن ذنبي و عن زللي

فإن يكن ذا و ذا في القدر قد عظما *** فأنت أعظم من جرمي و من أملي

فضحك ثم قال: يا إسحاق، عذرك أعلى قدرا من جرمك، و ما جال بفكري، و لا أخطرته(2) بعد انقضائه على ذكري.

ما كان بينه و بين ابن بانة في مجلس الواثق و قصيدته في ذمه و مدح الواثق:
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ قال:

خرجنا مع الواثق إلى القاطول(3) للصيد، و معنا جماعة الجلساء و المغنّين و فيهم عمرو بن بانة و علّويه و مخارق و عقيد، و قدم إسحاق في ذلك الوقت فأخرجه معه؛ فتصيّد على القاطول ثم عاد فأكل و شرب أقداحا، ثم أمر بالبكور إلى الصّبوح فباكرنا و اصطبحنا. فغنّى عمرو بن بانة لحن إبراهيم الموصليّ:

صوت

بلوت أمور الناس طرّا فأصبحت *** مذمّمة عندي براء من الحمد

و أصبح عندي من وثقت بغيبه *** بغيض الأيادي كلّ إحسانه نكد(4)

- و لحنه خفيف رمل بالوسطى - فغنّاه على ما أخذه من إبراهيم بن المهديّ و قد غيّره. فقال الواثق لإسحاق:

أ تعرف هذا اللحن؟ فقال: نعم، هذا لحن أبي و لكنّه مما زعم إبراهيم بن المهديّ أنه جندره و أصلحه فأفسده و دمر(5) عليه؛ فقال له: غنّه أنت، فغنّاه فأتى به على حقيقته و استحسنه الواثق جدّا؛ فغمّ ذلك عمرو بن بانة فقال لإسحاق: أ فأنت مثل إبراهيم بن المهديّ حتّى تقول هذا فيه!؛ قال: لا و اللّه ما أنا مثله، أمّا على الحقيقة فأنا عبده و عبد أبيه، و ليس هذا مما نحن فيه؛ و أمّا الغناء فما دخولك أنت بيننا فيه! ما أحسنت قطّ أن تأخذ فضلا عن أن تغنّي، و لا قمت بأداء غناء فضلا عن أن تميّز بين المحسنين؛ و إلاّ فغنّ أيّ صوت شئت مما أخذته/عنه و عن غيره كائنا من كان، فإن لم أوضح لك و لمن حضر أنه لا يسلم لك صوت من نقصان أجزاء و فساد صنعة فدمى به رهن؛ فأساء عمرو الجواب/و أغلظ في القول؛ فأمضّه الواثق و شتمه و أمر بإقامته عن مجلسه فأقيم. فلمّا كان من الغد دخل إسحاق على الواثق فأنشده:

و مجلس باكرته بكورا *** و الطير ما فارقت الوكورا

و الصبح لم يستنطق العصفورا *** على غدير لم يكن دعثورا(6)

ص: 258


1- في أ، ء، م: «و حسن...».
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «أحضرته».
3- القاطول: اسم نهر يأخذ من دجلة في الجانب الشرقي، حفره كسرى أنوشروان العادل. و هو اسم نهر آخر أيضا كان حفره الرشيد في موضع «سرمن رأى» قبل أن يعمرها المعتصم، و كان يأخذ من دجلة أيضا.
4- النكد (بالفتح و بالضم): قلة العطاء و ألا يهنأه من يعطاه. و في هذا الشعر إقواء، و هو اختلاف حركة الرويّ.
5- يقال: دمر عليه (من باب نصر) دمرا و دمورا إذا دخل بغير إذن و هجم هجوم الشرّ.
6- الدعثور: الحوض المثلم، و قيل: هو الحوض الذي لم يتنوّق في صنعته و لم يوسع.

لم تر عيني مثله غديرا *** يجري حباب مائه مسجورا(1)

على حصى تحسبه كافورا *** تسمع للماء به خريرا

ينسج أعلى متنه سطورا *** نسيم ريح قد ونت فتورا

حتى تخال متنه حصيرا *** و الشّرب قد حفّوا به حضورا

و أمروا الساقي أن يديرا *** كأسهم الأصغر و الكبيرا

و أعملوا البمّ معا و الزّيرا *** و جاوبت عيدانهم زميرا

و قرّبوا المغنّي النّحريرا *** مقدّما في حذقه مشهورا

فهم يطيرون به سرورا *** و لا ترى في شربهم تقصيرا

و لا لصفو عيشهم تكديرا *** و لا لخلق منهم نظيرا

إلاّ رجيلا منهم سكّيرا *** معربدا موضّحا شرّيرا

مدّعيا للعلم مستعيرا *** يروم سعيا كاذبا مغرورا

و أن يكون عالما بصيرا *** مفضّلا بعلمه مذكورا

غمزته و لم يكن صبورا *** فعاذ منّي هاربا مذعورا

/بمعسر تحسبهم حميرا *** أشدّ منهم حمقا كثيرا

لا ينطقون الدهر إلا زورا *** حتّى إذا كسّرته تكسيرا

كالليث لمّا ضغم(2) الخنزيرا *** ولّي انهزاما خاسئا مدحورا

معترفا بذلّه مقهورا *** و كنت قدما ضيغما هصورا

معتليا لقرنه عقورا *** و ما أخاف الزمن العثورا

إذ كنت بالواثق مستجيرا *** قد عزّ من كان له نصيرا

إمام عدل دبّر الأمورا *** برأيه و لم يرد مشيرا

ترى من الحقّ عليه نورا *** تقبّل(3) المهديّ و المنصورا

و جدّه الأدنى تقى و خيرا *** ورّثه المعتصم التدبيرا

فأصبح الملك به منيرا *** و أصبح العدل به منشورا

قد أمن الناس به المحظورا *** إذا علا المنبر و السريرا

رأيت بدرا طالعا منيرا *** بحرا ترى الغنيّ و الفقيرا

ص: 259


1- المسجور: المنظوم المسترسل.
2- ضغمه: عضه ملء فيه.
3- تقبل الرجل أباه: أشبهه.

يرجون منه نائلا غزيرا *** و اللّه لا زلت له شكورا

لا جاحد النّعمى و لا كفورا *** و كنت بالشكر له جديرا

أنشده الأصمعيّ جملة أشعار في الفروسية:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن هارون قال: سمعت إسحاق يقول:

أنشدني الأصمعيّ قول الأعشى:

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا *** أو تنزلون فإنّا معشر نزل

ثم قلت له: أيّ شيء تحفظ في هذا المعنى؟ - و كان مع بخله بالعلم لا يبخل بمثل هذا - فأنشدني لربيعة بن مقروم الضّبّيّ:

/

و لقد شهدت الخيل يوم طرادها(1)*** بسليم أو ظفة(2) القوائم هيكل

فدعوا نزال(3) فكنت أوّل نازل *** و علام أركبه إذا لم أنزل

سر لغناء ملاحظ و مدحها بشعر:
اشارة

حدّثني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد بن مروان قال حدّثني عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الربيع قال:

اجتمعنا يوما إمّا قال في منزلي أو في منزل محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، و دخلنا و دخل إلينا إسحاق الموصلي و عندنا ملاحظ تغنّينا و قد قامت الصلاة، فدخل إسحاق و هي غائبة فقال: فيم كنتم و من عندكم؟ فأخبرناه بخبرها؛ فقال: لا تعرّفوها من أنا فيخرجها التصنّع لي و التحفّظ منّي عن طبعها، و لكن دعوها و هواها حتّى ننتفع بها؛ و خرجت و هي لا تعرفه و جلست كما كانت أوّلا، و ابتدأت و غنّت - و الصنعة لفليح بن [أبي](4) العوراء، و لحنه رمل. هكذا أخبرنا إسحاق أن الغناء لفليح -:

صوت

إني تعلّقت ظبيا شادنا خرقا *** علّقته شقوة منّي و ما علقا

قال: فطرب إسحاق و شرب حتى والى بين خمسة أقداح من نبيذ شديد كان بين يديه و هو يستعيدها؛ فأخذ إسحاق دواة و كتب:

ص: 260


1- أراد بالخيل الفرسان لا الأفراس، أ لا ترى أنه قال: يوم طرادها. و الطراد من الفرسان: حمل بعضهم على بعض، و على هذا ما روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «يا خيل اللّه اركبي». (راجع «شرح أشعار الحماسة» للتبريزي ص 28 طبع أوروبا).
2- الأوظفة: جمع وظيف و هو ما فوق الحافر من الفرس. و لكل ذي أربع ثلاثة مفاصل في رجليه: الفخذ و الساق و الوظيف ثم الحافر أو الخف أو الظلف. و في يديه ثلاثة مفاصل: العضد و الذراع و الوظيف ثم الحافر أو الخف أو الظلف. (راجع «شرح أشعار الحماسة» للتبريزي). و الهيكل: الضخم.
3- نزال (مثل قطام): بمعنى أنزل و هو معدول من المنازلة لا بمعنى النزول إلى الأرض. هكذا ذكره صاحب «اللسان» و استشهد بهذين البيتين.
4- سقطت هذه الكلمة من الأصول هنا سهوا من النساخ.

/

سأشرب ما دامت تغنّي ملاحظ *** و إن كان لي في الشّيب عن ذاك واعظ

ملاحظ غنّينا بعيشك و ليكن *** عليك لما استحفظته منك حافظ

فأقسم ما غنّى غناءك محسن *** مجيد و لم يلفظ كلفظك لافظ

و في بعض هذا القول منّي مساءة *** و غيظ شديد للمغنّين غائظ

حدّث الرشيد عن البرامكة فزجره:
اشارة

أخبرني الحسن(1) بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثني إسحاق قال:

قال لي الرشيد يوما: بأيّ شيء يتحدّث الناس؟ قلت: يتحدّثون بأنك تقبض على البرامكة و تولّي الفضل بن الرّبيع الوزارة؛ فغضب و صاح بي: و ما أنت و ذاك ويلك! فأمسكت. فلمّا كان بعد أيام دعا بنا؛ فكان أوّل شيء غنّيته:

صوت

إذا نحن صدقناك *** فضرّ عندك الصدق

طلبنا النفع بالباط *** ل إذ لم ينفع الحقّ

فلو قدّم صبّا في *** هواه الصبر و الرّفق

لقدّمت على الناس *** و لكنّ الهوى رزق

- /في هذه الأبيات خفيف رمل بالوسطى ينسب إلى إسحاق و إلى ابن جامع، و الصحيح أنه لإسحاق. و قيل:

إن الشعر لأبي العتاهية -. قال: فضحك الرشيد و قال لي: يا إسحاق، قد صرت حقودا.

غنى هو و علويه و مخارق عند المعتصم فأجازهما دون مخارق:
اشارة

أخبرني الحسن قال حدّثنا يزيد بن محمد قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

/دخلت على المعتصم يوما بسرّمن رأى، فإذا الواثق بين يديه و عنده علّويه و مخارق؛ فغنّاه مخارق صوتا فلم ينشط له، ثم غناه علّويه فأطربه. فلما رأيت طربه لغناء علّويه دون غناء مخارق اندفعت فغنّيته لحني:

صوت

تجنّبت ليلى أن يلجّ بك الهوى *** و هيهات كان الحبّ قبل التجنّب

فأمر لي بألف دينار و لعلّويه بخمسمائة دينار، و لم يأمر لمخارق بشيء.

ص: 261


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «الحسين» و هو تحريف.
نسبة هذا الصوت
صوت

تجنّبت ليلى أن يلجّ بك الهوى *** و هيهات كان الحبّ قبل التجنّب

ألا إنّما غادرت يا أمّ مالك *** صدى أينما تذهب به الريح يذهب

الشعر للمجنون. و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و غنّى ابن جامع في هذين البيتين و بيتين آخرين أضافهما إليهما ليسا من هذا الشعر، هزجا بالبنصر. و البيتان المضافان:

برى اللّحم عن أحناء عظمى و منكبي *** هوى لسليمى في الفؤاد المعذّب

و إني سعيد أن رأت لك مرّة *** من الدّهر عيني منزلا في بني أبي

غنى علويه الواثق بلحن لإسحاق فأجازهما:
اشارة

أخبرنا الحسن بن علي قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال:

غنّى علّويه بين يدي الواثق يوما:

صوت

خليل لي سأهجره *** لذنب لست أذكره

و لكنّي سأرعاه *** و أكتمه و أستره

و أظهر أنّني راض *** و أسكت لا أخبّره

لكي لا يعلم الواشي *** بما عندي فأكسره

- الشعر و الغناء لإسحاق هزج بالوسطى - قال: فطرب الواثق طربا شديدا، و استحسن اللحن، و أمر لعلّويه بألف دينار؛ ثم قال: أ هذا اللحن لك؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، هو هذا لهذا الهزبر(1) (يعني إسحاق) - قال:

و كان إسحاق حاضرا - فضحك الواثق و قال: قد ظلمناه إذا، و أمر لإسحاق بثلاثين ألف درهم.

عارض ثقيلا لابن سريج بهزج له:
اشارة

أخبرنا عليّ بن عبد العزيز الكاتب عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن خرداذبه عن أبيه قال:

كان إسحاق عند الفتح بن الحجّاج الكرخيّ و علّويه حاضر؛ فغنّاه علّويه:

صوت

علقتك ناشئا حتّى *** رأيت الرأس مبيضا

على يسر و إعسار *** و فيض نوالكم فيضا(2)

ص: 262


1- في ح: «الهربذ». و من معاني الهربذ: عالم الهند.
2- في م: «و قبض نوالكم قبضا» بالقاف و الباء الموحدة.

ألا أحبب بأرض كن *** ت تحتلّينها أرضا

و أهلك حبّذا ما هم *** و إن أبدوا لي البغضا

/ - الشعر لابن أذينة. و الغناء لابن سريج ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق. و فيه لإسحاق هزج خفيف مطلق في مجرى البنصر، عن إسحاق أيضا. و فيه للأبجر ثقيل أوّل، و لإبراهيم الموصليّ رمل، جميع ذلك عن الهشاميّ -.

قال فغنّاه إيّاه في الثّقيل، ثم غنّاه هزجا؛ فقال له الفتح؛ لمن الثقيل؟ فقال: لابن سريج، قال: فلمن الهزج؟ قال: لهذا الهزبر(1) (يعني إسحاق)؛ فقال له الفتح: ويلك يا إسحاق! أ تعارض ثقيل ابن سريج بهزجك؟! قال: فقبض إسحاق على لحيته ثم قال: على ذلك فو اللّه ما فاتني إلاّ بتحريكه الذّقن.

أخطأ المعتصم في شعر لأبي خراش فصوّبه له:

أخبرني الحسن قال حدّثني يزيد بن محمد قال حدّثني إسحاق قال:

دخلت يوما على المعتصم و عنده إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، و استدناني فدنوت منه، و استدناني فتوقّفت خوفا من أن أكون موازيا في المجلس لإسحاق بن إبراهيم؛ ففطن المعتصم فقال: إنّ إسحاق لكريم، و إنك لم تستنزل ما عند الكريم بمثل إكرامه. ثم تحدّثنا و أفضت بنا المذاكرة إلى قول أبي خراش الهذليّ:

حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا *** خراش و بعض الشرّ أهون من بعض(2)

فأنشدها المعتصم إلى آخرها، و أنشد فيها:

و لم أدر من ألقى عليه رداءه *** سوى أنه قد حطّ(3) عن ماجد محض

/و الرواية «قد بزّ عن ماجد محض»؛ فغلطت(4) و أسأت الأدب، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه رواية الكتّاب و ما أخذ عن المعلّم؛ و الصحيح «بزّ عن ماجد محض»؛ فقال لي: نعم صدقت، و غمزني بعينه، يحذّرني من إسحاق؛ و فطنت لغلطي فأمسكت، و علمت أنه قد أشفق عليّ من بادرة تبدر من إسحاق؛ لأنه كان لا يحتمل مثل هذا في الخلفاء من أحد حتى يعظم عقوبته و يطيل حبسه، كائنا من كان؛ فنبّهني - رحمه اللّه - على ذلك حتى أمسكت و تنبّهت.

غنى المأمون ثلاثين صوتا من أهزاج القدماء:

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال قال عبيد اللّه بن معاوية قال عمرو بن بانة:

كنّا عند المأمون، فقال: ما أقلّ الهزج في الغناء القديم!؛ و قال إسحاق: ما أكثره! ثم غنّاه نحو ثلاثين صوتا

ص: 263


1- في أ، ح، م: «الهربذ» (انظر الحاشية رقم 1 ص 400 من هذا الجزء).
2- هذان البيتان من قصيدة لأبي خراش الهذليّ يرثي بها أخاه عروة بن مرة و يذكر نجاة خراش ابنه. و كان من أمرهما أن خرجا مغيرين فأسرا فقتل عروة، و قيض لخراش من ألقى عليه رداءه و هيأ له أسباب الهرب. و القصيدة مذكورة في أوّل باب المراثي من «ديوان الحماسة» لأبي تمام و «الأغاني» (ج 21 ص 63 طبع أوروبا) و «أمالي القالي» (ج 1 ص 271 طبع دار الكتب المصرية). و في «شرح التبريزي لديوان الحماسة و «الأغاني» بيان مستفيض لقصة عروة و خراش فراجعهما.
3- رواية الحماسة: «على أنه قد سل».
4- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «فغلط و أسأت...».

في الهزج القديم. فقلت لأصحابي: هذا الذي تزعمون أنه قليل الرواية!.

أثنى عليه العباس بن جرير:

أخبرنا يحيى قال حدّثنا أبي عن إسحاق قال:

قال لي العباس بن جرير: قاتلك اللّه! مذكّر فطنة، و مؤنّث طبيعة، ما أمكرك!.

أنشد بعض الأعراب شعرا له فمدحه:

حدّثنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي عن إسحاق قال، و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد عن إسحاق قال:

أنشدت بعض الأعراب شعرا لي أقول فيه:

أجرت سوابق دمعك المهراق *** لمّا جرى لك سانح بفراق

إنّ الظعائن يوم ناصفة(1) اللّوى *** هاجت عليك صبابة المشتاق

/لم أنس إذ ألمحننا في رقبة *** منهنّ بيض ترائب و تراق

و أشرن إذ ودّعننا بأنامل *** حمر كهدّاب الدّمقس رقاق

و رمتك هند يوم ذاك فأقصدت(2) *** بأغرّ عذب بارد برّاق

و تنفّست لمّا رأتك صبابة *** نفسا تصعّد في حشى خفّاق

و لقد حذرت فما نجوت مسلّما *** حتى صرعت مصارع العشّاق

إن الخلافة أثبتت أوتادها *** لمّا تحمّلها أبو إسحاق

ملك أغرّ يلوح فوق جبينه *** نور الخلافة ساطع الإشراق

كسي الجلال مع الجمال وزانه *** هدي(3) التّقى و مكارم الأخلاق

صحّت عروقك في الجياد و إنما *** يجري الجواد بصحّة الأعراق

ذخر الملوك فكان أكثر ذخرهم *** للملك ما جمعوا من الأوراق(4)

و ذخرت أبناء الحروب كأنهم *** أسد العرين على متون عتاق

كم من كريمة معشر قد أنكحت *** بسيوفهم قسرا بغير صداق

و عزيزة في أهلها و قطينها(5) *** قد فارقت بعلا بغير طلاق

ص: 264


1- الناصفة: مجرى الماء، و قيل: الرحبة في الوادي. و قد ذكر ياقوت في الكلام على ناصفة: ناصفة الشجناء، و ناصفة العمقين و غيرهما، و قال: إنها مواضع، و لم يذكر ناصفة اللوى هذه.
2- كذا في ح. و أقصدت: أصابت و لم تخطئ. و في سائر الأصول: «فأقصرت» بالراء، و هو تحريف.
3- الهدى: الطريقة و السيرة.
4- الأوراق: الدراهم.
5- القطين هنا: الإماء و الحشم.

قال فقال لي: أفليت و اللّه يا أبا محمد؛ فقلت له: و ما أفليت؟ قال: رعيت فلاة لم يرعها أحد غيرك.

كان المغنون يتلاشون أمامه إذا غنى:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أخي أحمد بن عليّ عن عافية بن شبيب قال:

قلت لزرزور بن سعيد: حدّثني عن إسحاق كيف كان يصنع إذا حضر معكم عند الخليفة و هو منقطع ذاهب و حلوقكم ليس مثلها في الدنيا؟ فقال: كان و اللّه لا يزال بحذقه و رفقه و تأنّيه و لطفه حتى نصير معه أقلّ من التراب.

شعره للفضل بن الربيع في الشيب:

أخبرنا يحيى قال حدّثني أبي قال حدّثنا إسحاق قال:

دخلت على الفضل بن الرّبيع فقال لي: يا إسحاق، كثر و اللّه شيبك!؛ فقلت: أنا و ذاك أصلحك اللّه كما قال أخو ثقيف:

الشيب إن يظهر فإنّ وراءه *** عمرا يكون خلاله متنفّس

لم ينتقص منّي المشيب قلامة *** و لنحن حين بدا ألبّ و أكيس

قال: هات يا غلام دواة و قرطاسا، اكتبهما لي لأتسلّى بهما.

قصته مع الفضل بن يحيى و نافذ حاجبه:

أخبرنا يحيى قال حدّثني أبي قال حدّثني إسحاق، و أخبرني الحسين(1) بن يحيى عن حمّاد عن أبيه(2)، و أخبرني الحسن بن عليّ عن يزيد بن محمد بن عبد الملك عن إسحاق قال:

قال الفضل بن يحيى لأبي: ما لي لا أرى إسحاق، عرّفني ما خبره؟ فقال: خير. و رأى في كلامه شيئا يشكّك، فقال: أ عليل هو؟ فقال: لا، و لكنه جاءك مرّات فحجبه نافذ الخادم و لحقته جفوة؛ فقال له: فإن حجبه بعدها فلينكه. فجاءني أبي فقال لي: القه، فقد سأل عنك؛ و خبّرني بما جرى. و جئت فجبت أيضا؛ و خرج الفضل ليركب؛ فوثبت إليه برقعة و قد كتبت فيها:

جعلت فداءك من كلّ سوء *** إلى حسن رأيك أشكو أناسا

يحولون بيني و بين السلام *** فما إن أسلّم إلاّ اختلاسا

/و أنفذت أمرك في نافذ *** فما زاده ذاك إلا شماسا

/فلمّا قرأها ضحك حتى غلب، ثم قال: أو قد فعلتها يا فاسق؟! فقلت: لا و اللّه يا سيّدي، و إنما مزحت؛ فخجل نافذ خجلا شديدا، و لم يعد بعد ذلك لمساءتي.

ص: 265


1- في الأصول هنا: «الحسن»، و هو تحريف.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «عن حماد عن أبيه قال حدّثني إسحاق». و ظاهر أن جملة: «قال حدّثني إسحاق» مقحمة من الناسخ.
سأل المعتصم عن رجل غائب ما ذا يعمل فأجاب:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيوب المدينيّ عن محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني إسحاق قال:

ذكر المعتصم يوما بعض أصحابه و قد غاب عنه، فقال: تعالوا حتى نقول ما يصنع في هذا الوقت؛ فقال قوم:

يلعب بالنّرد، و قال قوم: يغنّي؛ فبلغتني النوبة، فقال: قل يا إسحاق؛ قلت: إذا أقول و أصيب؛ قال: أتعلم الغيب؟ قلت: لا، و لكنّي أفهم ما يصنع و أقدر على معرفته؛ قال: فإن لم تصب؟ قلت: فإن أصبت؟ قال: لك حكمك، و إن لم تصب؟ قلت: لك دمي؛ قال: وجب؛ قلت: وجب؛ قال: فقل؛ قلت: يتنفّس؛ قال: فإن كان ميتا؟ قلت:

تحفظ الساعة التي تكلّمت فيها، فإن كان مات فيها أو قبلها فقد قمرتني؛ فقال: قد أنصفت؛ قلت: فالحكم؛ قال:

احتكم ما شئت؛ قلت: ما حكمي إلاّ رضاك يا أمير المؤمنين؛ قال: فإنّ رضاي لك، و قد أمرت لك بمائة ألف درهم، أ ترى مزيدا؟ فقلت: ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين؛ قال: فإنها مائتا ألف درهم، أ ترى مزيدا؟ قلت: ما أحوجني إلى ذلك يا أمير المؤمنين؛ قال: فإنها ثلاثمائة ألف، أ ترى مزيدا؟ قلت: ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين؛ قال: يا صفيق الوجه! ما نزيدك على هذا شيئا.

مدح سفينة للأمين فأجازه:

أخبرنا يحيى قال حدّثني أبو أيوب قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني إسحاق قال:

/عمل محمد(1) المخلوع سفينة فأعجب بها، و ركب فيها يريد الأنبار. فلمّا أمعن و أنا مقبل على بعض(2)أبواب السفينة صاحوا: إسحاق إسحاق، فوثبت فدنوت منه؛ فقال لي: كيف ترى سفينتي؟ فقلت: حسنة يا أمير المؤمنين، عمّرها اللّه ببقائك. فقام يريد الخلاء و قال لي: قل فيها أبياتا، فقلت: و خرج فقمت بالأبيات؛ فاشتهاها جدّا و قال لي: أحسنت يا إسحاق، و حياتك لأهبنّ لك عشرة آلاف دينار؛ قلت: متى يا أمير المؤمنين؟ إذا وسّع اللّه عليك! فضحك و دعا بها على المكان. و لم يذكر يحيى في خبره الأبيات.

عرض للواثق بشعر في تشوّقه إلى أهله:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

غنّيت الواثق في شعر قلته و أنا عنده بسرّمن رأى و قد طال مقامي و اشتقت إلى أهلي، و هو:

صوت

يا حبّذا ريح الجنوب إذا بدت *** في الصبح و هي ضعيفة الأنفاس

قد حمّلت برد النّدى و تحمّلت *** عبقا من الجثجاث(3) و البسباس

ص: 266


1- هو الخليفة محمد الأمين بن هارون الرشيد، سمى المخلوع لأن أهل مكة و المدينة و كثيرا من عماله خلعوه و بايعوا المأمون و هو بخراسان.
2- في ح: «على باب السفينة».
3- الجثجاث كما في «اللسان»: شجر أصفر مرّ طيب الريح تستطيبه العرب و تكثر ذكره في أشعاره. و قال أبو حنيفة الدينوري: إنه من أحرار الشجر و هو أخضر ينبت في القيظ، له زهرة صفراء كأنها زهرة العرفجة طيبة الريح. و قال ابن البيطار في مفرداته: أول ما رأيته بساحل نيل مصر في أعلاه في صحاريه بمقربة من ضيعة هناك تسمى شاهور و هي على طريق الطرّانة. و قال داود في تذكرته:

فشرب عليه و استحسنه و قال لي: يا أبا محمد، لو قلت مكان «يا حبّذا ريح الجنوب»: «يا حبّذا ريح الشّمال»، أ لم يكن أرقّ و أعذى(1) و أصحّ للأجساد و أقلّ و خامة و أطيب/للأنفس؟ فقلت: ما ذهب عليّ ما قاله أمير المؤمنين، و لكن التفسير فيما بعد؛ فقال: قل؛ فقلت:

ما ذا تهيج من الصّبابة و الهوى *** للصّبّ بعد ذهوله و الياس

فقال الواثق: إنما استطبت ما تجيء به الجنوب من نسيم أهل بغداد لا الجنوب، و إليهم اشتقت لا إليها؛ فقلت: أجل يا أمير المؤمنين؛ و قمت فقبّلت يده؛ فضحك و قال: قد أذنت لك بعد/ثلاثة أيام، فامض راشدا؛ و أمر لي بمائة ألف درهم. لحن إسحاق هذا من الثقيل الأوّل.

جعفر بن يحيى البرمكي و عبد الملك بن صالح الهاشمي:

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي عن إسحاق قال:

لم أر قطّ مثل جعفر بن يحيى؛ كانت له فتوة و ظرف و أدب و حسن غناء و ضرب بالطبل، و كان يأخذ بأجزل حظّ من كل فنّ من الأدب و الفتوّة. فحضرت باب أمير المؤمنين الرشيد، فقيل لي: إنه نائم، فانصرفت؛ فلقيني جعفر بن يحيى فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: أمير المؤمنين نائم؛ فقال: قف مكانك؛ و مضى إلى دار أمير المؤمنين فخرج إليه الحاجب فأعلمه أنه نائم؛ فخرج إليّ و قال لي: قد نام أمير المؤمنين، فسر بنا إلى المنزل حتى نخلو جميعا بقيّة يومنا و تغنّيني و أغنّيك و نأخذ في شأننا من وقتنا هذا؛ قلت نعم، فصرنا إلى منزله فطرحنا ثيابنا، و دعا بالطعام فطعمنا، و أمر بإخراج الجواري و قال: لتبرزن؛ فليس عندنا من تحتشمن منه. فلمّا وضع الشراب دعا بقميص حرير فلبسه و دعا بخلوق فتخلّق به، ثم دعا لي بمثل ذلك، و جعل يغنّيني و أغنّيه؛ ثم دعا بالحاجب فتقدّم إليه و أمره بألاّ يأذن لأحد من الناس كلّهم، و إن جاء رسول أمير المؤمنين أعلمه أنه مشغول؛ و احتاط في ذلك و تقدّم فيه إلى جميع الحجّاب و الخدم؛ ثم قال: إن جاء عبد الملك فأذنوا له - يعني رجلا كان/يأنس به و يمازحه و يحضر خلواته - ثم أخذنا في شأننا؛ فو اللّه إنّا لعلى حالة سارّة عجيبة إذ رفع السّتر، و إذا عبد الملك بن صالح الهاشميّ قد أقبل، و غلط الحاجب و لم يفرّق بينه و بين الذي يأنس به جعفر بن يحيى. و كان عبد الملك بن صالح الهاشميّ من جلالة القدر و التقشف و في الامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل، و كان أمير المؤمنين قد اجتهد به أن يشرب معه أو عنده قدحا فلم يفعل ذلك رفعا لنفسه. فلما رأيناه مقبلا، أقبل كلّ واحد منّا ينظر إلى صاحبه، و كاد جعفر أن ينشقّ غيظا. و فهم الرجل حالنا، فأقبل نحونا، حتى إذا صار إلى الرّواق الذي نحن فيه نزع قلنسيته فرمى بها مع طيلسانه جانبا؛ ثم قال: أطعمونا شيئا؛ فدعا له جعفر بالطعام و هو منتفخ غضبا و غيظا فطعم، ثم دعا برطل فشربه، ثم أقبل إلى المجلس الذي نحن فيه فأخذ بعضادتي(2) الباب ثم قال: اشركونا فيما أنتم فيه؛ فقال له جعفر:

ادخل؛ ثم دعا بقميص حرير و خلوق فلبس و تخلّق، ثم دعا برطل و رطل حتى شرب عدّة أرطال، ثم اندفع ليغنّينا، فكان و اللّه أحسننا جميعا غناء. فلما طابت نفس جعفر و سرّي عنه ما كان به التفت إليه فقال له: ارفع حوائجك؛

ص: 267


1- أعذى: أطيب.
2- عضادتا الباب: خشبتاه من جانبيه.

فقال: ليس هذا موضع حوائج؛ فقال: لتفعلنّ، و لم يزل يلحّ عليه حتى قال له: أمير المؤمنين عليّ واجد؛ فأحبّ أن تترضّاه؛ قال: فإنّ أمير المؤمنين قد رضي عنك، فهات حوائجك؛ فقال: هذه كانت حاجتي؛ قال: ارفع حوائجك كما أقول لك؛ قال: عليّ دين فادح؛ قال: هذه أربعة آلاف ألف درهم، فإن أحببت أن تقبضها فاقبضها من منزلي الساعة، فإنه لم يمنعني من إعطائك إيّاها إلا أنّ قدرك يجلّ على أن يصلك مثلي، و لكني ضامن لها حتى تحمل من مال أمير المؤمنين غدا؛ فسل أيضا؛ قال: ابني، تكلّم أمير المؤمنين حتى ينوّه باسمه؛ قال: قد ولاّه أمير المؤمنين مصر/و زوّجه/ابنته العالية(1) و مهرها ألفي ألف درهم. قال إسحاق: فقلت في نفسي: قد سكر الرجل (أعني جعفرا). فلما أصبحت لم تكن لي همّة إلا حضور دار الرشيد؛ و إذا جعفر بن يحيى قد بكّر، و وجدت في الدار جلبة، و إذا أبو يوسف القاضي و نظراؤه قد دعي بهم، ثم دعي بعبد الملك بن صالح و ابنه فأدخلا على الرشيد؛ فقال الرشيد لعبد الملك: إنّ أمير المؤمنين كان واجدا عليك و قد رضي عنك، و أمر لك بأربعة آلاف ألف درهم، فاقبضها من جعفر بن يحيى الساعة. ثم دعا بابنه فقال: اشهدوا أنّي قد زوّجته العالية بنت أمير المؤمنين و أمهرتها عنه ألفي ألف درهم من مالي و ولّيته مصر(2). قال: فلمّا خرج جعفر بن يحيى سألته عن الخبر؛ فقال: بكرت على أمير المؤمنين فحكيت له ما كان منا و ما كنّا(3) فيه حرفا حرفا، و وصفت له دخول عبد الملك و ما صنع؛ فعجب لذلك و سرّ به؛ ثم قلت له: قد ضمنت له عنك يا أمير المؤمنين ضمانا؛ فقال: ما هو؟ فأعلمته؛ قال: أوف له بضمانك، و أمر بإحضاره؛ فكان ما رأيت.

حمل علويه لحنا له إلى أبيه فأعجب به و أثنى عليه:

أخبرني عمّي قال حدّثني فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:

لمّا صنعت لحني في:

هل إلى نظرة إليك سبيل

ألقيته على علّويه، و جاءني رسول أبي بطبق فاكهة باكورة؛ فبعثت إليه: برّك اللّه يا أبة و وصلك! الساعة أبعث إليك بأحسن من هذه الباكورة؛ فقال: إني أظنّه قد أتى بآبدة(4)؛ فلم يلبث أن دخل عليه علّويه فغنّاه الصوت؛ فعجب منه و أعجب به، و قال: قد أخبرتكم أنه قد أتى بآبدة. ثم قال لولده: أنتم تلومونني على/تفضيل إسحاق و محبّتي له، و اللّه لو كان ابن غيري لأحببته لفضله فكيف و هو ابني؛ و ستعلمون أنكم لا تعيشون إلاّ به. و قد ذكر أبو حاتم الباهليّ عن أخيه أبي معاوية بن سعيد بن سلم أنّ هذه القصة كانت لمّا صنع إسحاق لحنه في:

غيّضن من عبراتهن و قلن لي

و قد ذكرت ذلك مع أخبار هذا الصوت في موضعه.

ص: 268


1- كذا في الأصول و «ابن الأثير» (ج 6 ص 148) و الذي في «الطبري» (ص 759 من القسم الثالث) «أم الغالية» بالغين المعجمة.
2- الذي ذكر في كتب التاريخ أن الذي ولى مصر من قبل الرشيد هو عبد الملك بن صالح و لم يدخلها و إنما استخلف عليها عبد اللّه بن المشيب الضبي. و لم نعثر في كل هذه الكتب عند ذكر ولاة مصر عن ابن لعبد الملك هذا، و لم نجد هذه القصة في مصدر آخر من كتب التاريخ و الأدب، غير أن ابن طباطبا أوردها بعبارة أوسع في «الفخري» (ص 282 طبع أوروبا سنة 1894).
3- في ح: «ما كان منا و ما كان منه».
4- الآبدة: الغريبة.
سئل عن إبراهيم بن المهدي فقال لا يحسن شيئا:

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال:

سألت إسحاق عن إبراهيم بن المهديّ، فقال: دعني منه، فليست له رواية و لا دراية و لا حكاية.

رثاؤه هشيمة الخمارة:

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثني فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:

كانت هشيمة الخمّارة جارتي، و كانت تخصّني بأطيب الشراب و جيّده؛ فماتت فقلت أرثيها:

أضحت هشيمة في القبور مقيمة *** و خلت منازلها من الفتيان

كانت إذا هجر المحبّ حبيبه *** دبّت له في السرّ و الإعلان

حتى يلين لما تريد قياده *** و يصير سيّئه إلى الإحسان

قضى حاجة لإدريس بن أبي حفصة فمدحه:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

سألني إدريس بن أبي حفصة حاجة، فقضيتها له و زدت فيما سأل؛ فقال لي(1):

إذا الرجال جهلوا المكارما *** كان بها ابن الموصليّ عالما

أبقاك ذو العرش بقاء دائما *** فقد جعلت للكرام خاتما

إسحاق لو كنت لقيت حاتما *** كان نداه لنداك خادما

/قال حمّاد: و قال لي أبي: كان إدريس سخيّا من بين آل أبي حفصة؛ فنزل به ضيف، فتنمّرت امرأته عليه؛ فقال لها:

من شرّ أيّامك اللاّتي خلقت لها *** إذا فقدت ندى(2) صوتي و زوّاري

تشاغل عن دعوة علي بن هشام فنيل منه، و ردّه على ذلك:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:

كان عليّ بن هشام قد دعاني و دعا عبد اللّه بن محمد بن أبي عيينة، فتأخّرت عنه حتى اصطبحنا شديدا، و تشاغلت عنه برجل من الأعراب كان يجيئني فأكتب عنه و كان فصيحا؛ و كان عند عليّ بن هشام بعض من يعاديني؛ فسألوا ابن أبي عيينة أن يعاتبني بشعر ينسبني فيه إلى الخلف؛ فكتب إليّ:

يا مليّا بالوعد و الخلف و المط *** ل بطيئا عن دعوة الأصحاب

ص: 269


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و قال لي».
2- ندى الصوت: صداه.

لهجا بالأعراب إنّ لدينا *** بعض ما تشتهي من الأعراب

قد عرفنا الذي شغلت به *** عنّا و إن كان غير ما في الكتاب

قال: فكتبت إلى الذي حمل ابن أبي عيينة على هذه الأبيات - قال حمّاد: و أظنه إبراهيم بن المهديّ -:

قد فهمت الكتاب أصلحك *** اللّه و عندي عليه ردّ الجواب

و لعمري ما تنصفون و لا كا *** ن الذي جاء منكم في حسابي

لست آتيك فاعلمنّ و لا لي *** فيك حظّ من بعد هذا الكتاب

عاتب علي بن هشام بشعر لأنه مرض و لم يعده:

قال حمّاد: قال أبي: و كتبت إلى عليّ بن هشام و قد اعتللت أيّاما فلم يأتني رسوله:

أنا عليل منذ فارقتني *** و أنت عمّن غاب لا تسأل

ما هكذا كنت و لا هكذا *** فيما مضى كنت بنا تفعل

فلمّا وصلت إليه رقعتي ركب إليّ و جاءني عائدا.

شعره حين عودته من البصرة:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد قال:

لمّا خرج أبي إلى البصرة خرجته الأولى و عاد، أنشدني في ذلك لنفسه:

صوت

ما كنت أعرف ما في البين من حزن *** حتى تنادوا بأن قد جيء بالسّفن

قامت تودّعني و العين تغلبها *** فجمجمت(1) بعض ما قالت و لم تبن

مالت عليّ تفدّيني و ترشفني *** كما يميل نسيم الرّيح بالغصن

و أعرضت ثم قالت و هي باكية *** يا ليت معرفتي إيّاك لم تكن

لمّا افترقنا على كره لفرقتها *** أيقنت أنّي رهين الهمّ و الحزن

أنشده شداد بن عقبة شعرا لجميل فزاد عليه:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

أنشدني شدّاد بن عقبة لجميل:

قفي تسل عنك النفس بالخطّة التي *** تطيلين تخويفي بها و وعيدي

فقد طالما من غير شكوى قبيحة *** رضينا بحكم منك غير سديد

ص: 270


1- جمجم الكلام: لم يبينه.

قال: فأنشدت الزّبير بن بكّار هذين البيتين، فقال: لو لم أنصرف من العراق إلا بهما لرأيتهما غنما. و أنشدني شدّاد لجميل أيضا:

بثين سليني بعض مالي فإنما *** يبيّن عند المال كلّ بخيل

/فإني و تكراري الزيارة نحوكم *** لبين يدي هجر بثين طويل

قال أبي: فقلت لشدّاد: فهلا أزيدك فيهما(1)؟ فقال: بلى؛ فقلت:

فيا ليت شعري هل تقولين بعدنا *** إذا نحن أزمعنا غدا لرحيل

ألا ليت أياما مضين رواجع *** و ليت النّوى قد ساعدت بجميل

/فقال شدّاد: أحسنت و اللّه! و إن هذا الشعر لضائع؛ فقلت: و كيف ذلك؟ قال: نفيته عن نفسك بتسميتك جميلا فيه، و لم يلحق بجميل، فضاع بينكما جميعا.

اجتمع هو و جماعة من المغنين عند إسحاق المصعبي:
اشارة

حدّثني جحظة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال:

دعاني إسحاق بن إبراهيم المصعبيّ، و كان عبد اللّه بن طاهر عنده يومئذ، فوجّه إليّ فحضرت و حضر علّويه و مخارق و غيرهما من المغنّين؛ فبيناهم على شرابهم و هم أسرّ ما كانوا، إذ وافاه رسول أمير المؤمنين فقال: أجب؛ فقال: السمع و الطاعة؛ و دعا بثيابه فلبسها. ثم التفت إلى محمد بن راشد الخنّاق فقال له: قد بلغني أنّك أحفظ الناس لما يدور في المجالس، فاحفظ لي كلّ صوت يمرّ و ما يشربه كلّ إنسان، حتى إذا عدت أعدت عليّ الأصوات و شربت ما فاتني؛ فقال: نعم، أصلح اللّه الأمير. و مضى إلى المأمون، فأمره بالشخوص إلى بابك(2) من غد، و تقدّم إليه فيما يحتاج إليه و رجع من عنده. فلمّا دخل و وضع ثيابه قال: يا محمد، ما صنعت فيما تقدّمت به إليك؟ قال: قد أحكمته أعزّك اللّه؛ ثم أخبره بما شرب القوم و ما استحسنوه من الغناء بعده؛ فأمر أن يجمع له أكثر ما شربه واحد منهم في قدح، و أن يعاد عليه صوت صوت مما حفظه له حتى يستوفي ما فاته القوم به، ففعل ذلك و شرب حتى استوفى النبيذ و الأصوات. ثم قال لي: يا أبا محمد، إني قد عملت في منصرفي من عند أمير المؤمنين أبياتا فاسمعها؛ فقلت: هاتها أعزّ اللّه الأمير؛ فأنشدني:

صوت

ألا من لقلب مسلم للنوائب *** أحاطت به الأحزان من كلّ جانب

تبيّن يوم البين أنّ اعتزامه *** على الصبر من بعض الظنون الكواذب

صوت

حرام على رامي فؤادي بسهمه *** دم صبّه بين الحشى و الترائب

ص: 271


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فيها»، و هو تحريف.
2- هو بابك الخرّمي، و كان قد خرج على دولة بني العباس، و ظهر بأذربيجان و كثر بها أتباعه و استباحوا المحرمات و قتلوا الكثير من المسلمين، ثم أخذ في أيام المعتصم هو و أخوه إسحاق و صلبا.

أراق دما لو لا الهوى ما أراقه *** فهل(1) بدمي من ثائر أو مطالب

قال: فقلت له: ما سمعت أحسن من هذا الشعر قطّ؛ فقال لي: فاصنع فيه؛ فصنعت فيه لحنا؛ و أحضرني وصيفة له، فألقيته عليها حتى أخذته؛ و قال: إنما أردت أن أتسلّى به في طريقي و تذكّرني به الجارية أمرك إذا غنّته.

فكان كلما ذكر أتاني برّه، إلى أن قدم، عدّة دفعات. لم أجد لإسحاق صنعة في هذا الشعر، و الذي وجدت فيه لعبد اللّه بن طاهر خفيف رمل، ذكره ابنه عبيد اللّه عنه. و لمخارق لحن من الرمل. و لعمرو بن بانة هزج بالوسطى.

و لمخارق و الطاهريّة خفيف ثقيل.

سأل عنه المتوكل حين كف فأحضره ثم غناه فوصله:
اشارة

حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه محمد بن/حمدون قال:

سأل المتوكّل عن إسحاق الموصليّ، فعرف أنه قد كفّ و أنه في منزله ببغداد؛ فكتب في إحضاره. فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدّام السرير، و أعطاه مخدّة، و قال له: بلغني أن المعتصم دفع إليك مخدّة في أوّل يوم جلست بين يديه و هو خليفة، و قال: إنه لا يستجلب ما عند حرّ بمثل الكرامة؛ ثم سأله: هل أكل؟ فقال نعم؛ فأمر أن يسقى؛ فلما شرب أقداحا قال: هاتوا لأبي محمد عودا فجيء به؛ فاندفع يغنّي بصوت الشعر فيه و الغناء له:

صوت

ما علّة الشيخ عيناه بأربعة(2) *** تغرورقان بدمع ثم تنسكب

- قال أبو عبد اللّه: فو اللّه ما بقي غلام من الغلمان الوقوف على الحير(3) إلا وجدته يرقص طربا و هو لا يعلم بما يفعل - فأمر له بمائة ألف درهم. ثم قال لي المتوكل: يا ابن حمدون، أ تحسن أن تغنّيني هذا الصوت؟ فقلت نعم؛ قال: غنّه؛ فترنّمت به؛ فقال إسحاق: من هذا الذي يحكيني؟ فقال: هذا ابن صديقك حمدون؛ فقال: وددت أنه يحسن أن يحكيني؛ فقلت له: أنت عرّضتني له يا أمير المؤمنين. ثم انحدر المتوكل إلى رقّة(4) بوصرا؛ و كان يستطيبها لكثرة تغريد الأطيار بها، فغنّى إسحاق:

صوت

أ أن هتفت ورقاء في رونق الضّحى *** على غصن غضّ الشباب من الرّند

بكيت كما يبكي الحزين صبابة *** و شوقا و تابعت الحنين إلى نجد

فضحك المتوكل و قال له: يا إسحاق، هذه أخت فعلتك بالواثق لمّا غنّيته بالصالحيّة(5):

ص: 272


1- في ح: «فهل يدري ذا من ثائر أو مطالب».
2- يقال: عيناه تدمعان بأربعة، أي تسيلان بأربعة آماق، و ذلك أشدّ البكاء.
3- كذا في ح. و الحير: اسم قصر بسرّمن رأى بناه المتوكل و أنفق على عمارته أربعة آلاف ألف درهم. (راجع ياقوت في الكلام على الحير). و في سائر الأصول: «الخبر» بالخاء المعجمة و الباء الموحدة، و هو تصحيف.
4- الرقة: كل أرض إلى جنب واد ينبسط عليها الماء. و بوصرا: قرية من قرى بغداد.
5- الصالحية: قرية قرب الرها من أرض الجزيرة، احتلها عبد الملك بن صالح الهاشمي.

طربت إلى الأصيبية الصّغار *** و ذكّرني الهوى قرب المزار

/فكم أعطاك لمّا أذن لك في الانصراف؟ قال: مائة ألف درهم؛ فأمر له بمائة ألف درهم، و أذن له بالانصراف إلى بغداد. و كان هذا آخر عهدنا به، لأن إسحاق توفّي بعد ذلك بشهرين.

أمره الواثق أن يغني صوتا فتطير منه و غناه:
اشارة

حدّثني جحظة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

دخلت على الواثق أستأذنه في الانحدار إلى بغداد فوجدته مصطبحا؛ فقال: بحياتي غنّ:

صوت

ألا إن أهل الدار قد ودّعوا الدارا *** و إن كان أهل الدار في الحيّ أجوارا(1)

و قد تركوا قلبي حزينا متيّما *** بذكرهم، لو يستطيع لقد طارا

فتطيّرت من اقتراحه له و غنّيته إياه؛ فشرب عليه مرارا، و أمر لي بثلاثين ألف درهم و أذن لي فانصرفت؛ ثم كان آخر عهدي به. الشعر لمطيع بن إياس. و الغناء لإبراهيم الموصليّ ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو.

استسقى أحمد بن معاوية نبيذا فزحم حامل الدن فكسره و شعره في ذلك:
اشارة

حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا عبد اللّه بن الفرج قال حدّثنا أحمد بن معاوية قال:

كنت في بيتي و علّويه يغنّيني:

صوت

أعرضن من شمط(2) في الرأس لاح به *** فهنّ عنه إذا أبصرنه حيد

قد كنّ يعهدن منّي منظرا حسنا *** و جمّة(3) حسرت عنها العناقيد

/فوردت عليّ رقعة من إسحاق الموصليّ يستسقيني نبيذا؛ فبعثت إليه بدنّ مع غلام لي؛ فلما توسّط الغلام به الجسر زحم فكسر؛ فرجع الغلام إلى إسحاق فأخبره الخبر و سأله مسألتي(4) التجافي عنه؛ فكتب إليّ:

يا أحمد بن معاوية *** إنّي رميت بداهيه

أشكو إليك فأشكني *** كسر الغلام الخابيه

يا ليتها سلمت و كا *** ن فداءها ابن الزانيه

ص: 273


1- الأجوار: جمع جار و هو الذي يجاورك في دار أو غيرها.
2- الشمط: بياض شعر الرأس يخالط سواده.
3- الجمة: مجتمع شعر الرأس.
4- في ب، س: «مسألة».

فبعثت إليه بأربعة أدنان(1)، و أعتقت الغلام بشفاعته في أمره.

صنع صوتا أعجب به المعتصم و الواثق و عجز المغنون عن أخذه عنه:
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة و محمد بن مزيد قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق الموصليّ قال قال لي حمدون بن إسماعيل رحمه اللّه:

لمّا صنع أبوك رحمه اللّه هذا الصوت:

صوت

قف بالديار التي عفا القدم *** و غيّرتها الأرواح و الدّيم

لمّا وقفنا بها نسائلها *** فاضت من القوم أعين سجم

ذكرا لعيش مضى إذا ذكرت *** ما فات منه فذكره سقم

و كلّ عيش دامت غضارته *** منقطع مرّة و منصرم

- و لحنه ثقيل أوّل - أعجب به المعتصم و الواثق جميعا؛ فقال له المعتصم: بحياتي اردده على مخارق و علّويه و الجماعة ليأخذوه عنك، و انصحهم فيه؛ فإنهم إن أحسنوا فيه نسب إليك إحسانهم، و إن أساءوا بان فضلك عليهم؛ فردّه عليهم أكثر من/مائتي مرّة، و كانوا يقصدون(2) إلى منزله و يردّه عليهم، و مات و ما أخذوا منه علم اللّه إلاّ رسمه. الشعر و الغناء لإسحاق، و لحنه ثقيل أوّل.

خروجه مع الرشيد إلى الرقة و قصته بدير القائم و تل عزاز:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:

خرجنا(3) مع الرشيد يريد الرقّة؛ فلمّا صرنا بالموضع الذي يقال له القائم نزلنا، و خرج يتصيّد و خرجنا معه، فأبعد في طلب الصيد؛ و لاح لي دير فقصدته و قد تعبت، فأشرفت على صاحبه؛ فقال: هل لك في النزول بنا اليوم؟ فقلت: إي و اللّه، و إني إلى ذلك لمحتاج؛ فنزل ففتح لي الباب و جلس يحدّثني، و كان شيخا كبيرا و قد أدرك دولة بني أمية، فجعل يحدّثني عمّن نزل به من القوم و مواليهم و جيوشهم؛ و عرض عليّ الطعام فأجبته؛ فقدّم إليّ طعاما من طعام الدّيارات(4) نظيفا طيّبا، فأكلت منه، و أتاني بشراب و ريان طريّ فشربت منه، و وكّل بي جارية تخدمني راهبة لم أر أحسن وجها منها و لا أشكل؛ فشربت حتى سكرت، و نمت و انتبهت عشاء؛ فقلت في ذلك:

ص: 274


1- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «أدنّ» و جمع القلة لفعل المضعف أفعال مثل عمّ و أعمام، و أفعل مثل كف و أكف إلا أن الكثير الأوّل. و الذي ورد في كتب اللغة جمعا لدنّ إنما هو دنان لا غير.
2- كذا في م. و في سائر الأصول: «يقصدونه إلى منزله».
3- ورد هذا الخبر في «مسالك الأبصار» لابن فضل اللّه العمري (ج 1 ص 269 طبع بولاق) مع اختلاف يسير في بعض العبارات.
4- الديارات: جمع دير. و هذا الجمع لدير على كثرة وروده في معاجم البلدان و كتب الأدب، لم نعثر على نص عليه في معاجم اللغة التي بين أيدينا.
صوت

بدير(1) القائم الأقصى *** غزال شادن أحوى

برى حبّي له جسمي *** و لا يعلم ما ألقى

و أكتم حبّه جهدي *** و لا و اللّه ما يخفى

/و ركبت فلحقت بالمعسكر و الرشيد قد جلس للشرب و طلبني فلم أوجد. و أخبرت بذلك، /فغنّيت في الأبيات و دخلت إليه؛ فقال لي: أين كنت؟ ويحك! فأخبرته بالخبر و غنّيته الصوت؛ فطرب و شرب عليه حتى سكر، و أخّر الرحيل في غد، و مضينا إلى الدّير و نزله، فرأى الشيخ و استنطقه، و رأى الجارية التي كانت تخدمني بالأمس؛ فدعا بطعام خفيف فأصاب منه، و دعا بالشراب، و أمر الجارية التي كانت بالأمس تخدمني أن تتولّى خدمته و سقيه ففعلت، و شرب حتى طابت نفسه؛ ثم أمر للدّير بألف دينار، و أمر باحتمال خراجه له سبع سنين؛ فرحلنا.

قال حمّاد: فحدّثني أبي قال: فلما صرنا بتلّ عزاز من دابق(2) خرجت أنا و أصحاب لي نتنزّه في قرية من قراها، فأقمنا بها أيّاما، و طلبني الرشيد فلم يجدني. فلمّا رجعت أتيت الفضل بن الربيع؛ فقال لي: أين كنت؟ طلبك أمير المؤمنين؛ فأخبرته بنزهتنا فغضب. و خفت من الرشيد أكثر مما لقيت من الفضل؛ فقلت:

صوت

إنّ قلبي بالتّلّ تلّ عزاز *** عند ظبي من الظّباء الجوازي(3)

شادن يسكن الشآم و فيه *** مع ظرف العراق شكل(4) الحجاز

يا لقومي لبنت قسّ أصابت *** منك صفو الهوى و ليست تجازي

حلفت بالمسيح أن تنجز الوع *** د و ليست تهمّ بالإنجاز

و غنّيت فيه؛ ثم دخلت على الرشيد و هو مغضب؛ فقال: أين كنت؟ طلبتك فلم أجدك؛ فاعتذرت إليه و أنشدته هذا الشعر و غنّيته إياه؛ فتبسّم و قال: عذر و أبيك/و أيّ عذر! و ما زال يشرب عليه و يستعيدنيه ليلته جمعاء حتى انصرفنا مع طلوع الفجر. فلمّا وصلت إلى رحلي إذا برسول أمير المؤمنين قد أتانا يدعونا؛ فوافيت فدخلت، و إذا ابن جامع يتمرّغ على دكّان في الدار و هو سكران يتململ؛ فقال لي: يا ابن الموصليّ، أ تدري ما جاء بنا؟ فقلت:

لا و اللّه ما أدري؛ فقال: لكنّي و اللّه أدري دراية صحيحة، جاءت بنا نصرانيّتك الزانية، عليك و عليها لعنة اللّه. و خرج الآذن فأذن لنا، فدخلنا. فلما رأيت الرشيد تبسّمت؛ فقال لي: ما يضحكك؟ فأخبرته بقول ابن جامع؛ فقال:

صدق(5)، ما هو إلا أن فقدتكم فاشتقت إلى ما كنّا فيه، فعودوا بنا، فعدنا فيه حتى انقضى مجلسنا و انصرفنا.

ص: 275


1- دير القائم الأقصى: على شاطئ الفرات من جانبه الغربي في طريق الرقة. و ذكر ياقوت في «معجمه» و ابن فضل اللّه العمري في «مسالك الأبصار» بعد تعريفهما لهذا الدير قالا: «قال أبو الفرج: و قد رأيته، و هو مرقب من المراقب التي كانت بين الروم و الفرس، على أطراف الحدود». و فيهما أن هذه الأبيات لعبد اللّه بن مالك المغني، و قال الخالدي: هي لإسحاق الموصليّ.
2- دابق: قرية قرب حلب من أعمال عزاز، بينها و بين حلب أربعة فراسخ.
3- انظر الحاشية رقم 3 ص 373 من هذا الجزء.
4- الشكل (بالكسر و الفتح): الدل.
5- في الأصول: «ما صدق». و ظاهر أن «ما» مقحمة من الناسخ.

لحن إسحاق:

بدير القائم الأقصى

خفيف ثقيل بالوسطى. و فيه للقاسم بن زرزور ثقيل أوّل. و لحنه في:

إنّ قلبي بالتّلّ تلّ عزاز

خفيف رمل.

دخل على الرشيد ضاربا مغنيا بشعر له فطرب و أجازه:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثني حمّاد عن أبيه قال:

دخلت على الرشيد يوما في عمامة قد كوّرتها على رأسي؛ فقال: ما هذه العمامة! كأنك من الأنبار. فلمّا كان من غد دعا بنا إليه، فأمهلت حتى دخل المغنّون جميعا قبلي، ثم دخلت عليه في آخرهم، و قد شددت وسطي بمشدّة حرير أحمر، و لبست لباسا مشتهرا، و أخذت بيدي صفّاقتين و أقبلت أخطر و أضرب بالصّفّاقتين و أغنّي:

اسمع لصوت مليح *** من صعة الأنباري

صوت خفيف ظريف *** يطير في الأوتار

/فبسط يده إليّ حتى كاد يقوم، و جعل يقول: أحسنت و حياتي! أحسنت أحسنت! حتى جلست، ثم شرب عليه بقيّة يومه، و ما استعاد غيره، و أمر لي بعشرين ألف درهم. لحن إسحاق في هذا الشعر هزج.

غنى مغن بصوت له عند الفضل بن الربيع فأعجب به:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد قال حدّثني أحمد بن يحيى المكّيّ قال:

كنت عند الفضل بن الربيع، فغنّى بعض من كان عنده:

صوت

كلّ شيء منك في عيني حسن *** و نصيبي منك همّ و حزن

لا تظنّي أنه غيّرني *** قدم العهد و لا طول الزمن

فقال لي: أ تدري لمن هذا؟ فقلت: لبعض الطّنبوريّين؛ فقال: لا و لكنه لذلك الشيطان إسحاق. لحن إسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى من مجموع أغانيه.

استسقى جارية و هو في ركب الرشيد إلى طوس فأعجبته فقال شعرا:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:

لمّا خرجنا مع الرشيد إلى طوس كنت معه أسايره، فاستسقيت ماء من منزل نزلناه يقال له سحنة(1)، فخرجت إلينا جارية كأنها ظبية، فسقتني ماء؛ فقلت هذا الشعر:

ص: 276


1- كذا في الأصول و «معجم ياقوت». و الذي في «المسالك و الممالك» لابن حوقل، و «المسالك و الممالك» للإصطخري: «صحنة» بالصاد المهملة المضمومة. و هي موضع بين الدينور و همذان.
صوت

غزال يرتعي جنبات واد *** بسحنة قد تمكّن في فؤادي

سقاني شربة كانت شفاء *** لعلّة حائم حرّان(1) صادي

/و غنّيته الرشيد؛ فقال لي: أ تحبّ أن أزوّجكها؟ فقلت: نعم و اللّه يا سيّدي؛ قال: فاخطبها و المهر عليّ و ما يصلحها؛ فخطبتها، فأبى أهلها أن يخرجوها من بلدهم. لحن إسحاق في هذين البيتين ثقيل أوّل. و فيه لعلّويه خفيف رمل.

صنع صوتا فأخذه أحد العامّة و هو يردّده فاغتم و لم ينسبه لنفسه:
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال:

قال لي أبي: ما اغتممت بشيء قطّ مثل ما اغتممت بصوت مليح صنعته في هذا الشعر.

صوت

كان لي قلب أعيش به *** فاكتوى بالنار فاحترقا

أنا لم أرزق محبّتها *** إنما للعبد ما رزقا

من يكن ما ذاق طعم ردى *** ذاقه لا شكّ إن عشقا

فإنّي صنعت فيه [لحنا](2) و جعلت أردّده في جناح لي سحرا؛ فأظنّ أنّ إنسانا من العامّة مرّ بي فسمعه فأخذه؛ فبكّرت من غد إلى المعتصم لأغنّيه، فإذا أنا بسوّاط يسوط(3) الناطف(4) و هو يغنّي اللحن بعينه إلا أنه غناء فاسد.

فعجبت و قلت: ترى من أين لهذا السّوّاط هذا الصوت! و لعلّي إذ غنّيته أن يكون قد مرّ بي هذا فسمعني أغنّيه؛ و بقيت متحيّرا، ثم قلت يا فتى، ممن سمعت هذا الصوت؟ فلم يجبني و التفت إلى شريكه، و قال(5): هذا يسألني ممن سمعته! هذا غنائي، و اللّه لو سمعه إسحاق الموصليّ لخرئ في سراويله؛ فبادرت و اللّه هاربا خوف أن يمرّ بي إنسان فيسمع ما جرى عليّ فأفتضح؛ و ما علم اللّه أني نطقت بذلك الصوت بعدها.

كتب إليه إبراهيم بن المهدي في أحجية فأجابه:

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال:

كتب إبراهيم بن المهديّ إلى أبي: أيّ شيء تصحيف: «لا يريح مثل الأسنّة». فكتب إليه أبي: تصحيفه: «لا يرث/جميل إلا بثينة»؛ فكتب إليه: وى منك!.

ص: 277


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «غرثان». و الغرثان: الجائع. و الحائم: العطشان.
2- زيادة يقتضيها السياق.
3- ساط الشيء: خلطه.
4- الناطف: ضرب من الحلواء لأنه ينطف قبل استضرابه، أي يقطر قبل خثورته.
5- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «و قال خذ إليك. يسألني ممن... إلخ».
مدح جعفر بن يحيى ببيتين و غناه فيهما فوصله:
اشارة

أخبرنا جعفر قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:

دخلت يوما على جعفر بن يحيى، فرأى شفتيّ تتحرّكان بشيء(1) كنت أعمله؛ فقال: أ تدعو أم تصنع(2) ما ذا؟ فقلت: بل أمدح؛ قال: قل؛ فقلت:

صوت

و كنت إذا إذن عليك جرى لنا *** تجلّى لنا وجه أغرّ وسيم

علانية محمودة و سريرة *** و فعل يسرّ المعتفين كريم

فاحتبسني و أمر لي بمال جليل و كسوة، و قال: زد البيتين حسنا بأن تصنع فيهما لحنا؛ فصنعت لحنا من الثقيل الثاني؛ فلم يزل يشرب عليهما حتى سكر.

قصة دخوله بيتا طفيليا:

أخبرنا محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه أنه حدّثه قال: غدوت يوما و أنا ضجر من ملازمة دار الخلافة و الخدمة فيها؛ فخرجت و ركبت بكرة، و عزمت على أن أطوف الصحراء و أتفرّج؛ فقلت لغلماني: إن جاء رسول الخليفة أو غيره فعرّفوه أني بكّرت في بعض مهمّاتي، و أنكم لا تعرفون أين توجّهت؛ و مضيت و طفت ما بدا لي، ثم عدت و قد حمي النهار؛ فوقفت في الشارع المعروف بالمخرّم(3) في فناء ثخين الظلّ و جناح رحب على الطريق لأستريح. فلم ألبث/أن جاء خادم يقود حمارا فارها عليه جارية راكبة، تحتها منديل دبيقيّ(4) و عليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده، و رأيت لها قواما حسنا و طرفا فاترا و شمائل حسنة؛ فخرصت(5) عليها أنها مغنّية، فدخلت الدار التي كنت واقفا عليها. ثم لم ألبث أن جاء رجلان شابّان جميلان، فاستأذنا فأذن لهما فنزلا و نزلت معهما و دخلت؛ فظنا أن صاحب الدار دعاني و ظنّ صاحب الدار أني معهما؛ فجلسنا، و أتى بالطعام فأكلنا و بالشراب فوضع، و خرجت الجارية و في يدها عود فغنّت و شربنا؛ و قمت قومة، و سأل صاحب المنزل الرجلين عنّي فأخبراه أنهما لا يعرفاني؛ فقال: هذا طفيليّ، و لكنه ظريف، فأجملوا عشرته. و جئت فجلست؛ و غنّت الجارية في لحن لي:

ذكرتك أن مرّت بنا أمّ شادن *** أمام المطايا تشرئبّ و تسنح

من المؤلفات الرمل أدماء حرّة *** شعاع الضحى في متنها يتوضّح(6)

فأدّته أداء صالحا و شربت. ثم غنّت أصواتا شتّى، و غنّت في أضعافها من صنعتي:

ص: 278


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «لشيء».
2- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «أم تصنع أم ما ذا؟».
3- كذا في «معجم ما استعجم». و هي محلة ببغداد بالجانب الشرقيّ. و في الأصول: «المحرّم» بالحاء المهملة، و هو تصحيف.
4- راجع الحاشية رقم 3 ص 345 من هذا الجزء.
5- خرصت: ظننت و خمنت.
6- انظر الحاشية رقم 3 ص 292 من هذا الجزء.

الطّلول الدوارس *** فارقتها الأوانس

أوحشت بعد أهلها *** فهي قفر بسابس

فكان أمرها فيه أصلح منه في الأوّل. ثم غنّت أصواتا من القديم و الحديث، و غنّت في أثنائها من صنعتي:

قل لمن صدّ عاتبا *** و نأى عنك جانبا

قد بلغت الذي أرد *** ت و إن كنت لاعبا

فكان أصلح ما غنّته؛ فاستعدته منها لأصحّحه لها؛ فأقبل عليّ رجل من الرجلين و قال: ما رأيت طفيليّا أصفق وجها منك! لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت، و هذا غاية/المثل/ «طفيليّ مقترح»؛ فأطرقت و لم أجبه؛ و جعل صاحبه يكفّه عنّي فلا يكفّ. ثم قاموا للصلاة و تأخرت قليلا، فأخذت عود الجارية، ثم شددت طبقته و أصلحته إصلاحا محكما، و عدت إلى موضعي فصلّيت، و عادوا؛ ثم أخذ ذلك الرجل في عربدته عليّ و أنا صامت؛ ثم أخذت الجارية العود فجسّته و أنكرت حاله و قالت: من مسّ عودي؟ قالوا: ما مسّه أحد! قالت: بلى! و اللّه لقد مسّه حاذق متقدّم و شدّ طبقته و أصلحه إصلاح متمكّن من صناعته؛ فقلت لها: أنا أصلحته؛ قالت: فباللّه خذه و اضرب به؛ فأخذته و ضربت به مبدأ صحيحا ظريفا عجيبا صعبا، فيه نقرات محرّكة؛ فما بقي أحد منهم إلا وثب [على قدميه](1) و جلس بين يديّ؛ ثم قالوا: باللّه يا سيّدنا أ تغنّي؟ فقلت: نعم، و أعرّفكم نفسي، أنا إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، و و اللّه إني لآتيه على الخليفة إذا طلبني(2) و أنتم تسمعونني ما أكره منذ اليوم لأني تملّحت معكم؛ فو اللّه لا نطقت بحرف و لا جلست معكم حتى تخرجوا هذا المعربد المقيت الغثّ؛ فقال له صاحبه: من هذا حذرت عليك؛ فأخذ يعتذر؛ فقلت: و اللّه لا نطقت بحرف و لا جلست معكم حتى يخرج؛ فأخذوا بيده فأخرجوه و عادوا.

فبدأت و غنّيت الأصوات التي غنّتها الجارية من صنعتي؛ فقال لي الرجل: هل لك في خصلة؟ قلت: ما هي؟ قال:

تقيم عندي شهرا، و الجارية و الحمار لك مع ما عليها من حليّ؛ قلت: أفعل، فأقمت عنده ثلاثين يوما لا يدري أحد أين أنا، و المأمون يطلبني في كلّ موضع فلا يعرف لي خبرا. فلمّا كان بعد ثلاثين يوما أسلم إليّ الجارية و الحمار و الخادم؛ فجئت بذلك إلى منزلي؛ و ركبت إلى المأمون من وقتي؛ فلمّا رآني قال: إسحاق! ويحك! أين تكون؟ فأخبرته بخبري؛ فقال: عليّ بالرجل/الساعة؛ فدللتهم على بيته فأحضر؛ فسأله المأمون عن القصة فأخبره؛ فقال له: أنت رجل ذو مروءة و سبيلك أن تعاون عليها، و أمر له بمائة ألف درهم، و قال: لا تعاشرنّ ذلك المعربد النّذل البتّة؛ و أمر لي بخمسين ألف درهم، و قال: أحضرني الجارية، فأحضرتها فغنّته؛ فقال لي: قد جعلت لها نوبة في كلّ يوم ثلاثاء تغنّيني وراء الستارة مع الجواري؛ و أمر لها بخمسين ألف درهم. فربحت و اللّه بتلك الرّكبة و أربحت.

نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
صوت

ذكرتك أن مرّت بنا أم شادن *** أمام المطايا تشرئبّ و تسنح

من المؤلفات الرمل أدماء حرّة *** شعاع الضّحى في متنها يتوضّح

ص: 279


1- زيادة عن ء.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «إذا كلمني».

الشعر لذي الرّمّة. و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل بالسبابة و الوسطى، عن ابن المكيّ. و من أغاني إسحاق:

صوت

قل لمن صدّ عاتبا *** و نأى عنك جانبا

قد بلغت الذي أرد *** ت و إن كنت لاعبا

صوت

الطّلول الدّوارس *** فارقتها الأوانس

أوحشت بعد أهلها *** فهي قفر بسابس

الشعر لابن ياسين، شاعر مجهول قليل الشعر، كان صديقا لإسحاق. و الغناء لإسحاق خفيف ثقيل. و هذا الصوت من أوابد إسحاق و بدائعه.

غنى صوت له أمام الواثق فأعجب به و حلله:

أخبرني عمّي قال حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ قال:

كنت عند الواثق؛ فغنّته «شجى» التي وهبها له إسحاق هذا الصوت؛ فقال لمخارق و علّويه: و اللّه لو عاش معبد ما شقّ غبار إسحاق في هذا الصوت؛ فقالا(1) له: إنه لحسن يا أمير المؤمنين؛ فغضب و قال: ليس عند كما فيه إلا هذا! ثم أقبل على أحمد(2) بن المكّيّ فقال: دعني من هذين الأحمقين؛ أوّل بيت في هذا الصوت أربع كلمات:

«الطلول» كلمة، و «الدوارس» كلمة، و «فارقتها» كلمة، و «الأوانس» كلمة؛ فانظر هل ترك إسحاق شيئا من الصنعة يتصرّف فيه المغنّي لم يدخله في هذه الكلمات الأربع! بدأ بها نشيدا، و تلاه بالبسيط، و جعل فيه صياحا، و إسجاحا، و ترجيحا للنّغم، و اختلاسا فيها، و عمل هذا كلّه في أربع كلمات، فهل سمعت أحدا تقدّم أو تأخر فعل مثل هذا أو قدر عليه؟! فقال: صدق أمير المؤمنين، قد لحق من قبله و سبق من بعده.

مر مع الواثق بدير مريم فقال فيه شعرا و غنى فيه فوصله:

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني ميمون بن هارون قال حدّثني إسحاق قال:

لمّا خرجت مع الواثق إلى النّجف درنا بالحيرة و مررنا بدياراتها؛ فرأيت دير(3) مريم بالحيرة، فأعجبني موقعه و حسن بنائه؛ فقلت:

ص: 280


1- في الأصول: «فقالوا» و السياق يقتضي التثنية، كما هو ظاهر.
2- في الأصول: «محمد بن المكي». و المعروف المشهور بهذه النسبة ما أثبتناه.
3- دير مريم أو دير مارت مريم: يطلق على ديرين، أحدهما: دير قديم من بناء المنذر حسن الوضع بين الخورنق و السدير و بين قصر أبي الخصيب مشرف على النجف؛ و سياق الخبر هاهنا يدل على أن هذا الدير هو المراد. و الآخر: دير قديم أيضا بالشام؛ ذكره البكري و ياقوت و استشهدا بهذين البيتين. قال البكري: «هو بالشام و هو دير قديم من دياراتها لا أدري أين موضعه؛ و قد ذكره بعض الشعراء القدماء و غنى فيه ابن محرز قال:

/

نعم المحلّ لمن يسعى للذّته *** دير لمريم فوق الظهر معمور

ظلّ ظليل و ماء غير ذي أسن *** و قاصرات(1) كأمثال الدّمى حور

فقال الواثق: لا نصطبح و اللّه غدا إلا فيه؛ و أمر بأن يعدّ فيه ما يصلح من الليل؛ و باكرناه فاصطبحنا فيه على هذا الصوت؛ و أمر بمال ففرّق على أهل ذلك الدّير، و أمر لي بجائزة. لحن إسحاق في هذين البيتين ثاني ثقيل بالبنصر.

غنى عبد اللّه بن طاهر فوصله:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

أخرج إليّ عبد اللّه بن طاهر يوما بيتي شعر في رقعة و قال: هذان البيتان وجدتهما على بساط طبريّ(2)أصبهبذيّ أهدى إليّ من طبرستان، فأحبّ أن تغنّيني فيهما؛ فقرأتهما فإذا هما:

لجّ بالعين و اكف *** من هوى لا يساعف

كلّما كفّ غربها(3) *** هيجته المعازف

/قال: فغنّيت فيهما و غدوت بهما إليه، فأعجب بالصوت و وصلني بصلة سنيّة، و كان يشتهيه و يقترحه، و طرحته على جميع جواريه، و شاع خبر إعجابه [به](4). فبينا المعتصم يوما جالس يعرض عليه فرش الربيع، إذ مرّ به بساط ديباج في نهاية الحسن عليه هذان البيتان و معهما:

إنما الموت أن تفا *** رق من أنت آلف

/لك حبّان في الفؤا *** د تليد و طارف

فأمر بالبساط فحمل إلى عبد اللّه بن طاهر، و قال للرسول: قل له: إني قد عرفت شغفك بالغناء في هذا الشعر، فلما وقع هذا البساط أحببت أن أتمّ سرورك به. فشكر عبد اللّه ما تأدّى إليه من هذه الرسالة و أعظم مقداره، و قال

ص: 281


1- القاصرة من النساء: التي لا تمدّ عينيها إلى غير بعلها.
2- طبري: نسبة إلى طبرستان و هي بلدان واسعة كثيرة، قصبتها آمل. و أصبهبذي: نسبة إلى أصبهبذان: مدينة في بلاد الديلم بينها و بين البحر ميلان.
3- الغرب: الدمع.
4- الزيادة عن ء.

لي: و اللّه يا أبا محمد لسروري بتمام الشعر أشدّ من سروري بكل شيء، فألحقهما في الغناء بالبيتين الأوّلين، فألحقتهما.

نسبة هذا الصوت
صوت

لجّ بالعين واكف *** من هوى لا يساعف

كلّما كفّ غربها *** هيّجته المعازف

إنما الموت أن تفا *** رق من أنت آلف

لك حبّان في الفؤا *** د تليد و طارب

و لم أعرف من خبر شاعره غير ما ذكرته في هذا الخبر. و الغناء لإسحاق هزج بالوسطى.

مقدار صنعته:

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن ابن المكّيّ عن أبيه قال:

قلت لإسحاق يوما: يا أبا محمد، كم تكون صنعتك؟ فقال: ما بلغت مائتين قطّ.

مرضه و وفاته:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال:

قال لي وكيل بن الحرونيّ: قلت لأبيك إسحاق: يا أبا محمد، كم يكون غناؤك؟ قال: نحوا من أربعمائة صوت. قال: و قال له رجل بحضرتي: مالك لا تكثر الصنعة كما يكثر الناس؟ قال: لأنّي إنما أنقر في صخرة.

و لإسحاق أخبار كثيرة قليلة الفائدة كثيرة الحشو، طرحتها لذلك؛ و له أخبار أخر حسن ذكرها في مواضع تليق بها فأخّرتها و احتبستها عليها؛ و فيما ذكرته هاهنا منها مقنع.

و توفّي إسحاق(1) ببغداد في أوّل خلافة المتوكّل. فأخبرني الصّوليّ قال ذكر إبراهيم بن محمد الشّاهينيّ:

أنّ إسحاق كان يسأل اللّه ألاّ يبتليه بالقولنج(2) لما رأى من صعوبته على أبيه؛ فرأى في منامه كأنّ قائلا يقول له: قد أجيبت دعوتك و لست تموت بالقولنج، و لكنك تموت بضدّه، فأصابه ذرب(3) في شهر رمضان سنة خمس و ثلاثين و مائتين؛ فكان يتصدّق في كل يوم أمكنه أن يصومه بمائة درهم؛ ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه و مات في شهر رمضان.

ص: 282


1- الذي في ابن خلكان و «النجوم الزاهرة» أن مولده كان في سنة خمسين و مائة و هي السنة التي ولد فيها الإمام الشافعيّ و مات فيها الإمام أبو حنيفة رضي اللّه عنهما، فتكون سنة خمسا و ثمانين سنة.
2- القولنج: مرض معوي مؤلم، يعسر معه خروج الثقل و الريح.
3- الذرب: داء يعرض للمعدة فلا تهضم معه الطعام، و يفسد فيها فلا تمسكه.

نعي إسحاق إلى المتوكّل في وسط خلافته، فغمّه و حزن عليه، و قال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك و بهائه و زينته؛ ثم نعي إليه بعده أحمد بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه، فقال: تكافأت الحالتان، و قام الفتح بوفاة أحمد - و ما كنت آمن وثبته عليّ - مقام الفجيعة بإسحاق؛ فالحمد للّه على ذلك.

حدّثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني رجل من الكتّاب من أهل قطربّل قال حدّثني أبي عن أبيه قال:

رأيت فيما يرى النائم قائلا يقول لي:

مات الحسان ابن الحسا *** ن و مات إحسان الزمان

فأصبحت من غد فركبت في بعض حوائجي، فتلقّاني خبر وفاة إسحاق الموصليّ.

ما رثاه به الشعراء:

و قال/إدريس بن أبي حفصة يرثي إسحاق بن إبراهيم الموصليّ:

سقي اللّه يا ابن الموصليّ بوابل *** من الغيث قبرا أنت فيه مقيم

ذهبت فأوحشت الكرام فما يني *** بعبرته يبكي عليك كريم

إلى اللّه أشكو فقد إسحاق إنّني *** و إن كنت شيخا بالعراق يتيم

و قال محمد بن عمرو الجرجاني يرثيه:

على الحدث الشرقيّ عوجا فسلّما *** ببغداد لمّا ضنّ عنه عوائده

و قولا له لو كان للموت فدية *** فداك من الموت الطّريف و تألده

أ إسحاق لا تبعد و إن كان قد رمى *** بك الموت وردا ليس يصدر وارده

/إذا هزل اخضرّت فنون حديثه *** و رقّت حواشيه و طابت مشاهده

و إن جدّ كان القول جدّا و أقسمت *** مخارجه ألاّ تلين معاقده

فبكّ على ابن الموصليّ بعبرة *** كما ارفضّ من نظم الجمان فرائده

و قال مصعب بن عبد اللّه الزّبيريّ يرثيه - نسخت ذلك من كتاب جعفر بن قدامة، و ذكر أن حمّاد بن إسحاق أنشده إياها، و نسخته أيضا من كتاب الحرميّ بن أبي العلاء يذكر فيه عن الزّبير عن عمّه مصعب أنه أنشده لنفسه يرثي إسحاق -:

أ تدري لمن تبكي العيون الذّوارف *** و ينهلّ منها واكف ثم واكف

نعم لامرئ لم يبق في الناس مثله *** مفيد لعلم أو صديق ملاطف

تجهّز إسحاق إلى اللّه غاديا *** فللّه ما ضمّت عليه اللفائف

و ما حمل النعش المزجّى عشيّة *** إلى القبر إلا دامع العين لاهف

ص: 283

صدورهم مرضى عليه عميدة *** لها أزمة(1) من ذكره و زفازف

ترى كلّ محزون تفيض جفونه *** دموعا على الخدّين و الوجه شاسف(2)

جزيت جزاء المحسنين مضاعفا *** كما كان جدواك النّدى المتضاعف

فكم لك فينا من خلائق جزلة *** سبقت بها منها حديث و سالف

هي الشّهد أو أحلى إلينا حلاوة *** من الشهد لم يمزج به الماء غارف

ذهبت و خلّيت الصديق بعولة *** به أسف من حزنه مترادف

/إذا خطرات الذكر عاودن قلبه *** تتابع منهنّ الشئون النوازف

حبيب إلى الإخوان يرزون(3) ماله *** و آت لما يأتي امرؤ الصدق عارف

هو المنّ و السّلوى لمن يستفيده *** و سمّ على من يشرب السمّ زاعف

بكت داره من بعده و تنكّرت *** معالم من آفاقها(4) و معارف

فما الدار بالدار التي كنت أعتري *** و إنّي بها لو لا افتقاديك عارف

هي الدار إلاّ أنّها قد تخشّعت *** و أظلم منها جانب فهو كاسف

و بان الجمال و الفعال كلاهما *** من الدار و استنّت(5) عليها العواصف

/خلت داره من بعده فكأنما *** بعاقبة لم يغن في الدار طارف

و قد كان فيها للصديق معرّس(6) *** و ملتمس إن طاف بالدار طائف

كرامة إخوان الصفاء و زلفة *** لمن جاء تزجيه إليه الرّواجف

صحابته الغرّ الكرام و لم يكن *** ليصحبه السّود اللئام المقارف(7)

يؤول إليه كلّ أبلج شامخ *** ملوك و أبناء الملوك الغطارف

فلقّيت في يمنى يديك صحيفة *** إذا نشرت يوم الحساب الصحائف

يسرّ الذي فيها إذا ما بدا له *** و يفترّ منها ضاحكا و هو واقف

بما كان ميمونا على كلّ صاحب *** يعين على ما نابه و يكانف

ص: 284


1- أزمة: ضيق و شدة. و زفازف (واحدها زفزفة) و هي في الأصل حنين الريح و صوتها في الشجر. يريد أنه يكون بصدورهم عند ذكره نشيج و زفير من الحزن عليه.
2- الشاسف: اليابس ضمرا و هزالا.
3- يرزون: أصله يرزءون، سهلت همزته ثم حذفت لإسناد الفعل إلى ضمير الجمع.
4- في الأصول: «آفاتها»، و لا يستقيم بها الكلام. و قد آثرنا ما أثبتناه لاستقامة الكلام به مع قرب رسمه من رسم ما في الأصول.
5- استنت: انصبت.
6- المعرّس: موضع التعريس و هو نزول القوم آخر الليل للاستراحة من السفر؛ و قيل: التعريس النزول في المعهد أيّ حين كان من ليل أو نهار.
7- المقارف: الأنذال، و هم أيضا الذين أمهم عربية و أبوهم غير عربي.

/

سريع إلى إخوانه برضائه *** و عن كلّ ما ساء(1) الأخلاّء صارف

أرى الناس كالنّسناس(2) لم يبق منهم *** خلافك إلا حشوة(3) و زعانف

أخبرنا يحيى بن عليّ قال: أنشدني أبو أيّوب لأحمد بن إبراهيم يرثي إسحاق في قصيدة له:

لقد طاب الحمام غداة ألوى *** بنفس أبي محمد الحمام

فلو قبل الفداء إذا فدته *** ملوك كان يألفها كرام

فلا تبعد فكلّ فتى سيثوى *** عليه التّرب يحثى و الرّجام(4)

قال و قال أيضا يرثيه:

للّه أيّ فتى إلى دار البلى *** حمل الرجال ضحى على الأعواد

كم من كريم ما تجفّ دموعه *** من حاضر يبكي عليه و باد

أمسى يؤبّنه و يعرف فضله *** من كان يثلبه من الحسّاد

فسقتك يا ابن الموصليّ روائح *** تروى صداك بصوبها و غواد

و قد بقيت من أخبار إسحاق بقايا مثل أخباره مع بني هاشم، و أخباره مع إبراهيم بن المهديّ و غيرها، فإنها كثيرة، و لها مواضع ذكرت فيها و حسن ذكرها هنالك، فأخّرتها لذلك عن أخباره التي ذكرت هاهنا، حسبما شرطنا في أوّل الكتاب.

و مما في المائة المختارة من صنعة إسحاق بن إبراهيم
صوت

ألا قاتل اللّه اللّوى من محلّة *** و قاتل دنيانا بها كيف ذلّت

غنينا زمانا باللّوى ثم أصبحت *** عراص اللّوى من أهلها قد تخلّت

عروضه من الطويل. الشعر للصّمّة القشيريّ، و الغناء لإسحاق، و لحنه المختار ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها.

انتهى الجزء الخامس من كتاب الأغاني و يليه الجزء السادس و أوّله أخبار الصّمّة القشيريّ و نسبه

ص: 285


1- في أ، ح، ء: «نال».
2- النسناس: خلق في صورة الناس، مشتق منه لضعف خلقهم. و ذكر ابن منظور صاحب «لسان العرب» معاني أخرى في مادة «نسس» فانظرها.
3- يقال: هو من حشوة بني فلان، أي من رذالهم.
4- الرجام: الحجارة التي تجمع على القبور.

ص: 286

فهرس موضوعات الجزء الخامس

الموضوع الصفحة

1 - ذكر النابغة الجعديّ و نسبه و أخباره 5

2 - حرب بكر و تغلب 27

3 - ذكر الهذلي و أخباره 46

4 - ذكر عبيد اللّه بن قيس الرقيات و نسبه و أخباره 51

5 - ذكر مالك بن أبي السمح و أخباره و نسبه 70

6 - خبر النهديّ في هذا الشعر 81

7 - ذكر باقي خبر الوليد بن عقبة و نسبه 84

8 - نسب إبراهيم الموصلي و أخباره 106

9 - شيء من ذكر أبي هرمة 173

10 - نسب إبراهيم الموصليّ و أخباره 175

11 - أخبار إسحاق بن إبراهيم 177

فهرس الموضوعات 287

ص: 287

المجلد 6

هویة الکتاب

الأغاني

سایر نویسندگان

مصحح و مترجم:

مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربی

المجلدات : 25ج

زبان: عربی

ناشر: دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سال نشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

کد کنگره: PJA 3892 /الف 6 1374

تنظیم متن دیجیتال میثم حیدری

ص: 288

اشارة

ص: 289

ص: 290

من كتاب الأغاني بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

تتمة التراجم

1 - أخبار الصّمّة القشيريّ و نسبه

نسبه:

هو الصّمّة بن عبد اللّه بن الطّفيل بن قرّة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة/بن خصفة بن قيس(1) بن عيلان بن مضر بن نزار.

هو شاعر مقل من شعراء الدولة الأموية:

شاعر إسلاميّ بدويّ مقلّ، من شعراء الدولة الأمويّة. و لجدّه قرّة بن هبيرة صحبة بالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو أحد وفود العرب الوافدين عليه صلى اللّه عليه و سلم و آله.

وفد جدّه قرّة على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و أسلم:

أخبرني بخبره عبيد اللّه بن محمد الرّازي و عمّي قالا حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائني عن أبي بكر الهذليّ و ابن دأب و غيرهما من الرّواة قالوا:

/وفد قرّة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فأسلم، و قال له:

يا رسول اللّه، إنا كنا نعبد الآلهة لا تنفعنا و لا تضرّنا؛ فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «نعم ذا عقلا».

قصته في حبه و زواجه:

و قال ابن دأب: و كان من خبر الصّمّة أنه هوي امرأة من قومه ثم من بنات عمّه دنية(2) يقال لها العامريّة بنت

ص: 291


1- قال في «القاموس»: «و عيلان بلا لام أبو قيس، أو الصواب قيس عيلان مضافا» اه. و يؤيد القول بأنه أبوه قول سحبان: لقد علمت قيس بن عيلان أنني إذا قلت «أما بعد» إني خطيبها و يؤيد القول الثاني قول الآخر: إلى حكم من قيس عيلان فيصل و آخر من حي ربيعة عالم و على أنه مضاف قيل: إن «عيلان» اسم فرس لقيس فأضيف إليه، أو هو عبد لمضر بن نزار حضن قيسا فغلب عليه و نسب إليه. (راجع «القاموس» و شرحه مادة عيل).
2- دنية أي لاصقة النسب.

غطيف بن حبيب بن قرّة بن هبيرة؛ فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوّجه إياها؛ و خطبها عامر بن بشر بن أبي براء بن مالك بن ملاعب(1) الأسنّة بن جعفر بن كلاب، فزوّجه إياها. و كان عامر قصيرا قبيحا؛ فقال الصّمّة بن عبد اللّه في ذلك:

فإن تنكحوها عامرا لاطّلاعكم *** إليه يدهدهكم(2) برجليه عامر

شبّهه بالجعل الذي يدهده البعرة برجليه.

قال: فلما بنى بها زوجها، وجد الصّمّة بها وجدا شديدا و حزن عليها؛ فزوّجه أهله امرأة منهم يقال لها جبرة بنت وحشيّ بن الطّفيل بن قرّة بن هبيرة؛ فأقام عليها مقاما يسيرا، ثم رحل إلى الشام غضبا على قومه، و خلّف امرأته فيهم، و قال لها:

كلي التمر حتى تهرم النخل و اضفري *** خطامك ما تدرين ما اليوم من أمس

/و قال فيها(3) أيضا:

لعمري لئن كنتم على النأى و القلى *** بكم مثل ما بي إنكم لصديق

إذا زفرات الحبّ صعّدن في الحشى *** رددن و لم تنهج لهنّ طريق

و قال فيها أيضا:

إذا ما أتتنا الريح من نحو أرضكم *** أتتنا بريّاكم فطاب هبوبها

أتتنا بريح المسك خالط عنبرا *** و ريح الخزامى باكرتها جنوبها

و قال فيها أيضا:

هل تجزينّي العامريّة موقفي *** على نسوة بين الحمى و غضى الجمر

مررن بأسباب الصّبا فذكرنها *** فأومأت إذ ما من جواب و لا نكر

موته بطبرستان:
اشارة

و قال ابن دأب: و أخبرني جماعة من بني قشير أنّ الصّمّة خرج في غزيّ(4) من المسلمين إلى بلد الدّيلم فمات بطبرستان.

قال ابن دأب: و أنشدني جماعة من بني قشير للصّمّة:

ص: 292


1- كذا في الأصول. و المعروف أن ملاعب الأسنة كنيته أبو براء، و اسمه عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب. فصواب العبارة: «و خطبها عامر بن بشر بن أبي براء ملاعب الأسنة بن مالك... إلخ». و سمى ملاعب الأسنة لقول أوس بن حجر: و لاعب أطراف الأسنة عامر فراح له حظ الكتبة أجمع (انظر «شرح القاموس» مادة لعب، و «بلوغ الأرب في أحوال العرب» للآلوسي ج 2 ص 140).
2- دهده: دحرج.
3- واضح من السياق أن مرجع الضمير هنا العامرية محبوبته لا جبرة زوجته.
4- غزى: اسم جمع لغاز، أو هو جمع على وزن فعيل كقاطن و قطين و حاج و حجيج.
صوت

أ لا تسألان اللّه أن يسقي الحمى *** بلى فسقى اللّه الحمى و المطاليا(1)

و أسأل من لاقيت هل مطر الحمى *** فهل يسألن عنّي(2) الحمى كيف حاليا

/الغناء في هذين البيتين لإسحاق، و لحنه من الثقيل الأول بالوسطى، و هو من مختار الأغاني و نادرها.

أخبرني محمد بن خلف وكيع و عمّي قالا حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال قال عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل الجعفريّ حدّثنا عبد اللّه بن إسحاق الجعفريّ عن عبد العزيز بن أبي ثابت قال حدّثني رجل من أهل طبرستان كبير السنّ قال:

بينا أنا يوما أمشي في ضيعة لي فيها ألوان من الفاكهة و الزعفران و غير ذلك من الأشجار، إذ أنا بإنسان في البستان مطروح عليه أهدام خلقان، فدنوت منه فإذا هو يتحرّك و لا يتكلّم، فأصغيت إليه فإذا هو يقول بصوت خفيّ:

تعزّ بصبر لا و جدّك لا ترى *** بشام(3) الحمى أخرى الليالي الغوابر

كأنّ فؤادي من تذكّره الحمى *** و أهل الحمى يهفو به ريش طائر

قال: فما زال يردّد هذين البيتين حتى فاضت نفسه؛ فسألت عنه فقيل لي: هذا الصّمّة بن عبد اللّه القشيريّ.

كان ابن الأعرابي يستحسن شعرا له:

أخبرني عمّي قال حدّثنا الخرّاز أحمد بن الحارث قال:

كان ابن الأعرابيّ يستحسن قول الصمة:

صوت

أما و جلال اللّه لو تذكرينني *** كذكريك ما كفكفت للعين مدمعا

فقالت بلى و اللّه ذكرا لو أنّه *** يصبّ على صمّ الصّفا لتصدّعا

/ - غنّى في هذين البيتين عبيد اللّه بن أبي غسّان ثاني ثقيل بالوسطى. و فيهما لعريب خفيف رمل -:

و لمّا(4) رأيت البشر قد حال بيننا *** و جالت بنات الشوق في الصدر نزّعا

ص: 293


1- المطالي: جمع مطلاء (يمد و يقصر)، و هو مسيل ضيق من الأرض أو هو أرض سهلة لينة تنبت العضاه. و حكى ابن بري عن علي بن حمزة أن المطالي روضات، واحدها مطلى بالقصر لا غير، و أما المطلاء لما انخفض من الأرض و اتسع فيمد و يقصر و القصر فيه أكثر. و قيل المطالي: المواضع التي تغذو فيها الوحش أطلاءها. (عن «اللسان» مادة طلى بتصرف).
2- رواية «تجريد الأغاني» (نسخة مأخوذة بالتصوير الشمسي محفوظة بدار الكتب المصرية رقم 5071 أدب): «فهل يسألن أهل الحمى...».
3- في الأصول: «سنام الحمى». و التصويب عن كتاب «تجريد الأغاني». و البشام: شجر طيب الريح و الطعم يستاك به.
4- رواية «ديوان الحماسة» (طبع مدينة ليدن): و لما رأيت البشر أعرض دوننا........ يحننّ نزعا و البشر: جبل. و أعرض: أبدى عرضه.

تلفّتّ نحو الحيّ حتى وجدتني *** وجعت(1) من الإصغاء ليتا و أخدعا

مدح إبراهيم بن محمد بن سليمان شعره:
اشارة

أخبرني أبو الطيّب بن الوشّاء قال:

قال لي إبراهيم بن محمد بن سليمان الأزديّ: لو حلف حالف أنّ أحسن أبيات قيلت في الجاهليّة و الإسلام في الغزل قول الصّمّة القشيريّ ما حنث:

حننت إلى ريّا و نفسك باعدت *** مزارك من ريّا و شعباكما معا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعا *** و تجزع أن داعي الصبابة أسمعا

بكت عيني اليمنى فلما زجرتها *** عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

صوت

و أذكر أيّام الحمى ثم أنثني *** على كبدي من خشية أن تصدّعا

فليست عشيّات الحمى برواجع *** عليك و لكن خلّ عينيك تدمعا

غنّت في هذين البيتين قرشيّة الزّرقاء لحنا من الثقيل الأوّل عن الهشاميّ. و هذه الأبيات التي أوّلها «حننت إلى ريّا» تروى لقيس بن ذريح في أخباره و شعره بأسانيد قد ذكرت في مواضعها، و يروى بعضها للمجنون في أخباره بأسانيد قد/ذكرت أيضا في أخباره. و الصحيح في البيتين الأوّلين أنهما لقيس بن ذريح و روايتهما [له](2) أثبت، و قد تواترت الروايات بأنهما له من عدّة طرق؛ و الأخر مشكوك فيها أ هي للمجنون أم للصّمّة.

كان أبو حاتم يستجيد بيتين من شعره:

/أنشدنا محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم للصّمّة القشيريّ قال: و كان أبو حاتم يستجيدهما، و أنشدنيهما عمّي عن الكرانيّ عن أبي حاتم، و أنشدنيهما الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه عن أبي حاتم:

إذا نأت لم تفارقني علاقتها *** و إن دنت فصدود العاتب الزّاري

فحال عيني من يوميك واحدة *** تبكي لفرط صدود أو نوى دار

تذكر محبوبته و بكى و ذكر شعره فيها:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا عبيد اللّه بن إسحاق بن سلاّم قال حدّثني أبي عن شعيب بن صخر عن بعض بني عقيل قال:

مررت بالصّمّة بن عبد اللّه القشيريّ يوما و هو جالس وحده يبكي و يخاطب نفسه و يقول: لا و اللّه ما صدقتك فيما قالت؛ فقلت: من تعني؟ ويحك! أ جننت! قال: أعني التي أقول فيها:

ص: 294


1- في س: «و جئت». و في سائر الأصول: «و خفت». و التصويب عن «ديوان الحماسة» و «اللسان» (مادة وجع). و الليت (بالكسر): صفحة العنق. و الأخدع: عرق في العنق في موضع الحجامة.
2- هذه الكلمة ساقطة في ب، س.

أما و جلال اللّه لو تذكرينني *** كذكريك ما كفكفت للعين مدمعا

فقالت بلى و اللّه ذكرا لو أنّه *** يصبّ على صمّ الصّفا لتصدعا

أسلي نفسي عنها و أخبرها أنها لو ذكرتني كما قالت لكانت في مثل حالي.

قصته في خطبة ابنة عمه و رحلته إلى ثغر من الثغور و شعره في ذلك:

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني مسعود بن عيسى بن إسماعيل العبدي عن موسى بن عبد اللّه التّيميّ قال.

/خطب الصّمّة القشيريّ بنت عمّه و كان لها محبّا، فاشتطّ عليه عمّه في المهر؛ فسأل أباه أن يعاونه و كان كثير المال فلم يعنه بشيء؛ فسأل عشيرته فأعطوه؛ فأتى بالإبل عمّه؛ فقال: لا أقبل هذه في مهر ابنتي، فاسأل أباك أن يبدلها لك؛ فسأل ذلك أباه فأبى عليه؛ فلما رأى ذلك من فعلهما قطع عقلها و خلاّها، فعاد كلّ بعير منها إلى ألاّفه.

و تحمّل الصّمّة راحلا. فقالت بنت عمه حين رأته يتحمّل: تاللّه ما رأيت كاليوم رجلا باعته عشيرته بأبعرة. و مضى من وجهه حتى لحق بالثغر؛ فقال و قد طال مقامه و اشتاقها و ندم على فعله:

أ تبكي على ريّا و نفسك باعدت *** مزارك من ريّا و شعباكما معا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعا *** و تجزع أنّ داعي الصبابة أسمعا

و قد أخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عديّ: أن الصّمّة خطب ابنة عمّه هذه إلى أبيها؛ فقال له: لا أزوّجكها إلا على كذا و كذا من الإبل؛ فذهب إلى أبيه فأعلمه بذلك و شكا إليه ما يجد بها؛ فساق الإبل عنه إلى أخيه؛ فلما جاء بها عدّها عمّه فوجدها تنقص بعيرا، فقال: لا آخذها إلا كاملة؛ فغضب أبوه و حلف لا يزيده على ما جاء به شيئا. و رجع إلى الصّمّة؛ فقال له: ما وراءك؟ فأخبره؛ فقال:

تاللّه ما رأيت قطّ ألأم منكما جميعا؛ و إني لألأم منكما إن أقمت بينكما؛ ثم ركب ناقته و رحل إلى ثغر من الثغور، فأقام به حتى مات. و قال في ذلك:

أ من ذكر دار بالرّقاشين(1) أصبحت *** بها عاصفات الصيف بدءا و رجّعا

/حننت إلى ريّا و نفسك باعدت *** مزارك من ريا و شعباكما معا

/فما حسن أن تأتي الأمر طائعا *** و تجزع أن داعي الصبابة أسمعا

كأنك لم نشهد وداع مفارق *** و لم تر شعبي صاحبين تقطّعا

بكت عيني اليسرى فلما زجرتها *** عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا

تحمّل أهلي من قنين(2) و غادروا *** به أهل ليلى حين جيد(3) و أمرعا

ص: 295


1- الرقاشان: جبلان بأعلى الشريف في ملتقى دار كعب و كلاب. و رواية البيت في «معجم ما استعجم» لأبي عبيد البكري - و قد نسبه ليزيد بن الطثرية -: أ من أجل دار بالرقاشين أعصفت عليها رياح الصيف بدءا و رجعا
2- لم نوفق إلى هذا الاسم في المعاجم التي بين أيدينا. و ظاهر أنه اسم موضع أو محرف عن اسم موضع.
3- جيد: أصابه الجود و هو المطر الغزير.

ألا يا خليليّ اللذين تواصيا *** بلومي إلاّ أن أطيع و أسمعا

قفا إنه لا بدّ من رجع نظرة *** يمانيّة شتّى بها القوم أو معا

لمغتصب قد عزّه(1) القوم أمره *** حياء يكفّ الدمع أن يتطلّعا

تبرّض(2) عينيه الصّبابة كلّما *** دنا الليل أو أوفى من الأرض ميفعا(3)

فليست عشيّات الحمى برواجع *** إليك و لكن خلّ عينيك تدمعا

صوت من المائة المختارة من رواية يحيى بن عليّ

قل لأسماء أنجزي الميعادا *** و انظري أن تزوّدي منك زادا

إن تكوني حللت ربعا من الشأ *** م و جاورت حميرا أو مرادا

أو تناءت بك النّوى فلقد قد *** ت فؤادي لحينه فانقادا

ذاك أني علقت منك جوى الح *** ب وليدا فزدت سنا(4) فزادا

/الشعر لداود بن سلم. و الغناء لدحمان، و لحنه المختار من الثقيل الأول بالوسطى. و قد كنا وجدنا هذا الشعر في رواية عليّ بن يحيى عن إسحاق منسوبا إلى المرقّش، و طلبناه في أشعار المرقّشين(5) جميعا فلم نجده، و كنا نظنه من شاذّ الروايات حتى وقع إلينا في شعر داود بن سلم، و في خبر أنا ذاكره في أخبار داود. و إنما نذكر ما وقع إلينا عن رواته؛ فما وقع من غلط فوجدناه أو وقفنا على صحته أثبتناه و أبطلنا ما فرط منا غيره، و ما لم يجر هذا المجرى فلا ينبغي لقارئ هذا الكتاب أن يلزمنا لوم خطأ لم نتعمده و لا اخترعناه، و إنما حكيناه عن رواته و اجتهدنا في الإصابة. و إن عرف صوابا مخالفا لما ذكرناه و أصلحه، فإن ذلك لا يضرّه و لا يخلو به من فضل و ذكر جميل إن شاء اللّه.

ص: 296


1- عزه: غلبه و سلبه.
2- أي تأخذ الصبابة ماء عينيه شيئا فشيئا. يقال: تبرضت ماء الحسى إذا أخذته قليلا قليلا، و فلان يتبرض الماء إذا كان كلما اجتمع منه شيء غرفه.
3- الميفع: المكان المشرف.
4- في الأصول هنا و فيما يأتي «شيئا». و التصويب عن «تجريد الأغاني».
5- يعني بالمرقشين: المرقش الأكبر و الأصغر. و الأكبر هو عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل. كذا قال ابن الكلبي و خالفه الجوهري. فقال: إنه من بليّ سدوس. و المرقش الأصغر هو ربيعة بن حرملة، و هو ابن أخي المرقش الأكبر، و هو أيضا عم طرفة بن العبد. (انظر «شرح القاموس» مادة رقش) و سيأتي الكلام عليهما في هذا الجزء.

2 - أخبار داود بن سلم و نسبه

نسبه و ولاؤه و هو من مخضرمي الدولتين:

داود بن سلم مولى بني تيم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ؛ ثم يقول بعض الرواة: إنّه مولى آل أبي بكر، و يقول بعضهم: إنه مولى آل طلحة. و هو مخضرم من شعراء الدولتين الأموية و العباسية، من ساكني المدينة، يقال له داود الآدم(1) و داود الأرمك(2). و كان من أقبح الناس وجها.

رآه والي المدينة يخطر في مشيته فضربه فمدحه ابن رهيمة لذلك:

و كان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يستثقله؛ فرآه ذات يوم يخطر خطرة منكرة فدعا به، و كان يتولّى المدينة، فضربه ضربا مبرّحا؛ و أظهر أنه إنما فعل/ذلك به من أجل الخطرة التي تخايل فيها في مشيته. فقال بعض الشعراء في ذلك و أظنه ابن رهيمة:

ضرب العادل سعد *** ابن سلم في السّماجه

فقضى اللّه لسعد *** من أمير كلّ حاجة

مدح آل معمر لأن أمه من مواليهم:

أخبرني محمد بن سليمان الطّوسي قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:

سألت محمد بن موسى بن طلحة عن داود بن سلم، هل هو مولاهم؟ فقال: كذلك يقول الناس، هو مولانا، أبوه رجل من النّبط، و أمه بنت حوط مولى عمر بن عبيد اللّه بن معمر؛ فانتسب إلى ولاء أمه. و في ذلك يقول و يمدح ابن معمر:

و إذا دعا الجاني النصير لنصره *** و أرتني الغرر النصيرة(3) معمر

/متخازرين(4) كأنّ أسد خفيّة(5) *** بمقامها مستبسلات تزأر

ص: 297


1- كذا في ب، س، ح. و في سائر الأصول: «الأدلم» و الآدم و الأدلم بمعنى، و هو الأسود.
2- الأرمك: الأسود. و في جميع الأصول: «الأدمك» (بالدال المهملة) و هو تحريف.
3- كذا في جميع الأصول و لعلها مصحفة عن «النضيرة» بالضاد المعجمة.
4- تخازر الرجل ضيق جفنه ليحدّد النظر.
5- الخفية: غيضة ملتفة يتخذها الأسد عرينه، و هي خفيته. و قيل: هي علم لموضع بعينه. قال الشاعر: أسود شرى لافت أسود خفية تساقين سما كلهن خوادر فشرى و خفية علمان لموضعين (راجع «اللسان» مادة خفى).

متجاسرين بحمل كل ملمّة *** متجبّرين على الذي يتجبّر

عسل الرّضا فإذا أردت خصامهم *** خلط السّمام بفيك صاب ممقر(1)

لا يطبعون و لا ترى أخلاقهم *** إلاّ تطيب كما يطيب العنبر

رفعوا بناي بعتق حوط دنية *** جدّي و فضلهم الذي لا ينكر

كان أسود بخيلا و له شعر في الكرم كذبه فيه قوم ضافوه:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال:

كان داود بن سلم مولى بني تيم بن مرّة، و كان يقال له: الآدم لشدّة سواده، و كان من أبخل الناس؛ فطرقه قوم و هو بالعقيق، فصاحوا به: العشاء و القرى يا ابن سلم؛ فقال لهم: لا عشاء لكم عندي و لا قرى؛ قالوا: فأين قولك في قصيدتك إذ تقول فيها:

يا دار هند ألا حيّيت من دار *** لم أقض منك لباناتي و أوطاري

عوّدت فيها إذا ما الضيف نبّهني *** عقر العشار(2) على يسري و إعساري

قال: لستم من أولئك الذين عنيت.

عزى السري بن عبد اللّه عن ابنه:

قال: و دخل على السّريّ بن عبد اللّه الهاشميّ، و قد أصيب بابن له؛ فوقف بين يديه ثم أنشده:

/

يا من على الأرض من عجم و من عرب *** استرجعوا خاست(3) الدّنيا بعبّاس

فجعت من سبعة قد كنت آملهم *** من ضنء(4) و الدهم بالسيّد الرّاس

قال: و داود بن سلم الذي يقول:

قل لأسماء أنجزي الميعادا *** و انظري أن تزوّدي منك زادا

إن تكوني حللت ربعا من الشأ *** م و جاورت حميرا أو مرادا

أو تناءت بك النوى فلقد قد *** ت فؤادي لحينه فانقادا

ذاك أني علقت منك جوى الح *** بّ وليدا فزدت سنّا فزادا

قال أبو زيد: أنشدنيها أبو غسّان محمد بن يحيى و إبراهيم بن المنذر لداود بن سلم.

ص: 298


1- عسل: جمع عاسل و عسول أي حلو. و الممقر: الشديد المرارة.
2- العشار جمع عشراء، و هي من الإبل ما مضى لحملها عشرة أشهر، فإذا وضعت لتمام سنة فهي عشراء أيضا. و أحسن ما تكون الإبل و أنفسها عند أهلها إذا كانت عشارا.
3- خاست: غدرت.
4- الضنء: الولد: و يطلق على الأصل أيضا.
نسبة ما في هذا الخبر من الشعر الذي فيه غناء
صوت

يا دار هند ألا حيّيت من دار *** لم أقض منك لباناتي و أوطاري

يتم و ينسب(1).

مدح إسحاق بن إبراهيم بن طلحة بولاية القضاء فزجره:

أخبرنا الطّوسيّ قال حدّثنا الزبير قال أخبرني مصعب بن عثمان قال:

دعا الحسن بن زيد إسحاق بن إبراهيم بن طلحة بن عمر بن عبيد اللّه بن معمر التّيميّ أيام كان بالمدينة إلى ولاية القضاء فأبى عليه فحبسه، فدعا مسرقين(2) يسرقون/له مغسلا في السجن، و جاء بنو طلحة فانسجنوا معه.

و بلغ ذلك الحسن بن زيد، فأرسل إليه فأتي به؛ فقال: إنك تلاججت عليّ، و قد حلفت ألاّ أرسلك حتى تعمل لي، فأبرر يميني، ففعل؛ فأرسل الحسن معه جندا حتى جلس في المسجد مجلس القضاء و الجند على رأسه؛ فجاءه داود بن سلم فوقف عليه فقال:

طلبوا الفقه و المروءة و الحل *** م و فيك اجتمعن يا إسحاق

فقال: ادفعوه، فدفعوه، فنحّي(3) عنه؛ فجلس ساعة ثم قام من مجلسه؛ فأعفاه الحسن بن زيد من القضاء؛ فلما سار إلى منزله أرسل إلى داود بن سلم بخمسين دينارا، و قال للرسول: قل له: يقول لك مولاك: ما حملك على أن تمدحني بشيء أكرهه؟ استعن بهذه على أمرك.

ضربه سعد بن إبراهيم في المسجد و القصة في ذلك:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محرز بن سعيد قال:

بينما سعد بن إبراهيم في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يقضي بين الناس إذ دخل عليه زيد بن إسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر، و معه داود بن سلم مولى التّيميّين، و عليهما ثياب ملوّنة يجرّانها؛ فأومأ أن يؤتى بهما، فأشار إلى زيد أن اجلس، فجلس بالقرب منه، و أومأ إلى الآخر أن يجلس حيث يجلس مثله، ثم قال لعون من أعوانه: ادع لي نوح بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد اللّه، فدعي له فجاء أحسن الناس سمتا و تشميرا و نقاء ثياب؛ فأشار إليه فجلس؛ ثم أقبل على زيد فقال له: يا ابن أخي، تشبه بشيخك هذا و سمته و تشميره و نقاء ثوبه، و لا تعد إلى هذا اللبس، قم فانصرف. ثم أقبل على ابن سلم و كان قبيحا، فقال له: هذا/ابن جعفر أحتمل هذا له، و أنت لأيّ شيء أحتمل هذا لك؟ اللؤم أصلك، أم لساجة وجهك! جرّد يا غلام؛ فجرّد فضربه أسواطا. فقال ابن رهيمة:

جلد العادل سعد *** ابن سلم في السّماجه

فقضى اللّه لسعد *** من أمير كلّ حاجة

ص: 299


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و ينسب. انتهى». و لا معنى لهذه الزيادة.
2- كذا في ب، س. و في أ، ء، م: «مسرفين يسرفون» (بالفاء). و في ح: «مسروقين يسرقون له معسلا». و لم نوفق إلى وجه الصواب فيها.
3- في ب، س: «فننحى عنه».

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني يعقوب بن حميد بن كاسب قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون عن يوسف بن الماجشون قال:

قال لي أبي - و قد عزل سعد بن إبراهيم عن القضاء - يا بنيّ تعجّل بنا عسى أن نروح مع سعد بن إبراهيم، فإن القاضي إذا عزل لم يزل الناس ينالون منه؛ فخرجنا حتى جئنا دار سعد بن إبراهيم، فإذا صوت عال؛ فقال لي أيّ شيء هذا؟ أرى أنه قد أعجل عليّ؛ و دخلنا فإذا داود بن سلم يقول له: أطال اللّه بقاءك يا أبا إسحاق و فعل بك؛ و قد كان سعد جلد داود بن/سلم أربعين سوطا، فأقبل عليّ سعد و على أبي، فقال: لم تر مثل أربعين سوطا في ظهر لئيم. قال: و فيه يقول الشاعر:

ضرب العادل سعد *** ابن سلم في السماجه

فقضى اللّه لسعد *** من أمير كلّ حاجة

كان يمدح الحسن بن زيد و قد غضب منه لمدحه جعفر بن سليمان:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال الزّبير بن بكّار قال حدّثني أبو يحيى الزّهري و اسمه هارون بن عبد اللّه(1) قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز عن أبيه قال:

/كان الحسن بن زيد قد عوّد داود بن سلم مولى بني تيم إذا جاءته غلّة من الخانقين(2) أن يصله. فلما مدح داود بن سلم جعفر بن سليمان، و كان بينه و بين الحسن بن زيد تباعد شديد، أغضب ذلك الحسن؛ فقدم من حجّ أو عمرة، و دخل عليه داود مسلّما، فقال له الحسن: أنت القائل في جعفر:

و كنّا حديثا(3) قبل تأمير جعفر *** و كان المنى في جعفر أن يؤمّرا

حوى المنبرين الطاهرين كليهما *** إذا ما خطا عن منبر أمّ منبرا

كأن بني حوّاء صفّوا أمامه *** فخبّر من أنسابهم فتخيّرا؟

فقال داود: نعم، جعلني اللّه فداءكم، فكنتم خيرة اختياره؛ و أنا الذي أقول:

لعمري لئن عاقبت أوجدت منعما *** بعفو عن الجاني و إن كان معذرا

لأنت بما قدّمت أولى بمدحة *** و اكرم فرعا إن فخرت و عنصرا

هو الغرّة الزّهراء من فرع هاشم *** و يدعو عليّا ذا المعالي و جعفرا

و زيد(4) النّدى و السّبط سبط محمد *** و عمّك بالطّفّ الزّكيّ المطهّرا

و ما نال من ذا جعفر غير مجلس *** إذا ما نفاه العزل عنه تأخّرا

ص: 300


1- في، ء، م: «عبيد اللّه».
2- خانقين: بلدة من نواحي السواد في طريق همذان من بغداد، بينها و بين قصر شيرين ستة فراسخ لمن يريد الجبال، و بين قصر شيرين إلى حلوان ستة فراسخ. و قال البشاري: و خانقين أيضا بلدة بالكوفة. (عن «معجم البلدان»).
3- كذا بالأصول.
4- يعني به زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب الذي خرج على هشام بن عبد الملك في خلافته فقتله. و السبط: الحسن بن علي بن أبي طالب. و عمه يعني به الحسين بن علي بن أبي طالب، و قد قتل بالطف، و هو موضع قرب الكوفة.

بحقّكم نالوا ذراها فأصبحوا *** يرون به عزّا عليكم و مفخرا

قال: فعاد الحسن بن زيد له إلى ما كان عليه، و لم يزل يصله و يحسن إليه حتى مات. قال أبو يحيى: يعني بقوله: «و إن كان معذرا» أن جعفرا أعطاه بأبياته الثلاثة ألف دينار، فذكر أن له عذرا في مدحه إياه بجزالة إعطائه.

إعجاب أبي السائب المخزومي بشعر له:
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الواقديّ عن ابن أبي الزّناد قال:

كنت ليلة عند الحسن بن زيد ببطحاء ابن أزهر (على ستة أميال من المدينة، حيال ذي الحليفة) نصف الليل جلوسا في القمر، و أبو السائب المخزوميّ معنا، و كان ذا فضل و كان مشغوفا بالسّماع و الغزل، و بين أيدينا طبق عليه فريك(1) فنحن نصيب منه، و الحسن يومئذ عامل المنصور على المدينة؛ فأنشد الحسن قول داود بن سلم و جعل يمدّ به صوته و يطرّبه:

صوت

فعرّسنا ببطن عريتنات(2) *** ليجمعنا و فاطمة المسير

أ تنسى إذ تعرّض و هو باد *** مقلّدها كما برق الصّبير(3)

و من يطع الهوى يعرف هواه *** و قد ينبيك بالأمر الخبير

/على أني زفرت غداة هرشى(4) *** فكاد يريبهم منّي الزّفير

- الغناء للغريض ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه للهذليّ ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة، و أظنّه هذا اللحن - قال: فأخذ أبو السائب الطبق! فوحّش(5) به إلى السماء، فوقع الفريك على رأس الحسن بن زيد؛ /فقال له: مالك؟ ويحك! أ جننت! فقال له أبو السائب: أسألك باللّه و بقرابتك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلاّ ما أعدت إنشاد هذا الصوت و مددته كما فعلت! قال: فما ملك الحسن نفسه ضحكا، و ردّ الحسن الأبيات لاستحلافه إياه. قال ابن أبي الزّناد: فلما خرج أبو السائب قال لي: يا ابن أبي الزّناد، أ ما سمعت مدّه:

و من يطع الهوى يعرف هواه

فقلت نعم؛ قال: لو علمت أنه يقبل مالي لدفعته إليه بهذه الثلاثة الأبيات. أخبرني بخبره عبيد اللّه بن محمد الرازيّ و عمّي قالا حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائني عن أبي بكر الهذليّ.

ص: 301


1- الفريك: طعام يفرك و يلت بسمن و غيره.
2- عرس القرم: نزلوا في السفر في آخر الليل للاستراحة ثم يرتحلون. و عريتنات: اسم واد. و قال أبو عبيدة: عريتنات ماء بعدنة. (راجع «معجم البلدان» و «القاموس» و شرحه مادة عرتن).
3- الصبير: السحاب الأبيض لا يكاد يمطر.
4- هرشى (وزان سكرى): ثنية قرب الجحفة في طريق مكة يرى منها البحر، و لها طريقان يفضيان بمن سلكهما إلى موضع واحد، و لذلك قال الشاعر: خذا أنف هرشى أو قفاها فإنما كلا جانبي هرشى لهن طريق
5- وحش: رمى.
ما وقع بين ضبيعة العبسي و ظبية جارية فاطمة بنت عمر بن مصعب:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني ظبية مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب قالت:

أرسلتني مولاتي فاطمة في حاجة، فمررت برحبة القضاء، فإذا بضبيعة العبسيّ خليفة جعفر بن سليمان يقضي بين الناس؛ فأرسل إليّ فدعاني، و قد كنت رطّلت(1) شعري و ربطت في أطرافه من ألوان العهن؛ فقال: ما هذا؛ فقلت شيء أتملّح به؛ فقال: يا حرسيّ قنّعها بالسّوط. قالت: فتناولت السوط بيدي و قلت: قاتلك اللّه! ما أبين الفرق بينك و بين سعد بن إبراهيم! سعد يجلد الناس في السّماجة، و أنت تجلدهم في الملاحة؛ و قد قال الشاعر:

جلد العادل سعد *** ابن سلم في السماجه

فقضى اللّه لسعد *** من أمير كلّ حاجة

/قالت: فضحك حتى ضرب بيديه و رجليه، و قال: خلّ عنها. قالت: فكان يسوم بي، و كانت مولاتي تقول: لا أبيعها إلاّ أن تهوى ذلك، و أقول: لا أريد بأهلي بدلا؛ إلى أن مررت يوما بالرّحبة و هو في منظرة دار مروان ينظر؛ فأرسل إليّ فدعاني، فوجدته من وراء كلّة و أنا لا أشعر به، و حازم و جرير جالسان؛ فقال لي حازم:

الأمير يريدك؛ فقلت: لا أريد بأهلي بدلا؛ و كشفت الكلّة عن جعفر بن سليمان، فارتعت لذلك فقلت: آه؛ فقال:

مالك؟ فقلت:

سمعت بذكر الناس هندا فلم أزل *** أخا سقم حتى نظرت إلى هند

قال: فأبصرت ما ذا؟ ويحك! فقلت:

فأبصرت هندا حرّة غير أنها *** تصدّى لقتل المسلمين على عمد

قالت: فضحك حتى استلقى، و أرسل إلى مولاتي ليبتاعني؛ فقالت: لا و اللّه لا أبيعها حتى تستبيعني؛ فقلت:

و اللّه لا أستبيعك أبدا.

أرسل شعرا لقثم بن العباس يذكره بجارية كان يهواها:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا يونس بن عبد اللّه عن داود بن سلم قال:

كنت يوما جالسا مع قثم بن العباس قبل أن يملّكوا بفنائه، فمرّت بنا جارية، فأعجب بها قثم و تمنّاها فلم يمكنه ثمنها. فلمّا ولي قثم اليمامة اشترى الجارية إنسان يقال له صالح. قال داود بن سلم: فكتبت إلى قثم:

/

يا صاحب العيس ثم راكبها *** أبلغ إذا ما لقيته قثما

أنّ الغزال الذي أجاز بنا *** معارضا إذ توسّط الحرما

حوّله صالح فصار مع الإ *** نس و خلّى الوحوش و السّلما

قال: فأرسل قثم في طلب الجارية ليشتريها، فوجدها قد ماتت.

ص: 302


1- رطل شعره: لينه بالدهن و كسره و مشطه و أرسله.
وفد على حرب بن خالد و مدحه فأجازه:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن موسى بن طلحة قال حدّثني زهير بن حسن مولى آل الرّبيع(1) بن يونس:

أن داود بن سلم خرج إلى حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية؛ فلما نزل به حطّ غلمانه متاع داود و حلّوا عن راحلته؛ فلما دخل عليه أنشأ يقول:

و لمّا دفعت لأبوابهم(2) *** و لاقيت حربا لقيت النجاحا

وجدناه يحمده المجتدون *** و يأبى على العسر إلا سماحا

و يغشون حتى يرى كلبهم *** يهاب الهرير و ينسى النّباحا

قال: فأجازه بجائزة عظيمة، ثم استأذنه في الخروج فأذن له و أعطاه ألف دينار. فلم يعنه أحد من غلمانه و لم يقوموا إليه؛ فظنّ أن حربا ساخط عليه، فرجع إليه فأخبره بما رأى من غلمانه؛ فقال له: سلهم لم فعلوا بك ذلك.

قال: فسألهم، فقالوا: إننا ننزل من جاءنا و لا نرحل من خرج عنا. قال: فسمع الغاضريّ حديثه فأتاه فحدّثه فقال:

أنا يهوديّ إن لم يكن الذي قال الغلمان أحسن من شعرك.

شعر له في الغزل:

و ذكر محمد بن داود بن الجرّاح أن عمر بن شبّة أنشده ابن عائشة لداود بن سلم، فقال: أحسن و اللّه داود حيث يقول:

لججت من حبّي في تقريبه *** و عمّيت عيناي عن عيوبه

كذاك صرف الدهر في تقليبه *** لا يلبث الحبيب عن حبيبه

أو يغفر الأعظم من ذنوبه

قال: و أنشدني أحمد بن يحيى عن عبد اللّه بن شبيب لداود بن سلم قال:

/

و ما ذرّ(3) قرن الشمس إلا ذكرتها *** و أذكرها في وقت كلّ غروب

و أذكرها ما بين ذاك و هذه *** و بالليل أحلامي و عند هبوبي

و قد شفّني شوقي و أبعدني(4) الهوى *** و أعيا الذي بي طبّ كلّ طبيب

و أعجب أنّي لا أموت صبابة *** و ما كمد من عاشق بعجيب

و كلّ محبّ قد سلا غير أنني *** غريب الهوى، يا ويح كلّ غريب

و كم لام فيها من أخ ذي نصيحة *** فقلت له أقصر فغير مصيب

ص: 303


1- في ح: «مولى الربيع بن يونس» بدون كلمة «آل».
2- في ء و إحدى روايتي أ: «إلى بابهم».
3- ذر: طلع.
4- كذا في أكثر الأصول. و أبعده: أهلكه و أقصاه. و في ب، س: «و أبلاني الهوى».

أ تأمر إنسانا بفرقة قلبه *** أ تصلح أجسام بغير قلوب

شعر له في مدح قثم بن العباس:

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعي قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان قال:

كان داود بن(1) سلم منقطعا إلى قثم بن العباس، و فيه يقول:

عتقت من حلّي و من رحلتي *** يا ناق إن أدنيتني من قثم

إنك إن أدنيت منه غدا *** حالفني اليسر و مات العدم

/في وجهه بدر و في كفّه *** بحر و في العرنين منه شمم

أصمّ عن قيل الخنا سمعه *** و ما عن الخير به من صمم

لم يدر ما «لا» و «بلى» قد درى *** فعافها و اعتاض منها «نعم»

قال أبو إسحاق إسماعيل بن يونس قال أبو زيد عمر بن شبّة قال لي إسحاق: لنظم العمياء في هذه الأبيات صنعة عجيبة، و كانت تجيدها ما شاءت (إذا غنتها)(2).

ص: 304


1- نسب هذا الشعر في «الكامل» للمبرد (ص 369 طبع أوروبا) لسليمان بن قتة مع اختلاف في بعض الألفاظ.
2- هذه العبارة ساقطة من الأصول ما عدا ب، س.

3 - أخبار دحمان و نسبه

كان مغنيا صالحا مقبول الشهادة ملازما للحج:

دحمان لقب لقب به، و اسمه عبد الرحمن بن عمرو، مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. و يكنى أبا عمرو، و يقال له دحمان الأشقر. قال إسحاق: كان دحمان مع شهرته بالغناء رجلا صالحا كثير الصلاة معدّل الشهادة مدمنا للحجّ؛ و كان كثيرا ما يقول: ما رأيت باطلا أشبه بحق من الغناء.

قال إسحاق: و حدّثني الزّبيريّ أنّ دحمان شهد عند عبد العزيز بن المطّلب [بن عبد اللّه](1) بن حنطب [المخزوميّ](1)، و هو يلي القضاء لرجل من أهل المدينة على رجل من أهل العراق بشهادة، فأجازها و عدّله(2)؛ فقال له العراقيّ: إنه دحمان؛ قال: أعرفه، و لو لم أعرفه لسألت عنه؛ قال: إنه يغنّي و يعلّم الجواري الغناء؛ قال:

غفر اللّه لنا و لك، و أيّنا لا يتغنّى! اخرج إلى الرجل عن حقّه.

مدح أعشى سليم غناءه:

و في دحمان يقول أعشى بني سليم:

إذا ما هزّج الواد *** يّ أو ثقّل دحمان

سمعت الشّدو من هذا *** و من هذا بميزان

فهذا سيّد الإنس *** و هذا سيّد الجانّ

و فيه يقول أيضا:

كانوا فحولا فصاروا عند حلبتهم *** لمّا انبرى لهم دحمان خصيانا

/فأبلغوه عن الأعشى مقالته *** أعشى سليم أبي عمرو سليمانا

قولوا يقول أبو عمرو لصحبته *** يا ليت دحمان قبل الموت غنّانا

كان من تلاميذ معبد و أحد رواته:

أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم عن إبراهيم بن المهديّ أنه حدّثه عن ابن جامع و زبير بن دحمان جميعا:

ص: 305


1- زيادة عن ابن الأثير و الطبري و «تهذيب التهذيب» (ج 6 ص 357). و عبد العزيز هذا موصوف بالجود و المعرفة بالقضاء و الحكم. ولي قضاء المدينة في زمن المنصور ثم المهدي، و ولي قضاء مكة. و أمه أم الفضل بنت كليب بن جرير بن معاوية الخفاجية.
2- كذا في ح. و عدّله: زكاه. و في سائر الأصول: «و عدلها».

أنّ دحمان كان معدّلا مقبول الشهادة عند القضاة بالمدينة، و كان أبو سعيد مولى فائد أيضا ممن تقبل شهادته.

و كان دحمان من رواة معبد و غلمانه المتقدّمين. قال: و كان معبد في أول أمره مقبول الشهادة، فلما حضر الوليد بن يزيد و عاشره على تلك الهنات و غنّى له سقطت عدالته، [لا لأن شيئا بان عليه من دخول في محظور، و لكن](1) لأنه اجتمع مع الوليد على ما كان يستعمله.

منزلته في الغناء عند إبراهيم الموصلي:

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال قال إسحاق:

كان دحمان يكنى أبا عمرو، مولى بني ليث، و اسمه عبد الرحمن، و كان يخضب رأسه و لحيته بالحنّاء؛ و هو من غلمان معبد. قال إسحاق: و كان أبي لا يضعه بحيث يضعه الناس، و يقول: لو كان عبدا ما اشتريته على/الغناء بأربعمائة درهم. و أشبه الناس به في الغناء ابنه عبد اللّه، و كان يفضّل الزّبير ابنه(2) تفضيلا شديدا على عبد اللّه أخيه و على دحمان [أبيه](3).

كان المهدي يجزل صلته:

أخبرني يحيى عن أبي أيّوب عن أحمد بن المكّيّ عن عبد اللّه بن دحمان قال:

رجع أبي من عند المهديّ و في حاصله مائة ألف دينار.

/أخبرنا إسماعيل بن يونس و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:

بلغني أنّ المهديّ أعطى دحمان في ليلة واحدة خمسين ألف دينار؛ و ذلك أنه غنّى في شعر الأحوص:

قطوف المشي إذ تمشي *** ترى في مشيها خرقا(4)

فأعجبه و طرب، و استخفّه السرور حتى قال لدحمان: سلني ما شئت؛ فقال: ضيعتان بالمدينة يقال لهما ريّان و غالب؛ فأقطعه إيّاهما. فلما خرج التوقيع بذلك إلى أبي عبيد اللّه(5) و عمر بن بزيع راجعا المهديّ فيه و قالا: إنّ هاتين ضيعتان لم يملكهما قطّ إلاّ خليفة، و قد استقطعهما ولاة العهود في أيام بني أمية فلم يقطعوهما؛ فقال: و اللّه لا أرجع فيهما إلا بعد أن يرضى؛ فصولح عنهما على خمسين ألف دينار.

نسبة هذا الصوت

سرى ذا الهمّ بل طرقا *** فبتّ مسهّدا قلقا

كذاك الحبّ مما يح *** دث التسهيد و الأرقا

ص: 306


1- هذه العبارة المحصورة بين قوسين زيادة عن ب، س.
2- في ب، س: «و كان يفضل الزبير ابنه عبد اللّه تفضيلا... إلخ»، و هو تحريف.
3- هذه الكلمة ساقطة في ب، س.
4- قطوف المشي: بطيئته. و خرقا: تحيرا و دهشا. يريد أنها حيية خفرة حتى لترى آثار التحير و الدهش بادية عليها إذا مشت. و في «اللسان»: «و في حديث تزويج فاطمة رضوان اللّه عليها: فلما أصبح دعاها فجاءت خرقة من الحياء، أي خجلة مدهوشة؛ من الخرق و هو التحير. روى أنها أتته تعثر في مرطها من الخجل».
5- كذا في ح. و هو أبو عبيد اللّه معاوية بن عبيد اللّه الأشعري الكاتب الوزير. و في سائر الأصول: «إلى أبي عبد اللّه»، و هو تحريف. (راجع الطبري و ابن الأثير في غير موضع).

قطوف المشي إذ تمشى *** ترى في مشيها خرقا

و تثقلها عجيزتها *** إذا ولّت لتنطلقا

/الشعر للأخوص. و الغناء لدحمان ثقيل أول بالوسطى عن عمرو؛ و ذكر الهشاميّ أنه لابن سريج.

سئل عن ثمن ردائه فأجاب:

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق قال:

مرّ دحمان المغنّي و عليه رداء جيّد عدنيّ(1)؛ فقال له من حضر: بكم اشتريت هذا يا أبا عمرو؟ قال:

ب

ما ضرّ جيراننا إذ انتجعوا

نسبة هذا الصوت
صوت

ما ضرّ جيراننا إذ انتجعوا *** لو أنهم قبل بينهم ربعوا(2)

أحموا(3) على عاشق زيارته *** فهو(4) بهجران بينهم قطع(5)

و هو كأنّ الهيام خالطه *** و ما به غير حبّها ذرع(6)

كأنّ لبنى صبير(7) غادية *** أو دمية زيّنت بها البيع

اللّه بيني و بين قيّمها *** يفرّ عنّي بها و أتّبع

اشترى منه الوليد جارية و هو لا يعرفه فلما عرفه أرسل إليه و أكرمه:
اشارة

أخبرني وكيع عن أبي أيّوب المدينيّ إجازة عن أبي محمد العامريّ الأويسيّ قال:

/كان دحمان جمّالا يكري إلى المواضع و يتّجر، و كانت له مروءة؛ فبينا هو ذات يوم قد أكرى جماله و أخذ ماله إذ سمع رنّة، فقام و اتّبع الصوت، فإذا جارية قد خرجت تبكي؛ فقال لها: /أ مملوكة أنت؟ قالت: نعم؛ فقال: لمن؟ فقالت: لا مرأة من قريش، و سمّتها له؛ فقال: أ تبيعك؟ قالت: نعم، و دخلت إلى مولاتها فقالت: هذا إنسان يشتريني؛ فقالت: ائذني له، فدخل، فسامها حتى استقرّ أمر الثمن بينهما على مائتي دينار، فنقدها إياها و انصرف بالجارية. قال دحمان: فأقامت عندي مدة أطرح عليها و يطرح عليها معبد و الأبجر و نظراؤهما من المغنين؛ ثم خرجت بها بعد ذلك إلى الشام و قد حذقت، و كنت لا أزال إذا نزلنا أنزل الأكرياء(8) ناحية، و أنزل

ص: 307


1- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «غردني».
2- ربعوا: تمهلوا و انتظروا.
3- أحموا: حظروا و منعوا.
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فهم»، و هو تحريف.
5- القطع (كصرد): من يهجر رحمه و يعقها و يقطعها.
6- الذرع: الطمع. و في ح: «درع» (بالدال المهملة) و لعلها مصحفة عما أثبتناه. و في سائر الأصول: «ردع» و لا معنى له.
7- الصبير: السحاب الأبيض الذي يصير بعضه فوق بعض درجا. و الغادية: السحابة تنشأ غدوة.
8- الأكرياء: جمع كريّ و هو المكاري.

معتزلا بها ناحية في محمل و أطرح على المحمل من أعبية(1) الجمّالين، و أجلس أنا و هي تحت ظلّها، فأخرج شيئا فنأكله، و نضع ركوة(2) فيها(3) لنا شراب، فنشرب و نتغنّى حتى نرحل. و لم نزل كذلك حتى قربنا من الشام. فبينا أنا ذات يوم نازل و أنا ألقي عليها لحني:

صوت

لو ردّ ذو شفق حمام منيّة *** لرددت عن(4) عبد العزيز حماما

صلّى عليك اللّه من مستودع *** جاورت بوما(5) في القبور و هاما(6)

/ - الشعر لكثيّر(7) يرثي عبد العزيز بن مروان. و زعم بعض الرواة أن هذا الشعر ليس لكثيّر و أنه لعبد الصمد بن عليّ الهشاميّ يرثي ابنا له. و الغناء لدحمان، و لحنه من الثقيل الأوّل بالخنصر في مجرى البنصر -.

قال: فرددته عليها حتى أخذته و اندفعت تغنّيه، فإذا أنا براكب قد طلع فسلم علينا فرددنا عليه السلام؛ فقال:

أ تأذنون(8) لي أن أنزل تحت ظلّكم هذا ساعة؟ قلنا نعم، فنزل؛ و عرضت عليه طعامنا و شرابنا فأجاب، فقدّمنا إليه السّفرة فأكل و شرب معنا، و استعاد الصوت مرارا. ثم قال للجارية: أ تغنّين لدحمان شيئا؟ قالت نعم. قال: فغنّته أصواتا من صنعتي، و غمزتها ألا تعرّفه أني دحمان؛ فطرب و امتلأ سرورا و شرب أقداحا و الجارية تغنّيه حتى قرب وقت الرحيل؛ فأقبل عليّ و قال: أ تبيعني هذه الجارية؟ فقلت نعم؛ قال: بكم؟ قلت كالعابث: بعشرة آلاف دينار؛ قال: قد أخذتها بها، فهلمّ دواة و قرطاسا، فجئته بذلك؛ فكتب: «ادفع إلى حامل كتابي هذا حين تقرؤه عشرة آلاف دينار، و استوص به خيرا و أعلمني بمكانه» و ختم الكتاب و دفعه إليّ؛ ثم قال: أ تدفع إليّ الجارية أم تمضي بها معك حتى تقبض مالك؟ فقلت: بل أدفعها إليك؛ فحملها و قال: إذا جئت البخراء(9) فسل عن فلان و ادفع كتابي هذا إليه و اقبض منه مالك؛ ثم انصرف بالجارية. قال: و مضيت، فلما وردت البخراء سألت عن اسم الرجل، فدللت عليه، فإذا داره دار ملك، فدخلت عليه و دفعت إليه الكتاب، فقبّله و وضعه/على عينيه، و دعا بعشرة آلاف دينار فدفعها إليّ، و قال: هذا كتاب أمير المؤمنين، و قال لي: اجلس حتى أعلم أمير المؤمنين بك؛ فقلت له: حيث كنت فأنا عبدك و بين يديك، و قد كان أمر لي بأنزال(10) و كان بخيلا، فاغتنمت(11) ذلك فارتحلت؛ و قد كنت أصبت بجملين، و كانت عدّة أجمالي خمسة عشر فصارت ثلاثة عشر. قال: و سأل عنّي الوليد، فلم يدر القهرمان أين يطلبني؛ فقال

ص: 308


1- الأعبية: جمع عباء و هو ضرب من الأكسية.
2- الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء.
3- في ب، س: «ركوة لنا فيها لنا شراب».
4- في ب، س: «من».
5- في ب، س و «تجريد الأغاني»: «رمسا».
6- الهام: طير الليل و هو الصدى، واحده هامة.
7- نسب هذا الشعر في «تجريد الأغاني» لإسماعيل بن يسار.
8- في ب: «أ تأذنوا». و في س: «أ تؤذنوا»، و كلاهما تحريف.
9- البخراء: أرض و مائة على ميلين من القليعة في طرف الحجاز، و بها قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك. و في ب، س: «النجراء» (بنون بعدها جيم) و هو تصحيف.
10- الأنزال: جمع نزل (بضمتين و بضم فسكون) و هو ما هيئ للضيف أن ينزل عليه.
11- في جميع الأصول: «فاغتم»، و لا يستقيم بها الكلام.

له الوليد: عدّة جماله خمسة عشر جملا فاردده(1) إليّ؛ فلم أوجد، لأنه لم يكن في الرّفقة من معه خمسة عشر جملا، و لم يعرف/اسمي فيسأل عنّي. قال: و أقامت الجارية عنده شهرا لا يسأل عنها، ثم دعاها بعد أن استبرأت(2) و أصلح من شأنها، فظلّ معها يومه، حتى إذا كان في آخر نهاره قال لها: غنّيني لدحمان فغنّت؛ و قال لها: زيديني فزادت. ثم أقبلت عليه فقالت: يا أمير المؤمنين، أ و ما سمعت غناء دحمان منه؟ قالا لا؛ قالت: بلى و اللّه؛ قال: أقول لك لا، فتقولين بلى و اللّه! فقالت: بلى و اللّه لقد سمعته؛ قال: و ما ذاك؟ ويحك! قالت: إنّ الرجل الذي اشتريتني منه هو دحمان؛ قال: أو ذلك هو؟ قالت: نعم، هو هو؛ قال: فكيف لم أعلم؟ قالت:

غمزني بألاّ أعلمك. فأمر فكتب إلى عامل المدينة بأن يحمل إليه دحمان، فحمل فلم يزل عنده أثيرا(3).

دحمان في مجلس أمير من أمراء المدينة:

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثنا ابن جامع قال:

/تذاكروا يوما كبر الأيور بحضرة بعض أمراء المدينة فأطالوا القول؛ ثم قال بعضهم: إنما يكون كبر أير الرجل على قدر حر أمّه؛ فالتفت الأمير إلى دحمان فقال: يا دحمان، كيف أيرك؟ فقال له: أيها الأمير، أنت لم ترد أن تعرف كبر أيري، و إنما أردت أن تعرف مقدار حر أمّي. و كان دحمان طيّبا ظريفا.

ظرفه و فكاهة له مع رجل شتمه:

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال:

أوّل ما عرف من ظرف دحمان أنّ رجلا مرّ به يوما، فقال له: أير حماري في حر أمّك يا دحيم؛ فلم يفهم ما قاله، و فهمه رجل كان حاضرا معه فضحك؛ فقال: ممّ ضحكت؟ فلم يخبره؛ فقال له: أقسمت عليك إلاّ أخبرتني؛ قال: إنه شتمك فلا أحبّ استقبالك بما قاله لك؛ فقال: و اللّه لتخبرنّي كائنا ما كان؛ فقال له: قال: كذا و كذا من حماري في حر أمّك؛ فضحك ثم قال: أعجب و اللّه و أغلظ عليّ من شتمه كنايتك عن أير حماره و تصريحك بحر أمّي لا تكني.

جعفر بن سليمان أمير المدينة و المغنون:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني أبو خالد يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن الرّبيع المديني(4) قال حدّثني الرّبعيّ المغنّي قال:

قال لنا جعفر بن سليمان و هو أمير المدينة: اغدوا على قصري بالعقيق غدا؛ و كنت أنا و دحمان و عطرّد، فغدوت للموعد، فبدأت بمنزل دحمان و هو في جهينة(5)، فإذا هو و عطرّد قد اجتمعا على قدر يطبخانها، و إذا السماء تبغش(6)، فأذكرتهما الموعد، فقالا: أما ترى يومنا هذا ما أطيبه! اجلس حتى نأكل من هذه القدر و نصيب

ص: 309


1- كذا في أكثر الأصول و «تجريد الأغاني». و في ب، س: «فارددها»، و هو تحريف.
2- استبراء الرجل الجارية: ألا يمسها بعد ملكها حتى تبرأ رحمها و يتبين حالها أ هي حامل أم لا.
3- كذا في أكثر الأصول. و الأثير: المكرم. و في ب، س: «أسيرا»، و هو تحريف.
4- في ح: «المدني».
5- كذا في جميع الأصول. و لعلها محرّفة عن: «جهته» إذ جهينة قرية من نواحي الموصل على دجلة، و يبعد أن تكون هي المرادة هنا.
6- بغشت السماء تبغش (من باب قطع): أمطرت البغشة و هي المطرة الضعيفة.

شيئا/و نستمتع من هذا اليوم؛ فقال: ما كنت لأفعل مع ما تقدم الأمير به إليّ؛ فقالا لي: كأنّا بالأمير قد انحلّ عزمه، و أخذك المطر إلى أن تبلغ، ثم ترجع إلينا مبتلاّ فتقرع الباب و تعود إلى ما سألناك حينئذ. قال: فلم ألتفت إلى قولهما و مضيت، و إذا جعفر مشرف من قصره و المضارب(1) تضرب و القدور تنصب؛ فلما كنت بحيث يسمع تغنّيت:

و أستصحب الأصحاب حتى إذا ونوا *** و ملّوا من الإدلاج جئتكم وحدي

قال: و ما ذاك؟ فأخبرته؛ فقال: يا غلام، هات مائتي دينار أو أربعمائة دينار - الشك من إسحاق الموصلي - فانثرها في حجر الرّبعيّ، اذهب الآن فلا تحلّ لها عقدة حتى تريهما إياها؛ فقلت: و ما في يدي من ذلك! يأتيانك غدا فتلحقهما بي؛ قال: ما كنت لأفعل؛ قلت: /فلا أمضي حتى تحلف لي أنك لا تفعل، فحلف. فمضيت إليهما، فقرعت الباب فصاحا و قالا: أ لم نقل لك إن هذه تكون حالك؛ فقلت: كلاّ! فأريتهما الدنانير؛ فقالا: إنّ الأمير لحيّ كريم، و نأتيه غدا فنعتذر إليه فيدعوه كرمه إلى أن يلحقنا بك؛ فقلت: كذبتكما أنفسكما، و اللّه إني قد أحكمت الأمر و وكّدت عليه الأيمان ألاّ يفعل؛ فقالا: لا وصلتك رحم.

غنى هو و ابن جندب بالعقيق:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن منصور بن أبي مزاحم قال أخبرني عبد العزيز بن الماجشون قال:

صلّينا يوما الصبح بالمدينة، فقال قوم: قد سال العقيق، فخرجنا من المسجد مبادرين إلى العقيق، فانتهينا إلى العرصة(2)، فإذا من وراء الوادي قبالتنا دحمان المعيّ و ابن جندب مع طلوع الشمس قد تماسكا بينهما صوتا و هو(3):

/

أسكن البدو ما سكنت ببدو *** فإذا ما حضرت طاب الحضور

و إذا أطيب صوت في الدنيا. قال: و كان أخي يكره السّماع؛ فلمّا سمعه طرب طربا شديدا و تحرّك؛ و كان لغناء دحمان أشدّ استحسانا و حركة و ارتياحا؛ فقال لي: يا أخي، اسمع إلى غناء دحمان، و اللّه لكأنّه يسكب على الماء زيتا.

نسبة هذا الصوت
صوت

أوحش الجنبذان(4) فالدّير منها *** فقراها فالمنزل المحظور

أسكن البدو ما أقمت ببدو *** فإذا ما حضرت طاب الحضور

ص: 310


1- المضارب: جمع مضرب و هو الفسطاط العظيم.
2- العرصة (بالفتح): بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. و بالعقيق عرصتان من أفضل بقاع المدينة و أكرم أصقاعها. ذكر محمد بن عبد العزيز الزهري عن أبيه أن بني أمية كانوا يمنعون البناء في عرصة العقيق ضنا بها، و أن والي المدينة لم يكن يقطع بها قطيعة إلا بأمر الخليفة.
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و هو قوله».
4- الجنبذ معرب كنبذ بالفارسية، و معناه: الأزج المدوّر كالقبة. و الشاعر هنا يريد به مكانا بعينه.

أيّ عيش ألذّه لست فيه *** أو ترى نعمة به و سرور

الشعر لحسّان بن ثابت. و الغناء لابن مسجح رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.

دحمان و الفضل بن يحيى:

أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أحمد بن عبد الرحمن عن أبي عثمان البصري قال:

قال دحمان: دخلت على الفضل بن يحيى ذات يوم؛ فلما جلسنا، قام و أومأ إليّ فقمت، فأخذ بيدي و مضى بي إلى منظرة له على الطريق، و دعا بالطعام فأكلنا، ثم صرنا إلى الشراب؛ فبينا نحن كذلك إذ مرّت بنا جارية سوداء حجازيّة تغنّي:

اهجريني أو صليني *** كيفما شئت فكوني

أنت و اللّه تحبّي *** ني و إن لم تخبريني

/فطرب و قال: أحسنت! ادخلي فدخلت، فأمر بطعام فقدّم إليها فأكلت، و سقاها أقداحا، و سألها عن مواليها فأخبرته؛ فبعث فاشترها، فوجدها من أحسن الناس غناء و أطيبهم صوتا و أملحهم(1) طبعا؛ فغلبتني عليه مدّة و تناساني؛ فكتبت إليه:

أخرجت السّوداء ما كان في *** قلبك لي من شدّة الحبّ

فإن يدم ذا منك لا دام لي *** متّ من الإعراض و الكرب

قال: فلمّا قرأ الرّقعة ضحك، و بعث فدعاني و وصلني، و عاد إلى ما كان عليه من الأنس.

قال/مؤلف هذا الكتاب: هكذا أخبرنا ابن المرزبان بهذا الخبر، و أظنّه غلطا؛ لأنّ دحمان لم يدرك خلافة الرشيد، و إنما أدركها ابناه زبير و عبد اللّه؛ فإما أن يكون الخبر لأحدهما أو يكون لدحمان مع غير الفضل بن يحيى.

و مما في المائة المختارة من صنعة دحمان
صوت من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى

صوت من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى(2)

و إنّي لآتي البيت ما إن أحبّه *** و أكثر هجر البيت و هو حبيب

و أغضي على أشياء منكم تسوءني *** و أدعى إلى ما سرّكم فأجيب

و أحبس عنك النّفس و النفس صبّة *** بقربك و الممشى إليك قريب

الشعر للأحوص. و الغناء لدحمان ثقيل أوّل. و قد تقدّمت أخبار الأحوص و دحمان فيما مضى من الكتاب.

ص: 311


1- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «و أصلحهم».
2- هذه العبارة المحصورة بين قوسين ساقطة في ب، س.
صوت من المائة المختارة

حيّيا خولة منّي بالسلام *** درّة البحر و مصباح الظلام

لا يكن وعدك برقا خلّبا *** كاذبا يلمع في عرض الغمام

و اذكري الوعد الذي واعدتنا *** ليلة النصف من الشّهر الحرام

الشعر لأعشى همدان. و الغناء لأحمد النّصبيّ، و لحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. و عروضه من الرّمل. و الخلّب من البرق: الذي لا غيث معه و لا ينتفع بسحابه. و تضرب المثل به العرب لمن أخلف وعده؛ قال الشاعر:

لا يكن وعدك برقا خلّبا *** إنّ خير البرق ما الغيث معه

و عرض السحابة: الناحية منها.

ص: 312

4 - أخبار أعشى همدان و نسبه

نسبه و كنيته و هو شاعر أموي:

اسمه عبد الرحمن بن عبد اللّه بن الحارث بن نظام بن جشم بن عمرو بن الحارث بن مالك بن عبد الحرّ(1) بن جشم بن حاشد(2) بن جشم بن خيران(3) بن نوف بن همدان بن مالك بن زيد بن نزار بن أوسلة(4) بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و يكنى أبا المصبّح، شاعر فصيح، كوفيّ، من شعراء الدولة الأموية. و كان زوج أخت الشّعبيّ الفقيه، و الشعبيّ زوج أخته. و كان أحد الفقهاء القرّاء، ثم ترك ذلك و قال الشعر، و آخى أحمد النّصبي(5) بالعشيريّة(6) و البلديّة، فكان إذا قال شعرا غنّى فيه أحمد. و خرج مع ابن الأشعث، فأتي به الحجّاج أسيرا في الأسرى، فقتله صبرا.

قص رؤياه على صهره الشعبي فقال له تترك القرآن و تقول الشعر:

أخبرني(7) بما أذكره من جملة أخباره الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ عن محمد بن معاوية الأسدي أنه أخذ أخباره هذه/عن/ابن كناسة عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الراوية و عن غيرهم من رواة الكوفيين. قال حدّثنا عمر بن شبّة و أبو هفّان جميعا عن إسحاق الموصليّ عن الهيثم بن عديّ عن عبد اللّه بن عيّاش الهمدانيّ. قال العنزيّ: و أخذت بعضها من رواية مسعود بن بشر عن الأصمعي. و ما كان من غير رواية هؤلاء ذكرته مفردا.

أخبرني المهلّبي أبو أحمد حبيب بن نصر و عليّ بن صالح قالا حدّثنا عمر بن شبّة و أبو هفّان جميعا عن إسحاق الموصلي عن الهيثم بن عديّ عن عبد اللّه بن عيّاش الهمداني قال:

ص: 313


1- في «تجريد الأغاني»: «ابن عبد الجن».
2- كذا في ح و كتاب «الاشتقاق» و «تجريد الأغاني». و في سائر الأصول: «حاشر»، و هو تحريف.
3- في «شرح القاموس» (مادة خير): «قال شيخ الشرف النسابة: هو خيوان بالواو فصحف».
4- في ب، س: «واسلة». و في سائر الأصول: «سلمة». و التصويب عن كتاب «تجريد الأغاني» و «القاموس» و كتاب «الاشتقاق». و ضبط شارح القاموس «أوسلة» (بكسر السين). و يلاحظ أن صاحب كتاب «الاشتقاق» ذكر أن الخيار بن مالك ولد أوسلة و هو همدان، ثم ولد همدان نوفا و خيران و لذلك تجده أسقط ما بين همدان و أوسلة من أسماء. و في «القاموس» أيضا: «و أوسلة هي همدان». (راجع كتاب «الاشتقاق» ص 250 طبع مدينة ليبزج).
5- في الأصول هنا و فيما يأتي: «النصيبي». و هو تحريف. (راجع الهامشة رقم 6 ص 344 ج 5 من هذه الطبعة).
6- العشيرية: نسبة إلى العشير أو العشيرة و هم رهط الرجل و قبيلته. و سيأتي في ترجمة أحمد النصيبي أنه همداني و أنه من رهط الأعشى الأدنين.
7- يلاحظ في هذا السند أن الضمائر فيه غير واضحة المراجع.

كان الشّعبيّ عامر بن شراحيل زوج أخت أعشى همدان، و كان أعشى همدان زوج أخت الشعبي؛ فأتاه أعشى همدان يوما، و كان أحد القرّاء للقرآن، فقال له: إني رأيت كأني أدخلت بيتا فيه حنطة و شعير، و قيل لي: خذ أيّهما شئت، فأخذت الشّعير؛ فقال: إن صدقت رؤياك تركت القرآن و قراءته و قلت الشعر؛ فكان كما قال:

سر في الديلم أحبته ابنة الأمير هربت معه و شعره في ذلك:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ عن محمد بن معاوية الأسدي عن ابن كناسة، قال العنزي و حدّثني مسعود بن بشر عن أبي عبيدة و الأصمعي قالا، رافق(1) روايتهم الهيثم بن عديّ عن حمّاد الراوية قال:

كان أعشى همدان أبو المصبّح ممن أغزاه الحجّاج بلد الدّيلم و نواحي دستبي(2)، فأسر، فلم يزل أسيرا في أيدي الديلم مدّة. ثم إن بنتا للعلج الذي أسره هويته، /و صارت إليه ليلا فمكّنته من نفسها، فأصبح و قد واقعها ثماني مرّات؛ فقالت له الديلمية: يا معشر المسلمين، أ هكذا تفعلون بنسائكم؟ فقال لها: هكذا نفعل كلّنا؛ فقالت له: بهذا العمل نصرتم؛ أ فرأيت إن خلّصتك، أ تصطفيني لنفسك؟ فقال لها نعم، و عاهدها. فلما كان الليل حلّت قيوده و أخذت به طرقا تعرفها حتى خلّصته و هربت معه. فقال شاعر من أسرى المسلمين:

فمن كان يفديه من الأسر ماله *** فهمدان تفديها الغداة أيورها

و قال الأعشى يذكر ما لحقه من أسر الديلم:

صوت

لمن الظّعائن سيرهنّ ترجّف(3) *** عوم السّفين إذا تقاعس مجذف(4)

مرّت بذي خشب(5) كأنّ حمولها *** نخل بيثرب طلعه متضعّف(6)

- غنّى في هذين البيتين أحمد النّصبي، و لحنه خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن عمرو و ابن المكيّ.

و فيهما لمحمد الزّفّ خفيف رمل بالوسطى عن عمرو -:

عولين ديباجا و فاخر سندس *** و بخزّ أكسية العراق تحفّف

ص: 314


1- كذا في الأصول. و لعل صواب العبارة: «و وافق روايتهما الهيثم بن عدي... إلخ».
2- دستبي (بفتح أوّله و سكون ثانيه و فتح التاء المثناة من فوق و الباء الموحدة): كورة كانت مقسومة بين الري و همذان، فقسم منها يسمى دستبي الرازيّ و هو يقارب التسعين قرية، و قسم منها يسمى دستبي همذان و هو عدّة قرى. و ربما أضيف إلى قزوين في بعض الأوقات لاتصاله بعملها. و لم تزل دستبي على قسميها إلى أن سعى رجل من سكان قزوين من بني تميم له حنظلة بن خالد فصيرها بقسميها إلى قزوين.
3- الترجف: الاضطراب الشديد.
4- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «تجذف».
5- ذو خشب (بضم الخاء و الشين): واد على مسيرة ليلة من المدينة. و قد ذكر كثيرا في الشعر و المغازي. قال بعض بني مرة يصف ناقته: فمرّت بذي خشب غدوة و جازت فويق أريك أصيلا (راجع «معجم البلدان» و كتاب «ما يعوّل عليه في المضاف و المضاف إليه»).
6- كذا في «تجريد الأغاني»، و الرواية فيه: «حمله متضعف». و في ب، س: «متعصف». و في سائر الأصول: «متعطف».

و غدت بهم يوم الفراق عرامس(1) *** فتل المرافق بالهوادج دلّف(2)

/بان الخليط و فاتني برحيله *** خود إذا ذكرت لقلبك يشغف

تجلو بمسواك الأراك منظّما *** عذبا إذا ضحكت تهلّل ينطف

و كأنّ ريقتها على علل الكرى *** عسل مصفّى في القلال و قرقف(3)

و كأنما نظرت بعيني ظبية *** تحنو على خشف لها و تعطّف

/و إذا تنوء(4) إلى القيام تدافعت *** مثل النّزيف(5) ينوء ثمّت يضعف

ثقلت روادفها و مال بخصرها *** كفل كما مال النّقا المتقصّف

و لها ذراعا بكر رحبيّة *** و لها بنان بالخضاب مطرّف(6)

و عوارض مصقولة و ترائب *** بيض و بطن كالسّبيكة مخطف(7)

و لها بهاء في النساء و بهجة *** و بها تحلّ الشمس حين تشرّف

تلك التي كانت هواي و حاجتي *** لو أن دارا بالأحبّة تسعف

و إذا تصبك من الحوادث نكبة *** فاصبر فكل مصيبة ستكشّف

و لئن بكيت من الفراق صبابة *** إنّ الكبير إذا بكى ليعنّف

عجبا من الأيام كيف تصرّفت *** و الدار تدنو مرّة و تقذّف

أصبحت رهنا للعداة مكبّلا *** أمسي و أصبح في الأداهم أرسف

بين القليسم فالقيول فحامن *** فاللهزمين و مضجعي متكنّف

- هذه أسماء مواضع من بلد الديلم تكنّفته الهموم بها -:

فجبال ويمة ما تزال منيفة *** يا ليت أنّ جبال ويمة تنسف

- ويمة و شلبة: ناحيتان من نواحي الريّ -:

/

و لقد أراني قبل ذلك ناعما *** جذلان آبى أن أضام و آنف

و استنكرت ساقي الوثاق و ساعدي *** و أنا امرؤ بادي الأشاجع أعجف(8)

و لقد تضرّسني الحروب و إنني *** ألفى بكلّ مخافة أتعسّف

ص: 315


1- العرامس: جمع عرمس (كزبرج) و هي الناقة الصلبة.
2- قتل المرافق: مندمجاتها. و الواحد أفتل و فتلاء، وصف من الفتلة (بالتحريك) و هي اندماج مرفق الناقة. و دلف: جمع دالف و هو الماشي بالحمل الثقيل مقاربا للخطو.
3- القلال: جمع قلة و هي الجرة العظيمة أو عامة، و قيل الكوز الصغير. و القرقف: الخمر.
4- تنوء: تنهض بجهد و مشقة.
5- النزيف: السكران، و من ذهب عقله، و الذي سال دمه حتى يفرط فيضعف.
6- طرّفت المرأة بنانها: خضبت أطراف أصابعها بالحناء.
7- مخطف: ضامر.
8- الأشاجع: أصول الأصابع أو عروق الكف. و أعجف: قليل اللحم.

أتسربل الليل البهيم و أستري *** في الخبت إذ لا يسترون(1) و أوجف

ما إن أزال مقنّعا أو حاسرا *** سلف(2) الكتيبة و الكتيبة وقّف

فأصابني قوم فكنت أصيبهم *** فالآن أصبر للزمان و أعرف

إني لطلاّب التّرات مطلّب *** و بكل أسباب المنيّة أشرف

باق على الحدثان غير مكذّب *** لا كاسف بالي و لا متأسّف

إن نلت لم أفرح بشيء نلته *** و إذا سبقت به فلا أتلهّف

إني لأحمي في المضيق فوارسي *** و أكرّ خلف المستضاف(3) و أعطف

و أشدّ إذ يكبو(4) الجبان(5) و أصطلي *** حرّ الأسنّة و الأسنّة ترعف

صوت

فلئن أصابتني الحروب فربّما *** أدعى إذا منع الرّداف فأردف

و لربّما يروى بكفّي لهذم *** ماض و مطّرد الكعوب مثقّف(6)

و أغير غارات و أشهد مشهدا *** قلب الجبان به يطير و يرجف

و أرى مغانم لو أشاء حويتها *** فيصدّني عنها غنّى و تعفّف

/ - غنّى في هذه الأبيات دحمان، و لحنه ثقيل أوّل بالبنصر عن الهشاميّ. قال الهشاميّ: فيها/لمالك خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، و وافقه في هذا ابن المكيّ - قالوا جميعا:

خرج مع جيش الحجاج إلى مكران فمرض و قال شعرا:

ثم ضرب البعث على جيش أهل الكوفة إلى مكران(7)، فأخرجه الحجّاج معهم، فخرج إليها و طال مقامه بها و مرض، فاجتواها و قال في ذلك - و أنشدني بعض هذه القصيدة اليزيديّ عن سليمان بن أبي شيخ -:

طلبت الصّبا إذ علا المكبر *** و شاب القذال(8) و ما تقصر

و بان الشباب و لذّاته *** و مثلك في الجهل لا يعذر

ص: 316


1- في ب، س: «و اشتدي... لا يشتدون» و في سائر الأصول: «و أستدي»، و كلاهما تحريف. و استرى بمعنى سرى.
2- السلف: المتقدّم.
3- المستضاف: من يفزع إليه غيره و يلتجئ به، يريد به الكميّ الشجاع.
4- في ح و «تجريد الأغاني»: «ينبو».
5- كذا في أكثر الأصول و «تجريد الأغاني». و في ب، س: «الجواد».
6- مطرد الكعوب: الرمح، و اطراد كعوبه: تتابعها. و المثقف: المقوّم المسوّى.
7- مكران (بالضم ثم السكون و أكثر ما تجيء في شعر العرب مشدّدة الكاف مفتوحتها): ولاية واسعة تشتمل على عدة مدن و قرى و هي بين كرمان من غربيها و سجستان شماليها و البحر جنوبيها و الهند في شرقيها. و قال الإصطخري: هي ناحية واسعة عريسة و الغالب عليها المفاوز و الضر و القحط. (راجع «معجم البلدان»).
8- القذال: جماع مؤخر الرأس، و قيل: ما بين نقرة القفا إلى الأذن.

و قال العواذل هل ينتهي *** فيقدعه(1) الشيب أو يقصر

و في أربعين توفّيتها *** و عشر مضت لي مستبصر

و موعظة لامرئ حازم *** إذا كان يسمع أو يبصر

فلا تأسفنّ على ما مضى *** و لا يحزننّك ما يدبر

فإنّ الحوادث تبلي الفتى *** و إنّ الزمان به يعثر

فيوما يساء بما نابه *** و يوما يسرّ فيستبشر

و من كلّ ذلك يلقى الفتى *** و يمنى له منه ما يقدر

/كأنّي لم أرتحل جسرة *** و لم أجفها بعد ما تضمر(2)

فأجشمها كلّ ديمومة(3) *** و يعرفها البلد المقفر

و لم أشهد البأس يوم الوغى *** عليّ المفاضة و المغفر(4)

و لم أخرق الصفّ حتى تمي *** ل دارعة(5) القوم و الحسّر

و تحتى جرداء خيفانة *** من الخيل أو سابح مجفر(6)

أطاعن بالرمح حتى اللّبا *** ن(7) يجري به العلق الأحمر

و ما كنت في الحرب إذ شمّرت *** كمن لا يذيب و لا يخثر(8)

و لكنّني كنت ذا مرّة *** عطوفا إذا هتف المحجر(9)

أجيب الصّريخ إذا ما دعا *** و عند الهياج أنا المسعر(10)

فإن أمس قد لاح فيّ المشي *** ب أمّ البنين، فقد أذكر

رخاء من العيش كنّا به *** إذ الدهر خال لنا مصحر(11)

و إذ أنا في عنفوان الشبا *** ب يعجبني اللّهو و السّمّر

ص: 317


1- يقدعه: يكفه.
2- ارتحل الرجل البعير: شد عليه الرحل. و الجسرة: الناقة العظيمة الطويلة. و أجفاها: أتعبها و لم يدعها تأكل و لا علفها قبل ذلك، و ذلك إذا ساقها سوقا شديدا.
3- الديمومة: الفلاة الواسعة.
4- المفاضة: الدرع الواسعة. و المعفر: زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة للوقاية به.
5- دارعة القوم: الفرقة اللابسة الدروع.
6- الجرداء: القصيرة الشعر. و الخيفانة: السريعة. و المجفر: الواسع الجفرة أي الوسط.
7- اللبان: الصدر أو وسطه.
8- لا يذيب و لا يخثر: أي متردد متحير، مأخوذ من المثل: «و ما يدري أ يخثر أم يذيب». و أصله أن المرأة تسلأ السمن فيختلط خاثره - أي غليظه - برقيقه فلا يصفو؛ فتبرم بأمرها فلا تدري أتوقد حتى يصفو و تخشى إن أوقدت أن يحترق فتحار.
9- المحجر (كمجلس و منبر): لعله يريد به هنا ما حول القرية. و منه محاجر أقيال اليمن و هي الأحماء، كان لكل قيل حمى لا يرعاه غيره؛ على أن يكون المعنى إذا هتف أهل المحجر.
10- المسعر: موقد نار الحرب كأنه آلة في إيقادها.
11- المصحر: المتسع الواضح المنكشف.

/

أصيد الحسان و يصطدنني *** و تعجبني الكاعب المعصر(1)

و بيضاء مثل مهاة الكثي *** ب لا عيب فيها لمن ينظر

كأن مقلّدها إذ بدا *** به الدّرّ و الشّذر(2) و الجوهر

مقلّد أدماء نجديّة *** يعنّ لها شادن أحور(3)

كأنّ جنى النحل و الزنجبي *** ل و الفارسيّة(4) إذ تعصر

يصبّ على برد أنيابها *** مخالطه المسك و العنبر

/إذا انصرفت و تلوّت بها *** رقاق المجاسد(5) و المئزر

و غصّ السّوار و جال الوشاح *** على عكن(6) خصرها مضمر

و ضاق عن الساق خلخالها *** فكاد مخدّمها يندر(7)

فتور القيام رخيم الكلى *** م يفزعها الصوت إذ تزجر

و تنمى إلى حسب شامخ *** فليست تكذّب إذ تفخر

فتلك التي شفّني حبّها *** و حمّلني فوق ما أقدر

فلا تعذلاني في حبّها *** فإنّي بمعذرة أجدر

- و من هاهنا رواية اليزيديّ -:

و قولا لذي طرب عاشق: *** أشطّ المزار بمن تذكر؟

بكوفيّة أصلها بالفرا *** ت تبدو هنالك أو تحضر(8)

/و أنت تسير إلى مكران *** فقد شحط الورد و المصدر

و لم تك من حاجتي مكران *** و لا الغزو فيها و لا المتجر

و خبّرت عنها و لم آتها *** فما زلت من ذكرها أذعر

بأنّ الكثير بها جائع *** و أنّ القليل بها مقتر

و أنّ لحى الناس من حرّها *** تطول فتجلم(9) أو تضفر

ص: 318


1- المعصر من النساء: التي بلغت شبابها أو أدركت؛ و قيل: التي راهقت العشرين.
2- الشذر: اللؤلؤ الصغير؛ و قيل: خرز يفصل به بين الجواهر في النظم؛ أو هو قطع من الذهب تلقط من معدنه بدون إذابة الحجارة.
3- الأدماء من الظباء: البيضاء تعلوها جدد فيهن غبرة. و الشادن: ولد الظبية.
4- الفارسية: الخمر.
5- المجاسد: الأثواب التي تلي البدن، جمع مجسد (كمنبر).
6- العكن: جمع عكنة، و هي ما انطوى و تثني من لحم البطن سمنا.
7- المخدم: موضع الخلخال. و ندر الشيء يندر ندورا (من باب نصر): سقط، و في الحديث: «فضرب رأسه فندر».
8- بدا: أقام بالبادية. و حضر: أقام بالحضر.
9- تجلم: تقطع بالجلم، و هو المقص.

و يزعم من جاءها قبلنا *** بأنّا سنسهم(1) أو ننحر(2)

أعوذ بربّي من المخزيا *** ت فيما أسرّ و ما أجهر

و حدّثت أن ما لنا رجعة *** سنين و من بعدها أشهر

إلى ذاك ما شاب أبناؤنا *** و باد الأخلاّء و المعشر

و ما كان بي من نشاط لها *** و إنّي لذو عدّة موسر

و لكن بعثت لها كارها *** و قيل انطلق كالذي يؤمر

فكان النّجاء(3) و لم ألتفت *** إليهم و شرّهم منكر

هو السيف جرّد من غمده *** فليس عن السيف مستأخر

و كم من أخ لي مستأنس *** يظلّ به الدمع يستحسر

يودّعني و انتحت عبرة *** له كالجداول أو أغزر

فلست بلاقيه من بعدها *** يد الدهر(4) ما هبّت الصّرصر

و قد قيل إنكم عابرو *** ن بحرا لها لم يكن يعبر

إلى السّند و الهند في أرضهم *** هم الجنّ لكنّهم أنكر

/و ما رام غزوا لها قبلنا *** أكابر عاد و لا حمير

و لا رام سابور غزوا لها *** و لا الشيخ كسرى و لا قيصر

و من دونها معبر واسع *** و أجر عظيم لمن يؤجر

قصته مع جارية خالد بن عتاب الرياحي:

و ذكر محمد بن صالح بن النّطّاح أنّ هشام بن محمد الكلبيّ حدّث عن أبيه:

أن أعشى همدان كان مع خالد بن عتّاب بن ورقاء الرّياحيّ بالرّيّ و دستبي(5)، و كان الأعشى شاعر أهل اليمن بالكوفة و فارسهم، فلما قدم خالد من مغزاه خرج جواريه يتلقّينه و فيهنّ أمّ ولد له كانت رفيعة القدر عنده، فجعل الناس يمرّون عليها إلى أن جاز بها الأعشى و هو على فرسه يميل يمينا و يسارا من النّعاس؛ فقالت أمّ ولد خالد بن عتّاب لجواريها: إن امرأة خالد لتفاخرني بأبيها و عمّها و أخيها، و هل يزيدون على أن يكونوا مثل هذا الشيخ المرتعش. و سمعها الأعشى فقال: من هذه؟ فقال له بعض الناس: هذه جارية خالد؛ فضحك و قال لها: إليك عني يا لكعاء؛ ثم أنشأ يقول:

ص: 319


1- سهم الرجل (من بابي قطع و كرم) سهوما و سهومة: تغير لونه و بدنه مع هزال و يبس.
2- كذا بالأصل. و لعلها مصحفة عن: «ننجر» (بالجيم المعجمة). و نجر الرجل ينجر (من باب علم): أصابه عطش شديد.
3- النجاء: السرعة في السير.
4- يد الدهر: كناية عن الأبد. يقال: لا أفعل كذا يد الدهر، أي أبدا.
5- انظر الحاشية رقم 2 ص 34 من هذا الجزء.

و ما يدريك ما فرس جرور(1) *** و ما يدريك ما حمل السّلاح

و ما يدريك ما شيخ كبير *** عداه الدهر عن سنن المراح

فأقسم لو ركبت الورد يوما *** و ليلته إلى وضح الصّباح

إذا لنظرت منك إلى مكان *** كسحق(2) البرد أو أثر الجراح

قال: فأصبحت الجارية فدخلت إلى خالد فشكت إليه الأعشى؛ فقالت: و اللّه ما تكرم، و لقد اجترئ عليك(3)! فقال لها: و ما ذاك؟ فأخبرته أنها مرّت برجل في وجه الصبح، و وصفته له و أنه سبّها؛ فقال: ذلك أعشى همدان؛ فأيّ شيء قال لك؟ /فأنشدته الأبيات. فبعث إلى الأعشى، فلما دخل عليه قال له: ما تقول؟ هذه زعمت أنك هجوتها؛ فقال: أساءت سمعا، إنما قلت:

مررت بنسوة متعطّرات *** كضوء الصبح أو بيض الأداحي(4)

على شقر البغال فصدن قلبي *** بحسن الدّلّ و الحدق الملاح

فقلت من الظباء فقلن سرب *** بدا لك من ظباء بني رياح

فقالت: لا و اللّه، ما هكذا قال، و أعادت الأبيات؛ فقال له خالد: أما إنّها لو لا أنّها قد ولدت منّي لوهبتها لك، و لكنّي أفتدي جنايتها بمثل ثمنها، فدفعه إليه و قال له: أقسمت عليك يا أبا المصبّح ألاّ تعيد في هذا المعنى شيئا بعد ما فرط منك.

و ذكر هذا الخبر العنزيّ في روايته التي قدّمت ذكرها، و لم يأت به على هذا الشرح.

خبره مع خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي:

و قال هو و ابن النّطّاح جميعا:

و كان خالد يقول للأعشى في بعض ما يمنّيه إيّاه و يعده به: إن ولّيت عملا كان لك ما دون الناس جميعا، فمتى استعملت فخذ خاتمي و اقض في أمور الناس كيف شئت. قال: فاستعمل خالد على أصبهان و صار معه الأعشى، فلما وصل إلى عمله جفاه و تناساه، ففارقه الأعشى و رجع إلى الكوفة و قال فيه:

تمنّيني إمارتها تميم *** و ما أمّي بأمّ بني تميم

و كان أبو سليمان أخا لي *** و لكنّ الشّراك(5) من الأديم

أتينا أصبهان فهزّلتنا *** و كنّا قبل ذلك في نعيم

/أ تذكرنا و مرّة إذ غزونا *** و أنت على بغيلك ذي الوشوم

/و يركب رأسه في كل وحل *** و يعثر في الطريق المستقيم

ص: 320


1- الفرس الجرور: الذي لا ينقاد و لا يكاد يتبع صاحبه.
2- السحق: الثوب البالي، و يضاف للبيان فيقال: سحق برد و سحق عمامة.
3- في ب، س: «... و لقد اجترأ».
4- الأداحي: جمع أدحية و هي مبيض النعام في الرمل.
5- الشراك: أحد سيور النعل التي تكون على وجهها.

و ليس عليك إلا طيلسان *** نصيبيّ و إلاّ سحق نيم(1)

فقد أصبحت في خزّ و قزّ *** تبختر ما ترى لك من حميم

و تحسب أن تلقّاها زمانا *** كذبت و ربّ مكة و الحطيم

- هذه رواية ابن النطّاح، و زاد العنزيّ في روايته -:

و كانت أصبهان كخير أرض *** لمغترب و صعلوك عديم

و لكنّا أتيناها و فيها *** ذو و الأضغان و الحقد القديم

فأنكرت الوجوه و أنكرتني *** وجوه ما تخبّر عن كريم

و كان سفاهة منّي و جهلا *** مسيري لا أسير إلى حميم

فلو كان ابن عتاب كريما *** سما لرواية(2) الأمر الجسيم

و كيف رجاء من غلبت عليه *** تنائي الدار كالرّحم العقيم

قال ابن النّطاح: فبعث إليه خالد: من مرّة هذا الذي ادعيت أني و أنت غزونا معه على بغل ذي وشوم؟ و متى كان ذلك؟ و متى رأيت عليّ الطّيلسان و النّيم اللذين و صفتهما؟ فأرسل إليه: هذا كلام أردت(3) وصفك بظاهره، فأمّا تفسيره، فإن مرّة مرارة ثمرة ما غرست عندي من القبيح. و البغل المركب الذي ارتكبته مني لا يزال يعثر بك في كل وعث و جدد و وعر و سهل. و أما الطيلسان فما ألبسك إياه من العار و الذمّ؛ و إن شئت راجعت الجميل فراجعته لك؛ فقال: لا، بل أراجع الجميل و تراجعه؛ فوصله بمال عظيم و ترضّاه. هكذا روى من قدّمت ذكره.

/أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعي قال:

لما ولي خالد بن عتّاب بن ورقاء أصبهان، خرج إليه أعشى همدان، و كان صديقه و جاره بالكوفة، فلم يجد عنده ما يحبّ؛ و أعطى خالد الناس عطايا فجعله في أقلّها و فضّل عليه آل عطارد؛ فبلغه عنه أنه ذمّه فحبسه مدّة ثم أطلقه؛ فقال يهجوه:

و ما كنت ممن ألجأته خصاصة *** إليك و لا ممن تغرّ المواعد

و لكنّها الأطماع و هي مذلّة *** دنت بي و أنت النازح المتباعد

أ تحبسني في غير شيء و تارة *** تلاحظني شزرا و أنفك عاقد(4)

فإنك لا كابني فزارة فاعلمن *** خلقت و لم يشبههما لك والد

و لا مدرك ما قد خلا من نداهما *** أبوك و لا حوضيهما أنت وارد

و إنك لو ساميت آل عطارد *** لبذّتك أعناق لهم و سواعد

و مأثرة عاديّة لن تنالها *** و بيت رفيع لم تخنه القواعد

ص: 321


1- النيم: الفرو، أو هو ثوب ينام فيه من القطيفة.
2- كذا في الأصول. و لعلها: «لذؤابة الأمر الجسيم». و ذؤابة الشيء: أعلاه. و تستعار للعز و الشرف و علو الرتبة.
3- في ح: «وضعك».
4- يريد أنه غضبان معرض عنه.

و هل أنت إلا ثعلب في ديارهم *** تشلّ(1) - فتعسا - أو يقودك قائد

أرى خالدا يختال مشيا كأنه *** من الكبرياء نهشل أو عطارد(2)

/و ما كان يربوع شبيها لدارم *** و ما عدلت شمس النهار الفراقد

مدح ابن الأشعث و حرّض أهل الكوفة للقتال معه ضد الحجاج:

قالوا: و لما خرج ابن الأشعث على الحجّاج بن يوسف حشد معه أهل الكوفة، فلم يبق من وجوههم و قرّائهم أحد له نباهة إلاّ خرج معه لثقل وطأة الحجّاج عليهم. فكان عامر الشّعبيّ و أعشى همدان ممّن خرج معه، و خرج أحمد النّصبي(3) أبو أسامة/الهمداني المغنّي مع الأعشى لالفته إياه، و جعل الأعشى يقول الشعر في ابن الأشعث يمدحه، و لا يزال يحرّض أهل الكوفة بأشعاره على القتال، و كان مما قاله في ابن الأشعث يمدحه:

يأبى الإله و عزة ابن محمد *** و جدود ملك قبل آل ثمود

أن تأنسوا بمذمّمين، عروقهم *** في الناس إن نسبوا عروق عبيد

كم من أب لك كان يعقد تاجه *** بجبين أبلج مقول صنديد

و إذا سألت: المجد أين محلّه *** فالمجد بين محمد و سعيد

بين الأشجّ و بين قيس باذخ *** بخ بخ لوالده و للمولود

ما قصّرت بك أن تنال مدى العلا *** أخلاق مكرمة و إرث جدود

قرم(4) إذا سامى القروم ترى له *** أعراق مجد طارف و تليد

و إذا دعا لعظيمة حشدت له *** همدان تحت لوائه المعقود

يمشون في حلق الحديد كأنهم *** أسد الإباء سمعن زأر أسود

و إذا دعوت بآل كندة أجفلوا *** بكهول صدق سيّد و مسود

و شباب مأسدة كأنّ سيوفهم *** في كلّ ملحمة بروق رعود

ما إن ترى قيسا يقارب قيسكم *** في المكرمات و لا ترى كسعيد

طلب من ابن الأشعث في سجستان زيادة عطائه فردّه فقال شعرا:

و قال حمّاد الراوية في خبره: كانت لأعشى همدان مع ابن الأشعث مواقف محمودة و بلاء حسن و آثار مشهورة؛ و كان الأعشى من أخواله، لأن أمّ عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أمّ عمرو بنت سعيد بن قيس الهمداني. قال: فلما صار ابن الأشعث إلى سجستان جبى مالا كثيرا، فسأله أعشى همدان أن يعطيه منه زيادة على عطائه فمنعه؛ فقال الأعشى في ذلك:

ص: 322


1- تشل: تطرد.
2- نهشل و عطارد: قبيلتان من العرب ينتسبان إلى دارم بن مالك بن حنظلة. و خالد - المقصود في الشعر هنا - من رياح و رياح من دارم.
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «النصيبي» و هو تحريف.
4- القرم: السيد العظيم.

/

هل تعرف الدار عفا رسمها *** بالحضر(1) فالروضة من آمد(2)

دار لخود طفلة رودة *** بانت فأمسى حبّها عامدي(3)

بيضاء مثل الشمس رقراقة *** تبسم عن ذي أشر(4) بارد

لم يخط(5) قلبي سهمها إذ رمت *** يا عجبا من سهمها القاصد

يا أيها القرم الهجان(6) الذي *** يبطش بطش الأسد اللاّبد

و الفاعل الفعل الشريف الذي *** ينمى إلى الغائب و الشاهد

كم قد أسدّي لك من مدحة *** تروى مع الصادر و الوارد

و كم أجبنا لك من دعوة *** فاعرف فما العارف كالجاحد

نحن حميناك و ما تحتمي *** في الرّوع من مثنّى و لا واحد

/يوم انتصرنا لك من عابد *** و يوم أنجيناك من خالد

و وقعة الرّيّ التي نلتها *** بجحفل من جمعنا عاقد

و كم لقينا لك من واتر *** يصرف نابي حنق حارد(7)

ثم وطئناه بأقدامنا *** و كان مثل الحيّة الراصد

إلى بلاء حسن قد مضى *** و أنت في ذلك كالزاهد

فاذكر أيادينا و آلاءنا *** بعودة من حلمك الراشد

/و يوم الأهواز فلا تنسه *** ليس النّثا(8) و القول بالبائد

إنا لنرجوك كما نرتجي *** صوب الغمام المبرق الراعد

فانفح بكفّيك و ما ضمّتا *** و افعل فعال السّيّد الماجد

ما لك لا تعطي و أنت امرؤ *** مثر من الطارف و التالد

تجبي سجستان و ما حولها *** متكئا في عيشك الراغد

ص: 323


1- الحضر: مدينة بإزاء تكريت في البرية بينها و بين الموصل و الفرات.
2- آمد: أعظم مدن ديار بكر، و هي قديمة حصينة مبنية بالحجارة السوداء و على نشز، و يحيط دجلة بأكثرها، و في وسطها عيون و آبار قريبة يتناول ماؤها باليد، و فيها بساتين.
3- الخود: المرأة الشابة ما لم تصر نصفا. و الطفلة: الرخصة الناعمة. و الرودة: الشابة الحسنة. و عامدي: مضني و مهلكي.
4- الأشر: التحزيز الذي يكون في الأسنان، يكون خلقة و مصنوعا.
5- أصلها: «لم يخطئ» فسهلت الهمزة ثم حذفت الياء.
6- الهجان: الخالص و خيار كل شيء.
7- صرف نابه و بنابه: حرقه فسمع له صوت. و الحارد: الغاضب.
8- كذا في ح. و النثا (بالتحريك و القصر): ما أخبرت به عن الرجل من حسن أو سيّئ. و في سائر الأصول: «الثنا» (بثاء مثلثة بعدها نون).

لا ترهب الدهر و أيامه *** و تجرد(1) الأرض مع الجارد

إن يك مكروه تهجنا له *** و أنت في المعروف كالراقد

ثم ترى أنّا سنرضى بذا *** كلاّ و ربّ الراكع السّاجد

و حرمة البيت و أستاره *** و من به من ناسك عابد

تلك لكم أمنيّة باطل *** و غفوة من حلم الراقد

ما أنا إن هاجك من بعدها *** هيج بآتيك و لا كابد

و لا إذا ناطوك(2) في حلقة *** بحامل عنك و لا فاقد

فأعط ما أعطيته طيّبا *** لا خير في المنكود و الناكد(3)

نحن ولدناك فلا تجفنا *** و اللّه قد وصّاك بالوالد

إن تك من كندة في بيتها *** فإنّ أخوالك من حاشد(4)

شمّ العرانين و أهل الندى *** و منتهى الضّيفان و الرائد

كم فيهم من فارس معلم *** و سائس للجيش أو قائد

/و راكب للهول يجتابه *** مثل شهاب القبس الواقد

أو ملأ يشفى بأحلامهم *** من سفه الجاهل و المارد(5)

لم يجعل اللّه بأحسابنا *** نقصا و ما الناقص كالزائد

و ربّ خال لك، في قومه *** فرع طويل الباع و الساعد

يحتضر البأس و ما يبتغى *** سوى إسار البطل الناجد(6)

و الطعن بالراية مستمكنا *** في الصفّ ذي العادية الناهد(7)

فارتح لأخوالك و اذكرهم *** و ارحمهم للسّلف العائد

فإنّ أخوالك لم يبرحوا *** يربون بالرّفد على الرّافد

/لم يبخلوا يوما و لم يجبنوا *** في السّلف الغازي و لا القاعد

و ربّ خال لك في قومه *** حمّال أثقال لها واجد

معترف للرزء في ماله *** و الحقّ للسائل و العامد

ص: 324


1- جرد الأرض: جعلها جرداء.
2- ناطه: علقه.
3- المنكود: الذي يلح عليه في المسألة. و الناكد: الملح.
4- حاشد: حي من همدان.
5- المارد: العاتي و الباغي.
6- في ب، س: «الماجد».
7- الناهد: الأسد.
مدح النعمان بن بشير عامل حمص لوساطته له في عطاء:

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد الأزدي قال حدّثني عمّي عن العبّاس بن هشام عن أبيه، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن ابن الكلبي، و أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن العمريّ عن الهيثم بن عديّ، و ذكره العنزيّ عن أصحابه، قالوا جميعا:

خرج أعشى همدان إلى الشام في ولاية مروان بن الحكم، فلم ينل فيها حظّا؛ فجاء إلى النعمان بن بشير و هو عامل على حمص، فشكا إليه حاله؛ فكلّم له النعمان بن بشير اليمانية و قال لهم: هذا شاعر اليمن و لسانها، و استماحهم له؛ فقالوا: نعم، /يعطيه كلّ رجل منا دينارين من عطائه؛ فقال: لا، بل أعطوه دينارا دينارا و اجعلوا ذلك معجّلا؛ فقالوا: أعطه إيّاه من بيت المال و احتسبها على كلّ رجل من عطائه؛ ففعل النّعمان - و كانوا عشرين ألفا - فأعطاه عشرين ألف دينار و ارتجعها منهم عند العطاء. فقال الأعشى يمدح النعمان:

و لم أر للحاجات عند التماسها *** كنعمان نعمان النّدى ابن بشير

إذا قال أوفى ما يقول و لم يكن *** كمدل إلى الأقوام حبل غرور

متى أكفر النعمان لم ألف شاكرا *** و ما خير من لا يقتدي بشكور

فلو لا أخو الأنصار كنت كنازل *** ثوى ما ثوى لم ينقلب بنقير(1)

شعره في حرب نصيبين بين المهلب و يزيد بن أبي صخر:

و قال الهيثم بن عديّ في خبره: حاصر المهلّب بن أبي صفرة نصيبين، و فيها أبو قارب يزيد بن أبي صخر و معه الخشبيّة(2)؛ فقال المهلّب: يا أيها الناس، لا يهولنّكم هؤلاء القوم فإنما هم العبيد بأيديها العصيّ. فحمل عليهم المهلّب و أصحابه فلقوهم بالعصيّ فهزموهم حتى أزالوهم عن موقفهم. فدسّ المهلّب رجلا من عبد القيس إلى يزيد بن أبي صخر ليغتاله، و جعل له على ذلك جعلا سنيّا - قال الهيثم: بلغني أنه أعطاه مائتي ألف درهم قبل أن يمضي و وعده بمثلها إذا عاد - فاندسّ له العبديّ فاغتاله فقتله و قتل بعده. فقال أعشى همدان في ذلك:

يسمّون أصحاب العصيّ و ما أرى *** مع القوم إلا المشرفيّة من عصا

ألا أيّها اللّيث الذي جاء حاذرا(3) *** و ألقى بنا جرمى(4) الخيام و عرّصا

/أ تحسب غزو الشام يوما و حربه *** كبيض ينظّمن الجمان المفصصا

و سيرك بالأهواز إذ أنت آمن *** و شربك ألبان الخلايا(5) المقرّصا

فأقسمت لا تجبي لك الدهر درهما *** نصيبون حتّى تبتلى و تمحّصا

ص: 325


1- النقير: النكتة في ظهر النواة.
2- الخشبية: أتباع المختار بن أبي عبيد.
3- حاذرا: متأهبا مستعدا.
4- كذا في ح. و في ب، س: «و ألقى بنا جرم». و في أ، ء: «و ألقى بنا جرى». و الظاهر من السياق أنه اسم موضع. و لم نوفق في المظان التي بين أيدينا إلى وجه الصواب فيه.
5- الخلايا: الإبل المخلاة للحلب، الواحدة خلية. و المقرص: اللبن الذي يجعل في المقارص ليصير قارصا أي حامضا. و المقارص: الأوعية التي يقرّص فيها اللبن.

و لا أنت من أثوابها الخضر لابس *** و لكنّ خشبانا شدادا و مشقصا(1)

فكم ردّ من ذي حاجة لا ينالها *** جديع العتيك ردّه اللّه أبرصا

و شيّد بنيانا و ظاهر كسوة *** و طال جديع بعد ما كان أوقصا

[تصغير جدع(2) جديع بالدال غير معجمة]. و الأبيات التي كان فيها الغناء المذكور معه خبر الأعشى في هذا الكتاب يقولها في زوجة له من همدان يقال لها جزلة، هكذا رواه الكوفيون، و هو الصحيح. و ذكر الأصمعي أنها خولة، هكذا رواه في شعر الأعشى.

طلق زوجته أم الجلال و تزوّج غيرها و شعره في ذلك:

فذكر العنزيّ في أخبار الأعشى المتقدّم إسنادها: أنها كانت عند الأعشى امرأة من قومه يقال لها أمّ الجلال(3)، فطالت مدتها معه و أبغضها، ثم خطب امرأة من قومه يقال لها جزلة - و قال الأصمعي: خولة - فقالت له: لا، حتى تطلّق أمّ الجلال؛ فطلّقها؛ و قال في ذلك:

تقادم ودّك أمّ الجلال *** فطاشت نبالك عند(4) النّضال

و طال لزومك لي حقبة *** فرثّت قوى الحبل بعد الوصال

و كان الفؤاد بها معجبا *** فقد أصبح اليوم عن ذاك سالي

/صحا لا مسيئا و لا ظالما *** و لكن سلا سلوة في جمال

و رضت خلائفنا كلّها *** و رضنا خلائقكم كلّ حال

فأعييتنا في الذي بيننا *** تسومينني كلّ أمر عضال

و قد تأمرين بقطع الصديق *** و كان الصديق لنا غير قالي

و إتيان ما قد تجنّبته *** وليدا و لمت عليه رجالي

أ فاليوم أركبه بعد ما *** علا الشّيب منّي صميم القذال(5)

لعمر أبيك لقد خلتني *** ضعيف القوى أو شديد المحال

هلمّي اسألي نائلا فانظري *** أ أحرمك الخير عند السؤال

أ لم تعلمي أنّني معرق *** نماني إلى المجد عمّي و خالي

و أنّي إذا ساءني منزل *** عزمت فأوشكت منه ارتحالي

فبعض العتاب، فلا تهلكي *** فلا لك في ذاك خير و لا لي

ص: 326


1- المشقص: نصل عريض، و قيل: سهم فيه ذلك يرمى به الوحش.
2- هذه الجملة ساقطة من جميع الأصول ما عدا ب، س.
3- كذا في ب، س. و في سائر الأصول هنا و فيما سيأتي: أم الحلال (بالحاء المهملة).
4- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «بعد النصال».
5- القذال: جماع مؤخر الرأس، أو هو ما بين نفرة القفا إلى الأذن.

فلما بدا لي منها البذا *** ء صبّحتها بثلاث عجال

ثلاثا خرجن جميعا بها *** فخلّينها ذات بيت و مال

إلى أهلها غير مخلوعة *** و ما مسّها عندنا من نكال

فأمست تحنّ حنين اللّقا *** ح من جزع إثر من لا يبالي

فحنّي حنينك و استيقني *** بأنا اطّرحناك ذات الشمال

و أن لا رجوع فلا تكذبي *** ن ما حنّت النّيب إثر الفصال

و لا تحسبيني بأنّي ندم *** ت كلاّ و خالقنا ذي الجلال

فقالت له أمّ الجلال: بئس و اللّه بعل الحرّة و قرين الزوجة المسلمة أنت! ويحك! أعددت طول الصحبة و الحرمة ذنبا تسبّني و تهجوني به! ثم دعت عليه أن يبغّضه/اللّه إلى زوجته التي اختارها، و فارقته. فلما انتقلت إلى أهلها؛ و صارت جزلة إليه، و دخل بها لم يحظ عندها، ففركته(1) و تنكّرت له و اشتدّ شغفه بها؛ ثم خرج مع ابن الأشعث فقال فيها:

/

حيّيا جزلة منّي بالسّلام *** درّة البحر و مصباح الظلام

لا تصدّي بعد ودّ ثابت *** و اسمعي يا أمّ عيسى من كلامي(2)

إن تدومي لي فوصلي دائم *** أو تهمّي لي بهجر أو صرام

أو تكوني مثل برق خلّب *** خادع يلمع في عرض الغمام

أو كتخييل سراب معرض *** بفلاة أو طروق في المنام

فاعلمي إن كنت لمّا تعلمي *** و متى ما تفعلي ذاك تلامي

بعد ما كان الذي كان فلا *** تتبعي الإحسان إلا بالتمام

لا تناسي كلّ ما أعطيتني *** من عهود و مواثيق عظام

و اذكري الوعد الذي واعدتني *** ليلة النّصف من الشهر الحرام

فلئن بدّلت أو خست بنا *** و تجرّأت على أمّ صمام(3)

[أم صمام: الغدر و الحنث](4):

لا تبالين إذا من بعدها *** أبدا ترك صلاة أو صيام

ص: 327


1- فركته: أبغضته.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «من كلام».
3- كذا في أكثر الأصول. و في م: «على أمر صمام». و لعل هذا أقرب إلى الصواب، إذ لم نجد في المظان ما يؤيد ما ورد في أكثر الأصول، على أن يكون المعنى: على أمر شديد، و يكون التفسير الذي ورد في ب، س: بأنه الغدر و الحنث تفسيرا بالمراد. و صمام (وزان قطام): الداهية الشديدة.
4- زيادة عن ب، س.

راجعي الوصل و ردّي نظرة *** لا تلجّي(1) في طماح و أثام

/و إذا أنكرت منّي شيمة *** و لقد ينكر(2) ما ليس بذام

فاذكريها لي أزل عنها و لا *** تسفحي عينيك بالدمع السّجام

و أرى حبلك رثّا خلقا *** و حبالي جددا غير رمام(3)

عجبت جزلة منّي أن رأت *** لمّتي حفّت بشيب كالثّغام(4)

و رأت جسمي علاه كبرة *** و صروف الدهر قد أبلت عظامي

و صليت الحرب حتى تركت *** جسدي نضوا كأشلاء اللّجام(5)

و هي بيضاء على منكبها *** قطط جعد و ميّال سخام(6)

و إذا تضحك تبدي حببا *** كرضاب المسك في الرّاح المدام

كملت ما بين قرن فإلى *** موضع الخلخال منها و الخدام(7)

فأراها اليوم لي قد أحدثت *** خلقا ليس على العهد القدام

تمثل الشعبي بشعر له فخربه على البصريين في حضرة الأحنف:

أخبرني عمّي قال حدّثنا محمد بن سعيد الكراني قال حدّثنا العمري عن الهيثم بن عديّ عن مجالد عن الشّعبيّ:

أنه أتى البصرة أيام ابن الزبير، فجلس في المسجد إلى قوم من تميم فيهم الأحنف بن قيس فتذاكروا أهل الكوفة و أهل البصرة و فاخروا بينهم، إلى أن قال قائل من أهل البصرة: و هل أهل الكوفة إلا خولنا؟ استنقذناهم من عبيدهم! (يعني الخوارج). قال الشعبي: فهجس في صدري أن تمثّلت قول أعشى همدان:

/

أ فخرتم أن قتلتم أعبدا *** و هزمتم مرّة آل عزل(8)

نحن سقناهم إليكم عنوة *** و جمعنا أمركم بعد فشل

فإذا فاخرتمونا فاذكروا *** ما فعلنا بكم يوم الجمل

/بين شيخ خاضب عثنونه *** و فتى أبيض وضّاح رفل(9)

جاءنا يرفل في سابغة *** فذبحناه ضحّى ذبح الحمل

و عفونا فنسيتم عفونا *** و كفرتم نعمة اللّه الأجلّ

ص: 328


1- لا تلجى (من بابي ضرب و علم): لا تتمادى. و في الأصول: «لا تلحى» بالحاء المهملة.
2- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «و لقد أنكرت».
3- حبل رمام: بال.
4- الثغام: نبت يكون في الجبل ينبت أخضر ثم يبيض إذا يبس فيشبه به الشيب.
5- النضو: المهزول. و أشلاء اللجام: حدائده بلا سيور.
6- القطط: الشعر القصير. و السخام: الشعر اللين الحسن. و في هذا البيت إقواء، و هو اختلاف حركة الرويّ.
7- كذا في الأصول. و الخدام: الخلاخيل، واحده خدمة (بالتحريك). و في ب، س: «الحزام».
8- العزل: الاعتزال و التنحي. و يريد بآل عزل الخوارج لاعتزالهم جماعة المسلمين.
9- العثنون: اللحية أو ما فضل منها بعد العارضين. و الرفل من الناس: الطويل الذيل.

قال: فضحك الأحنف، ثم قال: يأهل البصرة، قد فخر عليكم الشعبيّ و صدق و انتصف، فأحسنوا مجالسته.

شعر له في هزيمة الزبير الخثعميّ بجلولاء:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثنا الرياشيّ عن أبي محلّم(1) عن الخليل بن عبد الحميد عن أبيه قال:

بعث بشر بن مروان الزبير بن خزيمة الخثعميّ إلى الريّ؛ فلقيه الخوارج بجلولاء(2)، فقتلوا جيشه و هزموه و أبادوا(3) عسكره، و كان معه أعشى همدان، فقال في ذلك:

/

أمّرت خثعم على غير خير *** ثم أوصاهم الأمير بسير

أين ما كنتم تعيفون للنا *** س و ما تزجرون من كل طير

ضلّت الطير عنكم بجلولا *** ء و غرّتكم أماني الزّبير

قدر ما أتيح لي من فلسطي *** ن على فالج(4) ثقال(5) و عير

خثعميّ مغصّص جزجمان *** يّ محلّ غزا مع ابن نمير(6)

مدح الأصمعي شعره و فضله:

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم قال:

سألت الأصمعيّ عن أعشى همدان فقال: هو من الفحول و هو إسلامي كثير الشعر؛ ثم قال لي: العجب من ابن دأب حين يزعم أن أعشى همدان قال:

من دعا لي غزيّلي *** أربح اللّه تجارته

ثم قال: سبحان اللّه! أمثل هذا يجوز على الأعشى؟ أن يجزم اسم اللّه عزّ و جلّ و يرفع تجارته و هو نصب. ثم قال لي خلف الأحمر: و اللّه لقد طمع ابن دأب في الخلافة حين ظنّ أن هذا يقبل منه و أن له من المحل مثل أن يجوّز مثل هذا. قال ثم قال: و مع ذلك أيضا إن قوله:

من دعا لي غزيّلي

ص: 329


1- هو أبو محلم الشيباني. و اسمه محمد بن سعد، و يقال محمد بن هشام بن عوف السعدي. و كان يسمى محمدا و أحمد. أعرابي، أعلم الناس بالشعر و اللغة، و كان يغلظ طبعه و يفخم كلامه و يعرب منطقه. و قال ابن السكيت: أصل أبي محلم من الفرس و مولده بفارس، و إنما انتسب إلى أبي سعد. و قال مؤرج: كان أبو محلم أحفظ الناس، استعار مني جزءا و رده من الغد و قد حفظه في ليلة، و كان مقداره نحو خمسين ورقة. و قال أبو محلم: ولدت في السنة التي حج فيها المنصور. و توفي سنة ثمان و أربعين و مائتين. و له من الكتب «كتاب الأنواء»، و «كتاب الخيل»، و «كتاب خلق الإنسان» (راجع «كتاب الفهرست» ص 46 طبع أوروبا).
2- جلولاء (بالمد): طسوج (ناحية) من طساسيج السواد في طريق خراسان بينها و بين خانقين سبعة فراسخ. و بها كانت الوقعة المشهورة على الفرس للمسلمين سنة 16 ه فاستباحهم المسلمون، فسميت جلولاء الوقيعة لما أوقع بهم المسلمون.
3- في ح: «و أبا حوا».
4- الفالج: الجمل الضخم ذو السنامين يحمل من السند للفحلة.
5- كذا في ب، س، ح و الثقال (بالفتح و بالضم): الثقيل. و في سائر الأصول: «ثفال» (بالفاء)، و الثفال (بالفتح): البطيء من الدواب و الناس.
6- ورد هذا البيت هكذا بالأصول.

لا يجوز، إنما هو: من دعا لغزيلي، و من دعا لبعير ضال.

مدح خالد بن عتاب فأجازه:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق و محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا(1) حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عديّ قال:

/أملق أعشى همدان فأتى خالد بن عتّاب بن ورقاء فأنشده:

رأيت ثناء الناس بالقول طيبا *** عليك و قالوا ماجد و ابن ماجد

بني الحارث السامين للمجد، إنكم *** بنيتم بناء ذكره غير بائد

هنيئا لما أعطاكم اللّه و اعلموا *** بأني سأطري خالدا في القصائد

فإن يك عتّاب مضى لسبيله *** فما مات من يبقى له مثل خالد

فأمر له بخمسة آلاف درهم.

أنشد سابق البربري من شعره عمر بن عبد العزيز فأبكاه:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدّثنا أبو غسّان [قال](2):

قال عمر بن عبد العزيز يوما لسابق البربريّ - و دخل عليه -: أنشدني يا سابق شيئا من شعرك تذكّرني به؛ فقال: أو خيرا من شعري؟ فقال: هات؛ قال قال أعشى همدان:

و بينما المرء أمسى ناعما جذلا *** في أهله معجبا بالعيش ذا أنق(3)

/غرّا، أتيح له من حينه عرض *** فما تلبّث حتى مات كالصّعق

ثمّت أضحى ضحى من غبّ ثالثة *** مقنّعا غير ذي روح و لا رمق

يبكى عليه و أدنوه لمظلمة *** تعلى جوانبها بالتّرب و الفلق(4)

فما تزوّد ممّا كان يجمعه *** إلاّ حنوطا(5) و ما واراه من خرق

و غير نفحة أعواد تشبّ له *** و قلّ ذلك من زاد لمنطلق

قال: فبكى عمر حتى أخضل لحيته.

هجا شجرة العبسي بشعر أجازه عليه الحجاج:

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدّثنا الحسين بن محمد بن أبي(6) طالب الديناريّ قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الراوية قال:

ص: 330


1- في جميع الأصول: «قال»، و هو تحريف.
2- زيادة عن أ، ء، م.
3- الأنق (محركة): الفرح و السرور.
4- في جميع الأصول: «القلق» (بالقاف) و هو تصحيف.
5- الحنوط: طيب يخلط للميت خاصة.
6- كلمة: «أبى» ساقطة في جميع الأصول. راجع الحاشية رقم 2 ص 319 من الجزء الخامس من هذه الطبعة.

سأل أعشى همدان شجرة بن سليمان العبسيّ حاجة فردّه عنها، فقال يهجوه:

لقد كنت خيّاطا فأصبحت فارسا *** تعدّ إذا عدّ الفوارس من مضر

فإن كنت قد أنكرت هذا فقل كذا *** و بيّن لي الجرح الذي كان قد دثر(1)

و إصبعك الوسطى عليه شهيدة *** و ما ذاك إلا وخزها(2) الثوب بالإبر

قال و كان يقال: إن شجرة كان خيّاطا، و قد كان ولي للحجّاج بعض أعمال السواد. فلما قدم على الحجّاج قال له: يا شجرة، أرني إصبعك انظر إليها؛ قال: أصلح اللّه الأمير، و ما تصنع بها؟ قال: انظر إلى صفة الأعشى؛ فخجل شجرة. فقال الحجاج لحاجبه: مر المعطي أن يعطى الأعشى من عطاء شجرة كذا و كذا. يا شجرة، إذا أتاك امرؤ ذو حسب و لسان فاشتر عرضك منه.

أسبره الحجاج و ذكره بشعر قاله ليبكته ثم قتله:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد الأزديّ قال حدّثنا أحمد بن عمرو الحنفيّ عن جماعة - قال المبرّد: أحسب أن أحدهم مؤرّج بن عمرو السّدوسيّ - قالوا:

لما أتى الحجاج بن يوسف الثقفيّ بأعشى همدان أسيرا، قال: الحمد للّه الذي أمكن منك، أ لست القائل:

/

لمّا سفونا(3) للكفور الفتّان *** بالسيّد الغطريف عبد الرحمن(4)

سار بجمع كالقطا(5) من قحطان *** و من معدّ قد أتى ابن عدنان

أمكن ربّي من ثقيف همدان *** يوما إلى الليل يسلّي ما كان

إنّ ثقيفا منهم الكذّابان *** كذّابها الماضي و كذاب ثان

أ و لست القائل:

يا ابن الأشجّ(6) قريع كن *** دة لا أبالي فيك عتبا

أنت الرئيس ابن الرئي *** س و أنت أعلى الناس كعبا

نبّئت حجّاج بن يو *** سف خرّ من زلق فتبّا

فانهض فديت لعلّه *** يجلو بك الرحمن كربا

و ابعث عطيّة(7) في الخيو *** ل يكبّهنّ عليه كبّا

ص: 331


1- في ب، س: «دبر». و هو تصحيف.
2- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «وخزك».
3- كذا في أكثر الأصول. و سفا: خف و أسرع. و في ب، س: «سمونا».
4- ورد هذا الشعر في «الطبري» (ق 2 ص 1056) على غير هذا الترتيب و بزيادات كثيرة.
5- في «الطبري»: «كالدبى» و الدبى: الجراد.
6- الأشج: هو الأشعث بن قيس الكندي جد عبد الرحمن بن محمد المعني في هذا الشعر. و القريع: السيد.
7- هو عطية بن عمرو العنبري، و كان على مقدّمة جيوش عبد الرحمن بن الأشعث إلى العراق. و قد بعث إليه الحجاج بالخيل فجعل عطية لا يلقى خيلا إلا هزمها. فقال الحجاج من هذا؟ فقيل عطية. فذلك قول الأعشى: و ابعث عطية... إلخ.

كلاّ يا عدوّ اللّه، بل عبد الرحمن بن الأشعث هو الذي خرّ من زلق فتبّ، و حار و انكبّ، و ما/لقي ما أحب؛ و رفع بها صوته و اربدّ وجهه و اهتزّ منكباه، فلم يبق أحد في المجلس إلا أهمّته نفسه و ارتعدت فرائصه. فقال له الأعشى بل أنا القائل أيها الأمير:

/

أبى اللّه إلا أن يتم نوره *** و يطفئ نار الفاسقين فتخمدا

و ينزل ذلاّ بالعراق و أهله *** كما نقضوا(1) العهد الوثيق المؤكّدا

و ما لبث الحجاج أن سلّ سيفه *** علينا فولّى جمعنا و تبدّدا

و ما زاحف الحجاج إلا رأيته *** حساما ملقّى للحروب معوّدا

فكيف رأيت اللّه فرّق جمعهم *** و مزّقهم عرض البلاد و شرّدا

بما نكثوا من بيعة بعد بيعة *** إذا ضمنوها اليوم خاسوا(2) بها غدا

و ما أحدثوا من بدعة و عظيمة *** من القول لم تصعد إلى اللّه مصعدا

و لمّا دلفنا لابن يوسف ضلّة(3)*** و أبرق منا العارضان و أرعدا

قطعنا إليه الخندقين و إنما *** قطعنا و أفضينا إلى الموت مرصدا(4)

فصادمنا الحجاج دون صفوفنا *** كفاحا و لم يضرب لذلك موعدا

بجند أمير المؤمنين و خيله *** و سلطانه أمسى معانا مؤيّدا

ليهنئ أمير المؤمنين ظهوره *** على أمة كانوا بغاة و حسّدا

وجدنا بني مروان خير أئمة *** و أعظم هذا الخلق حلما و سؤددا

و خير قريش في قريش أرومة *** و أكرمهم إلاّ النبيّ محمدا

إذا ما تدبّرنا عواقب أمرنا *** وجدنا أمير المؤمنين المسدّدا

سيغلب قوما(5) غالبوا اللّه جهرة(6)*** و إن كايدوه كان أقوى و أكيدا

كذاك يضلّ اللّه من كان قلبه *** ضعيفا و من والى النفاق و ألحدا

/فقد تركوا الأموال و الأهل خلفهم *** و بيضا عليهن الجلابيب خرّدا(7)

ينادينهم مستعبرات إليهم *** و يذرين دمعا في الخدود و إثمدا

ص: 332


1- في «الطبري» (ق 2 ص 1114): «لما نقضوا». و فيه رواية أخرى في بعض نسخة أشير إليها في هامشه و هي: «بما نقضوا».
2- خاس: غدر و نكث.
3- الضلة (بالكسر): ضد الهدى.
4- مرصدا: مترقبا.
5- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «قوم».
6- كذا في «الطبري». و في م: «حيلة». و في سائر الأصول: «جهلة».
7- الخرد: جمع خريدة، و هو جمع نادر، لأن فعيلة لا تجمع على فعل، بل القياس: خرائد و خرد (بضمتين). و الخريدة من النساء البكر التي لم تمسس قط؛ و قيل: هي الحيية الطويلة السكوت الخافضة الصوت الخفرة المستترة قد جاوزت الإعصار و لم تعنس.

و إلا تناولهنّ منك برحمة *** يكن سبايا و البعولة أعبدا

تعطّف أمير المؤمنين عليهم *** فقد تركوا أمر السفاهة و الرّدى

لعلهم أن يحدثوا العام توبة *** و تعرف نصحا منهم و تودّدا

لقد شمت(1) يا ابن الأشعث العام مصرنا *** فظلّوا و ما لاقوا من الطير أسعدا

كما شاءم اللّه النّجير(2) و أهله *** بجدّك من قد كان أشقى و أنكدا

فقال من حضر من أهل الشام: قد أحسن أيها الأمير، فخلّ سبيله؛ فقال: أ تظنون أنه أراد المدح! لا و اللّه! لكنه قال هذا أسفا لغلبتكم إياه و أراد به أن يحرّض أصحابه. ثم أقبل عليه فقال له: أ ظننت يا عدوّ اللّه أنك تخدعني بهذا الشعر و تنفلت من يدي حتى تنجو! أ لست القائل! ويحك!.

و إذا سألت: المجد أين محلّه *** فالمجد بين محمد و سعيد

/بين الأغرّ و بين قيس باذخ *** بخ بخ لوالده و للمولود

/و اللّه لا تبخبخ بعدها أبدا. أ و لست القائل:

و أصابني قوم و كنت أصيبهم *** فاليوم أصبر للزمان و أعرف!

كذبت و اللّه، ما كنت صبورا و لا عروفا. ثم قلت بعده:

و إذا تصبك من الحوادث نكبة *** فاصبر فكل غيابة ستكشّف

أما و اللّه لتكوننّ نكبة لا تنكشف غيابتها عنك أبدا! يا حرسيّ، اضرب عنقه؛ فضرب عنقه.

و ذكر مؤرّج السّدوسيّ أن الأعشى كان شديد التحريض على الحجّاج في تلك الحروب، فجال أهل العراق جولة ثم عادوا، فنزل عن سرجه و نزعه عن فرسه، و نزع درعه فوضعها فوق السرج، ثم جلس عليها فأحدث و الناس يرونه، ثم أقبل عليهم فقال لهم: لعلكم أنكرتم ما صنعت! قالوا: أ و ليس هذا موضع نكير؟ قال: لا، كلّكم قد سلح في سرجه و درعه خوفا و فرقا، و لكنكم سترتموه و أظهرته؛ فحمي القوم و قاتلوا أشدّ قتال يومهم إلى الليل، و شاعت فيهم الجراح و القتلى، و انهزم أهل الشام يومئذ، ثم عاودوهم من غد و قد نكأتهم(3) الحرب؛ و جاء مدد من أهل الشام؛ فباكروهم القتال و هم مستريحون فكانت الهزيمة و قتل ابن الأشعث. و قد حكيت هذه الحكاية عن أبي كلدة(4) اليشكريّ أنه فعلها في هذه الوقعة، و ذكر ذلك أبو عمرو الشّيباني في أخبار أبي كلدة(4)، و قد ذكر ما حكاه مع أخباره في موضعه من هذا الكتاب.

ص: 333


1- رواية هذا البيت في الطبري هكذا: لقد شأم المصرين فرخ محمد بحق و ما لاقى من الطير أسعدا و لعل رواية الأصل كانت: «لقد شأمت» فسهلت الهمزة ثم حذفت. يقال: شأم فلان أصحابه يشأمهم إذا أصابهم شؤم من قبله.
2- النجير: حصن باليمن قرب حضر موت منيع، لجأ إليه أهل الردة مع الأشعث بن قيس في أيام أبي بكر رضي اللّه عنه فحاصره زياد بن لبيد البياضي حتى افتتحه عنوة و قتل من فيه و أسر الأشعث بن قيس و ذلك في سنة 12 للهجرة (راجع «معجم البلدان» لياقوت).
3- نكأ (بالهمز) لغة في نكى بمعنى أثخن و أكثر الجرح و القتل.
4- في جميع الأصول هنا: «ابن حلزة» و هو تحريف. و قد وردت هذه القصة في أخبار أبي كلدة اليشكري في الجزء العاشر من «الأغاني» (ص 110-120) طبع بولاق. و قد ذكر أبو كلدة هذا في «الشعر و الشعراء» و «الطبري» باسم: أبي جلدة (بالجيم) و ذكره «اللسان» في مادة: كلد (بالكاف) كما في «الأغاني».

5 - أخبار أحمد النّصبي و نسبه

نسبه، و هو مغن طنبوري كان ينادم عبيد اللّه بن زياد:

النّصبيّ هو صاحب الأنصاب. و أوّل من غنّى بها و عنه أخذ النّصب(1) في الغناء هو أحمد بن أسامة الهمداني، من رهط الأعشى الأدنين. و لم أجد نسبه متّصلا فأذكره. و كان يغني بالطّنبور في الإسلام. و كان، فيما يقال، ينادم عبيد اللّه بن زياد سرّا و يغنّيه. و له صنعة كثيرة حسنة لم يلحقها أحد من الطّنبوريّين و لا كثير ممّن يغنّي بالعود.

حديث جحظة عنه:

و ذكره جحظة في كتاب الطّنبوريين فأتى من ذكره بشيء ليس من جنس أخباره و لا زمانه، و ثلبه فيما ذكره.

و كان مذهبه - عفا اللّه عنا و عنه - في هذا الكتاب أن يثلب جميع من ذكره من أهل صناعته بأقبح ما قدر عليه، و كان يجب عليه ضدّ هذا، لأن من انتسب إلى صناعة، ثم ذكر متقدّمي أهلها، كان الأجمل به أن يذكر محاسن أخبارهم و ظريف قصصهم و مليح ما عرفه منهم لا أن يثلبهم بما لا يعلم و ما يعلم. فكان فيما قرأت عليه من هذا الكتاب أخبار أحمد النّصبي، و به صدّر كتابه فقال: أحمد النّصبي أوّل من غنّى الأنصاب على الطنبور و أظهرها و سيّرها؛ و لم يخدم خليفة و لا كان له شعر و لا أدب.

كان بخيلا مرابيا و مات بفالوذجة حارة:

و حدّثني جماعة من الكوفيّين أنه لم يكن بالكوفة أبخل منه مع يساره، و أنه(2) كان يقرض الناس بالرّبا(3)، و أنه اغتصّ في دعوة دعي إليها بفالوذجة حارّة فبلعها فجمعت/أحشاءه فمات. و هذا كلّه/باطل. أما الغناء فله منه صنعة في الثقيل الأول و خفيف الثقيل و الثقيل الثاني، ليس لكثير(4) أحد مثلها. منها الصوت الذي تقدّم ذكره و هو قوله:

حيّيا خولة منّي بالسلام

و منها:

سلبت الجواري حليهنّ فلم تدع *** سوارا و لا طوقا على النحر مذهبا

ص: 334


1- النصب: ضرب من الغناء أرق من الحداء.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «مع أنه كان... إلخ».
3- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «بعينة» و العينة (بالكسر): الربا.
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «لكبير» و هو تصحيف.

و هو من الثقيل الثاني، و الشعر للعديل بن الفرخ(1)، و قد ذكرت ذلك في أخباره(2).

و منها:

يا أيها القلب المطيع الهوى *** أنّى اعتراك الطّرب النازح

و هو أيضا من الثقيل الثاني، و أصوات(3) كثيرة نادرة تدل على تقدمه.

و أما ما وصفه من بخله و قرضه للناس بالرّبا و موته من فالوذجة حارة أكلها، فلا أدري من من الكوفيين حدّثه بهذا الحديث، ليس يخلو من أن يكون كاذبا، أو نحل هو هذه الحكاية و وضعها هنا، لأن أحمد النّصبي خرج مع أعشى همدان و كان قرابته و إلفه في عسكر ابن الأشعث، فقتل فيمن قتل. روى ذلك الثّقات من أهل الكوفة و العلم بأخبار الناس، و ذلك يذكر في جملة أخباره.

اتصاله بأعشى همدان و غناؤه بشعره في سليم بن صالح إذ نزلا عليه:

أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر و الحسين بن يحيى قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه، و ذكره العنزي في أخبار أعشى همدان المذكورة عنه عن رجاله المسمّين قال:

كان أحمد النّصبي مواخيا لأعشى همدان مواصلا له، فأكثر غنائه في أشعاره مثل صنعته في شعره:

حيّيا خولة منّي بالسلام

و

لمن الظّعائن سيرهن ترجّف

و

يا أيها القلب المطيع الهوى

و هذه الأصوات قلائد صنعته و غرر أغانيه. قال: و كان سبب قوله الشعر في سليم بن صالح بن سعد بن جابر العنبريّ - و كان منزل سليم ساباط(4) المدائن - أن أعشى همدان و أحمد النّصبيّ خرجا في بعض مغازيهما، فنزلا على سليم فأحسن قراهما و أمر لدوابّهما بعلوفة(5) و قضيم(6)، و أقسم عليهما أن ينتقلا إلى منزله ففعلا، فعرض عليهما الشراب فأنعما به و طلباه فوضعه بين أيديهما و جلسا يشربان؛ فقال أحمد النّصبي للأعشى: قل في هذا الرجل الكريم شعرا تمدحه به حتى أغنّي فيه؛ فقال الأعشى يمدحه:

ص: 335


1- كذا في ح و «الشعر و الشعراء» (ص 244) و «خزانة الأدب» (ح 2 ص 368)، و هو العديل بن الفرخ (بضم الفاء و سكون الراء و خاء معجمة) شاعر إسلامي في الدولة المروانية، و لقبه: العباب (بفتح العين المهملة و تشديد الموحدة الأولى)، و العباب: اسم كلبه. و في سائر الأصول: «للعديل بن الفرج» (بالجيم) و هو تصحيف.
2- تقع أخباره في (ح 20 ص 11-19 طبع بولاق).
3- في م، س: «و ذكرت أصوات... إلخ».
4- ساباط: موضع بالمدائن لكسرى أبرويز، و هو معرب: «بلاس أباد»، و بلاس: اسم رجل. و قد ذكره الأعشى في شعر له - يذكر النعمان بن المنذر و كان أبرويز قد حبسه بساباط ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة - منه: فذاك و ما أنجى من الموت ربه بساباط حتى مات و هو محرزق (الحرزقة: التضييق).
5- العلوفة (بالضم كما في «شرح القاموس»): جمع علف، و هو ما تطعمه الدواب.
6- كذا في ح. و القضيم: شعير الدابة. و في سائر الأصول: «قضم». و القضم (بضمتين) جمع قضيم بمعنى الأديم، و اسم الجمع: «قضم» (بفتحتين) عند سيبويه و قيل هو جمع أيضا، و لم تنص كتب اللغة على جمع للقضيم بمعنى الشعير.

/

يا أيها القلب المطيع الهوى *** أنّى اعتراك الطّرب النازح

تذكر جملا فإذا ما نأت *** طار شعاعا قلبك الطامح

هلاّ تناهيت و كنت امرأ *** يزجرك المرشد و النّاصح

مالك لا تترك جهل الصّبا *** و قد علاك الشّمط الواضح

فصار من ينهاك عن حبّها *** لم تر إلا أنه كاشح

يا جمل ما حبّي لكم زائل *** عنّي و لا عن كبدي نازح

حمّلت ودّا لكم خالصا *** جدّا إذا ما هزل المازح

ثم لقد طال طلابيكم *** أسعى و خير العمل النّاجح

إني توسّمت امرأ ماجدا *** يصدق في مدحته المادح

ذؤابة العنبر فاخترته *** و المرء قد ينعشه الصالح

/أبلج بهلولا(1) و ظنّي به *** أنّ ثنائي عنده رابح

سليم ما أنت بنكس(2) و لا *** ذمّك لي غاد و لا رائح

أعطيت ودّي و ثنائي معا *** و خلّة ميزانها راجح

أرعاك بالغيب و أهوى لك ال *** رّشد و جيبي(3) فاعلمن ناصح

إني لمن سالمت سلم و من *** عاديت أمسي و له ناطح

في الرأس منه و على أنفه *** من نقماتي ميسم لائح

نعم فتى الحيّ إذا ليلة *** لم يور فيها زنده القادح

/و راح بالشّول(4) إلى أهلها *** مغبرّة أذقانها(5) كالح(6)

و هبّت الريح شآمية *** فانجحر القابس و النابح

قد علم الحيّ إذا أمحلوا *** أنك رفّاد لهم مانح

في الليلة القالي قراها التي *** لا عابق فيها و لا صابح

فالضيف معروف له حقّه *** له على أبوابكم فاتح

ص: 336


1- البهلول: السيد الجامع لكل خير.
2- النكس (بالكسر): الضعيف الدنيء الذي لا خير فيه و المقصر عن غاية النجدة و الكرم.
3- كذا في أكثر الأصول. و الجيب: القلب و الصدر. يقال فلان ناصح الجيب أي أمين، و منه قول الشاعر: و خشنت صدرا جيبه لك ناصح و في ب، س: «و حبي».
4- الشول: جمع شائلة على غير قياس. و الشائلة من الإبل: ما أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فارتفع ضرعها و جف لبنها.
5- في ح: «أرقابها» و في أ، ء، م: «أذنابها».
6- الكالح: الأمر الشديد، و هو فاعل «راح».

و الخيل قد تعلم يوم الوغى *** أنّك من جمرتها ناضح(1)

قال: فغنّى أحمد النّصبيّ في بعض هذه الأبيات، و جارية لسليم في السطح، فسمعت الغناء، فنزلت إلى مولاها و قالت: إني سمعت من أضيافك شعرا ما سمعت أحسن منه؛ فخرج معها مولاها فاستمع حتى فهم، ثم نزل فدخل عليهما، فقال لأحمد: لمن هذا الشعر و الغناء؟ و من أنتما؟ فقال: الشعر لهذا، و هو أبو المصبّح أعشى همدان، و الغناء لي، و أنا أحمد النّصبيّ الهمداني؛ فانكبّ على رأس أعشى همدان فقبّله و قال: كتمتماني أنفسكما، وكدتما أن تفارقاني و لم أعرفكما، و لم أعلم خبركما، و احتبسهما شهرا ثم حملهما على فرسين، و قال: خلّفا عندي ما كان من دوابكما، و ارجعا من مغزاكما إليّ. فمضيا إلى مغزاهما، فأقاما حينا ثم انصرفا، فلما شارفا منزله قال أحمد للأعشى: إني أرى عجبا! قال: و ما هو؟ قال: أرى فوق قصر سليم ثعلبا؛ قال: لئن كنت صادقا فما بقي في القرية أحد. فدخلا القرية، /فوجدا سليما و جميع أهل القرية قد أصابهم الطاعون، فمات أكثرهم و انتقل باقيهم.

هكذا ذكر إسحاق، و ذكر غيره: أن الحجاج طالب سليما بمال عظيم، فلم يخرج منه حتى باع كل ما يملكه، و خربت قريته و تفرّق أهلها؛ ثم باعه الحجاج عبدا، فاشتراه بعض أشراف أهل الكوفة، إما أسماء بن خارجة و إما بعض نظرائه، فأعتقه.

نسبة هذا الصوت الذي قال الأعشى شعره و صنع أحمد النصبيّ لحنه في سليم
صوت

نسبة هذا الصوت الذي قال الأعشى شعره(2)و صنع أحمد النصبيّ لحنه في سليم

يا أيها القلب المطيع الهوى *** أنّى اعتراك الطرب النازح

تذكر جملا فإذا ما نأت *** طار شعاعا قلبك الطامح

/أعطيت ودّي و ثنائي معا *** و خلّة ميزانها راجح

إني تخيرت امرأ ماجدا *** يصدق في مدحته المادح

سليم ما أنت بنكس و لا *** ذمّك لي غاد و لا رائح

نعم فتى الحيّ إذا ليلة *** لم يور فيها زنده القادح

و راح بالشّول إلى أهلها *** مغبرّة أذقانها كالح

و هبّت الريح شآمية *** فانجحر القابس و النابح

الشعر لأعشى همدان. و الغناء لأحمد النّصبي، و لحنه ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق.

و ذكر يونس أن فيه لمالك لحنا و لسنان الكاتب لحنا آخر.

ص: 337


1- الجمرة: القبيلة فيها ثلاثمائة فارس، و قيل: ألف. أو هي كل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم لا يحالفون أحدا و لا ينضمون إلى أحد، تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لقراع القبائل كما صبرت عبس لقبائل قيس. و الناضح: المدافع الرامي.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «الذي قاله الأعشى في شعره... إلخ» و هو تحريف.
صوت من المائة المختارة

تنكّر من سعدى و أقفر من هند *** مقامهما بين الرّغامين(1) فالفرد(2)

محلّ لسعدى طالما سكنت به *** فأوحش ممن كان يسكنه بعدي

الشعر لحمّاد الراوية. و الغناء لعبادل، و لحنه المختار من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، ذكر(3) الهشاميّ أنه للهذليّ، و ذكر عمرو بن بانة أنه لعبادل بن عطيّة(4).

ص: 338


1- الرغام: اسم رملة بعينها من نواحي اليمامة بالوشم، و قد ثناه الشاعر لضرورة الشعر.
2- كذا في ح، ب، س. و الفرد: موضعان. أحدهما (بفتح الفاء): جبل من جبلين يقال لهما الفردان في ديار سليم بالحجاز. و الآخر (بالكسر): موضع عند بطن إياد من ديار يربوع. و الظاهر أن كلا الموضعين ليس مرادا هنا لبعد ما بينهما و بين الرغام. و في سائر الأصول: «بالقرد» (بالقاف) و لم نعثر في المظان التي بين أيدينا على موضع بهذا الاسم، و الظاهر أنه اسم موضع قريب من الرغامين.
3- في جميع الأصول: «و ذكر» بزيادة الواو.
4- في جميع الأصول هنا: «عقبة» و هو تحريف. و ستأتي ترجمته في هذا الجزء بعد قليل.

6 - أخبار حماد الراوية و نسبه

نسبه و ولاؤه و علمه بأخبار العرب و أيامها:

هو حمّاد بن ميسرة، فيما ذكره الهيثم بن عديّ، و كان صاحبه و راويته و أعلم الناس به، و زعم أنه مولى [بني](1) شيبان. و ذكر المدائنيّ و القحذميّ أنه حماد بن سابور، و كان من أعلم الناس بأيام العرب و أخبارها و أشعارها و أنسابها و لغاتها. و كانت ملوك بني أمية تقدّمه و تؤثره و تستزيره، فيفد عليهم و ينادمهم و يسألونه عن أيام العرب و علومها و يجزلون صلته.

حدّثنا محمد بن العبّاس اليزيديّ و عمّي و إسماعيل العتكيّ قالوا حدّثنا الرّياشيّ قال:

قال الأصمعيّ: كان حمّاد أعلم الناس إذا نصح. قال و قلت لحماد: ممن أنتم؟ قال: كان أبي من سبى سلمان بن ربيعة، فطرحتنا(2) سلمان(3) لبني شيبان، فولاؤنا لهم. قال: و كان أبوه يسمّى ميسرة، و يكنى أبا ليلى.

قال العتكيّ في خبره: قال الرّياشيّ: و كذلك ذكر الهيثم بن عديّ في أمر حمّاد.

سأله الوليد عن سبب تلقيبه بالراوية فأجابه:

أخبرني عمي قال حدّثني الكراني قال حدّثنا العمري عن العتبيّ و الهيثم بن عديّ و لقيط(4) قالوا:

/قال الوليد بن يزيد لحمّاد الراوية: بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الراوية؟ فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لم تعرفه و لم تسمع به، ثم لا أنشد شعرا قديما و لا(5) محدثا إلا ميّزت القديم منه من المحدث؛ فقال: إنّ هذا لعلم و أبيك كثير(6)! فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثيرا، و لكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة/قصيدة كبيرة سوى المقطّعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام؛ قال: سأمتحنك في هذا، و أمره بالإنشاد؛ فأنشد الوليد حتى ضجر، ثم وكّل به من استحلفه أن يصدقه عنه و يستوفى عليه؛ فأنشده ألفين و تسعمائة قصيدة للجاهليين، و أخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم.

ص: 339


1- زيادة عن ح و «مختار الأغاني» و «تجريد الأغاني».
2- في ب، س: «فطوحتنا».
3- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «سهمان» و هو تحريف.
4- هو أبو هلال لقيط بن بكر المحاربي الكوفي من بني محارب، من الرواة للعلم المصنفين للكتب، و كان شاعرا سيّئ الخلق، عاش إلى سنة تسعين و مائة، و له من الكتب: «كتاب السمر»، و «كتاب الحراب و اللصوص»، و «كتاب أخبار الجن». (راجع «فهرست ابن النديم» ص 94 طبع أوروبا).
5- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «شعرا لقديم و لا محدث».
6- كذا في «تجريد الأغاني» و «مختار الأغاني». و في الأصول: «كبير» (بالباء الموحدة) و هو تصحيف.
ما كان بينه و بين مروان بن أبي حفصة في حضرة الوليد:

أخبرني يحيى بن عليّ المنجّم قال حدّثني أبي قال حدّثني إسحاق الموصليّ عن مروان بن أبي حفصة، و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أبو بكر العامريّ عن الأثرم(1) عن مروان بن أبي حفصة قال:

دخلت أنا و طريح بن إسماعيل الثّقفي و الحسين بن مطير الأسدي في جماعة من الشعراء على الوليد بن يزيد و هو في فرش قد غاب فيها، و إذا رجل عنده، كلّما أنشد شاعر شعرا، وقف الوليد بن يزيد على بيت بيت من شعره و قال: هذا أخذه من موضع كذا و كذا، و هذا المعنى نقله من موضع كذا و كذا من شعر فلان، حتى أتى على أكثر الشعر؛ فقلت: من هذا؟ فقالوا: حمّاد الراوية. فلما وقفت بين يدي/الوليد أنشده قلت: ما كلام هذا في مجلس أمير المؤمنين و هو لحنة لحّانة؛ فأقبل الشيخ عليّ و قال: يا ابن أخي، إني رجل أكلّم العامة فأتكلم بكلامها، فهل تروي من أشعار العرب شيئا؟ فذهب عنّي الشعر كله إلا شعر ابن مقبل؛ فقلت له: نعم، شعر ابن مقبل؛ قال:

أنشد، فأنشدته قوله:

سل الدار من جنبي حبرّ فواهب *** إذا ما رأى هضب القليب المضيّح(2)

ثم جزت؛ فقال لي: قف فوقفت؛ فقال لي: ما ذا يقول؟ فلم أدر ما يقول! فقال لي حماد: يا ابن أخي، أنا أعلم الناس بكلام العرب. يقال: تراءى الموضعان إذا تقابلا.

سأل الهيثم بن عديّ عن معنى شعر فعجز:

حدّثني عمّي قال حدّثني الكراني عن العمري عن الهيثم بن عديّ قال:

قلت لحماد الراوية يوما: ألق عليّ ما شئت من الشعر أفسّره لك؛ فضحك و قال لي: ما معنى قول ابن مزاحم(3) الثّماليّ:

تخوّف السير منها تامكا قردا *** كما تخوّف عود النّبعة السّفن(4)؟

/فلم أدر ما أقول؛ فقال: تخوّف: تنقّص. قال اللّه عزّ و جلّ: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلىٰ تَخَوُّفٍ أي على تنقّص.

قال الهيثم: ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حمّاد.

ص: 340


1- هو أبو الحسن علي بن المغيرة صاحب الأصمعي و أبي عبيدة، روى عن جماعة من العلماء و عن فصحاء العرب، و توفي سنة ثلاثين و مائتين. (راجع «فهرست ابن النديم» ص 56 طبع أوروبا).
2- كذا في «معجم ما استعجم». و حبر (بكسر أوّله و ثانيه و بالراء المهملة المشدّدة): جبل لبني سليم و كذلك واهب. و هضب القليب: ماء لبني قنفذ من بني سليم، و هناك فتلت بنو قنفذ المقصص العامري. و المضيح (بضم أوّله و فتح ثانيه و تشديد الياء المثناة المفتوحة بعدها حاء مهملة): ماء لبني البكاء. و قد ورد هذا البيت في الأصول محرّفا هكذا: سلى الدار من خنبيّ خبير فذاهب إذا ما رأى هضب القليب المصبح
3- كذا في «مختار الأغاني» و هامش «لسان العرب» (مادة سفن). و في جميع الأصول: «مزاحم». و قد نسب هذا البيت لذي الرمة كما نسب لابن مقبل و لعبد اللّه بن عجلان النهدي. (راجع «اللسان» و «الصحاح» مادتي سفن و خوف).
4- التامك: السنام. و القرد: المتلبد الصوف. و السفن: الحديدة التي تبرد بها القسيّ. و رواية هذا البيت في «الصحاح» (مادتي سفن و خوف): تخوف الرحل منها...... ظهر النبعة السفن
كذب الفرزدق في شعر نسبه لنفسه فأقر:

حدّثني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني الكرانيّ محمد بن سعد عن النّضر بن عمرو عن الوليد بن هشام عن أبيه قال:

أنشدني الفرزدق و حماد الراوية حاضر:

و كنت كذئب السّوء لمّا رأى دما *** بصاحبه يوما أحال(1) على الدم

فقال له حماد: آنت تقوله؟ قال: نعم؛ قال: ليس الأمر كذلك، هذا لرجل من أهل اليمن؛ قال: و من يعلم هذا غيرك! أ فأردت(2) أن أتركه و قد نحلنيه الناس و رووه لي لأنك تعلمه وحدك و يجهله الناس جميعا غيرك!.

كان هو و أبو عمرو كل منهما يقدم الآخر على نفسه:

حدّثني(3) محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني الفضل قال حدّثني ابن النّطّاح قال حدّثني أبو عمرو الشّيباني قال:

ما سألت أبا عمرو بن العلاء قطّ عن حمّاد الراوية إلا قدّمه على نفسه، و لا سألت حمّادا عن أبي عمرو إلا قدّمه على نفسه.

هو أحد الحمادين الثلاثة:

حدّثنا إبراهيم بن أيّوب عن عبد اللّه بن مسلم، و ذكر عبد اللّه بن مسلم عن الثّقفيّ/عن إبراهيم بن عمر [و](4) العامري قالا:

/كان بالكوفة ثلاثة نفر يقال لهم الحمّادون: حماد عجرد، و حماد بن الزّبرقان، و حماد الراوية، يتنادمون على الشراب و يتناشدون الأشعار و يتعاشرون معاشرة جميلة، و كانوا كأنهم نفس واحدة، و كانوا يرمون بالزندقة جميعا.

كان بخيلا فداعبه مطيع و ابن زياد عن سراجه:

أخبرني الحسن(5) بن يحيى المرداسيّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

دخل مطيع بن إياس و يحيى بن زياد على حماد الراوية، فإذا سراجه على ثلاث قصبات(6) قد جمع أعلاهنّ و أسفلهنّ بطين، فقال له يحيى بن زياد: يا حماد، إنك لمسرف مبتذل لحرّ المتاع؛ فقال له مطيع: أ لا تبيع هذه المنارة و تشتري أقلّ ثمنا منها و تنفق علينا و على نفسك الباقي و تتّسع به؟ فقال له يحيى: ما أحسن ظنّك به! و من أين له مثل هذه؟ إنما هي وديعة أو عارية؛ فقال له مطيع: أما إنه لعظيم الأمانة عند الناس! قال له يحيى: و على

ص: 341


1- أحال على الدم: أقبل عليه.
2- في ب، س: «فأردت».
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «قال حدّثني».
4- زيادة عن م. و لا تستقيم العبارة بغير هذه الزيادة.
5- في جميع الأصول هنا: «الحسن»، و قد مر في أكثر من موضع من الأجزاء السابقة باسم «الحسين» و في القليل منها باسم «الحسن» و لم نوفق إلى تصويبه.
6- في ح: «قضبات» (بالضاد المعجمة): جمع قضبة و هي القضيب أو القدح من نبع يجعل منه سهم.

عظيم أمانته فما أجهل من يخرج مثل هذه من داره و يأمن عليها غيره! قال مطيع: ما أظنها عارية و لا وديعة و لكني أظنها مرهونة عنده على مال، و إلا فمن يخرج هذه من بيته! فقال لهما حماد: قوما عني يا بني الزانيتين و اخرجا من منزلي، فشرّ منكما من يدخلكما بيته.

كان منقطعا ليزيد فجفاه هشام و لما ولي الخلافة كتب ليوسف بن عمر بإرساله ليسأله عن شعر و أكرمه:

حدّثني الحسن بن علي قال حدّثنا أحمد بن عبيد و أبو عصيدة قال حدّثني محمد بن عبد الرحمن العبدي عن حميد بن محمد الكوفي عن إبراهيم بن عبد الرحمن القرشي عن محمد بن أنس، و أخبرني الحسين(1) بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الرواية، و خبر حمّاد بن إسحاق أتمّ و اللفظ له.

/قال حماد الراوية: كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك، فكان هشام يجفوني لذلك دون سائر أهله من بني أمية في أيام يزيد، فلما مات يزيد و أفضت الخلافة إلى هشام خفته، فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سرّا؛ فلما لم أسمع أحدا يذكرني سنة أمنت فخرجت فصلّيت الجمعة، ثم جلست عند باب الفيل فإذا شرطيّان قد وقفا عليّ فقالا لي: يا حمّاد، أجب الأمير يوسف(2) بن عمر؛ فقلت في نفسي: من هذا كنت أحذر، ثم قلت للشّرطيّين: هل لكما أن تدعاني آتي أهلي فأودّعهم وداع من لا ينصرف إليهم أبدا ثم أصير معكما إليه؟ فقالا:

ما إلى ذلك من سبيل. فاستسلمت في أيديهما و صرت إلى يوسف بن عمر و هو في الإيوان(3) الأحمر، فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام، و رمى إليّ كتابا فيه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. من عبد اللّه هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر، أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مروّع و لا متعتع، و ادفع إليه خمسمائة دينار و جملا مهريا(4) يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق». فأخذت الخمسمائة الدينار، و نظرت فإذا جمل مرحول، فوضعت/رجلي في الغرز(5) و سرت اثنتي عشرة ليلة حتى وافيت باب هشام، فاستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء(6) مفروشة بالرّخام، و هو في مجلس مفروش بالرخام، و بين كل رخامتين قضيب ذهب، و حيطانه كذلك، و هشام جالس على طنفسة حمراء و عليه ثياب خزّ حمر و قد تضمّخ بالمسك و العنبر، و بين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب يقلّبه بيده فتفوح روائحه، /فسلّمت فردّ عليّ، و استدناني فدنوت حتى قبّلت رجله، و إذا جاريتان لم أر قبلهما مثلهما، في أذني كلّ واحدة منهما حلقتان من ذهب فيهما لؤلؤتان تتوقّدان؛ فقال لي:

ص: 342


1- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «الحسن». (راجع الحاشية الأولى من هذه الصفحة).
2- يستبعد أن تكون هذه القصة مع يوسف بن عمر الثقفي لأنه لم يكن واليا بالعراق في التاريخ المذكور بل كان متوليه إذ ذاك خالد بن عبد اللّه القسري. لأن هشاما تولى الخلافة لليال بقين من شعبان سنة 105 ه. و الخبر صريح في أن هذه الحادثة وقعت بعد عام من تولي هشام الخلافة و كان الوالي على العراق حينذاك القسري لا الثقفي، لأن هشاما عزل عمر بن هبيرة عن العراق و ولى مكانه خالدا في شوّال سنة 105 ه، و بقي خالد واليا عليه حتى سنة 120 ه و هي السنة التي عزله فيها عنه هشام و ولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي. (راجع ابن خلكان - في ترجمتي حماد و خالد - و الطبري ق 2 ص 1466).
3- الإيوان: الصفة العظيمة كالأزج و هو البيت يبنى طولا.
4- المهرية من الإبل: نسبة إلى مهرة بن حيدان و هو حي من قضاعة من عرب اليمن، و هي نجائب تسبق الخيل، و قيل: إنها لا تعدل بها شيء في سرعة جريانها، و من غريب ما ينسب إليها أنها تفهم ما يراد منها بأقل أدب تعلمه، و لها أسماء إذا دعيت بها أجابت سريعا.
5- الغرز: ركاب الرحل من جلد، فإذا كان من خشب أو من حديد فهو ركاب.
6- قوراء: واسعة.

كيف أنت يا حماد و كيف حالك؟ فقلت بخير يا أمير المؤمنين؛ قال: أ تدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا؛ قال: بعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر من قاله؛ قلت: و ما هو؟ فقال:

فدعوا بالصّبوح يوما فجاءت *** قينة في يمينها إبريق

قلت: هذا يقوله عديّ بن زيد في قصيدة له؛ قال: فأنشدنيها، فأنشدته:

بكر العاذلون في وضح الصب *** ح يقولون لي أ لا تستفيق

و يلومون فيك يا ابنة عبد اللّ *** ه و القلب عندكم موهوق(1)

لست أدري إذ أكثروا العذل عندي *** أ عدوّ يلومني أو صديق

زانها حسنها و فرع عميم *** و أثيث صلت الجبين أنيق(2)

و ثنايا مفلّجات عذاب *** لا قصار ترى و لا هنّ روق(3)

فدعوا بالصّبوح يوما فجاءت *** قينة في يمينها إبريق

/قدّمته على عقار كعين ال *** ديك صفّى سلافها الرّاووق(4)

مرّة قبل مزجها فإذا ما *** مزجت لذّ طعمها من يذوق

و طفت فوقها فقاقيع كالد *** رّ صغار يثيرها التّصفيق

ثم كان المزاج ماء سماء *** غير ما آجن و لا مطروق

قال: فطرب، ثم قال: أحسنت و اللّه يا حمّاد، يا جارية اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي. و قال: أعد، فأعدت، فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للجارية الأخرى: اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي.

فقلت: إن سقتني الثالثة افتضحت، فقال: سل حوائجك، فقلت: كائنة ما كانت؟ قال: نعم؛ قلت: إحدى الجاريتين؛ فقال لي: هما جميعا لك بما عليهما و ما لهما، ثم قال للأولى: اسقيه، فسقتني شربة سقطت معها، فلم أعقل حتى أصبحت فإذا بالجاريتين عند رأسي، و إذا عدّة من الخدم مع كل واحد منهم بدرة، فقال لي أحدهم:

أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام و يقول لك: خذ هذه فانتفع بها، فأخذتها و الجاريتين و انصرفت. هذا لفظ حمّاد عن أبيه. و لم يقل أحمد بن عبيد في خبره أنه سقاه شيئا، و لكنّه ذكر أنه طرب لإنشاده، و وهب له الجاريتين لمّا طلب إحداهما، و أنزله في دار، ثم نقله من غد إلى منزل أعدّه له، فانتقل إليه فوجد فيه الجاريتين و ما لهما و كلّ ما يحتاج إليه، و أنه أقام عنده مدّة فوصل إليه مائة ألف درهم، و هذا هو الصحيح؛ لأن هشاما لم يكن يشرب و لا يسقي أحد بحضرته مسكرا، و كان ينكر ذلك و يعيبه و يعاقب عليه.

/في أبيات عديّ المذكورة في هذا الخبر غناء، نسبته:

ص: 343


1- الموهوق: المشدود بالوهق، و هو الحبل المغار يرمى فيه أنشوطة فتؤخذ فيه الدابة و الإنسان.
2- الفرع: الشعر. و الأثيث: الكثير، يطلق على الشعر و على البدن الممتلئ اللحم، و هو المراد هنا. و الصلت: الواضح.
3- روق: طوال.
4- الراووق: المصفاة و ناجود الشراب الذي يروق فيه. و الناجود: الوعاء.
صوت

بكر العاذلون في وضح الصب *** ح يقولون ما له لا يفيق

/و يلومون فيك يا ابنة عبد اللّ *** ه و القلب عندكم موهوق

ثم نادوا إلى الصّبوح فقامت *** قينة في يمينها إبريق

قدّمته على عقار كعين الدّ *** يك صفّى سلافها الراووق

في البيتين الأوّلين لحن من الثقيل الأوّل مختلف في صانعه، نسبه يحيى بن المكيّ إلى معبد، و نسبه الهشاميّ إلى حنين. و في الثالث و هو «ثم نادوا» و الرابع لعبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ رمل، و فيهما خفيف رمل ينسب إلى مالك و خفيف ثقيل، ذكر(1) حبش أنه لحنين.

أجازه يوسف بن عمر بأمر الوليد و أرسله إليه مكرما:

أخبرني(2) محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الأصمعيّ قال:

قال حماد الراوية: كتب الوليد بن يزيد و هو خليفة إلى يوسف بن عمر: احمل إليّ حمادا الراوية على ما أحبّ من دواب البريد، و أعطه عشرة آلاف درهم معونة له؛ فلما أتاه الكتاب و أنا عنده نبذه إليّ، فقلت: السمع و الطاعة، فقال: يا دكين بن شجرة، أعطه عشرة آلاف درهم، فأخذتها. فلما كان اليوم الذي أردت الخروج فيه أتيت يوسف مودّعا، فقال: يا حماد، أنا بالموضع الذي قد عرفت من أمير المؤمنين، و لست مستغنيا عن ثنائك، فقلت: أصلح اللّه الأمير: / «إنّ العوان لا تعلّم الخمرة»(3). فخرجت حتى أتيت الوليد بن يزيد و هو بالبخراء(4)، فاستأذنت فأذن لي، فإذا هو على سرير ممهّد و عليه ثوبان: إزار و رداء يقيئان الزعفران قيئا، و إذا عنده معبد و مالك و أبو كامل مولاه، فتركني حتى سكن جأشي، ثم قال: أنشدني:

أ من المنون و ريبها تتوجّع

فأنشدته إيّاها حتى أتيت على آخرها. فقال لساقيه: اسقه يا سبرة أكؤسا، فسقاني ثلاث أكؤس خدّرت ما بين الذؤابة و النعل. ثم قال: يا معبد غنّني:

ألا هل جاءك الأظعا *** ن إذ جاوزن مطلحا(5)

فغنّاه. ثم قال: غنني:

ص: 344


1- في جميع الأصول: «و ذكر» و لا تستقيم العبارة بزيادة الواو.
2- وردت هذه القصة في أخبار ابن عائشة في الجزء الثاني من هذه الطبعة مع اختلاف يسير.
3- العوان: النصف في سنها. و الخمرة: من الاختمار اسم هيئة. و هذا مثل يضرب للرجل المجرب الذي لا يحتاج إلى أن يعلم كيف يفعل.
4- كذا في أكثر الأصول. و هي مائة منتنة على ميلين من القليعة في طرف الحجاز. و في سائر الأصول: «النجراء» (بنون بعدها جيم) و هو تصحيف.
5- قال ياقوت في «معجمه» في الكلام على مطلخ: «هو موضع في قوله: و قد جاوزن مطلحا و لم يتعرض له بأكثر من هذا و لم نجده في غيره من المظان.

أ تنسى(1) إذ تودّعنا سليمى *** بفرع بشامة، سقي البشام(2)

فغنّى. ثم قال: غنني:

جلا أميّة عنّا كلّ مظلمة *** سهل الحجاب و أوفى بالذي وعدا

/فغنّاه. ثم قال: اسقني يا غلام بزبّ فرعون، فأتاه بقدح معوجّ فيه طول فسقاه به عشرين قدحا. ثم أتاه الحاجب فقال: أصلح اللّه أمير المؤمنين، الرجل الذي طلبت بالباب؛ فقال: أدخله، فدخل غلام شابّ لم أر أحسن منه وجها(3) في رجله فدع(4)، فقال: يا سبرة اسقه كأسا، فسقاه، ثم قال له: غنني:

و هي إذ ذاك عليها مئزر *** و لها بيت جوار من لعب

فغنّاه، فنبذ إليه أحد ثوبيه، ثم قال: غنني:

طرق الخيال فمرحبا *** ألفا برؤية زينبا

فغضب معبد و قال: يا أمير المؤمنين، إنا مقبلون إليك بأقدارنا و أسناننا، و إنك تتركنا بمزجر الكلب و أقبلت على هذا الصبي؛ فقال: و اللّه يا أبا عبّاد ما جهلت قدرك و لا سنّك، /و لكن هذا الغلام طرحني على مثل الطّياجن(5) من حرارة غنائه. فسألت عن الغلام؟ فإذا هو ابن عائشة.

كان في حانة فطلبه المنصور فجاءه و أنشده من شعر هفان بن همام:

حدّثني الحسن بن محمد المادرانيّ الكاتب قال حدّثني الرياشيّ عن العتبيّ، و أخبرني به هاشم بن محمد عن الرياشي - و ليس خبره بتمام هذا - قال:

طلب المنصور حمّادا الراوية، فطلب ببغداد فلم يوجد، و سئل عنه إخوانه فعرّفوا من سألهم عنه أنه بالبصرة، فوجّهوا إليه برسول يشخصه. قال الرسول: فوجدته في حانة و هو عريان يشرب نبيذا من إجّانة(6) و على سوأته رأس دستجة(7)، فقلت: أجب أمير المؤمنين. فما رأيت رسالة أرفع و لا حالة أوضع من/تلك. فأجاب، فأشخصته إليه. فلما مثل بين يديه، قال له: أنشدني شعر هفّان بن همّام بن نضلة يرثي أباه؛ فأنشده:

خليل عوجا إنها حاجة لنا *** على قبر همّام سقته الرواعد

على قبر من يرجى نداه و يبتغى *** جداه إذا لم يحمد الأرض رائد

ص: 345


1- ورد صدر هذا البيت في «اللسان» مادة «بشم» هكذا: أتذكر يوم تصقل عارضيها و صدر هذا البيت في التهذيب: أتذكر إذ تودعنا سليمى
2- البشام: شجر طيب الريح و الطعم يستاك به. يعني بالبيت أنها أشارت بسواكها فكان ذلك وداعها و لم تتكلم خيفة الرقباء.
3- في ب، س: «لم أر... وجها من رجل في رجله... إلخ» و لا يستقيم الكلام بهذه الزيادة.
4- الفدع: عوج و ميل في المفاصل كلها خلقة أو داء.
5- كذا في أكثر الأصول. و الطياجن: الطوابق يقلي عليها. و في ب، س: «الطناجير» و هو تحريف.
6- الإجانة: آنية تغسل فيها الثياب.
7- كذا في أ، ء. و الدستجة»: الإناء الكبير من الزجاج معرب: «دستة» و في ح، م: «دسيتجة» (بالتصغير). و في ب، س: «دستيجة» و لعلها محرفة عما في ح، م.

كريم النّثا(1) حلو الشمائل بينه *** و بين المزجّى نفنف متباعد(2)

إذا نازع القوم الأحاديث لم يكن *** عييّا و لا ثقلا على من يقاعد

صبور على العلاّت يصبح بطنه *** خميصا و آتيه على الزاد حامد

وضعنا الفتى كلّ الفتى في حفيرة *** بحرّين(3) قد راحت عليه العوائد

صريعا كنصل السيف تضرب حوله *** ترائبهنّ المعولات الفواقد(4)

قال: فبكى أبو جعفر حتى أخضل لحيته، ثم قال: هكذا كان أخي أبو العباس رضي اللّه عنه.

ذكره ابن إياس لابن الكردية فطلبه و استنشده فأنشده شعرا أغضبه فضربه:

أخبرني الحسين(5) بن يحيى المرداسيّ قال حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال:

كان جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكرديّة يستخفّ مطيع بن إياس و يحبه، و كان منقطعا إليه و له معه منزلة حسنة، فذكر له حمادا الراوية، /و كان صديقه، و كان مطّرحا مجفوّا في أيامهم، فقال: ائتنا به لنراه.

فأتى مطيع حمّادا فأخبره بذلك و أمره بالمسير معه إليه؛ فقال له حماد: دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية و مالي عند هؤلاء خير، فأبى مطيع إلاّ الذهاب إليه، فاستعار حماد سوادا و سيفا ثم أتاه، ثم مضى به مطيع إلى جعفر. فلما دخل عليه سلّم عليه سلاما حسنا و أثنى عليه و ذكر فضله؛ فردّ عليه و أمره بالجلوس فجلس. فقال جعفر: أنشدني؛ فقال: لمن أيها الأمير؟ أ لشاعر بعينه أم لمن حضر؟ قال: بل أنشدني لجرير. قال حمّاد: فسلخ و اللّه شعر جرير كلّه من قلبي إلا قوله:

بان الخليط برامتين(6) فودّعوا *** أو كلّما اعتزموا(7) لبين تجزع

فاندفعت فأنشدته إياه، حتى انتهيت إلى قوله:

و تقول بوزع قد دببت على العصا *** هلاّ هزئت بغيرنا يا بوزع

قال حماد: فقال لي جعفر: أعد هذا البيت، فأعدته؛ فقال: بوزع، أيّ شيء هو؟ فقلت: اسم امرأة؛ فقال:

امرأة اسمها بوزع! هو بريء من اللّه و رسوله و نفيّ من العباس بن عبد المطلب إن كانت بوزع إلا غولا من الغيلان! تركتني و اللّه يا هذا لا أنام الليلة من فزع بوزع؛ /يا غلمان! قفاه؛ فصفعت و اللّه حتى لم أدر أين أنا؛ ثم قال: جرّوا

ص: 346


1- النثا (بالتحريك و القصر): ما أخبرت به عن الرجل من حسن أو سيّئ. و في الأصول: «الثنا».
2- المزجى: الضعيف. و سمى مزجى لتأخره و حاجتهم إلى تزجيته و استحثاثه فيما يعن. و النفنف: المهواة بين الجبلين.
3- كذا في ب، س. و حرين (بالضم ثم الكسر و التشديد و آخره نون): بلد قرب آمد. و في سائر الأصول: «بجوءين» و لم نجد بلدا بهذا الاسم في المظان التي بين أيدينا.
4- الترائب: عظام الصدر، واحدها تريبة. و الفواقد: من فقدن أزواجهن أو أولادهن.
5- في جميع الأصول هنا: «الحسين» و يلاحظ أن هذا الاسم ورد مضطربا فيما مر من الكتاب بين: «الحسن» و «الحسين» و لم نوفق إلى مرجع نرجح به إحدى الروايتين.
6- رامتين: تثنية رامة، و كثير من أسماء المواضع يأتي في الشعر مفردا و مثنى و مجموعا فحسب الضرورة الشعرية. و رامة: منزل بينه و بين الرمادة ليلة في طريق البصرة إلى مكة و منه إلى إمرة. و هي آخر بلاد بني تميم، و بين رامة و بين البصرة اثنتا عشرة مرحلة، و قيل هي هضبة أو جبل لبني دارم.
7- في «النقائض» (ص 961 طبع أوروبا): «رفعوا». و رفع القوم: أصعدوا في البلاد.

برجله: فجرّوا برجلي حتى أخرجت من بين يديه مسحوبا، فتخرّق السواد و انكسر جفن السيف و لقيت شرا عظيما مما جرى عليّ؛ و كان أغلظ من ذلك كلّه و أشدّ بلاء إغرامي ثمن السّواد و جفن السيف؛ فلما/انصرفت أتاني مطيع يتوجّع لي؛ فقلت له: أ لم أخبرك أني لا أصيب منهم خيرا و أنّ حظّي قد مضى مع بني أمية!.

حديثه مع مأبون:

حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال:

بلغني أن رجلا تحدّث في مجلس حماد الراوية فقال: بلغني أن المأبون له رحم كرحم المرأة - قال: و كان الرجل يرمى بهذا الداء - فقال حماد لغلامه: اكتب هذا الخبر عن الشيخ، فإن خير العلم ما حمل عن أهله.

كتب إلى بعض الأشراف شعرا يسأله جبة فأرسلها إليه:

قال: و كتب حماد الراوية إلى بعض الأشراف الرؤساء قال:

إن لي حاجة فرأيك فيها *** لك نفسي فدّى من الأوصاب

و هي ليست مما يبلّغها(1) غي *** ري و لا يستطيعها في كتاب

غير أنّي أقولها حين ألقا *** ك رويدا أسرّها في حجاب

فكتب إليه الرجل: اكتب إليّ بحاجتك و لا تشهرني بشعرك؛ فكتب إليه حماد:

إنني عاشق لجبّتك الدّك *** ناء عشقا قد حال دون الشراب

فاكسنيها فدتك نفسي و أهلي *** أتباهى بها على الأصحاب

و لك اللّه و الأمانة أن أج *** علها عمرها أمير ثيابي

فبعث إليه بها. و قد رويت هذه القصة لمطيع بن إياس.

هو و الخزيمي و غلام أمرد:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني أبو يعقوب الخزيميّ(2) قال:

/كنت في مجلس فيه حماد عجرد و حماد الرواية و معنا غلام أمرد، فنظر إليه حماد الراوية نظرا شديدا و قال لي: يا أبا يعقوب، قد عزمت الليلة على أن أدبّ على هذا الغلام؛ فقلت: شأنك به؛ ثم نمنا، فلم أشعر بشيء إلا و حماد ينيكني، و إذا أنا قد غلطت و نمت في موضع الغلام، فكرهت أن أتكلّم فينتبه الناس فأفتضح و أبطل عليه ما أراد، فأخذت بيده فوضعتها على عيني العوراء ليعرفني؛ فقال: قد عرفت الآن، فيكون ما ذا! و فديناه بذبح عظيم.

قال: و ما برح(3) علم اللّه و أنا أعالجه جهدي فلا ينفعني حتى أنزل.

ص: 347


1- كذا في «مختار الأغاني» و «تجريد الأغاني». و في الأصول: «يبلغه».
2- الخزيمي: هو إسحاق بن حسان، و يكنى أبا يعقوب. و قد ورد في «الشعر و الشعراء» باسم الخريمي (بالراء). و الظاهر أن هذه الرواية أصح لأنه كان مولى ابن خريم الذي يقال لأبيه: خريم الناعم و هو خريم بن عمرو من بني مرة (راجع «الشعر و الشعراء» ص 542 طبع ليدن و الكامل للمبرد ص 328 طبع أوروبا).
3- في جميع الأصول: «قال: و ما علم اللّه برح... إلخ» و هو خطأ يحتمل أن يكون من الناسخ، إذ لا يصح الفصل بين ما النافية و الأفعال الناقصة، لأن ما لما لزمت هذه الأفعال و صارت معها بمعنى الإثبات صارت كجزئها.
أهدى إلى صديق له غلاما:

قال إسحاق:

و أهدى حماد إلى صديق له غلاما و كتب إليه: قد بعثت إليك غلاما تتعلم عليه كظم الغيظ.

ستهدي نبيذا من صديق له فأجابه:

قال:

و استهدى من صديق له نبيذا فأهدى إليه دسيتجة نبيذ. فكتب إليه: لو عرفت في العدد أقلّ من واحد، و في الألوان شرّا من السواد، لأهديته إليّ.

رد على مغنية أخطأت في شعر:

قال:

و سمع مغنية تغني:

عاد قلبي من الطويلة عاد

فقال: و ثمود، فإن اللّه عزّ و جلّ لم يفرق بينهما. و الشعر:

عاد قلبي من الطويلة عيد(1)

أنشده رجل شعرا فأنكره عليه و قال اهجني فهجاه:

أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثني أبو عثمان اللاحقي، و أخبرني به محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلاّم عن بشر بن المفضّل بن لاحق قال:

جاء رجل إلى حمّاد الراوية فأنشده شعرا و قال: أنا قلته؛ فقال له أنت لا تقول مثل هذا، هذا ليس لك، و إن كنت صادقا فاهجني. فذهب ثم عاد إليه فقال له: قد قلت فيك:

/

سيعلم حمّاد إذا ما هجوته *** أ أنتحل الأشعار أم أنا شاعر

أ لم تر حمادا تقدّم بطنه *** و أخّر عنه ما تجنّ المآزر

فليس براء خصيتيه و لو جثا *** لركبته، ما دام للزيت عاصر

فيا ليته أمسى قعيدة بيته *** له بعل صدق كومه(2) متواتر

فحماد نعم العرس للمرء يبتغي الن *** كاح و بئس المرء فيمن يفاخر

فقال حماد: حسبنا، عافاك اللّه، هذا المقدار و حسبك! قد علمنا أنك شاعر و أنك قائل الشعر الأول و أجود منه، و أحب أن تكتم هذا الشعر و لا تذيعه فتفضحني؛ فقال له: قد كنت غنيّا عن هذا. و انصرف الرجل و جعل حماد يقول: أسمعتم أعجب مما جررت على نفسي من البلاء!.

ص: 348


1- هذا الشعر للمفضل. و أراد بالطويلة روضة بالصمان عرضها ميل في طول ثلاثة أميال. و العيد: ما يعتاد من نوب و شوق وهم.
2- الكوم: النكاح.
عاب شعرا لأبي الغول فهجاه:

حدّثني الأسدي أبو الحسن قال حدّثنا الرّياشي قال حدّثنا أبو عبد اللّه الفهميّ قال:

عاب حمّاد الراوية شعرا لأبي(1) الغول فقال يهجوه:

/

نعم الفتى لو كان يعرف ربّه *** و يقيم وقت صلاته حماد

هدلت مشافره الدّنان فأنفه *** مثل القدوم يسنّها الحدّاد

و ابيض من شرب المدامة وجهه *** فبياضه يوم الحساب سواد

لا يعجبنّك بزّه و ثيابه *** إن اليهود ترى لها أجلاد(2)

حمّاد يا ضبعا تجرّ جعارها(3)*** أخنى(4) لها بالقريتين جراد

سبعا يلاعبها ابنها و بناتها *** و لها من الخرق الكبار و ساد(5)

قال معنى قوله:

أخنى لها بالقريتين جراد

هو مثل قول العرب للضّبع: خامري(6) أمّ عامر، أبشري بجراد عظال(7) و كمر رجال؛ فإن الضبع تجيء إلى القتيل و قد استلقى على قفاه، و انتفخ غرموله فكان كالمنعظ، فتحتكّ به و تحيض من الشهوة، فيثب عليها الذئب حينئذ فتلد منه السّمع، و هو دابة، لا يولد له مثل البغل. و في مثل هذا المعنى يقول الشّنفري(8) الأزدي.

/

تضحك الضّبع لقتلى هذيل *** و ترى الذئب لها يستهلّ(9)

تضحك(10): تحيض.

ص: 349


1- نسبت هذه الأبيات لحماد بن الزبرقان كما نسبت لبشار بن برد يهجو بها حماد عجرد (راجع «الحيوان» للجاحظ ج 4 ص 142 طبع الساسي. و ابن خلكان في ترجمة حماد عجرد).
2- أجلاد الإنسان: جماعة شخصه أو جسمه و بدنه، يقال فلان عظيم الأجلاد إذا كان ضخما قوي الأعضاء و الجسم.
3- الجعار: جمع جعر (بفتح فسكون)، و الجعر: نحو كل ذات مخلب من السباع. و جعار (كقطام): اسم للضبع لكثرة جعرها.
4- كذا في ب، س. و أخنى الجراد: كثر بيضه. و قد وردت هذه الكلمة في سائر الأصول محرفة.
5- كذا ورد هذا البيت في جميع الأصول و هو غير ظاهر المعنى.
6- خامري: استترى. و أم عامر: الضبع، و هي كما زعموا من أحمق الدواب لأنهم إذا أرادوا صيدها رموا في حجرها بحجر فتحسبه شيئا تصيده فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك. و يقال لها: أبشري بجراد عظال و كمر رجال، فلا يزال يقال لها ذلك حتى يدخل عليها رجل فيربط يديها و رجليها ثم يجرها. يضرب هذا المثل لمن يرتاع من كل شيء جبنا و قيل هو مثل لمن عرف الدنيا ثم يسكن إليها مع ما علم من عادتها كما تغتر الضبع بقول القائل: خامري أم عامر.
7- الجراد العظال: الذي ركب بعضه بعضا كثرة.
8- في نسبة القصيدة التي منها هذا البيت للشنفري خلاف، فقيل إنها لتأبط شرا، و قيل لابن أخته، كما رجح أن تكون لخلف الأحمر (راجع «شرح أشعار الحماسة» للتبريزي ص 382 طبع أوروبا).
9- يستهل: يصيح و يستغوي الذئاب. و استهل الصبي بالبكاء: رفع صوته و صاح عند الولادة و كل شيء ارتفع صوته فقد استهل.
10- قال التبريزي في «شرح الحماسة» في التعليق على هذا البيت: «قول من قال تضحك بمعنى تحيض ليس بشيء». و في «لسان العرب» مادة ضحك في الكلام على هذا البيت: «قال أبو العباس: تضحك هاهنا: تكشر و ذلك أن الذئب ينازعها على القتيل فتكشر في وجهه وعيدا فيتركها مع لحم القتيل و يمر... و قال ابن الأعرابي: أي أن الضبع إذا أكلت لحوم الناس أو شربت دماءهم طمثت؛ و كان ابن دريد يردّ هذا و يقول: من شاهد الضباع عند حيضها فيعلم أنها تحيض، و إنما أراد الشاعر أنها تكشر لأكل اللحوم، و قيل
كان لصا ثم تاب و طلب الأدب و الشعر:

و قال ابن النطّاح:

كان حمّاد الراوية في أوّل أمره يتشطّر و يصحب الصعاليك و اللصوص، فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله و كان فيه جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد فاستحلاه و تحفّظه، ثم طلب الأدب و الشعر و أيام الناس و لغات العرب بعد ذلك، و ترك ما كان عليه فبلغ في العلم ما بلغ.

استنشده المهدي أحسن أبيات في السكر ثم أجازه:

حدّثنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني عمّي الفضل عن أبيه عن جدّه عن حمّاد الراوية قال:

دخلت على المهديّ فقال: أنشدني أحسن أبيات قيلت في السّكر، و لك عشرة آلاف درهم و خلعتان(1) من كسوة الشتاء و الصيف؛ فأنشدته قول الأخطل(2):

/

ترى الزّجاج و لم يطمث(3) يطيف به *** كأنه من دم الأجواف مختضب

حتى إذا افتضّ ماء المزن عذرتها *** راح الزجاج و في ألوانه صهب

/تنزو إذا شجّها بالماء مازجها *** نزو الجنادب في رمضاء تلتهب(4)

راحوا و هم يحسبون الأرض في فلك *** إن صرّعوا وقت الراحات و الرّكب

فقال لي: أحسنت و أمر لي بما شرطه و وعدني به فأخذته.

مدح بلال بن أبي بردة فأنكر ذو الرمة أنه شعره:

حدّثني اليزيديّ قال حدّثني عمي عبيد اللّه قال حدّثني سليمان بن أبي شيخ قال حدّثني صالح بن سليمان قال:

قدم حمّاد الراوية على بلال بن أبي بردة البصرة، و عند بلال ذو الرّمّة، فأنشده حماد شعرا مدحه به؛ فقال بلال لذي الرّمّة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: جيّدا و ليس له؛ قال: فمن يقوله؟ قال: لا أدري إلا أنه لم يقله؛ فلما قضى بلال حوائج حماد و أجازه، قال له: إن لي إليك حاجة؛ قال: هي مقضية؛ قال: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال:

لا؛ قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية، و هو شعر قديم و ما يرويه غيري؛ قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام.

ص: 350


1- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «و خلعتان و كسوة... إلخ».
2- لم نجد هذه الأبيات بين شعر الأخطل المجموع في دواوينه الثلاثة التي نشر الأوّل منها المرحوم الدكتور أوجينوس غرّفيني الميلاني. الإيطالي مدير مكتبة جلالة ملك مصر سابقا (و هو محفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 2023 أدب) و نشر الثاني و الثالث منها الأب أنطون صالحاني اليسوعي (و هما محفوظان بدار الكتب المصرية تحت رقمي: 3937، 1102 أدب). و جميعها طبع بيروت.
3- الطمث: المس. قال تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاٰ جَانٌّ . يريد أنه لم يفرّع و لم يمسسه إنسان.
4- تنزو: تثب و ذلك إذا مزجت. و شجها: مزجها. و الجنادب: ضرب من الجراد. و الرمضاء: الأرض الحارة الحامية من شدّة حر الشمس.
أنشد بلالا شعرا في مدح أبي موسى نسبه للحطيئة:

قال صالح:

و أنشد حمّاد الراوية بلال بن أبي بردة ذات يوم قصيدة قالها و نحلها الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري يقول فيها:

/

جمعت(1) من عامر فيها و من جشم *** و من تميم و من حاء و من حام

مستحقبات رواياها جحافلها *** يسمو بها أشعريّ طرفه سامي

فقال له بلال: قد علمت أن هذا شيء قلته أنت و نسبته إلى الحطيئة، و إلا فهل كان يجوز أن يمدح الحطيئة أبا موسى بشيء لا أعرفه أنا و لا أرويه! و لكن دعها تذهب في الناس و سيّرها حتى تشتهر، و وصله.

يرى المفضل الضبي أنه أفسد شعر العرب بتخليطه و نحله شعره للقدماء:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال سمعت أحمد بن الحارث الخرّاز يقول سمعت ابن الأعرابي يقول سمعت المفضّل الضّبيّ يقول:

قد سلّط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا. فقيل له: و كيف ذلك؟ أ يخطئ في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردّون من أخطأ إلى الصواب، لا و لكنه رجل عالم بلغات العرب و أشعارها، و مذاهب الشعراء و معانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل و يدخله في شعره، و يحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء و لا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، و أين ذلك!.

اجتمع مع المفضل الضبي عند المهدي فأجازه لجودة شعره و أبطل روايته:

أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم قال حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال حدّثني السّعيدي الراوية و أبو إياد المؤدّب - و كان مؤدّبي ثم أدّب المعتصم بعد ذلك و قد تعالت سنّه - و حدّثني بنحو من ذلك عبد اللّه بن مالك و سعيد بن سلم(2) و حدّثني به ابن غزالة أيضا و اتفقوا عليه:

/أنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي(3) بعيساباذ، و قد اجتمع فيها عدّة من الرواة و العلماء بأيام العرب و آدابها و أشعارها و لغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب، فدعا بالمفضّل الضّبّي الراوية فدخل، فمكث مليّا ثم خرج إلينا و معه حمّاد و المفضّل جميعا و قد بان في وجه حماد الانكسار و الغم، و في وجه المفضّل السرور و النشاط، ثم خرج حسين الخادم معهما(4)، فقال يا معشر من حضر من أهل العلم: إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره و أبطل روايته لزيادته في أشعار/الناس ما ليس منها، و وصل المفضّل بخمسين ألفا لصدقه و صحة روايته، فمن أراد أن يسمع شعرا جيدا محدثا فليسمع من حماد، و من

ص: 351


1- تقدّم شرح هذين البيتين في الجزء الثاني من هذه الطبعة (في الحواشي 4، 5، 6 ص 175 و الحواشي 1، 2، 3 ص 176).
2- كذا في ح. و لعله سعيد بن سلم الباهلي أبو عمرو و قد كان معاصرا لعبد اللّه بن مالك الخزاعي. و في ب، س: «سعيد بن مسلم». و في سائر الأصول: «سعيد بن سليم».
3- عيساباذ: أي عمارة عيسى، لأن كلمة «باذ» فارسية معناها عمارة، و هذه محلة كانت شرقي بغداد و منسوبة إلى عيسى بن المهدي و كانت إقطاعا له. و بها مات موسى بن المهدي بن الهادي. و بها بنى المهدي قصره الذي سماه قصر السلام.
4- كذا في جميع الأصول. و لعل هذه الكلمة مقحمة أو محرّفة عن «بعدهما».

أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضّل؛ فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهديّ قال للمفضل لما دعا به وحده: إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال:

دع ذا و عدّ القول في هرم

و لم يتقدّم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضّل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئا إلا أنّي توهمته كان يفكّر في قول يقوله، أو يروّي في أن يقول شعرا فعدل عنه إلى مدح هرم و قال دع ذا، أو كان مفكرا في شيء من شأنه فتركه و قال دع ذا، أي دع ما أنت فيه من الفكر و عدّ القول في هرم؛ فأمسك عنه. ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضّل، فقال ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين؛ قال فكيف قال؟ فأنشده:

/

لمن الديار بقنّة(1) الحجر *** أقوين مذ(2) حجج و مذ(2) دهر

قفر بمندفع النحائت(3) من *** ضفوى(4) أولات(5) الضّال و السّدر(6)

دع ذا و عدّ القول في هرم *** خير الكهول(7) و سيّد الحضر

قال: فأطرق المهديّ ساعة، ثم أقبل على حماد فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بدّ من استحلافك عليه، ثم استحلفه بأيمان البيعة و كل يمين محرجة ليصدقنّه عن كل ما يسأله عنه، فحلف له بما توثّق منه. قال له:

اصدقني عن حال هذه الأبيات و من أضافها إلى زهير؛ فأقرّ له حينئذ أنه قائلها؛ فأمر(8) فيه و في المفضّل بما أمر به من شهرة أمرهما و كشفه.

سأله الوليد عن مقدار روايته و استنشده شعرا في الخمر و أجازه:

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال حدّثنا أحمد بن عبيد قال حدّثنا الأصمعيّ قال:

قال حماد الراوية: أرسل إليّ أمير الكوفة فقال لي: قد أتاني كتاب أمير المؤمنين الوليد بن يزيد يأمرني بحملك. فجملت فقدمت عليه و هو في الصيد، فلما/رجع أذن لي، فدخلت عليه و هو في بيت منجّد(9)بالأرمنيّ(10) أرضه و حيطانه؛ فقال لي: أنت حماد الراوية؟ فقلت له: إن الناس ليقولون ذلك؛ قال: فما بلغ من روايتك؟ قلت: أروي سبعمائة قصيدة أوّل كلّ واحدة منها: بانت سعاد؛ فقال: إنها لرواية! ثم دعا بشراب فأتته

ص: 352


1- القنة: أعلى الجبل، و أراد بها هنا ما أشرف على الأرض. و الحجر: موضع بعينه و هو حجر اليمامة.
2- كذا في ب، س. و في سائر الأصول و ديوانه: «من» و هي بمعنى مذ.
3- كذا في «ديوانه». و النحائت: آبار في موضع معروف. و ليس كل الآبار تسمى النحائت. و في جميع الأصول: «النجائب» و هو تصحيف.
4- كذا في «ديوانه». و ضفوى (بالفتح ثم السكون و فتح الواو و القصر. و رواه ابن دريد بفتحتين): مكان دون المدينة. و قد وردت هذه الكلمة في جميع الأصول محرفة.
5- في ب، س: «ألاف».
6- الضال: السدر البري فإن نبت على شطوط الأنهار فهو عبري. و كأنه أراد بالسدر ما كان غير بري فلذلك عطفه على الضال.
7- في «ديوانه»: «البداة».
8- كذا في «تجريد الأغاني» و «مختار الأغاني». و في الأصول: «فأمر له فيه... إلخ».
9- المنجد: المزين.
10- لعله يريد به نوعا من الحرير منسوبا إلى أرمن و هي إقليم جبلي من أذربيجان اشتهر بصناعة الحرير.

جارية بكأس و إبريق فصبّت في الكأس ثم مزجته حتى رأيت له حبابا؛ فقال: أنشدني في مثل هذه؛ فقلت:

يا أمير المؤمنين، هي كما قال عدي بن زيد:

بكر العاذلون في وضح الصب *** ح يقولون لي أ لا تستفيق

ثم ثاروا إلى الصّبوح فقامت *** قينة في يمينها إبريق

قدّمته على سلاف كريح ال *** مسك صفّى سلافها الرّاووق

فترى فوقها فقاقيع كاليا *** قوت يجري خلالها التصفيق(1)

قال: فشربها و لم يزل يستعيدني الأبيات و يشرب عليها حتى سكر؛ ثم قام فتناول مرفقة من تلك المرافق فجعلها على رأسه و نادى: من يشتري لحوم البقر؟ ثم قال لي: يا حماد، دونك ما في البيت فهو لك؛ فكان أوّل مال تأثّلته(2).

حمقه خلف الأحمر و طعن في روايته:

حدّثني هاشم بن محمد الخزاعي قال/حدّثنا دماذ(3) عن أبي عبيدة قال:

قال خلف: كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب و أعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني و يدخله في أشعارها. و كان فيه حمق.

أنشد زيادا شعرا للأعشى فيه اسم أمه فغضب:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال حدّثني المسور العنزيّ - و كان من رواة العرب و كان أسنّ من سماك بن حرب - [عن حماد](4) قال:

دخلت على زياد(5) فقال لي: أنشدني؛ فقلت: من شعر من أيها الأمير؟ قال: من شعر الأعشى؛ فأنشدته:

بكرت سميّة غدوة أجمالها

قال: فما أتممت القصيدة حتى تبيّنت الغضب في وجهه؛ و قال الحاجب للناس: ارتفعوا؛ فقاموا؛ ثم لم أعد و اللّه إليه. قال حماد: فكنت بعد ذلك إذا استنشدني خليفة أو أمير تنبهت قبل أن أنشده لئلا يكون في القصيدة اسم أمّ له أو ابنة أو أخت أو زوجة.

سأله الوليد عن سبب تسميته بالراوية فأجابه:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:

قال الوليد بن يزيد لحمّاد الراوية: لم سمّيت الراوية؟ و ما بلغ من حفظك حتى استحققت هذا الاسم؟ فقال

ص: 353


1- مر هذا البيت في ترجمة حماد هذه (ص 77) على غير هذه الرواية.
2- تأثل المال: اكتسبه.
3- دماذ: هو أبو غسان رفيع بن سلمة صاحب أبي عبيدة. و دماذ لقب كان ينبز به.
4- زيادة يقتضيها السياق.
5- هو زياد ابن أبيه، و أمه سمية.

له: يا أمير المؤمنين، إن كلام العرب يجري على ثمانية و عشرين حرفا، أنا أنشدك على كل حرف منها مائة قصيدة؛ فقال: إنّ هذا لحفظ! هات، فاندفع ينشد حتى ملّ الوليد، ثم استخلف على الاستماع منه خليفة حتى وفّاه ما قال؛ فأحسن الوليد صلته و صرفه.

أمر الوليد يوسف بن عمر بإرساله إليه و استنشده شعرا في الخمر:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الحسين بن(1) محمد بن أبي طالب الدّيناريّ قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال:

قال حماد الراوية: أرسل الوليد بن يزيد إليّ بمائتي دينار، و أمر يوسف بن عمر بحملي إليه على البريد. قال فقلت: لا يسألني إلا عن طرفيه قريش و ثقيف، فنظرت في كتابي قريش و ثقيف. فلما قدمت عليه سألني عن أشعار بليّ، فأنشدته منها ما استحسنه(2)؛ ثم قال: أنشدني في الشراب - و عنده وجوه من أهل الشام - فأنشدته:

اصبح القوم قهوة *** في أباريق تحتذى

من كميت(3) مدامة *** حبّذا تلك حبذا

يترك الأذن شربها *** أرجوانا بها خذا

فقال: أعدها، فأعدتها؛ فقال لخدمه: خذوا آذان القوم، فأتينا بالشراب فسقينا حتى ما درينا متى نقلنا؛ قال:

ثم حملنا و طرحنا في دار الضّيفان، فما أيقظنا إلا حرّ الشمس. و جعل شيخ من أهل الشام يشتمني و يقول: فعل اللّه بك و فعل، أنت الذي صنعت بنا هذا.

أنشده الطرماح شعرا فزاد فيه و ادّعاه لنفسه:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ قال حدّثني أبو عبيدة قال حدّثني يحيى بن صبيرة بن الطّرمّاح بن حكيم عن أبيه عن جدّه الطّرمّاح قال:

أنشدت حمّادا الراوية في مسجد الكوفة(4) - و كان أذكى الناس و أحفظهم - قولي:

/

بان الخليط بسحرة(5) فتبدّدوا

و هي ستون بيتا، فسكت ساعة و لا أدري ما يريد ثم أقبل عليّ فقال: أ هذه لك؟ قلت: نعم؛ قال: ليس الأمر كما تقول، ثم ردّها عليّ كلّها و زيادة عشرين بيتا زادها فيها في وقته؛ فقلت له: ويحك! إن هذا الشعر قلته منذ أيام ما اطلع/عليه أحد؛ قال: قد و اللّه قلت أنا هذا الشعر منذ عشرين سنة و إلا فعليّ و عليّ؛ فقلت: للّه على حجّة حافيا راجلا إن جالستك بعد هذا أبدا؛ فأخذ قبضة من حصى المسجد و قال: للّه عليّ بكل حصاة من هذا الحصى

ص: 354


1- راجع الحاشية (رقم 2 ص 319 ج 5) من هذه الطبعة.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «ما أحسنته».
3- الكميت: الخمر التي تضرب حمرتها إلى السواد.
4- هذه الكلمة زيادة عن ب، س و «مختار الأغاني» و «خزانة الأدب».
5- السحرة (كظلمة): السحر الأعلى أي أوّل السحر.

مائة حجّة إن كنت أبالي؛ فقلت: أنت رجل ماجن و الكلام معك ضائع ثم انصرفت. قال دماذ: و كان أبو عبيدة و الأصمعي ينشدان بيتي الطّرمّاح في هذه القصيدة و هما:

مجتاب حلّة برجد لسراته *** قددا و أخلف ما سواه البرجد(1)

يبدو و تضمره البلاد كأنه *** سيف على شرف يسلّ و يغمد

و كانا يقولان: هذا أشعر الناس في هذين [البيتين](2).

ص: 355


1- هذان البيتان في وصف ثور. يقال: اجتاب القميص: لبسه. و البرجد: كساء من صوف أحمر، و قيل: هو كساء غليظ، أو هو كساء مخطط ضخم يصلح للخباء. و سراته: ظهره.
2- زيادة عن أ، ء.

7 - أخبار عبادل و نسبه

نسبه و منزلته من الغناء:

عبادل بن عطيّة مولى قريش، مكّيّ، مغنّ محسن متقدّم من الطبقة الثانية التي منها يونس الكاتب و سياط و دحمان. و كان حسن الوجه، نظيف الثياب ظريفا، و لم يفارق الحجاز و لا وفد إلى ملوك بني أمية كما وفد غيره من طبقته و من(1) هو فوقها. و يقال إنه كان مقبول الشهادة.

صفته، و كان يغني مشيخة قريش و له صنعة كثيرة:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثنا حمّاد عن(2) ابن أبي جناح(3)قال:

كان عبادل بن عطية سريّا نبيلا نظيفا(4) ساكن الطّرف حسن العشرة، و كان يعاشر مشيخة قريش و جلّة أحداثها، فإذا أرادوا(5) الغناء منه غنّى فأحسن و أطرب. و كانت له صنعة كثيرة.

منها:

تقول يا عمّتا كفّي جوانبه *** ويلي بليت و أبلى جيدي الشّعر

و منها:

أ من حذر البين ما ترقد *** و دمعك يجري فما يجمد

/و منها:

إني استحيتك أن أفوه بحاجتي *** فإذا قرأت صحيفتي فتفهّم

و منها:

قولا لنائل ما تقضين في رجل *** يهوى هواك و ما جنّبته(6) اجتنبا

و منها:

علام ترين اليوم قتلي لديكم *** حلالا بلا ذنب و قتلي محرّم

[قال](7): و كانوا يقولون له: أ لا تكثر الصنعة؟ فيقول: بأبي أنتم، إنما أنحته من صخر، و من أكثر أرذل.

ص: 356


1- في ح: «و من دونها و من فوقها».
2- كذا في ح. و المعروف أن هارون بن محمد يروى عن حماد بن إسحاق و حماد عن أبيه و هذا عن ابن أبي جناح، و لم تعرف لحماد رواية عن ابن أبي جناح مباشرة. و في سائر الأصول: «حماد بن أبي جناح» و هو خطأ.
3- ورد هذا الاسم فيما مر من الكتاب مضطربا بين: «ابن أبي جناح» و «ابن جناح» و لم نوفق إلى ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى.
4- في ح: «ظريفا».
5- في أ، ح، ء: «فإذا أراد الغناء أو سئل غنى... إلخ».
6- جنبه (بالتضعيف) كتجانبه و اجتنبه و تجنبه و جانبه.
7- زيادة عن ح.
نسبة هذه الأصوات
صوت

أ من حذر البين ما ترقد *** و دمعك يجري فما يجمد

دعاني إلى الحين فاقتادني *** فؤاد إلى شقوتي يعمد

فلو أن قلبي صحا و ارعوى *** لكان له عنكم مقعد

يبيد الزّمان و حبّي لكم *** يزيد خبالا و ما ينفد

الغناء لعبادل ثقيل أوّل بالسبابة و الوسطى عن ابن المكّيّ. و فيه لإبراهيم خفيف ثقيل.

/و منها:

صوت

إني استحيتك أن أفوه بحاجتي *** فإذا قرأت صحيفتي فتفهّم

و عليك عهد اللّه إن أنبأته *** أهل السّيالة إن فعلت و إن لم

/هكذا قال ابن هرمة، و المغنّون يغنّونه:

و عليك عهد اللّه إن أخبرته *** أحدا و إن أظهرته بتكلّم

الشعر لابن هرمة. و الغناء لعبادل.

طلب ابن هرمة بشعره من الحسن بن حسن خمرا فوشى به إلى الوالي ففرّ هو و صحبه:
اشارة

أخبرني(1) عمّي قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل الجعفري عن أبيه:

أنّ حسن بن(2) حسن بن عليّ كان صاحب شراب، و فيه يقول ابن هرمة:

إني استحيتك أن أفوه بحاجتي *** فإذا قرأت صحيفتي فتفهّم

و عليك عهد اللّه إن أنبأته *** أحدا و لا أظهرته بتكلّم

قال عبد اللّه بن محمد الجعفريّ: و كان ابن هرمة - كما حدّثني أبي - يشرب هو و أصحاب له بشرف(3) السّيالة عند سمرة بالشّرف يقال لها سمرة جرانة(4) فنفد شرابهم؛ فكتب إلى حسن بن حسن(2) بن عليّ يطلب منه نبيذا،

ص: 357


1- يلاحظ أنه من هذا الموضع إلى آخر الترجمة أخبار لابن هرمة و للوابصي و نصيب و لم يرد بها عن عبادل شيء يذكر.
2- كذا في جميع الأصول هنا و فيما يأتي عدا (ح) فقد أوردته فيما يأتي: «حسن بن حسن بن حسين». و لا يمكن أن تكون هذه الحادثة مع حسن بن حسن بن علي لتقدّم عصره على عصر ابن هرمة الذي ولد سنة 90 ه. و الصحيح أنها مع ابنه إبراهيم و قد كان ابن هرمة متصلا به و بأخويه. و قد أورد صاحب «الأغاني» هذه القصة في أخبار علويه (ج 10 طبع بولاق) منسوبة إلى ابنه إبراهيم هذا.
3- شرف السيالة: منزل بين ملل و الروحاء. و في حديث عائشة رضي اللّه عنها: «أصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم الأحد بملل على ليلة من المدينة ثم راح فتعشى بشرف السيالة و صلى الصبح بعرق الظبية».
4- لم نستطع ضبط هذا الاسم لخلوّ المعاجم التي بين أيدينا منه.

و كتب إليه بهذين البيتين. فلما قرأ حسن رقعته قال: و أنا على عهد اللّه إن لم أخبر به عامل السّيالة، أ منّي يطلب الدعيّ الفاعل نبيذا! و كتب إلى عامل السيالة أن يجيء إليه فجاء لوقته، فقال له: إن ابن هرمة و أصحابه السفهاء يشربون عند سمرة جرانة، فاخرج فحدهم؛ /فخرج إليه العامل بأهل السّيالة؛ و أنذر بهم ابن هرمة فسبقهم هربا، و تعلّق هو و أصحابه بالجبل ففاتوهم. و قال في حسن:

كتبت إليك أستهدي نبيذا *** و أدلي بالجوار و بالحقوق

فخبّرت الأمير بذاك غدرا *** و كنت أخا مفاضحة و موق(1)

و منها:

صوت

علام ترين اليوم قتلي لديكم *** حلالا بلا ذنب و قتلي محرّم

لك النفس ما عاشت وقاء من الرّدى *** و نحن لكم فيما تجنّبت(2) أظلم

و أما صنعته في:

قولا لنائل ما تقضين في رجل

فإن الشعر لمسعدة(3) بن البختريّ ابن أخي المهلّب بن أبي صفرة. و الغناء لعبادل. و قد ذكرت ذلك في موضع من هذا الكتاب مفرد، لأن نائلة التي عنّيت(4) بهذا الشعر هي بنت(5) الميلاء، و لها أخبار ذكرت في موضع منفرد صلحت له.

/و منها:

صوت

تقول يا عمّتا كفّي جوانبه *** ويلي بليت و أبلى جيدي الشّعر

مثل الأساود قد أعيا مواشطه *** تضلّ فيه مداريها و تنكسر(6)

فإن نشرت على عمد ذوائبها *** أبصرت منه فتيت المسك ينتثر

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لعبادل ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه خفيف ثقيل/ينسب إلى دحمان و إلى الغريض و إلى عبادل أيضا.

ص: 358


1- الموق: الحمق.
2- يحتمل أن تكون الرواية فيه: «فيما تجنيت» (بالياء المثناة من تحت).
3- كذا في ح. و له ترجمة في «الأغاني» (ج 12 ص 77-78 طبع بولاق). و في سائر الأصول هنا: «لسعيد بن البحتري» و هو تحريف.
4- في ب، س: «غنت» و هو تحريف.
5- كذا في جميع الأصول. و المعروف أن نائلة التي شبب بها ابن البختري كما ذكر أبو الفرج هي نائلة بنت عمر بن يزيد الأسيدي أحد بني أسيد (بضم أوله و فتح ثانيه و تشديد الياء المثناة و كسرها) ابن عمرو بن تميم. و كان أبوها سيدا شريفا، و كان على شرط العراق من قبل الحجاج. و لم نجد ذكرا لنائلة بنت الميلاء في أخبار مسعدة و لا في موضع آخر من هذا الكتاب.
6- الأساود: الحيات السود، واحدها أسود. و المداري: جمع مدرى، و هو المشط.
صوت من المائة المختارة

ليست نعم منك للعافين مسجلة(1) *** من التخلّق لكن شيمة خلق

يكاد بابك من علم بصاحبه *** من دون بوّابه للناس يندلق(2)

شعران متشابهان لابن هرمة و طريح بن إسماعيل الثقفي:
اشارة

لإسحاق في هذين البيتين لحن من الثقيل الأوّل بالبنصر عن عمرو. و ذكر يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق أن الشعر لطريح. و ذكر يعقوب بن السّكّيت أنه لابن هرمة. و الغناء في اللحن المختار لشهيّة مولاة العبلات خفيف رمل بالبنصر في مجراها. فمن روى هذه الأبيات لابن هرمة ذكر أنها من قصيدة له يمدح بها عبد الواحد بن سلمان بن عبد الملك؛ و من ذكر أنها لطريح ذكر أنها من قصيدة له/يمدح بها الوليد بن يزيد.

و الصحيح من القولين أن البيت الأوّل من البيتين لطريح و الثاني لابن هرمة. فبيت طريح من قصيدته التي مدح بها الوليد بن يزيد و هي طويلة، يقول في تشبيبها:

تقول و العيس قد شدّت بأرحلها(3) *** الحقّ أنّك(4) منا اليوم منطلق؟

قلت نعم فاكظمي قالت و ما جلدي *** و لا أظنّ اجتماعا حين نفترق

فقلت إن أحي لا أطول بعادكم *** و كيف و القلب رهن عندكم غلق(5)

فارقتها لا فؤادي من تذكّرها *** سالي الهموم و لا حبلي لها خلق

فاضت على إثرهم عيناك دمعهما *** كما تتابع يجري اللؤلؤ النّسق(6)

صوت

فاستبق عينك(7) لا يودي البكاء بها *** و اكفف بوادر دمع منك تستبق

ليس الشئون و إن جادت بباقية *** و لا الجفون على هذا و لا الحدق

ص: 359


1- مسجلة: مبدولة أو مرسلة.
2- اندلاق الباب: انفتاحه سريعا و هو مطاوع دلق الباب إذا فتحه فتحا شديدا.
3- في ح: «بأرحلنا».
4- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «الحق فإنك».
5- كذا في ح. و غلق الرهن غلقا (من باب فرح): استحقه المرتهن. و في سائر الأصول: «علق» (بالعين المهملة) و هو تصحيف.
6- النسق: المنظم.
7- كذا في ح. و في ب، س: «عينيك».

- لإسحاق(1) في هذين البيتين لحن من الثقيل الأوّل بالبنصر عن عمرو - يقول فيها في مدح الوليد:

و ما نعم منك للعافين مسجلة *** من التخلّق لكن شيمة خلق

ساهمت فيها و لا فاختصصت بها *** و طار قوم بلا و الذمّ فانطلقوا

/قوم هم(2) شرف الدنيا و سوددها *** صفو على الناس لم يخلط بهم رنق

إن حاربوا وضعوا أو سالموا رفعوا *** أو عاقدوا ضمنوا(3) أو حدّثوا صدقوا

و أما قصيدة إبراهيم بن هرمة التي فيها هذا الشعر فنذكر خبرها، ثم نذكر موضع الغناء و ما قبله و ما بعده منها.

و من أبي أحمد(4) رحمه اللّه سمعنا ذلك أجمع. و لكنه حكى عن إسحاق في الأصوات المختارة ما قاله إسحاق.

و لعله لم يتفقّد ذلك، أو لعلّ أحد الشاعرين أغار على هذا البيت فانتحله و سرقه من قائله.

ابن هرمة و مدحه عبد الواحد بن سليمان و تعريضه بالعباس بن الوليد:

أخبرني يحيى بن عليّ قال أخبرنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن رجل من أهل البصرة، و حدّثني به وكيع قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك عن حماد عن أبيه عن رجل من أهل البصرة - و خبره أتم - قال:

قال العبّاس/بن الوليد بن عبد الملك - و كان بخيلا لا يحبّ أن يعطي أحدا شيئا - ما بال الشعراء تمدح أهل بيتي أجمع و لا تمدحني!. فبلغ ذلك ابن هرمة، و كان قد مدحه فلم يثبه، فقال يعرّض به و يمدح عبد الواحد بن سليمان:

و معجب بمديح الشّعر يمنعه *** من المديح ثواب المدح و الشّفق

يا آبى المدح من قول يحبّره(5) *** ذو نيقة(6) في حواشي شعره أنق(7)

إنك و المدح كالعذراء يعجبها *** مسّ الرجال و يثني قلبها الفرق

/لكن بمدين من مفضى سويمرة(8) *** من لا يذمّ و لا يشنأ له خلق

أهل المدائح تأتيه فتمدحه *** و المادحون إذا قالوا له صدقوا

- يعني عبد الواحد بن سليمان -:

لا يستقرّ(9) و لا تخفى علامته *** إذا القنا شال في أطرافها الحرق(10)

ص: 360


1- في ح: «لإسماعيل» و هو ابن جامع. و له و لإسحاق يروي عمرو بن بانة.
2- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «قوم لهم».
3- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «حكموا».
4- هو أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم من شيوخ أبي الفرج. (راجع ترجمته في الحاشية رقم 3 ص 17 من تصدير هذا الكتاب).
5- في ح: «تخيره».
6- النيقة: اسم من التنوق. يقال تنوق فلان في منطقه و ملبسه و أموره إذا تجوّد و بالغ.
7- كذا في ح. و الأنق (بفتح النون): الروعة و الحسن. و في سائر الأصول: «من حواش شعره أنق».
8- كذا في ح و «معجم البلدان» (ج 3 ص 202). و مدين: مدينة تجاه تبوك بين المدينة و الشام على ست مراحل. و سويمرة: موضع في نواحي المدينة. و في أ، ء، م: «مقصى سوتمرة» و في ب، س: «مقصى سويمرة».
9- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «لا يستفز».
10- شال: ارتفع. و الحرق (محركة): لهب النار.

في يوم لا مال عند المرء ينفعه *** إلا السّنان و إلا الرمح(1) و الدّرق

يطعن بالرمح أحيانا و يضربهم *** بالسيف ثم يدانيهم فيعتنق

و هذا البيت سرقه ابن هرمة من زهير و من مهلهل جميعا، فإنهما سبقا إليه. قال مهلهل و هو أقدمهما:

أنبضوا(2) معجس(3) القسيّ و أبرق(4) *** نا كما توعد الفحول الفحولا

يعني أنهم لما أخذوا القسيّ ليرموهم من بعيد انتضوا سيوفهم ليخالطوهم و يكافحوهم بها(5).

و قال زهير - و هو أشرح من الأوّل -:

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطّعنوا *** ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا

فما ترك في المعنى فضلا لغيره.

رجع إلى شعر ابن هرمة:

يكاد بابك من جود و من كرم *** من دون بوّابه للناس يندلق

/ - و يروى: «إذا أطاف به الجادون». و «العافون» أيضا. و يروى: «ينبلق» -:

مدح والي المدينة بعد عبد الواحد فجفاه ثم رضي عنه بشفاعة عبد اللّه بن الحسن:

إنّي لأطوي رجالا أن أزورهم *** و فيهم عكر الأنعام و الورق(6)

طيّ الثياب التي لو كشّفت وجدت *** فيها المعاوز(7) في التفتيش و الخرق

و أترك الثوب يوما و هو ذو سعة *** و ألبس الثوب و هو الضيّق الخلق

إكرام نفسي و أني لا يوافقني *** و لو ظمئت فحمت المشرب الرّنق(8)

قال هارون(9) بن الزيات في خبره: فلما قال ابن هرمة هذه القصيدة أنشدها عبد الواحد بن سليمان - و هو إذ ذاك أمير الحجاز - فأمر له بثلاثمائة دينار و خلعة موشيّة من ثيابه، و حمله على فرس و أعطاه ثلاثين لفحة و مائة شاة، و سأله عما يكفيه في كل سنة و يكفي عياله من البرّ و التمر، فأخبره به؛ فأمر له بذلك أجمع لسنة، و قال له: هذا لك عليّ ما دمت و دمت في الدنيا، و اقتطعه لنفسه(10) و أنس به، و قال له: لست بمحوجك إلى غيري أبدا. فلما عزل عبد الواحد بن سليمان عن المدينة، تصدّى للوالي مكانه و امتدحه. و لم يلبث أن ولي/عبد الواحد بعد ذلك و بلغه

ص: 361


1- في ح: «و إلا السيف».
2- كذا في ح. و أنبض الرامي القوس و عن القوس: جذب وترها لتصوت. و في سائر الأصول: «انتضوا»، و هو تصحيف.
3- المعجس (كمجاس): مقبض القوس.
4- أبرق الرجل: لمع بسيفه.
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و يكافحوهم بالسيوف».
6- العكر (محركة): جمع عكرة و هي القطيع الضخم من الإبل، قيل: هي ما فوق خمسمائة من الإبل، و قيل: ما بين الخمسين إلى المائة. و الورق: المال من الإبل و الغنم.
7- كذا في ح. و المعاوز: خلقان الثياب المبتذلة، واحدها معوز. و في سائر الأصول: «العواوير» و هو تحريف.
8- الرنق: الكدر.
9- هو هارون بن محمد بن عبد الملك الذي ورد في سند هذا الخبر.
10- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و اقتطعه إلى نفسه».

الخبر، فأمر أن يحجب عنه ابن هرمة و طرده و جفاه، حتى تحمّل(1) عليه بعبد اللّه بن الحسن [بن الحسن](2)، فاستوهبه منه فعاد له إلى ما أحبه.

/أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ، و أخبرني به عليّ بن سليمان الأخفش عن أحمد بن يحيى ثعلب عن الرياشيّ - و خبره أتم - قال الرياشيّ حدّثني أبو سلمة الغفاريّ قال قال ابن(3) ربيح راوية ابن هرمة قال حدّثني ابن هرمة قال:

أوّل من رفعني في الشعر عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، فأخذ عليّ ألاّ أمدح أحدا غيره، و كان واليا على المدينة، و كان لا يدع برّي وصلتي و القيام بمئونتي. فلم ينشب أن عزل و ولّي غيره مكانه، و كان الوالي من بني الحارث بن كعب. فدعتني نفسي إلى مدحه طمعا أن يهب لي كما كان عبد الواحد يهب لي، فمدحته فلم يصنع بي ما ظننت. ثم قدم عبد الواحد المدينة، فأخبر أنّي مدحت الذي عزل به، فأمر بي فحجبت عنه، و رمت الدخول عليه فمنعت، فلم أدع بالمدينة وجها و لا رجلا له نباهة و قدر من قريش إلا سألته أن يشفع لي في أن يعيدني إلى منزلتي عنده، فيأبى ذلك فلا يفعله. فلما أعوزتني الحيل أتيت عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب - صلوات اللّه عليه و عليهم - فقلت: يا ابن رسول اللّه، إن هذا الرجل قد كان يكرمني و أخذ عليّ ألاّ أمدح غيره، فأعطيته بذلك عهدا، ثم دعاني الشّره و الكدّ إلى أن مدحت الوالي بعده. و قصصت عليه قصتي و سألته أن يشفع لي، فركب معي. فأخبرني الواقف على رأس عبد الواحد أن عبد اللّه بن حسن لما دخل إليه قام عبد الواحد فعانقه و أجلسه إلى جنبه، ثم قال: أ حاجة غدت بك أصلحك اللّه؟ قال نعم؛ قال: كل حاجة لك مقضيّة إلا ابن هرمة؛ فقال له: إن رأيت ألاّ تستثني في حاجتي فافعل؛ قال: قد فعلت؛ قال: فحاجتي ابن هرمة؛ /قال: قد رضيت عنه و أعدته إلى منزلته؛ قال: فتأذن له أن ينشدك؛ قال: تعفيني من هذه؛ قال: أسألك أن تفعل؛ قال ائتوا به؛ فدخلت عليه و أنشدته قولي فيه:

وجدنا غالبا كانت جناحا *** و كان أبوك قادمة الجناح

قال فغضب عبد اللّه بن الحسن حتى انقطع رزّه(4) ثم وثب مغضبا، و تجوّزت في الإنشاد ثم لحقته فقلت له:

جزاك اللّه خيرا يا ابن رسول اللّه؛ فقال: و لكن لا جزاك اللّه خيرا يا ماصّ بظر أمه، أ تقول لابن مروان:

و كان أبوك قادمة الجناح

بحضرتي و أنا ابن رسول اللّه - صلى اللّه عليه و سلم - و ابن عليّ بن أبي طالب - عليه السلام -! فقلت: جعلني اللّه فداك، إني قلت قولا أخدعه به طلبا لدنياه، و و اللّه ما قست بكم أحدا قطّ. أ فلم تسمعني قد قلت فيها:

و بعض القول يذهب بالرياح

فضحك عبد اللّه و قال: قاتلك اللّه، ما أظرفك!.

ص: 362


1- تحمل بفلان على فلان: تشفع به إليه.
2- زيادة عن ح.
3- في أكثر الأصول هنا: «قال ربيح». و في ح: «قال ربيحة» و كلاهما تحريف (راجع الحاشية رقم 1 ص 374 من الجزء الرابع من هذه الطبعة).
4- الرز: الصوت. و في جميع الأصول: «زره» و هو تصحيف.
حائية ابن هرمة في مدح عبد الواحد:

و هذه القصيدة الحائية التي مدح بها عبد الواحد من فاخر الشعر و نادر الكلام و من جيّد شعر ابن هرمة خاصة، أولها:

صرمت حبائلا من حبّ سلمى *** لهند ما عمدت لمستراح(1)

فإنك إن تقم لا تلق هندا *** و إن ترحل فقلبك غير صاحي

/يظلّ نهاره يهذي بهند *** و يأرق ليله حتى الصباح

/أعبد الواحد المحمود إني *** أغصّ حذار سخطك بالقراح

فشلّت راحتاي و جال مهري *** فألقاني بمشتجر الرماح

و أقعدني الزمان فبتّ صفرا *** من المال المعزّب و المراح

إذا فخّمت غيرك في ثنائي *** و نصحي في المغيبة و امتداحي

كأن قصائدي لك فاصطنعني *** كرائم قد عضلن عن النكاح

فإن أك قد هفوت إلى أمير *** فعن غير التطوّع و السماح

و لكن سقطة عيبت(2) علينا *** و بعض القول يذهب في الرياح

لعمرك إنني و بني عديّ(3) *** و من يهوى رشادي أو صلاحي

إذا لم ترض عنّي أو تصلني *** لفي حين أعالجه متاح

و إنك إن حططت إليك رحلي *** بغربيّ الشّراة(4) لذو ارتياح

هششت لحاجة و وعدت أخرى *** و لم تبخل بناجزة السّراح

وجدنا غالبا خلقت جناحا *** و كان أبوك قادمة الجناح

إذا جعل البخيل البخل ترسا *** و كان سلاحه دون السلاح

فإنّ سلاحك المعروف حتى *** تفوز بعرض ذي شيم صحاح

سئل عن سبب مدحه لعبد الواحد فأجاب:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدّثني إبراهيم بن إسحاق العمريّ قال حدّثني عبد اللّه بن إبراهيم الجمحيّ قال:

قلت لابن هرمة: أ تمدح عبد الواحد بن سليمان بشعر ما مدحت به غيره فتقول فيه هذا البيت:

/

وجدنا غالبا كانت جناحا *** و كان أبوك قادمة الجناح

ص: 363


1- كذا في أكثر الأصول. و في ح: «ما عهدت بمستراح». و في ب، س: «ما عهدت لمستراح».
2- كذا في ح. و في ب، س: «عيت». و قد ورد هذا الشطر في سائر الأصول غير مستقيم المعنى.
3- بنو عدي: هم قوم ابن هرمة. وعدي هذا: هو عدي بن قيس بن الحارث بن فهر.
4- الشراة: صقع بالشام بين دمشق و مدينة الرسول صلى اللّه عليه و سلم.

ثم تقول فيها:

أعبد الواحد الميمون(1) إني *** أغصّ حذار سخطك بالقراح

فبأي شيء استوجب ذلك منك؟ فقال: إني أخبرك بالقصة لتعذرني: أصابتني أزمة(2) بالمدينة، فاستنهضتني بنت عمّي للخروج؛ فقلت لها: ويحك! إنه ليس عندي ما يقلّ جناحي؛ فقالت: أنا أنهضك بما أمكنني، و كانت عندي ناب لي فنهضت عليها نهجّد النوّام و نؤذي السمّار، و ليس من منزل أنزله إلا قال الناس: ابن هرمة! حتى دفعت إلى دمشق، فأويت إلى مسجد عبد الواحد في جوف الليل، فجلست فيه أنتظره إلى أن نظرت إلى بزوغ الفجر، فإذا الباب ينفلق(3) عن رجل كأنه البدر، فدنا فأذّن ثم صلّى ركعتين، و تأملته فإذا هو عبد الواحد، فقمت فدنوت منه و سلّمت عليه؛ فقال لي: أبو إسحاق! أهلا و مرحبا؛ فقلت لبّيك، بأبي أنت و أمي! و حيّاك اللّه بالسلام و قرّبك من رضوانه؛ فقال: أ ما آن لك أن تزورنا؟ فقد طال العهد و اشتدّ الشوق، فما وراءك؟ قلت: لا تسلني - بأبي أنت و أمي - فإن الدهر قد أخنى عليّ فما وجدت مستغاثا غيرك؛ فقال: لا ترع فقد وردت على ما تحب إن شاء/ اللّه. فو اللّه إني لأخاطبه فإذا بثلاثة فتية قد خرجوا كأنهم الأشطان(4)، فسلّموا عليه، فاستدنى الأكبر منهم فهمس إليه بشيء دوني و دون أخويه؛ فمضى إلى البيت ثم رجع، فجلس إليه فكلّمه بشيء دوني ثم ولّى، فلم يلبث أن خرج و معه عبد ضابط(5) يحمل عبئا من الثياب حتى ضرب به بين يديّ؛ ثم همس إليه ثانية فعاد، /و إذا به قد رجع و معه مثل ذلك، فضرب به بين يديّ. فقال لي عبد الواحد: ادن يا أبا إسحاق، فإني أعلم أنك لم تصر إلينا حتى تفاقم صدعك، فخذ هذا و ارجع إلى عيالك، فو اللّه ما سللنا لك هذا إلا من أشداق عيالنا؛ و دفع إليّ ألف دينار، و قال لي: قم فارحل فأغث من وراءك؛ فقمت إلى الباب، فلما نظرت إلى ناقتي ضقت؛ فقال لي: تعال، ما أرى هذه مبلغتك، يا غلام، قدّم له جملي فلانا. فو اللّه لقد كنت بالجمل أشدّ سرورا مني بكل ما نلته؛ فهل تلومني أن أغصّ حذار سخط هذا بالقراح! و و اللّه ما أنشدته ليلتئذ بيتا واحدا.

مدح المنصور فعاتبه لمدحه بني أمية ثم أكرمه:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدّثني محمد بن عمر الجرجانيّ قال حدّثني عثمان(6) بن حفص الثّقفيّ قال حدّثني محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين - صلّى اللّه عليه - قال:

دخلت مع أبي على المنصور بالمدينة و هو جالس في دار مروان، فلما اجتمع الناس قام ابن هرمة فقال:

يا أمير المؤمنين، جعلني اللّه فداءك، شاعرك و صنيعتك إن رأيت أن تأذن لي في الإنشاد؛ قال هات؛ فأنشده قوله:

سرى(7) ثوبه عنك الصّبا المتخايل

ص: 364


1- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «المحمود» و قد اتفقت عليها جميع الأصول قبل هذا الموضع بقليل.
2- في ح: «أصابتني أزمة و قحمة بالمدينة». و القحمة السنة الشديدة و القحط.
3- في ح: «ينبلق».
4- الأشطان: جمع شطن و هو الحبل، و قيل الحبل الطويل.
5- ضابط: قوي شديد.
6- كذا في ح. و قد مر في أكثر من موضع في الأجزاء السابقة: و في سائر الأصول هنا: «عمر بن حفص الثقفي».
7- سرى عنه الثوب: كشفه.
حتى انتهى إلى قوله:

له لحظات عن حفافي(1) سريره *** إذا كرّها فيها عقاب و نائل

فأمّ الذي آمنت آمنة الرّدى *** و أمّ الذي خوّفت بالثّكل ثاكل

/فقال له المنصور: أما لقد رأيتك في هذه الدار قائما بين يدي عبد الواحد بن سليمان تنشده قولك فيه:

وجدنا غالبا كانت جناحا *** و كان أبوك قادمة الجناح

قال: فقطع بابن هرمة حتى ما قدر على الاعتذار؛ فقال له المنصور: أنت رجل شاعر طالب خير، و كل ذلك يقول الشاعر، و قد أمر لك أمير المؤمنين بثلاثمائة دينار. فقام إليه الحسن بن زيد فقال: يا أمير المؤمنين، إن ابن هرمة رجل منفاق متلاف لا يليق(2) شيئا، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر له بها يجرى عليه منها ما يكفيه و يكفي عياله و يكتب بذلك إلى صاحب الجاري(3) أن يجريها عليهم فعل؛ فقال: افعلوا ذلك به. قال: و إنما فعل به الحسن بن زيد هذا لأنه كان مغضبا عليه لقوله يمدح عبد اللّه بن حسن:

ما غيّرت وجهه أمّ مهجّنة *** إذا القتام تغشّى أوجه الهجن

حدّثني يحيى بن علي بن يحيى، و أخبرنا ابن أبي الأزهر و جحظة قالا حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، قال يحيى بن علي في خبره عن الفضل بن يحيى، و لم يقله الآخران:

دخل ابن هرمة على المنصور و قال: يا أمير المؤمنين، إني قد مدحتك مديحا لم يمدح أحد أحدا بمثله؛ /قال:

و ما عسى أن تقول فيّ بعد قول كعب الأشقريّ(4) في المهلّب:

/

براك اللّه حين براك بحرا *** و فجّر منك أنهارا غزارا

فقال له: قد قلت أحسن من هذا؛ قال: هات، فأنشده قوله:

له لحظات عن(5) حفافي سريره *** إذا كرّها فيها عقاب و نائل

قال: فأمر له بأربعة آلاف درهم. فقال له المهديّ: يا أمير المؤمنين، قد تكلّف في سفره إليك نحوها؛ فقال له المنصور: يا بنيّ، إني قد وهبت له ما هو أعظم من ذلك، وهبت له نفسه، أ ليس هو القائل لعبد الواحد بن سليمان:

إذا قيل من خير من يرتجى *** لمعترّ(6) فهر و محتاجها

و من يعجل الخيل يوم الوغى *** بإلجامها قبل إسراجها

أشارت نساء بني غالب *** إليك به قبل أزواجها

ص: 365


1- حفاف الشيء: جانبه.
2- لا يليق شيئا: أي ما يمسكه و لا يلصق به.
3- كذا في ب، س. و الظاهر أنه يريد بالجاري الدائم المتصل من الوظائف. و في سائر الأصول: «الجار».
4- هو كعب بن معدان، من الأزد و أمه من عبد القيس، شاعر فارس خطيب معدود في الشجعان، من أصحاب المهلب. و هذا البيت من قصيدة له يمدح بها المهلب و يذكر قتاله الأزارقة. و له ترجمة تقع في «الأغاني» (ج 13 ص 56-64 طبع بولاق).
5- كذا في ح هنا و فيما مضى في جميع الأصول. و في سائر الأصول هنا: «في».
6- المعتر: الفقير و المتعرض للمعروف من غير أن يسأل.

و هذه القصيدة من فاخر شعر ابن هرمة، و أولها:

أجارتنا روّحي نغمة *** على هائم النفس مهتاجها

و لا خير في ودّ مستكره *** و لا حاجة دون إنضاجها

- يقول فيها يمدح عبد الواحد بن سليمان -:

كأن قتودي على خاضب *** زفوف العشيّات هدّاجها(1)

إلى ملك لا إلى سوقة *** كسته الملوك ذرى تاجها

تحلّ(2) الوفود بأبوابه *** فتلقى الغنى قبل إرتاجها

بقرّاع أبواب دور الملو *** ك عند التحية ولاّجها

/إلى دار ذي حسب ماجد *** حمول المغارم فرّاجها

ركود(3) الجفان غداة الصّبا *** و يوم الشّمال و إرهاجها(4)

وقفت بمدحيه عند الجما(5) *** ر أنشده بين حجّاجها

دس المنصور إليه من يسمع منه مدحه لعبد الواحد ففطن لذلك و أنشده من شعره في المنصور و أخذ جائزته:

أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد قال حدّثني أبو إسحاق طلحة بن عبد اللّه الطلحيّ قال حدّثني محمد بن سليمان(6) بن المنصور قال:

وجّه المنصور رسولا قاصدا إلى ابن هرمة و دفع إليه ألف دينار و خلعة، و وصفه له و قال: امض إليه؛ فإنك تراه جالسا في موضع كذا من المسجد، فانتسب له إلى بني أمية أو مواليهم، و سله أن ينشدك قصيدته الحائية التي يقول فيها يمدح عبد الواحد بن سليمان:

وجدنا غالبا كانت جناحا *** و كان أبوك قادمة الجناح

فإذا أنشدكها فأخرجه من المسجد و اضرب عنقه و جئني برأسه؛ و إن أنشدك قصيدته اللامية التي يمدحني بها فادفع إليه الألف الدينار و الخلعة، و ما أراه ينشدك غيرها و لا يعترف بالحائية. قال: فأتاه الرسول فوجده كما قال المنصور، فجلس إليه و استنشده قصيدته في عبد الواحد؛ فقال: ما قلت هذه القصيدة قطّ و لا أعرفها و إنما نحلها إياي/من يعاديني، و لكن إن شئت أنشدتك أحسن منها؛ قال: قد شئت فهات؛ فأنشده:

سرى ثوبه عنك الصّبا المتخايل

حتى أتى على آخرها؛ ثم قال له: هات ما أمرك أمير المؤمنين بدفعه إليّ؛ فقال: أيّ شيء تقول يا هذا و أيّ

ص: 366


1- القتود: جمع قتد و هو خشب الرحل. و الخاضب: ذكر النعام. و زفوف: حسن المشي سريعه. و الهدّاج: الذي في مشيه أو عدوه أو سعيه ارتعاش.
2- في س: «تحلى» و هو تحريف.
3- الركود من الجفاف: الثقيل المملوء.
4- الإرهاج: الإمطار.
5- الجمار: اسم موضع بمنى و هو موضع الجمرات الثلاث.
6- في ح: «محمد بن سليمان المنصور».

شيء دفع إليّ؟ فقال: دع ذا عنك، فو اللّه/ما بعثك إلا أمير المؤمنين و معك مال و كسوة إليّ، و أمرك أن تسألني عن هذه القصيدة فإن أنشدتك إياها ضربت عنقي و حملت رأسي إليه، و إن أنشدتك هذه اللامية دفعت إلى ما حمّلك إياه؛ فضحك الرسول ثم قال: صدقت لعمري؛ و دفع إليه الألف الدينار و الخلعة. فما سمعنا بشيء أعجب من حديثهما.

استقل المهدي على المنصور جائزته فأجابه:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثنا عمّي عن جدّي قال:

لما أنشد ابن هرمة المنصور قصيدته اللامية التي مدحه بها أمر له بألف(1) درهم؛ فكلّمه فيه المهديّ و استقلّها؛ فقال يا بني، لو رأيت هذا بحيث رأيته و هو واقف بين يدي عبد الواحد بن سليمان ينشده:

وجدنا غالبا كانت جناحا *** و كان أبوك قادمة الجناح

لا ستكثرت له ما استقللته، و لرأيت أنّ حياته بعد ذلك القول ربح كثير. و اللّه إني يا بنيّ ما هممت له منذ يومئذ بخير فذكرت قوله إلا زال ما عرض بقلبي إلى ضده حتى أهمّ بقتله ثم أعفو عنه. فأمسك المهديّ.

بعض شعره الذي يغني فيه:
اشارة

و مما يغنّي فيه من مدائح ابن هرمة في عبد الواحد بن سليمان قوله من قصيدة أنا ذاكرها بعد فراغي من ذكر الأبيات، على أن المغنين قد خلطوا مع أبياته أبياتا لغيره:

صوت

و لما أن دنا منّا ارتحال *** و قرّب ناجيات السير كوم(2)

تحاسر واضحات اللون زهر *** على ديباج أوجهها النعيم

/أتين مودّعات و المطايا *** لدى أكوارها خوص هجوم(3)

فكم من حرة بين المنقّى(4) *** إلى أحد إلى ما حاز ريم(5)

و يروى:

فكم بين الأقارع(6) فالمنقّى

و هو أجود.

إلى الجمّاء(7) من خدّ أسيل *** نقّي اللون ليس به كلوم

ص: 367


1- في أ، ء: «بألفي».
2- الناجيات: النوق السريعة تنجو بمن ركبها. و الكوم: النوق الضخمة السنام.
3- خوص: جمع أخوص و خوصاء، و الخوص: ضيق العين و صغرها و غئورها. و هجمت العين هجوما: غارت و دخلت في موضعها.
4- المنقى: طريق بين أحد و المدينة.
5- الريم: (بالكسر و الهمز و سهل): واد لمزينة قرب المدينة.
6- الذي في المعاجم: الأقرع (بالإفراد) و هو جبل بين مكة و المدينة بالقرب منه جبل يقال له الأشعر. و قد تقدّم غير مرة أنه يسوغ في الشعر أن يجيء اسم المكان مفردا و مثنى و مجموعا حسب الضرورة الشعرية و الكل واحد.
7- الجماء: جبيل من المدينة على ثلاثة أميال من ناحية العقيق إلى الجرف (بضم الجيم و سكون الراء)، و قيل: هي إحدى هصبتين عن

كأنّي من تذكّر ما ألاقي *** إذا ما أظلم الليل البهيم

سليم ملّ منه أقربوه *** و أسلمه المداوي و الحميم

ذكر الزّبير بن بكّار أن هذا الشعر كله لأبي المنهال نفيلة(1) الأشجعيّ. قال(2): و سمعت بعض أصحابنا يقول:

إنه لمعمر بن العنبر(3) الهذليّ. و الصحيح من القول، أن بعض هذه الأبيات لابن هرمة من قصيدة له يمدح بها عبد الواحد بن سليمان/مخفوضة الميم، و لمّا غنّي فيها و في أبيات نفيلة و خلط فيه ما أوجب خفض القافية غيّر إلى ما أوجب رفعها. فأما ما لابن هرمة فيها فهو من قصيدته التي أولها:

أجارتنا بذي نفر(4) أقيمي *** فما أبكى على الدهر الذميم

/أقيمي وجه عامك ثم سيري *** بلا واهي الجوار و لا مليم

فكم بين الأقارع فالمنقّى *** إلى أحد إلى أكناف ريم

إلى الجمّاء من خدّ أسيل *** نقيّ اللون ليس بذي كلوم

و من عين مكحّلة الأماقي *** بلا كحل و من كشح هضيم

أرقت و غاب عنّي من يلوم *** و لكن لم أنم أنا للهموم

أرقت و شفّني وجع بقلبي *** لزينب أو أميمة أو رعوم

أقاسي ليلة كالحول حتى *** تبدّى الصح منقطع البريم(5)

كأنّ الصبح أبلق في حجول *** يشبّ و يتّقي ضرب الشّكيم

رأيت الشّيب قد نزلت علينا *** روائعه بحجة مستقيم

إذا ناكرته ناكرت منه *** خصومة لا ألدّ و لا ظلوم

و ودّعني الشباب فصرت منه *** كراض بالصغير من العظيم

فدع ما لا يردّ عليك شيئا *** من الجارات أو دمن الرسوم

و قل قولا تطبّق(6) مفصليه *** بمدحه صاحب الرأي الصّروم(7)

ص: 368


1- في أ، ء هنا و فيما سيأتي في جميع الأصول ما عدا ب، س: «بقيلة» (بالباء و القاف).
2- كلمة «قال» ساقطة في ح.
3- في ح: «العنبري» و لم نوفق لترجيح إحدى الروايتين.
4- كذا في أكثر الأصول. و ذو نفر (بالتحريك، و يروى بالسكون): موضع على ثلاثة أيام من السليلة بينها و بين الربذة، و قيل: خلف الربذة بمرحلة في طريق مكة. و في ح: «بذي بقر». و ذو بقر: واد بين أخيلة الحمى حمى الربذة. و ذو نفر و ذو بقر متقاربان.
5- البريم: ضوء الشمس مع بقية سواد الليل.
6- تطبق مفصليه: تصيب فيه الحجة، و أصله: إصابة المفصل و هو طبق العظمين أي ملتقاهما فيفصل بينهما.
7- الصروم: القاطع.

/

لعبد الواحد الفلج(1) المعلّى *** علا خلق النّفورة(2) و الخصوم

دعته المكرمات فناولته *** خطام المجد في سنّ الفطيم

و هي طويلة. فمن الأبيات التي فيها الغناء أربعة أبيات لابن هرمة قد مضت في هذه القصيدة؛ و إنما غيّرت حتى صارت مرفوعة، فاتّفقت الأبيات و غنّي فيها. و أما أبيات نفيلة فما بقي من الصوت المذكور بعد أبيات ابن هرمة له. و يتلو ذلك من أبيات نفيلة قوله:

يضيء دجى الظلام إذا تبدّى *** كضوء الفجر منظره وسيم

و قائلة و مثنية علينا *** تقول و ما لها فينا حميم

و أخرى لبّها معنا و لكن *** تصبّر و هي واجمة كظوم

تعدّ لنا الليالي تحتصيها *** متى هو حائن منه(3) قدوم

متى تر غفلة الواشين عنها(4) *** تجد بدموعها العين السّجوم

و الغناء في هذه الأبيات المذكورة المختلط فيها شعر ابن هرمة و نفيلة لمعبد، و لحنه من الثقيل الأوّل بالوسطى عن عمرو و يونس. و فيها لحن من الثقيل الثاني ينسب إلى الوابصيّ. و فيها خفيف ثقيل ينسب إلى معبد و إلى ابن سريج.

الوابصي و أخباره:

و هذا الوابصيّ هو الصّلت بن العاصي بن وابصة بن خالد بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم.

حدّه عمر بن عبد العزيز في الخمر فذهب إلى بلاد الروم و تنصر و مات نصرانيا:

كان تنصّر و لحق ببلاد الروم؛ لأن عمر بن عبد العزيز - فيما ذكر - حدّه في الخمر، و هو أمير الحجاز، فغضب فلحق ببلاد الروم و تنصّر هناك، و مات هنالك نصرانيا.

/رآه رسول عمر بن عبد العزيز الذي ذهب إلى الروم لفك الأسرى:

فأخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عبد اللّه بن عبد العزيز قال أخبرني ابن العلاء(5) - أظنه أبا عمرو أو أخاه - عن جويرية بن أسماء/عن إسماعيل بن أبي حكيم، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا سعيد بن عامر(6) عن جويرية بن أسماء عن إسماعيل بن أبي حكيم، و قد جمعت الروايتين، قال اليزيديّ في خبره: إن إسماعيل حدّث: أن عمر بن

ص: 369


1- الفلج: الظفر و الغلب.
2- نفورة الرجل: نافرته و هي أسرته و فصيلته التي تغضب لغضبه.
3- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «منا».
4- في ح: «يوما».
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «ابن أبي العلاء»، و هو تحريف.
6- هو سعيد بن عامر الضبعي (بضم المعجمة و فتح الموحدة) أبو محمد البصري و هو ابن أخت جويرية بن أسماء و عنه يروى. و قد ورد في ح: «سعيد بن عامر بن جويرية... إلخ». و ورد في سائر الأصول: «سعيد بن عباس»، و كلاهما تحريف.

عبد العزيز بعث في الفداء. و قال عمر بن شبّة: إن إسماعيل حدّث قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز فأتاه البريد الذي جاء من القسطنطينية فحدّثه قال: بينا أنا أجول في القسطنطينية إذ سمعت رجلا يغنّي بلسان فصيح و صوت شج:

فكم من حرّة بين المنقّى *** إلى أحد إلى جنبات ريم

فسمعت غناء لم أسمع قطّ أحسن منه. فلما سمعت الغناء و حسنه، لم أدر أ هو كذلك حسن، أم لغربته و غربة العربيّة في ذلك الموضع. فدنوت من الصوت، فلما قربت منه إذا هو في غرفة، فنزلت عن بغلتي فأوثقتها ثم صعدت إليه فقمت على باب الغرفة، فإذا رجل مستلق على قفاه يغنّي هذين البيتين(1) لا يزيد عليهما و هو واضع إحدى رجليه على الأخرى، فإذا فرغ بكى فيبكي ما شاء اللّه ثم يعيد الغناء. ففعل ذلك مرارا؛ فقلت:

السلام عليكم؛ فوثب و ردّ السلام؛ فقلت: أبشر فقد فكّ اللّه أسرك، أنا بريد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى هذا الطاغية في فداء/الأسارى. ثم سألته: من أنت؟ فقال: أنا الوابصيّ، أخذت فعذّبت حتى دخلت في دينهم؛ فقلت له: أنت و اللّه أحبّ من أفتديه إلى أمير المؤمنين و إليّ إن لم تكن دخلت في الكفر؛ فقال: قد و اللّه دخلت فيه؛ فقلت: أنشدك اللّه إلاّ أسلمت؛ فقال: أ أسلم و هذان ابناي و قد تزوجت امرأة منهم و هذان ابناها، و إذا دخلت المدينة قيل لي يا نصرانيّ و قيل مثل ذلك لولديّ و أمهما! لا و اللّه لا أفعل. فقلت له: قد كنت قارئا للقرآن فما بقي معك منه؟ قال: لا شيء إلا هذه الآية رُبَمٰا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كٰانُوا مُسْلِمِينَ . قال: فعاودته و قلت له: إنك لا تعيّر بهذا؛ فقال: و كيف بعبادة الصليب و شرب الخمر و أكل لحم الخنزير؟ فقلت: سبحان اللّه! أ ما تقرأ: إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ فجعل يعيد عليّ قوله: فكيف بما فعلت! و لم يجبني إلى الرجوع. قال: فرفع عمر يده و قال: اللهم لا تمتني حتى تمكنني منه. قال: فو اللّه ما زلت راجيا لإجابة دعوة عمر فيه. قال جويرية في حديثه:

و قد رأيت أخا الوابصيّ بالمدينة.

لقبه رجل بصري فأخبره أن سبب تنصره عشقه لامرأة منهم:

و قال يعقوب بن السّكّيت في هذا الخبر. أخبرني ابن الأزرق عن رجل من أهل البصرة أنسيت اسمه قال:

نزلنا في ظلّ حصن من الحصون التي للروم، فإذا أنا بقائل يقول من فوق الحصن:

فكم بين الأقارع فالمنقّى *** إلى أحد إلى ميقات ريم

إلى الزّوراء(2) من ثغر نقيّ *** عوارضه و من دلّ رخيم

و من عين مكحّلة الأماقي *** بلا كحل و من كشح هضيم

/و هو ينشد بلسان فصيح و يبكي، فناديته: أيها المنشد، فأشرف فتى كأحسن الناس. فقلت: من الرجل و ما قصتك؟ فقال: أنا رجل من الغزاة من العرب نزلت مكانك هذا، فأشرفت/عليّ جارية كأحسن الناس فعشقتها فكلّمتها؛ فقالت: إن دخلت في ديني لم أخالفك؛ فغلب عليّ الشيطان فدخلت في دينها، فأنا كما ترى. فقلت:

ص: 370


1- يلاحظ أن الذي تقدم بيت واحد.
2- الزوراء: اسم يطلق على أكثر من موضع. و الظاهر أنه يريد بها هنا موضعا عند سوق المدينة يطلق عليه هذا الاسم لقرب هذا الموضع من المواضع المذكورة في البيت السابق.

أ كنت تقرأ القرآن؟ فقال: إي و اللّه لقد حفظته. قلت: فما تحفظ منه اليوم؟ قال: لا شيء إلا قوله عزّ و جلّ: رُبَمٰا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كٰانُوا مُسْلِمِينَ . قلت: فهل لك أن نعطيهم(1) فداءك و تخرج؟ قال: ففكّر ساعة ثم قال: انطلق صحبك اللّه.

بعض ما ورد في شعر ابن هرمة من الأخبار:
اشارة

<و مما في الأخبار من شعر ابن هرمة>

صوت من المائة المختارة

في حاضر لجب بالليل سامره *** فيه الصواهل و الرايات و العكر(2)

و خرّد كالمها حور مدامعها *** كأنها بين كثبان النّقا البقر

الشعر لابن هرمة. و الغناء في اللحن المختار لحنين، و لحنه من الثقيل الأوّل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. قال إسحاق: و فيه لأبي همهمة لحن من الثقيل الأوّل أيضا. و أبو همهمة هذا مغنّ أسود من أهل المدينة، ليس بمشهور و لا ممن نادم الخلفاء و لا وجدت له خبرا فأذكره.

صوت من المائة المختارة

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب *** و قل إن تملّينا فما ملّك القلب

و قل في تجنّيها لك الذنب: إنما *** عتابك من عاتبت فيما له عتب

الشعر لنصيب. و الغناء في اللحن المختار لكردم بن معبد، و لحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لمعبد لحن آخر من خفيف الثقيل عن يونس و الهشاميّ و دنانير. و فيه لإبراهيم لحن آخر من الثقيل الأوّل ذكره الهشاميّ.

بعض أخبار لنصيب:

و قد تقدّم من أخبار نصيب ما فيه كفاية، و إنما تأخر منها ما له موضع يصلح إفراده فيه، مثل أخبار هذا الصوت.

ذكر عن نفسه أنه قال شعرا فعلم أنه شاعر:

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدّثنا عمي الفضل عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن ابن كناسة قال:

ص: 371


1- في ح: «أن نعظم لهم فداءك».
2- الحاضر: الحي العظيم. و السامر: المتسامرون. و العكر: جمع عكرة (محركة) و هي القطعة من الإبل، قيل: ما فوق خمسمائة، و قيل: ما بين الخمسين إلى المائة.

قال نصيب: ما توهمت أني أحسن أن أقول الشعر حتى قلت:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب

سمع جميل و جرير من شعره فتمنيا لو أنهما سبقاه إليه:

أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثنا إبراهيم بن المنذر الحزاميّ عن محمد بن معن الغفاريّ قال أخبرني ابن الربيح(1) قال:

مرّ بنا جميل و نحن بضريّة(2)، فاجتمعنا إليه فسمعته يقول: لأن أكون سبقت الأسود إلى قوله:

/

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب

أحبّ إليّ من كذا و كذا - لشيء قاله عظيم -.

أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزبير قال حدّثني سعيد بن عمرو عن حبيب(3) بن شوذب الأسديّ قال:

مرّ بنا جرير بن الخطفي و نحن بضريّة، فاجتمعنا/إليه فسمعته يقول: لأن أكون سبقت العبد إلى هذا البيت أحبّ إليّ من كذا و كذا؛ يعني قوله:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب

أنشده الكميت من شعره و بكى:

أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني عمّي الفضل عن إسحاق الموصلي عن ابن كناسة قال:

اجتمع الكميت بن زيد و نصيب في الحمّام، فقال له الكميت: أنشدني قولك:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب

فقال: و اللّه ما أحفظها؛ فقال الكميت: لكنّي أحفظها، أ فأنشدك إياها؟ قال نعم، فأقبل الكميت ينشده و هو يبكي.

كان مع زوجته فمر به ابن سريج يتغنى بشعر له فيها فلامته:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبي قالا(4) حدّثنا عمر بن شبّة قال ذكر ابن أبي الحويرث عن مولاة لهم، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن عثمان بن حفص عن مولاة لهم قالت:

إنا لبمنى إذ نظرت/إلى أبنية مضروبة و أثاث و أمتعة، فلم أدر لمن هي، حتى أنيخ بعير، فنزل عنه أسود و سوداء فألقيا أنفسهما على بعض المتاع، و مرّ راكب يتغنّى غناء الركبان:

ص: 372


1- كذا في أ، ء. و في ب، س: «الذبيح». و في ح، م: «الزبيح»، و كلاهما تحريف. (راجع الحاشية رقم 1 ص 374 من الجزء الرابع من هذه الطبعة).
2- ضرية: قرية عامرة قديمة في طريق مكة من البصرة من بلاد نجد. و قيل: هي صقع واسع بنجد ينسب إليه حمى ضرية المعروف، يليه أمراء المدينة و ينزل به حاج البصرة بين الجديلة و طخفة.
3- كذا في أكثر الأصول. و في ح: «حبيب بن شوذب». و المعروف بابن شوذب هو عبد اللّه أبو عبد الرحمن البلخي، و قد تقدّم في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.
4- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «قال». و هو تحريف.

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب

فرأيت السوداء تخبط الأسود و تقول له: شهّرتني و أذعت في الناس ذكري(1)؛ فإذا هو نصيب و زوجته. قال إسحاق في خبره: و كان الذي اجتاز بهم و تغنّى ابن سريج.

كان ابن سريج يغني لنسوة في شعره فلم يشأ أن يتعرف بهن:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن كناسة عن أبيه قال: [قال](2) نصيب: و اللّه إني

لأسير على راحلتي إذ أدركت نسوة ذوات جمال يتناشدن قولي:

لأسير على راحلتي إذ أدركت نسوة ذوات جمال يتناشدن(3) قولي:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب

و إذا معهنّ ابن سريج؛ فقلن له: يا أبا يحيى، غنّنا في هذا الشعر، فغناهنّ فأحسن؛ فقلن: وددنا و اللّه يا أبا يحيى أن نصيبا معنا فيتمّ سرورنا؛ فحرّكت بعيري لأتعرّف بهنّ و أنشدهنّ؛ فالتفتت إحداهنّ إليّ فقالت حين رأتني:

و اللّه لقد زعموا أن نصيبا يشبه هذا الأسود لا جرم؛ فقلت: و اللّه لا أتعرّف بهنّ سائر اليوم، و مضيت و تركتهنّ. قال:

و كان الذي تغنى به ابن سريج من شعري:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب *** و قل إن تملّينا فما ملّك القلب

و قل إن تنل بالحبّ منك مودّة *** فما مثل ما لقّيت من حبكم حب

و قل في تجنّيها لك الذنب إنما *** عتابك من عاتبت فيما له عتب

/فمن شاء رام الوصل أو قال ظالما *** لذي ودّه ذنب و ليس له ذنب

سأله جد جمال بنت عون أن ينشده قصيدته في زينب فأنشده:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني إبراهيم بن عبد اللّه السّعدي(4) عن جدّته جمال بنت عون عن جدّها قال:

قلت للنّصيب: أنشدني يا أبا محجن من شعرك شيئا؛ فقال: أيّه تريد؟ قلت: ما شئت؛ قال: لا أنشدك أو تقترح ما تريد؛ فقلت: قولك:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب

قال: فتبسّم و قال: هذا شعر قلته و أنا غلام؛ ثم أنشدني القصيدة. قال الزبير: و هي أجود ما قال.

لامه عمر على تشهيره بالنساء فأخبر أنه تاب و استجازه فأجازه:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري و حبيب بن نصر المهلّبي قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا المدائني عن أبي بكر الهذليّ قال حدّثني أيوب بن شاس، و نسخت هذا الخبر من كتاب/أحمد بن الحارث الخرّاز عن

ص: 373


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فكري»، و هو تحريف.
2- التكملة عن ح.
3- في الأصول: «يتناشدون» و هو تحريف.
4- في ب، س: «السعيدي».

المدائني عن أبي بكر الهذلي عن أيوب بن شاس - و روايته أتم من رواية عمر بن شبّة - قال أيوب: حدّثني عبد اللّه بن سعيد:

أن النصيب دخل على عمر بن عبد العزيز لمّا ولي الخلافة؛ فقال له: هيه يا أسود:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب *** و قل إن تملّينا فما ملّك القلب

أ أنت الذي تشهر النساء و تقول فيهنّ! فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد تركت ذلك و تبت من قول الشعر، و كان قد نسك؛ فأثنى عليه القوم و قالوا فيه قولا/جميلا(1)؛ فقال له: أمّا إذ أثنى عليك القوم فسل حاجتك؛ فقال:

يا أمير المؤمنين، لي بنيّات سويداوات أرغب بهنّ عن السودان و يرغب عنهنّ البيضان، فإن رأيت أن تفرض لهنّ فافعل؛ ففعل.

رأى عثمان بن الضحاك امرأة فتمثل بشعره في زينب فكانت هي و أخبرته أنه آت لزيارتها:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن شبيب عن محمد بن المؤمّل بن طالوت عن أبيه عن عثمان بن الضحّاك الحزامي قال:

خرجت على بعير لي أريد الحج، فنزلت في فناء خيمة بالأبواء(2)، فإذا جارية قد خرجت من الخيمة ففتحت الباب بيديها؛ فاستلهاني حسنها، فتمثّلت قول نصيب:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب *** و قل إن تملّينا فما ملّك القلب

فقالت الجارية: أ تعرف قائل هذا الشعر؟ قلت: نعم، ذاك نصيب؛ قالت: أ فتعرف زينب هذه؟ قلت: لا؛ قالت: فأنا و اللّه زينبة، و هو اليوم الذي وعدني فيه الزيارة، و لعلك لا ترحل حتى تراه. فوقفت ساعة فإذا أنا براكب قد طلع فجاء حتى أناخ قريبا منها، ثم نزل فسلّم عليها و سلّمت عليه؛ فقلت: عاشقان التقيا و لا بدّ أن يكون لهما حاجة، فقمت إلى راحلتي فشددت عليها؛ فقال: على رسلك، أنا معك؛ فلبث ساعة ثم رحل و رحلت معه؛ فقال لي: كأنك قلت في نفسك كذا و كذا؛ قلت: قد كان ذاك؛ فقال لا، و ربّ الكعبة البنيّة المستورة ما جلست معها مجلسا قطّ هو أقرب من هذا.

شبه حماد بن إسحاق قصيدة له بشعر امرئ القيس:

حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني حماد بن إسحاق قال قال لي أبو ربيعة:

لو لم تكن هذه القصيدة:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب

لنصيب، شعر من كانت تشبه؟ فقلت: شعر امرئ القيس، لأنها جزلة الكلام جيدة. قال: سبحان اللّه! قلت:

ص: 374


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فأثنى عليه القوم خيرا و قالوه فيه فقال... إلخ».
2- الأبواء: قرية من أعمال الفرع (بضم الفاء و سكون الراء) من المدينة بينها و بين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة و عشرون ميلا. و قيل: هي جبل على يمين آرة و يمين الطريق للمصعد إلى مكة من المدينة، و هناك بلد ينسب إلى هذا الجبل. و بالأبواء قبر آمنة بنت وهب أم النبي صلى اللّه عليه و سلم.

ما شأنك؟ فقال: سألت أباك عن هذا فقال لي مثل ما قلت، فعجبت من اتّفاقكما.

منقذ الهلالي و طربه بشعر نصيب:
اشارة

قال هارون و حدّثني حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص الثّقفي عن رجل سمّاه قال:

أتاني منقذ الهلالي ليلة و ضرب عليّ الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: منقذ الهلاليّ؛ فخرجت فزعا، فقلت:

فيم السّرى(1) - أي ما جاء بك تسري إليّ ليلا - في هذه الساعة؟ قال: خير، أتاني أهلي بدجاجة مشوية بين رغيفين، فتغذّيت(2) بها معهم، ثم أتيت بقنينة نبيذ قد التقى طرفاها، فشربت و ذكرت قول نصيب:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الرّكب

فأنشدتها فأطربتني، و فكّرت في إنسان يفهم حسن ذلك و يعرف فضله فلم أجد غيرك فأتيتك. فقلت: ما جاء بك إلا هذا؟! قال: لا، و انصرف.

قال حماد: معنى قوله: «التقى طرفاها» أي قد صفت و راقت فأسفلها و أعلاها/سواء في الصفاء.

و ممّا يغنّى فيه من قصيدة نصيب البائيّة المذكورة قوله:

صوت

خليليّ من كعب أ لمّا هديتما *** بزينب لا يفقدكما أبدا كعب

من اليوم زوراها فإن ركابنا *** غداة غد عنها و عن أهلها نكب

الغناء لمالك خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو بن بانة.

صوت من المائة المختارة على رواية جحظة عن أصحابه

النّشر مسك و الوجوه دنا *** نير و أطراف الأكفّ عنم

و الدار وحش و الرسوم كما *** رقّش في ظهر الأديم قلم

لست كأقوام خلائقهم *** نثّ أحاديث و هتك حرم

- نثّ الحديث: إشاعته. و العنم: شجر أحمر، و قيل: بل هو دود أحمر كالأساريع(3) يكون في البقل في أيام الربيع. و الأديم: الجلد. و جلد كل شيء أديمه. و رقّش: زين - الشعر(4) لمرقّش الأكبر، و الغناء لابن عائشة هزج بالبنصر في مجراها.

ص: 375


1- كذا في ح. و في أ، ء، م: «فما السرى أي ما جاء بك... إلخ» و في ب، س: فما السر الذي جاء بك... إلخ».
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فتغديت» (بالدال المهملة).
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «كالتساريع». و لعلها مصحفة عن «اليساريع» و هي بمعنى الأساريع.
4- هذا الشعر من قصيدة للمرقش يرثى بها ابن عمه ثعلبة بن عوف بن مالك بن ضبيعة، قتله مهلهل في ناحية التغلمين، و كان معه مرقش فأفلت، ثم إنه طلب بدم ثعلبة فقتل رجلا من تغلب يقال له عمرو بن عوف. و قد وردت هذه الأبيات في المفضليات (ص 484-492 طبع أوروبا) على غير هذا الترتيب باختلاف يسير.

8 - أخبار المرقش الأكبر و نسبه

نسبه و سبب تسميته بالمرقش و قرابته للمرقش الأصغر:

المرقّش لقب غلب عليه بقوله:

الدار وحش و الرسوم كما *** رقّش في ظهر الأديم قلم

عوف بن مالك المعروف بالبرك:

و هو أحد من قال شعرا فلقّب به. و اسمه - فيما ذكر أبو عمرو الشّيباني - عمرو. و قال غيره: عوف(1) بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن(2) بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. و هو أحد المتيّمين. كان يهوى ابنة عمه أسماء بنت عوف بن مالك بن ضبيعة، و كان المرقّش الأصغر ابن أخي المرقش الأكبر. و اسمه - فيما ذكر أبو عمرو - ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك. و قال غيره: هو عمرو بن حرملة بن سعد بن مالك. و هو أيضا أحد المتيّمين، كان يهوى فاطمة بنت المنذر الملك و يتشبّب بها. و كان للمرقّشين جميعا موقع في بكر بن وائل و حروبها مع بني تغلب، و بأس و شجاعة و نجدة و تقدّم في المشاهد و نكاية في العدوّ و حسن أثر. كان عوف بن مالك بن ضبيعة عمّ المرقّش الأكبر من فرسان بكر بن وائل. و هو القائل يوم قضة: يا لبكر بن وائل، أ في كل يوم فرارا! و محلوفي(3) لا يمرّ بي رجل من بكر بن وائل منهزما إلاّ ضربته بسيفي. و برك يقاتل؛ فسمّي البرك يومئذ.

عمرو بن مالك و أسره لمهلهل:

و كان أخوه عمرو بن مالك أيضا من فرسان بكر، و هو الذي أسر مهلهلا، التقيا في خيلين من غير مزاحفة في بعض الغارات بين بكر و تغلب، في موضع يقال له نقا/الرّمل، فانهزمت خيل مهلهل و أدركه عمرو بن مالك فأسره فانطلق به إلى قومه، و هم في نواحي هجر(4)، فأحسن إساره. و مرّ عليه تاجر يبيع الخمر قدم بها من هجر، و كان صديقا لمهلهل يشتري منه الخمر، فأهدى/إليه و هو أسير زقّ خمر؛ فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكرا و شربوا عند مهلهل في بيته - و قد أفرد له عمرو بيتا يكون فيه - فلما أخذ فيهم الشّراب تغنّى مهلهل فيما كان يقوله

ص: 376


1- قيل سمى عوفا باسم عمه والد أسماء التي كان يهواها و يتشبب بها. (راجع «المفضليات»).
2- كذا في ح و قد صححها الأستاذ الشنقيطي كذلك في نسخته المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (144 أدب ش). و في سائر الأصول: «الحصين» و هو تحريف. (راجع «المعارف» لابن قتيبة ص 47، 48).
3- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «أما و محلوفي».
4- هجر: اسم يطلق على أكثر من موضع. و الظاهر أنه يريد به هنا هجر التي قصبتها الصفا و بينها و بين اليمامة عشرة أيام و بينها و بين البصرة خمسة عشر يوما على الإبل لقربها من ديار بكر و تغلب.

من الشعر و ينوح به على كليب؛ فسمع ذلك عمرو بن مالك فقال: إنه لريّان، و اللّه لا يشرب ماء حتى يرد ربيب - يعني جملا كان لعمرو بن مالك، و كان يتناول الدّهاس(1) من أجواف هجر فيرعى فيها غبّا بعد عشر في حمارّة القيظ - فطلبت ركبان بني مالك ربيبا و هم حراص على ألاّ يقتل مهلهل، فلم يقدروا على البعير حتى مات مهلهل عطشا. و نحر عمرو بن مالك يومئذ نابا فأسرج جلدها على مهلهل و أخرج رأسه. و كانت بنت خال مهلهل امرأته بنت المحلّل(2) أحد بني تغلب قد أرادت أن تأتيه و هو أسير؛ فقال يذكرها:

ظبية ما ابنة المحلّل شنبا(3) *** ء لعوب لذيذة في العناق(4)

فلما بلغها ما هو فيه لم تأته حتى مات. فكان هبنّقة القيسيّ أحد بني قيس بن ثعلبة و اسمه يزيد بن ثروان يقول - و كان محمّقا و هو الذي تضرب به العرب المثل/في الحمق -: لا يكون لي جمل أبدا إلا سميته ربيبا (يعني أن ربيبا كان مباركا لقتله مهلهلا). ذكر ذلك أجمع ابن الكلبي و غيره من الرواة. و القصيدة الميميّة التي فيها الغناء المذكورة بذكر أخبار المرقّش يقولها في مرثية ابن عم له. و فيها يقول:

بل هل شجتك الظّعن(5) باكرة *** كأنها النخيل(6) من ملهم(7)

عشق المرقش أسماء بنت عوف و خطبها فزوّجها أبوها في بني مراد في غيبته:

قال أبو عمرو - و وافقه المفضّل الضبي -: و كان من خبر المرقّش الأكبر أنه عشق ابنة عمه أسماء بنت عوف بن مالك، و هو البرك، عشقها و هو غلام فخطبها إلى أبيها؛ فقال: لا أزوّجك حتى تعرف(8) بالبأس - و هذا قبل أن تخرج ربيعة من أرض اليمن - و كان يعده فيها المواعيد. ثم انطلق مرقّش إلى ملك من الملوك فكان عنده زمانا و مدحه فأجازه. و أصاب عوفا زمان شديد؛ فأتاه رجل من مراد أحد بني غطيف(9)، فأرغبه في المال فزوّجه أسماء على مائة من الإبل، ثم تنحى عن بني سعد بن مالك.

أخبره أهله بموت أسماء و لما علم بزواجها من المرادي رحل إليها و مات عندها:

و رجع مرقش، فقال إخوته: لا تخبروه إلاّ أنها ماتت؛ فذبحوا كبشا و أكلوا لحمه و دفنوا عظامه و لفّوها في ملحفة ثم قبروها. فلما قدم مرقّش عليهم أخبروه أنها ماتت، و أتوا به موضع القبر؛ فنظر إليه و صار بعد ذلك يعتاده و يزوره. فبينا هو ذات يوم مضطجع و قد تغطّى بثوبه و ابنا أخيه يلعبان بكعبين لهما إذ اختصما في كعب، فقال

ص: 377


1- الدهاس: المكان السهل ليس برمل و لا تراب.
2- كذا في الطبري و فيما مر في أكثر الأصول من الجزء الخامس من هذه الطبعة (ص 51). و في ب، س هنا و فيما مر من الجزء الخامس و هامش الطبري: «المجلل» (بالجيم): و في سائر الأصول هنا غير ب، س: «المجالد».
3- الشنباء: التي في أسنانها ماء ورقة و برد و عذوبة.
4- رواية هذا البيت في الجزء الخامس من هذه الطبعة (ص 51): طفلة ما ابنة المحلل بيضا ء لعوب لذيذة في العناق
5- الظعن: النساء بهوادجهن.
6- في «المفضليات»: «كأنهن النخل...».
7- ملهم: أرض من أرض اليمامة موصوفة بكثرة النخيل.
8- في «المفضليات»: «حتى ترأس» أي تكون رئيسا.
9- كذا في ح و «المفضليات». و غطيف: بطن من مراد، و هم بنو غطيف بن ناجية بن مراد. و في سائر الأصول: «عطيف» (بالعين المهملة) و هو تصحيف.

أحدهما: هذا كعبي أعطانيه أبي من الكبش الذي دفنوه و قالوا إذا جاء مرقّش أخبرناه أنه قبر أسماء. فكشف مرقّش عن رأسه و دعا الغلام - و كان قد ضني ضنا شديدا - فسأله عن الحديث فأخبره به و بتزويج المراديّ أسماء؛ /فدعا مرقّش وليدة له و لها زوج من غفيلة(1) كان عسيفا(2) لمرقّش، فأمرها بأن تدعو له زوجها فدعته، و كانت له رواحل فأمره بإحضارها ليطلب المراديّ [عليها](3) فأحضره إياها، فركبها و مضى في طلبه، فمرض في الطريق حتى ما يحمل إلا معروضا. و إنهما نزلا كهفا بأسفل نجران، و هي أرض مراد، و مع الغفليّ(4) امرأته وليدة مرقّش؛ فسمع مرقّش زوج الوليدة يقول لها: اتركيه/فقد هلك سقما و هلكنا معه ضرّا و جوعا. فجعلت الوليدة تبكي من ذلك؛ فقال لها زوجها: أطيعيني، و إلا فإني تاركك و ذاهب. قال: و كان مرقّش يكتب، و كان أبوه دفعه و أخاه حرملة - و كانا(5) أحبّ ولده إليه - إلى نصرانيّ من أهل الحيرة فعلّمهما الخطّ. فلما سمع مرقّش قول الغفليّ(4) للوليدة كتب مرقّش على مؤخّرة الرحل هذه الأبيات:

يا صاحبيّ تلبّثا لا تعجلا *** إنّ الرواح رهين ألاّ تفعلا(6)

فلعلّ لبثكما يفرّط سيّئا(7) *** أو يسبق الإسراع سيبا مقبلا(8)

/يا راكبا إمّا عرضت فبلّغن *** أنس(9) بن سعد إن لقيت و حرملا

للّه درّكما و درّ أبيكما *** إن أفلت العبدان(10) حتى يقتلا

من مبلغ الأقوام أنّ مرقّشا *** أضحى على الأصحاب عبئا مثقلا(11)

و كأنما ترد السباع بشلوه *** إذ غاب جمع بني ضبيعة منهلا

قال: فانطلق الغفليّ و امرأته حتى رجعا إلى أهلهما، فقالا: مات المرقّش. و نظر حرملة إلى الرّحل و جعل يقلّبه فقرأ الأبيات، فدعاهما و خوّفهما و أمرهما بأن يصدقاه ففعلا، فقتلهما. و قد كانا وصفا له الموضع، فركب في

ص: 378


1- في أكثر الأصول: «عقيلة». و في ح: «عقيل» (بالعين المهملة و القاف). و في «تجريد الأغاني»: «عفيل» (بالفاء). و التصويب عن «المفضليات» و «كتاب المعارف» و «القاموس». و غفيلة: حي من ولد عمرو بن قاصد و لهم عدد بالجزيرة في بني تغلب.
2- كذا في ح و «تجريد الأغاني» و «المفضليات». و العسيف: الأجير و العبد المستعان به. و في سائر الأصول: «عشيقا» و هو تصحيف.
3- زيادة عن ح.
4- في الأصول هنا و فيما يأتي: «العقيلي» و التصويب عن «المفضليات».
5- كذا في ب، س. و في سائر الأصول و «المفضليات» و «تجريد الأغاني»: «و كان... إلخ».
6- في هذا البيت عدة روايات ذكرها ابن الأنباري شارح «المفضليات». (ص 458 طبع مطبعة الآباء اليسوعيين ببيروت).
7- كذا في «المفضليات» و «لسان العرب» مادة «فرط». و قد وردت هذه الكلمة في سائر الأصول محرّفة.
8- قال صاحب «المفضليات» في التعليق على هذا البيت: «قال أبو عكرمة: يفرط: يقدّم، مأخوذ من الفارط و هو المتقدّم قبل الماشية يصلح الدلاء و الأرشية و الحياض. يقول: لعل انتظاركما يقدّم عنكما مكروها. و لعل سيبا مقبلا يكون بعد عجلتكما، فانتظاركما أوفق. قال: و قال أبو عمرو: الإفراط: التقدّم و العجلة، يقول إن أبطأتما فعرض لكما شر فلعله أن يخطئكما و إن تقدّمتما فعرض خير بعدكما فلعله لا يصادفكما».
9- أنس بن سعد و حرملة: هما أخوا مرقش.
10- في «المفضليات»: «إن أفلت الغفلى... إلخ».
11- زاد صاحب «المفضليات» بعد هذا البيت و قبل الأخير بيتا و هو: ذهب السباء بأنفه فتركته أعثى عليه بالجبال و جيئلا و يعني بالأعثى: الضبعان و هو ذكر الضباع. و الجيئل: الأنثى.

طلب المرقّش حتى أتى المكان، فسأل عن خبره فعرف أنّ مرقّشا كان في الكهف و لم يزل فيه حتى إذا هو(1) بغنم تنزو على الغار الذي هو فيه و أقبل راعيها إليها. فلما بصر به قال له: من أنت و ما شأنك؟ فقال له مرقّش: أنا رجل من مراد، و قال للراعي(2): من أنت؟ قال: راعى فلان، و إذا هو راعى زوج أسماء. فقال له مرقّش: أ تستطيع أن تكلّم أسماء امرأة صاحبك؟ قال: لا، و لا أدنو منها؛ و لكن تأتيني جاريتها كلّ ليلة فأحلب لها عنزا فتأتيها بلبنها.

فقال له: خذ خاتمي هذا، فإذا حلبت فألقه في اللبن، فإنها ستعرفه، و إنك مصيب به خيرا لم يصبه راع قطّ إن أنت فعلت ذلك. فأخذ الراعي الخاتم. و لما راحت الجارية بالقدح و حلب لها العنز طرح الخاتم فيه؛ فانطلقت الجارية به و تركته بين يديها. فلما سكنت الرّغوة أخذته فشربته، و كذلك كانت تصنع، فقرع الخاتم ثنيّتها، فأخذته و استضاءت بالنار فعرفته؛ فقالت للجارية: /ما هذا الخاتم؟ قالت: ما لي به علم؛ فأرسلتها إلى مولاها و هو في شرف(3) بنجران؛ فأقبل فزعا؛ فقال لها: لم دعوتني؟ قالت له: ادّع عبدك راعي غنمك فدعاه؛ فقالت: سله أين وجد هذا الخاتم! قال: وجدته مع رجل في كهف خبّان(4). - قال: و يقال كهف جبار - فقال: اطرحه في اللبن الذي تشربه أسماء فإنك مصيب به خيرا، و ما أخبرني من هو، و لقد تركته بآخر رمق. فقال لها زوجها: و ما هذا الخاتم؟ قالت: خاتم مرقّش، فأعجل السّاعة في طلبه. فركب فرسه و حملها على فرس آخر و سارا حتى طرقاه من ليلتهما فاحتملاه إلى أهلهما، فمات عند أسماء. و قال قبل أن يموت:

سرى ليلا خيال من سليمى *** فأرّقني و أصحابي هجود

فبتّ أدير أمري كلّ حال *** و أذكر أهلها و هم بعيد

على أن قد سما طرفي لنار *** يشبّ لها بذي الأرطى(5) وقود

/حواليها مها بيض التّراقي(6) *** و آرام و غزلان رقود

نواعم لا تعالج بؤس عيش *** أوانس لا تروح(7) و لا ترود

يرحن معا بطاء المشي بدّا(8) *** عليهنّ المجاسد و البرود

سكن ببلدة و سكنت أخرى *** و قطّعت المواثق و العهود

فما بالي أ في و يخان عهدي *** و ما بالي أصاد و لا أصيد

/و ربّ أسيلة الخدّين بكر *** منعّمة لها فرع و جيد(9)

ص: 379


1- كذا في ح و «تجريد الأغاني». و في سائر الأصول: «هم» و هو تحريف.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «قال فراعي من أنت».
3- في «المفضليات»: «شرب» جمع شارب.
4- في الأصول: «جبان» (بالجيم) و هو تصحيف. و التصويب عن كتاب «معجم ما استعجم» و «معجم البلدان» و «شرح المفضليات».
5- الأرطى: شجر ينبت بالرمل و هو شبيه الغصى، ينبت عصيا من أصل واحد و يطول قدر قامة، و له نور مثل نور الخلاف و رائحته طيبة.
6- في «المفضليات»: «جم التراقي». يريد أن عظامها قد غمرها اللحم فلا حجم لها.
7- في «المفضليات»: «لا تراح».
8- بد: جمع أبد و الأنثى بداء. و هو كثرة لحم الفخذين حتى تصطكا.
9- استشهد بهذا البيت في النحو على حذف الصفة و إبقاء الموصوف، أي لها فرع فاحم و جيد طويل. إذ هذا البيت للمدح، و هو لا يحصل بإثبات الفرع و الجيد مطلقين بل بإثباتهما موصوفين بصفتين محبوبتين.

و ذو أشر(1) شتيت النبت عذب *** نقيّ اللون برّاق برود

لهوت بها زمانا في(2) شبابي *** وزارتها النجائب و القصيد

أناس كلّما أخلقت وصلا *** عناني منهم وصل جديد

ثم مات عند أسماء، فدفن في أرض مراد.

خرج لقتل زوج أسماء فرده أخواه و عذلاه فمرض و قال شعرا:

و قال غير أبي عمرو و المفضّل:

أتى رجل من مراد يقال له قرن الغزال، و كان موسرا، فخطب أسماء و خطبها المرقش و كان مملقا؛ فزوّجها أبوها من المراديّ سرّا؛ فظهر على ذلك مرقّش فقال: لئن ظفرت به لأقتلنّه. فلما أراد أن يهتديها(3) خاف أهلها عليها و على بعلها من مرقّش، فتربّصوا بها حتى عزب مرقّش في إبله، و بنى المراديّ بأسماء و احتملها إلى بلده.

فلما رجع مرقّش إلى الحيّ رأى غلاما يتعرّق عظما؛ فقال له: يا غلام، ما حدث بعدي في الحيّ؟ و أوجس في صدره خيفة لما كان؛ فقال الغلام: اهتدى المراديّ امرأته أسماء بنت عوف. فرجع المرقّش إلى حيّه فلبس لأمته و ركب فرسه الأغرّ، و اتّبع آثار القوم يريد قتل المراديّ. فلما طلع لهم قالوا للمراديّ: هذا مرقّش، و إن لقيك فنفسك دون نفسه. و قالوا لأسماء: إنه سيمرّ عليك، فأطلعي رأسك إليه و اسفري؛ فإنه لا يرميك و لا يضرّك، و يلهو بحديثك عن طلب بعلك، حتى يلحقه إخوته فيردّوه. و قالوا للمراديّ: تقدّم فتقدّم. /و جاءهم مرقّش. فلما حاذاهم أطلعت أسماء من خدرها و نادته، فغضّ(4) من فرسه و سار بقربها، حتى أدركه أخواه أنس و حرملة فعذلاه و ردّاه عن القوم. و مضى بها المراديّ فألحقها بحيّه. و ضني(5) مرقّش لفراق أسماء. فقال في ذلك:

أ من آل أسماء الرسوم الدّوارس *** تخطّط فيها الطير قفر بسابس(6)

و هي قصيدة طويلة. و قال في أسماء أيضا:

أ غالبك القلب اللّجوج صبابة *** و شوقا إلى أسماء أم أنت غالبه

يهيم و لا يعيا بأسماء قلبه *** كذاك الهوى إمراره و عواقبه

أ يلحى امرؤ في حبّ أسماء قد نأى *** بغمز(7) من الواشين و ازورّ جانبه

و أسماء همّ النفس إن كنت عالما *** و بادى أحاديث الفؤاد و غائبه

إذا ذكرتها النفس ظلت كأنني *** يزعزعني قفقاف ورد و صالبه(8)

ص: 380


1- الأشر: تحزز في الأسنان يكون في الأحداث.
2- في «المفضليات»: «من شبابي».
3- يقال: اهتدى الرجل امرأته إذا جمعها إليه و ضمها.
4- يقال: غض من فرسه إذا نقص من غربه وحدته.
5- كذا في أكثر الأصول. و ضنى: مرض مرضا مخامرا كلما ظن برؤه نكس. و في ب، س: «و غنى» و هو تحريف.
6- قال شارح المفضليات في التعليق على هذا البيت: «قال أبو عمرو: تخطط فيها الطير أي ترعى».
7- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «بغم».
8- الورد: من أسماء الحمى. و قفقافه: اضطراب الحنكين و اصطكاك الأسنان منه. و صالبه: شدّة حرارته مع رعدة.
كان مع المجالد بن ريان في غارته على بني تغلب و قال شعرا:

و قال أبو عمرو: وقع المجالد بن ريّان ببني تغلب بجمران(1) فنكى فيهم و أصاب مالا و أسرى، /و كان معه المرقّش الأكبر، فقال المرقش في ذلك:

أتتني لسان(2) بني عامر *** فجلّى أحاديثها عن بصر

/بأنّ بني الوخم(3) ساروا معا *** بجيش كضوء نجوم السّحر(4)

بكلّ خبوب(5) السّرى نهدة *** و كل كميت طوال أغرّ

فما شعر الحيّ حتى رأوا *** بريق القوانس فوق الغرر(6)

فأقبلنهم(7) ثم أدبرنهم *** و أصدرنهم قبل حين الصّدر

فيا ربّ شلو تخطرفنه(8) *** كريم لدى مزحف أو مكرّ(9)

و كائن بجمران(10) من مزعف(11) *** و من رجل وجهه قد عفر

9 - و أمّا المرقّش الأصغر

نسبه و عشقه لفاطمة بنت المنذر و أخباره في ذلك و شعره:

فهو - على ما ذكر أبو عمرو - ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة. و المرقّش الأكبر عم الأصغر، و الأصغر عم طرفة بن العبد. قال أبو عمرو: و المرقّش الأصغر أشعر المرقّشين و أطولهما عمرا. و هو الذي عشق

ص: 381


1- جمران (بضم أوّله و إسكان ثانيه): موضع ببلاد الرباب، أو هو ماء. و قد ورد هذا الاسم في أكثر الأصول: «حمران» (بالحاء المهملة). و في ح: «نجران»، و كلاهما تحريف. راجع «المفضليات» ص 483 طبع أوروبا). و «معجم ما استعجم» (ص 245).
2- اللسان هنا: الرسالة. و جلى أحاديثها عن بصر: أي كشفت أحاديثها العمى.
3- في ح: «الرخم» و في باقي الأصول: «الرحم». و التصويب عن «المفضليات». و بنو الوخم: بنو عامر بن ذهل بن ثعلبة.
4- في شرح «المفضليات»: «قال الأصمعي: خص نجوم السحر لأن النجوم التي تطلع في آخر الليل كبار النجوم و دراريها و هي المضيئة منها».
5- في أكثر الأصول: «جنوب السرى». و التصويب عن ح. و يروى «بكل نسول السرى» - و النسول: السريعة السير - و «بكل خنوف السرى» أي خفيفة لينة رجع اليدين بالسير. (راجع «المفضليات» و شرحها ص 483). و نهدة: ضخمة.
6- القوانس: جمع قونس و هو أعلى بيضة الحديد. و الغرر: السادة من الرجال، و يقال الغرر: الوجوه. و يروى: «فوق العذر». و العذر: شعر العرف و الناصية. (راجع «شرح المفضليات»).
7- في الأصول: «فأقبلتهم ثم أدبرتهم... إلخ» (بالتاء المثناة). و التصويب عن «المفضليات».
8- كذا في «المفضليات» و الشلو: بقية الجسد. و تخطرفته: استلبته، و قيل: جاوزنه و خلفنه. و في جميع الأصول: «تخطرفته» (بالتاء).
9- زاد صاحب «المفضليات» بعد هذا البيت بيتا و هو: و آخر شاص ترى جلده كشر القتادة غب المط و الشاصي: الرافع رجليه و يديه. و إذا أصاب المطر القتاد انتفخت قشوره و ارتفعت عن الصميم. يريد قتيلا قد انتفخ فكأن جلده لحاء قتادة.
10- في جميع الأصول هنا: «بنجران» و هو تحريف. (راجع الحاشية رقم 6 من الصفحة السابقة).
11- كذا في ح و «المفضليات» و «معجم ما استعجم». و زعفه و أزعفه: رماه أو ضربه فمات مكانه سريعا. و في سائر الأصول: «مرعف» (بالراء المهملة).

فاطمة بنت المنذر، و كانت لها وليدة يقال لها بنت عجلان، و كان لها قصر [بكاظمة](1) و عليه حرس. و كان الحرس يجرّون كل ليلة حوله الثياب فلا يطؤه أحد إلا بنت عجلان. و كان لبنت عجلان في كلّ ليلة رجل من أهل الماء يبيت عندها. فقال عمرو بن جناب(2) بن مالك لمرقّش: إنّ بنت عجلان تأخذ كلّ عشيّة رجلا ممن يعجبها فيبيت معها.

و كان مرقّش ترعية(3) لا يفارق إبله، فأقام بالماء و ترك إبله ظمأى، و كان من أجمل الناس وجها و أحسنهم شعرا.

و كانت فاطمة بنت المنذر تقعد فوق القصر فتنظر إلى الناس. فجاء مرقّش فبات عند ابنة عجلان؛ حتى إذا كان من الغد تجرّدت عند مولاتها. فقالت لها: ما هذا بفخذيك؟ - و إذا نكت كأنها التين(4) و كآثار السّياط من شدّة حفزه إياها عند الجماع - قالت: آثار رجل بات معي الليلة. و قد كانت فاطمة قالت لها: لقد رأيت رجلا جميلا راح نحونا بالعشيّة لم أره قبل ذلك؛ قالت: فإنه فتى قعد عن إبله و كان يرعاها، و هو الفتى الجميل الذي رأيته، و هو الذي بات معي فأثر فيّ هذه/الآثار. قالت لها فاطمة: فإذا كان غد و أتاك فقدّمي له مجمرا و مريه أن يجلس عليه و أعطيه سواكا، فإن استاك به أو ردّه فلا خير فيه، و إن قعد على المجمر أو ردّه فلا خير فيه. فأتته بالمجمر فقالت له: اقعد عليه؛ فأبى و قال: أدنيه مني، فدخّن لحيته و جمّته و أبى أن يقعد عليه، و أخذ السواك فقطع رأسه و استاك به. فأتت ابنة عجلان فاطمة فأخبرتها بما صنع؛ فازدادت به عجبا و قالت: ائتيني به. فتعلقت به كما كانت تتعلق، فمضى معها و انصرف أصحابه. فقال القوم حين انصرفوا: لشدّ ما علقت بنت عجلان المرقّش! و كان الحرس ينثرون التراب حول قبّة فاطمة بنت المنذر و يجرّون عليه ثوبا حين تمسي و يحرسونها فلا يدخل عليها إلا ابنة عجلان؛ فإذا كان الغد بعث الملك بالقافة فينظرون أثر من دخل إليها و يعودون فيقولون له: لم نر إلا أثر بنت عجلان. فلما كانت تلك الليلة حملت بنت عجلان مرقّشا على ظهرها و حزمته/إلى بطنها بثوب، و أدخلته إليها فبات معها. فلما أصبح بعث الملك بالقافة فنظروا و عادوا إليه فقالوا: نظرنا أثر بنت عجلان و هي مثقلة. فلبث بذلك حينا يدخل إليها. فكان عمرو بن جناب بن عوف بن مالك يرى ما يفعل و لا يعرف مذهبه. فقال له: أ لم تكن عاهدتني عهدا لا تكتمني شيئا و لا أكتمك و لا نتكاذب؟! فأخبره مرقّش الخبر؛ فقال له: لا أرضى عنك و لا أكلّمك أبدا أو تدخلني عليها، و حلف على ذلك. فانطلق المرقّش إلى المكان الذي كان يواعد فيه بنت عجلان فأجلسه فيه و انصرف و أخبره كيف يصنع، و كانا متشابهين غير أن عمرو بن جناب كان أشعر، فأتته بنت عجلان فاحتملته و أدخلته إليها و صنع ما أمره به مرقش. فلما أراد مباشرتها وجدت شعر فخذيه فاستنكرته، و إذا هو يرعد؛ فدفعته بقدمها في صدره و قالت: قبّح اللّه سرّا عند المعيدي. و دعت بنت عجلان فذهبت به، و انطلق إلى موضع صاحبه. فلما رآه قد أسرع الكرّة و لم يلبث إلا قليلا، علم أنه قد/افتضح، فعضّ على إصبعه فقطعها. ثم انطلق إلى أهله و ترك المال الذي كان فيه - يعني الإبل التي كان مقيما فيها - حياء مما صنع. و قال مرقش في ذلك:

ص: 382


1- زيادة عن ح و «المفضليات» و «تجريد الأغاني». و كاظمة: على سيف البحر في طريق البحرين من البصرة بينها و بين البصرة مرحلتان و فيها آبار كثيرة و ماؤها شروب و استسقاؤها ظاهر.
2- كذا في «تجريد الأغاني» و «المفضليات» و فيما سيأتي في جميع الأصول. و في ح: «عمرو بن حباب». و في سائر الأصول: «حسان». و كلاهما تحريف.
3- رجل ترعية (مثلثة الأول مع تشديد الياء و قد تخفف) و ترعاية (بالكسر) و تراعية (بالضم) و ترعى (بالكسر): يجيد رعية الإبل، أو صناعته و صناعة آبائه رعاية الإبل.
4- كذا في أكثر الأصول. و في ح: «البثر». و في ب و «المفضليات»: «التبن». و قد أشير في هامش «المفضليات» إلى أن هذه الرواية (التين) لا معنى لها، و أنه يحتمل أن يكون محرفة عن «النبر» و هو الورم في الجسد.

ألا يا اسلمى لا صرم لي اليوم فاطما *** و لا أبدا ما دام وصلك دائما

رمتك ابنة البكريّ عن فرع ضالة *** و هنّ بنا خوص يخلن نعائما(1)

تراءت لنا يوم الرحيل بوارد *** و عذب الثنايا لم يكن متراكما(2)

سقاه حباب(3) المزن في متكلل *** من الشمس روّاه ربابا سواجما(4)

أرتك بذات الضّال منها معاصما *** و خدّا أسيلا كالوذيلة(5) ناعما

صحا قلبه عنها على أنّ ذكرة *** إذا خطرت دارت به الأرض قائما

تبصّر خليلي هل ترى من ظعائن *** خرجن سراعا و اقتعدن المفائما(6)

تحمّلن من جوّ الوريعة(7) بعد ما *** تعالى النهار و انتجعن الصّرائما(8)

تحلّين ياقوتا و شذرا و صيغة *** و جزعا ظفاريّا و درّا توائما(9)

/سلكن القرى و الجزع تحدى جمالها *** و ورّكن قوّا و اجتزعن المخارما(10)

ألا حبّذا وجه تريك بياضه *** و منسدلات كالمثاني فواحما(11)

و إني لأستحيي فطيمة جائعا *** خميصا و أستحيي فطيمة طاعما

و إني لأستحييك و الخرق(12) بيننا *** مخافة أن تلقى أخا لي صارما

و إني و إن كلّت قلوصي لراجم *** بها و بنفسي يا فطيم المراجما

ص: 383


1- الضال من السدر: ما لم يشرب الماء. و الخوص: الإبل الغائرة العيون من جهد السفر. و النعائم: جمع نعامة.
2- الوارد من الشعر: الطويل. و الفم المتراكم: المتقارب النبات قد ركب بعض أسنانه بعضا.
3- في «المفضليات»: «حبيّ المزن» و حبي المزن: ما اقترب منه.
4- كذا في ح و «المفضليات». و في سائر الأصول: «سراكما» و هو تحريف.
5- الوذيلة: سبيكة الفضة.
6- كذا في «المفضليات» و «معجم البلدان» (ج 4 ص 929). و المفائم: العظام من الإبل، و قيل: هي المراكب الوافية الواسعة، واحدها مفأم. و في جميع الأصول: «المقائم» (بالقاف). و اقتعدن: ركبن.
7- كذا في «المفضليات» و «معجم البلدان». و الوريعة: حزم لبني فقيم بن جرير بن دارم. و الحزم: ما غلظ من الأرض و كثرت حجارته و أشرف حتى صار له إقبال لا يعلوه الناس و الإبل إلا بالجهد. و في جميع الأصول: «الوديعة» بالدال المهملة، و هو تحريف.
8- الصرائم: جمع صريمة و هي القطعة من الرمل تنقطع من معظم الرمل.
9- الشذر: اللؤلؤ الصغير، و قيل: هو خرز يفصل به بين الجواهر في النظم. و الجزع (بالفتح): الخرز. و ظفاري: نسبة إلى ظفار، بلد باليمن ينسب إليها الجزع. و فيها يقال: «من دخل ظفار حمر» (بتشديد الميم) أي تكلم بلغة حمير. و ذلك أن رجلا من العرب دخل على ملك حمير و هو على سطح، فقال له: ثب، فوثب فتكسر. و وثب بلغة حمير قعد. و توائم: اثنتين اثنتين.
10- رواية «المفضليات»: «جمالهم». و الجزع (بالكسر): منعطف الوادي. و وركن: عدلن و قوّ: منزل للقاصد إلى المدينة من البصرة، يرحل من النباج فينزل قوا، و هو واد يقطع الطريق تدخله المياه و لا تخرج و عليه قنطرة يعبر القفول عليها يقال لها بطن قوّ. و قيل: قو بين فيد و النباج. و هو أيضا واد بين اليمامة و هجر نزل به الحطيئة على الزبرقان بن بدر فلم يجهزه فقال فيه شعرا. و اجتزعن: قطعن و في ب، س: «و اخترعن» و هو تصحيف. و المخارم: جمع مخرم و هو رمل مستطيل فيه طريق. و قيل: هو أطراف الطرق في الجبال.
11- في أكثر الأصول: «يريك». و التصويب عن ح. و رواية «المفضليات»: «ترينا». و منسدلات: يريد ذوائب من الشعر مسترخية. و المثاني: الحبال. شبه ذوائب الشعر بالحبال في الطول. و فواحم: سود.
12- الخرق: ما اتسع من الأرض.

ألا يا اسلمى بالكوكب الطّلق(1) فاطما *** و إن لم يكن صرف النوى متلائما

ألا يا اسلمى ثم اعلمي أنّ حاجتي *** إليك فردّي من نوالك فاطما

أ فاطم لو أنّ النساء ببلدة *** و أنت بأخرى لابتغيتك(2) هائما

متى ما يشأ ذو الودّ يصرم خليله *** و يغضب عليه لا محالة ظالما

و آلى جناب حلفة فأطعته *** فنفسك ولّ اللّوم إن كنت نادما

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره *** و من يغو لا يعدم على الغيّ لائما

أ لم تر أنّ المرء يجذم كفّه *** و يجشم من لوم الصديق المجاشما(3)

أ من حلم أصبحت تنكت واجما(4) *** و قد تعترى الأحلام من كان نائما

صوت من المائة المختارة

إذا قلت تسلو النفس أو تنتهي المنى *** أبى القلب إلاّ حبّ أمّ حكيم

منعّمة صفراء حلو دلالها *** أبيت بها بعد الهدوء(5) أهيم(6)

قطوف(7) الخطا مخطوطة(8) المتن زانها *** مع الحسن خلق في الجمال عميم

الشعر مختلف في قائله، فمن الرواة من يرويه لصالح بن عبد اللّه العبشميّ، و منهم من يرويه لقطريّ بن الفجاءة المازنيّ، و منهم من يرويه لعبيدة(9) بن هلال اليشكريّ. و الغناء لسياط، و له فيه لحنان: أحدهما، و هو المختار، ثقيل أوّل بالوسطى، و الآخر خفيف ثقيل بالسّبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و لبعض الشّراة قصيدة في هذا الوزن و على هذه القافية، و فيها ذكر لأمّ حكيم هذه أيضا، تنسب إلى هؤلاء الشعراء الثلاثة، و يختلف في قائلها كالاختلاف في قائل هذه. و فيها(10) أيضا غناء و هو في هذه الأبيات منها:

ص: 384


1- كذا في «المفضليات». و الطلق: الذي لا حر فيه و لا قر و لا شيء يؤذي. و في جميع الأصول: «بالكوكب الفرد».
2- في «المفضليات»: «لا تبعتك».
3- يجذم: يقطع. و يجشم: يركب المكروه.
4- نكت في الأرض: خطط فيها بعود، و كذلك يفعل المغتم. و واجما: حزينا.
5- الهدوء: الهزيع من الليل.
6- في هذا الشعر إقواء، و هو اختلاف حركة الروي.
7- قطوف الخطا: ضيقتها.
8- كذا في ح. و يقال: جارية محطوطة المتنين أي ممدودتهما أو هي ممدودة حسنة مستوية. و في ب، س: «مخطوطة» (بالخاء المعجمة). و في سائر الأصول: «محظوظة» (بظاءين معجمتين). و كلاهما تصحيف.
9- ضبط هذا الاسم في ح بفتح العين، و كذلك ضبط في «الطبري» بفتح العين و كسر الباء. و ورد في «الكامل» للمبرد طبع أوروبا مضبوطا بفتح العين و كسر الباء في مواضع و بضم العين و فتح الباء (مصغرا) في مواضع أخرى. و ضبط في «الاشتقاق» لابن دريد بضم العين.
10- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و فيه».

/

لعمرك إنّي في الحياة لزاهد *** و في العيش ما لم ألق أمّ حكيم

و لو شهدتني(1) يوم دولاب(2) أبصرت *** طعان فتى في الحرب غير ذميم

ذكر المبرّد أن الشعر لقطريّ بن الفجاءة، و ذكر الهيثم بن عديّ أنه لعمرو القنا، و ذكر وهب بن جرير أنه لحبيب بن سهم التّميميّ، و ذكر أبو مخنف(3) أنه لعبيدة بن هلال اليشكريّ، و ذكر خالد بن خداش(4) أنه لعمرو القنا أيضا. و الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى/الوسطى عن إسحاق و يونس.

ص: 385


1- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «شهدتنا».
2- دولاب (بفتح أوّله و أكثر المحدثين يروونه بالضم): قرية تعرض لها أبو الفرج بالشرح بعد قليل.
3- كذا في أكثر الأصول، و هو لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم، كان صاحب أخبار و أنساب، و الأخبار عليه أغلب. و جدّه مخنف بن سليم روى عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلم. و في ب، س: «أبو محنف» (بالحاء المهملة). (راجع «المعارف» لابن قتيبة ص 267 و «فوات الوفيات» ج 2 ص 175 طبع بولاق).
4- كذا فيما سيأتي في جميع الأصول. و «تهذيب التهذيب». و هو خالد بن خداش بن عجلان الأزدي المهلبي (نسبة إلى المهلب بن أبي صفرة). روى عن حماد بن زيد و صالح المري و غيرهما، و روى له البخاري في الأدب، و قد مات سنة 223 ه.

10 - خبر الوقعة التي قيل فيها هذان الشعران و هي وقعة دولاب و شيء من أخبار هؤلاء الشراة و أنسابهم و خبر أم حكيم هذه

وقعة دولاب و شيء من أخبار الشراة:

هذان الشعران قيلا في وقعة دولاب، و هي قرية من عمل الأهواز، بينها و بين الأهواز نحو من أربعة فراسخ، كانت بها حرب بين الأزارقة و بين مسلم بن عبيس بن كريز خليفة عبد اللّه بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب، و ذلك في أيام ابن الزبير. أخبرني بخبر هذه الحرب أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ عن عمر بن شبّة عن المدائني، و أخبرني بها عبيد اللّه بن محمد الرازي عن الخرّاز عن المدائنيّ، و أخبرني الحسن بن عليّ عن أحمد بن زهير بن حرب عن خالد بن خداش:

أن نافع بن الأزرق، لمّا تفرقت آراء الخوارج و مذاهبهم في أصول مقالتهم أقام بسوق الأهواز و أعمالها لا يعترض الناس، و قد كان متشكّكا في ذلك. فقالت له امرأته: إن كنت قد كفرت بعد إيمانك و شككت فيه، فدع نحلتك و دعوتك، و إن كنت قد خرجت من الكفر إلى الإيمان فاقتل الكفّار حيث لقيتهم و أثخن في النساء و الصبيان كما قال نوح: لاٰ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكٰافِرِينَ دَيّٰاراً . فقبل قولها و استعرض(1) الناس و بسط سيفه، فقتل الرجال و النساء و الولدان، و جعل يقول: إن هؤلاء إذا كبروا كانوا مثل آبائهم. و إذا وطئ بلدا فعل مثل هذا به إلى أن يجيبه أهله جميعا و يدخلوا ملّته، فيرفع السيف و يضع الجباية فيجبي الخراج. فعظم أمره و اشتدّت شوكته و فشا عمّاله في السواد. فارتاع لذلك أهل البصرة و مشوا إلى الأحنف بن قيس فشكوا إليه أمرهم و قالوا له: ليس بيننا و بين القوم إلا ليلتان، /و سيرتهم كما ترى؛ فقال لهم الأحنف: إنّ سيرتهم في مصر كم إن ظفروا به مثل سيرتهم في سوادكم، فخذوا في جهاد عدوّكم. و حرّضهم الأحنف، فاجتمع إليه عشرة آلاف رجل في السلاح. فأتاه عبد اللّه بن الحارث بن نوفل، و سأله أن يؤمّر عليهم أميرا، فاختار لهم مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة، و كان فارسا شجاعا ديّنا، فأمّره عليهم و شيّعه. فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس و قال: إني ما خرجت لامتيار ذهب و لا و فضة، و إني لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم و رماحهم. فمن كان من شأنه الجهاد فلينهض، و من أحبّ الحياة فليرجع. فرجع نفر يسير و مضى الباقون معه؛ فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع بن الأزرق، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسّرت الرماح و عقرت الخيل و كثرت الجراح و القتلى، و تضاربوا بالسيوف و العمد؛ فقتل في المعركة ابن عبيس و هو على أهل البصرة، و ذلك في جمادى الآخرة سنة خمس و ستين، و قتل نافع بن الأزرق يومئذ أيضا؛ فعجب الناس من ذلك، و أنّ الفريقين تصابروا حتى قتل منهم خلق كثير، و قتل رئيسا العسكرين،

ص: 386


1- استعرض الناس: قتلهم و لم يبال من قتل مسلما أو كافرا من أي وجه أمكنه.

و الشّراة يومئذ ستّمائة رجل، فكانت الحدّة يومئذ و بأس الشراة واقعا ببني(1) تميم و بني سدوس. و أتى ابن عبيس و هو يجود بنفسه فاستخلف على الناس الرّبيع بن عمرو/الغدانيّ، و كان يقال له الأجذم، كانت يده أصيبت بكابل مع عبد الرحمن بن سمرة. و استخلف نافع بن الأزرق عبيد اللّه بن بشير بن الماحوز(2) أحد بني سليط بن يربوع. فكان رئيسا المسلمين و الخوارج جميعا من بني يربوع، رئيس المسلمين من بني غدانة بن يربوع، و رئيس الشّراة من بني سليط بن يربوع، /فاتّصلت الحرب بينهم عشرين يوما. قال المدائني في خبره: و ادّعى قتل نافع بن الأزرق رجل من باهلة يقال له سلامة. و تحدّث بعد ذلك قال: كنت لما قتلته على برذون(3) ورد فإذا أنا برجل ينادي، و أنا واقف في خمس(4) بني تميم(5)، فإذا به يعرض عليّ المبارزة فتغافلت عنه، و جعل يطلبني و أنا أنتقل من خمس إلى خمس و ليس يزايلني، فصرت إلى رحلي ثم رجعت فدعاني إلى المبارزة، فلما أكثر خرجت إليه، فاختلفنا ضربتين فضربته فصرعته، و نزلت فأخذت رأسه و سلبته، فإذا امرأة(6) قد رأتني حين قتلت نافعا، فخرجت لتثأر به. قالوا: فلما قتل نافع و ابن عبيس و ولّي الجيش إلى ربيع بن عمرو لم يزل(7) يقاتل الشّراة نيّفا و عشرين يوما، ثم أصبح ذات يوم فقال لأصحابه: إني مقتول لا محالة؛ قالوا: و كيف ذلك؟ قال: إني رأيت البارحة كأنّ يدي التي أصيبت بكابل انحطّت من السماء فاستشلتني. فلما كان الغد قاتل إلى الليل ثم غاداهم(8) فقتل يومئذ - قال: استشلاه: أخذه إليه. يقال:

استشلاه و اشتلاه - قال: فلما قتل الربيع تدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب إذ لم يكن لهم رئيس؛ ثم أجمعوا على الحجّاج بن باب الحميريّ. و قد اقتتل الناس يومئذ و قبله بيومين قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله، تطاعنوا بالرماح حتى تقصّفت، /ثم تضاربوا بالسيوف و العمد حتى لم يبق لأحد منهم قوة، و حتى كان الرجل منهم يضرب الرجل فلا يغني شيئا من الإعياء، و حتى كانوا يترامون بالحجارة و يتكادمون(9) بالأفواه. فلما تدافع القوم الراية و أبوها و اتّفقوا على الحجّاج بن باب امتنع من أخذها. فقال له كريب بن عبد الرحمن: خذها فإنها مكرمة؛ فقال:

إنها لراية مشئومة، ما أخذها أحد إلا قتل. فقال له كريب: يا أعور! تقارعت العرب على أمرها ثم صيّروها إليك فتأبى خوف القتل! خذ اللواء ويحك! فإن حضر أجلك قتلت إن كانت معك أو لم تكن. فأخذ اللواء و ناهضهم، فاقتتلوا حتى انتقضت الصفوف و صاروا كراديس(10)، و الخوارج أقوى عدّة بالدروع و الجواشن(11). و جعل الحجّاج يغمض عينيه و يحمل حتى يغيب في الشّراة و يطعن فيهم و يقتل حتى يظنّ أنه قد قتل، ثم يرفع رأسه و سيفه يقطر

ص: 387


1- كذا في أ،. و في سائر الأصول: «بين تميم...».
2- كذا في «الكامل» للمبرد في أكثر من موضع و «الطبري». و في جميع الأصول: «الماخور». (بالخاء المعجمة و الراء المهملة).
3- البرذون: واحد البراذين، و هي من الخيل ما كانت من غير نتاج العرب.
4- كذا في ح هنا و فيما يأتي و «الكامل» للمبرد. و أخماس البصرة خمسة: الخمس الأول العالية، و الثاني بكر بن وائل، و الثالث تميم، و الرابع عبد القيس، و الخامس الأزد. و في سائر الأصول هنا و فيما يأتي: «خميس».
5- في «الكامل» (ج 2 ص 617 طبع أوروبا): «و أنا واقف في خمس قيس (صوابه عبد القيس) ينادي: يا صاحب الورد، هلم إلى المبارزة، فوقفت في خمس بني تميم فإذا به يعرضها عليّ... إلخ».
6- كذا في ح و «الكامل» للمبرد. و في سائر الأصول: «فإذا هي امرأته... إلخ».
7- في ب، س: «و لم يزل».
8- كذا في «الكامل» للمبرد. و غاداهم: باكرهم. و في جميع الأصول: «ثم عاد... إلخ».
9- تكادموا بالأفواه: تعاضوا.
10- الكراديس: كتائب الخيل، واحدها كردوس.
11- الجواشن: جمع جوشن و هو زرد يلبسه الصدر.

دما، و يفتح عينيه فيرى الناس كراديس يقاتل كلّ قوم في ناحية. ثم التقى الحجّاج بن باب و عمران بن الحارث الراسبيّ(1)، فاختلفا ضربتين كلّ واحد منهما قتل صاحبه، و جال الناس بينهما جولة ثم تحاجزوا؛ و. أصبح أهل البصرة - و قد هرب عامّتهم، و ولّوا حارثة بن بدر الغدانيّ أمرهم - ليس بهم طرق(2) و لا بالخوارج. فقالت امرأة من الشّراة - و هي أم عمران قاتل الحجّاج بن باب و قتيله - ترثي ابنها عمران:

اللّه أيّد عمرانا و طهّره *** و كان عمران يدعو اللّه في السّحر

/يدعوه سرّا و إعلانا ليرزقه *** شهادة بيدي ملحادة(3) غدر

ولّى صحابته عن حرّ ملحمة *** و شدّ عمران كالضرغامة(4) الذكر(5)

قال: فلما عقدوا لحارثة بن بدر الرئاسة و سلّموا إليه الراية نادى فيهم بأن يثبتوا، فإذا فتح اللّه عليهم فللعرب زيادة فريضتين و للموالي زيادة فريضة؛ فندب الناس فالتقوا و ليس بأحد منهم طرق، و قد فشت فيهم الجراحات فلهم أنين، و ما تطأ الخيل إلا على القتلى. فبينما هم كذلك إذ أقبل من اليمامة جمع من الشّراة - يقول المكثّر إنهم مائتان و المقلّل إنهم أربعون - فاجتمعوا و هم يريحون مع أصحابهم(6) و اجتمعوا كبكبة(7) واحدة، فحملوا على المسلمين.

فلما رآهم حارثة بن بدر نكص برايته فانهزم و قال:

كرنبوا(8) و دولبوا *** و حيث شئتم فاذهبوا(9)

و قال:

أير الحمار فريضة لعبيدكم *** و الخصيتان فريضة الأعراب

/و تتابع الناس على أثره منهزمين، و تبعتهم الخوارج، فألقوا أنفسهم في دجيل(10) فغرق منهم خلق كثير

ص: 388


1- كذا في أ، ء و «الكامل». و في سائر الأصول: «الراسي».
2- كذا في أكثر الأصول. و الطرق (بالكسر): القوة. و في ب، س: «لهم طرف» بالفاء و هو تصحيف.
3- الملحادة: مفعال من الإلحاد (و هو الجور و العدول عن الدين) كما يقال رجل معطاء و مكرام. و أدخلت الهاء للمبالغة كما تدخل في راوية و علامة و نسابة. و غدر (بضم ففتح): كثير الغدر.
4- الضرغامة: من أسماء الأسد.
5- في «الكامل»: «الهصر» و الهصر: الذي يهصر كل شيء أي يثنيه.
6- في ب، س: «مع أصحائهم» و لا معنى لها.
7- الكبكبة: الجماعة.
8- كذا في ح و «الطبري» (ق 2 ص 580) و «معجم البلدان». و كرنبوا: أنزلوا كرنبي و هي موضع بالأهواز. و دولبوا: أنزلوا دولاب. و في سائر الأصول: «أكرنبوا» و هو تحريف.
9- يقال: إن سبب قول الحارثة هذا الشعر هو أنه لما خلف الحجاج بن باب على إمرة الجيش و جاء الخوارج هذا المدد الكثير المريح حملوا على المسلمين فانهزموا، و بقي حارثة يناوش الخوارج بمنزل نزله بمن بقي معه بالأهواز. فلما ولي ابن الزبير عمر بن عبد اللّه بن معمر على البصرة أرسل عمر أخاه عثمان لقتال الأزارقة و انضم إليه حارثة. ثم كان بين عثمان و حارثة خلاف اعتزل بسببه حارثة. ثم لما أفضى الأمر في محاربة الخوارج إلى المهلب و بلغ حارثة بن بدر أن المهلب قد أمر على الجيش لقتال الخوارج قال لمن معه: كرنبوا و دولبوا و حيث شئتم فاذهبوا قد أمر المهلب فذهب من كان معه إلى البصرة، فردهم الحارث بن عبد اللّه إلى المهلب. (راجع «الطبري» في حوادث سنة 65).
10- دجيل: نهر بالأهواز حفره أردش بن بابك أحد ملوك الفرس، و اسمه بالفارسية: «ديلدا كودك» و معناه: دجلة الصغير فعرب على

و سلمت بقيّتهم. و كان ممن غرق دغفل بن حنظلة أحد بني عمرو بن شيبان. و لحقت قطعة من الشّراة خيل عبد القيس فأكبّوا عليهم، فعطفت عليهم خيل من بني تميم فعاونوهم و قاتلوا الشّراة حتى كشفوهم و انصرفوا إلى أصحابهم. و عبرت بقيّة الناس، فصار حارثة و من معه بنهر تيري(1) و الشّراة بالأهواز، فأقاموا ثلاثة أيام. و كان على الأزد يومئذ قبيصة بن أبي صفرة أخو المهلّب، و هو جدّ هزارمرد(2). قال: و غرق يومئذ من الأزد عدد كثير. فقال شاعر الأزارقة:

يرى من جاء ينظر من دجيل *** شيوخ الأزد طافية لحاها

و قال شاعر آخر منهم:

شمت ابن بدر، و الحوادث جمة، *** و الظالمون بنافع بن الأزرق

و الموت حتم لا محالة واقع *** من لا يصبّحه نهارا يطرق(3)

فلئن أمير المؤمنين أصابه *** ريب المنون فمن تصبه يغلق(4)

قال قطريّ بن الفجاءة، فيما ذكر المبرّد، و قال المدائني في خبره: إن صالح بن عبد اللّه العبشميّ قائل ذلك؛ و قال خالد بن خداش: بل قائلها عمرو القنا؛ قال/وهب بن جرير عن أبيه فيما حدّثني به أحمد بن الجعد الوشّاء عن أحمد بن أبي خيثمة عن أبيه عن وهب بن جرير عن أبيه: إن حبيب بن سهم قائلها:

لعمرك إنّي في الحياة لزاهد *** و في العيش ما لم ألق أمّ حكيم(5)

من الخفرات البيض لم أر مثلها *** شفاء لذي بثّ و لا لسقيم

لعمرك إني يوم ألطم وجهها *** على نائبات الدهر غير حليم

و لو شهدتني يوم دولاب أبصرت *** طعان فتى في الحرب غير لئيم

غداة طفت علماء(6) بكر بن وائل *** و ألاّفها من حمير و سليم(7)

/و مال الحجازيّون نحو بلادهم *** و عجنا صدور الخيل نحو تميم

ص: 389


1- تيري (بكسر التاء المثناة الفوقية و ياء ساكنة وراء مفتوحة، مقصورا): بلد من نواحي الأهواز: و نهر تيري حفره أردشير الأصغر بن بابك.
2- كذا في ح هنا و فيما سيأتي في جميع الأصول و «الطبري» و «اللباب في معرفة الأنساب» لابن الأثير الجزري مضبوطا بالقلم بنسخة مخطوطة بخط قديم جدا، و معناه ألف رجل. و في سائر الأصول هنا: «هزامرد» و هو تحريف.
3- طرقه يطرقه (من باب مصر): أتاه ليلا.
4- أمير المؤمنين: يريد به نافع بن الأزرق. و يغلق، أي لا ينفلت و لا ينجو. مأخوذ من غلق الرهن في يد المرتهن، إذا لم يقدر على فكاكه و استخلاصه.
5- وردت هذه القصيدة في «الكامل» (ص 618-619 طبع أوروبا) و «معجم البلدان» (ج 2 ص 623) باختلاف في بعض الألفاظ و الأبيات.
6- يريد: على الماء.
7- يريد سليم بالتصغير فكبره للوزن. و سليم أبو قبيلة، و هو سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر.

و كان لعبد القيس أوّل جدّها *** و ولّت شيوخ الأزد فهي تعوم(1)

فلم أر يوما كان أكثر مقعصا *** يمجّ دما من فائظ و كليم(2)

و ضاربة خدّا كريما على فتى *** أغرّ نجيب الأمهات كريم

أصيب بدولاب و لم تك موطنا *** له أرض دولاب و دير حميم(3)

فلو شهدتنا يوم ذاك و خيلنا *** تبيح من الكفّار كلّ حريم

رأت فتية باعوا الإله نفوسهم *** بجنّات عدن عنده و نعيم

حدّثني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا خلاّد(4) الأرقط قال:

/كان الشّراة و المسلمون يتواقفون و يتساءلون بينهم عن أمر الدّين و غير ذلك على أمان و سكون فلا يهيج بعضهم بعضا. فتواقف يوما عبيدة بن هلال اليشكريّ و أبو حزابة(5) التّميمي و هما في الحرب؛ فقال عبيدة: يا أبا حزابة، إني سائلك عن أشياء، أ فتصدقني في الجواب عنها؟ قال: نعم إن تضمّنت لي مثل ذلك؛ قال: قد فعلت.

قال: سل عما بدا لك. قال: ما تقول في أئمتكم؟ قال: يبيحون الدم الحرام و المال الحرام و الفرج الحرام. قال:

ويحك! فكيف فعلهم في المال؟ قال: يجبونه من غير حلّه، و ينفقونه في غير حقه. قال: فكيف فعلهم في اليتيم؟ قال: يظلمونه ماله، و يمنعونه حقه، و ينيكون أمّه. قال: ويلك يا أبا حزابة! أ فمثل هؤلاء تتّبع؟! قال: قد أجبت، فاسمع سؤالي ودع عنك عتابي على رأيي؛ قال: قل. قال: أيّ الخمر أطيب: أخمر السهل أم خمر الجبل؟ قال:

ويلك! أ تسأل مثلي عن هذا؟ قال: قد أوجبت على نفسك أن تجيب؛ قال: أمّا إذ أبيت فإنّ خمر الجبل أقوى و أسكر، و خمر السهل أحسن و أسلس. قال أبو حزابة: فأيّ الزّواني أفره: أ زواني رامهرمز(6) أم زواني أرّجان(7)؟ قال: ويلك! إن مثلي لا يسأل عن مثل هذا؛ قال: لا بدّ من الجواب أو تغدر؛ فقال: أمّا إذ أبيت فزواني رامهرمز أرقّ أبشارا، و زواني أرّجان أحسن أبدانا. قال: فأيّ الرجلين أشعر: أ جرير أم الفرزدق؟ قال: عليك و عليهما لعنة اللّه! أيهما الذي يقول:

/

و طوى الطّراد مع القياد(8) بطونها *** طيّ التّجار بحضر موت برودا

ص: 390


1- في هذا البيت إقواء.
2- المقعص: يقال: أقعصه بالرمح إذا طعنه به فمات مكانه. و الفائظ: الميت، فعله فاظ يفيظ و يفوظ فيظا و فوظا. و الكليم: الجريح.
3- دير حميم: موضع بالأهواز، ذكره ياقوت و استشهد بهذا البيت.
4- هو خلاد بن يزيد الباهلي البصري المعروف بالأرقط صهر يونس بن حبيب النحوي.
5- كذا في ح. و هو الوليد بن حنيفة أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، شاعر من شعراء الدولة الأموية. (راجع «شرح القاموس» مادة حزب. و ترجمته في «الأغاني» ج 19 ص 152-156 طبع بولاق). و في سائر الأصول: «أبو خرابة» (بالخاء المعجمة و الراء المهملة) و هو تصحيف.
6- رامهرمز: مدينة مشهورة بنواحي خوزستان و العامة يسمونها «رامز» اختصارا.
7- أرجان (بفتح الألف و بتشديد الراء مفتوحة - و قيل بسكونها - و جيم و ألف و نون، و عامة العجم يسمونها «أرغان»): مدينة كبيرة كثيرة الخير بها نخيل و زيتون و فواكه، و هي برية بحرية سهلية جبلية، و بينها و بين سوق الأهواز ستون فرسخا.
8- كذا في أ، ء و «ديوان جرير». و هو من قصيدة طويلة مطلعها: أهوى أراك برامتين وقودا أم بالجنينة من مدافع أودا و في سائر الأصول: «الغياد» (بالغين المعجمة) و هو تحريف.

قال: جرير؛ قال: فهو أشعرهما. قال: و كان الناس قد تجاذبوا في أمر جرير و الفرزدق حتى تواثبوا و صاروا إلى المهلّب محكّمين له في ذلك؛ فقال: أردتم(1) أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين فيمتضغاني! ما كنت لأحكم بينهما، و لكني أدلّكم على من يحكم بينهما ثم يهون عليه سبابهما، عليكم بالشّراة فسلوهم إذا تواقفتم. فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك فأجابه بهذا الجواب.

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني ميمون بن هارون قال:

حدّثت أن امرأة من الخوارج كانت مع قطريّ بن الفجاءة يقال لها أمّ حكيم، و كانت من أشجع الناس و أجملهم وجها و أحسنهم بدينهم تمسّكا، و خطبها جماعة منهم فردّتهم و لم تجب إلى ذلك؛ فأخبرني من شهدها أنها كانت تحمل على الناس و ترتجز:

/

أحمل رأسا قد سئمت حمله *** و قد مللت دهنه و غسله

أ لا فتى يحمل عنّي ثقله

قال: و هم يفدّونها بالآباء و الأمهات، فما رأيت قبلها و لا بعدها مثلها.

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال:

/كان عبيدة بن هلال إذا تكافّ الناس ناداهم: ليخرج إليّ بعضكم؛ فيخرج إليه فتيان من العسكر؛ فيقول لهم: أيّما أحبّ إليكم: أقرأ عليكم القرآن أو أنشدكم الشعر؟ فيقولون له: أمّا القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك، فأنشدنا؛ فيقول لهم: يا فسقة، و اللّه قد علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن، ثم لا يزال ينشدهم و يستنشدهم حتى يملّوا ثم يفترقون.

ص: 391


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فقال إن أردتم...» و ظاهر أن كلمة «إن» مقحمة.

11 - أخبار سياط و نسبه

أخبار سياط و نسبه و تلامذته و أستاذه:

سياط لقب غلب عليه، و اسمه عبد اللّه بن وهب، و يكنى أبا وهب، مكيّ مولى خزاعة. و كان مقدّما في الغناء رواية و صنعة، و مقدّما في الضرب معدودا في الضّرّاب. و هو أستاذ ابن جامع و إبراهيم الموصلي، و عنه أخذا و نقلا و نقل نظراؤهما الغناء القديم، و أخذه هو عن يونس الكاتب. و كان سياط زوج أمّ ابن جامع. و فيه يقول بعض الشعراء:

ما سمعت الغناء إلاّ شجاني *** من سياط و زاد في وسواسي

غنّني يا سياط قد ذهب اللي *** ل غناء يطير منه نعاسي

ما أبالي إذا سمعت غناء *** لسياط ما فاتني للرّؤاسي

و الرؤاسيّ الذي عناه هو عباس بن منقار، و هو من بني رؤاس. و فيه يقول محمد بن أبان الضّبّيّ:

إذا و آخيت عبّاسا *** فكن منه على وجل(1)

فتى لا يقبل العذر *** و لا يرغب في الوصل

و ما(2) إن يتغنّى من *** يواخيه من النّبل

سبب تلقيبه بسياط:

قال حمّاد بن إسحاق: لقّب سياط هذا اللقب لأنه كان كثيرا ما يتغنّى:

كأنّ مزاحف الحيّات فيه *** قبيل الصبح آثار السّياط

مدح إبراهيم الموصلي غناءه:

و أخبرني محمد بن خلف قال حدّثني هارون بن مخارق(3) عن أبيه، و أخبرني به عبد اللّه بن عباس بن الفضل بن الربيع الربيعي(4) عن وسواسة الموصليّ - و لم أسمع أنا هذا الخبر من وسواسة - عن حماد عن أبيه، قالا(5):

ص: 392


1- كذا في الأصول. و الوجل بالتحريك، و لعله سكن لضرورة الشعر، و يحتمل أن يكون صوابه: «على دخل». و الدخل بسكون الخاء كالدخل بالتحريك و هو الريبة.
2- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «و من».
3- في الأصول: «هارون بن مخالف» و هو تحريف، لأن الذي يروي عنه محمد بن خلف وكيع هو «هارون بن مخارق».
4- كذا في ح، و في جميع الأصول: «الربعي» و هو تحريف. راجع الحاشية (رقم 2 ص 252 من الجزء الثالث من هذه الطبعة).
5- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «قال».
طلبه المهدي مع حبال و عقاب فظن الحاضرون أنه يريد الإيقاع بهم:

غنّى إبراهيم الموصليّ يوما صوتا لسياط؛ فقال له ابنه إسحاق: لمن هذا الغناء يا أبت؟ قال: لمن لو عاش ما وجد أبوك شيئا يأكله؛ لسياط. قال: و قال المهديّ يوما و هو يشرب لسلاّم الأبرش(1): جئني بسياط و عقاب و حبال؛ فارتاع كلّ من حضر و ظنّ جميعهم أنه يريد الإيقاع بهم أو ببعضهم؛ فجاءه بسياط المغنّي و عقاب المدني - و كان الذي يوقع عليه - و حبال الزامر. فجعل الجلساء يشتمونهم و المهديّ يضحك.

مر بأبي ريحانة المدني و هو في الشمس من البرد فغنى له فشق ثوبه و بقي في البرد:

أخبرني محمد بن خلف قال حدّثني أبو أيوب المدنيّ قال حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال:

مرّ سياط على أبي ريحانة المدنيّ في يوم بارد و هو جالس في الشمس و عليه ثوب رقيق رثّ؛ فوثب إليه/أبو ريحانة و قال: بأبي أنت يا أبا وهب، غنّني صوتك في شعر ابن جندب(2):

/

فؤادي رهين في هواك و مهجتي *** تذوب و أجفاني عليك همول

فغنّاه إياه، فشقّ قميصه و رجع إلى موضعه من الشمس و قد ازداد بردا و جهدا. فقال له رجل: ما أغنى عنك ما غنّاك من شقّ قميصك! فقال له يا ابن أخي، إن الشعر الحسن من المغنّي الحسن ذي الصوت المطرب أدفأ للمقرور من حمّام محمّى. فقال له رجل: أنت عندي من الذين قال اللّه جل و عزّ: فَمٰا رَبِحَتْ تِجٰارَتُهُمْ وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ ؛ فقال: بل أنا من الذين قال تبارك و تعالى: اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ . و قد أخبرني بهذا الخبر عليّ بن عبد العزيز(3) عن ابن خرداذبه فذكر قريبا من هذا؛ و لفظ أبي أيوب و خبره أتم.

و أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعي، المعروف بابن أبي اليسع، قال حدّثنا عمر بن شبّة:

أنّ سياطا مرّ بأبي ريحانة المدنيّ، فقال له: بحق القبر و من غنّني بلحنك في شعر ابن جندب:

لكلّ حمام أنت باك إذا بكى *** و دمعك منهلّ و قلبك يخفق

مخافة بعد بعد قرب و هجرة *** تكون و لمّا تأت و القلب مشفق

و لي مهجة ترفضّ من خوف عتبها *** و قلب بنار الحبّ يصلى و يحرق

أظلّ خليعا بين أهلي متيّما *** و قلبي لما يرجوه منها معلّق

فغنّاه إياه؛ فلما استوفاه ضرب بيده على قميصه فشقّه حتى خرج منه و غشي عليه. فقال له رجل لمّا أفاق:

يا أبا ريحانة، ما أغنى عنك الغناء! ثم ذكر باقي الخبر مثل ما تقدّم.

ص: 393


1- كذا في ح و «الطبري» في أكثر من موضع و فيما مر في جميع الأصول في الجزء الخامس. و هو سلام الأبرش من النقلة القدماء الذين ترجموا من اللغات إلى اللغة العربية في أيام البرامكة، و هو أحد الذين ترجموا كتاب السماع الطبيعي لأرسطو المعروف بسماع الكيان، و هو ثماني مقالات. و قد ترجم هذا الكتاب من اليوناني إلى السرياني و منها إلى العربي، و من الرومي إلى العربي، و لم ندر اللغة التي ترجمه منها إلى اللغة العربية أ هي السريانية أم الرومية. (راجع «فهرست ابن النديم» و «تاريخ الحكماء» للقفطي و «كشف الظنون»). و في سائر الأصول هنا: «سلام بن الأبرش»، و هو تحريف.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «في شعر ابن جندب قال... إلخ». و الظاهر أن كلمة «قال» مقحمة من الناسخ.
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «علي بن عبد العزيز بن خرداذبه» و هو تحريف؛ لأن ابن خرداذبه هو عبيد اللّه بن عبد اللّه. و قد سبقت رواية علي بن عبد العزيز عنه.
سمع أبو ريحانة جارية تغني فشق قربتها و اشترى لها عوضها:

أخبرني إسماعيل قال حدّثني عمر بن شبّة قال:

مرّت جارية بأبي ريحانة يوما على ظهرها قربة و هي تغنّي و تقول:

و أبكى فلا ليلى بكت من صبابة *** إليّ و لا ليلى لذي الودّ تبذل

و أخنع بالعتبى إذا كنت مذنبا *** و إن أذنبت كنت الذي أتنصّل

فقام إليها فقال: يا سيّدتي أعيدي؛ فقالت: مولاتي تنتظرني و القربة على ظهري؛ فقال: أنا أحملها عنك؛ فدفعتها إليه فحملها، و غنته الصوت، فطرب فرمى بالقربة فشقّها. فقالت له الجارية: أ من حقّي أن أغنّيك و تشقّ قربتي! فقال لها: لا عليك، تعالي معي إلى السّوق؛ فجاءت معه فباع ملحفته و اشترى لها بثمنها قربة جديدة. فقال له رجل: يا أبا ريحانة، أنت و اللّه كما قال اللّه عزّ و جلّ: فَمٰا رَبِحَتْ تِجٰارَتُهُمْ وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ ؛ فقال: بل أنا كما قال اللّه عزّ و جلّ: اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ .

مر بأبي ريحانة المدني و هو في الشمس من البرد فغنى له فشق ثوبه و بقي في البرد:

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال حدّثني أبو العيناء قال قال إسحاق الموصليّ:

بلغني أنّ أبا ريحانة المدنيّ كان جالسا في يوم شديد البرد و عليه قميص خلق رقيق؛ فمرّ به سياط المغنّي فوثب إليه و أخذ بلجامه و قال له: يا سيّدي، بحق القبر و من فيه غنّني صوت ابن جندب، فغنّاه(1):

فؤادي رهين في هواك و مهجتي *** تذوب و أجفاني عليك همول

/فشقّ قميصه حتى خرج منه و بقي عاريا و غشي عليه، و اجتمع الناس حوله و سياط واقف/متعجّب مما فعل. ثم أفاق و قام إليه؛ فرحمه سياط و قال له: مالك يا مشئوم؟ أيّ شيء تريد؟ قال: غنّني باللّه عليك:

ودّع أمامة حان منك رحيل *** إنّ الوداع لمن تحبّ قليل

مثل القضيب تمايلت أعطافه *** فالريح تجذب متنه فيميل

إن كان شأنكم الدلال فإنه *** حسن دلالك يا أميم جميل

فغنّاه إياه؛ فلطم وجهه ثم خرج الدم من أنفه و وقع صريعا. و مضى سياط، و حمل الناس أبا ريحانة إلى الشمس. فلما أفاق قيل له: ويحك! خرقت قميصك و ليس لك غيره! فقال: دعوني، فإن الغناء الحسن من المغنّي المطرب أدفأ للمقرور من حمّام المهديّ إذا أوقد سبعة أيام. قال: و وجّه له سياط بقميص و جبّة و سراويل و عمامة.

زاره إبراهيم الموصلي و ابن جامع في مرضه فأوصى بالمحافظة على غنائه:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثني أبو أيّوب المدنيّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه الخزاعيّ و حمّاد بن إسحاق جميعا عن إسحاق قال:

كان سياط أستاذ أبي و أستاذ ابن جامع و من كان في ذلك العصر. فاعتلّ علة، فجاءه أبي و ابن جامع يعودانه.

فقال له أبي: أعزز عليّ بعلتك أبا وهب! و لو كانت مما يفتدى لفديتك منها. قال: كيف كنت لكم؟ قلنا: نعم

ص: 394


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فغناه و قال... إلخ». و الظاهر أن كلمة «و قال» مقحمة من الناسخ.

الأستاذ و السيّد. قال: قد غنّيت لنفسي ستين صوتا فأحبّ ألاّ تغيّروها و لا تنتحلوها. فقال له أبي: أفعل ذلك يا أبا وهب، و لكن أيّ ذلك كرهت: أن يكون في غنائك فضل فأقصّر عنه فيعرف فضلك عليّ فيه، أو أن يكون فيه نقص فأحسنه فينسب إحساني إليك و يأخذه الناس عني لك؟ [قال](1): لقد استعفيت من غير مكروه. قال الخزاعيّ/في خبره: ثم قال لي إسحاق: كان سياط خزاعيّا، و كان له زامر يقال له حبال، و ضارب يقال له عقاب. قال حماد قال أبي: أدركت أربعة كانوا أحسن الناس غناء، سياط أحدهم. قال: و كان موته في أوّل أيام موسى الهادي.

زاره ابن جامع في مرض موته فأوصاه بالمحافظة على غنائه:

أخبرني يحيى قال حدّثنا أبو أيوب عن مصعب قال:

دخل ابن جامع على سياط و قد نزل به الموت؛ فقال له: أ لك حاجة؟ فقال: نعم، لا تزد في غنائي شيئا و لا تنقص منه، دعه رأسا برأس، فإنما هو ثمانية عشر صوتا.

دعاه إخوان له فمات عندهم فجأة:

أخبرنا محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد قال حدّثني محمد بن حديد أخو النّضر بن حديد:

أن إخوانا لسياط دعوه، فأقام عندهم و بات(2)، فأصبحوا فوجدوه ميّتا في منزلهم، فجاءوا إلى أمّه و قالوا:

يا هذه، إنّا دعونا ابنك لنكرمه و نسرّ به و نأنس بقربه فمات فجأة، و ها نحن بين يديك فاحتكمي ما شئت؛ و نشدناك اللّه ألاّ تعرّضينا للسلطان أو تدّعي فيه علينا ما لم نفعله. فقالت: ما كنت لأفعل، و قد صدقتم، و هكذا مات أبوه فجأة. قال: فجاءت معنا فحملته إلى منزلها فأصلحت أمره و دفنته. و قد ذكرت هذه القصة بعينها في وفاة نبيه المغنّي، و خبره في ذلك يذكر مع أخباره إن شاء اللّه تعالى.

غنى أحمد بن المكي إبراهيم بن المهدي صوتا له فاستحسنه:

أخبرنا يحيى بن عليّ و عيسى بن الحسين الزيات(3) - و اللفظ له - قالا حدّثنا أبو أيوب قال حدّثنا أحمد بن المكّيّ قال:

/ «غنّيت إبراهيم بن المهديّ لسياط:

ضاف قلبي الهوى فأكثر سهوي

فاستحسنه جدّا، و قال لي: ممن أخذته؟ قلت: من جارية أبيك قرشيّة الزّبّاء؛ فقال: أشعرت أنه/كان لأبي ثلاث جوار محسنات كلّهن تسمّى قرشيّة، منهن قرشيّة الزباء و قرشية السوداء و قرشية البيضاء، و كانت الزباء أحسنهن غناء - يعني التي أخذت منها هذا الصوت - قال: و كنت أسمعها كثيرا تقول: قد سمعت المغنّين و أخذت عنهم و تفقّدت أغانيهم، فما رأيت فيهم مثل سياط قطّ. هذه الحكاية من رواية عيسى بن الحسين خاصّة.

ص: 395


1- زيادة عن ح.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و مات».
3- كذا في أكثر الأصول. و في ح: «عيسى بن الحسين» (بسقوط كلمة: الزيات). و لم نجد في المراجع التي بين أيدينا و لا فيما تقدّم من «الأغاني» شيخا روى عنه أبو الفرج اسمه: «عيسى بن الحسين الزيات». و لكن الذي سبقت رواية أبي الفرج عنه في أكثر من موضع هو: «عيسى بن الحسين الورّاق».
نسبة هذا الصوت
صوت

ضاف قلبي الهوى فأكثر سهوي *** و جوى الحبّ مفظع غير حلو

لو علا بعض ما علاني ثبيرا(1) *** ظلّ ضعفا ثبير من ذاك يهوي

من يكن من هوى الغواني خليّا *** يا ثقاتي فإنني غير خلو

الغناء لسياط ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق.

صوت من المائة المختارة

يا أمّ عمرو لقد طالبت ودّكم *** جهدي و أعذرت فيه كلّ إعذار

حتى سقمت، و قد أصبحت سالمة، *** مما أعالج من همّ و تذكار

/لم يسمّ قائل هذا الشعر. و الغناء للرّطّاب. و الرّطّاب مدنيّ قليل الصنعة ليس بمشهور. و قيل له الرطّاب لأنه كان يبيع الرّطب بالمدينة. و لحنه المختار هزج بالوسطى.

صوت من المائة المختارة

تصدّع الأنس(2) الجميع *** أمسى فقلبي به صدوع

في إثرهم و جفون عيني *** مخضلّة كلها(3) دموع

لم يسمّ لنا قائل هذا الشعر و لا عرفناه. و الغناء لدكين بن يزيد الكوفي. و لحنه المختار من(4) خفيف الثقيل بالوسطى، و هكذا ذكر إسحاق في الألحان المختارة للواثق. و ذكر هذا الصوت في مجرّد شجا فنسبه إلى دكين، و جنّسه في الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. و ذكر أيضا فيه لحنا من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالخنصر في مجرى البنصر، فزعم أنه ينسب إلى معبد و إلى الغريض. و فيه بيتان آخران و هما:

فالقلب إن سيم عنك صبرا *** كلّف ما ليس يستطيع

عاص لمن لام في هواكم *** و هو لكم سامع مطيع

ص: 396


1- ثبر (بفتح أوله و كسر ثانيه بعده ياء وراء مهملة): جبل معروف بمكة من ناحية الشرق في طريق منى، و هو جبل عظيم مرتفع أسود كثير الحجارة في عطف وادي إبراهيم عليه السّلام من يسار المارّ إلى منى، و عرف برجل من هذيل، مات فدفن به فعرف به الجبل، و يرى من منى و المزدلفة.
2- الأنس (بالتحريك): الحي المقيمون.
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «طلها».
4- في ح: «من الثقيل... إلخ».
صوت من المائة المختارة

يا أيها الرجل الذي *** قد زان منطقه البيان

لا تعتبنّ على الزما *** ن فليس يعتبك الزمان

/الشعر لعبد اللّه بن هارون العروضيّ. و الغناء لنبيه المغنّي، و لحنه المختار ثقيل أوّل بالبنصر.

فأمّا عبد اللّه بن هارون فما أعلم أنه وقع إليّ له خبر إلا ما شهر من حاله في نفسه. و هو عبد اللّه بن هارون بن السّميدع، مولى قريش، من أهل البصرة. و أخذ العروض من الخليل ابن أحمد، فكان مقدّما فيه. و انقطع إلى آل سليمان بن علي و أدّب أولادهم، و كان يمدحهم كثيرا، فأكثر شعره فيهم. و هو مقلّ جدّا. و كان يقول أوزانا من العروض غريبة في شعره، ثم أخذ ذلك عنه و نحا نحوه فيه رزين العروضيّ فأتى فيه ببدائع جمّة، و جعل أكثر شعره من هذا الجنس. فأمّا عبد اللّه بن هارون فما عرفت له خبرا و لا وقع إليّ من أمره شيء غير ما ذكرته.

ص: 397

12 - ذكر نبيه و أخباره

نسبه و أصله و شعره و سبب تعلمه الغناء:
اشارة

زعم ابن خرداذبه أنه رجل من بني تميم صليبة، و أن أصله من الكوفة، و أنه كان في أوّل أمره شاعرا لا يغنّي، و يقول شعرا صالحا. فهوي قينة ببغداد فتعلّم الغناء من أجلها و جعله سببا للدخول عليها؛ و لم يزل يتزيّد حتى جاد غناؤه و صنع فأحسن و اشتهر، و دوّن غناؤه و عدّ في المحسنين. فمما قاله في هذه الجارية و غنّى فيه قوله:

صوت

يا ربّ إني ما جفوت و قد جفت *** فإليك أشكو ذاك يا ربّاه

مولاة سوء ما ترقّ لعبدها *** نعم الغلام و بئست المولاه

يا ربّ إن كانت حياتي هكذا *** ضررا عليّ فما أريد حياه

الغناء لنبيه ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى. و من الناس من ينسب الشعر و الغناء إلى عليّة بنت المهديّ.

سمع مخارق مدح إبراهيم الموصلي لغنائه:

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

قلت(1) لمخارق، و قد غنّى هذا 2 لصوت يوما:

متى تجمع القلب الذكيّ و صارما *** و أنفا حميّا تجتنبك المظالم(2)

فسألته لمن هو؛ فقال: هذا لنبيه التّميمي؛ و كان له أخوان يقال لهما منبّه و نبهان، /و كان ينزل شهار سوج(3)الهيثم في درب الرّيحان. قال أبو زيد: و سمعت مخارقا يحدّث إسحاق بن إبراهيم قال سمعت أباك إبراهيم بن ميمون يقول - و قد ذكر نبيها -: إن عاش هذا الغلام ذهب خبرنا(4). قال: و كنت قد غنّيته صوتا أخذته(5) عنه، و هو:

شكوت إلى قلبي الفراق فقال لي *** من الآن فايأس لا أغرّك بالصبر

ص: 398


1- في جميع الأصول: «قال لي مخارق». و هو غير مستقيم مع سياق الكلام.
2- هذا البيت من قصيدة لعمرو بن براق الشاعر، قالها لما استرد إبله و خيله من حريم الهمداني و كان قد أغار عليها و أخذها. (راجع أخباره ج 21 ص 175-176 من «الأغاني» طبع ليدن).
3- شهار سوج الهيثم: كانت محلة من محال بغداد في قبلة الحربية. و الهيثم الذي أضيفت إليه هو ابن معاوية من القواد الخراسانية.
4- في ح: «خيرنا» (بالياء المثناة).
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «أجدته عنه» بالجيم.

إذا صدّ من أهوى و أسلمني العزا *** ففرقة من أهوى أحرّ من الجمر

كان مع علي بن المفضل عند عبيد اللّه بن أبي غسان فأكل لحم غزال و مات:

أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني ابن أبي سعد(1) عن محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني عليّ بن المفضّل قال:

اصطبحنا يوما أنا و نبيه عند عبيد اللّه بن أبي غسّان، فغنّانا نبيه لحنه:

يا أيها الرجل الذي *** قد زان منطقه البيان

/فما سمعت أحسن منه، و كان صوتنا عليه بقية يومنا. ثم أردنا الانصراف، فسألنا عبيد اللّه أن نبيت عنده و نصطبح من غد فأجبناه. و قال لنبيه: أيّ شيء تشتهي أن يصلح لك؟ قال: تشتري لي غزالا فتطعمني كبده كبابا، و تجعل سائر ما آكله من لحمه كما تحب؛ فقال: أفعل. فلما أصبحنا جاءه بغزال فأصلحه كما أحبّ. فلما استوفى أكله استلقى لينام، فحرّكناه فإذا هو ميت، فجزعنا من ذلك. و بعث عبيد اللّه إلى أمه فجاءت فأخبرها بخبره. فلما رأته استرجعت(2) ثم قالت: لا بأس عليكم! هو/رابع أربعة ولدتهم كانت هذه ميتتهم جميعا و ميتة أبيهم من قبلهم؛ فسكنّا إلى ذلك. و غسّل في دار عبيد اللّه و أصلح شأنه و صلّى عليه، و مضينا به إلى مقابرهم فدفن هناك.

صوت من المائة المختارة

وقفت على ربع لسعدى و عبرتي *** ترقرق في العينين ثم تسيل

أسائل ربعا قد تعفّت رسومه *** عليه لأصناف الرياح ذيول(3)

لم يسمّ لنا قائل هذا الشعر. و الغناء لسليم هزج خفيف بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق.

ص: 399


1- كذا في ح، و هو عبد اللّه بن أبي سعد و قد تقدّمت روايته عن محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعي و رواية ابن مهرويه عنه فيما مر من الأجزاء السابقة كثيرا. و في سائر الأصول: «ابن أبي سعيد» و هو تحريف.
2- استرجع في المصيبة: استعاذ و قال: إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ.
3- كذا في ح. و الذيول من الريح: ما تتركه في الرمل كأثر ذيل مجرور. و في سائر الأصول: «ذبول» (بالباء الموحدة) و هو تصحيف.

13 - أخبار سليم

انقطع إلى إبراهيم الموصلي و هو أمرد فأحبه و علمه:

هو سليم بن سلاّم الكوفيّ، و يكنى أبا عبد اللّه. و كان حسن الوجه حسن الصوت. و قد انقطع و هو أمرد إلى إبراهيم الموصليّ، فمال إليه و تعشّقه، فعلّمه و ناصحه، فبرع و كثرت روايته، و صنع فأجاد. و كان إسحاق يهجوه و يطعن عليه. و اتّفق له اتفاق سيّئ: كان يخدم الرشيد فيتّفق مع ابن جامع و إبراهيم و ابنه إسحاق و فليح ابن العوراء و حكم الواديّ فيكون بالإضافة إليهم كالساقط. و كان من أبخل الناس، فلما مات خلّف جملة عظيمة وافرة من المال؛ فقبضها السلطان عنه.

سأل الرشيد برصوما عنه و عن أربعة من المغنين فأجابه:

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه:

أن إسحاق قال في سليم:

سليم بن سلاّم على برد خلقه *** أحرّ غناء من حسين بن محرز

و أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق، و أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبيه عن إسحاق:

أنّ الرشيد قال لبرصوما الزامر و كانت فيه لكنة ما تقول في ابن جامع؟ قال: زقّ من أسل (يريد من عسل).

قال: فإبراهيم؟ قال: بستان فيه فاكهة و ريحان و شوك. قال: فيزيد حوراء؟ قال: ما أبيد أسنانه! (يريد ما أبيض).

قال: فحسين بن محرز؟ قال: ما أهسن خظامه(1)! (يريد ما أحسن خضابه). قال: فسليم بن سلاّم؟ قال: ما أنظف ثيابه!.

نصحه برصوما في موضع غناء فضحك الرشيد:

قال إسماعيل بن يونس في خبره عن عمر بن شبّة عن إسحاق:

/و غنّى سليم يوما و برصوما يزمر عليه بين يدي الرشيد، فقصّر سليم في موضع صيحة، فأخرج برصوما الناي من فيه ثم صاح به و قال له: يا أبا عبد اللّه، صيهة(2) أشدّ من هذا، صيهة(2) أشدّ من هذا؛ فضحك الرشيد حتى استلقى. قال: و ما أذكر أني ضحكت قطّ أكثر من ذلك اليوم.

ص: 400


1- في ح: «حضابه».
2- كذا في ب، س.
كان يجيد الأهزاج فغنى الرشيد فوصله:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال قال محمد بن الحسن بن مصعب:

إنما أخّر سليما عن أصحابه في الصنعة ولعه بالأهزاج، فإن ثلثي/صنعته هزج، و له من ذلك ما ليس لأحد منهم. قال: ثم قال محمد: غنّى سليم يوما بين يدي الرشيد ثلاثة أصوات من الهزج ولاء، أوّلها:

مت على من غبت عنه أسفا

و الثاني:

أسرفت في الإعراض و الهجر

و الثالث:

أصبح قلبي به ندوب

فأطربه و أمر له بثلاثين ألف درهم، و قال [له](1): لو كنت الحكم الواديّ ما زدت على هذا الإحسان في أهزاجك. (يعني أنّ الحكم كان منفردا بالهزج).

نسبة هذه الأصوات
صوت

مت على من غبت عنه أسفا *** لست منه بمصيب خلفا

لن ترى قرة عين أبدا *** أو ترى نحوهم منصرفا

/قلت لمّا شفّني وجدي بهم *** حسبي اللّه لما بي و كفى

بيّن الدمع لمن أبصرني *** ما تضمّنت إذا ما ذرفا

الشعر للعبّاس بن الأحنف. و الغناء لسليم، و له فيه لحنان، أحدهما في الأوّل و الثاني هزج بالوسطى، و الآخر في الثالث و الرابع خفيف رمل بالبنصر مطلق. و فيهما لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو.

و منها:

صوت

أسرفت في الإعراض و الهجر *** و جزت حدّ التّيه و الكبر

الهجر و الإعراض من ذي الهوى *** سلّم ذي الغدر إلى الغدر

ما لي و للهجران حسبي الذي *** مرّ على رأسي من الهجر

و دون ما جرّبت فيما مضى *** ما عرّف الخير من الشر

الغناء لسليم هزج بالبنصر.

و منها:

ص: 401


1- زيادة عن ح.
صوت

أصبح قلبي به ندوب *** أندبه الشادن الرّبيب

تماديا منه في التّصابي *** و قد علا رأسي المشيب

أظنني ذائقا حمامي *** و أنّ إلمامه قريب

إذا فؤاد شجاه حبّ *** فقلّما ينفع الطبيب

الشعر لأبي نواس. و الغناء لسليم، و له فيه لحنان: خفيف رمل بالبنصر عن إسحاق، و هزج بالوسطى عن الهشاميّ. و زعمت بذل أنّ الهزج لها.

كان أبوه من دعاة أبي مسلم:

أخبرني عمّي قال حدّثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدّثني هارون بن مخارق عن أبيه قال:

كان سليم بن سلاّم كوفيّا، و كان أبوه من أصحاب أبي مسلم صاحب الدولة و دعاته و ثقاته، فكان يكاتب أهل العراق على يده. و كان سليم حسن الصوت جهيره، و كان بخيلا.

دعا صديقين و لما جاعا اشتريا طعاما فأكل معهما:

قال أحمد بن أبي طاهر و حدّثني أبو الحواجب الأنصاريّ، و اسمه محمد، قال:

قال لي سليم يوما: امض إلى موسى بن إسحاق/الأزرق فادعه و وافياني مع الظهر؛ فجئناه مع الظهر، فأخرج إلينا ثلاثين جارية محسنة و نبيذا، و لم يطعمنا شيئا، و لم نكن أكلنا شيئا. فغمر موسى غلامه فذهب فاشترى لنا خبزا و بيضا، فأدخله إلى الكنيف و جلسنا نأكل؛ فدخل علينا، فلما رآنا نأكل غضب و خاصمنا و قال: أ هكذا يفعل الناس! تأكلون و لا تطعمونني! و جلس معنا في الكنيف يأكل كما يأكل واحد منا حتى فني الخبز و البيض.

طلب من محمد اليزيدي نظم شعر يغني به الخليفة ففعل:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني الفضل بن محمد اليزيديّ قال حدّثني أبي قال:

كان سليم بن سلاّم صديقي و كان كثيرا ما يغشاني. فجاءني يوما و أعلمني الغلام بمجيئه، فأمرت بإدخاله، فدخل و قال: قد جئتك في حاجة؛ فقلت: مقضيّة. فقال: إنّ المهرجان بعد غد، و قد أمرنا بحضور مجلس الخليفة، و أريد أن أغنيه لحنا أصنعه في شعر لم يعرفه هو و لا من بحضرته، فقل أبياتا أغنّي فيها ملاحا؛ فقلت:

على أن تقيم عندي و تصنع بحضرتي اللحن؛ قال: أفعل. فردّوا دابّته و أقام عندي، و قلت:

صوت

أتيتك عائذا بك من *** ك لمّا ضاقت الحيل

و صيّرني هواك و بي *** لحيني يضرب المثل

فإن سلمت لكم نفسي *** فما لاقيته جلل

و إن قتل الهوى رجلا *** فإني ذلك الرجل

ص: 402

فغنّى فيه و شربنا يومئذ عليه، و غنّانا عدة أصوات من غنائه، فما رأيته مذ عرفته كان أنشط منه يومئذ.

سرق محمد اليزيدي معنيين من شعر مسلم بن الوليد:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني محمد بن داود بن الجرّاح قال حدّثني عبد اللّه(1) بن محمد اليزيديّ قال حدّثني أخي محمد قال:

سمعت أبي يقول: ما سرقت من الشعر قطّ إلا معنيين: قال(2) مسلم بن الوليد:

ذاك ظبيّ تحيّر(3) الحسن في الأر *** كان منه و جال كلّ مكان

عرضت دونه الحجال فما يل *** قاك إلا في النوم أو في الأماني

فاستعرت(4) معناه فقلت:

صوت

يا بعيد الدار موصو *** لا بقلبي و لساني(5)

ربّما باعدك الده *** ر فأدنتك الأماني

- الغناء في هذين البيتين لسليم هزج بالبنصر عن الهشاميّ -.

/قال: و قال مسلم أيضا:

متى ما تسمعي بقتيل أرض *** فإني ذلك الرجل القتيل

- و يروى: «أصيب فإنني ذاك القتيل» - فقلت:

أتيتك عائذا بك من *** ك لمّا ضاقت الحيل

و صيّرني هواك و بي *** لحيني يضرب المثل

/فإن سلمت لكم نفسي *** فما لاقيته جلل

و إن(6) قتل الهوى رجلا *** فإني ذلك الرجل

غنى مخارقا صوتا، فلما بلغ ابن المهدي طلبه و غناه إياه:
اشارة

وجدت في كتاب عليّ بن محمد بن نصر عن جدّه حمدون بن إسماعيل، و لم أسمعه من أحد:

أن إبراهيم بن المهديّ سأل جماعة من إخوانه أن يصطبحوا عنده - قال حمدون: و كنت فيهم - و كان فيمن دعا

ص: 403


1- الظاهر أنه: «عبيد اللّه» لا: «عبد اللّه»، و هو أخو الفضل و العباس ولدي محمد اليزيدي.
2- في الأصول: «قول»، و هو لا يلتئم مع سياق الكلام الآتي.
3- في ب، س: «تخير» (بالخاء المعجمة) و هو تصحيف.
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فاستعرضت».
5- نسبت هذه الأبيات في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (ج 2 ص 344 طبع مصر) ليحيى بن المبارك اليزيدي المقرئ النحوي اللغوي صاحب أبي عمرو بن العلاء و هو والد محمد اليزيدي المنسوب إليه الشعر هنا.
6- كذا في ح. و في سائر الأصول هنا: «فإن».

مخارق، فسار إليه و هو سكران لا فضل فيه لطعام و لا لشراب، فاغتمّ لذلك إبراهيم و عاتبه على ما صنع؛ فقال: لا و اللّه أيها الأمير، ما كان آفتي إلا سليم بن سلاّم؛ فإنه مرّ بي فدخل عليّ فغنّاني صوتا له صنعه قريبا فشربت عليه إلى السّحر حتى لم يبق فيّ فضل و أخذته. فقال له إبراهيم: فغنّناه إملالا(1)، فغنّاه:

صوت

إذا كنت ندماني فباكر مدامة *** معتقة زفّت إلى غير خاطب

إذا عتّقت في دنّها العام أقبلت *** تردّى(2) رداء الحسن في عين شارب

/ - الغناء لسليم خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر - قال فبعث إبراهيم إلى سليم فأحضره، فغنّاه إياه و طرحه على جواريه و أمر له بجائزة، و شربنا عليه بقيّة يومنا حتى صرنا في حالة مخارق و صار في مثل أحوالنا.

صوت من المائة المختارة

عتق الفؤاد من الصّبا *** و من السّفاهة و العلاق

و حططت رحلي عن قلو *** ص الحبّ في قلص عتاق(3)

و رفعت فضل إزاري ال *** مجرور عن قدمي و ساقي

و كففت غرب النفس حت *** ى ما تتوق إلى متاق

لم يقع إلينا قائل هذا الشعر. و الغناء لابن عبّاد الكاتب و لحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لإبراهيم خفيف ثقيل، و قيل: إنه لغيره، بل قيل: إنه لعمرو.

ص: 404


1- يريد: غننا إياه كما أخذته عنه من غير زيادة و لا نقص.
2- تردى فلان: لبس الرداء.
3- في ب، س: «العتاق».

14 - أخبار ابن عبّاد

نسبه و كنيته و صناعته:

هو محمد بن عبّاد، مولى بني مخزوم، و قيل: إنه مولى بني جمح، و يكنى أبا جعفر. مكّيّ، من كبراء المغنّين من الطبقة الثانية منهم. و قد ذكره يونس الكاتب فيمن أخذ عنه الغناء، متقن الصنعة كثيرها. و كان أبوه من كتّاب الديوان بمكة؛ فلذلك قيل ابن عبّاد الكاتب.

قابله مالك و طلب منه الغناء ففعل فذمه:
اشارة

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص الثّقفي عن أبي خالد الكنانيّ عن ابن عبّاد الكاتب قال:

و اللّه إني لأمشي بأعلى مكة في الشّعب(1)، إذ أنا بمالك على حمار له و معه فتيان(2) من أهل المدينة، فظننت أنهم قالوا له: هذا ابن عبّاد؛ فمال إليّ فملت إليه؛ فقال لي: أنت ابن عبّاد؟ قلت: /نعم؛ قال: مل معي هاهنا، ففعلت؛ فأدخلني شعب ابن عامر ثم أدخلني دهليز ابن عامر و قال: غنّني؛ فقلت: أغنّيك هكذا و أنت مالك! - و قد كان يبلغني أنه يثلب أهل مكة و يتعصّب عليهم - فقال: باللّه إلا غنّيتني صوتا من صنعتك. فاندفعت فغنّيته:

صوت

ألا يا صاحبيّ قفا قليلا *** على ربع تقادم بالمنيف(3)

فأمست دارهم(4) شحطت و بانت(5) *** و أضحى القلب يخفق ذا و جيف

/و ما غنّيته إياه إلا على احتشام. فلما فرغت نظر إليّ و قال لي: قد و اللّه أحسنت! و لكنّ حلقك كأنه حلق زانية. فقلت: أمّا إذ أفلت منك بهذا فقد أفلتّ. و هذا اللحن من صدور غناء ابن عباد. و لحنه من الثقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.

ص: 405


1- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «في الشعر».
2- في ح: «فتيان من أهل المدينة فما ظننت إلا أنهما قالا له».
3- المنيف: موضع قبل عمق (بفتح أوله و إسكان ثانيه: ماء ببلاد مزينة من أرض الحجاز) و قيل: المنيف: حصن في جبل صبر (ككتف) من أعمال تعز (بالفتح ثم الكسر و الزاي مشددة) باليمن. و هناك منيف لحج أيضا و هو حصن قرب عدن.
4- في ح: «دورهم».
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و ناءت».
وفاته ببغداد:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى و عيسى بن الحسين قالا حدّثنا أبو أيّوب المديني قال حدّثني جماعة من أهل العلم:

أنّ ابن عبّاد الكاتب توفّي ببغداد في الدولة العباسية و دفن بباب(1) حرب. و قال أبو أيوب: أظنه فيمن قدم من مغنّي الحجار على المهديّ.

صوت من المائة المختارة

يا طلا غيّره بعدي *** صوب ربيع صادق الرعد

أراك بعد الأنس ذا(2) وحشة *** لست كما كنت على العهد

ما لي أبكي طللا كلما *** ساءلته عيّ عن الردّ

كان به ذو غنج(3) أهيف *** أحور مطبوع على الصّدّ

لم يسمّ أبو أحمد(4) قائل هذا الشعر. و الغناء ليحيى المكيّ، و لحنه المختار من الهزج بالوسطى.

ص: 406


1- باب حرب: موضع ببغداد ينسب إلى حرب بن عبد اللّه البلخي أحد قواد أبي جعفر المنصور و كان يتولى شرطة بغداد. و في مقبرة باب حرب قبر أحمد بن حنبل و بشر الحافي و أبي بكر الخطيب و من لا يخصى من العلماء و العباد و الصالحين و أعلام المسلمين.
2- في ح: «في وحشة».
3- الغنج: التكسر و التدلل.
4- أبو أحمد هو يحيى بن علي بن يحيى المنجم.

15 - أخبار يحيى المكي و نسبه

اسمه و كنيته و كتمانه ولاءه لبني أمية لخدمته الخلفاء من بني العباس:

هو يحيى بن مرزوق، مولى بني أمية، و كان يكتم ذلك لخدمته الخلفاء من بني العباس خوفا من أن يجتنبوه و يحتشموه؛ فإذا سئل عن ولائه انتمى إلى قريش و لم يذكر البطن الذي ولاؤه لهم(1)، و استعفى من سأله عن ذلك.

و يكنى يحيى أبا عثمان. و ذكر ابن خرداذبه أنه مولى خزاعة. و ليس قوله مما يحصّل، لأنه لا يعتمد فيه على رواية و لا دراية.

أخبرني عبد اللّه بن الرّبيع أبو بكر الرّبيعي صديقنا رحمه اللّه قال حدّثني وسواسة بن الموصليّ - و قد لقيت وسواسة هذا، و هو أحمد بن(2) إسماعيل بن إبراهيم و كان معلّما، و لم أسمع هذا منه فكتبته و أشياء أخر عن أبي بكر رحمه اللّه - قال حدّثني حماد بن إسحاق قال قال لي أبي:

سألت يحيى المكيّ عن ولائه، فانتمى إلى قريش؛ فاستزدته في الشّرح فسألني أن أعفيه.

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق و يحيى بن عليّ بن يحيى قالا(3) حدّثنا أبو أيوب المديني قال:

كان يحيى المكي يكنى أبا عثمان، و هو مولى بني أميّة، و كان يكتم ذلك و يقول: أنا مولى قريش.

مدحه أبان اللاحقي و عارض الأعشى في مدح دحمان:

و لما قال أعشى بني سليم يمدح دحمان:

/

كانوا فحولا فصاروا عند حلبتهم *** لمّا انبرى لهم دحمان خصيانا

/فأبلغوه عن الأعشى مقالته *** أعشى سليم أبي عمرو سليمانا

قولوا يقول أبو عمرو لصحبته *** يا ليت دحمان قبل الموت غنّانا

قال أبان بن عبد الحميد اللاحقيّ - و يقال إن ابنه حمدان بن أبان قالها. و الأشبه عندي أنها لأبان، و ما أظنّ ابنه(4) أدرك يحيى -:

يا من يفضّل دحمانا و يمدحه(5) *** على المغنّين طرّا قلت بهتانا

ص: 407


1- في أ، ء، م: «له».
2- راجع الحاشية - رقم 1 ص 154 من الجزء الخامس من «الأغاني» من هذه الطبعة.
3- في ب، س: «قال». و هو تحريف.
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «أنه»، و هو تحريف.
5- في ح: «يمدحنه».

لو كنت جالست يحيى أو سمعت به *** لم تمتدح أبدا ما عشت إنسانا

و لم تقل سفها في(1) منية(2) عرضت *** يا ليت دحمان قبل الموت غنّانا

لقد عجبت لدحمان و مادحه *** لا كان مادح دحمان و لا كانا

ما كان كابن صغير العين إذ جريا *** بل قام في غاية المجرى و ما دانى

بذّ الجياد أبو بكر و صيّرها *** من بعد ما قرحت جذعا و ثنيانا(3)

يعني بأبي بكر ابن صغير العين، و هو من مغنّي مكة. و له أخبار(4) تذكر في موضعها إن شاء اللّه تعالى.

منزلته في الغناء و تلاميذه:

و عمّر يحيى المكي مائة و عشرين سنة، و أصاب بالغناء ما لم يصبه أحد من نظرائه، و مات و هو صحيح السمع و البصر و العقل. و كان قدم مع الحجازيين الذين قدموا على المهديّ في أوّل خلافته، فخرج أكثرهم و بقي يحيى بالعراق هو و ولده/يخدمون الخلفاء إلى أن انقرضوا. و كان آخرهم محمد بن أحمد بن يحيى المكي، و كان يغنّي مرتجلا، و يحضر مجلس المعتمد مع المغنين فيوقع بقضيب على دواة. و لقيه جماعة من أصحابنا، و أخذ عنه جماعة ممن أدركنا(5) من عجائز المغنيّات، منهم قمرية العمريّة، و كانت أمّ ولد عمرو بن بانة. و ممن أدركه من أصحابنا جحظة، و كتبنا عنه عن ابن المكي هذا حكايات حسنة من أخبار أهله. و كان ابن جامع و إبراهيم الموصليّ و فليح يفزعون إليه في الغناء القديم و يأخذونه عنه، و يعايي(6) بعضهم بعضا بما يأخذه منه و يغرب به على أصحابه؛ فإذا خرجت لهم الجوائز أخذوا(7) منها و وفّروا نصيبه. و له صنعة عجيبة نادرة متقدّمة. و له كتاب في الأغاني و نسبها و أخبارها [و أجناسها](8) كبير جليل مشهور، إلا أنه كان كالمطّرح عند الرواة لكثرة تخليطه في رواياته. و العمل على كتاب ابنه أحمد، فإنه صحّح كثيرا مما أفسده أبوه، و أزال ما عرفه من تخاليط أبيه، و حقّق ما نسبه من الأغاني إلى صانعه. و هو يشتمل على نحو ثلاثة آلاف صوت.

عمل كتابا في الأغاني و أهداه لعبد اللّه بن طاهر فصححه ابنه لمحمد بن عبد اللّه:

أخبرني عبد اللّه بن الرّبيع قال حدّثني وسواسة بن الموصلي قال حدّثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال:

عمل جدّي كتابا في الأغاني و أهداه إلى عبد اللّه بن طاهر، و هو يومئذ شابّ حديث السن، فاستحسنه و سرّ به؛

ص: 408


1- في أ، ء، م: «من».
2- المنية (بالضم و تكسر): البغية و ما يتمنى.
3- قرح الفرس: صار قارحا. و القارح من ذي الحافر: الذي شق نابه و طلع، و هو بمنزلة البازل من الإبل، و ذلك في الخامسة من سنه. و الجذع (بضمتين و سكن لضرورة الشعر): جمع جذع (بالتحريك) و هو ما كان في الثانية من سنه. و الثنيان (بالضم): جمع ثنى و هو ما كان في الثالثة من سنه.
4- لم نجد لأبي بكر هذا أخبارا في «الأغاني» المطبوع في بولاق. فلعل المؤلف أنسى أن يذكره، أو ذكره و سقط من الكتاب.
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «ممن دركناه».
6- كذا في أكثر الأصول. و عايا فلان فلانا معاياة: ألقى إليه كلاما أو عملا لا يهتدي لوجهه. و في ب، س: «يعاني». و هو تصحيف.
7- في ب: «أخذوه» و قد صححها المرحوم الشنقيطي في نسخته فجعلها: «أحذوه» (بالحاء المهملة). و أحذاه من الغنيمة: أعطاه.
8- زيادة عن أ، ء، م.

ثم عرضه على إسحاق فعرّفه عوارا(1) كثيرا/في نسبه، لأن جدّي كان لا يصحّح لأحد نسبه صوت البتّة، و ينسب صنعته إلى المتقدمين، و ينحل بعضهم صنعة بعض ضنّا بذلك على غيره، فسقط من عين عبد اللّه و بقي في خزانته؛ ثم وقع إلى محمد بن عبد اللّه، فدعا أبي، و كان إليه محسنا و عليه مفضلا، فعرضه عليه؛ فقال له: إن في هذه(2) النّسب تخليطا كثيرا، خلّطها/أبي لضنه بهذا الشأن على الناس، و لكني أعمل لك كتابا أصحح هذا و غيره فيه. فعمل له كتابا فيه اثنا عشر ألف صوت و أهداه إليه، فوصله محمد بثلاثين ألف درهم. و صحّح له الكتاب الأوّل أيضا فهو في أيدي الناس. قال وسواسة: و حدّثني حمّاد أن أباه إسحاق كان يقدّم يحيى المكيّ تقديما كثيرا و يفضّله(3)و يناضل(4) أباه و ابن جامع فيه، و يقول: ليس يخلو يحيى فيما يرويه من الغناء الذي لا يعرفه أحد منكم من أحد أمرين: إمّا أن يكون محقّا [فيه](5) كما يقول، فقد علم ما جهلتم، أو يكون من صنعته و قد نحله المتقدّمين، كما تقولون، فهو أفضل [له](5) و أوضح لتقدّمه عليكم. قال: و كان أبي يقول: لو لا ما أفسد به يحيى المكي نفسه من تخليطه في رواية الغناء على المتقدّمين و إضافته إليهم ما ليس لهم و قلّة ثباته على ما يحكيه من ذلك، لما تقدّمه أحد. و قال محمد بن الحسن الكاتب: كان يحيى يخلّط في نسب الغناء تخليطا كثيرا، و لا يزال يصنع الصوت بعد الصوت يتشبّه فيه بالغريض مرّة و بمعبد أخرى و بابن سريج و ابن محرز، و يجتهد في إحكامه و إتقانه حتى يشتبه على سامعه؛ فإذا حضر مجالس الخلفاء غنّاه على ما أحدث [فيه](6) من ذلك، فيأتي بأحسن(7) صنعة و أتقنها، /و ليس أحد يعرفها؛ فيسأل عن ذلك فيقول: أخذته عن فلان و أخذه فلان عن يونس أو عن نظرائه من رواة الأوائل، فلا يشكّ في قوله، و لا يثبت لمباراته أحد، و لا يقوم لمعارضته و لا يفي بها؛ حتى نشأ إسحاق فضبط الغناء و أخذه من مظانّه و دوّنه، و كشف عوار يحيى في منحولاته و بيّنها للناس.

أظهر إسحاق غلطه فأرسل له هدايا و عاتبه:
اشارة

أخبرني عمّي [قال] سمعت عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر يذكر عن أحمد بن سعيد المالكيّ - و كان مغنيا منقطعا إلى طاهر و ولده و كان من القوّاد - قال:

حضرت يحيى المكيّ يوما و قد غنّى صوتا فسئل عنه فقال: هذا لمالك - و لم يحفظ أحمد بن سعيد الصوت - ثم غنّى لحنا لمالك فسئل عن صانعه فقال: هذا لي؛ فقال له إسحاق: قلت ما ذا؟ فديتك، و تضاحك به. فسئل عن صانعه فأخبر به، ثم غنّى الصوت. فخجل يحيى حتى أمسك عنه؛ ثم غنّى بعد ساعة في الثقيل الأوّل، و اللحن:

صوت

إنّ الخليط أجدّ فاحتملا *** و أراد غيظك بالذي فعلا

ص: 409


1- العوار (مثلثة): العيب.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «هذا».
3- في ب، س: «و يصله».
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و يواصل» و هو تحريف.
5- زيادة عن ح.
6- هذه الكلمة ساقطة في ب، س.
7- في ب، س: «أحسن».

فظللت تأمل قرب أوبتهم *** و النفس مما تأمل الأملا

فسئل عنه فنسبه إلى الغريض. فقال له إسحاق: يا أبا عثمان، ليس هذا من نمط الغريض و لا طريقته في الغناء، و لو شئت لأخذت مالك و تركت للغريض ماله و لم تتعب. فاستحيا يحيى و لم ينتفع بنفسه بقيّة يومه. فلما انصرف بعث إلى إسحاق بألطاف كثيرة و برّ واسع، و كتب إليه يعاتبه و يستكفّ شرّه و يقول له: لست من أقرانك فتضادّني، و لا أنا ممن يتصدّى لمباغضتك و مباراتك فتكايدني، و لأنت إلى أن أفيدك و أعطيك ما تعلم أنك لا تجده عند غيري فتسمو به على أكفائك أحوج منك إلى أن تباغضني، فأعطي غيرك سلاحا إذا حمله عليك لم تقم له، و أنت/أولى و ما تختار. فعرف إسحاق صدق يحيى، فكتب إليه يعتذر، و ردّ/الألطاف التي حملها إليه، و حلف لا يعارضه بعدها، و شرط عليه الوفاء بما وعده به من الفوائد؛ فوفّى له بها، و أخذ منه كلّ ما أراد من غناء المتقدمين. و كان إذا حز به أمر في شيء منها فزع إليه فأفاده و عاونه و نصحه؛ و ما عاود إسحاق معارضته بعد ذلك.

و حذره يحيى، فكان إذا سئل بحضرته عن شيء صدق فيه، و إذا غاب إسحاق خلّط فيما يسأل عنه. قال: و كان يحيى إذا صار إليه إسحاق بطلب منه شيئا أعطاه إياه و أفاده و ناصحه، و يقول لابنه أحمد: تعال حتى تأخذ مع أبي محمد ما اللّه يعلم أني كنت أبخل به عليك فضلا عن غيرك؛ فيأخذه أحمد عن أبيه مع إسحاق. قال: و كان إسحاق بعد ذلك يتعصّب ليحيى تعصّبا شديدا؛ و يصفه و يقدّمه و يعترف برئاسته، و كذلك كان في وصف أحمد ابنه و تقريظه.

عدد أصواته التي صنعها:

قال أحمد بن سعيد: و الاختلاف الواقع في كتب الأغاني إلى الآن من بقايا تخليط يحيى. قال أحمد بن سعيد: و كانت صنعة يحيى ثلاثة آلاف صوت، منها زهاء ألف صوت لم يقاربه فيها أحد، و الباقي متوسّط. و ذكر بعض أصحاب أحمد بن يحيى المكيّ عنه أنه سئل عن صنعة أبيه فقال: الذي صحّ عندي منها ألف و ثلاثمائة صوت، منها مائة و سبعون صوتا غلب فيها على الناس جميعا من تقدّم منهم و من تأخّر، فلم يقم له فيها أحد.

كان ينسب الأصوات عمدا لغير أصحابها فافتضح أمره:

و قال حماد بن إسحاق قال لي أبي:

كان يحيى المكي يسأل عن الصوت، و هو يعلم لمن هو، فينسبه إلى غير صانعه، فيحمل ذلك عنه كذلك، ثم يسأله آخرون فينسبه غير تلك النسبة؛ حتى طال ذلك و كثر منه و قلّ تحفّظه، فظهر عواره، و لو لا ذلك لما قاومه أحد.

أظهر إسحاق كذبه فيما ينسبه من الغناء أمام الرشيد:

و قال أحمد بن سعيد المالكيّ في خبره:

قال إسحاق يوما للرشيد، قبل أن تصلح الحال بينه و بين يحيى المكي: أ تحب يا أمير المؤمنين أن أظهر لك كذب يحيى فيما ينسبه من الغناء؟ قال نعم. قال: أعطني أيّ شعر شئت حتى أصنع فيه، و اسألني بحضرة يحيى عن نسبته فإني سأنسبه إلى رجل لا أصل له، و اسأل يحيى عنه إذا غنّيته، فإنه لا يمتنع من أن يدّعي معرفته. فأعطاه شعرا فصنع فيه لحنا و غنّاه الرشيد؛ ثم قال له: يسألني أمير المؤمنين عن نسبته بين يديه. فلما حضر يحيى غنّاه

ص: 410

إسحاق فسأله الرشيد: لمن هذا اللحن؟ فقال له إسحاق: لغناديس(1) المديني. فأقبل الرشيد على يحيى فقال له:

أ كنت لقيت غناديس المديني؟ قال: نعم، لقيته و أخذت عنه صوتين؛ ثم غنّى صوتا و قال: هذا أحدهما. فلما خرج يحيى حلف إسحاق بالطلاق ثلاثا و عتق جواريه: أن اللّه ما خلق أحدا اسمه غناديس، و لا سمع في المغنين و لا غيرهم، و أنه وضع ذلك الاسم في وقته ذلك لينكشف أمره.

علم إسحاق صوتا غناه للرشيد فأهدى إليه تخت ثياب و خاتم:
اشارة

حدّثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني محمد بن أحمد بن يحيى المكّي المرتجل قال:

غنى جدّي يوما بين يدي الرشيد:

صوت

هل هيّجتك مغاني الحيّ و الدّور *** فاشتقت إن الغريب الدار معذور(2)

و هل يحلّ بنا إذ عيشنا أنق(3) *** بيض أوانس أمثال الدّمى حور

/ - و الصنعة له خفيف ثقيل - فسار(4) إليه إسحاق و سأله أن يعيده إياه؛ فقال: نعم، حبّا و كرامة/لك يا ابن أخي، و لو غيرك يروم ذلك لبعد عليه؛ و أعاده حتى أخذه إسحاق. فلما انصرف بعث إلى جدّي بتخت(5) ثياب و خاتم ياقوت نفيس.

دس له إبراهيم بن المهدي من أخذ عنه صوتا بثمن غال:
اشارة

حدّثني جحظة قال حدّثني القاسم بن زرزور عن أبيه عن مولاه عليّ(6) بن المارقيّ قال:

قال لي إبراهيم بن المهديّ: ويلك يا مارقيّ! إن يحيى المكيّ غنّى البارحة بحضرة أمير المؤمنين صوتا فيه ذكر زينب، و قد كان النبيذ أخذ مني فأنسيت شعره، و استعدته إياه فلم يعده، فاحتل لي عليه حتى تأخذه لي منه و لك عليّ سبق(7). فقال لي المارقيّ - و أنا يومئذ غلامه - اذهب إليه فقل له إني أسأله أن يكون اليوم عندي؛ فمضيت إليه فجئته به. فلما تغدّرا وضع النبيذ؛ فقال له المارقي: إني كنت سمعتك تغنّي صوتا فيه زينب و أنا أحب أن آخذه منك - و كان يحيى يوفّي هذا الشأن حقّه من الاستقصاء، فلا يخرج عنه إلا بحذر، و لا يدع الطلب و المسألة، و لا يلقي صوتا إلا بعوض. قال لي جحظة في هذا الفصل: هذا - فديتك - فعل يحيى مع ما أفاده من المال، و مع كرم من عاشره و خدمه من الخلفاء مثل الرشيد و البرامكة و سائر الناس، لا يلام و لا يعاب، و نحن مع

ص: 411


1- في ح: «لعتاديس المدني».
2- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «مغرور».
3- أنق الشيء (من باب علم): راع حسنه.
4- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «فصار».
5- التخت: وعاء تصان فيه الثياب.
6- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «عن مولاه عن ابن المارقي قال»، و هو تحريف، لأن المارقي هو مولى زرزور كما يشعر بذلك سياق الحديث هنا و كما مر في الجزء الرابع من هذه الطبعة (ص 93).
7- السبق (بالتحريك): الخطر يوضع في السباق من سبق أخذه.

هؤلاء السّفل إن جئناهم نكارمهم(1) تغافلوا عنا، و إن أعطونا النّزر اليسير منّوا به علينا و عابونا، فمن يلومني أن أشتمهم؟ فقلت: ما عليك لوم. / - قال: فقال له يحيى: و أيّ شيء العوض إذا ألقيت عليك هذا الصوت؟ قال:

ما تريد؛ قال: هذه الزّربيّة(2) الإرمينيّة، كم تقعد عليها! أ ما آن لك أن تملّها؟ قال: بلى، و هي لك. قال: و هذه الظباء الحرميّة، و أنا مكيّ لا أنت، و أنا أولى بها؛ قال: هي لك، و أمر بحملها معه. فلما حصلت له، قال المارقيّ: يا غلام، هات العود؛ قال يحيى: و الميزان و الدراهم، و كان لا يغنّي أو يأخذ خمسين درهما، فأعطاه إيّاها؛ فألقى عليه قوله:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب *** و قل إن تملّينا فما ملّك القلب

- و لحنه لكردم ثقيل أول - فلم يشكّ المارقيّ أنه قد أخذ الصوت الذي طلبه إبراهيم و أدرك حاجته. فبكّر إلى إبراهيم و قد أخذ الصوت، فقال له: قد جئتك بالحاجة. فدعا بالعود فغنّاه إياه؛ فقال له: لا و اللّه ما هو هذا، و قد خدعك، فعاود الاحتيال عليه. فبعثني إليه و بعث معي خمسين درهما. فلما دخل إليه و أكلا و شربا قال له يحيى:

قد واليت بين دعواتك لي، و لم تكن برّا و لا وصولا، فما هذا؟ قال: لا شيء و اللّه إلا محبتي للأخذ عنك و الاقتباس منك؛ فقال: سرّك اللّه، فمه. قال: تذكرت الصوت الذي سألتك إياه فإذا ليس هو الذي ألقيت عليّ. قال: فتريد ما ذا؟ قال: تذكر الصوت. قال: أفعل، ثم اندفع فغنّاه:

ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا(3) *** قلّ الثواء لئن كان الرحيل غدا

- و الغناء لمعبد ثقيل أول - فقال له: نعم، فديتك يا أبا عثمان، هذا هو، ألقه عليّ؛ قال: العوض؛ قال: ما شئت؟ قال: هذا المطرف الأسود؛ قال: هو لك. فأخذه/و ألقى عليه هذا الصوت حتى استوى له، و بكّر إلى إبراهيم؛ فقال له: ما وراءك؟ قال: قد قضيت الحاجة؛ فدعا له بعود فغنّاه؛ فقال: خدعك و اللّه، ليس هذا هو؛ فعاود الاحتيال عليه، و كلّ ما تعطيه إياه ففي ذمّتي. فلما كان/اليوم الثالث بعث بي إليه، فدعوته و فعلنا مثل فعلنا بالأمس. فقال له يحيى: فما لك أيضا؟ قال له: يا أبا عثمان، ليس هذا الصوت هو الذي أردت؛ فقال له: لست أعلم ما في نفسك فأذكره، و إنما عليّ أن أذكر ما فيه زينب من الغناء كما التمست حتى لا يبقى عندي زينب البتة إلا أحضرتها؛ فقال: هات على اسم اللّه؛ قال: اذكر العوض؛ قلت: ما شئت؛ قال: هذه الدّراعة(4) الوشي التي عليك؛ قال: فخذها و الخمسين الدرهم، فأحضرها. فألقى عليه - و الغناء لمعبد ثقيل أول -:

لزينب طيف تعتريني طوارقه *** هدوءا إذا النجم ارجحنّت(5) لواحقه

فأخذه منه و مضى إلى إبراهيم، فصادفه يشرب مع الحرم؛ فقال له حاجبه: هو متشاغل؛ فقال: قل له: قد جئتك بحاجتك. فدخل فأعلمه؛ فقال: يدخل فيغنّيه في الدار و هو قائم، فإن كان هو و إلا فليخرج، ففعل؛ فقال:

ص: 412


1- كذا في أ، ء، م. و كارمه: أهدى إليه ليكافئه و يثيبه. و في سائر الأصول: «مكارهة» و هو تحريف.
2- كذا في أكثر الأصول. و الزربية: واحدة الزرابيّ و هي البسط، و قيل كل ما بسط و اتكئ عليه. و في ح: «الزلية» و الزلية (بضم الزاي و تشديد اللام المكسورة): البساط، معرب «زيلو» بالفارسية، و جمعها زلالي.
3- أفد: دنا.
4- الدراعة (كرمانة): جبة مشقوقة المقدم و لا تكون إلا من صوف، و جمعها دراريع
5- ارجحنت: اهتزت و مالت.

لا و اللّه ما هو هذا، و لقد خدعك، فعاود الاحتيال عليه. ففعل مثل ذلك بيحيى؛ فقال له يحيى و هو يضحك: أ ما ظفرت بزينبك بعد؟ فقال: لا و اللّه يا أبا عثمان، و ما أشكّ في أنك تعتمدني بالمنع مما أريده، و قد أخذت كل(1)شيء عندي معابثة. فضحك يحيى و قال: قد استحييت منك الآن، و أنا ناصحك على شريطة؛ قال: نعم، لك الشريطة؛ قال: لا تلمني في أن أعابثك لأنك أخذت في معابثتي، و المطلوب إليه أقدر من الطالب، فلا تعاود/أن تحتال عليّ فإنك تظفر منّي بما تريد، إنما دسّك إبراهيم بن المهديّ عليّ لتأخذ مني صوتا غنّيته، فسألني إعادته فمنعته بخلا عليه لأنه لا يلحقني منه خير و لا بركة، و يريد أن يأخذ غنائي باطلا، و طمع بموضعك أن تأخذ الصوت بلا ثمن و لا حمد؛ لا و اللّه إلا بأوفر ثمن و بعد اعترافك، و إلا فلا تطمع في الصوت. فقال له: أمّا إذ فطنت فالأمر و اللّه على ما قلت، فتغنّيه الآن بعينه على شرط أنه إن كان هو هو و إلا فعليك إعادته، و لو غنّيتني كلّ شيء تعرفه لم أحتسب لك إلا به؛ قال: اشتره. فتساوما طويلا و ماكسه(2) حتى بلغ الصوت ألف درهم، فدفعها إليه؛ و ألقى عليه:

صوت

طرقتك زينب و المزار بعيد *** بمنى و نحن معرّسون هجود

فكأنما طرقت بريّا روضة *** أنف تسحسح مزنها و تجود

- لحنه خفيف ثقيل. قال: و هو صوت كثير العمل، حلو النّغم، محكم الصّنعة، صحيح القسمة، حسن المقاطع - فأخذه و بكّر إلى إبراهيم بن المهديّ، فقال له: قد أفقرني هذا الصوت و أعراني، و أبلاني بوجه يحيى المكي و شحّه و طلبه و شرهه، و حدّثه بالقصّة؛ فضحك إبراهيم. و غنّاه إياه، فقال: هذا أبيك هو بعينه. فألقاه عليه حتى أخذه، و أخلف عليه كلّ شيء أخذه يحيى منه و زاده خمسة آلاف درهم، و حمله على برذون أشهب فاره بسرجه و لجامه. فقال له: يا سيّدي؛ فغلامك زرزور المسكين قد تردّد عليه حتى ظلع(3)، هب له شيئا، فأمر له بألف درهم.

غنى للأمين لحنا أراد المغنون أخذه عنه فأبى:
اشارة

حدّثني جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ قال حدّثتني ريّق و شارية/جميعا قالتا:

كان مولانا - تعنيان أبي - في مجلس محمد الأمين يوما و المغنّون حضور، فغنّى يحيى المكي - و اللحن له خفيف ثقيل -:

صوت

خليل لي أهيم به *** فما كافا(4) و لا شكرا

بلى يدعى له باسمي *** إذا ما ريع أو عثرا

ص: 413


1- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «و قد أخذت في كل... إلخ». و الظاهر أن «في» مقحمة.
2- في الأصول: «و ماكسه أبي حتى بلغ... إلخ». و راوي القصة هو زرزور غلام المارقي لا ابنه. فلعل كلمة «أبي» مقحمة من النساخ. و ماكسه في البيع: شاحه و استحطه الثمن و استنقصه إياه.
3- ظلع: عرج و غمز في مشيه.
4- كافا مسهل كافأ.

فاستردّه سيّدنا و أحبّ أن يأخذه، فجعل يحيى يفسده. و فطن الأمين بذلك، فأمر له بعشرين ألف درهم و أمره بردّه و ترك التخليط، فدعا له و قبّل الأرض بين يديه و ردّ الصوت و جوّده؛ ثم استعاده. فقال له يحيى: ليست تطيب لك نفسي به إلا بعوض من مالك، و لا أنصحك و اللّه فيه، فهذا مال مولاي أخذته، فلم تأخذ أنت غنائي! فضحك الأمين و حكم على إبراهيم بعشرة آلاف درهم فأحضرها. فقبّل يحيى يده و أعاد الصوت و جوّده، فنظر إلى مخارق و علّويه يتطلّعان لأخذه فقطع الصوت؛ ثم أقبل عليهما و قال: قطعة من خصية الشيخ تغطي أستاه عدّة صبيان، و اللّه لا أعدته بحضرتكما. ثم أقبل على مولانا - تعنيان إبراهيم بن المهدي - فقال: يا سيّدي، إني أصير إليك حتى تأخذه عنّي متمكّنا و لا يشركك فيه أحد. فصار إليه فأعاده حتى أخذه عنه، و أخذناه معه.

غنى للرشيد بتل دارا فأكرمه:

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا أبو أيّوب المديني قال حدّثني أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال:

/أرسل إليّ هارون الرشيد، فدخلت إليه و هو جالس على كرسيّ بتلّ دارا(1)، فقال: يا يحيى، غنّني:

متى تلتقي الألاّف و العيس كلّما *** تصعّدن من واد هبطن إلى واد

فلم أزل أغنّيه إيّاه و يتناول قدحا إلى أن أمسى. فعددت عشر مرّات استعاد فيها الصوت، و شرب عشرة أقداح، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم، و أمرني بالانصراف.

مدح إسحاق غناءه و ذكر أصواتا له:
اشارة

و قال محمد بن أحمد بن يحيى المكي في خبره حدّثني أبي أحمد بن يحيى قال:

قال لي إسحاق: يا أبا جعفر، لأبيك مائة و سبعون صوتا، من أخذها عنه بمائة و سبعين ألف درهم فهو الرابح. فقلت لأبي: أيّ شيء تعرف منها؟ فقال: لحنه في شعر الأخطل:

صوت

خفّ القطين فراحوا منك و ابتكروا(2) *** و أزعجتهم نوّى في صرفها غير

كأنني شارب يوم استبدّ بهم *** من قهوة عتّقتها حمص أو جدر(3)

لحن يحيى المكيّ في هذين البيتين ثقيل أول - هكذا في الخبر - و لإبراهيم فيهما ثقيل أوّل آخر، و لابن سريج رمل.

ص: 414


1- دارا (بالقصر): بلدة في لحف جبل بين نصيبين و ماردين، و هي من بلاد الجزيرة، ذات بساتين و مياه جارية، و من أعمالها يجلب المحلب الذي تتطيب به الأعراب، و عندها كان معسكر دارا الملك بن قباذ الملك لما لقي الإسكندر المقدوني، فقتله الإسكندر و تزوج ابنته. و بنى في موضع معسكره هذه المدينة و سماها باسمه. و هي أيضا قلعة حصينة في جبال طبرستان، و واد في ديار بني عامر.
2- في أ، ء، م و «ديوان الأخطل»: «... أو بكروا». و هذان البيتان من قصيدة له من فاخر شعره، قالها يمدح عبد الملك بن مروان و يهجو قيسا و بني كليب.
3- جدر: قرية بين حمص و سلمية، تنسب إليها الخمر، و هي قرب دير إسحاق. و قد ورد الشطر الأخير في «ديوانه» و «معجم البلدان» هكذا: «من قرقف ضمنتها حمص أو جدر».

/قال: و منها:

صوت

بان الخليط فما أؤمّله *** و عفا من الرّوحاء(1) منزله

ما ظبية أدماء عاطلة *** تحنو على طفل تطفّله

لحن يحيى في هذا الشعر ثاني ثقيل بالبنصر. قال أحمد: قال لي إسحاق: وددت أن هذا/الصوت لي أو لأبي و أني مغرّم عشرة آلاف درهم. ثم قال: هل سمعتم بأحسن من قوله: «على طفل تطفّله».

قال: و منها:

صوت

و كفّ كعوّاذ(2) النقا لا يضيرها *** إذا برزت ألاّ يكون خضاب

أنامل فتخ(3) لا ترى بأصولها *** ضمورا و لم تظهر لهن كعاب

و لحنه من الثقيل الثاني.

قال: و منها:

صوت

صادتك(4) هند و تلك عادتها *** فالقلب مما يشفّه كمد

/كم تشتكي الشوق من صبابتها *** و لا تبالي هند بما تجد

و لحنه من خفيف الثقيل.

قال: و منها:

صوت

أ عسيت من سلمى هوا *** ك اليوم محتلاّ جديدا

و مرابط الخيل الجيا *** د و منزلا خلقا همودا

ص: 415


1- الروحاء: قرية جامعة لمزينة على ليلتين من المدينة، بينهما نحو أربعين ميلا.
2- الظاهر أن الشاعر يريد «بعواذ النقا» الديدان التي تعوذ بالنقا (الكثيب من الرمل) و تلوذ به. و قد ورد كثيرا في الشعر العربي تشبيه أصابع النساء و أنامل العذارى بهذه الديدان. قال امرؤ القيس: و تعطو برخص غير شثن كأنه أساريع ظبي أو مساويك إسحل (ظبي: اسم كثيب. و الأساريع: دواب تكون بالرمل صغار بيض ملس، واحدها أسروع و يسروع). و يقال لهذه الديدان بنات النقا؛ قال ذو الرمة: خراعيب أملود كأن بناتها بنات النقا تخفى مرارا و تظهر
3- فتح: رخصة لينة. و قد وردت هذه الكلمة في جميع الأصول بالحاء المهملة؛ و هو تصحيف.
4- في ب، س: «صادتها». و هو تحريف.

و لحنه خفيف ثقيل أيضا.

قال: و منها:

صوت

ألا مرحبا بخيال ألمّ *** و إن هاج للقلب طول الألم

خيال لأسماء يعتادني *** إذا الليل مدّ رواق الظّلم

و لحنه ثقيل أول.

قال: و منها:

صوت

كم ليلة ظلماء فيك سريتها *** أتعبت فيها صحبتي و ركابي

لا يبصر الكلب السّروق خباءها *** و مواضع الأوتاد و الأطناب(1)

لحنه ثاني ثقيل بالوسطى. و فيه خفيف ثقيل بالوسطى للغريض. قال ابن المكيّ: غنّى أبي الرشيد ليلة هذا الصوت فأطربه، ثم قال له: قم يا يحيى فخذ ما في ذلك البيت؛ فظنّه فرشا أو ثيابا، فإذا فيه أكياس فيها عين و ورق؛ فحملت بين يديه فكانت خمسين ألف درهم مع قيمة العين.

/قال: و منها:

صوت

إني امرؤ مالي يقي عرضي *** و يبيت جاري آمنا جهلي

و أرى الذّمامة(2) للرّفيق إذا *** ألقى رحالته(3) إلى(4) رحلي

و لحنه خفيف ثقيل. قال ابن المكي غنّى ابن جامع الرشيد يوما البيت الأول من هذين البيتين و لم يزد عليه شيئا؛ فأعجب به الرشيد و استردّه مرارا، و أسكت لابن جامع المغنّين جميعا، و جعل يسمعه و يشرب عليه، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم و عشرة خواتيم و عشر خلع، /و انصرف. فمضى إبراهيم من وجهه إلى يحيى المكيّ فأستأذن عليه، فأذن له، فأخبره بالذي كان من أمر ابن جامع و استغاث به. فقال له يحيى: أ فزاد على البيت الأول شيئا؟ قال لا؛ قال أ فرأيت إن زدتك بيتا ثانيا لم يعرفه إسماعيل أو عرفه ثم أنساه، و طرحته عليك حتى تأخذه ما تجعل لي؟ قال: النصف مما يصل إليّ بهذا السبب؛ قال: و اللّه؟! فأخذ بذلك عليه عهدا و شرطا و استحلفه عليه أيمانا مؤكّدة؛ ثم زاده البيت الثاني و ألقاه عليه حتى أخذه و انصرف. فلما حضر المغنّون من غد و دعي به كان أوّل صوت غنّاه إبراهيم هذا الصوت، و جاء بالبيت الثاني و تحفّظ فيه فأصاب و أحسن كلّ الإحسان، و شرب عليه الرشيد و استعاده

ص: 416


1- الأطناب: حبال طوال يشد بها سرادق البيت، واحدها طنب.
2- الذمامة: (بالفتح و الكسر): الحرمة و الحق.
3- الرحالة و الرحل: مركب للبعير، و هما أيضا: منزل الرجل و مسكنه و بيته.
4- في ح: «على».

حتى سكر، و أمر لإبراهيم بعشرة آلاف درهم و عشرة خواتيم و عشر خلع؛ فحمل ذلك كلّه، و انصرف من وجهه ذلك إلى يحيى فقاسمه و مضى إلى منزله. و انصرف ابن جامع إليه من دار الرشيد، و كان يحيى في بقايا علّة فاحتجب عنه؛ فدفع ابن جامع في صدر بوّابه و دخل إليه، فقال له: إيه يا يحيى، كيف صنعت! /ألقيت الصوت على الجرمقانيّ(1) لا رفع اللّه صرعتك و لا وهب لك العافية. و تشاتما ساعة، ثم خرج ابن جامع من عنده و هو مدوّخ.

مدحه إسحاق الموصلي في جمع من المغنين عند الفضل بن الربيع:

حدّثني عمّي قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال قال لي إسحاق:

كنت أنا و أبوك و ابن جامع و فليح بن أبي العوراء و زبير بن دحمان يوما عند الفضل بن الربيع؛ فانبرى زبير بن دحمان لأبيك(2) (يعني يحيى)، فجعلا يغنّيان و يباري كلّ واحد منهما صاحبه، و ذلك يعجب الفضل، و كان يتعصّب لأبيك و يعجب به. فلما طال الأمر بينهما قال له الزبير: أنت تنتحل غناء الناس و تدّعيه و تنحلهم ما ليس لهم. فأقبل الفضل عليّ و قال: احكم أيها الحاكم بينهما، فلم يخف عليك ما هما فيه؛ فقلت: لئن كان ما يرويه يحيى و يغنّيه شيئا لغيره فلقد روى ما لم يرووه و ما لم نروه، و علم ما جهلناه و جهلوه، و لئن كان من صنعته إنه لأحسن الناس صنعة، و ما أعرف أحدا أروى منه و لا أصحّ أداء للغناء، كان ما يغنّيه له أو لغيره. فسرّ بذلك الفضل و أعجبه. و ما زال أبوك يشكره لي.

صوت من المائة المختارة

أهاجتك الظعائن يوم بانوا *** بذي الزّيّ الجميل من الأثاث

ظعائن أسلكت نقب المنقّى(3) *** تحثّ إذا ونت أيّ احتثاث

الشعر للنّميري. و الغناء للغريض، و لحنه المختار ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر.

ص: 417


1- الجرمقاني: واحد الجرامقة، و هم قوم من العجم صاروا بالموصل في أوائل الإسلام.
2- في أ، ء، م: «لأبيك يحيى».
3- في «معجم البلدان» لياقوت (مادة نقب): «... و نقب المنقى بين مكة و الطائف في شعر محمد بن عبد اللّه النميري...» و ذكر الأبيات. و في كلامه على المنقى: «و المنقى بين أحد و المدينة». و في «معجم ما استعجم»: «المنقى بضم أوله و فتح ثانيه و تشديد القاف موضع على سيف البحر مما يلي المدينة». و ذكر المبرد أبيات النميري في «الكامل» (ج 1 ص 376) ثم قال: «المنقى: موضع بعينه. و النقب: الطريق في الجبل... إلخ».

16 - أخبار النّميريّ و نسبه

نسبه و منشؤه:

هو محمد بن عبد اللّه بن نمير بن خرشة(1) بن ربيعة بن حبيّب(2) بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسيّ؛ و قسيّ هو ثقيف. شاعر غزل، مولّد؛ و منشؤه بالطائف، من شعراء الدولة الأموية، و كان يهوى زينب بنت يوسف بن الحكم أخت الحجاج بن يوسف، و له فيها/أشعار كثيرة يتشبّب بها.

كان يهوى زينب أخت الحجاج بن يوسف، و سياق أحاديثه مع الحجاج بشأنها:
اشارة

حدّثني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أحمد بن الهيثم قال حدّثنا العمريّ عن لقيط بن بكر(3)المحاربيّ، و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالوا حدّثنا عمر بن شبّة:

أن النميريّ كان يهوى زينب بنت يوسف أخت الحجّاج بن يوسف بن الحكم لأبيه و أمه. و أمهما الفارعة بنت همّام بن عروة بن مسعود الثّقفيّ؛ و كانت عند/المغيرة بن شعبة؛ فرآها يوما بكرة و هي تتخلّل، فقال لها: و اللّه لئن كان من غداء لقد جشعت(4)، و لئن كان من عشاء لقد أنتنت، و طلقها(5). فقالت: أبعدك اللّه! فبئس بعل المرأة الحرة أنت! و اللّه ما هو إلا من شظيّة من سواكي استمسكت بين سنّين من أسناني. قال حبيب بن نصر خاصّة في خبره: قال عمر بن شبّة حدّثنا بذلك أبو عاصم النّبيل.

أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبة عن يعقوب بن داود الثقفيّ، و حدّثنا به ابن عمّار و الجوهريّ

ص: 418


1- كذا في أ، ء، م، و «الاستيعاب» (ح 1 ص 312) و «الطبري» (ق 1 ص 1689)، و «الاشتقاق» لابن دريد (ص 184). و في سائر الأصول: «حرشة» بالحاء المهملة، و هو تصحيف.
2- في جميع الأصول: «... ابن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن مالك... إلخ». و الظاهر أنه محرف عما أثبتناه. فقد ذكر ابن قتيبة في كتابه «المعارف» عند الكلام على ثقيف (ص 44) أن ثقيفا ولد جشم و ولد جشم حطيطا و ولد حطيط مالكا و غاضرة، و من بني مالك السائب بن الأقرع و بنو الحارث بن مالك. و ذكر الذهبي في «المشتبه» عند كلام على حبيب (ص 146-147) قال: «... و حبيب (بضم الحاء و فتح الموحدة و تشديد المثناة و كسرها) ابن الحارث بن مالك الثقفي... إلخ». و قال صاحب «شرح القاموس» (مادة حبب): «... و حبيب بن الحارث الثقفي». و لم نجد مرجعا اتفق مع الأصول فيما ذهبت إليه من سوق النسب على نحو ما أوردته و جعل الحارث ابنا لحبيب.
3- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «بكير» و هو تحريف. (راجع الهامشة رقم 1 ص 99 من الجزء الأوّل من هذه الطبعة).
4- في أكثر الأصول: «أجشعت». و في ح: «أبشعت». و المعروف في هذين الفعلين أنهما من باب فرح. و قد وردت هذه القصة في «العقد الفريد» (ح 3 ص 6) و في «وفيات الأعيان» في ترجمة الحجاج باختلاف في ألفاظها.
5- في ح: «و لفظها و طلقها».

عن عمر بن شبّة - و لم يذكرا(1) فيه يعقوب بن داود - قالوا جميعا:

قال مسلم بن جندب الهذليّ - و كان قاضي الجماعة بالمدينة -: إني لمع محمد بن عبد اللّه بن نمير بنعمان(2)و غلام يسير خلفه يشتمه أقبح الشتيمة؛ فقلت: من هذا؟ فقال: هذا الحجاج بن يوسف، دعه(3) فإني ذكرت أخته في شعري، فأحفظه ذلك.

قال عمر بن شبة في خبره: و ولدت الفارعة أمّ الحجّاج من المغيرة بن شعبة بنتا فماتت؛ فنازع الحجاج عروة بن المغيرة إلى ابن زياد في ميراثها؛ فأغلظ الحجاج لعروة، فأمر به ابن زياد فضرب أسواطا على رأسه و قال:

لأبي عبد اللّه تقول هذه المقالة! /و كان الحجاج حاقدا على آل زياد ينفيهم من آل أبي سفيان و يقول: آل أبي سفيان ستة حمش(4)، و آل زياد رسح حدل(5).

و كان يوسف بن الحكم اعتلّ علّة فطالت عليه؛ فنذرت زينب إن عوفي أن تمشي إلى البيت(6)، فعوفي فخرجت في نسوة فقطعن بطن وجّ(7)، و هو ثلاثمائة ذراع، في يوم جعلته مرحلة لثقل بدنها، و لم تقطع ما بين مكة و الطائف إلا في شهر. فبينا هي تسير [إذ](8) لقيها إبراهيم بن عبد اللّه النّميريّ أخو محمد بن عبد اللّه منصرفا من العمرة. فلما قدم الطائف أتى محمدا(9) يسلّم عليه؛ فقال له: أ لك علم بزينب؟ قال: نعم، لقيتها بالهماء(10) في بطن نعمان؛ فقال: ما أحسبك إلا و قد قلت شيئا؛ قال: نعم، قلت بيتا واحدا و تناسيته كراهة أن ينشب بيننا و بين إخوتنا شرّ. فقال محمد هذه القصيدة و هي أول ما قاله:

صوت

تضوّع(11) مسكا بطن نعمان إذ(12) مشت *** به زينب في نسوة عطرات

فأصبح ما بين الهماء فحزوة(13) *** إلى الماء ماء الجزع ذي العشرات(14)

ص: 419


1- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «... يذكروا... إلخ» و هو تحريف.
2- نعمان (بفتح أوله و سكون ثانيه): هو نعمان الأراك؛ واد بينه و بين مكة نصف ليلة.
3- في ب، س، ح: «قلت دعه» و لا تستقيم العبارة بهذه الزيادة.
4- سته: عظام الأستاه. و حمش: دقاق السوق.
5- رسح: جمع أرسح، و هو قليل لحم العجز و الفخذين. و الحدل: جمع أحدل، و هو الذي أشرف أحد عاتقيه على الآخر.
6- المراد به الكعبة.
7- وج: اسم واد بالطائف و هو ما بين جبلي المحترق و الأحيحين (بالتصغير).
8- زيادة عن ح.
9- كذا في ح. و في سائر الأصول: «محمد» بالرفع.
10- الهماء: موضع بنعمان بين الطائف و مكة.
11- وردت هذه القصيدة كاملة و باختلاف كثير ضمن قصائد مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (1845 أدب).
12- كذا في ب، س. و في سائر الأصول و «تجريد الأغاني» و «الكامل» (ص 289): «أن».
13- كذا في جميع الأصول. و في «تجريد الأغاني»: «و جذوة» و لم نعثر في المراجع التي بين أيدينا على مكان تسمى بأحد هذين الاسمين. و قد أورد ياقوت في كلامه على الهماء هذا البيت برواية أخرى و هي: فأصبح ما بين الهماء فصاعدا إلى الجزع جزع الماء ذي العشرات (في «المعجم»: «فأصبحن»). و رواية هذا البيت في المجموعة المخطوطة: فأصبح بطنان الهواء فجوزه إلى الجزع جزع الماء ذي العشرات
14- العشرات: جمع عشر (بضم ففتح). و هو من كبار الشجر و له صمغ حلو، و هو عريض الورق ينبت صعدا في السماء، و له سكر

/

له أرج من مجمر الهند ساطع(1)*** تطلّع ريّاه من الكفرات(2)

تهادين ما بين المحصّب(3) من منى *** و أقبلن لا شعثا و لا غبرات(4)

أعان الذي فوق السموات عرشه *** مواشي بالبطحاء مؤتجرات(5)

مررن بفخّ(6) ثم رحن عشية *** يلبّين للرحمن معتمرات

/يخبّئن(7) أطراف البنان من التقى *** و يقتلن بالألحاظ مقتدرات

تقسّمن لبّي يوم نعمان إنني *** رأيت فؤادي عارم(8) النظرات

جلون وجوها لم تلحها سمائم *** حرور و لم يسفعن بالسّبرات(9)

فقلت يعافير الظباء تناولت *** نياع(10) غصون المرد(11) مهتصرات

و لما رأت ركب النّميري راعها *** و كنّ من ان يلقينه حذرات

/فأدنين، حتى جاوز الركب، دونها *** حجابا من القسّيّ(12) و الحبرات

فكدت اشتياقا نحوها و صبابة *** تقطّع نفسي إثرها حسرات

فراجعت نفسي و الحفيظة بعد ما *** بللت رداء العصب(13) بالعبرات

ص: 420


1- في المجموعة المخطوطة: له أرج بالعنبر الورد فاغم
2- الكفرات: جمع كفر (بفتح الكاف و كسر الفاء) و هو العظيم من الجبال.
3- المحصب: موضع بين مكة و منى، و هو إلى منى أقرب.
4- في المجموعة المخطوطة: «تهادين ما بين المحصب من منى و نعمان... إلخ»
5- مؤتجرات: طالبات للأجر. و في «تجريد الأغاني»: «معتجرات» أي لابسات المعاجر و هي أثواب تلفها النساء على استدارة رءوسهن ثم تجلببن فوقها بجلابيبهن. و رواية هذا البيت في المجموعة المخطوطة: خرجن إلى البيت العتيق بعمرة نواحب في نذر و مؤتجرات
6- فخ: موضع بينه و بين مكة ثلاثة أميال و به كانت وقعة الحسين و عقبة.
7- في المجموعة المخطوطة: «يخمرن». و يقال: ليست امرأة من الطائف تخرج إلا و على يديها قفازان للتقى.
8- أي شارد النظرات حائرها.
9- لاحته الشمس و لوحته: لفحته و غيرت وجهه. و السمائم: جمع سموم و هي ريح حارة أو حر النهار. و سفعته: غيرته. و السبرات: جمع سبرة (بسكون الباء) و هي شدة برد الشتاء.
10- في جميع الأصول: «يناع». و الظاهر أنها مصحفة عما أثبتناه. و النياع من الغصون: التي تحركها الرياح فتتحرك و تتمايل. يريد أن أعناقهن في امتدادها كأعناق الظباء.
11- كذا في أ، ء، م و «تجريد الأغاني» و المجموعة المخطوطة. و المرد (بالفتح): العص من ثمر الأراك و قيل ناضجه. و في جميع الأصول: «الورد».
12- القسي: ضرب من الثياب، و هو منسوب إلى قس، موضع بين العريش و الفرما من أرض مصر كانت تصنع فيه ثياب من كتان مخلوط بحرير. و الحبرات: جمع حبرة (كعنبة)، و هي ضرب من برود اليمن موشى. و روى هذا البيت في المجموعة المخطوطة: و قام جوار دونها فسترتها بأكسية الديباج و الحبرات
13- العصب: ضرب من البرود، و قيل: هي برود يصبغ غزلها ثم تنسج، لانثنى و لا تجمع و إنما يثنى و يجمع ما يضاف إليها، فيقال برد عصب و برود عصب.

- غنّى ابن سريج في الأوّل و بعده «مررن بفخ» و بعده «يخمرن أطراف البنان»، و لحنه ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق - قال أبو زيد: فبلغت هذه القصيدة عبد الملك بن مروان، فكتب إلى الحجّاج: قد بلغني قول الخبيث في زينب، فاله عنه و أعرض عن ذكره، فإنك إن أدنيته أو عاتبته أطمعته، و إن عاقبته صدّقته.

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو سلمة الغفاريّ قال:

هرب النّميريّ من الحجّاج إلى عبد الملك و استجار به؛ فقال له عبد الملك: أنشدني ما قلت في زينب فأنشده. فلما انتهى إلى قوله:

و لما رأت ركب النميريّ أعرضت *** و كنّ من ان يلقينه حذرات

قال له عبد الملك: و ما كان ركبك يا نميريّ؟ قال: أربعة أحمرة لي كنت أجلب قال له عبد الملك: و ما كان ركبك يا نميريّ؟ قال: أربعة أحمرة لي كنت أجلب عليها القطران، و ثلاثة أحمرة صحبتي تحمل البعر. فضحك عبد الملك حتى استغرب ضحكا، ثم قال: لقد عظّمت أمرك و أمر ركبك؛ و كتب له إلى الحجاج أن لا سبيل/له عليه. فلما أتاه بالكتاب وضعه و لم يقرأه، ثم أقبل على يزيد بن أبي مسلم فقال له: أنا بريء من بيعة أمير المؤمنين، لئن لم ينشدني ما قال في زينب لآتينّ على نفسه، و لئن أنشدني لأعفونّ عنه، و هو إذا أنشدني آمن.

فقال له يزيد: ويلك! أنشده؛ فأنشده قوله:

تضوّع مسكا بطن نعمان إذ مشت *** به زينب في نسوة خفرات

فقال: كذبت و اللّه، ما كانت تتعطّر إذا خرجت من منزلها. ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله:

و لما رأت ركب النّميريّ راعها *** و كنّ من أن يلقينه حذرات

قال له: حقّ لها أن ترتاع لأنها من نسوة خفرات صالحات. ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله:

مررن بفخّ رائحات عشية *** يلبّين للرحمن معتمرات

فقال: صدقت، لقد كانت حجّاجة صوّامة ما علمتها. ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله:

يفرّن أطراف البنان من التقى *** و يخرجن جنح الليل معتجرات(1)

فقال له: صدفت، هكذا كانت تفعل، و هكذا المرأة الحرة المسلمة. ثم قال له: ويحك! إني أرى ارتباعك ارتياع مريب، و قولك قول بريء، و قد أمّنتك، و لم يعرض له. قال أبو زيد(2): و قيل: /إنه طالب عريفه به و أقسم لئن لم يجئه به ليضربنّ عنقه، فجاءه به بعد هرب طويل منه؛ فخاطبه بهذه المخاطبة:

من شعره في زينب:
اشارة

قال أبو زيد: و قال النّميريّ في زينب أيضا:

ص: 421


1- تقدم هذا الشطر بغير هذه الرواية.
2- هو أبو زيد عمر بن شبة النميري البصري، كان شاعرا أخباريا فقيها صادق اللهجة غير مدخول الرواية واسع الاطلاع. روى عن أبي عاصم النبيل و محمد بن سلام الجمحي و هارون بن عبد اللّه و إبراهيم بن المنذر و غيرهم. و له عدّة تصانيف ذكرها ابن النديم في «الفهرست»، و منها كتاب «أخبار بني نمير». ولد سنة 173 ه و توفي بسرّمن رأى سنة 263 ه.
صوت

طربت و شاقتك المنازل من جفن(1) *** ألا ربما يعتادك الشوق بالحزن

نظرت إلى أظعان زينب باللّوى *** فأعولتها(2) لو كان إعوالها يغني

فو اللّه لا أنساك زينب ما دعت *** مطوّقة ورقاء شجوا على غصن

فإنّ احتمال الحيّ يوم تحمّلوا *** عناك و هل يعنيك إلا الذي يعني

و مرسلة في السرّ أن قد فضحتني *** و صرّحت باسمي في النّسيب فما تكنى

و أشمت بي أهلي و جلّ عشيرتي *** ليهنئك ما تهواه إن كان ذا يهنى

و قد لا مني فيها ابن عمّي ناصحا *** فقلت له خذلي فؤادي أو دعني

- غنّى ابن سريج في الأوّل و الثاني و الخامس و السادس من هذه الأبيات لحنا من الرمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق - قال أبو زيد: فيقال: إنه بلغ زينب بنت يوسف قوله هذا فبكت؛ فقالت لها خادمتها؛ ما يبكيك؟ فقالت: أخشى أن يسمع بقوله هذا جاهل بي لا يعرفني و لا يعلم مذهبي فيراه حقّا.

قال: و قال النميريّ فيها أيضا:

أهاجتك الظعائن يوم بانوا *** بذي الزّيّ الجميل من الأثاث

ظعائن أسلكت نقب المنقّى *** تحثّ إذا ونت أيّ احتثاث

تؤمّل أن تلاقي أهل بصرى *** فيا لك من لقاء مستراث(3)

/كأنّ على الحدائج يوم بانوا *** نعاجا(4) ترتعي بقل البراث(5)

يهيّجني الحمام إذا تداعى(6) *** كما سجع النوائح بالمرائي

كأن عيونهنّ من التبكّي *** فصوص الجزع أو ينع الكباث(7)

ألاق أنت في الحجج البواقي *** كما لاقيت في الحجج الثلاث

طلب أبو الحجاج إلى عبد الملك ألا يجعل للحجاج عليه سبيلا فلقيه الحجاج و لم يعرض له:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق قال قرأت على أبي حدّثنا عثمان بن حفص و غيره:

أنّ يوسف بن الحكم قام إلى عبد الملك بن مروان لمّا بعث بالحجّاج لحرب بن الزبير، و قال له:

ص: 422


1- جفن: اسم واد بالطائف لثقيف، و هو بين الطائف و بين معدن البرام.
2- أعول الرجل: رفع صوته بالبكاء.
3- كذا ورد هذا الشطر الأخير في أ، ء، م و «تجريد الأغاني». و مستراث: مستبطأ. و في سائر الأصول: فيا لك مستزار مستراث
4- الحدائج: جمع حديجة. و الحديجة (و مثلها الحدج بالكسر): من مراكب النساء نحو الهودج و المحفة. و النعاج: البقر الوحشي.
5- البراث: الأماكن السهلة من الرمل، واحدها برث (بالفتح).
6- في «الكامل» (ص 377): «تغنى».
7- الجزع (بالفتح): الخرز اليماني الذي فيه سواد و بياض، تشبه به الأعين. و ينع: جمع يانع. و الكباث (بالفتح): النضيج من ثمر الأراك أو غير النضيج منه، و قيل: حمله إذا كان متفرقا، و هو فويق حب الكسبرة في المقدار.

يا أمير المؤمنين، إنّ غلاما منّا قال في ابنتي زينب ما لا يزال الرجل يقول مثله في بنت عمّه، و إن هذا (يعني ابنه الحجّاج) لم يزل يتتوّق إليه و يهمّ به، و أنت الآن تبعثه إلى ما هناك، و ما آمنه عليه. فدعا بالحجّاج فقال له: إن محمدا النّميريّ جاري و لا سلطان لك عليه، فلا تعرض له.

قال إسحاق فحدّثني يعقوب بن داود الثّقفي قال: قال لي مسلم بن جندب الهذليّ:

كنت مع النّميريّ و قد قتل الحجاج عبد اللّه بن الزبير و جلس يدعو الناس للبيعة، فتأخّر النميريّ حتى كان في آخرهم، فدعا به ثم قال له: إنّ مكانك لم يخف عليّ، ادن فبايع. ثم قال له: أنشدني ما قلت في زينب؛ قال: ما قلت إلا خيرا؛ قال: لتنشدنّي. فأنشده قوله:

/

تضوّع مسكا بطن نعمان إذ مشت *** به زينب في نسوة عطرات

/أعان الذي فوق السموات عرشه *** مواشي بالبطحاء مؤتجرات

يخمّرن أطراف الأكفّ من التّقى *** و يخرجن جنح الليل معتجرات

فما ذكرت أيها الأمير إلا كرما و خيرا و طيبا. قال: فأنشد كلمتك كلّها فأنت آمن؛ فأنشده حتى بلغ إلى قوله:

و لمّا رأت ركب النّميريّ راعها *** و كنّ من أن يلقينه حذرات

فقال له: و ما كان ركبك؟ قال: و اللّه ما كان إلا أربعة أحمرة تحمل القطران. فضحك الحجّاج و أمره بالانصراف و لم يعرض له.

تهدده الحجاج فهرب و قال شعرا:

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ عن الخليل بن أسد عن العمريّ عن عطاء عن عاصم بن الحدثان قال:

كان ابن نمير الثّقفيّ يشبّب بزينب بنت يوسف بن الحكم؛ فكان الحجّاج يتهدّده و يقول: لو لا أن يقول قائل صدق لقطعت لسانه. فهرب إلى اليمن ثم ركب بحر(1) عدن، و قال في هربه:

أتتني عن الحجّاج و البحر بيننا *** عقارب تسري و العيون هواجع

فضقت بها ذرعا و أجهشت خيفة *** و لم آمن الحجّاج و الأمر فاظع

و حلّ بي الخطب الذي جاءني به *** سميع فليست تستقرّ الأضالع

فبتّ أدير الأمر و الرأي ليلتي *** و قد أخضلت خدّي الدموع التوابع(2)

و لم أر خيرا لي من الصبر إنه *** أعفّ و خير إذ عرتني الفواجع

/و ما أمنت نفسي الذي خفت شرّه *** و لا طاب لي مما خشيت المضاجع

إلى أن بدا لي رأس إسبيل(3) طالعا *** و إسبيل حصن لم تنله الأصابع

ص: 423


1- هو بحر القلزم، و يسمى في كل موضع يمرّ به باسم ذلك الموضع، فإذا قابله بطن اليمن يسمى بحر عدن إلى أن يجاوز عدن ثم يسمى بحر الزنج، و هو بحر مظلم أسود لا يرى مما فيه شيء. و بقرب عدن معدن اللؤلؤ يرفع ما يخرج منه إلى عدن.
2- في «معجم البلدان» (ج 1 ص 240 طبع أوروبا): «الدوافع».
3- كذا في أ، ء، م و «تجريد الأغاني» و «معجم البلدان». و إسبيل: جبل في مخلاف ذمار، و هو منقسم بنصفين نصف إلى مخلاف رداع

فلي عن ثقيف إن هممت بنجوة *** مهامه تهوي(1) بينهنّ الهجارع(2)

و في الأرض ذات العرض عنك ابن يوسف *** إذا شئت منأى لا أبا لك واسع

فإن نلتني حجّاج فاشتف جاهدا *** فإنّ الذي لا يحفظ اللّه ضائع

فطلبه الحجّاج فلم يقدر عليه. و طال على النّميريّ مقامه هاربا و اشتاق إلى وطنه، فجاء حتى وقف على رأس الحجّاج؛ فقال له: إيه يا نميريّ! أنت القائل:

فإن نلتني حجّاج فاشتف جاهدا

فقال: بل أنا الذي أقول:

أخاف من الحجّاج ما لست خائفا *** من الأسد العرباض(3) لم يثنه ذعر

أخاف يديه أن تنالا مقاتلي *** بأبيض عضب ليس من دونه ستر

و أنما الذي أقول:

فها أنا ذا طوّفت شرقا و مغربا *** و أبت و قد دوّخت(4) كلّ مكان

/فلو كانت العنقاء منك تطير بي *** لخلتك إلا أن تصدّ تراني(5)

قال: فتبسّم الحجاج و أمّنه، و قال له: لا تعاود ما تعلم؛ و خلّى سبيله.

زواج زينب أخت الحجاج و تولية كريّها شرطة البصرة:
اشارة

رجع الخبر إلى رواية حماد بن إسحاق.

قال حمّاد فحدّثني أبي قال ذكر المدائنيّ و غيره:

أنّ الحجّاج عرض على زينب أن يزوّجها/محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل - و هو ابن سبع عشرة سنة، و هو يومئذ أشرف ثقفيّ في زمانه - أو الحكم ابن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، و هو شيخ كبير، فاختارت الحكم، فزوّجها إياه، فأخرجها إلى الشام. و كان محمد بن رياط كريّها، و هو يومئذ يكري. فلما ولي

ص: 424


1- في أ، ء، م و «معجم البلدان»: «تعمى». و العمى هنا كناية عن الضلال.
2- الهجارع: جمع هجرع (كدرهم و جعفر) و هو الخفيف من الكلاب السلوقية.
3- العرباض: الأسد الثقيل العظيم.
4- دوّخ فلان البلاد: سار فيها حتى عرفها و لم تخف عليه طرقها.
5- هذان البيتان رواهما المبرد في «الكامل» ببعض تغيير و هما: هاك يدي ضاقت بي الأرض رحبها و إن كنت قد طوّفت كل مكان و لو كنت بالعنقاء أو بيسومها لخلتك إلا أن تصدّ تراني و قد نسبهما المؤلف أيضا للعديل بن الفرخ في ترجمته (ج 20 ص 18 طبع بولاق). و ذكر أن الحجاج جدّ في طلبه حتى ضاقت به الأرض، فأتى واسطا و تنكر و أخذ بيده رقعة و دخل إليه مع أصحاب المظالم، فلما وقف بين يديه أنشأ يقول: ها أنا ذا ضاقت بي الأرض كلها إليك و قد جولت كل مكان فلو كنت في ثهلان أو شعبتي أجا لخلتك إلا أن تصدّ تراني

الحجاج العراق استعمل الحكم بن أيوب على البصرة، فكلمته زينب في محمد بن رياط فولاّه شرطته بالبصرة.

فكتب إليه الحجاج: إنك ولّيت أعرابيّا جافيا شرطتك، و قد أجزنا ذلك لكلام من سألك فيه. قال: ثم أنكر الحكم بعض تعجرفه فعزله. ثم استعمل الحجّاج الحكم بن سعد العذريّ على البصرة و عزل الحكم بن أيّوب عنها و استقدمه لبعض الأمر، ثم ردّه بعد ذلك إلى البصرة، و جهّزه من ماله. فلمّا قدم البصرة هيّأت له زينب طعاما و خرجت متنزّهة إلى بعض البساتين و معها نسوة. /فقيل لها: إنّ فيهن امرأة لم ير أحسن ساقا منها. فقالت لها زينب: أريني ساقك؛ فقالت: لا، إلا بخلوة؛ فقالت: ذاك لك، فكشفته لها، فأعطتها ثلاثين دينارا و قالت: اتّخذي منها خلخالا. قال: و كان الحجاج وجّه بزينب مع حرمه إلى الشام لمّا خرج ابن الأشعث خوفا عليهنّ. فلما قتل ابن الأشعث كتب إلى عبد الملك بن مروان بالفتح، و كتب مع الرسول كتابا إلى زينب يخبرها الخبر، فأعطاها الكتاب، و هي راكبة على بغلة في هودج، فنشرته تقرؤه، و سمعت البغلة قعقعة الكتاب فنفرت، و سقطت زينب عنها فاندقّ عضداها و تهرّأ(1) جوفها فماتت. و عاد إليه الرسول، الذي نفذ بالفتح، بوفاة زينب. فقال النميريّ يرثيها:

ماتت زينب فرثاها:

صوت

لزينب طيف تعتريني طوارقه *** هدوءا إذا(2) النجم ارجحنّت(3) لواحقه

سيبكيك مرنان(4) العشيّ يجيبه(5) *** لطيف بنان الكفّ درم(6) مرافقه

إذا ما بساط اللهو مدّ و ألقيت(7) *** للذّاته أنماطه و نمارقه(8)

غنّاه معبد، و لحنه ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. و ما بقي من شعره(9) من الأغاني في نسيب النميريّ لم نذكر طريقته و صانعه لنذكر أخباره معه.

صوت
غنى ابن سريج من شعره لعبد اللّه بن جعفر فنحر راحلته و شق جلته:

تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت *** به زينب في نسوة خفرات

مررن بفخّ رائحات عشية *** يلبّين للرحمن معتمرات

ص: 425


1- كذا في أكثر الأصول. و تهرأ اللحم (بالهمز): طبخ حتى يتفسخ و يسقط عن العظم. و في ب، س: «تهرى». و لم يحكها من أهل اللغة غير ابن دريد عن أبي مالك.
2- في ب، س: «إذ».
3- ارجحن النجم: مال نحو المغرب.
4- مرنان العشيّ: كنى به عن الصنج ذي الأوتار و هو من آلات الطرب. و الرنين: الصوت الشجى.
5- كذا في «تجريد الأغاني». و في جميع الأصول: «نجيبه».
6- درم: جمع أدرم و هو من لا حجم لعظامه.
7- في «الكامل»: «و قربت».
8- نسب المبرد في «الكامل» (ص 708 طبع أوروبا) هذا البيت لنصيب.
9- ظاهر أن السياق يكون واضحا لو حذفت كلمة «من شعره» أو كلمة «في نسيب النميري». فلعل إحداهما من زيادات النساخ.

الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق.

أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن مزيد قالا حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني(1) عن عبد اللّه بن مسلم الفهريّ(2) قال:

خرج عبد اللّه بن جعفر متنزّها، فصادف ابن سريج و عزّة الميلاء متنزّهين، فأناخ ابن جعفر راحلته و قال لعزّة:

غنّيني فغنّته، ثم قال لابن سريج: غنّني يا أبا يحيى، فغنّاه لحنه في شعر النميريّ:

تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت

فأمر براحلته فنحرت، /و شقّ حلّته فألقى نصفها على عزّة و النصف الآخر على ابن سريج. فباع ابن سريج النصف الذي صار إليه بمائة و خمسين دينارا. و كانت عزّة إذا جلست في يوم زينة أو مباهاة ألقت النصف الآخر عليها تتجمّل به.

سمع سعيد بن المسيب شعرا له فأعجبه و زاد عليه:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني الحسن بن عليّ بن منصور قال أخبرني أبو عتّاب عن إبراهيم بن محمد بن العباس المطّلبي:

/أن سعيد بن المسيّب(3) مرّ في بعض أزقّة مكة، فسمع الأخضر الحربيّ(4) يتغنّي في دار العاص بن وائل:

تضوّع مسكا بطن نعمان إذ مشت *** به زينب في نسوة خفرات

فضرب برجله و قال: هذا و اللّه مما يلذّ استماعه، ثم قال:

و ليست كأخرى أوسعت جيب درعها *** و أبدت بنان الكفّ للجمرات(5)

و علّت(6) بنان(7) المسك و حفا(8) مرجّلا *** على مثل بدر لاح في الظلمات

و قامت تراءى يوم جمع(9) فأفتنت *** برؤيتها من راح من عرفات

ص: 426


1- هو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد اللّه بن أبي سيف المدائني مولى شمس بن عبد مناف. كان من رواة الأخبار المشهورين. ولد سنة 135 ه و توفي سنة 225 ه في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي، و كان منقطعا إليه. و له من الكتب عدّة تصانيف ذكرها ابن النديم في «الفهرست».
2- هو أبو محمد عبد اللّه بن وهب بن مسلم القرشي الفهري، أحد الأعلام المعروفين، ولد سنة 125 ه و توفي سنة 197 ه. و كان ممن جمع و صنف، و له تصانيف كثيرة، و هو الذي حفظ علم أهل الحجاز و مصر. و روى عنه كثيرون، و المدائني المذكور أحد من رووا عنه.
3- المسيب: هو ابن حزن بن أبي وهب المخزومي، و أهل العراق يفتحون و أهل المدينة يكسرون. و يحكي عن سعيد ابنه أنه كان يقول: سيب اللّه من سيب أبي. و حكى (الكسر) عياض و ابن المديني.
4- كذا في جميع الأصول هنا. و قد ذكر فيما مر من الأجزاء السابقة باسم «الجدي».
5- في ح: «بالجمرات».
6- كذا في جميع الأصول. و لعله يريد: كررت وضع الطيب في رأسها. و يحتمل أن تكون مصحفة عن: «غلت» (بالغين المعجمة): و غل شعره بالطيب: أدخله فيه، و غل الدهن في رأسه: أدخله في أصول الشعر.
7- كذا في جميع الأصول. و لعلها محرفة عن «فتات».
8- الوحف: الشعر الغزير الأسود.
9- جمع: علم للمزدلفة، سميت به لاجتماع الناس بها.

قال: فكانوا يرون أن هذا الشعر لسعيد بن المسيّب.

مر على عائشة بنت طلحة فاستنشدته شعره في زينب:

أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه أخي الأصمعيّ عن عبد اللّه بن عمران الهرويّ، و أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبيّ قال حدّثني محمد بن عبد الوهاب عن عبد الرحمن بن عبد اللّه عن عبد اللّه بن عمران الهرويّ قال:

لمّا تأيّمت عائشة(1) بنت طلحة كانت تقيم بمكة سنة و بالمدينة سنة، و تخرج إلى مال لها عظيم بالطائف و قصر كان لها هناك فتتنزّه فيه، و تجلس بالعشيّات، فيتناضل/بين يديها الرّماة. فمرّ بها النّميريّ الشاعر؛ فسألت عنه فنسب لها، فقالت: ائتوني به، فأتوها به. فقالت له: أنشدني مما قلت في زينب؛ فامتنع عليها و قل: تلك ابنة عمّي و قد صارت عظاما بالية. قالت: أقسمت عليك باللّه إلا فعلت؛ فأنشدها قوله:

تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت

الأبيات. فقالت: و اللّه ما قلت إلا جميلا، و لا ذكرت إلا كرما و طيبا، و لا وصفت إلا دينا و تقى، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرّض لها؛ فقالت: عليّ به، فأحضر. فقالت له: أنشدني من شعرك في زينب؛ فقال لها: أو أنشدك من شعر الحارث بن خالد(2) فيك؟ فوثب مواليها إليه؛ فقالت: دعوه فإنه أراد أن يستقيد(3)لبنت عمّه، هات مما قال الحارث فيّ؛ فأنشدها:

ظعن الأمير بأحسن الخلق *** و غدوا بلبّك مطلع الشّرق

فقالت: و اللّه ما ذكر إلا جميلا، ذكر أني إذا صبّحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطّلق(4)، و أني غدوت مع أمير تزوّجني إلى الشرق، و أني أحسن الخلق في البيت ذي الحسب الرفيع؛ أعطوه ألف درهم و اكسوه حلّتين، و لا تعد لإتياننا بعد هذا يا نميريّ.

غنى إبراهيم الموصلي للرشيد من شعره و كان غاضبا عليه فرضي عنه:
اشارة

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعي(5) قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه:

/أنّ الرشيد غضب على إبراهيم أبيه بالرقّة فحبسه مدّة، ثم اصطبح يوما، فبينا هو على حاله إذ تذكّره،

ص: 427


1- تأيمت المرأة: مات عنها زوجها و لم تتزوّج. و قد كانت عائشة عند عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي بكر، و كان أبا عذرتها (أول من تزوجها) ثم هلك فتزوجها بعده مصعب بن الزبير فقتل عنها، ثم تزوجها عمر بن عبد اللّه بن معمر فمات عنها. و لم تتزوج بعده.
2- هو الحارث بن خالد بن العاص المخزومي، و قد مرت ترجمته في الجزء الثالث من هذه الطبعة (ص 311-343).
3- أي يأخذ بثأرها.
4- تشير إلى بيت قاله فيها الحارث من هذه القصيدة و هو: ما صبحت أحدا برؤيتها إلا غدا بكواكب الطلق أي أن من تصبحه برؤيتها يرى الزمان صافيا طيبا سعيدا تفاؤلا بطلعتها و استبشارا. يقال يوم طلق أي مشرق لا برد فيه و لا حر و لا شيء يؤذي.
5- في جميع الأصول هنا: «الشعبي» و هو تحريف.

فقال: لو كان الموصليّ حاضرا لانتظم أمرنا و تمّ سرورنا. قالوا: يا أمير المؤمنين، /فجيء(1) به، فما له كبير ذنب. فبعث فجيء به. فلمّا دخل أطرق الرشيد فلم ينظر إليه، و أومأ إليه من حضر بأن يغنّي؛ فاندفع فغنّى:

تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت *** به زينب في نسوة خفرات

فما تمالك الرشيد أن حرّك رأسه مرارا و اهتزّ طربا، ثم نظر إليه و قال: أحسنت و اللّه يا إبراهيم! حلّوا قيوده و غطّوه بالخلع، ففعل ذلك. فقال: يا سيّدي، رضاك أوّلا؛ قال: لو لم أرض ما فعلت هذا، و أمر له بثلاثين ألف درهم.

و مما قاله النّميريّ في زينب و غنّى فيه:

صوت

تشتو بمكة نعمة *** و مصيفها بالطائف

أحبب بتلك مواقفا *** و بزينب من واقف

و عزيزة(2) لم يغدها(3) *** بؤس و جفوة حائف

غرّاء يحكيها الغزا *** ل بمقلة و سوالف

الغناء ليحيى المكّي خفيف رمل عن الهشاميّ، و ذكر عمر بن بانة أنه لابن سريج و أنه بالبنصر. و زعم الهشاميّ أنّ فيه لابن المكيّ أيضا لحنا من الثقيل الأوّل.

و من الغناء في أشعاره في زينب:

صوت

ألا من لقلب معنى غزل *** يحبّ المحلّة أخت المحلّ

/تراءت لنا يوم فرع الأرا *** ك بين العشاء و بين الأصل

كأنّ القرنفل و الزّنجبيل *** و ريح الخزامى و ذوب العسل

يعلّ به برد أنيابها *** إذا ما صفا الكوكب المعتدل

الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر يونس أن لمالك فيه لحنا فيه:

كأن القرنفل و الزّنجبيل

و البيت الذي بعده و بيتين آخرين و هما:

و قالت لجارتها هل رأي *** ت إذ أعرض الركب فعل الرجل

و أنّ تبسّمه ضاحكا *** أجدّ اشتياقا لقلب غزل

ص: 428


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فنجيء به» و انظر هذه القصة في (ج 5 ص 166 طبع دار الكتب المصرية).
2- في ح: «و غريرة». و الغريرة: الشابة الحديثة التي لم تجرب الأمور.
3- في جميع الأصول: «لم يغدها» (بالدال المهملة). و الظاهر أنه مصحف عما أثبتناه.

و ذكر حمّاد عن أبيه أن فيها للهذليّ لحنا، و لم يذكر طريقته.

المحلّ الذي عناه النميريّ هاهنا: الحجّاج بن يوسف؛ سمّي بذلك لإحلاله الكعبة، و كان أهل الحجاز يسمّونه بذلك. و يسمّى أهل الشام عبد اللّه بن الزبير المحلّ لأنه أحلّ الكعبة، زعموا أنه بمقامه فيها، و كان أصحابه أحرقوها بنار استضاءوا بها(1).

فأخبرني الحسين بن يحيى المرداسيّ قال قال حمّاد بن إسحاق: قرأت على أبي:

و بلغني(2) أنّ إسماعيل بن عليّ بن عبد اللّه بن عبّاس تزوّج أسماء بنت يعقوب (امرأة من ولد عبد اللّه بن الزبير) فزفّت إليه من المدينة و هو بفارس، فمرّت بالأهواز على السيد الحميري(3)؛ فسأل عنها فنسبت له؛ فقال فيها قوله:

مرّت تزفّ على بغلة *** و فوق رحالتها(4) قبّة

/زبيريّة من بنات الذي *** أحلّ الحرام من الكعبة

تزفّ إلى ملك ماجد *** فلا اجتمعا(5) و بها الوجبه(6)

و قد قيل بأن الأبيات اللامية التي أولها:

ألا من لقلب معنى غزل

لخالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزّبير، و قيل: إنها لأبي شجرة السّلميّ(7).

ص: 429


1- تقدمت في الجزء الثالث من هذه الطبعة (ص 277) كلمة وافية عن احتراق الكعبة في عهد ابن الزبير و بنائه لها.
2- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «و بلغك».
3- ستأتي ترجمته في الجزء السابع من هذه الطبعة.
4- الرحالة: مركب من مراكب النساء.
5- في الأصول هنا: «فلا اجتمعوا». و التصويب عن «الأغاني» نفسه في ترجمة السيد الحميري.
6- لعل الوجبة: مصدر للمرة من وجب القلب يجب وجيبا أي خفق و اضطرب.
7- في «الكامل» للمبرد: «أبو شجرة هو عمرو بن عبد العزي... و قال الطبري: اسمه سليم بن عبد العزي» من بني سليم بن منصور بن عكرمة. و في كتاب «الشعر و الشعراء»: أنه عبد اللّه بن رواحة بن عبد العزي. و في كتاب «الإصابة في تمييز الصحابة»: عمرو بن عبد العزي و قال نقلا عن المرزباني: يقال اسمه عمرو، و يقال عبد اللّه بن عبد العزي و ذكره الواقدي في كتاب «الردة» باسم: عمرو بن عبد العزي. و أمه الخنساء بنت عمرو بن الشريد الشاعرة المشهورة. و كان من فتاك العرب، و يسكن البادية. و هو الذي يقول في قتال خالد بن الوليد أهل الردة: و لو سألت سلمى غداة مرامر كما كنت عنها سائلا لو نأيتها و كان الطعان في لؤى بن غالب غداة الجواء حاجة فقضيتها و كان أبو شجرة السلمي هذا ارتدّ فيمن ارتد من بني سليم ثم أسلم. و أتى عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) يطلب إليه صدقة؛ فقال له عمر: و من أنت؟ قال: أنا أبو شجرة السلمي. فقال له عمر: أي عدي (تصغير عدوّ) نفسه! أ لست القائل حين ارتددت: و رويت رمحي من كتيبة خالد و إني لأرجو بعدها أن أعمرا و عارضتها شهباء تخطر بالقنا ترى البيض في حافاتها و الستورا ثم انحنى عليه عمر بالدرة و هو يعدو أمامه حتى فاته هربا و هو يقول: قد ضنّ عنا أبو حفص بنائله و كل مختبط يوما له ورق (راجع «الكامل» ص 220-221 طبع أوروبا و «تاريخ الطبري» ص 1905-1908 من القسم الأول و «الشعر و الشعراء» ص 197 و «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر ج 7 ص 97 طبع مصر).
استنشد رجل ابن سيرين فأنشده للنميري و قام إلى الصلاة:

حدّثني الحسين بن الطيّب البلخي الشاعر قال حدّثنا قتيبة بن سعيد قال حدّثنا أبو بكر بن شعيب بن الحبحاب المعوليّ(1) قال:

كنت عند ابن سيرين، فجاءه إنسان يسأله عن شيء من الشعر قبل صلاة العصر، فأنشده ابن سيرين(2):

كأنّ المدامة و الزنجبيل *** و ريح الخزامى و ذوب العسل

يعلّ به برد أنيابها *** إذا النجم وسط السماء اعتدل

و قال: اللّه أكبر، و دخل في الصلاة.

صوت من المائة المختارة

يا قلب ويحك لا يذهب بك الخرق(3) *** إنّ الألى كنت تهواهم قد انطلقوا

- و يروى: يذهب بك الحرق -:

ما بالهم لم يبالوا إذ هجرتهم *** و أنت من هجرهم قد كدت تحترق

الشعر لوضّاح اليمن. و الغناء لصبّاح الخيّاط، و لحنه المختار ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها. و في أبيات من هذه القصيدة ألحان عدّة، فجماعة من المغنّين قد خلطوا معها غيرها من شعر الحارث بن خالد و من شعر ابن هرمة؛ فأخّرت ذكرها إلى أن تنقضي أخبار وضّاح، ثم أذكرها(4) بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ص: 430


1- (بفتح الميم و بكسرها): نسبة إلى المعاول و المعاولة (قبائل من الأزد). و هم بنو معولة بن شمس بن عمرو.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فأنشده ابن سيرين يقول».
3- الخرق (بضمتين و بضم فسكون): نقيض الرفق.
4- لم نجد ذكرا لهذه الأبيات بعقب أخبار وضاح في النسخ التي بين أيدينا، كما يقول أبو الفرج هنا.

17 - أخبار وضّاح اليمن و نسبه

نسبه و أصله و سبب لقبه:

وضّاح لقب غلب عليه لجماله و بهائه، و اسمه عبد الرحمن(1) بن إسماعيل بن عبد كلال بن داذ بن أبي جمد.

ثم يختلف في تحقيق نسبه، فيقول قوم: إنه من أولاد الفرس الذين قدموا اليمن مع و هرز لنصرة سيف بن ذي يزن على الحبشة. و يزعم آخرون أنه من آل خولان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج(2) و هو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب و هو المرعف(3) بن قحطان. فممن(4) ذكر أنه من حمير خالد بن كلثوم، قال كان وضّاح اليمن من أجمل العرب و كان أبوه إسماعيل بن داذ ابن أبي جمد من آل خولان بن عمرو بن معاوية الحميريّ. فمات أبوه و هو طفل، فانتقلت أمه إلى أهلها، و انقضت عدّتها فتزوجت رجلا من أهلها من أولاد الفرس. و شبّ وضّاح في حجر زوج أمّه. فجاء عمّه و جدّته أمّ أبيه، و معهم جماعة من أهل بيته من حمير ثم من آل ذي قيفان(5) ثم من آل ذي جدن(6) يطلبونه، فادّعى زوج أمه أنه/ولده. /فحاكموه فيه و أقاموا البيّنة أنه ولد على فراش إسماعيل بن عبد كلال أبيه، فحكم به الحاكم لهم، و قد كان اجتمع الحميريّون و الأبناء(7) في أمره و حضر معهم. فلما حكم به الحاكم للحميريين، مسح يده على

ص: 431


1- و قيل: إن اسمه عبد اللّه. (راجع «النجوم الزاهرة» ج 1 ص 226 طبع دار الكتب المصرية).
2- كان يقال لحمير العرنجج. و العرنجج في الأصل: العتيق. (راجع الجزء الثامن من كتاب «الإكليل للهمداني» طبع بغداد ص 208).
3- كذا في جميع الأصول هنا و فيما سيأتي في ب في الجزء الخامس عشر (ص 73 طبع بولاق). و فيما سيأتي في ح في هذا الموضع: «المرعب». و في كتاب «أنساب العرب» المخطوط و المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 2461 تاريخ «المرعث». و لم نوفق إلى وجه الصواب فيه.
4- في ب، س: «فمن».
5- كان الأذواء في اليمن طبقتين طبقة تعرف بالمثامنة و هم ثمانية ملوك كان لا يصح لملك من ملوك حمير الملك حتى يقيمه هؤلاء الثمانية و إن هم اجتمعوا على عزله عزلوه. و الطبقة الثانية أذواء آخرون، منهم ذو قيفان هذا، و هو ابن شرحبيل بن أساس بن يغوث بن علقمة بن ذي جدن الأكبر، و هو الذي وهب سيفه الصمصامة لعمرو بن معديكرب الزبيدي، فقال فيه عمرو: و سيف لابن ذي قيفان عندي تخيره الفتى من عصر عاد يقدّ البيض و الأبدان قدّا و في الهام الململم ذو احتداد ثم وهبه عمرو لسعد بن أبي وقاص ثم صار إلى آل سعيد بن العاص فاشتراه الخليفة المهديّ منهم بمال جسم و أحضر الشعراء فقالوا فيه أشعارا كثيرة. ثم أمر المهدي بالسيف فسقى فتغير لذلك و قل قطعه بسبب سقيه. (راجع «شرح القصيدة الحميرية» و «منتخبات في أخبار اليمن» كلاهما لنشوان بن سعيد الحميري).
6- ذكر المؤلف ترجمته في الجزء الرابع (ص 217) من هذه الطبعة.
7- الأبناء: هم الفرس الذين قدموا مع سيف بن ذي يزن، و كانوا يسمون بصنعاء بني الأحرار، و باليمن الأبناء، و بالكوفة الأحامرة، و بالبصرة الأساورة، و بالجزيرة الخضارمة، و بالشام الجراجمة. (عن «الأغاني» ج 16 ص 76 طبع بولاق).

رأسه و أعجبه جماله و قال له: اذهب فأنت وضّاح اليمن، لا من أتباع ذي يزن(1) (يعني الفرس الذين قدم بهم ابن ذي يزن لنصرته) فعلقت به هذه الكلمة منذ يومئذ، فلقّب وضّاح اليمن. قال خالد: و كانت أمّ داذ ابن أبي جمد جدّة وضاح كنديّة؛ فذلك حيث يقول في بنات عمه:

إن قلبي معلّق بنساء *** واضحات الخدود لسن بهجن

من بنات الكريم داذ و في كن *** دة ينسبن من أباة اللّعن

/و قال أيضا يفتخر بجدّه أبي جمد:

بنى لي إسماعيل مجدا مؤثّلا *** و عبد كلال بعده و أبو جمد

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثني عمّي عن العبّاس بن هشام عن أبيه قال:

كان وضّاح اليمن و المقنّع الكنديّ و أبو زبيد الطائي يردون مواسم العرب مقنّعين يسترون وجوههم خوفا من العين و حذرا على أنفسهم من النساء لجمالهم. قال خالد بن كلثوم: فحدّثت بهذا الحديث مرّة و أبو عبيدة معمر بن المثنّى حاضر ذلك، و كان يزعم أن وضّاحا من الأبناء؛ فقال أبو عبيدة: داذ اسم فارسي. فقلت له: عبد كلال اسم يمان، و أبو جمد كنية يمانية، و العجم لا تكتنى، و في اليمن جماعة قد تسمّوا بأبرهة، و هو اسم حبشيّ، فينبغي أن تنسبهم إلى الحبشة. و أيّ شيء يكون إذا سمّي عربيّ باسم فارسيّ! و ليس كلّ من كنى أبا بكر هو الصدّيق، و لا من سمّي عمرا هو الفاروق، و إنما الأسماء علامات و دلالات لا توجب نسبا و لا تدفعه. قال: فوجم أبو عبيدة و أفحم فما أجاب.

و ممن زعم أنه من أبناء الفرس ابن الكلبيّ و محمد بن زياد الكلابيّ.

و قال خالد بن كلثوم: إنّ أمّ إسماعيل أبي الوضّاح بنت ذي جدن، و أم أبيه بنت فرعان ذي(2) الدّروع الكنديّ من بني الحارث بن عمرو.

ص: 432


1- هو سيف بن ذي يزن الذي بقتله دخلت اليمن في ملك الأحباش. و كان سيف هذا جميل المنظر عالي الهمة قوي السلطان شديد البأس كريم الخلق جوادا حسن التدبير و السياسة. و كان قد ترك بلاد اليمن بعد موت أبيه و توجه لقيصر الروم و استنجده في ردّ ملك والده فلم يجبه قيصر لطلبه، فقصد كسرى أنوشروان ملك العجم لهذا الغرض فأجابه إلى طلبه و أرسل معه جيشا تحت قيادة «و هرز» فأخرجهم من المين و ردّ إليه ملكه. فتربع سيف على ملك أجداده تحت رعاية الأعجام، و اتخذ مقر أعماله قصر غمدان بمدينة صنعاء التي كانت في ذلك العهد عاصمة ملكه. و قد هنأته وفود العرب و الشعراء لاسترداد ملك أبيه و تغلبه على الأحباش. و كان من جملة وفود المهنئين وفد الحجازيين الذي كان يرأسه عبد المطلب جدّ النبيّ صلى اللّه عليه و سلم فاستأذنوا عليه و دخلوا و هو في قصره (غمدان) فأذن لهم فدخلوا عليه و هو متضمخ بالمسك و عليه بردان و التاج على رأسه و السيف بين يديه و ملوك اليمن و أقيال حمير حواليه، و أمامه أمية بن الصلت الثقفي ينشده قصيدته يمدحه فيها و يهنئه؛ و مطلعها: لا يطلب الثأر إلا كابن ذي يزن في البحر خيم للأعداء أحوالا ثم استأذنه عبد المطلب في الكلام و ألقى بين يديه خطبة نالت منه استحسانا. ثم أمر بهم إلى دار الضيافة و أجرى عليهم ما يحتاجون شهرا لا يؤذن لهم في مقابلته و لا في الانصراف. و القصيدة و الخطبة ذكرهما المؤلف في الجزء السادس عشر من هذا الكتاب (ص 75-77 طبع بولاق).
2- كذا في أ، ء، م هنا و «شرح القاموس» (مادة فرع) و ما يعول عليه في المضاف و المضاف إليه. و في سائر الأصول و فيما سيأتي في أ، ء، م: «فرعان بن ذي الدروع» و هو تحريف.
أحب روضة و لم يتزوجها و قال فيها شعرا:
اشارة

و كان وضّاح يهوى امرأة من أهل اليمن يقال لها روضة.

/أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال:

ذكر هشام بن الكلبيّ أنها روضة بنت عمرو، من ولد فرعان ذي الدروع الكنديّ.

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني محمد بن سعيد الكراني قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ عن عبد اللّه بن عيّاش(1):

أنّ وضّاحا هوي امرأة من بنات الفرس يقال لها روضة؛ فذهبت به كل مذهب. و خطبها فامتنع قومها من تزويجه إياها؛ و عاتبه أهله و عشيرته. فقال في ذلك:

صوت

يا أيها القلب بعض ما تجد *** قد يعشق المرء ثم يتّئد

قد يكتم المرء حبّه حقبا *** و هو عميد و قلبه كمد

ما ذا تريدين من فتى غزل *** قد شفّه السّقم فيك و السّهد

/يهدّدوني كيما أخافهم *** هيهات أنّى يهدّد الأسد

الغناء لابن محرز خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيها لحن لابن عبّاد، من كتاب إبراهيم، غير مجنّس:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني سالم بن زيد قال أخبرني التّوّزيّ قال حدّثنا الأصمعي عن الخليل بن أحمد قال:

كان وضّاح يهوى امرأة من كندة يقال لها روضة. فلما اشتهر أمره معها خطبها فلم يزوّجها، و زوّجت غيره، فمكثت مدة طويلة. ثم أتاه رجل من بلدها/فأسرّ إليه شيئا فبكى. فقال له أصحابه: مالك تبكي؟ و ما خبرك؟ فقال: أخبرني هذا أنّ روضة قد جذمت، و أنه رآها قد ألقيت مع المجذومين. و لم نجد لهما(2) خبرا يرويه أهل العلم إلا لمعا يسيرة و أشياء تدلّ على ذلك من شعره، فأمّا خبر متصل فلم أجده إلا في كتاب مصنوع غثّ الحديث و الشعر لا يذكر مثله. و أصابها الجذام بعد ذلك، فانقطع ما بينهما. ثم شبّب بأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان زوجة الوليد بن عبد الملك، فقتله الوليد لذلك. و أخبارهما تذكر في موضعها بعقب هذه الحكاية.

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدّثنا مصعب بن عبد اللّه قال:

كان وضّاح اليمن يهوى امرأة يقال لها روضة و يشبّب بها في شعره، و هي امرأة من أهل اليمن. و فيها يقول:

صوت

يا روضة الوضّاح قد *** عنّيت وضّاح اليمن

فاسقي خليلك من شرا *** ب لم يكدّره الدّرن

ص: 433


1- كذا في أ، ء، م. و في سائر الأصول: «عباس» و هو تصحيف.
2- في أ، ء، م: «لها».

الريح ريح سفرجل *** و الطعم طعم سلاف دنّ

إني تهيّجني إلي *** ك حمامتان على فنن

قال مصعب: فحدّثني بعض أهل العلم ممن كان يعرف خبر وضاح مع روضة من أهل اليمن: أنّ وضّاحا كان في سفر مع أصحابه. فبينا هو يسير إذ استوقفهم و عدل عنهم ساعة، ثم عاد إليهم و هو يبكي. فسألوه عن حاله؛ فقال: عدلت إلى/روضة، و كانت قد جذمت فجعلت مع المجدومين، و أخرجت من بلدها، فأصلحت من شأنها و أعطيتها صدرا(1) من نفقتي. و جعل يبكي غمّا بها.

الغناء في الأبيات المذكورة في هذا الخبر ينسب مع تمام الأبيات؛ فإن في جميعها غناء.

و مما قاله وضّاح في روضة المذكورة و فيه غناء، و أنشدنا حرميّ عن الزّبير عن عمه:

صوت

أيا روضة الوضّاح يا خير روضة *** لأهلك لو جادوا علينا بمنزل

رهينك وضّاح ذهبت بعقله *** فإن شئت فاحييه و إن شئت فاقتلي

و توقد حينا باليلنجوج(2) نارها *** و توقد أحيانا بمسك و مندل

و الأبيات الأول النونية فيها زيادة على ما رواه مصعب، و في سائرها غناء: و تمامها بعد قوله:

«إني تهيّجني إلي *** ك حمامتان على فنن»

/الزوج يدعو إلفه *** فتطاعما حبّ السكن

لا خير في نث(3) الحدي *** ث و لا الجليس إذا فطن

فاعصي الوشاة فإنما *** قول الوشاة هو الغبن

إنّ الوشاة إذا أتو *** ك تنصّحوا و نهوك عنّ(4)

دسّت حبيبة موهنا *** إني و عيشك يا سكن

/أبلغت عنك تبدّلا *** و أتى بذلك مؤتمن

و ظننت أنك قد فعل *** ت فكدت من حزن أجنّ

ذرفت دموعي ثم قل *** ت بمن يبادلني بمن

اسكت فلست مصدّقا *** ما كان يفعل ذا أظن

إني و جدّك لو رأي *** ت خليلنا ذاك الحسن

ص: 434


1- الصدر: الطائفة من الشيء.
2- اليلنجوج: عود البخور.
3- نث الحديث: إفشاؤه و إذاعته. و قد وردت هذه الكلمة في جميع الأصول: «بث» (بالباء الموحدة) و الظاهر أنها مصحفة عما أثبتناه.
4- يريد: عنى.

يجفوه ثم يحبنا(1) *** و اللّه متّ من الحزن

أخبره إمّا جئته *** أنّ الفؤاد به يجنّ

أبغضت فيه أحبّتي *** و قليت(2) أهلي و الوطن

أ تركتني حتى إذا *** علّقت أبيض كالشّطن

أنشأت تطلب وصلنا *** في الصيف ضيّعت اللبن(3)

- هكذا قال، و غيره يرويه: «في الصيف ضيحت(4) اللبن» أي مذقته(5). قال(6) -:

/

لو قيل يا وضّاح قم *** فاختر لنفسك أو تمنّ

لم أعد روضة و الذي *** ساق الحجيج له البدن

الغناء في الأوّل من القصيدة و هو «يا روضة الوضّاح» ينسب إن شاء اللّه. و له في روضة هذه أشعار كثيرة في أكثرها صنعة، و بعضها لم يقع إليّ أنه صنع فيه. فمن قوله(7) فيها:

صوت

يا روض جيرانكم(8) الباكر *** فالقلب لا لاه و لا صابر(9)

قالت ألا لا تلجن دارنا *** إنّ أبانا رجل غائر

قلت فإني طالب غرّة *** منه و سيفي صارم باتر

قالت فإن القصر من دوننا *** قلت فإني فوقه ظاهر

ص: 435


1- في ح: «يجيئنا». و في أ، ء، م: «يجبنا». و لعل هذا الشطر مصحف عن: نحفوه ثم يجبنا و حفاه يحفوه: أكرمه و أعطاه. وجبه: قطعه.
2- قلى: هجر.
3- المثل مشهور يضرب لمن يطلب شيئا قد فوته على نفسه و هو: «في الصيف ضيعت اللبن» و يروى: «الصيف ضيعت اللبن» (بكسر التاء) و لو خوطب به المذكر أو الجمع، لأنه خوطبت به امرأة كانت تحت شيخ كبير موسى فكرهته فطلقها فتزوجها فتى جميل الوجه مملق، فبعثت إلى الأول تستميحه فقال ذلك لها. و قيل: إنه صدر عن امرأة الأسود بن هرمز و كانت عنودا، فرغب عنها إلى جميلة من قو ثم جرى بينهما ما أدى إلى الفارقة؛ فتتبعت نفسه العنود فراسلها فأجابته بقولها: أ تركتني حتى إذا علقت أبيض كالشطن أنشأت تطلب وصلنا في الصيف ضيعت اللبن و على هذا فالتاء مفتوحة.
4- وردت هذه الكلمة في أكثر الأصول: «صبحت» (بالصاد المهملة و الباء الموحدة). و في ح: «صيحت». (بالياء المثناة). و كلاهما مصحف عما أثبتناه.
5- مذق اللبن بالماء يمذقه (من باب نصر): مزجه.
6- الظاهر أن كلمة «قال» هاهنا مقحمة من النساخ.
7- في الأصول: «فمن قوله فيها هزج قديم يمني». و لعل ذلك من زيادات النساخ، فإن المؤلف قد ذكر اللحن عقب الشعر.
8- كذا في الأصل.
9- أورد أبو هلال العسكري في كتابه «ديوان المعاني» المخطوط و المحفوظ بدار الكتب المصرية (تحت رقم 1874 أدب ج 1 ص 193) هذه الأبيات و لم يذكر معها هذا البيت، و روايتها فيه تخالف ما هنا في بعض الأبيات و الألفاظ.

قالت فإن البحر من دوننا *** قلت فإني سابح ماهر

قالت فحولي إخوة سبعة *** قلت فإني غالب قاهر

قالت فليث رابض بيننا *** قلت فإني أسد عاقر

قالت فإن اللّه من فوقنا *** قلت فربّي راحم غافر

قالت لقد أعييتنا حجّة *** فأت إذا ما هجع السامر(1)

فاسقط علينا كسقوط النّدى *** ليلة لا ناه و لا زاجر

/الغناء في هذه الأبيات هزج يمنيّ، و ذكر يحيى المكي أنه له.

/و قال في روضة و هو بالشام:

أبت بالشام نفسي أن تطيبا *** تذكّرت المنازل و الحبيبا

تذكّرت المنازل من شعوب(2) *** و حيّا أصبحوا قطعوا(3) شعوبا

سبوا قلبي فحلّ بحيث حلّوا *** و يعظم إن دعوا ألاّ يجيبا

ألا ليت الرياح لنا رسول *** إليكم إن شمالا أو جنوبا

فتأتيكم بما قلنا سريعا *** و يبلغنا الذي قلتم قريبا

ألا يا روض قد عذّبت قلبي *** فأصبح من تذكّركم كئيبا

و رقّقني هواك و كنت جلدا *** و أبدى في مفارقي المشيبا

أما ينسيك روضة شحط دار *** و لا قرب إذا كانت قريبا

و مما قال فيها أيضا:

طرب الفؤاد لطيف روضة غاشي *** و القوم بين أباطح و عشاش(4)

أنّى اهتديت و دون أرضك سبسب *** قفر و حزن في دجى و رشاش

قالت تكاليف المحبّ كلفتها *** إنّ المحبّ إذا أخيف(5) لماشي

أدعوك روضة رحب و اسمك غيره *** شفقا و أخشى أن يشي بك واشي

قالت فزرنا قلت كيف أزوركم *** و أنا امرؤ لخروج سرّك خاشي

قالت فكن لعمومتي سلما معا *** و الطف لإخوتي الذين تماشي

فتزورنا معهم زيارة آمن *** و السريا وضّاح ليس بفاشي

ص: 436


1- السامر: اسم جمع بمعنى المتسامرين.
2- شعوب: موضع قريب من صنعاء، و كان به قصر معروف بالارتفاع و حواليه بساتين بظاهر صنعاء.
3- في «مهذب الأغاني» (ج 3 ص 27 طبع مصر): «قطعا».
4- العشاش: جمع عشة (بالفتح)، و هي الأرض القليلة الشجر، و قيل: هي الأرض الغليظة.
5- كذا في الأصول.

/

و لقيتها تمشي بأبطح مرّة *** بخلاخل و بحلّة أكباش(1)

فظللت معمودا و بتّ مسهّدا *** و دموع عيني في الرداء غواشي

يا روض حبّك سلّ جسمي و انتحى *** في العظم حتى قد بلغت مشاشي(2)

و مما قال فيها أيضا:

طرق(3) الخيال فمرحبا سهلا *** بخيال من أهدى لنا الوصلا

و سرى إليّ و دون منزله *** خمس دوائم تعمل الإبلا(4)

يا حبّذا من زار معتسفا(5) *** حزن البلاد إليّ و السّهلا

حتى ألمّ بنا فبتّ به *** أغنى الخلائق كلّهم شملا

يا حبذا هي حسبك قدك في(6) *** و اللّه ما أبقيت لي عقلا

و اللّه ما لي عنك منصرف *** إلا إليك فأجملي الفعلا

حجت أم البنين و رأته فهويته:
اشارة

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا القاسم بن الحسن المروزيّ قال حدّثنا العمريّ عن لقيط و الهيثم بن عديّ:

أنّ أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان استأذنت الوليد بن عبد الملك في الحج فأذن لها، و هو يومئذ خليفة و هي زوجته. فقدمت مكة و معها من الجواري ما لم ير مثله حسنا. و كتب الوليد يتوعّد الشعراء جميعا إن/ذكرها أحد منهم أو ذكر/أحدا ممن تبعها. و قدمت، فتراءت للناس، و تصدّى لها أهل الغزل و الشعر، و وقعت عينها على وضّاح اليمن فهويته.

فحدّثنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزّهري(7)عن محمد(8) بن جعفر مولى أبي هريرة عن أبيه عن بديح قال:

قدمت أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان و هي عند الوليد بن عبد الملك حاجّة، و الوليد يومئذ خليفة. فبعثت

ص: 437


1- الأكباش (بالموحدة): من برود اليمن. و قد وردت هذه الكلمة في جميع الأصول (بالمثناة التحتية)، و هو تصحيف. (راجع «شرح القاموس» مادة كبش).
2- المشاش: النفس. و المشاش أيضا: رءوس العظام مثل الركبتين و المرفقين و المنكبين، واحده مشاشة.
3- في ح: «طاف».
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «الأسلا».
5- في ح: «... من زائر متعسف».
6- كذا ورد هذا الشطر في ب، س، ح. و في سائر الأصول: يا حب روضة حبك قد و كلاهما غير مستقيم.
7- كذا في أ، ء، م. و قد ورد في الجزء الأوّل (ص 342) من هذه الطبعة: «محمد بن عبد العزيز الزهري. و في ب، ح: «الجوهري». و في س: «الجوهري الزهري». و كلاهما «تحريف».
8- في ح: «محرز بن جعفر».

إلى كثيّر و إلى وضّاح اليمن أن انسبا بي. فأمّا وضّاح اليمن فإنه ذكرها و صرّح بالنّسيب بها؛ فوجد الوليد عليه السبيل فقتله. و أمّا كثيّر فعدل عن ذكرها و نسب بجاريتها غاضرة فقال(1):

صوت

شجا أظعان غاضرة الغوادي *** بغير مشورة(2) عرضا(3) فؤادي

أ غاضر لو شهدت غداة بنتم *** حنوّ العائدات على وسادي

أويت(4) لعاشق لم تشكميه *** بواقدة تلذّع كالزناد

/الغناء في هذه الأبيات لابن محرز ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ و حبش. قال بديح: فكنت لمّا حجّت أم البنين لا تشاء أن ترى وجها حسنا إلا رايته معها. فقلت لعبيد اللّه(5) بن قيس الرّقيات: بمن تشبّب من هذا القطين؟ فقال لي:

و ما تصنع بالسرّ *** إذا لم تك مجنونا(6)

إذا عالجت ثقل الح *** بّ عالجت الأمرّينا(7)

و قد بحت بأمر كا *** ن في قلبي مكنونا

و قد هجت بما حاول *** ت أمرا كان مدفونا

قال: ثم خلا بي(8) فقال لي: اكتم عليّ، فإنك موضع للأمانة؛ و أنشدني:

صوت

أ صحوت عن أمّ البني *** ن و ذكرها و عنائها

و هجرتها هجر امرئ *** لم يقل صفو صفائها

قرشيّة كالشمس أش *** رق نورها ببهائها

زادت على البيض الحسا *** ن بحسنها و نقائها

لمّا اسبكرّت للشبا *** ب و قنّعت بردائها

ص: 438


1- فيما سيأتي في «الأغاني» في خبر كثير و خندق الأسدي في الجزء الحادي عشر (طبع بولاق): أن هذا الشعر من قصيدة قالها كثير في رثاء خندق الأسدي لما قتل. و ذكرت هناك القصيدة كاملة.
2- كذا فيما سيأتي في ب في الجزء الحادي عشر من الأغاني (ص 47، 49 طبع بولاق) و ح. و في جميع الأصول هنا: «بغير مثيبة».
3- كذا فيما سيأتي بعد قليل في ح و فيما سيأتي في الجزء الحادي عشر. و قد ح هنا: «عوضا. و في سائر الأصول هنا و فيما يأتي: «غرضا». و الظاهر أن كليهما مصحف عما أثبتناه.
4- أويت العاشق: رثيت له و أشفقت عليه. و في ح: «رضيت».
5- في ب، س: «لعبد اللّه» و هو تحريف.
6- وردت هذه القصيدة و القصيدتان اللتان بعدها في الجزء الحادي عشر من هذا الكتاب (ص 49 طبع بولاق) في خبر كثير و خندق الأسدي باختلاف يسير عما هنا.
7- الأمرّون: الدواهي.
8- في ب، س: «ثم خلاني». و هو تصحيف.

لم تلتفت للداتها *** و مضت على غلوائها

لو لا هوى أمّ البني *** ن و حاجتي للقائها

قد قرّبت لي بغلة *** محبوسة لنجائها

/قال بديح: فلمّا قتل الوليد وضّاح اليمن، حجّت بعد ذلك أم البنين محتجبة لا تكلّم أحدا؛ و شخصت كذلك، فلقيني ابن قيس الرقيّات، فقال: يا بديح

صوت

/

بان الحبيب(1) الذي به تثق(2)*** و اشتدّ دون الحبيبة القلق

يا من لصفراء(3) في مفاصلها *** لين و في بعض بطشها خرق

و هي قصيدة قد ذكرت(4) مع أخبار ابن قيس الرقيّات.

الغناء في الأبيات الأول التي أولها:

أ صحوت عن أمّ البنين

ينسب في موضع آخر إن شاء اللّه.

أخبرني الحرميّ قال حدثنا الزّبير قال حدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي(5) عن عبد اللّه بن أبي عبيدة قال حدثني كثيّر قال:

حججت مع أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان، و هي زوجة الوليد بن عبد الملك، فأرسلت إليّ و إلى وضّاح اليمن أن انسبا بي؛ فهبت ذلك و نسبت بجاريتها غاضرة، فقلت:

شجا أظعان غاضرة الغوادي *** بغير مشورة عرضا فؤادي(6)

/أ غاضر لو شهدت غداة بنتم *** حنوّ العائدات على وسادي

أويت لعاشق لم تشكميه *** بواقدة تلذّع كالزناد

و أمّا وضّاح فنسب بها، فبلغ ذلك الوليد فطلبه فقتله.

أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن سعد(7) الكرانيّ قال حدثني أبو عمر العمريّ عن العتبيّ قال:

ص: 439


1- في أ، ء، م: «الخليط».
2- في ح: «نثق» بالنون.
3- في ب، س: «لصغرى» و هو تحريف.
4- لم نجد هذه القصيدة في أخبار ابن قيس الرقيات المذكورة في الجزء الخامس من هذه الطبعة (ص 73-100). و قد ذكر المؤلف بعض أبيات منها في الجزء الحادي عشر (ص 49-50 طبع بولاق).
5- في ح: «قال حدّثني عمر بن أبي بكر الموصلي». و في سائر الأصول: «قال حدّثني عمر ابن عمي عن أبي بكر الموصلي». (راجع الحاشية رقم 1 ص 123 من الجزء الرابع من هذه الطبعة و «المشتبه» للذهبي 300 طبع ليدن سنة 1863 م).
6- راجع الحاشيتين (رقم 4 و 5 ص 219) من هذا الجزء.
7- كذا في جميع الأصول و قد مر هذا الاسم فيما سبق من الأجزاء مضطربا بين سعد مرة و سعيد أخرى، و لم نوفق إلى ترجيح إحدى الروايتين.

مدح وضّاح اليمن الوليد بن عبد الملك، و هو يومئذ خليفة، و وعدته أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان أن ترفده(1) عنده و تقوّي أمره. فقدم عليه وضّاح و أنشده قوله فيه:

صوت

صبا قلبي و مال إليك ميلا *** و أرّقني خيالك يا أثيلا(2)

يمانية تلمّ بنا فتبدي *** دقيق محاسن و تكنّ(3) غيلا(4)

دعينا ما أممت(5) بنات(6) نعش *** من الطّيف الذي ينتاب ليلا

و لكن إن أردت فصبّحينا *** إذا أمّت ركائبنا سهيلا(7)

فإنك لو رأيت الخيل تعدو *** سراعا(8) يتخذن النّقع ذيلا

/إذا لرأيت فوق الخيل أسدا(9) *** تفيد مغانما و تفيت(10) نيلا

إذا سار الوليد بنا و سرنا *** إلى خيل نلفّ بهنّ خيلا

و ندخل بالسرور ديار قوم *** و نعقب آخرين أذى و ويلا

فأحسن الوليد رفده و أجزل صلته. و مدحه بعدّة قصائد. ثم نمي إليه أنه شبّب بأم البنين، فجفاه و أمر بأن يحجب عنه، و دبر في قتله.

و مدحه وضّاح بقوله أيضا:

ما بال عينك لا تنام كأنما *** طلب الطبيب بها قذى فأضلّه

بل ما لقلبك لا يزال كأنه *** نشوان أنهله النديم و علّه

ما كنت أحسب أن أبيت ببلدة *** و أخي بأخرى لا أحلّ محلّه

ص: 440


1- رفده و أرفده: أعانه.
2- أثيل: ترخيم أثيلة، و هو اسم امرأة.
3- كذا في ب، س و «شرح الحماسة» (ص 316 طبع مدينة بن سنة 1828 م). و في سائر الأصول و «تجريد الأغاني»: «و تجن».
4- الغيل: الساعد الريان الممتلئ. و في «شرح الحماسة» في التعليق على هذا البيت: «دقيق محاسنها كالعين و الأنف و الأسنان و الفم. و تكن غيلا: أي تستر ما جل منها كالمعصم و الساعد و الساق و الفخذ».
5- في «تجريد الأغاني»: «ما أممنا».
6- بنات نعش: من الكواكب الشامية، و كان غزوة نحو الروم. يقول: دعيني من طيفك حين أؤم بنات نعش، أي حين أقصد قصد الشام للغزو.
7- يريد إذا اتجهت ركائبنا نحو اليمن. و رواية هذا البيت في «شرح الحماسة» و «تجريد الأغاني»: و لكن إن أردت فهيجينا إذا رمقت بأعينها سهيلا
8- في ح و «شرح الحماسة» و «تجريد الأغاني»: «عوابس».
9- رواية هذا الشطر في «شرح الحماسة»: رأيت على متون الخيل جنا
10- كذا في «شرح الحماسة» و «تجريد الأغاني». يريد: تفيد المغانم من أعدائها و تفيتهم نيل شيء منها. و في جميع الأصول: «تقيد مغانما و تفيد نيلا».

كنّا لعمرك ناعمين(1) بغبطة *** مع ما نحبّ مبيته و مظلّه

فأرى الذي كنّا و كان بغرّة *** نلهو بغرّته و نهوى دلّه

/كالطيف وافق ذا هوى فلها به *** حتى إذا ذهب الرقاد أضلّه

قل للذي شعف(2) البلاء فؤاده *** لا تهلكنّ أخا فربّ أخ له

و الق ابن مروان الذي قد هزّه *** عرق(3) المكارم و النّدى فأقلّه

و اشك الذي لاقيته من دونه(4) *** و انشر إليه داء قلبك كلّه

/فعلى ابن مروان السلام من امرئ *** أمسى يذوق من الرّقاد أقلّه

شوقا إليك فما تنالك حاله *** و إذا يحلّ الباب لم يؤذن له

فإليك أعملت المطايا ضمّرا *** و قطعت أرواح الشتاء و ظلّه(5)

و لياليا لو أنّ حاضر بثّها *** طرف القضيب أصابه لأشلّه

فلم يزل مجفوّا حتى وجد الوليد له غرّة، فبعث إليه من اختلسه ليلا فجاءه به، فقتله و دفنه في داره، فلم يوقف له على خبر.

قتل الوليد له:

و قال خالد بن كلثوم في خبره:

كان وضّاح قد شبّب بأمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان امرأة الوليد بن عبد الملك، و هي أم ابنه عبد العزيز بن الوليد، و الشرف فيهم. فبلغ الوليد تشبّبه بها، فأمر بطلبه فأتي به، فأمر بقتله. فقال له ابنه عبد العزيز: لا تفعل يا أمير المؤمنين فتحقّق قوله، و لكن افعل به كما فعل معاوية بأبي دهبل؛ فإنه لمّا شبّب بابنته شكاه يزيد و سأله أن يقتله؛ فقال: إذا تحقّق قوله، و لكن تبرّه و تحسن إليه فيستحي و يكفّ و يكذّب نفسه. فلم يقبل منه، و جعله في صندوق و دفنه حيّا. فوقع بين رجل من زنادقة الشّعوبيّة و بين رجل من ولد الوليد فخار خرجا فيه إلى أن أغلظا المسابّة، و ذلك في دولة بني العبّاس؛ فوضع الشّعوبيّ عليهم كتابا زعم فيه أن أمّ البنين عشقت وضّاحا، فكانت تدخله صندوقا عندها. فوقف على ذلك خادم الوليد فأنهاه إليه و أراه الصندوق، فأخذه فدفنه.

هكذا ذكر خالد بن كلثوم و الزّبير بن بكّار جميعا.

و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش في كتاب المغتالين قال حدّثنا أبو سعيد السّكّريّ قال حدّثنا محمد بن حبيب عن ابن الكلبيّ قال:

/عشقت أمّ البنين وضّاحا، فكانت ترسل إليه فيدخل إليها و يقيم عندها؛ فإذا خافت وارته في صندوق عندها

ص: 441


1- كذا في «تجريد الأغاني». و في جميع الأصول: «يا عمير».
2- في ح: «شغف» (بالغين المعجمة)، و هما بمعنى.
3- كذا في ب، س، ح. و في سائر الأصول: «عرف». و العرف (بالضم): المعروف.
4- في ح و «تجريد الأغاني»: «من جفوة».
5- في «تجريد الأغاني»: «طله» (بالطاء المهملة)، و الطل: أخف المطر و أضعفه. و قيل: هو الندى.

و أقفلت عليه. فأهدي للوليد جوهر له قيمة فأعجبه و استحسنه، فدعا خادما له فبعث به معه إلى أم البنين و قال: قل لها: إن هذا الجوهر أعجبني فآثرتك به. فدخل الخادم عليها مفاجأة و وضّاح عندها، فأدخلته الصندوق و هو يرى، فأدّى إليها رسالة الوليد و دفع إليها الجوهر، ثم قال: يا مولاتي، هبيني منه حجرا؛ فقالت: لا، بابن اللّخناء و لا كرامة. فرجع إلى الوليد فأخبره؛ فقال: كذبت يا ابن اللخناء، و أمر به فوجئت عنقه. ثم لبس نعليه و دخل على أمّ البنين و هي جالسة في ذلك البيت تمتشط، و قد وصف له الخادم الصندوق الذي أدخلته فيه، فجلس عليه ثم قال لها: يا أمّ البنين، ما أحبّ إليك هذا البيت من بين بيوتك! فلم تختارينه؟ فقالت: أجلس فيه و أختاره لأنه يجمع حوائجي كلّها فأتناولها منه كما أريد من قرب. فقال لها: هبي لي صندوقا من هذه الصناديق؛ قالت: كلّها لك يا أمير المؤمنين؛ قال: ما أريدها كلّها و إنما أريد واحدا منها؛ فقالت/له: خذ أيّها شئت؛ قال: هذا الذي جلست عليه؛ قالت: خذ غيره فإن لي فيه أشياء أحتاج إليها؛ قال: ما أريد غيره؛ قالت: خذه يا أمير المؤمنين. فدعا بالخدم و أمرهم بحمله، فحمله حتى انتهى به إلى مجلسه فوضعه فيه. ثم دعا عبيدا له فأمرهم فحفروا بئرا في المجلس عميقة، فنحّى البساط و حفرت إلى الماء. ثم دعا بالصندوق فقال: [يا هذا](1) إنه بلغنا شيء إن كان حقّا فقد كفّنّاك(2) و دفنّاك و دفنّا ذكرك و قطعنا أثرك إلى آخر الدهر، و إن كان باطلا فإنا دفنّا الخشب، و ما أهون/ذلك! ثم قذف به في البئر و هيل عليه التراب و سوّيت الأرض و ردّ البساط إلى حاله و جلس الوليد عليه. ثم ما رئي بعد ذلك اليوم لوضّاح أثر في الدنيا إلى هذا اليوم. قال: و ما رأت أمّ البنين لذلك أثرا في وجه الوليد حتى فرّق الموت بينهما.

أرضت أم البنين وضاح و هو في دمشق فقال شعرا:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثني مصعب بن عبد اللّه قال:

رضت أم البنين و وضّاح مقيم بدمشق، و كان نازلا عليها؛ فقال في علّتها:

صوت

حتّام نكتم حزننا حتّاما *** و علام نستبقي الدموع علاما

إن الذي بي قد تفاقم و اعتلى *** و نما و زاد و أورث الأسقاما

قد أصبحت أمّ البنين مريضة *** نخشى و نشفق أن يكون حماما

يا ربّ أمتعني بطول بقائها *** و اجبر بها الأرمال و الأيتاما

و اجبر بها الرجل الغريب بأرضها *** قد فارق الأخوال و الأعماما

كم راغبين و راهبين و بؤّس *** عصموا بقرب جنابها إعصاما

بجناب ظاهرة الثّنا(3) محمودة *** لا يستطاع كلامها إعظاما

ص: 442


1- الزيادة عن كتاب «أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية و الإسلام» لمحمد بن حبيب، المحفوظ منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية (تحت رقم 57 أدب ش).
2- كذا في جميع الأصول و لعلها: «كفيناك».
3- كذا في أكثر الأصول. و في ح: «النثا». الثنا، كما قال الجوهري، في الخير خاصة. النثا (بالقصر): مثل الثنا إلا أنه في الخير و الشر.

الغناء في الأول و الثاني و الثالث و الرابع و الخامس لحكم الواديّ خفيف رمل بالوسطى، عن الهشامي و عبد اللّه بن موسى. و ممّا وجد في روايتي هارون بن الزيّات و ابن المكيّ في الرابع(1) ثم الخامس ثم الأوّل و الثاني لعمر الوادي خفيف رمل، من رواية الهشامي.

شبب بفاطمة بنت عبد الملك فدفنه الوليد في بئر و هو حي:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا مصعب قال:

بلغ الوليد بن عبد الملك تشبّب وضّاح بأمّ البنين فهمّ بقتله. فسأله عبد العزيز ابنه فيه، و قال له: إن قتلته فضحتني و حقّقت قوله، و توهّم الناس أن بينه و بين أمّي ريبة. فأمسك عنه على غيظ و حنق، حتى بلغ الوليد أنه قد تعدّى أمّ البنين إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك، و كانت زوجة عمر بن عبد العزيز رضي اللّه تعالى عنه، و قال فيها:

بنت الخليفة و الخليفة جدّها *** أخت الخليفة(2) و الخليفة بعلها

فرحت قوابلها بها و تباشرت *** و كذاك كانوا في المسرّة أهلها

فأحنق(3) و اشتدّ غيظه و قال: أ ما لهذا الكلب مزدجر عن ذكر نسائنا و أخواتنا، و لا له عنّا مذهب! ثم دعا به فأحضر، و أمر ببئر فحفرت و دفنه فيها حيّا.

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال أخبرني عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون/قال:

أنشدت محمد بن المنكدر قول وضّاح:

فما نوّلت حتى تضرّعت عندها *** و أعلمتها ما رخّص اللّه في اللّمم

قال: فضحك و قال: إن كان وضّاح لا مفتيا لنفسه. و تمام هذه الأبيات:

ترجّل(4) وضّاح و أسبل بعد ما *** تكهّل حينا في الكهول و ما احتلم

و علّق بيضاء العوارض طفلة *** مخضّبة الأطراف طيّبة النّسم

/إذا قلت يوما نوّليني تبسّمت *** و قالت معاذ اللّه من فعل ما حرم

فما نوّلت حتى تضرّعت عندها *** و أعلمتها ما رخّص اللّه في اللّمم

رثى أباه و أخاه بشعر و هو عند أم البنين:
اشارة

أخبرني عمي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن العتبي في خبره الأوّل المذكور من أخبار وضّاح مع أمّ البنين قال:

كان وضّاح مقيما عند أم البنين، فورد عليه نعي أخيه و أبيه(5)؛ فقال يرثيهما:

ص: 443


1- كذا في أ، ء، م: و في سائر الأصول: «و في الرابع».
2- في ح: «الخلائف».
3- كذا في ح. و أحنق الرجل إذا حقد حقدا لا ينحل. و في سائر الأصول: «فاحتنق» و هو تحريف.
4- الترجل و الترجيل: تسريح الشعر.
5- يلاحظ أن أبا وضاح توفي و وضاح صغير كما هي في أول الترجمة.

أراعك طائر بعد الخفوق *** بفاجعة مشنّعة الطّروق

نعم و لها على رجل عميد *** أظلّ كأنني بشرق بريقي

كأني إذ علمت بها هدوّا *** هوت بي عاصف من رأس نيق(1)

أعلّ بزفرة من بعد أخرى *** لها في القلب حرّ كالحريق

و تردف عبرة تهتان أخرى *** كفائض غرب نضّاح فتيق

كأني إذ أكفكف دمع عيني *** و أنهاها أقول لها هريقي

ألا تلك الحوادث غبت عنها *** بأرض الشام كالفرد الغريق

فما أنفكّ انظر في كتاب *** تداري النفس عنه هوى زهوق(2)

يخبّر عن وفاة أخ كريم *** بعيد الغور نفّاع طليق

و قرم يعرض الخصمان(3) عنه *** كما حاد البكار عن الفنيق(4)

/كريم يملا الشّيزى(5) و يقري *** إذا ما قلّ إيماض البروق

و أعظم ما رميت به فجوعا(6) *** كتاب جاء من فجّ عميق

يخبّر عن وفاة أخ فصبرا *** تنجّز وعد منّان صدوق

سأصبر للقضاء فكل حيّ *** سيلقى سكرة الموت المذوق

فما الدنيا بقائمة و فيها *** من الأحياء ذو عين رموق

و للأحياء أيّام تقضّى *** يلفّ ختامها سوقا بسوق

فأغناهم كأعدمهم إذا ما *** تقضّت مدّة العيش الرقيق

كذلك يبعثون و هم فرادى *** ليوم فيه توفية الحقوق

أبعد همام قومك ذي الأيادي *** أبى الوضّاح رتّاق الفتوق

و بعد عبيدة المحمود فيهم *** و بعد سماعة العود العتيق

و بعد ابن المفضّل و ابن كاف *** هما أخواك في الزمن الأنيق

/تؤمّل أن تعيش قرير عين *** و أين(7) أمام طلاّب لحوق(8)

ص: 444


1- النيق: أعلى موضع في الجبل.
2- الزهوق: الهالك.
3- كذا في ب، س، ح. و في سائر الأصول: «الخصماء». و كلاهما جمع لخصيم.
4- البكار: جمع بكر و هو الفتى من الإبل. و الفنيق: الفحل المكرم لا يؤذي لكرامته على أهله و لا يركب.
5- الشيزى: خشب أسود تعمل منه القصاع. و قد يطلق على ما صنع من ذلك فيقال للجفان شيزى، كما أريد هنا.
6- الفجوع: الفاجع، فعول للمبالغة.
7- كذا في ب، س، ح. و في سائر الأصول: «و أنت».
8- كذا في ح: و في سائر الأصول «طلاب اللحوق».

و دنياك التي أمسيت فيها *** مزايلة الشقيق عن الشقيق

و مما قاله في مرثية أهله و ذكر الموت و غنّى فيه - و إنما نذكر منها ما فيه غناء لأنها طويلة -:

صوت

مالك وضّاح دائم الغزل *** أ لست تخشى تقارب الأجل

صلّ لذي العرش و اتّخذ قدما *** تنجيك يوم العثار و الزّلل

/يا موت ما إن تزال معترضا *** لا مل دون منتهى الأمل

لو كان من فرّ منك منفلتا(1) *** إذا لأسرعت رحلة الجمل

لكنّ كفّيك نال طولهما *** ما كلّ عنه نجائب الإبل

تنال كفّاك كلّ مسهلة *** و حوت بحر و معقل الوعل

لو لا حذاري من الحتوف فقد *** أصبحت من خوفها على وجل

لكنت للقلب في الهوى تبعا *** إنّ هواه ربائب الحجل

حرميّة(2) تسكن الحجاز لها *** شيخ غيور يعتلّ بالعلل

علّق قلبي ربيب بيت(3) ملو *** ك ذات قرطين وعثة الكفل(4)

تفترّ عن منطق تضنّ به *** يجري رضابا كذائب العسل

قال شعرا يسبّب بحبابة قبل أن يشتريها يزيد بن عبد الملك:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني سليمان بن أبي أيّوب عن مصعب قال:

قال وضّاح اليمن في حبابة جارية يزيد بن عبد الملك، و شاهدها بالحجاز قبل أن يشتريها يزيد و تصير إليه، و سمع غناءها فأعجب بها إعجابا شديدا:

صوت

يا من لقلب لا يطي *** ع الزاجرين و لا يفيق

تسلو قلوب ذوي الهوى *** و هو المكلّف(5) و المشوق

تبلت(6) حبابة قلبه *** بالدّلّ و الشكل الأنيق

ص: 445


1- كذا صححها المرحوم الأستاذ الشنقيطي بهامش نسخته. و في جميع الأصول «منقلبا».
2- حرمية: نسبة إلى الحرم (بالتحريك) على غير قياس.
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «بنت ملوك». و هو تصحيف.
4- يقال: امرأة و عثة: أي كثيرة اللحم كأن الأصابع تسوخ فيها من لينها و كثرة لحمها.
5- كلف به كلفا: إذا ولع به فهو كلف و مكلف.
6- تبله الحب: أسقمه.

/

و بعين أحور يرتعي *** سقط الكثيب(1) من العقيق

مكحولة بالسحر تن *** شي نشوة الخمر العتيق

هيفاء إن هي أقبلت *** لاحت كطالعة الشروق

و الردف مثل نقا تل *** بد فهو زحلوق زلوق

في درّة الأصداف مع *** تنقا بها ردع الخلوق(2)

داوي هواي و أطفئي *** ما في الفؤاد من الحريق

و ترفّقي أملي فقد *** كلّفتني ما لا أطيق

في القلب منك جوى المح *** بّ و راحة الصبّ الشفيق

هذا يقود برمّتي(3)*** قودا إليك و ذا يسوق

/يا نفس قد كلّفتني *** تعب الهوى منها فذوق(4)

إن كنت تائقة لح *** رّ صبابة منها فتوق(4)

شعر له في روضة:
اشارة

و مما قاله في روضة و فيه عناء قوله:

صوت

يا لقومي لكثرة العذّال *** و لطيف سرى مليح الدّلال

زائر في قصور(5) صنعاء يسري *** كلّ أرض مخوفة و جبال

/ - و الغناء لابن عبّاد عن الهشاميّ رمل - و هذه الأبيات من قصيدة له في روضة طويلة جيّدة يقول فيها:

يقطع الحزن و المهامة و البي *** د و من دونه ثمان ليالي

عاتب في المنام أحبب بعتبا *** ه إلينا و قوله من مقال

قلت أهلا و مرحبا عدد القط *** ر و سهلا بطيف هذا الخيال

حبّذا من إذا خلونا نجيّا *** قال: أهلي لك الفداء و مالي

و هي الهمّ و المنى و هوى النف *** س إذا اعتلّ ذو هوى باعتلال

قست ما كان قبلنا من هوى النا *** س فما قست حبّها بمثال

ص: 446


1- سقط الكثيب: منقطعه.
2- الخلوق (كرسول): ضرب من الطيب مائع فيه صفرة لأن أعظم أجزائه من الزعفران. و الردع: أثر الطيب في الجسد.
3- الرمة: قطعة حبل يشدّ بها.
4- أصله: «فذوقي» و «فتوقي». فحذفت الياء لضرورة القافية.
5- راجع ما كتبه أبو محمد الحسن بن أحمد الهمداني المتوفي في سجن صنعاء سنة 334 ه عن هذه القصور في الجزء الثامن من كتابه «الإكليل» المطبوع في بغداد سنة 1931 م فقد وصفها وصفا شافيا و ذكر أقوال الشعراء في مدحها.

لم أجد حبّها يشاكله الحبّ و لا وجدنا كوجد الرجال

كل حبّ إذا استطال سيبلى *** و هو روضة المنى غير بالي

لم يزده تقادم العهد إلاّ *** جدّة عندنا و حسن احتلال

أيها العاذلون كيف عتابي *** بعد ما شاب مفرقي و قذالي

كيف عذلي على التي هي منّي *** بمكان اليمين أخت الشّمال

و الذي أحرموا له و أحلّوا *** بمنى صبح عاشرات الليالي(1)

ما ملكت الهوى و لا النفس منّي *** منذ علّقتها فكيف احتيالي

إن نأت كان نأيها الموت صرفا *** أو دنت لي فثمّ يبدو خبالي

يا ابنة المالكيّ يا بهجة النف *** س أ في حبّكم يحلّ اقتتالي

أيّ ذنب عليّ إن قلت إني *** لأحبّ الحجاز حبّ الزّلال

لأحبّ الحجاز من حبّ من في *** ه و أهوى حلاله من حلال(2)

صوت

و مما فيه غناء من شعر وضاح:

أيها النّاعب ما ذا تقول *** فكلانا سائل و مسول

لا كساك اللّه ما عشت ريشا *** و بخوف بتّ ثم تقيل(3)

ثم لا أنقفت(4) في العشّ فرخا *** أبدا إلا عليك دليل

حين(5) تنبى أنّ هندا قريب *** يبلغ الحاجات منها الرسول

و نأت هند فخبّرت عنها *** أن عهد الودّ سوف يزول

و منها:

صوت

/

حيّ التي أقصى فؤادك حلّت *** علمت بأنك عاشق فأدلّت

و إذا رأتك تقلقلت أحشاؤها *** شوقا إليك فأكثرت و أقلّت

و إذا دخلت فأغلقت أبوابها *** عزم الغيور حجابها فاعتلّت

ص: 447


1- يريد صبح الليلة العاشرة من ذي الحجة.
2- الحلال: جمع حلة (بالكسر) و هي المحلة، أو القوم النزول فيهم كثرة.
3- كذا في ح و هامش نسخة المرحوم الأستاذ الشنقيطي مصححة بقلمه. و في سائر الأصول: «ثقيل» (بالثاء المثلثة)، و هو تصحيف.
4- أنقف الفرخ: استخرجه من البيضة. و في أ، ء، م: «ثم لا أبقيت».
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «حيث».

و إذا خرجت بكت عليك صبابة *** حتى تبلّ دموعها ما بلّت

إن كنت يا وضّاح زرت فمرحبا *** رحبت عليك بلادنا و أظلّت

الغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو. و فيها ليحيى المكيّ ثاني ثقيل بالوسطى، من كتابه. و لابنه أحمد فيها هزج. و ذكر حبش أن ليحيى فيها أيضا خفيف ثقيل.

/و منها:

صوت

أ تعرف أطلالا بميسرة اللّوى *** إلى أرعب(1) قد حالفتك(2) به الصّبا

فأهلا و سهلا بالتي حلّ حبّها *** فؤادي و حلّت دار شحط من النّوى

- الغناء فيه هزج يمنيّ بالبنصر عن ابن المكيّ - و هذه أبيات يقولها لأخيه سماعة، و قد عتب عليه في بعض الأمور. و فيها يقول:

أبادر درنوك(3) الأمير و قربه *** لأذكر في أهل الكرامة و النّهى

و أتّبع القصّاص كلّ عشيّة *** رجاء ثواب اللّه في عدد الخطا

و أمست بقصر يضرب الماء سوره *** و أصبحت في صنعاء ألتمس النّدى

فمن مبلغ عنّي سماعة ناهيا *** فإن شئت فاقطعنا كما يقطع السّلى(4)

و إن شئت وصل الرّحم في غير حيلة *** فعلنا و قلنا للذي تشتهي بلى

و إن شئت صرما للتفرّق و النّوى *** فبعدا، أدام اللّه تفرقة النّوى

و منها:

صوت

طرق الخيال فمرحبا ألفا *** بالشاغفات قلوبنا شغفا

و لقد يقول لي الطبيب و ما *** نبّأته من شأننا حرفا:

/إني لأحسب أنّ داءك ذا *** من ذي دمالج يخضب الكفّا

إني أنا الوضّاح إن تصلي *** أحسن بك التشبيب و الوصفا

شطّت فشفّ القلب ذكركها *** و دنت فما بذلت لنا عرفا

و منها:

ص: 448


1- كذا ذكره صاحب «معجم البلدان» (بالراء المهملة). و قال: «أرعب (بالفتح ثم السكون و عين مهملة و الباء موحدة): موضع في قول الشاعر». و ساق هذين البيتين. و في جميع الأصول: «أزعب». (بالزاي المعجمة).
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «قد خالفتك» (بالخاء المعجمة).
3- الدرنوك: الطنفسة و ضرب من البسط أو الثياب له خمل قصير كخمل المناديل و به تشبه فروة البعير و الأسد.
4- السلى: الجلدة التي يكون فيها الجنين من الناس و المواشي، فإن انقطع في البطن هلكت الأم و هلك الجنين.
صوت

- و يروى لبشّار -:

يا مرحبا ألفا و ألفا *** بالكاسرات إليّ طرفا

رجح الرّوادف كالظّبا *** تعرّضت حوّاء و وطفا(1)

أنكرن مركبي الحما *** ر و كنّ لا ينكرن طرفا(2)

و سألنني أين الشبا *** ب فقلت بان و كان حلفا

أفنى شبابي فانقضى *** حلف النساء تبعن حلفا

أعطيتهنّ مودّتي *** فجزينني كذبا و خلفا

/و قصائد مثل الرّقى *** أرسلتهن فكنّ شغفا

أوجعن كلّ مغازل *** و عصفن بالغيران عصفا

من كل لذّات الفتى *** قد نلت نائلة و عرفا

صدت الأوانس كالدّمى *** و سقيتهنّ الخمر صرفا

و منها: - و هذه القصيدة تجمع نسيبه بمن ذكر و فخره بأبيه و جدّه أبي جمد -.

صوت

أغنّى(3) على بيضاء تنكلّ(4) عن برد *** و تمشي على هون كمشية ذي الحرد(5)

و تلبس من بزّ العراق مناصفا *** و أبراد(6) عصب(7) من مهلهلة الجند(8)

إذا قلت يوما نوّليني تبسّمت *** و قالت لعمر اللّه لو أنه اقتصد

سموت إليها بعد ما نام بعلها *** و قد وسّدته الكفّ في ليلة الصّرد(9)

أشارت بطرف العين أهلا و مرحبا *** ستعطى الذي تهوى على رغم من حسد

أ لست ترى من حولنا من عدوّنا *** و كل غلام شامخ الأنف قد مرد(10)

ص: 449


1- الحو: جمع حواء، و هي التي بها لون الحوة، و هي سواد إلى خضرة، و قيل: حمرة إلى سواد. و الحوّة أيضا سمرة الشفة. و الوطف: جمع و طفاء، و هي كثيرة شعر أهداب العينين.
2- الطرف: الكريم من الخيل.
3- كذا في جميع الأصول. و لعلها: «أعني» (بالعين المهملة)، أمر من الإعانة.
4- تنكل: تفتر و تبسم.
5- الحرد: ثقل الدرع على المدرع فلا يقدر على الانبساط في المشي، أو هوداء يأخذ الإبل في اليدين دون الرجلين فتسترخي أيديها.
6- في ح: «أكباش»، و هي و الأبراد بمعنى واحد.
7- العصب: ضرب من برود اليمن، واحده و جمعه سواء، يقال: برد عصب و برد عصب بالإضافة.
8- الجند (بالتحريك): مدينة باليمن بينها و بين صنعاء ثمانية و أربعون فرسخا.
9- الصرد (بسكون الراء و فتحها): البرد و قيل شدته.
10- مرد: عتا و بلغ الغاية.

فقلت لها إني امرؤ فاعلمنّه *** إذا ما أخذت السيف لم أحفل العدد

بنى لي إسماعيل مجدا مؤثّلا *** و عبد كلال قبله(1) و أبو جمد

تطيف علينا قهوة في زجاجة *** تريك جبان القوم أمضى من الأسد

و منها:

صوت

يا أيها القلب بعض ما تجد *** قد يعشق القلب ثم يتّئد

قد يكتم المرء حبّه حقبا *** و هو عميد و قلبه كمد

ما ذا تراعون من فتى غزل *** قد تيّمته خمصانة رؤد

يهدّدوني كيما أخافهم *** هيهات أنّى يهدّد الأسد

/و منها:

صوت

صدع(2) البين و التفرّق قلبي *** و تولّت أمّ البنين بلبّي

ثوت النفس في الحمول لديها *** و تولّى بالجسم منّي صحبي

و لقد قلت و المدامع تجري *** بدموع كأنها فيض غرب

جزعا للفراق يوم تولّت: *** حسبي اللّه ذو المعارج حسبي

و منها:

صوت

يا ابنة الواحد جودي فما *** إن تصرميني فبما أولما

جودي علينا اليوم أو بيّني *** فيم قتلت الرجل المسلما

إني و أيدي قلص ضمّر *** و كلّ خرق(3) ورد الموسما

ما علّق القلب كتعليقها *** واضعة كفّا علت معصما

ربّة(4) محراب إذا جئتها *** لم ألقها أو ارتقى سلّما

/إخوتها أربعة كلّهم *** ينفون عنها الفارس المعلما

كيف أرجّيها و من دونها *** بوّاب سوء يعجل المشتما

ص: 450


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «بعده».
2- في ح: «صرع».
3- الخرق: الفتى الحسن الكريم الخليقة.
4- كذا و «اللسان» (مادة حرب). و في الأصول: «و رب محراب»، و هو تحريف.

أسود هتّاك لأعراض من *** مرّ على الأبواب أو سلّما

لا منّة أعلم كانت لها *** عندي و لا تطلب فينا دما

بل هي لمّا أن رأت عاشقا *** صبّا رمته اليوم فيمن رمى

لمّا ارتمينا(1) و رأت أنّها *** قد أثبتت في قلبه أسهما

/أعجبها ذاك فأبدت له *** سنّتها(2) البيضاء و المعصما

قامت تراءى لي على قصرها *** بين جوار خرّد كالدّمى

و تعقد المرط على جسرة(3) *** مثل كثيب الرمل أو أعظما

و منها:

صوت

دعاك من شوقك الدّواعي *** و أنت وضّاح ذو أتباع(4)

دعتك ميّالة لعوب *** أسيلة الخد باللّماع

دلالك الحلو و المشهّي *** و ليس سرّيك بالمضاع

لا أمنع النفس عن هواها *** و كلّ شيء إلى انقطاع

و منها:

صوت

ألا يا لقومي أطلقوا غلّ مرتهن *** و منّوا على مستشعر الهمّ و الحزن

تذكّر سلمى و هي نازحة فحنّ *** و هل تنفع الذكرى إذا اغترب الوطن

أ لم ترها صفراء رؤدا شبابها *** أسيلة مجرى الدمع كالشّادن الأغنّ

و أبصرت سلمى بين بردي مراجل(5) *** و أراد عصب من مهلهلة اليمن

فقلت لها لا ترتقي السطح إنني *** أخاف عليكم كلّ ذي لمّة حسن

/الغناء لابن سريج، و له في هذا الشعر لحنان: ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو، و رمل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و أوّل الرمل قوله:

ألا يا لقومي أطلقوا غلّ مرتهن

ص: 451


1- ارتمينا: توامينا.
2- السنة: الوجه، و قيل: الجبهة و الجبينان، و قيل: غير ذلك.
3- المرط (بالكسر): كساء من صوف أو خز أو كتان يؤتزر به، و ربما تلقيه المرأة على رأسها و تتلفع به. و الجسر: كل عضو ضخم، و يريد بالجسرة هنا العجيزة.
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «ذو تباع».
5- المراجل: ضرب من برود اليمن عليه تصاوير.

و أوّل الثقيل الأوّل: «تذكّر سلمى». و في هذه الأبيات هزج يمنيّ بالبنصر.

و منها:

صوت

أ غدوت أم في الرائحين تروح *** أم أنت من ذكر الحسان صحيح

إذ قالت الحسناء ما لصديقنا *** رثّ الثياب و إنه لمليح

لا تسألنّ عن الثياب فإنني *** يوم اللقاء على الكماة مشيح

أرمي و أطعن ثم أتبع ضربة *** تدع النساء على الرجال تنوح

صوت من المائة المختارة

يا صاح إني قد حجج *** ت و زرت بيت المقدس

و أتيت لدّا(1) عامدا *** في عيد مريا سرجس(2)

/فرأيت فيه نسوة *** مثل الظباء الكنّس

الشعر و الغناء للمعلّى بن طريف مولى المهديّ. و لحنه المختار خفيف رمل بالبنصر. و كان المعلّى بن طريف و أخوه ليث مملوكين مولّدين من مولّدي الكوفة لرجل من أهلها، فاشتراهما عليّ بن سليمان و أهداهما إلى المنصور، فوهبهما المنصور للمهديّ/فأعتقهما. و نهر المعلّى و ربض(3) المعلّى ببغداد منسوب إلى المعلّى - هكذا ذكر ذلك ابن خرداذبه - و كان ضاربا محسنا طيّب الصوت حسن الأداء صالح الصنعة، أخذ الغناء عن إبراهيم و ابن جامع و حكم الوادي. و ولّي أخوه ليث السّند، و ولّي هو الطّراز(4) و البريد بخراسان، و قاتل يوسف البرم فهزمه، ثم ولّي الأهواز بعد ذلك. فقال فيه بعض الشعراء يمدحه و يمدح أخاه اللّيث و يهجو عليّ بن صالح صاحب المصلّى(5):

يا عليّ بن صالح ذا(6) المصلّى *** أنت تفدي ليثا و تفدي المعلّى

سدّ ليث ثغرا و ولّيت فاختن *** ت فبئس المولى و بئس المولّى

ص: 452


1- كذا في «المسالك و الممالك» لابن خرداذبه و «معجم البلدان». ولد (بالضم و التشديد): قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين. و في سائر الأصول: «فذا». و في ح: «بدا» و هما محرفان.
2- في «المسالك و الممالك» لابن خرداذبه: «مريا جرجس».
3- الربض (محركة): الناحية، و ما حول المدينة من بيوت و مساكن. و الأرباض كثيرة جدا، و قلما تخلو مدينة من ربض. ذكر منها ياقوت في معجمه ما أضيف فصار كالعلم أو نسب إليها أحد من العلماء، و لم يذكر «ربض المعلى» من بينها.
4- يريد ديوان الطراز و هو الذي تنسج فيه الثياب.
5- كذا صححها المرحوم الشيخ الشنقيطي على هامش نسخته. و في جميع الأصول: «المعلى» و هو تحريف. راجع «الطبري» في اسم علي بن صالح هذا.
6- في جميع الأصول: «ذي» و هو تحريف.

و عليّ بن سليمان هذا الذي أهدى المعلّى و أخاه إلى المهديّ هو الذي يقول فيه أبو دلامة زند(1) بن الجون الأسديّ؛ و كان خرج مع المهديّ إلى الصيد، فرمى المهديّ و عليّ بن سليمان ظبيا سنح لهما، و قد أرسلت عليه الكلاب، بسهمين، فأصاب المهدي الظبي و أصاب عليّ بن سليمان الكلب فقتلاهما. فقال أبو دلامة:

قد رمى المهديّ ظبيا *** شكّ بالسهم فؤاده

و عليّ بن سليما *** ن رمى كلبا فصاده

فهنيئا لهما كلّ *** امرئ يأكل زاده

حدّثنا بذلك الحسن بن عليّ عن أحمد بن زهير عن مصعب، و عن أحمد بن سعيد عن الزّبير بن بكّار عن عمّه.

صوت من المائة المختارة

ألا طرد الهوى عنّي رقادي *** فحسبي ما لقيت من السّهاد

لعبدة إنّ عبدة تيّمتني *** و حلّت من فؤادي في السّواد

الشعر لبشّار. و الغناء المختار في هذين البيتين هزج خفيف بالبنصر، ذكر يحيى بن عليّ أنه يمنيّ، و ذكر الهشاميّ أنه لسليم.

ص: 453


1- في جميع الأصول هنا: «زيد» (بالياء المثناة)، و هو تصحيف. (راجع ترجمته في الجزء التاسع من «الأغاني» ص 120-140 طبع بولاق).

18 - أخبار بشّار و عبدة خاصة إذ كانت أخباره سوى هذه تقدّمت

اشارة

18 - أخبار بشّار و عبدة خاصة إذ كانت أخباره(1) سوى هذه تقدّمت

حبه لعبدة و شعره فيها:
اشارة

حدّثني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا أبو أيوب المديني عمن حدّثه عن الأصمعيّ هكذا قال، و أخبرني به عمّي عن عبد اللّه(2) بن أبي سعد عن عليّ بن مسرور عن الأصمعيّ قال:

كان لبشّار مجلس يجلس فيه يقال له البردان. فبينا هو في مجلسه ذات يوم و كان النساء يحضرنه، إذ سمع كلام امرأة يقال لها عبدة/في المجلس، فدعا غلامه فقال: إني قد علّقت امرأة، فإذا تكلمت فانظر من هي و اعرفها، فإذا انقضى المجلس و انصرف أهله فاتبعها و كلّمها و أعلمها أنّي لها محبّ و أنشدها هذه الأبيات و عرّفها أني قلتها فيها:

صوت

قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم *** الأذن كالعين توفي القلب ما كانا

ما كنت أوّل مشغوف بجارية *** يلقى بلقيانها روحا و ريحانا

- و يروى: هل من دواء لمشغوف بجارية -:

يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة *** و الأذن تعشق قبل العين أحيانا

- غنّى إبراهيم في هذه الأبيات ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، عن إسحاق. و فيها لسياط ثقيل أول بالوسطى، عن عمرو. و فيها لإسحاق هزج من جامع أغانيه - قال: فأبلغها الغلام الأبيات، فهشّت لها، و كانت تزوره مع نسوة/يصحبنها فيأكلن عنده و يشربن و ينصرفن بعد أن يحدّثها و ينشدها و لا تطمعه في نفسها. قال: و قال فيها:

قالت عقيل بن كعب(3) إذ تعلّقها *** قلبي فأضحى به من حبّها أثر

أنّى و لم ترها تهذي! فقلت لهم *** إن الفؤاد يرى ما لا يرى(4) البصر

ص: 454


1- يلاحظ أن بعض الأخبار المذكورة هنا تقدّمت في ترجمته في الجزء الثالث من هذه الطبعة.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «عبيد اللّه» و هو تحريف.
3- عقيل بن كعب: قبيلة كبيرة كان ولاء بشار بن برد لها. و من قوله يفتخر بهذا الولاء كما مرّ في ترجمته: إنني من بني عقيل بن كعب موضع السيف من طلى الأعناق
4- في ب، س: «ما لم ير البصر».

أصبحت كالحائم الحرّان مجتنبا *** لم يقض وردا و لا يرجى له صدر

قال: و قال فيها أيضا - و هو من جيّد ما قال فيها -:

يزهّدني في حبّ عبدة معشر *** قلوبهم فيها مخالفة قلبي

فقلت دعوا قلبي و ما اختار و ارتضى *** فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحبّ

فما تبصر العينان في موضع الهوى *** و لا تسمع الأذنان إلا من القلب

و ما الحسن إلا كلّ حسن دعا الصّبا *** و ألّف بين العشق و العاشق الصبّ

قال: و قال فيها:

يا قلب ما لي أراك لا تقر *** إياك أعني و عندك الخبر

أضعت بين الألى مضوا حرقا *** أم ضاع ما استودعوك إذ بكروا؟

فقال بعض الحديث يشغفني *** و القلب راء ما لا يرى البصر

عابه الحسن البصري و هتف به فهجاه:

و أخبرني بهذا الخبر أبو الحسن أحمد بن محمد الأسديّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا خالد بن يزيد بن وهب عن جرير عن أبيه بمثل هذه القصة، و زاد فيها:

/أنّ عبدة جاءت إليه في نسوة خمس قد مات لإحداهن قريب فسألنه أن يقول شعرا ينحن عليه به، فوافينه و قد احتجم - و كان له مجلسان: مجلس يجلس فيه غدوة يسميه «البردان» و مجلس يجلس فيه عشيّة يسميه «الرّقيق» - و هو جالس في البردان و قد قال لغلامه: أمسك عليّ بابي و اطبخ لي و هيّئ طعامي و طيّبه و صفّ نبيذي.

قال: فإنه لكذلك إذا قرع الباب عليه قرعا عنيفا؛ فقال: ويحك يا غلام! انظر من يدقّ الباب دقّ الشّرط؛ فنظر الغلام و جاءه فقال: خمس نسوة بالباب يسألنك أن تقول شعرا ينحن فيه؛ فقال: أدخلهنّ. فلما دخلن/نظرن إلى النبيذ مصفّى في قنانيّه؛ [في جانب بيته](1) فقالت إحداهن: خمر؛ [و قالت الأخرى: زبيب](2)؛ و قالت الأخرى:

معسّل. فقال: لست بقائل لكنّ حرفا أو تطعمن من طعامي و تشربن من شرابي. فتماسكن ساعة، و قالت إحداهن:

فما عليكنّ من ذلك! هذا أعمى، كلن من طعامه و اشربن من شرابه و خذن شعره، ففعلن. و بلغ ذلك الحسن البصري فعابه و هتف به. فبلغ ذلك بشّارا، و كان الحسن يلقّب القسّ(3)، فقال فيه بشّار:

لمّا طلعن من الرّقي *** ق عليّ بالبردان خمسا(4)

و كأنهنّ أهلّة *** تحت الثياب زففن شمسا

باكرن طيب لطيمة(5) *** و عمسن في الجاديّ عمسا

ص: 455


1- زيادة عن ح.
2- هذه العبارة ساقطة من ب، س.
3- لقب به لصلاحه.
4- تقدّمت هذه الأبيات مع تفسير كلماتها الغامضة في «ترجمة بشار» (ج 3 ص 170 من هذه الطبعة).
5- اللطيمة: المسك و نافجته، و قيل: العير التي تحمل الطيب. و الجادي: الزعفران.

فسألنني من في البيو *** ت فقلت ما يحوين إنسا

ليت العيون الناظرا *** ت طمسن عنّا اليوم طمسا

فأصبن من طرف الحدي *** ث لذاذة و خرجن ملسا

لو لا تعرّضهن لي *** يا قسّ كنت كأنت قسّا

لامه مالك بن دينار على تناوله أعراض الناس و التشبيب بالنساء فقال: لا أعاود ثم قال شعرا:

أخبرني الأسديّ و يحيى بن عليّ بن يحيى و محمد بن عمران الصّيرفي قالوا حدّثنا العنزيّ قال حدّثنا علي بن محمد عن جعفر بن محمد النّوفليّ قال:

أتيت بشارا ذات يوم، فقال لي: ما شعرت منذ أيام إلا بقارع يقرع بابي مع الصبح؛ فقلت: يا جارية، انظري من هذا؛ فقالت: مالك بن دينار؛ فقلت: ما لي و لمالك بن دينار! ما هو من أشكالي! ائذني له. فدخل فقال لي:

يا أبا معاذ، أ تشتم أعراض الناس و تشبّب بنسائهم! فلم يكن عندي إلا دفعه عن نفسي بأن قلت: لا أعاود؛ فخرج من عندي. و قلت في إثره:

غدا مالك بملاماته *** عليّ و ما بات من باليه(1)

فقلت دع اللوم في حبّها *** فقبلك أعييت عذّاليه

و إنّي لأكتمهم سرّها *** غداة تقول لها الجالية

أعبدة مالك مسلوبة *** و كنت مقرطقة(2) حاليه

فقالت على رقبة: إنني *** رهنت المرعّث خلخاليه

بمجلس يوم سأوفي به *** و إن أنكر الناس أحواليه

أرسلت له عبدة السلام مع امرأة فرد عليها بشعر فيها:
اشارة

أخبرني وكيع قال حدّثني عمرو بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني الحسن(3) بن جهور قال حدّثني هشام بن الأحنف، راوية بشار، قال:

إني لعند بشّار ذات يوم إذ أتته امرأة فقالت: يا أبا معاذ، عبدة تقرئك السلام و تقول لك: قد اشتدّ شوقنا إليك و لم نرك منذ أيام؛ فقال: عن غير مقلية/و اللّه كان ذاك. ثم قال لراويته: يا هشام، خذ الرقعة و اكتب فيها ما أقول لك ثم ادفعه للرسول. قال هشام: فأملى عليّ:

عبد إنّي إليك بالأشواق *** لتلاق و كيف لي بالتلاقي

أنا و اللّه أشتهي سحر عيني *** ك و أخشى مصارع العشّاق

ص: 456


1- راجع هذه الأبيات و التعليق عليها في ترجمته في الجزء الثالث ص 170 من هذه الطبعة.
2- مقرطقة: لابسة القرطق (بضم القاف و سكون الراء و فتح الطاء و قد تضم) و هو القباء. و قد مرت بلفظ: «معطرة».
3- الذي مر هو الحسن بن جمهور. و يروي عنه محمد بن عمر بن محمد بن عبد الملك، و عن محمد هذا يروي وكيع. (راجع ج 3 ص 161 س 9 من هذه الطبعة).

/

و أهاب الحرسيّ(1) محتسب الجن *** د يلفّ البريء بالفسّاق

و مما يغني فيه من شعر بشار في عبدة قوله:

صوت

لعبدة دار ما تكلّمنا الدار *** تلوح مغانيها كما لاح أسطار

أسائل أحجارا و نؤيا مهدّما *** و كيف يجيب القول نؤي و أحجار

و ما كلّمتني دارها إذ سألتها *** و في كبدي كالنّفط شبّت به(2) النار

و عند مغاني دارها لو تكلّمت *** لمكتئب بادي الصّبابة أخبار

الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لابن جامع ثقيل أوّل عن الهشامي. و من هذه القصيدة:

صوت

تحمّل جيراني فعيني لبينهم *** تفيض بتهتان إذا لاحت الدار

بكيت على من كنت أحظى بقربه *** و حقّ الذي حاذرت بالأمس إذ ساروا(3)

الغناء ليحيى المكّيّ ثقيل أوّل بالبنصر.

/و من الأغاني في شعره في عبدة:

صوت

مسّني من صدود عبدة ضرّ *** فبنات الفؤاد ما تستقرّ

ذاك شيء في القلب من حبّ عب *** دة باد و باطن يستسرّ

الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو. و فيه لحكم ثقيل أوّل بالوسطى من جامع غنائه في كتاب إبراهيم. و فيه لفريدة خفيف ثقيل عن إسحاق. و فيه ليحيى المكّيّ ثقيل أوّل من كتابه. و فيه لحسين بن محرز رمل عن الهشامي.

و منها:

صوت

يا عبد إني قد ظلمت و إنني *** مبد مقالة راغب أو راهب

و أتوب مما تكرهين لتقبلي *** و اللّه يقبل حسن فعل التائب

ص: 457


1- الحرسي (بالتحريك): واحد حرس السلطان، و سكن هنا للضرورة.
2- في جميع الأصول: «له».
3- في ب، س: «صاروا».

الغناء لحكم خفيف ثقيل عن إسحاق. و فيه ليحيى المكيّ ثقيل أوّل من كتابه. و فيه لحسين بن محرز رمل عن الهشامي.

و منها:

صوت

يا عبد حبّك شفّني شفّا *** و الحبّ داء يورث الحتفا

و الحبّ يخفيه المحبّ، لكي *** لا يستراب به، و ما يخفى

الغناء لسياط خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.

/و منها:

صوت

يا عبد باللّه فرّجي كربي *** فقد براني و شفّني نصبي

و ضقت ذرعا بما كلفت به *** من حبّكم و المحبّ في تعب

ففرّجي كربة شجيت بها *** و حرّ حزن في الصدر كاللّهب

و لا تظنّي ما أشتكي لعبا *** هيهات قد جلّ ذا عن اللعب

/غنّاه سياط ثقيلا أوّل بالبنصر عن عمرو.

و منها:

صوت

يا عبد زوريني تكن منّة *** للّه عندي يوم ألقاك

و اللّه ثمّ اللّه فاستيقني *** إني لأرجوك و أخشاك

يا عبد إني هالك مدنف *** إن لم أذق برد ثناياك

فلا تردّي عاشقا مدنفا *** يرضى بهذا القدر من ذاك

الغناء لحكم هزج خفيف بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق.

و منها:

صوت

يا عبد قد طال المطال فأنعمي *** و اشفي فؤاد فتى يهيم متيّم

الغناء ليزيد حوراء غير مجنّس عن إبراهيم.

و منها:

ص: 458

صوت

يا عبد هل للّقاء من سبب *** أو لا فأدعو بالويل و الحرب

الغناء ليزيد حوراء غير مجنّس.

/و منها:

صوت

يا عبد هل لي منكم من عائد *** أم هل لديك صلاح قلب فاسد

الغناء لابن عبّاد عن إبراهيم غير مجنّس.

و منها:

صوت

يا عبد حيي عن قريب *** و تأمّلي عين الرقيب

و ارعي ودادي غائبا *** فلقد رعيتك في المغيب

أشكو إليك و إنّما *** يشكو المحبّ إلى الحبيب

غرضي(1) إليك من الهوى *** غرض المريض إلى الطبيب

الغناء لحكم مطلق في مجرى البنصر.

و منها:

صوت

يا عبد باللّه ارحمي عبدك *** و علّليه بمنى وعدك

يصبح مكروبا و يمسي به *** و ليس يدري ما له عندك

ما ذا تقولين لربّ العلا *** إذا تخلّيت به وحدك

الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. و فيه لإسحاق هزج من جامع أغانيه. و فيه ليزيد حوراء لحن ذكره إبراهيم و لم يجنّسه. و ذكر حبش أنّ الثقيل الثاني لسياط.

/و منها:

صوت

يا عبد جلّي كروبي *** و أسعفي و أثيبي

فقد تطاول همّي *** و زفرتي و نحيى

ص: 459


1- في الأصول: «غرضا».

الغناء لابن سكّرة عن إبراهيم و لم يجنّسه.

و منها:

صوت

يا عبد أنت ذخيرتي *** نفسي فدتك و جيرتي

اللّه يعلم فيكم *** يا عبد حسن سريرتي

نفسي لنفسك خلّة(1) *** و كذاك أنت أميرتي(2)

الغناء لحكم الوادي خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو.

و منها:

صوت

يا عبد حبّي لك مستور *** و كلّ حبّ غيره زور

إن كان هجري سرّكم فاهجروا *** إنّي بما سرّك مسرور

الغناء لحكم هزج بالوسطى عن ابن المكيّ.

و منها:

صوت

لم يطل ليلي و لكن لم أنم *** و نفى عنّي الكرى طيف ألمّ

و إذا قلت لها جودي لنا *** خرجت بالصمت عن لا و نعم

/رفّهي يا عبد عنّي و اعلمي *** أنّني يا عبد من لحم و دم

إن في بردي جسما ناحلا *** لو توكأت عليه لا نهدم

ختم الحبّ لها في عنقي *** موضع الخاتم من أهل الذمم

الغناء لحكم هزج بالسبّابة و الوسطى عن ابن المكيّ. و ذكره إسحاق في هذه الطريقة فلم ينسبه إلى أحد. و فيه لعثعث الأسود خفيف رمل في الأول و الخامس. و كان بشّار ينكر هذا البيت الأخير و هو:

ختم الحب لها في عنقي

أنشده رجل بيتا له فأنكره:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثني أبو حاتم السّجستانيّ قال حدّثني من أنشد بشارا قوله:

لم يطل ليلي و لكن لم أنم

ص: 460


1- الخلة (بالضم): الخليلة.
2- في ح: «أسيرتي».

حتى بلغ إلى قوله:

ختم الحبّ لها في عنقي *** موضع الخاتم من أهل الذمم

فقال بشار: عمّن أخذت هذا؟ قلت: عن راويتك فلان؛ فقال: قبّحه اللّه! و اللّه ما قلت هذا البيت قطّ، أما ترى إلى أثره فيه! ما أقبحه و أشدّ تميّزه عنّي! فقال له بعض من حضر: نعم، هو ألحقه بالأبيات.

و منها:

صوت

عبد إنّي قد اعترفت بذنبي *** فاغفري و اعركي(1) خطاي بجنب(2)

عبد لا صبر لي و لست - فمهلا - *** قائلا قد عتبت في غير عتب

/و لقد قلت حين أنصبني الحب فأبلى جسمي و عذب قلبي

ربّ لا صبر لي على الهجر حسبي *** أقلني حسبي لك الحمد حسبي

الغناء لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لسليم هزج من كتاب ابن المكيّ.

و منها:

صوت

عبد منّى و أنعمى *** قد ملكتم قياديه

شاب رأسي و لم تشب *** ابلائي لداتيه(3)

/الغناء لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لعريب هزج.

و منها:

صوت

عبد يا همّتي(4) عليك السلام *** فيم يجفى حبيبك المستهام

نزل الحبّ منزلا في فؤادي *** و له فيه مجلس و مقام

الغناء لأبي زكّار خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لعريب هزج(5).

و منها:

ص: 461


1- في جميع الأصول: «و اعدلي»، و الظاهر أنها محرفة عما أثبتناه. يقال: عرك بجنبه ما كان من صاحبه، كأنه حكه حتى عفاه. و أصله من عرك الأديم إذا دلكه.
2- في جميع الأصول: «بجنبي» و هو تحريف.
3- في جميع الأصول: «لدائيه». و الظاهر أنها محرفة عما أثبتناه.
4- الهمة (بالكسر و يفتح): الهوى.
5- في ح: «رمل».
صوت

عبد يا قرّة عيني *** أنصفي، روحي فداك

عاشق ليس له ذك *** ر و لا همّ سواك

الغناء لعريب هزج. و فيه لحن ليزيد حوراء غير مجنّس.

/و منها:

صوت

يا عبد يا جافية قاطعه *** أ ما رحمت المقلة الدامعه

يا عبد خافي اللّه في عاشق *** يهواك حتى تقع الواقعة

الغناء لأبي زكّار هزج بالبنصر عن عمرو.

صوت من المائة المختارة

أرسلت أمّ جعفر لا تزور *** ليت شعري بالغيب من ذا دهاها

أ أتاها محرّش بنميم *** كاذب ما أراد إلا رداها

روضه من الخفيف - الشعر للأحوص. و الغناء لأمّ جعفر المدنيّة مولاة عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب. و لحنه من الثقيل الأوّل في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه لحنا من(1) الثقيل الأوّل بالبنصر، فلا أعلم أ هذا يعني(2) أم غيره. و فيه لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها عن يحيى المكّيّ و إسحاق. و فيه لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو و الهشاميّ.

ص: 462


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «... أن فيه لحنا لمعبد من الثقيل...» بزيادة كلمة «معبد». و لا يستقيم المعنى بذكرها.
2- في الأصول: «يغنى» بالغين المعجمة، و هو تصحيف.

19 - أخبار الأحوص مع أم جعفر

أم جعفر التي كان يشبب بها الأحوص و نسبها:

و قد ذكرت أخبار الأحوص متقدّما إلا أخباره مع أمّ جعفر التي قال فيها هذا الشعر فإنها أخّرت إلى هذا الموضع. و أمّ جعفر هذه امرأة من الأنصار من بني خطمة(1)، و هي أمّ جعفر بنت عبد اللّه بن عرفطة بن قتادة بن معدّ بن غياث بن رزاح بن عامر بن عبد اللّه بن خطمة بن جشم بن مالك(2) بن الأوس. و له فيها أشعار كثيرة.

تشبيب الأحوص بأم جعفر و توعد أخيها أيمن له:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبي قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني يعقوب بن القاسم و محمد بن يحيى الطّلحي عن عبد العزيز بن أبي ثابت، و أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن داود بن الجرّاح قال حدّثني أحمد بن زهير عن مصعب، و أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه عن المحرز بن جعفر الدّوسيّ، /قالوا جميعا:

لمّا أكثر الأحوص التشبيب بأمّ جعفر و شاع ذكره فيها توعّده أخوها أيمن و هدّده فلم ينته، فاستعدى عليه والي المدينة - و قال الزبير في خبره: فاستعدى عليه عمر بن عبد العزيز - فربطهما في حبل و دفع إليهما سوطين و قال لهما: تجالدا؛ فتجالدا فغلب أخوها. و قال غير الزّبير في خبره: و سلح الأحوص في ثيابه و هرب و تبعه أخوها حتى فاته الأحوص هربا. و قد كان الأحوص قال فيها:

/

لقد منعت معروفها أمّ جعفر *** و إنّي إلى معروفها لفقير

و قد أنكرت بعد اعتراف زيارتي *** و قد و غرت فيها عليّ صدور

أدور و لو لا أن أرى أمّ جعفر *** بأبياتكم ما درت حيث أدور

أزور البيوت اللاصقات ببيتها *** و قلبي إلى البيت الذي لا أزور

و ما كنت زوّارا و لكن ذا الهوى *** إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور

أزور على أن لست أنفكّ كلّما *** أتيت عدوّا بالبنان يشير

فقال السائب بن عمرو، أحد بني عمرو بن عوف، يعارض الأحوص في هذه الأبيات و يعيّره بفراره:

لقد منع المعروف من أم جعفر *** أخو ثقة عند الجلاد صبور

ص: 463


1- لقب خطمة لأنه ضرب رجلا على أنفه فخطمه.
2- كذا في «شرح القاموس» مادة خطم و كتاب «الاستبصار في أنساب الأنصار» ص 146 المخطوط و المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم (349 تاريخ). و في جميع الأصول: «... خطمة بن مالك بن جشم بن الأوس» و هو تحريف.

علاك بمتن السوط حتى اتّقيته *** بأصفر من ماء الصّفاق(1) يفور

فقال الأحوص:

إذا أنا لم أغفر لأيمن ذنبه *** فمن ذا الذي يعفو له ذنبه بعدي

أريد انتقام الذنب ثم تردّني *** بد لأدانيه مباركة عندي

و قال الزبير في خبره خاصّة: و إنما أعطاهما عمر بن عبد العزيز السوطين و أمرهما أن يتضاربا بهما اقتداء بعثمان بن عفان؛ فإنه كان لما تهاجى سالم بن دارة و مرّة ابن واقع الغطفاني الفراري لزّهما عثمان بحبل و أعطاهما سوطين فتجالدا بهما.

و قال عمر بن شبّة في خبره: و قال الأحوص فيها(2) أيضا - و قد أنشدني علي بن سليمان الأخفش هذه الأبيات و زاد فيها على رواية عمر بن شبّة بيتين فأضفتهما إليها -:

/

و إني ليدعوني هوى أمّ جعفر *** و جاراتها من ساعة فأجيب

و إني لآتي البيت ما إن أحبّه *** و أكثر هجر البيت و هو حبيب

و أغضي على أشياء منكم تسوءني *** و أدعى إلى ما سرّكم فأجيب

هبيني امرأ إمّا بريئا ظلمته *** و إمّا مسيئا مذنبا فيتوب

فلا تتركي نفسي شعاعا فإنها *** من الحزن قد كادت عليك تذوب

لك اللّه إني واصل ما وصلتني *** و مثن بما أوليتني و مثيب

و آخذ ما أعطيت عفوا و إنني *** لأزور عما تكرهين هيوب

هكذا ذكره الأخفش في هذه الأبيات الأخيرة، و هي مروية للمجنون في عدة روايات؛ /و هي بشعره أشبه.

و في هذه الأشعار التي مضت أغان نسبتها:

صوت

أدور و لو لا أن أرى أمّ جعفر *** بأبياتكم ما درت حيث أدور

أدور على أن لست أنفكّ كلما *** أتيت عدوّا بالبنان يشير

الغناء لمعبد، و له فيه لحنان(3): ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن عمرو. و لإسحاق فيهما و في قوله:

أزور البيوت اللاّصقات ببيتها

و بعده:

«أدور و لو لا أن أرى أمّ جعفر

ص: 464


1- الصفاق: جمع صفق (بالتحريك) و هو الأديم الجديد يصب عليه الماء فيخرج منه ماء أصفر، و اسم ذلك الماء: الصفق (بسكون الفاء و فتحها).
2- في جميع الأصول: «فيه» و هو تحريف.
3- لم يذكر في الأصول اللحن الثاني.

لحن من الرمل. و في البيتين اللذين فيهما غناء معبد للغريض ثقيل أوّل عن الهشامي، و لإبراهيم خفيف ثقيل.

و فيه لحن لشارية عن ابن المعتز و لم يذكر طريقته.

/

إذا أنا لم أغفر لأيمن ذنبه *** فمن ذا الذي يعفو له ذنبه بعدي

أريد مكافأة له و تصدّني *** يد لأدانيه مباركة عندي

الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى عن يحيى المكيّ، و ذكر غيره أنه منحول يحيى إلى معبد. و فيه ثقيل أوّل ينسب إلى عريب و رونق.

و منها و هو:

صوت من المائة المختارة

و إني لآتي البيت ما إن أحبّه *** و أكثر هجر البيت و هو حبيب

و أغضي على أشياء منكم تسوءني *** و أدعى إلى ما سرّكم فأجيب

و ما زلت من ذكراك حتى كأنني *** أميم(1) بأفياء(2) الديار سليب(3)

أبثّك ما ألقى و في النفس حاجة *** لها بين جلدي و العظام دبيب

لك اللّه إنّي واصل ما وصلتني *** و مثن بما أوليتني و مثيب

و آخذ ما أعطيت عفوا و إنني *** لأزور عما تكرهين هيوب

فلا تتركي نفسي شعاعا فإنها *** من الحزن قد كادت عليك تذوب

الشعر للأحوص. و من الناس من ينسب البيت الخامس و ما بعده إلى المجنون. و الغناء في اللحن المختار لدحمان، و هو ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر. و ذكر الهشاميّ أن في الأبيات الأربعة لابن سريج لحنا من الثقيل الأوّل، فلا أعلم ألحن دحمان عنى(4) أم ثقيلا آخر. و في:

/

لك اللّه إني واصل ما وصلتني *** و مثن بما أوليتني و مثيب

لإسحاق ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيها لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى.

لما أكثر من ذكر أم جعفر عرضت له في أمر فحلف أمام الناس أنه لا يعرفها:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن حسن؛ قال الزّبير و حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الزّهريّ عن محرز:

ص: 465


1- الأميم: المشجوج الرأس و قد يستعار لغير الرأس قال: قلبي من الزفرات صدّعه الهوى و حشاي من حرّ الفراق أميم
2- في ح: «بأقياء». و في سائر الأصول: «بأفناء». و ظاهر أن كليهما مصحف عما أثبتناه.
3- السليب: المستلب العقل.
4- في جميع الأصول: «غنى» بالغين المعجمة، و هو تصحيف.

أنّ أمّ جعفر لمّا أكثر الأحوص في ذكرها جاءت منتقبة(1)، فوقفت عليه في مجلس قومه و لا يعرفها، و كانت امرأة عفيفة؛ فقالت له: اقض ثمن الغنم التي ابتعتها منّي؛ فقال: ما ابتعت منك شيئا. فأظهرت كتابا قد وضعته عليه/و بكت و شكت حاجة و ضرّا و فاقة و قالت: يا قوم، كلّموه. فلامه قومه و قالوا: اقض المرأة حقّها؛ فجعل يحلف أنه ما رآها قطّ و لا يعرفها. فكشفت وجهها و قالت: ويحك! أ ما تعرفني! فجعل يحلف مجتهدا أنه ما يعرفها و لا رآها قطّ. حتى إذا استفاض قولها و قوله و اجتمع الناس و كثروا و سمعوا ما دار و كثر لغطهم و أقوالهم، قامت ثم قالت: أيها الناس، اسكتوا. ثم أقبلت عليه و قالت: يا عدوّ اللّه! صدقت، و اللّه ما لي عليك حقّ و لا تعرفني، و قد حلفت على ذلك و أنت صادق، و أنا أمّ جعفر و أنت تقول: قلت لأمّ جعفر و قالت لي أم جعفر في شعرك! فخجل الأحوص و انكسر عن ذلك و برئت عندهم.

سمع أبو السائب المخزومي شعرا له فطرب:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير، و أخبرني به محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا ثعلب قال حدّثنا الزّبير عن عبد الملك بن عبد العزيز قال:

أنشدت أبا السائب المخزوميّ قول الأحوص:

لقد منعت معروفها أمّ جعفر *** و إنّي إلى معروفها لفقير

/فلما انتهيت إلى قوله:

أزور على أن لست أنفكّ كلّما *** أتيت عدوّا بالبنان يشير

أعجبه ذلك و طرب و قال: أ تدري يا ابن أخي كيف كانوا يقولون! الساعة دخل، الساعة خرج، الساعة مرّ، الساعة رجع، و جعل يومئ بإبهاميه إلى وراء منكبيه و بسبّابته(2) إلى حيال وجهه و يقلبها، يحكي ذهابه و رجوعه.

صوت من المائة المختارة

صاح قد لمت ظالما *** فانظر ان كنت لائما

هل ترى مثل ظبية *** قلّدوها التمائما

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء في اللحن المختار لمالك خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و أخبرني ذكاء وجه الرزّة أن فيه لعريب رملا بالبنصر، و هو الذي فيه سجحة. و فيه لابن المكّيّ خفيف ثقيل آخر بالوسطى. و زعم الهشاميّ أن فيه خفيف رمل بالوسطى لابن سريج، و قد سمعها(3) ممن يغنّيه. و ذكر حبش أنّ فيه رملا آخر للغريض. و لعاتكة بنت شهدة فيه خفيف ثقيل، و هو من جيّد صنعتها، و ذكر جحظة عن أصحابه أن لحنها الرمل هو اللحن المختار، و أن إسحاق كان يقدّمها و يستجيدها(4)، و يزعم أنه أخذه عنها. و قال

ص: 466


1- انتقبت المرأة و تنقبت: وضعت النقاب على وجهها.
2- لعله: «و بسبابتيه... و يقلبهما إلخ».
3- لعله: «و قد سمعه» أي اللحن.
4- في ح: «و يستجيده».

ابن المعتزّ: حدّثني أبو عبد اللّه الهشاميّ: أنّ عريب صنعت فيه لحنها الرمل بعد أن أفضت الخلافة إلى المعتصم، فأعجبه و أمرها أن تطرحه على جواريه، و لم أسمع بشرا قطّ غنّاه أحسن من خشف الواضحيّة.

/و كل أخبار هؤلاء المغنّين قد ذكرت، أو لها(1) موضع تذكر فيه، إلا عاتكة بنت شهدة فإن أخبارها تذكر هاهنا؛ لأنه ليس لها شيء أعرفه من الصنعة فأذكره غير هذا. و قد ذكر جحظة عن أصحابه أن لحنها هو المختار فوجب أن نذكر أخبارها معه أسوة غيرها.

عاتكة بنت شهدة و شيء من أخبارها:

/كانت عاتكة بنت شهدة مدنيّة. و أمّها شهدة جارية الوليد بن يزيد، و هو الصحيح. و كانت شهدة مغنيّة أيضا.

غنى ابن داود الرشيد صوتا لأمها فطرب:
اشارة

حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا العلاء قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ عن بعض المغنّين قال:

كنّا ليلة عند الرشيد و معنا ابن جامع و الموصليّ و غيرهما، و عنده في تلك الليلة محمد بن داود بن إسماعيل بن عليّ؛ فتغنّى المغنّون، ثم اندفع محمد بن داود فغنّاه بين أضعافهم:

صوت

أمّ الوليد سلبتني حلمي *** و قتلتني فتخوّفي إثمي

باللّه يا أمّ الوليد أ ما *** تخشين فيّ عواقب الظلم

و تركتني أبغي(2) الطبيب و ما *** لطبيبنا بالداء من علم

خافي إلهك في ابن عمّك قد *** زوّدته سقما على سقم

قال: فاستحسن الرشيد الصوت و استحسنه جميع من حضره و طربوا له. فقال له الرشيد: يا حبيبي، لمن هذا الصوت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، سل هؤلاء المغنّين/لمن هو. فقالوا: و اللّه ما ندري، و إنه لغريب. فقال:

بحياتي لمن هو؟ فقال: و حياتك ما أدري إلا أنّي أخذته من شهدة جارية الوليد أمّ عاتكة بنت شهدة. هذا الشعر المذكور لابن قيس الرّقيّات، و الغناء لابن محرز، و له فيه لحنان، أحدهما ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق، و الآخر خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو. و فيه لسليم خفيف رمل بالبنصر. و لحسين بن محرز ثقيل أوّل عن الهشاميّ و حبش.

كانت ضاربة مجيدة و عنها أخذ إسحاق الموصليّ:

أخبرني محمد بن مزيد عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه: أنه ذكر عاتكة بنت شهدة يوما فقال:

كانت أضرب من رأيت بالعود؛ و لقد مكثت سبع سنين أختلف إليها في كل يوم فتضاربني ضربا أو ضربين، و وصل إليها منّي و من أبي أكثر من ثلاثين ألف درهم بسببي: دراهم و هدايا.

ص: 467


1- في جميع الأصول: «أولها في موضع... إلخ». و الظاهر أن كلمة «في» مقحمة.
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «أنعى»، و هو تصحيف.
ماتت بالبصرة، و قصتها مع ابن جامع عند الرشيد:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن إسحاق قال:

كانت عاتكة بنت شهدة أحسن خلق اللّه غناء و أرواهم، و ماتت بالبصرة. و أمّها شهدة نائحة من أهل مكة.

و كان ابن جامع يلوذ منها بكثرة الترجيع. فكان إذا أخذ يتزايد في غنائه قالت له: إلى أين يا أبا القاسم! ما هذا الترجيع الذي لا معنى له! عد بنا إلى معظم الغناء ودع من جنونك. فأضجرته يوما بين يدي الرشيد فقال لها: إني أشتهي، علم اللّه، أن تحتكّ شعرتي بشعرتك. فقالت: اخسأ، قطع اللّه ظهرك! و لم تعد لأذاه بعدها.

غنت جارية بشعر فعارضتها هي و ذمت بندارا الزيات:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال: قال لي عليّ بن جعفر بن محمد:

/دخلت على جواري المروانيّ المغنيات بمكة، و عاتكة بنت شهدة تطارحهنّ لحنها:

يا صاحبيّ دعا الملامة و اعلما *** أنّ الهوى يدع الكرام عبيدا

فجعلت واحدة منهنّ تقول: «يدع الرجال عبيدا». فصاحت بها عاتكة بنت شهدة: ويلك! بندار الزيات العاضّ بظر أمه رجل! أ فمن الكرام هو!. قال: فكنت إذا مرّ بي بندار أو رأيته غلبني الضحك فأستحيى منه و آخذ بيده و أجعل ذلك بشاشة؛ حتى أورث هذا/بيني و بينه مقاربة؛ فكان يقول: أبو الحسن عليّ بن جعفر صديق لي.

علمت مخارقا الغناء و هو مولى لها:

و كان مخارق مملوكا لعاتكة، و هي علّمته الغناء و وضعت يده على العود، ثم باعته؛ فانتقل من ملك رجل إلى ملك آخر حتى صار إلى الرشيد. و قد ذكر ذلك في أخباره.

صوت من المائة المختارة

و لو أنّ ما عند ابن بجرة عندها *** من الخمر لم تبلل لهاتي(1) بناطل

لعمري لأنت(2) البيت أكرم أهله *** و أقعد في أفيائه(3) بالأصائل(4)

/عروضه من الطويل. الشعر لأبي ذؤيب الهذليّ. و الغناء لحكم الواديّ، و لحنه المختار من الثقيل الأوّل بالبنصر في مجراها. ابن بجرة هذا، فيما ذكره الأصمعيّ، رجل كان يبيع الخمر بالطائف، و زعم أن الناطل كوز تكال به الخمر. و قال ابن الأعرابي: ليس هذا بشيء، و زعم أن الناطل: الشيء؛ يقال: ما في الإناء ناطل، أي شيء. و قال أبو عمرو الشّيباني: سمعت الأعراب يقولون: الناطل: الجرعة من الماء و اللبن و النبيذ. انتهى.

ص: 468


1- اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم.
2- كذا في س. و في سائر الأصول: «لآتي البيت».
3- كذا في شرح ديوانه رواية أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري المخطوط و المحفوظ بدار الكتب المصرية (تحت رقم 19 أدب ش) و «ديوان الهذليين» المخطوط و المحفوظ بدار الكتب المصرية (تحت رقم 6 أدب ش) و «لسان العرب» (مادتي «فيأ» و «أصل»). و الأفياء: جمع فيء و هو الظل، و لا يكون الفيء إلا بالعشيّ. و في جميع الأصول: «أفنائه» (بالنون) و هو تصحيف.
4- الأصائل: العشيات.

20 - ذكر أبي ذؤيب و خبره و نسبه

نسبه و إسلامه و موته:

هو خويلد بن خالد بن محرّث(1) بن زبيد بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم(2) بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار. و هو أحد المخضرمين ممن أدرك الجاهليّة و الإسلام، و أسلم فحسن إسلامه. و مات في غزاة إفريقيّة.

رأى ابن سلام فيه و شهادة حسان له:

أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال:

كان أبو ذؤيب شاعرا فحلا لا غميزة(3) فيه و لا وهن.

و قال ابن سلاّم(4): قال أبو عمرو بن العلاء:

سئل حسّان بن ثابت: من أشعر الناس؟ قال: أ حيّا أم رجلا(5)؟ قالوا: حيّا؛ قال: أشعر الناس حيّا هذيل، و أشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب. قال ابن سلاّم: ليس(6) هذا من قول أبي عمرو و نحن نقوله.

اسمه بالسريانية مؤلف زورا:

أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال أخبرني محمد بن معاذ العمريّ قال:

/في التّوراة: أبو ذؤيب مؤلف زورا، و كان اسم الشاعر بالسريانية «مؤلف زورا». فأخبرت بذلك بعض أصحاب العربيّة(7)، و هو كثير بن إسحاق، فعجب منه و قال: قد بلغني ذاك. و كان فصيحا كثير الغريب متمكّنا في الشعر.

ص: 469


1- كذا في «تجريد الأغاني» و «الاستيعاب» (ج 2 ص 665). و كذلك صححه المرحوم الأستاذ الشنقيطي بخطه على هامش نسخته. و في جميع الأصول: «محرز».
2- كذا في «طبقات الشعراء» لابن سلام (ص 29 طبع أوروبا) و «الاستيعاب» و نسخة الشنقيطي مصححة بخطه. و في جميع الأصول: «غنم».
3- الغميزة: المطعن.
4- في الأصول: «و قال أبو عمرو بن العلاء قال ابن سلام... إلخ» و هو تحريف. فإن ابن سلام هو المتأخر و هو الذي ذكر قول أبي عمرو بن العلاء في كتابه «طبقات الشعراء».
5- عبارة ابن سلام في «الطبقات»: «قال: حيا أو رجلا...». و في ب، س: «أم قال رجلا... إلخ». بزيادة «قال». و هو تحريف.
6- هذه العبارة غير واضحة هنا، و هي واضحة في كتاب «الطبقات» لابن سلام، إذ فيه بعد ذكر الخبر: «ابن سلام يقوله». يريد أن ابن سلام يؤيد ما رواه أبو عمرو بن العلاء.
7- في ح: «أصحاب المدينة».
تقدّم شعراء هذيل بقصيدته العينية:

قال أبو زيد عمر بن شبّة:

تقدّم أبو ذؤيب جميع شعراء هذيل بقصيدته العينيّة التي يرثي فيها بنيه. يعني قوله:

أ من المنون و ريبه تتوجّع *** و الدهر ليس بمعتب من يجزع

و هذه يقولها في بنين له خمسة أصيبوا في عام واحد بالطاعون و رثاهم فيها. و سنذكر جميع ما يغنّى فيه منها على أثر أخباره هذه.

خرج مع عبد اللّه بن سعد لغزو إفريقية و عاد مع ابن الزبير فمات في مصر:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن مصعب الزّبيريّ، و أخبرني حرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي قال:

كان أبو ذؤيب الهذلي خرج في جند(1) عبد اللّه بن سعد(2) بن أبي سرح أحد بني عامر بن لؤيّ إلى إفريقية سنة ستّ و عشرين غازيا إفرنجة في زمن عثمان. فلما/فتح عبد اللّه بن سعد إفريقية و ما والاها بعث عبد اللّه بن الزبير - و كان في جنده - بشيرا إلى عثمان/بن عفّان، و بعث معه نفرا فيهم أبو ذؤيب. ففي عبد اللّه يقول أبو ذؤيب:

فصاحب صدق كسيد الضّرا *** ء ينهض في الغزو نهضا نجيحا(3)

في قصيدة له.

وصف ابن الزبير لحرب إفريقية:

فلما قدموا مصر مات أبو ذؤيب(4) بها. و قدم ابن الزبير على عثمان، و هو يومئذ، في قول ابن الزبير، ابن ستّ و عشرين سنة؛ و في قول الواقديّ ابن أربع و عشرين سنة. و بشّر عبد اللّه عند مقدمه بخبيب بن عبد اللّه بن الزبير و بأخيه عروة بن الزبير، و كانا ولدا في ذلك العام، و خبيب أكبرهما. قال مصعب: فسمعت أبي و الزبير بن خبيب بن

ص: 470


1- و كان ضمن جند عبد اللّه أيضا معبد بن العباس بن عبد المطلب و مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية و الحارث بن الحكم أخوه و المسور بن مخرمة بن نوفل و عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب و عبد اللّه بن عمر بن الخطاب و عاصم بن عمر و عبيد اللّه بن عمر و عبد الرحمن بن أبي بكر و عبد اللّه بن عمرو بن العاص و بسر بن أبي أرطاة بن عويمر العامري. (راجع «فتوح البلدان» للبلاذري).
2- هو عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح العامري، و كان يكتب الوحي لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فارتدّ عن الإسلام و لحق بالمشركين بمكة. و كان معاوية بن أبي سفيان بمكة قد أسلم و حسن إسلامه فاتخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كاتبا للوحي بعد ابن أبي سرح. فلما فتح النبي صلى اللّه عليه و سلم مكة استجار عبد اللّه بن سعد بدار عثمان رضي اللّه عنه فأخذ له عثمان الأمان من النبي صلى اللّه عليه و سلم. و كان ابن أبي سرح أخا لعثمان من الرضاعة، فحسن إسلامه من ذلك الوقت. فلما أفضت الخلافة إلى عثمان رضي اللّه عنه ولاه على ملك مصر و جندها سنة 25 ه فكان يبعث المسلمين في جرائد الخيل فيغيرون على أطراف إفريقية. فكتب إلى عثمان يخبره بما نال المسلمون من عدوهم، فكان ذلك السبب في توجيه الجيش إليه و تقديمه عليه و دخوله به للغزو إلى إفريقية.
3- كذا ورد هذا البيت في «شرح ديوان أبي ذؤيب» و قبله شعر يدل على هجر محبوبته له و إعراضها عنه إلى غيره. يقول: فإن استبدلت بي إنسانا فاستبدلي بي مثل هذا الصاحب. و الضراء: ما واراك من شجر. و السيد: الذئب. و أخبث ما يكون من الذئاب سيد الضراء الذي تعوده. و قد صححه الأستاذ الشنقيطي بهذه الرواية في هامش نسخته. و في الأصول: «و صاحب صدق كسيد الغضي... إلخ».
4- في «فتوح البلدان» للبلاذري (ص 226 طبع أوروبا): أن أبا ذؤيب توفي بإفريقية فقام بأمره ابن الزبير حتى واراه في لحده. و رواية البلاذري تنفق مع ما ذكره ابن قتيبة في «طبقات الشعراء» (ص 413 طبع أوروبا) و ابن الأثير في «الكامل» (ج 3 ص 70 طبع أوروبا) و ابن حجر في «الإصابة» (ج 7 ص 63 طبع مطبعة السعادة). و سيذكر المؤلف في هذه الترجمة أنه مات بأرض الروم و دفن بها.

ثابت بن عبد اللّه بن الزبير يقولان: قال عبد اللّه بن الزبير: أحاط بنا جرجير صاحب إفريقية و هو ملك إفرنجة في عشرين ألفا و مائة ألف و نحن في عشرين ألفا؛ فضاق بالمسلمين أمرهم و اختلفوا في الرأي، فدخل عبد اللّه بن سعد فسطاطه يخلو يفكّر. قال عبد اللّه بن الزبير: فرأيت عورة من جرجير و الناس على مصافّهم، رأيته على برذون أشهب خلف أصحابه منقطعا منهم، معه جاريتان له تظلاّنه من الشمس بريش الطّواويس. /فجئت فسطاط عبد اللّه فطلبت الإذن عليه من حاجبه؛ فقال: إنه في شأنكم و إنه قد أمرني أن أمسك الناس عنه. قال: فدرت فأتيت مؤخّر فسطاطه فرفعته و دخلت عليه، فإذا هو مستلق على فراشه؛ ففزع و قال: ما الذي أدخلك عليّ يا ابن الزبير؟ فقلت: إيه و إيه! كلّ أزبّ نفور(1)! إني رأيت عورة من عدوّنا فرجوت الفرصة فيه و خشيت فواتها، فاخرج فاندب الناس إليّ. قال:

و ما هي؟ فأخبرته؛ فقال: عورة لعمري! ثم خرج فرأى ما رأيت؛ فقال: أيها الناس، انتدبوا مع ابن الزبير إلى عدّوكم. فاخترت ثلاثين فارسا، و قلت: إني حامل فاضربوا عن ظهري فإني سأكفيكم من ألقى إن شاء اللّه تعالى.

فحملت في الوجه الذي هو فيه و حملوا فذبّوا عنّي حتى خرقتهم(2) إلى أرض خالية، و تبيّنته فصمدت(3) صمده؛ فو اللّه ما حسب إلا أني رسول و لا ظنّ أكثر أصحابه إلا ذاك، حتى رأى ما بي من أثر السلاح، فثنى برذونه هاربا، فأدركته فطعنته فسقط، و رميت بنفسي عليه، و اتّقت جاريتاه عنه السيف فقطعت يد إحداهما. و أجهزت عليه ثم رفعت رأسه في رمحي، و جال أصحابه و حمل المسلمون في ناحيتي و كبّروا فقتّلوهم كيف شاءوا، و كانت الهزيمة.

فقال لي عبد اللّه بن سعد: ما أحد أحقّ بالبشارة منك، فبعثني إلى عثمان. و قدم مروان(4) بعدي على عثمان/حين اطمأنّوا و باعوا المغنم و قسّموه.

اشترى مروان خمس فيء إفريقية بمال فوضعه عنه عثمان:

و كان مروان قد صفق(5) على الخمس بخمسمائة ألف، فوضعها عنه عثمان، فكان ذلك مما تكلّم فيه بسببه.

فقال عبد الرحمن بن حنبل(6) بن مليل - و كان هو و أخوه كلدة أخوي صفوان بن أميّة بن خلف لأمه، و هي صفيّة بنت معمر بن حبيب(7) بن وهب بن حذافة بن جمح، و كان أبوهما ممن سقط من اليمن إلى مكة -:

أحلف(8) باللّه جهد اليمي *** ن ما ترك اللّه أمرا سدى

ص: 471


1- الأزب من الإبل: الذي يكثر شعر حاجبيه، و لا يكون الأزب إلا نفورا لأن الريح تضربه فينفر. و هذا مثل يضرب في عيب الجبان. قاله زهير بن جذيمة لأخيه أسيد و كان أزب جبانا، و كان خالد بن جعفر بن كلاب يطلبه بذحل، و كان زهير يوما في إبله يهنؤها و معه أخوه أسيد، فرأى أسيد خالد بن جعفر قد أقبل في أصحابه فأخبر زهيرا بمكانهم فقال له زهير: كل أزب نفور. و إنما قال له هذا لأن أسيدا كان أشعر (عن «مجمع الأمثال» للميداني).
2- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «حتى حزقتهم» و هو تصحيف. و «عبارة البيان المغرب في أخبار المغرب» لابن عذارى المراكشي: «خرقت صفوفهم... إلخ».
3- صمد صمد الأمر: قصد قصده.
4- هو الخليفة مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبو عبد الملك الخليفة، و هو ابن عم عثمان بن عفان رضي اللّه عنه و كاتبه؛ و من أجله كان ابتداء فتنة عثمان رضي اللّه عنه و قتله. ثم انضم إلى ابن عمه معاوية ابن أبي سفيان و تولى عدة أعمال إلى أن وثب على الأمر بعد أولاد يزيد بن معاوية و بويع بالخلافة؛ فلم تطل مدته و مات في أول شهر رمضان سنة 65 ه.
5- الصفق: التبايع، و هو من صفق اليد على اليد عند وجوب البيع.
6- كذا في ح و الاستيعاب في ترجمة عبد الرحمن بن حنبل و أخيه كلدة بن حنبل. و في سائر الأصول: «حسان» و هو تحريف.
7- كذا في «الاستيعاب» و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (ج 5 ص 332 في ترجمة صفوان بن أمية). و في جميع الأصول: «خبيب» بالخاء المعجمة، و هو تصحيف.
8- في «الاستيعاب» في ترجمة عبد الرحمن: «و أحلف» و في «البيان المغرب»: «سأحلف».

و لكن خلقت(1) لنا فتنة *** لكي نبتلى فيك(2) أو تبتلى

دعوت الطّريد(3) فأدنيته *** خلافا(4) لسنّة من قد مضى

/و أعطيت(5) مروان خمس العبا *** د ظلما لهم و حميت الحمى

/و مالا أتاك به الأشعريّ *** من الفيء أعطيته من دنا

و إن الأمينين قد بيّنا *** منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهما غيلة *** و لا قسّما درهما في هوى

قال: و المال الذي ذكر أن الأشعريّ جاء به مال كان أبو موسى قدم به على عثمان من العراق، فأعطى عبد اللّه بن أسيد بن أبي العيص منه مائة ألف درهم، و قيل: ثلاثمائة ألف درهم؛ فأنكر الناس ذلك.

ذكر ابن بجرة و خمره في قصيدة غنى في أبيات منها:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه قال حدّثنا عمر بن شبّة عن محمد بن يحيى عن عبد العزيز - أظنه ابن(6)الدّراوردي - قال: ابن بجرة الذي ذكره أبو ذؤيب رجل من بني عبيد بن عويج بن عديّ بن كعب من قريش، و لم يسكنوا مكة و لا المدينة قطّ، و بالمدينة منهم امرأة، و لهم موال أشهر منهم، يقال لهم بنو سجفان(7). و كان ابن بجرة هذا خمّارا. و هذا الصوت الذي ذكرناه(8) من لحن حكم الواديّ المختار من قصيدة لأبي ذؤيب طويلة. فمما يغنّى فيه منها:

صوت

أ ساءلت رسم الدار أم لم تسائل *** عن الحيّ أم عن عهده بالأوائل

ص: 472


1- في «الاستيعاب»: «جعلت».
2- في ح: «بك».
3- الطريد: هو الحكم بن العاص بن أمية أبو مروان بن الحكم و عم عثمان بن عفان، أسلم يوم الفتح. أخرجه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من المدينة و طرده عنها فنزل الطائف. و لم يزل بها مدّة خلافة أبي بكر و عمر إلى أن ولى عثمان فرده إلى المدينة و أعطاه مائة ألف درهم، و بقي فيها إلى أن توفي في آخر خلافة عثمان قبل القيام على عثمان بأشهر و كان ذلك مما نقموا على عثمان. و اختلف في السبب الموجب لنفي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إياه فقيل: كان يتحيل و يستخفي و يسمع ما يسره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى كبار أصحابه في مشركي قريس و سائر الكفار و المنافقين فكان يفشي ذلك عليه، و كان يحكيه في مشيئته و بعض حركاته إلى أمور غيرها. (انظر «الاستيعاب» ج 1 ص 120، 121 و «المعارف» لابن قتيبة ص 97 و «طبقات ابن سعد» ج 5 ص 330-331).
4- في «الاستيعاب»: خلافا لما سنه المصطفى
5- ورد هذا البيت و الذي بعده في «الاستيعاب» هكذا: و وليت قرباك أمر العباد خلافا لسنة من قد مضى و أعطيت مروان خمس الغني مة آثرته و حميت الحمى
6- كذا في ب، س، ح. و في سائر الأصول: «أظنه ابن عمران». و كلاهما روى عنه محمد بن يحيى الكناني أبو غسان. و الدراوردي: نسبة إلى دراورد، قرية من قرى فارس. و قيل: إنها قرية بخراسان، و قيل غير ذلك. (راجع «تهذيب التهذيب» و «الطبقات الكبرى» لابن سعد).
7- كذا في ب، س. و في ح: «بنو أسجفا». و في سائر الأصول: «بنو أسجفان».
8- كذا في ح. و في سائر الأصول: «ذكره».

عفا غير رسم الدار ما إن تبينه(1) *** و عفر(2) ظباء قد ثوت في المنازل

فلو أنّ ما عند ابن بجرة عندها *** من الخمر لم تبلل لهاتي بناطل

/فتلك(3) التي لا يذهب الدهر حبّها *** و لا ذكرها ما أرزمت أمّ حائل

غنّاه الغريض ثقيلا أوّل بالوسطى. و يقال: إن لمعبد فيه أيضا لحنا.

قوله: «أ ساءلت» يخاطب نفسه. و يروى: «عن السّكن أو عن أهله»(4). و السّكن. الذي(5) كانوا فيه. و قال الأصمعي: السكن: سكن الدار. و السكن: المنزل أيضا. و يروى: «عفا غير نؤي الدار». و النّؤى: حاجز يجعل حول بيوت الأعراب لئلا يصل المطر إليها. و يروى - و هو الصحيح -:

و أقطاع(6) طفي قد عفت في المعاقل

و الطّفي: خوص المقل. و المعاقل: حيث نزلوا فامتنعوا، واحدها معقل. و واحد الطّفي: طفية. و أرزمت:

حنّت. و الحائل: الأنثى. و السّقب: الذكر.

و منها:

صوت

و إنّ حديثا منك لو تبذلينه *** جنى النحل في ألبان عوذ مطافل

مطافل أبكار حديث نتاجها *** تشاب بماء مثل ماء المفاصل

غنّاه ابن سريج رملا بالوسطى. جنى النحل: العسل. و العوذ: جمع عائذ، الناقة حين تضع فهي عائذ، فإذا تبعها ولدها قيل لها مطفل. و المفاصل: منفصل(7) السهل/من الجبل حيث يكون الرّضراض(8)، و الماء الذي يستنقع(9) فيها أطيب المياه. و تشاب: تخلط.

و أخبرني محمّد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ:

أن أبا ذؤيب إنما عنى بقوله: «مطافل أبكار» أنّ لبن الأبكار أطيب الألبان، و هو لبنها لأوّل بطن وضعت.

قال: و كذلك العسل فإنّ أطيبه ما كان من بكر النحل. قال: و حدّثني كردين قال: كتب الحجاج إلى عامله على

ص: 473


1- في ح: «أبينه».
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و غير ظبا».
3- رواية هذا الشطر في ديوانه المخطوط و «أمالي القالي» (ج 1 ص 233 طبع دار الكتب المصرية): «فتلك التي لا يبرح القلب حبها».
4- قال الأصمعي في التعليق على هذا البيت في شرح ديوانه: «السكن: أهل الدار سكانها، و السكن: المنزل...». و ترك كلمة السكن بدون شكل. و الذي في كتب اللغة أن السكن (بالفتح): السكان، و هو جمع لساكن كصحب و صاحب. (و بالضم و بالتحريك): المسكن.
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «الذين» و هو تحريف.
6- أقطاع: جمع قطع (بالكسر) و هو - كالقطيع -: الغصن تقطعه من الشجرة.
7- كذا صححها المرحوم الأستاذ الشنقيطي بخطه على هامش نسخته. و في الأصول: «منفتل».
8- الرضراض: ما دق من الحصى.
9- كذا في ح. و يستنقع: يجتمع. و في سائر الأصول: «ينبع».

/فارس: ابعث إليّ بعسل من عسل خلاّر(1)، من النحل الأبكار، من الدستفشار(2)، الذي لم تمسّه النار.

صوت من قصيدته العينية:
اشارة

فأما قصيدته العينية التي فضّل بها، فممّا يغنّى به منها:

صوت

أ من المنون و ريبها(3) تتوجّع *** و الدهر ليس بمعتب من يجزع

قالت أمامة(4) ما لجسمك شاحبا *** منذ ابتذلت و مثل مالك ينفع

أم ما لجنبك لا يلائم مضجعا *** إلا أقضّ عليك ذاك المضجع

فأجبتها أن ما(5) لجسمي أنّه *** أودى بنيّ من البلاد فودّعوا

/عروضه من الكامل. غنّاه ابن محرز و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالبنصر في مجراها. قال الأصمعيّ: سمّيت المنون منونا لأنها تذهب بمنّة كل شيء و هي قوّته. و روى الأصمعي: «و ريبه» فذكّر المنون.

و الشاحب: المغيّر المهزول. يقال: شحب يشحب. ابتذلت: امتهنت نفسك و كرهت الدعة و الزينة و لزمت العمل و السفر و مثل مالك يغنيك عن هذا، فاشتر لنفسك من يكفيك ذلك و يقوم لك به. و يلائم: يوافق. أقضّ عليك أي خشن فلم تستطع أن تضطجع عليه. و القضض: الرمل و الحصى. قال الراجز:

إنّ(6) أحيحا مات من غير مرض *** و وجد في مرمضه حيث ارتمض(7)

عساقل(8) و جبأ فيها قضض

و ودّعوا: ذهبوا. استعمل ذلك في الذهاب لأن من عادة المفارق أن يودّع.

ص: 474


1- خلار (كرمان): موضع بفارس ينسب إليه العسل الجيد.
2- الدستفشار: لفظة فارسية، معناها: ما عصرته الأيدي و عالجته.
3- كذا في ديوانه و فيما سيأتي في جميع الأصول هنا و فيما مر: «و ريبه». و المنون يذكر و يؤنث، فمن أنث حمله على المنية، و من ذكر حمله على الموت. و يحتمل أن يكون التأنيث راجعا إلى معنى الجنسية و الكثرة، و ذلك لأن الداهية توصف بالعموم و الكثرة و الانتشار. و قيل: إن من ذكر المنون أراد به الدهر. و قد روى في «اللسان» (مادة منن) بالتذكير و ذكر فيه التأنيث رواية عن ابن سيدة و قد شرح أبو الفرج ذلك في الصفحة التالية.
4- في شرح ديوانه: «أميمة».
5- كذا في ديوانه. و يريد أن الذي بجسمي هو غمي لذهاب ولدي و نفادهم، فهذا الذي ترين بجسمي لذلك. (يراجع شرح ديوانه). و في ب، س: «أما لجسمك». و في سائر الأصول: «أم ما لجسمك».
6- كذا في «لسان العرب» مادتي «جبأ و رمض». و في ب، س: «إن احتجا ما يك عن... إلخ». و في سائر الأصول: «إن احتجاما تك». و كلاهما تحريف.
7- ارتمض الرجل من كذا، أي اشتدّ عليه و أقلقه.
8- العساقل: ضرب من الكمأة، و هي الكمأة الكبار البيض يقال لها شحمة الأرض. و الجبء (بالفتح): الكمأة السود. و السود خيار الكمأة. فجبأ (بكسر ففتح) يجوز أن يكون جمع جبء كجبأة (بكسر ففتح أيضا) و هو نادر، و يجوز أن يكون المراد جبأة، فحذفت الهاء للضرورة، و يجوز أن يكون اسما للجمع. (عن «اللسان» مادة جبأ).
طلب المنصور قصيدته العينية فلم يعرفها أحد من أهله و عرفها مؤدب فأجازه:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني أحمد بن عمر النحويّ قال حدّثني أبي عن الهيثم بن عديّ عن ابن عياش قال:

لما مات جعفر بن المنصور الأكبر مشى المنصور في جنازته من المدينة(1) إلى/مقابر قريش(2)، و مشى الناس أجمعون معه حتى دفنه، ثم انصرف إلى قصره. ثم أقبل على الربيع(3) فقال: يا ربيع، انظر من في أهلي ينشدني:

أ من المنون و ريبها تتوجّع

حتى أتسلّى بها عن مصيبتي. قال الربيع: فخرجت إلى بني هاشم و هم بأجمعهم حضور، فسألتهم عنها، فلم يكن فيهم أحد يحفظها، فرجعت فأخبرته؛ فقال: و اللّه لمصيبتي بأهل بيتي ألاّ يكون فيهم أحد يحفظ هذا لقلّة رغبتهم في الأدب أعظم و أشدّ عليّ من مصيبتي بابني. ثم قال: انظر هل في القوّاد و العوامّ من الجند من يعرفها، فإني أحبّ أن أسمعها من إنسان ينشدها. فخرجت فاعترضت الناس فلم أجد أحدا ينشدها إلا شيخا كبيرا مؤدّبا قد انصرف من موضع تأديبه، فسألته: هل تحفظ شيئا من الشعر؟ فقال: نعم، شعر أبي ذؤيب. فقلت: أنشدني. فابتدأ هذه القصيدة العينيّة. فقلت له: أنت بغيتي. ثم أوصلته إلى المنصور فاستنشده إياها. فلما قال:

و الدهر ليس بمعتب(4) من يجزع

قال: صدق و اللّه، فأنشدني هذا البيت مائة مرّة ليتردّد هذا المصراع عليّ؛ فأنشده، ثم مرّ فيها. فلما انتهى إلى قوله:

و الدهر لا يبقى على حدثانه *** جون السّراة له جدائد(5) أربع

/قال: سلا(6) أبو ذؤيب عند هذا القول. ثم أمر الشيخ بالانصراف. فاتّبعته فقلت له: أ أمر لك أمير المؤمنين بشيء؟ فأراني صرّة في يده فيها مائة درهم.

خانه خالد بن زهير في امرأة يهواها كان خان هو فيها عويم بن مالك:

حدّثنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ قال:

كان أبو ذؤيب الهذليّ يهوى امرأة يقال لها أم عمرو، و كان يرسل إليها خالد(7) بن زهير فخانه فيها، و كذلك

ص: 475


1- يريد بغداد.
2- مقابر قريش ببغداد: مقبرة مشهورة و محلة فيها خلق كثير و عليها سور بين الحربية و مقبرة أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه و الحريم الطاهري، و بينها و بين دجلة شوط فرس جيد، و هي التي فيها قبر موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، و كان جعفر الأكبر هو أول من دفن بها، و المنصور أول من جعلها مقبرة لما ابتنى بها مدينته سنة 146 ه.
3- هو الربيع بن يونس مولى المنصور.
4- أعتبه: رجع إلى ما يرضيه و ترك ما يسخطه.
5- جون السراة: أسود الظهر أو أبيضه، فإن الجون يطلق على الأسود و الأبيض. و يريد بجون السراة حمارا. و الجدائد: الأتن، واحدها جدود (بفتح أوله) و هي التي لا لبن لها.
6- كذا في أ، ء، م. و في ب، ح: «سلا أبو ذؤيب عن هذا القول». و في س: «سل أبا ذؤيب عن هذا القول».
7- هو خالد بن زهير الهذلي، و كان ابن أخت أبي ذؤيب، و قيل: ابن أخيه.

كان أبو ذؤيب فعل برجل يقال له عويم(1) بن مالك بن عويمر و كان رسوله إليها. فلما علم أبو ذؤيب بما فعل خالد ضرمها. فأرسلت تترضّاه، فلم يفعل، و قال فيها:

تريدين كيما تجمعيني و خالدا *** و هل يجمع السيفان ويحك في غمد

أ خالد ما راعيت منّي(2) قرابة *** فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي(3)

دعاك إليها مقلتاها و جيدها *** فملت كما مال المحبّ على عمد

و كنت كرقراق السّراب إذا بدا *** لقوم و قد بات المطيّ بهم يخدي(4)

فآليت لا أنفكّ أحدو قصيدة *** تكون و إياها بها مثلا بعدي

/غنّاه ابن سريج خفيف رمل بالبنصر. الغيب: السرّ. و الرقراق: الجاري. و يروى: «أحذو قصيدة». فمن قال: «أحذو» بالذال المعجمة أراد أصنع، و من قال: «أحدو» أراد أغنّي.

و قال أبو ذؤيب في ذلك:

و ما حمّل البختيّ عام غياره(5) *** عليه الوسوق(6) برّها و شعيرها

أتى قرية كانت كثيرا طعامها *** كرفغ(7) التراب كلّ شيء يميرها

- الرفغ من التراب: الكثير اللين -.

فقيل تحمّل فوق طوقك إنّها *** مطبّعة(8) من يأتها لا يضيرها

بأعظم(9) مما كنت حمّلت خالدا *** و بعض أمانات الرجال غرورها

و لو أنني حمّلته البزل ما مشت *** به البزل حتى تتلئبّ صدورها

- تتلئب: تستقيم و تنتصب و تمتدّ و تتتابع(10) -:

خليلي الذي دلّى(11) لغيّ خليلتي *** جهارا فكلّ قد أصاب عرورها(12)

ص: 476


1- كذا في أكثر الأصول. و في ح: «عويمر». و قد أورد ابن قتيبة هذه القصة في كتابه «طبقات الشعراء» (ص 413-414) و ذكر أن الرجل الذي خانه أبو ذؤيب في هذه المرأة هو ابن عم له يقال له مالك بن عويمر. و أوردها البغدادي في كتابه «خزانة الأدب» (ج 2 ص 316، ج 3 ص 597، 648) في تفصيل كثير، فذكر في موضع أنه يقال له مالك بن عويمر، كما ذكره ابن قتيبة، و في موضع آخر أنه يقال له وهب بن جابر، و ذكر سبب تعلقه بها و جفائها له بعد. و استطرد في القصة حتى أتى على خبر مقتل خالد بن زهير.
2- كذا في «شرح ديوانه» و «الشعر و الشعراء». و في الأصول: «من ذي قرابة».
3- أراد: فتحفظني بالغيب أو في بعض ما تظهر من المودة و الإخاء.
4- كذا في ح و ديوانه. و خدي البعير و الفرس خديا و خديانا: أسرع و زج بقوائمه. و في سائر الأصول: «يحدى» (بالحاء المهملة) و هو تصحيف.
5- الغيار (بالكسر): مصدر غارهم يغيرهم إذا ما رهم أي أتاهم بالميرة.
6- الوسوق: جمع وسق (بالفتح)، و هو حمل البعير، و قيل: الحمل عامة.
7- في جميع الأصول: «كرقع» (بالقاف و العين المهملة). و التصويب عن شرح ديوانه.
8- يريد أن هذه القرية مملوءة بالطعام، فكنى عن ذلك بأنها مطبعة أي مختومة لأن الختم إنما يكون غالبا بعد الملء.
9- في ديوانه: «بأثقل».
10- لعلها «و تتتايع» بالياء المثناة التحتية. يقال: تتتايع الجمل في مشيه إذا حرك ألواحه حتى يكاد ينفك.
11- دلى فلان فلانا في الشرّ: أوقعه و صيره فيه.
12- العرور: المعرة و العيب.

- يقال: عرّه بكذا أي أصابه [به](1) -:

فشأنكها(2)، إني أمين و إنّني *** إذا ما تحالى مثلها لا أطورها

- تحالى: من الحلاوة. أطورها: أقربها -:

/

أحاذر يوما أن تبين قرينتي *** و يسلمها أحرازها(3) و نصيرها

- الأحراز: الحصون. قرينتي: نفسي -:

و ما أنفس الفتيان إلا قرائن *** تبين و يبقى هامها و قبورها

فنفسك فاحفظها و لا تفش للعدا *** من السرّ ما يطوى عليه ضميرها

و ما يحفظ المكتوم من سرّ أهله *** إذا عقد الأسرار ضاع كبيرها

من القوم إلا ذو عفاف يعينه *** على ذاك منه صدق نفس و خيرها

/رعى خالد سرّي ليالي نفسه *** توالى(4) على قصد السبيل أمورها

فلما تراماه(5) الشباب و غيّه *** و في النفس منه فتنة و فجورها

لوى رأسه عنّي و مال بودّه *** أغانيج خود(6) كان فينا يزورها

تعلّقه منها دلال و مقلة *** تظلّ لأصحاب الشّقاء تديرها

فإنّ حراما أن أخون أمانة *** و آمن نفسا ليس عندي ضميرها(7)

فأجابه خالد بن زهير:

لا يبعدنّ اللّه لبّك إذ غزا *** و سافر و الأحلام جمّ عثورها

- غزا و سافر لبك: ذهب عنك. و العثور: من العثار و هو الخطأ -:

و كنت إماما للعشيرة تنتهي *** إليك إذا ضاقت بأمر صدورها

/لعلّك(8) إمّا أمّ عمرو تبدّلت *** سواك خليلا شاتمي تستخيرها

- الاستخارة: الاستعطاف -:

فإنّ التي فينا زعمت و مثلها *** لفيك و لكنّي أراك تجورها(9)

ص: 477


1- زيادة عن ح.
2- في شرح ديوانه في التعليق على هذا البيت: و رواه خالد و الأصمعيّ: «فشأنكما... إلخ».
3- في شرح ديوانه: «إخوانها».
4- توالى: تتابع. و قصد السبيل: مستقيمه.
5- تراماه الشباب: أي تم شبابه فقذف به إلى الغي كما تترامى الفلاة براكبها.
6- الأغانيج: جمع أغنوجة. و الأغنوجة من التغنج و هو التكسر و التدلل. و الخود: الفتاة الحسنة الخلق الشابة ما لم تصر نصفا.
7- يريد: لا آمن من ليس عندي ضمير قلبه و الذي يزعم أنه أخي و ليس ضميره عندي. و في نسبة هذا البيت لأبي ذؤيب خلاف ذكر في شرح ديوانه.
8- كذا في ح و شرح ديوانه. و في سائر الأصول: «لعمرك».
9- كذا في أ، ء، م، و شرح ديوانه. و في سائر الأصول: «و لكن لا أراك تخورها» (بالخاء المعجمة) و هو تحريف.

- تجورها: تعرض عنها -:

أ لم تنتقذها(1) من عويم بن مالك *** و أنت صفيّ نفسه و سجيرها(2)

فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها *** فأوّل راض سنّة من يسيرها

- و يروى [قد](3) أسرتها، أي جعلتها سائرة. و من رواه هكذا روى «يسيرها» لأن مستقبل(4) أفعل أسارها يسيرها. و «يسيرها» مستقبل سار السيرة يسيرها -.

فإن كنت تشكو من خليل مخانة(5) *** فتلك الجوازي(6) عقبها و نصورها

- عقبها: يريد عاقبتها. و نصورها أي تنصر عليك، الواحد نصر(7) -.

و إن كنت تبغي للظّلامة مركبا *** ذلولا فإني ليس عندي بعيرها

نشأت عسيرا لا تلين(8) عريكتي *** و لم يعل(9) يوما فوق ظهري كورها(10)

/متى ما تشأ أحملك و الرأس مائل *** على صعبة حرف و شيك طمورها(11)

فلا تك كالثور الذي دفنت له *** حديدة حتف ثم أمسى(12) يثيرها

يطيل ثواء عندها ليردّها *** و هيهات منه دارها(13) و قصورها

و قاسمها باللّه جهدا لأنتم *** ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها(14)

- نشورها: نجتنيها. السلوى هاهنا: العسل -.

فلم يغن عنه خدعه يوم أزمعت *** صريمتها و النفس مرّ ضميرها(15)

و لم يلف جلدا حازما ذا عزيمة *** و ذا قوّة ينفي بها من يزورها

ص: 478


1- الموجود في معاجم اللغة من هذه المادة: أنقذه و استنقذه و تنقذه. و رواية هذا الشطر في شرح ديوانه و «طبقات الشعراء»: «أ لم تتنقذها من ابن عويمر.. إلخ» و تنقذها: تنجزها و أخذها.
2- السجير: الخليل الصفيّ.
3- زيادة عن شرح ديوانه.
4- كذا وردت هذه العبارة في الأصول، و هي غير مستقيمة. و الظاهر أن كلمة «أفعل» مقحمة.
5- كذا في شرح ديوانه. و في جميع الأصول: «مخافة» (بالفاء) و هو تحريف.
6- كذا في ح و شرح ديوانه. و في سائر الأصول: «الجواري» (بالراء المهملة) و هو تصحيف.
7- قال في «اللسان» (مادة نصر) بعد أن أورد هذا البيت: «يجوز أن يكون نصور جمع ناصر كشاهد و شهود و أن يكون مصدرا كالدخول و الخروج».
8- في شرح ديوانه: «لم تديث». و تديث: تذلل و تلين.
9- في شرح ديوانه: «و لم يستقر فوق... إلخ».
10- الكور: الرحل.
11- الرأس مائل من المرح و النشاط. و الحرف: الضامرة. و وشيك طمورها: سريع وثوبها.
12- في شرح ديوانه: «ثم ظل».
13- في شرح ديوانه: «دورها».
14- كذا في شرح ديوانه و «لسان العرب» (مادة سلا). و في الأصول: «يشورها».
15- مرّ ضميرها أي نفسها خبيثة كارهة.

فأقصر(1) و لم تأخذك منّي سحابة *** ينفّر شاء المقلعين خريرها

- المقلعين: الذين أصابهم القلع و هو السحاب -.

و لا تسبقنّ الناس منّي بخمطة(2) *** من السمّ مذرور عليها ذرورها

/أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا السّكن بن سعيد قال حدّثنا العبّاس بن هشام قال حدّثني أبو عمرو عبد اللّه بن الحارث الهذليّ من أهل المدينة قال:

خرج أبو ذؤيب مع ابنه و ابن أخ له يقال له أبو عبيد(3)، حتى قدموا على عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه.

فقال(4) له: أيّ العمل أفضل يا أمير المؤمنين؟ قال: الإيمان/باللّه و رسوله. قال: قد فعلت، فأيّه أفضل بعده؟ قال: الجهاد في سبيل اللّه. قال: ذلك كان عليّ و إني لا أرجو جنة و لا أخاف نارا. ثم خرج فغزا أرض الروم مع المسلمين. فلما قفلوا أخذه(5) الموت؛ فأراد ابنه و ابن أخيه أن يتخلّفا عليه جميعا؛ فمنعهما صاحب الساقة(6)و قال: ليتخلّف عليه أحدكما و ليعلم أنه مقتول. فقال لهما أبو ذؤيب. اقترعا، فطارت القرعة لأبي عبيد، فتخلّف عليه و مضى ابنه مع الناس. فكان أبو عبيد يحدّث قال قال لي أبو ذؤيب: يا أبا عبيد، احفر ذلك الجرف برمحك ثم اعضد(7) من الشجر بسيفك ثم اجررني إلى هذا النهر فإنك لا تفرغ حتى أفرغ، فاغسلني و كفنّي ثم اجعلني في حفيري و انثل(8) عليّ الجرف برمحك، و ألق عليّ الغصون و الشجر، ثم اتبع الناس فإن لهم رهجة(9) تراها في الأفق إذا مشيت كأنها جهامة(10). قال: فما أخطأ مما قال شيئا، و لو لا نعته لم أهتد لأثر الجيش. و قال و هو يجود بنفسه:

أبا عبيد رفع الكتاب *** و اقترب الموعد و الحساب

و عند رحلي جمل نجاب *** أحمر في حاركه(11) انصباب

ثم مضيت حتى لحقت الناس. فكان يقال: إنّ أهل الإسلام أبعدوا الأثر في بلد الروم، فما كان وراء قبر أبي ذؤيب قبر يعرف لأحد من المسلمين.

ص: 479


1- أي كف و لم تأخذك مني سحابة منطق و هجاء كأنه مطر ينفر شاء الناس. و رواه الأصمعيّ: «فإياك لا تأخذك...». (راجع شرح ديوانه).
2- كذا في شرح ديوانه و «لسان العرب» (مادة خمط). و الخمطة: الطرية التي أخذت طعما و لم تستحكم، أو هي التي أخذت ريح الإدراك كريح التفاح و لم تدرك بعد. و المراد هنا اللوم و الكلام القبيح. و معنى البيت أنه ينهاه عن التعرض لشتمه و هجائه. و في الأصول: «منك بحكمة» و هو تحريف.
3- في جميع الأصول هنا: «أبو عقيل» و هو تحريف.
4- في جميع الأصول: «فقالوا». و التصحيح عن الأستاذ الشنقيطي في هامش نسخته؛ فإن ما في الأصول لا يلائم سياق الخبر.
5- مر في أوّل ترجمة أبي ذؤيب ما يخالف ما هنا. (راجع ما كتبه في صفحة 266 في الحاشية رقم 2).
6- ساقة الجيش: مؤخرته.
7- كذا في «تجريد الأغاني». و عضد الشجر يعضده (بالكسر): قطعه. و في جميع الأصول: «اعمد» و هو تحريف.
8- نثل الركية ينثلها (من باب ضرب): أخرج ترابها. و هذا المعنى غير مستقيم في هذا المقام. فلعل صوابه «و أهلى على الجرف... إلخ». و أهال عليه التراب: دفعه فانهال.
9- الرهجة: ما أثير من الغبار.
10- الجهامة: السحابة لا ماء فيها.
11- الحارك: أعلى الكاهل.

21 - ذكر حكم الواديّ و خبره و نسبه

نسبه و أصله و صناعته:

هو الحكم بن ميمون مولى الوليد بن عبد الملك. و كان أبوه حلاّقا يحلق رأس الوليد، فاشتراه فأعتقه. و كان حكم طويلا أحول، يكري الجمال ينقل عليها الزيت من الشام إلى المدينة. و يكنى أبا يحيى. و قال مصعب بن عبد اللّه بن الزّبير: هو حكم بن يحيى بن ميمون، و كان أصله من الفرس، و كان جمّالا ينقل الزيت من وادي(1)القرى إلى المدينة.

غنى الوليد بن عبد الملك و عاش إلى زمن الرشيد:

و ذكر حمّاد بن إسحاق عن أبيه أنه كان شيخا طويلا أحول أجنأ(2) يخضب بالحنّاء، و كان جمّالا يحمل الزيت من جدّة إلى المدينة، و كان واحد دهره في الحذق، و كان ينقر بالدفّ و يغنّي مرتجلا، و عمّر عمرا طويلا، غنّى الوليد بن عبد الملك، و غنّى الرشيد و مات في الشّطر من خلافته، و ذكر أنه أخذ الغناء من عمر الوادي. قال: و كان بوادي القرى جماعة من المغنّين فيهم عمر بن زاذان - و قيل: ابن داود بن زاذان، و هو الذي كان يسميه الوليد جامع لذّتي - و حكم بن يحيى، و سليمان، و خليد بن عتيك - و قيل: ابن عبيد - و يعقوب الوادي. و كل هؤلاء كان يصنع فيحسن.

مدح إسحاق الموصلي غناءه:

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني حمّاد قال قال لي أبي:

أحذق من رأيت من المغنين أربعة: جدّك و حكم و فليح بن العوراء و سياط. قلت: و ما بلغ من حذقهم؟ قال:

كانوا يصنعون فيحسنون، و يؤدّون(3) غناء غيرهم/فيحسنون. قال إسحاق: و قال لي أبي: /ما في هؤلاء الذين تراهم من المغنّين أطبع من حكم و ابن جامع، و فليح أدرى منهما بما يخرج من رأسه.

غنى الوليد بن يزيد بشعر مطيع بن إياس فأجازه:
اشارة

و ذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات أن أحمد بن المكيّ حدّثه عن أبيه قال حدّثني حكم الواديّ،

ص: 480


1- وادي القرى: واد بين الشام و المدينة و هو بين تيماء و خيبر. سمي بذلك لأنه من أوله إلى آخره قرى منظومة كانت منازل قضاعة ثم جهينة و عذرة و بلى، و قديما كانت منازل ثمود و عاد و بها أهلكهم اللّه تعالى.
2- الأجنأ: الأحدب.
3- في ح: «و يروون».

و أخبرني به محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا الغلابيّ(1) عن حمّاد بن إسحاق عن أحمد بن المكيّ عن أبيه عن حكم الوادي قال:

أدخلني عمر الوادي على الوليد بن يزيد، و هو على حمار، و عليه جبّة وشي و رداء وشي و خفّ وشي، و في يده عقد جوهر، و في كمّه شيء لا أدري ما هو. فقال: من غنّاني ما أشتهي فله ما في كمّي و ما عليّ و ما تحتي؛ فغنّوه كلّهم فلم يطرب؛ فقال لي: غنّ يا غلام، فغنّيت:

صوت

إكليلها ألوان *** و وجهها فتّان

و خالها فريد *** ليس له جيران

إذا مشت تثنّت *** كأنها ثعبان

- الشعر لمطيع بن إياس. و الغناء لحكم الوادي هزج بالوسطى. و فيه لإبراهيم رمل خفيف بالوسطى - فطرب و أخرج ما كان في كمّه، و إذا كيس فيه ألف دينار، فرمى به إليّ مع عقد الجوهر؛ فلما دخل بعث إليّ بالحمار و جميع ما كان عليه. و هذا الخبر يذكر من عدّة وجوه في أخبار مطيع بن إياس.

مدحه رجل من قريش بشعر صنع هو فيه صوتا:
اشارة

و في حكم الواديّ يقول رجل من قريش:

صوت

أبو يحيى أخو الغزل المغنّي *** بصير بالثّقال و بالخفاف

على العيدان يحسن ما يغنّي *** و يحسن ما يقول على الدّفاف

غنّاه حكم الواديّ هزجا بالبنصر.

قال هارون بن عبد الملك قال أبو يحيى العباديّ قال حدّثني أحمد البارد قال: دخلت على حكم يوما فقال لي: يا قصافيّ(2)، إن رجلا من قريش قال فيّ هذا الشعر:

أبو يحيى أخو الغزل المغنّي

و قد غنّيت فيه، فخذ العود حتى تسمعه منّي؛ فأخذت العود فضربت عليه و غنّانيه، فكنت أوّل من أخذ من حكم الواديّ هذا الصوت.

سئل عن صوت فقال ما يكون إلا لي:

قال أبو يحيى و قال إسحاق:

ص: 481


1- كذا في أ، ء، م. و هو محمد بن زكريا بن دينار الغلابي. و قد مرت رواية محمد بن يحيى الصولي عنه في الأجزاء السابقة. و في سائر الأصول: «العلائي» و هو تحريف.
2- بنو قصاف: بطن من العرب.

سمعت حكما الواديّ يغني صوتا فأعجبني، فسألته لمن هو؟ فقال: و لمن يكون هذا إلاّ لي.

فغضب من شيخ قال له أحسنت:

و قال مصعب:

حدّثني شيخ أنه سمع حكما الواديّ يغنّي، فقال له: أحسنت! فألقى الدّفّ و قال للرجل: قبّحك اللّه! تراني مع المغنّين منذ ستين سنة و تقول لي أحسنت!.

قصته هو و فليح مع ابن جامع عند يحيى بن خالد:

و قال لي هارون حدّثني مدرك بن يزيد قال قال لي فليح:

بعث إليّ يحيى بن خالد و إلى حكم الواديّ، و ابن جامع معنا، فأتيناه. فقلت لحكم الواديّ - أو قال لي - إنّ ابن جامع معنا، فعاونّي عليه لنكسره. /فلما صرنا إلى الغناء غنّى حكم، فصحت و قلت: هكذا و اللّه يكون الغناء! ثم غنّيت ففعل بي حكم مثل ذلك، و غنّى ابن جامع فما كنا معه في شيء. فلما كان العشيّ أرسل إلى جاريته دنانير:

إن أصحابك عندنا، فهل لك أن تخرجي إلينا؟! فخرجت و خرج معها و صائف لها، فأقبل عليها يقول لها من حيث يظن أنّا لا نسمع: ليس في القوم أنزه/نفسا من فليح، ثم أشار إلى غلام له: أن ائت كلّ إنسان بألفي درهم، فجاء بها. فدفع إلى ابن جامع ألفين فأخذها فطرحها في كمّه، و لحكم مثل ذلك فطرحها في كمّه، و دفع إليّ ألفين.

فقلت: لدنانير: قد بلغ منّي النبيذ فاحتبسيها لي عندك، فأخذت الدراهم منّي و بعثت بها إليّ من الغد، و قد زادت عليها مثلها، و أرسلت إليّ: قد بعثت إليك بوديعتك و بشيء أحببت أن تفرّقه على أخواتي (تعني جواريّ).

بلغ في الهزج مبلغا قصر عنه غيره:

قال هارون بن محمد قال حمّاد بن إسحاق قال أبي:

أربعة بلغوا في أربعة أجناس من الغناء مبلغا قصّر عنه غيرهم: معبد في الثقيل، و ابن سريج في الرّمل، و حكم في الهزج، و إبراهيم في الماخوري.

كتب له الرشيد بصلة إلى إبراهيم ابن المهدي فوصله هو أيضا و أخذ عنه ثلاثمائة صوت:

قال هارون و حدّثني أبي قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ عن أبيه قال:

زار حكم الواديّ الرشيد، فبرّه و وصله بثلاثمائة ألف درهم، و سأله عمن يختار أن يكتب له بها إليه؛ فقال:

اكتب لي بها إلى إبراهيم بن المهديّ - و كان عاملا له بالشام - قال إبراهيم: فقدم عليّ حكم بكتاب الرشيد، فدفعت إليه ما كتب به و وصلته بمثل ما وصله، إلا أني نقصته ألفا من الثلاثمائة و قلت له: لا أصلك بمثل صلة أمير المؤمنين. فأقام عندي ثلاثين يوما أخذت منه فيها ثلاثمائة صوت، كلّ صوت منها أحبّ إليّ من الثلاثمائة الألف التي وهبتها له.

أهانه ابن شقران و لما عرفه اعتذر:

و أخبرني عليّ بن عبد العزيز عن عبيد اللّه بن خرداذبه قال قال مصعب بن عبد اللّه:

/بينا حكم الواديّ بالمدينة إذ سمع قوما يقولون: لو ذهبنا إلى جارية ابن شقران! فإنها حسنة الغناء! فمضوا

ص: 482

إليها، و تبعهم حكم و عليه فروة(1)، فدخلوا و دخل معهم، و صاحب المنزل يظن أنه معهم و هم يظنون أنه من قبل صاحب المنزل و لا يعرفونه. فغنّت الجارية أصواتا ثم غنّت صوتا ثم صوتا. فقال حكم الواديّ: أحسنت و اللّه! و صاح. فقال له ربّ البيت: يا ماصّ كذا و كذا من أمه! و ما يدريك ما الغناء! فوثب عليه يتعتعه(2) و أراد ضربه.

فقال له حكم: يا عبد اللّه، دخلت بسلام و أخرج كما دخلت، و قام ليخرج. فقال له ربّ البيت: لا أو أضربك. فقال حكم: على رسلك، أنا أعلم بالغناء منك و منها، و قال: شدّي موضع كذا و أصلحي موضع كذا، و اندفع يغنّي.

فقالت الجارية: إنه و اللّه أبو يحيى! فقال ربّ المنزل: جعلت فداك! المعذرة إلى اللّه و إليك! لم أعرفك! فقام حكم ليخرج فأبى الرجل؛ فقال: و اللّه لأخرجنّ، فسأعود إليها لكرامتها لا لكرامتك.

لامه ابنه على غنائه الأهزاج فأجابه:

و ذكر أحمد بن المكيّ عن أبيه: أنّ حكما لم يشهر بالغناء و يذهب له الصّوت(3) به حتى صار الأمر إلى بني العباس؛ فانقطع إلى محمّد بن أبي العباس أمير المؤمنين و ذلك في خلافة المنصور؛ فأعجب به و اختاره على المغنّين و أعجبته أهزاجه. و كان يقال: إنه من أهزج الناس. و يقال: إنه غنّى الأهزاج في آخر عمره، و إن ابنه لامه على ذلك، و قال له: أبعد الكبر تغنّي غناء المخنّثين! فقال له: اسكت فإنك جاهل، غنّيت الثقيل ستين سنة فلم أنل إلا القوت، و غنّيت الأهزاج منذ سنيّات فأكسبتك ما لم تر مثله قطّ.

شهد له يحيى بن خالد بجودة الأداء:

قال هارون بن محمد و قال يحيى بن خالد:

ما رأينا فيمن يأتينا من المغنّين أحدا أجود أداء من حكم. و ليس أحد يسمع(4) غناء ثم يغنّيه بعد ذلك إلا و هو يغيّره و يزيد فيه و ينقص إلا حكما. فقيل لحكم ذلك/فقال: إني لست أشرب، و غيري يشرب، فإذا شرب تغيّر غناؤه.

استكثر المنصور ما كان يعطاه من هدايا ثم عدل عن رأيه:

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

كان خبر حكم الواديّ يتناهى إلى المنصور و يبلغه ما يصله به بنو سليمان بن عليّ، فيعجب لذلك و يستسرفه و يقول: هل هو إلا أن حسّن شعرا بصوته و طرّب مستمعيه، فما ذا يكون! و علام يعطونه هذه العطايا المسرفة! إلى أن جلس يوما في مستشرف له، و قد كان حكم دخل إلى رجل من قوّاده - أراه قال: عليّ(5) بن يقطين أو أبوه - و هو

ص: 483


1- الفروة و الفرو: شيء نحو الجبة يبطن من جلود بعض الحيوان كالأرانب و الثعالب و السمور.
2- كذا في ح. و تعتعه: تلتله و حركه بعنف. و في سائر الأصول: «يتعنفه» و هو تحريف.
3- في ب، س: «الصيت». و الصوت و الصيت الذكر الحسن الذي ينتشر بين الناس.
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و ليس أحد يسمع منه غناء... إلخ». و الظاهر أن كلمة «منه» مقحمة.
5- كان يقطين بن موسى البغدادي من وجوه الدعاة، و طلبه مروان فهرب. و ابنه علي بن يقطين ولد بالكوفة سنة أربع و عشرين و مائة. و هربت أم علي به و بأخيه عبيد بن يقطين إلى المدينة. فلما ظهرت الدولة الهاشمية ظهر يقطين و عادت أم علي بعلي و عبيد. فلم يزل يقطين في خدمة أبي العباس و أبي جعفر المنصور، و كان مع ذلك يرى رأي آل أبي طالب و يقول بإمامتهم، و كذلك ولده، و كان يحمل الأموال إلى جعفر بن محمد بن علي و الألطاف. و نم خبره إلى المنصور و المهدي فصرف اللّه عنه كيدهما. و توفي علي بن يقطين بمدينة السلام سنة 182 ه و سنه 57 سنة و صلى عليه ولي العهد محمد بن الرشيد و توفي أبوه بعده في سنة 185 ه (عن «فهرست ابن النديم»).

يراه؛ ثم خرج عشيّا و قد حمله على بغلة له يعرفها المنصور، و خلع عليه ثيابا يعرفها له. فلما رآه المنصور قال: من هذا؟ فقيل: حكم الواديّ. فحرّك رأسه مليّا ثم قال: الآن علمت أن هذا يستحقّ ما يعطاه. قيل: و كيف ذلك يا أمير المؤمنين و أنت تنكر ما يبلغك منه؟ قال: لأنّ فلانا لا يعطي شيئا من ماله باطلا و لا يضعه إلا في حقه.

اعترض المهدي في الطريق و غناه فأجازه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن أبي سعد(1) قال حدّثنا قعنب بن المحرز الباهليّ عن الأصمعيّ قال:

رأيت حكما الواديّ حين مضى المهديّ إلى بيت المقدس(2)، و قد عارضه في الطريق و أخرج دفّه و نقر فيه و له شعيرات على رأسه و قال: أنا و اللّه يا أمير المؤمنين القائل:

و متى تخرج العرو *** س فقد طال حبسها

فتسرّع إليه الحرس؛ فقال: دعوه(3)، و سأل عنه فأخبر أنه حكم الواديّ؛ فوصله و أحسن إليه.

لحن حكم في هذا الشعر المذكور هزج بالبنصر. و فيه ألحان لغيره، و قد ذكرت في أخبار الوليد بن يزيد.

أطرب الهادي دون غيره من المغنين فأعطاه ثلاث بدر:
اشارة

أخبرني الحسن قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا عليّ بن محمد النّوفلي عن صالح(4) الأضجم عن حكم الواديّ قال:

كان الهادي يشتهي من الغناء ما توسّط و قلّ ترجيعه و لم يبلغ أن يستخفّ جدّا؛ فأخرج ليلة ثلاث بدر و قال:

من أطربني فهي له. فغنّاه ابن جامع و إبراهيم الموصليّ و الزّبير بن دحمان فلم يصنعوا شيئا، و عرفت ما أراد فغنّيته لابن سريج:

صوت

غرّاء كالليلة المباركة ال *** قمراء تهدى أوائل الظّلم

أكني بغير اسمها و قد علم ال *** لّه خفيّات كلّ مكتتم

/كأن فاها إذا تنسّم(5) عن *** طيب مشمّ و حسن مبتسم

يسنّ(6) بالضّرو(7) من براقش أو *** هيلان(8) أو يانع من العتم(9)

ص: 484


1- في جميع الأصول هنا: «سعيد» و هو تحريف.
2- سيأتي هذا الخبر في ترجمة الوليد بن يزيد (ج 7 ص 31 من هذه الطبعة). و قد ورد فيه أن المهدي كان يريد الحج.
3- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «دعوه دعوه».
4- هو صالح بن علي بن عطية الأضجم الراوي.
5- كذا في أ، ء و نسخة الشنقيطي مصححة بقلمه. و في سائر الأصول: «تبسم».
6- كذا في الجزء الخامس من «الأغاني» (ص 27 من هذه الطبعة). و يسن (بالبناء للمجهول): يسوّك. و في الأصول هنا: «يستن».
7- الضرو: شجرة الكمكام، و هو شجر طيب الريح يستاك به و يجعل ورقه في العطر، و هو المحلب. قال أبو حنيفة الدينوري: أكثر منابت الضرو باليمن و هو من شجر الجبال كالبلوط العظيم له عناقيد كعناقيد البطم غير أنه أكبر حبا، و يطبخ ورقه فإذا نضج صفى ورد ماؤه إلى النار فيعقد، يتداوى به من خشونة الصدر و وجع الحلق. (راجع «شرح القاموس» مادة ضرى).
8- براقش: واد باليمن شجير و كذلك هيلان. و أكثر نبات الضر و باليمن. و قيل: براقش و هيلان مدينتان عاديتان خربتا. و يسكن براقش بنو الأوبر من بلحارث بن كعب و مراد. و سميت براقش باسم كلبة و هي التي قيل فيها: «على أهلها تجني براقش». (راجع «معجم ما استعجم» و «معجم البلدان» في اسم براقش، و «شرح القاموس» و «اللسان» مادة برقش).
9- العتم: شجر الزيتون. و في ب، س: «العنم» (بالنون) و هو تصحيف.

- الشعر في هذا الغناء للنابغة الجعديّ؛ و الصنعة لابن سريج رمل بالبنصر - فوثب عن فراشه طربا و قال:

أحسنت أحسنت و اللّه! اسقوني فسقي. و وثقت بأن البدر لي، فقمت فجلست عليها. فأحسن ابن جامع المحضر و قال: أحسن و اللّه كما قال أمير المؤمنين، و إنه لمحسن مجمل. فلما سكن(1) أمر الفرّاشين بحملها معي. فقلت لابن جامع: مثلك يفعل ما فعلت في شرفك و نسبك! فإن رأيت أن تشرّفني بقبول إحداها فعلت. فقال: لا و اللّه لا فعلت، و اللّه لوددت أنّ اللّه زادك، و أسأل اللّه أن يهنّيك ما رزقك. و لحقني الموصليّ فقال: آخذ يا حكم من هذا؟ فقلت: لا و اللّه و لا درهما واحدا لأنك لم تحسن المحضر.

موته و شعر الدارمي فيه:
اشارة

و مات حكم الواديّ/من قرحة أصابته في صدره. فقال الدارميّ فيه قبل وفاته:

صوت

إنّ أبا يحيى اشتكى علّة *** أصبح منها بين عوّاد

فقلت و القلب به موجع *** يا ربّ عاف الحكم الوادي

/فربّ بيض قادة سادة *** كأنصل سلّت من اغماد

نادمهم في مجلس لاهيا *** فأصمت المنشد و الشادي

غنّى فيه حكم الواديّ هزجا بالبنصر.

صوت من المائة المختارة

أ معارف الدّمن القفار توهّم *** و لقد مضى حول لهنّ مجرّم(2)

و لقد وقفت على الديار لعلّها(3) *** بجواب رجع تحيّة تتكلّم

عن علم ما فعل الخليط، فما درت *** أنّى توجّه بالخليط الموسم

و لقد عهدت بها سعاد و إنها *** باللّه جاهدة اليمين لتقسم

إني لأوجه من تكلّم عندها *** بأليّة و مخالف من يزعم

فلها لدينا بالذي بذلت لنا *** ودّ يطول له العناء و يعظم

عروضه من الكامل. الشعر لنصيب من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان. و الغناء لابن جامع. له فيه لحنان ذكرهما إسحاق، أحدهما ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. و لإبراهيم في البيتين الأوّلين ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى. و لإسحاق و سياط فيهما ثقيل بالبنصر عن عمرو.

ص: 485


1- في ح: «سكر».
2- مجرم: منقطع و منصرم.
3- في ح: «كأنها».

22 - ذكر ابن جامع و خبره و نسبه

نسبه:

هو إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد اللّه بن المطّلب بن أبي(1) وداعة بن ضبيرة(2) [بن سعيد](3) بن سعد بن سهم [بن عمرو](3) بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب.

ضبيرة السهمي جدّ ابن جامع و شيء من أخباره:

أخبرني الطّوسيّ عن الزّبير بن بكّار عن عمّه مصعب، و أخبرنا محمد بن جرير الطّبريّ قال حدّثنا محمد بن حميد عن سلمة عن ابن(4) إسحاق قالا جميعا:

مات ضبيرة السّهميّ و له مائة سنة و لم يظهر في رأسه و لا لحيته شيب. فقال بعض شعراء قريش يرثيه:

حجّاج بيت اللّه إنّ *** ضبيرة السّهميّ ماتا

سبقت منيّته المشي *** ب و كان ميتته افتلاتا

فتزوّدوا لا تهلكوا *** من دون أهلكم خفاتا(5)

/قال: و أسر أبو وداعة كافرا يوم بدر ففداه ابنه المطّلب، و كان المطّلب رجل صدق. و قد روى عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلم الحديث.

كنية ابن جامع و شيء من أخبار أمه:

و يكنى ابن جامع أبا القاسم. و أمه امرأة من بني سهم، و تزوّجت بعد أبيه رجلا من أهل اليمن. فذكر

ص: 486


1- اسم أبي وداعة: الحارث. و يحكي عن أسره يوم بدر كما سيذكره المؤلف أن النبيّ صلى اللّه عليه و سلم قال: تمسكوا به فإن له ابنا كيسا بمكة» فخرج المطلب بن أبي وداعة سرا حتى فدى أباه بأربعة آلاف درهم. و هو أول أسير فدى من بدر، و لامته قريش في بداره و دفعه الفداء، فقال: ما كنت لأدع أبي أسيرا. فسار الناس بعده إلى النبيّ صلى اللّه عليه و سلم ففدوا أسراهم.
2- كذا في «الطبقات الكبرى» لابن سعد (ج 5 ص 334) و «السيرة لابن هشام» (ج 1 ص 514) و «شرح القاموس» مادة ضبر بالضاد المعجمة. و في جميع الأصول: «صبيرة» بالصاد المهملة و هو تصحيف.
3- زيادة عن «الطبقات» و «المشتبه» (ص 265) و «أسد الغابة» (ج 4 ص 374) و «الاستيعاب» (ج 1 ص 268) و «السيرة» لابن هشام.
4- في أكثر الأصول: «عن سلمة بن أبي إسحاق». و في ح: «عن سلمة عن أبي إسحاق». و كلاهما محرف عما أثبتناه. إذ المعروف أن سلمة بن الفضل الأبرش يروي عن محمد بن إسحاق بن يسار. و عن سلمة هذا يروي محمد بن حميد الرازي. و قد تقدّم هذا السند في أكثر من موضع في الأجزاء السابقة.
5- خفت الرجل خفاتا: مات فجأة.

هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات عن/حماد عن أبيه عن بعض أصحابه عن عون حاجب(1) معن بن زائدة قال: رأيت أمّ ابن جامع و ابن جامع معها عند معن بن زائدة و هو ضعيف يتبعها و يطأ ذيلها و كانت من قريش، و معن يومئذ على اليمن. فقالت: أصلح اللّه الأمير، إنّ عمّي زوّجني زوجا ليس بكفء ففرّق بيني و بينه. قال: من هو؟ قالت: ابن ذي مناجب. قال: عليّ به. قال: فدخل أقبح من خلق اللّه و أشوهه خلقا. قال: من هذه منك؟ قال:

امرأتي. قال: خلّ سبيلها، ففعل. فأطرق معن ساعة ثم رفع رأسه فقال:

لعمري لقد أصبحت غير محبّب *** و لا حسن في عينها ذا مناجب

فما لمتها لمّا تبيّنت وجهه *** و عينا له حوصاء من تحت حاجب

و أنفا كأنف البكر يقطر دائبا *** على لحيّة عصلاء(2) شابت و شارب

أتيت بها مثل المهاة تسوقها(3) *** فيا حسن مجلوب و يا قبح جالب

و أمر لها بمائتي دينار و قال لها: تجهزي بها إلى بلادك.

سأله الرشيد عن نسبه فأحاله على إسحاق الموصلي:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال أخبرني حمّاد عن أبيه:

أن الرشيد سأل ابن جامع يوما عن نسبه و قال له: أيّ بني الإنس ولدك يا إسماعيل؟ قال: لا أدري، و لكن سل ابن أخي (يعني إسحاق) - و كان يماظّ(4)/إبراهيم الموصليّ و يميل إلى ابنه إسحاق - قال إسحاق: ثم التفت إليّ ابن جامع فقال: أخبره يا ابن أخي بنسب عمك. فقال له الرشيد: قبّحك اللّه شيخا من قريش! تجهل نسبك حتى يخبرك به غيرك و هو رجل من العجم!.

شيء من ورعه و تقواه:

قال هارون حدّثني عبد اللّه بن عمرو قال حدّثني أبو هشام(5) محمد بن عبد الملك المخزوميّ قال أخبرني محمد بن عبد اللّه بن أبي فروة بن أبي قراد المخزوميّ قال:

كان ابن جامع من أحفظ خلق اللّه لكتاب اللّه و أعلمه بما يحتاج إليه، كان يخرج من منزله مع الفجر يوم الجمعة فيصلّي الصبح ثم يصفّ قدميه حتى تطلع الشمس، و لا يصلي الناس الجمعة حتى يختم القرآن ثم ينصرف إلى منزله.

وقف معه أبو يوسف القاضي بباب الرشيد و لم يعرفه:

قال هارون و حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني صالح بن عليّ بن عطيّة و غيره من رجال أهل العسكر قالوا:

ص: 487


1- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «صاحب».
2- عصلاء: معوجة.
3- في تجريد الأغاني: «تسومها».
4- ماظظت فلانا: شاورته و نازعته.
5- في أ، ء، م: «أبو هاشم محمد بن عبد اللّه المخزومي».

قدم ابن جامع قدمة له من مكة على الرشيد، و كان ابن جامع حسن السّمت كثير الصلاة قد أخذ السجود جبهته، و كان يعتمّ بعمامة سوداء على قلنسوة طويلة، و يلبس لباس الفقهاء، و يركب حمارا مرّيسيّا(1) في زيّ أهل الحجاز. فبينا هو واقف على باب يحيى بن خالد يلتمس الإذن عليه، فوقف على ما كان يقف الناس عليه في القديم حتى يأذن لهم أو يصرفهم، أقبل(2) أبو يوسف القاضي بأصحابه أهل القلانس؛ فلما هجم على الباب نظر إلى رجل يقف إلى جانبه و يحادثه، فوقعت عينه على ابن جامع فرأى سمته و حلاوة هيئته، فجاء فوقف إلى جانبه ثم قال له: أمتع اللّه بك، توسّمت/فيك الحجازيّة و القرشيّة؛ قال: أصبت. قال: فمن أيّ قريش أنت؟ قال: من بني سهم. قال: فأيّ الحرمين منزلك؟ قال: مكة. قال: و من لقيت من فقهائهم؟ قال: سل عمن شئت. ففاتحة الفقه و الحديث فوجد عنده ما أحبّ فأعجب به. و نظر الناس إليهما فقالوا: هذا القاضي قد أقبل على المغنّي، و أبو يوسف لا يعلم أنه ابن جامع. فقال أصحابه: لو أخبرناه عنه! ثم قالوا: /لا، لعلّه لا يعود إلى مواقفته(3) بعد اليوم، فلم نغمّه. فلما كان الإذن الثاني ليحيى غدا عليه الناس و غدا عليه أبو يوسف، فنظر يطلب ابن جامع فرآه، فذهب فوقف إلى جانبه فحادثه طويلا كما فعل في المرّة الأولى. فلما انصرف قال له بعض أصحابه: أيها القاضي، أ تعرف هذا الذي تواقف و تحادث؟ قال: نعم، رجل من قريش من أهل مكة من الفقهاء. قالوا: هذا ابن جامع المغنيّ؛ قال: إنا للّه!. قالوا: إن الناس قد شهروك بمواقفته و أنكروا ذلك من فعلك. فلما كان الإذن الثالث جاء أبو يوسف و نظر إليه فتنكّبه، و عرف ابن جامع أنه قد أنذر به، فجاء فوقف فسلّم عليه، فردّ السلام عليه أبو يوسف بغير ذلك الوجه الذي كان يلقاه به ثم انحرف عنه. فدنا منه ابن جامع، و عرف الناس القصة، و كان ابن جامع جهيرا فرفع صوته ثم قال: يا أبا يوسف، ما لك تنحرف عني؟ أيّ شيء أنكرت؟ قالوا لك: إني ابن جامع المغنيّ فكرهت مواقفتي لك! أسألك عن مسألة ثم اصنع ما شئت؛ و مال الناس فأقبلوا نحوهما يستمعون. فقال: يا أبا يوسف، لو أن أعرابيّا جلفا وقف بين يديك فأنشدك بجفاء و غلظة من لسانه و قال:

يا دارمية بالعلياء فالسّند *** أقوت و طال عليها سالف الأبد

/أ كنت ترى بذلك بأسا؟ قال: لا، قد روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و سلم في الشعر قول، و روى في الحديث. قال ابن جامع: فإن قلت أنا هكذا، ثم اندفع يتغنّى فيه حتى أتى عليه؛ ثم قال: يا أبا يوسف، رأيتني زدت فيه أو نقصت منه؟ قال: عافاك اللّه، أعفنا من ذلك. قال: يا أبا يوسف، أنت صاحب فتيا، ما زدته على أن حسّنته بألفاظي فحسن في السماع و وصل إلى القلب. ثم تنحّى عنه ابن جامع.

سأل سفيان بن عيينة عن السبب الذي أصاب به مالا فأجيب:

قال: و حدّثني عبد اللّه بن شبيب قال حدّثني إبراهيم بن المنذر عن سفيان بن عيينة، و مرّ به ابن جامع يسحب الخزّ، فقال لبعض أصحابه:

بلغني أنّ هذا القرشيّ أصاب مالا من بعض الخلفاء، فبأيّ شيء أصابه؟ قالوا: بالغناء. قال: فمن منكم يذكر بعض ذلك؟ فأنشد بعض أصحابه ما يغنّي فيه:

ص: 488


1- مريسي: نسبة إلى مريسة (كسكينة، كما في «القاموس» و شرحه مادة مرس و ضبطها صاحب «معجم البلدان» بفتح الميم): قرية بمصر من ناحية الصعيد إليها تنسب الحمر المريسية و هي من أجود الحمر و أمشاها.
2- في جميع الأصول: «فأقبل».
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «مرافقته».

و أصحب بالليل أهل الطّواف *** و أرفع من مئزري المسبل

قال: أحسن، هيه! قال:

و أسجد بالليل حتى الصباح *** و أتلو من المحكم المنزل

قال: أحسن، هيه! قال:

عسى فارج الكرب عن يوسف *** يسخّر لي ربّة المحمل

قال: أمّا هذا فدعه.

كان يعد صيحة الصوت قبل أن يصنع عمود اللحن:

و حدّثني محمد بن الحسن العتّابيّ قال حدّثني جعفر بن محمد الكاتب قال حدّثني طيّب بن عبد الرحمن قال:

كان ابن جامع يعدّ صيحة الصوت قبل أن يصنع عمود اللحن.

اشتغاله بالقمار و حب الكلاب:

و حدّث محمد(1) بن الحسن قال حدّثني أبو حارثة بن عبد الرحمن بن سعيد(2) بن سلم عن أخيه أبي(3)معاوية بن عبد الرحمن قال:

قال لي ابن جامع: لو لا أن القمار و حبّ الكلاب قد شغلاني لتركت المغنّين لا يأكلون الخبز.

دعا كلبا أهدى إليه باسم من دفتر فيه أسماء الكلاب:

أخبرني عليّ بن عبد العزيز/عن ابن خرداذبه قال:

أهدى رجل إلى ابن جامع كلبا فقال: ما اسمه؟ فقال: لا أدري، فدعا بدفتر فيه أسماء الكلاب فجعل يدعوه بكل اسم فيه حتى أجابه الكلب.

ألقى على ابنه هشام صوتا سمعه من الجن:
اشارة

قال هارون بن محمد حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني محمد بن أحمد المكّيّ قال حدّثتني حولاء مولاة ابن جامع قالت:

انتبه مولاي يوما من قائلته فقال: عليّ بهشام (يعني ابنه) ادعوه لي عجّلوه، فجاء مسرعا. فقال: أي بنيّ، خذ العود، فإنّ رجلا من الجن ألقى عليّ في قائلتي صوتا فأخاف أن أنساه. فأخذ هشام العود و تغنّى ابن جامع عليه رملا لم أسمع له رملا أحسن منه، و هو:

ص: 489


1- كذا في جميع الأصول. و قد تقدم في الجزء الخامس (ص 385) من هذه الطبعة أن الذي يروي عن أبي حارثة هذا هو «محمد بن الحسين الكاتب».
2- في جميع الأصول: «سعد» و هو تحريف.
3- في أكثر الأصول: «عن أخيه عن أبي معاوية». و في ح: «عن أخيه عن ابن معاوية» و كلاهما تحريف. و قد مرت رواية أبي حارثة هذا عن أخيه أبي معاوية في الجزء الخامس من هذه الطبعة (ص 385).
صوت

أمست رسوم الديار غيّرها *** هوج الرّياح الزّعازع العصف

و كلّ حنّانة لها زجل *** مثل حنين الرّوائم الشّغف

/فأخذه عنه هشام، فكان بعد ذلك يتغنّاه و ينسبه إلى الجن. و في هذا الصوت للهذليّ لحن من الثقيل الثاني بالخنصر في مجرى الوسطى. و فيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو، و قيل: إن هذا اللحن لعبادل. و فيه لابن جامع الرمل المذكور.

أخذ ببيتين غنى بهما الرشيد عشرة آلاف دينار:
اشارة

قال هارون و حدّثني أحمد بن بشر بن عبد الوهاب قال حدّثني محمد(1) بن موسى بن فليح الخزاعيّ قال حدّثنا أبو محمد عبد اللّه بن محمد المكّيّ قال: قال لي ابن جامع:

أخذت من هارون ببيتين غنّيته بهما عشرة آلاف دينار:

صوت

لا بدّ للعاشق من وقفة *** تكون(2) بين الوصل و الصّرم

يعتب أحيانا و في عتبه *** إظهار(3) ما يخفي من السّقم

إشفاقه داع إلى ظنّه *** و ظنّه داع إلى الظلم

حتى إذا ما مضّه هجره(4) *** راجع من يهوى على رغم

- هكذا روّيته(5). الشعر للعبّاس بن الأحنف. و الغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى. و ذكر ابن بانة أن هذا اللحن لسليم. و فيه لإبراهيم ثقيل أوّل بالوسطى - قال: ثم قال لي ابن جامع: فمتى تصيب أنت بالمروءة شيئا!

صادفه جماعة من القرشين بفخ و هو يغني:

و قال هارون حدّثني أحمد بن زهير قال حدّثني مصعب بن عبد اللّه قال:

خرج ابن أبي عمرو الغفاريّ و عبد الرحمن بن أبي قباحة و غيرهما من القرشيّين عمّارا(6) يريدون مكة؛ فلما كانوا بفخّ(7) نزلوا على البئر التي هناك ليغتسلوا فيها. قال(8): فبينا نحن نغتسل إذ سمعنا صوت غناء، فقلنا: لو

ص: 490


1- كذا في أكثر الأصول. و الظاهر أن محمد بن موسى هذا ابن أخ لمحمد بن فليح الراوي المعروف الذي مر ذكره في الأجزاء السابقة. فقد ذكر في «التهذيب» في ترجمة محمد بن فليح أن له أخا يسمى موسى إلا أنه لم يذكر هناك من أولاده غير عمران. و في ب، س: «محمد بن عيسى بن فليح... إلخ».
2- في ديوان العباس بن الأحنف: «يكون».
3- في ديوانه: «يهيج ما يخفى... إلخ».
4- في ديوانه: «شوقه».
5- هذه العبارة ساقطة في ح.
6- عمارا: زوّارا، من العمرة و هي الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة. و العمرة تكون في السنة كلها. و الحج في وقت معين من السنة.
7- فخ (بفتح أوله و تشديد ثانيه): واد مكة.
8- ظاهر السياق أن القائل هو أحد هؤلاء الذين خرجوا عمارا، غير أنه لم يعين في الأصول.

ذهبنا إلى هؤلاء فسمعنا غناءهم! فأتيناهم، فإذا ابن جامع و أصحاب له يغنّون و عندهم فضيخ(1) لهم يشربون منه؛ فقالوا: تقدّموا يا فتيان، فتقدّم ابن أبي عمرو فجلس مع القوم و كان رأسهم، فجلسنا نشرب؛ و طرب ابن أبي قباحة فغنّى. فقال ابن جامع: وا بأبي و أمي! ابن أبي قباحة و إلا فهو ابن الفاعلة. فقام ابن أبي عمرو فأخرج من وسطه هميانا(2) فيه ثلاثمائة درهم فنثرها على ابن أبي قباحة. فقال ابن جامع: امضوا بنا إلى المنزل، فمضينا فأقمنا عنده شهرا ما نبرح و نحن على إحرامنا ذلك.

غنت جاريته الحولاء صوتا له في جارية سوداء يحبها:
اشارة

قال هارون بن/محمد بن عبد الملك حدّثني عليّ بن سليمان عن محمد بن أحمد النّوفليّ عن جارية ابن جامع الحولاء قال: - و كانت تتبنّاني - فتغنّت يوما و طربت و قالت: يا بنيّ، أ لا أغنّيك هزجا لسيّدي في عشيقة له سوداء؟ قلت: بلى. فتغنّت هزجا ما سمعت أحسن منه، و هو:

صوت

أشبهك المسك و أشبهته *** قائمة في لونه قاعدة

لا شكّ إذ لونكما واحد *** أنّكما من طينة واحده

/و قد روي هذا الشعر لأبي حفص(3) الشّطرنجيّ يقوله في دنانير(4) مولاة البرامكة. و نسب هذا الهزج إلى إبراهيم و ابن جامع و غيرهما.

شبهه برصوما الزامر بزق عسل:

قال عبد اللّه بن عمرو حدّثنا أحمد بن عمر بن إسماعيل الزّهريّ قال حدّثني محمد بن جعفر بن عمر بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام - و كان يلقّب الأبله - قال: قال برصوما الزّامر، و ذكر إبراهيم الموصليّ و ابن جامع، فقال:

الموصليّ بستان تجد فيه الحلو و الحامض و طريّا لم ينضج، فتأكل منه من ذا و ذا. و ابن جامع زقّ عسل، إن فتحت فمه خرج عسل حلو، و إن خرقت جنبه خرج عسل حلو، و إن فتحت يده خرج عسل حلو، كلّه جيّد.

غنى عند الرشيد و هو سكران فأخطأ:

أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبيه و حمّاد عن إبراهيم(5) بن المهديّ - و كان إبراهيم يفضّل ابن جامع و لا يقدّم عليه أحدا، و ابن جامع يميل إليه - قال:

كنّا في مجلس الرشيد و قد غلب على ابن جامع النبيذ، فغنّى صوتا فأخطأ في أقسامه؛ فالتفت إليّ إبراهيم

ص: 491


1- الفضيخ: عصير العنب، و شراب يتخذ من بسر مفضوخ (مطبوخ).
2- الهميان (بالكسر): كيس تجعل فيه النفقة و يشدّ على الوسط.
3- هو أبو حفص عمر بن عبد العزيز مولى بني العباس. و كان أبوه من موالي المنصور فيما يقال، و كان اسمه اسما أعجميا، فلما نشأ أبو حفص و تأدب، غيره و سماه عبد العزيز. و كان أبو حفص لاعبا بالشطرنج مشغوفا به، فلقب به لغلبته عليه. (انظر ترجمته ج 19 ص 69 من «الأغاني» طبع بولاق).
4- دنانير: مولاة يحيى بن خالد البرمكي. كانت صفراء مولدة و كانت من أحسن الناس وجها و أظرفهن و أكملهن و أحسنهن أدبا و أكثرهن رواية للغناء و الشعر. و لها كتاب مجرّد في «الأغاني» مشهور. (انظر ترجمتها ج 16 ص 136 من «الأغاني» طبع بولاق).
5- كذا في أكثر الأصول. و في ح: «حماد بن إبراهيم بن المهدي... إلخ» و لم نعرف أن إبراهيم بن المهدي أعقب ولدا اسمه إبراهيم أو حماد. و قد ورد هذا السند في الجزء الخامس (ص 173 من هذه الطبعة) مختلفا عما هنا و هو: «أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدّثنا أبي عن طياب بن إبراهيم الموصلي قال... إلخ).

الموصليّ فقال: قد خري فيه؛ و فهمت صدقه قال: فقلت لابن جامع: يا أبا القاسم، أعد الصوت و تحفّظ فيه؛ فانتبه و أعاده فأصاب. فقال إبراهيم:

/

أعلّمه الرّماية كلّ يوم *** فلمّا استدّ ساعده رماني

و تنكّر لي لميلي مع ابن جامع عليه. فقلت للرّشيد بعد أيام: إن لي حاجة إليك. قال: و ما هي؟ قلت: تسأل إبراهيم الموصليّ أن يرضى عنّي و يعود إلى ما كان عليه. فقال: إنما هو عبدك، و قال له: قم إليه فقبّل رأسه.

فقلت(1): لا ينفعني رضاه في الظاهر دون الباطن، فسله أن يصحّح الرّضا. فقام إليّ ليقبّل رأسي كما أمر، فقال لي و قد أكبّ عليّ ليقبّل رأسي: أ تعود؟ قلت لا. قال: قد رضيت عنك رضا صحيحا. و عاد إلى ما كان عليه.

غنى بعد إبراهيم الموصلي عند الرشيد فأجاد:

و قال حمّاد عن أبي يحيى العباديّ قال: قدم(2) حوراء غلام حمّاد الشّعراني و كان أحد المغنّين المجيدين قال حدّثني بعض أصحابنا قال:

كنّا في دار أمير المؤمنين الرشيد فصاح بالمغنّين: من فيكم يعرف.

و كعبة نجران(3) حتم علي *** ك حتى تناخي بأبوابها؟

- الشعر للأعشى - فبدرهم إبراهيم الموصليّ فقال: أنا أغنيه، و غنّاه فجاء بشيء عجيب. فغضب ابن جامع و قال لزلزل: دع العود، أنا من جحاش/و جرة(4) لا أحتاج إلى بيطار؛ ثم غنّى الصوت؛ فصاح إليه مسرور(5):

أحسنت يا أبا القاسم! ثلاث مرات.

نسبة هذا الصوت
صوت

/

و كعبة نجران حتم علي *** ك حتى تناخي بأبوابها

نزور(6) يزيد و عبد المسيح *** و قيسا هم(7) خير أربابها

ص: 492


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فقال».
2- كذا في جميع الأصول. و لعلها محرفة عن «قال».
3- نجران: موضع في مخاليف اليمن من ناحية مكة. قالوا: سمي بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، لأنه كان أوّل من عمرها. و كعبة نجران هذه يقال: إنها بيعة بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي على بناء الكعبة و عظموها مضاهاة للكعبة و سموها كعبة نجران. و ذكر هشام بن الكلب أنها كانت قبة من أدم من ثلاثمائة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن، أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفد أرفد. و كان لعظمها عندهم يسمونها كعبة نجران. (عن «معجم البلدان» لياقوت). و قد أورد أبو الفرج قصة هذا الشعر في خبر أساقفة نجران مع النبي صلى اللّه عليه و سلم (ج 10 ص 143 طبع بولاق).
4- قال الأصمعي: و جرة - و فيها أقوال أخرى - بين مكة و البصرة بينها و بين البصرة نحو أربعين ميلا ليس فيها منزل، فهي مرب للوحش. يريد أنه يجري على الطبيعة و الفطرة لا يحتاج إلى معين من الصناعات الآلية كسائر المغنين الحضريين.
5- هو أبو هاشم خادم الرشيد، و كان أوثق رجاله عنده و قد تولى له قتل جعفر بن يحيى البرمكي. (انظر «الطبري» قسم 3 ص 679 و 682).
6- كذا في «مسالك الأبصار» (ج 1 ص 359) و «الأغاني» (ج 10 ص 143 طبع بولاق) و «معجم البلدان» (ج 4 ص 756 طبع أوروبا). و في جميع الأصول هنا: «تزور» (بالتاء المثناة الفوقية).
7- في «مسالك الأبصار» (ص 359): «... و هم... إلخ...».

و شاهدنا الجلّ(1) و الياسمي *** ن و المسمعات بقصّابها(2)

و بربطنا(3) دائم معمل *** فأيّ الثلاثة أزرى بها

تنازعني إذ خلت بردها *** معطّرة غير جلبابها

فلما التقينا على آلة *** و مدّت إليّ بأسبابها

/الشّعر للأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة. و هؤلاء الذين ذكرهم أساقفة نجران، و كان يزورهم و يمدحهم، و يمدح العاقب و السيّد، و هما ملكا نجران، و يقيم عندهما ما شاء، يسقونه الخمر و يسمعونه الغناء الرّوميّ، فإذا انصرف أجزلوا صلته.

أخبرنا بذلك محمد بن العبّاس اليزيديّ عن عمه عبيد اللّه عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ، و له أخبار كثيرة معهم تذكر في مواضعها إن شاء اللّه. و الغناء لحنين الحيريّ خفيف ثقيل(4) بالوسطى في مجراها عن إسحاق في الأربعة الأول. و ذكر عمرو أنه لابن محرز. و ذكر يونس أن فيها لحنا لمالك و لم يجنّسه. و ذكر الهشاميّ أن في الخامس و السادس ثم الأوّل و الثاني خفيف رمل بالوسطى ليحيى المكيّ.

استحضره الفضل بن الربيع لما ولى الهادي:

و قال حمّاد عن مصعب بن عبد اللّه قال حدّثني الطّراز و كان بريد الفضل بن الرّبيع قال:

لما مات المهدي و ملّك موسى الهادي أعطاني الفضل دنانير و قال: الحق بمكة فأتني بابن جامع و احمله في قبّة و لا تعلمنّ بذا(5) أحدا؛ ففعلت فأنزلته عندي و اشتريت له جارية، و كان ابن جامع صاحب نساء. فذكره موسى ذات ليلة - و كان هو و الحرّاني(6) منقطعين إلى موسى أيام المهديّ فضربهما المهديّ و طردهما - فقال لجلسائه: أ ما فيكم أحد يرسل إلى ابن جامع و قد علمتم موقعه منّي! فقال له الفضل بن الربيع: هو و اللّه عندي يا أمير المؤمنين و قد فعلت الذي أردت. و بعث إليه فأتي به في الليل. فوصل الفضل تلك الليلة بعشرة آلاف دينار و ولاّه حجابته.

غنى هو و إبراهيم الموصلي الرشيد بشعر السعدي فمدحه و ذم الموصلي:

قال إسحاق عن بعض أصحابه:

ص: 493


1- الجل (بالضم و يفتح): الورد أبيضه و أحمره و أصفره، واحده جلة.
2- ورد هذا البيت في «اللسان» و «الصحاح» (مادة قصب). و قيل في «اللسان»: «... و القصابة: المزمار و الجمع القصاب. قال الأعشى (و ذكر هذا البيت. ثم قال) و قال الأصمعي: أراد الأعشى بالقصاب الأوتار التي سويت من الأمعاء». و عبارة الصحاح: «... و القصب بالضم: المعى... و الجمع أقصاب قال الأعشى: و شاهدنا الجل و الياسمي ن و المسمعات بأقصابها أي بأوتارها و هي تتخذ من الأمعاء. و يروى بقصابها و هي المزامير».
3- البربط (كجعفر): العود. و الكلمة فارسية معربة قيل شبه بصدر البط، و بر: الصدر. و رواية هذا الشطر في «مسالك الأبصار»: «و بربطنا معمل دائب».
4- كلمة «ثقيل» ساقطة في ح.
5- في ح: «به».
6- هو إبراهيم الحرّاني. كان من ندماء الهادي، و قيما على خزائن الأموال في أيامه. (انظر «التاج» للجاحظ ص 36 طبع المطبعة الأميرية ببولاق). و سيذكر بعد قليل في خبر عن مصعب أيضا أن الذي كان منقطعا إلى موسى الهادي مع ابن جامع و ناله معه ضرب المهدي و طرده هو إبراهيم الموصليّ.

كنا عند أمير المؤمنين الرشيد يوما فقال الغلام الذي على الستارة: يا ابن جامع، تغنّ ببيت السّعديّ(1):

فلو سألت سراة الحيّ سلمى *** على أن قد تلوّن بي زماني

لخبّرها ذو و الأحساب عنّي *** و أعدائي فكلّ قد بلاني

بذبّي الذمّ عن حسبي بمالي(2) *** و زبّونات أشوس تيّحان(3)

و أني لا أزال أخا حروب *** إذا لم أجن كنت مجنّ جاني

قال: فحرّك ابن جامع رأسه - و كان إذا اقترح عليه الخليفة شيئا قد أحسنه و أكمله طار فرحا - فغنّى به؛ فاربدّ وجه إبراهيم لمّا سمعه منه، و كذا كان ابن جامع أيضا يفعل؛ فقال له صاحب الستارة: أحسنت و اللّه يا أميري! أعد فأعاد؛ فقال: أنت في حلبة لا يلحقك أحد فيها أبدا. ثم قال صاحب الستارة لإبراهيم: تغنّ بهذا الشعر فتغنّى؛ فلما فرغ قال: «مرعى و لا كالسّعدان»(4)! أخطأت(5) في موضع كذا/و في موضع كذا. فقال: نفي إبراهيم من أبيه إن كان يا أمير المؤمنين/أخطأ حرفا، و قد علمت أني أغفلت في هذين الموضعين.

قال إبراهيم: فلما انصرفنا قلت لابن جامع: و اللّه ما أعلم أنّ أحدا بقي(6) في الأرض يعرف هذا الغناء معرفة أمير المؤمنين. قال: حقّ و اللّه، لهو إنسان يسمع الغناء منذ عشرين سنة مع هذا الذكاء الذي فيه.

صوت كان إذا غناه في مجلس لم يتغن بغيره:
اشارة

قال إسحاق:

كان ابن جامع إذا تغنّى في هذا الشعر:

صوت

من كان يبكي لما بي *** من طول سقم رسيس(7)

ص: 494


1- هو سوّار بن المضرب السعدي.
2- كذا ورد هذا الشطر في الأصول. و روايته في «لسان العرب» مادة (تيح): «بذبي اليوم...». و في مادة (زبن): «بذبي الذم عن أحساب قومي».
3- كذا في س و «لسان العرب» و «الصحاح» (مادتي زبن و تيح). و قد صححها كذلك المرحوم الشيخ الشنقيطي بقلمه على هامش نسخته. و زبونات: جمع زبونة و هي الكبر. يقال: رجل فيه زبونة أي كبر، و ذو زبونة أي مانع جانبه. و يقال: الزبونة من الرجال: المانع لما وراء ظهره. و قال ابن بري: زبونات: دفوعات، واحدها زبونة، يعني بذلك أحسابه و مفاخره أي أنها تدفع غيرها. و الأشوس: الذي ينظر بمؤخر عينه من الكبر. و التيحان (بكسر الياء المشددة و فتحها): الذي يتعرض لكل مكرمة و أمر شديد. و في سائر الأصول: «و دبوسات أشوس...».
4- قال أبو حنيفة الدينوري: من الأحرار السعدان و هي غبراء اللون حلوة يأكلها كل شيء و ليست بكبيرة و لها إذا يبست شوكة مفلطحة كأنها درهم. و منبته سهول الأرض، و هو من أنجع المراعي في المال، و لا تحسن على نبت حسنها عليه. قال النابغة: الواهب المائة الأبكار زينها سعدان توضح في أوبارها اللبد و هذا مثل يضرب للشيء يفضل على أقرانه و أشكاله. (راجع «مجمع الأمثال» ج 2 ص 191 و «اللسان» مادة سعد).
5- في ب، س: «لم أخطأت».
6- في ح: «يغني».
7- الرسيس: الثابت الذي قد لزم مكانه. و يقال: رس السقم في جسمه و قلبه رسيسا إذا دخل و ثبت.

فالآن من قبل موتي *** لا عطر بعد عروس(1)

/بنيتم في فؤادي *** أوكار طير النّحوس

قلبي فريس المنايا *** يا ويحه من فريس

سئل عن تفضيله برصوما فأجاب:

- الشعر لرجل من قريش، و الغناء لابن جامع في طريقة الرمل - لم يتغنّ في ذلك المجلس بغيره. و كان إذا أراد أن يتغنّى سأل أن يزمر عليه برصوما. فلما كثر ذلك سألوه فيه فقال: لا و اللّه(2)، و لكنه إذا ابتدأت فغنّيت في الشعر عرف الغرض الذي يصلح فما يجاوزه، و كنت معه في راحة؛ و ذلك أن المغنّي إذا تغنّى بزمر زامر فأكثر العمل على الزامر لأنه لا يقفو الأثر؛ فإذا زمر برصوما فأنا في راحة و هو في تعب، و إذا زمر عليّ غيره فهو في راحة و أنا في تعب. فإن شككتم فاسألوا برصوما و منصور زلزل. فسألوهما عما قال، فقالا: صدق.

هم المهدي بضربه لاتصاله بالهادي:

قال و حدّثني عليّ بن أحمد الباهليّ قال: سمعت مصعب بن عبد اللّه يقول:

بلغ المهديّ أنّ ابن جامع و الموصليّ يأتيان موسى(3)، فبعث إليهما فجيء بهما، فضرب الموصليّ ضربا مبرّحا، و قال له ابن جامع: ارحم أمّي! فرقّ له و قال له: قبّحك اللّه! رجل من قريش يغنّي! و طرده. فلما قام(4)موسى، وجّه الفضل خلفه بريدا حتى جاء به؛ فقال له موسى: ما كان ليفعل هذا غيرك.

غنى عند الهادي فأعطاه ثلاثين ألف دينار:

قال و حدّثني الزبير بن بكّار قال قال لي فلفلة(5):

تمنّى يوما موسى أمير المؤمنين ابن جامع، فدفع إليّ الفضل بن الربيع خمسمائة دينار و قال: امض حتى تحمل ابن جامع، و بعث إليه بما يصلحه، فمضيت فحملته. فلما دخلنا أدخله الفضل الحمّام و أصلح من شأنه.

و دخل على موسى فغنّاه فلم/يعجبه. فلمّا خرج قال له الفضل: تركت الخفيف و غنيت الثقيل، قال: فأدخلني عليه أخرى؛ فأدخله فغنّى الخفيف؛ فقال: حاجتك فأعطاه ثلاثين ألف دينار.

ص: 495


1- هذا مثل مشهور قالته أسماء بنت عبد اللّه العذرية، و كان اسم زوجها عروس، و مات عنها، فتزوجها رجل أعسر أبخر بخيل دمم. فلما أراد أن يظعن بها قالت: لو أذنت لي فرثيت ابن عمي؛ فقال: افعلي؛ فقالت: أبكيك يا عروس الأعراس، يا ثعلبا في أهله و أسدا عند الناس؛ مع أشياء ليس يعلمها الناس. فقال: و ما تلك الأشياء؟ فقالت: كان عن الهمة غير نعاس، و يعمل السيف صبيحات الباس. ثم قالت: يا عروس الأغر الأزهر، الطيب الحيم الكريم المحضر، مع أشياء له لا تذكر. فقال: و ما تلك الأشياء؟ قالت: كان عيوفا للخنى و المنكر، طيب النكهة غير أبخر، أيسر غير أعسر. فعرف أنها تعرض به. فلما رحل بها قال: ضمي إليك عطرك، و قد نظر إلى قشوة عطرها مطروحة، فقالت: لا عطر بعد عروس. و قيل: إن رجلا تزوّج امرأة فأهديت إليه فوجدها ثفلة فقال: أين عطرك؟ فقالت: خبأته؛ فقال: لا مخبأ لعطر بعد عروس. و هذا المثل يضرب لمن لا يدخر عنه نفيس. (انظر «شرح القاموس» مادة عرس و «مجمع الأمثال» للميداني ج 2 ص 137 طبع بولاق).
2- كذا في ح. و في سائر الأصول: «لا و أبيه».
3- هو موسى الهادي بن المهدي تولى الخلافة سنة 169 ه و توفي سنة 170 و كانت خلافته سنة و شهرين.
4- يريد: صار خليفة.
5- كذا في ب، س. و في سائر النسخ: «قليلة».
غنى عند الرشيد بين برصوما و زلزل بعد إبراهيم الموصلي فأجاد:

قال و حدّثني عبد الرحمن بن أيوب قال حدّثنا أبو يحيى العباديّ قال حدّثني ابن أبي الرجال قال حدّثني زلزل قال:

أبطأ إبراهيم الموصليّ عن الرشيد، فأمر مسرورا الخادم يسأل عنه - و كان أمير المؤمنين قد صيّر أمر المغنّين إليه - فقيل له: لم يأت بعد. ثم جاء في آخر النهار، فقعد بيني و بين برصوما، فغنّى صوتا له فأطربه و أطرب و اللّه كلّ من كان في المجلس. قال: فقام ابن جامع من مجلسه فقعد بيني و بين برصوما ثم قال: أما و اللّه يا نبطيّ ما أحسن إبراهيم و ما أحسن غيركما. قال: ثم غنّى فنسينا أنفسنا، و اللّه لكأنّ العود كان في يده.

شهد له إبراهيم الموصلي بجودة الإيقاع:

قال و حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني يحيى بن إبراهيم بن عثمان بن نهيك قال:

دعا أبي الرشيد يوما، فأتاه و معه جعفر بن يحيى، فأقاما عنده، و أتاهما ابن جامع فغنّاهما يومهما. فلما كان الغد انصرف الرشيد و أقام/جعفر. قال: فدخل عليهم إبراهيم الموصلي فسأل جعفرا عن يومهم؛ فأخبره و قال له:

لم يزل ابن جامع يغنّينا إلا أنه كان يخرج من الإيقاع - و هو في قوله يريد أن يطيب نفس إبراهيم الموصليّ - قال:

فقال له إبراهيم: أ تريد أن تطيّب نفسي بما لا تطيب به! لا و اللّه، ما ضرط ابن جامع منذ ثلاثين سنة إلا بإيقاع، فكيف يخرج من الإيقاع!.

احتال في عزل العثماني عن مكة أيام الرشيد:

قال و حدّثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق قال حدّثني أبي قال:

كان سبب عزل العثمانيّ(1) أن ابن جامع سأل الرشيد أن يأذن له في المهارشة/بالدّيوك و الكلاب و لا يحدّ في النبيذ، فأذن له و كتب له بذلك كتابا إلى العثمانيّ. فلما وصل الكتاب قال: كذبت! أمير المؤمنين لا يحلّ ما حرّم اللّه، و هذا كتاب مزوّر. و اللّه لئن ثقفتك(2) على حال من هذه الأحوال لأؤدّبنّك أدبك. قال: فحذره ابن جامع.

و وقع بين العثماني و حماد اليزيديّ، و هو على البريد، ما يقع بين(3) العمال. فلما حجّ هارون، قال حماد لابن جامع: أعنّي عليه حتى أعزله؛ قال: أفعل. قال: فابدأ أنت و قل: إنه ظالم فاجر و استشهدني. فقال له ابن جامع:

هذا لا يقبل في العثمانيّ، و يفهم أمير المؤمنين كذبنا، و لكني أحتال من جهة ألطف من هذه. قال: فسأله هارون ابتداء فقال له: يا ابن جامع، كيف أميركم العثماني؟ قال: خير أمير و أعدله و أفضله و أقومه بحقّ لو لا ضعف في عقله. قال: و ما ضعفه؟ قال: قد أفنى الكلاب. قال: و ما دعاه إلى إفنائها؟ قال: زعم أن كلبا دنا من عثمان بن عفّان يوم ألقى على الكناس فأكل وجهه، فغضب على الكلاب فهو يقتلها. فقال: هذا ضعيف، اعزلوه! فكان سبب عزله.

ص: 496


1- هو محمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المغيرة بن عمرو بن عثمان بن عفان. (انظر كتاب «المنتقى في أخبار أم القرى» ج 2 ص 186 و «الطبري» ق 3 ص 74).
2- ثقفتك: صادفتك.
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «مع العمال».
أخبره إبراهيم بن المهدي بموت أمه كذبا ليحسن غناؤه:
اشارة

قال هارون بن محمد و حدّثني الحسن بن محمد الغياثيّ(1) قال حدّثني أبي عن القطرانيّ قال:

كان ابن جامع بارّا بوالدته، و كانت مقيمة بالمدينة و بمكة. فدعاه إبراهيم بن المهديّ و أظهر له كتابا إلى أمير المؤمنين فيه نعي والدته. قال: فجزع لذلك جزعا شديدا، و جعل أصحابه يعزّونه و يؤنسونه؛ ثم جاءوا بالطعام فلم يتركوه حتى طعم و شرب، و سألوه الغناء فامتنع. فقال له إبراهيم بن المهدي: إنك ستبذل هذا لأمير المؤمنين، فابذله لإخوانك؛ فاندفع يغنّي:

صوت

كم بالدّروب و أرض الروم من قدم *** و من جماجم صرعى ما بها قبروا(2)

بقندهار(3) و من تقدر منيّته *** بقندهار يرجّم دونه الخبر

- الشعر ليزيد(4) بن مفرّغ الحميريّ. و الغناء لابن جامع رمل. و فيه لابن سريج خفيف رمل جميعا عن الهشاميّ - قال: و جعل إبراهيم يستردّه حتى صلح(5) له. ثم قال: لا و اللّه ما كان ممّا خبّرناك شيء إنما مزحنا بك.

قال: ثم قال له: ردّ الصوت؛ فغنّاه فلم يكن من الغناء الأوّل في شيء. فقال له إبراهيم: خذه الآن على، فأدّاه إبراهيم على السماع الأوّل. فقال له ابن جامع: أحبّ أن تطرحه أنت على كذا.

هوّم في مجلس الرشيد ثم انتبه من نومه و غناه فأحجب به:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني علي بن الحسن الشّيبانيّ عن أحمد بن يحيى المكيّ قال:

كان أبي بين يدي الرشيد و ابن جامع معه يغنّي بين يدي الرشيد. فغنّاه:

خليفة لا يخيب سائله *** عليه تاج الوقار معتدل(6)

/قال: و غنّى من يتلوه، و هوّم ابن(7) جامع سكرا و نعاسا. فلما دار الغناء على أصحابه و صارت النوبة إليه، حرّكه من بجنبه لنوبته فانتبه و هو يغنّي:

ص: 497


1- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «العتابي».
2- كذا في أكثر الأصول هنا و «نهاية الأرب» (ج 4 ص 324 طبع دار الكتب المصرية). و جميع الأصول فيما يأتي. و في ب، س هنا: «ما هم قبروا». و رواية هذا البيت في «معجم البلدان» في الكلام على قندهار: كم بالجروم و أرض الهند من قدم و من سرابيل قتلى ليتهم قبروا و القدم: الشجاع. يستوي فيه المذكر و المؤنث و المفرد و الجمع. و جماجم القوم: ساداتهم و رؤساؤهم.
3- قندهار: مدينة كبيرة بالقرب من كابل، عاصمة أفغانستان الآن.
4- هو يزيد بن ربيعة ابن مفرغ (كمحدث) الحميري، و قيل: يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ. و كان حليفا لآل خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، و هو عم السيد الحميري. و يقال: إن جده راهن على أن يشرب سقاء لبن كله فشربه حتى فرغه، فلقب مفرغا. (انظر ترجمته في «الأغاني» ج 17 ص 51 طبع بولاق).
5- كذا في الأصول. و لعله «حتى صح له».
6- في ح، ء، م: «يعتدل».
7- هوّم الرجل: هز رأسه من النعاس، و قيل: نام قليلا.

اسلم و حيّيت أيّها الطّلل *** و إن عفتك الرياح و السّبل(1)

- قال: و هو يتلو البيت الأوّل - فعجب أهل المجلس من ذكائه و فهمه، و أعجب ذلك الرشيد.

نسبة هذا الصوت
صوت

اسلم و حيّيت أيها الطلل *** و إن عفتك الرياح و السّبل

خليفة لا يخيب سائله *** عليه تاج الوقار معتدل

الشعر لأشجع أو لسلم الخاسر يمدح به موسى الهادي. و الغناء لابن جامع ثقيل أوّل بالوسطى، من رواية الهشاميّ و أحمد بن يحيى المكيّ.

أخبره الرشيد بموت أمه كذبا ليحسن غناؤه:

قال هارون و قد حدّثني بهذا الخبر عبد الرحمن بن أيوب قال حدّثني أحمد بن يحيى المكيّ قال:

كان ابن جامع أحسن ما يكون غناء إذا حزن صوته. فأحبّ الرشيد أن يسمع ذلك على تلك الحال، فقال للفضل بن الربيع: ابعث خريطة فيها نعي أمّ ابن جامع - و كان بارّا بأمّه - ففعل. فوردت الخريطة على أمير المؤمنين و هو في مجلس لهوه، فقال: يا ابن جامع، جاء في هذه الخريطة نعي أمّك. فاندفع ابن جامع يغنّي بتلك الحرقة و الحزن الذي في قلبه:

/

كم بالدّروب و أرض السّند من قدم *** و من جماجم صرعى ما بها قبروا

بقندهار و من تكتب منيّته *** بقندهار يرجّم دونه الخبر

قال: فو اللّه ما ملكنا أنفسنا، و رأيت الغلمان يضربون برءوسهم الحيطان و الأساطين. - قال هارون: لا أشك أن ابن المكيّ قد حدّث به عن رجل حضر ذلك فأغفله عبد الرحمن بن أيوب - قال: ثم غنّى بعد ذلك:

يا صاحب القبر الغريب

- و هو لحن قديم. و فيه لحن لابن المكيّ - فقال له الرشيد: أحسنت! و أمر له بعشرة آلاف دينار.

نسبة هذا الصوت الأخير
صوت

يا صاحب القبر الغريب *** بالشام في طرف الكثيب

بالحجر(2) بين صفائح *** صمّ ترصّف بالجبوب(3)

ص: 498


1- السبل (بالتحريك): المطر.
2- الحجر (بالكسر): قرية صغيرة كانت بين الشام و الحجاز و هي بين جبال كانت ديار ثمود التي قال اللّه جل شأنه فيها: (و تنحتون من الجبال بيوتا). و تسمى تلك الجبال الأثالث، و هي التي ينزلها حجاج الشام.
3- كذا في ح. و الجبوب (بالباء الموحدة): المدر (الطوب) المفتت. و في سائر الأصول: «الجيوب» بالياء المثناة من تحت و هو تصحيف.

رصفا و لحد ممكن *** تحت العجاجة في القليب

فإذا ذكرت أنينه *** و مغيبه تحت المغيب

هاجت لواعج عبرة *** في الصدر دائمة الدّبيب

أسفا لحسن بلائه *** و لمصرع الشيخ الغريب

/أقبلت أطلب طبّه *** و الموت يعضل(1) بالطبيب

الشعر لمكين العذريّ يرثي أباه، و قيل: إنه لرجل خرج بابنه إلى الشام هربا به من جارية هويها فمات هناك.

و الغناء لحكم الوادي، رمل في مجرى البنصر. و قيل: إن الشعر لسلاّمة(2)/ترثي الوليد بن يزيد.

سمعته أم جعفر مع الرشيد فأمرت له بمائة ألف درهم لكل بيت غنى فيه و عوضها الرشيد بكل درهم دينارا:
اشارة

أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني الحسن بن محمد قال حدّثنا أحمد بن الخليل بن مالك قال حدّثني عبد اللّه بن علي بن عيسى بن ماهان قال سمعت يزيد(3) يحدّث:

أن أمّ جعفر بلغها أنّ الرشيد جالس وحده ليس معه أحد من الندماء و لا المسامرين؛ فأرسلت إليه:

يا أمير المؤمنين، إني لم أرك منذ ثلاث و هذا اليوم الرابع. فأرسل إليها: عندي ابن جامع. فأرسلت إليه: أنت تعلم أني لا أتهنّأ بشرب و لا سماع و لا غيرهما إلا أن تشركني فيه، فما كان عليك أن أشركك في الذي أنت فيه! فأرسل إليها: إني سائر إليك الساعة. ثم قام و أخذ بيد ابن جامع، و قال لحسين الخادم: امض إليها فأعلمها أني قد جئت.

و أقبل الرشيد، فلما نظر إلى الخدم و الوصائف قد استقبلوه علم أنها قد قامت تستقبله، فوجّه إليها: إن معي ابن جامع؛ فعدلت إلى بعض المقاصير. و جاء الرشيد و صيّر ابن جامع في بعض المواضع التي يسمع منه فيها و لا يكون حاضرا معهم. و جاءت أمّ جعفر فدخلت على الرشيد/و أهوت لتنكبّ على يده؛ فأجلسها إلى جانبه فاعتنقها و اعتنقته. ثم أمر ابن جامع أن يغنّي فاندفع فغنّى:

صوت

ما رعدت رعدة و لا برقت *** لكنّها أنشئت لنا خلقه(4)

الماء يجري على(5) نظام له *** لو يجد الماء مخرقا خرقه

بتنا و باتت على نمارقها *** حتى بدا الصبح عينها أرقه

أن قيل إنّ الرحيل بعد غد *** و الدار بعد الجميع مفترقه

ص: 499


1- أعضل به: أعياه و أعجزه. و روى عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال: أعضل بي أهل الكوفة، ما يرضون بأمير و لا يرضاهم أمير. قال الأموي: في قوله: أعضل بي هو من العضال و هو الأمر الشديد الذي لا يقوم به صاحبه، أي ضاقت على الحيل في أمرهم و صعبت عليّ مداراتهم.
2- هي سلامة القس. (راجع ترجمتها في الجزء الثامن من «الأغاني» ص 6-15 طبع بولاق).
3- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «بربر».
4- يقال: نشأت لهم سحابة خلقة و خليقة أي فيها أثر المطر.
5- كذا في ب، س و «ديوان عبيد بن الأبرص» (ص 86 طبع أوروبا). و في سائر الأصول: «و لا نظام له».

- الشعر لعبيد بن الأبرص. و الغناء لابن جامع ثاني ثقيل من أصوات قليلات الأشباه، عن إسحاق. و فيه لابن محرز ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو بن بانة. و ذكر يونس أن فيه لحنا لمعبد و لم يجنّسه. و فيه لحكم هزج بالوسطى عن عمرو و الهشاميّ. و لمخارق في هذه الأبيات رمل بالبنصر عن الهشاميّ. و ذكر حبش أن الثقيل الأوّل للغريض.

و ذكر الهشاميّ أن لمتيّم فيها ثاني ثقيل بالوسطى - قال: فقالت أمّ جعفر للرشيد: ما أحسن ما اشتهيت و اللّه يا أمير المؤمنين!. ثم قالت لمسلم خادمها: ادفع إلى ابن جامع لكل بيت مائة ألف درهم. فقال الرشيد: غلبتنا يا بنت أبي(1) الفضل و سبقتنا إلى برّ ضيفنا و جليسنا. فلما خرج، حمل إليها مكان كلّ درهم دينارا.

أخذ صوتا من جارية بثلاثة دراهم فأخذ به من الرشيد ثلاثة آلاف دينار:

أخبرنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال أخبرني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدّثني محمد بن ضوين الصّلصال التّيميّ قال حدّثني إسماعيل بن جامع السّهميّ قال:

ضمّني الدهر(2) ضمّا شديدا بمكة، فانتقلت منها بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوما و ما أملك إلا ثلاثة دراهم. فهي في كمّي إذا أنا بجارية حميراء على رقبتها جرّة تريد الرّكيّ(3) تسعى بين يديّ و ترنّم بصوت شجيّ تقول:

شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا *** فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا

و ذاك لأنّ النوم يغشى عيونهم *** سراعا و ما يغشى لنا النوم أعينا

/إذا ما دنا الليل المضرّ(4) لذي الهوى *** جزعنا و هم يستبشرون إذا دنا

فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما *** نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا

قال: فأخذ الغناء بقلبي و لم يدر لي منه حرف. فقلت: يا جارية، ما أدري أوجهك أحسن أم غناؤك! فلو شئت أعدت؛ قالت: حبّا و كرامة. ثم أسندت ظهرها إلى جدار قرب منها و رفعت إحدى رجليها فوضعتها على الأخرى، و وضعت الجرّة على ساقيها ثم انبعثت تغنّيه؛ فو اللّه ما دار لي منه حرف؛ فقلت: أحسنت! فلو شئت أعدتيه مرّة أخرى! ففطنت و كلحت و قالت: ما أعجب أمركم! أحدكم لا يزال يجيء إلى الجارية عليها الضّريبة فيشغلها! فضربت بيدي إلى الثلاثة الدراهم فدفعتها إليها، و قلت: أقيمي بها وجهك اليوم إلى أن نلتقي. قال:

فأخذتها كالكارهة و قالت: أنت الآن تريد أن تأخذ منّي صوتا أحسبك ستأخذ به ألف/دينار و ألف دينار و ألف دينار. قال: و انبعثت تغنّي؛ فأعملت فكري في غنائها حتى دار لي الصوت و فهمته، و انصرفت مسرورا إلى منزلي أردّده حتى خفّ على لساني. ثم إني خرجت أريد بغداد فدخلتها، فنزل بي المكاري على باب(5) محوّل؛ فبقيت لا أدري أين أتوجّه و لا من أقصد. فذهبت أمشي مع الناس، حتى أتيت الجسر فعبرت معهم، ثم انتهيت إلى شارع المدينة، فرأيت مسجدا بالقرب من دار الفضل بن الربيع مرتفعا؛ فقلت: مسجد قوم سراة؛ فدخلته، و حضرت صلاة

ص: 500


1- كذا في الأصول. و المعروف أن أم جعفر هي زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، و أن جعفرا أباها ولد إبراهيم و زبيدة و جعفرا و عيسى و عبيد اللّه و صالحا و لبانة. (انظر «المعارف» لابن قتيبة ص 192).
2- يريد ضغطني و اشتد عليّ، من شدّة الفقر و الحاجة.
3- الركي: جنس للركية و هي البئر.
4- كذا في ب، س هنا و فيما سيأتي في جميع الأصول. و في أ، م هنا: «المبير» و في ء: «المبيد».
5- باب محول: محلة كبيرة من محال بغداد كانت متصلة بالكرخ.

المغرب و أقمت بمكاني حتى صلّيت العشاء الآخرة على جوع و تعب. و انصرف أهل المسجد و بقي رجل يصلّي، خلفه جماعة خدم و خول(1) ينتظرون فراغه؛ فصلّى مليّا ثم انصرف؛ فرآني فقال: أحسبك غريبا؟ قلت: أجل.

قال: فمتى كنت في هذه المدينة؟ قلت: دخلتها آنفا، و ليس لي بها منزل و لا معرفة، و ليست صناعتي من الصنائع التي يمتّ بها إلى أهل الخير. قال: و ما صناعتك؟ قلت: أتغنّى. قال: فوثب مبادرا و وكّل بي بعض من معه.

فسألت الموكّل بي عنه فقال: هذا سلاّم(2) الأبرش. قال: و إذا رسول قد جاء في طلبي فانتهى بي إلى قصر من قصور الخلافة، و جاوز بي(3) مقصورة إلى مقصورة، ثم أدخلت مقصورة في آخر الدهليز؛ و دعا بطعام فأتيت بمائدة عليها من طعام الملوك، فأكلت حتى امتلأت. فإني لكذلك إذ سمعت ركضا في الدهليز و قائلا يقول: أين الرجل؟ قيل: هو هذا. قال: ادعوا له بغسول(4)/و خلعة و طيب، ففعل ذلك بي. فحملت على دابّة إلى دار الخلافة - و عرفتها بالحرس و التكبير و النيران - فجاوزت مقاصير عدّة، حتى صرت إلى دار قوراء(5) فيها أسرّة في وسطها قد أضيف بعضها إلى بعض. فأمرني الرجل بالصعود فصعدت، و إذا رجل جالس عن يمينه ثلاث جوار في حجورهنّ العيدان، و في حجر الرجل عود. فرحّب الرجل بي، و إذا مجالس حياله كان فيها قوم قد قاموا عنها. فلم ألبث أن خرج خادم من وراء الستر فقال للرجل: تغنّ، فانبعث يغنّي بصوت لي و هو:

لم تمش ميلا و لم تركب على قتب *** و لم تر الشمس إلا دونها الكلل(6)

تمشي الهوينى كأن(7) الريح ترجعها *** مشي اليعافير(8) في جيآتها الوهل

/فغنّى بغير إصابة و أوتار مختلفة و دساتين(9) مختلفة. ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تلي الرجل فقال لها:

تغنّي، فغنّت أيضا بصوت لي كانت فيه أحسن حالا من الرجل، و هو قوله:

/

يا دار أضحت خلاء لا أنيس بها *** إلا الظباء و إلا النّاشط(10) الفرد

ص: 501


1- في ح: «و مجول». و في سائر الأصول: «و فحول» و الظاهر أن كليهما محرّف عما أثبتناه.
2- خدم المنصور و تولى المظالم للمهدي و عاصر الهادي و الرشيد. (انظر «الطبري» ق 3 ص 393، 529، 603، 684، 749، 1075، 1383).
3- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و جاوزني» و هو تصحيف.
4- الغسول: الماء يغتسل به، أو هو ما تغسل به الأيدي كالأشنان و غيره.
5- الدار القوراء: الواسعة الجوف.
6- الكلل: جمع كلة و هي ستر يخاط كالبيت (ناموسية).
7- في ح: «كأن المشي يوحشها».
8- اليعافير: الظباء. و الوهل: الفزع.
9- الدساتين: هي الرباطات التي توضع الأصابع عليها، واحدها دستان. و أسامي دساتين العود تنسب إلى الأصابع التي توضع عليها، فأوّلها «دستان السبابة» و يشدّ عند تسع الوتر، و قد يشدّ فوقه دستان أيضا يسمى «الزائد». ثم يلي دستان السبابة «دستان الوسطى» و قد توضع أوضاعا مختلفة فأولها يسمى «دستان الوسطى القديمة» و الثاني يسمى «دستان وسطى الفرس» و الثالث يسمى «دستان وسطى زلزل» لأنه أوّل من شدّه. فأما الوسطى القديمة فشدّ دستانها على قريب من الربع مما بين دستان السبابة و دستان البنصر. و دستان وسطى الفرس على النصف فيما بينهما على التقريب. و دستان وسطى زلزل على ثلاثة أرباع ما بينهما إلى ما يلي البنصر بالتقريب. و قد يقتصر من دساتين هذه الوسطيات على واحد و ربما يجمع بين اثنين منها. ثم يلي دستان الوسطى «دستان البنصر» و يشدّ على تسع ما بين دستان السبابة و بين المشط. ثم يلي دستان البنصر «دستان الخنصر» و يشدّ على ربع الوتر. (عن «مفاتيح العلوم» للخوارزمي. و راجع ما كتب في هذا المعنى في تصدير هذا الكتاب ص 40).
10- الناشط: الثور الوحشي و كذلك الحمار الوحشيّ. و الفرد: المنفرد.

أين الذين إذا ما زرتهم جذلوا *** و طار عن قلبي التّشواق و الكمد

[ثم عاد إلى الثانية و أحسبه أغفلها و ما تغنّت(1) به] ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تليها فانبعثت تغنّي بصوت لحكم الواديّ و هو:

فو اللّه ما أدري أ يغلبني الهوى *** إذا جدّ و شك البين أم أنا غالبه

فإن أستطع أغلب و إن يغلب الهوى *** فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه

قال: ثم عاد الخادم إلى الجارية الثالثة فغنّت بصوت لحنين و هو قوله:

مررنا على قيسيّة عامريّة *** لها بشر صافي الأديم هجان(2)

فقالت و ألقت جانب السّتر دونها *** من ايّة أرض أو من الرجلان

فقلت لها أمّا تميم فأسرتي *** هديت و أما صاحبي فيمان

رفيقان ضمّ السّفر بيني و بينه *** و قد يلتقي الشتّى فيأتلفان

ثم عاد إلى الرجل فغنّى صوتا فشبّه(3) فيه. و الشعر لعمر بن أبي ربيعة و هو قوله:

أمسى بأسماء هذا القلب معمودا *** إذا أقول صحا يعتاده عيدا

كأنّ أحور من غزلان ذي(4) بقر *** أعارها شبه العينين و الجيدا

بمشرق(5) كشعاع الشمس بهجته *** و مسبكرّ على لبّاتها سودا

/ثم عاد إلى الجارية فتغنّت بصوت لحكم الواديّ:

تعيّرنا أنّا قليل عديدنا *** فقلت لها إن الكرام قليل

و ما ضرّنا أنّا قليل و جارنا *** عزيز و جار الأكثرين ذليل

و إنّا لقوم ما نرى القتل سبّة *** إذا ما رأته عامر و سلول

يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا *** و تكرهه آجالهم فتطول

و تغنّت الثانية:

وددتك لما كان ودّك خالصا *** و أعرضت لما صرت نهبا مقسّما

ص: 502


1- كذا وردت هذه العبارة في جميع الأصول. و الظاهر أنها مقحمة.
2- الهجان: الأبيض الخالص من كل شيء.
3- يريد: خلط فيه و لم يحسن أداءه.
4- كذا في جميع الأصول هنا و فيما سيأتي في ح و ديوانه. و فيما سيأتي في سائر الأصول: «ذي نفر» (بالفاء) و كلاهما اسم لموضع. فذو بقر: واد بين أخيلة الحمى حمى الربذة، و قرية في ديار بني أسد. و ذو نفر: موضع على ثمانية أميال من السليلة بينها و بين الربذة. (انظر «معجم ما استعجم» للبكري و «معجم ياقوت»).
5- كذا في ديوانه. و هذا البيت يتعلق ببيت قبله أغفله صاحب الأغاني و هو: قامت تراءى و قد جدّ الرحيل بنا لتنكأ القرح من قلب قد اصطيدا و في جميع الأصول: «و مشرقا... و مسبطرا... إلخ». و شعر مسبكر: مسترسل.

و لا يلبث الحوض الجديد بناؤه *** إذا(1) كثر الورّاد أن يتهدّما

و تغنّت الثالثة بشعر الخنساء:

و ما كرّ إلا كان أوّل طاعن *** و لا أبصرته الخيل إلا اقشعرّت

فيدرك ثأرا و هو لم يخطه الغنى *** فمثل أخي يوما به العين قرّت

فلست أرزّا بعده برزيّة *** فأذكره إلا سلت و تجلّت

و غنّى الرجل في الدور الثالث:

لحى اللّه صعلوكا مناه و همّه *** من الدهر أن يلقى لبوسا و مطعما

/ينام الضحى حتى إذا ليله انتهى(2) *** تنبه مثلوج(3) الفؤاد مورّما(4)

و لكنّ صعلوكا يساور همّه *** و يمضي على الهيجاء ليثا مقدّما(5)

فذلك إن يلق الكريهة يلقها *** كريما و إن يستغن يوما فربّما

/قال: و تغنّت الجارية:

إذا كنت ربّا للقلوص فلا يكن(6) *** رفيقك يمشي خلفها غير راكب

أنخها فأردفه فإن حملتكما *** فذاك و إن كان العقاب(7) فعاقب

قال: و تغنّت الجارية بشعر عمرو بن معديكرب:

أ لم تر لمّا ضمّني البلد القفر *** سمعت نداء يصدع القلب يا عمرو

أغثنا فإنا عصبة مذحجيّة *** نزار على وفر و ليس لنا وفر

قال: و تغنّت الثالثة بشعر عمر بن أبي ربيعة:

فلما تواقفنا و سلّمت أسفرت(8) *** وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا

تبالهن بالعرفان لمّا عرفنني *** و قلن امرؤ باغ أكلّ(9) و أوضعا

و لما تنازعن(10) الأحاديث قلن لي *** أخفت علينا أن نغرّ و نخدعا

ص: 503


1- في أ، ء، م هنا و فيما سيأتي في جميع الأصول: «على كثرة الوراد».
2- في «ديوان حاتم» (طبع لندن سنة 1872): «استوى».
3- كذا في ديوانه. و في جميع الأصول: «مسلوب».
4- مورما: منتفخا بادئا لعدم ما يشغله من شئون الحياة.
5- في أ، ء، م هنا و فيما سيأتي في جميع الأصول: «مصمما». و رواية هذا البيت في ديوانه: و للّه صعلوك يساور همه و يمضي على الأحداث و الدهر مقدما
6- في «شعراء النصرانية» (ج 1 ص 129 طبع بيروت): «فلا تدع».
7- العقاب: هو أن تركب الدابة مرة و يركبها صاحبك مرة.
8- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «أقبلت». و في ديوانه طبع أوروبا: «أشرقت».
9- أكل: أعيا. و أوضع: أسرع. يريد أنه أوضع فأكل إلا أنه قدّم و أخر.
10- كدا في ديوانه. و في جميع الأصول هنا: «تواضعن» و في ب، س فيما سيأتي: «تراجعن».

قال: و توقّعت مجيء الخادم إليّ، فقلت للرجل: بأبي أنت! خذ العود فشدّ وتر كذا و ارفع الطبقة و حطّ دستان كذا؛ ففعل ما أمرته. و خرج الخادم فقال لي: تغنّ عافاك اللّه؛ فتغنّيت بصوت الرجل الأوّل على غير ما غنّاه، فإذا جماعة من الخدم يحضرون حتى استندوا إلى الأسرّة و قالوا: ويحك! لمن هذا الغناء؟ قلت: لي؛ فانصرفوا عنّي بتلك السرعة، و خرج إليّ الخادم و قال: كذبت! هذا الغناء لابن جامع. و دار الدور؛ فلما انتهى الغناء إليّ قلت للجارية التي تلي الرجل: خذي العود، /فعلمت ما أريد فسوّت العود على غنائها للصوت الثاني فتغنّيت به. فخرجت إليّ الجماعة الأولى من الخدم فقالوا: ويحك! لمن هذا؟ قلت: لي؛ فرجعوا و خرج الخادم(1).

فتغنيت بصوت لي فلا يعرف إلا بي، و سقوني فتزيّدت، و هو:

عوجي عليّ فسلّمي جبر *** فيم الصدود و أنتم سفر

ما نلتقي إلا ثلاث منى *** حتى يفرّق بيننا الدهر(2)

قال: فتزلزلت و اللّه الدار عليهم. و خرج الخادم فقال: ويحك! لمن هذا الغناء؟ قلت: لي. فرجع ثم خرج فقال: كذبت! هذا غناء ابن جامع. فقلت: فأنا إسماعيل بن جامع. فما شعرت إلا و أمير المؤمنين و جعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم. فقال لي الفضل بن الربيع: هذا أمير المؤمنين قد أقبل إليك.

فلما صعد السرير و ثبت قائما. فقال لي: ابن جامع؟ قلت: ابن جامع، جعلني اللّه فداك يا أمير المؤمنين. قال:

ويحك! متى كنت في هذه البلدة؟ قلت: آنفا، دخلتها في الوقت الذي علم بي أمير المؤمنين. قال: اجلس ويحك يا ابن جامع! و مضى هو و جعفر فجلسا في بعض تلك المجالس، و قال لي: أبشر و ابسط أملك؛ فدعوت له. ثم قال:

غنّني يا ابن جامع. فخطر بقلبي صوت الجارية الحميراء فأمرت الرجل/بإصلاح العود على ما أردت من الطبقة، فعرف ما أردت، فوزن العود وزنا و تعاهده حتى استقامت الأوتار و أخذت الدساتين مواضعها، و انبعثت أغنّي بصوت الجارية الحميراء. فنظر الرشيد إلى جعفر و قال: أسمعت كذا قطّ؟ فقال: لا و اللّه/ما خرق مسامعي قطّ مثله.

فرفع الرشيد رأسه إلى خادم بالقرب منه فدعا بكيس فيه ألف دينار فجاء به فرمى به إليّ، فصيّرته تحت فخذي و دعوت لأمير المؤمنين. فقال: يا ابن جامع، ردّ على أمير المؤمنين هذا الصوت، فرددته و تزيّدت فيه. فقال له جعفر: يا سيّدي، أ ما تراه كيف يتزيّد في الغناء! هذا خلاف ما سمعناه أوّلا و إن كان الأمر في اللحن واحدا. قال:

فرفع الرشيد رأسه إلى ذلك خادم فدعا بكيس آخر فيه ألف دينار، فجاءني به فصيّرته تحت فخذي. و قال: تغنّ يا إسماعيل ما حضرك. فجعلت أقصد الصوت بعد الصوت مما كان يبلغني أنه يشتري عليه الجواري فأغنّيه؛ فلم أزل أفعل ذلك إلى أن عسعس الليل. فقال: أتعبناك يا إسماعيل هذه الليلة بغنائك، فأعد على أمير المؤمنين الصوت (يعني صوت الجارية) فتغنّيت. فدعا الخادم و أمره فأحضر كيسا ثالثا فيه ألف دينار. قال: فذكرت ما كانت الجارية قالت لي فتبسّمت، و لحظني فقال: يا ابن الفاعلة، ممّ تبسمت؟ فجثوت على ركبتيّ و قلت: يا أمير المؤمنين، الصدق منجاة. فقال لي بانتهار: قل. فقصصت عليه خبر الجارية. فلما استوعبه قال: صدقت، قد يكون هذا و قام. و نزلت من السرير و لا أدري أين أقصد. فابتدرني فرّاشان فصارا بي إلى دار قد أمر بها أمير المؤمنين؛ ففرشت و أعدّ فيها جميع ما يكون في مثلها من آلة جلساء الملوك و ندمائهم من الخدم، و من كل آلة و خول إلى جوار

ص: 504


1- الذي يتتبع سياق الخبر يشعر بأن هاهنا نقصا. و لعل أصل الجملة: «و خرج الخادم فقال كذبت فتغنيت... إلخ».
2- كذا في جميع الأصول هنا. و في «ترجمة العرجي» (ج 1 ص 408 من «الأغاني» طبع دار الكتب المصرية) و فيما سيأتي في ب، س: «النفر». و النفر: هو نفر الحاج من منى و يكون في اليوم الثاني و يسمى النفر الأول. و الثاني يكون في اليوم الثالث من أيام التشريق.

و وصفاء. فدخلتها(1) فقيرا و أصبحت من جلّة أهلها و مياسيرهم.

و ذكر لي هذا الخبر عبد اللّه بن الرّبيع عن أبي حفص الشّيبانيّ عن محمد بن القاسم عن إسماعيل بن جامع قال:

/ضمّني الدهر بمكة ضمّا شديدا فانتقلت إلى المدينة. فبينا أنا يوما جالس مع بعض أهلها نتحدّث، إذ قال لي رجل حضرنا: و اللّه لقد بلغنا يا ابن جامع أن الخليفة قد ذكرك، و أنت في هذا البلد ضائع! فقلت: و اللّه ما بي نهوض. قال بعضهم: فنحن ننهضك. فاحتلت في شيء و شخصت إلى العراق، فقدمت بغداد، و نزلت عن بغل كنت اكتريته. ثم ذكر باقي الحديث نحو الذي قبله في المعاني، و لم يذكر خبر السوداء(2) التي أخذ الصوت عنها.

و أحسبه غلط في(3) إدخاله هذه الحكاية هاهنا، و لتلك خبر آخر نذكره هاهنا(4). قال في هذا الخبر: إن الدّور دار مرّة أخرى حتى صار إليّ؛ فخرج الخادم فقال: غنّ أيها الرجل! فقلت: ما أنتظر الآن!! ثم اندفعت أغنّي بصوت لي و هو:

فلو كان لي قلبان عشت بواحد *** و خلّفت قلبا في هواك يعذّب

و لكنما أحيا بقلب مروّع *** فلا العيش يصفو لي و لا الموت يقرب

تعلّمت أسباب الرضا خوف سخطها *** و علّمها حبّي لها كيف تغضب

و لي ألف وجه قد عرفت مكانه *** و لكن بلا قلب إلى أين أذهب(5)

فخرج الرشيد حينئذ.

نسبة ما في هذه الأصوات من الأغاني
صوت

شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا *** فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا

و ذاك لأنّ النوم يغشى عيونهم *** سراعا و ما يغشى لنا النوم أعينا

/إذا ما دنا الليل المضرّ بذي الهوى *** جزعنا و هم يستبشرون إذا دنا

فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما *** نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا

عروضه من الطويل. و ذكر الهشاميّ أن الغناء لابن جامع هزج بالوسطى، و في الخبر أنه أخذه عن سوداء(6)لقيها بمكة.

و منها:

ص: 505


1- يريد مدينة بغداد التي تقدّمت في أوّل الخبر.
2- كذا في جميع الأصول هنا و فيما سيأتي. و قد تقدم أن الجارية التي أخذ عنها كانت حميراء و قد ذكر ذلك في موضعين.
3- يريد به محمد بن ضوين الصلصال التيمي و هو الذي ذكر هذا الخبر فيما تقدّم و ذكر فيه خبر السوداء التي أخذ عنها ابن جامع الصوت.
4- ذكرت هذه القصة في آخر ترجمة ابن جامع.
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «يذهب».
6- انظر حاشية رقم 1 ص 319 من هذه الترجمة.
صوت

يا دار أضحت خلاء لا أنيس بها *** إلا الظباء و إلا النّاشط الفرد

أين الذين إذا ما زرتهم جذلوا *** و طار عن قلبي التشواق و الكمد

في هذا الصوت لحن لابن سريج خفيف ثقيل أوّل بالوسطى من رواية حبش. و لحن ابن جامع رمل.

و منها:

صوت

لم تمش ميلا و لم تركب على جمل *** و لم تر الشمس إلا دونها الكلل

أقول(1) للركب في درنا و قد ثملوا *** شيموا و كيف يشيم الشارب الثّمل

/الشعر للأعشى. و الغناء لابن سريج رمل بالبنصر، و قد كتب فيما يغنّي فيه من قصيدة الأعشى التي أوّلها:

ودّع هريرة إن الركب مرتحل

و منها:

صوت

مررنا على قيسيّة عامريّة *** لها بشر صافي الأديم هجان

فقالت و ألقت جانب الستر دونها *** من أيّة أرض أو من الرجلان

فقلت لها أمّا تميم فأسرتي *** هديت و أمّا صاحبي فيماني

رفيقان ضمّ السّفر بيني و بينه *** و قد يلتقي الشتّى فيأتلفان

غنّاه ابن سريج خفيف رمل بالبنصر.

و منها:

صوت

أمسى بأسماء هذا القلب معمودا *** إذا أقول صحا يعتاده عيدا

أجري على موعد منها فتخلفني *** فما أملّ و لا توفي المواعيدا

ص: 506


1- درنا: ناحية باليمامة و كانت تسمى هكذا في الجاهلية. و هي المعروفة بأثافت أو أثافة بالهاء و التاء. قال الهمداني: و كان الأعشى كثيرا ما يتخرّف فيها و كان له بها معصر للخمر يعصر فيه ما أجزل له أهل أثافت من أعنابهم. و يروون في قصيدته البائية: أحب أثافت وقت القطاف و وقت عصارة أعنابها و يسكنها أهل ذي كبار و وداعة. و الرواية المشهورة في هذا الشطر كما في «شرح المعلقات العشر» للتبريزي و «معجم البلدان» و «صفة جزيرة العرب» و «لسان العرب» و «شرح القاموس» (مادة درن): «فقلت للشرب في درنا... إلخ».

كأنني حين أمسي لا تكلّمني *** ذو بغية يبتغي ما ليس موجودا

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء للغريض خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، و له فيه ثقيل أوّل [بالبنصر(1). و ذكر عمرو بن بانة أنّ لمعبد فيه ثقيلا أول] بالوسطى على مذهب إسحاق.

/و منها:

صوت

فو اللّه ما أدري أ يغلبني الهوى *** إذا جدّ وشك البين أم أنا غالبه

فإن أستطع أغلب و إن يغلب الهوى *** فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه

/عروضه من الطويل. الشعر لابن ميّادة، و الغناء للحجبيّ خفيف ثقيل بالبنصر من رواية حبش.

و منها:

صوت

تعيّرنا أنا قليل عديدنا *** فقلت لها إنّ الكرام قليل

و ما ضرّنا أنّا قليل و جارنا *** عزيز و جار الأكثرين ذليل

و إنّا لقوم ما نرى القتل سبّة *** إذا ما رأته عامر و سلول

يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا *** و تكرهه آجالهم فتطول

عروضه من مقبوض(2) الطويل. و الشعر للسموأل بن عادياء اليهوديّ. و الغناء لحكم الوادي.

و منها:

صوت

وددتك لمّا كان ودّك خالصا *** و أعرضت لما صار نهبا مقسّما

و لن يلبث الحوض الجديد بناؤه *** على كثرة الورّاد أن يتهدّما

عروضه من الطويل. و فيه خفيف ثقيل قديم لأهل مكة. و فيه لعريب ثقيل أوّل.

/و منها:

صوت

و ما كرّ إلا كان أوّل طاعن *** و لا أبصرته الخيل إلا اقشعرّت

فيدرك ثأرا ثم لم يخطه الغنى *** فمثل أخي يوما به العين قرّت

ص: 507


1- هذه العبارة ساقطة في الأصول ما عدا ب، س.
2- القبض: هو حذف الخامس الساكن فيصير «فعولن» «فعول».

فإن طلبوا وترا بدا بتراتهم *** و يصبر يحميهم إذا الخيل ولّت

عروضه من الطويل. الشعر للخنساء، و الغناء لابن سريج ثقيل أوّل بالبنصر و ذكر علي بن يحيى أنه لمعبد في هذه الطريقة.

و منها:

صوت

لحا اللّه صعلوكا مناه و همّه *** من الدهر أن يلقى لبوسا و مطعما(1)

ينام الضحى حتى إذا ليلة انتهى *** تنبّه مثلوج الفؤاد مورّما

و لكن صعلوكا يساور همّه *** و يمضي على الهيجاء ليثا مصمّما

فذلك إن يلق الكريهة يلقها *** كريما و إن يستغن يوما فربّما

عروضه من الطويل. الشعر يقال إنه لعروة بن الورد، و يقال: إنه لحاتم الطائي و هو الصحيح. و الغناء لطويس خفيف رمل بالبنصر.

و منها:

صوت

إذا كنت ربّا للقلوص فلا يكن *** رفيقك يمشي خلفها غير راكب

أنخها فأردفه فإن حملتكما *** فذاك و إن كان العقاب فعاقب

عروضه من الطويل. و الشعر لحاتم طيّ ء.

/و منها:

صوت

أ لم تر لمّا ضمّني البلد القفر *** سمعت نداء يصدع القلب يا عمرو

أغثنا فإنا عصبة مذحجيّة *** نزار على وفر و ليس لنا وفر

/عروضه من الطويل. الشعر لعمرو بن معديكرب. و الغناء لحنين رمل بالوسطى عن حبش.

و منها:

صوت

فلما تواقفنا و سلّمت أقبلت *** وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا

تبالهن بالعرفان لما رأينني *** و قلن امرؤ باغ أكلّ و أوضعا

ص: 508


1- راجع هذا الشعر في صفحة 315، فقد ورد فيها مختلفا عما هنا اختلافا يسيرا.

و لما تنازعن(1) الأحاديث قلن لي *** أخفت علينا أن نغرّ و نخدعا

و قرّبن أسباب الهوى لمتيّم *** يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا

عروضه من الطويل. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج و الغريض و مالك و معبد و ابن جامع في عدّة ألحان، قد كتبت مع الخبر في موضع غير هذا.

و منها:

صوت

عوجي عليّ فسلّمي جبر *** فيم الصدود و أنتم سفر

ما نلتقي إلا ثلاث منى *** حتى يفرّق بيننا النّفر(2)

الحول ثم الحول يتبعه *** ما الدهر إلا الحول و الشهر

/الشعر للعرجيّ. و الغناء للأبجر ثقيل أوّل عن الهشاميّ، و يقال إنه لابن محرز، و يقال بل لحنه فيه غير لحن الأبجر. و فيه رمل يقال إنه لابن جامع، و هو القول الصحيح، و ذكر حبش أنه لابن سريج، و أن لحن ابن جامع خفيف رمل.

و منها:

صوت

فلو كان لي قلبان عشت بواحد *** و خلّفت قلبا في هواك يعذّب

و لكنما أحيا بقلب مروّع(3) *** فلا العيش يصفو لي و لا الموت يقرب

تعلّمت أسباب الرّضا خوف هجرها *** و علّمها حبّي لها كيف تغضب

و لي ألف وجه قد عرفت مكانه *** و لكن بلا قلب إلى أين أذهب

عروضه من الطويل. الشعر لعمرو الورّاق. و الغناء لابن جامع خفيف رمل، و يقال إنه لعبد اللّه بن العبّاس.

و فيه لعريب ثقيل أوّل. و فيه لرذاذ خفيف ثقيل. و فيه هزج يقال إنه لعريب، و يقال إنه لنمرة، و يقال إنه لأبي فارة، و يقال إنه لابن جامع.

سمعه مصعب الزبيري يغني في بساتين المدينة فمدحه:

حدّثني مصعب الزبيريّ قال:

قدم علينا ابن جامع المدينة قدمة في أيام الرشيد؛ فسمعته يوما يغنّي في بعض بساتين المدينة:

و ما لي لا أبكي و أندب ناقتي *** إذا صدر الرّعيان ورد المناهل

ص: 509


1- راجع الحاشية رقم 5 ص 316 من هذا الجزء.
2- راجع الحاشية رقم 2 ص 317 من هذا الجزء.
3- في ح: «معذب».

/

و كنت إذا ما اشتدّ شوقي رحلتها *** فسارت بمحزون كثير(1) البلابل(2)

/و كان رجلا صيّتا(3)، فكاد صوته يذهب بي كلّ مذهب، و ما سمعت قبله و لا بعده مثله.

نسبة هذا الصوت
صوت

و ما لي لا أبكي و أندب ناقتي *** إذا صدر الرّعيان ورد المناهل

و كنت إذا ما اشتدّ شوقي ركبتها *** فسارت بمحزون كثير البلابل

الغناء لابن جامع خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن الهشاميّ و ابن المكّيّ.

أهدى الربيع للمنصور فكان يستخفه و أعتقه:

أخبرني وكيع قال حدّثني هارون بن محمد الزّيات قال حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن الفضل بن الربيع عن أبيه قال:

كنت في خمسين و صيفا أهدوا للمنصور، ففرّقنا في خدمته، فصرت إلى ياسر صاحب وضوئه. فكنت أراه يفعل شيئا أعلم أنه خطأ: يعطيه الإبريق في آخر المستراح و يقف مكانه لا يبرح. و قال لي يوما: كن مكاني في آخر المستراح. فكنت أعطيه الإبريق و أخرج مبادرا، فإذا سمعت حركته بادرت إليه. فقال لي: ما أخفّك على قلبي يا غلام! ويحك! ثم دخل قصرا من تلك القصور فرأى حيطانه مملوءة من الشعر المكتوب عليها. فبينا هو يقرأ ما فيه إذا هو بكتاب مفرد، فقرأه فإذا هو:

و ما لي لا أبكي و أندب ناقتي *** إذا صدر الرّعيان نحو المناهل

و كنت إذا ما اشتدّ شوقي رحلتها *** فسارت بمحزون طويل البلابل

/و تحته مكتوب: آه آه، فلم يدر ما هو. و فطنت له فقلت: يا أمير المؤمنين، قد عرفت ما هو. فقال: قل؛ فقلت: قال الشعر ثم تأوّه فقال: آه آه، فكتب تأوّهه و تنفّسه و تأسّفه. فقال: مالك قاتلك اللّه! قد أعتقتك و ولّيتك مكان ياسر.

ص: 510


1- في ح: «طويل».
2- البلابل: شدّة الهم و الوسواس في الصدر و حديث النفس.
3- الصيت: الجهير الصوت.
ذكر أخبار هذه الأصوات المتفرّقة في الأخبار و إنما أفردتها عنها لئلا تنقطع خبر
اشارة

ذكر أخبار هذه الأصوات المتفرّقة في(1) الأخبار و إنما أفردتها عنها لئلا تنقطع خبر

أمسى بأسماء هذا القلب معمودا

خرج الغريض مع نسوة فتبعه الحارث بن خالد مع ابن أبي ربيعة:
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى قال حماد: قرأت على أبي، و ذكر جعفر بن سعيد عن عبد الرحمن بن سليمان المكيّ قال حدّثني المخزوميّ (يعني الحارث بن خالد) قال:

بلغني أن الغريض خرج مع نسوة من أهل مكة من أهل الشّرف ليلا إلى بعض المتحدّثات من نواحي مكة، و كانت ليلة مقمرة؛ فاشتقت إليهنّ و إلى مجالستهنّ و إلى حديثهنّ، و خفت على نفسي لجناية كنت أطالب بها، و كان عمر مهيبا معظّما لا يقدم عليه سلطان و لا غيره، و كان منّي قريبا؛ فأتيته فقلت له: إنّ فلانة و فلانة و فلانة - حتى سميتهنّ كلّهنّ - قد بعثنني، و هنّ يقرأن عليك السلام، و قلن: تشوّقن إليك في ليلتنا هذه لصوت أنشدناه فويسقك الغريض - و كان الغريض يغنّي هذا الصوت فيجيده، و كان ابن أبي ربيعة به معجبا، و كان كثيرا ما يسأل الغريض أن يغنّيه، و هو قوله:

أمسى بأسماء هذا القلب معمودا *** إذا أقول صحا يعتاده عيدا

/كأنّ أحور من غزلان ذي نفر(2) *** أهدى لها شبه العينين و الجيدا

قامت تراءى و قد جدّ الرحيل بنا *** لتنكأ القرح من قلب قد اصطيدا

كأنني يوم أمسي لا تكلّمني *** ذو بغية يبتغي ما ليس موجودا

/أجرى على موعد منها فتخلفني *** فما أملّ و ما توفي المواعيدا

قد طال مطلي، لو انّ اليأس ينفعني *** أو أن أصادف من تلقائها جودا

فليس تبذل لي عفوا و أكرمها *** من أن ترى عندنا في الحرص تشديدا(3)

- فلما أخبرته الخبر قال: لقد أزعجتني في وقت كانت الدّعة أحبّ فيه إليّ؛ و لكنّ صوت الغريض و حديث

ص: 511


1- هذه الكلمة ساقطة في ب، س.
2- راجع الحاشية رقم 5 ص 314 من هذا الجزء.
3- هذه رواية الديوان. و في الأصول: ... فأكرمها ما إن ترى عندنا في الحرص تشديدا

النّسوة ليس له متّرك و لا عنه محيص. فدعا بثيابه فلبسها، و قال: امض؛ فمضينا نمشي العجل حتى قربنا منهنّ.

فقال لي عمر: خفّض عليك مشيك ففعلت، حتى وقفنا عليهنّ و هنّ في أطيب حديث و أحسن مجلس؛ فسلّمنا، فتهيّبننا و تخفّرن منّا. فقال الغريض: لا عليكنّ! هذا ابن أبي ربيعة و الحارث بن خالد جاءا متشوّقين إلى حديثكنّ و غنائي. فقالت فلانة: و عليك السلام يا ابن أبي ربيعة، و اللّه ما تمّ مجلسنا إلا بك، اجلسا. فجلسنا غير بعيد، و أخذن عليهنّ جلابيبهنّ و تقنّعن بأخمرتهنّ و أقبلن علينا بوجوههنّ و قلن لعمر: كيف أحسست بنا و قد أخفينا أمرنا؟ فقال: هذا الفاسق جاءني برسالتكنّ و كنت وقيذا(1) من علّة وجدتها، فأسرعت الإجابة، و رجوت منكنّ على ذلك حسن الإثابة. فرددن عليه: قد وجب أجرك، و لم يخب سعيك، و وافق منّا الحارث إرادة. فحدّثهنّ بما قلت له /من قصّة غناء الغريض؛ فقال النّسوة: و اللّه ما كان ذلك كذلك، و لقد نبّهتنا على صوت حسن، يا غريض هاته.

فاندفع الغريض يغنّي و يقول:

أمسى بأسماء هذا القلب معمودا *** إذا أقول صحا يعتاده عيدا

حتى أتى على الشعر كلّه إلى آخره، فكلّ استحسنه. و أقبل عليّ ابن أبي ربيعة فجزاني الخير، و كذلك النّسوة.

فلم نزل بأنعم ليلة و أطيبها حتى بدأ القمر يغيب، فقمنا جميعا، و أخذ النّسوة طريقا و نحن طريقا و أخذ الغريض معنا.

و قال عمر في ذلك:

صوت

هل عند رسم برامة(2) خبر *** أم لا فأيّ الأشياء تنتظر(3).

قد ذكّرتني الديار إذ درست *** و الشوق ممّا يهيجه الذّكر

ممشى رسول إليّ يخبرني(4) *** عنهم عشاء ببعض ما ائتمروا

و مجلس النّسوة الثلاث لدى ال *** خيمات حتى تبلّج السّحر

فيهنّ هند و الهمّ ذكرتها *** تلك التي لا يرى لها خطر

ثم انطلقنا و عندنا و لنا *** فيهنّ لو طال ليلنا وطر

و قولها للفتاة إذ أزف ال *** بين أ غاد أم رائح عمر

عجلان لم يقض(5) بعض حاجته *** هلا تأنّى(6) يوما فينتظر

ص: 512


1- الوقيذ: المريض.
2- رامة: منزل بينه و بين الرمادة ليلة في طريق البصرة إلى مكة. و بين رامة و بين البصرة اثنتا عشرة مرحلة. و قيل: هي هضبة، و قيل: جبل لبني دارم، و قيل فيها غير ذلك.
3- وردت هذه الأبيات ضمن قصيدة ثمانية عشر بيتا في ديوان عمر بن أبي ربيعة (طبع ليبسك) باختلاف يسير في بعض الكلمات و في ترتيب الأبيات.
4- كذا في ديوانه. و في الأصول: «ممشى فتاة إلى تخبرني».
5- في الديوان: «لم يقض بعد حاجته».
6- في ب، س: «أتانا» و هو تحريف.

اللّه جار له و إن نزحت *** دار به أو بدا له سفر

/غنّاه الغريض ثقيلا أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. و فيه لابن سريج رمل بالوسطى. و فيه لعبد الرحيم الدّفّاف ثقيل أوّل بالبنصر في البيتين الأوّلين. و بعدهما:

/

هل من(1) رسول إليّ يخبرني *** بعد عشاء ببعض ما ائتمروا

يوم ظللنا و عندنا و لنا *** فيهنّ لو طال يومنا وطر

فلما كانت الليلة القابلة بعث إليّ عمر فأتيته و إذا الغريض عنده. فقال له عمر: هات؛ فاندفع يغنّي:

هل عند رسم برامة خبر *** أم لا فأيّ الأشياء تنتظر

و مجلس النّسوة الثلاث لدى ال *** خيمات حتى تبلّج السحر

فقلت في نفسي: هذا و اللّه صفة ما كنّا فيه، فسكتّ حتى فرغ الغريض من الشعر كلّه؛ فقلت: يا أبا الخطّاب، جعلت فداك! هذا و اللّه صفة ما كنّا فيه البارحة مع النّسوة. فقال: إن ذلك ليقال.

أغلظ موسى بن مصعب أمير الموصل الكلام لبعض عماله فأجابه بالمثل و فرّ:

و ذكر أحمد بن الحارث عن المدائنيّ عن عليّ بن مجاهد قال:

إنّ موسى بن مصعب كان على الموصل، فاستعمل رجلا من أهل حرّان على كورة باهذرا(2) و هي أجلّ كور الموصل، فأبطأ عليه الخراج؛ فكتب إليه:

هل عند رسم برامة خبر *** أم لا فأيّ الأشياء تنتظر

/احمل ما عندك يا ماصّ بظر أمه، و إلا فقد أمرت رسولي بشدّك وثاقا و يأتي بك. فخرج الرجل و أخذ ما كان معه من الخراج فلحق بحرّان، و كتب إليه: يا عاضّ بظر أمّه! إليّ تكتب بمثل هذا!

و إذا أهل بلدة أنكروني *** عرفتني الدّوّيّة(3) الملساء

فلما قرأ موسى كتابه ضحك و قال: أحسن - يعلم اللّه - الجواب، و لا و اللّه لا أطلبه أبدا. و في غير هذه الرواية أنه كتب إليه في آخر رقعة:

إنّ الخليط الألى تهوى قد ائتمروا *** للبين ثم أجدّوا السير فانشمروا

يا ابن الزّانية! و السلام. ثم هرب، فلم يطلبه.

اسحاق الموصلي و لحن للغريض:

أخبرنا الحسين بن يحيى عن حمّاد قال قال أبي:

غنّاني رجل من أهل المدينة لحن الغريض:

ص: 513


1- انظر الحاشية رقم 3 ص 329 من هذا الجزء.
2- كذا في أ، م. و «معجم ياقوت» في الكلام على الموصل. و في ح: «يا هذرا» بالياء المثناة من تحت. و في سائر الأصول: «باهدرا» بالباء الموحدة و الدال المهملة، و كلاهما تصحيف.
3- الدوّية: الفلاة البعيدة الأطراف المستوية الواسعة.

هل عند رسم برامة خبر *** أم لا فأيّ الأشياء تنتظر

فسألته أن يلقيه عليّ، فقال: لا إلا بألف درهم؛ فلم أسمح له بذلك. و مضى فلم ألقه. فو اللّه يا بنيّ ما ندمت على شيء قطّ ندمي على ذلك، و لوددت أنّي وجدته الآن فأخذته منه كما سمعته و أخذ منّي ألف دينار مكان الألف الدرهم.

خبر
اشارة

تعيّرنا أنّا قليل عديدنا

الشعر لشريح بن السّموءل بن عادياء. و يقال: إنه للسموأل. و كان من يهود يثرب؛ و هو الذي يضرب به المثل في الوفاء فيقال: «أو فى من السّموءل».

/و كان السبب في ذلك فيما ذكر ابن الكلبيّ و أبو عبيدة و حدّثني به محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدّثنا يحيى بن سعيد الأمويّ عن محمد بن السائب الكلبيّ قال:

كان امرؤ القيس بن حجر أودع السموأل بن عادياء أدراعا(1)؛ فأتاه الحارث بن ظالم - و يقال/: الحارث بن أبي شمر الغسّاني - ليأخذها منه؛ فتحصّن منه السموأل؛ فأخذ ابنا له غلاما و ناداه: إمّا أن تسلّم الأدراع و إما أن قتلت ابنك؛ فأبى السموأل أن يسلّم الأدراع إليه؛ فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه اثنين(2). فقال السموأل:

وفيت بأدرع الكنديّ إنّي *** إذا ما خان أقوام وفيت

و أوصى عاديا يوما(3) بألاّ *** تهدّم يا سموأل ما بنيت

بنى لي عاديا حصنا حصينا *** و ماء(4) كلّما شئت استقيت

و في هذه القصيدة يقول:

صوت

أ عاذلتي ألا لا تعذليني *** فكم من أمر عاذلة عصيت

دعيني و ارشدي إن كنت أغوى *** و لا تغوى - زعمت - كما غويت

أعاذل قد طلبت(5) اللّوم حتى *** لو اني منته لقد انتهيت

و صفراء المعاصم قد دعتني *** إلى وصل فقلت لها أبيت

ص: 514


1- في ح: «أدراعا مائة».
2- كذا في ح، ء. و في سائر الأصول: «باثنين».
3- رواية هذا الشطر في ديوانه: و أوصى عاديا جدي بألا
4- في «مجمع الأمثال» للميداني: «بئرا». في ديوانه: «عينا».
5- كذا في جميع الأصول. و لعلها: «أطلت».

/

و زقّ قد جررت إلى النّدامى *** و زقّ قد شربت و قد سقيت

و حتى لو يكون فتى أناس *** بكى من عذل عاذلة بكيت

عروضه من الوافر. و الشعر للسّموأل بن عادياء. و الغناء لابن محرز في الأوّل و الثاني و الرابع و الخامس خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و غنّى فيها مالك خفيف ثقيل بالبنصر في الأوّل و الثاني. و غنّى دحمان أيضا في الأوّل و الثاني و الرابع و الخامس رملا بالوسطى. و غنّى عبد الرحيم الدّفّاف في الأوّل و الثاني رملا بالبنصر.

و في هذه الأبيات لابن سريج لحن في الرابع و ما بعده. ثم في سائر الأبيات لحن ذكره يونس و لم ينسبه(1).

و لإبراهيم الموصليّ فيها لحن غير منسوب أيضا.

أسر الأعشى رجل من كلب و هو لا يعرفه ثم أطلقه بشفاعة شريح بن السموأل فلما عرف ذلك ندم:

حدّثني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني سليمان بن أبي شيخ قال حدّثنا يحيى بن سعيد الأمويّ قال حدّثني محمد بن السائب الكلبيّ قال:

هجا الأعشى رجلا من كلب فقال:

بنو الشهر الحرام فلست منهم *** و لست من الكرام بني عبيد

و لا من رهط جبّار بن قرط *** و لا من رهط حارثة بن زيد

- قال: و هؤلاء كلهم من كلب - فقال الكلبيّ: أنا، لا أبا لك، أشرف من هؤلاء. قال: فسبّه الناس بعد بهجاء الأعشى، و كان متغيّظا عليه. فأغار الكلبيّ على قوم قد بات بهم الأعشى فأسر منهم نفرا و أسر الأعشى و هو لا يعرفه؛ فجاء حتى نزل بشريح بن السموأل بن عادياء الغسّاني صاحب تيماء(2) بحصنه الذي يقال له الأبلق(3). فمرّ شريح بالأعشى، فنادى به الأعشى بقوله:

/

شريح لا تتركنّي بعد ما علقت *** حبالك اليوم بعد القدّ(4) أظفاري

قد جلت ما بين بانقيا(5) إلى عدن *** فطال في العجم تردادي(6) و تسياري

فكان أكرمهم عهدا و أوثقهم *** عقدا أبوك بعرف غير إنكار

كالغيث ما استمطروه جاد و ابله *** و في الشدائد كالمستأسد الضّاري

/كن كالسموأل إذ طاف الهمام به *** في جحفل كسواد الليل جرّار

إذ سامه خطّتي خسف فقال له *** قل ما تشاء فإنّي سامع حار

فقال غدر و ثكل أنت بينهما *** فاختر و ما فيهما حظّ لمختار

ص: 515


1- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «و لم يجنسه».
2- تيماء: بليدة في أطراف الشام، بين الشام و وادي القرى على طريق حاج الشام و دمشق.
3- قيل له الأبلق لأنه كان في بنائه بياض و حمرة، و قيل: لأنه بني من حجارة مختلفة الألوان.
4- القد: القيد.
5- بانقيا: ناحية من نواحي الكوفة.
6- كذا في ديوانه المطبوع بمطبعة التقدّم بمصر. و في الأصول: «تكراري».

فشكّ غير طويل ثم قال له *** اقتل أسيرك إني مانع جاري

و سوف يعقبنيه إن ظفرت به *** ربّ كريم و بيض ذات أطهار

لا سرّهنّ لدينا ذاهب هدرا *** و حافظات إذا استودعن أسراري

فاختار أدراعه كي لا يسبّ بها *** و لم يكن وعده فيها بختّار(1)

قال: فجاء شريح إلى الكلبيّ فقال له: هب لي هذا الأسير المضرور(2)؛ فقال: هو لك، فأطلقه. و قال له:

أقم عندي حتى أكرمك و أحبوك؛ فقال له الأعشى: إن من تمام صنيعك إليّ أن تعطيني ناقة ناجية(3) و تخليني الساعة. قال: فأعطاه ناقة، فركبها و مضى من ساعته. و بلغ الكلبيّ أن الذي وهب لشريح هو الأعشى، فأرسل إلى شريح: ابعث إليّ بالأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه و أعطيه؛ فقال: قد مضى. فأرسل الكلبيّ في أثره فلم يلحقه.

/و أما خبر:

و ما كرّ إلا كان أوّل طاعن

- و الشعر للخنساء - فإنه خبر يطول لذكر ما فيه من الوقائع؛ و هو يأتي فيما بعد هذا مفراد عن المائة الصوت المختارة في أخبار الخنساء.

رجع الخبر إلى قصّة ابن جامع
دفع في صوت أخذه عن سوداء أربعة دراهم و غناه الخليفة فأعطاه أربعة آلاف دينار:
اشارة

و أمّا خبر الجارية التي أخذ عنها ابن جامع الصوت و ما حكيناه من أنّه وقع في حكاية محمد بن ضوين الصّلصال فيها(4) خطأ، فأخبرنا بخبرها الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن عبد اللّه بن أبي محمد العامريّ قال حدّثني عكّاشة اليزيديّ بجرجان قال حدّثني إسماعيل بن جامع قال:

بينا أنا في غرفة لي باليمن و أنا مشرف على مشرعة(5)، إذ أقبلت أمة سوداء على ظهرها قربة، فملأتها و وضعتها على المشرعة لتستريح، و جلست فغنّت:

صوت

فردّي مصاب القلب أنت قتلته *** و لا تبعدي فيما تجشّمت كلثما

- و يروى «و لا تتركيه هائم القلب مغرما» -:

إلى اللّه أشكو بخلها و سماحتي *** لها عسل منّي و تبذل علقما

ص: 516


1- الختار: الغادر.
2- كذا في ح و نسخة الشيخ الشنقيطي مصححة بقلمه و «معجم ياقوت» في الكلام على الأبلق الفرد. و في سائر الأصول: «المضروب» بالباء الموحدة، و هو تحريف.
3- ناقة ناجية: سريعة السير.
4- هذه الكلمة مستغنى عنها في الكلام و لكنها ثابتة في جميع الأصول.
5- المشرعة: مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها و يستقون. و لا تسميها العرب مشرعة حتى يكون الماء عدّا لا انقطاع له كماء الأنهار و يكون ظاهرا مبينا لا يستقى منه برشاء. فإن كان من ماء الأمطار فهو الكرع (بالتحريك).

أبي اللّه أن أمسي و لا تذكرينني *** و عيناي من ذكراك قد ذرفت دما

أبيت فما تنفكّ لي منك حاجة *** رمى اللّه بالحبّ الذي كان أظلما

/ - غنّاه سياط خفيف ثقيل أوّل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة - قال: ثم أخذت قربتها لتمضي. فاستفزّني من شهوة الصوت ما لا قوام لي به، فنزلت إليها فقلت لها: أعيديه. فقالت: أنا عنك في شغل بخراجي. قلت: و كم هو؟ قالت: درهمان في كل يوم. قلت: فهذان درهمان، و ردّيه عليّ حتى آخذه منك، و أعطيتها درهمين؛ فقالت: أمّا الآن فنعم. فجلست، فلم تبرح حتى أخذته منها و انصرفت؛ فلهوت يومي به، و أصبحت من غد لا أذكر/منه حرفا، فإذا أنا بالسوداء قد طلعت ففعلت كفعلها بالأمس. فلما وضعت القربة تغنّت غيره، فعدوت في أثرها و قلت: يا جارية، بحقّي عليك ردّي عليّ الصوت فقد ذهبت عنّي منه نغمة. فقالت: لا و اللّه، ما مثلك تذهب عنه نغمة، أنت تقيس أوّله على آخره، و لكنك قد أنسيته، و لست أفعل إلا بدرهمين آخرين.

فدفعتهما إليها و أعادته عليّ حتى أخذته ثانية. ثم قالت: إنّك تستكثر فيه أربعة دراهم، و كأني بك قد أصبت به أربعة آلاف دينار. فكنت عند هارون يوما و هو على سريره؛ فقال: من غنّاني فأطربني فله ألف دينار، و قدّامه أكياس في كل كيس ألف دينار. فغنّى القوم و غنّيت فلم يطرب، حتى دار الغناء إليّ ثانية فغنّيت صوت السوداء؛ فرمى إليّ بكيس فيه ألف دينار، ثم قال: أعده فغنّيته؛ فرمى إليّ بثان ثم قال: أعده فرمى إليّ بثالث و أمسك. فضحكت؛ فقال: ما يضحكك؟ فقلت: لهذا الصوت حديث عجيب يا أمير المؤمنين. فقال: و ما هو؟ فحدّثته به و قصصت عليه القصّة؛ فرمى إليّ برابع و قال: لا نكذّب قولها.

خبر

عوجي عليّ فسلّمي جبر

الشعر للعرجيّ و قد ذكرنا نسبة الصوت.

قصة عمر بن عبد العزيز مع مخنث بلغه عنه أنه أفسد نساء المدينة:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الواقديّ عن ابن أبي الزّناد قال حدّثني محمد بن إسحاق قال:

قيل لعمر بن عبد العزيز: إن بالمدينة مخنّثا قد أفسد نساءها فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحمله. فأدخل عليه، فإذا شيخ خضيب اللّحية و الأطراف معتجر بسبنيّة(1) قد حمل دفّا في خريطته. فلما وقف بين يدي عمر صعّد بصره فيه و صوّبه و قال: سوأة لهذه الشّيبة و هذه القامة! أتحفظ القرآن؟ قال: لا و اللّه يا أبانا؛ قال: قبّحك اللّه! و أشار إليه من حضره فقالوا: اسكت فسكت. فقال له عمر: أ تقرأ من المفصّل شيئا؟ قال: و ما المفصّل؟ قال:

ويلك! أ تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم، أقرأ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ و أخطئ فيها في موضعين أو ثلاثة، و أقرأ

ص: 517


1- كذا في ح. و السبنية: منسوبة إلى سبن (بالتحريك): بلدة ببغداد؛ و هي إزار أسود متخذ من الحرير يلبسه النساء. و في ب، س: «بسبتية» (بالتاء المثناة). و في سائر الأصول «بسنية» و كلاهما تحريف.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّٰاسِ و أخطئ فيها، و أقرأ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ مثل الماء الجاري. قال: ضعوه في الحبس و وكّلوا به معلّما يعلّمه القرآن و ما يجب عليه من حدود الطّهارة و الصلاة و أجروا عليه في كل يوم ثلاثة دراهم و على معلّمه ثلاثة دراهم أخّر، و لا يخرج من الحبس حتى يحفظ القرآن أجمع. فكان كلّما علّم سورة نسي التي قبلها. فبعث رسولا إلى عمر: يا أمير المؤمنين، وجّه إليّ من يحمل إليك ما أتعلّمه أوّلا فأوّلا، فإني لا أقدر على حمله جملة واحدة.

فيئس عمر من فلاحه و قال: ما أرى هذه الدراهم إلا ضائعة، و لو أطعمناها جائعا أو أعطيناها محتاجا أو كسوناها عريانا لكان أصلح. ثم دعا به، فلما وقف بين يديه قال له: اقرأ قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ . /قال: أسأل اللّه العافية! أدخلت يدك في الجراب فأخرجت(1) شرّ ما فيه و أصعبه. فأمر به فوجئت(2) عنقه و نفاه. فاندفع يغنّي و قد توجّهوا به:

عوجي عليّ فسلّمي جبر *** فيم الوقوف و أنتم سفر

/ما نلتقي إلا ثلاث منى *** حتى يفرّق بيننا النّفر

فلما سمع الموكّلون به حسن ترنّمه خلّوه و قالوا له: اذهب حيث شئت مصاحبا بعد استماعهم منه طرائف(3)غنائه سائر يومهم و ليلتهم.

حج محمد بن خالد ابن عبد اللّه و سمع جارية محمد بن عمران فطرب و أراد شراءها فرده:

أخبرني الحسين قال قال حماد قرأت على أبي عن المدائنيّ قال:

أحجّ خالد بن عبد اللّه ابنه محمدا و أصحبه رزاما(4) مولاه و أعطاه مالا، و قال: إذا دخلت المدينة فاصرفه فيما أحببت. فلما صرنا(5) بالمدينة سأل محمد عن جارية حاذقة؛ فقيل: عند محمد بن عمران التّيمي القاضي. فصلينا الظهر في المسجد ثم ملنا إليه فاستأذنّا عليه فأذن لنا و قد انصرف من المسجد و هو قاعد على لبد(6) و نعلاه في آخر اللّبد؛ فسلّمنا عليه فردّ؛ و نسب(7) محمدا فانتسب له، فقال: خيرا. ثم قال: هل من حاجة؟ فلجلج. فقال: كأنك ذكرت فلانة! يا جارية اخرجي؛ فخرجت فإذا أحسن الناس، ثم تغنّت فإذا أحذق الناس؛ فجعل الشيخ يذهب مع حركاتها و يجيء، إلى أن غنّت قوله:

عوجي عليّ فسلّمي جبر

/فلما بلغت:

حتى يفرق بيننا النّفر

ص: 518


1- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «أشد ما فيه».
2- الوجء: اللكز و الضرب، يقال: وجأت عنقه و في عنقه أي ضربته.
3- كذا في م. و في سائر الأصول: «ظرائف» بالظاء المعجمة، و هو تصحيف.
4- هو رزام بن مسلم، أدرك أبا جعفر المنصور و له بعض حوادث وردت في «الطبري» (ق 3 ص 132، 164، 196، 215، 216، 637).
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فلما صار».
6- اللبد: بساط من صوف.
7- نسبه: سأله عن نسبه.

وثب الشيخ إلى نعله فعلّقها في أذنه و جثا على ركبتيه و أخذ بطرف أذنه و النّعل فيها و جعل يقول: أهدوني(1)أنا بدنة، أهدوني أنا بدنة. ثم أقبل عليهم فقال: كم قيل لكم إنها تساوي؟ قالوا: ستمائة دينار. قال: هي و حقّ القبر خير من ستة آلاف دينار، و و اللّه لا يملكها عليّ أحد أبدا، فانصرفوا إذا شئتم.

كان ابن جريج في حلقة يحدث فمرّ به ابن تيزن فسأله أن يغنيه بغناء ابن سريج:

أخبرنا وسواسة بن الموصليّ - و هو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصليّ - قال حدّثني حماد بن إسحاق قال:

وجدت في كتب أبي عن عثمان بن حفص الثّقفيّ عن ابن عمّ لعمارة بن حمزة قال حدّثني سليم(2) الحساب عن داود المكيّ قال:

كنّا في حلقة ابن جريج و هو يحدّثنا و عنده ابن المبارك و جماعة من العراقيّين، إذ مرّ به ابن تيزن - قال حمّاد:

و يقال ابن بيرن - و قد ائتزر بمئزرة على صدره، و هي إزرة الشّطّار(3) عندنا. فدعاه ابن جريج؛ فقال له: إني مستعجل، و قد وعدت أصحابا لي فلا أقدر أن أحتبس عنهم. فأقسم عليه حتى أتاه، فجلس و قال له: ما تريد؟ قال: أحبّ أن تسمعني. قال: أنا أجيئك إلى المنزل، فلم تجلسني مع هؤلاء الثقلاء!. قال: أسألك أن تفعل؛ قال: امرأته طالق إن غنّاك فوق ثلاثة أصوات. قال: ويحك! ما أعجلك باليمين؟! قال: أكره أن أحتبس عن أصحابي. فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال: اعقلوا رحمكم اللّه. ثم قال له: غنّني الصوت/الذي أخبرتني أنّ ابن سريج غنّاه في اليوم الثالث(4) من أيام منى على جمرة العقبة فقطع الطريق على الذاهب و الجائي حتى تكسّرت المحامل. فغنّاه:

عوجي عليّ فسلّمي جبر

فقال ابن جريج: أحسنت و اللّه! - ثلاث مرّات - ويحك أعده. قال: أ من الثلاثة؟ فإني قد حلفت. قال: أعده فأعاده؛ فقال: أحسنت! أعده من الثلاثة؛ فأعاده و قام فمضى. فقال ابن جريج لأصحابه: لعلكم أنكرتم ما فعلت! قالوا: إنا لننكره بالعراق. قال: فما تقولون في الرّجز؟ (يعني الحداء) قالوا: لا بأس به. قال: فما الفرق بينهما!.

أحسن الناس حلوقا في الغناء:

و ذكر هارون بن محمد بن عبد الملك عن أبي أيوب المدينيّ قال:

ثلاثة من المغنّين كانوا أحسن الناس حلوقا: ابن تيزن، و ابن عائشة، و ابن أبي الكنّات.

ص: 519


1- الإهداء: سوق الحيوان إبلا أو بقرا أو شاء إلى البيت الحرام هديا.
2- في ب، س: «سليمان».
3- كان هذا الاسم يطلق في الدولة العباسية على أهل البطالة و الفساد.
4- في أ، ح، ء، م: «الثاني».
صوت من المائة المختارة

سقاني فروّاني كميتا مدامة *** على ظمأ مني سلام بن مشكم(1)

تخيّرته أهل المدينة واحدا *** سواهم فلم أغبن و لم أتندّم(2)

عروضه من الطويل. و الشعر لأبي سفيان بن حرب. و الغناء لسليمان أخي بابويه الكوفي مولى الأشاعثة(3)، خفيف رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى.

ص: 520


1- سيتكلم عنه المؤلف في ترجمة أبي سفيان التي تبتدئ بعد هذه الصفحة.
2- ورد هذا البيت في «سيرة ابن هشام» (ج 2 ص 543 طبع أوروبا) هكذا: إني تخيرت المدينة واحدا لحلف فلم أندم و لم أتلوّم
3- الأشاعثة: منسوبون إلى الأشعث بن قيس الكندي الصحابي، نزل الكوفة. و وفد على النبي صلى اللّه عليه و سلم بسبعين رجلا من كندة فروى عنه و عن عمر رضي اللّه عنه. و مات بالكوفة في آخر سنة أربعين حين صالح الحسن معاوية رضي اللّه عنهما فصلى عليه.

23 - ذكر أبي سفيان و أخباره و نسبه

نسبه و نسب أمه:

هو صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف. و أمّ حرب بن أميّة بنت أبي همهمة بن عبد العزّي بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة. و أمّ أبي سفيان صفيّة بنت حزن بن بجير بن الهزم(1) بن رويبة(2) بن عبد اللّه بن هلال بن عامر بن صعصعة، و هي عمّة ميمونة أم المؤمنين و أمّ الفضل بنت الحارث بن حزن أمّ بني العباس بن عبد المطلب. و قد مضى ذكر أكثر أخبار ولد أميّة و الفرق بين الأعياص و العنابس منهم و جمل من أخبارهم في أوّل هذا الكتاب(3)و كان حرب بن أميّة قائد بني أميّة و من مالأهم في يوم عكاظ. و يقال: إن سبب وفاته أن الجنّ قتلته و قتلت مرداس بن أبي عامر السّلميّ لإحراقهما شجر القريّة(4) و ازدراعهما إيّاها. و هذا شيء قد ذكرته العرب في أشعارها و تواترت الرّوايات بذكره فذكرته، و اللّه أعلم.

أراد حرب بن أمية و مرداس بن أبي عامر ازدراع القرية فخرجت عليهما منها حيات فماتا:

أخبرني الطّوسيّ و الحرميّ بن أبي العلاء قالا حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني عمّي مصعب، و أخبرنا محمد بن الحسين بن دريد عن عمّه عن العبّاس بن هشام عن أبيه، و ذكره أبو عبيدة و أبو عمرو الشيبانيّ:

/أنّ حرب بن أميّة لما انصرف من حرب عكاظ هو و إخوته مرّ بالقريّة، و هي إذ ذاك غيضة شجر ملتفّ لا يرام. فقال له مرداس بن أبي عامر: أما ترى هذا الموضع؟ قال بلى. قال: نعم المزدرع هو فهل لك أن نكون شريكين فيه و نحرّق هذه الغيضة ثم نزدرعه بعد ذلك؟ قال نعم. فأضرما النّار في الغيضة. فلما استطارت و علا لهبها سمع من الغيضة أنين و ضجيج كثير، ثم ظهرت منها حيّات بيض تطير حتى قطعتها و خرجت منها. و قال مرداس بن أبي عامر في ذلك:

إني انتخبت لها حربا و إخوته *** إنّي بحبل وثيق العقد دسّاس

إني أقوّم قبل الأمر حجّته *** كيما يقال وليّ الأمر مرداس

ص: 521


1- كذا في «تجريد الأغاني» و «القاموس» و «شرحه» (مادة هزم) و «الاشتقاق» لابن دريد (ص 178 طبع أوروبا). و في الأصول: «الهرم» بالراء المهملة و هو تصحيف.
2- كذا في ح و «تجريد الأغاني» و «القاموس» و «شرحه» (مادة هزم) و «طبقات ابن سعد» (ج 8 ص 94). و «الاشتقاق» لابن دريد (ص 179 طبع أوروبا). و في سائر الأصول: «رويتة» و هو تصحيف.
3- راجع الجزء الأوّل من هذه الطبعة (ص 14).
4- القرية: موضع في ديار بني سليم، ذكره البكري في «معجم ما استعجم» (ج 2 ص 735) و ساق القصة كما ساقها أبو الفرج هنا.

قال: فسمعوا هاتفا يقول لما احترقت الغيضة:

ويل لحرب فارسا *** مطاعنا مخالسا

ويل لعمرو فارسا *** إذ لبسوا القوانسا(1)

لنقتلن بقتله *** جحا جحا عنابسا

و لم يلبث حرب بن أميّة و مرداس بن أبي عامر أن ماتا. فأمّا مرداس فدفن بالقريّة. ثم ادّعاها بعد ذلك كليب بن أبي عهمة(2) السّلميّ ثم الظّفريّ. فقال في ذلك عبّاس بن مرداس:

/

أ كليب مالك كلّ يوم ظالما *** و الظلم أنكد وجهه ملعون

قد كان قومك يحسبونك سيّدا *** و إخال أنك سيّد معيون

/ - المعيون: الذي أصابته العين، و قيل: المعيون: الحسن المنظر فيما تراه العين و لا عقل له -:

فإذا رجعت إلى نسائك فادّهن *** إن المسالم رأسه مدهون

و افعل بقومك ما أراد بوائل *** يوم الغدير(3) سميّك المطعون

و إخال أنك سوف تلقى مثلها *** في صفحتيك سنانها المسنون

إن القريّة قد تبيّن أمرها *** إن كان ينفع عندك التّبيين

حيث انطلقت تخطّها لي ظالما *** و أبو يزيد بجوّها مدفون

أبو يزيد: مرداس بن أبي عامر.

منزلته في قريش و فقء عينيه:

و كان أبو سفيان سيّدا من سادات قريش في الجاهليّة و رأسا من رءوس الأحزاب على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في حياته و كهفا للمنافقين في أيامه، و أسلم يوم الفتح. و له في إسلامه أخبار نذكرها هنا. و كان تاجرا يجهّز التجار بماله و أموال قريش إلى أرض العجم. و شهد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مشاهدة الفتح، و فقئت عينه يوم الطائف(4)، فلم يزل أعور إلى يوم اليرموك(5)، ففقئت عينه الأخرى يومئذ فعمي.

مازح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في بيت بنته أم حبيبة:

أخبرنا الطّوسيّ و الحرميّ قالا حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عليّ بن صالح عن جدّي عبد اللّه بن مصعب عن إسحاق بن يحيى المكيّ عن أبي الهيثم عمّن أخبره:

ص: 522


1- القوانس: جمع قونس، و هو أعلى البيضة. و في «معجم ما استعجم»: «القلانسا».
2- في «معجم ما استعجم» للبكري: «كليب بن عيهة». و فيما مر في جميع الأصول (ج 5 ص 38 من هذه الطبعة) و «النقائص» (ص 907 طبع أوروبا): «كليب بن عهمة».
3- يشير إلى تحكم كليب في موارد الماء و نفيه بكر بن وائل عنها حتى كاد يقتلهم عطشا. (راجع الكلام على ذلك مفصلا في الجزء الخامس من هذه الطبعة ص 36-37).
4- يعني غزوة الطائف و فيها رماه سعيد بن عبيد الثقفي فأصاب عينه. (انظر «المواهب اللدنية» ج 3 ص 39-40 طبع بولاق).
5- اليرموك: واد بناحية الشام في طرف الغور يصب في نهر الأردن ثم يمضي إلى البحيرة المنتنة. كانت به حرب بين المسلمين و الروم في أيام أبي بكر الصديق و عمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما.

/أنّه سمع أبا سفيان يمازح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في بيت بنته أمّ حبيبة و يقول: و اللّه إن هو إلا أن تركتك فتركتك العرب فما انتطحت جمّاء(1) و لا ذات قرن، و رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يضحك و يقول: «أنت تقول ذاك يا أبا حنظلة!»(2).

سئل و هو مشرك عن تزوّج بنته برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فمدحه:

قال الزبير و حدّثني عمّي مصعب:

أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تزوّج أمّ حبيبة بنت أبي سفيان و أبو سفيان يومئذ مشرك يحارب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و قيل له: إن محمدا قد نكح ابنتك؛ فقال: ذلك الفحل لا يقدع(3) أنفه. و اسم أمّ حبيبة رملة، و قيل: هند(4)، و الصحيح رملة.

أيضا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أذنه فعاتبه فأرضاه:

أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخزّاز قال حدّثنا المدائنيّ عن مسلمة بن محارب عن عثمان بن عبد الرحمن بن جوشن قال:

أذن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوما للناس، فأبطأ بإذن أبي سفيان. فلما دخل قال: يا رسول اللّه، ما أذنت لي حتى كدت تأذن للحجارة. فقال له: يا أبا سفيان «كلّ الصيد(5) في جوف الفرا».

/حدّثنا محمد بن العباس قال حدّثنا الخليل بن أسد النّوشجاني قال حدّثنا عطاء بن مصعب قال حدّثني سفيان بن عيينة عن جعفر بن يحيى البرمكيّ قال:

أذن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم للناس، فكان آخر من دخل عليه أبا سفيان بن حرب. فقال: يا رسول اللّه، لقد أذنت للناس قبلي حتى ظننت أن حجارة الخندمة(6) ليؤذن لها قبلي. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «أما و اللّه إنّك و الناس لكما قال الأوّل: «كلّ الصيد في بطن الفرا»». أيّ كل شيء لهؤلاء من المنزلة فإن لك وحدك مثل ما لهم كلّهم.

خرج إلى الشام في تجارة، فسأله هرقل عن أحوال النبيّ صلى اللّه عليه و سلم فأجابه و صدقه:

حدّثني عمر بن إسماعيل بن أبي غيلان الثّقفيّ قال حدّثنا داود بن عمرو الضّبيّ قال/حدّثنا المثنّى بن زرعة أبو راشد عن محمد بن إسحاق قال حدّثني الزّهريّ عن عبد اللّه بن عبد اللّه عن عتبة عن ابن عبّاس قال حدّثني أبو سفيان بن حرب قال(7):

ص: 523


1- الجماء: الشاة التي لا قرن لها.
2- حنظلة: ابن كان لأبي سفيان قتله علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه يوم بدر.
3- فحل لا يقدع أنفه، أي لا يضرب أنفه، لكرمه. و ذلك أن الفحل إذا أراد ركوب الناقة قدع و ضرب أنفه بالرمح أو غيره إذا كان غير كريم و حمل عليها فحل كريم غيره. و في ب، س: «يقرع» بالراء المهملة، و هو بمعنى «يقدع».
4- في الأصول: «و قيل صفية». و التصويب عن كتاب «الإصابة في أخبار الصحابة» و «أسد الغابة» و «المواهب اللدنية». و صفية هي أم أم حبيبة و هي صفية بنت أبي العاص.
5- هذا مثل يضرب لمن يفضل أقرانه. و أصله أن ثلاثة نفر خرجوا متصيدين فاصطاد أحدهم أرنبا و الآخر ظبيا و الثالث حمارا (و هو الفرا) فاستبشر صاحب الأرنب و صاحب الظبي بما نالا و تطاولا على الثالث، فقال: «كل الصيد في جوف الفرا» أي هذا الذي رزقت و ظفرت به يشتمل على ما عندكما. و ذلك أنه ليس مما يصيده الناس أعظم من الحمار الوحشي. (انظر «مجمع الأمثال» للميداني ج 2 ص 69) طبع بولاق.
6- الخندمة: جبل بمكة.
7- قد وردت هذه القصة في البخاري (ج 1 ص 4) باختلاف قليل عما هنا.

كنّا قوما تجارا، و كانت الحرب بيننا و بين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد حصرتنا(1) حتى نهكت(2) أموالنا. فلما كانت الهدنة [هدنة الحديبية](3) بيننا و بين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، خرجت في نفر من قريش إلى الشام، و كان وجه متجرنا منه غزّة، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من الفرس(4)، فأخرجهم منها و انتزع منهم صليبه الأعظم و كانوا قد استلبوه إيّاه. فلما بلغه ذلك منهم و بلغه أن صليبه قد استنقذ منهم، و كانت حمص منزله، خرج(5) منها يمشي على قدميه شكرا للّه حين ردّ عليه ما ردّ ليصلّي في بيت المقدس تبسط له البسط و تلقى عليها الريّاحين. فلما انتهى إلى/إيلياء فقضى فيها صلاته و كان معه بطارقته و أشراف الروم، أصبح ذات غدوة مهموما يقلّب طرفه إلى السماء.

فقال له بطارقته: و اللّه لكأنّك أصبحت الغداة مهموما. فقال: أجل! رأيت البارحة أن ملك الختان ظاهر. فقالوا:

أيّها الملك، ما نعلم أمّة تختتن إلا اليهود، و هم في سلطانك و تحت يدك، فابعث إلى كلّ من لك عليه سلطان في بلادك فمره فليضرب أعناق من تحت يدك منهم من يهود و استرح من هذا الهمّ. فو اللّه إنهم لفي ذلك من رأيهم يدبّرونه(6) إذ أتاه رسول صاحب بصرى(7) برجل من العرب يقوده - و كانت الملوك تتهادى الأخبار بينهم - فقال:

أيها الملك، إن هذا رجل من العرب من أهل الشّاء و الإبل يحدّث عن أمر حدث فاسأله. فلما انتهى به إلى هرقل رسول صاحب بصرى، قال هرقل لمن جاء به: سله عن هذا الحديث الذي كان ببلده؛ فسأله، فقال: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبيّ، و قد اتّبعه ناس فصدّقوه و خالفه آخرون، و قد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة، و تركتهم على ذلك. فلما أخبره الخبر قال: جرّدوه فإذا هو مختون؛ فقال: هذا و اللّه النبيّ الذي رأيت لا ما تقولون، أعطوه ثيابه و ينطلق. ثم دعا صاحب شرطته فقال له: اقلب الشام ظهرا لبطن حتى تأتيني برجل من قوم هذا الرجل.

فإنّا لبغزّة إذ هجم علينا صاحب شرطته فقال: أنتم من قوم الحجاز؟ قلنا نعم. قال: انطلقوا إلى الملك، فانطلقوا بنا. فلما انتهينا إليه قال: أنتم من رهط هذا الرجل الذي بالحجاز؟ قلنا نعم. قال: فأيّكم أمسّ به رحما؛ قال: قلت أنا - قال أبو سفيان: و أيم اللّه ما رأيت رجلا أرى أنه أنكر من ذلك الأغلف(8) (يعني هرقل) - ثم قال: أدنه، فأقعدني بين يديه و أقعد أصحابي خلفي، و قال: إني سأسأله، فإن كذب فردّوا عليه.

/ - قال: فو اللّه لقد علمت أن لو كذبت ما ردّوا عليّ، و لكنّي كنت امرأ سيّدا أتبرّم عن الكذب؛ و عرفت أنّ أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوه عليّ ثم يحدّثوا به عني، فلم أكذبه - قال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدّعي ما يدّعي. فجعلت أزهّد له شأنه و أصغّر له أموره، و أقول له: أيها الملك، ما يهمّك من شأنه! إنّ أمره دون ما بلغك؛ فجعل لا يلتفت إلى ذلك منّي. ثم قال: أنبئني فيما أسألك عنه من شأنه. قال: قلت:

سل عمّا بدا لك. قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: محض، هو أوسطنا(9) نسبا. قال: أخبرني هل/كان أحد في أهل

ص: 524


1- كذا في ح و «تجريد الأغاني». و في سائر الأصول: «حضرتنا» بالضاد المعجمة و هو تصحيف.
2- كذا في «تجريد الأغاني». و في الأصول: «تهتكت». و هو تحريف.
3- زيادة عن «تجريد الأغاني».
4- كذا في «تجريد الأغاني». و في الأصول: «من فارس».
5- في الأصول: «فخرج».
6- في ح و «تجريد الأغاني»: «يديرونه».
7- بصرى: بلد من أعمال دمشق و هي قصبة كورة حوران.
8- الأغلف: الذي لم يختتن.
9- أي خيرنا و أفضلنا نسبا.

بيته يقول ما يقول فهو يتشبّه به؟ قال: قلت لا. قال: هل كان له فيكم ملك فسلبتموه إيّاه فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه؟ قال: قلت لا. قال: أخبرني عن أتباعه منكم من هم؟ قال: قلت: الضعفاء و المساكين و الأحداث من الغلمان و النساء، فأمّا ذوو الأسنان من الأشراف من قومه فلم يتبعه منهم أحد. قال: فأخبرني عمّن يتبعه أ يحبّه و يلزمه أم يقليه و يفارقه؟ قال: قلت: قلّما يتبعه أحد فيفارقه. قال: فأخبرني كيف الحرب بينكم و بينه؟ قال: قلت:

سجال يدال علينا و ندال عليه. قال: فأخبرني هل يغدر؟ فلم أجد شيئا سألني عنه أغتمز فيه غيرها. قال: قلت: لا، و نحن منه في مدّة(1) و لا نأمن غدره. قال: فو اللّه ما التفت إليها منّي. ثم كرّر عليّ الحديث فقال: سألتك عن نسبه فيكم، فزعمت أنه محض من أوسطكم نسبا؛ فكذلك يأخذ اللّه النبيّ لا يأخذه إلا من أوسط قومه نسبا. و سألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل قوله فهو/يتشبّه به، فزعمت أن لا. و سألتك هل كان له ملك فيكم فسلبتموه إيّاه فجاء بهذا الحديث يطلب ملكه، فزعمت أن لا. و سألتك عن أتباعه، فزعمت أنهم الضعفاء و الأحداث و المساكين و النّساء، و كذلك أتباع الأنبياء في كل زمان. و سألتك عمّن يتبعه أ يحبّه و يلزمه أم يقليه و يفارقه، فزعمت أنه لا يتبعه أحد فيفارقه، فكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلب رجل فتخرج منه، و سألتك عن الحرب بينكم و بينه فزعمت أنها سجال تدالون عليه و يدل عليكم، و كذلك حرب الأنبياء، و لهم تكون العاقبة. و سألتك هل يغدر، فزعمت أن لا. فلئن كنت صدقتني عنه فليغلبنّ عليّ ما تحت قدميّ هاتين، و لوددت أنّي عنده فأغسل قدميه! انطلق لشأنك. فقمت من عنده و أنا أضرب بإحدى يديّ على الأخرى و أقول: يا لعباد اللّه! لقد أمر(2) أمر ابن أبي كبشة(3)! أصبحت ملوك بني الأصفر(4) يهابونه في ملكهم و سلطانهم.

كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى هرقل و ما كان بين هرقل و بطارقته:

قال ابن إسحاق: فقدم عليه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مع دحية(5) بن خليفة الكلبيّ، فيه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم. من محمد رسول اللّه (صلى اللّه عليه و سلم) إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتّبع الهدى.

أمّا بعد، فأسلم تسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين، و إن تتول(6) فإن إثم الأكابر عليك»(7).

/قال ابن شهاب: فأخبرني أسقف النصارى في زمن عبد الملك زعم أنه أدرك ذلك من أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أمر هرقل و عقله(8)، قال: فلمّا قدم عليه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قبل دحية بن خليفة، أخذه هرقل فجعله بين

ص: 525


1- في مدة: يعني بها مدّة صلح الحديبية. و ذلك أن النبي صلى اللّه عليه و سلم ذهب إلى مكة حاجا فتعرضت له قريش فأوقع بينه و بينهم صلحا على أن توضع الحرب بينهم عشر سنين و أن يرجع عنهم عامهم هذا. و قيل: يعني بالمدة انقطاعه صلى اللّه عليه و سلم و غيبته عن أبي سفيان. (راجع «شرح القسطلاني» على البخاري ج 1 ص 100) طبع بولاق.
2- أمر: عظم.
3- أبو كبشة: رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان و عبد الشعري العبور؛ فسمى المشركون النبي صلى اللّه عليه و سلم ابن أبي كبشة لخلافه إياهم إلى عبادة اللّه تعالى تشبيها له بأبي كبشة الذي خالفهم إلى عبادة الشعري. و قال آخرون: أبو كبشة كنية وهب بن عبد مناف جد سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قبل أمه فنسب إليه لأنه كان نزع إليه في الشبه. و قيل فيه غير ذلك (راجع «اللسان» مادة كبش).
4- بنو الأصفر: لقب ملوك الروم.
5- هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد الكلبي الصحابي المشهور، و هو الذي كان جبريل عليه السلام يأتي في صورته، و كان من أجمل الناس و أحسنهم صورة.
6- في «صحيح مسلم» و «البخاري»: «فإن توليت فإن عليك إثم اليريسيين» (هم الفلاحون و الزراعون).
7- قد ورد هذا الكتاب بإسهاب في البخاري و مسلم فانظره فيهما.
8- في الأصول: «... و عقله. فلما قدم عليه... قال أخذه هرقل». فوضعت كلمة «قال» في الأصول في غير موضعها.

فخذيه و خاصرته، ثم كتب إلى رجل برومية(1) كان يقرأ العبرانيّة ما تقرءونه، فذكر له أمره و وصف له شأنه و أخبره بما جاء منه. فكتب إليه صاحب رومية: إنه النبيّ الذي كنّا ننتظره لا شكّ فيه، فاتّبعه و صدّقه. قال: فأمر هرقل ببطارقة الرّوم فجمعوا له في دسكرة(2) ملكه، و أمر بها فأغلقت عليهم أبوابها، ثم اطّلع عليهم من علّيّة و خافهم على نفسه فقال: يا معشر الرّوم، قد جمعتكم لخبر، أتاني كتاب هذا الرجل يدعو إلى دينه، فو اللّه إنّه النبيّ الذي كنّا ننتظره و نجده في كتابنا؛ فهلمّ فلنبايعه و لنصدّقه فتسلم لنا دنيانا و آخرتنا. قال: فنخرت(3) الروم نخرة رجل واحد و ابتدروا أبواب الدّسكرة/ليخرجوا فوجدوها قد أغلقت دونهم. فقال: كرّوهم عليّ و خافهم على نفسه؛ فكرّوهم عليه. فقال: يا معشر الرّوم، إنما قلت لكم المقالة التي قلت لأنظر كيف صلابتكم في دينكم في هذا الأمر الذي قد حدث؛ فقد رأيت منكم الذي أسرّ به؛ فخرّوا سجّدا. و أمر بأبواب الدّسكرة ففتحت لهم فانطلقوا.

حديثه مع العباس حين بلغتهما بعثة النبيّ صلى اللّه عليه و سلم و هما باليمن و حديث الحبر اليهودي معهما:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن زكريا الغلابيّ قال حدّثني أبو بكر الهذليّ عن عكرمة عن ابن عباس قال قال لي العبّاس:

خرجت في تجارة إلى رجل في ركب منهم أبو سفيان بن حرب، فقدمت اليمن. فكنت أصنع يوما طعاما و أنصرف بأبي سفيان و بالنّفر، و يصنع أبو سفيان يوما/فيفعل مثل ذلك. فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه:

هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي و ترسل إلى غدائك؟ فقلت: نعم. فانصرفت أنا و النّفر إلى بيته و أرسلت إلى الغداء. فلما تغدّى القوم قاموا و احتبسني فقال لي: هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول اللّه؟ قلت: و أيّ بني أخي؟ قال أبو سفيان: إياي تكتم! و أيّ بني أخيك ينبغي له أن يقول هذا إلا رجل واحد! قلت:

و أيّهم هو على ذلك؟ قال: محمد بن عبد اللّه. قلت: ما فعل! قال: بلى قد فعل. ثم أخرج إليّ كتابا من ابنه حنظلة بن أبي سفيان: إني أخبرك أن محمدا قام بالأبطح(4) غدوة فقال: أنا رسول اللّه أدعوكم إلى اللّه. قال: قلت:

يا أبا حنظلة، لعلّه صادق. قال: مهلا يا أبا الفضل، فو اللّه ما أحبّ أن تقول مثل هذا، و إني لأخشى أن تكون على بصر من هذا الأمر - و قال الحسن بن عليّ في روايته: على بصيرة من هذا الحديث - ثم قال: يا بني عبد المطّلب، إنه و اللّه ما برحت قريش تزعم أن لكم يمنة و شؤمة كلّ واحدة منهما عامّة، فنشدتك اللّه يا أبا الفضل هل سمعت ذلك؟ قلت نعم. قال: فهذه و اللّه إذا شؤمتكم. قلت: فلعلّها يمنتنا. فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد اللّه بن حذافة السّهميّ بالخبر و هو مؤمن، ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن يتحدّث به فيها. و كان أبو سفيان يجلس إلى حبر من أحبار اليمن؛ فقال له اليهوديّ: ما هذا الخبر الذي بلغني؟ قال: هو ما سمعت. قال: أين فيكم عمّ هذا الرجل الذي قال ما قال؟ قال أبو سفيان: صدقوا و أنا عمّه. قال اليهوديّ: أ أخو أبيه؟ قال نعم. قال: حدّثني عنه.

قال: لا تسألني، فما كنت أحسب أن يدّعي هذا الأمر أبدا، و ما أحبّ أن أعيبه، و غيره خير منه. قال اليهوديّ:

فليس به أذى، و لا بأس على يهود و توراة موسى منه. قال العباس: فتأدّى إليّ الخبر فحميت، و خرجت حتى أجلس

ص: 526


1- رومية: هي عاصمة ايطاليا الآن.
2- الدسكرة: بناء على هيئة القصر فيه منازل و بيوت للخدم و الحشم.
3- نخر: مدّ الصوت من خياشيمه.
4- أبطح مكة: مسيل واديها.

/إلى ذلك المجلس من غد و فيه أبو سفيان و الحبر. فقلت للحبر: بلغني أنك سألت ابن عمّي هذا عن رجل منّا يزعم أنه رسول اللّه، فأخبرك أنه عمّه، و ليس بعمّه و لكنّه ابن عمّه، و أنا عمّه أخو أبيه. فقال: أ أخو أبيه؟ قلت: أخو أبيه. فأقبل على أبي سفيان فقال: أصدق؟ قال: نعم صدق. قال فقلت: سلني عنه، فإن كذبت فليردد عليّ. فأقبل عليّ فقال: أنشدك اللّه، هل فشت لابن أخيك صبوة أو سفهة؟ قال قلت: لا و إله عبد المطّلب و لا كذب و لا خان، و إن كان اسمه عند قريش الأمين. قال: فهل كتب بيده؟ قال عبّاس: فظننت أنه خير له أن يكتب بيده، فأردت أن أقولها، ثم ذكرت مكان أبي سفيان و أنّه مكذّبي و رادّ عليّ، /فقلت: لا يكتب. فذهب الحبر و ترك رداءه و جعل يصيح: ذبحت يهود! قتلت يهود! قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان: يا أبا الفضل، إنّ اليهوديّ لفزع من ابن أخيك. قال قلت: قد رأيت ما رأيت، فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به، فإن كان حقّا كنت قد سبقت، و إن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك؟ قال: لا و اللّه ما أو من به حتى أرى الخيل تطلع من كداء (و هو جبل بمكة). قال قلت: ما تقول؟! قال: كلمة و اللّه جاءت على فمي ما ألقيت لها بالا، إلا أني أعلم أن اللّه لا يترك خيلا تطلع من كداء. قال العباس: فلما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مكة و نظرنا إلى الخيل قد طلعت من كداء، قلت: يا أبا سفيان، أتذكر الكلمة؟ قال لي: و اللّه إني لذاكرها، فالحمد للّه الذي هداني للإسلام.

حديث استئمان العباس له و إسلامه في غزاة الفتح:

حدّثنا(1) محمد بن جرير الطّبريّ قال حدّثنا البغويّ(2) قال حدّثنا الغلابيّ أبو كريب/محمد بن العلاء قال حدّثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال حدّثني الحسين بن عبيد اللّه بن العبّاس عن عكرمة عن ابن عبّاس قال:

لمّا نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مرّ(3) الظّهران (يعني في غزاة الفتح) قال العبّاس بن عبد المطلب و قد خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من المدينة: يا صباح(4) قريش! و اللّه لئن بغتها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إنها لهلاك قريش آخر الدهر. فجلس على بغلة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم البيضاء و قال: أخرج إلى الأراك(5)، لعلّي أرى حطّابا أو صاحب لبن أو داخلا يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فيستأمنونه. فو اللّه إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان و حكيم(6) بن حزام و بديل(7) بن ورقاء يتجسّسون الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم؛ فسمعت أبا سفيان و هو يقول:

ص: 527


1- ورد هذا الخبر بسنده في «تاريخ الطبري» (ق 1 ص 630 طبع أوروبا). و قد رواه ابن جرير الطبري عن أبي كريب مباشرة. و هو كثيرا ما يقول في تاريخه: «حدّثنا أبو كريب». فلعل ذكر اسمي البغوي و الغلابي هنا من زيادات النساخ.
2- هو أحمد بن منيع بن عبد الرحمن الحافظ الكبير أبو جعفر الأصم البغوي من شيوخ ابن جرير الطبري توفي ببغداد سنة 244 ه.
3- مر الظهران: واد قرب مكة.
4- يا صباح كذا و يا صباحاه: مما يستعمل عند الانذار بالغارة.
5- الأراك: واد قرب مكة.
6- هو حكيم بن خويلد بن عبد العزي الأسدي أبو خالد ابن أخي خديجة زوج النبي صلى اللّه عليه و سلم. قال ابن إسحاق: أعطاه النبي صلى اللّه عليه و سلم من غنائم حنين مائة من الإبل، و ولد في جوف الكعبة قبل قدوم الفيل بثلاث عشرة سنة.
7- هو بديل بن ورقاء بن عبد العزيز بن ربيعة بن جزي بن عامر بن مازن بن عدي من خزاعة، و هو الذي كتب إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام، و هو من كبار مسلمة الفتح.

و اللّه ما رأيت كالليلة قطّ نيرانا. فقال بديل بن ورقاء: هذه و اللّه نيران خزاعة حمشتها(1) الحرب. فقال أبو سفيان:

خزاعة ألأم من ذلك و أذلّ. فعرفت صوته فقلت: أبا حنظلة! فقال: أبا الفضل! قلت نعم؛ فقال: لبّيك، فداؤك أبي و أمي! فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد دلف(2) إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال:

فما تأمرني؟ فقلت: تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول اللّه/صلى اللّه عليه و سلم، فو اللّه لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك.

فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نحو رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم. فكلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إليّ قالوا: عمّ رسول اللّه على بغلة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم؛ حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب - رضي اللّه تعالى عنه - فقال: أبو سفيان! الحمد للّه الذي أمكن منك بغير عقد و لا عهد؛ ثم اشتدّ نحو النبيّ صلى اللّه عليه و سلم، و ركضت البغلة و قد أردفت أبا سفيان - قال العباس: - حتى اقتحمت على باب القبّة و سبقت عمر بما تسبق به الدّابة البطيئة الرجل البطيء. فدخل عمر على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: يا رسول اللّه، هذا أبو سفيان قد أمكن اللّه منه بغير عهد و لا عقد، فدعني أضرب عنقه. قلت: يا رسول اللّه، إني قد أجرته. ثم جلست إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم و أخذت برأسه و قلت: و اللّه لا يناجيه اليوم/أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلا يا عمر! فو اللّه ما تصنع هذا إلاّ لأنّه رجل من عبد مناف، و لو كان من بني عديّ بن كعب ما قلت هذا! قال: مهلا يا عبّاس! فو اللّه لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم؛ و ذلك لأني أعلم أن إسلامك أحبّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: «اذهب فقد أمّنّاه حتى تغدو به عليّ الغداة» فرجع به إلى منزله. فلما أصبح غدا به على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم. فلما رآه قال: «ويحك يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا اللّه»! فقال: بأبي أنت و أمي! ما أوصلك و أحلمك و أكرمك! و اللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه غيره لقد أغنى عنّي شيئا. فقال: «ويحك تشهّد بشهادة الحقّ قبل و اللّه [أن](3) تضرب عنقك». /قال: فتشهّد. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم للعبّاس من حين تشهّد أبو سفيان:

«انصرف يا عبّاس فاحتبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى يمرّ عليه جنود اللّه». فقلت: يا رسول اللّه، إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر، فاجعل له شيئا يكون في قومه. فقال: «نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن و من دخل المسجد فهو آمن و من أغلق عليه بابه فهو آمن». فخرجت به حتى أجلسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي، فمرّت عليه القبائل، فجعل يقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي و لسليم! ثم تمرّ به قبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي و لأسلم! و تمرّ به جهينة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: جهينة، فيقول: ما لي و لجهينة! حتى مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الخضراء، كتيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من المهاجرين و الأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في المهاجرين و الأنصار؛ فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فقلت: ويحك! إنها النبوّة؛ قال: نعم إذا. فقلت الحق الآن بقومك فحذّرهم. فخرج سريعا حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به.

قالوا: فمه! قال: من دخل داري فهو آمن. فقالوا: ويحك ما تغني عنّا دارك! قال: و من دخل المسجد فهو آمن و من أغلق عليه بابه فهو آمن.

ص: 528


1- حمش الشيء: جمعه و فلانا هيجه.
2- يقال: دلفت الكتيبة إلى الكتيبة في الحرب أي تقدمت.
3- زيادة عن الطبري.
بعض ما أسند إليه من أخبار تدل على عدم إخلاصه:

حدّثنا محمد بن جرير و أحمد بن الجعد قالا حدّثنا محمد بن حميد قال حدّثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبّاد عن عبد اللّه بن الزبير قال:

لمّا كان يوم اليرموك خلّفني أبي، فأخذت فرسا له و خرجت، فرأيت جماعة من الخلفاء فيهم أبو سفيان بن حرب فوقفت معهم، فكانت الرّوم إذا هزمت المسلمين قال أبو سفيان: إيه بني الأصفر، فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان:

/و بنو الأصفر الكرام ملوك الرّوم لم يبق منهم مذكور فلما فتح اللّه على المسلمين حدّثت أبي فقال: قاتله اللّه! يأبى إلاّ نفاقا؛ أ و لسنا خيرا له من بني الأصفر! ثم كان يأخذ بيدي فيطوف على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول: حدّثهم، فأحدّثهم فيعجبون من نفاقه.

حدّثني أحمد بن الجعد قال حدّثني ابن حميد قال حدّثنا جرير عن عمرو بن ثابت عن الحسن قال:

دخل أبو سفيان على عثمان بعد/أن كفّ بصره، فقال: هل علينا من عين؟ فقال له عثمان: لا. فقال:

حدّثني محمد بن حيّان الباهليّ قال حدّثنا عمر بن عليّ الفلاّس قال حدّثنا سهل بن يوسف عن مالك بن مغول(1) عن أشعث بن أبي الشّعثاء عن ميسرة الهمدانيّ عن أبي الأبجر الأكبر قال:

جاء أبو سفيان إلى عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقال: يا أبا الحسن، ما بال هذا الأمر في أضعف قريش و أقلّها! فو اللّه لئن شئت لأملأنّها عليهم خيلا و رجلا. فقال له عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه: يا أبا سفيان، طالما عاديت اللّه و رسوله صلى اللّه عليه و سلم و المسلمين فما ضرّهم ذلك شيئا، إنّا وجدنا أبا بكر لها أهلا.

أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال أنشدني ابن عائشة لأبي سفيان بن حرب لمّا ولي أبو بكر قال:

/

و أضحت قريش بعد عزّ و منعة *** خضوعا لتيم(2) لا بضرب القواضب

فيا لهف نفسي للذي ظفرت به *** و ما زال منها فائزا بالرّغائب

و حدّثني أحمد بن الجعد قال حدّثني محمد بن حميد قال حدّثنا جرير عن عمرو بن ثابت عن الحسن قال:

لمّا ولي عثمان الخلافة، دخل عليه أبو سفيان فقال: يا معشر بني أميّة، إن الخلافة صارت في تيم و عديّ(3)حتى طمعت فيها، و قد صارت إليكم فتلقّفوها بينكم تلقّف الكرة، فو اللّه ما من جنّة و لا نار - هذا أو نحوه - فصاح به

ص: 529


1- كذا في «التهذيب» و «الخلاصة في أسماء الرجال». و هو مالك بن مغول البجلي أبو عبد اللّه أحد علماء الكوفة و عبادها توفي سنة تسع و خمسين و مائة. و في ب، س، ح: «معول» بالعين المهملة. و في سائر الأصول: «معاوية» و كلاهما تحريف.
2- هو تيم بن مرة بن كعب، و به سميت القبيلة التي ينسب إليها أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه.
3- هو عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، و به سميت القبيلة التي ينسب إليها عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.

عثمان: قم عنّي فعل اللّه بك و فعل. و لأبي سفيان أخبار من هذا الجنس و نحوه كثيرة يطول ذكرها، و فيما ذكرت منها مقنع(1).

شعره في ابن مشكم حين نزل عليه في غزوة السويق:

و الأبيات التي فيها الغناء يقولها في سلام بن مشكم اليهوديّ و يكنى أبا غنم، و كان نزل عليه في غزوة السّويق، فقراه و أحسن ضيافته. فقال أبو سفيان فيه:

سقاني فروّاني كميتا مدامة *** على ظمأ منّي سلام بن مشكم

تخيّرته أهل المدينة واحدا *** سواهم فلم أغبن و لم أتندّم

فلمّا تقضّي الليل قلت و لم أكن *** لأفرحه أبشر بعرف و مغنم

و إنّ أبا غنم يجود و داره *** بيثرب مأوى كلّ أبيض خضرم(2)

ص: 530


1- الثابت في التاريخ الصحيح أن أبا سفيان أسلم و حسن إسلامه. فلعل هذه الأخبار و نحوها مما كان يفتريه الشيعة على معاوية و آل معاوية للنيل منهم و الكيد لهم.
2- الخضرم: الجواد الكثير العطية، مشبه بالبحر الخضرم و هو الكثير الماء.
ذكر الخبر عن غزوة السّويق و نزول أبي سفيان على سلام بن مشكم
خبره غزوة السويق و نزوله على ابن مشكم:

كانت هذه الغزاة بعد وقعة بدر. و ذلك أن أبا سفيان نذر ألاّ يمسّ رأسه ماء من جنابة و لا يشرب خمرا حتى يغزو رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم. فخرج في عدّة من قومه و لم يصنع شيئا؛ فعيّرته قريش بذلك و قالوا: إنما خرجتم تشربون السّويق(1)؛ فسمّيت غزوة السّويق(2).

حدّثنا محمد بن جرير، قرأته عليه، قال حدّثنا محمد بن حميد قال حدّثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير و يزيد بن رومان عن عبيد اللّه بن كعب بن مالك - و كان من أعلم الأنصار - قال:

كان أبو سفيان حين رجع إلى مكة و رجع قبل قريش من بدر، نذر ألاّ يمسّ ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى اللّه عليه و سلم. فخرج في مائتي راكب من قريش ليبرّ يمينه، فسلك النّجديّة حتى نزل بصدر قناة إلى/جبل يقال له تيت(3) (من المدينة على بريد أو نحوه) ثم خرج من الليل حتى أتى بني النّضير تحت الليل، فأتى حييّ بن أخطب بيثرب فدقّ عليه بابه فأبى أن يفتح له و خافه؛ و انصرف/إلى سلام بن مشكم - و كان سيّد بني النّضير في زمانه ذلك و صاحب كنزهم - فاستأذن عليه فأذن له، فقراه و سقاه و نظر له خبر الناس. ثم خرج في عقب ليلته حتى جاء أصحابه؛ فبعث رجالا من قريش إلى المدينة، فأتوا ناحية منها يقال لها العريض، فحرّقوا في أصوار(4) من نخل لها، أتوا رجلا من الأنصار و حليفا له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين. فنذر(5) بهم الناس؛ فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في طلبهم حتى بلغ قرقرة(6) الكدر، ثم انصرف راجعا و قد فاته أبو سفيان و أصحابه، و قد رأوا من

ص: 531


1- السويق: شراب يتخذ من الحنطة و الشعير.
2- الذي في «السيرة» لابن هشام (ج 2 ص 544): «و إنما سميت غزوة السويق - فيما حدّثني أبو عبيدة - لأن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم السويق، فسميت غزوة السويق».
3- تيت: ضبط في «القاموس» و «شرحه» كميت (أي بسكون الياء و بتشديدها مكسورة). و ضبط في ياقوت بالقلم بتشديد الياء مفتوحة. و منهم من قال: «تيب» بالتحريك و آخره باء موحدة، جبل قريب من المدينة على سمت الشام، و قد يشدّد وسطه للضرورة. (راجع «معجم البلدان» لياقوت و «القاموس» و «شرحه» مادة تيت).
4- كذا في ح و «السيرة لابن هشام» و الطبري (ق 1 ص 1365). و قد ورد هذا الخبر في «شرح القاموس» و «اللسان» (مادة صور) و «معجم ياقوت» في الكلام على عريض هكذا: «أن أبا سفيان بعث رجلين من أصحابه فأحرقا صورا من صيران العريض». و الصور: الجماعة من النخل. و قيل: النخل الصغار. و في سائر الأصول: «فحرقوا أسوارا من نخل» بالسين المهملة و هو تحريف.
5- نذر: علم.
6- قرقرة الكدر: موضع على ستة أميال من خيبر.

مزاود القوم ما قد طرحوه في الحرث يتخفّفون منه للنّجاء. فقال المسلمون حين رجع بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: أ نطمع أن تكون غزوة، قال «نعم». و قد كان أبو سفيان قال و هو يتجهّز خارجا من مكة إلى المدينة أبياتا من شعر يحرّض فيها قريشا فقال:

كرّوا على يثرب و جمعهم *** فإنّ ما جمّعوا لكم نفل

إن يك يوم القليب(1) كان لهم *** فإن ما بعده لكم دول

آليت لا أقرب النساء و لا *** يمسّ رأسي و جلدي الغسل

حتى تبيدوا قبائل الأوس و ال *** خزرج إن الفؤاد مشتعل

فأجابه كعب بن مالك:

يا لهف أمّ المسبّحين(2) على *** جيش ابن حرب بالحرّة الفشل(3)

/أ تطرحون الرجال من سنم الظّهر ترقّى في قنّة الجبل

جاءوا بجمع لو قيس منزله *** ما كان إلا كمعرس الدّئل(4)

عار من النصر و الثراء و من *** نجدة أهل البطحاء و الأسل

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال حدّثنا سليمان بن سعد عن الواقديّ:

أن غزوة السّويق كانت في ذي القعدة من سنة ثنتين من الهجرة.

اشتد قيس بن الخطيم على حسان و هم يشربون عند ابن مشكم فانتصر ابن مشكم لحسان:

حدّثني عمّي قال حدّثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدّثنا ابن سعد عن الواقديّ عن أبي الزّناد عن عبد اللّه بن الحارث قال:

شرب حسّان بن ثابت يوما مع سلام بن مشكم، و كان له نديما، معهم كعب بن أسد و عبد اللّه بن أبيّ و قيس بن الخطيم؛ فأسرع الشراب فيهم و كانوا في موادعة و قد وضعت الحرب أوزارها بينهم. فقال قيس بن الخطيم لحسّان:

تعال أشاربك؛ فتشاربا في إناء عظيم فأبقى حسّان من الإناء شيئا؛ فقال له قيس: اشرب. فقال حسّان و عرف الشرّ في وجهه: أو خيرا من ذلك أجعل لك الغلبة. قال: لا! إلاّ أن تشربه؛ فأبى حسّان. و قال له سلام بن مشكم: يا أبا يزيد، لا تكرهه على ما لا يشتهي، إنما دعوته لإكرامه و لم تدعه لتستخفّ به و تسيء مجالسته. فقال له قيس:

أ فتدعوني أنت على أن تسيء مجالستي! فقال له سلام: ما في هذا سوء مجالسة، و ما حملت عليك إلاّ لأنك منّي و أني حليفك، و ليست/عليك غضاضة في هذا، و هذا رجل من الخزرج قد أكرمته و أدخلته منزلي؛ فيجب أن تكرم

ص: 532


1- هو قليب بدر (انظر الكلام عليه في غزوة بدر في هذا الكتاب ج 4 ص 170 من هذه الطبعة).
2- كذا في الطبري و ابن الأثير. و في الأصول: «المسجيين».
3- الفشل: الضعيف الجبان.
4- المعرس: الموضع الذي يعرس فيه (ينزل). و الدئل: دويبة كالثعلب، و قيل: هي شبيهة بابن عرس. و في الطبري (ق 1 ص 1366): «كمفحص الدئل».

لي من أكرمته. و لعمري/إن في الصحو لما تكتفون به من حروبكم؛ فافترقوا. و آلى سلام بن مشكم على نفسه ألاّ يشرب سنة؛ و قد بلغ هذا من نديمه و كان كريما.

صوت من المائة المختارة

من مبلغ عنّي أبا كامل *** أنّي إذا ما غاب كالهامل

قد زادني شوقا إلى قربه *** مع ما بدا من رأيه الفاضل

الشعر للوليد بن يزيد. و الغناء لأبي كامل. و لحنه المختار من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر حبش أن لأبي كامل فيه أيضا لحنا من خفيف الثقيل الثاني بالوسطى.

انتهى الجزء السادس من كتاب الأغاني و يليه الجزء السابع و أوّله أخبار الوليد بن يزيد و نسبه

ص: 533

ص: 534

فهرس موضوعات الجزء السادس

الموضوع الصفحة

1 - أخبار الصمّة القشيري و نسبه 291

2 - أخبار داود بن سلم و نسبه 297

3 - أخبار دحمان و نسبه 305

4 - أخبار أعشى همدان و نسبه 313

5 - أخبار أحمد النصبيّ و نسبه 334

6 - أخبار حماد الراوية و نسبه 339

7 - أخبار عبادل و نسبه 356

8 - أخبار المرقش الأكبر و نسبه 376

9 - المرقش الأصغر 381

10 - وقعة دولاب و أخبار الشراة 386

11 - أخبار سياط و نسبه 392

12 - ذكر نبيه و أخباره 398

13 - أخبار سليم 400

14 - أخبار ابن عبّاد 405

15 - أخبار يحيى المكي و نسبه 407

16 - أخبار النّميري و نسبه 418

17 - أخبار وضّاح اليمن و نسبه 431

18 - أخبار بشّار و عبدة خاصة 454

19 - أخبار الأحوص مع أم جعفر 463

20 - ذكر أبي ذؤيب و خبره و نسبه 469

21 - ذكر حكم الوادي و خبره و نسبه 480

22 - ذكر ابن جامع و خبره و نسبه 486

23 - ذكر أبي سفيان و أخباره و نسبه 521

فهرس الموضوعات 535

ص: 535

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.