الأغاني
المؤلفين الآخرين
مدقق لغوي ومترجم:
مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي
المجلدات : 25ج
لسان: العربية
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374
إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
من كتاب الأغاني بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
1 - ذكر النابغة الجعدي و نسبه و أخباره و السبب الذي من أجله قيل(1) هذا الشعر
هو - على ما ذكر أبو عمرو الشّيبانيّ و القحذميّ، و هو الصحيح، - حبّان(2) بن قيس بن عبد اللّه بن وحوح بن عدس(3) - و قيل ابن عمرو بن عدس مكان وحوح - ابن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. هذا النسب الذي عليه الناس اليوم مجتمعون. و قد روى ابن الكلبيّ و أبو اليقظان و أبو عبيدة و غيرهم في ذلك روايات تخالف هذا، فمنها أن [ابن](4) الكلبيّ ذكر عن أبيه أن خصفه الذي يقول الناس إنه ابن قيس بن عيلان ليس كما قالوا، و أن عكرمة ابن قيس بن عيلان و خصفة أمه، و هي امرأة من أهل هجر. و قيل: /بل هي حاضنته؛ و كان قيس بن عيلان قد مات و عكرمة صغير فربّته حتى كبر، و كان قومه يقولون: هذا عكرمة بن خصفة، فبقيت/عليه؛ و من لا يعلم يقول:
عكرمة بن خصفة بن قيس، كما يقال خندف(5)، و إنما هي امرأة و زوجها إلياس بن مضر. و قالوا في صعصعة بن
ص: 5
معاوية: إن الناقمية(1) بنت عامر بن مالك، و هو الناقم، سمّي بذلك لأنه انتقم بلطمة لطمها، و هو ابن سعد(2) بن جدّان(3) بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، كانت عند معاوية بن بكر بن هوازن فمات عنها أو طلّقها و هي نسء(4)، فتزوّجها سعد بن زيد مناة بن تميم، فولدت على فراشه صعصعة بن معاوية، ثم ولدت هبيرة و نجدة و جنادة؛ فلما مات سعد اقتسم بنوه الميراث و أخرجوا صعصعة منه، و قالوا: أنت ابن معاوية بن بكر؛ فلما رأى ذلك أتى بني معاوية بن بكر فأقرّوا بنسبه و دفعوه عن الميراث؛ فلما رأى ذلك أتى سعد بن الظّرب العدوانيّ فشكا إليه ما لقي، فزوّجه بنت أخيه عمرة بنت عامر بن الظّرب، و أبوها عامر الذي يقال له: ذو الحلم(5)؛ و عمرة ابنته هذه هي التي كانت تقرع(6) له العصا إذا سها في الحكم؛ و له(7) يقول الشاعر(8):
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا *** و ما علّم الإنسان إلا ليعلما
قال: و كانت عمرة يوم زوّجها عمّها نسئا من ملك من ملوك اليمن يقال له: الغافق بن العاصي الأزديّ، و الملك يومئذ في الأزد، فولدت على فراش صعصعة عامر بن صعصعة، فسمّاه صعصعة عامرا بجدّه عامر بن الظّرب. و قال في ذلك حبيب بن وائل بن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن:
ص: 6
/
أ زعمت أنّ الغافقيّ أبوكم *** نسب لعمر أبيك غير مفنّد(1)
و أبوكم ملك ينتف باسته *** هلباء(2) عافية كعرف الهدهد
جنحت عجوزكم إليه فردّها *** نسئا بعامركم و لمّا يؤيد
و يكنى النابغة أبا ليلى.
و أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال:
هو قيس بن عبد اللّه بن عدس بن ربيعة بن [جعدة(3) بن كعب بن ربيعة بن عامر بن] صعصعة. و قال ابن الأعرابيّ: هو قيس بن عبد اللّه بن عمرو بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة، و وافق ابن سلاّم في باقي نسبه(4). و هذا وهم ممن قال: إن اسمه قيس(5)؛ و ليس يشكّ في أنه كان له أخ يقال له وحوح بن قيس، و هو الذي قتله بنو أسد؛ و خبره يذكر بعد هذا ليصدق نسب النابغة.
و أمه فاخرة بنت عمرو بن جابر بن شحنة الأسديّ.
و إنما سمّي النابغة لأنه أقام مدّة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله.
/أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد: قرأت على القحذميّ:
قال الجعديّ الشعر في الجاهلية ثم أجبل(6) دهرا ثم نبغ بعد في الشعر في الإسلام.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:
أقام النابغة الجعديّ ثلاثين سنة لا يتكلّم، ثم تكلّم بالشعر.
قال القحذميّ في رواية حمّاد عنه: كان الجعديّ أسنّ من نابغة بني ذبيان.
ص: 7
قال ابن سلاّم في رواية أبي خليفة عنه: كان الجعديّ(1) النابغة قديما شاعرا طويلا مفلقا طويل البقاء في الجاهلية و الإسلام، و كان أكبر من الذّبيانيّ؛ و يدلّ على ذلك قوله:
و من(2) يك سائلا عنّي فإني *** من الفتيان أيام الخنان(3)
/أتت مائة لعام ولدت فيه *** و عشر بعد ذاك و حجّتان
فقد أبقت خطوب الدّهر منّي *** كما أبقت من السيف اليماني
[قال(4) و عمّر بعد ذلك عمرا طويلا. سئل محمد بن حبيب عن أيام الخنان ما هي؟ فقال: وقعة لهم؛ فقال قائل منهم و قد لقوا عدوّهم: خنّوهم(5) بالرماح، فسمّي ذلك/العام الخنان. و يدل على أنه أقدم من النابغة الذبيانيّ أنه عمّر مع المنذر بن المحرّق قبل النعمان بن المنذر، و كان النابغة الذبيانيّ مع النعمان بن المنذر و في عصره، و لم يكن له قدم إلا أنه مات قبل الجعديّ، و لم يدرك الإسلام. و الجعديّ الذي يقول:
تذكّرت شيئا قد مضى لسبيله *** و من عادة المحزون أن يتذكّرا
نداماي عند المنذر بن محرّق *** أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرا
كهول و فتيان كأنّ وجوههم *** دنانير ممّا شيف(6) في أرض قيصرا]
أخبرني أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني عبد اللّه بن محمد بن حكيم عمن كان يأخذ العلم عنه و لم يسمّ إليّ أحدا في هذا(7): أن النابغة عمّر مائة و ثمانين سنة، و هو القائل:
لبست أناسا فأفنيتهم *** و أفنيت بعد أناس أناسا
ثلاثة أهلين أفنيتهم *** و كان الإله هو المستآسا(8)
و هي قصيدة طويلة، يقول فيها، و فيه غناء:
و كنت غلاما أقاسي الحرو *** ب يلقى المقاسون منّي مراسا
فلمّا دنونا لجرس(9) النّبا *** ح لم نعرف الحيّ إلا التماسا
ص: 8
أضاءت لنا النّار وجها أغ *** رّ ملتبسا بالفؤاد التباسا
غنّى في هذه الثلاثة الأبيات فليح بن أبي العوراء خفيف ثقيل أوّل بالوسطى.
/رجع الخبر إلى رواية عمر بن شبّة:
قال: و قال أيضا:
ألا زعمت بنو سعد بأنّي *** - ألا كذبوا - كبير السنّ فاني
أتت مائة لعام ولدت فيه *** و عشر بعد ذاك و حجّتان
قال: و أنشد عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه أبياته التي يقول فيها:
ثلاثة أهلين أفنيتهم
فقال له عمر رضي اللّه تعالى عنه: كم لبثت مع كل أهل؟ قال: ستين سنة.
و أخبرني بعض أصحابنا عن أبي بكر بن دريد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه قال:
أنشد رجل من العجم قول النابغة الجعديّ:
لبست أناسا فأفنيتهم *** و أفنيت بعد أناس أناسا
و فسّر له، فقال: «بدين شان بود»، أي هذا رجل مشئوم. و أما ابن قتيبة فإنه ذكر ما رواه لنا عنه إبراهيم بن محمد أنه عمّر مائتين و عشرين سنة، و مات بأصبهان. و ما ذاك بمنكر؛ لأنه(1) قال لعمر رضي اللّه تعالى عنه: إنه أفنى ثلاثة قرون كلّ قرن ستون سنة، فهذه مائة و ثمانون، [ثم عمّر(2) بعده فمكث بعد قتل عمر خلافة عثمان و عليّ و معاوية و يزيد، و قدم على عبد اللّه بن الزبير بمكة و قد دعا لنفسه، فاستماحه و مدحه؛ و بين عبد اللّه بن الزبير و بين عمر] نحو مما ذكر ابن قتيبة؛ بل/لا أشك أنه قد بلغ هذه السنّ و هاجى أوس بن مغراء بحضرة الأخطل و العجّاج و كعب بن جعيل فغلبه أوس، و كان مغلّبا(3).
حدّثنا أحمد بن عمر بن موسى القطّان المعروف بابن زنجويه قال حدّثنا إسماعيل بن عبد اللّه السكّريّ قال حدّثنا يعلى بن الأشدق العقيليّ قال حدّثني نابغة بني جعدة قال:
أنشدت النبيّ صلى اللّه عليه و سلم هذا الشعر فأعجب به:
ص: 9
بلغنا السماء مجدنا و جدودنا(1) *** و إنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
/فقال النبيّ صلى اللّه عليه و سلم: «فأين المظهر يا أبا ليلى»؛ فقلت: الجنة؛ فقال: «قل إن شاء اللّه»؛ فقلت: إن شاء اللّه.
و لا خير في حلم إذا لم يكن له *** بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا
و لا خير في جهل إذا لم يكن له *** حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال النبيّ صلى اللّه عليه و سلم: «أجدت لا يفضض اللّه فاك»؛ قال: فلقد رأيته و قد أتت عليه مائة سنة أو نحوها و ما انفضّ من فيه سنّ.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة قال:
/كان النابغة الجعديّ ممن فكّر في الجاهلية و أنكر الخمر و السّكر و ما يفعل بالعقل، و هجر الأزلام(2)و الأوثان(3)، و قال في الجاهلية كلمته التي أوّلها:
الحمد للّه لا شريك له *** من لم يقلها فنفسه ظلما
و كان يذكر دين إبراهيم و الحنيفيّة، و يصوم و يستغفر، و يتوقّى(4) أشياء لعواقبها. و وفد على النبيّ صلى اللّه عليه و سلم فقال:
أتيت رسول اللّه إذ جاء بالهدى *** و يتلو كتابا كالمجرّة(5) نيّرا
و جاهدت حتى ما أحسّ و من معي *** سهيلا إذا ما لاح ثمّت غوّرا
أقيم على التقوى و أرضى بفعلها(6) *** و كنت من النار المخوفة أوجرا(7)
و حسن إسلامه، و أنشد النبيّ صلى اللّه عليه و سلم؛ فقال له: «لا يفضض اللّه فاك»؛ و شهد مع عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه صفّين. و قد ذكر خبره [مع عمر رضي اللّه عنه(8)؛ و أما خبره] مع عثمان فأخبرنا به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال قال مسلمة بن محارب:
ص: 10
دخل النابغة الجعديّ على عثمان رضي اللّه تعالى عنه فقال: أستودعك اللّه يا أمير المؤمنين؛ قال: و أين تريد يا أبا ليلى؟ قال: ألحق بإبلي فأشرب من ألبانها فإني منكر لنفسي؛ فقال: أ تعرّبا(1) بعد الهجرة يا أبا ليلى! أ ما علمت أن ذلك مكروه؟! قال: ما علمته، و ما كنت لأخرج حتى أعلمك. قال: فأذن له، و أجّل له في ذلك أجلا؛ فدخل على الحسن و الحسين ابني عليّ فودّعهما؛ فقالا له: أنشدنا من شعرك يا أبا ليلى؛ فأنشدهما:
الحمد للّه لا شريك له *** من لم يقلها فنفسه ظلما
فقالا: يا أبا ليلى، ما كنا نروي هذا الشعر إلا لأميّة بن أبي الصّلت؛ فقال: يا بني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إني لصاحب هذا الشعر و أوّل من قاله، و إن السّروق(2) لمن سرق شعر أمية.
قال أبو زيد عمر(3) بن شبّة في خبره:
كان النابغة شاعرا متقدّما، و كان مغلّبا ما هاجى قطّ إلا غلب، هاجى أوس بن مغراء و ليلى الأخيليّة و كعب بن جعيل فغلبوه جميعا.
و قال أبو عمرو الشّيبانيّ: كان بدء حديث النابغة و أوس بن مغراء أنّ معاوية لما وجّه بسر بن أرطاة(4) الفهريّ لقتل شيعة عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه، /قام إليه معن بن يزيد بن الأخنس السّلميّ و زياد بن الأشهب بن ورد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة، فقالا: يا أمير المؤمنين، نسألك باللّه و بالرحم ألاّ تجعل لبسر على قيس سلطانا، فيقتل(5) قيسا بمن قتلت بنو/سليم من بني فهر و بني كنانة يوم دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مكة؛ فقال معاوية: يا بسر لا أمر(6) لك على قيس؛ و سار بسر حتى أتى المدينة، فقتل(7) ابني عبيد اللّه بن العباس، و فرّ أهل المدينة و دخلوا الحرّة (حرّة بني سليم). ثم سار بسر حتى أتى الطائف؛ فقالت له ثقيف: ما لك علينا سلطان، نحن من قيس؛ فسار حتى أتى همدان و هم في جبل لهم يقال له شبام، فتحصّنت فيه همدان، ثم نادوا: يا بسر نحن همدان و هذا شبام، فلم يلتفت إليهم؛ حتى إذا اغترّوا و نزلوا إلى قراهم، أغار عليهم فقتل و سبى نساءهم؛ فكنّ أوّل مسلمات سبين في
ص: 11
الإسلام. و مرّ بحيّ من بني سعد نزول بين ظهري بني جعدة بالفلج(1)، فأغار بسر على الحيّ السّعديّين فقتل منهم و أسر؛ فقال أوس بن مغراء في ذلك:
مشرّين ترعون النّجيل و قد غدت *** بأوصال قتلاكم كلاب مزاحم
- المشرّ: الذي قد بسط ثوبه في الشمس. و النجيل: جنس من الحمض - فقال النابغة يجيبه:
/
متى أكلت لحومكم كلابي *** أكلت يديك من جرب تهام(2)
أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب مما أجاز لنا روايته عنه من حديثه و أخباره مما ذكره منها عن محمد بن سلاّم الجمحيّ عن أبي الغرّاف، و أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر، قالا حدّثنا عمر بن شبّة [عن محمد(3) بن سلاّم] عن أبي الغرّاف(4):
أن النابغة هاجى أوس بن مغراء؛ قال: و لم يكن أوس مثله و لا قريبا منه في الشعر؛ فقال النابغة: إني و إياه لنبتدر بيتا، أيّنا سبق إليه غلب صاحبه؛ فلما بلغه قول أوس:
لعمرك ما تبلى سرابيل عامر *** من اللؤم ما دامت عليها جلودها
قال النابغة: هذا البيت الذي كنا نبتدر إليه. فغلّب أوس عليه.
قال أبو زيد(5): فحدّثني المدائنيّ أنهما اجتمعا في المربد(6) فتنافرا و تهاجيا، و حضرهما العجّاج و الأخطل و كعب بن جعيل، فقال أوس:
/
لمّا رأت جعدة منا وردا(7)*** ولّوا نعاما في البلاد(8) ربدا(9)
إنّ لنا عليكم معدّا(10)*** كاهلها و ركنها الأشدّا
ص: 12
فقال العجاج:
كل امرئ يعدو بما استعدّا
و قال الأخطل يعين أوس بن مغراء و يحكم له:
و إني لقاض بين جعدة عامر *** و سعد قضاء بيّن الحقّ فيصلا
أبو جعدة الذئب الخبيث طعامه *** و عوف بن كعب أكرم الناس أوّلا
و قال كعب بن جعيل:
إنّي لقاض قضاء سوف يتبعه *** من أمّ قصدا و لم يعدل إلى أود(1)
فصلا من القول تأتمّ القضاة به *** و لا أجور و لا أبغي على أحد
ناكت بنو عامر سعدا و شاعرها *** كما تنيك بنو عبس(2) بني أسد
و قال أبو عمرو الشيبانيّ: كان سبب المهاجاة بين ليلى الأخيليّة و بين الجعديّ أنّ رجلا/من قشير - يقال له ابن الحيا (و هي أمه) و اسمه سوّار بن أوفى بن سبرة - هجاه و سبّ أخواله من أزد في أمر كان بين قشير و بين بني جعدة و هم بأصبهان/متجاورون، فأجابه النابغة بقصيدته التي يقال لها الفاضخة - سمّيت بذلك لأنه ذكر فيها مساوي قشير و عقيل و كلّ ما كانوا يسبّون به، و فخر بمآثر قومه و بما كان لسائر بطون بني عامر سوى هذين الحيّين من قشير و عقيل -:
جهلت عليّ ابن الحيا و ظلمتني *** و جمّعت قولا جاء بيتا مضلّلا
و قال في هذه القصّة أيضا قصيدته التي أوّلها:
إمّا ترى(3) ظلل الأيّام قد حسرت *** عنّي و شمّرت ذيلا كان ذيّالا(4)
و هي طويلة، يقول فيها:
ص: 13
و يوم مكّة إذ ماجدتم(1) نفرا *** حاموا(2) على عقد الأحساب أزوالا(3)
عند النّجاشيّ إذ تعطون أيديكم(4) *** مقرّنين و لا ترجون إرسالا
إذ تستحبّون(5) عند الخذل أنّ لكم *** من آل جعدة أعماما و أخوالا
لو تستطيعون أن تلقوا جلودكم *** و تجعلوا جلد عبد اللّه سربالا
- يعني عبد اللّه(6) بن جعدة بن كعب -:
/
إذا تسربلتم فيه لينجيكم *** ممّا يقول ابن ذي الجدّين إذ قالا
حتّى وهبتم لعبد اللّه صاحبه *** و القول فيكم بإذن اللّه ما فالا(7)
تلك(8) المكارم لا قعبان من لبن *** شيبا(9) بماء فعادا بعد أبوالا
يعني بهذا البيت أن ابن الحيا فخر عليه بأنهم سقوا رجلا من جعدة أدركوه في سفر و قد جهد عطشا لبنا و ماء فعاش.
و قال في هذه القصّة أيضا قصيدته التي أوّلها:
أبلغ قشيرا و الحريش(10) فما *** ذا ردّ في أيديكم شتمي
و فخر عليهم بقتل علقمة الجعفيّ يوم وادي نساح(11) و قتل شراحيل(12) بن الأصهب الجعفيّ، و بيوم رحرحان(13) أيضا، فقال فيه:
ص: 14
هلاّ(1)
سألت بيومي رحرحان و قد *** ظنّت هوازن أنّ العزّ قد زالا
/فلما ذكر ذلك النابغة قال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن *** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ففخر بما له و غضّ مما لهم. و دخلت ليلى الأخيلية بينهما فقالت:
و ما كنت لو قاذفت(2) جلّ عشيرتي *** لأذكر قعبي حازر(3) قد تثمّلا
و هي كلمة(4). فلما بلغ النابغة قولها قال:
ألا حيّيا ليلى و قولا لها هلا(5) *** فقد ركبت أبرا(6) أغرّ محجّلا
و قد أكلت بقلا و خيما نباته *** و قد شربت من آخر الصيف(7) أيّلا(8)
- يعني ألبان الأيّل -.
/
دعي عنك تهجاء الرجال و أقبلي *** على أذلغيّ(9) يملأ استك فيشلا
/و كيف أهاجي شاعرا رمحه استه *** خضيب البنان لا يزال مكحّلا
فردّت عليه ليلى الأخيليّة فقالت:
أ نابغ لم تنبغ(10) و لم تك أوّلا *** و كنت صنيّا بين ضدّين مجهلا(11)
ص: 15
- الصنيّ: شعب صغير يسيل منه الماء. و صدّان: جبلان -.
أ نابغ إن تنبغ بلؤمك لا تجد *** للؤمك إلاّ وسط جعدة مجعلا
تعيّرني داء بأمّك مثله *** و أيّ حصان(1) لا يقال لها هلا
فغلبته. فلما أتى بني جعدة قولها هذا، اجتمع ناس منهم فقالوا: و اللّه لنأتين صاحب المدينة، أو أمير المؤمنين، فليأخذنّ لنا بحقّنا من هذه الخبيثة، فإنها قد شتمت أعراضنا و افترت علينا، فتهيّئوا لذلك؛ و بلغها أنهم يريدون أن يستعدوا عليها، فقالت:
/
أتاني من الأنباء أنّ عشيرة *** بشوران(2) يزجون المطيّ المذلّلا(3)
يروح و يغدو وفدهم بصحيفة *** ليستجلدوا لي، ساء ذلك معملا
و قد أخبرني ببعض هذه القصّة أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبّة فجاء بها مختلطة، و هذا أوضح و أصحّ.
قال أبو عمرو: فأما ما فخر به النابغة من الأيام، فمنها يوم علقمة الجعفيّ، فإنه غدا في مدحج و معه زهير الجعفيّ، فأتى بني(4) عقيل بن كعب فأغار عليهم، و في بني عقيل بطون من سليم يقال لهم بنو بجلة، فأصاب سبيا و إبلا كثيرة، ثم انصرف راجعا بما أصاب، فاتّبعه بنو كعب، و لم يلحق به من بني عقيل إلا عقال بن خويلد بن عامر بن عقيل، فجعل يأخذ أبعار إبل الجعفيّين فيبول عليها حتى يندّيها، ثم يلحق ببني كعب فيقول: إيه فدى لكم أبواي، قد لحقتم القوم؛ حتى وردوا عليهم النخيل في يوم قائظ، و رأس زهير في حجر جارية من سليم من بني بجلة سباها يومئذ و هي تفليه، و هو متوسّد قطيفة حمراء و هي تضفر سعفاته - أي أعلى رأسه - بهدب القطيفة؛ فلم يشعروا إلا بالخيل؛ فكان أوّل من لحق زهيرا ابن النّهاضة(5)، فضرب وجه زهير بقوسه حتى كسر أنفه، ثم لحقه عقال بن خويلد، فبعج بطنه، فسال من بطنه برير و حلب - و البرير: ثمر الأراك. و الحلب: لبن كان قد اصطبحه - /فذلك يوم يقول أبو حرب أخو عقال بن خويلد: و اللّه لا أصطبح لبنا حتى آمن من الصّباح(6). قال: و هذا اليوم هو يوم وادي نساح و هو باليمامة.
قال: و أمّا يوم شراحيل(7) بن الأصهب الجعفيّ فإنه يوم مذكور تفتخر به مضر كلّها. و كان شراحيل خرج
ص: 16
مغيرا في جمع عظيم من اليمن، و كان قد طال عمره و كثر تبعه و بعد صيته و اتصل ظفره، و كان قد صالح بني عامر على أن يغزو العرب مارّا بهم في بدأته و عودته لا يعرض أحد منهم لصاحبه(1)؛ فخرج غازيا في بعض غزواته فأبعد، ثم رجع إليهم فمرّ على بني جعدة فقرته و نحرت له؛ فعمد ناس من أصحابه سفهاء فتناولوا إبلا لبني جعدة فنحروها؛ فشكت ذلك بنو جعدة إلى شراحيل، فقالوا: قريناك و أحسنّا ضيافتك ثم لم تمنع أصحابك مما يصنعون! فقال: إنهم قوم مغيرون، و قد أساءوا لعمري! و إنما يقيمون عندكم يوما أو يومين ثم يرتحلون عنكم. فقال الرّقاد/بن عمرو بن ربيعة بن جعدة لأخيه ورد بن عمرو - و قيل: بل قال ذلك لابن أخيه الجعد بن ورد -: دعني أذهب إلى بني قشير - قال: و جعدة و قشير أخوان لأمّ و أب، أمّهما ريطة بنت قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور - فأدعوهم، و اصنع أنت يا هذا لشراحيل طعاما حسنا كثيرا، و ادعه و أدخله إليك فاقتله، فإن احتجت إلينا فدخّن، فإني إذا رأيت الدّخان أتيتك بهم فوضعنا سيوفنا(2) على القوم. فعمد و رد هذا إلى طعام فأصلحه، /و دعا شراحيل و ناسا من أصحابه و أهله و بني عمه، فجعلوا كلّما دخل البيت رجل قتله ورد، حتى انتصف النهار؛ فجاء أصحاب شراحيل يتبعونه، فقال لهم ورد: تروّحوا(3) فإنّ صاحبكم قد شرب و ثمل و سيروح [فرجعوا](4)؛ و دخّن ورد، و جاءت قشير، فقتلوا من أدركوا من أصحابه، و سار سائرهم؛ و بلغهم قتل شراحيل، فمرّوا على بني عقيل، و هم إخوتهم، فقالوا: لنقتلنّ مالك بن المنتفق؛ فقال لهم مالك: أنا آتيكم بورد؛ فركب ببني عقيل إلى بني جعدة و قشير ليعطوهم وردا؛ فامتنعوا من ذلك و ساروا بأجمعهم فذبّوا عن عقيل، حتى تفرّق من كان مع شراحيل. فقال في ذلك بحير(5) [بن](6) عبد اللّه بن سلمة:
أ حيّ يتبعون العير نحرا(7) *** أحبّ إليك أم حيّا هلال
لعلك قاتل وردا و لمّا *** تساق(8) الخيل بالأسل النّهال
ص: 17
ألا يا مال ويح سواك أقصر *** أ ما ينهاك حلمك عن ضلال
و أمّا يوما رحرحان، فأحدهما مشهور قد ذكر في موضع آخر من هذا الكتاب بعقب أخبار الحارث بن ظالم، و هذا اليوم(1) الثاني، فكان الطمّاح الحنفيّ أغار في بني حنيفة و بني قيس بن ثعلبة على بني الحريش بن كعب و بني عبادة بن عقيل و طوائف من بني عبس يقال لهم بنو(2) حذيفة؛ فركبت بنو جعدة و بنو أبي بكر بن كلاب، و لم يشهد ذلك من بني كلاب غير بني أبي بكر، فأدركوا الطمّاح من يومهم، فاستنفذوا ما أخذه و أصابوا ما كان معه، و قتلوا عددا من أصحابه و هزموهم.
قال: و أما ما ذكره(3) من إدراكهم بثأر كعب الفوارس، فإن كعب الفوارس - و هو ابن معاوية بن عبادة بن البكّاء - مرّ على بني نهد و عليه سلاحه، فحمل عليه/رجل من نهد(4) يقال له خليف فقتله و أخذ فرسه و سلاحه؛ ثم إن خليفا بعد ذلك بدهر مرّ على بني جعدة، فرآه مالك بن عبد اللّه بن جعدة و عليه جبّة كعب و فيها أثر الطعنة، و كان محرما فلم يقدر على قتله، فقال: يا هذا! أ لا رقعت هذا الخرق الذي في جبّتك! و جعل يترصّده بعد ذلك، حتى بلغه بعد دهر أنه مرّ ببني جعدة، فركب مالك بن عبد اللّه بن جعدة فرسا له و قد أخبر أن خليفا مرّ بجنباتهم(5)، فأدركه فقتله، ثم قال: بؤ بكعب. ثم غزا نواحيهم عبد اللّه بن ثور بن معاوية بن عبادة بن البكّاء: جرما و نهدا، و هم يومئذ في بني الحارث، فناداهم بنو البكّاء: ليس معنا أحد من قومنا غيرنا و إنّ النهديّ قتل صاحبنا محرما؛ فقاتلهم نهد و جرم جميعا يومئذ، و كان عبد اللّه بن ثور يومئذ على فرس ورد، فأصابوا من نهد يومئذ غنيمة عظيمة، و قتلوا قتلى كثيرة. فقال عبد اللّه في ذلك:
/
فسائل بني جرم إذا ما لقيتهم *** و نهدا إذا حجّت عليك بنو نهد
فإن يخبروك الحقّ عنا تجدهم *** يقولون أبلى صاحب الفرس الورد
ص: 18
قال: و أما يوم الفلج، فإن بكر بن وائل بعثت عينا على بني كعب بن ربيعة حتى جاء الفلج - و هو ماء - فوجد النّعم بعضه قريبا من بعض، و وجد الناس قد احتملوا، فليس في النّعم إلا من لا طباخ(1) به من راع أو ضعيف؛ فجاءهم عينهم بذلك، فركبت بكر بن وائل يريدونهم، حتى إذا كانوا منهم بحيث يسمعون أصواتهم، سمعوا الصّهيل و أصوات الرجال؛ فقالوا لعينهم: ما هذا ويلك؟! قال: و اللّه ما أدري، و إن هذا لمما لم أعهد، فأرسلوا من يعلم علمهم؛ فرجع فأخبرهم أن الرجال قد رجعوا، و رأى/جمعا عظيما و خيولا كثيرة(2)؛ فكّروا راجعين من ليلتهم؛ و أصبحت بنو كعب فرأوا الأثر فاتبعوهم، فأصابوا من أخرياتهم رجالا و خيلا، فرجعوا بها.
قال: و أما قوله:
لو تستطيعون أن تلقوا جلودكم *** و تجعلوا جلد عبد اللّه سربالا
فإن السبب في ذلك أن هبيرة(3) بن عامر بن سلمة بن قشير، لقي خداش(4) بن زهير البكّائيّ، فتنافرا على مائة من الإبل، و قال كل منهما لصاحبه: أنا أكرم و أعزّ منك؛ فحكّما في ذلك رجلا من بني ذي الجدّين، فقضى بينهما أنّ أعزّهما و أكرمهما أقربهما من عبد اللّه بن جعدة نسبا؛ فقال خداش(4) بن زهير: أنا أقرب إليه، أمّ عبد اللّه بن جعدة عمّتي - و هي أميمة بنت عمرو بن عامر - و إنما أنت أدنى إليه منّي منزلة بأب؛ فلم يزالا يختصمان في القرابة لعبد اللّه دون المكاثرة بآبائهما إقرارا له بذلك، حتى فلج(5) هبيرة القشيريّ و ظفر.
قال أبو عمرو: و كان عبد اللّه بن جعدة سيّدا مطاعا، و كانت له إتاوة بعكاظ يؤتى بها، يأتيه(6) بها هذا الحيّ من الأزد و غيرهم؛ فجاء سمير(7) بن سلمة القشيريّ و عبد اللّه جالس على ثياب قد جمعت له من إتاوته، فأنزله عنها و جلس مكانه؛ فجاء رياح(8) بن عمرو بن ربيعة بن عقيل - و هو الخليع، سمّي بذلك لتخلّعه عن/الملوك لا يعطيهم الطاعة - فقال للقشيريّ: مالك و لشيخنا تنزله عن إتاوته و نحن هاهنا حوله! فقال القشيريّ: كذبت، ما هي له! ثم مدّ القشيريّ رجله فقال: هذه رجلي فاضربها إن كنت عزيزا؛ قال: لا! لعمري لا أضرب رجلك؛ فقال له القشيريّ: فامدد لي رجلك حتى تعلم أ أضربها أم لا؛ فقال: و لا أمدّ لك رجلي، و لكن أفعل ما لا تنكره العشيرة
ص: 19
و ما هو أعزّ لي و أذلّ لك؛ ثم أهوى إلى رجل القشيريّ فسحبه على قفاه و نحّاه، و أقعد عبد اللّه بن جعدة مكانه.
قال: و عبد اللّه بن جعدة أوّل من صنع الدّبّابة(1)؛ و كان السبب في ذلك أنهم انتجعوا(2) ناحية البحرين، فهجموا على عبد لرجل يقال له كودن(3) في قصر حصين، فدخّن العبد و دعا النساء و الصبيان، فظنوا أنه يطعمهم ثريدا، حتى إذا امتلأ القصر منهم أغلقه عليهم، فصاح النساء و الصبيان، و قام العبد و من معه على شرف القصر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا رماه؛ فلما رأى ذلك عبد اللّه بن جعدة صنع دبّابة على جذوع النخل و ألبسها جلود الإبل، ثم جاء بها و القوم يحملونها حتى أسندوها إلى القصر، ثم حفروا حتى خرقوه(4)؛ فقتل العبد/و من كان معه و استنقذ صبيانهم و نساءهم. فذلك قول النابغة:
و يوم دعا ولدانكم عبد كودن *** فخالوا لدى الدّاعي ثريدا مفلفلا
و في ابن زياد و هو عقبة خيركم *** هبيرة ينزو في الحديد مكبّلا
يعني هبيرة بن عامر بن سلمة بن قشير، و كان عبد اللّه بن مالك بن عدس بن ربيعة بن جعدة خرج و معه مالك بن عبد اللّه بن جعدة، حتى مرّوا على بني(5) زياد/العبسيّين و الرجال غيب، فأخذوا ابنا لأنس(6) بن زياد و انطلقوا به يرجون الفداء؛ و انطلق عمّه عمارة بن زياد حتى أتى بني كعب، فلقي هبيرة بن عامر بن سلمة بن قشير، فقال له: يا هبيرة إن الناس يقولون: إنك بخيل؛ قال: معاذ اللّه! قال: فهب لي جبّتك هذه؛ فأهوى ليخلعها، فلما وقعت(7) في رأسه وثب عليه فأسره، ثم بعث إلى بني قشير: عليّ و عليّ إن قبلت من هبيرة أقلّ من فدية حاجب(8)إلا أن يأتوني بابن أخي الذي في أيدي بني جعدة؛ فمشت بنو قشير إلى بني جعدة، فاستوهبوه منهم فوهبوه لهم، فافتدوا به هبيرة.
و أما خبر وحوح أخي النابغة الذي تقدّم ذكره مع نسب أخيه النابغة، فإن أبا عمرو ذكر أن بني كعب أغارت على بني أسد فأصابوا سبيا و أسرى، فركبت بنو أسد في آثارهم حتى لحقوهم بالشّريف(9)، فعطفت بنو عدس بن
ص: 20
ربيعة بن جعدة، فذادوا بني أسد حتى قتلوا منهم ثلاثين رجلا و ردّوهم؛ و لم يظفروا منهم بشيء. و تعلّقت امرأة من بني أسد بالحكم بن عمرو بن عبد اللّه بن جعدة و قد أردفها خلفه، فأخذت بضفيرته و مالت به فصرعته، فعطف عليه عبد اللّه بن مالك بن عدس و هو أبو صفوان، فضرب يدها بالسيف فقطعها و تخلّصه. و طعن يومئذ وحوح بن/قيس أخو النابغة الجعديّ، فارتثّ(1) في معركة القوم، فأخذه خالد بن نضلة الأسديّ؛ و عطف عليه يومئذ أخوه النابغة، فقال له خالد بن نضلة: هلمّ إليّ و أنت آمن؛ فقال له النابغة: لا حاجة لي في أمانك، أنا على فرسي و معي(2)سلاحي و أصحابي قريب، و لكنّي أوصيك بما في العوسجة(3) (يعني أخاه وحوح بن قيس)؛ فعدل إليه خالد فأخذه و ضمّه إليه و منع من قتله و داواه حتى فدي بعد ذلك. قال: ففي ذلك يقول مدرك العبسيّ(4):
أقمت على الحفاظ و غاب فرج *** و في فرج عن الحسب انفراج
كذلك فعلنا و حبال عمّي *** وردن بوحوح فلج(5) الفلاج(6)
و مما قاله النابغة في هذه المفاخرة و غنّي فيه قوله و قد جمع معه كلّ ما يغنّي فيه من القصيدة -:
هل بالدّيار الغداة من صمم *** أم هل بربع الأنيس من قدم
أم ما تنادي من ماثل درج السّ *** يل عليه كالحوض منهدم
غرّاء كالليلة المباركة القم *** راء تهدي أوائل الظّلم
أكنى بغير اسمها و قد علم ال *** لّه خفيّات كلّ مكتتم
/كأنّ فاها إذا تبسّم من *** طيب مشمّ و طيّب(7) مبتسم
/يسنّ(8) بالضّرو من براقش أو *** هيلان أو ضامر(9) من العتم
عروضه من المنسرح. و في الأوّل و الثاني و الثالث من الأبيات خفيف ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى
ص: 21
البنصر(1)، ذكره إسحاق و لم ينسبه إلى أحد، و ذكر ابن المكيّ و الهشاميّ أنه لمعبد، و أظنه من منحول يحيى، و ذكر حبش أنه لإبراهيم. و في الثالث و ما بعده لابن سريح رمل بالبنصر، و ذكر حبش أنّ فيها لإسحاق رملا آخر؛ و لابن مسجح فيها ثقيل أوّل بالبنصر.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: أوّل من سبق إلى الكناية عن اسم من يعني بغيره في الشعر الجعديّ، فإنه قال:
أكني بغير اسمها و قد علم ال *** لّه خفيّات كلّ مكتتم
فسبق(2) الناس جميعا إليه و اتّبعوه فيه. و أحسن من أخذه و ألطفه فيه أبو نواس حيث يقول:
أسأل القادمين من حكمان(3) *** كيف خلفتم أبا عثمان
فيقولون لي جنان كما *** سرّك في حالها فسل عن جنان
ما لهم لا يبارك اللّه فيهم *** كيف لم يغن عندهم كتماني
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو بكر الباهليّ قال حدّثني الأصمعيّ قال:
ذكر الفرزدق نابغة بني جعدة فقال: كان صاحب خلقان عنده مطرف بألف، و خمار(4) بواف، (يعني درهما)(5).
و حدّثني خبره مع ابن الزبير جماعة، منهم حبيب بن نصر المهلّبيّ و عمر بن عبد العزيز بن أحمد و الحرميّ بن أبي العلاء و وكيع و محمد بن جرير الطبريّ حدّثنيه من حفظه، قالوا حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثنا أخي هارون بن أبي بكر(6) عن يحيى بن إبراهيم عن سليمان(7) بن محمد بن يحيى بن عروة عن أبيه عن عمّه عبد اللّه بن عروة قال:
ص: 22
أقحمت(1) السنة نابغة بني جعدة، فدخل على ابن الزبير المسجد الحرام، فأنشده:
حكيت لنا الصّدّيق لمّا وليتنا *** و عثمان و الفاروق فارتاح معدم
أتاك أبو ليلى يجوب به الدّجى *** دجى الليل جوّاب الفلاة عثمثم(2)
لتجبر منه جانبا زعزعت(3) به *** صروف الليالي و الزمان المصمّم
/فقال له ابن الزبير: هوّن عليك أبا ليلى، فإنّ الشعر أهون و سائلك عندنا، أمّا صفوة ما لنا فلآل الزبير، و أما عفوته(4) فإنّ بني(5) أسد بن عبد العزّى تشغلها عنك و تيما معها، و لكن لك في مال اللّه حقّان: حقّ برؤيتك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و حقّ بشركتك أهل الإسلام في فيئهم؛ ثم أخذ بيده فدخل به دار النّعم، فأعطاه قلائص(6) سبعا و جملا رجيلا(7)؛ و أوقر له الإبل برّا و تمرا و ثيابا، فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحبّ صرفا؛ فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلي! لقد بلغ به الجهد؛ فقال النابغة: أشهد أني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «ما وليت قريش فعدلت و استرحمت فرحمت و حدّثت فصدقت و وعدت خيرا فأنجزت فأنا و النبيّون فرّاط(8) القاصفين» و قال الحرميّ: «فرّاط لها ضمن». قال الزّبيريّ: كتب يحيى بن معين هذا الحديث عن أخي.
أخبرني أبو الحسن الأسديّ أحمد بن محمد بن عبد اللّه/بن صالح و هاشم بن محمد الخزاعيّ أبو دلف قالا حدّثنا الرّياشيّ قال قال أبو سليمان عن الهيثم بن عديّ [قال](9):
رعت بنو عامر بالبصرة في الزرع، فبعث أبو موسى الأشعريّ في طلبهم، فتصارخوا: يا آل عامر، يا آل عامر! فخرج النابغة الجعديّ و معه عصبة له؛ فأتي به إلى أبي موسى الأشعريّ، فقال له: ما أخرجك؟ قال: سمعت داعية قومي؛ قال: فضربه أسواطا؛ فقال النابغة:
رأيت البكر بكر بني ثمود *** و أنت أراك بكر الأشعرينا
ص: 23
فإن يكن ابن عفّان أمينا *** فلم يبعث بك البرّ الأمينا
فيا قبر النبيّ و صاحبيه *** ألا يا غوثنا لو تسمعونا
ألا صلّى إلهكم عليكم *** و لا صلّى على الأمراء فينا
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و يحيى بن عليّ بن يحيى قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا بعض أصحابنا عن ابن دأب(1) قال:
لما خرج عليّ رضي اللّه تعالى عنه إلى صفّين خرج معه نابغة بني جعدة؛ فساق به يوما فقال:
/
قد علم المصران(2) و العراق *** أنّ عليّا فحلها العتاق(3)
أبيض جحجاح له رواق *** و أمّه غالى بها الصّداق
أكرم من شدّ به(4) نطاق *** إنّ الألى جاروك لا أفاقوا
لهم سياق(5) و لكم سياق *** قد علمت ذلكم الرّفاق
سقتم إلى نهج الهدى و ساقوا *** إلى التي ليس لها عراق(6)
في ملّة عادتها النّفاق
فلما قدم معاوية بن أبي سفيان الكوفة، قام النابغة بين يديه فقال:
أ لم تأت أهل المشرقين رسالتي *** و أيّ(7) نصيح لا يبيت على عتب
ملكتم فكان الشرّ آخر عهدكم *** لئن لم تدارككم حلوم بني حرب
و قد كان معاوية كتب إلى مروان فأخذ أهل النابغة و ماله؛ فدخل النّابغة على معاوية، و عنده عبد اللّه بن عامر و مروان، فأنشده:
من راكب يأتي ابن هند بحاجتي *** على(8) النّأي و الأنباء تنمى و تجلب
ص: 24
و يخبر عنّي ما أقول ابن عامر *** و نعم الفتى يأوي إليه المعصّب(1)
/فإن تأخذوا أهلي و مالي بظنّة *** فإنّي لحرّاب الرجال محرّب(2)
صبور على ما يكره المرء كلّه *** سوى الظلم إني إن ظلمت سأغضب
فالتفت معاوية إلى مروان فقال: ما ترى؟ قال: أرى ألاّ تردّ عليه شيئا؛ فقال: ما أهون و اللّه عليك أن ينجحر هذا في غار ثم يقطع عرضي عليّ ثم تأخذه العرب فترويه، أمّا(3) و اللّه إن كنت لممن يرويه! أردد عليه كلّ شيء أخذته منه. و هذا الشعر يقوله النّابغة(4) الجعديّ لعقال بن خويلد العقيليّ يحذّره غبّ الظلم لمّا أجار بني وائل بن معن، و كانوا قتلوا رجلا من جعدة، فحذّرهم مثل حرب البسوس إن أقاموا على ذلك فيهم.
قال أبو عمرو الشّيبانيّ: /كان السبب في قول الجعديّ هذه القصيدة أن المنتشر الباهليّ خرج فأغار على اليمن ثم رجع مظفّرا. فوجد بني جعدة قد قتلوا ابنا له يقال له سيدان(5)، و كانت باهلة في بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ثم في بني جعدة، فلمّا أن علم ذلك المنتشر و أتاه الخبر أغار على بني جعدة ثم على بني سبيع في وجهه ذلك، فقتل منهم ثلاثة نفر؛ فلما فعل ذلك تصدّعت باهلة، فلحقت فرقة منهم يقال لهم بنو وائل بعقال بن خويلد العقيليّ، و لحقت فرقة أخرى يقال لهم بنو قتيبة و عليهم حجل الباهليّ بيزيد بن عمرو بن الصّعق الكلابيّ، فأجارهم يزيد، و أجار عقال وائلا. فلما رأت بنو ذلك بنو جعدة أرادوا قتالهم، فقال لهم عقال: لا تقاتلوهم/فقد أجرتهم؛ فأمّا أحد الثلاثة القتلى منكم فهو بالمقتول، و أمّا الآخران فعليّ عقلهما(6)؛ فقالوا: لا نقبل إلا القتال و لا نريد من وائل غيرا(7) (يعني الدية)؛ فقال: لا تفعلوا فقد أجرت القوم؛ فلم يزل بهم حتى قبلوا الدية. و انتقلت وائل إلى قومهم. فقال النابغة في ذلك قصيدته التي(8) ذكر فيها عقالا:
فابلغ عقالا أنّ غاية داحس(9) *** بكفّيك فاستأخر لها أو تقدّم
تجير علينا وائلا في دمائنا(10) *** كأنك عما ناب(11) أشياعنا(12) عم
ص: 25
كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** و أيسر جرما منك ضرّج بالدّم
رمى ضرع ناب(1) فاستمرّ بطعنة *** كحاشية البرد اليماني المسهّم(2)
و ما يشعر الرمح الأصمّ كعوبه *** بثروة(3) رهط الأبلخ(4) المتظلّم
/و قال لجسّاس أغثني بشربة *** تفضّل بها طولا عليّ و أنعم
فقال تجاوزت الأحصّ(5) و ماءه *** و بطن شبيث و هو ذو مترسّم(6)
و كان السبب(7) في قتل كليب بن ربيعة - فيما ذكره أبو عبيدة عن مقاتل الأحول بن سنان بن مرثد بن عبد بن عمرو بن بشر بن عمرو بن مرثد أخي بني قيس بن ثعلبة، و نسخت بعضه من رواية الكلبيّ، و أخبرنا به محمد بن العباس اليزيديّ عن عمّه عبيد اللّه عن ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل، فجمعت من روايتهم ما احتيج إلى ذكره مختصر اللفظ كامل المعنى - أنّ كليبا كان قد عزّ و ساد في ربيعة فبغى بغيا شديدا، و كان هو الذي ينزلهم منازلهم و يرحّلهم، و لا ينزلون و لا يرحلون إلا بأمره. فبلغ من عزّه و بغيه أنه اتخذ جرو كلب(8)، فكان إذا نزل منزلا به كلاّ قذف ذلك الجرو فيه فيعوي، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه، و كان يفعل هذا بحياض الماء، فلا يردها أحد إلا بإذنه أو من آذن بحرب؛ /فضرب به المثل في العزّ، فقيل: «أعزّ من كليب وائل» و كان يحمي الصيد، و يقول: صيد ناحية كذا و كذا في جواري؛ فلا يصيد أحد منه شيئا؛ و كان لا يمرّ بين يديه أحد إذا جلس، و لا يحتبي أحد في مجلسه غيره؛ فقتله جسّاس بن مرّة.
و قال أبو عبيدة: قال أبو(9) برزة القيسيّ و هو من ولد عمرو بن مرثد:
ص: 26
و كان كليب بن ربيعة ليس على الأرض بكريّ و لا تغلبيّ أجار رجلا و لا بعيرا إلا بإذنه، و لا يحمي حمى إلا بأمره، و كان إذا حمى حمى لا يقرب؛ و كان لمرّة بن ذهل/بن شيبان بن ثعلبة عشرة بنين جسّاس أصغرهم، و كانت أختهم عند كليب. و قال مقاتل و فراس: و أمّ جسّاس هيلة بنت منقذ بن سليمان(1) بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة، ثم خلف عليها سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بعد مرّة بن ذهل، فولدت له مالكا و عوفا و ثعلبة. قال فراس بن خندق(2) البسوسيّ(3): فهي أمّنا. و خالة جسّاس البسوس - و قال أبو برزة: البسوسيّة - و هي التي يقال لها: «أشأم من البسوس»(4). فجاءت فنزلت على ابن أختها جسّاس فكانت جارة لبني مرّة، و معها ابن لها، و لهم ناقة خوّارة(5) من نعم بني سعد و معها فصيل.
أخبرني عليّ بن سليمان قال قال أبو برزة: و قد كان كليب قبل ذلك قال لصاحبته أخت جسّاس: هل تعلمين على الأرض عربيّا أمنع منّي ذمّة؟ فسكتت ثم أعاد عليها الثانية فسكتت ثم أعاد عليها الثالثة، فقالت: نعم أخي جساس و ندمانه(6)/ابن عمّه عمرو(7) المزدلف بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان. و زعم مقاتل: أن امرأته كانت أخت جسّاس، فبينا هي تغسل رأس كليب و تسرّحه ذات يوم إذ قال: من أعزّ وائل؟ فصمتت(8)، فأعاد عليها؛ فلما أكثر عليها قالت: أخواي جسّاس و همّام؛ فنزع رأسه من يدها و أخذ القوس فرمى فصيل ناقة البسوس خالة جسّاس و جارة بني مرّة فقتله؛ فأغمضوا على ما فيه و سكتوا على ذلك. ثم لقي كليب ابن البسوس(9) فقال: ما فعل فصيل ناقتكم؟ قال: قتلته و أخليت لنا لبن أمّه؛ فأغمضوا على هذه أيضا. ثم إنّ كليبا أعاد على امرأته فقال: من أعزّ وائل؟ فقالت: أخواي؛ فأضمرها و أسرّها في نفسه و سكت، حتى مرّت به إبل جسّاس، فرأى الناقة فأنكرها، فقال:
ما هذه الناقة؟ قالوا: لخالة جسّاس؛ قال: أو قد بلغ من أمر ابن السّعديّة أن يجير عليّ بغير إذني! ارم ضرعها يا غلام. قال فراس: فأخذ القوس فرمى ضرع الناقة فاختلط دمها بلبنها؛ و راحت الرّعاة على جسّاس فأخبروه بالأمر؛ فقال: احلبوا لها مكيالي لبن بمحلبها و لا تذكروا لها من هذا شيئا؛ ثم أغمضوا عليها أيضا. قال مقاتل:
حتى أصابتهم سماء، فغدا في غبّها يتمطّر(10)، و ركب جسّاس بن مرّة و ابن عمه عمرو بن الحارث بن ذهل - و قال أبو
ص: 27
برزة: بل عمرو ابن أبي ربيعة - و طعن عمرو كليبا فحطم صلبه؛ و قال أبو برزة: فسكت جسّاس، /حتى ظعن(1)ابنا وائل؛ فمرّت بكر بن وائل على نهي(2) يقال له شبيث فنفاهم كليب عنه و قال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مرّوا على نهي آخر يقال له الأحصّ فنفاهم عنه و قال: لا يذوقون منه قطرة؛ ثم مرّوا على بطن الجريب(3) فمنعهم إيّاه؛ فمضوا حتى نزلوا الذّنائب(4)، و اتّبعهم كليب و حيّه حتى نزلوا عليه؛ ثم مرّ عليه جسّاس و هو واقف على غدير الذنائب فقال: طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشا! فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلا و نحن له شاغلون؛ فمضى جسّاس و معه ابن عمه المزدلف. و قال بعضهم: بل جسّاس ناداه فقال: هذا كفعلك بناقة خالتي؛ فقال له: أو قد ذكرتها! أما إني لو وجدتها في غير إبل مرّة لاستحللت تلك الإبل بها. فعطف عليه جسّاس فرسه فطعنه برمح فأنفذ حضنيه(5)؛ فلما تداءمه(6) الموت قال: يا جسّاس اسقني من الماء؛ قال: ما عقلت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمّك إلا ساعتك هذه!. قال أبو برزة: /فعطف عليه المزدلف(7) عمرو بن أبي ربيعة فاحتزّ رأسه.
و أمّا مقاتل فزعم أن عمرو بن الحارث بن ذهل الذي طعنه فقصم صلبه. [قال](8): و فيه يقول مهلهل:
قتيل ما قتيل المرء عمرو *** و جسّاس بن مرّة ذو ضرير(9)
/و قال العباس بن مرداس السّلميّ يحذّر كليب(10) بن عهمة السّلميّ ثم الظّفريّ لما مات حرب بن أمية و خنقت الجنّ مرداسا و كانوا شركاء في القرية(11) فجحدهم كليب حظّهم منها - و سنذكر خبر ذلك في آخر هذه الأخبار إن شاء اللّه تعالى - فحذّره غبّ الظلم فقال:
أ كليب مالك كلّ يوم ظالما *** و الظلم أنكد وجهه ملعون
ص: 28
فافعل بقومك ما أراد بوائل *** يوم الغدير سميّك المطعون
و قال رجل من بني بكر بن وائل في الإسلام و هي تنحل للأعشى:
و نحن قهرنا تغلب ابنة وائل *** بقتل كليب إذ طغى و تخيّلا(1)
أبأناه(2) بالناب التي شقّ ضرعها *** فأصبح موطوء الحمى متذلّلا
قال: و مقتل كليب بالذّنائب عن يسار فلجة(3) مصعدا إلى مكة، و قبره بالذنائب. و فيه يقول المهلهل:
و لو نبش المقابر عن كليب *** فيخبر(4) بالذنائب أيّ زير
/قال أبو برزة: فلما قتله أمال يده بالفرس حتى انتهى إلى أهله. قال: و تقول أخته حين رأته لأبيها: إنّ ذا لجسّاس أتى خارجا ركبتاه؛ قال: و اللّه ما خرجت ركبتاه إلا لأمر عظيم!. قال: فلما جاء قال: ما وراءك يا بنيّ؟ قال: ورائي أني قد طعنت طعنة لتشغلنّ بها شيوخ وائل زمنا؛ قال: أ قتلت كليبا؟ قال نعم؛ قال: وددت أنك و إخوتك كنتم متّم قبل هذا، ما بي إلا أن تتشاءم بي أبناء وائل. و زعم مقاتل أن جسّاسا قال لأخيه نضلة بن مرّة - و كان يقال له عضد الحمار -:
و إني قد جنيت عليك حربا *** تغصّ الشيخ بالماء القراح
مذكّرة(5) متى ما يصح عنها *** فتى نشبت(6) بآخر غير صاح
تنكّل عن ذباب(7) الغيّ قوما *** و تدعو آخرين إلى الصّلاح
فأجابه نضلة:
فإن(8) تك قد جنيت عليّ حربا *** فلا وان و لا رثّ السّلاح
قال أبو برزة:
و كان همّام بن مرة اخى مهلهلا و عاقده ألاّ يكتمه شيئا؛ فجاءت [إليه](9) أمة له فأسرّت إليه قتل جسّاس كليبا؛ فقال [له](9) مهلهل: ما قالت؟ فلم يخبره؛ فذكّره/العهد بينهما؛ فقال: أخبرت أنّ جسّاسا قتل كليبا؛
ص: 29
فقال: است(1) أخيك أضيق من ذلك. و زعم مقاتل: أنّ همّاما كان اخى مهلهلا و كان عاقده ألاّ يكتمه شيئا؛ فكانا جالسين، فمرّ جسّاس يركض به فرسه مخرجا فخذيه؛ فقال همّام: إنّ له لأمرا، و اللّه ما رأيته كاشفا فخذيه قطّ في ركض؛ فلم يلبث إلا قليلا حتى جاءته الخادم فسارّته أنّ جسّاسا قتل كليبا؛ فقال له مهلهل: ما أخبرتك؟ قال:
أخبرتني أن أخي قتل أخاك؛ قال: هو أضيق استا من ذلك. و تحمّل القوم، و غدا مهلهل بالخيل.
و قال المفضّل في خبره: فلما قتل كليب قالت بنو تغلب بعضهم لبعض: لا تعجلوا على إخوتكم حتى تعذروا بينكم و بينهم؛ فانطلق رهط من أشرافهم و ذوي أسنانهم حتى أتوا مرّة بن ذهل، /فعظّموا ما بينهم و بينه، و قالوا له:
اختر منّا خصالا: إمّا أن تدفع إلينا جسّاسا فنقتله بصاحبنا فلم يظلم من قتل قاتله، و إمّا أن تدفع إلينا همّاما، و إمّا أن تقيدنا من نفسك؛ فسكت، و قد حضرته وجوه بني بكر بن وائل فقالوا: تكلّم غير مخذول؛ فقال: أمّا جسّاس فغلام حديث السنّ ركب رأسه فهرب حين خاف فلا علم لي به، و أمّا همّام فأبو عشرة و أخو عشرة(2)، و لو دفعته إليكم لصيّح(3) بنوه في وجهي و قالوا: دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره؛ و أمّا أنا فلا أتعجل الموت، و هل تزيد الخيل على أن تجول جولة فأكون أوّل قتيل! و لكن هل لكم في غير ذلك؟ هؤلاء بنيّ، فدونكم أحدهم فاقتلوه به، و إن شئتم فلكم ألف ناقة تضمنها/لكم بكر بن وائل؛ فغضبوا و قالوا: إنّا لم نأتك لترذل(4) لنا بنيك و لا لتسومنا اللبن؛ فتفرّقوا، و وقعت الحرب. و تكلّم في ذلك عند الحارث بن عباد، فقال: «لا ناقة لي في هذا و لا جمل»، و هو أوّل من قالها و أرسلها مثلا.
قالوا جميعا: كانت حربهم أربعين سنة، فيهنّ خمس وقعات مزاحفات، و كانت تكون بينهم مغاورات(5)، و كان الرجل يلقى الرجل و الرجلان الرجلين و نحو هذا. و كان أوّل تلك الأيام يوم عنيزة، و هي عند فلجة، فتكافئوا فيه لا لبكر و لا لتغلب؛ و تصديق ذلك قول مهلهل:
كأنّا غدوة و بنى أبينا *** بجنب عنيزة رحيا مدير
و لو لا الريح أسمع من بحجر(6) *** صليل البيض تقرع بالذّكور
ص: 30
فتفرّقوا، ثم غبروا زمانا. ثم التقوا يوم واردات(1)، و كان لتغلب على بكر، و قتلوا بكرا أشدّ القتل، و قتلوا بجيرا؛ و ذلك قول مهلهل:
فإني قد تركت بواردات *** بجيرا في دم مثل العبير
هتكت به بيوت بني عباد *** و بعض الغشم(2) أشفى للصدور
قال مقاتل: [إنه](3) إنما التقط توّا. و سيجيء حديثه أسفل من هذا(4). التوّ: الفرد، يقال: وجدته توّا، أي وحده.
/قال أبو برزة: ثم انصرفوا بعد يوم واردات غير بني ثعلبة بن عكابة و رأسوا على أنفسهم الحارث بن عباد، فاتّبعتهم بنو ثعلبة بن عكابة، حتى التقوا بالحنو(5)، فظهرت بنو ثعلبة على تغلب.
قال مقاتل: ثم التقوا يوم بطن السّرو، و هو يوم القصيبات(6)، و ربما قيل يوم القصيبة(7)، و كان لبني تغلب على بكر، حتى ظنّت بكر أن سيقتلونها(8) - قال مقاتل: و قتلوا يومئذ همّام بن مرّة -. ثم التقوا يوم قضة و هو يوم التحالق و يوم الثّنيّة(9). و يوم قضة و يوم الفصيل لبكر على تغلب. قال أبو برزة: اتّبعت تغلب بكرا فقطعوا رملات خزازي(10)
ص: 31
و الرّغام ثم مالوا لبطن الحمارة(1)؛ فوردت بكر قضة فسقت و أسقت/ثم صدرت و حلئوا(2) تغلب، و نهضوا في نجعة(3) يقال لها موبية لا يجوز فيها إلا بعير بعير؛ فلحق رجل من الأوس بن تغلب بغليّم من بني تيم اللاّت بن ثعلبة يطرد ذودا له(4)، قطعن في بطنه بالرمح ثم رفعه(5) فقال: تحدّبي أمّ البوّ على بوّك. فرآه عوف بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، فقال: أنفذوا(6) جمل أسماء (ابنته) فإنه أمضى جمالكم و أجودها منفذا، فإذا نفذ تبعته النّعم؛ /فوثب الجمل في المويبة، حتى إذا نهض على يديه و ارتفعت رجلاه ضرب عرقوبيه و قطع بطان الظّعينة فوقع فسدّ الثنية - ثم قال عوف: أنا البرك أبرك حيث أدرك، فسمّي البرك - و وقع الناس إلى الأرض لا يرون مجازا، و تحالقوا لتعرفهم النساء؛ فقال جحدر بن ضبيعة بن قيس أبو المسامعة - و اسمه ربيعة؛ قال: و إنما سمّي جحدرا لقصره(7) -: لا تحلقوا رأسي فإني رجل قصير، لا تشينوني، و لكنّي أشتريه منكم بأوّل(8) فارس يطلع عليكم من القوم؛ فطلع ابن عناق فشدّ عليه فقتله. فقال رجل من بكر بن وائل يمدح مسمع ابن مالك بذلك:
يا ابن الذي لمّا حلقنا اللّمما *** ابتاع منا رأسه تكرّما
بفارس أوّل من تقدّما
و قال البكريّ:
و منّا الذي فادى من القوم رأسه *** بمستلئم(9) من جمعهم غير أعزلا
فأدّى إلينا بزة(10) و سلاحه *** و منفصلا من عنقه قد تزيّلا
/قال: و كان جحدر يرتجز يومئذ و يقول:
ردّوا عليّ الخيل إن ألمّت *** إن لم أقاتلهم فجزّوا لمّتي
و زعم عامر بن عبد الملك المسمعيّ أنه لم يقلها، و أن صخر بن عمرو السّلميّ قائلها؛ فقال مسمع: كردين(11)(كذب) عامر. و قال البكريّ:
ص: 32
و منّا الذي سدّ الثنية غدوة *** على حلفة لم يبق فيها تحلّلا
بجهد يمين اللّه لا يطلعونها *** و لمّا نقاتل جمعهم حين أسهلا
و أمّا مقاتل فزعم أنهم قالوا: اتّخذوا علما يعرف به بعضكم بعضا، فتحالقوا(1). و فيه يقول طرفة(2):
سائلوا عنّا الذي يعرفنا *** بقوانا(3) يوم تحلاق اللّمم
يوم تبدي البيض عن أسؤقها(4) *** و تلفّ الخيل أعراج النّعم
/غنّى في هذين البيتين ابن محرز خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ، و ذكر أحمد بن المكيّ أنه لمعبد.
و زعم مقاتل أنّ همّام بن مرّة بن ذهل بن شيبان، لم يزل قائد بكر حتى قتل يوم القصيبات، و هو قبل(5) يوم قضة، [و يوم قضة] على أثره. و كان من حديث مقتل همّام أنه وجد غلاما مطروحا، فالتقطه و ربّاه و سمّاه ناشرة فكان عنده لقيطا؛ فلما شبّ تبيّن أنه من بني تغلب؛ فلمّا التقوا يوم القصيبات جعل همّام يقاتل، فإذا عطش رجع إلى قربة فشرب منها ثم وضع سلاحه؛ فوجد ناشرة من همّام غفلة، فشدّ عليه بالعنزة(6) فأقصده فقتله، و لحق بقومه تغلب. فقال باكي همّام:
لقد عيّل(7) الأقوام طعنة ناشرة *** أنا شرّ لا زالت يمينك آشره(8)
ثم قتل ناشرة رجل من بني يشكر. فلمّا كان يوم قضة و تجمعت إليهم بكر، جاء إليهم الفند الزّمّانيّ أحد بني
ص: 33
زمّان بن مالك بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل من اليمامة، قال عامر/بن عبد الملك المسمعيّ: فرأسوه عليهم؛ فقلت أنا لفراس/بن خندق(1): إن عامرا يزعم أن الفند كان رئيس بكر يوم قضة؛ فقال: رحم اللّه أبا عبد اللّه! كان أقلّ الناس حظّا في علم قومه. و قال فراس: كان رئيس بكر بعد همّام الحارث بن عباد. قال مقاتل:
و كان الحارث بن عباد قد اعتزل يوم قتل كليب، و قال: لا أنا من هذا و لا ناقتي و لا جملي و لا عدلي، و ربما قال:
لست من هذا و لا جملي و لا رحلي، و خذل بكرا عن تغلب، و استعظم قتل كليب لسؤدده في ناقة. فقال سعد بن مالك يحضض الحارث بن عباد:
يا بؤس للحرب التي *** وضعت أراهط(2) فاستراحوا
و الحرب لا يبقى لصا *** حبها(3) التّخيّل و المراح(4)
إلاّ الفتى الصبّار في النّ *** جدات و الفرس الوقاح(5)
فلمّا أخذ بجير(6) بن الحارث بن عباد توّا بواردات - و إنما سلّ و لم يؤخذ في مزاحفة - قال له مهلهل: من خالك يا غلام؟!. قال(7) امرؤ القيس بن أبان التّغلبيّ لمهلهل: إني أرى غلاما ليقتلنّ به رجل لا يسأل عن خاله، و ربما قال عن حاله - /قال: فكان و اللّه امرؤ القيس هو المقتول به، قتله الحارث بن عباد يوم قضة بيده - فقتله مهلهل. قال: فلمّا قتل مهلهل بجيرا قال: بؤبشسع(8) نعل كليب؛ فقال له الغلام: إن رضيت بذلك بنو ضبيعة بن قيس رضيت. فلما بلغ الحارث قتل بجير ابن أخيه - و قال أبو برزة: بل بجير ابن الحارث بن عباد نفسه - قال: نعم الغلام غلام أصلح بين ابني وائل و باء بكليب. فلما سمعوا قول الحارث: قالوا له: إنّ مهلهلا لمّا قتله قال له: بؤبشسع نعل كليب - و قال مهلهل:
كلّ قتيل في كليب حلاّم(9) *** حتى ينال القتل آل همّام
و قال أيضا:
ص: 34
كلّ قتيل في كليب غرّه(1) *** حتى ينال القتل آل مرّه
- فغضب الحارث عند ذلك فنادى بالرّحيل(2). قال مقاتل: و قال الحارث بن عباد:
قرّبا مربط النّعامة(3) منّي *** لقحت(4) حرب وائل عن حيال
لا بجير أغنى قتيلا و لا ره *** ط كليب تزاجروا عن ضلال
لم أكن من جناتها علم اللّ *** ه و إنّي بحرّها اليوم صال
قال: و لم يصحّح عامر و لا مسمع غير هذه الثلاثة الأبيات. و زعم أبو برزة قال: كان أوّل فارس لقي مهلهلا يوم واردات بجير بن الحارث بن عباد، فقال: من خالك يا غلام، و بوّأ نحوه(5) الرمح؛ فقال له امرؤ القيس بن أبان التّغلبيّ - و كان على(6) مقدّمتهم في حروبهم -: مهلا يا مهلهل! فإنّ عمّ هذا و أهل بيته قد اعتزلوا حربنا و لم يدخلوا في شيء مما نكره، و و اللّه لئن قتلته ليقتلنّ به رجل لا يسأل عن نسبه؛ فلم يلتفت مهلهل إلى قوله و شدّ عليه فقتله، و قال: بؤبشسع نعل كليب؛ فقال الغلام: إن رضيت بهذا بنو ثعلبة(7) فقد رضيته. قال: ثم غبروا زمانا، ثم لقي همّام بن مرّة فقتله أيضا. فأتى الحارث بن عباد فقيل له: قتل مهلهل هماما؛ فغضب و قال: ردّوا الجمال على عكرها(8) «الأمر(9) مخلوجة ليس بسلكي»؛ و جدّ في قتالهم. قال مقاتل: /فكان حكم بكر بن وائل يوم قضة الحارث بن عباد؛ و كان الرئيس الفند، و كان فارسهم جحدر، و كان شاعرهم سعد بن مالك بن ضبيعة، و كان الذي سدّ الثنيّة عوف بن مالك بن ضبيعة؛ و كان عوف أنبه من أخيه سعد. و قال فراس بن خندق(10): بل كان رئيسهم يوم قضة الحارث بن عباد. قال مقاتل: فأسر الحارث بن عباد عديّا - و هو مهلهل - بعد انهزام الناس و هو لا يعرفه؛ /فقال له: دلّني على المهلهل؛ قال: و لي دمي؟ قال: و لك دمك؛ قال: و لي ذمّتك و ذمّة أبيك؟ قال: نعم، ذلك لك؛ قال: فأنا مهلهل. قال: دلّني على كفء لبجير؛ قال: لا أعلمه إلا امرأ القيس بن أبان، هذاك علمه؛ فجزّ ناصيته(11) و قصد قصد امرئ القيس فشدّ عليه فقتله. فقال الحارث في ذلك:
ص: 35
لهف نفسي على عديّ و لم أع *** رف عديّا إذ أمكنتني اليدان
طلّ(1) من طلّ في الحروب و لم أو *** تر بجيرا أبأته(2) ابن أبان
فارس يضرب الكتيبة بالسي *** ف و تسموا أمامه العينان
و زعم حجر أنّ مهلهلا قال: لا و اللّه أو يعهد لي غيرك؛ قال الحارث: اختر من شئت؛ قال: أختار الشيخ القاعد عوف بن محلّم؛ قال الحارث: يا عوف أجره؛ قال: لا! حتى يقعد خلفي؛ فأمره فقعد خلفه؛ فقال: أنا مهلهل. و أمّا مقاتل فقال: إنما أخذه في دور الرّحى(3) و حومة القتال و لم يقعد أحد بعد، فكيف يقول الشيخ القاعد!. قال مقاتل: و شدّ عليهم جحدر، فاعتوره عمرو و عامر، فطعن/عمرا بعالية(4) الرمح و طعن عامرا بسافلته فقتلهما عداء(5) و جاء ببزّهما. قال عامر بن عبد الملك المسمعي: فحدّثني رجل عالم قال: سألني الوليد بن يزيد:
من قتل عمرا و أخاه عامرا؟ قلت: جحدر؛ قال: صدقت، فهل تدري كيف قتلهما؟ قلت: نعم، قتل عمرا بسنان(6)الرمح، و قتل عامرا بزجّه. قال: و قتل جحدر أيضا أبا مكنف. قال مقاتل: فلمّا رجع مهلهل بعد الوقعة و الأسر إلى أهله، جعل النساء و الولدان يستخبرونه: تسأل المرأة عن زوجها و ابنها(7) و أخيها، و الغلام عن أبيه و أخيه؛ فقال:
ليس مثلي يخبّر الناس عن آ *** بائهم قتّلوا و ينسى القتالا
لم أرم(8) عرصة الكتيبة حتّى ان *** تعل الورد(9) من دماء نعالا
عرفته رماح بكر فما يأ *** خذن إلا لبانه(10) و القذالا
غلبونا، و لا محالة يوما *** يقلب الدهر ذاك حالا فحالا
ص: 36
ثم خرج حتّى لحق بأرض اليمن، فكان في جنب(1)، فخطب إليه أحدهم ابنته فأبى أن يفعل، فأكرهوه فأنكحها إياه؛ فقال في ذلك مهلهل:
/
أنكحها فقدها الأراقم(2) في *** جنب و كان الحباء(3) من أدم
لو بأبانين(4) جاء يخطبها *** ضرّج ما أنف خاطب بدم
أصبحت لا منفسا(5) أصبت و لا *** أبت كريما حرّا من النّدم
هان على تغلب بما لقيت *** أخت بني المالكين من جشم
ليسوا بأكفائنا الكرام و لا *** يغنون من عيلة و لا عدم
/ثم إنّ مهلهلا انحدر، فأخذه عمرو بن مالك بن ضبيعة، فطلب إليه أخواله بنو يشكر - و أمّ مهلهل المرادة(6)بنت ثعلبة بن جشم بن غبر(7) اليشكريّة، و أختها منّة(8) بنت ثعلبة أمّ حييّ(9) بن وائل، و كان المحلّل(10) بن ثعلبة خالهما - فطلب إلى عمرو أن يدفعه إليه فيكون عنده ففعل(11)؛ فسقاه خمرا، فلما طابت نفسه تغنّى:
طفلة(12) ما ابنة المحلّل بيضا *** ء لعوب لذيذة في العناق
حتى فرغ من القصيدة، فأدّى ذلك من سمعه من المهلهل إلى عمرو، فحوّله إليه و أقسم ألاّ يذوق عنده خمرا و لا ماء و لا لبنا حتى يرد ربيب الهضاب (جمل له كان أقلّ وروده في الصيف الخمس)(13)؛ فقالوا له: يا خير الفتيان، أرسل إلى ربيب فلتؤت به قبل وروده، ففعل فأوجره(14) ذنوبا من ماء؛ فلما تحلّل من يمينه سقاه من ماء الحاضرة، و هو أوبأ ماء رأيته، فمات. فتلك الهضاب التي كان يرعاها ربيب يقال لها هضاب ربيب، طالما رعيتهنّ
ص: 37
و رأيتهنّ. قال مقاتل: و لم يقاتل معنا من بني يشكر و لا من بني لجيم و لا ذهل بن ثعلبة غير ناس من بني يشكر و ذهل قاتلت بأخرة(1)، ثم جاء ناس من بني لجيم يوم قضة مع الفند. و في ذلك يقول سعد بن مالك:
إنّ لجيما قد أبت كلّها *** أن يرفدونا رجلا واحدا
و يشكر أضحت على نأيها *** لم تسمع الآن لها حامدا
و لا بنو ذهل و قد أصبحوا *** بها حلولا(2) خلفا ماجدا
القائدي الخيل لأرض العدا *** و الضاربين الكوكب الوافدا(3)
و قال البكريّ:
و صدّت لجم للبراءة إذ رأت *** أهاضيب(4) موت تمطر الموت معضلا
و يشكر قد مالت قديما و أرتعت *** و منّت بقرباها إليهم لتوصلا
و قالوا جميعا: مات جسّاس حتف أنفه و لم يقتل.
قال عامر بن عبد الملك: لم يكن بينهم من قتلى تعدّ و لا تذكر إلا ثمانية نفر من تغلب و أربعة من بكر عدّدهم مهلهل في شعريه(5)، يعني قصيدتيه:
أ ليلتنا بذي حسم(6) أنيري *** إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فإن يك بالذّنائب طال ليلي *** فقد أبكي من الليل القصير
فلو نبش المقابر عن كليب *** فيعلم بالذنائب أيّ زير
بيوم الشّعثمين(7) أقرّ عينا *** و كيف لقاء من تحت القبور
ص: 38
و إنّي قد تركت بواردات(1) *** بجيرا في دم مثل العبير(2)
هتكت به بيوت بني عباد *** و بعض الغشم أشفى للصّدور
على أن ليس يوفي من كليب *** إذا برزت مخبّأة الخدور
/و همّام بن مرّة قد تركنا *** عليه القشعمان(3) من النسور
ينوء بصدره و الرمح فيه *** و يخلجه(4) خدبّ كالبعير
فلو لا الريح أسمع من بحجر *** صليل البيض تقرع بالذكور(5)
/فدى لبني شقيقة يوم جاءوا *** كأسد الغاب لجّت في الزّئير
كأنّ رماحهم أشطان(6) بئر *** بعيد بين جاليها(7) جرور
غداة كأنّنا و بنى أبينا *** بجنب عنيزة رحيا(8) مدير
تظلّ الخيل عاكفة عليهم *** كأنّ الخيل ترحض(9) في غدير
فهؤلاء أربعة من بني بكر بن وائل. و قال أيضا:
طفلة ما ابنة المحلّل بيضا *** ء لعوب لذيذة في العناق
فاذهبي ما إليك غير بعيد *** لا يؤاتي العناق من في الوثاق
ضربت نحرها إليّ و قالت *** يا عديّا لقد وقتك الأواقي(10)
ما أرجّي في العيش بعد نداما *** ي أراهم سقوا بكأس حلاق(11)
/بعد عمرو و عامر و حييّ *** و ربيع الصّدوف(12) و ابني عناق
ص: 39
و امرئ القيس ميّت يوم أودى *** ثم خلّى عليّ ذات العراقي(1)
و كليب سمّ(2) الفوارس إذ ح *** مّ رماه الكماة بالإيفاق(3)
إنّ تحت الأحجار حدّا(4) ولينا *** و خصيما ألدّ ذا معلاق(5)
حيّة في الوجار(6) أربد لا تن *** فع منه السليم نفثة راق
فهؤلاء ثمانية من تغلب. قال عامر: و الدليل على أنّ القتلى كانوا قليلا أنّ آباء القبائل هم الذين شهدوا تلك الحروب، فعدّوهم و عدّوا بنيهم و بني بنيهم، فإن كانوا خمسمائة فقد صدقوا، فكم عسى أن يبلغ عدد القتلى و القبائل. قال مسمع: إنّ أخي مجنون، و كيف يحتجّ بشعر المهلهل، و قد قتل جحدر أبا مكنف يوم قضة فلم يذكره في شعره، و قتل اليشكريّ ناشرة فلم يذكره في الشعر، و قتل حبيب يوم واردات، و قتل سعد بن مالك يوم قضة ابن القبيحة فلم يذكر، فهؤلاء أربعة. و قال البكريّ:
تركنا حبيبا يوم أرجف جمعه *** صريعا بأعلى واردات مجدّلا
/و قال مهلهل أيضا:
لست أرجو لذّة العيش ما *** أزمت(7) أجلاد قد بساقي
جلّلوني جلد حوب(8) فقد *** جعلوا نفسي عند التّراقي
و قال آخر(9) يفخر بيوم واردات:
و مهراق الدماء بواردات *** تبيد المخزيات و ما تبيد
فقلت لعامر: ما بال مسمع و ما احتجّ به من هؤلاء الأربعة؟ فقال عامر: و ما أربعة إن كنت أغفلتهم(10) فيما يقولون! إنّهم قتلوا يوم كذا(11) ثلاثة آلاف، و يوم كذا(11) أربعة آلاف، و اللّه ما أظنّ جميع القوم كانوا يومئذ ألفا! فهاتوا فعدّوا أسماء القبائل و أبناءهم و انزلوا معهم [إلى](12) أبناء أبنائهم، فكم عسى أن يكونوا!
ص: 40
أزجر العين أن تبكّي الطّلولا *** إنّ في الصدر من كليب غليلا
إنّ في الصدر حاجة لن تقضّى *** ما دعا في الغصون داع هديلا
كيف أنساك يا كليب و لمّا *** أقض حزنا ينو بني و غليلا
/أيّها القلب أنجز اليوم نحبا(1) *** من بني الحصن(2) إذ غدوا و ذحولا(3)
كيف يبكي الطلول من هو رهن *** بطعان الأنام جيلا فجيلا
أنبضوا(4) معجس القسيّ و أبرق *** نا كما توعد الفحول الفحولا
و صبرنا تحت البوارق حتّى *** ركدت فيهم السيوف طويلا
لم يطيقوا أن ينزلوا و نزلنا *** و أخو الحرب من أطاق النّزولا
الشعر لمهلهل - قال أبو عبيدة: اسمه عديّ، و قال يعقوب بن السّكّيت: اسمه امرؤ القيس - و هو ابن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب؛ و إنما لقّب مهلهلا لطيب شعره و رقّته، و كان أحد من غنّي من العرب في شعره. و قيل: إنه أوّل من قصّد القصائد و قال الغزل؛ فقيل: قد هلهل الشعر، أي أرقّه. و هو أوّل من كذب في شعره(5). و هو خال امرئ القيس بن حجر الكنديّ. و كان فيه خنث و لين، و كان كثير المحادثة للنّساء، فكان كليب يسمّيه «زير النّساء»؛ فذلك قوله:
و لو نبش المقابر عن كليب *** فيعلم بالذنائب أيّ زير
الغناء لابن محرز في الأوّل و الثاني من الأبيات ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و للغريض فيهما لحن في هذه الطريقة و الإصبع(6) و المجرى، و الذي فيه سجحة منها(7) لابن محرز. و لمعبد لحنان أحدهما في الأوّل و السادس ثقيل أوّل مطلق/في مجرى البنصر، و الآخر خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و لإبراهيم في الأوّل و الثاني خفيف ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى. و لإسحاق في الأوّل و الثالث ماخوريّ. و لعلّويه في الأوّل و الثاني خفيف ثقيل أوّل بالبنصر، و لمالك فيهما خفيف رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و لابن سريج في السادس و السابع خفيف رمل بالسبّابة في مجرى البنصر. و لابن سريج أيضا في الأوّل و الثامن خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و للغريض في الأوّل
ص: 41
و الثاني خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و للهذليّ في الأوّل و الثاني و السابع خفيف ثقيل أوّل بالوسطى من رواية حماد عن أبيه. و لمالك في الأوّل و الثاني و الخامس خفيف ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق و عمرو بن بانة.
و منها:
ثكلتني عند(1) الثّنيّة أمّي *** و أتاها نعيّ عمّي و خالي
إن لم أشف النفوس من حيّ بكر *** و عديّ تطأه بزل الجمال(2)
غنّاه ابن سريج ثقيلا أوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى من رواية إسحاق، و غنّاه الغريض ثقيلا أوّل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة.
/و منها:
قرّبا مربط النّعامة منّي *** لقحت حرب وائل عن حيال(3)
قرّباها في مقربات(4) عجال *** عابسات يثبن وثب السّعالي
لم أكن من جناتها علم اللّه و إنّي بحرّها اليوم صال الشعر للحارث بن عباد. و الغناء للغريض ثقيل أوّل بالبنصر. و فيه لحن آخر يقال إنه لابن سريج.
و منها:
يا لبكر أنشروا لي كليبا *** يا لبكر أين أين الفرار
يا لبكر(5) فاظعنوا أو فحلّوا *** صرّح الشرّ و بان السّرار
ص: 42
الشعر لمهلهل. و الغناء لابن سريج، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالسبابة في مجرى البنصر من رواية إسحاق. و غنّاه الأبجر خفيف رمل بالوسطى من رواية عمرو.
و منها:
أ ليلتنا بذي حسم أنيري *** إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فإن يك بالذّنائب طال ليلي *** فقد أبكى من الليل القصير
/كأنّ الجدي جدي(1) بنات نعش *** يكبّ(2) على اليدين بمستدير(3)
و تحبو(4) الشّعريان(5) إلى سهيل *** يلوح كقمّة(6) الجمل الكبير
فلو لا الريح أسمع أهل حجر *** صليل البيض تقرع بالذّكور
الشعر لمهلهل. و الغناء لابن محرز في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل بالبنصر، و له في الأبيات كلها خفيف ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى، عن إسحاق جميعا. و في الأبيات كلّها على الولاء للأبجر ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو. و يقال: إن فيها لحنا للغريض أيضا.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال أخبرنا الحسن بن الحسين السّكّريّ قال حدّثنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل عن أبي عبيدة:
/أن آخر من قتل في حرب بكر و تغلب جسّاس بن مرّة بن ذهل بن شيبان، و هو قاتل كليب بن ربيعة، و كانت أخته تحت كليب، فقتله جسّاس و هي حامل، فرجعت إلى أهلها و وقعت الحرب، فكان من الفريقين ما كان؛ ثم صاروا إلى الموادعة بعد ما كادت القبيلتان تتفانيان؛ فولدت أخت جسّاس غلاما فسمّته(7) الهجرس و ربّاه جساس، فكان لا يعرف أبا غيره، و زوّجه ابنته. فوقع بين الهجرس و بين رجل من بني بكر بن وائل كلام؛ فقال له البكريّ: ما
ص: 43
أنت بمنته حتى تلحقك بأبيك؛ فأمسك عنه و دخل إلى أمه كئيبا، فسألته عما به فأخبرها الخبر؛ فلما أوى إلى فراشه و نام إلى جنب امرأته وضع أنفه بين ثدييها، فتنفّس تنفّسة تنفّط(1) ما بين ثدييها من حرارتها؛ فقامت الجارية فزعة قد أقلّتها رعدة حتى دخلت على أبيها، فقصّت عليه قصّة الهجرس؛ فقال جسّاس: ثائر و ربّ الكعبة! و بات جسّاس على مثل الرّضف(2) حتى أصبح؛ فأرسل إلى الهجرس فأتاه، فقال له: إنما أنت ولدي و منّي بالمكان الذي قد علمت، و قد/زوّجتك ابنتي و أنت معي، و قد كانت الحرب في أبيك زمانا طويلا حتى كدنا نتفانى، و قد اصطلحنا و تحاجزنا، و قد رأيت أن تدخل فيما دخل فيه الناس من الصلح، و أن تنطلق حتى نأخذ عليك مثل ما أخذ علينا و على قومنا؛ فقال الهجرس: أنا فاعل، و لكنّ مثلي لا يأتي قومه إلا بلأمته(3) و فرسه؛ فحمله جسّاس على فرس و أعطاه لأمة و درعا؛ فخرجا حتى أتيا جماعة من قومهما، فقصّ عليهم جسّاس/ما كانوا فيه من البلاء و ما صاروا إليه من العافية، ثم قال: و هذا الفتى ابن أختي قد جاء ليدخل فيما دخلتم فيه و يعقد ما عقدتم؛ فلما قرّبوا(4) الدم و قاموا إلى العقد أخذ الهجرس بوسط رمحه، ثم قال: و فرسي و أذنيه، و رمحي و نصليه، و سيفي و غراريه، لا يترك الرجل قاتل أبيه و هو ينظر إليه؛ ثم طعن جسّاسا فقتله، ثم لحق بقومه؛ فكان آخر قتيل في بكر بن وائل.
قال أبو الفرج: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثني عمّي عن العبّاس بن هشام عن أبيه عن الشّرقيّ(5) بن القطاميّ قال:
لمّا قتل جسّاس بن مرّة كليب بن ربيعة، و كانت جليلة بنت مرّة أخت جساس تحت كليب، اجتمع نساء الحيّ للمأتم، فقلن لأخت كليب: رحّلي جليلة عن مأتمك، فإنّ قيامها فيه شماتة و عار علينا عند العرب؛ فقالت لها:
يا هذه اخرجي عن مأتمنا، فأنت أخت واترنا و شقيقة قاتلنا؛ فخرجت و هي تجرّ أعطافها؛ فلقيها أبوها مرّة، فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، و حزن الأبد؛ و فقد حليل، و قتل أخ عن قليل؛ و بين ذين غرس الأحقاد، و تفتّت الأكباد؛ فقال لها: أو يكفّ ذلك كرم الصّفح و إغلاء الدّيات؟ فقالت جليلة: أمنيّة مخدوع و ربّ الكعبة! أبا لبدن تدع لك تغلب دم ربّها!. قال: و لمّا رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدي و فراق الشامت، ويل غدا لآل مرّة، من الكرّة بعد الكرة!. فبلغ قولها جليلة، فقالت: و كيف تشمت الحرّة بهتك سترها /و ترقّب وترها! أسعد اللّه جدّ أختي، أ فلا قالت: نفرة الحياء، و خوف الاعتداء!. ثم أنشأت(6) تقول:
ص: 44
يا ابنة الأقوام إن شئت فلا *** تعجلي باللّوم حتى تسألني
فإذا أنت تبيّنت الذي *** يوجب اللّوم فلومي و اعذلي
إن تكن أخت امرئ ليمت على *** شفق منها عليه فافعلي
جلّ عندي فعل جسّاس فيا *** حسرتي عما انجلت أو تنجلي
فعل جسّاس على وجدي به *** قاطع ظهري و مدن أجلي
لو بعين فقئت عيني سوى *** أختها فانفقأت لم أحفل
تحمل العين قذى العين كما *** تحمل الأمّ أذى ما تفتلي(1)
يا قتيلا قوّض الدهر به *** سقف بيتيّ جميعا من عل
هدم البيت الذي استحدثته *** و انثنى في هدم بيتي الأوّل
و رماني قتله من كثب(2) *** رمية المصمي به المستأصل
يا نسائي دونكنّ اليوم قد *** خصّني الدهر برزء معضل
/خصّني قتل كليب بلظّى *** من ورائي و لظّى مستقبلي(3)
/ليس من يبكي ليومين(4) كمن *** إنما يبكي ليوم ينجلي(5)
يشتفي المدرك بالثأر و في *** دركي ثأري ثكل المثكل(6)
ليته كان دمي فاحتلبوا *** بدلا منه دما من أكحلي(7)
إنني قاتلة مقتولة *** و لعلّ اللّه أن يرتاح لي
ص: 45
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
الهذليان أخوان يقال لهما سعيد و عبد آل ابنا مسعود؛ فالأكبر منهما يقال له سعيد، و يكنى أبا مسعود، و أمه امرأة يقال لها أمّ فيعل، و كان كثيرا ما ينسب إليها، و كان ينقش الحجارة بأبي قبيس، و كان فتيان من قريش يروحون إليه كلّ عشيّة فيأتون بطحاء يقال لها بطحاء قريش فيجلسون عليها، و يأتيهم فيغنّي لهم و يكون معهم. و قد قيل: إن الأكبر هو عبد آل، و الأصغر سعيد.
قال هارون و حدّثني الزبير بن بكّار قال حدّثني حمزة بن عتبة اللهبيّ:
أنّ الهذليّ كان نقّاشا يعمل البرم من حجارة الجبل، و كان يكنى أبا عبد الرحمن، و كان إذا أمسى راح فأشرف على المسجد ثم غنّى، فلا يلبث أن يرى الجبل كقرص الخبيص(1) صفرة و حمرة من أردية قريش؛ فيقولون: يا أبا عبد الرحمن، أعد؛ فيقول: أمّا و اللّه و هاهنا حجر أحتاج إليه لم يرد الأبطح فلا؛ فيضعون أيديهم في الحجارة حتى يقطعوها له و يحدروها إلى الأبطح، و ينزل معهم حتى يجلس على أعظمها حجرا و يغنّي لهم.
/قال هارون و حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبي مسعود بن(2) أبي جناح قال أخبرني أبو لطيف و عمارة قالا:
تغنّى الهذليّ الأكبر، و كان من أنفسهم، و كان فتيان قريش يروحون كلّ عشيّة حتى يأتوا بطحاء يقال لها بطحاء قريش قريبا من داره، فيجلسون عليها و يأتيهم فيغنيهم.
قال: و أخبرني ابن أبي طرفة عن الحسن بن عبّاد الكاتب مولى آل الزّبير قال:
هجم الحارث بن خالد، و هو يومئذ أمير مكة، على الهذليّ و هو مع فتيان قريش بالمفجر(3) يغنّيهم و عليه جبّة صوف، فطرح عليه مقطّعات خزّ، فكانت هذه أوّل ما تحرّك لها.
ص: 46
قال هارون: و حدّثني حماد عن أبيه قال:
ذكر ابن جامع عن ابن عبّاد أن ابن سريج لما حضرته الوفاة نظر إلى ابنته فبكى، فقالت له: ما يبكيك؟ قال:
أخشى عليك الضيعة بعدي! فقالت له: لا تخف فما من غنائك شيء إلا و قد أخذته؛ قال: فغنّيني فغنّته، فقال: قد طابت نفسي، ثم دعا بالهذليّ فزوّجها منه؛ فأخذ الهذليّ غناء أبيها كلّه عنها فانتحل أكثره؛ فعامّة غناء الهذليّ لابن سريج مما أخذه عن ابنته و هي زوجته.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن يحيى أبو غسّان قال:
كان الهذليّ منزله بمنى، و كان فتيان قريش يأتونه فيغنّيهم هناك، ثم أقبل مرّة حتى جلس على جمرة العقبة فغنّى هناك، فحدره الحارث من منى، و كان عاملا على مكة، ثم أذن له فرجع إلى منى.
قال هارون: و حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ/قال حدّثني أبي قال:
كان الهذليّ النقّاش يغدو إليه فتيان قريش و قد عمل عمله بالليل، و معهم الطعام و الشراب و الدراهم، فيقولون له: غنّنا؛ فيقول لهم: الوظيفة(1)، فيقولون: قد جئنا بها؛ فيقول: الوظيفة الأخرى، أنزلوا أحجاري، فيلقون ثيابهم و يأتزرون بأزرهم و ينقلون الحجارة و ينزلونها، ثم يجلس على شنخوب(2) من شناخيب الجبل فيجلسون تحته في السّهل فيشربون و هو يغنّيهم حتى المساء، و كانوا كذلك مدّة؛ فقال له يوما ثلاثة فتية من قريش: قد جاءك كلّ واحد منا بمثل وظيفتك على الجماعة من غير أن تنقص وظيفتك عليهم، و قد اختار كل واحد منا صوتا من غنائك ليجعله حظّه اليوم، فإن وافقت الجماعة هوانا كان ذلك مشتركا بيننا، و إن أبوا غنّيت لهم ما أرادوا و جعلت هذه الثلاثة الأصوات لنا بقية يومنا؛ قال: هاتوا، فاختار أحدهم:
عفت عرفات فالمصايف من هند
و اختار الآخر:
ألمّ بنا طيف الخيال المهجّد(3)
/و اختار الآخر:
هجرت سعدى فزادني كلفا
فغنّاهم إياها، فما سمع السامعون شيئا كان أحسن من ذلك؛ فلما أرادوا الانصراف قال لهم: إني قد صنعت صوتا البارحة ما سمعه أحد، فهل لكم فيه؟ قالوا: هاته منعما بذلك؛ فاندفع فغنّاهم:
ص: 47
أ أن هتفت ورقاء ظلت سفاهة *** تبكّي على جمل لورقاء تهتف
فقالوا: أحسنت و اللّه، لا جرم لا يكون صبوحنا في غد إلا عليه، فعادوا و غنّاهم إياه و أعطوه وظيفته؛ و لم يزالوا يستعيدونه إياه باقي يومهم.
من ذلك:
عفت عرفات فالمصايف من هند *** فأوحش ما بين الجريبين(1) فالنّهد(2)
و غيّرها طول التقادم و البلى *** فليست كما كانت تكون على العهد
الشعر للأحوص، و قيل: إنه لعمر. و الغناء للهذليّ، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالخنصر في مجرى البنصر.
/و منها:
ألمّ بنا طيف الخيال المهجّد *** و قد كادت الجوزاء في الجوّ تصعد
ألمّ يحيّينا و من دون أهلها *** فياف تغور الريح فيها و تنجد
عروضه من الطويل. لم يقع لنا اسم شاعره و نسبه. و الغناء للهذليّ ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، و هو اللحن المختار، و فيه ليحيى المكّيّ هزج. و لحن الهذليّ هذا مما اختير للرشيد و الواثق بعده من المائة الصوت المذكورة.
و منها:
هجرت سعدى فزادني كلفا *** هجران سعدى و أزمعت خلفا
/و قد على حبّها حلفت لها *** لو أنّ سعدى تصدّق الحلفا
ما علق القلب غيرها بشرا *** و لا سواها من معلق عرفا
ص: 48
فلم تجبني و أعرضت صلفا *** و غادرتني بحبّها كلفا
الغناء للهذليّ ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق قال:
زوّج ابن سريج لما حضرته الوفاة الهذليّ الأكبر بابنته، فأخذ عنها أكثر غناء أبيها، و ادّعاه فغلب عليه. قال:
و ولدت منه ابنا؛ فلما أيفع جاز يوما بأشعب و هو جالس في فتية من قريش، فوثب فحمله على كتفه و جعل يرقّصه و يقول: هذا ابن دفّتي المصحف و هذا ابن مزامير داود؛ فقيل له: ويلك! ما تقول/و من هذا الصبيّ؟ فقال: أ و ما تعرفونه! هذا ابن الهذليّ من ابنة ابن سريج، ولد على عود، و استهلّ(1) بغناء، و حنّك(2) بملوى(3)، و قطعت سرّته بوتر(4)، و ختن بمضراب.
و ذكر يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن عبد اللّه بن عيسى الماهانيّ قال:
دخلت يوما على إسحاق بن إبراهيم الموصليّ في حاجة، فرأيت عليه مطرف خزّ أسود ما رأيت قطّ أحسن منه؛ فتحدّثنا إلى أن أخذنا في أمر المطرف، فقال: لقد كان لكم أيّام حسنة و دولة عجيبة؛ فكيف ترى هذا؟ فقلت له: ما رأيت مثله؛ فقال: إنّ قيمته مائة ألف درهم، و له حديث عجيب؛ فقلت: ما أقوّمه إلا بنحو مائة دينار؛ فقال إسحاق: شربنا يوما من الأيام فبتّ و أنا مثخن(5)، فانتبهت لرسول محمد الأمين، فدخل عليّ فقال: يقول لك أمير المؤمنين: عجّل؛ و كان بخيلا على الطعام، فكنت آكل قبل أن أذهب إليه؛ فقمت فتسوّكت و أصلحت شأني، و أعجلني الرسول عن الغداء فقمت معه فدخلت عليه، و إبراهيم بن المهديّ قاعد عن يمينه و عليه هذا المطرف و جبّة خزّ دكناء(6)؛ فقال لي محمد: يا إسحاق، أ تغدّيت؟ قلت: نعم يا سيّدي؛ قال: إنك لنهم، أ هذا وقت غداء! فقلت: أصبحت يا أمير المؤمنين و بي خمار فكان ذلك مما حداني على الأكل؛ فقال لهم: كم شربنا؟ فقالوا: ثلاثة أرطال، فقال: اسقوه إياها؛ فقلت: إن رأيت أن تفرّق عليّ!؛ فقال: يسقى رطلين و رطلا؛ فدفع إليّ رطلان فجعلت أشربهما/و أنا أتوهم أن نفسي تسيل معهما، ثم دفع إليّ رطل آخر فشربته، فكأنّ شيئا انجلى عني؛ فقال غنّني:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا
فغنّيته، فقال: أحسنت و طرب؛ ثم قام فدخل - و كان كثيرا [ما] يدخل إلى النساء و يدعنا - فقمت في إثر
ص: 49
قيامه، فدعوت غلاما لي، فقلت: اذهب إلى بيتي و جئني ببزماوردتين(1) و لفّهما في منديل و اذهب ركضا و عجّل، فمضى الغلام و جاءني بهما، فلما وافى الباب و نزل عن دابّته انقطع فنفق(2) من شدّة ما ركض عليه، و أدخل إليّ البزماوردتين، فأكلتهما و رجعت نفسي إليّ و عدت إلى مجلسي؛ فقال لي إبراهيم: لي إليك حاجة أحبّ أن تقضيها لي؛ فقلت: إنما أنا عبدك و ابن عبدك، فقل ما شئت؛ قال: تردّد عليّ: «كليب لعمري» و هذا المطرف لك؛ فقلت:
أنا لا آخذ منك مطرفا على هذا، و لكنني أصير إلى منزلك فألقيه على الجواري و أردّده عليك مرارا؛ فقال: أحبّ أن تردّده عليّ الساعة و أن تأخذ هذا فإنه من لبسك/و هو من حاله كذا و كذا؛ فردّدت عليه الصوت مرارا حتى أخذه، ثم سمعنا حركة محمد فقمنا حتى جاء و جلس، ثم قعدنا فشرب و تحدّثنا؛ فغنّاه إبراهيم: «كليب لعمري»، فكأني و اللّه لم أسمعه قبل ذلك حسنا؛ و طرب محمد طربا شديدا و قال: أحسنت و اللّه! يا غلام، عشر بدر لعمّي السّاعة! فجاءوا بها؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي فيها شريكا؛ قال: من هو؟ قال: إسحاق؛ قال: و كيف؟ فقال: إنما أخذته منه لمّا قمت؛ فقلت أنا: و لم! أضاقت الأموال على أمير/المؤمنين حتى تريد أن تشرك فيما يعطي! قال:
أمّا أنا فأشركك و أمير المؤمنين أعلم؛ فلما انصرفنا من المجلس أعطاني ثمانين ألفا، و أعطاني هذا المطرف، فهذا أخذ به مائة ألف درهم، و هي قيمته.
من رواية جحظة عن أصحابه:
علّل القوم يشربوا *** كي يلذّوا و يطربوا
إنما ضلّل الفؤا *** د غزال مربّب(3)
فرشته على النّما *** رق سعدى و زينب
حال دون الهوى و دو *** ن سرى الليل مصعب(4)
و سياط على أك *** فّ رجال تقلّب
الشعر لعبيد اللّه بن قيس الرّقيّات. و الغناء في اللحن المختار لمالك بن أبي السّمح، و لحنه من الثقيل الأوّل بالسبابة في مجرى الوسطى. و فيه لإسحاق ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر. و لابن سريج في الرابع و الخامس و الأوّل ثاني ثقيل في مجرى الوسطى. و لمعبد في الثاني و ما بعده خفيف ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى الوسطى.
ص: 50
هو عبيد اللّه بن قيس بن شريح(1) بن مالك بن ربيعة بن أهيب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص(2) بن عامر بن لؤيّ بن غالب. و أمّه قتيلة ابنة وهب بن عبد اللّه بن ربيعة بن طريف بن عديّ بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني محمد بن محمد بن أبي قلامة العمريّ قال حدّثني محمد بن طلحة، قال الزبير و حدّثنيه أيضا محمد بن الحسن المخزوميّ، قالا جميعا:
كان يقال لبني معيص بن عامر بن لؤيّ و بني محارب بن فهر: الأجربان من أهل تهامة، و كانا متحالفين، و إنما قيل لهما الأجربان من شدّة بأسهما و عرّهما(3) من ناوأهما كما يعرّ الجرب.
و إنما لقّب عبيد اللّه بن قيس الرّقيّات لأنه شبّب بثلاث نسوة سمّين جميعا رقيّة، منهنّ رقيّة بنت عبد الواحد بن أبي سعد بن قيس بن وهب بن أهبان(4) بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤيّ، و ابنة عمّ لها يقال لها رقيّة، /و امرأة من بني أميّة يقال لها رقيّة. و كان هواه في رقيّة بنت عبد الواحد؛ و كان عبد الواحد - فيما أخبرني الحرميّ بن أبي/العلاء عن الزبير - ينزل الرّقّة. و إياه عنى ابن قيس بقوله:
ما خير عيش بالجزيرة بعد ما *** عثر الزمان و مات عبد الواحد
و له في الرقيّات عدّة أشعار يغنّى فيها تذكر بعقب هذا الخبر. و الأبيات الثانية التي فيها اللحن المختار يقولها في مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزّهريّ، و كان صاحب شرطة مروان بن الحكم بالمدينة.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني عمّي قال:
ص: 51
لما ولي مروان بن الحكم المدينة ولّى مصعب بن عبد الرحمن بن عوف شرطته؛ فقال: إني لا أضبط المدينة بحرس المدينة، فابغني رجالا من غيرها، فأعانه بمائتي رجل من أهل أيلة(1)، فضبطها ضبطا شديدا. فدخل المسور(2) بن مخرمة على مروان فقال: أما ترى ما يشكوه الناس من مصعب! فقال:
ليس بهذا من سياق عتب *** يمشي القطوف و ينام الركب(3)
و قال غير مصعب في هذا الخبر و ليس من رواية الحرميّ: إنه بقي إلى أن ولي عمرو(4) بن سعيد المدينة و خرج الحسين رضي اللّه تعالى عنه و عبد اللّه بن الزبير؛ /فقال له عمرو: اهدم دور بني هاشم و آل الزبير؛ فقال: لا أفعل، فقال: انتفخ سحرك(5) يا ابن أمّ حريث! ألق سيفنا! فألقاه و لحق بابن الزبير. و ولّى عمرو بن سعيد شرطته عمرو بن الزبير بن العوّام و أمره بهدم دور بني هاشم و آل الزبير، ففعل و بلغ منهم كلّ مبلغ، و هدم دار ابن(6) مطيع التي يقال لها العنقاء، و ضرب محمد بن المنذر بن الزبير مائة سوط؛ ثم دعا بعروة بن الزبير ليضربه؛ فقال له محمد: أ تضرب عروة! فقال: نعم يا سبلان(7) إلا أن تحتمل ذلك عنه؛ فقال: أنا أحتمله، فضربه مائة سوط أخرى؛ و لحق عروة بأخيه. و ضرب عمرو الناس ضربا شديدا، فهربوا منه إلى ابن الزبير، و كان المسور بن مخرمة أحد من هرب منه؛ و لما أفضى الأمر إلى ابن الزّبير أقاد منه و ضربه بالسوط ضربا مبرّحا فمات فدفنه في غير مقابر المسلمين، و قال للناس، فيما ذكر عنه: إن عمرا مات مرتدّا عن الإسلام.
أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزّبير قال:
سألت عمّي مصعبا و محمد بن الضحّاك و محمد بن حسن عن شاعر قريش في الإسلام، فكلّهم قالوا: ابن قيس الرقيّات؛ و حكي ذلك عن عديّ و عن الضحاك بن عثمان؛ و حكاه محمد بن الحسن عن عثمان بن عبد الرحمن اليربوعيّ. قال الزبير: و حدّثني بمثله غمامة بن عمرو السّهميّ عن مسور بن عبد الملك اليربوعيّ.
أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ و الحرميّ بن أبي العلاء و غيرهما قالوا حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه الزّهريّ عن عمه محمد بن عبد العزيز:
أنّ ابن قيس الرقيّات أتى إلى طلحة بن عبد اللّه بن عوف الزهريّ فقال له:
ص: 52
يا عمّي، إني قد قلت شعرا فاسمعه فإنك ناصح لقومك، فإن كان جيّدا قلت، و إن كان رديئا كففت؛ فقال له: أنشد، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
منع اللهو و الهوى *** و سرى الليل مصعب
و سياط على أك *** فّ رجال تقلّب
/فقال: قل يا ابن أخي فإنك شاعر.
و كان عبيد اللّه بن قيس الرقيّات زبيريّ الهوى، و خرج مع مصعب بن الزبير على عبد الملك؛ فلما قتل مصعب و قتل عبد اللّه هرب فلجأ إلى عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، فسأل عبد الملك في أمره فأمّنه.
و أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ و الحرميّ بن أبي العلاء و غيرهما قالوا حدّثنا الزّبيريّ(1) قال حدّثني عبد اللّه بن البصير(2) البربريّ مولى قيس بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه قال:
قال عبيد اللّه بن قيس الرقيّات: خرجت مع مصعب بن الزبير حين بلغه شخوص عبد الملك بن مروان إليه، فلما نزل مصعب بن الزبير بمسكن(3)، و رأى معالم الغدر/ممن معه، دعاني و دعا بمال و مناطق، فملأ المناطق من ذلك المال و ألبسني منها، و قال لي: انطلق حيث شئت فإني مقتول؛ فقلت له: لا و اللّه لا أريم(4) حتى أرى(5)سبيلك؛ فأقمت معه حتى قتل؛ ثم مضيت إلى الكوفة، فأوّل بيت صرت إليه دخلته، فإذا فيه امرأة لها ابنتان كأنهما ظبيتان، فرقيت في درجة لها إلى مشربة(6) فقعدت فيها، فأمرت لي المرأة بما أحتاج إليه من الطعام و الشراب و الفرش و الماء للوضوء، فأقمت كذلك عندها أكثر من حول، تقيم لي ما يصلحني و تغدو عليّ في كل صباح فتسألني بالصّباح و الحاجة(7)، و لا تسألني من أنا و لا أسألها من هي، و أنا في ذلك أسمع الصّياح فيّ و الجعل؛ فلما طال بي المقام و فقدت الصياح فيّ و غرضت(8) بمكاني غدت عليّ تسألني بالصباح و الحاجة، فعرّفتها أني قد غرضت و أحببت الشّخوص إلى أهلي؛ فقالت لي: نأتيك بما تحتاج إليه إن شاء اللّه تعالى؛ فلمّا أمسيت و ضرب الليل بأرواقه رقيت إليّ و قالت: إذا شئت! فنزلت و قد أعدّت راحلتين عليهما ما أحتاج إليه و معهما(9) عبد، و أعطت العبد نفقة الطريق، و قالت: العبد و الراحلتان لك؛ فركبت و ركب العبد معي حتى طرقت أهل مكة، فدققت منزلي؛ فقالوا لي: من هذا؟ فقلت: عبيد اللّه بن قيس الرقيّات؛ فولولوا و بكوا، و قالوا: ما فارقنا طلبك إلا في هذا الوقت؛
ص: 53
فأقمت عندهم حتى أسحرت(1)، ثم نهضت و معي العبد حتى قدمت المدينة، فجئت عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب عند المساء و هو يعشّي أصحابه، فجلست معهم و جعلت أتعاجم و أقول: يار يار(2)/ابن طيّار(3)؛ فلما خرج أصحابه كشفت له عن وجهي، فقال: ابن قيس؟ فقلت: ابن قيس، جئتك عائذا بك؛ قال: ويحك! ما أجدّهم في طلبك و أحرصهم على الظّفر بك! و لكني سأكتب إلى أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان فهي زوجة الوليد بن عبد الملك، و عبد الملك أرقّ شيء عليها. فكتب إليها يسألها أن تشفع له إلى عمّها، و كتب إلى أبيها يسأله أن يكتب إليها كتابا يسألها الشفاعة؛ فدخل عليها عبد الملك كما كان يفعل و سألها؛ هل من حاجة؟ فقالت: نعم لي حاجة، فقال: قد قضيت كل حاجة لك إلا ابن قيس الرقيّات؛ فقالت: لا تستثن عليّ شيئا! فنفح(4) بيده فأصاب خدّها، فوضعت يدها على خدّها؛ فقال لها: يا بنتي ارفعي يدك، فقد قضيت كلّ حاجة لك و إن كانت ابن قيس الرقيّات؛ فقالت: إنّ حاجتي ابن قيس الرقيات تؤمّنه، فقد كتب إليّ أبي يسألني أن أسألك ذلك؛ قال: فهو آمن، فمريه يحضر مجلسي العشيّة؛ فحضر/ابن قيس و حضر الناس حين بلغهم مجلس عبد الملك، فأخّر الإذن، ثم أذن للناس، و أخّر إذن ابن قيس الرقيّات حتى أخذوا مجالسهم، ثم أذن له؛ فلما دخل عليه قال عبد الملك: يأهل الشام، أ تعرفون هذا؟ قالوا: لا؛ فقال: هذا عبيد اللّه بن قيس الرقيّات الذي يقول:
كيف نومي على(5) الفراش و لمّا *** تشمل الشام غارة شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه و تبدي *** عن خدام(6) العقيلة العذراء
فقالوا: يا أمير المؤمنين اسقنا دم هذا المنافق! قال: الآن و قد أمّنته و صار في منزلي و على بساطي! قد أخّرت الإذن له لتقتلوه فلم تفعلوا. فاستأذنه ابن قيس الرقيّات أن ينشده مديحه فأذن له، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
عاد له من كثيرة الطرب *** فعينه بالدموع تنسكب(7)
كوفيّة نازح محلّتها *** لا أمم دارها و لا صقب
و اللّه ما إن صبت إليّ و لا *** إن كان بيني و بينها سبب(8)
ص: 54
إلا الذي أورثت كثيرة في ال *** قلب و للحبّ سورة عجب
حتى قال فيها:
إنّ الأغرّ الذي أبوه أبو ال *** عاصي عليه الوقار و الحجب
يعتدل التاج فوق مفرقه *** على جبين كأنه الذهب
فقال له عبد الملك: يا ابن قيس تمدحني بالتاج كأني من العجم و تقول في مصعب:
إنما مصعب شهاب من ال *** لّه تجلّت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزّة ليس فيه *** جبروت منه و لا كبرياء
أمّا الأمان فقد سبق لك، و لكن و اللّه لا تأخذ مع المسلمين عطاء أبدا!. قال: و قال ابن قيس الرقيّات لعبد اللّه بن جعفر: ما نفعني أماني، تركت حيّا كميت لا آخذ مع الناس عطاء أبدا؛ فقال له عبد اللّه بن جعفر: كم بلغت من السنّ؟ قال: ستين سنة؛ قال: فعمّر نفسك؛ قال: عشرين سنة من ذي قبل(1)؛ /فذلك ثمانون سنة؛ قال: كم عطاؤك؟ قال: ألفا درهم؛ فأمر له بأربعين ألف درهم، و قال: ذلك لك عليّ إلى أن تموت على تعميرك نفسك؛ فعند ذلك قال عبيد اللّه بن قيس الرقيّات يمدح عبد اللّه بن جعفر:
نقدّت بي الشّهباء نحو ابن جعفر *** سواء عليها ليلها و نهارها(2)
تزور امرأ قد يعلم اللّه أنه *** تجود له كفّ قليل غرارها
أتيناك نثني بالذي أنت أهله *** عليك كما يثني على الروض جارها
فو اللّه لو لا أن تزور ابن جعفر *** لكان قليلا في دمشق قرارها
إذا متّ لم يوصل صديق و لم تقم *** طريق من المعروف أنت منارها
ذكرتك أن فاض الفرات بأرضنا *** و فاض بأعلى الرّقّتين(3) بحارها
و عندي مما خوّل اللّه هجمة(4) *** عطاؤك منها شولها و عشارها
مباركة كانت عطاء مبارك *** تمانح(5) كبراها و تنمي صغارها
ص: 55
أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير قال حدّثنا مصعب بن عبد الملك قال:
/قال عبد الملك بن مروان لعبيد اللّه بن قيس الرقيّات: ويحك يا ابن قيس! أ ما اتّقيت اللّه حين تقول لابن جعفر:
تزور امرأ قد يعلم اللّه أنه *** تجود له كفّ قليل غرارها
أ لا قلت: قد يعلم الناس و لم تقل: قد يعلم اللّه! فقال ابن قيس: قد و اللّه علمه اللّه [و علمته(1) أنت] و علمته أنا و علمه الناس.
أخبرنا الحسين بن يحيى قال قال حمّاد بن إسحاق:
قرأت على أبي أن عبيد اللّه بن قيس الرقيّات منعه عبد الملك بن مروان عطاءه من بيت المال و طلبه ليقتله، فاستجار بعبد اللّه بن جعفر، و قصده فألفاه نائما، و كان صديقا لسائب خاثر، فطلب الإذن على ابن جعفر فتعذّر، فجاء سائب خاثر ليستأذن له عليه؛ قال سائب: فجئت من قبل رجل عبد اللّه بن جعفر فنبحت نباح الجرو الصغير، فانتبه و لم يفتح عينيه، و ركلني برجله، فدرت إلى عند رأسه، فنبحت نباح الكلب الهرم، فانتبه و فتح عينيه فرآني؛ فقال: ما لك؟ ويحك! فقلت: ابن قيس الرقيّات بالباب؛ قال: ائذن له، فأذنت له، فدخل إليه فرحّب ابن جعفر به و قرّبه؛ فعرّفه ابن قيس خبره، فدعا بظبية(2) فيها دنانير، و قال: عدّ له منها؛ فجعلت أعدّ و أترنّم(3) و أحسّن صوتي بجهدي حتى عددت ثلاثمائة دينار، فسكتّ؛ فقال لي عبد اللّه: مالك ويلك سكتّ! ما هذا وقت قطع الصوت الحسن، فجعلت أعدّ حتى نفد ما كان في الظّبية، و فيها ثمانمائة دينار، فدفعتها إليه؛ فلما قبضها قال لابن جعفر:
اسأل أمير المؤمنين في أمري؛ قال: نعم، فإذا/دخلت إليه معي و دعا بالطعام، فكل أكلا فاحشا. فركب ابن جعفر، فدخل معه إلى عبد الملك؛ فلما قدّم الطعام جعل يسيء الأكل؛ فقال عبد الملك لابن جعفر: من هذا؟ فقال: هذا إنسان لا يجوز إلا أن يكون صادقا إن استبقي، و إن قتل كان أكذب الناس، قال: و كيف ذلك! قال: لأنه يقول:
ما نقموا من بني أميّة إلا *** أنهم يحلمون إن غضبوا
فإن قتلته لغضبك عليه أكذبته فيما مدحكم به؛ قال: فهو آمن، و لكن لا أعطيه عطاء من بيت المال؛ قال:
و لم و قد وهبته لي؟ فأحبّ أن تهب لي عطاءه أيضا كما وهبت لي دمه و عفوت لي عن ذنبه؛ قال: قد فعلت، قال:
و تعطيه ما فاته من العطاء؛ قال: قد فعلت، و أمرت له بذلك.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي قال:
كان ابن قيس الرقيّات منقطعا إلى ابن جعفر، و كان يصله و يقضي عنه دينه، ثم استأمن له عبد الملك فأمّنه،
ص: 56
و حرمه عطاءه؛ فأمره عبد اللّه أن يقدّر لنفسه ما يكفيه أيام حياته ففعل ذلك، فأعطاه عبد اللّه ما سأل و عوّضه من عطائه أكثر منه؛ ثم جاءت عبد اللّه صلة من عبد الملك و ابن قيس غائب، فأمر عبد اللّه خازنه فخبأ له صلته، فلما قدم دفعها إليه؛ و أعطاه جارية حسناء؛ فقال ابن قيس:
إذا زرت عبد اللّه نفسي فداؤه *** رجعت بفضل من نداه و نائل
و إن غبت عنه كان للودّ حافظا *** و لم يك عنّي في المغيب بغافل
/تداركني عبد الإله و قد بدت *** لذي الحقد و الشّنآن منّي مقاتلي
فأنقذني من غمرة الموت بعد ما *** رأيت حياض الموت جمّ المناهل
حباني لمّا جئته بعطيّة *** و جارية حسناء ذات خلاخل
منها:
عاد له من كثيرة الطّرب *** فعينه بالدموع تنسكب
كوفيّة نازح محلّتها *** لا أمم دارها و لا صقب
و اللّه ما إن صبت إليّ و لا *** يعرف بيني و بينها سبب
إلا الذي أورثت كثيرة في ال *** قلب و للحبّ سورة عجب
عروضه من المنسرح، غنّاه معبد ثقيلا أوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. قوله: «لا أمم دارها» يعني أنها ليست بقريبة. و يقال: ما كلّفتني أمما من الأمر فأفعله: أي قريبا من الإمكان؛ و يقال: إن فلانا لأمم من أن يكون فعل كذا و كذا. قال الشاعر:
أ طرقته أسماء أم حلما *** بل لم تكن من رحالنا أمما(1)
أي قريبة. و قال الراجز:
كلّفها عمرو نقال الضّبعان(2) *** ما كلّفت من أمم و لا دان
/و قال آخر:
ص: 57
إنك إن سألت شيئا أمما *** جاء به الكري(1) أو تجشّما
و الصّقب: الملاصقة. تقول: و اللّه ما صاقبت فلانا و لا صاقبني، و دار فلان مصاقبة لدار فلان؛ و في الحديث: «الجار أحقّ بصقبه» أي بما لاصقه، أي إنه أحقّ بشفعته. و السّورة: شدّة الأمر، و منه يقال: ساور فلان فلانا، و تساور الرجلان إذا تغالبا و تشادّا؛ و قيل إن السّورة: البقيّة أيضا.
و منها:
ما نقموا من بني أميّ *** ة إلاّ أنهم يحلمون إن غضبوا
و أنّهم سادة الملوك فما *** تصلح إلاّ عليهم العرب
غنّت في هذين البيتين حبابة، و هما من(2) القصيدة التي أوّلها:
عاد له من كثيرة الطّرب
قال الأصمعيّ: كثيرة هذه امرأة نزل بها بالكوفة فآوته. قال ابن قيس: فأقمت عندها سنة تروح و تغدو عليّ بما أحتاج إليه، و لا تسألني عن حالي و لا نسبي؛ فبينا أنا بعد سنة مشرق من جناح(3) إلى الطريق، إذا أنا بمنادي عبد الملك ينادي ببراءة الذمّة ممن أصبت عنده؛ فأعلمت المرأة أني راحل؛ فقالت: لا يروعنّك ما سمعت، فإن هذا نداء شائع منذ نزلت بنا، فإن أردت المقام ففي الرّحب و السّعة، و إن أردت الانصراف أعلمتني؛ فقلت لها:
لا بدّ لي من الانصراف؛ فلما كان الليل، قدّمت إليّ راحلة عليها جميع ما أحتاج إليه في سفري؛ فقلت لها: من /أنت - جعلت فداءك - لأكافئك؟ قالت: ما فعلت هذا لتكافئني؛ فانصرفت و لا و اللّه ما عرفتها إلا أني سمعتها تدعى باسمها «كثيرة»، فذكرتها في شعري.
و ذكر الزبير بن بكّار عن عمّه/مصعب أن عبد اللّه بن عليّ بن عبد اللّه بن عبّاس صاحب بني أمية بنهر أبي فطرس، إنما بعثه على قتلهم أنه أنشده بعض الشعراء ذات يوم مديحا مدح به بني هاشم؛ فقال لبعضهم: أين هذا مما كنتم تمدحون به! فقال: هيهات أن يمدح أحد بمثل قول ابن قيس فينا:
ما نقموا من بني أميّة إ *** لا أنهم يحلمون إن غضبوا
البيتين؛ فقال له عبد اللّه بن عليّ: أ لا أرى المطمع في الملك في نفسك بعد يا ماصّ كذا من أمّه! ثم أوقع بهم.
ص: 58
أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي عن جدّي عبد اللّه بن مصعب(1) قال:
اعترض هارون الرشيد قينة فغنّت:
ما نقموا من بني أميّة إلّ *** ا أنهم يحلمون إن غضبوا
فلما ابتدأت به تغيّر وجه الرشيد، و علمت أنها قد غلطت و أنها إن مرّت فيه قتلت، فغنّت:
ما نقموا من بني أميّة إلّ *** ا أنهم يجهلون إن غضبوا
و أنهم معدن النّفاق فما *** تفسد إلا عليهم العرب
/فقال الرشيد ليحيى بن خالد: أسمعت يا أبا عليّ؟ فقال: يا أمير المؤمنين تبتاع و تسنى(2) لها الجائزة و يعجّل لها الإذن ليسكن قلبها؛ قال: ذلك جزاؤها، قومي فأنت منّي بحيث تحبّين. قال: فأغمي على الجارية.
فقال يحيى بن خالد:
جزيت أمير المؤمنين بأمنها *** من اللّه جنات تفوز بعدنها
و منها:
تقدّت بي الشّهباء نحو ابن جعفر *** سواء عليها ليلها و نهارها
تزور امرأ قد يعلم اللّه أنه *** تجود له كفّ بطيء غرارها
و و اللّه لو لا أن تزور اين جعفر *** لكان قليلا في دمشق قرارها
عروضه من الطويل. غنّاه معبد ثاني ثقيل بالبنصر. قوله: «تقدّت» أي سارت سيرا ليس بعجل و لا مبطئ، فيقال: تقدّى فلان إذا سار سير من لا يخاف فوت مقصده فلم يعجل. و قوله: «بطيء غرارها» يعني أن منعها المعروف بطيء. و أصل الغرار: أن تمنع الناقة درّتها، ثم يستعار في كل ما أشبه ذلك؛ و منه قول الراجز:
إنّ لكلّ نهلات شرّه *** ثم غرارا كغرار الدّرّه
و قال جميل في مثل ذلك:
لاحت لعينك من بثينة نار *** فدموع عينك درّة و غرار
ص: 59
قال الزّبير: و هذا البيت مما عيب على ابن قيس، لأنه نقض صدره بعجزه، فقال في أوّله: [إنه](1) سار سيرا بغير عجل، ثم قال:
سواء عليها ليلها و نهارها
و هذا(2) غاية الدّأب في السّير، فناقض معناه في بيت واحد. و مما عيب على ابن قيس الرّقيّات قوله - و في هذين البيتين غناء -:
ترضع شبلين وسط غيلهما(3) *** قد ناهزا للفطام أو فطما
/ما مرّ يوم إلاّ و عندهما *** لحم رجال أو يولغان(4) دما
- غنّاه الغريض خفيف ثقيل أوّل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة - و هي قصيدة مدح بها عبد العزيز بن مروان، و فيها يقول:
أعني ابن ليلى عبد العزيز ببا *** بليون(5) تغدو جفانه رذما(6)
/الواهب النّجب(7) و الولائد كال *** غزلان و الخيل تعلك اللّجما
و كان قال في قصيدته هذه: «أو يالغان دما» بالألف، و كذلك روي عنه، ثم غيّرته الرواة.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز قال:
سمعت ابن الأعرابيّ يقول: سئل يونس عن قول ابن قيس الرقيّات:
ص: 60
ما مرّ يوم إلا و عندهما *** لحم رجال أو يولغان دما
فقال يونس: يجوز يولغان و لا يجوز يالغان؛ فقيل له: فقد قال ذلك ابن قيس الرقيّات و هو حجازيّ فصيح؛ فقال: ليس بفصيح و لا ثقة، شغل نفسه بالشرب بتكريت(1).
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد: قرأت على أبي: أ و بلغك أن ابن أبي عتيق أنشد قول ابن قيس:
سواء عليها ليلها و نهارها
فقال: كانت هذه يا ابن أمّ فيما أرى عمياء.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني عمي مصعب عن جديّ [عن](2) هشام بن سليمان المخزوميّ قال:
/قال ابن أبي عتيق لعبيد اللّه بن قيس و قد مرّ به فسلّم عليه فقال: و عليك السلام يا فارس العمياء؛ فقال له:
ما هذا الاسم الحادث يا أبا محمد! بأبي أنت! قال: أنت سمّيت نفسك حيث تقول:
سواء عليها ليلها و نهارها
فما يستوي الليل و النهار إلا على عمياء(3)؛ قال: إنما عنيت التعب، قال: فبيتك هذا يحتاج إلى ترجمان يترجم عنه.
و منها:
ذكرتك أن فاض الفرات بأرضنا *** و فاضت بأعلى الرّقّتين(4) بحارها
و حولي مما خوّل اللّه هجمة *** عطاؤك منها شولها و عشارها
فجئناك نثني بالذي أنت أهله *** عليك كما أثنى على الروض جارها
إذا متّ لم يوصل صديق و لم تقم *** طريق من المعروف أنت منارها
- الشول: النّوق التي شالت بأذنابها و كرهت الفحل، و ذلك حين تلقح، واحدتها شائل - غنّاه حكم الوادي ثقيلا أوّل بالوسطى.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق بن إبراهيم قال قال لي أبي:
ص: 61
قال حكم الوادي: دخلت يوما على يحيى بن خالد. فقال لي: يا أبا يحيى، ما رأيك في خمسمائة دينار قد حضرت؟ قلت: و من لي بها؟ قال: تلقي لحنك في:
ذكرتك أن فاض الفرات بأرضنا
/على دنانير فها هي ذه، و هذا سلام واقف معك و مخرجها إليك، و أنا راكب إلى أمير المؤمنين، و لست أنصرف من مجلس المظالم إلى وقت الظهر، فكدّها فيه، فإذا أحكمته فلك خمسمائة؛ فقالت دنانير: يا سيّدي، أبو يحيى يأخذ خمسمائة دينار و ينصرف و أنا أبقى معك أقاسيك عمري كلّه! فقال لها: إن حفظتيه فلك ألف/دينار، و قام فمضى؛ فقلت لها: يا سيّدتي اشغلي نفسك بذا، فإنك أنت تهبين لي الخمسمائة الدينار بحفظك إيّاه و تفوزين بالألف الدينار، و إلا بطل هذا، فلم أزل معها أكّدها و نفسي و تغنّيني حتى انصرف يحيى، فدعا بماء و طست، ثم قال: يا أبا يحيى، غنّ الصوت كما كنت تغنّيه - فقلت: هلكت! يسمعه منّي، و ليس هو بمن يخفى عليه، ثم يسمعه منها فلا يرضاه - فلم أجد بدّا من الغناء؛ ثم قال: غنّيه أنت الآن؛ فغنّت؛ فقال: و اللّه ما أرى إلا خيرا؛ فقلت: جعلت فداءك! أنا أمضغ هذا منذ أكثر من خمسين سنة كما أمضغ الخبز، و هذه أخذته الساعة و هو يذلّ لها بعدي و تجترئ عليه و يزداد(1) حسنا في صوتها؛ فقال: صدقت، هات يا سلام خمسمائة دينار و لها ألف دينار، ففعل؛ فقالت له: و حياتك يا سيّدي لأشاطرنّ أستاذي الألف الدينار؛ قال: ذلك إليك، ففعلت؛ فانصرفت و قد أخذت بهذا الصوت ألف دينار.
رجع الحديث إلى عبيد اللّه بن قيس الرقيات.
قال الزبير بن بكار حدّثني عبد اللّه بن النّضير عن أبيه:
أن ابن قيس الرقيّات قال في الكوفيّة التي نزل عليها:
بانت(2) لتحزننا كثيرة *** و لقد تكون لنا أميره
/حلّت فلاليج(3) السّوا *** د و حلّ أهلي بالجزيره
قال: و لقد رحل من عندها و ما يتعارفان.
قال: و قال فيها أيضا - و فيه لحن من خفيف الثقيل لابن المكيّ -:
لججت بحبّك أهل العراق *** و لو لا كثيرة لم تلجج
فليت كثيرة لم تلقني *** كثيرة أخت بني الخزرج
ص: 62
أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عبد اللّه بن عاصم القحطانيّ قال حدّثني أبي عن عبد الرحيم بن حرملة قال:
كنت عند سعيد بن المسيّب، فجاء ابن قيس الرقيّات، فهشّ و قال: مرحبا بظفر من أظفار العشيرة، ما أحدثت بعدي؟ قال: قد قلت أبياتا و أستفتيك في بيت منها فاسمعها؛ قال: هات؛ فأنشده:
هل للديار بأهلها علم *** أم هل تبين فينطق الرسم
قالت رقيّة فيم تصرمنا *** أ رقيّ ليس لوجهك الصّرم
تخطو بخلخالين حشوهما *** ساقان مار(1) عليهما اللحم
يا صاح هل أبكاك موقفنا *** أم هل علينا في البكا إثم
فقال سعيد: لا و اللّه ما أبكاني؛ قال ابن قيس الرقيّات:
بل ما بكاؤك منزلا خلقا *** قفرا يلوح كأنه الوشم(2)
/فقال سعيد: اعتذر الرجل. ثم أنشد:
أتلبث في تكريت لا في عشيرة *** شهود و لا السلطان منك قريب
و أنت امرؤ للحزم عندك منزل *** و للدّين و الإسلام منك نصيب
/فقال سعيد: لا مقام على ذلك، فاخرج منها؛ قال: قد فعلت؛ قال: قد أصبت أصاب اللّه بك.
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء.
قامت بخلخالين حشوهما *** ساقان مار عليهما اللحم
يا صاح هل أبكاك موقفنا *** أم هل علينا في البكا إثم
غنّى فيهما ابن سريج رملا بالبنصر.
ابن قيس الرقيات و عمر بن أبي ربيعة:
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه البكريّ و هارون بن أبي بكر عن عبد الجبّار بن سعيد المساحقيّ عن أبيه عن سعيد بن مسلم بن وهب مولى بني عامر بن لؤيّ عن أبيه قال:
دخلت مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مع نوفل بن مساحق و إنه لمعتمد(3) [على يدي] إذ مررنا بسعيد بن المسيّب في
ص: 63
مجلسه فسلّمنا عليه فردّ سلامنا؛ ثم قال لنوفل(1): يا أبا سعيد من أشعر، أ صاحبنا أم صاحبكم؟ يعني: عبيد اللّه بن قيس/الرقيّات أو عمر بن أبي ربيعة؛ فقال نوفل: حين يقولان ما ذا؟ فقال: حين يقول صاحبنا:
خليليّ ما بال المطيّ كأنّما *** نراها على الأدبار بالقوم تنكص
و قد أبعد الحادي سراهنّ و انتحى *** بهنّ فما يألوا عجول مقلّص
[و قد قطّعت أعناقهنّ صبابة *** فأنفسنا ممّا تكلّف شخّص](2)
يزدن بنا قربا فيزداد شوقنا *** إذا زاد طول العهد و البعد ينقص
و يقول صاحبكم ما شئت؛ قال: فقال له نوفل: صاحبكم أشهر بالقول في الغزل أمتع اللّه بك، و صاحبنا أكثر أفانين شعر؛ قال: صدقت؛ فلما انقضى ما بينهما من ذكر الشعر، جعل سعيد يستغفر اللّه و يعقد بيده و يعدّه بالخمس كلّها حتى وفّى مائة.
قال البكريّ في حديثه عن عبد الجبّار: فقال مسلم بن وهب: فلما فارقناه قلت لنوفل: أ تراه أستغفر اللّه من إنشاده الشعر في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قال: كلاّ! هو كثير الإنشاد و الاستنشاد للشعر، و لكنّي أحسبه للفخر بصاحبه.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير قال حدّثنا محمد بن الضحاك عن أبيه قال:
استأذن عبيد اللّه بن قيس الرقيات على حمزة بن عبد اللّه بن الزبير؛ فقالت له الجارية: ليس عليه إذن الآن؛ فقال: أما إنه لو علم بمكاني ما احتجب عنّي! قال: فدخلت الجارية على حمزة فأخبرته، فقال: ينبغي أن يكون هذا ابن قيس الرقيّات، ائذني له، فأذنت له؛ فقال: مرحبا بك يا ابن قيس، هل من حاجة/نزعت بك؟ قال: نعم، زوّجت بنين لي ثلاثة ببنات أخ لي ثلاث، و زوّجت ثلاثة من بني أخ لي بثلاث بنات لي؛ قال: فلبنيك الثلاثة أربعمائة دينار أربعمائة دينار، و لبني أخيك الثلاثة أربعمائة دينار أربعمائة دينار، و لبناتك الثلاث ثلاثمائة دينار ثلاثمائة دينار، و لبنات أخيك الثلاث ثلاثمائة دينار، ثلاثمائة دينار، هل بقيت لك من حاجة يا ابن قيس؟ قال: لا و اللّه إلا مئونة السفر؛ فأمر له بما يصلحه لسفره حتى رقاع أخفاف(3) الإبل.
ص: 64
أمست رقيّة دونها البشر(1) *** فالرّقّة السّوداء(2) فالغمر
غناه يونس ثقيلا أوّل بالوسطى، و فيه لعزّة الميلاء ثاني ثقيل.
و منها:
رقيّ بعيشكم لا تهجرينا *** و منّينا المنى ثم امطلينا
عدينا في غد ما شئت إنّا *** نحبّ و إن مطلت الواعدينا
/أغرّك أنني لا صبر عندي *** على هجر و أنّك تصبرينا
و يوم تبعتكم و تركت أهلي *** حنين العود(3) يتّبع القرينا
عروضه من الوافر. غنّاه ابن محرز ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى.
و منها:
رقيّة تيّمت قلبي *** فوا كبدي من الحبّ
نهاني إخوتي عنها *** و ما بالقلب من عتب
غنّاه مالك ثاني ثقيل أوّل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة. و قد ذكرت بذل أنّ فيه لابن المكيّ لحنا.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير قال حدّثني سعيد بن عمرو بن الزّبير قال حدّثني إبراهيم(4) بن عبد اللّه قال: أنشد كثير ابن أبي عتيق كلمته التي يقول فيها:
و لست براض من خليل بنائل *** قليل و لا أرضى له بقليل
ص: 65
فقال له: هذا كلام مكافئ ليس بعاشق، القرشيان أقنع و أصدق منك: ابن أبي ربيعة حيث يقول:
ليت حظّي كلحظة العين منها *** و كثير منها القليل المهنّا
و قوله أيضا:
فعدي نائلا و إن لم تنيلي *** إنه يقنع المحبّ الرجاء
/و ابن قيس الرقيّات حيث يقول:
رقيّ بعيشكم لا تهجرينا *** و منّينا المنى ثم امطلينا
عدينا في غد ما شئت إنّا *** نحبّ و إن مطلت الواعدينا
فإمّا تنجزي عدتي و إمّا *** نعيش بما نؤمّل منك حينا
قال: فذكرت ذلك لأبي السائب المخزوميّ و معه ابن المولى، فقال: صدق ابن أبي عتيق وفّقه اللّه، أ لا قال المديون كثيّر كما قال هذا حيث يقول:
و أبكي فلا ليلى بكت من صبابة *** لباك و لا ليلى لذي الودّ تبذل
و اخنع بالعتبى إذا كنت مذنبا *** و إن أذنبت كنت الذي أتنصّل
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال سمعت عبيدة بن أشعب بن جبير قال حدّثني أبي قال حدّثني فند مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقّاص قال:
حجّت رقيّة بنت عبد الواحد بن أبي سعد العامريّة، فكنت آتيها و أحدّثها فتستظرف(1) حديثي و تضحك منّي؛ فطافت ليلة/بالبيت ثم أهوت لتستلم الركن الأسود و قبّلته، و قد طفت مع عبيد اللّه بن قيس الرقيّات، فصادف فراغنا فراغها و لم أشعر بها، فأهوى ابن قيس يستلم الركن الأسود و يقبّله، فصادفها قد سبقت إليه، فنفحته(2) بردنها فارتدع؛ و قال لي: من هذه؟ فقلت: أو لا تعرفها! هذه رقيّة بنت عبد الواحد بن أبي سعد؛ فعند ذلك قال:
من عذيري ممن يضن بمبذو *** ل لغيري عليّ عند الطّواف
/يريد أنها تقبّل الحجر الأسود و تضنّ عنه بقبلتها. و قال في ذلك:
حدّثوني هل على رجل *** عاشق في قبلة حرج
و فيه غناء ينسب بعد هذا الخبر. قال: و لما نفحته بردنها فاحت منه رائحة المسك حتى عجب من في المسجد، و كأنما فتحت بين أهل المسجد لطيمة(3) عطّار، فسبّح من حول البيت. قال: و قال فند: فقلت بعد انصرافها لابن قيس: هل وجدت رائحة ردنها لشيء طيبا؟ فعند ذلك قال أبياته التي يقول فيها:
ص: 66
سائلا فندا خليلي *** كيف أردان رقيّة
إنّني علّقت خودا *** ذات دلّ بختريّه(1)
غنّاه فند، و لحنه ثقيل أوّل بالبنصر عن حبش.
حبّ ذاك(2) الدّلّ و الغنج *** و التي في عينها دعج
و التي إن حدّثت كذبت *** و التي في وعدها خلج(3)
/و ترى في البيت صورتها *** مثلما في البيعة(4) السّرج
خبّروني هل على رجل *** عاشق في قبلة حرج
الشعر لابن قيس الرقيّات يقوله في رقيّة بنت عبد الواحد. و الغناء لمالك خفيف ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر. و فيه خفيف ثقيل آخر لابن محرز من رواية عمرو بن بانة، و قيل: بل هو هذا.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكار قال حدّثني سليمان بن عيّاش السّعديّ قال حدّثني سائب راوية كثيّر قال:
كان كثيّر مديونا، فقال لي يوما و نحن بالمدينة: اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدّث عنده؛ قال: فذهبت إليه معه؛ فاستنشده ابن أبي عتيق، فأنشده قوله:
أبائنة سعدى نعم ستبين
حتى بلغ إلى قوله:
و أخلفن ميعادي و خنّ أمانتي *** و ليس لمن خان الأمانة دين
فقال له ابن أبي عتيق: أعلى الأمانة تبعتها! فانكفّ و استغضب نفسه و صاح و قال:
ص: 67
كذبن صفاء الودّ يوم محلّه *** و أنكدنني من وعدهن ديون
فقال له ابن أبي عتيق: ويلك! هذا أملح لهنّ و أدعى للقلوب إليهنّ، سيّدك ابن قيس الرقيّات/كان أعلم منك و أوضع للصواب موضعه فيهنّ؛ أ ما سمعت قوله:
حبّ ذاك الدلّ و الغنج *** و التي في عينها دعج
و التي إن حدّثت كذبت *** و التي في وعدها خلج
/و ترى في البيت صورتها *** مثلما في البيعة السّرج
خبّروني هل على رجل *** عاشق في قبلة حرج
قال: فسكن كثيّر و استحلى ذلك، و قال: لا! إن شاء اللّه؛ فضحك ابن أبي عتيق حتى ذهب به.
أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثنا عبد الرحمن بن غرير الزّهريّ قال: أنشدت أبا السائب المخزوميّ قول ابن قيس الرقيّات:
قد أتانا من آل سعدى رسول *** حبّذا ما يقول لي و أقول
من فتاة كأنها قرن شمس *** ضاق عنها دمالج(1) و حجول
حبّذا ليلتي بمزّة(2) كلب *** غال عنّي بها الكوانين غول
فقال لي: يا ابن الأمير ما تراه كان يقول و تقول؟ فقلت:
حديثا كما يسري النّدى لو سمعته *** شفاك من ادواء كثير و أسقما
فطرب و قال بأبي أنت و أمي! ما زلت أحبّك، و لقد أضعف حبّي إياك حين تفهم عني هذا الفهم.
/غنّى في هذه الأبيات ابن سريج ثقيلا أوّل بالوسطى. و لمالك فيها ثاني ثقيل، كلاهما عن الهشاميّ.
أخبرني محمد بن جعفر الصّيدلانيّ النحويّ صهر المبرّد قال حدّثني طلحة بن عبد اللّه أبو إسحاق الطّلحيّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفّان قال: أنشد أشعب بن جبير أبي أبيات عبيد اللّه بن قيس الرقيّات التي يقول فيها:
ص: 68
قد أتانا من آل سعدى رسول *** حبّذا ما يقول لي و أقول
فقال أبي: ويحك يا أشعب! ما تراه قال و قالت له؟ فقال:
حديثا لو أنّ اللحم يصلي بحرّه *** غريضا(1) أتى أصحابه و هو منضج
ذكر شوقا و وصف توقا، و وعد و وفى، و التقيا(2) بمزّة كلب فشفى و اشتفى، فذلك قوله:
حبّذا ليلتي بمزّة كلب *** غال عنّي بها الكوانين غول
فقال له: إنك لعلاّمة بهذه الأحوال؛ قال أجل! بأبي أنت! فاسأل عالما عن علمه.
و مما في المائة الصوت المختارة من شعر عبيد اللّه بن قيس الرقيّات.
يا قلب ويحك لا تذهب بك الحرق *** إنّ الألى كنت تهواهم قد انطلقوا
و ذكر أنه لوضّاح(3)، و قد أخرج في موضع آخر.
ص: 69
هو مالك بن أبي السّمح. و اسم أبي السمح جابر بن ثعلبة الطائي أحد بني ثعل(1) ثم أحد بني عمرو بن درماء(2). و يكنى أبا الوليد. و أمه قرشيّة من بني مخزوم، و قيل: بل أمّ أبيه منهم، و هو الصحيح.
و قال ابن الكلبي: هو مالك بن أبي السمح بن سليمان بن أوس بن سماك(3) بن سعد بن أوس بن عمرو بن درماء أحد بني ثعل. و أمّ أبيه بنت مدرك بن عوف بن عبيد بن عمرو بن مخزوم. و كان أبوه منقطعا إلى عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب و يتيما في حجره أوصى به أبوه إليه، فكان ابن جعفر يكفله و يمونه، و أدخله و سائر إخوته في دعوة بني هاشم، فهم معهم إلى اليوم. و كان أحول طويلا أحنى(4). قال الوليد بن يزيد فيه يعارض الحسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العبّاس بن عبد المطلب في قوله فيه:
أبيض كالبدر أو كما يلمع ال *** سارق في حالك من الظّلم
فقال له الوليد: بل أنت.
أحول كالقرد أو كما يرقب ال *** سارق في حالك من الظّلم
و أخذ الغناء عن جميلة و معبد و عمر(5) حتى أدرك الدولة العباسيّة، و كان منقطعا إلى بني سليمان بن عليّ، و مات في خلافة أبي جعفر المنصور.
أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حمّاد: قرأت على أبي:
أنّ السبب في انقطاع أبي السّمح إلى ابن جعفر أنّ السّنة أقحمت طيّئا، فكان ثعلبة جدّ مالك أحدهم، فولد أبو السّمح بالمدينة؛ و كان صديقا للحسين بن عبد اللّه الهاشميّ، و كان سبب ذلك مودّة كانت بينه و بين آل شعيب(6)
ص: 70
السّهميين؛ فلما تزوّج حسين عابدة(1) بنت شعيب السّهميّة خاصمهم بسببها؛ و كان جدّ مالك معه و عونا له مع من عاونه، فنشبت بذلك حال بينه و بين بني هاشم، حتى ولد مالك في دورهم، فصارت دعوته فيهم.
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد: قرأت على أبي:
و عمّر مالك حتى أدرك دولة بني العباس، و قدم على سليمان بن عليّ بالبصرة، فمتّ إليه بخئولته في قريش، و دعوته لبني هاشم، و انقطاعه إلى ابن جعفر، فعجّل له سليمان صلته و كساه و كتب له بأوساق(2) من تمر.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني ميمون بن هارون قال حدّثني القاسم بن يوسف قال أخبرني الوردانيّ قال:
كان مالك بن أبي السّمح المغنّي من طيء، فأصابتهم حطمة(3) في بلادهم بالجبلين، فقدمت به أمه و بإخوة له و أخوات أيتام لا شيء لهم؛ فكان يسأل الناس على باب/حمزة بن عبد اللّه بن الزّبير، و كان معبد منقطعا إلى حمزة يكون عنده في كل يوم يغنّيه؛ فسمع مالك غناءه فأعجبه و اشتهاه، فكان لا يفارق باب حمزة يسمع غناء معبد إلى الليل، فلا يطوف بالمدينة و لا يطلب من أحد شيئا و لا يريم موضعه، فينصرف إلى أمه و لم يكتسب شيئا، فتضربه، و هو مع ذلك يترنّم بألحان معبد و يؤدّيها دورا دورا في مواضع صيحاته و إسجاحاته و نبراته(4) نغما بغير لفظ و لا رواية شيء من الشعر؛ و جعل حمزة كلّما غدا و راح رآه ملازما لبابه؛ فقال لغلامه يوما: أدخل هذا الغلام الأعرابيّ إليّ؛ فأدخله؛ فقال له: من أنت؟ فقال: /أنا غلام من طيء أصابتنا حطمة بالجبلين فحطّتنا إليكم و معي أمّ لي و إخوة، و إني لزمت بابك فسمعت من دارك صوتا أعجبني، فلزمت بابك من أجله؛ قال: فهل تعرف منه شيئا؟ قال: أعرف لحنه كلّه و لا أعرف الشعر؛ فقال: إن كنت صادقا إنك(5) لفهم. و دعا بمعبد فأمره أن يغنّي صوتا فغنّاه، ثم قال لمالك: هل تستطيع أن تقوله؟ قال نعم؛ قال: هاته؛ فاندفع فغنّاه فأدّى نغمه بغير شعر، يؤدّي مدّاته و ليّاته و عطفاته و نبراته و تعليقاته لا يخرم حرفا؛ فقال لمعبد: خذ هذا الغلام إليك و خرّجه، فليكوننّ له شأن؛ قال معبد: و لم أفعل ذلك؟ قال: لتكون محاسنه منسوبة إليك، و إلاّ عدل إلى غيرك فكانت محاسنه منسوبة إليه؛ فقال:
غير الذي أنت له مستحقّ من الباطل أ كنت ترضى بذلك؟ قال لا؛ قال: و كذلك لا يسرّك أن تحمد بما لم تفعل؛ قال نعم؛ قال: فو اللّه ما شبعت على/بابك شبعة قطّ و لا انقلبت منه إلى أهلي بخير؛ فأمر له و لأمّه و لإخوته بمنزل، و أجرى لهم رزقا و كسوة، و أمر لهم بخادم يخدمهم و عبد يسقيهم الماء، و أجلس مالكا معه في مجالسه، و أمر معبدا
ص: 71
أن يطارحه، فلم ينشب(1) أن مهر و حذق؛ و كان ذلك بعقب مقتل هدبة بن خشرم؛ فخرج مالك يوما فسمع امرأة تنوح على زيادة الذي قتله هدبة بن خشرم بشعر أخي(2) زيادة:
أبعد الذي بالنّعف(3) نعف كويكب *** رهينة رمس ذي تراب و جندل
أذكّر بالبقيا على من أصابني *** و بقياي أنّي جاهد غير مؤتلي
فلا يدعني قومي لزيد بن مالك *** لئن لم أعجّل ضربة أو أعجّل
و إلاّ أنل ثأري من اليوم أو غد *** بني عمّنا فالدهر ذو متطوّل
أنختم علينا كلكل الحرب مرّة *** فنحن منيخوها عليكم بكلكل
فغنّى في هذا الشعر لحنين، أحدهما نحا فيه نحو المرأة في نوحها و رقّقه و أصلحه و زاد فيه، و الآخر نحا فيه نحو معبد في غنائه؛ ثم دخل على حمزة فقال له: أيها الأمير، إني قد صنعت غناء في شعر سمعت بعض أهل المدينة ينشده و قد أعجبني، فإن أذن الأمير غنّيته فيه؛ قال: هاته، فغنّاه اللحن الذي نحا فيه نحو معبد؛ فطرب حمزة و قال له: أحسنت يا غلام، هذا الغناء غناء معبد و طريقته؛ فقال: لا تعجل أيها الأمير و اسمع منّي شيئا ليس من غناء معبد و لا طريقته؛ قال: هات، فغنّاه اللحن الذي تشبّه فيه بنوح المرأة، فطرب حمزة حتى ألقى عليه حلّة كانت عليه/قيمتها مائتا دينار؛ و دخل معبد فرأى حلّة حمزة عليه فأنكرها؛ و علم حمزة بذلك فأخبر معبدا بالسبب، و أمر مالكا فغنّاه الصوتين؛ فغضب معبد لما سمع الصوت الأوّل و قال: قد كرهت أن آخذ هذا الغلام فيتعلّم غنائي فيدّعيه لنفسه؛ فقال له حمزة: لا تعجل و اسمع غناء صنعه ليس من شأنك و لا غنائك، و أمره أن يغنّي الصوت الآخر فغنّاه؛ فأطرق معبد؛ فقال له حمزة: و اللّه لو انفرد بهذا لضاهاك ثم يتزايد على الأيام، و كلما كبر و زاد شخت أنت و نقصت، فلأن يكون منسوبا إليك أجمل؛ فقال له معبد و هو/منكسر: صدق الأمير. فأمر حمزة لمعبد بخلعة من ثيابه و جائزة حتى سكن و طابت نفسه؛ فقام مالك على رجله فقبّل رأس معبد، و قال له: يا أبا عبّاد أساءك ما سمعت منّي؟ و اللّه لا أغنّي لنفسي شيئا أبدا ما دمت حيّا، و إن غلبتني نفسي فغنّيت في شعر استحسنته لا نسبته إلا إليك، فطب نفسا و ارض عنّي؛ فقال له معبد: أو تفعل هذا و تفي به؟ قال: إي و اللّه و أزيد؛ فكان مالك بعد ذلك إذا غنّى صوتا و سئل عنه قال: هذا لمعبد، ما غنّيت لنفسي شيئا قطّ، و إنما آخذ غناء معبد فأنقله إلى الأشعار و أحسّنه و أزيد فيه و أنقص منه.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثنا الحسن بن عتبة اللهبيّ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد اللّه أحد بني الحارث بن عبد المطلب قال:
خرجت من مكة أريد العراق، فحملت معي مالك بن أبي السّمح من المدينة، و ذلك في أيام أبي العبّاس
ص: 72
السّفاح، فكان إذا كانت عشيّة الخميس قال لنا: يا معشر الرّفقة إن الليلة ليلة الجمعة و أنا أعلم أنكم تسألوني الغناء، و عليّ و عليّ إن غنّيت ليلة/الجمعة، فإن أردتم شيئا فالساعة اقترحوا ما أحببتم؛ فنسأله فيغنّينا، حتى إذا كادت الشمس أن تغيب طرب ثم صاح: الحريق في دار شلمغان، ثم يمرّ في الغناء فما يكون في ليلة أكثر غناء منه في تلك الليلة بعد الأيمان المغلّظة.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
كان سليمان بن عليّ يسمع من مالك بن أبي السّمح بالسّراة(1)، لأنه كان إذا قدم الشام على الوليد بن يزيد، عدل إليهم في بدأته و عودته لانقطاعه إليهم، فيبرّونه و يصلونه؛ فلما أفصى إليهم الأمر رأى سليمان مالكا على باب ابنه جعفر؛ فقال له: يا بنيّ، لقد رأيت ببابك أشبه الناس بمالك؛ فقال له جعفر: و من مالك؟ - يوهمه أنه لا يعرفه - فتغافل عنه سليمان لئلا ينبهه عليه فيطلبه، و توهّم أنه لم يعرفه و لا سمع غناءه.
قال حمّاد: و حدّثني أبي عن جدّي إبراهيم أنه أخبره أنه رأى مالكا بالبصرة على باب جعفر بن سليمان، أو أخيه محمد، و لم يعرفه، فسأل عنه بعد ذلك فعرفه و قد كان خرج عن البصرة؛ قال: فما لي حسرة مثل حسرتي بأني ما سمعت غناءه.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو غسّان محمد بن يحيى قال:
كان مالك بن أبي السّمح يتيما في حجر عبد اللّه بن جعفر، و كان أبوه أبو السمح صار إلى عبد اللّه بن جعفر و انقطع إليه، فلما احتضر أوصى بمالك إليه، فكفله و عاله و ربّاه، و أدخله في دعوة بني هاشم، فهو فيهم(2) إلى اليوم. ثم خطب حسين/بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن العبّاس العابدة(3) بنت شعيب [بن محمد](4) بن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فمنعه بعض أهلها منها و خطبها لنفسه، فعاون مالك حسينا، و كانت العابدة تستنصحه، و كانت بين أبيها شعيب و بينه مودّة، فأجابت حسينا و تزوّجته، فانقطع مالك إلى حسين؛ فلما أفضى الأمر إلى بني هاشم قدم البصرة على سليمان بن عليّ، فلما دخل إليه متّ بصحبته عبد اللّه بن جعفر و دعوته في بني هاشم و انقطاعه إلى حسين؛ فقال له سليمان: أنا عارف بكلّ ما قلته يا مالك، و لكنك كما تعلم، و أخاف أن تفسد عليّ أولادي، و أنا واصلك و معطيك ما تريد و جاعل لك/شيئا أبعث به إليك ما دمت حيّا في كل عام، على أن تخرج عن البصرة و ترجع إلى بلدك؛ قال: أفعل جعلني اللّه فداك؛ فأمر له بجائزة و كسوة و حمله و زوّده إلى المدينة.
أخبرني عمّي الحسن بن محمد قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني محمد بن هارون بن جناح قال أخبرني يعقوب بن إبراهيم الكوفيّ عمن أخبره قال:
ص: 73
دخلت المدينة حاجّا فدخلت الحمّام، فبينا أنا فيه إذ دخل صاحب الحمام فغسله و نظّفه، ثم دخل شيخ أعمى له هيئة، مؤتزر بمنديل أبيض؛ فلما جلس خرجت إلى صاحب الحمّام فقلت له: من هذا الشيخ؟ قال: هذا مالك بن أبي السمح المغنّي، فدخلت عليه فقلت له: يا عمّاه، من أحسن الناس غناء؟ فقال: يا ابن أخي، «على الخبير سقطت»(1)، أحسن الناس غناء أحسنهم صوتا.
/أخبرني عمّي قال حدّثني أبو أيوب المدينيّ قال حدّثني أبو يحيى العباديّ عن إسحاق قال:
كان فتية من قريش جلوسا في مجلس، فمرّ بهم مالك بن أبي السّمح، فقال بعضهم لبعض: لو سألنا مالكا فغنّانا صوتا! فقام إليه بعضهم فسأله النزول عندهم، فعدل إليهم؛ فسألوه أن يغنّيهم؛ فقال: نعم و اللّه بالحبّ و الكرامة، ثم اندفع يغني، و أوقع بالمقرعة على قربوس(2) سرجه، فرفع صوته فلم يقدر، ثم خفضه فلم يقدر، فجعل يبكي و يقول: وا شباباه.
أخبرني عمّي قال حدّثني هارون بن محمد عن الزّبير بن بكّار عن عمه عن جدّه أنه كان في هؤلاء الفتية الذين كانوا سألوه الغناء؛ و ذكر باقي الخبر مثل ما ذكره إسحاق.
أخبرني عمّي قال حدّثني أبو أيوب المدينيّ قال حدّثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه قال حدّثني صالح بن أبي الصّقر قال:
قدم مالك بن أبي السّمح المغنّي البصرة، فلقيه عجاجة المخنّث، و كان أشهر من بها من المخنّثين، و قال له:
فديتك يا أبا الوليد، إني كنت أحبّ أن ألقاك و أن أعرض عليك صوتا من غنائك أخذته عن بعض المخنّثين، فإن رأيت أن تنزل عندي فعلت؛ فنزل مالك عنده فبسط له المخنّث جرد(3) قطيفة كانت عنده فجلس، ثم أخذ عجاجة الدفّ فغنّى:
/
حبّ إنّ الخمار كان عليها *** شاهدا يوم زارت الجوشنيّة(4)
قد سبته بدلّها حين جاءت *** تتهادى في مشية بختريّه
فجعل مالك يقول له: ويلك! من قال هذا! لعنه اللّه! ويحك من غنّى هذا! قبّحه اللّه! ويحك من روى عنّي هذا! أخزاه اللّه! ثم قام فركب و هو يضحك عجبا من عجاجة.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن ابن جناح قال حدّثني مصعب بن عثمان قال حدّثني عبد اللّه بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزّبير قال حدّثني مالك بن أبي السّمح قال:
ص: 74
قدمنا على يزيد بن عبد الملك أوّل قدومنا عليه مع معبد و ابن عائشة، فغنّياه ليلة فأطربناه، فأمر لكل واحد منّا بألف دينار و كتب لنا بها إلى كاتبه، فغدونا عليه بالكتاب؛ فلما رآه أنكره و قال: أ يؤمر لمثلكم بألف دينار ألف دينار! لا و اللّه و لا حبّا و لا كرامة!. فرجعنا إلى يزيد فأخبرناه بمقالته و كررنا عليه؛ فقال: كأنه استنكر ذلك؟ فقلنا:
نعم؛ فقال: مثله و اللّه يستنكره و دعاه؛ فلما حضر و رآنا عنده استأمره فيها، /فأطرق مستحييا؛ و قال له: إني قد قلتها لهم و لا يجمل أن أرجع عما قلت، و لكن قطّعها عليهم. قال مالك: فمات و اللّه يزيد، و قد بقي لكل واحد منا أربعمائة دينار.
أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حمّاد قال قرأت على أبي، و حدّثنا الحسن بن محمد قال:
/لمّا انهزم عبد اللّه بن عليّ من أبي مسلم قدم البصرة، و كان عند سليمان بن عليّ، و كان مالك بن أبي السمح يومئذ بها، فاستزاره جعفر و محمد فزارهما، و غنّاهما مالك في جوف الليل في دار سليمان بن عليّ، و بلغ الخبر سليمان، فدخل عليهم فعذل جعفرا و محمدا، و قال: نحن نتوقّع الطامّة الكبرى و أنتم تسمعون الغناء! فقالا: أ لا تجلس و تسمع! ففعل، فغنّاهم مالك:
ما كنت أوّل من خاس(1) الزمان به *** قد كنت ذا نجدة أخشى و ذا بأس
أبلغ أبا معبد عنّي و إخوته *** شوقي إليهم و أحزاني و وسواسي
فخرج و تركهم و لم ينكر عليهم شيئا.
و في مالك بن أبي السمح يقول الحسين [بن عبد اللّه](2) بن عبيد اللّه بن العبّاس:
لا عيش إلا بمالك بن أبي ال *** سّمح فلا تلحني و لا تلم
أبيض كالبدر أو كما يلمع ال *** بارق في حالك من الظّلم
من ليس يعصيك إن رشدت و لا *** يهتك حقّ الإسلام و الحرم
يصيب من لذّة الكريم و لا *** يجهل آي الترخيص في اللّمم(3)
يا ربّ ليل لنا كحاشية ال *** برد و يوم كذاك لم يدم
ص: 75
نعمت فيه و مالك بن أبي *** السمح الكريم الأخلاق و الشّيم
/ - غنّاه مالك في الأوّل و الثاني و الثالث رملا بالبنصر في مجراها - فيقال: إن مالكا قال له: لا و اللّه و لا إن غويت أيضا أعصيك؛ ذكر ذلك الزبير عن عمّه مصعب. و يقال: إنه قال هذه المقالة للوليد بن يزيد، فسرّ بذلك و أجزل صلته.
أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حمّاد قال حدّثني أبي قال قال ابن الكلبيّ:
قال الوليد بن يزيد لمعبد قد آذتني ولولتك(1) هذه، و قال لابن عائشة: قد آذاني استهلالك هذا، فانظرا لي رجلا يكون مذهبه متوسّطا بين مذهبيكما؛ فقالا له: مالك بن أبي السّمح؛ فكتب في إشخاصه إليه و سائر مغنّي الحجاز المذكورين؛ فلمّا قدم مالك على الوليد بن يزيد فيمن معه من المغنّين نزل على الغمر بن يزيد، فأدخله على الوليد فغنّاه فلم يعجبه؛ فلما انصرف الغمر قال له: إن أمير المؤمنين لم يعجبه شيء من غنائك؛ فقال له: جعلني اللّه فداك! اطلب لي الإذن عليه مرّة واحدة، فإن أعجبه شيء مما أغنّيه و إلا انصرفت إلى بلادي. فلما جلس الوليد في مجلس اللهو ذكره الغمر و طلب له الإذن، و قال له: إنه هابك فحصر؛ قال: فأذن له، فبعث إليه؛ فأمر مالك الغلام فسقاه ثلاث صراحيّات(2) صرفا؛ فخرج حتى دخل عليه يخطر في مشيته. و قال غير ابن الكلبيّ: إنه قال /لفرّاش للوليد: اسقني عسّا(3) من شراب و لك دينار، فسقاه إيّاه و أعطاه الدينار؛ ثم قال له: زدني آخر فأزيدك /آخر، ففعل حتى شرب ثلاثة، ثم دخل على الوليد يخطر في مشيته؛ فلما بلغ باب المجلس وقف و لم يسلم، و أخذ بحلقة الباب فقعقعها، ثم رفع صوته فغنّى:
لا عيش إلا بمالك بن أبي *** السمح فلا تلحني و لا تلم
فطرب الوليد، و رفع يديه، حتى بدا إبطاه إليه مادّا لهما، و قام فاعتنقه قائما، و قال له: اذن يا ابن أخي، فدنا حتى اعتنقه؛ ثم أخذ في صوته ذلك، فلم يزالوا فيه أياما، و أجزل صلته حين أراد الانصراف. قال: و لما أتى مالك على قوله:
أبيض كالسيف أو كما يلمع ال *** بارق في حالك من الظّلم
قال له الوليد:
أحول كالقرد أو كما يرقب *** السارق في حالك من الظّلم
و كان مالك طويلا(4) أجنى فيه حول. و قد قال قوم: إنّ مالكا لم يصنع لحنا قطّ غير هذا - أعني: «لا عيش إلاّ
ص: 76
بمالك بن أبي السّمح» - و إنه كان يأخذ غناء الناس فيزيد فيه و ينقص منه و ينسبه الناس إليه، و كان إسحاق ينكر ذلك غاية الإنكار، و يقول: غناء مالك كلّه مذهب واحد لا تباين فيه، و لو كان كما يقول الناس لاختلاف غناؤه، و إنما كان إذا غنّى ألحان معبد الطّوال خفّفها و حذف بعض نغمها، و قال: أطاله معبد و مطّطه، و حذفته أنا و حسّنته، فأمّا ألاّ يكون صنع شيئا فلا.
/أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حمّاد: قرأت(1) على أبي و ذكر بكّار بن النبال(2):
أن الوليد قال لمالك: هل تصنع الغناء؟ قال: لا، و لكنّي أزيد فيه و أنقص منه؛ فقال له: فأنت المحلّي إذا.
قال إسحاق و ذكر الحسن بن عتبة اللّهبي عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللّه الهاشميّ الحارثيّ(3) الذي يقال له سنابل - و فيه يقول الشاعر:
فإن هي ضنّت عنك أو حيل دونها *** فدعها و قل في ابن الكرام سنابل
- قال: خرجت من مكة أريد أبا العبّاس أمير المؤمنين، فمررت على المدينة فحملت معي مالك بن أبي السّمح، فسألته يوما عن بعض ما ينسب إليه من الغناء؛ فقال: يا أبا الفضل، عليه و عليه إن كان غنّى صوتا قطّ، و لكني آخذه و أحسّنه و أهيئه و أطيّبه، فأصيب و يخطئون فينسب إليّ. قال إسحاق: و ليس الأمر هكذا، لمالك صنعة كثيرة حسنة، و صنعته تجري في أسلوب واحد، و يشبه بعضها بعضا، و لو كان كما قيل لاختلف غناؤه. و قد قيل: إنّ مالكا كان ينتفي من الصنعة لأن أكثر الأشراف هناك كانوا ينكرون عليه، فكان يتبدّل به عند من يراه، و ينكره عند من يذمّه، لمحلّه في بني هاشم.
/و أخبرني بخبر سنابل هذا محمد بن مزيد قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني حمزة بن عتبة اللّهبي عن سنابل، فذكر الخبر و خالف ما رواه إسحاق أنّ الحسن بن عتبة حدّثه و حكاه عن حمزة بن عتبة أخيه.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن هشام بن الكلبيّ عن أبيه عن محمد/بن يزيد اللّيثيّ قال:
سئل مالك بن أبي السّمح عن صنعته في:
لاح بالدّير من أمامة نار
فقال: أخذته و اللّه من خربنده(4) بالشأم يسوق أحمرة، فكان يترنّم بهذا اللّحن بلا كلام، فأخذته فكسوته هذا الشعر.
ص: 77
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:
نزل مالك بن أبي السّمح عند رجل بمكة مخزوميّ، و كان له غلام حائك، فأتاه آت فقال: أ ما سمعت غناء غلامك الحائك؟ قال: لا! أ و يغنّي؟ قال: نعم بشعر لأبي دهبل الجمحيّ؛ فبعث إليه فأتاه، فقال: تغنّه؛ فقال: ما أحسن ذاك إلا على حفّي(1)؛ فخرج مولاه و معه مالك إلى بيته، فلما جلس على حفّه تغنّى:
تطاول هذا الليل ما يتبلّج
/فأخذه مالك عنه و غنّاه فنسبه الناس إليه؛ و كان يقول: و اللّه ما غنيته قطّ و لا غنّاه إلاّ الحائك.
لاح بالدّير من أمامة نار *** لمحبّ له بيثرب دار
قد تراها و لو تشاء من القر *** ب لأغناك عن نداها(2) السّرار
الشعر للأحوص، و يقال: إنه لعبد الرحمن بن حسّان بن ثابت. و الغناء لمالك بن أبي السّمح ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. و فيه لحن لمعبد ذكره إسحاق.
تطاول هذا الليل ما يتبلّج *** و أعيت غواشي سكرتي ما تفرّج
أبيت بهمّ ما أنام كأنما *** خلال ضلوعي جمرة تتوهّج
فطورا أمني النفس من تكتم(3) المنى *** و طورا إذا ما لجّ بي الحبّ أنشج(4)
عروضه من الطويل، الشعر لأبي دهبل، و الغناء لمالك بن أبي السّمح ثقيل أوّل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن جدّه قال:
قال ابن عائشة: حضرت الوليد بن يزيد يوم قتل، و كان معنا مالك بن أبي السّمح و كان من أحمق الناس، فلما قتل الوليد قال: اهرب بنا؛ فقلت: و ما يريدون منا؟ قال: و ما يؤمّنك أن يأخذوا رأسينا فيجعلوا رأسه بينهما
ص: 78
ليحسّنوا أمرهم بذلك!؛ قال ابن عائشة: فما رأيت منه عقلا قطّ قبل ذلك اليوم.
لما كبر كان يعلم ابنه الغناء:
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال الزبير بن بكار حدّثتني ظبية قالت: رأيت مالك بن أبي السّمح و هو على منامته يلقى على ابنه و قد كبر و انقطع:
اعتاد هذا القلب بلباله(1) *** إذ قرّبت للبين أجماله
خود(2) إذا قامت إلى خدرها *** قامت قطوف(3) المشي مكساله
تفترّ(4) عن ذي أشر بارد *** عذب إذا ما ذيق سلساله
الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و لمالك بن أبي السّمح فيه ثلاثة ألحان: خفيف ثقيل(5) مطلق/في مجرى الوسطى، و ثقيل أوّل بالوسطى مجراها جميعا عن إسحاق، و خفيف(6) رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة، و قيل: إنه لابن سريج، و فيه رمل ينسب إلى ابن جامع و ابن سريج.
أخبرني وكيع قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال قال أبو عبيدة: سمعت منشدا ينشد لنفسه يرثي مالكا بهذه القصيدة:
يا مال إني قضت نفسي عليك و ما *** بيني و بينك من قربى و لا رحم
إلا الذي لك في قلبي خصصت به *** من المودّة في ستر و في كرم
قال إسحاق قال أبو عبيدة: هو مالك بن أبي السمح. [انقضت(7) أخباره].
من رواية هارون بن الحسن بن سهل و ابن المكّيّ و أبي العبيس و من روى جحظة عنه:
فإلاّ تجلّلها(8) يعالوك فوقها *** و كيف توقّى ظهر ما أنت راكبه
ص: 79
هم قتلوه كي يكونوا مكانه *** كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
بني هاشم ردّوا سلاح ابن أختكم *** و لا تنهبوه لا تحلّ مناهبه
عروضه من الطويل. البيت الأوّل من الشعر لرجل من بني نهد جاهليّ، و باقي الأبيات للوليد بن عقبة بن أبي معيط. و الغناء لابن محرز، و لحنه من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن يونس و إسحاق، و هو اللحن المختار. و فيه للغريض ثقيل أوّل بالسّبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لمعبد ثقيل أوّل آخر مطلق في مجرى الوسطى عن عمرو و عن الهشاميّ. و فيه لسلسل في الثاني و الثالث ثقيل أوّل بالبنصر عن حبش، و فيه لعطرّد خفيف ثقيل.
ص: 80
اخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عمي عن ابن الكلبي عن أبيه عن عبد الرحمن المدائني، و كان عالما بأخبار قومه، قال و حدّثنيه أبو مسكين(1) أيضا، قالا:
كان الحارث بن مارية الغسّاني الجفنيّ مكرما لزهير بن جناب الكلبيّ ينادمه و يحادثه، فقدم على الملك رجلان من بني نهد بن زيد يقال لهما حزن و سهل ابنا رزاح، و كان عندهما حديث من أحاديث العرب، فاجتباهما الملك و نزلا بالمكان الأثير منه، فحسدهما زهير بن جناب، فقال: أيها الملك، هما و اللّه عين لذي القرنين عليك (يعني المنذر الأكبر جدّ النعمان بن المنذر)، و هما يكتبان إليه بعورتك و خلل ما يريان منك؛ قال: كلاّ! فلم يزل به زهير حتى أوغر صدره، و كان إذا ركب يبعث إليهما ببعيرين يركبان معه، فبعث إليهما بناقة واحدة؛ فعرفا الشرّ فلم يركب أحدهما و توقّف؛ فقال له الآخر:
فإلاّ تجلّلها يعالوك فوقها *** و كيف توقّى ظهر ما أنت راكبه
فركبها مع أخيه، و مضى بهما فقتلا، ثم بحث عن أمرهما بعد ذلك فوجده باطلا فشتم/زهيرا و طرده، فانصرف إلى بلاد قومه؛ و قدم رزاح أبو الغلامين إلى الملك، و كان شيخا عالما مجرّبا، فأكرمه الملك و أعطاه دية ابنيه؛ و بلغ زهيرا مكانه، فدعا ابنا له يقال له عامر، و كان من فتيان العرب لسانا و بيانا، فقال له: إنّ رزاحا قد قدم على الملك، فالحق به و احتل في أن تكفينيه، و قال له: اذممني/عند الملك و نل منّي، و أثّر به آثارا؛ فخرج الغلام حتى قدم الشام، فتلطّف للدخول على الملك حتى وصل إليه؛ فأعجبه ما رأى منه؛ فقال له: من أنت؟ قال: أنا عامر بن زهير بن جناب؛ قال: فلا حيّاك اللّه و لا حيّا أباك الغادر الكذوب السّاعي! فقال الغلام: نعم، فلا حيّاه اللّه! انظر أيها الملك ما صنع بظهري! و أراه آثار الضرب؛ فقبل ذلك منه و أدخله في ندمائه؛ فبينا هو يحدّثه يوما إذ قال له: أيها الملك، إنّ أبي و إن كان مسيئا فلست أدع أن أقول الحقّ، قد و اللّه نصحك أبي، ثم أنشأ يقول:
فيا لك نصحة لمّا نذقها *** أراها نصحة ذهبت ضلالا
ثم تركه أيّاما، و قال له بعد ذلك: أيها الملك، ما تقول في حيّة قد قطع ذنبها و بقي رأسها؟ قال: ذاك أبوك و صنيعه بالرجلين ما صنع؛ قال: أبيت اللّعن! و اللّه ما قدم رزاح إلا ليثأر بهما؛ فقال له: و ما آية ذلك؟ قال: اسقه الخمر ثم ابعث إليه عينا يأتك بخبره؛ فلما انتشى صرفه إلى قبّته و معه بنت له، و بعث عليه عيونا؛ فلما دخل قبّته قامت إليه ابنته تسانده فقال:
ص: 81
دعيني من سنادك إنّ حزنا *** و سهلا ليس بعدهما رقود
أ لا تسلين عن شبليّ ما ذا *** أصابهما إذا اهترش(1) الأسود
فإنّي لو ثأرت المرء حزنا *** و سهلا قد بدا لك ما أريد
فرجع القوم إلى الملك فأخبروه بما سمعوا، فأمر بقتل النّهديّ رزاح، و ردّ زهيرا إلى موضعه.
و قد أنشدني محمد بن العباس اليزيديّ قال: أنشدنا محمد بن حبيب أبيات الوليد هذه على الولاء(2)، و هي:
ألا من لليل لا تغور كواكبه *** إذا لاح نجم لاح نجم يراقبه(3)
بني هاشم ردّوا سلاح ابن أختكم(4) *** و لا تنهبوه لا تحلّ مناهبه
بني هاشم لا تعجلوا(5) بإقادة *** سواء علينا قاتلوه و سالبه
فقد يجبر العظم الكسير و ينبري *** لذي الحقّ يوما حقّه فيطالبه
و إنّا و إيّاكم و ما كان منكم *** كصدع الصّفا لا يرأب الصّدع شاعبه
بني هاشم كيف التعاقد(6) بيننا *** و عند عليّ سيفه و حرائبه(7)
لعمرك لا أنسى ابن أروى و قتله *** و هل ينسينّ الماء ما عاش شاربه
هم قتلوه كي يكونوا مكانه *** كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
و إنّي لمجتاب إليكم بجحفل *** يصمّ السّميع جرسه(8) و جلائبه
و قد أجاب الفضل بن عبّاس بن عتبة بن أبي لهب الوليد عن هذه الأبيات، و قيل: بل أبوه العبّاس بن عتبة المجيب له أيضا. و الجواب:
ص: 82
فلا تسألونا بالسلاح فإنه *** أضيع و ألقاه لدى الرّوع صاحبه
و شبّهته كسرى و قد(1) كان مثله *** شبيها بكسرى هديه و عصائبه
ذكر أحمد بن المكيّ أنّ لابن مسجح فيه لحنا و أن لحنه من الثقيل الأوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى، و قال غيره: إنه من منحول أبيه يحيى إلى ابن مسجح.
ص: 83
الوليد بن عقبة بن أبي معيط، و قد مضى نسبه مع أخبار ابنه(1) أبي قطيفة. و يكنى الوليد أبا وهب. و هو أخو عثمان بن عفّان لأمّه، أمهما أروى بنت كريز، و أمها البيضاء بنت عبد المطلب. و كان من فتيان قريش و شعرائهم و شجعانهم و أجوادهم(2)، و كان فاسقا، و ولي لعثمان رضي اللّه عنه الكوفة بعد سعد بن أبي وقّاص، فشرب الخمر و شهد عليه بذلك، فحدّه و عزله. و هو الذي يقول يرثي عثمان رضي اللّه عنه و يحرّض معاوية:
و اللّه ما هند بأمّك إن مضى *** النهار و لم يثأر بعثمان ثائر
أ يقتل عبد القوم سيّد أهله *** و لم تقتلوه ليت أمّك عاقر
و إنا متى نقتلهم لا يقد بهم *** مقيد فقد(3) دارت عليك الدوائر
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن أبيه قال:
لم يكن يجلس مع عثمان رضي اللّه عنه على سريره إلا العباس بن عبد المطلب و أبو سفيان بن حرب و الحكم بن أبي العاصي و الوليد بن عقبة، فأقبل الوليد يوما فجلس، ثم أقبل الحكم، فلما رآه عثمان زحل(4) له عن مجلسه، فلما قام الحكم قال له الوليد: و اللّه يا أمير المؤمنين، لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك /آثرت عمك على ابن أمّك؛ فقال له عثمان رضي اللّه تعالى عنه: إنه شيخ قريش، فما البيتان اللذان قلتهما؟ قال قلت:
رأيت لعمّ المرء زلفى قرابة *** دوين أخيه حادثا لم يكن قدما
فأمّلت عمرا أن يشبّ(5) و خالدا *** لكي يدعواني يوم مزحمة عمّا
يعني عمرا و خالدا ابني عثمان. قال: فرقّ له عثمان، و قال له: قد ولّيتك العراق (يعني الكوفة).
ص: 84
أخبرني أحمد قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني بعض أصحابنا عن ابن دأب قال:
لما ولّي عثمان رضي اللّه عنه الوليد بن عقبة الكوفة قدمها و عليها سعد بن أبي وقّاص، فأخبر بقدومه؛ فقال:
و ما صنع؟ قال: وقف في السوق فهو يحدّث الناس هناك و لسنا ننكر شيئا من شأنه؛ فلم يلبث أن جاءه نصف النهار، فاستأذن على سعد فأذن له، فسلّم عليه بالإمرة و جلس معه؛ فقال له سعد: ما أقدمك أبا وهب؟ قال:
أحببت زيارتك؛ قال: و على ذلك أ جئت بريدا؟ قال: أنا أرزن من ذلك، و لكن القوم احتاجوا إلى عملهم فسرّحوني إليه، و قد استعملني أمير المؤمنين على الكوفة؛ فمكث طويلا ثم قال: لا و اللّه ما أدري أصلحت بعدنا/أم فسدنا بعدك! ثم قال:
خذيني فجرّيني ضباع و أبشري(1) *** بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره(2)
/فقال: أما و اللّه(3) لأنا أقول للشعر و أروى له منك، و لو شئت لأجبتك، و لكنّي أدع ذلك لما(4) تعلم؛ نعم و اللّه قد أمرت بمحاسبتك و النظر في أمر عمّالك؛ ثم بعث إلى عمّاله فحبسهم و ضيّق عليهم، فكتبوا إلى سعد يستغيثون، فكلّمه فيهم؛ فقال له: أو للمعروف عندك موضع؟ قال: نعم و اللّه! فخلّي سبيلهم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني عمر قال حدّثنا جنّاد(5) بن بشر قال: حدّثني جرير(6) عن مغيرة(7)بنحوه.
قال أبو زيد عمر بن شبّة أخبرنا أبو بكر الباهليّ قال حدّثنا هشيم عن العوّام بن حوشب:
أنه لمّا قدم على سعد قال له سعد: ما أدري أ كست بعدنا أم حمقنا بعدك؟ فقال: لا تجزعنّ أبا إسحاق، فإنما هو الملك يتغدّاه قوم و يتعشّاه آخرون؛ فقال له سعد: أراكم و اللّه ستجعلونه ملكا.
أخبرني أحمد قال حدّثني عمر قال حدّثني المدائني عن بشر بن عاصم عن الأعمش عن شقيق(8) بن سلمة قال:
قدم الوليد بن عقبة عاملا لعثمان على الكوفة و عبد اللّه بن مسعود على بيت المال، و كان سعد قد أخذ مالا، فقال الوليد لعبد اللّه: خذه بالمال، فكلّمه عبد اللّه بمحضر من الوليد في ذلك؛ فقال سعد: آتى أمير المؤمنين، فإن أخذني به/أدّيته. فغمز الوليد عبد اللّه، و نظر إليهما سعد فنهض و قال: فعلتماها! و دعا اللّه أن يغري بينهما و أدّى المال.
ص: 85
أخبرني أحمد قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثنا هارون بن معروف قال حدّثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب قال: صلّى الوليد بن عقبة بأهل الكوفة الغداة أربع ركعات، ثم التفت إليهم فقال: أ أزيدكم؟ فقال عبد اللّه بن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم.
أخبرني أحمد قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن حميد قال حدّثنا جرير(1) عن الأجلح(2) عن الشّعبيّ(3) في حديث الوليد بن عقبة حين شهدوا عليه [قال](4): قال(5) الحطيئة(6):
شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه *** أنّ الوليد أحقّ بالعذر(7)
نادى و قد تمّت صلاتهم *** أ أزيدكم - سكرا - و ما يدري
فأبوا أبا وهب و لو أذنوا *** لقرنت بين الشفع و الوتر
كفّوا عنانك إذ جريت و لو *** تركوا عنانك لم تزل تجري
و قال الحطيئة أيضا:
تكلّم في الصلاة و زاد فيها *** علانية و جاهر بالنّفاق
و مجّ الخمر في سنن المصلّي *** و نادى و الجميع إلى افتراق
أزيدكم على أن تحمدوني *** و مالكم و مالي من خلاق
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال حماد بن إسحاق حدّثني أبي قال ذكر أبو عبيدة و هشام بن الكلبيّ و الأصمعيّ قالوا(8):
كان الوليد بن عقبة زانيا(9) شرّيب خمر، فشرب الخمر بالكوفة و قام ليصلّي بهم الصبح في المسجد الجامع، فصلّى بهم أربع ركعات، ثم التفت إليهم/و قال لهم: أزيدكم؟ و تقيّأ في المحراب، و قرأ بهم في الصلاة و هو رافع صوته:
علق القلب الرّبابا *** بعد ما شابت و شابا
ص: 86
فشخص أهل الكوفة إلى عثمان، فأخبروه خبره و شهدوا عليه بشربه الخمر، فأتي به، فأمر رجلا بضربه الحدّ؛ فلما دنا منه قال له: نشدتك اللّه و قرابتي من أمير المؤمنين فتركه؛ فخاف عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه أن يعطّل الحدّ، فقام إليه فحدّه؛ فقال له الوليد: نشدتك باللّه و بالقرابة؛ فقال له عليّ: اسكت أبا وهب فإنما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود، فضربه و قال: لتدعونّي قريش بعد هذا جلاّدها. قال إسحاق: فأخبرني مصعب الزّبيريّ قال: قال الوليد بن عقبة بعد ما جلد: اللهمّ إنهم شهدوا عليّ بزور، فلا ترضهم عن أمير و لا ترض عنهم أميرا.
فقال الحطيئة يكذّب عنه:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه *** أنّ الوليد أحقّ بالعذر
خلعوا عنانك إذ جريت و لو *** تركوا عنانك لم تزل تجري
و رأوا شمائل ماجد أنف(1) *** يعطي على الميسور و العسر
فنزعت مكذوبا عليك و لم *** تنزع إلى طمع(2) و لا فقر(3)
/فقال رجل من بني عجل يردّ على الحطيئة:
نادى و قد تمّت صلاتهم *** أ أزيدكم - ثملا - و ما يدري
ليزيدهم خيرا و لو قبلوا *** لقرنت بين الشّفع و الوتر
فأبوا أبا وهب و لو فعلوا *** وصلت صلاتهم إلى العشر
و روى العبّاس بن(4) ميمون طائع عن ابن عائشة قال حدّثني أبي قال:
لما أحضر عثمان رضي اللّه عنه الوليد لأهل الكوفة في شرب الخمر، حضر الحطيئة فاستأذن على عثمان و عنده بنو أمية متوافرون، فطمعوا أن يأتي الوليد بعذر، فقال:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه *** أنّ الوليد أحقّ بالعذر
خلعوا عنانك إذ جريت و لو *** تركوا عنانك لم تزل تجري
و رأوا شمائل ماجد أنف *** يعطي على الميسور و العسر
فنزعت مكذوبا عليك و لم *** تنزع إلى طمع و لا فقر
قال: فسرّوا بذلك و ظنّوا أن قد قام بعذره؛ فقال رجل من بني عجل يردّ على الحطيئة:
نادى و قد تمّت صلاتهم *** أ أزيدكم - ثملا - و ما يدري
فأبوا أبا وهب و لو فعلوا *** وصلت صلاتهم إلى العشر
ص: 87
فوجم القوم و أطرقوا، فأمر به عثمان رضي اللّه تعالى عنه فحدّ.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ(1) قال حدّثني محمد بن الفضل من حفظه قال حدّثنا عمر بن شبّة من حفظه، و نسخت من كتاب لهارون ابن الزيات بخطه عن عمر بن شبة، و روايته أتمّ، فحكيت لفظه، قال:
شهد رجل عند أبي العجّاج، و كان على البصرة، على رجل من المعيطيّين شهادة، و كان الرجل/الشاهد سكران؛ فقال المشهود عليه و هو المعيطيّ: أعزّك اللّه إنه لا يحسن أن يقرأ من السكر؛ فقال الشاهد: بلى إني لأحسن؛ فقال: اقرأ؛ فقال:
علق القلب الرّبابا *** بعد ما شابت و شابا
قال: و إنما تماجن بذلك على المعيطيّ، ليحكى به ما صنع الوليد بن عقبة في محراب الكوفة و قد تقدّم للصلاة و هو سكران، فأنشد في صلاته هذا الشّعر؛ و كان أبو العجّاج محمّقا فظنّ أن هذا قرآن، فقال: صدق اللّه و رسوله، ويلكم! فلم تعلمون و لا تعملون!. و لقد روي أيضا في الشهادة على الوليد في السّكر غير ما ذكر من زيادته في الصلاة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال عرضت على المدائنيّ عن مبارك بن سلاّم عن فطر(2) بن خليفة عن أبي الضّحى(3) قال:
/كان أبو زينب الأزديّ و أبو مورّع(4) يطلبان عثرة الوليد بن عقبة، فجاءا يوما فلم يحضر الصلاة، فسألا عنه و تلطّفا حتى علما أنه يشرب، فاقتحما عليه الدار فوجداه يقيء، فاحتملاه و هو سكران فوضعاه على سريره و أخذا خاتمه من يده، فأفاق فافتقد خاتمه فسأل عنه؛ فقالوا: لا ندري و قد رأينا رجلين دخلا الدار فاحتملاك فوضعاك على سريرك؛ فقال: صفوهما لي؛ فقالوا: أحدهما آدم(5) طويل حسن الوجه، و الآخر عريض مربوع عليه خميصة(6)؛ فقال: هذا(7) أبو زينب و أبو مورّع. و لقي أبو زينب و صاحبه عبد اللّه بن حبيش(8) الأسدي و علقمة(9) بن
ص: 88
يزيد البكريّ و غيرهما فأخبراهم، فقالوا: اشخصوا إلى أمير المؤمنين فأعلموه؛ فقال بعضهم: لا يقبل قولنا في أخيه؛ فشخصوا إليه و قالوا: إنما جئناك في أمر و نحن مخرجوه إليك من أعناقنا، و قد قلنا: إنك لا تقبله، قال: و ما هو؟ قالوا: رأينا الوليد و هو سكران من خمر قد شربها و هذا خاتمه أخذناه و هو لا يعقل؛ فأرسل إلى عليّ رضي اللّه تعالى عنه فشاوره؛ فقال: أرى أن تشخصه، فإن شهدوا عليه بمحضر منه حددته؛ فكتب عثمان رضي اللّه تعالى عنه إلى الوليد بن عقبة فقدم عليه، فشهد عليه أبو زينب/و أبو مورّع و جندب الأسديّ(1) و سعد بن مالك الأشعريّ، و لم يشهد(2) عليه إلاّ يمان؛ فقال عثمان لعليّ: قم فاضربه؛ فقال عليّ للحسن: قم فاضربه؛ فقال الحسن: مالك و لهذا! يكفيك غيرك؛ فقال عليّ لعبد اللّه بن جعفر: قم فاضربه، فضربه بمخصرة(3) فيها سير له رأسان، فلما بلغ أربعين قال له عليّ: حسبك.
أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا المدائنيّ عن الوقّاصيّ(4) عن الزّهريّ قال: خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد، فقال: أ كلّما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل! لئن أصبحت لكم لأنكّلنّ بكم؛ فاستجاروا بعائشة؛ و أصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا و كلاما فيه بعض الغلظة، فقال: أ ما يجد مرّاق أهل العراق و فسّاقهم ملجأ إلا بيت عائشة! فسمعت فرفعت نعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قالت: تركت سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم صاحب هذه(5) النعل؛ فتسامع الناس فجاءوا حتى ملئوا المسجد، فمن قائل: أحسنت، و من قائل: ما للنساء و هذا! حتى تحاصبوا(6) و تضاربوا بالنّعال؛ و دخل رهط من/أصحاب رسول اللّه/صلّى اللّه عليه و سلّم على عثمان، فقالوا له: اتّق اللّه و لا تعطّل الحدّ، و اعزل أخاك عنهم؛ فعزله عنهم.
أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا المدائنيّ عن أبي محمد النّاجي عن مطر الورّاق قال:
قدم رجل المدينة فقال لعثمان رضي اللّه عنه: إني صلّيت الغداة خلف الوليد بن عقبة، فالتفت إلينا فقال:
أ أزيدكم؟ إنّي أجد اليوم نشاطا، و أنا أشمّ منه رائحة الخمر؛ فضرب عثمان الرجل؛ فقال الناس: عطّلت الحدود و ضربت الشهود.
أخبرني أحمد قال حدّثني عمر قال حدّثنا أبو بكر الباهليّ عن بعض من حدّثه قال:
ص: 89
لما شهد على الوليد عند عثمان بشرب الخمر كتب إليه يأمره بالشخوص، فخرج و خرج معه قوم يعذرونه، فيهم عديّ بن حاتم، فنزل الوليد يوما يسوق بهم، فقال يرتجز:
لا تحسبنّا قد نسينا الإيجاف(1) *** و النّشوات من عتيق أو صاف
و عزف قينات علينا عزاف
فقال عديّ: إلى أين تذهب بنا! أقم!.
أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر قال عرضت على المدائنيّ عن قيس بن الرّبيع عن الأجلح(2) عن الشّعبيّ(3) عن جندب قال:
/كنت فيمن شهد على الوليد، فلما استتممنا عليه الشهادة حبسه عثمان، ثم ذكر باقي خبره و ضرب عليّ عليه السلام إيّاه، و قول الحسن: «ما لك و لهذا!»، فزاد فيه: فقال له عليّ: لست إذا مسلما، أو من المسلمين.
حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه المخزوميّ قال حدّثنا سعيد بن محمد المخزوميّ قال حدّثنا ابن عليّة(4) قال حدّثنا سعيد بن أبي عروبة عن عبد اللّه الدّاناج(5) قال سمعت الحضين(6) بن المنذر أبا ساسان يحدّث، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن حاتم قال حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عليّة قال حدّثنا سعيد بن أبي عروبة قال حدّثنا عبد اللّه الدّاناج عن حضين أبي ساسان قال:
لما جيء بالوليد بن عقبة إلى عثمان بن عفّان و قد شهدوا عليه بشرب الخمر، قال لعليّ: دونك ابن عمك فأقم عليه الحدّ؛ فأمر به فجلد أربعين. ثم ذكر نحو هذا الحديث و قال فيه: فقال عليّ للحسن: بل ضعفت و وهنت و عجزت، قم يا عبد اللّه بن جعفر، فقام فجلده و عليّ يعدّ حتى بلغ أربعين، فقال عليّ: أمسك، /جلد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أربعين، و جلد أبو بكر أربعين، و أتمّها عمر ثمانين، و كلّ سنّة.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر قال حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد قال:
لما ضرب عثمان الوليد الحدّ قال: إنك لتضربني اليوم بشهادة قوم ليقتلنّك عاما قابلا.
ص: 90
أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ عن عمّه عبيد اللّه قال أخبرني محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد، و أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدّثنا عبد اللّه بن مسلم، قالوا جميعا:
كان أبو زبيد الطائي نديما للوليد بن عقبة أيّام ولايته الكوفة، فلما شهد عليه بالسكر من الخمر و خرج من الكوفة قال أبو زبيد - و اللفظ في القصيدة لليزيديّ لأنها في روايته أتمّ -:
/
من يرى العير لابن أروى(1) على ظه *** ر المروري(2) حداتهنّ عجال
مصعدات و البيت بيت أبي وه *** ب خلاء تحنّ فيه الشّمال
يعرف الجاهل المضلّل أنّ ال *** دهر فيه النّكراء و الزّلزال
ليت شعري كذا كم العهد أم كا *** نوا أناسا كمن يزول فزالوا
بعد ما تعلمين يا أمّ زيد *** كان فيهم عزّ لنا و جمال
و وجوه بودّنا(3) مشرقات *** و نوال إذا أريد النّوال
/أصبح البيت قد تبدّل بال *** حيّ وجوها كأنّها الأقتال(4)
كلّ شيء يحتال فيه الرجال *** غير أن ليس للمنايا احتيال
و لعمر الإله لو كان للسي *** ف مصال(5) أو للّسان مقال
ما تناسيتك الصفاء و لا الودّ *** و لا حال دونك الأشغال
و لحرّمت لحمك المتعضّى(6)*** ضلّة(7) ضلّ حلمهم ما اغتالوا
قولهم شربك الحرام و قد كا *** ن شراب سوى الحرام حلال
و أبى الظّاهر العداوة إلاّ *** شنآنا و قول ما لا يقال
من رجال تقارضوا منكرات *** لينالوا الذي أرادوا فنالوا
غير ما طالبين ذخلا(8) و لكن *** قال دهر على أناس فمالوا
من يخنك الصّفاء أو يتبدّل *** أو يزل مثل ما تزول الظّلال
ص: 91
فاعلمن أنّني أخوك أخو ال *** ودّ حياتي حتى تزول الجبال
ليس بخلا عليك عندي بمال *** أبدا ما أقلّ نعلا قبال(1)
و لك النّصر باللسان و بال *** كفّ إذا كان لليدين مصال
من يرى العير لابن أروى على ظه *** ر المروري حداتهنّ عجال
مصعدات و البيت بيت أبي وه *** ب خلاء تحنّ فيه الشّمال
/عروضه من الخفيف. المروري: جمع مروراة و هي الصحراء. غنى الدّلال فيه خفيف ثقيل(2) بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق و غيره.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:
لما قدم الوليد بن عقبة الكوفة قدم عليه أبو زبيد، فأنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد و هي دار القبطي(3)، فكان مما احتجّ به عليه أهل الكوفة أنّ أبا زبيد كان يخرج إليه من داره يخترق المسجد و هو نصرانيّ(4)فيجعله طريقا.
أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمّي عبيد اللّه(5) عن(6) أبي حبيب بن جبلة عن ابن الأعرابيّ:
أن أبا زبيد وفد على الوليد حين استعمله عثمان على الكوفة، فأنزله الوليد دار لعقيل بن أبي طالب على باب المسجد، فاستوهبها منه فوهبها له، فكان ذلك أوّل الطّعن عليه من أهل/الكوفة؛ لأن أبا زبيد كان يخرج من منزله حتى يشقّ الجامع إلى الوليد، فيسمر عنده و يشرب معه و يخرج فيشقّ المسجد و هو سكران، فذلك نبّههم عليه.
ص: 92
قال: و قد كان عمر بن الخطّاب رضي اللّه تعالى عنه ولّي الوليد بن عقبة صدقات بني تغلب، فبلغه عنه بيت قاله و هو:
إذا ما شددت الرأس منّي بمشوذ(1) *** فغيّك(2) منّي(3) تغلب ابنة وائل
فعزله.
و كان أبو زبيد قد استودع بني كنانة بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب إبلا فلم يردّوها عليه حين طلبها، و كانت بنو تغلب أخوال أبي زبيد، فوجد الوليد بني تغلب ظالمين لأبي زبيد، فأخذ له الوليد بحقّه؛ فقال يمدح الوليد:
يا ليت شعري بأنباء أنبّئها *** قد كان يعيا بها صدري و تقديري
عن امرئ ما يزده اللّه من شرف *** أفرح به و مريّ غير مسرور
(يعني مريّ بن أوس بن حارثة بن لأم). و هي طويلة يقول فيها:
إنّ الوليد له عندي و حقّ له *** ودّ الخليل و نصح غير مذخور
لقد رعاني و أدناني و أظهرني *** على الأعادي بنصر غير تعذير(4)
فشذّب(5) القوم عنّي غير مكترث *** حتى تناهوا على رغم و تصغير
نفسي فداء أبي وهب و قلّ له *** يا أمّ عمرو فحلّي اليوم أو سيري
و في رواية ابن حبيب: «يا أمّ زيد»، يعني: يا أم أبي زبيد.
أخبرني محمد بن العبّاس عن عمّه عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:
كان الوليد بن عقبة قد استعمل الرّبيع بن مريّ بن أوس بن حارثة بن لأم الطائيّ على الحمى فيما بين الجزيرة و ظهر الحيرة، فأجدبت الجزيرة، و كان أبو زبيد في تغلب، فخرج بهم ليرعيهم؛ فأبى عليه الأوسيّ و قال: إن شئت أن أرعيك وحدك فعلت و إلاّ فلا؛ فأتى أبو زبيد الوليد بن عقبة، فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة و جعله له حمى، و أخذها من الآخر. هكذا روى ابن حبيب. و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال: كانت الجنينة(6) في يد مريّ بن أوس، فلمّا قدم الوليد بن عقبة الكوفة انتزعها منه و دفعها
ص: 93
إلى أبي زبيد. و القول الأوّل أصح، و شعر أبي زبيد يدلّ عليه في قوله في الوليد بن عقبة يمدحه:
لعمر أبيك يا ابن أبي مريّ *** لغيرك من أباح لها(1) الدّيارا
أباح لها(1) أبارق(2) ذات نور *** ترعى القفّ(3) منها و العرارا(4)
بحمد اللّه ثم فتى قريش *** أبي وهب غدت بطنا غزارا(5)
أباح لها و لا يحمى عليها *** إذا ما كنتم سنة جزارا
يريد جزرا من الجدب و الشدّة.
/
فتى طالت يداه إلى المعالي *** و طحطحتا(6) المقطّعة(7) القصارا
و هي أبيات.
قال(8) عمر بن شبّة في خبره خاصّة: فلما عزل الوليد و وليها سعيد انتزعها منه/و أخرجها من يده؛ فقال:
و لقد متّ غير أنّي حيّ *** يوم بانت بودّها خنساء
من بني عامر لها شقّ نفسي *** قسمة مثل ما يشقّ الرداء
أشربت لون صفرة في بياض *** و هي في ذاك لدنة غيداء(9)
كلّ عين ممّن يراها من النّا *** س إليها مديمة حولاء
فانتهوا إن للشدائد أهلا *** و ذروا ما تزيّن الأهواء
ليت شعري و أين منّي ليت *** إنّ ليتا و إنّ لوّا عناء
أيّ ساع سعى ليقطع شربي *** حين لاحت للصابح الجوزاء(10)
ص: 94
و استظلّ(1) العصفور كرها مع ال *** ضبّ و أوفى في عوده الحرباء
و نفى الجندب الحصا بكراعي *** ه و أذكت نيرانها المعزاء(2)
من سموم كأنها حرّ نار *** سفعتها(3) ظهيرة غرّاء
/و إذا أهل(4) بلدة أنكروني *** عرفتني الدّوّيّة(5) الملساء
عرفت ناقتي الشمائل منّي *** فهي إلاّ بغامها(6) خرساء
عرفت ليلها الطويل و ليلي *** إنّ ذا الليل(7) للعيون غطاء
أيّ ساع سعى ليقطع شربي *** حين لاحت للصابح الجوزاء
و استكنّ العصفور كرها مع ال *** ضبّ و أوفى في عوده الحرباء
و إذا الدار أهلها أنكروني *** عرفتني الدّوّيّة الملساء
عرفت ناقتي الشمائل منّي *** فهي إلا بغامها خرساء
عرفت ليلها الطويل و ليلي *** إنّ ذا الليل للعيون غطاء
عروضه من الخفيف. غناه ابن سريج خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، و غنّى داود بن العبّاس الهاشميّ في الخامس ثم الثالث خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو.
[قال ابن حبي: «و يروي سويّ لقد...» و هي لغة طيّ ء](1).
خلا أنّ رزق اللّه غاد و رائح *** و أنّي له راج و إن سرت أشهرا
و كان هو الحصن الذي ليس مسلمي *** إذا أنا بالنّكراء هيّجت(2) معشرا
إذا صادفوا دوني الوليد كأنما *** يرون بوادي ذي(3) حماس مزعفرا(4)
خضيب بنان ما يزال براكب *** يخبّ و ضاحي جلده قد تقشّرا(5)
و هي طويلة.
حدّثني إسحاق بن بنان الأنماطيّ قال حدّثنا حبيش بن مبشّر قال حدّثنا عبيد اللّه(6) بن موسى قال حدّثنا ابن أبي ليلى عن الحكم(7) عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس/قال:
قال الوليد بن عقبة لعليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه: أنا أحدّ منك سنانا، و أبسط منك لسانا، و أملأ للكتيبة طعانا؛ فقال له عليّ رضي اللّه تعالى عنه: اسكت! فإنما أنت فاسق؛ فنزل القرآن: أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لاٰ يَسْتَوُونَ .
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن حاتم قال حدّثنا يونس بن محمد قال حدّثنا شيبان(8) عن قتادة(9) في قوله تعالى: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ قال: هذا ابن أبي معيط الوليد بن عقبة، بعثه النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إلى بني المصطلق مصدّقا، فلما رأوه أقبلوا نحوه فهابهم؛ فرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبره أنهم قد ارتدّوا عن الإسلام؛ فبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم خالد بن الوليد و أمره أن يتثبّت و لا يعجل؛ فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه؛ فلمّا جاءوه أخبروه بأنهم متمسّكون بالإسلام و سمعوا أذانهم و صلاتهم؛ فلمّا أصبحوا أتاهم خالد فرأى ما يعجبه، فرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبره.
ص: 96
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عبيد اللّه بن موسى قال حدّثنا نعيم بن حكيم عن أبي مريم(1) عن عليّ(2):
أنّ امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم تشتكي الوليد و قالت: إنه يضربها؛ فقال لها: «ارجعي و قولي إن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلّم - قد أجارني»، فانطلقت فمكثت ساعة، ثم رجعت فقالت: ما أقلع عنّي؛ فقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هدبة من ثوبه ثم قال: «امضي بهذا ثم قولي إنّ رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلّم - أجارني»؛ فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت:
يا رسول اللّه ما زادني إلاّ ضربا؛ فرفع يديه و قال: «اللهمّ عليك الوليد» مرّتين أو ثلاثا.
أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر بن شبّة، و حدّثني أبو عبيد الصّيرفيّ قال حدّثني الفضل بن الحسن البصريّ(3) قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أيّوب بن عمر قال/حدّثنا عمر بن أيّوب قال حدّثنا جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجّاج عن أبي موسى(4) عبد اللّه الهمداني:
أنّ الوليد بن عقبة قال: لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مكة، جعل أهل مكّة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة و يمسح على رءوسهم، فجيء بي إليه و أنا مخلّق(5) فلم يمسسني، و ما منعه إلا أن أمّي خلّقتني بخلوق فلم يمسسني من أجل الخلوق.
أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا خلف بن الوليد قال حدّثنا المبارك بن فضالة عن الحسن(6):
أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يريه كتيبتين تقتتلان، فتحمل إحداهما على الأخرى فتهزمها؛ فقال له الساحر: أ يسرّك أن أريك هذه المنهزمة تغلب الغالبة فتهزمها؟ قال: نعم؛ و أخبر جندب بذلك، فاشتمل على السيف ثم جاء فقال: أفرجوا، فضربه حتى قتله، ففزع الناس و خرجوا؛ فقال: يا أيها الناس لا عليكم، إنما قتلت هذا الساحر لئلا يفتنكم في دينكم؛ فحبسه قليلا ثم تركه.
أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عمر بن سعيد الدّمشقيّ، و حدّثنا سعيد بن عبد العزيز عن الزّهريّ(7):
ص: 97
أنّ رجلا من الأنصار نظر إلى رجل يستعلن بالسّحر، فقال: أو إن السّحر ليعلن به في دين محمد! فقتله؛ فأتي به الوليد بن عقبة فحبسه؛ فقال له دينار بن دينار: فيم حبست؟ فأخبره فخلّي سبيله؛ فأرسل/الوليد إلى دينار فقتله.
أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا موسى بن إسماعيل قال حدّثنا حمّاد بن سلمة قال حدّثنا أبو عمران الجونيّ:
أنّ ساحرا كان عند الوليد بن عقبة، فجعل يدخل في جوف بقرة و يخرج منه؛ فرآه جندب، فذهب إلى بيته فاشتمل على سيف، فلما دخل الساحر في جوف البقرة، قال: أ تأتون السّحر و أنتم تبصرون، ثم ضرب وسط البقرة فقطعها و قطع الساحر في البقرة فانذعر(1) الناس، فسجنه الوليد و كتب بذلك إلى عثمان رضي اللّه عنه؛ و كان [السجّان](2) يفتح له الباب بالليل فيذهب إلى أهله فإذا أصبح دخل السجن.
أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا حجّاج بن نصير قال حدّثنا قرّة(3) عن محمد بن سيرين قال:
انطلق بجندب بن كعب إلى سجن خارج من الكوفة و على السجن رجل نصرانيّ، فلما رأى جندب بن كعب يصوم النهار و يقوم الليل، قال النّصرانيّ: و اللّه إنّ قوما هذا شرّهم لقوم صدق؛ فوكّل بالسجن رجلا و دخل الكوفة فسأل عن أفضل أهل الكوفة، فقالوا: الأشعث بن قيس؛ فاستضافه، فجعل يرى أبا محمد ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه؛ فخرج من عنده فسأل: أيّ أهل الكوفة أفضل؟ فقالوا: جرير بن عبد اللّه؛ فوجده ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه، فاستقبل القبلة ثم قال: ربّي ربّ جندب و ديني على دين جندب، و أسلم.
حدّثني عمي الحسن بن محمد قال حدّثنا الخزّاز(4) عن المدائنيّ عن عليّ بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن الزّهريّ و غيره، قالوا:
/لما انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من غزوة بني المصطلق، نزل رجل فساق بالقوم و رجز، ثم نزل آخر فساق بالقوم و رجز، ثم بدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يواسي أصحابه، فنزل فجعل يقول(5): «جندب و ما جندب و الأقطع(6) الخير زيد»؛ فدنا منه أصحابه و قالوا: يا رسول اللّه ما ينفعنا مشيك مخافة أن تلسعك دابّة الأرض أو تصيبك نكبة؛ فركب و دنوا منه فقالوا: لقد قلت قولا ما ندري ما هو؟ قال: «و ما ذاك»؟: قالوا: قولك «جندب و ما جندب و الأقطع الخير زيد»؛ فقال: «رجلان يكونان في هذه الأمّة يضرب أحدهما ضربة يفرق بين الحق و الباطل و تقطع يد الآخر في سبيل اللّه فيتبع اللّه آخر جسده بأوّله»؛ فكان زيد بن صوحان، قطعت يده يوم جلولاء(7) و قتل يوم الجمل مع عليّ. و أما
ص: 98
جندب فإنه رجل دخل على الوليد بن عقبة و عنده ساحر يكنى أبا شيبان يأخذ أعين الناس فيخرج مصارين بطنه ثم يعيدها فيه؛ فجاء من خلفه فقتله، و قال:
العن وليدا و أبا شيبان *** و ابن حبيش راكب الشّيطان
رسول فرعون إلى هامان
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إبراهيم بن المنذر الحزاميّ(1) قال حدّثني ابن وهب(2) عن يونس عن الزّهريّ قال:
/نزع عثمان بن عفّان الوليد بن عقبة عن الكوفة و أمّر عليها سعيد بن العاص. قال أبو زيد: فحدّثني عبد اللّه بن عبد الرحمن قال حدّثنا سعيد بن جامع الهجيميّ قال:
لما أقبل سعيد من المدينة عامدا للكوفة بعد/ما خرج واليا لعثمان جعل يرتجز في طريقه:
ويل نسيّات(3) العراق منّي *** كأنني سمعمع(4) من جنّ
أخبرني أحمد قال حدّثني عمر قال حدّثني المدائنيّ عن أبي علقمة عن سعيد بن أشوع(5) قال قال عديّ بن حاتم:
قدم سعيد بن العاص الكوفة فقال: اغسلوا هذا المنبر، فإن الوليد كان رجسا نجسا؛ فلم يصعده حتى غسل، عيبا على الوليد. و كان الوليد أسنّ منه و أسخى نفسا و ألين جانبا و أرضى عندهم، فقال بعض شعرائهم:
يا ويلنا قد ذهب الوليد *** و جاءنا من بعده سعيد
ينقص في الصّاع و لا يزيد
و قال آخر:
فررت من الوليد إلى سعيد *** كأهل الحجر(6) إذ جزعوا فباروا
يلينا من قريش كلّ عام *** أمير محدث أو مستشار
لنا نار تحرّقنا(7) فنخشى *** و ليس لهم فلا يخشون نار
ص: 99
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر قال حدّثنا المدائنيّ قال:
قدم الوليد بن عقبة الكوفة زائرا للمغيرة بن شعبة، فأتاه أشراف أهل الكوفة يسلّمون عليه، فقالوا: و اللّه ما رأينا بعدك مثلك؛ فقال: أخيرا أم شرّا؟ فقالوا: بل خيرا؛ قال: و لكنّي و اللّه ما رأيت بعدكم شرّا منكم؛ فأعادوا الثناء عليه؛ فقال: بعض ما تثنون به، فو اللّه إن بغضكم لتلف، و إن حبّكم لصلف.
قال أبو زيد: و ذكروا أن قبيصة بن جابر كان ممن كثّر(1) على الوليد؛ فقال معاوية يوما و الوليد و قبيصة عنده:
يا قبيصة، ما كان شأنك و شأن الوليد؟ فقال: خيرا يا أمير المؤمنين، في أوّل وصل الرّحم و أحسن الكلام فلا تسألنّ عن الشكر و حسن الثناء، ثم غضب على الناس و غضبوا عليه و كنّا منهم، فإمّا ظالمون فنستغفر اللّه، و إمّا مظلومون فغفر اللّه له، و خذ في غير هذا يا أمير المؤمنين، فإنّ الحديث ينسي القديم؛ قال: و لم؟ فو اللّه لقد أحسن السّيرة و بسط الخير و كفّ الشرّ؛ قال: فأنت أقدر على ذلك يا أمير المؤمنين منه فافعل؛ قال: اسكت لا سكتّ، فسكت و سكت القوم؛ فقال له: مالك لا تتحدّث؟ قال: نهيتني عما كنت أحبّ فسكتّ عما أكره.
أخبرني أحمد قال حدّثني عمر قال حدّثني المدائنيّ قال:
مات الوليد بن عقبة فويق الرّقّة، و مات أبو زبيد، فدفنا جميعا في موضع واحد. فقال في ذلك أشجع السّلميّ و قد مرّ بقبريهما:
مررت على عظام أبي زبيد *** و قد لاحت ببلقعة صلود(2)
و كان له الوليد نديم صدق *** فنادم قبره قبر الوليد
/و ما أدري بمن تبدا المنايا *** بأحمد(3) أو بأشجع أو يزيد
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن ابن الكلبيّ عن أبيه قال:
خرج الوليد بن عقبة غازيا للرّوم و على مقدّمته عتبة بن فرقد، فلقيه الروم فقاتلوه؛ فقال له رجل من العرب نصرانيّ: لست على دينكم و لكنّي أنصحكم للنّسب، فالقوم مقاتلوكم إلى نصف/النهار، فإن رأوكم ضعفاء أفنوكم
ص: 100
و إن صبرتم هربوا و تركوكم؛ فقال سلمان(1) بن ربيعة: يا معشر المسلمين، ما عذركم عند اللّه غدا إن أصيب عتبة بن فرقد و أصحابه و لم يعنهم أحد منكم!؛ فركب معه ثلاثة آلاف رجل على البغال يجنبون(2) الخيل، فلحقوا عتبة و أصحابه، فقاتلوا معهم قتالا شديدا حتى هزم اللّه الروم. فقال الوليد بن عقبة:
أتاني من الفجّ(3) الذي كنت آمنا *** بقيّة شذّاذ(4) من الخيل ظلّع(5)
عليها العبيد يضربون جنوبها *** و نازل منّا كلّ خرق سميذع(6)
فإنّي زعيم أن تصيح نساؤهم *** صياح دجاج القرية المتوزّع(7)
و قال الحطيئة يمدح الوليد بذلك، و كان قد وصله و كان الوليد جوادا:
أرى(8) لابن أروى خلّتين اصطفاهما *** قتال إذا يلقى العدوّ و نائله
فتى يملأ الشّيزى(9) و يروى بكفّه *** سنان الرّدينيّ الأصمّ و عامله(10)
يؤمّ العدوّ حيث كان بجحفل *** يصمّ السميع حرسه و صواهله
إذا حان منه منزل الليل أوقدت *** لأخراه في أعلى اليفاع(11) أوائله
نفيت(12) الجعاد(13) البيض عن حرّ دارهم *** فلم يبق إلا حيّة أنت قاتله
ص: 101
فقال الحليس بن نعيم النّهديّ يكذّب الحطيئة:
و أبلغ أبا وهب إذا ما لقيته *** فقد حاربتك الروم فيمن تحارب
و في الأرض حيّات و أسد كثيرة *** عدوّ و لكنّ الحطيئة كاذب
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عليّ بن محمد عن أبي مخنف عن خالد بن قطن عن أبيه قال:
لمّا قتل عثمان أرسل عليّ فأخذ كلّ ما كان في داره من السلاح و إبلا من إبل الصدقة، فلذلك قال الوليد بن عقبة:
بني هاشم ردّوا سلاح ابن أختكم *** و لا تنهبوه لا تحلّ مناهبه
و يروى:
و لا تهبوه لا تحلّ مواهبه
بني هاشم كيف الهوادة بيننا
و عند عليّ سيفه و نجائبه
قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه
كما فعلت يوما بكسرى مرازبه
هكذا في الخبر:
و لا تهبوه لا تحلّ مواهبه
أخبرني الطّوسيّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد اللّه بن إسحاق الجعفريّ:
أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط لقي بجادا مولى عثمان، فأخبره أنّ عثمان قد قتل؛ فقال:
ليت أنّي هلكت قبل حديث *** سلّ جسمي و ريع منه فؤادي
يوم لاقيت بالبلاط(1) بجادا *** ليت أنّي هلكت قبل بجاد
/و قد زيد في هذا الشعر بيت و نقص منه آخر مكانه و غنّي فيه، و هو:
طال ليلي و ملّني عوّادي *** و تجافى عن الضلوع مهادي
/من حديث نمي إليّ فما ير *** قأ دمعي و لا أحسّ رقادي
يوم لاقيت بالبلاط بجادا *** ليت أنّي هلكت قبل بجاد
و بنفسي التي أحبّ و أهلي *** و بمالي و طارفي و تلادي
ص: 102
قلت لا تغضبي فذلك قولي *** بلساني و ما يجنّ فؤادي
غنّى فيه ابن عبّاد ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر في الأوّل و الرابع من الأبيات، و ذكر عمرو بن بانة أنه لابن محرز، و من الناس من ينسبه إلى ابن سريج في هذه الطريقة في الأوّل و الثاني، و ذكر ابن المكّيّ أنه للغريض ثاني قيل بالخنصر في مجرى البنصر، و وافقه يونس. و ذكر أنّ في هذا الشعر لابن سريج و الغريض لحنين في الخمسة الأبيات. و ذكر حبش أنّ فيها لمعبد ثقيلا أوّل بالوسطى، و لعبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ ثاني قيل بالوسطى، و للغريض خفيف رمل بالوسطى، و لسليم ثقيل أوّل بالوسطى. و ذكر أحمد بن عبيد أن فيه رملا لابن جامع في البيت الأوّل وحده، و أنّ فيه هزجا لا يعرف صانعه.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني أبي قال:
أرسل إليّ محمد بن زبيدة في ليلة من ليالي الصيف مقمرة: يا عم إنّ الجرب بيني و بين طاهر بن الحسين قد سكنت، فصر إليّ، فإني إليك مشتاق؛ فجئته/و قد بسط له على سطح زبيدة، و عنده سليمان بن جعفر عليه كساء روذباريّ(1) و قلنسوة طويلة، و جواريه بين يديه، و ضعف» جاريته عنده، فقال لها: غنّيني فقد سررت بعمومتي؛ فاندفعت تغنّيه:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه *** كما فعلت يوما بكسرى مرازبه
بني هاشم كيف التواصل بيننا *** و عند أخيه سيفه و نجائبه
هكذا غنّت؛ و إنما هو:
و عند عليّ سيفه و نجائبه
فغضب و تطيّر و قال لها: ما قصّتك ويحك! انثنى و انتهى و غنّيني ما يسرّني! فاندفعت و غنّت:
هذا مقام مطرد *** هدمت منازله و دوره
فازداد تطيّرا، ثم قال لها: ويحك! انتهى، غنّيني غير هذا، فغنّت:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** و أيسر جرما منك ضرّج بالدّم
فقال لها: قومي إلى لعنة اللّه! فوثبت و كان بين يديه قدح بلّور و كان لحبّه إيّاه سمّاه باسمه محمدا، فأصابه طرف ذيلها فسقط على بعض الصواني فانكسر و تفتّت؛ فأقبل عليّ و قال: أرى و اللّه يا عمّ أن هذا آخر أيامنا؛ فقلت:
كلا! بل يبقيك اللّه يا أمير المؤمنين و يسرّك؛ قال: و دجلة و اللّه يا بنيّ هادئة ما فيها صوت مجداف و لا أحد يتحرّك و هي كالطّست هادئة، فسمعت هاتفا يهتف: «قضي الأمر الّذي فيه تستفتيان». قال: فقال لي: أسمعت ما سمعت يا عمّ؟ فقلت: و ما هو؟ و قد و اللّه سمعته - فقال: الصوت الذي جاء الساعة من دجلة؛ فقلت: ما سمعت شيئا، /و ما هذا إلاّ توهّم؛ فإذا الصوت قد عاد يقول: «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان». فقال: انصرف يا عمّ بيّتك اللّه بخير، فمحال ألاّ تكون الآن قد سمعت ما سمعت؛ فانصرفت، و كان/آخر العهد به.
ص: 103
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و محمد بن يحيى الصّوليّ و اللفظ له، قالا حدّثنا محمد بن زكريا الغلابيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن الضّحّاك عن هشام بن محمد عن أبيه، قال محمد: و حدّثنا عبد اللّه(1) بن محمد و محمد بن عبد الرحمن جميعا عن مطرّف بن عبد اللّه عن عيسى بن يزيد، قال:
وفد الوليد بن عقبة، و كان جوادا، على معاوية؛ فقيل له: هذا الوليد بن عقبة بالباب؛ فقال: و اللّه ليرجعنّ(2)معطيا غير معطى، فإنه الآن قد أتانا يقول: عليّ دين و عليّ كذا و كذا؛ يا غلام ائذن له، فأذن له؛ فسأله و تحدّث معه، ثم قال: أما و اللّه إن كنّا لنحبّ إيثار(3) مالك بالوادي و قد أعجب أمير المؤمنين، فإن رأيت أن تهبه ليزيد فعلت؛ فقال الوليد: هو ليزيد، ثم خرج و جعل يختلف إلى معاوية أياما، فقال له يوما: انظر يا أمير المؤمنين في شأني، فإنّ عليّ مئونة و قد أرهقني دين؛ فقال له معاوية: أ لا تستحي لحسبك و نسبك! تأخذ ما تأخذ فتبذّره ثم لا تنفكّ تشكو دينا!؛ فقال له الوليد: أفعل، ثم انطلق مكانه(4) فصار إلى الجزيرة، فقال:
فإذا سئلت تقول لا *** و إذا سألت تقول هات
تأبى فعال الخير لا *** تروي و أنت على الفرات
أ فلا تميل إلى نعم *** أو ترك لا حتى الممات
/قال: فبلغ معاوية مقدمه الجزيرة، فخافه و كتب إليه: أن أقبل إليّ؛ فكتب إليه:
أعفّ و أستحيي(5) كما قد أمرتني *** فأعط سواي ما بدا لك و انحل
سأحدو ركابي عنك إنّ عزيمتي *** إذا نابني أمر كسلّة منصل(6)
و إني امرؤ للرأي منّي تطرّف *** و ليس شبا قفل عليّ بمقفل
و رحل إلى الحجاز، فبعث إليه معاوية بجائزة.
[انقضت أخبار الوليد بن عقبة](7).
ربما نبّهني الإخ *** وان و الليل بهيم
حين غارت و تدلّت *** في مهاويها النجوم
ص: 104
و نعاس الليل في عي *** نيّ كالثّاوي مقيم
للّتي تعصر لمّا *** أينعت منها الكروم
أنا بالرّيّ مقيم *** في قرى الرّيّ أهيم
ما أراني عن قرى ال *** رّيّ مدى دهري أريم
الشعر و الغناء لإبراهيم الموصليّ. و لحنه المختار ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.
و لإبراهيم أيضا فيه خفيف ثقيل، و قيل: إنه لابنه إسحاق. و فيه لأحمد بن يحيى المكيّ ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ و أحمد بن عبيد.
ص: 105
هو - فيما أخبرنا به يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم عن حمّاد عن أبيه، و أخبرني به عبد اللّه بن الرّبيع عن وسواسة، و هو أحمد(1) بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصليّ عن أبيه عن جدّه و عن حمّاد عن أبيه - إبراهيم بن ميمون أو ابن ماهان بن بهمن(2) بن نسك، و كان سبب نسبه إلى ميمون أنه كتب إلى صديق له فعنون كتابه: من إبراهيم بن ماهان؛ فقال له بعض فتيان الكوفة: أ ما تستحي من هذا الاسم! فقال: هو اسم أبي؛ فقال:
غيّره؛ فقال: و كيف أغير! فأخذ الكتاب فمحا ماهان و كتب ميمون، فبقي إبراهيم بن ميمون.
قال إسحاق عن أبيه: و أصلنا من فارس، و لنا بيت شريف في العجم، و كان جدّنا ميمون هرب من جور بعض عمّال بني/أميّة، فنزل بالكوفة في بني عبد اللّه بن دارم، فكان بين إبراهيم و بين ولد نضلة بن نعيم رضاع. و أمّ إبراهيم امرأة من بنات الدّهاقين(3) الذين هربوا من فارس لما هرب ميمون أبو إبراهيم، فنزلوا جميعا بالكوفة في بني عبد اللّه بن دارم، فتزوّجها ماهان(4) بالكوفة فولدت إبراهيم و مات/في الطاعون(5) الجارف، و خلّف إبراهيم طفلا.
و كان مولد إبراهيم سنة خمس و عشرين و مائة بالكوفة، و توفّي ببغداد سنة ثمان و ثمانين و مائة، و له ثلاث و ستون سنة.
قال أحمد(6) بن أحمد بن إسماعيل وسواسة في خبره: و مات ماهان و خلّف إبراهيم طفلا، فكفله آل خزيمة بن خازم.
ص: 106
و قال يحيى بن عليّ في خبره: إنه كان لإبراهيم لما مات أبوه سنتان أو ثلاث، و خلّف معه أخوين له من غير أمّه أكبر منه، فأقام إبراهيم مع أمّه و أخواله حتى ترعرع، فكان مع ولد خزيمة بن خازم في الكتّاب(1)، فبهذا السبب صار ولاؤه لبني تميم. و سأله الرشيد فقال: ما السبب بينك و بين بني تميم؟ فاقتصّ عليه قصّته، /و قال: ربّونا يا أمير المؤمنين فأحسنوا تربيتنا، و نشأت فيهم و كان بيننا و ضاع، فتولّونا بهذا السبب؛ فقال له الرشيد: ويحك! فما أراك إذا إلاّ مولاي؛ فقال: فهذه و اللّه قصّتي يا أمير المؤمنين.
قال يحيى بن عليّ في خبره: و كان سبب قولهم إبراهيم الموصليّ أنه لما نشأ و اشتدّ(2) و أدرك، صحب الفتيان و اشتهى الغناء طلبه، و اشتدّ أخواله عليه في ذلك و بلغوا(3) منه، فهرب منهم إلى الموصل، فأقام بها نحوا من سنة، فلما رجع إلى الكوفة قال له إخوانه من الفتيان: مرحبا بالفتى الموصليّ، فلقّب به(4). و قال أحمد في خبره: إن سبب طلبه الغناء أنه خرج إلى الموصل، فصحب جماعة من الصعاليك كانوا يصيبون الطريق و يصيبه معهم، و يجمعون ما يفيدونه فيقصفون(5) و يشربون و يغنّون، فتعلّم منهم شيئا من الغناء و شدا، فكان أطيبهم و أحذقهم، فلمّا أحسّ بذلك من نفسه اشتهى الغناء و طلبه و سافر إلى المواضع البعيدة فيه. و ذكر ابن خرداذبه(6)
ص: 107
- و هو قليل التحصيل لما يقوله و يضمّنه كتبه - أن سبب نسبته إلى الموصل أنه كان إذا سكر، كثيرا ما يغنّي على سبيل الولع:
/
أ ناجت من طرق موصل *** أحمل قلل خمريا(1)
من شارب الملوك فلا *** بدّ من سكريا
و ما سمعت بهذه الحكاية إلا عنه؛ و إنما ذكرتها على غثاثتها لشهرتها عند الناس، و أنها عندهم كالصحيح من الرواية في نسبة إبراهيم إلى الموصل، فذكرته دالاّ على عواره.
أخبرني الحسين بن يحيى المرداسيّ و ابن أبي الأزهر قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: أسلم أبي إلى الكتّاب فكان لا يتعلّم شيئا، و لا يزال يضرب و يحبس و لا ينجع ذلك فيه، فهرب إلى الموصل و هناك تعلّم الغناء، ثم صار إلى الرّي و تعلّم بها أيضا، و مهر و تزوّج هناك امرأته دوشار - و تفسير هذا الاسم أسدان(2) - /و طال مقامه هناك، و أخذ الغناء الفارسيّ و العربيّ، و تزوّج بها أيضا شاهك أمّ إسحاق ابنه و سائر ولده. قال: و في دوشار هذه يقول إبراهيم، و له فيه غناء من الهزج:
دوشار يا سيّدتي *** يا غايتي و منيتي
و يا سروري من جمي *** ع الناس ردّي سنتي
قال إسحاق و حدّثني أبي قال: أوّل شيء أعطيته بالغناء أنّي كنت بالرّيّ أنادم أهلها بالسّويّة لا أرزؤهم شيئا، و لا أنفق إلا من بقيّة مال كان معي انصرفت به من الموصل؛ فمرّ بنا خادم أنفذه أبو جعفر المنصور إلى بعض عمّاله برسالة، فسمعني عند رجل من أهل الرّيّ، فشغف بي و خلع عليّ دوّاج سمّور(3)، له قيمة، و مضى بالرسالة و رجع و قد وصله العامل بسبعة آلاف درهم و كساه كسوة كثيرة، فجاءني إلى منزلي الذي كنت أسكنه فأقام عندي ثلاثة أيام، و وهب لي نصف الكسوة التي معه و ألفي درهم، فكان ذلك أوّل ما اكتسبته بالغناء، فقلت: و اللّه لا أنفق هذه الدراهم إلا على الصناعة التي أفادتنيها، و وصف لي رجل بالأبلّة(4) يقال له جوانويه(5) كان حاذقا، فخرجت إليه و صحبت فتيانها، فأخذت عنهم و غنّيتهم فشغفوا بي.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن جدّه قال:
ص: 108
لما أتيت جوانويه لم أصادفه في منزله، فانتظرته حتى جاء، فلمّا رآني احتشمني و كان مجوسيّا، فأخبرته بصناعتي و الحال التي قصدته فيها؛ فرحّب بي و أفرد لي جناحا في داره، و وكّل بي أخته(1)، فقدّمت إليّ ما أحتاج إليه؛ فلما كان العشيّ عاد إلى منزله و معه جماعة من الفرس ممّن يغنّي، فنزلت إليه، فجلسنا في مجلس قد صفّى(2) لنا فيه نبيذ و أعدّت لنا فاكهة و رياحين، فجلسنا و أخذوا في شأنهم و ضربوا و غنّوا، فلم أجد عند أحد منهم فائدة؛ و بلغت النّوبة إليّ، فضربت و غنّيت، فقاموا كلّهم إليّ و قبّلوا رأسي، و قالوا: سخرت منّا، نحن إلى تعليمك و أمرني بملازمته؛ فقلت له: أيها الأمير، إن لست أتكسّب بالغناء و إنما ألتذّه فلذلك تعلّمته، و أريد العود إلى الكوفة، فلم أنتفع بذلك عنده و أخذني بملازمته، و سألني: من أين أنا؟ فانتسبت إلى الموصل، فلزمتني و عرفت بها؛ و لم أزل عنده أثيرا مكرّما حتى قدم عليه خادم من خدم المهديّ، فلما رآني عنده قال له: أمير المؤمنين أحوج إلى هذا منك، فدافعه عنّي؛ فلما قدم الرسول على المهديّ سأله عما رأى في طريقه و مقصده، فأخبره بذلك حتى انتهى إلى ذكري فوصفني له؛ فأمره المهديّ بالرجوع إلى محمد و إشخاصي إليه، ففعل ذلك و جاء فأشخصني إلى المهديّ، فحظيت عنده و قدّمني.
قال وسواسة في خبره عن إسحاق فحدّثني أبي قال:
/كان أوّل هاشميّ صحبته(3) عليّ بن سليمان بن عليّ أخو جعفر و محمد، و كان فتاهم ظرفا و لهوا و سماحة، و وصفني له جوانويه و مضى بي إليه، فوقعت من قلبه كلّ موقع. و أوّل خليفة سمعني المهديّ، وصفت له فأخذني من عليّ بن سليمان، و ما سمع قبلي من المغنّين أحدا سوى فليح بن أبي العوراء و سياط، فإن الفضل بن الرّبيع وصلهما به.
قال إسحاق: فحدّثني أبي قال: كان المهديّ لا يشرب فأرادني على ملازمته و ترك الشرب فأبيت عليه، و كنت أغيب عنه الأيام، فإذا جئته جئته منتشيا، فغاظه ذلك منّي فضربني و حبسني، فحذقت الكتابة و القراءة في الحبس، ثم دعاني يوما فعاتبني على شربي في منازل الناس و التّبذّل معهم؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما تعلّمت/هذه الصناعة للذّتي و عشرتي لإخواني، و لو أمكنني تركها لتركتها و جميع ما أنا فيه للّه جلّ و عزّ؛ فغضب غضبا شديدا و قال: لا تدخل على موسى و هارون البتّة، فو اللّه لئن دخلت عليهما لأفعلنّ و لأصنعنّ؛ فقلت: نعم؛ ثم بلغه أني دخلت عليهما و شربت معهما، و كانا مستهترين بالنبيذ، فضربني ثلاثمائة سوط، و قيّدني و حبسني.
قال أحمد بن إسماعيل في خبره قال عمّي إسحاق فحدّثني أبي:
أنه كان معهما في نزهة لهما و معهم أبان الخادم، فسعى بهما و بي إلى المهديّ و حدّثه بما كنّا فيه، فدعاني
ص: 109
فسألني فأنكرت، فأمر بي فجرّدت فضربت ثلاثمائة و ستين سوطا؛ فقلت له و هو يضربني: إن جرمي ليس من الأجرام التي يحلّ لك بها سفك/دمي، و اللّه لو كان سرّ ابنيك تحت قدميّ ما رفعتهما عنه و لو قطعتا، و لو فعلت ذلك لكنت في حالة أبان السّاعي العبد؛ فلمّا قلت له هذا ضربني بالسيف في جفنه(1) فشجّني به، و سقطت مغشيّا عليّ ساعة، ثم فتحت عينيّ فوقعتا على عيني المهديّ، فرأيتهما عيني نادم؛ و قال لعبد اللّه بن مالك: خذه إليك.
قال: و قبل ذلك ما تناول عبد اللّه بن مالك السوط من يد سلاّم الأبرش فضربني، فكان ضرب عبد اللّه عندي بعد ضرب سلاّم عافية، ثم أخرجني عبد اللّه إلى داره و أنا أرى الدنيا في عيني صفراء و خضراء [و حمراء](2) من حرّ السّوط، و أمره أن يتّخذ لي شبيها بالقبر فيصيّرني فيه؛ فدعا عبد اللّه بكبش فذبح و سلخ و ألبسني جلده ليسكن الضرب، و دفعني إلى خادم له يقال له أبو عثمان سعيد التركيّ فصيّرني في ذلك القبر، و وكّل بي جارية له يقال لها جشّة(3)؛ فتأذّيت ينزّ كان في ذلك(4) القبر و بالبقّ، و كان فيه حليّ(5) أستريح إليه، فقلت لجشّة: اطلبي لي آجرّة عليها فحم و كندر(6) يذهب عنّي هذا البقّ، فأتتني بذلك، فلما دخّنت أظلم القبر عليّ و كادت نفسي تخرج من الغمّ، فاسترحت من أذاه إلى النّزّ فألصقت به أنفي حتى خفّ الدّخان، فلمّا ظننت أني قد استرحت ممّا كنت فيه، إذا حيّتان مقبلتان نحوي من شقّ القبر تدوران حولي بحفيف شديد، فهممت أن آخذ واحدة بيدي اليمنى و الأخرى بيدي /اليسرى فإمّا عليّ و إمّا لي، ثم كفيتهما، فدخلتا من الثّقب الذي خرجتا منه، فمكثت في ذلك القبر ما شاء اللّه، ثم أخرجت منه؛ و وجّهت إلى أبي عثمان الخادم أسأله أن يبيعني جشّة لأكافئها عمّا أولتني ففعل، فزوّجتها من حاجب لي، و لم تزل عندنا. قال إسحاق: مكثت عندنا حتى ماتت، و بقيت بنت لها يقال لها جمعة، فزوّجتها من مولى لي في سنة أربع و ثلاثين و مائتين.
قال إبراهيم: و قلت في الحبس [و أنا مقيّد](7):
ألا طال ليلي أراعي النجوم *** أعالج في السّاق كبلا ثقيلا
بدار الهوان و شرّ الديار *** أسام بها الخسف صبرا جميلا
كثيرا الأخلاّء عند الرّخاء *** فلمّا حبست أراهم قليلا
لطول بلائي ملّ الصديق *** فلا يأمننّ خليل خليلا
قال: ثم أخرجني المهديّ و أحلفني بالطّلاق و العتاق و كلّ يمين لا فسحة لي فيها ألاّ أدخل على ابنيه موسى
ص: 110
و هارون أبدا و لا أغنّيهما، و خلّى سبيلي. قال: و صنعت في الحبس لحنا(1)/في شعر أبي العتاهية لمّا حبسه المهديّ بسبب عتبة، و هو:
أيا ويح قلبي من نجيّ البلابل *** و يا ويح ساقي من قروح السّلاسل
و يا ويح نفسي ويحها ثم ويحها *** أ لم تنج يوما من شباك الحبائل
و يا ويح عيني قد أضرّ بها البكا *** فلم يغن عنها طبّ ما في المكاحل
ذريني أعلّل نفسي اليوم إنها *** رهينة رمس في ثرى و جنادل
ذريني أعلّل بالشّراب فقد أرى *** بقيّة عيشي هذه غير طائل
/الشعر لأبي العتاهية، و ذكر حمّاد أنه لجدّه إبراهيم. و الغناء لإبراهيم رمل بالوسطى في الثلاثة الأبيات الأوّل، و له في البيتين الأخيرين ثقيل أوّل بالوسطى.
قال حمّاد: فلما ولي موسى الهادي الخلافة استتر جدّي منه و لم يظهر له بسبب الأيمان التي حلّفه بها المهديّ، فكانت منازلنا تكبس في كل وقت و أهلنا يروّعون بطلبه حتى أصابوه فمضوا به إليه، فلما عاينه قال:
يا سيّدي، فارقت أمّ ولدي و أعزّ خلق اللّه عليّ، ثم غنّاه لحنه في شعره:
يا ابن خير الملوك لا تتركنّي *** غرضا للعدوّ يرمي حيالي(2)
فلقد في هواك فارقت أهلي *** ثم عرّضت مهجتي للزوال
و لقد عفت في هواك حياتي *** و تغرّبت بين أهلي و مالي
الشّعر و الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى. قال إسحاق: فموّله(3) و اللّه الهادي و خوّله، و بحسبك أنه أخذ منه في يوم واحد مائة و خمسين ألف دينار(4)، و لو عاش لنا لبنينا حيطان دورنا بالذهب و الفضة.
قال حمّاد قال لي أبي: نظرت إلى ما صار إلى جدك من الأموال و الغلاّت(5) و ثمن ما باع من جواريه، فوجدته أربعة و عشرين ألف ألف درهم سوى أرزاقه الجارية، و هي عشرة آلاف درهم في كلّ شهر، و سوى غلاّت
ص: 111
ضياعه، و سوى الصّلات النّزرة التي لم يحفظها؛ و لا و اللّه ما رأيت أكمل مروءة منه، كان له طعام/معدّ في كل وقت؛ فقلت لأبي: أ كان يمكنه ذلك؟ فقال: كان له في كل يوم ثلاث شياه: واحدة مقطّعة في القدور، و أخرى مسلوخة و معلّقة، و أخرى حيّة، فإذا أتاه قوم طعموا ما في القدور، فإذا فرغت قطّعت الشاة المعلّقة و نصبت القدور و ذبحت الحيّة فعلّقت و أتى بأخرى فجعلت و هي حيّة في المطبخ؛ و كانت وظيفته لطعامه و طيبه و ما يتّخذ له في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجري و سوى كسوته؛ و لقد اتفق عندنا مرّة من الجواري الودائع لإخوانه ثمانون جارية، ما منهنّ واحدة إلا و يجري عليها من الطعام و الكسوة و الطّيب مثل ما يجري لأخصّ جواريه، فإذا ردّت الواحدة منهنّ إلى مولاها وصلها و كساها، و مات و ما في ملكه إلا ثلاثة آلاف دينار، و عليه من الدّين سبعمائة دينار قضيت منها.
أخبرني محمد بن خلف وكيع و يحيى بن عليّ بن يحيى و ابن/المرزبان قالوا أخبرنا حمّاد بن إسحاق قال:
كان أبي يحدّث أن الرشيد اشترى من جدّي جارية بستة و ثلاثين ألف دينار، فأقامت عنده ليلة، ثم أرسل إلى الفضل بن الربيع: إنا اشترينا هذه الجارية من إبراهيم، و نحن نحسب أنها من بابتنا(1) و ليست كما ظننتها، و ما قربتها، و قد ثقل عليّ الثمن و بينك و بينه ما بينكما، فاذهب إليه فسله أن يحطّنا من ثمنها ستة آلاف دينار؛ قال:
فصار الفضل إليه فاستأذن [عليه](2) فخرج جدّي فتلقّاه؛ فقال: دعني من هذه الكرامة التي لا مئونة بيننا فيها، لست ممّن يخدع، و قد جئتك في أمر أصدقك عنه، ثم أخبره الخبر كلّه؛ فقال له إبراهيم: إنه أراد أن يبلو قدرك عندي؛ قال: ذاك/أراد! قال: فمالي كلّه صدقة في المساكين إن لم أضعّفه لك، قد حططتك(3) اثني عشر ألف دينار؛ فرجع الفضل إليه بالخبر؛ فقال: ويلك! ادفع إلى هذا ماله، فما رأيت سوقة قطّ أنبل نفسا منه. قال أبي: و كنت قد أتيت جدّك فقلت: ما كان لحطيطة هذا المال معنى و ما هو بقليل، فتغافل عنّي و قال: أنت أحمق، أنا أعرف الناس به، و اللّه لو أخذت المال منه كملا(4) ما أخذته إلا و هو كاره، و يحقد ذلك عليّ و كنت أكون عنده صغير القدر، و قد مننت عليه و على الفضل، و انبسطت نفسه و نشط و عظم قدري عنده، و إنما اشتريت الجارية بأربعين ألف درهم، و قد أخذت بها أربعة و عشرين ألف دينار، فلما حمل المال إليه بلا حطيطة دعاني فقال لي: كيف رأيت يا إسحاق! من البصير أنا أم أنت؟ فقلت: بل أنت جعلني اللّه فداءك.
حدّثني وكيع قال حدّثنا حمّاد قال حدّثني أبي قال:
ص: 112
لقي الفضل بن يحيى أبي و هو خارج من عند الفضل بن الرّبيع، و كانا متجاورين في الشّمّاسيّة(1)، فقال: من أين يا أبا إسحاق؟ أ من عند الفضل بن الربيع؟ قلت: نعم، غير معتذر من ذلك؛ فقال: خروج من عند الفضل بن الربيع إلى الفضل بن يحيى! هذان و اللّه أمران لا يجتمعان لك! فقال: و اللّه لئن لم يكن فيّ ما يتّسع لكما حتى يكون الوفاء لكما جميعا واحدا ما فيّ خير، و اللّه لا أترك واحدا منكما/لصاحبه، فمن قبلني على هذا قبلني، و من لم يقبلني فهو أعلم؛ فقال له الفضل بن يحيى: أنت عندي غير متّهم، و الأمر كما قلت، و قد قبلتك على ذلك.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال حدّثني أبي:
أن الرشيد غضب عليه فقيّده و حبسه بالرّقّة(2)، ثم جلس للشرب يوما في مجلس قد زيّنه و حسّنه، فقال لعيسى بن جعفر: هل لمجلسنا عيب؟ قال: نعم، غيبة إبراهيم الموصلي عنه؛ فأمر بإحضاري فأحضرت في قيودي، ففكّت عنّي بين يديه، و أمرهم فناولوني عودا و قال: غنّني يا إبراهيم؛ فغنّيته:
تضوّع مسكا بطن(3) نعمان أن مشت *** به زينب في نسوة خفرات(4)
فاستعاده و شرب و طرب، و قال: هنأتني يومي و سأهنئك بالصّلة، و قد وهبت لك الهنيء و المريء(5)؛ فانصرفت، فلما أصبحت عوّضت منهما مائتي ألف درهم.
و لما رأت ركب النّميريّ أعرضت *** و كنّ من أن يلقينه حذرات
الشعر للنّميريّ(1) الثّقفيّ. و الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق و يحيى المكّيّ و عمرو بن بانة. و ذكر حبش أن فيه لعزّة الميلاء لحنا من الثقيل الأوّل.
أخبرني محمد بن مزيد و أحمد بن جعفر جحظة قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال، و أخبرني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد جميعا عن إسحاق عن أبيه قال:
رأيت يحيى بن خالد خارجا من قصره الذي عند باب الشّمّاسيّة يريد قصره الذي بباب البردان(2) و هو يتمثّل:
هوّى بتهامة و هوى بنجد *** فأبلتني(3) التّهائم و النّجود
قال أبي: فزدته عليه:
أقيم بذا و أذكر عهد هذا *** فلي ما بين ذين هوى جديد
/قال: و صنعت فيه لحنا - قال الصّوليّ في خبره: و هو من خفيف الثّقيل - ثم صرت إليه فغنّيته إيّاه؛ فأمر لي بألف دينار و بدابّته التي(4) كانت تحته يومئذ بسرجها و لجامها؛ فقلت له: جزاك اللّه من سيّد خيرا، فإنك تأتي الأنفس و هي شوارد فتقرّها، و الأهواء و هي سقيمة فتصحّها؛ فأمر لي بألف دينار أخرى.
قال إبراهيم: ثم ضرب الدهر من ضربه(5)، فبينا أنا أسير معه إذ لقيه العبّاس بن الأحنف، و كان ساخطا عليه لشيء بلغه عنه، فترجّل له و أنشده:
باللّه يا غضبان إلاّ رضيت *** أذاكر للعهد أم قد نسيت
فقال: بل ذاكر يا أبا الفضل؛ فأضفت إلى هذا البيت:
لو كنت أبغي غير ما تشتهي *** دعوت أن تبلى كما قد بليت
و صنعت فيه لحنا - قال الصّوليّ في خبره: هو ثقيل أوّل - قال: و غنّيته به، فأمر لي بألفي دينار و ضحك؛ فقلت: من أيّ شيء تضحك يا سيّدي؟ لا زلت ضاحكا مسرورا! فقال: ذكرت ما جرى في الصوت الأوّل و أنه كان
ص: 114
مع الجائزة دابّة بسرجه و لجامه(1)، و لن تنصرف الليلة إلا على مثله، فقمت فقبّلت يده؛ فأمر لي بألفي دينار آخرين، و قال: تلك الكرّة شكرت على الجائزة بكلام فزدناك، و الآن شكرت بفعل أوجب الزيادة، و لو لا أنّي مضيق في هذا الوقت لضاعفتها، و لكنّ الدهر بيننا مستأنف جديد.
حدّثني جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ عن أبيه قال:
/لمّا نزل الرشيد في طريقه إلى طوس(2) بشبداز(3) جلس يشرب عنده، فكان إبراهيم الموصليّ أوّل من غنّاه، فابتدأ بهذا الصوت، و الشعر له:
رأيت الدّين و الدّنيا *** مقيمين بشبداز
أقاما بين(4) حجّاج *** و غاز أيّما غاز
- و هو من الثقيل الأوّل - فأمر له بألف دينار، و لم يستحسن الشعر، و قال له: يا إبراهيم صنعتك فيه أحسن من شعرك؛ فخجل و قال: يا سيّدي شغل خاطري الغناء فقلت لوقتي ما حضرني؛ فضحك الرشيد من قوله و قال له:
صدقت.
أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:
كان جدّك محبّا للأشراف كثير الأصدقاء منه، حتى إن كان الرشيد ليقول كثيرا: ما أعرف أحدا أكثر أصدقاء من إبراهيم.
قال إسحاق: و ما سمعت أحسن غناء من أربعة: أبي، و حكم الوادي، و فليح ابن أبي العوراء، و سياط؛ فقلت له: و ما بلغ من حذقهم؟ قال: كانوا يصنعون فيحسنون، و يؤدّون غناء غيرهم فيحسنون؛ فقلت: فأيّهم كان أحذق؟ قال: كانوا/بمنزلة خطيب أو كاتب أو شاعر يحسن صناعته، فإذا انتقل عنها إلى غيرها لم يبلغ منها ما
ص: 115
يبلغ من صناعته، و كان جدّك كرجل مفوّه، إن خطب أجزل، و إن كتب رسالة أحسن، و إن قال شعرا أحسن، و لم يكن فيهم مثله.
أخبرني الحسين بن يحيى قال حدّثنا حمّاد عن أبيه، و أخبرني عليّ بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه، و أخبرني إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبّة جميعا عن إسحاق قال:
لم يكن الناس يعلّمون الجارية الحسناء الغناء، و إنما كانوا يعلّمونه الصّفر و السّود؛ و أوّل من علّم الجواري المثمّنات أبي، فإنه بلغ بالقيان كلّ مبلغ، و رفع من أقدارهنّ. و فيه يقول أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة المهلّبيّ و قد كان هوي جارية يقال لها أمان فأغلى بها مولاها السّوم، و جعل يردّدها إلى إبراهيم و إسحاق ابنة فتأخذ عنهما، فكلما زادت في الغناء زاد في سومه، فقال أبو عيينة:
قلت لمّا رأيت مولى أمان *** قد طغى سومه بها طغيانا
لا جزى اللّه الموصليّ أبا إس *** حاق عنّا خيرا و لا إحسانا
جاءنا مرسلا بوحي من الشّي *** طان أغلى به علينا القيانا
من غناء كأنه سكرات ال *** حبّ يصبي القلوب و الآذانا
و قال فيه ابن سيابة(1):
ما لإبراهيم في العل *** م بهذا الشأن ثاني
إنما عمر أبي إس *** حاق زين للزمان
/جنّة الدّنيا أبو إس *** حاق في كلّ مكان
فإذا غنّى أبو إسحا *** ق أجابته المثاني(2)
منه يجنى ثمر الله *** و و ريحان الجنان
لإبراهيم في هذا الشعر لحنان: خفيف ثقيل بالبنصر، و خفيف رمل بالوسطى عن عمرو و الهشاميّ.
كان سلم الخاسر عند أبي العتاهية، فأخبره سلم أنّ الرشيد حبس إبراهيم الموصلي في المطبق(1)؛ فأقبل عليه أبو العتاهية فقال:
سلم يا سلم ليس دونك ستر(2) *** حبس الموصليّ فالعيش مرّ
/ما استطاب اللّذات مذ سكن المط *** بق رأس اللّذات في الناس حرّ
ترك الموصليّ من خل *** ق اللّه جميعا و عيشهم مقشعرّ
حبس اللهو و السرور فما في ال *** أرض شيء يلهى به أو يسرّ
و أنشدني بعض أصحابنا عن ابن المرزبان عن أحمد بن أبي طاهر عن ابن أبي فنن لأبي العتاهية يخاطب إبراهيم الموصليّ لمّا حبس:
أيا غمّي لغمّك يا خليلي *** و يا ويلي عليك و يا عويلي
يعزّ عليّ أنّك لا تراني *** و أنّي لا أراك و لا رسولي
و أنك في محلّ أذى و ضنك *** و ليس إلى لقائك من سبيل
و أني لست أملك عنك دفعا *** و قد فوجئت بالخطب الجليل
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن عمر قال حدّثني أبو توبة صالح بن محمد عن القطرانيّ المغنّي عن محمد بن جبر، و كان المهديّ رباه، قال حدّثني إبراهيم بن المهديّ قال:
انصرفت ليلة من الشّمّاسيّة فمررت بدار إبراهيم الموصليّ، و إذا هو في روشن(3) له و قد صنع لحنه:
ألا ربّ ندمان عليّ دموعه *** تفيض على الخدّين سحّا سجومها(4)
و هو يعيده و يلعب به بنغمه و يكرّره لتستوي له أجزاؤه، و جواريه يضربن عليه، فوقفت تحت الرّوشن حتى أخذته ثم انصرفت إلى منزلي، فما زلت أعيده حتى بلغت فيه الغاية، و أصبحت فغدوت إلى الشّمّاسيّة و اجتمعنا عند الرشيد، فاندفع إبراهيم فغنّاه أوّل شيء غنّى، فلمّا سمعه الرشيد طرب و استحسنه و شرب عليه، ثم قال له: لمن هذا يا إبراهيم؟ قال: لي يا سيّدي، صنعته البارحة؛ فقلت: كذب يا أمير المؤمنين، هذا الصوت قديم و أنا أغنّيه؛ فقال لي: غنّه يا حبيبي، فغنّيته كما غنّاه؛ فبهت إبراهيم و غضب الرشيد، و قال له(5): يا ابن الفاجرة! أ تكذبني و تدّعي ما ليس لك!. قال: فظلّ إبراهيم بأسوإ حال؛ فلمّا صلّيت العصر قلت للرشيد: يا أمير المؤمنين، الصوت و حياتك
ص: 117
له و ما كذب، و لكنّي مررت به البارحة و هو يردّده على جارية له فوقفت حتى دار لي و استوى فأخذته منه؛ فدعا به الرشيد و رضي عنه، و أمر له بخمسة آلاف دينار.
ألا ربّ ندمان عليّ دموعه *** تفيض على الخدّين سحّا سجومها
حليم إذا ما الكأس دارت و هرّها(1) *** رجال لديها قد تخفّ حلومها
الغناء لإبراهيم رمل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق.
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا أبي عن طيّاب(2) بن إبراهيم الموصليّ قال:
كان إبراهيم بن المهديّ يقدّم ابن جامع و لا يفضّل عليه أحدا، فأخبرني إبراهيم بن المهديّ قال: كنا في مجلس الرشيد و قد/غلب النبيذ على ابن جامع، فغنّى صوتا فأخطأ في أقسامه؛ فالتفت إليّ إبراهيم فقال: قد خري(3) قد خرى أستاذك فيه! و فهمت صدقه فيما قال؛ قال: فقلت له: انتبه أيها الشيخ و أعد الصوت، ففطن و أعاده و تحفّظ فيه و أصاب؛ فغضب إبراهيم و أقبل عليّ فقال:
أعلّمه الرّماية كلّ يوم *** فلمّا استدّ(4) ساعده رماني
و تنكّر لي و حلف ألاّ يكلّمني؛ فقلت للرشيد بعد أيام: إن لي حاجة؛ قال: و ما هي؟ قلت: تأمر إبراهيم الموصليّ أن يرضى عنّي و يعود إلى ما كان عليه؛ فقال: /و من إبراهيم حتى يطلب(5) رضاه! فقلت:
يا أمير المؤمنين، إن الذي أريده منه لا ينال إلا برضاه؛ فقال: قم إليه يا إبراهيم فقبّل رأسه؛ [فقام إليّ ليقبّل(6)رأسي]، فلما أكبّ عليّ قال: تعود؟ قلت: لا؛ قال: قد رضيت عنك رضا صحيحا، و عاد إلى ما كان عليه.
أخبرني أبو الحسن أحمد بن يحيى بن عليّ بن يحيى قال: سمعت جدّي عليّا يحدّث عن إسحاق قال:
قال أبي: خرجت مع الرشيد إلى الحيرة، فساعة نزل بها دعا بالغداء فتغدّى ثم نام، فاغتنمت قائلته فذهبت
ص: 118
فركبت أدور في ظهر الحيرة، فنظرت إلى بستان فقصدته فإذا على بابه شابّ حسن الوجه، فاستأذنته في الدخول فأذن لي، فدخلت فإذا جنّة من الجنان في أحسن تربة و أغزرها ماء، فخرجت فقلت له: لمن هذا البستان؟ فقال:
لبعض الأشاعثة(1)؛ فقلت له: أ يباع؟ فقال: نعم و هو على سوم؛ فقلت: كم بلغ؟ فقال: أربعة عشر ألف دينار؛ قلت: و ما يسمّى هذا الموضع؟ قال: شمارى؛ فقلت:
جنان شمارى ليس مثلك منظر *** لذي رمد أعيا عليه طبيب
ترابك كافور و نورك(2) زهرة *** لها أرج بعد الهدوّ يطيب(3)
/قال: و حضرتني فيه صنعة حسنة؛ فلما جلس الرشيد و أمر بالغناء غنّيته إياه أوّل ما غنّيت؛ فقال: ويلك! و أين شمارى؟ فأخبرته القصّة؛ فأمر لي بأربعة عشر ألف دينار؛ و غمزني جعفر بن يحيى فقال: خذ توقيعه بها إليّ؛ و تشاغل الرّشيد عنّي، فأعدت الصوت، فقال: ويلكم! أعطوا هذا دنانيره؛ فوثبت و قلت: يا سيّدي، وقّع لي بها إلى جعفر بن يحيى؛ فقال: أفعل، و وقّع لي بها إليه؛ فلمّا حصل التوقيع عند جعفر أطلق لي المال و خمسة آلاف دينار من عنده؛ فلما حصل المال عندي كان أحبّ إليّ و أحسن في عيني من شمارى.
أخبرني(4) جعفر بن قدامة قال أخبرني أبو العيناء قال:
خرج الفضل بن الرّبيع يوما من حضرة الرشيد و معه رقعة فيها أربعة أبيات، فقال: إن أمير المؤمنين يأمر كلّ من حضر ممن يقول الشعر أن يجيزها، و هي:
أهدى الحبيب مع الجنوب سلامه *** فاردد إليه مع الشّمال سلاما
و اعرف بقلبك ما تضمّن قلبه *** و تداولا بهواكما الأيّاما
و إذا بكيت له فأيقن أنه *** ستجود أدمعه عليك رهاما(5)
فاحبس دموعك رحمة لدموعه *** إن كنت تحفظ أو تحوط ذماما
/فلم يوجد من يجيزها، فأمر إبراهيم فغنّى فيها لحنا من خفيف الثقيل.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني أبو العبّاس البصريّ(6) قال حدّثني عبد اللّه بن الفضل بن الرّبيع قال سمعت أبي يقول:
ص: 119
/لمّا خرج الرشيد إلى الرّقّة(1) أخرج معه إبراهيم الموصليّ، و كان به مشغوفا، ففقده في بعض المنازل أيّاما و طلبه فلم يخبره أحد بقصّته؛ ثم أتاه، فقال له: ويحك! ما خبرك و أين كانت غيبتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، حديثي عجيب، نزلنا بموضع كذا و كذا، فوصف لي خمّار، من ظرفه و من نظافة منزله كيت و كيت، فتقدّمت أمام ثقلى(2) و أتيته مخفّا، فوافيت(3) أطيب منزل و أوسع رحل و أطيب طعام و أسخى نفس، من شابّ حسن الوجه ظريف العشرة، فأقمت عنده، فلمّا أردت اللّحاق بأمير المؤمنين أقسم عليّ و أخرج لي من الشراب ما هو أطيب و أجود مما رأيت، فأقمت ثلاثا، و وهبت له دنانير كانت معي و كسوة، و قلت فيه:
سقيا لمنزل خمّار قصفت(4) به *** وسط الرّصافة يوما بعد يومين
ما زلت أرهن أثوابي و أشربها *** صفراء قد عتّقت في الدّنّ حولين
حتى إذا نفدت منّي بأجمعها *** عاودته بالرّبا دنّا بدنّين
فقال «ازل بشين» حين ودّعني *** و قد لعمرك زلنا عنه بالشّين
- الشعر و الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر. قوله: «ازل بشين» كلمة سريانية، تفسيرها: امض بسلام، دعا له بها لما ودّعه - قال إبراهيم: فقال لي الرشيد: غنّني هذا الصوت، فغنّيته إيّاه و زمر عليه برصوما، فوهب لي الرشيد مائة ألف درهم و أقطعني ضيعة، و بعث إلى الحمّار فأحضر(5)، و أهدى إلى الرشيد من ذلك الشراب فوصله؛ و وهب له إبراهيم عشرة آلاف درهم.
أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن مزيد و وكيع قالوا جميعا حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبي قال:
قال ابن جامع يوما لأبي: رأيت في منامي كأنّي و إيّاك راكبان في محمل، فسفلت حتى كدت تلصق بالأرض، و علا الشّقّ الذي أنا فيه، فلأعلونّك في الغناء؛ فقال إبراهيم: الرؤيا حقّ و التأويل باطل، إنّي و إيّاك كنّا في ميزان، فرجحت بك و شالت كفّتك و علوت فلصقت بالأرض، فلأبقينّ بعدك و لتموتنّ قبلي. قال إسحاق: فكان كما قال أبي، علا عليه و أفاد أكثر من فوائده، و مات ابن جامع قبله و عاش أبي بعده.
أخبرني عبد اللّه بن الرّبيع الرّبيعيّ قال حدّثتني خديجة بنت هارون بن عبد اللّه بن الرّبيع قالت حدّثتني خمار(6)
ص: 120
جارية أبي - و كانت قندهاريّة(1)، اشتراها جدّي عبد اللّه و هي صبيّة ريّض(2) من آل يحيى بن معاذ بمائتي ألف درهم - قالت:
ألقى عليّ إبراهيم الموصليّ لحنه في هذين البيتين:
إذا سرّها أمر و فيه مساءتي *** قضيت لها فيما تريد على نفسي
و ما مرّ يوم أرتجي فيه راحة *** فأذكره إلاّ بكيت على أمس
/الشعر لأبي حفص(3) الشّطرنجيّ، و الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل بالوسطى - فسمعني ابن جامع/يوما و أنا أغنّيه، فسألني: ممن أخذته؟ فأخبرته؛ فقال: أعيديه، فأعدته مرارا، و ما زال ابن جامع يتنغّم(4) به معي حتى ظننت أنه قد أخذه، ثم كان كلما جاءنا قال لي: يا صبيّة، غنّي ذلك الصوت، فكان صوته عليّ.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبّة قال قال مخارق:
أذن لنا أمير المؤمنين الرشيد أن نقيم في منازلنا ثلاثة أيّام، و أعلمنا أنه مشتغل فيها مع الحرم، فمضى الجلساء أجمعون إلى منازلهم - و أخبرني وسواسة و هو أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصليّ بهذا الخبر فقال حدّثني أبي عن أبيه عن مخارق قال: اشتغل الرشيد يوما و اصطبح مع الحرم و قد أصبحت السماء متغيّمة، فانصرفنا إلى منازلنا. و لم يذكر في الخبر ما ذكره عمر بن شبّة مما قدمت ذكره، و اتفقا هاهنا في أكثر الحكايات، و اللفظ فأكثره لرواية ابن الموصليّ - قال مخارق: و أصبحت السماء متغيّمة تطشّ طشّا خفيفا، فقلت: و اللّه لأذهبنّ إلى أستاذي إبراهيم فأعرف خبره ثم أعود، فأمرت من عندي أن يسوّوا مجلسا لنا إلى وقت رجوعي؛ فجئت إلى إبراهيم الموصليّ فإذا الباب مفتوح و الدّهليز قد كنس و البوّاب قاعد؛ فقلت: ما خبر أستاذي؟ فقال: ادخل، فدخلت فإذا هو جالس في رواق له و بين يديه قدور تغرغر(5) و أباريق تزهر، و الستارة منصوبة و الجواري خلفها، و إذا قدّامه طست فيه رطليّة و كوز و كأس، فدخلت أترنّم ببعض الأصوات، و قلت له: ما بال/الستارة لست أسمع من ورائها صوتا؟ فقال: اقعد ويحك! إني أصبحت على الذي ظننت؛ فأتاني خبر ضيعة تجاورني، قد و اللّه طلبتها زمانا و تمنّيتها فلم أملكها، و قد أعطي بها مائة ألف درهم؛ فقلت: و ما يمنعك منها؟ فو اللّه لقد أعطاك اللّه أضعاف هذا المال و أكثر؛ قال: صدقت، و لكن لست أطيب نفسا أن أخرج هذا المال؛ فقلت: فمن يعطيك الساعة مائة ألف درهم؟ و اللّه ما أطمع في ذلك من الرشيد، فكيف بمن دونه! فقال: اجلس، خذ هذا الصوت، و نقر بقضيب معه على الدواة و ألقى عليّ:
ص: 121
نام الخليّون من همّ و من سقم *** و بتّ من كثرة الأحزان لم أنم
يا طالب الجود و المعروف مجتهدا *** اعمد ليحني حليف الجود و الكرم
- الشعر لأبي النضير(1)، و الغناء لإبراهيم الموصليّ ثقيل أوّل بالبنصر - قال: فأخذته فأحكمته؛ ثم قال لي:
امض الساعة إلى باب الوزير يحيى بن خالد، فإنك تجد الناس عليه و تجد الباب قد فتح و لم يجلس بعد، فاستأذن عليه قبل أن يصل إليه أحد، فإنه سينكر عليك مجيئك و يقول: من أين أقبلت في هذا الوقت؟ فحدّثه بقصدك إياي و ما ألقيت إليك من خبر الضّيعة، و أعلمه أنّي صنعت هذا/الصوت و أعجبني، و لم أر أحدا يستحقّه إلا فلانة جاريته، و أني ألقيته عليك حتى أحكمته لتطرحه عليها؛ فسيدعو بها و يأمر بالسّتارة أن تنصب و يوضع له كرسيّ و يقول لك: اطرحه عليها بحضرتي، فافعل و ائتني بالخبر بعد ذلك. قال: فجئت باب يحيى فوجدته كما وصف، و سألني فأعلمته ما أمرني به، ففعل كلّ شيء قاله لي/إبراهيم، و أحضر الجارية فألقيته عليها؛ ثم قال لي: تقيم عندنا يا أبا المهنّأ أو تنصرف؟ فقلت: أنصرف أطال اللّه بقاءك فقد علمت ما أذن لنا فيه، قال: يا غلام، احمل مع أبي المهنّأ عشرة آلاف درهم، و احمل إلى أبي إسحاق مائة ألف درهم ثمن هذه الضّيعة، فحملت العشرة الآلاف الدرهم إليّ، و أتيت منزلي فقلت: أسرّ يومي هذا و أسرّ من عندي، و مضى الرسول إليه بالمال؛ فدخلت منزلي و نثرت على من عندي من الجواري دراهم من تلك البدرة، و توسّدتها و أكلت و شربت و طربت و سررت يومي كلّه؛ فلما أصبحت قلت: و اللّه لآتينّ أستاذي و لأعرفنّ خبره، فأتيته فوجدت الباب كهيئته بالأمس، و دخلت فوجدته على مثل ما كان عليه، فترنّمت و طربت فلم يتلقّ ذلك بما يجب؛ فقلت له: ما الخبر؟ أ لم يأتك المال؟ قال: بلى! فما كان خبرك أنت بالأمس؟ فأخبرته بما كان وهب لي و قلت: ما(2) ينتظر من خلف الستارة، فقال: ارفع السّجف فرفعته فإذا عشر(3) بدر؛ فقلت: و أيّ شيء بقي عليك في أمر الضيعة؟ قال: ويحك! ما هو و اللّه إلا أن دخلت منزلي حتى شححت عليها فصارت مثل ما حويت قديما؛ فقلت: سبحان اللّه العظيم! فتصنع ما ذا! قال: قم حتى ألقي عليك صوتا صنعته يفوق ذلك الصوت؛ فقمت و جلست بين يديه، فألقى عليّ:
و تنبسط الآمال فيه لفضله *** و لا سيما إن كان من ولد الفضل
- الشعر لأبي النّضير(1). و الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل بالبنصر عن الهشاميّ، و ذكر عمرو بن بانة أنه لإسحاق، و هو الصحيح. و فيه خفيف ثقيل، أظنه لحن إبراهيم. أخبرني إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبّة عن إسحاق أن أباه صنع هذا الصوت في طريقة خفيف الثقيل و عرضه على الفضل، فاستحسنه و أمر مخارقا بإلقائه على جواريه فألقاه على مراقش و قضيب فأخذتاه عنه - قال مخارق: فلما ألقى عليّ الصوت سمعت ما لم أسمع مثله قطّ، و صغر عندي الأوّل فأحكمته؛ ثم قال: انهض الساعة إلى الفضل بن يحيى، فإنك تجده لم يأذن لأحد بعد، و هو يريد الخلوة مع جواريه اليوم، فاستأذن عليه و حدّثه بحديثنا أمس، و ما كان من أبيه إلينا و إليك، و أعلمه أنّي قد صنعت هذا الصوت و كان عندي أرفع منزلة من الصوت الذي صنعته بالأمس، و أني ألقيته عليك حتى أحكمته و وجّهت بك قاصدا لتلقيه على فلانة جاريته؛ فصرت إلى باب الفضل فوجدت الأمر على ما ذكر، فاستأذنت فوصلت؛ و سألني:
ما الخبر؟ فأعلمته بخبري في اليوم الماضي و ما وصل إليّ و إليه من المال؛ فقال: أخزى اللّه إبراهيم فما أبخله على نفسه!؛ ثم دعا خادما فقال: اضرب السّتارة فضربها، فقال لي: ألقه، فلمّا غنّيته لم أتمّه حتى أقبل يجرّ مطرفه، ثم قعد على وسادة دون السّتارة، و قال: أحسن و اللّه/أستاذك و أحسنت أنت يا مخارق؛ فلم أخرج حتى أخذته الجارية و أحكمته، فسرّ بذلك سرورا شديدا، و قال: أقم عندي اليوم؛ فقلت: يا سيدي إنما بقي لنا/يوم واحد، و لو لا أنّي أحبّ سرورك لم أخرج من منزلي؛ فقال: يا غلام احمل مع أبي المهنأ عشرين ألف درهم و احمل إلى إبراهيم مائتي ألف درهم؛ فانصرفت إلى منزلي بالمال، ففتحت بدرة فنثرت منها على الجواري و شربت و سررت أنا و من عندي يومنا؛ فلما أصبحت بكّرت إلى إبراهيم أتعرّف خبره و أعرّفه خبري، فوجدته على الحال التي كان عليها أوّلا و آخرا، فدخلت أترنّم و أصفّق؛ فقال لي: ادن؛ فقلت: ما بقي؟ فقال: اجلس و ارفع سجف هذا الباب فإذا عشرون بدرة مع تلك العشر(2)؛ فقلت: ما تنتظر الآن؟ فقال: ويحك! ما هو و اللّه إلا أن حصلت حتى جرت مجرى ما تقدّم؛ فقلت: و اللّه ما أظن أحدا نال في هذه الدولة ما نلته! فلم تبخل على نفسك بشيء تمنّيته دهرا و قد ملّكك اللّه أضعافه! ثم قال: اجلس فخذ هذا الصوت؛ و ألقى عليّ صوتا أنساني و اللّه صوتي الأوّلين:
أ في كلّ يوم أنت صبّ و ليلة *** إلى أمّ بكر لا تفيق فتقصر
أحبّ على الهجران أكناف بيتها *** فيا لك من بيت يحبّ و يهجر
إلى جعفر سارت بنا كلّ جسرة(3) *** طواها سراها نحوه و التهجّر
إلى واسع للمجتدين فناؤه *** تروح عطاياه عليهم و تبكر
- الشعر لمروان بن أبي حفصة يمدح به جعفر بن يحيى. و الغناء لإبراهيم، و لم تقع إلينا طريقته - قال مخارق: ثم قال لي إبراهيم: هل سمعت مثل هذا؟ /فقلت: ما سمعت قطّ مثله. فلم يزل يردّده عليّ حتى أخذته،
ص: 123
ثم قال لي: امض إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأخيه و أبيه؛ قال: فمضيت ففعلت مثل ذلك و خبّرته ما كان منهما و عرضت عليه الصوت، فسر به و دعا خادما فأمره بضرب الستارة و أحضر الجارية و قعد على كرسيّ، ثم قال: هات يا مخارق؛ فاندفعت فألقيت الصوت عليها حتى أخذته؛ فقال: أحسنت و اللّه يا مخارق و أحسن أستاذك، فهل لك في المقام عندنا اليوم؟ فقلت: يا سيّدي هذا آخر أيّامنا، و إنما جئت لموقع الصوت منّي حتى ألقيته على الجارية؛ فقال: يا غلام احمل معه ثلاثين ألف درهم و إلى الموصليّ ثلاثمائة ألف درهم؛ فصرت إلى منزلي بالمال، فأقمت و من معي مسرورين نشرب بقيّة يومنا و نطرب، ثم بكّرت إلى إبراهيم فتلقّاني قائما و قال لي: أحسنت يا مخارق؛ فقلت: ما الخبر؟ فقال: اجلس فجلست، فقال لمن خلف الستارة: خذوا فيما أنتم فيه، ثم رفع السّجف فإذا المال؛ فقلت: ما خبر الضّيعة؟ فأدخل يده تحت مسورة(1) هو متّكئ عليها فقال: هذا صكّ الضيعة، سئل عن صاحبها فوجد ببغداد، فاشتراها منه يحيى بن خالد، و كتب إليّ: قد علمت أنك لا تسخو(2) نفسا بشراء الضيعة من مال يحصل لك و لو حيزت لك الدّنيا كلّها، و قد ابتعتها لك من مالي و وجّهت لك بصكّها؛ و وجّه إليّ بصكها و هذا المال كما ترى؛ ثم بكى و قال لي: يا مخارق إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء، و إذا خنكرت فخنكر(3) لمثل هؤلاء؛ /هذه ستّمائة ألف و ضيعة بمائة ألف و ستون ألف درهم لك، حصّلنا ذلك أجمع و أنا جالس في مجلسي لم أبرح منه، /فمتى يدرك مثل هؤلاء!.
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني أبي عن إسحاق قال:
كان موسى الهادي شكس الأخلاق صعب المزاج(4)، من توقّاه و عرف أخلاقه أعطاه ما أمّل، و من فتح فاه فاتّفق له أن يفتحه بغير ما يهواه أقصاه و اطّرحه، فكان(5) لا يحتجب عن ندمائه و لا عن المغنّين، و كان يكثر جوائزهم و صلاتهم و يواترها(6)؛ فتغنّى أبي عنده يوما؛ فقال له: يا إبراهيم غنّني جنسا من الغناء ألذّ به و أطرب له و لك حكمك؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن لم يقابلني زحل ببرده رجوت أن أصيب ما في نفسك. قال: و كنت لا أراه يصغي إلى شيء من الأغاني إصغاءه إلى النّسيب و الرّقيق منه، و كان مذهب ابن سريج عنده أحمد من مذهب معبد، فغنّيته(7):
و إنّي لتعروني لذكراك هزّة(8) *** كما انتفض العصور بلّله القطر
ص: 124
فضرب بيده إلى جيب(1) درّاعته فحطّها ذراعا، ثم قال: أحسنت و اللّه! زدني، فغنّيت:
فيا حبّها زدني جوى كلّ ليلة *** و يا سلوة الأيّام موعدك الحشر
/فضرب بيده إلى درّاعته فحطّها ذراعا آخر أو نحوه، و قال: زدني ويلك! أحسنت و اللّه، و وجب حكمك يا إبراهيم؛ فغنّيت:
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى *** و زرتك حتى قيل ليس له صبر
فرفع صوته و قال: أحسنت، للّه(2) أبوك! هات ما تريد؛ قلت: يا سيّدي، عين مروان بالمدينة؛ فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان، و قال: يا ابن اللّخناء أردت أن تشهرني بهذا المجلس فيقول الناس: أطربه فحكّمه، فتجعلني سمرا و حديثا! يا إبراهيم الحرّاني: خذ بيد هذا الجاهل إذا قمت، فأدخله في بيت مال الخاصّة، فإن أخذ كلّ ما فيه فخلّه و إيّاه؛ فدخلت فأخذت خمسين ألف دينار.
عجبت لسعي الدّهر بيني و بينها *** فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فيا حبّها زدني جوى كلّ ليلة *** و يا سلوة الأيّام موعدك الحشر
و يا هجر ليلى قد بلغت بي المدى *** و زدت على ما ليس يبلغه الهجر
و إني لتعروني لذكراك هزّة *** كما انتفض العصفور بلّله القطر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى *** و زرتك حتى قيل ليس له صبر
أما و الذي أبكي و أضحك و الذي *** أمات و أحيا و الذي أمره أمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى *** أليفين منها لا يروعهما الذّعر(3)
- الشعر لأبي صخر الهذليّ. و الغناء لمعبد، و أوّل لحنه «و يا هجر ليلى» و بعده الثاني ثم الأوّل من الأبيات ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. و لابن سريج في السادس/و السابع و الرابع و الخامس ثقيل أوّل عن الهشاميّ.
و لعريب في السادس و السابع/و الرابع و الخامس ثقيل أوّل أيضا، و للواثق فيها رمل، و هو مما صنعه الواثق قبلها فعارضته بلحنها. و قد نسب قوم لحن معبد إلى ابن سريج و لحن ابن سريج إلى معبد.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
اشترى جدّك إبراهيم لجعفر بن يحيى جارية مغنّية بمال عظيم، فقال جعفر: أيّ شيء تحسن هذه الجارية
ص: 125
حتى بلغت بها هذا المال كلّه؟ قال: لو لم تحسن شيئا إلا أنها تحكي قولي:
لمن الدّيار ببرقة(1) الرّوحان
لكانت تساويه و زيادة؛ فضحك جعفر و قال: أفرطت!
لمن الديار ببرقة الرّوحان *** إذ لا نبيع زماننا بزمان
صدع الغواني إذ رمين فؤاده *** صدع الزّجاجة ما لذاك تدان
إن زرت أهلك لم أنوّل حاجة *** و إذا هجرتك شفّني هجراني
الغناء لمعبد، فيما ذكره الهشاميّ و أحمد بن المكيّ، ثقيل أوّل بالوسطى، و نسبه غيرهما إلى حنين، و قال آخرون: إنه للغريض، و ذكر حبش أنه ليزيد حوراء. و فيه لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر.
أخبرني الحسين عن حمّاد قال قال لي أبي:
صنع جدّك تسعمائة صوت، منها ديناريّة، و منها درهميّة، و منهما فلسيّة، و ما رأيت أكثر من صنعته؛ فأمّا ثلاثمائة منها فإنه تقدّم الناس جميعا فيها، و أمّا ثلاثمائة، فشاركوه و شاركهم فيها، و أمّا الثلاثمائة الباقية، فلعب و طرب؛ قال: ثم أسقط أبي الثلاثمائة الآخرة بعد ذلك من غناء أبيه، فكان إذا سئل عن صنعة أبيه قال: هي ستّمائة صوت.
و قال أحمد بن حمدون قال لي إسحاق: من غناء أبي الذي أكرهه و أستزريه صوته في شعر العبّاس بن الأحنف:
أبكي و مثلي بكى من حبّ جارية
فما أعلم له فيه معنى إلا استحسانه للشعر، فإن العباس أحسن فيه جدّا.
أبكي و مثلي بكى من حبّ جارية *** لم يخلق اللّه لي في قلبها لينا
هل تذكرين وقوفي عند بابكم *** نصف النهار و أهل الدار لاهونا
الشعر للعبّاس بن الأحنف، و الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى.
ص: 126
أخبرني جحظة قال أخبرني حمّاد بن إسحاق قال:
قال رجل لأبي: أخبرني عنك، لم طعنت على أبيك في صنعته:
قال لي فيها عتيق مقالا *** فجرت مما يقول الدموع
قال: لأنه تعرّض لابن عائشة و له في هذا الشعر صنعة، و ابن عائشة ممن لا يعارض فلم يقاربه، و على أن صنعة أبي من جيّد الغناء لو كان صنعها في غير هذا الشعر، و لكنها اقترنت/بصنعة ابن عائشة فلم تقاربها، فسقط عندي لذلك.
قال لي فيها عتيق مقالا *** فجرت ممّا يقول الدموع
قال لي ودّع سليمى ودعها *** فأجاب القلب لا أستطيع
الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو، و قيل: إنه لابن عائشة. و فيه ثاني ثقيل ينسب إلى الهذليّ. و فيه خفيف ثقيل ينسب إلى ابن عائشة و إلى إبراهيم.
أخبرني الحسن بن عليّ قال أخبرني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد(1) بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني إسحاق عن أبيه قال:
دخلت الرّيّ(2) فكنت آلف فتيانا من أهل النّعم بها و هم لا يعرفونني، فطال ذلك عليّ إلى أن دعاني أحدهم ليلة إلى منزله فبتّ عنده، فأخرج جارية له و مدّ لها ستارة فتغنّت خلفها، فرأيتها صالحة الأداء كثيرة الرواية، فشوّقتني إلى العراق و ذكّرتني أيّامي بها، فدعوت بعود، فلما جيء به اندفعت فغنّيت صوتي في شعري:
أنا بالرّيّ مقيم *** في قرى الرّيّ أهيم
و قد كنت صنعت هذا اللحن قديما بالرّيّ؛ فخرجت الجارية من وراء السّتارة مبادرة إليّ، فأكبّت على رأسي و قالت: أستاذي و اللّه!؛ فقال لها مولاها: أيّ أستاذيك هذا؟ قالت: إبراهيم الموصليّ؛ فإذا هي إحدى الجواري اللاّتي أخذن/عني و طال العهد بها؛ فأكرمني مولاها و برّني و خلع عليّ، فأقمت مدّة بعد ذلك بالرّيّ و انتشر خبري بها، ثم كتب بحملي إلى والي البلد فأشخصت.
ص: 127
أخبرني الحسن قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أبو توبة صالح بن محمد قال حدّثني القطرانيّ عن محمد بن جبر عن يحيى المكّيّ قال:
كنّا يوما بين يدي المهديّ و قد حبس إبراهيم الموصليّ و ضربه و أمر بأن يلبس جبّة صوف، و كان يخرج على تلك الحال فيطرح على الجواري؛ فكتب إلينا ذات يوم، و نحن مصطبحون و قد جادت(1) السماء بمطر صيّف(2)، و بحضرتنا شيء من ورد مبكّر:
ألا من مبلغ قوما *** من اخواني و جيراني
هنيئا لكم الشّرب *** على ورد و تهتان(3)
و أنّي مفرد وحدي *** بأشجاني و أحزاني
فمن جفّ له جفن *** فجفناي يسيلان
قال: فوقف المهديّ على رقعته و قرأها فرقّ له و أمر بطلبه في الوقت، ثم أطلقه بعد بأيّام.
أخبرني الحسن قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني ابن المكّيّ عن أبيه قال:
كانت لعليّ اليمانيّ جارية فهويها إبراهيم و استهيم بها زمانا، و قال فيها:
كنت حرّا فصرت عبد اليماني *** من هوى شادن هواه براني
/و هو نصفان من قضيب و دعص(4) *** زان صدر القضيب رمّانتان
اللحن لإبراهيم في هذين البيتين ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. و قد زعم قوم أن الشعر للحسين(5) بن الضّحاك.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق قال:
كان بعض أهل نهيك(6) قد تعاطى الغناء، فلمّا ظنّ أنه قد أحكمه شاورني و أبي حاضر، فقلت له: إن قبلت
ص: 128
منّي فلا تغنّ فلست فيه كما أرضى؛ فصاح أبي عليّ صيحة شديدة ثم قال لي: و ما يدريك يا صبيّ! ثم أقبل على الرجل فقال: أنت يا حبيبي بضدّ ما قال، و إن لزمت الصّناعة برعت فيها؛ فلما خلا بي قال لي: يا أحمق! ما عليك أن يخزي اللّه مائة ألف مثل هذا! هؤلاء أغنياء ملوك، و هم يعيّروننا بالغناء، فدعهم يتهتكوا به و يعيّروا و يفتضحوا و يحتاجوا إلينا فننتفع بهم، و يبين فضلنا لدى الناس بأمثالهم. قال: و لزمه النّهيكيّ يأخذ عنه و يبرّه فيجزل، فكان إذا غنّى فأحسن قال له: بارك اللّه فيك، و إذا أساء قال: بارك اللّه عليك؛ و كثر ذلك منه حتّى عرف النّهيكيّ معناه فيه، فغنّى يوما و أبي ساه عنه فسكت و لم يقل له شيئا؛ فقال له: جعلت فداك، يا أستاذي، أ هذا الصوت من أصوات «فيك» /أم «عليك»؟ فضحك أبي و لم يكن علم(1) أنه قد فطن لقوله، ثم قال له: و اللّه لأقبلنّ عليك حتّى تصير كما تشتهي، فإنك ظريف أديب؛ و غني به حتى حسن غناؤه و تقدّم. و فيه يقول أبي:
أوجب اللّه لك الح *** قّ على مثلي بظرفك
لن تراني بعد هذا *** ناطقا إلاّ بوصفك
و ترى القوّة فيما *** تشتهيه بعد ضعفك
أخبرني إسماعيل قال حدّثني عمر بن شبّة عن إسحاق، أخبرني به الصّوليّ عن عون بن محمد عن إسحاق قال:
غنّى مخارق بين يدي الرشيد صوتا فأخطأ في قسمته؛ فقلت له: أعد فأعاده، و كان الخطأ خفيّا، فقلت للرّشيد: يا سيّدي، قد أخطأ فيه؛ فقال لإبراهيم بن المهديّ: ما تقول فيما ذكره إسحاق؟ قال: ليس الأمر كما قال، و لا هاهنا خطأ؛ فقلت له: أ ترضى بأبي؟ قال: إي و اللّه، و كان أبي في بقايا علّة؛ فأمر الرشيد بإحضاره و لو محمولا، فجيء به في محفّة؛ فقال لمخارق: أعد الصوت، فأعاده: فقال: ما عندك يا إبراهيم في هذا الصوت؟ فقال: قد أخطأ فيه؛ فقال له: هكذا قال ابنك إسحاق، و ذكر أخي إبراهيم أنه صحيح؛ فنظر إليّ ثم قال: هاتوا دواة، فأتي بها و كتب شيئا لم يقف عليه أحد ثم قطعه و وضعه بين يدي الرشيد، و قال لي: اكتب بذكر الموضع الفاسد من قسمة هذا الصوت، فكتبته و ألقيته فقرأه و سرّ، و قام فألقاه بين يدي الرشيد، فإذا الذي قلناه جميعا متفق؛ فضحك و عجب، و لم يبق/أحد في المجلس إلا قرّظ و أثنى و وصف، و لا أحد خالف إلاّ خجل و ذلّ و أذعن.
و قال أبي في ذلك:
ليت من لا يحسن العل *** م كفانا شرّ علمه
فاخبر الحقّ ابتداء *** و قس العلم بفهمه
طيّب الرّيحان لا تع *** رفه إلا بشمّه
حدّثني جحظة قال حدّثني هبة اللّه، و حدّثني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
غنّى أبي يوما بحضرة الرشيد:
ص: 129
سلي هل قلاني من عشير صحبته *** و هل ذمّ رحلي في الرّفاق رفيق
فطرب و استعاده و أمر له بعشرين ألف درهم، فلما كان بعد سنين(1)، خطر ببالي ذلك الصوت و ذكرت قصّته، فغنّيته إياه؛ فطرب و شرب، ثم قال لي: يا إسحاق، كأني في نفسك ذكرت حديث أبيك و أنّي أعطيته ألف دينار على هذا الصوت فطمعت في الجائزة!؛ فضحكت ثم قلت: و اللّه يا سيّدي ما أخطأت؛ فقال: قد أخذ ثمنه أبوك مرّة فلا تطمع؛ فعجبت من قوله، ثم قلت: يا سيّدي، قد أخذ أبي منك أكثر من مائتي(2) ألف دينار ما رأيتك ذكرت منها غير هذا الألف على بختي(3) أنا؛ فقال: ويحك! أكثر من مائتي(2) ألف دينار؟! قلت: إي و اللّه!؛ فوجم و قال:
أستغفر اللّه من ذلك، ويحك! فما الذي خلّف منها؟ قلت: خلّف/عليّ ديونا مبلغها خمسة آلاف دينار قضيتها عنه؛ فقال: ما أدري أيّنا أشدّ تضييعا! و اللّه المستعان.
سلي هل قلاني من عشير صحبته *** و هل ذمّ رحلي في الرّفاق رفيق
و هل يحتوي القوم الكرام صحابتي *** إذا اغبرّ مخشيّ الفجاج عميق(4)
و لو تعلمين الغيب أيقنت أنّني *** لكم و الهدايا المشعرات(5) صديق
الشعر ينسب إلى مضرّس بن قرط(6) الهلاليّ و إلى قيس بن ذريح، و فيه بيت يقال: إنه لجرير. و الغناء مختلط في أشعار الثلاثة المذكورين، و نسبته تأتي في أخبار قيس بن ذريح، إلا أن الغناء في هذه الثلاثة الأبيات لمعبد ثقيل أوّل بالخنصر في(7) مجرى البنصر عن إسحاق.
أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثتني نشوة الأشنانية(8) قالت أخبرني أبو عثمان يحيى المكيّ قال:
تشوّق يوما إبراهيم الموصليّ إلى سرداب له، و كانت فيه بركة ماء تدخل من موضع إليه و تخرج إلى بستان، فقال: أشتهي أن أشرب يومي و أبيت ليلتي في هذا/السرداب ففعل ذلك، فبينا هو نائم في نصف الليل فإذا
ص: 130
سنّورتان(1) قد نزلتا من درجة السّرداب، بيضاء و سوداء، فقالت إحداهما: أ تراه نائما(2)؟ فقالت السوداء: هو نائم؛ فاندفعت السوداء فغنّت بأحسن صوت:
عفا مزج(3) إلى لصق(4) *** إلى الهضبات من هكر(5)
إلى قاع النّقير(6) إلى *** قرار حلال(7) ذي حدر(8)
قال: فمات إبراهيم فرحا و قال: يا ليتهما أعاداه! فأعاداه مرارا حتى أخذه، ثم تحرّك فقامت السّنّورتان، و سمع إحداهما تقول للأخرى: و اللّه لا طرحه على أحد إلا جنّ، فطرحه من غد على جارية له فجنّت.
الغناء فيه لمالك ثقيل أوّل بالوسطى عن يحيى المكّي و عمرو بن بانة.
أخبرني الحسن بن عليّ و عمّي قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني أبو محمد إسحاق بن إبراهيم عن أبيه قال:
/أتيت الفضل بن يحيى يوما، فقلت له: يا أبا العبّاس، جعلت فداك! هب لي دراهم فإنّ الخليفة قد حبس يده؛ فقال: ويحك يا أبا إسحاق! ما عندي مال أرضاه لك، ثم قال: هاه! إلاّ أن هاهنا خصلة(9) أتانا رسول صاحب اليمن فقضينا حوائجه، و وجّه إلينا بخمسين ألف دينار يشتري لنا بها محبّتنا؛ فما فعلت ضياء جاريتك؟ قلت: عندي، جعلت فداك!؛ قال: فهو ذا، أقول لهم يشترونها منك فلا تنقصها من خمسين ألف دينار؛ فقبّلت رأسه ثم انصرفت؛ فبكّر عليّ رسول صاحب اليمن و معه صديق لي، فقال: جاريتك فلانة عندك؟ فقلت: عندي؛ فقال: اعرضها عليّ، فأخرجتها؛ قال: بكم؟ قلت: بخمسين ألف دينار و لا أنقص منها دينارا واحدا، و قد أعطاني بها الفضل بن يحيى أمس هذه العطيّة؛ فقال لي: أريدها له؛ فقلت له: أنت أعلم، إذا اشتريتها فصيّرها لمن شئت؛
ص: 131
فقال لي: هل لك في ثلاثين ألف دينار مسلّمة لك؟ قال: و كان شراء الجارية على أربعمائة دينار، فلما وقع في أذني ذكر ثلاثين ألفا أرتج عليّ و لحقني زمع(1)، و أشار عليّ صديقي الذي معه البيع، و خفت و اللّه أن يحدث بالجارية حدث أو بي بالفضل بن يحيى، فسلّمتها و أخذت المال؛ ثم بكّرت على الفضل بن يحيى، فإذا هو جالس وحده؛ فلما نظر إليّ ضحك، ثم قال لي: يا ضيّق الحوصلة(2)! حرمت نفسك عشرين ألف دينار؛ فقلت له: جعلت فداك، دع ذا عنك، فو اللّه لقد دخلني شيء أعجز عن وصفه و خفت أن تحدث بي حادثة أو بالجارية أو بالمشتري أو بك، أعاذك اللّه من/كل سوء، فبادرت بقبول الثلاثين ألف دينار؛ فقال: لا ضير، يا غلام جيء بالجارية، فجاء بجاريتي بعينها؛ فقال: خذها مباركا لك فيها، فإنما أردنا منفعتك و لم نرد الجارية؛ فلما نهضت(3)، قال لي: مكانك، إنّ صاحب إرمينية قد جاءنا فقضينا حوائجه و نفذنا كتبه، و ذكر أنه قد جاءنا بثلاثين ألف دينار يشتري لنا بها ما نحبّ، فاعرض عليه جاريتك هذه و لا تنقصها من ثلاثين ألف دينار؛ فانصرفت بالجارية و بكّر إليّ رسول صاحب إرمينية و معه صديق لي آخر، فقاولني بالجارية، فقلت: لست أنقصها من ثلاثين ألف دينار؛ فقال لي: معي على الباب عشرون ألف دينار تأخذها مسلّمة، بارك اللّه لك فيها؛ فدخلني و اللّه مثل الذي دخلني في المرّة الأولى و خفت مثل خوفي الأوّل، فسلّمتها و أخذت المال؛ و بكّرت على الفضل بن يحيى فإذا هو وحده؛ فلما رآني ضحك و ضرب برجله الأرض و قال: ويحك! حرمت نفسك عشرة آلاف دينار؛ فقلت: أصلحك اللّه، خفت و اللّه ما خفت في المرّة الأولى؛ قال: لا ضير، أخرج يا غلام جاريته؛ فجاء بجاريتي بعينها، فقال: خذها، ما أردناها و لا أردنا إلا منفعتك(4)؛ فلما ولّت الجارية صحت بها: ارجعي فرجعت؛ فقلت: أشهدك، جعلت فداك، أنها حرّة لوجه اللّه و أني قد تزوّجتها على عشرة آلاف درهم، كسبت لي في يومين/خمسين ألف دينار، فما جزاؤها إلا هذا؛ فقال:
وفّقت إن شاء اللّه.
اللطيف، يحسبوني(1) بالشراب الجيّد و يخبؤه لي، فجئت إلى باري يوما فلقيني خمّاري، فقال لي: يا أبا إسحاق عندي شيء من بابتك(2)، و قد كنت عملت لحني هذا:
اشرب الرّاح و كن في *** شربك الرّاح وقورا
فاشرب الرّاح رواحا *** و ظلاما و بكورا
- الشعر و الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى(3). و فيه لمنصور زلزل الضارب خفيف رمل عن حبش - قال: فدخلت بيته و بزلت(4) دنّه و جعلت أرجّع الصوت؛ فبهت ينظر إليّ و النبيذ يجري حتى امتلأ الإناء و فاض؛ فقلت له: ويحك! شرابك قد فاض؛ فقال: دعني من شرابي، باللّه مات لك إنسان في هذه الأيام؟ فقلت:
لا؛ قال: فما بال حلقك هذا حزينا(5)؟.
أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن عمّه طيّاب بن إبراهيم قال:
دخلت على أبي يوما و عنده مخارق و أبي يلقي عليه هذا الصوت:
- الشعر للأحوص، و الغناء لإبراهيم ما خوريّ بالبنصر عن عمرو - قال: فلما أخذه مخارق جعل أبي يبكي، ثم قال له: يا مخارق، نعم وسيلة(1) إبليس أنت في الأرض، أنت و اللّه بعدي صاحب اللّواء في هذا الشأن.
أخبرني الحسن بن عليّ و عمّي قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك عن إسحاق قال:
لما صنع أبي لحنه في:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد *** و شفت أنفسنا مما تجد
خاصمته و عبته في صنعته، و قلت له: أما بإزائك من ينتقد أنفاسك و يعيب محاسنك و أنت لا تفكّر! تجيء إلى صوت قد عمل فيه ابن سريج لحنا فتعارضه بلحن لا يقاربه و الشعر أوسع من ذلك! فدع ما قد اعتورته(2) صناعة القدماء و خذ في غيره؛ فغضب، و كنت لا أزال أفاخره بصنعتي و أعيب ما يعاب من صنعته، فإن قبل منّي فذلك، و إن غضب داريته و ترضّيته؛ فقال لي: ما يعلم اللّه أني أدعك أو تفاخرني بخير صوت صنعته في الثقيل الثاني في طريقة هذا الصوت؛ فلمّا رأيت الجدّ منه اخترت صنعتي في هذا اللّحن:
قل لمن صدّ عاتبا *** و نأى عنك جانبا
/قد بلغت الذي أرد *** ت و إن كنت لاعبا
و كان ما تجاريناه و نحن نتساير خارجين إلى الصحراء نقطع فضلة خمار بنا(3)؛ فقال: من تحبّ أن يحكم بيني و بينك؟ فقلت: من ترى أن يحكم هاهنا؟ قال: أوّل من يطلع [علينا](4) أغنّيه لحني و تغنّيه لحنك؛ فطمعت فيه و قلت نعم؛ فأقبل شيخ نبطيّ يحمل شوكا على حمار له، فأقبل عليه أبي فقال: إنّي و صاحبي هذا قد تراضينا بك في شيء؛ قال: و أيّ شيء هو؟ فقلنا: زعم كلّ واحد منّا أنه أحسن غناء من صاحبه، /فتسمع منّي و منه و تحكم؛ فقال: على اسم اللّه؛ فبدأ أبي فغنّى لحنه، و تبعته فغنّيت لحني، فلما فرغت أقبل عليّ فقال لي: قد حكمت عليك عافاك اللّه و مضى؛ فلطمني أبي لطمة ما مرّ بي مثلها منه قطّ، و سكتّ فما أعدت عليه حرفا و لا راجعته بعد ذلك في هذا المعنى حتى افترقنا.
ليت هندا أنجزتنا ما تعد *** و شفت أنفسنا ممّا تجد
و استبدّت مرّة واحدة *** إنما العاجز من لا يستبدّ
ص: 134
زعموها سألت جاراتها(1) *** ذات يوم و تعرّت تبترد(2)
أ كما ينعتني تبصرنني *** عمركنّ اللّه أم لا يقتصد
فتضاحكن(3) و قد قلن لها *** حسن في كلّ عين من تودّ
حسدا حمّلنه من أجلها *** و قديما كان في الناس الحسد
الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و لحن إبراهيم فيه ثاني ثقيل بالوسطى. و فيه لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر. و فيه لمالك خفيف ثقيل بالخنصر و البنصر عن يحيى المكيّ، و ذكره إسحاق في هذه الطريقة و لم ينسبه إلى أحد، و قال الهشاميّ: أدلّ شيء على أنه لمالك شبهه للحنه:
اسلمي يا دار من هند
/و فيه لمتيّم ثقيل أوّل. و أما لحن إسحاق الذي فاخر به صنعة أبيه، فقد كتب شعره و الصنعة فيه - و هما(4)جميعا لإسحاق، و لحنه ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو - في أخبار إسحاق.
و ذكر أحمد بن أبي طاهر أنّ حمّاد بن إسحاق حدّثه عن أبيه قال:
كان الرشيد قد وجد على منصور زلزل لشيء بلغه عنه، فحبسه(5) عشر سنين أو نحوها؛ فقام الرشيد يوما لحاجته، فجعل إبراهيم يغنّي صوتا صنعه في شعر كان قاله في حبس زلزل، و هو:
هل دهرنا بك راجع يا زلزل *** أيّام يبغينا العدوّ المبطل
أيام أنت من المكاره آمن *** و الخير متّسع علينا مقبل
يا بؤس من فقد الإمام و قربه *** ما ذا به من ذلّة لو يعقل
ما زلت بعدك في الهموم مردّدا *** أبكي بأربعة(6) كأنّي مثكل
- الشعر و الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو - قال: و دخل الرشيد و هو في ذلك/فجلس في مجلسه، ثم قال: يا إبراهيم، أيّ شيء كنت تقول؟ فقال: خيرا يا سيّدي؛ فقال: هاته فتلكّأ، فغضب الرشيد و قال:
هاته فلا مكروه عليك، فردّ الغناء؛ فقال له: أ تحبّ أن تراه؟ فقال: و هل ينشر أهل القبور؟ فقال: هاتوا زلزلا، فجاءوا به و قد ابيضّ رأسه و لحيته فسرّ به إبراهيم؛ و أمره فجلس، و أمر/إبراهيم فغنّى و ضرب عليه فزلزلا الدنيا، و شرب الرشيد على ذلك رطلا، و أمر بإطلاق زلزل و أسنى جائزتهما و رضي عنه و صرفه إلى منزله. قال: و زلزل
ص: 135
أوّل من أحدث هذه العيدان الشّبابيط(1)، و كانت قديما على عمل عيدان الفرس، فجاءت عجبا من العجب. قال:
و كانت أخت زلزل تحت إبراهيم، و قد ولدت منه.
أخبرني محمد بن مزيد عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
أوّل من تعلّمت منه الغناء مجنون، كان إذا صيح به: يا مضر، يهيج و يرجم؛ فبلغني أنه يغنّي أصواتا فيجيدها، أخذها عن قدماء أهل الحجاز، فكنت أدخله إليّ فأطعمه و أسقيه و أخدعه حتى آخذ عنه، و كان حاذقا؛ فأوّل صوت أخذته عنه:
أرسلي بالسّلام يا سلم إنّي *** منذ علّقتكم غنيّ فقير
فالغنى إن ملكت أمرك و الفق *** ر بأنّي أزور من لا يزور
ويح نفسي! تسلو النفوس و نفسي *** في هوى الرّيم ذكرها ما يحور
من لنفس تتوق أنت هواها *** و فؤاد يكاد فيك يطير
ثم مكثت زمانا آخذ عنه، و كان إذا عاد إليه عقله من أحذق الناس و أقومهم على ما يؤدّيه؛ ثم غاب عنّي فما أعرف خبره.
و هذا الشعر للوليد بن يزيد. و الغناء ليونس خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، و ذكر غيره أنه لعمر(2) الواديّ، و فيه لوجه القرعة ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن جدّه قال:
خرجت مع الرشيد إلى الشام لمّا غزا، فدعاني يوما فدخلت إليه إلى مجلس لم أر أحسن منه مفروش بأنواع الرّخام، فأكل و أمرني فأكلت معه، و جعلت أتولّى خدمته إلى العصر، ثم دعا بالنبيذ فشرب و سقاني معه، ثم خلع عليّ خلعة وشى من ثيابه و أمر لي بألف دينار، ثم قال: انظر يا إبراهيم، كم من يد أوليتك إيّاها اليوم! نادمتني مفردا، و آكلتني، و خلعت عليك ثيابي من بدني، و وصلتك، و أجلستك في إيوان مسلمة بن عبد الملك تشرب معي؛ فقلت: يا سيّدي، ما ذهب عليّ شيء من تفضّلك، و إنّ نعمك عندي لأكثر من أن تحصى، و قبّلت رجله و الأرض بين يديه.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال قال دعبل بن عليّ:
لمّا ولى الرشيد الخلافة و جلس للشرب بعد فراغه من إحكام الأمور و دخل عليه المغنّون، كان أوّل من غنّاه إبراهيم الموصليّ بشعره فيه، و هو:
ص: 136
إذا ظلم البلاد(1) تجلّلتنا *** فهارون الإمام لها(2) ضياء
بهارون استقام العدل فينا *** و غاض الجور و انفسح الرجاء
/رأيت الناس قد سكنوا إليه *** كما سكنت إلى الحرم الظّباء
تبعت من الرسول سبيل حقّ *** فشأنك في الأمور به اقتداء
/فقال له الخادم من خلف الستارة: أحسنت يا إبراهيم في شعرك و غنائك، و أمر له بعشرين ألف درهم.
لحن إبراهيم في هذا الصوت ثقيل أوّل بالسبّابة و الوسطى عن أحمد بن المكّي.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثني أبي قال:
كنت أنا و أبو سعيد النّهديّ(3) و هاشم بن سليمان المغنّي يوما مجتمعين في بستان لنا و نحن نشرب و هاشم يغنّينا؛ فلمّا توسّطنا أمرنا إذا نحن برجل قد دخل علينا البستان جميل الهيئة حسن الزّيّ، فلمّا بصرنا به من بعيد، وثب هاشم يعدو حتى لقيه، فقبّل يده و عانقه، و لم يعرفه أحد منا، فجاء و سلّم سلام الصّديق على صديقه، ثم قال: خذوا في شأنكم، فإني اجتزت بكم فسمعت غناء أبي القاسم فاستخفّني و أطربني، فدخلت إليكم واثقا بأنه لا يعاشر إلاّ فتى ظريفا يستحسن هذا الفعل و يسرّه، و لي في هذا إمام و هو عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام، فإنه سمع غناء عند قوم فدخل بغير إذن ثم قال: إنما أدخلني عليكم مغنّيكم لمّا غنّى:
قل لكرام ببابنا يلجوا *** ما في التّصابي على الفتى حرج
و أنا أعلم أنّ نفوسكم متعلقة بمعرفتي، فمن عرفني فقد اكتفى، و من جهلني فأنا إبراهيم الموصليّ؛ فقمنا فقبّلنا رأسه و سررنا به أتمّ سرور، و انعقدت بيننا و بينه يومئذ مودّة، ثم غاب عنّا غيبة طويلة، و إذا هاشم قد أنفذ إلينا منه رقعة فيها:
أ هاشم هل لي من سبيل إلى التي *** تفرّق همّ النفس في كل مذهب
معتّقة صرفا كأنّ شعاعها *** تضرّم نار أو توقّد كوكب
/ألا ربّ يوم قد لهوت و ليلة *** بها و الفتى النّهديّ و ابن المهلّب
ندير مداما بيننا بتحيّة *** و تفدية بالنفس و الأمّ و الأب
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
ص: 137
كان(1) لي و أنا صبيّ عقعق(2) قد ربّيته و كان يتكلّم بكلّ شيء سمعه، فسرق خاتم ياقوت كان لأبي(3) قد وضعه على تكأته و دخل الخلاء ثم خرج و لم يجده، فطلبه و ضرب غلامه الذي كان واقفا، فلم يقف له على خبر؛ فبينا أنا ذات يوم في دارنا إذ أبصرت العقعق قد نبش ترابا فأخرج الخاتم منه و لعب به طويلا، ثم ردّه فيه و دفنه، فأخذته و جئت به إلى أبي، فسرّ بذلك و قال يهجو العقعق:
إذا بارك اللّه في طائر *** فلا بارك اللّه في العقعق
طويل الذّنابى(4) قصير الجناح *** متى ما يجد غفلة يسرق
يقلّب عينين في رأسه *** كأنهما قطرتا زئبق
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أحمد بن المكّيّ، و ذاكرت أبا أحمد بن جعفر جحظة بهذا الخبر فقال حدّثني به محمد بن أحمد بن يحيى المكي/المرتجل(5) عن أبيه عن جدّه، و وجدت هذا الخبر في بعض الكتب عن عليّ بن محمد بن نصر عن جدّه حمدون بن إسماعيل فجمعت الروايات كلّها:
/أنّ الرشيد قال يوما لجعفر بن يحيى: قد طال سماعنا هذه العصابة على اختلاط الأمر فيها فهلمّ أقاسمك إياها و أخايرك، فاقتسما المغنّين، على أن جعلا بإزاء كل رجل نظيره، و كان ابن جامع في حيّز الرشيد و إبراهيم في حيّز جعفر بن يحيى، و حضر الندماء لمحنة(6) المغنّين، و أمر الرشيد ابن جامع فغنّى صوتا أحسن فيه كلّ الإحسان و طرب الرشيد غاية الطرب، فلما قطعه قال الرشيد لإبراهيم: هات يا إبراهيم هذا الصوت فغنّه؛ فقال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين ما أعرفه، و ظهر الانكسار فيه؛ فقال الرشيد لجعفر: هذا واحد، ثم قال لإسماعيل بن جامع: غنّ يا إسماعيل، فغنّى صوتا ثانيا أحسن من الأول و أرضى في كل حال، فلما استوفاه قال الرشيد لإبراهيم: هاته يا إبراهيم، قال: و لا أعرف هذا؛ فقال: هذان اثنان، غنّ يا إسماعيل، فغنّى ثالثا يتقدّم الصوتين الأوّلين و يفضلهما، فلما أتى على آخره، قال: هاته يا إبراهيم، قال: و لا أعرف هذا أيضا؛ فقال له جعفر: أخزيتنا أخزاك اللّه. قال: و أتمّ ابن جامع يومه و الرشيد مسرور به، و أجازه بجوائز كثيرة و خلع عليه خلعا فاخرة، و لم يزل إبراهيم منخذلا منكسرا حتى انصرف. قال: فمضى إلى منزله، فلم يستقرّ فيه حتى بعث إلى محمد المعروف بالزّف(7)، و كان محمد من المغنّين المحسنين، و كان أسرع من عرف في أيامه في أخذ صوت يريده أخذه، و كان الرشيد قد وجد عليه في بعض ما يجده الملوك على أمثاله فألزمه بيته و تناساه؛ فقال إبراهيم للزّف: إني اخترتك على من هو
ص: 138
أحبّ إليّ منك، لأمر لا يصلح له غيرك، فانظر كيف تكون(1)! قال: أبلغ في ذلك محبّتك إن شاء اللّه تعالى؛ فأدّى إليه الخبر و قال: أريد أن تمضي الساعة/إلى ابن جامع، فتعلمه أنك صرت إليه مهنّئا بما تهيّأ له عليّ، و تنقّصني(2)و تثلبني(3) و تشتمني، و تحتال في أن تسمع منه الأصوات و تأخذها منه، و لك ما تحبّه من جهتي من عرض من الأعراض مع رضا الخليفة إن شاء اللّه. قال: فمضى من عنده و أستأذن على ابن جامع فأذن له، فدخل و سلّم عليه و قال: جئتك مهنّئا بما بلغني من خبرك، و الحمد للّه الذي أخزى ابن الجرمقانيّة(4) على يدك، و كشف الفضل في محلّك من صناعتك؛ قال: و هل بلغك خبرنا؟ قال: هو أشهر من أن يخفى على مثلي؛ قال: ويحك! إنه يقصر عن العيان؛ قال: أيها الأستاذ، سرّني بأن أسمعه من فيك حتى أرويه عنك، و أسقط بيني و بينك الأسانيد؛ قال: أقم عندي حتى أفعل؛ قال: السمع و الطاعة؛ فدعا له ابن جامع بالطعام فأكلا و دعا بالشراب، ثم ابتدأ فحدّثه بالخبر حتى انتهى إلى خبر الصوت الأوّل؛ فقال له الزّف: و ما هو أيها الأستاذ؟ فغنّاه ابن جامع إياه، فجعل محمد يصفّق و ينعر(5) و يشرب و ابن جامع مجتهد في شأنه حتى أخذه عنه. ثم سأله عن الصوت الثاني، فغنّاه إياه، و فعل مثل فعله في الصوت الأوّل، ثم كذلك في الصوت الثالث؛ فلما أخذ الأصوات الثلاثة كلّها و أحكمها قال له: يا أستاذ، قد بلغت ما أحبّ، فتأذن لي في الانصراف؟ قال: إذا شئت؛ فانصرف محمد من وجهه إلى إبراهيم؛ /فلما طلع من باب داره قال له: ما وراءك؟ قال: كلّ ما تحب، ادع لي بعود، فدعا له به، فضرب و غنّاه الأصوات؛ قال إبراهيم:
و أبيك/هي بصورها(6) و أعيانها، ردّدها عليّ الآن، فلم يزل يردّدها حتى صحّت لإبراهيم، و انصرف الزّف إلى منزله؛ و غدا إبراهيم إلى الرشيد، فلما دعا بالمغنّين دخل فيهم، فلما بصر به قال له: أو قد حضرت! أ ما كان ينبغي لك أن تجلس في منزلك شهرا بسبب ما لقيت من ابن جامع! قال: و لم ذلك يا أمير المؤمنين؟ جعلني اللّه فداءك! و اللّه لئن أذنت لي أن أقول لأقولنّ؛ قال: و ما عساك أن تقول؟ قل؛ فقال: إنه ليس ينبغي لي و لا لغيري أن يراك نشيطا لشيء فيعارضك، و لا أن تكون متعصّبا لحيّز و جنبة(7) فيغالبك، و إلا فما في الأرض صوت لا أعرفه، قال:
دع ذا عنك، قد أقررت أمس بالجهالة بما سمعت من صاحبنا، فإن كنت أمسكت عنه بالأمس على معرفة كما تقول فهاته اليوم، فليس هاهنا عصبيّة و لا تمييز، فاندفع فأمرّ الأصوات كلّها، و ابن جامع مصغ يسمع منه، حتى أتى على آخرها؛ فاندفع ابن جامع فحلف بالأيمان المحرجة أنه ما عرفها قطّ و لا سمعها و لا هي إلا من صنعته، و لم تخرج إلى أحد غيره؛ فقال له: ويحك! فما أحدثت بعدي؟ قال: ما أحدثت حدثا؛ فقال: يا إبراهيم بحياتي اصدقني! فقال: و حياتك لأصدقنّك، رميته بحجره(8)، فبعثت له بمحمد الزّف و ضمنت له ضمانات، أوّلها رضاك عنه،
ص: 139
فمضى فاحتال(1) لي عليه حتى أخذها عنه و نقلها إليّ، و قد(2) سقط الآن اللّوم عنّي بإقراره، لأنه ليس عليّ أن أعرف ما صنعه هو و لم يخرجه إلى الناس، و هذا باب من الغيب، و إنما يلزمني أن يعرف(3) هو شيئا من غناء الأوائل و أجهله أنا، و إلاّ فلو لزمني أن أروى صنعته للزمه أن/يروى صنعتي، و لزم كلّ واحد منا لسائر(4) طبقته و نظرائه مثل ذلك، فمن قصّر عنه كان مذموما ساقطا؛ فقال له الرشيد: صدقت يا إبراهيم، و نضحت(5) عن نفسك، و قمت بحجّتك؛ ثم أقبل على ابن جامع فقال له: يا إسماعيل، أتيت أتيت! دهيت دهيت! أبطل عليك الموصليّ ما فعلته به أمس و انتصف اليوم منك؛ ثم دعا بالزّفّ فرضي عنه.
قال عليّ بن محمد: سألت خالي أبا عبد اللّه بن حمدون و قد تجارينا هذا الخبر: هل تعرف أصوات ابن جامع هذه؟ فأخبرني أنه سمع إسحاق يحكى هذه القصّة، و ذكر أنّ الصوت الأوّل منها:
بكيت نعم بكيت و كلّ إلف *** إذا بانت قرينته بكاها
و ما فارقت لبنى عن تقال(6) *** و لكن شقوة بلغت مداها
الشعر لقيس بن ذريح. و الغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى. و فيه ليحيى المكيّ ثاني ثقيل آخر بالخنصر و البنصر من كتابه. و فيه لإبراهيم ثقيل(7) أوّل عن الهشاميّ.
قال: و الثاني منها.
عفت دار سلمى بمفضى الرّغام *** رياح تعاقبها(8) كلّ عام
خلاف(9) الحلول بتلك الطّلول *** و سحب الذّيول بذاك المقام
/و أنس الديار و قرب الجوار *** و طيب المزار و ردّ السلام
و دهر غرير(10) و عيش السّرور *** و نأى الغيور و حسن الكلام
الشعر لحمّاد الرّاوية. و الغناء لابن جامع ثقيل أوّل بالبنصر؛ [ذكر(11) ذلك الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو].
ص: 140
قال ابن حمدون: و هذا الصوت عجيب الصنعة، كثير النّغم، محكم العمل، من صدور أغاني ابن جامع و متقدّم صنعته، و كان المعتصم معجبا به، و كثيرا ما كان يسكت المغنّين إذا غنّي بحضرته فلا يسمع سائر يومه غيره.
قال: و الثالث منها:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر *** عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها *** أ رأيت عينا للبكاء تعار
الشعر للعبّاس بن الأحنف. و الغناء لابن جامع ثقيل أوّل بالوسطى؛ و قال ابن حمدون: و عارضه إبراهيم بعد ذلك في [هذا] (1) الشعر، فصنع فيه لحنا من الرّمل بالبنصر في مجراها، فلم يلحقه و لا قاربه. قال: و قد صنع أيضا في هذا الشعر لحن خفيف فاسد الصنعة محدث ليس ينبغي أن يذكر هاهنا.
حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني أبو عبد اللّه الحزنبل قال حدّثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل عن أبيه قال:
أنشد بشار قول العبّاس بن الأحنف:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر *** عينا لغيرك دمعها مدرار
/فقال بشار: لحق و اللّه هذا الفتى بالمحسنين، و ما زال يدخل نفسه معنا و نحن نخرجه حتى قال هذا الشعر.
حدّثني محمد بن يحيى قال حدّثني ميمون بن هارون عن إسحاق قال:
أنشد الرشيد قول العباس:
من ذا يعيرك عينه تبكي بها *** أ رأيت عينا للبكاء تعار
فقال: يعيره من لا حاطه اللّه و لا حفظه.
و مما يغنّى فيه من قصيدة العبّاس بن الأحنف الرائيّة التي هذا الصوت(1) الأخير منها قوله:
الحبّ أوّل ما يكون لجاجة *** تأتي به و تسوقه الأقدار
حتى إذا سلك الفتى لجج الهوى *** جاءت أمور لا تطاق كبار
غنّاه ابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر. و فيه لشاطرة امرأة منصور زلزل ثقيل(2) أوّل بالوسطى عن الهشامي. و ذكر
ص: 141
ابن المكيّ المرتجل أنّ هذه الأصوات الثلاثة المسروقة(1) من ابن جامع:
/
يا قبر بين بيوت آل محرّق(2)
و:
عفا طرف القريّة(3) فالكثيب
و أسقط منها قوله:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر
و:
بكيت نعم بكيت و كلّ إلف
السماء، فقتلهما في سخطه عليهما؛ و خبر ذلك مشهور في أخبار ابن(1) جامع. و الغناء لابن جامع، و له فيه لحنان:
ثقيل أوّل بالوسطى، و رمل بالبنصر، و قيل: إن الرّمل لابن سريج. و ذكر حبش أن لمحمد صاحب البرام فيه لحنا من الثقيل الثاني بالوسطى.
/و منها:
عفا رسم(2) القريّة فالكثيب *** إلى ملحاء(3) ليس بها عريب(4)
تأبّد(5) رسمها و جرى عليها *** سفيّ(6) الريح و التّرب الغريب
فإنك و اطّراحك وصل سعدى *** لأخرى في مودّتها نكوب
كثاقبة لحلي مستعار *** بأذنيها فشأنهما(7) الثّقوب
فردّت حلي جارتها إليها *** و قد بقيت بأذنيها ندوب(8)
الشعر لابن هرمة. و الغناء لابن جامع ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. [عن إسحاق](9). و فيه للغريض ثاني ثقيل آخر بالبنصر عن عمرو. و قال عمرو: فيه لحن للهذليّ، و لم يجنّسه.
أخبرني(10) محمد بن خلف وكيع قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني عيسى بن أيوب القرشيّ قال حدّثني غيث بن عبد الكريم عن فليح بن إسماعيل عن إسماعيل بن جعفر الفقيه مولى حرب(11)عن أبيه قال:
/مررت بابن هرمة و هو جالس على دكّان(12) في بني زريق، فقلت له: يا أبا إسحاق، ما يجلسك هاهنا؟ قال: بيت كنت قلته ثم انقطع عليّ الرويّ فيه و تعذّر عليّ ما أشتهيه، فأبغضته و تركته؛ قلت: ما هو؟ قال:
ص: 143
فإنك و اطّراحك وصل سعدى *** لأخرى في مودّتها نكوب
قال: قلته ثم انقطع بي فيه؛ فمرّت بي جويرية صفراء مليحة كنت أستحسنها أبدا و أكلّمها إذا مرّت بي، فمرّت اليوم فرأيتها و قد ورم وجهها و تغيّر خلقها، [عما أعرف](1)، فسألتها عن خبرها فقالت: [كان في بني فلان عرس أردت حضوره](1) فاستعار لي أهلي حليا و ثقبوا أذني لألبسه فورم وجهي و أذناي كما ترى، فردّوه و لم أشهد العرس؛ قال ابن هرمة: فاطّرد لي الشعر فقلت:
كثاقبة لحلي مستعار *** بأذنيها فشأنهما الثقوب
فردّت حلّي جارتها إليها *** و قد بقيت بأذنيها ندوب
أخبرني الحسين بن القاسم قال حدّثني العبّاس بن الفضل قال حدّثني أبي قال:
قال الرشيد لإبراهيم بن المهديّ و إبراهيم الموصليّ و ابن جامع و ابن أبي الكنّات: باكروني غدا، و ليكن كلّ واحد قد قال شعرا إن كان يقدر أن يقوله، و غنّى فيه لحنا، و إن لم يكن شاعرا غنّى في شعر غيره. قال إبراهيم بن المهديّ: فقمت في السّحر و جهدت أن أقدر على شيء أصنعه فلم يتّفق لي، فلمّا خفت طلوع الفجر دعوت بغلماني و قلت لهم: إني أريد أن أمضي إلى موضع و لا يشعر بي أحد/حتى أصير إليه، و كانوا(2) يبيتون على باب داري، فقمت فركبت و قصدت دار إبراهيم الموصليّ، و كان قد حدّثني أنه إذا أراد الصنعة لم ينم حتى يدبّر ما يحتاج إليه، و إذا قام لحاجته في السّحر(3) اعتمد على خشبة له في المستراح، فلم يزل يقرع عليها حتى يفرغ من الصوت و يرسخ في قلبه، فجئت حتى وقفت تحت مستراحه، فإذا هو يردّد هذا الصوت:
إذا سكبت في الكأس قبل مزاجها *** ترى لونها في جلدة الكأس مذهبا
و إن مزجت راعت بلون تخاله *** إذا ضمّنته الكأس في الكأس كوكبا
أبوها نجاء(4) المزن و الكرم أمّها *** فلم أر زوجا(5) منه أشهى و طيبا
فجاءتك(6) صفرا أشبهت غير جنسها *** و ما أشبهت في اللون أمّا و لا أبا
قال: فما زلت واقفا أستمع منه الصوت حتى أخذته؛ ثم غدونا إلى الرشيد، فلمّا جلسنا للشّرب خرج الخادم إليّ فقال: يقول لك أمير المؤمنين: يا ابن أمّ غنّني؛ فاندفعت فغنّيت هذا الصوت و الموصليّ في الموت حتى فرغت
ص: 144
منه، فشرب عليه و أمر لي بثلاثمائة ألف/درهم؛ فوثب إبراهيم الموصليّ فحلف بالطلاق و حياة/الرشيد أنّ الشعر له قاله البارحة و غنّى فيه، ما سبقه إليه أحد؛ فقال إبراهيم: يا سيّدي، فمن أين هو لي أنا لو لا كذبه و بهته(1)! و إبراهيم يضطرب و يضجّ(2)؛ فلمّا قضيت أربا من العبث به قلت للرشيد: الحقّ أحقّ أن يتّبع، و صدقته؛ فقال للموصليّ: أمّا أخي فقد أخذ المال و لا سبيل إلى ردّه، و قد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضا مما جرى عليه، فلو بدأت أنت بالصوت لكان هذا حظّك؛ فأمر له بها فحملت إليه.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن مخارق قال:
أتى إبراهيم الموصليّ محمد بن يحيى بن خالد في يوم مهرجان، فسأله محمد أن يقيم عنده؛ فقال: ليس يمكنني لأن رسول أمير المؤمنين قد أتاني(3)؛ قال: فتمرّ بنا إذا انصرفت و لك عندي كلّ ما يهدى إليّ اليوم؟ فقال:
نعم، و ترك في المجلس صديقا له يحصي ما يبعث [به](4) إليه؛ قال: فجاءت هدايا عجيبة من كلّ ضرب؛ قال:
و أهدي إليه تمثال فيل من ذهب عيناه ياقوتتان؛ فقال محمد للرجل: لا تخبره بهذا حتى نبعث به إلى فلانة ففعل؛ و انصرف إبراهيم إليه فقال: أحضرني ما أهدي لك، فأحضره ذلك كلّه إلا التمثال، و قال: لا بدّ من صدقك، كان من الأمر كذا و كذا؛ فقال: لا! إلاّ على الشّريطة و كما ضمنت، فجيء بالتمثال؛ فقال إبراهيم: أ ليس الهديّة لي فأعمل فيها ما أريد؟ قال: بلى، قال: فردّ التمثال على الجارية؛ و جعل يفرّق الهدايا على جلساء محمد شيئا شيئا و على جميع من حضر من إخوانه و غلمانه و على من في دور الحرم(5) من جواريه حتى لم يبق منها شيء، ثم أخذ من/المجلس تفّاحتين لمّا أراد الانصراف و قال: هذا لي، و انصرف؛ فجعل محمد يعجب من كبر نفسه و نبله.
و قال أحمد بن المرزبان حدّثني بعض كتاب السلطان:
أنّ الرشيد هبّ ليلة من نومه، فدعا بحمار كان يركبه في القصر أسود قريب من الأرض فركبه، و خرج في درّاعة وشي متلثّما بعمامة و شيء ملتحفا بإزار وشي، بين يديه أربعمائة/خادم أبيض(6) سوى الفرّاشين، و كان مسرور(7) الفرغانيّ جريئا عليه لمكانه عنده، فلما خرج من باب القصر قال: أين يريد أمير المؤمنين في هذه الساعة؟ قال: أردت منزل الموصليّ. [قال مسرور:](8) فمضى و نحن معه و بين يديه حتى انتهى إلى منزل إبراهيم؛ فخرج فتلقّاه و قبّل حافر حماره و قال له: يا أمير المؤمنين، أ في مثل هذه الساعة تظهر! قال: نعم، شوق طرق لك
ص: 145
بي؛ ثم نزل فجلس في طرف الإيوان و أجلس إبراهيم؛ فقال له إبراهيم: يا سيّدي أ تنشط لشيء تأكله؟ فقال: نعم، خاميز(1) ظبي، فأتي به كأنما كان معدّا له، فأصاب منه شيئا يسيرا، ثم دعا بشراب حمل معه؛ فقال الموصليّ:
يا سيّدي، أ أغنّيك أم تغنّيك إماؤك؟ فقال: بل الجواري؛ فخرج جواري إبراهيم فأخذن صدر الإيوان و جانبيه؛ فقال: أ يضربن كلّهن أم واحدة؟ فقال: بل تضرب اثنتان اثنتان و تغنّي واحدة/فواحدة، ففعلن ذلك حتى مرّ صدر الإيوان و أحد جانبيه و الرشيد يسمع و لا ينشط(2) لشيء من غنائهنّ، إلى أن غنّت صبيّة من حاشيته(3).
يا موري الزّند قد أعيت قوادحه *** اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس
ما أقبح الناس في عيني و أسمجهم *** إذا نظرت فلم أبصرك في الناس
قال: فطرب لغنائها و استعاد الصوت مرارا و شرب أرطالا، ثم سأل الجارية عن صانعه فأمسكت، فاستدناها فتقاعست، فأمر بها فأقيمت حتى وقفت(4) بين يديه، فأخبرته بشيء أسرّته إليه؛ فدعا بحماره فركبه و انصرف، ثم التفت إلى إبراهيم فقال: ما ضرّك ألاّ تكون خليفة!؛ فكادت نفسه تخرج، حتى دعا به و أدناه بعد ذلك. قال: و كان الذي خبّرته [به](5) أن الصنعة في الصوت لأخته عليّة بنت المهديّ، و كانت الجارية لها وجّهت بها إلى إبراهيم يطارحها، فغار الرشيد. و لحن الصوت خفيف رمل.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
كان أبي يألف خمّارة بالرّقة يقال لها بشرة(6) تنزل الهنيء(7) و المريء، و كانت لها بنت من أحسن الناس وجها فكان أبي يتحلاّها(7)، ثم رحل الرشيد عن الرّقة إلى بلاد الروم [في بعض غزواته](8)، فقال أبي فيها:
/
أيا بنت بشرة ما عاقني *** عن العهد بعدك من عائق
نفى النّوم عنّي سنا بارق *** و أشهقني في ذرى شاهق
قال: و فيها يقول [أيضا](9) من أبيات له، و له فيها صنعة من الرّمل الأوّل:
ص: 146
و زعمت أنّي ظالم فهجرتني *** و رميت في قلبي بسهم نافذ
و نعم ظلمتك فاغفري و تجاوزي *** هذا مقام المستجير العائذ
ذكر حمّاد في هذا الخبر أن لحن جدّه من الرّمل. و وجدت في كتاب أحمد بن المكيّ أنّ له فيهما لحنين:
أحدهما ثقيل أوّل و الآخر ثاني ثقيل.
حدّثني عيسى بن الحسين(1) الورّاق قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد(2) قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ قال:
حبس الرشيد إبراهيم الموصليّ عند أبي العبّاس (يعني أباه عبد اللّه(3) بن مالك) فسمعناه ليلة و قد/صنع هذا اللحن و هو يكرره حتى يستوي(4) له:
يا أخلاّء قد مللت مكاني *** و تذكّرت ما مضى من زماني
شربي الراح إذ تقوم علينا *** ذات دلّ كأنّها غصن بان
قال: و غنّى في الحبس أيضا:
سألا طال ليلي أراعي النّجوم *** أعالج في السّاق كبلا(5) ثقيلا
حدّثني عيسى قال حدّثني عبد اللّه قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني علّويه الأعسر قال:
دخلت على إبراهيم الموصليّ في علّته التي توفّى فيها و هو في الأبزن(6) و به القولنج(7) الذي مات فيه، و هو يترنّم بهذا الصوت:
تغيّر مني كلّ حسن و جدّة *** و عاد على ثغري فأصبح أثرما
و محل أطرافي فزالت فصوصها *** و حنّى عظامي عوجها و المقوّما
ص: 147
قال محمد: فحدّثت بهذا الحديث إسحاق الموصليّ، فقال: كذب ابن الزانية! و اللّه ما كان يجترئ [أن](1)يدخل إلى أبي إسحاق و هو جالس للناس إلا بعد جهد، فكيف يدخل إلى أبي إسحاق و هو جالس في الأبزن.
الشعر و الغناء لإبراهيم، و له فيه لحنان ماخوريّ بالوسطى عن عمرو، و ثاني ثقيل عن ابن المكيّ.
حدّثني جحظة قال:
كان المقتدر يدعونا في الأحايين، فكان يحضر من المغنّين إبراهيم بن أبي العبيس و كنيز و إبراهيم بن قاسم و أنا و وصيف الزّامر، و كان أكثر ما ندعى له أنّ جواريه/ [كنّ](2) يطالبنه بإحضارنا ليأخذن منّا أصواتا قد عرفتها و يسمعننا، فنغنّي فيأخذن ما يستحسنّه، فإذا انصرفنا أمر لكلّ واحد من إبراهيم و كنيز دبّة و إبراهيم بثلاثمائة دينار، و لي بمائتي دينار، و لوصيف بمائتي دينار، و لسائر من لعلّه أن يحضر معنا بمائتين إلى المائة الدّينار إلى الألف الدّرهم(3)، فيكون(4) إذا حضرنا من وراء ستارة و هو جالس مع الجواري، فإذا أراد اقتراح شيء جاءنا الخدم فأمرونا أن نغنّيه، و بين يدي كلّ واحد منا قنّينة فيها خمسة أرطال نبيذ و قدح و مغسل(5) و كوز ماء؛ فغنّت يوما صلفة جارية زرياب بصنعة إبراهيم الموصليّ:
تغيّر منّي كلّ حسن و جدّة *** و عاد على ثغري فأصبح أثرما
فشربت عليه، فاستعاده المقتدر مرارا و أنا أشرب عليه؛ فأخذ إبراهيم بن أبي العبيس بكتفي و قال: يا مجنون! إنما دعيت لتغنّي لا لتغنّي و تطرب و تشرب، فلعلّك تسكر، حسبك!؛ فأمسكت طمعا أن تردّه بعد ذلك، فما فعلت و لا اجتمعنا بعدها، و ما سمعت قبل ذلك و لا بعده أحدا غنّى هذا الصوت أحسن مما غنّته. قال: و كان المقتدر(6)ابتاعها من زرياب.
أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن(7) أبي سعد قال حدّثني أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان بن عليّ قال حدّثني إسحاق الموصليّ عن أبيه قال:
/بينا أنا بمكة أجول في سككها إذا أنا بسوداء قائمة ساهية باكية، فأنكرت حالها و أدمنت النظر إليها؛ فبكت و قالت:
ص: 148
أ عمرو علام تجنّبتني *** أخذت فؤادي و عذّبتني
فلو كنت يا عمرو و خبّرتني(1) *** أخذت حذاري فما نلتني
فقلت لها: يا هذه، من عمرو؟ قالت: زوجي؛ قلت: و ما شأنه؟ قالت: أخبرني أنه يهواني و ما زال يطلبني حتى تزوّجته، فلبث معي قليلا ثم مضى إلى جدّة و تركني؛ فقلت لها: صفيه لي؛ قالت: أحسن من أنت رائيه سمرة و أحلاهم حلاوة و قدّا؛ فركبت رواحلي مع غلماني و صرت إلى جدّة، فوقفت في موضع المرفأ أتبصّر من يحمل من السفن، و أمرت من يصوت: يا عمرو يا عمرو، و إذا أنا به خارجا(2) من سفينة على عنقه صنّ(3) فيه طعام، فعرفته بصفتها و نعتها إياه، فقلت:
أ عمرو علام تجنّبتني *** أخذت فؤادي و عذّبتني
فقال: هيه(4)! أ رأيتها و سمعت منها؟ فقلت: نعم، فأطرق هنيهة يبكي، ثم اندفع فغنّى به أملح غناء سمعته، و ردّده عليّ حتى أخذته منه، و إذا هو أحسن الناس غناء؛ فقلت له: أ لا ترجع إليها؟ فقال: طلب المعاش يمنعني؛ فقلت: كم يكفيك معها في كلّ سنة؟ فقال: ثلاثمائة درهم - قال إسحاق: قال لي أبي: فو اللّه يا بنيّ لو قال ثلاثمائة دينار لطابت نفسي بها - فدعوت به فأعطيته ثلاثة آلاف درهم، و قلت له: هذا/لعشر سنين على أن تقيم معها، فلا تطلب المعاش إلا حيث هي مقيمة معك، و يكون ذلك فضلا؛ و رددته معي إليها.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عليّ بن محمد النّوفليّ(5) قال حدّثنا صالح بن عليّ (يعني الأضخم)(6) عن إبراهيم الموصليّ - قال: و كان صالح جاره - قال:
بينا أنا عشيّة في منزلي إذ أتاني خادم من خدم الرشيد فاستحثّني بالركوب [إليه](7) فخرجت شبيها بالراكض، فلما صرت إلى الدّار عدل بي عن المدخل إلى طرق لا أعرفها، فانتهي بي إلى دار حديثة البناء، فدخلت صحنا واسعا، و كان الرشيد يشتهي الصّحون الواسعة، فإذا هو جالس على كرسيّ في وسط ذلك الصّحن، ليس عنده أحد إلا خادم يسقيه، و إذا هو في لبسته التي كان يلبسها في الصيف: غلالة(8) رقيقة متوشّح عليها بإزار رشيديّ(9)عريض العلم مضرّج(10)؛ فلما رآني هشّ لي و سرّ، و قال: يا موصليّ، إني اشتهيت أن أجلس في هذا الصّحن فلم
ص: 149
يتّفق لي إلا اليوم، و أحببت ألاّ يكون معي و معك أحد، ثم صاح بالخدّام(1)، فوافاه مائة وصيف، و إذا هم بالأرقة مستترون بالأساطين(2) حتى لا يراهم، فلما ناداهم جاءوا جميعا، فقال: مقطّعة لإبراهيم، و كان هو أوّل من قطع المصلّيات، فأتيت بمقعد فألقي لي تجاه وجهه بالقرب منه؛ /و دعا بعود فقال: بحياتي أطربني بما قدرت؛ قال:
ففعلت و اجتهدت في ذلك و نشطت و رجوت الجائزة في عشيّتي؛ فبينا أنا كذلك إذ جاءه مسرور الكبير، فقام مقامه الذي كان إذا قامه علم الرشيد أنه يريد أن يسارّه بشيء، فأومأ إليه بالدنوّ، [فدنا](3) فألقي في أذنه كلمة خفيفة(4) ثم تنحى، فاستشاط غضبا و احمرّت عيناه/و انتفخت أوداجه، ثم قال: حتّام أصبر على آل بني أبي طالب! و اللّه لأقتلنّهم و لأقتلنّ شيعتهم و لأفعلنّ و لأفعلنّ!؛ فقلت: إنا للّه! ليس عند هذا أحد يخرج غضبه عليه، أحسبه و اللّه سيوقع بي، فاندفعت أغنّي:
نعم عونا على الهموم ثلاث *** مترعات من بعدهنّ ثلاث
بعدها أربع تتمّة عشر *** لا بطاء لكنّهنّ حثاث(5)
فإذا ناولتكهنّ جوار *** عطرات بيض الوجوه خناث
تمّ فيها لك السرور و ما *** طيّب عيشا إلا الخناث الإناث
قال: ويلك! اسقني ثلاثا لا أمت(6) همّا؛ فشرب ثلاثا متتابعة، ثم قال: غنّ فغنّيت، فلمّا قلت:
... ثلاث
مترعات من بعدهنّ ثلاث
قال: هات ويلك ثلاثا!، ثم قال لي: غنّ، فلمّا غنّيته قال: حثّ عليّ بأربع تتمة العشر، ففعل؛ فو اللّه ما استوفى آخرهنّ حتى سكر، فنهض ليدخل، ثم قال: قم يا موصليّ فانصرف، يا مسرور، أقسمت عليك بحياتي و بحقّي إلاّ سبقته(7) إلى منزله/بمائة ألف درهم، لا أستأمر فيها و لا في شيء منها؛ فخرجت و اللّه و قد أمنت خوفي و أدركت ما أمّلت، و وافيت منزلي و قد سبقتني المائة الألف الدّرهم إليه.
أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني يحيى بن الحسن(8) بن عبد الخالق قال حدّثني عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الرّبيع قال:
ص: 150
خرج [رسول](1) الرشيد ذات ليلة إلى المغنّين فقال: غنّوا:
يا خليليّ قد مللت ثوائي *** بالمصلّى و قد سئمت(2) البقيعا(3)
بلّغاني(4) ديار هند و سعدى *** و ارجعاني فقد هويت الرجوعا
قال: فغنّاه ابن جامع، فلمّا فرغ منه طرب الرشيد و شرب؛ فقال له إبراهيم الموصليّ: يا سيّدي، فاسمعه من نبيطيّك فغنّاه، فجعل ابن جامع يزحف من أوّل البيت إلى آخره، و طرب هارون فقال: ارفعوا الستارة؛ فقال له ابن جامع: منّي و اللّه أخذه يا أمير المؤمنين؛ فأقبل على إبراهيم فقال: بحياتي صدق؟ قال: صدق و حياتك يا سيّدي؛ قال: و كيف أخذته و هو أبخل(5) الناس إذا سئل شيئا؟ قال: تركته يغنّيه و كان إذا سكر يسترسل فيه فيغنّيه مستويا و لا يتحرّز منّي، فأخذته على هذا منه حتى وفيت(6) به.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
كان برصوما الزّامر و زلزل الصارب من سواد أهل الكوفة من أهل الخشنة(7) و البذاذة و الدناءة، فقدم بهما أبي معه سنة حجّ، و وقفهما على الغناء العربيّ و أراهما وجوه النّغم و ثقّفهما حتى بلغا المبلغ الذي بلغاه من خدمة الخليفة، و كان أطبع أهل دهرهما في صناعتهما؛ فحدّثني أبي قال: كان لزلزل جارية قد ربّاها و علّمها الضرب و سألني مطارحتها [فطارحتها](8)، و كانت مطبوعة حاذقة؛ قال: فكان يصونها أن يسمعها أحد؛ فلما مات بلغني أنها تعرض في ميراثه للبيع، فصرت إليها لأعترضها؛ فغنّت:
أقفر من أوتاره العود *** فالعود للأوتار معمود
و أوحش المزمار من صوته *** فما له بعدك تغريد
/من للمزامير و عيدانها *** و عامر اللّذات مفقود
الخمر تبكي في أباريقها *** و القينة الخمصانة الرّود(9)
قال: و هذا شعر رثاه به صديق له كان بالرّقّة(10)؛ قال: فأبكت و اللّه عيني و أوجعت قلبي. فدخلت على الرشيد
ص: 151
فحدّثته بحديثها، فأمر بإحضارها فحضرت؛ فقال لها: غنّي الصوت الذي حدّثني إبراهيم عنك أنك غنّيته، فغنته و هي تبكي؛ فرقّ الرشيد لها و تغرغرت(1) عيناه، و قال لها: أ تحبّين أن أشتريك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، /لقد عرضت عليّ ما يقصر عنه الأمل، و لكن ليس من الوفاء أن يملكني أحد بعد سيّدي فينتفع بي؛ فازداد رقّة عليها، و قال: غنّي صوتا آخر، فغنّت:
العين تظهر كتماني و تبديه *** و القلب يكتم ما ضمّنته فيه
فكيف ينكتم المكتوم بينهما *** و العين تظهره و القلب يخفيه
فأمر بأن تبتاع و تعتق، و لم يزل يجري عليها إلى أن ماتت.
أخبرنا محمد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه عن جدّه قال:
قال لي الرشيد يوما: يا إبراهيم، بكّر عليّ غدا حتى نصطبح؛ فقلت(2) له: أنا و الصبح كفرسي رهان؛ فبكّرت فإذا أنا به خاليا(3)، و بين يديه جارية كأنها خوط بان أو جدل عنان، حلوة المنظر، دمثة الشمائل، و في يدها عود؛ فقال لها: غنّى، فغنت في شعر أبي نواس و هو:
توهمه قلبي فأصبح خدّه *** و فيه مكان الوهم من نظري أثر(4)
و مرّ بفكري خاطرا فجرحته *** و لم أر جسما قطّ يجرحه الفكر
و صافحه قلبي فآلم كفّه *** فمن غمز قلبي في أنامله عقر
قال إبراهيم: فذهبت و اللّه بعقلي حتى كدت أن أفتضح، فقلت: من هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه التي يقول فيها الشاعر:
لها قلبي الغداة و قلبها لي *** فنحن كذاك في جسدين روح
/ثم قال لها: غنّى، فغنّت:
تقول غداة البين إحدى نسائهم *** لي الكبد الحريّ فسر و لك الصّبر
و قد خنقتها عبرة فدموعها *** على خدّها بيض و في نحرها صفر
- الشعر لأبي الشّيص. و الغناء لعمرو بن بانة، خفيف رمل بالوسطى من كتابه و فيه لمتيّم ثاني ثقيل و خفيف رمل آخر - قال: فشرب و سقاني ثم سقاها، ثم قال: غنّ يا إبراهيم؛ فغنّيت حسب ما في قلبي غير متحفّظ من شيء:
ص: 152
تشرّب قلبي حبّها و مشى به *** تمشّي حميّا الكأس في جسم شارب
و دبّ هواها في عظامي فشفّها *** كما دبّ في الملسوع سمّ العقارب
قال: ففطن بتعريضي، و كانت جهالة منّي؛ قال: فأمرني بالانصراف، و لم يدعني شهرا و لا حضرت مجلسه؛ فلما كان بعد شهر دسّ إليّ خادما معه رقعة، فيها مكتوب:
قد تخوّفت أن أموت من الوج *** د و لم يدر من هويت بما بي
/يا كتابي فأقر السّلام على من *** لا أسمّي و قل له يا كتابي
إنّ كفّا إليك قد بعثتني(1) *** في شقاء مواصل و عذاب
فأتاني الخادم بالرقعة؛ فقلت له: ما هذا؟ قال: رقعة الجارية فلانة التي غنّتك بين يدي أمير المؤمنين؛ فأحسنت القصّة فشتمت الخادم و وثبت عليه و ضربته ضربا شفيت به نفسي و غيظي، و ركبت إلى الرشيد من فوري فأخبرته القصّة/و أعطيته الرقعة؛ فضحك حتى كاد يستلقى، ثم قال: على عمد فعلت ذلك بك لأمتحن مذهبك و طريقتك، ثم دعا بالخادم؛ فلما خرج رآني فقال لي: قطع اللّه يديك و رجليك، ويحك! قتلتني؛ فقلت: القتل و اللّه كان بعض حقّك لما وردت به عليّ، و لكن رحمتك فأبقيت عليك، [و أخبرت أمير المؤمنين ليأتي في عقوبتك بما تستحقه. فأمر لي الرشيد بصلة سنيّة](2)؛ و اللّه يعلم أني ما فعلت الذي فعلت عفافا و لكن خوفا.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال:
أخبرني أبي أنه سمع الرشيد و قد سأل جدّي إبراهيم كيف يصنع إذا أراد أن يصوغ الألحان، فقال:
يا أمير المؤمنين، أخرج الهمّ من فكري و أمثّل الطرب بين عينيّ، فتسوغ(3) لي مسالك الألحان [التي أريد](3)فأسلكها بدليل الإيقاع، فأرجع مصيبا ظافرا بما أريد؛ فقال: يحقّ لك يا إبراهيم أن تصيب و تظفر، و إنّ حسن وصفك لمشاكل حسن صنعتك و غنائك.
أخبرني ابن المرزبان قال حدّثني حمّاد عن أبيه عن جدّه قال:
أدركت يونس الكاتب و هو شيخ كبير فعرضت عليه غنائي؛ فقال: إن عشت كنت مغنّي دهرك.
قال حمّاد قال لي محمد بن الحسن: كان لكلّ واحد من المغنّين مذهب في الخفيف و الثقيل، و كان معبد ينفرد بالثقيل، و ابن سريج بالرّمل، و حكم بالهزج، /و لم يكن في المغنّين أحد يتصرّف في كل مذهب من الأغاني إلا ابن سريج و إبراهيم جدّك و أبوك إسحاق.
ص: 153
حدّثني عمّي قال حدّثني أحمد بن الطّيّب السّرخسيّ قال حدّثني أحمد بن ثابت العبديّ عن أبي الهذيل العلاّف رأس المعتزلة عن ثمامة بن أشرس قال:
مررت بإبراهيم الموصليّ و يزيد حوراء و هما مصطبحان(1)، و قد أخذا بينهما صوتا يغنّيانه: هذا بيتا و هذا بيتا، و هو:
أيا جبلي نعمان باللّه خلّيا *** سبيل(2) الصّبا يخلص إليّ نسيمها
فإنّ الصّبا ريح إذا ما تنسّمت *** على نفس مهموم تجلّت همومها
أخبرنا محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن جدّه إبراهيم قال:
سألت الرشيد أن يهب لي يوما في الجمعة لا يبعث فيه إليّ بوجه و لا بسبب، لأخلو فيه بجواريّ و إخواني، فأذن لي في يوم السبت، و قال لي(3): هو يوم أستثقله، فاله فيه بما شئت؛ فأقمت يوم(4) السبت بمنزلي و تقدّمت في إصلاح(5) طعامي و شرابي بما احتجت إليه، و أمرت بوّابي فأغلق الأبواب و تقدّمت(6) إليه ألاّ يأذن/عليّ لأحد؛ فبينا أنا في مجلس و الخدم(7) قد حفّوا بي و جواريّ يترددن بين يديّ، إذا أنا بشيخ ذي هيئة و جمال، عليه خفّان قصيران و قميصان ناعمان، /و على رأسه قلنسوة لاطئة(8)، و بيده عكّازة مقمّعة بفضّة، و روائح المسك تفوح منه حتى ملأ البيت و الدار؛ فداخلني بدخوله عليّ مع ما تقدّمت فيه غيظ ما تداخلني قطّ مثله، و هممت بطرد بوّابي و من حجبني لأجله؛ فسلّم عليّ أحسن سلام فرددت عليه، و أمرته بالجلوس فجلس، ثم أخذ [بي](9) في أحاديث الناس و أيام العرب و أحاديثها و أشعارها حتى سلّى(10) ما بي من الغضب، و ظننت أنّ غلماني تحرّوا مسرّتي بإدخالهم مثله عليّ لأدبه و ظرفه؛ فقلت: هل لك في الطعام؟ فقال: لا حاجة لي فيه؛ فقلت: هل لك في الشراب؟ فقال: ذلك إليك، فشربت رطلا و سقيته مثله؛ فقال لي: يا أبا إسحاق، هل لك أن تغنّي لنا شيئا من صنعتك و ما(11) قد نفقت به
ص: 154
عند الخاصّ و العامّ؟ فغاظني قوله، ثم سهّلت على نفسي أمره فأخذت العود فجسسته ثم ضربت فغنّيت؛ فقال:
أحسنت يا إبراهيم؛ فازداد غيظي و قلت: ما رضي بما فعله من دخوله عليّ بغير إذن و اقتراحه أن أغنيه حتى سمّاني و لم يكنّني و لم يجمل مخاطبتي!. ثم قال: هل لك أن تزيدنا؟ فتذمّمت(1) فأخذت العود فغنّيت؛ فقال: أجدت يا أبا إسحاق! /فأتم(2) حتى نكافئك و نغنّيك؛ فأخذت العود و تغنّيت و تحفّظت و قمت بما غنّيته إياه [قياما](3) تامّا ما تحفّظت مثله و لا قمت بغناء كما قمت به له بين يدي خليفة قطّ و لا غيره، لقوله لي: أكافئك؛ فطرب و قال:
أحسنت(4) يا سيّدي، ثم قال: أ تأذن لعبدك بالغناء؟ فقلت: شأنك، و استضعفت عقله في أن يغنّيني بحضرتي بعد ما سمعه منّي؛ فأخذ العود و جسّه و حبسه، فو اللّه لخلته ينطق بلسان عربيّ لحسن ما سمعته من صوته(5)، ثم تغنّى:
و لي كبد مقروحة من يبيعني *** بها كبدا ليست بذات قروح
أباها عليّ الناس لا يشترونها *** و من يشتري ذا علّة(6) بصحيح
أئنّ من الشوق الذي في جوانبي *** أنين غصيص بالشراب جريح
قال إبراهيم: فو اللّه لقد ظننت الحيطان و الأبواب و كلّ ما في البيت يجيبه و يغنّي معه من حسن غنائه، حتى خلت و اللّه أنّي أسمع أعضائي(7) و ثيابي تجاوبه، و بقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام و لا الجواب و لا الحركة لما خالط قلبي؛ ثم غنّى:
ألا يا حمامات اللّوى عدن عودة *** فإنّي إلى أصواتكنّ حزين
فعدن فلما عدن كدن يمتنني *** و كدت بأسراري لهنّ أبين
/دعون بترداد الهدير كأنما *** سقين حميّا أو بهنّ جنون
فلم تر عيني مثلهنّ حمائما *** بكين و لم تدمع لهنّ عيون
- لم أعرف في هذه الأبيات لحنا ينسب إلى إبراهيم، و الذي عرفته لمحمد بن الحارث بن بُسخُنَّر(8) خفيف رمل - فكاد، و اللّه أعلم، عقلي أن يذهب طربا و ارتياحا لما سمعت؛ ثم غنّى:
ص: 155
/
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد *** لقد زادني مسراك وجدا على وجد
أ أن هتفت ورقاء في رونق الضّحى(1)*** على فنن(2) غضّ النّبات من الرّند(3)
بكيت كما يبكي الحزين صبابة *** و ذبت من الحزن المبرّح و الجهد(4)
و قد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا(5)*** يملّ و أنّ النأى يشفي(6) من الوجد
بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا *** على أنّ(7) قرب الدار خير من البعد
/ثم قال: يا إبراهيم، هذا الغناء الماخوريّ فخذه و انح نحوه في غنائك و علّمه جواريك؛ فقلت: أعده عليّ، فقال: لست(8) تحتاج، قد أخذته و فرغت منه، ثم غاب من بين يديّ(9)؛ فارتعت(10) و قمت إلى السيف فجرّدته، و عدوت نحو أبواب الحرم فوجدتها مغلقة، فقلت للجواري: أيّ شيء سمعتنّ عندي؟ فقلن(11): سمعنا أحسن غناء سمع قطّ؛ فخرجت متحيّرا إلى باب الدار فوجدته مغلقا، فسألت البوّاب عن الشيخ؛ فقال لي: أيّ شيخ هو؟ و اللّه ما دخل إليك اليوم أحد؛ فرجعت لأتأمل أمري، فإذا هو قد هتف [بي](12) من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك يا أبا إسحاق، أنا إبليس و أنا كنت جليسك و نديمك اليوم، فلا ترع. فركبت إلى الرشيد و قلت: لا أطرفه(13) أبدا بطرفة مثل هذه، فدخلت إليه فحدّثته بالحديث؛ فقال: ويحك! تأمّل هذه الأصوات(14)، هل أخذتها؟ فأخذت العود أمتحنها، فإذا هي راسخة في صدري كأنها لم تزل؛ فطرب الرشيد [عليها](15) و جلس يشرب و لم يكن عزم على الشراب، و أمر لي بصلة و حملان(9) و قال: الشيخ كان أعلم بما قال لك من أنك أخذتها و فرغت منها، فليته أمتعنا بنفسه يوما واحدا كما أمتعك.
ص: 156
أمّا الصوت الأوّل فالذي أعرفه فيه خفيف رمل لمحمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، و لم يقع إليّ فيه صنعة لإبراهيم. و الصوت الثاني الذي أوّله:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
فشعره ليزيد(1) بن الطّثريّة(2)، و الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو. و فيه لمحمد بن الحسن بن مصعب ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ و عمرو. و ذكر إبراهيم أنّ فيه لحنا لدحمان و لحنا لابنه الزّبير، و لم يذكر في أيّ طريقة هما.
هكذا حدّثنا ابن أبي الأزهر بهذا الخبر؛ و ما أدري ما أقول فيه، و لعل إبراهيم صنع هذه الحكاية ليتنفّق بها، أو صنعت و حكيت عنه. إلا أنّ للخبر أصلا الأشبه بالحق منه ما حدّثني به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الموصليّ عن أبيه قال:
صنعت لحنا فأعجبني، و جعلت أطلب شعرا فعسر ذلك عليّ، و رأيت في المنام كأنّ رجلا لقيني فقال:
يا إبراهيم، أ أعياك شعر لغنائك هذا الذي تعجب به؟ قلت نعم؛ قال: فأين أنت من قول ذي الرّمّة حيث قال:
/
ألا يا اسلمي يا دارميّ عن البلى *** و لا زال منهلاّ بجرعائك(3) القطر
/و إن لم تكوني غير شام(4) بقفرة *** تجرّبها الأذيال صيفيّة(5) كدر
قال: فانتبهت و أنا فرح(6) بالشعر، فدعوت من ضرب عليّ و غنيته فإذا هو أوفق ما خلق اللّه، فلمّا علمت [ذلك، و عملت](7) هذا الغناء في شعر ذي الرّمة، تنبّهت عليه و على شعره فصنعت فيه ألحانا ماخوريّة، منها:
أ منزلتي ميّ سلام عليكما *** هل الأزمن اللائي مررن رواجع
و هل يرجع التسليم أو يكشف العمى *** ثلاث الأثافي(8) أو رسوم بلاقع
ص: 157
صنعة إبراهيم في هذين الشعرين جميعا من الماخوريّ بالوسطى، و هو خفيف الثقيل الثاني. و أخباره كلها في هذا المعنى تأتي في أخبار ذي الرّمّة مشروحة.
حدّثني [محمد بن](1) مزيد قال حدّثني حمّاد عن أبيه قال قال [لي](1) أبي:
قال [لي](1) جعفر بن يحيى يوما و قد علم أنّ الرشيد أذن لي و للمغنّين في الانصراف يومئذ: صر إليّ حتى أهب(2) لك شيئا حسنا - فصرت إليه فقال لي: أيّما أحبّ إليك: أهب لك الشيء الحسن الذي وعدتك به، أم(3)أرشدك إلى شيء تكسب به ألف ألف درهم؟ فقلت: بل يرشدني الوزير - أعزّه اللّه - إلى هذا الوجه فإنه يقوم مقام إعطائه إيّاي هذا الحسن(4)؛ فقال: إنّ أمير المؤمنين يحفظ شعر ذي الرّمّة حفظ الصّبا(5) و يعجبه و يؤثره، فإذا سمع فيه غناء، أطربه أكثر مما يطربه غيره مما لا يحفظ شعره؛ فإذا غنّيته فأطربته و أمر لك بجائزة، فقم على رجليك قائما و قبّل الأرض بين يديه و قل له: لي حاجة غير هذه الجائزة أريد أن أسألها أمير المؤمنين، و هي حاجة تقوم عندي مقام كل فائدة و لا تضرّه و لا ترزؤه؛ فإنه سيقول لك: أيّ شيء حاجتك؟ فقل: قطيعة تقطعنيها سهلة عليك لا قيمة لها و لا منفعة فيها لأحد؛ فإذا أجابك إلى ذلك، فقل له: تقطعني شعر ذي الرمّة أغنّي فيه ما أختاره و تحظر على المغنّين جميعا أن(6) يداخلوني فيه، فإني أحبّ شعره و أستحسنه فلا أحبّ أن ينغّصه عليّ أحد منهم، و توثّق منه في ذلك؛ فقبلت ذلك القول منه، و ما انصرفت من عنده بعد ذلك إلا بجائزة؛ /و توخّيت وقت الكلام في هذا المعنى حتى وجدته، فقمت فسألت كما قال لي، و تبيّنت السرور في وجهه، و قال: ما سألت شططا، قد(7) أقطعتك سؤلتك؛ فجعلوا يتضاحكون من قولي و يقولون: لقد استضخمت القطيعة و هو ساكت؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، أ تأذن لي في التوثّق؟ قال: توثّق كيف شئت؛ فقلت: باللّه و بحقّ رسوله و بتربة أمير المؤمنين المهديّ إلاّ جعلتني على ثقة من ذلك بأنك [تحلف(8) لي أنك] لا تعطي أحدا من المغنّين جائزة على شيء يغنّيه في شعر ذي الرّمّة فإنّ ذلك وثيقتي؛ فحلف مجتهدا لهم لئن غنّاه أحد منهم في شعر ذي الرّمّة لا أثابه بشيء و لا برّه و لا سمع غناءه؛ فشكرت فعله و قبّلت الأرض بين يديه و انصرفنا. فغنّيت مائة صوت و زيادة(9) في شعر ذي الرّمّة، فكان إذا سمع منها صوتا
ص: 158
طرب و زاد طربه و وصلني فأجزل، و لم ينتفع به أحد منهم غيري؛ فأخذت منه و اللّه بها ألف ألف درهم و ألف ألف درهم.
أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب قال حدّثني(1) هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني أبو خالد الأسلميّ قال حدّثني محمد بن عمر الجرجانيّ قال:
قال إبراهيم الموصليّ: أرتج عليّ فلم أجد شعرا أصوغ فيه غناء أغنّي فيه الرشيد، /فدخلت إلى بعض حجر داري مغموما، فأسبلت الستور عليّ و غلبتني عيني، فتمثّل لي/في البيت شيخ أشوه الخلقة، فقال لي: يا موصليّ، ما لي أراك مغموما؟ قلت: لم أصب شعرا أغنّي فيه الرشيد الليلة؛ قال: فأين أنت عن قول ذي الرّمّة:
ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى *** و لا زال منهلاّ بجرعائك(2) القطر
و إن(3) لم تكوني غير شام بقفرة *** تجرّبها الأذيال صيفيّة كدر(4)
أقامت(5) بها حتى ذوي العود في الثّرى(6) *** و ساق الثريّا في ملاءته(7) الفجر
و حتى اعتلى(8) البهمى(9) من الصيف نافض *** كما نفضت خيل نواصيها شقر
قال: و غنّاني فيه بلحن و كرّره حتى علقته(10) فانتبهت و أنا أديره، فناديت جارية لي و أمرتها بإحضار عود، و ما زلت أترنّم بالصوت و هي تضرب حتى استوى [لي](11)؛ ثم صرت إلى هارون فغنّيته إيّاه، فأسكت(12) المغنّين، ثم قال: أعد فأعدت، فما زال ليلته يستعيدنيه، فلما أصبح أمر لي بثلاثين ألف درهم و بفرش البيت الذي كنّا فيه، و قال: عليك بشعر ذي الرّمّة فغنّ فيه؛ فصنعت فيه غناء كثيرا، فكنت أغنّيه به [فيعجبه](11) و يجزل صلتي.
ص: 159
أخبرني عمّي و ابن المرزبان و الحسن بن عليّ قالوا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه السّلميّ قال حدّثنا أبو غانم مولى جبلة(1) بن يزيد السّلميّ قال:
اجتمع إبراهيم الموصليّ و زلزل و برصوما بين يدي الرشيد، فضرب زلزل و زمر برصوما و غنّى إبراهيم:
صحا قلبي و راع(2) إليّ عقلي *** و أقصر باطلي و نسيت جهلي
رأيت الغانيات و كنّ صورا(3) *** إليّ صرمنني و قطعن حبلي
فطرب هارون حتى وثب على رجليه و صاح: يا آدم، لو رأيت من يحضرني(4) من ولدك اليوم لسرّك! ثم جلس و قال: أستغفر اللّه.
الشعر الذي غنّى فيه إبراهيم لأبي العتاهية. و الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر.
حدّثني جحظة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
كان الرشيد يجد بماردة وجدا شديدا؛ فغضبت عليه و غضب عليها، و تمادى بينهما الهجر أياما؛ فأمر جعفر بن يحيى العباس بن الأحنف فقال:
راجع أحبّتك الذين هجرتهم *** إنّ المتيّم قلّما يتجنّب
إنّ التجنّب إن تطاول منكما *** دبّ السّلوّ له فعزّ المطلب
/و أمر إبراهيم الموصليّ فغنّى فيه الرشيد؛ فلما سمعه بادر إلى ماردة فترضّاها؛ فسألت عن السبب في ذلك فعرفته، فأمرت لكل واحد من العبّاس و إبراهيم بعشرة آلاف درهم، و سألت الرشيد أن يكافئهما عنها، فأمر لهما بأربعين ألف درهم.
أخبرني جعفر بن قدامة عن حمّاد عن أبيه قال:
أوّل جائزة خرجت لشاعر من الرشيد لمّا ولي الخلافة جائزة لإبراهيم(5)، فإنه قال يمدحه لمّا ولي:
ص: 160
/
أ لم تر أنّ الشمس كانت مريضة *** فلمّا ولي هارون أشرق نورها
فألبست(1) الدّنيا جمالا بوجهه *** فهارون و اليها و يحيى وزيرها
و غنّى فيه، فأمر له بمائة ألف درهم، و أمر له يحيى بخمسين ألف درهم.
أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن(2) مالك قال حدّثني إسحاق الموصليّ:
أنّ أباه لعب يوما مع الرشيد بالنّرد في الخلعة التي كانت على(3) الرشيد و الخلعة التي كانت عليه هو، فتقامر(4) للرشيد، فلمّا قمره قام إبراهيم فنزع ثيابه، ثم قال للرشيد: حكم النّرد الوفاء به، و قد قمرت و وفّيت لك، فالبس ما كان عليّ؛ /فقال له الرشيد: ويلك! أنا ألبس ثيابك!؛ فقال: إي و اللّه إذا أنصفت، و إذا لم تنصف قدرت و أمكنك؛ قال: ويلك! أ و أفتدي منك؟ قال: نعم؛ قال: و ما الفداء؟ قال: قل أنت يا أمير المؤمنين فإنك أولى بالقول؛ فقال: أعطيك كلّ ما عليّ؛ قال: فمر به يا أمير المؤمنين و أنا أستخير اللّه في ذلك؛ فدعا بغير ما عليه فلبسه و نزع ما كان عليه فدفعه إلى إبراهيم.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني عليّ بن عبد الكريم قال:
زار ابن جامع إبراهيم [الموصليّ](5)؛ فأخرج إليه ثلاثين جارية فضربن جميعا طريقة واحدة و غنّين؛ فقال ابن جامع. في الأوتار وتر غير مستو؛ فقال إبراهيم: يا فلانة شدّي مثناك، فشدّته فاستوى؛ فعجبت أوّلا من فطنة ابن جامع لوتر في مائة و عشرين وترا غير مستو، ثم ازداد عجبى من فطنة إبراهيم له بعينه.
أخبرني إسماعيل بن يونس و حبيب بن نصر [المهلّبيّ](5) قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال حدّثني أبي قال:
كنّا مع الرشيد بالرّقّة و كان هناك خمّار أقصده أشتري منه شرابا حسنا طيّبا، و ربما شربت في حانته، فأتيته يوما فبزل(6) لي دنّا في باطية(7) له، فرأيت لونه حسنا صافيا، فاندفعت أغنّي:
ص: 161
اسقني صهباء صرفا *** لم تدنّس بمزاج
اسقني و الليل داج *** قبل أصوات الدّجاج
يا أبا وهب خليلي *** كلّ همّ لانفراج
حين توّهت(1) بقلبي *** في أعاصير الفجاج(2)
- الغناء في هذه الأبيات لإبراهيم هزج بالوسطى عن عمرو. و فيها لسياط ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق - قال: فدهش الخمّار يسمع صوتي، فقلت له: ويحك! قد فاض النبيذ من الباطية؛ فقال: دعني من النبيذ يا أبا إسحاق، ما لي أرى صوتك حزينا حريقا(3)، مات لك باللّه إنسان؟؛ فلما جئت إلى الرشيد حدّثته بذلك فجعل يضحك.
و ذكر أحمد بن أبي طاهر أنّ المدائنيّ حدّث قال:
[قال](4) إبراهيم الموصليّ قال لي الرشيد يوما: يا إبراهيم، إني قد جعلت غدا للحريم، و جعلت ليلته للشرب مع الرجال، و أنا مقتصر عليك من المغنّين، فلا تشتغل غدا بشيء و لا تشرب نبيذا، و كن بحضرتي في وقت العشاء الآخرة؛ فقلت: السمع و الطاعة لأمير المؤمنين؛ فقال: و حقّ أبي لئن تأخرت أو اعتللت بشيء لأضربنّ /عنقك، أ فهمت؟ فقلت: نعم، و خرجت فما جاءني أحد من إخواني إلا احتجبت عنه/و لا قرأت رقعة لأحد، حتى إذا صلّيت المغرب ركبت قاصدا إليه، فلما قربت من فناء داره مررت بفناء قصر، و إذا زنبيل(5) كبير مستوثق منه بحبال و أربع عرى أدم و قد دلّي من القصر، و جارية قائمة تنتظر إنسانا قد وعد ليجلس فيه، فنازعتني نفسي إلى الجلوس فيه، ثم قلت: هذا خطأ، و لعله أن يجري سبب يعوقني عن الخليفة فيكون الهلاك، فلم أزل أنازع نفسي و تنازعني حتى غلبتني، فنزلت فجلست فيه، و مدّ الزنبيل حتى صار في أعلى القصر، ثم خرجت فنزلت، فإذا جوار كأنهنّ المها جلوس، فضحكن و طربن، و قلن: قد جاء و اللّه من أردناه؛ فلما رأينني من قريب تبادرن إلى الحجاب و قلن: يا عدوّ اللّه، ما أدخلك إلينا؟ فقلت: يا عدوّات اللّه، و من الذي أردتنّ إدخاله؟ و لم صار أولى بهذا منّي؟ فلم يزل هذا دأبنا و هنّ يضحكن و أضحك معهنّ؛ ثم قالت إحداهنّ: أمّا من أردناه فقد فات، و ما هذا إلا ظريف، فهلمّ نعاشره عشرة جميلة؛ فأخرج إليّ طعام و دعيت إلى أكله، فلم يكن فيّ فضل إلاّ أنّي كرهت أن أنسب إلى سوء العشرة، فأصبت منه إصابة معذّر(6)، ثم جيء بالنبيذ فجعلنا نشرب، و أخرجن إليّ ثلاث جوار لهنّ فغنّين غناء
ص: 162
مليحا، فغنّت إحداهنّ صوتا لمعبد، فقالت إحدى الثلاث من وراء الستر: أحسن إبراهيم، هذا له؛ فقلت: كذبت ليس هذا له، هذا لمعبد؛ فقالت: يا فاسق، و ما يدريك الغناء ما هو؛ ثم غنّت الأخرى صوتا للغريض، فقالت [تلك](1): أحسن إبراهيم، هذا له أيضا؛ فقلت: كذبت يا خبيثة، هذا للغريض؛ فقالت: اللهم أخزه، ويلك! /و ما يدريك! ثم غنّت الجارية صوتا لي، فقالت تلك: أحسن ابن سريج، هذا له(2)؛ فقلت: كذبت هذا لإبراهيم، و أنت تنسبين غناء الناس إليه و غناءه إليهم؛ فقالت: ويحك! و ما يدريك!؛ فقلت: أنا إبراهيم، فتباشرن بذلك جميعا و طربن كلّهن و ظهرن كلّهن لي و قلن: كتمتنا نفسك و قد سررتنا(3)؛ فقلت: أنا الآن أستودعكنّ اللّه؛ فقلن:
و ما السبب؟ فأخبرتهنّ بقصتي مع الرشيد؛ فضحكن و قلن: الآن و اللّه طاب حبسك، علينا و علينا إن خرجت أسبوعا؛ فقلت: هو و اللّه القتل؛ قلن: إلى لعنة اللّه. فأقمت و اللّه عندهنّ أسبوعا لا أزول، فلما كان بعد الأسبوع ودّعنني و قلن: إن سلّمك اللّه فأنت بعد ثلاث عندنا، قلت نعم؛ فأجلسنني في الزنبيل و سرّحت؛ فمضيت لوجهي حتى أتيت دار الرشيد، و إذا النداء قد أشيع ببغداد في طلبي و أنّ من أحضرني فقد سوّغ ملكي و أقطع مالي؛ فاستأذنت فتبادر الخدم حتى أدخلوني على الرشيد؛ فلما رآني شتمني و قال: السيف و النّطع! إيه يا إبراهيم، تهاونت بأمري و تشاغلت بالعوامّ عما أمرتك به و جلست مع أشباهك من السفهاء حتى أفسدت(4) عليّ لذّتي!؛ فقلت:
يا أمير المؤمنين، أنا بين يديك، و ما أمرت به غير فائت، و لي حديث عجيب ما سمع بمثله قطّ و هو الذي قطعني عنك ضرورة لا اختيارا، فاسمعه، فإن كان عذرا فاقبله و إلاّ فأنت أعلم؛ قال: هاته فليس ينجيك؛ فحدّثته، فوجم ساعة ثم قال: إن هذا لعجب، أ فتحضرني معك هذا الموضع؟ قلت: نعم، و أجلسك معهنّ إن شئت قبلي حتى تحصل/عندهنّ، و إن شئت فعلى موعد؛ قال: بل على موعد؛ قلت: أفعل؛ فقال: انظر؛ قلت: ذلك حاصل إليك متى شئت؛ فعدل عن رأيه فيّ و أجلسني و شرب/و طرب؛ فلما أصبحت أمرني بالانصراف و أن أجيئه من عندهنّ؛ فمضيت إليهنّ في وقت الوعد، فلما وافيت الموضع إذا الزنبيل معلّق، فجلست فيه و مدّه الجواري فصعدت، فلما رأينني تباشرن و حمدن اللّه على سلامتي، و أقمت ليلتي(5)، فلما أردت الانصراف قلت لهنّ: إن لي أخا هو عدل(6) نفسي عندي، و قد أحبّ معاشرتكن و وعدته بذلك؛ فقلن: إن كنت ترضاه فمرحبا به؛ فوعدتهن ليلة غد و انصرفت و أتيت الرشيد و أخبرته؛ فلما كان الوقت خرج معي متخفّيا(7) حتى أتينا الموضع، فصعدت و صعد بعدي و نزلنا(8) جميعا، و قد كان اللّه وفّقني لأن قلت لهن: إذا جاء صديقي فاستترن عني و عنه و لا يسمع لكنّ نطقة، و ليكن ما تخترنه من غناء أو تقلنه من قول مراسلة؛ فلم يتعدّين ذلك و أقمن على أتمّ ستر و خفر، و شربنا شربا كثيرا، و قد كان أمرني ألاّ أخاطبه بأمير المؤمنين، فلما أخذ منّي النبيذ قلت سهوا: يا أمير المؤمنين، فتواثبن من وراء الستارة حتى غابت عنّا حركاتهنّ؛ فقال لي: يا إبراهيم لقد أفلتّ من أمر عظيم، و اللّه لو برزت إليك واحدة
ص: 163
منهنّ لضربت عنقك، قم بنا، فانصرفنا؛ و إذا هنّ له، قد كان غضب عليهنّ فحبسهنّ في ذلك القصر؛ ثم وجّه من غد بخدم فردّوهنّ إلى قصره، و وهب لي مائة ألف درهم، و كانت الهدايا و الألطاف تأتيني بعد ذلك [منهنّ](1).
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني أبي قال:
/دخلت على الرشيد [يوما](2) فقال لي: أنا اليوم كسلان خاثر(3)، فإن غنّيتني صوتا يوقظ نشاطي أحسنت صلتك؛ فغنيته:
و لم ير في الدنيا محبّان مثلنا *** على ما نلاقي من ذوي الأعين الخزر
صفيّان لا نرضى الوشاة إذا وشوا *** عفيفان لا نغشى(4) من الأمر ما يزري
فطرب، و دعا بالطعام فأكل و شرب، و أمر لي بخمسين ألف درهم.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال قال لي أبي قال لي يحيى بن خالد:
إنّ ابنتك دنانير قد عملت صوتا أعجبني و أعجبت أيضا هي به، فقلت لها: لا تعجبي به حتّى أعرضه على أبيك أبي إسحاق؛ فقلت له: و اللّه ما في معرفة الوزير - أعزّه اللّه - به و لا بغيره(5) من الصنائع مطعن، و إنه لأصحّ العالم تمييزا و أثقبه فطنة، و ما أعجبه إلاّ و هو صحيح حسن؛ فقال: إن كنت كما تقول أيضا، فإنّ أهل كلّ صناعة يمارسونها أفهم بها ممّن يعلمها عن عرض من غير ممارسة، و لو كنا في هذه الصناعة متساويين لكان الاستظهار برأيك أجود، لأنّ ميلي إلى صانعة الصوت ربما حسّن عندي ما ليس بالحسن، و إنما يتمّ سروري به بعد سماعك إياه و استحسانك له على الحقيقة؛ فمضيت فوجدت ستارة منصوبة و أمرا قد تقدّم فيه قبلي؛ فجلست فسلّمت على الجارية، و قلت لها: تغنّيني الصّوت الذي/ذكره لي الوزير أعزه اللّه؛ فقالت: إن الوزير قال لي: إن استجاده فعرّفيني ليتمّ سروري به، و إلاّ فاطو الخبر عني لئلاّ تزول رتبته عندي؛ فقلت: هاتيه حتى أسمعه؛ فغنّت تقول:
/
نفسي أ كنت عليك مدّعيا *** أم حين أزمع بينهم خنت
إن كنت هائمة بذكرهم *** فعلى فراقهم ألا حمت
قال: فأحسنت و اللّه و ما قصرت، فاستعدته لأطلب فيه موضعا لأصلحه فيكون لي فيه معنى فما وجدت؛ قلت: أحسنت و اللّه يا بنيّة ما شئت؛ ثم عدت إلى يحيى فحلفت له بأيمان رضيها أنّ كثيرا من حذّاق المغنّين لا يحسنون أن يصنعوا مثله، و لقد استعدته لأرى فيه موضعا يكون لي فيه عمل فما وجدت؛ فقال: وصفك لها من
ص: 164
أجله(1) يقوم مقام تعليمك إياها، فقد و اللّه سررتني و سأسرّك، فلمّا انصرفت أتبعني بخمسين ألف درهم.
حدّثني عمي و ابن المرزبان قالا حدّثنا ابن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه السّلميّ قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق، و لم يقل عن أبيه، قال:
و اللّه إني لفي منزلي ذات يوم و أنا مفكّر في الرّكوب مرّة و في القعود مرّة، إذا غلامي قد دخل و معه خادم الرشيد يأمرني بالحضور من وقتي، فركبت و صرت إليه؛ فقال لي: اجلس يا إبراهيم حتى أريك عجبا، فجلست؛ فقالت: عليّ بالأعرابية و ابنتها؛ فأخرجت إليّ أعرابيّة و معها بنيّة لها عشر أو أرجح؛ فقال: يا إبراهيم، إن هذه الصّبيّة تقول الشعر؛ فقلت لأمّها: ما يقول أمير المؤمنين؟ فقالت: هي هذه قدّامك فسلها؛ فقلت: يا حبيبة، أ تقولين الشعر؟ فقالت نعم؛ فقلت: أنشديني بعض ما قلت؛ فأنشدتني:
تقول لأتراب لها و هي تمتري(2) *** دموعا على الخدّين من شدّة الوجد
أ كلّ فتاة لا محالة نازل *** بها مثل ما بي أم بليت به وحدي
براني له حبّ تنشّب في الحشى *** فلم يبق من جسمي سوى العظم و الجلد
وجدت الهوى حلوا لذيذا بديئة(3) *** و آخره مرّ لصاحبه مردي
قال الشّبّيّ(4) في خبره: قال إسحاق: و كان أبي حاضرا، فقال: و اللّه لا تبرح يا أمير المؤمنين أو نصنع في هذه الأبيات لحنا؛ فصغت فيها أنا و أبي و جميع من حضر. و قال الآخرون: قال إبراهيم: فما برحت حتى صنعت فيه لحنا و تغنّيت به و هي حاضرة تسمع. قال ابن المرزبان في خبره، و لم يذكره عمّي، فقالت: يا أمير المؤمنين، قد أحسن رواية ما قلت، أ فتأذن لي أن أكافئه بمدح أقوله فيه؟ قال: افعلي؛ فقالت:
ما لإبراهيم في العل *** م بهذا الشأن ثاني
إنما عمر أبي إس *** حاق زين للزمان
منه يجنى ثمر اللّه *** و و ريحان الجنان
جنّة الدنيا أبو إس *** حاق في كلّ مكان
قال: فأمر لها الرشيد بجائزة، و أمر لي بعشرة آلاف درهم، فوهبت لها شطرها.
ص: 165
/اللحن الذي صنعه إبراهيم في شعر الأعرابيّة ثقيل أوّل بالوسطى. و فيه لعلّويه ثاني ثقيل. و أما/الشعر الثاني فهو لابن سيابة لا يشكّ فيه. و لإبراهيم فيه لحن من خفيف الثقيل.
أخبرني محمد بن مزيد عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
كنت أخذت بالمدينة من مجنون بها هذا الصوت، و غنّيته الرشيد و قلت:
هما فتاتان لمّا(1) تعرفا(2) خلقي *** و بالشّباب على شيبي تدلاّن(2)
رأيت عرسيّ لمّا ضمّني كبرى *** و شخت أزمعتا صرمي و هجراني
كلّ الفعال الذي يفعلنه حسن *** يصبي فؤادي و يبدي سرّ أشجاني
بل احذرا صولة من صول شيخكما *** مهلا على الشيخ مهلا يا فتاتان
فطرب و أمر لي بظبية(3) كانت ملقاة بين يديه، فيها ألف دينار مسيّفة(4)؛ و كان ابن جامع حاضرا، فقال:
اسمع يا أمير المؤمنين غناء العقلاء ودع غناء المجانين، و كان أشدّ خلق اللّه حسدا، فغنّاه:
و لقد قالت لأتراب لها *** كالمها يلعبن في حجرتها
خذن عنّي الظّلّ لا يتبعني *** و مضت(5) سعيا إلى قبّتها
/فطرب و شرب، و أمر له بألف و خمسمائة دينار. ثم تبعه محمد بن حمزة وجه القرعة [فغنّى](6):
يمشون فيها بكلّ سابغة *** أحكم فيها القتير(7) و الحلق
يعرف إنصافهم إذا شهدوا *** و صبرهم حين تشخص الحدق
فاستحسنه و شرب عليه، و أمر له بخمسمائة دينار. ثم غنّى علّويه:
ص: 166
يجحدن ديني بالنّهار و أقتضي *** ديني إذا و قد(1) النّعاس الرّقّدا
و أرى الغواني لا يواصلن امرأ *** فقد الشّباب و قد يصلن الأمردا
فدعا به الرشيد و قال له: يا عاضّ بظر أمّه! أ تغنّي في مدح المرد و ذمّ الشّيب و ستارتي منصوبة و قد شبت و كأنك تعرّض بي! ثم دعا مسرورا فأمره أن يأخذ بيده فيضربه ثلاثين درّة و يخرجه من مجلسه، ففعل؛ و ما انتفعنا به بقيّة يومنا و لا انتفع بنفسه، و جفا علّويه شهرا، ثم سألناه فيه فأذن له(2).
[قال أبو الفرج](3): لإبراهيم أخبار مع خنث المعروفة بذات الخال، و كان يهواها، جعلتها في موضع آخر من هذا الكتاب(4)؛ لأنها منفردة بذاتها مستغنية عن إدخالها في غمار أخباره. و له في هذه الجارية شعر كثير فيه غناء له و لغيره؛ و قد شرطت أن/الشيء من أخبار الشعراء [و] المغنّين إذا كانت هذه سبيله أفرده، لئلا يقطع بين القرائن و النظائر مما تضاف إليه و تدخل فيه.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى قال:
سمعت إسحاق الموصليّ/يقول: لمّا دخلت سنة ثمان و ثمانين و مائة اشتدّ أمر القولنج على أبي و لزمه، و كان يعتاده أحيانا، فقعد عن(5) خدمة الخليفة و عن نوبته في داره؛ فقال في ذلك:
ملّ و اللّه طبيبي *** من(6) مقاساة الذي بي
سوف أنعى عن قريب *** لعدوّ و حبيب
و غنّى فيه لحنا من الرّمل، فكان آخر شعر قاله و آخر لحن صنعه.
أخبرني الصّوليّ عن محمد بن موسى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه:
أن الرشيد ركب حمارا و دخل إلى إبراهيم يعوده و هو في الأبزن جالس، فقال له: كيف أنت يا إبراهيم؟ فقال: أنا و اللّه يا سيّدي كما قال الشاعر:
ص: 167
سقيم ملّ منه أقربوه *** و أسلمه المداوي و الحميم
فقال الرشيد: إنّا للّه! و خرج، فلم يبعد حتى سمع الواعية(1) عليه.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبّة قال:
مات إبراهيم الموصليّ سنة ثمان و ثمانين و مائة، و مات في ذلك اليوم الكسائي النحويّ و العباس بن الأحنف الشاعر و هشيمة(2) الخمّارة، فرفع ذلك إلى الرشيد، فأمر المأمون أن يصلّي عليهم، فخرج فصفّوا بين يديه؛ فقال:
من هذا الأوّل؟ قيل: إبراهيم؛ فقال: أخّروه و قدّموا العبّاس بن الأحنف، فقدّم فصلّى عليهم؛ فلما فرغ و انصرف، دنا منه هاشم بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ فقال: يا سيّدي، كيف آثرت العبّاس بالتّقدمة على من حضر؟ قال:
لقوله:
و سعى بها ناس فقالوا إنّها *** لهي التي تشقى بها و تكابد(3)
فجحدتهم ليكون غيرك ظنّهم(4) *** إنّي ليعجبني المحبّ الجاحد
ثم قال: أ تحفظها؟ قلت نعم؛ فقال: أنشدني باقيها؛ فأنشدته:
لمّا رأيت الليل سدّ طريقه *** عنّي و عذّبني الظلام الراكد
و النّجم في كبد السماء كأنه *** أعمى تحيّر ما لديه قائد
ناديت من طرد الرّقاد بصدّه *** عمّا(5) أعالج و هو خلو هاجد
يا ذا الذي صدع الفؤاد بهجره *** أنت البلاء طريفه و التّالد
ألقيت بين جفون عيني حرقة *** فإلى متى أنا ساهر يا راقد
/فقال المأمون: أ ليس من قال هذا الشعر حقيقا بالتقدمة؟ فقلت: بلى و اللّه يا سيّدي.
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبي قال:
قال لي برصوما الزامر: أ ما في حقّي و خدمتي و ميلي إليكم و شكري لكم ما أستوجب به أن تهب لي يوما من عمرك تفعل فيه ما أريد و لا تخالفني في شيء؟ فقلت: بلى و وعدته بيوم؛ فأتاني فقال: مر لي بخلعة، ففعلت و جعلت فيها جبّة وشى؛ فلبسها ظاهرة و قال: امض بنا إلى المجلس الذي كنت آتي أباك فيه؛ فمضينا جميعا إليه و قد خلّقته و طيّبته؛ فلما صار على باب المجلس رمى بنفسه إلى الأرض فتمرّغ في التّراب و بكى و أخرج نايه و جعل
ص: 168
ينوح/في زمره و يدور في المجلس و يقبّل المواضع التي كان أبو إسحاق يجلس فيها و يبكي و يزمر حتّى قضى من ذلك و طرا، ثم ضرب بيده إلى ثيابه فشقّها(1)، و جعلت أسكّته و أبكي معه، فما سكن إلا بعد حين؛ ثم دعا بثيابه فلبسها و قال: إنما سألتك أن تخلع عليّ لئلا يقال: إن برصوما إنما خرق ثيابه ليخلع(2) عليه ما هو خير منها؛ ثم قال: امض بنا إلى منزلك فقد اشتفيت مما أردت؛ فعدت إلى منزلي و أقام عندي يومه، و انصرف بخلعة مجدّدة.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبة قال حدّثني القاسم(3) بن يزيد قال:
/لمّا مات إبراهيم الموصليّ دخلت على إبراهيم بن المهديّ و هو يشرب و جواريه يغنّين، فذكرنا(4) إبراهيم الموصليّ و حذقه و تقدّمه، فأفضنا في ذلك و إبراهيم مطرق، فلمّا طال كلامنا و قال كلّ واحد منا مثل ما قاله صاحبه، اندفع إبراهيم بن المهديّ يغنّي في شعر لابن سيابة يرثي [به](5) إبراهيم - و يقال: إن الأبيات لأبي الأسد(6) -:
تولّى الموصليّ فقد تولّت *** بشاشات المزاهر و القيان
و أيّ بشاشة بقيت فتبقى *** حياة الموصليّ على الزمان
ستبكيه المزاهر(7) و الملاهي *** و تسعدهنّ عاتقة الدّنان
و تبكيه الغويّة إذ تولّى *** و لا تبكيه تالية القران(8)
قال: فأبكى من حضر؛ و قلت أنا في نفسي: أ فتراه هو إذا مات من يبكيه: المحراب أم المصحف؟! قال:
و كان كالشامت بموته.
أخبرني يحيى بن عليّ قال قال أنشدني حمّاد قال: أنشدني أبي لنفسه يرثي أباه، و أنشدها غير يحيى و فيها زيادة على روايته:
أقول له لما وقفت بقبره *** عليك سلام اللّه يا صاحب القبر
أيا قبر إبراهيم حيّيت حفرة *** و لا زلت تسقى الغيث من سبل(9) القطر
/لقد عزّني(10) وجدي عليك فلم يدع *** لقلبي نصيبا من عزاء و لا صبر
ص: 169
و قد كنت أبكي من فراقك ليلة *** فكيف و قد صار الفراق إلى الحشر
أخبرني أحمد بن محمد بن إسماعيل [بن إبراهيم](1) الموصليّ الملقب بوسواسة(2) قال: أنشدني حمّاد لأبيه إسحاق يرثي أباه إبراهيم الموصليّ:
سلام على القبر الذي لا يجيبنا *** و نحن نحيّي تربه و نخاطبه
ستبكيه أشراف الملوك إذا رأوا *** محلّ التصابي قد خلا منه جانبه
و يبكيه أهل الظّرف طرّا كما بكى *** عليه أمير المؤمنين و حاجبه
و لمّا بدا لي اليأس منه و أنزفت(3) *** عيون بواكيه و ملّت نوادبه
و صار شفاء النفس(4) من بعض ما بها *** إفاضة دمع تستهلّ سواكبه
جعلت على عينيّ للصبح عبرة *** و للّيل أخرى ما بدت لي كواكبه
قال: و أنشدني أيضا حمّاد لأبيه يرثي أباه:
عليك سلام اللّه من قبر فاجع *** و جادك من نوء السّماكين وابل(5)
/هل أنت محيّي القبر أم أنت سائل *** و كيف تحيّا تربة و جنادل
أظلّ كأني لم تصبني مصيبة *** و في الصّدر من وجد عليك بلابل
و هوّن عندي فقده أنّ شخصه *** على كل حال بين عينيّ ماثل
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبو أيوب المدينيّ قال أنشدني إبراهيم بن عليّ بن هشام لرجل يرثي إبراهيم الموصليّ:
/
أصبح اللهو تحت عفر التراب *** ثاويا في محلّة الأحباب
إذ ثوى الموصليّ فانقرض اللّه *** و بخير الإخوان و الأصحاب
بكت المسمعات حزنا عليه *** و بكاه الهوى و صفو الشراب
و بكت آلة المجالس حتى *** رحم العود دمعة المضراب(6)
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:
ص: 170
دخلت إلى الرشيد بعقب(1) وفاة أبي، و ذلك بعد شهر من يوم وفاته، فلمّا جلست و رأيت موضعه الذي كان يجلس فيه خاليا دمعت عيني، فكففتها و تصبّرت؛ و لمحني الرشيد فدعاني إليه و أدناني منه، فقبّلت يده و رجله و الأرض بين يديه، فاستعبر، و كان رقيقا؛ فوثبت قائما ثم قلت:
في بقاء الخليفة الميمون *** خلف من مصيبة المحزون
لا يضير المصاب رزء إذا ما *** كان ذا مفزع إلى هارون
فقال لي: كذاك و اللّه هو، و لن تفقد من أبيك ما دمت حيّا إلا شخصه؛ و أمر بإضافة(2) رزقه إلى رزقي؛ فقلت: بل يأمر أمير المؤمنين به إلى ولده، ففي خدمتي إياه ما يغنيني؛ فقال: اجعلوا رزق إبراهيم لولده و أضعفوا رزق إسحاق.
يا دار سعدى بالجزع(3) من ملل(4) *** حيّيت من دمنة(5) و من طلل
إنّي إذا ما البخيل أمّنها *** باتت ضموزا(6) منّي على وجل(7)
لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلا قريبة الأجل
العوذ: الإبل التي قد نتجت، واحدتها عائذ. يقول: أنحرها و أولادها للأضياف فلا أمتعها. و الضّموز:
الممسكة عن أن تجتر. ضمز الجمل بجرّته إذا أمسك عنها، و دسع(8) بها إذا استعملها. يقول: فهذه الناقة من شدة خوفها على نفسها مما رأت من نحر نظائرها قد امتنعت من جرّتها فهي ضامزة.
الشعر لابن هرمة. و الغناء في اللحن المختار لمرزوق الصراف(9) ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر
ص: 171
عن إسحاق، و يقال إنه ليحيى بن واصل. و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه لدحمان لحنا من الثقيل الأوّل بالبنصر، [و أن فيه لابن محرز لحنا من/الثقيل الثاني بالبنصر](1) في الثالث ثم الثاني، و وافقه ابن المكيّ. قال: و فيه لدحمان خفيف رمل بالوسطى في الأول و الثالث؛ و ذكر الهشاميّ/أنّ هذا اللحن بعينه ليونس و أن الثقيل الثاني لإبراهيم، و أنّ لمعبد فيه لحنا من الثقيل الأوّل بالوسطى، و أن فيه للهذليّ خفيف ثقيل، و أن فيه رملا ينسب إلى ابن محرز [أيضا](1).
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد العزيز الزّهريّ و نوفل بن ميمون عن يحيى بن عروة بن أذينة قال:
خرجت في حاجة لي، فلمّا كنت بالسّيالة(2) وقفت على منزل إبراهيم بن عليّ بن هرمة، فصحت: يا أبا إسحاق، فأجابتني ابنته: من هذا؟ فقلت: انظري، فخرجت إليّ فقلت: أعلمي أبا إسحاق؛ فقالت: خرج و اللّه آنفا؛ قال: فقلت: هل من قرّى؟ فإني مقو(3) من الزاد؛ قالت: لا و اللّه، ما صادفته حاضرا؛ قلت: فأين قول أبيك:
لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلا قريبة الأجل
قالت: بذاك(4) و اللّه أفناها - أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أيّوب بن عباية بمثل هذا الخبر سواء، و زاد فيه: - قال: فأخبرت إبراهيم بن هرمة بقولها، فضمّها إليه و قال: بأبي أنت و أمي! أنت و اللّه ابنتي حقا، الدار و المزرعة لك.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني نوفل بن ميمون قال حدّثني مرقّع(5) قال:
كنت مع ابن هرمة في سقيفة(6) أمّ أذينة، فجاءه راع بقطعة(7) من غنم يشاوره فيما يبيع منها، و كان قد أمره ببيع بعضها؛ قال مرقّع: فقلت: يا أبا إسحاق، أين عزب عنك قولك:
لا غنمي مدّ في الحياة لها *** إلا لدرك(8) القرى و لا إبلي
و قولك فيها أيضا:
لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** و لا أبتاع إلا قريبة الأجل
ص: 172
فقال لي: مالك أخزاك اللّه! من أخذ منها شيئا فهو له؛ فانتهبناها(1) حتى وقف الراعي و ما معه منها شيء.
و حدّثنا بهذا الخبر أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن أبيه:
أن ابن هرمة كان اشترى غنما للربح(2)، فلقيه رجل فقال له: أ لست القائل:
لا غنمي مدّ في الحياة لها *** إلا لدرك القرى و لا إبلي
قال: نعم؛ قال: فو اللّه إني لأحسبك تدفع عن هذه الغنم المكروه بنفسك، و إنك لكاذب؛ فأحفظه [ذلك](3)فصاح: من أخذ منها شيئا فهو له؛ فانتهبها الناس جميعا؛ و كان ابن هرمة أحد البخلاء.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني نوفل بن ميمون قال حدّثني زفر بن محمد(4) الفهري: أن هذه القصيدة أول شعر قاله ابن هرمة.
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال قرأت على أبي: حدّثنا عبد اللّه بن الوليد الأزديّ قال حدّثني جعفر بن محمد بن زيد بن عليّ بن الحسين(5) قال:
سمع مزبد(6) قول ابن هرمة:
/
لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلاّ قريبة الأجل
قال: صدق ابن الخبيثة، إنّما كان يشتري الشاة للأضحى فيذبحها من ساعته.
أخبرنا وكيع قال حدّثنا حمّاد عن أبيه [عن عبد اللّه بن الوليد عن جعفر بن محمد بن زيد عن أبيه](7) قال:
اجتمع قوم من قريش أنا فيهم، فأحببنا أن نأتي ابن هرمة فنعبث به، فتزوّدنا زادا كثيرا ثم أتيناه لنقيم عنده، فلما انتهينا إليه خرج إلينا فقال: ما جاء بكم؟ فقلنا: سمعنا شعرك فدعانا إليك لما سمعناك قلت:
/
إنّ امرأ جعل الطريق لبيته *** طنبا(8) و أنكر حقّه للئيم
ص: 173
و سمعناك تقول:
و إذا تنوّر طارق(1) مستنبح *** نبحت فدلّته عليّ كلابي
و عوين يستعجلنه فلقينه *** يضربنه بشراشر(2) الأذناب
و سمعناك تقول:
كم ناقة قد وجأت(3) منحرها *** بمستهلّ الشّؤبوب أو جمل
لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلاّ قريبة الأجل
قال: فنظر إلينا طويلا ثم قال: ما على وجه الأرض عصابة أضعف عقولا و لا أسخف دينا منكم؛ فقلنا له:
يا عدوّ اللّه يا دعيّ، أتيناك زائرين [و](4) تسمعنا هذا الكلام؛ فقال: أ ما سمعتم اللّه تعالى يقول للشّعراء: وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ أ فيخبركم اللّه أنّي أقول ما لا أفعل و تريدون منّي أن أفعل ما أقول؛ [قال](4) فضحكنا منه و أخرجناه معنا، فأقام عندنا في نزهتنا يشركنا في زادنا حتى انصرفنا إلى المدينة.
أخبرنا عمّي قال حدّثني محمّد بن سعيد الكرانيّ عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعيّ عن عمّه قال:
/الحكم الخضريّ، و ابن ميّادة، و رؤبة، و ابن هرمة، و طفيل الكنانيّ، و مكين العذريّ، كانوا على ساقة(5)الشعراء، و تقدّمهم ابن هرمة بقوله:
لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلاّ قريبة الأجل
قال عبد الرحمن: و كان عمّي معجبا بهذا البيت مستحسنا له، و كان كثيرا ما يقول: أ ما ترون كيف قال! و اللّه لو قال هذا حاتم لما زاد و لكان كثيرا؛ ثم يقول: ما يؤخّره عن الفحول إلا قرب عهده. انتهى.
أخبرني محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى و وكيع عن حمّاد عن أبيه قال:
قلت لمروان بن أبي(6) حفصة: من أشعر المحدثين من طبقتكم عندك؟ لا أعنيك؛ قال: الذي يقول:
لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلا قريبة الأجل
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن أبي حذافة قال:
لمّا قال ابن هرمة:
ص: 174
لا أمتع العوذ بالفصال و لا *** أبتاع إلا قريبة الأجل
قال ابن الكوسج مولى آل حنين يجيبه:
ما يشرب البارد القراح و لا *** يذبح من جفرة(1) و لا حمل(2)
كأنّه قردة يلاعبها *** قرد بأعلى الهضاب من ملل
/قال: فقال ابن هرمة: لئن لم أوت به مربوطا لأفعلنّ بآل حنين و لأفعلنّ؛ فوهبوا لابن/الكوسج مائة درهم و ربطوه و أتوا به ابن هرمة فأطلقه(3)؛ فقال ابن الكوسج: و اللّه لئن عاد لمثلها لأعودنّ(4).
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني هارون بن مخارق عن أبيه قال:
كنّا عند الرشيد في بعض أيامنا و معنا ابن جامع، فغنّاه ابن جامع و نحن يومئذ بالرّقّة:
هاج شوقا فراقك الأحبابا *** فتناسيت أو نسيت الرّباب
حين صاح الغراب بالبين منهم *** فتصاممت إذ سمعت الغرابا
لو علمنا أنّ الفراق وشيك *** ما انتهينا حتى نزور القبابا
أو علمنا حين استقلّت نواهم *** ما أقمنا حتّى نزمّ(5) الرّكابا
- الغناء لابن جامع رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق، و له فيه أيضا ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و ذكرت دنانير عن فليح أنّ فيه لابن سريج و ابن محرز لحنين -. قال: فاستحسنه الرشيد و أعجب به و استعاده مرارا و شرب عليه أرطالا حتى سكر، و ما سمع غيره و لا أقبل على أحد، و أمر لابن جامع بخمسة آلاف دينار؛ فلمّا انصرفنا قال لي إبراهيم: لا ترم(6) منزلك حتى أصير إليك؛ فصرت/إلى منزلي، فلم أغيّر ثيابي حتى أعلمني الغلام بموافاته، فتلقّيته في دهليزي(7)، فدخل و جلس و أجلسني بين يديه ثم قال لي: يا مخارق، أنت فسيلة(8) منّي و حسني لك و قبيحي عليك، و متى تركنا ابن جامع على ما ترى غلبنا على الرّشيد، و قد صنعت صوتا على طريقة
ص: 175
صوته الذي غنّاه أحسن صنعة منه و أجود و أشجى، و إنما يغلبني عند هذا الرجل بصوته، و لا مطعن على صوتك، و إذا أطربته و غلبته عليه بما تأخذه مني قام ذلك لي(1) مقام الظّفر؛ و سيصبح أمير المؤمنين غدا فيدخل الحمام و نحضر ثم يخرج فيدعو بالطعام و يدعو بنا و يأمر ابن جامع فيردّ الصوت الذي غناه و يشرب عليه رطلا و يأمر له بجائزة، فإذا فعل فلا تنتظره أكثر من أن يردّ ردّته حتى تغنّي ما أعلّمك إياه الساعة، فإنه يقبل عليك و يصلك، و لست أبالي ألاّ يصلني بعد أن يكون إقباله عليك؛ فقلت: السمع و الطاعة؛ فألقى عليّ لحنه:
يا دار سعدى بالجزع من ملل
و ردّده(2) حتى أخذته و انصرف؛ ثم بكّر عليّ فاستعاد الصوت فردّدته حتى رضيه، ثم ركبنا و أنا أدرسه حتى صرنا إلى دار الرشيد؛ فلمّا دخلنا فعل الرشيد جميع ما وصفه إبراهيم شيئا فشيئا، و كان إبراهيم أعلم الناس به، ثم أمر ابن جامع فردّ الصوت و دعا برطل فشربه، و لما استوفاه و استوفى ابن جامع صوته لم أدعه يتنفّس حتى اندفعت فغنّيت صوت إبراهيم، فلم يزل يصغى إليه و هو باهت حتى استوفيته؛ /فشرب و قال: أحسنت و اللّه! لمن هذا الصوت؟ فقلت: لإبراهيم؛ فلم يزل يستدنيني حتى صرت قدّام سريره، و جعل يستعيد الصّوت فأعيده و يشرب [عليه](3) رطلا، فأمر لإبراهيم بجائزة سنيّة و أمر لي بمثلها؛ و جعل ابن جامع يشغب و يقول: يجيء بالغناء فيدسّه في أستاه الصّبيان! إن كان محسنا فليغنّه هو، و الرشيد يقول [له](3): دع ذا عنك، فقد و اللّه استقاد منك و زاد عليك.
تولّى شبابك إلا قليلا *** و حلّ المشيب فصبرا جميلا
كفى حزنا بفراق الصّبا *** و إن أصبح الشّيب منه بديلا
الشعر و الغناء لإسحاق. و لحنه المختار ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق بن عمرو.
ص: 176
قد مضى نسبه مشروحا في نسب أبيه؛ و يكنى أبا محمد، و كان الرشيد(1) يولع به فيكنيه أبا صفوان، و هذه كنية أوقعها عليه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب مزحا.
و موضعه من العلم، و مكانه من الأدب، و محلّه من الرواية، و تقدّمه في الشعر، و منزلته في سائر المحاسن، أشهر من أن يدلّ عليه فيها بوصف؛ و أما الغناء فكان أصغر علومه و أدنى ما يوسم به و إن كان الغالب عليه و على ما كان يحسنه؛ فإنه كان له في سائر أدواته نظراء و أكفاء و لم يكن له في هذا نظير؛ فإنه لحق بمن مضى فيه و سبق من بقي، و لحب(2) للناس جميعا طريقه فأوضحها، و سهّل عليهم سبيله و أنارها؛ فهو إمام أهل صناعته جميعا، و رأسهم و معلّمهم؛ يعرف ذلك منه الخاصّ و العامّ، و يشهد به الموافق(3) و المفارق؛ على أنه كان أكره الناس للغناء و أشدّهم بغضا لأن يدعى إليه أو يسمّى به. و كان يقول: لوددت أن أضرب، كلما أراد مريد مني أن أغنّي و كلما قال قائل إسحاق الموصلي المغنّي، عشر مقارع، لا أطيق أكثر من ذلك، و أعفى من الغناء و لا ينسبني من يذكرني إليه.
و كان المأمون يقول: لو لا ما سبق على ألسنة الناس و شهر به عندهم من الغناء لولّيته القضاء بحضرتي، فإنه أولى به /و أعفّ و أصدق و أكثر دينا و أمانة من هؤلاء القضاة.
سعد، و أبي معاوية(1) الضّرير، و روح(2) بن عبادة، و غيرهم من شيوخ العراق و الحجاز. و كان مع كراهته الغناء أضنّ خلق اللّه و أشدّهم بخلا به على كل أحد حتى على جواريه و غلمانه و من يأخذ عنه منتسبا إليه متعصّبا له فضلا عن غيرهم.
و هو الذي صحّح أجناس الغناء و طرائقه و ميّزه تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله و لا تعلّق به أحد بعده، و لم يكن قديما مميزا على هذا الجنس، إنما كان يقال الثقيل، و ثقيل الثقيل، و الخفيف، و خفيف الخفيف. و هذا عمرو بن بانة، و هو من تلاميذه، يقول في كتابه: الرمل الأوّل، و الرمل الثاني؛ ثم لا يزيد في ذكر الأصابع على الوسطى و البنصر، و لا يعرف المجاري التي ذكرها إسحاق في كتابه، مثل ما ميّز الأجناس، فجعل الثقيل الأوّل أصنافا، فبدأ فيه بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، ثم تلاه بما كان منه بالبنصر في مجراها، ثم بما كان بالسبّابة في مجرى البنصر، ثم فعل هذا بما كان منه بالوسطى على هذه المرتبة؛ ثم جعل الثقيل الأوّل صنفين، الصنف الأوّل منهما هذا الذي ذكرناه، و الصنف الثاني القدر الأوسط من الثقيل الأوّل، و أجراه المجرى الذي تقدّم من تمييز الأصابع و المجاري، و ألحق جميع الطرائق و الأجناس بذلك و أجراها على هذا الترتيب. ثم لم يتعلّق بفهم ذلك أحد بعده فضلا عن أن يصنّفه في كتابه؛ فقد ألف جماعة من المغنّين كتبا، منهم يحيى المكيّ - /و كان شيخ الجماعة و أستاذهم، و كلّهم كان يفتقر إليه و يأخذ عنه غناء الحجاز، و له صنعة كثيرة حسنة متقدّمة، و قد كان إبراهيم الموصليّ و ابن جامع يضطران إلى الأخذ عنه - ألّف كتابا جمع فيه الغناء القديم، و ألحق فيه ابنه الغناء المحدث إلى آخر أيّامه، فأتيا فيه في أمر الأصابع بتخليط عظيم، حتى جعلا أكثر ما جنّساه من ذلك مختلطا فاسدا، و جعلا بعضه، فيما زعما، تشترك الأصابع كلّها فيه؛ و هذا محال؛ و لو اشتركت الأصابع لما احتيج إلى تمييز الأغاني و تصييرها مقسومة على صنفين: الوسطى و البنصر. و الكلام في هذا طويل ليس موضعه هاهنا؛ و قد ذكرته في رسالة عملتها لبعض إخواني ممن سألني شرح هذا، فأثبتّه و استقصيته استقصاء يستغنى به عن غيره. و هذا كله فعله إسحاق و استخرجه بتمييزه، حتى أتى على كل ما رسمته الأوائل مثل إقليدس و من قبله و من بعده من أهل العلم بالموسيقى، و وافقهم بطبعه و ذهنه فيما قد أفنوا فيه الدهور، من غير أن يقرأ لهم كتابا أو يعرفه.
فأخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجم قال:
كنت عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فسأل إسحاق الموصليّ - أو سأله محمد بن الحسن بن مصعب - بحضرتي، فقال له: يا أبا محمد، أ رأيت لو أنّ الناس جعلوا للعود وترا خامسا للنّغمة الحادّة التي هي العاشرة على مذهبك، أين كنت تخرج منه؟ فبقي إسحاق واجما ساعة طويلة مفكرا، و احمرّت أذناه و كانتا عظيمتين، و كان إذا ورد عليه مثل هذا احمرّتا و كثر ولوعه بهما؛ فقال لمحمد بن الحسن: الجواب في هذا لا يكون كلاما إنما يكون بالضرب، فإن كنت تضرب أريتك أين تخرج؛ فخجل و سكت عنه مغضبا، لأنه كان أميرا و قابله من الجواب بما لا يحسن، فحلم عنه. قال عليّ بن يحيى: فصار إليّ به و قال لي: يا أبا الحسن، إنّ هذا/الرجل سألني عما سمعت، و لم يبلغ علمه أن يستنبط مثله بقريحته، و إنما هو شيء قرأه من كتب الأوائل، و قد بلغني أنّ التراجمة
ص: 178
عندهم يترجمون لهم كتب الموسيقى، فإذا خرج إليك منها شيء فأعطنيه؛ فوعدته بذلك، و مات قبل أن يخرج إليه شيء منها. و إنما ذكرت هذا بتمام أخباره كلّها و محاسنه و فضائله، لأنه من أعجب شيء يؤثر عنه: أنه استخرج بطبعه علما رسمته الأوائل لا يوصل إلى معرفته إلا بعد علم كتاب إقليدس الأوّل في الهندسة ثم ما بعده من الكتب الموضوعة في الموسيقى، ثم تعلّم ذلك و توصّل إليه و استنبطه بقريحته، فوافق ما رسمه أولئك، و لم يشذّ عنه شيء يحتاج إليه منه، و هو لم يقرأه و لا(1) له مدخل إليه و لا عرفه، ثم تبيّن بعد هذا، بما أذكره من أخباره و معجزاته في صناعته، فضله على أهلها كلّهم و تميّزه عنهم، و كونه سماء هم أرضها، و بحرا هم جداوله.
و أمّ إسحاق امرأة من أهل الرّيّ يقال لها شاهك؛ و ذكر قوم أنها دوشار التي كانت تغنّى/بالدّفّ، فهويها إبراهيم و تزوّجها. و هذا خطأ، تلك لم تلد من إبراهيم إلا بنتا، و إسحاق و سائر ولد إبراهيم من شاهك هذه.
أخبرني يحيى بن عليّ المنجم قال أخبرني أبي عن إسحاق قال:
بقيت دهرا من دهري أغلّس في كلّ يوم إلى هشيم فأسمع منه، ثم أصير إلى الكسائيّ أو الفرّاء أو ابن غزالة(2) فأقرأ عليه جزءا من القرآن، ثم آتي منصور/زلزل(3) فيضار بني طرقين(4) أو ثلاثة، ثم آتي عاتكة(5) بنت شهدة فآخذ منها صوتا أو صوتين، ثم آتي الأصمعيّ و أبا عبيدة فأناشدهما و أحدّثهما فأستفيد منهما، ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت و من لقيت و ما أخذت و أتغدّى معه، فإذا كان العشاء رحت إلى أمير المؤمنين الرشيد.
أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
أخذ منّي منصور زلزل إلى أن تعلّمت مثل ضربه بالعود أكثر من مائة ألف درهم.
أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة قال:
كنت عند ابن عائشة فجاءه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، فرحّب به و قال: هاهنا يا أبا محمد إلى جنبي، فلئن بعّدت بيننا الأنساب، لقد قرّبت بيننا الآداب.
ص: 179
أخبرني الحسن(1) بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثنا ابن(2) شبيب من جلساء المأمون عنه: أنه قال يوما و إسحاق غائب عن مجلسه: لو لا/ما سبق على ألسنة الناس و اشتهر به عندهم من الغناء لولّيته القضاء، فما أعرف مثله ثقة و صدقا و عفة و فقها. هذا مع تحصيل المأمون و عقله و معرفته.
أخبرنا يحيى بن علي قال حدّثنا الفضل بن العبّاس الورّاق قال حدّثنا المخرّميّ(3) عن أبيه قال: سمعت إسحاق الموصليّ يقول:
صرت إلى سفيان بن عيينة لأسمع منه، فتعذّر ذلك عليّ و صعب مرامه، فرأيته عند الفضل بن الرّبيع، فسألته أن يعرّفه موضعي من عنايته و مكاني من الأدب و الطلب و أن يتقدّم إليه بحديثي؛ ففعل و أوصاه بي فقال: إنّ أبا محمد من أهل العلم و حملته. قال: فقلت: تفرض لي عليه ما يحدّثني به؛ فسأله في ذلك، ففرض لي خمسة عشر حديثا في كل مجلس؛ فصرت إليه فحدّثني بما فرض لي؛ فقلت له: أعزّك اللّه، صحيح كما حدّثتني به؟ قال: نعم، و عقد بيده شيئا؛ قلت: أ فأرويه عنك؟ قال: نعم، و عقد بيده شيئا آخر، ثم قال: هذه خمسة و أربعون حديثا، و ضحك إليّ و قال: قد سرّني ما رأيت من تقصّيك في الحديث و تشدّدك فيه على نفسك، فصر إليّ متى شئت حتى أحدّثك بما شئت.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى أبو الجمان و عون بن محمد الكنديّ قالا:
سمعنا إسحاق الموصليّ يقول:
جئت يوما إلى أبي معاوية الضّرير و معي مائة حديث، فوجدت حاجبه يومئذ رجلا ضريرا؛ فقال لي: إنّ أبا معاوية قد ولاّني اليوم حجبته لينفعني؛ فقلت: معي مائة حديث و قد جعلت لك مائة درهم إذا قرأتها؛ فدخل و استأذن لي فدخلت؛ /فلما عرفني أبو معاوية دعاه فقال له: أخطأت، و إنما جعلت لك مثل هذا من ضعفاء أصحاب الحديث فأمّا أبو محمد و أمثاله فلا؛ ثم أقبل عليّ يرغبني في الإحسان إليه و يذكر ضعفه و عنايته به؛ فقلت له: احتكم في أمره، فقال: مائة/دينار؛ فأمرت بإحضارها الغلام، و قرأت عليه ما أردت و انصرفت.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني عليّ بن محمد الأسديّ قال حدّثني أحمد بن يحيى الشّيباني ثعلب قال:
وقف أبو عبد اللّه بن الأعرابيّ على المدائنيّ، فقال له: إلى أين يا أبا عبد اللّه؟ فقال: أمضي إلى رجل هو كما قال الشاعر:
ص: 180
نحمل أشباحنا إلى ملك *** نأخذ من ماله و من أدبه
فقال له: و من ذلك يا أبا عبد اللّه؟ قال: أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصليّ. قال أبو بكر: و البيت لأبي تمّام الطائيّ.
و قد أخبرني بهذا الخبر عن ثعلب محمد بن القاسم الأنباريّ فقال فيه:
كان إسحاق يجري على ابن الأعرابيّ في كلّ سنة ثلاثمائة دينار، و أهدى له ابن الأعرابيّ شيئا من كتاب النوادر كتبه له بخطّه؛ فمرّ ابن الأعرابيّ يوما على باب دار الموصليّ و معه صديق له؛ فقال له صديقه: هذه دار صديقك أبي محمد إسحاق؛ فقال: هذه دار الذي نأخذ من ماله و من أدبه.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
رأيت في منامي كأنّ جريرا جالس ينشد شعره و أنا أسمع منه، فلمّا فرغ أخذ بيده كبّة شعر فألقاها في فمي فابتلعتها؛ فأوّل ذلك بعض من ذكرته له أنّه ورّثني الشعر. قال يزيد بن محمد: و كذلك كان، لقد مات إسحاق و هو أشعر أهل زمانه.
أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى و محمد بن مزيد قالا(1) حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال: قال لي أبي:
أعطيت منصورا زلزلا من مالي خاصّة حتّى تعلمت ضربه بالعود نحوا من مائة ألف درهم سوى ما أخذته له من الخلفاء و من أبي. قال: و كانت في زلزل قبل أن يعرف الصوت و يفهمه بلادة أوّل ما يسمعه، حتى لو ضرب هو و غلامه على صوت لم يعرفاه قبل لكان غلامه أقوى منه؛ فإذا تفهّمه جاء فيه من الضرب بما لا يتعلّق به أحد البتّة.
أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمّي الفضل عن إسحاق، [و أخبرني به الأخفش عن الفضل عن إسحاق، و أخبرني به يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن إسحاق](2)، و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ عن إسحاق قال:
قال لي أبو زياد الكلابيّ: أولم جار لي يكنى أبا سفيان وليمة و دعاني لها، فانتظرت رسوله حتى تصرّم يومي فلم يأت، فقلت لامرأتي:
إنّ(3)
أبا سفيان ليس بمولم *** فقومي فهاتي فلقة من حوارك(4)
ص: 181
قال إسحاق: فقلت له: أ ليس غير هذا؟ فقال: لا، إنما أرسلته يتيما؛ فقلت: أ فلا أجيزه؟ قال: شأنك؛ فقلت له:
فبيتك خير من بيوت كثيرة *** و قدرك خير من وليمة جارك
/قال: فضحك ثم قال: أحسنت بأبي أنت و أمي، جئت و اللّه به قبلا(1) ما انتظرت به القرب، و ما ألوم الخليفة أن يجعلك في سمّاره و يتملّح بك، و إنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله، و لو كان الشباب يشترى لا انتعته لك بإحدى عينيّ و يمنى يديّ، و على أن فيك بحمد اللّه و منّه بقيّة تسرّ الودود، و ترغم الحسود. هذا لفظ يزيد المهلّبيّ و الأخفش. و أخبرني بهذا الخبر محمد بن عبد اللّه بن عمّار فقال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال قال لي إمّا/شدّاد بن عقبة و إما أبو مجيب(2):
قالت امرأة القتّال الكلابيّ له: هل لك في فلقة من حوار نطبخها لك؟ فقال: لا و اللّه، نحن على وليمة أبي سفيان و دعوته، و كان أبو سفيان رجلا من الحيّ زفّت إليه امرأته تلك الليلة؛ فجعل ينظر دخانا فلا يراه، فقال:
إنّ أبا سفيان ليس بمولم *** فقومي فهاتي فلقة من حوارك
ثم ذكر باقي الخبر على ما تقدّم من الذي قبله.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبيّ قال حدّثني إسحاق قال:
أنشدت أعرابيّا فهما شعرا لي، فقال: أقفرت و اللّه يا أبا محمد؛ قلت: و ما أقفرت؟ قال: رعيت قفرة لم ترع قبلك. (يريد: أبدعت).
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش و عمّي قالا حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثني بعض أصحاب السلطان بمدينة السلام قال سمعت إسحاق الموصليّ يقول:
دخلت على المأمون يوما و عقيد يغنّيه ارتجالا و غيره يضرب عليه؛ فقال: يا إسحاق، كيف تسمع مغنّينا هذا؟ فقلت: هل سأل أمير المؤمنين عن هذا غيري؟ قال: نعم، سألت عمّي إبراهيم فوصفه و قرّظه و استحسنه؛ فقلت له:
يا أمير المؤمنين - أدام اللّه سرورك، و أطاب عيشك - إنّ الناس قد أكثروا في أمري حتى نسبتني فرقة إلى التّزيّد في علمي؛ فقال لي: فلا يمنعك ذلك من قول الحق إذا لزمك؛ فقلت لعقيد: اردد هذا الصوت الذي غنّيته آنفا، و تحفّظ فيه و ضرب ضاربه عليه؛ فقلت لإبراهيم بن المهديّ: كيف رأيته؟ فقال: ما رأيت شيئا يكره و لا سمعته؛
ص: 182
فأقبلت على عقيد فقلت له حين استوفاه: في أيّ طريقة هذا الصوت الذي غنّيته؟ قال: في الرّمل؛ فقلت للضارب:
في أي طريقة ضربت أنت؟ قال: في الهزج الثقيل؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما عسيت أن أقول في صوت يغنّي مغنّيه رملا و يضرب ضاربه هزجا، و ليس هو صحيحا في إيقاعه الذي ضرب عليه!. قال: و تفهّمه إبراهيم بن المهديّ بعدي، فقال: صدق يا أمير المؤمنين، الأمر فيه الآن بيّن؛ فغاظني، فقلت له: بأيّ شيء بان الآن ما لم يكن بيّنا قبل؟ أتوهم أنك استنبطت معرفة هذا! و إنما قلته لمّا علمته من جهتي كما يقوله الغلمان العجم و سائر من حضر اتّباعا لي و اقتداء بقولي. فقال له المأمون: صدق، فأمسك؛ و جعل يتعجّب من ذهاب ذلك على كل من حضر، و كنّاني في ذلك اليوم مرّتين.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن حمدون قال حدّثني أبي:
/أنّ الأصمعيّ أنشد قول إسحاق يذكر ولاءه لخزيمة(1) بن خازم:
إذا كانت الأحرار أصلي و منصبي *** و دافع ضيمي خازم و ابن خازم
عطست بأنف شامخ و تناولت *** يداي الثريّا قاعدا غير قائم
قال: فجعل الأصمعيّ يعجب منهما و يستحسنهما، و كان بعد ذلك يذكرهما و يفضّلهما.
قال ابن حمدون: و كان السبب في تولّي إسحاق خازم بن خزيمة بن خازم، أنّ مناظرة جرت بينه و بين ابن جامع بحضرة الرشيد فتغالظا(2)، فقال له ابن جامع: يا من إذا قلت له يا ابن زانية لم أخف أن يكذّبني أحد؛ فمضى إلى خازم بن خزيمة، فتولاّه و انتمى إليه، فقبل ذلك منه، و قال هذين البيتين.
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال: قال إسحاق: كانت عندي(3)/صنّاجة كنت بها معجبا؛ و اشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون؛ فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا ببابي يدقّ دقّا شديدا، فقلت:
انظروا من هذا؛ قالوا: رسول أمير المؤمنين؛ فقلت: ذهبت صنّاجتي، تجده ذكرها له ذاكر فبعث إليّ فيها؛ فلمّا مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب و أنا مثخن(4)، فدخلت فسلّمت، فردّ السلام، و نظر إلى تغيّر وجهي فقال:
اسكن فسكنت؛ و سألني عن صوت و قال: أ تدري لمن هو؟ فقلت: أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء اللّه بذلك؛ فأمر/جارية من وراء الستارة فغنته و ضربت، فإذا هي قد شبّهته بالقديم؛ فقلت: زدني معها عودا آخر فإنه أثبت
ص: 183
لي، فزادني عودا آخر؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا الصوت محدث لا مرأة ضاربة؛ فقال: من أين قلت ذلك؟ فقلت: لمّا سمعته و سمعت لينه عرفت أنه من صنعة النساء؛ و لمّا رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته ضاربة؛ فقال: من أين قلت ذلك؟ فقلت: لأنها قد حفظت مقاطعه و أجزاءه، ثم طلبت عودا آخر ليكون أثبت لي فلم أشكك؛ فقال: صدقت، الغناء لعريب.
نسخت من كتاب ابن أبي سعيد(1): حدّثني إسحاق بن إبراهيم الطّاهريّ(2) قال: حدّثتني مخارق مولاتنا قالت:
كان لمولاي الذي علّمني الغناء فرّاش روميّ، و كان يغنّي بالروميّة صوتا مليح اللحن؛ فقال لي مولاي:
يا مخارق، خذي هذا اللحن الروميّ فانقليه إلى شعر من أصواتك العربيّة حتى امتحن به إسحاق الموصليّ فأعلم أين يقع من معرفته، ففعلت ذلك؛ و صار إليه إسحاق فاحتبسه مولاي، فأقام و بعث إليّ أن ادخلي اللحن الروميّ في وسط غنائك؛ فغنّيته إياه في درج أصوات مرّت قبله، فأصغى إليه إسحاق، و جعل يتفهّمه و يقسّمه و يتفقّد أوزانه و مقاطعه و يوقع عليه بيده، ثم أقبل على مولاي فقال: هذا صوت روميّ اللحن، فمن أين وقع إليك؟ /فكان مولاي بعد ذلك يقول: ما رأيت شيئا أحسن من استخراجه لحنا روميّا لا يعرفه و لا العلّة فيه، و قد نقل إلى غناء عربيّ و امتزجت نغمه حتى عرفه و لم يخف عليه.
أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن موسى قال حدّثني عبد اللّه(3) بن عمرو عن محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني علّويه الأعسر، و وجدت هذا الخبر في بعض الكتب عن عليّ بن محمد بن نصر الشاميّ عن جدّه حمدون بن إسماعيل قال:
تناظر المغنّون يوما عند الواثق، فذكروا الضّرّاب و حذقهم، فقدّم إسحاق زلزلا على ملاحظ، و لملاحظ في ذلك الرئاسة على جميعهم؛ فقال له الواثق: هذا حيف و تعدّ منك؛ فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، اجمع بينهما و امتحنهما، فإن الأمر سينكشف لك فيهما؛ فأمر بهما فأحضرا؛ فقال له إسحاق؛ إن للضّرّاب أصواتا معروفة، أ فأمتحنهما بشيء منها؟ قال: أجل، افعل؛ فسمّى ثلاثة أصوات كان أوّلها:
علّق قلبي ظبية السّيب(4)
فضربا عليه، فتقدّم زلزل و قصّر عنه ملاحظ؛ فعجب الواثق من كشفه عما ادّعاه في مجلس واحد. فقال له
ص: 184
ملاحظ: فما باله يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس! و لم لا يضرب هو! فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لم يكن أحد في زماني أضرب مني إلا أنكم أعفيتموني، فتفلّت منّي؛ و على أن معي بقية لا يتعلّق بها أحد من/هذه الطبقة؛ /ثم قال: يا ملاحظ، شوّش عودك و هاته، ففعل ذلك ملاحظ؛ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يخلّط الأوتار تخليط متعنّت فهو لا يألو ما أفسدها، ثم أخذ العود فجسّه ساعة حتى عرف مواقعه(1)، ثم قال: يا ملاحظ، غنّ أيّ صوت شئت، فغنّى ملاحظ صوتا، و ضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية فلم يخرجه عن لحنه في موضع واحد حتى استوفاه عن نقرة واحدة، و يده تصعد و تنحدر على الدّساتين(2)؛ فقال له الواثق: لا و اللّه ما رأيت مثلك و لا سمعت به! اطرح هذا على الجواري؛ فقال: هيهات يا أمير المؤمنين، هذا لا تعرفه الجواري و لا يصلح لهنّ، إنما بلغني أنّ الفهليذ ضرب يوما بين يدي كسرى فأحسن، فحسده رجل من حذّاق أهل صنعته، فترقّبه حتّى قام لبعض شأنه، ثم خالفه إلى عوده فشوّش بعض أوتاره، فرجع فضرب و هو لا يدري، و الملوك لا تصلح في مجالسها العيدان، فلم يزل يضرب بذلك العود الفاسد إلى أن فرغ، ثم قام على رجله فأخبر الملك بالقصّة، فامتحن العود فعرف ما فيه، ثم قال: «زه(3) و زه و زهان زه»، و وصله بالصّلة التي كان يصل بها من خاطبه هذه المخاطبة؛ فلمّا تواطأت الرواية بهذا أخذت نفسي و رضتها عليه و قلت: لا ينبغي أن يكون الفهليذ أقوى على هذا منّي، فما زلت أستنبطه بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأرض موضع على طبقة من الطبقات إلا و أنا أعرف نغمته كيف هي، و المواضع التي يخرج النغم كلها/منه فيها، من أعاليها إلى أسافلها، و كلّ شيء منها يجانس شيئا غيره، كما أعرف ذلك في مواضع الدّساتين؛ و هذا شيء لا تفي(4) به الجواري. قال له الواثق: صدقت، و لئن متّ لتموتنّ هذه الصناعة معك؛ و أمر له بثلاثين ألف درهم.
فكلّما همت(1) بإتيانها *** قالت: توقّي عدوة الذّئب
الشعر و الغناء لإبراهيم، هزج ثقيل بالسبّابة في مجرى البنصر.
حدّثني عليّ بن هارون قال حدّثني محمد بن موسى اليزيديّ قال حدّثتني دمن جارية إسحاق الموصليّ، و كانت من كبار جواريه و أحظى من عنده، و لقيتها فقلت لها: أيّ شيء أخذت عن مولاك من الغناء؟ فقالت: لا و اللّه ما أخذت أنا عنه و لا واحدة من جواريه صوتا قطّ! كان أبخل بذلك، و ما أخذت منه قطّ إلاّ صوتا واحدا، و ذلك أنه انصرف من دار الخليفة و هو مثخن سكرا(2)، فدخل/إلى بيت كان ينام فيه، فرأى عودا معلّقا فأخذه بيده، و قال لخادمه: يا غلام، صح لي بدمن؛ فجاءني الغلام فخرجت، فلما بلغت الباب إذا هو مستلق على فراشه و العود في يده و هو يصنع هذا الصوت و يردّده، و قد اسحنفر(3) في نغمه و تنوق(4) فيها حتى/استقام له، و هو:
ألا ليلك لا يذهب *** و نيط الطّرف بالكوكب
و هذا الصّبح لا يأتي *** و لا يدنو و لا يقرب
فلمّا سمعته علمت أنّي [إن](5) دخلت إليك أمسك، فوقفت أستمعه حتى فرغ منه و أخذته عنه؛ فلما فرغ منه وضع العود من يده، و ذكر أنه قد طلبني فقال: يا غلام، أين دمن؟ فقلت: ها أنا ذي؛ فقال: مذ كم أنت واقفة؟ فقلت: منذ ابتدأت بالصوت و قد أخذته؛ فنظر إليّ نظر مغضب أسف، ثم قال: غنّيه، فغنّيته حتى استوفيته؛ فقال لي و قد فتر و خجل: قد بقيت عليك فيه بقيّة أنا أصلحها لك؛ فقلت: لست أحتاج إلى إصلاحك إياه، و قد و اللّه أخذته على رغمك؛ فضحك. لحن هذا الصوت من الهزج بالبنصر، و الشعر و الغناء لإسحاق.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال قال لي إسحاق:
كنت عند المعتصم و عنده إبراهيم بن المهديّ، فغنّى إبراهيم صوتا لابن جامع أخلّ ببعضه، ثم قال:
يا أمير المؤمنين، ترك ابن جامع الناس يحجلون خلفه و لا يلحقونه. و في هذا الصوت خاصّة؛ فقلت: و اللّه يا أمير المؤمنين، ما صدق، /و ما هذا الصوت بتامّ الأجزاء؛ فقال: كذب و اللّه يا أمير المؤمنين؛ فقلت: يا سيّدي، أنا أوقفه على نقصانه، فمره فليعد يا أمير المؤمنين؛ فأعاد البيت الأوّل فأقامه و طمع في الإصابة؛ فقلت: آفته في
ص: 186
البيت الثاني، فليردده؛ فردّه فنقص من أجزائه و فسمته، فعرّفته فأقرّ به؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي و صناعة آبائي و إبراهيم يكلّمني فيها، و أنا أسأله عن ثلاثين مسألة من باب واحد في طريق الغناء لا يعرف منها مسألة واحدة؛ فقال: أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه؟ فأعفاه.
و قد أخبرني بهذا الخبر الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبي عن إسحاق؛ فذكر نحوا مما ذكره يحيى، و ذكر أنّ القصة كانت بين يدي المعتصم؛ و زاد فيها فقال:
أنا أسأله عن ثلاثين مسألة و أوقفه على خطئه فيها، فإن لم يقرّ بذلك أقرّ به مخارق و علّويه؛ فقال: أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه! فإنه يعدل عندي البختج(1)؛ قلت: يا أمير المؤمنين، و ما يفعل البختج؟ قال: يسلح؛ قلت(2): قد و اللّه فعل ذلك كلامي به، و منه هرب؛ فضحك و غطّى فاه و قام؛ فظنّ إسحاق بن إبراهيم المصعبيّ أنّي قد أغضبته، فضرب بيده إلى السيف؛ فقلت له: لا تحسب أنّي أغضبته؛ فما كنت لأكلّم عمّه بين يديه بهزء(3) من غير إذنه، فأمسك؛ و كان لا يقدم أحد أن يكلّم الخليفة بحضرته بما فيه الوهن إلا بادر إلى سيفه تعظيما للأمير(4)و إجلالا له.
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن القاسم الهاشميّ عن إسحاق، و أخبرني الحسين بن يحيى قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
/دعاني المأمون و عنده إبراهيم بن المهديّ، و في مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرا عن يمينه و عشرا عن يساره و معهنّ العيدان يضربن بها؛ فلمّا دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته؛ فقال المأمون: يا إسحاق، أ تسمع خطأ؟ فقلت: نعم و اللّه يا أمير المؤمنين؛ فقال لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فقال: لا؛ فأعاد عليّ السؤال، فقلت: بلى و اللّه/يا أمير المؤمنين، و إنه لفي الجانب الأيسر؛ فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين، ما في هذه الناحية خطأ؛ فقلت يا أمير المؤمنين: مر الجواري اللواتي على اليمين يمسكن، فأمرهنّ فأمسكن؛ فقلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فتسمّع ثم قال: ما هاهنا خطأ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، يمسكن و تضرب الثامنة. فأمسكن و ضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هاهنا خطأ؛ فقال عند ذلك لإبراهيم: يا إبراهيم، لا تمار إسحاق بعدها؛ فإن رجلا فهم الخطأ بين ثمانين وترا و عشرين حلقا لجدير ألاّ تماريه؛ فقال: صدقت يا أمير المؤمنين. و قال الحسين بن يحيى في خبره: و كان في الأوتار كلّها مثنى فاسد التسوية. و قال فيه: فطرب أمير المؤمنين المأمون، و قال: للّه درّك يا أبا محمد؛ فكنّاني يومئذ.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني أحمد بن حمدون قال:
ص: 187
سمعت الواثق يقول: ما غنّاني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي، و لا سمعته يغنّي غناء ابن سريج إلا ظننت أنّ ابن سريج قد نشر، و إنه ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضرا، فيتقدّمه عندي و في نفسي بطيب(1)الصوت، حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو و رأيت من ظننته يتقدّمه ينقص؛ و إنّ إسحاق لنعمة/من نعم الملك التي لم يحظ(2) بمثلها؛ و لو أنّ العمر و الشباب و النشاط مما يشترى لأشتريتهنّ له بشطر ملكي.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال:
سأل إسحاق الموصليّ المأمون أن يكون دخوله إليه مع أهل العلم و الأدب و الرّواة لا مع المغنّين، فإذا أراده للغناء غنّاه؛ فأجابه إلى ذلك؛ ثم سأله بعد حين أن يأذن له في الدخول مع الفقهاء؛ فأذن له. قال: فحدّثني محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر أنه كان هو و مخارق و علّويه جلوسا في حجرة لهم ينتظرون جلوس المأمون و خروج الناس من عنده، إذ دخل يحيى بن أكثم و عليه سواده(3) و طويلته، و يده في يد إسحاق يماشيه، حتى جلس معه بين يدي المأمون، فكاد علّويه أن يجنّ، و قال: يا قوم، أسمعتم بأعجب من هذا! يدخل قاضي القضاة و يده في يد مغنّ حتى يجلسا بين يدي الخليفة!. ثم مضت على ذلك مدّة، فسأل إسحاق المأمون أن يأذن له في لبس السواد يوم الجمعة و الصلاة معه في المقصورة؛ قال: فضحك المأمون و قال: و لا كلّ ذا يا إسحاق! و قد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف درهم؛ و أمر له بها.
حدّثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه بن حمدون قال:
كان المغنّون جميعا يحضرون مجلس الواثق و عيدانهم معهم إلا إسحاق، فإنه كان يحضر بلا عود للشرب و المجالسة؛ فإن أمره الخليفة أن يغنّي أحضر له عودا، فإذا غنّى و فرغ سلّ من بين يديه إلى أن يطلبه. و كان الواثق كثيرا ما يكنّيه، رفعا له/من أن يدعوه باسمه؛ و كان إذا غنّى و فرغ الواثق من شرب قدحه قطع الغناء و لم يعد منه حرفا إلا أن يكون في بعض بيت فيتمّه، ثم يقطع و يضع العود من يده.
أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه في خبر ذكر إسحاق(4) فيه، فقال: و عارض معبدا و ابن سريج فانتصف منهما، و كان إبراهيم بن المهديّ يناظره و يجادله في الغناء و ينازعه في صناعته، /و لم يبلغه؛ و ما رأيت بعد إسحاق مثله.
ص: 188
أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال قال لي محمد بن راشد الخنّاق(1):
سمعت علّويه يقول لإسحاق بن إبراهيم الموصليّ: إن إبراهيم بن المهديّ يعيبك بتركك تحريك الغناء؛ فقال له إسحاق: ليتنا نفي بما علمناه، فإنا لا نحتاج إلى الزيادة فيه. [ثم](2) قال له: فإنه يزعم أنّ حلاوة الغناء تحريكه، و تحريكه عنده أن يكون كثير النّغم، و ليس يفعل ذلك، إنما يسقط بعض عمله لعجزه عنه، فإذا فعل ذلك فهو بالإضافة إلى حاله الأولى بمنزلة الأسكدار(3) للكتاب، و هو حينئذ بأن يسمّى المحذوف أشبه منه بأن يسمّى المحرّك؛ فضحك علّويه ثم قال: فإن إبراهيم يسمّي غناءكم هذا الممسك المناديّ؛ قال إسحاق: هذا من لغات الحاكة؛ لأنهم يسمّون الثوب الجافى(4) الكثير العرض و الطول المداديّ؛ و على هذا القياس فينبغي لنا أن نسمّي غناءه المحرّك الضّرابيّ، و هو الخفيف السخيف(5) من الثياب في لغة الحاكة، حتى ندخل الغناء/في جملة الحياكة و نخرجه عن جملة الملاهي؛ ثم قال لعلّويه؛ بحياتي عليك إلاّ ما أعدت عليه ما جرى؛ فقال له: لا و حياتك لا فعلت؛ فإنه يعلم ميلي إليكم، و لكن عليك بأبي جعفر محمد بن راشد الخنّاق؛ فكلمه إسحاق و أقسم عليه أن يؤيده(6)، ففعل و سار إلى إبراهيم فأخبره، فجعل كلّما أخبره شيئا تغيّظ و شتم إسحاق بأقبح شتم؛ ثم جاءه ابن راشد فأخبره؛ فجعل(7) كلّما أخبره بشيء من ذلك ضحك و صفّق سرورا لغيظ إبراهيم من قوله.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثني علي بن محمد النّوفليّ قال أخبرني محمد بن راشد الخنّاق قال:
إني لفي منزلي يوما مع الظهر إذ دخل عليّ إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، فسررت بمكانه؛ فقال: قد جاءت بي إليك حاجة؛ قال قلت: قل ما شاء اللّه؛ قال: دعني في بيتك، و دع غلاميك عندي: بديحا و سليمان - و كانا خادمين مغنّيين - و مرهما أن يغنّياني، و ائتني بفلان ليغنّيني أيضا، بحياتي عليك، و انطلق إلى إبراهيم ابن المهديّ، فإنه سيسرّ بمكانك، فاشرب معه أقداحا، ثم قل [له](8): يا سيّدي، أسألك عن شيء، فإذا قال: سل، فقل له:
أخبرني عن قولك:
ذهبت من الدنيا و قد ذهبت منّي
أيّ شيء كان معنى صنعتك فيه؟ و أنت تعلم أنه لا يجوز في غنائك الذي صنعته فيه إلا أن تقول: «ذهبتو» بالواو، فإن قلت: «ذهبت» و لم تمدّها انقطع اللحن و الشعر، و إن مددتها قبح الكلام و صار على كلام النّبط؛ فقلت له: يا أبا محمد، كيف أخاطب/إبراهيم بهذا؟ فقال: هو حاجتي إليك و قد كلّفتك إياها، فإن استحسنت أن تردّني
ص: 189
فأنت أعلم؛ قال: أفعل ذلك لموضعك على ما فيه عليّ؛ ثم أتيت إبراهيم، و جلست عنده مليّا، و تجارينا(1)الحديث إلى أن خرجنا إلى ذكر الغناء، فخاطبته بما قال لي إسحاق، فتغيّر لونه و انكسر، ثم قال: يا محمد، ليس هذا من كلامك، هذا من كلام الجرمقانيّ(2) ابن الزانية؛ قل له عنّي: أنتم تصنعون هذا للصناعة، و نحن نصنعه للّهو و اللعب و العبث. قال: فخرجت إلى إسحاق فحدّثته بذلك فقال: الجرمقانيّ و اللّه منا أشبهنا بالجرامقة لغة و هو الذي يقول: «ذهبتو»؛ و أقام عندي يومه فرحا بما بلّغته إبراهيم عنه من توقيفه على/خطئه.
قال عليّ بن محمد قال لي أبي:
كان محمد بن راشد صديقا لإسحاق ثم فسد ما بينهما؛ فإنه طابق(3) إبراهيم بن المهديّ عليه، و بلغه عنه من توقيعه أنه يذكره. و كان في محمد بن راشد رداءة و نقل للأحاديث؛ فقال فيه إسحاق:
و ندمان صدق لا تخاف أذاته *** و لا يلفظ الأخبار لفظ ابن راشد
دعاني إلى ما يشتهي فأجبته *** إجابة محمود الخلائق ماجد
فلا خير في اللّذات إلاّ بأهلها *** و لا عيش إلا بالخليل المساعد
قال: فجمع ابن راشد عدّة من الشعراء و أمرهم بهجاء إسحاق؛ فهجوه بأشعار لم تبلغ مراده، فلم يظهرها.
و بلغ ذلك إسحاق فقال فيه:
/
و أبيات شعر رائعات كأنها *** إذا أنشدت في القوم من حسنها سحر
تحفّز و اقلولى(4) لردّ جوابها *** أبو جعفر يغلي كما غلت القدر
فلم يستطعها غير أن قد أعانه *** عليها أناس كي يكون له ذكر
فيا ضيعة الأشعار إذ يقرضونها *** و أضيع منها من يرى أنها شعر
قال: فعاذ محمد بن راشد بإسحاق و استكفّه و صالحه، فرجع إليه.
أخبرني عمّي قال حدّثني عليّ بن محمد بن نصر الشاميّ قال حدّثني منصور بن محمد بن واضح:
أن إبراهيم بن المهديّ طرح في منزل أبيه:
ص: 190
أ من آل ليلى عزفت الطّلولا *** بذي حرض(1) ما ثلات مثولا
بلين و تحسب آياتهنّ *** عن فرط حولين رقا محيلا(2)
- الشعر لكعب بن زهير(3). و الغناء لإسحاق، و له فيه لحنان: ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر، و ماخوريّ بالوسطى. و فيه للزّبير بن دحمان خفيف ثقيل - قال: فجاءنا إسحاق يوما، و أقام عند أبي، و أخرجنا إليه جوارينا، و مرّ الصوت الذي طرحه إبراهيم/بن المهديّ من غنائه؛ فقال إسحاق: من أين لك هذا؟ قال: طرحه أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ أعزّه اللّه تعالى؛ فقال إسحاق: و ما لأبي إسحاق أعزّه اللّه و لهذا الصوت! هذا أنا صنعته، و ليس هو كما طرّحه. قال: فسأله أبي أن يغنّيه، فغنّاه و ردّده(4) حتى صحّ لمن عنده؛ فقال لي أبي: اكتب إلى أبي إسحاق أن أبا محمد أعزّه اللّه صار إليّ فاحتبسته، و أنه غنّى بحضرتي الصوت الذي ألقيته في منزلك الذي أسكنه، فزعم أنه صنعه، و أنه ليس على ما أخذه الجواري عنك، فأحببت أن أعلم ما عندك، جعلني اللّه فداك. قال: فكتبت(5) الرّقعة و أنفذتها إلى إبراهيم. فكتب: نعم، جعلت فداك، صدّق أبو محمد أعزّه اللّه، الصوت له، و هو على ما ذكره، لكنّي لعبت في وسطه لعبا أعجبني. قال: فقرأ إسحاق الرقعة فغضب غضبا شديدا، ثم قال لي: اكتب إليه: «إذا أردت يا هذا أن تلعب فالعب في غناء نفسك لا في غناء الناس، و ما حاجتك إلى هذا الشعر أكثر من ذلك، فاصنع أنت إن كنت تحسن، و العب في صنعتك كما تشتهي مبتدئا باللهو و اللعب غير مشارك في جدّ الناس بلعبك و مفسد له بما لا تعلمه. يا أبا/إسحاق، أيّدك اللّه، ليس هذا الصوت مما يتهيّأ لك أن تمخرق(6) فيه و تقول: جندرته». قال: و كان إبراهيم يقول: إنه يجندر صنعة القدماء و يحسّنها.
قال عليّ بن محمد حدّثني جدّي حمدون:
أن إسحاق قال لإبراهيم بن المهديّ بحضرة المعتصم: ما تقول فيمن يزعم أنّ ابن سريج و ابن محرز و معبدا و مالكا و ابن عائشة لم يكونوا يحسنون تمام الصّنعة/و لا استيفاء الغناء، و يعجزون عما به يكمل و يتمّ و يحسن،
ص: 191
و أنه أقدر على الصنعة منهم؟ قال: أقول: إنه جاهل أحمق؛ قال: فأنت تزعم أنه قد كانت بقيت عليهم أشياء لم يهتدوا لها و لم يحسنوها، فتنبّهت عليها أنت و تممتها و حسّنتها بجندرتك؛ قال: فضحك المعتصم و بقي إبراهيم واجما مطرقا، و لم ينتفع بنفسه بقيّة يومه؛ و ما سمعته أنا و لا غيري بعد ذلك اليوم يتبجّح بغناء يصلحه من غناء المتقدّمين، حتى يطنب في صنعته و يشتهى استماعه منه، كما كان يدّعي قديما. قال: و كان حمدون يقول: كان إبراهيم يأكل المغنّين أكلا، حتى يحضر إسحاق، فيداريه إبراهيم و يطلب مكافأته، و لا يدع إسحاق تبكيته و معارضته؛ و كان إسحاق آفته، كما أنّ لكل شيء آفة.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
خرجت يوما من داري و أنا مخمور أتنسّم الهواء، فمررت برجل ينشد رجلا معه لذي الرّمّة:
أ لم تعلمي يا ميّ أنّي و بيننا *** مهاو لطرف العين فيهنّ مطرح(1)
ذكرتك أن مرّت بنا أمّ شادن(2) *** أمام المطايا تشرئبّ و تسنح
من المؤلفات الرمل أدماء(3) حرّة *** شعاع الضّحى في متنها يتوضّح
/هي الشّبه أعطافا و جيدا و مقلة *** و ميّة منها بعد أبهى و أملح
كأن البرى(4) و العاج عيجت متونه *** على عشر نهّى(5) به السيل أبطح
لئن كانت الدنيا عليّ كما أرى *** تباريح من ميّ فللموت أروح
فأعجبني، فصنعت فيه لحنا غنّيت به المأمون، فأخذت به منه مائة ألف درهم. لحن إسحاق في هذه الأبيات أوّل مطلق في مجرى البنصر.
ص: 192
حدّثني يحيى بن محمد الطّاهريّ قال حدّثني ينشو مولى أبي أحمد بن الرشيد قال:
اشتراني مولاي أبو أحمد بن الرشيد، و اشترى رفيقي محموما(1)، فدفعنا إلى وكيل له أعجميّ خراسانيّ، و قال له: انحدر بهذين الغلامين إلى بغداد إلى إسحاق الموصليّ؛ و دفع إليه مائة ألف درهم، و شهريّا(2) بسرجه و لجامه، و ثلاثة أدراج(3) من فضّة/مملوءة طيبا، و سبعة تخوت(4) من بزّ خراسانيّ، و عشرة أسفاط(5) من بزّ مصر، و خمسة تخوت وشي كوفيّ، و خمسة تخوت خزّ سوسيّ، و ثلاثين ألف درهم للنفقة؛ و قال للرسول: عرّف إسحاق أنّ هذين الغلامين لرجل من وجوه أهل خراسان، وجّه بهما إليه ليتفضّل و يعلّمهما أصواتا اختارها، و كتبها له في درج(6)، و قال له: كلما علّمهما صوتا ادفع إليه ألف درهم، حتى يتعلّما بها مائة صوت، فإذا علّمهما الصوتين اللذين بعد المائة فادفع إليه الشّهريّ، ثم إذا علمهما الثلاثة التي بعد الصوتين، فادفع إليه بكل صوت درجا من/الأدراج، ثم لكل صوت بعد ذلك تختا أو سفطا، حتى ينفد ما بعثت به معك؛ ففعل، و انحدرنا إلى بغداد، فأتينا إسحاق، و غنّينا بحضرته، و بلّغه الوكيل الرسالة؛ فلم يزل يلقى علينا الأصوات حتى أخذناها كل أمرنا سيّدنا.
ثم سرنا(7) إلى سرّ من رأى، فدخلنا إليه و غنّيناه جميع ما أخذناه فسرّه ذلك. و قدم إسحاق سرّ من رأى، و لقيه مولانا، فدعا بنا و أوصانا بما أراد، و غدا بنا إلى الواثق و قال: إنكما ستريان إسحاق بين يديه، فلا تسلّما عليه و لا توهماه أنكما رأيتماه قطّ، و ألبسنا أقبية خراسانية و مضينا معه؛ فلمّا دخلنا على الواثق قال له: يا سيّدي، هذان غلامان اشتريا لي من خراسان يغنّيان بالفارسيّة؛ فقال: غنّيا، فضربنا ضربا فارسيّا و غنّينا غناء فهليذيّا؛ فطرب الواثق و قال: أحسنتما، فهل تغنّيان بالعربية؟ قلنا: نعم، و اندفعنا نغنّي ما أخذناه عن إسحاق/و هو ينظر إلينا و نحن نتغافل عنه، حتى غنّينا أصواتا من غنائه؛ فقام إسحاق ثم قال للواثق: و حياتك يا سيّدي و بيعتك، و إلاّ كلّ ملك لي صدقة و كل مملوك لي حرّ إن لم يكن هذان الغلامان من تعليمي و من قصّتهما كيت و كيت؛ فقال له أبو أحمد: ما أدري ما تقول! هذان اشتريتهما من رجل نخّاس خراسانيّ؛ فقال له: بلغ و لعك(8) إليّ! و نخّاس خراسانيّ من أين يحسن [أن] يختار مثل تلك الأغاني!؛ فضحك أبو أحمد ثم قال: صدق، أنا احتلت عليه، و لو رمت أن يعلّمهما ما أخذاه منه إذا علم أنهما لي بعشرة أضعاف ما أعطيته لما فعل؛ فقال له إسحاق: قد تمّت عليّ حيلته. و قال أبو أحمد للواثق: إن أردتهما فخذهما؛ فقال: لا أفجعك بهما يا عمّ، و لكن لا تمنعني حضورهما؛ فقال له: قد بذلت
ص: 193
لك الملك فلم تؤثره، أ فتراني أمنعك الخدمة! فكنّا نخدمه بنوبة.
حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه بن حمدون قال حدّثني ابن فيلا الطّنبوريّ و كان قد دخل على الواثق و غنّاه، قال:
قال الواثق في بعض العشايا: لا يبرح أحد من المغنّين الليلة، فقد عزمت على الصّبوح في غد؛ فأمسكوا جميعا عن معارضته إلا إسحاق فإنه قال له: لا و حياتك ما أبيت؛ قال: فلا و اللّه ما كان له عند الواثق معارضة أكثر من أن قال له: فبحياتي إلاّ بكّرت(1) يا أبا محمد. قال: فرأيت مخارقا و علّويه قد تقطّعا غيظا؛ و بتنا في بعض الحجر، فقالا لي(2): اجلس على باب الحجرة، فإذا جاء إسحاق فعرّفنا حتى ندخل بدخوله؛ فلم نلبث أن جاء إسحاق مع أحمد بن أبي داود يماشيه في زيّه و سواده و طريلته(3) مثل طويلته، فدخلت فأعلمتهما؛ فقامت على علّويه القيامة/و قال: يا هؤلاء، خيناگر(4) يدخل إلى الخليفة مع قاضي القضاة! أسمعتم بأعجب من هذا البخت قطّ!؛ فقال له مخارق: دع هذا عنك، فقد و اللّه بلغ ما أراد. و لم نلبث أن خرج ابن أبي دواد و دعي(5) بنا فدخلنا، فإذا إسحاق جالس في صف الندماء لا يخرج منه، فإذا أمره الواثق أن يغنّي خرج عن صفّهم قليلا و أتى بعود فغنّى الصوت الذي يأمره به؛ فإذا فرغ من القدح قطع الصوت الذي يأمره به حيث بلغ و لم يتمّه، و رجع إلى صفّ الجلساء.
أخبرني محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصليّ الملقّب بوسواسة قال حدّثني حمّاد قال:
قال لي أبي: كنت عند الرشيد يوما، و عنده ندماؤه و خاصّته و فيهم إبراهيم/بن المهديّ، فقال لي الرشيد:
يا إسحاق تغنّ:
شربت مدامة و سقيت أخرى *** و راح المنتشون و ما انتشيت
فغنّيته؛ فأقبل عليّ إبراهيم بن المهديّ فقال لي: ما أصبت يا إسحاق و لا أحسنت؛ فقلت: ليس هذا مما تحسنه و لا تعرفه، و إن شئت فغنّه، فإن لم أجدك أنك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال. ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي و صناعة أبي، و هي التي قرّبتنا منك و استخدمتنا لك و أوطأتنا بساطك، فإذا نازعناها(6) أحد بلا علم لم نجد بدّا من الإيضاح و الذبّ؛ فقال: لا غرو(7) و لا لوم عليك؛ فقام الرشيد ليبول؛ فأقبل إبراهيم بن المهديّ عليّ و قال: /ويلك يا إسحاق! أ تجترئ عليّ و تقول ما قلت يا ابن الفاعلة!
ص: 194
لا يكني؛ فداخلني ما لم أملك نفسي معه؛ فقلت له: أنت تشتمني، و أنا لا أقدر على إجابتك و أنت ابن الخليفة و أخو الخليفة، و لو لا ذلك لكنت أقول لك: يا ابن الزّانية؛ أو ترى أنّي كنت لا أحسن أن أقول لك: يا ابن الزانية؛ و لكن قولي في ذمّك ينصرف جميعه إلى خالك الأعلم(1)، و لولاك لذكرت صناعته و مذهبه - قال إسحاق: و كان ببطارا - قال: ثم سكتّ، و علمت أنّ إبراهيم يشكوني و أن الرشيد سوف يسأل من حضر مما جرى فيخبرونه، فتلافيت ذلك(2)، ثم قلت: أنت تظنّ أنّ الخلافة تصير إليك فلا تزال تهدّدني بذلك و تعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك حسدا له و لولده على الأمر! فأنت تضعف عنه و عنهم و تستخفّ بأوليائهم تشفّيا؛ و أرجو ألاّ يخرجها اللّه عن يد الرشيد و ولده، و أن يقتلك دونها؛ فإن صارت إليك - و باللّه العياذ - فحرام عليّ العيش يومئذ، و الموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذ ما بدا لك. قال: فلمّا خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه فقال:
يا أمير المؤمنين، شتمني و ذكر أمّي و استخفّ بي؛ فغضب و قال: ما تقول؟ ويلك! قلت: لا أعلم، فسل من حضر؛ فأقبل على مسرور(3) و حسين؛ فسألهما عن القصّة؛ فجعلا يخبرانه و وجهه يتربّد(4) إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة، فسرّي عنه و رجع لونه، و قال لإبراهيم: ما له ذنب، شتمته فعرّفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك و أمسك عن هذا. فلما انقضى المجلس و انصرف الناس، أمر بألاّ أبرح، و خرج كلّ من حضر حتى لم يبق غيري؛ فساء ظنّي و أهمّتني نفسي؛ فأقبل عليّ و قال: ويلك/يا إسحاق! أ تراني لم أفهم قولك و مرادك! قد و اللّه زنّيته(5)ثلاث مرات، أ تراني لا أعرف وقائعك و أقدامك و أين ذهبت! ويلك! لا تعد؛ حدّثني عنك، لو ضربك إبراهيم، أ كنت أقتصّ لك منه فأضربه و هو أخي يا جاهل؟! أتراك لو أمر غلمانه فقتلوك أ كنت أقتله بك؟! فقلت:
يا أمير المؤمنين، قد و اللّه قتلتني بهذا الكلام، و لئن بلغه ليقتلنّي، و ما أشك في أنه قد بلغه الآن؛ فصاح بمسرور الخادم و قال: عليّ بإبراهيم الساعة فأحضر، و قال: قم فانصرف؛ و قلت لجماعة من الخدم، و كلّهم كان لي محبّا و إليّ مائلا و لي مطيعا: أخبروني بما يجري، فأخبروني من غد أنه لمّا دخل وبّخه و جهّله و قال له: أ تستخفّ بخادمي و صنيعتي و نديمي و ابن نديمي/و ابن خادمي و صنيعتي و صنيعة أبي في مجلسي، و تقدم عليّ و تستخفّ بمجلسي و حضرتي؟ هاه هاه(6).! أتقدم على هذا و أمثاله! و أنت مالك و للغناء، و ما يدريك ما هو! و من أخذك(7) به و طارحك إياه حتى تتوهّم أنك تبلغ مبلغ إسحاق الذي غذي به و علّمه و هو صناعته! ثم تظن أنك تخطّئه فيما لا تدريه، و يدعوك إلى إقامة الحجة عليك فلا تثبت لذلك و تعتصم بشتمه! أ ليس هذا مما يدلّ على السقوط و ضعف العقل و سوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك و غلبة لذّتك على مروءتك و شرفك ثم إظهارك إياه و لم تحكمه، و ادّعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك الناس إلى الجهل المفرط! أ لا تعلم - ويلك - أنّ هذا سوء أدب و قلّة معرفة و قلة مبالاة بالخطإ و التكذيب و الردّ القبيح!. ثم قال: و اللّه العظيم و حقّ رسوله، و إلا فأنا نفيّ من المهديّ، لئن أصابه
ص: 195
أحد بسوء، أو سقط عليه حجر من السماء، أو سقط من على دابّته، أو سقط/عليه سقفه، أو مات فجأة، لأقتلنّك به؛ و اللّه! و اللّه! و اللّه! فلا تعرض له و أنت أعلم، قم الآن فاخرج؛ فخرج و قد كاد أن يموت. فلما كان بعد ذلك دخلت إليه و إبراهيم عنده، فأعرضت عن إبراهيم؛ و جعل ينظر إليه مرّة و إليّ مرّة و يضحك، ثم قال له: إني لأعلم محبّتك في إسحاق و ميلك إليه و إلى الأخذ عنه، و إنّ هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلاّ بعد أن يرضى، و الرضا لا يكون بمكروه، و لكن أحسن إليه و أكرمه و اعرف حقّه و برّه وصله، فإذا فعلت ذلك ثم خالفك فيما تهواه عاقبته بيد منبسطة و لسان منطلق؛ ثم قال لي: قم إلى مولاك و ابن مولاك فقبّل رأسه؛ فقمت إليه و قام إليّ و أصلح الرشيد بيننا.
أعاذل قد نهيت فما انتهيت *** و قد طال العتاب فما ارعويت
أعاذل ما كبرت وفيّ ملهى *** و لو أدركت غايتك انتهيت
شربت مدامة و سقيت أخرى *** و راح المنتشون و ما انتشيت
أبيت معذّبا قلقا كئيبا *** لما ألقاه من ألم و فوت(1)
الغناء لابن محرز ثقيل عن ابن المكّيّ. و فيه رمل بالوسطى.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
أرسل إليّ الرشيد ذات ليلة، فدخلت إليه فإذا هو جالس و بين يديه جارية عليها قميص مورّد و سراويل مورّدة و قناع مورّد كأنها ياقوتة على وردة؛ فلما رآني قال لي: اجلس، فجلست؛ فقال لي: غنّ، فغنّيت:
/
تشكّى الكميت الجري لما جهدته *** و بيّن لو يسطيع أن يتكلّما
فقال: لمن هذا اللحن؟ فقلت: لي يا أمير المؤمنين؛ فقال: هات لحن ابن سريج، فغنّيته إياه؛ فطرب و شرب رطلا و سقي الجارية رطلا و سقاني رطلا؛ ثم قال: غنّ، فغنّيته:
/
هاج شوقي بعد ما *** شيّب أصداغي بروق
موهنا(2) و البرق ممّا *** ذا الهوى قدما يشوق
فقال: لمن هذا الصوت؟ فقلت: لي؛ فقال: قد كنت سمعت فيه لحنا آخر؛ فقلت: نعم، لحن ابن محرز؛ قال: هاته، فغنّيته فطرب و شرب رطلا، ثم سقى الجارية رطلا و سقاني رطلا؛ ثم قال: غنّ، فغنّيته:
ص: 196
أ فاطم مهلا بعض هذا التدلّل *** و إن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
فقال لي: ليس هذا اللحن أريد، غنّ رمل ابن سريج؛ فغنّيته و شرب رطلا و سقي الجارية رطلا، ثم قال:
حدّثني، فجعلت أحدّثه بأحاديث القيان و المغنّين طورا، و أحاديث العرب و أيامها و أخبارها تارة، و أنشده أشعار القدماء و المحدثين في خلال ذلك، إذ دخل الفضل بن الرّبيع، فحدّثه حديث ثلاث جوار ملكهنّ و وصفهنّ بالحسن و الإحسان و الظّرف و الأدب؛ فقال له: يا عبّاسيّ، هل تسخو نفسك بهنّ؟ و هل لك من سلوة عنهنّ؟ فقال له: و اللّه يا أمير المؤمنين، إني لأسخو بهنّ و بنفسي، فبها فداك اللّه؛ ثم قام فوجّه بهنّ إليه، فغلبن على قلبه، و هنّ سحر و ضياء و خنث ذات الخال؛ و فيهنّ يقول:
/
إنّ سحرا و ضياء و خنث *** هنّ سحر و ضياء و خنث
أخذت سحر و لا ذنب لها *** ثلثي قلبي و ترباها الثّلث
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن هارون عن إسحاق قال:
أتيت عبيد اللّه بن محمد بن عائشة بالبصرة، فلمّا دخلت إليه حصرت؛ فقال لي: إنّ الحصر رائد(1) الحياء، و الحياء عقيد الإيمان، فانبسط و أزل الوحشة، فلئن باعدت بيننا الأحساب، لقد قرّبت بيننا الآداب؛ فقلت [له](2):
و اللّه لقد سررتني بخطابك، و زدتني ببرّك عجزا عن جوابك؛ و اللّه درّ القطاميّ حيث يقول:
أمّا قريش فلن تلقاهم أبدا *** إلاّ و هم خير من يحفى و ينتعل
أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم قال حدّثني أبو هفّان قال:
وجه أحمد بن هشام إلى إسحاق الموصليّ بزعفران رطب و كتب إليه:
اشرب على الزعفران الرّطب متّكئا *** و انعم نعمت بطول اللّهو و الطّرب
فحرمة الكأس بين الناس واجبة *** كحرمة الودّ و الأرحام و الأدب
قال: فكتب إليه إسحاق:
أذكر أبا جعفر حقّا أمتّ به *** أنّي و إياك مشغوفان بالأدب
و أننا قد رضعنا الكأس درّتها(3) *** و الكأس حرمتها أولى من النّسب
حدّثنا الصّوليّ قال حدّثني محمد بن موسى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
ص: 197
لمّا أراد الفضل بن يحيى الخروج إلى خراسان ودّعته، ثم أنشدته بعد التوديع:
/
فراقك مثل فراق الحياة *** و فقدك مثل افتقاد الدّيم
عليك السلام فكم من وفاء *** أفارق فيك و كم من كرم
قال: فضمني إليه، و أمر لي بألف دينار، و قال لي: يا أبا محمد، لو حلّيت هذين البيتين بصنعة/و أودعتهما من يصلح من الخارجين معنا، لأهديت بذلك إليّ أنسا و أذكرتني بنفسك؛ ففعلت ذلك و طرحته على بعض المغنّين؛ فكان كتابه لا يزال يرد عليّ و معه ألف دينار يصلني بذلك كلما غنّى بهذا الصوت. قال الصّوليّ: و هو من طريقة الرّمل.
أخبرني عمي قال حدّثني عمر بن شبّة عن إسحاق قال:
قال لي الأصمعيّ: لمّا خرجنا مع الرشيد إلى الرّقّة قال لي: هل حملت معك شيئا من كتبك؟ فقلت: نعم، حملت منها ما خفّ حمله؛ فقال: كم؟ فقلت: ثمانية عشر صندوقا؛ فقال: هذا لمّا خفّفت، فلو ثقّلت كم كنت تحمل؟ فقلت: أضعافها؛ فجعل يعجب.
أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال:
لمّا ولي المعتصم دخلت إليه في جملة الجلساء و الشعراء؛ فهنّأه القوم نظما و نثرا و هو ينظر إليّ مستنطقا؛ فأنشدته:
لاح بالمفرق(1) منك القتير(2) *** و ذوى غصن الشّباب النّضير
هزئت أسماء منّى و قالت *** أنت يا ابن الموصليّ كبير
/و رأت شيبا برأسي(3) فصدّت *** و ابن ستّين بشيب جدير
لا يروعنّك شيبي فإنّي *** مع هذا الشّيب حلو مزير(4)
قد يفلّ(5) السيف و هو جراز *** و يصول الليث و هو عقير(6)
يا بني العبّاس أنتم شفاء *** و ضياء للقلوب و نور
أنتم أهل الخلافة فينا *** و لكم منبرها و السرير
ص: 198
لا يزال الملك فيكم مدى الدّه *** ر مقيما ما أقام ثبير(1)
و أبو إسحاق خير إمام *** ما له في العالمين نظير
ما له فيما يريش و يبري *** غير توفيق الإله وزير
واضح الغرّة للخير فيه *** حين يبدو شاهد و بشير
زانه هدي تقى و جلال *** و عفاف و وقار و خير
لو تباري جوده الريح يوما *** نزعت و هي طليح(2) حسير
قال: فأمر لي بجائزة فضّلني بها على الجماعة. ثم دخلت إليه يوم مقدمه من غزاته، فأنشدته قولي فيه:
لأسماء رسم عفا باللّوى *** أقام رهينا لطول البلى
تعاوره الدهر في صرفه *** بكرّ الجديدين حتى عفا
إذ(3) البين لم تخش روعاته *** و لم يصرف الحيّ صرف الرّدى
/و إذ ميعة(4) اللهو تجري بنا *** و حبل الوصال متين القوى
فذلك دهر مضى فابكه *** و من ضاق ذرعا بأمر بكى
و هل يشفينّك من غلّة *** بكاؤك في إثر ما قد مضى
إلى ابن الرشيد إمام الهدى *** بعثنا المطيّ تجوب الفلا
/إلى ملك حلّ من هاشم *** ذؤابة مجد منيف الذّرى
إذا قيل أيّ فتى هاشم *** و سيّدها كان ذاك الفتى
به نعش اللّه آمالنا *** كما نعش الأرض صوب الحيا
إذا ما نوى فعل أكرومة *** تجاوز من جوده ما نوى
كساه الإله رداء الجمال *** و نور الجلال و هدى التقى
قال: فأمر(5) لي بجائزة، و قال: لست أحسب هذا لك إلا بعد أن تقرن صناعتك فيه بالأخرى (يعني أن أغنّي فيه و في:
«هزئت أسماء منى»
)؛ فصنعت في:
هزئت أسماء منى.....
ص: 199
لحنا، و في:
لأسماء رسم عفا باللّوى
لحنا آخر و غنّيته بهما، فأمر لي بألفي دينار.
هزئت أسماء منّى و قالت *** أنت يا ابن الموصليّ كبير
لحن إسحاق في أربعة أبيات متوالية من الشعر ثقيل أوّل بالوسطى. و الآخر:
لأسماء رسم عفا باللّوى *** أقام رهينا لطول البلى
الغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالوسطى.
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن أبي العلاء قال: غنّيت يوما بين يدي الواثق لحن إسحاق في:
هزئت أسماء منّى و قالت *** أنت يا ابن الموصليّ كبير
قال: فنظر إليّ مخارق نظرا شزرا و عضّ شفته عليّ؛ فلما خرجنا من بين يدي الواثق قلت: يا أستاذ، لم نظرت إليّ ذلك النظر؟ أ أنكرت عليّ شيئا أم أخطأت في غنائي؟ فقال لي: ويحك! أ تدري أيّ صوت غنّيت! إن إسحاق جعل صيحة هذا الصوت بمنزلة طريق ضيّق وعر صعب المرتقى، أحد جانبي ذلك الطريق حرف الجبل، و عن جانبه الآخر الوادي؛ فإن مال مرتقيه عن محجّته إلى جانب الوادي هوى، و إن مال إلى الجانب الآخر نطحه حرف الجبل فتكسّر؛ صر إليّ غدا حتى أصحّحه لك.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد قال حدّثت من غير وجه:
أن إسحاق بات ليلة عند المعتصم و هو أمير، فسمع لحنا لعبد الوهاب المؤذّن أذّن به على باب المعتصم، فأصغى إليه فأعجبه، فأعاد المبيت ليلة أخرى عنده حتى استقام له اللحن؛ فبنى عليه لحنه:
هزئت أسماء منّى و قالت
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ:
أنّ إبراهيم بن المهديّ فصد يوما، فكتب إليه إسحاق يتعرّف خبره و يدعو له بالسلامة و حسن العقبى، و كتب إليه: إني سأهدي إليك هديّة للفصد حسنة؛ فوجّه إليه بديحا غلامه، فغنّاه لحنه في:
/هزئت أسماء منّى و قالت
فاستحسنه إبراهيم و قال له: قد قبلنا الهديّة، فإن كان أن لك في طرحه على الجواري فافعل؛ فقال له: بذلك
ص: 200
أمرني، و قال لي: إنك ستقول لي هذا القول، فقال: إن قاله لك فقل له: لو لم آمرك بطرحه لم يكن هديّة؛ فضحك إبراهيم، /و ألقاه بديح على جواريه. و قد ذكر عليّ بن محمد بن نصر هذا الخبر، فذكر أنه كتب(1) إلى أبيه بهذه الهديّة؛ و هذا خطأ، لأن الشعر في تهنئة المعتصم بالخلافة، و إبراهيم الموصليّ مات في حياة الرشيد، فكيف يهدى إليه هذا الصوت!.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال حدّثني أحمد بن أبي العلاء(2) قال:
اندفع محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر يوما يغنّي هذا الصوت؛ فالتفت إلينا مخارق فقال: خرج(3) ابن الزانية!.
حدّثني عمّي قال حدّثني أبو جعفر محمد بن الدّهقانة النّديم قال حدّثني أحمد بن يحيى المكيّ قال:
دعاني الفضل بن الرّبيع و دعا علّويه و مخارقا، و ذلك في أيام المأمون بعد رجوعه و رضاه عنه إلا أنّ حاله كانت ناقصة متضعضعة؛ فلمّا اجتمعنا عنده كتب إلى إسحاق الموصليّ يسأله أن يصير إليه و يعلمه الحال في اجتماعنا عنده؛ فكتب إليهم: لا تنتظروني بالأكل فقد أكلت، و أنا أصير إليكم بعد ساعة؛ فأكلنا و جلسنا نشرب حتى قرب العصر، ثم وافى إسحاق فجلس، و جاء غلامه بقطرميز(4) نبيذ فوضعه/ناحية، و أمر صاحب الشراب بإسقائه منه، و كان علّويه يغنّي الفضل بن الرّبيع في لحن لسياط اقترحه الفضل عليه و أعجبه، و هو:
فإن تعجبي أو تبصري الدّهر طمّني(5) *** بأحداثه طمّ المقصّص بالجلم(6)
فقد أترك الأصياف تندى رحالهم *** و أكرمهم بالمحض و التّامك السّنم(7)
- و لحنه من الثقيل الثاني - فقال له إسحاق: أخطأت يا أبا الحسن في أداء هذا الصوت، و أنا أصلحه لك؛ فجنّ علّويه و اغتاظ و قامت قيامته؛ ثم أقبل على علّويه فقال له: يا حبيبي، ما أردت الوضع منك بما قلته لك، و إنما أردت تهذيبك و تقويمك، لأنك منسوب الصواب و الخطأ إلى أبي و إليّ، فإن كرهت ذلك تركتك و قلت لك:
أحسنت و أجملت؛ فقال له علّويه: و اللّه ما هذا أردت، و لا أردت إلا ما لا تتركه أبدا من سوء عشرتك! أخبرني عنك حين تجيء هذا الوقت لمّا دعاك الأمير و عرّفك أنه قد نشط للاصطباح: ما حملك على الترفّع عن مباكرته و خدمته مع صنائعه عندك، و ما كان ينبغي أن يشغلك عنه شيء إلا الخليفة! ثم تجيئه و معك قطرميز نبيذ ترفّعا عن شرابه كما ترفّعت عن طعامه و مجالسته إلا كما تشتهي و حين تنشط، كما تفعل الأكفاء، بل تزيد على فعل الأكفاء؛
ص: 201
ثم تعمد إلى صوت قد اشتهاه و اقترحه و سمعه جميع من حضر فما عابه منهم أحد فتعيبه ليتمّ تنغيصك إياه لذّته!؛ أما و اللّه لو(1) الفضل بن يحيى أو أخوه(2) جعفر دعاك إلى مثل/ما دعاك إليه الأمير، بل بعض أتباعهم، لبادرت و باكرت و ما تأخّرت و لا اعتذرت؛ قال: فأمسك الفضل عن الجواب إعجابا بما خاطب به علّويه إسحاق؛ فقال له إسحاق: أمّا ما ذكرته من تأخّري عنه إلى الوقت الذي حضرت فيه، فهو يعلم أنّي لا أتأخر عنه إلا بعائق قاطع، إن وثق بذلك منّي و إلاّ ذكرت له الحجة سرّا من حيث لا يكون لك و لا لغيرك فيه مدخل. و أما ترفّعي عنه، فكيف أترفّع عنه و أنا أنتسب إلى صنائعه و أستمنحه و أعيش من فضله مذ كنت، و هذا تضريب(3) لا أبالي به منك. و أما حملي النبيذ معي، فإنّ لي في النبيذ شرطا من طعمه و ريحه، /و إن لم أجده لم أقدر على الشرب و تنغّص عليّ يومئذ، و إنما حملته ليتمّ نشاطي و ينتفع بي. و أما طعني على ما اختاره، فإني لم أطعن على اختياره، و إنما أردت تقويمك، و لست و اللّه تراني متتبعا لك بعد هذا اليوم و لا مقوّما شيئا من خطئك؛ و أنا أغنّي له - أعزّه اللّه - هذا الصوت فيعلم و تعلم و يعلم من حضر أنك أخطأت فيه و قصّرت. و أما البرامكة و ملازمتي لهم فأشهر من أن أجحده، و إني لحقيق فيه بالمعذرة، و أحرى أن أشكرهم على صنيعهم و بأن أذيعه و أنشره، و ذلك و اللّه أقلّ ما يستحقّونه منّي.
ثم أقبل على الفضل - و قد غاظه مدحه لهم - فقال: اسمع منّي شيئا أخبرك به مما فعلوه ليس هو بكبير في صنائعهم عندي و لا عند أبي قبلي، فإن وجدت لي عذرا و إلا فلم: كنت في ابتداء أمري نازلا مع أبي في داره، فكان لا يزال يجري بين غلماني و غلمانه و جواريّ و جواريه الخصومة، كما تجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه، فأتبيّن الضّجر و التنكّر في وجهه؛ فاستأجرت دارا بقربه و انتقلت إليها أنا و غلماني و جواريّ، و كانت دارا واسعة، فلم أرض ما معي من الآلة لها و لا لمن يدخل إليّ من إخواني أن يروا مثله عندي؛ ففكرت في ذلك و كيف/أصنع، و زاد فكري حتى خطر بقلبي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة، و أني لا آمن في وقت أن يستأذن عليّ [صاحب داري](4)، و عندي من أحتشمه و لا يعلم حالي، فيقال صاحب دارك، أو يوجّه في وقت فيطلب أجرة الدار و عندي من أحتشمه؛ فضاق بذلك صدري ضيقا شديدا حتى جاوز الحدّ؛ فأمرت غلامي بأن يسرج لي حمارا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرّج فيها مما دخل على قلبي، فأسرجه و ركبت برداء و نعل؛ فأفضى بي المسير و أنا مفكر لا أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد؛ فتواثب غلمانه إليّ؛ و قالوا: أين هذا الطريق؟ فقلت: إلى الوزير؛ فدخلوا فاستأذنوا لي؛ و خرج الحاجب فأمرني بالدخول، و بقيت خجلا، قد وقعت في أمرين فاضحين: إن دخلت إليه برداء و نعل و أعلمته أنّي قصدته في تلك الحال كان سوء أدب، و إن قلت له: كنت مجتازا و لم أقصدك فجعلتك طريقا كان قبيحا؛ ثم عزمت فدخلت؛ فلمّا رآني تبسّم و قال: ما هذا الزّيّ يا أبا محمد! احتبسنا لك بالبر و القصد و التفقّد ثم علمنا أنك جعلتنا طريقا؛ فقلت: لا و اللّه يا سيّدي، و لكني أصدقك؛ قال:
هات؛ فأخبرته القصّة من أوّلها إلى آخرها؛ فقال: هذا حقّ مستو، أ فهذا شغل قلبك؟ قلت: إي و اللّه! و زاد فقال:
لا تشغل قلبك بهذا، يا غلام، ردّوا حماره و هاتوا له خلعة؛ فجاءوني بخلعة تامّة من ثيابه فلبستها، و دعا بالطعام فأكلت و وضع النبيذ فشربت و شرب فغنّيته، و دعا في وسط ذلك بدواة و رقعة و كتب أربع رقاع ظننت بعضها توقيعا
ص: 202
لي بجائزة، فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرّقاع و سارّه بشيء، فزاد طمعي في الجائزة؛ و مضى الرجل و جلسنا نشرب و أنا أنتظر شيئا فلا أراه إلى العتمة؛ ثم اتّكأ يحيى فنام، فقمت و أنا منكسر خائب فخرجت و قدّم لي /حماري؛ فلمّا تجاوزت الدار قال لي غلامي: إلى أين تمضي؟ قلت: إلى البيت؛ قال: قد و اللّه بيعت دارك، و أشهد على/صاحبها، و ابتيع الدّرب كلّه و وزن ثمنه، و المشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرّفك، و أظنه اشترى ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في استعجاله و استحثاثه أمرا سلطانيا؛ فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسابي، و جئت و أنا لا أدري ما أعمل؛ فلمّا نزلت على باب داري إذا أنا بالوكيل الذي سارّه يحيى قد قام إليّ فقال لي:
ادخل - أيّدك اللّه - دارك حتى أدخل إلى مخاطبتك في أمر أحتاج إليك فيه؛ فطابت نفسي بذلك، و دخلت و دخل إليّ فأقر أني توقيع يحيى: «يطلق لأبي محمد إسحاق مائة ألف درهم يبتاع له بها داره و جميع ما يجاورها و يلاصقها».
و التوقيع الثاني إلى ابنه الفضل: «قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره، فأطلق إليه مثلها لينفقها على إصلاح الدار كما يريد و بنائها على ما يشتهي». و التوقيع الثالث إلى جعفر: «قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها منزل يسكنه، و أمر له أخوك بدفع مائة ألف [درهم](1) ينفقها على بنائها و مرمّتها على ما يريد، فأطلق له أنت مائة ألف درهم يبتاع بها فرشا لمنزله». و التوقيع الرابع إلى محمد: «قد أمرت لأبي محمد إسحاق أنا و أخواك بثلاثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه و نفقة ينفقها عليه و فرش يبتذله، فمر له أنت بمائة ألف درهم يصرفها في سائر نفقته». و قال الوكيل: قد حملت المال و اشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم، و هذه كتب الابتياعات باسمي و الإقرار لك، و هذا المال بورك لك فيه فاقبضه؛ فقبضته و أصبحت أحسن حالا من أبي في منزلي و فرشي و آلتي؛ و لا و اللّه ما هذا بأكبر شيء فعلوه لي، أ فألام على شكر هؤلاء! فبكى/الفضل بن الربيع و كل من حضر(2)، و قالوا: لا و اللّه لا تلام على شكر هؤلاء. ثم قال الفضل: بحياتي غنّ الصوت و لا تبخل على أبي الحسن بأن تقوّمه له؛ فقال: أفعل؛ و غنّاه، فتبيّن علّويه أنه كما قال، فقام فقبّل رأسه و قال: أنت أستاذنا و ابن أستاذنا و أولى بتقويمنا و احتمالنا من كل أحد؛ و ردّه(3) إسحاق مرّات حتى استوى لعلّويه.
و لقد روي في هذا الخبر بعينه أن هذه القصّة كانت عند عليّ بن هشام، و قد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني ميمون بن هارون و أبو عبد اللّه الهاشميّ قالا:
دعا عليّ بن هشام إسحاق الموصليّ و سأله أن يصطبح عنده و يبكّر فأجابه؛ فلمّا كان الغد وافاه ظهرا و عنده مخارق و علّويه؛ فقال له عليّ بن هشام: أين كنت الساعة يا أبا محمد؟ قال: عاقني أمر لم أجد من القيام به بدّا؛ فدعا له بطعام فأصاب منه، ثم قعدوا على نبيذهم، و تغنّى علّويه صوتا، الشعر فيه لابن ياسين، و هو:
إلهي منحت الودّ منّي بخيلة *** و أنت على تغيير ذاك قدير
شفاء الهوى بثّ الهوى و اشتكاؤه *** و إنّ امرأ أخفى الهوى لصبور
- الغناء لسليمان أخي أحيحة، خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو - فقال له إسحاق: أخطأت ويلك! فوضع
ص: 203
علّويه العود و شرب رطلا و شرب عليّ بن هشام؛ ثم تناول العود و غنّى:
و لقد أسمو إلى غرف *** في طريق موحش جدده(1)
حوله الأحراس تحرسه *** و لديه جاثما أسده
- الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو - فقال له إسحاق: أخطأت ويلك! فوضع العود من يده ثم أقبل على إسحاق فقال له: دعاك الأمير - أعزّه اللّه - لتبكّر إليه، فجئته ظهرا، و غنّيت صوتين يشتهيهما الأمير - أعزّه اللّه - عليّ فخطّأتني فيهما، و زعمت أنك لا تغنّي بين يدي الأمير - أعزّه اللّه - و لا تغنّي إلا بين يدي خليفة أو وليّ عهد، و لو دعاك بعض البرامكة لكنت تسرع إليه ثم تغنّى منذ غدوة إلى الليل!؛ فقال إسحاق: إني و اللّه ما أردت انتقاصا منك، و لا أقول مثله لغيرك و لا أريد ازدراء من أحد، و لكني أردت بك خاصّة التقويم و التأديب؛ فإن ساءك ذلك تركتك في خطئك. ثم أقبل على عليّ بن هشام، فقال له: أعزّك اللّه، إني أحدّثك عن البرامكة بما يقيم عذري فيما ذكره: دخلت على يحيى بن خالد يوما، و لم أكن أردت الدخول عليه، و إنما ركبت متبذّلا(2) لهمّ أهمّني، و كنت نازلا مع أبي في داره، فضقت صدرا بذلك و أحببت النّقلة عنه، و نظرت فإذا يدي تقصر عما يصلحني؛ ثم ذكر الخبر نحوا مما قلته. و زاد فيه: أنه دخل إلى يحيى بن خالد و هو مصطبح، فلما رآه نعر(3) و صفّق، و أنه وقّع له بمائتي ألف درهم، و وقّع له كلّ من جعفر و الفضل بمائة و خمسين ألفا، و كلّ واحد من موسى و محمد بمائة ألف مائة ألف. و قال فيه: فبكى عليّ بن هشام و من حضر، و قالوا: /لا يرى و اللّه مثل هؤلاء أبدا؛ و أخذ إسحاق العود فغنّى الصوتين فأتى فيهما بالعجائب؛ فقام علّويه فقبّل رأسه و قال له: أنت أستاذنا و ابن أستاذنا، و ما بنا عن تقويمك غنّى؛ ثم غنّى بعد ذلك لحنه: «تشكّى الكميت الجري»، و لم يزل يغنّي بقيّة يومه كلّما شرب عليّ بن هشام؛ ثم انصرف فأتبعه عليّ بن هشام بجائزة سنيّة.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا عون بن محمد قال حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ قال:
أحضرني إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلمّا جلست و اطمأننت، أخرج إليّ خادمه رقعة، فقال: اقرأ ما فيها و اعمل بما رسمه الأمير أعزّه اللّه؛ فقرأتها فإذا فيها قوله:
و تحت هذين البيتين: «تقدّم - جعلت فداك - إلى من بخصرتك من المغنّين بأن يغنّوا في هذين البيتين، و ألق جميع ما يصنعونه على فلانة؛ فإذا أخذته فأنفذها إليّ مع رسولي»؛ فقلت: السمع و الطاعة لأمر الأمير أعزّه اللّه، فهل صنع فيهما أحد قبلي؟ فقال: نعم، إسحاق الموصليّ؛ فقلت: و اللّه لو كلّف إبليس أن يصنع فيهما صنعة يفضل إسحاق فيها بل يساويه بل يقاربه، ما قدر على ذلك و لا بلغ مبلغه؛ فضحك حتى استلقى، و قال: صدقت و اللّه! و هكذا يقول من/يعقل لا كما يقول/هؤلاء الحمقى، و لكن اصنع فيهما على كل حال كما أمر؛ فقلت: أفعل و قد برئت من العهدة؛ فانصرفت فصنعت فيهما صنعة كانت و اللّه عند صنعة إسحاق بمنزلة غناء القرّادين.
حدّثني جحظة قال حدّثني ميمون قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال:
قال لي المعتصم أو قال لي الواثق: لقد ضحك الشّيب في عارضيك؛ فقلت: نعم يا سيّدي، و بكيت؛ ثم قلت أبياتا في الوقت و غنّيت فيها:
تولّى شبابك إلا قليلا *** و حلّ المشيب فصبرا جميلا
كفى حزنا بفراق الصّبا *** و إن أصبح الشيب منه بديلا
و لمّا رأى الغانيات المشي *** ب أغضين دونك طرفا كليلا
سأندب عهدا مضى للصّبا *** و أبكي الشباب بكاء طويلا
فبكى الواثق و حزن و قال: و اللّه لو قدرت على ردّ شبابك لفعلت بشطر ملكي؛ فلم يكن لكلامه عندي جواب إلا تقبيل البساط بين يديه.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني حمدون بن إسماعيل قال: لمّا صنع أبوك لحنه في:
قف بالديار التي عفا القدم *** و غيّرتها الأرواح(1) و الدّيم
رأيتهم (يعني المغنّين) يأخذونه عنه و يجهدون فيه؛ فتوفّي و اللّه و ما أخذوا منه إلا رسمه.
قف بالديار التي عفا القدم *** و غيّرتها الأرواح و الدّيم
لمّا وقفنا بها نسائلها *** فاضت من القوم أعين سجم(2)
ص: 205
ذكرا لعيش مضى إذا ذكروا *** ما فات منه فإنه سقم
و كل عيش دامت غضارته *** منقطع مرّة و منصرم
الشعر و الغناء لإسحاق، ثقيل أوّل بالوسطى من جميع أغانيه.
حدّثني أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني هارون اليتيم قال حدّثني عجيف بن عنبسة قال:
كنت عند أمير المؤمنين المعتصم و عنده إسحاق الموصليّ، فغنّاه:
قل لمن صدّ عاتبا *** و نأى عنك جانبا
فأمره بإعادته، فأعاده ثلاثا، و شرب عليه ثلاثا، فقال له إبراهيم بن المهديّ: قد استحسنت هذا الصوت يا أمير المؤمنين، أ فنأخذه؟ قال: نعم، خذوه فقد أعجبني؛ فاجتمع جماعة المغنّين: مخارق و علّويه و عمرو بن بانة و غيرهم، فأمره المعتصم أن يلقيه عليهم حتى يأخذوه؛ فقال عجيف: فعددت خمسين مرّة قد أعاده فيها عليهم و هم يظنّون أنهم قد أخذوه و لم يكونوا أخذوه. قال هارون: فنحن في هذا الحديث إذ دخل علينا محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، فقال له عجيف: يا أبا جعفر، كنت أحدّث أبا موسى بحديثنا البارحة مع إسحاق في الصوت/و أنّي عددت خمسين مرة؛ /فقال محمد: إي و اللّه! - أصلحك اللّه - و لقد عددت أنا أكثر من سبعين مرّة و ما في القوم أحد إلا و هو يظن أنه قد أخذه، و اللّه ما أخذه أحد منهم و أنا أوّلهم ما قدرت - علم اللّه - على أخذه على الصحة و أنا أسرعهم أخذا، فلا أدري: أ لكثرة زوائده فيه أم لشدّة صعوبته؛ و من يقدر أن يأخذ من ذلك الشيطان شيئا!. أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني عجيف بن عنبسة بهذا الخبر فذكر مثله سواء.
قال أبو أيّوب و حدّثني حمّاد عن أبيه قال:
كنت يوما عند المعتصم، فمرّ شعر على هذا الوزن فقال: وددت أنه على غير ما هو؛ فقلت له: أنا لك به على هذا الوزن في أحسن من هذا الشعر:
قل لمن صدّ عاتبا *** و نأى عنك جانبا
قد بلغت الذي أرد *** ت و إن كنت لاعبا
فأعجبه، و قال لي: قد و اللّه أحسنت! و أمر لي بألفي دينار، و و اللّه ما كانت قيمتهما عندي دانقين(1).
الشعر و الغناء في هذين البيتين لإسحاق، ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى.
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني ابن المكّيّ عن إسحاق قال:
ص: 206
غضب عليّ المخلوع(1) فأقصاني و جفاني، فاشتدّ ذلك عليّ - قال: و جفاني و هو يومئذ بالأنبار - فحملت عليه بالفضل بن الربيع، فطلب إليه فشفّعه المخلوع و دعاني/و هو مصطبح، فلم أزل متوقّفا و قد لبست قباء و خفّا أحمر و اعتصبت بعصابة صفراء و شددت وسطي بشقّة حمراء من حرير، فلما أخذوا(2) في الأهزاج دخلت و في يديّ صفّاقتان و أنا أتغنّى:
اسمع لصوت طريب(3) *** من صنعة الأنباري(4)
صوت مليح خفيف *** يطير في الأوتار
- الشعر و الغناء لإسحاق، هزج بالبنصر - فسرّ بذلك محمد، و كان صوتهم في يومهم ذلك، و أمر لي بثلاثمائة ألف درهم. و أخبرني جحظة بهذا الخبر عن محمد بن أحمد بن يحيى المكّيّ قال حدّثني أبي أن إسحاق حدّثه بهذا الخبر، و ذكر مثل ما ذكره يحيى؛ و زاد فيه قال: و كان سبب تسمية محمد لي ب «الأنباري» أني دخلت عليه يوما و قد لثت(5) عمامتي على رأسي لوثا غير مستحسن، فقال لي: يا إسحاق، كأنّ عمامتك من عمائم أهل الأنبار.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني عمّي الفضل عن إسحاق، و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني عمّي الفضل عن إسحاق، و أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثني أبي:
قال إسحاق: قلت في ليلة من الليالي:
هل إلى نظرة إليك سبيل *** يرو(6) الصّدى و يشفى الغليل
إنّ ما قلّ منك يكثر عندي *** و كثير ممن تحبّ القليل
قال: فلمّا أصبحت أنشدتهما الأصمعيّ، فقال: هذا الدّيباج الخسروانيّ(7)، هذا الوشي/الإسكندرانيّ، لمن هذا؟ فقلت له: إنه ابن ليلته؛ فتبيّنت الحسد في وجهه، و قال: أفسدته! أفسدته! أما إنّ التوليد فيه لبيّن. في هذين البيتين لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر.
ص: 207
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال حدّثني إسحاق بهذا الخبر، فذكر مثل ما ذكره من قدّمت الرواية عنه، و زاد فيه: فقال لي عليّ بن يحيى بعقب هذا الخبر: كان إسحاق يعجب بهذا المعنى و يكرره في شعره، و يرى أنه ما سبق إليه؛ فمن ذلك قوله:
أيّها الظّبي الغرير *** هل لنا منك مجير
إنّ ما نوّلتني من *** ك و إن قلّ كثير
- لحن إسحاق خفيف ثقيل بالوسطى - فقلت: إنك قد سبقت إلى هذا المعنى، فقال: ما علمت أنّ أحدا سبقني إليه؛ فأنشدته لأعرابيّ من بني عقيل:
قفي ودّعينا يا مليح بنظرة *** فقد حان منّا يا مليح رحيل
/أ ليس قليلا نظرة إن نظرتها *** إليك و كلاّ ليس منك قليل
عقيليّة أمّا ملاث(1) إزارها *** فوعث و أما خصرها فضئيل
أيا جنّة الدنيا و يا غاية المنى *** و يا سؤل نفسي هل إليك سبيل
أ راجعة نفسي إليّ فأغتدي *** مع الرّكب لم يقتل عليك قتيل
فما كلّ يوم لي بأرضك حاجة *** و لا كلّ يوم لي إليك رسول
قال: فحلف أنه ما سمع بذلك قطّ. قال عليّ بن يحيى: و صدق، ما سمع بها. الغناء في الأبيات الأخيرة من أبيات العقيليّ.
حدّثني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الحسين(2) بن محمد بن أبي طالب الدّيناريّ بمكة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال:
عاتبني إبراهيم بن المهديّ في ترك المجيء إليه، فقال لي: من جمع لك مع المودّة الصادقة رأيا حازما،
ص: 208
فاجمع له مع المحبة الخالصة طاعة لازمة؛ فقلت له: جعلني اللّه فداك، إذا ثبتت الأصول في القلوب، نطقت الألسن بالفروع، و اللّه يعلم أنّ قلبي لك شاكر، و لساني بالثناء عليك ناثر(1)؛ و ما يظهر الودّ المستقيم، إلا من القلب /السليم؛ قال: فأبرئ ساحتك عندي بكثرة مجيئك إليّ؛ فقلت: أجعل مجيئي إليك في الليل و النهار نوبا أتيقّظ لها كتيقّظي للصلوات الخمس، و أكون بعد ذلك مقصّرا؛ فضحك و قال: من يقدر على جواب المغنّين!؛ فقلت:
من اتخذ الغناء لنفسه و لم يتخذه لغيره؛ فضحك أيضا، و أمر لي بخلع و دنانير و برذون و خادم. و بلغ الخبر المعتصم، فضاعف لإبراهيم ما أعطاني، فرحت و قد ربحت و أربحت.
حدّثنا الحرميّ قال حدّثنا الدّيناريّ قال حدّثني إسحاق قال:
عتب عليّ الفضل بن الرّبيع في شيء بلغه عنّي؛ فكتبت إليه: «إنّ لكل ذنب عفوا و عقوبة؛ فذنوب الخاصة عندك مستورة مغفورة، فأمّا مثلي من العامّة فذنبه لا يغفر، و كسره لا يجبر؛ فإن كنت لا بدّ معاقبي فإعراض لا يؤدّي إلى مقت».
/حدّثني الحرميّ قال حدّثنا الدّيناريّ قال حدّثني إسحاق قال:
كان يختلف إليّ رجل من الأعراب، و كان الفضل بن الربيع يقرّ به و يستظرف كلامه، و كان عندي يوما و جاء رسول الفضل يطلبه فمضى إليه؛ فقال له الفضل: فيم كنتم؟ قال: كنا في قدر تفور، و كأس تدور، و غناء يصور(2)، و حديث لا يحور(3).
حدّثنا الحرميّ قال حدّثنا الحسين بن طالب(4) قال:
كان إسحاق يقول الشعر على ألسن الأعراب، و ينشده للأعراب، و كان يعايي بذلك أصحابه و يغرب عليهم به؛ فمن ذلك ما أنشدنيه لأعرابيّ:
/
لفظ الخدور عليك حورا عينا *** أنسين ما جمع الكناس قطينا(5)
فإذا بسمن فعن كمثل غمامة *** أو أقحوان الرمل بات معينا(6)
ص: 209
و أصحّ من رأت العيون محاجرا *** و لهنّ أمرض ما رأيت عيونا
و كأنما تلك الوجوه أهلّة *** أقمرن(1) بين العشر و العشرينا
و كأنهنّ إذا نهضن لحاجة *** ينهضن بالعقدات(2) من يبرينا
قال: و أنشدني أيضا مما كان ينسبه إلى الأعراب و هو له:
و مكحولة العينين من غير ما كحل *** مهفهفة الكشحين ذات شوى(3) خدل
منعّمة الأطراف مفعمة البرى(4) *** روادفها تحكي الدّهاس(5) من الرمل
صيود لألباب الرجال، متى رنت(6) *** إلى ذي نهى جلد القوى وافر العقل
تخلّى النّهى عنه و حالفه الصّبا *** و أسلمه الرأي الأصيل إلى الجهل
/شبيبة(7) كثبان يروقك تحتها *** عنا قيد كرم جادها غدق الوبل
رمتني فحلّت نائطيّ(8) و لم تصب *** لها نائطي قلب و لا مقتلا نبلي
حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثت عن الأصمعيّ قال:
دخلت أنا و إسحاق الموصليّ يوما على الرشيد فرأيناه لقس(9) النّفس؛ فأنشده إسحاق يقول:
و آمرة بالبخل قلت لها اقصري *** فذلك شيء ما إليه سبيل(10)
أرى الناس خلاّن الكرام و لا أرى *** بخيلا له حتّى الممات خليل
و إني رأيت البخل يزري بأهله *** فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
ص: 210
و من خير حالات الفتى لو علمته *** إذا نال خيرا أن يكون ينيل
فعالى فعال المكثرين تجمّلا *** و مالي كما قد تعلمين قليل
و كيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى *** و رأي أمير المؤمنين جميل
قال: فقال الرشيد: لا تخف إن شاء اللّه؛ ثم قال: للّه درّ أبيات تأتينا بها؛ ما أشدّ أصولها، و أحسن فصولها، و أقلّ فضولها! و أمر له بخمسين ألف درهم؛ فقال له إسحاق: وصفك و اللّه يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة! فضحك الرشيد و قال: اجعلوها لهذا القول مائة ألف درهم. قال الأصمعيّ: /فعلمت يومئذ أنّ إسحاق أحذق بصيد الدراهم/منّي. و أخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة عن حمّاد عن أبيه، و أخبرنا به يحيى بن عليّ عن أبيه عن إسحاق فذكر معنى الخبر قريبا مما ذكره الأصمعيّ و الألفاظ تختلف.
أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن إسحاق، و أخبرني به جعفر بن قدامة و وكيع عن حمّاد عن أبيه قال:
كنت عند الفضل بن الرّبيع يوما، فدخل إليه ابن ابنه عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل و هو طفل، و كان يرقّ عليه لأن أباه مات في حياته، فأجلسه في حجره و ضمّه إليه و دمعت عليناه؛ فأنشأت أقول:
مدّ لك اللّه الحياة مدّا *** حتى يكون ابنك هذا جدّا
مؤزّرا بمجده مردّى(1) *** ثم يفدّى مثل ما تفدّى
أشبه منك سنّة و خدّا(2) *** و شيما مرضيّة و مجدا
كأنه أنت إذا تبدّى *** شمائلا محمودة و قدّا
قال: فتبسّم الفضل و قال: أمتعني اللّه بك يا أبا محمد، فقد عوّضت من الحزن سرورا و تسلّيت بقولك، و كذلك يكون إن شاء اللّه. قال جعفر بن قدامة: و حدّثني بهذا الحديث عليّ بن يحيى، فذكر أن إسحاق قال هذه الأبيات للفضل بن يحيى و قد دخل عليه و في حجره ابن له.
/غنّى في هذه الأبيات أبو عيسى بن المتوكّل لحنا من الرّمل، يقال: إنه صنعه و قد ولد للمعتمد ولد ثم غنّى به. و أخبرني ذكاء وجه الرزّة عن بدعة الكبيرة: أنّ الرمل لعريب، و أنّ لحن أبي عيسى خفيف رمل.
حدّثني عمّي قال حدّثني الفضل بن محمد اليزيديّ عن إسحاق قال:
أتيت الفضل بن الربيع يوما عائدا و جاءه بنو هاشم يعودونه؛ فقلت في مجلسي ذلك:
ص: 211
إذا ما أبو العباس عيد و لم يعد *** رأيت معودا أكرم الناس عائدا
و جاء بنو العباس يبتدرونه *** مراضا لما يشكوه مثنى و واحدا
يفدّونه عند السلام و كلّهم *** مجلّ له يدعوه عمّا و والدا
قال: و كان الفضل مضطجعا، فأمر خادما له فأجلسه، ثم قال لي: أعد يا أبا محمد فأعدت، فأمرني فكتبتها، و سرّ بها و جعل يردّدها حتى حفظها.
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال أخبرني أبي قال قال إسحاق، و أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن(1) مالك عن إسحاق قال:
جاءني الزّبير بن دحمان يوما مسلّما فاحتبسته؛ فقال لي: أمرني الفضل بن الربيع بالمسير إليه؛ فقلت له:
أقم يا أبا العوّام ويحك نشرب *** و نله مع اللاّهين يوما و نطرب
إذا ما رأيت اليوم قد جاء خيره *** فخذه بشكر و اترك الفضل يغضب
/فأقام عندي و سررنا يومنا؛ ثم صار إلى الفضل؛ فسأله عن سبب تأخّره عنه؛ فحدّثه الحديث و أنشده البيتين؛ فغضب و حوّل وجهه عنّي، و أمر عونا حاجبه بألاّ يدخلني إليه و لا يستأذن لي عليه و لا يوصل لي رقعة؛ فقلت:
/
حرام عليّ الكأس ما دمت غضبانا *** و ما لم يعد عنّي رضاك كما كانا
فأحسن فإنّي قد أسأت و لم تزل *** تعوّدني عند الإساءة إحسانا
قال: و أنشدته إيّاهما، فضحك و رضي عنّي و عاد إلى ما كان عليه. و قد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه، فذكر مثله و زاد فيه: فقلت في عون حاجبه:
عون يا عون ليس مثلك عون *** أنت لي عدّة إذا كان كون
لك عندي و اللّه إن رضى الفض *** ل غلام يرضيك أو برذون
قال: فأتى عون الفضل بالشّعرين جميعا؛ فقرأهما و ضحك و قال: ويحك! إنما عرض لك بقوله: «غلام يرضيك» بالسّوأة؛ قال: قد وعدني ما سمعت، فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم!؛ فأمره أن يرسل إليّ؛ فأتاني رسوله فصرت إليه فرضي عنّي.
أخبرني جحظة قال حدّثني محمد بن أحمد بن يحيى المكّيّ المرتجل قال حدّثني أبي قال حدّثني الزّبير بن دحمان قال:
دخلت يوما على الفضل بن الرّبيع مسلّما؛ فقال لي: قد عزمت غدا على الصّبوح، فصر إليّ بكرة؛ فكنت أنا و الصبح كفرسي رهان؛ فلما أصبحت في غد جعلت طريقي على إسحاق بن إبراهيم فدخلت إليه، فلما جلست قال لي: أقم اليوم عندي؛ فعرّفته خبري؛ فقال:
ص: 212
/
أقم يا أبا العوّام ويحك نشرب *** و نله مع اللاّهين يوما و نطرب
إذا ما رأيت اليوم قد جاء خيره *** فخذه بشكر و اترك الفضل يغضب
فقلت: إني لا آمن غضبه، و أنا بين يديك؛ فقال لي: أنت تعلم أن صبوح الفضل أبدا في وقت غبوق الناس، فأقم و ارفق بنفسك ثم امض إليه؛ فأجبته إلى ذلك؛ فلمّا شربنا طاب لي الموضع، فأقمت حتى سكرت. و ذكر باقي الخبر نحوا مما ذكر إسحاق. انتهى.
حدّثني جحظة قال حدّثني محمد بن المكّيّ المرتجل قال: قلت لزرزور الكبير: كيف كان إسحاق ينفق(1)على الخلفاء معكم و أنت و إبراهيم بن المهديّ و مخارق أطيب أصواتا و أحسن نغمة؟ قال: كنّا و اللّه يا بنيّ نحضر معه فنجتهد في الغناء و نقيم الوهج(2) فيه و يقبل علينا الخلفاء، حتى نطمع فيه و نظنّ أنا قد غلبناه، فإذا غنّى عمل في غنائه أشياء من مداراته(3) و حذقه و لطفه حتى يسقطنا كلّنا و يقبل عليه الخليفة دوننا و يجيزه دوننا و يصغى إليه، و نرى أنفسنا اضطرارا دونه.
حدّثنا جحظة قال حدّثني محمد بن أحمد المكّيّ قال حدّثني أبي قال: كان المغنّون يجتمعون مع إسحاق و كلّهم أحسن صوتا منه، و لم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه؛ فلا يزال بلطفه و حذقه و معرفته حتى يغلبهم و يبذّهم(4) جميعا و يفضلهم و يتقدّمهم. قال: و هو أوّل من أحدث التخنيث ليوافق صوته و يشاكله، /فجاء معه عجبا من العجب؛ و كان في حلقه نبوّ عن الوتر. أخبرني يحيى بن عليّ قال أخبرنا أبو العبيس(5) بن حمدون: أنّ إسحاق أوّل من جاء بالتخنيث في الغناء و لم يكن يعرف، و إنما احتال بحذقه لمنافرة حلقه الوتر، حتى صار يجيبه ببعض التخنيث فيكون أحسن له في السمع.
أخبرنا جحظة قال حدّثني الهشاميّ عن أبيه قال:
كان المغنّون إذا حضروا/و ليس إسحاق معهم غنّوا هوينى و هم غير مفكرين؛ فإذا حضر إسحاق لم يكن إلاّ الجدّ.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال:
ص: 213
قال لي أبي و قد انصرف من دار الرشيد: رأيت الأمير جعفر بن يحيى يستبطئك و يقول: لست أراه و لا يغشاني؛ فقلت: إني لآتيه كثيرا فأحجب عنه و يصرفني نافذ حاجبه و يقول: هو على شغل؛ قال: فبلّغه أبي ذلك؛ فقال له: قل له: أنكه أمّه إذا فعل؛ فأقمت أيّاما ثم كتبت إليه:
جعلت فداءك من كل سوء *** إلى حسن رأيك أشكو أناسا
يحولون بيني و بين السلام *** فلست أسلّم إلاّ اختلاسا
و أنفذت أمرك في نافذ *** فما زاده ذاك إلاّ شماسا(1)
و قد أخبرني الخبر محمد بن مزيد عن حمّاد عن أبيه، فذكر مثله و قال: كان خادم يحجبه يقال له: نافذ، فقال: إذا حجبك فنكه؛ فلما كتبت إليه بهذه الأبيات بعث فأحضرني؛ فلما دخلت إليه أحضر نافذا و قرأ الأبيات عليه، و قال لي: أ فعلتها/يا عدوّ اللّه! فغضب نافذ حتى كاد يبكي، و جعل جعفر يضحك و يصفّق؛ ثم ما عاد بعد ذلك يتعرّض لي.
حدّثني الحسين(2) بن أبي طالب قال حدّثني عبيد اللّه بن المأمون، و أخبرنا اليزيديّ عن عمّه عبيد اللّه عن أبيه قال:
غضب المأمون على إسحاق بن إبراهيم، ثم كلّم فيه فرضي عنه و دعا به؛ فلمّا وقف بين يديه اعتذر و قبّل الأرض بين يديه و استقاله(3)؛ فأجابه المأمون جوابا جميلا، ثم قال له في أثناء كلامه:
فلا أنت أعتبت من زلّة *** و لا أنت بالغت في المعذرة
و لا أنت ولّيتني أمرها *** فأغفر ذنبك عن مقدره
هكذا في الخبر؛ و أظنّه إسحاق بن إبراهيم الطاهريّ لا الموصليّ.
أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الحسين بن أبي طالب قال حدّثني إسحاق قال:
أنشدت أبا الأشعث الأعرابيّ شعرا لي، فقال: و الذي أصوم له مخافته و رجاءه، إنك لمن طراز ما رأيت بالعراق شيئا منه، و لو كان شباب يشترى لاشتريته لك و لو بإحدى يديّ، و إنّ في كبرك لما زان الجليس و سرّه.
أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الدّيناريّ قال حدّثنا إسحاق قال:
قالت لي زهراء الكلابيّة: ما فعل عبد اللّه بن خرداذبه؟ فقلت: مات؛ فقالت: غير ذميم و لا لئيم، غفر اللّه لصداه(4)، لقد كان يحبّك و يعجبه ما سرّك. قال: فقلت لزهراء: حدّثيني عن قول الشاعر:
ص: 214
/
أحبّك أن أخبرت أنّك فارك(1)*** لزوجك إني مولع بالفوارك
ما أعجبه من بغضها لزوجها؟ فقالت: عرّفته أنّ في نفسها فضلة من جمال و شمخا بأنفها و أبّهة، فأعجبته.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثت عن غير واحد:
أنّ إسحاق الموصليّ دخل على المعتصم يوما من الأيّام فرآه لقس(2) النّفس، فقال له: أما ترى يا أمير المؤمنين طيب هذا اليوم و حسنه!؛ فقال المعتصم: ما يدعوني حسنه إلى شيء مما تريد و لا أنشط له؛ فقال:
يا أمير المؤمنين، إنه يوم أكل و شرب؛ فاشرب حتى أنشّطك؛ قال: أو تفعل؟ قال: نعم؛ قال: يا غلمان، قدّموا الطعام و الشراب/و مدّوا الستارة، و أحضروا الندماء و المغنّين؛ فأتي بالطعام فأكل و بالشراب فشرب و حضر الندماء و المغنّون؛ فغنّاه إسحاق:
سقيت الغيث يا قصر السلام *** فنعم محلّة الملك الهمام
لقد نشر الإله عليك نورا *** و خصّك بالسّلامة و السلام
- الشعر و الغناء لإبراهيم الموصليّ رمل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر حبش أنّ فيه للزّبير بن دحمان لحنا من الرّمل بالوسطى - قال: فطرب المعتصم و شرب شربا كثيرا، و لم يبق أحد بحضرته إلاّ وصله و خلع عليه و حمله؛ و فضّل إسحاق في ذلك أجمع.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا ابن أبي سعد قال حدّثنا عليّ بن الصبّاح عن إسحاق قال:
أوّل جائزة أخذتها من الرشيد ألف دينار في أوّل يوم دخلت إليه فغنّيته:
علق القلب بزوعا(3)
فاستحسنه و استعاده ثلاث مرّات و شرب عليه ثلاثة أرطال و أمر لي بألف دينار؛ فكان أوّل جائزة أجازنيها.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال:
كان أبي ذات يوم عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما جلسوا للشراب جعل الغلمان يسقون من حضر، و جاء غلام قبيح الوجه إلى أبي بقدح نبيذ فلم يأخذه؛ و رآه إسحاق فقال له: لم لا تشرب؟ فكتب إليه أبي:
ص: 215
اصبح نديمك أقداحا يسلسلها *** من الشّمول(1) و أتبعها بأقداح
من كفّ ريم مليح الدّلّ ريقته *** بعد الهجوع كمسك أو كتفّاح
لا أشرب الرّاح إلا من يدي رشأ *** تقبيل راحته أشهى من الرّاح
فضحك و قال: صدقت و اللّه، ثم دعا بوصيفة كأنها صورة، تامّة الحسن لطيفة الخصر في زيّ غلام عليها أقبية(2) و منطقة، فقال لها: تولّى سقي أبي محمد؛ فما زالت تسقيه حتى سكر؛ ثم أمر بتوجيهها و كلّ ما لها في داره إليه، فحملت معه.
أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عليّ بن الصّبّاح قال:
/كانت امرأة من بني كلاب يقال لها زهراء تحدّث إسحاق و تناشده، و كانت تميل إليه، و تكني عنه في عشيرتها إذا ذكرته بجمل؛ قال: فحدّثني إسحاق أنها كتبت إليه و قد غابت عنه تقول:
وجدي بجمل على أنّي أحمجمه(3) *** وجد السّقيم ببرء بعد إدناف
أو وجد ثكلى أصاب الموت واحدها *** أو وجد مغترب من بين ألاّف
قال: فأجبتها:
أقر السلام على الزّهراء إذ شحطت *** و قل لها قد أذقت القلب ما خافا
أ ما رثيت لمن خلّفت مكتئبا *** يذري مدامعه سحّا و توكافا(4)
فما وجدت على إلف أفارقه *** وجدي عليك و قد فارقت ألاّفا
أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال/أنشدني إسحاق لنفسه:
سقى اللّه يوم الماوشان(5) و مجلسا *** به كان أحلى عندنا من جنى النّحل
غداة اجتنينا اللّهو غضّا و لم نبل(6) *** حجاب أبي نصر و لا غضبة الفضل
ص: 216
غدونا صحاحا ثم رحنا كأنّنا *** أطاف بنا شرّ شديد من الخبل
فسألته أن يكتبها ففعل؛ فقلت له: ما حديث الماوشان؟ فضحك و قال: لو لم أكتبك الأبيات لما سألت عما لا يعنيك؛ و لم يخبرني.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني أحمد بن الحارث و أبو مسلم عن ابن الأعرابيّ:
أنه كان يصف إسحاق الموصليّ و يقرّظه و يثني عليه و يذكر أدبه و حفظه و علمه و صدقه، و يستحسن قوله:
هل إلى أن تنام عيني سبيل *** إنّ عهدي بالنوم عهد طويل
غاب عنّي من لا أسمّي فعيني *** كلّ يوم وجدا عليه تسيل
- الشعر و الغناء لإسحاق رمل بالوسطى - قال: و كان إسحاق إذا غنّاه تفيض دموعه على لحيته و يبكي أحرّ بكاء. و أخبرنا به يحيى بن عليّ عن أبيه عن إسحاق. و حديث موسى عن حمّاد أتمّ، و اللفظ له.
أخبرني الصّوليّ و الحسن بن عليّ قالا حدّثنا محمد بن موسى عن حمّاد بن إسحاق قال:
أوّل صوت صنعه أبي:
إني لأكني بأجبال عن اجبلها *** و باسم أودية عن اسم واديها
و آخر صوت صنعة مختارا:
قف نحيّ المغانيا *** و الطّلول البواليا
ثم قطع الصنعة حتى أمره الواثق بأن يعارض صنعته في:
لقد بخلت حتى لو أنّي سألتها
قال حمّاد و حدّثني أبي قال:
كان المغنّون يحسدونني مذ كنت غلاما، فلمّا مات أبي صنعت هذا الصوت، فهو أوّل صوت صنعته بعد وفاته، و هو:
/
أ من آل ليلى عرفت الطّلولا *** بذي حرض ماثلات مثولا(1)
فقالوا للرشيد: هذا من صنعة أبيه فقد انتحله؛ فقال لي الرشيد في ذلك؛ فقلت: هذا و مائة بعده خير منه لهم؛ فقال: اصنع في شعر الأخطل:
ص: 217
أ عاذلتيّ اليوم ويحكما مهلا *** و كفّا الأذى عنّي و لا تكثرا العذلا
فصنعت فيه كما أمرني؛ فلمّا سمعوا بذلك و ما جاء بعده أذعنوا، و زال عن قلب الرشيد ما كان ظنّه بي. و قد ذكر غير حمّاد أنّ اللحن الذي اختبره به الرشيد قوله:
كنت صبّا و قلبي اليوم سال *** عن حبيب يسيء في كل حال
و ذكر أنّ الفضل بن الرّبيع قال الشعر في ذلك الوقت و دفعه إليه و أمره الرشيد أن يصنع فيه ففعل. و أخبرني بذلك محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق، و أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد قال:
أوّل ما سمعه الرشيد من/غناء أبي:
أ لم تسأل فتخبرك المغاني *** و كيف و هنّ مذ حجج ثماني
برئت من المنازل غير شوق *** إلى الدار التي بلوي أبان
ديار للّتي لجلجت فيها *** و لو أعربت لجّ بها لساني
فكاد يظلّ للعينين غرب *** بربعي دمنة لا ينطقان
قال: فحدّثني أبي أن المغنّين قالوا للرشيد: هذا من صنعة أبيه انتحله بعد وفاته؛ فقلت له: أنا أدع لهم هذا و مائة صوت بعده؛ ثم نظروا إلى ما جاء بعد ذلك فأذعنوا.
قف نحيّ المغانيا *** و الطّلول البواليا
و على أهلها فنح *** و ابك إن كنت باكيا
الشعر لابن ياسين. و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل بالوسطى.
أ من آل ليلى عرفت الطّلولا *** بذي حرض ماثلات مثولا
بلين و تحسب آياتهنّ *** عن فرط حولين رقّا محيلا
الشعر لكعب(1) بن زهير. و الغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر.
أ عاذلتيّ اليوم ويحكما مهلا *** و كفّا الأذى عنّي و لا تكثرا العذلا
دعاني تجدّ كفّي بمالي فإنني *** سأصبح لا أسطيع جودا و لا بخلا
ص: 218
إذا وضعوا فوق الصّفيح(1) جنادلا *** عليّ و خلّفت المطيّة و الرّحلا
فلا أنا مجتاز إذا ما نزلته *** و لا أنا لاق ما ثويت به أهلا
الشعر للأخطل، و الغناء لإسحاق، ثقيل أوّل بالوسطى.
إنّي لأكني بأجبال عن اجبلها *** و باسم أودية عن اسم واديها
عمدا ليحسبها الواشون غانية *** أخرى و تحسب(2) أنّي لا أباليها
/و لا يغيّر ودّي أن أهاجرها *** و لا فراق نوى في الدار أنويها
و للقلوص و لي منها إذا بعدت *** بوارح الشّوق تنضيني و أنضيها
الشعر لأعرابيّ، و الغناء لإسحاق هزج بالبنصر.
حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن حمدون قال:
قال إسحاق للواثق يوما: الأهزاج من أملح الغناء؛ فقال الواثق: أمّا إذا كانت مثل صوتك:
إنّي لأكنى بأجبال عن اجبلها *** و باسم أودية عن اسم واديها
فهي كذلك.
قال أحمد بن أبي طاهر حدّثني أحمد بن يحيى الرازيّ عن محمد بن المثنّى عن الحجّاج بن قتيبة بن مسلم قال:
قال إسحاق: بعث إليّ طلحة بن طاهر و قد انصرف من وقعة/للشّراة(3) و قد أصابته ضربة في وجهه؛ فقال لي الغلام: أجب؛ فقلت: و ما يعمل؟ قال: يشرب؛ فمضيت إليه فإذا هو جالس قد عصب ضربته و تقلنس بقلنسوة؛ فقلت له: سبحان اللّه أيها الأمير! ما حملك على لبس هذا؟ قال: التبرّم بغيره، ثم قال: غنّ:
إنّي لأكنى بأجبال عن اجبلها
قال: فغنّيته إياه، فقال: أحسنت و اللّه! أعد! فأعدت و هو يشرب حتى صلّى العتمة و أنا أغنّيه؛ فأقبل على خادم له بالحضرة و قال له: كم عندك؟ قال: مقدار سبعين ألف درهم؛ قال: تحمل معه. فلمّا خرجت من عنده تبعني جماعة من الغلمان يسألوني، فوزّعت المال بينهم؛ فرفع الخبر إليه فأغضبه و لم يوجّه إليّ ثلاثا؛ فجلست ليلا و تناولت الدّواة و القرطاس فقلت:
ص: 219
/
علّمني جودك السّماح فما *** أبقيت شيئا لديّ من صلتك
لم أبق شيئا إلاّ سمحت به *** كأنّ لي قدرة كمقدرتك
تتلف في اليوم بالهبات و في *** الساعة ما تجتنيه في سنتك
فلست أدري من أين تنفق لو *** لا أنّ ربّي يجزى على صلتك
فلما كان في اليوم الرابع بعث إليّ، فصرت إليه و دخلت عليه فسلّمت؛ فرفع بصره إليّ و قال: اسقوه رطلا فسقيته، و أمر لي بآخر و آخر فشربت ثلاثا؛ ثم قال لي: غنّ:
إني لأكنى بأجبال عن اجبلها
فغنّيته ثم أتبعته بالأبيات التي قلتها، و قد كنت غنّيت فيها لحنا في طريقة الصوت؛ فقال: ادن فدنوت، و قال:
اجلس فجلست، فاستعاد الصوت الذي صنعته فأعدته. فلما فهمه و عرف معنى الشعر قال لخادم له: أحضرني فلانا فأحضره؛ فقال: كم قبلك من مال الضّياع؟ قال: ثمانمائة ألف درهم؛ فقال: احضر بها الساعة؛ فجيء بثمانين بدرة؛ فقال للخادم: جئني بثمانين غلاما مملوكا، فأحضروا؛ فقال: احملوا هذا المال؛ ثم قال: يا أبا محمد، خذ المال و المماليك حتى لا تحتاج أن تعطي لأحد منهم شيئا.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الحسين بن محمد بن طالب قال:
كان إسحاق بن إبراهيم الموصليّ كثير الغشيان لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب و الحضور لسمرة، و كان إسحاق بن إبراهيم يرى ذلك له و يسني جوائزه و يواتر(1) صلاته و يشاوره في بعض أموره و يسمع منه؛ فأصيب إسحاق ببصره قبل موته بسنتين، /فترك زيارة إسحاق و غيره ممن كان يغشاهم و لزم بيته. و خرج إسحاق يوما إلى بستان له بباب قطربّل و خرج معه ندماؤه و فيهم موسى بن صالح بن شيخ(2) بن عميرة و محمد بن راشد الخنّاق و الحرّاني؛ فجرى ذكر إسحاق الموصليّ، فتوجّع له إسحاق و ذكر أنسه(3) به و تمنّى حضوره، و ذكر [ه] القوم فأطنبوا في نشر محاسنه و شيّعوا ما ذكره به إسحاق بما حسن موقعه لهم عنده؛ و ذكره محمد بن راشد ذكرا لم يحمده أصحابه عليه، و زجره إسحاق، فأمسك عنه؛ فلما انصرفوا من مجلسهم نمي إلى إسحاق الموصليّ ما كان فيه القوم في يومهم و ما جرى من ذكره؛ فكتب إلى موسى بن صالح:
/
ألا قل لموسى الخير موسى بن صالح *** و من هو دون الخلق إلفي و خلصاني(4)
و من لو سألت الناس عنه لأجمعوا *** على أنّه أفتى(5) معدّ و قحطان
ص: 220
لعمري لئن كان الأمير تمنّاني *** بمجلس لذّات و نزهة بستان
لقد زادني ما كان منه صبابة *** و جدّد لي شوقا إليه و أبكاني
و ما زال ممتنّا عليّ يخصّني *** بما لست أحصي من أياد و إحسان
هو السيّد القرم الذي ما يرى له *** من النّاس إن حصّلته أبدا ثاني
نمته روابي مصعب و بنى له *** كريم المساعي في أرومته باني
يعزّ عليّ أن تفوزوا بقربه *** و لست إليه بالقريب و لا الدّاني
فيا ليت شعري هل أروحنّ مرّة *** إليه فيلقاني كما كان يلقاني
/و هل أرين يوما غضارة ملكه *** و سلطانه لا زال في عزّ سلطان
و هل أسمعن ذاك المزاح الذي به *** إذا جئته سلّيت همّي و أحزاني
إذا قال لي «يا مرد مي خر» و كرّها *** عليّ و كنّاني مزاحا(1) بصفوان
(هذا كلام بالفارسية تفسيره: يا رجل اشرب النبيذ):
فيا لك من ملهى أنيق و مجلس *** كريم و من مزح كثير بألوان
و هل يغمزن بي ذو الهنات ابن راشد *** و ذاك الكريم الجدّ من آل حرّان
و هل أرين موسى الكريم ابن صالح *** ينازعني صوتا إذا هو غنّاني
(يريد الغناء في:
فلم أر كالتّجمير منظر ناظر *** و لا كليالي النّفر أفتنّ ذا هوى)
إذا صاح بالتجمير ثم أعاده *** بتحقيق إعراب صحيح و تبيان
أولئك إخواني الذين أحبّهم *** و أوثرهم بالودّ من بين إخواني
و ما منهم إلاّ كريم مهذّب *** حبيب إلى إخوانه غير خوّان
فأجابه محمد بن راشد:
بعثت بشعر فيه أنّ رسالة *** أتتك لموسى عن جماعة إخوان
بشوق و ذكر للجميل و لم يكن *** لموسى لعمري في سلامته ثاني
و لكن نطقنا بالذي أنت أهله *** و ما تستحقّ من صديق و ندمان
و موسى كريم لم يحط بك خبره(2) *** كخبر ندامى قد بلوك و إخوان
و لو قد بلاك قال فيك كقول من *** فسدت عليه من خليل و خلصان
ص: 221
و لم يعره شوق إليك و لم يجد *** لفقدك مسّا عند نزهة بستان
/حمدت النّدامى كلّهم غير إنسان(1) *** ألا إنما يجني على نفسه الجاني
فلا(2) تعتب الإخوان من بعدها فما *** تنقّص إخوان المودّة من شاني
قال: فأجابه إسحاق:
عجبت لمخذول تعرّض جانيا(3) *** لليث أبي شبلين من أسد خفّان(4)
/أتانا بشعر قاله مثل وجهه *** تزخرف فيه و استعان بأعوان
فجاء بألفاظ ضعاف سخيفة *** و مضّغها تمضيغ أهوج سكران
دعوا الشعر للشيخ الذي تعرفونه *** و إلاّ وسمتم أو رميتم بشهبان
فإنكم و الشعر إذ تدّعونه *** كمعتسف في ظلمة الليل حيران
صه لا تعودوا للجواب فإنما *** ترومون صعبا من شماريخ(5) ثهلان
أنا الأسد الورد(6) الذي لا يفلّه *** تظاهر أعداء عليه و أقران
و من قد أردتم جاهدين سقاطه *** فأعياكم في كلّ سرّ و إعلان
لعمري لئن قلتم بما أنا أهله *** ليستنفدنّ(7) القول تعظيمكم شاني
و جحدكم إياي ما تعلمونه *** و إقراركم عندي بذلك سيّان
ألا يزجر الجهّان عنّا أميرنا *** و موسى و ذاك الشيخ من آل حرّان
و لا سيّما من بان للناس شرّه *** فما يتمارى في مذاهبه اثنان
حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل قرقارة قال:
/قال لي محمد بن عمر الجرجانيّ و قد تذاكرنا إسحاق يوما بحضرته: ما تذكرون من إسحاق شيئا تقاربون به وصفه. كان و اللّه إسحاق غرّة في زمانه، و واحدا في دهره علما و فقها و أدبا و وقارا و وفاء و جودة رأي و صحّة مودّة.
كان و اللّه يخرس الناطق إذا نطق، و يحيّر السامع إذا تحدّث، لا يملّ جليسه مجلسه، و لا تمجّ الآذان حديثه، و لا تنبو النفوس عن مطاولته. إن حدّثك ألهاك، و إن ناظرك أفادك، و إن غنّاك أطربك. و ما كنت ترى خصلة من الأدب و لا جنسا من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مساجلته و مباراته.
ص: 222
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثني أحمد بن يحيى المكيّ قال:
أمر المأمون يوما بالفرش الصّيفيّ أن يخرج؛ فأخرج فيما أخرج منه بساط طبريّ أو أصبهبذانيّ(1)، مكتوب في حواشيه:
لجّ بالعين واكف *** من هوى لا يساعف
كلّما جفّ دمعه *** هيّجته المعازف
إنما الموت أن تفا *** رق من أنت آلف
لك حبّان في الفؤا *** د تليد و طارف
قال: فاستحسن المأمون هذه الأبيات، و بعث إلى إسحاق فأحضره و أمره أن يصنع فيها لحنا و يعجّل به؛ فصنع فيها الهزج الذي يغنّى به اليوم. قال أحمد: /و سمعها أبي منه(2) فقال: لو كان هذا الهزج لحكم الوادي لكان قد أحسن. يريد أنّ حكما كان صاحب الأهزاج.
أخبرني الحسن قال حدّثني يزيد بن محمد قال حدّثني ابن المكيّ قال:
تذاكرنا يوما عند أبي صنعة إسحاق، و قد كنّا بالأمس عند المأمون فغنّاه إسحاق لحنا صنعه في شعر ابن ياسين:
/
الطّلول الدّوارس *** فارقتها الأوانس
أوحشت بعد أهلها *** فهي قفر بسابس(3)
- الغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر - قال: فقال أبي: لو لم يكن من بدائع إسحاق غير هذا لكفى، «الطلول الدوارس» كلمتان، و «فارقتها الأوانس» كلمتان، و قد غنّى فيهما استهلالا و بسيطا و صاح و سجح و رجّع النغمة و استوفى ذلك كلّه في أربع كلمات و أتى بالباقي مثله؛ فمن شاء فليفعل مثل هذا أو ليقاربه. ثم قال: إسحاق(4) و اللّه في زماننا فوق ابن سريج و الغريض و معبد، و لو عاشوا حتى يروه لعرفوا فضله و اعترفوا له به. و أخبرني عمّي عن يزيد بن محمد المهلّبيّ: أنه كان عند الواثق فغنّته شجا هذا الصوت؛ فقال الواثق مثل هذا القول. و المذكور أنّ ابن
ص: 223
المكيّ قاله؛ فلا أدري أ هذا و هم من يزيد، أو اتّفق أن قال فيه الواثق كما قال يحيى، أو اتّفقت عليه قريحتاهما.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي عن إسحاق قال:
/أرسل إليّ الفضل بن الرّبيع يوما و إلى الزّبير بن دحمان، فوافق مجيئنا شغلا كان له، فصرنا إلى بعض حجره، فنعست فنمت فإذا زبير يحرّكني فانتبهت فإذا خبّاز في مطبخ الفضل يضرب بالشّوبق(1) يغنّي:
بدير(2) القائم الأقصى *** غزال شفّني أحوى
برى حبّي له جسمي *** و ما يدري بما ألقى
و أخفي حبّه جهدي *** و لا و اللّه ما يخفى
- الشعر و الغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر - قال: فقال لي الزّبير: تضنّ بهذا و انظر من يبتذله!؛ فقلت: لا أضنّ بغناء بعد هذا.
حدّثني عمّي قال حدّثني أحمد بن الطيّب السّرخسيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أحمد بن معاوية بن بكر قال قال لي صالح بن الرشيد:
كنّا أمس عند أمير المؤمنين المأمون و عنده جماعة من المغنّين، فيهم إسحاق و علّويه و مخارق و عمرو بن بانة؛ فغنّى مخارق في الثقيل الأوّل:
أعاذل لا آلوك إلاّ خليقتي *** فلا تجعلي فوقي لسانك مبردا
ذريني أكن للمال ربّا و لا يكن *** لي المال ربّا تحمدي غبّه غدا
/ذريني يكن مالي لعرضي وقاية *** يقي(3) المال عرضي قبل أن يتبدّدا
أ لم تعلمي أنّي إذا الضيف نابني *** و عزّ القرى أقري السّديف(4) المسرهدا
فقال له المأمون: لمن هذا اللحن؟ قال: لهذا الهزبر الجالس (يعني إسحاق)؛ فقال المأمون لمخارق: قم فاقعد بين يديّ و أعد الصوت؛ فقام فجلس بين يديه و أعاده فأجاده، و شرب المأمون عليه رطلا؛ ثم التفت إلى إسحاق فقال له: غنّ هذا الصوت؛ فغنّاه فلم يستحسنه كما استحسنه من مخارق؛ ثم دار الدور إلى علّويه، فقال له: غنّ فغنّى في الثقيل الأوّل أيضا:
ص: 224
أريت اليوم نارك لم أغمّض *** بواقصة(1) و مشربنا برود(2)
فلم أر مثل موقدها و لكن *** لأيّة نظرة زهر(3) الوقود
فبتّ بليلة لا نوم فيها *** أكابدها و أصحابي رقود
كأن نجومها ربطت بصخر *** و أمراس(4) تدور و تستزيد(5)
فقال له المأمون: لمن هذا الصوت؟ فقال: لهذا الجالس - و أشار إلى إسحاق - فقال لعلّويه: أعده فأعاده، فشرب عليه رطلا؛ ثم قال لإسحاق. غنّه فغنّاه، فلم/يطرب له طربه لعلّويه. فالتفت إليّ إسحاق ثم قال لي: أيها الأمير، لو لا أنه مجلس سرور و ليس مجلس لجاج و جدال لأعلمته أنه طرب على خطأ، و أنّ الذي استحسنه إنما هو تزايد(6) منهما يفسد قسمة اللحن و تجزئته، و أنّ الصوت ما غنّيته لا ما زادا(7). ثم أقبل عليهما فقال: يا مخنّثان(8)، قد علمت أنكما لم تريدا بما فعلتماه مدحي و لا رفعتي، و أنا على مكافأتكما قادر؛ فضحك المأمون و قال له: ما كان ما رأيته من طربي لهما إلاّ استحسانا لأصواتهما لا تقديما لهما و لا جهلا بفضلك.
حدّثني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ قال حدّثني إسحاق قال:
دخلت يوما على المعتصم و قد رجع من الصيد و بين يديه ظباء مذبّحة و طير ماء و غير ذلك من الصيد و هو يشرب؛ فأمرني بالجلوس و الغناء؛ فجلست و غنّيته:
- الشعر يقال: إنه لأعشى همدان، و الغناء لأحمد(1) النّصبيّ خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق - فتبسّم و قال: و أين رأيت لحم الإبل! فغنّيته:
ليس الفتى فيهم إذا *** شرب الشراب مؤنّبا
لكن يروح مرنّحا *** حسن الثياب مطيّبا
يسقونه صرفا على *** لحم الظباء مضهّبا(2)
فقال: هذا أشبه، و شرب. ثم غنّيته بشعر وضّاح اليمن - قال: و الغناء لابن محرز ثقيل أوّل -:
أبى القلب اليمانيّ *** الذي تحمد أخلاقه
و يرفضّ له اللحن *** فما تفتق أرتاقه
غزال أدعج العين *** ربيب خدلّج(3) ساقه
رماني فسبى قلبي *** و أرميه فأشتاقه
فطرب و قال: هذا و اللّه أحسن صيد و ألذّه، و شرب عليه بقيّة يومه و خلع عليّ و أمر لي/بجائزة. هكذا ذكر في هذا الخبر أن الثقيل الأوّل لابن محرز و قد قيل ذلك. و ذكر عمرو بن بانة أنّ الثقيل الأوّل بالبنصر لابن طنبورة، و أن لحن ابن محرز خفيف ثقيل.
حدّثني عمي قال حدّثني فضل اليزيديّ قال:
قال لي إسحاق يوما في عرض حديثه: دخلت على المعتصم ذات يوم و عليه قميص دبيقيّ(4) كأنما قد من جرم الزّهرة(5)؛ فضحكت؛ فقال: ما أضحكك؟ فقلت: /من مبالغتك في الوصف، فتبسّم. قال الفضل: و ما سمعت محدّثا قطّ و لا واصفا أبلغ منه و لا أحسن لفظا و تشبيها.
ص: 226
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن مالك قال:
قال لي إسحاق: وددت أنّ كل يوم قيل لي: غنّ أو قيل لي عند ذكري: المغنّي، ضرب رأسي خمسة عشر سوطا، لا أقوى على أكثر منها، و لم يقل لي ذلك.
أخبرنا يحيى قال حدّثنا حمّاد قال: صنع أبي لحنه في: «تشكّى الكميت الجري» على لحن أذان سمعه.
أخبرنا يحيى قال حدّثنا حمّاد قال:
تذاكرنا يوما الهزج عند المأمون؛ فقال عمرو بن بانة: ما أقله في الغناء القديم!؛ فقال إسحاق: ما أكثره فيه! ثم غنّاهم ثلاثين هزجا في إصبع واحدة و مجرى واحد، ما عرفوا جميعا منها إلا نحو سبعة أصوات.
حدّثني يحيى قال حدّثني أخي قال حدّثني عافية بن شبيب قال:
قلت لزرزور: ما لكم تذلّون لإسحاق هذا الذلّ، و ما فيكم أحد إلا و هو أطيب صوتا منه، و ما في صنائعكم وصمة! فقال لي: لا تقل ذلك، فو اللّه لو رأيتنا معه لرحمتنا و رأيتنا نذوب كما يذوب الرّصاص في النار!.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني إسحاق قال:
لاعبت الفضل بن الربيع بالنّرد، فوقع بيننا خلاف، فحلف و حلفت، فغضب عليّ و هجرني، فكتبت إليه:
/
يقول أناس شامتون و قد رأوا *** مقامي و إغبابي الرواح إلى الفضل
لقد كان هذا خصّ بالفضل مرّة *** فأصبح منه اليوم منصرم الحبل
و لو كان لي في ذاك ذنب علمته *** لقطّعت نفسي بالملامة و العذل
و عرضت الأبيات عليه؛ فلمّا قرأها ضحك و قال: أشدّ من ذنبك أنك لا ترى لنفسك بذلك الفعل ذنبا؛ و اللّه لو لا أنّي أدّبتك أدب الرجل ولده، و أنّ حسنك و قبيحك مضافان إليّ لأنكرتني؛ فأصلح الآن قلب عون - و كان يحجبه - فخاطبته في ذلك فكلّمني بما كرهت؛ فقلت: أ تدخل بيني و بين الأمير أعزّه اللّه!؛ و كان عون يرمى بالأبنة فقلت فيه:
و ذاكر أمر ضاق ذرعا بذكره *** و ناس لداء منه متّسع الخرق
قال: ثم علمت أنه لا يتمّ لي رضا الفضل إلا بعد أن يرضى عون، فقلت فيه:
عون يا عون ليس مثلك عون *** أنت لي عدّة إذا كان كون
لك عندي و اللّه إن رضي الفض *** ل غلام يرضيك أو برذون
ص: 227
فدخل إلى الفضل فترضاه لي فرضي؛ ثم قال له: ويلك يا عون! إنه و اللّه إنما هجاك و أنت ترى أنه قد مدحك، أ لا ترى إلى قوله: «غلام يرضيك»! هذا تعريض بك؛ قال: فكيف أصنع به مع محلّه عند الأمير!.
أخبرني الصّوليّ قال حدّثني عون عن إسحاق، و أخبرني بعض الخبر/إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبّة عن إسحاق، و لفظ الخبر و سياقته للصّوليّ، قال:
استدناني المأمون(1) يوما و هو مستلق على فراش حتى صارت ركبتي على الفراش، ثم قال لي: يا إسحاق، أشكو إليك أصحابي: فعلت بفلان كذا ففعل كذا، و فعلت/بفلان كذا ففعل كذا؛ حتى عدّد جماعة من خواصّه؛ فقلت له: أنت يا سيّدي بتفضّلك عليّ و حسن رأيك فيّ ظننت أنّي ممّن يشاور في مثل هذا، فجاوزت بي حدّي، و هذا رأي يجلّ عنّي و لا يبلغه قدري؛ فقال: و لم و أنت عندي عالم عاقل ناصح؟ فقلت: هذه المنزلة عند سيّدي علّمتني ألاّ أقول إلاّ ما أعرف و لا أطلب إلا ما أنال؛ فضحك و قال: قد بلغني أنّك في هذه الأيام صنعت لحنا في شعر الرّاعي و لم أسمعه منك؛ فقلت: يا سيّدي، ما سمعه أحد إلا جواريّ، و لا حضرت عندك للشرب منذ صنعته؛ فقال: غنّه؛ فقلت: الهيبة و الصّحو يمنعاني أن أؤدّيه كما تريد، فلو آنس أمير المؤمنين عبده بشيء يطربه و يقوي به طبعه كان أجود؛ قال: صدقت، ثم أمر بالغداء فتغدّينا، و مدّت الستارة فغنّي من ورائها و شربنا أقداحا؛ فقال:
يا إسحاق، أ ما جاء أوان ذلك الصوت؟ فقلت: بلى يا سيّدي، و غنيته لحني في شعر الراعي:
أ لم تسأل بعارمة(2) الديارا *** عن الحيّ المفارق أين صارا(3)
بلى ساءلتها فأبت جوابا *** و كيف تسائل الدّمن القفارا
- لحن إسحاق في هذين البيتين خفيف ثقيل بالوسطى - قال: فاستحسنه و ما زال يشرب عليه سائر يومه، و قال لي: يا إسحاق، لا طلب بعد وجود البغية، ما أشرب بقيّة يومي هذا إلاّ على هذا الصوت؛ ثم وصلني و خلع عليّ خلعة من ثيابه.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني إسحاق قال:
كانت أعرابيّة تقدم عليّ من البادية فأفضل عليها، و كانت فصيحة؛ فقالت لي ذات يوم: و الذي يعلم مغزى كل ناطق لكأنك في علمك ولدت فينا و نشأت معنا. و لقد أريتني نجدا بفصاحتك، و أحللتني الرّبيع بسماحتك؛ فلا اطّرد لي قول إلاّ شكرتك، و لا نسمت لي ريح إلاّ ذكرتك.
ص: 228
حدّثني الصّوليّ(1) قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبيّ عن إسحاق قال:
كان أبو المجيب الرّبعيّ فصيحا عالما، فقال لي: يا أبا محمد، قد عزمت على التزوّج فأعنّي و قوّني؛ قال:
فأعطيته دنانير و ثيابا. فغاب عنّي أياما ثم عاد؛ فقلت: يا أبا مجيب، هاهنا أبيات فاسمعها؛ فقال: هاتها؛ فقلت:
يا ليت شعري عن أبي مجيب *** إذ بات في مجاسد(2) و طيب
معانقا للرّشإ الرّبيب *** أ أحمد(3) المحفار في القليب
أم كان رخوا ذابل القضيب
قال: فقال لي: الأخير و اللّه يا أبا محمد.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني إسحاق قال:
كانت بيني و بين الخليل بن هشام صداقة ثم استوحشنا، فمررت ببابه يوما، فتذمّمت(4) أن أجوزه و لا أدخل إليه، فدعوت بدواة و قرطاس و كتبت إليه:
/
رجعنا بالصفاء إلى الخليل *** فليس إلى التّهاجر من سبيل
عتاب في مراجعة و صفح *** أحقّ بنا و أشبه بالجميل
قال: و وجّهت بالرّقعة و قصدت بابه، فخرج إليّ حتى تلقّاني، و رجعنا إلى ما كنّا عليه.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عبد اللّه بن المعتزّ عن الهشاميّ قال:
كان أهلنا يعتبرون(5) على إسحاق ما يقوله في نسبة الغناء و أخباره، بأن يجلسوا كاتبتين فهمتين خلف السّتارة، فتكتبان ما يقوله و تضبطانه، ثم يتركونه مدّة حتى ينسى ما جرى، ثم يعيدون تلك المسألة عليه، فلا يزيد فيها و لا ينقص منها حرفا كأنه يقرؤها من دفتر؛ فعلموا حينئذ أنه لا يقول في شيء يسأل عنه إلاّ الحقّ.
كنّا عند المأمون، فغنّاه علّويه:
لعبدة دار ما تكلّمنا الدار *** تلوح مغانيها كما لاح أسطار
أسائل أحجارا و نؤيا(1) مهدّما *** و كيف يردّ القول نؤي و أحجار
- الشعر لبشّار، و الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق - قال: فقال المأمون: لمن هذا اللحن؟ فقلت: لعبد أمير المؤمنين أبي، و قد أخطأ/فيه علّويه؛ قال: فغنّه أنت فغنّيته، فاستعادنيه مرارا و شرب عليه أقداحا؛ ثم تمثل قول جرير:
و ابن اللّبون(2) إذا ما لزّ في قرن *** لم يستطع صولة البزل القناعيس
ثم أمر لي بخمسين ألف درهم. و وجدت هذا الخبر بخطّ أبي العبّاس ثوابة، فقال فيه: حدّثني أحمد بن إسماعيل أبو حاتم قال حدّثني عبد اللّه بن العباس الرّبيعيّ قال:
اجتمعنا بين يدي المعتصم، فغنّى علّويه:
لعبدة دار ما تكلّمنا الدار
فقال له إسحاق: أخطأت فيه، ليس هو هكذا؛ فقال علّويه؛ أمّ من أخذناه عنه هكذا زانية؛ فقال إسحاق:
شتمنا قبحه اللّه، و سكت و بان ذلك فيه؛ و كان علّويه أخذه من إبراهيم.
حدّثني جحظة قال حدّثني أبو العبيس بن حمدون عن أبيه عن جدّه قال:
كان إسحاق بعد وفاة المأمون لا يغنّي إلا الخليفة أو وليّ عهده أو رجلا من الطاهريّة مثل إسحاق بن إبراهيم و طبقته؛ فاجتمعنا عند الواثق و هو وليّ عهد المعتصم، فاشتهى الواثق أن يضرب(3) بين مخارق و علّويه و إسحاق، ففعل حتى تهاتروا؛ ثم قال لإسحاق: كيف هما الآن عندك؟ فقال: أمّا مخارق فمناد(4) طيّب الصوت؛ /و أمّا علّويه فهو خير حماري العباديّ(5)، و هو على كل حال شيء(6) (يريد تصغيره)؛ فوثب علّويه مغضبا، ثم قال
ص: 230
للواثق: جواريه حرائر و نساؤه طوالق، لئن لم تستحلفه بحياتك و حقّ أبيك، أن يصدق عما أسأله(1) عنه، لأتوبنّ عن الغناء ما عشت؛ فقال له الواثق: لا تعربد يا عليّ، نحن نفعل ما سألت؛ ثم حلّف إسحاق أن يصدق فحلف؛ فقال له: من أحسن الناس اليوم صنعة بعدك؟ قال: أنت. قال: فمن أضرب الناس بعد ثقيف؟ قال: أنت. قال فمن أطيب الناس صوتا بعد مخارق؟ قال: أنت. قال علّويه لإسحاق: أ هذا/قولك فيّ و أنت تعلم أنّي مصلّي(2) كلّ سابق فاضل، و أنّي ثالث ثلاثة أنت أحدهم لم يكن في الدنيا مثلهم و لا يكون! فما أنت و غناؤك الذي لا يسمع انخفاضا!؛ فغضب إسحاق، و انتهر الواثق علّويه. ثم أخذ إسحاق عودا فنقل مثناه إلى موضع البمّ(3)، وزيره إلى موضع المثلث، و جعل البمّ و المثلث مكان الزير و المثنى، و ضرب و قال: ليغنّ من شاء منكم؛ فغنّى مخارق عليه:
تقطّع من ظلاّمة الوصل أجمع *** أخيرا على أن لم يكن يتقطّع
و ضرب عليه إسحاق فلم يبن في الأوتار خلاف و لا فقد من الإيقاع شيء و لا بان فيه اختلال؛ فعظم عجب الواثق من فعله؛ و قام إسحاق فرقص طربا، فكان و اللّه/أحسن رقصا من كبيش و عبد السلام - و كانا من أرقص الناس - فقال الواثق: لا يكمل أحد أبدا في صناعته كمثل كمال إسحاق.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد قال حدّثني إسحاق قال:
دخلت على عبد اللّه بن طاهر و هو يلاعب إبراهيم بن وهب بالشّطرنج، فغلبه عبد اللّه، و أومأ إليّ بأن أكايده؛ فقلت:
قد ذهبت منك أبا إسحاق *** مثل ذهاب الشهر بالمحاق(4)
فقال لي عبد اللّه: إنّ فضائلك يا أبا محمد لتتكاثر عندنا، كما قال الشاعر في إبله:
إذا أتاها طالب يستامها *** تكاثرت فى عينه كرامها
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال ذكر عليّ بن الحسن بن عبد الأعلى عن إسحاق قال:
أنشدتني أمّ محمد الأعرابية لنفسها هذين البيتين و أنا حاجّ، فاستحسنتهما، و صنعت فيهما لحنا غنّيته الواثق؛ فاستعاده حتى أخذه، و أمر لي بثلاثين ألف درهم؛ و هما:
عسى اللّه يا ظمياء أن يعكس الهوى *** فتلقين ما قد كنت منك لقيت
ثراء فتحتاجي إليّ فتعلمي *** بأنّ به أجزيك حين غنيت
ص: 231
حدّثني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن مروان قال قال لي يحيى بن معاذ:
كان إسحاق الموصليّ و إبراهيم بن المهديّ إذا خلوا فهما أخوان، و إذا التقيا عند خليفة تكاشحا أقبح تكاشح؛ فاجتمعا يوما عند المعتصم؛ فقال لإسحاق: يا إسحاق، أن إبراهيم يثلبك و يغضّ منك و يقول: إنك تقول: إنّ مخارقا لا يحسن شيئا/و يتضاحك منك؛ فقال إسحاق: لم أقل يا أمير المؤمنين: إن مخارقا لا يحسن شيئا، و كيف أقول ذلك و هو تلميذ أبي و تخريجه و تخريجي! و لكن قلت: إنّ مخارقا يملك من صوته ما لا يملكه أحد، فيتزايد فيه تزايدا لا يبقي عليه و يتغيّر في كل حال، فهو أحلى الناس مسموعا و أقلّه نفعا لمن يأخذ عنه، لقلّة ثباته على شيء واحد. و لكنّي أفعل الساعة فعلا إن زعم إبراهيم أنه يحسنه فلست أحسن شيئا، و إلاّ فلا ينبغي له أن يدّعي ما ليس يحسنه. ثم أخذ عودا فشوّش أوتاره، ثم قال لإبراهيم: غنّ على هذا أو يغنّي غيرك و تضرب عليه؛ فقال المعتصم: يا إبراهيم، قد سمعت، فما عندك؟ قال: ليفعله هو إن كان صادقا؛ فقال له إسحاق: غنّ حتى أضرب عليك فأبى؛ فقال لزرزور: غنّ فغنّى و إسحاق يضرب عليه حتى فرغ من الصوت ما علم أحد أنّ/العود مشوّش. ثم قال: هاتوا عودا آخر؛ فشوّشه و جعل كلّ وتر منه في الشدّة و اللين على مقدار العود المشوّش الأوّل حتى استوفى؛ ثم قال لزرزور: خذ أحدهما فأخذه، ثم قال: انظر إلى يدي و اعمل كما أعمل و اضرب ففعل؛ و جعل إسحاق يغنّي و يضرب و زرزور ينظر إليه و يفعل كما يفعل؛ فما ظنّ أحد أن في العود [ين](1) شيئا من الفساد لصحة نغمهما جميعا إلى أن فرغ من الصوت. ثم قال لإبراهيم: خذ الآن أحد العودين، فاضرب به مبدأ أو عمود طريقة أو كيف شئت إن كنت تحسن شيئا؛ فلم يفعل و انكسر انكسارا شديدا؛ فقال له المعتصم: أ رأيت مثل هذا قطّ؟ قال: لا، و اللّه ما رأيت و لا ظننت أنّ مثله يكون.
حدّثني أبو عبد اللّه محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني عمّي الفضل قال:
/دعاني إسحاق يوما، فمضيت إليه و عنده الزّبير بن دحمان و علّويه و حسين بن الضحّاك، فمرّ لنا أحسن يوم؛ فالتفت إليّ إسحاق ثم قال: يومنا هذا و اللّه يا أبا العبّاس كما قال الشاعر:
أنت و اللّه من الأي *** ام لدن الطّرفين
كلّما قلّبت عينيّ *** ففي قرّة عين
لا يغتربن و لا يسكنّ بادية *** و ليس يدرين ما ضرع و لا حلب
إذا يد سرقت فالقطع يلزمها *** و القطع في سرق بالعين لا يجب
قال: فشرب عليه بقيّة يومه و بعض ليلته، و خلع عليّ خلعة من ثيابه.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
خرجت مع الواثق إلى الصالحيّة(1) و هو يريد النزهة، فذكرت بغداد و عيالي و أهلي و ولدي بها فبكيت؛ فقال لي: بحياتي أذكرت بغداد فبكيت شوقا إليها؟ فقلت: نعم، و غنّيته:
و ما زلت أبكي في الديار و إنما *** بكائي على الأحباب ليس على الدار
قال: فأمر لي بمائة ألف درهم و صرفني.
و أخبرني محمد بن مزيد بهذا الخبر عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه، و حدّثني به عليّ بن هارون عن عمّه عن حمّاد عن أبيه و خبره أتمّ، قال:
ما وصلني أحد من الخلفاء قطّ بمثل ما وصلني به الواثق. و لقد انحدرت معه إلى النّجف(2)، فقلت له:
يا أمير المؤمنين، قد قلت في النجف قصيدة؛ فقال: هاتها؛ فأنشدته:
يا راكب العيس لا تعجل بنا وقف *** نحيّ دارا لسعدى ثم ننصرف
حتى أتيت على قولي:
لم ينزل الناس في سهل و لا جبل *** أصفى هواء و لا أعذى(3) من النّجف
حفّت ببرّ و بحر من جوانبها *** فالبرّ في طرف و البحر في طرف
/و ما يزال نسيم من يمانية(4) *** يأتيك منها بريّا روضة(5) أنف
/فقال: صدقت يا إسحاق، هي كذلك. ثم أنشدته حتى أتيت على قولي في مدحه:
ص: 233
لا يحسب الجود يفني ماله أبدا *** و لا يرى بذل ما يحوي من السّرف
و مضيت فيها حتى أتممتها؛ فطرب و قال: أحسنت و اللّه يا أبا محمد، و كنّاني يومئذ، و أمر لي بمائة ألف درهم؛ و انحدر إلى الصالحيّة التي يقول فيها أبو نواس:
بالصالحيّة من أكناف كلواذ(1)
فذكرت الصبيان و بغداد فقلت:
أ تبكي على بغداد و هي قريبة *** فكيف إذا ما ازددت منها غدا بعدا
لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى *** لو أنّا وجدنا عن فراق لها بدّا
إذا ذكرت بغداد نفسي تقطّعت *** من الشوق أو كادت تموت بها وجدا
كفى حزنا أن رحت لم أستطع لها *** وداعا و لم أحدث بساكنها عهدا
قال: فقال لي: يا موصليّ، اشتقت إلى بغداد؟ فقلت: لا و اللّه يا أمير المؤمنين، و لكن من أجل الصبيان، و قد حضرني بيتان؛ فقال: هاتهما؛ فأنشدته:
/
حننت إلى الأصيبية الصّغار *** و شاقك منهم قرب المزار
و أبرح ما يكون الشوق يوما(2)*** إذا دنت الدّيار من الديار
فقال لي: يا إسحاق، صر إلى بغداد فأقم مع عيالك شهرا ثم صر إلينا، و قد أمرت لك بمائة ألف درهم.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال أخبرني أبي قال:
لمّا صنع الواثق لحنه في:
أيا منشر الموتى أقدني من التي *** بها نهلت(3) نفسي سقاما و علّت
لقد بخلت حتى لو أنّي سألتها *** قذى العين من سافي التراب لضنّت
ص: 234
أعجب به إعجابا شديدا؛ فوجّه بالشعر إلى إسحاق الموصليّ و أمره أن يغنّي فيه؛ فصنع(1) فيه لحنه الثقيل الأوّل، و هو من أحسن صنعة إسحاق؛ فلمّا سمعه الواثق عجب منه و صغر لحنه في عينه، و قال: ما كان أغنانا أن نأمر إسحاق بالصنعة في هذا الشعر، لأنه قد أفسد علينا لحننا. قال عليّ بن يحيى قال إسحاق: ما كان يحضر مجلس الواثق أعلم منه بهذا الشأن.
أيا منشر الموتى أقدني من التي *** بها نهلت نفسي سقاما و علّت
لقد بخلت حتى لو أنّي سألتها *** قذى العين من سافي التراب لضنّت
/الشعر لأعرابيّ، و الغناء للواثق ثاني ثقيل في مجرى البنصر. و فيه لمخارق رمل، و لعريب رمل. و من الناس من ينسب هذا الشعر إلى كثيّر، و هو خطأ من قائله.
أنشدني هذه الأبيات عمّي قال: أنشدني هارون بن عليّ بن يحيى، و أنشدنيها عليّ بن هارون عن أبيه عن جدّه عن إسحاق أنه أنشده لأعرابيّ فقال:
ألا قاتل اللّه الحمامة غدوة *** على الغصن ما ذا هيّجت حين غنّت
تغنّت بصوت أعجميّ فهيّجت(2) *** من الشوق ما كانت ضلوعي أجنّت
غنّى في هذين البيتين عمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى.
فلو قطرت عين امرئ من صبابة *** دما قطرت عيني دما فألمّت
فما سكتت(3) حتى أويت لصوتها *** و قلت ترى هذي الحمامة جنّت
و لي زفرات لو يدمن قتلنني *** بشوق إلى نأي(4) التي قد تولّت
إذا قلت هذي زفرة اليوم(5) قد مضت *** فمن لي بأخرى في غد قد أظلّت
فيا محيي الموتى أقدني من التي *** بها نهلت نفسي سقاما و علّت
لقد بخلت حتى لو أنّي سألتها *** قذى العين من سافي التراب لضنّت
فقلت ارحلا يا صاحبيّ فليتني *** أرى كلّ نفس أعطيت ما تمنّت
ص: 235
/
حلفت لها باللّه ما أمّ(1) واحد *** إذا ذكرته آخر الليل حنّت
و ما وجد أعرابيّة قذفت بها *** صروف النّوى من حيث لم تك ظنّت
إذا ذكرت ماء العضاه(2) و طيبه *** و برد الحمى من بطن خبت(3) أرنّت
بأكثر منّي لوعة غير أنني *** أجمجم(4) أحشائي على ما أجنّت
و أما لحن إسحاق فإنه غنّى في:
لقد بخلت حتى لو أنّي سألتها
و أضاف إليه شيئا آخر و ليس من ذلك الشعر، و هو:
فإن بخلت فالبخل منها سجيّة *** و إن بذلت أعطت قليلا و أكدت(5)
قال: و لحنه ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى.
أخبرني الحسن بن عليّ و محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ، و حدّثني به عمّي عن أبي جعفر بن دهقانة النّديم عن أبيه قال:
كان الواثق إذا صنع صوتا قال لإسحاق: هذا وقع إلينا البارحة فاسمعه، فكان ربّما أصلح فيه الشيء بعد الشيء. فكاده مخارق عنده و قال له: إنما يستجيد صنعتك إذا حضر ليقاربك و يستخرج ما عندك، فإذا فارق حضرتك قال في صنعتك غير ما تسمع؛ قال الواثق: فأنا أحب أن أقف على ذلك؛ فقال له مخارق: فأنا أغنيه «أيا منشر/الموتى» فإنه لم يعلم أنه لك و لا سمعه من أحد؛ قال: فافعل. فلمّا دخل إسحاق غنّاه مخارق و تعمّد لأن يفسده بجهده، و فعل ذلك في مواضع خفيّة لم يعلمها الواثق من قسمته؛ فلمّا غنّاه قال له الواثق: كيف ترى هذا الصوت؟ قال له: فاسد غير مرضيّ؛ فأمر به فسحب من المجلس حتى أخرج عنه، و أمر بنفيه إلى بغداد. ثم جرى ذكره يوما. فقالت له فريدة: يا أمير المؤمنين، إنما كاده مخارق فأفسد عليه الصوت من حيث أوهمك أنه زاد فيه بحذقه نغما و جودة، و إسحاق يأخذ نفسه بقول الحق في كل شيء ساءه أو سرّه، و يفهم من غامض علل الصنعة ما لا يفهمه غيره؛ فليحضره أمير المؤمنين و يحلّفه بغليظ الأيمان أن يصدقه عما يسمع، /و أغنّيه إياه حتى يقف على حقيقة الصوت؛ فإن كان فاسدا فصدق عنه لم يكن عليه عتب، و وافقناه عليه حتى يستوي، فليس يجوز أن نتركه(6)
ص: 236
فاسدا إذا كان فيه فساد؛ و إن كان صحيحا قال فيه ما عنده؛ فأمر بالكتاب(1) بحمله فحمل و أحضر، فأظهر الرضا عنه و لزمه أيّاما؛ ثم أحلفه ليصدقنّ عما يمرّ في مجلسه فحلف له. ثم غنّى الواثق أصواتا يسأله عنها أجمع فيخبر فيها بما عنده؛ ثم غنّته فريدة هذا الصوت و سأله الواثق عنه، فرضيه و استجاده، و قال له: ليس على هذا سمعته في المرّة الأولى، و أبان عن المواضع الفاسدة و أخبر بإفساد مخارق إياها؛ فسكن غضبه و وصل إسحاق و تنكّر لمخارق مدّة.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني إسحاق الموصليّ:
/أنه دخل على إسحاق بن إبراهيم الطّاهريّ، و قد كان تكلّم له في حاجة فقضيت، فقال له: أعطاك اللّه أيها الأمير ما لم تحط به أمنيّة و لا تبلغه رغبة. قال: فاشتهى هذا الكلام و استعاده منّي فأعدته. ثم مكثنا ما شاء اللّه، و أرسل الواثق إلى محمد(2) بن إبراهيم يأمره بإخراجي إليه في الصوت الذي أمرني به بأن أغنّي فيه، و هو:
لقد بخلت حتّى لو أنّي سألتها
فغنّيته إيّاه، فأمر لي بمائة ألف درهم. فخرجت و أقمت ما شاء اللّه ليس أحد من مغنّيهم يقدر أن يأخذ هذا الغناء منّي. فلمّا طال مقامي قلت له: يا أمير المؤمنين، ليس أحد من هؤلاء المغنّين يقدر أن يأخذ هذا الصوت منّي؛ فقال لي: و لم؟ ويحك! فقلت: لأني لا أصحّحه و لا تسخو نفسي به لهم؛ فما فعلت الجارية التي أخذتها منّي؟ (يعني شجا، و هي التي كان أهداها إلى الواثق و عمل مجرّد أغانيها و جنّسه و نسبه إلى شعرائه و مغنّيه، و هو الذي في أيدي الناس إلى اليوم)؛ فقال: و كيف؟ قال: لأنها تأخذه منّي و يأخذونه هم منها؛ فأمر بها فأخرجت و أخذته على المكان؛ فأمر لي بمائة ألف درهم و أذن لي في الانصراف؛ و كان إسحاق بن إبراهيم الطاهريّ حاضرا، فقلت للواثق عند وداعي له: أعطاك اللّه يا أمير المؤمنين ما لم تحط به أمنيّة و لم تبلغه رغبة؛ فالتفت إليّ إسحاق بن إبراهيم فقال لي: أي إسحاق أ تعيد الدعاء! فقلت: إي و اللّه أعيده قاض أنا أو مغنّ. و قدمت بغداد، فلمّا وافى إسحاق جئته مسلّما عليه؛ فقال لي: ويحك يا إسحاق! أ تدري ما قال أمير المؤمنين بعد خروجك من عنده؟ قلت:
لا أيها الأمير؛ قال قال لي: ويحك! كنّا أغنى/الناس عن أن نبعث إسحاق على لحننا حتى أفسده علينا. قال عليّ بن يحيى: فحدّثني إسحاق قال: استأذنت الواثق عدّة دفعات في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي، فصنعت لحنا في:
خليليّ عوجا من صدور الرّواحل
ثم غنّيته الواثق فاستحسنه و عجب من صحّة قسمته و مكث صوته أيّاما، ثم قال لي: يا إسحاق، قد صنعت
ص: 237
لحنا في صوتك في إيقاعه و طريقته، و أمر من وراء السّتارة(1) فغنّوه؛ فقلت: قد و اللّه يا أمير المؤمنين بغّضت إليّ لحني و سمّجته عندي؛ و قد كنت استأذنته في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي؛ فلمّا صنع هذا اللّحن و قلت له ما قلت، أتبعته بأن قلت له: قد و اللّه يا أمير المؤمنين اقتصصت منّي في «لقد/بخلت» و زدت؛ فأذن لي بعد ذلك.
خليليّ عوجا من صدور الرّواحل *** بجرعاء(2) حزوى فابكيا في المنازل
لعلّ انحدار الدّمع يعقب راحة *** من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل(3)
الشعر لذي الرّمّة، و الغناء لإسحاق رمل بالوسطى في البيتين. و للواثق في البيت الثاني وحده رمل بالبنصر.
أخبرني أحمد بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن نعيم قال حدّثني كثير بن أبي جعفر الحزاميّ(4) الكوفيّ عن أحمد بن جوّاس الحنفيّ عن أبي بكر بن عيّاش قال:
كنت إذا أصابتني المصيبة تصبّرت و أمسكت عن البكاء، فأجد ذلك يشتدّ عليّ، حتّى مررت ذات يوم بالكناسة(5)، فإذا أنا بأعرابيّ واقف على ناقة له و هو ينشد:
خليليّ عوجا من صدور الرّواحل *** بجرعاء حزوى فابكيا في المنازل
لعلّ انحدار الدّمع يعقب راحة *** من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل
فسألت عنه فقيل لي: هذا ذو الرّمّة؛ فكنت بعد إذا أصابتني مصيبة بكيت فأجد لذلك راحة؛ فقلت: قاتل اللّه الأعرابيّ! ما كان أعلمه و أفصح لهجته!.
أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبيه قال:
قلت لإسحاق: أيّما أجود، لحنك في «خليليّ عوجا» أم(6) لحن الواثق؟ فقال: لحني أجود قسمة و أكثر عملا، و لحنه أطرب، لأنه جعل ردّته من نفس قسمته، و ليس يقدر على أدائه إلاّ متمكن من نفسه. قال عليّ بن
ص: 238
يحيى: فتأمّلت اللحنين بعد ذلك فوجدتهما كما ذكر إسحاق. قال و قال لي إسحاق: ما كان بحضرة الواثق أعلم منه بالغناء.
أخبرني عليّ بن هارون قال:
كان عبد اللّه بن المعتزّ يحلف أنّ الواثق ظلم نفسه في تقديمه لحن إسحاق في «لقد بخلت». قال: و من الدّليل على ذلك أنه قلّما غنّي في صوت واحد بلحنين/فسقط أجودهما و شهر الدّون، و لا يشهر من اللحنين إلا أجودهما، و لحن الواثق أشهرهما، و ما يروي لحن إسحاق إلا العجائز و من كثرت روايته.
حدّثني جحظة عن ابن المكيّ المرتجل عن أبيه أحمد بن يحيى قال:
كان الواثق يعرض صنعته على إسحاق فيصلح فيها الشيء بعد الشيء.
أخبرنا حسين(1) بن يحيى عن حمّاد:
أنّ آخر صوت صنعه أبوه: «لقد بخلت»، ثم ما صنع شيئا حتى مات.
أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثني أبو زيد عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال:
دخل أعرابيّ من بني سليم سرّ من رأى - و كان يكنى أبا القنافذ - فحضر باب المعتصم مع الشعراء فأذن له؛ فلمّا مثل بين يديه أنشده:
مراض العيون خماص البطون *** طوال المتون قصار الخطا
عتاق(2) النّحور قاق الثغور *** لطاف الخصور خدال(3) الشّوى
عطابيل(4) من كلّ رقراقة(5) *** تلوث الإزار بدعص(6) النّقا
/إذا هنّ منّيننا نائلا *** أبى البخل منهنّ ذاك المنى
إلى النّفر البيض أهل البطاح *** و أهل السّماح طلبنا النّدى
ص: 239
/
لهم سطوات إذا هيّجوا *** و حلم إذا الجهل حلّ الحبا(1)
يبين لك الخير في أوجه *** لهم كالمصابيح تجلو الدّجى
سعى الناس كي يدركوا فضلهم *** فقصّر عن سعيهم من سعى
سعى للخلافة فاقتادها *** و برّز في السّبق لمّا جرى
قال: فاستحسنها المعتصم و أمرني فغنّيت فيها، و أمر للأعرابيّ بعشرين ألف درهم و لي بثلاثين ألف درهم؛ و ما خرج الناس يومئذ إلاّ بهذه الأبيات.
حدّثني عمّي قال حدّثني فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:
كتبت إلى عليّ بن هشام أطلب منه نبيذا، فبعث إليّ جمان(2) بما التمست، و كتب إليّ: قد بعثت إليك بشراب أصلب من الصّخر، و أعتق من الدهر، و أصفى من القطر.
حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه الهشاميّ عن أحمد المكيّ قال:
لمّا صنع إسحاق لحنه في الرّمل:
أ ماويّ(3) إنّ المال غاد و رائح *** و يبقى من المال الأحاديث و الذّكر
و قد علم الأقوام لو أنّ حاتما *** يريد ثراء المال كان له وفر
/و هو رمل نادر، ابتداؤه صياح، ثم لا يزال ينزل على تدريج حتى يقطعه على سجحة، و كان كثير الملازمة لعبد اللّه بن طاهر، ثم تخلّف عنه مدّة و ذلك في أيّام المأمون؛ فقال عبد اللّه للميس جاريته: خذي لحن إسحاق في:
أ ماويّ إنّ المال غاد و رائح
فاخلعيه عليّ:
و هبّت شمال آخر اللّيل قرّة(4) *** و لا ثوب إلاّ بردها و ردائيا
و ألقيه على كلّ جارية تعلّمينها و اشهريه و ألقيه على من يجيده من جواري زبيدة، و قولي: أخذته من بعض عجائز المدينة؛ ففعلت، و شاع أمره حتّى غنّي به بين يدي المأمون؛ فقال المأمون للجارية: ممّن أخذت هذا؟ فقالت: من دار عبد اللّه بن طاهر من لميس جاريته، و أخبرتني أنها أخذته من بعض عجائز المدينة. فقال المأمون
ص: 240
لإسحاق: ويلك! قد صرت تسرق الغناء و تدّعيه، اسمع هذا الصوت؛ فسمعه فقال: هذا و حياتك لحني، و قد وقع عليّ فيه نقب من لصّ حاذق، و أنا أغوص عليه حتّى أعرفه؛ ثم بكّر إلى عبد اللّه بن طاهر فقال: أ هذا حقّي و حرمتي و خدمتي! تأخذ لميس لحني في:
أ ماويّ أنّ المال غاد و رائح
فتغنّيه في: «و هبّت شمال»! و ليس بي ذلك، و لكن بي أنّها فضحتني عند الخليفة و ادّعت أنها أخذته من بعض عجائز المدينة؛ فضحك عبد اللّه و قال: لو كنت تكثر عندنا كما كنت تفعل لم تقدم عليك لميس و لا غيرها؛ فاعتذر فقبل عذره، و قال له: أيّ شيء تريد؟ قال: أريد أن تكذّب نفسها عند من ألقته عليها حتى/يعلم الخليفة بذلك؛ قال: أفعل؛ و مضى إسحاق إلى المأمون و أخبره القصّة؛ فاستكشفها من لميس حتى وقف عليها، و جعل يعبث بإسحاق بذلك مدّة.
حدّثني جحظة قال حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر قال/حدّثتني شهوات(1) الصّنّاجة التي كان إسحاق أهداها إلى الواثق:
أن محمدا الأمين لمّا غنّاه إسحاق لحنه الذي صنعه في شعره و هو الثقيل الأوّل:
يا أيّها القائم الأمين فدت *** نفسك نفسي بالمال و الولد
بسطت للنّاس إذ وليتهم *** يدا من الجود فوق كلّ يد
فأمر له بألف ألف درهم؛ فرأيتها قد وصلت إلى داره يحملها مائة فرّاش.
حدّثني جحظة و محمد بن خلف بن المرزبان قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
غنّيت الواثق:
عفا طرف القريّة فالكثيب *** إلى ملحاء ليس بها عريب(2)
تأبّد رسمها و جرى عليها *** سوافي الريح و التّرب الغريب
- و لحنه ثقيل ثان - قال: فقال لي: يا إسحاق، قد أحسن ابن هرمة في البيتين، فأيّ شيء هو أحسن فيهما من جميعهما؟ قال قلت: قوله: «الترب الغريب»، يريد أنّ الريح جاءت إلى الأرض بتراب ليس منها فهو غريب جاءت به من موضع بعيد؛ فقال: صدقت و أحسنت؛ و أمر لي بخمسين ألف درهم.
ص: 241
حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن الحسن بن الحرون قال:
كنّا يوما عند أحمد بن المدبّر، فغنّاه مغنّ كان عنده لحن إسحاق:
فأصبحت كالحومان(1) ينظر حسرة *** إلى الماء عطشانا و قد منع الوردا
و قال ابن المدبّر: زد فيه:
و أمسيت كالمسلوب مهجة نفسه *** يرى الموت في صدّ الحبيب إذا صدّا
لحن إسحاق في هذا البيت من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر.
حدّثني الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد الأزديّ قال حدّثني شيخ من ولد المهلّب قال:
دخل مروان بن أبي حفصة يوما على إبراهيم الموصليّ، فجعلا يتحدّثان إلى أن أنشد إسحاق بن إبراهيم مروان بن أبي حفصة لنفسه:
إذا مضر الحمراء(2) كانت أرومتي *** و قام بنصري خازم و ابن خازم(3)
عطست بأنف شامخ و تناولت *** يداي الثّريّا قاعدا غير قائم
/قال: و جعل إبراهيم يحدّث مروان و هو عنه ساه مشغول، فقال له: مالك لا تجيبني؟ قال: إنك و اللّه لا تدري ما أفرغ ابنك هذا في أذني.
حدّثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني موسى بن هارون عن يعقوب بن بشر قال:
كنت مع إسحاق الموصليّ في نزهة، فمرّ بنا أعرابيّ، فوجّه إسحاق خلفه بغلامه زياد الذي يقول فيه:
و قولا لساقينا زياد يرقّها *** فقد هدّ(4) بعض القوم سقي زياد
ص: 242
قال: فوافانا الأعرابيّ، فلمّا شرب و سمع حنين الدّواليب قال:
بكرت تحنّ و ما بها وجدي *** و أحنّ من وجد إلى نجد
فدموعها تحيا الرّياض بها *** و دموع عيني أقرحت خدّي
و بساكني نجد كلفت و ما *** يغني لهم كلفي و لا وجدي
لو قيس وجد العاشقين إلى *** وجدي لزاد عليه ما عندي
قال: فما انصرف إسحاق إلى بيته إلاّ محمولا سكرا، و ما شرب إلاّ على هذه الأبيات.
و الغناء فيها لإسحاق هزج بالبنصر.
أخبرني محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه، و أخبرني به الحسن بن عليّ عن عبد اللّه بن أبي سعد عن محمد بن عبد اللّه عن إسحاق قال:
/دخلت على الفضل بن الرّبيع و هو على بساط سوسنجرديّ(1) ستيني مذهب يلمع عليه مكتوب: «مما أمر بصنعته حمّاد عجرد»؛ فقال لي: أ تدري من حمّاد عجرد؟ قلت: لا؛ قال: حمّاد عجرد كان والي تلك الناحية؛ أ فرأيت مثله قطّ؟ قلت: لا، فسكت؛ ثمّ قلت: أ هكذا يفعل الناس؟ قال: أيّ شيء يفعلونه؟ قلت: تهبه لي؛ قال:
لا أفعل؛ قلت: إذا أغضب؛ قال: ما شئت افعل؛ فخرجت متغاضبا؛ فلمّا وافيت منزلي إذا برسوله قد لحقني بالبساط؛ فكتبت إليه بيتين لحمزة بن مضر:
و لقد عددت فلست أحصي كلّ ما *** قد نلت منك من المتاع المونق
بخديعتي فأراك منخدعا لها *** و فكاهتي و تغضّبي و تملّقي
- قال ابن أبي سعد في خبره: - فلمّا دخلت عليه ضحك و قال لي: البيتان خير من البساط، فالفضل الآن لك علينا.
أخبرني يحيى بن عليّ و أحمد بن جعفر جحظة عن أبي العبيس بن حمدون عن عمرو بن بانة قال:
رأيت إبراهيم بن المهديّ يناظر إسحاق في الغناء، فتكلّما بما فهماه و لم أفهم منه شيئا؛ فقلت لهما: لئن كان ما أنتما فيه من الغناء فما نحن منه في قليل و لا كثير.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال حدّثني إسحاق قال:
قدمت على الواثق في بعض قدماتي، فقال لي: أ ما اشتقت إليّ؟ فقلت: بلى و اللّه يا أمير المؤمنين، و أنشدته:
ص: 243
/
أشكو إلى اللّه بعدي عن خليفته *** و ما أعالج من سقم و من كبر
لا أستطيع رحيلا إن هممت به *** يوما إليه و لا أقوى على السّفر
أنوي الرّحيل إليه ثمّ يمنعني *** ما أحدث الدهر و الأيام في بصري
قال: [و](1) قال و قد أشخصه إليه قصيدته الداليّة:
ضنّت سعاد غداة البين بالزاد *** و أخلفتك فما توفي بميعاد
ما أنس لا أنس منها إذ تودّعنا *** و الحزن منها و إن لم تبده بادي
لإسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى، يقول فيها:
لمّا أمرت بإشخاصي إليك هفا *** قلبي حنينا إلى أهلي و أولادي
/ثم اعتزمت و لم أحفل بينهم *** و طابت النفس عن فضل و حمّاد
كم نعمة لأبيك الخير أفردني *** بها و عمّ بأخرى بعد إفراد
فلو شكرت أياديكم و أنعمكم *** لما أحاط بها وصفي و تعدادي
لأشكرنّك ما ناح الحمام و ما *** حدا على الصبح في إثر الدّجى حادي
قال عليّ بن يحيى: قال لي أحمد بن إبراهيم: يا أبا الحسن، لو قال الخليفة لإسحاق: أحضرني فضلا و حمّادا أ ليس كان قد افتضح من دمامة خلقهما و تخلّف شاهدهما.
حدّثني جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ قال:
كتب أبي إلى إسحاق في شيء خالفه فيه من التّجزئة و القسمة: «إلى من أحاكمك و النّاس بيننا حمير!».
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا سليمان بن أيّوب قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ قال حدّثنا إسحاق قال:
كنت مع الرشيد حين خرج إلى الرّقّة، فدخل يوما إلى النساء، و خرجت فمضيت إلى تلّ عزاز(2)، فنزلت عند خمّارة هناك فسقتني شرابا لم أر مثله حسنا و طيبا و طيب رائحة في بيت مرشوش و ريحان غضّ، و برزت بنت لها كأنّها خوط(3) بان أو جدل عنان، لم أر أحسن منها قدّا، و لا أسيل خدّا، و لا أعتق وجها، و لا أبرع ظرفا، و لا أفتن طرفا، و لا أحسن كلاما، و لا أتمّ تماما؛ فأقمت عندها ثلاثا و الرشيد يطلبني فلا يقدر عليّ؛ ثم انصرفت فذهبت بي
ص: 244
رسله، فدخلت عليه و هو غضبان؛ فلمّا رأيته خطرت في مشيتي و رقصت، و كانت في فضلة من السّكر، و غنّيت:
إنّ قلبي بالتّلّ تلّ عزاز *** عند ظبي من الظّباء الجوازي(1)
شادن يسكن الشّام و فيه *** مع دلّ العراق ظرف الحجاز
يا لقومي لبنت قسّ أصابت *** منك صفو الهوى و ليست تجازي
حلفت بالمسيح أن تنجز الوع *** د و ليست تجود بالإنجاز
- الغناء لإسحاق خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة - قال إسحاق: فسكن غضبه، ثم قال لي: أين كنت؟ فأخبرته؛ فضحك و قال: إنّ مثل هذا إذا اتّفق/لطيّب، أعد غناءك، فأعدته، فأعجب به، و أمرني أن أعيده ليلة من أوّلها إلى آخرها؛ و أخذها(2) المغنّون منّي جميعا و شربنا إلى طلوع الفجر، ثم انصرفنا فصلّيت الصبح و نمت؛ فما استقررنا حتى أتى إليّ رسول الرشيد فأمرني بالحضور، فركبت و مضيت؛ فلمّا دخلت وجدت ابن جامع قد طرح نفسه يتمرّغ على دكّان(3) في الدار لغلبة السّكر عليه، ثم قال: أ تدري لم دعينا؟ فقلت: لا و اللّه؛ قال: لكنّي أدري، دعينا بسبب نصرانيّتك الزانية، عليك و عليها لعنة اللّه؛ فضحكت. فلمّا دخلت على الرشيد أخبرته بالقصة، فضحك و قال: صدق، عودوا فيه فإنّي اشتقت إلى ما كنّا فيه لمّا فارقتموني؛ فعدنا فيه يومنا كلّه حتى انصرفنا.
أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال:
كان إسحاق قد أظهر التوبة و غيّر زيّه و احتجر(4) من حضور دار/السلطان. فبلغه أنّ المأمون وجد عليه من ذلك و تنكّر؛ فكتب إسحاق إليه و غنّى فيه بعد ذلك:
يا ابن عمّ النبيّ سمعا و طاعه *** قد خلعنا الرّداء و الدّرّاعه
و رجعنا إلى الصّناعة لمّا *** كان سخط الإمام ترك الصّناعه
الغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو - و قد ذكر الغلابيّ أن هذا الشعر لأبي العتاهية، قاله لمّا حبسه الرشيد و أمره بأن يقول الشعر - و ذكر حبش أن هذا اللحن لإبراهيم.
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال:
ص: 245
قال لي محمد بن الحسن بن مصعب، و كان بصيرا بالغناء و النّغم: لحن إسحاق في «تشكّى الكميت الجري» أحسن من لحن ابن سريج، و لحنه في «يوم تبدى لنا قتيلة» أحسن من لحن معبد، و ذلك من أجود صنعة معبد.
قال: فأخبرت إسحاق بقوله، فقال: قد و اللّه أخذت بزمامي راحلتيهما و زعزعتهما(1) و أنخت بهما فما بلغتهما.
فأخبرت بذلك محمد بن الحسن؛ فقال: هو و اللّه يعلم أنه برّز عليهما، و لكنه لا يدع تعصّبه للقدماء.
و أخبرني جحظة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق:
أنّ رجلا سأل أباه فقال له: إنّ الناس قد كثّروا في صوتيك: «تشكّى الكميت الجري» و «يوم تبدى لنا قتيلة»، و قالوا: إنهما أجود من لحني ابن سريج و معبد؛ قال أبي: ويحك! رميت في هذين الصوتين بمعبد و ابن سريج و هما هما، فقربت و وقع القياس بيني و بينهما، و على ذلك فقد و اللّه أخذت بزمامي راحلتيهما و انتصفت منهما.
قرأت في بعض الكتب أن محمد بن الحسن - أظنّه ابن مصعب - ذكر إسحاق الموصليّ فقال:
كانت صنعته محكمة الأصول، و نغمته عجيبة الترتيب، و فسمته معدّلة الأوزان، و كان يتصرّف في جميع بسط الإيقاعات، فأيّ بساط منها أراد أن يتغنّى فيه صوتا قصد أقوى صوت جاء في ذلك البساط لحذّاق القدماء فعارضه:
و قد كان يذهب مذهب الأوائل، و يسلك سبيلهم، و يقتحم طرقهم؛ فيبني على الرّسم فيصنعه، /و يحتذى على المثال فيحكيه(2)، فتأتي صنعته قويّة وثيقة يجمع فيها حالتين: القوّة في الطّبع و سهولة المسلك، و خنثا بين كثرة النّغم و ترتيبها في الصّياح و الإسجاح؛ فهي بصنعة الأوائل أشبه منها بصنعة المتوسّطين من الطبقات؛ فأما المتأخرون فأحسن أحوالهم أن يرووها فيردّوها. و كان حسن الطبع في صياحه، حسن التلطّف، لتنزيله(3) من الصّياح إلى الإسجاح على ترتيب بنغم يشاكله، حتّى تعتدل و تتّزن أعجاز الشعر في القسمة بصدوره. و كذلك أصواته كلّها، و أكثرها يبتدئ الصوت فيصيح فيه - و ذلك مذهبه في جلّ غنائه؛ حتى كان كثير من المغنّين يلقّبونه الملسوع؛ لأنه يبدأ بالصّياح في أحسن نغمة فتح بها أحد فاه - ثم يردّ نغمته فيرجّحها ترجيحا و ينزّلها تنزيلا حتى يحطّها من تلك الشدّة إلى ما يوازيها من اللين، ثم يعود فيفعل مثل ذلك، فيخرج من شدّة إلى لين و من لين إلى شدّة؛ و هذا أشدّ ما يأتي في الغناء و أعزّ ما يعرف من الصّنعة. قال يحيى بن عليّ بن يحيى و قد ذكر إسحاق في صدر كتابه الذي ألّف في أخباره [و زاد في بعض ما صنعه](4): «و كان إسحاق أعلم أهل زمانه بالغناء، و أنفذهم في جميع فنونه، و أضربهم بالعود و بأكثر آلات الغناء، و أجودهم صنعة، و قد تشبّه بالقديم و زاد في بعض ما صنعه عليه، و عارض ابن سريج و معبدا فانتصف منهما؛ و كان إبراهيم بن المهديّ ينازعه في هذه الصناعة و لم يبلغه فيها، و لم يكن بعد إسحاق مثله».
ص: 246
أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني إبراهيم بن عليّ بن هشام:
/قال إسحاق و ذكر صوته:
كان افتتاح بلائي النّظر *** فالحين سبّب ذاك و القدر
قد كان باب الصّبر مفتتحا *** فاليوم أغلق بابه النّظر
- الشعر و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر. و فيه لأحمد بن المكّيّ خفيف ثقيل، و لعريب ثاني ثقيل، جميعا عن الهشاميّ - قال إسحاق: ما شبّهت صوتي هذا إلاّ بإنسان أخذ الكرة على الطّبطابة(1) و أهل الميدان جميعا خلفه، فلمّا بلغ أقصى ضربها أحجزها.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن يزيد المهلّبيّ قال حدّثني إسحاق، و أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبي أيّوب المدينيّ عن ابن المكّيّ عن إسحاق قال:
صنعت هذا الصوت في آخر أيام الرشيد و كان إذ ذاك يحيى بن معاذ يشرب النبيذ؛ فلمّا كان في أيام محمد غنّيته، فاشتهاه و اشتهر به، و بعث إلى يحيى بن معاذ و أنا أغنّيه:
اسقني و ابن نهيك *** و ابن يحيى بن معاذ
فلمّا حضر يحيى غنّيت:
فاسقني واسق نهيكا *** واسق يحيى بن معاذ
فبعث إليه محمد فأحضره(2) فقال: لتشربنّ أو لأعاقبنّك؛ فلم يبرح حتى شرب قدحا، و غلّفه(3) و أمر له بمال، و سرّ بذلك محمد و وهب لي عليه مالا، و انصرفت إلى/البيت؛ فجاءني رسول يحيى بن معاذ فصرت إليه، فلم يزل يستحلفني ألاّ أعود في هذا الصوت قدّام محمد أبدا، و أمر لي من المال بشيء فلم أقبله، و لم أعد فيه.
يومنا يوم رذاذ *** و اصطباح و التذاذ
ص: 247
فاسقنى و ابن نهيك *** و ابن يحيى بن معاذ
من كميت(1) عتّقت للش *** يخ كسرى بن قباذ
ليس للمرء من الهمّ *** سواها من ملاذ
الشعر لعليّ بن هشام، و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو.
أخبرني بقوله عليّ بن هشام و الحسن بن عليّ قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أحمد بن/القاسم الهاشميّ(2) قال حدّثني أبو عبد اللّه الهلاليّ قال:
كنت عند عليّ بن هشام يوما إذ رشّت السماء رشّا و طشّت؛ فأنشأ عليّ يقول:
يومنا يوم رذاذ *** و اصطباح و التذاذ
- و ذكر الأبيات الأربعة - ثم قال لغلامه: اذهب إلى أحمد بن يحيى بن معاذ و قل له: يقول لك أخوك: هذا يوم طيّب، فتعال أنت و غلاماك بنان و عثعث؛ فجاء إلى بابه الرسول و عليه غرماء له، فمنعوه الدخول عليه؛ فقال لهم: كم لكم عليه؟ قالوا: مائتا ألف درهم؛ فرجع الغلام إلى عليّ بن هشام فأخبره بالخبر و مبلغ مالهم عليه من الدّين؛ فقال له: احمل إليه مائتي ألف درهم و جيء به و بغلاميه الساعة فحملها؛ فجاء أحمد بن يحيى و معه غلاماه، فقال لعليّ بن هشام: لم تحمّلت هذا لي! أنا و اللّه/منتظر ما لا يجيء فأعطيهم؛ فقال له: مالي و مالك واحد. فتغدّيت معهما حتى جاءت الحلواء؛ فقال: أكثر من الحلواء فلست تدخل معنا في ديواننا (يعني الشّرب)؛ فأكلت و غسلت يديّ؛ فقال لغلامه سراج: احمل مع أبي عبد اللّه الهلاليّ ثلاثين ألف درهم؛ فانصرفت و هي معي.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا سليمان المدائنيّ عن ابن المكّيّ عن أبيه قال حدّثني إسحاق قال:
تعشّقت جارية فقلت فيها:
هل إلى أن تنام عيني سبيل *** إنّ عهدي بالنوم عهد طويل
غاب عنّي من لا أسمّي فعيني *** كلّ يوم عليه حزنا تسيل
- الشعر و الغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو. و فيه لعريب خفيف رمل آخر. و فيه لمحمد بن حمزة وجه القرعة خفيف ثقيل، و قيل: إنه لابن المكّيّ. و فيه رمل بالوسطى ينسب إلى علّويه و إلى حسين بن محرز - قال إسحاق: ثم ملكتها، فكنت مشغوفا بها، حتى كبرت و اعتلّت عليّ عيناي، فذكرت هذا الصوت و أيامه المتقدّمة، فما زلت أبكي و أذكر دهري الذي تولّى. و أخبرني بهذا الخبر الحسن بن عليّ عن يزيد المهلّبيّ عن إسحاق؛ و ليس هذا على التمام.
أخبرني جحظة عن محمد بن أحمد بن يحيى المكّيّ عن أبيه قال:
ص: 248
دعا المأمون بإسحاق فأحضره، فأمره أن يغنّي في هذا الصوت [فغنّى](1):
هل إلى أن تنام عيني سبيل
/فغنّاه؛ و كنت حاضرا فقلت: أحسن و اللّه يا أمير المؤمنين، و ما عدا بلحنه معنى شعره؛ فقال المأمون: فإنّا نردّ الحكم إلى من هو أعلم بذلك منك؛ فبعث إلى أبي (يعني يحيى المكيّ) فجيء به، فخبّره بما قلت و ما قال، و أمر إسحاق بردّ الصوت فردّه؛ فقال يحيى: أحسن إسحاق في غنائه و أحسن ابني في استحسانه، إلاّ أنّ هذا اللحن يحتاج أن يسمع من غير حلق إسحاق؛ فضحك المأمون، و أمر لإسحاق بمال و أمر لأبي بمثله و لي بمثله.
قال: و لم يكن في إسحاق شيء يعاب إلاّ حلقه، و كان يغلب الناس جميعا بطبعه و حذقه.
قال: و أما السبب في علّة عين إسحاق و ضعف بصره، فأخبرني به محمد بن خلف وكيع قال حدّثني به أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ:
أنّ إبراهيم ابن أخي سلمة(2) الوصيف نازع إسحاق في شيء بين يدي الرشيد من الغناء، فردّ عليه، فشتمه، فردّ عليه إسحاق و أربى في الردّ؛ فقال له إبراهيم: /أ تردّ عليّ و أنا مولى أمير المؤمنين! فقال له: اسكت فإنك من موالي العيدين(3)؛ فقال له الرشيد: و أيّ شيء موالي العيدين؟ قال: يا أمير المؤمنين، يشترى للخلفاء كلّ صانع و كلّ ضرب في العبيد للعتق؛ فيكون فيهم الحجّام و الحائك و السائس؛ فهو أحد هؤلاء الذين ذكرت. قال: و خرج إبراهيم فوقف له على طريقه، فلمّا جاز عليه منصرفا ضرب رأسه بمقرعة فيها معول؛ فكان ذلك سبب ضعف بصر إسحاق. و بلغ الرشيد الخبر، فأمر بأن يحجب عنه إبراهيم، و حلف ألاّ يدخل عليه؛ فدسّ إلى الرشيد من غنّاه:
من لعبد أذلّه مولاه *** ما له شافع إليه سواه
يشتكي ما به إليه و يخشا *** ه و يرجوه مثل ما يخشاه
- الشعر لأبي العتاهية، و الغناء لإبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف خفيف رمل. و فيه لعريب ثقيل أوّل. و قيل:
إن لابن جامع فيه خفيف رمل آخر - فلمّا غنّي الرشيد بهذه الأبيات، سأل عن صاحب لحنها فعرّفه، فحلف ألاّ يرضى عنه حتى يرضى إسحاق، فقام إسحاق فقال: قد رضيت عنه يا سيّدي رضاء حسنا، و قبّل الأرض بين يديه شكرا لما كان من قوله؛ فرضي عنه و أحضر و أمره بترضّي إسحاق ففعل.
و أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:
جاء إبراهيم ابن أخي سلمة إلى الرشيد فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّي أحبّ أن تشرّفني بأن تكون نوبتي و نوبة
ص: 249
إسحاق الموصليّ في مكان، و أن يكون دخولي إليك و دخوله في مكان، فإن رأيت أن تجعل ذلك كما سألت فعلت؛ قال: قد فعلت؛ و لم أكن حاضرا لمسألته. فلمّا كان يوم دخولي عليه جاءني إبراهيم فدقّ بابي دقّا عنيفا و عرّفني الغلام خبره؛ فقلت له: يدخل؛ فأبى و قال له: قل له اخرج أنت؛ فساء ظنّي و اغتممت، فخرجت إليه فقلت له: ما الخبر؟ قال: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بالحضور و يأمرك أ لا تدخل الدار إلاّ معي بعد أن أوجّه إليك فتركب إليّ و تمضي معي؛ فمضيت معه على رغمي و أنا منكسر، و كنت بقيّة يومي على تلك الحال. ثم ركبت إلى الفضل بن الرّبيع فشكوت ذلك إليه؛ فقال: ما أرى أمير المؤمنين يحلّك هذا المحلّ؛ قم بنا إليه؛ فقمت معه، فدخل إلى الرشيد فقال له: يا أمير المؤمنين، إسحاق و خدمته و حقوق أبيه عليك و على أمير المؤمنين/المهديّ تضع مقداره أن تجعله مضموما إلى إبراهيم ابن أخي سلمة؛ قال: لا و اللّه ما فعلت هذا؛ قال: إنه قد جاءني يبكي و يحلف إن جرى عليه هذا تاب من الغناء و تركه جملة، ثم لو قتل لم يعد إليه؛ فقال: ويحك! و اللّه ما جرى من هذا شيء، إلاّ أنّ إبراهيم ابن أخي سلمة جاء فقال: تشرّفني أن تجعل نوبتي مع نوبة إسحاق و وصولي مع وصوله ففعلت؛ فقل له: يجيء متى شاء و ينفرد عنه و لا يجيء معه و لا كرامة؛ فأخبرني فرجعت. فلمّا كانت نوبتي جاء إبراهيم إليّ ففعل مثل فعله؛ فقلت لغلامي: اخرج إليه فقل له: و لا كرامة لك يا زاني يا ابن الزانية، لا أجيء معك و لا أدعك تجيء معي أيضا، و شتمه أقبح شتم؛ فخرج الغلام فأدّى إليه/الرسالة؛ فعلم أن هذا لم يتجرّأ عليه إلاّ بعد توثّق فخجل، فقال له: قل له: و من أكرهك على هذا! إنما أحببت أن نصطحب و نتأنّس في طريقنا، فإن كرهت هذا فلا تفعله؛ و انصرف و لم يعاودني بعدها.
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن ابن المكّيّ عن أبيه قال:
كان إسحاق إذا غنّى هذا الصوت يأخذ بلحيته و يبكي:
إذا المرء قاسى الدهر و ابيضّ رأسه *** و ثلّم تثليم الإناء جوانبه
فللموت خير من حياة خسيسة *** تباعده طورا و طورا تقاربه
الشعر لزبّان بن سيّار الفزاريّ، حدّثني بذلك الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير بن بكّار عن عمّه. و الغناء لإسحاق رمل بالوسطى.
أخبرنا محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه، و أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبيه عن إسحاق قال:
/أقام المأمون بعد قدومه عشرين شهرا لا يسمع حرفا من الأغاني، فكان أوّل من تغنّى بحضرته أبو عيسى بن الرشيد، ثم واظب على السماع متستّرا متشبّها في أوّل أمره بالرشيد، فأقام كذلك أربع حجج، ثم ظهر إلى النّدماء و المغنّين. و كان حين أحبّ السماع سأل عنّي، فجرحت بحضرته، و قال الطاعن عليّ: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة! قال المأمون: ما أبقى هذا من التيه شيئا إلا استعمله. فأمسك عن ذكري، و جفاني من كان يصلني، لسوء رأيه الذي ظهر فيّ؛ فأضرّ ذلك بي؛ حتى جاءني علّويه يوما فقال لي: أ تأذن لي في ذكرك؟ فإنّا قد
ص: 250
دعينا اليوم؛ فقلت: لا! و لكن غنّه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك: لمن هذا؛ فإذا سألك انفتح لك ما تريد، و كان الجواب أسهل عليك من الابتداء؛ فقال: هات، فألقيت عليه لحني في شعري:
يا سرحة(1) الماء قد سدّت موارده *** أما إليك طريق غير مسدود
لحائم حام حتّى لا حيام(2) له *** محلّإ عن طريق الماء مطرود
- الغناء لإسحاق رمل بالوسطى عنه و عن عمرو - قال: فمضى علّويه، فلما استقرّ به المجلس، غنّاه بالشعر الذي أمرته؛ فما عدا المأمون أن يسمع الغناء حتى قال: ويحك يا علّويه! لمن هذا؟ قال: يا سيّدي، لعبد من عبيدك جفوته و اطّرحته من غير جرم؛ فقال: أ إسحاق تعني؟ قال: نعم؛ قال: يحضر الساعة؛ فجاءني رسوله/فصرت إليه. فلمّا دخلت عليه قال: ادن فدنوت، فرفع يديه مادّهما، فانكببت عليه، و احتضنني بيديه، و أظهر من برّي و إكرامي ما لو أظهره صديق مؤانس لصديقه لبرّه.
أخبرني محمد بن إبراهيم الجرجاني قريض قال: قال لي أحمد بن أبي العلاء:
غنّيت المعتضد يوما و هو أمير صوت إسحاق:
يا سرحة الماء قد سدّت موارده *** أما إليك طريق غير مسدود
فطرب و استعاده مرارا، و قال: هذا و اللّه الغناء الذي يخالط الرّوح و يمازج اللحم و الدم.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو العبيس بن حمدون قال أخبرني أبي قال:
لمّا غنّى إسحاق في شعره هذا:
لأسماء رسم عفا باللّوى *** أقام رهينا لطول البلى
تعاوره الدهر في صرفه *** بكرّ الجديدين حتّى عفا
- الشعر لإسحاق من قصيدة مدح بها الرشيد، و الغناء له ثاني ثقيل بالوسطى. و فيه لسليم ثقيل أوّل من رواية الهشاميّ، و ذكر حبش أنه لإبراهيم بن المهديّ - قال: فكان الناس يتهادونه كما يتهادون الطّرفة و الباكورة. و قال أبو العبيس حدّثني ابن مخارق: أنّ الواثق بعث إلى أبيه مخارق لمّا صنع إسحاق هذا الصوت ليلقيه عليه، فصادفه عليلا
ص: 251
- و لم يكن أحد يلقن عن إسحاق طرح الغناء كما يلقنه مخارق - فأعاد إليه الرسول و معه محفّة، و قال: لا بدّ أن يجيء على كلّ حال؛ فتحامل و صار إليه حتى أخذ الصوت عن إسحاق و رجع.
و ذكر محمد بن الحسين الكاتب عن أبي حارثة الباهليّ عن أخيه أبي معاوية:
أنّ إسحاق كان يتحلّى بالشجاعة و الفروسيّة و يحبّ أن ينسب إليهما، و يركب الخيل و يتعلّم بها آفة من الآفات المعترضة على العقول. و كان قد شهد بعض مشاهد الحروب فأصابه سهم فنكص على عقبيه؛ فقال أخوه طيّاب فيه:
و أنت تكلّفت ما لا تطيق *** و قلت أنا الفارس الموصلي
فلمّا أصابتك نشّابة *** رجعت إلى سنّك(1) الأوّل
أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن إسحاق قال:
قال حمزة الزّيات القارئ(2): يا موصليّ، إنّ لي فيك رأيا، أ فترضى مع فهمك و أدبك و رأيك أن يكون عوضك من الآخرة فضل مطعم على مطعم!.
حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال أنشدني أبو سعيد السّكّري قال أنشدني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ لعمّه يقول لإسحاق:
أ إن تغنّيت للشّرب الكرام «أ لا *** ردّ الخليط جمال الحيّ فانفرقوا»
و قيل أحسنت فاستدعاك ذاك إلى *** ما قلت ويحك لا يذهب بك الخرق
و قيل أنت حسان الناس كلّهم *** و ابن الحسان فقد قالوا و قد صدقوا
فما بهذا تقوم النادبات و لا *** يثنى عليك إذا ما ضمّك الخرق
قال يحيى بن عليّ: إنّ هذه الأبيات تروى لابن المنذر العروضيّ و للأصمعيّ.
قال مؤلف هذا الكتاب: كان إسحاق يأخذ عن الأصمعيّ و يكثر الرواية عنه، ثم فسد ما بينهما، فهجاه إسحاق و ثلبه و كشف للرشيد معايبه، و أخبره بقلّة شكره و بخله و ضعة نفسه و أنّ الصّنيعة لا تزكو عنده، و وصف له أبا عبيدة
ص: 252
معمر بن المثنّى بالثقة و الصدق و السماحة و العلم؛ و فعل مثل ذلك للفضل بن الرّبيع و استعان به؛ و لم يزل حتى وضع مرتبة الأصمعيّ و أسقطه عندهم، و أنفذوا إلى أبي عبيدة من أقدمه.
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
أنشدت الفضل بن الرّبيع أبياتا كان الأصمعيّ أنشدنيها في صفة فرس:
كأنه في الجلّ(1) و هو سامي *** مشتمل(2) جاء من الحمّام
/يسور(3) بين السّرج و اللّجام *** سور القطاميّ(4) إلى اليمام
قال: و دخل الأصمعيّ فسمعني أنشدها، فقال: هات بقيّتها؛ فقلت له: أ لم تقل إنه لم يبق منها شيء؟ فقال:
ما بقي منها إلاّ عيونها، ثم أنشد بعد هذه الأبيات ثلاثين بيتا منها، فغاظني فعله؛ فلمّا خرج عرّفت الفضل بن الربيع قلّة شكره لعارفة(5) و بخله بما عنده؛ و وصفت له فضل أبي عبيدة معمر بن المثنّى و علمه و نزاهته و بذله لما عنده و اشتماله على جميع علوم العرب، و رغّبته فيه، حتى أنفذ إليه مالا جليلا و استقدمه؛ فكنت سبب مجيئه به من البصرة.
أخبرني عمّي قال حدّثنا فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:
/جاء عطاء الملك بجماعة من أهل البصرة إلى قريب أبي الأصمعيّ، و كان ندلا من الرجال، فوجده ملتفّا في كسائه نائما في الشمس، فركضه برجله و صاح به: يا قريب، قم ويلك! فقال له: هل لقيت أحدا من أهل العلم قطّ أو من أهل اللغة أو من العرب أو من الفقهاء أو من المحدّثين؟ قال: لا و اللّه؛ قال: و لا سمعت شيئا ترويه لنا أو تنشدناه أو نكتبه عنك؟ قال: لا و اللّه؛ فقال لمن حضر: هذا أبو الأصمعيّ، فاشهدوا لي عليه و على ما سمعتم منه، لا يقل لكم غدا أو بعده: حدّثني أبي أو أنشدني أبي؛ ففضحه. قال الفضل: ثم مرض الأصمعيّ، و كان الحال بينه و بين إسحاق الموصليّ انفرجت؛ فعاده أبو ربيعة، و كان يرغب في الأدب و يبرّ أهله؛ فقال له الأصمعيّ: أقرضني خمسة آلاف درهم؛ فقال: أفعل. فقال له أبو ربيعة: فأيّ شيء تشتهي سوى هذا؟ فقال: أشتهي أن تهدي إليّ فصّا حسنا و سيفا قاطعا و بردا(6) حسنا و سرجا محلّى؛ فقال: أفعل، و بعث بذلك إليه لمّا عاد إلى منزله. و بلغ ذلك إسحاق فقال:
أ ليس من العجائب أنّ قردا *** أصيمع باهليّا يستطيل
و يزعم أنه قد كان يفتي *** أبا عمرو(7) و يسأله الخليل(8)
ص: 253
إذا ما قال قال أبي عجبنا *** لما يأتي به و لما يقول
و ما إن كان يدري ما دبير(1) *** أبوه إن سألت و ما قبيل
/و جلّله عطاء الملك عارا *** تزول الراسيات و لا يزول
نصحت أبا ربيعة فيه جهدي *** و بعض النصح أحيانا ثقيل
فقل لأبي ربيعة إذ عصاني *** و جار به عن القصد السبيل
لقد ضاعت برودك فاحتسبها(2) *** و ضاع الفصّ و السيف الصقيل
و سرج كان للبرذون زينا *** له في إثره جزعا صهيل
و أمّا الخمسة الآلاف فاعلم *** بأنّك غبنها لا تستقيل
و أنّ قضاءها فتعزّ عنها *** سيأتي دونه زمن طويل
حدّثني محمد بن مزيد قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
كنت جالسا بين يدي الواثق و هو وليّ عهد، إذ خرجت وصيفة من القصر كأنها خوط بان، أحسن من رأته عيني قطّ، تقدم عدّة وصائف بأيديهن المذابّ(3) و المناديل و نحو ذلك، فنظرت إليها نظر/دهش و هو يرمقني.
فلمّا تبيّن إلحاح نظري قال: مالك يا أبا محمد قد انقطع كلامك و بانت الحيرة فيك! فتلجلجت؛ فقال لي: رمتك و اللّه هذه الوصيفة فأصابت قلبك!؛ فقلت: غير ملوم؛ فضحك ثم قال: أنشدني في هذا المعنى؛ فأنشدته قول المرّار(4):
ألكني(5) إليها عمرك اللّه يا فتى *** بآية ما قالت متى هو رائح
و آية ما قالت لهنّ عشيّة *** و في السّتر حرّات الوجوه ملائح
/تخيّرن أرماكنّ فارمين رمية *** أخا أسد إذ طرّحته(6) الطوارح
فلبّسن مسلاس الوشاح كأنها *** مهاة لها طفل برمّان راشح(7)
فقال له الواثق: أحسنت بحياتي و ظرفت، اصنع فيها لحنا؛ فإن جاء كما نريد و أطربنا فالوصيفة لك؛ فصنعت
ص: 254
فيه لحنا و غنّيته إيّاه، فاصطبح عليه و شرب بقيّة يومه و ليلته حتى سكر، [و](1) لم يقترح عليّ غيره، و انصرفت بالجارية.
حدّثني عمّي قال حدّثني فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:
دخلت على الواثق يوما و هو خاثر(2) النفس، فأخذت عودا من الخزانة و وقفت بين يديه فغنّيته:
من الظباء ظباء همّها السّخب(3) *** ترعى القلوب و في قلبي لها عشب
أهوى الظباء اللواتي لا قرون لها *** و حليّها الدّرّ و الياقوت و الذهب
لا يغتربن و لا يسكنّ بادية *** و ليس يعرفن ما صرّ(4) و لا حلب
و في الذين غدوا، نفسي الفداء لهم *** شمس تبرقع أحيانا و تنتقب
يا حسن ما سرقت عيني و ما انتهيت *** و العين تسرق أحيانا و تنتهب
إذا يد سرقت فالقطع يلزمها *** و القطع في سرق العينين(5) لا يجب
/قال: فهشّ إليّ و نشط و دعا بطعام خفيف و أكلنا و اصطبح و أمر لي بمائة ألف درهم. [و] أخبرني به الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه عن عليّ بن الحسن عن إبراهيم بن محمد الكرخيّ عن إسحاق، فذكر مثله؛ و قال فيه: فأمر لي بعشرة آلاف درهم.
حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني [عبيد اللّه بن](6) عبد اللّه بن طاهر عن أخيه محمد قال:
كان إسحاق الموصليّ يدخل في مبطّنة و طيلسان مثل زيّ الفقهاء على المأمون؛ فسأله أن يأذن له في دخول المقصورة يوم الجمعة بدرّاعة سوداء و طيلسان أسود؛ فتبسّم المأمون و قال له: و لا كلّ هذا بمرّة يا إسحاق، و لكن قد اشترينا منك هذه المسألة بمائة ألف درهم حتى لا تغتمّ، و أمر بحملها إليه فحملت.
حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات عن أبي خالد الأسلميّ:
أنه ذكر إسحاق يوما و كان يفضّله و يعظّم شأنه و يقدّمه في الشعر تقديما مفرطا، فقال: ما قولكم في رجل محدث تشبّه بذي الرّمّة و قال على لسانه شعرا و غنّى فيه و نسبه إليه، فلم يشكك أحد سمعه أنه له و لا فطن لما فعل
ص: 255
أحد إلاّ من حصّل شعر ذي الرمّة كلّه و رواه؛ فسئل أبو خالد عن هذا الشعر فقال:
/
و مدرجة(1) للريح تيهاء لم تكن *** ليجشمها زمّيلة غير حازم
يضلّ بها الساري و إن كان هاديا *** و تقطع أنفاس الرياح النواسم
/تعسّفت أفري جوزها(2) بشملّة *** بعيدة ما بين القرا و المناسم
كأنّ شرار المرو(3) من نبذها به *** نجوم هوت أخرى(4) الليالي العواتم
حدّثني عمّي و أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:
غنّيت المأمون يوما هذين البيتين:
لأحسن من قرع المثاني و رجعها *** تواتر صوت الثغر يقرع بالثغر
و سكر الهوى أروى لعظمي و مفصلي *** من الشّرب في الكاسات من عاتق الخمر
فقال لي المأمون: أ لا أخبرك بأطيب من ذلك و أحسن؟ الفراغ و الشباب و الجدة.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى قال:
كان لإسحاق غلام يقال له فتح، يستقي الماء لأهل داره على بغلين من بغاله دائما؛ فقال إسحاق: قلت له يوما: أيّ شيء خبرك يا فتح؟ قال: خبري أنه ليس في هذه الدار أحد أشقى منّي و منك؛ قلت: و كيف ذلك؟ قال:
أنت تطعم أهل الدار الخبز و أنا أسقيهم الماء؛ فاستظرفت قوله و ضحكت منه، [ثم] قلت له: فأيّ شيء تحبّ؟ قال: تعتقني و تهب لي البغلين أستقي عليهما؛ فقلت له: قد فعلت.
أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد الأسديّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال:
كان لأبي البصير الشاعر قيان، و كان يتكلّم في الغناء بغير علم و لا صواب فيضحك منه، فقال أبي فيه:
/
سكتّ عن الغناء فما أماري *** بصيرا لا و لا غير البصير
مخافة أن أجنّن فيه نفسي *** كما قد جنّ فيه أبو البصير
أخبرني الحسين بن يحيى المرداسيّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
ص: 256
نهاني الرشيد أن أغنّي أحدا غيره، ثم استوهبني جعفر بن يحيى و سأله أن يأذن لي في أن أغنّيه ففعل، و اتّفقنا يوما عند جعفر بن يحيى و عنده أخوه الفضل، و الرشيد يومئذ يعقب علّة قد عوفي منها و ليس يشرب؛ فقال لي الفضل: انصرف إليّ الليلة حتى أهب لك مائة ألف درهم؛ فقلت له: إنّ الرشيد(1) قد نهاني ألاّ أغنّي إلاّ له أو لأخيك، و ليس يخفى عليه خبري، و أنا متّهم عنده بالميل إليكم، و لست أتعرّض له و لا أعرّضك، و لم أجبه. فلمّا نكبهم الرشيد قال: إيه يا إسحاق، تركتني بالرّقّة و جلست ببغداد تغنّي للفضل بن يحيى! فحلفت بحياته أنّي ما جالسته قطّ إلاّ على المذاكرة و الحديث، و أنه ما سمعني قطّ أغنّي إلا عند أخيه جعفر، و حلفت بتربة المهديّ أن يسأل عن هذا جميع من في الدار من نسائه؛ فسأل عنه فحدّثنه بمثل ما ذكرته له، و عرف خبر المائة الألف الدرهم التي بذلها لي فرددتها عليه. فلما دخلت عليه ضحك إليّ ثم قال: قد سألت عن أمرك فعرفت منه مثل ما عرّفتني، و قد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضا مما بذله لك الفضل.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن هارون عن إسحاق أنه كان يقول: الإسناد قيد الحديث؛ فتحدّث مرّة بحديث لا إسناد له، فسئل عن/إسناده، فقال: هذا من المرسلات عرفا.
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن هارون عن أبيه، و حدّثني عمّي عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك عن إسحاق قال: أنشدت الفضل بن يحيى قول أبي الحجناء نصيب مولى المهديّ فيهم:
عند الملوك مضرّة و منافع *** و أرى البرامك لا تضرّ و تنفع
إنّ كان شرّ كان غيرهم له *** أو كان خير فهو فيهم أجمع
إنّ العروق إذا استسرّ(2) بها الثّرى *** أشر(3) النبات بها و طاب المزرع
فإذا جهلت من امرئ أعراقه *** و قديمه فانظر إلى ما يصنع
قال فقال: كأنّا و اللّه لم نسمع هذا الشعر قطّ، قد كنا وصلناه بثلاثين ألف درهم، و إذا نجدّد له الساعة صلة له و لك معه لحفظك الأبيات؛ فوصلنا بثلاثين ألف درهم.
و أخبرني الصّوليّ قال حدّثني الحسن بن يحيى الكاتب أبو الجمّاز قال:
عتب المأمون على إسحاق في شيء؛ فكتب إليه رقعة و أوصلها إليه من يده؛ ففتحها المأمون فإذا فيها قوله:
ص: 257
لا شيء أعظم من جرمي سوى أملي *** لحسن(1) عفوك عن ذنبي و عن زللي
فإن يكن ذا و ذا في القدر قد عظما *** فأنت أعظم من جرمي و من أملي
فضحك ثم قال: يا إسحاق، عذرك أعلى قدرا من جرمك، و ما جال بفكري، و لا أخطرته(2) بعد انقضائه على ذكري.
حدّثني عمّي قال حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ قال:
خرجنا مع الواثق إلى القاطول(3) للصيد، و معنا جماعة الجلساء و المغنّين و فيهم عمرو بن بانة و علّويه و مخارق و عقيد، و قدم إسحاق في ذلك الوقت فأخرجه معه؛ فتصيّد على القاطول ثم عاد فأكل و شرب أقداحا، ثم أمر بالبكور إلى الصّبوح فباكرنا و اصطبحنا. فغنّى عمرو بن بانة لحن إبراهيم الموصليّ:
بلوت أمور الناس طرّا فأصبحت *** مذمّمة عندي براء من الحمد
و أصبح عندي من وثقت بغيبه *** بغيض الأيادي كلّ إحسانه نكد(4)
- و لحنه خفيف رمل بالوسطى - فغنّاه على ما أخذه من إبراهيم بن المهديّ و قد غيّره. فقال الواثق لإسحاق:
أ تعرف هذا اللحن؟ فقال: نعم، هذا لحن أبي و لكنّه مما زعم إبراهيم بن المهديّ أنه جندره و أصلحه فأفسده و دمر(5) عليه؛ فقال له: غنّه أنت، فغنّاه فأتى به على حقيقته و استحسنه الواثق جدّا؛ فغمّ ذلك عمرو بن بانة فقال لإسحاق: أ فأنت مثل إبراهيم بن المهديّ حتّى تقول هذا فيه!؛ قال: لا و اللّه ما أنا مثله، أمّا على الحقيقة فأنا عبده و عبد أبيه، و ليس هذا مما نحن فيه؛ و أمّا الغناء فما دخولك أنت بيننا فيه! ما أحسنت قطّ أن تأخذ فضلا عن أن تغنّي، و لا قمت بأداء غناء فضلا عن أن تميّز بين المحسنين؛ و إلاّ فغنّ أيّ صوت شئت مما أخذته/عنه و عن غيره كائنا من كان، فإن لم أوضح لك و لمن حضر أنه لا يسلم لك صوت من نقصان أجزاء و فساد صنعة فدمى به رهن؛ فأساء عمرو الجواب/و أغلظ في القول؛ فأمضّه الواثق و شتمه و أمر بإقامته عن مجلسه فأقيم. فلمّا كان من الغد دخل إسحاق على الواثق فأنشده:
و مجلس باكرته بكورا *** و الطير ما فارقت الوكورا
و الصبح لم يستنطق العصفورا *** على غدير لم يكن دعثورا(6)
ص: 258
لم تر عيني مثله غديرا *** يجري حباب مائه مسجورا(1)
على حصى تحسبه كافورا *** تسمع للماء به خريرا
ينسج أعلى متنه سطورا *** نسيم ريح قد ونت فتورا
حتى تخال متنه حصيرا *** و الشّرب قد حفّوا به حضورا
و أمروا الساقي أن يديرا *** كأسهم الأصغر و الكبيرا
و أعملوا البمّ معا و الزّيرا *** و جاوبت عيدانهم زميرا
و قرّبوا المغنّي النّحريرا *** مقدّما في حذقه مشهورا
فهم يطيرون به سرورا *** و لا ترى في شربهم تقصيرا
و لا لصفو عيشهم تكديرا *** و لا لخلق منهم نظيرا
إلاّ رجيلا منهم سكّيرا *** معربدا موضّحا شرّيرا
مدّعيا للعلم مستعيرا *** يروم سعيا كاذبا مغرورا
و أن يكون عالما بصيرا *** مفضّلا بعلمه مذكورا
غمزته و لم يكن صبورا *** فعاذ منّي هاربا مذعورا
/بمعسر تحسبهم حميرا *** أشدّ منهم حمقا كثيرا
لا ينطقون الدهر إلا زورا *** حتّى إذا كسّرته تكسيرا
كالليث لمّا ضغم(2) الخنزيرا *** ولّي انهزاما خاسئا مدحورا
معترفا بذلّه مقهورا *** و كنت قدما ضيغما هصورا
معتليا لقرنه عقورا *** و ما أخاف الزمن العثورا
إذ كنت بالواثق مستجيرا *** قد عزّ من كان له نصيرا
إمام عدل دبّر الأمورا *** برأيه و لم يرد مشيرا
ترى من الحقّ عليه نورا *** تقبّل(3) المهديّ و المنصورا
و جدّه الأدنى تقى و خيرا *** ورّثه المعتصم التدبيرا
فأصبح الملك به منيرا *** و أصبح العدل به منشورا
قد أمن الناس به المحظورا *** إذا علا المنبر و السريرا
رأيت بدرا طالعا منيرا *** بحرا ترى الغنيّ و الفقيرا
ص: 259
يرجون منه نائلا غزيرا *** و اللّه لا زلت له شكورا
لا جاحد النّعمى و لا كفورا *** و كنت بالشكر له جديرا
حدّثني الصّوليّ قال حدّثني ميمون بن هارون قال: سمعت إسحاق يقول:
أنشدني الأصمعيّ قول الأعشى:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا *** أو تنزلون فإنّا معشر نزل
ثم قلت له: أيّ شيء تحفظ في هذا المعنى؟ - و كان مع بخله بالعلم لا يبخل بمثل هذا - فأنشدني لربيعة بن مقروم الضّبّيّ:
/
و لقد شهدت الخيل يوم طرادها(1)*** بسليم أو ظفة(2) القوائم هيكل
فدعوا نزال(3) فكنت أوّل نازل *** و علام أركبه إذا لم أنزل
حدّثني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد بن مروان قال حدّثني عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الربيع قال:
اجتمعنا يوما إمّا قال في منزلي أو في منزل محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، و دخلنا و دخل إلينا إسحاق الموصلي و عندنا ملاحظ تغنّينا و قد قامت الصلاة، فدخل إسحاق و هي غائبة فقال: فيم كنتم و من عندكم؟ فأخبرناه بخبرها؛ فقال: لا تعرّفوها من أنا فيخرجها التصنّع لي و التحفّظ منّي عن طبعها، و لكن دعوها و هواها حتّى ننتفع بها؛ و خرجت و هي لا تعرفه و جلست كما كانت أوّلا، و ابتدأت و غنّت - و الصنعة لفليح بن [أبي](4) العوراء، و لحنه رمل. هكذا أخبرنا إسحاق أن الغناء لفليح -:
إني تعلّقت ظبيا شادنا خرقا *** علّقته شقوة منّي و ما علقا
قال: فطرب إسحاق و شرب حتى والى بين خمسة أقداح من نبيذ شديد كان بين يديه و هو يستعيدها؛ فأخذ إسحاق دواة و كتب:
ص: 260
/
سأشرب ما دامت تغنّي ملاحظ *** و إن كان لي في الشّيب عن ذاك واعظ
ملاحظ غنّينا بعيشك و ليكن *** عليك لما استحفظته منك حافظ
فأقسم ما غنّى غناءك محسن *** مجيد و لم يلفظ كلفظك لافظ
و في بعض هذا القول منّي مساءة *** و غيظ شديد للمغنّين غائظ
أخبرني الحسن(1) بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال حدّثني إسحاق قال:
قال لي الرشيد يوما: بأيّ شيء يتحدّث الناس؟ قلت: يتحدّثون بأنك تقبض على البرامكة و تولّي الفضل بن الرّبيع الوزارة؛ فغضب و صاح بي: و ما أنت و ذاك ويلك! فأمسكت. فلمّا كان بعد أيام دعا بنا؛ فكان أوّل شيء غنّيته:
إذا نحن صدقناك *** فضرّ عندك الصدق
طلبنا النفع بالباط *** ل إذ لم ينفع الحقّ
فلو قدّم صبّا في *** هواه الصبر و الرّفق
لقدّمت على الناس *** و لكنّ الهوى رزق
- /في هذه الأبيات خفيف رمل بالوسطى ينسب إلى إسحاق و إلى ابن جامع، و الصحيح أنه لإسحاق. و قيل:
إن الشعر لأبي العتاهية -. قال: فضحك الرشيد و قال لي: يا إسحاق، قد صرت حقودا.
أخبرني الحسن قال حدّثنا يزيد بن محمد قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
/دخلت على المعتصم يوما بسرّمن رأى، فإذا الواثق بين يديه و عنده علّويه و مخارق؛ فغنّاه مخارق صوتا فلم ينشط له، ثم غناه علّويه فأطربه. فلما رأيت طربه لغناء علّويه دون غناء مخارق اندفعت فغنّيته لحني:
تجنّبت ليلى أن يلجّ بك الهوى *** و هيهات كان الحبّ قبل التجنّب
فأمر لي بألف دينار و لعلّويه بخمسمائة دينار، و لم يأمر لمخارق بشيء.
ص: 261
تجنّبت ليلى أن يلجّ بك الهوى *** و هيهات كان الحبّ قبل التجنّب
ألا إنّما غادرت يا أمّ مالك *** صدى أينما تذهب به الريح يذهب
الشعر للمجنون. و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و غنّى ابن جامع في هذين البيتين و بيتين آخرين أضافهما إليهما ليسا من هذا الشعر، هزجا بالبنصر. و البيتان المضافان:
برى اللّحم عن أحناء عظمى و منكبي *** هوى لسليمى في الفؤاد المعذّب
و إني سعيد أن رأت لك مرّة *** من الدّهر عيني منزلا في بني أبي
أخبرنا الحسن بن علي قال حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ قال:
غنّى علّويه بين يدي الواثق يوما:
خليل لي سأهجره *** لذنب لست أذكره
و لكنّي سأرعاه *** و أكتمه و أستره
و أظهر أنّني راض *** و أسكت لا أخبّره
لكي لا يعلم الواشي *** بما عندي فأكسره
- الشعر و الغناء لإسحاق هزج بالوسطى - قال: فطرب الواثق طربا شديدا، و استحسن اللحن، و أمر لعلّويه بألف دينار؛ ثم قال: أ هذا اللحن لك؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، هو هذا لهذا الهزبر(1) (يعني إسحاق) - قال:
و كان إسحاق حاضرا - فضحك الواثق و قال: قد ظلمناه إذا، و أمر لإسحاق بثلاثين ألف درهم.
أخبرنا عليّ بن عبد العزيز الكاتب عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن خرداذبه عن أبيه قال:
كان إسحاق عند الفتح بن الحجّاج الكرخيّ و علّويه حاضر؛ فغنّاه علّويه:
ألا أحبب بأرض كن *** ت تحتلّينها أرضا
و أهلك حبّذا ما هم *** و إن أبدوا لي البغضا
/ - الشعر لابن أذينة. و الغناء لابن سريج ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق. و فيه لإسحاق هزج خفيف مطلق في مجرى البنصر، عن إسحاق أيضا. و فيه للأبجر ثقيل أوّل، و لإبراهيم الموصليّ رمل، جميع ذلك عن الهشاميّ -.
قال فغنّاه إيّاه في الثّقيل، ثم غنّاه هزجا؛ فقال له الفتح؛ لمن الثقيل؟ فقال: لابن سريج، قال: فلمن الهزج؟ قال: لهذا الهزبر(1) (يعني إسحاق)؛ فقال له الفتح: ويلك يا إسحاق! أ تعارض ثقيل ابن سريج بهزجك؟! قال: فقبض إسحاق على لحيته ثم قال: على ذلك فو اللّه ما فاتني إلاّ بتحريكه الذّقن.
أخبرني الحسن قال حدّثني يزيد بن محمد قال حدّثني إسحاق قال:
دخلت يوما على المعتصم و عنده إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، و استدناني فدنوت منه، و استدناني فتوقّفت خوفا من أن أكون موازيا في المجلس لإسحاق بن إبراهيم؛ ففطن المعتصم فقال: إنّ إسحاق لكريم، و إنك لم تستنزل ما عند الكريم بمثل إكرامه. ثم تحدّثنا و أفضت بنا المذاكرة إلى قول أبي خراش الهذليّ:
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا *** خراش و بعض الشرّ أهون من بعض(2)
فأنشدها المعتصم إلى آخرها، و أنشد فيها:
و لم أدر من ألقى عليه رداءه *** سوى أنه قد حطّ(3) عن ماجد محض
/و الرواية «قد بزّ عن ماجد محض»؛ فغلطت(4) و أسأت الأدب، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه رواية الكتّاب و ما أخذ عن المعلّم؛ و الصحيح «بزّ عن ماجد محض»؛ فقال لي: نعم صدقت، و غمزني بعينه، يحذّرني من إسحاق؛ و فطنت لغلطي فأمسكت، و علمت أنه قد أشفق عليّ من بادرة تبدر من إسحاق؛ لأنه كان لا يحتمل مثل هذا في الخلفاء من أحد حتى يعظم عقوبته و يطيل حبسه، كائنا من كان؛ فنبّهني - رحمه اللّه - على ذلك حتى أمسكت و تنبّهت.
أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال قال عبيد اللّه بن معاوية قال عمرو بن بانة:
كنّا عند المأمون، فقال: ما أقلّ الهزج في الغناء القديم!؛ و قال إسحاق: ما أكثره! ثم غنّاه نحو ثلاثين صوتا
ص: 263
في الهزج القديم. فقلت لأصحابي: هذا الذي تزعمون أنه قليل الرواية!.
أخبرنا يحيى قال حدّثنا أبي عن إسحاق قال:
قال لي العباس بن جرير: قاتلك اللّه! مذكّر فطنة، و مؤنّث طبيعة، ما أمكرك!.
حدّثنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي عن إسحاق قال، و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد عن إسحاق قال:
أنشدت بعض الأعراب شعرا لي أقول فيه:
أجرت سوابق دمعك المهراق *** لمّا جرى لك سانح بفراق
إنّ الظعائن يوم ناصفة(1) اللّوى *** هاجت عليك صبابة المشتاق
/لم أنس إذ ألمحننا في رقبة *** منهنّ بيض ترائب و تراق
و أشرن إذ ودّعننا بأنامل *** حمر كهدّاب الدّمقس رقاق
و رمتك هند يوم ذاك فأقصدت(2) *** بأغرّ عذب بارد برّاق
و تنفّست لمّا رأتك صبابة *** نفسا تصعّد في حشى خفّاق
و لقد حذرت فما نجوت مسلّما *** حتى صرعت مصارع العشّاق
إن الخلافة أثبتت أوتادها *** لمّا تحمّلها أبو إسحاق
ملك أغرّ يلوح فوق جبينه *** نور الخلافة ساطع الإشراق
كسي الجلال مع الجمال وزانه *** هدي(3) التّقى و مكارم الأخلاق
صحّت عروقك في الجياد و إنما *** يجري الجواد بصحّة الأعراق
ذخر الملوك فكان أكثر ذخرهم *** للملك ما جمعوا من الأوراق(4)
و ذخرت أبناء الحروب كأنهم *** أسد العرين على متون عتاق
كم من كريمة معشر قد أنكحت *** بسيوفهم قسرا بغير صداق
و عزيزة في أهلها و قطينها(5) *** قد فارقت بعلا بغير طلاق
ص: 264
قال فقال لي: أفليت و اللّه يا أبا محمد؛ فقلت له: و ما أفليت؟ قال: رعيت فلاة لم يرعها أحد غيرك.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أخي أحمد بن عليّ عن عافية بن شبيب قال:
قلت لزرزور بن سعيد: حدّثني عن إسحاق كيف كان يصنع إذا حضر معكم عند الخليفة و هو منقطع ذاهب و حلوقكم ليس مثلها في الدنيا؟ فقال: كان و اللّه لا يزال بحذقه و رفقه و تأنّيه و لطفه حتى نصير معه أقلّ من التراب.
أخبرنا يحيى قال حدّثني أبي قال حدّثنا إسحاق قال:
دخلت على الفضل بن الرّبيع فقال لي: يا إسحاق، كثر و اللّه شيبك!؛ فقلت: أنا و ذاك أصلحك اللّه كما قال أخو ثقيف:
الشيب إن يظهر فإنّ وراءه *** عمرا يكون خلاله متنفّس
لم ينتقص منّي المشيب قلامة *** و لنحن حين بدا ألبّ و أكيس
قال: هات يا غلام دواة و قرطاسا، اكتبهما لي لأتسلّى بهما.
أخبرنا يحيى قال حدّثني أبي قال حدّثني إسحاق، و أخبرني الحسين(1) بن يحيى عن حمّاد عن أبيه(2)، و أخبرني الحسن بن عليّ عن يزيد بن محمد بن عبد الملك عن إسحاق قال:
قال الفضل بن يحيى لأبي: ما لي لا أرى إسحاق، عرّفني ما خبره؟ فقال: خير. و رأى في كلامه شيئا يشكّك، فقال: أ عليل هو؟ فقال: لا، و لكنه جاءك مرّات فحجبه نافذ الخادم و لحقته جفوة؛ فقال له: فإن حجبه بعدها فلينكه. فجاءني أبي فقال لي: القه، فقد سأل عنك؛ و خبّرني بما جرى. و جئت فجبت أيضا؛ و خرج الفضل ليركب؛ فوثبت إليه برقعة و قد كتبت فيها:
جعلت فداءك من كلّ سوء *** إلى حسن رأيك أشكو أناسا
يحولون بيني و بين السلام *** فما إن أسلّم إلاّ اختلاسا
/و أنفذت أمرك في نافذ *** فما زاده ذاك إلا شماسا
/فلمّا قرأها ضحك حتى غلب، ثم قال: أو قد فعلتها يا فاسق؟! فقلت: لا و اللّه يا سيّدي، و إنما مزحت؛ فخجل نافذ خجلا شديدا، و لم يعد بعد ذلك لمساءتي.
ص: 265
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيوب المدينيّ عن محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني إسحاق قال:
ذكر المعتصم يوما بعض أصحابه و قد غاب عنه، فقال: تعالوا حتى نقول ما يصنع في هذا الوقت؛ فقال قوم:
يلعب بالنّرد، و قال قوم: يغنّي؛ فبلغتني النوبة، فقال: قل يا إسحاق؛ قلت: إذا أقول و أصيب؛ قال: أتعلم الغيب؟ قلت: لا، و لكنّي أفهم ما يصنع و أقدر على معرفته؛ قال: فإن لم تصب؟ قلت: فإن أصبت؟ قال: لك حكمك، و إن لم تصب؟ قلت: لك دمي؛ قال: وجب؛ قلت: وجب؛ قال: فقل؛ قلت: يتنفّس؛ قال: فإن كان ميتا؟ قلت:
تحفظ الساعة التي تكلّمت فيها، فإن كان مات فيها أو قبلها فقد قمرتني؛ فقال: قد أنصفت؛ قلت: فالحكم؛ قال:
احتكم ما شئت؛ قلت: ما حكمي إلاّ رضاك يا أمير المؤمنين؛ قال: فإنّ رضاي لك، و قد أمرت لك بمائة ألف درهم، أ ترى مزيدا؟ فقلت: ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين؛ قال: فإنها مائتا ألف درهم، أ ترى مزيدا؟ قلت: ما أحوجني إلى ذلك يا أمير المؤمنين؛ قال: فإنها ثلاثمائة ألف، أ ترى مزيدا؟ قلت: ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين؛ قال: يا صفيق الوجه! ما نزيدك على هذا شيئا.
أخبرنا يحيى قال حدّثني أبو أيوب قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك قال حدّثني إسحاق قال:
/عمل محمد(1) المخلوع سفينة فأعجب بها، و ركب فيها يريد الأنبار. فلمّا أمعن و أنا مقبل على بعض(2)أبواب السفينة صاحوا: إسحاق إسحاق، فوثبت فدنوت منه؛ فقال لي: كيف ترى سفينتي؟ فقلت: حسنة يا أمير المؤمنين، عمّرها اللّه ببقائك. فقام يريد الخلاء و قال لي: قل فيها أبياتا، فقلت: و خرج فقمت بالأبيات؛ فاشتهاها جدّا و قال لي: أحسنت يا إسحاق، و حياتك لأهبنّ لك عشرة آلاف دينار؛ قلت: متى يا أمير المؤمنين؟ إذا وسّع اللّه عليك! فضحك و دعا بها على المكان. و لم يذكر يحيى في خبره الأبيات.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
غنّيت الواثق في شعر قلته و أنا عنده بسرّمن رأى و قد طال مقامي و اشتقت إلى أهلي، و هو:
يا حبّذا ريح الجنوب إذا بدت *** في الصبح و هي ضعيفة الأنفاس
قد حمّلت برد النّدى و تحمّلت *** عبقا من الجثجاث(3) و البسباس
ص: 266
فشرب عليه و استحسنه و قال لي: يا أبا محمد، لو قلت مكان «يا حبّذا ريح الجنوب»: «يا حبّذا ريح الشّمال»، أ لم يكن أرقّ و أعذى(1) و أصحّ للأجساد و أقلّ و خامة و أطيب/للأنفس؟ فقلت: ما ذهب عليّ ما قاله أمير المؤمنين، و لكن التفسير فيما بعد؛ فقال: قل؛ فقلت:
ما ذا تهيج من الصّبابة و الهوى *** للصّبّ بعد ذهوله و الياس
فقال الواثق: إنما استطبت ما تجيء به الجنوب من نسيم أهل بغداد لا الجنوب، و إليهم اشتقت لا إليها؛ فقلت: أجل يا أمير المؤمنين؛ و قمت فقبّلت يده؛ فضحك و قال: قد أذنت لك بعد/ثلاثة أيام، فامض راشدا؛ و أمر لي بمائة ألف درهم. لحن إسحاق هذا من الثقيل الأوّل.
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي عن إسحاق قال:
لم أر قطّ مثل جعفر بن يحيى؛ كانت له فتوة و ظرف و أدب و حسن غناء و ضرب بالطبل، و كان يأخذ بأجزل حظّ من كل فنّ من الأدب و الفتوّة. فحضرت باب أمير المؤمنين الرشيد، فقيل لي: إنه نائم، فانصرفت؛ فلقيني جعفر بن يحيى فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: أمير المؤمنين نائم؛ فقال: قف مكانك؛ و مضى إلى دار أمير المؤمنين فخرج إليه الحاجب فأعلمه أنه نائم؛ فخرج إليّ و قال لي: قد نام أمير المؤمنين، فسر بنا إلى المنزل حتى نخلو جميعا بقيّة يومنا و تغنّيني و أغنّيك و نأخذ في شأننا من وقتنا هذا؛ قلت نعم، فصرنا إلى منزله فطرحنا ثيابنا، و دعا بالطعام فطعمنا، و أمر بإخراج الجواري و قال: لتبرزن؛ فليس عندنا من تحتشمن منه. فلمّا وضع الشراب دعا بقميص حرير فلبسه و دعا بخلوق فتخلّق به، ثم دعا لي بمثل ذلك، و جعل يغنّيني و أغنّيه؛ ثم دعا بالحاجب فتقدّم إليه و أمره بألاّ يأذن لأحد من الناس كلّهم، و إن جاء رسول أمير المؤمنين أعلمه أنه مشغول؛ و احتاط في ذلك و تقدّم فيه إلى جميع الحجّاب و الخدم؛ ثم قال: إن جاء عبد الملك فأذنوا له - يعني رجلا كان/يأنس به و يمازحه و يحضر خلواته - ثم أخذنا في شأننا؛ فو اللّه إنّا لعلى حالة سارّة عجيبة إذ رفع السّتر، و إذا عبد الملك بن صالح الهاشميّ قد أقبل، و غلط الحاجب و لم يفرّق بينه و بين الذي يأنس به جعفر بن يحيى. و كان عبد الملك بن صالح الهاشميّ من جلالة القدر و التقشف و في الامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل، و كان أمير المؤمنين قد اجتهد به أن يشرب معه أو عنده قدحا فلم يفعل ذلك رفعا لنفسه. فلما رأيناه مقبلا، أقبل كلّ واحد منّا ينظر إلى صاحبه، و كاد جعفر أن ينشقّ غيظا. و فهم الرجل حالنا، فأقبل نحونا، حتى إذا صار إلى الرّواق الذي نحن فيه نزع قلنسيته فرمى بها مع طيلسانه جانبا؛ ثم قال: أطعمونا شيئا؛ فدعا له جعفر بالطعام و هو منتفخ غضبا و غيظا فطعم، ثم دعا برطل فشربه، ثم أقبل إلى المجلس الذي نحن فيه فأخذ بعضادتي(2) الباب ثم قال: اشركونا فيما أنتم فيه؛ فقال له جعفر:
ادخل؛ ثم دعا بقميص حرير و خلوق فلبس و تخلّق، ثم دعا برطل و رطل حتى شرب عدّة أرطال، ثم اندفع ليغنّينا، فكان و اللّه أحسننا جميعا غناء. فلما طابت نفس جعفر و سرّي عنه ما كان به التفت إليه فقال له: ارفع حوائجك؛
ص: 267
فقال: ليس هذا موضع حوائج؛ فقال: لتفعلنّ، و لم يزل يلحّ عليه حتى قال له: أمير المؤمنين عليّ واجد؛ فأحبّ أن تترضّاه؛ قال: فإنّ أمير المؤمنين قد رضي عنك، فهات حوائجك؛ فقال: هذه كانت حاجتي؛ قال: ارفع حوائجك كما أقول لك؛ قال: عليّ دين فادح؛ قال: هذه أربعة آلاف ألف درهم، فإن أحببت أن تقبضها فاقبضها من منزلي الساعة، فإنه لم يمنعني من إعطائك إيّاها إلا أنّ قدرك يجلّ على أن يصلك مثلي، و لكني ضامن لها حتى تحمل من مال أمير المؤمنين غدا؛ فسل أيضا؛ قال: ابني، تكلّم أمير المؤمنين حتى ينوّه باسمه؛ قال: قد ولاّه أمير المؤمنين مصر/و زوّجه/ابنته العالية(1) و مهرها ألفي ألف درهم. قال إسحاق: فقلت في نفسي: قد سكر الرجل (أعني جعفرا). فلما أصبحت لم تكن لي همّة إلا حضور دار الرشيد؛ و إذا جعفر بن يحيى قد بكّر، و وجدت في الدار جلبة، و إذا أبو يوسف القاضي و نظراؤه قد دعي بهم، ثم دعي بعبد الملك بن صالح و ابنه فأدخلا على الرشيد؛ فقال الرشيد لعبد الملك: إنّ أمير المؤمنين كان واجدا عليك و قد رضي عنك، و أمر لك بأربعة آلاف ألف درهم، فاقبضها من جعفر بن يحيى الساعة. ثم دعا بابنه فقال: اشهدوا أنّي قد زوّجته العالية بنت أمير المؤمنين و أمهرتها عنه ألفي ألف درهم من مالي و ولّيته مصر(2). قال: فلمّا خرج جعفر بن يحيى سألته عن الخبر؛ فقال: بكرت على أمير المؤمنين فحكيت له ما كان منا و ما كنّا(3) فيه حرفا حرفا، و وصفت له دخول عبد الملك و ما صنع؛ فعجب لذلك و سرّ به؛ ثم قلت له: قد ضمنت له عنك يا أمير المؤمنين ضمانا؛ فقال: ما هو؟ فأعلمته؛ قال: أوف له بضمانك، و أمر بإحضاره؛ فكان ما رأيت.
أخبرني عمّي قال حدّثني فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:
لمّا صنعت لحني في:
هل إلى نظرة إليك سبيل
ألقيته على علّويه، و جاءني رسول أبي بطبق فاكهة باكورة؛ فبعثت إليه: برّك اللّه يا أبة و وصلك! الساعة أبعث إليك بأحسن من هذه الباكورة؛ فقال: إني أظنّه قد أتى بآبدة(4)؛ فلم يلبث أن دخل عليه علّويه فغنّاه الصوت؛ فعجب منه و أعجب به، و قال: قد أخبرتكم أنه قد أتى بآبدة. ثم قال لولده: أنتم تلومونني على/تفضيل إسحاق و محبّتي له، و اللّه لو كان ابن غيري لأحببته لفضله فكيف و هو ابني؛ و ستعلمون أنكم لا تعيشون إلاّ به. و قد ذكر أبو حاتم الباهليّ عن أخيه أبي معاوية بن سعيد بن سلم أنّ هذه القصة كانت لمّا صنع إسحاق لحنه في:
غيّضن من عبراتهن و قلن لي
و قد ذكرت ذلك مع أخبار هذا الصوت في موضعه.
ص: 268
حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال:
سألت إسحاق عن إبراهيم بن المهديّ، فقال: دعني منه، فليست له رواية و لا دراية و لا حكاية.
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثني فضل اليزيديّ عن إسحاق قال:
كانت هشيمة الخمّارة جارتي، و كانت تخصّني بأطيب الشراب و جيّده؛ فماتت فقلت أرثيها:
أضحت هشيمة في القبور مقيمة *** و خلت منازلها من الفتيان
كانت إذا هجر المحبّ حبيبه *** دبّت له في السرّ و الإعلان
حتى يلين لما تريد قياده *** و يصير سيّئه إلى الإحسان
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
سألني إدريس بن أبي حفصة حاجة، فقضيتها له و زدت فيما سأل؛ فقال لي(1):
إذا الرجال جهلوا المكارما *** كان بها ابن الموصليّ عالما
أبقاك ذو العرش بقاء دائما *** فقد جعلت للكرام خاتما
إسحاق لو كنت لقيت حاتما *** كان نداه لنداك خادما
/قال حمّاد: و قال لي أبي: كان إدريس سخيّا من بين آل أبي حفصة؛ فنزل به ضيف، فتنمّرت امرأته عليه؛ فقال لها:
من شرّ أيّامك اللاّتي خلقت لها *** إذا فقدت ندى(2) صوتي و زوّاري
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:
كان عليّ بن هشام قد دعاني و دعا عبد اللّه بن محمد بن أبي عيينة، فتأخّرت عنه حتى اصطبحنا شديدا، و تشاغلت عنه برجل من الأعراب كان يجيئني فأكتب عنه و كان فصيحا؛ و كان عند عليّ بن هشام بعض من يعاديني؛ فسألوا ابن أبي عيينة أن يعاتبني بشعر ينسبني فيه إلى الخلف؛ فكتب إليّ:
يا مليّا بالوعد و الخلف و المط *** ل بطيئا عن دعوة الأصحاب
ص: 269
لهجا بالأعراب إنّ لدينا *** بعض ما تشتهي من الأعراب
قد عرفنا الذي شغلت به *** عنّا و إن كان غير ما في الكتاب
قال: فكتبت إلى الذي حمل ابن أبي عيينة على هذه الأبيات - قال حمّاد: و أظنه إبراهيم بن المهديّ -:
قد فهمت الكتاب أصلحك *** اللّه و عندي عليه ردّ الجواب
و لعمري ما تنصفون و لا كا *** ن الذي جاء منكم في حسابي
لست آتيك فاعلمنّ و لا لي *** فيك حظّ من بعد هذا الكتاب
قال حمّاد: قال أبي: و كتبت إلى عليّ بن هشام و قد اعتللت أيّاما فلم يأتني رسوله:
أنا عليل منذ فارقتني *** و أنت عمّن غاب لا تسأل
ما هكذا كنت و لا هكذا *** فيما مضى كنت بنا تفعل
فلمّا وصلت إليه رقعتي ركب إليّ و جاءني عائدا.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد قال:
لمّا خرج أبي إلى البصرة خرجته الأولى و عاد، أنشدني في ذلك لنفسه:
ما كنت أعرف ما في البين من حزن *** حتى تنادوا بأن قد جيء بالسّفن
قامت تودّعني و العين تغلبها *** فجمجمت(1) بعض ما قالت و لم تبن
مالت عليّ تفدّيني و ترشفني *** كما يميل نسيم الرّيح بالغصن
و أعرضت ثم قالت و هي باكية *** يا ليت معرفتي إيّاك لم تكن
لمّا افترقنا على كره لفرقتها *** أيقنت أنّي رهين الهمّ و الحزن
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
أنشدني شدّاد بن عقبة لجميل:
قفي تسل عنك النفس بالخطّة التي *** تطيلين تخويفي بها و وعيدي
فقد طالما من غير شكوى قبيحة *** رضينا بحكم منك غير سديد
ص: 270
قال: فأنشدت الزّبير بن بكّار هذين البيتين، فقال: لو لم أنصرف من العراق إلا بهما لرأيتهما غنما. و أنشدني شدّاد لجميل أيضا:
بثين سليني بعض مالي فإنما *** يبيّن عند المال كلّ بخيل
/فإني و تكراري الزيارة نحوكم *** لبين يدي هجر بثين طويل
قال أبي: فقلت لشدّاد: فهلا أزيدك فيهما(1)؟ فقال: بلى؛ فقلت:
فيا ليت شعري هل تقولين بعدنا *** إذا نحن أزمعنا غدا لرحيل
ألا ليت أياما مضين رواجع *** و ليت النّوى قد ساعدت بجميل
/فقال شدّاد: أحسنت و اللّه! و إن هذا الشعر لضائع؛ فقلت: و كيف ذلك؟ قال: نفيته عن نفسك بتسميتك جميلا فيه، و لم يلحق بجميل، فضاع بينكما جميعا.
حدّثني جحظة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال:
دعاني إسحاق بن إبراهيم المصعبيّ، و كان عبد اللّه بن طاهر عنده يومئذ، فوجّه إليّ فحضرت و حضر علّويه و مخارق و غيرهما من المغنّين؛ فبيناهم على شرابهم و هم أسرّ ما كانوا، إذ وافاه رسول أمير المؤمنين فقال: أجب؛ فقال: السمع و الطاعة؛ و دعا بثيابه فلبسها. ثم التفت إلى محمد بن راشد الخنّاق فقال له: قد بلغني أنّك أحفظ الناس لما يدور في المجالس، فاحفظ لي كلّ صوت يمرّ و ما يشربه كلّ إنسان، حتى إذا عدت أعدت عليّ الأصوات و شربت ما فاتني؛ فقال: نعم، أصلح اللّه الأمير. و مضى إلى المأمون، فأمره بالشخوص إلى بابك(2) من غد، و تقدّم إليه فيما يحتاج إليه و رجع من عنده. فلمّا دخل و وضع ثيابه قال: يا محمد، ما صنعت فيما تقدّمت به إليك؟ قال: قد أحكمته أعزّك اللّه؛ ثم أخبره بما شرب القوم و ما استحسنوه من الغناء بعده؛ فأمر أن يجمع له أكثر ما شربه واحد منهم في قدح، و أن يعاد عليه صوت صوت مما حفظه له حتى يستوفي ما فاته القوم به، ففعل ذلك و شرب حتى استوفى النبيذ و الأصوات. ثم قال لي: يا أبا محمد، إني قد عملت في منصرفي من عند أمير المؤمنين أبياتا فاسمعها؛ فقلت: هاتها أعزّ اللّه الأمير؛ فأنشدني:
ألا من لقلب مسلم للنوائب *** أحاطت به الأحزان من كلّ جانب
تبيّن يوم البين أنّ اعتزامه *** على الصبر من بعض الظنون الكواذب
حرام على رامي فؤادي بسهمه *** دم صبّه بين الحشى و الترائب
ص: 271
أراق دما لو لا الهوى ما أراقه *** فهل(1) بدمي من ثائر أو مطالب
قال: فقلت له: ما سمعت أحسن من هذا الشعر قطّ؛ فقال لي: فاصنع فيه؛ فصنعت فيه لحنا؛ و أحضرني وصيفة له، فألقيته عليها حتى أخذته؛ و قال: إنما أردت أن أتسلّى به في طريقي و تذكّرني به الجارية أمرك إذا غنّته.
فكان كلما ذكر أتاني برّه، إلى أن قدم، عدّة دفعات. لم أجد لإسحاق صنعة في هذا الشعر، و الذي وجدت فيه لعبد اللّه بن طاهر خفيف رمل، ذكره ابنه عبيد اللّه عنه. و لمخارق لحن من الرمل. و لعمرو بن بانة هزج بالوسطى.
و لمخارق و الطاهريّة خفيف ثقيل.
حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه محمد بن/حمدون قال:
سأل المتوكّل عن إسحاق الموصليّ، فعرف أنه قد كفّ و أنه في منزله ببغداد؛ فكتب في إحضاره. فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدّام السرير، و أعطاه مخدّة، و قال له: بلغني أن المعتصم دفع إليك مخدّة في أوّل يوم جلست بين يديه و هو خليفة، و قال: إنه لا يستجلب ما عند حرّ بمثل الكرامة؛ ثم سأله: هل أكل؟ فقال نعم؛ فأمر أن يسقى؛ فلما شرب أقداحا قال: هاتوا لأبي محمد عودا فجيء به؛ فاندفع يغنّي بصوت الشعر فيه و الغناء له:
ما علّة الشيخ عيناه بأربعة(2) *** تغرورقان بدمع ثم تنسكب
- قال أبو عبد اللّه: فو اللّه ما بقي غلام من الغلمان الوقوف على الحير(3) إلا وجدته يرقص طربا و هو لا يعلم بما يفعل - فأمر له بمائة ألف درهم. ثم قال لي المتوكل: يا ابن حمدون، أ تحسن أن تغنّيني هذا الصوت؟ فقلت نعم؛ قال: غنّه؛ فترنّمت به؛ فقال إسحاق: من هذا الذي يحكيني؟ فقال: هذا ابن صديقك حمدون؛ فقال: وددت أنه يحسن أن يحكيني؛ فقلت له: أنت عرّضتني له يا أمير المؤمنين. ثم انحدر المتوكل إلى رقّة(4) بوصرا؛ و كان يستطيبها لكثرة تغريد الأطيار بها، فغنّى إسحاق:
أ أن هتفت ورقاء في رونق الضّحى *** على غصن غضّ الشباب من الرّند
بكيت كما يبكي الحزين صبابة *** و شوقا و تابعت الحنين إلى نجد
فضحك المتوكل و قال له: يا إسحاق، هذه أخت فعلتك بالواثق لمّا غنّيته بالصالحيّة(5):
ص: 272
طربت إلى الأصيبية الصّغار *** و ذكّرني الهوى قرب المزار
/فكم أعطاك لمّا أذن لك في الانصراف؟ قال: مائة ألف درهم؛ فأمر له بمائة ألف درهم، و أذن له بالانصراف إلى بغداد. و كان هذا آخر عهدنا به، لأن إسحاق توفّي بعد ذلك بشهرين.
حدّثني جحظة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
دخلت على الواثق أستأذنه في الانحدار إلى بغداد فوجدته مصطبحا؛ فقال: بحياتي غنّ:
ألا إن أهل الدار قد ودّعوا الدارا *** و إن كان أهل الدار في الحيّ أجوارا(1)
و قد تركوا قلبي حزينا متيّما *** بذكرهم، لو يستطيع لقد طارا
فتطيّرت من اقتراحه له و غنّيته إياه؛ فشرب عليه مرارا، و أمر لي بثلاثين ألف درهم و أذن لي فانصرفت؛ ثم كان آخر عهدي به. الشعر لمطيع بن إياس. و الغناء لإبراهيم الموصليّ ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو.
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا عبد اللّه بن الفرج قال حدّثنا أحمد بن معاوية قال:
كنت في بيتي و علّويه يغنّيني:
أعرضن من شمط(2) في الرأس لاح به *** فهنّ عنه إذا أبصرنه حيد
قد كنّ يعهدن منّي منظرا حسنا *** و جمّة(3) حسرت عنها العناقيد
/فوردت عليّ رقعة من إسحاق الموصليّ يستسقيني نبيذا؛ فبعثت إليه بدنّ مع غلام لي؛ فلما توسّط الغلام به الجسر زحم فكسر؛ فرجع الغلام إلى إسحاق فأخبره الخبر و سأله مسألتي(4) التجافي عنه؛ فكتب إليّ:
يا أحمد بن معاوية *** إنّي رميت بداهيه
أشكو إليك فأشكني *** كسر الغلام الخابيه
يا ليتها سلمت و كا *** ن فداءها ابن الزانيه
ص: 273
فبعثت إليه بأربعة أدنان(1)، و أعتقت الغلام بشفاعته في أمره.
أخبرني جعفر بن قدامة و محمد بن مزيد قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق الموصليّ قال قال لي حمدون بن إسماعيل رحمه اللّه:
لمّا صنع أبوك رحمه اللّه هذا الصوت:
قف بالديار التي عفا القدم *** و غيّرتها الأرواح و الدّيم
لمّا وقفنا بها نسائلها *** فاضت من القوم أعين سجم
ذكرا لعيش مضى إذا ذكرت *** ما فات منه فذكره سقم
و كلّ عيش دامت غضارته *** منقطع مرّة و منصرم
- و لحنه ثقيل أوّل - أعجب به المعتصم و الواثق جميعا؛ فقال له المعتصم: بحياتي اردده على مخارق و علّويه و الجماعة ليأخذوه عنك، و انصحهم فيه؛ فإنهم إن أحسنوا فيه نسب إليك إحسانهم، و إن أساءوا بان فضلك عليهم؛ فردّه عليهم أكثر من/مائتي مرّة، و كانوا يقصدون(2) إلى منزله و يردّه عليهم، و مات و ما أخذوا منه علم اللّه إلاّ رسمه. الشعر و الغناء لإسحاق، و لحنه ثقيل أوّل.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:
خرجنا(3) مع الرشيد يريد الرقّة؛ فلمّا صرنا بالموضع الذي يقال له القائم نزلنا، و خرج يتصيّد و خرجنا معه، فأبعد في طلب الصيد؛ و لاح لي دير فقصدته و قد تعبت، فأشرفت على صاحبه؛ فقال: هل لك في النزول بنا اليوم؟ فقلت: إي و اللّه، و إني إلى ذلك لمحتاج؛ فنزل ففتح لي الباب و جلس يحدّثني، و كان شيخا كبيرا و قد أدرك دولة بني أمية، فجعل يحدّثني عمّن نزل به من القوم و مواليهم و جيوشهم؛ و عرض عليّ الطعام فأجبته؛ فقدّم إليّ طعاما من طعام الدّيارات(4) نظيفا طيّبا، فأكلت منه، و أتاني بشراب و ريان طريّ فشربت منه، و وكّل بي جارية تخدمني راهبة لم أر أحسن وجها منها و لا أشكل؛ فشربت حتى سكرت، و نمت و انتبهت عشاء؛ فقلت في ذلك:
ص: 274
بدير(1) القائم الأقصى *** غزال شادن أحوى
برى حبّي له جسمي *** و لا يعلم ما ألقى
و أكتم حبّه جهدي *** و لا و اللّه ما يخفى
/و ركبت فلحقت بالمعسكر و الرشيد قد جلس للشرب و طلبني فلم أوجد. و أخبرت بذلك، /فغنّيت في الأبيات و دخلت إليه؛ فقال لي: أين كنت؟ ويحك! فأخبرته بالخبر و غنّيته الصوت؛ فطرب و شرب عليه حتى سكر، و أخّر الرحيل في غد، و مضينا إلى الدّير و نزله، فرأى الشيخ و استنطقه، و رأى الجارية التي كانت تخدمني بالأمس؛ فدعا بطعام خفيف فأصاب منه، و دعا بالشراب، و أمر الجارية التي كانت بالأمس تخدمني أن تتولّى خدمته و سقيه ففعلت، و شرب حتى طابت نفسه؛ ثم أمر للدّير بألف دينار، و أمر باحتمال خراجه له سبع سنين؛ فرحلنا.
قال حمّاد: فحدّثني أبي قال: فلما صرنا بتلّ عزاز من دابق(2) خرجت أنا و أصحاب لي نتنزّه في قرية من قراها، فأقمنا بها أيّاما، و طلبني الرشيد فلم يجدني. فلمّا رجعت أتيت الفضل بن الربيع؛ فقال لي: أين كنت؟ طلبك أمير المؤمنين؛ فأخبرته بنزهتنا فغضب. و خفت من الرشيد أكثر مما لقيت من الفضل؛ فقلت:
إنّ قلبي بالتّلّ تلّ عزاز *** عند ظبي من الظّباء الجوازي(3)
شادن يسكن الشآم و فيه *** مع ظرف العراق شكل(4) الحجاز
يا لقومي لبنت قسّ أصابت *** منك صفو الهوى و ليست تجازي
حلفت بالمسيح أن تنجز الوع *** د و ليست تهمّ بالإنجاز
و غنّيت فيه؛ ثم دخلت على الرشيد و هو مغضب؛ فقال: أين كنت؟ طلبتك فلم أجدك؛ فاعتذرت إليه و أنشدته هذا الشعر و غنّيته إياه؛ فتبسّم و قال: عذر و أبيك/و أيّ عذر! و ما زال يشرب عليه و يستعيدنيه ليلته جمعاء حتى انصرفنا مع طلوع الفجر. فلمّا وصلت إلى رحلي إذا برسول أمير المؤمنين قد أتانا يدعونا؛ فوافيت فدخلت، و إذا ابن جامع يتمرّغ على دكّان في الدار و هو سكران يتململ؛ فقال لي: يا ابن الموصليّ، أ تدري ما جاء بنا؟ فقلت:
لا و اللّه ما أدري؛ فقال: لكنّي و اللّه أدري دراية صحيحة، جاءت بنا نصرانيّتك الزانية، عليك و عليها لعنة اللّه. و خرج الآذن فأذن لنا، فدخلنا. فلما رأيت الرشيد تبسّمت؛ فقال لي: ما يضحكك؟ فأخبرته بقول ابن جامع؛ فقال:
صدق(5)، ما هو إلا أن فقدتكم فاشتقت إلى ما كنّا فيه، فعودوا بنا، فعدنا فيه حتى انقضى مجلسنا و انصرفنا.
ص: 275
لحن إسحاق:
بدير القائم الأقصى
خفيف ثقيل بالوسطى. و فيه للقاسم بن زرزور ثقيل أوّل. و لحنه في:
إنّ قلبي بالتّلّ تلّ عزاز
خفيف رمل.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثني حمّاد عن أبيه قال:
دخلت على الرشيد يوما في عمامة قد كوّرتها على رأسي؛ فقال: ما هذه العمامة! كأنك من الأنبار. فلمّا كان من غد دعا بنا إليه، فأمهلت حتى دخل المغنّون جميعا قبلي، ثم دخلت عليه في آخرهم، و قد شددت وسطي بمشدّة حرير أحمر، و لبست لباسا مشتهرا، و أخذت بيدي صفّاقتين و أقبلت أخطر و أضرب بالصّفّاقتين و أغنّي:
اسمع لصوت مليح *** من صعة الأنباري
صوت خفيف ظريف *** يطير في الأوتار
/فبسط يده إليّ حتى كاد يقوم، و جعل يقول: أحسنت و حياتي! أحسنت أحسنت! حتى جلست، ثم شرب عليه بقيّة يومه، و ما استعاد غيره، و أمر لي بعشرين ألف درهم. لحن إسحاق في هذا الشعر هزج.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد قال حدّثني أحمد بن يحيى المكّيّ قال:
كنت عند الفضل بن الربيع، فغنّى بعض من كان عنده:
كلّ شيء منك في عيني حسن *** و نصيبي منك همّ و حزن
لا تظنّي أنه غيّرني *** قدم العهد و لا طول الزمن
فقال لي: أ تدري لمن هذا؟ فقلت: لبعض الطّنبوريّين؛ فقال: لا و لكنه لذلك الشيطان إسحاق. لحن إسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى من مجموع أغانيه.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:
لمّا خرجنا مع الرشيد إلى طوس كنت معه أسايره، فاستسقيت ماء من منزل نزلناه يقال له سحنة(1)، فخرجت إلينا جارية كأنها ظبية، فسقتني ماء؛ فقلت هذا الشعر:
ص: 276
غزال يرتعي جنبات واد *** بسحنة قد تمكّن في فؤادي
سقاني شربة كانت شفاء *** لعلّة حائم حرّان(1) صادي
/و غنّيته الرشيد؛ فقال لي: أ تحبّ أن أزوّجكها؟ فقلت: نعم و اللّه يا سيّدي؛ قال: فاخطبها و المهر عليّ و ما يصلحها؛ فخطبتها، فأبى أهلها أن يخرجوها من بلدهم. لحن إسحاق في هذين البيتين ثقيل أوّل. و فيه لعلّويه خفيف رمل.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال:
قال لي أبي: ما اغتممت بشيء قطّ مثل ما اغتممت بصوت مليح صنعته في هذا الشعر.
كان لي قلب أعيش به *** فاكتوى بالنار فاحترقا
أنا لم أرزق محبّتها *** إنما للعبد ما رزقا
من يكن ما ذاق طعم ردى *** ذاقه لا شكّ إن عشقا
فإنّي صنعت فيه [لحنا](2) و جعلت أردّده في جناح لي سحرا؛ فأظنّ أنّ إنسانا من العامّة مرّ بي فسمعه فأخذه؛ فبكّرت من غد إلى المعتصم لأغنّيه، فإذا أنا بسوّاط يسوط(3) الناطف(4) و هو يغنّي اللحن بعينه إلا أنه غناء فاسد.
فعجبت و قلت: ترى من أين لهذا السّوّاط هذا الصوت! و لعلّي إذ غنّيته أن يكون قد مرّ بي هذا فسمعني أغنّيه؛ و بقيت متحيّرا، ثم قلت يا فتى، ممن سمعت هذا الصوت؟ فلم يجبني و التفت إلى شريكه، و قال(5): هذا يسألني ممن سمعته! هذا غنائي، و اللّه لو سمعه إسحاق الموصليّ لخرئ في سراويله؛ فبادرت و اللّه هاربا خوف أن يمرّ بي إنسان فيسمع ما جرى عليّ فأفتضح؛ و ما علم اللّه أني نطقت بذلك الصوت بعدها.
حدّثني جعفر بن قدامة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق قال:
كتب إبراهيم بن المهديّ إلى أبي: أيّ شيء تصحيف: «لا يريح مثل الأسنّة». فكتب إليه أبي: تصحيفه: «لا يرث/جميل إلا بثينة»؛ فكتب إليه: وى منك!.
ص: 277
أخبرنا جعفر قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال:
دخلت يوما على جعفر بن يحيى، فرأى شفتيّ تتحرّكان بشيء(1) كنت أعمله؛ فقال: أ تدعو أم تصنع(2) ما ذا؟ فقلت: بل أمدح؛ قال: قل؛ فقلت:
و كنت إذا إذن عليك جرى لنا *** تجلّى لنا وجه أغرّ وسيم
علانية محمودة و سريرة *** و فعل يسرّ المعتفين كريم
فاحتبسني و أمر لي بمال جليل و كسوة، و قال: زد البيتين حسنا بأن تصنع فيهما لحنا؛ فصنعت لحنا من الثقيل الثاني؛ فلم يزل يشرب عليهما حتى سكر.
أخبرنا محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه أنه حدّثه قال: غدوت يوما و أنا ضجر من ملازمة دار الخلافة و الخدمة فيها؛ فخرجت و ركبت بكرة، و عزمت على أن أطوف الصحراء و أتفرّج؛ فقلت لغلماني: إن جاء رسول الخليفة أو غيره فعرّفوه أني بكّرت في بعض مهمّاتي، و أنكم لا تعرفون أين توجّهت؛ و مضيت و طفت ما بدا لي، ثم عدت و قد حمي النهار؛ فوقفت في الشارع المعروف بالمخرّم(3) في فناء ثخين الظلّ و جناح رحب على الطريق لأستريح. فلم ألبث/أن جاء خادم يقود حمارا فارها عليه جارية راكبة، تحتها منديل دبيقيّ(4) و عليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده، و رأيت لها قواما حسنا و طرفا فاترا و شمائل حسنة؛ فخرصت(5) عليها أنها مغنّية، فدخلت الدار التي كنت واقفا عليها. ثم لم ألبث أن جاء رجلان شابّان جميلان، فاستأذنا فأذن لهما فنزلا و نزلت معهما و دخلت؛ فظنا أن صاحب الدار دعاني و ظنّ صاحب الدار أني معهما؛ فجلسنا، و أتى بالطعام فأكلنا و بالشراب فوضع، و خرجت الجارية و في يدها عود فغنّت و شربنا؛ و قمت قومة، و سأل صاحب المنزل الرجلين عنّي فأخبراه أنهما لا يعرفاني؛ فقال: هذا طفيليّ، و لكنه ظريف، فأجملوا عشرته. و جئت فجلست؛ و غنّت الجارية في لحن لي:
ذكرتك أن مرّت بنا أمّ شادن *** أمام المطايا تشرئبّ و تسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرّة *** شعاع الضحى في متنها يتوضّح(6)
فأدّته أداء صالحا و شربت. ثم غنّت أصواتا شتّى، و غنّت في أضعافها من صنعتي:
ص: 278
الطّلول الدوارس *** فارقتها الأوانس
أوحشت بعد أهلها *** فهي قفر بسابس
فكان أمرها فيه أصلح منه في الأوّل. ثم غنّت أصواتا من القديم و الحديث، و غنّت في أثنائها من صنعتي:
قل لمن صدّ عاتبا *** و نأى عنك جانبا
قد بلغت الذي أرد *** ت و إن كنت لاعبا
فكان أصلح ما غنّته؛ فاستعدته منها لأصحّحه لها؛ فأقبل عليّ رجل من الرجلين و قال: ما رأيت طفيليّا أصفق وجها منك! لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت، و هذا غاية/المثل/ «طفيليّ مقترح»؛ فأطرقت و لم أجبه؛ و جعل صاحبه يكفّه عنّي فلا يكفّ. ثم قاموا للصلاة و تأخرت قليلا، فأخذت عود الجارية، ثم شددت طبقته و أصلحته إصلاحا محكما، و عدت إلى موضعي فصلّيت، و عادوا؛ ثم أخذ ذلك الرجل في عربدته عليّ و أنا صامت؛ ثم أخذت الجارية العود فجسّته و أنكرت حاله و قالت: من مسّ عودي؟ قالوا: ما مسّه أحد! قالت: بلى! و اللّه لقد مسّه حاذق متقدّم و شدّ طبقته و أصلحه إصلاح متمكّن من صناعته؛ فقلت لها: أنا أصلحته؛ قالت: فباللّه خذه و اضرب به؛ فأخذته و ضربت به مبدأ صحيحا ظريفا عجيبا صعبا، فيه نقرات محرّكة؛ فما بقي أحد منهم إلا وثب [على قدميه](1) و جلس بين يديّ؛ ثم قالوا: باللّه يا سيّدنا أ تغنّي؟ فقلت: نعم، و أعرّفكم نفسي، أنا إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، و و اللّه إني لآتيه على الخليفة إذا طلبني(2) و أنتم تسمعونني ما أكره منذ اليوم لأني تملّحت معكم؛ فو اللّه لا نطقت بحرف و لا جلست معكم حتى تخرجوا هذا المعربد المقيت الغثّ؛ فقال له صاحبه: من هذا حذرت عليك؛ فأخذ يعتذر؛ فقلت: و اللّه لا نطقت بحرف و لا جلست معكم حتى يخرج؛ فأخذوا بيده فأخرجوه و عادوا.
فبدأت و غنّيت الأصوات التي غنّتها الجارية من صنعتي؛ فقال لي الرجل: هل لك في خصلة؟ قلت: ما هي؟ قال:
تقيم عندي شهرا، و الجارية و الحمار لك مع ما عليها من حليّ؛ قلت: أفعل، فأقمت عنده ثلاثين يوما لا يدري أحد أين أنا، و المأمون يطلبني في كلّ موضع فلا يعرف لي خبرا. فلمّا كان بعد ثلاثين يوما أسلم إليّ الجارية و الحمار و الخادم؛ فجئت بذلك إلى منزلي؛ و ركبت إلى المأمون من وقتي؛ فلمّا رآني قال: إسحاق! ويحك! أين تكون؟ فأخبرته بخبري؛ فقال: عليّ بالرجل/الساعة؛ فدللتهم على بيته فأحضر؛ فسأله المأمون عن القصة فأخبره؛ فقال له: أنت رجل ذو مروءة و سبيلك أن تعاون عليها، و أمر له بمائة ألف درهم، و قال: لا تعاشرنّ ذلك المعربد النّذل البتّة؛ و أمر لي بخمسين ألف درهم، و قال: أحضرني الجارية، فأحضرتها فغنّته؛ فقال لي: قد جعلت لها نوبة في كلّ يوم ثلاثاء تغنّيني وراء الستارة مع الجواري؛ و أمر لها بخمسين ألف درهم. فربحت و اللّه بتلك الرّكبة و أربحت.
ذكرتك أن مرّت بنا أم شادن *** أمام المطايا تشرئبّ و تسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرّة *** شعاع الضّحى في متنها يتوضّح
ص: 279
الشعر لذي الرّمّة. و الغناء لإسحاق ثقيل أوّل بالسبابة و الوسطى، عن ابن المكيّ. و من أغاني إسحاق:
قل لمن صدّ عاتبا *** و نأى عنك جانبا
قد بلغت الذي أرد *** ت و إن كنت لاعبا
الطّلول الدّوارس *** فارقتها الأوانس
أوحشت بعد أهلها *** فهي قفر بسابس
الشعر لابن ياسين، شاعر مجهول قليل الشعر، كان صديقا لإسحاق. و الغناء لإسحاق خفيف ثقيل. و هذا الصوت من أوابد إسحاق و بدائعه.
أخبرني عمّي قال حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ قال:
كنت عند الواثق؛ فغنّته «شجى» التي وهبها له إسحاق هذا الصوت؛ فقال لمخارق و علّويه: و اللّه لو عاش معبد ما شقّ غبار إسحاق في هذا الصوت؛ فقالا(1) له: إنه لحسن يا أمير المؤمنين؛ فغضب و قال: ليس عند كما فيه إلا هذا! ثم أقبل على أحمد(2) بن المكّيّ فقال: دعني من هذين الأحمقين؛ أوّل بيت في هذا الصوت أربع كلمات:
«الطلول» كلمة، و «الدوارس» كلمة، و «فارقتها» كلمة، و «الأوانس» كلمة؛ فانظر هل ترك إسحاق شيئا من الصنعة يتصرّف فيه المغنّي لم يدخله في هذه الكلمات الأربع! بدأ بها نشيدا، و تلاه بالبسيط، و جعل فيه صياحا، و إسجاحا، و ترجيحا للنّغم، و اختلاسا فيها، و عمل هذا كلّه في أربع كلمات، فهل سمعت أحدا تقدّم أو تأخر فعل مثل هذا أو قدر عليه؟! فقال: صدق أمير المؤمنين، قد لحق من قبله و سبق من بعده.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني ميمون بن هارون قال حدّثني إسحاق قال:
لمّا خرجت مع الواثق إلى النّجف درنا بالحيرة و مررنا بدياراتها؛ فرأيت دير(3) مريم بالحيرة، فأعجبني موقعه و حسن بنائه؛ فقلت:
ص: 280
/
نعم المحلّ لمن يسعى للذّته *** دير لمريم فوق الظهر معمور
ظلّ ظليل و ماء غير ذي أسن *** و قاصرات(1) كأمثال الدّمى حور
فقال الواثق: لا نصطبح و اللّه غدا إلا فيه؛ و أمر بأن يعدّ فيه ما يصلح من الليل؛ و باكرناه فاصطبحنا فيه على هذا الصوت؛ و أمر بمال ففرّق على أهل ذلك الدّير، و أمر لي بجائزة. لحن إسحاق في هذين البيتين ثاني ثقيل بالبنصر.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
أخرج إليّ عبد اللّه بن طاهر يوما بيتي شعر في رقعة و قال: هذان البيتان وجدتهما على بساط طبريّ(2)أصبهبذيّ أهدى إليّ من طبرستان، فأحبّ أن تغنّيني فيهما؛ فقرأتهما فإذا هما:
لجّ بالعين و اكف *** من هوى لا يساعف
كلّما كفّ غربها(3) *** هيجته المعازف
/قال: فغنّيت فيهما و غدوت بهما إليه، فأعجب بالصوت و وصلني بصلة سنيّة، و كان يشتهيه و يقترحه، و طرحته على جميع جواريه، و شاع خبر إعجابه [به](4). فبينا المعتصم يوما جالس يعرض عليه فرش الربيع، إذ مرّ به بساط ديباج في نهاية الحسن عليه هذان البيتان و معهما:
إنما الموت أن تفا *** رق من أنت آلف
/لك حبّان في الفؤا *** د تليد و طارف
فأمر بالبساط فحمل إلى عبد اللّه بن طاهر، و قال للرسول: قل له: إني قد عرفت شغفك بالغناء في هذا الشعر، فلما وقع هذا البساط أحببت أن أتمّ سرورك به. فشكر عبد اللّه ما تأدّى إليه من هذه الرسالة و أعظم مقداره، و قال
ص: 281
لي: و اللّه يا أبا محمد لسروري بتمام الشعر أشدّ من سروري بكل شيء، فألحقهما في الغناء بالبيتين الأوّلين، فألحقتهما.
لجّ بالعين واكف *** من هوى لا يساعف
كلّما كفّ غربها *** هيّجته المعازف
إنما الموت أن تفا *** رق من أنت آلف
لك حبّان في الفؤا *** د تليد و طارب
و لم أعرف من خبر شاعره غير ما ذكرته في هذا الخبر. و الغناء لإسحاق هزج بالوسطى.
أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن ابن المكّيّ عن أبيه قال:
قلت لإسحاق يوما: يا أبا محمد، كم تكون صنعتك؟ فقال: ما بلغت مائتين قطّ.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال:
قال لي وكيل بن الحرونيّ: قلت لأبيك إسحاق: يا أبا محمد، كم يكون غناؤك؟ قال: نحوا من أربعمائة صوت. قال: و قال له رجل بحضرتي: مالك لا تكثر الصنعة كما يكثر الناس؟ قال: لأنّي إنما أنقر في صخرة.
و لإسحاق أخبار كثيرة قليلة الفائدة كثيرة الحشو، طرحتها لذلك؛ و له أخبار أخر حسن ذكرها في مواضع تليق بها فأخّرتها و احتبستها عليها؛ و فيما ذكرته هاهنا منها مقنع.
و توفّي إسحاق(1) ببغداد في أوّل خلافة المتوكّل. فأخبرني الصّوليّ قال ذكر إبراهيم بن محمد الشّاهينيّ:
أنّ إسحاق كان يسأل اللّه ألاّ يبتليه بالقولنج(2) لما رأى من صعوبته على أبيه؛ فرأى في منامه كأنّ قائلا يقول له: قد أجيبت دعوتك و لست تموت بالقولنج، و لكنك تموت بضدّه، فأصابه ذرب(3) في شهر رمضان سنة خمس و ثلاثين و مائتين؛ فكان يتصدّق في كل يوم أمكنه أن يصومه بمائة درهم؛ ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه و مات في شهر رمضان.
ص: 282
نعي إسحاق إلى المتوكّل في وسط خلافته، فغمّه و حزن عليه، و قال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك و بهائه و زينته؛ ثم نعي إليه بعده أحمد بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه، فقال: تكافأت الحالتان، و قام الفتح بوفاة أحمد - و ما كنت آمن وثبته عليّ - مقام الفجيعة بإسحاق؛ فالحمد للّه على ذلك.
حدّثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني رجل من الكتّاب من أهل قطربّل قال حدّثني أبي عن أبيه قال:
رأيت فيما يرى النائم قائلا يقول لي:
مات الحسان ابن الحسا *** ن و مات إحسان الزمان
فأصبحت من غد فركبت في بعض حوائجي، فتلقّاني خبر وفاة إسحاق الموصليّ.
و قال/إدريس بن أبي حفصة يرثي إسحاق بن إبراهيم الموصليّ:
سقي اللّه يا ابن الموصليّ بوابل *** من الغيث قبرا أنت فيه مقيم
ذهبت فأوحشت الكرام فما يني *** بعبرته يبكي عليك كريم
إلى اللّه أشكو فقد إسحاق إنّني *** و إن كنت شيخا بالعراق يتيم
و قال محمد بن عمرو الجرجاني يرثيه:
على الحدث الشرقيّ عوجا فسلّما *** ببغداد لمّا ضنّ عنه عوائده
و قولا له لو كان للموت فدية *** فداك من الموت الطّريف و تألده
أ إسحاق لا تبعد و إن كان قد رمى *** بك الموت وردا ليس يصدر وارده
/إذا هزل اخضرّت فنون حديثه *** و رقّت حواشيه و طابت مشاهده
و إن جدّ كان القول جدّا و أقسمت *** مخارجه ألاّ تلين معاقده
فبكّ على ابن الموصليّ بعبرة *** كما ارفضّ من نظم الجمان فرائده
و قال مصعب بن عبد اللّه الزّبيريّ يرثيه - نسخت ذلك من كتاب جعفر بن قدامة، و ذكر أن حمّاد بن إسحاق أنشده إياها، و نسخته أيضا من كتاب الحرميّ بن أبي العلاء يذكر فيه عن الزّبير عن عمّه مصعب أنه أنشده لنفسه يرثي إسحاق -:
أ تدري لمن تبكي العيون الذّوارف *** و ينهلّ منها واكف ثم واكف
نعم لامرئ لم يبق في الناس مثله *** مفيد لعلم أو صديق ملاطف
تجهّز إسحاق إلى اللّه غاديا *** فللّه ما ضمّت عليه اللفائف
و ما حمل النعش المزجّى عشيّة *** إلى القبر إلا دامع العين لاهف
ص: 283
صدورهم مرضى عليه عميدة *** لها أزمة(1) من ذكره و زفازف
ترى كلّ محزون تفيض جفونه *** دموعا على الخدّين و الوجه شاسف(2)
جزيت جزاء المحسنين مضاعفا *** كما كان جدواك النّدى المتضاعف
فكم لك فينا من خلائق جزلة *** سبقت بها منها حديث و سالف
هي الشّهد أو أحلى إلينا حلاوة *** من الشهد لم يمزج به الماء غارف
ذهبت و خلّيت الصديق بعولة *** به أسف من حزنه مترادف
/إذا خطرات الذكر عاودن قلبه *** تتابع منهنّ الشئون النوازف
حبيب إلى الإخوان يرزون(3) ماله *** و آت لما يأتي امرؤ الصدق عارف
هو المنّ و السّلوى لمن يستفيده *** و سمّ على من يشرب السمّ زاعف
بكت داره من بعده و تنكّرت *** معالم من آفاقها(4) و معارف
فما الدار بالدار التي كنت أعتري *** و إنّي بها لو لا افتقاديك عارف
هي الدار إلاّ أنّها قد تخشّعت *** و أظلم منها جانب فهو كاسف
و بان الجمال و الفعال كلاهما *** من الدار و استنّت(5) عليها العواصف
/خلت داره من بعده فكأنما *** بعاقبة لم يغن في الدار طارف
و قد كان فيها للصديق معرّس(6) *** و ملتمس إن طاف بالدار طائف
كرامة إخوان الصفاء و زلفة *** لمن جاء تزجيه إليه الرّواجف
صحابته الغرّ الكرام و لم يكن *** ليصحبه السّود اللئام المقارف(7)
يؤول إليه كلّ أبلج شامخ *** ملوك و أبناء الملوك الغطارف
فلقّيت في يمنى يديك صحيفة *** إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
يسرّ الذي فيها إذا ما بدا له *** و يفترّ منها ضاحكا و هو واقف
بما كان ميمونا على كلّ صاحب *** يعين على ما نابه و يكانف
ص: 284
/
سريع إلى إخوانه برضائه *** و عن كلّ ما ساء(1) الأخلاّء صارف
أرى الناس كالنّسناس(2) لم يبق منهم *** خلافك إلا حشوة(3) و زعانف
أخبرنا يحيى بن عليّ قال: أنشدني أبو أيّوب لأحمد بن إبراهيم يرثي إسحاق في قصيدة له:
لقد طاب الحمام غداة ألوى *** بنفس أبي محمد الحمام
فلو قبل الفداء إذا فدته *** ملوك كان يألفها كرام
فلا تبعد فكلّ فتى سيثوى *** عليه التّرب يحثى و الرّجام(4)
قال و قال أيضا يرثيه:
للّه أيّ فتى إلى دار البلى *** حمل الرجال ضحى على الأعواد
كم من كريم ما تجفّ دموعه *** من حاضر يبكي عليه و باد
أمسى يؤبّنه و يعرف فضله *** من كان يثلبه من الحسّاد
فسقتك يا ابن الموصليّ روائح *** تروى صداك بصوبها و غواد
و قد بقيت من أخبار إسحاق بقايا مثل أخباره مع بني هاشم، و أخباره مع إبراهيم بن المهديّ و غيرها، فإنها كثيرة، و لها مواضع ذكرت فيها و حسن ذكرها هنالك، فأخّرتها لذلك عن أخباره التي ذكرت هاهنا، حسبما شرطنا في أوّل الكتاب.
ألا قاتل اللّه اللّوى من محلّة *** و قاتل دنيانا بها كيف ذلّت
غنينا زمانا باللّوى ثم أصبحت *** عراص اللّوى من أهلها قد تخلّت
عروضه من الطويل. الشعر للصّمّة القشيريّ، و الغناء لإسحاق، و لحنه المختار ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها.
انتهى الجزء الخامس من كتاب الأغاني و يليه الجزء السادس و أوّله أخبار الصّمّة القشيريّ و نسبه
ص: 285
ص: 286
الموضوع الصفحة
1 - ذكر النابغة الجعديّ و نسبه و أخباره 5
2 - حرب بكر و تغلب 27
3 - ذكر الهذلي و أخباره 46
4 - ذكر عبيد اللّه بن قيس الرقيات و نسبه و أخباره 51
5 - ذكر مالك بن أبي السمح و أخباره و نسبه 70
6 - خبر النهديّ في هذا الشعر 81
7 - ذكر باقي خبر الوليد بن عقبة و نسبه 84
8 - نسب إبراهيم الموصلي و أخباره 106
9 - شيء من ذكر أبي هرمة 173
10 - نسب إبراهيم الموصليّ و أخباره 175
11 - أخبار إسحاق بن إبراهيم 177
فهرس الموضوعات 287
ص: 287