الأغاني المجلد 3-4

هویة الکتاب

الأغاني

المؤلفين الآخرين

مدقق لغوي ومترجم:

مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي

المجلدات : 25ج

لسان: العربية

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374

إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري

ص: 1

المجلد 3

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة التراجم

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *

17 - ذكر قيس بن الخطيم و أخباره و نسبه

نسبه:

هو قيس بن الخطيم(1) بن عديّ بن عمرو بن سود(2) بن ظفر، و يكنى قيس أبا يزيد.

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا محمد بن موسى بن حمّاد [قال حدّثنا حماد](3) بن إسحاق عن أبيه قال:

أنشد ابن أبي عتيق قول قيس بن الخطيم:

بين شكول(4) النساء خلقتها *** حذوا(5) فلا جبلة(6) و لا قضف(7)

/فقال: لو لا أن أبا يزيد قال: حذوا ما درى الناس كيف يحشون(8) هذا الموضع.

أخذه بثأر أبيه و جدّه و استعانته في ذلك بخداش بن زهير:

و كان أبوه الخطيم قتل و هو صغير، قتله رجل من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج، فلما بلغ قتل قاتل أبيه، و نشبت لذلك حروب بين قومه و بين الخزرج و كان سببها.

فأخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال أخبرني أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل قال:

كان سبب قتل الخطيم أنّ رجلا من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج يقال له مالك اغتاله فقتله، و قيس يومئذ صغير، و كان عديّ أبو الخطيم أيضا قتل [قبله](9)، قتله رجل من عبد القيس(10)، فلما بلغ قيس بن الخطيم و عرف أخبار قومه و موضع ثأره لم يزل يلتمس غرّة من قاتل أبيه و جدّه في/المواسم حتى ظفر بقاتل أبيه بيثرب فقتله، و ظفر

ص: 5


1- سمى أبوه الخطيم لضربة كانت خطمت أنفه كما في «ديوانه» طبع ليپزج سنة 1914 ص 1.
2- في أ، م و هامش ط: «سعد». و في «خزانة الأدب» للبغدادي ج 3 ص 168: «سواد».
3- هذه الجملة في ط، أ، م، ء. و ساقطة من باقي النسخ.
4- الشكول: الضروب.
5- الحذو: التقدير، و منه حذو النعل بالنعل أي تقديرها على مثالها، يريد أنها بين ضروب النساء وسط لا هي بالسمينة و لا بالمهزولة. و في «ديوانه» و «اللسان» مادتي قضف و جبل: «قصد» و سيأتي بهذه الرواية في «الأغاني» غير مرة.
6- كذا في «ديوانه» و «اللسان» مادتي قصف و جبل و نسختي ط، ء. و الجبلة: الغليظة، من جبل كفرح فهو جبل و جبل. و في ب، س: «جثلة» و الجثلة: الضخمة.
7- القضف: دقة اللحم، و هو وصف بالمصدر.
8- كذا في ى، ط، أ. و هي محرفة في سائر النسخ.
9- زيادة في م، أ.
10- كذا في أغلب النسخ. و في ب، س، ح، «بني عبد القيس».

بقاتل جدّه بذي المجاز(1)، فلما أصابه وجده في ركب عظيم من قومه، و لم يكن معه إلا رهط من الأوس، فخرج حتى أتى حذيفة بن بدر الفزاريّ، فاستنجده فلم ينجده، فأتى خداش بن زهير فنهض معه ببنى عامر حتى أتوا قاتل عديّ، فإذا هو واقف على راحلته في السّوق، فطعنه قيس بحربة فقتله، ثم استمرّ. فأراده رهط الرجل، فحالت بنو عامر دونه؛ فقال في ذلك قيس بن الخطيم:

ثأرت عديّا و الخطيم فلم أضع *** ولاية أشياخ جعلت(2) إزاءها

ضربت بذي الزّجّين(3) ربقة(4) مالك *** فأبت بنفس قد أصبت شفاءها

و سامحني(5) فيها ابن عمرو بن عامر *** خداش فأدّى نعمة و أفاءها

طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر *** لها نفذ لو لا الشّعاع(6) أضاءها

ملكت(7) بها كفّي فأنهرت(8) فتقها *** يرى قائم من دونها ما وراءها

هذه رواية ابن الأعرابيّ عن المفضّل. و أما ابن الكلبيّ فإنه ذكر أن رجلا من قريش أخبره عن أبي عبيدة أن محمد بن عمّار بن ياسر، و كان عالما بحديث الأنصار، قال:

كان من حديث قيس بن الخطيم أن جدّه عديّ بن عمرو قتله رجل من بني عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة يقال له مالك، و قتل أباه الخطيم بن عديّ رجل من عبد القيس(9) ممن يسكن هجر؛ و كان قيس يوم قتل أبوه صبيا صغيرا، و قتل الخطيم قبل أن يثأر بأبيه عديّ؛ فخشيت أمّ قيس على ابنها أن يخرج فيطلب بثأر أبيه و جده فيهلك، فعمدت إلى كومة من تراب عند باب دارهم، فوضعت عليها أحجارا تقول لقيس: هذا قبر أبيك و جدّك، فكان قيس لا يشكّ أن/ذلك على ذلك. و نشأ أيّدا شديد الساعدين، فنازع يوما فتى من فتيان بني ظفر، فقال له ذلك الفتى: و اللّه لو جعلت شدّة ساعديك على قاتل أبيك و جدّك لكان خيرا لك من أن تخرجها عليّ؛ فقال: و من قاتل أبي و جدي؟ قال: سل أمّك تخبرك؛ فأخذ السيف و وضع قائمه على الأرض و ذبابه(10) بين ثدييه و قال لأمه:

أخبريني من قتل أبي و جدّي؟ قالت: ماتا كما يموت الناس و هذان قبراهما بالفناء؛ فقال: و اللّه لتخبرينني(11) من قتلهما أو لأتحاملنّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري؛ فقالت: أمّا جدّك فقتله رجل من بني عمرو بن عامر بن

ص: 6


1- ذو المجاز: موضع بعرفة، و كانت تقام فيه في الجاهلية سوق من أسواق العرب.
2- جعلت إزاءها: جعلت القيم عليها، يقال: هو إزاء مال أي يقوم عليه و يتعهده.
3- في «ديوانه» و ط، ء: «بذي الزرين». و الزر: حد السيف. و الزج: الحديدة في أسفل الرمح. و قد ذكرت في شرح ديوانه رواية أخرى: «بذي الخرصين» و ربما رجحها ما سيأتي بعد من حكاية قيس مع خداش و كيف كان قتله لمالك قاتل جده.
4- الربقة: العروة، يريد موضعها.
5- سامحني: تابعني و وافقني.
6- النفذ: الثقب. و الشعاع: حمزة الدم. و يروى: «الشعاع» بفتح الشين و هو انتشار الدم. يريد: لو لا الدم لأضاءها النفذ حتى تستبين.
7- ملكت: شددت و ضبطت.
8- أنهرت: أوسعت.
9- انظر الحاشية رقم 3 ص 2 من هذا الجزء.
10- ذباب السيف: طرفه الذي يضرب به.
11- كذا في الأصول: من غير توكيد و هذا الوجه يجيزه الكوفيون، و البصريون يوجبون توكيد الفعل في مثل هذا الموضع بالنون (انظر «الأشموني» ج 2 ص 437 طبع بولاق).

ربيعة يقال له مالك، و أما أبوك فقتله رجل من عبد القيس(1) ممن يسكن هجر؛ فقال: و اللّه لا أنتهي حتى أقتل قاتل أبي و جدّي؛ فقالت: يا بنيّ إن مالكا قاتل جدّك من قوم خداش بن زهير، و لأبيك عند خداش نعمة هو لها شاكر، فأته فاستشره في أمرك و استعنه يعنك؛ فخرج قيس من ساعته حتى أتى ناضحه(2) و هو يسقي نخله، فضرب الجرير(3) بالسيف فقطعه، فسقطت الدلو في البئر، و أخذ برأس الجمل فحمل عليه غرارتين من تمر، و قال: من يكفيني أمر هذه العجوز؟ (يعني أمّه) فإن متّ أنفق عليها من هذا الحائط(4) حتى تموت ثم هو له، و إن عشت فمالي عائد إليّ و له منه ما شاء أن يأكل من تمره(5)؛ فقال رجل من قومه: أنا له، فأعطاه الحائط ثم خرج يسأل عن خداش بن زهير حتى دلّ عليه بمرّ الظّهران(6)، /فصار إلى خبائه فلم يجده، فنزل تحت شجرة يكون تحتها أضيافه، ثم نادى امرأة خداش: هل من طعام؟ فأطلعت إليه فأعجبها جماله، و كان من أحسن الناس وجها؛ /فقالت: و اللّه ما عندنا من نزل(7) نرضاه لك إلا تمرا؛ فقال: لا أبالي، فأخرجي ما كان عندك؛ فأرسلت إليه بقباع(8) فيه تمر، فأخذ منه تمرة فأكل شقّها و ردّ شقّها الباقي في القباع، ثم أمر بالقباع فأدخل على امرأة خداش بن زهير، ثم ذهب لبعض حاجاته. و رجع خداش فأخبرته امرأته خبر قيس، فقال: هذا رجل متحرّم(9). و أقبل قيس راجعا و هو مع امرأته يأكل رطبا؛ فلما رأى خداش رجله و هو على بعيره قال لامرأته: هذا ضيفك؟ قالت: نعم؛ قال: كأن قدمه قدم الخطيم صديقي اليثربيّ؛ فلما دنا منه قرع طنب البيت بسنان رمحه و استأذن، فأذن له خداش فدخل إليه، فنسبه(10) فانتسب(11) و أخبره بالذي جاء له، و سأله أن يعينه و أن يشير عليه في أمره؛ فرحّب به خداش و ذكر نعمة أبيه عنده، و قال: إن هذا الأمر ما زلت أتوقّعه منك منذ حين. فأمّا قاتل جدّك فهو ابن عم لي و أنا أعينك عليه، فإذا اجتمعنا في نادينا جلست إلى جنبه و تحدّثت معه، فإذا ضربت فخذه فثب إليه فاقتله. فقال قيس: فأقبلت معه نحوه حتى قمت على رأسه لمّا جالسه خداش، فحين ضرب فخذه ضربت رأسه بسيف يقال له: ذو الخرصين، فثار إليّ القوم ليقتلوني، فحال خداش بينهم و بيني و قال: دعوه فإنه و اللّه ما قتل إلا قاتل جدّه. ثم دعا خداش بجمل من إبله فركبه، و انطلق مع قيس إلى العبدي الذي قتل أباه، حتى إذا كانا قريبا من هجر أشار عليه خداش أن ينطلق حتى يسأل عن قاتل أبيه، فإذا دلّ عليه قال له: إن لصّا من لصوص قومك عارضني فأخذ متاعا لي، فسألت من سيد قومه فدللت عليك، فانطلق معي حتى تأخذ متاعي منه؛ فإن اتّبعك وحده فستنال/ما تريد منه، و إن أخرج(12) معه غيره فاضحك، فإن سألك ممّ ضحكت فقل: إن الشريف عندنا لا يصنع كما صنعت إذا دعي إلى اللص من قومه، إنما

ص: 7


1- انظر الحاشية رقم 3 ص 2 من هذا الجزء.
2- الناضح: البعير يستقى عليه الماء.
3- الجرير: الحبل.
4- الحائط: البستان.
5- في أ، م، ء: «ثمره» بالثاء المثلثة.
6- الظهران: واد قرب مكة عنده قرية يقال لها «مر» تضاف إليه فيقال مر الظهران.
7- النزل: ما يهيأ للضيف من قرى.
8- القباع: المكيال الضخم.
9- متحرّم: له عندنا حرمة و ذمة.
10- نسبه: طلب إليه أن ينتسب.
11- في ب، س: «فانتسب إليه».
12- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «معك» و السياق يرجح الأول.

يخرج وحده بسوطه دون سيفه، فإذا رآه اللص أعطى(1) كل شيء أخذ هيبة له، فإن أمر أصحابه بالرجوع فسبيل ذلك، و إن أبى إلاّ أن يمضوا معه فأتني به، فإني أرجو أن تقتله و تقتل أصحابه. و نزل خداش تحت ظل شجرة، و خرج قيس حتى أتى العبديّ فقال له ما أمره خداش فأحفظه، فأمر أصحابه فرجعوا و مضى مع قيس؛ فلما طلع على خداش، قال له: اختر يا قيس إما أن أعينك و إما أن أكفيك؛ قال: لا أريد واحدة منهما، و لكن إن قتلني فلا يفلتنّك؛ ثم ثار إليه(2) فطعنه قيس بالحربة في خاصرته فأنفذها من الجانب الآخر فمات مكانه، فلما فرغ منه قال له خداش: إنا إن فررنا الآن طلبنا قومه، و لكن ادخل بنا مكانا قريبا من مقتله، فإن قومه لا يظنون أنك قتلته و أقمت قريبا منه(3)، و لكنهم إذا افتقدوه اقتفوا أثره، فإذا وجدوه قتيلا خرجوا في طلبنا في كل وجه، فإذا يئسوا رجعوا.

قال: فدخلا في دارات من رمال هناك، و فقد العبديّ قومه فاقتفوا أثره فوجدوه قتيلا، فخرجوا يطلبونهما في كل وجه ثم رجعوا، فكان من أمرهم ما قال خداش. و أقاما مكانهما أياما ثم خرجا، فلم يتكلما حتى أتيا منزل خداش، ففارقه عنده/قيس بن الخطيم و رجع إلى أهله. ففي ذلك يقول قيس:

تذكّر ليلى حسنها و صفاءها *** و بانت فما إن يستطيع لقاءها

و مثلك قد أصبيت ليست بكنّة(4) *** و لا جارة أفضت إليّ خباءها(5)

/إذا ما اصطبحت أربعا خطّ مئزري(6) *** و أتبعت دلوي في السّماح رشاءها(7)

ثأرت عديّا و الخطيم فلم أضع *** وصيّة(8) أشياخ جعلت إزاءها

و هي قصيدة طويلة.

استنشد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم شعره و أعجب بشجاعته:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل قال حدّثنا زكريا بن يحيى المنقريّ قال حدّثنا زياد بن بيان(9) العقيليّ قال حدّثنا أبو خولة الأنصاريّ عن أنس بن مالك قال:

جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في مجلس ليس فيه إلا خزرجيّ ثم استنشدهم قصيدة قيس بن الخطيم، يعني قوله:

أ تعرف رسما كاطّراد(10) المذاهب *** لعمرة وحشا غير موقف راكب

فأنشده بعضهم إياها، فلما بلغ إلى قوله:

ص: 8


1- كذا في أغلب النسخ. و في ب، س، ح: «أعطاه... أخذه».
2- في ط، ح، ء: «نازله».
3- في أ، م: «منهم».
4- الكنة: امرأة الابن أو الأخ.
5- في «ديوانه»: «حياءها» يريد أنه ليس بينه و بينها ستر.
6- يريد أنه إذا شرب أربعا اختال حتى جرّ ثوبه من الخيلاء.
7- يريد أنه بلغ في السماح منتهاه. يقال: أتبع الدلو رشاءها و أتبع الفرس لجامها إذا بذل آخر مجهوده.
8- رويت في صفحة 3 من هذا الجزء: «ولاية».
9- في ط، ى: «بنان» بالنون.
10- الاطراد: التتابع. و المذاهب: واحدها مذهب و هو جلد تجعل فيه خطوط مذهبة بعضها في أثر بعض.

أجالدهم يوم الحديقة(1) حاسرا *** كأن يدي بالسيف مخراق(2) لاعب

فالتفت إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «هل كان كما ذكر»؛ فشهد له ثابت بن قيس بن شمّاس و قال له: و الذي بعثك بالحق يا رسول اللّه، لقد خرج إلينا يوم سابع عرسه عليه غلالة و ملحفة مورّسة(3) فجالدنا كما ذكر. هكذا في هذه الرواية.

/و قد أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمي مصعب قال:

لم تكن بينهم في هذه الأيام حروب إلا في يوم بعاث(4) فإنه كان عظيما، و إنما كانوا يخرجون فيترامون بالحجارة و يتضاربون بالخشب.

قال الزّبير و أنشدت محمد بن فضالة قول قيس بن الخطيم:

أجالدهم يوم الحديقة حاسرا *** كأن يدي بالسيف مخراق لاعب

فضحك و قال: ما اقتتلوا يومئذ إلا بالرطائب و السّعف.

قال أبو الفرج: و هذه القصيدة التي استنشدهم إياها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من جيّد شعر قيس بن الخطيم، و مما أنشده نابغة بني ذبيان فاستحسنه و فضّله و قدّمه من أجله.

أنشد النابغة من شعره فاستجاده:

أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال قال أبو غزيّة قال حسّان بن ثابت:

قدم النابغة المدينة فدخل السّوق فنزل عن راحلته، ثم جثا على ركبتيه، ثم اعتمد على عصاه، ثم أنشأ يقول:

عرفت منازلا بعريتنات(5) *** فأعلى الجزع للحيّ المبنّ(6)

/فقلت: هلك الشيخ و رأيته قد تبع قافية منكرة. قال و يقال: إنه قالها في موضعه، فما زال ينشد حتى أتى على آخرها، ثم قال: أ لا رجل ينشد؟ فتقدّم قيس بن الخطيم فجلس بين يديه و أنشده:

أ تعرف رسما كاطّراد المذاهب

حتى فرغ منها؛ فقال: أنت أشعر الناس يا ابن أخي. قال حسان: فدخلني منه، و إنّي في ذلك لأجد القوّة في نفسي عليهما(7)، ثم تقدّمت فجلست بين يديه؛ فقال: أنشد فو اللّه إنك لشاعر قبل أن تتكلّم، قال: و كان يعرفني قبل ذلك، فأنشدته؛ فقال أنت أشعر الناس. قال الحسن(8) بن موسى: و قالت الأوس: لم يزد قيس بن/الخطيم النابغة على:

ص: 9


1- الحديقة: قرية من أعراض المدينة في طريق مكة، كانت بها وقعة بين الأوس و الخزرج قبل الإسلام (كذا في ياقوت).
2- المخراق: خرقة مفتولة يلعب بها الصبيان، و تسمى في مصر «بالطرة».
3- مورّسة: مصبوغة بالورس و هو نبات أصفر تصبغ به الثياب و يتخذ منه طلاء للوجه.
4- بعاث: موضع في نواحي المدينة، كانت به وقائع بين الأوس و الخزرج في الجاهلية
5- عريتنات: واد ذكره ياقوت في «معجمه»، و استشهد بأبيات لداود بن شكم أولها: معرّسنا ببطن عريتنات ليجمعنا و فاطمة المسير
6- المبن: المقيم.
7- كذا في أ، م. و في سائر النسخ: «عليهم».
8- كذا في ح. و في سائر النسخ: «حسين» و سيأتي قريبا «الحسن» باتفاق النسخ.

أ تعرف رسما كاطّراد المذاهب

- نصف البيت - حتى قال أنت أشعر الناس.

صفاته الجثمانية:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير قال قال سليمان بن داود المجمّعيّ:

كان قيس بن الخطيم مقرون الحاجبين أدعج(1) العينين أحمر الشفتين برّاق الثّنايا كأن بينها برقا، ما رأته حليلة رجل قطّ إلاّ ذهب عقلها.

أمر حسان الخنساء بهجوه فأبت:

أخبرني الحسن قال حدّثنا محمد قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني حسن بن موسى عن سليمان بن داود المجمّعيّ قال:

/قال حسّان بن ثابت للخنساء: أهجي قيس بن الخطيم؛ فقالت: لا أهجو أحدا أبدا حتى أراه. قال:

فجاءته يوما فوجدته في مشرقة(2) ملتفّا في كساء له، فنخسته برجلها و قالت: قم، فقام؛ فقالت: أدبر، فأدبر؛ ثم قالت: أقبل، فأقبل. قال: و اللّه لكأنها تعترض عبدا تشتريه، ثم عاد إلى حاله نائما؛ فقالت: و اللّه لا أهجو هذا أبدا.

عرض عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الإسلام فاستنظره حتى يقدم المدينة:

قال الزّبير و حدّثني عمّي مصعب قال:

كانت عند قيس بن الخطيم حوّاء بنت يزيد بن سنان بن كريز بن زعوراء(3) فأسلمت، و كانت تكتم قيس بن الخطيم إسلامها، فلما قدم قيس مكة عرض عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الإسلام، فاستنظره قيس حتى يقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المدينة؛ فسأله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن يجتنب زوجته حواء بنت يزيد، و أوصاه بها خيرا، و قال له: إنها قد أسلمت؛ ففعل قيس و حفظ وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال: «و في الأديعج».

قال أبو الفرج و أحسب هذا غلطا من مصعب، و أن صاحب هذه القصة قيس بن شمّاس، و أما قيس بن الخطيم فقتل قبل الهجرة.

قتله الخزرج بعد هدأة الحرب بينهم و بين الأوس:

أخبرني علي بن سليمان الأخفش النحويّ عن أبي سعيد السّكّريّ عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل:

/أن حرب الأوس و الخزرج لما هدأت، تذكرت الخزرج قيس بن الخطيم و نكايته فيهم، فتوامروا(4)

ص: 10


1- الدعج في العين: شدة سوادها مع سعتها.
2- كذا في ط، ء، ح. و المشرقة مثلثة الراء: موضع القعود في الشمس بالشتاء. و في سائر النسخ: «مشربة» و هي (بفتح الراء و ضمها): الغرفة التي يشرب فيها، و قيل: هي كالصفة بين يدي الغرفة.
3- كذا في أغلب النسخ. و في ب، س، ء. «زعواء» و لم نجد أنه سمي به.
4- توامروا: لغة غير فصيحة في تأمروا بمعنى تشاوروا. و في هامش ط: «فتذامروا» بالذال المعجمة و معناه تحاضّوا على القتال.

و تواعدوا قتله؛ فخرج عشيّة من منزله في ملاءتين يريد مالا له بالشّوط(1) حتى مرّ بأطم(2) بني حارثة، فرمي من الأطم بثلاثة أسهم، فوقع أحدها في صدره، فصاح صيحة سمعها رهطه، فجاءوا فحملوه إلى منزله، فلم يروا له كفؤا إلا أبا صعصعة يزيد بن عوف بن مدرك النّجّاريّ، فاندسّ إليه رجل حتى اغتاله في منزله، فضرب عنقه و اشتمل على رأسه، فأتى به قيسا و هو بآخر رمق، فألقاه بين يديه و قال: يا قيس قد أدركت بثأرك؛ فقال: عضضت بأير أبيك إن كان غير أبي صعصعة! فقال: هو أبو صعصعة، و أراه الرأس! فلم يلبث قيس بعد ذلك أن مات.

مهاجاته حسان بن ثابت:

و هذا الشعر أعني:

أجدّ بعمرة غنيانها

فيما قيل يقوله قيس في عمرة بنت رواحة، و قيل: بل قاله في عمرة: امرأة كانت لحسّان بن ثابت، و هي عمرة بنت صامت بن خالد. و كان حسّان ذكر(3) ليلى بنت الخطيم في شعره، فكافأه قيس بذلك، و كان هذا في حربهم التي يقال لها يوم الرّبيع(4).

فأخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال أخبرنا الزّبير قال حدّثني مصعب قال:

/مرّ حسّان بن ثابت بليلى بنت الخطيم - و قيس بن الخطيم أخوها بمكة حين خرجوا يطلبون الحلف في قريش - فقال لها حسان: اظعني فالحقي بالحيّ فقد ظعنوا، و ليت شعري/ما خلّفك و ما شأنك: أقلّ ناصرك أم راث رافدك(5)؟ فلم تكلّمه و شتمه نساؤها؛ فذكرها في شعره في يوم الربيع الذي يقول فيه:

لقد هاج نفسك أشجانها *** و عاودها اليوم أديانها(6)

تذكرت ليلى و أنّي بها *** إذا قطّعت منك أقرانها(7)

و حجّل(8) في الدار غربانها *** و خفّ من الدار سكّانها

و غيّرها معصرات الرّياح *** و سحّ الجنوب و تهتانها

مهاة من العين تمشي بها *** و تتبعها ثمّ غزلانها

وقفت عليها فساءلتها *** و قد ظعن الحيّ: ما شأنها

فعيّت و جاوبني دونها *** بما راع قلبي أعوانها

ص: 11


1- الشوط: بستان بالمدينة، كذا ذكره ياقوت في «معجمه» و استشهد بأبيات لقيس بن الخطيم منها: و بالشوط من يثرب أعبد ستهلك في الخمر أثمانها
2- الأطم: الحصن.
3- في ب، س، ح: «يذكر».
4- يوم الربيع: يوم من أيام الأوس و الخزرج. و الربيع موضع من نواحي المدينة.
5- كذا في أ، م. و رفده: أعانه. و في سائر النسخ: «وافدك» بالواو.
6- الأديان: جمع دين و هو الداء، يريد داء حبه القديم.
7- الأقران: جمع قرن و هو الحبل.
8- حجل بالتشديد كحجل بالتخفيف. و الحجل: أن يرفع رجلا و يقفز على الأخرى، و يكون برجلين جميعا، إلا أنه قفز و ليس بمشي.

و هي طويلة. فأجابه قيس بن الخطيم بهذه القصيدة التي أوّلها:

أجدّ بعمرة غنيانها

و فخر فيها بيوم الرّبيع و كان لهم فقال:

و نحن الفوارس يوم الرّبي *** ع قد علموا كيف فرسانها

حسان الوجوه حداد السيو *** ف يبتدر المجد شبّانها

و هي أيضا طويلة.

غنت عزة الميلاء النعمان بن بشير بشعره:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرنا الأصمعيّ قال حدّثني شيخ قدم من المدينة(1)، و أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا أبو غسّان عن أبي السائب المخزوميّ، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال ذكر لي عن جعفر بن محرز(2) السّدوسيّ، قالوا(3):

دخل النّعمان بن بشير الأنصاريّ المدينة أيام يزيد بن معاوية و ابن الزّبير، فقال: و اللّه لقد أخفقت(4)أذناي من الغناء فأسمعوني؛ فقيل له: لو وجّهت إلى عزّة فإنها من(5) قد عرفت! قال: إي و ربّ البيت، إنها(6) لمن يزيد النفس طيبا و العقل شحذا، ابعثوا إليها عن رسالتي، فإن أبت صرنا إليها؛ فقال له بعض القوم: إن النّقلة تشتدّ عليها لثقل بدنها و ما بالمدينة دابة تحملها؛ فقال النعمان: و أين النجائب عليها الهوادج! فوجّه إليها بنجيب فذكرت علّة، فلما عاد الرسول إلى النعمان قال لجليسه أنت كنت أخبر بها، قوموا بنا؛ فقام هو مع خواصّ أصحابه حتى طرقوها، فأذنت و أكرمت و اعتذرت، فقبل النعمان عذرها و قال: غنّيني، فغنته:

أجدّ بعمرة غنيانها *** فتهجر أم شأننا شأنها

فأشير إليها أنها أمّه فسكتت؛ فقال: غنّيني فو اللّه ما ذكرت إلا كرما و طيبا! لا تغنّيني سائر اليوم غيره؛ فلم تزل تغنّيه هذا اللحن فقط حتى انصرف.

و تذاكروا هذا الحديث عند الهيثم بن عديّ، فقال: أ لا أزيدكم فيه طريفة(7)! قلنا بلى يا أبا عبد الرحمن؛ قال قال لقيط: كنت عند سعيد الزّبيريّ قال سمعت عامرا الشعبيّ/يقول: اشتاق النّعمان بن بشير إلى الغناء فصار إلى منزل عزّة، فلما انصرف إذا امرأة بالباب منتظرة له، فلما خرج شكت إليه كثرة غشيان زوجها إياها؛ فقال لها النعمان بن بشير: لأقضينّ بينكما بقضية لا تردّ عليّ، قد أحلّ اللّه له/من النساء مثنى و ثلاث و رباع، فله امرأتان

ص: 12


1- في بعض النسخ: «شيخ قديم من أهل المدينة».
2- في ح، ء: «محمد».
3- في ب، س، ح: «قال».
4- يريد: أوحشت أذناي من الغناء لطول عهدها به.
5- في ب، س: «ممن».
6- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «لمن».
7- كذا في أ، ط، ء. و في سائر النسخ: «طريقة» بالقاف.

بالنهار و امرأتان بالليل. فهذا يدلّ على أن المعنيّة بهذا الشعر عمرة بنت رواحة(1).

و أما ما ذكر أنه عنى عمرة امرأة حسان بن ثابت، فأخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير بن بكّار عن عمه:

أن قيس بن الخطيم لما ذكر حسّان أخته ليلى في شعره ذكر امرأته عمرة، و هي التي يقول فيها حسان:

أزمعت عمرة صرما فابتكر

حسان بن ثابت و زوجه عمرة بنت الصامت و ما قاله فيها من الشعر بعد طلاقها:
اشارة

أخبرني الحسن قال حدّثنا أحمد قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي مصعب قال:

تزوّج حسّان بن ثابت عمرة بنت الصامت بن خالد بن عطية الأوسيّة ثم إحدى بني عمرو بن عوف، فكان كل واحد منهما معجبا بصاحبه، و إن الأوس أجاروا مخلّد بن الصامت الساعديّ فقال في ذلك أبو قيس بن الأسلت:

أجرت مخلّدا و دفعت عنه *** و عند اللّه صالح ما أتيت

فتكلم حسان في أمره بكلام أغضب عمرة، فعيّرته بأخواله و فخرت عليه بالأوس؛ فغضب لهم فطلقها، فأصابها من ذلك ندم و شدّة؛ و ندم هو بعد فقال:

صوت

أزمعت(2) عمرة صرما فابتكر *** إنما يدهن(3) للقلب الحصر(4)

لا يكن حبّك حبّا ظاهرا *** ليس هذا منك يا عمر بسرّ

سألت حسّان من أخواله *** إنما يسأل بالشيء الغمر(5)

قلت أخوالي بنو كعب إذا *** أسلم الأبطال عورات الدّبر

يريد يدهن القلب، فأدخل اللام زائدة للضرورة. عمر: ترخيم عمرة. و السر: الخالص الحسن. غنّت في هذه الأبيات عزّة الميلاء ثاني ثقيل بالبنصر من رواية حبش.

و تمام القصيدة:

ربّ خال لي لو أبصرته *** سبط المشية في اليوم الخصر(6)

عند هذا الباب إذ ساكنه *** كلّ وجه حسن النّقبة(7) حرّ

ص: 13


1- لأنها أم النعمان بن بشير (انظر «طبقات ابن سعد» طبع أوروبا ج 8 ص 262 و «الإصابة» طبع مطبعة السعادة ج 8 ص 146).
2- رواية «الديوان» و ط، ء، أ: «أجمعت».
3- يدهن: ينافق و يصانع.
4- الحصر: الضيق.
5- الغمر مثلثة: من لم يجرب الأمور و الجاهل الأبله.
6- الخصر: البارد. يريد أنه يسعى على الناس لا يقعد عنهم في اليوم البارد المجدب. و في «اللسان» مادة سبط: «سبط الكفين» و هو السمح الجواد. و في هذه القصيدة سناد التوجيه و هو تغير حركة ما قبل الرويّ المفيد (أي الساكن) بفتحة مع غيرها من ضمة أو كسرة، و هو أقبح أنواع السناد عند الخليل.
7- النقبة بالضم: اللون، و بالكسر هيئة الانتقاب.

يوقد النار إذا ما أطفئت *** يعمل القدر بأثباج الجزر(1)

/من يغرّ الدهر أو يأمنه *** من قبيل(2) بعد عمرو و حجر(3)

ملكا من جبل الثلج إلى *** جانبي أيلة(4) من عبد و حرّ

ثم كانا خير من نال النّدى *** سبقا الناس بإقساط(5) و برّ

فارسي خيل إذا ما أمسكت *** ربّة الخدر بأطراف السّتر

أتيا فارس في دارهم *** فتناهوا بعد إعصار(6) بقرّ

ثم نادوا يا لغسّان اصبروا *** إنه يوم مصاليت(7) صبر

اجعلوا معقلها أيمانكم *** بالصّفيح المصطفى غير الفطر(8)

بضراب تأذن(9) الجنّ له *** و طعان مثل أفواه الفقر(10)

و لقد يعلم من حاربنا *** أننا ننفع قدما و نضر

صبر للموت إن حلّ بنا *** صادقوا البأس غطاريف فخر

/و أقام العزّ فينا و الغنى *** فلنا فيه على الناس الكبر(11)

/منهم أصلي فمن يفخر به *** يعرف(12) الناس بفخر المفتخر

نحن أهل العزّ و المجد معا *** غير أنكاس(13) و لا ميل عسر

فاسألوا عنا و عن أفعالنا *** كلّ قوم عندهم علم الخبر

قال الزبير فحدّثني عمّي قال: ثم إن حسّان بن ثابت مرّ يوما بنسوة فيهن عمرة بعد ما طلّقها، فأعرضت عنه و قالت لامرأة منهنّ: إذا حاذاك هذا الرجل فاسأليه من هو و انسبيه و انسبي أخواله و هي متعرّضة له، فلما حاذاهنّ

ص: 14


1- أثباج الجزر: أوساطها، يقول: إذا أطفئت نيران الناس من الجدب أوقد ناره و أطعم.
2- كذا في ء، ط، و «ديوان حسان بن ثابت» المطبوع بليدن. و في سائر النسخ: «من قتيل» بالتاء.
3- عمرو هو - كما في «شرح ديوان حسان» -: عمرو بن الحارث بن عمرو بن عديّ بن حجر بن الحارث. و حجر، كما في «اللسان» مادة حجر، هو حجر بن النعمان بن الحارث بن أبي شمر، و كلاهما من ملوك غسان.
4- في «شرح ديوان حسان»: جبل الثلج بدمشق، و أيلة ما بين الحجاز و الشام.
5- الإقساط: العدل.
6- الإعصار: الزوبعة. و في «ديوانه»: «إعصام» و فسره بالاستمساك، و القر: الاستقرار. و في م، ء، ط: «بعد ما صابت بقر». و صابت من الصوب و هو النزول. أي نزل الأمر في قراره فلا يستطاع له تحويل. و هو مثل يضرب للشدّة إذا نزلت بقوم.
7- المصاليت: جمع مصلات و هو الشجاع.
8- الفطر: جمع فطير، و الفطير من السيوف: المتشلم.
9- تأذن: تستمع.
10- الفقر: جمع فقير و هو مخرج الماء من فم القناة.
11- الكبر بضم فسكون أو كسر فسكون: الشرف، و قد حركت الباء هنا لضرورة الشعر، إذ للشاعر أن يحرك الساكن فيما قبل القافية بحركة ما قبله.
12- يعرف: يقر و يعترف.
13- النكس: الضعيف الدنيء: و الميل: جمع أميل و هو الذي به ميل خلقة، و عسر جمع أعسر و هو الذي يعمل بشماله.

سألته من هو و نسبته فانتسب لها، فقالت: فمن أخوالك؟ فأخبرها، فبصقت عن شمالها و أعرضت عنه؛ فحدّد النظر إليها و عجب من فعلها و جعل ينظر إليها، فبصر بامرأته و هي تضحك فعرفها و علم أن الأمر من قبلها أتى، فقال في ذلك:

قالت له يوما تخاطبه *** ريّا الروادف(1) غادة الصّلب

أما المروءة و الوسامة أو *** حشم(2) الرجال فقد بدا، حسبي

فوددت أنك لو تخبّرنا *** من والدك و منصب(3) الشّعب(4)

فضحكت ثم رفعت متّصلا(5) *** صوتي كرفع(6) المنطق الشّغب

/جدّي أبو ليلى و والده *** عمرو و أخوالي بنو كعب

و أنا من القوم الذين إذا *** أزم(7) الشتاء بحلقة الجدب

أعطى ذوو الأموال معسرهم *** و الضاربين بموطن الرّعب

قال مصعب: و أبو ليلى الذي عناه حسّان: حرام بن عمرو بن زيد مناة.

و مما فيه صنعة من المائة المختارة من شعر قيس بن الخطيم:

صوت

حوراء ممكورة(8) منعّمة *** كأنما شفّ وجهها نزف(9)

تنام عن كبر شأنها فإذا *** قامت رويدا تكاد تنقصف

أوحش من بعد خلّة سرف *** فالمنحنى فالعقيق فالجرف(10)

الشعر لقيس بن الخطيم سوى البيت الثالث. و الغناء لقفا النّجّار، و لحنه المختار ثاني ثقيل، هكذا ذكر

ص: 15


1- في «ديوانه»: نفج الحقيبة، و الحقيبة: الردف.
2- كذا في أغلب النسخ، و الحشم كما في «اللسان»: الاستحياء. و قد كتب مصححه عليه أنه هكذا بدون ضبط و ذكر أنه مضبوط بالتحريك في نسخة غير موثوق بها من «التهذيب». و في ط، ح، ء: «جسم الرجال». و في «ديوانه»: «رأي الرجال».
3- المنصب: الأصل و المحتد.
4- قال صاحب «الكشاف»: الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب و هي الشعب و القبيلة و العمارة و البطن و الفخذ و الفصيلة، فالشعب يجمع القبائل، و القبيلة تجمع العمائر، و العمارة تجمع البطون، و البطن يجمع الأفخاذ، و الفخذ تجمع الفصائل.
5- متصلا: منتسبا، من قولهم: اتصل إلى بني فلان: انتمى و انتسب.
6- كذا في هامش ط. و في «ديوانه»، ح: «أوان المنطق الشغب». و في سائر النسخ: «و رفع المنطق الشغب».
7- أزم: اشتدّ.
8- الممكورة: المدمجة الخلق.
9- النزف بضم فسكون و حرك هنا للضرورة: خروج الدم. و في «شرح ديوان قيس بن الخطيم»: «قال العدوي: أراد أن في لونها مع البياض صفرة، و ذلك أحسن».
10- سرف: موضع على ستة أميال من مكة، و هو مصروف و بعضهم يمنع صرفه على أنه اسم للبقعة. و المنحنى و العقيق و الجرف: أسماء مواضع.

يحيى بن عليّ في الاختيار الواثقيّ. و هو في كتاب إسحاق لقفا النجّار ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، و لعلّه غير هذا اللحن المختار.

الحرب بين مالك بن العجلان و بني عمر بن عوف و سبب ذلك:
اشارة

و هذا الشعر يقوله قيس بن الخطيم في حرب كانت بينهم و بين بني جحجبى و بني خطمة، و لم يشهدها قيس و لا كانت في عصره، و إنما أجاب عن ذكرها شاعرا منهم يقال له: درهم بن يزيد. قال أبو المنهال عتيبة(1) بن المنهال: بعث رجل من غطفان من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان إلى يثرب بفرس و حلّة مع رجل من غطفان و قال:

ادفعهما إلى أعز أهل يثرب - قال و قيل: إن الباعث بهما عبد ياليل(2) بن عمرو الثّقفيّ. قال و قيل: بل الباعث بهما علقمة بن علاثة - فجاء الرسول بهما حتى/ورد سوق بني قينقاع فقال ما أمر به، فوثب إليه رجل من غطفان كان جارا لمالك بن العجلان الخزرجيّ يقال له كعب الثّعلبيّ، فقال: مالك بن العجلان أعزّ أهل يثرب؛ و قام رجل آخر فقال: بل أحيحة بن الجلاح أعزّ أهل يثرب، و كثر الكلام؛ فقبل الرسول الغطفانيّ قول الثعلبيّ الذي كان جارا لمالك بن العجلان و دفعهما إلى مالك؛ فقال كعب الثعلبيّ: أ لم أقل لكم: إن حليفي أعزّكم و أفضلكم! فغضب رجل من بني عمرو بن عوف يقال له سمير فرصد الثعلبيّ حتى قتله، فأخبر مالك بذلك، فأرسل إلى بني عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس: إنكم قتلتم منّا قتيلا فأرسلوا إلينا بقاتله؛ فلما جاءهم رسول مالك تراموا به: فقالت بنو زيد: إنما قتلته بنو جحجبى، و قالت بنو جحجبى: إنما قتلته بنو زيد؛ ثم أرسلوا إلى مالك: إنه قد كان في السوق التي قتل فيها صاحبكم ناس كثير، و لا يدرى أيّهم قتله؛ و أمر مالك أهل تلك السوق أن يتفرّقوا، فلم يبق فيها غير سمير و كعب، فأرسل مالك إلى بني عمرو بن عوف بالذي بلغه من ذلك و قال: إنما قتله سمير، فأرسلوا به إليّ أقتله؛ فأرسلوا إليه: إنه ليس لك أن تقتل سميرا بغير بيّنة؛ و كثرت الرسل بينهم في ذلك: يسألهم مالك أن يعطوه سميرا و يأبون أن يعطوه إياه. ثم إن بني عمرو بن عوف كرهوا أن ينشبوا بينهم و بين مالك حربا، فأرسلوا إليه يعرضون عليه الدّية فقبلها؛ فأرسلوا إليه: إن صاحبكم حليف و ليس لكم فيه إلا نصف الدية، فغضب مالك و أبى أن يأخذ فيه إلا الدية كاملة أو يقتل سميرا؛ فأبت بنو عمرو بن عوف أن يعطوه إلاّ دية الحليف و هي نصف الدية، ثم دعوه أن يحكم بينهم/و بينه عمرو بن امرئ القيس أحد بني الحارث بن الخزرج و هو جدّ عبد اللّه بن رواحة ففعل؛ فانطلقوا حتى جاءوه في بني الحارث بن الخزرج، فقضى على مالك بن العجلان أنه ليس له في حليفه إلاّ دية الحليف، و أبى مالك أن يرضى بذلك و آذن بني عمرو بن عوف بالحرب، و استنصر قبائل الخزرج، فأبت بنو الحارث بن الخزرج أن تنصره غضبا حين ردّ قضاء عمرو بن امرئ القيس؛ فقال مالك بن العجلان يذكر خذلان بني الحارث بن الخزرج له و حدب بني عمرو بن عوف على سمير، و يحرّض بني النجّار على نصرته:

إن سميرا أرى عشيرته *** قد حدبوا دونه و قد أنفوا

إن يكن الظنّ صادقا ببني النّ *** جّار لا يطعموا الذي علفوا

لا يسلمونا لمعشر أبدا *** ما دام منّا ببطنها شرف(3)

ص: 16


1- كذا في ب، س، ط. و في أ، م: «عيينة». و في ء: «عتبة».
2- عبد ياليل: رجل كان في الجاهلية، و ياليل: صنم أضيف إليه كعبد يغوث و عبد مناة و عبد ودّ و غيرها.
3- الشرف: الشريف، يقال هو شرف قومه و كرمهم أي شريفهم و كريمهم.

لكن مواليّ قد بدا لهم *** رأي سوى ما لديّ أو ضعفوا

[يقال: علفوا الضيم إذا أقرّوا به، أي ظنّي أنهم لا يقبلون الضيم](1).

صوت

بين بني جحجبى و بين بني *** زيد فأنّى لجاري التّلف(2)

يمشون في البيض و الدروع كما *** تمشي جمال مصاعب قطف(3)

كما تمشّى الأسود في رهج(4) ال *** موت إليه و كلّهم لهف

/غنّى في هذه الأبيات معبد خفيف ثقيل عن إسحاق، و ذكر الهشاميّ أن فيه لحنا من/الثقيل الأوّل للغريض:

و قال درهم بن يزيد(5) بن ضبيعة أخو سمير في ذلك:

يا قوم لا تقتلوا سميرا فإ *** نّ القتل فيه البوار و الأسف

إن تقتلوه ترنّ(6) نسوتكم *** على كريم و يفزع السّلف

إني لعمر الذي يحجّ له الن *** اس و من دون بيته سرف

يمين برّ باللّه مجتهد *** يحلف إن كان ينفع الحلف

لا نرفع العبد فوق سنّته *** ما دام منّا ببطنها شرف

إنك لاق غدا غواة بني *** عمّي فانظر ما أنت مزدهف(7)

فأبد سيماك يعرفوك كما *** يبدون سيماهم فتعترف

معنى قوله «فأبد سيماك»: أن مالك بن العجلان كان إذا شهد الحرب يغيّر لباسه و يتنكّر لئلا يعرف فيقصد.

و قال درهم بن يزيد في ذلك:

يا مال لا تبغين ظلامتنا *** يا مال إنّا معاشر أنف

يا مال و الحقّ إن قنعت به *** فيه و فينا لأمرنا نصف

إنّ بجيرا عبد فخذ ثمنا *** فالحقّ يوفى به و يعترف

ثم اعلمن إن أردت ضيم بني *** زيد فإنّي و من له الحلف

ص: 17


1- هذه الزيادة في أ، م، ط: و ساقطة من باقي النسخ.
2- كذا في أ. و في م، ط، و هامش أ: «فأنى لجارك التلف». و في سائر النسخ: «فأنى تخاذل السلف».
3- البيض: جمع بيضة و هي ما يلبس على الرأس من حديد كالخودة للوقاية في الحرب، و المصاعب: جمع مصعب و هو الفحل الذي لم يركب و لم يمسه حبل حتى صار صعبا. و القطف: السريعة الخطو.
4- الرهج: الغبار.
5- كذا تقدّم هذا الاسم في ص 18 من هذا الجزء و سيذكر أخوه سمير باسم سمير بن يزيد في ص 40 من هذا الجزء. و في ء و هامش ط: «دلهم بن يزيد». و في باقي النسخ: «درهم بن زيد».
6- ترن نسوتكم: يرفعن أصواتهن بالبكاء.
7- مزدهف: مقتحم، أي انظر ما أنت مقتحمه و مقدم عليه من الشر.

/

لأصبحن داركم بذي لجب *** جون له من أمامه عزف(1)

البيض حصن لهم إذا فزعوا *** و سابغات كأنها النّطف(2)

و البيض قد ثلّمت مضاربها *** بها نفوس الكماة تختطف

كأنها في الأكفّ إذ لمعت *** وميض برق يبدو و ينكسف(3)

و قال قيس بن الخطيم الظّفريّ أحد بني النّبيت في ذلك، و لم يدركه و إنما قاله بعد هذه الحرب بزمان، و من هذه القصيدة الصوت المذكور:

ردّ الخليط الجمال فانصرفوا *** ما ذا عليهم لو أنهم وقفوا

لو وقفوا ساعة نسائلهم *** ريث يضحّي جماله السّلف(4)

فيهم لعوب العشاء آنسة ال *** دّل عروب يسوؤها الخلف(5)

بين شكول النساء خلقتها *** قصد فلا جبلة و لا قضف

تنام عن كبر شأنها فإذا *** قامت رويدا تكاد تنغرف(6)

تغترق الطرف(7) و هي لاهية *** كأنما شفّ وجهها نزف

/حوراء(8) جيداء يستضاء بها *** كأنها خوط بانة قصف(9)

قضى لها اللّه حين صوّرها ال *** خالق أن لا يكنّها سدف(10)

خود يغثّ الحديث ما صمتت(11) *** و هو بفيها ذو لذة طرف(12)

تخزنه و هو مشتهى حسن *** و هو إذا ما تكلمت أنف(13)

ص: 18


1- كذا في ب، س، ح. و العزف: الصوت و حرك للضرورة. و في سائر النسخ: «عرف» بالراء المهملة.
2- النطف: (بالتحريك أو بضم الأول و فتح الثاني): جمع نطفة (بالتحريك أو الضم) و هي اللؤلؤة الصافية اللون أو قطرة الماء. و كلتاهما تشبه بها الدروع لصفائها.
3- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «و ينكشف».
4- الريث: مقدار المهلة من الزمان. و يضحي من الضحاء و هو أن يرعى الإبل ضحى، و السلف: القوم الذين يتقدّمون الظعن ينفضون الطرق.
5- لعوب العشاء: تسمر مع السمار و تلهو. و العروب: الحسناء المتحببة إلى زوجها، و قيل: الضحاكة.
6- تنغرف: تنقصف من دقة خصرها، و في رواية مرت في ص 18 «تنقصف».
7- يريد: من نظر إليها استغرقت طرفه و بصره و شغلته عن النظر إلى غيرها و هي لاهية غير محتفلة.
8- الحوراء: ذات الحور، و هو سعة العين، أو شدّة سواد الحدقة مع شدّة بياضها. و الجيداء: الطويلة الجيد، و الخوط: الغصن.
9- كذا في أغلب النسخ. و معناه الخوار الناعم المتثنى. و في ب، س، ح: «قضف» بالضاد المعجمة.
10- كذا في أغلب النسخ، و السدف: الظلمة، و المراد أنها مضيئة لا تسترها ظلمة. و في ء: «شدف» و هي بمعنى السدف. و في ب، س: «صدف».
11- هذه رواية أبي عمرو كما في «شرح ديوانه». و رواية «ديوانه»: و لا يغث الحديث ما نطقت و الخود: الشابة الناعمة ما لم تصر نصفا.
12- الطرف: المستطرف المحبوب.
13- الأنف: المستأنف الجديد.

و هي طويلة يقول فيها:

/

أبلغ بني جحجبى و إخوتهم *** زيدا بأنّا وراءهم أنف(1)

إنا و إن قلّ نصرنا لهم *** أكبادنا من ورائهم تجف

لمّا بدت نحونا جباههم *** حنّت إلينا الأرحام و الصّحف(2)

نفلي بحدّ الصّفيح هامهم *** و فلينا هامهم بها جنف(3)

يتبع آثارها إذا اختلجت *** سخن عبيط عروقه تكف(4)

إنّ بني عمّنا طغوا و بغوا *** و لجّ منهم في قومهم سرف

/فردّ عليه حسّان بن ثابت و لم يدرك ذلك:

ما بال عينيك دمعها يكف(5) *** من ذكر خود شطّت بها قذف(6)

بانت بها غربة تؤمّ بها *** أرضا سوانا و الشكل مختلف

ما كنت أدري بوشك بينهم *** حتى رأيت الحدوج تنقذف

دع ذا و عدّ القريض في نفر *** يرجون مدحي و مدحي الشرف

إن تدع قومي للمجد تلفهم *** أهل فعال يبدو إذا وصفوا

إن سميرا عبد طغى سفها *** ساعده أعبد لهم نطف(7)

قال: ثم أرسل مالك بن العجلان إلى بني عمرو بن عوف يؤذنهم بالحرب، و يعدهم يوما يلتقون فيه، و أمر قومه فتهيّئوا للحرب، و تحاشد(8) الحيّان و جمع بعضهم لبعض. و كانت يهود قد حالفت قبائل الأوس و الخزرج، إلاّ بني قريظة و بني النّضير فإنهم لم يحالفوا أحدا منهم، حتى كان هذا الجمع، فأرسلت إليهم الأوس و الخزرج، كلّ يدعوهم إلى نفسه، فأجابوا الأوس و حالفوهم، و التي حالفت قريظة و النّضير من الأوس أوس اللّه و هي خطمة و واقف و أميّة و وائل، فهذه قبائل أوس اللّه. ثم زحف مالك بمن معه من الخزرج، و زحفت الأوس بمن معها من

ص: 19


1- أنف: ذوو أنفة ندفع الضيم عنهم و ننصرهم. و رواية «الديوان»: أبلغ بني جحجبى و قومهم خطمة أنا وراءهم أنف
2- الصحف: العهود.
3- يقال: فلاه بالسيف إذا علاه. و الصفيح: جمع صفيحة و هي السيف العريض. و الجنف: انحراف و ميل عما توجبه القربى و الرحم. و في ح و هامش ط «و الديوان»: «عنف» بدل «جنف» و قال في «شرحه»: «يريد أن قتلنا إياهم عنف منا لأنهم قومنا و بنو عمنا».
4- اختلجت: انتزعت. و سخن عبيط: دم طري ساخن.
5- في «ديوانه»: ما بال عيني دموعها تكف
6- قذف: بعيدة، يقال: نوى قذف و نية قذف: أي بعيدة تقذف بمنتويها.
7- النطف بالتحريك: القرط، و غلام منطف و وصيفة منطفة بتشديد الطاء و فتحها أي مقرطة، قال الأعشى: يسعى بها ذو زجاجات له نطف مقلص أسفل السربال معتمل
8- في أ، م، ء، ط: «و تحاشد الحيان بعضهم لبعض».

حلفائها من قريظة و النضير، فالتقوا بفضاء كان بين بئر سالم(1) و قباء، و كان أوّل يوم التقوا فيه، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انصرفوا و هم منتصفون جميعا، ثم التقوا مرة أخرى عند/أطم بني قينقاع، فاقتتلوا حتى حجز الليل بينهم، و كان الظّفر يومئذ للأوس على الخزرج، فقال أبو قيس بن الأسلت في ذلك:

لقد رأيت بني عمرو فما وهنوا *** عند اللقاء و ما همّوا(2) بتكذيب

ألا فدى لهم أمّي و ما ولدت *** غداة يمشون إرقال المصاعيب

بكلّ سلهبة(3) كالأيم ماضية *** و كلّ أبيض ماضي الحدّ مخشوب

- أصل المخشوب: الحديث الطبع، ثم صار كل مصقول مخشوبا؛ فشبهها بالحية في انسلالها - قال: فلبث الأوس و الخزرج متحاربين عشرين سنة في أمر سمير يتعاودون القتال في تلك السنين، و كانت لهم فيها أيام و مواطن لم تحفظ، فلما رأت الأوس طول الشرّ و أن مالكا لا ينزع(4)، قال لهم سويد بن صامت الأوسيّ - و كان يقال له الكامل في الجاهلية، و كان الرجل عند العرب(5) إذا كان شاعرا شجاعا كاتبا سابحا راميا سمّوه الكامل، و كان /سويد أحد الكملة -: يا قوم، أرضوا هذا الرجل من حليفه، و لا تقيموا على حرب إخوتكم فيقتل بعضكم بعضا و يطمع فيكم غيركم، و إن حملتم على أنفسكم بعض الحمل. فأرسلت الأوس إلى مالك بن العجلان يدعونه إلى أن يحكم بينه و بينهم ثابت بن المنذر بن حرام أبو حسّان بن ثابت، فأجابهم إلى ذلك، فخرجوا حتى أتوا ثابت بن المنذر، و هو في البئر التي يقال لها سميحة(6)، فقالوا: إنا قد حكّمناك بيننا؛ فقال: لا حاجة لي في ذلك؛ قالوا:

و لم؟ قال: أخاف أن تردّوا حكمي/كما رددتم حكم عمرو بن امرئ القيس؛ قالوا: فإنا لا نردّ حكمك فاحكم بيننا؛ قال: لا أحكم بينكم حتى تعطوني موثقا و عهدا لترضون بحكمي و ما قضيت به و لتسلمنّ له؛ فأعطوه على ذلك عهودهم و مواثيقهم، فحكم بأن يودى حليف مالك دية الصريح ثم تكون السنّة فيهم بعده على ما كانت عليه:

الصريح(7) على ديته و الحليف على ديته، و أن تعدّ القتلى الذين أصاب بعضهم من بعض في حربهم [ثم يكون بعض ببعض](8) ثم يعطوا الدية لمن كان له فضل في القتلى من الفريقين، فرضي بذلك مالك و سلّمت الأوس و تفرّقوا على أنّ على بني النّجّار نصف دية جار مالك معونة لإخوتهم، و على بني عمرو بن عوف نصفها؛ فرأت بنو عمرو بن عوف أنهم لم يخرجوا إلا الذي كان عليهم، و رأى مالك أنه قد أدرك ما كان يطلب، و ودي جاره دية الصريح.

و يقال: بل الحاكم المنذر أبو ثابت.

ص: 20


1- في أكثر النسخ «بني سالم» و لعلها محرفة عن بئر سالم التي أثبتناها في الأصل و في ط، ء: «سالم».
2- في أ، م: «و لا هموا».
3- السلهبة من الخيل: الطويلة على وجه الأرض.
4- ينزع: يكف و ينتهي.
5- كذا في أ، م، ط. و في سائر النسخ: «و كان الرجل في الجاهلية».
6- هي بئر بالمدينة و قيل بناحية قديد، قال السكري: يروي سميحة (بالتصغير) و سميحة (بفتح السين و كسر الميم) و مسيحة.
7- كذا في أغلب الأصول. و في ب، س، ح: «في الصريح...» بزيادة «في».
8- هذه الجملة ساقطة من ب، س، ح.

18 - ذكر طويس و أخباره

اشارة

18 - ذكر طويس و أخباره(1)

اسمه و كنيته:

طويس لقب غلب عليه، و اسمه عيسى بن عبد اللّه، و كنيته أبو عبد المنعم و غيّرها المخنّثون فجعلوها أبا عبد النّعيم، و هو مولى بني مخزوم. و قد حدّثني جحظة عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الواقديّ عن ابن أبي الزّناد: قال سعد بن أبي وقّاص: كني طويس أبا عبد المنعم.

أوّل من غنى بالعربية في المدينة و ألقى الخنث بها:

أخبرنا الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن المسيّبي(2) و محمد بن سلاّم الجمحيّ، و عن الواقديّ عن ابن أبي الزّناد؛ و عن المدائني عن زيد بن أسلم عن أبيه، و عن ابن الكلبيّ عن أبيه و عن أبي مسكين.

قالوا: أوّل من غنّى بالعربيّ بالمدينة طويس، و هو أوّل من ألقى الخنث بها، و كان طويلا أحول يكنى أبا عبد المنعم، مولى بني مخزوم، و كان لا يضرب بالعود. إنما كان ينقر بالدفّ، و كان ظريفا عالما بأمر المدينة و أنساب أهلها، و كان يتّقى للسانه.

شؤمه:
اشارة

قالوا(3): و سئل عن مولده فذكر أنه ولد يوم قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و فطم يوم مات أبو بكر، و ختن يوم قتل عمر، و زوّج يوم قتل عثمان، و ولد له يوم قتل عليّ رضوان اللّه عليهم أجمعين. قال و قيل: إنه ولد له يوم مات الحسن بن عليّ/عليهما السلام. قال: و كانت أمي تمشي بين نساء الأنصار بالنّميمة. قالوا: و أوّل غناء غنّاه و هزج به(4):

صوت

كيف يأتي من بعيد *** و هو يخفيه القريب

نازح بالشأم عنّا *** و هو مكسال هيوب

قد براني الحبّ حتى *** كدت من وجدي أذوب

ص: 21


1- تكررت ترجمة طويس في كتاب «الأغاني»، فقد ترجم له المؤلف هنا و أعاد ترجمته في الجزء الرابع. و لم نشأ أن نضم الترجمتين في باب واحد لأنا وجدنا النسخ المخطوطة في دار الكتب كالنسخ المطبوعة. و يغلب على ظننا أن ذلك من صنع أبي الفرج نفسه، و لعل ذلك راجع إلى أنه سها عن هذه الترجمة فترجم له الترجمة الثانية. و واجب الأمانة في النقل و في مراعاة ترتيب الكتاب أن نترك الترجمتين كما هما كل على حدة كما وضعهما مؤلفهما أو كما وردا كذلك في نسخ «الأغاني».
2- كذا في أ، م و هو محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن المخزومي المسيبي المدني نزيل بغداد توفي سنة 236 ه و كان معاصرا لإسحاق الموصلي الذي توفي سنة 235 ه. و في سائر النسخ: «الشعبي» و هو تحريف لأنه توفي سنة 103 ه.
3- في أكثر النسخ «قال». و في ب، س، ح: «قالوا».
4- في أ، م، ء، ط: «و هزج هزجه».

/الغناء لطويس هزج بالبنصر.

قال إسحاق: أخبرني الهيثم بن عديّ قال قال صالح بن حسّان الأنصاريّ أنبأني أبي قال:

اجتمع يوما جماعة بالمدينة يتذاكرون أمر المدينة إلى أن ذكروا طويسا، فقالوا: كان و كان؛ فقال رجل منا:

أما لو شاهدتموه لرأيتم ما تسرّون به علما و ظرفا و حسن غناء و جودة نقر بالدفّ، و يضحك كلّ ثكلى حرّى؛ فقال بعض القوم: و اللّه إنه على ذلك كان مشئوما؛ و ذكر خبر ميلاده كما قال الواقدي، إلا أنه قال: ولد يوم مات نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم، و فطم يوم مات صدّيقنا، و ختن يوم قتل فاروقنا، و زوّج يوم قتل نورنا، و ولد له يوم قتل أخو نبينا(1)؛ و كان مع هذا مخنّثا يكيدنا و يطلب عثراتنا؛ و كان مفرطا في طوله مضطربا في خلقه أحول. فقال رجل من جلّة أهل المجلس: لئن كان كما قلت لقد كان ممتعا فهما يحسن رعاية من حفظ له حقّ المجالسة، و رعاية حرمة الخدمة، و كان لا يحمل قول من لا يرعى له بعض ما يرعاه له.

كان يحب قريشا و يحبونه:

و لقد كان معظّما لمواليه بني مخزوم و من والاهم من سائر قريش، و مسالما لمن عاداهم دون التّحكيك به؛ و ما يلام من قال بعلم و تكلّم على فهم، و الظالم/الملوم، و البادئ أظلم. فقال رجل آخر: لئن كان ما قلت لقد رأيت قريشا يكتنفونه و يحدقون به و يحبّون مجالسته و ينصتون إلى حديثه و يتمنّون غناءه، و ما وضعه شيء إلا خنثه، و لو لا ذلك ما بقي رجل من قريش و الأنصار و غيرهم إلا أدناه.

أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلاني قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم قال حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني إسماعيل بن جامع عن سياط قال:

كان أوّل من تغنّى بالمدينة غناء يدخل في الإيقاع(2) طويس، و كان مولده يوم مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و فطامه في اليوم الذي توفّي فيه أبو بكر، و ختانه في اليوم الذي قتل فيه عمر، و بناؤه بأهله في اليوم الذي قتل فيه عثمان، و ولد له يوم قتل عليّ رضوان اللّه عليهم أجمعين، و ولد و هو ذاهب العين اليمنى.

كان يلقب بالذائب و سبب ذلك:

و كان يلقّب بالذائب، و إنما لقّب بذلك لأنه غنى:

قد براني الحبّ حتى *** كدت من وجدي أذوب

أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه قال أخبرني ابن الكلبيّ عن أبي مسكين قال:

مروان بن الحكم و النغاشي المخنث:

كان بالمدينة مخنّث يقال له النّغاشيّ، فقيل لمروان بن الحكم: إنه لا يقرأ من كتاب اللّه شيئا، فبعث إليه يومئذ، و هو على المدينة، فاستقرأه أمّ الكتاب؛ فقال: و اللّه ما معي بناتها، أو ما أقرأ البنات فكيف أقرأ أمّهنّ!

ص: 22


1- كان أبو بكر يلقب بالصديق، و عمر بالفاروق، و عثمان بذي النورين، و يشير بقوله: «أخو نبينا» إلى عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنهم.
2- الإيقاع: بناء ألحان الغناء على موقعها و ميزانها.

فقال: أ تهزأ لا أمّ لك! فأمر به فقتل في موضع يقال له بطحان(1)، و قال: من جاءني فمخنّث فله عشرة دنانير.

طلبه مروان في المخنثين ففر منه حتى مات:

فأتي طويس و هو في بني الحارث بن الخزرج من المدينة، و هو يغنّي بشعر حسّان بن ثابت:

/

لقد هاج نفسك أشجانها *** و عاودها اليوم أديانها

تذكّرت هندا و ما ذكرها *** و قد قطّعت منك أقرانها

وقفت عليها فساءلتها *** و قد ظعن الحيّ ما شأنها

فصدّت و جاوب من دونها *** بما أوجع القلب أعوانها

/فأخبر بمقالة مروان فيهم؛ فقال: أ ما فضّلني الأمير عليهم بفضل حتى جعل فيّ و فيهم أمرا واحدا! ثم خرج حتى نزل السّويداء - على ليلتين من المدينة في طريق الشام - فلم يزل بها عمره، و عمّر حتى مات في ولاية الوليد بن عبد الملك.

هيت المخنث و بادية بنت غيلان:

قال إسحاق و أخبرني ابن الكلبيّ قال أخبرني خالد بن سعيد عن أبيه و عوانة قالا:

قال هيت(2) المخنّث لعبد اللّه بن أبي أميّة: إن فتح اللّه عليكم الطائف فسل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بادية بنت غيلان بن سلمة بن معتّب، فإنها هيفاء شموع(3) نجلاء، إن تكلّمت تغنّت، و إن قامت تثنّت، تقبل بأربع و تدبر بثمان(4)، مع ثغر كأنه الأقحوان، و بين رجليها كالإناء المكفوء(5)، كما قال قيس بن الخطيم:

تغترق الطرف و هي لاهية *** كأنما شفّ وجهها نزف

بين شكول النساء خلقتها *** قصد فلا جبلة و لا قضف

/فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «لقد غلغلت النظر يا عدوّ اللّه»، ثم جلاه عن المدينة إلى الحمى(6). قال هشام: و أوّل ما اتّخذت النّعوش(7) من أجلها. قال: فلما فتحت الطائف تزوّجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له بريهة. فلم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فلما ولي أبو بكر رضي اللّه عنه كلّم فيه فأبى أن يردّه؛ فلما ولي عمر رضي اللّه عنه كلّم فيه فأبى أن يردّه و قال: إن رأيته لأضربنّ عنقه؛ فلما ولي عثمان رضي اللّه عنه كلّم فيه فأبى أن

ص: 23


1- بطحان - بفتح أوله و كسر ثانيه كما ضبطه أهل اللغة -: واد بالمدينة و هو أحد أوديتها الثلاثة: العقيق و بطحان و قناة. و المحدّثون ينطقونه بضم أوله و سكون ثانيه.
2- كذا في ء، ط، س. و في ب: «هنب» و قد رواه أصحاب الحديث هكذا: «هيت» و بعضهم يقول: إن هذا تصحيف من الرواة و صوابه «هنب» بالنون و الباء. و الأزهري يرجح أن يكون «هيت» صوابا لأنه رواه كذلك الشافعي و غيره من كبار الأئمة (انظر «القاموس» و «شرحه» و «اللسان» في مادتي هنب و هيت).
3- الشموع: اللعوب الضحوك.
4- يريد أن عكن بطنها إذا أقبلت أربع و إذا أدبرت ثمان كما فسره ابن عبد ربه في «العقد الفريد» ج 1 ص 284 في باب صفات النساء.
5- في ب، س: «و بين رجليها المكفأ كالإناء المكفوء». و كلمة «المكفأ» هنا مقحمة. مستغنى عنها في الكلام.
6- في ط، ء: «الجماء» و الجماء: جبل بالمدينة على ثلاثة أميال من العقيق.
7- كذا صححه الأستاذ الشنقيطي بهامش نسخته، و هو جمع نعش و هو شبه المجفة يحمل عليها الملك إذا مرض. و في جميع النسخ: «النقوش» و لم يتبين لها معنى في هذا المقام.

يردّه؛ فقيل له: قد كبر و ضعف و احتاج؛ فأذن له أن يدخل كلّ جمعة فيسأل و يرجع إلى مكانه. و كان هيت مولى لعبد اللّه بن أبي أميّة بن المغيرة المخزوميّ، و كان طويس له؛ فمن ثمّ قيل(1) الخنث.

و جلس يوما فغنّى في مجلس فيه ولد لعبد اللّه بن أبي أمية:

تغترق الطرف و هي لاهية

إلى آخر البيتين؛ فأشير إلى طويس أن اسكت؛ فقال: و اللّه ما قيل هذان البيتان في ابنة غيلان بن سلمة و إنما هذا مثل ضربه هيت في أمّ بريهة؛ ثم التفت إلى ابن عبد اللّه فقال: يا ابن الطاهر، أوجدت عليّ في نفسك؟ أقسم باللّه قسما حقا لا أغنّي بهذا الشعر أبدا.

ضافه عبد اللّه بن جعفر فأكرمه و غناه:

قال إسحاق و حدّثنا أبو الحسن الباهليّ الراوية عن بعض أهل المدينة، و حدّثنا الهيثم بن عديّ و المدائنيّ، قالوا:

/كان عبد اللّه بن جعفر معه إخوان له في عشيّة من عشايا الربيع، فراحت عليهم السماء بمطر جود فأسال(2)كلّ شيء؛ فقال عبد اللّه: هل لكم في العقيق؟ - و هو متنزّه أهل المدينة في أيام الرّبيع و المطر - فركبوا دوابّهم ثم انتهوا إليه فوقفوا على شاطئه و هو يرمي بالزّبد مثل مدّ الفرات، فإنهم لينظرون إذ هاجت السماء، فقال عبد اللّه لأصحابه ليس معنا جنّة نستنجنّ بها و هذه سماء خليقة أن تبلّ ثيابنا، فهل لكم في منزل طويس فإنه قريب منا فنستكنّ فيه و يحدّثنا و يضحكنا؟ و طويس في النّظّارة يسمع كلام عبد اللّه بن جعفر؛ فقال له عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت: جعلت فداءك! و ما تريد من طويس عليه غضب اللّه: مخنّث شائن لمن عرفه؛ فقال له عبد اللّه: لا تقل ذلك، فإنه مليح خفيف لنا فيه أنس؛ فلما استوفى طويس كلامهم تعجّل إلى منزله فقال لامرأته: ويحك! قد جاءنا عبد اللّه بن جعفر سيد الناس، فما/عندك؟ قالت: نذبح هذه العناق(3)، و كانت عندها عنيقة قد ربّتها باللبن، و اختبز خبزا رقاقا؛ فبادر فذبحها و عجنت هي. ثم خرج فتلقّاه مقبلا إليه؛ فقال له طويس: بأبي أنت و أمي؛ هذا المطر، فهل لك في المنزل فتستكنّ فيه إلى أن تكفّ السماء؟ قال: إياك أريد؛ قال: فامض يا سيدي على بركة اللّه، و جاء يمشي بين يديه حتى نزلوا، فتحدّثوا حتى أدرك الطعام، فقال: بأبي أنت و أمي، تكرمني إذ دخلت منزلي بأن تتعشّى عندي؛ قال: هات ما عندك؛ فجاءه بعناق سمينة و رقاق، فأكل و أكل القوم حتى تملّئوا(4)، فأعجبه طيب طعامه، فلما غسلوا/أيديهم قال: بأبي أنت و أمي، أ تمشّى معك و أغنّيك؟ قال: افعل يا طويس؛ فأخذ ملحفة فأتزر بها و أرخى لها ذنبين، ثم أخذ المربّع(5) فتمشّى و أنشأ يغنّي:

يا خليلي نابني سهدي *** لم تنم عيني و لم تكد

كيف تلحوني(6) على رجل *** آنس تلتذّه كبدي

ص: 24


1- كذا في ط، ء، ح. و في سائر النسخ: «قيل الخنث».
2- كذا في أغلب النسخ. و في ب، س، ح: «فانسال» و لم نجد هذه الكلمة في كتب اللغة. و لعلها محرفة عن «فانثال» بمعنى تتابع و انصب.
3- العناق وزان سحاب: الأنثى من ولد المعز.
4- تملئوا: امتلئوا من كثرة الأكل.
5- المربع: آلة من آلات الطرب، يريد دفه لتربيعه كما سيأتي وصفه بذلك بعد في ص 37 من هذا الجزء.
6- لحاه يلحوه و يلحاه (من بابي نصر و فتح): لامه و عذله.

مثل ضوء البدر طلعته *** ليس بالزّمّيلة(1) النّكد

فطرب القوم و قالوا أحسنت و اللّه يا طويس. ثم قال: يا سيدي، أ تدري لمن هذا الشعر؟ قال: لا و اللّه، ما أدري لمن هو، إلا أني سمعت شعرا حسنا؛ قال: هو لفارعة(2) بنت ثابت أخت حسّان بن ثابت و هي تتعشّق عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ و تقول فيه هذا الشعر؛ فنكّس القوم رءوسهم، و ضرب عبد الرحمن برأسه على صدره(3)، فلو شقّت الأرض له لدخل فيها(4).

عرّض بسعيد بن عبد الرحمن في شعر غناه فأغضبه:

قال و حدّثني ابن الكلبيّ و المدائنيّ عن جعفر بن محرز قال:

خرج عمر بن عبد العزيز، و هو على المدينة، إلى السّويداء و خرج الناس معه، و قد أخذت المنازل، فلحق بهم يزيد بن بكر بن دأب اللّيثيّ و سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت الأنصاريّ، فلقيهما طويس فقال لهما:

بأبي أنتما و أمّي! عرّجا إلى منزلي؛ فقال يزيد لسعيد: مل بنا مع أبي عبد النّعيم(5)؛ فقال سعيد: أين تذهب/مع هذا المخنّث! فقال يزيد: إنما هو منزل ساعة فمالا، و احتمل طويس الكلام على سعيد(6)، فأتيا منزله فإذا هو قد نضحه و نصّعه(7)، فأتاهما بفاكهة من فاكهة الماء(8)؛ ثم قال سعيد: لو أسمعتنا يا أبا عبد النّعيم! فتناول خريطة(9)فاستخرج منها دفّا ثم نقره و قال:

يا خليلي نابني سهدي *** لم تنم عيني و لم تكد

فشرابي ما أسيغ و ما *** أشتكي ما بي إلى أحد

كيف تلحوني على رجل *** آنس تلتذّه كبدي

مثل ضوء البدر صورته *** ليس بالزّمّيلة النّكد

من بني آل المغيرة لا *** خامل نكس و لا جحد(10)

نظرت يوما فلا نظرت *** بعده عيني إلى أحد

ثم ضرب بالدفّ الأرض؛ فقال سعيد: ما رأيت [كاليوم](11) قطّ شعرا أجود و لا غناء أحسن منه؛ فقال له

ص: 25


1- الزميلة: الرذل الجبان الضعيف، يزمل في بيته خوفا و جبنا.
2- كذا في ء: و هي محرفة في سائر النسخ.
3- ضرب برأسه على صدره: أطرق استحياء و خجلا، و هو يريد بعبد الرحمن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت.
4- في ب، س، ح: «فلو شقت الأرض لدخل فيها خالدا».
5- في ب، س، ح: «مل بنا المنزل مع...».
6- أي حفظه له و اضطغن عليه من أجله.
7- يريد أنه رشه بالماء و نظفه.
8- لم نعثر على معنى خاص لهذه الكلمة. و أقرب الكلمات تحريفا لها هي: «فاكهة الشتاء» و هي النار و لكنها غير مناسبة في هذا المقام.
9- الخريطة: وعاء من أدم.
10- النكس: الضعيف الدنيء الذي لا خير فيه. و الجحد: القليل الخير.
11- هذه الكلمة ساقطة من ب، س، ح.

طويس: يا ابن الحسام، أ تدري من يقوله؟ قال: لا؛ قال: قالته عمّتك خولة بنت ثابت تشبّب بعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ؛ فخرج سعيد و هو يقول: ما رأيت كاليوم قطّ(1) مثل/ما استقبلني به هذا المخنّث! و اللّه لا يفلتني! فقال يزيد: دع هذا و أمته و لا ترفع به رأسا. قال أبو الفرج الأصبهاني: هذه الأبيات، فيما ذكر الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير بن بكّار، لابن زهير المخنّث.

مدح ابن سريج غناءه:

قال إسحاق و حدّثني الهيثم بن عديّ عن ابن عيّاش، و ابن الكلبيّ عن أبي مسكين، قالا:

قدم ابن سريج المدينة فغنّاهم، فاستظرف الناس غناءه و آثروه على كلّ من غنّى؛ و طلع عليهم طويس فسمعهم و هم يقولون ذلك(2)، فاستخرج دفّا من حضنه ثم نقر به و غنّاهم بشعر عمارة بن الوليد المخزوميّ في خولة بنت ثابت، عارضها بقصيدتها فيه:

يا خليلي نابني سهدي *** لم تنم عيني و لم تكد

و هو:

تناهى فيكم وجدي(3) *** و صدّع حبّكم كبدي

فقلبي مسعر حزنا *** بذات الخال في الخدّ

فما لاقى أخو عشق *** عشير(4) العشر من جهدي

فأقبل عليهم ابن سريج فقال: و اللّه هذا أحسن الناس غناء.

أخبرني وكيع محمد بن خلف قال حدّثنا إسماعيل بن مجمّع قال حدّثني المدائنيّ قال:

قدم ابن سريج المدينة فجلس يوما في جماعة و هم يقولون: أنت و اللّه أحسن الناس غناء، إذ مرّ بهم طويس فسمعهم و ما يقولون: فاستلّ دفّه من حضنه و نقره و تغنّى:

إن المجنّبة(5) التي *** مرّت بنا قبل الصّباح

في حلّة موشيّة *** مكيّة غرثى الوشاح(6)

زين لمشهد فطرهم *** و تزينهم يوم الأضاحي

- الشعر لابن زهير المخنّث. و الغناء لطويس هزج، أخبرنا بذلك الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير بن بكّار - فقال ابن سريج: هذا و اللّه أحسن الناس غناء لا أنا.

ص: 26


1- كذا في ط، أ، م. و في سائر النسخ «ما رأيت قط كاليوم و لا مثل ما استقبلني به إلخ».
2- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «و هم يقولون ذلك له».
3- في هامش ط إشارة إلى رواية أخرى و هي: خويلة شفني وجدي
4- العشير: جزء من العشرة كالعشر.
5- المجنبة: وصف من جنبه إذا أبعده. و في ب، س، ح: «المخنثة».
6- غرثى الوشاح: خميصة البطن دقيقة الخصر.
تبع جارية فزجرته ثم تغنى بشعر:

قال إسحاق حدّثني المدائنيّ قال: حدّثت أنّ طويسا تبع جارية فراوغته فلم ينقطع عنها، فخبّت(1) في المشي فلم ينقطع عنها؛ فلما جازت بمجلس وقفت ثم قالت: يا هؤلاء، لي صديق و لي زوج و مولى ينكحني، فسلوا هذا ما يريد منّي! فقال أضيّق ما قد وسّعوه. ثم جعل يتغنّى:

أفق يا قلب عن جمل *** و جمل قطّعت حبلي

أفق عنها فقد عنّي *** ت حولا في هوى جمل

و كيف يفيق محزون *** بجمل هائم العقل

براه الحبّ في جمل *** فحسبي الحبّ من ثقل(2)

و حسبي فيك ما ألقى *** من التّفنيد و العذل

و قد ما لامني فيها(3) *** فلم أحفل بهم أهلي

حديث طويس و الرجل المسحور:

قال إسحاق و قال المدائنيّ قال مسلمة بن محارب حدّثني رجل من أصحابنا قال:

خرجنا في سفرة و معنا رجل، فانتهينا إلى واد فدعونا بالغداء، فمدّ الرجل يده إلى الطعام فلم يقدر عليه، و هو قبل ذلك يأكل معنا في كلّ منزل، فخرجنا نسأل عن حاله/فلقينا رجلا طويلا/أحول مضطرب الخلق في زيّ الأعراب، فقال لنا: ما لكم؟ فأنكرنا سؤاله لنا، فأخبرناه خبر الرجل؛ فقال: ما اسم صاحبكم؟ فقلنا: أسيد؛ فقال:

هذا واد قد أخّذت(4) سباعه فارحلوا، فلو قد جاوزتم الوادي استمرّ(5) صاحبكم و أكل. قلنا في أنفسنا: هذا من الجنّ، و دخلتنا فزعة؛ ففهم ذلك و قال: ليفرخ(6) روعكم فأنا طويس. قال له بعض من معنا من بني غفار أو من بني عبس: مرحبا بك يا أبا عبد النّعيم، ما هذا الزّيّ! فقال: دعاني بعض أودّائي من الأعراب فخرجت إليهم و أحببت أن أتخطّى الأحياء فلا ينكروني. فسألت الرجل أن يغنّينا؛ فاندفع و نقر بدفّ كان معه مربّع، فلقد تخيّل لي أنّ الوادي ينطق معه حسنا، و تعجّبنا من علمه و ما أخبرنا [به](7) من أمر صاحبنا.

و كان الذي غنّى به في شعر عروة بن الورد في سلمى امرأته الغفاريّة حيث رهنها على الشراب:

سقوني الخمر ثم تكنّفوني *** عداة اللّه من كذب و زور

و قالوا لست بعد فداء سلمى *** بمفن ما لديك و لا فقير

ص: 27


1- خبت: أسرعت.
2- كذا في أكثر النسخ. و في ب، س، ح: «فحسب القلب من ثقل».
3- في ط: «و قد وبّخني فيها» و بهامشها ما بسائر النسخ.
4- كذا في ط، ء، و «نهاية الأرب» ج 4 ص 264 طبع دار الكتب، و أخذت: سحرت. و في سائر النسخ: «أخاف سباعه».
5- استمر: قوي و استقام أمره.
6- ليفرخ روعكم: ليذهب رعبكم و فزعكم. (انظر الحاشية رقم 4 ص 226 من الجزء الأول).
7- زيادة في أ، م، ح.

فلا و اللّه لو ملّكت أمري *** و من لي بالتّدبّر في الأمور

إذا لعصيتهم في حبّ سلمى *** على ما كان من حسك(1) الصدور

فيا للنّاس كيف غلبت أمري *** على شيء و يكرهه ضميري

قصة عروة و امرأته سلمى الغفارية:

قال إسحاق و حدّثني الواقديّ قال حدّثني عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن أبيه قال:

لما غزا النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بني النّضير و أجلاهم عن المدينة خرجوا يريدون خيبر يضربون بدفوف و يزمرون بالمزامير و على النساء المعصفرات و حليّ الذهب مظهرين لذلك تجلّدا، و مرّت في الظّعن(2) يومئذ سلمى امرأة عروة بن الورد [العبسي](3)، و كان عروة حليفا في بني عمرو بن عوف، و كانت سلمى من بني غفار، فسباها عروة من قومها و كانت ذات جمال فولدت له أولادا و كان شديد الحب لها و كان ولده يعيّرون بأمّهم و يسمّون بني الأخيذة - أي السّبية - فقالت: أ لا ترى ولدك يعيّرون؟ قال: فما ذا ترين؟ قالت: أرى أن تردّني إلى قومي حتى يكونوا هم الذين يزوّجونك فأنعم(4) لها، فأرسلت إلى قومها أن ألقوه بالخمر ثم اتركوه حتى يسكر و يثمل فإنه لا يسأل حينئذ شيئا إلا أعطاه؛ فلقوه و قد نزل في بني النّضير فسقوه الخمر، فلما سكر سألوه سلمى فردّها عليهم ثم أنكحوه بعد.

و يقال: إنما جاء بها إلى بني النّضير، و كان صعلوكا يغير، فسقوه الخمر، فلما انتشى منعوه و لا شيء معه إلا هي فرهنها، و لم يزل يشرب حتى غلقت(5)؛ فلما قال لها: انطلقي قالت: لا سبيل إلى ذلك، قد أغلقتني. فبهذا صارت عند بني النّضير. فقال في ذلك:

سقوني الخمر ثم تكنّفوني *** عداة اللّه(6) من كذب و زور

/هذه الأبيات مشهورة بأن لطويس فيها غناء، و ما وجدته في شيء من الكتب مجنّسا فتذكر طريقته.

كان يغري بين الأوس و الخزرج و يتغنى بالشعر الذي قيل في حروبهم:

قال إسحاق و حدّثني المدائنيّ قال: كان طويس ولعا بالشعر الذي قالته الأوس و الخزرج في حروبهم، و كان يريد بذلك الإغراء، فقلّ مجلس اجتمع فيه هذان/الحيّان فغنّى فيه طويس إلا وقع فيه شيء؛ فنهي عن ذلك، فقال:

و اللّه لا تركت الغناء بشعر الأنصار حتى يوسّدوني التراب؛ و ذلك لكثرة تولّع القوم به، فكان يبدي السرائر و يخرج الضغائن، فكان القوم يتشاءمون به.

ص: 28


1- الحسك: الشوك، و يكنى به عن العداوة و الحقد.
2- الظعن: جمع ظعينة و هي المرأة في هودجها، و قد يقال للمرأة ظعينة و إن كانت في بيتها لأنها تصير ظعينة أي مظعونا بها. و يسمى الهودج أيضا ظعينة سواء كانت فيه امرأة أم لا.
3- زيادة في أ، م.
4- أنعم لها: قال لها نعم.
5- غلق الرهن في يد المرتهن: استحقه، و ذلك إذا لم يقدر الراهن على افتكاكه في الوقت المشروط.
6- في أ، م، ء، ط: ألا للّه من كذب و زور و قد تقدم هذا البيت باتفاق الأصول كما في رواية الصلب.

و كان يستحسن غناؤه و لا يصبر عن حديثه و يستشهد على معرفته، فغنّى يوما بشعر قيس بن الخطيم في حرب الأوس و الخزرج و هو:

ردّ الخليط الجمال فانصرفوا *** ما ذا عليهم لو أنهم وقفوا

لو وقفوا ساعة نسائلهم *** ريث يضحّي جماله السّلف

فليت أهلي و أهل أثلة في ال *** دّار قريب من حيث نختلف

فلما بلغ إلى آخر بيت غنّى فيه طويس من هذه القصيدة و هو:

أبلغ بني جحجبى و قومهم *** خطمة أنّا وراءهم أنف

تكلّموا و انصرفوا و جرت بينهم دماء، و انصرف طويس من عندهم سليما لم يكلّم و لم يقل له شيء.

سبب الحرب بين الأوس و الخزرج:

قال إسحاق فحدّثني الواقديّ و أبو البختريّ(1)، قالا:

قال قيس بن الخطيم هذه القصيدة لشغب أثاره القوم بعد دهر طويل(2). و نذكر سبب أوّل ما جرى بين الأوس و الخزرج من الحرب:

/قال إسحاق قال أبو عبد اللّه اليزيدي [و أبو البختريّ](3)، و حدّثني مشايخ لنا قالوا: كانت الأوس و الخزرج أهل عزّ و منعة و هما أخوان لأب و أمّ و هما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، و أمّهما قيلة بنت جفنة بن عتبة بن عمرو؛ و قضاعة تذكر أنها قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. و كانت أوّل حرب جرت بينهم في مولى كان لمالك بن العجلان قتله سمير بن يزيد بن مالك، و سمير رجل من الأوس ثم أحد بني عمرو بن عوف، و كان مالك سيد الحيّين(4) في زمانه، و هو الذي ساق تبّعا إلى المدينة و قتل الفطيون(5)صاحب زهرة(6) و أذلّ اليهود للحيّين جميعا، فكان له بذلك الذكر و الشرف عليهم، و كانت دية المولى فيهم - و هو الحليف - خمسا من الإبل، و دية الصريح عشرا، فبعث مالك إلى عمرو بن عوف: ابعثوا إليّ سميرا حتى أقتله بمولاي فإنّا نكره أن تنشب بيننا و بينكم حرب؛ فأرسلوا إليه: إنّا نعطيك الرضا من مولاك فخذ منا

ص: 29


1- في ب، س: «أبو البحتري».
2- في ب، س، ح: «قال قيس بن الخطيم شعرا أثار القوم و هو طويل».
3- زيادة في ء، ط و هامش أ.
4- في ح، أ، م: «الحضر».
5- حدّث عنه «ياقوت» في الكلام على يثرب حيث قال في ج 4 ص 463: «و كان ملك بني إسرائيل يقال له الفيطوان. و في «كتاب ابن الكلبي»: الفطيون بكسر الفاء و الياء بعد الطاء، و كانت اليهود و الأوس و الخزرج يدينون له إلخ». و ذكره ابن الأثير في «الكامل» ج 1 ص 492 طبع ليدن سنة 1866 م، و ضبط فيه بالقلم بكسر أوله و إسكان ثانيه، فقال ما ملخصه: إنه كان عظيم اليهود بالمدينة و كان رجل سوء فاجرا، و كانت اليهود تدين لهذا الرجل إلى أن كانت لا تزوّج امرأة منهم حتى تدخل عليه قبل دخولها على زوجها، و يقال: إنه كان يفعل ذلك بنساء الأوس و الخزرج، و كانت الغلبة يومئذ لليهود عليهم، حتى جاء زفاف أخت لمالك بن العجلان فأثارت في أخيها عوامل الحمية و الغيرة، فتزيا مالك بزيّ امرأة و تقلد سيفه و اندس فيمن كان معها من النساء و قتل الفطيون، ثم فر هاربا إلى الشام حتى دخل على أبي جبيلة عبيد بن سالم بن مالك الخزرجي، و كان أثيرا عند ملوك غسان، فشكا إليه حاله، فأقسم أبو جبيلة ليذلنّ اليهود و ليجعلن الغلبة للأوس و الخزرج عليهم. و قد فعل اه بتصرف في العبارة.
6- زهرة: القبيلة المعروفة التي ينتسب إليها عبد الرحمن بن عوف الزهري.

عقله(1)، فإنك قد عرفت/أن الصريح لا يقتل بالمولى؛ قال: لا آخذ في مولاي دون دية الصريح، فأبوا إلا دية المولى. فلما رأى ذلك مالك بن العجلان جمع قومه من الخزرج، و كان فيهم مطاعا، و أمرهم بالتهيّؤ للحرب. فلمّا بلغ الأوس استعدّوا لهم و تهيّئوا للحرب و اختاروا الموت على الذلّ؛ ثم خرج بعض القوم إلى بعض فالتقوا بالصّفينة بين بئر سالم(2) و بين قباء (قرية لبني عمرو بن عوف) فاقتتلوا قتالا شديدا حتى نال بعض القوم من بعض. ثم إنّ رجلا من الأوس نادى: يا مالك، ننشدك اللّه و الرّحم(3) - و كانت أمّ مالك إحدى نساء بني عمرو بن عوف - فاجعل بيننا و بينك عدلا من قومك فما حكم علينا سلّمنا لك؛ فارعوى مالك عند ذلك، و قال نعم؛ فاختاروا عمرو بن امرئ القيس أحد بني الحارث بن الخزرج فرضي القوم به، و استوثق منهم، ثم قال: فإنّي أقضي بينكم: إن كان سمير قتل صريحا من القوم فهو به قود، و إن قبلوا العقل فلهم/دية الصريح؛ و إن كان قتل مولى فلهم دية المولى بلا نقص، و لا يعطى فوق نصف الدية، و ما أصبتم منا في هذه الحرب ففيه الدية مسلّمة إلينا، و ما أصبنا منكم فيها علينا فيه دية مسلّمة إليكم. فلما قضى بذلك عمرو بن امرئ القيس غضب مالك بن العجلان و رأى أن يردّ عليه رأيه، و قال: لا أقبل هذا القضاء؛ و أمر قومه بالقتال، فجمع القوم بعضهم لبعض ثم التقوا بالفضاء(4) عند آطام بني قينقاع، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم تداعوا إلى الصلح فحكّموا ثابت بن حرام بن المنذر أبا حسّان بن ثابت النّجّاريّ، فقضى بينهم أن يدوا مولى مالك بن العجلان بدية الصّريح ثم تكون السّنّة فيهم بعده على مالك و عليهم كما كانت أوّل مرّة: المولى على ديته؛ و الصّريح على ديته؛ فرضي مالك و سلّم الآخرون. و كان ثابت إذ حكّموه/أراد إطفاء النائرة(5) فيما بين القوم و لم شعثهم، فأخرج خمسا من الإبل من قبيلته حين أبت عليه الأوس أن تؤدّي إلى مالك أكثر من خمس و أبى مالك أن يأخذ دون عشر. فلما أخرج ثابت الخمس أرضى مالكا بذلك و رضيت الأوس، و اصطلحوا بعهد و ميثاق ألا يقتل رجل في داره و لا معقله - و المعاقل: النخل - فإذا خرج رجل من داره أو معقله فلا دية له و لا عقل. ثم انظروا(6) في القتلى فأيّ الفريقين فضل على صاحبه ودى له صاحبه. فأفضلت الأوس على الخزرج بثلاثة نفر فودتهم الأوس و اصطلحوا. ففي ذلك يقول حسّان بن ثابت لما كان أبوه أصلح بينهم و رضاهم بقضائه في ذلك:

و أبي في سميحة القائل الفا *** صل حين التفّت عليه الخصوم

و في ذلك يقول قيس بن الخطيم قصيدته و هي طويلة:

ردّ الخليط الجمال فانصرفوا *** ما ذا عليهم لو أنّهم وقفوا

أنشد عمر بن عبد العزيز شيئا من شعره و قال هو أنسب الناس:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن أبيه قال:

ص: 30


1- عقله: ديته.
2- كذا في ط: و في سائر النسخ: «بني سالم» انظر ص 24 من هذا الجزء.
3- في ب، س، ح: «ننشدك باللّه و الرحم».
4- كذا في ط، ء: و الفضاء كما في «ياقوت»: موضع بالمدينة، و لم يعينه. و لعله هو المراد هنا أو أنه أراد مطلق الفضاء المتسع.
5- كذا في ط، ء. و النائرة: الفتنة القائمة المنتشرة. و في باقي الأصول: «إطفاء الثائرة» بالثاء المثلثة.
6- كذا في جميع الأصول. و كان الأولى بالسياق أن يقول: «ثم قال انظروا إلخ» أو «ثم أن ينظروا» على أن يكون معطوفا على معمول «فقضى» المتقدّمة.

كان عمر بن عبد العزيز ينشد قول قيس بن الخطيم:

بين شكول النساء خلقتها *** قصد فلا جبلة و لا قضف

تنام عن كبر شأنها فإذا *** قامت رويدا تكاد تنقصف

تغترق الطرف و هي لاهية *** كأنما شفّ وجهها نزف

ثم يقول: قائل هذا الشعر أنسب(1) الناس.

و مما في المائة المختارة من أغاني طويس صوت
أصوات من المائة المختارة:

يا لقومي قد أرّقتني الهموم *** ففؤادي مما يجنّ سقيم

أندب الحبّ في فؤادي ففيه *** لو تراءى للناظرين كلوم

يجنّ: يخفى، و الجنّة من ذلك، و الجنّ أيضا مأخوذ منه. و أندب: أبقى فيه ندبا و هو أثر الجرح؛ قال ذو الرّمّة:

تريك سنّة(2) وجه غير مقرفة *** ملساء ليس بها خال و لا ندب

الشعر لابن قيس الرّقيّات فيما قيل. و الغناء لطويس، و لحنه المختار خفيف رمل مطلق/في مجرى الوسطى، قال إسحاق: و هو أجود لحن غنّاه طويس، و وجدته في كتاب الهشاميّ خفيف رمل بالوسطى منسوبا إلى ابن طنبورة. قال و قال ابن المكيّ: إنه لحكم، و قال عمرو بن بانة: إنه لابن عائشة أوّله هذان البيتان، و بعدهما:

ما لذا الهمّ لا يريم فؤادي(3) *** مثل ما يلزم الغريم الغريم

إنّ من فرّق الجماعة منّا *** بعد خفض(4) و نعمة لذميم

انقضت أخبار طويس.

صوت من المائة المختارة من صنعة قفا النجار

حجب الألى كنّا نسرّ بقربهم *** يا ليت أنّ حجابهم لم يقدر

ص: 31


1- أنسب الناس: أرقهم غزلا و نسيبا بالنساء.
2- سنة الوجه: صورته. و غير مقرفة: غير كريهة. و المراد وصف صورة وجهها بالحسن. و قد أورد صاحب «اللسان» هذا البيت شاهدا على أن مقرفا في قولهم: «وجه مقرف» بمعنى غير حسن. و قيل: إن «مقرفة» هنا بمعنى مدانية الهجنة، يقال: أقرف الرجل إذا دنا من الهجنة، و على هذا التفسير ذهب الصاغاني فقال: هو يقول: إنها كريمة الأصل لم يخالطها شيء من الهجنة.
3- في أ، م، ط، ء: «لا يريم وسادي». و لا يريم: لا يبرح.
4- الخفض: سعة العيش و لينه. و النعمة (بالفتح): النعيم و رغد العيش.

حجبوا و لم نقض اللّبانة منهم *** و لنا إليهم صبوة لم تقصر(1)

و يحيط مئزرها بردف كامل *** رابى المجسّة(2) كالكثيب الأعفر

و إذا مشت خلت الطريق لمشيها *** و حلا(3) كمشي المرجحنّ(4) الموقر

لم يقع إلينا قائل هذا الشعر. و الغناء لقفا النجّار، و لحنه المختار من النقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. و يقال: إن فيه لحنا لابن سريج. و ذكر يحيى بن عليّ [ابن يحيى](5) في الاختيار الواثقيّ أنّ لحن قفا النجّار المختار من الثقيل الأوّل.

صوت من المائة المختارة

أفق يا دارميّ فقد بليتا *** و إنك سوف توشك أن تموتا

أراك تزيد عشقا(6) كلّ يوم *** إذا ما قلت إنك قد بريتا

الشعر و الغناء جميعا لسعيد الدارميّ، و لحنه المختار من خفيف الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.

ص: 32


1- لم تقصر: لم تكف و لم تنته.
2- المجسة الموضع التي تقع عليه اليد عند الجس، فمعنى رابى المجسة: أنه عظيم سمين حيث يجس.
3- وحلا: ذا وحل.
4- المرجحنّ: المائل من ثقله. و الموقر: الذي يحمل حملا ثقيلا.
5- زيادة في أ، م.
6- في أ، م، ط، ء: «غشيا كل يوم». و غشي عليه (مجهولا غشيا بالفتح و الضم و غشيانا): نابه ما غشي عقله.

19 - ذكر الدارميّ و خبره و نسبه

نسبه و كان من الشعراء و أرباب النوادر:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمه قال:

الدارميّ من ولد سويد بن زيد الذي كان جدّه قتل أسعد بن عمرو بن هند، ثم هربوا إلى مكة فحالفوا بني نوفل بن عبد مناف.

و كان الدارميّ في أيّام عمر بن عبد العزيز، و كانت له أشعار و نوادر، و كان من ظرفاء أهل مكّة، و له أصوات يسيرة. و هو الذي يقول:

و لما رأيتك أوليتني ال *** قبيح و أبعدت عنّي الجميلا

تركت وصالك في جانب *** و صادفت في الناس خلا بديلا

شيب بذات خمار أسود فنفقت الخمر السود و لم تبق فتاة إلا لبسته:
اشارة

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم عن/الأصمعيّ، و أخبرني عمّي قال حدّثنا فضل اليزيديّ عن إسحاق بن إبراهيم عن الأصمعيّ، و أخبرني عمّي قال حدّثنا أبو الفضل الرّياشيّ عن الأصمعيّ، قال و حدّثني به النّوشجانيّ عن شيخ له من البصريّين عن الأصمعيّ عن ابن أبي الزّناد، و لم يقل عن ابن أبي الزناد [غيره](1):

أنّ تاجرا من أهل الكوفة قدم المدينة بخمر(2) فباعها كلها و بقيت السود منها فلم تنفق(3)، و كان صديقا للدارميّ، فشكا ذاك إليه، و قد كان نسك(4) و ترك الغناء و قول الشعر؛ فقال له: لا تهتمّ بذلك فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع؛ ثم قال:

صوت

قل للمليحة في الخمار الأسود *** ما ذا صنعت براهب متعبّد

قد كان شمّر للصلاة ثيابه *** حتى وقفت له بباب المسجد

ص: 33


1- التكلمة من ط، ء، ح.
2- الخمر: جمع خمار، و هو ما تغطي به المرأة رأسها.
3- نفقت السلعة (وزان نصر) نفاقا: راجت و رغب فيها. و أنفقها و نفقها: روّجها.
4- نسك (وزان ضرب): تعبد و تزهد و تقشف.

و غنّى فيه، و غنّى فيه أيضا سنان الكاتب، و شاع في الناس و قالوا: قد فتك(1) الدارميّ و رجع عن نسكه؛ فلم تبق في المدينة ظريفة إلا ابتاعت خمارا أسود حتى نفد ما كان مع العراقيّ منها؛ فلما علم بذلك الدارميّ رجع إلى نسكه و لزم المسجد.

فأما نسبة هذا الصوت فإنّ الشعر فيه للدارميّ و الغناء أيضا، و هو خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لسنان الكاتب رمل بالوسطى عن حبش. و ذكر حبش أن فيه لابن سريج هزجا بالبنصر.

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني أبو هفّان قال: حضرت يوما مجلس بعض قوّاد الأتراك و كانت له ستارة فنصبت، فقال لها(2): غنّي صوت الخمار الأسود المليح، فلم ندر ما أراد حتى غنّت:

قل للمليحة في الخمار الأسود

ثم أمسك ساعة ثم قال لها غنّي:

إني خريت و جئت أنتقله

فضحكت ثم قالت: هذا يشبهك! فلم ندر أيضا ما أراد حتى غنّت:

إنّ الخليط أجدّ منتقله

بخله و ظرفه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا هارون بن محمد قال حدّثني محمد بن أخي سلّم(3) الخزاعيّ قال حدّثني الحرمازيّ قال زعم [لي](4) ابن مودود قال:

/كان الدارميّ المكيّ شاعرا ظريفا و كانت متفتّيات(5) أهل مكة لا يطيب لهن متنزّه إلاّ بالدارمي، فاجتمع جماعة منهنّ في متنزّه لهنّ، و فيهنّ صديقة له، و كلّ واحدة منهنّ قد واعدت هواها(6)، فخرجن حتى أتين الجحفة(7) و هو معهنّ؛ فقال بعضهنّ لبعض: كيف لنا أن نخلو مع هؤلاء الرجال من الدارميّ؟ فإنّا إن فعلنا قطّعنا في الأرض(8)! قالت لهنّ صاحبته: أنا أكفيكنّه؛ قلن: إنا نريد ألاّ يلومنا؛ قالت: عليّ أن ينصرف حامدا، و كان أبخل الناس، فأتته فقالت: يا دارميّ، إنّا قد تفلنا(9) فاجلب لنا طيبا(10)؛ قال نعم هو ذا، آتي سوق الجحفة آتيكنّ منها بطيب؛ فأتى المكارين فاكترى حمارا فصار عليه إلى مكة و هو يقول:

ص: 34


1- فتك: مجن.
2- لم يتقدم لهذا الضمير مرجع و لكنه مفهوم من سياق الكلام أنه للجارية التي أمرت بالغناء.
3- كذا في أغلب النسخ. و في ب، س، ح: «محمد بن أبي سلمة الخزاعي».
4- هذه الكلمة ساقطة من ب، س.
5- متفتيات: وصف من تفتت الجارية إذا راهقت فخدّرت و منعت من اللعب مع الصبيان.
6- هواها: من تهواه و تحبه.
7- الجحفة: قرية بطريق المدينة على أربع مراحل من مكة، و هي ميقات أهل مصر و الشام إن لم يمروا على المدينة، فإن مروا بالمدينة فميقاتهم ذو الحليفة.
8- يريد أنه يمزق أعراضهن و ينشر ذلك في الأرض بين الناس.
9- تفل كفرح: تغيرت رائحته لطول عهده بترك الطيب.
10- في ط، أ، م: «فاحتل لنا طيبا».

أنّا باللّه ذي العزّ *** و بالرّكن و بالصّخره

من اللائي يردن الطّي *** ب في اليسر و في العسره(1)

و ما أقوى على هذا *** و لو كنت على البصرة

فمكث النسوة ما شئن. ثم قدم من مكة فلقيته صاحبته ليلة في الطّواف، فأخرجته إلى ناحية المسجد و جعلت تعاتبه على ذهابه و يعاتبها، إلى أن قالت له: يا دارميّ، بحقّ هذه/البنيّة(2) أ تحبّني؟ فقال نعم، فبربّها أ تحبّيني؟ قالت نعم؛ قال: فيا لك الخير فأنت تحبّيني و أنا أحبّك، فما مدخل الدراهم بيننا!.

الدارمي و عبد الصمد بن علي:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي قال:

كان الدارميّ عند عبد الصمد بن عليّ يحدّثه، فأغفى عبد الصمد فعطس الدارميّ عطسة هائلة، ففزع عبد الصمد فزعا شديدا و غضب غضبا شديدا، ثم استوى جالسا و قال: يا عاضّ كذا من أمه(3) أ تفزّعني! قال: لا و اللّه و لكن هكذا عطاسي! قال: و اللّه لأنقعنّك في دمك(4) أو تأتينّي ببيّنة على ذلك؛ قال: فخرج و معه حرسيّ(5)لا يدري أين يذهب به، فلقيه ابن الريّان(6) المكيّ فسأله؛ فقال: أنا أشهد لك؛ فمضى حتى دخل على عبد الصمد؛ فقال له: بم تشهد لهذا؟ قال: أشهد أني رأيته مرّة عطس عطسة فسقط(7) ضرسه؛ فضحك عبد الصمد و خلّى سبيله.

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا هارون بن محمد قال حدّثنا الزبير قال:

قال محمد بن إبراهيم الإمام للدارميّ: لو صلحت عليك ثيابي لكسوتك؛ قال: فديتك! إن لم تصلح عليّ ثيابك صلحت عليّ دنانيرك.

الدارمي مع نسوة من الأعراب:

أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزبير، و نسخت من كتاب هارون بن محمد: حدّثنا الزبير قال حدّثني يونس بن عبد اللّه الخيّاط قال:

/خرج الدارميّ مع السّعاة(8)، فصادف جماعة منهم قد نزلوا على الماء فسألهم فأعطوه دراهم، فأتى بها في ثوبه، و أحاط به أعرابيّات فجعلن يسألنه و ألححن عليه و هو يردّهن؛ فعرفته صبيّة منهنّ فقالت: يا أخواتي، أ تدرين

ص: 35


1- في أ، م: «في اليسرة و العسرة».
2- البنية: الكعبة.
3- كذا في ط. و في باقي الأصول: «يا عاض كذا و كذا من أمه».
4- لأنقعنك في دمك: لأريقن دمك حتى تقرّ فيه كما يقرّ الشيء الجامد في الماء و نحوه.
5- الحرس: الأعوان. قال في «المصباح»: جعل علما على الجمع هذه الحالة المخصوصة و لا يستعمل له واحد من لفظه، و لهذا نسب إلى الجمع، و لو جعل الحرس هنا جمع حارس لقيل حارسيّ. قالوا: و لا يقال حارسيّ إلا إذا ذهب به إلى معنى الحراسة دون الجنس.
6- ابن الريان: هو أبو حامد محمد بن عبد الرحمن بن هشام المكيّ. و في ط، ء: «أبو الزناد المكيّ».
7- كذا في ح. و في سائر النسخ: «سقط».
8- السعاة: جمع ساع و هو العامل على الصدقات، يأخذها من الأغنياء و يردها على الفقراء.

من تسألن منذ اليوم؟ هذا الدارميّ السائل. ثم أنشدت:

إذا كنت لا بدّ مستطعما *** فدع عنك من كان يستطعم

فولّى الدارميّ هاربا منهنّ و هنّ يتضاحكن به.

الدارمي و الأوقص القاضي:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال أخبرني أحمد بن أبي خيثمة قال حدّثنا مصعب الزبيريّ قال:

أتى الدارميّ الأوقص القاضي بمكّة في شيء فأبطأ عليه فيه، و حاكمه إليه خصم له في حقّ، فحبسه به حتى أدّاه إليه. فبينا الأوقص يوما في المسجد الحرام يصلّي و يدعو و يقول: يا ربّ أعتق رقبتي من النار، إذ قال له الدارميّ و الناس يسمعون: أولك رقبة تعتق! لا و اللّه ما جعل اللّه، و له الحمد، لك من عتق و لا رقبة! فقال له الأوقص: ويلك! و من أنت؟ قال: أنا الدارميّ، حبستني و قتلتني؛ قال: لا تقل ذلك و ائتني فإني أعوّضك؛ فأتاه ففعل ذلك به.

نادرة له مع عبد الصمد بن علي:

أخبرني الحرميّ أحمد بن محمد بن إسحاق قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي قال:

مدح الدارميّ عبد الصمد بن عليّ بقصيدة و استأذنه في الإنشاد فأذن له؛ فلما فرغ أدخل إليه رجل من الشّراة(1)؛ فقال لغلامه: أعط هذا مائة دينار و اضرب عنق/هذا؛ فوثب الدارميّ فقال: بأبي أنت و أمي! برّك و عقوبتك جميعا نقد! فإن رأيت أن تبدأ بقتل هذا، فإذا فرغ منه أمرته فأعطاني! فإني لن أريم من حضرتك حتى يفعل ذلك؛ قال: و لم ويلك؟ قال: أخشى أن يغلط فيما بيننا، و الغلط في هذا لا يستقال؛ فضحك و أجابه إلى ما سأل.

نادرة له في مرضه:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي قال:

أصابت الدارميّ قرحة في صدره، فدخل إليه بعض أصدقائه يعوده. فرآه قد نفث/من فيه نفثا أخضر، فقال له: أبشر، قد اخضرّت القرحة و عوفيت؛ فقال: هيهات! و اللّه لو نفثت كلّ زمرّدة في الدنيا ما أفلتّ منها.

صوت من المائة المختارة

يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا *** زدت الفؤاد على علاّته وصبا

ربع تبدّل ممّن كان يسكنه *** عفر الظّباء و ظلمانا به عصبا(2)

الشعر لهلال بن الأسعر المازنيّ، أخبرني بذلك وكيع عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه. و هكذا هو في رواية عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ. و من لا يعلم ينسبه إلى عمر ابن أبي ربيعة و إلى الحارث بن خالد و نصيب، و ليس

ص: 36


1- الشراة: الخوارج، سموا بذلك لقولهم: «إننا شرينا أنفسنا في طاعة اللّه» أي بعناها بالجنة.
2- الظلمان (بالضم و الكسر): جمع ظليم و هو ذكر النعام. و العصب: الجماعات.

كذلك. و الغناء في اللحن المختار لعزّور(1) الكوفيّ، و من الناس من يقول عزّون بالنون و تشديد الزاي، و هو رجل من أهل الكوفة غير مشهور و لا كثير الصنعة، و لا أعلم أنّي سمعت له بخبر و لا صنعة/غير هذا الصوت. و لحن هذا المختار ثقيل أول بالبنصر في مجراها عن إسحاق، و هكذا نسبه في الاختيار الواثقيّ. و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه لابن عائشة لحنا من الثقيل الأول بالبنصر. و في أخبار الغريض عن حمّاد أنّ له فيه ثقيلا أول. و قال الهشاميّ: فيه لعبد اللّه بن العبّاس لحن من الثقيل الثاني. و ذكر حبش أنّ فيه لحسين بن(2) محرز خفيف رمل(3) بالبنصر.

ص: 37


1- كذا في أكثر النسخ. و في أ، م: «عزوز». و في ح: «غزون».
2- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س، ح: «الحسين بن محمد بن محرز».
3- في أ، م: «خفيف ثقيل بالبنصر». و في ح: «ثقيلا بالبنصر».

20 - أخبار هلال و نسبه

نسبه و هو شاعر أموي شجاع أكول:

هو، فيما ذكر خالد بن كلثوم، هلال بن الأسعر بن خالد بن الأرقم بن قسيم(1) بن ناشرة بن سيّار بن رزام بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم. شاعر إسلاميّ من شعراء الدولة الأموية، و أظنه قد أدرك الدولة العباسية، و كان رجلا شديدا عظيم الخلق أكولا معدودا من الأكلة. قال أبو عمرو: و كان هلال فارسا شجاعا شديد البأس و البطش أكثر الناس أكلا و أعظمهم في حرب غناء. هذا لفظ أبي عمرو. و قال أبو عمرو: و عمّر هلال بن أسعر عمرا طويلا و مات بعد بلايا عظام مرّت على رأسه. قال: و كان رجل من قومه من بني رزام بن مالك يقال له المغيرة بن قنبر يعوله و يفضل عليه و يحتمل ثقله و ثقل عياله فهلك، فقال هلال يرثيه:

كان المغيرة بن قنبر يعوله فلما مات رثاه:

ألا ليت المغيرة كان حيّا *** و أفنى قبله الناس الفناء

ليبك على المغيرة كلّ خيل *** إذا أفنى عرائكها(2) اللّقاء

و يبك على المغيرة كلّ كلّ *** فقير كان ينعشه العطاء

و يبك على المغيرة كلّ جيش *** تمور(3) لدى معاركه الدّماء

فتى الفتيان فارس كلّ حرب *** إذا شالت(4) و قد رفع اللّواء

/لقد وارى جديد(5) الأرض منه *** خصالا عقد عصمتها الوفاء

فصبرا للنوائب إن ألمّت *** إذا ما ضاق بالحدث الفضاء

هزبر تنجلي الغمرات عنه *** نقيّ العرض همّته العلاء

/إذا شهد الكريهة خاض منها *** بحورا لا تكدّرها الدّلاء

جسور لا يروّع عند روع(6) *** و لا يثني عزيمته اتّقاء

ص: 38


1- سمي بقسيم كأمير و قسيم كزبير. و قد ضبط هذا الاسم بالقلم في ط كزبير.
2- العرائك: جمع عريكة. و أصل العريكة سنام البعير، و تقال على النفس، و على القوّة و الشدّة، و لعل هذا المعنى هو المراد في هذا البيت. و قد فسرت العريكة بمعنى الشدّة و القوّة في قول الأخطل: من اللواتي إذا لانت عريكتها كان لها بعدها آل و مجهود (انظر «اللسان» مادة عرك).
3- تمور: تجري و تسيل.
4- شالت الحرب: تهيأت الآن يخوض الأبطال غمارها. و هو من شالت الناقة إذا رفعت ذنبها للقاح.
5- يريد بجديد الأرض قبره الذي جدّ منها و حفر ليدفن فيه.
6- في ط:

حليم في مشاهده إذا ما *** حبا الحلماء أطلقها المراء(1)

حميد في عشيرته فقيد(2) *** يطيب عليه في الملأ الثناء

فإن تكن المنية أقصدته(3) *** و حمّ(4) عليه بالتلف القضاء

فقد أودى به كرم و خير(5) *** و عود بالفضائل و ابتداء

وجود لا يضمّ إليه جودا *** مراهنه إذا جدّ الجراء(6)

كان عاديّ الخلق صبورا على الجوع:

و قال خالد بن كلثوم: كان هلال بن الأسعر، فيما ذكروا، يرد مع الإبل فيأكل ما وجد عند أهله ثم يرجع إليها و لا يتزوّد طعاما و لا شرابا حتى يرجع يوم ورودها، لا يذوق فيما بين ذلك طعاما و لا شرابا، و كان عاديّ الخلق(7)لا توصف صفته.

حكايات عن قوّته:

قال/خالد بن كلثوم فحدّثنا عنه من أدركه: أنه كان يوما في إبل له، و ذلك عند الظّهيرة في يوم شديد وقع الشمس محتدم الهاجرة و قد عمد إلى عصاه فطرح عليها كساءه ثم أدخل رأسه تحت كسائه من الشمس، فبينا هو كذلك إذ مرّ به رجلان أحدهما من بني نهشل و الآخر من بني فقيم(8)، كانا أشدّ تميميّين في ذلك الزمان بطشا، يقال لأحدهما الهيّاج، و قد أقبلا من البحرين و معهما أنواط(9) من تمر هجر(10)، و كان هلال بناحية الصّعاب(11)؛ فلما انتهيا إلى الإبل، و لا يعرفان هلالا بوجهه و لا يعرفان أن الإبل له، ناديا: يا راعي، أ عندك شراب تسقينا؟ و هما يظنّانه عبدا لبعضهم؛ فناداهما هلال و رأسه تحت كسائه: عليكما الناقة(12) التي صفتها كذا في موضع كذا

ص: 39


1- حبا: جمع حبوة و هي الثوب الذي يحتبي به، و اسم للاحتباء بالثوب أي الاشتمال به. و إطلاق الحبا يكنى به عن السفه و الطيش. و المراء: المجادلة و الملاجة و المخاصمة.
2- فقيد: يفتقده العافون و يطلبونه.
3- أقصدته: أصابته.
4- حم: قضى و قدر.
5- الخير: (بالكسر) الشرف.
6- مراهنه: مسابقه. و الجراء: مصدر كالمجاراة و هي المسابقة و المفاخرة.
7- عاديّ الخلق: عملاق ضخم الجسم، نسبة إلى عاد. و العرب تضرب المثل بأحلام عاد لما تتصور من عظم خلقها، و تزعم أن أحلامها على مقادير أجسامها. قال الشاعر: كأنما ورثوا لقمان حكمته علما كما ورثوا الأحلام من عاد
8- في ط، أ، م: «بني تيم».
9- أنواط: جمع نوط، و النوط: الجلة الصغيرة فيها التمر و نحوه.
10- هجر: مدينة و هي قاعدة البحرين، و قبل ناحية البحرين كلها هجر، و هو الصواب.
11- الصعاب: اسم جبل بين اليمامة و البحرين، و قيل: رمال بين البصرة و اليمامة صعبة المسالك.
12- في ب، س، ح: «عليكما بالناقة». و هو كما يتعدى بنفسه يتعدى بالباء.

فأنيخاها(1) فإنّ عليها و طبين(2) من لبن، فاشربا منهما ما بدا لكما. قال فقال له أحدهما: ويحك! انهض يا غلام فأت بذلك اللبن! فقال لهما: إن تك لكما حاجة فستأتيانها فتجدان(3) الوطبين فتشربان؛ قال فقال أحدهما: إنك يا ابن اللّخناء لغليظ الكلام، قم فاسقنا، ثم دنا من هلال و هو على تلك الحال. و قال لهما، حيث قال له أحدهما:

«إنك يا ابن اللخناء لغليظ الكلام»، أراكما و اللّه ستلقيان هوانا و صغارا؛ و سمعا ذلك منه، فدنا أحدهما فأهوى له ضربا بالسّوط على عجزه و هو مضطجع، فتناول هلال يده فاجتذبه إليه و رماه تحت فخذه ثم ضغطه ضغطة؛ فنادى صاحبه: ويحك أغثني قد قتلني! فدنا/صاحبه منه، فتناوله هلال أيضا فاجتذبه فرمى به تحت فخذه الأخرى، ثم أخذ برقابهما فجعل يصكّ برءوسهما(4) بعضا ببعض لا يستطيعان أن يمتنعا منه؛ فقال أحدهما: كن هلالا و لا نبالي(5) ما صنعت؛ فقال لهما: أنا و اللّه هلال، و لا و اللّه لا تفلتان منّي حتى تعطياني عهدا و ميثاقا لا تخيسان(6)به: لتأتيانّ المربد(7) إذا قدمتما البصرة، ثم لتناديانّ بأعلى أصواتكما بما كان منّي و منكما؛ فعاهداه و أعطياه نوطا من التمر الذي معهما، و قدما البصرة فأتيا المربد فناديا بما كان منه و منهما.

و حدّث خالد عن كنيف(8) بن عبد اللّه المازنيّ قال: كنت يوما مع هلال و نحن نبغي إبلا لنا، فدفعنا إلى قوم من بكر بن وائل و قد لغبنا(9) و عطشنا، و إذا نحن بفتية شباب عند ركيّة(10) لهم/و قد وردت إبلهم، فلما رأوا هلالا استهولوا خلقه و قامته، فقام رجلان منهم إليه فقال له أحدهما: يا عبد اللّه، هل لك في الصّراع؟ فقال له هلال: أنا إلى غير ذلك أحوج؛ قال: و ما هو؟ قال: إلى لبن و ماء فإنّني لغب ظمآن؛ قال: ما أنت بذائق من ذلك شيئا حتى تعطينا عهدا لتجيبنّنا إلى الصّراع إذا أرحت(11) و رويت؛ فقال لهما هلال: إنني لكم ضيف، و الضيف لا يصارع [آهله(12) و] ربّ منزله، و أنتم مكتفون من ذلك بما أقول لكم: اعمدوا إلى أشدّ فحل في إبلكم و أهيبه صولة و إلى أشدّ رجل منكم ذراعا، فإن لم أقبض على هامة البعير و على يد صاحبكم فلا يمتنع الرجل و لا البعير حتى أدخل يد الرجل في فم البعير، فإن لم أفعل ذلك فقد صرعتموني، و إن فعلته علمتم أن صراع أحدكم أيسر من ذلك. قال: فعجبوا من مقالته تلك، و أومئوا إلى فحل في إبلهم هائج صائل قطم(13)؛ فأتاه هلال و معه نفر من

ص: 40


1- في ء و إحدى روايتي ط: «فاقصداها». و في ط: «فانتحياها».
2- الوطب: سقاء اللبن خاصة.
3- في ط، ء، ح: «فتحذران». و حدر الشيء: أنزله من علو.
4- الجمع في رءوسهما دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد، و هو في مثل ذلك أكثر استعمالا من التثنية و الإفراد، و في القرآن الكريم: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمٰا.
5- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «و لا تبالي» بالتاء.
6- لا تخيسان به: لا تغدران به و لا تنكثان.
7- المربد: من أشهر محال البصرة، و كان يكون سوق الإبل فيه قديما ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس و به كانت مفاخرات الشعراء و مجالس الخطباء.
8- كذا في كذا. و في سائر النسخ: «كفيف» و في «القاموس» و شرحه مادة كنف أنه سمى بكنيف كزبير. و لم نعثر على أنه سمي بكفيف.
9- لغبنا: تعبنا و أصابنا الإعياء.
10- الركية: البئر لأنها مركوة أي محفورة.
11- أراح الرجل: رجعت إليه نفسه بعد الإعياء.
12- زيادة في ط، أ، م، ء. و الآهل: من قولهم أهل. إذا أنس به.
13- كذا في ط و القطم: الهائج. و في سائر النسخ: «فطم» بالفاء و هو تحريف.

أولئك القوم و شيخ لهم، فأخذ بهامة الفحل مما فوق مشفره فضغطها ضغطة جرجر الفحل [منها](1) و استخذى و رغا، و قال: ليعطني من أحببتم يده أولجها في فم هذا الفحل. قال فقال الشيخ: يا قوم تنكّبوا هذا الشيطان، فو اللّه ما سمعت فلانا(2) (يعني الفحل)(3) جرجر منذ بزل(4) قبل اليوم، فلا تعرضوا لهذا الشيطان. و جعلوا يتبعونه و ينظرون إلى خطوه و يعجبون من طول أعضائه حتى جازهم.

صارع في المدينة عبدا بأمر أميرها:

قال و حدّثنا من سمع هلالا يقول: قدمت المدينة و عليها رجل من آل مروان، فلم أزل أضع عن إبلي و عليها أحمال للتجار حتى أخذ بيدي و قيل لي: أجب الأمير. قال: قلت لهم: ويلكم! إبلي و أحمالي! فقيل: لا بأس على إبلك و أحمالك. قال: فانطلق بي حتى أدخلت على الأمير، فسلّمت عليه ثم قلت: جعلت فداك! إبلي و أمانتي! قال فقال: نحن ضامنون لإبلك و أمانتك حتى نؤدّيها إليك. قال فقلت/عند ذلك: فما حاجة الأمير إليّ جعلني اللّه فداه؟ قال فقال لي - و إلى جنبه رجل أصفر، لا(5) و اللّه ما رأيت رجلا قطّ أشدّ خلقا منه و لا أغلظ عنقا، ما أدري أطوله أكثر أم عرضه -: إن هذا العبد الذي ترى لا و اللّه ما ترك بالمدينة عربيّا(6) يصارع إلا صرعه، و بلغني عنك قوّة، فأردت أن يجري اللّه صرع هذا العبد على يديك فتدرك ما عنده من أوتار العرب. قال فقلت: جعلني اللّه فداء الأمير، إني لغب نصب جائع، فإن رأى الأمير أن يدعني اليوم حتى أضع عن إبلي و أؤدّي أمانتي و أريح يومي هذا و أجيئه غدا فليفعل. قال فقال لأعوانه: انطلقوا معه فأعينوه على الوضع عن إبله و أداء أمانته و انطلقوا به إلى المطبخ فأشبعوه؛ ففعلوا جميع ما أمرهم به. قال: فظللت بقية يومي ذلك و بتّ ليلتي تلك بأحسن حال شبعا و راحة و صلاح أمر، فلما كان من الغد غدوت عليه و عليّ جبّة لي صوف و بتّ(7) و ليس عليّ إزار إلا أني قد شددت بعمامتي وسطي، فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام، و قال للأصفر: قم إليه، فقد أرى أنه أتاك اللّه بما يخزيك؛ فقال العبد: اتّزر يا أعرابيّ؛ فأخذت بتّي فاتّزرت به على جبّتي؛ فقال: هيهات! هذا لا يثبت، إذا قبضت عليه جاء في يدي؛ قال فقلت: و اللّه ما لي من إزار؛ قال: فدعا الأمير بملحفة ما رأيت قبلها و لا علا جلدي مثلها، فشددت بها على حقوي(8) و خلعت الجبّة؛ قال: و جعل العبد يدور/حولي و يريد ختلي و أنا منه وجل و لا أدري كيف أصنع به، ثم دنا مني دنوة فنقد(9) جبهتي بظفرة نقدة [حتى](10) ظننت أنه قد شجّني و أوجعني، /فغاظني ذلك، فجعلت انظر

ص: 41


1- زيادة يقتضيها السياق. و جرجر: ردد صوته في حنجرته. و استخذى: خضع.
2- كذا في جميع النسخ، و لكن الذي قاله أئمة اللغة أن فلانا و فلانة بغير أل يكنى بهما عن الآدميين، و الفلان و الفلانة بأل يكنى بهما عن غيرهم.
3- كذا في أ، م. و في بقية الأصول: «يعني هذا الفحل».
4- في ط: «برك» و في سائر النسخ: «نزل» بالنون بدل الباء، و كلتاهما محرفة عن «بزل». و بزل البعير: فطر نابه و دخل في سنته التاسعة.
5- «لا» هذه زائدة، و العرب يزيدونها قبل القسم تمهيدا لنفي الجواب.
6- كذا في ء، ط. و في ح، و في ح، ب: «عبدا». و في س، أ، م: «عبدا عربيا».
7- البت: كساء غليظ مهلهل مربع أخضر. و قيل: هو من وبر و صوف.
8- الحقو: الخصر.
9- كذا في ء، ط. و نقد الشيء: نقره بإصبعه. و في باقي النسخ: «فنفذ جبهتي بظفره نفذة» و نفذ الشيء الشيء: خرقه. و المقام هنا يأباه.
10- الزيادة عن أ، م.

في خلقه بم أقبض منه، فما وجدت في خلقه شيئا أصغر من رأسه، فوضعت إبهاميّ في صدغيه(1) و أصابعي الأخر في أصل أذنيه، ثم غمزته غمزة صاح منها: قتلتني! قتلتني! فقال الأمير: اغمس رأس العبد في التراب؛ قال فقلت له: ذلك لك عليّ؛ قال: فغمست و اللّه رأسه في التراب و وقع شبيها بالمغشيّ عليه، فضحك الأمير حتى استلقى و أمر لي بجائزة(2) و كسوة و انصرفت.

قتل رجلا من بني جلان استجار بمعاذ فقبض عليه للثأر منه، ثم فر إلى اليمن و شعره في ذلك:

قال أبو الفرج: و لهلال أحاديث كثيرة من أعاجيب شدّته. و قد ذكره حاجب بن ذبيان(3) فقال لقوم من بني رباب من بني حنيفة في شيء كان بينهم فيه أربع ضربات بالسيف، فقال حاجب:

و قائلة و باكية بشجو *** لبئس السيف سيف بني رباب

و لو لاقى هلال بني رزام *** لعجّله إلى يوم الحساب

و كان هلال بن الأسعر ضربه رجل من بني عنزة ثم من بني جلاّن يقال له عبيد بن جريّ(4) في شيء كان بينهما، فشجّه و خمشه(5) خماشة، فأتى هلال بني جلاّن فقال: إن صاحبكم قد فعل بي ما ترون فخذوا لي بحقّي، فأوعدوه و زجروه(6)؛ فخرج من عندهم و هو يقول: عسى أن يكون لهذا جزاء حتى أتى بلاد قومه؛ فمضى/لذلك زمن طويل حتى درس ذكره؛ ثم إن عبيد بن جريّ قدم الوقبي - و هو موضع من بلاد بني مالك - فلما قدمها ذكر هلالا و ما كان بينه و بينه فتخوّفه؛ فسأل عن أعزّ أهل الماء، فقيل له: معاذ بن جعدة بن ثابت بن زرارة بن ربيعة بن سيّار بن رزام بن مازن؛ فأتاه فوجده غائبا عن الماء، فعقد عبيد بن جريّ طرف ثيابه إلى جانب طنب بيت معاذ - و كانت العرب إذا فعلت ذلك وجب على المعقود بطنب بيته للمستجير به أن يجيره و أن يطلب له بظلامته - و كان يوم فعل ذلك غائبا عن الماء، فقيل: رجل استجار بآل معاذ بن جعدة. ثم خرج عبيد بن جريّ ليستقي، فوافق قدوم هلال بإبله يوم وروده، و كان إنما يقدمها في الأيام، فلما نظر هلال إلى ابن جريّ ذكر ما كان بينه و بينه، و لم يعلم باستجارته بمعاذ بن جعدة، فطلب شيئا يضربه به فلم يجده، فانتزع المحور(7) من السّانية فعلاه به ضربة على رأسه فصرع و وقيذا(8) و قيل: قتل هلال بن الأسعر جار معاذ بن جعدة! فلما سمع ذلك هلال تخوّف بني جعدة الرّزاميّين، و هم بنو عمه، فأتى راحلته ليركبها. قال(9) هلال: فأتتني خولة بنت يزيد(10) بن ثابت أخي بني

ص: 42


1- كذا في ط، ء. و في ب، س، ح: «فوضعت إبهامي في صدغه و أصابعي الأخر في أصل أذنه الأخرى». و في أ، م: «في أصل أذنه» بدون الأخرى.
2- كذا في أغلب النسخ. و في ب، س: «بجائزة وصلة و كسوة». و في ح: «بجائزة و صلة و كسوة و مئزرة ثم انحدرت إلخ».
3- كذا في ء و هامش ط، و هكذا ورد في «تاريخ ابن جرير الطبري» في حوادث سنة 10 طبع أوروبا. و في ح: «صاحب بن ذبيان» و في باقي الأصول «حاجب بن دينار».
4- كذا في أكثر النسخ. و في ط، ح: «حرى» بالحاء المهملة.
5- الخمش: الخدش في الوجه، و قد يستعمل للخدش في سائر الجسد.
6- كذا في أ، م، س. و في باقي النسخ: «زبروه».
7- المحور الحديدة التي تجمع بين الخطاف و البكرة. و السانية: الدلو العظيمة مع أدواتها.
8- الوقيذ: الدنف الذي أشفى على الموت.
9- كذا في أ، م، ح. و في سائر النسخ: «فقال» و لا موقع لهذه الفاء.
10- في ط، ح، ء: «زيد».

جعدة بن ثابت، و هي جدّة أبي السّفّاح زهيد(1) بن عبد اللّه بن مالك أمّ أبيه، فتعلّقت بثوب هلال، ثم قالت: أي عدوّ اللّه قتلت جارنا! و اللّه لا تفارقني حتى يأتيك رجالنا! قال هلال: و المحور في يدي لم أضعه؛ قال: فهممت أن أعلو به رأس خولة، ثم قلت في نفسي: عجوز لها سنّ و قرابة! قال: فضربتها برجلي ضربة رميت بها من بعيد، ثم أتيت/ناقتي فأركبها(2) ثم أضربها هاربا. و جاء معاذ بن جعدة و إخوته - و هم يومئذ تسعة إخوة - و عبد اللّه بن مالك زوج لبنت معاذ [و](3) يقال لها جبيلة، و هو مع/ذلك ابن عمتهم خولة بنت يزيد بن ثابت، فهو معهم كأنه بعضهم؛ فجاءوا من آخر النهار فسمعوا الواعية(4) على الجلاّنيّ و هو دنف لم يمت، فسألوا عن تلك الواعية فأخبروا بما كان من استجارة الجلاّنيّ بمعاذ بن جعدة و ضرب هلال له من بعد ذلك؛ فركب الاخوة التسعة و عبد اللّه بن مالك عاشرهم، و كانوا أمثال الجبال في شدّة خلقهم مع نجدتهم، و ركبوا معهم بعشرة غلمة لهم أشدّ منهم خلقا لا يقع لأحد منهم سهم في غير موضع يريده من رميّته، حتى تبعوا هلالا؛ و قد نسل(5) هلال من الهرب يومه ذلك كلّه و ليلته، فلما أصبح أمنهم و ظنّ أن قد أبعد في الأرض و نجا منهم؛ و تبعوه، فلما أصبحوا من تلك الليلة قصّوا(6)أثره، و كان لا يخفى أثره على أحد لعظم قدمه، فلحقوه من بعد الغد، فلما أدركوه و هم عشرون و معهم النّبل و القسيّ و السيوف و التّرسة(7)، ناداهم: يا بني جعدة، إني أنشدكم اللّه! أن أكون قتلت رجلا غريبا طلبته بترة تقتلوني و أنا ابن عمّكم! و ظنّ أنّ الجلاّنيّ قد مات، و لم يكن مات إلى أن تبعوه و أخذوه؛ فقال معاذ: و اللّه لو أيقنّا أنه قد مات ما ناظرنا بك(8) القتل من ساعتنا و لكنّا تركناه و لم يمت، و لسنا نحبّ قتلك إلاّ أن تمتنع منا، و لا نقدم عليك حتى نعلم ما يصنع جارنا؛ فقاتلهم و امتنع منهم، فجعل معاذ يقول لأصحابه و غلمانه: لا ترموه/بالنبل و لا تضربوه بالسيوف، و لكن ارموه بالحجارة و اضربوه بالعصيّ حتى تأخذوه؛ ففعلوا ذلك، فما قدروا على أخذه حتى كسروا من إحدى يديه ثلاث أصابع و من الأخرى إصبعين، و دقّوا ضلعين من أضلاعه و أكثروا الشّجاج في رأسه، ثم أخذوه و ما كادوا يقدرون على أخذه، فوضعوا في رجله أدهم(9)، ثم جاءوا به و هو معروض على بعير حتى انتهوا به إلى الوقبى فدفعوه إلى الجلاّني و لم يمت بعد، فقالوا(10): انطلقوا به معكم إلى بلادكم و لا تحدثوا في أمره شيئا حتى تنظروا ما يصنع بصاحبكم، فإن مات فاقتلوه و إن حيي فأعلمونا حتى نحمل لكم أرش(11) الجناية. فقال الجلاّنيّون: وفت ذمّتكم يا بني جعدة، و جزاكم اللّه أفضل ما يجزي به خيار الجيران، إنّا نتخوّف أن ينزعه منّا قومكم إن خلّيتم عنّا و عنهم و هو في أيدينا؛ فقال لهم معاذ: فإني أحمله معكم و أشيّعكم حتى تردوا بلادكم، ففعلوا ذلك،

ص: 43


1- كذا في أكثر النسخ. و في إحدى روايتي ط: «مهند». و في ح: «و هي جدة أبي السفاح و هي بنت عبد اللّه إلخ».
2- في ح: «فركبتها».
3- هذه الواو ساقطة من ب، س، ح.
4- الواعية: الصراخ على الميت.
5- نسل: أسرع في سيره.
6- قص أثره قصا و قصصا: تتبعه.
7- الترسة: جمع ترس، و هو صفيحة من الفولاذ مستديرة تحمل للوقاية من السيف.
8- ما ناظرنا بك القتل: ما أخرناه. و لم نجد هذه الصيغة بهذا المعنى في كتب اللغة التي بين أيدينا.
9- الأدهم: القيد.
10- كذا في أكثر النسخ. و في ب، س، ح: «فقال».
11- الأرش: دية الجراحات.

فحمل معروضا على بعير و ركبت أخته جماء(1) بنت الأسعر معه، و جعل يقول: قتلتني بنو جعدة! و تأتيه أخته بمغرة(2) فيشربها فيقال: يمشي(3) بالدّم، لأن بني جعدة فرثوا(4) كبده في جوفه. فلمّا بلغوا أدنى بلاد بكر بن وائل قال الجلاّنيّون لمعاذ و أصحابه: أدام اللّه عزّكم، و قد وفيتم فانصرفوا. و جعل هلال يريهم أنّه يمشي في اللّيلة عشرين مرّة. فلمّا ثقل الجلاّنيّ و تخوّف هلال أن يموت من ليلته أو يصبح ميّتا، تبرّز هلال كما كان يصنع و في رجله الأدهم كأنه يقضي حاجة، و وضع كساءه على عصاه في ليلة ظلماء، ثم اعتمد على الأدهم فحطمه، ثم طار تحت ليلته على رجليه، و كان أدلّ الناس فتنكّب الطّريق التي تعرف و يطلب فيها/و جعل يسلك المسالك التي لا يطمع فيها. حتّى انتهى إلى رجل من بني أثاثة بن مازن يقال له السّعر بن يزيد بن طلق(5) بن جبيلة بن أثاثة بن مازن، فحمله السّعر على ناقة له يقال لها ملوة، فركبها ثمّ تجنّب بها الطريق/فأخذ نحو بلاد قيس بن عيلان، تخوّفا من بني مازن أن يتبعوه أيضا فيأخذوه، فسار ثلاث ليال و أيّامها حتّى نزل اليوم الرّابع، فنحر الناقة فأكل لحمها كلّه إلا فضلة فضلت منها فاحتملها، ثم أتى بلاد اليمن فوقع بها، فلبث زمانا و ذلك عند مقام(6) الحجاج بالعراق، فبلغ إفلاته من بالبصرة من بكر بن وائل، فانطلقوا إلى الحجّاج فاستعدوه و أخبروه بقتله صاحبهم؛ فبعث الحجاج إلى عبد اللّه بن شعبة بن العلقم، و هو يومئذ عريف بني مازن حاضرتهم و باديتهم، فقال له: لتأتينّي بهلال أو لأفعلنّ بك و لأفعلن؛ فقال له عبد اللّه بن شعبة: إن أصحاب هلال و بني عمّه قد صنعوا كذا و كذا: فاقتصّ عليه ما صنعوا في طلبه و أخذه و دفعه إلى الجلاّنيّين و تشييعهم إيّاه حتّى وردوا بلاد بكر بن وائل؛ فقال له الحجّاج: ويلك! ما تقول؟ قال فقال بعض البكريّين: صدق، أصلح اللّه الأمير؛ قال فقال الحجّاج: فلا يرغم اللّه إلاّ أنوفكم(7)، اشهدوا أنّي قد آمنت كلّ قريب لهلال و حميم و عريف و منعت من أخذ أحد به و من طلبه حتّى يظفر به البكريّون أو يموت قبل ذلك.

فلمّا وقع هلال إلى بلاد اليمن بعث إلى بني رزام بن مازن(8) بشعر يعاتبهم فيه و يعظّم عليهم حقّه و يذكر قرابته، و ذلك أنّ سائر بني مازن قاموا ليحملوا ذلك الدّم، فقال معاذ: /لا أرضى و اللّه أن يحمل لجاري دم واحد حتى يحمل له دم و لجواري دم آخر، و إن أراد هلال الأمان وسطنا حمل له دم ثالث؛ فقال هلال في ذلك:

بني مازن لا تطردوني فإنّني *** أخوكم و إن جرّت جرائرها(9) يدي

و لا تثلجوا أكباد بكر بن وائل *** بترك أخيكم كالخليع المطرّد

و لا تجعلوا حفظي بظهر و تحفظوا *** بعيدا ببغضاء يروح و يغتدي(10)

فإنّ القريب حيث كان قريبكم *** و كيف بقطع الكفّ من سائر اليد

ص: 44


1- كذا في ب، س، ح. و في ء، أ، م «حماء» بالحاء المهملة و المد و في ط: «حما» بالحاء المهملة مقصورا.
2- المغرة (بالفتح و بالتحريك): طين أحمر يصبغ به.
3- أمشى الرجل: استطلق بطنه من دواء تناوله.
4- فرثوا كبده: ضربوها و هو حيّ.
5- في ط، ء: «علق» و في أ، م: «على».
6- كذا في ب، س، ح. و في باقي الأصول: «عند مقدم الحجاج العراق».
7- كذا في أكثر الأصول، و في س: «أنوفهم».
8- كذا في ط، ح، ء. و في سائر النسخ: «مالك» و مالك جد رزام لا أبوه (راجع أول هذه الترجمة).
9- الجرائر: جمع جريرة و هي الذنب و الجناية.
10- كذا في ط، ء. و هو الأقرب إلى الصواب. و في باقي النسخ: «تروح و تغتدي» بالتاء.

و إن البعيد إن دنا فهو جاركم *** و إن شطّ عنكم فهو أبعد أبعد

و إنّي و إن أوجدتموني(1) لحافظ *** لكم حفظ راض عنكم غير موجد

سيحمي حماكم بي و إن كنت غائبا *** أغرّ إذا ما ريع لم يتبلّد

و تعلم بكر أنّكم حيث كنتم *** و كنت من الأرض الغريبة محتدي

و أنّي ثقيل حيث كنت على العدا *** و أنّي و إن أوحدت لست بأوحد

و أنهم لمّا أرادوا هضيمتي *** منوا(2) بجميع القلب عضب مهنّد

حسام متى يعزم على الأمر يأته *** و لم يتوقّف للعواقب في غد

و هم بدءوا بالبغي حتّى إذا جزوا *** بأفعالهم قالوا لجازيهم(3) قد(4)

فلم يك منهم في البديهة(5) منصف *** و لم يك فيهم في العواقب مهتدي

/و لم يفعلوا فعل الحليم فيجملوا(6) *** و لم يفعلوا فعل العزيز المؤيّد

فإن يسر لي إيعاد(7) بكر فربّما *** منعت الكرى بالغيظ من متوعّد

و ربّ حمى قوم أبحت و مورد *** وردت بفتيان الصباح و مورد

/و سجف دجوجيّ من الليل حالك *** رفعت بعجلي الرّجل موّارة اليد(8)

سفينة خوّاض بحور همومه *** قليل التياث(9) العزم عند التردّد

جسور على الأمر المهيب إذا ونى *** أخو الفتك ركّاب قرى(10) المتهدّد

و قال و هو بأرض اليمن:

أقول و قد جاوزت نعمى و ناقتي *** تحنّ إلى جنبي(11) فليج(12) مع الفجر

سقى اللّه يا ناق البلاد التي بها *** هواك، و إن عنّا نأت، سبل(13) القطر

ص: 45


1- كذا في ط، ح، ء. و أوجدتموني: أغضبتموني، من وجد يجد وجدا و جدة و موجدة إذا غضب. و تعدية الفعل بالهمزة في مثل هذا قياسية على المختار. و في باقي النسخ: «أوحدتموني» بالحاء، أي جعلتموني وحيدا منفردا.
2- منوا: ابتلوا.
3- في ط، ء: «لجاريهم» بالراء، و التحريف فيها واضح. و في سائر النسخ: «لجارهم» و هو تحريف.
4- قد: اسم فعل بمعنى يكفي.
5- البديهة: أول الشيء.
6- كذا في ط. و في ب، س، ح: «فيحلموا».
7- كذا في ح. و في سائر النسخ: «إبعاد» بالباء الموحدة و هو تحريف.
8- يريد بموّارة اليد: الناقة: أي أن يدها كثيرة التردد في عرض جنبها، يعني أنها سهلة السير سريعته.
9- كذا في ط، ء. و الالتياث: الإبطاء. و في سائر النسخ: «ثبات».
10- القرى (بالتحريك): الظهر، و قيل: وسطه.
11- في ط، ء: «خيفي فليج».
12- كذا في ط، ء: و «معجم ياقوت». و في باقي النسخ: «فليح» بالحاء و هو تصحيف.
13- السبل: المطر النازل من السحاب قبل أن يصل إلى الأرض.

فما

عن قلى منّا لها خفّت النّوى *** بنا عن مراعيها و كثبانها العفر

و لكنّ صرف الدّهر فرّق بيننا *** و بين الأداني، و الفتى غرض الدهر

فسقيا لصحراء الإهالة(1) مربعا *** و للوقبى من منزل دمث(2) مثري

و سقيا و رعيا حيث حلّت لمازن *** و أيّامها الغرّ المحجّلة الزّهر

/قال خالد بن كلثوم: و لما دفع هلال إلى أولياء الجلاّنيّ ليقتلوه بصاحبهم جاء رجل يقال له: حفيد كان هلال قد وتره فقال: و اللّه لأؤنّبنّه(3) و لأصغّرنّ إليه نفسه و هو في القيود مصبور(4) للقتل، فأتاه فلم يدع له شيئا مما يكره إلا عدّة عليه. قال: و إلى جنب هلال حجر يملأ الكفّ، فأخذه هلال فأهوى به للرجل فأصاب جبينه فاجتلف(5) جلفة من وجهه و رأسه، ثم رمى بها و قال: خذ القصاص منّي الآن، و أنشأ يقول:

أنا ضربت كربا و زيدا *** و ثابتا مشّيتهم رويدا

كما أفدت(6) حينه عبيدا *** و قد ضربت بعده حفيدا

قال: و هؤلاء كلّهم من بني رزام بن مازن، و كلّهم كان هلال قد نكأ(7) فيهم.

أدى عنه ديسم الدية لبني جلان فمدحه:

قال خالد بن كلثوم: و لما طال مقام هلال باليمن نهضت بنو مازن بأجمعهم إلى بني رزام بن مازن رهط هلال و رهط معاذ بن جعدة جار الجلاّنيّ المقتول، فقالوا: إنكم قد أسأتم بابن عمّكم و جزتم الحدّ في الطلب بدم جاركم، فنحن نحمل لكم ما أردتم، فحمل ديسم بن المنهال بن خزيمة(8) بن شهاب بن أثاثة(9) بن ضباب بن حجيّة(10) بن كابية بن حرقوص بن مازن الذي طلب معاذ بن جعدة أن يحمل لجاره، لفضل عزّه و موضعه في عشيرته، و كان الذي طلب ثلاثمائة بعير؛ فقال هلال في ذلك:

/

إن ابن كابية المرزّأ(11) ديسما *** واري الزناد بعيد ضوء النار

من كان يحمل ما تحمّل ديسم *** من حائل فنق(12) و أمّ حوار

ص: 46


1- صحراء الإهالة: موضع ذكره «ياقوت» و لم يبينه و استشهد بهذا البيت.
2- دمث: سهل لين. و مثر: كثير الثرى خصب.
3- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «لآتينه».
4- كذا في ط، ء. و المصبور: المحبوس للقتل. و في سائر النسخ: «مصفود».
5- اجتلف منه جلفة: بضع من لحمه بضعة.
6- كذا في أ، م. و في ب، س: «أفأت». و في ط: «أقدت».
7- نكأ فيهم: قتل فيهم و جرح و أثخن.
8- كذا في أكثر النسخ. و في ب، س: «جزيمة» بالزاي. و في ح: «جذيمة» بالذال.
9- في ط: «أمامة».
10- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ. و لم نعثر على أنه سمي به.
11- المرزأ: الكريم الذي يصاب في ماله كثرا.
12- الفنق بضمتين: الناقة الفتية السمينة. و الحوار بالضم و يكسر: الفصيل.

عيّت(1)

بنو عمرو بحمل هنائد(2)*** فيها العشار(3) ملابئ الأبكار

حتى تلافاها كريم سابق *** بالخير حلّ منازل الأخيار

حتى إذا وردت جميعا أرزمت(4)*** جلاّن بعد تشمّس و نفار

ترعى بصحراء(5) الإهالة روبة(6)*** و العنظوان(7) منابت(8) الجرجار(9)

أعان قمير بن سعد على بكر بن وائل و قال في ذلك شعرا:

و قال خالد بن كلثوم: كان قمير بن سعد مصدّقا على بكر بن وائل، فوجد منهم رجلا قد سرق/صدقته(10)، فأخذه قمير ليحبسه، فوثب قومه و أرادوا أن يحولوا بين قمير و بينه و هلال حاضر، فلما رأى ذلك هلال وثب على البكريّين فجعل يأخذ الرجلين منهم فيكنفهما(11) و يناطح بين رءوسهما، فانتهى إلى قمير أعوانه فقهروا البكريّين؛ فقال هلال في ذلك:

/دعاني قمير دعوة فأجبته *** فأيّ امرئ في الحرب حين دعاني

معي مخذم قد أخلص القين حدّه *** يخفّض عند الرّوع روع جناني

و ما زلت مذ شدّت يميني حجزتي(12) *** أحارب أو في ظلّ حرب(13) تراني

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا حكيم بن سعد عن زفر بن هبيرة قال:

ص: 47


1- كذا في ط، ء. و في ب، س، أ: «عنيت».
2- كذا في الأصول كلها، و الظاهر أنه جمع هنيدة و هي المائدة من الإبل. و الذي في «اللسان» و «شرح القاموس»: أن هنيدة مائة من الإبل معرفة لا تنصرف و لا يدخلها الألف و اللام و لا تجمع و لا واحد لها من جنسها. و في «الأساس»: «و أعطاه هنيدة: مائة من الإبل، و هندا: مائتين».
3- العشار: جمع عشراء بضم العين و فتح الشين كنفساء و نفاس و لا ثالث لهما، و العشراء: الناقة التي أتى عليها عشرة أشهر من نتاجها. و يقال عشار ملابئ إذا دنا نتاجها.
4- أرزمت الناقة: حنت إلى ولدها. و في المثل: «لا أفعله ما أرزمت أم حائل».
5- صحراء الإهالة: اسم موضع ذكره «ياقوت» و لم يعينه و استشهد بشعر لهلال بن الأسعر.
6- الروبة: مكرمة من الأرض كثيرة النبات و الشجر و هي أبقى الأرض كلأ.
7- العنظوان: ضرب من النبات إذا أكثر منه البعير وجع بطنه.
8- كذا في جميع الأصول و لعلها «فنابت» بفاء العطف ليستقيم المعنى.
9- الجرجار: نبت طيب الريح.
10- في ب، س، ح: «بعض صدقته».
11- يكنفهما: يضمهما.
12- الحجزة: معقد الإزار.
13- لم يقع في هذا البيت ما يسمى في العروض بالاعتماد. و الاعتماد: سقوط الخامس من فعولن التي قبل القافية. و إثبات هذا الساكن فيما يكون ضربه محذوفا كما في هذا الشعر لم يقع إلا على قبح، و لم يأت في الشعر إلا شاذا قليلا، و منه ما أنشده الخليل: أقيموا بني النعمان عنا صدوركم و إلا تقيموا صاغرين الرءوسا و قول امرئ القيس: أعني على برق أراه وميض يضيء حبيّا في شماريخ بيض و تخرج منه لامعات كأنها أكف تلقى الفوز عند المفيض
حبسه بلال بن أبي بردة و أفنكه فيسم:

تقاوم هلال بن أسعر المازنيّ، و هو أحد بني رزام بن مازن، و نهيس(1) الجلاّنيّ من عنزة و هما يسقيان إبلهما، فخذف(2) هلال نهيسا بمحور في يده فأصابه فمات، فاستعدى ولده بلال(3) بن أبي بردة على هلال فحبسه فأسلمه قومه بنو رزام و عمل في أمره ديسم بن المنهال(4) أحد بني كابية بن حرقوص فافتكّه بثلاث ديات، فقال هلال يمدحه:

تدارك ديسم حسبا و مجدا *** رزاما بعد ما انشقّت عصاها

همو حملوا المئين فألحقوها(5) *** بأهليها فكان لهم سناها

/و ما كانت لتحملها رزام *** بأستاه معقّصة لحاها

بكابية بن حرقوص و جدّ *** كريم لا فتى إلا فتاها

الحديث عن هلال في نهمه و كثرة أكله:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و أحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا(6) حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدّثني نصر بن عليّ الجهضميّ قال حدّثنا الأصمعيّ، و أخبرني أبو عبيد(7) محمد بن أحمد بن المؤمّل الصّيرفيّ قال حدّثنا فضل بن الحسن قال حدّثنا نصر بن عليّ عن الأصمعيّ قال حدّثنا المعتمر بن سليمان قال:

قلت لهلال بن أسعر: ما أكلة أكلتها بلغتني عنك؟ قال: جعت مرّة و معي بعيري فنحرته و أكلته إلا ما حملت منه على ظهري، قال أبو عبيد في حديثه عن فضل(8): ثم أردت امرأتي فلم أقدر على جماعها؛ فقالت لي:

ويحك! كيف تصل إليّ و بيني و بينك بعير! قال المعتمر: فقلت له: كم تكفيك هذه الأكلة؟ قال: أربعة أيام.

و حدّثني به ابن عمّار(9) قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أحمد بن معاوية عن الأصمعيّ عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: قلت لهلال بن الأسعر - هكذا قال ابن أبي سعد: معتمر عن أبيه و قال في خبره: فقلت له؛ كم تكفيك هذه الأكلة؟ فقال: خمسا.

/أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدّثنا نصر بن عليّ قال حدّثني الأصمعيّ قال حدّثني شيخ من بني مازن قال:

ص: 48


1- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «بهيس» و لم نعثر على أنه سمي به و إنما سمي ببيهس بتقديم الياء على الهاء.
2- خذف بالحصاة و النواة و نحوهما: رمى بها من بين سبابتيه أو بمخذفة من خشب. و لعل المحرر كان في يد هلال لقوّته أشبه بالنواة، أو لعلها «فحذف» بالحاء المهملة.
3- في ب، س: «فاستعدى ولده له بلال إلخ».
4- كذا ورد هذا الاسم باتفاق النسخ فيما تقدم، و ورد هنا في ب، س، م: «ميهال» و لم ترد في باقي النسخ.
5- في ب، س، ح: «و ألحقوها».
6- كذا في أ، م. و في باقي النسخ: «قال» بدون ألف التثنية.
7- في ء: «أبو عبيد بن محمد». و في ح: «أبو عبيد أحمد بن محمد».
8- في ب، س، ح: «فضل المضري».
9- كذا في أكثر النسخ. و في ب، س: «و حدّثني به ابن عمار قال قال المعتمد حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد إلخ». و الظاهر أن ما جاء في هاتين النسختين من زيادة قوله: قال المعتمد غير صحيح لأن أحمد بن عمار يروي عن عبد اللّه بن أبي سعد مباشرة كما سيجيء بعد أسطر، على أنا لم تجد في رواة «الأغاني» من اسمه المعتمد.

أتانا هلال بن أسعر المازنيّ فأكل جميع ما في بيتنا، فبعثنا إلى الجيران نقترض الخبز فلما رأى الخبز قد اختلف عليه قال: كأنكم أرسلتم إلى الجيران، أ عندكم سويق(1)؟ قلنا: نعم، فجئته بجراب طويل فيه سويق و ببرنيّة(2) نبيذ، فصبّ السويق كلّه و صبّ عليه النبيذ حتى أتى على السّويق و النبيذ كلّه.

أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا محمد بن موسى قال حدّثنا أحمد بن/الحارث عن المدائنيّ:

أن هلال بن أسعر مرّ على رجل من بني مازن بالبصرة و قد حمل من بستانه رطبا في زواريق(3)، فجلس على زورق صغير منها و قد كثب(4) الرطب فيه و غطّي بالبواري(5)؛ قال له: يا ابن عمّ آكل من رطبك هذا؟ قال: نعم؛ قال: ما يكفيني(6)؟ قال: ما يكفيك؛ فجلس على صدر الزورق و جعل يأكل إلى أن اكتفى، ثم قام فانصرف، فكشف الزورق فإذا هو مملوء نوى قد أكل رطبه و ألقى النوى فيه.

/قال المدائنيّ و حدّثني من سأله عن أعجب شيء أكله، فقال: مائتي رغيف مع مكّوك(7) ملح.

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني الحسن بن عليّ بن منصور الأهوازيّ، و كان كهلا سريّا معدّلا، قال حدّثني شبان(8) النّيليّ عن صدقة بن عبيد المازنيّ قال:

أولم(9) عليّ أبي لما تزوّجت فعملنا عشر جفان ثريدا من جزور. فكان أوّل من جاءنا هلال بن أسعر المازنيّ، فقدّمنا إليه جفنة فأكلها ثم أخرى ثم أخرى حتى أتى على العشر، ثم استسقى فأتي بقربة من نبيذ فوضع طرفها في شدقه ففرّغها في جوفه، ثم قام فخرج؛ فاستأنفنا عمل الطعام.

حدّث أبو عمرو بن العلاء أنه لم ير أطول منه:

أخبرني الجوهريّ قال حدّثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدّثنا نصر بن عليّ عن الأصمعيّ قال: حدّثني أبو عمرو بن العلاء قال: رأيت هلال بن أسعر ميتا و لم أره حيّا، فما رأيت أحدا على سرير(10) أطول منه.

غنى مخارق الرشيد فأعتقه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد قال حدّثني بعض حاشية السلطان قال:

ص: 49


1- السويق: دقيق الحنطة و الشعير.
2- البرنية: إناء من خزف.
3- زواريق: جمع زورق أتبع الكسرة فتولدت منها ياء كما جاء في قوله: تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفى الدراهيم تنقاد الصياريف و منه للمتنبي: أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام و لا صبغ الحواجيب
4- كذا في ط، ح، ء، و معناه جمع. و في ب، س: «كتب». و في أ، م: «كب» و كلاهما تحريف.
5- البواري: الحصر المنسوجة من القصب.
6- كذا في ط، ح، ء. و في سائر النسخ: «فيه ما يكفيني؟ قال: ما يكفيك إلخ» و المعنى بهذه الزيادة غير المعنى المراد.
7- المكوك: مكيال يسع صاعا و نصف صاع.
8- كذا في أكثر النسخ، و لم نعثر على هذا الاسم، و قد سمى العرب شبان كرمان و شبان كشداد.
9- أولم عليّ أبي: عمل لي وليمة زواجي.
10- كذا في أكثر النسخ. و في ب، س، ح: «سريره».

غنّى إبراهيم الموصليّ الرشيد يوما:

يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا *** زدت الفؤاد على علاّته وصبا(1)

/ - قال: و الصنعة فيه لرجل من أهل الكوفة يقال له عزّون(2) - فأعجب به الرشيد و طرب له و استعاده مرارا؛ فقال له الموصليّ: يا أمير المؤمنين فكيف لو سمعته من عبدك مخارق، فإنه أخذه عنّي و هو يفضل فيه الخلق جميعا و يفضلني، فأمر بإحضار مخارق، فأحضر فقال له غنّني:

يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا *** زدت الفؤاد على علاّته وصبا

فغنّاه إياه؛ فبكى و قال: سل حاجتك! قال مخارق: فقلت: تعتقني يا أمير المؤمنين من الرقّ و تشرّفني بولائك، أعتقك اللّه من النار، قال: أنت حرّ لوجه اللّه، أعد الصوت؛ قال: فأعدته، فبكى و قال: سل حاجتك، فقلت: يا أمير المؤمنين ضيعة تقيمني غلّتها؛ فقال: قد أمرت لك بها، أعد الصوت؛ فأعدته فبكى و قال: سل حاجتك؛ فقلت: يأمر لي أمير المؤمنين بمنزل و فرشه و ما يصلحه و خادم فيه؛ قال: ذلك لك، أعده؛ فأعدته فبكى و قال: سل حاجتك؛ قلت: حاجتي يا أمير المؤمنين أن يطيل اللّه بقاءك و يديم عزّك و يجعلني من كل سوء فداءك؛ قال: فكان إبراهيم الموصليّ سبب عتقه بهذا الصوت(3).

أخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف وكيع قال حدّثني هارون بن مخارق، و حدّثني به الصّوليّ أيضا عن وكيع عن هارون بن مخارق قال:

كان أبي إذا غنّى هذا الصوت:

يا ربع سلمى لقد هيجت لي طربا *** زدت الفؤاد على علاّته وصبا

/يقول: أنا مولى هذا الصوت؛ فقلت له يوما: يا أبت، و كيف ذلك؟ فقال: غنّيته مولاي الرشيد/فبكى و قال: أحسنت، أعد فأعدت؛ فبكى و قال: أحسنت! أنت حرّ لوجه اللّه و أمر لي بخمسة آلاف دينار، فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاي، و ذكر(4) قريبا مما ذكره المبرّد(5) من باقي الخبر.

حدّثني الحسن بن علي قال حدّثنا ابن أبي الدّنيا قال حدّثني إسحاق النّخعيّ عن حسين بن الضّحّاك عن مخارق:

أن الرشيد أقبل يوما على المغنّين و هو مضطجع، فقال: من منكم يغني:

يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا *** زدت الفؤاد على علاّته وصبا

قال: فقمت فقلت: أنا، فقال: هاته؛ فغنيته فطرب و شرب، ثم قال: عليّ بهرثمة، فقلت في نفسي: ما تراه يريد منه! فجاءوا بهرثمة فأدخل إليه و هو يجرّ سيفه، فقال: يا هرثمة، مخارق الشاري الذي قتلناه بناحية الموصل ما كانت كنيته؟ فقال: أبو المهنّا؛ فقال: انصرف فانصرف؛ ثم أقبل عليّ فقال: قد كنيتك أبا المهنّا لإحسانك، و أمر

ص: 50


1- في ط، ء: «نصبا».
2- في أ، م، ح: «غزون» بالغين المعجمة و قد تقدم الكلام على هذا الاسم في الحاشية رقم 2 ص 50 من هذا الجزء.
3- كذا في ط، ح، ء. و في سائر النسخ: «فكان إبراهيم الموصليّ يقول: سبب عتقه بهذا الصوت».
4- في ب، س، ح: «فذكر».
5- المبرد هو محمد بن يزيد الذي تقدم ذكره في أول السند.

لي بمائة ألف درهم، فانصرفت بها و بالكنية.

صوت من المائة المختارة من رواية جحظة عن أصحابه

و خلّ كنت عين الرّشد منه *** إذا نظرت و مستمعا سميعا

أطاف بغيّة(1) فعدلت عنه *** و قلت له أرى أمرا فظيعا

الشعر لعروة بن الورد، و الغناء في اللحن المختار لسياط ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة. و فيه لإبراهيم ما خوريّ بالوسطى عن عمرو أيضا.

ص: 51


1- في ط، ح، ء: «بغية».

21 - أخبار عروة بن الورد و نسبه

نسبه، شاعر جاهلي فارس جواد مشهور:

عروة بن الورد بن زيد، و قيل: ابن عمرو بن زيد بن عبد اللّه بن ناشب بن هريم(1) بن لديم بن عوذ(2) بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الرّيث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، شاعر من شعراء الجاهلية و فارس من فرسانها و صعلوك(3) من صعاليكها المعدودين المقدّمين الأجواد.

كان يلقب بعروة الصعاليك و سبب ذلك

و كان يلقّب عروة(4) الصعاليك لجمعه إيّاهم و قيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم و لم يكن لهم معاش و لا مغزى، و قيل: بل لقّب عروة الصّعاليك لقوله:

لحى اللّه صعلوكا إذا جنّ ليله *** مصافي(5) المشاش آلفا كلّ مجزر

يعدّ الغنى من دهره كلّ ليلة *** أصاب قراها من صديق ميسّر(6)

و للّه صعلوك(7) صفيحة وجهه *** كضوء شهاب القابس المتنوّر

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال بلغني أن معاوية(8) قال:

شرف نسبه و تمنى الخلفاء أن يصاهروه أو ينتسبوا إليه:

لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوّج إليهم.

/أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عديّ، و حدّثنا إبراهيم بن أيّوب عن عبد اللّه بن مسلم قالا جميعا:

قال عبد الملك بن مروان: ما يسرّني أن أحدا من العرب ولدني(9) ممّن لم يلدني إلا عروة بن الورد لقوله:

ص: 52


1- في ط، ح، ء: «هرم» و ضبط في ط بتشديد الراء.
2- كذا في ط، ء. و هو الصواب كما في «شرح القاموس». و في سائر النسخ: «عود» بالدال المهملة.
3- الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، و صعاليك العرب: لصوصها و فقراؤها.
4- يقال: لقب بكذا، و قد اعتاد أبو الفرج إسقاط هذه الباء في أسلوبه.
5- كذا في ط، ء، و هو موافق لما جاء في «ديوان الحماسة». و مصافي المشاس: آلفه و ملازمه و المنكب عليه. و في سائر النسخ: «مضى في المشاش» و هو تحريف. و المشاش: كل عظم هش دسم واحدته مشاشة. و لم تظهر الفتحة على الياء هنا للضرورة.
6- يسر الرجل: سهلت ولادة إبله و غنمه و لم يعطب منها شيء.
7- في «ديوان الحماسة»: «و لكن صعلوكا» و خبر لكن في البيت الثاني بعده (انظر «شرح التبريزي على الحماسة» ص 219 ج 1 طبع بولاق).
8- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «ابن معاوية».
9- في جميع النسخ: «أن أحدا من العرب ممن ولدني لم يلدني». و قد أثبتنا ما بالصلب لأنه هو الذي يؤدي المعنى المراد من التمدح بالنسب إلى عروة.

إنّي(1)

امرؤ عافي إنائي شركة *** و أنت امرؤ عافي إنائك واحد

/أ تهزأ منّي أن سمنت و أن ترى *** بجسمي مسّ(2) الحقّ و الحقّ جاهد

أفرّق(3) جسمي في جسوم كثيرة *** و أحسو قراح الماء و الماء بارد

قال الحطيئة لعمر بن الخطاب كنا نأتم في الحرب بشعره:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني عمر بن شبّة قال:

بلغني أن عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه قال للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنّا ألف حازم، قال:

و كيف؟ قال: كان فينا قيس بن زهير و كان حازما و كنا لا نعصيه، و كنا نقدم إقدام عنترة، و نأتمّ بشعر عروة بن الورد، و ننقاد لأمر الرّبيع بن زياد.

قال عبد الملك إنه أجود من حاتم:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبة قال:

و يقال: إن عبد الملك قال: من زعم أن حاتما أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد.

منع عبد اللّه بن جعفر معلم ولده من أن يرويهم قصيدة له يحث فيها على الاغتراب:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرنا إبراهيم بن المنذر قال حدّثنا معن بن عيسى قال:

سمعت أن(4) عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب قال لمعلّم ولده: لا تروّهم قصيدة عروة بن الورد التي يقول فيها:

دعيني للغنى أسعى فإنّي *** رأيت الناس شرّهم الفقير

و يقول: إن هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم.

خبر عروة مع سلمى سبيته و فداء أهلها بها:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثني محمد بن يحيى قال حدّثني عبد العزيز بن عمران الزّهريّ عن عامر بن جابر قال:

أغار عروة بن الورد على مزينة فأصاب منهم امرأة من كنانة ناكحا، فاستاقها و رجع و هو يقول:

تبغّ عديّا(5) حيث حلّت ديارها *** و أبناء عوف في القرون الأوائل

فإلاّ أنل أوسا فإنّي حسبها *** بمنبطح الأدغال(6) من ذي السلائل(7)

ص: 53


1- كذا في أكثر النسخ، و بذا يكون قد دخله الخرم و هو حذف الأوّل من فعولن. و في ب، س، ح: «و إني» بالواو.
2- كذا في أكثر النسخ. و في ب، س، ح: «شحوب» و في «ديوان الحماسة» «بوجهي شحوب» إلخ.
3- في «ديوان الحماسة» «أقسّم».
4- كلمة «أن» ساقطة من أ، م.
5- في ب، س، ح: «عداء».
6- كذا في ط، ء. و الأدغال: جمع دغل، و له معان كثيرة أنسبها هنا الوادي أو المنخفض من الأرض. و في سائر النسخ: «الأوعال».
7- كذا في أ، م و ذو السلائل: واد بين الفرع و المدينة. و في باقي النسخ: «الشلائل» بالشين المعجمة و هو تصحيف.

ثم أقبل سائرا حتى نزل ببني النّضير، فلما رأوها أعجبتهم فسقوه الخمر، ثم استوهبوها منه فوهبها لهم، و كان لا يمسّ النساء، فلما أصبح و صحا ندم فقال:

سقوني الخمر ثم تكنّفوني

الأبيات. قال: و جلاها(1) النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مع من جلا من بني النضير.

/و ذكر أبو عمرو الشّيبانيّ من خبر عروة بن الورد و سلمى هذه أنه أصاب امرأة من بني كنانة بكرا يقال لها سلمى و تكنى أمّ وهب، فأعتقها و اتّخذها لنفسه، فمكثت عنده بضع عشرة سنة و ولدت له أولادا و هو لا يشكّ في أنها أرغب الناس فيه، و هي تقول له: لو حججت بي فأمرّ على أهلي و أراهم! فحجّ بها، فأتى مكة ثم أتى المدينة، و كان يخالط من أهل يثرب بني النّضير فيقرضونه إن احتاج و يبايعهم(2) إذا غنم، و كان قومها يخالطون بني النّضير، فأتوهم و هو عندهم؛ فقالت لهم سلمى: إنه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام، فتعالوا إليه و أخبروه أنكم تستحيون أن نكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحته سبيّة، و افتدوني منه فإنه لا يرى أنّي أفارقه و لا أختار عليه أحدا، فأتوه فسقوه الشّراب، فلمّا ثمل قالوا له: فادنا بصاحبتنا فإنها وسيطة(3) النسب فينا معروفة، و إنّ علينا سبّة أن تكون سبيّة، فإذا صارت إلينا و أردت معاودتها فاخطبها إلينا فإننا ننكحك؛ فقال لهم: ذاك لكم، و لكن لي الشرط فيها أن تخيّروها، فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها و إن اختارتكم انطلقتم/بها؛ قالوا: ذاك لك؛ قال:

دعوني أله بها الليلة و أفادها(4) غدا، فلمّا كان الغد جاءوه فامتنع من فدائها؛ فقالوا له: قد فاديتنا بها منذ البارحة، و شهد عليه بذلك جماعة ممّن حضر، فلم يقدر على الامتناع و فاداها، فلما فادوه بها خيّروها فاختارت أهلها، ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة أما إنّي أقول فيك و إن فارقتك الحقّ: و اللّه ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك و أغضّ طرفا و أقلّ فحشا و أجود يدا و أحمى لحقيقة(5)؛ و ما مرّ عليّ يوم منذ كنت عندك إلا و الموت فيه أحبّ إليّ من الحياة بين/قومك، لأنّي لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أمة عروة كذا و كذا إلا سمعته؛ و و اللّه لا انظر في وجه غطفانيّة أبدا، فارجع راشدا إلى ولدك و أحسن إليهم. فقال عروة في ذلك:

سقوني الخمر ثم تكنّفوني

و أوّلها:

أرقت و صحبتي بمضيق عمق(6) *** لبرق من تهامة مستطير

سقى سلمى و أين ديار سلمى *** إذا كانت مجاورة السّرير(7)

ص: 54


1- كذا في ح. وجلا متعدّ و لازم كأجلى. و في سائر النسخ «أجلاها».
2- و يبايعهم: يعقد معهم البيع.
3- وسيطة النسب: حسيبة في قومها كريمة.
4- في جميع النسخ: «و أفاديها» بإثبات الياء.
5- في ب، س، ح: «لحقيقته» و الحقيقة: ما يجب على الرجل أن يحميه و ما لزمه الدفاع عنه من أهل بيته.
6- عمق: موضع قرب المدينة من بلاد مزينة.
7- كذا في إحدى روايتي ط و هو الموافق لما ذكره ياقوت في «معجمه» من أن السرير موضع في بلاد بني كنانة مستشهدا بهذا البيت. و في سائر النسخ: «السدير» و هو تحريف.

إذا حلّت بأرض بني عليّ *** و أهلي بين إمّرة(1) و كير

ذكرت منازلا من أمّ وهب *** محلّ الحيّ أسفل من نقير(2)

و أحدث معهد(3) من أمّ وهب *** معرّسنا بدار بني النّضير

و قالوا ما تشاء فقلت ألهو *** إلى الأصباح آثر ذي أثير(4)

بآنسة الحديث رضاب فيها *** بعيد النوم كالعنب العصير

و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش عن ثعلب عن ابن الأعرابيّ بهذه الحكاية كما ذكر أبو عمرو، و قال فيها:

إنّ قومها أغلوا بها الفداء، و كان معه طلق و جبار أخوه و ابن عمه، فقالا له: و اللّه لئن قبلت ما أعطوك لا تفتقر أبدا، و أنت على النساء قادر/متى شئت، و كان قد سكر فأجاب إلى فدائها، فلما صحا ندم فشهدوا(5) عليه بالفداء فلم يقدر على الامتناع. و جاءت سلمى تثني عليه فقالت: و اللّه إنك ما علمت لضحوك مقبلا كسوب مدبرا خفيف على متن الفرس(6) ثقيل على العدوّ(7) طويل العماد كثير الرّماد راضي الأهل و الجانب(8)، فاستوص ببنيك خيرا، ثم فارقته. فتزوّجها رجل من بني عمّها، فقال لها يوما من الأيام: يا سلمى، أثني عليّ كما أثنيت على عروة - و قد كان قولها فيه شهر - فقالت له: لا تكلّفني ذلك فإني إن قلت الحقّ غضبت و لا و اللاّت و العزّى لا أكذب؛ فقال: عزمت عليك لتأتيني في مجلس قومي فلتثنين عليّ بما تعلمين، و خرج فجلس في نديّ القوم، و أقبلت فرماها القوم بأبصارهم، فوقفت عليهم و قالت: أنعموا صباحا، إنّ هذا عزم عليّ أن أثني عليه بما أعلم. ثم أقبلت عليه فقالت:

و اللّه إنّ شملتك لالتحاف، و إنّ شربك لاشتفاف(9)، و إنك لتنام ليلة تخاف، و تشبع ليلة تضاف، و ما ترضي الأهل و لا الجانب، ثم انصرفت. فلامه قومه و قالوا: ما كان أغناك عن هذا القول منها.

كان يجمع الصعاليك و يكرمهم و يغير بهم:

أخبرني الأخفش عن ثعلب عن ابن الأعرابيّ قال حدّثني أبو فقعس قال:

كان عروة بن الورد إذا أصابت الناس سنة شديدة تركوا في دارهم المريض و الكبير و الضعيف، و كان عروة بن الورد يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته في الشدّة ثم يحفر لهم الأسراب و يكنف عليهم الكنف(10)و يكسبهم(11)، و من/قوي منهم - إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوّته - خرج به معه فأغار، و جعل

ص: 55


1- كذا في ح، و هو الموافق لما في «معجم ياقوت» من أن إمرة منزل في طريق مكة من البصرة و هو منهل. و في سائر الأصول: «زامرة» و هو تحريف. و كير: جبلان في أرض غطفان.
2- نقير: موضع بين هجر و البصرة. و رواية «ياقوت» «أسفل ذي النقير».
3- كذا في ط، ء، ح. و في سائر النسخ: «معهدا».
4- آثر ذي أثير: أول كل شيء، يقال: افعل هذا آثرا ما و آثر ذي أثير أي قدّمه على كل عمل.
5- في أ، م «فشهدا» بألف التثنية.
6- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «الفراش».
7- في ب، س، ح: «على ظهر العدوّ».
8- الجانب: الغريب و المراد به الضيف.
9- الاشتفاف: شرب كل ما في الإناء.
10- يكنف عليهم الكنف: يتخذ لهم حظائر يؤويهم إليها، واحدها «كنيف».
11- كذا في ط، ء، يقال كسب لأهله: طلب المعيشة و يتعدّى بنفسه إلى مفعول ثان كما هنا. و في سائر النسخ: «يكسيهم» بالياء المثناة

لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا، حتى إذا أخصب الناس و ألبنوا و ذهبت السّنة ألحق كلّ إنسان بأهله و قسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، فربما أتى الإنسان منهم أهله و قد استغنى، فلذلك سمّي عروة الصعاليك، فقال في ذلك(1) بعض السنين و قد ضاقت حاله:

لعلّ ارتيادي(2) في البلاد و بغيتي *** و شدّي حيازيم المطيّة بالرّحل

سيدفعني يوما إلى ربّ هجمة(3) *** يدافع عنها بالعقوق و بالبخل

أغار مع جماعة من قومه على رجل فأخذ إبله و امرأته ثم اختلف معهم فهجاهم:

فزعموا أن اللّه عز و جل قيّض له و هو مع قوم من هلاّك(4) عشيرته في شتاء شديد ناقتين دهماوين، فنحر لهم إحداهما و حمل متاعهم و ضعفاءهم على الأخرى، و جعل ينتقل بهم من مكان إلى مكان، و كان بين النّقرة(5)و الرّبذة(6) فنزل بهم ما بينهما بموضع يقال له: ماوان(7). ثم إن اللّه عز و جل قيّض له رجلا صاحب مائة من الإبل قد فرّ بها من حقوق(8) قومه - و ذلك أوّل ما ألبن الناس - فقتله و أخذ إبله و امرأته، و كانت من أحسن النساء، فأتى بالإبل أصحاب الكنيف فحلبها لهم و حملهم عليها، حتى إذا دنوا من عشيرتهم أقبل يقسمها بينهم و أخذ مثل نصيب أحدهم، فقالوا: لا(9) و اللات/و العزّى لا نرضى حتى تجعل المرأة نصيبا فمن شاء أخذها، فجعل يهمّ بأن يحمل عليهم فيقتلهم و ينتزع الإبل منهم، ثم يذكر أنهم صنيعته و أنه إن فعل ذلك أفسد ما كان يصنع، فأفكر طويلا ثم أجابهم إلى أن يردّ عليهم الإبل إلا راحلة يحمل عليها المرأة حتى يلحق بأهله، فأبوا ذلك عليه، حتى انتدب رجل منهم فجعل له راحلة من نصيبه؛ فقال عروة في ذلك قصيدته التي أوّلها:

ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم *** كما الناس لمّا أمرعوا و تموّلوا

و إني لمدفوع إليّ ولاؤهم *** بماوان إذ نمشي و إذ نتململ

و إنّي و إيّاهم كذي الأمّ أرهنت(10) *** له ماء عينيها تفدّي و تحمل(11)

ص: 56


1- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «فقال في بعض السنين إلخ».
2- في «ديوان الحماسة»: لعل انطلاقي في البلاد و رحلتي
3- الهجمة من الإبل: أوّلها أربعون إلى ما زادت أو ما بين السبعين إلى المائة أو إلى دوينها فإذا بلغت المائة فهي «هنيدة».
4- كذا في أكثر النسخ و الهلاك: الصعاليك. و في ب، س، ح: «هلال» بلامين و هو تحريف.
5- النقرة - بفتح أوّله و سكون ثانيه أو بفتح أوّله و كسر ثانيه -: من منازل حاج الكوفة بين أضاخ و ماوان.
6- الربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أميال قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من قيد تريد مكة، و بها قبر أبي ذر الغفاري.
7- ماوان: قرية في أودية العلاة من أرض اليمامة.
8- في «شرح الحماسة»: «عقوق» بالعين.
9- كذا في ب، س، ح، بإثبات «لا» و قد سقطت من باقي النسخ.
10- أرهنت: أدامت، و قد جاء في «ديوان الحماسة» ص 230 طبع أوروبا شرحا لهذا البيت ما نصه: و هذا مثل، تقول المرأة لولدها ربيتك ماء عيني فضلا عن كل شيء.
11- في «ديوان الحماسة» «تجمل» أي ترفق.

فباتت بحدّ(1) المرفقين كليهما(2) *** توحوح ممّا نالها و تولول(3)

تخيّر من أمرين ليسا بغبطة *** هو الثّكل إلا أنّها قد تجمّل(4)

سبي ليلى بنت شعواء ثم اختارت أهلها فقال شعرا:

و قال ابن الأعرابيّ في هذه الرّواية أيضا: كان عروة قد سبى امرأة من بني هلال بن عامر بن صعصعة يقال لها:

ليلى بنت شعواء، فمكثت عنده زمانا و هي معجبة له تريه أنّها تحبّه، ثم استزارته أهلها فحملها حتّى أتاهم بها، فلمّا أراد الرّجوع أبت أن ترجع معه، و توعّده قومها بالقتل فانصرف عنهم، و أقبل عليها فقال لها: يا ليلى، خبّري صواحبك(5) عنّي كيف أنا؛ فقالت: ما أرى لك عقلا! أ تراني قد اخترت عليك و تقول: خبّري عنّي! فقال في ذلك:

/

تحنّ إلى ليلى بجوّ(6) بلادها *** و أنت عليها بالملا(7) كنت أقدرا

و كيف ترجّيها و قد حيل دونها *** و قد جاوزت حيّا بتيماء منكرا

/لعلّك يوما أن تسرّي(8) ندامة *** عليّ بما جشّمتني يوم غضورا(9)

و هي طويلة. قال: ثمّ إن بني عامر أخذوا امرأة من بني عبس ثم من بني سكين يقال لها أسماء، فما لبثت عندهم إلاّ يوما حتّى استنقذها قومها؛ فبلغ عروة أنّ عامر بن الطّفيل فخر بذلك و ذكر أخذه إيّاها، فقال عروة يعيّرهم(10) بأخذه ليلى بنت شعواء الهلالية:

إن تأخذوا أسماء موقف ساعة *** فمأخذ ليلى و هي عذراء أعجب

لبسنا زمانا حسنها و شبابها *** و ردّت إلى شعواء و الرّأس أشيب

ص: 57


1- كذا في ط. و في ب، س: «تحدّ». و في ح: «لحدّ» و المراد أنها باتت متكئة على مرفقيها.
2- في «ديوان الحماسة» «مكبة».
3- بين هذا البيت و البيت الذي قبله بيت يتوقف عليه فهم الأبيات و هو: فلما ترجت نفعه و شبابه أتت دونه أخرى جديد نكحل
4- في ح: «أنها تتجمل» و في ء: «قد تحمل».
5- في أ، م، ط، ء: «صواحباتك» و هو صحيح أيضا، حكى الفارسي عن أبي الحسن: «هن صواحبات يوسف» جمعوا صواحب جمع السلامة.
6- كذا في أكثر الأصول. و في ء، ط: «بحرّ» و حر البلاد (بضم الحاء): وسطها، يقال نزل في حرّ الدار أي في وسطها، و حرّ كل أرض وسطها.
7- الملا: المتسع من الأرض.
8- تسري: تكشف.
9- غضور: مدينة فيما بين المدينة إلى بلاد خزاعة و كنانة، و بهذا شرح ابن السكيت غضور في قول عروة: عفت بعدنا من أم حسان غضور و في الرمل منها آية لا تغير (انظر «معجم البلدان» لياقوت في اسم «غضور»).
10- أنكر صاحب «القاموس» استعمال «عير» متعديا بالباء و قال: و عيره الأمر و لا تقل بالأمر. و قال صاحب «اللسان»: و العامّة تقول عيره بكذا. و لكن المرزوقي في «شرح الحماسة» صرح بأنه يتعدّى بالباء قال: و «المختار» تعديته بنفسه (انظر «شرح القاموس» للسيد مرتضى).

كمأخذنا حسناء كرها و دمعها *** غداة اللّوي معصوبة يتصبّب

خرج ليغير فمنعته امرأته فعصاها و قال في ذلك شعرا:

و قال ابن الأعرابيّ: أجدب ناس من بني عبس في سنة أصابتهم فأهلكت أموالهم و أصابهم جوع شديد و بؤس، فأتوا عروة بن الورد فجلسوا أمام بيته، فلمّا بصروا به صرخوا و قالوا: يا أبا الصّعاليك، أغثنا؛ فرقّ لهم و خرج ليغزو بهم/و يصيب معاشا، فنهته امرأته عن ذلك لما تخوّفت عليه من الهلاك، فعصاها و خرج غازيا، فمرّ بمالك بن حمار الفزاريّ ثم الشّمخيّ(1)؛ فسأله: أين يريد؟ فأخبره، فأمر له بجزور فنحرها فأكلوا منها؛ و أشار عليه مالك أن يرجع، فعصاه و مضى حتّى انتهى إلى بلاد بني القين، فأغار عليهم فأصاب هجمة(2) عاد بها على نفسه و أصحابه؛ و قال في ذلك:

أرى أمّ حسّان الغداة تلومني *** تخوّفني الأعداء و النّفس أخوف

تقول سليمى لو أقمت لسرّنا *** و لم تدر أنّى للمقام أطوّف

لعلّ الذي خوّفتنا من أمامنا *** يصادفه في أهله المتخلّف

و هي طويلة.

و قال في ذلك أيضا:

أ ليس ورائي أن أدبّ على العصا *** فيشمت(3) أعدائي و يسأمني أهلي

رهينة قعر البيت كلّ عشيّة *** يطيف بي(4) الولدان أهدج(5) كالرّأل

أقيموا بني لبنى صدور ركابكم *** فكلّ منايا النّفس(6) خير من الهزل(7)

فإنكم لن تبلغوا كلّ همّتي *** و لا أربى(8) حتّى تروا منبت الأثل(9)

/لعلّ ارتيادي في البلاد و حيلتي(10) *** و شدّي حيازيم المطيّة بالرّحل

سيدفعني يوما إلى ربّ هجمة *** يدافع عنها بالعقوق و بالبخل

ص: 58


1- انظر الكلام عليه في الحاشيتين رقم 2، 3 ص 329 من الجزء الثاني من هذا الكتاب.
2- انظر الكلام عليه في الحاشية رقم 3 ص 79 من هذا الجزء.
3- في «ديوان الحماسة» «فيأمن».
4- في «ديوان الحماسة»: «يلاعبني الولدان».
5- أهدج: وصف من الهدج أو الهدجان، و هو اضطراب المشي من الكبر. و لهذا سموا مشية الشيخ هدجانا. و الرأل: ولد النعام أو حوليه. و شبه الشيخ به في مشيته لأن في مشيته ارتعاشا، يقال: هدج الظليم يهدج هدجانا إذا مشى وعدا في ارتعاش.
6- في ط: «فكل منايا القوم». و في «ديوان الحماسة»: فإن منايا القوم شر من الهزل و هو لا يؤدّي المعنى المراد.
7- الهزل: الضعف و قلة الشحم و اللحم و هو نقيض السمن.
8- في ط، ء، أ، م: «أربتي».
9- يريد بلاد بني القين و في «ديوان الحماسة»: «منبت النخل» و هو بيثرب.
10- الرواية فيما تقدّم ص 79: «و بغيتي».
قصته مع هزلي أغار على فرسه:

نسخت من «كتاب أحمد بن القاسم بن يوسف» قال حدّثني حرّ(1) بن قطن أنّ ثمامة بن الوليد دخل على المنصور؛ فقال: يا ثمامة، أتحفظ حديث ابن عمّك عروة الصّعاليك بن الورد العبسيّ؟ فقال: أيّ حديثه يا أمير المؤمنين؟ فقد كان كثير الحديث حسنه؛ قال: حديثه مع الهذليّ الذي أخذ فرسه؛ قال: ما يحضرني ذلك فأرويه يا أمير المؤمنين؛ فقال المنصور: خرج عروة حتّى دنا من منازل هذيل فكان منها على نحو ميلين و قد جاع فإذا هو بأرنب فرماها ثم أورى نارا فشواها و أكلها و دفن النّار على مقدار ثلاث أذرع و قد ذهب اللّيل و غارت النّجوم، ثمّ أتى سرحة(2) فصعدها و تخوّف الطّلب، فلما تغيّب فيها إذ الخيل قد/جاءت و تخوّفوا البيات(3). قال:

فجاءت جماعة منهم و معهم رجل على فرس فجاء حتى ركز رمحه في موضع النّار و قال: لقد رأيت النّار هاهنا؛ فنزل رجل فحفر قدر ذراع فلم يجد شيئا، فأكبّ القوم على الرّجل(4) يعذلونه و يعيبون أمره و يقولون: عنّيتنا في مثل هذه اللّيلة القرّة و زعمت لنا شيئا كذبت فيه؛ فقال: ما كذبت، و لقد رأيت النّار في موضع رمحي؛ فقالوا: ما رأيت شيئا و لكن تحذلقك(5) و تدهّيك(6) هو الذي حملك على هذا، /و ما نعجب إلاّ لأنفسنا حين أطعنا أمرك و اتّبعناك؛ و لم يزالوا بالرجل حتّى رجع عن قوله لهم. و اتّبعهم عروة، حتّى إذا وردوا منازلهم جاء عروة فتكمّن(7)في كسر(8) بيت؛ و جاء الرّجل إلى امرأته و قد خالفه إليها عبد أسود، و عروة ينظر، فأتاها العبد بعلبة فيها لبن فقال: اشربي؛ فقالت لا، أو تبدأ، فبدأ الأسود فشرب؛ فقالت للرجل حين جاء: لعن اللّه صلفك(9)! عنّيت قومك منذ اللّيلة؛ قال: لقد رأيت نارا، ثمّ دعا بالعلبة ليشرب، فقال حين ذهب ليكرع: ريح رجل و ربّ الكعبة! فقالت امرأته: و هذه أخرى، أيّ(10) ريح رجل تجده في إنائك غير ريحك! ثم صاحت، فجاء قومها فأخبرتهم خبره، فقالت: يتّهمني و يظنّ بي الظّنون! فأقبلوا عليه باللّوم حتّى رجع عن قوله؛ فقال عروة: هذه ثانية. قال ثم أوى الرجل إلى فراشه، فوثب عروة إلى الفرس و هو يريد أن يذهب به، فضرب الفرس بيده و تحرّك(11)، فرجع عروة إلى موضعه، و وثب الرجل فقال: ما كنت لتكذبيني(12) فمالك؟ فأقبلت عليه امرأته لوما و عدلا. قال: فصنع عروة ذلك

ص: 59


1- في ط، ء: «جزء». و في أ، م: «جز» بدون همزة. و الذي في «شرح القاموس» مادة: قطن «و قطن أبو حرب» و كلاهما محدّث، و ورد له ذكر في الطبري قسم 2 ص 1980 طبع أوروبا، فلعل ما هاهنا تحريف عن «حرب».
2- السرحة: واحدة السرح و هو شجر كبار عظام طوال لا ترعى و إنّما يستظل به، و قيل: السرح كل شجر طال.
3- البيات: الإيقاع بالقوم ليلا من دون أن يعلموا، و هو اسم مصدر لبيت كالكلام من كلم، يقال: بيتنا القوم أي أوقعنا بهم ليلا و هم لا يعلمون.
4- في ء، ح، ط: «فركب القوم الرجل يعذلونه» و المعنى علوه بعذلهم.
5- التحذلق: إظهار الإنسان الحذق، أو ادعاؤه أكثر مما عنده.
6- كذا في أكثر النسخ، و التدهي: أن يفعل الإنسان فعل الدهاة. و في ب، س، ح: «تداهيك» و لم نجد في «اللسان» و لا في «القاموس» «تفاعل» من هذه المادة.
7- كذا في أكثر الأصول. و لم نجد في «اللسان» و لا في «القاموس» «تفعّل» من هذه المادة، و إنما يقال: «كمن» و «اكتمن» أي اختفى. و في ط: «فتمكن».
8- كسر البيت: جانبه.
9- كذا في أكثر النسخ، و الصلف: مجاوزة الرجل قدر الظرف و ادعاؤه فوق ذلك إعجابا و تكبرا. و في ب، س، ح: «صلبك» بالباء.
10- كذا في أكثر النسخ. و في ب، س، ح: «و أي ريح» بزيادة الواو.
11- كذا في أ، م. و في سائر النسخ: «و نخر».
12- في ب، س: «لتكذبيني» و هو تحريف، و الفرس يقع على الذكر و الأنثى و المراد به هنا الذكر كما يدل عليه السياق فيما بعد.

ثلاثا و صنعه(1) الرجل، ثم أوى الرجل إلى فراشه و ضجر من كثرة ما يقوم، فقال: لا أقوم إليك اللّيلة؛ و أتاه عروة فحال(2) في متنه و خرج ركضا، و ركب الرجل/فرسا عنده أنثى. قال عروة: فجعلت أسمعه خلفي يقول: الحقي فإنك من نسله. فلما انقطع عن البيوت، قال له عروة بن الورد: أيّها الرجل قف، فإنك لو عرفتني لم تقدم عليّ، أنا عروة بن الورد، و قد رأيت اللّيلة منك عجبا، فأخبرني به و أردّ إليك فرسك؛ قال: و ما هو؟ قال: جئت مع قومك حتّى ركزت رمحك في موضع نار قد كنت أوقدتها فثنوك عن ذلك فانثنيت و قد صدقت، ثم اتّبعتك حتّى أتيت منزلك و بينك و بين النار ميلان فأبصرتها منهما، ثم شممت رائحة رجل في إنائك، و قد رأيت الرجل حين آثرته زوجتك بالإناء، و هو عبدك الأسود و أظن أن بينهما ما لا تحبّ، فقلت: ريح رجل؛ فلم تزل تثنيك عن ذلك حتى انثنيت، ثم خرجت إلى فرسك فأردته فاضطرب و تحرّك فخرجت إليه، ثم خرجت و خرجت، ثم أضربت عنه، فرأيتك في هذه الخصال أكمل الناس و لكنك تنثني و ترجع؛ فضحك و قال: ذلك لأخوال السّوء، و الذي رأيت من صرامتي فمن قبل أعمامي و هم هذيل، و ما رأيت من كعاعتي(3) فمن قبل أخوالي و هم بطن من خزاعة، و المرأة التي رأيت عندي امرأة منهم و أنا نازل فيهم، فذلك الذي يثنيني عن أشياء كثيرة، و أنا لا حق بقومي و خارج عن أخوالي هؤلاء و مخلّ سبيل المرأة، و لو لا ما رأيت من كعاعتي لم يقو على مناوأة قومي أحد من العرب. فقال عروة: خذ فرسك راشدا؛ قال: ما كنت لآخذه منك و عندي من نسله جماعة مثله، فخذه مباركا لك فيه. /قال ثمامة: إنّ له عندنا أحاديث كثيرة ما سمعنا له بحديث هو أظرف من هذا.

قصة غزوة لماوان و حديثه مع غلام تبين بعد أنه ابنه:

قال المنصور: أ فلا أحدّثك له بحديث هو أظرف من هذا؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، فإن الحديث إذا جاء منك كان له فضل على غيره؛ قال: خرج عروة و أصحابه حتى أتى ماوان/فنزل أصحابه و كنف عليهم كنيفا من الشجر، و هم أصحاب الكنيف الذي سمعته قال فيهم:

ألا إنّ أصحاب الكنيف وجدتهم *** كما الناس لمّا أمرعوا و تموّلوا

و في هذه الغزاة يقول عروة:

أقول لقوم(4) في الكنيف تروّحوا *** عشيّة قلنا حول ماوان رزّح(5)

و في هذه القصيدة يقول:

ليبلغ(6) عذرا أو يصيب غنيمة *** و مبلغ نفس عذرها مثل(7) منجح

ص: 60


1- في ب، س: «لتكذبيني» و هو تحريف، و الفرس يقع على الذكر و الأنثى و المراد به هنا الذكر كما يدل عليه السياق فيما بعد.
2- كذا في أكثر النسخ. و في ب، س، ح: «و منعه» بالميم و هو تحريف.
3- الكعاعة: الجبن و الضعف. كذا في أكثر النسخ. و في «اللسان»: حال في متن فرسه حئولا إذا وثب و ركب. و في ب، س: «فجال» بالجيم.
4- كذا في ح. و في باقي الأصول: «أقول لأصحاب الكنيف...» و في ط، ء، مع ذكرهما هذه الرواية الأخيرة، زيادة تؤيد رواية ح و هي: «الرواية أقول لقوم في الكنيف، ليكون رزح محمولا عليه». و في «ديوان الحماسة». و هي: «الرواية أقول لقوم في الكنيف، ليكون رزح محمولا عليه». و في «ديوان الحماسة». قلت لقوم في الكنيف تروّحوا عشية بتنا عند ماوان رزح
5- و رزح جمع رازح، و الرازح: الهالك هزالا.
6- في الأصل: «لتبلغ، و نصيب» و الصواب ما أثبتناه لقوله قبل هذا البيت: و من يك مثلى ذا عيال و مقترا من المال يطرح نفسه أي مطرح
7- في ب، س: «منك منجح» و هو تحريف.

ثم مضى يبتغي لهم شيئا و قد جهدوا، فإذا هو بأبيات شعر و بامرأة قد خلا من سنّها و شيخ كبير كالحقاء(1)الملقى، فكمن في كسر بيت منها، و قد أجدب الناس و هلكت الماشية، فإذا هو في البيت بسحور ثلاثة مشويّة - فقال ثمامة: و ما السّحور؟ قال: الحلقوم بما فيه - و البيت خال فأكلها، و قد مكث قبل ذلك يومين لا يأكل شيئا فاشبعته و قوي، فقال: لا أبالي من لقيت بعد هذا. و نظرت المرأة فظنّت أنّ الكلب أكلها فقالت للكلب: أ فعلتها يا خبيث! و طردته. فإنه لكذلك/إذا هو عند المساء بإبل قد ملأت الأفق و إذا هي تلتفت فرقا، فعلم أن راعيها جلد شديد الضرب لها، فلما أتت المناخ بركت، و مكث الراعي قليلا ثم أتى ناقة منها فمرى(2) أخلافها، ثم وضع العلبة على ركبتيه و حلب حتى ملأها، ثم أتى الشيخ فسقاه، ثم أتى ناقة أخرى ففعل بها ذلك(3) و سقى العجوز، ثم أتى أخرى ففعل بها كذلك فشرب هو، ثم التفع بثوب و اضطجع ناحية، فقال الشيخ للمرأة و أعجبه ذلك: كيف ترين ابني؟ فقالت: ليس بابنك! قال: فابن من ويلك؟ قالت: ابن عروة بن الورد، قال: و من أين؟ قالت: أتذكر يوم مرّ بنا يريد(4) سوق ذي المجاز فقلت: هذا عروة بن الورد، و وصفته لي بجلد فإني استطرفته(5). قال: فسكت، حتى إذا نوّم(6) وثب عروة و صاح بالإبل فاقتطع منها نحوا من النصف و مضى و رجا ألاّ يتبعه الغلام - و هو غلام حين بدا شاربه - فاتّبعه. قال: فاتخذا(7) و عالجه، قال: فضرب به الأرض فيقع قائما، فتخوّفه على نفسه، ثم واثبه فضرب به و بادره، فقال: إنّي عروة بن الورد، و هو يريد أن يعجزه عن نفسه. قال: فارتدع، ثم قال مالك ويلك! لست أشكّ أنك قد سمعت ما كان من أمّي؛ قال قلت نعم. فاذهب معي أنت و أمك و هذه الإبل ودع هذا الرجل فإنه لا ينهاك(8) عن شيء، قال: الذي بقي من عمر الشيخ قليل، و أنا مقيم معه ما بقي، فإن له حقّا و ذماما، فإذا هلك فما أسرعني إليك، و خذ من هذه الإبل بعيرا؛ قلت: لا يكفيني، إنّ معي/أصحابي(9) قد خلّفتهم؛ قال: فثانيا، قلت لا؛ قال: فثالثا، و اللّه لا زدتك على ذلك(10). فأخذها و مضى إلى أصحابه، ثم إنّ الغلام لحق به بعد هلاك الشيخ.

قال: و اللّه يا أمير المؤمنين لقد زيّنته عندنا و عظّمته في قلوبنا؛ قال: فهل أعقب عندكم؟ قال لا، و لقد كنا نتشاءم /بأبيه، لأنه هو الذي أوقع الحرب بين عبس و فزارة بمراهنته حذيفة، و لقد بلغني أنه كان له ابن أسنّ من عروة فكان يؤثره على عروة فيما يعطيه و يقرّبه، فقيل له: أ تؤثر الأكبر مع غناه عنك على الأصغر مع ضعفه! قال: أ ترون هذا الأصغر! لئن بقي مع ما رأى ما شدّة نفسه ليصيرنّ الأكبر عيالا عليه.

ص: 61


1- كذا في أكثر النسخ. و الحقاء: الإزار. و في ب، س، ح: «كالخباء».
2- مري أخلافها: مسح ضرعها لتدرّ.
3- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س، ح: «كذلك».
4- كذا في أ، م. و في أكثر الأصول: «مرّ بنا و نحن نريد».
5- كذا في ط، ء. و استطرفته: عددته طريفا. و لعلها: استظرفته. و في باقي الأصول: «استطرقته» بالقاف.
6- نوّم: مبالغة في نام.
7- كذا في ط، ء. يقال اتخذ القوم إذا أخذ بعضهم بعضا في القتال. و في ح: «فاتحدا». و في باقي الأصول: «فانحدرا».
8- كذا في ء و هامش ط. و معنى لا ينهاك عن شيء أنه لا غناء فيه فلا ينهاك عن تطلب غيره. و في ب، س: «لا يهنئك» و في باقي الأصول «لا ينهيك» و كلاهما تحريف.
9- في ح: «أصحابا».
10- كذا في أكثر النسخ. و في ب، س، ح: «و اللّه لا زدتك على ذلك شيئا» بزيادة كلمة شيء.
صوت من المائة المختارة

أزرى بنا أننا شالت نعامتنا *** فخالني دونه بل خلته دوني

فإن تصبك من الأيام جائحة *** لم أبك منك على دنيا و لا دين

الشعر لذي الإصبع العدوانيّ، و الغناء لفيل(1) مولى العبلات هزج خفيف بإطلاق الوتر في مجرى البنصر.

معنى قوله أزرى بنا: قصّر بنا، يقال: زريت عليه إذا عبت عليه فعله، و أزريت به إذا قصّرت به في شيء. و شالت نعامتهم إذا انتقلوا بكلّيتهم، يقال: شالت نعامتهم، و زفّ رألهم، إذا انتقلوا(2) عن الموضع فلم يبق فيه منهم أحد و لم يبق لهم فيه شيء. و خالني: ظنني، يقال: خلت كذا و كذا فأنا أخاله إذا ظننته. و الجائحة: النازلة التي تجتاح و لا تبقى على ما نزلت به.

ص: 62


1- كذا في ط، ء. و في باقي النسخ «نفيل» بزيادة نون. و قد اضطربت فيه النسخ فيما سيأتي عند ذكر ترجمته، فذكر في ط، ء، «فيل» و في باقي الأصول «قيل» بالقاف. و ستأتي ترجمته في هذا الجزء.
2- في ط، ء: «إذا استقلوا».

22 - ذكر ذي الإصبع العدوانيّ و نسبه و خبره

نسبه و هو شاعر فارس جاهلي:

هو حرثان بن الحارث بن محرّث بن ثعلبة بن سيّار(1) بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عباد(2) بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن سعد(3) بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، أحد بني عدوان و هم بطن من جديلة. شاعر فارس من قدماء الشعراء في الجاهلية و له غارات كثيرة في العرب و وقائع مشهورة.

فنيت عدوان فرثاها:
اشارة

أخبرنا محمد بن خلف وكيع و ابن عمّار و الأسديّ، قالوا حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا أبو عثمان المازنيّ عن الأصمعيّ قال:

نزلت عدوان على ماء فأحصوا فيهم سبعين ألف غلام أغرل(4) سوى من كان مختونا لكثرة عددهم، ثم وقع بأسهم بينهم فتفانوا فقال ذو الإصبع:

صوت

عذير الحيّ من عدوا *** ن كانوا حيّة الأرض(5)

بغى بعضهم بعضا *** فلم يبقوا على بعض

فقد صاروا أحاديث *** برفع القول و الخفض(6)

/و منهم كانت السّادا *** ت و الموفون بالقرض

و منهم من يجيز النا *** س بالسّنة و الفرض

و منهم حكم يقضي *** فلا ينقض ما يقضي

غنّى في هذه الأبيات مالك ثقيلا(7) أوّل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو.

ص: 63


1- كذا في جميع النسخ. و الذي جاء في «شرح ابن الأنباري» على «المفضليات» للضبيّ ص 313 طبع بيروت: «شباث». و في «الخزانة» للبغدادي ج 2 ص 408: «شبابة».
2- كذا في جميع النسخ. و الذي في «شرح المفضليات» و «الخزانة» للبغدادي: «عياذ».
3- كذا في أكثر النسخ و «شرح المفضليات» و «الخزانة». و في ب، س: «سعيد».
4- الأغرل: الذي لم يختن.
5- يقول: هات عذرا فيما فعل بعضهم ببعض من التباعد و التباغض و القتل بعد ما كانوا حية الأرض التي يحذرها كل أحد، و العرب تقول للرجل الصعب المنيع الجانب حية الأرض.
6- يعني بقوله هذا: أنهم صاروا أحاديث للناس يرفعونها و يخفضونها، و معنى يخفضونها: يسرونها.
7- كذا في ب، س، ح و في باقي النسخ: «ثقيل الأول» بالإضافة.

/و أما قول ذي الإصبع:

و منهم حكم يقضي

فإنه يعني عامر بن الظّرب العدوانيّ، كان حكما للعرب تحتكم إليه.

من قرعت له العصا:

حدّثنا محمد بن العبّاس اليزيديّ عن محمد بن حبيب قال:

قيس تدّعي هذه الحكومة و تقول: إنّ عامر بن الظّرب العدوانيّ هو الحكم و هو الذي كانت العصا تقرع له، و كان قد كبر فقال له الثاني من ولده: إنك ربّما أخطأت في الحكم فيحمل عنك؛ قال: فاجعلوا لي أمارة أعرفها فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الحكم و الصواب، فكان يجلس قدّام بيته و يقعد ابنه في البيت و معه العصا، فإذا زاغ(1)أو هفا قرع له الجفنة فرجع إلى الصواب. و في ذلك يقول المتلمّس:

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا *** و ما علّم الإنسان إلا ليعلما

قال ابن حبيب: و ربيعة تدّعيه لعبد اللّه بن عمرو بن الحارث بن همّام. و اليمن تدّعيه لربيعة بن مخاشن، و هو ذو الأعواد، و هو أوّل من جلس على منبر أو سرير و تكلّم؛ و فيه يقول الأسود بن يعفر:

و لقد علمت لو أنّ علمي نافعي *** أنّ السبيل سبيل ذي الأعواد

/أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ أبو دلف قال أخبرنا الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ قال:

زعم أبو عمرو بن العلاء أنه ارتحلت عدوان من منزل، فعدّ فيهم أربعون ألف غلام أقلف(2). قال الرياشيّ و أخبرني رجل عن هشام بن الكلبيّ قال: وقع على إياد البقّ فأصاب كلّ رجل منهم بقتان.

استعراض عبد الملك بن مروان أحياء العرب و سؤاله عن ذي الإصبع:

أخبرني أحمد بن عبيد(3) اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن نعيم قال حدّثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة قال أخبرني محمد بن زياد الزّياديّ، و أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عمر بن شبة و لم يسنده إلى أحد و روايته أتمّ:

أنّ عبد الملك بن مروان لما قدم الكوفة بعد قتله مصعب بن الزبير جلس لعرض(4) أحياء العرب - و قال عمر بن شبة: إنّ مصعب بن الزبير كان صاحب هذه القصّة - فقام إليه معبد بن خالد الجدليّ، و كان قصيرا دميما، فتقدّمه إليه رجل منا حسن الهيئة؛ قال معبد: فنظر عبد الملك إلى الرجل و قال: ممن أنت؟ فسكت و لم يقل شيئا و كان منّا، فقلت من خلفه: نحن يا أمير المؤمنين من جديلة؛ فأقبل على الرجل و تركني، فقال: من أيّكم ذو الإصبع؟ قال الرجل: لا أدري؛ قلت: كان عدوانيّا؛ فأقبل على الرجل و تركني و قال: لم سمّي ذا الإصبع؟ قال الرجل: لا أدري؛ فقلت: نهشته حية في إصبعه فيبست؛ فأقبل على الرجل و تركني، فقال: و بم كان يسمّى قبل

ص: 64


1- في ح، ء: «زل».
2- الأقلف: الذي لم يختن.
3- تقدم هذا الاسم غير مرة «أحمد بن عبيد اللّه». و قد ذكر هنا باتفاق النسخ: «أحمد بن عبد اللّه».
4- فيء، ط: «يعترض».

ذلك؟ قال الرجل: لا أدري؛ قلت: كان يسمّى حرثان؛ فأقبل على الرجل و تركني، فقال: من أيّ عدوان كان؟ فقلت من خلفه: من بني ناج الذين يقول فيهم الشاعر:

/

و أما بنو ناج فلا تذكرنّهم *** و لا تتبعن عينيك ما كان هالكا

إذا قلت معروفا لأصلح بينهم *** يقول وهيب لا أسالم ذلكا

و روى عمر بن شبة: لا أسلّم.

فأضحى كظهر الفحل جبّ سنامه *** يدبّ إلى الأعداء أحدب باركا

/فأقبل على الرجل و تركني و قال أنشدني قوله:

عذير الحيّ من عدوان

قال الرجل: لست أرويها؛ قلت: يا أمير المؤمنين إن شئت أنشدتك؛ قال: ادن منّي، فإني أراك بقومك عالما؛ فأنشدته:

و ليس المرء في شيء *** من الإبرام و النقض

إذا أبرم أمرا خا *** له يقضي و ما يقضي

يقول اليوم أمضيه *** و لا يملك ما يمضي

عذير الحيّ من عدوا *** ن كانوا حيّة الأرض

بغى بعضهم بعضا *** فلم يبقوا على بعض

فقد صاروا أحاديث *** برفع القول و الخفض

و منهم كانت السادا *** ت و الموفون بالقرض

و منهم حكم يقضي *** فلا ينقض ما يقضي

و منهم من يجيز النا *** س بالسّنّة و الفرض

و هم من ولدوا أشبوا(1) *** بسرّ الحسب المحض

و ممّن ولدوا عام *** ر ذو الطول و ذو العرض(2)

و هم بوّوا(3) ثقيفا دا *** ر لا ذلّ و لا خفض

/فأقبل على الرجل و تركني و قال: كم عطاؤك؟ فقال: ألفان، فأقبل عليّ فقال: كم عطاؤك؟ فقلت:

خمسمائة؛ فأقبل على كاتبه و قال: اجعل الألفين لهذا و الخمسمائة لهذا؛ فانصرفت بها.

و قوله: «و منهم من يجيز الناس» فإنّ إجازة الحج كانت لخزاعة فأخذتها منهم عدوان فصارت إلى رجل منهم

ص: 65


1- يقال: أشبى فلان إذا ولد له ولد كيس.
2- كذا في ب، س. و في أ، م: «و ممن ولدوا عامر ذا الطول إلخ». و في ط، ء: «و هم من ولدوا عامر ذا الطول إلخ».
3- بوّوا: أنزلوا، و الأصل بوءوا، و حذف الهمز للتخفيف.

يقال له أبو سيّارة أحد بني وابش(1) بن زيد(2) بن عدوان. و له يقول الراجز:

خلّوا السبيل عن أبي سيّاره *** و عن مواليه بني فزاره

حتى يجيز سالما حماره *** مستقبل الكعبة يدعو جاره

قال: و كان أبو سيارة يجيز الناس في الحج بأن يتقدّمهم على حمار، ثم يخطبهم فيقول: اللهم أصلح بين نسائنا، و عاد بين رعائنا، و اجعل المال في سمحائنا، أوفوا بعهدكم، و أكرموا جاركم، و اقروا ضيفكم، ثم يقول:

أشرق(3) ثبير كيما نغير، و كانت هذه إجازته، ثم ينفر(4) و يتبعه الناس. ذكر ذلك أبو عمرو الشّيبانيّ و الكلبيّ و غيرهما.

قصته مع بناته الأربع و قد أردن الزواج:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا أبو بكر العليميّ قال حدّثنا محمد بن داود الهشاميّ قال: كان لذي الإصبع أربع بنات و كنّ يخطبن إليه فيعرض ذلك عليهنّ فيستحين و لا يزوّجهنّ، و كانت أمّهنّ تقول: لو زوّجتهنّ! فلا يفعل. قال: فخرج ليلة إلى متحدّث لهنّ فاستمع عليهنّ و هنّ لا يعلمن فقلن:

تعالين نتمنّى و لنصدق، فقالت الكبرى:

ألا ليت زوجي من أناس ذوي غنى *** حديث الشباب(5) طيب الريح و العطر(6)

طبيب بأدواء النساء كأنه *** خليفة جان لا ينام على وتر

/فقلن لها: أنت تحبّين رجلا ليس من قومك. فقالت الثانية:

ألا هل أراها ليلة و ضجيعها *** أشمّ كنصل السيف غير مبلّد

لصوق بأكباد النساء و أصله *** إذا ما انتمى من سرّ أهلي و محتدي

فقلن لها: أنت تحبّين رجلا من قومك. فقالت الثالثة:

ألا ليته يملا الجفان لضيفه(7) *** له جفنة يشقى بها النّيب(8) و الجزر(9)

ص: 66


1- كذا في أ، ء، ط. و قد أورد صاحب «القاموس» هذا الاسم في مادة «وبش» قال: «و بنو وابش بن زيد بن عدوان بطن من قيس عيلان». و في باقي النسخ: «قايش» و هو تحريف.
2- كذا في ط، ء، ح و هو الصواب. و في باقي النسخ: «يزيد» و هو تحريف.
3- هذا مثل، و معناه ادخل يا ثبير في الشروق و هو ضوء الشمس كما تقول: أشمل أي دخل في الشمال و أجنب أي دخل في الجنوب. و كيما نغير أي كيما نسرع للنحر من قولهم أغار إغارة الثعلب أي أسرع و دفع في عدوه. و ثبير: جبل بمكة. قال عمر رضي اللّه عنه: كان المشركون يقولون ذلك و لا يفيضون، حتى تطلع الشمس فخالفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. و هو يضرب في الإسراع و العجلة.
4- في ط، ء: «ينفذ» بالذال المعجمة.
5- في ب، س، ح: «حديث شباب».
6- في ح: «و النشر».
7- روي هذا الشطر في «الكامل» للمبرد طبع أوروبا ص 317 هكذا: ألا ليته يعطي الجمال بديهة
8- النيب جمع ناب و هي الناقة المسنة، و قيل لها ناب لطول نابها.
9- الجزر بضم الزاي و سكن للضرورة جمع جزور، و هي الناقة المجزورة، و إنما عطفت على النيب لأن من الإبل ما يكون جزورا للنحر لا غير.

له حكمات(1)

الدّهر من غير كبرة *** تشين و لا الفاني و لا الضّرع الغمر(2)

/فقلن لها: أنت تحبّين رجلا شريفا. و قلن للصّغرى: تمنّي؛ فقالت: ما أريد شيئا؛ قلن: و اللّه لا تبرحين حتّى نعلم ما في نفسك؛ قالت: زوج من عود خير من قعود. فلمّا سمع ذلك أبوهنّ زوّجهنّ أربعتهنّ. فمكثن برهة ثم اجتمعن إليه، فقال للكبرى: يا بنيّة، ما مالكم؟ قالت: الإبل؛ قال: فكيف تجدونها؟ قالت: خير مال، نأكل لحومها مزعا(3)، و نشرب ألبانها جرعا، و تحملنا و ضعيفنا معا؛ قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم الحليلة، و يعطي الوسيلة(4)؛ قال: مال عميم و زوج كريم. ثم قال للثانية: يا بنيّة ما مالكم؟ قالت: البقر؛ قال: فكيف تجدونها؛ قالت: خير مال، تألف الفناء، و تودّك(5) السّقاء، و تملأ الإناء، و نساء في نساء؛ قال:

فكيف تجدين زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم أهله و ينسى فضله؛ قال: حظيت و رضيت. ثم قال للثالثة: ما مالكم؟ قالت: المعزى؛ قال: فكيف تجدونها؟ قالت: لا بأس بها نولدها فطما(6)، و نسلخها أدما(7)؛ قال:

فكيف تجدين زوجك؟ قالت: لا بأس به ليس بالبخيل الحكر(8) و لا بالسّمح البذر، قال: جدوى(9) مغنية. ثم قال للرابعة: يا بنية، ما مالكم؟ قالت: الضّأن؛ قال: و كيف تجدونها؟ قالت: شرّ مال، جوف(10) لا يشبعن، و هيم(11)/لا ينقعن، و صمّ(12) لا يسمعن، و أمر مغويتهنّ يتبعن(13)؛ قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: شرّ زوج، يكرم نفسه و يهين عرسه؛ قال: «أشبه امرأ بعض بزّه»(14).

و ذكر الحسن بن عليل العنزي في خبر عدوان الذي رواه عن أبي عمرو بن العلاء أنه لا يصحّ من أبيات ذي الإصبع الضّاديّة إلاّ الأبيات التي أنشدها و أنّ سائرها منحول.

ص: 67


1- كذا في «الكامل» للمبرد طبع أوروبا ص 317؛ و الحكمات جمع حكمة و أصلها الحديدة في اللجام تمنع الفرس من مخالفة راكبه. و المراد بها هنا التجارب لأنها تمنع من ارتكاب ما لا يليق. و في أكثر الأصول: «به محكمات الشيب». و في بعضها: «له حكمات الحي» و كلاهما تحريف.
2- الضرع: الضعيف، و الغمر مثلث الغين: من لم يجرب الأمور.
3- مزعا جمع مزعة بضم الميم و كسرها و هي القطعة من اللحم.
4- الوسيلة: ما يتقرّب به إلى الغير. و في «الكامل» للمبرد: «و يقرب الوسيلة».
5- تودّك السقاء: تجعل فيه الودك و هو الدسم.
6- جمع فطيم و هو ما يفصل عن الرضاع.
7- الأدم: اسم لجمع الأديم و هو الجلد أو الأحمر منه أو مدبوغه.
8- الحكر: المستبد بالشيء.
9- كذا في جميع النسخ و الجدوى: الغناء و النفع. و في «الكامل» للمبرد طبع أوروبا ص 318 روى: «جذو مغنية» و قال في تفسيره: الجذو جمع جذوة و أصل ذلك في الخشب ما كان منه فيه نار.
10- جوف: عظام الأجواف.
11- الهيم: العطاش واحده أهيم أو هيماء، و لا ينقعن: لا يروين.
12- هذا وارد على وجه التمثيل، و شبهت الضأن بما لا يسمع لبلادتها. و العرب يقولون: أبلد ما يرعى الضأن.
13- قال عليّ بن عبد اللّه: قلت لأبي عائشة: ما قولها: «و أمر مغويتهن يتبعن» فقال: أ ما تراهن يمرون فتسقط الواحدة منهن في ماء أو و حل و ما أشبه ذلك فيتبعنها إليه. انظر «الكامل» للمبرد طبع أوروبا ص 318.
14- كذا في الأصول و هي إحدى روايتين، و ثانيتهما «أشبه امرؤ بعض بزه» انظر «الكامل» للمبرد ص 318؛ و فيه: أنه أرسله مثلا و لم نجده في «مجمع الأمثال» للميداني و لا في «لسان العرب».
خرف و أهتر و قال في ذلك شعرا:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن عبد اللّه الحزنبل قال حدّثني عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ عن أبيه قال: عمّر ذو الإصبع العدواني عمرا طويلا حتى خرّف(1) و أهتر و كان يفرّق ماله، فعذله أصهاره و لاموه و أخذوا على يده(2)؛ فقال في ذلك:

أهلكنا اللّيل و النّهار معا *** و الدّهر يعدو مصمّما جذعا(3)

فليس فيما أصابني عجب *** إن كنت شيبا أنكرت أو صلعا

و كنت إذ رونق الشّباب به *** ماء شبابي تخاله شرعا

و الحيّ فيه الفتاة ترمقني *** حتّى مضى شأو ذاك فانقشعا(4)

صوت

إنّكما صاحبيّ لم تدعا *** لومي و مهما أضق فلن تسعا

لم تعقلا جفوة عليّ و لم *** أشتم صديقا و لم أنل طبعا(5)

/إلاّ بأن تكذبا عليّ و ما *** أملك أن تكذبا و أن تلعا(6)

لابن سريح في هذه الأبيات لحنان: أحدهما ثاني ثقيل بالسبّابة و البنصر عن يحيى المكيّ، و الآخر ثقيل أوّل عن الهشاميّ.

و إنّني سوف أبتدي بندى *** يا صاحبيّ الغداة فاستمعا

ثمّ سلا جارتي و كنّتها *** هل كنت فيمن أراب أو خدعا(7)

أو دعتاني فلم أجب، و لقد *** تأمن منّي حليلتي الفجعا(8)

آبى فلا أقرب الخباء إذا *** ما ربّه بعد هدأة هجعا

و لا أروم الفتاة زورتها *** إن نام عنها الحليل أو شسعا(9)

و ذاك في حقبة خلت و مضت *** و الدّهر يأتي على الفتى لمعا(10)

ص: 68


1- خرف بتثليث الراء: فسد عقله. و أهتر (بالبناء للمفعول فهو مهتر): فسد عقله من الكبر و صار خرفا، و يقال: أهتر بالبناء للفاعل أيضا، و لكن الوصف منه مهتر على صيغة اسم المفعول شذوذا.
2- أخذوا على يده: حجروا عليه و منعوه مما يريد أن يفعل.
3- الجذع: الشاب الحدث.
4- في ء، ح: «فانقطعا».
5- الطبع: الدنس و العيب.
6- تلعا: من الولع و هو الكذب، يقال: ولع يلع ولعا و ولعانا أي كذب.
7- كذا في أ. و في ح: «قذعا» و قذع: رمى بالفحش و سوء القول. و في باقي الأصول: «فدعا» و ليس له معنى يناسب المقام.
8- في ح: «الفزعا».
9- شسع: بعد.
10- لمعا: ألوانا لاختلاف ما يأتي به من خير و شر. و اللمع: واحدته لمعة و هي كل لون خالف لونا آخر.

إن تزعما أنّني كبرت فلم *** ألف ثقيلا نكسا و لا ورعا(1)

إمّا تري شكّتي(2) رميح أبي *** سعد فقد أحمل السّلاح معا

/أبو سعد: ابنه، و رميح: عصا كانت لابنه يلعب بها مع الصّبيان يطاعنهم بها كالرّمح، فصار يتوكّأ هو عليها و يقوده ابنه هذا بها(3).

السّيف و الرّمح و الكنانة قد *** أكملت فيها معابلا(4) صنعا(5)

و المهر صافي الأديم أصنعه(6) *** يطير عنه عفاؤه قزعا(7)

أقصر من قيده و أردعه *** حتّى إذا السّرب ريع أو فزعا

كان أمام الجياد يقدمها *** يهزّ لدنا و جؤجؤا تلعا(8)

فغامس(9) الموت أو حمى ظعنا(10) *** أو ردّ نهبا لأيّ ذاك سعى

وصيته لابنه عند موته:
اشارة

قال أبو عمرو: و لمّا احتضر ذو الإصبع دعا ابنه أسيدا(11) فقال له: يا بنيّ، إن أباك قد فني و هو حيّ و عاش حتّى سئم العيش، و إنّي موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته، فاحفظ عنّي: ألن جانبك لقومك يحبّوك، و تواضع لهم يرفعوك، /و ابسط لهم وجهك يطيعوك، و لا تستأثر عليهم بشيء يسوّدوك؛ و أكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم و يكبر على مودّتك صغارهم، و اسمح بمالك، و احم حريمك، و أعزز جارك، و أعن من استعان بك، و أكرم ضيفك، و أسرع النّهضة(12) في الصّريخ، فإن لك أجلا لا يعدوك، و صن وجهك عن مسألة أحد شيئا، فبذلك يتم سوددك؛ ثم أنشأ يقول:

ص: 69


1- النكس: الرجل الضعيف الذي لا خير فيه. و الورع: الضعيف لا غناء عنده.
2- الشكة: السلاح.
3- في «لسان العرب» مادة رمح: «و أخذ الشيخ رميح أبي سعد: اتكأ على العصا من كبره، و أبو سعد أحد وفد عاد، و قيل هو لقمان الحكيم، قال: إما تري شكّتي رميح أبي سعد فقد أحمل السلاح معا و قيل: «أبو سعد كنية الكبر». و في «القاموس» مادة رمح مثل هذا الذي ذكره صاحب «اللسان» في تفسير «رميح أبي سعد». و لم يرد فيهما شيء مما ذكره أبو الفرج.
4- كذا في أكثر الأصول. و المعابل: جمع معبلة و هي نصل عريض طويل. و في ب، س، ح: «مقابلا» و هو تحريف.
5- صنعا: جمع صنيع و هو المجرّب المجلوّ، يقال: سيف صنيع و سهم صنيع أي مجرب مجلوّ.
6- أصنعه: أحسن القيام عليه، يقال: صنعت فرسي صنعا و صنعة أي أحسنت القيام عليه.
7- العفاء: الشعر الطويل. و القزع: القطع المتفرقة، و كل شيء يكون قطعا متفرقة فهو قزع.
8- اللدن: اللبن من كل شيء، و لعل المراد منه هنا الكفل. و الجؤجؤ: الصدر. و تلع: منبسط.
9- غامس الموت: ورده.
10- ظعنا: جمع ظعينة و هي الزوجة، يقال: هي ظعينة فلان أي زوجته، و هؤلاء ظواعنه أي نساؤه، و سميت الزوجة ظعينة لأن الرجل يظعن بها.
11- سمي بأسيد كزبير و بأسيد كأمير، و لم نعثر على نص خاص في هذا الاسم.
12- استعمل ابن جني أسرع متعديا فقال: «و يسرع قبول ما يسمعه» قال صاحب «اللسان»: فهذا إما أن يكون يتعدى بحرف و بغير حرف، و إما أن يكون أراد إلى قبول فحذف و أوصل.

أ أسيد إن مالا ملك *** ت فسر به سيرا جميلا

آخ الكرام إن استطع *** ت إلى إخائهم سبيلا

و اشرب بكأسهم و إن *** شربوا به السّمّ الثّميلا(1)

أهن اللّئام و لا تكن *** لإخائهم جملا ذلولا

إنّ الكرام إذا توا *** خيهم وجدت لهم فضولا(2)

ودع الذي يعد العشي *** رة أن يسيل و لن(3) يسيلا

/أ بنيّ إن المال لا *** يبكي إذا فقد البخيلا

صوت

أ أسيد إن أزمعت من *** بلد إلى بلد رحيلا

فاحفظ و إن شحط المزا *** ر أخا أخيك أو الزّميلا(4)

/و اركب بنفسك إن همم *** ت بها الحزونة و السّهولا

و صل الكرام و كن لمن *** ترجو مودّته وصولا

الغناء للهذليّ خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو.

ودع التّواني في الأمو *** ر و كن لها سلسا ذلولا

و ابسط يمينك بالنّدى *** و امدد لها باعا طويلا

و ابسط يديك بما ملك *** ت و شيّد الحسب الأثيلا

و اعزم إذا حاولت أم *** را يفرج الهمّ الدّخيلا

و ابذل لضيفك ذات رح *** لك(5) مكرما حتّى يزولا

و احلل على الأيفاع لل *** عافين و اجتنب المسيلا

و إذا القروم تخاطرت *** يوما و أرعدت الخصيلا(6)

فاهصر كهصر الليث خضّ *** ب(7) من فريسته التّليلا(8)

ص: 70


1- الظاهر أن الثميل هنا الناقع، و لكنا لم نجد في كتب اللغة التي بأيدينا الثميل بهذا المعنى، و إنما الوارد الثمال، بضم أوّله، و المثمل و هو السم المنقع أي الذي أنقع فبقي و ثبت.
2- كذا في ط، ء. و الفضول: جمع فضل، و في باقي الأصول: «قبولا».
3- كذا في أكثر الأصول. و في، ط، ء: «و لا».
4- كذا في أكثر الأصول، و الزميل: الرفيق في السفر الذي يعينك على أمورك. و في ط، ء، أ: «النزيلا».
5- الرحل: المثوى و المنزل.
6- الخصيل: جمع خصيلة و هي كل لحمة فيها عصب.
7- في ء، ط: «يخضب».
8- كذا في أكثر النسخ. و التليل: العنق. و في ء، ط: «الغليلا» و الغليل: الشعر المجتمع.

و انزل إلى الهيجا إذا *** أبطالها كرهوا النزولا

و إذا دعيت إلى المه *** مّ فكن لفادحه حمولا

استنشد معاوية قيسيا شعره و زاد في عطائه:

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن العتبيّ قال:

جرى بين عبد اللّه بن الزّبير و عتبة بن أبي سفيان لحاء(1) بين يدي معاوية، فجعل ابن الزبير يعدل بكلامه عن عتبة و يعرّض بمعاوية، حتى أطال و أكثر [من ذلك](2)، فالتفت إليه معاوية متمثّلا و قال:

/

ورام بعوران(3) الكلام كأنها *** نوافر صبح نفّرتها المراتع

و قد يدحض(4) المرء الموارب بالخنا *** و قد تدرك المرء الكريم المصانع

ثم قال لابن الزّبير: من يقول هذا؟ فقال: ذو الإصبع؛ فقال: أ ترويه؟ قال لا؛ فقال: من هاهنا يروي هذه الأبيات؟ فقام رجل من قيس فقال: أنا أرويها يا أمير المؤمنين؛ فقال: أنشدني؛ فأنشده حتى أتى على قوله:

و ساع برجليه لآخر قاعد *** و معط كريم ذو يسار و مانع

و بان لأحساب الكرام و هادم *** و خافض مولاه سفاها و رافع

و مغض على بعض الخطوب(5) و قد بدت *** له عورة من ذي القرابة ضاجع

و طالب حوب باللسان و قلبه *** سوى(6) الحقّ لا تخفى عليه الشرائع

فقال له معاوية: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة؛ قال: اجعلوها ألفا، و قطع الكلام بين عبد اللّه و عتبة.

شعره في ابن عمه و قد عاداه:

قال أبو عمرو(7): و كان لذي الإصبع ابن عمّ يعاديه فكان يتدسّس إلى مكارهه/و يمشي(8) به إلى أعدائه و يؤلّب عليه و يسعى بينه و بين بني عمّه و يبغيه عندهم شرّا؛ فقال فيه - و قد أنشدنا الأخفش هذه الأبيات [أيضا](9)عن ثعلب و الأحول السّكري:

/

يا صاحبيّ قفا قليلا *** و تخبّرا عنّي لميسا

ص: 71


1- اللحاء: المنازعة.
2- الزيادة عن ط، ء.
3- كذا في أكثر النسخ و كذلك أصلحه الأستاذ الشنقيطي بهامش نسخته طبع بولاق و ورد كذلك في «اللسان» مادة عور. و عوران الكلام: ما تنفيه الأذن، الواحدة عوراء (انظر «اللسان» مادة عور) و في ب، س: «بعورات».
4- كذا في ء، ط، أ: «و يدحض: يزلق و يزل». و في سائر النسخ: «يرخص».
5- في ب، س: «الخصوم».
6- سوى الحق: وسطه، يعني أن قلبه ملازم الحق.
7- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «ابن عمر».
8- في ء، ط: «ويشي».
9- الزيادة عن ط، ء.

عمّن أصابت قلبه *** في مرّها فغدا(1) نكيسا(2)

و لي ابن عمّ لا يزا *** ل إليّ منكره(3) دسيسا

دبّت له فأحسّ بع *** د البرء من سقم رسيسا(4)

إمّا علانية و إمّ *** ا مخمرا(5) أكلا(6) و هيسا

إني رأيت بني أبي *** ك يحمّجون(7) إليّ شوسا(8)

حنقا عليّ و لن ترى *** لي فيهم أثرا بئيسا(9)

أنحوا(10) على حرّ الوجو *** ه بحدّ مئشار(11) ضروسا

لو كنت(12) ماء لم تكن *** عذب المذاق و لا مسوسا(13)

ملحا بعيد القعر قد *** فلّت حجارته الفئوسا

منّاع ما ملكت يدا *** ك(14) و سائل لهم نحوسا

/و أنشدنا الأخفش عن هؤلاء الرواة بعقب هذه الأبيات - و ليس من شعر ذي الإصبع و لكنه يشبه معناه -:

لو كنت ماء كنت غير عذب *** أو كنت سيفا كنت غير عضب

أو كنت طرفا كنت غير ندب(15) *** أو كنت لحما كنت لحم كلب

قال: و في مثله أنشدنا:

ص: 72


1- في ب، س: «قعدا» و هو تحريف.
2- النكيس: المريض.
3- في ط، ء: «مئبره». و المئبر: اللسان.
4- الرسيس: أول الحمى.
5- من أخمر الشيء إذا ستره.
6- كذا في ط، ء، و الأكل الوهيس: الشديد. و في باقي النسخ: «كهلا» و هو تحريف.
7- كذا في ط، ح و معناه يديمون النظر. و قد ورد هذا البيت في «اللسان» في مادة شوس هكذا: أ إن رأيت بني أبي ك محمجين إليك شوسا و في باقي النسخ: يحمحمون إليّ سوسا و هو تحريف.
8- الشوس بالتحريك: النظر بمؤخر العين تكبرا أو تغيظا.
9- البئيس: الشديد المكروه.
10- كذا في ء، ط. و في باقي النسخ: «أنحى».
11- المئشار لغة في المنشار.
12- في ط، ء: «لو كنت ماء كنت لا».
13- المسوس: الماء بين العذب و الملح.
14- كذا في ط، ء: في باقي الأصول: «يداه».
15- يقال: فرس ندب أي ماض نشيط.

لو كنت مخّا كنت مخّا ريرا(1) *** أو كنت بردا كنت زمهريرا

أو كنت ريحا كانت الدّبورا

سبب تفرق عدوان و تقاتلهم:

قال أبو عمرو، و كان السبب في تفرّق عدوان و قتال بعضهم بعضا حتى تفانوا: أن بني ناج بن يشكر بن عدوان أغاروا على بني عوف بن سعد بن ظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان، و نذرت(2) بهم بنو عوف فاقتتلوا، فقتل بنو ناج ثمانية نفر، فيهم عمير بن مالك سيّد بني عوف، و قتلت بنو عوف رجلا منهم يقال له سنان بن جابر، و تفرّقوا على حرب. و كان الذي أصابوه من بني واثلة(3) بن عمرو بن عباد و كان سيّدا، فاصطلح سائر الناس على الديات أن يتعاطوها و رضوا بذلك، و أبى مرير بن جابر أن يقبل بسنان بن جابر دية، و اعتزل هو و بنو أبيه و من أطاعهم و من(4) و الاهم، و تبعه(5) على ذلك كرب بن خالد(6) أحد بني عبس بن ناج، فمشى إليهما ذو الإصبع و سألهما قبول الدية و قال: قد قتل منّا ثمانية نفر فقبلنا الدية و قتل/منكم رجل فاقبلوا ديته؛ فأبيا ذلك و أقاما على الحرب، فكان ذلك مبدأ حرب بعضهم بعضا حتى تفانوا و تقطّعوا. فقال ذو الإصبع في ذلك:

و يا بؤس للأيّام و الدّهر هالكا *** و صرف اللّيالي يختلفن كذلكا

/أبعد بني ناج و سعيك فيهم *** فلا تتبعن عينيك ما كان هالكا

إذا قلت معروفا لأصلح بينهم *** يقول مرير لا أحاول ذلكا

فأضحوا كظهر العود جبّ سنامه *** تحوم(7) عليه الطير أحدب باركا

فإن تك عدوان بن عمرو تفرّقت *** فقد غنيت(8) دهرا ملوكا هنالكا

قصيدته النونية:

و قال أبو عمرو: و في مرير بن جابر يقول ذو الإصبع - و هذه القصيدة هي التي منها [الغناء](9) المذكور - و أوّلها:

يا من لقلب شديد(10) الهمّ محزون *** أمسى تذكّر ريّا أمّ هارون

أمسى تذكّرها من بعد ما شحطت *** و الدّهر ذو غلظ(11) حينا و ذو لين

ص: 73


1- يقال: مخ رير أي فاسد من الهزال.
2- يقال: نذر بالشيء أي علمه فحذره.
3- فيء، ط: «وائلة».
4- كذا في أ. و في باقي النسخ: «و ما».
5- في ء، ط: «و تابعه».
6- في ء، ط: «جبلة».
7- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «يدب إلى الأعداء أحدب باركا».
8- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «غيبت».
9- التكملة من ط، ء.
10- في «أمالي القالي» ج 1 ص 255 طبع دار الكتب: «طويل البث».
11- كذا في ب، س، ح. و في باقي النسخ و «أمالي القالي»: «ذو غلظة».

فإن يكن حبّها أمسى لنا شجنا *** و أصبح الولي(1) منها لا يواتيني

فقد غنينا(2) و شمل الدار يجمعنا *** أطيع ريّا و ريّا لا تعاصيني

نرمي الوشاة فلا نخطي مقاتلهم *** بخالص(3) من صفاء الودّ مكنون

و لي ابن عمّ على ما كان من خلق *** مختلفان فأقليه(4) و يقليني

أزرى بنا أننا شالت نعامتنا *** فخالني دونه بل خلته دوني

/لاه(5) ابن عمّك لا أفضلت في حسب *** شيئا و لا أنت ديّاني(6) فتخزوني

و لا تقوت عيالي يوم مسغبة *** و لا بنفسك في العزّاء(7) تكفيني

فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي *** فإنّ ذلك ممّا ليس يشجيني

و لا ترى فيّ غير الصّبر منقصة *** و ما سواه فإنّ اللّه يكفيني

لو لا أواصر قربى لست تحفظها *** و رهبة اللّه في مولى يعاديني

إذا بريتك بريا لا انجبار له *** إنّي رأيتك لا تنفكّ تبريني

إنّ الذي يقبض الدنيا و يبسطها *** إن كان أغناك عنّي سوف يغنيني

اللّه يعلمكم و اللّه يعلمني *** و اللّه يجزيكم عنّي و يجزيني

ما ذا عليّ و إن كنتم ذوي رحمي *** ألاّ أحبّكم إن لم تحبّوني

لو تشربون دمي لم يرو شاربكم *** و لا دماؤكم جمعا تروّيني

و لي ابن عمّ لو أنّ الناس في كبدي *** لظلّ محتجزا(8) بالنّبل يرميني

يا عمرو إن لا(9) تدع شتمي و منقصتي *** أضربك حتى تقول الهامة اسقوني(10)

كلّ امرئ صائر يوما لشيمته *** و إن تخلّق أخلاقا إلى حين

إنّي لعمرك ما بابي بذي غلق(11) *** عن(12) الصّديق و لا خيري بممنون

ص: 74


1- كذا في ء، ط. و الولي: القرب. و في سائر النسخ: «الوأي». و الوأي: الوعد.
2- غنينا: أقمنا.
3- في «أمالي القالي» ج 1 ص 255 طبع دار الكتب: «بصادق».
4- أقليه: أبغضه.
5- أصله: للّه ابن عمك، حذفت منه اللام الخافضة.
6- الديان: القائم بالأمر. و تخزوني: تسوسني و تقهرني.
7- العزاء: الشدّة.
8- كذا في ء، ط، و المحتجز: الشادّ مئزره على وسطه و هو كناية عن التهيؤ للأمر و التشمر له. و في ب، س: «منحجزا».
9- كذا في ح و «الأمالي» طبع دار الكتب ج 1 ص 256، و في ط، ء: «إنك إن لا تدع إلخ». و في أ، م: «يا عمرو إن لم تدع إلخ».
10- هذا وارد على ما يزعمه العرب في جاهليتهم من أن روح القتيل الذي لم يدرك بثأره قصير هامة فتزقو عند قبره و تقول: اسقوني اسقوني، فإذا أدرك بثأره طارت.
11- الغلق: ما يغلق به الباب.
12- كذا في «المفضليات» ص 326 طبع بيروت. و في جميع الأصول: «على الصديق».

/

و لا لساني على الأدنى بمنطلق *** بالمنكرات و لا فتكي بمأمون

لا يخرج القسر(1) منّي غير مغضبة(2)*** و لا ألين لمن لا يبتغي ليني

و أنتم معشر زيد على مائة *** فأجمعوا أمركم شتّى فكيدوني

فإن علمتم سبيل الرّشد فانطلقوا *** و إن غبيتم(3) طريق الرشد فأتوني

/يا ربّ ثوب حواشيه كأوسطه *** لا عيب في الثوب من حسن و من لين

يوما شددت على فرغاء(4) فاهقة *** يوما من الدّهر تارات تماريني

ما ذا على إذا تدعونني فزعا *** ألاّ أجيبكم إذ لا تجيبوني

و كنت(5) أعطيكم ما لي و أمنحكم *** ودّي على مثبت في الصدر مكنون

يا ربّ حيّ شديد الشّغب ذي لجب(6)*** ذعرت(7) من راهن منهم و مرهون

رددت باطلهم في رأس قائلهم *** حتى يظلّوا خصوما(8) ذا أفانين

يا عمرو لو كنت لي ألفيتني يسرا(9)*** سمحا كريما أجازي من يجازيني

قصيدته في رثاء قومه:

قال أبو عمرو: و قال ذو الإصبع يرثي قومه:

و ليس المرء في شيء *** من الإبرام و النقض

إذا يفعل شيئا خا *** له يقضي و ما يقضي

جديد العيش ملبوس *** و قد يوشك أن ينضى(10)

/و قد مضى بعض هذه القصيدة متقدّما في صدر هذه الأخبار، و تمامها:

و أمر اليوم أصلحه *** و لا تعرض لما(11) يمضي

ص: 75


1- كذا في ء، ط، ح و «المفضليات». و في سائر النسخ: «لا تخرج النفس».
2- في «المفضليات»: «مأبية» و معناه: إذا أكرهت على شيء لم يكن عندي إلا الإباء له.
3- كذا في ط، ء. و في ب، س: «عييتم». و في «المفضليات» و «أمالي القالي»: «جهلتم».
4- كذا في س، و الفرغاء: الواسعة و المراد طعنة واسعة، و في ء، ط: «فوهاء»، و الفوهاء: الواسعة. و الفاهقة: التي تفهق بالدم أي تصب.
5- في ء، ط: «قد كنت».
6- اللجب: ارتفاع الأصوات و اختلاطها.
7- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «دعوت».
8- كذا في ء، ط و «المفضليات» ص 326 طبع بيروت، و في باقي النسخ: «حصونا» و هو تحريف.
9- اليسر: السهل الانقياد.
10- كذا في ط، ء. و بذلك يكون في هذه الأبيات إقواء، و الإقواء: اختلاف يقع في حركة القافية، و أكثر ما يكون ذلك بين الرفع و الجر، و أما مخالطة النصب لواحد منهما - كما في هذه الأبيات - فقليل، و قد استشهد صاحب «اللسان» لهذا القليل بشواهد كثيرة. و في سائر النسخ: «يغضي».
11- كذا في «شعراء النصرانية» طبع بيروت. و في جميع النسخ: «لمن».

فبينا المرء في عيش *** له من عيشة خفض

أتاه طبق(1) يوما *** على مزلقة دحض

و هم كانوا فلا تكذب *** ذوي القوّة و النّهض

و هم إن ولدوا أشبوا(2) *** بسرّ الحسب المحض

لهم كانت أعالي الأر *** ض فالسرّان فالعرض(3)

إلى ما حازه الحزن *** فما أسهل للحمض(4)

إلى الكفرين من نخل *** ة فالدّاءة(5) فالمرض

لهم كان جمام(6) الما *** ء لا المزجى(7) و لا البرض

فكان الناس إذا همّوا *** بيسر خاشع مغضي

تنادوا ثم ساروا ب *** رئيس لهم مرضي

/فمن ساجلهم حربا *** ففي الخيبة و الخفض

و هم نالوا على الشّنآ *** ن و الشّحناء و البغض

معالي لم ينلها النّا *** س في بسط و لا قبض

شعر أمامة بنت ذي الإصبع في رثاء قومها:

قال أبو عمرو: قالت أمامة بنت ذي الإصبع و كانت شاعرة ترثي قومها:

كم من فتى كانت له ميعة(8) *** أبلج مثل القمر الزاهر

قد مرّت الخيل بحافاته(9) *** كمرّ غيث لجب(10) ماطر

ص: 76


1- الطبق: الشدة، و به فسر قوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ.
2- كذا في «اللسان» مادة «شبا» و في جميع النسخ: و هم من ولدوا أشبوا يقال: أشبى فلان إذا ولد له ولد كيّس.
3- لم نعثر على السران اسما لموضع خاص و لعله تثنية السر و هو اسم لمواضع في بلاد العرب (انظر «معجم ياقوت» في اسم السرّ). و العرض: وادي اليمامة. و يقال لكل واد فيه قرى و مياه: عرض.
4- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «للمحض».
5- كذا في ء، ط و الداءة (بوزن داعة): اسم للجبل الذي يحجز بين نخلتين الشامية و اليمانية من نواحي مكة. و في باقي النسخ: «فالدارة» بالراء.
6- الجمام: جمع جم و هو الكثير من كل شيء.
7- المزجى: القليل، و منه بضاعة مزجاة أي قليلة. و البرض: القليل أيضا، يقال: ماء برض، في مقابلة ماء غمر. و في المثل: «برض من عدّ» أي قليل من كثير.
8- الميعة: أوّل الشباب و أنشطه.
9- كذا في ط، ء، و في سائر النسخ: «بحافاتهم».
10- يقال: غيث لجب أو سحاب لجب، لما فيه من قعقعة الرعد.

قد

لقيت فهم و عدوانها *** قتلا و هلكا آخر الغابر

كانوا ملوكا سادة في الذّرى(1)*** دهرا لها الفخر على الفاخر

/حتى تساقوا كأسهم بينهم *** بغيا فيا للشّارب الخاسر

بادوا فمن يحلل بأوطانهم *** يحلل برسم مقفر داثر(2)

شعره في الكبر:

قال أبو عمرو: و لأمامة ابنته هذه يقول ذو الإصبع و رأته قد نهض فسقط(3) و توكّأ على العصا فبكت فقال:

جزعت أمامة أن مشيت على العصا *** و تذكّرت إذ نحن م الفتيان

فلقبل ما رام الإله بكيده *** إرما و هذا الحيّ من عدوان

/بعد الحكومة و الفضيلة و النّهي *** طاف الزمان عليهم بأوان

و تفرّقوا و تقطّعت أشلاؤهم *** و تبدّدوا فرقا بكلّ مكان

جدب البلاد فأعقمت أرحامهم *** و الدّهر غيّرهم مع الحدثان

حتى أبادهم على أخراهم *** صرعى بكلّ نقيرة و مكان

لا تعجبنّ أمام من حدث عرا *** فالدّهر غيّرنا مع الأزمان

ص: 77


1- في ب، س: «الورى».
2- كذا في ط، و الداثر: الدارس العافي. و في سائر النسخ: «داسر» بالسين و هو تحريف.
3- كذا في ط. و في سائر النسخ: «و سقط» بالواو.

23 - ذكر قيل مولى العبلات

اشارة

23 - ذكر قيل(1) مولى العبلات

ولاؤه و غناؤه:
اشارة

قال هارون بن محمد بن عبد الملك: أخبرني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

كان يحيى قيل عبدا للثّريّا و رضيّا و أخواتهما بنات [عليّ بن](2) عبد اللّه بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس موليات الغريض.

قال و حدّثني حمّاد قال [حدّثني](2) أبي قال حدّثني ابن أبي جناح قال حدّثنا مقاحف(3) بن ناصح مولى عبد اللّه بن عباس قال قال حدّثني هشام بن المرّيّة - و هي أمّه، و هو مولى بني مخزوم - قال:

كان يحيى قيل عبدا لامرأة من العبلات، و له من الغناء:

صوت

و أخرجتها من بطن مكة بعد ما *** أصات المنادي للصّلاة و أعتما(4)

فمرّت ببطن اللّيث(5) تهوي كأنما *** تبادر بالإصباح نهبا مقسّما

و الشعر لأبي دهبل الجمحيّ. و أوّل هذه القصيدة:

ألا علق القلب المتيّم كلثما

أبو دهبل الجمحي:

و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني يحيى بن المقداد الزّمعيّ قال حدّثني عمّي موسى بن يعقوب الزّمعيّ قال أنشدني أبو دهبل الجمحيّ لنفسه:

ألا علق القلب المتيّم كلثما *** لجوجا و لم يلزم من الحبّ ملزما

خرجت بها من بطن مكة بعد ما *** أصات المنادي للصّلاة و أعتما

ص: 78


1- تقدّم هذا الاسم في الجزء الثاني من هذا الكتاب و اضطربت فيه النسخ فبعضها يذكره «قيل» بالقاف، و بعضها يذكره «فيل» بالفاء، و لم نقف على تحقيقه بالمراجع التي بأيدينا.
2- التكملة عن ء، ط.
3- كذا ورد هذا الاسم في أكثر النسخ. و في ء، ط ورد مرسوما هكذا: «معاحد» و لم نعثر فيما بين أيدينا من المراجع و لا في موالي ابن عباس على من تسمى بذلك، و قد وجد في موالي ابن عباس من اسمه «نافذ» بالفاء و الذال المعجمة، فلعله محرّف عنه.
4- أعتم: دخل في العتمة و هي ثلث الليل الأول بعد مغيب الشفق.
5- كذا في ء، ط، و هو الموافق لما في معجم «ياقوت» من أن الليث (بكسر اللام): واد بأسفل السراة يدفع في البحر أو موضع بالحجاز. و في باقي النسخ: «البيت».

فما نام من راع(1)

و لا ارتدّ سامر *** من الحيّ حتى جاوزت بي يلملما(2)

و مرّت ببطن اللّيث تهوي كأنها *** تبادر بالإدلاج نهبا مقسّما

أجازت على البزواء(3) و اللّيل كاسر *** جناحين بالبزواء وردا(4) و أدهما

فما ذرّ قرن الشمس حتى تبيّنت *** بعليب(5) نخلا مشرفا و مخيّما

و مرّت على أشطان(6) دومة(7) بالضحى *** فما خزرت(8) للماء عينا و لا فما

/و ما شربت حتى ثنيت زمامها *** و خفت عليها أن تحزّ(9) و تكلما

/فقلت لها قد تعت(10) غير ذميمة *** و أصبح وادي البرك(11) غيثا مديّما

قال فقلت [له](12): يا عمّ ما كنت إلا على الريح! فقال: يا ابن أخي إنّ عمّك كان إذا همّ فعل، و هي العجاجة، أ ما سمعت قول أخي ببني مرّة(13):

إذا أقبلت قلت مشحونة *** أقلّت(14) لها الريح قلعا(15) جفولا

و إن أدبرت قلت مذعورة *** من الرّمد(16) تتبع هيقا(17) ذمولا

ص: 79


1- كذا في «ياقوت» (في الكلام على يلملم) و إحدى روايتي ط. و في جميع النسخ: (داع).
2- يلملم: موضع على ليلتين من مكة و هو ميقات أهل اليمن، و فيه مسجد معاذ بن جبل رضي اللّه عنه.
3- كذا في «معجم ياقوت» في اسم البزواء و استشهد بهذا الشعر. و البزواء: موضع في طريق مكة قريب من الجحفة. و في ط «النزواء» بالنون و التحريف فيها واضح. و في باقي الأصول: «السرواء» و هو تحريف أيضا إذ لم نجد في الأماكن ما يسمى بهذا الاسم.
4- الورد: وصف من الوردة و هي لون أحمر يضرب إلى صفرة، يقال: ورد الفرس يورد وردة و ورودة إذا صار وردا أي كلون الورد و هو ما بين الكميت و الأشقر، و المراد بالورد هنا الفجر عند انبثاقه، و بالأدهم آخر ما بقي من سواد الليل.
5- كذا في أكثر الأصول، و عليب: موضع بتهامة. و في ء و إحدى روايتي ط: «بطيبة».
6- الأشطان: جمع شطن و هو الحبل الطويل الشديد الفتل يستقى به.
7- كذا في أكثر النسخ و الظاهر أن المراد به الدومة و هو واد بين المدينة و خيبر به آبار. انظر «معجم ما استعجم» ص 331، و في ء، ط: «روقة» بالراء و القاف و لم نجده في أسماء الأماكن.
8- كذا في ء، ط، و في باقي الأصول: «حدرت».
9- كذا في ء، و إحدى روايتي ط. و في باقي النسخ: «تجنّ».
10- كذا في ط و تعت أسرعت في السير، من تاع الماء يتيع تيعا أي سال على وجه الأرض، و على هامش هذه النسخة «تاع يتيع: انقاد». و في ء: «نغت» بالنون و الغين، و لم يظهر له معنى مناسب. و في باقي الأصول: «بعت».
11- كذا في ء، ط و هو كما في «معجم ياقوت»: ناحية باليمن بين ذهبان و حلي و هو نصف الطريق بين حلي و مكة، و في باقي الأصول: «البزل» و هو تحريف.
12- الزيادة عن ء، ط.
13- هو بشامة بن عمرو الغدير كما في «معجم ياقوت» و البكري في الكلام على «كشب».
14- في ء، ط: «أطاعت».
15- كذا في ء، ط. و القلع: شراع السفينة، و في باقي النسخ: «خلعا» و هو تحريف.
16- كذا في ء، ط و «المفضليات» للضبي ص 86 طبع بيروت، و الرمد: جمع رمداء و هي النعامة التي فيها سواد منكسف كلون الرماد، و في باقي النسخ: «الدبر» و هو النحل و الزنابير.
17- كذا في ء، ط. و الهيق: الظليم و هو ذكر النعام. و في باقي النسخ: «هيفا» بالفاء و هو تحريف، و ذمولا: سريعا.

و إن أعرضت(1) خال فيها البصي *** ر ما لا يكلّفه أن يفيلا(2)

/يدا(3) سرحا مائرا(4) ضبعها *** تسوم(5) و تقدم رجلا زجولا

فمرّت على كشب(6) غدوة *** و مرّت فويق أريك(7) أصيلا

تخبّط بالليل حزّانه(8) *** كخبط القويّ العزيز الذّليلا

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني ابن(9) أصبغ السلميّ قال: جاء إنسان يغنّي إلى عيّاش المنقريّ بالعقيق فجعل يغنّيه قول أبي دهبل:

ألا علق القلب المتيم كلثما

و جعل يعيده فلما أكثر قال له عيّاش: كم تنذر(10) بالعجوز عافاك اللّه! اسم أمي كلثم، قال: و تسمع العجوز، فقالت: لا و اللّه ما كان بيني و بينه شيء. قال: و من غنائه:

/

أزرى بنا أننا شالت نعامتنا *** فخالني دونه بل خلته دوني

فإن تصبك من الأيام جائحة *** لا نبك(11) منك على دنيا و لا دين

[و أوّل هذه الأبيات فيما أنشدناه عليّ بن سليمان الأخفش عن ثعلب](12).

صوت من المائة المختارة

لي ابن عمّ على ما كان من خلق *** مختلفان فأقليه و يقليني

ص: 80


1- أعرضت: رأيتها من عرضها و أحد جانبيها.
2- كذا في ء، ط، و يفيل: يخطئ، من فال رأيه إذا أخطأ، و المراد أنها إذا رؤيت لم يخطئ البصير في نجابتها. و في باقي النسخ: «يقيلا» بالقاف و هو تحريف.
3- كذا في ء، ط و «المفضليات» للضبي ص 86 طبع بيروت. و في باقي النسخ: «يد سرح مائر ضبعها».
4- يقال: مارت الناقة تمور فهي مائرة إذا كانت نشيطة في سيرها. و الضبع: العضد، و قيل: هو ما بين الإبط إلى نصف العضد.
5- كذا في ط و «المفضليات» للضبي، و تسوم: تعدو على وجهها، و قيل: تمرّ مرا سهلا. و زجولا بالزاي و الجيم من الزجل و هو الدفع، و المراد تدفع نفسها. و في ب، س: «يسوم و يقدم».
6- كذا في «معجم ياقوت» في مادة كشب و البكري، و قد اختلف ضبطه في «ياقوت» و «البكري» و «شرح القاموس» فقد روى بضم أوله و تشديد ثانيه المفتوح كما روى ككتب و ككتف و هو جبل مما يلي حدود اليمن. و في جميع النسخ و «ياقوت» في الكلام على أريك: «فمرت بذي خشب إلخ» و ذو خشب: موضع قرب المدينة.
7- أريك: جبل في بلاد بني مرة، قال جابر بن حني التغلبي: تصعّد في بطحاء عرق كأنها ترقى إلى أعلى أريك بسلم و قال الأخفش: إنما سمى أريكا لأنه جبل كثير الأراك.
8- كذا في «المفضليات» و «شرح القاموس» «مادة أرك» و الحزان بكسر الحاء و ضمها: جمع حزين و هو المكان الغليظ الصلب من الأرض، و في الأصول: «حزانة» بالتاء المنقوطة و هو تحريف.
9- في ء، ط: «أبو الأصبغ».
10- كذا في أكثر الأصول. و في ء، ط: «كم تنذرنا بالعجوز».
11- في ء، ط: «لا أبك».
12- هذه الزيادة عن ط.

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب *** عنّي و لا أنت ديّاني فتخزوني

غنّى في هذين البيتين الهذليّ ثاني(1) ثقيل بالوسطى.

و قد عجبت و ما في الدّهر من عجب *** يد تشجّ(2) و أخرى منك تأسوني

صوت من المائة المختارة

ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه *** يوما فتدركه العواقب قد نما(3)

يجزيك أو يثنى عليك و إنّ من *** أثنى عليك بما فعلت فقد جزى(4)

/ [عروضه من الكامل](5). الشعر لغريض(6) اليهودي و هو السموأل(7) بن عادياء، و قيل إنه لابنه سعية(8) بن غريض، و قيل إنه لزيد(9) بن عمرو بن نفيل، و قيل إنه لورقة بن نوفل، و قيل إنه لزهير بن جناب(10)، و قيل إنه لعامر بن المجنون الجرميّ(11) الذي يقال له: مدرج الرّيح، و الصحيح أنه لغريض أو لابنه.

ص: 81


1- كذا في ء، ط، ح. و في باقي الأصول: «غنى في هذين البيتين للهذليّ».
2- كذا في ء، ط. و في باقي الأصول: «تشح» بالحاء و هو تحريف.
3- انظر الشرح رقم 2 صحيفة 117.
4- في ط. «كمن جزى».
5- الزيادة عن ط، ء.
6- كذا ورد هذا الاسم في جميع الأصول بالغين المعجمة و في «شرح القاموس» مادة عرض ذكر ابنه سعية فقال: «و كزبير سعية بن عريض و يقال بالغين المعجمة أيضا» و قد جاء في «الإصابة» ج 3 ص 167 في الكلام على سعية أنه سعية بن غريض بفتح الغين المعجمة.
7- ذكر أبو الفرج هذا الاسم هنا فقال: إن الغريض اليهوديّ هو السموأل بن عادياء و في ترجمة السموأل ج 19 ص 18 طبع بولاق قال: إنه السموأل بن غريض بالغين المعجمة، و قال «صاحب معاهد التنصيص شرح شواهد» التلخيص «إنه السموأل بن عريض» بالعين المهملة.
8- صحح الأستاذ الشنقيطي في نسخته طبع بولاق هذا الاسم هكذا: سعية بالسين و العين و الياء و سعنة بالسين و العين و النون و كتب فوقه كلمة «معا» إشارة إلى أن كليهما صحيح، و قد ذكرهما كذلك ابن حجر في كتاب «الإصابة»، و جاء في «شرح القاموس» مادة سعى «و سعية بن عريض شاعر». و في جميع الأصول: «شعبة بن غريض».
9- كذا في ء، ط و هو الصواب، و في باقي النسخ: «يزيد».
10- كذا في ء، ط و هو الصواب. و في ح: «خناب». و في باقي النسخ: «خباب» و كلاهما تحريف.
11- كذا في ء، ط بالجيم و هو الصواب كما في «حماسة البحتري» ص 113 طبعة ليدن و «شرح القاموس» مادة «درج». و في باقي النسخ: «الحرمي» بالحاء و هو تحريف.

24 - خبر غريض اليهودي

اشارة

24 - خبر غريض(1) اليهودي

نسبه و أصل قومه:

و غريض هذا من اليهود من ولد الكاهن بن هارون بن عمران صلّى اللّه عليه و سلّم، و كان موسى عليه الصلاة و السلام وجّه جيشا إلى العماليق و كانوا قد طغوا(2) و بلغت غاراتهم إلى الشام و أمرهم إن ظفروا بهم أن يقتلوهم أجمعين، فظفروا بهم فقتلوهم أجمعين سوى ابن لملكهم(3) كان غلاما جميلا فرحموه و استبقوه، و قدموا الشام بعد وفاة موسى عليه السلام فأخبروا بني إسرائيل بما فعلوه؛ فقالوا: أنتم عصاة لا تدخلون الشام علينا أبدا، /فأخرجوهم عنها. فقال بعضهم لبعض: ما لنا بلد غير البلد الذي ظفرنا به و قتلنا أهله؛ فرجعوا إلى يثرب فأقاموا بها و ذلك قبل ورود الأوس و الخزرج إياها عند وقوع سيل العرم(4) باليمن، فمن هؤلاء اليهود قريظة و النّضير و بنو قينقاع و غيرهم، و لم أجد لهم نسبا فأذكره لأنهم ليسوا من العرب فتدوّن العرب أنسابهم إنما هم حلفاؤهم، و قد شرحت أخبارهم و ما يغنّى به من أشعارهم في موضع آخر من هذا الكتاب.

و الغناء في اللحن المختار لابن صاحب الوضوء و اسمه محمد و كنيته أبو عبد اللّه، و كان أبوه على الميضأة(5)بالمدينة فعرف بذلك، و هو يسير الصناعة ليس ممن خدم الخلفاء/و لا شهر عندهم شهرة غيره. و هذا الغناء ماخوري بالبنصر و فيه ليونس ثاني ثقيل بالبنصر.

نسب له شعر هو لورقة بن نوفل:

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا الرّياشيّ و عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن الأصمعيّ عن ابن أبي الزّناد عن هشام بن عروة قال:

ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه *** لغريض اليهودي

تمثلت عائشة أمام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بشعر نزل بمعناه الوحي:

و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا أحمد بن عيسى قال حدّثنا مؤمّل بن عبد الرحمن الثّقفيّ قال حدّثني سهل(6) بن المغيرة عن الزّهريّ عن عروة عن عائشة قالت:

ص: 82


1- الزيادة عن ء، ط.
2- كذا في ء، ط و هو الصواب. و في باقي النسخ: «قطعوا» و هو تحريف.
3- كذا في ء، ط. و في باقي النسخ: «ابن لملك لهم».
4- كذا في ء، ط. و في باقي النسخ: «السيل العرم» بالتعريف فيهما و العرم: اسم واد و قيل: السيل الذي لا يطاق، و قيل: المطر الشديد.
5- الميضأة: مطهرة كبيرة يتوضأ منها، و العامة تقول: ميضة.
6- في ب، س: «إسماعيل» و لم نجد في الرواة من اسمه سهل بن المغيرة و لا إسماعيل بن المغيرة و الظاهر أنه سهل أبو حريز مولى المغيرة، قال عنه ابن حبان يروي عن الزهري العجائب، و له ترجمة في «ميزان الاعتدال» ج 1 ص 431 و في «لسان الميزان» ج 3

دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنا أتمثّل بهذين البيتين:

ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه *** يوما فتدركه العواقب قد نما(1)

يجزيك أو يثني عليك و إنّ من *** أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: «ردّي عليّ قول اليهوديّ قاتله اللّه! لقد أتاني جبريل برسالة من ربي: أيّما رجل صنع إلى أخيه صنيعة فلم يجد له جزاء إلا الثناء عليه و الدعاء له فقد كافأه».

/قال أبو زيد: و قد حدّثني أبو عثمان محمد بن يحيى أن هذا الشعر لورقة بن نوفل، و قد ذكر الزّبير بن بكار أيضا أنّ هذا الشعر لورقة بن نوفل و ذكر هذين البيتين في قصيدة أوّلها:

رحلت قتيلة عيرها قبل الضحى *** و أخال أن شحطت بجارتك(2) النّوى

أ و كلّما رحلت قتيلة غدوة *** و غدت مفارقة لأرضهم بكى

و لقد ركبت على السّفين ملجّجا(3) *** أذر الصّديق و أنتحي دار العدا

و لقد دخلت البيت يخشى أهله *** بعد الهدوء و بعد ما سقط الندى

فوجدت فيه حرّة(4) قد زيّنت *** بالحلي تحسبه بها جمر الغضا

فنعمت بالا إذ أتيت(5) فراشها *** و سقطت منها حين جئت على هوى

فلتلك لذّات الشّباب قضيتها *** عنّي فسائل بعضهم ما ذا(6) قضى

فرج(7) الرّباب فليس يؤدي فرجه *** لا حاجة قضّى و لا ماء بغى

فارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه *** يوما فتدركه العواقب قد نما

يجزيك أو يثني عليك و إنّ من *** أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

ص: 83


1- جاء في الجزء الثالث من «العقد الفريد» لابن عبد ربه صحيفة 119 في باب (فضائل الشعر): «و سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عائشة و هي تنشد شعر زهير بن حباب - و صوابه جناب - تقول: ارفع ضعيفك لا يحل بك ضعفه يوما فتدركه عواقب ما جنى يجزيك أو يثني عليك فإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزى فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «صدق يا عائشة لا شكر اللّه من لا يشكر الناس» و يرى المتأمل أن في هذه الرواية و البيتين اختلافا عما هو وارد في «الأغاني».
2- كذا في ء، ط، و في ب، س، ح: «تجاريك». و في أ، م: «تحاريك» بالحاء المهملة و كلاهما تحريف.
3- ملججا: خائضا اللجة و هي معظم الماء.
4- في ء، ط «طفلة» بفتح الطاء و هي المرأة الناعمة الرخصة.
5- في ء، ط: «حين زرت فراشها».
6- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «ما قد قضى».
7- هذا البيت ساقط في ء، ط: و قد ورد هكذا في باقي النسخ و هو غير واضح.

25 - ذكر ورقة بن نوفل و نسبه

نسبه و هو جاهلي اعتزل عبادة الأوثان:

هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّي بن قصيّ، و أمه هند بنت أبي كثير(1) بن عبد بن قصيّ. /و هو أحد من اعتزل عبادة الأوثان في الجاهلية و طلب الدّين و قرأ الكتب و امتنع من أكل ذبائح الأوثان.

نسبة ما في هذا الشعر من الغناء
اشارة

غير

ارفع ضعيفك...

صوت

و لقد طرقت البيت يخشى أهله *** بعد الهدوء و بعد ما سقط الندى

فوجدت فيه حرّة قد زيّنت *** بالحلي تحسبه بها جمر الغضا

الشعر لورقة بن نوفل(2). و الغناء لابن محرز من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.

أخبرنا الطّوسيّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عبد اللّه بن معاذ عن معمر عن الزّهريّ عن عروة بن الزّبير قال:

سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن ورقة بن نوفل كما بلغنا فقال: «قد رأيته في المنام كأنّ عليه ثيابا بيضا فقد(3) أظنّ أن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض».

/قال الزبير و حدّثنا عبد اللّه بن معاذ عن معمر عن الزّهريّ عن عائشة:

أنّ خديجة بنت خويلد انطلقت بالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّي و هو ابن عمّ خديجة أخي أبيها، و كان امرأ تنصّر في الجاهلية، و كان يكتب الكتاب(4) العبرانيّ فيكتب بالعبرانيّة من الإنجيل ما شاء أن يكتب، و كان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك؛ قال ورقة: يا ابن أخي

ص: 84


1- في ء، ط: «ابن أبي كبير» بالباء الموحدة.
2- ذكر في «شرح شواهد الرضى» أن هذه الأبيات لزيد بن عمرو بن نفيل، و قيل لأمية بن أبي الصلت.
3- كذا في ء، ط. و في باقي النسخ: «فقال» و قد ورد الحديث في ص 88 جزء خامس من «أسد الغابة في معرفة الصحابة» في حديث عائشة قالت: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن ورقة فقالت له خديجة: إنه كان صدقك و إنه مات قبل أن تظهر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رأيته في المنام و عليه ثياب بياض و لو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك»، و قد روى قريبا من ذلك في الجزء السادس من هذا الكتاب ص 319.
4- الكتاب: مصدر كالكتابة.

ما ذا ترى؟ فأخبره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خبر ما رأى فقال ورقة: هذا الناموس(1) الذي أنزله اللّه تبارك و تعالى على موسى؛ يا ليتني فيها جذع(2)، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك؛ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه سلّم: «أ و مخرجيّ هم» قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل(3) ما جئت به إلا عودي، و إن يدركني يومك لأنصرنّك نصرا مؤزّرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفّي.

رأى بلالا يعذب لإسلامه فقال شعرا:

قال الزّبير حدّثني عثمان عن الضحّاك بن(4) عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد قال قال عروة: كان بلال لجارية من بني جمح بن عمرو، و كانوا يعذّبونه برمضاء(5) مكة، يلصقون ظهره بالرّمضاء ليشرك باللّه؛ فيقول: أحد أحد؛ فيمرّ عليه ورقة/بن نوفل و هو على ذلك يقول: أحد أحد، فيقول ورقة بن نوفل: أحد أحد و اللّه يا بلال! و اللّه لئن قتلتموه لاتّخذته حنانا(6) كأنه يقول: لأتمسّحنّ به. و قال ورقة بن نوفل في ذلك:

لقد نصحت لأقوام و قلت لهم *** أنا النذير فلا يغرركم أحد

لا تعبدنّ(7) إلها غير خالقكم *** فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد(8)

سبحان ذي العرش سبحانا نعوذ به *** و قبل قد سبّح الجوديّ و الجمد(9)

مسخّر كلّ ما تحت السماء له *** لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته *** يبقى الإله و يودي المال و الولد

لم تغن عن هرمز يوما خزائنه *** و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

و لا سليمان إذ دان الشّعوب له *** و الجنّ و الإنس تجري بينها البرد(10)

ص: 85


1- الناموس في الأصل: صاحب السر أو صاحب سر الوحي، و المراد به جبريل عليه السّلام.
2- الجذع: الشاب الحدث، أي يا ليتني أكون شابا حين تظهر نبوّته حتى أبالغ في نصرته.
3- كذا في «صحيح البخاريّ». و في جميع الأصول: «بما جئت إلخ».
4- كذا في ء، ط و سيذكر كذلك أكثر من مرة باتفاق الأصول، و في أكثر الأصول هنا، «الضحاك عن عثمان عن عبد الرحمن...» و هو تحريف. و الضحاك بن عثمان إما أن يكون الضحاك بن عثمان بن الضحاك بن عثمان المتوفى سنة ثمانين و مائة و هو الذي وصفه الزبير بن بكار بأنه كان علامة قريش بأخبار العرب و أيامها و أشعارها و أحاديث الناس و هو الذي يروي الزبير بن بكار عن ابنه محمد كما سيأتي في ص 123، و إما أن يكون الضحاك بن عثمان جده المتوفى سنة ثلاث و خمسين و مائة، لأن كلا منهما عاصر عبد الرحمن بن أبي الزناد الذي ولد سنة مائة و توفي سنة أربع و سبعين و مائة.
5- الرمضاء: الأرض الحامية من شدة حر الشمس.
6- شرح «اللسان» هذه العبارة في مادة «حنن» فقال: الحنان: الرحمة و العطف، و الحنان: الرزق و البركة؛ أراد لأجعلن قبره موضع حنان أي مظنة من رحمة اللّه تعالى فأتمسح به متبركا كما يتمسح بقبور الصالحين الذين قتلوا في سبيل اللّه من الأمم الماضية فيرجع ذلك عارا عليكم و سبة عند الناس، و ضعف هذا الحديث بأن ورقة مات قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و بلال ما عذب إلا بعد أن أسلم، و هو ضعيف الإسناد لأنه مرسل و عروة تابعي لم يدرك عصر النبوة.
7- في ب، س، أ، م: «لا تعبدون».
8- كذا في ط، و «اللسان» مادة «حدد»، و الحدد (بالتحريك): المنع، يقال: دونه حدد أي منع. و في باقي الأصول: «جدد» بالجيم و هو تحريف.
9- في أ، م، ح: «نعود له» و هي رواية الرياشي: أي نعاوده مرة بعد أخرى، و في «اللسان» في مادتي جود و جمد: «يعود له» و في «معجم ياقوت»: «يدوم له» و الجودي: جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح عليه السّلام، و الجمد: جبل بنجد.
10- البرد: جمع بريد و هو الرسول: و قد ورد البيت الثالث من هذه الأبيات في «كتاب سيبويه» غير معزو لأحد ذهب أكثر شراحه إلى أنه لأمية بن الصلت و قال بعضهم: إنه لزيد بن عمرو بن نفيل، و صوّب البغدادي في «الخزانة» ج 2 ص 39 أن هذا الشعر لورقة بن
مدح النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم له و النهي عن سبه:

قال الزبير حدّثني عمي قال حدّثنا الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن هشام بن عروة:

أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال لأخي ورقة بن نوفل أو لابن أخيه: «شعرت أنّي قد رأيت لورقة جنّة، أو جنّتين»، يشكّ هشام.

قال عروة: و نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن سبّ ورقة.

و قال الزبير و حدّثني عمّي قال حدّثني الضحّاك عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن هشام بن عروة عن أبيه:

أن خديجة كانت تأتي ورقة بما يخبرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه يأتيه، فيقول ورقة: لئن كان ما يقول حقّا إنه ليأتيه الناموس الأكبر ناموس عيسى ابن مريم الذي لا يجيزه أهل الكتاب إلا بثمن(1)، و لئن نطق و أنا حيّ لأبلينّ فيه للّه بلاء حسنا.

ص: 86


1- هذه الكلمة محرفة في جميع الأصول و لها أشكال متباينة لم نتبين تصويبها. و في «شرح المواهب اللدنيّة» للزرقاني ج 1 ص 259 طبع بولاق: «إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلّمه بنو إسرائيل أبناءهم».

26 - خبر زيد بن عمرو و نسبه

نسبه من قبل أبويه:

هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّي بن رياح(1) بن عبد اللّه بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب بن لؤيّ بن غالب. و أمه جيداء بنت خالد بن جابر بن أبي حبيب بن فهم. و كانت جيداء عند نفيل بن عبد العزّي فولدت له الخطّاب أبا عمر بن الخطّاب و عبدنهم(2)، ثم مات عنها نفيل فتزوّجها(3) ابنه عمرو فولدت له زيدا، و كان هذا نكاحا ينكحه أهل الجاهليّة.

اعتزل عبادة الأوثان و كان يعيب قريشا:

و كان زيد بن عمرو أحد من اعتزل عبادة الأوثان و امتنع من أكل ذبائحهم، و كان يقول: يا معشر قريش، أ يرسل اللّه قطر السماء و ينبت بقل الأرض و يخلق السائمة فترعى فيه و تذبحوها(4) لغيره(5)! و اللّه ما أعلم على ظهر الأرض أحدا على دين إبراهيم غيري.

أخرجه عن مكة خطاب بن نفيل و قريش لمخالفته دينهم:

أخبرنا الطّوسيّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي مصعب بن عبد اللّه و محمد بن الضحّاك عن أبيه، قالا:

كان الخطّاب بن نفيل قد أخرج زيد بن عمرو من مكة و جماعة من قريش و منعوه أن يدخلها حين فارق أهل الأوثان، و كان أشدّهم عليه الخطّاب بن نفيل. /و كان زيد بن عمرو إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال(6): لبّيك حقّا حقّا؛ تعبّدا و رقّا؛ البرّ(7) أرجو لا الخال(8)، و هل مهجّر(9) كمن قال(10)! [ثم يقول](11):

عدت بما عاذ به إبراهيم *** مستقبل الكعبة و هو قائم

ص: 87


1- كذا في «شرح القاموس» مادة روح فقد ذكر أسماء من تسموا برياح ككتاب و عدّ هذا منها. و في ب، س، ء: «رباح» بالباء الموحدة. و في سائر النسخ: «دياح» بالدال و كلاهما تحريف.
2- كذا في ط، ء، و هي محرّفة في سائر النسخ، و نهم بالضم: شيطان أو صنم لمزينة، و به سموا «عبدنهم».
3- في ط: «فتزوّجت ابنه عمرا».
4- في ط، ء: «و تذبحونها».
5- كذا في ط، ء. و في سائر النسخ: «لغير اللّه».
6- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «ثم قال: يا مولاي لبيك... إلخ».
7- البر: الطاعة و الخير.
8- الخال: الخيلاء.
9- المهجر: السائر في الهاجرة.
10- قال: أقام في القائلة.
11- زيادة في ط، ء.

يقول أنفي(1) لك عان راغم *** مهما تجشّمني فإنّي جاشم(2)

ثم يسجد. قال محمد بن الضحّاك عن أبيه: [و](3) هو الذي يقول:

لا همّ إنّي حرم لا حلّه(4) *** و إنّ داري أوسط المحلّة

عند الصّفا ليست بها مضلّه

شعره في ترك عبادة الأوثان:

قال الزبير و حدّثني مصعب بن عبد اللّه عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال قال هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: قال زيد بن عمرو بن نفيل:

عزلت الجنّ و الجنّان عنّي(5) *** كذلك يفعل الجلد الصّبور

/فلا العزّى أدين و لا ابنتيها *** و لا صنمي بني غنم(6) أزور(7)

/و لا هبلا(8) أدين و كان ربّا *** لنا في الدهر إذ حلمي صغير

أ ربّا واحدا أم ألف ربّ *** أدين إذا تقسّمت الأمور

أ لم تعلم بأنّ اللّه أفنى *** رجالا كان شأنهم الفجور

و أبقى آخرين ببرّ قوم *** فيربو منهم الطفل الصغير

و بينا المرء يعثر ثاب(9) يوما *** كما يتروّح الغصن النّضير

فقال ورقة بن نوفل لزيد بن عمرو بن نفيل:

رشدت و أنعمت ابن عمرو و إنما *** تجنّبت تنّورا من النار حاميا

بدينك ربّا ليس رب كمثله *** و تركك جنّان(10) الجبال كما هيا

ص: 88


1- كذا في ط، و هي في بقية الأصول مضطربة و محرفة.
2- جاشم: وصف من جشم الأمر إذا تجشمه و تكلفه على مشقة.
3- زيادة في ط، ء.
4- كذا ورد «حرم» و «حله» مضبوطين في بعض الأصول، و هذا الضبط هو الذي يتزن به الشعر، فلعلهما مصدران وصف بهما، إذ الوصف الذي ورد في كتب اللغة من هذه المادة في هذا المعنى: «حرم» و «حل» بالكسر و «حرام» و «حلال».
5- كذا في جميع الأصول؛ و في «بلوغ الأرب في أحوال العرب» ج 2 ص 220 طبع مطبعة دار السلام ببغداد: تركت اللات و العزى جميعا
6- كذا في «كتاب الأصنام» لابن الكلبي ص 22 طبع المطبعة الأميرية و «بلوغ الأرب في أحوال العرب»، و الذي في الأصول: «بني طسم» و طسم من القبائل البائدة فلم يكن لها في عهد زيد بن عمرو أصنام يهجرها.
7- كذا في ط، ء و «كتاب الأصنام» و «بلوغ الأرب» ج 2 ص 220، و الذي في بقية الأصول: «أدير».
8- كذا في «كتاب الأصنام» لابن الكلبيّ، و هبل كصرد: صنم كان لقريش في الكعبة يعبدونه. و في ط، ء: «و لا غنما». و في باقي الأصول: «و لا غمّا»، و لم نجد لكليهما مسمى من الأصنام.
9- كذا في ط، ء، و رسمت كلمة «ثاب» على وجه تقرأ به «ثاب» و «بات»، و في بقية الأصول: «فبينا المرء يعثر ذات يوم»، و ثاب: عاد إلى ما كان عليه من استقامة.
10- جنّان الجبال: الذين يأمرون بالفساد من شياطين الإنس أو من الجنّ. (انظر «اللسان» مادة جنّ).

أقول إذا ما زرت أرضا مخوفة *** حنانيك لا تظهر عليّ الأعاديا

حنانيك إنّ الجنّ كانت رجاءهم *** و أنت إلهي ربّنا و رجائيا

أدين لربّ يستجيب و لا أرى *** أدين لمن لا يسمع الدهر داعيا

أقول إذا صلّيت في كلّ بيعة *** تباركت قد أكثرت باسمك داعيا

يقول: خلقت خلقا كثيرا يدعون باسمك.

/قال الزّبير و حدّثني مصعب بن عبد اللّه قال حدّثني الضحّاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن موسى بن عقبة قال سمعت من أرضى يحدّث:

امتناعه عن ذبائح قريش و قصته مع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في ذلك:

أن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم و يقول: الشاة خلقها اللّه و أنزل من السماء ماء و أنبت لها من الأرض نباتا ثم تذبحونها على غير اسم اللّه! إنكارا لذلك و إعظاما له.

قال الزبير: و حدّثني مصعب بن عبد اللّه عن الضحّاك بن عثمان بن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد اللّه أنه سمع عبد اللّه بن عمر يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح(1)، و كان قبل أن ينزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الوحي، فقدّم إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سفرة(2) فيها لحم، فأبى أن يأكل، و قال: إنّي لا آكل إلاّ ما ذكر اسم اللّه عليه.

اجتمع بالشأم مع يهودي و نصراني فسألهما عن الدين و اعتنق دين إبراهيم:

قال الزبير و حدّثني مصعب بن عبد اللّه عن الضحّاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد اللّه قال - قال موسى: لا أراه إلاّ حدّثه عن عبد اللّه بن عمر -:

إن زيد بن عمرو خرج إلى الشّأم يسأل عن الدّين و يتّبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال: لعلّي أدين بدينكم فأخبرني بدينكم؛ فقال اليهوديّ: إنّك لا تكون على ديننا حتّى تأخذ بنصيبك من غضب اللّه؛ فقال زيد بن عمرو: /لا أفرّ إلاّ من غضب اللّه و ما أحمل من غضب اللّه شيئا أبدا و أنا أستطيع، فهل تدلّني على دين ليس فيه هذا؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون(3) حنيفا؛ قال: و ما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم؛ فخرج من عنده و تركه.

فأتى عالما من علماء النّصارى فقال له نحوا ممّا قال لليهوديّ(4)، فقال له النّصرانيّ: إنك لن تكون على ديننا حتّى تأخذ بنصيبك من لعنة اللّه؛ فقال: إني لا أمل من لعنة اللّه و لا من غضبه شيئا أبدا و أنا أستطيع، فهل تدلّني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحوا مما قال اليهوديّ: /لا أعلمه إلا أن يكون حنيفا؛ فخرج من عندهما و قد رضي بما أخبراه و اتّفقا عليه من دين إبراهيم، فلما برز رفع يديه و قال؛ اللّهم [إنّي](5) على دين إبراهيم.

ص: 89


1- بلدح: واد قبل مكة من جهة الغرب. قال ابن قيس الرقيات: فمني فالجمار من عبد شمس مقفرات فبلدح فحراء
2- السفرة: جلد مستدير يحمل فيه المسافر طعامه، و هي في الأصل اسم لنفس الطعام ثم نقلت إلى الجلد لأنه يحمل فيها.
3- كذا في ء، ط. و في سائر الأصول: «تكون» و هو تصحيف.
4- كذا في ء، ط. و في سائر الأصول: «اليهودي» و هو تحريف.
5- زيادة في ء، ط.
بلغته البعثة فخرج من الشام فقتله أهل ميفعة:

قال الزبير و حدّثني مصعب بن عبد اللّه عن الضّحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد قال قال هشام بن عروة:

بلغنا أنّ زيد بن عمرو كان بالشأم، فلما بلغه خبر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أقبل يريده فقتله أهل ميفعة(1).

قال عنه النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: إنه يأتي يوم القيامة أمة وحده:

قال الزّبير و حدّثني مصعب بن عبد اللّه عن الضّحاك بن عثمان عن عبد الرحمن ابن أبي الزّناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد بن عمرو قال:

سألت أنا و عمر بن الخطّاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن زيد فقال: «يأتي يوم القيامة أمّة وحده».

/و أنشد محمد بن الضحّاك عن الحزاميّ عن أبيه لزيد بن عمرو:

أسلمت وجهي لمن أسلمت *** له المزن تحمل عذبا زلالا

و أسلمت وجهي لمن أسلمت *** له الأرض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلما استوت شدّها *** سواء و أرسى عليها الجبالا

زهير بن جناب و شعره في الكبر:

و أما زهير بن جناب الكلبيّ فإنّه أحد المعمّرين، يقال: إنه عمّر مائة و خمسين سنة و هو - فيما ذكر - أحد الذين شربوا الخمر في الجاهليّة حتّى قتلتهم؛ و كان قد بلغ من السنّ الغاية التي ذكرناها، فقال ذات يوم: إنّ الحيّ ظاعن، فقال عبد اللّه [ابن عليم](2) بن جناب: إن الحي مقيم؛ فقال زهير: إن الحيّ مقيم؛ فقال عبد اللّه: إنّ الحيّ ظاعن؛ فقال: من هذا الذي يخالفني منذ اليوم! قيل: ابن أخيك عبد اللّه بن عليم؛ فقال: أ و ما هاهنا أحد ينهاه عن ذلك! قالوا: لا؛ فغضب و قال: لا أراني قد خولفت، ثم دعا بالخمر فشربها(3) صرفا بغير مزاج و على غير طعام حتّى قتلته. و هو الذي يقول في ذمّ الكبر و طول الحياة:

الموت خير للفتى *** فليهلكن و به بقيّة

من أن يرى الشّيخ(4) البجا *** ل إذا تهادى بالعشيّة

أ بنيّ إن أهلك فقد *** أورثتكم مجدا بنيّة

/و تركتكم أبناء سا *** دات زنادكم و ريّه

ص: 90


1- كذا في «معجم ما استعجم» للبكري ص 569 و «شرح القسطلاني على البخاري» ج 6 ص 206 طبع بولاق، و هي قرية من أرض البلقاء من الشام، و قد وردت محرّفة في جميع الأصول.
2- الزيادة عن كتاب «شعراء النصرانية» ج 1 ص 207 و قد جاء في «القاموس» و شرحه مادة علم «و كزبير اسم رجل و هو عليم بن جناب أخو زهير من بني كلب بن وبرة».
3- كذا في ء، ط. و في باقي الأصول: «يشربها».
4- البجال: الكبير العظيم، و نقل صاحب «اللسان» في مادة يحل عن أبي عمرو: أنّ البجال: الرجل الشيخ السيّد و استشهد له بهذه الأبيات.

بل كلّ(1) ما نال الفتى *** قد نلته إلا التّحيّة(2)

مدرج الريح و سبب هذه التسمية:
اشارة

و أمّا مدرج الرّيح فاسمه عامر بن المجنون الجرميّ، و إنما سمّي مدرج الريح بشعر قاله في امرأة كان يزعم أنّه يهواها من الجنّ و أنّها تسكن الهواء(3) و تتراءى له، و كان محمّقا؛ و شعره هذا:

صوت

لابنة الجنّيّ في الجوّ طلل *** دارس الآيات عاف كالخلل

درسته الرّيح من بين صبا *** و جنوب درجت حينا و طلّ

الغناء فيه لحنين ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ و ابن المكيّ، و ذكر حبش أنّه لمعبد، و ذكر عمرو بن بانة أنّ لحن حنين من خفيف الثّقيل الأوّل بالبنصر. و أخبار عامر بن المجنون تذكر في موضع آخر إن شاء اللّه تعالى.

سعية بن غريض و شعره و هو يحتضر:
اشارة

و أما سعية بن غريض فقد كان ذكر خبر جدّه/السّموءل بن غريض بن عاديا في موضع غير هذا. و كان سعية بن غريض شاعرا، و هو الذي يقول لمّا حضرته الوفاة يرثي نفسه:

صوت

يا ليت شعري حين يذكر صالحي(4) *** ما ذا تؤبّنني به أنواحي(5)

أ يقلن لا تبعد، فربّ كريهة *** فرّجتها ببشارة و سماح

و إذا دعيت لصعبة سهّلتها *** أدعى بأفلح تارة و نجاح

/ - غنّاه ابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو - و أسلم(6) سعية و عمّر عمرا طويلا، و يقال: إنّه مات في آخر(7) خلافة معاوية.

سعية بن غريض و معاوية بن أبي سفيان:
اشارة

فأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أحمد بن معاوية عن الهيثم بن عديّ قال:

ص: 91


1- كذا في الأصول. و في «اللسان» مادة حيي: «و لكل».
2- مما يطلق عليه التحية الملك و البقاء. قال ابن بري: و المراد هنا البقاء، لأن زهير بن جناب كان ملكا في قومه (انظر «اللسان» مادة حيي).
3- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «و أنه يسكن إليها في الهواء».
4- كذا في جميع الأصول. و في هامشها: «حين أندب هالكا».
5- الأنواح: النائحات.
6- كذا في ء، ط. و في باقي الأصول: «فاسلم» بالفاء.
7- كذا في أكثر الأصول. و في ء، ط: «أوّل».

حجّ معاوية حجّتين في خلافته، و كانت له ثلاثون بغلة يحجّ عليها نساؤه و جواريه. قال: فحجّ في إحداهما فرأى شيخا(1) يصلّي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال: من هذا؟ قالوا: سعية بن غريض، و كان من اليهود، فأرسل إليه يدعوه، فأتاه رسوله فقال: أجب أمير المؤمنين؛ قال: أ و ليس قد مات أمير المؤمنين! قيل:

فأجب معاوية؛ فأتاه فلم يسلّم عليه بالخلافة؛ فقال له معاوية: ما فعلت أرضك التي بتيماء؟ قال: يكسى منها العاري و يردّ فضلها على الجار؛ قال: أ فتبيعها(2)؟ قال: نعم؛ قال: بكم؟ قال: بستّين ألف دينار، و لو لا خلّة أصابت الحيّ لم أبعها؛ قال: لقد أغليت! قال: أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار ثم لم تبل(3)! قال: أجل، و إذ بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك يرثي [به](4) نفسه؛ فقال: قال أبي:

/

يا ليت شعري حين أندب هالكا *** ما ذا تؤبّنني به أنواحي

أ يقلن لا تبعد(5)، فربّ كريهة *** فرّجتها بشجاعة(6) و سماح

و لقد ضربت بفضل مالي حقّه *** عند الشّتاء و هبّة الأرواح

و لقد أخذت الحقّ غير مخاصم *** و لقد رددت الحقّ غير ملاحي

و إذا دعيت لصعبة سهّلتها *** أدعى بأفلح مرّة و نجاح

فقال: أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك؛ قال: كذبت و لؤمت؛ قال: أما كذبت فنعم، و أمّا لؤمت فلم، قال: لأنك كنت ميّت الحقّ في الجاهلية و ميّته في الإسلام، أمّا في الجاهلية فقاتلت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و الوحي حتى جعل اللّه [عزّ و جلّ](7) كيدك المردود، و أمّا في الإسلام فمنعت ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الخلافة، و ما أنت و هي! و أنت طليق(8) ابن طليق! فقال معاوية: قد خرف(9) الشيخ فأقيموه، فأخذ بيده فأقيم.

/و سعية هذا هو الذي يقول:

صوت

يا دار سعدى بأقصى(10) تلعة(11) النّعم *** حيّيت دارا على الإقواء و القدم

و ما بجزعك إلا الوحش ساكنة *** و هامد من رماد القدر و الحمم

ص: 92


1- كذا في ء، ط و «الإصابة» لابن حجر طبع مصر ج 3 ص 167، و في سائر الأصول: «شخصا».
2- كذا في ب، س، و في أ، م: «أ تبيعها».
3- كذا في أكثر الأصول. و في ء، ط: «لم تبال» و كلاهما صحيح تقول: «لم أبال» و هو الأصل «و لم أبل» حذفت منها الياء تخفيفا، و نزلت اللام منزلة النون من يكن فسكنت للجازم و حذفت الألف لالتقاء الساكنين.
4- زيادة في ء، ط.
5- كذا في أكثر الأصول. و في ء، ط: «لا يبعد» بالياء.
6- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «ببشارة» و قد تقدّمت هذه الرواية في ص 129 من هذا الجزء.
7- الزيادة عن ء، ط.
8- أي من الطلقاء و هم الذين حاربوا النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من قريش و آذوه، فلما غلبهم عام الفتح خطبهم فقال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟» قالوا: خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم، فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (انظر «سيرة ابن هشام» ص 821 طبع أوروبا).
9- كذا في أكثر الأصول. و في ء، ط: «خرق» بالقاف.
10- في ء، ط و «ياقوت»: «بمفضي».
11- تلعة النعم: موضع بالبادية استشهد له «ياقوت» بهذا البيت.

/

عجنا فما كلّمتنا الدار إذ سئلت *** و ما بها عن جواب خلت من صمم

الشعر لسعية بن غريض، و الغناء لابن محرز ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر.

27 - أخبار ابن صاحب الوضوء و نسبه

نسبه و ولاؤه و سبب تسمية أبيه:

اسمه محمد بن عبد اللّه، و يكنى أبا عبد اللّه، مولى بني أميّة، و هو من أهل المدينة؛ و كان أبوه على ميضأة المدينة فسمّي صاحب الوضوء. و هو قليل الصّنعة لم يذكر له إسحاق إلا صوتين كلاهما في خفيف الثقيل الثاني المعروف با الماخوريّ و لا ذكر له غير إسحاق سواهما إلا ما هو مرسوم في الكتاب الباطل المنسوب إلى إسحاق فإن له فيه شيئا كثيرا لا أصل له، و في كتاب حبش [الصينيّ](1). و هو رجل لا يحصّل ما يقوله و يرويه.

مدح يونس الكاتب غناءه:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه [عن](2) جدّه عن سياط عن يونس الكاتب قال:

غنيّ ابن صاحب الوضوء في شعر النابغة:

خطاطيف حجن(1) في حبال متينة *** تمدّ بها أيد إليك نوازع

و في شعر بعض اليهود:

ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه *** يوما فتدركه العواقب قد نما

فأجاد فيهما ما شاء و أحسن غاية الإحسان؛ فقيل له: أ لا تزيد و تصنع شيئا [آخر](4)؟ فقال: لا و اللّه حتى أرى غيري قد صنع مثل ما صنعت و أزيد، و إلاّ فحسبي هذا.

نقل أبو مسلمة لعبد اللّه بن عامر صوتا فغناه في المحراب:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و إسماعيل بن يونس(2) الشّيعي، قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن عليّ - قال ابن عمار في خبره: و كان يسمّى المبارك - قال حدّثنا أبو مسلمة(3) المصبحيّ قال:

قدم علينا أسود من أهل الكوفة فغنّى:

ارفع ضعيفك لا يحرّ بك ضعفه *** يوما فتدركه العواقب قد نما

قال: فمررت بعبد اللّه بن عامر الأسلميّ، و كان يؤمّنا و هو قائم يصلّي الظهر، فقلت [له](7): قدم علينا أسود من الكوفة يغنّي كذا و كذا [فأجاده](8)؛ فأشار إليّ بيده أن اجلس؛ فلما قضى صلاته قال: أخذته عنه؟

ص: 93


1- حجن: معوجة، جمع أحجن و حجناء.
2- كذا في ء، ط و هو الموافق لما تقدّم في الجزء الأوّل من هذا الكتاب ص 36 طبعة الدار. و في باقي الأصول: «يزيد».
3- في ء، ط: «أبو سلمة». (8،7) زيادة في ء، ط.

قلت(1): نعم؛ قال: فأمرّه عليّ، ففعلت؛ قال: فلما كان بالليل صلّى بنا فأدّاه في المحراب.

صوت من المائة المختارة التي رواها عليّ بن يحيى

يا ليلتي(2) تزداد نكرا *** من حبّ من أحببت بكرا

حوراء إن نظرت إلي *** ك سقتك بالعينين خمرا

الشعر لبشّار، و الغناء في اللحن الغناء ليزيد حوراء رمل بالبنصر عن عمرو و يحيى المكيّ و إسحاق. و فيه لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو و إبراهيم الموصليّ.

ص: 94


1- كذا في ء، ط و هو الموافق للسياق. و في سائر النسخ: «قال».
2- كذا في ء، ط و هو الموافق لما سيأتي بصفحة 155 في شعر بشار. و في باقي النسخ: «يا ليتني أزداد».

28 - أخبار بشار بن برد و نسبه

اشارة

28 - أخبار بشار(1) بن برد و نسبه

نسبه و كنيته و طبقته في الشعراء:

هو، فيما ذكره الحسن بن عليّ عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن غيلان(2) الشّعوبيّ، /بشّار بن برد بن يرجوخ بن أزد كرد بن شروستان بن بهمن بن دارا بن فيروز بن كرديه بن ماهفيدان بن دادان بن بهمن بن أزد كرد بن حسيس بن مهران بن خسروان بن أخشين بن شهرداد بن نبوذ بن ماخرشيدا نماذ بن شهريار بن بنداد سيحان بن مكرر بن أدريوس بن يستاسب [بن لهراسف](3). قال: و كان يرجوخ من طخارستان(4) من سبى المهلّب بن أبي صفرة. و يكنى بشّار أبا معاذ. و محلّه في الشعر و تقدّمه طبقات المحدثين فيه بإجماع الرّواة و رئاسته عليهم من غير اختلاف في ذلك يغني عن وصفه و إطالة ذكر محله(5). و هو من مخضرمي شعراء الدولتين العبّاسية و الأموية، قد شهر فيهما و مدح و هجا و أخذ(6) سنيّ الجوائز مع الشعراء.

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم قال قال حميد بن سعيد.

كان بشّار من شعب أدريوس بن يستاسب الملك بن لهراسف الملك. قال: و هو بشّار بن برد بن بهمن بن أزد كرد بن شروستان بن بهمن بن دارا بن فيروز. قال: و كان يكنى أبا معاذ.

ولاؤه لبني عقيل:

و أخبرني يحيى بن عليّ و محمد بن عمران الصّيرفيّ و غيرهما عن الحسن بن عليل العنزيّ عن خالد بن يزيد(7) بن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه قال:

كان بشار بن برد بن يرجوخ و أبوه برد من قنّ(8) خيرة القشيريّة امرأة المهلّب بن أبي صفرة، و كان مقيما لها

ص: 95


1- قال ابن خلكان في ترجمته لبشار: «ذكر له أبو الفرج الأصبهاني في كتاب «الأغاني» ستة و عشرين جدّا أسماؤهم أعجمية، فأضربت عن ذكرها لطولها و استعجامها، و ربما يقع فيها التصحيف و التحريف فإنه لم يضبط شيئا منها، فلا حاجة إلى الإطالة فيها بلا فائدة». و قد حاولنا وجه الصواب في هذه الأسماء و ضبطها فلم نوفق، فأثبتناها هنا كما وردت في «الأغاني» طبعة بولاق و نسخة ط و ذلك لاختلافها و اضطرابها في الأصول التي بين أيدينا و الإطالة فيها بلا فائدة كما قال ابن خلكان.
2- في ط، ء: «علان».
3- الزيادة عن ط.
4- ضبطها ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان» في ترجمته لبشار ج 1 ص 125 بضم الطاء و ضم الراء و ضبطها «ياقوت» بفتح الطاء.
5- في ط، ء: «و إطالة بذكر محله».
6- كذا في ط، ء. و في باقي الأصول: «فأخذ».
7- في ء، ط: «خالد بن يزيد» و قد ذكره صاحب «لسان الميزان» في موضعين، فقد ذكره في خالد بن بريد بالباء الموحدة و الراء المهملة، و في خالد بن يزيد و قد ذكر أجداده في الموضعين كما هنا.
8- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ «في ء».

في ضيعتها بالبصرة المعروفة «بخيرتان»(1) مع عبيد لها و إماء، فوهبت بردا بعد أن زوجته لامرأة من بني عقيل كانت متّصلة بها، فولدت له امرأته و هو في ملكها بشارا فأعتقته العقيليّة.

و أخبرني محمد(2) بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: كان برد أبو بشار مولى أمّ الظّباء العقيليّة السّدوسية، فادّعى بشار أنه مولى بني عقيل لنزوله فيهم.

و أخبرني أحمد بن العبّاس العسكريّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني رجل من ولد بشار يقال له حمدان كان قصّارا(3) بالبصرة، قال: ولاؤنا لبني عقيل؛ فقلت: لأيّهم؟ فقال: لبني ربيعة بن عقيل.

و أخبرني وكيع قال حدّثني سليمان المدنيّ(4) قال قال أحمد بن معاوية الباهليّ: كان بشار و أمّه لرجل من الأزد، فتزوّج امرأة من بني عقيل، فساق إليها بشارا و أمّه في صداقها، و كان بشّار ولد مكفوفا(5) فأعتقته العقيليّة.

/أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثني الحسن(6) بن عليل العنزي قال حدّثنا قعنب بن المحرز الباهليّ قال حدّثني محمد بن الحجّاج قال:

باعت أمّ بشّار بشّارا على أمّ الظّباء السّدوسيّة بدينارين فأعتقته. و أمّ الظباء امرأة أوس بن ثعلبة أحد بن تيم اللاّت بن ثعلبة، و هو صاحب قصر أوس بالبصرة؛ و كان أوس أحد فرسان بكر بن وائل بخراسان.

كان أبوه طيانا و قد هجاه بذلك حماد عجرد:

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثنا محمد بن زيد العجليّ قال أخبرني بدر بن مزاحم:

أنّ بردا أبا بشّار كان طيّانا يضرب اللّبن، و أراني أبي بيتين [لنا](7) فقال لي: لبن(8) هذين البيتين من ضرب برد أبي بشّار. فسمع هذه الحكاية حمّاد عجرد فهجاه فقال:

يا بن برد إخسأ إليك فمثل ال *** كلب في الناس أنت لا الإنسان

بل لعمري لأنت شرّ من الكل *** ب و أولى منه بكلّ هوان

/و لريح الخنزير أهون من ري *** حك يا ابن الطيّان ذي التّبّان(9)

ص: 96


1- قال «ياقوت» عند الكلام على خطط البصرة و قراها: خيرتان منسوب إلى خيرة بنت ضمرة امرأة المهلب بن أبي صفرة. قال: و من اصطلاح أهل البصرة أن يزيدوا في الاسم الذي تنسب إليه القرية ألفا و نونا: نحو قولهم: طلحتان: نهرب ينسب إلى طلحة بن أبي رافع (انظر «ياقوت» في اسم البصرة).
2- كذا في ط، ء، ح و هو الصواب. و في باقي النسخ: «عمرو» و هو تحريف.
3- القصار: محوّر الثياب أي مبيضها.
4- في ء، ط: «المديني».
5- كذا في ء، ط و هو الصواب. و في باقي النسخ: «و كان لبشار ولد مكفوف» و هو تحريف.
6- كذا في ء، ط، و هو الصواب. و في سائر النسخ: «أحمد» و هو تحريف.
7- زيادة في ط، ء.
8- كذا في ء، ط. و في باقي النسخ: «فقال لي: هذان البيتان من ضرب برد... إلخ».
9- التبان (بالضم و تشديد الباء): سراويل صغير يكون للملاحين و المصارعين.
أنشد للمهدي شعرا في أنه عجمي بحضور أبي دلامة:

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن أبي الصّلت البصريّ عن أبي عدنان قال حدّثني يحيى بن الجون العبديّ راوية بشّار قال:

/قال: لما دخلت على المهديّ قال لي: فيمن تعتدّ يا بشّار؟ فقلت: أمّا اللّسان و الزّيّ فعربيّان، و أمّا الأصل فعجميّ، كما قلت في شعري يا أمير المؤمنين:

و نبّئت قوما بهم جنّة *** يقولون من ذا و كنت العلم

ألا أيّها السائلي جاهدا(1) *** ليعرفني أنا أنف الكرم

نمت في الكرام بني عامر *** فروعي و أصلي قريش العجم

فإني لأغني مقام الفتى *** و أصبي الفتاة فما تعتصم

قال: و كان أبو دلامة حاضرا فقال: كلاّ! لوجهك أقبح من ذلك و وجهي مع وجهك؛ فقلت: كلاّ! و اللّه ما رأيت رجلا أصدق على نفسه و أكذب على جليسه منك، و اللّه إني لطويل القامة عظيم الهامة تامّ الألواح أسجح(2)الخدّين، و لربّ(3) مسترخي المذروين(4) للعين فيه مراد قد جلس من الفتاة حجرة(5) و جلست منها حيث أريد، فأنت مثلي يا مرضعان(6)! [قال](7): فسكت عنّي، ثم قال لي المهديّ: فمن أيّ العجم أصلك؟ فقلت: من أكثرها في الفرسان، و أشدّها على الأقران، أهل طخارستان(8)؛ فقال بعض القوم: أولئك الصّغد؛ فقلت: لا، الصّغد تجار؛ فلم يردد ذلك المهديّ.

كان كثير التلون في ولائه للعرب مرة و للعجم أخرى:

و كان بشّار كثير التلوّن في ولائه، شديد الشّغب(9) و التعصّب للعجم، مرّة يقول يفتخر بولائه في قيس:

أمنت مضرّة الفحشاء(10) أنى *** أرى قيسا تضرّ(11) و لا تضار

كأن الناس حين تغيب عنهم *** نبات الأرض أخطأه القطار(12)

ص: 97


1- في ء، ط: «جاهلا».
2- يقال: سجح الخدّ: سهل و لان.
3- في ء، ط: «أسجح الخدّين مسترخي المذروين للعين فيه مراد، و مثلك قد جلس إلخ».
4- كذا في ء، ط، و المذروان: طرفا الأليتين أو طرفا كل شيء، و لعله يريد أنه بض سمين يجذب النظر إليه. و في باقي الأصول: «المزورين» بالزاي و تقديم الواو على الراء و هو تحريف.
5- حجرة: ناحية.
6- المرضعان: اللئيم، من الرضاعة و هي اللؤم.
7- الزيادة عن ء، ط.
8- انظر الحاشية رقم 3 ص 135.
9- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «التشعب».
10- الفحشاء: جمع فاحش كجاهل و جهلاء. و الفاحش: السيئ الخلق.
11- كذا في ء و إحدى روايتي ط. و في أ، م: «تسب». و في باقي النسخ: «تشب» و هو تحريف.
12- القطار: جمع قطر و هو المطر.

و قد كانت بتدمر خيل قيس *** فكان لتدمر فيها دمار

بحيّ من بني عيلان شوس(1) *** يسير الموت حيث يقال ساروا

و ما نلقاهم إلا صدرنا *** بريّ منهم و هم حرار(2)

و مرّة يتبرّأ من ولاء العرب فيقول:

أصبحت مولى ذي الجلال و بعضهم *** مولى العريب فخذ(3) بفضلك فافخر

مولاك أكرم من تميم كلّها *** أهل الفعال(4) و من قريش المشعر

فارجع إلى مولاك غير مدافع *** سبحان مولاك الأجلّ الأكبر

و قال يفتخر بولاء بني عقيل:

إنّني من بني عقيل بن كعب *** موضع السّيف من طلى(5) الأعناق

كان يلقب بالمرعث و سبب ذلك:

و يكنى بشّار أبا معاذ، و يلقّب بالمرعّث.

/أخبرني عمّي و يحيى بن عليّ قالا حدّثنا أبو أيوب المدينيّ قال حدّثني محمد بن سلاّم قال: بشّار المرعّث هو بشار بن برد، و إنما سمّي المرعّث بقوله:

/

قال ريم مرعّث *** ساحر الطّرف و النّظر

لست و اللّه نائلي *** قلت أو(6) يغلب القدر

أنت إن رمت وصلنا *** فانج، هل تدرك القمر

قال أبو أيّوب: و قال لنا ابن سلاّم مرّة أخرى: إنّما سمّي بشّار المرعّث، لأنه كان لقميصه جيبان: جيب عن يمينه و جيب عن شماله، فإذا أراد لبسه ضمّه عليه من غير أن يدخل رأسه فيه، و إذا أراد نزعه حلّ أزراره و خرج منه، فشبّهت تلك الجيوب بالرّعاث لاسترسالها و تدلّيها، و سمّي من أجلها المرعّث.

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا عليّ بن مهديّ قال حدّثني أبو حاتم قال قال لي أبو عبيدة:

لقّب بشّار بالمرعّث لأنه كان في أذنه و هو صغير رعاث. و الرّعاث: القرطة، واحدتها رعثة و جمعها رعاث، [و رعثات](7). و رعثات الديك: اللحم المتدلّي تحت حنكه؛ قال الشاعر:

ص: 98


1- شوس: جمع أشوس و هو الذي ينظر بمؤخر عينيه.
2- حرار: جمع حرّان و هو الشديد العطش.
3- كذا في ء، ط. و في باقي الأصول: «فجد». بالجيم و الدال المهملة.
4- الفعال (بالفتح): اسم للفعل الحسن من الجود و الكرم و نحوه.
5- الطلي: أصول الأعناق؛ واحدتها طلية أو طلاة.
6- أو هنا بمعنى بل.
7- زيادة في أكثر النسخ.

سقيت أبا المصرّع(1) إذ أتاني *** و ذو الرّعثات منتصب يصيح

شرابا يهرب الذّبّان منه *** و يلثغ حين يشربه الفصيح

قال: و الرّعث: الاسترسال و التساقط. فكأنّ اسم القرطة اشتقّ منه.

كان أشدّ الناس تبرما بالناس:

أخبرني محمد بن عمران قال حدّثني العنزيّ قال حدّثنا محمد(2) بن بدر العجليّ قال: سمعت الأصمعيّ يذكر أن بشّارا كان من أشدّ الناس تبرّما بالناس، و كان يقول: الحمد للّه الذي ذهب ببصري؛ فقيل له: و لم يا أبا معاذ؟ قال: لئلاّ أرى من أبغض. و كان يلبس قميصا له لبنتان(3)، فإذا أراد أن ينزعه نزعه من أسفله، فبذلك سمّي المرعّث.

صفاته:

أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعيّ قال حدّثنا قعنب بن محرز عن الأصمعيّ قال:

كان بشّار ضخما، عظيم الخلق و الوجه، مجدورا، طويلا، جاحظ المقلتين قد تغشّاهما لحم أحمر، فكان أقبح الناس عمى و أفظعه(4) منظرا، و كان إذا أراد أن ينشد صفّق بيديه و تنحنح و بصق عن يمينه و شماله ثم ينشد فيأتي بالعجب.

ولد أعمى و هجى بذلك و شعره في العمى:

أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبي المدينيّ عن محمد بن سلاّم قال:

ولد بشّار أعمى، و هو الأكمه. و قال في تصداق ذلك أبو هشام الباهليّ يهجوه:

و عبدي فقا(5) عينيك في الرّحم أيره *** فجئت و لم تعلم لعينيك فاقيا

أ أمّك يا بشّار كانت عفيفة؟ *** عليّ إذا مشي إلى البيت حافيا

قال: و لم يزل بشّار منذ قال فيه هذين البيتين منكسرا.

/أخبرنا هاشم بن محمد قال حدّثنا الرّياشيّ عن الأصمعيّ قال:

ولد بشّار أعمى فما نظر إلى الدنيا قطّ، و كان يشبّه الأشياء بعضها ببعض في شعره فيأتي بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله؛ فقيل له يوما و قد أنشد قوله:

كأنّ مثار النقع فوق رءوسنا *** و أسيافنا ليل تهاوى كواكبه

ص: 99


1- كذا في أكثر النسخ، و في ء، ط: «المطوّح»، و في ح: «المطرّح».
2- هكذا وقع هذا الاسم هنا باتفاق جميع النسخ: «محمد بن بدر العجليّ»، و قد تقدّم في ص 137 من هذا الجزء باتفاق النسخ جميعها أيضا: «محمد بن زيد العجلي» مع اتحاد رجال السند في الموضعين. فلينظر.
3- اللبنة: بنيقة القميص و هي زيقه الذي يفتح في النحر.
4- كذا في جميع الأصول بإفراد الضمير. و هو استعمال عربيّ فصيح، يقال: أحسن الناس خلقا و أحسنه وجها، و المراد أحسنهم، و هو كثير من أفصح الكلام. انظر «اللسان» مادة «حنا».
5- فقأ: قلع، و الأصل فيه الهمز فسهل.

ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه، فمن أين لك هذا و لم تر الدنيا قطّ و لا شيئا فيها؟ فقال: إن عدم النظر يقوّي ذكاء القلب و يقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفّر حسّه و تذكو قريحته؛ ثم أنشدهم قوله:

/

عميت جنينا و الذكاء من العمى *** فجئت عجيب الظنّ للعلم موئلا

و غاض ضياء العين للعلم رافدا *** لقلب(1) إذا ما ضيّع الناس حصّلا

و شعر كنور الروض(2) لاءمت بينه *** بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا

أخبرنا هاشم قال حدّثنا العنزيّ عن قعنب بن محرز عن أبي عبد اللّه الشرادنيّ(3) قال: كان بشّار أعمى طويلا [ضخما](4) آدم مجدورا.

و أخبرني يحيى بن عليّ عن أبيّ أيوب المدينيّ قال قال الحمرانيّ(5) قالت لي عمّتي: زرت قرابة لي في بني عقيل فإذا أنا بشيخ أعمى ضخم ينشد:

من المفتون بشّار بن برد *** إلى شيبان كهلهم و مرد

بأن(6) فتاتكم سلبت فؤادي *** فنصف عندها و النصف عندي

فسألت عنه فقيل لي: هذا بشّار.

كان يقول أزري بشعري الأذان:

/أخبرني محمد بن يحيى الصّيرفي قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثنا أبو زيد قال سمعت أبا محمد التّوزيّ يقول:

قال بشّار: أزري بشعري الأذان. يقول: إنه إسلاميّ.

قال الشعر و هو ابن عشر سنين:

و أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال قال أبو عبيدة:

قال بشّار الشعر و لم يبلغ عشر سنين، ثم بلغ الحلم و هو مخشيّ معرّة لسانه.

هجا جريرا فأعرض عنه استصغارا له:

قال: و كان بشّار يقول: هجوت جريرا فأعرض عنّي و استصغرني، و لو أجابني لكنت أشعر الناس.

كان الأصمعي يقول هو خاتمة الشعراء:

و أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:

كان الأصمعيّ يقول: بشّار خاتمة الشعراء، و اللّه لو لا أنّ أيّامه تأخّرت لفضّلته على كثير منهم.

ص: 100


1- كذا في ء، ط. و في باقي الأصول: «بقلب» بالباء.
2- كذا في ء، ط. و في أكثر النسخ: «كنور الأرض».
3- في ط، ء: «السرادار».
4- زيادة في ط، ء.
5- في أ، م: «الحمداني».
6- كذا في ء، ط، و في باقي الأصول: «فإنّ».

قال أبو زيد: كان راجزا مقصّدا(1).

جودة نقده للشعر:

أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا محمد بن صالح بن النّطّاح(2) قال حدّثني أبو عبيدة: قال سمعت بشّارا يقول و قد أنشد(3) في شعر الأعشى:

و أنكرتني و ما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلا الشّيب و الصّلعا

فأنكره، و قال: هذا بيت مصنوع ما يشبه كلام الأعشى؛ فعجبت لذلك. فلمّا كان بعد هذا بعشر سنين كنت جالسا عند يونس، فقال: حدّثني أبو عمرو بن العلاء أنه صنع هذا البيت و أدخله في شعر الأعشى:

/

و أنكرتني و ما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلا الشيب و الصلعا

فجعلت حينئذ أزداد عجبا من فطنة بشّار و صحّة قريحته و جودة نقده للشعر.

أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال:

له اثنا عشر ألف قصيدة:

قال بشار: لي اثنا عشر ألف بيت عين؛ فقيل له(4): هذا ما لم يكن يدّعيه أحد قطّ سواك؛ فقال: لي اثنتا عشرة ألف قصيدة، لعنها اللّه و لعن قائلها إن لم يكن في كل واحدة منها بيت عين.

و أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا عليّ بن مهديّ عن أبي حاتم قال:

رأى أبي عبيدة فيه و في مروان بن أبي حفصة:

قلت لأبي عبيدة: أ مروان عندك أشعر أم بشّار؟ فقال: حكم بشّار لنفسه بالاستظهار أنه قال ثلاثة عشر ألف بيت جيّد، و لا يكون عدد الجيّد من شعر شعراء الجاهليّة و الإسلام هذا العدد، و ما أحسبهم برّزوا في مثلها، و مروان أمدح للملوك.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا الأصمعيّ قال:

قال بشّار الشعر و له عشر سنين، فما بلغ الحلم إلاّ و هو مخشيّ معرّة اللسان/بالبصرة. قال: و كان يقول:

هجوت جريرا فاستصغرني و أعرض عنّي، و لو أجابني لكنت أشعر أهل زماني.

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا أبو العواذل زكريّا بن هارون قال:

/قال بشّار: لي اثنا عشر ألف بيت جيّدة؛ فقيل له: كيف(5)؟ قال: لي اثنتا عشرة ألف قصيدة، أما في كلّ قصيدة منها بيت جيّد!.

ص: 101


1- يقال: قصد الشاعر و أقصد: أطال و واصل عمل القصائد.
2- كذا في إحدى روايتي ط. و في جميع النسخ: «محمد بن صالح النطاح» بدون كلمة «ابن» و قد تقدّم هذا الاسم غير مرّة في «الأغاني» كالرواية الأولى، (انظر ص 1؛ 3 ج 1 من هذه الطبعة).
3- كذا في ء، ط. و في باقي النسخ: «و قد أنشدني».
4- كذا في ط. و في باقي الأصول: «فقيل لي».
5- كذا في ط، ء. و في باقي الأصول: «قال فكيف» و هو تحريف.
كلام الجاحظ عنه:

و قال الجاحظ في كتاب البيان و التبيين و قد ذكره: كان بشّار [شاعرا](1) خطيبا صاحب منثور و مزدوج(2)و سجع و رسائل، و هو من المطبوعين أصحاب الإبداع و الاختراع المفتّنين(3) في الشعر القائلين في أكثر أجناسه و ضروبه؛ قال الشعر في حياة جرير و تعرّض له، و حكي عنه أنه قال: هجوت جريرا فأعرض عنّي، و لو هاجاني لكنت أشعر الناس.

كان يدين بالرجعة و يكفر جميع الأمة:

قال الجاحظ: و كان بشّار يدين بالرّجعة(4)، و يكفّر جميع الأمّة، و يصوّب رأي إبليس في تقديم النار على الطّين، و ذكر ذلك(5) في شعره فقال:

الأرض مظلمة و النار مشرقة *** و النار معبودة مذ كانت النار

هجا واصل بن عطاء فخطب الناس بالحادة و كان يتجنب في خطبه الراء:

قال: و بلغه عن أبي حذيفة واصل بن عطاء إنكار لقوله و هتف به، فقال يهجوه:

ما لي أشايع غزّالا(6) له عنق *** كنقنق الدّوّ(7) إن ولّى و إن مثلا

عنق الزّرافة ما بالي و بالكم *** تكفّرون رجالا كفّروا(8) رجلا!

/قال: فلما تتابع على واصل منه ما يشهد على إلحاده(9) خطب به واصل، و كان ألثغ على الراء فكان يجتنبها في كلامه، فقال: أ ما لهذا الأعمى الملحد، أ ما لهذا المشنّف المكنيّ بأبي معاذ من يقتله؟ أما و اللّه لو لا [أن](10) الغيلة سجيّة من سجايا الغالية لدسست إليه من يبعج بطنه في جوف منزله أو في حفله(11)، ثم كان لا يتولّى ذلك إلا عقيليّ أو سدوسيّ! فقال أبا معاذ(12) و لم يقل بشّارا، و قال المشنّف و لم يقل المرعّث، و قال: من سجايا الغالية و لم يقل الرافضة، و قال: في منزله و لم يقل في داره، و قال: يبعج بطنه و لم يقل يبقر، للثّغة التي كانت به في الرّاء.

ص: 102


1- زيادة في ط، ء.
2- المزدوج: ما أشبه بعضه بعضا في السجع أو الوزن.
3- كذا في أكثر النسخ. و في ب، س: «المتفننين»، و كلاهما صحيح.
4- الرجعة: الإيمان بالرجوع بعد الموت إلى الدنيا و هو مذهب قوم من العرب في الجاهلية، و مذهب طائفة من أولى البدع و الأهواء من المسلمين يقولون إن الميت يرجع إلى الدنيا و يكون فيها حيا (انظر «شرح القاموس» للسيد مرتضى و «اللسان» في مادة رجع).
5- كذا في ط، ء و في سائر الأصول: «و ذكر مثل ذلك». بزيادة كلمة «مثل».
6- عرف واصل بن عطاء بالغزال لكثرة جلوسه في سوق الغزالين إلى أبي عبد اللّه مولى قطن الهلالي (عن «البيان و التبيين» للجاحظ ج 1 ص 20).
7- النقنق: الظليم و هو ذكر النعام. و الدوّ: الفلاة.
8- كذا في ط، ء. و في باقي الأصول: «أ تكفرون رجالا أكفروا» بالهمزة في الفعلين، و كفره بالتضعيف، و أكفره بالهمز: نسبه للكفر.
9- كذا في أكثر النسخ، و في ب، س: «على إلحاد» بدون الهاء.
10- زيادة في ط، ء، ح.
11- الحفل: الجمع من الناس. و في ط، ء: «في يوم حفله» بزيادة كلمة «يوم»، و في أكثر النسخ: «في جفله» بالجيم و هو تحريف.
12- في جميع الأصول: «فقال أبو معاذ و لم يقل بشار» و لا وجه لرفع أبي معاذ و بشار هنا، لأن القول ينصب المفرد إذا لم يكن في إسناد.

قال: و كان واصل قد بلغ من اقتداره على الكلام و تمكّنه من العبارة أن حذف الراء من جميع كلامه و خطبه و جعل مكانها ما يقوم مقامها.

هو أحد أصحاب الكلام الستة:

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي عن عافية بن شبيب قال حدّثني أبو سهيل قال حدّثني سعيد بن سلاّم قال:

كان بالبصرة ستّة من أصحاب الكلام: عمرو بن عبيد، و واصل بن عطاء، و بشّار الأعمى، و صالح بن عبد القدّوس، و عبد الكريم بن أبي العوجاء، و رجل من الأزد - قال أبو أحمد: يعني جرير بن حازم - فكانوا يجتمعون في منزل الأزديّ و يختصمون عنده. فأمّا عمرو و واصل فصارا إلى الاعتزال. و أمّا عبد الكريم/و صالح فصحّحا التوبة. و أمّا بشّار فبقي متحيّرا مخلّطا. و أمّا الأزديّ فمال إلى قول السّمنيّة(1)، و هو مذهب من مذاهب الهند، و بقي ظاهره على ما كان عليه. قال: فكان عبد الكريم يفسد الأحداث؛ فقال له عمرو بن عبيد: قد بلغني أنّك تخلو بالحدث من أحداثنا فتفسده [و تستزلّه](2) و تدخله في دينك، فإن خرجت من مصرنا و إلاّ قمت فيك مقاما آتي فيه على نفسك؛ فلحق بالكوفة، فدلّ عليه محمد بن سليمان فقتله و صلبه بها. و له يقول بشّار:

/

قل لعبد(3) الكريم يا ابن أبي العو *** جاء بعت الإسلام بالكفر موقا(4)

لا تصلّي و لا تصوم فإن صم *** ت فبعض النّهار صوما رقيقا

لا تبالي إذا أصبت من الخم *** ر عتيقا ألاّ تكون عتيقا

ليت شعري غداة حلّيت في الجي *** د حنيفا حلّيت أم زنديقا

أنت ممّن يدور في لعنة الل *** ه صديق لمن ينيك الصديقا(5)

رأى الأصمعي فيه و في مروان بن أبي حفصة:

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثني الرّياشيّ قال: سئل الأصمعيّ عن بشّار و مروان أيّهما أشعر؟ فقال:

بشّار؛ فسئل عن السبب في ذلك، فقال: لأنّ مروان سلك طريقا كثر من يسلكه فلم يلحق من تقدّمه، و شركه فيه من كان في عصره، و بشّار سلك طريقا لم يسلك و أحسن فيه و تفرّد به، و هو أكثر تصرّفا و فنون شعر و أغزر و أوسع بديعا، و مروان لم يتجاوز مذاهب الأوائل.

/أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثني العنزيّ عن أبي حاتم قال سمعت الأصمعيّ و قد عاد إلى البصرة من بغداد فسأله رجل عن مروان بن أبي حفصة، فقال: وجد أهل بغداد قد ختموا به الشّعراء و بشّار أحقّ بأن يختموهم به من

ص: 103


1- السمنية (بضم السين و فتح الميم): قوم من أهل الهند دهريون. و قال الجوهري: السمنية: فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ و تنكر وقوع العلم بالأخبار، و هي نسبة إلى «سومنات» بلد بالهند؛ و الدهريون: هم الذين ذهبوا إلى قدم الدهر و إسناد الحوادث إليه، و هم قوم ملحدون لا يؤمنون بالآخرة.
2- زيادة في ط، ء. و تستزله: توقعه في الزلل.
3- كذا في ء، ط. و في باقي الأصول: «قلت عبد الكريم».
4- موقا: حمقا و غباوة.
5- في ب، س، ح: «صديقا» بالتنكير.

مروان؛ فقيل له: و لم؟ فقال: و كيف لا يكون كذلك و ما كان مروان في حياة بشّار يقول شعرا حتّى يصلحه له بشّار و يقوّمه! و هذا سلّم الخاسر من طبقة مروان يزاحمه بين أيدي الخلفاء بالشعر و يساويه في الجوائز، و سلّم معترف بأنه تبع لبشّار.

مقارنته بامرئ القيس و القطامي:
اشارة

أخبرني جحظة قال سمعت عليّ بن يحيى المنجّم يقول: سمعت من لا أحصي من الرّواة يقولون: أحسن الناس ابتداء في الجاهليّة امرؤ القيس حيث يقول:

ألا انعم صباحا أيّها الطّلل البالي

و حيث يقول:

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل

و في الإسلام القطاميّ حيث يقول:

إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل

و من المحدّثين بشّار حيث يقول:

صوت

أبى طلل بالجزع أن يتكلّما *** و ما ذا عليه لو أجاب متيّما

و بالفرع(1) آثار بقين و باللّوى(2) *** ملاعب لا يعرفن إلا توهّما

/و في هذين البيتين لابن المكّي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى(3) من كتابه. و فيهما لابن جؤذر رمل.

مقارنة بينه و بين مروان بن أبي حفصة:

أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن أبي حاتم قال:

كان الأصمعيّ يعجب بشعر بشّار لكثرة فنونه و سعة تصرّفه، و يقول: كان مطبوعا لا يكلّف طبعه شيئا متعذّرا لا كمن يقول البيت و يحكّكه أياما. و كان يشبّه بشّارا بالأعشى و النّابغة الذّبيانيّ، و يشبّه مروان بزهير و الحطيئة، و يقول: هو متكلّف.

قال الكرانيّ: قال أبو حاتم: و قلت لأبي زيد: أيّما أشعر بشّار أم مروان؟ فقال: بشّار أشعر، و مروان أكفر.

ص: 104


1- كذا في ب، س، ح، و ذكر «ياقوت» أن الفرع بالفتح ثم السكون: موضع من وراء الفرك، و لم يزد على هذا، و الفرع بالضم و السكون: قرية بينها و بين المدينة ثمانية برد على طريق مكة. فيها نخل و مياه كثيرة، و منهم من ضبط اسم هذه القرية بضم أوّله و ثانية. (انظر «ياقوت» في اسم «فرع»)، و في ء و إحدى روايتي ط: «و بالقاع»، و القاع: منزل بطريق مكة بعد العقبة، و في أ، م: «و بالجزع».
2- اللوى في الأصل: منقطع الرملة، و هو اسم موضع بعينه. قال «ياقوت»: «قد أكثر الشعراء من ذكره و خلطت بين ذلك اللوى و الرمل فعز الفصل بينهما» ثم قال: «و هو واد من أودية بني سليم».
3- كذا في أكثر الأصول. و في أ، م، ح: «في مجرى البنصر».

قال أبو حاتم: و سألت أبا زيد مرّة أخرى عنهما فقال: مروان أجدّ و بشّار أهزل؛ فحدّثت الأصمعيّ بذلك؛ فقال: بشار يصلح للجدّ و الهزل، و مروان لا يصلح إلاّ لأحدهما.

كان شعره سيارا يتناشده الناس:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا عليّ بن مهديّ قال حدّثنا نجم بن النّطّاح قال:

عهدي بالبصرة/و ليس فيها غزل و لا غزلة إلاّ يروي من شعر بشّار، و لا نائحة و لا مغنّية إلاّ لتكسّب به، و لا ذو شرف إلاّ و هو يهابه و يخاف معرّة لسانه.

لم يأت في شعره بلفظ مستنكر:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن المبارك قال حدّثني أبي قال:

قلت لبشّار: ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلاّ و قد قال فيه شيئا استنكرته العرب من ألفاظهم و شكّ فيه، و إنه ليس في شعرك ما يشكّ فيه؛ قال: و من/أين يأتيني الخطأ! ولدت هاهنا و نشأت في حجور ثمانين شيخا من فصحاء بني عقيل ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، و إن دخلت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، و أيفعت(1)فأبديت(2) إلى أن أدركت، فمن أين يأتيني الخطأ!.

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و أحمد بن عبد العزيز و يحيى بن عليّ قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال:

كان الأصمعيّ يقول: إنّ بشّارا خاتمة الشعراء، و اللّه لو لا أنّ أيّامه تأخّرت لفضّلته على كثير منهم.

هو أول الشعراء في جملة من أغراض الشعر:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبو الفضل المروزيّ قال حدّثني قعنب بن المحرز الباهليّ قال قال الأصمعيّ:

لقي أبو عمرو بن العلاء بعض الرّواة فقال له: يا أبا عمرو، من أبدع الناس بيتا؟ قال: الذي يقول:

لم يطل ليلي و لكن لم أنم *** و نفى عنّي الكرى طيف ألمّ

روّحي عنّي قليلا و اعلمي *** أنّني يا عبد من لحم و دم

قال: فمن أمدح الناس؟ قال: الذي يقول:

لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى *** و لم أدر أنّ الجود من كفّه يعدي

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى *** أفدت و أعداني فأتلفت(3) ما عندي

/قال: فمن أهجى الناس؟ قال: الذي يقول:

رأيت السّهيلين استوى الجود فيهما *** على بعد ذا من ذاك في حكم حاكم

ص: 105


1- يفع الغلام و أيفع إذا راهق البلوغ فهو يافع و لا يقال: موفع.
2- أبديت (بالبناء للمفعول): أخرجت إلى البادية.
3- في ء، ط. «فبذرت».

سهيل بن عثمان يجود بماله *** كما جاد بالوجعاء(1) سهيل بن سالم

قال: و هذه الأبيات كلّها لبشّار.

نسبة ما في هذا الخبر من الأشعار التي يغنّى فيها صوت

لم يطل ليلي و لكن لم أنم *** و نفى عنّي الكرى طيف ألمّ

و إذا قلت لها جودي لنا *** خرجت بالصّمت عن لا و نعم

نفّسي(2) يا عبد عنّي و اعلمي *** أنّني يا عبد من لحم و دم

إنّ في برديّ جسما ناحلا *** لو توكّأت عليه لانهدم

حتم الحبّ لها في عنقي *** موضع الخاتم من أهل الذّمم

غناه إبراهيم هزجا بالسّبابة في مجرى الوسطى عن ابن المكيّ و الهشاميّ. و فيه لقعنب الأسود خفيف ثقيل.

فأما الأبيات التي ذكر أبو عمرو أنّه فيها أمدح الناس و أوّلها:

لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى

فإنه ذكر أنها لبشّار. و ذكر الزّبير بن بكّار أنها لابن الخيّاط/في المهديّ، و ذكر له فيها معه خبرا طويلا قد ذكرته في أخبار ابن الخيّاط في هذا الكتاب(3).

هجا صديقه ديسما لأنه يروي هجاءه:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا عليّ بن مهديّ الكسرويّ قال حدّثنا أبو حاتم قال:

/كان بشار كثير الولوع بديسم العنزيّ و كان صديقا له و هو مع ذلك يكثر هجاءه، و كان ديسم لا يزال يحفظ شيئا من شعر حمّاد و أبي هشام الباهليّ في بشّار؛ فبلغه ذلك فقال فيه:

أ ديسم يا ابن الذئب من نحل زارع *** أ تروي هجائي سادرا(4) غير مقصر

قال أبو حاتم: فأنشدت أبا زيد هذا البيت و سألته ما يقول فيه، فقال: لمن هذا الشعر؟ فقلت: لبشار [يقوله](5) في ديسم العنزيّ؛ فقال: قاتله اللّه ما أعلمه بكلام العرب! ثم قال: الدّيسم: ولد الذئب من الكلبة، و يقال للكلاب: أولاد زارع. و العسبار: ولد الضّبع من الذئب(6). و السّمع: ولد الذئب(7) من الضّبع. و تزعم

ص: 106


1- الوجعاء: الدبر.
2- ورد فيما تقدم: «روّحي».
3- (انظر ج 18 ص 94 «أغاني» طبع بولاق).
4- السادر: الذي لا يهتمّ لشيء و لا يبالي ما صنع.
5- زيادة في م، و هامش أ.
6- أي إن أمه ضبع و أباه ذئب كما ذكره الدميريّ في «حياة الحيوان» في الكلام على الضبع.
7- اتفقت كتب اللغة على هذا التفسير و لعله «الذئبة» بالتاء لأن الذئب لا يذكر و يؤنث كالضبع. و في كتاب «الحيوان» للجاحظ جزء 6 ص 45 ما يؤيد ذلك حيث قال: «و الأعراب تزعم أن اللّه تعالى لم يدع ما كسا إلا أنزل فيه بلية و أنه مسخ منهم اثنين ضبعا و ذئبا

العرب أن السّمع لا يموت حتف أنفه، و أنه أسرع من الريح و إنما هلاكه بعرض من(1) أعراض الدنيا.

مزاحه مع حمدان الخرّاط:

أخبرنا حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

كان بالبصرة رجل يقال له: حمدان الخرّاط، فاتخذ جاما لإنسان كان بشّار عنده، فسأله بشار أن يتخذ له جاما فيه صور طير تطير، فاتخذه له و جاءه به، فقال له: ما في هذا الجام؟ فقال: صور طير تطير؛ فقال [له: قد](2) كان ينبغي أن تتخذ فوق/هذه الطير طائرا من الجوارح كأنه يريد صيدها، فإنه كان أحسن؛ قال: لم أعلم؛ قال: بلى قد علمت، و لكن علمت(3) أني أعمى لا أبصر شيئا! و تهدّده بالهجاء، فقال له حمدان: لا تفعل فإنك تندم؛ قال:

أو تهدّدني أيضا! قال: نعم؛ قال: فأيّ شيء تستطيع أن تصنع بي إن هجوتك! قال: أصوّرك على باب داري بصورتك هذه و أجعل من خلفك قردا ينكحك حتى يراك الصّادر و الوارد؛ قال(4) بشار: اللّهمّ أخزه، أنا أمازحه و هو يأبى إلا الجدّ!.

مفاخرة جرير بن المنذر السدوسي له و ما قاله فيه بشار من الشعر:

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى و الحسن بن عليّ و محمد بن عمران الصّيرفيّ قالوا: حدّثنا العنزيّ قال حدّثني جعفر بن محمد [العدويّ(5) عن محمد] بن سلاّم قال حدّثني مخلد أبو سفيان قال:

كان جرير بن المنذر السّدوسيّ يفاخر بشّارا؛ فقال فيه بشّار:

أمثل بني مضر وائل *** فقدتك من فاخر ما أجنّ

أ في النوم هذا أبا منذر *** فخيرا رأيت و خيرا يكن

رأيتك و الفخر في مثلها *** كعاجنة غير ما تطّحن

و قال يحيى في خبره: فحدّثني محمد بن القاسم قال حدّثني عاصم(6) بن وهب أبو شبل الشاعر البرجميّ قال حدّثني محمد بن الحجّاج السرادانيّ(7) قال:

/كنّا عند بشّار و عنده رجل ينازعه في اليمانية و المضريّة إذ أذّن المؤذّن، فقال له بشار: رويدا، تفهّم هذا الكلام؛ فلما قال: أشهد أنّ محمدا رسول اللّه، قال له بشّار: أ هذا الذي نودي باسمه مع اسم اللّه عزّ و جلّ من مضرّ

ص: 107


1- هكذا في ء، ط، ح. و في سائر النسخ: «بغرض من أغراض» بالغين و هو تصحيف.
2- زيادة في ء، ط.
3- في ء، ط: «و لكن قد عملت على أني أعمى».
4- في ء، ط: «فقال» بالفاء.
5- زيادة عن، ء، ط و بها يستقيم السند.
6- كذا في ترجمته في ج 13 ص 22 «أغاني» طبع بولاق، و في مواضع أخرى من هذا الكتاب. و وقع في هذا الموضع في أكثر النسخ «عصيم». و في ء، ط: «عصم» و هو تحريف.
7- هكذا ورد هذا الاسم في جميع الأصول و في «معاهد التنصيص شرح شواهد التلخيص» ص 131 طبع بولاق «السواديّ» و لم نعثر على تصحيحه.

هو أم من صداء و عكّ و حمير؟ فسكت الرجل.

نقده للشعر:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال أنشد(1) بشار قول الشاعر:

و قد جعل الأعداء ينتقصوننا *** و تطمع فينا ألسن و عيون

ألا إنما ليلى عصا خيزرانة *** إذا غمزوها بالأكفّ تلين

/فقال: و اللّه لو زعم أنها عصا مخّ أو عصا زبد، لقد كان جعلها جافية خشنة بعد أن جعلها عصا! أ لا قال كما قلت:

و دعجاء المحاجر من معدّ *** كأن حديثها ثمر الجنان

إذا قامت لمشيتها(2) تثنّت *** كأن عظامها من خيزران

اعتداده بنفسه:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرني محمد بن [صالح بن](3) الحجاج قال:

قلت لبشار: إنّي أنشدت فلانا قولك:

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى *** ظمئت و أيّ الناس تصفو مشاربه

فقال لي: ما كنت أظنه إلا لرجل كبير؛ فقال لي بشار: ويلك! أ فلا قلت له: هو و اللّه لأكبر الجنّ و الإنس!.

وعدته امرأة و اعتذرت فعاتبها بشعر:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبو الشّبل عن محمد بن الحجاج قال:

كان بشّار يهوى امرأة من أهل البصرة فراسلها يسألها زيارته، فوعدته بذلك ثم أخلفته، و جعل ينتظرها ليلته حتى أصبح، فلما لم تأته أرسل إليها يعاتبها فاعتذرت بمرض أصابها؛ فكتب إليها بهذه الأبيات:

يا ليلتي تزداد نكرا *** من حبّ من أحببت بكرا

حوراء إن نظرت إلي *** ك سقتك بالعينين خمرا

و كأن رجع حديثها *** قطع الرياض كسين زهرا

و كأن تحت لسانها *** هاروت ينفث فيه سحرا

و تخال ما جمعت علي *** ه ثيابها ذهبا و عطرا

ص: 108


1- كذا في ء، ط. و في باقي الأصول: «أنشدنا بشار».
2- كذا في جميع الأصول و في «كامل» المبرّد ج 2 ص 497 طبع أوروبا: «لسبحتها» و السّبحة: صلاة التطوّع و النافلة. و المشهور في رواية هذا البيت: إذا قامت لحاجتها تثنت
3- زيادة في ء، ط.

و كأنها برد الشرا *** ب صفا و وافق منك فطرا

جنّيّة إنسيّة *** أو بين ذاك أجلّ أمرا

و كفاك أنّي لم أحط *** بشكاة من أحببت خبرا

إلا مقالة زائر *** نثرت لي الأحزان نثرا

متخشّعا تحت الهوى *** عشرا و تحت الموت عشرا

كان إسحاق الموصلي لا يعتدّ به و يفضل عليه مروان:

حدّثني جحظة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال:

كان إسحاق الموصليّ لا يعتدّ ببشار و يقول: هو كثير التخليط في شعره(1)، و أشعاره مختلفة، لا يشبه بعضها بعضا؛ أ ليس هو القائل:

/

إنما عظم سليمى حبّتي(2)*** قصب السّكّر لا عظم الجمل

و إذا أدنيت منها بصلا *** غلب المسك على ريح البصل

لو قال كلّ شيء جيّد ثم أضيف إلى هذا لزيّفه. قال: و كان يقدّم عليه مروان و يقول: هذا هو أشدّ استواء شعر منه، و كلامه و مذهبه أشبه بكلام العرب و مذاهبها، و كان لا يعدّ أبا نواس البتة و لا يرى فيه خيرا.

أنشد إبراهيم بن عبد اللّه هجوه للمنصور و لما قتل غيرها و جعلها في هجو أبي مسلم:

حدّثنا محمد بن عليّ(3) بن يحيى قال حدّثنا محمد بن زكريّا قال حدّثنا محمد بن عبد الرحمن التّيميّ قال:

دخل بشّار إلى إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن، فأنشده قصيدة يهجو فيها المنصور و يشير عليه برأي يستعمله في أمره، فلما قتل/إبراهيم خاف بشار، فقلب الكنية، و أظهر أنه كان قالها في أبي مسلم و حذف منها أبياتا و أوّلها:

أبا جعفر ما طول عيش بدائم *** و لا سالم عمّا قليل بسالم

قلب هذا البيت فقال: «أبا مسلم».

على الملك الجبّار يقتحم الردى *** و يصرعه في المأزق المتلاحم

كأنك لم تسمع بقتل متوّج *** عظيم و لم تسمع بفتك(4) الأعاجم

تقسّم كسرى رهطه بسيوفهم *** و أمسى أبو العباس أحلام نائم

يعني الوليد بن يزيد.

و قد كان لا يخشى انقلاب مكيدة *** عليه و لا جري النّحوس الأشائم

مقيما على اللّذات حتى بدت له *** وجوه المنايا حاسرات العمائم

ص: 109


1- كذا في أكثر النسخ. و في س، أ، م: «في نثره».
2- كذا في أكثر النسخ. و في أ، م، ح: «خلتي» و كلاهما بمعنى الصديقة و المحبوبة.
3- كلمة «ابن علي» ساقطة في أ، م، ح.
4- في ء، ط: «و لم تعلم بقتل الأعاجم».

/

و قد ترد الأيام غرّا و ربّما *** وردن كلوحا باديات الشّكائم

و مروان(1) قد دارت على رأسه الرحى *** و كان لما أجرمت نزر الجرائم

فأصبحت تجري سادرا في طريقهم *** و لا تتّقي أشباه تلك النقائم

تجرّدت للإسلام تعفو(2) سبيله *** و تعري مطاه(3) للّيوث الضّراغم

فما زلت حتى استنصر الدين أهله *** عليك فعاذوا بالسّيوف الصوارم

فرم وزرا ينجيك يا ابن سلامة *** فلست بناج من مضيم و ضائم

جعل موضع «يا ابن سلامة» «يا ابن وشيكة»(4) و هي أمّ أبي مسلم.

لحا اللّه قوما رأسوك عليهم *** و ما زلت مرءوسا خبيث المطاعم

أقول لبسّام عليه جلالة *** غدا أريحيّا عاشقا للمكارم

من الفاطميّين الدّعاة إلى الهدى *** جهارا و من يهديك مثل ابن فاطم(5)

هذا البيت الذي [خافه و](6) حذفه بشار من الأبيات.

سراج لعين المستضيء و تارة *** يكون ظلاما للعدوّ المزاحم

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن *** برأي نصيح أو نصيحة حازم

و لا تجعل الشّورى عليك غضاضة *** فإنّ الخوافي قوّة للقوادم

و ما خير كفّ أمسك الغلّ(7) أختها *** و ما خير سيف لم يؤيّد بقائم

/و خلّ الهوينا للضّعيف و لا تكن *** نئوما فإن الحزم ليس بنائم

و حارب إذا لم تعط إلا ظلامة *** شبا الحرب خير من قبول المظالم

قال محمد بن يحيى: فحدّثني الفضل بن الحباب قال سمعت أبا عثمان المازنيّ يقول سمعت أبا عبيدة يقول:

ميميّة بشار هذه أحب إليّ من ميميّتي جرير و الفرزدق.

قال محمد: و حدّثني ابن الرّياشيّ قال حدّثني أبي قال:

حديث بشار في المشورة:

قال الأصمعيّ قلت لبشّار: يا أبا معاذ، إن الناس يعجبون من أبياتك في المشورة؛ فقال لي: يا أبا سعيد، إن

ص: 110


1- يريد به مروان الحمار آخر ملوك بني أمية الذي قتله أبو العباس السفاح بمصر.
2- تعفو: تمحو، يقال: عفت الريح المنزل أي محته و درسته.
3- المطا: الظهر.
4- كذا في أكثر الأصول: و هو الموافق لما في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (ج 1 ص 397) في ترجمة أبي مسلم الخراساني. و في ط: «وشيلة».
5- أصله فاطمة فرخمه بحذف تاء التأنيث، و الترخيم في غير النداء جائز للضرورة.
6- زيادة في ط.
7- الغل بالضم: الحديدة التي تجمع بين يد الأسير و عنقه، و تسمى الجامعة.

المشاور بين صواب يفوز بثمرته أو خطأ يشارك/في مكروهه؛ فقلت له: أنت و اللّه في قولك هذا أشعر منك في شعرك.

بشار و المعلى بن طريف:

حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الفضل بن محمد اليزيديّ عن إسحاق و حدّثني به محمد بن مزيد بن أبي الأزهر عن حمّاد عن أبيه قال:

كان بشّار جالسا في دار المهديّ و الناس ينتظرون الإذن، فقال بعض موالي المهديّ لمن حضر: ما عندكم في قول اللّه عزّ و جلّ:

(وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبٰالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ) فقال له بشار: النّحل التي يعرفها الناس؛ قال هيهات يا أبا معاذ، النحل: بنو هاشم، و قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ) يعني العلم؛ فقال له بشّار: أراني اللّه طعامك و شرابك و شفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم، فقد أوسعتنا غثاثة؛ فغضب و شتم بشّارا؛ و بلغ المهديّ الخبر فدعا بهما فسألهما عن القصة، فحدّثه بشّار بها؛ فضحك حتى أمسك على بطنه، ثم قال للرجل: أجل! فجعل اللّه طعامك و شرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فإنك بارد غثّ. و قال/محمد بن مزيد في خبره: إنّ الذي خاطب بشّارا بهذه الحكاية و أجابه عنها من موالي المهديّ المعلّى بن طريف.

بشار و يزيد بن منصور الحميري:

أخبرنا الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

دخل يزيد بن منصور الحميريّ على المهديّ و بشّار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها، فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد بن منصور الحميريّ، و كانت فيه غفلة، فقال له: يا شيخ، ما صناعتك؟ فقال: أثقب اللؤلؤ؛ فضحك المهديّ ثم قال لبشّار: أعزب(1) ويلك؛ أ تتنادر على خالي! فقال له: و ما أصنع به! يرى شيخا أعمى ينشد الخليفة شعرا و يسأله عن صناعته!.

ترك جواب رجل عاب شعره للؤمه:

أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه قال:

وقف على بشّار بعض المجّان و هو ينشد شعرا؛ فقال له: استر شعرك هذا كما تستر عورتك؛ فصفّق بشّار بيديه و غضب و قال له: من أنت ويلك؟ قال: أنا أعزّك اللّه رجل من باهلة(2)، و أخوالي [من](3) سلول(4)، و أصهاري عكل(5)، و اسمي كلب، و مولدي بأضاخ(6)، و منزلي بنهر(7) بلال؛ فضحك بشّار ثم قال: اذهب

ص: 111


1- أعزب: أبعد. و في ء، ط، ح: «أغرب» بالغين المعجمة و الراء المهملة و هي بمعناها.
2- باهلة: قبيلة من قيس عيلان و هو اسم امرأة من همدان كانت تحت معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان فنسب ولده إليها.
3- زيادة في ء، ط.
4- سلول: قبيلة من هوازن و هم بنو مرة بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن و سلول أمهم نسبوا إليها.
5- عكل: قبيلة فيهم غباوة و قلة فهم، و لذلك يقال لكل من فيه غفلة و يستحمق: عكليّ.
6- أضاخ: قرية من قرى اليمامة لبني نمير.
7- كذا في ء، ط. و نهر بلال بالبصرة احتفره بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، و جعل على جنبيه حوانيت و نقل إليها السوق.

ويلك! فأنت عتيق لؤمك، قد علم اللّه أنك استترت منّي بحصون من حديد.

وصف قاص قصرا كبيرا في الجنة فعابه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني الفضل بن سعيد قال حدّثني أبي قال:

مرّ بشار بقاصّ بالبصرة(1) فسمعه يقول في قصصه: من صام رجبا و شعبان و رمضان بنى اللّه له قصرا في الجنّة صحنه ألف فرسخ في مثلها و علوه ألف فرسخ و كلّ باب من أبواب بيوته و مقاصره عشرة فراسخ في مثلها، قال: فالتفت بشار إلى قائده. فقال: بئست و اللّه الدار هذه في كانون الثاني(2).

سمع صخبا في الجيران فقال كأن القيامة قامت:

قال الفضل بن سعيد و حدّثني رجل من أهل البصرة ممن كان يتزوّج بالنّهاريّات(3) قال: تزوّجت امرأة منهن فاجتمعت معها في علو بيت و بشّار تحتنا، أو كنا في أسفل البيت و بشار في علوه مع امرأة، فنهق حمار في الطريق فأجابه حمار في الجيران و حمار في الدار فارتجّت الناحية بنهيقها، و ضرب الحمار الذي في الدار الأرض برجله و جعل يدقّها بها دقّا شديدا فسمعت بشّارا يقول للمرأة: نفخ - يعلم اللّه - في الصّور و قامت القيامة أ ما تسمعين كيف يدقّ على أهل القبور حتى يخرجوا منها! قال: و لم يلبث أن فزعت شاة كانت في السطح فقطعت حبلها و عدت فألقت طبقا و غضارة(4)/الى الدار فانكسرا، و تطاير حمام و دجاج كنّ في الدار لصوت الغضارة و بكى صبيّ في الدار؛ فقال بشّار: صحّ و اللّه الخبر و نشر أهل القبور من قبورهم أزفت - يشهد اللّه - الآزفة و زلزلت الأرض زلزالها؛ فعجبت من كلامه و غاظني ذلك؛ /فسألت من المتكلم؟ فقيل لي: بشار، فقلت: قد علمت أنه لا يتكلّم بمثل هذا غير بشّار.

نكتة له مع رجل رمحته بغلة فشكر اللّه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن محمد جدار(5) قال حدّثني قدامة بن نوح قال:

مرّ بشار برجل قد رمحته(6) بغلة و هو يقول: الحمد للّه شكرا، فقال له بشّار: استزده يزدك. قال: و مرّ به قوم يحملون جنازة و هم يسرعون المشي بها، فقال: ما لهم مسرعين! أ تراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا فيؤخذ منهم!.

مات ابن له فرثاه:

ص: 112


1- كذا في ء، ط. و في باقي الأصول: «بالمدينة».
2- كانون الأول و كانون الثاني: شهران شمسيان يقعان في قلب الشتاء، معربان عن الرومية.
3- كذا في جميع الأصول و لعلها نسبة إلى بني النهاري: قبيلة من الأشراف باليمن.
4- في ء، ط: «فألقت طبقا فيه غضارة» و الغضارة: القصعة الكبيرة فارسية. و في أ، م: «فألقت طبقا و غزارة».
5- هكذا ورد هذا الاسم في أكثر الأصول. و في ء هكذا: «محمد بن حصار» و في ط هكذا: «محمد بن صعار». و في العرب من تسمى بجدار و حصار. و لم نوفق إلى تحقيقه في الكتب التي بأيدينا.
6- رمحته: رفسته.

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن عافية بن شبيب، و أخبرني به وكيع عن محمد بن عمر بن محمد بن عبد الملك عن الحسن بن جمهور، قالا(1):

توفّى ابن لبشار فجزع عليه؛ فقيل له: أجر قدّمته، و فرط افترطته، و ذخر أحرزته، فقال: ولد دفنته، و ثكل تعجّلته، و غيب وعدته فانتظرته؛ و اللّه لئن لم أجزع للنقص لا أفرح للزيادة. و قال يرثيه:

أجارتنا لا تجزعي و أنيبي *** أتاني من الموت المطلّ نصيبي

بنيّ على رغمي و سخطي رزئته *** و بدّل أحجارا و جال(2) قليب

و كان كريحان الغصون(3) تخاله *** ذوي بعد إشراق يسرّ و طيب

/أصيب بنيّ حين أورق غصنه *** و ألقى عليّ الهمّ كلّ قريب

عجبت لإسراع المنيّة نحوه *** و ما كان لو ملّيته(4) بعجيب

نوادره:

أخبرني يحيى بن عليّ قال ذكر عافية بن شبيب عن أبي عثمان اللّيثيّ، و حدّثني به الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه عن أبي مسلم، قالا:

رفع غلام بشّار إليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم، فصاح به بشّار و قال: و اللّه ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمى بعشرة دراهم، و اللّه لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم.

أخبرنا محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبيّ قال حدّثنا أبو معاذ النّميريّ قال: قلت لبشّار: لم مدحت يزيد بن حاتم ثم هجوته؟ قال: سألني أن أنيكه فلم أفعل؛ فضحكت ثم قلت: فهو كان ينبغي له أن يغضب، فما موضع الهجاء! فقال: أظنّك تحبّ أن تكون شريكه؛ فقلت: أعوذ باللّه من ذلك ويلك(5)!

سئل عن شعره الغث فأجاب:

حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا أحمد بن خلاّد، و أخبرنا يحيى بن عليّ و محمد بن عمران الصّيرفيّ، قالا حدّثنا العنزيّ قال حدّثنا أحمد بن خلاّد قال حدّثني أبي قال قلت لبشّار: إنك لتجيء بالشيء الهجين(6) المتفاوت، قال: و ما ذاك؟ قال قلت: بينما تقول شعرا تثير(7) به النقع و تخلع به القلوب، مثل قولك:

إذا ما غضبنا غضبة مضريّة *** هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدما

ص: 113


1- كذا في ء، ط. و في باقي الأصول: «قال» بالإفراد.
2- الجال: الجانب، و القليب في الأصل: البئر لأنها قلبت الأرض بالحفر، و المراد هنا القبر.
3- كذا في ء و إحدى روايتي ط. و في أ، م و رواية في ط: «الغروس». و في ب، س: «العروس».
4- مليته: متعت به، يقال ملاّك اللّه حبيبك أي متعك به و أعاشك معه طويلا.
5- كذا في ء، أ. و في باقي النسخ: «و بك»، و هو تحريف.
6- كذا في أكثر الأصول، و في ء، ط: «المهجن».
7- كذا في ء، ط. و في باقي الأصول: «يثير النقع».

إذا ما أعرنا سيّدا من قبيلة *** ذرى منبر صلّى علينا و سلّما

/تقول:

ربابة ربّة البيت *** تصبّ الخلّ في الزّيت

لها عشر دجاجات *** و ديك حسن الصّوت

فقال: لكلّ وجه و موضع، فالقول الأوّل جدّ، و هذا قلته في ربابة جاريتي، و أنا لا آكل البيض من السّوق، و ربابة [هذه](1) لها عشر دجاجات و ديك فهي تجمع لي البيض [و تحفظه عندها](1)، فهذا عندها من قولي أحسن من:

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل

عندك.

كان يحشو شعره بما لا حقيقة له تكميلا للقافية:

أخبرني الحسن [بن عليّ](2) قال حدّثني أحمد بن محمد جدار قال حدّثني قدامة بن نوح قال:

كان بشّار يحشو شعره إذا أعوزته القافية و المعنى بالأشياء التي لا حقيقة لها، فمن ذلك أنه أنشد يوما شعرا له فقال فيه:

غنّني للغريض يا بن قنان

فقيل له: من ابن قنان هذا، لسنا نعرفه من مغنّي البصرة؟ قال: و ما عليكم منه! أ لكم قبله دين فتطالبوه به، أو ثأر تريدون أن تدركوه، أو كفلت لكم به فإذا غاب طالبتموني بإحضاره؟ قالوا: ليس بيننا و بينه شيء من هذا، و إنما أردنا أن نعرفه، فقال: هو رجل يغنّي لي و لا يخرج من بيتي؛ فقالوا له: إلى متى؟ قال: مذ يوم ولد و إلى يوم يموت. قال: و أنشدنا أيضا في هذه القصيدة:

...................(3) و وافا *** ني هلال السماء في البردان

/فقلنا: يا أبا معاذ. أين البردان هذا؟ لسنا نعرفه بالبصرة، فقال: هو بيت في بيتي سمّيته البردان، أ فعليكم من تسميتي داري و بيوتها شيء فتسألوني عنه!.

حدّثني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثني أبو غسّان دماذ - و اسمه رفيع بن سلمة - قال حدّثني يحيى بن الجون العبديّ راوية بشّار قال:

كنا عند بشّار يوما فأنشدنا قوله:

و جارية خلقت وحدها *** كأن النساء لديها خدم

ص: 114


1- زيادة عن ء، ط.
2- زيادة عن ء.
3- بياض في جميع الأصول.

دوار(1) العذارى إذا زرنها *** أطفن بحوراء مثل الصّنم(2).

ظمئت إليها فلم تسقني *** بريّ و لم تشفني من سقم

و قالت هويت فمت راشدا *** كما مات عروة(3) غمّا بغمّ

فلما رأيت الهوى قاتلي *** و لست بجار و لا بابن عمّ

دسست إليها أبا مجلز *** و أيّ فتى إن أصاب اعتزم

فما زال حتى أنابت له *** فراح و حلّ لنا ما حرم

فقال له رجل: و من أبو مجلز هذا يا أبا معاذ؟ قال: و ما حاجتك إليه! لك عليه دين أو تطالبه بطائلة(4)! هو رجل يتردّد بيني و بين معارفي في رسائل. قال: و كان كثيرا ما يحشو شعره بمثل هذا.

شعره في قينة:

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

كانت بالبصرة قينة لبعض ولد سليمان بن عليّ و كانت محسنة بارعة الظّرف، و كان بشّار صديقا لسيّدها و مدّاحا له، فحضر مجلسه يوما و الجارية تغنّي؛ فسرّ بحضوره و شرب حتى سكر و نام، و نهض بشّار؛ فقالت: يا أبا معاذ، أحبّ أن تذكر يومنا هذا في قصيدة و لا تذكر فيها اسمي و لا اسم سيّدي و تكتب بها إليه؛ فانصرف و كتب إليه:

و ذات دلّ كأن البدر صورتها *** باتت تغنّي عميد(5) القلب سكرانا:

/ (إنّ العيون التي في طرفها حور *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا)

فقلت أحسنت يا سؤلي و يا أملي *** فأسمعيني جزاك اللّه إحسانا:

(يا حبّذا جبل الرّيان(6) من جبل *** و حبّذا ساكن الريّان من كانا)

قالت فهلا، فدتك النفس، أحسن من *** هذا لمن كان صبّ القلب حيرانا:

(يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة *** و الأذن تعشق قبل العين أحيانا)

فقلت أحسنت أنت الشمس طالعة *** أضرمت في القلب و الأحشاء نيرانا

فأسمعيني صوتا مطربا هزجا(7) *** يزيد صبّا محبّا فيك أشجانا

يا ليتني كنت تفّاحا مفلّجة(8) *** أو كنت من قضب الريحان ريحانا

ص: 115


1- كذا في جميع النسخ و الدوار بضم الدال و فتحها مع تخفيف الواو و قد تشدّد: صنم كانت العرب تنصبه، يجعلون موضعا حوله يدورون به، و هو وارد هنا على وجه التشبيه؛ و في «زهر الآداب» ج 2 ص 119 طبع المطبعة الرحمانية: «رواء».
2- كذا في «زهر الآداب» و في جميع الأصول: «الضمم» بالضاد المعجمة و الميم، و هو تحريف.
3- يشير إلى عروة بن حزام العذري صاحب عفراء، أحد العشاق المشهورين الذين قتلهم العشق.
4- الطائلة: الذحل و الثأر.
5- عميد القلب: مريضه، يقال: قلب عميد إذا هدّه العشق و كسره.
6- الريان: جبل في ديار طيء لا يزال يسيل منه الماء، و هو في مواضع كثيرة منها.
7- الهزج: ضرب من ضروب الأغاني فيه تطريب بتدارك الصوت و تقاربه.
8- مفلّجة: مقسمة، و يريد بذلك أنها إذا قسمت كانت أسطع نفحا و أضوع شذا و طيبا.

حتى إذا وجدت ريحي فأعجبها *** و نحن في خلوة مثلّث إنسانا

فحرّكت عودها ثم انثنت طربا *** تشدو به ثم لا تخفيه كتمانا:

(أصبحت أطوع خلق اللّه كلّهم *** لأكثر الخلق لي في الحبّ عصيانا)

/فقلت أطربتنا يا زين مجلسنا *** فهات إنك بالإحسان أولانا

لو كنت أعلم أنّ الحبّ يقتلني *** أعددت لي قبل أن ألقاك أكفانا

فغنّت الشّرب صوتا مؤنقا(1) رملا *** يذكي السّرور و يبكي العين ألوانا:

(لا يقتل اللّه من دامت مودّته *** و اللّه يقتل أهل الغدر أحيانا)

و وجّه بالأبيات إليها، فبعث إليه سيّدها بألفي دينار و سرّ بها سرورا شديدا.

أغضبه أعرابيّ عند مجزأة بن ثور فهجاه:

أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدثني الحسن بن عليل قال حدثني عليّ بن منصور أبو الحسن الباهليّ قال حدّثني أبو عبد اللّه المقرئ الجحدريّ الذي كان يقرأ في المسجد الجامع بالبصرة، قال:

دخل أعرابيّ على مجزأة بن ثور السّدوسيّ و بشّار عنده و عليه بزّة الشعراء، فقال الأعرابيّ: من الرجل؟ فقالوا: رجل شاعر؛ فقال: أ مولى هو أم عربيّ؟ قالوا: بل مولى؛ فقال الأعرابيّ: و ما للموالي و للشعر! فغضب بشّار و سكت هنيهة، ثم قال: أ تأذن لي يا أبا ثور؟ قال: قل ما شئت يا أبا معاذ؛ فأنشأ بشّار يقول:

خليلي لا أنام على اقتسار *** و لا آبى على مولى و جار

سأخبر فاخر الأعراب عنّي *** و عنه حين تأذن بالفخار

أ حين كسيت بعد العري خزّا *** و نادمت الكرام على العقار

تفاخر يا ابن راعية و راع *** بني الأحرار حسبك من خسار

و كنت إذا ظمئت إلى قراح *** شركت الكلب في ولغ الإطار(2)

تريغ(3) بخطبة كسر المواني *** و ينسيك المكارم صيد فار

/و تغدو(4) للقنافذ تدّريها(5) *** و لم تعقل(6) بدرّاج(7) الدّيار

و تتّشح(8) الشّمال للابسيها *** و ترعى الضأن بالبلد القفار

ص: 116


1- مؤنقا: معجبا، يقال: آنقني الشيء فهو مؤنق و أنيق كما يقال مؤلم و أليم؛ و الرمل: ضرب من الأغاني.
2- من معاني الإطار: ما حول البيت فلعله المراد هنا و أن الكلب بلغ في المياه الراكدة حول الدور.
3- تريغ: تريد و تطلب و هو المناسب لسياق الكلام، و في جميع لأصول: «تريع» بالعين المهملة.
4- كذا في أكثر الأصول بالغين المعجمة. وى ح: «تعدو» بالعين المهملة.
5- تدّريها: تختلها لتصيدها.
6- كذا في جميع النسخ، و لعله «تعلق»، يريد أنه يحاول صيد القنافذ و لا يلحقها.
7- الدرّاج: القنفذ.
8- كذا في جميع النسخ، و لعله «و تنتسج» بمعنى «تنسج»، و الشمال: جمع شملة و هي الكساء يتشح به؛ و في حديث عليّ قال للأشعث بن قيس: «إن أبا هذا كان ينسج الشمال باليمين»؛ و لا يخفى ما في هذه المقابلة من الحسن.

مقامك بيننا دنس علينا *** فليتك غائب في حرّ نار

/و فخرك بين خنزير و كلب *** على مثلي من الحدث الكبار

فقال مجزأة للأعرابيّ: قبحك اللّه! فأنت كسبت هذا الشرّ لنفسك و لأمثالك!.

خشي لسانه حاجب محمد بن سليمان فأذن له بالدخول:

أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدّثني العنزيّ عن الرّياشيّ قال:

حضر بشّار باب محمد بن سليمان، فقال له الحاجب: اصبر؛ فقال: إنّ الصبر لا يكون إلا على بليّة؛ فقال له الحاجب: إنّي أظنّ أنّ وراء قولك هذا شرّا و لن أتعرّض له، فقم فادخل.

بشار و هلال الرأي:

أخبرني وكيع قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن محمد بن سلاّم قال:

قال هلال الرأي(1) - و هو هلال بن عطية - لبشّار و كان له صديقا يمازحه: إنّ اللّه لم يذهب بصر أحد إلا عوّضه بشيء، فما عوّضك؟ قال: الطويل العريض؛ قال: و ما هذا؟ قال: ألاّ أراك و لا أمثالك من الثقلاء. ثم قال له: يا هلال أ تطيعني/في نصيحة أخصّك بها؟ قال نعم؛ قال: إنك كنت تسرق الحمير زمانا ثم تبت و صرت رافضيّا، فعد إلى سرقة الحمير، فهي و اللّه خير لك من الرّفض(2).

قال محمد بن سلاّم: و كان هلال يستثقل، و فيه يقول بشّار:

و كيف يخفّ لي بصري و سمعي *** و حولي عسكران من الثّقال

قعودا حول دسكرتي(3) و عندي *** كأنّ لهم عليّ فضول مال

إذا ما شئت صبّحني هلال *** و أيّ الناس أثقل من هلال

و أخبرني أبو دلف الخزاعيّ بهذا الخبر عن عيسى بن إسماعيل عن ابن عائشة، فذكر أنّ الذي خاطب بشّارا بهذه المخاطبة ابن سيّابة، فلما أجابه بشّار بالجواب المذكور، قال له: من أنت؟ قال: ابن سيّابة؛ فقال له: يا ابن سيّابة، لو نكح الأسد ما افترس؛ قال: و كان يتّهم بالأبنة.

ذم أناسا كانوا مع ابن أخيه:

قال أيوب و حدّثني محمد بن سلاّم و غيره قالوا: مرّ ابن أخي بشّار به و معه قوم؛ فقال لرجل معه: من هذا؟ فقال: ابن أخيك؛ قال: أشهد أن أصحابه أنذال؛ قال: و كيف علمت؟ قال: ليست لهم نعال.

ص: 117


1- في جميع الأصول «الرائي» و ما أثبتناه هو الموجود في «كتب التراجم»، يذكرونه بهذا الاسم و يقولون: هو هلال بن يحيى بن مسلم البصري، أخذ الفقه عن أبي يوسف المتوفى سنة 182 و زفر المتوفى سنة 158، و يقولون مع هذا: إنه توفي سنة 245 انظر «الفوائد البهية في تراجم الحنفية» و «تاج التراجم في طبقات الحنفية» و «الفهرست» لابن النديم ص 205، و ذكره ابن حجر في «لسان الميزان» ص 202 ج 6 و بعد أن ذكر أنه توفي سنة 245 قال: و في «الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني «هلال الرأي هو هلال بن عطية» و ذكر له قصة مع بشار بن برد، فهذا يدل على أنه متقدّم جدا لأن بشارا قتل في زمن المهدي.
2- الرفض (بالكسر): مذهب الرافضة و هم فرقة من الشيعة بايعوا زيد بن عليّ ثم قالوا له: تبرّأ من الشيخين فأبى فرفضوه و انفضوا عنه فسموا الرافضة.
3- الدسكرة: بناء كالقصر، و هي أيضا: الأرض المستوية.
كان دقيق الحس:

أخبرنا محمد بن عليّ قال حدّثني أبي قال حدّثني عافية بن شبيب عن أبي دهمان الغلابيّ(1)، قال:

مررت ببشّار يوما و هو جالس على بابه وحده و ليس معه خلق و بيده مخصرة(2) يلعب بها و قدّامه طبق فيه تفّاح و أترجّ(3)، فلما رأيته و ليس عنده أحد تاقت نفسي/إلى أن أسرق ما بين يديه، فجئت قليلا قليلا و هو كافّ [يده](4) حتى مددت يدي لأتناول منه، فرفع القضيب و ضرب به يدي ضربة كاد يكسرها، فقلت [له](1): قطع اللّه يدك يا ابن الفاعلة، أنت الآن أعمى! فقال: يا أحمق، فأين الحسّ!.

حديثه مع نسوة أتينه يأخذن شعره لينحن به:
اشارة

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني العنزيّ قال حدّثني خالد بن يزيد بن وهب بن جرير عن أبيه قال:

كان لبشّار في داره مجلسان: مجلس يجلس فيه بالغداة يسمّيه «البردان» و مجلس يجلس فيه بالعشيّ اسمه «الرّقيق»، فأصبح ذات يوم فاحتجم و قال لغلامه: أمسك عليّ بابي و اطبخ لي من طيّب طعامي و صفّ نبيذي؛ قال:

فإنه لكذلك إذ قرع الباب قرعا عنيفا؛ فقال: ويحك يا غلام! انظر من يدقّ الباب دقّ الشّرط؛ قال: فنظر الغلام، فقال له: نسوة خمس بالباب يسألن أن تقول لهنّ شعرا ينحن به؛ فقال: أدخلهنّ، فلمّا دخلن نظرن إلى النبيذ مصفّى في قنانيّه/في جانب بيته؛ قال: فقالت واحدة منهنّ: هو خمر، و قالت الأخرى: هو زبيب و عسل، و قالت الثالثة: نقيع زبيب؛ فقال: لست بقائل لكنّ حرفا أو تطعمن من طعامي و تشربن من شرابي؛ قال: فتماسكن ساعة، ثم قالت واحدة منهنّ: ما عليكنّ! هو أعمى فكلن [من](5) طعامه و اشربن من شرابه و خذن شعره؛ فبلغ ذلك الحسن البصريّ فعابه و هتف ببشّار؛ فبلغه ذلك - و كان بشّار يسمّي الحسن البصريّ القسّ - فقال:

لما طلعن من الرّقي *** ق عليّ بالبردان خمسا

و كأنهنّ أهلّة *** تحت الثياب زففن شمسا

باكرن عطر لطيمة(6) *** و غمسن في الجاديّ(7) غمسا

صوت

لمّا طلعن حففنها *** و أصخن ما يهمسن همسا

فسألنني من في البيو *** ت فقلت ما يؤوين إنسا

ليت العيون الطارفا(8) *** ت طمسن عنّا اليوم طمسا

ص: 118


1- كذا في أكثر النسخ و هو الصواب، و في ب، س: «الغلال» و هو تحريف.
2- المخصرة: ما اختصر الإنسان بيده فأمسكه من عصا أو قضيب، و قيل المخصرة: شيء يأخذه الرجل بيده ليتوكأ عليه.
3- الأترج: ثمر شجر بستانيّ من جنس الليمون ناعم الورق و الحطب.
4- الزيادة عن «معاهد التنصيص شرح شواهد التلخيص» ص 133 طبع بولاق.
5- زيادة في ح.
6- اللطيمة: نافجة المسك.
7- الجاديّ: الزعفران.
8- في جميع الأصول: «الطارقات» بالقاف، و هو تحريف.

فأصبن من طرف الحدي *** ث لذاذة و خرجن ملسا(1)

لو لا تعرّضهنّ لي *** يا قسّ كنت كأنت قسّا

غنّى في هذه الأبيات يحيى المكّي، و لحنه رمل بالبنصر عن عمرو.

نهاه مالك بن دينار عن التشبيب بالنساء فقال شعرا:

أخبرنا يحيى قال حدّثني العنزيّ قال حدّثنا عليّ بن محمد قال حدّثني جعفر بن محمد النوفليّ - و كان يروي شعر بشّار بن برد - قال: جئت بشّارا ذات يوم فحدّثني، قال: ما شعرت منذ أيّام إلا بقارع يقرع بابي مع الصّبح، فقلت: يا جارية انظري من هذا، فرجعت إليّ و قالت: هذا مالك بن دينار؛ فقلت: ما هو من أشكالي و لا أضرابي، ثمّ قلت: ائذني له، فدخل فقال: يا أبا معاذ، أ تشتم أعراض الناس و تشبّب بنسائهم! فلم يكن عندي إلاّ أن دفعت عن نفسي و قلت: لا أعود، فخرج عنّي، و قلت في أثره:

غدا مالك بملاماته *** عليّ و ما بات من باليه

تناول خودا هضيم الحشي *** من الحور محظوظة(2) عاليه

/فقلت دع اللّوم في حبّها *** فقبلك أعييت عذّاليه

و إنّي لأكتمهم سرّها *** غداة تقول لها الجالية(3)

عبيدة مالك مسلوبة *** و كنت معطّرة حاليه

فقالت على رقبة(4): إنّني *** رهنت المرعّث(5) خلخاليه

بمجلس يوم سأوفي به *** و لو أجلب الناس أحواليه(6)

شعره في محبوبته فاطمة:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني السّميدع(7) بن محمّد الأزديّ قال حدّثني عبد الرحمن بن

ص: 119


1- كذا في جميع النسخ و القلس: الشرب الكثير من النبيذ، فلعلها مصدر وقع موقع الحال، أو لعلها محرفة عن «ملسا» بمعنى أنهن ملس من العيب أي ليس فيهن عيب. قال العجاج: و حاصن من حاصنات ملس و قد فسره بذلك اللسان في مادة «قنس».
2- كذا في جميع النسخ و المحظوظة ذات الحظ و ربما كانت محرّفة عن محطوطة قال في «اللسان»: و جارية محطوطة المتنين: ممدودتها و قال الأزهري: ممدودة حسنة مستوية و قد جاء ذلك في الشعر العربي كثيرا كقول الشاعر: محطوطة المتن هضيم الحشي لا يطبيها الورع الواغل و كقول القطامي: بيضاء محطوطة المتنين بهكنة و لا يخفى ما بين اللفظين «محطوطة و عالية» من المقابلة.
3- الجالية: الماشطة التي تجلو المرأة و تزينها.
4- على رقبة: على تحفظ و احتراس.
5- لقب بشار كما تقدم.
6- أحواليه: من حولي.
7- كذا في أكثر الأصول، و في ب، س: «السميذع» بالذال المعجمة. و قد ذكر صاحب «القاموس» أن هذا اللفظ مما سمى به الرجال

الجهم عن هشام بن الكلبيّ قال:

كان أوّل بدء بشّار أنّه عشق جارية يقال لها فاطمة، و كان قد كفّ و ذهب بصره، فسمعها تغنّي فهويها و أنشأ يقول:

/

درّة بحريّة مكنونة *** مازها التّاجر من بين الدّرر

عجبت فطمة من نعتي لها *** هل يجيد النّعت مكفوف البصر

أمتا(1) بدّد هذا لعبي *** و وشاحي حلّه حتّى انتثر

/فدعيني معه يا أمتا(2)*** علّنا في خلوة نقضي الوطر

أقبلت مغضبة تضربها *** و اعتراها كجنون مستعر

بأبي و اللّه ما أحسنه *** دمع عين يغسل الكحل قطر

أيّها النّوّام هبّوا ويحكم *** و اسألوني اليوم ما طعم السّهر

عبث به رجل من آل سوّار فلم يجبه:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني خالد بن يزيد بن وهب بن جرير قال حدّثني أبي عن الحكم بن مخلد بن حازم قال: مررت أنا و رجل من عكل من أبناء سوّار بن عبد اللّه بقصر أوس(3)، فإذا نحن ببشّار في ظلّ القصر وحده، فقال لي العكليّ: لا بدّ لي من أن أعبث ببشّار؛ فقلت: ويحك، مه لا تعرّض بنفسك و عرضك له؛ فقال: إنّي لا أجده في وقت أخلى منه في هذا الوقت؛ قال فوقفت ناحية و دنا منه فقال:

يا بشّار؛ فقال: من هذا الذي لا يكنيني و يدعوني باسمي؟ قال: سأخبرك من أنا، فأخبرني أنت عن أمّك: أ ولدتك أعمى أم عميت بعد ما ولدتك؟ قال: و ما تريد إلى ذلك؟ قال: وددت أنّه فسح(4) لك في بصرك ساعة لتنظر إلى وجهك في المرآة، فعسى أن تمسك عن هجاء الناس و تعرف قدرك؛ فقال: ويحكم! من هذا؟ أ ما أحد يخبرني من هذا؟ فقال له: على رسلك، أنا رجل من عكل و خالي يبيع الفحم بالعبلاء(5) فما تقدر أن تقول لي؟ قال: لا شيء، اذهب، بأبي أنت، في حفظ اللّه.

ص: 120


1- كذا في الأصول و في «زهر الآداب»: «أمتي»، و أمتا: أمة (و هي المملوكة) مضافة إلى ياء المتكلم المنقلبة ألفا، و يحتمل أن يكون أصلها يا أمي حذف منه حرف النداء ثم حذفت ياء المتكلم و عوض عنها التاء، و يجوز في هذه التاء الفتح و الكسر و هو الأكثر، و إذا فتحت لا تلحقها الألف إلا للضرورة.
2- كذا في الأصول و في «زهر الآداب»: «أمتي».
3- قصر أوس بالبصرة ينسب إلى أوس بن ثعلبة بن زفر بن وديعة، و كان قد ولي خراسان في عهد الدولة الأموية.
4- في أ، م، ء: «فتح».
5- ذكره ياقوت في «معجمه» فقال: العبلاء اسم علم لصخرة بيضاء إلى جنب عكاظ، و عندها كانت الوقعة الثانية من وقعات الفجار، ثم قال: و العبلاء و قيل العبلاة بلدة كانت لخثعم بها كان ذو الخلصة بيت و صنم. و ذكره البكري في «معجمه» (ص 492، 641) فقال: العبلاء: قرية و تربة واد من أودية الحجاز، أسفله لبني هلال و الضباب و سلول، و أعلاه لخثعم، و هناك كان ذو الخلصة بيتهم الذي يحجون إليه.
مدح خالد البرمكي:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني هارون بن عليّ بن يحيى المنجّم قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني العبّاس بن خالد البرمكيّ قال:

كان الزّوّار يسمّون في قديم الدّهر إلى أيّام خالد بن برمك السّؤّال؛ فقال خالد: هذا و اللّه أستثقله(1)لطلاّب الخير، و أرفع قدر الكريم عن أن يسمّي به أمثال هؤلاء المؤمّلين، لأنّ فيهم الأشراف و الأحرار و أبناء النّعيم و من لعلّه خير ممن يقصد و أفضل أدبا، و لكنّا نسمّيهم الزّوّار؛ فقال بشّار يمدحه بذلك:

حذا خالد في فعله حذو برمك *** فمجد له مستطرف و أصيل

و كان ذوو الآمال يدعون قبله *** بلفظ على الإعدام فيه دليل

يسمّون بالسّؤال في كلّ موطن *** و إن كان فيهم نابه و جليل

فسمّاهم الزّوّار سترا عليهم *** فأستاره في المجتدين(2) سدول

قال: و قال بشّار هذا الشعر في مجلس خالد في الساعة التي تكلّم خالد بهذا الكلام في أمر الزوّار، فأعطاه لكلّ بيت ألف درهم.

بشار و صديقه تسنيم بن الحواري:

أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبو شبل عاصم(3) بن وهب قال: نهق حمار ذات يوم بقرب بشّار، فخطر بباله بيت فقال:

/

ما قام أير حمار فامتلا شبقا *** إلا تحرّك عرق في است تسنيم

/قال: و لم يرد تسنيما بالهجاء؛ و لكنه لمّا بلغ إلى قوله: «إلا تحرّك عرق» قال: في است من؟ و مرّ به تسنيم بن الحواري(4) و كان صديقه، فسلّم عليه و ضحك، فقال: في است تسنيم علم اللّه؛ فقال له: أيش(5)ويحك!؟ فأنشده البيت؛ فقال له: عليك لعنة اللّه! فما عندك فرق بين صديقك و عدوّك، أيّ شيء حملك على هذا! أ لا قلت: «في است حمّاد» الذي هجاك و فضحك و أعياك، و ليست قافيتك على الميم فأعذرك! قال: صدقت و اللّه في هذا كلّه، و لكن ما زلت أقول: في است من؟ في است من؟ و لا يخطر ببالي أحد حتّى مررت و سلّمت فرزقته؛ فقال له تسنيم: إذا كان هذا جواب السّلام عليك فلا سلّم اللّه عليك و لا عليّ حين سلّمت عليك؛ و جعل بشّار يضحك و يصفّق بيديه و تسنيم يشتمه.

أخبرنا عيسى بن الحسين قال حدّثنا عليّ بن محمّد النّوفليّ عن عمّه قال:

ص: 121


1- في جميع النسخ: «أستقبله»، و لكن السياق يعين ما أثبتناه.
2- في ب، س: «المهتدين».
3- كذا في ح. و في سائر النسخ: «عاصب» بالباء و هو تحريف، (انظر الحاشية رقم 4: ص 153 من هذا الجزء).
4- لم نعثر على هذا الاسم و لا على ضبطه، و قد سمى بالحواري بفتح أوّله و ثانيه و في آخره ياء مشددة، و بالحواري بضم أوّله و بعده واو مشددة مفتوحة وراء مفتوحة، و لم نستطع ترجيح أحد الضبطين.
5- أيش: بمعنى أيّ شيء خفف منه كما يقال: ويلمه في معنى: ويل لأمه، على الحذف لكثرة الاستعمال. و قد قيل: إنه سمع من العرب كما قيل إنه مولد.

قالت امرأة لبشّار: ما أدري لم يهابك الناس مع قبح وجهك! فقال لها بشّار: ليس من حسنه يهاب الأسد.

الملاحاة بينه و بين عقبة بن رؤبة في حضرة عقبة بن سلّم:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن الحجّاج قال:

دخل بشار على عقبة(1) بن سلّم، فأنشده بعض مدائحه فيه و عنده عقبة بن رؤبة ينشده رجزا يمدحه به، فسمعه بشّار و جعل يستحسن ما قاله إلى أن فرغ؛ ثم أقبل/على بشّار فقال: هذا طراز لا تحسنه أنت يا أبا معاذ؛ فقال له بشّار: أ لي يقال هذا! أنا و اللّه أرجز منك و من أبيك و جدّك؛ فقال له عقبة: أنا و اللّه و أبي فتحنا للناس باب الغريب و باب الرّجز، و و اللّه إني لخليق أن أسدّه عليهم؛ فقال بشّار: ارحمهم رحمك اللّه! فقال عقبة: أ تستخفّ بي يا أبا معاذ و أنا شاعر ابن شاعر! فقال له بشّار: فأنت إذا من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا؛ ثمّ خرج من عنده عقبة مغضبا. فلما كان من غد غدا على عقبة بن سلّم و عنده عقبة بن رؤبة، فأنشده أرجوزته التي مدحه فيها:

يا طلل الحيّ بذات الصّمد(2) *** باللّه خبّر كيف كنت بعدي

أوحشت من دعد و ترب دعد *** سقيا لأسماء ابنة الأشدّ

قامت تراءى إذ رأتني وحدي *** كالشّمس تحت الزّبرج(3) المنقدّ

صدّت بخدّ و جلت عن خدّ *** ثم انثنت كالنّفس المرتدّ

عهدي بها سقيا له من عهد *** تخلف وعدا و تفي بوعد

فنحن من جهد الهوى في جهد *** و زاهر من سبط و جعد

أهدى له الدّهر و لم يستهد(4) *** أفواف(5) نور الحبر المجدّ

يلقى الضّحى ريحانه بسجد *** بدّلت من ذاك بكى لا يجدي

وافق حظّا من سعى بجدّ *** ما ضرّ أهل النّوك ضعف الجدّ

الحرّ يلحى و العصا للعبد *** و ليس للملحف مثل الردّ

/و النّصف(6) يكفيك من التعدّي *** و صاحب كالدّمّل الممدّ(7)

/حملته في رقعة من جلدي *** أرقب منه مثل يوم الورد(8)

حتى مضى غير فقيد الفقد *** و ما درى ما رغبتي من زهدي

ص: 122


1- كان عقبة واليا على البصرة من قبل أبي جعفر المنصور و كان عاتيا جبارا.
2- في «معجم ما استعجم» للبكري: الصمد: موضع في ديار بني يربوع. و في «معجم ياقوت»: الصمد: ماء للضباب.
3- الزبرج: السحاب، و المنقد: المتقطع.
4- استهدى فلان: طلب أن يهدي له.
5- الأفواف: جمع فوف و هو نوع من برود اليمن تشبه به الأزهار. و الحبر: جمع حبرة كعنبة و قصبة و هي ضرب من برود اليمن منمر.
6- النصف: الإنصاف.
7- يقال: أمد الجرح: حدثت فيه المدة فهو ممد.
8- الورد: من أسماء الحمى.

اسلم و حيّيت أبا الملدّ *** مفتاح باب الحدث المنسدّ

مشترك النّيل وريّ الزّند *** أغرّ لباس ثياب الحمد

ما كان منّي لك غير الودّ *** ثم ثناء مثل ريح الورد

نسجته في محكمات النّدّ *** فالبس طرازي(1) غير مستردّ

للّه أيامك في معدّ *** و في بني قحطان غير عدّ

يوما بذي طخفة(2) عند الحدّ *** و مثله أودعت أرض الهند

بالمرهفات و الحديد السّرد(3) *** و المقربات المبعدات الجرد

إذا الحيا(4) أكدى بها لا تكدي *** تلحم أمرا و أمورا تسدي(5)

و ابن حكيم إن أتاك يردي(6) *** أصمّ لا يسمع صوت الرعد

حيّيته(7) بتحفة المعدّ *** فانهدّ مثل الجبل المنهدّ

كلّ امرئ رهن بما يؤدّي *** و ربّ ذي تاج كريم الجدّ

كآل كسرى و كآل برد *** أنكب(8) جاف عن سبيل القصد

فصلته عن ماله و الولد

/فطرب عقبة بن سلّم و أجزل صلته، و قام عقبة بن رؤبة فخرج عن المجلس بخزي، و هرب من تحت ليلته فلم يعد إليه.

و ذكر لي أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعيّ هذا الخبر عن الجاحظ، و زاد فيه الجاحظ قال: فانظر إلى سوء أدب عقبة بن رؤبة و قد أجمل بشّار محضره و عشرته، فقابله بهذه المقابلة القبيحة، و كان أبوه أعلم خلق اللّه به، لأنه قال له و قد فاخره بشعره: أنت يا بنيّ ذهبان(9) الشّعر إذا متّ مات شعرك معك، فلم يوجد من يرويه بعدك؛ فكان كما قال له، ما يعرف له بيت واحد و لا خبر غير هذا الخبر القبيح الإخبار عنه الدالّ على سخفه و سقوطه و سوء أدبه.

كان يهوى امرأة من البصرة و قال فيها الشعر لما رحلت:
اشارة

ص: 123


1- الطراز: ما نسج للسلطان من الثياب.
2- طخفة: موضع بعد النباج و بعد إمرة في طريق البصرة إلى مكة، و فيه يوم طخفة لبني يربوع على قابوس بن المنذر بن ماء السماء.
3- السرد: اسم جامع للدروع و سائر الحلق.
4- الحيا: المطر. و أكدى: بخل.
5- تلحم: تنسج اللحمة و هي ما نسج في الثوب عرضا بخلاف السدي و هو ما مدّ من خيوطه طولا، و في المثل: «ألحم ما أسديت» أي تمم ما بدأته.
6- يردي: يعدو.
7- في الأصول: «حبيته» بالباء الموحدة، و هو تحريف.
8- الأنكب: المائل، يقال: رجل أنكب عن الحق و ناكب عنه أي مائل.
9- كذا في جميع الأصول و المعنى ظاهر، و لم نجد في كتب اللغة التي بأيدينا وصفا من «ذهب» على هذا الوزن.

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا أبو غسّان دماذ قال حدّثنا أبو عبيدة قال:

كان بشّار يهوى امرأة من أهل البصرة يقال لها عبيدة(1)، فخرجت عن البصرة إلى عمان(2) مع زوجها، فقال بشار فيها:

صوت

هوى صاحبي ريح الشّمال إذا جرت *** و أشفى لقلبي أن تهبّ جنوب

و ما ذاك إلا أنها حين تنتهي *** تناهى و فيها من عبيدة طيب

عذيري من العذّال إذ يعذلونني *** سفاها و ما في العاذلين لبيب

صوت

يقولون لو عزّيت قلبك لارعوى *** فقلت و هل للعاشقين قلوب

إذا نطق القوم الجلوس فإنّني *** مكبّ(3) كأني في الجميع غريب

بشار و أبو الشمقمق:

أخبرني هاشم قال حدّثني دماذ قال حدّثني رجل من الأنصار قال:

جاء أبو الشّمقمق إلى بشّار يشكو إليه الضّيقة(4) و يحلف له أنه ما عنده شيء؛ فقال له بشّار: و اللّه ما عندي شيء يغنيك و لكن قم معي إلى عقبة بن سلّم، فقام معه فذكر له أبا الشمقمق و قال: هو شاعر و له شكر و ثناء، فأمر له بخمسمائة درهم؛ فقال له بشّار:

يا واحد العرب الذي *** أمسى و ليس له نظير

لو كان مثلك آخر *** ما كان في الدنيا فقير

فأمر لبشّار بألفي درهم؛ فقال له أبو الشمقمق: نفعتنا و نفعناك يا أبا معاذ؛ فجعل بشّار يضحك.

بشار و أبو جعفر المنصور:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا زكريّا بن يحيى أبو السّكين(5)الطائيّ قال حدّثني زحر بن حصن قال:

حجّ المنصور فاستقبلناه بالرّضم الذي بين زبالة(6) و الشّقوق، فلما رحل من الشّقوق رحل في وقت الهاجرة

ص: 124


1- كذا في ح، س و هو الموافق لما في الأبيات الآتية. و في سائر النسخ: «عبدة».
2- اسم كورة عربيّة على ساحل بحر اليمن و الهند.
3- مكب: مطرق.
4- الضيقة بالكسر و يفتح: الفقر و سوء الحال.
5- كذا في «تهذيب التهذيب» و «الخلاصة في أسماء الرجال» و هو الصواب. و في ب، س: «أبو مسكين». و في ء، أ، م: «أبو المسكين» و كلاهما تحريف.
6- زبالة: منزلة معروفة بطريق مكة من الكوفة و هي قرية عامرة بها أسواق. و الشقوق: منزل بطريق مكة بعد واقصة من الكوفة.

فلم يركب القبّة(1) و ركب نجيبا فسار بيننا، فجعلت الشمس تضحك(2) بين عينيه، فقال: إني قائل بيتا فمن أجازه وهبت له جبّتي هذه؛ فقلنا: يقول أمير المؤمنين، فقال:

و هاجرة نصبت لها جبيني *** يقطّع ظهرها ظهر العظايه(3)

/فبدر بشار الأعمى فقال:

وقفت بها القلوص ففاض دمعي *** على خدّي و أقصر واعظايه

فنزع الجبّة و هو راكب فدفعها إليه. فقلت لبشّار بعد ذلك: ما فعلت بالجبّة؟ فقال بشّار: بعتها و اللّه بأربعمائة دينار.

كان له شعر غث يعير به:
اشارة

أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني عبد الرحمن بن العباس بن الفضل بن عبد الرحمن بن عيّاش بن أبي ربيعة(4) عن أبيه قال:

كان بشّار منقطعا إليّ و إلى إخوتي فكان يغشانا كثيرا، ثم خرج إبراهيم بن عبد اللّه فخرج معه عدّة منّا، فلما قتل إبراهيم توارينا، و حبس المنصور منّا عدّة من إخوتي، فلما ولي المهديّ أمّن الناس جميعا و أطلق المحبوسين، فقدمت بغداد أنا و إخوتي نلتمس أمانا من المهديّ، و كان الشعراء يجلسون بالليل في مسجد(5) الرّصافة ينشدون و يتحدّثون، فلم أطلع بشّارا على نفسي إلا بعد أن أظهر لنا المهديّ الأمان، و كتب أخي إلى خليفته بالليل، فصحت به: يا أبا معاذ من الذي يقول:

أحبّ الخاتم الأحم *** ر من حبّ مواليه

/فأعرض عنّي و أخذ في بعض إنشاده شعره، ثم صحت: يا أبا معاذ من الذي يقول:

إنّ سلمى خلقت من قصب(6) *** قصب السكّر لا عظيم الجمل

و إذا أدنيت منها بصلا *** غلب المسك على ريح البصل

فغضب و صاح: من الذي يقرّعنا بأشياء كنا نعبث بها في الحداثة فهو يعيّرنا بها! فتركته ساعة ثم صحت به:

يا أبا معاذ من الذي يقول:

ص: 125


1- القبة: الهودج.
2- تضحك: تتلألأ.
3- العظاية: دويبة ملساء تعدو و تتردّد تشبه سام أبرص.
4- في جميع النسخ: «ابن ربيعة» بدون كلمة «أبي».
5- كذا في ء، أ، ح. و في باقي النسخ: «سجن الرصافة» و هو تحريف، و الرصافة: اسم لمواضع كثيرة و المرادة هنا هي «رصافة بغداد» بالجانب الشرقيّ، ذكرها ياقوت فقال: لما بنى المنصور مدينته بالجانب الغربيّ و استتمّ بناءها أمر ابنه المهديّ أن يعسكر في الجانب الشرقيّ و أن يبني له فيها دورا، و جعلها معسكرا له، فالتحق بها الناس و عمروها، فصارت مقدار مدينة المنصور و عمل المهديّ بها جامعا أكبر من جامع المنصور و أحسن. و كان فراغ المهدي من بناء الرصافة و الجامع بها في سنة 159 ه و هي السنة الثانية من خلافته.
6- كذا في الأصول و في «زهر الآداب» ج 1 ص 206 طبع المطبعة الرحمانية. إنما عظم سليمى خلتي قصب.................. إلخ

/

أ خشّاب حقّا أنّ دارك تزعج *** و أنّ الذي بيني و بينك ينهج(1)

فقال: ويحك! عن مثل هذا فسل، ثم أنشدها حتى أتى على آخرها، و هي من جيّد شعره، و فيه غناء:

صوت

فوا كبدا قد أنضج الشوق نصفها *** و نصف على نار الصّبابة ينضج

و وا حزنا منهنّ يحففن هودجا *** و في الهودج المحفوف بدر متوّج

فإن جئتها بين النساء فقل لها *** عليك سلام مات من يتزوّج

بكيت و ما في الدمع منك خليفة *** و لكنّ أحزاني عليك توهّج

الغناء لسليم بن سلاّم رمل بالوسطى. و وجدت هذا الخبر بخط ابن مهرويه فذكر أنه قال هذه القصيدة في امرأة كانت تغشى مجلسه و كان إليها مائلا يقال لها خشّابة، فارسيّة، فزوّجت و أخرجت عن البصرة.

أنشده أبو النضير شعره فاستحسنه:

أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثني أبو حاتم:

/قال أبو النّضير الشاعر: أنشدت بشّارا قصيدة لي، فقال لي: أ يجيئك شعرك هذا كلّما شئت أم هذا شيء يجيئك في الفينة(2) بعد الفينة إذا تعمّلت(3) له؟ فقلت: بل هذا شعر يجيئني كلما أردته؛ فقال لي: قل فإنك شاعر؛ فقلت له: لعلّك حابيتني أبا معاذ و تحمّلت(4) لي؛ فقال: أنت أبقاك اللّه أهون عليّ من ذلك.

حاول تقبيل جارية لصديق له و قال شعرا يعتذر فيه عن ذلك:

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ عن العمريّ عن عبّاس بن عبّاس الزّناديّ عن رجل من باهلة، قال:

كنت عند بشّار الأعمى فأتاه رجل فسلّم عليه، فسأله عن خبر جارية عنده و قال: كيف ابنتي؟ قال: في عافية، تدعوك اليوم؛ فقال بشّار: يا باهليّ انهض بنا، فجئنا إلى منزل نظيف و فرش سريّ(5)، فأكلنا، ثم جيء بالنبيذ فشربنا مع الجارية، فلمّا أراد الانصراف قامت فأخذت بيد بشّار، فلما صار في الصحن أومأ إليها ليقبّلها، فأرسلت يدها من يده، فجعل يجول في العرصة(6)؛ و خرج المولى فقال: مالك يا أبا معاذ؟ فقال: أذنبت ذنبا و لا أبرح أو أقول شعرا، فقال:

أتوب إليك من السيئات *** و أستغفر اللّه من فعلتي

تناولت ما لم أرد نيله *** على جهل أمري و في سكرتي

و و اللّه و اللّه ما جئته *** لعمد و لا كان من همّتي

ص: 126


1- ينهج: يبلى.
2- الفينة: الحين.
3- كذا في ح، و تعملت له: تكلفت و تعنيت و اجتهدت. و في باقي الأصول: «تعقلت».
4- كذا في الأصول. و لعله «و تجملت لي» بالجيم أي تكلفت الجميل و تظاهرت لي به.
5- سريّ: جيد.
6- العرصة: ساحة الدار.

و إلا فمتّ إذا ضائعا *** و عذّبني اللّه في ميتتي

فمن نال خيرا على قبلة *** فلا بارك اللّه في قبلتي

كتب شعرا على باب عقبة يستنجزه وعده:

أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ عن الأصمعيّ قال:

لما أنشد بشّار أرجوزته:

يا طلل الحيّ بذات الصّمد

أبا الملدّ(1) عقبة بن سلّم أمر له بخمسين ألف درهم، فأخّرها عنه وكيله ثلاثة أيام، فأمر غلامه بشّار أن يكتب على باب عقبة عن يمين الباب:

ما زال ما منّيتني من همّي *** و الوعد غمّ فأزح من غمّي

إن لم ترد حمدي فراقب ذمّي

فلما خرج عقبة رأى ذلك، فقال: هذه من فعلات بشّار، ثم دعا بالقهرمان(2)، فقال: هل حملت/إلى بشّار ما أمرت له به؟ فقال: أيها الأمير نحن مضيقون(3) و غدا أحملها إليه؛ فقال: زد فيها عشرة آلاف درهم و احملها إليه الساعة؛ فحملها من وقته.

نهي المهدي له عن التشبيب بالنساء و سبب ذلك:

أخبرني هاشم قال حدّثنا أبو غسّان دماذ قال:

سألت أبا عبيدة عن السبب الذي من أجله نهى المهديّ بشّارا عن ذكر النساء قال: كان أوّل ذلك استهتار نساء البصرة و شبّانها بشعره، حتى قال سوّار بن عبد اللّه الأكبر و مالك بن دينار؛ ما شيء أدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى؛ و ما زالا يعظانه؛ و كان واصل بن عطاء يقول: إنّ من أخدع حبائل الشيطان و أغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد. فلما كثر ذلك و انتهى خبره من وجوه كثيرة إلى المهديّ، و أنشد المهديّ ما مدحه به، نهاه عن ذكر النساء و قول التشبيب، و كان المهديّ من أشدّ الناس غيرة؛ قال: فقلت له: ما أحسب شعر/هذا أبلغ في هذه المعاني من شعر كثيّر و جميل و عروة بن حزام و قيس بن ذريح و تلك الطبقة؛ فقال: ليس كلّ من يسمع تلك الأشعار يعرف المراد منها، و بشّار يقارب النساء حتى لا يخفى عليهنّ ما يقول و ما يريد، و أيّ حرّة حصان تسمع قول بشّار فلا يؤثّر في قلبها، فكيف بالمرأة الغزلة و الفتاة التي لا همّ لها إلا الرجال! ثم أنشد قوله:

قد لامني في خليلتي عمر *** و اللّوم في غير كنهه ضجر(4)

قال أفق قلت لا فقال بلى *** قد شاع في الناس منكما الخبر

ص: 127


1- هكذا وردت هذه الكنية لعقبة المذكور في هذه الأرجوزة فيما تقدّم قريبا ص 176. و في أ، م: «أبا المتلد» و هو تحريف. و في ب، س: «أبا الملك».
2- القهرمان: الوكيل أو أمين الدخل و الخرج.
3- مضيقون: ضيقو الحال.
4- في ح: «ضرر».

قلت و إذ شاع ما اعتذارك *** ممّا ليس لي فيه عندهم عذر

ما ذا عليهم و ما لهم خرسوا *** لو أنّهم في عيوبهم نظروا

أعشق وحدي و يؤخذون به *** كالتّرك تغزو فتؤخذ الحزر

يا عجبا للخلاف يا عجبا *** بفي الذي لام في الهوى الحجر

حسبيّ و حسب الذي كلفت به *** منّي و منه الحديث و النّظر

أو قبلة في خلال ذاك و ما *** بأس إذا لم تحلّ لي الأزر

أو عضّة في ذراعها و لها *** فوق ذراعي من عضّها أثر

أو لمسة دون مرطها(1) بيدي *** و الباب قد حال دونه السّتر

و الساق برّاقة مخلخلها *** أو مصّ ريق و قد علا البهر(2)

و استرخت الكفّ للعراك و قا *** لت إيه عنّي و الدّمع منحدر

انهض فما أنت كالذي زعموا *** أنت و ربّي مغازل أشر

قد غابت اليوم عنك حاضنتي *** و اللّه لي منك فيك ينتصر

/يا ربّ خذ لي فقد ترى ضرعي *** من فاسق جاء ما به سكر

أهوى إلى معضدي(3) فرضّضه *** ذو قوّة ما يطاق مقتدر

ألصق بي لحية له خشنت *** ذات سواد كأنها الإبر

حتّى علاني و أسرتي غيب(4) *** ويلي عليهم لو أنّهم حضروا

/أقسم باللّه لا نجوت بها *** فاذهب فأنت المساور الظّفر

كيف بأمّي إذا رأت شفتي *** أم كيف إن شاع منك ذا الخبر

قد كنت أخشى الذي ابتليت به *** منك فما ذا أقول يا عبر(5)

قلت لها عند ذاك يا سكني *** لا بأس إني مجرّب(6) خبر

قولي لها بقّة لها ظفر *** إن كان في البقّ ما له ظفر

ثم قال له: بمثل هذا الشعر تميل القلوب و يلين الصّعب.

ص: 128


1- المرط: كساء من خز أو كتان يؤتزر به.
2- البهر بسكون ثانية: تتابع النفس و انقطاعه من الإعياء و قد حرك للضرورة.
3- المعضد: الدملج، و هو حلي يلبس في المعصم.
4- غيب: جمع غائب.
5- العبر (بتثليث العين و سكون الباء). الجريء القويّ الذي يشقّ ما مر به، فلعل هذا هو المراد هنا، و حركت الباء بحركة ما قبلها لضرورة الشعر.
6- المجرّب بصيغة المفعول: من جرّبته الأمور و أحكمته؛ و المجرّب بصيغة الفاعل: من عرف الأمور و جرّبها، و كلاهما في هذا الموضع صحيح.

قال دماذ قال لي أبو عبيدة: قال رجل يوما لبشّار في المسجد الجامع يعابثه: يا أبا معاذ، أ يعجبك الغلام الجادل(1)؟ فقال غير محتشم و لا مكترث: لا، و لكن تعجبني أمّه.

ورد على خالد البرمكيّ بفارس و امتدحه:

أخبرني عمّي قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني محمد بن سهل عن محمد بن الحجّاج قال:

ورد بشّار على خالد بن برمك و هو بفارس فامتدحه؛ فوعده و مطله؛ فوقف على طريقه و هو يريد المسجد، فأخذ بلجام بغلته و أنشده:

/

أظلّت علينا منك يوما سحابة *** أضاءت لنا برقا و أبطأ رشاشها(2)

فلا غيمها يجلي فييأس طامع *** و لا غيثها يأتي فيروى عطاشها

فحبس بغلته و أمر له بعشرة آلاف درهم، و قال: لن تنصرف السحابة حتى تبلّك إن شاء اللّه.

تظاهر بالحج و خرج لذلك مع سعد بن القعقاع:

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا الحسن بن عليل قال حدّثني عليّ بن حرب الطائيّ قال حدّثني إسماعيل بن زياد الطائيّ قال:

كان رجل منا يقال له سعد بن القعقاع يتندّم(3) بشّارا في المجانة، فقال لبشّار و هو ينادمه: ويحك يا أبا معاذ! قد نسبنا الناس إلى الزّندقة، فهل لك أن تحجّ بنا حجّة تنفي ذلك عنا؟ قال: نعم ما رأيت! فاشتريا بعيرا و محملا و ركبا، فلما مرّا بزرارة(4) قال له: ويحك يا أبا معاذ! ثلاثمائة فرسخ متى نقطعها! مل بنا إلى زرارة نتنعّم فيها، فإذا قفل الحاجّ عارضناهم بالقادسيّة(5) و جززنا رءوسنا فلم يشكّ الناس أنّا جئنا من الحجّ؛ فقال له بشّار:

نعم ما رأيت لو لا خبث لسانك، و إني أخاف أن تفضحنا. قال: لا تخف. فمالا إلى زرارة فما زالا يشربان الخمر و يفسقان، فلما نزل الحاجّ بالقادسية راجعين، أخذا بعيرا و محملا و جزّا رءوسهما و أقبلا و تلقّاهما الناس يهنّئونهما؛ فقال سعد بن القعقاع:

/

أ لم ترني و بشّارا حججنا *** و كان الحجّ من خير التّجارة

خرجنا طالبي سفر بعيد *** فمال بنا الطريق إلى زرارة

فآب الناس قد حجّوا و برّوا *** و أبنا موقرين من الخساره

ص: 129


1- الغلام الجادل: اليافع الذي قوي و اشتدّ.
2- الرشاش (بكسر الراء): جمع رش (بالفتح) و هو المطر الخفيف.
3- كذا في أكثر الأصول، و في ب، س: «ينتدم» بتقديم النون على التاء، و لم نجد في كتب اللغة التي بين أيدينا صيغة من هاتين الصيغتين مستعملة في المعنى الذي يدل عليه سياق الكلام و هو كثرة المنادمة؛ و لعلها «يتقدّم بشارا في المجانة» أي أنه كان أكثر منه مجونا.
4- زرارة (بضم أوّله): محلة بالكوفة.
5- القادسية: بلدة بينها و بين الكوفة خمسة عشر ميلا، و بينها و بين العذيب أربعة أميال، كانت بها وقعة سعد بن أبي وقاص المشهورة مع الفرس في أيام عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.
أنكر عليه داود بن رزين أشياء فأجابه:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم الدّينوريّ قال حدّثني محمد بن عمران بن مطر الشاميّ قال حدّثني محمد بن الحسّان(1) الضّبّيّ قال حدّثني محمود الورّاق قال حدّثني داود بن رزين قال:

أتينا بشّارا فأذن لنا و المائدة موضوعة بين يديه فلم يدعنا إلى طعامه، فلما أكل دعا بطست فكشف عن سوأته فبال؛ ثم حضرت الظهر و العصر فلم يصلّ، فدنونا منه فقلنا: أنت أستاذنا و قد رأينا منك أشياء أنكرناها؛ قال: و ما هي؟ قلنا: دخلنا و الطعام بين يديك فلم تدعنا إليه؛ فقال: إنما أذنت لكم أن تأكلوا و لو لم أرد أن تأكلوا لما أذنت /لكم(2)؛ قال: ثم ما ذا؟ قلنا: و دعوت بطست و نحن حضور فبلت و نحن نراك؛ فقال: أنا مكفوف و أنتم بصراء و أنتم المأمورون بغضّ الأبصار، ثم قال: و مه(3)؛ قلنا: حضرت الظهر و العصر و المغرب فلم تصلّ؛ فقال: إن الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملة.

أخبرنا يحيى قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ عن بعض أصحاب بشّار قال:

كنا إذا حضرت الصلاة نقوم و يقعد بشّار فنجعل حول ثيابه ترابا لننظر هل يصلّي، فنعود و التراب بحاله.

بشار و الثقلاء:

أخبرنا يحيى قال أخبرنا أبو أيّوب عن الحرمازيّ قال:

قعد إلى بشّار رجل فاستثقله فضرط عليه ضرطة، فظنّ الرجل أنّها أفلتت منه، ثم ضرط أخرى، فقال:

أفلتت، ثم ضرط ثالثة(4)، فقال: يا أبا معاذ، ما هذا؟ قال: مه! أ رأيت أم سمعت؟ قال: بل سمعت صوتا قبيحا، فقال: فلا تصدّق حتى ترى.

قال: و أنشد أبو أيّوب لبشّار في رجل استثقله:

ربّما يثقل الجليس و إن كا *** ن خفيفا في كفّة الميزان

كيف لا تحمل الأمانة أرض *** حملت فوقها أبا سفيان

و قال فيه أيضا:

هل لك في مالي و عرضي معا *** و كلّ ما يملك جيرانيه

و اذهب إلى أبعد ما ينتوى(5) *** لا ردّك اللّه و لا ماليه

أنشد الوليد بن يزيد شعره في المزاج بالريق فطرب:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثني محمد بن إبراهيم الجيليّ(6) قال حدّثني محمد بن عمران

ص: 130


1- في «تهذيب التهذيب»: «حسان» بدون الألف و اللام.
2- يريد «لما أذنت لكم بالدخول».
3- و مه: أصله «و ما» فأبدلت الألف هاء للوقف و السكت.
4- بالأصول: «ثالثا».
5- ينتوى: يقصد.
6- في ح: «الجبلي» بالباء.

الضّبّيّ قال أنشدنا الوليد بن يزيد قول بشّار الأعمى:

أيّها الساقيان صبّا شرابي *** و اسقياني من ريق بيضاء رود(1)

إن دائي الظّما و إن دوائي *** شربة من رضاب ثغر برود

و لها مضحك كغرّ الأقاحي *** و حديث كالوشي وشي البرود

نزلت في السّواد من حبّة القل *** ب و نالت زيادة المستزيد

ثم قالت نلقاك بعد ليال *** و الليالي يبلين كلّ جديد

عندها الصبر عن لقائي و عندي *** زفرات يأكلن قلب الحديد

/قال: فطرب الوليد و قال: من لي بمزاج كاسي هذه من ريق سلمى فيروى ظمئي و تطفأ غلّتي! ثم بكى حتى مزج كأسه بدمعه، و قال: إن فاتنا ذاك فهذا.

هجا جاره أبا زيد فهجاه:

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد بن سليمان الطّفاويّ قال حدّثني عبد اللّه بن أبي بكر - و كان جليسا لبشّار - قال: كان لنا جار يكنى أبا زيد و كان صديقا لبشّار، فبعث إليه يوما يطلب منه ثيابا بنسيئة(2) فلم يصادفها عنده، فقال يهجوه:

ألا إنّ أبا زيد *** زنى في ليلة القدر

و لم يرع، تعالى اللّ *** ه ربّي، حرمة الشّهر

و كتبها في رقعة و بعث بها إليه، و لم يكن أبو زيد ممن يقول الشعر، فقلبها و كتب في ظهرها:

ألا إن أبا زيد *** له في ذلكم عذر

/أتته أمّ بشّار *** و قد ضاق بها الأمر

فواثبها فجامعها *** و ما ساعده الصّبر

قال: فلما قرئت على بشّار غضب و ندم على تعرّضه لرجل لا نباهة له، فجعل ينطح الحائط برأسه غيظا، ثم قال: لا تعرّضت لهجاء سفلة(3) مثل هذا أبدا.

شعره في قينة:

أخبرني عمّي قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني بعض ولد أبي عبيد اللّه وزير المهديّ، قال:

دخل بشّار على المهديّ و قد عرضت عليه(4) جارية مغنّية فسمع غناءها فأطربه و قال لبشّار: قل في صفتها شعرا؛ فقال:

ص: 131


1- الرود: الشابة الحسنة الشباب و الأصل فيها الهمز و قد سهلت للضرورة.
2- النسيئة: التأخير، يقال: باعه بنسيئة: إذا أخر له عن الشيء المبيع.
3- سفلة النّاس و سفلتهم: أسافلهم و غوغاؤهم.
4- في ح: «عرضت له».

/و رائحة(1)

للعين فيها محيلة(2)*** إذا برقت لم تسق بطن صعيد

من المستهلاّت السّرور على الفتى *** خفا(3) برقها في عبقر(4) و عقود

كأن لسانا ساحرا في كلامها *** أعين بصوت للقلوب صيود

تميت به ألبابنا و قلوبنا *** مرارا و تحييهنّ بعد همود

شعره في عقبة بن سلّم:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال قال أبو عدنان حدّثني يحيى بن الجون قال:

دخل بشّار يوما على عقبة بن سلّم فأنشده قوله فيه:

صوت

إنّما لذّة الجواد ابن سلّم *** في عطاء و مركب للّقاء

ليس يعطيك للرجاء و لا الخو *** ف و لكن يلذّ طعم العطاء

يسقط الطير حيث ينتثر الح *** بّ و تغشى منازل الكرماء

لا أبالي صفح اللئيم و لا تج *** ري دموعي على الحرون الصّفاء

فعلى عقبة السلام مقيما *** و إذا سار تحت ظلّ اللواء

فوصله(5) بعشرة آلاف درهم. و في هذه الأبيات خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر لرذاذ، و هو من مختار صنعته و صدورها و مما تشبّه فيه بالقدماء و مذاهبهم.

كان خلف الأحمر و خلف بن أبي عمرو يرويان عنه شعره:

أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا أحمد بن خلاّد عن الأصمعيّ، و أخبرني به الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن خلاّد عن الأصمعيّ قال:

/كنت أشهد خلف بن أبي عمرو بن العلاء و خلفا الأحمر يأتيان بشّارا و يسلّمان عليه بغاية التعظيم ثم يقولان: يا أبا معاذ، ما أحدثت؟ فيخبرهما و ينشدهما و يسألانه و يكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الظهر ثم ينصرفان عنه، فأتياه يوما فقالا له: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلّم(6) بن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكما؛

ص: 132


1- الرائحة: واحدة الروائح و هي السحب التي تجيء رواحا، و يقابلها «الغادية».
2- المخيلة (بفتح الميم): الظنّ.
3- خفا البرق يخفو خفوا و خفوا: لمع و ظهر.
4- يريد ثيابها، و تنسب إلى قرية باليمن تسمى عبقر توشّى بها الثياب و البسط، و ثيابها أجود الثياب.
5- في الأصول: «و وصله».
6- في ب، س، ح: «مسلم» و هو تحريف.

قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب؛ فقال: نعم، بلغني أنّ سلما يتباصر(1) بالغريب فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرفه؛ قالا: فأنشدناها، فأنشدهما:

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير *** إنّ ذاك النجاح في التّبكير

حتى فرغ منها؛ فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان «إن ذاك النجاح»:

بكّرا فالنجاح في/التبكير

كان أحسن؛ فقال بشّار: بنيتها أعرابيّة و حشيّة، فقلت: «إنّ ذاك النجاح» كما يقول الأعراب البدويّون، و لو قلت: «بكّرا فالنجاح» كان هذا من كلام المولّدين و لا يشبه ذلك الكلام و لا يدخل في معنى القصيدة؛ فقام خلف فقبّل بين عينيه؛ و قال له خلف بن أبي عمرو يمازحه: لو كان علاثة(2) ولدك يا أبا معاذ لفعلت كما فعل أخي، و لكنّك مولى، فمدّ بشار يده فضرب بها فخذ خلف و قال:

أرفق بعمرو إذا حرّكت نسبته *** فإنه عربيّ من قوارير

فقال له: أ فعلتها يا أبا معاذ! قال: و كان أبو عمرو يغمز في نسبه.

و أخبرني ببعض هذا الخبر حبيب بن نصر عن عمر بن شبّة عن أبي عبيدة، فذكر نحوه و قال فيه: إنّ سلما يعجبه الغريب.

قيل له إن فلانا سبك عند الأمير فهجاه:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال قال لي خلف:

كنت أسمع ببشّار قبل أن أراه، فذكروه لي يوما و ذكروا بيانه و سرعة جوابه و جودة شعره، فاستنشدتهم شيئا من شعره، فأنشدوني شيئا لم يكن بالمحمود عندي، فقلت: و اللّه لآتينّه و لأطأطأنّ منه، فأتيته و هو جالس على بابه، فرأيته(3) أعمى قبيح المنظر عظيم الجثة، فقلت: لعن اللّه من يبالي بهذا، فوقفت أتأمّله طويلا، فبينما أنا كذلك إذ جاءه رجل فقال: إنّ فلانا سبّك عند الأمير محمد بن سليمان و وضع منك؛ فقال: أو قد فعل؟ قال: نعم؛ فأطرق، و جلس الرجل عنده و جلست، و جاء قوم فسلّموا عليه فلم يردد عليهم، فجعلوا ينظرون إليه و قد درّت(4) أوداجه، فلم يلبث إلا ساعة حتى أنشدنا بأعلى صوته و أفخمه:

نبّئت نائك أمّه يغتابني *** عند الأمير و هل عليّ أمير

ناري محرّقة و بيتي واسع *** للمعتفين و مجلسي معمور

و لي المهابة في الأحبّة و العدا *** و كأنني أسد له تامور(5)

ص: 133


1- يتباصر بالغريب: يظهر أنه بصير به.
2- يريد أنه لو كان عربيا لقبله كما يدل على ذلك السياق. و يظهر أنه لا يريد بعلاثة اسما بعينه. و لكنه أتى بهذا الاسم لأنه خاص بالعرب.
3- في أ، م، ء: «فرأيت».
4- درت: امتلأت دما؛ و الأوداج: جمع ودج و هو عرق في العنق يقطعه الذابح فلا تبقى معه حياة.
5- التامور: عرين الأسد.

غرثت(1) حليلته و أخطأ صيده *** فله على لقم(2) الطريق زئير

قال: فارتعدت و اللّه فرائصي و اقشعرّ جلدي و عظم في عيني جدّا، حتى قلت في نفسي: الحمد للّه الذي أبعدني من شرّك.

شعر له في مدح خالد بن برمك:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثنا العباس بن خالد قال:

مدح بشّار خالد بن برمك فقال فيه:

لعمري لقد أجدى عليّ ابن برمك *** و ما كلّ من كان الغنى عنده يجدي

حلبت بشعري راحتيه فدرّتا *** سماحا كما درّ السّحاب مع الرّعد

إذا جئته للحمد أشرق وجهه *** إليك و أعطاك الكرامة بالحمد

له نعم في القوم لا يستثيبها *** جزاء وكيل التاجر المدّ بالمدّ

مفيد و متلاف، سبيل تراثه(3) *** إذا ما غدا أو راح كالجزر و المدّ

أ خالد إنّ الحمد يبقى لأهله *** جمالا و لا تبقى الكنوز على الكدّ

فأطعم و كل من عارة مستردّة *** و لا تبقها، إن العواري للرّدّ

فأعطاه خالد ثلاثين ألف درهم، و كان قبل ذلك يعطيه في كلّ وفادة خمسة آلاف درهم، /و أمر خالد أن يكتب هذان البيتان(4) في صدر مجلسه الذي كان يجلس فيه. و قال ابنه يحيى بن خالد: آخر ما أوصاني به أبي العمل بهذين البيتين.

عمر بن العلاء و مدائح الشعراء فيه:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن عمر بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن عثمان قال:

كان أبو الوزير مولى عبد القيس من عمّال الخراج، و كان عفيفا بخيلا، فسأل عمر(5) بن العلاء، و كان جوادا شجاعا، في رجل فوهب له مائة ألف درهم؛ فدخل/أبو الوزير على المهديّ فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عمر بن العلاء خائن؛ قال: و من أين علمت ذلك؟ قال: كلّم في رجل كان أقصى أمله ألف درهم فوهب له مائة ألف درهم؛ فضحك المهديّ ثم قال: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شٰاكِلَتِهِ) (6)، أ ما سمعت قول بشّار في عمر:

ص: 134


1- غرثت: جاعت، و رواية «اللسان» في مادة لقم: «غابت حليلته».
2- لقم الطريق: متنه و وسطه.
3- كذا في الأصول. و التراث (بضم التاء): ما يخلفه الرجل لورثته و هو بهذا المعنى لا يتمشى مع كلمات البيت و لا المعنى الذي يريده الشاعر من أن الممدوح كسوب متلاف، فماله دائما لذلك يعتور، النقص و الزيادة و الظاهر أن كلمة «تراثه» محرّفة عن «ثرائه».
4- يريد البيتين الأخيرين.
5- كذا في أكثر الأصول و «تاريخ الطبري» (قسم 3 ج 1 ص 136) و «معجم ياقوت» في كلامه على طبرستان. و في ب، س: «عمرو» و هو تحريف.
6- سورة الإسراء آية: 84.

إذا دهمتك عظام الأمور *** فنبّه لها عمرا ثم نم

فتى لا ينام على دمنة(1) *** و لا يشرب الماء إلا بدم

أ و ما سمعت قول أبي العتاهيّة فيه:

صوت

إنّ المطايا تشتكيك لأنها *** قطعت إليك سباسبا و رمالا

فإذا وردن بنا وردن مخفّة *** و إذا رجعن بنا رجعن ثقالا

- الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة - أ و ليس الذي يقول فيه أبو العتاهية:

يا ابن العلاء و يا ابن القرم مرداس *** إني لأطريك في صحبي و جلاّسي

حتى إذا قيل ما أعطاك من نشب *** ألفيت من عظم ما أسديت كالناسي

ثم قال: من اجتمعت ألسن الناس على مدحه كان حقيقا أن يصدّقها بفعله.

شعره في جارية له سوداء كان يفترشها:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أبو بكر الرّبعيّ قال:

كانت لبشّار جارية سوداء و كان يقع عليها، و فيها يقول:

و غادة سوداء برّاقة *** كالماء في طيب و في لين

كأنها صيغت لمن نالها *** من عنبر بالمسك معجون

ليم في مبالغته في مدح عقبة بن سلّم فأجاب:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني أبو الشّبل البرجميّ قال: قال رجل لبشّار: إنّ مدائحك عقبة بن سلّم فوق مدائحك كلّ أحد؛ فقال بشّار: إنّ عطاياه إيّاي كانت فوق عطاء كلّ أحد، دخلت إليه يوما فأنشدته:

حرّم اللّه أن ترى كابن سلّم *** عقبة الخير مطعم الفقراء

ليس يعطيك للرّجاء و لا الخو *** ف و لكن يلذّ طعم العطاء

يسقط الطير حيث ينتثر الح *** بّ و تغشى منازل الكرماء

فأمر لي بثلاثة آلاف دينار، و ها أنا قد مدحت المهديّ و أبا عبيد اللّه وزيره - أو قال يعقوب بن داود - و أقمت بأبوابهما حولا فلم يعطياني شيئا، أ فألام على مدحي هذا!.

طلب منه أبو الشمقمق الجزية فرده فهجاه فأعطاه:

و نسخت من كتاب هارون بن عليّ أيضا حدّثني [عليّ قال حدّثني](2) عبيد اللّه بن أبي الشّيص عن دعبل بن عليّ قال:

ص: 135


1- الدمنة: الحقد، و قيل لا يكون الحقد دمنة حتى يأتي عليه الدهر.
2- هذه الزيادة ساقطة من ب، س.

كان بشّار/يعطي أبا الشّمقمق في كلّ سنة مائتي درهم، فأتاه أبو الشمقمق في بعض تلك السنين فقال له: هلمّ الجزية يا أبا معاذ؛ فقال: ويحك! أ جزية هي! قال: هو ما تسمع؛ فقال له بشّار يمازحه: أنت أفصح منّي؟ قال:

لا؛ قال: فأعلم منّي بمثالب الناس؟ قال: لا؛ قال: فأشعر منّي؟ قال: لا؛ قال: فلم أعطيك؟ قال: لئلاّ أهجوك؛ فقال له: إنّ هجوتني هجوتك؛ فقال له أبو الشمقمق: هكذا هو؟ قال: نعم، فقل ما بدا لك؛ فقال أبو الشمقمق:

إني إذا ما شاعر هجانيه *** و لجّ في القول له لسانيه

أدخلته في است أمّه علانيه *** بشّار يا بشّار.........

/و أراد أن يقول: «يا ابن الزانية»؛ فوثب بشّار فأمسك فاه، و قال: أراد و اللّه أن يشتمني، ثم دفع إليه مائتي درهم ثم قال له: لا يسمعنّ هذا منك الصّبيان يا أبا الشمقمق.

أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني محمد بن بكر قال حدّثني الأصمعيّ قال:

أمر عقبة بن سلّم [الهنائيّ](1) لبشّار بعشرة آلاف درهم، فأخبر أبو الشمقمق بذلك فوافى بشّارا فقال له:

يا أبا معاذ، إني مررت بصبيان فسمعتهم ينشدون:

هلّلينه هلّلينه *** طعن قثّاة لتينه(2)

إنّ بشّار بن برد *** تيس أعمى في سفينه

فأخرج إليه بشّار مائتي درهم فقال: خذ هذه و لا تكن راوية الصبيان يا أبا الشمقمق.

شعره في هجاء العباس بن محمد بن علي:

أخبرني أحمد قال حدّثنا أبو محمد الصّعتريّ قال حدّثنا محمد بن عثمان البصريّ قال:

استمنح بشّار بن برد العباس بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن عباس فلم يمنحه، فقال يهجوه:

ظلّ اليسار على العباس ممدود *** و قلبه أبدا في البخل معقود

إنّ الكريم ليخفي عنك عسرته *** حتى تراه غنيّا و هو مجهود

و للبخيل على أمواله علل *** زرق العيون عليها أوجه سود

إذا تكرهت أن تعطي القليل و لم *** تقدر على سعة لم يظهر الجود

أورق بخير ترجّى للنّوال فما *** ترجى الثمار إذا لم يورق العود

بثّ النّوال و لا تمنعك قلّته *** فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود

اجتمع بعباد بن عباد و سلّم عليه:

أخبرني أحمد قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبيّ قال حدّثني أبي عن عبّاد بن عبّاد قال:

ص: 136


1- زيادة في أ، م، ء نسبة إلى هناءة بن مالك، و بنو هناءة هم رهط عقبة بن سلّم.
2- في ح: «طعن قثاة بتينه».

مررت ببشّار فقلت: السّلام عليك يا أبا معاذ؛ فقال: و عليك السلام، أ عبّاد؟ فقلت: نعم؛ قال: إني لحسن الرأي فيك؛ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك منك يا أبا معاذ!.

جارى امرأ القيس في تشبيهه شيئين بشيئين:

أخبرني يحيى بن عليّ قال أخبرني محمد بن عمر الجرجانيّ عن أبي يعقوب الخريميّ(1) الشاعر أنّ بشّارا قال: لم أزل منذ سمعت قول امرئ القيس في تشبيهه شيئين بشيئين في بيت واحد حيث يقول:

كأنّ قلوب الطير رطبا و يابسا *** لدى و كرها العنّاب و الحشف البالي

أعمل نفسي في تشبيه شيئين بشيئين في بيت حتى قلت:

/

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا *** و أسيافنا ليل تهاوى كواكبه

قال يحيى: و قد أخذ هذا المعنى منصور النّمريّ فقال و أحسن:

ليل من النّقع لا شمس و لا قمر *** إلا جبينك و المذروبة الشّرع(2)

كان إسحاق الموصليّ يطعن في شعره و لما أنشد منه سكت:
اشارة

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال: كان إسحاق الموصليّ يطعن على شعر بشّار و يضع منه و يذكر أنّ كلامه مختلف لا يشبه بعضه بعضا؛ فقلنا: أ تقول هذا القول لمن يقول:

صوت

إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا *** صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فعش واحدا أوصل أخاك فإنه *** مقارف(3) ذنب مرّة و مجانبه

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى *** ظمئت و أيّ الناس تصفو مشاربه

- لأبي العبيس بن حمدون في هذه الأبيات خفيف ثقيل بالبنصر - قال عليّ بن يحيى: و هذا الكلام الذي ليس فوقه كلام من الشعر و لا حشو فيه؛ فقال لي إسحاق: أخبرني أبو عبيدة معمر بن المثنّى أن شبيل بن عزرة(4)الضّبعيّ أنشده هذه الأبيات للمتلمّس، و كان عالما بشعره لأنهما جميعا من بني ضبيعة؛ فقلت له: أ فليس قد ذكر أبو عبيدة أنه قال لبشّار: إن شبيلا أخبره أنها للمتلمّس؛ فقال: كذب و اللّه شبيل، هذا شعري، و لقد مدحت به ابن هبيرة فأعطاني عليه أربعين ألفا. و قد صدق بشّار، قد(5) مدح في هذه القصيدة ابن هبيرة، و قال فيها:

ص: 137


1- هكذا أورد شارح «القاموس» هذا الاسم في «المستدرك» في مادة «خرم» و قال: «هو أبو يعقوب إسحاق بن حسان بن قوهي الخريميّ بالضم من شعراء الدولة العباسية، قيل له ذلك لاتصاله بخريم بن عامر بن الحارث المزي المعروف بالناعم، و قيل: لاتصاله بابنه عثمان بن خريم، و قيل: هو مولاهم» و في جميع الأصول «الخزيمي» بالزاي و هو تحريف.
2- المذروبة: المحدّدة، و الشرع: المشروعة و المراد بها السيوف.
3- مقارف ذنب: مخالطه و مرتكبه، من قارف الخطيئة إذا خالطها.
4- ورد هذا الاسم في «القاموس» مادة شبل «عروة» بالراء و الواو و استدرك عليه شارحه فقال: «شبيل بن عروة هكذا في النسخ و الصواب ابن عزوة بالزاي» و كذلك ورد «عزرة» بالزاي في «تاريخ الطبريّ» (قسم 2 ج 6 ص 1913 طبع أوروبا).
5- في ب، س: «و قد» بالواو.

رويد(1)

تصاهل بالعراق جيادنا *** كأنك بالضّحاك قد قام نادبه

وسام لمروان و من دونه الشّجا *** و هول كلجّ البحر جاشت غواربه

أحلّت به أمّ المنايا بناتها *** بأسيافنا، إنّا ردى من نحاربه

و كنّا إذا دبّ العدوّ لسخطنا *** و راقبنا في ظاهر لا نراقبه

ركبنا له جهرا بكلّ مثقّف *** و أبيض تستسقي الدّماء مضاربه

/ثم قلت لإسحاق: أخبرني عن قول بشّار في هذه القصيدة:

فلمّا تولّى الحرّ و اعتصر الثّرى *** لظى الصّيف من نجم توقّد لاهبه

و طارت عصافير الشّقائق(2) و اكتسى *** من الآل(3) أمثال المجرّة(4) ناضبه

غدت عانة تشكو بأبصارها الصّدى *** إلى الجأب إلا أنها لا تخاطبه

- العانة: القطيع من الحمير، و الجأب: ذكرها. و معنى شكواها الصدى بأبصارها أن العطش قد تبيّن في أحداقها فغارت - قال: و هذا من أحسن ما وصف به الحمار و الأتن، أ فهذا للمتلمّس أيضا! قال: لا؛ فقلت: أ فما هو في غاية الجودة و شبيه بسائر الشعر، فكيف قصد بشّار لسرقة تلك الأبيات خاصّة! و كيف خصه بالسرقة منه وحده من بين الشعراء و هو قبله بعصر طويل! و قد روى الرّواة شعره و علم بشّار أنّ ذلك لا يخفى، و لم يعثر على بشّار أنه سرق شعرا قطّ جاهليّا و لا إسلاميا. و أخرى فإنّ شعر المتلمّس يعرف في بعض شعر بشّار؛ فلم يردد/ذلك بشيء.

و قد أخبرني بهذا الخبر هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة أنّ بشّارا أنشده:

إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا *** صديقك لم تلق(5) الذي لا تعاتبه

و ذكر الأبيات. قال: و أنشدتها شبيل بن عزرة الضّبعيّ، فقال: هذا للمتلمّس؛ فأخبرت بذلك بشّارا، قال:

كذب و اللّه شبيل، لقد مدحت ابن هبيرة بهذه القصيدة و أعطاني عليها أربعين ألفا.

لما صار طاهر إلى العراق في حرب الأمين سأل عن ولد بشار ليبرّهم:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا عليّ بن مهديّ قال حدّثنا عليّ بن إبراهيم المروزيّ، و كان أبوه من قوّاد طاهر، قال حدّثني أبي قال:

لما خلع محمّد المأمون و ندب له عليّ بن عيسى، ندب المأمون للقاء عليّ بن عيسى طاهر بن الحسين

ص: 138


1- في «اللسان» (مادة رود): و قال الليث: إذا أردت «برويدا» الوعيد نصبتها بلا تنوين، و أنشد: رويد نصاهل بالعراق جيادنا إلخ. و في الأصول: «رويدا» بالتنوين.
2- الشقائق: جمع شقيقة و هي أرض صلبة بين رياض تنبت الشجر و العشب.
3- الآل: السراب.
4- المجرة: نجوم كثيرة لا تدرك بمجرّد البصر و إنما ينتشر ضوأها فيرى كأنه بقعة بيضاء.
5- في ح: «لم تلف» بالفاء.

ذا اليمينين(1) و جلس له لعرضه و عرض أصحابه، فمرّ به ذو اليمينين معترضا و هو ينشد:

رويد(2) تصاهل بالعراق جيادنا *** كأنك بالضحّاك قد قام نادبه

فتفاءل المأمون بذلك فاستدناه فاستعاده البيت فأعاد عليه؛ فقال ذو الرّئاستين(3): يا أمير المؤمنين هو حجر(4) العراق؛ قال: أجل. فلما صار ذو اليمينين إلى العراق سأل: هل بقي من ولد بشّار أحد؟ فقالوا: لا؛ فتوهّمت أنه قد كان همّ لهم بخير.

غضب على سلّم الخاسر لأنه سرق من معانيه:
اشارة

أخبرنا يحيى قال حدّثنا أبي قال أخبرني أحمد بن صالح - و كان أحد الأدباء - قال:

غضب بشّار على سلّم الخاسر و كان من تلامذته و رواته، فاستشفع عليه بجماعة من إخوانه فجاءوه في أمره؛ فقال لهم:

كلّ حاجة لكم مقضيّة/إلا سلما؛ قالوا ما جئناك إلا في سلّم و لا بدّ من أن ترضى عنه لنا؛ فقال: أين هو الخبيث؟ قالوا: ها هو هذا؛ فقام إليه سلّم فقبّل رأسه و مثل بين يديه و قال: يا أبا معاذ، خرّيجك و أديبك؛ فقال: يا سلّم، من الذي يقول:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطيّبات الفاتك اللّهج

قال: أنت يا أبا معاذ، جعلني اللّه فداءك! قال: فمن الذي يقول:

من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللّذّة الجسور(5)

قال: خرّيجك يقول ذلك (يعني نفسه)؛ قال: أ فتأخذ معانيّ التي قد عنيت بها و تعبت في استنباطها، فتكسوها ألفاظا أخفّ من ألفاظي حتى يروى ما تقول و يذهب شعري! لا أرضى عنك أبدا، قال: فما زال يتضرّع إليه، و يشفع له القوم حتى رضي عنه. و في هذه القصيدة يقول بشّار:

لو كنت تلقين ما نلقى قسمت لنا *** يوما نعيش به منكم و نبتهج

صوت

لا خير في العيش إن كنّا(6) كذا أبدا *** لا نلتقي و سبيل الملتقى نهج(7)

ص: 139


1- ذكر ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (ج 1 ص 335) طاهرا هذا و قال في سياق ترجمته: و اختلفوا في تلقيبه بذي اليمينين لأيّ معنى كان فقيل: لأنه ضرب شخصا في وقعته مع عليّ بن ماهان فقدّه نصفين و كانت الضربة بيساره فقال فيه بعض الشعراء: كلتا يديك يمين حين تضربه و ذكر أيضا في ترجمة الفضل بن سهل (ج 1 ص 589) أن الفضل كان أعلم الناس بعلم النجامة، فلما عزم المأمون على إرسال طاهر بن الحسين إلى محاربة أخيه الأمين، نظر الفضل في مسألته فوجد الدليل في وسط السماء و كان ذا يمينين، فأخبر المأمون بأن طاهرا يظفر بالأمين و يلقّب بذي اليمينين، فلقب المأمون طاهرا بذلك، و هو أشهر قوّاده.
2- انظر الحاشية رقم 4 من ص 197 من هذا الجزء.
3- هو الفضل بن سهل وزير المأمون، و لقب بذي الرئاستين لأنه تقلد الوزارة و السيف.
4- يريد أنه الركن الذي يعوّل عليه.
5- هذا البيت و بيت بشار قبله يذكرهما علماء البلاغة شاهدا لحسن أخذ الشاعر الثاني من الأوّل، و يسمونه حسن الاتباع، لأن بيت سلّم أجود سبكا و أخصر لفظا (انظر «معاهد التنصيص» صفحة 506 طبع بولاق).
6- كذا في الأصول. و في «معاهد التنصيص»: «إن دمنا».
7- النهج: البين الواضح.

قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم *** ما في التّلاقي و لا في قبلة حرج

من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطّيّبات الفاتك اللّهج

أشكو إلى اللّه هما ما يفارقني *** و شرّعا(1) في فؤادي الدّهر تعتلج

أنشد الأصمعيّ شعره في هجو باهلة فغاظه فخره بنسبه:

/أخبرنا محمد بن عمران الصيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا أحمد بن خلاّد قال: أنشدت الأصمعيّ قول بشّار يهجو باهلة:

/

و دعاني معشر كلّهم *** حمق دام لهم ذاك الحمق

ليس من جرم و لكن غاظهم *** شرفي العارض قد سدّ الأفق

فاغتاظ الأصمعيّ فقال: ويلي على هذا العبد القنّ ابن(2) القنّ!.

حديثه مع امرأة في الشيب:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى قال حدّثني عليّ بن مهدي. قال حدّثني عباس بن خالد قال سمعت غير واحد من أهل البصرة يحدّث:

أنّ امرأة قالت لبشّار: أيّ رجل أنت لو كنت أسود اللحية و الرأس! قال بشّار: أ ما علمت أن بيض البزاة أثمن من سود الغربان؛ فقالت له: أمّا قولك فحسن في السّمع، و من لك بأن يحسن شيبك في العين كما حسن قولك في السّمع! فكان بشّار يقول: ما أفحمني قطّ غير هذه المرأة.

أحب الأشياء إليه:

و نسخت من كتابه: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني إسحاق بن كلبة قال قال لي أبو عثمان المازنيّ:

سئل بشار: أيّ متاع الدنيا آثر عندك؟ فقال: طعام مزّ(3)، و شراب مرّ، و بنت عشرين بكر.

دخل إليه نسوة و طلب من إحداهنّ أن تواصله فأبت فقال شعرا:

أخبرني عمي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، و أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أبو توبة عن صالح بن عطيّة قال:

كان النساء المتظرّفات يدخلن إلى بشّار في كلّ جمعة يومين، فيجتمعن عنده و يسمعن من شعره، فسمع كلام امرأة منهنّ فعلقها قلبه و راسلها يسألها أن تواصله؛ /فقالت لرسوله: و أيّ معنى فيك لي أو لك فيّ! و أنت أعمى لا تراني فتعرف حسني و مقداره، و أنت قبيح الوجه فلا حظّ لي فيك! فليت شعري لأيّ شيء تطلب وصال مثلى! و جعلت تهزأ به في المخاطبة؛ فأدّى الرّسول الرّسالة، فقال له: عد إليها فقل لها:

ص: 140


1- الشرع: الرماح و المراد بها هنا الخواطر و ما إليها مجازا، و تعتلج: تتضارب و نتمارس.
2- القن: عبد ملك هو و أبوه.
3- المز: ما كان طعمه بين الحموضة و الحلاوة.

أ يرى له فضل على آيارهم *** و إذا أشظّ(1) سجدن غير أوابي

تلقاه بعد ثلاث عشرة قائما *** فعل المؤذّن شكّ يوم سحاب

و كأنّ هامة رأسه بطّيخة *** حملت إلى ملك بدجلة جابي(2)

اعترض مروان بن أبي حفصة على بيت من شعره فأجابه:

أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم قال حدّثنا أبو هفّان قال أخبرني أحمد بن عبد الأعلى الشيبانيّ عن أبيه قال:

قال مروان لبشّار لما أنشده هذا البيت:

و إذا قلت لها جودي لنا *** خرجت بالصّمت من لا و نعم

جعلني اللّه فداءك يا أبا معاذ! هلا قلت: «خرست بالصّمت»؛ قال: إذا أنا في عقلك فضّ اللّه فاك! أ أتطيّر على من أحبّ بالخرس!.

مدح خالدا البرمكي فأجازه:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثني بعض أصحابنا قال: وفد بشّار إلى خالد بن برمك و هو على فارس فأنشده:

أ خالد لم أخبط(3) إليك بذمّة *** سوى أنّني عاف و أنت جواد

أ خالد بين الأجر و الحمد حاجتي *** فأيّهما تأتي فأنت عماد

فإن تعطني أفرغ عليك مدائحي *** و إن تأب لم يضرب عليّ سداد(4)

/ركابي على حرف و قلبي مشيّع(5) *** و مالي بأرض الباخلين بلاد

إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها *** خرجت مع البازي عليّ سواد

قال: فدعا خالد بأربعة آلاف دينار في أربعة أكياس فوضع واحدا عن يمينه و واحدا عن شماله و آخر بين يديه و آخر خلفه، و قال: يا أبا معاذ، هل استقلّ العماد؟ فلمس الأكياس ثم قال: استقلّ و اللّه أيّها الأمير.

مدح الهيثم بن معاوية و أخذ جائزته:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال قال محمد بن الحجّاج حدّثني بشّار قال:

دخلت على الهيثم بن معاوية و هو أمير البصرة، فأنشدته:

إنّ السّلام أيّها الأمير *** عليك و الرّحمة و السّرور

فسمعته يقول: إنّ هذا الأعمى لا يدعنا أو يأخذ من دراهمنا شيئا؛ فطمعت فيه فما برحت حتّى انصرفت بجائزته.

ص: 141


1- أشظ: أنعظ، و أوابي: ممتنعات واحدتها «آبية».
2- جاب: وصف من جبي الخراج يجبيه و يجباه أي جمعه.
3- أي لم أسر إليك لطلب معروفك متوسلا بعهد؛ و رواية «الخزانة» للبغدادي ج 1 ص 540 طبع بولاق. «لم أهبط».
4- السداد بالكسر: ما نسدّ به الثلمة و نحوها.
5- الحرف: الناقة القوية، و المشيّع: الشجاع.
طلب رجلا من بني زيد للمفاخرة و هجاه فانقطع عنه:

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل عن محمد بن سلاّم قال:

وقف رجل من بني زيد شريف، لا أحبّ أن أسمّيه، على بشّار، فقال له: يا بشّار قد أفسدت علينا موالينا، تدعوهم إلى الانتفاء منّا و ترغّبهم في الرّجوع إلى أصولهم و ترك الولاء، و أنت غير زاكي الفرع و لا معروف الأصل؛ فقال له بشار: و اللّه لأصلي أكرم من الذّهب، و لفرعي أزكى من عمل الأبرار، و ما في الأرض كلب يودّ أنّ نسبك له بنسبه، و لو شئت أن أجعل جواب كلامك كلاما(1) لفعلت، و لكنّ موعدك/غدا بالمربد؛ فرجع الرجل إلى منزله و هو يتوهّم أنّ بشّارا يحضر معه المربد ليفاخره، فخرج من الغد يريد المربد فإذا رجل ينشد:

شهدت على الزّيديّ أنّ نساءه *** ضباع(2) إلى أير العقيليّ تزفر

فسأل عمّن قال هذا البيت؛ فقيل له: هذا لبشّار فيك؛ فرجع إلى منزله من فوره و لم يدخل المربد حتّى مات.

قال ابن سلاّم: و أنشد رجل يوما يونس في هذه القصيدة و هي:

بلوت بني زيد فما في كبارهم *** حلوم و لا في الأصغرين مطهّر

فأبلغ بني زيد و قل لسراتهم *** و إن لم يكن فيهم سراة توقّر

لأمّكم الويلات إنّ قصائدي *** صواعق منها منجد و مغوّر

أجدّهم(3) لا يتّقون دنيّة *** و لا يؤثرون الخير و الخير يؤثر

يلفّون(4) أولاد الزّنا في عدادهم *** فعدّتهم من عدّة الناس أكثر

إذا ما رأوا من دأبه مثل دأبهم *** أطافوا به، و الغيّ للغيّ أصور(5)

و لو فارقوا من فيهم من دعارة(6) *** لما عرفتهم أمّهم حين تنظر

لقد فخروا بالملحقين(7) عشيّة *** فقلت افخروا إن كان في اللؤم مفخر

/يريدون مسعاتي(8) و دون لقائها *** قناديل أبواب السّماوات تزهر(9)

ص: 142


1- كذا في أكثر الأصول. و في ح: «أن أجعل جواب كلانا شعرا لفعلت». و لعله «جواب كلامك شعرا».
2- ضباع: جمع ضبعة و أصله الناقة تشتهي الفحل، يقال: ضبعت الناقة تضبع ضبعا و ضبعة أي اشتهت الفحل، و قد يستعمل في النساء كما وقع في هذا البيت (انظر «اللسان» و «القاموس» مادة ضبع).
3- يقال: أجدّك بكسر الجيم و أجدّك بفتحها و نصبهما على المصدر، قال الليث: من قال: أجدّك بكسر الجيم فإنه يستحلفه بجدّه و حقيقته و إذا فتح الجيم استحلفه بجدّه و هو بخته.
4- يلفون: يجمعون.
5- أصور: أميل، يقال: صور يصور صورا أي مال.
6- أي لو فارقوا من انضم إليهم من طريق الدعارة.
7- يريد بالملحقين: الذين استلحقوهم و ألصقوهم بهم من أولاد الزنا.
8- المسعاة: المكرمة و المعلاة في أنواع المجد و الجود. و في «اللسان»: «و العرب تسمى مآثر أهل الشرف و الفضل «مساعي» واحدتها مسعاة لسعيهم فيها كأنها مكاسبهم و أعمالهم التي أعنوا فيها أنفسهم».
9- تزهر: تتلألأ.

فقل في بني زيد كما قال معرب *** قوارير حجّام غدا تتكسّر

فقال يونس للذي أنشده: حسبك حسبك! من هيّج هذا الشيطان عليهم؟ قيل: فلان؛ فقال: /ربّ سفيه قوم قد كسب لقومه شرّا عظيما.

ضمن مثلا في شعره عند عقبة بن سلّم و استحق جائزته:

أخبرني عمي قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن بشر بن هلال قال حدّثني محمد بن محمد البصريّ قال حدّثني النضر بن طاهر أبو الحجاج قال:

قال بشار: دعاني عقبة بن سلّم و دعا بحمّاد عجرد و أعشى باهلة، فلما اجتمعنا عنده قال لنا: إنه خطر ببالي البارحة مثل يتمثّله الناس: «ذهب الحمار يطلب قرنين فجاء بلا أذنين» فأخرجوه من الشعر، و من أخرجه فله خمسة آلاف درهم، و إن لم تفعلوا جلدتكم كلّكم خمسمائة؛ فقال حمّاد: أجّلنا أعزّ اللّه الأمير شهرا؛ و قال الأعشى:

أجّلنا أسبوعين؛ قال: و بشّار ساكت لا يتكلّم؛ فقال له عقبة: مالك [يا(1) أعمى] لا تتكلّم! أعمى اللّه قلبك! فقال:

أصلح اللّه الأمير، قد حضرني شيء فإن أمرت قلته؛ فقال قل؛ فقال:

شطّ بسلمى عاجل البين *** و جاورت أسد بني القين

و رنّت النفس لها رنّة *** كادت لها تنشقّ نصفين

يا ابنة من لا أشتهي ذكره *** أخشى عليه علق الشّين

و اللّه لو ألقاك لا اتّقي *** عينا لقبّلتك ألفين

/طالبتها ديني فراغت به *** و علّقت قلبي مع الدّين

فصرت كالعير غدا طالبا *** قرنا فلم يرجع بأذنين

قال: فانصرف بشّار بالجائزة.

قصته مع قوم من قيس عيلان نزلوا بالبصرة ثم ارتحلوا:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثنا عليّ بن مهديّ قال حدّثني عبد اللّه بن عطية الكوفيّ قال حدّثني عثمان بن عمرو الثقفيّ قال قال أبان بن عبد الحميد اللاحقيّ:

نزل في ظاهر البصرة قوم من أعراب قيس(2) عيلان و كان فيهم بيان و فصاحة، فكان بشّار يأتيهم و ينشدهم أشعاره التي يمدح بها قيسا فيجلّونه لذلك و يعظّمونه، و كان نساؤهم يجلسن معه و يتحدّثن إليه و ينشدهنّ أشعاره في الغزل و كنّ يعجبن به، و كنت كثيرا ما آتي ذلك الموضع فأسمع منه و منهم، فأتيتهم يوما فإذا هم قد ارتحلوا، فجئت إلى بشّار فقلت له: يا أبا معاذ، أعلمت أنّ القوم قد ارتحلوا؟ قال: لا؛ فقلت: فاعلم؛ قال: قد علمت لا علمت! و مضيت، فلمّا كان بعد ذلك بأيام سمعت الناس ينشدون:

دعا بفراق من تهوى أبان *** ففاض الدّمع و احترق الجنان

ص: 143


1- زيادة في ح.
2- في ح: «قيس بن عيلان» و كلتا الروايتين صحيحة (انظر «اللسان» و «القاموس» و شرحه في مادّة عيل).

كأن شرارة وقعت بقلبي *** لها في مقلتي و دمي استنان(1)

إذا أنشدت أو نسمت عليها *** رياح الصّيف هاج لها دخان

فعلمت أنها لبشّار، فأتيته فقلت: يا أبا معاذ، ما ذنبي إليك؟ قال: ذنب غراب البين؛ فقلت: هل ذكرتني بغير هذا؟ قال: لا؛ فقلت: أنشدك اللّه ألاّ تزيد؛ فقال: امض لشأنك فقد تركتك.

بشار و جعفر بن سليمان:

و نسخت من كتابه: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني يحيى بن سعيد الأيوزرذي(2) المعتزليّ قال حدّثني أحمد بن المعذّل عن أبيه قال:

أنشد بشّار جعفر بن سليمان:

أقلّي فإنّا لاحقون و إنّما *** يؤخّرنا أنّا يعدّ لنا عدّا

و ما كنت إلا كالأغرّ ابن جعفر *** رأى المال لا يبقى فأبقى به حمدا

/فقال له جعفر بن سليمان: من ابن جعفر؟ قال: الطيّار(3) في الجنة؛ فقال: لقد ساميت غير مسامى! فقال:

و اللّه ما يقعدني عن شأوه بعد النسب، لكن قلّة النشب(4)، و إني لأجود بالقليل و إن لم يكن عندي الكثير، و ما على من جاد بما يملك ألاّ يهب البدور(5)؛ فقال له جعفر: لقد هززت أبا معاذ، ثم دعا له بكيس فدفعه إليه.

سئل عن ميله للهجاء دون المديح فأجاب:

و نسخت من كتابه: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني أحمد بن سعيد الرازيّ عن سليمان بن سليمان العلويّ قال:

قيل لبشّار: إنك لكثير الهجاء! فقال: إني وجدت الهجاء المؤلم آخذ بضبع(6) الشاعر من المديح الرائع، و من أراد من الشّعراء أن يكرم في دهر اللئام على المديح فليستعدّ للفقر و إلا فليبالغ في الهجاء ليخاف فيعطى.

بشار في صباه:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة قال:

كان برد أبو بشّار طيّانا حاذقا بالتّطيين، و ولد له بشّار و هو أعمى، فكان يقول: /ما رأيت مولودا أعظم بركة منه، و لقد ولد لي و ما عندي درهم فما حال الحول حتى جمعت مائتي درهم. و لم يمت برد حتى قال بشّار الشّعر.

و كان لبشّار أخوان يقال لأحدهما: بشر، و للآخر: بشير، و كانا قصّابين و كان بشّار بارّا بهما، على أنه كان ضيّق

ص: 144


1- الاستنان: الجريان بشدّة.
2- كذا في ب، س، أ، ء، و في م: «الأيوزردي» و في ح: «الأريوزذي».
3- الطيار لقب جعفر بن أبي طالب، و سبب هذا اللقب أنه أخذ الراية في غزوة «موتة» بعد زيد بن حارثة فقاتل حتى قطعت يداه و مات، فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بأنه يطير مع الملائكة في السماء، و كان ابن عمر إذا سلّم على عبد اللّه بن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين. (انظر «البخاري بشرح القسطلاني» ج 6 ص 143 طبع بولاق).
4- كذا في ء، أ، ح و في باقي النسخ: «النسب» و هو تصحيف.
5- البدور: جمع بدرة و هي كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم أو سبعة آلاف دينار.
6- الضبع: العضد.

الصدر متبرّما بالناس، فكان يقول: اللهمّ إني(1) قد تبرّمت بنفسي و بالناس جميعا، اللهم فأرحني منهم. و كان إخوته يستعيرون ثيابه فيوسّخونها و ينتنون ريحها، فاتخذ قميصا له جيبان و حلف ألاّ يعيرهم ثوبا من ثيابه، فكانوا يأخذونها بغير إذنه؛ فإذا دعا بثوبه فلبسه فأنكر رائحته فيقول(2) إذا وجد رائحة كريهة من ثوبه: «أينما أتوجّه ألق سعدا»(3). فإذا أعياه الأمر خرج إلى الناس في تلك الثياب على نتنها و وسخها، فيقال له: ما هذا يا أبا معاذ؟ فيقول: هذه ثمرة صلة الرّحم. قال: و كان يقول الشّعر و هو صغير، فإذا هجا قوما جاءوا إلى أبيه فشكوه فيضربه ضربا شديدا، فكانت أمّه تقول: كم تضرب هذا الصبيّ الضرير، أ ما ترحمه! فيقول: بلى و اللّه إني لأرحمه و لكنه يتعرّض للناس فيشكونه إليّ؛ فسمعه بشّار فطمع فيه فقال له: يا أبت إنّ هذا الذي يشكونه منّي إليك هو قول الشعر، و إني إن ألممت عليه أغنيتك و سائر أهلي، فإن شكوني إليك فقل لهم: أ ليس اللّه يقول: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمىٰ حَرَجٌ) (4). فلما عاودوه شكواه قال لهم برد ما قاله بشّار؛ فانصرفوا و هم يقولون: فقه برد أغيظ لنا من شعر بشّار.

أعطاه فتى مائتي دينار لشعره في مطاولة النساء:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمد بن عثمان الكريزيّ قال حدّثني بعض الشعراء قال:

/أتيت بشّارا الأعمى و بين يديه مائتا دينار(5)، فقال لي: خذ منها ما شئت، أو تدري ما سببها؟ قلت: لا؛ قال: جاءني فتى فقال لي: أنت بشّار؟ فقلت: نعم؛ فقال: إني آليت أن أدفع إليك مائتي دينار و ذلك أني عشقت امرأة فجئت إليها فكلّمتها فلم تلتفت إليّ، فهممت أن أتركها فذكرت قولك:

لا يؤيسنّك من مخبّأة *** قول تغلّظه و إن جرحا

عسر النّساء إلى مياسرة *** و الصّعب يمكن بعد ما جمحا

/فعدت إليها فلازمتها حتى بلغت منها حاجتي.

عاب الأخفش شعره ثم صار بعد ذلك يستشهد به لما بلغه أنه همّ بهجوه:

أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن أبي حاتم قال:

كان الأخفش طعن على بشّار في قوله:

فالآن أقصر عن سميّة باطلي *** و أشار بالوجلى عليّ مشير

و في قوله:

على الغزلى منّي السّلام فربّما *** لهوت بها في ظلّ مرءومة(6) زهر

ص: 145


1- كذا في ح و في باقي الأصول: «إني كنت قد تبرمت».
2- كذا بالأصول و اقتران جواب الشرط الصالح للشرطيّة بالفاء خلاف الأصل (انظر «شرح الأشموني» ج 3 ص 60 طبع بولاق).
3- هذا مثل يضرب لمن يلقى سوء المعاشرة في كلّ مكان، و أصله أن الأشموني بن قريع كان سيّد قومه فرأى منهم جفوة فرحل عنهم إلى آخرين فرآهم يصنعون بساداتهم مثل ذلك فقال هذا القول.
4- سورة النور آية: 61.
5- في ء، أ، م: «مائتا درهم»، و كذا فيما يأتي.
6- مرءومة: محبوبة مألوفة.

و في قوله في صفة سفينة:

تلاعب نينان البحور و ربّما *** رأيت نفوس القوم من جريها تجري

و قال: لم يسمع من الوجل و الغزل فعلى، و لم أسمع بنون و نينان(1)؛ فبلغ ذلك بشّارا فقال: ويلي على القصّارين(2)! متى كانت الفصاحة في بيوت القصارين! دعوني و إيّاه؛ فبلغ ذلك الأخفش فبكى و جزع؛ فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: و ما لي لا أبكي/و قد وقعت في لسان بشّار الأعمى! فذهب أصحابه إلى بشار فكذّبوا عنه و استوهبوا منه عرضه و سألوه ألاّ يهجوه؛ فقال: قد وهبته للؤم عرضه. فكان الأخفش بعد ذلك يحتجّ بشعره في كتبه ليبلغه؛ فكفّ عن ذكره بعد هذا.

قال: و قال غير أبي حاتم: إنما بلغه أنّ سيبويه عاب هذه الأحرف(3) عليه لا الأخفش، فقال يهجوه:

أ سبويه يا ابن الفارسيّة ما الذي *** تحدّثت عن شتمي و ما كنت تنبذ

أظلت تغنّي سادرا(4) في مساءتي *** و أمّك بالمصرين تعطي و تأخذ

قال: فتوقّاه سيبويه بعد ذلك، و كان إذا سئل عن شيء فأجاب عنه و وجد له شاهدا من شعر بشّار احتجّ به استكفافا لشرّه.

ذمّ بني سدوس باستعانة بني عقيل:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني أحمد بن عليّ بن سويد بن منجوف قال:

كان بشّار مجاورا لبني عقيل و بني سدوس في منزل الحيّين، فكانوا لا يزالون يتفاخرون، فاستعانت عقيل ببشّار و قالوا: له: يا أبا معاذ، نحن أهلك و أنت ابننا و ربيت في حجورنا فأعنّا؛ فخرج عليهم و هم يتفاخرون، فجلس ثم أنشد:

كأنّ بني سدوس رهط ثور *** خنافس تحت منكسر الجدار

تحرّك للفخار زبانييها(5) *** و فخر الخنفساء من الصّغار

فوثب بنو سدوس إليه فقالوا: ما لنا و لك يا هذا! نعوذ باللّه من شرّك! فقال: هذا دأبكم إن عاودتم مفاخرة بني عقيل؛ فلم يعاودوها.

/أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني محمد بن إسماعيل عن محمد بن سلاّم قال: قال يونس النحويّ: العجب من الأزد يدعون هذا العبد ينسب بنسائهم و يهجو رجالهم - يعني بشّارا - و يقول:

ص: 146


1- ورد هذا الجمع في كتب اللغة، فقد جاء في «لسان العرب» و «القاموس» و غيرهما في مادة «نون»: النون: الحوت و الجمع أنوان و نينان.
2- القصار: من يحوّر الثياب و يدقها.
3- الأحرف: الكلمات.
4- السادر: المتحير، و الذي يتكلم غير متثبت في كلامه، و قيل: هو اللاهي الذي لا يهتم لشيء و لا يبالي ما صنع.
5- كذا في ح، أ، م: تثنية زباني، و زبانيا العقرب: قرناها. و في ب، س: «زبانتيها» و هو تصحيف.

ألا يا صنم الأزد ال *** ذي يدعونه ربّا

ألا يبعثون إليه من يفتق بطنه!.

ذم أناسا كانوا مع ابن أخيه:

أخبرني الحسن قال حدّثني ابن مهرويه عن أحمد(1) بن إسماعيل عن محمد بن سلاّم قال:

مرّ ابن أخ لبشّار ببشّار و معه قوم: فقال لرجل معه و سمع/كلامه: من هذا؟ فقال: ابن أخيك؛ قال: أشهد أنّ أصحابه سفلة؛ قال: و كيف علمت؟ قال: ليس عليهم نعال.

سمع شعره من مغنية فطرب و قال: هذا أحسن من سورة الحشر:

أخبرني الحسن قال حدّثنا محمد بن القاسم قال حدّثني الفضل بن يعقوب قال:

كنّا عند جارية لبعض التّجار بالكرخ تغنّينا، و بشّار عندنا، فغنّت في قوله:

إنّ الخليفة قد أبى *** و إذا أبى شيئا أبيته

و مخضّب رخص البنا *** ن بكى عليّ و ما بكيته

يا منظرا حسنا رأي *** ت(2) بوجه جارية فديته

بعثت إليّ تسومني *** ثوب الشّباب و قد طويته

فطرب بشّار و قال: هذا و اللّه يا أبا عبد اللّه أحسن من سورة الحشر!. و قد روى هذه الكلمة عن بشّار غير من ذكرته فقال عنه: إنه قال: هي و اللّه أحسن من سورة الحشر. الغناء في هذه الأبيات. و تمام الشعر:

/

و أنا المطلّ على العدا *** و إذا غلا الحمد اشتريته

و أميل في أنس النّدي *** م من الحياء و ما اشتهيته

و يشوقني بيت الحبي *** ب إذا غدوت و أين بيته

حال الخليفة دونه *** فصبرت عنه و ما قليته

و أنشدني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعيّ هذه الأبيات و أخبرني أنّ الجاحظ أخبره أن المهديّ نهى بشّارا عن الغزل و أن يقول شيئا من النسيب، فقال هذه الأبيات. قال: و كان الخليل بن أحمد ينشدها و يستحسنها و يعجب بها.

سألته ابنته لما ذا يعرفه الناس و لا يعرفهم فأجابها:

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا دماذ أبو غسّان عن محمد بن الحجّاج قال:

ص: 147


1- ورد هذا الاسم هنا «أحمد» و فيما تقدّم بنحو خمسة أسطر «محمد» باتفاق الأصول في الموضعين مع اتحاد السند و لم نهتد إلى معرفة ما هو الصواب.
2- سيرد هذا البيت مرة أخرى في ترجمة بشار مصرعا هكذا: يا منظرا حسنا رأيته من وجه جارية فديته و التصريع تقفية المصراع الأوّل.

قالت بنت بشّار لبشّار: يا أبت، مالك يعرفك الناس و لا تعرفهم؟ قال: كذلك الأمير يا بنيّة.

سب عبد اللّه بن مسور أبا النضير فدافع عنه بشار:

أخبرني عبد اللّه بن محمد الرازيّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:

قال عبد اللّه بن مسور الباهليّ يوما لأبي النّضير، و قد تحاورا في شيء: يا ابن اللّخناء، أ تكلّمني و لو اشتريت عبدا بمائتي درهم و أعتقته لكان خيرا منك! فقال له أبو النّضير: و اللّه لو كنت ولد زنا لكنت خيرا من باهلة كلّها؛ فغضب الباهليّ؛ فقال له بشّار: أنت منذ ساعة تزنّي(1) أمّا و لا يغضب، فلما كلّمك كلمة واحدة لحقك هذا كلّه! فقال له: و أمّه مثل أمّي يا أبا معاذ! فضحك، ثم قال: و اللّه لو كانت أمّك أمّ الكتاب ما كان بينكما من المصارمة هذا كلّه!.

طلب من يزيد بن مزيد أن يدخله على المهدي فسوّفه فهجاه:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني سعيد بن عبيد الخزاعيّ قال:

ورد بشار بغداد فقصد يزيد بن مزيد، و سأله أن يذكره للمهديّ، فسوّفه أشهرا؛ ثم ورد روح(2) بن حاتم فبلغه خبر بشّار، فذكره للمهديّ من غير أن يلقاه، و أمر بإحضاره فدخل إلى المهديّ و أنشده شعرا مدحه به، فوصله بعشرة آلاف درهم و وهب له عبدا و قينة و كساه كسا كثيرة؛ و كان يحضر قيسا مرّة، فقال بشّار يهجو يزيد بن مزيد:

و لمّا التقينا بالجنينة(3) غرّني *** بمعروفه حتى خرجت أفوق(4)

/غرّني: أوجرني(5) كما يغرّ الصبيّ أو يوجر اللبن.

حباني بعبد قعسريّ(6) و قينة *** و وشي و آلاف لهنّ بريق

فقل ليزيد يلعص(7) الشهد خاليا *** لنا دونه عند الخليفة سوق

رقدت فنم يا بن الخبيثة إنها *** مكارم لا يسطيعهنّ لصيق

أبى لك عرق من فلانة أن ترى *** جوادا و رأس حين(8) شبت حليق

قصيدته التي مدح بها إبراهيم بن عبد اللّه فلما قتل جعلها للمنصور:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ قال: كان بشّار كتب إلى إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بقصيدة يمدحه بها و يحرّضه و يشير عليه، فلم تصل إليه حتى قتل، و خاف بشّار أن تشتهر فقلبها

ص: 148


1- زناه تزنية: نسبه إلى الزنا.
2- كل من سمي بروح فهو بفتح الراء إلا روح بن القاسم فإنه بالضم (انظر «شرح القاموس» في مادة روح في «المستدرك»).
3- كذا في ء، م و هو اسم موضع كما في ياقوت. و في ب، س: «الخبيبة» و هو تحريف.
4- فاق الرجل فئوقا و فواقا: الفواق - و يسمى عند العامة بالزغطة -: ما يأخذ الإنسان من تشنج الحجاب الحاجز تشنجا فجائيا و يصدر من امتلاء المعدة بالطعام؛ و هو هنا كناية عما أثقله به من العطاء.
5- أوجره اللبن و نحوه: جعله في فيه.
6- القعسريّ: الصلب الشديد.
7- يلعص: يلعق.
8- في الأصول: «حيث».

و جعل التحريض فيها على أبي مسلم و المدح و المشورة لأبي جعفر المنصور، فقال:

أبا مسلم ما طيب عيش بدائم *** و لا سالم عما قليل بسالم

/و إنما كان قال: «أبا جعفر ما طيب عيش» فغيّره و قال فيها:

إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن *** بعزم نصيح أو بتأييد حازم

و لا نجعل الشّورى عليك غضاضة *** مكان الخوافي نافع للقوادم

و خلّ الهوينى للضعيف و لا تكن *** نئوما فإنّ الحزم ليس بنائم

و ما خير كفّ أمسك الغلّ أختها *** و ما خير سيف لم يؤيّد بقائم

و حارب إذا لم تعط إلا ظلامة *** شبا الحرب خير من قبول المظالم

و أدن على القربى المقرّب نفسه *** و لا تشهد الشّورى امرأ غير كاتم

فإنك لا تستطرد الهمّ بالمنى *** و لا تبلغ العليا بغير المكارم

إذا كنت فردا هرّك(1) القوم مقبلا *** و إن كنت أدنى لم تفز بالعزائم

و ما قرع الأقوام مثل مسيّع(2) *** أريب و لا جلّى العمى مثل عالم

قال الأصمعيّ: فقلت لبشّار: إني رأيت رجال الرأي يتعجّبون من أبياتك في المشورة؛ فقال: أ ما علمت أنّ المشاورين إحدى الحسنيين: بين صواب يفوز بثمرته أو خطأ يشارك في مكروهه؛ فقلت: أنت و اللّه أشعر في هذا الكلام منك في الشعر.

اعترض عليه رجل لوصفه جسمه بالنحول و هو سمين:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني عليّ بن الصبّاح عن بعض الكوفيين قال:

مررت ببشّار و هو متبطّح(3) في دهليزه كأنه جاموس، فقلت له: يا أبا معاذ، من القائل:

/

في حلّتي جسم فتى ناحل *** لو هبّت الريح به طاحا

قال: أنا؛ قلت: فما حملك على هذا الكذب؟ و اللّه إني لأرى أن لو بعث اللّه الرياح التي أهلك بها الأمم الخالية ما حرّكتك من موضعك! فقال بشّار: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة؛ فقال: يا أهل الكوفة لا تدعون ثقلكم و مقتكم على كل حال!.

عاتب صديقا له لأنه لم يهد له شيئا:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ: قال حدّثني عافية بن شبيب قال:

قدم كرديّ بن عامر المسمعيّ من مكة، فلم يهد لبشّار شيئا و كان صديقه؛ فكتب إليه:

ص: 149


1- يقال: فلان هره الناس إذا كرهوا ناحيته، قال الأعشى: أرى الناس هروني و شهّر مدخلي ففي كل ممشى أرصد الناس عقربا
2- المشيع: الشجاع، كأنه قد شيع قلبه بما يركب من الأهوال، أو بقوّة قلبه.
3- متبطح: ممتدّ على وجه الأرض بوجهه.

/

ما أنت يا كرديّ بالهشّ *** و لا أبرّيك من الغشّ

لم تهدنا(1) نعلا و لا خاتما *** من أين أقبلت؟ من الحشّ!(2)

فأهدى إليه هديّة حسنة و جاءه فقال: عجلت يا أبا معاذ علينا، فأنشدك اللّه ألاّ تزيد شيئا على ما مضى.

أخبر أنه غنى بشعر له فطرب:

و نسخت من كتابه عن عافية بن شبيب أيضا قال حدّثني صديق لي قال:

قلت لبشّار: كنّا أمس في عرس فكان أوّل صوت غنّى به المغنّي:

هوى صاحبي ريح الشّمال إذا جرت *** و أشفى لنفسي أن تهبّ جنوب

و ما ذاك إلا أنها حين تنتهي *** تناهى و فيها من عبيدة طيب

فطرب و قال: هذا(3) و اللّه أحسن من فلج(4) يوم القيامة.

مدح المهدي فلم يجزه:

أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبي عن عافية بن شبيب عن أبي جعفر الأسديّ قال:

/مدح بشّار المهديّ فلم يعطه شيئا؛ فقيل له: لم يستجد شعرك؛ فقال: و اللّه لقد قلت شعرا لو قيل في الدهر لم يخش صرفه على أحد، و لكنّا نكذب في القول فنكذب(5) في الأمل.

هجا روح بن حاتم فحلف ليضربنه ثم بزّ في يمينه فضربه بعرض السيف:

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني يحيى بن خليفة الدارميّ عن نصر بن عبد الرحمن العجليّ قال:

هجا بشّار روح بن حاتم؛ فبلغه ذلك فقذفه و تهدّده؛ فلما بلغ ذلك بشّارا قال فيه:

تهدّدني أبو خلف *** و عن أوتاره ناما

بسيف لأبي صفر *** ة لا يقطع إبهاما

كأنّ الورس يعلوه *** إذا ما صدره قاما

- قال ابن أبي سعد: و من الناس من يروي هذين البيتين لعمرو الظالمي - قال: فبلغ ذلك روحا فقال: كلّ مالي صدقة إن وقعت عيني عليه لأضربنّه ضربة بالسيف و لو أنه بين يدي الخليفة! فبلغ ذلك بشّارا فقام من فوره حتى دخل على المهديّ؛ فقال له: ما جاء بك في هذا الوقت؟ فأخبره بقصّة روح و عاذ به منه، فقال: يا نصير،

ص: 150


1- الوارد في كتب اللغة: أهدى له كذا و أهدي إليه، فما هاهنا قد حذف منه الجار و وصل الفعل بالمفعول.
2- الحش (بتثليث الحاء): البستان و موضع قضاء الحاجة لأنهم كانوا يقضون حاجاتهم في البساتين.
3- كذا في ح، و في باقي الأصول: «هو و اللّه».
4- الفلج (بالضم): الفوز و الظفر.
5- في ب، س، ح: «فيكذب» بالياء بدل النون.

وجّه إلى روح من يحضره الساعة؛ فأرسل إليه في الهاجرة، و كان ينزل المخرّم(1)، فظنّ هو و أهله أنه دعي لولاية.

قال: يا روح، إني بعثت إليك في حاجة؛ فقال له: أنا عبدك يا أمير المؤمنين فقل ما شئت سوى بشّار فإني حلفت في أمره/بيمين غموس(2)؛ قال: قد علمت و إيّاه أردت؛ قال له: فاحتل ليميني يا أمير المؤمنين؛ فأحضر القضاة و الفقهاء فاتّفقوا على أن يضربه ضربة على جسمه بعرض السيف، و كان بشار وراء الخيش(3)، فأخرج و أقعد و استلّ روح سيفه فضربه ضربة بعرضه؛ فقال: أوّه باسم اللّه! فضحك المهديّ و قال له: ويلك! هذا و إنما ضربك بعرضه و كيف لو ضربك بحدّه!.

مدح سليمان بن هشام:

أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو عبيدة قال:

مدح بشّار سليمان بن هشام بن عبد الملك و كان مقيما بحرّان و خرج إليه فأنشده قوله فيه:

نأتك على طول التجاور زينب *** و ما شعرت أن النّوى سوف تشعب(4)

يرى الناس ما تلقى بزينب إذا نأت *** عجيبا و ما تخفي بزينب أعجب

/و قائلة لي حين جدّ رحيلنا *** و أجفان عينيها تجود و تسكب

أ غاد إلى حرّان في غير شيعة *** و ذلك شأو عن هواها مغرّب(5)

فقلت لها كلّفتني طلب الغنى *** و ليس وراء ابن الخليفة مذهب

سيكفي فتى من سعيه حدّ سيفه *** و كور علافيّ و وجناء ذعلب(6)

/إذا استوغرت دار(7) عليه رمى بها *** بنات الصّوى(8) منها ركوب(9) و مصعب

فعدّي إلى يوم ارتحلت وسائلي *** بزورك و الرّحّال من جاء يضرب

لعلك أن تستيقني(10) أن زورتي *** سليمان من سير الهواجر تعقب

ص: 151


1- المخرم (بضم الميم و فتح الخاء و كسر الراء المشدّدة): محلة كانت ببغداد بين الرصافة و نهر المعلى و فيها كانت الدار التي يسكنها السلاطين البويهية و السلجوقية، خربها في سنة 587 ه الإمام الناصر لدين اللّه أبو العباس أحمد.
2- كذا في ح، و في باقي الأصول: «حلفت يمين غموس» و اليمين الغموس: التي لا استثناء فيها.
3- الخيش: مراوح تعمل من نسج خشن من الكتان كشراع السفينة تعلق في سقف البيت و يعمل لها حبل تجرّ به و هي مبلولة بالماء فإذا أراد الرحل أن ينام جذب حبلها فيهب منها نسيم بارد يذهب أذى الحرّ، فلعل بشارا كان مختفيا وراء إحداها و هي مدلاّة.
4- كذا في ح، و هو الصواب لأن النوى مؤنثة، و في باقي الأصول: «يشعب» بالياء المثناة.
5- مغرّب (بكسر الراء و فتحها): بعيد.
6- الكور: الرحل. و العلافيّ: نسبة إلى علاف (وزان كتاب) ابن طوار لأنه أول من عملها. و وجناء: عظيمة الوجنتين أو صلبة قوية شبهت بالوجين و هو الصعب من الأرض. و ذعلب (وزان زبرج): سريعة.
7- يقال: و غرت الهاجرة تغر و غرا من باب ضرب إذا رمضت و اشتدّ حرّها، فمعنى استوغرت حميت و اتقدت غيظا، و المراد أنها ضاقت به. و لم ترد هذه الصيغة من هذه المادة في كتب اللغة التي بين أيدينا. و جاء في أقرب الموارد: «المستوغر: لقب عمرو بن ربيعة بن كعب، قلت و هذا دليل على وجود (استوغر) و إن لم يذكروه».
8- الصوى: جمع صوّة، و هي حجارة مجموعة تجعل علما يهتدي بها في المفازة، و بناتها: صغارها.
9- الركوب: المذلّل بالركوب، و المصعب: ما لم يركب و لم يمس من الإبل.
10- الأصول مضطربة في رسم هذه الكلمة، و تكاد تجمع على «تستبعني» مع اختلاف في إعجام بعض الحروف.

أغرّ هشاميّ القناة إذا انتمى *** نمته بدور ليس فيهنّ كوكب

و ما قصدت يوما مخيلين(1) خيله *** فتصرف إلاّ عن دماء تصبّب

استقل عطاء سليمان فقال شعرا:

فوصله سليمان بخمسة آلاف درهم و كان يبخّل، فلم يرضها و انصرف عنه مغضبا فقال:

إن أمس منقبض اليدين عن النّدى *** و عن العدوّ مخيّس(2) الشيطان

فلقد أروح عن اللئام مسلّطا *** ثلج المقيل(3) منعّم النّدمان

في ظلّ عيش عشيرة محمودة *** تندى يدي و يخاف فرط لساني

أزمان جنّيّ الشباب مطاوع *** و إذ الأمير عليّ من حرّان

ريم بأحوية(4) العراق إذا بدا *** برقت عليه أكلّة(5) المرجان

/فاكحل بعبدة مقلتيك من القذى *** و بوشك رؤيتها من الهملان

فلقرب من تهوى و أنت متيّم *** أشفى لدائك من بني مروان

فلما رجع إلى العراق برّه ابن هبيرة و وصله، و كان يعظّم بشّارا و يقدّمه، لمدحه قيسا و افتخاره بهم، فلما جاءت دولة أهل خراسان عظم شأنه.

مدح المهديّ بشعر فيه تشبيب حسن فنهاه عن التشبيب:

أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن الحجّاج قال:

قدم بشار الأعمى على المهديّ بالرّصافة فدخل عليه في البستان فأنشده مديحا فيه تشبيب حسن، فنهاه عن التشبيب لغيرة شديدة كانت فيه، فأنشده مديحا فيه، يقول فيه:

كأنما جئته أبشّره *** و لم أجيء راغبا و محتلبا

يزيّن المنبر الأشمّ بعط *** فيه و أقواله إذا خطبا

تشمّ نعلاه في النّدى كما *** يشمّ ماء الرّيحان منتهبا(6)

فأعطاه خمسة آلاف درهم و كساه و حمله على بغل و جعل له وفادة في كلّ سنة و نهاه عن التشبيب البتّة، فقدم عليه في السنة الثالثة فدخل عليه فأنشده:

تجاللت(7) عن فهر و عن جارتي فهر *** و ودّعت نعمى بالسّلام و بالبشر

ص: 152


1- كذا بالأصول و لم نعثر له على معنى مناسب.
2- مخيس: مذلل.
3- ثلج المقيل: بارده.
4- أحوية: جمع حواء، و الحواء (بالكسر): جماعة البيوت المتدانية.
5- أكلّة: جمع إكليل، و الإكليل: التاج و شبه عصابة تزيّن بالجواهر.
6- منتهب: مأخوذ و مباح لمن شاء.
7- تجاللت: ترفعت.

و قالت سليمى فيك عنّا جلادة(1) *** محلّك دان و الزيارة عن عفر(2)

أخي في الهوى ما لي أراك جفوتنا *** و قد كنت تقفونا على العسر و اليسر

تثاقلت إلا عن يد أستفيدها *** و زورة أملاك أشدّ بها أزري

/و أخرجني من وزر خمسين حجّة *** فتى هاشميّ يقشعر من الوزر

دفنت الهوى حيّا فلست بزائر *** سليمى و لا صفراء ما قرقر(3) القمري

و مصفرّة بالزعفران جلودها *** إذا اجتليت مثل المفرطحة الصّفر(4)

فربّ ثقال الرّدف هبّت تلومني *** و لو شهدت قبري لصلّت على قبري

تركت لمهديّ الأنام وصالها *** و راعيت عهدا بيننا ليس بالختر(5)

و لو لا أمير المؤمنين محمد *** لقبّلت فاها أو لكان بها فطري

لعمري لقد أوقرت نفسي خطيئة *** فما أنا بالمزداد وقرا على وقر

في قصيدة طويلة امتدحه بها، فأعطاه ما كان يعطيه قبل ذلك و لم يزده شيئا.

توفي ابن له فجزع عليه و تمثل بقول جرير:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل العتكيّ عن محمد بن سلاّم عن بعض أصحابه قال:

حضرنا جنازة ابن لبشّار توفّي، فجزع عليه جزعا شديدا، و جعلنا نعزّيه و نسلّيه فما يغني ذلك شيئا، ثم التفت إلينا و قال: للّه درّ جرير حيث يقول و قد عزّي بسوادة ابنه:

قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم *** كيف العزاء و قد فارقت أشبالي

ودّعتني حين كفّ الدّهر من بصري *** و حين صرت كعظم الرّمّة البالي

أودى سوادة يجلو مقلتي لحم(6) *** باز يصرصر فوق المربأ(7) العالي

إلاّ تكن لك بالدّيرين(8) نائحة *** فربّ نائحة بالرّمل معوال

ص: 153


1- الجلادة: الصلابة و الصبر.
2- العفر: الحين و طول العهد أو الشهر أو البعد أو قلة الزيارة، و بكل من هذه المعاني فسر قولهم فلان ما يأتينا إلا عن عفر (انظر «القاموس» و «شرحه» للمرتضى في مادة عفر).
3- قرقر: صوّت و ردّد صوته.
4- يريد بها الدنانير.
5- الختر: شبيه بالغدر و الخديعة، و قيل: هو أسوأ الغدر و أقبحه.
6- لحم: صفة لباز مقدّمة عليه، يقال: «باز لحم» أي يأكل اللحم أو يشتهيه، و كذلك «لاحم».
7- المربأ: مكان البازي الذي يقف فيه، و يروي «المرقب» و هو بمعناه.
8- لم نقف على الموضع الذي يعنيه جرير بالديرين هنا، و لكن شراح قوله: لما تذكرت بالديرين أرقني صوت الدجاج و ضرب بالنواقيس يقولون: أراد دير الوليد بالشام، و قد ذكره ياقوت في «معجمه» و قال: لا أدري أين هو.
استنشده صديق له شيئا من غزله فاعتذر بنهي المهديّ له عنه:

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني خلاّد الأرقط قال:

لمّا أنشد المهديّ قول بشار:

لا يؤيسنّك من مخبّأة *** قول تغلّظه و إن جرحا

عسر النساء إلى مياسرة *** و الصّعب يمكن بعد ما جمحا

فنهاه(1) المهديّ عن قوله مثل هذا، ثم حضر مجلسا لصديق له يقال له عمرو بن سمّان، فقال له: أنشدنا يا أبا معاذ شيئا من غزلك، فأنشأ يقول:

و قائل هات شوّقنا فقلت له *** أ نائم أنت يا عمرو بن سمّان

أ ما سمعت بما قد شاع في مضر *** و في الحليفين من نجر(2) و قحطان

قال الخليفة لا تنسب بجارية *** إيّاك إياك أن تشقى بعصيان

صدق ظنه في تقدير جوائز الشعر:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا سليمان بن أيوب المدائنيّ قال:

قال مروان بن أبي حفصة: قدمت البصرة فأنشدت بشارا قصيدة لي و استنصحته فيها؛ فقال لي: ما أجودها! تقدم بغداد فتعطى عليها عشرة آلاف درهم؛ فجزعت من ذلك و قلت: قتلتني! فقال: هو ما أقول لك؛ و قدمت بغداد فأعطيت عليها عشرة آلاف درهم؛ ثم قدمت عليه قدمة أخرى فأنشدته قصيدتي:

طرقتك زائرة فحيّ خيالها

فقال: تعطى عليها مائة ألف درهم؛ فقدمت فأعطيت مائة ألف درهم، فعدت إلى البصرة فأخبرته بحالي في المرّتين، /و قلت له: ما رأيت أعجب من حدسك(3)! فقال: /يا بنيّ، أ ما علمت أنه لم يبق أحد أعلم بالغيب من عمّك!. أخبرنا بهذا الخبر محمد بن يحيى الصّولي قال: حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ عن محمد بن عبد اللّه بن أبي عيينة عن مروان أنه قدم على بشّار فأنشده قوله:

طرقتك زائرة فحيّ خيالها

فقال له: يعطونك عليها عشرة آلاف درهم، ثم قدم عليه فأنشده قوله:

أنّى يكون و ليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام

فقال: يعطونك عليها مائة ألف درهم، و ذكر باقي الخبر مثل الذي قبله.

ص: 154


1- كذا في الأصول، و المعروف أن الفاء لا تقع في جواب «لما».
2- كذا في ب، س. و في ح: «بحر» و في باقي الأصول «نحر» و لم نعثر على هذه الكلمات في أسماء القبائل و إنما قال الجوهري: نجر: علم أرضي مكة و المدينة و قد ورد في كتاب «مهذب الأغاني» ج 4 ص 273 «من بكر و قحطان».
3- الحدس: الظن و التخمين، و في الأصول: «من حديثك» فلعلّها محرّفة عنها.
امتحن في صلاته فوجد لا يصلي:

أخبرني عيسى قال حدّثنا سليمان قال:

قال بعض أصحاب بشّار: كنا نكون عنده فإذا حضرت الصلاة قمنا إليها و نجعل على ثيابه ترابا حتى ننظر هل يقوم يصلّي، فنعود و التراب بحاله و ما صلّى.

جعل الحب قاضيا بين المحبين بأمر المهديّ:

أخبرني عيسى قال حدّثنا سليمان قال:

قال أبو عمرو: بعث المهدي إلى بشّار فقال له: قل في الحبّ شعرا و لا تطل و اجعل الحبّ قاضيا بين المحبّين و لا تسمّ أحدا؛ فقال:

اجعل الحبّ بين حبّي و بيني *** قاضيا إنّني به اليوم راضي

فاجتمعنا فقلت يا حبّ نفسي *** إنّ عيني قليلة الإغماض

أنت عذّبتني و أنحلت جسمي *** فارحم اليوم دائم الأمراض

قال لي لا يحلّ حكمي عليها *** أنت أولى بالسّقم و الإحراض(1)

قلت لمّا أجابني بهواها *** شمل الجور في الهوى كلّ قاضي

فبعث إليه المهديّ: حكمت علينا و وافقنا ذلك، فأمر له بألف دينار.

نسب إليه بعضهم أنه أخذ معنى في شعره من أشعب فردّ عليه:

أخبرني عيسى قال حدّثني سليمان المدنيّ قال حدّثني الفضل بن إسحاق الهاشميّ قال:

أنشد بشّار قوله:

يروّعه السّرار(2) بكلّ أرض *** مخافة أن يكون به السّرار

فقال له رجل: أظنك أخذت هذا من قول أشعب: ما رأيت اثنين يتسارّان إلا ظننت أنهما يأمران لي بشيء؛ فقال: إن كنت أخذت هذا من قول أشعب فإنك أخذت ثقل الرّوح و المقت من الناس جميعا فانفردت به دونهم، ثم قام فدخل و تركنا. و أخذ أبو نواس هذا المعنى بعينه من بشار فقال فيه:

تركتني الوشاة نصب المسرّي *** ن و أحدوثة بكلّ مكان

ما أرى خاليين في السرّ إلاّ *** قلت ما يخلوان إلا لشاني

ص: 155


1- كذا في أ، ء. م. و الإحراض: إدناف الحب، و منه قول العرجي: إني امرؤ لجّ بي حب فأحرضني حتى بليت و حتى شفني السقم و في سائر النسخ: «الأمراض» و هو تحريف.
2- السرار: المسارّة و هي الكلام في خفية.
استنشد هجوه في حماد عجرد و عمرو الظالمي فأنشد:

أخبرني عمّي(1) قال حدّثني سليمان قال قال لي أبو عدنان حدّثني سعيد - جليس كان لأبي زيد - قال:

أتاني أعشى سليم و أبو حنش فقالا لي: انطلق معنا إلى بشّار فتسأله أن ينشدك شيئا من هجائه في حمّاد عجرد أو في عمرو الظالميّ فإنه إن عرفنا لم ينشدنا، فمضيت معهما حتى دخلت على بشّار فاستنشدته فأنشد قصيدة له على الدال فجعل يخرج من واد في الهجاء إلى واد آخر و هما يستمعان و بشّار لا يعرفهما، فلما خرجا قال أحدهما للآخر: أ ما تعجب مما جاء به هذا الأعمى؟ فقال أبو حنش: أمّا أنا فلا أعرّض - و اللّه - والديّ له أبدا؛ و كانا قد جاءا يزورانه، و أحسبهما أرادا أن يتعرّضا لمهاجاته.

مدح واصلا قبل أن يدين بالرجعة:

أخبرني/هاشم بن محمد الخزاعيّ عن الجاحظ قال:

كان بشّار صديقا لأبي حذيفة واصل بن عطاء قبل أن يدين بالرجعة(2) و يكفّر الأمّة، و كان قد مدح واصلا و ذكر خطبته التي خطبها فنزع منها كلّها الراء و كانت على البديهة، و هي أطول من خطبتي خالد بن صفوان و شبيب بن شيبة(3)، فقال:

تكلّفوا(4) القول و الأقوام قد حفلوا *** و حبّروا خطبا ناهيك من خطب

فقام مرتجلا تغلي(5) بداهته *** كمرجل القين لمّا حفّ باللّهب

و جانب الراء لم يشعر به أحد *** قبل التصفّح و الإغراق(6) في الطلب

قال: فلمّا دان بالرجعة زعم أن الناس كلّهم كفروا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فقيل له: و عليّ بن أبي طالب؟ فقال:

و ما شرّ الثلاثة أمّ عمرو *** بصاحبك الذي لا تصبحينا(7)

قال: ما كان الكميت شاعرا:

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال قال لي محمد بن الحجّاج:

/قال بشّار: ما كان الكميت شاعرا؛ فقيل له: و كيف و هو الذي يقول!:

أنصف امرئ من نصف حيّ يسبّني *** لعمري لقد لاقيت خطبا من الخطب

ص: 156


1- كذا في أكثر النسخ، و في ح: «عيسى». و قد وردت الأخبار الثلاثة قبل هذا الخبر برواية عيسى عن سليمان.
2- انظر الحاشية رقم 5 ص 145 من هذا الجزء.
3- كذا في أ، ح، ء: و هو الصواب. و شبيب بن شيبة هو أبو معمر البصريّ أحد الفصحاء البلغاء و الإخباريين. و في باقي النسخ: «شبة».
4- كذا في «البيان و التبيين» للجاحظ، (ج 1 ص 14 طبع مصر) و هو الذي يقتضيه المقام، و في الأصول: «تكلف».
5- كذا في ح و هو الملائم لسياق الكلام. و في باقي النسخ: «تلفى» بالفاء.
6- كذا في ح، و في باقي النسخ: «التفصح» بتقديم الفاء على الصاد و هو تحريف.
7- في أ، ء، ح، ب: «لا تصحبينا» و هو تحريف، و تصبحينا: تسقينا الصبوح، و هو الشراب أوّل النهار. و هذا البيت لعمرو بن كلثوم من معلقته المشهورة التي يقول في مطلعها: ألا هبّي بصحتك فاصبحينا و لا تبقي خمور الأندرينا

هنيئا لكلب أنّ كلبا يسبّني *** و أنّي لم أردد جوابا على كلب

فقال بشّار: لا بلّ(1) شانئك، أ ترى رجلا لو ضرط ثلاثين سنة لم يستحل من ضرطه ضرطة واحدة!

تمثل سفيان بن عيينة بشعر له:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني حجّاج المعلّم قال سمعت سفيان بن عيينة يقول:

عهدي بأصحاب الحديث و هم أحسن الناس أدبا ثم صاروا الآن أسوأ الناس أدبا، و صبرنا عليهم حتى أشبهناهم(2)، فصرنا كما قال الشاعر:

و ما أنا إلا كالزمان إذا صحا *** صحوت و إن ماق(3) الزمان أموق

و بخ من سأله عن منزل ففهمه و لم يفهم:

أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن الحجّاج قال:

كنّا مع بشّار فأتاه رجل فسأله عن منزل رجل ذكره له، فجعل يفهّمه و لا يفهم، فأخذ بيده و قام يقوده(4) إلى منزل الرجل و هو يقول:

أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم *** قد ضلّ من كانت العميان تهديه

حتى صار به إلى منزل الرجل، ثم قال له: هذا هو منزله يا أعمى.

أنشده عطاء الملط شعرا فاستحسنه و أنشده شعرا على رويه:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال:

زعم أبو دعامة أن عطاء الملط(5) أخبره أنه أتى بشّارا فقال له: يا أبا معاذ، أنشدك شعرا حسنا؟ فقال: ما أسرّني بذلك، فأنشده:

أ عاذلتيّ اليوم ويلكما مهلا *** فما جزعا م الآن أبكي و لا جهلا

فلما فرغ منها قال له بشّار: أحسنت(6)، ثم أنشده على رويّها و وزنها:

لقد كاد ما أخفي من الوجد و الهوى *** يكون جوى بين الجوانح أو خبلا

صوت

/

إذا قال مهلا ذو القرابة زادني *** ولوعا بذكراها و وجدا بها مهلا

ص: 157


1- لا بل: لا برأ. و يجوز بلّ بالبناء للمفعول أيضا بمعنى لا سقي و لا مطر.
2- في جميع الأصول: «استهناهم» و ظاهر فيها التحريف.
3- ماق يموق موقا: حمق في غباوة.
4- في جميع الأصول: «يقوّمه». و التصحيح للأستاذ الشيخ الشنقيطي مما كتبه بخطه على نسخته طبع بولاق.
5- في أ، م، ء: «عطاء الملك».
6- في الأصول: «أحسن» بدون تاء الخطاب.

فلا يحسب البيض الأوانس أنّ في *** فؤادي سوى سعدى لغانية فضلا

فأقسم إن كان الهوى غير بالغ *** بي القتل من سعدى لقد جاوز القتلا

فيا صاح خبّرني الذي أنت صانع *** بقاتلتي ظلما و ما طلبت ذحلا(1)

سوى أنّني في الحبّ بيني و بينها *** شددت على أكظام(2) سرّ لها قفلا

- و ذكر أحمد بن المكيّ أنّ لإسحاق في هذه الأبيات ثقيلا أوّل بالوسطى - فاستحسنت القصيدة و قلت: يا أبا معاذ، قد و اللّه أجدت و بالغت، فلو تفضّلت بأن تعيدها! فأعادها على خلاف ما أنشدنيها في المرّة الأولى، فتوهّمت أنه قالها في تلك الساعة.

حاوره أحمد بن خلاد في ميله إلى الإلحاد:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن خلاّد(3) قال حدّثني أبي قال:

كنت أكلّم بشّارا و أردّ عليه سوء مذهبه بميله إلى الإلحاد، فكان يقول: لا أعرف إلا ما عاينته أو عاينت مثله؛ و كان الكلام يطول بيننا، فقال لي: ما أظنّ الأمر يا أبا خالد(4) إلا كما تقول، و أن الذي نحن فيه خذلان، و لذلك أقول:

طبعت على ما فيّ غير مخيّر *** هواي و لو خيّرت كنت المهذّبا

أريد فلا أعطي و أعطى(5) و لم أرد *** و قصّر علمي أن أنال المغيّبا

فأصرف عن قصدي و علمي مقصّر *** و أمسي و ما أعقبت إلا التعجّبا

عاتب بشعر فتى من آل منقر بعث إليه في الأضحية بنعجة عجفاء:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني ابن مهرويه قال حدّثني أحمد بن خلاّد بن المبارك قال حدّثني أبي قال:

كان بالبصرة فتى من بني منقر أمّه عجليّة، و كان يبعث إلى بشّار في كل أضحيّة بأضحيّة من الأضاحي التي كان أهل البصرة يسمّنونها سنة و أكثر للأضاحي ثم تباع الأضحيّة بعشرة دنانير، و يبعث معها بألف درهم؛ قال: فأمر وكيله في بعض السنين أن يجريه على رسمه، فاشترى له نعجة كبيرة غير سمينة و سرق باقي الثمن، و كانت نعجة عبدليّة من نعاج عبد اللّه بن دارم و هو نتاج مرذول، فلما أدخلت عليه قالت له جاريته ربابة: ليست هذه الشاة من الغنم التي كان يبعث بها إليك؛ فقال: أدنيها منّي فأدنتها و لمسها بيده ثم قال: اكتب يا غلام:

/

وهبت لنا يا فتى منقر *** و عجل و أكرمهم أولا

ص: 158


1- الذحل: الثأر.
2- كذا في ء، ح، و أكظام بالظاء: جمع كظم (بالفتح) و هو مخرج النفس. و في باقي النسخ: «أكضام» بالضاد، و هو تحريف.
3- هكذا ورد هذا الاسم في جميع الأصول فيما تقدّم في أخبار بشار و فيما سيأتي من أخباره بعد، و قد ورد في هذا الموضع في جميع الأصول «خالد»، فلعله محرّف عما أثبتناه إذ هو الذي يروي عنه ابن مهرويه في جميع المواضع التي ورد فيها.
4- في ح: «يا أبا مخلد».
5- في ب، س، ح: «فلم أرد» بالفاء.

و أبسطهم راحة في النّدى *** و أرفعهم ذروة في العلا

عجوزا قد أوردها عمرها *** و أسكنها الدهر دار البلى

سلوحا(1) توهّمت أن الرّعاء *** سقوها ليسهلها الحنظلا

و أضرط من أمّ مبتاعها *** إن اقتحمت بكرة حرملا(2)

فلو تأكل الزّبد بالنّرسيان(3) *** و تدّمج(4) المسك و المندلا

لما طيّب اللّه أرواحها *** و لا بلّ من عظمها الأقحلا(5)

وضعت يميني على ظهرها *** فخلت حراقفها(6) جندلا

/و أهوت شمالي لعرقوبها *** فخلت عراقبها مغزلا

و قلّبت أليتها بعد ذا *** فشبّهت عصعصها(7) منجلا

فقلت أبيع فلا مشربا(8) *** أرجّي لديها و لا مأكلا

أم أشوي و أطبخ من لحمها *** و أطيب من ذاك مضغ السّلى(9)

إذا ما أمرّت على مجلس *** من العجب(10) سبّح أو هلّلا

/رأوا آية خلفها سائق *** يحثّ و إن هرولت هرولا

و كنت أمرت بها ضخمة *** بلحم و شحم قد استكملا

و لكنّ روحا عدا طوره *** و ما كنت أحسب أن يفعلا

فعضّ الذي خان في أمرها *** من است أمّه بظرها الأغرلا(11)

و لو لا مكانك قلّدته *** علاطا(12) و أنشقته الخردلا

و لو لا استحائيك خضّبتها *** و علقت في جيدها جلجلا

ص: 159


1- سلوح: وصف من السّلح و هو للطير و البهائم كالتغوّط من الإنسان، و قد يستعمل للإنسان على وجه التشبيه.
2- الحرمل: نبات كالسمسم يعيي آكله.
3- النّرسيان: نوع من أجود التمر، و في المثل: «أطيب من الزّبد بالنّرسيان» يضرب مثلا للأمر يستطاب و يستعذب. و المندل: العود الرّطب.
4- كذا في جميع الأصول، و ادّمج في الشيء مثل اندمج: دخل فيه و استحكم. و لم نجد في كتب اللغة التي بين أيدينا ادّمج متعدّيا بنفسه، فلعلّ ما هنا من قبيل ما جرى فيه النصب على نزع الخافض.
5- كذا في أكثر الأصول. و الأقحل: وصف من قحل الشيء إذا يبس، و في ب، س: «الأنحل».
6- الحراقف: جمع حرقفة، و الحرقفة: رأس الورك.
7- العصعص: عجب الذئب.
8- كذا في أ، م، ء، و في باقي الأصول: «فلا مشتر».
9- السلى: الجلدة التي يكون فيها الولد في بطن أمه.
10- في أ، م، ء: «من العجف».
11- الأغرل: ذو الغرلة أي لم يختن.
12- العلاط (بالكسر): حبل يجعل في عنق البعير وسمة تكون في عرض عنقه.

فجاءتك حتى ترى حالها *** فتعلم أنّي بها مبتلى

سألتك لحما لصبياننا *** فقد زدتني فيهم عيّلا

فخذها و أنت بنا محسن *** و ما زلت بي محسنا مجملا

قال: و بعث بالرقعة إلى الرجل؛ فدعا بوكيله و قال له: ويلك! تعلم أني أفتدي من بشّار بما أعطيه و توقعني في لسانه! اذهب فاشتر أضحيّة، و إن قدرت أن تكون مثل الفيل فافعل، و ابلغ بها ما بلغت و ابعث بها إليه.

شعره في رثاء بنية له:

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ قال حدّثني عمّي قال أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال:

رأيت بشّارا المرعّث يرثي بنيّة له و هو يقول:

يا بنت من لم يك يهوى بنتا *** ما كنت إلا خمسة أو ستّا

حتّى حللت في الحشى و حتّى *** فتّت قلبي من جوى فانفتّا

/لأنت خير من غلام بتّا(1) *** يصبح سكران و يمسي بهتا(2)

مدح نافع بن عقبة بن سلّم بعد موت أبيه:

أخبرني وكيع قال حدّثني أبو أيوب المدينيّ قال:

كان نافع بن عقبة بن سلّم جوادا ممدّحا، و كان بشّار منقطعا إلى أبيه، فلما مات أبوه وفد إليه و قد ولي مكان أبيه، فمدحه بقوله:

و لنافع فضل على أكفائه *** إن الكريم أحقّ بالتفضيل

يا نافع الشّبرات(3) حين تناوحت *** هوج الرياح و أعقبت بوبول

أشبهت عقبة غير ما متشبّه *** و نشأت في حلم و حسن قبول

و وليت فينا أشهرا فكفيتنا *** عنت المريب و سلّة التّضليل(4)

تدعى هلالا في الزمان و نافعا *** و السّلم نعم أبوّة المأمول

فأعطاه مثل ما كان أبوه يعطيه في كلّ سنة إذا وفد عليه.

ص: 160


1- بت: انقطع عن العمل، و منه قولهم: سكران باتّ أي منقطع عن العمل بالسكر، و يقال أيضا: بتّ الرجل يبتّ بتوتا أي هزل فلم يقدر أن يقوم.
2- البهت: الدهش و التحير أو التعب، و استعمال المصدر هنا مكان اسم الفاعل للمبالغة في الوصف.
3- الشبرات: جمع شبرة، و الشبرة (بالكسر): العطية.
4- كذا بالأصول، و للسلة معان كثيرة، فلعل أقربها هنا: إخراج السيوف من أغمادها عند القتال، و يكون المراد بسلة التضليل: ظهور التضليل و انتشاره، و لعلها «سنة التضليل».
أجاز شعرا للمهدي في جارية:

أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني إبراهيم بن عقبة الرفاعيّ قال حدّثني إسحاق/بن إبراهيم التمّار البصريّ قال:

دخل المهديّ إلى بعض حجر الحرم فنظر إلى جارية منهن تغتسل، فلما رأته حصرت(1) و وضعت يدها على فرجها، فأنشأ يقول:

نظرت عيني لحيني

/ثم أرتج عليه، فقال: من بالباب من الشعراء؟ قالوا: بشّار، فأذن له فدخل؛ فقال له: أجز:

نظرت عيني لحيني

فقال بشّار:

نظرت عيني لحيني *** نظرا وافق شيني

سترت لمّا رأتني *** دونه بالراحتين

فضلت منه فضول *** تحت طيّ العكنتين

فقال له المهديّ: قبّحك اللّه ويحك! أ كنت ثالثنا! ثم ما ذا؟ فقال:

فتمنّيت و قلبي *** للهوى في زفرتين

أنّني كنت عليه *** ساعة أو ساعتين

فضحك المهديّ و أمر له بجائزة؛ فقال: يا أمير المؤمنين أقنعت من هذه الصفة بساعة أو ساعتين؟ فقال:

أخرج عنّي قبّحك اللّه! فخرج بالجائزة.

أنشد شعرا على لسان حمار له مات:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا أبو شبل عاصم بن وهب البرجميّ قال حدّثني محمد بن الحجّاج قال:

جاءنا بشّار يوما فقلنا له: ما لك مغتمّا؟ فقال: مات حماري فرأيته في النوم فقلت له: لم متّ؟ أ لم أكن أحسن إليك! فقال:

سيّدي خذ بي أتانا *** عند باب الأصبهاني

تيّمتني ببنان *** و بدل قد شجاني

تيّمتني يوم رحنا *** بثناياها الحسان

و بغنج و دلال *** سلّ جسمي و براني

ص: 161


1- حصرت: استحت، و في حديث زواج فاطمة «فلما رأت عليا جالسا إلى جنب النبي حصرت و بكت» أي استحت و انقطعت كأن الأمر ضاق بها.

/

و لها خدّ أسيل *** مثل خدّ الشيفران(1)

فلذا متّ و لو عش *** ت إذا طال هواني

فقلت له: ما الشيفران؟ قال: ما يدريني! هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته فاسأله.

رأيه فيما يكون عليه المجلس:

أخبرني الحسن قال حدّثني محمد بن القاسم قال حدّثني علي بن إياس قال حدّثني السّريّ بن الصبّاح قال:

شهد بشّار مجلسا فقال: لا تصيّروا مجلسنا هذا شعرا كلّه و لا حديثا كلّه و لا غناء كلّه، فإن العيش فرص، و لكن غنّوا و تحدّثوا و تناشدوا و تعالوا نتناهب العيش تناهبا.

وصفه غلام بذرب اللسان وسعة الشدق:

أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن ابن عائشة قال:

جاء بشّار يوما إلى أبي و أنا على الباب، فقال لي: من أنت يا غلام؟ فقلت: من ساكني الدار؛ قال: فكلّمني و اللّه بلسان ذرب و شدق هريت(2).

أبطأ سهيل القرشي فيما كان يهديه له من تمر فكتب إليه يتنجزه:

أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن أبي حاتم قال:

كان سهيل بن عمر(3) القرشيّ يبعث إلى بشّار في كلّ سنة بقواصر(4) تمر، ثم أبطأ عليه سنة؛ فكتب إليه بشّار:

تمركم يا سهيل درّ و هل يط *** مع في الدرّ من يدي متعتّي(5)

فاحبني يا سهيل من ذلك التم *** ر نواة تكون قرطا لبنتي

/فبعث إليه بالتمر و أضعفه له، و كتب إليه يستعفيه من الزيادة في هذا الشعر.

سأله بعض أهل الكوفة ممن كانوا على مذهبه أن ينشدهم شعرا ثم عابثوه:

و نسخت من كتاب هارون بن عليّ: عن عافية بن شبيب عن الحسن بن صفوان قال:

جلس إلى بشّار أصدقاء من أهل الكوفة كانوا على مثل مذهبه، فسألوه أن ينشدهم شيئا مما أحدثه، فأنشدهم قوله:

أنّى دعاه الشّوق فارتاحا *** من بعد ما أصبح جحجاحا(6)

ص: 162


1- في أ، ء: «الشيغران» بالغين.
2- كذا في ح، و شدق هريت: واسع. و في باقي الأصول «هرت».
3- في م، أ، ء: «عمرو».
4- القواصر: جمع قوصرة (بتخفيف الراء) و قوصرة (بتشديدها) و هي وعاء من قصب يرفع فيه التمر من البواريّ.
5- متعت: مستكبر متجاوز الحد.
6- الجحجاح: السيد المسارع في المكارم.

حتّى أتى على قوله:

في حلّتي جسم فتى ناحل *** لو هبّت الرّيح به طاحا(1)

فقالوا: يا ابن الزانية، أ تقول هذا و أنت كأنّك فيل عرضك أكثر(2) من طولك! فقال: قوموا عنّي يا بني الزّناء؛ فإنّي مشغول القلب، لست أنشط اليوم لمشاتمتكم.

عشق امرأة و ألح عليها فشكته إلى زوجها:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن عافية بن شبيب قال:

كان لبشّار مجلس يجلس فيه بالعشيّ يقال له البردان، فدخل إليه نسوة في مجلسه هذا فسمعن شعره، فعشق امرأة منهنّ، و قال لغلامه: عرّفها محبّتي لها، و اتبعها إذا انصرفت إلى منزلها؛ ففعل الغلام و أخبرها بما أمره فلم تجبه إلى ما أحبّ، فتبعها إلى منزلها حتّى عرفه، فكان يتردّد إليها حتّى برمت(3) به، فشكته إلى زوجها، فقال لها:

أجيبيه و عديه إلى أن يجيئك إلى هاهنا ففعلت، و جاء بشّار مع امرأة وجّهت بها إليه، فدخل و زوجها جالس و هو لا يعلم، فجعل يحدّثها ساعة، و قال لها: ما اسمك بأبي أنت؟ فقالت: أمامة؛ فقال:

أمامة قد وصفت لنا بحسن *** و إنّا لا نراك فألمسينا

/قال: فأخذت يده فوضعتها على أير زوجها و قد أنعظ، ففزع و وثب قائما و قال:

عليّ أليّة ما دمت حيّا *** أمسّك طائعا إلا بعود

و لا أهدي لقوم أنت فيهم *** سلام اللّه إلاّ من بعيد

طلبت غنيمة فوضعت كفّي *** على أير أشدّ من الحديد

فخير منك من لا خير فيه *** و خير من زيارتكم قعودي

و قبض زوجها عليه و قال: هممت بأن أفضحك؛ فقال له: كفاني، فديتك، ما فعلت بي، و لست و اللّه عائدا إليها أبدا، فحسبك ما مضى، و تركه و انصرف(4). و قد روي مثل هذه الحكاية عن الأصمعيّ في قصّة بشّار هذه.

و هذا الخبر بعينه يحكى بإسناد أقوى من هذا الإسناد و أوضح عن أبي العبّاس الأعمى السائب بن فرّوخ، و قد ذكرته في أخبار أبي العباس بإسناده.

رثاؤه أصدقاءه:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ: قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني حمدان الآبنوسيّ قال حدّثنا أبو نواس قال:

كان لبشّار خمسة ندماء فمات منهم أربعة و بقي واحد يقال له البراء، فركب في زورق يريد عبور دجلة

ص: 163


1- طاح: ذهب و هلك.
2- كذا في ح، و في باقي الأصول: «أثقل».
3- برمت به: سئمته و ضاقت به.
4- كذا في ح، و في باقي الأصول: «و تركه فانصرف».

العوراء(1) فغرق، و كان المهديّ قد نهى بشّارا عن ذكر النساء و العشق، فكان بشار يقول: ما خير في الدنيا بعد الأصدقاء؛ ثم رثى أصدقاءه بقوله:

/

يا ابن موسى ما ذا يقول الإمام *** في فتاة بالقلب منها أوام

بتّ من حبّها أوقّر بالكأ *** س و يهفو على فؤادي الهيام(2)

/ويحها كاعبا تدلّ بجهم *** كعثبيّ(3) كأنّه حمّام

لم يكن بينها و بيني إلاّ *** كتب العاشقين و الأحلام

يا ابن موسى اسقني ودع عنك سلمى *** إنّ سلمى حمى و فيّ احتشام

ربّ كأس كالسّلسبيل تعلّل *** ت بها و العيون عنّي نيام

حبست للشّراة في بيت رأس(4)*** عتّقت عانسا عليها الختام

نفحت نفحة فهزّت نديمي *** بنسيم و انشقّ عنها الزّكام

و كأنّ المعلول منها إذا را *** ح شج في لسانه برسام(5)

صدمته الشّمول حتّى بعيني *** ه انكسار و في المفاصل خام(6)

و هو باقي الأطراف حيّت(7) به الكأ *** س و ماتت أوصاله و الكلام

و فتى يشرب المدامة بالما *** ل و يمشي(8) يروم ما لا يرام

أنفدت كأسه الدنانير حتّى *** ذهب العين و استمرّ السّوام(9)

تركته الصّهباء يرنو بعين *** نام إنسانها و ليست تنام

/جنّ من شربة تعلّ بأخرى *** و بكى حين سار فيه المدام

كان لي صاحبا فأودى به الدّه *** ر و فارقته عليه السّلام

بقي النّاس بعد هلك نداما *** ي وقوعا لم يشعروا ما الكلام(10)

ص: 164


1- دجلة العوراء: دجلة البصرة.
2- الهيام: الجنون من العشق.
3- الكعثب: الركب (الفرج) الضخم الناتئ، و الجهم: الغليظ.
4- بيت رأس: اسم لقريتين، في كل واحدة منهما كروم كثيرة تنسب إليهما الخمر، إحداهما ببيت المقدس، و الأخرى من نواحي حلب.
5- البرسام: علة يهذى فيها، و هو ورم حاد يعرض للحجاب الحاجز ثم يتصل بالدماغ، فارسيّ معرب مركب من «بر» و هو الصدر و «سام» و هو الموت، و يقال لهذه العلة الموم، و لعله يريد بالبرسام هنا أثره و هو الهذيان.
6- كذا وردت هذه الكلمة في جميع الأصول و لها معان في كتب اللغة لا تتفق و السياق إلا أن يكون قد أراد الكناية عن ارتخاء المفاصل فجعل ما بها من العظام لتثنّيها و تكسرها كأنها خام أي طاقات زرع غضة رطبة.
7- حيث بالإدغام لغة في حيي كرضى.
8- كذا في أكثر الأصول. و في ح: «و يمسي».
9- العين: الذهب. و استمر: ذهب. و السوام: الإبل الراعية، و المراد بها هنا المال الراعي كالسائمة.
10- في ح، ء و إحدى روايتي أ، م: «ما الكرام».

كجزور(1)

الأيسار لا كبد في *** ها لباغ و لا عليها سنام

يا ابن موسى فقد الحبيب العي *** ن قذاة و في الفؤاد سقام

كيف يصفو لي النعيم وحيدا *** و الأخلاّء في المقابر هام(2)

نفستهم(3) عليّ أم المنايا *** فأنامتهم بعنف فناموا

لا يغيض انسجام عيني عنهم *** إنّما غاية الحزين السّجام(4)

وفد على عمر بن هبيرة فمدحه:
اشارة

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرياشيّ عن الأصمعيّ:

أن بشّارا وفد إلى عمر بن هبيرة و قد مدحه بقوله:

يخاف المنايا أن ترحّلت صاحبي *** كأنّ المنايا في المقام تناسبه

فقلت له إنّ العراق مقامه *** وخيم إذا هبّت عليك جنائبه

لألقى بني عيلان إنّ فعالهم(5) *** تريد على كلّ الفعال مراتبه

أولاك الألى شقّوا العمى بسيوفهم *** عن العين حتّى أبصر الحقّ طالبه

و جيش كجنح الليل يزحف بالحصا *** و بالشوك و الخطّيّ حمرا ثعالبه(6)

/غدونا له و الشّمس في خدر أمّها *** تطالعنا و الطّلّ(7) لم يجر ذائبه

بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه *** و تدرك من نجّى الفرار مثالبه

/كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا *** و أسيافنا ليل تهاوى(8) كواكبه

بعثنا لهم موت الفجاءة إنّنا *** بنو الموت خفّاق علينا سبائبه(9)

فراحوا فريق في الإسار و مثله *** قتيل و مثل لاذ بالبحر هاربه

إذا الملك الجبّار صعّر خدّه(10) *** مشينا إليه بالسّيوف نعاتبه

ص: 165


1- جزور الأيسار: الناقة التي تنحر للمقامرة عليها.
2- هام: أموات، يقال: أصبح فلان هامة أي مات، و هذا هامة اليوم أو غد أي أنه مشف على الموت.
3- نفستهم: حسدتهم عليّ.
4- السجام (بالكسر): سيلان الدمع.
5- الفعال (بالفتح): الجود و الكرم.
6- كذا في «معاهد التنصيص» ص 191 طبع بولاق. و الثعالب: جمع ثعلب، و هو طرف الريح الداخل في السنان، و في الأصول: «تغالبه» و هو تحريف.
7- كذا في «معاهد التنصيص» (طبع بولاق ص 191) و في الأصول: «و الظل» بالظاء المعجمة و هو تحريف.
8- كذا في «معاهد التنصيص» و أصله تتهاوى أي يتساقط بعضها في أثر بعض، و في الأصول «تتهادى» بالدال و هو تحريف.
9- السبائب: جمع سبيبة و هي شقة رقيقة من الكتان، و المراد بها هنا الرايات.
10- صعر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونا بهم و كبرا.

فوصله بعشرة آلاف درهم، فكانت أوّل عطيّة سنيّة أعطيها بشّار و رفعت من ذكره، و هذه القصيدة هي التي يقول فيها:

صوت

إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا *** صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فعش واحدا أوصل أخاك فإنه *** مقارف(1) ذنب مرّة و مجانبه

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى *** ظمئت و أيّ النّاس تصفو مشاربه

الغناء في هذه الأبيات لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل بالبنصر في مجراها.

شعره في العشق:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال ذكر أبو أيّوب المدينيّ عن الأصمعيّ قال:

كان لبشّار مجلس يجلس فيه يقال له البردان، و كان النساء يحضرنه فيه، فبينما هو ذات يوم في مجلسه إذ سمع كلام امرأة في المجلس فعشقها، فدعا غلامه فقال: /إذا تكلّمت المرأة عرّفتك فاعرفها، فإذا انصرفت من المجلس فاتبعها و كلّمها و أعلمها أنّى لها محبّ؛ و قال فيها:

يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة *** و الأذن تعشق قبل العين أحيانا

قالوا: بمن لا ترى تهذي! فقلت لهم *** الأذن كالعين توفي(2) القلب ما كانا

هل من دواء لمشغوف بجارية *** يلقى بلقيانها روحا(3) و ريحانا

و قال في مثل ذلك:

قالت عقيل بن كعب إذ تعلّقها *** قلبي فأضحى به من حبّها أثر

أنّى و لم ترها تهذي! فقلت لهم *** إنّ الفؤاد يرى ما لا يرى البصر

أصبحت كالحائم الحيران مجتنبا *** لم يقض وردا و لا يرجى له صدر

قال يحيى بن عليّ و أنشدني أصحاب أحمد بن إبراهيم عنه لبشّار في هذا المعنى و كان يستحسنه:

يزهّدني في حبّ عبدة معشر *** قلوبهم فيها مخالفة قلبي

فقلت دعوا قلبي و ما اختار و ارتضى *** فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحبّ

فما تبصر العينان في موضع الهوى *** و لا تسمع الأذنان إلاّ من القلب

و ما الحسن إلاّ كلّ حسن دعا الصّبا *** و ألّف بين العشق و العاشق الصّبّ

قال أبو أحمد: و قال في مثل ذلك:

ص: 166


1- مقارف: مخالط.
2- توفي: تبلغ.
3- الرّوح (بالفتح): نسيم الريح و الراحة و السرور.

يا قلب ما لي أراك لا تقر(1) *** إيّاك أعني و عندك الخبر

أذعت بعد الألى مضوا حرقا *** أم ضاع ما استودعوك إذ بكروا

/قال أبو أحمد: و قال في مثل ذلك:

إنّ سليمى و اللّه يكلؤها *** كالسّكر تزداده على السّكر

بلّغت عنها شكلا(2) فأعجبني *** و السّمع بكفيك غيبة البصر

أنشد المهديّ شعرا فلم يعطه شيئا فقال شعرا مداره الحكمة:

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال حدّثني أبي قال:

زعم أبو العالية أنّ بشّارا قدم على المهديّ، فلمّا استأذن عليه قال له الربيع: قد أذن لك و أمرك ألاّ تنشد شيئا من الغزل و التشبيب فأدخل على ذلك، فأنشده قوله:

يا منظرا حسنا رأيته *** من وجه جارية فديته

بعثت إليّ تسومني *** برد الشّباب و قد طويته

و اللّه ربّ محمّد *** ما إن غدرت و لا نويته

أمسكت عنك و ربّما *** عرض البلاء و ما ابتغيته

إنّ الخليفة قد أبى *** و إذا أبى شيئا أبيته

و مخضّب رخص البنا *** ن بكى عليّ و ما بكيته

و يشوقني بيت الحبي *** ب إذا ادّكرت و أين بيته

قام الخليفة دونه *** فصبرت عنه و ما قليته

و نهاني الملك الهما *** م عن النّسيب(3) و ما عصيته

لا بل وفيت فلم أضع *** عهدا و لا رأيا رأيته

و أنا المطلّ على العدا *** و إذا غلا علق(4) شريته

أصفي(5) الخليل إذا دنا *** و إذا نأى عنّي نأيته

/ثم أنشده ما مدحه به بلا تشبيب، فحرمه و لم يعطه شيئا؛ فقيل له: إنّه لم يستحسن شعرك؛ فقال: و اللّه لقد مدحته بشعر لو مدح به الدهر لم يخش صرفه على أحد، و لكنّه كذّب أملي لأنّي كذبت في قولي. ثم قال في ذلك:

ص: 167


1- لا تقر: لا ترزن و لا تستقر، من الوقار أي الرزانة.
2- الشكل: غنج المرأة و دلالها.
3- كذا في أ، م. و في باقي الأصول: «النساء».
4- كذا في أكثر الأصول، و العلق: النفيس من كل شيء، و في أ «شيء» و قد تقدّم في صفحة 212 من هذا الجزء: و إذا غلا الحمد اشتريته
5- أصفى الخليل: أي أصفيه الودّ، يقال: أصفيت فلانا الود أي أخلصته له.

خليليّ إنّ العسر سوف يفيق *** و إنّ يسارا في غد لخليق

و ما كنت إلا كالزّمان إذا صحا *** صحوت و إن ماق(1) الزّمان أموق

أ أدماء(2) لا أستطيع في قلّة الثّرى *** خزوزا(3) و وشيا و القليل محيق(4)

خذي من يدي ما قلّ إنّ زماننا *** شموس(5) و معروف الرجال رقيق(6)

لقد كنت لا أرضى بأدنى معيشة *** و لا يشتكي بخلا عليّ رفيق

خليليّ إنّ المال ليس بنافع *** إذا لم ينل منه أخ و صديق

و كنت إذا ضاقت عليّ محلّة *** تيمّمت أخرى ما عليّ تضيق

و ما خاب بين اللّه و الناس عامل *** له في التّقى أو في المحامد سوق

و لا ضاق فضل اللّه عن متعفّف *** و لكنّ أخلاق الرجال تضيق

أنشد المهديّ شعرا في النسيب فتهدده إن عاد إلى مثله:

أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثني عمر بن شبّة قال:

بلغ المهديّ قول بشّار:

/

قاس الهموم تنل بها نجحا *** و الليل إنّ وراءه صبحا

/لا يؤيسنّك من مخبّأة *** قول تغلّظه و إن جرحا

عسر النّساء إلي مياسرة *** و الصّعب يمكن بعد ما جمحا

فلمّا قدم عليه استنشده هذا الشعر فأنشده إياه، و كان المهديّ غيورا، فغضب و قال: تلك أمّك يا عاضّ كذا من أمّه(7)! أ تحضّ الناس على الفجور و تقذف المحصنات المخبّآت! و اللّه لئن قلت بعد هذا بيتا واحدا في نسيب لآتينّ على روحك؛ فقال بشار في ذلك:

و اللّه لو لا رضا الخليفة ما *** أعطيت ضيما عليّ في شجن

و ربّما خير لابن آدم في ال *** كره و شقّ الهوى على البدن

فاشرب على ابنة الزّمان فما *** تلقى زمانا صفا من الأبن(8)

ص: 168


1- ماق: حمق.
2- الأدماء: - لغة - الظبية التي أشرب لونها بياضا، و من معانيها أيضا السمراء مؤنث آدم، و هي هنا علم، كلمياء و عفراء.
3- الخزوز: جمع خز و هو نوعان: أحدهما ثياب تنسج من صوف و حرير، و ثانيهما ثياب تنسج من الحرير وحده، و الوشى: نوع من الثياب الموشية أي المنقوشة التي خلط فيه لون بلون.
4- محيق: لا خير فيه و هو فعيل من «محقه اللّه» أي أذهب خيره و بركته.
5- شموس: متنكر، و منه فرس شموس: لا يمكن أحدا من ظهره، و رجل شموس: عسر في عداوته شديد الخلاف على من عانده.
6- كذا في ح، و في باقي الأصول «رفيق» بالفاء و هو تحريف.
7- يريد «يا عاض بظر أمه» و البظر: هنة تقطعها الخافضة من فرج المرأة عند الختان، و في حديث الحديبية «امصص ببظر اللات».
8- الأبن: جمع ابنة و هي العداوة و الحقد، و المراد هنا الكدر.

اللّه يعطيك من فواضله *** و المرء يغضي عينا على الكمن(1)

قد عشت بين الرّيحان و الراح و ال *** مزهر(2) في ظلّ مجلس حسن

و قد ملأت البلاد ما بين فغ *** فور(3) إلى القيروان فاليمن

قال عمر بن شبّة: فغفور: ملك الصين.

شعرا تصلّي له العواتق(4) و ال *** ثّيب(5) صلاة الغواة للوثن

/ثم نهاني المهديّ فانصرفت *** نفسي صنيع الموفّق اللّقن(6)

فالحمد للّه لا شريك له *** ليس بباق شيء على الزّمن

ثم أنشده قصيدته التي أوّلها:

تجاللت عن فهر و عن جارتي فهر

و وصف بها تركه التشبيب، و مدحه فقال:

تسلّى عن الأحباب صرّام خلّة *** و وصّال أخرى ما يقيم على أمر

و ركّاض أفراس الصّبابة و الهوى *** جرت حججا ثم استقرّت فما تجري

فأصبحن ما يركبن إلاّ إلى الوغى *** و أصبحت لا يزرى عليّ و لا أزري

فهذا و إنّي قد شرعت(7) مع التّقى *** و ماتت همومي الطارقات فما تسري

ثم قال يصف السفينة:

و عذراء لا تجري بلحم و لا دم *** قليلة شكوى الأين(8) ملجمة الدّبر

إذا ظعنت(9) فيها الفلول(10) تشخّصت *** بفرسانها لا في وعوث(11) و لا وعر

ص: 169


1- الكمن: جمع كمنة و هي جرب و حمرة تبقى في العين من رمد يساو علاجه، و قيل: ورم في الأجفان، و قيل: قرح في المآقي.
2- في ح: «المزمر» و لم نجد في كتب اللغة التي بين أيدينا «مزمر» و الوارد «مزمار»، و في باقي الأصول: «و الراح و الزهر» و هو غير مستقيم الوزن، و الظاهر أن كلتا الكلمتين «المزمر»، «و الزهر» محرّفة عن «المزهر» و هو العود يضرب به أو الدف الكبير ينقر عليه.
3- «فغفور» (وزان عصفور): لقب كل من ملك الصين، كالنجاشي للحبشة، و قيصر للروم، و خاقان للترك، و كسرى للفرس؛ و جاء في أقرب الموارد «و الفغفوريّ: الخزف الجيد يؤتى به من الصين نسبة إلى فغفور و هي بلاد الصين»، و لعلها المرادة في هذا الشعر. و في الأصول: «يغبور» و لعلها تحريف.
4- العواتق جمع عاتق و هي الجارية أول ما أدركت.
5- يريد بقوله: «و الثيب» الثيبات جمع ثيب و هي نقيض البكر؛ و هذا الجمع غير موجود في كتب اللغة و لا يكون كذلك إلا على توهم أن مفرده ثيباه، و لعله مما يقع في الشعر ضرورة، قال ابن الرومي: الآن حين طلعت كل ثنية و وطئت أبكار الكلام و ثيبه
6- اللقن: سريع الفهم.
7- شرعت مع التقي: أظهرت الحق و قمعت الباطل باصطحابي للتقي.
8- الأين: الإعياء.
9- كذا في «مختارات البارودي» (ج 4 ص 1) و في جميع الأصول: «طعنت» بالطاء المهملة.
10- الفلول: الجماعات.
11- وعوث: جمع وعث و هو المكان السهل اللين.

و إن قصدت زلّت على متنصّب *** ذليل القوى لا شيء يفري كما تفري

تلاعب تيّار البحور و ربّما *** رأيت نفوس القوم من جريها تجري

قال: و كان قال: «نينان البحور» فعابه بذلك سيبويه(1) فجعله «تيّار البحور».

/

إلى ملك من هاشم في نبوّة *** و من حمير في الملك في العدد الدّثر(2)

من المشترين الحمد تندى من النّدى *** يداه و يندي عارضاه من العطر

/فألزمت حبلي حبل من لا تغبّه *** عفاة الندى من حيث يدري و لا يدري

بنى لك عبد اللّه بيت خلافة *** نزلت بها بين الفراقد و النّسر

و عندك عهد من وصاة(3) محمّد *** فرعت(4) به الأملاك من ولد النّضر

هجا المهدي بعد أن مدحه فلما بلغه ذلك أمر بقتله:

فلم يحظ منه أيضا بشيء، فهجاه فقال في قصيدته:

خليفة يزني بعمّاته *** يلعب بالدّبّوق(5) و الصّولجان

أبدلنا اللّه به غيره *** و دسّ موسى في حر الخيزران(6)

و أنشدها في حلقة يونس النّحويّ، فسعي به إلى يعقوب بن داود، و كان بشّار قد هجاه فقال:

بني أميّة هبّوا طال نومكم *** إنّ الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا *** خليفة اللّه بين الزّقّ و العود

فدخل يعقوب على المهديّ فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّ هذا الأعمى الملحد الزنديق قد هجاك؛ فقال: بأيّ شيء؟ فقال: بما لا ينطق به لساني و لا يتوهّمه فكري؛ قال له: بحياتي إلاّ أنشدتني! فقال: و اللّه لو خيّرتني بين إنشادي إياه و بين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي؛ فحلف عليه المهديّ بالأيمان التي لا فسحة فيها أن يخبره؛ فقال: أمّا لفظا فلا، و لكنّي أكتب ذلك، فكتبه و دفعه إليه؛ فكاد/ينشقّ غيظا، و عمد على الانحدار إلى البصرة للنّظر في أمرها، و ما وكده(7) غير بشّار، فانحدر، فلما بلغ إلى البطيحة(8) سمع أذانا في وقت ضحى النّهار،

ص: 170


1- جمع نون على نينان أثبته صاحب «القاموس» و صاحب «اللسان» و استشهد له بحديث عليّ رضي اللّه عنه: «يعلم اختلاف النينان في البحار الغامرات»، و حكى السيد المرتضى في «شرح القاموس» تخطئة سيبويه لبشار، ثم قال: و استعمله المتنبي و غلطوه أيضا.
2- الدثر: الكثير من كل شيء.
3- الوصاة: الوصية.
4- فرعت: علوت بالشرف، يقال: فرع فلان القوم أي علاهم بالشرف أو الجمال.
5- الدبوق: لعبة يلعب بها الصبيان ذكرها صاحب «القاموس» و صاحب «اللسان» في مادة «دبق» و قالا: هي لعبة معروفة، و لم يبيناها. قال صاحب السعادة أحمد تيمور باشا فيما كتبه في المجلة السلفية المجلد الثاني ص 94 عن لعب العرب في الكلام على هذه اللعبة بعد أن استشهد بهذا الشعر: «و لا ندري هل الصولجان من لوازمه ليكون شيئا كالكرة و نحوها أم هما لعبتان قرن بينهما في شعره».
6- الخيزران: جارية من جواري المهديّ و هي أم ولديه موسى و هارون.
7- كذا في ح. و وكده: قصده، و في باقي الأصول «وكزه» بالزاي المعجمة.
8- البطيحة: أرض واسعة بين واسط و البصرة.

فقال: انظروا ما هذا الأذان! فإذا بشّار يؤذّن سكران؛ فقال له: يا زنديق يا عاضّ بظر أمه، عجبت أن يكون هذا غيرك، أ تلهو بالأذان في غير وقت صلاة و أنت سكران! ثم دعا بابن نهيك فأمره بضربه بالسّوط فضربه بين يديه على صدر الحرّاقة(1) سبعين سوطا أتلفه فيها، فكان إذا أوجعه السوط يقول: حسّ - و هي كلمة تقولها العرب للشيء إذا أوجع - فقال له بعضهم: انظر إلى زندقته يا أمير المؤمنين، يقول: حسّ، و لا يقول: باسم اللّه؛ فقال: ويلك! أ طعام هو فأسمّي اللّه عليه! فقال له الآخر: أ فلا قلت: الحمد للّه؛ قال: أو نعمة هي حتّى أحمد اللّه عليها! فلما ضربه سبعين سوطا بان الموت فيه، فألقي في سفينة حتّى مات ثم رمي به في البطيحة، فجاء بعض أهله فحملوه إلى البصرة فدفن بها.

أخبرني عمّي قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال حدّثني خالد بن يزيد بن وهب بن جرير عن أبيه قال:

لما ولي صالح بن داود أخو يعقوب بن داود وزير المهديّ البصرة، قال بشّار يهجوه:

هم حملوا فوق المنابر صالحا *** أخاك فضجّت من أخيك المنابر

فبلغ ذلك يعقوب فدخل على المهديّ فقال: يا أمير المؤمنين، أبلغ من قدر هذا الأعمى المشرك أن يهجو أمير المؤمنين! قال: ويحك! و ما قال؟ قال: يعفيني/أمير المؤمنين من إنشاده، ثم ذكر باقي الخبر مثل الذي تقدّمه. فقال خالد بن يزيد بن وهب في خبره: و خاف يعقوب بن داود أن يقدم على المهديّ فيمدحه و يعفو عنه، فوجّه إليه من استقبله/فضربه بالسّياط حتّى قتله ثم ألقاه في البطيحة في الخرّارة(2).

هجا يعقوب بن داود حين لم يحفل به:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا عليّ بن محمد(3) النّوفليّ عن أبيه و عن جماعة من رواة البصريين، و أخبرنا يحيى بن عليّ عن أحمد بن أبي طاهر عن علي بن محمد، و خبره أتم، قالوا:

خرج بشّار إلى المهديّ، و يعقوب بن داود وزيره، فمدحه و مدح يعقوب، فلم يحفل به يعقوب و لم يعطه شيئا، و مرّ يعقوب ببشّار يريد منزله، فصاح به بشّار:

طال الثّواء على رسوم المنزل

فقال يعقوب:

فإذا تشاء أبا معاذ فارحل

فغضب بشّار و قال يهجوه:

بني أميّة هبّوا طال نومكم *** إنّ الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا *** خليفة اللّه بين الزّقّ و العود

قال النوفليّ: فلما طالت أيام بشّار على باب يعقوب دخل عليه، و كان من عادة بشّار إذا أراد أن ينشد أو

ص: 171


1- الحراقة: واحدة الحراقات و هي سفن بالبصرة فيها مرامي نيران يرمي بها العدوّ.
2- الخرّارة: موضع بالبطيحة، و سيذكر المؤلف ذلك في «ص 248» من هذا الجزء.
3- كذا في ح و هو الموافق لما اتفقت عليه النسخ جميعا في هذا السند حين تكرر الإسناد إليه من راوية آخر. و في باقي النسخ: «حماد».

يتكلّم أن يتفل عن يمينه و شماله و يصفّق بإحدى يديه على الأخرى، ففعل ذلك و أنشد:

يعقوب قد ورد العفاة عشيّة *** متعرّضين لسيبك المنتاب(1)

فسقيتهم و حسبتني كمّونة *** نبتت لزارعها بغير شراب

/مهلا لديك فإنّني ريحانة *** فاشمم بأنفك و اسقها بذناب(2)

طال الثواء على تنظّر حاجة *** شمطت(3) لديك فمن لها بخضاب

تعطي الغزيرة(4) درّها فإذا أبت *** كانت ملامتها على الحلاّب

وفاة بشار:

يقول ليعقوب: أنت من المهديّ بمنزلة الحالب من الناقة الغزيرة التي إذا لم يوصل إلى درّها فليس ذلك من قبلها، إنّما هو من منع الحالب منها، و كذلك الخليفة ليس(5) من قبله لسعة معروفة، إنما هو من قبل السبب إليه.

قال: فلم يعطف ذلك يعقوب عليه و حرمه، فانصرف إلى البصرة مغضبا. فلمّا قدم المهديّ البصرة أعطى عطايا كثيرة و وصل الشعراء، و ذلك كلّه على يدي يعقوب، فلم يعط بشّارا شيئا من ذلك، فجاء بشّار إلى حلقة يونس النّحويّ فقال: هل هاهنا أحد يحتشم(6)؟ قالوا له: لا؛ فأنشأ بيتا يهجو فيه المهديّ، فسعى به أهل الحلقة إلى يعقوب؛ فقال يونس(7) للمهديّ: إنّ بشارا زنديق و قامت عليه البيّنة عندي بذلك، و قد هجا أمير المؤمنين، فأمر ابن نهيك بأخذه، و أزف خروجهم فخرجوا و أخرجه ابن نهيك معه في زورق. فلما كانوا بالبطيحة ذكره المهديّ فأرسل إلى ابن نهيك يأمره أن يضرب بشّارا ضرب التلف و يلقيه بالبطيحة، فأمر به فأقيم على صدر السفينة و أمر الجلاّدين أن يضربوه ضربا يتلفون فيه نفسه ففعلوا ذلك، فجعل يسترجع(8)؛ فقال بعض من حضر: أ ما تراه/لا يحمد اللّه! فقال بشّار: أ نعمة هي فأحمد اللّه عليها! إنّما هي بليّة أسترجع عليها، فضرب سبعين سوطا مات منها و ألقي في البطيحة.

قال يحيى بن عليّ فحكى قعنب بن محرز الباهليّ قال حدّثني محمد بن الحجّاج قال:

لما ضرب بشار بالسّياط و طرح في السفينة قال: ليت عين أبي الشّمقمق رأتني حين يقول:

/

إنّ بشّار بن برد *** تيس أعمى في سفينه(9)

ص: 172


1- المنتاب: الذي يأتي مرة بعد أخرى.
2- ذناب: جمع ذنوب، و الذنوب: الدلو الملأى.
3- شمطت: تأخر قضاؤها و طال عليها الأمد، و أصل الشمط أن يخالط سواد الرأس بياض الشيب.
4- الغزيرة: الكثيرة الدرّ.
5- مرجع ضمير «ليس» المنع.
6- يحتشم: يحذر و يهاب محضره، و قد أنكر صاحب «اللسان» مجيء «احتشم» متعديا فقال: و لا يقال: احتشمته، ثم نقل عن الليث في قول القائل: «و لم يحتشم ذلك» أنه من قبيل حذف من و إيصال الفعل إلى المجرور. و جاء في «أساس البلاغة»: «أنا أحتشمك و أحتشم منك: أي أستحي».
7- تقدم في (ص 242) من هذا الجزء أن الذي أخبر المهدي هو يعقوب فلعل «يونس» هنا سبق قلم من الناسخ.
8- يسترجع: يقول: إنا للّه و إنا إليه راجعون.
9- كان العرب إذا هجوا إنسانا بالغباوة أو بالنتن قالوا: إنما هو تيس، فإذا أرادوا الغاية في الغباوة قالوا: ما هو إلا تيس في سفينة. (انظر الحيوان للجاحظ طبع مطبعة التقدم ج 5 ص 136).

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و حبيب بن نصر المهلّبي قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:

أمر المهديّ عبد الجبار صاحب الزنادقة فضرب بشّارا، فما بقي بالبصرة شريف إلا بعث إليه بالفرش و الكسوة و الهدايا و مات بالبطيحة. قال: و كانت وفاته و قد ناهز ستّين سنة.

قال عمر بن شبّة حدّثني سالم بن عليّ، قال: كنّا عند يونس فنعى بشّارا إلينا ناع، فأنكر يونس ذلك و قال: لم يمت؛ فقال الرجل: أنا رأيت قبره، فقال: أنت رأيته؟ قال: نعم، و إلا فعليّ و عليّ، و حلف له حتّى رضي، فقال يونس: «لليدين و للفم»(1).

قال أبو زيد و حدّثني جماعة من أهل البصرة منهم محمّد بن عون بن بشير(2)، و كان يتّهم بمذهب بشّار، فقال:

/لمّا مات بشّار ألقيت جثّته بالبطيحة في موضع يعرف بالحرّارة، فحمله الماء فأخرجه إلى دجلة البصرة فأخذ فأتي به أهله فدفنوه، قال و كان كثيرا ما ينشدني:

سترى حول سريري *** حسّرا(3) يلطمن لطما

يا قتيلا قتلته *** عبدة الحوراء ظلما

قال: و أخرجت جنازته فما تبعها أحد إلاّ أمة له سوداء سنديّة عجماء ما تفصح، رأيتها خلف جنازته تصيح:

وا سيّداه! وا سيّداه!.

شماتة الناس بموته و ما قيل في ذلك من الشعر:

قال أبو زيد و حدّثني سالم بن عليّ(4) قال:

لمّا مات بشّار و نعي إلى أهل البصرة تباشر عامّتهم و هنّأ بعضهم بعضا و حمدوا اللّه و تصدّقوا، لما كانوا منوا(5)به من لسانه.

و قال أبو هشام الباهليّ فيما أخبرنا به يحيى بن عليّ في قتل بشّار:

يا بؤس ميت لم يبكه أحد *** أجل و لم يفتقده مفتقد

لا أمّ أولاده بكته و لم *** يبك عليه لفرقة ولد

و لا ابن أخت بكى و لا ابن أخ *** و لا حميم رقّت له كبد

بل زعموا أنّ أهله فرحا *** لمّا أتاهم نعيّه سجدوا

ص: 173


1- استعمل يونس هاتين الكلمتين في الشماتة بهلاك بشار، و هما في الأصل مثل يقال عند الشماتة بسقوط إنسان، و المراد أسقطه اللّه على يديه و رجليه، و في الحديث أن عمر رضي اللّه عنه أتى بسكران في رمضان فتعثر بذيله فقال عمر: لليدين و للفم، أ ولداننا صيام و أنت مفطر! ثم أمر به فحدّ (انظر «مجمع الأمثال» للميداني ج 2 ص 134 طبع بولاق).
2- في ح: «بشر».
3- حسر: جمع حاسر و هي المكشوفة الوجه أو الذراعين.
4- كذا في أكثر الأصول، و في ح: «سالم بن عبد اللّه».
5- منوا: ابتلوا.

قال: و قال أيضا في ذلك:

قد تبع الأعمى قفا عجرد *** فأصبحا جارين في دار

قالت بقاع الأرض لا مرحبا *** بروح حمّاد و بشّار

/تجاورا بعد تنائيهما *** ما أبغض الجار إلى الجار

صارا جميعا في يدي مالك *** في النّار و الكافر في النار

قال أبو أحمد يحيى بن عليّ و أخبرنا بعض إخواني عن عمر بن محمّد عن أحمد بن خلاّد عن أبيه قال:

مات بشّار سنة ثمان و ستين و مائة و قد بلغ نيّفا و سبعين(1) سنة.

ندم المهديّ على قتله:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال:

لمّا ضرب المهديّ بشّارا بعث إلى منزله من يفتّشه، و كان يتّهم بالزندقة فوجد. في منزله طومار(2) فيه:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ * إني أردت هجاء آل سليمان بن عليّ لبخلهم فذكرت قرابتهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم/فأمسكت عنهم إجلالا له صلّى اللّه عليه و سلّم، على أنّي قد قلت فيهم:

دينار آل سليمان و درهمهم *** كالبابليّين(3) حفّا بالعفاريت

لا يبصران و لا يرجى لقاؤهما *** كما سمعت بهاروت و ماروت(4)

فلما قرأه المهديّ بكى و ندم على قتله، و قال: لا جزى اللّه يعقوب بن داود خيرا، فإنّه لمّا هجاه لفّق عندي شهودا على أنّه زنديق فقتلته ثمّ ندمت حين لا يغني النّدم.

/أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا عمر بن محمّد بن عبد الملك قال حدّثني محمد بن هارون قال:

لمّا نزل المهديّ البصرة كان معه حمدويه صاحب الزّنادقة فدفع إليه بشّارا و قال: اضربه ضرب التلف، فضربه ثلاثة عشر سوطا، فكان كلّما ضربه سوطا قال له: أوجعتني ويلك! فقال: يا زنديق، أ تضرب و لا تقول: باسم اللّه! قال: ويلك! أ ثريد هو فأسمّي(5) [اللّه] عليه! قال: و مات من ذلك الضّرب.

و لبشّار أخبار كثيرة قد ذكرت في عدّة مواضع: منها أخباره مع عبدة فإنّها أفردت في بعض شعره فيها الذي

ص: 174


1- كذا في أكثر الأصول، و في ح: «و تسعين» و مثل هذا ورد في «معاهد التنصيص» ص 137 طبع بولاق.
2- الطومار كالطامور: الصحيفة، قال ابن سيدة: قيل هو دخيل، و أراه عربيا محضا لأن سيبويه قد اعتدّ به في الأبنية فقال: هو ملحق بفسطاط (انظر «لسان العرب» مادة «طمر»).
3- نسبة إلى بابل و هي ناحية منها الكوفة و الحلّة ينسب إليها السحر و الخمر.
4- هاروت و ماروت: ملكان، و قد ورد ذكرهما في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ).
5- زيادة في ح.

غنّى فيه المغنّون، و أخباره مع حمّاد عجرد في تهاجيهما فإنّها أيضا أفردت، و كذلك أخباره مع أبي هاشم الباهليّ فإنّا لم نجمع جميعها في هذا الموضع، إذ كان كلّ صنف منها مستغنيا بنفسه حسبما شرط في تصدير الكتاب.

29 - أخبار يزيد حوراء

ولاؤه، و هو مغن من طبقة ابن جامع و الموصلي:

يزيد حوراء رجل من أهل المدينة ثم من موالي بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، و يكنى أبا خالد، مغنّ محسن كثير الصّناعة، من طبقة ابن جامع و إبراهيم الموصليّ، و كان ممن قدم على المهديّ في خلافته فغنّاه، و كان حسن الصّوت حلو الشمائل.

كان إبراهيم الموصلي يحسده فشاركه في جوار و تعلم إشارته منهن و أبطل عليه ما انفرد به:

و ذكر ابن خرداذبه(1) أنه بلغه أن إبراهيم الموصليّ حسده على شمائله و إشارته في الغناء، فاشترى عدّة جوار و شاركه فيهنّ، و قال له: علّمهن فما رزق اللّه فيهن من ربح فهو بيننا، و أمرهن أن يجعلن وكدهنّ(2) أخذ إشارته(3)ففعلن ذلك، و كان إبراهيم يأخذها عنهن هو و ابنه و يأمرهن بتعليم كلّ من يعرفنه ذلك حتى شهرها في الناس؛ فأبطل عليه ما كان منفردا به من ذلك.

كان صديقا لأبي العتاهية و غنى للمهدي من شعره في عتبة فأكرمه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن موسى قال حدّثني جماعة من موالي الرشيد:

أن يزيد حوراء كان صديقا لأبي العتاهية، فقال أبو العتاهية أبياتا في أمر عتبة يتنجّز فيها المهديّ ما وعد إيّاه من تزويجها، فإذا وجد المهديّ طيّب النفس غنّاه بها، و هي:

و لقد تنسّمت الرياح حاجتي *** فإذا لها من راحتيك نسيم

أشربت نفسي من رجائك ما له *** عنق يخبّ إليك بي و رسيم(4)

/و رميت نحو سماء جودك(5) ناظري *** أرعى مخايل برقه و أشيم

و لربّما استيأست ثم أقول لا، *** إنّ الّذي ضمن النجاح كريم

فصنع فيها لحنا و توخّى لها وقتا وجد المهديّ فيه طيّب النفس فغنّاه بها، فدعا بأبي العتاهية و قال له: أمّا عتبة فلا سبيل إليها لأن مولاتها منعت من ذلك. و لكن هذه/خمسون ألف درهم فاشتر ببعضها خيرا من عتبة، فحملت إليه و انصرف.

ص: 175


1- (انظر الحاشية رقم 5 ص 344 ج 2 «أغاني» طبع دار الكتب المصرية).
2- الوكد: القصد.
3- في ب، س، ح: «إشاراته».
4- العنق و الرسيم: ضربان من ضروب السير.
5- الجود (بفتح الجيم): المطر الغزير، و من الجائز أن تكون بضم الجيم بمعنى الكرم. و في «زهر الآداب»: «صوبك».
كان نظيفا ظريفا حسن الوجه جميل الخصال:

أخبرني عمّي قال حدّثني أحمد بن المرزبان قال حدّثنا شيبة بن هشام عن عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ(1) قال:

كان يزيد حوراء نظيفا ظريفا حسن الوجه شكلا(2)، لم يقدم علينا من الحجاز أنظف و لا أشكل منه، و ما كنت تشاء أن ترى خصلة جميلة فيه لا تراها في أحد منهم إلا رأيتها فيه، و كان يتعصّب لإبراهيم الموصليّ على ابن جامع، فكان إبراهيم يرفع منه و يشيع ذكره بالجميل و ينبّه على مواضع تقدّمه و إحسانه و يبعث بابنه إسحاق إليه يأخذ عنه.

رثاه صديقه أبو مالك حين مات:
اشارة

و كان صديقا لأبي مالك الأعرج التّميميّ لا يكاد أن يفارقه، فمرض مرضا شديدا و احتضر، فاغتمّ عليه الرشيد و بعث بمسرور الخادم يسأل عنه، ثم مات؛ فقال أبو مالك يرثيه:

صوت

لم يمتّع من الشباب يزيد *** صار في التّرب و هو غضّ جديد

خانه دهره و قابله من *** ه بنحس و دابرته(3) السّعود

/حين زفّت دنياه من كل وجه *** و تدانى إليه منه البعيد

فكأن لم يكن يزيد و لم يش *** ج نديما يهزّه التّغريد

و في هذه الأبيات لحسين بن محرز لحن من الثقيل الثاني بالبنصر، من نسخة عمرو بن بانة.

توسط لأبي العتاهية حتى ذكره للمهديّ فكلّم فيه عتبة:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن أبي يوسف قال حدّثني الحسين بن جمهور بن زياد بن طرخان(4) مولى المنصور قال حدّثني أبو محمد عبد الرحمن بن عيينة بن شارية الدّؤليّ قال حدّثني محمد بن ميمون أبو زيد قال حدّثني يزيد حوراء المغنّي قال:

كلّمني أبو العتاهية في أن أكلّم له المهديّ في عتبة، فقلت له: إن الكلام لا يمكنني و لكن قل شعرا أغنّه به، فقال:

صوت

نفسي بشيء من الدنيا معلّقة *** اللّه و القائم المهديّ يكفيها

ص: 176


1- في جميع الأصول: «الربعي» بدون ياء بعد الباء و هو عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الربيع و النسبة إليه ربيعيّ بإثبات الياء، و له ترجمة في الجزء السابع عشر من «الأغاني» طبع بولاق.
2- شكلا: ذا دل و غزل.
3- دابرته: ولته دبرها و لم تقبل عليه.
4- طرخان بفتح الطاء و المحدّثون يضمّونها و يكسرونها، و قد نبه على ذلك صاحب «القاموس» فقال: و لا تضمّ و لا تكسر و إن فعله المحدّثون؛ و هي كلمة خراسانية معناها «الرئيس الشريف» و جمعها «طراخنة».

إني لأيأس منها ثم يطمعني *** فيها احتقارك للدنيا و ما فيها

قال: فعملت فيه لحنا و غنيته به، فقال: ما هذا؟ فأخبرته خبر أبي العتاهية، فقال: ننظر فيما سأل، فأخبرت أبا العتاهية، ثم مضى شهر فجاءني و قال: هل حدث خبر؟ فقلت: لا، قال: فاذكرني للمهديّ، قلت: إن أحببت ذلك فقل شعرا تحرّكه و تذكّره وعده حتى أغنّيه به، فقال:

صوت

ليت شعري ما عندكم ليت شعري *** فلقد أخّر الجواب لأمر

ما جواب أولى بكلّ جميل *** من جواب يردّ من بعد شهر

قال يزيد: فغنّيت به المهديّ فقال: عليّ بعتبة فأحضرت، فقال: إنّ أبا العتاهية كلّمني فيك، فما تقولين، و لك و له عندي ما تحبّان مما لا تبلغه أمانيكما؟ فقالت له: قد علم أمير المؤمنين ما أوجب اللّه عليّ من حقّ مولاتي، و أريد أن أذكر لها هذا، قال: فافعلي؛ قال: و أعلمت أبا/العتاهية، و مضت أيّام فسألني معاودة المهديّ، فقلت: قد عرفت الطريق فقل ما شئت حتى أغنّيه به، فقال:

صوت

أشربت قلبي من رجائك ما له *** عنق يخبّ إليك بي و رسيم

و أملت نحو سماء جودك ناظري *** أرعى مخايل برقها و أشيم

و لربّما استيأست ثم أقول لا *** إنّ الذي وعد النجاح كريم

قال يزيد: فغنّيته المهديّ، فقال: عليّ بعتبة فجاءت، فقال: ما صنعت؟ فقالت: ذكرت ذلك لمولاتي فكرهته و أبته، فليفعل أمير المؤمنين ما يريد، فقال: ما كنت لأفعل شيئا تكرهه، فأعلمت أبا العتاهية بذلك، فقال:

قطّعت منك حبائل الآمال *** و أرحت من حلّ و من ترحال

ما كان أشأم إذ رجاؤك قاتلي(1) *** و بنات وعدك يعتلجن(2) ببالي

و لئن طمعت لربّ برقة خلّب *** مالت بذي(3) طمع و لمعة آل

مغازلته لجارية:

أخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

قال يزيد حوراء: كنت أجلس بالمدينة على أبواب قريش، فكانت تمرّ بي جارية تختلف إلى الزرقاء تتعلّم منها الغناء، فقلت لها يوما: افهمي قولي و ردّي جوابي و كوني عند ظنّي، فقالت: هات ما عندك، فقلت: باللّه ما

ص: 177


1- هكذا في جميع الأصول و «الديوان»، و في كتاب «زهر الآداب»: «قادني».
2- كذا في ح، و يعتلجن ببالي: يقعن و يخطرن، على المجاز من قولهم: اعتلج الموج إذا التطم. و في باقي الأصول: «يعتجلن» و هو تحريف.
3- في كل الأصول: «مالت به طمع»، و هو تحريف و التصويب عن «ديوان أبي العتاهية» و «كتاب زهر الآداب».

اسمك؟ فقالت: ممنّعة؛ فأطرقت طيرة(1) من اسمها مع طمعي فيها، فقلت: بل باذلة أو مبذولة إن شاء اللّه، فاسمعي منّي، فقالت و هي تتبسّم: إن كان عندك شيء فقل، فقلت:

ليهنك(2) منّى أنني لست مفشيا *** هواك إلى غيري و لو متّ من كرب

و لا مانحا خلقا سواك مودّتي *** و لا قائلا ما عشت من حبّكم حسي

قال: فنظرت إليّ طويلا، ثم قالت: أنشدك اللّه، أ عن فرط محبّة أم اهتياج غلمة تكلّمت؟ فقلت: لا و اللّه و لكن عن فرط محبّة، فقالت:

فو اللّه ربّ الناس لا خنتك الهوى *** و لا زلت مخصوص المحبّة من قلبي

فثق بي فإنّي قد وثقت و لا تكن *** على غير ما أظهرت لي يا أخا الحبّ

قال: فو اللّه لكأنما أضرمت في قلبي نارا، فكانت تلقاني في الطريق الذي كانت تسلكه فتحدّثني و أتفرّج(3)بها، ثم اشتراها بعض أولاد الخلفاء، فكانت تكاتبني و تلاطفني دهرا طويلا.

صوت من المائة المختارة

يا ليلة جمعت لنا الأحبابا *** لو شئت دام لنا النعيم و طابا

بتنا نسقاها شمولا قرقفا(4) *** تدع الصحيح بعقله مرتابا

حمراء مثل دم الغزال و تارة *** عند المزاج تخالها زريابا(5)

من كفّ جارية كأنّ بنانها *** من فضّة قد قمّعت(6) عنّابا

/و كأنّ يمناها إذا نقرت بها *** تلقي على الكفّ الشّمال حسابا

عروضه من الكامل. الشعر لعكّاشة العمّيّ، و الغناء لعبد الرحيم الدّفّاف، و لحنه المختار هزج بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.

ص: 178


1- طيرة: شؤما.
2- كذا في الأصول، و قد أنكر صاحب «اللسان» هذا الاستعمال فقال: و العرب تقول ليهنئك الفارس بجزم الهمزة و ليهنيك الفارس بياء ساكنة و لا يجوز «ليهنك» كما تقول العامة؛ و لكن السيد المرتضى ذكر أنه ورد في «صحيح البخاري» (انظر في مادة هنأ).
3- أتفرج بها: أصير بها ذا فرج نحو تأسف أي صار ذا أسف و تأهل أي صار ذا أهل، و لكنا لم نجد في «كتب اللغة» التي بأيدينا لتفرّج معنى سوى تفرج مطاوع فرج في نحو قولهم: فرّج اللّه الكرب فتفرّج و انفرج.
4- الشمول من أسماء الخمر، سميت بذلك لأنها تشمل الناس بريحها، و القرقف من أسمائها أيضا لأنها تقرقف شاربها أي ترعده.
5- الزرياب: الذهب و قيل ماؤه، معرب «زر» أي ذهب و «آب» أي ماء.
6- قمعت عنابا: جعلت له أقماع من عناب، و الأقماع: جمع قمع، و هو الغلاف الذي يكون على رأس التمرة أو البسرة، و العنّاب: شجر له حب كحب الزيتون و أجوده الأحمر الحلو؛ و يقال: قمعت المرأة بنانها بالحناء أي خضبت به أطرافها فصار لها كالأقماع، و أنشد ثعلب على هذا: لطمت ورد خدها ببنان من لجين قمعن بالعقيان

30 - أخبار عكّاشة العمّيّ و نسبه

أصل قومه بني العم مدفوع في العرب:

هو عكّاشة بن عبد الصّمد العمّيّ من أهل البصرة من بني العمّ. و أصل بني العمّ كالمدفوع، يقال: إنهم نزلوا ببني تميم بالبصرة في أيّام عمر بن الخطّاب فأسلموا و غزوا مع المسلمين و حسن بلاؤهم، فقال الناس: أنتم، و إن لم تكونوا من العرب، إخواننا و أهلنا و أنتم الأنصار و الإخوان و بنو العمّ، فلقّبوا بذلك و صاروا في جملة العرب.

هجا كعب بن معدان بني ناجية و شبههم ببني العم:

و قال بعض الشعراء - و هو كعب بن معدان - يهجو بني ناجية و يشبّههم ببني العمّ:

وجدنا آل سامة في قريش *** كمثل العمّ بين بني تميم

و يروى: «في سلفي تميم».

أعانوا الفرزدق فهجاهم جرير:

أخبرني عيسى بن الحسين عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني أبو عبيدة قال:

لما تواقف(1) جرير و الفرزدق بالمربد للهجاء اقتتلت بنو يربوع و بنو مجاشع، فأمدّت بنو العمّ بني مجاشع و جاءوهم و في أيديهم الخشب فطردوا بني يربوع؛ فقال جرير: من هؤلاء؟ قالوا: بنو العمّ، فقال جرير يهجوهم:

ما للفرزدق من عزّ يلوذ به *** إلاّ بني العمّ في أيديهم الخشب

سيروا بني العمّ فالأهواز(2) داركم *** و نهر تيري(3) و لم تعرفكم العرب

/و عكّاشة شاعر مقلّ من شعراء الدولة العباسيّة، ليس ممّن شهر و شاع شعره في أيدي الناس و لا ممّن خدم الخلفاء و مدحهم.

ذكر لصديقه حميد الكاتب حبه لنعيم و شعره فيها:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عليّ بن الحسن عن ابن الأعرابيّ قال حدّثني سعيد بن حميد الكاتب البصريّ قال قال أبي:

كان عكّاشة بن عبد الصّمد العمّيّ صديقا لي و إلفا، و كنّا نتعاشر و لا نكاد نفترق و لا يكتم أحدنا صاحبه شيئا،

ص: 179


1- تواقف: وقف أحدهما للآخر، قال في «اللسان» (مادة وقف): و واقفه مواقفة و وقافا: وقف معه في حرب أو خصومة. و في الأصول: «توافق».
2- الأهواز: سبع كور بين البصرة و فارس، لكل كورة منها اسم و يجمعها الأهواز.
3- نهر تيري (بكسر التاء و ياء ساكنة و راء مفتوحة مقصور): بلد من نواحي الأهواز حفره أردشير الأصغر بن بابك و وهبه «لتيري» من ولد جودرز الوزير فسمى به، و له ذكر في أخبار الفتوح و الخوارج، (انظر «معجم ياقوت» في الكلام على نهر تيري).

فرأيته في بعض أيّامه متغير الهيئة عمّا عهدته مقسّم القلب و الفكر غير آخذ ما كنّا فيه من الفكاهة و المزاح، فسألته عن حاله فكاتمنيها مليّا، ثم أخبرني أنه يهوى جارية لبعض الهشاميّين يقال لها نعيم، و أن مرامها عليه مستصعب لا يراها إلاّ من جناح لدارهم، تشرف عليه في الفيئة(1) بعد الفيئة فتكلّمه كلاما يسيرا ثم تذهب، فعاتبته على ذلك فلم يزدجر و تمادى في أمره، ثم جاءني يوما، فقال: قد وعدتني الزيارة لأنّ شكواي إليها طالت، فقلت له: فهل حقّقت لك الوعد على يوم بعينه؟ قال: لا، إنما سألتها الزيارة فقالت: نعم أفعل، فقلت له: هذا و اللّه أعجب من سائر ما مضى، و أيّ شيء لك في هذا من الفائدة بلا تحصيل وعد! فقال لي: يا أخي، إنّ لي في قولها: «نعم» فرجا كبيرا، فقلت: أنت أقنع الناس؛ ثم جاءني بعد يومين و هو كاسف البال مهموم، فقلت له: ما لك؟ فقال: مضيت إلى نعيم فتنجّزت وعدها، فقالت لي: إن لي صاحبة أستنصحها و أعلم أنها تشفق عليّ شفقة الأخت على أختها و الأمّ على ولدها و قد/نهتني عن ذلك، و قالت لي: إنّ في الرجال غدرا و مكرا، و لا آمن أن تفتضحي ثم لا تحصلي منه على شيء؛ و قد انقطعت عنّي ثم أنشدني لنفسه:

/

علام حبل الصفاء منصرم *** و فيم عنّي الصدود و الصّمم

يا من كنينا عن اسمه زمنا *** نتبع مرضاته و يجترم(2)

قد عيل صبري و أنت لاهية *** عنّي و قلبي عليك يضطرم

من جذّ حبل الوفاء سيّدتي *** منك و من سامني له العدم

فكم أتاني واش يعيبكم *** فقلت اخسأ لأنفك الرّغم

أنت الفدا و الحمى لمن عبت فار *** جع صاغرا راغما لك الندم

صوت

يا ربّ خذ لي من الوشاة إذا *** قاموا و قمنا إليك نختصم

دبّوا إليها يوسوسون لها *** كي يستزلّوا حبيبتي زعموا

هيهات من ذاك ضلّ سعيهم *** ما قلبها المستعار يقتسم

يا حاسدينا موتوا بغيظكم *** حبلي متين بقولها نعم

باللّه لا تشمتي العداة بنا *** كوني كقلبي فلست أتّهم

زارته نعيم و غنته ثم ذهبت فقال شعرا في ذلك:
اشارة

- الغناء في هذه الأبيات لعريب رمل. و قيل: إنه لغيرها - قال: ثم طال ترداده إليها و استصلاحه لها، فلم ألبث أن جاءتني رقعته في يوم خميس يعلمني أنها قد حصلت عنده و يستدعيني فحضرت، و توارت عنّي ساعة و هو يخبرها أنّه لا فرق بيني و بينه و لا يحتشمني في حل البتّة إلى أن خرجت، فاجتمعنا و شربنا و غنّت غناء حسنا إلى وقت العصر ثم انصرفت، و أخذ دواة و رقعة فكتب فيها:

ص: 180


1- الفيئة: الحين، و في بعض الأصول «العينة» و لعلها محرفة عن «الفينة» و هي بمعنى الفيئة.
2- في الأصول: «و نجترم» بالنون و السياق يأباها.

/

سقيا لمجلسنا الذي كنّا به *** يوم الخميس جماعة أترابا

في غرفة مطرت سماوة(1) سقفها *** بحيا النعيم من الكروم شرابا

إذ نحن نسقاها شمولا قرقفا *** تدع الصحيح بعقله مرتابا

حمراء مثل دم الغزال و تارة *** بعد المزاج تخالها زريابا

من كفّ جارية كأنّ بنانها *** من فضّة قد قمّعت عنّابا

تزداد حسنا كأسها من كفّها *** و يطيب منها نشرها أحقابا

و إذا المزاج علا فشجّ جبينها *** نفثت(2) بألسنة المزاج حبابا

و تخال ما جمعت فأحدق سمطه *** بالطّوق ريق حبائب و رضابا

كفت المناصف(3) أن تذبّ أكفّها *** عنها إذا جعلت تفوح ذبابا

و العود متّبع غناء خريدة *** غردا يقول كما تقول صوابا

و كأنّ يمناها إذا نطقت به *** تلقي على يدها الشّمال حسابا

فهناك خفّ(4) بنا النعيم و صار من *** دون الثقيل لنا عليه حجابا

/آليت لا ألحي على طلب الهوى *** متلذّذا حتى أكون ترابا

اشترى نعيم بغداديّ و سافر بها فأسف و قال شعرا:

قال: ثم قدم قادم من أهل بغداد فاشترى نعيم هذه من مولاتها و رحل إلى بغداد، فعظم أسف عكّاشة و حزنه عليها و استهيم بها طول عمره، فاستحالت صورته و طبعه و خلقه إلى أن فرّق الدهر بيننا، فكان أكثر وكده(5) و شغله أن يقول فيها الشعر و ينوح به عليها و يبكي؛ قال حميد بن سعيد فأنشدني أبي له في ذلك:

/

ألا ليت شعري هل يعودنّ ما مضى *** و هل راجع ما مات من صلة الحبل

و هل أجلسن في مثل مجلسنا الذي *** نعمنا به يوم السعادة بالوصل

عشيّة صبّت لذّة الوصل ظيبها *** علينا و أفنان الجنان جنى البذل

و قد دار ساقينا بكأس رويّة *** ترحّل أحزان الكئيب مع العقل

و شجّ شمولا بالمزاج فطيّرت *** كألسنة الحيّات خافت من القتل

فبتنا و عين الكأس سحّ دموعها *** لكلّ فتى يهتزّ للمجد كالنّصل

ص: 181


1- السماوة: السماء و هي كل ما علاك فأظلك.
2- في أكثر النسخ: «نفشت» و في بعضها: «نقشت» و ظاهر أن كليهما محرف عما أثبتناه.
3- المناصف: جمع منصف (بكسر الميم و قد تفتح، و الأنثى منصفة) و هو الخادم.
4- في ح: «حف» بالحاء المهملة.
5- الوكد: الهم و القصد.

و قينتنا كالظبي تسمح بالهوى *** و بثّ تباريح الفؤاد على رسل(1)

إذا ما حكت بالعود رجع لسانها *** رأيت لسان العود من كفّها يملي

فلم أر كاللّذّات أمطرت الهوى *** و لا مثل يومي ذاك صادفه مثلي

و مما قاله فيها:

أ نعيم حبّك سلّني و بلاني *** و إلى الأمرّ من الأمور دعاني

أ نعيم لو تجدين وجدي و الذي *** ألقى بكيت من الذي أبكاني

أ نعيم سيّدتي عليك تقطّعت *** نفسي من الحسرات و الأحزان

أ نعيم قد رحم الهوى قلبي و قد *** بكت الثياب أسى على جثماني

أ نعيم و انحدرت مدامع مقلتي *** حتّى رحمت لرحمتي إخواني

أ نعيم مثّلك الهيام لمقلتي *** فكأنّني ألقاك كلّ مكان

أ نعيم نظرة سحر عينك بالهوى *** معروفة بالقتل في إنسان

أ نعيم(2) اشفي أو دعي من داؤه *** و دواؤه بيديك مقترنان

هذا و كم من مجلس لي مؤنق *** بين النعيم و بين عيش داني

نازعته أردانه فلبستها *** مع ظبية في عيشنا الفينان

/تنسي الحليم من الرجال معاده *** بين الغناء و عودها الحنّان

حتى يعود كأنّ حبّة قلبه *** مشدودة بمثالث(3) و مثاني

ظلّت تغنّيني و تعطف كفّها *** بالعود بين الرّاح و الرّيحان

فسمعت ما أبكى و أضحك سامعا *** و سكرت من طرب و من أشجان

و مشيت في لجج الهوى متبخترا *** و مشى إليّ اللهو في الألوان

فعلمت أن قد عاد قلبي عائد *** من بين عود مطرب و بنان

/و مما قاله أيضا فيها:

نعيم هل بكيت كما بكيت *** و هل بعدي وفيت كما وفيت

ألا يا ليت شعري كيف بعدي اص *** طبارك(4) إذ نأيت و إذ نأيت

فكم من عبرة ذرفت فلمّا *** خشيت عيون أهلي و استحيت

ص: 182


1- الرسل (بالكسر): التؤدة و الرفق.
2- التنوين هنا لضرورة الشعر.
3- المثالث: جمع مثلث و هو ما كان على ثلاث قوى من الأوتار، و قيل هو الثالث منها، و المثاني: جمع مثنى و هو ما بعد الأول من أوتار العود.
4- في ب، س: «كيف بعدي و صبرك...».

نهضت بها مكاتمة فلمّا *** خلوت ذرفتها حتّى اشتفيت

و قلت لصحبتي لمّا رماني *** هواك بدائه حتى انطويت

أراني من هموم النفس ميتا *** و لم أر في نعيم ما نويت

فليت الموت عجّل قبض روحي *** جهارا فاسترحت و أين ليت

و قال أيضا في فراقه إيّاها:

أ نعيم في قلبي عليك شرار *** و على الفؤاد من الصّبابة نار

و على الجفون غشاوة و على الهوى *** داع دعته لحيني الأقدار

بمضلّة لبّ الحليم إذا رمت *** بالمقلتين كأنها سحّار

طالبتها حولين لا ليلي بها *** ليل و لا هذا النهار نهار

/حتى إذا ظفرت يداي بكاعب *** كالشمس تقصر دونها الأبصار

و ثلجت صدرا بالفتاة و صارتا *** كالنفس نفسانا و قرّ قرار

بلغ الشقاء أشدّ ما يسطيعه *** فينا و فرّق بيننا المقدار

و مما يغنّي فيه من شعر عكّاشة الذي قاله في هذه الجارية:

صوت

لهفي على الزمن الذي *** ولّى ببهجته القصير

قد كان يؤنقني الهوى *** و يقرّ عيني بالسرور

إذ نحن خلاّن الهوى *** ريحاننا عبق العبير

و غناؤنا وصف الهوى *** نلتذّ بالحبّ اليسير

الغناء في هذه الأبيات لابن صغير العين من كتاب إبراهيم و لم يذكر طريقته. و فيه لأبي العبيس بن حمدون خفيف رمل. و تمام هذه الأبيات:

وجه التواصل بيننا *** في الحسن كالقمر المنير

إيماؤنا يحكي الكلى *** م و سرّنا فطن المشير

و حديثنا بحواجب *** نطقت بألسنة الضّمير

بل رسلنا الكتب التي *** تجري بخافية الصّدور

أنشد للمهديّ قوله في الخمر فأراد حدّه:

حدّثني الحسن بن عليل قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا أبو مسلم عن المدائنيّ قال:

أنشد عكّاشة بن عبد الصّمد المهديّ قوله في الخمر:

ص: 183

حمراء مثل دم الغزال و تارة *** عند(1) المزاج تخالها زريابا

/فقال له المهديّ: لقد أحسنت في وصفها إحسان من قد شربها، و لقد استحققت بذلك الحدّ، فقال:

أ يؤمنني أمير المؤمنين حتّى أتكلّم بحجّتي؟ قال: قد أمّنتك، قال: و ما يدريك يا أمير المؤمنين أنّي أحسنت و أجدت صفتها إن كنت لا تعرفها؟ فقال له المهديّ: أعزب قبّحك اللّه.

سمع له مثل ذلك مع الهادي:

قال الحسن و أخبرني بهذا الخبر أحمد بن سعيد(2) الدمشقيّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار أنّ عكّاشة أنشد موسى الهادي هذا الشعر ثم أنشده قوله:

كأنّ فضول الكأس من زبداتها(3) *** خلاخل شدّت بالجمان إلى حجل(4)

فقال له موسى: و اللّه لأجلدنّك حدّ الخمر، قال: و لم يا أمير المؤمنين! إنّما نقول و لا نفعل، فقال: كذبت، قد وصفتها صفة عالم بها، قال: فاجعل لي الأمان حتّى أتكلّم بحجّتي، قال: تكلّم و أنت آمن، قال: أجدت وصفها أم لم أجد؟ قال: بلى قد أجدت، قال: و ما يدريك أني أجدت إن كنت لا تعرفها! إن كنت وصفتها بطبعي دون امتحاني فقد شركتني في ذلك بطبعك، و إن كان وصفها لا يعلم إلا بالتجربة فقد شركتني أيضا فيها؛ فضحك موسى و قال له: قد نجوت بحيلتك منّي، قاتلك اللّه فما أدهاك!.

ما غنى فيه من شعره:

و مما وجدت فيه غناء من شعر عكّاشة قوله:

و جاءوا إليه بالتّعاويذ(5) و الرّقى *** و صبّوا عليه الماء من شدّة النّكس(6)

و قالوا به من أعين الجنّ نظرة *** و لو صدقوا قالوا به أعين الإنس

الغناء لعريب. و منها:

طرفي يذوب و ماء طرفك جامد *** و عليّ من سيما هواك شواهد

هذا هواك قسمته بين الورى *** و منحتني أرقا و طرفك راقد

فعليّ منه اليوم تسعة أسهم *** و على جميع النّاس سهم واحد

الغناء لجحظة. و منها:

ص: 184


1- الرواية فيما سبق ص 260: «بعد».
2- كذا في ء، م ء أ و هو الموافق لما تقدّم في ص 305 ج 1 «أغاني» من هذه الطبعة، و في باقي الأصول: «سعد».
3- الزبدات: جمع زبدة و هي الطائفة من الزبد الذي هو طفاوة الماء و الجرة و اللعاب و نحوها.
4- الجمان: اللؤلؤ أو حب من فضة يعمل على شكل اللؤلؤ، و الحجل (بالفتح و الكسر): الخلخال.
5- التعاويذ: جمع تعويذة و هو ما يرقى به من فزع أو جنون و نحوه، و يقال على ما يكتب و يعلق على الإنسان للحفظ من العين و نحوها من الآفات فيما يزعمون، و تسمى المعاذات، و قد ورد في الحديث النهي عن تعليقها.
6- النكس: العود في المرض، يقال: نكس المريض إذا عاودته العلة بعد النقه، و يقال: تعسا له و نكسا بضم النون، و قد تفتح ازدواجا.

غاد(1) الهوى بالكأس بردا *** و أطع إمارة من تبدّى(2)

و منها:

كما اشتهت خلقت حتّى إذا اعتدلت *** تمّت قواما فلا طول و لا قصر

و منها:

و زعفرانيّة في اللّون تحسبها *** إذا تأمّلتها في جسم كافور

تخال أنّ سقيط الطّلّ بينهما *** دمع تحيّر في أجفان مهجور

ص: 185


1- كذا في أ، م، ء، و هو فعل أمر من «غادي» بمعنى باكر. و في باقي الأصول «عاد» بالعين المهملة.
2- كذا بالأصول، و لعلها «تندّى» بمعنى تفضّل و تسخّى، يقال: «هو يتندى على إخوانه» أي يتفضل و يجود عليهم.

31 - أخبار عبد الرحيم الدفاف و نسبه

نسبه و الخلاف في اسم أبيه:

عبد الرّحيم بن الفضل الكوفيّ، و يكنى أبا القاسم، و قيل: هو عبد الرحيم بن سعد، و قيل: عبد الرحيم بن الهيثم بن سعد، مولى لآل الأشعث بن قيس، و قيل: بل هو مولى خزاعة.

سمعه حماد الراوية يغني:

ذكر أبو أيّوب المدينيّ أنّ حمّادا الراوية حدّثه قال: رأيت عبد الرّحيم الدفّاف أيّام هارون الرشيد(1) بالرّقّة و قد ظهرت(2)، فحضرني و سمعته يغنّي يومئذ صوتا سئل عنه فذكر أنّه من صنعته، و هو:

فديتك لو تدرين كيف أحبّكم *** و كيف إذا ما غبت عنك أقول

كان منقطعا إلى عليّ بن المهديّ:

و كان عبد الرحيم منقطعا إلى عليّ بن المهديّ المعروف بأمّه ريطة بنت أبي العبّاس.

غنى في شعر عرّض فيه بالرشيد فجلده:

/فأخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثني عبد الصّمد بن المعذّل قال:

غنّت جارية يوما بحضرة الرشيد:

قل لعليّ أيا فتى العرب *** و خير نام و خير مكتسب

أعلاك جدّاك يا عليّ إذا *** قصّر جدّ عن ذروة الحسب

/فأمر بضرب عنقها، فقالت: يا سيّدي ما ذنبي! هذا صوت علّمته، و اللّه ما أدري من قاله و لا فيمن قيل؛ فعلم أنّها صدقت، فقال لها: عمّن أخذته؟ فقالت: عن عبد الرحيم الدّفّاف، فأمر بإحضاره فأحضر، فقال له:

يا عاضّ بظر أمه، أ تغنّي في شعر تفاخر فيه بيني و بين أخي! جرّدوه، فجرّدوه، و دعا له بالسياط، فضرب بين يديه خمسمائة سوط.

غنى لعليّ بن المهدي فأجازه:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد عن القطرانيّ عن محمد بن جبر قال:

ص: 186


1- كذا في جميع الأصول، و المعروف أن حمادا الراوية لم يبق إلى أيام هارون الرشيد، فإن حمادا توفي في خلافة المنصور سنة 155 ه. و قيل توفي في خلافة المهدي التي تنتهي بسنة 169 ه، و على كلتا الروايتين تكون وفاة حماد قبل خلافة الرشيد التي تبتدئ بسنة 170 ه.
2- يشير حماد بقوله: «و قد ظهرت» إلى أنه كان مطّرحا مجفوّا حتى اختفى في أيام العباسيين بسبب تقدمه و إيثاره عند ملوك بني أمية و منادمته لهم كما جاء في ترجمته في الجزء الخامس من «الأغاني» طبعة بولاق.

قال لي عبد الرحيم بن القاسم الدفّاف: دخلت على عليّ بن ريطة يوما و ستارته منصوبة، فغنّت جاريته:

أناس أمنّاهم فنموا حديثنا *** فلما كتمنا السرّ عنهم تقوّلوا

فقلت: أ رأيت إن غنّيتك هذا الصوت و في تمامه زيادة بيت واحد، أيّ شيء لي عليك؟ قال: خلعتي التي عليّ، فغنّيته:

فلم يحفظوا الودّ الذي كان بيننا *** و لا حين همّوا بالقطيعة أجملوا(1)

قال: فنزع خلعته فخلعها عليّ، و أقمت عنده بقيّة يومي على عربدة كانت فيه.

الشعر لعباس بن الأحنف، و الغناء لعبد الرحيم الدّفّاف هزج بالبنصر. و هذا أخذه العبّاس من قول أبي دهبل:

صوت

أمنّا أناسا كنت تأتمنينهم *** فزادوا علينا في الحديث و أوهموا

و قالوا لها ما لم نقل ثمّ أكثروا *** عليّ و باحوا بالذي كنت أكتم

/و في هذين البيتين أغانيّ قديمة: منها لحن لابن سريج رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و لابن زرزور(2) الطائفيّ خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه خفيف رمل بالبنصر و الوسطى لمتيّم و عريب.

صوت من المائة المختارة

بكرت سميّة غدوة فتمتّعي *** و غدت غدوّ مفارق لم يربع

و تعرّضت لك فاستبتك بواضح *** صلت كمنتصّ الغزال الأتلع

عروضه من الكامل. و الشعر للحادرة الثّعلبيّ، و الغناء في اللحن المختار لسعيد بن مسجح، و إيقاعه من خفيف الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجزى البنصر عن إسحاق، و ذكر عمرو بن بانة أنه لابن محرز. و فيهما للغريض ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو و فيهما خفيف رمل بالوسطى لابن سريج عن حبش.

و مما يغنّى فيه من هذه القصيدة:

أ سمي ما يدريك كم من فتية *** بادرت(3) لذّتهم بأدكن مترع

/بكروا عليّ بسحرة فصبحتهم *** من عاتق كدم الذبيح مشعشع

غنّاه مالك، و لحنه من الثقيل الأوّل بالبنصر عن عمرو. و فيه لمالك خفيف ثقيل آخر أيضا. و فيهما لعلّويه ثقيل أوّل صحيح من جيّد صنعته. قوله: فتمتّعي يخاطب نفسه، أي تمتّعي منها قبل فراقها. و لم يربع: لم يقم.

و الواضح الصّلت: /يعني عنقها، و أصل الصلت: الماضي، و منه الناقة المصلات: الماضية، و شدّ عليه بالسيف

ص: 187


1- في جميع الأصول «أجمل» بدون ضمير الجماعة و الصواب ما أثبتناه.
2- هكذا ورد في جميع الأصول، و قد تقدّم في ص 259 ج 1 «أغاني» من هذه الطبعة اختلاف النسخ فيه و وروده في بعضها «زرزر» بغير واو.
3- بادرت: عاجلت. و في ب، س، ح: «باكرت».

صلتا أي خارجا من غمده. و الصلت في هذا الشعر: الطويل الذي لا قصر فيه. و المنتصّ: المنتصب، يقال: انتصّ فلان أي انتصب، و منصّة العروس مأخوذة من هذا، و منه نصّ الحديث: رفعه إلى صاحبه. و استبتك: غلبتك على عقلك. و الواضح: الخالص الأبيض. و أدكن مترع يعني الزّقّ. و المشعشع: المرقرق بالماء.

32 - أخبار الحادرة و نسبه

نسب الحادرة و سبب لقبه بذلك:

الحادرة لقب غلب عليه، و الحويدرة أيضا؛ و اسمه قطبة بن أوس بن محصن بن جرول بن حبيب بن عبد العزّي بن خزيمة بن رزام بن مازن بن ثعلبة بن سعد(1) بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان(2) بن مضر بن نزار، شاعر جاهليّ مقلّ. أخبرني بنسبه هذا محمد بن العبّاس اليزيديّ عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن قريب ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه. قال: و إنما سمّي الحادرة بقول زبّان(3) بن سيّار الفزاريّ له:

كأنك حادرة المنكبي *** ن رصعاء تنقض في حائر(4)

عجوز ضفادع محجوبة(5) *** يطيف بها ولدة الحاضر(6)

قال: و الحادرة: الضخم.

و ذكر أبو عمرو الشّيبانيّ أن الحادرة خرج هو و زبّان الفزاريّ يصطادان فاصطادا جميعا، فخرج زبّان يشتوي و يأكل في الليل وحده؛ فقال الحادرة:

تركت رفيق رحلك قد تراه *** و أنت لفيك في الظّلماء هادي

/فحقدها عليه زبّان، ثم أتيا غديرا فتجرّد الحادرة، و كان ضخم المنكبين أرسح، فقال زبّان:

كأنك حادرة المنكبي *** ن رصعاء تنقض في حائر

فقال له الحادرة:

لحا اللّه زبّان من شاعر *** أخي خنعة(7) فاجر غادر

كأنك فقّاحة(8) نوّرت *** مع الصبح في طرف الحائر

ص: 188


1- يتصل في سعد هذا نسب الحادرة بنسب ابن ميادة الذي وردت ترجمته في الجزء الثاني من هذه الطبعة صفحة 261، و بمراجعة النسبين تجد أن بعض الأسماء سقط من نسب الحادرة هنا.
2- في م: «قيس عيلان» بسقوط كلمة «ابن» و كلاهما وارد.
3- ذكر صاحب «شرح القاموس» في مادة «زبب» أنه قد يكون مشتقا من «زبن» فيصرف أو من «زبب» فيمنع من الصرف. و كذلك ذكر ابن دريد في كتاب «الاشتقاق» (ص 126 طبع أوروبا).
4- حادرة المنكبين: ممتلئتهما. و الرصعاء: الرسحاء و هي خفيفة لحم العجيزة و الفخذين. و تنقض: تنقّ، يقال: أنقضت الضفدع تنقض إنقاضا إذا صوّتت، (انظر «شرح ابن الأنباري للمفضليات» ص 50). و الحائر: مجتمع الماء.
5- كذا في الأصول، و في «المفضليات» ص 49 طبع بيروت «قد حدرت».
6- الحاضر: المقيم على الماء، و يقال: حي حاضر إذا كانوا نازلين على ماء عدّ.
7- الخنعة: الريبة و الفجرة.
8- الفقاحة: واحدة الفقاح، و فقاح كل نبت زهره حين يتفتح على أيّ لون كان.

فغلب هذا اللقب على الحادرة.

كان حسان بن ثابت معجبا بقصيدته

بكرت سمية

:

حدّثني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ قال حدّثني عمّي قال سمعت شيخا من بني كنانة من أهل المدينة يقول:

كان حسّان بن ثابت إذا قيل له: تنوشدت الأشعار في موضع كذا و كذا يقول: فهل أنشدت كلمة الحويدرة:

بكرت سميّة غدوة فتمتّعي

قال أبو عبيدة: و هي من مختار الشعر، أصمعيّة مفضّليّة.

سبب الهجو بينه و بين زيّان بن سيّار:

نسخت من كتاب ابن الأعرابيّ قال حدّثني المفضّل قال:

كان الحادرة جارا لرجل من بني سليم، فأغار زبّان بن سيّار على إبله فأخذها فدفعها إلى رجل من أهل وادي القرى يهوديّ، و كان له عليه دين فأعطاه إيّاها بدينه، و كان أهل وادي القرى حلفاء لبني ثعلبة؛ فلما سمع اليهوديّ بذلك قال: سيجعل الحادرة هذا سببا لنقض العهد الذي بيننا و بينه، و نحن نقرأ الكتاب/و لا ينبغي لنا أن نغدر، فردّ الإبل على الحادرة فردّها على جاره، و رجع إلى زبّان فقال له: أعطني مالي الذي عليك، فأعطاه إياه زبّان، و وقع الهجاء بينه و بين الحادرة؛ فقال الحادرة فيه:

لعمرة بين الأخرمين(1) طلول *** تقادم منها مشهر(2) و محيل

وقفت بها حتى تعالى لي الضّحى *** لأخبر عنها إنّني لسئول

يقول فيها:

فإن تحسبوها بالحجاب ذليلة *** فما أنا يوما إن ركبت ذليل

سأمنعها في عصبة ثعلبيّة *** لهم عدد واف و عزّ أصيل(3)

فإن شئتم عدنا صديقا و عدتم *** و إمّا أبيتم فالمقام زحول(4)

قال: و لجّ الهجاء بينهما بعد ذلك فكان هذا سببه.

غزوة بني عامر و ما قاله الحادرة فيها من الشعر:

و نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ يذكر عن أبيه:

ص: 189


1- الأخرمان: مثنى أخرم و هو اسم لعدّة مواضع: منها جبل في ديار بني سليم و جبل قبل توز بأربعة أميال من أرض نجد و جبل في طرف الدهناء، و هو يأتي في الشعر بالإفراد بالتثنية، قال المسيّب بن علس: ترعى بأرض الأخرمين له فيها موارد ماؤها غدق
2- أي مرت عليه شهور و أحوال فغيرته. و في ب، س: «مسهر» بالسين المهملة و هو تحريف.
3- وقع في هذا البيت الاعتماد و هو عدم حذف الخامس من فعولن التي قبل القافية. انظر الحاشية رقم 2 ص 67 من هذا الجزء.
4- زحول: بعيد.

أن جيشا لبني عامر بن صعصعة أقبل و عليهم ثلاثة رؤساء: ذؤاب بن غالب من عقيل ثم من بني كعب بن ربيعة، و عبد اللّه بن عمرو من بني الصّموت، و عقيل بن مالك من بني نمير(1)، و هم يريدون غزو بني ثعلبة بن سعد رهط الحادرة/و من معهم من محارب، و كانوا يومئذ معهم، فنذرت(2) بهم بنو ثعلبة، فركب قيس بن مالك المحاربيّ الخصفيّ و جؤيّة بن نصر الجرميّ أحد بني ثعلبة للنظر إلى القوم، فلما دنوا منهم عرف عقيل بن مالك النميريّ(3) جؤيّة بن نصر الجرميّ، فناداه: إليّ يا جؤيّة بن نصر فإنّ لي خبرا أسرّه إليك؛ فقال: إليك أقبلت لكن لغير ما ظننت، فقال له: ما فعلت قلوص؟ - يعني امرأته -؛ فقال: هي في الظّعن أسرّ ما كانت قطّ و أجمله؛ ثم حمل كلّ واحد منهما على صاحبه و اختلفا طعنتين(4) فطعنه جؤيّة طعنة دقّت صلبه، و انطلق قيس بن مالك المحاربيّ إلى بني ثعلبة فأنذرهم، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزمت بنو نمير و سائر بني عامر و مات عقيل النّميري و قتل ذؤاب بن غالب و عبد اللّه بن عمرو أحد بني الصّموت؛ فقال الحادرة في ذلك:

كأنّ عقيلا في الضّحى حلّقت به *** و طارت به في الجوّ عنقاء مغرب(5)

و يروى: «و طارت به في اللّوح»، و هو الهواء.

و ذي كرم يدعوكم آل عامر *** لدى معرك سرباله يتصبّب

رأت عامر وقع السيوف فأسلموا *** أخاهم و لم يعطف من الخيل مرهب

و سلّم لمّا أن رأى الموت عامر *** له مركب فوق الأسنّة أحدب

/إذا ما أظلّته عوالي رماحنا *** تدلّى به نهد(6) الجزارة منهب(7)

على صلويه(8) مرهفات كأنها *** قوادم نسر بزّ عنهنّ منكب

قال: و في هذه الوقعة يقول خداش بن زهير:

أيا أخوينا من أبينا و أمّنا *** إليكم إليكم لا سبيل إلى جسر

/جسر: قبيلة من محارب. قال: و هذا اليوم يعرف بيوم شواحط، قبيلة من محارب(9).

ص: 190


1- كذا في نسخة الشيخ الشنقيطي طبع بولاق مصححة بقلمه، و يؤيده ما يأتي في سياق الخبر من نسبة عقيل إلى بني نمير و لأن الظاهر من الخبر أن الرؤساء الثلاثة من بني عامر بن صعصعة، و نمير من بني عامر بن صعصعة ككعب بن ربيعة، و عامر بن صعصعة من قبائل قيس، و لا صلة لها بتميم. و في جميع الأصول: «تميم».
2- نذر بالشيء (كفرح): علمه.
3- في ب، س، م: «النمريّ» و هو تحريف.
4- أي اختلفت طعنتاهما فكانت إحدى الطعنتين في إثر الأخرى.
5- يقال: عنقاء مغرب على النعت و عنقاء مغرب على الإضافة. و العنقاء: طائر معروف الاسم مجهول الجسم؛ و العرب إذا أخبرت عن هلاك شيء قالت: حلّقت به في الجوّ عنقاء مغرب.
6- نهد الجزارة: ضخمها، و الجزارة في الأصل: أطراف الجزور و هي اليدان و الرجلان و الرأس؛ و المراد هنا أطراف فرس، و إذا قالوا: «فرس ضخم الجزارة» فإنما يراد غلظ اليدين و الرجلين و كثرة عصبها، و لا يدخل الرأس في هذا لأن عظم الرأس هجنة في الخيل.
7- المنهب: الفرس الفائق في العدو.
8- الصلا: وسط الظهر من الناس و من كل ذي أربع و ما انحدر من الوركين، و قيل: الفرجة بين الجاعرة و الذنب، و قيل: ما عن يمين الذئب و شماله، و هما «صلوان» و الجمع: صلوات و أصلاء.
9- هذه الكلمة (قبيلة من محارب) وردت هكذا في جميع الأصول، و الظاهر أنها من زيادات النساخ لأن شواحطا جبل مشهور بين مكة و المدينة و هو الجبل الذي أغارت به سرية من بني عامر على إبل لبني محارب (انظر «معجم ياقوت» و «معجم ما استعجم» للبكري
يوم الكفافة و ما قاله الحادرة فيه من الشعر:

و قال أبو عمرو: خرج خارجة بن حصن في جمع من بني فزارة و من بني ثعلبة بن سعد و هو يريد غزو بني عبس بن بغيض، فلقوا جيشا لبني تميم على ماء يقال له «الكفافة» و تميم في جمع سعد و الرّباب و بني عمرو، فقاتلوهم قتالا شديدا و هزمت تميم و أجفلت، و هذا اليوم يقال له: «يوم كفافة»، فقال الحادرة في ذلك:

و نحن منعنا من تميم و قد طغت *** مراعي الملا حتى تضمّنها نجد

كمعطفنا يوم الكفافة(1) خيلنا *** لتتبع أخرى الجيش إذ بلغ الجدّ

/على حين شالت(2) و استخفّت رجالهم *** جلائب(3) أحياء يسيل بها الشدّ

إذا هي شكّ السّمهريّ نحورها *** و خامت(4) عن الأبطال أتعبها القدّ(5)

تكرّ سراعا في المضيق عليهم *** و تثنى بطاء ما تخبّ و لا تعدو

فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم *** بإحساننا إن الثناء هو الخلد

ص: 191


1- كفافة (بضم الكاف): اسم ماء صارت به وقعة بين فزارة و بني عمرو بن تميم كما تقدّم، و قد استشهد عليه ياقوت بهذا البيت هكذا: كمحبسنا يوم الكفافة خيلنا لنورد أخرى الخيل إذ كره الورد
2- شالت: رفعت ذنبها.
3- كذا في أ، م، ء. و في سائر النسخ: «حلائب» بالحاء و هو تحريف.
4- خامت: نكصت و جبنت.
5- القدّ: سير يقدّ من جلد يقيّد به.

33 - أخبار ابن مسجح و نسبه

ولاؤه، و هو مغن أسود متقن نقل غناء الفرس:

سعيد بن مسجح أبو عثمان مولى بني جمح، و قيل: إنه مولى بني نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب. مكيّ أسود، مغنّ متقدّم من فحول المغنّين و أكابرهم، و أوّل من صنع الغناء منهم، و نقل غناء الفرس إلى غناء العرب، ثم رحل إلى الشام و أخذ ألحان الروم و البربطيّة(1) و الأسطوخوسيّة، و انقلب إلى فارس فأخذ بها غناء كثيرا و تعلّم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز و قد أخذ محاسن تلك النّغم، و ألقى منها ما استقبحه من النّبرات و النغم التي هي موجودة في نغم غناء الفرس و الروم خارجة عن غناء العرب، و غنّى على هذا المذهب، فكان أوّل من أثبت ذلك و لحنّه و تبعه الناس بعد.

علّم ابن سريج و الغريض الغناء:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، و الحسين بن يحيى قالا: حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن هشام بن المرّيّة: أنّ أوّل من غنّى هذا الغناء العربيّ بمكّة ابن مسجح مولى بني مخزوم، و ذلك أنه مرّ بالفرس و هم يبنون المسجد الحرام، /فسمع غناءهم بالفارسيّة فقلبه في شعر عربيّ؛ و هو الذي علّم ابن سريج و الغريض، و كان ابن مسجح مولّدا أسود يكنى بأبي عيسى.

احتراق الكعبة في عهد ابن الزبير و بناؤه لها:

أخبرني محمد بن عبيد اللّه بن محمد الرازيّ قال حدّثنا أحمد(2) بن الحارث الخرّاز(3) عن المدائنيّ، و ذكر إسحاق عن المدائنيّ عن أبي بكر الهذليّ قال:

كان سبب بناء ابن الزّبير الكعبة لما احترقت، أنّ أهل الشام لما حاصروه سمع أصواتا بالليل فوق الجبل

ص: 192


1- كذا في الأصول. و قد رأى الأب أنستاس ماري الكرملي أن تكون هذه الكلمة محرفة عن «البزنطية» (بضم الباء الموحدة و فتح الزاي يليها نون ساكنة بعدها طاء مكسورة ثم ياء مثناة مشدّدة و في الآخر هاء): نسبة إلى بزنطية و هي مدينة القسطنطينية قبل أن تبنى، و يراد بالبزنطية قوم من الروم الشرقيين عرفوا بهذا الاسم منذ عهد قسطنطين الكبير إلى سقوط القسطنطينية بيد الترك. ثم قال: و أما الأسطوخوسية فيراد بهم قوم آخرون من أسطوخوس أو أسطوخادس، و هي جزيرة في جنوبيّ فرنسا كان أهلها معروفين بالقصف و الغناء و الأنس، كما هم عليه إلى هذا العهد، و كان سكانها خليطا من الروم و اليونانيين و القلطيّين و بقايا الفلسطينيين. (انظر المجلد الثاني من «مجلة الزهراء» ص 358-361).
2- في جميع الأصول: «محمد»، و قد تقدّم في مواضع متعدّدة أنّ الذي يروى عن المدائنيّ هو أحمد بن الحارث الخرّاز و هو صاحبه و راويته.
3- تقدم فيما كتبناه عن هذا الاسم في (ص 171 ج 2 حاشية رقم 2) أنه الخزاز بزايين معجمتين، اعتمادا على وروده كذلك في «فهرست ابن النديم». و قد ذكره الذهبي في «المشتبه في أسماء الرجال» (ص 98) الخراز بالراء المهملة و آخره زاي نسبة إلى خرز الحلود، و كذلك ذكره السمعاني في «الأنساب» (ورقة 191 في الوجه الثاني) و ذكر كلاهما أنه راوية المدائني، و ذكره شارح «القاموس» في مادة خرز و سماه خطأ أحمد بن خلف.

فخاف أن يكون أهل الشام قد وصلوا إليه، و كانت ليلة ظلماء ذات ريح شديدة صعبة و رعد و برق، فرفع نارا على رأس رمح لينظر إلى الناس فأطارتها الريح فوقعت على أستار الكعبة فأحرقتها و استطالت فيها، و جهد الناس في إطفائها فلم يقدروا، و أصبحت الكعبة تتهافت(1) و ماتت امرأة من قريش، فخرج الناس كلّهم في جنازتها خوفا من أن ينزل العذاب عليهم، و أصبح ابن الزّبير ساجدا يدعو و يقول: اللهم إني لم أتعمّد ما جرى فلا تهلك عبادك بذنبي و هذه ناصيتي بين يديك؛ فلمّا تعالى النهار أمن و تراجع/الناس، فقال لهم: اللّه اللّه أن ينهدم في بيت أحدكم حجر فيزول عن موضعه فيبنيه و يصلحه و أترك الكعبة خرابا؛ ثم هدمها مبتدئا بيده و تبعه الفعلة حتى بلغوا إلى قواعدها، و دعا ببنّائين من الفرس و الروم فبناها.

نقل غناء الفرس من بنّائي الكعبة الذين استقدمهم ابن الزبير:

قال إسحاق: و أخبرني ابن الكلبيّ عن أبي مسكين قال:

كان سعيد بن مسجح أسود مولّدا يكنى أبا عيسى مولى لبني جمح، فرأى الفرس و هم يعملون الكعبة لابن الزّبير و يتغنّون بالفارسيّة فاشتقّ غناءه على ذلك.

/قال إسحاق: و حدّثني محمد بن سلاّم عن شعيب بن صخر و جرير قالا:

كان سعيد بن مسجح أسود و هو مولى بني جمح يكنى أبا عيسى.

كان ولاؤه هو و ابن سريج لرجل واحد:

قال إسحاق: و حدّثني المدائني عن صخر بن جعفر عن أبي قبيل بمثل ذلك، و ذكر أنه كان يكنى أبا عثمان.

قال: و هو مولى لبني نوفل بن الحارث كان هو و ابن سريج لرجل واحد، و لذلك قبل عنه ابن سريج.

ابن مسجح في حداثته:
اشارة

قال إسحاق: و حدّثني الهيثم بن عديّ عن صالح بن حسّان فذكر مثل ما ذكر أبو قبيل من كنيته و ولائه، و قال:

كان ابن مسجح فطنا كيّسا ذكيّا، و كان أصفر حسن اللون، و كان مولاه معجبا به، و كان يقول في صغره: ليكوننّ لهذا الغلام شأن، و ما منعني من عتقه إلا حسن فراستي فيه، و لئن عشت لأتعرّفنّ ذلك، و إن متّ فهو حرّ، فسمعه مولاه يوما و هو يتغنّى بشعر ابن الرّقاع العامليّ، و هو من الثقيل الأوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى:

صوت

ألمم على طلل عفا متقادم *** بين اللّكيك(2) و بين غيب الناعم(3)

ص: 193


1- أي لتساقط حجرا حجرا.
2- اللكيك كأمير و يقال له اللكاك، رواه ابن جبلة «اللكاك» كغراب، و ضبطه الصاغانيّ بالكسر ككتاب و قال: هو موضع في ديار بني عامر، و قال غيره: بحزن بني يربوع؛ انظر «شرح القاموس»، و قد ضبطه ياقوت في «معجم البلدان» بالكسر ككتاب و لم يذكر اللكيك.
3- غيب الناعم: موضع قال عنه ياقوت: إنه ورد في قول عديّ بن الرقاع و ذكر البيت هكذا: ألمم على طلل عفا متقادم بين الذؤيب و بين غيب الناعم

لو لا الحياء و أنّ رأسي قد عثا(1) *** فيه المشيب لزرت أمّ القاسم

/فدعا به مولاه فقال له: يا بنيّ أعد ما سمعته منك عليّ، فأعاده فإذا هو أحسن مما ابتدأ به، فقال: إن هذا لمن بعض ما كنت أقول، ثم قال: أنّى لك هذا؟ قال: سمعت هذه الأعاجم تتغنّى بالفارسيّة فثقفتها(2) و قلبتها في هذا الشعر، قال له: فأنت حرّ لوجه اللّه، فلزم مولاه و كثر أدبه و اتسع في غنائه و مهر بمكّة و أعجبوا به لظرفه و حسن ما سمعوه منه، فدفع إليه مولاه عبيد بن سريج، و قال له: يا بنيّ علّمه و اجتهد فيه؛ و كان ابن سريج أحسن الناس صوتا، فتعلّم منه ثم برّز عليه حتى لم يعرف له نظير.

غناء نافع الخير عند رجل من قريش:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا أخي هارون عن ابن الماجشون عن شيخ من أهل المدينة، و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان و الحسين بن يحيى قالا أخبرنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال ذكر ابن الكلبيّ عن أبي مسكين عن شيخ من أهل المدينة قال:

دخلت على رجل من قريش بالمدينة و عنده رجل ساكن الطّرف نبيل تأخذه العين، لا أعرفه؛ فقال له القرشيّ:

أقسمت عليك إلاّ ما غنّيت صوتا، فحوّل خاتمه من خنصره اليسرى إلى بنصره اليمنى، ثم تناول قدحا، فغنّاه لحن ابن سريج في شعر كعب بن جعيل:

إذا امتشطت(3) عالوا لها بوسادة *** و مدّت عسيب المتن أن يتعفّرا

ثوت نصف شهر تحسب الشهر ليلة *** تناغي(4) غزالا ساجي(5) الطرف أحورا

/تزيّن حتى تسلب المرء عقله *** و حتى يحار الطرف فيها و يسكرا(6)

/ثم غنّى في شعر توبة بن الحميّر:

و غيّرني إن كنت لمّا تغيّري *** هواجر تكتنّينها و أسيرها

و أدماء(7) من سرّ المهارى(8) كأنها *** مهاة(9) صوار(10) غير ما مسّ كورها

ص: 194


1- كذا في «لسان العرب» في مادة «عثا» و عثا: أفسد، يقال: عثا فيه المشيب أي أفسد، و في جميع الأصول «عسا» بالسين المهملة، و لم يظهر له معنى إلا أن يكون بمعنى اشتدّ، من قولهم: عسا النبات عسوّا أي غلظ و اشتدّ.
2- ثقف الشيء: فهمه و أخذه.
3- كذا في ح، و في باقي النسخ: «إذا انتشطت» و هو تحريف.
4- المناغاة: المغازلة.
5- ساجي الطرف: فاترة ساكنه، و الأحور: الأبيض الناعم.
6- يقال: سكرت عينه تسكر (من باب نصر) إذا تحيرت و سكنت عن النظر. و في الأصول: «و يشكرا» بالشين و هو تحريف.
7- الأدماء: من الإبل التي أشرب لونها بياضا مع سواد المقلتين.
8- السرّ: المحض، يقال: «هو في سر النسب» أي محضه و أفضله؛ و المهاري: جمع مهرية و هي إبل منسوبة إلى مهرة ابن حيدان، و قيل: هي منسوبة إلى بلد، و قال الأزهري: هي نجائب تسبق الخيل.
9- المهاة: البقرة الوحشية.
10- الصوار: قطيع البقر.

قطعت بها أجواز(1) كلّ تنوفة *** مخوف رداها كلّما استنّ(2) مورها

ترى ضعفاء القوم فيها كأنهم *** دعاميص(3) ماء نشّ(4) عنها غديرها

قال: فقلت له إني لأروي هذا الشعر و ما أعرف هذه الأبيات فيه، فقال: هكذا رويتها عن عبد اللّه بن جعفر، قال: و إذا هو نافع الخير مولى عبد اللّه بن جعفر.

الغناء في هذين اللحنين لابن مسجح و لم أجد لهما طريقة في شيء من الكتب التي مرّت. و ذكر حبش أن في أبيات كعب بن جعيل لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى.

دور معاوية بمكة:
اشارة

حدّثني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب و عمّي و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالوا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عبد اللّه بن محمد بن موسى الهاشميّ قال حدّثني أحمد بن موسى بن حمزة بن عمارة بن صفوان الجمحيّ عن أبيه قال:

/أوّل من نقل الغناء الفارسيّ من الفارسيّ إلى الغناء العربيّ سعيد بن مسجح مولى بني مخزوم. قال: و قد يختلف في ولائه إلا أن الأغلب عليه ولاء بني مخزوم، و ذلك أنّ معاوية بن أبي سفيان لما بنى دوره التي يقال لها:

«الرّقط»(5) - و هي ما بين الدارين إلى الرّدم(6): أوّلها الدار البيضاء و آخرها دار الحمّام، و هي على يسار المصعد من المسجد إلى «ردم عمر» - حمل(7) لها بنّاءين فرسا من العراق فكانوا يبنونها بالجصّ و الآجر، و كان سعيد بن مسجح يأتيهم فيسمع من غنائهم على بنيانهم، فما استحسن من ألحانهم أخذه و نقله إلى الشعر العربيّ، ثم صاغ على نحو ذلك؛ و هو الذي علّم الغريض، فكان من قديم غنائه الذي صنعه على تلك الأغاني:

صوت

أ سلام إنّك قد ملكت فأسجحي(8) *** قد يملك الحرّ الكريم فيسجح

منّي على عان أطلت عناءه *** في الغلّ عندك و العناة تسرّح

إنّي لأنصحكم و أعلم أنه *** سيّان عندك من يغشّ و ينصح

ص: 195


1- الأجواز: جمع جوز و هو وسط الشيء و معظمه، يقال: قطعوا جوز الفلاة و أجواز الفلا، و التنوفة: الفلاة التي لا ماء بها.
2- استن: هاج و ثار من استن الفرس في المضمار إذا جرى في نشاطه على سنن؛ و المور: الغبار تثيره الرياح.
3- الدعاميص: دود أسود يكون في الغدران إذا نشّت، أو هو دود له رأسان يرى في الماء إذا قل.
4- نش الغدير: يبس ماؤه و نضب.
5- كذا في جميع الأصول، و قد تعرّض الأزرقيّ في «تاريخ مكة» لدور معاوية و ذكر أنّ من بينها دارا تسمّى «الرقطاء» و سميت بذلك لأنها بنيت بالآجرّ الأحمر و الجصّ الأبيض، و منها «الدار البيضاء» و سمّيت بذلك لأنها بنيت بالجصّ ثم طليت به و كانت كلّها بيضاء، ثم ذكر بقيّة الدور بأسمائها و لم يذكر أنّ هناك دورا تسمّى الرقط (انظره في صفحتي 449 و 450) طبع ليبسك.
6- يريد به ردم عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه و قد ذكر في «تاريخ مكة» (ص 450) و لم يذكر ياقوت في «معجمه» إلا ردم بني جمح بن عمرو.
7- كذا في ح. و في أ، م: «فحمل» بالفاء و في سائر النسخ: «فجعل» و لا موقع للفاء في سياق الكلام.
8- الإسجاح: حسن العفو، و منه المثل السائر في العفو عند المقدرة «ملكت فأسجح» و هو مرويّ عن عائشة قالته لعلي رضي اللّه عنهما يوم الجمل حين ظهر على الناس فدنا من هودجها ثم كلمهما بكلام، فأجابته: «ملكت فأسجح» أي ظفرت فأحسن و قدرت فسهل.

و إذا شكوت إلى سلامة حبّها *** قالت أجدّ منك ذا أم تمزح

أخذ عنه معبد:

- الشعر للأحوص. و الغناء لابن مسجح ثقيل أوّل بالبنصر. ولد حمان فيه ثقيل أوّل بالبنصر. و لمالك فيه خفيف ثقيل عن الهشاميّ - قال: و هو أوّل من غنّى الغناء العربيّ المنقول عن الفارسيّ. و عاش سعيد بن مسجح حتى لقيه معبد و أخذ عنه في أيام الوليد بن عبد الملك.

نفاه دحمان الأشقر و إلى مكة إلى الشام فتوصل إلى عبد الملك و غناه فعفا عنه و أمر يردّ ماله إليه:

حدّثني عمّي و الحسين بن القاسم الكوفيّ قالا جميعا حدّثنا محمد بن سعيد الكرانيّ قال حدّثني النضر بن عمرو قال حدّثني أبو أميّة القرشيّ قال حدّثنا دحمان الأشقر قال:

كنت عاملا لعبد الملك بن مروان بمكة فنمي إليه أنّ رجلا أسود يقال له: سعيد بن مسجح أفسد فتيان قريش و أنفقوا عليه أموالهم، فكتب إليّ: أن اقبض ماله و سيّره، ففعلت. /فتوجّه ابن مسجح إلى الشام فصحبه رجل له جوار مغنّيات في طريقه، فقال له: أين تريد؟ فأخبره خبره، و قال له: أريد الشام، قال له: فتكون معي؟ قال: نعم، فصحبه حتى بلغا دمشق فدخلا مسجدها فسألا: من أخصّ الناس بأمير المؤمنين؟ فقالوا: هؤلاء النفر من قريش و بنو عمّه، فوقف ابن مسجح عليهم و سلّم ثم قال: يا فتيان، هل فيكم من نضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض و كان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها: «برق الأفق» فتثاقلوا به إلا فتى منهم تذمّم(1) فقال: أنا أضيفك، و قال لأصحابه: انطلقوا أنتم و أنا أذهب مع ضيفي، قالوا: لا، بل تجيء أنت و ضيفك، فذهبوا جميعا إلى بيت القينة، فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد: إني رجل أسود و لعلّ فيكم من يقذرني فأنا أجلس و آكل ناحية و قام، فاستحيوا منه و بعثوا إليه بما أكل، فلما صاروا/إلى الشراب قال لهم مثل ذلك، ففعلوا به، و أخرجوا جاريتين فجلستا على سرير قد وضع لهما، فغنّتا إلى العشاء ثم دخلتا، و خرجت جارية حسنة الوجه و الهيئة و هما معها فجلست على السرير و جلستا أسفل منها عن يمين السرير و شماله، قال ابن مسجح: فتمثّلت(2)هذا البيت:

فقلت أشمس أم مصابيح بيعة *** بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم

فغضبت الجارية و قالت: أ يضرب هذا الأسود بي الأمثال! فنظروا إليّ نظرا منكرا و لم يزالوا يسكّنونها، ثم غنّت صوتا، فقال ابن مسجح: أحسنت و اللّه، فغضب مولاها و قال: أمثل هذا الأسود يقدم على جاريتي! فقال لي الرجل الذي أنزلني عنده: قم فانصرف إلى منزلي فقد ثقلت على القوم، فذهبت أقوم فتذمّم القوم و قالوا لي: بل أقم و أحسن أدبك فأقمت، و غنّت فقلت: أخطأت و اللّه يا زانية و أسأت، ثم اندفعت فغنّيت الصوت فوثبت الجارية فقالت لمولاها: هذا و اللّه أبو عثمان سعيد بن مسجح، فقلت: إني و اللّه أنا هو، و اللّه لا أقيم عندكم، فوثب القرشيّون فقال هذا: يكون عندي، و قال هذا: يكون عندي، و قال هذا: بل عندي، فقلت: و اللّه لا أقيم إلا عند سيّدكم - يعني الرجل الذي أنزله منهم - ثم سألوه عما أقدمه فأخبرهم الخبر، فقال له صاحبه: إني أسمر الليلة مع

ص: 196


1- تذمم أي خشي الذمّ و اللوم.
2- يقال: تمثّلت هذا البيت و تمثّلت به إذا ضربته مثلا.

أمير المؤمنين فهل تحسن أن تحدو؟ قال: لا، و لكني أستعمل حداء، قال: فإن منزلي بحذاء منزل أمير المؤمنين فإن وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك، و مضى إلى عبد الملك فلما رآه طيّب النفس أرسل إلى ابن مسجح و أخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا:

/

إنك يا معاذ يا ابن الفضّل *** إن زلزل الأقدام لم تزلزل

عن دين موسى و الكتاب المنزل *** تقيم أصداغ(1) القرون الميّل

للحقّ حتى ينتحوا للأعدل

فقال عبد الملك للقرشيّ: من هذا؟ قال: رجل حجازيّ قدم عليّ، قال: أحضره فأحضره له، و قال له: أحد مجدّا، ثم قال له: هل تغنّي غناء الركبان؟ قال: نعم، قال: غنّه، فتغنّى، فقال له: فهل تغنّي الغناء المتقن؟ قال:

نعم، قال: غنّه، فتغنّى فاهتزّ عبد الملك طربا، ثم قال له: أقسم إن لك في القوم لأسماء/كثيرة، من أنت؟ ويلك! قال له: أنا المظلوم المقبوض ماله المسيّر عن وطنه سعيد بن مسجح، قبض مالي عامل الحجاز و نفاني، فتبسّم عبد الملك ثم قال له: قد وضح عذر فتيان قريش في أن ينفقوا عليك أموالهم، و أمّنه و وصله و كتب إلى عامله بردّ ماله عليه و ألاّ يعرض له بسوء.

صوت من المائة المختارة

سلا دار ليلى هل تبين فتنطق *** و أنّى تردّ القول بيداء سملق(2)

و أنّى تردّ القول دار كأنها *** لطول بلاها و التقادم مهرق(3)

عروضه من الطويل، الشّعر لابن المولى. و ذكر يحيى بن عليّ بن يحيى عن إسحاق أن الشعر للأعشى؛ و ذلك غلط، و قد التمسناه في شعر كل أعشى ذكر في شعراء العرب فلم نجده، و لا رواه أحد من الرّواة لأحد منهم، و وجدناه في شعر ابن المولى من قصيدة له طويلة جيّدة، و قد أثبتناها بعقب أخباره ليوقف على صحّة ما ذكرناه، إذ كان الغلط إذا وقع من مثل هذه الجهة احتيج إلى إيضاح الحجّة على ما خالفه و الدّلالة على الصواب فيه. و الغناء في اللحن المختار لعطرّد ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق و يونس و عمرو، و فيه لأيّوب زهرة خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ و أحمد بن المكيّ. و في غناء أيّوب زهرة زيادة بيتين و هما:

و قال خليلي و البكا لي غالب *** أ قاض عليك ذا الأسى و التشوّق

ص: 197


1- في جميع الأصول «أصداع» بالعين المهملة و هو تحريف، و الصواب ما أثبتناه لأنه من صدغ يصدغ صدوغا و صدغا بمعنى مال و منه «لأقيمن صدغك» أي ميلك.
2- السملق: القاع المستوى الأملس الذي لا شجر فيه.
3- المهرق: الصحيفة، و من عادة العرب تشبيه الديار و المنازل إذا عفت و أقوت بالصحف و الكتابة، قال امرؤ القيس: أنت حجج بعدي عليها فأصبحت فخط زبور في مصاحف رهبان و قال العجاج: يا صاح ما هاج الدموع الذرفا من طلل أمسى تخال المصحفا و المصحف: الصحيفة.

و قد طال توقاني(1)

أكفكف عبرة *** تكاد إذا ردّت لها النفس تزهق(2)

ص: 198


1- توقاني: اشتياقي و قد سكن لضرورة الشعر.
2- في رواية أخرى ص 288 من هذا الجزء: على دمنة كادت لها النفس تزهق

34 - أخبار ابن المولى و نسبه

نسبه و صفته و هو شاعر من مخضرمي الدولتين:

هو محمد بن عبد اللّه بن مسلم بن المولى مولى الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف، شاعر متقدّم مجيد من مخضرمي الدولتين و مدّاحي أهلهما، و قدم على المهديّ و امتدحه بعدّة قصائد فوصله بصلات سنّية، و كان ظريفا عفيفا نظيف الثياب حسن الهيئة.

قدم على المهدي و مدحه فأجزل صلته:

أخبرني عمّي قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه الحزنبل قال قال لي محمد بن صالح بن النّطّاح:

كان ابن المولى يسمّى محمدا مولى بني عمرو بن عوف من الأنصار، و كان مسكنه بقباء، و كان يقدم على المهديّ فيمدحه، فقدم عليه فأنشده قوله:

سلا دار ليلى هل تبين فتنطق *** و أنّى تردّ القول بيداء سملق

و أنّى تردّ القول دار كأنها *** لطول بلاها و التقادم مهرق

و قال خليلي و البكالي غالب *** أ قاض عليك ذا الأسى و التشوّق

و إنسان عيني في دوائر لجّة *** من الدمع يبدو تارة ثم يغرق

يقول فيها:

إلى القائم المهديّ أعملت ناقتي *** بكل فلاة آلها(1) يترقرق

إذا غال(2) منها الركب صحراء برّحت *** بهم بعدها في السير صحراء دردق(3)

/رميت قراها(4) بين يوم و ليلة *** بفتلاء(5) لم ينكب(6) لها الزّور مرفق

ص: 199


1- الآل: السراب.
2- يقال: غالت الأرض السابلة أي قذفت بهم و أبعدتهم.
3- كذا في الأصول. و الدردق: الطريق، و الصف من النخل، و الصغير من كل شيء، و كل هذه المعاني لا تتفق و المعنى المراد، و لعلها مما لم يرد تفسيره في «المعاجم»، أو لعلّ المراد بها «فيهق» يقال: أرض فيهق، و مفازة فيهق أي واسعة.
4- القرا: الظهر.
5- يقال: ناقة فتلاء إذا كان في ذراعيها فتل و هو تباعدهما عن الجنبين كأنهما فتلتا عنهما.
6- كذا في أكثر الأصول. و في ح: «يركب».

مزمّرة(1)

سقبا كأن زمامها *** بجرداء من عمّ(2) الصّنوبر معلق

موكّلة بالفادحات كأنها *** و قد جعلت منها الثّميلة(3) تخلق

بقيّ(4) الملاهيق(5) أمام رئاله(6)*** أصمّ هجفّ(7) أقرع الرأس نقنق(8)

تراها إذا استعجلتها و كأنها *** على الأين يعروها من الرّوع أولق(9)

مورّكة(10) أرض العذيب(11) و قد بدا *** فسرّ به للآئبين الخورنق(12)

فاستحسنها المهديّ و أجزل صلته، و أمر فغنّي في نسيب القصيدة. فأمّا ما شرطت ذكره من تمام القصيدة فهو بعقب البيت الثاني منها:

عفتها الرياح الرامسات(13) مع البلى *** بأذيالها و الرائح المتبعّق(14)

بكل شآبيب من الماء خلفها *** شآبيب ماء مزنها متألّق

/إذا ريّق(15) منها هريقت سجاله *** أعيد لها كرفئ(16) ماء و ريّق

فأصبح يرمي بالرّباب(17) كأنما *** بأرجله منه نعام معلّق

فلا تبك أطلال الديار فإنها *** خبال(18) لمن لا يدفع(19) الشوق عولق(20)

ص: 200


1- كذا في جميع النسخ بالزاي المعجمة و لعله مضعف من زمر الظليم بمعنى صوّت، و قد أصلحها الأستاذ الشنقيطي بهامش نسخته بالذال المعجمة، و ربما أراد أن تكون من ذمر بمعنى حث فهو يصفها بأنها سريعة السير لأنها محثوثة عليه. و السقب: الطويل من كل شيء.
2- العمّ: النخل الطوال، و استعير هنا لطول شجر الصنوبر.
3- الثميلة: ما يبقى في بطن الدابة من العلف و الماء و ما يدخره الإنسان من طعام و غيره، و كل بقية ثميلة.
4- القيّ: القفر.
5- وردت هذه الكلمة في جميع النسخ هكذا «هين» و هو تحريف ظاهر و الصواب ما أثبتناه، و الهيق: الظليم.
6- الرئال: أفراخ النعام واحدها رأل.
7- الهجف: الظليم المسن، و قيل: الجافي الثقيل من النعام.
8- النقنق: الظليم.
9- الأولق: الجنون.
10- موركة: مجاوزة.
11- العذيب: ماء بين القادسية و المغيثة بينه و بين القادسية أربعة أميال.
12- الخورنق: قصر بالحيرة.
13- عفتها: محتها و درستها، و الرامسات: الدواقن للآثار.
14- الرائح المتبعق: المطر المندفع، قال رؤبة: جود كجود الغيث إذ تبعّقا و في ح، ب: المتعبق و هو غير مناسب.
15- الريق: المطر اليسير يصيبك منه شيء.
16- الكرفئ: السحاب المرتفع و قد دخل على هذا الشطر «الكف» و هو حذف السابع الساكن من «مفاعيلن» الأولى و هو قبيح.
17- الرباب: السحاب الأبيض.
18- كذا في أ، ء: و في سائر النسخ «خيال».
19- في الأصول: «يرفع» بالراء.
20- العولق: الغول، و هو صفة لخبال.

و إنّ سفاها أن ترى متفجّعا *** بأطلال دار أو يقودك معلق

فلا تجزعن للبين كلّ جماعة *** و جدّك مكتوب عليها التفرّق

و خذ بالتعزّي(1) كلّ ما أنت لابس *** جديدا على الأيام بال و مخلق

فصبر الفتى عما تولّى فإنه *** من الأمر أولى بالسّداد و أوفق

و يروى: «أدنى للذي هو أوفق».

و إنك بالإشفاق لا تدفع(2) الرّدى *** و لا الحين مجلوب فما لك تشفق

كأنّ لم يرعك الدهر أو أنت آمن *** لأحداثه فيما يغادي و يطرق

و قال خليلي و البكالى غالب *** أ قاض عليك ذا الأسى و التشوّق

و قد طال توقاني أكفكف عبرة *** على دمنة كادت لها النفس تزهق

و إنسان عيني في دوائر لجّة *** من الماء يبدو تارة ثم يغرق

و للدّمع من عيني شريجا(3) صبابة *** مرشّ(4) الرّجا(5) و الجائل المترقرق

و كنت أخا عشق و لم يك صاحبي *** فيعذرني ممّا يصبّ و يعشق

/و قد يعذر الصبّ السقيم ذوي الهوى *** و يلحى المحبّين الصديق فيخرق

و عاب رجال أن علقت و قد بدا *** لهم بعض ما أهوى و ذو الحلم يعلق

و القصيدة طويلة. و في بعض ما ذكرته منها دلالة على صحّة ما قلته.

كان يشبب بليلى فسئل عنها فقال: ما هي و اللّه إلا قومي:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز قال:

خرجت أنا و أبو السائب المخزوميّ و عبيد اللّه بن مسلم بن جندب و ابن المولى و أصبغ بن عبد العزيز بن مروان إلى قباء، و ابن المولى متنكّب(6) قوسا عربية، فأنشد ابن المولى لنفسه:

/

و أبكي فلا ليلى بكت من صبابة *** إليّ و لا ليلى لذي الودّ تبذل

و أخنع(7) بالعتبى إذا كنت مذنبا *** و إن أذنبت كنت الذي أتنصّل

فقال له أبو السائب و عبيد اللّه بن مسلم بن جندب: من ليلى هذه حتّى نقودها إليك؟ فقال لهما ابن المولى:

ما هي و اللّه إلاّ قومي هذه سمّيتها ليلى.

ص: 201


1- كذا في ء، أ، و في سائر الأصول: «بالتعرّي» بالراء.
2- في الأصول: «ترفع» بالراء.
3- الشريجان: لونان مختلفان.
4- المرش: الذي يقطر ماؤه.
5- الرجا: ناحية البئر.
6- يقال: تنكّب القوس إذا ألقاها على منكبه.
7- أخنع: أخضع.

في هذين البيتين ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى لخزرج، و يقال: إنه لهاشم بن سليمان.

مدح يزيد بن حاتم فوهبه كل ما يملك:

أخبرني عمّي قال حدثنا أبو هفّان قال أخبرني أبو محلّم عن المفضّل الضّبيّ قال:

وفد ابن المولى على يزيد بن حاتم و قد مدحه بقصيدته التي يقول فيها:

يا واحد العرب الذي *** أضحى و ليس له نظير

لو كان مثلك آخر *** ما كان في الدّنيا فقير

/قال: فدعا بخازنه و قال: كم في بيت مالي؟ فقال له: من الورق(1) و العين بقيّة عشرون ألف دينار، فقال:

ادفعها إليه، ثم قال: يا أخي، المعذرة إلى اللّه و إليك، و اللّه لو أنّ في ملكي أكثر لما احتجبتها(2) عنك.

كان مداحا لجعفر بن سليمان و قثم بن عباس و يزيد بن حاتم:

أخبرني الحسن بن عليّ و محمد بن خلف بن المرزبان قالا حدثنا أحمد بن زهير(3) بن حرب قال حدّثنا مصعب الزّبيريّ عن عبد الملك بن الماجشون قال:

كان ابن المولى مدّاحا لجعفر بن سليمان و قثم بن العبّاس الهاشميّين و يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب، و استفرغ مدحه في يزيد و قال فيه قصيدته التي يقول فيها:

يا واحد العرب الذي دانت له *** قحطان قاطبة و ساد نزارا

إنّي لأرجو إن لقيتك سالما *** ألاّ أعالج بعدك الأسفارا

رشت(4) النّدى و لقد تكسّر ريشه *** فعلا النّدى فوق البلاد و طارا

مرض عند يزيد ابن حاتم و أضعف يزيد صلته:

ثم قصده بها إلى مصر و أنشده إيّاها؛ فأعطاه حتّى رضي. و مرض ابن المولى عنده مرضا طويلا و ثقل حتّى أشفى(5)، فلمّا أفاق من علّته و نهض، دخل عليه يزيد بن حاتم متعرّفا خبره، فقال: لوددت و اللّه يا أبا عبد اللّه ألاّ تعالج بعدي الأسفار حقا، ثم أضعف صلته.

كان يمدح يزيد دون أن يراه ثم رآه بالمدينة و أنشده فأعطاه ما أغناه:

أخبرني الحسن قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثني الزّبير بن بكّار عن عبد الملك بن عبد العزيز قال أخبرني ابن المولى قال:

ص: 202


1- الورق: الفضة، و العين: الذهب.
2- كذا في الأصول، و لم نجد في «كتب اللغة» التي بين أيدينا «احتجب» متعديا بنفسه و لعلها «حجبتها».
3- كذا في أ، ء، م و هو الموافق لما تقدم بإجماع الأصول في ص 21 ج 1 من «الأغاني» طبع الدار و في الكلام على ترجمته في «لسان الميزان» ج 1 ص 174 طبع الهند، و «تذكرة الحفاظ» ج 2 ص 156 طبع الهند. و في باقي الأصول: «إبراهيم» و هو خطأ.
4- رشت الندى: جعلت له ريشا.
5- أشفى: أشرف على الموت.

/كنت أمدح يزيد بن حاتم من غير أن أعرفه و لا ألقاه، فلما ولاّه المنصور مصر أخذ على طريق المدينة فلقيته فأنشدته، و قد خرج من مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى أن صار إلى مسجد الشّجرة، فأعطاني رزمتي(1) ثياب و عشرة آلاف دينار فاشتريت بها ضياعا تغلّ(2) ألف دينار، أقوم في أدناها و أصيح بقيّمي و لا(3) يسمعني و هو في أقصاها.

عنفه الحسن بن زيد على ذكر ليلى فقال: إنها قوسه فضحك:

أخبرني عمّي قال حدّثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو قال: بلغني أنّ الحسن ابن زيد دعا بابن المولى فأغلظ له و قال: أ تشبّب بحرم المسلمين و تنشد ذلك في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و في الأسواق و المحافل ظاهرا! فحلف له بالطّلاق أنّه ما تعرّض لمحرّم قطّ و لا شبّب بامرأة مسلم و لا معاهد قطّ، قال: فمن ليلى هذه التي تذكر في شعرك؟ فقال له: امرأتي طالق إن كانت إلاّ قوسي هذه، سمّيتها ليلى لأذكرها في شعري، /فإن الشعر لا يحسن إلاّ بالتشبيب، فضحك الحسن ثم قال: إذا كانت القصة هذه فقل ما شئت.

كان بالعراق و تشوّق إلى المدينة فقال شعرا في ذلك:
اشارة

فقال(4) الحزنبل: و حدّثت عن ابن عائشة محمد بن يحيى قال: قدم ابن المولى إلى العراق في بعض سنيه(5) فأخفق و طال مقامه و غرض(6) به و تشوّق إلى المدينة فقال في ذلك:

صوت

ذهب الرجال فلا أحسّ رجالا *** و أرى الإقامة بالعراق ضلالا

و طربت إذ ذكر المدينة ذاكر *** يوم الخميس فهاج(7) لي بلبالا(8)

/فظللت انظر في السماء كأنّني *** أبغي بناحية السماء هلالا

طربا إلى أهل الحجاز و تارة *** أبكي بدمع مسبل(9) إسبالا

غنّى في هذه الأربعة الأبيات ابن عائشة. و لحنه ثاني ثقيل عن الهشاميّ. و ذكره حمّاد عن أبيه في أخباره و لم يذكر طريقته.

فيقال قد أضحى يحدّث نفسه *** و العين تذرف في الرّداء سجالا(10)

ص: 203


1- الرزمة من الثياب: ما شدّ في ثوب واحد.
2- تغلّ: تعطي من الغلة.
3- كذا في جميع النسخ، و المقام هنا للفاء.
4- كذا في جميع النسخ و الظاهر أن الفاء هنا من زيادات النساخ.
5- في أ، ء، م: «سنيته» و كلتا الروايتين صحيحة.
6- غرض: ضجر و قلق.
7- كذا في ح. و في سائر الأصول: «وهاج».
8- البلبال: شدّة الهم.
9- أسبل يستعمل متعديا و لازما.
10- السجال: جمع سجل و هو الدلو العظيمة إذا كان فيها ماء.

إنّ الغريب إذا تذكّر أوشكت *** منه المدامع أن تفيض علالا(1)

و لقد أقول لصاحبي و كأنّه *** ممّا يعالج ضمّن(2) الأغلالا

خفّض عليك فما يرد بك تلقه *** لا تكثرنّ و إن جزعت مقالا

قد كنت إذ تدع المدينة كالذي *** ترك البحار و يمّم الأوشالا(3)

فأجابني خاطر بنفسك لا تكن *** أبدا تعدّ مع العيال عيالا

و اعلم بأنك لن تنال جسيمة *** حتّى تجشّم نفسك الأهوالا

إنّي و جدّك يوم أترك زاخرا *** بحرا ينفّل سيبه الأنفالا(4)

لأضلّ من جلب القوافي صعبة(5) *** حتّى أذل متونها إذلالا

مدح المهدي و عرّض بالطالبيين فأجازه:

قال الحزنبل: و حدّثني عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال حدّثني مولى للحسن بن زيد قال:

قدم ابن المولى على المهديّ و قد مدحه بقصيدته التي يقول فيها:

و ما قارع الأعداء مثل محمّد *** إذا الحرب أبدت عن حجول(6) الكواعب

/فتى ماجد الأعراق من آل هاشم *** تبحبح(7) منها في الذّرى و الذّوائب

أشمّ من الرّهط الذين كأنّهم *** لدى حندس(8) الظّلماء زهر الكواكب

إذا ذكرت يوما مناقب هاشم *** فإنكم منها بخير المناصب

و من عيب في أخلاقه و نصابه(9) *** فما في بني العبّاس عيب لعائب

و إنّ أمير المؤمنين و رهطه *** لأهل المعالي من لؤيّ بن غالب

أولئك أوتاد البلاد و وارثو الن *** بيّ بأمر الحقّ غير التّكاذب

ثم ذكر فيها آل أبي طالب فقال:

و ما نقموا إلا المودّة منهم *** و أن غادروا فيهم جزيل المواهب

و أنهم نالوا لهم بدمائهم *** شفاء نفوس من قتيل و هارب

ص: 204


1- علالا: مرة بعد أخرى.
2- ضمن الاغلالا أي قيّد بها.
3- الأوشال: جمع وشل و هو الماء القليل.
4- السيب: الجود و العطاء، و الأنفال: جمع نفل و هو الهبة و العطية. و نفّل النفل: أعطاه.
5- في جميع النسخ: «ضيعة» و التحريف فيه ظاهر.
6- حجول: جمع حجل و هو الخلخال.
7- تبحبح: تمكن.
8- الحندس: الليل الشديد الظلمة، و يقال أيضا: ليلة ظلماء حندس على الصفة.
9- النصاب: الأصل.

/

و قاموا لهم دون العدا و كفوهم *** بسمر القنا و المرهفات القواضب(1)

و حاموا على(2) أحسابهم و كرائم *** حسان الوجوه واضحات التّرائب

و إن أمير المؤمنين لعائد *** بإنعامه فيهم على كلّ تائب

إذا ما دنوا أدناهم و إذا هفوا *** تجاوز عنهم ناظرا في العواقب

شفيق على الأقصين أن يركبوا الرّدى *** فكيف به في واشجات(3) الأقارب

مدح الحسن بن زيد فعاتبه بالتعريض بأهله في مدائحه للمهديّ ثم أكرمه:

قال: فوصله المهديّ بصلة سنيّة، و قدم المدينة فأنفق و بنى داره و لبس ثيابا فاخرة، و لم يزل كذلك مدى حياته بعد ما حباه. ثم قدم(4) على الحسن بن زيد و كانت له عليه وظيفة في كلّ سنة فدخل عليه فأنشده قوله يمدحه:

/

هاج شوقي تفرّق الجيران *** و اعترتني طوارق الأحزان

و تذكّرت ما مضى من زماني *** حين صار الزمان شرّ زمان

يقول فيها يمدح الحسن بن زيد:

و لو أن امرأ ينال خلودا *** بمحلّ و منصب و مكان

أو ببيت ذراه تلصق بالنج *** م قرانا في غير برج قران

أو بمجد الحياة أو بسماح *** أو بحلم أوفى على ثهلان(5)

أو بفضل لناله حسن الخي *** ر بفضل الرسول ذي البرهان

فضله واضح برهط أبي القا *** سم رهط اليقين و الإيمان

هم ذوو النور و الهدى و مدى الأم *** ر و أهل البرهان و العرفان(6)

معدن الحق و النبوّة و العد *** ل إذا ما تنازع الخصمان

و ابن زيد إذا الرجال تجاروا *** يوم حفل و غاية و رهان

سابق مغلق جيز رهان *** ورث السّبق من أبيه الهجان(7)

قال: فلما أنشده إياها دعا به خاليا ثم قال له: يا عاضّ كذا من أمه، أمّا إذا جئت إلى الحجاز فتقول لي هذا، و أما إذا مضيت إلى العراق فتقول:

و إن أمير المؤمنين و رهطه *** لرهط المعالي من لؤيّ بن غالب

ص: 205


1- القواضب: القواطع.
2- ضمن هنا «على» معنى «عن».
3- الواشجات: جمع واشجة و هي الرحم المشتبكة المتصلة.
4- في الأصول «دخل» و السياق يأباها.
5- ثهلان: جبل ضخم بالعالية.
6- في ح: «الفرقان».
7- الهجان: الكريم الحسيب.

أولئك أوتاد البلاد و وارثو ال *** نبيّ بأمر الحقّ غير التّكاذب

فقال له: أ تنصفني يا ابن الرسول أم لا؟ فقال: نعم، فقال: أ لم أقل:

و إن أمير المؤمنين و رهطه

/أ لستم رهطه؟ فقال: دع هذا، أ لم تقدر أن ينفق شعرك و مديحك إلا بتهجين أهلي و الطعن عليهم و الإغراء بهم حيث تقول:

و ما نقموا إلا المودّة منهم *** و أن غادروا فيهم جزيل المواهب

و أنهم نالوا لهم بدمائهم *** شفاء نفوس من قتيل و هارب

فوجم ابن المولى و أطرق ثم قال: يا ابن الرسول إن الشاعر يقول و يتقرّب بجهده، ثم قام فخرج من عنده منكسرا، فأمر الحسن وكيله أن يحمل إليه وظيفته و يزيده فيها ففعل، /فقال ابن المولى: و اللّه لا أقبلها و هو عليّ ساخط، فأما إن قرنها بالرضا فقبلتها، و أما إن أقام و هو عليّ ساخط البتّة فلا؛ فعاد الرسول إلى الحسن فأخبره؛ فقال له: قل له: قد رضيت فاقبلها. و دخل على الحسن فأنشده قوله فيه:

سألت فأعطاني و أعطى و لم أسل *** و جاد كما جادت غواد(1) رواعد

فأقسم لا أنفكّ أنشد مدحه *** إذا جمعتني في الحجيج المشاهد

إذا قلت يوما في ثنائي قصيدة *** ثنيت بأخرى حيث تجزى القصائد

مدح يزيد بن حاتم بولايته الأهواز و غلبته على الأزارقة فأجازه:
اشارة

قال الحزنبل: و حدّثني مالك بن وهب مولى يزيد بن حاتم المهلّبيّ قال:

لما انصرف يزيد بن حاتم من حرب الأزارقة(2) و قد ظفر، خلع عليه و عقد له لواء على كور الأهواز و سائر ما افتتحه، فدخل عليه ابن المولى و قد مدحه فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشده:

صوت

ألا يا لقومي هل لما فات مطلب *** و هل يعذرن ذو صبوة و هو أشيب

يحنّ إلى ليلى و قد شطّت النوى *** بليلى كما حنّ اليراع المثقّب(3)

/غنّى في هذين البيتين عطرّد، و لحنه رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة؛ و فيه ليونس لحن ذكره لنفسه في كتابه و لم يذكر طريقته.

تقرّبت(4) ليلى كي تثيب فزادني *** بعادا على بعد إليها التقرّب

ص: 206


1- الغوادي: جمع غادية و هي السحابة تنشأ غدوة.
2- الأزارقة: فرقة من الخوارج و هم أصحاب نافع بن الأزرق.
3- اليراع المثقب: المزمار.
4- كذا في الأصول و لم نجد في «كتب اللغة» التي بأيدينا تقرّب متعديا بنفسه و إنما يقال: تقرّبت إليه، فلعله نصب على حذف الجار.

فداويت وجدي باجتناب فلم يكن *** دواء لما ألقاه(1) منها التجنّب

فلا أنا عند النّأي سال لحبها *** و لا أنا منها مشتف حين تصقب(2)

و ما كنت بالراضي بما غيره الرّضا *** و لكنني أنوي العزاء فأغلب

و ليل خداريّ(3) الرّواق جشمته *** إذا هابه السارون لا أتهيّب

لأظفر يوما من يزيد بن حاتم *** بحبل جوار ذاك ما كنت أطلب

بلوت و قلّبت الرجال كما بلا *** بكفّيه أوساط القداح مقلّب

و صعّدني همّي(4) و صوّب مرّة *** و ذو الهمّ يوما مصعد و مصوّب

لأعرف ما آتى(5) فلم أر مثله *** من الناس فيما حاز شرق و مغرب

أكرّ على جيش و أعظم هيبة *** و أوهب في جود لما ليس يوهب

تصدّى رجال(6) في المعالي ليلحقوا *** مداك و ما أدركته فتذبذبوا

و رمت الذي راموا فأذللت صعبه *** و راموا الذي أذللت منه فأصعبوا(7)

/و مهما تناول من منال سنيّة *** يساعدك فيها المنتمى(8) و المركّب(9)

و منصب(10) آباء كرام نماهم *** إلى المجد آباء كرام و منصب

صوت

كواكب دجن كلّما انقضّ كوكب *** بدا منهم بدر منير و كوكب

أنار به آل المهلّب بعد ما *** هوى منكب منهم بليل و منكب

/و ما زال إلحاح الزمان عليهم *** بنائبة كادت لها الأرض تخرب(11)

فلو أبقت الأيام حيّا نفاسة *** لأبقاهم للجود ناب و مخلب

ص: 207


1- كذا في ح و هو المناسب. و في باقي الأصول: «أبقاه».
2- تصقب: تقرب.
3- الخداريّ: المظلم.
4- الهمّ: ما يهم به الرجل في نفسه و هو هنا كناية عن العزم.
5- كذا في أ، ء، م. و في باقي الأصول: «أتلى» و هو تحريف.
6- كذا في جميع النسخ و الذي في «كتب اللغة» أن «تصدّى» يتعدّى باللام.
7- يقال: أصعب الرجل الشيء إذا وجده صعبا.
8- في جميع الأصول: «المنتهى» و هو محرف عن المنتمى أي المنتمي إليه، يقال: انتمى فلان إلى حسب أي ارتفع إليه، و انتمى إلى فلان أي ارتفع في نسبه إليه، قال الفرزدق: فصارت لذهل دون شيبان إنهم ذوو العز عند المنتمي و التكرم
9- المركّب: المنبت، يقال: فلان كريم المركب أي كريم الأصل.
10- المنصب: الأصل و المنبت.
11- في ح و في سائر الأصول: «تجرب» بالجيم المعجمة، و الأرض الجرباء: الممحلة المقحوطة، و لم نجد في «كتب اللغة» التي بين أيدينا ورود فعل من هذه المادة بهذا المعنى، و من المحتمل أن تكون «تجدب» و هي بمعناها.

و كنت ليومي نعمة و نكاية *** كما فيهما للنّاس كان المهلّب

ألا حبّذا الأحياء منكم و حبّذا *** قبور بها موتاكم حين غيّبوا

فأمر له يزيد بن حاتم بعشرة آلاف درهم و فرس بسرجه و لجامه و خلعة، و أقسم على من كان بحضرته أن يجيزوه كلّ واحد منهم بما يمكنه، فانصرف بملء يده.

كان عمرو بن أبي عمرو ينشد من شعره و يستحسنه:
اشارة

قال الحزنبل: أنشدني عمرو بن أبي عمرو لابن المولى و كان يستحسنها:

صوت

حيّ المنازل قد بلينا *** أقوين(1) عن مرّ السنّينا

و سل الدّيار لعلّها *** تخبرك(2) عن أمّ البنينا

/بانت و كلّ قرينة *** يوما مفارقة قرينا

و أخو الحياة من الحيا *** ة معالج غلظا و لينا

غنّى في هذه الأبيات نبية(3) خفيف ثقيل بالبنصر.

و ترى الموكّل بالغوا *** ني راكبا أبدا فنونا

و من البليّة أن تدا *** ن بما كرهت و لن تدينا

و المرء تحرم نفسه *** ما لا يزال به حزينا

و تراه يجمع ماله *** جمع الحريص لوارثينا

يسعى بأفضل سعيه *** فيصير ذاك لقاعدينا

لم يعط ذا النّسب القري *** ب و لم يجد للأبعدينا

قد حلّ منزله الذمي *** م و فارق المتنصّحينا(4)

مدح المهدي بولايته الخلافة فأكرمه و فرض له لعياله ما يكفيه:
اشارة

قال الحزنبل: و ذكر أحمد بن صالح بن النّطّاح عن المدائنيّ: أن المهديّ لمّا وليّ الخلافة و حجّ فرّق في قريش و الأنصار و سائر الناس أموالا عظيمة و وصلهم صلات سنيّة، فحسنت أحوالهم بعد جهد أصاب الناس في أيّام أبيه، لتسرّعهم(5) مع محمد بن عبد اللّه بن حسن، و كانت سنة ولايته سنة خصب و رخص، فأحبّه الناس و تبرّكوا به، و قالوا: هذا هو المهديّ، و هذا ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و سميّه، فلقوه فدعوا له و أثنوا عليه، و مدحته الشعراء، فمدّ

ص: 208


1- أقوين: أقفرن.
2- سكّن «تخبرك» لضرورة الوزن.
3- العرب يسمون بنبيه كزبير و بنبيه كأمير، و لم نستطع ترجيح أحد الضبطين في هذا الاسم.
4- التنصح: كثرة النصح و منه قول أدم بن صيفي: «إياكم و التنصح فإنه يورث التهمة».
5- كذا في ح، و في باقي الأصول: «لتسرحهم» بالحاء، و التسرّح الذهاب.

عينه في الناس فرأى ابن المولى فأمر بتقريبه فقرّب منه؛ فقال له: هات يا مولى الأنصار ما عندك، فأنشده [قوله فيه](1):

/

يا ليل لا تنجلي يا ليل بالزاد *** و اشفي بذلك داء الحائم الصادي

و أنجزي عدة كانت لنا أملا *** قد جاء ميعادها من بعد ميعاد

ما ضرّه غير أن أبدي مودّته *** إنّ المحبّ هواه ظاهر بادي

ثم قال فيها يصف ناقته:

/

تطوي البلاد إلى جمّ منافعه *** فعّل خير لفعل الخير عوّاد

للمهتدين(2) إليه من منافعه *** خير يروح و خير باكر غادي

أغنى قريشا و أنصار النبيّ و من *** بالمسجدين بإسعاد و إحفاد(3)

كانت منافعه في الأرض شائعة *** تترى(4) و سيرته كالماء للصّادي

خليفة اللّه عبد اللّه والده *** و أمّه حرّة تنمى لأمجاد

من خير ذي يمن في خير رابية *** من القبول إليها معقل(5) النّادي

حتى أتى على آخرها؛ فأمر له بعشرة آلاف درهم و كسوة، و أمر صاحب الجاري(6) بأن يجري له و لعياله في كلّ سنة ما يكفيهم، و ألحقهم في شرف العطاء.

قال: و ذكر ابن النطّاح عن عبد اللّه بن مصعب الزبيريّ قال:

وفدنا إلى المهديّ و نحن جماعة من قريش و الأنصار، فلما دخلنا عليه سلّمنا و دعونا و أثنينا، فلما فرغنا من كلامنا أقبل على ابن المولى فقال: هات يا محمّد ما قلت، فأنشده:

صوت

نادى الأحبّة باحتمال *** إنّ المقيم إلى زوال

ردّ القيان(7) عليهم *** ذلل المطيّ من الجمال

فتحمّلوا بعقيلة *** زهراء آنسة الدّلال

ص: 209


1- زيادة في أ، ء، م.
2- في أ، ح: «للمجمّدين».
3- إحفاد: إسراع في مرضاتهم و قضاء حاجاتهم.
4- تترى: متواترة.
5- معقل: ملجأ، يقال: عقل إليه عقلا و عقولا أي لجأ، و النادي: مجتمع القوم، و يراد به القوم المجتمعون.
6- الجاري: الجراية و هي ما يقدر من الرزق فيجري على صاحبه باتصال، قال صاحب «اللسان» في مادة جرى: «و الجراية الجاري من الوظائف».
7- القيان: جمع قين و هو العبد أو القينة و هي الجارية. و قد قيل في قول زهير: رد القيان جمال الحيّ فاحتملوا إنّه أراد بالقيان الإماء أي أنهنّ رددن الجمال إلى الحيّ لشد أقتابها عليها، و قيل: أراد العبيد و الإماء (انظر «اللسان» مادّة قين).

كالشمس راق جمالها *** بين النّساء على الجمال

لمّا رأيت جمالهم *** في الآل(1) تغرق باللآلي

يا ليت ذلك بعد أن *** أظهرت أنّك لا تبالي

و لمثل ما جرّبت من *** إخلافهنّ لذي الوصل

أسلاك عن طلب الصّبا *** و أخو الصّبا لا بدّ سالي

يا ابن الأطايب للأطا *** يب ذا المكارم و المعالي

و ابن الهداة بنى الهدا *** ة و كاشفي ظلم الضّلال

أصبحت أكرم غالب *** عند التّفاخر و النّضل

و إذا تحصّل(2) هاشم *** يعلو بمجدك كلّ عالي

و يكون بيتك منهم *** في الشاهقات من القلال(3)

/هذا و أنت ثمالها(4) *** و ابن الثّمال أخو(5) الثّمال

و مآلها بأمورها *** إنّ الأمور إلى مآل

قال: فأمر له خاصّة بعشرة آلاف درهم معجّلة، ثم ساواه بسائر الوفد بعد ذلك في الجائزة و أعطاه مثل ما أعطاهم، و قال: ذلك بحقّ المديح، و هذا بحقّ الوفادة.

سأل عنه عبد الملك لما قدم المدينة ثم تبعه ابن المولى و أنشده فأجازه:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ أبو أحمد و عمّي قالا حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني إبراهيم بن إسحاق بن عبد الرحمن بن طلحة بن عمر بن عبيد اللّه قال حدّثني عبد اللّه بن إبراهيم/الجمحيّ قال:

قدم عبد الملك بن مروان المدينة، و كان ابن المولى يكثر مدحه، و كان يسأل عنه من غير أن يكونا التقيا - قال: و ابن المولى مولى الأنصار - فلما قدم عبد الملك المدينة قدم ابن المولى، لما بلغه من مسألة عبد الملك عنه، فوردها و قد رحل عبد الملك عنها، فأتبعه(6) فأدركه بإضم بذي خشب بين عين مروان و عين الحديد، و هما جميعا لمروان، فالتفت عبد الملك إليه و ابن المولى على نجيب متنكّبا قوسا عربية، فقال له عبد الملك: ابن المولى؟ قال: لبّيك يا أمير المؤمنين؛ قال: مرحبا بمن نالنا شكره و لم ينله منا فعل، ثم قال له: أخبرني عن ليلى التي تقول فيها:

ص: 210


1- الآل: السراب، و قيل الآل من الضحى إلى زوال الشمس، و السراب بعد الزوال إلى صلاة العصر.
2- تحصل: تخلص و يماز بين بيوتها، و في الحديث: «بذهب لم تحصل من ترابها» أي لم تخلص (و الذهب يذكر و يؤنث). و يقال للمرأة التي تميز الذهب من الفضة: محصله.
3- القلال: جمع قلة و هي أعلى الجبل، و قلة كل شيء رأسه و أعلاه.
4- الثمال: الغياث.
5- كذا في ء، و في باقي الأصول «أخي».
6- فأتبعه: تبعه و ذلك إذا كان سبقه فلحقه، و في القرآن الكريم: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ).

و أبكى فلا ليلى بكت من صبابة *** إليّ و لا ليلى لذي الودّ تبذل

و اللّه لئن كانت ليلى حرّة لأزوّجنّكها، و لئن كانت أمة لأبتاعنّها لك بما بلغت، فقال: كلاّ يا أمير المؤمنين، و اللّه ما كنت لأذكر حرمة حرّ أبدا و لا أمته، و اللّه ما ليلى إلا قوسي هذه، سمّيتها ليلى لأشبّب بها، و إن الشاعر لا يستطاب إذا/لم يتشبّب(1)؛ فقال له عبد الملك: ذلك و اللّه أظرف لك، فأقام عنده يومه و ليلته ينشده و يسامره، ثم أمر له بمال و كسوة، و انصرف إلى المدينة.

وقف لجعفر بن سليمان على طريقه و أنشده شعرا:

أخبرني حبيب المهلّبيّ عن الزّبير و غيره عن محمد بن فضالة النحويّ قال:

قدم ابن المولى البصرة، فأتى جعفر بن سليمان فوقف على طريقه و قد ركب فناداه:

كم صارخ يدعو و ذي فاقة *** يا جعفر الخيرات يا جعفر

أنت الذي أحييت بذل الندى *** و كان قد مات فلا يذكر

سليل عبّاس وليّ الهدى *** و من به في المحل يستمطر

هذا امتداحيك عقيد(2) الندى *** أشهد(3) بالمجد لك الأشقر

ص: 211


1- في أ، ء، م: «لم ينسب» بالسين و هي بمعناها.
2- العقيد: المعاهد و الحليف.
3- في أ، ء، م: «أشهر».

35 - أخبار عطرّد و نسبه

ولاؤه وصفته و هو مغن مقبول الشهادة فقيه:

عطرّد مولى الأنصار، ثم مولى بن عمرو بن عوف، و قيل: إنه مولى مزينة، مدنيّ، يكنى أبا هارون، و كان ينزل قباء. و زعم إسحاق أنه كان جميل الوجه، حسن الغناء، طيّب الصوت، جيّد الصّنعة، حسن الرأي و المروءة، فقيها قارئا للقرآن، و كان يغنّي مرتجلا، و أدرك دولة بني أميّة، و بقي إلى أيام الرشيد، و ذكر ابن خرداذبه فيما حدّثني به عليّ بن عبد العزيز عنه: أنه كان معدّل الشهادة بالمدينة؛ أخبره بذلك يحيى بن عليّ المنجم عن أبي أيّوب المدينيّ عن إسحاق.

جاءه عباد بن سلمة ليلا و طلب منه أن يغنيه:

و أخبرنا محمد بن خلف وكيع عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه:

أن سلمة بن عبّاد ولي القضاء بالبصرة، فقصد ابنه عبّاد بن سلمة عطرّدا و هو بها مقيم قد قصد آل سليمان بن عليّ و أقام معهم؛ فأتى بابه ليلا فدقّ عليه و معه جماعة من أصحابه أصحاب القلانس، فخرج عطرّد إليه، فلما رآه و من معه فزع؛ فقال: لا ترع.

إني قصدت إليك من أهلي *** في حاجة يأتي لها مثلي

فقال: و ما هي أصلحك اللّه؟ قال:

لا طالبا شيئا إليك سوى *** «حيّ الحمول بجانب العزل»(1)

/فقال: انزلوا على بركة اللّه، فلم يزل يغنّيهم هذا و غيره حتى أصبحوا.

نسبة هذا الصوت
صوت

حيّ الحمول بجانب العزل *** إذ لا يوافق شكلها شكلي

اللّه أنجح ما طلبت به *** و البرّ خير حقيبة الرّحل

إني بحبلك واصل حبلي *** و بريش نبلك رائش نبلي

و شمائلي ما قد علمت و ما *** نبحت كلابك طارقا مثلي

الشعر لامرئ القيس بن عابس الكنديّ، هكذا روى أبو عمرو الشّيبانيّ، و قال: إن من يرويه

ص: 212


1- العزل: موضع في ديار قيس، ذكره البكري في «معجم ما استعجم» (ج 2 ص 659)، و استشهد له بهذا الشطر من شعر امرئ القيس.

لامرئ القيس بن حجر يغلط. و الغناء لعطّرد ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو بن بانة، و فيه لعمرو بن بانة ثقيل بالوسطى من روايته أيضا، و فيه لابن عائشة خفيف رمل بالبنصر، و فيه عنه و عن دنانير لمالك خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، و فيه عنه أيضا لإبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر.

غناء إبراهيم بن خالد المعيطي عند المهدي:

و أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ و أخبرني به الحسن بن عليّ قال:

كتب إليّ أبو أيّوب المدينيّ، و خبره أتمّ، قال: حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن أبيه عن إبراهيم بن خالد المعيطيّ(1) قال:

دخلت على المهديّ، و قد كان وصف له غنائي، فسألني عن الغناء و عن علمي به، فجاذبته من ذلك طرفا؛ فقال لي: أ تغنّي النواقيس؟ قلت: نعم، و أغنّي الصّلبان يا أمير المؤمنين، فتبسّم. و النواقيس لحن معبد، كان معبد و أهل الحجاز يسمونه النواقيس، و هو:

سلا دار ليلى هل تبين فتنطق *** و أنّي تردّ القول بيداء سملق

/قال: ثم قال لي المهديّ و هو يضحك: غنّه، فغنّيته فأمر لي بمال جزيل و خلع عليّ و صرفني، ثم بلغني أنه قال: هذا معيطيّ(2) و أنا لا آنس به، و لا حاجة لي إلى أن أدنيه من خلوتي و أنا لا آنس به. هكذا ذكر في هذا الخبر أن اللّحن لمعبد، و ما ذكره أحد من رواة الغناء له، و لا وجد في ديوان من دواوينهم منسوبا إليه على انفراد به(3)و لا شركة فيه، و لعلّه غلط.

تنادر إبراهيم بن خالد المعيطيّ على ابن جامع:

و قد أخبرني هذا الخبر الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:

كان إبراهيم بن خالد المعيطيّ يغنّي، فدخل يوما الحمّام و ابن جامع فيه، و كان له شيء يجاوز ركبتيه، فقال له ابن جامع: يا إبراهيم أ تبيع هذا البغل؟ قال: لا بل أحملك عليه يا أبا القاسم؛ فلما خرج ابن جامع من الحمّام رأى ثياب المعيطي رثّة فأمر له بخلعة من ثيابه، فقال له المعيطيّ: لو قبلت حملاني(4) قبلت خلعتك، فضحك ابن جامع و قال له: مالك أخزاك اللّه! ويلك! أ ما تدع ولعك و بطالتك و شرّك! و دخل إلى الرشيد فحدّثه حديثه؛ فضحك و أمر بإحضاره، فأحضر، فقال له: أ تغنّي النواقيس؟ قال: نعم، و أغنّي الصلبان أيضا. ثم ذكر باقي الخبر مثل الذي تقدّمه.

ص: 213


1- هذا الخبر و الذي بعده خاصان «بإبراهيم بن خالد المعيطيّ» و لم نجد أية مناسبة لذكرهما هنا في أخبار «عطرد» و قد ورد مثل ذلك كثيرا في «الأغاني» و لم نعرف له تعليلا.
2- ذكر صاحب «القاموس» أبا معيط والد عقبة بن أبي معيط و ذكر أن معيطا أبو حيّ من قريش و لم يذكر السمعاني في «الأنساب» عند اسم «المعيطي» إلا المنسوبين إلى أبي معيط إما بالولادة و إما بالولاء؛ و لعل إبراهيم هذا منسوب إلى أبي معيط، و يكون المهديّ قد أنكره لما كان من عقبة بن أبي معيط من شدّة إيذائه للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم حتى إنه قذف على ظهره سلى جزور و هو ساجد عند الكعبة، و بنو أبي معيط يسمّون صبية النار، لأن عقبة حين أخذ يوم بدر و أراد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قتله، قال: من للصبية بعدي؟ قال: النار (انظر «الأغاني» ج 1 ص 17 من هذه الطبعة).
3- كذا في أ، ء، م، و في باقي الأصول: «انفراده» بالإضافة و بدون «به».
4- الحملان: ما يحمل عليه من الدواب في الهبة خاصة.
كان عطرّد منقطعا إلى آل سليمان بن عليّ:
اشارة

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ عن إسحاق قال:

كان عطرّد منقطعا في دولة بني هاشم إلى آل سليمان بن عليّ لم يخدم غيرهم، و توفّي في خلافة المهديّ.

قال: و كان يوما يغنّي/بين يدي سليمان بن عليّ، فغنّاه:

صوت

أله فكم من ماجد قد لها *** و من كريم عرضه وافر

- الغناء لعطرّد ثاني ثقيل عن الهشاميّ - فقيل له: سرقت هذا من لحن الغريض:

يا ربع سلاّمة بالمنحنى *** فخيف(1) سلع جادك الوابل

فقال: لم أسرقه و لكنّ العقول تتوافق، و حلف أنه لم يسمعه قطّ.

نسبة هذا الصوت
صوت

يا ربع سلاّمة بالمنحنى *** فخيف سلع جادك الوابل

إن تمس وحشا طالما قد ترى *** و أنت معمور بهم آهل

أيام سلاّمة رعبوبة(2) *** خود لعوب حبّها قاتل

محطوطة(3) المتن هضيم الحشى *** لا يطّبيها(4) الورع(5) الواغل(6)

/الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن يحيى المكيّ. قال: و من الناس من ينسبه إلى ابن سريج.

حبسه زبراء والي المدينة مع المغنين ثم أطلقه و أطلقهم:

أخبرني أحمد بن عليّ بن يحيى قال سمعت جدّي عليّ بن يحيى قال حدّثني أحمد بن إبراهيم الكاتب قال حدّثني خالد بن كلثوم قال:

كنت مع زبراء بالمدينة و هو وال عليها؛ و هو من بني هاشم أحد بني ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، فأمر بأصحاب الملاهي فحبسوا و حبس عطرّد فيهم، فجلس ليعرضهم، و حضر رجال من أهل المدينة شفعوا لعطرّد، و أخبروه أنه من أهل الهيئة و المروءة و النّعمة و الدّين، فدعا به فخلّى سبيله، و أمره برفع حوائجه إليه فدعا له، و خرج فإذا هو بالمغنّين أحضروا ليعرضوا، فعاد إليه عطرّد، فقال: أصلح اللّه الأمير، أعلى الغناء حبست هؤلاء؟

ص: 214


1- الخيف: الناحية أو ما انحدر عن غلظ الجبل و ارتفع عن مسيل الماء. و سلع: اسم لمواضع كثيرة: منها جبال و منها أودية.
2- الرعبوبة: الناعمة.
3- محطوطة المتن: ممدودته في حسن و استواء.
4- لا يطبيها: لا يستميلها.
5- الورع: الجبان الضعيف.
6- الواغل: الداخل على القوم في طعامهم و شرابهم من غير دعوة.

قال: نعم؛ قال: فلا تظلمهم، فو اللّه ما أحسنوا منه شيئا قط! فضحك و خلّى سبيلهم.

استقدمه الوليد بن يزيد من المدينة فغناه فطرب و ألقى نفسه في بركة خمر:

أخبرني محمد بن مزيد و جحظة قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال قرأت على أبي عن محمد بن عبد الحميد بن إسماعيل بن عبد الحميد بن يحيى عن عمّه أيّوب بن إسماعيل قال:

لما استخلف الوليد بن يزيد كتب إلى عامله بالمدينة يأمره بالشخوص إليه بعطرّد المغنّي؛ قال عطرّد: فأقرأني العامل الكتاب و زوّدني نفقة و أشخصني إليه، فأدخلت عليه و هو جالس في قصره على شفير بركة مرصّصة مملوءة خمرا ليست بالكبيرة و لكنها يدور الرجل فيها سباحة، فو اللّه ما تركني أسلّم عليه حتى قال: /أ عطرد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: لقد كنت إليك مشتاقا يا أبا هارون. غنّني:

حيّ الحمول بجانب العزل *** إذ لا يلائم شكلها شكلي

إني بحبلك واصل حبلي *** و بريش نبلك رائش نبلي

و شمائلي ما قد علمت و ما *** نبحت كلابك طارقا مثلي

قال: فغنّيته إيّاه، فو اللّه ما أتممته حتى شقّ حلّة وشى كانت عليه لا أدري كم قيمتها، فتجرّد/منها كما ولدته أمّه و ألقاها نصفين، و رمى بنفسه في البركة فنهل منها حتى تبيّنت - علم اللّه - فيها أنها قد نقصت نقصانا بينا، و أخرج منها و هو كالميّت سكرا، فأضجع و غطّي، فأخذت الحلّة و قمت، فو اللّه ما قال لي أحد: دعها و لا خذها، فانصرفت إلى منزلي متعجّبا مما رأيت من ظرفه و فعله و طربه؛ فلما كان من غد جاءني رسوله في مثل الوقت فأحضرني، فلما دخلت عليه قال لي: يا عطرّد، قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين؛ قال غنّني:

أ يذهب عمري هكذا لم أنل بها *** مجالس تشفي قرح قلبي من الوجد

و قالوا تداو إنّ في الطّبّ راحة *** فعلّلت نفسي بالدواء فلم يجد

فغنّيته إيّاه، فشقّ حلّة وشى كانت تلتمع عليه بالذهب التماعا احتقرت و اللّه الأولى عندها، ثم ألقى نفسه في البركة فنهل فيها حتى تبيّنت - علم اللّه - نقصانها، و أخرج [منها](1) كالميّت سكرا، و ألقي و غطّي فنام، و أخذت الحلّة فو اللّه ما قال لي أحد: دعها و لا خذها، و انصرفت؛ فلما كان اليوم الثالث جاءني رسوله فدخلت إليه و هو في بهو قد ألقيت ستوره، فكلّمني من وراء الستور و قال: يا عطرّد/، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين؛ قال: كأني بك الآن قد أتيت المدينة فقمت بي في مجلسها و محفلها و قعدت و قلت: دعاني أمير المؤمنين فدخلت إليه فاقترح عليّ فغنّيته و أطربته فشقّ ثيابه و أخذت سلبه و فعل و فعل، و اللّه يا ابن الزانية، لئن تحرّكت شفتاك بشيء مما جرى فبلغني لأضربنّ عنقك، يا غلام أعطه ألف دينار، خذها و انصرف إلى المدينة؛ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في تقبيل يده، و يزوّدني نظرة منه و أغنّيه صوتا! فقال: لا حاجة بي و لا بك إلى ذلك، فانصرف. قال عطرّد:

فخرجت من عنده و ما علم اللّه أني ذكرت شيئا مما جرى حتى مضت من دولة بني هاشم مدّة.

ص: 215


1- الزيادة عن ء.
نسبة هذين الصوتين

الصوت الأوّل ممّا غنّاه عطرّد الوليد قد نسب في أوّل أخباره، و الثاني الذي أوّله:

أ يذهب عمري هكذا لم أنل بها

الغناء فيه لعطرّد ثاني ثقيل بالسبّابة(1) في مجرى البنصر عن إسحاق، و فيه ليونس من كتابه لحن لم يذكر طريقته؛ و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى.

صوت من المائة المختارة

إن امرأ تعتاده ذكر(2) *** منها ثلاث منى لذو صبر

و مواقف بالمشعرين(3) لها *** و مناظر الجمرات(4) و النحر

و إفاضة الرّكبان خلفهم *** مثل الغمام أرذّ(5) بالقطر

حتى استلمن الركن في أنف(6) *** من ليلهنّ يطأن في الأزر(7)

يقعدن في التّطواف آونة *** و يطفن أحيانا على فتر(8)

/ففرغن من سبع و قد جهدت(9) *** أحشاؤهنّ موائل الخمر(10)

الشعر للحارث بن خالد المخزوميّ، و الغناء في اللحن المختار للأبجر، و إيقاعه من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر في الأوّل و الثاني و السادس من الأبيات عن إسحاق. و فيه للغريض خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و لابن سريج في الثالث و الرابع رمل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق.

ص: 216


1- في أ، م، ء: «ثاني ثقيل بالوسطى».
2- كذا في ء، أ، م، و في باقي الأصول ذكرى.
3- المشعر: موضع مناسك الحج.
4- الجمرات: الحصى الذي يرمي به الحاجّ.
5- أرذ: أمطر الرذاذ و هو المطر الضعيف.
6- الأنف: أوّل زمان مستقبل.
7- الأزر: جمع إزار.
8- الفتر: الضعف.
9- جهد (بضم الجيم على البناء للمفعول): صار مجهودا.
10- الخمر: جمع خمار و هو ما تغطّي به المرأة رأسها.

36 - أخبار الحارث بن خالد المخزوميّ و نسبه

نسبه من قبل أبويه:

الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب. و أمّه فاطمة بنت أبي سعيد بن الحارث بن هشام، و أمّها بنت أبي جهل بن هشام. و كان العاص بن هشام جدّ الحارث بن خالد خرج مع المشركين يوم بدر فقتله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

قامر أبو لهب العاص بن هاشم على نفسه فاسترقه و أرسله بدله يوم بدر:

حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدّثني مصعب بن عبد اللّه قال:

قامر أبو لهب العاص بن هشام في عشر من الإبل فقمره(1) أبو لهب، ثم في عشر فقمره، ثم في عشر فقمره، ثم في عشر فقمره، ثم في عشر فقمره، إلى أن خلعه من ماله فلم يبق له شيء، فقال له: إني أرى القداح قد حالفتك يا ابن عبد المطّلب فهلمّ أقامرك، فأيّنا قمر كان عبدا لصاحبه، قال: افعل، ففعل، فقمره أبو لهب فكره أن يسترقّه فتغضب بنو مخزوم، فمشى إليهم و قال: افتدوه منّي بعشر من الإبل؛ فقالوا: لا و اللّه و لا بوبرة، فاسترقّه فكان يرعى له إبلا إلى أن خرج المشركون إلى بدر. و قال غير مصعب: فاسترقّه و أجلسه قينا(2) يعمل الحديد.

فلما خرج المشركون إلى بدر كان من لم يخرج أخرج بديلا، و كان أبو لهب عليلا فأخرجه و قعد، على أنه إن عاد إليه أعتقه، فقتله عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه يومئذ.

ذهابه مذهب ابن أبي ربيعة في الغزل، و حبه عائشة بنت طلحة و ولايته مكة:

و الحارث بن خالد أحد شعراء قريش المعدودين الغزليّين، و كان يذهب مذهب عمر بن أبي ربيعة لا يتجاوز الغزل إلى المديح و لا الهجاء، و كان يهوى عائشة بنت طلحة بن عبيد اللّه و يشبّب بها؛ و ولاّه عبد الملك بن مروان مكّة، و كان ذا قدر و خطر و منظر في قريش؛ و أخوه عكرمة بن خالد المخزوميّ محدّث جليل من وجوه التابعين، قد روى عن جماعة من الصحابة؛ و له أيضا أخ يقال له عبد الرحمن بن خالد، شاعر، و هو الذي يقول:

رحل الشباب وليته لم يرحل *** و غدا لطيّة(3) ذاهب متحمّل(4)

ولّى بلا ذمّ و غادر بعده *** شيبا أقام مكانه في المنزل

ليت الشباب ثوى لدينا حقبة *** قبل المشيب وليته لم يعجل

ص: 217


1- قمره: غلبه في المقامرة.
2- القين: الحدّاد.
3- الطية: المنتأى، و القصد، و النية التي تنتوي.
4- المتحمل: الراحل.

فنصيب من لذّاته و نعيمه *** كالعهد إذ هو في الزمان الأوّل

و فيه غناء.

كان أبو عمرو بن العلاء يرسل إليه أخاه معاذا يسأله عن بعض الحروف:

حدّثني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ قال:

قال معاذ بن العلاء أخو أبي عمرو بن العلاء: كان أبو عمرو إذا لم يحجّ استبضعني(1) الحروف(2) أسأل عنها الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة الشاعر و آتيه بجوابها؛ قال: فقدمت عليه سنة من السنين و قد ولاّه عبد الملك بن مروان مكة، فلما رآني قال: يا معاذ، /هات ما معك من بضائع أبي عمرو، فجعلت أعجب من اهتمامه بذلك و هو أمير.

هو أحد شعراء قريش الخمسة المشهورين:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار، و أخبرني به الحسن بن عليّ عن أحمد بن سعيد عن الزبير، و لفظه أتمّ، قال حدّثني محمد بن الضحّاك الحزاميّ قال:

كانت العرب تفضّل قريشا في كلّ شيء إلا الشعر، فلما نجم في قريش عمر بن أبي ربيعة و الحارث بن خالد المخزوميّ و العرجيّ و أبو دهبل و عبيد(3) اللّه بن قيس الرّقيّات(4)، أقرّت لها العرب بالشعر أيضا.

تفاخر مولى له و مولى لابن أبي ربيعة بشعريهما:

أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم و إسماعيل بن يونس و حبيب بن نصر و أحمد بن عبد العزيز قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن يحيى أبو غسّان قال:

تفاخر مولى لعمر بن أبي ربيعة و مولى للحارث بن خالد بشعريهما، فقال مولى الحارث لمولى عمر: دعني منك فإنّ مولاك و اللّه لا يعرف المنازل إذا قلبت، يعني قول الحارث:

إني و ما نحروا غداة منى *** عند الجمار تئودها(5) العقل

ص: 218


1- كذا في الأصول، و لم نجد في «كتب اللغة» التي بأيدينا ك «اللسان» و «القاموس» «استبضع» متعديا لمفعولين، و الموجود «استبضع الشيء» أي جعله بضاعته. و الموجود متعديا من هذه المادة «أبضعني» فإنه يقال: أبضعني البضاعة أي أعطاني إياها.
2- الحروف: الكلمات واحدها حرف.
3- كذا ورد هذا الاسم في «الأغاني» في ترجمته ج 4 ص 155 طبع بولاق و «شرح القاموس» مادة «رقى» و «ولاة مصر» للكندي ص 52 و «الموشح» للمرزباني ص 150، 186، 221 و قد ورد في جميع الأصول: «عبد اللّه» و ورد كذلك في «نقائض جرير و الفرزدق» ص 598 و قد ورد في الطبري قسم 2 ص 790، 812، 828، 1173 باسم ابن قيس الرقيات فقط، و ذكر البغدادي في «الخزانة»: أن لقيس ابنين عبيد اللّه و عبد اللّه و اختلفوا في الشاعر منهما، فقال ابن قتيبة و المبرد في «الكامل»: هو عبد اللّه المكبر، و قال المرزبانيّ في «معجمه»: هو عبيد اللّه بالتصغير، قال: و من الرواة من يقول الشاعر عبد اللّه و هو خطأ.
4- ذكر البغدادي في «الخزانة» في ترجمته ج 3 ص 267 أنه يقال: الرقيات بالرفع على أنه صفة لعبد اللّه و بالجر على الإضافة لأنه قيل: إن في جدّاته ثلاث نسوة يسمين بهذا الاسم أو أنهن زوجاته أو محبوباته.
5- كذا في ح، و معناه تثقلها. و في سائر الأصول «تؤدّها» من أدّه الأمر يؤدّه و يئدّه إذا دهاه. و العقل: جمع عقال و يجوز في عين هذا الجمع التسكين كما هنا.

لو بدّلت أعلى(1) مساكنها *** سفلا و أصبح سفلها يعلو

/فيكاد يعرفها الخبير بها *** فيردّه الإقواء(2) و المحل

لعرفت مغناها بما احتملت *** منّي الضلوع لأهلها قبل

- قال عمر بن شبّة: و حدّثني محمد بن سلاّم بهذا الخبر على نحو ممّا ذكره أبو غسّان، و زاد فيه: - فقال مولى ابن أبي ربيعة لمولى الحارث: و اللّه ما يحسن مولاك في شعر إلا نسب إلى مولاي.

قال ابن سلاّم: و أنشد الحارث بن خالد عبد اللّه بن عمر هذه الأبيات كلّها حتى انتهى إلى قوله:

لعرفت مغناها بما احتملت *** منّي الضلوع لأهلها قبل

فقال له ابن عمر: قل: إن شاء اللّه؛ قال: إذا يفسد بها الشعر يا عمّ، فقال له: يا بن أخي، إنه لا خير في شيء يفسده «إن شاء اللّه». قال عمر: و حدّثني هذه الحكاية إسحاق بن إبراهيم في مخاطبته لابن عمر و لم يسندها إلى أحد، و أظنّه لم يروها إلا عن محمد بن سلاّم. و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان عن أبي الفضل المرورّوذيّ عن إسحاق عن أبي عبيدة، فذكر قصّة الحارث مع ابن عمر مثل الذي تقدّمه.

فضّله كثيّر الشاعر في الشعر على نفسه و أنشد من شعره:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثني أبو سلمة الغفاريّ عن يحيى بن عروة بن أذينة عن أبيه قال:

كان كثيّر جالسا في فتية من قريش إذ مرّ بهم سعيد الراس(3)، و كان مغنّيا، فقالوا لكثيّر: يا أبا صخر، هل لك أن نسمعك غناء هذا، فإنه مجيد؟ قال: افعلوا؛ فدعوا به فسألوه أن يغنّيهم:

صوت

هلاّ سألت معالم الأطلال *** بالجزع من حرض(4) و هنّ بوالي

سقيا لعزّة خلّتي سقيا لها *** إذ نحن بالهضبات من أملال(5)

إذ لا تكلّمنا و كان كلامها *** نفلا(6) نؤمّله من الأنفال

فغنّاه، فطرب كثيّر و ارتاح، و طرب القوم جميعا، و استحسنوا قول كثيّر، و قالوا له: يا أبا صخر ما يستطيع(7)

ص: 219


1- كذا في ح و في باقي الأصول: «أعلام ساكنها» و هو تحريف.
2- أقوت الدار إقواء: أقفرت، و المحل: الجدب.
3- لم نوفق إلى ضبط هذا الاسم، فلعله «الرأس» وزان شداد و هو بائع الرءوس.
4- حرض: واد عند أحد.
5- أملال و يقال له ملل: موضع على طريق المدينة إلى مكة على ثمانية و عشرين ميلا من المدينة، هكذا ذكره ياقوت في «معجمه» و استشهد بهذا البيت من شعر كثيّر.
6- النفل: الغنيمة و العطية.
7- كذا في جميع الأصول «ما يستطيع» بدون همزة الاستفهام، و لكن الجواب بكلمة «بلى» يدل على أن القصد من الجملة الاستفهام، و همزة الاستفهام مما يجوز حذفه (انظر «المغني» لابن هشام في بحث الألف من الباب الأوّل). و يحتمل أن يكون «ما يستطيع» نفيا محضا و أن التحريف في «بلى» و أن أصلها «بل» الإضرابية.

أحد أن يقول مثل هذا؛ فقال: بلى، الحارث بن خالد حيث يقول:

صوت

إني و ما نحروا غداة منى *** عند الجمار تئودها العقل

لو بدّلت أعلى مساكنها *** سفلا و أصبح سفلها يعلو

لعرفت مغناها بما احتملت *** منّي الضلوع لأهلها قبل

نسبة ما في هذه الأخبار من «الأغاني» في أبيات كثيّر الأوّل

التي أوّلها:

هلاّ سألت معالم الأطلال

لابن سريج منها في الثاني و الثالث رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و للغريض في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر عنه. و فيهما(1) لعلّويه/رمل بالوسطى عن عمرو. و في أبيات الحارث بن خالد لإبراهيم الموصليّ رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق أيضا.

تمثّل أشعب بشعره في علوّ الزبيريين على العلويين:

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا الخليل بن أسد عن العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال:

دخل أشعب مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فجعل يطوف الحلق(2)، فقيل له: ما تريد؟ فقال: أستفتي في مسألة؛ فبينا هو كذلك إذ مرّ برجل من ولد الزبير و هو مسند إلى سارية(3) و بين يديه رجل علويّ، فخرج أشعب مبادرا؛ فقال له الذي سأله عن دخوله و تطوافه: أوجدت من أفتاك في مسألتك؟ قال: لا، و لكني علمت ما هو خير لي منها؛ قال:

و ما ذاك؟ قال: وجدت المدينة قد صارت كما قال الحارث بن خالد:

قد بدّلت أعلى مساكنها *** سفلا و أصبح سفلها يعلو

رأيت رجلا من ولد الزبير جالسا في الصدر، و رجلا من ولد عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه جالسا بين يديه، فكفى هذا عجبا، فانصرفت.

كان مروانيا و كل بني مخزوم زبيرية:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرني هذا الخبر إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن يحيى أبو غسّان، و أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا

ص: 220


1- في ب، س، م: «و فيها».
2- الحلق: جمع حلقة و هي دائرة القوم و حلقتهم؛ و هذا الجمع على النادر كهضبة و هضب.
3- السارية: العمود.

عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو(1) عبد اللّه بن محمد بن حفص عن أبيه قال قال محمد بن خلف أخبرني به/أبو أيوب سليمان بن أيوب(2) المدنيّ قال حدّثنا مصعب الزّبيريّ، و أخبرني به أيضا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي، و قد جمعت رواياتهم في هذا الخبر:

أنّ بني مخزوم كلّهم كانوا زبيريّة سوى الحارث بن خالد فإنه كان مروانيا.

ذهب إلى الشام مع عبد الملك فحجبه و جفاه فقال شعرا فقرّبه و ولاه مكة:

فلما ولي عبد الملك الخلافة عام الجماعة وفد عليه في دين كان عليه و ذلك في سنة خمس و سبعين؛ و قال مصعب في خبره: بل حجّ عبد الملك في تلك السنة فلما انصرف رحل معه الحارث إلى دمشق، فظهرت له منه جفوة، و أقام ببابه شهرا لا يصل إليه، فانصرف عنه و قال فيه:

صحبتك إذ عيني عليها غشاوة *** فلما انجلت قطّعت نفسي ألومها

و ما بي و إن أقصيتني من ضراعة *** و لا افتقرت نفسي إلى من يضيمها

هذا البيت في رواية ابن المرزبان وحده:

عطفت عليك النفس حتى كأنما *** بكفّيك بؤسي أو عليك نعيمها

عزله عبد الملك لأنه أخر الصلاة حتى تطوف عائشة بنت طلحة:
اشارة

/و بلغ عبد الملك خبره و أنشد الشعر، فأرسل إليه من ردّه من طريقه؛ فلما دخل عليه قال له: حار(3)، أخبرني عنك: هل رأيت عليك في المقام ببابي غضاضة أو في قصدي دناءة؟ قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين؛ قال:

فما حملك على ما قلت و فعلت؟ قال: جفوة ظهرت لي، كنت(4) حقيقا بغير هذا، قال: فاختر، فإن شئت أعطيتك مائة ألف درهم، أو قضيت دينك، أو ولّيتك مكّة سنة، فولاّه إياها، فحجّ بالناس و حجّت عائشة بنت طلحة عامئذ، و كان يهواها، فأرسلت إليه: أخّر/الصلاة حتى أفرغ من طوافي، فأمر المؤذّنين فأخّروا الصلاة حتى فرغت من طوافها، ثم أقيمت الصلاة فصلّى بالناس، و أنكر أهل الموسم ذلك من فعله و أعظموه، فعزله و كتب إليه يؤنّبه فيما فعل؛ فقال: ما أهون و اللّه غضبه إذا رضيت! و اللّه لو لم تفرغ من طوافها إلى الليل لأخّرت الصلاة إلى الليل. فلمّا قضت حجّها أرسل إليها: يا ابنة عمّي ألمّي بنا أوعدينا مجلسا نتحدّث فيه؛ فقالت: في غد أفعل ذلك، ثم رحلت من ليلتها؛ فقال الحارث فيها:

صوت

ما ضرّكم لو قلتم سددا *** إنّ المطايا عاجل غدها

و لها علينا نعمة سلفت *** لسنا على الأيام نجحدها

لو تمّمت أسباب نعمتها *** تمّت بذلك عندنا يدها

ص: 221


1- كلمة «أبو» ساقطة في ح.
2- في ح: أبو أيوب.
3- حار: ترخيم حارث.
4- كذا في الأصول و لعله «و كنت» بالواو.

لمعبد في هذه الأبيات ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو بن بانة و يونس و دنانير، و قد ذكره إسحاق فنسبه إلى ابن محرز ثقيلا أوّل في أصوات قليلة الأشباه؛ و قال عمرو بن بانة: من الناس من نسبه إلى الغريض.

نسبة ما في الأخبار من الغناء
صوت

و ما بي و إن أقصيتني من ضراعة *** و لا افتقرت نفسي إلى من يهينها

بلى بأبي إني إليك لضارع *** فقير و نفسي ذاك منها(1) يزينها

/البيت الأوّل للحارث بن خالد، و الثاني ألحق به. و الغناء للغريض ثقيل أوّل بالوسطى عن ابن المكيّ.

و ذكر الهشاميّ أن لحن الغريض خفيف ثقيل في البيت الأوّل فقط، و حكى أن قافيته على ما كان الحارث قاله:

و لا افتقرت نفسي إلى من يضيمها

و أن الثقيل الأوّل لعليّة بنت المهديّ، و من غنائها البيت المضاف. و أخلق بأن يكون الأمر على ما ذكره، لأن البيت الثاني ضعيف يشبه شعرها.

تزوّج مصعب بعائشة و رحل بها إلى العراق فقال الحارث شعرا:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر و إسماعيل بن يونس قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان محمد بن يحيى قال:

لما تزوّج مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة و رحل بها إلى العراق، قال الحارث بن خالد في ذلك:

صوت

ظعن الأمير بأحسن الخلق *** و غدا بلبّك مطلع الشّرق

/في البيت ذي الحسب الرفيع و من *** أهل التّقى و البرّ و الصّدق

فظللت كالمقهور مهجته *** هذا الجنون و ليس بالعشق

أترجّة عبق العبير بها *** عبق الدّهان بجانب الحقّ

ما صبّحت أحدا برؤيتها *** إلا غدا بكواكب الطّلق(2)

و هي أبيات، غنّى ابن محرز في البيتين الأوّلين خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، و ذكر عمرو بن بانة أن فيهما لمالك ثقيلا بالوسطى، و ذكر/حبش أن فيهما لمالك رملا بالوسطى، و ذكر حبش أيضا أن فيهما للدّلال ثاني ثقيل بالبنصر، و لابن سريج و مالك رملين، و لسعيد بن جابر هزجا بالوسطى.

ص: 222


1- كذا في ب، س، ح، و في سائر الأصول: «منك».
2- يقال: يوم طلق أي مشرق لا برد فيه و لا حرّ و لا شيء يؤذي، و يقال أيضا: ليلة طلق و ليلة طلقة. يريد: أن من تصبحه برؤيتها، يرى الزمان صافيا طيبا سعيدا، هائلا بطلعتها و استبشارا.
استأذن على عائشة بنت طلحة و كتب لها مع الغريض و أمره أن يغني لها من شعره فوعدته و خرجت من مكة:

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر و الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلاّم عن ابن جعدبة قال:

لما أن قدمت عائشة بنت طلحة أرسل إليها الحارث بن خالد و هو أمير على مكة: إني أريد السلام عليك، فإذا خفّ عليك أذنت، و كان الرسول الغريض، فقالت له: إنّا حرم، فإذا أحللنا أذنّاك، فلما أحلّت سرت على بغلاتها، و لحقها الغريض بعسفان(1) أو قريب منه، و معه كتاب الحارث إليها:

ما ضرّكم لو قلتم سددا

- الأبيات المذكورة -؛ فلما قرأت الكتاب قالت: ما يدع الحارث باطله! ثم قالت للغريض: هل أحدثت شيئا؟ قال: نعم، فاسمعي، ثم اندفع يغنّي في هذا الشعر؛ فقالت عائشة: و اللّه ما قلنا إلا سددا، و لا أردنا إلا أن نشتري لسانه؛ و أتى على الشعر كلّه، فاستحسنته عائشة، و أمرت له بخمسة آلاف درهم و أثواب، و قالت: زدني، فغنّاها في قول الحارث بن خالد أيضا:

زعموا بأن البين بعد غد *** فالقلب مما أحدثوا يجف

و العين منذ أجدّ بينهم *** مثل الجمان دموعها تكف

/و مقالها و دموعها سجم *** أقلل حنينك حين تنصرف

تشكو و نشكو ما أشتّ(2) بنا *** كلّ بوشك البين معترف

- إيقاع هذا الصوت ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى عن الهشاميّ، و لم يذكر له حماد طريقا - قال: فقالت له عائشة: يا غريض، بحقّي عليك أ هو أمرك أن تغنّيني في هذا الشعر؟ فقال: لا، و حياتك يا سيدتي! فأمرت له بخمسة آلاف درهم، ثم قالت له: غنّني في شعر(3) غيره؛ فغنّاها [قول(4) عمر فيها]:

غناها الغريض بشعر ابن أبي ربيعة:
صوت

أجمعت خلّتي مع الفجر بينا(5) *** جلّل(6) اللّه ذلك الوجه زينا

أجمعت بينها و لم نك منها *** لذّة العيش و الشباب قضينا

ص: 223


1- ذكر ياقوت في «معجمه» عسفان فقال: قال أبو منصور: عسفان منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة و مكة، و قال غيره: عسفان بين المسجدين و هي من مكة على مرحلتين، و قيل: عسفان قرية جامعة بها منبر و نخيل و مزارع على ستة و ثلاثين ميلا من مكة و هي حدّتها.
2- أشت بنا: فرّق أمرنا.
3- في أ، ء، م: «في غير شعره».
4- الزيادة عن أ، ء.
5- البين: الفراق. و أجمعت بينا: اعتزمته و صممت عليه.
6- جلل: عمّ، و منه المجلل: للسحاب الذي يجلل الأرض بالمطر أي يعمها.

فتولّت حمولها و استقلّت *** لم ننل طائلا و لم نقض دينا

و لقد قلت يوم مكّة لمّا *** أرسلت تقرأ السلام علينا

أنعم اللّه بالرسول الذي أر *** سل و المرسل الرسالة عينا(1)

/ - الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء للغريض خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق، و غيره ينسبه إلى ابن سريج. و فيه لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى(2) عن عمرو، و أظنه هذا اللحن - قال: فضحكت ثم قالت: و أنت يا غريض فأنعم اللّه بك عينا، و بابن أبي ربيعة عينا، لقد تلطّفت حتى أدّيت إلينا رسالته، و إن وفاءك/له لممّا يزيدنا رغبة فيك و ثقة بك. و قد كان عمر سأل الغريض أن يغنّيها هذا الصوت لأنه قد كان ترك ذكرها لمّا غضبت بنو تيم من ذلك، فلم يحبّ التصريح بها و كره إغفال ذكرها؛ و قال له عمر: إن أبلغتها هذه الأبيات في غناء فلك خمسة آلاف درهم.

غنى الغريض عاتكة بنت يزيد:
اشارة

فوفى له بذلك، و أمرت له عائشة بخمسة آلاف درهم أخرى؛ ثم انصرف الغريض من عندها فلقي عاتكة بنت يزيد بن معاوية امرأة عبد الملك بن مروان، و كانت قد حجّت في تلك السنة، فقال لها جواريها: هذا الغريض؛ فقالت لهنّ: عليّ به، فجيء به إليها. قال الغريض: فلما دخلت سلّمت فردّت عليّ و سألتني عن الخبر، فقصصته عليها؛ فقالت: غنّني بما غنّيتها به، ففعلت فلم أرها تهشّ لذلك، فغنّيتها معرّضا لها و مذكّرا بنفسي في شعر مرّة بن محكان السّعديّ يخاطب امرأته و قد نزل به أضياف:

أقول و الضّيف مخشيّ ذمامته(3) *** على الكريم و حقّ الضيف قد وجبا

صوت

يا ربّة البيت قومي غير صاغرة *** ضمّي إليك رحال القوم و القربا

في ليلة من جمادى ذات أندية(4) *** لا يبصر الكلب من ظلمائها الطّنبا

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة *** حتى يلفّ على خيشومه الذّنبا

- الشعر لمرّة بن محكان السّعديّ، و الغناء لابن سريج. ذكر يونس أن فيه ثلاثة ألحان، فوجدت منها واحدا في كتاب عمرو بن بانة رملا بالوسطى، و الآخر في كتاب/الهشاميّ خفيف ثقيل بالوسطى، و الآخر ثاني ثقيل في كتاب أحمد بن المكيّ - قال: فقالت و هي متبسّمة: قد وجب حقّك يا غريض، فغنّني؛ فغنّيتها:

ص: 224


1- ورد هذا البيت في «اللسان» ج 16 ص 60 هكذا: أنعم اللّه بالرسول و بالمر سل و الحامل الرسالة عينا و الرسول في هذه الرواية: اسم بمعنى الرسالة، و أصله مصدر و فعله ممات.
2- في ء: «و فيه لمعبد خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن عمرو».
3- الذمامة (بالفتح و تكسر): الذمة و العهد.
4- أندية: جمع ثدي (وزان فتى)، و هو ما يسقط بالليل، و هذا الجمع شاذ، لأن أفعلة إنما يكون جمعا لما كان ممدودا مثل كساء و أكسية. و قد تمحل بعضهم لتصحيح هذا الجمع أوجها لا تخلو من التعسف. (انظر «اللسان» مادة ندى).
صوت

يا دهر قد أكثرت فجعتنا *** بسراتنا و وقرت(1) في العظم

و سلبتنا ما لست مخلفه *** يا دهر ما أنصفت في الحكم

لو كان لي قرن أناضله *** ما طاش عند حفيظة سهمي

لو كان يعطي النّصف(2) قلت له *** أحرزت سهمك فاله عن سهمي(3)

فقالت: نعطيك النّصف و لا نضيع سهمك عندنا، و نجزل لك قسمك، و أمرت لي بخمسة آلاف درهم و ثياب عدنيّة(4) و غير ذلك من الألطاف، و أتيت الحارث بن خالد فأخبرته الخبر و قصصت عليه القصّة؛ فأمر لي بمثل ما أمرتا لي به جميعا، فأتيت ابن أبي ربيعة و أعلمته بما جرى، فأمر لي بمثل ذلك، فما انصرف واحد من ذلك الموسم بمثلي ما انصرفت به: بنظرة/من عائشة و نظرة من عاتكة و هما من أجمل نساء عالمهما، و بما أمرتا لي به، و بالمنزلة عند الحارث و هو أمير مكّة، و ابن أبي ربيعة، و ما أجازاني به جميعا من المال.

لما حجت عائشة بنت طلحة استأذنها في زيارتها فوعدته ثم هربت:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أبو الحسن المروزيّ قال حدّثنا محمد بن سلاّم عن يونس قال:

/لما حجّت عائشة بنت طلحة أرسل إليها الحارث بن خالد و هو أمير مكة: أنعم اللّه بك عينا و حيّاك، و قد أردت زيارتك فكرهت ذلك إلاّ عن أمرك، فإن أذنت فيها فعلت؛ فقالت لمولاة لها جزلة(5): و ما أردّ على هذا السفيه؟ فقالت لها: أنا أكفيك، فخرجت إلى الرسول و قالت له: اقرأ عليه السّلام، و قل له: و أنت أنعم اللّه بك عينا و حيّاك، نقضي نسكنا ثم يأتيك رسولنا إن شاء اللّه، ثم قالت لها: قومي فطوفي و اسعي و اقضي عمرتك و اخرجي في الليل، ففعلت؛ و أصبح الحارث فسأل عنها فأخبر خبرها، فوجّه إليها رسولا بهذه الأبيات، فوجدها قد خرجت عن عمل مكّة، فأوصل الكتاب إليها، فقالت لمولاتها: خذيه فإني أظنه بعض سفاهاته، فأخذته و قرأته و قالت له: ما قلنا إلا سددا(6) و أنت فارغ للبطالة(7)، و نحن عن فراغك في شغل.

سألت عنه عائشة بنت طلحة فأرسل إليها شعرا:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ و إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال: زعم كلثوم بن أبي بكر بن عمر بن الضّحّاك بن قيس الفهريّ قال:

ص: 225


1- وقر العظم: صدعه.
2- النصف مثلثة: اسم بمعنى الانتصاف.
3- السهم: النصيب و الحظ، و السهم في البيت الذي قبله: ما يرمي به و هو واحد النبل.
4- في أ، ء، م: «عربيّة».
5- الجزلة: العاقلة الأصيلة الرأي.
6- كذا في ح. و في سائر الأصول: «سدادا». و السدد و السداد في القول: أن يكون صوابا.
7- البطالة (بفتح الباء): اتباع اللهو.

قدم المدينة قادم من مكّة فدخل على عائشة بنت طلحة، فقالت له: من أين أقبل الرجل؟ قال: من مكّة، فقالت: فما فعل الأعرابيّ؟ فلم يفهم ما أرادت، فلما عاد إلى مكّة دخل على الحارث، فقال له: من أين؟ قال: من المدينة، قال: فهل دخلت على عائشة بنت طلحة؟ قال: نعم، قال: فعمّا ذا سألتك؟ /قال: قالت لي: ما فعل الأعرابيّ؟ قال له الحارث: فعد إليها و لك هذه الراحلة و الحلة و نفقتك لطريقك و ادفع إليها هذه الرقعة، و كتب إليها فيها:

صوت

من كان يسأل عنا أين منزلنا *** فالأقحوانة(1) منا منزل قمن(2)

إذ نلبس العيش صفوا ما يكدّره *** طعن الوشاة و لا ينبو بنا الزمن

قال إسحاق: و زادني غير كلثوم فيها:

ليت الهوى لم يقرّبني إليك و لم *** أعرفك إذ كان حظّي منكم الحزن

غنّى في هذه الأبيات ابن محرز خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق، و ذكر يونس أن فيها لحنا و لم يجنّسه، و ذكر عمرو أن فيه لبابويه ثاني ثقيل بالبنصر.

غضب على الغريض ثم رق له و غناه الغريض في شعره:
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن محمد بن سلاّم، قال:

لما ولّى عبد الملك بن مروان الحارث بن خالد المخزوميّ مكّة بعث إلى الغريض فقال له: لا أرينّك في عملي(3)، و كان قبل ذلك يطلبه و يستدعيه فلا يجيبه، فخرج الغريض إلى ناحية الطائف، و بلغ ذلك الحارث فرقّ له فردّه و قال له: لم كنت تبغضنا و تهجر شعرنا و لا تقربنا؟ قال له الغريض: كانت هفوة من هفوات/النفس، و خطرة من خطرات الشيطان، و مثلك وهب الذنب، /و صفح عن الجرم، و أقال العثرة، و غفر الزّلّة، و لست بعائد إلى ذلك أبدا؛ قال: و هل غنّيت في شيء من شعري؟ قال: نعم، قد غنّيت في ثلاثة أصوات من شعرك، قال: هات ما غنّيت، فغنّيت:

صوت

بان الخليط فما عاجوا و لا عدلوا *** إذ ودّعوك و حنّت بالنوى(4) الإبل

ص: 226


1- الأقحوانة: موضع قرب مكة. قال الأصمعيّ: هي ما بين بئر ميمون إلى بئر ابن هشام.
2- القمن (بالتحريك): الخليق و الجدير كالقمن (بكسر الميم) إلا أن الأوّل لا يثني و لا يجمع و لا يؤنث، لأنه مصدر وصف به بخلاف الثاني فإنه نعت، و يعدّى بالباء و من، يقال: هو قمن به و منه، و هذا المنزل لك موطن قمن أي جدير أن تسكنه. و يحتمل أن يكون «قمن» في البيت بمعنى قريب.
3- في عمل أي في البلد الذي تحت حكمي.
4- في أ: «و راحت بالدمى».

كأن فيهم غداة البين إذ رحلوا *** أدماء(1) طاع(2) لها الحوذان(3) و النّفل(4)

- الغناء للغريض ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ و حبش؛ قال حبش: و فيه لابن سريج خفيف رمل بالبنصر، و لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر - فقال له: أحسنت و اللّه يا غريض، هات ما غنّيت فيه أيضا من شعري، فغنّاه في قوله:

صوت

يا ليت شعري و كم من منية قدرت *** وفقا و أخرى أتى من دونها القدر

و مضمر الكشح يطويه الضجيع له *** طيّ الحمالة(5) لا جاف و لا فقر(6)

له شبيهان(7) لا نقص يعيبهما *** بحيث كانا و لا طول و لا قصر

/ - لم أعرف لهذا الشعر لحنا في شيء من الكتب و لا سمعته - فقال له الحارث: أحسنت و اللّه يا غريض، إيه، و ما ذا(8) أيضا؟ فغنّاه قوله:

عفت الديار فما بها أهل *** حزّانها(9) و دماثها(10) السهل

إني و ما نحروا غداة منى *** عند الجمار تؤدها العقل

- الأبيات المذكورة و قد مضت نسبتها معها - فقال له الحارث: يا غريض لا لوم في حبّك، و لا عذر في هجرك، و لا لذّة لمن لا يروّح قلبه بك، يا غريض لو لم يكن لي في ولايتي مكّة حظّ إلا أنت لكان حظّا كافيا وافيا، يا غريض إنما الدنيا زينة، فأزين الزينة ما فرح(11) النفس، و لقد فهم قدر الدنيا على حقيقته من فهم قدر الغناء.

أنشدت سكينة بنت الحسين بيتا من شعره فنقدته:

أخبرني الحسن بن عليّ عن أحمد بن زهير عن مصعب الزّبيريّ قال:

أنشدت سكينة بنت الحسين قول الحارث بن خالد:

ففرغن من سبع و قد جهدت *** أحشاؤهن موائل الخمر

ص: 227


1- الأدماء: الظبية البيضاء يعلوها جدد فيها غبرة، و قيل هي البيضاء الخالصة البياض، و قيل: هي التي لونها كلون الجبال.
2- يقال: طاع له المرتع: أي اتسع و أمكنه رعيه متى شاء.
3- الحوذان: ثبت سهليّ حلو طيّب الطعم.
4- النفل: نبت من أحرار البقول نوره أصفر طيّب الرائحة.
5- الحمالة: علاقة السيف.
6- الفقر: الكسير الفقار، و الفقار: ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب.
7- كذا بالأصول، و لسنا على يقين من المعنى المراد.
8- في الأصول: «و ما ذلك أيضا».
9- حزّان - بضم الحاء و كسرها و تشديد الزاي -: جمع «حزيز» و هو موضع من الأرض كثرت حجارته و غلظت كأنها السكاكين، أو هو ما غلظ و صلب من جلد الأرض مع إشراف قليل؛ و في قصيدة كعب بن زهير: ترمى الغيوب بعيني مفرد لهق إذا توقدت الحزّان و الميل
10- الدماث: السهول من الأرض.
11- في ح: «فرّج» بالجيم.

فقالت: أحسن عندكم ما قال؟ قالوا: نعم، فقالت: و ما حسنه! فو اللّه لو طافت الإبل سبعا لجهدت أحشاؤها.

قيل له ما يمنعك من عائشة و قد مات زوجها فأجاب:

أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه عن كلثوم بن أبي بكر قال:

لما مات عمر بن عبد اللّه التّيميّ عن عائشة بنت طلحة و كانت قبله عند مصعب بن الزبير قيل للحارث بن خالد: ما يمنعك الآن منها؟ قال: لا يتحدّث و اللّه رجال من قريش أنّ نسيبي بها كان لشيء من الباطل.

تنازع هو و أبان بن عثمان ولاية الحج فغلبه أبان فقال شعرا:

أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمّي عبيد اللّه عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

لما خرج ابن الأشعث على عبد الملك بن مروان شغل عن أن يولّي على الحجّ رجلا، و كان الحارث بن خالد عامله على مكّة، فخرج أبان بن عثمان من المدينة و هو عامله عليها، فغدا على الحارث بمكّة ليحجّ بالناس؛ فنازعه الحارث و قال له: لم يأتني كتاب أمير المؤمنين بتوليتك على الموسم، و تغالبا فغلبه أبان بن عثمان/بنسبه، و مال إليه الناس فحجّ بهم؛ فقال الحارث بن خالد في ذلك:

فإن تنج منها يا أبان مسلّما *** فقد أفلت الحجّاج خيل شبيب

و كاد غداة الدّير(1) ينفد حضنه *** غلام بطعن القرن جدّ طبيب

و أنسوه وصف الدّير لما رآهم *** و حسّن خوف الموت كلّ معيب(2)

فلقيه الحجّاج بعد ذلك، فقال: ما لي و لك يا حارث! أ ينازعك أبان عملا فتذكرني! فقال له: ما اعتمدت مساءتك و لكن بلغني أنك أنت كاتبته، قال: و اللّه ما فعلت، فقال له الحارث: المعذرة إلى اللّه و إليك أبا محمد.

قال هشام حين سمع شيئا من شعره: هذا كلام معاين:

نسخت من كتاب هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات: حدّثني عمرو(3) بن سلّم قال حدّثني هارون بن موسى الفرويّ قال حدّثني موسى بن جعفر أن يحيى قال حدّثني مؤدّب لبني هشام بن عبد الملك قال:

/بينا أنا ألقي على ولد هشام شعر قريش إذ أنشدتهم شعر الحارث بن خالد:

إن امرأ تعتاده ذكر *** منها ثلاث منى لذو صبر

و هشام مصغ إليّ حتى ألقيت عليهم قوله:

ففرغن من سبع و قد جهدت *** أحشاؤهن موائل الخمر

فانصرف و هو يقول: هذا كلام معاين.

ص: 228


1- هو دير الجماجم، و فيه كانت الوقعة بين الحجاج بن يوسف و عبد الرحمن بن الأشعث.
2- كذا في نسخة الشنقيطي طبع بولاق مصححة بخطه، و هو المناسب للسياق. و في جميع الأصول «مغيب» بالغين المعجمة.
3- كذا في ب، س، و في أ، ء، م: «عمر بن مسلم».
قدمت عائشة بنت طلحة تريد العمرة فقال شعرا:
اشارة

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أبو عبد اللّه السّدوسيّ قال و حدّثنا أبو حاتم السجستانيّ قال أخبرنا أبو عبيدة قال:

قدمت عائشة بنت طلحة مكّة تريد العمرة، فلم يزل الحارث يدور حولها و ينظر إليها و لا يمكنه كلامها حتى خرجت، فأنشأ يقول - و ذكر في هذه الأبيات بسرة حاضنتها و كنى عنها -:

صوت

يا دار أقفر رسمها *** بين المحصّب(1) و الحجون(2)

أقوت و غيّر آيها *** مرّ الحوادث و السّنين

و استبدلوا ظلف(3) الحجا *** ز و سرّة(4) البلد الأمين

يا بسر إنّي فاعلمي *** باللّه مجتهدا يميني

ما إن صرمت حبالكم *** فصلي حبالي أو ذريني

/في هذه الأبيات ثاني ثقيل لمالك بالبنصر عن الهشاميّ و حبش، قال: و فيها لابن مسجح ثقيل أوّل، و ذكر أحمد بن المكيّ أنّ فيها لابن سريج رملا بالبنصر؛ فيها لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى عن حبش.

شبب بزوجته أم عبد الملك:

أخبرني الطّوسيّ و الحرميّ بن أبي العلاء قالا حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني مصعب بن عثمان بن مصعب بن عروة بن الزّبير، و أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان عن أحمد بن زهير عن مصعب الزّبيريّ قال:

كانت أمّ عبد الملك بنت عبد اللّه بن خالد بن أسيد عند الحارث بن خالد، فولدت منه فاطمة بنت الحارث، و كانت قبله عند عبد اللّه بن مطيع، فولدت منه عمران و محمدا، فقال فيها الحارث و كنّاها بابنها عمران:

يا أمّ عمران ما زالت و ما برحت *** بي الصبابة حتى شفّني الشّفق(5)

/القلب تاق إليكم كي يلاقيكم *** كما يتوق إلى منجاته الغرق

تنيل نزرا قليلا و هي مشفقة *** كما يخاف مسيس الحيّة الفرق(6)

قال مصعب بن عثمان: فأنشد رجل يوما بحضرة ابنها عمران بن عبد اللّه بن مطيع هذا الشعر، ثم فطن فأمسك؛ فقال له: لا عليك، فإنها كانت زوجته. و قال ابن المرزبان في خبره: فقال له: امض رحمك اللّه و ما بأس

ص: 229


1- المحصب: موضع فيما بين مكة و منى و هو إلى منى أقرب.
2- الحجون: جبل بأعلى مكة، و قال السكريّ: مكان من البيت على ميل و نصف ميل (انظر «معجم البلدان» لياقوت في اسم الحجون).
3- الظلف: ما لان من الأرض، و قيل: ما صلب و غلظ منها، و في ذلك أقوال كثيرة، (انظر «اللسان» مادة «ظلف»).
4- سرّة البلد: وسطه.
5- الشفق: رقة من حب تؤدّي إلى خوف.
6- الفرق: بكسر الراء ككتف و بضمها كرجل: للشديد الفزع، و قيل يقال: رجل فرق (بكسر الراء) إذا فزع من الشيء و ليس من جبلته، و رجل فرق (بضمها) إذا فزع و كان منه الفزع جبلة.

بذلك، رجل تزوّج(1) بنت عمّه و كان لها كفؤا كريما فقال فيها شعرا بلغ ما بلغ، فكان ما ذا!.

شبّب بأم بكر بعد أن رآها ترمي الجمرة و حادثها:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أحمد بن عبد الرحمن التّميميّ عن أبي شعيب الأسديّ عن القحذميّ قال:

بينا الحارث بن خالد واقف على جمرة العقبة إذ رأى أمّ بكر و هي ترمي الجمرة فرأى أحسن الناس وجها، و كان في خدّها خال ظاهر، فسأل عنها فأخبر باسمها حتى عرف رحلها، ثم أرسل إليها يسألها أن تأذن له في الحديث، فأذنت له، فكان يأتيها يتحدّث إليها حتى انقضت أيام الحجّ، فأرادت الخروج إلى بلدها، فقال فيها:

ألا قل لذات الخال يا صاح في الخدّ *** تدوم إذا بانت على أحسن العهد

و منها علامات بمجرى وشاحها *** و أخرى تزين الجيد من موضع العقد

و ترعى من الودّ الذي كان بيننا *** فما يستوي راعي الأمانة و المبدي

و قل قد وعدت اليوم وعدا فأنجزي *** و لا تخلفي، لا خير في مخلف الوعد

وجودي عليّ اليوم منك بنائل *** و لا تبخلي، قدّمت قبلك في اللّحد

فمن ذا الذي يبدي السرور إذا دنت *** بك الدار أو يعنى بنأيكم بعدي

دنوّكم منّا رخاء نناله *** و نأيكم و البعد جهد على جهد

كثير إذا تدنو اغتباطي بك النوى *** و وجدي إذا ما بنتم ليس كالوجد

أقول و دمعي فوق خدّي مخضل(2) *** له وشل(3) قد بلّ تهتانه خدّي

لقد منح اللّه البخيلة ودّنا *** و ما منحت ودّي بدعوى و لا قصد

شبب بليلى بنت أبي مرّة لما رآها بالكعبة:
اشارة

أخبرني محمد بن خلف قال و حدّثت عن المدائنيّ و لست أحفظ من حدّثني به قال:

/طافت ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود و أمّها ميمونة بنت أبي سفيان ابن حرب بالكعبة، فرآها الحارث بن خالد فقال فيها:

أطافت بنا شمس النهار و من رأى *** من الناس شمسا بالعشاء تطوف

أبو أمّها أوفى قريش بذمّة *** و أعمامها إمّا سألت ثقيف

و فيها يقول:

ص: 230


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «متزوّج».
2- مخضل: مندّ.
3- الوشل: الماء الكثير أو القليل فهو من أسماء الأضداد، و المراد به هنا الكثير.

أ من طلل بالجزع من مكّة(1) السّدر *** عفا بين أكناف المشقّر(2) فالحضر(3)

ظللت و ظلّ القوم من غير حاجة *** لدن غدوة(4) حتى دنت حزّة(5) العصر

يبكّون من ليلى عهودا قديمة *** و ما ذا يبكّي القوم من منزل قفر

الغناء في هذه الأبيات لابن سريج ثاني ثقيل بالخنصر و البنصر عن يحيى المكيّ، و ذكر/غيره أنه للغريض.

و في ليلى هذه يقول - أنشدناه وكيع عن عبد اللّه بن شبيب عن إبراهيم بن المنذر الحزاميّ للحارث بن خالد، و في بعض الأبيات غناء -:

صوت

لقد أرسلت في السرّ ليلى تلومني *** و تزعمني ذا ملّة طرفا(6) جلدا

و قد أخلفتنا كلّ ما وعدت به *** و و اللّه ما أخلفتها عامدا وعدا

/فقلت مجيبا للرسول الذي أتى *** تراه، لك الويلات، من قولها جدّا؟

إذا جئتها فأقر السلام و قل لها *** دعي الجور ليلى و اسلكي منهجا قصدا

أ في مكثنا عنكم ليال مرضتها *** تزيدينني ليلى على مرضي جهدا

تعدّين ذنبا واحدا ما جنيته *** عليّ و ما أحصي ذنوبكم عدّا

فإن شئت حرّمت النساء سواكم *** و إن شئت لم أطعم نقاخا(7) و لا بردا

و إن شئت غرنا(8) بعدكم ثم لم نزل *** بمكة حتى تجلسي(9) قابلا نجدا

الغناء للغريض ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و ذكر ابن المكيّ أن فيه لدحمان ثاني ثقيل بالوسطى لا

ص: 231


1- كذا في جميع النسخ، و لم يظهر لنا وجه لإضافة مكة إلى السدر اللهم إلا أن يراد أنها تنبته، على أنه ذكر في ياقوت في الكلام على مكة: «إن ليس بها شجر مثمر إلا شجر البادية فإذا جزت الحرم فهناك عيون و آبار و حوائط و أودية ذات خضر و مزارع و نخيل، و أما الحرم فليس به شجر مثمر إلا نخيل يسيرة متفرقة». و يجوز أن تكون محرّفة عن كلمة «أيكة».
2- المشقر، كما في «معجم ما استعجم» للبكري: سوق الطائف، و ذكر أن الأخفش روى بيت أبي ذؤيب الهذليّ: حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشرق كل يوم تقرع «بصفا المشقر»، و قد روى بيت أبي ذؤيب هذا بهذه الرواية (في كتاب «المنتقى في أخبار أم القرى» طبع أوروبا ص 3).
3- الحضر: المراد به في هذا البيت: موضع بين مكة و المدينة و هو المذكور في شعر بعض الهذليين: أيا ليت شعري هل تغير بعدنا أروم و آرام و شابة و الحضر
4- لدن من الظروف التي تجر ما بعدها، و قد سمع نصب غدوة بعدها و هو نادر.
5- الحزة: الساعة و الحين، قال ساعدة بن العجلان: و رميت فوق ملاء محبوكة و أبنت للأشهاد حزّة أدعى
6- الطرف: من لا يثبت على صاحب.
7- النقاخ: الماء البارد العذب الصافي الخالص الذي يكاد ينقخ - أي يكسر - الفؤاد ببرده، هكذا ذكره صاحب «اللسان» و استشهد له بهذا البيت و نسبه إلى العرجيّ، و فسر البرد في قوله: «و لا بردا» بالريق.
8- غار الرجل: أتى الغور.
9- جلس الرجل: أتى نجدا، و منه قول القائل: قل للفرزدق و السفاهة كاسمها إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس

أدري أ هذا أم غيره. و فيه(1) ثقيل أوّل للأبجر عن يونس و الهشاميّ. و فيه لابن سريج رمل بالبنصر. و لعرار خفيف ثقيل عن الهشاميّ و حبش.

غلبه أبان بن عثمان على الصلاة فقال فيه شعرا عرّض فيه بالحجاج:

أخبرني محمد بن خلف قال أخبرني محمد بن الحارث الخرّاز قال حدّثنا أبو الحسن المدائنيّ قال:

كان الحارث بن خالد واليا على مكّة، و كان أبان بن عثمان ربما جاءه كتاب الخليفة أن يصلّي بالناس و يقيم لهم حجّهم، فتأخّر عنه في سنة الحرب كتابه و لم يأت الحارث كتاب، فلما حضر الموسم شخص أبان من المدينة، فصلّى بالناس و عاونته بنو أميّة و مواليهم فغلب الحارث على الصلاة، فقال:

/

فإن تنج منها يا أبان مسلّما *** فقد أفلت الحجّاج خيل شبيب

فبلغ ذلك الحجّاج فقال: ما لي و للحارث! أ يغلبه أبان بن عثمان على الصلاة و يهتف بي أنا! ما ذكره إيّاي! فقال له عبيد بن موهب: أ تأذن أيها الأمير في إجابته و هجائه؟ قال: نعم؛ فقال عبيد:

أبا وابص ركّب علاتك(2) و التمس *** مكاسبها إن اللئيم كسوب

و لا تذكر الحجّاج إلا بصالح *** فقد عشت من معروفه بذنوب(3)

و لست بوال ما حييت إمارة *** لمستخلف إلا عليك رقيب

سأله عبد الملك عن أيّ البلاد أحب إليه فأجاب و قال شعرا:

قال المدائنيّ: و بلغني أن عبد الملك قال للحارث: أيّ البلاد أحبّ إليك؟ قال: ما حسنت فيه حالي و عرض وجهي، ثم قال:

لا كوفة أمّي و لا بصرة أبي *** و لست كمن يثنيه عن وجهه الكسل(4)

نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
الغناء في شعره:
اشارة

منها في تشبيب الحارث بامرأته أمّ عمران:

صوت

بان الخليط الذي كنّا به نثق *** بانوا و قلبك مجنون بهم علق

تنيل نزرا قليلا و هي مشفقة *** كما يخاف مسيس الحيّة الفرق

يا أمّ عمران ما زالت و ما برحت *** بي الصّبابة حتى شفّني الشّفق

ص: 232


1- في الأصول: «و قيل ثقيل أوّل».
2- العلاة في اوصل: الزبرة التي يضرب عليها الحداد الحديد، و تطلق أيضا على الناقة تشبيها لها بالزبرة في صلابتها.
3- الذنوب: الحظ و النصيب، و في هذا البيت إقواء و هو اختلاف حركة الرويّ.
4- دخل على هذا البيت الخرم و هو سقوط حركة من أوّله.

/لا

أعتق اللّه رقّي من صبابتكم *** ما ضرّني أنني صبّ بكم قلق

ضحكت عن مرهف الأنياب ذي أشر(1)*** لا قضم(2) في ثناياه و لا روق(3)

يتوق قلبي إليكم كي يلاقيكم *** كما يتوق إلى منجاته الغرق

غنّى ابن محرز في الثالث ثم السادس ثم الخامس ثم الثاني، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، و للغريض في الرابع و الثاني و الثالث و السادس خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو، و لسلسل في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل مطلق عن الهشاميّ، و لابن سريج في الثاني و الأوّل و الرابع و الخامس رمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق، و للهذليّ في الثاني ثم الأوّل هزج عن الهشاميّ. و ذكر حبش أن فيها لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى، و لابن محرز ثاني ثقيل آخر بالبنصر. و ذكر الهشاميّ أن لابن سريج في الأبيات خفيف رمل.

و ممّا يغنّي فيه من شعر الحارث بن خالد في عائشة بنت طلحة تصريحا و تعريضا ببسرة جاريتها:

صوت

يا ربع بسرة بالجناب تكلّم *** و ابن لنا خبرا و لا تستعجم

ما لي رأيتك بعد أهلك موحشا *** خلقا كحوض الباقر(4) المتهدّم

/تسبي الضجيع إذا النجوم تغوّرت *** طوع الضجيع أنيقة المتوسّم

قبّ(5) البطون أوانس مثل الدّمى *** يخلطن ذاك بعفّة و تكرّم

الغناء لمعبد خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. و الأبيات أكثر من هذه إلا أني اعتمدت على ما غنّي فيه.

و منها صوت قد جمعت فيه عدّة طرائق و أصوات في أبيات من القصيدة:

أعرفت أطلال الرّسوم تنكّرت *** بعدي و بدّل آيهنّ دثورا(6)

و تبدّلت بعد الأنيس بأهلها *** عفرا(7) بواغم(8) يرتعين وعورا

ص: 233


1- الأشر: حدّة ورقة تكون في الأسنان.
2- كذا في م، ح. و القضم (بفتحتين): انصداع في السن و قيل: تثلم و تكسر في أطراف الأسنان، و في ء: «لا قصم» بالصاد المهملة و القصم (بفتحتين): انشقاق السن عرضا، يقال: قصمت سنه قصما أي انشقت عرضا، و رجل أقصم الثنايا إذا كان متكسرها من النصف، و في ب، س: «مقضم» و هو مصدر ميميّ من قضمت الأسنان أي تكسرت و تفللت. و في هذا الشطر «الطي» و هو هنا ذهاب الرابع الساكن من «مستفعلن» الأولى.
3- الروق: أن تطول الثنايا العليا على السفلى، و هو عيب في الأسنان.
4- الباقر: جماعة البقر.
5- القبّ: جمع قبّاء و هي الدقيقة الخصر الضامرة البطن.
6- دثر الرسم دثورا: درس و بلي.
7- العفر جمع عفراء و هي من الظباء التي يعلو بياضها حمرة.
8- يقال: بغمت الظبية بغوما و بغمت بغاما: صاحت إلى ولدها بأرخم ما يكون من صوتها فهي باغمة و بغوم.

من كلّ مصبية الحديث ترى لها *** كفلا كرابية الكثيب وثيرا

دع ذا و لكن هل رأيت ظعائنا *** قرّبن أجمالا لهنّ بكورا

قرّبن كلّ مخيّس(1) متحمّل(2) *** بزلا(3) تشبّه هامهنّ قبورا

يفتن لا يألون كلّ مغفّل *** يملأنه بحديثهنّ سرورا

يا دار حسّرها(4) البلى تحسيرا *** و سفت عليها الريح بعدك بورا

دقّ التراب نخيله فمخيّم *** بعراصها و مسيّر تسييرا

/يا ربع بسرة إن أضرّ بك البلى *** فلقد عهدتك آهلا معمورا

/عقب الرّذاذ خلافهم(5) فكأنّما *** بسط الشّواطب(6) بينهنّ حصيرا

إن يمس حبلك بعد طول تواصل *** خلقا و يصبح بينكم(7) مهجورا

فلقد أراني، و الجديد إلى بلى *** زمنا بوصلك قانعا مسرورا

جذلا بمالي عندكم لا أبتغي *** للنفس غيرك خلّة و عشيرا

كنت المنى و أعزّ من وطئ الحصا *** عندي و كنت بذاك منك و جديرا

غنّى في الأوّل و الثاني من هذه الأبيات معبد، و لحنه ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو، مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، و للغريض فيه(8) ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو، و لإسحاق فيهما ثاني ثقيل، و لإبراهيم فيهما و في الثالث خفيف ثقيل بالسبابة و الوسطى عن ابن المكّيّ، و غنّى الغريض في الثالث و السادس و الرابع و الخامس ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق، و غنّى معبد في السابع و الثامن و العاشر خفيف ثقيل بالسبّابة و الوسطى عن يحيى المكّيّ؛ و فيها ثاني ثقيل ينسب إلى طويس و ابن مسجح و ابن سريج، و لمالك في التاسع و العاشر و الحادي عشر و الثاني عشر خفيف ثقيل بالسبابة و الوسطى عن يحيى المكيّ، و فيها بأعيانها/لابن سريج رمل بالسبّابة و الوسطى عن يحيى أيضا، و ليحيى المكّيّ في الحادي عشر و ما بعده إلى آخر الأبيات ثاني ثقيل، و لإبراهيم فيها بعينها ثقيل أوّل عن الهشاميّ، و فيها لإسحاق رمل، و في الثالث و الرابع لحن لخليدة المكّيّة خفيف رمل عن الهشاميّ أيضا.

ص: 234


1- المخيس: المذلل.
2- كذا في ح، و في سائر النسخ: «متجمل» بالجيم.
3- البزل: جمع بازل و هو البعير الذي فطرنا به بدخوله في السنة التاسعة.
4- حسرها: أضرّ بها و أذهب بهجتها.
5- كذا ورد في «اللسان» في مادّة «عقب» و مادّة «خلف» غير أنه ورد في مادّة «خلف» هكذا: «عقب الربيع» فذكر «الربيع» بدل «الرذاذ». و في الأصول: «عفت الرذاذ خلافه»، فالظاهر أن كلمة «عفت» محرّفة عن «عقب» و «خلافه» محرّفة عن «خلافهم». و خلافهم: بعدهم. و في «اللسان» أيضا «نشط» بدل «بسط».
6- الشواطب: جمع شاطبة، و الشاطبة من النساء: التي تشق الجريد لتعمل منه الحصير، قال مالك بن خالد: إذا أدركوهم يلحفون سراتهم بضرب كما جدّ الحصير الشواطب
7- كذا في الأصول و البين: الصلة و القرابة، و يحتمل أيضا أن يكون «بيتكم» بالتاء.
8- كذا في جميع النسخ، و المناسب للسياق «فيهما» بالتثنية كما هو ظاهر.

و منها من أبيات قالها بالشأم عند عبد الملك أوّلها:

هل تعرف الدار أضحت آيها عجما *** كالرّقّ(1) أجرى عليها حاذق قلما

بالخيف هاجت شئونا(2) غير جامدة *** فانهلّت العين تذري واكفا سجما

دار لبسرة أمست ما تكلّمنا *** و قد أبنت لها لو تعرف الكلما

واها لبسرة لو يدنو الأمير بها *** يا ليت بسرة قد أمست لنا أمما(3)

صوت

حلّت بمكّة لا دار مصاقبة(4) *** هيهات جيرون(5) ممّن يسكن الحرما

يا بسر إنكم شطّ البعاد بكم *** فما تنيلوننا وصلا و لا نعما

غنّى في هذين البيتين الهذليّ ثاني ثقيل بالوسطى، و فيهما ليحيى المكّيّ ثقيل أوّل بالبنصر، جميعا من روايته:

قد قلت بالخيف إذ قالت لجارتها *** أدام وصل الذي أهدى لنا الكلما

صوت

لا يرغم اللّه أنفا أنت حامله *** بل أنف شانيك فيما سرّكم رغما

إن كان رابك شيء لست أعلمه *** منّي فهذي يميني بالرضا سلما(6)

/أو كنت أحببت شيئا مثل حبّكم *** فلا أرحت إذا أهلا و لا نعما

لا تكليني(7) إلى من ليس يرحمني *** وقاك من تبغضين الحتف و السّقما

إن الوشاة كثير إن أطعتهم *** لا يرقبون بنا إلاّ(8) و لا ذمما

غنى ابن محرز في:

لا يرغم اللّه أنفا أنت حامله

ص: 235


1- الرقّ: الصحيفة البيضاء، و هو أيضا جلد رقيق يكتب فيه.
2- الشئون: الدموع.
3- أمما: قريبة.
4- مصاقبة: مقاربة.
5- جيرون: بناء عند باب دمشق يقال: إن الجن بنته في عهد سليمان بن داود، و هو سقيفة مستطيلة على عمد و سقائف و حوله مدينة تطيف به، و ذكروا أن اسم الشيطان الذي بناه «جيرون» فسمى به. و قيل: إن أوّل من بنى دمشق جيرون بن سعد بن عاد بن إرم بن سام بن نوح و به سمي «باب جيرون» و سميت المدينة (إِرَمَ ذٰاتِ الْعِمٰادِ) و في ذلك أقوال كثيرة غير هذه. (راجع «معجم البلدان» لياقوت في اسم «جيرون»).
6- السلم: الاسم من التسليم.
7- في هذا البيت «الطيّ» و هو هنا حذف الرابع الساكن من «مستفعلن» الأولى.
8- الإلّ: العهد.

خفيف ثقيل(1) بالبنصر، و لابن مسجح فيه ثاني ثقيل عن حبش؛ و في:

لا تكليني إلى من ليس يرحمني

لابن محرز ثقيل أوّل بالبنصر عن حبش و الهشاميّ.

أخر الصلاة لعائشة بنت طلحة فعزله عبد الملك و لامه فقال شعرا:

أخبرني محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى قالا أخبرنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الزّبيريّ قال:

أذّن المؤذّن يوما و خرج الحارث بن خالد إلى الصلاة، فأرسلت إليه عائشة ابنة طلحة: إنه بقي عليّ شيء من طوافي لم أتمّه، فقعد و أمر المؤذّنين فكفّوا عن الإقامة و جعل الناس يصيحون حتى فرغت من طوافها، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فعزله و ولّى مكّة عبد الرحمن بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد، و كتب إلى الحارث: /ويلك، أ تركت الصلاة لعائشة بنت طلحة! فقال الحارث: و اللّه لو لم تقض طوافها إلى الفجر لما كبّرت؛ و قال في ذلك:

لم أرحّب بأن سخطت و لكن *** مرحبا أن رضيت عنّا و أهلا

إنّ وجها رأيته ليلة البد *** ر عليه انثنى الجمال و حلاّ

وجهها الوجه لو يسال(2) به المز *** ن من الحسن و الجمال استهلاّ

إن عند الطّواف حين أتته *** لجمالا فعما و خلقا رفلاّ(3)

و كسين الجمال إن غبن عنها *** فإذا ما بدت لهنّ اضمحلاّ

الغناء في شعره:
اشارة

في شعر الحارث هذا غناء قد جمع كلّ ما في شعره منه على اختلاف طرائقه، و هو:

صوت

أثل جودي على المتيّم أثلا *** لا تزيدي فؤاده بك خبلا

أثل إني و الراقصات(4) بجمع *** يتبارين في الأزمّة فتلا(5)

سانحات يقطعن من عرفات *** بين أيدي المطيّ حزنا و سهلا

و الأكفّ المضمّرات على الرك *** ن بشعث سعوا إلى البيت رجلي(6)

لا أخون الصديق في السرّ حتى *** ينقل البحر بالغرابيل نقلا

أو تمرّ الجبال مرّ سحاب *** مرتق قد وعى من الماء ثقلا

ص: 236


1- في ب، س: «خفيف ثقيل رمل بالبنصر».
2- يسال: يسأل سهلت همزته، و في رواية ستأتي في ص 341 «وجهك البدر لو سألت إلخ».
3- الفعم: الممتلئ المستوي؛ و الرفل: الواسع.
4- الراقصات: النوق المسرعات في سيرها، و جمع: المزدلفة و هو المشعر الحرام، سمي جمعا لاجتماع الناس فيه.
5- فتلا: جمع فتلاء، و هي الناقة الثقيلة المتأطرة الرجلين، أو هي الناقة التي في ذراعيها «فتل» و هو تباعدهما عن الجنبين كأنهما فتلا.
6- رجلي: ماشين على أرجلهم، جمع رجلان كعجلان و عجلي.

أنعم اللّه لي بذا الوجه عينا *** و به مرحبا و أهلا و سهلا

/حين قالت لا تفشينّ حديثي *** يا ابن عمّي أقسمت قلت أجل لا(1)

اتقي اللّه و اقبلي العذر منّي *** و تجافي عن بعض ما كان زلاّ

لا تصدّي فتقتليني ظلما *** ليس قتل المحبّ للحبّ حلاّ

ما أكن سؤتكم به فلك العت *** بى لدينا و حقّ ذاك و قلاّ

لم أرحّب بأن سخطت و لكن *** مرحبا أن رضيت عنّا و أهلا

/إنّ شخصا رأيته ليلة البد *** ر عليه انثنى الجمال و حلاّ

جعل اللّه كلّ أنثى فداء *** لك بل خدّها لرجلك نعلا

وجهك البدر لو سألت به المز *** ن من الحسن و الجمال استهلاّ

غنّى معبد في الأبيات الأربعة الأولى خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو، و لابن تيزن(2) في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل عن إسحاق، و لابن سريج في الأوّل و الثاني و الخامس ثقيل أوّل عن الهشاميّ، و للغريض في الخامس إلى الثامن خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو، ولد حمان في التاسع و العاشر و الثالث عشر و الرابع عشر خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو، و لمالك في التاسع إلى آخر الثاني عشر لحن ذكره يونس و لم يجنّسه، و لابن سريج في هذه الأبيات بعينها رمل بالوسطى عن عمرو، و للغريض فيها أيضا خفيف رمل بالبنصر عن ابن المكيّ، و لابن عائشة في الخامس إلى آخر الثامن لحن ذكره حمّاد عن أبيه و لم يذكر طريقته.

/و منها:

صوت

أ حقّا أن جيرتنا استحبّوا *** حزون الأرض بالبلد السّخاخ(3)

إلى عقر الأباطح من ثبير(4) *** إلى ثور(5) فمدفع(6) ذي مراخ(7)

فتلك ديارهم لم يبق فيها *** سوى طلل المعرّس و المناخ

و قد تغنى(8) بها في الدار حور *** نواعم في المجاسد(9) كالإراخ(10)

ص: 237


1- هكذا في ح و هو الصواب، و في سائر النسخ: «أجلا»، و هي «لا» وصلت خطأ «بأجل». و المعنى. «نعم لا أفشي».
2- في ب، س، ح: «ابن بيزن». و في سائر النسخ: «ابن بيزق» (انظر حاشية 2 ص 283 من الجزء الأول من هذه الطبعة).
3- السخاخ: الأرض اللينة الحرّة.
4- ثبير: جبل بمكة.
5- ثور: جبل بمكة.
6- المدفع: أحد مدافع المياه التي تجري فيها.
7- ذو مراخ: موضع قريب من المزدلفة، و قيل: هو من بطن كساب جبل بمكة.
8- تغنى: تقيم، من غنى الرجل بالمكان إذا أقام.
9- المجاسد: جمع مجسد و هو القميص الذي يلي البدن.
10- الإراخ: بقر الوحش.

غنّي في هذه الأبيات الغريض، و لحنه من الثقيل الأوّل بالوسطى عن الهشاميّ.

جزعت سوداء لموت ابن أبي ربيعة فلما سمعت شعر الحارث طابت به نفسا:

و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا عبد اللّه بن محمد قال أخبرني محمد بن سلاّم قال:

كانت سوداء بالمدينة مشغوفة بشعر عمر بن أبي ربيعة، و كانت من مولّدات مكّة، فلما ورد على أهل المدينة نعي عمر بن أبي ربيعة أكبروا ذلك و اشتدّ عليهم، و كانت السوداء أشدّهم حزنا و تسلّبا(1) و جعلت لا تمرّ بسكّة من سكك المدينة إلا ندبته، فلقيها بعض فتيان مكّة، فقال لها: خفّضي عليك، فقد نشأ ابن عمّ له يشبه شعره شعره، فقالت: أنشدني بعضه، فأنشدها قوله:

إني و ما نحروا غداة منى *** عند الجمار تئودها العقل

الأبيات كلّها، قال: فجعلت تمسح عينيها من الدموع و تقول: الحمد للّه الذي لم يضيّع حرمه.

ناضل سليمان بن عبد الملك بينه و بين رجل من أخواله:

أخبرني اليزيديّ قال حدّثني عمّي (جدّ عبيد اللّه) عن ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:

ناضل(2) سليمان بن عبد الملك بين الحارث و بين رجل من أخواله من بني عبس، فرمى(3) [الحارث بن] خالد فأخطأ و رمى العبسيّ فأصاب، فقال:

أنا نضلت(4) الحارث بن خالد

ثم رمى العبسيّ فأخطأ و رمى الحارث فأصاب، فقال الحارث:

حسبت نضل الحارث بن خالد

و رميا فأخطأ العبسيّ و أصاب الحارث، فقال الحارث:

مشيك بين الزّرب(5) و المرابد(6)

و رميا فأخطأ العبسيّ و أصاب الحارث، فقال الحارث:

و إنك الناقص غير الزائد

فقال سليمان: /أقسمت عليك يا حارث إلاّ كففت عن القول و الرّمي فكفّ.

ص: 238


1- التسلب: حداد المرأة على زوجها، و قد يكون على غير الزوج، و هو أيضا لبس المحدّ ثياب الحداد السود.
2- يقال: ناضله مناضلة و نضالا و نيضالا فنضله: باراه في رمي السهام فغلبه، و المعنى المراد هنا أنه جعلهما يتباريان في الرمي بالسهام.
3- في جميع الأصول «فرمى خالد» و الصواب ما أثبتناه.
4- كذا في ح و هامش ب بخط الشيخ الشنقيطي و هو الصواب، و في س: «أناضلت» و هو تحريف.
5- الزرب (بفتح الزاي و كسرها): موضع الغنم.
6- المرابد: محابس الإبل، واحدها «مربد» (بكسر الميم).

37 - أخبار الابجر و نسبه

اسم الأبجر و لقبه و ولاؤه:

الأبجر لقب غلب عليه، و اسمه عبيد اللّه بن القاسم بن ضبية(1)، و يكنى أبا طالب، هكذا روى محمد بن عبد اللّه بن مالك عن إسحاق، و روى هارون بن الزيّات عن حمّاد عن أبيه: أن اسمه محمد بن القاسم بن ضبية، و هو مولى لكنانة ثم لبني بكر، و يقال: إنه مولى لبني ليث.

نشأته:

أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن مالك و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه و هارون بن الزّيات قالا(2) حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد عن محمد بن عبد اللّه بن مالك قال:

كنا يوما جلوسا عند إسحاق، فغنّتنا جارية يقال لها «سمحة»:

إنّ العيون التي في طرفها مرض(3) *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

فهبت إسحاق أن أسأله لمن الغناء، فقلت لبعض من كان معنا: سله، فسأله فقال له إسحاق: ما كان عهدي بك في شبيبتك لتسألنا عن هذا، فقال: أحببته لمّا أسننت، فقال: لا و لكنّ هذا النّقب عمل هذا اللّص، و ضرب بيده إلى/تلابيبي، فقال له الرجل: صدقت يا أبا محمد، فأقبل عليّ فقال لي: أ لم أقل لك إذا اشتهيت شيئا فسل عنه، أما لأعطينّك فيه ما تعابي(4) به من شئت منهم، أ تدري لمن الشعر؟ فقلت: لجرير، فقال لي: و الغناء للأبجر، و كان مدنيّا منشؤه بمكّة، أو مكيّا منشؤه بالمدينة، أ تدري ما اسمه؟ قلت: لا، قال: اسمه عبيد اللّه بن القاسم بن ضبية، أ تدري ما كنيته؟ قلت: لا، قال: أبو طالب، ثم قال: اذهب فعاي بهذا من شئت منهم فإنك تظفر به.

كان ولاؤه لبني كنانة و قيل لبني ليث و كان يلقب بالحسحاس:

و قال هارون: حدّثني حمّاد عن أبيه قال: الأبجر اسمه محمد بن القاسم بن ضبية و قال مرّة أخرى:

عبيد اللّه بن القاسم، مولى لبني بكر بن كنانة، و قيل: إنه مولى لبني ليث، يلقّب بالحسحاس.

ظرفه و حسن لباسه و فرسه و مركبه:

قال هارون: و حدّثني حماد عن أبيه قال حدّثني عورك اللّهبيّ قال:

ص: 239


1- كذا ورد هذا الاسم في هذا الموضع في جميع الأصول و لم نعثر على من تسمى بهذا الاسم، و قد ورد في ح في هذا الموضع هكذا: «ضيبة» و فيما سيأتي: «القاسم بن ضبة». و في «نهاية الأرب» ج 4 ص 314 طبع دار الكتب المصرية «منبّه».
2- في الأصول «قال» و السياق يقتضي ما أثبتناه.
3- في ء، ح: «حور».
4- عايا صاحبه معاياة: ألقى عليه كلاما لا يهتدي لوجهه.

لم يكن بمكّة أحد أظرف و لا أسرى و لا أحسن هيئة من الأبجر، كانت حلّته بمائة دينار و فرسه بمائة دينار و مركبه بمائة دينار، و كان يقف بين المأزمين(1) فيرفع صوته فيقف الناس له يركب بعضهم بعضا.

احتكم على الوليد بن يزيد في الغناء فأمضى حكمه:

أخبرني عليّ بن عبد العزيز الكاتب عن [عبيد اللّه(2) بن] عبد اللّه بن خرداذبه عن إسحاق، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، قالا(3):

/جلس الأبجر في ليلة اليوم السابع من أيام الحجّ على قريب من التّنعيم(4) فإذا عسكر جرّار قد أقبل في آخر الليل، و فيه دوابّ تجنب و فيها فرس أدهم عليه سرج حليته ذهب فاندفع، فغنّى:

عرفت ديار الحيّ خالية قفرا *** كأن بها لمّا توهمتها سطرا

فلما سمعه من في القباب و المحامل أمسكوا، و صاح صائح: ويحك! أعد الصوت، فقال: لا و اللّه! إلا بالفرس الأدهم بسرجه و لجامه و أربعمائة دينار، فإذا الوليد بن يزيد صاحب/الإبل، فنودي: أين منزلك و من أنت؟ فقال: أنا الأبجر و منزلي على باب زقاق الخرّازين، فغدا عليه رسول الوليد بذلك الفرس و أربعمائة دينار و تخت من ثياب وشى و غير ذلك، ثم أتى به الوليد فأقام عنده، و راح مع(5) أصحابه عشيّة التّروية(6) و هو أحسنهم هيئة، و خرج معه أو بعده إلى الشام.

خرج معه إلى الشام:

قال إسحاق: و حدّثني عورك اللّهبيّ أن خروجه كان معه، و ذلك في ولاية محمد بن هشام بن إسماعيل مكّة، و في تلك السنة حجّ الوليد، لأن هشاما أمره بذلك ليهتكه عند أهل الحرم، فيجد السبيل إلى خلعه، فظهر منه أكثر مما أراد به من التّشاغل بالمغنّين و اللهو، و أقبل الأبجر معه حتى قتل الوليد، ثم خرج إلى مصر فمات بها.

نسبة الصوت المذكور في هذا الخبر
صوت

عرفت ديار الحيّ خالية قفرا *** كأنّ بها لمّا توهّمتها سطرا

وقفت بها كيما تردّ جوابها *** فما بيّنت لي الدار عن أهلها خبرا

الغناء لأبي عبّاد ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو، و فيه لسياط خفيف رمل بالبنصر.

ص: 240


1- المأزمان كما في ياقوت: جبلا مكة؛ و قال أهل اللغة: هما مضيقا جبلين؛ و قيل: هو اسم موضع بمكة بين المشعر الحرام و عرفة، و في ذلك أقوال غير هذه.
2- الزيادة عن كتابه «المسالك و الممالك».
3- في جميع الأصول: «قال» بالإفراد.
4- التنعيم: موضع بمكة في الحل، و هو بين مكة و سرف على فرسخين من مكة و قيل على أربعة، و سمى بذلك لأن جبلا عن يمينه يقال له نعيم و آخر عن شماله يقال له ناعم.
5- في ء: «إلى».
6- عشيّة التروية: عشية اليوم الثامن من ذي الحجة.
أخذ صوتا من الغريض فأكره عطاء بن أبي رباح على سماعه:
اشارة

قال إسحاق: و حدّثت أنّ الأبجر أخذ صوتا من الغريض ليلا ثم دخل في الطواف حين أصبح، فرأى عطاء بن أبي رباح يطوف بالبيت، فقال: يا أبا محمد، اسمع صوتا أخذته في هذه الليلة من الغريض؛ قال له: ويحك! أ في هذا الموضع! فقال: كفرت بربّ هذا البيت لئن لم تسمعه منّي سرّا لأجهرنّ به؛ فقال: هاته، فغنّاه:

صوت

صوت(1)

عوجي علينا ربّة الهودج *** إنّك إلاّ تفعلي تحرجي(2)

إنّي أتيحت لي يمانية *** إحدى بني الحارث من مذحج

نلبث حولا كاملا كلّه *** لا نلتقي إلا على منهج

في الحجّ إن حجّت و ما ذا منى *** و أهله إن هي لم تحجج

فقال له عطاء: الخير الكثير و اللّه في منى و أهله حجّت أو لم تحجّ، فاذهب الآن. و قد مرّت نسبة هذا الصوت و خبره في أخبار العرجيّ و الغريض.

ختن عطاء بنيه فاختلف إليهم ثلاثة أيام يغني لهم:

قال إسحاق: و ذكر عمرو بن الحارث عن عبد اللّه(3) بن عبيد بن عمير قال: ختن عطاء بن أبي رباح بنيه أو بني أخيه، فكان الأبجر يختلف إليهم ثلاثة أيام يغنّي لهم.

نازع ابن عائشة في الغناء فتشاتما:

قال هارون بن محمد حدّثني حمّاد بن إسحاق قال نسخت من كتاب ابن أبي نجيح(4) بخطّه: حدّثني غرير بن طلحة الأرقميّ عن يحيى بن عمران عن عمر بن حفص بن أبي كلاب قال:

كان الأبجر مولانا و كان مكّيّا، فكان إذا قدم المدينة نزل علينا، فقال لنا يوما: أسمعوني غناء ابن عائشتكم هذا، فأرسلنا فيه فجمعنا بينهما في بيت ابن هبّار فتغنّى ابن عائشة، فقال الأبجر: كلّ مملوك لي حرّ إن تغنّيت معك إلاّ بنصف صوتي، ثم أدخل إصبعه في شدقه فتغنّى، فسمع صوته من في السّوق فحشر الناس علينا، فلم يفترقا حتى تشاتما؛ قال: و كان ابن عائشة حديدا(5) جاهلا.

غنى الوليد و قد عرف سرّه من خادمه فنشط له:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال و حدّثني ابن أبي سعد قال حدّثني القطرانيّ المغنّي عن محمد/بن جبر عن إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني ابن أشعب عن أبيه قال:

ص: 241


1- الزيادة عن ح.
2- تحرجي: تأثمي.
3- في أ، م، ء: «عن عبد اللّه بن عمر».
4- في ح: «ابن أبي نجاح» و قد سموا «نجيحا» (كأمير و زبير) و نجاحا.
5- الحديد: الحادّ في الغضب، و الجاهل: ضد الحليم.

دعي ذات يوم المغنّون للوليد بن يزيد، و كنت نازلا معهم، فقلت للرسول: خذني فيهم؛ قال: لم أومر بذلك و إنما أمرت بإحضار المغنّين و أنت بطّال(1) لا تدخل في جملتهم؛ فقلت: أنا و اللّه أحسن غناء منهم، ثم اندفعت فغنّيته؛ فقال: لقد سمعت حسنا و لكنّي أخاف؛ فقلت: لا خوف عليك، و لك مع هذا شرط، قال: و ما هو؟ /قلت: كلّ ما أصبته فلك شطره؛ فقال للجماعة: اشهدوا عليه، فشهدوا، و مضينا فدخلنا على الوليد و هو لقس(2)النفس، فغنّاه المغنّون في كل فنّ من خفيف و ثقيل، فلم يتحرّك و لا نشط، فقام الأبجر إلى الخلاء، و كان خبيثا داهيا، فسأل الخادم عن خبره، و بأيّ سبب هو خاثر(3)؟ فقال: بينه و بين امرأته شرّ، لأنه عشق أختها فغضبت عليه فهو إلى أختها أميل، و قد عزم على طلاقها و حلف لها ألاّ يذكرها أبدا بمراسلة و لا مخاطبة، و خرج على هذا الحال من عندها؛ فعاد الأبجر إلينا و ما حلس حتى اندفع فغنّى:

صوت

فبيني فإنّي لا أبالي و أيقني *** أ صعّد باقي حبّكم أم تصوّبا

أ لم تعلمي أنّي عزوف عن الهوى *** إذا صاحبي من غير شيء تغضّبا

فطرب الوليد و ارتاح و قال: أصبت يا عبيد و اللّه ما في نفسي، و أمر له بعشرة آلاف درهم و شرب حتى سكر، و لم يحظ بشيء أحد سوى الأبجر، فلما أيقنت بانقضاء المجلس و ثبت فقلت: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تأمر من يضربني مائة الساعة بحضرتك! فضحك و قال: قبّحك اللّه! و ما السبب في ذلك؟ فأخبرته بقصتي مع الرسول و قلت:

إنه بدأني من المكروه في أوّل يومه بما اتصل عليّ إلى آخره، فأريد أن أضرب مائة و يضرب بعدي مثلها، فقال له:

لقد لطفت، أعطوه مائة دينار و أعطوا الرسول خمسين دينارا من مالنا عوضا عن الخمسين التي أراد أن يأخذها؛ فقبضتها و ما حظي أحد بشيء غيري و غير الرسول. و الشعر الذي غنّى فيه الأبجر الوليد بن يزيد لعبد الرحمن بن الحكم أخي مروان بن الحكم، و الغناء للأبجر ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لغيره عدّة ألحان نسبت.

صوت من المائة المختارة من رواية جحظة

حمزة المبتاع بالمال الثّنا *** و يرى في بيعه أن قد غبن

فهو إن أعطى عطاء فاضلا *** ذا إخاء لم يكدّره بمنّ

و إذا ما سنة مجدبة *** برت الناس كبري بالسّفن(4)

ص: 242


1- البطال: الذي يهزل في حديثه.
2- لقس النفس: وصف من لقست نفسه إذا غثت و خبثت.
3- الخاثر: الذي غثت نفسه.
4- السفن (بالتحريك): كل ما يبري و ينحت به، قال زهير: ضربا كنحت جذوع الأثل بالسفن

كان للناس ربيعا مغدقا *** ساقط الأكناف إن راح أرجحنّ(1)

نور شرق بيّن في وجهه *** لم يصب أثوابه لون الدّرن

عروضه من الرمل. الشعر لموسى شهوات. و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.

ص: 243


1- ارجحنّ: مال و اهتز.

38 - أخبار موسى شهوات و نسبه و خبره في هذا الشعر

نسبه و سبب لقبه:

هو موسى بن يسار(1) مولى قريش، و يختلف في ولائه فيقال: إنه مولى بني سهم، و يقال: مولى بني تيم بن مرّة، و يقال: مولى بني عديّ بن كعب؛ و يكنى أبا محمد، و شهوات لقب غلب عليه.

و حدّثني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

إنما لقّب موسى شهوات لأنه كان سئولا ملحفا، فكان كلّما رأى مع أحد شيئا يعجبه من مال أو متاع أو ثوب أو فرس(2)، تباكى، فإذا قيل له: ما لك؟ قال: أشتهي هذا؛ فسمّي موسى شهوات. قال: و ذكر آخرون أنه كان من أهل أذربيجان و أنه نشأ بالمدينة و كان يجلب إليه القند(3) و السكّر، فقالت له امرأة من أهله: ما يزال موسى يجيئنا بالشهوات؛ فغلبت عليه.

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:

كان محمد بن يحيى يقول: موسى شهوات مولى بني عديّ بن كعب، و ليس ذاك بصحيح، هو مولى تيم بن مرّة. و ذكر عبد اللّه بن شبيب عن الحزاميّ: أنه مولى بني سهم.

/و أخبرني وكيع عن أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب و محمد بن سلاّم قال: موسى شهوات مولى بني سهم.

عشق جارية فأعطى بها عشرة آلاف درهم:

و أخبرني محمد بن الحسن(4) بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال:

هوي موسى شهوات جارية بالمدينة فاستهيم بها و ساوم مولاها فيها فاستام(5) بها عشرة آلاف درهم، فجمع كلّ ما يملكه و استماح إخوانه فبلغ أربعة آلاف درهم، فأتى إلى سعيد بن خالد العثمانيّ فأخبره بحاله و استعان به، و كان صديقه و أوثق الناس عنده، فدافعه(6) و اعتلّ عليه فخرج من عنده؛ فلما ولّى تمثّل سعيد قول الشاعر:

كتبت إليّ تستهدي الجواري *** لقد أنعظت من بلد بعيد

ص: 244


1- كذا في «شرح القاموس» مادة (شهو) و قد صححه على هامش نسخته كذلك الأستاذ الشيخ محمد بن محمود الشنقيطي، و في الأصول: «بشار» و هو تحريف.
2- في ح «فرش» بالشين المعجمة.
3- القند: عسل تصب السكر إذا جمد.
4- كذا في س، و هو الصواب، و في باقي الأصول: «الحسين».
5- الاستيام بالشيء: ذكر ثمنه، تقول: استمت عليه بسلعتي إذا كنت أنت تذكر ثمنها، و تقول: استام مني بسلعتي إذا كان هو العارض عليك الثمن.
6- دافعه: ماطله.
أتى سعيد بن خالد بن عبد اللّه بن أسيد يستعينه في ثمن الجارية فأعانه فمدحه:

فأتى سعيد بن خالد بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد فأخبره بقصّته فأمر له بستة آلاف درهم، فلما قبضها و نهض قال له: اجلس، إذا ابتعتها بهذا المال و قد أنفدت كلّ ما تملك فبأيّ حال تعيشان! ثم دفع إليه ألفي درهم و كسوة و طيبا، و قال: أصلح بهذا شأنكما؛ فقال فيه:

أبا خالد أعني سعيد بن خالد *** أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد

و لكنّني أعني ابن عائشة الذي *** أبو أبويه خالد بن أسيد

عقيد(1) الندى ما عاش يرضى به النّدى *** فإن مات لم يرض النّدى بعقيد

دعوه دعوه إنكم قد رقدتم *** و ما هو عن أحسابكم برقود

قتلت أناسا هكذا في جلودهم *** من الغيظ لم تقتلهم بحديد

رأى سعيد بن خالد العثماني في مدحه لسميه الذي أعانه هجوا له فشكاه:

قال: فشكاه العثمانيّ إلى سليمان بن عبد الملك، فأحصر موسى و قال له: يا عاضّ كذا و كذا، أ تهجو سعيد بن خالد! فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين ما هجوته و لكنّي مدحت ابن عمّه فغضب هو، ثم أخبره بالقصّة؛ فقال للعثمانيّ: قد صدق، إنما نسب من مدحه إلى أبيه ليعرف. قال: و كان سليمان إذا نظر إلى سعيد بن خالد بن عبد اللّه يقول: لعمري و اللّه ما أنت عن أحسابنا برقود.

و أخبرني محمد بن عبد اللّه اليزيديّ قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ/قال حدّثنا مصعب بن عبد اللّه بهذا الحديث فذكر نحو ما ذكره أبو عبيدة و قال فيه:

و كان سعيد بن خالد هذا تأخذه الموتة(2) في كلّ سنة، فأرادوا علاجه، فتكلّمت صاحبته على لسانه و قالت:

أنا كريمة بنت ملحان سيّد الجنّ، و إن عالجتموه قتلتموه، فو اللّه لو وجدت أكرم منه لهويته.

أخبرني وكيع عن أبي حمزة أنس بن خالد الأنصاريّ عن قبيصة بن عمر بن حفص المهلّبيّ عن أبي عبيدة قال حدّثني الحارث بن سليمان الهجيميّ(3)، - و هو أبو خالد بن الحارث المحدّث - قال: و كان عنده رؤبة بن العجّاج، قال:

شهدت مجلس أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك و أتاه سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفّان، فقال:

يا أمير المؤمنين، أتيتك مستعديا، قال: و من بك؟ قال: موسى شهوات، قال: و ما له؟ قال: سمّع(4) بي و استطال في عرضي، فقال: يا غلام، /عليّ بموسى فأتني به فأتي به، فقال: ويلك! أ سمعت به و استطلت في عرضه؟ قال:

ما فعلت يا أمير المؤمنين و لكنّي مدحت ابن عمّه فغضب هو، قال: و كيف ذلك؟ قال: علقت جارية لم يبلغ ثمنها

ص: 245


1- عقيد الندى: الكريم بطبعه.
2- الموتة: ضرب من الجنون و الصرع يعتري الإنسان فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله كالنائم و السكران.
3- كذا في «الخلاصة في أسماء الرجال» في اسم خالد بن الحارث، و في ب، س: «الجهيمي» بتقديم الجيم على الهاء، و في سائر النسخ «المجيمي» و كلاهما تحريف.
4- سمع به في الناس: شهّره و فضحه.

جدتي(1)، فأتيته و هو صديقي فشكوت إليه ذلك، فلم أصب عنده شيئا، فأتيت ابن عمّه سعيد بن خالد بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد فشكوت إليه ما شكوته إلى هذا، فقال: تعود إليّ، فتركته ثلاثا ثم أتيته فسهّل من إذني، فلما استقرّ بي المجلس قال: يا غلام، قل لقيّمتي: هاتي وديعتي، ففتح بابا بين بيتين و إذا بجارية، فقال لي: أ هذه بغيتك(2)؟ قلت: نعم فداك أبي و أمّي! قال: اجلس ثم قال: يا غلام، قل لقيّمتي: هاتي ظبية(3) نفقتي، فأتي بظبية فنثرت بين يديه فإذا فيها مائة دينار ليس فيها غيرها فردّت في الظّبية، ثم قال: عتيدة(4) طيبي، فأتي بها، فقال:

ملحفة(5) فراشي، فأتي بها، فصيّر ما في الظبية و ما في العتيدة في حواشي الملحفة، ثم قال: شأنك بهواك و استعن بهذا عليه؛ فقال له سليمان بن عبد الملك: فذلك حين تقول ما ذا؟ قال: قلت:

ذكر طائفة من أبيات القصيدة التي مدح بها سعيد بن خالد:

أنا خالد أعني سعيد بن خالد *** أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد

و لكنني أعني ابن عائشة الذي *** أبو أبويه خالد بن أسيد

عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى *** فإن مات لم يرض الندى بعقيد

دعوه دعوه إنكم قد رقدتم *** و ما هو عن أحسابكم برقود

فقال سليمان: عليّ يا غلام بسعيد بن خالد، فأتي به، فقال: أحقّ ما وصفك به موسى؟ قال: و ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فأعاد عليه، فقال: قد كان ذلك/يا أمير المؤمنين، قال: فما طوّقتك هذه الأفعال؟ قال: دين ثلاثين ألف دينار؛ فقال له: قد أمرت لك بمثلها و بمثلها و بمثلها و بثلث مثلها، فحملت إليه مائة ألف دينار؛ قال:

فلقيت سعيد بن خالد بعد ذلك فقلت له: ما فعل المال الذي وصلك به سليمان؟ قال: ما أصبحت و اللّه أملك منه إلا خمسين دينارا؛ قلت: ما اغتاله؟ قال: خلّة(6) من صديق أو فاقة من ذي رحم.

أخبرني وكيع قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب الزبيريّ و محمد بن سلاّم قال:

عشق موسى شهوات جارية(7) بالمدينة فأعطى بها عشرة آلاف درهم؛ ثم ذكر باقي الحديث مثل حديث سليمان بن أبي شيخ؛ و قال/و فيه: أما و اللّه لئن مدحته و هو سميّك و أبوه سمي أبيك و لم أفرّق بينكما ليقولن للناس:

أ هذا أم هذا، و لكن و اللّه لأقولنّ قولا لا يشكّ فيه. و تمام هذه الأبيات التي مدح بها سعيدا بعد الأربعة المذكورة منها:

فدى للكريم العبشميّ ابن خالد *** بنيّ و ما لي طارفي و تليدي

على وجهه تلقى الأيامن و اسمه *** و كلّ جواري طيره بسعود

ص: 246


1- الجدة: اليسار و السعة.
2- البغية (بكسر الباء و ضمها): ما ابتغى، يقال: فلان بغيتي و عند فلان بغيتي أي طلبتي.
3- الظبية: حراب صغير من جلد ظبي.
4- العتيدة: الحقة يكون فيها طيب الرحل أو العروس.
5- الملحفة: الملاءة.
6- الخلة: الحاجة و الفقر.
7- في ح: «مغنية».

أبان و ما استغنى عن الثّدي خيره *** أبان به في المهد قبل قعود

دعوه دعوه إنكم قد رقدتم *** و ما هو عن أحسابكم برقود

ترى الجند و الجنّاب(1) يغشون بابه *** بحاجاتهم من سيّد و مسود

فيعطي و لا يعطى و يغشى و يجتدى *** و ما بابه للمجتدي بسديد

/قتلت أناسا هكذا في جلودهم *** من الغيظ لم تقتلهم بحديد

يعيشون ما عاشوا بغيظ و إن تحن *** مناياهم يوما تحن بحقود

فقل لبغاة العرف قد مات خالد *** و مات الندى إلا فضول سعيد

قال وكيع في خبره: أمّا قوله: «لا أعني ابن بنت سعيد» فإنّ أمّ سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان آمنة بنت سعيد بن العاصي، و عائشة أمّ عقيد الندى بنت عبد اللّه بن خلف الخزاعيّة أخت طلحة الطّلحات، و أمّها صفيّة بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار بن قصيّ، و أمّ أبي(2) عقيد الندى رملة بنت معاوية بن أبي سفيان.

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:

لما أنشد موسى شهوات سليمان بن عبد الملك شعره في سعيد بن خالد قال له: اتّفق اسماهما و اسما أبويهما، فتخوّفت أن يذهب شعري باطلا ففرّقت بينهما بأمّهما، فأغضبه أن مدحت ابن عمّه، فقال له سليمان: بلى و اللّه لقد هجوته و ما خفي عليّ و لكني لا أجد إليك سبيلا، فأطلقه.

عمل شعرا في مدح حمزة بن عبد اللّه بن الزبير و قبل معبد أن يغنيه له و يكون عطاؤه بينهما:

أخبرني وكيع قال حدّثني أحمد بن زهير قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال حدّثنا محمد بن مسلمة الثقفيّ قال:

قال موسى شهوات لمعبد: أ أمدح حمزة بن عبد اللّه بن الزبير بأبيات و تغنّي فيها و يكون ما يعطينا بيني و بينك؟ قال: نعم؛ فقال موسى:

/

حمزة المبتاع بالمال الثّنا *** و يرى في بيعه أن قد غبن

فهو إن أعطى عطاء فاضلا *** ذا إخاء لم يكدّره بمنّ

و إذا ما سنة مجحفة *** برت الناس كبري بالسّفن

حسرت(3) عنه نقيّا عرضه *** ذا بلاء عند مخناها(4) حسن

نور صدق بين في وجهه *** لم يدنّس ثوبه لون الدّرن

كنت للناس ربيعا مغدقا *** ساقط الأكناف إن راح ارجحنّ

ص: 247


1- الجناب: جمع جانب و هو الغريب.
2- كذا صححه الأستاذ الشنقيطي بهامش نسخته، و في الأصول: «و أم ابن عقيد الندى».
3- حسرت: كشفت.
4- مخناها: مصدر ميميّ من أخنى أي أهلك.

قال أحمد بن زهير: و أوّل هذه القصيدة عن غير ابن سلاّم:

شاقني اليوم حبيب قد ظعن *** ففؤادي مستهام مرتهن

/إنّ هندا تيمتني حقبة *** ثم بانت و هي للنفس شجن

فتنة ألحقها اللّه بنا *** عائذ باللّه من شرّ الفتن

عارض فاطمة بنت الحسين لما زفت إلى عبد اللّه بن عمرو بشعر فأجيز:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرني الطّلحي قال أخبرني عبد الرحمن بن حمّاد عن عمران بن موسى بن طلحة قال:

لما زفّت فاطمة بنت الحسين رضوان اللّه عليه إلى عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفّان، عارضها(1) موسى شهوات:

طلحة الخير جدّكم *** و لخير الفواطم

أنت للطاهرات من *** فرع تيم و هاشم

أرتجيكم لنفعكم *** و لدفع المظالم

فأمر له بكسوة و دنانير و طيب.

هجا داود بن سليمان لما تزوّج فاطمة بنت عبد الملك:

قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العنزيّ عن العتبيّ قال:

كانت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تحت عمر بن عبد العزيز، فلما مات عنها تزوّجها داود بن سليمان بن مروان و كان قبيح الوجه، فقال في ذلك موسى شهوات:

أبعد الأغرّ ابن عبد العزيز *** قريع(2) قريش إذا يذكر

تزوّجت داود مختارة *** ألا ذلك الخلف الأعور(3)

فكانت إذا سخطت عليه تقول: صدق و اللّه موسى، إنك لأنت الخلف الأعور، فيشتمه داود.

مدح يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية فأجازه:

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن لقيط قال:

أقام موسى شهوات ليزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية على بابه بدمشق، و كان فتى جوادا سمحا، فلما ركب وثب إليه فأخذ بعنان دابّته، ثم قال:

قم فصوّت إذا أتيت دمشقا: *** يا يزيد بن خالد بن يزيد

ص: 248


1- كذا في الأصول، و المراد أنه اعترضها في سيرها و مدحها بهذا الشعر.
2- القريع: السيد و الرئيس، يقال: فلان قريع الكتيبة أي رئيسها.
3- الأعور: الرديء من كل شيء، و يقال على الضعيف الجبان البليد الذي لا خير فيه.

يا يزيد بن خالد إن تجبني *** يلقني طائري بنجم السّعود

فأمر له بخمسة آلاف درهم و كسوة، و قال له: كلما شئت فنادنا نجبك.

تزوّج بنت داود ابن أبي حميدة فلما سئل عن جلوتها قال شعرا:

أخبرنا وكيع قال حدّثني أحمد بن زهير قال حدّثنا مصعب الزّبيريّ قال:

زوّج موسى شهوات بنت مولى لمعن بن عبد الرحمن بن عوف يقال له: داود بن أبي حميدة، فلما جليت(1)عليه قال داود: ما للجلوة؟ فأنشأ يقول:

/

تقول لي النساء غداة تجلى *** حميدة يا فتى للجلاء

فقلت لهم سمرقند(2) و بلخ(3)*** و ما بالصين من نعم(4) و شاء(5)

أبوها حاتم إن سيل خيرا *** و ليث كريهة عند اللقاء

هجا أبا بكر بن عبد الرحمن حين حكم عليه و مدح سعيد بن سليمان:

أخبرني وكيع قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا مصعب قال:

قضى أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب على موسى شهوات بقضيّة، و كان خالد بن عبد الملك(6) استقضاه في أيام هشام بن عبد الملك، فقال موسى يهجوه:

وجدتك فهّا(7) في القضاء مخلّطا(8) *** فقدتك من قاض و من متأمّر

/فدع عنك ما شيدته ذات رخة(9) *** أذى الناس لا تحشرهم كلّ محشر

ثم ولي القضاء سعيد بن سليمان بن زيد(10) بن ثابت الأنصاريّ، فقال يمدحه:

من سرّه الحكم صرفا لا مزاج له *** من القضاة و عدل غير مغموز

فليأت دار سعيد الخير إنّ بها *** أمضى على الحقّ من سيف ابن جرموز(11)

ص: 249


1- يقال: جليت العروس على زوجها جلوة (بتثليث الجيم) و جلاء (بكسر الجيم) إذا عرضت عليه مجلوّة، و الجلوة (بالكسر): ما تعطاه العروس عند جلائها.
2- سمرقند: مدينة عظيمة و هي عاصمة الصغد مبنية جنوبي وادي الصغد، قيل: هي من أبنية ذي القرنين.
3- بلخ: مدينة مشهورة بخراسان.
4- النعم: الإبل.
5- الشاء: الغنم.
6- هو خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم ولي المدينة لهشام بن عبد الملك.
7- الفه: العييّ.
8- يقال: خلط في كلامه إذا هذى.
9- كذا في الأصول و لم نوفق إلى استجلاء ما غمض من معناه.
10- كذا صححه الأستاذ الشيخ الشنقيطي على هامش نسخته، و في الأصول: «يزيد» و هو تحريف.
11- هو عمرو بن جرموز قاتل الزبير بن العوّام رضي اللّه عنه.
هجاؤه سعد بن إبراهيم والي المدينة:

قال: و كان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قد ولي المدينة و اشتدّ على السفهاء و الشعراء و المغنّين، و لحق موسى شهوات بعض ذلك منه، و كان قبيح الوجه، فقال موسى يهجوه:

/

قل لسعد وجه العجوز لقد كن *** ت لما قد(1) أوتيت سعدا مخيلا(2)

إن تكن ظالما جهولا فقد كا *** ن أبوك الأدنى ظلوما جهولا

و قال يهجوه:

لعن اللّه و العباد ثطيط(3) ال *** وجه لا يرتجى قبيح(4) الجوار

يتّقي الناس فحشه و أذاه *** مثل ما يتّقون بول الحمار

لا تغرّنك سجدة بين عيني *** ه حذار(5) منها و منه حذار

إنها سجدة بها يخدع النا *** س، عليها من سجدة بالدّبار(6)

مدح عبد اللّه بن عمرو بن عثمان حين نفحه بعطية:

أخبرني عمّي قال أخبرني ثعلب عن عبد اللّه بن شبيب قال:

ذكر الحزاميّ(7) أنّ موسى شهوات سأل بعض آل الزبير حاجة فدفعه عنها، و بلغ ذلك عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، فبعث إليه بما كان التمسه من الزّبيريّ من غير مسألة؛ فوقف عليه موسى و هو جالس في المسجد، ثم أنشأ يقول:

ليس فيما بدا لنا منك عيب *** عابه الناس غير أنك فاني

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى *** غير أن لا بقاء للإنسان

/و الشعر المذكور فيه الغناء، يقوله موسى شهوات في حمزة بن عبد اللّه بن الزبير، و كان فتى كريما جوادا على هوج كان فيه، و ولاّه أبوه العراقين و عزل مصعبا لمّا تزوّج سكينة بنت الحسين رضي اللّه عنه و عائشة بنت طلحة و أمهر كلّ واحدة منهما ألف ألف درهم.

سبب عزل ابن الزبير لأخيه مصعب عن البصرة و توليته ابنه حمزة:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ عن مصعب الزبيريّ، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرني عبيد اللّه بن محمد الرّازي و الحسين بن علي: قال عبيد اللّه حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ، و قال الحسين حدّثنا الحارث بن أبي أسامة عن المدائنيّ عن أبي محنف:

ص: 250


1- كذا في ب، س. و في أ، م، ح، ء: «لما أتيت» بغير «قد» و البيت لا يتزن بغيرها، و في جميع النسخ «أتيت» و الصواب ما رجحناه.
2- كذا في ب، س، ح، و في أ، م، ء: «بخيلا».
3- ثطيط تصغير ثط، و الثط و الأثط: الكوسج و هو الذي عرى وجهه من الشعر إلا طاقات في أسفل حنكه. و في أ، ء، م: «قبيح الوجه».
4- في أ، م، ء: «شطيط» و لم نجد فعيلا وصفا من هذه المادة.
5- دخل على هذا الشطر «الكف» و هو حذف الساكن السابع من «فاعلاتن الأولى».
6- الدبار: الهلاك و العفاء، و الظاهر أن الباء زائدة.
7- كذا في أ، ء، م، و في باقي النسخ «الحرامي» بالراء المهملة، و هو تحريف.

أن أنس بن زنيم اللّيثيّ كتب إلى عبد اللّه بن الزّبير:

أبلغ أمير المؤمنين رسالة *** من ناصح لك لا يريك خداعا

بضع(1) الفتاة بألف ألف كامل *** و تبيت قادات الجيوش جياعا

لو لأبي(2) حفص أقول مقالتي *** و أبثّ ما أبثثتكم لارتاعا

/فلما وصلت الأبيات إليه جزع ثم قال: صدق و اللّه، لو لأبي حفص يقول: إنّ مصعبا تزوج امرأتين بألفي ألف درهم لارتاع، إنّا بعثنا مصعبا إلى العراق فأغمد سيفه و سلّ أيره و سنعزله، فدعا بابنه حمزة، و أمّه بنت منظور بن زبّان الفزاريّ و كان لها منه محلّ لطيف، فولاّه البصرة و عزل مصعبا. فبلغ قوله عبد الملك في أخيه مصعب، فقال:

لكنّ أبا خبيب أغمد سيفه و أيره و خيره.

عزل ابن الزبير ابنه حمزة لهوجه و حمقه:

و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبة قال: هذه الأبيات لعبد اللّه بن همّام(3)السّلوليّ.

قالوا جميعا: فلما ولي ابنه حمزة البصرة أساء السّيرة و خلّط تخليطا شديدا، و كان جوادا شجاعا أهوج، فوفدت إلى أبيه الوفود في أمره، و كتب إليه الأحنف بأمره و ما ينكره الناس منه و أنه يخشى أن تفسد عليه طاعتهم؛ فعزله عن البصرة.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا المدائنيّ قال:

لما قدم حمزة بن عبد اللّه البصرة واليا عليها، و كان جوادا شجاعا مخلّطا: يجود أحيانا حتى لا يدع شيئا يملكه إلا وهبه و يمنع أحيانا ما لا يمنع من مثله، فظهرت منه بالبصرة خفّة و ضعف. و ركب يوما إلى فيض(4) البصرة، فلما رآه قال: إنّ هذا الغدير إن رفقوا به ليكفينّهم صيفتهم هذه، فلما كان بعد ذلك ركب إليه فوافقه جازرا(5)فقال: قد رأيته ذات يوم فظننت أن لن يكفيهم؛ فقال له الأحنف: إنّ هذا ماء يأتينا ثم يغيض عنّا ثم يعود. و شخص إلى الأهواز فرأى جبلها، فقال: هذا قعيقعان - و قعيقعان: جبل بمكّة - فلقّب ذلك الجبل بقعيقعان.

قال أبو زيد: و حدّثني غير المدائنيّ أنه سمع بذكر الجبل بالبصرة، فدعا بعامله فقال له: ابعث فأتنا بخراج الجبل؛ فقال له: إن الجبل ليس ببلد فآتيك بخراجه. و بعث إلى مردانشاه فاستحثّه بالخراج فأبطأ به، فقام إليه بسيفه فقتله؛ فقال له/الأحنف: ما أحدّ سيفك أيّها الأمير! و همّ بعبد العزيز بن شبيب(6) بن خيّاط أن يضربه بالسّياط؛

ص: 251


1- بضع: نكح.
2- دخل على هذا الشطر «الوقص» و هو ما سكن ثانيه المتحرك و ذهب رابعه الساكن من «متفاعلن».
3- في الأصول: «هشام» و هو تحريف.
4- فيض البصرة: نهرها.
5- جازرا: من الجزر و هو نقصان مائه، و ضدّه «المد» و هو زيادته.
6- في «تاريخ الطبري» (طبع مدينة ليدن - القسم الثاني ص 752). و في ابن الأثير ص 255 ج 4 «بعبد العزيز بن بشر». و قد ورد في الطبري في قسم 2 ص 802 هذا الاسم هكذا «عبد العزيز بن بشر بن حياط»، و في ح: «بن بشير بن حياط» بالحاء المهملة. و في أ، م، ء: «بن شبيب بن حياط» بالحاء المهملة أيضا.

فكتب(1) إلى ابن الزبير بذلك و قال له: إذا كانت لك بالبصرة حاجة فاصرف ابنك عنها و أعد إليها مصعبا؛ ففعل ذلك. و قال بعض الشعراء يهجو حمزة و يعيبه بقوله في أمر الماء الذي رآه قد جزر:

يا بن الزّبير بعثت حمزة عاملا *** يا ليت حمزة كان خلف عمان

أزرى بدجلة حين عبّ عبابها *** و تقاذفت بزواخر الطّوفان

نفار النوار من الفرزدق و التجاؤها لابن الزبير و شفاعة الفرزدق بابنه حمزة:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة قال:

خطب النّوار ابنة أعين المجاشعيّة رجل من قومها، فجعلت أمرها إلى الفرزدق، و كان ابن عمها دنية(2)، ليزوّجها منه، فأشهد عليها بذلك و بأنّ أمرها إليه شهودا عدولا؛ فلما أشهدتهم على نفسها قال لهم الفرزدق: فإني أشهدكم أنّي قد تزوّجتها، فمنعته النّوار نفسها و خرجت إلى الحجاز إلى عبد اللّه بن الزّبير، فاستجارت بامرأته بنت منظور بن زبّان، و خرج الفرزدق فعاذ بابنه حمزة، و قال يمدحه:

يا حمز هل لك في ذي حاجة، غرضت(3) *** أنضاؤه بمكان(4) غير ممطور

/فأنت أولى قريش أن تكون لها *** و أنت بين أبي بكر و منظور

/فجعل أمر النّوار يقوى و أمر الفرزدق يضعف؛ فقال الفرزدق في ذلك:

أمّا بنوه فلم تنفع شفاعتهم *** و شفّعت بنت منظور بن زبّانا

ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا(5) *** مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا

فبلغ ابن الزّبير شعره، و لقيه على باب المسجد و هو خارج منه فضغط حلقه حتى كاد يقتله، ثم خلاّه و قال:

لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا(6) *** و لو رضيت رمح(7) استه لاستقرّت

ثم دخل إلى النّوار فقال لها: إن شئت فرّقت بينك و بينه ثم ضربت عنقه فلا يهجونا أبدا، و إن شئت أمضيت نكاحه فهو ابن عمّك و أقرب الناس إليك، و كانت امرأة صالحة، فقالت: أ و ما غير هذا؟ قال: لا؛ قالت: ما أحبّ أن يقتل و لكني أمضي أمره فلعلّ اللّه أن يجعل في كرهي إيّاه خيرا؛ فمضت إليه و خرجت معه إلى البصرة.

غنى معبد حمزة بن عبد اللّه بشعره فأجازه:

أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الزّبيريّ:

أن حمزة بن عبد اللّه كان جوادا، فدخل إليه معبد يوما و قد أرسله ابن قطن مولاه يقترض له من حمزة ألف

ص: 252


1- في «تاريخ الطبري» قسم 2 ص 752 «كتب الأحنف».
2- يقال: هو ابن عم دنية أي لاصق النسب.
3- في الأصول «عرضت» و قد صححها الأستاذ الشنقيطي كما أثبتناه. و «غرضت»: ملّت و ضجرت.
4- كذا في «الأغاني» في ترجمة الفرزدق (ج 19 ص 11 طبعة بولاق) و في الأصول هنا: «ببلاد» و هو لا يتفق مع الوصف.
5- كذا في «ديوان» الفرزدق، و في الأصول: «متزرا» بالإدغام. و إدغام الهمزة في تاء الافتعال بعضهم يجيزه و الأكثر على منعه.
6- في رواية أخرى: ألا تلكم عرس الفرزدق جامحا
7- يريد بقوله «رمح اسنه»: طعنه في دبره و رفسه بالأرجل، و هذا كناية عن امتهانه و احتقاره، و الرمح: الضرب بالرجل.

دينار فأعطاه ألف الدينار، فلما خرج من عنده قيل له: هذا عبد ابن قطن و هو يروي فيك شعر موسى شهوات فيحسن/روايته، فأمر بردّه فردّ، و قال له ما حكاه القوم عنه، فغنّاه معبد الصوت فأعطاه أربعين دينارا؛ و لما كان بعد ذلك ردّ ابن قطن عليه المال فلم يقبله، و قال له: إنه إذا خرج عنّي مال لم يعد إلى ملكي. و قد روي أنّ الداخل على حمزة و المخاطب في أمره بهذه المخاطبة(1) ابن سريج، و ليس ذلك بثبت، هذا هو الصحيح، و الغناء لمعبد.

أنشد حمزة بن عبد اللّه شعرا و غناه إياه معبد فأجازهما:

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة عن محمد بن يحيى الغسّانيّ:

أن موسى شهوات أملق، فقال لمعبد: قد قلت في حمزة بن عبد اللّه شعرا فغنّ فيه حتى يكون أجزل لصلتنا؛ ففعل ذلك معبد و غنّى في هذه الأبيات، ثم دخلا على حمزة فأنشده إيّاها موسى ثم غنّاه فيها معبد، فأمر لكل واحد منهما بمائتي دينار.

كان من شعراء الحجاز و كان خلفاء بني أمية يحسنون إليه:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عبد اللّه عن عبد اللّه بن عيّاش قال:

كان موسى شهوات مولى لسليمان بن أبي خيثمة بن حذيفة العدويّ، و كان شاعرا من شعراء أهل الحجاز، و كان الخلفاء من بني أميّة يحسنون إليه و يدرّون عطاءه و تجيئه صلاتهم إلى الحجاز.

هجا داود بن سليمان بن مروان الذي تزوّج فاطمة بنت عبد الملك بعد وفاة زوجها عمر بن عبد العزيز:

و كانت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تحت عمر بن عبد العزيز، فلما مات عنها تزوّجها داود بن سليمان بن مروان و كان دميما قبيحا، فقال موسى شهوات في ذلك:

أبعد الأغرّ ابن عبد العزيز *** قريع قريش إذا يذكر

تزوّجت داود مختارة *** ألا ذلك الخلف الأعور

فغلب عليه ذلك في بني مروان، فكان يقال له: الخلف الأعور.

صوت من المائة المختارة

عوجا خليليّ على المحضر(2) *** و الربع من سلاّمة المقفر

عوجا به فاستنطقاه فقد *** ذكّرني ما كنت لم أذكر

ذكّرني سلمى و أيامها *** إذ جاورتنا بلوى عسجر(3)

ص: 253


1- في م: «و المخاطب في هذه المخاطبة».
2- المحضر: المنهل الذي يجتمع القوم فيه و يحضرون عليه (انظر الحاشية رقم 1 من ص 395 ج 2 أغاني من هذه الطبعة).
3- عسجر: موضع قرب مكة. قال ياقوت في الكلام عليه بعد أن تكلم عن عسجد: «و لعله الذي قبله عير في قافية شعر» يريد «عسجدا» بالدال المهملة. و قد قال في الكلام عن عسجد إنه اسم موضع بعينه، و استشهد له بقول رزاح بن ربيعة العذري:

بالربع من ودّان مبدا(1) لنا *** و محورا ناهيك من محور

في محضر كنّا به نلتقي *** يا حبّذا ذلك من محضر

إذ نحن و الحيّ به جيرة *** فيما مضى من سالف الأعصر

الشعر للوليد بن يزيد، و قيل: إنه لعمر بن أبي ربيعة، و قيل: إنه للعرجيّ، و هو للوليد صحيح، و الغناء و اللحن المختار لابن سريج خفيف رمل بالبنصر في مجراها، و فيه لشارية(2) خفيف رمل آخر عن ابن المعتزّ، و ذكر الهشاميّ أنّ فيه لحكم الواديّ خفيف رمل أيضا.

عتب عمرو بن عثمان على زوجه سكينة بنت الحسين فأرسلت إليه أشعب:
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائنيّ قال:

كان زيد بن عمرو بن عثمان قد تزوّج سكينة بنت الحسين رضي اللّه تعالى عنه، فعتب عليها يوما، فخرج إلى مال له، فذكر أشعب أن سكينة دعته فقالت/له: إن ابن عثمان خرج عاتبا عليّ فاعلم لي حاله، قلت: لا أستطيع أن أذهب إليه الساعة، فقالت: أنا أعطيك ثلاثين دينارا، فأعطتني إياها فأتيته ليلا دخلت الدار، فقال: انظروا من في الدار، فأتوه فقالوا: أشعب، فنزل عن فرشه و صار إلى الأرض فقال: أ شعيب(3)؟ قلت: نعم، قال: ما جاء بك؟ قلت: أرسلتني سكينة لأعلم خبرك، أ تذكّرت منها ما تذكّرت منك؟ و أنا أعلم أنك قد فعلت حين نزلت عن فرشك و صرت إلى الأرض، قال: دعني من هذا و غنّني:

عوجا به فاستنطقاه فقد *** ذكّرني ما كنت لم أذكر

فغنّيته فلم يطرب، ثم قال: غنّني ويحك غير هذا، فإن أصبت ما في نفسي فلك حلّتي هذه و قد اشتريتها آنفا بثلاثمائة دينار، فغنّيته:

صوت

علق القلب بعض ما قد شجاه *** من حبيب أمسى هوانا هواه

ما ضراري نفسي بهجران(4) من لي *** س مسيئا و لا بعيدا نواه

و اجتنابي بيت الحبيب و ما الخل *** د بأشهى إليّ من أن أراه

فقال: ما عدوت ما في نفسي، خذ الحلّة، فأخذتها و رجعت إلى سكينة فقصصت عليها القصّة، فقالت: و أين الحلّة؟ قلت: معي، فقالت: و أنت الآن تريد أن تلبس حلّة ابن عثمان! لا و اللّه و لا كرامة! فقلت: قد أعطانيها، فأي شيء تريدين منّي! فقالت: أنا أشتريها منك، فبعتها إياها بثلاثمائة دينار.

ص: 254


1- المبدا هنا: المبدأ سهلت همزته، أي المبتدأ، الذي كنا نبتدئ منه في الذهاب، و محورا أي مرجعا نرجع إليه.
2- في أ، ء، م: «لسارية» بالسين المهملة.
3- شعيب: تصغير «أشعب» كما يقال في تصغير «أسود» «سويد»، و يسمى هذا «تصغير الترخيم».
4- في ح: «بهجرة من» (انظر الحاشية رقم 3 ص 128 ج 1 «أغاني» من هذه الطبعة).

/الشعر المذكور في هذا الخبر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء للدارمي خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى، و ذكر عمرو بن بانة أنه للهذليّ، و فيه لابن جامع ثاني/ثقيل بالوسطى.

غاضب رجل جارية كان يهواها فغنت مغنية من شعره فاصطلحا:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه أن رجلا كانت له جارية يهواها و تهواه فغاضبها يوما و تمادى ذلك بينهما، و اتّفق أنّ مغنية دخلت فغنتهما:

ما ضراري نفسي بهجران من لي *** س مسيئا و لا بعيدا نواه

فقالت الجارية: لا شيء و اللّه إلا الحمق، ثم قامت إلى مولاها فقبّلت رأسه و اصطلحا.

صوت من المائة المختارة

يا ويح نفسي لو أنه أقصر(1) *** ما كان عيشي كما أرى أكدر

يا من عذيري ممن كلفت به *** يشهد قلبي بأنه يسحر

يا ربّ يوم رأيتني مرحا *** آخذ في اللهو مسبل المئزر

بين ندامى تحثّ كأسهم *** عليهم كفّ شادن(2) أحور

الشعر لأبي العتاهية و الغناء لفريدة خفيف رمل بالبنصر.

إلى هنا انتهى الجزء الثالث من كتاب الأغاني و يليه إن شاء اللّه تعالى الجزء الرابع منه، و أوّله:

ذكر نسب أبي العتاهية و أخباره سوى ما كان منها مع عتبة

ص: 255


1- أقصر فلان عن الشيء: كف عنه و انتهى.
2- الشادن من أولاد الظباء: الذي قد قوي و طلع قرناه و استغنى عن أمه. و الأحور: أن يكون البياض في العين محدقا بالسواد كله، و إنما يكون هذا في البقر و الظباء ثم يستعار للناس. (انظر في «اللسان» مادتي شدن و حور).

ص: 256

فهرس موضوعات الجزء الثالث

الموضوع الصفحة

ذكر قيس بن الخطيم و أخباره و نسبه 5

ذكر طويس و أخباره 21

ذكر الدارميّ و خبره و نسبه 33

أخبار هلال و نسبه 38

أخبار عروة بن الورد و نسبه 52

ذكر ذي الإصبع العداونيّ و نسبه و خبره 63

ذكر قيل مولى العبلات 78

خبر غريض اليهوديّ 82

ذكر ورقة بن نوفل و نسبه 84

خبر زيد بن عمرو و نسبه 87

أخبار ابن صاحب الوضوء و نسبه 93

أخبار بشار بن برد و نسبه 91

أخبار يزيد حوراء 171

أخبار عكاشة العميّ و نسبه 175

أخبار عبد الرحيم الدفاف و نسبه 182

أخبار الحادرة الثعلبي و نسبه 184

أخبار ابن مسجح و نسبه 188

أخبار ابن المولى و نسبه 195

أخبار عطرّد و نسبه 208

أخبار الحارث بن خالد المخزوميّ و نسبه 213

أخبار الأبجر و نسبه 235

أخبار موسى شهوات و نسبه 240

فهرس الموضوعات 257

ص: 257

المجلد 4

هویة الکتاب

الأغاني

سایر نویسندگان

مصحح و مترجم:

مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربی

المجلدات : 25ج

زبان: عربی

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سال نشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

کد کنگره: PJA 3892 /الف 6 1374

تنظیم متن دیجیتال میثم حیدری

ص: 258

اشارة

ص: 259

ص: 260

تتمة التراجم

39 - ذكر نسب أبي العتاهية و أخباره

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *

سوى ما كان منها مع عتبة، فإنه أفرد لكثرة الصنعة في تشبيبه بها، و أنها اتسعت جدا فلم يصلح ذكرها هنا، لئلا تنقطع المائة الصوت المختارة، و هي تذكر في موضع آخر إن شاء اللّه تعالى.

اسمه و لقبه و كنيته و نشأته:

أبو العتاهية لقب غلب عليه. و اسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان، مولى عنزة. و كنيته أبو إسحاق. و أمّه أمّ زيد بنت زياد المحاربيّ مولى بني زهرة؛ و في ذلك يقول أبو قابوس النّصرانيّ و قد بلغه أنّ أبا العتاهية فضّل عليه العتّابيّ:

قل للمكنّي نفسه *** متخيّرا بعتاهيه

و المرسل الكلم القبي *** ح وعته أذن واعيه

إن كنت سرّا سؤتني *** أو كان ذاك علانيه

فعليك لعنة ذي الجلا *** ل و أمّ زيد زانيه

مناحيه الشعرية:

و منشؤه بالكوفة. و كان في أوّل أمره يتخنّث و يحمل زاملة المخنّثين، ثم كان يبيع الفخّار بالكوفة، ثم قال الشعر فبرع فيه و تقدّم. و يقال: أطبع الناس بشار/و السيّد(1) و أبو العتاهية. و ما قدر أحد على جمع شعر هؤلاء الثلاثة لكثرته. و كان غزير البحر، لطيف المعاني، سهل الألفاظ، كثير الافتنان، قليل التكلف، إلا أنه كثير الساقط المرذول مع ذلك. و أكثر شعره في الزهد و الأمثال. و كان قوم من أهل عصره ينسبونه إلى القول بمذهب الفلاسفة ممن لا يؤمن بالبعث، و يحتجّون بأنّ شعره إنما هو في ذكر الموت و الفناء دون ذكر النّشور و المعاد. و له أوزان طريفة(2) قالها مما لم يتقدّمه الأوائل فيها. و كان أبخل الناس مع يساره و كثرة ما جمعه من الأموال.

سبب كنيته:

حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال أخبرني محمد بن موسى بن حمّاد قال:

قال المهديّ يوما لأبي العتاهية: أنت إنسان متحذلق(3) معتّه(4). فاستوت له من ذلك كنية غلبت عليه دون

ص: 261


1- يعني السيد الحميريّ؛ و اسمه إسماعيل بن محمد أبو هاشم، و قد أورد له أبو الفرج ترجمة في (ج 7 ص 229-278 من هذه الطبعة).
2- كذا في ء، م. و في سائر النسخ: «ظريفة» بالظاء المعجمة.
3- المتحذلق: المتكيس المتظرف.
4- يقال: رجل معته، إذا كان مجنونا مضطربا في خلقه. و قد ذكر صاحب «اللسان» (في مادة عنه) هذا الخبر فقال: «و أبو العتاهية

اسمه و كنيته، و سارت له في الناس. قال: و يقال/للرجل المتحذلق: عتاهية، كما يقال للرجل الطويل:

شناحية(1). و يقال: أبو عتاهية، بإسقاط الألف و اللام.

/قال محمد بن يحيى و أخبرني محمد بن موسى قال أخبرني ميمون بن هارون عن بعض مشايخه قال: كني بأبي العتاهية أن كان(2) يحبّ الشهرة و المجون و التعتّه. و بلده الكوفة و بلد آبائه، و بها مولده و منشؤه و باديته.

يقول ابنه إنها من عنزة:

قال محمد بن سلاّم: و كان محمد بن أبي العتاهية يذكر أن أصلهم من عنزة، و أن جدّهم كيسان كان من أهل عين(3) التّمر، فلما غزاها خالد بن الوليد كان كيسان جدّهم هذا يتيما صغيرا يكفله قرابة له من عنزة، فسباه خالد مع جماعة صبيان من أهلها، فوجّه بهم إلى أبي بكر، فوصلوا إليه و بحضرته عبّاد بن رفاعة العنزيّ بن أسد بن ربيعة بن نزار، فجعل أبو بكر رضي اللّه عنه يسأل الصبيان عن أنسابهم فيخبره كلّ واحد بمبلغ معرفته، حتى سأل كيسان، فذكر له أنه من عنزة. فلما سمعه عبّاد يقول ذلك استوهبه من أبي بكر رضي اللّه عنه، و قد كان خالصا له، فوهبه له؛ فأعتقه، فتولّى عنزة(4).

استعداؤه مندل بن علي و أخاه علي سبه بأنه نبطي:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا أحمد بن الحجّاج الجلاّنيّ الكوفيّ قال حدّثني أبو دؤيل مصعب بن دؤيل الجلاّني، قال: لم أر قطّ مندل بن عليّ العنزيّ و أخاه حيّان بن عليّ غضبا من شيء قطّ إلا يوما واحدا، دخل عليهما أبو العتاهية و هو مضمّخ بالدماء. فقالا له: ويحك! ما بالك؟ فقال لهما: من أنا؟ فقالا له: أنت أخونا و ابن عمّنا و مولانا. فقال: إنّ فلانا الجزّار قتلني و ضربني و زعم أنّي نبطيّ(5)، فإن كنت نبطيّا هربت على وجهي/و إلاّ فقوما فخذا لي بحقّي. فقام معه مندل بن عليّ و ما تعلّق نعله(6) غضبا؛ و قال له: و اللّه لو كان حقّك على عيسى بن موسى لأخذته لك منه؛ و مرّ معه حافيا حتى أخذ له بحقّه.

أخبرني الصّوليّ قال حدّثنا محمد بن موسى عن الحسن بن عليّ عن عمر(7) بن معاوية عن جبارة بن المغلّس(8) الحمّانيّ قال: أبو العتاهية مولى عطاء بن محجن العنزيّ.

ص: 262


1- كذا في نسخة الشنقيطي، و هو الموافق لما «معاجم اللغة». و في أكثر الأصول: «شناجية» بالجيم المعجمة، و هو تصحيف.
2- في أ، ح، ء: «إذ كان».
3- عين التمر: بلدة قريبة من الأنبار غربيّ الكوفة، غزاها خالد بن الوليد في أيام أبي بكر رضي اللّه عنه.
4- تولى عنزة: اتخذهم أولياء له.
5- النبطيّ: منسوب إلى النبط، و هم جبل ينزلون البطائح بين العراقين.
6- ما تعلق نعله: ما لبسها.
7- في ح: «عن محمد بن معاوية».
8- كذا في «تهذيب التهذيب» و «الخلاصة في أسماء الرجال» و «أنساب السمعاني» و «شرح القاموس» مادة غلس. و في أ، ح، ء: «جنادة بن المغلس»، و في ب، س: «جنادة بن الأفلس» و كلاهما تحريف.
أبي العتاهية و صنعة أهله:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال قال أبو عون أحمد بن المنجّم أخبرني خيار الكاتب قال:

كان أبو العتاهية و إبراهيم الموصليّ من أهل المذار(1) جميعا، و كان أبو العتاهية و أهله يعملون الجرار الخضر، فقدما إلى بغداد ثم افترقا؛ فنزل إبراهيم الموصليّ ببغداد، و نزل أبو العتاهية الحيرة. و ذكر عن الرّياشيّ أنه قال مثل ذلك، و أن أبا العتاهية نقله إلى الكوفة.

قال محمد بن موسى: فولاء أبي العتاهية من قبل أبيه لعنزة، و من قبل أمّه لبني زهرة، ثم لمحمد بن هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، و كانت أمّه مولاة لهم، يقال لها أمّ زيد.

/أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن مهرويه؛ قال قال الخليل بن أسد:

كان أبو العتاهية يأتينا فيستأذن و يقول: أبو إسحاق الخزّاف. و كان أبوه حجّاما من أهل ورجة(2)؛ و لذلك يقول أبو العتاهية:

ألا إنّما التّقوى هو العزّ و الكرم *** و حبّك للدّنيا هو الفقر و العدم

و ليس على عبد تقيّ نقيصة *** إذا صحّح التّقوى و إن حاك أو حجم

فاخره رجل من كنانة فقال شعرا:

حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا الغلابيّ قال حدّثنا محمد بن أبي العتاهية قال:

/جاذب رجل من كنانة أبا العتاهية في شيء، ففخر عليه الكنانيّ و استطال بقوم من أهله؛ فقال أبو العتاهية:

دعني من ذكر أب و جدّ *** و نسب يعليك سور المجد

ما الفخر إلا في التّقى و الزّهد *** و طاعة تعطى جنان الخلد

لا بدّ من ورد لأهل الورد *** إمّا إلى ضحل(3) و إمّا عدّ(4)

آراؤه الدينية:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا محمد بن موسى عن أحمد بن حرب قال:

كان مذهب أبي العتاهية القول بالتوحيد، و أنّ اللّه خلق جوهرين متضادّين لا من شيء، ثم إنه بنى العالم هذه البنية منهما، و أن العالم حديث العين و الصّنعة لا محدث له إلا اللّه. و كان يزعم أنّ اللّه سيردّ كلّ شيء إلى الجوهرين المتضادّين قبل أن تفنى الأعيان جميعا. و كان يذهب إلى أن المعارف واقعة بقدر الفكر/و الاستدلال

ص: 263


1- كذا في أ، بالذال المعجمة. و المذار في ميسان بين واسط و البصرة، و هي قصبة ميسان بينها و بين البصرة مقدار أربعة أيام. و في سائر النسخ: «المزار» بالزاي المعجمة؛ و لم نعثر عليه في أسماء البلدان.
2- كذا في جميع الأصول التي بأيدينا، و لم نعثر عليه في «معاجم البلدان»، و الذي في «اللسان» (مادة ودج) و «معجم ما استعجم» (ج 2 ص 622) أن «ودج» اسم موضع.
3- الضحل: الماء القليل على الأرض لا عمق له.
4- العدّ: الماء الجاري الذي له مادة لا تنقطع كماء العين.

و البحث طباعا. و كان يقول بالوعيد و بتحريم المكاسب، و يتشيّع بمذهب الزّيدية(1) البتريّة المبتدعة، لا يتنقّص أحدا و لا يرى مع ذلك الخروج على السّلطان. و كان مجبّرا(2).

مناظرته لثمامة بن أشرس في العقائد بين يدي المأمون:

قال الصّوليّ: فحدّثني يموت بن المزرّع قال حدّثني الجاحظ قال: قال أبو العتاهية لثمامة بين يدي المأمون - و كان كثيرا ما يعارضه بقوله في الإجبار -: أسألك عن مسألة. فقال له المأمون: عليك بشعرك. فقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في مسألته و يأمره بإجابتي! فقال له: أجبه إذا سألك. فقال: أنا أقول: إنّ كلّ ما فعله العباد من خير و شرّ فهو من اللّه، و أنت تأبى ذلك، فمن حرّك يدي هذه؟ و جعل أبو العتاهية يحرّكها. فقال له ثمامة:

حرّكها من أمّه زانية. فقال: شتمني و اللّه يا أمير المؤمنين. فقال ثمامة: ناقض الماصّ بظر أمه و اللّه يا أمير المؤمنين! فضحك المأمون و قال له: أ لم أقل لك أن تشتغل بشعرك و تدع ما ليس من عملك! قال ثمامة: فلقيني بعد ذلك فقال لي: يا أبا معن، أ ما أغناك الجواب عن السّفه؟! فقلت: إنّ من أتمّ الكلام ما قطع الحجة، و عاقب على الإساءة، و شفى من الغيظ، و انتصر من الجاهل.

قال محمد بن يحيى و حدّثني عون بن محمد الكنديّ قال:

سمعت العبّاس بن رستم يقول: كان أبو العتاهية مذبذبا في مذهبه: يعتقد شيئا، فإذا سمع طاعنا عليه ترك اعتقاده إيّاه و أخذ غيره.

اعترض عليه أبو الشمقمق في ملازمة المخنثين فأجابه:

حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني ابن أبي الدّنيا قال حدّثني الحسين بن عبد ربه قال حدّثني عليّ بن عبيدة الرّيحانيّ قال حدّثني أبو الشّمقمق: أنه رأى أبا العتاهية يحمل زاملة المخنّثين، فقلت له(3): أمثلك يضع نفسه هذا الموضع مع سنّك و شعرك و قدرك؟! فقال له: أريد أن أتعلّم كيادهم، و أتحفّظ كلامهم.

حاوره بشر بن المعتمر في صنعة الحجامة:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال:

ذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل أنّ بشر بن المعتمر قال يوما لأبي العتاهية: بلغني أنك لمّا نسكت جلست تحجم اليتامى و الفقراء للسبيل، أ كذلك كان؟ قال نعم. قال له: فما أردت بذلك؟ قال: أردت أن أضع من نفسي حسبما رفعتني الدّنيا، و أضع منها ليسقط عنها الكبر، و أكتسب بما فعلته الثواب، و كنت أحجم اليتامى و الفقراء خاصّة. فقال له بشر: /دعني من تذليلك نفسك بالحجامة؛ فإنه ليس بحجّة لك أن تؤدّبها و تصلحها بما لعلّك تفسد به أمر غيرك؛ أحبّ أن تخبرني هل كنت تعرف الوقت الذي كان يحتاج فيه من تحجمه إلى إخراج الدّم؟ قال

ص: 264


1- الزيدية: فرقة نسبت إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، تقصر الإمامة على أولاد فاطمة و لا تجيز الإمامة في غيرهم. و البترية: طائفة منهم أصحاب كثير النوى الأبتر، توقفوا في أمر عثمان أ هو مؤمن أم كافر، و فضلوا عليا على جميع الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم (انظر الكلام على هذه الفرقة ببيان واف في كتاب «الملل و النحل» للشهرستاني طبع أوروبا ص 115-121).
2- مجبرا: يقول بالجبر، و هو عند أهل الكلام إسناد إفعال إلى اللّه سبحانه إيجادا و تأثيرا. و يقول الجبرية إنه لا قدرة للعبد أصلا لا مؤثرة و لا كاسبة، فهو بمنزلة الجمادات فيما يوجد منها.
3- كذا في جميع الأصول. و لعله: «فقال له».

لا. قال: هل كنت تعرف مقدار ما يحتاج كلّ واحد منهم إلى أن يخرجه على قدر طبعه، مما إذا زدت فيه أو نقصت منه ضرّ المحجوم؟ قال لا. قال: فما أراك إلا أردت أن تتعلّم الحجامة على أقفاء اليتامى و المساكين!

أراد حمدوية صاحب الزنادقة أخذه فتستر بالحجامة:

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا أبو ذكوان قال حدّثنا العبّاس بن رستم قال: كان حمدويه صاحب الزّنادقة قد أراد أن يأخذ أبا العتاهية، ففزع من ذلك و قعد حجّاما.

/أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال قال أبو دعامة عليّ بن يزيد: أخبر يحيى بن خالد أنّ أبا العتاهية قد نسك، و أنه جلس يحجم النّاس للأجر تواضعا بذلك. فقال: أ لم يكن يبيع الجرار قبل ذلك؟ فقيل له بلى. فقال: أ ما في بيع الجرار من الذّلّ ما يكفيه و يستغنى به عن الحجامة!

سئل عن خلق القرآن فأجاب:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني شيخ من مشايخنا قال حدّثني أبو شعيب صاحب ابن أبي دواد قال:

قلت لأبي العتاهية: القرآن عندك مخلوق أم غير مخلوق؟ فقال: أ سألتني عن اللّه أم عن غير اللّه؟ قلت: عن غير اللّه، فأمسك. و أعدت عليه فأجابني هذا الجواب، حتى فعل ذلك مرارا. فقلت له: ما لك لا تجيبني؟ قال: قد أجبتك و لكنّك حمار.

أوصافه و صناعته:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا شيخ من مشايخنا قال حدّثني محمد بن موسى قال:

كان أبو العتاهية قضيفا(1)، أبيض اللون، أسود الشعر، له وفرة(2) جعدة، و هيئة حسنة و لباقة و حصافة، و كان له عبيد من السّودان، و لأخيه زيد أيضا عبيد منهم يعملون الخزف في أتّون(3) لهم؛ فإذا اجتمع منه شيء ألقوه على أجير لهم يقال له أبو عباد/اليزيديّ من أهل طاق(4) الجرار بالكوفة، فيبيعه على يديه و يردّ فضله إليهم. و قيل: بل كان يفعل ذلك أخوه زيد لا هو؛ و سئل عن ذلك فقال: أنا جرّار القوافي، و أخي جرّار التّجارة.

قال محمد بن موسى: و حدّثني عبد اللّه بن محمد قال حدّثني عبد الحميد بن سريع مولى بني عجل قال:

أنا رأيت أبا العتاهية و هو جرّار يأتيه الأحداث و المتأدّبون فينشدهم أشعاره، فيأخذون ما تكسّر من الخزف فيكتبونها فيها.

كان يشم أبا قابوس و يفضل عليه العتابيّ فهجاه:

حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني عون بن محمد الكنديّ قال حدّثني محمد بن عمر الجرجانيّ قال:

ص: 265


1- كذا في ء، أ، م، و القضيف: الدقيق العظم القليل اللحم. و في ب، س: «نظيفا». و في ح: «قصيفا» بالصاد المهملة. و الظاهر أنها مصحفة عن «قضيفا».
2- الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس أو ما سال على الأذنين أو ما جاوز شحمة الأذن. و الجعدة: التي فيها التواء و تقبض.
3- الأتون (بتشديد التاء): الموقد، و العامة تخففه.
4- في ب، س: «طارق الجرار» و هو تحريف.

لمّا هاجى أبو قابوس النّصرانيّ كلثوم بن عمرو العتّابيّ، جعل أبو العتاهية يشتم أبا قابوس و يضع منه؛ و يفضّل العتّابيّ عليه؛ فبلغه ذلك فقال فيه:

قل للمكنّي نفسه *** متخيّرا بعتاهيه

و المرسل الكلم القبي *** ح وعته أذن واعيه

إن كنت سرّا سؤتني *** أو كان ذاك علانيه

فعليك لعنة ذي الجلا *** ل و أمّ زيد زانيه

- يعني أمّ أبي العتاهية، و هي أمّ زيد بنت زياد - فقيل له: أ تشتم مسلما؟ فقال: لم أشتمه، و إنّما قلت:

فعليك لعنة ذي الجلا *** ل و من عنينا زانيه

هجاه والبة بن الحباب:

قال: و فيه يقول والبة بن الحباب و كان/يهاجيه:

كان فينا يكنى أبا إسحاق *** و بها الرّكب سار في الآفاق

فتكنّى معتوهنا(1) بعتاه *** يا لها كنية أتت باتّفاق

خلق اللّه لحية لك لا تن *** فكّ معقودة بداء الحلاق(2)

حصته مع النوشجاني:

أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا النّوشجانيّ قال: أتاني البوّاب يوما فقال لي: أبو إسحاق الخزّاف بالباب؛ فقلت: ائذن له، فإذا أبو العتاهية قد دخل. فوضعت بين يديه قنو موز(3)؛ فقال: قد صرت تقتل العلماء بالموز، قتلت أبا عبيدة بالموز، و تريد أن تقتلني به! لا و اللّه لا أذوقه. قال: فحدّثني عروة بن يوسف الثّقفيّ قال: رأيت أبا عبيدة قد خرج من دار النّوشجانيّ في شقّ محمل مسجّى، إلاّ أنه حيّ، و عند رأسه قنو موز و عند رجليه قنو موز آخر، يذهب به إلى أهله. فقال النّوشجانيّ و غيره: لمّا دخلنا عليه نعوده قلنا: ما سبب علّتك؟ قال: هذا النّوشجانيّ جاءني بموز كأنه أيور المساكين، فأكثرت منه، فكان سبب علّتي. قال: و مات في تلك العلّة.

رأي مصعب بن عبد اللّه في شعره:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال:

سمعت مصعب بن عبد اللّه يقول: أبو العتاهية أشعر الناس. فقلت له: بأيّ شيء استحقّ ذلك عندك؟ فقال:

بقوله:

تعلّقت بآمال *** طوال أيّ آمال

ص: 266


1- كذا في أكثر النسخ و «ديوانه» طبع بيروت. و في ب، س: «معتوتها».
2- الحلاق: صفة سوء. و قد ورد هذا البيت في هامش «ديوانه» (ص 343) هكذا: خلق اللّه لحية لك لا تن فك معقودة لدى الحلاّق
3- القنو: الكباسة، و هي كالعنقود من العنب.

و أقبلت على الدّنيا *** ملحّا أيّ إقبال

/أيا هذا تجهّز ل *** فراق الأهل و المال

فلا بدّ من الموت *** على حال من الحال

ثم قال مصعب: هذا كلام سهل حقّ لا حشو فيه و لا نقصان، يعرفه العاقل و يقرّ به الجاهل.

استحسن الأصمعيّ بعض شعره:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال: سمعت الأصمعيّ يستحسن قول أبي العتاهية:

أنت ما استغنيت عن صا *** حبك الدهر أخوه

فإذا احتجت إليه *** ساعة مجّك فوه

أنشد سلّم الخاسر من شعره و قال: هو أشعر الجنّ و الإنس:
اشارة

حدّثنا محمد بن العبّاس اليزيدي إملاء قال حدّثني عمّي الفضل بن محمد قال حدّثني موسى بن صالح الشّهرزوريّ(1) قال:

أتيت سلما الخاسر فقلت له: أنشدني لنفسك. قال: لا، و لكن أنشدك لأشعر الجنّ و الإنس، لأبي العتاهية، ثم أنشدني قوله:

صوت

سكن يبقى له سكن *** ما بهذا يؤذن الزّمن

نحن في دار يخبّرنا *** ببلاها ناطق لسن

دار سوء لم يدم فرح *** لامرئ فيها و لا حزن

في سبيل اللّه أنفسنا *** كلّنا بالموت مرتهن

كلّ نفس عند ميتتها *** حظّها من مالها الكفن

إنّ مال المرء ليس له *** منه إلاّ ذكره الحسن

/فأخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني محمد بن القاسم قال حدّثني رجل من أهل/البصرة أنسيت اسمه، قال حدّثني حمدون بن زيد قال حدّثني رجاء(2) بن مسلمة قال:

قلت لسلم الخاسر: من أشعر الناس؟ فقال: إن شئت أخبرتك بأشعر الجنّ و الإنس. فقلت: إنما أسألك عن

ص: 267


1- الشهرزوريّ: نسبة إلى شهرزور، و هي كورة واسعة في الجبال بين إربل و همذان.
2- في ح: «رجاء بن سلمة».

الإنس، فإن زدتني الجنّ فقد أحسنت. فقال: أشعرهم الذي يقول:

سكن يبقى له سكن *** ما بهذا يؤذن الزّمن

قال: و الشعر لأبي العتاهية.

مدح جعفر بن يحيى شعره بحضرة الفرّاء فوافقه:

حدّثني اليزيديّ قال حدّثني عمّي الفضل قال حدّثنا عبد اللّه بن محمد قال حدّثنا يحيى بن زياد الفرّاء قال:

دخلت على جعفر بن يحيى فقال لي: يا أبا زكريّا، ما تقول فيما أقول؟ فقلت: و ما تقول أصلحك اللّه؟ قال:

أزعم أنّ أبا العتاهية أشعر أهل هذا العصر. فقلت: هو و اللّه أشعرهم عندي.

مدح داود بن زيد و عبد اللّه بن عبد العزيز شعره:

حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني محمد بن موسى قال حدّثني جعفر بن النّضر الواسطيّ الضّرير قال حدّثني محمد بن شيرويه(1) الأنماطيّ قال:

قلت لداود بن زيد بن رزين الشاعر: من أشعر أهل زمانه؟ قال: أبو نواس. قلت: فما تقول في أبي العتاهية؟ فقال: أبو العتاهية أشعر الإنس و الجنّ.

/أخبرني الصوليّ قال حدّثني محمد بن موسى قال قال الزّبير بن بكّار: أخبرني إبراهيم بن المنذر عن الضحّاك، قال:

قال عبد اللّه بن عبد العزيز العمريّ: أشعر النّاس أبو العتاهية حيث يقول:

ما ضرّ من جعل التّراب مهاده *** ألاّ ينام على الحرير إذا قنع

صدق و اللّه و أحسن.

مهارته في الشعر و حديثه عن نفسه في ذلك:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني محمد بن موسى قال حدّثني أحمد بن حرب قال حدّثني المعلّى بن عثمان قال:

قيل لأبي العتاهية: كيف تقول الشعر؟ قال: ما أردته قطّ إلا مثل لي، فأقول ما أريد و أترك ما لا أريد.

أخبرني ابن عمّار قال حدّثني ابن مهرويه قال حدّثني روح بن الفرج الحرمازيّ قال:

جلست إلى أبي العتاهية فسمعته يقول: لو شئت أن أجعل كلامي كلّه شعرا لفعلت.

حدّثنا الصّوليّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثنا أبو عكرمة قال:

قال محمد بن أبي العتاهية: سئل أبي: هل تعرف العروض؟ فقال: أنا أكبر من العروض. و له أوزان لا تدخل في العروض.

نظم شعرا للرشيد و هو مريض فابلغه الفضل و قرّبه الرشيد:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا العنزيّ. قال حدّثنا أبو عكرمة قال:

ص: 268


1- في أ، ء: «خروية» بالخاء المعجمة. و في ب، ح، س: «سرويه». و لعل الجميع محرف عما أثبتناه.

حمّ الرّشيد، فصار أبو العتاهية إلى الفضل بن الرّبيع برقعة فيها:

لو علم النّاس كيف أنت لهم *** ماتوا إذا ما ألمت أجمعهم

/خليفة اللّه أنت ترجح بال *** نّاس إذا ما وزنت أنت و هم

قد علم النّاس أنّ وجهك يس *** تغني(1) إذا ما رآه معدمهم

فأنشدها الفضل بن الربيع الرشيد؛ فأمر بإحضار أبي العتاهية، فما زال يسامره و يحدّثه إلى أن برئ(2)، و وصل إليه بذلك السبب مال جليل.

إعجاب ابن الأعرابيّ به و إفحامه من تنقص شعره:

قال: و حدّثت أنّ ابن الأعرابيّ حدّث بهذا الحديث؛ فقال له رجل بالمجلس: ما هذا الشعر بمستحق لما قلت. قال: و لم؟ قال: لأنه شعر ضعيف. فقال ابن الأعرابيّ - و كان أحدّ الناس -: الضعيف و اللّه عقلك لا شعر أبي العتاهية، أ لأبي العتاهية تقول: إنّه ضعيف الشعر! فو اللّه ما رأيت شاعرا قطّ أطبع و لا أقدر/على بيت منه، و ما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر، ثم أنشد له:

قطّعت منك حبائل الآمال *** و حططت عن ظهر المطيّ رحالي

و وجدت برد اليأس بين جوانحي *** فأرحت من حلّ و من ترحال

يا أيها البطر الذي هو من غد *** في قبره متمزّق الأوصال

حذف المنى عنه(3) المشمّر في الهدى *** و أرى مناك طويلة الأذيال

حيل ابن آدم في الأمور كثيرة *** و الموت يقطع حيلة المحتال

قست السؤال فكان أعظم قيمة *** من كلّ عارفة جرت بسؤال

فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا *** فابذله للمتكرّم المفضال

/و إذا خشيت تعذّرا في بلدة *** فاشدد يديك بعاجل التّرحال

و اصبر على غير الزّمان فإنّما *** فرج الشّدائد مثل حلّ عقال

ثم قال للرجل: هل تعرف أحدا يحسن أن يقول مثل هذا الشّعر؟ فقال له الرجل: يا أبا عبد اللّه، جعلني اللّه فداءك! إني لم أردد عليك ما قلت، و لكنّ الزهد مذهب أبي العتاهية، و شعره في المديح ليس كشعره في الزّهد.

فقال: أ فليس الذي يقول في المديح:

ص: 269


1- كذا في جميع النسخ و «الديوان»، و هي رواية جيدة و فيها المطابقة بين العدم و الغنى. و مع هذا فمن المحتمل أن يكون «يستسقي»؛ قال أبو طالب: و أبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
2- أهل العالية يقولون: برأت من المرض أبرأ برءا و بروءا. و أهل الحجاز يقولون: برأت من المرض برءا بالفتح. و سائر العرب يقولون: برئت من المرض. و برؤ برءا من باب قرب لغة. (انظر «اللسان» مادة برأ و «المصباح المنير»).
3- في ب، س، ح: «عند» و هو تحريف.

و هارون ماء المزن يشفى به الصّدى(1) *** إذا ما الصّدي بالرّيق غصّت حناجره

و أوسط بيت في قريش لبيته *** و أوّل عزّ في قريش و آخره

و زحف له تحكي البروق سيوفه *** و تحكي الرعود القاصفات حوافره

إذا حميت شمس النّهار تضاحكت *** إلى الشّمس فيه بيضه(2) و مغافره

إذا نكب الإسلام يوما بنكبة *** فهارون من بين البريّة ثائره

و من ذا يفوت الموت و الموت مدرك *** كذا لم يفت هارون ضدّ ينافره

قال: فتخلّص الرجل من شرّ ابن الأعرابيّ بأن قال له: القول كما قلت، و ما كنت سمعت له مثل هذين الشعرين، و كتبهما عنه.

قال أبو نواس لست أشعر الناس و هو حي:

حدّثني محمد قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال حدّثني ابن الأعرابيّ المنجّم قال حدّثني هارون بن سعدان بن الحارث مولى عبّاد قال:

حضرت أبا نواس في مجلس و أنشد شعرا. فقال له من حضر في المجلس: أنت أشعر الناس. قال: أمّا و الشيخ حيّ فلا. (يعني أبا العتاهية).

أنشد لثمامة شعره في ذم البخاري فاعترض على بخاري فأجابه:

أخبرني يحيى بن عليّ إجازة قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني الحسين بن أبي السّريّ قال:

/قال ثمامة بن أشرس أنشدني أبو العتاهية:

إذا المرء لم يعتق من المال نفسه *** تملّكه المال الذي هو مالكه

ألا إنّما مالي الذي أنا منفق *** و ليس لي المال الذي أنا تاركه

إذا كنت ذا مال فبادر به الذي *** يحقّ و إلاّ استهلكته مهالكه

فقلت له: من أين قضيت بهذا؟ فقال: من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت». فقلت له: أ تؤمن بأنّ هذا قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنه الحقّ؟ قال نعم. قلت:

فلم تحبس عندك سبعا/و عشرين بدرة(3) في دارك، و لا تأكل منها و لا تشرب و لا تزكّي و لا تقدّمها ذخرا ليوم فقرك و فاقتك؟ فقال: يا أبا معن، و اللّه إنّ ما قلت لهو الحقّ، و لكنّي أخاف الفقر و الحاجة إلى الناس. فقلت: و بم تزيد حال من افتقر على حالك و أنت دائم الحرص دائم الجمع شحيح على نفسك لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد؟! فترك جواب كلامي كلّه، ثم قال لي: و اللّه لقد اشتريت في يوم عاشوراء لحما و توابله و ما يتبعه بخمسة دراهم. فلما

ص: 270


1- الصدى: العطش.
2- البيض (بفتح الباء): جمع بيضة و هي الخوذة تصنع من الحديد ليتقي بها في الحرب. و المغافر: جمع مغفر، و هو زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة، و قيل فيه غير ذلك.
3- البدرة: عشرة آلاف درهم.

قال لي هذا القول أضحكني حتّى أذهلني عن جوابه و معاتبته، فأمسكت عنه و علمت أنه ليس ممن شرح اللّه صدره للإسلام.

بخله، و نوادر مختلفة في ذلك:

أخبرني يحيى بن عليّ إجازة قال حدّثني عليّ بن المهديّ قال قال الجاحظ: حدّثني ثمامة قال:

دخلت يوما إلى أبي العتاهية فإذا هو يأكل خبزا بلا شيء. فقلت: كأنك رأيته يأكل خبزا وحده؛ قال: لا! و لكنّي رأيته يتأدّم بلا شيء. فقلت: و كيف ذلك؟ فقال: رأيت قدّامه خبزا يابسا من رقاق فطير و قدحا فيه لبن حليب، فكان يأخذ/القطعة من الخبز فيغمسها من اللبن و يخرجها و لم تتعلّق منه بقليل و لا كثير؛ فقلت له: كأنك اشتهيت أن تتأدّم بلا شيء، و ما رأيت أحدا قبلك تأدّم بلا شيء.

قال الجاحظ: و زعم لي بعض أصحابنا قال: دخلت على أبي العتاهية في بعض المتنزّهات، و قد دعا عيّاشا صاحب الجسر و تهيّأ له بطعام، و قال لغلامه: إذا وضعت قدّامهم الغداء فقدّم إليّ ثريدة(1) بخلّ و زيت. فدخلت عليه، و إذا هو يأكل منها أكل متكمّش(2) غير منكر لشيء. فدعاني فمددت يدي معه، فإذا بثريدة بخلّ و بزر بدلا من الزّيت. فقلت له: أ تدري ما تأكل؟ قال: نعم ثريدة بخلّ و بزر. فقلت: و ما دعاك إلى هذا؟ قال: غلط الغلام بين دبّة(3) الزيت و دبّة البزر؛ فلمّا جاءني كرهت التجبّر و قلت: دهن كدهن، فأكلت و ما أنكرت شيئا.

أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثنا عبد اللّه بن عطيّة الكوفيّ قال حدّثنا محمد بن عيسى الخزيميّ، و كان جار أبي العتاهية، قال:

كان لأبي العتاهية جار يلتقط النّوى ضعيف سيّئ الحال متجمّل(4) عليه ثياب فكان يمرّ بأبي العتاهية طرفي النهار؛ فيقول أبو العتاهية: اللهم أغنه عمّا هو بسبيله، شيخ ضعيف سيّئ الحال عليه ثياب متجمّل، اللهم أعنه، اصنع له، بارك فيه. فبقي على هذا إلى أن مات الشيخ نحوا من عشرين سنة. و و اللّه(5) إن تصدّق عليه بدرهم و لا دانق قطّ، و ما زاد على الدعاء شيئا. فقلت له يوما: يا أبا إسحاق إني أراك تكثر الدعاء لهذا الشيخ و تزعم أنه فقير مقلّ، فلم لا تتصدّق عليه بشيء؟ فقال: أخشى أن يعتاد الصّدقة، و الصدقة أخر(6) كسب العبد، و إنّ في الدعاء لخيرا كثيرا.

/قال محمد بن عيسى الخزيميّ هذا: و كان لأبي العتاهية خادم أسود طويل كأنه محراك أتّون، و كان يجري عليه في كل يوم رغيفين. فجاءني الخادم يوما فقال لي: و اللّه ما أشبع. فقلت: و كيف ذاك؟ قال: لأنّي ما أفتر من الكدّ و هو يجري عليّ رغيفين بغير إدام. فإن رأيت أن تكلّمه حتى يزيدني رغيفا فتؤجر! فوعدته بذلك. فلمّا جلست معه مرّ بنا الخادم فكرهت إعلامه أنّه شكا إليّ ذلك، فقلت له: يا أبا إسحاق، كم تجري على هذا الخادم في كلّ

ص: 271


1- في ب، س: «ثردة» و الثردة (بالضم): الاسم من ثرد الخبز أي فته ثم بلّه بمرق.
2- تكمش الرجل: أسرع.
3- الدبة: الوعاء للبزر و الزيت.
4- المتجمل: الفقير الذي لم يظهر على نفسه المسكنة و الذل.
5- في أ، ح، ء: «لا و اللّه».
6- أي أرذله و أدنؤه. و يجوز مد الألف.

يوم؟ قال/رغيفين. فقلت له: لا يكفيانه. قال: من لم يكفه القليل لم يكفه الكثير، و كلّ من أعطى نفسه شهوتها هلك، و هذا خادم يدخل إلى حرمي و بناتي، فإن لم أعوّده القناعة و الاقتصاد أهلكني و أهلك عيالي و مالي. فمات الخادم بعد ذلك فكفّنه في إزار و فراش له خلق. فقلت له: سبحان اللّه! خادم قديم الحرمة طويل الخدمة واجب الحق، تكفّنه في خلق، و إنما يكفيك له كفن بدينار! فقال: إنه يصير إلى البلى، و الحيّ أولى بالجديد من الميّت.

فقلت له: يرحمك اللّه أبا إسحاق! فلقد عوّدته الاقتصاد حيّا و ميّتا.

قال محمد بن عيسى هذا: وقف عليه ذات يوم سائل من العيّارين(1) الظّرفاء و جماعة من جيرانه حوله، فسأله من بين الجيران؛ فقال: صنع اللّه لك! فأعاد السّؤال فأعاد عليه ثانية، فأعاد عليه ثالثة فردّ عليه مثل ذلك، فغضب و قال له: أ لست القائل:

كلّ حيّ عند ميتته *** حظّه من ماله الكفن

ثم قال: فباللّه عليك أ تريد أن تعدّ مالك كلّه لثمن كفنك؟ قال لا. قال: فباللّه كم قدّرت لكفنك؟ قال: خمسة دنانير. قال: فهي إذا حظّك من مالك/كلّه. قال نعم. قال: فتصدّق عليّ من غير حظّك بدرهم واحد. قال: لو تصدّقت عليك لكان حظّي. قال: فاعمل على أنّ دينارا من الخمسة الدنانير وضيعة(2) قيراط، و ادفع إليّ قيراطا واحدا، و إلا فواحدة أخرى(3). قال: و ما هي؟ قال: القبور تحفر بثلاثة دراهم، فأعطني درهما و أقيم لك كفيلا بأنّي أحفر لك قبرك به متى متّ، و تربح درهمين لم يكونا في حسبانك، فإن لم أحتفر رددته على ورثتك أو ردّه كفيلي عليهم. فخجل أبو العتاهية و قال: اعزب لعنك اللّه و غضب عليك! فضحك جميع من حضر. و مرّ السائل يضحك؛ فالتفت إلينا أبو العتاهية فقال: من أجل هذا و أمثاله حرّمت الصدقة. فقلنا له: و من حرّمها و متى حرّمت! فما رأينا أحدا ادّعى أنّ الصدقة حرّمت قبله و لا بعده.

قال محمد بن عيسى هذا: و قلت لأبي العتاهية: أ تزكّي مالك؟ فقال: و اللّه ما أنفق على عيالي إلاّ من زكاة مالي. فقلت: سبحان اللّه! إنما ينبغي أن تخرج زكاة مالك إلى الفقراء و المساكين. فقال: لو انقطعت عن عيالي زكاة مالي لم يكن في الأرض أفقر منهم.

سئل عن أحكم شعره فأجاب:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:

قال سليمان بن أبي شيخ قال إبراهيم بن أبي شيخ قلت لأبي العتاهية: أيّ شعر قلته أحكم؟ قال قولي:

علمت يا مجاشع بن مسعده *** أنّ الشّباب و الفراغ و الجدة

مفسدة للمرء أيّ مفسدة

عاتب عمرو بن مسعدة على عدم قضاء حاجته بعد موت أخيه:

أخبرني عيسى قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا أبو غزيّة قال:

ص: 272


1- العيار: الكثير الطواف و الذي يتردّد بلا عمل.
2- الوضيعة: الحطيطة.
3- في ب، س: «فواحدا آخر قال و ما ذلك».

كان مجاشع بن مسعدة أخو عمرو بن مسعدة صديقا لأبي العتاهية، فكان يقوم بحوائجه كلّها و يخلص مودّته، فمات، و عرضت لأبي العتاهية حاجة إلى أخيه عمرو بن مسعدة فتباطأ فيها؛ فكتب إليه أبو العتاهية:

غنيت عن العهد القديم غنيتا *** و ضيّعت ودّا بيننا و نسيتا

و من عجب الأيّام أن مات مألفي *** و من كنت تغشاني به و بقيتا

/فقال عمرو: استطال أبو إسحاق أعمارنا و توعّدنا، ما بعد هذا خير، ثم قضى حاجته.

فارق أبا غزية في المدينة و أنشده شعرا:

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا أبو غزيّة قال:

كان أبو العتاهية إذا قدم من(1) المدينة يجلس إليّ؛ فأراد مرّة الخروج من المدينة فودّعني ثم قال:

إن نعش نجتمع و إلاّ فما أش *** غل من مات عن جميع الأنام

طالبه غلام من التجار بمال فقال فيه شعرا أخجله:

أخبرني أحمد بن العبّاس العسكريّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني عبد الرحمن بن إسحاق العذريّ قال:

كان لبعض التّجّار من أهل باب الطّاق(2) على أبي العتاهية ثمن ثياب أخذها منه. فمرّ به يوما، فقال صاحب الدّكّان لغلام ممن يخدمه حسن الوجه: أدرك أبا العتاهية فلا تفارقه حتى تأخذ منه مالنا(3) عنده؛ فأدركه على رأس الجسر، /فأخذ بعنان حماره و وقفه(4). فقال له: ما حاجتك يا غلام؟ قال: أنا رسول فلان، بعثني إليك لآخذ ماله عليك. فأمسك عنه أبو العتاهية؛ و كان كلّ من مرّ فرأى الغلام متعلّقا به وقف ينظر، حتى رضي أبو العتاهية جمع الناس و حفلهم، ثم أنشأ يقول:

و اللّه ربّك إنّني *** لأجلّ وجهك عن فعالك

لو كان فعلك مثل وج *** هك كنت مكتفيا بذلك

فخجل الغلام و أرسل عنان الحمار، و رجع إلى صاحبه، و قال: بعثتني إلى شيطان جمع عليّ الناس و قال فيّ الشعر حتى أخجلني فهربت منه.

حجبه حاجب عمرو بن مسعدة فقال فيه شعرا:

أخبرني أحمد بن العبّاس قال حدّثنا العنزيّ قال قال إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم التّيميّ: حدّثني إبراهيم بن حكيم قال:

ص: 273


1- كذا في جميع النسخ. و السياق يقتضي حذف «من» كما هو ظاهر.
2- باب الطاق: محلة كبيرة ببغداد بالجانب الشرقيّ تعرف بطاق أسماه.
3- في س، ب: «ما كان عنده».
4- حكى عن بعضهم أنه قال: ما يمسك باليد يقال فيه: أوقفت (بالألف)، و ما لا يمسك باليد يقال فيه: وقفت (بغير ألف). و الفصيح وقفت بغير ألف في جميع الباب إلا في قولك: ما أوقفك هاهنا؟ و أنت تريد: أيّ شأن حملك على الوقوف. (انظر «المصباح المنير» مادة وقف).

كان أبو العتاهية يختلف إلى عمرو بن مسعدة لود كان بينه و بين أخيه مجاشع. فاستأذن عليه يوما فحجب عنه، فلزم منزله. فاستبطأه عمرو؛ فكتب إليه: إنّ الكسل يمنعني من لقائك؛ و كتب في أسفل رقعته:

كسّلني اليأس منك عنك فما *** أرفع طرفي إليك من كسل

إنّي إذا لم يكن أخي ثقة *** قطّعت منه حبائل الأمل

حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد النّحويّ قال:

استأذن أبو العتاهية على عمرو بن مسعدة فحجب عنه؛ فكتب إليه:

/مالك قد حلت عن إخائك و اس *** تبدلت يا عمرو شيمة كدره

إنّي إذا الباب تاه حاجبه *** لم يك عندي في هجره نظره

لستم ترجّون للحساب و لا *** يوم تكون السماء منفطره

لكن لدنيا كالظلّ بهجتها *** سريعة الانقضاء منشمره

قد كان وجهي لديك معرفة *** فاليوم أضحى حرفا من النّكره

قصيدته في هجو عبد اللّه بن معن و ما كان بينهما:

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال حدّثنا أبو عكرمة قال:

كان الرّشيد إذا رأى عبد اللّه بن معن بن زائدة تمثّل قول أبي العتاهية:

أخت بني شيبان مرّت بنا *** ممشوطة كورا(1) على بغل

/و أوّل هذه الأبيات:

يا صاحبي رحلي لا تكثرا *** في شتم عبد اللّه من عذل

سبحان من خصّ ابن معن بما *** أرى به من قلّة العقل

قال ابن معن وجلا نفسه *** على من الجلوة يا أهلي

أنا فتاة الحيّ من وائل *** في الشّرف الشّامخ و النّبل

ما في بني شيبان أهل الحجا *** جارية واحدة مثلي

ويلي و يا لهفي على أمرد *** يلصق منّي القرط بالحجل(2)

صافحته يوما على خلوة *** فقال دع كفي و خذ رجلي

أخت بني شيبان مرّت بنا *** ممشوطة كورا على بغل

تكنى أبا الفضل و يا من رأى *** جارية تكنى أبا الفضل

/قد نقّطت في وجهها نقطة *** مخافة العين من الكحل

ص: 274


1- الكور: الرحل.
2- الحجل (بفتح الحاء و كسرها): الخلخال.

إن زرتموها قال حجّابها *** نحن عن الزّوّار في شغل

مولاتنا مشغولة عندها *** بعل و لا إذن على البعل

يا بنت معن الخير لا تجهلي *** و أين إقصار عن الجهل

أتجلد الناس و أنت امرؤ *** تجلد في الدّبر و في القبل

ما ينبغي للنّاس أن ينسبوا *** من كان ذا جود إلى البخل

يبذل ما يمنع أهل الندى *** هذا لعمري منتهى البذل

ما قلت هذا فيك إلاّ و قد *** جفّت به الأقلام من قبلي

قال: فبعث إليه عبد اللّه بن معن، فأتي به؛ فدعا بغلمان له ثم أمرهم أن يرتكبوا منه الفاحشة، ففعلوا ذلك، ثم أجلسه و قال له: قد جزيتك على قولك فيّ، فهل لك في الصّلح و معه مركب و عشرة آلاف درهم أو تقيم على الحرب؟ قال: بل الصلح. قال: فأسمعني ما تقوله في الصلح؛ فقال:

ما لعذّالي و ما لي *** أمروني بالضّلال

عذلوني في اغتفاري *** لابن معن و احتمالي

إن يكن ما كان منه *** فبجرمي و فعالي

أنا منه كنت أسوا *** عشرة في كلّ حال

قل لمن يعجب من حس *** ن رجوعي و مقالي

ربّ ودّ بعد صدّ *** و هوى بعد تقالي(1)

قد رأينا ذا كثيرا *** جاريا بين الرّجال

إنما كانت يميني *** لطمت منّي شمالي

حب سعدى التي كان يحبها ابن معن ثم هجاها:

/حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا محمد بن موسى اليزيديّ قال حدّثنا أبو سويد عبد القويّ بن محمد بن أبي العتاهية و محمد بن سعد قالا(2):

كان أبو العتاهية يهوى في/حداثته امرأة نائحة من أهل الحيرة لها حسن و جمال يقال لها سعدى؛ و كان عبد اللّه بن معن بن زائدة المكنّى بأبي الفضل يهواها أيضا، و كانت مولاة لهم، ثم اتّهمها أبو العتاهية بالنّساء، فقال فيها:

ألا يا ذوات السّحق في الغرب و الشّرق *** أفقن فإنّ النّيك أشفى من السّحق

أفقن فإنّ الخبز بالأدم يشتهى *** و ليس يسوغ الخبز بالخبز في الحلق

ص: 275


1- التقالى: التباغض.
2- في جميع النسخ: «قال» بالإفراد.

أراكنّ ترقعن الخروق بمثلها *** و أيّ لبيب يرقع الخرق بالخرق

و هل يصلح المهراس(1) إلا بعوده *** إذا احتيج منه ذات يوم إلى الدّقّ

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الغلابيّ قال حدّثني مهديّ بن سابق قال:

تهدّد عبد اللّه بن معن أبا العتاهية و خوّفه و نهاه أن يعرض لمولاته سعدى؛ فقال أبو العتاهية:

ألا قل لابن معن ذا ال *** ذي في الودّ قد حالا

لقد بلّغت ما قال *** فما باليت ما قالا

و لو كان من الأسد *** لما صال و لا هالا

فصغ ما كنت حلّيت *** به سيفك خلخالا

و ما تصنع بالسيف *** إذا لم تك قتّالا

و لو مدّ إلى أذني *** ه كفّيه لما نالا

قصير الطّول و الطّيل *** ة(2) لا شبّ و لا طالا

أرى قومك أبطالا *** و قد أصبحت بطّالا

ضربه عبد اللّه بن معن فهجاه:

حدّثنا الصّوليّ قال حدّثنا محمد بن موسى قال حدّثني سليمان المدائنيّ قال:

احتال عبد اللّه بن معن على أبي العتاهية حتى أخذ في مكان فضربه مائة سوط ضربا ليس بالمبرّح غيظا عليه، و إنما لم يعنف في ضربه خوفا من كثرة من يعنى به؛ فقال أبو العتاهية يهجوه:

جلدتني بكفّها *** بنت معن بن زائده

جلدتني فأوجعت *** بأبي تلك جالده

و تراها مع الخص *** يّ على الباب قاعدة

تتكنّى كنى الرجا *** ل بعمد مكايده

جلدتني و بالغت *** مائة غير واحده

اجلديني و اجلدي *** إنّما أنت والده

و قال أيضا:

ضربتني بكفّها بنت معن *** أوجعت كفّها و ما أوجعتني

و لعمري لو لا أذى كفّها إذ *** ضربتني بالسّوط ما تركتني

ص: 276


1- المهراس: الهاون.
2- الطيلة هنا: العمر.
توعده يزيد بن معن لهجائه أخاه فهجاه:

قال الصّوليّ: حدّثنا عون بن محمد و محمد بن موسى قالا:

لمّا اتصل هجاء أبي العتاهية/بعبد اللّه بن معن و كثر، غضب أخوه يزيد بن معن من ذلك و توعّد أبا العتاهية؛ فقال فيه قصيدته التي أوّلها:

بنى معن و يهدمه يزيد *** كذاك اللّه يفعل ما يريد

فمعن كان للحسّاد غمّا *** و هذا قد يسرّ به الحسود

يزيد يزيد في منع و بخل *** و ينقص في العطاء و لا يزيد

مصالحته أولاد معن:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني جبلة بن محمد قال حدّثني أبي قال:

مضى بنو معن إلى مندل و حيّان ابني عليّ العنزيين الفقيهين - و هما من بني عمرو بن عامر بطن من يقدم بن عنزة، و كانا من سادات أهل الكوفة - فقالوا لهما: نحن بيت واحد و أهل، و لا فرق بيننا، و قد أتانا من مولاكم هذا ما لو أتانا من بعيد الولاء لوجب أن تردعاه. فأحضرا أبا العتاهية، و لم يكن يمكنه الخلاف عليهما، فأصلحا بينه و بين عبد اللّه و يزيد ابني معن، و ضمنا عنه خلوص النيّة، و عنهما ألاّ يتبعاه بسوء، و كانا ممّن لا يمكن خلافهما، فرجعت الحال إلى المودّة و الصّفاء. فجعل الناس يعذلون أبا العتاهية على ما فرط منه، و لامه آخرون في صلحه لهما؛ فقال:

ما لعذّالي و ما لي *** أمروني بالضّلال

و قد كتبت متقدّمة.

رثاؤه زائدة بن معن:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا محمد بن موسى قال:

كان زائدة بن معن صديقا لأبي العتاهية و لم يعن إخوته عليه، فمات؛ فقال أبو العتاهية يرثيه:

حزنت لموت زائدة بن معن *** حقيق أن يطول عليه حزني

فتى الفتيان زائدة المصفّى *** أبو العباس كان أخي و خدني

فتى قوم و أيّ فتى توارت *** به الأكفان تحت ثرى و لبن(1)

ألا يا قبر زائدة بن معن *** دعوتك كي تجيب فلم تجبني

سل الأيّام عن أركان قومي *** أصبن بهنّ ركنا بعد ركن

كان عبد اللّه بن معن يخجل إذا لبس السيف لهجوه فيه:

أخبرني الصّوليّ قال حدّثنا الحسن بن عليّ الرازيّ القارئ قال حدّثني أحمد بن أبي فنن قال:

ص: 277


1- اللبن (بكسر فسكون لغة في اللبن ككتف، و يقال فيه: اللبن بكسرتين مثل إبل): المضروب من الطين مربعا للبناء.

كنّا عند ابن الأعرابيّ، فذكروا قول ابن نوفل في عبد الملك بن عمير:

إذا ذات دلّ كلّمته لحاجة *** فهمّ بأن يقضي تنحنح أو سعل

و أن عبد الملك قال: تركني و اللّه و إنّ السّعلة لتعرض لي في الخلاء فأذكر قوله فأهاب أن أسعل. قال: فقلت لابن الأعرابيّ: فهذا أبو العتاهية قال في عبد اللّه بن معن بن زائدة:

فصغ ما كنت حلّيت *** به سيفك خلخالا

و ما تصنع بالسّيف *** إذا لم تك قتّالا

فقال عبد اللّه بن معن: ما لبست سيفي قطّ فرأيت إنسانا يلمحني إلا ظننت أنه يحفظ قول أبي العتاهية فيّ، فلذلك يتأمّلني فأخجل. فقال ابن الأعرابيّ: اعجبوا لعبد يهجو مولاه. قال: و كان ابن الأعرابيّ مولى بني شيبان.

ناظر مسلم بن الوليد في قول الشعر:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: /حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني الحسين بن أبي السّريّ قال:

اجتمع أبو العتاهية و مسلم بن الوليد الأنصاريّ في بعض المجالس، فجرى بينهما كلام؛ فقال له مسلم: و اللّه لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك:

الحمد و النعمة لك *** و الملك لا شريك لك

لبيك إنّ الملك لك

/لقلت في اليوم عشرة آلاف بيت، و لكنّي أقول:

موف على مهج في يوم ذي رهج(1) *** كأنّه أجل يسعى إلى أمل

ينال بالرّفق ما يعيا الرجال به *** كالموت مستعجلا يأتي على مهل

يكسو السيوف نفوس الناكثين به *** و يجعل الهام تيجان القنا الذّبل

للّه من هاشم في أرضه جبل *** و أنت و ابنك ركنا ذلك الحبل

فقال له أبو العتاهية: قل مثل قولي:

الحمد و النّعمة لك

أقل مثل قولك:

كأنّه أجل يسعى إلى أمل

تقارض هو و بشار الثناء على شعريهما:
اشارة

حدّثني الصّوليّ قال حدّثنا الغلابيّ قال حدّثنا مهديّ بن سابق قال:

ص: 278


1- في يوم ذي رهج: أي في يوم ذي غبار من الحرب. و في «ديوان مسلم» (طبع مدينة ليدن ص 9): موف على مهج و اليوم ذو رهج

قال بشّار لأبي العتاهية: أنا و اللّه أستحسن اعتذارك من دمعك حيث تقول:

كم من صديق لي أسا *** رقه البكاء من الحياء

فإذا تأمّل لامني *** فأقول ما بي من بكاء

لكن ذهبت لأرتدي *** فطرفت عيني بالرّداء

فقال له أبو العتاهية: لا و اللّه يا أبا معاذ، ما لذت إلاّ بمعناك و لا اجتنيت إلا من غرسك حيث تقول:

صوت

شكوت إلى الغواني ما ألاقي *** و قلت لهنّ ما يومي بعيد

فقلن بكيت قلت لهنّ كلاّ *** و قد يبكي من الشّوق الجليد

و لكنّي أصاب سواد عيني *** عويد قدى له طرف حديد

فقلن فما لدمعهما سواء *** أكلتا مقلتيك أصاب عود

لإبراهيم الموصليّ في هذه الأبيات لحن من الثّقيل الأوّل بالوسطى مطلق.

شكا إليه محمد بن الفضل الهاشميّ جفاء السلطان فقال شعرا:

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمد بن هارون الأزرقيّ مولى بني هاشم عن ابن عائشة عن ابن لمحمد بن الفضل الهاشميّ قال:

جاء أبو العتاهية إلى أبي فتحدّثا ساعة، و جعل أبي يشكو إليه تخلّف الصّنعة(1) و جفاء السلطان. فقال لي أبو العتاهية: اكتب:

كلّ على الدّنيا له حرص *** و الحادثات أناتها غفص(2)

و كأنّ من واروه في جدث *** لم يبد منه لناظر شخص

تبغي من الدنيا زيادتها *** و زيادة الدنيا هي النّقص

ليد المنيّة في تلطّفها *** عن ذخر كلّ شفيقة فحص

حبسه الرشيد ثم عفا عنه و أجازه:
اشارة

حدّثني عمرو قال حدّثني عليّ بن محمد الهشاميّ(3) عن جدّه ابن حمدون قال أخبرني مخارق/قال:

لمّا تنسّك(4) أبو العتاهية و لبس الصوف، أمره الرشيد أن يقول شعرا في الغزل، فامتنع؛ فضربه الرشيد ستين عصا، و حلف ألاّ يخرج من حبسه حتى يقول شعرا/في الغزل. فلمّا رفعت المقارع عنه قال أبو العتاهية: كلّ

ص: 279


1- كذا في الأصول. و لعلها: «الصنيعة».
2- الغفص: الختل.
3- في جميع النسخ: «الشامي» و هو تحريف.
4- في ح: «تقرّأ» و معناه: تنسك.

مملوك له حرّ و امرأته طالق إن تكلّم سنة إلاّ بالقرآن أو بلا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه. فكأنّ الرشيد تحزّن مما فعله، فأمر أن يحبس في دار و يوسّع عليه، و لا يمنع من دخول من يريد إليه. قال مخارق: و كانت الحال بينه و بين إبراهيم الموصليّ لطيفة، فكان يبعثني إليه في الأيام أتعرّف خبره. فإذا دخلت وجدت بين يديه ظهرا(1) و دواة، فيكتب إليّ ما يريد، و أكلّمه. فمكث هكذا سنة. و اتّفق أنّ إبراهيم الموصليّ صنع صوته:

صوت

أعرفت دار الحيّ بالحجر *** فشدوريان فقنّة الغمر(2)

و هجرتنا و ألفت رسم بلى *** و الرسم كان أحقّ بالهجر

- لحن إبراهيم في هذا الشعر خفيف رمل بالوسطى. و فيه لإسحاق رمل بالوسطى - قال مخارق: فقال لي إبراهيم: اذهب إلى أبي العتاهية حتى تغنّيه هذا الصوت. فأتيته في اليوم الذي انقضت فيه يمينه، فغنّيته إيّاه. فكتب إليّ بعد أن غنّيته: هذا اليوم تنقضي فيه يميني، فأحبّ أن تقيم عندي إلى الليل؛ فأقمت عنده نهاري كلّه، حتى إذا أذّن الناس المغرب كلّمني، فقال: يا مخارق. قلت: لبّيك. قال: قل لصاحبك: يا ابن الزانية! أما و اللّه لقد أبقيت للناس فتنة إلى يوم القيامة، فانظر أين أنت من اللّه غدا! قال مخارق: فكنت أوّل من أفطر على كلامه؛ فقلت: دعني من هذا، هل قلت شيئا للتخلّص من هذا الموضع؟ فقال: نعم، قد قلت في امرأتي شعرا. قلت: هاته؛ فأنشدني:

صوت

من لقلب متيّم مشتاق *** شفّه شوقه و طول الفراق

طال شوقي إلى قعيدة بيتي *** ليت شعري فهل لنا من تلاقي

هي حظّي قد اقتصرت عليها *** من ذوات العقود و الأطواق

جمع اللّه عاجلا بك شملي *** عن قريب و فكّني من وثاقي

قال: فكتبتها و صرت بها إلى إبراهيم؛ فصنع فيها لحنا، و دخل بها على الرشيد؛ فكان أوّل صوت غنّاه إيّاه في ذلك المجلس؛ و سأله: لمن الشعر و الغناء؟ فقال إبراهيم: أمّا الغناء فلي، و أما الشعر فلأسيرك أبي العتاهية.

فقال: أو قد فعل؟ قال: نعم قد كان ذلك. فدعا به، ثم قال لمسرور الخادم: كم ضربنا أبا العتاهية؟ قال: ستين عصا، فأمر له بستين ألف درهم و خلع عليه و أطلقه.

غضب عليه الرشيد و ترضّاه له الفضل:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثنا الحسين بن أبي السّريّ قال:

قال لي الفضل بن العباس: وجد الرشيد و هو بالرّقّة على/أبي العتاهية و هو بمدينة السّلام، فكان أبو العتاهية

ص: 280


1- لعله يريد بالظهر هنا الريش الذي يظهر من ريش الطائر و جمعه ظهار كعرق و عراق. و يظهر أنه كان من عادتهم الكتابة به كالأقلام.
2- القنة: ذروة الحبل و أعلاه. و الغمر: جبل بحذاء توّز. و توز: من منازل طريق مكة من البصرة معدود في أعمال اليمامة. أما «شدوريان» فلم نهتد إليه.

يرجو أن يتكلّم الفضل بن الربيع في أمره، فأبطأ عليه بذلك؛ فكتب إليه أبو العتاهية:

أ جفوتني فيمن جفاني *** و جعلت شأنك غير شأني

و لطالما أمّنتني *** ممّا أرى كلّ الأمان

حتّى إذا انقلب الزّما *** ن عليّ صرت مع الزمان

فكلّم الفضل فيه الرشيد فرضي عنه. و أرسل إليه الفضل يأمره بالشخوص. و يذكر له أنّ أمير المؤمنين قد رضي عنه؛ فشخص إليه. فلما دخل إلى الفضل أنشده قوله فيه:

/

قد دعوناه نائيا فوجدنا *** ه على نأيه قريبا سميعا

فأدخله إلى الرشيد، فرجع إلى حالته الأولى.

كان يزيد بن منصور يحبه و يقربه فرثاه عند صوته:
اشارة

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى إجازة قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني الحسين بن أبي السّريّ قال:

كان يزيد بن منصور خال المهديّ يتعصب لأبي العتاهية؛ لأنه كان يمدح اليمانية أخوال المهديّ في شعره؛ فمن ذلك قوله:

صوت

سقيت الغيث يا قصر السّلام *** فنعم محلّة الملك الهمام

لقد نشر الإله عليك نورا *** و حفّك بالملائكة الكرام

سأشكر نعمة المهديّ حتّى *** تدور عليّ دائرة الحمام

له بيتان بيت تبّعيّ *** و بيت حلّ بالبلد الحرام

قال: و كان أبو العتاهية طول حياة يزيد بن منصور يدّعي أنه مولى لليمن و ينتفي من عنزة؛ فلمّا مات يزيد رجع إلى ولائه الأوّل. فحدّثني الفضل بن العبّاس قال: قلت له: أ لم تكن تزعم أنّ ولاءك لليمن؟! قال: ذلك شيء احتجنا إليه في ذلك الزمن، و ما في واحد ممّن انتميت إليه خير، و لكنّ الحقّ أحقّ أن يتّبع. و كان ادّعى ولاء اللّخميّين. قال: و كان يزيد بن منصور من أكرم النّاس و أحفظهم لحرمة، و أرعاهم لعهد، و كان بارّا بأبي العتاهية، كثيرا فضله عليه؛ و كان أبو العتاهية منه في منعة و حصن حصين مع كثرة ما يدفعه إليه و يمنعه من المكاره. فلمّا مات قال أبو العتاهية يرثيه:

/

أنعى يزيد بن منصور إلى البشر *** أنعى يزيد لأهل البدو و الحضر

يا ساكن الحفرة المهجور ساكنها *** بعد المقاصر و الأبواب و الحجر

وجدت فقدك في مالي و في نشبي *** وجدت فقدك في شعري و في بشري(1)

فلست أدري جزاك اللّه صالحة *** أ منظري اليوم أسوأ فيك أم خبري

ص: 281


1- في «ديوانه»: «شعري (بكسر الشين) و في نثري».
استحسن شعره بشار و قد اجتمعا عند المهدي:

حدّثنا ابن عمّار قال حدّثنا محمد بن إبراهيم بن خلف قال حدّثني أبي قال:

حدّثت أنّ المهديّ جلس للشّعراء يوما، فأذن لهم و فيهم بشّار و أشجع، و كان أشجع يأخذ عن بشّار /و يعظّمه، و غير هذين، و كان في القوم أبو العتاهية. قال أشجع: فلمّا سمع بشار كلامه قال: يا أخا سليم، أ هذا ذلك الكوفيّ الملقّب؟ قلت نعم. قال: لا جزى اللّه خيرا من جمعنا معه. ثم قال له المهديّ: أنشد؛ فقال: ويحك! أو يبدأ فيستنشد أيضا قبلنا؟! فقلت: قد ترى. فأنشد:

ألا ما لسيّدتي ما لها *** أدلاّ فأحمل إدلالها

و إلاّ ففيم تجنّت و ما *** جنيت سقى اللّه أطلالها

ألا إنّ جارية للإما *** م قد أسكن الحبّ سربالها

مشت بين حور قصار الخطا *** تجاذب في المشي أكفالها

و قد أتعب اللّه نفسي بها *** و أتعب باللّوم عذّالها

قال أشجع: فقال لي بشّار: ويحك يا أخا سليم! ما أدري من أيّ أمريه أعجب: أ من ضعف شعره، أم من تشبيبه بجارية الخليفة، يسمع ذلك بأذنه! حتى أتى على قوله:

أتته الخلافة منقادة *** إليه تجرّر أذيالها

و لم تك تصلح إلاّ له *** و لم يك يصلح إلاّ لها

/و لو رامها أحد غيره *** لزلزلت الأرض زلزالها

و لو لم تطعه بنات القلوب(1) *** لما قبل اللّه أعمالها

و إنّ الخليفة من بغض لا *** إليه ليبغض من قالها

قال أشجع: فقال لي بشّار و قد اهتزّ طربا: ويحك يا أخا سليم! أ ترى الخليفة لم يطر عن فرشه طربا لما يأتي به هذا الكوفيّ؟

شنّع عليه منصور بن عمار و رماه بالزندقة:

أخبرني يحيى بن عليّ إجازة قال حدّثني ابن مهرويه قال حدّثني العبّاس بن ميمون قال حدّثني رجاء بن سلمة قال:

سمعت أبا العتاهية يقول: قرأت البارحة (عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ) ، ثم قلت قصيدة أحسن منها. قال: و قد قيل: إنّ منصور بن عمّار شنّع عليه بهذا.

قال يحيى بن عليّ حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني أبو عمر القرشيّ قال:

لمّا قصّ منصور بن عمّار على الناس مجلس البعوضة(2) قال أبو العتاهية: إنما سرق منصور هذا الكلام من

ص: 282


1- بنات القلوب: النيات.
2- يريد بذلك أنه قص ما يتعلق بالبعوضة من خلقها و صفتها و ما أودعه اللّه فيها من الأسرار، فأطلق المكان - و هو المجلس - و أراد ما يقع فيه. و هذا المجاز كثير الاستعمال. و قد تكلم الإمام الغزالي في «الإحياء» في باب المحبة على البعوضة (راجع ج 4 ص 247 طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1306 ه) و تكلم عليها الدميريّ أيضا في «حياة الحيوان» (راجع ج 1 ص 159-166 طبع بولاق).

رجل كوفيّ. فبلغ قوله منصورا فقال: أبو العتاهية زنديق، أ ما ترونه لا يذكر في شعره الجنة و لا النار، و إنما يذكر الموت فقط! فبلغ ذلك أبا العتاهية، فقال فيه:

يا واعظ الناس قد أصبحت متّهما *** إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها

كالملبس الثوب من عري و عورته *** للناس بادية ما إن يواريها

/فأعظم الإثم بعد الشّرك نعلمه *** في كلّ نفس عماها عن مساويها

عرفانها بعيوب الناس تبصرها *** منهم و لا تبصر العيب الذي فيها

فلم تمض إلاّ أيام يسيرة حتى مات منصور بن عمّار، فوقف أبو العتاهية على قبره و قال: يغفر اللّه لك أبا السّريّ ما كنت رميتني به.

وشى به إلى حمدويه صاحب الزنادقة فتحقق أمره و تركه:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا محمد بن موسى قال أخبرني النّسائيّ عن محمد بن أبي العتاهية قال:

كانت لأبي العتاهية جارة تشرف عليه، فرأته ليلة يقنت، فروت عنه أنه يكلّم القمر، و اتّصل الخبر بحمدويه صاحب الزنادقة، /فصار إلى منزلها و بات و أشرف على أبي العتاهية و رآه يصلّي، و لم يزل يرقبه حتى قنت و انصرف إلى مضجعه، و انصرف حمدويه خاسئا.

قال شعرا يدل على توحيده ليتناقله الناس:

حدّثنا محمد بن يحيى قال حدّثنا محمد بن الرّياشيّ قال حدّثنا الخليل بن أسد النّوشجانيّ قال:

جاءنا أبو العتاهية إلى منزلنا فقال: زعم الناس أنّي زنديق، و اللّه ما ديني إلى التّوحيد. فقلنا له: فقل شيئا نتحدّث به عنك؛ فقال:

ألا إنّنا كلّنا بائد *** و أيّ بني آدم خالد

و بدؤهم كان من ربّهم *** و كلّ إلى ربّه عائد

فيا عجبا كيف يعصى الإل *** ه أم كيف يجحده الجاحد

و في كلّ شيء له آية *** تدلّ على أنه واحد

أرجوزته المشهورة و قوّة شعرها:

أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعيّ قال:

تذاكروا يوما شعر أبي العتاهية بحضرة الجاحظ؛ إلى أن جرى ذكر أرجوزته المزدوجة التي سمّاها «ذات الأمثال»؛ فأخذ بعض من حضر ينشدها حتى أتى على قوله:

يا للشّباب المرح التّصابي *** روائح الجنّة في الشّباب

ص: 283

فقال الجاحظ للمنشد: قف، ثم قال: انظروا إلى قوله:

روائح الجنّة في الشّباب

فإنّ له معنى كمعنى الطّرب الذي لا يقدر على معرفته إلا القلوب، و تعجز عن ترجمته الألسنة إلا بعد التطويل و إدامة التفكير. و خير المعاني ما كان القلب إلى قبوله أسرع من اللسان إلى وصفه. و هذه الأرجوزة من بدائع أبي العتاهية، و يقال: إن [له](1) فيها أربعة آلاف مثل. منها قوله:

حسبك ممّا تبتغيه القوت *** ما أكثر القوت لمن يموت

الفقر فيما جاوز الكفافا *** من اتّقى اللّه رجا و خافا

هي المقادير فلمني أو فذر *** إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر

لكلّ ما يؤذي و إن قلّ ألم *** ما أطول اللّيل على من لم ينم

ما انتفع المرء بمثل عقله *** و خير ذخر المرء حسن فعله

إنّ الفساد ضدّه الصّلاح *** و ربّ جدّ جرّه المزاح

من جعل النّمّام عينا هلكا *** مبلغك الشرّ كباغيه لكا

إنّ الشّباب و الفراغ و الجدة *** مفسدة للمرء أيّ مفسدة

/يغنيك عن كلّ قبيح تركه *** يرتهن الرأي الأصيل شكّه

ما عيش من آفته بقاؤه *** نغّص عيشا كلّه فناؤه(2)

يا ربّ من أسخطنا بجهده *** قد سرّنا اللّه بغير حمده

ما تطلع الشمس و لا تغيب *** إلاّ لأمر شأنه عجيب

لكلّ شيء معدن و جوهر *** و أوسط و أصغر و أكبر

/من لك بالمحض و كلّ ممتزج *** وساوس في الصّدر منه تعتلج

و كلّ شيء لاحق بجوهره *** أصغره متّصل بأكبره

ما زالت الدنيا لنا دار أذى *** ممزوجة الصّفو بألوان القذى

الخير و الشرّ بها أزواج *** لذا نتاج و لذا نتاج

من لك بالمحض و ليس محض *** يخبث بعض و يطيب بعض

لكلّ إنسان طبيعتان *** خير و شرّ و هما ضدّان

إنّك لو تستنشق الشّحيحا *** وجدته أنتن شيء ريحا

و الخير و الشرّ إذا ما عدّا *** بينهما بون بعيد جدّا

ص: 284


1- الزيادة عن أ، م.
2- في «ديوانه» ص 348: «... عيشا طيّبا فناؤه».

عجبت حتى غمّني السكوت *** صرت كأنّي حائر مبهوت

كذا قضى اللّه فكيف أصنع *** الصمت إن ضاق الكلام أوسع

و هي طويلة جدّا، و إنما ذكرت هذا القدر منها حسب ما استاق الكلام من صفتها.

برمه بالناس و ذمهم في شعره:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه عن روح بن الفرج قال:

شاور رجل أبا العتاهية فيما ينقشه على خاتمه؛ فقال: انقش عليه: لعنة اللّه على الناس؛ و أنشد:

/

برمت بالناس و أخلاقهم *** فصرت أستأنس بالوحده

ما أكثر الناس لعمري و ما *** أقلّهم في حاصل العدّه

مدح عمر بن العلاء فأجازه و فضله على الشعراء:
اشارة

حدّثنا الصّوليّ قال حدّثنا الغلابيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن الضحّاك: أنّ عمر بن العلاء مولى عمرو بن حريث صاحب المهديّ كان ممدّحا، فمدحه أبو العتاهية، فأمر له بسبعين ألف درهم؛ فأنكر ذلك بعض الشعراء و قال:

كيف فعل هذا بهذا الكوفيّ! و أيّ شيء مقدار شعره! فبلغه ذلك، فأحضر الرجل و قال له: و اللّه إنّ الواحد منكم ليدور على المعنى فلا يصيبه، و يتعاطاه فلا يحسنه، حتى يشبّب بخمسين بيتا، ثم يمدحنا ببعضها، و هذا كأنّ المعاني تجمع له، مدحني فقصّر التشبيب، و قال:

إنّي أمنت من الزمان و ريبه *** لمّا علقت من الأمير حبالا

لو يستطيع الناس من إجلاله *** لحذوا له حرّ الوجوه نعالا

صوت

إنّ المطايا تشتكيك لأنّها *** قطعت إليك سباسبا(1) و رمالا

فإذا وردن بنا وردن مخفّة(2) *** و إذا رجعن بنا رجعن ثقالا

أخذ هذا المعنى من قول نصيب:

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله *** و لو سكتوا أثنت عليك الحقائب

رأى العتابي فيه:

حدّثنا الصّوليّ قال حدّثنا محمد بن عون قال حدّثني محمد بن النّضر كاتب غسّان بن عبد اللّه قال:

/أخرجت رسولا إلى عبد اللّه بن طاهر و هو يريد مصر، فنزلت على العتّابيّ، و كان لي صديقا، فقال: أنشدني لشاعر العراق - يعني أبا نواس، و كان قد مات - فأنشدته/ما كنت أحفظ من ملحه، و قلت له: ظننتك تقول هذا لأبي العتاهية. فقال: لو أردت أبا العتاهية لقلت لك: أنشدني لأشعر الناس، و لم أقتصر على العراق.

ص: 285


1- سباسب: جمع سبسب، و هو الأرض القفر البعيدة.
2- مخفة: قليلة الحمل. و في «ديوانه» (طبع بيروت): «خفائفا».
ملاحظته على سهولة الشعر لمن يعالجه:

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني هارون بن سعدان عن شيخ من أهل بغداد قال:

قال أبو العتاهية: أكثر الناس يتكلّمون بالشعر و هم لا يعلمون، و لو أحسنوا تأليفه كانوا شعراء كلّهم. قال:

فبينما نحن كذلك إذ قال رجل لآخر عليه مسح(1): «يا صاحب المسح تبيع المسح؟»(2). فقال لنا أبو العتاهية: هذا من ذلك، أ لم تسمعوه يقول:

يا صاحب المسح تبيع المسحا

قد قال شعرا و هو لا يعلم. ثم قال الرجل: «تعال إن كنت تريد الرّبح»(2). فقال أبو العتاهية: و قد أجاز المصراع بمصراع آخر و هو لا يعلم، قال له:

تعال إن كنت تريد الرّبحا

وصف الأصمعيّ شعره:

حدّثنا الصّوليّ قال حدّثنا محمد بن موسى قال حدّثنا أحمد بن بشير(3) أبو طاهر الحلبيّ قال حدّثنا مزيد الهاشميّ عن السّدريّ قال:

/سمعت الأصمعيّ يقول: شعر أبي العتاهية كساحة الملوك يقع فيها الجوهر و الذهب و التراب و الخزف و النّوى.

مدح يزيد بن منصور لشفاعته فيه لدى المهدي:

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:

لمّا حبس المهديّ أبا العتاهية، تكلّم فيه يزيد بن منصور الحميريّ حتى أطلقه؛ فقال فيه أبو العتاهية:

ما قلت في فضله شيئا لأمدحه *** إلاّ و فضل يزيد فوق ما قلت

ما زلت من ريب دهري خائفا وجلا *** فقد كفاني بعد اللّه ما خفت

قدرته على ارتجال الشعر:

أخبرني يحيى بن عليّ إجازة قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني محمد بن يحيى قال حدّثني عبد اللّه بن الحسن قال:

جاءني أبو العتاهية و أنا في الديوان فجلس إليّ. فقلت: يا أبا إسحاق، أ ما يصعب عليك شيء من الألفاظ فتحتاج فيه إلى استعمال الغريب كما يحتاج إليه سائر من يقول الشعر، أو إلى ألفاظ مستكرهة؟ قال لا. فقلت [له](4): إنّي لأحسب ذلك من كثرة ركوبك القوافي السّهلة. قال: فاعرض عليّ ما شئت من القوافي الصعبة.

فقلت: قل أبياتا على مثل البلاغ. فقال من ساعته:

ص: 286


1- المسح: كساء من شعر كثوب الرهبان.
2- في الأصول: «المسحا» و «الربحا» بالألف، و هو نثر لا داعي فيه لألف الإطلاق.
3- في أ، ء، م: «ابن بشر».
4- زيادة عن ح.

أيّ عيش يكون أبلغ من عي *** ش كفاف قوت بقدر البلاغ(1)

صاحب البغي ليس يسلم منه *** و على نفسه بغى كلّ باغي

ربّ ذي نعمة تعرّض منها *** حائل بينه و بين المساغ

أبلغ الدهر في مواعظه بل *** زاد فيهنّ لي على الإبلاغ

غبنتني الأيّام عقلي و مالي *** و شبابي و صحّتي و فراغي

/أخبرنا يحيى إجازة قال حدّثنا عليّ بن مهديّ قال حدّثني أبو عليّ اليقطيني قال حدّثني أبو خارجة بن مسلم قال:

كان مسلم بن الوليد يستخف به فلما أنشده من غزله أكبره
اشارة

قال مسلم بن الوليد: كنت مستخفّا بشعر أبي العتاهية، فلقيني يوما فسألني أن أصير إليه، فصرت إليه فجاءني بلون واحد فأكلناه، /و أحضرني تمرا فأكلناه، و جلسنا نتحدّث، و أنشدته أشعارا لي في الغزل، و سألته أن ينشدني؛ فأنشدني قوله:

باللّه يا قرّة العينين زوريني *** قبل الممات و إلاّ فاستزيريني

إنّي لأعجب من حبّ يقرّبني *** ممن يباعدني منه و يقصيني(2)

أمّا الكثير فما أرجوه منك و لو *** أطمعتني في قليل كان يكفيني

ثم أنشدني أيضا:

رأيت الهوى جمر الغضى غير أنّه *** على حرّه في صدر صاحبه حلو

صوت

أخلاّي بي شجو و ليس بكم شجو *** و كلّ امرئ عن شجو صاحبه خلو

و ما من محبّ نال ممن يحبّه *** هوى صادقا إلاّ سيدخله زهو

بليت و كان المزح بدء بليّتي *** فأحببت حقّا و البلاء له بدو

و علّقت من يزهو(3) عليّ تجبّرا *** و إنّي في كلّ الخصال له كفو

رأيت الهوى جمر الغضى غير أنّه *** على كل حال عند صاحبه حلو

ص: 287


1- البلاغ هنا: الكفاية.
2- كذا في أ، ء، م. و في سائر النسخ: «و يعصيني».
3- يزهو: يترفع و يتكبر. و الفصيح: «يزهى» بالبناء للمجهول.

- الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، و له فيه أيضا خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و لعمرو بن بانة رمل بالوسطى من كتابه. و لعريب فيه خفيف ثقيل من كتاب ابن المعتزّ - قال مسلم: ثم أنشدني أبو العتاهية:

صوت

خليليّ ما لي لا تزال مضرّتي *** تكون على الأقدار حتما من الحتم

يصاب فؤادي حين أرمي و رميتي *** تعود إلى نحري و يسلم من أرمي

صبرت و لا و اللّه ما بي جلادة *** على الصبر لكنّي صبرت على رغمي

ألا في سبيل اللّه جسمي و قوّتي *** ألا مسعد حتى أنوح على جسمي

تعدّ عظامي واحدا بعد واحد *** بمنحى(1) من العذّال عظما على عظم

كفاك بحقّ اللّه ما قد ظلمتني *** فهذا مقام المستجير من الظّلم

- الغناء لسياط في هذه الأبيات، و إيقاعه من خفيف الثّقيل الأوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق - قال مسلم: فقلت له: لا و اللّه يا أبا إسحاق ما يبالي من أحسن أن يقول مثل هذا الشّعر ما فاته من الدنيا! فقال: يا بن أخي، لا تقولنّ مثل هذا؛ فإن الشعر أيضا من بعض مصايد الدنيا.

وفد مع الشعراء على الرشيد و مدحه فلم يجز غيره:

أخبرنا يحيى إجازة قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني عبد الرحمن بن الفضل قال حدّثني ابن الأعرابيّ قال:

اجتمعت الشعراء على باب الرشيد، فأذن لهم فدخلوا و أنشدوا؛ فأنشد أبو العتاهية:

يا من تبغّى(2) زمنا صالحا *** صلاح هارون صلاح الزمن

/كلّ لسان هو في ملكه *** بالشكر في إحسانه مرتهن

قال: فاهتزّ(3) له الرشيد، و قال له: أحسنت و اللّه! و ما خرج في ذلك اليوم أحد من الشعراء بصلة غيره.

قال شعرا في المشمر فرس الرشيد فأجازه:

أخبرني يحيى بن عليّ إجازة قال حدّثنا عليّ بن مهديّ قال حدّثنا عامر بن عمران الضّبيّ قال حدّثني ابن الأعرابيّ قال:

أجرى هارون الرشيد الخيل، فجاءه فرس يقال له المشمّر سابقا، و كان الرشيد معجبا بذلك الفرس، فأمر الشعراء أن يقولوا فيه؛ فبدرهم أبو العتاهية فقال:

ص: 288


1- في ب، س: «نحني» بتقديم الحاء على النون. و هو تحريف.
2- تبغي: تطلب.
3- في ب، س: «فأدهش له».

جاء المشمّر و الأفراس يقدمها *** هونا على رسله(1) و ما انبهرا

و خلّف الريح حسرى(2) و هي جاهدة *** و مرّ يختطف الأبصار و النظرا

فأجزل صلته، و ما جسر أحد بعد أبي العتاهية أن يقول فيه شيئا.

رثاؤه صديقه علي بن ثابت:

أخبرني يحيى إجازة قال حدّثني الفضل بن عبّاس بن عقبة بن جعفر قال:

كان عليّ بن ثابت صديقا لأبي العتاهية و بينهما مجاوبات كثيرة في الزهد و الحكمة، فتوفّي عليّ بن ثابت قبله، فقال يرثيه:

مؤنس كان لي هلك *** و السبيل التي سلك

يا عليّ بن ثابت *** غفر اللّه لي و لك

كلّ حيّ مملّك *** سوف يفنى و ما ملك

قال الفضل(3): و حضر أبو العتاهية عليّ بن ثابت و هو يجود بنفسه، فلم يزل ملتزمه حتى فاض(4)؛ فلما شدّ لحياه بكى طويلا، ثم أنشد يقول:

يا شريكي في الخير قرّبك اللّ *** ه فنعم الشّريك في الخير كنتا

قد لعمري حكيت لي غصص المو *** ت فحرّكتني لها و سكنتا

/قال: و لمّا دفن وقف على قبره يبكي طويلا أحرّ بكاء، و يردّد هذه الأبيات:

ألا من لي بأنسك يا أخيّا *** و من لي أن أبثّك ما لديّا

طوتك خطوب دهرك بعد نشر *** كذاك خطوبه نشزا و طيّا

فلو نشرت قواك لي المنايا *** شكوت إليك ما صنعت إليّا

بكيتك يا عليّ بدمع عيني *** فما أغنى البكاء عليك(5) شيّا

و كانت في حياتك لي عظات *** و أنت اليوم أوعظ منك حيّا

اشتمال مرثيته في علي بن ثابت على أقوال الفلاسفة في موت الإسكندر:

قال عليّ بن الحسين مؤلّف هذا الكتاب: هذه المعاني أخذها كلّها أبو العتاهية من كلام الفلاسفة لمّا حضروا تابوت الإسكندر، و قد أخرج الإسكندر ليدفن: قال بعضهم: كان الملك أمس أهيب منه اليوم، و هو اليوم أوعظ منه

ص: 289


1- على رسله: على تؤدته و هينته، و مثله الهون (بالفتح).
2- حسري: كالة معيية.
3- في ب، س: «أبو الفضل» و هو تحريف.
4- في م: «فاظ» و كلاهما بمعنى مات.
5- في أ، م، ء: «على».

أمس. و قال آخر: سكنت حركة الملك في لذّاته، و قد حرّكنا اليوم في سكونه جزعا لفقده. و هذان المعنيان هما اللذان ذكرهما أبو العتاهية في هذه الأشعار.

سأله جعفر بن الحسين عن أشعر الناس فأنشده من شعره:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني جعفر بن الحسين المهلّبيّ قال:

لقينا أبو العتاهية فقلنا له: يا أبا إسحاق، من/أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:

اللّه أنجح ما طلبت به *** و البرّ خير حقيبة الرّحل(1)

فقلت: أنشدني شيئا من شعرك؛ فأنشدني:

يا صاحب الرّوح ذي الأنفاس في البدن(2) *** بين النهار و بين الليل مرتهن

لقلّما يتخطّاك اختلافهما *** حتى يفرّق بين الرّوح و البدن

/لتجذبنّي(3) يد الدّنيا بقوّتها *** إلى المنايا و إن نازعتها رسني

للّه دنيا أناس دائبين لها *** قد ارتعوا في رياض الغيّ و الفتن(4)

كسائمات رتاع(5) تبتغي سمنا *** و حتفها لو درت في ذلك السّمن

قال: فكتبتها، ثم قلت له: أنشدني شيئا من شعرك في الغزل؛ فقال: يا ابن أخي، إنّ الغزل يسرع إلى مثلك.

فقلت له: أرجو عصمة اللّه جل و عزّ. فأنشدني:

كأنّها من حسنها درّة *** أخرجها اليمّ إلى الساحل

كأن في فيها و في طرفها *** سواحرا أقبلن من بابل

لم يبق منّي حبّها ما خلا *** حشاشة في بدن ناحل

يا من رأى قبلي قتيلا بكى *** من شدّة الوجد على القاتل

فقلت له: يا أبا إسحاق، هذا قول صاحبنا جميل:

خليليّ فيما عشتما هل رأيتما *** قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي

فقال: هو ذاك يا بن أخي و تبسّم.

شعره في التحسر على الشباب:

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال حدّثني أبي قال حدّثني أبو عكرمة عن شيخ له من أهل الكوفة قال:

ص: 290


1- في ب، ء: «الرجل» بالجيم المعجمة.
2- كذا في «ديوانه». و في جميع الأصول: «و الأنفاس و البدن».
3- كذا في «الديوان». و في الأصول: «لتجذبن به الدنيا...».
4- ورد هذا البيت في «الديوان» هكذا: للّه درّ أناس عمرت بهم حتى رعوا في رياض الغيّ و الفتن
5- رتاع: جمع راتعة. و في «الديوان»: «رواع» جمع راعية، و هما بمعنى.

دخلت مسجد المدينة ببغداد بعد أن بويع الأمين محمد بسنة، فإذا شيخ عليه جماعة و هو ينشد:

/

لهفي على ورق الشباب *** و غصونه الخضر الرّطاب

ذهب الشباب و بان عنّ *** ي غير منتظر الإياب

فلأبكينّ على الشّبا *** ب و طيب أيّام التّصابي

و لأبكينّ من البلى *** و لأبكينّ من الخضاب

إنّي لآمل أن أخ *** لّد و المنيّة في طلابي

قال: فجعل ينشدها و إنّ دموعه لتسيل على خدّيه. فلمّا رأيت ذلك لم أصبر أن ملت فكتبتها. و سألت عن الشيخ فقيل لي: هو أبو العتاهية.

كان ابن الأعرابي يعيب شعره:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني أبو العباس محمد بن أحمد قال:

كان ابن الأعرابيّ يعيب أبا العتاهية و يثلبه، فأنشدته:

كم من سفيه غاظني سفها *** فشفيت نفسي منه بالحلم

و كفيت نفسي ظلم عاديتي *** و منحت صفو مودّتي سلمي(1)

و لقد رزقت لظالمي غلظا *** و رحمته إذ لجّ في ظلمي

أحب شعره إليه:

/أخبرني محمد بن عمران قال حدّثني العنزيّ قال حدّثني محمد بن إسحاق قال حدّثني محمد بن أحمد الأزديّ قال:

قال لي أبو العتاهية: لم أقل شيئا قطّ أحبّ إليّ من هذين البيتين [في](2) معناهما:

ليت شعري فإنّني لست أدري *** أيّ يوم يكون آخر عمري

و بأيّ البلاد يقبض روحي *** و بأيّ البقاع(3) يحفر قبري

راهن في أوّل أمره جماعة على قول الشعر فغلبهم:

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني محمد بن الفضل قال حدّثنا محمد بن عبد الجبّار الفزاريّ قال:

اجتاز أبو العتاهية في أوّل أمره و على ظهره قفص فيه فخّار يدور به في الكوفة و يبيع منه، فمرّ بفتيان جلوس

ص: 291


1- سلمي: مسالمي؛ يقال: فلان سلّم لفلان، و حرب له، إذا كان بينهما سلام أو حرب.
2- التكملة عن نسخة أ.
3- في ب، س: «البلاد».

يتذاكرون الشعر و يتناشدونه، فسلّم و وضع القفص عن ظهره، ثم قال: يا فتيان أراكم تذاكرون الشعر، فأقول شيئا منه فتجيزونه، فإن فعلتم فلكم عشرة دراهم، و إن لم تفعلوا فعليكم عشرة دراهم؛ فهزءوا منه و سخروا به و قالوا نعم. قال: لا بدّ أن يشترى بأحد القمارين(1) رطب يؤكل فإنه قمار(1) حاصل، و جعل رهنه تحت يد أحدهم، ففعلوا. فقال: أجيزوا:

ساكني الأجداث أنتم

و جعل بينه و بينهم وقتا في ذلك الموضع إذا بلغته الشمس و لم يجيزوا البيت، غرّموا الخطر(2)؛ و جعل يهزأ بهم و تمّمه:

....................... *** مثلنا بالأمس كنتم

ليت شعري ما صنعتم *** أ ربحتم أم خسرتم

و هي قصيدة طويلة في شعره.

هجاه أبو حبش و ذم شعره:

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه عن أبي خيثم العنزيّ قال:

لمّا حبس الرشيد أبا العتاهية و حلف ألاّ يطلقه أو يقول شعرا، قال لي أبو حبش: أسمعت بأعجب من هذا الأمر، تقول الشعراء الشعر الجيّد النادر فلا يسمع منهم، و يقول هذا المخنّث المفكّك تلك الأشعار بالشفاعة! ثم أنشدني:

/

أبا إسحاق راجعت الجماعة *** و عدت إلى القوافي و الصّناعه

و كنت كجامح(3) في الغيّ عاص *** و أنت اليوم ذو سمع و طاعه

فجرّ الخزّ مما كنت تكسى *** ودع عنك التّقشّف و البشاعة

و شبّب بالتي تهوى و خبّر *** بأنّك ميّت في كلّ ساعه

كسدنا ما نراد و إن أجدنا *** و أنت تقول شعرك بالشّفاعه

خرج مع المهدي في الصيد و قد أمره بهجوه فقال شعرا:

أخبرني أحمد بن العبّاس العسكريّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه قال حدّثني أبو خيثم العنزيّ، و كان صديقا لأبي العتاهية، قال حدّثني أبو العتاهية قال:

أخرجني المهديّ معه إلى الصّيد، فوقعنا منه على شيء كثير، فتفرّق أصحابه في طلبه و أخذ هو في طريق غير طريقهم فلم يلتقوا(4)، و عرض لنا واد جرّار و تغيّمت السماء و بدأت تمطر فتحيّرنا، و أشرفنا على الوادي فإذا فيه

ص: 292


1- في ب، س، ح: «القمرين... قمر».
2- الخطر هنا: الرهان.
3- في الأصول: «كجامع» و لا يستقيم بها الكلام، فآثرنا ما أثبتناه.
4- في ب، س: «فلم يلتفتوا».

ملاّح يعبّر النّاس، فلجأنا إليه فسألناه عن الطريق، فجعل يضعّف رأينا و يعجّزنا في بذلنا أنفسنا في ذلك الغيم للصيد حتى أبعدنا، /ثم أدخلنا كوخا له. و كاد المهديّ يموت بردا؛ فقال له: أغطّيك بجبّتي هذه الصوف؟ فقال نعم؛ فغطّاه بها، فتماسك قليلا و نام. فافتقده غلمانه و تبعوا أثره حتى جاءونا. فلمّا رأى الملاّح كثرتهم علم أنه الخليفة فهرب، و تبادر الغلمان فنحّوا الجبّة عنه و ألقوا عليه الخزّ و الوشي. فلما انتبه قال لي: ويحك! ما فعل الملاّح؟ فقد و اللّه وجب حقّه علينا. فقلت: هرب و اللّه خوفا من قبح ما خاطبنا به. قال: إنّا للّه! و اللّه لقد أردت أن أغنيه، و بأيّ شيء/خاطبنا! نحن و اللّه مستحقّون لأقبح مما خاطبنا به! بحياتي عليك إلاّ ما هجوتني. فقلت: يا أمير المؤمنين، كيف تطيب نفسي بأن أهجوك! قال: و اللّه لتفعلنّ؛ فإني ضعيف الرأي مغرم بالصّيد. فقلت:

يا لابس الوشي على ثوبه *** ما أقبح الأشيب في الراح

فقال: زدني بحياتي؛ فقلت:

لو شئت أيضا جلت في خامة(1) *** و في وشاحين و أوضاح(2)

فقال: ويلك! هذا معنى سوء يرويه عنك الناس، و أنا استأهل. زدني شيئا آخر. فقلت: أخاف أن تغضب.

قال: لا و اللّه. فقلت:

كم من عظيم القدر في نفسه *** قد نام في جبّة ملاّح

فقال: معنى سوء عليك لعنة اللّه! و قمنا و ركبنا و انصرفنا.

وقعت في عسكر المأمون رقعة فيها شعره فوصله:
اشارة

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد قال حدّثنا جماعة من كتّاب الحسن بن سهل قالوا:

وقعت رقعة فيها بيتا شعر في عسكر المأمون؛ فجيء بها إلى مجاشع بن مسعدة، فقال: هذا كلام أبي العتاهية، و هو صديقي، و ليست المخاطبة لي و لكنّها للأمير الفضل بن سهل. فذهبوا بها، فقرأها و قال: ما أعرف هذه العلامة. فبلغ المأمون خبرها فقال: هذه إليّ و أنا أعرف العلامة. و البيتان:

صوت

ما على ذا كنّا افترقنا بسندا(3) *** ن و ما هكذا عهدنا الإخاء

تضرب الناس بالمهنّدة البي *** ض على غدرهم و تنسى الوفاء

قال: فبعث إليه المأمون بمال.

في هذين البيتين لأبي عيسى بن المتوكّل رمل من رواية ابن المعتزّ.

ص: 293


1- الخام: ثوب من القطن لم يغسل.
2- الأوضاح: حليّ من فضة أو هي الخلاخيل.
3- سندان: مدينة ملاصقة للسند.
استبطأ عادة ابن يقطين فقال شعرا فعجلها له:

قال: و كان عليّ بن يقطين صديقا لأبي العتاهية، و كان يبرّه في كل سنة ببرّ واسع، فأبطأ عليه بالبرّ في سنة من السنين، و كان إذا لقيه أبو العتاهية أو دخل عليه يسرّ به و يرفع مجلسه و لا يزيده على ذلك. فلقيه ذات يوم و هو يريد دار الخليفة، فاستوقفه فوقف له، فأنشده:

حتّى متى ليت شعري يا بن يقطين *** أثني عليك بما لا منك توليني

إنّ السّلام و إنّ البشر من رجل *** في مثل ما أنت فيه ليس يكفيني

هذا زمان ألحّ الناس فيه على *** تيه الملوك و أخلاق المساكين

/أ ما علمت جزاك اللّه صالحة *** و زادك اللّه فضلا يا بن يقطين

أنّي أريدك للدّنيا و عاجلها *** و لا أريدك يوم الدّين للدين

فقال عليّ بن يقطين: لست و اللّه أبرح و لا تبرح من موضعنا هذا إلا راضيا، و أمر له بما كان يبعث به إليه في كل سنة، فحمل من وقته و عليّ واقف إلى أن تسلّمه.

نظم شعرا في الحبس فلما سمعه الرشيد بكى و أطلقه:

و أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد قال حدّثنا محمد بن يزيد قال:

بلغني من غير وجه: أنّ الرشيد لمّا ضرب أبا العتاهية و حبسه، وكّل به صاحب خبر يكتب إليه بكل ما يسمعه. فكتب إليه أنه سمعه ينشد:

أما و اللّه إنّ الظلم لوم *** و ما زال المسيء هو الظّلوم

إلى ديّان يوم الدين نمضي *** و عند اللّه تجتمع الخصوم

قال: فبكى الرشيد، و أمر بإحضار أبي العتاهية و إطلاقه، و أمر له بألفي دينار.

رماه منصور بن عمار بالزندقة و شنع عليه فاحتقره العمامة:

أخبرني محمد بن جعفر قال حدّثني محمد بن موسى عن أحمد بن حرب عن محمد بن أبي العتاهية قال:

لمّا قال أبي في عتبة(1):

كأنّ عتابة من حسنها *** دمية قسّ فتنت قسّها

يا ربّ لو أنسيتنيها بما *** في جنّة الفردوس لم أنسها

شنّع عليه منصور بن عمّار بالزندقة، و قال: يتهاون بالجنة و يبتذل ذكرها في شعره بمثل هذا التهاون! و شنّع عليه أيضا بقوله:

إنّ المليك رآك أح *** سن خلقه و رأى جمالك

ص: 294


1- هي عتبة جارية المهدي، و قد اشتهر بمحبته لها و أكثر من تشبيبه فيها.

فحذا بقدرة نفسه *** حور الجنان على مثالك

و قال: أ يصوّر الحور على مثال امرأة آدميّة و اللّه لا يحتاج إلى مثال! و أوقع له هذا على ألسنة العامّة؛ فلقي منهم بلاء.

سأله الباذغيسي عن أحسن شعره فأجابه:

حدّثني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا خليل بن أسد قال حدّثني أبو سلمة الباذغيسيّ قال:

/قلت لأبي العتاهية: في أيّ شعر أنت أشعر؟ قال: قولي:

الناس في غفلاتهم *** و رحا المنيّة تطحن

أنشد المأمون شعره في الموت فوصله:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني يحيى بن عبد اللّه القرشيّ قال حدّثني المعلّى بن أيّوب قال:

دخلت على المأمون يوما و هو مقبل على شيخ حسن اللّحية خضيب شديد بياض الثياب على رأسه لاطئة(1)، فقلت للحسن بن أبي سعيد - قال: و هو ابن خالة المعلّى بن أيوب. و كان الحسن كاتب المأمون على العامّة -: من هذا؟ فقال: أ ما تعرفه؟ فقلت: لو عرفته ما سألتك عنه. فقال: هذا أبو العتاهية. فسمعت المأمون يقول له: أنشدني أحسن ما قلت في الموت؛ فأنشده:

أنساك محياك المماتا *** فطلبت في الدنيا الثباتا

أوثقت بالدنيا و أن *** ت ترى جماعتها شتاتا

/و عزمت منك على الحيا *** ة و طولها عزما بتاتا

يا من رأى أبويه في *** من قد رأى كانا فماتا

هل فيهما لك عبرة *** أم خلت أنّ لك انفلاتا

و من الذي طلب التّفلّ *** ت من منيّته ففاتا

كلّ تصبّحه المن *** يّة أو تبيّته بياتا

قال: فلمّا نهض تبعته فقبضت عليه في الصّحن أو في الدّهليز، فكتبتها عنه.

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني الجاحظ عن ثمامة قال:

/دخل أبو العتاهية على المأمون فأنشده:

ما أحسن الدنيا و إقبالها *** إذا أطاع اللّه من نالها

من لم يواس الناس من فضلها *** عرّض للإدبار إقبالها

فقال له المأمون: ما أجود البيت الأوّل! فأما الثاني فما صنعت فيه شيئا، الدنيا تدبر عمن واسى منها أو ضنّ

ص: 295


1- اللاطئة: قلنسوة صغيرة تلطأ بالرأس.

بها، و إنما يوجب السماحة بها الأجر، و الضنّ بها الوزر. فقال: صدقت يا أمير المؤمنين، أهل الفضل أولى بالفضل، و أهل النقص أولى بالنقص. فقال المأمون: ادفع إليه عشرة آلاف درهم لاعترافه بالحق. فلمّا كان بعد أيام عاد فأنشده:

كم غافل أودى به الموت *** لم يأخذ الأهبة للفوت

من لم تزل نعمته قبله *** زال(1) عن النعمة بالموت

فقال له: أحسنت! الآن طيّبت المعنى؛ و أمر له بعشرين ألف درهم.

تأخرت عنه عادة المأمون سنة فقال شعرا فأعجلها له:

أخبرني أحمد بن العبّاس العسكريّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني ابن سنان(2) العجليّ عن الحسن بن عائذ قال:

كان أبو العتاهية يحجّ في كلّ سنة، فإذا قدم أهدى إلى المأمون بردا و مطرفا و نعلا سوداء و مساويك أراك، فيبعث إليه بعشرين ألف درهم. [و كان](3) يوصّل الهديّة من جهته منجاب مولى المأمون و يجيئه بالمال. فأهدى مرّة له كما كان يهدي كلّ سنة إذا قدم، فلم يثبه و لا بعث إليه بالوظيفة. فكتب إليه أبو العتاهية:

/

خبّروني أنّ من ضرب السّنه *** جددا بيضا و صفرا حسنه

أحدثت لكنّني لم أرها *** مثل ما كنت أرى كلّ سنه

فأمر المأمون بحمل العشرين ألف درهم، و قال: أغفلناه حتى ذكّرنا.

كان الهادي واجدا عليه فلما تولى استعطفه:

حدّثنا محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا المغيرة بن محمد المهلّبيّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال أخبرني عروة بن يوسف الثقفيّ قال:

لمّا ولي الهادي الخلافة كان واجدا على أبي العتاهية لملازمته أخاه هارون و انقطاعه إليه و تركه موسى، و كان أيضا قد أمر أن يخرج معه إلى الرّيّ فأبى ذلك؛ فخافه و قال يستعطفه:

أ لا شافع عند الخليفة يشفع *** فيدفع عنّا شرّ ما يتوقّع

و إنّي على عظم الرجاء لخائف *** كأنّ على رأسي الأسنّة تشرع

/يروّعني موسى على غير عثرة *** و ما لي أرى(4) موسى من العفو أوسع

و ما آمن يمسي و يصبح عائذا *** بعفو أمير المؤمنين يروّع

ص: 296


1- كذا في «ديوانه». و في الأصول: «تذعر النعمة بالموت».
2- في أ، ء، م: «أبو سنان». و لم نقف على ما يرجح إحداهما.
3- هذه الكلمة ساقطة من ب، س، ح.
4- كذا في جميع النسخ و «الديوان». و لعله: «لدى موسى».
مدح الهادي فأمر خازنه بإعطائه فمطله فقال شعرا في ابن عقال فعجلها له:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني عليّ بن الصبّاح قال حدّثني محمد بن أبي العتاهية قال: دخل أبي على الهادي فأنشده:

يا أمين اللّه ما لي *** لست أدري اليوم ما لي

لم أنل منك الذي قد *** نال غيري من نوال

تبذل الحقّ و تعطي *** عن يمين و شمال

و أنا البائس لا تن *** ظر في رقّة حالي

/قال: فأمر المعلّى الخازن أن يعطيه عشرة آلاف درهم. قال أبو العتاهية: فأتيته فأبى أن يعطيها. ذلك أنّ الهادي امتحنني في شيء من الشعر، و كان مهيبا، فكنت أخافه فلم يطعني طبعي، فأمر لي بهذا المال، فخرجت.

فلمّا منعنيه المعلّى صرت إلى أبي الوليد أحمد بن عقال، و كان يجالس الهادي، فقلت له:

أبلغ سلمت أبا الوليد سلامي *** عنّي أمير المؤمنين إمامي

و إذا فرغت من السّلام فقل له *** قد كان ما شاهدت من إفحامي

و إذا حصرت(1) فليس ذاك بمبطل *** ما قد مضى من حرمتي و ذمامي

و لطالما وفدت إليك مدائحي *** مخطوطة فليأت(2) كلّ ملام

أيّام لي لسن و رقّة جدّة *** و المرء قد يبلى مع الأيّام

قال: فاستخرج(3) لي الدراهم و أنفذها إليّ.

كان الهادي واجدا عليه فلما تولى استعطفه و مدحه فأجازه:

حدّثني الصوليّ و محمد بن عمران الصيرفيّ قالا حدّثنا العنزيّ قال حدّثنا محمد بن أحمد بن سليمان قال:

ولد للهادي ولد في أوّل يوم ولي الخلافة؛ فدخل أبو العتاهية فأنشده:

أكثر موسى غيظ حسّاده *** و زيّن الأرض بأولاده

و جاءنا من صلبه سيّد *** أصيد في تقطيع أجداده

فاكتست الأرض به بهجة *** و استبشر الملك بميلاده

و ابتسم المنبر عن فرحة *** علت بها ذروة أعواده

/كأنّني بعد قليل به *** بين مواليه و قوّاده

في محفل تخفق راياته *** قد طبّق الأرض بأجناده

قال: فأمر له موسى بألف دينار و طيب كثير، و كان ساخطا عليه فرضي عنه.

ص: 297


1- الحصر: العيّ في المنطق.
2- في أ، ء، م: «فلنأب».
3- كذا في ح، و في سائر الأصول: «فاستخرج إليّ».
حضر غضب المهدي على أبي عبيد اللّه و ترضاه عنه بشعر فرضي عنه:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى إجازة قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني عليّ بن يزيد الخزرجيّ الشاعر عن يحيى بن الرّبيع قال:

دخل أبو عبيد اللّه على المهديّ، و كان قد وجد عليه في أمر بلغه عنه، و أبو العتاهية حاضر المجلس، فجعل المهديّ يشتم أبا عبيد اللّه و يتغيّظ عليه، ثم أمر به فجرّ برجله و حبس، ثم أطرق المهديّ طويلا. فلمّا سكن أنشده /أبو العتاهية:

أرى الدّنيا لمن هي في يديه *** عذابا كلّما كثرت لديه

تهين المكرمين لها بصغر(1) *** و تكرم كلّ من هانت عليه

إذا استغنيت عن شيء فدعه *** و خذ ما أنت محتاج إليه

فتبسّم المهديّ و قال لأبي العتاهية: أحسنت! فقام أبو العتاهية ثم قال: و اللّه يا أمير المؤمنين، ما رأيت أحدا أشدّ إكراما للدّنيا و لا أصون لها و لا أشحّ عليها من هذا الذي جرّ برجله الساعة. و لقد دخلت إلى أمير المؤمنين و دخل هو و هو أعزّ الناس، فما برحت حتى رأيته أذلّ الناس، و لو رضي من الدنيا بما يكفيه لاستوت أحواله و لم تتفاوت. فتبسّم المهديّ و دعا بأبي عبيد اللّه فرضي عنه. فكان أبو عبيد اللّه يشكر ذلك لأبي العتاهية.

مدح شعرا له بإسحاق بن حفص:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمد بن الحسن قال حدّثني إسحاق بن حفص قال:

/أنشدني هارون بن مخلّد الرازيّ لأبي العتاهية:

ما إن يطيب لذي الرعاية(2) لل *** أيّام لا لعب و لا لهو

إذ كان يطرب(3) في مسرّته *** فيموت من أجزائه جزو

فقلت: ما أحسنهما! فقال: أ هكذا تقول! و اللّه لهما روحانيّان يطيران بين السماء و الأرض.

فضله ابن مناذر على جميع المحدثين:

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال حدّثني أبي عن ابن عكرمة عن مسعود بن بشر المازنيّ قال:

لقيت ابن مناذر بمكة، فقلت له: من أشعر أهل الإسلام؟ فقال: أ ترى من إذا شئت هزل، و إذا شئت جدّ؟ قلت: من؟ قال: مثل جرير حين يقول في النّسيب:

إنّ الذين غدّوا بلبّك غادروا *** وشلا بعينك ما يزال معينا

غيّضن من عبراتهنّ و قلن لي *** ما ذا لقيت من الهوى و لقينا

ص: 298


1- الصغر: الضيم و الذل.
2- في س، ب: «الوعاية» بالواو و هو تحريف.
3- في «ديوانه» (ص 298): «يسرف».

ثم قال حين جدّ:

إنّ الّذي حرم المكارم تغلبا *** جعل النّبوّة و الخلافة فينا

مضر أبي و أبو الملوك فهل لكم *** يا آل تغلب من أب كأبينا

هذا ابن عمّي في دمشق خليفة *** لو شئت ساقكم إليّ قطينا(1)

و من المحدثين هذا الخبيث الذي يتناول شعره من كمّه. فقلت: من؟ قال: أبو العتاهية. قلت: في ما ذا؟ قال: قوله:

/

اللّه بيني و بين مولاتي *** أبدت لي الصّدّ و الملالات

لا تغفر الذنب إن أسأت و لا *** تقبل عذري و لا مواتاتي

منحتها مهجتي و خالصتي *** فكان هجرانها مكافاتي

أقلقني حبّها و صيّرني *** أحدوثة في جميع جاراتي

ثم قال حين جدّ:

و مهمه(2) قد قطعت طامسه(3) *** قفر على الهول و المحاماة

/بحرّة(4) جسرة عذافرة *** خوصاء عيرانة علنداة

تبادر الشمس كلّما طلعت *** بالسّير تبغي بذاك مرضاتي

يا ناق خبّي بنا و لا تعدي *** نفسك مما ترين راحات

حتّى تناخي بنا إلى ملك *** توّجه اللّه بالمهابات

عليه تاجان فوق مفرقه *** تاج جلال و تاج إخبات(5)

يقول للرّيح كلّما عصفت *** هل لك يا ريح في مباراتي

من مثل من عمّه الرسول و من *** أخواله أكرم الخئولات

عير إسحاق بن عزيز لقبوله المال عوضا عن عبادة معشوقته:

أخبرني وكيع قال: قال الزّبير بن بكّار حدّثني أبو غزيّة، و كان قاضيا على المدينة، قال: كان إسحاق بن عزيز يتعشّق عبّادة جارية المهلّبيّة، و كانت المهلبيّة منقطعة إلى الخيزران. فركب إسحاق يوما و معه عبد اللّه بن مصعب يريدان المهديّ، فلقيا عبّادة؛ فقال إسحاق: يا أبا بكر، هذه عبّادة، و حرّك دابّته حتى سبقها فنظر إليها، /فجعل

ص: 299


1- القطين هنا: الخدم و الأتباع.
2- المهمة: المفازة البعيدة.
3- الطامس هنا: البعيد.
4- الحرة من الإبل: العتيقة الأصيلة. و الجسرة: العظيمة من الإبل و غيرها. و العذافرة: العظيمة الشديدة من الإبل. و الخوصاء: وصف من الخوص و هو ضيق العين و صغرها و غئورها. و العيرانة من الإبل: التي تشبه بالعير في سرعتها و نشاطها. و العلنداة: الناقة الضخمة الطويلة.
5- الإخبات: الخشية و الخضوع.

عبد اللّه بن مصعب يتعجّب من فعله. و مضيا فدخلا على المهديّ، فحدّثه عبد اللّه بن مصعب بحديث إسحاق و ما فعل. فقال: أنا أشتريها لك يا إسحاق. و دخل على الخيزران فدعا بالمهلبيّة فحضرت، فأعطاها بعبادة خمسين ألف درهم. فقالت له: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريدها لنفسك فبها فداك اللّه، و هي لك. فقال: إنما أريدها لإسحاق بن عزيز. فبكت و قالت: أ تؤثر عليّ إسحاق بن عزيز و هي يدي و رجلي و لساني في جميع حوائجي! فقالت لها الخيزران عند ذلك: ما يبكيك؟ و اللّه لا وصل إليها ابن عزيز أبدا، صار يتعشّق جواري الناس! فخرج المهديّ فأخبر ابن عزيز بما جرى، و قال له: الخمسون ألف درهم لك مكانها، و أمر له بها، فأخذها عن عبّادة. فقال أبو العتاهية يعيّره بذلك:

من صدق الحبّ لأحبابه *** فإنّ حبّ ابن عزيز غرور

أنساه عبّادة ذات الهوى *** و أذهب الحبّ الذي في الضمير

خمسون ألفا كلّها راجح *** حسنا لها في كل كيس صرير

و قال أبو العتاهية في ذلك أيضا:

حبّك للمال لا كحبك عبّا *** دة يا فاضح المحبّينا

لو كنت أصفيتها الوداد كما *** قلت لما بعتها بخمسينا

طال وجع عينه فقال شعرا:
اشارة

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني جبلة بن محمد قال حدّثني أبي قال:

رأيت أبا العتاهية بعد ما تخلّص من حبس المهديّ و هو يلزم طبيبا على بابنا ليكحل عينه. فقيل له: قد طال وجع عينك؛ فأنشأ يقول:

صوت

أيا ويح نفسي ويحها ثم ويحها *** أ ما من خلاص من شباك الحبائل

أيا ويح عيني قد أضرّ بها البكا *** فلم يغن عنها طبّ ما في المكاحل

/في هذين البيتين لإبراهيم الموصليّ لحن من الثقيل الأوّل.

كان الهادي واجدا عليه لاتصاله بهارون فلما ولي الخلافة مدحه فأجزل صلته:
اشارة

أخبرني عيسى بن الحسين قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

كان الهادي واجدا على أبي العتاهية لملازمته أخاه هارون في خلافة المهديّ، فلمّا ولي موسى الخلافة، قال أبو العتاهية يمدحه:

صوت

يضطرب الخوف و الرجاء إذا *** حرّك موسى القضيب أو فكّر

ما أبين الفضل في مغيّب ما *** أورد من رأيه و ما أصدر

ص: 300

- في هذين البيتين لأبي عيسى بن المتوكل لحن من الثقيل الأوّل في نهاية الجودة، و ما بان به فضله في الصّناعة -:

فكم ترى عزّ عند ذلك من *** معشر قوم و ذلّ من معشر

يثمر من مسّه القضيب و لو *** يمسّه غيره لما أثمر

من مثل موسى و مثل والده ال *** مهديّ أو جدّه أبي جعفر

قال: فرضي عنه. فلمّا دخل عليه أنشده:

لهفي على الزمن القصير *** بين الخورنق و السّدير

إذ نحن في غرف الجنا *** ن نعوم في بحرّ السّرور

في فتية ملكوا عنا *** ن الدهر أمثال الصّقور

/ما منهم إلاّ الجسو *** ر على الهوى غير الحصور

يتعاورون مدامة *** صهباء من حلب العصير

عذراء ربّاها شعا *** ع الشمس في حرّ الهجير

لم تدن من نار و لم *** يعلق بها وضر القدور

و مقرطق يمشي أما *** م القوم كالرّشا الغرير

بزجاجة تستخرج ال *** سرّ الدّفين من الضمير

زهراء مثل الكوكب ال *** درّيّ في كفّ المدير

تدع الكريم و ليس يد *** ري ما قبيل من دبير(1)

و مخصّرات(2) زرننا *** بعد الهدوّ من الخدور

ريّا(3) روادفهنّ يل *** بسن الخواتم في الخصور

غرّ الوجوه محجّبا *** ت قاصرات الطّرف حور

متنعّمات في النّعي *** م مضمّخات بالعبير

برفلن في حلل المحا *** سن و المجاسد(4) و الحرير

ما إن يرين الشمس *** إلاّ الفرط(5) من خلل السّتور

ص: 301


1- القبيل: ما وليك. و الدبير: ما خالفك. يقولون: لا يعرف قبيله من دبيره، و لا يدري قبيلا من دبير، أي لا يعرف شيئا.
2- مخصرات: دقيقات الخصور.
3- ريا هنا: ممتلئة.
4- المجاسد: جمع مجسد، و هو القميص الذي يلي البدن.
5- كذا في أكثر الأصول. و الفرط: الحين؛ يقال: لا ألقاه إلا في الفرط، أي في الأيام مرة. و في ب، س: «القرط» بالقاف، و هو تصحيف.

و إلى أمين اللّه مه *** ربنا من الدّهر العثور

و إليه أتعبنا المطا *** يا بالرّواح و بالبكور

/صعر الخدود كأنّما *** جنّحن أجنحة النّسور

/متسربلات بالظّلا *** م على السّهولة و الوعور

حتّى وصلن بنا إلى *** ربّ المدائن و القصور

ما زال قبل فطامه *** في سنّ مكتهل كبير

- قال: قيل لو كان جزل اللفظ لكان أشعر الناس - فأجزل صلته. و عاد إلى أفضل ما كان له عليه.

أخبرني عمّي الحسن بن محمد قال حدّثني الكرانيّ عن أبي حاتم قال:

قدم علينا أبو العتاهية في خلافة المأمون. فصار إليه أصحابنا فاستنشدوه، فكان أوّل ما أنشدهم:

أ لم تر ريب الدّهر في كلّ ساعة *** له عارض(1) فيه المنيّة تلمع

أيا باني الدّنيا لغيرك تبتني *** و يا جامع الدنيا لغيرك تجمع

أرى المرء وثّابا على كل فرصة *** و للمرء يوما لا محالة مصرع

تبارك من لا يملك الملك غيره *** متى تنقضي حاجات من ليس يشبع

و أيّ امرئ في غاية ليس نفسه *** إلى غاية أخرى سواها تطلّع

قال: و كان أصحابنا يقولون: لو أنّ طبع أبي العتاهية بجزالة لفظ لكان أشعر الناس.

تمثل الفضل بشعر له حين انحطت مرتبته في دار المأمون:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني سليمان بن جعفر الجزريّ قال حدّثني أحمد بن عبد اللّه قال:

كانت مرتبة أبي العتاهية مع الفضل بن الربيع في موضع واحد في دار المأمون. فقال الفضل لأبي العتاهية:

يا أبا إسحاق، ما أحسن بيتين لك و أصدقهما! قال: و ما هما؟ قال: قولك:

/

ما النّاس إلا للكثير المال أو *** لمسلّط ما دام في سلطانه

فإذا الزمان رماهما ببليّة *** كان الثّقات هناك من أعوانه

يعني: من أعوان الزمان. قال: و إنما تمثّل الفضل بن الرّبيع بهذين البيتين لانحطاط مرتبته في دار المأمون و تقدّم غيره. و كان المأمون أمر بذلك لتحريره(2) مع أخيه.

كان ملازما للرشيد فلما تنسك حبسه و لما استعطفه أطلقه:
اشارة

أخبرني عمّي الحسن بن محمد قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال:

ص: 302


1- العارض: الأصل فيه السحاب المعترض في الأفق.
2- لعل أصل الكلام «لتحريره نفسه مع أخيه» فسقطت من الناسخ أو حذفها المؤلف للعلم بها.

قال لي محمد بن أبي العتاهية: كان أبي لا يفارق الرشيد في سفر و لا حضر إلا في طريق الحجّ، و كان يجري عليه في كل سنة خمسين ألف درهم سوى الجوائز و المعاون. فلمّا قدم الرشيد الرّقّة، لبس أبي الصوف و تزهّد و ترك حضور المنادمة و القول في الغزل، و أمر الرشيد بحبسه فحبس؛ فكتب إليه من وقته:

صوت

أنا اليوم لي و الحمد للّه أشهر *** يروح عليّ الهمّ منكم و يبكر

تذكّر أمين اللّه حقّي و حرمتي *** و ما كنت توليني لعلك(1) تذكر

ليالي تدني منك بالقرب مجلسي *** و وجهك من ماء البشاشة يقطر

فمن لي بالعين التي كنت مرّة *** إليّ بها في سالف الدهر تنظر

/قال: فلمّا قرأ الرشيد الأبيات قال: قولوا له: لا بأس عليك. فكتب إليه:

صوت

أرقت و طار عن عيني النّعاس *** و نام السامرون و لم يواسوا

أمين اللّه أمنك خير أمن *** عليك من التّقى فيه لباس

تساس من السماء بكلّ برّ *** و أنت به تسوس كما تساس

كأنّ الخلق ركّب فيه روح *** له جسد و أنت عليه رأس

أمين اللّه إنّ الحبس بأس *** و قد أرسلت(2): ليس عليك باس

- غنّى في هذه الأبيات إبراهيم، و لحنه ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. و فيه أيضا ثقيل أوّل عن الهشاميّ - قال: و كتب إليه أيضا في الحبس(3):

و كلّفتني ما حلت بيني و بينه *** و قلت سأبغي ما تريد و ما تهوى

فلو كان لي قلبان كلّفت واحدا *** هواك و كلفت الخليّ لما يهوى

قال: فأمر بإطلاقه.

حدّثني عمّي قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني الزبير بن بكّار قال حدّثني ثابت بن الزّبير بن حبيب قال حدّثني ابن أخت أبي خالد الحربيّ قال:

قال لي الرشيد: احبس أبا العتاهية و ضيّق عليه حتى يقول الشعر الرقيق في الغزل كما كان يقول. فحبسته في بيت خمسة أشبار في مثلها؛ فصاح: الموت، أخرجوني، فأنا أقول كلّ ما شئتم. فقلت: قل. فقال: حتى أتنفّس.

فأخرجته و أعطيته دواة و قرطاسا؛ فقال أبياته التي أوّلها:

ص: 303


1- كذا في «الديوان» (ص 326) و أشير في هامشه إلى رواية أخرى هي: «كذلك يذكر». و في جميع النسخ: «لذلك يذكر».
2- في «الديوان»: «و قد وقعت».
3- في أ، ء، م: «من الحبس».
صوت

من لعبد أذلّه مولاه *** ما له شافع إليه سواه

يشتكي ما به إليه و يخشا *** ه و يرجوه مثل ما يخشاه

قال: فدفعتها إلى مسرور الخادم فأوصلها، و تقدّم الرشيد إلى إبراهيم الموصليّ فغنّى فيها، و أمر بإحضار أبي العتاهية فأحضر. فلما أحضر قال له: أنشدني قولك:

صوت

يا عتب سيّدتي أ ما لك دين *** حتّى متى قلبي لديك رهين

و أنا الذّلول لكلّ ما حمّلتني *** و أنا الشقيّ البائس المسكين

و أنا الغداة لكلّ باك مسعد *** و لكلّ صبّ صاحب و خدين

لا بأس إنّ لذاك عندي راحة *** للصّبّ أن يلقى الحزين حزين

يا عتب أين أفرّ منك أميرتي *** و عليّ حصن من هواك حصين

- لإبراهيم في هذه الأبيات هزج عن الهشاميّ - فأمر له الرشيد بخمسين ألف درهم.

و لأبي العتاهية في الرشيد لمّا حبسه أشعار كثيرة، منها قوله:

يا رشيد الأمر أرشدني إلى *** وجه نجحي لاعدمت الرّشدا

/لا أراك اللّه سوءا أبدا *** ما رأت مثلك عين أحدا

أعن(1) الخائف و ارحم صوته *** رافعا نحوك يدعوك يدا

و إبلائي من دعاوى أمل *** كلّما قلت تداني بعدا

كم أمني بغد بعد غد *** ينفد العمر و لم ألق غدا

هجا القاسم بن الرشيد فضربه و حبسه و لما اشتكى إلى زبيدة بره الرشيد و أجازه:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني الحسين بن أبي السّريّ قال:

مرّ القاسم بن الرشيد في موكب عظيم و كان من أتيه الناس، و أبو العتاهية جالس مع قوم على ظهر الطريق، فقام أبو العتاهية حين رآه إعظاما له، فلم يزل قائما حتى جاز، فأجازه و لم يلتفت إليه؛ فقال أبو العتاهية:

يتيه ابن آدم من جهله *** كأنّ رحا الموت لا تطحنه

فسمع بعض من في موكبه ذلك فأخبر به القاسم؛ فبعث إلى أبي العتاهية و ضربه مائة مقرعة(2)، و قال له: يا

ص: 304


1- كذا في جميع النسخ و «الديوان». و لعله: «آمن الخائف».
2- المقرعة: السوط.

ابن الفاعلة! أتعرّض بي في مثل ذلك الموضع! و حبسه في داره. فدسّ أبو العتاهية إلى زبيدة بنت جعفر، و كانت توجب(1) له [حفّه](2)، هذه الأبيات:

حتّى متى ذو التّيه في تيهه *** أصلحه اللّه و عافاه

يتيه أهل التّيه من جهلهم *** و هم يموتون و إن تاهوا

من طلب العزّ ليبقى به *** فإنّ عزّ المرء تقواه

لم يعتصم باللّه من خلقه *** من ليس يرجوه و يخشاه

و كتب إليها بحالة و ضيق حبسه، و كانت مائلة إليه، فرثت(3) له و أخبرت الرشيد بأمره و كلّمته فيه؛ فأحضره و كساه و وصله، و لم يرض عن القاسم حتى برّ أبا العتاهية و أدناه و اعتذر إليه.

مدح الرشيد و الفضل فأجازاه:

و نسخت من كتاب هارون بن عليّ: قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني محمد بن سهل عن خالد بن أبي الأزهر قال:

بعث الرشيد بالحرشيّ(4) إلى ناحية الموصل، فجبى له منها مالا عظيما من بقايا الخراج، فوافى به باب الرشيد، فأمر بصرف المال أجمع إلى بعض جواريه، فاستعظم الناس ذلك و تحدّثوا به؛ فرأيت أبا العتاهية و قد أخذه شبه الجنون، فقلت له: مالك ويحك؟! فقال لي: سبحان اللّه! أ يدفع هذا المال الجليل إلى امرأة، و لا تتعلّق كفّي بشيء منه! ثم دخل إلى الرشيد بعد أيّام فأنشده:

اللّه هوّن عندك الدن *** يا و بغّضها إليكا

فأبيت إلاّ أن تص *** غّر كلّ شيء في يديكا

ما هانت الدّنيا على *** أحدكما هانت عليكا

فقال له الفضل بن الربيع: يا أمير المؤمنين، ما مدحت الخلفاء بأصدق من هذا المدح. فقال: يا فضل، أعطه عشرين ألف درهم. فغدا أبو العتاهية على الفضل فأنشده:

إذا ما كنت متّخذا خليلا *** فمثل الفضل فاتّخذ الخليلا

يرى الشّكر القليل له عظيما *** و يعطي من مواهبه الجزيلا

/أراني حيثما يمّمت طرفي *** وجدت على مكارمه دليلا

فقال له الفضل: و اللّه لو لا أنّ أساوي أمير المؤمنين لأعطيتك مثلها، و لكن سأوصلها إليك في دفعات، ثم أعطاه ما أمر له به الرشيد، و زاد له خمسة آلاف درهم من عنده.

ص: 305


1- كذا في ح و هو المناسب؛ يقال: أوجب لفلان حقه إذا راعاه، و في سائر النسخ: «توجه له» و ليس لها معنى.
2- زيادة يقتضيها السياق.
3- كذا في ب، س. و في سائر النسخ: «فرثت له».
4- في الأصول: «المجرشي». و لم نجد هذا الاسم. و لعله محرف عما أثبتناه، و هو سعيد الحرشي الذي كان معاصرا للرشيد و كان يقوم له بأعمال هامة.
سمع علي بن عيسى شعره و هو طفل فأعجب به:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا المبرّد قال حدّثني عبد الصمد بن المعذّل قال:

سمعت الأمير عليّ بن عيسى بن جعفر يقول: كنت صبيّا في دار الرشيد، فرأيت شيخا ينشد و الناس حوله:

ليس للإنسان إلاّ ما رزق *** أستعين اللّه باللّه أثق

علق الهمّ بقلبي كلّه *** و إذا ما علق الهمّ علق

بأبي من كان لي من قلبه *** مرّة ودّ قليل فسرق

يا بني(1) الإسلام فيكم ملك *** جامع الإسلام عنه يفترق

لندى هارون فيكم و له *** فيكم صوب هطول و ورق

لم يزل هارون خيرا كلّه *** قتل الشّرّ به يوم خلق

فقلت لبعض الهاشميّين: أما ترى إعجاب الناس بشعر هذا الرجل؟ فقال: يا بنيّ، إنّ الأعناق لتقطع دون هذا الطبع. قال: ثم كان الشيخ أبا العتاهية، و الذي سأله إبراهيم بن المهديّ.

استعطف الرشيد و هو محبوس فأطلقه:
اشارة

حدّثنا الصّوليّ قال حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال حدّثني عبد القويّ بن محمد بن أبي العتاهية عن أبيه قال:

لبس أبو العتاهية كساء صوف و درّاعة صوف، و آلى على نفسه ألاّ يقول شعرا في الغزل، و أمر الرشيد بحبسه و التضييق عليه؛ فقال:

صوت

يا بن عمّ النبي سمعا و طاعه *** قد خلعنا الكساء و الدّرّاعه

و رجعنا إلى الصّناعة لمّا *** كان سخط الإمام ترك الصّناعه

و قال أيضا:

أ ما رحمتني يوم ولّت فأسرعت *** و قد تركتني واقفا أتلفّت

أقلّب طرفي كي أراها فلا أرى *** و أحلب عيني درّها و أصوّت

فلم يزل الرشيد متوانيا في إخراجه إلى أن قال:

أما و اللّه إنّ الظلم لوم *** و ما زال المسيء هو الظّلوم

إلى ديّان يوم الدّين نمضي *** و عند اللّه تجتمع الخصوم

ص: 306


1- ورد هذا البيت في «ديوانه» (ص 314) و كذا فيما سيأتي (ص 74) من هذا الجزء هكذا: يا بني العباس فيكم ملك شعب الإحسان عنه تفترق

لأمر ما تصرّفت الليالي *** و أمر ما تولّيت(1) النّجوم

تموت غدا و أنت قرير عين *** من الغفلات في لجج تعوم

تنام و لم تنم عنك المنايا *** تنبّه للمنيّة يا نؤوم

سل الأيّام عن أمم تقضّت *** ستخبرك المعالم و الرّسوم

تروم الخلد في دار المنايا *** و كم قد رام غيرك ما تروم

/ألا يا أيّها الملك المرجّى *** عليه نواهض الدنيا تحوم

أقلني زلّة لم أجر منها *** إلى لوم و ما مثلي ملوم

و خلّصني تخلّص يوم بعث *** إذا للناس برّزت(2) الجحيم

فرقّ له و أمر بإطلاقه.

حديثه عن شعره و رأى أبي نواس فيه:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ: قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني ابن أبي الأبيض قال:

أتيت أبا العتاهية فقلت له: إنّي رجل أقول الشعر في الزّهد، و لي فيه أشعار كثيرة، و هو مذهب أستحسنه؛ لأني أرجو ألاّ آثم فيه، و سمعت شعرك في هذا المعنى فأحببت أن أستزيد منه، فأحبّ أن تنشدني من جيّد ما قلت؛ فقال: اعلم أنّ ما قلته رديء. قلت: و كيف؟ قال: لأنّ الشعر ينبغي أن يكون مثل أشعار الفحول المتقدّمين أو مثل شعر بشّار و ابن هرمة، فإن لم يكن كذلك فالصواب لقائله أن تكون ألفاظه مما لا تخفى على جمهور الناس مثل شعري، و لا سيما الأشعار التي في الزّهد؛ فإن الزّهد ليس من مذاهب الملوك و لا من مذاهب رواة الشعر و لا طلاّب الغريب، و هو مذهب أشغف الناس به الزّهاد و أصحاب الحديث و الفقهاء و أصحاب الرّياء و العامّة، و أعجب الأشياء إليهم ما فهموه. فقلت: صدقت. ثم أنشدني قصيدته:

لدوا للموت و ابنوا للخراب *** فكلّكم يصير إلى تباب(3)

ألا يا موت لم أر منك بدّا *** أتيت و ما تحيف و ما تحابي

كأنّك قد هجمت على مشيبي *** كما هجم المشيب على شبابي

قال: فصرت إلى أبي نواس فأعلمته ما دار بيننا؛ فقال: و اللّه ما أحسب في شعره مثل ما أنشدك بيتا آخر.

فصرت إليه فأخبرته بقول أبي نواس؛ فأنشدني قصيدته التي يقول فيها:

/

طول التّعاشر بين النّاس مملول *** ما لابن آدم إن فتّشت معقول

يا راعي الشّاء(4) لا تغفل رعايتها *** فأنت عن كلّ ما استرعيت مسئول

ص: 307


1- توليت النجوم (بالبناء للمفعول): أي تولاها اللّه، فتطلع ثم تغيب بتأثير قدرته. و لا يصح بناء الفعل للفاعل إلا مع ضرورة قبيحة و هي عدم حذف لام الفعل مع تاء التأنيث و قلبها ياء.
2- في أ: «سعرت»، و في هامشها كما في الأصل.
3- التباب: الهلاك.
4- في أ، ء، م: «يا راعي الناس». و في «الديوان»: «يا راعي النفس».

إنّي لفي منزل ما زلت أعمره *** على يقين بأنّي عنه منقول

و ليس من موضع يأتيه ذو نفس *** إلاّ و للموت سيف فيه مسلول

لم يشغل الموت عنّا مذ أعدّ لنا *** و كلّنا عنه باللذّات مشغول

و من يمت فهو مقطوع و مجتنب *** و الحيّ ما عاش مغشيّ و موصول

كل ما بدا لك فالآكال فانية *** و كلّ ذي أكل لا بدّ مأكول

قال: ثم أنشدني عدّة قصائد ما هي بدون هذه، فصرت إلى أبي نواس فأخبرته؛ فتغيّر لونه و قال: لم خبّرته بما قلت! قد و اللّه أجاد! و لم يقل فيه سوءا.

كان أبو نواس يجله و يعظمه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عليّ بن عبد اللّه بن سعد قال حدّثني هارون بن سعدان مولى البجليّين قال:

كنت مع أبي نواس قريبا من دور بني نيبخت(1) بنهر طابق(2) و عنده جماعة، فجعل يمرّ به القوّاد و الكتّاب و بنو هاشم فيسلّمون عليه و هو متّكئ ممدود الرجل لا يتحرّك لأحد منهم، حتى نظرنا إليه قد قبض رجليه و وثب و قام إلى شيخ/قد أقبل على حمار له، فاعتنق أبا نواس و وقف أبو نواس يحادثه، فلم يزل واقفا معه يراوح بين رجليه يرفع رجلا و يضع أخرى، ثم مضى الشيخ و رجع إلينا أبو نواس و هو يتأوّه. فقال له بعض من حضر: و اللّه لأنت أشعر منه. فقال: و اللّه ما رأيته قطّ إلا ظننت أنه سماء و أنا أرض.

رأي بشار فيه:

قال محمد بن القاسم حدّثني عليّ بن محمد بن عبد اللّه الكوفيّ قال حدّثني السّريّ بن الصّبّاح مولى ثوبان بن عليّ قال:

كنت عند بشّار فقلت له: من أشعر أهل زماننا؟ فقال: مخنّث أهل بغداد (يعني أبا العتاهية).

عزى المهدي في وفاة ابنته فأجازه:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم إجازة: قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني الخزرجيّ الشاعر قال حدّثني عبد اللّه بن أيّوب الأنصاريّ قال حدّثني أبو العتاهية قال:

ماتت بنت المهديّ فحزن عليها حزنا شديدا حتى امتنع من الطعام و الشراب، فقلت أبياتا أعزّيه بها؛ فوافيته و قد سلا و ضحك و أكل و هو يقول: لا بدّ من الصبر على ما لا بدّ منه، و لئن سلونا عمن فقدنا ليسلونّ عنّا من يفقدنا، و ما يأتي الليل و النهار على شيء إلا أبلياه. فلمّا سمعت هذا منه قلت: يا أمير المؤمنين، أ تأذن لي أن أنشدك؟ قال هات؛ فأنشدته:

ما للجديدين لا يبلى اختلافهما *** و كلّ غضّ جديد فيهما بالي

ص: 308


1- كذا في ح. و قد وردت محرفة في سائر النسخ.
2- نهر طابق: محلّه كانت ببغداد من الجانب الغربيّ.

يا من سلا عن حبيب بعد ميتته *** كم بعد موتك أيضا عنك من سالي

كأنّ كلّ نعيم أنت ذائقه *** من لذّة العيش يحكي لمعة الآل

لا تلعبنّ بك الدنيا و أنت ترى *** ما شئت من عبر فيها و أمثال

ما حيلة الموت إلاّ كلّ صالحة *** أولا فما حيلة فيه لمحتال

فقال لي: أحسنت ويحك! و أصبت ما في نفسي و وعظت و أوجزت! ثم أمر لي لكلّ بيت بألف درهم.

حبسه الرشيد مع إبراهيم الموصليّ ثم أطلقهما:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني أحمد بن خلاّد قال حدّثني أبي قال:

لمّا مات موسى الهادي قال الرشيد لأبي العتاهية: قل شعرا في الغزل؛ فقال: لا أقول شعرا بعد موسى أبدا، فحبسه. و أمر إبراهيم الموصليّ أن يغنّي؛ فقال: لا أغنّي بعد موسى أبدا، و كان محسنا إليهما، فحبسه. فلمّا شخص إلى الرّقّة حفر لهما حفيرة واسعة و قطع بينهما بحائط، و قال: كونا بهذا المكان لا تخرجا منه حتى تشعر أنت و يغنّي هذا. فصبرا على ذلك برهة. و كان الرشيد يشرب ذات يوم و جعفر بن يحيى معه، فغنّت جارية صوتا فاستحسناه و طربا عليه طربا شديدا، و كان بيتا واحدا. فقال الرشيد: ما كان أحوجه إلى بيت ثان ليطول الغناء فيه فنستمتع مدّة طويلة به! فقال له جعفر: قد أصبته. قال: من أين؟ قال: تبعث إلى أبي العتاهية فيلحقه به لقدرته على الشعر و سرعته. قال: هو أنكد من ذلك، لا يجيبنا و هو محبوس و نحن في نعيم و طرب. قال: بلى! فاكتب إليه حتى تعلم صحّة ما قلت لك. فكتب إليه بالقصّة و قال: ألحق لنا بالبيت بيتا ثانيا(1). فكتب إليه أبو العتاهية:

شغل المسكين عن تلك المحن *** فارق الرّوح و أخلى من بدن

/و لقد كلّفت أمرا عجبا *** أسأل التّفريح(2) من بيت الحزن

فلمّا وصلت قال الرشيد: قد عرّفتك أنه لا يفعل. قال: فتخرجه حتى يفعل. قال: لا! حتى يشعر؛ فقد حلفت. فأقام أياما لا يفعل. قال: ثم قال أبو العتاهية لإبراهيم: إلى كم هذا نلاجّ الخلفاء! هلمّ أقل شعرا و تغنّ فيه. فقال أبو العتاهية:

/

بأبي من كان في قلبي له *** مرّة حبّ قليل فسرق(3)

يا بني العبّاس فيكم ملك *** شعب الإحسان منه تفترق

إنّما هارون خير كلّه *** مات كلّ الشّر مذ يوم خلق

و غنّى فيه إبراهيم. فدعا بهما الرشيد؛ فأنشده أبو العتاهية و غناه إبراهيم، فأعطى كلّ واحد منهما مائة ألف درهم و مائة ثوب.

حدّثني الصّوليّ بهذا الحديث عن الحسين بن يحيى عن عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع، فقال فيه:

ص: 309


1- في ح: «آخر».
2- كذا في ب، س. و في سائر الأصول: «التفريج» بالجيم.
3- تقدّم هذا الشعر في ص 68 من هذا الجزء مع اختلاف في الرواية.

غضب الرشيد على جارية له فحلف ألاّ يدخل إليها أيّاما، ثم ندم فقال:

صدّ عنّي إذ رآني مفتتن *** و أطال الصّدّ لما أن فطن

كان مملوكي فأضحى مالكي *** إنّ هذا من أعاجيب الزّمن

و قال لجعفر بن يحيى: اطلب لي من يزيد على هذين البيتين. فقال له: ليس غير أبي العتاهية. فبعث إليه فأجاب بالجواب المذكور، فأمر بإطلاقه و صلته. فقال: الآن طاب القول؛ ثم قال:

عزّة الحبّ أرته(1) ذلّتي *** في هواه و له وجه حسن

و لهذا صرت مملوكا له *** و لهذا شاع ما بي و علن

فقال: أحسنت و اللّه و أصبت ما في نفسي! و أضعف صلته.

شعره في ذم الناس:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني الهيثم بن عثمان قال حدّثني شبيب بن منصور قال:

/كنت في الموقف واقفا على باب الرشيد، فإذا رجل بشع الهيئة على بغل قد جاء فوقف، و جعل الناس يسلّمون عليه و يسائلونه و يضاحكونه، ثم وقف في الموقف، فأقبل الناس يشكون أحوالهم: فواحد يقول: كنت منقطعا إلى فلان فلم يصنع بي خيرا، و يقول آخر: أمّلت فلانا فخاب أملي و فعل بي، و يشكو آخر من حاله؛ فقال الرجل:

فتّشت ذي الدنيا فليس بها *** أحد أراه لآخر حامد

حتّى كأنّ الناس كلّهم *** قد أفرغوا في قالب واحد

فسألت عنه فقيل: هو أبو العتاهية.

هجا سلما الخاسر بالحرص:

حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني أحمد بن خلاّد عن أبيه عن عبد اللّه بن الحسن قال:

أنشد المأمون بيت أبي العتاهية يخاطب سلما الخاسر:

تعالى اللّه يا سلّم بن عمرو *** أذلّ الحرص أعناق الرجال

فقال المأمون: إنّ الحرص لمفسد للدّين و المروءة، و اللّه ما عرفت من رجل قطّ حرصا و لا/شرها فرأيت فيه مصطنعا. فبلغ ذلك سلما فقال: ويلي على المخنّث الجرّار الزنديق! جمع الأموال و كنزها و عبّأ البدور(2) في بيته ثم تزهّد مراءاة و نفاقا، فأخذ يهتف بي إذا تصدّيت للطلب.

ص: 310


1- في أ، ء، م: «أرادت».
2- البدور: جمع بدرة، و هي كيس فيه ألف درهم أو عشرة آلاف درهم.
اقتص منه الجماز لخاله مسلم فاعتذر له:

أخبرني أحمد بن العبّاس العسكريّ المؤدّب و محمد بن عمران الصّيرفيّ قالا حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني محمد بن أحمد بن سليمان العتكيّ قال حدّثني العبّاس بن عبيد اللّه بن سنان بن عبد الملك بن مسمع قال:

/كنّا عند قثم بن جعفر بن سلمان و عنده أبو العتاهية ينشد في الزهد، فقال قثم: يا عبّاس، اطلب الساعة الجمّاز حيث كان، و لك عندي سبق(1). فطلبته فوجدته عند ركن دار جعفر بن سليمان، فقلت: أجب الأمير؛ فقام معي حتّى أتى قثم؛ فجلس في ناحية مجلسه و أبو العتاهية ينشده؛ فأنشأ الجمّاز يقول:

ما أقبح التّزهيد من واعظ *** يزهّد الناس و لا يزهد

لو كان في تزهيده صادقا *** أضحى و أمسى بيته المسجد

يخاف أن تنفد أرزاقه *** و الرزق عند اللّه لا ينفد

و الرزق مقسوم على من ترى *** يناله الأبيض و الأسود

قال: فالتفت أبو العتاهية إليه فقال: من هذا؟ قالوا: [هذا](2) الجمّاز و هو ابن أخت سلّم الحاسر، اقتصّ لخاله منك. فأقبل عليه و قال: يا بن أخي، إني لم أذهب حيث ظننت و لا ظنّ خالك، و لا أردت أن أهتف به؛ و إنما خاطبته كما يخاطب الرجل صديقه، فاللّه يغفر لكما، ثم قام.

غناه مخارق بشعره:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني محمد بن أحمد بن خلف الشّمريّ عن أبيه قال:

كنت عند مخارق، فجاء أبو العتاهية في يوم جمعة فقال: لي حاجة و أريد الصلاة؛ فقال مخارق: لا أبرح حتّى تعود. قال: فرجع و طرح ثيابه، و هي صوف، و غسل وجهه، ثم قال له: غنّني:

صوت

قال لي أحمد و لم يدر ما بي *** أ تحبّ الغداة عتبة حقّا

فتنفّست ثم قلت نعم حبّ *** ا جرى في العروق عرقا فعرقا

فجذب مخارق دواة كانت بين يديه فأوقع عليها ثم غنّاه؛ فاستعاده ثلاث مرّات فأعاده عليه، ثم قام و هو يقول: لا يسمع و اللّه هذا الغناء أحد فيفلح. و هذا الخبر رواية محمد بن القاسم بن مهرويه عنه.

و حدّثنا [به](3) أيضا في كتاب هارون بن عليّ بن يحيى عن ابن مهرويه عن ابن عمّار قال حدّثني أحمد بن يعقوب عن محمد بن حسّان الضّبّيّ قال حدّثنا مخارق قال:

ص: 311


1- أصل السبق (بالتحريك) الخطر يوضع بين أهل السباق، و هو ما يتراهنون عليه.
2- زيادة عن ح.
3- هذه الكلمة ساقطة من ب، س.

لقيني أبو العتاهية فقال: بلغني أنك خرّجت قولي:

قال لي أحمد و لم يدر ما بي *** أ تحبّ الغداة عتبة حقّا

فقلت نعم. فقال: غنّه. فملت معه إلى خراب، فيه قوم فقراء سكّان، فغنّيته إياه؛ فقال: أحسنت و اللّه! منذ ابتدأت حتّى سكتّ؛ ثم قال لي: أما ترى ما فعل الملك بأهل هذا الخراب!

شعره في تبخيل الناس:

أخبرني جحظة قال حدّثني ميمون بن هارون قال:

قال مخارق: لقيت أبا العتاهية على الجسر، /فقلت له: يا أبا إسحاق، أ تنشدني قولك في تبخيلك الناس كلّهم؟ فضحك و قال لي: هاهنا؟ قلت نعم. فأنشدني:

إن كنت متّخذا خليلا *** فتنقّ و انتقد الخليلا

من لم يكن لك منصفا *** في الودّ فابغ به بديلا

و لربّما سئل البخي *** ل الشيء لا يسوى فتيلا

/فيقول لا أجد السّبي *** ل إليه يكره أن ينيلا

فلذاك لا جعل الإل *** ه له إلى خير سبيلا

فاضرب بطرفك حيث شئ *** ت فلن ترى إلاّ بخيلا

فقلت له: أفرطت يا أبا إسحاق! فقال: فديتك! فأكذبني بجواد واحد. فأحببت موافقته، فالتفتّ يمينا و شمالا ثم قلت: ما أجد. فقبّل بين عينيّ و قال: فديتك يا بنيّ! لقد رفقت حتى كدت تسرف.

كان بعد تنسكه يطرب لحديث هارون بن مخارق:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني هارون بن مخارق قال:

كان أبو العتاهية لمّا نسك يقول لي: يا بنيّ، حدّثني؛ فإن ألفاظك تطرب كما يطرب غناؤك.

جفاه أحمد بن يوسف فعاتبه بشعر:

أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم الأنباريّ قال حدّثني أبو هفّان قال حدّثني موسى بن عبد الملك قال:

كان أحمد بن يوسف صديقا لأبي العتاهية، فلمّا خدم المأمون و خصّ به، رأى منه أبو العتاهية جفوة، فكتب إليه:

أبا جعفر إنّ الشريف يشينه *** تتايهه على الأخلاّء بالوفر

أ لم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى *** و أنّ الغنى يخشى عليه من الفقر

فإن نلت تيها بالذي نهلت من غنى *** فإنّ غناي في التجمّل و الصبر

قال: فبعث إليه بألفي درهم، و كتب إليه يعتذر مما أنكره.

ص: 312

طلب إليه أن يجيز شعرا فأجازه على البديهة:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم الكوفيّ قال حدّثني أبو جعفر المعبديّ قال:

/قلت لأبي العتاهية: أجز لي قول الشاعر:

و كان المال يأتينا فكنّا *** نبذّره و ليس لنا عقول

فلمّا أن تولّى المال عنّا *** عقلنا حين ليس لنا فضول

قال: فقال أبو العتاهية على المكان:

فقصّر ما ترى بالصّبر حقّا *** فكلّ إن صبرت له مزيل

قال لابنه: أنت ثقيل الظل:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني الحسن بن الفضل الزّعفرانيّ قال: حدّثني من سمع أبا العتاهية يقول لابنه و قد غضب عليه: اذهب فإنك ثقيل الظلّ جامد الهواء.

أهدى إلى الفضل نعلا فأهداها للخليفة:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني يحيى بن خليفة الرّازيّ قال حدّثنا حبيب بن الجهم النّميريّ قال:

حضرت الفضل بن الربيع متنجّزا جائزتي و فرضي، فلم يدخل عليه أحد قبلي، فإذا عون حاجبه قد جاء فقال:

هذا أبو العتاهية يسلّم عليك و قد قدم من مكة؛ فقال: أعفني منه الساعة يشغلني عن ركوبي. فخرج إليه عون /فقال: إنّه على الرّكوب إلى أمير المؤمنين. فأخرج من كمّه نعلا عليها شراك فقال: قل له إنّ أبا العتاهية أهداها إليك جعلت فداءك. قال: فدخل بها؛ فقال: ما هذه؟ فقال(1): نعل و على شراكها مكتوب كتاب. فقال: يا حبيب، اقرأ ما عليها فقرأته فإذا هو:

نعل بعثت بها ليلبسها *** قرم(2) بها يمشي إلى المجد

لو كان يصلح أن أشرّكها(3) *** خدّي جعلت شراكها خدّي

/فقال لحاجبه عون: احملها معنا، فحملها. فلمّا دخل على الأمين قال له: يا عبّاسيّ، ما هذه النّعل؟ فقال: أهداها إليّ أبو العتاهية و كتب عليها بيتين، و كان أمير المؤمنين أولى بلبسها لما وصف به لابسها. فقال: و ما هما؟ فقرأهما. فقال: أجاد و اللّه! و ما سبقه إلى هذا المعنى أحد، هبوا له عشرة آلاف درهم. فأخرجت و اللّه في بدرة و هو راكب على حماره، فقبضها و انصرف.

ص: 313


1- في الأصول: «قال: فدخلت بها؛ فقال: ما هذه؟ فقلت».
2- القرم (بالفتح) هنا: السيد العظيم. و لتلبسها قدم بها تمشي».
3- أشركها: أجعل لها شراكا. و الشراك: سير النعل على ظهر القدم.
قيل إنه كان من أقل الناس معرفة:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا إسماعيل(1) بن عبد اللّه الكوفيّ قال حدّثنا عمروس(2) صاحب الطعام و كان جار أبي العتاهية، قال:

كان أبو العتاهية من أقلّ الناس معرفة، سمعت بشرا المرّيسيّ يقول له: يا أبا إسحاق، لا تصلّ خلف فلان جارك و إمام مسجدكم؛ فإنه مشبّه(3). قال: كلاّ! إنّه قرأ بنا البارحة في الصّلاة: (قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ) ؛ و إذا هو يظنّ أنّ المشبّه لا يقرأ (قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ) .

شكا إليه بكر بن المعتمر ضيق حبسه فكتب إليه شعرا:

أخبرني الحسن قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني أحمد بن يعقوب الهاشميّ قال حدّثني أبو شيخ منصور بن سليمان عن أبيه قال:

كتب بكر بن المعتمر إلى أبي العتاهية يشكو إليه ضيق القيد و غمّ الحبس؛ فكتب إليه أبو العتاهية:

/

هي الأيّام و العبر *** و أمر اللّه ينتظر

أ تيأس أن ترى فرجا *** فأين اللّه و القدر

ذمّه الخيلاء و شعره في ذلك:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال:

كنت أمشي مع أبي العتاهية يده في يدي و هو متكئ عليّ ينظر إلى الناس يذهبون و يجيئون، فقال: أ ما تراهم هذا يتيه فلا يتكلم، و هذا يتكلم بصلف! ثم قال لي: مرّ بعض أولاد المهلّب بمالك بن دينار و هو يخطر، فقال:

يا بنيّ، لو خفّضت بعض هذه الخيلاء أ لم يكن أحسن بك من هذه الشّهرة التي قد شهرت بها نفسك؟! فقال له الفتى: أ و ما تعرف من أنا! فقال له: بلى! و اللّه أعرفك معرفة جيدة، أوّلك نطفة مذرة(4)، و آخرك جيفة قذرة، و أنت بين ذينك حامل عذرة. قال: فأرخى الفتى أذنيه و كفّ عما كان يفعل و طأطأ رأسه و مشى مسترسلا. ثم أنشدني أبو العتاهية:

أيا واها لذكر اللّ *** ه يا واها له واها

لقد طيّب ذكر اللّ *** ه بالتسبيح أفواها

ص: 314


1- في أ، ء، م: «ابن إسماعيل بن عبد اللّه».
2- في ء، م: «عمرو بن صاحب الطعام».
3- المشبه: الذي يرى رأي المشبهة، و هم فرقة من الشيعة يقولون: إن معبودهم صورة ذات أعضاء و أبعاض إما روحانية و إما جسمانية، و يجوز عليه الانتقال و النزول و الصعود و الاستقرار و التمكن. و قد حكى أن جماعة منهم أجازوا على ربهم الملامسة و المصافحة، و أن المخلصين من المسلمين يعانقونه في الدنيا و الآخرة إذا بلغوا في الرياضة و الاجتهاد إلى حدّ الإخلاص و الاتحاد المحض. (انظر كتاب «الملل و النحل» للشهرستانيّ طبع أوروبا ص 75).
4- مذرة: قذرة.

فيا أنتن من حشّ(1) *** على حشّ إذا تاها

أرى قوما يتيهون *** حشوشا(2) رزقوا جاها

مدح إسماعيل بن محمد شعره و استنشده إياه:

حدّثني اليزيديّ عن عمه إسماعيل بن محمد بن أبي محمد قال.

قلت لأبي العتاهية و قد جاءنا: /يا أبا إسحاق، شعرك كلّه حسن عجيب، و لقد مرّت بي منذ أيام أبيات لك استحسنتها جدّا؛ و ذلك أنها مقلوبة أيضا، فأواخرها كأنها رأسها، لو كتبها الإنسان إلى صديق له كتابا و اللّه لقد كان حسنا أرفع ما يكون شعرا. قال: و ما هي؟ قلت:

المرء في تأخير مدّته *** كالثوب يخلق بعبد جدّته

و حياته نفس يعدّ له *** و وفاته استكمال عدّته

و مصيره من بعد مدّته *** لبلى(3) و ذا من بعد وحدته

من مات مال ذوو مودّته *** عنه و حالوا عن مودّته

أزف الرحيل و نحن في لعب *** ما نستعدّ له بعدّته

و لقلّما تبقي الخطوب على *** أشر الشّباب و حرّ وقدته

عجبا لمنتبه يضيّع ما *** يحتاج فيه ليوم رقدته

شبه أبو نواس شعرا له بشعره:

قال اليزيديّ: قال عمّي و حدّثني الحسين بن الضحّاك قال:

كنت مع أبي نواس فأنشدني أبياته التي يقول فيها:

يا بني النقص و الغير *** و بني الضعف و الخور

فلمّا فرغ منها قال لي: يا أبا عليّ، و اللّه لكأنها من كلام صاحبك (يعني أبا العتاهية).

سأل أعرابيا عن معاشه ثم قال شعرا:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني حذيفة بن محمد الطائيّ قال حدّثني أبو دلف القاسم بن عيسى العجليّ قال:

/حججت فرأيت أبا العتاهية واقفا على أعرابيّ في ظل ميل(4) و عليه شملة(5) إذا غطّى بها رأسه بدت

ص: 315


1- الحش (بتثليث أوّله): النخل المجتمع، و يكنى به عن بيت الخلاء لأنه كان من عادتهم التغوّط في البساتين، و الجمع: حشوش. و في «ديوان أبي العتاهية»: «... من زبل على زبل...».
2- في «الديوان»: «بهاما».
3- في ب، س و «ديوانه» ص 56 طبع بيروت هكذا: «بليا». و في سائر الأصول هكذا: «باليا». و قد رجحنا ما أثبتناه.
4- الميل: منار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض و أشرافها.
5- الشملة: كساء مخمل دون القطيفة.

رجلاه، و إذا غطّى رجليه بدا رأسه. فقال له أبو العتاهية: كيف اخترت هذا البلد القفر على البلدان المخصبة؟ فقال له: يا هذا، لو لا أن اللّه أقنع بعض العباد بشرّ البلاد، ما وسع خير البلاد جميع العباد. فقال له: فمن أين معاشكم؟ فقال: منكم معشر الحاجّ، تمرّون بنا فننال من فضولكم، و تنصرفون فيكون ذلك. فقال [له](1): إنما نمرّ و ننصرف في وقت من السنة، فمن أين معاشكم؟ فأطرق الأعرابيّ ثم قال: لا و اللّه لا أدري ما أقول إلا أنّا نرزق من حيث لا نحتسب أكثر مما نرزق من حيث نحتسب. فولّى أبو العتاهية و هو يقول:

ألا يا طالب الدّنيا *** دع الدنيا لشانيكا

و ما تصنع بالدنيا *** و ظلّ الميل يكفيكا

شتمه سلّم لما سمع هجوه فيه:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:

لمّا قال أبو العتاهية:

تعالى اللّه يا سلّم بن عمر *** أذلّ الحرص أعناق الرجال

قال(2) سلم: ويلي على ابن الفاعلة! كنز البدور و يزعم أنّي حريص و أنا في ثوبيّ هذين!

كان عبد اللّه بن عبد العزيز يتمثل كثيرا بشعره:

أخبرني محمد بن مزيد و الحرميّ بن أبي العلاء قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمرو بن أدعج قال:

قلت لعبد اللّه بن عبد العزيز العمريّ و سمعته يتمثّل كثيرا من شعر أبي العتاهية: أشهد أنّي سمعته ينشد لنفسه:

/

مرّت اليوم شاطره *** بضّة الجسم ساخره

إنّ دنيا هي التي *** مرّت اليوم سافره

سرقوا نصف اسمها *** فهي دنيا و آخره

فقال عبد اللّه بن عبد العزيز: وكله اللّه إلى آخرتها. قال: و ما سمع بعد ذلك يتمثّل ببيت(3) من شعره.

قال عليّ بن الحسين مؤلف هذا الكتاب: هذه الأبيات لأبي عيينة المهلّبيّ، و كان يشبّب بدنيا في شعره، فإما أن يكون الخبر غلطا، و إما أن يكون الرجل أنشدها العمريّ لأبي العتاهية و هو لا يعلم أنّها ليست له.

موازنة بينه و بين أبي نواس:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل قال:

قال لي الحرمازيّ: شهدت أبا العتاهية و أبا نواس في مجلس، و كان أبو العتاهية أسرع الرجلين جوابا عند البديهة، و كان أبو نواس أسرعهما في قول الشعر؛ فإذا تعاطيا جميعا السرعة فضله أبو العتاهية، و إذا توقّفا و تمهّلا فضله أبو نواس.

ص: 316


1- زيادة عن ح.
2- في الأصول: «فقال».
3- في الأصول: «و ما سمع بعد ذلك بيت يتمثل به...».
رأى من صالح المسكين جفوة فعاتبه فجاهره بالعداوة:

أخبرني أحمد بن العبّاس عن ابن عليل العنزيّ قال حدّثنا أبو أنس كثير بن محمد الحزاميّ قال حدّثني الزّبير بن بكّار [عن](1) معروف العامليّ قال:

قال أبو العتاهية: كنت منقطعا إلى صالح المسكين، و هو ابن أبي جعفر المنصور، فأصبت في ناحيته مائة ألف درهم، و كان لي ودودا(2) و صديقا، فجئته يوما، و كان لي في مجلسه مرتبة لا يجلس فيها غيري، فنظرت إليه قد قصّر بي عنها، و عاودته ثانية فكانت حاله تلك، و رأيت نظره إليّ ثقيلا، فنهضت و قلت:

/

أراني صالح بغضا *** فأظهرت له بغضا

و لا و اللّه لا ينق *** ض إلا زدته نقضا

و إلاّ زدته مقتا *** و إلا زدته رفضا

ألا يا مفسد الودّ *** و قد كان له محضا

تغضبت من الريح *** فما أطلب أن ترضى

لئن كان لك المال ال *** مصفى إنّ لي عرضا

قال أبو العتاهية: فنمي الكلام إلى صالح فنادى بالعداوة؛ فقلت فيه:

مددت لمعرض حبلا طويلا *** كأطول ما يكون من الحبال

حبال بالصّريمة ليس تفنى *** موصّلة على عدد الرمال

فلا تنظر إليّ و لا تردني *** و لا تقرب حبالك من حبالي

فليت الرّدم(3) من يأجوج بيني *** و بينك مثبتا أخرى الليالي

فكرش(4) إن أردت لنا كلاما *** و نقطع قحف(5) رأسك بالقذال(6)

استنشده مساور شعرا في جنازة فأبى:

حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا عليّ بن سليمان النّوفليّ قال: قال مساور السبّاق، و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير عن مساور السبّاق قال:

شهدت جنازة في أيّام الحاجّ وقت خروج الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن الحسن(7) المقتول بفخّ(8)، فرأيت رجلا قد حضر الجنازة معنا و قد قال لآخر: هذا/الرجل الذي/صفته كذا و كذا أبو العتاهية.

ص: 317


1- زيادة يقتضيها السياق. و في ح: «الزبير بن معروف العاملي».
2- في ح، ب: «ودّا». و الود (مثلث الواو): الكثير الود، كالودود.
3- الردم: سدّ يأجوج و مأجوج.
4- كرّش الرجل: قطب وجهه.
5- القحف: العظم الذي فوق الدماغ من الجمجمة. و قيل لا يسمى قحفا حتى ينفلق من الجمجمة فيبين.
6- كذا في ح. و القذال: جماع مؤخر الرأس ما بين نقرة القفا إلى الأذن. و في سائر الأصول: «بالقتال» بالتاء المثناة من فوق.
7- في طبعة بولاق: الحسن بن علي بن الحسين بن الحسن بن الحسين.
8- فخ: واد بمكة، و هو فيما قيل: وادي الزاهر.

فالتفت إليه فقلت له: أنت أبو العتاهية؟ فقال: لا، أنا أبو إسحاق. فقلت له: أنشدني شيئا من شعرك؛ فقال لي:

ما أحمقك! نحن على سفر و على شفير قبر، و في أيام العشر، و ببلدكم هذا تستنشدني الشعر! ثم أدبر عنّي ثم عاد إليّ فقال: و أخرى أزيدكها، لا و اللّه ما رأيت في بني آدم قطّ أسمج منك وجها! قال النوفليّ في خبره: و صدق أبو العتاهية، كان مساور هذا مقبّحا طويل الوجه كأنّه ينظر في سيف.

حجبه حاجب يحيى بن خاقان فقال شعرا فاسترضاه فأبى:

أخبرني عمّي الحسن بن محمد و جحظة قالا حدّثنا ميمون بن هارون قال:

قدم أبو العتاهية يوما منزل يحيى بن خاقان، فلمّا قام بادر له الحاجب فانصرف. و أتاه يوما آخر فصادفه حين نزل، فسلّم عليه و دخل إلى منزله و لم يأذن له؛ فأخذ قرطاسا و كتب إليه:

أراك تراع حين ترى خيالي *** فما هذا يروعك من خيالي

لعلّك خائف منّي سؤال *** ألا فلك الأمان من السؤال

كفيتك إنّ حالك لم تمل بي *** لأطلب مثلها بدلا بحالي

و إنّ اليسر مثل العسر عندي *** بأيّهما منيت فلا أبالي

فلمّا قرأ الرّقعة أمر الحاجب بإدخاله إليه، فطلبه فأبى أن يرجع معه، و لم يلتقيا بعد ذلك.

كان بينه و بين أبي الشمقمق شرّ:

أخبرني عبد اللّه بن محمد الرّازيّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث قال حدّثنا المدائنيّ قال:

/اجتمع أبو نواس و أبو الشّمقمق في بيت ابن أذين، و كان بين أبي العتاهية و بين أبي الشّمقمق شرّ، فخبّئوه من أبي العتاهية في بيت. و دخل أبو العتاهية فنظر إلى غلام عندهم فيه تأنيث(1)، فظنّ أنّه جارية، فقال لابن أذين: متى استطرفت(2) هذه الجارية؟ فقال: قريبا يا أبا إسحاق، فقال: قل فيها ما حضر؛ فمدّ أبو العتاهية يده إليه و قال:

مددت كفّي نحوكم سائلا *** ما ذا تردّون على السائل

فلم يلبث أبو الشمقمق حتى ناداه من البيت:

نردّ في كفّك ذا فيشة *** يشفي جوى في استك من داخل

فقال أبو العتاهية: شمقمق و اللّه! و قام مغضبا.

استنشد ابن أبي أمية شعره و مدحه:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني سليمان بن عبّاد قال حدّثنا سليمان بن مناذر قال:

كنّا عند جعفر بن يحيى و أبو العتاهية حاضر في وسط المجلس؛ فقال أبو العتاهية لجعفر: جعلني اللّه فداك!

ص: 318


1- فيه تأنيث: فيه لين و تخنّث.
2- استطرفت: استحدثت. و في الأصول: «متى استظرفتها» بالمعجمة.

معكم شاعر يعرف بابن أبي أميّة أحبّ أن أسمعه ينشد؛ فقال له جعفر: هو أقرب الناس منك. فأقبل أبو العتاهية على محمد، و كان إلى جانبه، و سأله أن ينشده، فكأنّه حصر ثم أنشده:

صوت

ربّ وعد منك لا أنساه لي *** أوجب الشكر و إن لم تفعل

أقطع الدهر بوعد حسن *** و أجلّي غمرة ما تنجلي

كلّما أمّلت وعدا صالحا *** عرض المكروه دون الأمل

/و أرى الأيّام لا تدني الذي *** أرتجي منك و تدني أجلي

/ - في هذه الأبيات لأبي حبشة رمل - قال: فأقبل أبو العتاهية يردّد البيت الأخير و يقبّل رأس ابن أبي أميّة و يبكي، و قال: وددت و اللّه أنّه لي بكثير من شعري.

لم يرض بتزويج ابنته لمنصور بن المهدي:

أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

كانت لأبي العتاهية بنتان، اسم إحداهما «للّه»، و الأخرى «باللّه»؛ فخطب منصور بن المهديّ «للّه» فلم يزوّجه، و قال: إنما طلبها لأنّها بنت أبي العتاهية، و كأنّي بها قد ملّها، فلم يكن لي إلى الانتصاف منه سبيل، و ما كنت لأزوّجها إلا بائع خزف و جرار، و لكنّي أختاره لها موسرا.

كان له ابن شاعر:

و كان لأبي العتاهية ابن يقال له محمد و كان شاعرا، و هو القائل:

قد أفلح السّالم الصّموت *** كلام راعي الكلام قوت

ما كلّ نطف له جواب *** جواب ما يكره السّكوت

يا عجبا لامرئ ظلوم *** مستيقن أنّه يموت

سأله عبد اللّه بن الحسن بن سهل أن ينشده من شعره ففعل:
اشارة

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثنا زكريّا بن الحسين(1) عن عبد اللّه بن الحسن بن سهل الكاتب قال:

قلت لأبي العتاهية: أنشدني من شعرك ما تستحسن، فأنشدني:

ما أسرع الأيّام في الشّهر *** و أسرع الأشهر في العمر

ص: 319


1- في ح: «الحسن».
صوت

ليس لمن ليست له حيلة *** موجودة خير من الصّبر

فاخط مع الدهر إذا ما خطا *** واجر مع الدهر كما يجري

من سابق الدهر كبا كبوة *** لم يستقلها آخر الدهر

لإبراهيم في هذه الأبيات خفيف ثقيل و ثقيل أوّل.

لما جفاه الفضل وصله ابن الحسن بن سهل:

قال عبد اللّه بن الحسن: و سمعت أبا العتاهية يحدّث قال: ما زال الفضل بن الربيع من أميل النّاس إليّ، فلمّا رجع من خراسان بعد موت الرشيد دخلت إليه، فاستنشدني فأنشدته:

أفنيت عمرك إدبارا و إقبالا *** تبغي البنين و تبغي الأهل و المالا

الموت هول فكن ما شئت ملتمسا *** من هوله حيلة إن كنت محتالا

أ لم تر الملك الأمسيّ حين مضى *** هل نال حيّ من الدنيا كما نالا

أفناه من لم يزل يفني القرون فقد *** أضحى و أصبح عنه الملك قد زالا

كم من ملوك مضى ريب الزمان بهم *** فأصبحوا عبرا فينا و أمثالا

فاستحسنها و قال: أنت تعرف شغلي، فعد إليّ في وقت فراغي اقعد معك و آنس بك. فلم أزل أراقب أيّامه حتى كان يوم فراغه فصرت إليه؛ فبينما هو مقبل عليّ يستنشدني و يسألني فأحدّثه، إذ أنشدته:

ولّى الشباب فما له من حيلة *** و كسا ذؤابتي المشيب حمارا

أين البرامكة الذين عهدتهم *** بالأمس أعظم أهلها أخطارا

/فلمّا سمع ذكرى البرامكة تغيّر لونه و رأيت الكراهية في وجهه، فما رأيت منه خيرا بعد ذلك.

قال: و كان أبو العتاهية يحدّث هذا الحديث ابن الحسن بن سهل؛ فقال له: لئن كان ذلك ضرّك عند الفضل بن الربيع لقد نفعك عندنا؛ فأمر له بعشرة آلاف درهم و عشرة أثواب و أجرى له كلّ شهر ثلاثة آلاف درهم، فلم يزل يقبلها دارّة إلى أن مات.

عاتب مجاشع بن مسعدة فردّ عليه من شعره:

قال عبد اللّه بن الحسن بن سهل: و سمعت عمرو بن مسعدة يقول: قال لي أخي مجاشع: بينما أنا في بيتي إذ جاءتني رقعة من أبي العتاهية فيها:

/

خليل لي أكاتمه *** أراني لا ألائمه

خليل لا تهبّ الرّي *** ح إلاّ هبّ لائمه

كذا من نال سلطانا *** و من كثرت دراهمه

قال: فبعثت إليه فأتاني، فقلت له: أ ما رعيت حقّا و لا ذماما و لا مودّة! فقال لي: ما قلت سوءا. قلت: فما

ص: 320

حملك على هذا؟ قال: أغيب عنك عشرة أيّام فلا تسأل عنّي و لا تبعث إليّ رسولا! فقلت: يا أبا إسحاق، أنسيت قولك:

يأبى المعلّق بالمنى *** إلاّ رواحا و ادّلاجا

ارفق فعمرك عود ذي *** أود رأيت به اعوجاجا

من عاج من شيء إلى *** شيء أصاب له معاجا

فقال: حسبك! حسبك! أوسعتني عذرا.

عاب شعر ابن مناذر لاستعماله الغريب، فخجل:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ الزّارع قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني محمد بن عمران بن عبد الصّمد الزّارع قال حدّثنا ابن عائشة قال:

قال أبو العتاهية لابن مناذر(1): شعرك مهجّن لا يلحق بالفحول، و أنت خارج عن طبقة المحدثين. فإن كنت تشبّهت بالعجّاج و رؤبة فما لحقتهما و لا أنت/في طريقهما، و إن كنت تذهب مذهب المحدثين فما صنعت شيئا.

أخبرني عن قولك:

و من عاداك لاقى المرمريسا(2)

أخبرني عن المرمريس ما هو؟ قال: فخجل ابن مناذر و ما راجعه حرفا. قال: و كان بينهما تناغر(3).

عرف عبيد اللّه بن إسحاق بمكة و سأله أن يجيز شعره:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى قال حدّثني الحسين بن إسماعيل المهديّ قال حدّثني رجاء بن سلمة قال:

وجد المأمون عليّ في شيء، فاستأذنته في الحجّ فأذن لي، فقدمت البصرة و عبيد اللّه بن إسحاق بن الفضل الهاشميّ(4) عليها و إليه أمر الحجّ، فزاملته إلى مكة. فبينا نحن في الطّواف رأيت أبا العتاهية، فقلت لعبيد اللّه:

جعلت فداك! أ تحبّ أن ترى أبا العتاهية؟ فقال: و اللّه إنّي لأحبّ أن أراه و أعاشره. قلت: فافرغ من طوافك و اخرج، ففعل. فأخذت بيد أبي العتاهية فقلت له: يا أبا إسحاق، هل لك في رجل من أهل البصرة شاعر أديب ظريف؟

ص: 321


1- في شرح «القاموس» مادة «نذر» ما نصه: و «ابن مناذر بالفتح ممنوع من الصرف و يضم فيصرف. قال الجوهريّ: هو محمد بن مناذر شاعر بصري، فمن فتح الميم منه لم يصرفه و يقول إنه جمع منذر؛ لأنه محمد بن المنذر بن المنذر بن المنذر، و من ضمه صرفه» اه. و قد ورد في «معجم البلدان» لياقوت (ج 4 ص 644 طبع مدينة ليدن) ما يؤكد أنه بالضم ليس غير؛ قال: «ذكر المبرد أن محمد بن مناذر الشاعر كان إذا قيل ابن مناذر بفتح الميم يغضب و يقول: أ مناذر الكبرى أم مناذر الصغرى، و هما كورتان من كور الأهواز، إنما هو مناذر على وزن مفاعل من ناذر يناذر فهو مناذر، مثل ضارب فهو مضارب». و قد ورد في «المشتبه في أسماء الرجال» للذهبيّ (ص 457 طبع مدينة ليدن) بالضم أيضا.
2- المرمريس: الداهية.
3- التناغر: التناكر. و في ح: «تباعد».
4- كذا في ح، ء. و في سائر النسخ: «الهاشمي» و هو تحريف.

قال: و كيف لي بذلك؟ فأخذت بيده فجئت به إلى عبيد اللّه، و كان لا يعرفه، فتحدّثا ساعة، ثم قال له أبو العتاهية:

هل لك في بيتين تجيزهما؟ فقال له عبيد اللّه: إنه لا رفث و لا فسوق و لا جدال في الحجّ. فقال له: لا نرفث و لا نفسق و لا نجادل. فقال: هات إذا. فقال أبو العتاهية:

/

إنّ المنون غدوّها و رواحها *** في الناس دائبة تجيل قداحها

يا ساكر الدنيا لقد أوطنتها *** و لتنزحنّ و إن كرهت نزاحها

/فأطرق عبيد اللّه ينظر إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه فقال:

خذ لا أبا لك للمنيّة عدّة *** و احتل لنفسك إن أردت صلاحها

لا تغترر فكأنّني بعقاب ري *** ب الموت قد نشرت عليك جناحها

قال: ثم سمعت الناس ينحلون أبا العتاهية هذه الأربعة الأبيات كلّها، و ليس له إلاّ البيتان الأوّلان.

قصته في السجن مع داعية عيسى بن زيد:
اشارة

أخبرني عمّي الحسن بن محمد قال حدّثنا ميمون بن هارون قال حدّثني إبراهيم بن رباح قال أخبرني إبراهيم بن عبد اللّه، و أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا هارون بن مخارق قال حدّثني إبراهيم بن دسكرة، و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال:

قال أبو العتاهية: حبسني(1) الرشيد لمّا تركت قول الشعر، فأدخلت السجن و أغلق الباب عليّ، فدهشت كما يدهش مثلي لتلك الحال، و إذا أنا برجل جالس في جانب الحبس مقيّد، فجعلت انظر إليه ساعة، ثم تمثّل:

صوت

تعوّدت مرّ الصبر حتى ألفته *** و أسلمني حسن العزاء إلى الصبر

و صيّرني يأسي من النّاس راجيا *** لحسن صنيع اللّه من حيث لا أدري

فقلت له: أعد، يرحمك اللّه، هذين البيتين. فقال لي: ويلك أبا العتاهية! ما أسوأ أدبك و أقلّ عقلك! دخلت عليّ الحبس فما سلّمت تسليم المسلم على المسلم، و لا سألت مسألة الحرّ للحرّ، و لا توجّعت توجّع المبتلى للمبتلى، حتى إذا سمعت بيتين/من الشعر الذي لا فضل فيك غيره، لم تصبر عن استعادتهما، و لم تقدّم قبل مسألتك عنهما عذرا لنفسك في طلبهما! فقلت: يا أخي إنّي دهشت لهذه الحال، فلا تعذلني و اعذرني متفضّلا بذلك. فقال: أنا و اللّه أولى بالدّهش و الحيرة منك؛ لأنك حبست في أن تقول شعرا به ارتفعت و بلغت، فإذا قلت أمّنت، و أنا مأخوذ بأن أدلّ على ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليقتل أو أقتل دونه، و و اللّه لا أدلّ عليه أبدا، و الساعة يدعى بي فأقتل، فأيّنا أحقّ بالدّهش؟ فقلت له: أنت و اللّه أولى، سلّمك اللّه و كفاك، و لو علمت أنّ هذه حالك ما سألتك.

قال: فلا نبخل عليك إذا، ثم أعاد البيتين حتى حفظتهما. قال: فسألته من هو؟ فقال: أنا خاصّ داعية عيسى بن زيد و ابنه أحمد. و لم نلبث أن سمعنا صوت الأقفال، فقام فسكب عليه ماء كان عنده في جرّه، و لبس ثوبا نظيفا كان

ص: 322


1- في «وفيات الأعيان» لابن خلكان (ج 1 ص 102): «أمر المهدي بحبسي...».

عنده، و دخل الحرس و الجند معهم الشمع فأخرجونا جميعا، و قدّم قبلي إلى الرشد. فسأله عن أحمد بن عيسى؛ فقال: لا تسألني عنه و اصنع ما أنت صانع، فلو أنه تحت ثوبي هذا ما كشفته عنه. و أمر بضرب عنقه فضرب. ثم قال لي: أظنّك قد ارتعت يا إسماعيل! فقلت: دون ما رأيته تسيل منه النفوس. فقال: ردّوه إلى محبسه فرددت، و انتحلت هذين البيتين و زدت فيهما:

إذا أنا لم أقبل من الدّهر كلّ ما *** تكرّهت منه طال عتبي على الدهر

/لزرزور غلام المارقيّ في هذين البيتين المذكورين خفيف رمل. و فيهما لعريب خفيف ثقيل.

كان خلفا في شعره له منه الجيد و الرديء:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني ناجية بن عبد الواحد قال:

/قال لي أبو العبّاس الخزيميّ:

كان أبو العتاهية خلفا في الشعر، بينما هو يقول في موسى الهادي:

لهفي على الزمن القصير *** بين الخورنق و السّدير

إذ قال:

أيا ذوي الوخامه *** أكثرتم الملامة

فليس لي على ذا *** صبر و لا قلامه

نعم عشقت موقا *** هل قامت القيامه

لأركبنّ فيمن *** هويته الصّرامه

عرض شعرا له على سلّم الخاسر فذمه فأجابه:

و نسخت من كتابه(1): حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني أحمد بن عيسى قال حدّثني الجمّاز قال:

قال سلّم الخاسر: صار إليّ أبو العتاهية فقال: جئتك زائرا؛ فقلت: مقبول منك و مشكور أنت عليه، فأقم.

فقال: إنّ هذا مما يشتدّ عليّ. قلت: و لم يشتدّ عليك ما يسهل على أهل الأدب؟ فقال: لمعرفتي بضيق صدرك.

فقلت له و أنا أضحك و أعجب من مكابرته: «رمتني بدائها(2) و انسلّت». فقال: دعني من هذا و اسمع منّي أبياتا.

فقلت: هات؛ فأنشدني:

نغّص الموت كلّ لذّة عيش *** يا لقومي للموت ما أوحاه(3)

عجبا أنّه إذا مات ميت *** صدّ عنه حبيبه و جفاه

حيثما وجّه امرؤ ليفوت ال *** موت فالموت واقف بحذاه

ص: 323


1- يريد كتاب هارون بن علي الوارد في الصفحة السابقة.
2- هذا مثل يضرب لمن يعيّر آخر غيبا هو فيه.
3- ما أوحاه: ما أسرعه.

إنّما الشّيب لابن آدم ناع *** قام في عارضيه ثم نعاه

/من تمنّى المنى فأغرق فيها *** مات من قبل أن ينال مناه

ما أذلّ المقلّ في أعين النّا *** س لإقلاله و ما أقماه(1)

إنما تنظر العيون من النا *** س إلى من ترجوه أو تخشاه

ثم قال لي: كيف رأيتها؟ فقلت له: لقد جوّدتها لو لم تكن ألفاظها سوقيّة. فقال: و اللّه ما يرغّبني فيها إلاّ الذي زهّدك فيها.

مر به حميد الطوسي متكبرا فقال شعرا:

و نسخت من كتابه: عن عليّ بن مهديّ قال حدّثني عبد اللّه بن عطيّة عن محمد بن عيسى الحربيّ قال:

كنت جالسا مع أبي العتاهية، إذ مرّ بنا حميد الطّوسيّ في موكبه و بين يديه الفرسان و الرّجّالة، و كان بقرب أبي العتاهية سواديّ(2) على أتان، فضربوا وجه الأتان و نحّوه عن الطريق، و حميد واضع طرفه على معرفة فرسه و الناس ينظرون إليه يعجبون منه و هو لا يلتفت تيها؛ فقال أبو العتاهية:

للموت أبناء بهم *** ما شئت من صلف و تيه

و كأنّني بالموت قد *** دارت رحاه على بنيه

/قال: فلمّا جاز حميد مع صاحب الأتان قال أبو العتاهية:

ما أذلّ المقلّ في أعين النا *** س لإقلاله و ما أقماه

إنما تنظر العيون من النا *** س إلى من ترجوه أو تخشاه

اعترض عليه في بخله فأجاب:

قال عليّ بن مهديّ و حدّثني الحسين بن أبي السّريّ قال:

قيل لأبي العتاهية: مالك تبخل بما رزقك اللّه؟ قال: و اللّه ما بخلت بما رزقني اللّه قطّ. قيل له: و كيف ذاك و في بيتك من المال ما لا يحصى؟ قال: ليس ذلك رزقي، و لو كان رزقي لأنفقته.

طلب من صالح الشهرزوري حاجة فلم يقضها فعاتبه حتى استرضاه فمدحه:
اشارة

قال عليّ بن مهديّ و حدّثني محمد بن جعفر الشّهرزوريّ قال حدّثني رجاء مولى صالح الشّهرزوريّ قال:

كان أبو العتاهية صديقا لصالح الشهرزوريّ و آنس الناس به، فسأله أن يكلّم الفضل بن يحيى في حاجة له؛ فقال له صالح: لست أكلّمه في أشباه هذا، و لكن حمّلني ما شئت في مالي. فانصرف عنه أبو العتاهية و أقام أيّاما لا يأتيه؛ فكتب إليه أبو العتاهية:

أقلل زيارتك الصديق و لا تطل *** إتيانه فتلجّ في هجرانه

ص: 324


1- ما أقماه: ما أذله.
2- السواديّ: القرويّ، من سواد البلدة و هو ما حولها من القرى، أو هو الرجل من عامة الناس.

إنّ الصديق يلجّ في غشيانه *** لصديقه فيملّ من غشيانه

حتّى تراه بعد طول مسرّة *** بمكانه متبرّما بمكانه

و أقلّ ما يلفى الفتى ثقلا على *** إخوانه ما كفّ عن إخوانه

و إذا توانى عن صيانة نفسه *** رجل تنقص و استخفّ بشانه

فلمّا قرأ الأبيات قال: سبحان اللّه! أ تهجرني لمنعي إيّاك شيئا تعلم أنّي ما ابتذلت نفسي له قطّ، و تنسى مودّتي و أخوّتي، و من دون ما بيني و بينك ما أوجب عليك أن تعذرني! فكتب إليه:

أهل التّخلّق لو يدوم تخلّق *** لسكنت ظلّ جناح من يتخلّق

ما الناس في الإمساك إلا واحد *** فبأيّهم إن حصّلوا(1) أتعلّق

هذا زمان قد تعوّد أهله *** تيه الملوك و فعل من يتصدّق(2)

فلمّا أصبح صالح غدا بالأبيات على الفضل بن يحيى و حدّثه بالحديث؛ فقال له: لا و اللّه ما على الأرض أبغض إليّ من إسداء عارفة إلى أبي العتاهية؛ لأنه ممن ليس/يظهر عليه أثر صنيعة، و قد قضيت حاجته لك؛ فرجع و أرسلني إليه بقضاء حاجته(3). فقال أبو العتاهية:

جزى اللّه عنّي صالحا بوفائه *** و أضعف أضعافا له في جزائه

بلوت رجالا بعده في إخائهم *** فما ازددت إلاّ رغبة في إخائه

صديق إذا ما جئت أبغيه حاجة *** رجعت بما أبغي و وجهي بمائه

أخبرني الصّوليّ قال حدّثني محمد بن موسى قال حدّثني أحمد بن حرب قال:

أنشدني محمد بن أبي العتاهية لأبيه يعاتب صالحا هذا في تأخيره قضاء حاجته:

صوت

أ عينيّ جودا و ابكيا ودّ صالح *** و هيجا عليه معولات النّوائح

فما زال سلطانا أخ لي أودّه *** فيقطعني جرما(4) قطيعة صالح

/الغناء في هذين البيتين لإبراهيم ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر.

أمر الرشيد مؤدّب ولده أن يرويهم شعره:
اشارة

أخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن جدّه قال:

كان الرشيد معجبا بشعر أبي العتاهية، فخرج إلينا يوما و في يده رقعتان على نسخة واحدة، فبعث بإحداهما

ص: 325


1- حصّلوا: خبروا و ميزوا.
2- يتصدّق هنا: يسأل.
3- أي رجع الفضل و أرسلني إلى أبي العتاهية بقضاء حاجته.
4- في ء: «جزما». و في سائر النسخ: «حزما» بالحاء المهملة. و يظهر أن كليهما مصحف عما أثبتناه.

إلى مؤدّب لولده و قال: ليروّهم ما فيها، و دفع الأخرى إليّ و قال: غنّ في هذه الأبيات. ففتحتها فإذا فيها:

صوت

قل لمن ضنّ بودّه *** و كوى القلب بصدّه

ما ابتلى اللّه فؤادي *** بك إلاّ شؤم جدّه

/أيّها السارق عقلي *** لا تضنّنّ بردّه

ما أرى حبّك إلاّ *** بالغا بي فوق حدّه

تمثل المعتصم عند موته بشعر له:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثني عبد اللّه بن محمد الأمويّ العتبيّ قال قال لي محمد بن عبد الملك الزيّات:

لمّا أحسّ المعتصم بالموت قال لابنه الواثق: ذهب و اللّه أبوك يا هارون! للّه درّ أبي العتاهية حيث يقول:

الموت بين الخلق مشترك *** لا سوقة يبقى و لا ملك

ما ضرّ أصحاب القليل و ما *** أغنى عن الأملاك ما ملكوا

عدّ أبو تمام خمسة أبيات من شعره و قال لم يشركه فيها غيره:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و عمّي الحسن و الكوكبيّ قالوا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال:

قال لي أبو تمام الطائيّ: لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شركه فيها أحد، و لا قدر على مثلها متقدّم و لا متأخّر، و هو قوله:

الناس في غفلاتهم *** و رحى المنيّة تطحن

و قوله لأحمد بن يوسف:

أ لم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى *** و أنّ الغنى يخشى عليه من الفقر

و قوله في موسى الهادي:

و لمّا استقلّوا بأثقالهم *** و قد أزمعوا للّذي أزمعوا

قرنت التفاتي بآثارهم *** و أتبعتهم مقلة تدمع

و قوله:

هب الدنيا تصير إليك عفوا *** أ ليس مصير ذاك إلى زوال

عزاؤه صديقا له:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمد بن سعيد المهديّ عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ قال:

ص: 326

مات شيخ لنا ببغداد، فلمّا دفنّاه أقبل الناس على أخيه يعزّونه، فجاء أبو العتاهية إليه و به جزع شديد، فعزّاه ثم أنشده:

لا تأمن الدّهر و البس *** لكلّ حين لباسا

ليدفنّنا أناس *** كما دفنّا أناسا

/قال: فانصرف الناس، و ما حفظوا غير قول أبي العتاهية.

أرسل لخزيمة من شعره في الزهد فغضب و ذمه:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني حبيب بن عبد الرحمن عن بعض أصحابه:

قال: كنت في مجلس خزيمة(1)، فجرى حديث ما يسفك من الدماء، فقال: و اللّه ما لنا عند اللّه عذر و لا حجّة إلاّ رجاء عفوه و مغفرته. و لو لا عزّ السلطان و كراهة الذلّة، و أن أصير بعد الرئاسة سوقة و تابعا بعد ما كنت متبوعا، ما كان في الأرض أزهد و لا أعبد منّي؛ فإذا هو بالحاجب قد دخل عليه برقعة من أبي العتاهية فيها مكتوب:

أراك امرأ ترجو من اللّه عفوه *** و أنت على ما لا يحبّ مقيم

تدلّ على التقوى و أنت مقصّر *** أيا من يداوي الناس و هو سقيم

و إنّ امرأ لم يلهه اليوم عن غد *** تخوّف ما يأتي به لحكيم

و إنّ امرأ لم يجعل البرّ كنزه *** و إن كانت الدنيا له لعديم

/فغضب خزيمة و قال: و اللّه ما المعروف عند هذا المعتوه الملحف من كنوز البرّ فيرغب فيه حرّ. فقيل له:

و كيف ذاك؟ فقال: لأنّه من الذين يكنزون الذهب و الفضّة و لا ينفقونها في سبيل اللّه.

مدح يزيد بن مزيد فوصله:

و نسخت من كتابه: عن عليّ بن مهديّ قال حدّثني الحسين بن أبي السّريّ قال قال لي الفضل بن العبّاس:

قال لي أبو العتاهية: دخلت على يزيد بن مزيد، فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:

و ما ذاك إلاّ أنّني واثق بما *** لديك و أنّي عالم بوفائكا

كأنّك في صدري إذا جئت زائرا *** تقدّر فيه حاجتي بابتدائكا

و إنّ أمير المؤمنين و غيره *** ليعلم في الهيجاء فضل غنائكا

كأنّك عند الكرّ في الحرب إنّما *** تفرّ من السّلم الذي من ورائكا

فما آفة الأملاك غيرك في الوغى *** و لا آفة الأموال غير حبائكا

قال: فأعطاني عشرة آلاف درهم، و دابة بسرجها و لجامها..

ص: 327


1- هو خزيمة بن خازم أحد قوّاد الرشيد.
وعظ راهب رجلا عابدا بشعره:

و أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق و عمّي الحسن بن محمد و حبيب بن نصر المهلّبي قالوا: حدّثنا عمر بن شبّة قال:

مرّ عابد براهب في صومعة؛ فقال له: عظني. فقال: أعظك و عليكم نزل القرآن، و نبيّكم محمد صلّى اللّه عليه و سلّم قريب العهد بكم(1)؟ قلت نعم. قال: فاتّعظ ببيت من شعر شاعركم أبي العتاهية حين يقول:

تجرّد من الدنيا فإنّك إنّما *** وقعت إلى الدنيا و أنت مجرّد

فضله العتابي على أبي نواس:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني الفضل بن محمد الزّارع قال حدّثني جعفر بن جميل قال:

/قدم العتّابي الشاعر على المأمون، فأنزله على إسحاق بن إبراهيم، فأنزله على كاتبه ثوابة بن يونس، و كنّا نختلف إليه نكتب عنه. فجرى ذات يوم ذكر الشعراء؛ فقال: لكم يا أهل العراق شاعر منوّه الكنية، ما فعل؟ فذكر القوم أبا نواس؛ فانتهرهم و نفض يده و قال: ليس ذلك، حتى طال الكلام. فقلت: لعلّك تريد أبا العتاهية. فقال:

/نعم! ذاك أشعر الأوّلين و الآخرين في وقته.

لام أبا نواس في استماع الغناء:

أخبرني محمد بن عمران قال حدّثني العنزيّ قال حدّثني محمد بن إسحاق عن عليّ بن عبد اللّه الكنديّ قال:

جلس أبو العتاهية يوما يعذل أبا نواس و يلومه في استماع الغناء و مجالسته لأصحابه؛ فقال له أبو نواس:

أ تراني يا عتاهي *** تاركا تلك الملاهي

أ تراني مفسدا بالنّ *** سك عند القوم جاهي

قال: فوثب أبو العتاهية و قال: لا بارك اللّه عليك! و جعل أبو نواس يضحك.

بلغه أن إبراهيم بن المهدي رماه بالزندقة فبعث إليه يعاتبه فردّ عليه إبراهيم:

أخبرني جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ قال:

بلغ أبا العتاهية أنّ أبي رماه في مجلسه بالزندقة و ذكره بها؛ فبعث إليه يعاتبه على لسان إسحاق الموصلي، فأدّى إليه إسحاق الرسالة؛ فكتب إليه أبي:

إنّ المنيّة أمهلتك عتاهي *** و الموت لا يسهو و قلبك ساهي

يا ويح ذي السنّ الضعيف أماله *** عن غيّه قبل الممات تناهي

وكّلت بالدنيا تبكّيها و تن *** دبها و أنت عن القيامة لاهي

و العيش حلو و المنون مريرة *** و الدّار دار تفاخر و تباهى

ص: 328


1- في جميع الأصول: «و نبيكم محمد صلّى اللّه عليه و سلّم قريب العهد بكم صلّى اللّه عليه و سلّم و على آله». و يظهر أن هذا تكرار من النساخ.

/فاختر(1)

لنفسك دونها سبلا و لا *** تتحامقنّ لها فإنّك لاهي

لا يعجبنّك أن يقال مفوّه *** حسن البلاغة أو عريض الجاه

أصلح جهولا من سريرتك الّتي *** تخلو بها و ارهب مقام اللّه

إنّي رأيتك مظهرا لزهادة *** تحتاج منك لها إلى أشباه

كان عبد اللّه بن العباس بن الفضل مشغوفا بالغنا في شعره:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى الصوليّ قال حدّثني عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع قال:

رآني الرشيد مشغوفا بالغناء في شعر أبي العتاهية:

صوت

أحمد قال لي و لم يدر ما بي *** أ تحبّ الغداة عتبة حقّا

فتنفّست ثم قلت نعم حب *** با جرى في العروق عرقا فعرقا

لو تجسّين يا عتيبة قلبي *** لوجدت الفؤاد قرحا تفقّا

قد لعمري ملّ الطبيب و ملّ *** الأهل منّي مما أقاسي و ألقى

ليتني متّ فاسترحت فإنّي *** أبدا ما حييت منها ملقّى(2)

و لا سيما من مخارق، و كان يغنّي فيه رملا لإبراهيم أخذه عنه. و فيه لحن لفريدة رمل. هكذا قال الصّولي:

«فريدة» بالياء، و غيره يقول: «فرندة» بالنون.

أمره الرشيد أن يقول شعرا يغني فيه الملاحون فلما سمعه بكى:

حدّثني الصّولي قال حدّثنا محمد بن موسى قال حدّثنا محمد بن صالح العدويّ قال أخبرني أبو العتاهية قال:

كان الرشيد مما يعجبه غناء الملاّحين في الزّلالات(3) إذا ركبها، و كان يتأذّى بفساد كلامهم و لحنهم، فقال:

قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعرا يغنّون فيه. /فقيل له: ليس أحد أقدر على/هذا من أبي العتاهية، و هو في الحبس. قال: فوجّه إليّ الرشيد: قل شعرا حتّى أسمعه منهم، و لم يأمر بإطلاقي؛ فغاظني ذلك فقلت:

و اللّه لأقولنّ شعرا يحزنه و لا يسرّ به، فعملت شعرا و دفعته إلى من حفّظه الملاّحين. فلمّا ركب الحرّاقة(4) سمعه، و هو:

خانك الطّرف الطّموح *** أيّها القلب الجموح

ص: 329


1- في ح: «فاحتل».
2- الملقى: الممتحن الذي لا يزال يلقاه مكروه.
3- لم نجد هذا الاسم في «كتب اللغة» التي بين أيدينا بالمعنى المراد منه هنا. و ظاهر أن المراد به نوع من السفن.
4- الحرّاقة: ضرب من السفن الحربية الكبيرة فيها مرامي نيران يرمى بها العدوّ في البحر. و كان منها أنواع تستعمل للنزهة و الرياضة و التنقل عند الخلفاء و الملوك و الأمراء في أوّل العصر العباسي (مثل الذهبية عندنا) و هي المرادة هنا.

لدواعي الخير و الشّ *** رّ دنوّ و نزوح

هل لمطلوب بذنب *** توبة منه نصوح

كيف إصلاح قلوب *** إنّما هنّ قروح

أحسن اللّه بنا *** أنّ الخطايا لا تفوح

فإذا المستور منّا *** بين ثوبيه نضوح(1)

كم رأينا من عزيز *** طويت عنه الكشوح

صاح منه برحيل *** صائح الدّهر الصّدوح

موت بعض الناس في الأر *** ض على قوم فتوح

سيصير المرء يوما *** جسدا ما فيه روح

بين عيني كلّ حيّ *** علم الموت يلوح

كلّنا في غفلة و ال *** موت يغدو و يروح

لبني الدّنيا من الدّن *** يا غبوق(2) و صبوح

رحن في الوشى و أصبح *** ن عليهنّ المسوح

/كلّ نطّاح من الدّه *** ر له يوم نطوح

نح على نفسك يا مس *** كين إن كنت تنوح

لتموتنّ و إن عمّ *** رت ما عمّر نوح

قال: فلمّا سمع ذلك الرشيد جعل يبكي و ينتحب، و كان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة، و أشدّهم عسفا في وقت الغضب و الغلظة. فلمّا رأى الفضل بن الرّبيع كثرة بكائه، أومأ إلى الملاّحين أن يسكتوا.

هجا منجابا الذي كان موكلا بحبسه:

حدّثني الصّوليّ قال حدّثني الحسن بن جابر كاتب الحسن(3) بن رجاء قال:

لمّا حبس الرشيد أبا العتاهية دفعه إلى منجاب، فكان يعنف به؛ فقال أبو العتاهية:

منجاب مات بدائه *** فاعجل له بدوائه

إنّ الإمام أعلّه *** ظلما بحدّ شقائه

لا تعنفنّ(4) سياقه *** ما كلّ ذاك برائه(5)

ص: 330


1- في «الديوان»: «فضوح» بالفاء.
2- الغبوق: ما شرب أو أكل آخر النهار، و يقابله الصبوح و هو ما أكل أو شرب أوّل النهار.
3- في الأصول: «الحسين» و هو تحريف.
4- أعنف الشيء: أخذه بشدّة.
5- يريد: «برأيه».

ما شمت هذا في مخا *** يل بارقات سمائه

مدح الرشيد حين عقد ولاية العهد لبنيه:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني أحمد بن معاوية القرشيّ قال:

لمّا عقد الرشيد ولاية العهد لبنيه الثلاثة: الأمين، و المأمون، و المؤتمن، قال/أبو العتاهية:

رحلت عن الرّبع المحيل قعودي *** إلى ذي زحوف(1) جمّة و جنود

و راع يراعي اللّيل في حفظ أمّة *** يدافع عنها الشرّ غير رقود

بألوية جبريل يقدم أهلها *** و رايات نصر حوله و بنود

/تجافى عن الدّنيا و أيقن أنّها *** مفارقة ليست بدار خلود

و شدّ عرا الإسلام منه بفتية *** ثلاثة أملاك ولاة عهود

هم خير أولاد، لهم خير والد *** له خير آباء مضت و جدود

بنو المصطفى هارون حول سريره *** فخير قيام حوله و قعود

تقلّب ألحاظ المهابة بينهم *** عيون ظباء في قلوب أسود

جدودهم(2) شمس أتت في أهلّة *** تبدّت لراء في نجوم سعود

قال: فوصله الرشيد بصلة ما وصل بمثلها(3) شاعرا قطّ.

ذكر لملك الروم فالتمسه من الرشيد فاستعفى هو، فكتب من شعره في مجلسه و على باب مدينته:
اشارة

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الأسديّ إجازة قال حدّثني الرّياشيّ قال:

قدم رسول لملك الرّوم إلى الرشيد، فسأل عن أبي العتاهية و أنشده شيئا من شعره، و كان يحسن العربيّة، فمضى إلى ملك الرّوم و ذكره له؛ فكتب ملك الرّوم إليه، و ردّ رسوله يسأل الرشيد أن يوجّه بأبي العتاهية و يأخذ فيه رهائن من أراد، و ألحّ في ذلك. فكلّم الرشيد أبا العتاهية في ذلك، فاستعفى منه و أباه. و اتّصل بالرشيد أنّ ملك الرّوم أمر أن يكتب بيتان من شعر أبي العتاهية على أبواب مجالسه و باب مدينته، و هما:

صوت

ما اختلف اللّيل و النّهار و لا *** دارت نجوم السماء في الفلك

إلاّ لنقل السّلطان عن ملك *** قد انقضى ملكه إلى ملك

ص: 331


1- الزحوف: جمع زحف و هو الجيش.
2- كذا في «الديوان». و في الأصول: «خدودهم» بالخاء.
3- في الأصول: «ما وصل مثلها».
انقطع بعد خروجه من الحبس فلامه الرشيد فكتب له شعرا معتذرا و مادحا:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا الرّبيع بن محمد الختّليّ الورّاق قال أخبرني ابن أبي العتاهية:

/أنّ الرشيد لمّا أطلق أباه من الحبس، لزم بيته و قطع الناس؛ فذكره الرشيد فعرّف خبره، فقال: قولوا له:

صرت زير نساء و حلس(1) بيت؛ فكتب إليه أبو العتاهية:

برمت بالنّاس و أخلاقهم *** فصرت أستأنس بالوحده

ما أكثر النّاس لعمري و ما *** أقلّهم في منتهى العدّه

ثم قال: لا ينبغي أن يمضي شعر إلى أمير المؤمنين ليس فيه مدح له، فقرن هذين البيتين بأربعة أبيات مدحه فيها، و هي:

صوت

عاد لي من ذكرها نصب *** فدموع العين تنسكب

و كذاك الحبّ صاحبه *** يعتريه الهمّ و الوصب

/خير من يرجى و من يهب *** ملك دانت له العرب

و حقيق أن يدان له *** من أبوه للنّبيّ أب

أمره الرشيد أن يعظه فقال شعرا فبكى:

حدّثنا الصّوليّ قال حدّثنا عون بن محمد قال حدّثنا محمد بن أبي العتاهية قال:

قال الرشيد لأبي: عظني؛ فقال له: أخافك. فقال له: أنت آمن. فأنشده:

لا تأمن الموت في طرف و لا نفس *** إذا تستّرت بالأبواب و الحرس

و اعلم بأنّ سهام الموت قاصدة *** لكلّ مدرّع منّا و متّرس

ترجو النجاة و لم تسلك طريقتها *** إنّ السفينة لا تجري على اليبس

قال: فبكى الرشيد حتى بل كمّه.

تناظر ابن أبي فنن و ابن خاقان فيه و في أبي نواس، ثم حكما ابن الضحاك ففضله:

حدّثني عمّي قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال:

قال لي أحمد بن أبي فنن: تناظرت أنا و الفتح بن خاقان في منزله: أيّما [الرجلين] أشعر: أبو نواس أم أبو العتاهية. فقال الفتح: أبو نواس، و قلت: أبو العتاهية. ثم قلت: لو وضعت أشعار العرب كلّها بإزاء شعر أبي العتاهية لفضلها، و ليس بيننا خلاف في أنّ له في كلّ قصيدة جيّدا و وسطا و ضعيفا، فإذا جمع جيّده كان أكثر من جيّد كلّ مجوّد. [ثم] قلت له: بمن ترضى؟ قال: بالحسين بن الضحّاك. فما انقطع كلامنا حتّى دخل الحسين بن

ص: 332


1- حلس بيت: ملازمه لا يبرحه، و هو مما يذم به الرجل.

الضحّاك؛ فقلت: ما تقول في رجلين تشاجرا، فضّل أحدهما أبا نواس و فضّل الآخر أبا العتاهية؟ فقال الحسين: أمّ من فضّل أبا نواس على أبي العتاهية زانية؛ فخجل الفتح حتى تبيّن ذلك فيه، ثم لم يعاودني في شيء من ذكرهما حتّى افترقنا.

اجتمع مع مخارق فما زال يغنيه و هو يشرب و يبكي ثم كسر الآنية و تزهد:

و قد حدّثني الحسن بن محمد بهذا الخبر على خلاف ما ذكره إبراهيم بن المهديّ فيما تقدّم، فقال: حدّثني هارون بن مخارق قال حدّثني أبي قال:

جاءني أبو العتاهية فقال: قد عزمت على أن أتزوّد منك يوما تهبه لي، فمتى تنشط؟ فقلت: متى شئت.

فقال: أخاف أن تقطع بي. فقلت: و اللّه لا فعلت و إن طلبني الخليفة. فقال: يكون ذلك في غد. فقلت: أفعل.

فلمّا كان من غد باكرني رسوله فجئته، فأدخلني بيتا له نظيفا فيه فرش نظيف، ثم دعا بمائدة عليها خبز سميذ(1)و خلّ و بقل(2) و ملح و جدي مشويّ فأكلنا منه، ثم دعا بسمك مشويّ فأصبنا منه حتى اكتفينا، ثم دعا بحلواء فأصبنا منها و غسلنا أيدينا، و جاءونا بفاكهة و ريحان و ألوان/من الأنبذة، فقال: اختر ما يصلح لك منّها؛ فاخترت و شربت؛ و صبّ قدحا ثم قال: غنّني في قولي:

أحمد قال لي و لم يدر ما بي *** أ تحبّ الغداة عتبة حقّا

فغنّيته، فشرب قدحا و هو يبكي أحرّ بكاء. ثم قال: غنّني في قولي:

ليس لمن ليست له حيلة *** موجودة خير من الصّبر

فغنّيته و هو يبكي و ينشج(3)، ثم شرب قدحا آخر ثم قال: غنّني، فديتك، في قولي:

خليليّ ما لي لا تزال مضرّتي *** تكون مع الأقدار ختما من الحتم

فغنّيته إيّاه. و ما زال يقترح عليّ كلّ صوت غنّي به في شعره فأغنّيه و يشرب و يبكي حتى صار العتمة. فقال:

أحبّ أن تصبر حتّى ترى ما أصنع فجلست. فأمر ابنه و غلامه فكسرا كلّ ما بين أيدينا من النبيذ/و آلته و الملاهي، ثم أمر بإخراج كلّ ما في بيته من النّبيذ و آلته، فأخرج جميعه، فما زال يكسره و يصبّ النبيذ و هو يبكي حتى لم يبق من ذلك شيء، ثم نزع ثيابه و اغتسل، ثم لبس ثيابا بيضا من صوف، ثم عانقني و بكى، ثم قال: السلام عليك يا حبيبي و فرحي من الناس كلّهم سلام الفراق الذي لا لقاء بعده؛ و جعل يبكي، و قال: هذا آخر عهدي بك في حال تعاشر أهل الدنيا؛ فظننت أنّها بعض حماقاته، فانصرفت، و ما لقيته زمانا. ثم تشوّقته(4) فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت، فإذا هو قد أخذ قوصرتين(5) و ثقب إحداهما و أدخل رأسه و يديه فيها و أقامها مقام القميص، و ثقب الأخرى(6) و أخرج رجليه منها و أقامها مقام السّراويل. فلمّا رأيته نسيت كلّ ما كان عندي من الغمّ عليه و الوحشة

ص: 333


1- السميذ: الدقيق الأبيض و هو لباب الدقيق.
2- كذا في الأصول. و يحتمل أيضا أن يكون «نقل» إذ هو المناسب للمقام.
3- نشج الباكي: غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.
4- في «معاجم اللغة» التي بين أيدينا أن «تشوّق» يتعدّى بالحرف. فلعل ما هاهنا من باب الحذف و الإيصال، و الأصل: «تشوّقت إليه».
5- القوصرة (بتشديد الراء و تخفيفها): وعاء من قصب يرفع فيه التمر من البواري.
6- في الأصول: «أخرى».

لعشرته، /و ضحكت و اللّه ضحكا ما ضحكت مثله قطّ. فقال: من أيّ شيء تضحك؟ فقلت: أسخن(1) اللّه عينك! هذا أيّ شيء هو؟ من بلغك عنه أنّه فعل مثل هذا من الأنبياء و الزّهّاد و الصحابة و المجانين، انزع عنك هذا يا سخين العين! فكأنه استحيا منّي. ثم بلغني أنّه جلس حجّاما، فجهدت أن أراه بتلك الحال فلم أره. ثم مرض، فبلغني أنه اشتهى أن أغنّيه، فأتيته عائدا، فخرج إليّ رسوله يقول: إن دخلت إليّ جدّدت لي حزنا و تاقت نفسي من سماعك إلى ما قد غلبتها عليه، و أنا أستودعك اللّه و أعتذر إليك من ترك الالتقاء، ثم كان آخر عهدي به.

تمنى عند موته أن يجيء مخارق فيغنيه في شعره:

حدّثني جحظة قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:

قيل لأبي العتاهية عند الموت: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن يجيء مخارق فيضع فمه على أذني ثم يغنّيني.

سيعرض عن ذكري و تنسى مودّتي *** و يحدث بعدي للخليل خليل

إذا ما انقضت عنّي من الدّهر مدّتي(2) *** فإنّ غناء الباكيات قليل

و أخبرني به أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا محمد بن صالح [بن] النطّاح قال:

قال بشر بن الوليد لأبي العتاهية عند الموت: ما تشتهي؟ فذكر مثل الأوّل.

و أخبرني به ابن عمّار أبو العبّاس عن ابن أبي سعد عن محمد بن صالح: أنّ بشرا قال ذلك لأبي العتاهية عند الموت، فأجابه بهذا الجواب.

آخر شعر قاله في مرضه الذي مات فيه:

نسخت من كتاب هارون بن عليّ: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني عبد اللّه بن عطيّة قال حدّثني محمد بن أبي العتاهية قال: آخر شعر قاله أبي في مرضه الذي مات فيه:

إلهي(3) لا تعذّبني فإنّي *** مقرّ بالّذي قد كان منّي

فما لي حيلة إلاّ رجائي *** لعفوك إن عفوت و حسن ظنّي

/و كم من زلة لي في الخطايا *** و أنت عليّ ذو فضل و منّ

إذا فكّرت في ندمي عليها *** عضضت أناملي و قرعت سنّي

اجنّ بزهرة الدّنيا جنونا *** و أقطع طول عمري بالتمنّي

و لو أنّي صدقت الزّهد عنها *** قلبت لأهلها ظهر المجنّ

يظنّ الناس بي خيرا و إنّي *** لشرّ الخلق إن لم تعف عنّي

ص: 334


1- أسخن اللّه عينه: أبكاه و أحزنه.
2- كذا في «وفيات الأعيان» لابن خلكان «و ديوانه» طبع بيروت (ص 221). و مدته: أجله. و في الأصول: «ليلة».
3- ورد هذا الشعر في «ديوانه» (ص 263) باختلاف يسير في الرواية عما هنا.
أمر بنته في علته التي مات فيها أن تندبه بشعر له:

/أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل قال حدّثني أحمد بن حمزة الضّبعيّ قال أخبرني أبو محمد المؤدّب قال:

قال أبو العتاهية لابنته رقيّة في علّته التي مات فيها: قومي يا بنيّة فاندبي أباك بهذه الأبيات؛ فقامت فندبته بقوله:

لعب البلى بمعالمي و رسومي *** و قبرت حيّا تحت ردم همومي

لزم البلى جسمي فأوهن قوّتي *** إن البلى لموكّل بلزومي

تاريخ وفاته و مدفنه:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا محمد بن داود بن الجرّاح قال حدّثني عليّ بن محمد قال حدّثني مخارق المغني قال:

توفّي أبو العتاهية، و إبراهيم الموصليّ، و أبو عمرو الشّيباني عبد السلام(1) في يوم واحد في خلافة المأمون، و ذلك في سنة ثلاث عشرة و مائتين.

/أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه عن أحمد بن يوسف عن أحمد بن الخليل عن إسماعيل بن أبي قتيبة قال:

مات أبو العتاهية، و راشد الخنّاق، و هشيمة الخمّارة في يوم واحد سنة تسع و مائتين.

و ذكر الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن سعد كاتب الواقديّ: أنّ أبا العتاهية مات في يوم الاثنين لثمان خلون من جمادى الأولى سنة إحدى عشرة و مائتين، و دفن حيال قنطرة الزيّاتين في الجانب الغربيّ ببغداد.

أخبرني الصّوليّ عن محمد بن موسى عن أبي محمد الشّيباني عن محمد بن أبي العتاهية: أنّ أباه توفّي سنة عشر و مائتين.

الشعر الذي أمر أن يكتب على قبره:

أخبرني الصّوليّ قال حدّثني محمد بن موسى عن محمد بن القاسم عن إبراهيم بن عبد اللّه بن الجنيد عن إسحاق بن عبد اللّه بن شعيب قال:

أمر أبو العتاهية أن يكتب على قبره:

ص: 335


1- كذا في أكثر الأصول. و ظاهر الكلام أن عبد السلام اسم لأبي عمرو الشيباني، و هو غير صحيح؛ فإن أبا عمرو الشيباني الذي توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو العتاهية اسمه إسحاق بن مرار (وزان كتاب) و هو من رمادة الكوفة، و نزل إلى بغداد و جاور شيبان للتأدب فيها فنسب إليها، و كان من الأئمة الأعلام في اللغة و الشعر. و في ء: «و عبد السلام» بزيادة واو العطف، و هو ما يفيد أنه اسم لشخص آخر ذكر في وفيات هذه السنة. و قد بحثنا في كتب التاريخ و التراجم عمن توفوا في سنة 213 فلم نعثر فيهم على من تسمى بعبد السلام. و في نسخة أ: «أبو عمرو الشيباني... السلام». و الظاهر أن البياض في «أ» و كلمة «عبد» في باقي الأصول أصله «بمدينة». و مدينة السلام هي بغداد. و يؤيد هذا ما ورد في «وفيات الأعيان» في ترجمة أبي عمرو الشيباني من قوله: «... مات إسحاق بن مرار في اليوم الذي مات فيه أبو العتاهية و إبراهيم النديم الموصليّ سنة ثلاث عشرة و مائتين ببغداد».

أذن حيّ تسمّعي *** اسمعي ثمّ عي و عي

أنا رهن بمضجعي *** فاحذري مثل مصرعي

عشت(1) تسعين حجّة *** أسلمتني لمضجعي

كم ترى الحيّ ثابتا *** في ديار التزعزع

ليس زاد سوى التّقى *** فخذي منه أو دعي

رثاه ابنه بشعر:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة قال:

لمّا مات أبو العتاهية رثاه ابنه محمد بن أبي العتاهية فقال:

/

يا أبي ضمّك الثّرى *** و طوى الموت أجمعك

ليتني يوم متّ صر *** ت إلى حفرة معك

رحم اللّه مصرعك *** برّد اللّه مضجعك

أنكر ابنه أنه أوصى أن يكتب شعر على قبره:

أخبرني الحسن قال حدّثني أحمد بن زهير قال:

قال محمد بن أبي العتاهية: لقيني محمد بن أبي محمد اليزيديّ(2) فقال: أنشدني الأبيات التي أوصى أبوك أن تكتب على قبره؛ فأنشأت أقول له:

كذبت على أخ لك في مماته *** و كم كذب فشا لك في حياته

/و أكذب ما تكون على صديق *** كذبت عليه حيّا في مماته

فخجل و انصرف. قال: و النّاس يقولون: إنّه أوصى أن يكتب على قبره شعر له، و كان ابنه ينكر ذلك.

و ذكر هارون بن عليّ بن مهديّ عن عبد الرحمن بن الفضل أنّه قرأ الأبيات العينيّة التي أوّلها:

أذن حيّ تسمّعي

على حجر عند قبر أبي العتاهية.

و لم أذكر هاهنا مع أخبار أبي العتاهية أخباره مع عتبة، و هي من أعظم أخباره؛ لأنّها طويلة، و فيها أغان كثيرة، و قد طالت أخباره هاهنا فأفردتها.

ص: 336


1- في «الديوان» بدل هذا البيت و الذي يليه بيت واحد، و هو: عشت تسعين حجة في ديار التزعزع
2- في الأصول: «الزيدي». و التصويب عن كتاب «الأنساب» للسمعاني.

40 - أخبار فريدة

أخبار فريدة الكبرى و نشأتها و مصيرها:

قال مؤلف هذا الكتاب: هما اثنتان محسنتان لهما صنعة تسمّيان بفريدة. فأمّا إحداهما، و هي الكبرى، فكانت مولّدة نشأت بالحجاز، ثم وقعت إلى آل الربيع، فعلّمت الغناء في دورهم، ثم صارت إلى البرامكة. فلمّا قتل جعفر بن يحيى و نكبوا هربت، و طلبها الرشيد فلم يجدها، ثم صارت إلى الأمين، فلمّا قتل خرجت، فتزوّجها الهيثم بن مسلم(1) فولدت له ابنه عبد اللّه، ثم مات عنها، فتزوّجها السّنديّ بن الحرشيّ(2) و ماتت عنده. و لها صنعة جيّدة، منها في شعر الوليد بن يزيد:

بعض الشعر الذي لها فيه صنعة:
صوت

ويح سلمى لو تراني *** لعناها ما عناني

واقفا في الدّار أبكي *** عاشقا حور الغواني

و لحنها فيه خفيف رمل.

و من صنعتها:

صوت

ألا أيّها الرّكب ألا هبّوا *** نسائلكم هل يقتل الرّجل الحبّ(3)

ألا ربّ ركب قد وقفت مطيّهم *** عليك و لو لا أنت لم يقف الرّكب

لحنها فيه ثاني ثقيل. و فيه لابن جامع خفيف رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى.

سأل صالح بن حسان الهيثم بن عديّ عن بيت نصفه بدوي و الآخر حضري ثم ذكره:

فحدّثني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثني العمريّ قال حدّثني الهيثم بن عديّ قال:

ص: 337


1- كذا في ب، س. و في سائر النسخ: «سلم».
2- كذا في «الطبري» (ص 680 و 734 و 855 و 856 من القسم الثالث) و هو أحد رجالات الرشيد و المأمون. و في الأصول: «الجرشي» بالجيم.
3- الرواية المشهورة لهذين البيتين: ألا أيها النوّام ويحكم هبّوا نسائلكم هل قتل الرجل الحبّ ألا رب ركب قد دفعت و جيفهم إليك و لو لا أنت لم يوجف الركب

قال صالح بن حسّان يوما: ما نصف بيت كأنّه أعرابيّ في شملة، و النصف الآخر كأنّه مخنّث مفكّك؟ قلت:

لا أدري. فقال: قد أجّلتك حولا. فقلت: لو أجّلتني عشرة أحوال ما عرفته. فقال: أوّه! أفّ لك! قد كنت أحسبك أجود ذهنا مما أرى. فقلت: فما هو الآن؟ قال: قول جميل.

ألا أيّها الرّكب النّيام ألا هبّوا

هذا كلام أعرابيّ، ثم قال:

أسائلكم هل يقتل الرّجل الحبّ

كأنّه و اللّه من مخنثي العقيق.

أخبار فريدة و هي المحسنة دون فريدة الكبرى:

و أمّا فريدة الأخرى فهي الّتي أرى بل لا أشكّ في أنّ اللّحن المختار لها؛ لأنّ إسحاق اختار هذه المائة الصوت للواثق، فاختار فيها لمتيّم لحنا، و لأبي دلف لحنا، و لسليم بن سلاّم لحنا، و لرياض جارية أبي حمّاد لحنا. و كانت فريدة أثيرة عند الواثق و حظيّة لديه جدّا، فاختار لها هذا الصوت، لمكانها من الواثق، و لأنّها ليست دون من اختار له من نظرائها.

قدّمت هي و شارية في الطيب و إحكام الغناء:

أخبرني الصّوليّ قال/حدّثنا الحسين بن يحيى عن ريّق: أنّها اجتمعت هي و خشف الواضحيّة يوما، فتذاكرتا أحسن ما سمعتاه من المغنّيات؛ فقالت ريّق: شارية أحسنهنّ غناء و متيّم، و قالت خشف: عريب و فريدة؛ ثم اجتمعنا على تساويهنّ، و تقديم متيّم في الصّنعة، و عريب في الغزارة و الكثرة، و شارية و فريدة في الطّيب و إحكام الغناء.

أهداها ابن بانة للواثق:

حدّثني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه الهشاميّ قال:

كانت فريدة جارية الواثق لعمرو بن بانة، و هو أهداها إلى الواثق، و كانت من الموصوفات المحسنات، و ربّيت عند عمرو بن بانة مع صاحبة لها اسمها «خلّ»، و كانت حسنة الوجه، حسنة الغناء، حادّة الفطنة و الفهم.

سألت ابن بانة عن صاحبة لها بالإشارة:

قال الهشاميّ فحدّثني عمرو بن بانة قال: غنّيت الواثق:

قلت حلاّ(1) فاقبلي معذرتي *** ما كذا يجزي محبّ من أحبّ

فقال لي: تقدّم إلى السّتارة فألقه على فريدة، فألقيته عليها؛ فقالت: هو حلّ(2) أو خلّ كيف هو؟ فعلمت أنها سألتني عن صاحبتها في خفاء من الواثق.

ص: 338


1- كذا في ترجمة عمر بن أبي ربيعة الواردة في هذا الكتاب (ج 1 ص 134 من هذه الطبعة). و في الأصول هنا: «خلا» بالخاء المعجمة.
2- في الأصول: «خلى» بالخاء المعجمة و الياء في آخره.
تزوّجها المتوكل ثم ضربها حتى غنت:

و لمّا تزوّجها المتوكل أرادها على الغناء، فأبت أن تغنّي وفاء للواثق، فأقام على رأسها خادما و أمره أن يضرب رأسها أبدا أو تغنّي؛ فاندفعت و غنّت:

فلا تبعد(1) فكلّ فتى سيأتي *** عليه الموت يطرق أو يغادي

نقل ابن بُسخُنَّر قصة لها مع الواثق و غيرته من جعفر المتوكل:

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجم قال حدّثني محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر قال:

كانت لي نوبة في خدمة الواثق في كل جمعة، إذا حضرت ركبت إلى الدار؛ فإن نشط إلى الشّرب أقمت عنده، و إن لم ينشط انصرفت. و كان رسمنا ألاّ يحضر أحد منّا إلاّ في يوم نوبته. فإنّي لفي منزلي في غير يوم نوبتي إذا رسل الخليفة قد هجموا عليّ و قالوا لي: احضر. فقلت: أ لخير؟ قالوا: خير. فقلت: إنّ هذا يوم لم يحضرني فيه أمير المؤمنين قطّ، و لعلكم غلطتم. فقالوا: اللّه المستعان، لا تطل/و بادر؛ فقد أمرنا ألاّ ندعك تستقرّ على الأرض. فداخلني فزع شديد؛ و خفت أن يكون ساع قد سعى بي، أو بليّة قد حدثت في رأي الخليفة عليّ؛ فتقدّمت بما أردت و ركبت حتى وافيت الدار؛ فذهبت لأدخل على رسمي من حيث كنت أدخل، فمنعت، و أخذ بيدي الخدم فأدخلوني و عدلوا بي إلى ممرّات(2) لا أعرفها، فزاد ذلك في جزعي و غمّي. ثم لم يزل الخدم يسلمونني من خدم إلى خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصّحن، ملبسة الحيطان بالوشى المنسوج بالذهب، ثم أفضيت إلى رواق أرضه و حيطانه ملبسة بمثل ذلك، و إذا الواثق في صدره على سرير مرصّع بالجوهر و عليه ثياب منسوجة بالذهب، و إلى جانبه فريدة جاريته، عليها مثل ثيابه و في حجرها عود. فلمّا رآني قال: جوّدت(3) و اللّه يا محمد إلينا. فقبّلت الأرض ثم قلت: يا أمير المؤمنين خيرا! قال: خيرا، أ ما ترانا(4)! طلبت و اللّه ثالثا يؤنسنا فلم أر أحقّ بذلك منك، فبحياتي بادر فكل شيئا و بادر إلينا. فقلت: قد و اللّه يا سيّدي أكلت و شربت أيضا. قال: فاجلس فجلست، و قال:

هاتوا لمحمد رطلا في قدح، فأحضرت ذلك، و اندفعت فريدة تغنّي:

/

أهابك إجلالا و ما بك قدرة *** عليّ و لكن ملء عين حبيبها

و ما هجرتك النّفس يا ليل أنّها *** قلتك و لا أن قلّ منك نصيبها(5)

فجاءت و اللّه بالسّحر، و جعل الواثق يجاذبها، و في خلال ذلك تغنّي الصوت بعد الصوت، و أغنّي أنا في خلال غنائها، فمرّ لنا أحسن ما مرّ لأحد. فإنا لكذلك إذ رفع/رجله فضرب بها صدر فريدة ضربة تدحرجت منها من أعلى السرير إلى الأرض و تفتّت عودها و مرّت تعدو و تصيح، و بقيت أنا كالمنزوع الرّوح؛ و لم أشكّ في أنّ عينه

ص: 339


1- لا تبعد: لا تهلك.
2- في جميع الأصول: «مبرات» بالباء، و هو تحريف.
3- جوّدت هنا: أسرعت. قال في «اللسان»: «يقال: جوّد في عدوه تجويدا».
4- في ب، س: «خيرا ما ترى أنا طلبت...».
5- ورد هذا البيت في شرح «ديوان حماسة» أبي تمام (ص 598 طبع أوروبا) هكذا: و ما هجرتك النفس أنك عندها قليل و لكن قل منك نصيبها

وقعت عليّ(1) و قد نظرت إليها و نظرت إليّ؛ فأطرق ساعة إلى الأرض متحيّرا و أطرقت أتوقّع ضرب العنق. فإنّي لكذلك إذ قال لي: يا محمد، فوثبت. فقال: ويحك! أ رأيت أغرب مما تهيّأ علينا! فقلت: يا سيّدي، الساعة و اللّه تخرج روحي، فعلى من أصابنا بالعين لعنة اللّه! فما كان السبب؟ أ لذنب؟ قال: لا و اللّه! و لكن فكرت أنّ جعفرا يقعد هذا المقعد و يقعد معها كما هي قاعدة معي، فلم أطق الصبر و خامرني ما أخرجني إلى ما رأيت. فسري عنّي و قلت:

بل يقتل اللّه جعفرا، و يحيا أمير المؤمنين أبدا، و قبّلت الأرض و قلت: يا سيّدي اللّه اللّه! ارحمها و مر بردّها. فقال لبعض الخدم الوقوف: من يجيء بها؟ فلم يكن بأسرع من أن خرجت و في يدها عودها و عليها غير الثياب التي كانت عليها. فلما رآها جذبها و عانقها، فبكت و جعل هو يبكي، و اندفعت أنا في البكاء. فقالت: ما ذنبي يا مولاي و يا سيّدي؟ و بأيّ شيء استوجبت هذا؟ فأعاد عليها ما قاله لي و هو يبكي و هي تبكي. فقالت: سألتك باللّه يا أمير المؤمنين إلاّ ضربت عنقي الساعة و أرحتني من الفكر في هذا، و أرحت قلبك من الهمّ بي، و جعلت تبكي و يبكي، ثم مسحا أعينهما و رجعت إلى مكانها؛ و أومأ إلى خدم وقوف بشيء لا أعرفه، فمضوا و أحضروا أكياسا فيها عين(2) و ورق، و رزما فيها ثياب كثيرة، و جاء خادم بدرج ففتحه و أخرج منه عقدا ما رأيت قطّ مثل جوهر كان فيه، فألبسها إيّاه، و أحضرت بدرة فيها عشرة آلاف درهم فجعلت بين يدي و خمسة تخوت فيها ثياب، و عدنا إلى أمرنا و إلى أحسن مما كنا؛ فلم نزل كذلك/إلى الليل، ثم تفرّقنا.

قصتها مع المتوكّل بعد الواثق:

و ضرب الدهر ضربه(3) و تقلّد المتوكل. فو اللّه إني لفي منزلي بعد يوم نوبتي إذ هجم عليّ رسل الخليفة، فما أمهلوني حتى ركبت و صرت إلى الدّار، فأدخلت و اللّه الحجرة بعينها، و إذا المتوكّل في الموضع الذي كان فيه الواثق على السرير بعينه و إلى جانبه فريدة. فلمّا رآني قال: ويحك! أما ترى ما أنا فيه من هذه! أنا منذ غدوة أطالبها بأن تغنّيني فتأبى ذلك! فقلت لها: يا سبحان اللّه! أ تخالفين سيّدك و سيّدنا و سيد البشر! بحياته غنّي! فعرفت و اللّه ثم اندفعت تغنّي:

مقيم بالمجازة(4) من قنوني(5) *** و أهلك بالأجيفر(6) فالثّماد(7)

فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي *** عليه الموت يطرق أو يغادي

ثم ضربت بالعود الأرض، ثم رمت بنفسها عن السرير و مرّت تعدو و هي تصيح وا سيّداه! فقال لي: ويحك! ما هذا؟ فقلت: لا أدري و اللّه يا سيّدي. فقال: فما ترى؟ فقلت: أرى/أن أنصرف أنا و تحضر هذه و معها غيرها؛ فإنّ الأمر يؤول إلى ما يريد أمير المؤمنين. قال: فانصرف في حفظ اللّه! فانصرفت و لم أدر ما كانت القصة.

ص: 340


1- في الأصول: «وقعت إليّ»، على أنه يجوز أن يكون التحريف في الفعل و أن أصله: «وقعت إليّ».
2- العين: الذهب المضروب و هو الدنانير. و الورق: الدراهم المضروبة من الفضة.
3- يقال: ضرب الدهر ضربانه و من ضربانه، و ضرب الدهر ضربه و من ضربه أي مرّ من مروره و ذهب بعضه.
4- المجازة: منزل من منازل طريق مكة بين ماوية و ينسوعة.
5- قنوني: واد من أودية السراة يصب إلى البحر في أوائل أرض اليمن من جهة مكة.
6- الأجيفر: موضع في أسفل السبعان من بلاد قيس. و قال الأصمعيّ: هو لبني أسد.
7- الثماد: موضع في ديار بني تميم قرب المرّوت.
مدح محمد بن عبد الملك غناءها:
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني محمد بن عبد الملك قال:

سمعت فريدة تغنّي:

أخلاّي بي شجو و ليس بكم شجو *** و كلّ امرئ مما بصاحبه خلو

أذاب الهوى لحمي و جسمي و مفصلي *** فلم يبق إلاّ الرّوح و الجسد النّضو

فما سمعت قبله و لا بعده غناء أحسن منه.

/الشعر لأبي العتاهية، و الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى عن الهشاميّ، و له أيضا فيه خفيف ثقيل بالسبّابة و البنصر عن ابن المكيّ. و فيه لعمرو بن بانة رمل بالوسطى من مجموع أغانيه. و فيه لعريب خفيف ثقيل آخر صحيح في غنائها من جمع ابن المعتزّ و عليّ بن يحيى. و تمام هذه الأبيات:

و ما من محبّ نال ممن يحبّه *** هوى صادقا إلاّ سيدخله زهو

- و فيها كلّها غناء مفترق الألحان في أبياته(1) -:

بليت و كان المزح بدء بليّتي *** فأحببت جهلا و البلايا لها بدو

و علّقت من يزهو عليّ تجبّرا *** و إنّي في كلّ الخصال له كفو

صوت من المائة المختارة من رواية جحظة عن أصحابه

باتت همومي تسري طوارقها *** أكفّ عيني و الدمع سابقها

لما أتاها من اليقين و لم *** تكنّ تراه يلمّ طارقها

الشعر لأميّة بن أبي الصّلت، و الغناء للهذليّ خفيف ثقيل أوّل بالوسطى. و فيه لابن محرز لحنان: هزج و ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ و حبش. و ذكر يونس: أنّ فيه لابن محرز لحنا واحدا مجنّسا.

ص: 341


1- وردت هذه الجملة في الأصول هكذا: «و فيها كلها غناء مفترق في أبياته الألحان». و كان ينبغي أن تكون هذه الجملة عقب الأبيات.

41 - ذكر أميّة بن أبي الصّلت و نسبه و خبره

نسبه من قبل أبويه:

و اسم أبي الصّلت عبد اللّه بن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن عنزة(1) بن قسيّ، و هو ثقيف بن منبّه بن بكر بن هوازن. هكذا يقول من نسبهم إلى قيس(2)، و قد شرح ذلك في خبر طريح(3). و أمّ أميّة بن أبي الصلت رقيّة بنت عبد شمس بن عبد مناف. و كان أبو الصلت شاعرا، و هو الذي يقول في مدح سيف بن ذي يزن:

ليطلب الثأر أمثال ابن ذي يزن *** إذ صار في البحر للأعداء أحوالا(4)

و قد كتب خبر ذلك في موضعه.

أولاد أمية:
اشارة

و كان له أربعة بنين: عمرو و ربيعة و وهب و القاسم. و كان القاسم شاعرا، و هو الذي يقول - أنشدنيه الأخفش و غيره عن ثعلب، و ذكر الزّبير أنّها لأميّة -:

صوت

قوم إذا نزل الغريب(5) بدارهم *** ردّوه ربّ صواهل و قيان

لا ينكتون الأرض عند سؤالهم *** لتلمّس العلاّت بالعيدان

يمدح عبد اللّه بن جدعان بها، و أوّلها:

قومي ثقيف إن سألت و أسرتي *** و بهم أدافع ركن من عاداني

غنّاه الغريض، و لحنه ثقيل أوّل بالبنصر. و لابن محرز فيه خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، عن الهشاميّ جميعا.

ص: 342


1- في كتاب «الشعر و الشعراء»: «غيرة». و غيرة (وزان عنبة): اسم قبيلة أيضا.
2- يريد قيس عيلان و هو الجد الأعلى لهوازن؛ لأن هوازن هو ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان.
3- ستأتي أخبار طريح في هذا الجزء (ص 302).
4- في «الشعر و الشعراء»: لن يطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن لجج في البحر للأعداء أحوالا و في «شعراء النصرانية»: في البحر خيّم للأعداء أحوالا و في «سيرة ابن هشام»: في البحر ريم للأعداء أحوالا
5- في «الشعر و الشعراء»: «الحريب» بالحاء المهملة، و هو الذي سلب ماله.

/و كان ربيعة ابنه شاعرا، و هو الذي يقول:

و إن يك حيّا(1) من إياد فإنّنا *** و قيسا سواء ما بقينا و ما بقوا

و نحن خيار النّاس طرّا بطانة *** لقيس و هم خير لنا إن هم بقوا(2)

كان يستعمل في شعره كلمات غريبة

أخبرني إبراهيم بن أيّوب قال حدّثنا عبد اللّه بن مسلم قال:

كان أميّة بن أبي الصّلت قد قرأ كتاب اللّه عز و جل الأوّل، فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفها العرب؛ فمنها قوله:

قمر و ساهور يسلّ و يغمد(3)

و كان يسمّي اللّه عزّ و جلّ في شعره السّلطيط، فقال:

و السّلطيط(4) فوق الأرض مقتدر

و سمّاه في موضع آخر التغرور فقال(5): «و أيّده التغرور». و قال ابن قتيبة: و علماؤنا لا يحتجّون بشيء من شعره لهذه العلّة.

هو أشعر ثقيف بل أشعر الناس

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

/قال أبو عبيدة: اتّفقت العرب على أنّ أشعر أهل المدن أهل يثرب ثم عبد القيس ثم ثقيف، و أنّ أشعر ثقيف أميّة بن أبي الصّلت.

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال:

قال يحيى بن محمد: قال الكميت: أميّة أشعر الناس، قال كما قلنا و لم نقل كما قال.

ص: 343


1- كذا في الأصول.
2- كذا في الأصول. و فيه الإيطاء و هو تكرار القافية لفظا و معنى، و هو عيب.
3- هذا عجز بيت و صدره: لا نقص فيه غير أن خبيئه و الساهور فيما يذكر أهل الكتاب: غلاف القمر يدخل فيه إذا كسف.
4- هكذا في الأصول. و هذه الصيغة لا يتزن بها الشطر. و قد ورد البيت كاملا في «اللسان» (مادة سلط) هكذا: إن الأنام رعايا اللّه كلهم هو السّليطط فوق الأرض مستطر قال ابن جني: هو القاهر، من السّلاطة. قال: و يروى السّليطط (بكسر السين) و كلاهما شاذ. قال صاحب «التهذيب»: سليطط جاء في شعر أمية بمعنى المسلط، قال: و لا أدري ما حقيقته. و ورد في «الشعر و الشعراء»: «السلطليط». و في «القاموس»: «و السلطيط» بالكسر: المسلط، ثم قال شارحه: «هكذا في سائر أصول «القاموس»، و الصواب السّلطيط كما في «العباب»، و قد وجد هكذا أيضا في بعض النسخ على الهامش، و هو صحيح. و يروى السليطط بفتح السين و بكسرها... و بكل هذا يروى شعر أمية... إلخ».
5- عبارة ابن قتيبة في «الشعر و الشعراء»: «و أبدت الثغرورا، يريد الثغر. و هذه أشياء منكرة، و علماؤنا لا يرون شعره حجة في اللغة».
تعبد و التمس الدين و طمع في النبوّة:

قال الزّبير و حدّثني عمّي مصعب عن مصعب بن عثمان قال:

كان أميّة بن أبي الصلت قد نظر في الكتب و قرأها، و لبس المسوح تعبّدا، و كان ممن ذكر إبراهيم و إسماعيل و الحنيفيّة، و حرّم الخمر و شكّ في الأوثان، و كان(1) محقّقا، و التمس الدّين و طمع في النبوّة؛ لأنه قرأ في الكتب أنّ نبيّا يبعث من العرب، فكان يرجو أن يكونه(2). قال: فلمّا بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قيل له: هذا الذي كنت تستريث(3) و تقول فيه؛ فحسده عدوّ اللّه و قال: إنّما كنت أرجو أن أكونه؛ فأنزل اللّه فيه عزّ و جلّ: (وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا فَانْسَلَخَ مِنْهٰا) . قال: و هو الذي يقول:

كلّ دين يوم القيامة عند اللّه إلاّ دين الحنيفة زور

كان يحرّض قريشا بعد بدر:

قال الزّبير و حدّثني يحيى بن محمد قال: كان أميّة يحرّض قريشا بعد وقعة بدر، و كان يرثي من قتل من قريش في وقعة بدر؛ فمن ذلك قوله:

ما ذا ببدر و العقن *** قل من مرازبة جحاجح(4)

/و قال: و هي قصيدة نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن رواياتها. و يقال: إن أميّة قدم على أهل مكة «باسمك اللّهمّ»؛ فجعلوها في أوّل كتبهم مكان (بسم اللّه الرحمن الرحيم).

أسف الحجاج على ضياع شعره:

قال الزّبير و حدّثني عليّ بن محمد المدائنيّ قال:

قال الحجّاج على المنبر: ذهب قوم يعرفون شعر أميّة، /و كذلك اندراس الكلام.

كان يتحسس أخبار نبيّ العرب فلما أخبر ببعثته تكدّر:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير عن عمر بن أبي بكر المؤمّلي(5) و غيره قال:

كان أميّة بن أبي الصلت يلتمس الدّين و يطمع في النبوّة، فخرج إلى الشام فمرّ بكنيسة، و كان معه جماعة من العرب و قريش، فقال أميّة: إنّ لي حاجة في هذه الكنيسة فانتظروني، فدخل الكنيسة و أبطأ، ثم خرج إليهم كاسفا متغيّر اللّون، فرمى بنفسه، و أقاموا حتى سرّي عنه، ثم مضوا فقضوا حوائجهم ثم رجعوا. فلمّا صاروا إلى الكنيسة قال لهم: انتظروني، و دخل إلى الكنيسة فأبطأ، ثم خرج إليهم أسوأ من حاله الأولى؛ فقال أبو سفيان بن حرب: قد

ص: 344


1- في ح: «و صام محققا».
2- في جميع الأصول: «أن يكون هو».
3- تستريث: تستبطئ.
4- العقنقل: كثيب رمل ببدر. و مرازبة: جمع مرزبان، و هو الفارس الشجاع المقدّم على القوم دون الملك، و هو معرّب و أصله فارسي. و جحاجح: جمع جحجح، و هو السيد المسارع في المكارم.
5- كذا ورد هذا الاسم هنا في أكثر الأصول، و هو الموافق لما في «الطبري» (ص 1116 قسم أوّل طبعة أوروبا) و أشير بهامشه إلى أن في بعض النسخ: «الموصلي». و في م، ء هنا و في جميع الأصول فيما يأتي (ص 125): «عمرو بن أبي بكر الموصلي».

شققت على رفقائك. فقال: خلّوني؛ فإنّي أرتاد على نفسي(1) لمعادي، إنّ هاهنا راهبا عالما أخبرني أنه تكون بعد عيسى عليه السّلام ستّ رجعات، و قد مضت منها خمس و بقيت واحدة، و أنا أطمع في النبوّة و أخاف أن تخطئني، فأصابني ما رأيت. فلمّا رجعت ثانية أتيته فقال: قد كانت الرجعة، و قد بعث نبيّ من العرب؛ فيئست من النبوّة، فأصابني ما رأيت؛ إذا فاتني ما كنت أطمع فيه.

أخبره شيخ راهب أن ليست فيه أوصاف النبيّ:

قال: و قال الزّهريّ: خرج أميّة في سفر فنزلوا منزلا، فأمّ أميّة وجها و صعد في كثيب، فرفعت له كنيسة فانتهى إليها، فإذا شيخ جالس، فقال لأميّة حين رآه: إنّك لمتبوع، فمن أين يأتك رئيّك(2)؟ قال: من شقّي الأيسر.

قال: فأيّ الثياب أحبّ إليك(3) أن يلقاك فيها؟ قال: السواد. قال: كدت تكون نبيّ العرب و لست به، هذا خاطر من الجنّ و ليس بملك، و إنّ نبيّ العرب صاحب هذا الأمر يأتيه من شقّه الأيمن، و أحب الثياب إليه أن يلقاه فيها البياض.

حديثه مع أبي بكر:

قال الزّهريّ: و أتى أميّة أبا بكر فقال: يا أبا بكر، عمي الخبر، فهل أحسست شيئا؟ قال: لا و اللّه! قال: قد وجدته يخرج العام.

سأل أبا سفيان عن عتبة بن ربيعة:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

سمعت خالد بن يزيد يقول: إنّ أميّة و أبا سفيان اصطحبا في تجارة إلى الشام؛ ثم ذكر نحوه، و زاد فيه:

فخرج من عند الراهب و هو ثقيل. فقال له أبو سفيان: إنّ بك لشرا، فما قصّتك؟ قال: خير، أخبرني عن عتبة بن ربيعة كم سنّه؟ فذكر سنّا. و قال: أخبرني عن ماله فذكر مالا. فقال له: وضعته. فقال أبو سفيان. بل رفعته. فقال له: إنّ صاحب هذا الأمر ليس بشيخ و لا ذي مال. قال: و كان الراهب أشيب، و أخبره أنّ الأمر لرجل من قريش.

زعم أنه فهم ثغاء شاة:

أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزّبير قال حدّثت عن عبد الرحمن بن أبي حمّاد المنقريّ قال:

كان أميّة جالسا معه قوم، فمرّت بهم غنم فثغت(4) منها شاة؛ فقال للقوم: هل تدرون ما قالت الشاة؟ قالوا لا. قال: إنّها قالت لسخلتها: مرّي لا يجيء الذئب/فيأكلك كما أكل أختك عام أوّل في هذا الموضع. فقام بعض القوم إلى الراعي فقال له: أخبرني عن هذه الشاة التي ثغت أ لها سخلة؟ فقال: نعم، هذه سخلتها. قال: أ كانت لها عام أوّل سخلة؟ قال: نعم، و أكلها الذئب في هذا الموضع.

ص: 345


1- في ح: «لنفسي لمعادي».
2- رئيّ (بفتح الراء و قد تكسر): جنيّ كانت العرب تزعم أنه يرى مصاحبه كهانة وطبا و يلقى على لسانه شعرا.
3- لعله: «أحب إليه». و انظر الخبر في ص 126.
4- ثغت الشاة: صاحت و صوّتت.
قال الأصمعي: كل شعره في بحث الآخرة:

قال الزّبير و حدّثني يحيى بن محمد عن الأصمعيّ قال: ذهب أميّة في شعره بعامّة ذكر الآخرة، و ذهب عنترة بعامّة ذكر الحرب، و ذهب عمر بن أبي ربيعة بعامّة ذكر الشباب.

جاءه طائران و هو نائم فشق احدهما عن قلبه:

قال الزبير حدّثني عمر(1) بن أبي بكر المؤمّلي قال حدّثني رجل من أهل الكوفة قال:

كان أميّة نائما فجاء طائران/فوقع أحدهما على باب البيت، و دخل الآخر فشقّ عن قلبه ثم ردّه الطائر؛ فقال له الطائر الآخر: أوعى؟ قال نعم. قال: زكا؟ قال: أبى(2).

خرج مع ركب إلى الشام فعرضت لهم جنية فاسترشد راهبا للوقاية منها:

أخبرني عمّي قال حدّثني أحمد بن الحارث عن ابن الأعرابيّ عن ابن دأب قال:

خرج ركب من ثقيف إلى الشام، و فيهم أميّة بن أبي الصّلت، فلمّا قفلوا راجعين نزلوا منزلا ليتعشّوا بعشاء، إذ أقبلت عظاية(3) حتّى دنت منهم، فحصبها بعضهم بشيء في وجهها فرجعت؛ و كفتوا(4) سفرتهم ثم قاموا يرحلون ممسين؛ فطلعت عليهم/عجوز من وراء كثيب مقابل لهم تتوكّأ على عصا، فقالت: ما منعكم أن تطعموا رجيمة(5)الجارية اليتيمة التي جاءتكم عشيّة؟ قالوا: و من أنت؟ قالت: أنا أمّ العوّام، إمت(6) منذ أعوام؛ أمّا و ربّ العباد، لتفترقنّ في البلاد؛ و ضربت بعصاها الأرض ثم قالت: بطّئي إيابهم، و نفّري ركابهم؛ فوثبت الإبل كأنّ على ذروة كل بعير منها شيطانا ما يملك منها شيء، حتى افترقت في الوادي. فجمعناها في آخر النهار من الغد و لم نكد(7). فلمّا أنخناها لنرحلها طلعت علينا العجوز فضربت الأرض بعصاها ثم قالت كقولها الأوّل؛ ففعلت الإبل كفعلها بالأمس، فلم نجمعها إلا الغد(8) عشيّة. فلمّا أنخناها لنرحلها أقبلت العجوز ففعلت كفعلها في اليومين و نفرت الإبل. فقلنا لأميّة: أين ما كنت تخبرنا به عن نفسك؟ فقالت: اذهبوا أنتم في طلب الإبل و دعوني. فتوجّه إلى ذلك الكثيب الذي كانت العجوز تأتي منه حتى علاه و هبط منه إلى واد، فإذا فيه كنيسة و قناديل، و إذا رجل مضطجع معترض على بابها، و إذا رجل أبيض الرأس و اللّحية؛ فلمّا رأى أميّة قال: إنّك لمتبوع، فمن أين يأتيك صاحبك؟ قال: من أذني اليسرى. قال فبأيّ الثياب يأمرك؟ قال: بالسواد. قال: هذا خطيب الجنّ؛ كدت و اللّه أن تكونه و لم تفعل؛ إنّ

ص: 346


1- في الأصول: «عمرو بن أبي بكر الموصلي». و انظر الحاشية رقم 1 في الصفحة 123.
2- ورد هذا الخبر في «طبقات الشعراء» لمحمد بن سلام الجمحي (ص 67 طبع أوروبا) مع زيادة في العبارة و اختلاف في بعض الكلمات. و سيعيده المؤلف بتفصيل أوفى في ص 127.
3- العظاية: دويبة ملساء تشبه سام أبرص و تسمى شحمة الأرض و شحمة الرمل، و هي أنواع كثيرة و كلها منقطة بالسواد، و من طبعها أنها تمشي مشيا سريعا ثم تقف.
4- كذا في أ، ء، م. و كفت الشيء: ضم بعضه إلى بعض. و في سائر الأصول: «و كفوا». و السفرة: ما يبسط تحت الخوان من جلد أو غيره.
5- في ح: «رحيمة» بالحاء المهملة.
6- آمت المرأة (من باب ضرب): فقدت زوجها.
7- في الأصول: «تكد» بالتاء المثناة من فوق.
8- في الأصول: «إلى الغد».

صاحب النبوّة يأتيه صاحبه من قبل أذنه اليمنى، و يأمره بلباس البياض؛ فما حاجتك؟ فحدّثه حديث العجوز؛ فقال:

صدقت، و ليست بصادقة! هي امرأة يهودية من الجنّ هلك زوجها منذ أعوام، و إنّها لن تزال تصنع ذلك بكم حتى تهلككم إن استطاعت. فقال أميّة: و ما الحيلة؟ فقال: جمّعوا ظهركم(1)، فإذا جاءتكم ففعلت كما كانت تفعل فقولوا لها: سبع من فوق و سبع من/أسفل، باسمك اللّهم؛ فلن تضرّكم. فرجع أميّة إليهم و قد جمعوا الظّهر.

فلمّا أقبلت قال لها ما أمره به الشيخ، فلم تضرّهم. فلمّا رأت الإبل لم تتحرّك قالت: قد عرفت صاحبكم، و ليبيضنّ أعلاه، و ليسودنّ أسفله؛ فأصبح أميّة و قد برص في عذاريه و اسودّ أسفله. فلمّا قدموا مكة ذكروا لهم هذا الحديث؛ فكان ذلك أوّل ما كتب أهل مكة «باسمك اللّهم» في كتبهم.

خبر الطائرين اللذين شق أحدهما صدره و محاورتهما:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو غسّان محمد بن يحيى قال حدّثنا عبد العزيز بن عمران عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عامر بن مسعود عن الزّهريّ قال:

دخل يوما أميّة بن أبي الصّلت على أخته و هي تهيئ(2) أدما لها، فأدركه النوم فنام على سرير في ناحية البيت. قال(3): فانشقّ جانب من السقف في البيت، و إذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره و وقف الآخر مكانه، فشقّ الواقع/صدره فأخرج قلبه فشقّه؛ فقال الطائر الواقف للطائر الذي على صدره: أوعى؟ قال: وعى. قال:

أقبل؟ قال: أبى. قال: فردّ قلبه في موضعه فنهض؛ فأتبعهما أميّة طرفه فقال:

لبّيكما لبيكما *** ها أنا ذا لديكما

لا بريء فأعتذر، و لا ذو عشيرة فأنتصر. فرجع الطائر فوقع على صدره فشقّه، ثم أخرج قلبه فشقّه؛ فقال الطائر الأعلى: أوعى؟ قال: وعى. قال: أقبل؟ قال: أبى، و نهض؛ فأتبعهما بصره و قال:

لبّيكما لبيكما *** ها أنا ذا لديكما

/لا مال يغنيني، و لا عشيرة تحميني. فرجع الطائر فوقع على صدره فشقّه، ثم أخرج قلبه فشقّه؛ فقال الطائر الأعلى: أوعى؟ قال: وعى. قال: أقبل؟ قال: أبى، و نهض؛ فأتبعهما بصره و قال:

لبّيكما لبيكما *** ها أنا ذا لديكما

محفوف بالنّعم، محوط من الريب. قال: فرجع الطائر فوقع على صدره فشقّه و أخرج قلبه فشقّه؛ فقال الأعلى: أوعى؟ فقال: وعى. قال: أقبل؟ قال: أبى. قال: و نهض، فأتبعهما بصره و قال:

لبّيكما لبيكما *** ها أنا ذا لديكما

إن تغفر اللّهمّ تغفر جمّا *** و أيّ عبد لك لا ألمّا(4)

ص: 347


1- الظهر: الركاب التي تحمل عليها الأثقال في السفر، لحملها إياها على ظهورها.
2- في ح: «تهنأ». و في «اللسان» (مادة خلق): «قالت فدخل عليّ و أنا أخلق أديما لي». و الخلق: التقدير؛ يقال: خلق الأديم يخلقه خلقا، إذا قدره قبل القطع و قاسه ليقطع منه مزادة أو قربة أو خفا.
3- كذا في ب، س، ح. و في سائر الأصول: «قالت» أي أخته.
4- ألم: باشر اللمم أي صغار الذنوب.

قالت أخته: ثم انطبق السّقف و جلس أميّة يمسح صدره. فقلت: يا أخي، هل تجد شيئا؟ قال: لا، و لكنّي أجد حرّا في صدري. ثم أنشأ يقول:

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي *** في قنان(1) الجبال أرعى الوعولا

اجعل الموت نصب عينك و احذر *** غولة الدّهر إنّ للدّهر غولا

تصديق النبيّ له في شعره:

حدّثني محمد بن جرير الطبريّ قال حدّثنا ابن حميد قال حدّثني سلمة عن ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة عن ابن عبّاس:

أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم صدّق أميّة في قوله:

رجل و ثور تحت رجل يمينه *** و النّسر للأخرى و ليث مرصد(2)

/فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. «صدق»(3).

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني حمّاد بن عبد الرحمن بن الفضل الحرّانيّ قال حدّثنا أبو يوسف - و ليس بالقاضي - عن الزّهريّ عن عروة عن عائشة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بمثل هذا.

أنشد النبيّ بعض شعره فقال: «إن كاد أمية ليسلم»:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير قال حدّثنا جعفر بن الحسين المهلّبيّ قال حدّثني إبراهيم بن إبراهيم بن أحمد عن عكرمة قال: أنشد(4) النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قول أميّة:

الحمد للّه ممسانا و مصبحنا *** بالخير صبّحنا ربّي و مسّانا

ربّ الحنيفة لم تنفد خزائنها *** مملوءة طبّق الآفاق سلطانا

أ لا نبيّ لنا منّا فيخبرنا *** ما بعد غايتنا من رأس محيانا

بينا يربّيننا آباؤنا هلكوا *** و بينما نقتني الأولاد أفنانا

و قد علمنا لو أنّ العلم ينفعنا *** أن سوف يلحق أخرانا بأولانا

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن كاد أميّة ليسلم».

شعر له في عتاب ابنه و توبيخه:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أحمد بن معاوية قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي بكر، /و حدّثنا خالد بن عمارة:

ص: 348


1- القنان: أعالي الجبال، واحدها قنّة.
2- قال الجاحظ في كتاب «الحيوان» (ج 6 ص 68) طبع مصر: «و قد جاء في الخبر أن من الملائكة من هو في صورة الرجال، و منهم من هو في صورة الثيران، و منهم من هو في صورة النسور، و يدل على ذلك تصديق النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لأمية بن أبي الصلت...» و أورد هذا البيت.
3- هذه الكلمة تتطلب أن يكون الكلام قبلها هكذا: و أنشد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قول أمية كذا فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: «صدق».
4- في س: «استنشدني»، في ب: «أنشدني».

/أنّ أميّة عتب على ابن له فأنشأ يقول:

غذوتك مولودا و منتك(1) يافعا *** تعلّ بما أجني(2) عليك و تنهل

إذا ليلة نابتك بالشّكو(3) لم أبت *** لشكواك إلاّ ساهرا أتململ

كأنّي أنا المطروق دونك بالّذي *** طرقت به دوني فعيني تهمل

تخاف الرّدى نفسي عليك و إنّني *** لأعلم أنّ الموت حتم مؤجّل

فلمّا بلغت السّنّ و الغاية التي *** إليها مدى ما كنت فيك أؤمّل

جعلت جزائي غلظة و فظاظة *** كأنّك أنت المنعم المتفضّل

محاورة بين أبي بكر الهذليّ و عكرمة في شعر له:

قال الزبير قال أبو عمرو الشّيبانيّ قال أبو بكر الهذليّ قال(4): قلت لعكرمة: ما رأيت من يبلّغنا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال لأميّة: «آمن شعره و كفر قلبه»؛ فقال: هو حقّ، و ما الذي أنكرتم من ذلك؟ فقلت له: أنكرنا قوله:

و الشمس تطلع كلّ آخر ليلة *** حمراء مطلع لونها متورّد

تأبى فلا تبدو لنا في رسلها(5) *** إلاّ معذّبة و إلاّ تجلد

فما شأن الشمس تجلد؟ قال: و الذي نفسي بيده ما طلعت قطّ حتّى ينخسها سبعون ألف ملك يقولون لها:

اطلعي؛ فتقول: أ أطلع على قوم يعبدونني من دون اللّه! قال: فيأتيها شيطان حين(6) تستقبل الضّياء يريد أن يصدّها عن الطّلوع فتطلع على قرنيه، فيحرقه اللّه تحتها. و ما غربت قطّ إلاّ خرّت للّه ساجدة، فيأتيها شيطان/يريد أن يصدّها عن السجود، فتغرب على قرنيه فيحرقه اللّه تحتها؛ و ذلك قول النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «تطلع بين قرني شيطان و تغرب بين قرني شيطان».

تمثل ابن عباس بشعره عند معاوية:

حدّثني أحمد بن محمد بن(7) الجعد قال حدّثنا محمد بن عبّاد قال حدّثنا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد أنّه سمع ابن حاضر(8) يقول:

اختلف ابن عبّاس و عمرو بن العاصي عند معاوية؛ فقال ابن عباس: أ لا أغنيك؟ قال بلى! فأنشده:

ص: 349


1- في شرح «ديوان الحماسة» للتبريزي (ص 354) طبع أوروبا: «و علتك».
2- أجني عليك: أكسب. و يجوز أن يكون من جنيت الثمرة جنيا و جناية. (عن «شرح الحماسة» للتبريزي). و فيه رواية أخرى: «بما أدنى إليك».
3- كذا في «شرح ديوان الحماسة». و في الأصول: «آبتك بالشجو».
4- كذا ورد في جميع النسخ لفظ «قال»، و لا لروم له.
5- الرسل هنا: الرفق و التؤدة.
6- في ب: «حتى يستقبل».
7- كذا في ح. و في سائر الأصول: «أحمد بن محمد الجعد». و هو من شيوخ أبي الفرج الدين يروي عنهم كثيرا في هذا الكتاب.
8- اسمه عثمان بن حاضر الحميري؛ و يقال: الأزدي أبو حاضر القاص. و قال عبد الرزاق: عثمان بن أبي حاضر (انظر «تهذيب التهذيب» في اسم عثمان).

و الشمس تغرب كلّ آخر ليلة *** في عين ذي خلب(1) و ثأط حرمد

أحاديثه و أحواله في مرض موته:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا عمّي عن مصعب بن عثمان عن ثابت بن الزّبير قال:

لمّا مرض أميّة مرضه الذي مات فيه، جعل يقول: قد دنا أجلي، و هذه المرضة منيّتي، و أنا أعلم أنّ الحنيفيّة حقّ، و لكن الشكّ يداخلني في محمد. قال: و لمّا دنت وفاته أغمي عليه قليلا ثم أفاق و هو يقول:

لبّيكما لبيكما *** ها أنا ذا لديكما

/لا مال يفديني، و لا عشيرة تنجيني. ثم أغمي عليه أيضا بعد ساعة حتى ظنّ ممن حضره من أهله أنّه قد قضى، ثم أفاق و هو يقول:

لبّيكما لبيكما *** ها أنا ذا لديكما

لا بريء فأعتذر، و لا قويّ فأنتصر. ثم إنّه بقي يحدّث من حضره ساعة، ثم أغمي عليه مثل المرّتين الأوليين حتى يئسوا من حياته، و أفاق و هو يقول:

لبيكما لبيكما *** ها أنا ذا لديكما

محفوف بالنّعم،

إن تغفر اللّهمّ تغفر جمّا *** و أيّ عبد لك لا ألمّا

ثم أقبل على القوم فقال: قد جاء وقتي، فكونوا في أهبتي؛ و حدّثهم قليلا حتّى يئس القوم/من مرضه، و أنشأ يقول:

كلّ عيش و إن تطاول دهرا *** منتهى أمره إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي *** في رءوس الجبال أرعى الوعولا

اجعل الموت نصب عينيك(2) و احذر *** غولة الدّهر إنّ للدّهر غولا

ثم قضى نحبه، و لم يؤمن بالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم. و قد قيل في وفاة أميّة غير هذا.

لما بعث النبي هرب بابنتيه إلى اليمن ثم مات بالطائف:

أخبرني عبد العزيز بن أحمد عمّ أبي قال حدّثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال:

سمعت في خبر أميّة بن أبي الصّلت، حين بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، أنه أخذ بنتيه و هرب بهما إلى أقصى اليمن، ثم عاد

ص: 350


1- الخلب: أيابن بلغة حمير. و التأط: الطين الحمأة (أي الأسود)، و قيل: الطين حمأة كان أو غير حمأة. و الحرمد: الأسود مل الطين. و رواية هذا الشعر في «اللسان» مادة (ثأط): لمع المشارق و المغارب يبتغي أسباب أمر عن حكيم مرشد فأتى مغيب الشمس عند مآبها في عين ذي خلب و ثأط حرمد و قد أورده صاحب «اللسان» لأمية، ثم قال: و أورد الأزهري هذا البيت مستشهدا به على الثأطة الحمأة، و كذلك أورده ابن برّي و قال: إنه لتبّع يصف ذا القرنين.
2- كذا في س. و في سائر الأصول: «عينك».

إلى الطائف؛ فبينما هو يشرب مع/إخوان له في قصر غيلان(1) بالطائف، و قد أودع ابنتيه اليمن و رجع إلى بلاد الطائف، إذ سقط غراب على شرفة في القصر فنعب نعبة؛ فقال أميّة: بفيك الكثكث! - و هو التّراب - فقال أصحابه:

ما يقول؟ قال: يقول إنّك إذا شربت الكأس التي(2) بيدك متّ، فقلت: بفيك الكثكث. ثم نعب نعبة أخرى، فقال أميّة نحو ذلك؛ فقال أصحابه: ما يقول؟ قال: زعم أنّه يقع على هذه المزبلة أسفل القصر، فيستثير عظما فيبتلعه فيشجى به فيموت، فقلت نحو ذلك. فوقع الغراب على المزبلة، فأثار العظم فشجي به فمات؛ فانكسر أميّة، و وضع الكأس من يده، و تغيّر لونه. فقال له أصحابه: ما أكثر ما سمعنا بمثل هذا و كان باطلا! فألحّوا عليه حتى شرب الكأس، فمال في شقّ و أغمي عليه ثم أفاق، ثم قال: لا بريء فأعتذر، و لا قويّ فأنتصر، ثم خرجت نفسه.

صوت من المائة المختارة

تبلت(3) فؤادك في المنام خريدة *** تشفي(4) الضّجيع ببارد بسّام

كالمسك تخلطه بماء سحابة *** أو عاتق(5) كدم الذّبيح مدام

عروضه من الكامل. الشعر لحسّان بن ثابت، و الغناء لموسى بن خارجة الكوفيّ ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. و ذكر حمّاد عن أبيه أنّ فيه لحنا لعزّة الميلاء. و ليس موسى بكثير الصنعة و لا مشهور، و لا ممن خدم الخلفاء.

ص: 351


1- هو غيلان بن سلمة بن معتّب، و كان وفد على كسرى و حاوره فأعجب به و اشترى منه التجارة بأضعاف ثمنها و كساه و بعث معه من الفرس من بنى له هذا القصر بالطائف؛ فكان أوّل قصر بنى بها. (راجع «الأغاني» ج 12 ص 48، 49 طبع بلاق).
2- في جميع الأصول: «الذي».
3- تبلت فؤادك: أسقمته. و الخريدة: الحيية.
4- في «ديوان» حسان: «تسقى» و على هذه الرواية تكون الباء في «ببارد» زائدة.
5- العاتق هنا: الخمر القديمة التي حبست زمانا حتى عتقت و جادت، و قيل: هي التي لم يفض أحد ختامها كالجارية العاتق التي قد أدركت و لما تتزوّج.

42 - أخبار حسّان بن ثابت و نسبه

نسبه من قبل أبويه و كنيته:

هو حسّان(1) بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عديّ بن عمرو بن مالك بن النّجّار، و اسمه(2) تيم اللّه بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة، و هو العنقاء بن عمرو؛ و إنما سمّي العنقاء لطول عنقه. و عمرو هو مزيقياء بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد، و هو ذري(3) - و قيل: ذراء ممدود - بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

قال مصعب الزّبيريّ فيما أخبرنا [به] الحسن بن عليّ عن أحمد بن زهير عمّه قال: بنو عديّ بن عمرو بن مالك [بن] النجّار يسمّون بني معالة. و معالة أمّه(4)، و هي امرأة من القين و إليها كانوا ينسبون. و أمّ حسّان بن ثابت بن المنذر، الفريعة بنت خالد بن قيس(5) بن لوذان/بن عبد ودّ بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج. و قيل: إنّ اسم النجّار تيّم اللاّت؛ و في ذلك يقول حسّان بن ثابت:

و أمّ ضرار تنشد النّاس والها *** أما لابن تيم اللّه ما ذا أضلّت

/يعني ضرار بن عبد المطّلب، و كان ضلّ فنشدته أمّه. و إنما سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تيم اللّه؛ لأنّ الأنصار كانت تنسب إليه، فكره أن يكون في أنسابها ذكر اللاّت.

و يكنى(6) حسّان بن ثابت أبا الوليد. و هو فحل من فحول الشعراء. و قد قيل: إنّه أشعر أهل المدر(7). و كان أحد المعمّرين من المخضرمين، عمّر مائة و عشرين سنة: ستّين في الجاهليّة و ستّين في الإسلام.

ص: 352


1- هذا الاسم إن جعلته فعّالا من الحسن أجريته، و إن جعلته فعلان من الحس (بالفتح) و هو القتل أو الحس بالشيء لم تجره. قال ابن سيده: و قد ذكرنا أنه من الحسّ أو الحسّ، و قال: ذكر بعض النحويين أنه فعّال من الحسن، و ليس بشيء. (انظر «اللسان» مادة حسن).
2- كذا في «أسد الغابة» في ترجمة حسان. و في سائر الأصول: «و هم تيم اللّه». و بنو النجار هم تيم اللّه بن ثعلبة.
3- نقل صاحب «شرح القاموس» مادة أزد عن الشيخ عبد القادر البغدادي أن اسمه «درء» بكسر فسكون و آخره همزة، و عن أبي القاسم الوزير أنه دراء ككتاب.
4- كذا في أكثر الأصول. و في ح: «أمة».
5- في «تهذيب التهذيب» طبع الهند: «الفريعة بنت خالد بن حبيش». و في «أسد الغابة» طبع بلاق: «الفريعة بنت خالد بن خنيس». و في «خزانة الأدب» للبغدادي (ج 1 ص 111 طبع بلاق): «الفريعة بنت خنس».
6- و يكنى أيضا أبا الحسام، كما في «خزانة الأدب» للبغدادي و «أسد الغابة»، لمناضلته عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و لتقطيعه أعراض المشركين. و يكنى أيضا أبا عبد الرحمن. و يلقب بذي الأكلة (بالضم) كما في «القاموس» مادة أكل.
7- المدر (بالتحريك): العدن و الحضر. و في ء، أ، م: «المدن».
عاش حسان مائة و عشرين سنة:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أبي عبيدة قال: عاش ثابت بن المنذر مائة و خمسين(1) سنة، و عاش حسّان مائة و عشرين سنة. و مما يحقّق ذلك ما أخبرني به الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثني الزّبير بن بكار قال حدّثني محمد بن حسين(2) عن إبراهيم بن محمد عن صالح بن إبراهيم عن يحيى بن عبد الرحمن بن سعيد بن زرارة عن حسّان بن ثابت قال: إنّي لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان، إذا بيهوديّ بيثرب يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود؛ فلما اجتمعوا إليه قالوا: ويلك! مالك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي يولد به في هذه الليلة. قال: ثم أدركه اليهوديّ و لم يؤمن به. فهذا يدلّ على مدّة عمره في الجاهليّة؛ لأنه ذكر أنه أدرك ليلة ولد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و له يومئذ ثمان سنين، و النبيّ/صلى اللّه عليه و سلّم بعث و له أربعون سنة، و أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، فقدم المدينة و لحسّان يومئذ، على ما ذكره، ستّون سنة أو إحدى و ستون سنة، و حينئذ أسلم.

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير بن بكّار عن الرحمن بن عبد اللّه قال حدّثني ابن أبي الزّناد قال:

عمّر حسّان بن ثابت عشرين و مائة سنة: ستّين في الجاهليّة، و ستّين في الإسلام.

قال أخبرني الحسن بن عليّ قال أخبرني أحمد بن زهير قال حدّث سليمان بن حرب عن حمّاد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار قال:

رأيت حسّان بن ثابت و له ناصية قد سدلها بين عينيه.

كان يخضب شاربه و عنفقته بالحناء:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن أبيه قال:

كان حسّان بن ثابت يخضب شاربه و عنفقته(3) بالحنّاء، و لا يخضب سائر لحيته. فقال له ابنه عبد الرحمن:

يا أبت، لم تفعل هذا؟ قال: لأكون كأنّي أسد والغ في دم.

فضل الشعراء بثلاث:

أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال:

فضل حسّان الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهليّة، و شاعر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في النبوّة، و شاعر اليمن كلّها في الإسلام.

أجمعت العرب على أنه أشعر أهل المدر:

قال أبو عبيدة: و أجمعت(4) العرب على أنّ حسّان أشعر أهل المدر. أخبرنا بذلك أيضا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة عن أبي عبيدة قال:

ص: 353


1- . في «أسد الغابة» و «تهذيب التهذيب» و «النجوم الزاهرة»: أن عمر حسان مائة و عشرون سنة، و كذلك عاش أبوه ثابت و جدّه المنذر و أبو جدّه حرام، و لا يعرف في العرب أربعة تناسلوا من صلب واحد و عاش كل منهم مائة و عشرين سنة غيرهم.
2- . في ح: «محمد بن الحسن».
3- . العنفقة: شعرات بين الشفة السفلى و الذقن.
4- . كذا في «أسد الغابة». و في جميع الأصول: «اجتمعت».

/اتّفقت العرب على أنّ أشعر أهل المدر أهل يثرب، ثم عبد القيس ثم ثقيف؛ و على أنّ أشعر أهل يثرب حسّان بن ثابت.

سأل أبا هريرة عن حديث في شأنه فأجابه:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عفّان/قال حدّثنا عبد الواحد بن زياد قال حدّثنا معمر عن الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب قال.

جاء حسّان إلى نفر فيهم أبو هريرة، فقال: أنشدك اللّه: أسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «أجب عنّي» ثم قال:

«اللّهمّ أيّده بروح القدس»؟ قال أبو هريرة: اللّهمّ نعم.

كان أحد الأنصار الثلاثة الذين عارضوا شعراء قريش:

أخبرني حبيب بن نصر و أحمد بن عبد العزيز قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا وهب بن جرير قال حدّثنا أبي قال سمعت محمد بن سيرين، قال أبو زيد و حدّثنا هوذة بن خليفة قال حدّثنا عوف عن محمد بن سيرين قال:

كان يهجو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثلاثة(1) رهط من قريش: عبد اللّه بن الزّبعري، و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، و عمرو بن العاصي؛ فقال قائل لعليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه: اهج عنّا القوم الذين قد هجونا.

فقال عليّ رضي اللّه عنه: إن أذن لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فعلت. فقال رجل: يا رسول اللّه، ائذن لعليّ كي يهجو عنّا هؤلاء القوم الذين قد هجونا. قال: «ليس هناك» أو «ليس عنده ذلك»؛ ثم قال للأنصار: «ما يمنع القوم الذين نصروا رسول اللّه - صلى اللّه عليه و سلّم - بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟». فقال حسّان بن ثابت: أنا لها، و أخذ بطرف لسانه و قال:

و اللّه ما يسرّني به مقول(2) بين بصرى و صنعاء. فقال: «كيف/تهجوهم و أنا منهم»؟ فقال: إنّي أسلّك منهم كما تسلّ الشّعرة من العجين. قال: فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار: حسان بن ثابت، و كعب بن مالك، و عبد اللّه بن رواحة. فكان حسّان و كعب يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع و الأيّام و المآثر و يعيّرانهم بالمثالب، و كان عبد اللّه بن رواحة يعيّرهم بالكفر. قال: فكان في ذلك الزمان أشد القول عليهم قول حسان و كعب، و أهون القول عليهم قول ابن رواحة. فلمّا أسلموا و فقهوا الإسلام، كان أشدّ القول عليهم قول ابن رواحة.

استأذن النبيّ في هجو قريش فأمره أن يأخذ أنسابهم عن أبي بكر:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عبد اللّه بن بكر بن حبيب السّهميّ قال حدّثنا أبو يونس القشيريّ و هو حاتم(3) بن أبي صغيرة قال حدّثنا سماك بن حرب قال:

قام حسّان أبو الحسام فقال: يا رسول اللّه، ائذن لي فيه، و أخرج لسانا له أسود، فقال: يا رسول اللّه، لو شئت لفريت به المزاد(4)، ائذن لي فيه. فقال: «اذهب إلى أبي بكر فليحدّثك حديث القوم و أيّامهم و أحسابهم ثم

ص: 354


1- . زاد في «أسد الغابة» رابعا هو ضرار بن الخطاب.
2- . المقول: «اللسان».
3- . كذا في «طبقات ابن سعد» (ج 7 قسم 2 ص 31 طبع أوروبا) و «تهذيب التهذيب» (ج 2 ص 130 طبع الهند) و «الخلاصة» طبع مصر؛ و هو مولى بني قشير، و اسم أبيه مسلم، و أبو صغيرة أبو أمه، و هو يروي عن عمرو بن دينار و سماك بن حرب. (انظر «الأنساب» للسمعاني). و قد ورد هذا الاسم مضطربا في جميع الأصول.
4- . المزاد: جمع مزادة، و هي التي يحمل فيها الماء، و هي ما فئم بجلد ثالث بين الجلدين ليتسع؛ سميت بذلك لمكان الزيادة.

اهجهم و جبريل معك». قال أبو زيد قال ابن وهب و حدّثنا بهذا الحديث حاتم عن السّدّيّ عن البراء بن عازب و عن سماك بن حرب - فأنا أشك: أ هو عن أحدهما أم عنهما جميعا - قال أبو زيد: و حدّثنا عليّ بن عاصم قال حدّثنا حاتم بن أبي(1) صغيرة عن سماك بن حرب/بنحوه، و زاد فيه: فأخرج لسانه أسود، فوضعه على طرف أرنبته، و قال: يا رسول اللّه، لو شئت لفريت به المزاد؛ فقال: «يا حسّان و كيف و هو منّي و أنا(2) منه»؟ قال: و اللّه لأسلنّه منك كما يسلّ الشّعر من العجين! قال: «يا حسّان فأت أبا بكر فإنّه أعلم بأنساب القوم منك». فأتى أبا بكر فأعلمه ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فقال: كفّ عن فلانة و اذكر فلانة. فقال:

هجوت(3) محمدا فأجبت عنه *** و عند اللّه في ذاك الجزاء

/فإنّ أبي و والده و عرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

أ تهجوه و لست له بكفء *** فشرّكما لخيركما الفداء

لما بلغ قريشا شعر حسان اتهموا فيه أبا بكر:

أخبرني الحسن بن عليّ قال(4) حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا أحمد بن سليمان عن الأصمعيّ عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد قال:

لمّا أنشدت قريش شعر حسّان قالت: إنّ هذا الشّتم ما غاب عنه ابن(5) أبي قحافة.

قال الزّبير: و حدّثني محمد بن يحيى عن يعقوب(6) بن إسحاق بن مجمّع عن رجل من بني العجلان قال:

/لما بلغ أهل مكة شعر حسّان و لم يكونوا علموا أنّه قوله، جعلوا يقولون: لقد قال أبو بكر الشّعر بعدنا.

أسمعه ابن الزبعري و ضرار من هجوهما وفرا فاستعدى عمر فردّهما فأنشدهما مما قال فيهما:

قال الزّبير: و حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن فضالة عن أبيه عن خالد بن محمد بن فضالة عن أبيه عن خالد(7) بن محمد بن ثابت بن قيس بن شمّاس قال:

ص: 355


1- . كذا في «طبقات ابن سعد» (ج 7 قسم 2 ص 31 طبع أوربا) و «تهذيب التهذيب» (ج 2 ص 130 طبع الهند) و «الخلاصة» طبع مصر و هو مولى بني قشير، و اسم أبيه مسلم، و أبو صغيره أبو أمه و هو يروي عن عمرو بن دينار و سماك بن حرب. (انظر «الأنساب» للسمعاني) و قد ورد هذا الاسم مضطربا في جميع الأصول.
2- . يريد ابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.
3- . وردت هذه الأبيات في «السيرة» لابن هشام (ص 830 طبع أوروبا) ضمن قصيدة مطلعها: عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء على غير ترتيب «الأغاني» بذكر البيت الثالث بعد الأوّل و بزيادة بيتين بعده هما: هجوت مباركا برّا حفيا أمين اللّه شيمته الوفاء أ من يهجو رسول اللّه منكم و يمدحه و ينصره سواء و يليهما البيت «فإن أبى إلخ». و انظر هذا الشعر أيضا في «صحيح مسلم» (ج 2 ص 260-261 طبع بولاق).
4- . كذا في ح. و في سائر الأصول: «أخبرني الحسن بن علي قال قال...» بتكرير كلمة «قال».
5- . هو أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه.
6- . لم نعثر على هذا الاسم في «كتب التراجم» التي بين أيدينا و الذي بها هو: «يعقوب بن مجمع» أو «يعقوب بن إسحاق بن زيد» كما في «تهذيب التهذيب» و «الخلاصة في أسماء الرجال». و في «لسان الميزان» (ج 6 ص 302): «يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن مجمع» و لعله هذا.
7- . لم نعثر على خالد هذا في «كتب التراجم»، و ليس في ولد محمد بن ثابت بن قيس بن شماس من يسمى خالدا، و قد أحصاهم ابن سعد -

نهى عمر بن الخطّاب الناس أن ينشدوا شيئا من مناقضة الأنصار و مشركي قريش، و قال: في ذلك شتم الحيّ(1) بالميّت، و تجديد الضغائن، و قد هدم اللّه أمر الجاهليّة بما جاء من الإسلام. فقدم المدينة عبد اللّه بن الزّبعري السّهمي و ضرار بن الخطّاب الفهريّ ثم المحاربيّ، فنزلا على أبي أحمد بن جحش، و قالا له: نحبّ أن ترسل إلى حسّان بن ثابت حتّى يأتيك، فننشده و ينشدنا مما قلنا له و قال لنا. فأرسل إليه فجاءه؛ فقال له: يا أبا الوليد، هذان أخواك ابن الزّبعري و ضرار قد جاءا أن يسمعاك و تسمعهما ما قالا لك و قلت لهما. فقال ابن الزّبعري و ضرار: نعم يا أبا الوليد، إن شعرك كان يحتمل في الإسلام و لا يحتمل شعرنا، و قد أحببنا أن نسمعك و تسمعنا.

فقال حسّان: أ فتبدءان أم أبدأ؟ قالا: نبدأ نحن. قال: ابتدئا؛ فأنشداه حتى فار فصار كالمرجل غضبا، ثم استويا على راحلتيهما يريدان مكة؛ فخرج حسّان حتى دخل على عمر بن الخطّاب فقصّ عليه قصّتهما و قصّته. فقال له عمر:

لن يذهبا عنك بشيء إن شاء اللّه، و أرسل من يردّهما، و قال له عمر: لو لم تدركهما إلاّ بمكة فارددهما عليّ.

و خرجا فلمّا كانا بالرّوحاء(2) رجع ضرار إلى صاحبه بكره، فقال له يا ابن الزّبعري: أنا أعرف عمر و ذبّه عن الإسلام و أهله، /و أعرف حسّان و قلّة صبره على ما فعلنا به، و كأنّي به قد جاء و شكا إليه ما فعلنا، فأرسل في آثارنا و قال لرسوله: إن لم تلحقهما إلاّ بمكة فارددهما عليّ؛ فاربح بنا ترك العناء و أقم بنا مكاننا؛ فإن كان الذي ظننت فالرجوع من الرّوحاء أسهل منه من أبعد منها، و إن أخطأ ظنّي فذلك الذي نحبّ و نحن من وراء المضيّ. فقال ابن الزّبعري: نعم ما رأيت. قال: فأقاما بالرّوحاء، فما كان إلا كمرّ الطائر حتّى وافاهما رسول عمر فردّهما إليه؛ فدعا لهما بحسّان، و عمر في جماعة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال لحسّان: أنشدهما مما قلت لهما؛ فأنشدهما حتّى فرغ مما قال لهما فوقف. فقال له عمر: أفرغت؟ قال نعم. فقال له: أنشداك في الخلاء و أنشدتهما في الملا. و قال لهما عمر: إن شئتما فأقيما، و إن شئتما فانصرفا. و قال لمن حضره: إنّي قد كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين و المشركين شيئا دفعا للتضاغن عنكم و بثّ القبيح فيما بينكم، فأمّا إذ أبوا فاكتبوه/و احتفظوا به. فدوّنوا ذلك عندهم. قال خلاّد(3) بن محمد: فأدركته و اللّه و إنّ الأنصار لتجدّده عندها إذا خافت بلاه.

شعر له في هجو أبي سفيان بن الحارث:

أخبرنا أحمد(4) بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عفّان بن مسلم قال حدّثنا عمران بن زيد قال: سمعت أبا إسحاق قال في قصة حسّان و أبي سفيان بن الحارث نحو ما ذكره مما قدّمنا ذكره، و زاد فيه: فقال حسّان فيه:

و إنّ سنام المجد من آل هاشم *** بنو بنت(5) مخزوم، و والدك العبد

ص: 356


1- . في «أسد الغابة»: «و قال في ذلك شتم الحيّ و الميت إلخ».
2- . الروحاء: موضع بين مكة و المدينة على نحو ثلاثين ميلا من المدينة.
3- . لم نجد هذا الاسم في «كتب التراجم» التي بين أيدينا. و قد تقدم في سند هذا الخبر رجلان كل منهما يسمى خالد بن محمد، فلعله أحدهما.
4- . في الأصول: «محمد بن عبد العزيز» و ظاهر جدّا أنه أحمد بن عبد العزيز الجوهري الذي يروي عن عمر بن شبة، و يروي عنه كثيرا أبو الفرج.
5- . بنت مخزوم: يريد بها فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، و هي أم عبد اللّه (أبى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم) و الزبير و أبي طالب أبناء عبد المطلب. و والدك العبد: يريد به الحارث بن عبد المطلب و هو أبو أبي سفيان.

/

و من ولدت أبناء زهرة(1) منكم *** كرام و لم يلحق عجائزك المجد

و إنّ امرأ كانت سميّة(2) أمّه *** و سمراء(3) مغلوب إذا بلغ الجهد

و أنت هجين(4) نيط في آل هاشم *** كما نيط خلف الرّاكب القدح الفرد

فقال العبّاس: و ما لي و ما لحسّان! يعني في ذكره نتيلة(5)، فقال فيها:

و لست كعبّاس و لا كابن أمّه(6) *** و لكن هجين ليس يورى له زند

أعانه جبريل في مديح النبي:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا القعنبيّ قال حدّثنا مروان بن معاوية قال حدّثنا إياس السّلميّ عن ابن بريدة قال:

أعان جبريل عليه السّلام حسّان بن ثابت في مديح النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بسبعين بيتا.

مدحه النبي و مدح كعبا و عبد اللّه بن رواحة:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا محمد بن منصور قال حدّثنا سعيد بن عامر قال حدّثني جويرية بن أسماء قال:

/بلغني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «أمرت عبد اللّه بن رواحة فقال و أحسن، و أمرت كعب بن مالك فقال و أحسن، و أمرت حسّان بن ثابت فشفى و اشتفى».

أخبره النبيّ أن روح القدس يؤيده:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا أحمد بن عيسى قال حدّثنا ابن وهب قال أخبرنا عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان و يعلى بن شدّاد بن أوس عن عائشة قالت:

سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول لحسّان بن ثابت الشاعر: «إنّ روح القدس لا يزال يؤيّدك ما كافحت عن اللّه عز و جل و عن رسول اللّه» صلى اللّه عليه و سلّم.

ص: 357


1- . يريد في هذا البيت مدح آمنة أم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و هالة أم حمزة و صفية، و كلتاهما زهرية؛ إذ هما ابنتا وهب بن عبد مناف بن زهرة. و قوله: «و لم يلحق عجائزك المجد» يهجو أبا سفيان بأن أمهاته لسن بأحرار؛ إذ كانت أم أبي سفيان نفسه أم ولد و أم أبيه كذلك أم ولد. و رواية «الديوان» في هذا البيت (ص 91 طبع ليدن): و ما ولدت أفناء زهرة منكم كريما و لم يقرب عجائزك المجد
2- . كذا في «الديوان». و سمية هي أم الحارث بن عبد المطلب، و أبوها موهب غلام لبني عبد مناف. و في الأصول: «نثيلة» بالثاء المثلثة و هو تحريف. (انظر «شرح النووي» على «صحيح مسلم» ج 5 ص 200 طبق بلاق).
3- . سمراء: هي أم أبي سفيان المهجوّ.
4- . الهجين: من أبوه عربيّ و أمه ليست بعربية. و نيط في آل هاشم: نسب إليهم و ليس منهم. يريد أنه ليس من خالصهم.
5- . كذا في «المعارف» لابن قتيبة و «شرح القاموس» (مادة نتل)، و هي نتيلة بنت كليب بن مالك بن جناب أم العبّاس و ضرار ابني عبد المطلب، و هي إحدى نساء بني النمر بن قاسط. و في الأصول «نثيلة» بالثاء المثلثة و هو تصحيف.
6- . يريد ضرار بن عبد المطلب.
استنشده النبيّ و جعل يصغي إليه:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا هوذة بن خليفة قال حدّثنا عوف بن محمد قال:

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ليلة و هو في سفر: «أين حسّان بن ثابت»؟ فقال حسّان: لبّيك يا رسول اللّه و سعديك. قال:

«أحد»، فجعل ينشد و يصغي إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و يستمع، فما زال يستمع إليه و هو سائق راحلته حتّى كان رأس الراحلة يمسّ الورك حتّى فرغ من نشيده. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «لهذا أشدّ عليهم من وقع النّبل».

انتهره عمر لإنشاده في مسجد الرسول فردّ عليه:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا أبو عاصم النبيل قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرنا زياد بن أبي سهل قال حدّثني سعيد بن المسيّب:

أنّ عمر مرّ بحسّان بن ثابت و هو ينشد في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فانتهره عمر؛ فقال حسّان: قد(1) أنشدت فيه من هو خير منك؛ فانطلق عمر.

/أخبرنا أحمد قال حدّثنا أبو داود الطّيالسيّ قال حدّثنا إبراهيم بن سعد عن الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب:

أنّ عمر مرّ على حسان و هو ينشد في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فذكر مثله و زاد فيه: و علمت أنّه يريد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.

أخبرنا أحمد قال حدّثنا/عمر قال حدّثنا محمد بن حاتم قال حدّثنا شجاع بن الوليد عن الإفريقيّ عن مسلم بن يسار:

أنّ عمر مرّ بحسّان و هو ينشد الشعر في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فأخذ بأذنه و قال: أرغاء كرغاء البعير! فقال حسّان: دعنا عنك يا عمر! فو اللّه لتعلم أنّي كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فلا يغيّر عليّ! فصدّقه عمر.

مدح الزبير بن العوام للومه قوما لم يحسنوا الاستماع له:

حدّثنا محمد بن جرير الطبريّ و الحرميّ بن أبي العلاء و عبد العزيز بن أحمد عمّ أبي و جماعة غيرهم قالوا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا أبو غزّيّة محمد بن موسى قال حدّثني عبد اللّه بن مصعب عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن جدّتها أسماء بنت أبي بكر قالت:

مرّ الزّبير بن العوّام بمجلس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و حسّان بن ثابت ينشدهم من شعره و هم غير نشاط لما يسمعون منه، فجلس معهم الزّبير فقال: ما لي أراكم غير آذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة! فلقد كان يعرض لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيحسن استماعه و يجزل عليه ثوابه، و لا يشتغل عنه بشيء. فقال حسّان:

أقام على عهد النبيّ و هديه *** حواريّه(2) و القول بالفعل يعدل

/أقام على منهاجه و طريقه *** يوالي وليّ الحقّ و الحقّ أعدل

هو الفارس المشهور و البطل الذي *** يصول إذا ما كان يوم محجّل

ص: 358


1- . رواية «صحيح مسلم» (ج 2 ص 259 طبع بلاق): «قد كنت أنشد فيه من هو خير منك».
2- . حواريّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الزبير بن العوّام، لقوله عليه الصلاة و السلام: «إن لكل نبي حواريا و إن حواريّ الزبير». و في رواية: «الزبير ابن عمتي و حواريّ من أمتي» أي خاصتي من أصحابي و ناصري.

إذا

كشفت عن ساقها الحرب حشّها(1)*** بأبيض سباق إلى الموت يرقل(2)

و إنّ امرأ كانت صفية أمّه *** و من أسد في بيتها لمرفّل(3)

له من رسول اللّه قربى قريبة *** و من نصرة الإسلام نصر مؤثّل

فكم كربة ذبّ الزّبير بسيفه *** عن المصطفى و اللّه يعطي فيجزل

فما مثله فيهم و لا كان قبله *** و ليس يكون الدّهر ما دام يذبل(4)

ثناؤك خير من فعال معاشر *** و فعلك يا ابن الهاشميّة أفضل

تقدم هو و كعب و ابن رواحة لحماية أعراض المسلمين فاختاره النبيّ دونهما:

أخبرني أحمد بن عيسى العجليّ قال حدّثنا واصل بن عبد الأعلى قال حدّثنا ابن فضيل عن مجالد عن الشّعبيّ قال:

لما كان عام الأحزاب(5) و ردّهم اللّه بغيظهم لم ينالوا خيرا، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «من يحمي أعراض المسلمين»؟ فقال كعب: أنا يا رسول اللّه، و قال عبد اللّه بن رواحة: أنا يا رسول اللّه، و قال حسّان بن ثابت: أنا يا رسول اللّه؛ فقال: «نعم اهجهم أنت فإنّه سيعينك عليهم روح القدس».

سبه قوم في مجلس ابن عباس فدافع عنه:

أخبرني أحمد بن عبد(6) الرحمن قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو داود قال حدّثنا حديج بن معاوية عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير قال:

/كنّا عند ابن عبّاس فجاء حسّان، فقالوا: قد جاء اللّعين. فقال ابن عبّاس: ما هو بلعين؛ لقد نصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بلسانه و يده.

حدّثنيه أحمد بن الجعد قال حدّثنا محمد بن بكّار قال حدّثنا حديج بن معاوية قال حدّثنا أبو إسحاق عن سعيد بن جبير قال:

جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال: قد جاء اللعين حسّان من الشام. فقال ابن عبّاس: ما هو بلعين؛ لقد جاهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بلسانه و نفسه.

ص: 359


1- . حش الحرب: أسعرها و هيجها.
2- . الإرقال: ضرب من السير السريع؛ قال النابغة: إذا استنزلوا للطعن عنهنّ أرقلوا إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
3- . المرفل: المعظم المسوّد.
4- . يذبل: اسم جبل في بلاد نجد.
5- . الأحزاب: قريش و غطفان و بنو قريظة تألبوا على حرب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.
6- . كذا في جميع الأصول. و الذي يروي عن عمر بن شبة كثيرا في كتاب «الأغاني» هو أحمد بن عبد العزيز الجوهري؛ فلعله هذا.
قدم وفد تميم على النبيّ مفتخرين فأمره النبيّ أن يجيب شاعرهم:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا/عمر قال حدّثنا عبد اللّه بن عمرو و شريح بن النّعمان قالا حدّثنا عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت:

لمّا قدم وفد بني تميم وضع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لحسّان منبرا و أجلسه عليه، و قال: «إنّ اللّه ليؤيّد حسّان بروح القدس ما كافح(1) عن نبيّه» صلى اللّه عليه و سلّم. هكذا روى أبو زيد هذا الخبر مختصرا. و أتينا به على تمامه هاهنا؛ لأنّ ذلك حسن فيه:

أخبرنا به الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا محمد بن الضحّاك عن أبيه قال:

قدم على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم وفد بني تميم و هم سبعون أو ثمانون رجلا، فيهم الأقرع بن حابس، و الزّبرقان بن بدر، و عطارد بن حاجب، و قيس بن عاصم، و عمرو بن الأهتم، و انطلق معهم عيينة بن حصن، فقدموا المدينة، فدخلوا المسجد، فوقفوا عند الحجرات، فنادوا بصوت عال جاف: اخرج إلينا يا محمد؛ فقد جئنا لنفاخرك، و قد جئنا بشاعرنا و خطيبنا. فخرج إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم/فجلس. فقام الأقرع بن حابس فقال: و اللّه إنّ مدحي لزين، و إن ذمّي لشين. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «ذلك اللّه». فقالوا: إنّا أكرم العرب. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السّلام». فقالوا: ائذن لشاعرنا و خطيبنا. فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فجلس و جلس معه الناس، فقام عطارد بن حاجب فقال:

الحمد للّه الذي له الفضل علينا و هو أهله، الذي جعلنا ملوكا و جعلنا أعزّ أهل المشرق(2)، و آتانا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، ليس في الناس مثلنا؛ ألسنا برءوس النّاس و ذوي فضلهم! فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، و لو نشاء لأكثرنا، و لكنّا نستحي من الإكثار فيما خوّلنا اللّه و أعطانا. أقول هذا، فأتوا بقول أفضل من قولنا، أو أمر أبين من أمرنا. ثم جلس.

فقام ثابت بن قيس بن شمّاس فقال: الحمد للّه الذي السموات و الأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره و وسع كرسيّه علمه(3)، و لم يقض شيئا إلاّ من فضله و قدرته؛ فكان من قدرته أن اصطفى من خلقه لنا رسولا أكرمهم حسبا و أصدقهم حديثا و أحسنهم رأيا، فأنزل عليه كتابا، و ائتمنه على خلقه، و كان خيرة اللّه من العالمين. ثم دعا(4)رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى الإيمان، فأجابه من قومه و ذوي رحمه المهاجرون أكرم الناس أنسابا، و أصبح الناس وجوها، و أفضل الناس فعالا. ثم كان أوّل من اتّبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من العرب و استجاب له نحن معشر الأنصار؛ /فنحن أنصار اللّه و وزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا و يقولوا: لا إله إلاّ اللّه. فمن آمن باللّه و رسوله منع منّا ماله و دمه، و من كفر باللّه و رسوله جاهدناه في اللّه، و كان جهاده يسيرا. أقول قولي هذا، و أستغفر اللّه للمؤمنين و المؤمنات.

فقام الزّبرقان فقال:

ص: 360


1- في ح: «ما نافح» بالحاء المهملة، و هما بمعنى واحد.
2- في الطبري (ص 1711 من القسم الأوّل طبع أوروبا): «و جعلنا أعز أهل المشرق و أكثره عددا و أيسره عدة... إلخ».
3- كذا في «سيرة ابن هشام» (ص 935 طبع أوروبا) و الطبري. و في الأصول: «و وسع كرسيه و علمه» بواو العطف. و قد وردت هاتان الخطبتان في «السيرة» و الطبري باختلاف يسير عما هنا.
4- في «سيرة ابن هشام» و الطبري: «ثم دعا الناس إلى... إلخ».

نحن(1) الملوك فلا حيّ يقاربنا *** منّا الملوك و فينا يؤخذ الرّبع(2)

تلك المكارم حزناها مقارعة *** إذا الكرام على أمثالها اقترعوا

كم قد نشدنا من الأحياء كلّهم *** عند النّهاب و فضل العزّ يتّبع

/و ننحر الكوم(3) عبطا(4) في منازلنا *** للنازلين إذا ما استطعموا شبعوا

و نحن نطعم عند المحل ما أكلوا *** من العبيط إذا لم يظهر القزع(5)

و ننصر الناس تأتينا سراتهم *** من كلّ أوب فتمضي ثم تتّبع

فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى حسّان بن ثابت فجاء، فأمره أن يجيبه.

فقال حسان:

إنّ الذوائب(6) من فهر و إخوتهم *** قد بيّنوا سنّة للنّاس تتّبع

/يرضى بها كلّ من كانت سريرته *** تقوى الإله و بالأمر الذي شرعوا

قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم *** أو حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا

سجيّة تلك منهم غير محدثة *** إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع

لا يرقع(7) النّاس ما أوهت أكفّهم *** عند الدّفاع(8) و لا يوهون ما رقعوا

إن كان في الناس سبّاقون بعدهم *** فكلّ سبق لأدنى سبقهم تبع

أعفّة ذكرت في الوحي عفّتهم *** لا يطمعون و لا يزري بهم طمع(9)

ص: 361


1- ورد هذا الشعر في «ديوان» حسان و «سيرة ابن هشام» (ص 935 طبع أوربا) و «الطبري» (قسم 1 ص 1712 طبع أوروبا) باختلاف عما هنا.
2- كان من عادة العرب في الجاهلية إذا غزا بعضهم بعضا و غنموا، أخذ الرئيس ربع الغنيمة خالصا دون أصحابه، و ذلك الربع يسمى المرباع. و رواية البيت في «السيرة» و «الطبري»: نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا منا الملوك و فينا تنصب البيع
3- الكوم: جمع أكوم و هو البعير الضخم السنام، و الأنثى كوماء.
4- عبط الذبيحة عبطا: نحرها من غير داء و لا كسر و هي سمينة فتية. و يقال للناقة: عبيطة، و الجمع عبط (بضمتين) و قد تسكن عينه.
5- ورد هذا البيت في «نهاية ابن الأثير» و «اللسان» (مادة سدف) هكذا: و نطعم الناس عند القحط كلهم من السديف إذا لم يؤنس القزع و السديف: شحم السنام. و القزع: السحاب، أي نطعم الشخم في المحل. و في الأصول: «الفرع» بالفاء و الراء، و هو تصحيف.
6- ورد هذا الشعر أيضا في «السيرة» (ص 936 طبع أوربا) و «الطبري» (قسم 1 ص 1714 طبع أوروبا) و «الديوان» باختلاف يسير عما هنا.
7- كذا في أ، ء، و «ديوانه» (ص 23 طبع أوروبا). و في سائر الأصول: «يرفع» بالفاء.
8- كذا في «ديوانه». و في الأصول: «الرقاع».
9- في «الديوان»: لا يطبعون و لا يرديهم الطمع

و لا يضنّون عن جار بفضلهم *** و لا يمسّهم من مطمع طبع(1)

يسمون للحرب تبدو و هي كالحة *** إذا الزّعانف(2) من أظفارها خشعوا

لا يفرحون إذا نالوا عدوّهم *** و إن أصيبوا فلا خور و لا جزع

كأنّهم في الوغى و الموت مكتنع(3) *** أسود بيشة(4) في أرساغها فدع(5)

خذ منهم ما أتى(6) عفوا و إن منعوا *** فلا يكن همّك الأمر الذي منعوا

فإنّ في حربهم - فاترك عداوتهم - *** سمّا يخاض(7) عليه الصّاب و السّلع

أكرم بقوم رسول اللّه قائدهم *** إذا تفرّقت الأهواء و الشّيع

/أهدى لهم مدحي قلب يؤازره *** فيما أراد لسان حائك صنع

فإنّهم(8) أفضل الأحياء كلّهم *** إن جدّ بالناس جدّ القول أو شمعوا(9)

فقام عطارد(10) بن حاجب فقال:

أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا *** إذا اجتمعوا وقت احتضار المواسم

بأنّا فروع الناس في كلّ موطن *** و أن ليس في أرض الحجاز كدارم(11)

فقام حسّان بن ثابت فقال:

منعنا رسول اللّه من غضب له *** على أنف راض(12) من معدّ و راغم

ص: 362


1- ورد هذا البيت في أ، ء. و ذكر محرّفا في م، و سقط في سائر النسخ.
2- الزعانف: أرذال الناس.
3- المكتنع: الداني القريب.
4- بيشة: من عمل مكة مما يلي اليمن، على خمس مراحل من مكة، و في وادي بيشة موضع مشجر كثير الأسد. و في «السيرة»: «أسد بحلية...». و حلية: مأسدة بناحية اليمن.
5- الفدع: اعوجاج في الرسغ.
6- كذا في «ديوانه» و السيرة. و في الأصول: «... ما أتوا عفوا... إلخ».
7- يخاض: يخلط. و الصاب و السلع: ضربان من الشجر مرّان.
8- هذه رواية السيرة و «الديوان». و في الأصول: «و إنهم» بالواو.
9- كذا في «ديوانه» طبع أوروبا «و سيرة ابن هشام» و الطبري. و معناه: مزحوا، و هو أنسب للمقام، لمقابلته لقوله: «إن جدّ بالناس إلخ». قال أبو ذؤيب يصف حمرا: فلبثن حينا يعتلجن بروضة فيجدّ حينا في العلاج و يشمع و في الأصول و «ديوانه» طبع مصر: «سمعوا» بالسين المهملة.
10- الذي في «سيرة ابن هشام» (ص 937 طبع أوروبا) أن هذا الشعر من قول الزبرقان بن بدر.
11- دارم: أبو حيّ من تميم.
12- في الأصول: «على رغم أنف». و رواية «الديوان» و «سيرة ابن هشام»: نصرنا و آوينا النبيّ محمدا على أنف راض من معد و راغم و رواية الطبري: منعنا رسول اللّه إذ حل وسطنا على كل باغ من معدّ و راغم

هل المجد إلاّ السّؤدد العود(1) و النّدى *** و جاه الملوك و احتمال العظائم

إسلام وفد تميم و إكرام النبيّ لهم:

قال: فقال الأقرع بن حابس: و اللّه إنّ هذا الرجل لمؤتّى(2) له! و اللّه لشاعره أشعر من شاعرنا، و لخطيبه أخطب [من خطيبنا](3)، و لأصواتهم أرفع من أصواتنا! أعطني يا محمد فأعطاه. فقال: زدني فزاده. فقال: اللّهمّ إنّه سيد/العرب. فنزلت فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يُنٰادُونَكَ مِنْ وَرٰاءِ الْحُجُرٰاتِ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ) . ثم إنّ القوم أسلموا، و أقاموا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يتعلّمون القرآن، و يتفقّهون في الدّين. ثم أرادوا الخروج إلى قومهم، فأعطاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و كساهم، و قال: «أ ما بقي منكم أحد؟»، و كان عمرو بن الأهتم في ركابهم، فقال قيس/بن عاصم، و هو من رهطه و كان مشاحنا له، لم يبق منّا أحد إلاّ غلام حديث السنّ في ركابنا؛ فأعطاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مثل ما أعطاهم.

مناقضة عمرو بن الأهتم و قيس بن عاصم:

فبلغ عمرا ما قال قيس؛ فقال عمرو بن الأهتم لقيس:

ظللت مفترش الهلباء(4) تشتمني *** عند الرسول فلم تصدق و لم تصب

إن تبغضونا فإنّ الرّوم أصلكم *** و الروم لا تملك البغضاء للعرب

فإنّ(5) سؤددنا عود و سؤددكم *** مؤخّر عند أصل العجب و الذّنب

فقال له قيس:

لو لا دفاعي كنتم أعبدا *** داركم الحيرة و السّيلحون(6)

شعر حسان الذي يقرر به إيمانه بالرسل:
اشارة

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني عمر بن عليّ بن مقدّم عن يحيى بن سعيد عن أبي حيّان التّيميّ عن حبيب بن أبي ثابت، قال أبو زيد و حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن الزّبير قال حدّثنا مسعر عن سعد بن إبراهيم، قالوا:

/قال حسّان(7): ثابت للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:

ص: 363


1- العود: القديم.
2- كذا في الطبري و «سيرة ابن هشام». و مؤتى له: مسهّل و ميسر له. و في الأصول: «لمؤثر له» تحريف.
3- التكملة عن «سيرة ابن هشام» و الطبري.
4- الهلباء: الاست.
5- رواية هذا البيت في «سيرة ابن هشام»: سدناكم سؤددا رهوا و سؤددكم باد نواجذه مقع على الذنب و العجب من كل دابة: ما انضم عليه الوركان من أصل الذنب المغروز في مؤخر العجز.
6- السيلحون: موضع قرب الحيرة، و قيل: هو بين الكوفة و القادسية.
7- نسب هذا الشعر في «اللسان» (مادة فلل) إلى عبد اللّه بن رواحة يصف العزّي، و هي شجرة كانت تعبد، و ذكر بيتين من هذا الشعر نذكرهما لاختلافهما في بعض الألفاظ عما هنا، و هما: شهدت و لم أكذب بأن محمدا رسول الذي فوق السموات من عل -
صوت

شهدت بإذن اللّه أنّ محمدا *** رسول الذي فوق السّماوات من عل

و أنّ أخا(1) الأحقاف إذ يعذلونه *** يقوم بدين اللّه فيهم فيعدل

و أنّ أبا يحيى(2) و يحيى كلاهما *** له عمل في دينه متقبّل

و أنّ الذي عادى اليهود ابن مريم *** رسول أتى من عند ذي العرش مرسل

و أنّ الذي بالجزع(3) من بطن نخلة *** و من دونها فلّ(4) من الخير معزل

- غنّى في هذه الأبيات معبد خفيف ثقيل أوّل بالبنصر من رواية يونس و غيره - فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «أنا أشهد معك».

أنكرت عليه عائشة شعرا له في مدحها:

أخبرنا أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثنا زهير بن حرب قال حدّثني جرير عن الأعمش عن أبي الضّحى عن مسروق، و أخبرني بها أحمد بن عيسى العجليّ قال حدّثنا سفيان بن وكيع قال حدّثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضّحى عن مسروق قال:

دخلت على عائشة و عندها حسّان و هو يرثي بنتا(5) له، و هو يقول:

رزان(6) حصان ما تزنّ بريبة *** و تصبح غرثى(7) من لحوم الغوافل

فقالت عائشة: لكن أنت لست كذلك. فقلت لها: أ يدخل عليك هذا و قد قال اللّه عزّ و جلّ: (وَ الَّذِي تَوَلّٰى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذٰابٌ عَظِيمٌ) ! فقالت: أ ما تراه في عذاب عظيم قد ذهب بصره!

أخبر بوقعة صفين قبل وقوعها:

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدّثنا ابن أبي أويس قال حدّثني أبي

ص: 364


1- هو هود عليه السّلام، و هو المشار إليه في قوله تعالى: (وَ اذْكُرْ أَخٰا عٰادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقٰافِ). و الأحقاف هنا: واد بين عمان و أرض مهرة، أو هو رمل فيما بين عمان و حضرموت، أو رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن.
2- يعني بأبي يحيى زكريا عليه السّلام.
3- الجزع: قرية عن يمين الطائف و أخرى عن شماله. و رواية «الديوان» في هذا البيت: و أن التي بالسدّ من بطن نخلة و من دانها فل من الخير معزل
4- الفلّ: الذي لا خير عنده، كالأرض الفل و هي التي لا نبت فيها و لا خير. (انظر التعليقات التي على «ديوان حسان» المطبوع بأوروبا الذي أشرف على طبعه المستشرق الإنجليزي چيب). و بطن نخلة: موضع بين مكة و الطائف.
5- رجعنا إلى هذه القصيدة في «ديوانه» فلم نجد فيها شيئا من الرثاء، و كلها في مدح عائشة و الاعتذار عما رماها به هو و غيره من الإفك. (راجع «ديوانه» صفحة 162 من هذا الجزء) و هي غير القصيدة التي ربى بها ابنته و إن كانت على قافيتها.
6- رواية «الديوان»: «خصان رزان إلخ». و امرأة رزان إذا كانت ذات ثبات و وقار و عفاف و كانت رزينة في مجلسها. و امرأة حصان (بفتح الحاء): عفيفة بينة الحصانة.
7- الغرثى: الجائعة، أي إنها تصبح جائعة من لحوم الناس. و المراد أنها لا تغتابهم.

و مالك بن الربيع بن مالك حدّثاني جميعا عن الرّبيع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه أنه قال:

بينا نحن جلوس عند حسّان بن ثابت، و حسّان مضطجع مسند رجليه إلى فارع(1) قد رفعهما عليه، إذ قال:

مه! أ ما رأيتم ما مرّ بكم الساعة؟ قال مالك: قلنا: لا و اللّه، و ما هو؟ فقال حسّان: فاختة(2) مرّت الساعة بيني و بين فارع فصدمتني، أو قال: فزحمتني. قال: قلنا: و ما هي؟ قال:

/

ستأتيكم غدوا أحاديث جمّة *** فأصغوا لها آذانكم و تسمّعوا

قال مالك بن أبي عامر: فصبحنا من الغد حديث صفّين.

سمعه المغيرة بن شعبة ينشد شعرا فبعث إليه بمال:

أخبرنا وكيع قال حدّثنا اللّيث بن محمد عن الحنظليّ عن أبي عبدة عن العلاء بن جزء العنبري قال:

بينا حسّان بن ثابت بالخيف و هو مكفوف، إذ زفر زفرة ثم قال:

و كأنّ حافرها بكلّ خميلة(3) *** صاع يكيل به شحيح معدم

عاري الأشاجع(4) من ثقيف أصله *** عبد و يزعم أنّه من يقدم(5)

قال: و المغيرة بن شعبة جالس قريبا منه يسمع ما يقول، فبعث إليه بخمسة آلاف درهم. فقال: من بعث بهذا؟ قال(6): المغيرة بن شعبة سمع ما قلت. قال: وا سوأتاه! و قبلها.

استجار الحارث بن عوف من شعره بالنبي:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني الأصمعيّ قال:

جاء الحارث بن عوف بن أبي حارثة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: أجرني من شعر حسّان، فلو مزج البحر بشعره لمزجه. قال: و كان السبب في ذلك - فيما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبّة عن الأصمعيّ، و أخبرني به الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي مصعب - أنّ الحارث بن عوف أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: ابعث معي/من يدعو إلى دينك و أنا له جار. فأرسل معه رجلا من الأنصار. فغدرت بالحارث عشيرته فقتلوا الأنصاريّ، فقدم الحارث على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و كان عليه الصلاة و السلام لا يؤنّب أحدا في وجهه، فقال: «ادعوا لي حسّان»؛ فدعي له. فلمّا رأى الحارث أنشده:

يا حار من يغدر بذمّة جاره *** منكم فإنّ محمدا لم يغدر

ص: 365


1- فارع: اسم أطم، و هو حصن بالمدينة كان لحسان بن ثابت.
2- الفاختة: واحدة الفواخت، و هي ذوات الأطواق من الحمام؛ قيل لها ذلك للونها لأنه يشبه الفخت الذي هو ضوء القمر.
3- الخميلة: الأرض السهلة التي تنبت، شبه نبتها بخمل القطيفة.
4- الأشاجع: أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف، و قيل: هي عروق ظاهر الكف، واحدها: أشجع.
5- يقدم: أبو قبيلة، و هو يقدم بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار. و هو يحتمل أن يكون بضم الميم، فيكون علما منقولا عن جملة، نحو: نبئت أخوالي بني يزيد و أن يكون بكسرها، و بفتحها على أنه ممنوع من الصرف، فيكون فيه إقواء.
6- كذا في جميع الأصول. و كان الأولى أن يكون «قيل» أو «قالوا».

إن تغدروا فالغدر منكم شيمة *** و الغدر ينبت في أصول السّخبر(1)

فقال الحارث: اكففه عنّي يا محمد، و أؤدّي إليك دية الحفارة(2)؛ فأدّى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم سبعين عشراء(3)، و كذلك دية الخفارة، و قال: يا محمد، أنا عائذ بك من شرّه، فلو مزج البحر بشعره مزجه.

أنشد شعرا بلغ النبي فآلمه فضربه ابن المعطل و عوّضه النبي:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إبراهيم بن المنذر قال حدّثنا عبد اللّه بن وهب قال أخبرنا العطّاف بن خالد قال:

كان حسّان بن ثابت يجلس إلى أطمه فارع، و يجلس معه أصحاب له و يضع لهم بساطا يجلسون عليه؛ فقال يوما، و هو يرى كثرة من يأتي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من العرب فيسلمون:

/

أرى الجلابيب(4) قد عزّوا و قد كثروا *** و ابن الفريعة أمسى بيضة(5) البلد

فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال: «من لي بأصحاب البساط بفارع؟». فقال صفوان بن المعطّل: أنا لك يا رسول اللّه منهم؛ فخرج إليهم فاخترط سيفه، فلمّا رأوه عرفوا الشرّ في وجهه ففرّوا و تبدّدوا، و أدرك حسّان داخلا بيته، فضربه و فلق أليته. قال: فبلغنا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عوّضه و أعطاه حائطا(6)، فباعه من معاوية بعد ذلك بمال كثير، فبناه معاوية قصرا، و هو الذي يقال له: «قصر الدّارين». و قد قيل: إنّ صفوان بن المعطّل إنما ضرب حسّان لما قاله فيه و في عائشة زوج النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من الإفك(7)؛ لأن صفوان/هو الذي رمى أهل الإفك عائشة به.

ص: 366


1- السخبر: شجر إذا طال تدلت رءوسه و انحنت، و قيل: هو شجر من شجر الثمام له قضب مجتمعة و جرثومة. و في «اللسان» يقال: ركب فلان السخبر إذا غدر، و ذكر البيت.
2- الخفارة (مثلثة الخاء): الذمام.
3- العشراء من النوق: التي مضى على حملها عشرة أشهر، و قيل: ثمانية.
4- كذا في أكثر الأصول، و هو الموافق لما في «الطبري» (ص 1526 من القسم الأوّل) و «اللسان» مادة «بيض» و «التنبيه»: (ص 76 طبع دار الكتب المصرية) و «الأضداد في اللغة» (ص 118 طبع بيروت). و قال البكري في «التنبيه»: «و كان المنافقون يسمون المهاجرين رضي اللّه عنهم الجلابيب». و في «اللسان»: «أراد بالجلابيب سفلة الناس و غثراءهم». و في س و «تاج العروس شرح القاموس» (ج 5 ص 12) و «الديوان»: «الخلابيس». و قال في «الشرح»: الخلابيس: الأخلاط من كل وجه». (انظر «ديوانه» المطبوع في ليدن سنة 1910 ص 91).
5- العرب تقول للرجل: هو بيضة البلد، يمدحونه بذلك، و تقول للآخر: هو بيضة البلد، يذمونه بذلك. و الممدوح يراد به البيضة التي يحضنها الظليم و يقيها؛ لأن فيها فرخه. و المذموم يراد به البيضة المنبوذة بالعراء المذرة التي لا حافظ لها و لا يدري لها أب و هي تريكة الظليم. قال الرمّاني: إذا كانت النسبة إلى مثل المدينة و مكة و البصرة فبيضة البلد مدح، و إذا نسب إلى البلاد التي أهلها أهل ضعة فبيضة البلد ذم.
6- الحائط: البستان. و في كتاب «التنبيه» للبكري: فأعطاه النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عوضا: بيرحاء (و هي قصر بني جديلة اليوم بالمدينة)، و سيرين (أمة قبطية و هي أم عبد الرحمن بن حسان رضي اللّه عنهما). و سيذكر المؤلف هذه الرواية في ص 162 من هذا الجزء.
7- يعني أبو الفرج بالإفك هنا الحديث الذي تخرّصه قوم على عائشة رضي اللّه عنها، و كان ذلك عقب غزوة غزاها النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان يستصحب فيها عائشة؛ فحدث أنه أمر بالرحيل، و كانت عائشة منطلقة لبعض شأنها، فأمر بهودجها فحمل على بعيره، و ظن القوم أنها فيها و لم تكن هناك. فلما رجعت عائشة إلى الهودج ألفت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه قد ارتحلوا؛ فمكثت مكانها حتى عثر بها صفوان بن المعطل؛ فرجعها إلى المدينة؛ فأرجف بها أناس و رموها بالإفك، و كان منهم حسان بن ثابت رضي اللّه عنه.

/و أخبرنا محمد بن جرير قال حدّثنا محمد بن حميد قال حدّثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة قال:

اعترض صفوان بن المعطّل حسّان بن ثابت بالسّيف لما قذفه به من الإفك حين بلغه ما قاله. و قد كان حسّان قال شعرا يعرّض بابن المعطّل و بمن أسلم من العرب من مضر فقال:

أمسى الجلابيب قد عزّوا و قد كثروا *** و ابن الفريعة أمسى بيضة البلد

قد ثكلت أمّه من كنت صاحبه *** أو كان منتشبا في برثن الأسد

ما للقتيل الذي أعدو فآخذه *** من دية فيه أعطيها و لا قود(1)

ما البحر حين تهبّ الرّيح شامية(2) *** فيغطئلّ(3) و يرمي العبر بالزّبد

يوما بأغلب منّي حين تبصرني *** بالسيف أفري كفري العارض(4) البرد

فاعترضه صفوان بن المعطّل بالسيف فضربه و قال:

تلقّ ذباب السّيف عنّي فإنّني *** غلام إذا هو جيت لست بشاعر

قبض ثابت بن قيس على ابن المعطل لضربه له، ثم انتهى الأمر إلى النبي فاسترضاه:

و حدّثنا محمد بن جرير قال حدّثنا [ابن] حميد قال حدّثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التّيميّ:

أنّ ثابت بن قيس بن الشّمّاس أخا بلحارث بن الخزرج وثب على صفوان بن المعطّل في ضربه حسّان فجمع يديه على عنقه، فانطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد اللّه بن رواحة فقال: ما هذا؟ فقال: أ لا أعجّبك(5)! ضرب/حسّان بالسيف! و اللّه ما أراه إلاّ قد قتله. فقال له عبد اللّه بن رواحة: هل علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بشيء من هذا؟ قال: لا و اللّه. قال: لقد اجترأت! أطلق الرجل، فأطلقه. ثم أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فذكر ذلك له، فدعا حسّان و صفوان بن المعطّل؛ فقال ابن المعطّل: يا رسول اللّه، آذاني و هجاني فضربته. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لحسّان:

«يا حسّان أ تعيب على قومي أن هداهم اللّه عزّ و جلّ للإسلام!»، ثم قال: «أحسن يا حسّان في الذي أصابك». قال:

هي لك يا رسول اللّه.

إيراد ما تقدم برواية أخرى مفصلة:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني المدائنيّ قال حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدّثنا محمد بن إسحاق عن أبيه عن إسحاق بن يسار(6) عن بعض رجال بني النجّار بمثل ذلك، و زاد في الشعر الذي قاله

ص: 367


1- القود: القصاص.
2- في «ديوانه» ص 62: «شاملة».
3- كذا في «ديوانه». و اغطال الشيء: ركب بعضه بعضا. و في ح: «فيغضئل» بالغين و الضاد المعجمتين. و في سائر الأصول: «فيعضئل» بالعين المهملة و الضاد المعجمة، و كلاهما تحريف. و العبر: جانب النهر. و عبر الوادي: شاطئه و ناحيته.
4- العارض: السحاب المعترض في الأفق. و سحاب برد (بكسر الراء): فيه قرّ و برد.
5- يقال: عجبه بالشيء، إذا نبهه على التعجب منه.
6- كذا في م و هو الموافق لما في «الطبري» (قسم أول ص 1525 طبع أوروبا) و هو الصواب؛ لأنه يعني محمد بن إسحاق بن يسار -

حسان زيادة، و وافقه عليها مصعب الزّبيريّ، فيما أخبرنا به الحسن بن عليّ، قال قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمي مصعب في القصّة، فذكر أنّ فتية من المهاجرين و الأنصار تنازعوا على الماء و هم يسقون خيولهم، فغضب من ذلك حسّان فقال هذا الشعر.

و ذكر الزّهري، فيما أخبرنا أحمد بن يحيى بن الجعد، قال حدّثنا محمد بن إسحاق المسيّبي قال حدّثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزّهريّ أنّ هذا الخبر كان بعد غزوة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بني المصطلق(1).

قال:

/و كان في أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رجل يقال له: سنان(2)، و رجل من بني غفار يقال له: جهجاه(3)؛ فخرج جهجاه بفرس لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و فرس له يومئذ يسقيهما، فأوردهما الماء، فوجد على الماء فتية من الأنصار، /فتنازعوا فاقتتلوا؛ فقال عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول: هذا ما جزونا به، آويناهم ثم هم يقاتلوننا! و بلغ حسّان بن ثابت الذي بين جهجاه و بين الفتية الأنصار، فقال و هو يريد المهاجرين من القبائل الذين قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في الإسلام - و هذا الشعر من رواية مصعب دون الزّهريّ -:

أمسى الجلابيب(4) قد عزّوا و قد كثروا *** و ابن الفريعة أمسى بيضة البلد

يمشون بالقول سرّا في مهادنة *** تهدّدا لي كأنّي لست من أحد

قد ثكلت أمّه من كنت صاحبه *** أو كان منتشبا في برثن الأسد

ما للقتيل الذي أسمو فأقتله *** من دية فيه أعطيها و لا قود

ما البحر حين تهبّ الريح شامية *** فيغطئلّ و يرمي العبر بالزّبد

يوما بأغلب منّي حين تبصرني *** أفري من الغيظ فري العارض البرد

أمّا قريش فإنّي لست تاركهم *** حتى ينيبوا من الغيّات بالرّشد

/و يتركوا اللاّت و العزّى بمعزلة *** و يسجدوا كلّهم للواحد الصّمد

و يشهدوا أنّ ما قال الرسول لهم *** حقّ و يوفوا بعهد اللّه في سدد(5)

ص: 368


1- بنو المصطلق: بطن من خزاعة. و المصطلق: لقب جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة؛ و سمى بالمصطلق لحسن صوته، و هو أوّل من غنى من خزاعة.
2- كذا في «سيرة ابن هشام» (ص 726 طبع أوروبا) و «الطبري» (ص 1511 من القسم الأول طبع أوروبا). و في الأصول: «جعان». و قد ساق ابن هشام و الطبري هذه القصة هكذا: «فازدحم جهجاه و سنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، و صرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين؛ فغضب عبد اللّه بن أبيّ إلخ».
3- هو جهجاه بن سعيد الغفاري، كما في الطبري «و المعارف» لابن قتيبة (ص 165). و في «سيرة ابن هشام» (ص 726 طبع أوروبا): «جهجاه بن مسعود». و في «أسد الغابة»: «هو جهجاه بن قيس و قيل ابن سعيد بن سعد بن حرام بن غفار الغفاري من أهل المدينة».
4- انظر الحاشية رقم 1 ص 156 من هذا الجزء. و انظر هذا الشعر في «الديوان» و «سيرة ابن هشام» (ص 738 و فيما تقدم من هذا الجزء (ص 157) تجده مختلفا عما هنا في بعض ألفاظه.
5- السدد: القصد.

أبلغ بنيّ بأنّي قد تركت لهم *** من خير ما ترك الآباء للولد

الدّار واسطة و النخل شارعة *** و البيض يرفلن في القسّيّ(1) كالبرد

قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «يا حسان نفست(2) عليّ إسلام قومي» و أغضبه كلامه. فغدا صفوان بن المعطّل السّلميّ على حسّان فضربه بالسيف. و قال صفوان:

تلقّ ذباب السّيف عنّي فإنني *** غلام إذا هو جيت لست بشاعر

فوثب قومه على صفوان فحبسوه، ثم جاءوا سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة(3) بن ثعلبة بن طريف(4) بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، و هو مقبل على ناضحه بين القربتين، فذكروا له ما فعل حسّان و ما فعلوا؛ فقال: أ شاورتم في ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قالوا لا. فقعد إلى الأرض. و قال: و انقطاع ظهراه! أ تأخذون بأيديكم و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين ظهرانيكم! و دعا بصفوان فأتي به، فكساه و خلاّه. فجاء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من كساك كساه اللّه». و قال حسّان لأصحابه: احملوني إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم/أترضّاه ففعلوا؛ فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فردّوه. ثم سألهم فحملوه إليه الثانية؛ فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فانصرفوا به. ثم قال لهم: عودوا بي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فقالوا له: قد جئنا بك مرّتين كلّ ذلك يعرض فلا نبرمه(5) بك. فقال: احملوني إليه هذه المرّة وحدها، ففعلوا. فقال: يا رسول اللّه، بأبي أنت و أمّي! احفظ قولي:

هجوت محمدا فأجبت عنه *** و عند اللّه في ذاك الجزاء

فإنّ أبى و والده و عرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

/فرضي عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و وهب له سيرين(6) أخت مارية أمّ ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إبراهيم. هذه رواية مصعب(7). و أمّا الزّهريّ فإنّه ذكر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لمّا بلغه ضرب السّلميّ حسّان قال لهم: «خذوه فإن هلك حسّان فاقتلوه». فأخذوه فأسروه و أوثقوه؛ فبلغ ذلك سعد بن عبادة، فخرج في قومه إليهم فقال: أرسلوا الرجل، فأبوا عليه؛ فقال: أ عمدتم إلى قوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تؤذونهم و تشتمونهم و قد زعمتم أنّكم نصرتموهم! أرسلوا الرجل؛ فأبوا عليه حتى كاد يكون قتال، ثم أرسلوه. فخرج به سعد إلى أهله فكساه حلّة، ثم أرسله سعد إلى أهله. فبلغنا أنّ

ص: 369


1- القسي: ثياب من كتان مخلوط بحرير يؤتى بها من مصر؛ نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريبا من تنّيس يقال لها القس (بفتح القاف و كسرها).
2- نفس عليه الشيء: حسده عليه و لم يره أهلا له.
3- كذا في ح، و هو الموافق لما في «القاموس» (مادة حزم) و «طبقات ابن سعد» (ج 5 قسم 2 ص 115). و في سائر الأصول: «خزيمة» بالخاء المعجمة، و هو تصحيف.
4- كذا في «الطبقات». و في الأصول: «ظريف» بالظاء المعجمة.
5- أبرمه هنا: أضجره و أمله.
6- كذا في الأصول و «سيرة ابن هشام» (ص 739 طبع أوروبا) و «الطبري» (ص 1528، 1591، 1781 قسم أوّل) و «الإصابة» لابن حجر العسقلاني (ج 8 ص 118) و «التنبيه» للبكري (ص 76 طبع دار الكتب المصرية)، و ضبطها الزرقاني أيضا في «شرحه على المواهب» (ج 3 ص 325 طبع بولاق) بقوله: «سيرين بكسر السين المهملة و سكون المثناة التحتية و كسر الراء». و في «تاريخ ابن الأثير» (ج 2 ص 152) و «معجم البلدان» لياقوت (ج 1 ص 784): «شيرين بالشين المعجمة.
7- في الأصول: «أبي مصعب» و هو تحريف.

النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم دخل المسجد ليصلّي فيه، فقال: «من كساك كساه اللّه من ثياب الجنّة». فقال: كساني سعد بن عبادة.

و ذكر باقي الخبر نحوه.

شعره في مدح عائشة و الاعتذار عما رماها به:

و حدّثني محمد بن جرير الطبريّ قال حدّثني ابن حميد قال حدّثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث:

أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أعطاه عوضا منها بيرحاء(1)، و هي قصر بني حديلة(2) اليوم بالمدينة، كانت مالا لأبي طلحة(3) بن سهل تصدّق بها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فأعطاه حسّان في ضربته، و أعطاه سيرين (أمة قبطيّة) فولدت له عبد الرحمن بن حسّان. قال: و كانت عائشة تقول: لقد سئل عن صفوان بن المعطّل، فإذا هو حصور (لا يأتي النساء)؛ قتل بعد ذلك شهيدا. قال ابن إسحاق في روايته عن يعقوب بن عتبة: فقال حسّان يعتذر من الذي قال في عائشة:

حصان رزان ما تزنّ بريبة *** و تصبح غرثى من لحوم الغوافل

فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم *** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

و كيف و ودّي من قديم و نصرتي *** لآل رسول اللّه زين المحافل

فإنّ الّذي قد قيل ليس بلائط(4) *** و لكنّه(5) قول امرئ بي ما حل(6)

هجاه رجل بما فعل به ابن المعطل:

قال الزبير و حدّثني محمد بن الضحّاك: أنّ رجلا هجا حسّان بن ثابت بما فعل به ابن المعطّل فقال:

و إنّ ابن المعطّل من سليم *** أذلّ قياد رأسك بالخطام(7)

ص: 370


1- في «النهاية» لابن الأثير (مادة برح): «هذه اللفظة كثيرا ما تختلف ألفاظ المحدّثين فيها، فيقولون: بيرحاء بفتح الباء و كسرها و بفتح الراء و ضمها و المدّ فيهما و بفتحهما و القصر، و هي اسم مال و موضع بالمدينة».
2- كذا في «اللسان» (مادة حدل) و «معجم البلدان» لياقوت (ج 1 ص 784 طبع أوروبا)، و «تاريخ ابن الأثير» ج 2 ص 152 طبع أوروبا) و «سيرة ابن هشام» (ص 739 طبع أوروبا). و قد جاء في «اللسان»: «حديلة بضم الحاء و فتح الدال، هي محلة بالمدينة نسبت إلى بني حديلة بطن من الأنصار». و في الأصول و كتاب «التنبيه» للبكري (ص 76): «جديلة» بالجيم المعجمة، و هو تصحيف.
3- كذا في «اللسان» (مادة برح) و «معجم البلدان» (ج 1 ص 784 طبع أوروبا) و «سيرة ابن هشام». و في الأصول: «لطلحة» بدون «أبي» و هو تحريف.
4- كتب في ح بين السطور بخط رفيع فوق هذه الكلمة تفسيرا لها: «لائق». و في «اللسان» (مادة ليط): «... أبو زيد: يقال: ما يليط به النعيم و لا يليق به، معناه واحد».
5- رواية «الديوان»: بك الدهر بل سعى امرئ بك عاجل
6- محل به إلى السلطان محلا و محالا: كاده بسعاية إليه.
7- الخطام: الحبل الذي يقاد به البعير.
سبه أناس فدافعت عنه عائشة:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرنا أبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني محمد بن السائب عن أمّه: أنّها طافت مع عائشة و معها أمّ حكيم و عاتكة: (امرأتان من بني مخزوم). قالت:

فابتدرنا حسّان نشتمه و هو يطوف؛ فقالت: ابن الفريعة تسببن! قلن: قد قال فيك فبرّأك اللّه. قالت: فأين قوله:

هجوت محمدا فأجبت عنه *** و عند اللّه في ذاك الجزاء

فإنّ أبي و والده و عرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثني إبراهيم بن المنذر عن سفيان بن عيينة عن محمد بن السائب بن بركة عن أمّه بنحو ذلك، و زاد فيه: إني لأرجو أن يدخله اللّه الجنّة بقوله.

أخبرني الحسن قال حدّثنا الزّبير عن عبد العزيز بن عمران عن سفيان بن عيينة و سلّم بن خالد عن يوسف بن ماهك عن أمّه قالت:

كنت أطوف مع عائشة/بالبيت، فذكرت حسّان فسببته؛ فقالت: بئس ما قلت! أ تسبّينه و هو الذي يقول:

فإنّ أبي و والده و عرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

/فقلت: أ ليس ممن لعن اللّه في الدنيا و الآخرة بما قال فيك؟ قالت: لم يقل شيئا، و لكنه الذي يقول:

حصان رزان ما تزنّ بريبة *** و تصبح غرثى من لحوم الغوافل

فإن كان ما قد جاء عنّي قلته *** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

أخبرني الحسن قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني مصعب عمّي قال حدّثني بعض أصحابنا عن هشام بن عروة عن أبيه قال:

كنت قاعدا عند عائشة، فمرّ بجنازة حسّان بن ثابت فنلت منه؛ فقالت: مهلا! فقلت: أ ليس الذي يقول! قالت: فكيف يقوله:

فإنّ أبي و والده و عرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

أخبره بلسانه:

أخبرني الحسن قال حدّثنا أحمد قال حدّثني أحمد بن سلمان عن سليمان بن حرب قال حدّثنا حمّاد بن زيد عن أيّوب(1) عن محمد بن سيرين:

أنّ حسّان أخذ يوما بطرف لسانه و قال: يا رسول اللّه، ما يسرّني أنّ لي به مقولا(2) بين صنعاء و بصرى(3)، ثم قال:

ص: 371


1- يريد أيوب بن أبي تميمة السختياني، كما في «الخلاصة» للخزرجي.
2- كذا في ب، ح. و المغول: سيف دقيق له حد ماض. و في «الديوان» (ص 2): «لساني صارم... إلخ». و في سائر الأصول: «لساني مقول».
3- بصرى. اسم لموضعين: بصرى الشام من أعمال دمشق و هي قصبة كورة حوران، و بصرى بغداد و هي إحدى قراها قرب عكبراء.

لساني مغول لا عيب فيه *** و بحري ما تكدّره الدّلاء

عن مناصرة أمية بنت عبد مناف يوم الخندق:

أخبرنا محمد بن جرير قال حدّثنا محمد بن حميد قال حدّثنا سلمة قال حدّثني محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزّبير عن أبيه قال:

/كانت صفيّة بنت عبد المطّلب في فارع (حصن حسّان بن ثابت)، يعني يوم الخندق. قالت: و كان حسّان معنا فيه و النساء و الصّبيان. قالت: فمرّ بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن، و قد حاربت بنو قريظة و قطعت ما بينها و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، ليس بيننا و بينهم أحد يدفع عنّا، و رسول اللّه و المسلمون في نحور عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم، إذ أتانا آت. قالت: فقلت: يا حسّان، إنّ هذا اليهوديّ كما ترى يطيف بالحصن، و إنّي و اللّه ما آمنه أن يدلّ على عوراتنا من وراءنا من يهود، و قد شغل عنّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه، فانزل إليه فاقتله؛ فقال: يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطّلب! لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت: فلمّا قال ذلك و لم أر عنده شيئا احتجزت(1) ثم أخذت عمودا ثم نزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته، فلمّا فرغت منه رجعت إلى الحصن، فقلت:

يا حسّان، انزل إليه فاسلبه؛ فإنّه لم يمنعني من سلبه إلاّ أنّه رجل. قال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطّلب.

حديث ابن الزبير عن يوم الخندق و في حديثه ما يبين جبن حسان:

و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا عليّ بن صالح عن جدّي عبد اللّه بن مصعب عن أبيه قال:

كان ابن الزّبير يحدّث أنه كان في فارع (أطم حسّان بن ثابت) مع النساء يوم الخندق و معهم عمر بن أبي سلمة. قال ابن الزّبير: و معنا حسّان بن ثابت ضاربا وتدا في آخر الأطم، فإذا حمل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على المشركين حمل على الوتد فضربه بالسيف؛ و إذا أقبل المشركون انحاز عن الوتد حتّى كأنه يقاتل قرنا، يتشبّه بهم كأنّه يري أنّه مجاهد حين جبن. و إنّي لأظلم ابن أبي سلمة/و هو أكبر منّي بسنتين فأقول له: تحملني على عنقك حتّى انظر، فإنّي أحملك إذا نزلت. قال: فإذا حملني ثم سألني أن يركب قلت له: هذه المرّة أيضا. قال: و إنّي لأنظر إلى أبي معلما بصفرة، فأخبرتها أبى بعد؛ فقال: [أين كنت(2) حينئذ؟ فقلت: على عنق ابن أبي سلمة يحملني.

فقال]: أما و الّذي نفسي بيده إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليجمع لي أبويه(3).

قال ابن الزّبير: و جاء يهوديّ يرتقي إلى الحصن. فقالت صفيّة له: أعطني السيف، فأعطاها. فلمّا ارتقى اليهوديّ ضربته حتّى قتلته، ثم احتزّت(4) رأسه فأعطته حسّان و قالت: طوّح به؛ فإنّ الرجل أقوى و أشدّ رمية من المرأة. تريد أن ترعب به أصحابه.

ص: 372


1- يقال: احتجز بردائه، إذا شدّه على وسطه.
2- هذه العبارة موجودة في س و ساقطة من سائر الأصول.
3- يعني أن النبي صلوات اللّه عليه كان يقول له: فداك أبي و أمي.
4- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «اجتزت» بالجيم المعجمة. و ما اخترناه أصوب في هذا المقام؛ لأن الحز قطع العنق و نحوه، و الجز للشعر و الحشيش و نحوهما.
كان حسان مقطوع الأكحل:

قال الزّبير: و حدّثني عمّي عن الواقديّ قال: كان أكحل(1) حسّان قد قطع فلم يكن يضرب بيده.

أنشد النبي شعرا في شجاعته فضحك:

قال الزّبير و حدّثني عليّ بن صالح عن جدّي أنّه سمع أن حسّان بن ثابت أنشد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:

لقد غدوت أمام القوم منتطقا *** بصارم مثل لون الملح قطّاع

يحفز(2) عنّي نجاد السيف سابغة(3) *** فضفاضة(4) مثل لون النّهي بالقاع

/قال: فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فظنّ حسّان أنه ضحك من صفته نفسه مع جبنه.

قال النابغة: إنه شاعر و الخنساء بكاءة:

قال الزّبير و حدّثني محمد بن الحسن قال:

قال حسّان بن ثابت: جئت نابغة بني ذبيان، فوجدت الخنساء بنت عمرو حين قامت من عنده، فأنشدته؛ فقال: إنّك لشاعر، و إنّ أخت بني سليم لبكّاءة.

سمعه الحطيئة ينشد فسأله و هو لا يعرفه فأجابه الحطيئة بما لم يرضه:

قال الزّبير و حدّثني يحيى بن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصّدّيق قال أخبرني غير واحد من مشايخي(5)أنّ الحطيئة وقف على حسّان بن ثابت و حسّان ينشد من شعره؛ فقال له حسّان و هو لا يعرفه: كيف تسمع هذا الشعر يا أعرابيّ؟ قال الحطيئة: لا أرى به بأسا. فغضب حسّان و قال: اسمعوا إلى كلام هذا الأعرابيّ! ما كنيتك؟ قال: أبو مليكة. قال: ما كنت قطّ أهون عليّ منك حين كنّيت بامرأة، فما اسمك؟ قال: الحطيئة فقال حسّان:

امض بسلام.

اتهمه أعشى بكر عند خمار بالبخل فاشترى كل الخمر و أراقها:

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثني محمد بن الحسن بن مسعود الزّرقيّ(6) قال حدّثنا عبد اللّه بن

ص: 373


1- الأكحل: عرق في وسط الذراع؛ قال ابن سيده: يقال له عرق النسا في الفخذ، و في الظهر الأبهر، و يسمى: عرق الحياة و نهر البدن.
2- يحفز: يدفع.
3- يقال: درع سابغة، إذا كانت طويلة تامة.
4- فضفاضة: واسعة. و النهي: الغدير. و في «الديوان» (ص 66 طبع أوروبا) ورد هذا الشطر هكذا: تغشى الأنامل مثل النهي بالقاع و فسره في (ص 95) بقوله: «شبه الدرع في بياضها و اطرادها بالغدير».
5- في الأصول: «من مشايخه».
6- الزرقيّ: نسبة إلى بني زريق، بطن من الأنصار، و هم بنو زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم الخزرجي. (راجع «أنساب السمعاني»).

شبيب قال حدّثني الزّبير، و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثني الزّبير قال حدّثني بعض القرشيين قال:

دخل حسّان بن ثابت في الجاهليّة بيت خمّار بالشّام و معه أعشى بكر بن وائل، فاشتريا خمرا و شربا، فنام حسّان ثم انتبه، فسمع الأعشى يقول للخمّار: كره الشيخ/الغرم. فتركه حسّان حتّى نام، ثم اشترى خمر الخمّار كلّها. ثم سكبها في البيت حتّى سالت تحت الأعشى؛ فعلم أنّه سمع كلامه فاعتذر إليه؛ فقال حسّان:

و لسنا بشرب فوقهم ظلّ بردة *** يعدّون للخمّار تيسا و مفصدا(1)

و لكنّنا شرب كرام إذا انتشوا *** أهانوا الصّريح(2) و السّديف المسرهدا

كأنّهم ماتوا زمان(3) حليمة *** فإن تأتهم تحمد ندامتهم(4) غدا

و إن جئتهم ألفيت حول بيوتهم *** من المسك و الجادي(5) فتيتا مبدّدا

ترى حول أثناء الزّرابيّ(6) ساقطا *** نعالا و قسّوبا(7) و ريطا(8) منضّدا

/و ذا نمرق(9) يسعى و ملصق خدّه *** بديباجة تكفافها قد تقدّدا

ص: 374


1- كذا في أكثر من خمس نسخ مختلفة من «ديوانه». و المفصد: آلة الفصد. يريد أنهم ملوك لا يفصدون التيس و يأكلون دمه. و في الأصول: «و مقصدا» بالقاف و هو تصحيف. و في أكثر نسخ «الديوان»: «للحانوت» بدل «للخمار».
2- رواية «الديوان»: ملوك و أبناء الملوك إذا انتشوا أهانوا الصبوح و السديف المسرهدا و الصريح: اللبن ذهبت رغوته. و السديف: لحم السنام، و قيل شحمه. و المسرهد: السمين من الأسنمة.
3- في «ديوانه»: و تحسبهم ماتوا زمين حليمة يقول: تراهم من سكرهم كأنهم موتى. و زمان حليمة، يشير به إلى أحد أيام العرب المعروفة، و هو يوم التقى المنذر الأكبر و الحارث الأكبر الغساني. و العرب تضرب به المثل في كل أمر متعالم مشهور، و للشريف النابه الذكر، فتقول: «ما يوم حليمة بسر». و حليمة هذه هي بنت الحارث بن أبي شمر. و سبب إضافة اليوم إليها أنها أخرجت طيبا في مركن فطيبت به جيش أبيها الذي وجّه به إلى المنذر. قال النابغة يصف سيوفا: تورثن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جرّبن كل التجارب (انظر: «لسان العرب» مادة حلم و «نهاية الأرب» ج 3 ص 51 طبع دار الكتب المصرية).
4- ندامتهم: منادمتهم و مجالستهم.
5- الجاديّ: الزعفران.
6- الزرابي: الطنافس. و في «الصحاح»: النمارق، الواحد من كل ذلك زربية (بفتح الزاي و سكون الراء). و قد ورد هذا البيت و في «اللسان» مادّة قسب و بعض نسخ «الديوان» هكذا: ترى فوق أذناب الروابي سواقطا نعالا و قسوبا و ريطا معضدا
7- كذا في «ديوانه» و «لسان العرب». و القسوب: خفاف لا واحد له. و في الأصول: «قسيا».
8- الريط: جمع ريطة، و هي الملاءة إذا كانت قطعة واحدة و لم تكن لفقين، أو هي كل ثوب لين رقيق.
9- النمرق و النمرقة: وسادة صغيرة يتكأ عليها، و ما يفترشه الراكب فوق الرحل، و هو المراد هنا. و في بعض نسخ «الديوان»: و ذو نطف يسعى ملصق خده و النطف: القرط. و التكفاف، لعله يريد به الخياطة الثانية بعد الأولى التي هي الشل. و تقدد: تقطع و بلي.
تعييره الحارث بن هشام بفراره عن أخيه و ردّ الحارث عليه:
اشارة

و هذه القصيدة يقولها حسّان بن ثابت في وقعة بدر يفخر بها و يعيّر الحارث بن هشام بفراره عن أخيه أبي جهل بن هشام. و فيها يقول:

صوت

إن كنت كاذبة الذي حدّثتني *** فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبّة أن يقاتل دونهم *** و نجا برأس طمرّة(1) و لجام

- غنّاه يحيى المكيّ خفيف ثقيل أوّل بالوسطى. و لعزّة الميلاء فيه خفيف رمل بالبنصر. و فيه خفيف ثقيل بالبنصر لموسى بن خارجة الكوفيّ - فأجاب الحارث بن هشام، و هو مشرك يومئذ، فقال:

صوت

اللّه(2) يعلم ما تركت قتالهم *** حتّى رموا فرسي بأشقر(3) مزبد

و علمت أنّي إن أقاتل واحدا *** أقتل و لا يضرر عدوّي مشهدي

ففررت منهم و الأحبّة فيهم *** طمعا لهم بعقاب يوم مرصد

غنّى فيه إبراهيم الموصليّ خفيف ثقيل أوّل بالبنصر، و قيل: بل هو لفليح.

تمثل رتبيل بشعر حسان فأنشده الأشعث ردّ الحارث فأعجب به:

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثني سليمان بن أيّوب قال حدّثنا محمد بن سلاّم عن يونس قال:

/لمّا صار ابن الأشعث إلى رتبيل(4)، تمثّل رتبيل بقول حسّان بن ثابت في الحارث بن هشام:

ترك الأحبّة أن يقاتل دونهم *** و نجا برأس طمرّة و لجام

فقال له ابن الأشعث: أ و ما سمعت ما ردّ عليه الحارث بن هشام؟ قال: و ما هو؟ فقال قال:

اللّه يعلم ما تركت قتالهم *** حتى رموا فرسي بأشقر مزبد

و علمت أنّي إن أقاتل واحدا *** أقتل و لا يضرر عدوّي مشهدي

فصددت عنهم و الأحبّة فيهم *** طمعا لهم بعقاب يوم مرصد

فقال رتبيل: يا معشر العرب، حسّنتم كلّ شيء حتى حسّنتم الفرار.

ص: 375


1- الطمرة: الأنثى من الجياد. و هي المستفزة للوثب و العدو، و قيل: الطويلة القوائم الخفيفة.
2- انظر هذه الأبيات في أشعار «الحماسة» و «سيرة ابن هشام» (ص 253 طبع أوروبا).
3- الأشقر منّ الدم: الذي صار علقا و لم يعله غبار. و زبده: البياض الذي يعلوه.
4- رتبيل (و يقال فيه زنبيل كما في «الطبري» و «ابن الأثير»): صاحب الترك، كان بنواحي سجستان، و قد غزاه في سنة 79 ه عبيد اللّه بن أبي بكرة، و كان واليا بسجستان، و توغل في بلاده و أصاب منه غنائم و أموالا و هدم قلاعا و حصونا. و غزاه في سنة 80 هجرية عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث من قبل الحجاج، فدخل بلاده و أخذ منها الغنائم و استولى على الحصون. و كتب إلى الحجاج بذلك و يشير عليه ألا يتوغل في البلاد؛ فأبى الحجاج ذلك و كتب له ثلاثة كتب يأمره فيها بمحاربته و التوغل في بلاده؛ و كان من جراء ذلك أن خرج عبد الرحمن بن الأشعث على الحجاج و بايعه الناس، و كان من أمرهما ما كان مما تراه مفصلا في «كتب التاريخ».

43 - ذكر الخبر عن غزاة بدر

أخبار غزاة بدر:

حدّثني بخبرها محمد بن جرير الطبري في «المغازي» قال حدّثنا محمد بن حميد قال حدّثنا سلمة قال حدّثني محمد بن إسحاق قال حدّثني محمد بن مسلم الزّهريّ و عاصم بن عمر بن قتادة و عبد اللّه بن أبي بكر و يزيد بن رومان عن غزوة بدر و غيرهم من علمائنا عن عبد اللّه بن عبّاس، كلّ قد حدّثني بعض هذا الحديث، فاجتمع حديثهم فيما سمعت من حديث بدر، قالوا:

ندب النبي المسلمين للعير و استنفار أبي سفيان لقريش:

لمّا سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم، و قال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها؛ فلعلّ اللّه أن ينفلكموها»(1). فانتدب الناس، فخفّ بعضهم و ثقل بعضهم؛ و ذلك أنّهم لم يظنّوا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يلقى حربا. و كان أبو سفيان استقدم حين دنا من الحجاز و جعل يتجسّس(2) الأخبار، و يسأل من لقي من/الرّكبان، تخوّفا على أموال الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الرّكبان أنّ محمدا استنفر أصحابه لك و لعيرك، فجدّ(3) عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ فبعثه إلى مكة و أمره أن يأتي قريشا يستنفرهم إلى أموالهم و يخبرهم أنّ محمدا قد عرض لها في أصحابه؛ فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.

رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب:

قال ابن إسحاق: و حدّثني من لا أتّهم عن عكرمة مولى ابن عبّاس و يزيد بن رومان عن عروة بن الزّبير قال(4):

و قد رأت عاتكة بنت عبد المطّلب قبل قدوم ضمضم [مكة](5) بثلاث [ليال](5) رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العبّاس بن عبد المطلب، فقالت: يا أخي، و اللّه لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني و تخوّفت أن يدخل على قومك [منها](5) شرّ أو مصيبة، فاكتم عني(6) ما أحدّثك. قال لها: و ما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى

ص: 376


1- نفله النفل و نفّله (بالتضعيف) و أنفله: أعطاه الغنيمة أو الهبة.
2- في ح «و السيرة»: «يتحسس» (بالحاء المهملة). و التجسس و التحسس كلاهما بمعنى واحد و هو تطلّب الأخبار و البحث عنها.
3- في «السيرة» (ص 428 طبع أوروبا): «فحذر».
4- الذي في «السيرة»: «عن عكرمة عن ابن عباس و يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قالا». و عكرمة هذا هو عكرمة أبو عبد اللّه البربري مولى ابن عباس و يروى عنه.
5- الزيادة عن «سيرة ابن هشام».
6- كذا في «السيرة». و في الأصول: «عليّ».

وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: أن انفروا/يا آل غدر(1) لمصارعكم في ثلاث؛ و أرى(2) الناس قد اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد و الناس يتبعونه؛ فبينما هم حوله مثّل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بأعلى صوته:

انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي، حتّى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضّت(3)، فما بقي بيت من بيوت مكة و لا دار من دورها إلاّ دخلتها منها فلقة. قال العباس: إنّ هذه لرؤيا، و أنت فاكتميها و لا تذكريها لأحد. ثم خرج العبّاس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة، و كان له صديقا، فذكرها [له](4) و استكتمه إيّاها؛ فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث [بمكة](4) حتى تحدثت به قريش. قال العبّاس: فغدوت أطوف بالبيت، و أبو جهل بن هشام و رهط من قريش قعود يتحدّثون برؤيا عاتكة. فلمّا رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا؛ فلمّا فرغت أقبلت إليه حتى جلست معهم. فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطّلب(5)، متى حدثت فيكم هذه النّبيّة؟! قال: قلت: و ما ذاك؟ قال: الرؤيا التي رأت عاتكة. قلت: و ما رأت؟ قال: يا بني عبد المطّلب، أ ما رضيتم أن تتنبّأ رجالكم حتى تتنبّأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنّها(6) قالت: انفروا في ثلاث؛ فسنتربّص بكم هذه الثلاث؛ فإن يكن ما قالت حقّا فسيكون، و إن تمض الثلاث و لم يكن من ذلك شيء نكتب كتابا عليكم أنّكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العبّاس: /فو اللّه ما كان إليه منّي كبير إلاّ أن جحدت ذلك و أنكرت أن تكون رأت شيئا. قال: ثم تفرّقنا. فلمّا أمسينا(7) لم تبق امرأة من بني عبد المطّلب إلاّ أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، و يتناول النساء و أنت تسمع، و لم يكن عندك غير(8) لشيء مما سمعت؟! قلت: قد و اللّه فعلت، ما كان منّي إليه من كبير، و أيم اللّه لأتعرّضنّ له؛ فإن عاد لأكفينّكه(9). قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة و أنا حديد مغضب أرآى [أنّي](10) قد فاتني منه أمر أحبّ أن أدركه منه. قال: فدخلت المسجد فرأيته، فو اللّه إنّي لأمشي نحوه العرضنة(11) ليعود لبعض ما كان فأوقع به. و كان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللّسان حديد النّظر، إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ(12). قال: قلت في نفسي: ما له لعنه اللّه! أ كلّ هذا فرقا أن أشاتمه! فإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو الغفاريّ/و هو يصرخ ببطن الوادي [واقفا على بعيره قد جدّع بعيره و حوّل رحله و شقّ قميصه و هو يقول](10): يا معشر قريش اللّطيمة(13) [اللطيمة!](10) أموالكم مع أبي سفيان بن حرب قد عرض لها

ص: 377


1- غدر: كصرد، و أكثر ما يستعمل في النداء في الشتم؛ فيقال للمفرد يا غدر، و للجمع يا آل غدر. و قال ابن الأثير: غدر معدول عن غادر للمبالغة. و يقال للذكر: غدر، و الأنثى غدار (كقطام)، و هما مختصان بالنداء في الغالب.
2- في «السيرة»: «فأرى».
3- أرفضت: تفرّقت.
4- الزيادة عن «سيرة ابن هشام».
5- كذا في «السيرة». و في الأصول: «يا بني عبد مناف» و لا يخفى أن عبد مناف جد عبد المطلب.
6- في «سيرة ابن هشام»: «أنه قال انفروا إلخ» و يكون المراد بضمير المذكر الهاتف الذي رأته.
7- في «السيرة»: «أمسيت».
8- مصدر قولك: غار الرجل على امرأته غيرة و غيرا.
9- كذا في «السيرة». و في الأصول: «لأكفينكموه» و هو تحريف إذ الخطاب لجماعة الإناث.
10- زيادة عن «السيرة».
11- يقال: فلان يمشي العرضنة و العرضنى أي في مشيته بغى من نشاطه. و في «السيرة لابن هشام»: «إني لأمشي نحوه أتعرّضه».
12- يشتدّ: يعدو.
13- اللطيمة: العير يحمل الطيب و بزّ التجار.

محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها! الغوث الغوث! قال: فشغلني عنه و شغله عنّي ما جاء من الأمر. قال:

فتجهّز الناس سراعا، و قالوا: لا يظنّ محمد و أصحابه أن تكون كعير ابن الحضرميّ(1)! كلاّ و اللّه ليعلمنّ غير ذلك! فكانوا بين رجلين: إمّا خارج و إمّا باعث مكانه رجلا.

خروج قريش و إرسال أبي لهب العاصي بن هشام مكانه:

و أوعبت قريش فلم يتخلّف من/أشرافها أحد إلا أبو لهب بن عبد المطلب تخلّف فبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، و كان لطّ(2) له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، فأفلس(3) بها، فاستأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه، فخرج عنه و تخلّف أبو لهب. هكذا في الحديث. فذكر أبو عبيدة و ابن الكلبيّ: أنّ أبا لهب قامر العاصي بن هشام في مائة من الإبل، فقمره(4) أبو لهب، ثم عاد فقمره أيضا، ثم عاد فقمره أيضا الثالثة، فذهب بكلّ ما كان يملكه. فقال له العاصي: أرى القداح قد حالفتك يا ابن عبد المطّلب، هلمّ نجعلها على أيّنا يكون عبدا لصاحبه؛ قال: ذلك لك؛ فدحاها(5) فقمره أبو لهب، فأسلمه قينا، و كان يأخذ منه ضريبة. فلما كان يوم بدر و أخذت قريش كلّ من لم يخرج بإخراج رجل مكانه أخرجه أبو لهب عنه و شرط له العتق؛ فخرج فقتله عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

رجع الحديث إلى وقعة بدر.

وبخ ابن أبي معيط أمية بن خلف لإجماعه القعود فخرج:

قال محمد بن إسحاق: و حدّثني عبد اللّه بن أبي نجيح:

أنّ أميّة بن خلف كان قد أجمع القعود، و كان شيخا [جليلا جسيما](6) ثقيلا، فجاءه عقبة بن أبي معيط و هو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها، فيها نار و مجمر(7)، حتّى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا عليّ، استجمر فإنّما أنت/من النساء! قال: قبّحك اللّه و قبّح ما جئت به! ثم تجهّز و خرج مع الناس. فلمّا فرغوا من جهازهم و أجمعوا السير، ذكروا ما [كان](8) بينهم و بين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب(9)، فقالوا: إنّا نخشى أن يأتوا من خلفنا.

تخوّف قريش من كنانة و تأمين إبليس لهم:

قال محمد بن إسحاق: فحدّثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزّبير قال: لمّا أجمعت قريش المسير ذكرت

ص: 378


1- هو عمرو بن الحضرمي. و قد أورد ابن هشام في «السيرة» خبر هذه العير.
2- كذا في هامش «تاريخ الطبري» (ص 1295 من القسم الأوّل). و لط الغريم بالحق: ما طل فيه و منعه، و لط حقه: جحده. و في حديث طهفة: «لا تلطط في الزكاة» أي لا تمنعها. و في الأصول: «لاط» و هو تحريف.
3- في «السيرة»: «أفلس» بدون الفاء.
4- قمره: غلبه في المقامرة.
5- دحاها: رماها. و الدحو: رمى اللاعب بالحجر أو الجوز و غيره. و ذلك أنهم كانوا يحفرون حفرة بمقدار الحجر الذي يريدون رميه، ثم يتنحون عنها قليلا و يرمون بالأحجار إليها؛ فإن وقعت الأحجار في الحفرة غلب صاحبها و إن لم تقع فيها غلب. و تسمى تلك الأحجار المداحي، واحدها: مدحاة.
6- الزيادة عن «السيرة».
7- المجمر: العود يتبخر به.
8- الزيادة عن «السيرة».
9- كذا في «السيرة». و في الأصول: «كنانة بن الحارث» و هو تحريف.

الذي بينها و بين بني(1) بكر بن عبد مناة، فكاد ذلك أن يثبّطهم، فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجيّ، و كان من أشراف بني كنانة، فقال: إنّي جار لكم من أن تأتيكم كنانة [من خلفكم](2) بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا.

خروج النبيّ و عدد جيشه و الطريق التي سلكها:

و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - فيما بلغني عن غير ابن إسحاق - لثلاث ليال خلون من شهر رمضان المعظّم في ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا من أصحابه. فاختلف في مبلغ الزيادة على العشرة؛ فقال بعضهم: كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا. و كان المهجرون يوم بدر سبعة و سبعين رجلا، و كان الأنصار مائتين و ستة و ثلاثين رجلا، و كان صاحب راية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، و كان صاحب راية الأنصار سعد بن عبادة.

/حدّثنا محمد قال حدّثنا هارون بن إسحاق قال حدّثنا مصعب بن المقدام، قال أبو جعفر و حدّثني محمد بن إسحاق الأهوازيّ قال حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ قال حدّثنا إسرائيل قال حدّثنا أبو إسحاق عن البراء قال(3)كنّا نتحدّث أنّ عدّة أصحاب بدر على عدّة أصحاب طالوت الذين/جازوا معه النهر - و لم يجز معه إلاّ مؤمن - ثلاثمائة و بضعة عشر.

استشارة النبيّ لأصحابه و تأييد الأنصار له:

قال ابن إسحاق في حديثه عمّن روى عنه: و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في أصحابه، و جعل على الساقة(4) قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجّار، في ليال مضت من رمضان؛ فسار حتّى إذا كان قريبا من الصّفراء بعث بسبس بن عمرو الجهنيّ حليف بني ساعدة و عدي بن أبي الزّغباء حليف بني النجّار إلى بدر يتجسّسان(5) له الخبر عن أبي سفيان بن حرب و غيره، ثم ارتحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قدّمهما. فلمّا استقبل الصّفراء، و هي قرية بين جبلين، سأل عن جبليها ما اسماهما؟ فقيل: يقال لأحدهما هذا مسلح، و للآخر هذا مخرئ؛ و سأل عن أهلها فقالوا: بنو النّار، و بنو حراق (بطنان من غفار)؛ فكرههما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المرور بينهما، و تفاءل(6) باسميهما و أسماء أهاليهما، فتركهما و الصفراء يسارا، و سلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران فخرج منه، حتّى إذا كان ببعضه نزل، و أتاه

ص: 379


1- كانت الحرب التي بين قريش و بين بني بكر في ابن الحفص بن الأخيف أحد بني معيص بن عامر بن لؤي، قتله بنو بكر بضجنان، و كان خرج يبتغي بها ضالة له، بإيعاز من سيدهم عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح، فثأر للغلام أخوه مكرز من عامر بن يزيد بأن قتله و خاض بطنه بسيفه، ثم أتى به الكعبة ليلا فعلقه بأستارها. فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد معلقا بأستار الكعبة فعرفوه، فقالوا: إن هذا لسيف عامر بن يزيد عدا عليه مكرز بن حفص فقتله. (انظر «السيرة» لابن هشام ج 1 ص 431 طبع أوروبا).
2- الزيادة عن «السيرة».
3- كذا في الأصول. و لعله: «قالا».
4- ساقه الجيش: مؤخرته.
5- في ح: «يتحسان». (انظر الحاشية رقم 2 ص 171 من هذا الجزء).
6- تفاءل هنا بمعنى تطير. و الفأل يكون فيما يحسن و يسوء، و الطيرة لا تكون إلا فيما يسوء. و في الحديث عن أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «لا عدوى و لا طيرة و يعجبني الفأل الصالح». و الفأل الصالح: الكلمة الحسنة. و هذا يدل على أن من الفأل ما يكون صالحا و منه ما يكون غير صالح.

الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم؛ فاستشار النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الناس و أخبرهم/عن قريش، فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول اللّه، امض لما أمرك اللّه فنحن معك.

و اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون معلمون(1). فو الّذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلى برك(2) الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك حتّى تبلغه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خيرا و دعا له بخير.

حدّثنا محمد قال حدّثنا محمد بن عبيد المحاربيّ قال حدّثني إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى قال حدّثنا المخارق عن طارق عن عبد اللّه بن مسعود قال:

شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه أحبّ إليّ مما في الأرض من كلّ شيء، كان رجلا فارسا، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا غضب احمارّت وجنتاه، فأتاه المقداد على تلك الحال، فقال: أبشر يا رسول اللّه، فو اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، و لكن و الذي بعثك بالحقّ لنكونن بين يديك و من خلفك و عن يمينك و شمالك أو يفتح اللّه تبارك و تعالى.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق:

ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أشيروا عليّ أيّها الناس». و إنما يريد الأنصار؛ و ذلك أنّهم كانوا عدد الناس، و أنّهم حين بايعوا بالعقبة قالوا: يا رسول اللّه إنا برآء من ذمامك حتّى نصير إلى دارنا، فإذا وصلت فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا و أبناءنا و نساءنا. فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يتخوّف ألاّ تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلاّ ممن دهمه بالمدينة من عدوّه، و أن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوّ في غير بلادهم. فلما قال ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال له سعد بن معاذ: و اللّه لكأنك تريدنا يا رسول اللّه. قال: «أجل». قال: فقد آمنّا بك يا رسول اللّه و صدّقناك و شهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، و أعطيناك على ذلك عهودنا و مواثيقنا على السمع و الطاعة، فامض بنا يا رسول اللّه لما أردت [فنحن معك](3). فو الذي/بعثك بالحقّ لو استعرضت(4) بنا هذا البحر و خضته لخضناه معك ما يتخلّف منّا رجل واحد، و ما نكره أن تلقى بنا عدوّا غدا. إنّا لصبر عند الحرب، صدق(5) عند اللّقاء، لعل اللّه تعالى أن يريك [منّا](3) ما تقرّ به عينك؛ فسر بنا على بركة اللّه. فسرّ(6) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم [بقول سعد](3) و نشّطه ذلك؛ ثم قال:

ص: 380


1- أعلم نفسه: و سمها بسيما الحرب كعلّمها.
2- برك الغماد (بفتح الباء و كسرها، و بكسر الغين و ضمها و قيل مثلث الغين)، اختلف فيه فقيل: موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر، و قيل: موضع في أقصى أرض هجر، و قيل: بلد باليمن، و قيل غير ذلك. و ورد في «تاريخ الطبري» (ص 1300 من القسم الأوّل طبع أوروبا) ما يؤيد التفسير الذي ذكره أبو الفرج. و ورد أيضا في «معجم ما استعجم» للبكريّ (ص 148) ما نصه: «... و في حديث هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنه لما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا إلى الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنّة... إلخ».
3- زيادة عن «السيرة».
4- استعرض البحر: أتاه من جانبه عرضا.
5- يقال: رجل صدق اللقاء و قوم صدق (بالضم)، و مثاله فرس ورد و أفراس ورد. (انظر «اللسان» مادة صدق).
6- في الأصول: «فسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و نشطه ذلك». و ما أثبتناه عن «السيرة و الكشاف» للزّمخشري في تفسير سورة الأنفال.

«سيروا على بركة اللّه و أبشروا؛ فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين(1)، و اللّه لكأنّي انظر إلى مصارع القوم».

نزول النبيّ قريبا من بدر و سؤاله شيخا عن قريش:

ثم ارتحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من ذفران(2)، و سلك على ثنايا يقال لها/الأصافر(3)، ثم انحطّ منها على بلد يقال له الدّبّة(4)، ثم ترك الحنّان(5) بيمين، و هو كثيب عظيم كالجبل، ثم نزل قريبا من بدر، فركب هو و رجل من أصحابه - قال الطبريّ(6) قال محمد بن إسحاق: حدّثني محمد بن يحيى بن حبّان - حتّى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن قريش و عن محمد و أصحابه و ما بلغه عنهم؛ فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن(7)أنتما. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إذا أخبرتنا أخبرناك». فقال: أو ذاك بذاك؟ فقال: «نعم». قال الشيخ: فإنّه بلغني أنّ محمدا و أصحابه خرجوا يوم كذا و كذا؛ فإن كان صدقني الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا و كذا (للمكان الذي به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم). و بلغني أنّ قريشا خرجوا يوم كذا و كذا؛ فإن كان الذي حدّثني صدقني، فهم اليوم بمكان كذا و كذا (للمكان الذي به قريش). فلمّا فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «نحن من ماء»، ثم انصرف الشيخ عنه. قال يقول الشيخ: ما من ماء؟ أ من ماء العراق؟ ثم رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى أصحابه.

أرسل النبي نفرا من أصحابه إلى بدر يلتمسون له الخير:

فلما أمسى بعث عليّ بن أبي طالب، رضي اللّه عنه، و الزبير بن العوّام، و سعد بن أبي وقّاص في نفر من أصحابه إلى بدر يلتمسون له الخبر عليه -.

قبض هؤلاء النفر على غلامين لقريش و معرفة أخبارهم منهما:

قال محمد بن إسحاق: حدّثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزّبير: - فأصابوا راوية(8) لقريش فيها أسلم غلام

ص: 381


1- يشير إلى قوله تعالى في سورة الأنفال: (وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللّٰهُ إِحْدَى الطّٰائِفَتَيْنِ أَنَّهٰا لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذٰاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللّٰهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ الْكٰافِرِينَ). و الطائفتان هما العير و هم ركب أبي سفيان، و النفير و هم أهل مكة الذين نفروا لمساعدته.
2- ذفران: واد قرب وادي الصفراء.
3- الأصافر: جبال قريبة من الجحفة عن يمين الطريق من المدينة إلى مكة؛ سميت بذلك لأنها هضبات صفر.
4- الدبة: موضع قرب بدر.
5- كذا في «السيرة و معجم البلدان» لياقوت. و في جميع الأصول: «ثم نزل الحيان» و هو تحريف.
6- كذا في الطبري و «السيرة». و في جميع الأصول وردت هذه العبارة هكذا: «قال الطبري: قال محمد بن إسحاق حدّثني محمد بن إسحاق حدّثني محمد بن يحيى بن حبان... إلخ». و محمد بن إسحاق المكرر هنا شخص واحد، و هو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب «السيرة» الذي ينقل عنه الطبري و الذي يروى عن محمد بن يحيى بن حبان. (راجع «تهذيب التهذيب» و «تراجم» من روى عنهم محمد بن إسحاق المطبوع بليدن).
7- كذا في «السيرة» و الطبري. و في الأصول: «من».
8- يراد بالراوية هنا القوم يستقون الماء على الدواب.

/بني الحجّاج، و عريض(1) أبو يسار غلام بني العاصي بن سعيد، فأتوا بهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يصلّي. فسألوهما فقالا(2): نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم خبرهما و رجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما، فلمّا أذلقوهما(3) قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما. و ركع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و سجد سجدتين ثم سلّم، ثم قال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، فإذا كذباكم تركتموهما، صدقا و اللّه إنّهما لقريش. أخبراني أين قريش»؟ قالا: هم وراء [هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى(4) - و] الكثيب: العقنقل - فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «كم القوم»؟ قالا: لا ندري. قال: «كم ينحرون كلّ يوم»؟ قالا: يوما تسعا و يوما عشرا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «القوم ما بين التّسعمائة(5)و الألف». ثم قال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «فمن فيهم من أشراف قريش»؟ قالا: عتبة بن ربيعة، و شيبة بن ربيعة، و أبو البختريّ بن هشام، و حكيم بن حزام، و نوفل بن خويلد، و الحارث بن عامر بن نوفل، و طعيمة بن عديّ، و النّضر بن الحارث، و زمعة(6) بن الأسود، و أبو جهل بن هشام، و أميّة بن/خلف، و نبيه و منبّه ابنا الحجّاج، و سهيل بن عمرو، و عمرو بن ودّ. فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على الناس فقال: «هذه مكة قد رمت إليكم أفلاذ/كبدها».

قدم أبو سفيان إلى بدر متجسسا ثم اتجه بالعير نحو الساحل:

قال ابن إسحاق(7): و قد كان بسبس بن عمرو و عديّ بن أبي الزّغباء مضيا حتّى نزلا بدرا فأناخا إلى تلّ قريب من الماء، ثم أخذا شنّا(8) يستقيان فيه، و مجديّ بن عمرو الجهنيّ على الماء، فسمع عديّ و بسبس جاريتين من جواري الحاضر و هما تتلازمان(9) على الماء، و الملزومة تقول لصاحبتها: إنّما تأتي العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك. قال مجديّ: صدقت، ثم خلّص بينهما. و سمع ذلك عديّ و بسبس فجلسا على بعيريهما ثم انطلقا حتى أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبراه بما سمعا. و أقبل أبو سفيان قد(10) تقدّم العير حذرا حتى ورد الماء، فقال

ص: 382


1- كذا في «السيرة لابن هشام» (ج 1 ص 436) «و الطبري» (ص 1303 من القسم الأوّل. و في الأصول: «غريض بن يسار» بالغين المعجمة.
2- كذا في الطبري و «السيرة». و في الأصول: «فقالوا».
3- أذلقه: أضعفه و أقلقه. و في حديث عائشة أنها كانت تصوم في السفر حتى أذلقها الصوم أي أجهدها و أذابها و أقلقها.
4- التكملة عن الطبري و «السيرة».
5- الفصيح في العدد المضاف أن يعرف المضاف إليه، و جوز بعضهم تعريف الطرفين. أما تعريف الأوّل دون الثاني فغير صواب. و على هذا يحمل ما ورد من الأحاديث من هذا النوع على أنه مروي بالمعنى. على أن بعضهم خرجه بتقدير مضاف نكرة، فيقول في مثل ما هنا: «بين التسع تسع مائة».
6- ضبطه صاحب «المغني» في «أسماء رجال الحديث» المطبوع بهامش «تقريب التهذيب» (ص 101 طبع الهند) بالعبارة هكذا: «زمعة بزاي و ميم مفتوحتين و عين مهملة و أكثر الفقهاء و المحدّثين يسكنون الميم، و الدسودة... إلخ». و قال صاحب «القاموس»: و زمعة بالفتح و يحرّك». و ضبطه الفيومي في «المصباح» بفتح الميم، ثم قال: «و المحدّثون يقولون: زمعة بالسكون، و لم أظفر به في «كتب اللغة». و في «شرح المواهب اللدنية» (ج 3 ص 271) قال: «زمعة بزاي فميم فعين مهملة مفتوحات». و قال ابن الأثير: «و أكثر ما سمعنا أهل الحديث و الفقهاء يقولونه بسكون الميم. و قول «المصباح»: لم أظفر بالسكون في «كتب اللغة» قصور؛ فقد قدّمه «القاموس» ثم حكى الفتح؛ فظاهره أن السكون أكثر لغة».
7- في الأصول: «قالوا و قد كان بسبس إلخ»، و التصويب عن «السيرة».
8- الشنّ: القربة الخلق الصغيرة.
9- يقال: لزم فلان غريمه، إذا تعلق به.
10- كذا في صلب الطبري (ص 1305 قسم أوّل طبع أوروبا). و في الأصول: «حين تقدم». و في «سيرة ابن هشام»: «حتى تقدم» و كلتا الروايتين أشير إليها في هامش الطبري.

لمجديّ بن عمرو: هل أحسست أحدا؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره، إلاّ أنّي رأيت راكبين أناخا إلى هذا التلّ ثم استقيا في شنّ لهما ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففتّه فإذا فيه النّوى، فقال: هذه و اللّه علائف يثرب! فرجع إلى أصحابه سريعا فصرف(1) وجه عيره عن الطريق [فساحل بها](2) و ترك بدرا يسارا، ثم انطلق حتّى أسرع.

رؤيا جهيم بن أبي الصلت:

و أقبلت قريش، فلمّا نزلوا الجحفة(3) رأى جهيم بن أبي الصّلت بن مخرمة بن عبد المطّلب بن عبد مناف رؤيا، فقال: إنّي رأيت فيما يرى النائم، و إنّي/لبين النائم و اليقظان إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس و معه بعير له ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، و شيبة بن ربيعة، و أبو الحكم بن هشام، و أميّة بن خلف، و فلان و فلان - فعدّد رجالا ممن قتل يومئذ من أشراف قريش - و رأيته ضرب في لبّة(4) بعيره ثم أرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلاّ أصابه نضح من دمه. قال: فبلغت أبا جهل فقال: و هذا أيضا نبيّ آخر من بني عبد المطّلب! سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.

نصح أبو سفيان إلى قريش أن يرجعوا فأبى أبو جهل:

و لمّا رأى أبو سفيان أنّه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنّكم إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم و رحالكم(5)و أموالكم فقد نجّاها اللّه فارجعوا. فقال أبو جهل: و اللّه لا نرجع حتّى نرد بدرا - و كان بدر موسما من مواسم العرب تجتمع به، لهم بها سوق كلّ عام - فنقيم عليه ثلاثا، و ننحر الجزر و نطعم الطعام و نسقي الخمور، و تعزف علينا القيان، و تسمع بنا العرب [بمسيرنا و جمعنا](6)، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فامضوا.

رجوع بني زهرة:

فقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثّقفيّ، و كان حليفا لبني زهرة، و هم بالجحفة: يا بني زهرة قد نجّى اللّه لكم عيركم و خلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، و إنّما نفرتم لتمنعوه و ماله، فاجعلوا بي جبنها(7)و ارجعوا؛ فإنّه لا حاجة بكم في أن تخرجوا في غير ضيعة لما يقول هذا (يعني أبا جهل)؛ فلم يشهدها زهريّ، و كان فيهم مطاعا. و لم يكن بقي من قريش بطن إلاّ نفر منهم ناس، إلاّ بني عديّ بن كعب لم يخرج منهم رجل واحد.

فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد.

ص: 383


1- في الطبري و «السيرة»: «فضرب».
2- زيادة عن «السيرة». و ساحل بها: اتجه بها نحو الساحل.
3- الجحفة (بالضم): ميقات أهل الشام، و كانت قرية جامعة، على اثنين و ثمانين ميلا من مكة، و كانت تسمى مهيعة فنزل بها بنو عبيل و هم إخوة عاد، و كان أخرجهم العماليق من يثرب، فجاءهم سيل الجحاف فأجحفهم؛ فسميت الجحفة.
4- اللبة: المنحر و موضع القلادة من الصدر كاللبب.
5- في «السيرة لابن هشام»: «رجالكم» بالجيم المعجمة.
6- زيادة عن «السيرة».
7- كذا في «السيرة لابن هشام» (ج 1 ص 438) و «تاريخ الطبري» (ص 1307 من القسم الأوّل). و في الأصول: «فاجعلوني جنبها» و هو تحريف.
اتهام قريش لبني هاشم:

و مضى القوم، و قد كان بين طالب بن أبي طالب - و كان في القوم - و بين بعض قريش محاورة؛ فقالوا: و اللّه لقد عرفنا يا بني هاشم - و إن خرجتم معنا - أنّ هواكم/ [لمع](1) محمد؛ فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع. و أمّا ابن الكلبيّ فإنه قال فيما حدّثت عنه: شخص طالب بن أبي طالب إلى بدر مع المشركين، أخرج كرها، فلم يوجد في الأسرى و لا في القتلى و لم يرجع إلى أهله، و كان شاعرا، و هو الذي يقول:

/

يا ربّ إمّا يغزونّ طالب *** في مقنب(2) من هذه المقانب

فليكن المسلوب غير السالب *** و ليكن المغلوب غير الغالب

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق
نزول قريش بالعدوة القصوى من الوادي:

قال: و مضت قريش حتّى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل. و بطن الوادي، و هو يليل(3)، بين بدر و بين العقنقل: الكثيب الذي خلفه قريش. و القليب ببدر من العدوة الدّنيا من بطن يليل إلى المدينة. و بعث اللّه عزّ و جلّ السماء، و كان الوادي دهسا(4)، فأصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم [و أصحابه منها](1) ما لبّد لهم الأرض و لم يمنعهم المسير، و أصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه. فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يبادرهم إلى الماء حتّى حاذى ماء من مياه بدر فنزل به.

أشار الحباب بن المنذر على النبيّ برأي فاتبعه:

قال ابن إسحاق: فحدّثني عشرة(5) رجال من بني سلمة ذكروا أنّ الحباب بن المنذر بن الجموح قال:

يا رسول اللّه، أ رأيت هذا المنزل، أ منزل أنزلكه اللّه ليس لنا/أن نتقدّمه و لا نتأخّر عنه، أم هو الرأي و الحرب و المكيدة؟ قال: «بل هو الرأي و الحرب و المكيدة». فقال: يا رسول اللّه، إنّ هذا ليس لك بمنزل، فانهض بالناس حتّى تأتي أدنى ماء من مياه القوم فتنزله، ثم تعوّر(6) ما سواه من القلب ثم تبني عليه حوضا فتملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب و لا يشربوا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لقد أشرت بالرأي». فنهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و من معه من الناس حتّى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فعوّرت(7) و بنوا حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ، ماء ثم قذفوا فيه الآنية.

ص: 384


1- الزيادة عن «السيرة لابن هشام» (ج 1 ص 438 طبع أوروبا).
2- المقنب: جماعة الخيل و الفرسان، و قيل: هي دون المائة.
3- يليل (بتكرير الياء المفتوحة): اسم واد يدفع في بدر. و في «معجم ما استعجم» (في الكلام على رضوى): «و وادي ينبع يليل يصب في غيقة». و في الأصول: «تليل» بالتاء المثناة من فوق في أوّله، و هو تصحيف.
4- الدهس: هو كل لين سهل لا يبلغ أن يكون رملا و ليس بتراب و لا طين كالدّهاس، و قيل أيضا: الأرض السهلة يثقل فيها المشي.
5- في «السيرة»: «قال ابن إسحاق: فحدّثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا إلخ».
6- كذا في الطبري و «السيرة». و عوّر العين أو القليب: طمّه و ردمه. و في الأصول: «تغوّر» بالغين المعجمة، و هو تصحيف.
7- كذا في «السيرة» و الطبري. و في الأصول: «فغوّرت» بالغين المعجمة.
بناء عريش من جريد للنبيّ:

قال محمد بن إسحاق: فحدّثني محمد بن أبي بكر أنّ سعد بن معاذ قال: يا رسول اللّه، نبني لك عريشا من جريد فتكون فيه و نعدّ عندك ركائبك، ثم نلقى عدوّنا؛ فإن نحن أعزّنا اللّه و أظهرنا على عدوّنا كان ذلك(1) ما أحببنا، و إن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا؛ فقد تخلّف عنك أقوام يا نبيّ اللّه ما نحن بأشدّ حبّا لك منهم، [و لو ظنّوا(2) أنّك تلقى حربا ما تخلّفوا عنك، يمنعك اللّه بهم، يناصحونك و يجاهدون معك].

فأثنى [عليه](3) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خيرا، و دعا له بخير. ثم بني لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عريش فكان فيه.

إقبال قريش دعاء النبيّ عليها:

و قد ارتحلت قريش حين أصبحت و أقبلت. فلمّا رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تصوّب(4) من العقنقل - و هو الكثيب الذي منه جاءوا - إلى الوادي قال: «اللّهمّ هذى قريش قد أقبلت بخيلائها و فخرها تحادّك و تكذّب رسولك. اللّهمّ فنصرك الذي وعدتني. اللّهمّ فأحنهم(5)/الغداة». و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر: «إن يكن عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا».

عرض خفاف بن إيماء معونته على قريش:

و قد كان خفاف [بن إيماء](6) بن رحضة الغفاريّ، أو أبوه(7) أيما بن رحضة، بعث إلى قريش حين مرّوا به ابنا له بجزائر أهداها لهم و قال لهم: إن أحببتم أن نمدّكم(8) بسلاح و رجال فعلنا. فأرسلوا [إليه](6) مع ابنه: أن وصلتك رحم! فقد قضيت الذي عليك. فلعمري لئن كنّا إنّما نقاتل الناس فما بنا ضعف [عنهم](6)، و لئن كنّا نقاتل اللّه كما يزعم محمد فما لأحد باللّه من طاقة. فلمّا نزل الناس أقبل نفر من قريش حتّى وردوا الحوض حوض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. /فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «دعوهم». فما شرب منهم رجل إلاّ قتل يومئذ، إلاّ ما كان من حكيم بن حزام فإنّه لم يقتل، نجا على فرس له يقال له الوجيه، و أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه؛ فكان إذا اجتهد [في](6)يمينه قال: و الذي نجّاني من يوم بدر.

بعثت قريش عمير بن وهب متجسسا فأخبرهم بما روّعهم:

قال محمد بن إسحاق: و حدّثني أبي إسحاق بن يسار و غيره من أهل العلم عن أشياخ من الأنصار قالوا:

لمّا اطمأنّ القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحيّ فقالوا: احزر(9) لنا أصحاب محمد؛ فاستجال بفرسه حول

ص: 385


1- كذا في «السيرة». و في الأصول: «ذلك مما».
2- زيادة عن «السيرة» و «تاريخ الطبري».
3- الزيادة عن «السيرة» (ج 1 ص 440 طبع أوروبا).
4- التصوّب: الانحدار من علو.
5- الحين (بالفتح): الهلاك. و حان الرجل: هلك. و أحانه اللّه: أهلكه.
6- الزيادة عن «السيرة» و «تاريخ الطبري».
7- في الأصول: «أخوه»، و التصويب عن «السيرة» و «تاريخ الطبري». و إيماء بكسر الهمزة مع المدّ أو بفتحها مع القصر. و رحضة بالتحريك أو بالفتح، أو بالضم، أقوال فيه. (انظر «شرح القاموس» مادة رحض).
8- كذا في «السيرة». و في الأصول و الطبري: «أمدّكم».
9- الحزر: التخمين و التقدير.

العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصونه، و لكن أمهلوني حتّى انظر: أ للقوم كمين أو مدد. قال: فضرب في الوادي حتى أمعن، فلم ير شيئا، فرجع فقال: لم أر شيئا، و لكن قد رأيت/يا معشر قريش الولايا(1) تحمل المنايا! نواضح(2) يثرب تحمل الموت الناقع! قوم ليس لهم منعة و لا ملجأ إلاّ سيوفهم. و اللّه ما أرى أن يقتل رجل منهم حتّى يقتل رجلا منكم! فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك! فروا رأيكم.

فلمّا سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة و قال: يا أبا الوليد، إنّك كبير قريش الليلة و سيّدها و المطاع فيها، هل لك إلى أمر لا تزال تذكر منه بخير إلى آخر الدهر؟ قال: و ما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس و تحمل دم حليفك عمرو بن الحضرميّ. قال: قد فعلت، أنت على ذلك شهيد، إنما هو حليفي فعليّ عقله(3) و ما أصيب من ماله؛ فأت ابن الحنظليّة(4) فإنّي لا أخشى أن يسحر الناس غيره (يعني أبا جهل بن هشام).

يقص حكيم بن حزام حديث بدر لمروان بن الحكم:

حدّثنا محمد قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا غمامة(5) بن عمرو السّهمي قال حدّثنا مسوّر بن عبد الملك اليربوعيّ عن أبيه عن سعيد بن المسيّب قال:

بينا نحن عند مروان بن الحكم إذ دخل عليه حاجبه فقال: هذا أبو خالد حكيم بن حزام. قال: ائذن له. فلمّا دخل حكيم بن حزام، قال: مرحبا بك يا أبا خالد، أدن؛ فحال له مروان عن صدر المجلس حتّى كان بينه و بين الوسادة، ثم استقبله مروان فقال: حدّثنا حديث بدر. قال: خرجنا حتّى إذا نزلنا الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها، فلم يشهد أحد من مشركيهم بدرا؛ ثم خرجنا حتّى نزلنا العدوة التي/قال اللّه عزّ و جلّ؛ فجئت عتبة بن ربيعة فقلت: يا أبا الوليد، هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟ قال: أفعل ما ذا؟ قال: قلت: إنّكم لا تطلبون من محمد إلاّ دم واحد: (ابن الحضرميّ) و هو حليفك، فتحمّل ديته فيرجع الناس. قال: أنت و ذاك، و أنا أتحمّل ديته، فاذهب إلى ابن الحنظليّة (يعني أبا جهل) فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمّك؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه و من ورائه، فإذا ابن الحضرميّ واقف على رأسه و هو يقول: قد فسخت عقدي من بني عبد شمس، و عقدي إلى بني مخزوم. فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمّك بمن معك؟ قال: أ ما وجد رسولا غيرك؟ قلت: لا، و لم أكن لأكون رسولا لغيره. قال حكيم: فخرج مبادرا إلى عتبة و خرجت معه لئلا يفوتني من الخبر شيء، و عتبة يتّكئ على إيماء بن رحضة الغفاريّ، و قد أهدى

ص: 386


1- الولايا: جمع ولية، و هي البرذعة أو ما تحتها.
2- النواضح: جمع ناضح. و الناضح: البعير يستقى عليه، ثم استعمل في كل بعير و إن لم يحمل الماء.
3- العقل: الدية.
4- قال ابن هشام: الحنظلية أم أبي جهل، و هي أسماء بنت مخرّبة أحد بني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
5- كذا في الأصول بالغين المعجمة. و قد ذكر الطبري (قسم أوّل ص 1313) هذا القصة بهذا الإسناد، و فيه: «عمامة بن عمرو السهمي» بالعين المهملة. و في هامشه في الصفحة نفسها نقلا عن نسخة أخرى: «غمامة» بالغين المعجمة كما في الأصول. و في القسم الثالث من الطبري (ص 268): «عثامة بن عمرو السهمي». و في هامشه في الصفحة نفسها نقلا عن نسختين أخريين: «غمانة» بالغين و «عتّامة» بالعين و التاء. و لم نعثر على هذا الاسم في «كتب التراجم» حتى نستطيع ترجيح أحد هذه الأسماء.

إلى المشركين عشر جزائر، فطلع أبو جهل و الشرّ في وجهه، فقال لعتبة: انتفخ سحرك(1)! فقال عتبة: فستعلم.

فسلّ أبو جهل سيفه/فضرب به متن فرسه؛ فقال إيماء بن رحضة: بئس المقام هذا! فعند ذلك قامت الحرب.

رجع الحديث إلى ابن إسحاق:
نصح عتبة بن ربيعة قريشا بالرجوع فأبى أبو جهل:

ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا، فقال: يا معشر قريش، و اللّه ما تصنعون بأن تلقوا محمدا و أصحابه شيئا! و اللّه لئن أصبتموه، لا يزال الرجل منكم ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، رجل قتل ابن عمّه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا و خلّوا بين محمد و بين سائر العرب؛ فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، و إن كان غير ذلك ألفاكم(2)/و لم تعدموا منه ما تريدون. قال حكيم: فانطلقت حتّى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل(3) درعا له من جرابها(4)و هو يهيّئها؛ فقلت له: يا أبا الحكم، إنّ عتبة أرسلني إليك بكذا و كذا (الذي قال)؛ فقال: انتفخ و اللّه سحره حين رأى محمدا و أصحابه. كلاّ و اللّه! لا مرجع حتّى يحكم اللّه بيننا و بين محمد و أصحابه؛ و ما بعتبة ما قال، و لكنه قد رأى أنّ محمدا و أصحابه أكلة(5) جزور، و فيهم ابنه قد تخوّفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرميّ فقال له: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس و قد رأيت ثارك بعينك، فقم فانشد خفرتك(6) و مقتل أخيك. فقام عامر بن الحضرميّ فاكتشف(7) ثم صرخ: وا عمراه! وا عمراه! فحميت الحرب، و حقب(8) أمر الناس، و استوسقوا(9) على ما هم عليه من الشرّ، و أفسد على الناس الرّأي الذي دعاهم إليه عتبة بن ربيعة. و لمّا بلغ عتبة قول أبي جهل: «انتفخ سحره» قال: سيعلم مصفّر الاست من انتفخ سحره: أنا أم هو! ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فلم يجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته؛ فلمّا رأى ذلك اعتجر(10) على رأسه ببرد له.

أقسم الأسود بن عبد الأسد ليشربن من حوض المسلمين فقتل:

و قد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزوميّ، و كان رجلا شرسا سيّئ الخلق، فقال: أعاهد اللّه لأشربنّ من حوضهم أو لأهدمنّه أو لأموتنّ دونه. فلمّا خرج خرج له حمزة بن عبد المطّلب، فلمّا التقيا ضربه حمزة فأبان قدمه

ص: 387


1- يكنى بانتفاخ السحر عن مجاوزة القدر، و لكنه هنا كناية عن الجبن؛ و ذلك أن الجبان يملأ الخوف جوفه فينتفخ سحره. و السحر: الرئة و ما حولها مما يعلق به الحلقوم فوق السرة.
2- في ح: «ألفاكم و لم تعرضوا منه لما تريدون».
3- نثل: أخرج.
4- كذا في م، و هو الموافق لما في «السيرة» و الطبري. و في سائر الأصول: «عن جرابها».
5- يريد أنهم قلة تكفيهم جزور واحدة لطعامهم.
6- كذا في «السيرة» و «تاريخ الطبري». و الخفرة: الذمة و العهد. و في الأصول: «حقوقك».
7- كذا في م «و السيرة» و الطبري. و في «القاموس»: «و اكتشفت المرأة لزوجها: بالغت في التكشف له عند الجماع». فلعله يريد أنه أشرف على شيء عال أو نحو ذلك حتى انكشف للناس ثم صرخ فيهم. و في سائر الأصول: «فاكتنف»، و هو تحريف.
8- حقب أمر الناس: فسد.
9- استوسقوا: اجتمعوا.
10- الاعتجار: لف العمامة على الرأس.

بنصف ساقه و هو دون الحوض، فوقع على ظهره/تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد أن يبرّ يمينه، و أتبعه حمزة فضربه حتّى قتله في الحوض.

طلب عتبة بن ربيعة و ابنه و أخوه المبارزة فندب لهم النبيّ من قتلهم:

ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة و ابنه الوليد بن عتبة، حتّى إذا نصل(1) من الصّفّ دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة نفر، و هم: عوف(2) و معوّذ ابنا الحارث، و أمّهما عفراء و رجل آخر يقال(3): هو عبد اللّه بن رواحة؛ فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «قم يا حمزة بن عبد المطّلب، قم يا عبيدة ابن الحارث، قم يا عليّ بن أبي طالب». فلمّا قاموا و دنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فقال عبيدة: عبيدة، و قال حمزة:

حمزة، و قال عليّ: عليّ. قالوا: نعم(4) أكفاء كرام. فبارز عبيدة بن الحارث، و كان أسنّ القوم، عتبة بن ربيعة؛ و بارز حمزة شيبة بن ربيعة؛ و بارز عليّ الوليد بن عتبة. فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله. و [أمّا](5) عليّ فلم يمهل الوليد بن عتبة أن قتله. و اختلف عبيدة و عتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت(6) صاحبه؛ فكّر حمزة و عليّ على عتبة بأسيافهما فذفّفا(7) عليه فقتلاه، و احتملا صاحبهما عبيدة، فجاءا به إلى أصحابه و قد قطعت/رجله و مخّه يسيل. فلمّا أتوا بعبيدة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: أ لست شهيدا يا رسول اللّه؟ /قال: «بلى». فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حيّا لعلم أنّي بما قال أحقّ منه حيث يقول:

و نسلمه(8) حتّى نصرّع حوله *** و نذهل عن أبنائنا و الحلائل

قال محمد بن إسحاق: و حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنّ عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار حين انتسبوا له: أكفاء كرام، إنما نريد قومنا. ثم تزاحف الناس و دنا بعضهم من بعض - و قد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم [أصحابه](9) ألاّ

ص: 388


1- كذا في «سيرة ابن هشام». و نصل: خرج. و في الأصول و الطبري: «فصل» بالفاء.
2- كذا في م، و هو الموافق لما في «سيرة ابن هشام» (ص 443 طبع أوروبا) و «تاريخ الطبري» (ص 1210، 1212، 1317، 1322، 1336 من القسم الأوّل طبع أوروبا) و «طبقات ابن سعد». و في الأصول: «عوذ» بالذال المعجمة في آخره، و هو قول لبعضهم في اسمه حكاه ابن عبد البر في «الاستيعاب» و ابن حجر في «الإصابة».
3- كذا في «السيرة». و في الأصول و الطبري: «يقال له عبد اللّه بن رواحة». و لا يخفى ما بين التعبيرين من خلاف.
4- في ح، ب: «نحن».
5- زيادة عن م «و السيرة» و الطبري.
6- أثبت صاحبه: أثخنه بالجراح.
7- دفف على الجريح: أجهز عليه.
8- هذا البيت من قصيدة أبي طالب التي مطلعها: خليليّ ما أذني لأوّل عاذل بصغواء في حق و لا عند باطل و قبل هذا البيت: كذبتم و بيت اللّه نبزى محمدا و لما نطاعن دونه و نناظل و نبزي: نغلب و نقهر، و هو على تقدير النفي. و محمد نصب على نزع الخافض، أي لا نغلب عليه. و نسلمه (بالرفع) معطوف على نبزي أي لا نسلمه. و قد ورد هذا البيت في «اللسان» مادة (بزا) هكذا: كذبتم و حق اللّه يبزي محمد............................... إلخ و معناه، كما في «اللسان»، يقهر و يستذل. و هو على تقدير النفي أيضا.
9- زيادة عن «السيرة» و الطبري.

يحملوا حتى يأمرهم، و قال: «إن اكتنفكم القوم فانضحوهم بالنّبل» - و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في العريش معه أبو بكر.

و كانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان، قال ابن إسحاق: كما(1) حدّثني أبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين.

تعديل النبي لصفوف أصحابه و قصة سواد بن غزية:

قال محمد بن جرير و حدّثنا ابن حميد(2) قال حدّثنا سلمة قال قال لي محمد بن إسحاق حدّثني حبّان(3) بن واسع بن حبّان عن أشياخ من قومه:

/أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عدّل صفوف أصحابه يوم بدر، و في يده قدح(4) يعدّل به القوم، فمرّ بسواد(5) بن غزيّة حليف بني عديّ بن النجّار و هو مستنتل(6) من الصفّ، فطعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في بطنه بالقدح، ثم قال: «استو يا سواد بن غزيّة». فقال: يا رسول اللّه، أوجعتني! و قد بعثك اللّه بالحقّ، فأقدني. قال: فكشف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن بطنه و قال: «استقد»؛ فاعتنقه و قبّل بطنه. فقال: «ما حملك على هذا يا سواد»؟ فقال: يا رسول اللّه، حضر ما ترى، فلم آمن الموت، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسّ جلدي جلدك؛ فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بخير و قال له خيرا. ثم عدّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الصفوف، و رجع إلى العريش و دخله و معه أبو بكر ليس معه غيره، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يناشد ربّه ما وعده من النصر، و يقول فيما يقول: «اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم - يعني المسلمين - لا تعبد بعد اليوم»، و أبو بكر يقول: يا نبيّ اللّه خلّ بعض مناشدتك ربّك؛ فإنّ اللّه منجز لك ما وعدك.

دعاء النبيّ يوم بدر:

حدّثنا محمد بن جرير قال حدّثنا محمد بن عبيد المحاربيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن المبارك عن عكرمة بن عمّار قال حدّثني سماك الحنفيّ قال سمعت ابن عبّاس يقول: حدّثني عمر بن الخطاب قال:

لمّا كان يوم بدر و نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى المشركين وعدتهم و إلى أصحابه و هم نيّف على ثلاثمائة، استقبل الكعبة و جعل يدعو و يقول: «اللّهمّ/أنجز لي ما وعدتني. اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»، فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه؛ فأخذ أبو بكر فوضع رداءه عليه، ثم التزمه من ورائه فقال: كفاك

ص: 389


1- كذا في «سيرة ابن هشام و تاريخ الطبري». و في الأصول: «قال ابن إسحاق فحدّثني إلخ» و هو خطأ.
2- كذا في الطبري و «تهذيب التهذيب»، و هو محمد بن حميد بن حيان التميمي أبو عبد اللّه الرازي أحد شيوخ ابن جرير الطبري و ممن رووا عن سلمة بن الفضل. و في الأصول: «أبو أحمد» و هو خطأ.
3- كذا في «السيرة» (ص 444 طبع أوروبا)، و هو حبان بن واسع بن حبان بن منفذ أحد شيوخ محمد بن إسحاق (راجع «تهذيب التهذيب» ح 2 ص 170، و «كتاب من روى عنهم» محمد بن إسحاق ص 9 طبع ليدن). و في الطبري: «حبان بن واسع بن حبان بن واسع». و في جميع الأصول: «واسع حيان بن واسع».
4- القدح (بالكسر): السهم قبل أن ينصل و يراش.
5- ورد هذا الاسم هكذا في «تاريخ الطبري» (ص 1319 قسم أول) و «أسد الغابة» (ج 2 ص 374) و «طبقات ابن سعد» (ج 3 ص 72 من القسم الثاني). و في «سيرة ابن هشام» (ص 444، 504 طبع أوروبا) قال ابن هشام في الموضعين: «و يقال سوّاد بن غزية». و في «الإصابة» (ج 3 ص 148 طبع مصر) في الكلام على سواد بن غزية: «المشهور أنه بتخفيف الواو، و حكى السهيلي تشديدها».
6- كذا في س و الطبري و «السيرة». و نتل من بين الصف و استنتل: تقدّم. و في سائر الأصول: «استنثل» بالثاء المثلثة.

يا نبيّ اللّه، بأبي أنت و أمّي، مناشدتك لربّك، سينجز لك ما وعدك. فأنزل اللّه تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجٰابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ) (1).

حدّثنا محمد قال حدّثنا ابن وكيع قال حدّثنا الثّقفيّ (يعني عبد الوهّاب) عن خالد عن عكرمة عن ابن عبّاس:

أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال و هو في قبّته(2) يوم بدر «اللّهمّ أسألك عهدك و وعدك. اللّهمّ إن شئت لم تعبد بعد اليوم».

قال: فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك/يا نبيّ اللّه، فقد ألححت على ربّك، و هو في الدّرع؛ فخرج و هو يقول:

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السّٰاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السّٰاعَةُ أَدْهىٰ وَ أَمَرُّ) .

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق
أخذت النبيّ سنة ثم انتبه مبشرا بالنصر و محرّضا على القتال:

قال: و قد خفق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خفقة و هو في العريش، ثم انتبه فقال: «يا أبا بكر أتاك نصر اللّه، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده و على ثناياه النّقع»(3). قال: و قد رمي مهجع مولى عمر بن الخطّاب بسهم فقتل، فكان أوّل قتيل من المسلمين. ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عديّ بن النجّار و هو يشرب من الحوض [بسهم فأصاب نحره](4) فقتل. ثم خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى الناس فحرّضهم و نفّل كلّ امرئ ما أصاب، و قال: «و الذي نفسي بيده لا يقاتلهم/اليوم رجلا فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلاّ أدخله اللّه الجنّة». فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة و في يده تمرات يأكلها: بخ بخ! أ ما بيني و بين أن أدخل الجنّة إلاّ أن يقتلني هؤلاء! قال: ثم قذف التّمرات من يده و أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل، و هو يقول:

ركضا إلى اللّه بغير زاد *** إلاّ التّقى و عمل المعاد

و الصّبر في اللّه على الجهاد *** و كلّ زاد عرضة النّفاد

غير التّقى و البرّ و الرّشاد

حدّثنا محمد بن جرير قال حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة قال حدّثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة:

أنّ عوف بن الحارث، و هو ابن عفراء، قال: يا رسول اللّه، ما يضحك الربّ من عبده؟ قال: «غمسه يده في العدوّ حاسرا»؛ فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.

التقاء الفريقين و هزيمة المشركين:

حدّثنا محمد قال حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة عن ابن إسحاق قال و حدّثني محمد بن مسلم الزّهريّ عن عبد اللّه بن ثعلبة بن صعير العذريّ حليف بني زهرة قال:

ص: 390


1- مردفين: متتابعين بعضهم في إثر بعض.
2- كذا في «تاريخ الطبري». و المراد بالقبة العريش الذي نصب له. و في الأصول: «في فتية» و هو تحريف.
3- النقع: الغبار.
4- زيادة عن «السيرة».

لمّا التقى الناس و دنا بعضهم من بعض(1)، قال أبو جهل: اللّهمّ أقطعنا للرّحم و آتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة؛ فكان هو المستفتح على نفسه. ثم إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أخذ حفنة من الحصباء و استقبل بها قريشا، ثم قال:

«شاهت الوجوه» ثم نفحهم(2) بها، و قال لأصحابه: «شدّوا»؛ فكانت الهزيمة، فقتل اللّه من قتل من صناديد قريش، و أسر من أسر منهم. فلمّا وضع القوم أيديهم/يأسرون - و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في العريش، و سعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم متوشّحا بالسيف في نفر من الأنصار، يحرسون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، يخافون عليه كرّة العدوّ - رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهة فيما يصنع الناس؛ فقال له: «كأنّك كرهت ما يصنع الناس»! قال: أجل يا رسول اللّه! كانت أوّل وقعة أوقعها اللّه عزّ و جلّ بأهل الشّرك؛ فكان الإثخان في القتل أعجب إليّ من استبقاء الرجال.

نهى النبيّ عن قتل جماعة خرجوا مستكرهين مع قريش:

حدّثنا محمد قال حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال، و حدّثني العبّاس بن عبد/اللّه بن معبد(3) عن بعض أهله عن ابن عبّاس:

أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال لأصحابه يومئذ: «إنّي قد عرفت أنّ رجالا من بني هاشم [و غيرهم](4) قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا؛ فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، و من لقي أبا البختريّ [بن هشام] بن الحارث فلا يقتله و من لقي العبّاس بن عبد المطّلب - عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - فلا يقتله، فإنّما خرج مستكرها». قال: فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أ يقتل آباؤنا و أبناؤنا و إخواننا(5) و عشيرتنا و نترك العبّاس! و اللّه لئن لقيته لألحمنّه(6)السيف! فبلغت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فجعل يقول لعمر بن الخطّاب: «يا أبا حفص أ ما تسمع إلى قول أبي حذيفة يقول أضرب وجه عمّ رسول اللّه - صلى اللّه عليه و سلّم - بالسيف». فقال: عمر: يا رسول اللّه، دعني فلأضربنّ عنقه بالسيف، فو اللّه لقد نافق. قال/عمر: و اللّه إنّه لأوّل يوم كناني فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأبي حفص. قال: فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ و لا أزال منها خائفا إلاّ أن تكفّرها عنّي الشهادة؛ فقتل يوم اليمامة [شهيدا](7).

سبب نهي النبي عن قتل أبي البختري و قصة قتله:

قال: و إنّما نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن قتل أبي البختريّ، لأنه كان أكفّ القوم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو بمكة، كان لا يؤذيه و لا يبلغه عنه بمكة شيء يكرهه، و كان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم و بني المطّلب. فلقيه المجدّر بن ذياد(8) البلويّ حليف الأنصار من بني عديّ، فقال المجذّر بن ذياد لأبي البختريّ: إنّ

ص: 391


1- كذا في م و «السيرة». و في باقي الأصول: «و دنا بعضهم من بعضهم».
2- نفحهم: ضربهم.
3- كذا في «تاريخ الطبري» (ص 1323 من القسم الأوّل طبع أوروبا) و «سيرة ابن هشام» (ص 446 طبع أوروبا) و «تهذيب التهذيب» (ج 5 ص 120 طبع الهند). و في الأصول: «مصعب» و هو تحريف.
4- زيادة عن م «و السيرة» و الطبري.
5- في «السيرة»: «و إخوتنا».
6- لأجعلن لحمه طعاما للسيف. و في الأصول: «لألجمنه».
7- زيادة عن م «و السيرة» و الطبري.
8- كذا في الطبري و «سيرة ابن هشام و طبقات ابن سعد» (ج 3 ص 98 من القسم الثاني طبع أوروبا) و «أسد الغابة» (ج 4 ص 302) و

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد نهى عن قتلك، و مع أبي البختريّ زميل له خرج معه من مكة، و هو جنادة بن مليحة بن زهير بن الحارث بن أسد - و جنادة رجل من بني ليث. و اسم أبي البختريّ العاصي بن هشام بن الحارث بن أسد - قال:

و زميلي؟ فقال المجذّر: لا و اللّه ما نحن بتاركي زميلك؛ ما أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلاّ بك وحدك. قال: و اللّه إذا لأموتن [أنا](1) و هو جميعا! لا تتحدّث عنّي نساء قريش بين أهل مكة أنّي تركت زميلي حرصا على الحياة. فقال أبو البختريّ حين نازله المجذّر و أبى إلاّ القتال(2) و هو يرتجز:

لن يسلم ابن حرّة أكيله(3) *** حتّى يموت أو يرى سبيله

/فاقتتلا، فقتله المجذّر بن ذياد. ثم أتى المجذّر بن ذياد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: و الّذي بعثك بالحق، لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلاّ القتال، فقاتلته فقتلته.

عبد الرحمن بن عوف و أمية بن خلف:

قال محمد بن إسحاق: و حدّثني يحيى بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزّبير عن أبيه، قال: و حدّثنيه(4) أيضا عبد اللّه بن أبي بكر و غيرهما عن عبد الرحمن بن عوف قال:

كان أميّة بن خلف لي صديقا بمكة. قال: و كان اسمي عبد عمرو، فسمّيت حين أسلمت عبد الرحمن و نحن بمكة. قال: و كان يلقاني بمكة فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سمّاك به أبواك؟ فأقول نعم؛ فيقول: فإنّي لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني و بينك شيئا أدعوك به، أمّا أنت فلا تجيبني باسمك الأوّل، و أمّا أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال: فكان إذا دعاني: يا عبد عمرو، لم أجبه. فقلت: اجعل بيني و بينك يا أبا عليّ ما شئت. قال: فأنت عبد الإله. فقلت نعم. قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد/الإله فأجيبه فأتحدّث معه. حتى إذا كان يوم بدر، مررت به و هو واقف مع عليّ ابنه آخذا بيده، و معي أدراع قد سلبتها و أنا أحملها. فلمّا رآني قال: يا عبد عمرو، فلم أجبه. فقال: يا عبد الإله، قلت نعم. قال: هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الأدراع؟ قلت: نعم، هلمّ إذا.

فطرحت الأدراع من يدي و أخذت بيده و بيد ابنه عليّ، و هو يقول: ما رأيت كاليوم قطّ، أ ما لكم حاجة في اللبن(5)؟ ثم خرجت أمشى بينهما.

مقتل أمية بن خلف و ابنه:

قال ابن إسحاق: و حدّثني عبد الواحد بن أبي عون عن سعد(6) بن إبراهيم بن عبد الرحمن عن أبيه عن(7)عبد الرحمن بن عوف قال:

ص: 392


1- زيادة عن م و «السيرة» و الطبري.
2- كذا في م و «السيرة». و في سائر الأصول: «القتل».
3- في «سيرة ابن هشام»: «زميله».
4- كذا في «السيرة». و في الأصول: «حدّثني».
5- قال ابن هشام: «يريد باللبن أن من أسرني افتديت منه بابل كثيرة اللبن».
6- كذا في الطبري. و في «تهذيب التهذيب» لابن حجر العسقلاني أن عبد الواحد بن أبي عون يروي عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. و قد ورد في الأصول: «... أبي عون بن سعيد بن إبراهيم إلخ» و هو خطأ.
7- كذا في م و «سيرة ابن هشام» و الطبري. و في سائر الأصول: «عن أبيه عبد الرحمن» و هو خطأ.

قال لي أميّة بن خلف و أنا بينه و بين ابنه آخذ بأيديهما: يا عبد الإله، من الرجل المعلم(1) منكم بريش نعامة في صدره؟ قال قلت: ذلك حمزة بن عبد المطّلب. قال: ذلك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن: فو اللّه إنّي لأقودهما إذ رآه بلال معي - و كان هو الذي يعذّب بلالا بمكة على أن يترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة(2) إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثم يأمر(3) بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد؛ فيقول بلال: أحد أحد - فقال بلال حين رآه: رأس الكفر أميّة بن خلف، لا نجوت إن نجوا! قال:

قلت: أي بلال، أ بأسيريّ! قال: لا نجوت إن نجوا! قلت: أي بلال، أ بأسيريّ تسمّع(4) يا بن السوداء! قال: لا نجوت إن نجوا! ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار اللّه، رأس الكفر أميّة بن خلف، لا نجوت إن نجوا. قال:

فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة(5) و أنا أذبّ عنه. قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه(6) فوقع، و صاح أميّة/صيحة ما سمعت بمثلها قطّ. قال قلت: انج بنفسك و لا نجاء(7)! فو اللّه ما أغني عنك شيئا. قال:

فهبروهما(8) بأسيافهم حتى فرغوا منهما. قال: فكان عبد الرحمن يقول: رحم اللّه بلالا! ذهب بأدراعي و فجعني بأسيريّ.

قتال الملائكة في غزوة بدر:

قال ابن إسحاق حدّثني عبد اللّه بن أبي بكر أنه حدث عن ابن عباس قال حدّثني رجل من بني غفار(9) قال:

أقبلت أنا و ابن عمّ لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، و نحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدّبرة(10) - فننهب مع من ينهب. فبينا نحن في الجبل إذ دنت منّا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، و سمعت قائلا يقول: أقدم(11) حيزوم. قال: فأمّا ابن عمّي فانكشف قناع(12) قلبه فمات مكانه. و أما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت.

قال محمد بن إسحاق حدّثني أبي إسحاق بن يسار عن رجال من بني مازن بن النجّار عن أبي داود المازنيّ، و كان شهد بدرا، قال:

ص: 393


1- كذا في م و «السيرة» و الطبري. و في سائر الأصول: «المتعلم».
2- كذا في م و «السيرة» و الطبري. و في سائر الأصول: «رمضاء بمكة».
3- كذا في م و «السيرة». و في سائر الأصول: «يأتي».
4- كذا في م. و التسميع: التشهير؛ يقال: سمّع بالرجل، إذا أذاع عنه عيبا و ندّد به و شهره و فضحه. و في ج و الطبري: «أي بلال تسمع يا ابن السوداء». و في سائر الأصول: «أي بلال أ تسمع يا ابن السوداء».
5- كذا في م و «السيرة» و الطبري. و المسكة (بالتحريك): السوار. و في سائر الأصول: «السكة» و هو تحريف.
6- كذا في «السيرة». و في الأصول: «قال: فضرب رجل أمية فوقع إلخ».
7- في «السيرة»: «انج بنفسك و لا نجاء به».
8- هبروهما: قطعوهما.
9- كذا في «سيرة ابن هشام» و «تاريخ الطبري». و في الأصول: «بني عفان».
10- الدبرة (بالفتح): العاقبة؛ يقال: لمن الدبرة أي الدولة و النصر و الظفر، و على من الدبرة أي الهزيمة.
11- أقدم حيزوم: أمر بالإقدام، و هو التقدّم في الحرب، و الإقدام: الشجاعة. و قد تكسر همزة «اقدم» فيكون أمرا بالتقدّم لا غير، و الصحيح الفتح من أقدم. و حيزوم: اسم فرس جبريل عليه السّلام. (انظر ابن الأثير و «اللسان» مادتي قدم و حزم).
12- قناع القلب: غشاؤه؛ تشبيها بقناع المرأة.

إنّ لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعلمت أنه قد قتله غيري.

/حدّثنا محمد بن جرير قال حدّثنا عبد الرحمن بن عبد اللّه بن الحكم المصريّ قال حدّثنا يحيى بن بكير قال حدّثني محمد بن إسحاق عن العلاء بن كثير عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال:

قال لي أبي: يا بنيّ، لقد رأيتنا يوم بدر و إنّ أحدنا ليشير إلى المشرك بسيفه فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.

لباس الملائكة يوم بدر و حنين:

حدّثنا محمد قال حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة عن محمد قال، و حدّثني الحسن بن عمارة قال أخبرنا سلمة عن الحكم بن عتيبة(1) عن مقسم مولى عبد اللّه/بن الحارث عن عبد اللّه بن عباس قال:

كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها على(2) ظهورهم، و يوم حنين عمائم حمرا، و لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيّام سوى يوم بدر، و كانوا يكونون فيما سواه من الأيام مددا و عددا و لا يضربون.

مقتل أبي جهل بن هشام:

حدّثنا محمد قال حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة قال، قال محمد و حدّثني ثور بن زيد(3) ولي بني(4) الدّيل عن عكرمة مولى ابن عبّاس عن ابن عباس، قال و حدّثني عبد اللّه بن أبي بكر، قالا: كان معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة يقول:

لمّا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من غزوة بدر أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى، و قال: «اللّهمّ لا يعجزنّك». و كان أوّل من لقي أبا جهل معاذ بن عمرو بن الجموح، قال: سمعت القوم، و أبو جهل في مثل الحرجة(5)، و هم يقولون: أبو الحكم/لا يخلص إليه. فلمّا سمعتها جعلتها من شأني، فعمدت نحوه، فلمّا أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنّت(6) قدمه بنصف ساقه، فو اللّه ما شبّهتها حين طاحت إلاّ كالنواة تطيح من تحت مرضخة(7) النّوى حين يضرب بها. قال: و ضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، فتعلّقت بجلدة من جنبي، و أجهضني القتال عنها؛ فلقد قاتلت عامّة يومي و إنّي لأسحبها خلفي، فلمّا آذتني جعلت عليها رجلي ثم تمطّيت بها حتى طرحتها.

قال: ثم عاش معاذ بعد ذلك حتى كان في زمن عثمان بن عفّان. قال: ثم مرّ بأبي جهل، و هو عقير(8)، معوّذ بن

ص: 394


1- كذا في «المشتبه في أسماء الرجال» للذهبي و «تهذيب التهذيب». و في الأصول: «عيينة» و هو تصحيف.
2- كذا في «السيرة». و في الأصول: «في».
3- في الأصول: «يزيد» و التصويب عن «تهذيب التهذيب» و الطبري.
4- كذا في م. و في سائر الأصول: «ابن الديل».
5- الحرجة بالتحريك: مجتمع شجر ملتف كالغيضة، و الجمع: حرج و حراج.
6- أطنت: قطعت.
7- كذا في الطبري. و في «النهاية» لابن الأثير: «شبهتها النواة تنزو من تحت المراضخ» جمع مرضخة، و هي حجر يرضخ به النوى. و الرضخ: الكسر. و في الأصول: «مرضة النوى». و رض الشيء: دقه و جرشه.
8- كذا في م و «السيرة» و الطبري. و العقير: المجروح. و في سائر الأصول: «عفير» بالفاء، و هو تصحيف.

عفراء، فضربه حتى أثبته(1)، فتركه و به رمق، و قاتل معوذ حتى قتل. فمرّ عبد اللّه بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يلتمس في القتلى، و قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيما بلغني: «انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح بركبته؛ فإنّي ازدحمت أنا و هو يوما على مأدبة لعبد اللّه بن جدعان [و نحن غلامان](2) و كنت أشبّ - أو أشفّ - منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فخدش [في](2) إحداهما خدشا لم يزل أثره فيها بعد»(3). فقال عبد اللّه بن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه. قال: و قد كان ضبث(4) بي مرّة بمكة فآذاني و لكزني، ثم قلت: هل أخزاك اللّه/يا عدوّ اللّه؟ قال: و بما ذا أخزاني! أعمد(5) من رجل قتلتموه! لمن الدّبرة اليوم؟ قال: قلت: للّه و لرسوله صلّى اللّه عليه و سلّم.

حدّثنا محمد بن جرير قال حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة عن محمد قال:

زعم رجال من بني مخزوم أنّ ابن مسعود كان يقول: قال لي أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا؛ ثم احتززت رأسه، ثم جئت به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقلت: يا رسول اللّه، هذا رأس عدوّ اللّه أبي جهل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «اللّه الذي لا إله غيره»! - و كانت يمين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - قلت: نعم و اللّه الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛ قال: فحمد اللّه.

تكليم النبي أصحاب القليب بعد موتهم:

قال محمد بن إسحاق و حدّثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزّبير عن عائشة قالت:

لمّا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالقتلى أن يطرحوا في القليب طرحوا فيها إلاّ ما كان من أميّة بن خلف، فإنّه انتفخ في درعه فملأها؛ فذهبوا به ليخرجوه فتزايل، فأقرّوه(6) و ألقوا عليه ما غيّبه من التراب و الحجارة. فلمّا ألقوهم في القليب، وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم/فقال: «يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّا فإني وجدت ما وعدني ربّي حقّا». فقال له أصحابه: يا رسول اللّه، أتكلّم قوما/موتى؟ قال: «لقد علموا أنّ ما وعدهم ربّهم حقّ». قالت عائشة: و الناس يقولون: «لقد سمعوا ما قلت لهم»، و إنما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لقد علموا».

قال ابن إسحاق و حدّثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال:

لمّا سمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يقول من جوف الليل: «يا أهل القليب يا عتبة بن ربيعة و يا شيبة بن ربيعة و يا أبا جهل بن هشام - فعدّد من كان منهم في القليب - هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّا فإنّي قد

ص: 395


1- أي جرحه جراحا لا يتحرّك معها و لا يقوم.
2- زيادة عن م و «السيرة».
3- كذا في م. و في سائر الأصول: «بعده».
4- ضبث بالشيء ضبثا: قبض عليه بكفه.
5- أعمد: أي أعجب. قال أبو عبيد: معناه هل زاد على سيد قتله قومه! هل كان إلا هذا! أي إن هذا ليس بعار. يريد أن يهوّن على نفسه ما حل به من الهلاك، و أنه ليس بعار عليه أن يقتله قومه. و قال شمر: هذا استفهام أي أ أعجب من رجل قتله قومه! قال الأزهري: كأن الأصل أ أعمد إلخ فخففت إحدى الهمزتين. و المراد بالدبرة: الدولة و الظفر كما مرّ في الحاشية رقم 4 ص 198 من هذا الجزء.
6- كذا في «السيرة». و في الأصول: «فأفروه» بالفاء، و هو تصحيف.

وجدت ما وعدني ربّي حقّا» قال المسلمون: يا رسول اللّه، أ تنادي قوما قد جيّفوا! فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، و لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

قال محمد بن إسحاق و حدّثني بعض أهل العلم: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوم قال هذه المقالة قال: «يا أهل القليب بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم! كذّبتموني و صدّقني الناس، و أخرجتموني و آواني الناس، و قاتلتموني و نصرني الناس». ثم قال: «هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّا» للمقالة التي قالها. و لمّا أمر بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يلقوا في القليب، أخذ عتبة فسحب إلى القليب، فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فيما بلغني، إلى وجه أبي حذيفة بن عتبة، فإذا هو كثيب قد تغيّر؛ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «يا أبا حذيفة لعلّك قد دخلك من شأن أبيك شيء» أو كما قال. قال فقال: لا و اللّه يا رسول اللّه ما شككت في أبي و لا في مصرعه، و لكنّني كنت أعرف من أبي رأيا و فضلا و حلما، فكنت أرجو أن يهديه اللّه إلى الإسلام، فلمّا رأيت ما أصابه و ذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني(1)ذلك. قال: فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم له بخير و قال له خيرا.

اختلاف المسلمين على الفيء:

ثم إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع، و اختلف المسلمون فيه: فقال من جمعه: هو لنا، و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نفّل كلّ امرئ ما أصاب. فقال الذين كانا يقاتلون العدوّ و يطلبونهم: لو لا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا القوم عنكم حتّى أصبتم ما أصبتم. و قال(2) الذين كانوا يحرسون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مخافة أن يخالف(3) إليه العدوّ: و اللّه ما أنتم بأحقّ منّا، و لقد رأينا أن نقتل العدوّ إذ ولاّنا اللّه و منحنا أكتافهم، و لقد رأينا أن تأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، و لكن خفنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كرّة العدوّ، فقمنا دونه، فما أنتم بأحقّ به منّا.

مقتل النضر بن الحارث:

قال ابن إسحاق و حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة و يزيد بن رومان: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم جمع الأسارى من المشركين، و كانوا أربعة و أربعين أسيرا، و كان من القتلى مثل ذلك، و في الأسارى عقبة بن أبي معيط، و النّضر بن الحارث بن كلدة، حتّى إذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالصّفراء، قتل النّضر بن الحارث بن كلدة، قتله عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

تعنيف سودة لسهيل بن عمرو حين أسر و عتاب النبيّ لها في ذلك:

قال محمد بن إسحاق حدّثني عبد اللّه بن أبي بكر عن يحيى بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن سعد(4) بن زرارة قال:

ص: 396


1- كذا في «السيرة». و في الأصول: «فلما رأيت ما أصابه ذكرت...... فحزنني ذلك».
2- كذا في «السيرة». و في الأصول: «فقال».
3- أي مخافة أن يأتيه العدوّ في غيبة أصحابه.
4- في الأصول: «أسعد» و هو خطأ؛ و التصويب عن «طبقات ابن سعد» (ج 3 ص 138 من القسم الثاني طبع أوروبا). قال ابن سعد ما نصه: «و كان لأسعد بن زرارة من الولد حبيبة مبايعة، و كبشة مبايعة، و الفريعة مبايعة؛ و أمهم عميرة بنت سهل بن ثعلبة بن الحارث بن يزيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، و لم يكن لأسعد بن زرارة ذكر و ليس له عقب إلا ولادات بناته هؤلاء، و العقب لأخيه سعد من زرارة».

/قدم بالأسارى/حين قدم بهم، و سودة بنت زمعة (زوج النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم) عند آل عفراء في مناحتهم على عوف و معوّذ ابني عفراء، و ذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب. قال: تقول سودة: و اللّه إنّي لعندهم إذ أتينا، فقيل:

هؤلاء الأسارى قد أتى بهم، فرحت إلى بيتي و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيه، و إذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. قالت: فو اللّه ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: يا أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، أ لا متّم كراما! فو اللّه ما أنبهني إلاّ قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من البيت: «يا سودة أعلى اللّه و على رسوله»! قالت فقلت: يا رسول اللّه، و الذي بعثك بالحقّ ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه بحبل أن قلت ما قلت.

إخبار الحيسمان أهل مكة عن قتلى بدر:

قال محمد بن إسحاق: و كان أوّل من قدم مكة بمصاب قريش، الحيسمان(1) بن عبد اللّه بن إياس بن ضبيعة بن رومان بن كعب بن عمرو الخزاعيّ. قالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، و شيبة بن ربيعة، و أبو الحكم بن هشام، و أميّة بن خلف، و زمعة بن الأسود، و أبو البختريّ بن هشام، و نبيه و منبّه ابنا الحجّاج. قال: فلمّا جعل يعدّد أشراف قريش قال صفوان بن أميّة و هو قاعد في الحجر: و اللّه إن يعقل هذا فسلوه عنّي. قالوا: ما فعل صفوان بن أميّة؟ قال: هو ذلك جالس في الحجر، و قد و اللّه رأيت أباه و أخاه حين قتلا.

أبو لهب و تخلفه عن الحرب ثم موته:

قال محمد بن إسحاق حدّثني حسين بن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عبّاس عن عكرمة(2) مولى ابن عبّاس قال:

قال أبو رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: كنت غلاما للعبّاس بن عبد المطّلب، و كان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، [فأسلم العبّاس](3) و أسلمت أمّ الفضل، و أسلمت، و كان العبّاس يهاب قومه، و يكره خلافهم، و كان يكتم إسلامه، و كان ذا مال كثير متفرّق في قومه، و كان أبو لهب عدوّ اللّه قد تخلّف عن بدر، و بعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، و كذلك صنعوا، لم يتخلّف رجل إلاّ بعث مكانه رجلا. فلمّا جاء الخبر عن مصاب أهل بدر من قريش، كبته اللّه و أخزاه، و وجدنا في أنفسنا قوّة و عزّا؛ و كنت رجلا ضعيفا، و كنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم؛ فو اللّه إنّي لجالس فيها أنحت القداح، و عندي أمّ الفضل جالسة و قد سرّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجرّ رجليه يسير(4) حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري. فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب قد قدم؛ فقال أبو لهب: هلمّ إليّ يا بن أخي، فعندك لعمري الخبر. فجلس

ص: 397


1- كذا في «تاريخ الطبري» (ص 1338 من القسم الأوّل طبع أوروبا) و «سيرة ابن هشام» (ص 460) و «شرح القاموس» مادة «حسم». و في الأصول: «الحيثمان» بالثاء المثلثة، و هو تحريف. ثم ذكر الطبري خلافا في نسب الحيسمان هذا فقال: «و قال الواقديّ: الحيسمان بن حابس الخزاعي». و في «الاشتقاق» لابن دريد (ص 280): «الحيسمان بن عمرو». و في «أسد الغابة»: «الحيسمان بن إياس بن عبد اللّه بن إياس بن ضبيعة بن عمرو بن مازن». و ذكر في «الإصابة» في نسبه أقوالا كثيرة، فراجعها.
2- كذا في «سيرة ابن هشام». و في سائر النسخ: «عن عكرمة بن إسحاق مولى ابن عباس» تحريف.
3- الزيادة عن «السيرة».
4- في «السيرة»: «بشرّ».

إليه و النّاس قيام عليه. فقال يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شيء و اللّه، إن كان إلاّ أن لقيناهم فأبحناهم أكتافنا يقتلون و يأسرون كيف شاءوا. و ايم اللّه مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض ما تليق(1) شيئا و لا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك و اللّه الملائكة! فرفع أبو لهب/يده فضرب وجهي ضربة شديدة. قال: فساورته فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك عليّ يضربني، و كنت رجلا ضعيفا؛ فقامت أمّ الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة، فشجّت في رأسه/شجّة منكرة و قالت: أ تستضعفه أن غاب عنه سيّده! فقام مولّيا ذليلا. فو اللّه ما عاش فيها إلاّ سبع ليال حتى رماه اللّه جلّ جلاله بالعدسة(2) فقتلته؛ فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا لا يدفنانه حتّى أنتن في بيته - و كانت قريش تتّقي العدسة كما يتّقى الطاعون - حتى قال لهما رجل من قريش ويحكما! لا تستحييان أنّ أباكما قد أنتن في بيته لا تغيّبانه! فقالا: نخشى هذه القرحة. قال: فانطلقا فأنا معكما. فما غسّلوه إلاّ قذفا بالماء عليه من بعيد ما يمسّونه؛ فاحتملوه فدفنوه بأعلى مكة على جدار، و قذفوا عليه الحجارة حتّى واروه.

العباس بن عبد المطلب و تألم النبي لأسره:

قال محمد بن إسحاق و حدّثني العبّاس بن عبد اللّه بن معبد عن بعض أهله عن الحكم بن عتيبة عن ابن عبّاس قال:

لمّا أمسى القوم من يوم بدر، و الأسارى محبوسون في الوثاق، بات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ساهرا أوّل ليلته. فقال له أصحابه: يا رسول اللّه، ما لك لا تنام؟ فقال: «سمعت تضوّر العبّاس في وثاقه»؛ فقاموا إلى العبّاس فأطلقوه؛ فنام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

قال ابن إسحاق و حدّثني الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن ابن عبّاس قال:

كان الذي أسر العبّاس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة، و كان رجلا مجموعا، و كان العبّاس رجلا جسيما. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لأبي اليسر: / «كيف أسرت العبّاس يا أبا اليسر»؟ فقال: يا رسول اللّه، أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك و لا بعده، هيئته كذا و كذا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لقد أعانك عليه ملك كريم».

طلب منه النبي الفداء و أخبره عن أمواله بمكة:

قال ابن إسحاق عن الكلبيّ(3) عن أبي صالح عن ابن عبّاس:

أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال للعبّاس بن عبد المطلب حين انتهى به إلى المدينة: «يا عبّاس افد نفسك، و ابن أخيك عقيل بن أبي طالب، و نوفل بن الحارث، و حليفك عتبة بن عمرو بن جحدم أخا بني الحارث بن فهر؛ فإنك ذو مال». فقال: يا رسول اللّه، إنّي كنت مسلما و لكنّ القوم استكرهوني. فقال: «اللّه أعلم بإسلامك، إن يكن ما

ص: 398


1- ما تليق شيئا: ما تبقى على شيء؛ يقال: هذا سيف لا يليق شيئا أي لا يمرّ بشيء إلا قطعه. و في ب، ح: «ما تلين»؛ و هو تحريف.
2- العدسة: بثرة قاتلة تخرج بالبدر.
3- كذا في أكثر الأصول و الطبري. و في س: «عن ابن الكلبي»، و الذي يروي عنه ابن إسحاق، كما في «الأنساب» للسمعاني، هو محمد بن السائب الكلبي، و محمد هذا يسميه الرواة كثيرا «الكلبي». و في بعض الأحيان «ابن الكلبي». و أما هشام ابنه فيعرف بالكلبي قولا واحدا، و لم نعرف أن ابن إسحاق روى عنه.

تذكر حقّا فاللّه يجزيك به، فأمّا ظاهر أمرك فقد كان علينا؛ فافد نفسك». و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد أخذ منه عشرين أوقيّة من ذهب. فقال العبّاس: يا رسول اللّه، احسبها لي في فدائي. قال: «لا، ذلك شيء أعطاناه اللّه منك» قال:

فإنّه ليس لي مال. قال قال: «فأين المال الذي وضعته بمكة حين خرجت من عند أمّ الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد، ثم قلت لها إن أصبت في سفرتي هذه فللفضل كذا و لعبد اللّه كذا و لقثم كذا و لعبيد اللّه كذا»؟ قال:

و الذي بعثك بالحقّ ما علم هذا أحد غيري و غيرها، و إنّي لأعلم أنّك رسول اللّه. ففدى العبّاس نفسه و ابن أخيه و حليفه.

فدت زينب زوجها أبا العاصي فردّ عليها النبي الفداء:

قال ابن إسحاق: و حدّثني يحيى(1) بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزّبير عن أبيه عن عائشة قالت:

لمّا بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في فداء أبي العاصي بن الربيع بمال، و بعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاصي حين بنى عليها. فلمّا رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رقّ لها(2)رقّة شديدة و قال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها و تردّوا عليها الذي لها فافعلوا»! فقالوا: نعم يا رسول اللّه؛ /فأطلقوه و ردّوا عليها الذي لها.

رثاه الأسود بن المطلب لأولاده:

قال ابن إسحاق. حدّثني يحيى بن عبّاد عن أبيه قال:

ناحت قريش على قتلاها، ثم قالت: لا تفعلوا فيبلغ ذلك محمدا [و أصحابه](3) فيشمتوا بكم، و لا تبعثوا في فداء أسراكم حتى تستأنوا(4) بهم، لا يتأرّب(5) عليكم محمد و أصحابه في الفداء. قال: و كان الأسود بن المطّلب(6)قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة(7) و عقيل و الحارث بنو الأسود، و كان يحبّ أن يبكي على بنيه. فبينا هو/كذلك إذ سمع نائحة في الليل، فقال لغلامه و قد ذهب بصره: انظر هل أحلّ النّحيب؟ و هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلّي أبكي على أبي حكيمة (يعني زمعة)؛ فإنّ جوفي قد احترق. فلمّا رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته؛ فذلك حين يقول الأسود:

ص: 399


1- كذا في م و «السيرة» (ص 465) و الطبري (قسم أوّل ص 1347) و فيما سيأتي في هذه الصفحة في جميع الأصول. و في سائر الأصول هنا: «محمد بن عباد». و محمد بن عباد هذا هو أخو يحيى بن عباد، و لم تعرف لابن إسحاق رواية عنه.
2- كذا في «السيرة» لابن هشام (ص 465 طبع أوروبا). و في الأصول: «فلما رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رق لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم رقة إلخ» و لعل هذا تكرار من الناسخ.
3- زيادة عن س.
4- كذا في الطبري (قسم 1 ص 1342) و «السيرة» (ص 461). و استأنى: تربص و انتظر. و في ب، ح: «حتى يستأنسوا بهم». و في س: «حتى يتأسوا منهم».
5- كذا في الطبري. و يتأرب: يتأبى و يتشدّد. و في «السيرة» و «اللسان» مادة أرب: «لا يأرب». و أرب: تشدّد. و في الأصول: «و لا يتأوب» بالواو.
6- كذا في «السيرة» و هو الموافق لما في «حماسة أبي تمام» (ص 397 - شرح التبريزي طبع أوروبا) و «الاشتقاق» لابن دريد. و في الأصول و الطبري: «ابن عبد يغوث» و هو خطأ.
7- انظر الحاشية رقم 5 ص 180 من هذا الجزء.

أ تبكي أن أضلّ لها بعير *** و يمنعها البكاء من الهجود(1)

و لا(2) تبكي على بكر و لكن *** على بدر تقاصرت الجدود(3)

على بدر سراة(4) بني هصيص *** و مخزوم و رهط أبي الوليد

و بكّي(5) إن بكيت على عقيل *** و بكّي حارثا أسد الأسود

و بكّيهم و لا تسمي جميعا *** فما لأبي حكيمة من نديد

ألا قد ساد بعدهم رجال *** و لو لا يوم بدر لم يسودوا

رثاء هند بنت عتبة أباها:
اشارة

و مما قيل في بدر من الشّعر و غنّي به قول هند بنت عتبة ترثي أباها:

صوت

من حسّ(6) لي الأخوين كال *** غصنين أو من راهما(7)

قرمان(8) لا يتظالما *** ن و لا يرام حماهما

ويلي على أبويّ و ال *** قبر الذي واراهما

لا مثل كهلي في الكهو *** ل و لا فتى كفتاهما

- ذكر الهشاميّ أنّ الغناء لابن سريج رمل، و في الكتاب الكبير المنسوب إلى إسحاق أنه للغريض - و تمام هذه الأبيات:

ص: 400


1- ورد هذا البيت في «حماسة أبي تمام» و «السيرة» ص 462 و الطبري هكذا: أ تبكي أن يضل لها بعير و يمنعها من النوم السهود و ذكر معه في «الحماسة» الثاني و الأخير من هذه الأبيات، و هما البيتان المتفقان معه في حركة الروي.
2- في «الحماسة» و الطبري و «السيرة»: «فلا..... إلخ».
3- البكر: الفتيّ من الإبل. و تقاصرت الجدود أي تواضعت الحظوظ. يريد أنه يستهين فقد المال و يستعظم فقد النفوس. و تقاصرت: تفاعلت من القصور و العجز، كأنها تبارت في القصور. و يحتمل أن تكون من القصر الذي هو ضد الطول، و تكون كلمة «على» من «على بدر» موضوعة موضع الباء؛ كما يقال: هم على ماء كذا و هم بماء كذا. و قال أبو هلال: تقاصرت الجدود: عثرت. و العاثر يتطأطأ عند العثار فيتقاصر. و العثار في الجدّ مثل، و كذلك التقاصر. و يجوز أن يقال: إنه أراد بالجدود الأعمار أي إنه قتل من قتل من المشركين فذهب بهم عز قريش، أي لا تبكي على بكر و ابكي على من تقاصرت جدودهم ببدر فهلكوا. (عن «شرح الحماسة» للتبريزي باختصار).
4- سراة: جمع سرى و هو السيد الكريم.
5- بكّاه بالتضعيف مثل بكاه المخفف.
6- حس من باب نصر كأحس.
7- أصل راهما: رآهما؛ فخففت فيه الهمزة على حدّ: «لا هناك المرتع»؛ فاجتمعت ألفان، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. (انظر «اللسان» مادة رأى).
8- القرم: السيد العظيم.

أسدان لا يتذلّلا *** ن و لا يرام حماهما

رمحين خطّيّين في *** كبد السماء تراهما

ما خلّفا إذ ودّعا *** في سودد شرواهما(1)

سادا بغير تكلّف *** عفوا يفيض نداهما

معاظمتها الخنساء بعكاظ و شعرهما في مصابهما:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني الحارث بن أبي أسامة قال حدّثنا محمد بن سعد عن الواقديّ، و أخبرني ابن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الواقديّ عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد قال:

لمّا كانت وقعة بدر، قتل فيها عتبة بن ربيعة، و شيبة بن ربيعة، و الوليد بن عتبة؛ فأقبلت هند بنت عتبة ترثيهم، و بلغها تسويم(2) الخنساء هودجها في الموسم/و معاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشّريد و أخويها صخر و معاوية، و أنّها/جعلت تشهد الموسم و تبكيهم، و قد سوّمت هودجها براية، و أنها تقول: أنا أعظم العرب مصيبة، و أنّ العرب قد عرفت لها بعض ذلك. فلمّا أصيبت هند بما أصيبت به و بلغها ذلك، قالت: أنا أعظم من الخنساء مصيبة، و أمرت بهودجها فسوّم براية، و شهدت الموسم بعكاظ، و كانت سوقا يجتمع فيها العرب، فقالت:

اقرنوا جملي بجمل الخنساء، ففعلوا. فلمّا أن دنت منها، قالت لها الخنساء: من أنت يا أخيّة؟ قالت: أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة، و قد بلغني أنّك تعاظمين العرب بمصيبتك، فبم تعاظمينهم؟ فقالت الخنساء: بعمرو بن الشّريد، و صخر و معاوية ابني عمرو، و بم تعاظمينهم أنت؟ قالت: بأبي عتبة بن ربيعة، و عمّي شيبة بن ربيعة، و أخي الوليد. قالت الخنساء: أو سواء هم عندك؟ ثم أنشدت تقول:

أبكي أبي عمرا بعين غزيرة *** قليل إذا نام الخليّ هجودها

و صنويّ لا أنسى معاوية الذي *** له من سراة الحرّتين(3) وفودها

و صخرا، و من ذا مثل صخر إذا غدا *** بساهمة(4) الآطال قبّا يقودها

فذلك يا هند الرّزيّة فاعلمي *** و نيران حرب حين شبّ وقودها

/فقالت هند تجيبها:

أبكي عميد الأبطحين(5) كليهما *** و حاميهما من كل باغ يريدها

ص: 401


1- شرواهما: مثلهما.
2- سوّم الشيء: جعل له سومة و علامة ليعرف بها و يتميز.
3- الحرّة: الأرض ذات الحجارة السود النخرة. و المراد بالحرّتين: حرة بني سليم و حرة بني هلال بالحجاز. أي هو مقصد الأشراف من القبائل تأتيه وفودها فيما يلم بها.
4- كذا في «ديوان الخنساء» (طبع المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين سنة 1895). و الساهمة: الدقيقة. و الآطال: جمع إطل (بالكسر و بكسرتين) و هو الخاصرة. و في م: «بسلهبة الآطال» و السلهبة: من الخيل الطويلة على وجه الأرض. و في سائر الأصول: «الأبطال» و هو تحريف. و في نسخة مخطوطة من «الديوان» محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (570 أدب ص 86): «بساهمة الأبصار قب». و القب: جمع أقب و قباء، و هي الفرس الدقيقة الخصر الضامرة البطن.
5- عميد القوم: سندهم و سيدهم. و تريد بالأبطحين: بطحاء مكة و سهل تهامة. و أصل الأبطح: المسيل الواسع فيه دقاق الحصى.

أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي *** و شيبة و الحامي الذّمار وليدها

أولئك آل المجد من آل غالب *** و في العزّ منها حين ينمي عديدها(1)

و قالت لها أيضا يومئذ:

من حسّ لي الأخوين كال *** غصنين أو من راهما

لم ينكر معاوية على عبد اللّه بن جعفر سماعه الغناء:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني بعض القرشيّين قال:

قدم عبد اللّه بن جعفر على معاوية وافدا، فدخل عليه إنسان ثم ذهب إلى معاوية فقال: هذا ابن جعفر يشرب النّبيذ، و يسمع الغناء، و يحرّك رأسه عليه. فجاء معاوية متغيّرا حتّى دخل على ابن جعفر، و عزّة الميلاء بين يديه كالشمس الطالعة في كواء(2) البيت يضيء بها البيت، تغنّيه على عودها:

تبلت(3) فؤادك في الظلام خريدة *** تشفي الضّجيع ببارد بسّام

و بين يديه عسّ(4)؛ فقال: ما هذا يا أبا جعفر؟ قال: أقسمت عليك يا أمير المؤمنين لتشربنّ منه، فإذا عسل مجدوح(5) بمسك و كافور. فقال: هذا طيّب، فما هذا الغناء؟ قال: هذا شعر حسّان بن ثابت في الحارث بن هشام.

قال: فهل تغنّي بغير هذا؟ /قال: نعم، بالشعر الذي يأتيك به الأعرابيّ الجافي(6) الأدفر، القبيح المنظر، فيشافهك به، فتعطيه عليه؛ و آخذه أنا، فأختار محاسنه و رقيق كلامه، فأعطيه هذه الحسنة الوجه، اللّيّنة اللمس، الطيبة الريح، فترتله بهذا الصوت الحسن. قال: فما تحريكك رأسك؟ قال: أريحيّة أجدها إذا سمعت الغناء، لو سئلت عندها لأعطيت، و لو لقيت لأبليت. فقال معاوية: قبّح اللّه قوما عرّضوني لك. ثم خرج و بعث/إليه بصلة.

صوت من المائة المختارة
عمر بن أبي ربيعة و نعم:
اشارة

أيّها القلب لا أراك تفيق *** طالما قد تعلّقتك العلوق(7)

من يكن من هوى حبيب قريبا *** فأنا النازح البعيد السّحيق

ص: 402


1- عديدها: جموعها.
2- كواء البيت: منافذه و ثقوبه، واحدها كوّة. و في م: «كسر البيت». و في سائر الأصول: «كذا البيت» بالدال المهملة، و هو تحريف.
3- ورد هذا البيت في «ديوان حسان» (طبع أوروبا ص 3) هكذا: تبلت فؤادك في المنام خريدة تسقى الضجيع ببارد بسام و تبلت فؤادك: أسقمته و ذهبت به.
4- العس (بالضم): القدح الكبير.
5- مجدوح: مخلوط.
6- الجافي: الغليظ في المعاشرة. و الأدفر (بالدال المهملة): النتن.
7- يريد به ما علقه من كلف الحب و جهده.

قضي الحبّ بيننا فالتقينا *** و كلانا إلى اللّقاء مشوق

الشعر في البيت الأوّل و الثالث لعمر بن أبي ربيعة، و البيت الثاني ليس له، و لكن هكذا غنّي؛ و ليس هو أيضا مشاكلا لحكاية ما في البيت الثالث. و الغناء لبابويه(1) الكوفيّ، خفيف ثقيل أوّل. و هذا الشعر يقوله عمر بن أبي ربيعة في امرأة من قريش، يقال لها نعم، كان كثير الذّكر لها في شعره. أخبرني بذلك محمد بن خلف بن المرزبان عن أبي عبد اللّه التّميميّ عن القحذميّ و المدائنيّ. قال: و هي التي يقول فيها:

أ من آل نعم أنت غاد فمبكر

/قال: و كانت تكنى أمّ بكر، و هي من بني جمح. و تمام هذه الأبيات على ما حكاه ابن المرزبان عمّن ذكرت:

فالتقينا و لم نخف ما لقينا *** ليلة الخيف، و المنى قد تشوق(2)

و جرى بيننا فجدد وصلا *** قلّب(3) حوّل أريب رفيق

لا تظنّي أنّ التّراسل و البد *** ل لكلّ النساء عندي يليق

هل لك اليوم إن نأت أمّ بكر *** و تولّت إلى عزاء طريق

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثت عن محمد بن حميد عن عبد اللّه بن سوّار القاضي عن بشر بن المفضّل قال:

بلغ عمر بن أبي ربيعة أنّ نعما اغتسلت في غدير، فأتاه فأقام عليه، و ما زال يشرب منه حتى جفّ.

أخبرني محمد بن خلف قال: قال محمد بن حبيب الراوية:

بلغني أنّ نعما استقبلت عمر بن أبي ربيعة في المسجد الحرام، و في يدها خلوق(4) من خلوق المسجد، فمسحت به ثوبه، و مضت و هي تضحك؛ فقال عمر:

أدخل اللّه ربّ موسى و عيسى *** جنّة الخلد من ملاني خلوقا

مسحته من كفّها في قميصي *** حين طافت بالبيت مسحا رفيقا

غضبت أن نظرت نحو نساء *** ليس يعرفنني سلكن طريقا

و أرى بينها و بين نساء *** كنت أهذي بهنّ بونا سحيقا

و هذا البيت الأوّل مما عيب على عمر.

/و مما غنّي فيه من تشبيب عمر بنعم هذه:

ص: 403


1- في الأصول: «لباتويه» بالتاء المثناة، و هو تصحيف.
2- كذا في أكثر الأصول. و في م و جميع نسخ «ديوانه»: «تسوق» بالسين المهملة.
3- القلّب الحوّل: المحتال البصير بتقليب الأمور.
4- الخلوق: ضرب من الطيب مائع فيه صفرة؛ لأن أعظم أجزائه من الزعفران.
صوت

دين(1) هذا القلب من نعم *** بسقام(2) ليس كالسّقم

إنّ نعما أقصدت(3) رجلا *** آمنا بالخيف إذ ترمى

بشتيت(4) نبته رتل *** طيّب الأنياب و الطّعم

/و بوحف(5) مائل رجل *** كعناقيد من الكرم

و منها:

صوت

خليليّ أربعا(6) و سلا *** بمغنى الحيّ قد مثلا

بأعلى الواد(7) عند البئ *** ر هيّج عبرة سبلا(8)

و قد تغنى به نعم *** و كنت بوصلها جذلا

/ليالي لا نحبّ لنا *** بعيش قد مضى بدلا

و تهوانا و نهواها *** و نعصي قول من عذلا

و ترسل في ملاطفة *** و نعمل نحوها الرّسلا

غنّاه الهذليّ، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لابن سريج لحنان: رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق، و خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيها عن إسحاق ثاني ثقيل، و لسليم خفيف رمل، جميعا عن الهشاميّ. قال: و يقال: إنّ اللحن المنسوب إلى سليم لحكم(9) الواديّ.

و منها من قصيدة أوّلها:

ص: 404


1- دين: جوزي و كوفي.
2- كذا في «اللسان» (مادة دين). و في الأصول. «و سقام» بواو العطف. و ورد هذا البيت في «ديوان عمر بن أبي ربيعة» (ص 57 طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1311 ه و طبع أوروبا ص 84) هكذا: قد أصاب القلب من نعم سقم داء ليس كالسقم
3- أقصده: أصابه فقتله.
4- الثغر الشتيت: المفلّج، و هو أن يكون بين أسنانه تباعد. و رتل (وزان كتف و سبب): مستو حسن التنضيد.
5- الوحف: الشعر الكثيف المسودّ. و الرجل من الشعر (بفتح الراء و كسر الجيم، و مثله الرجل بفتح الراء و الجيم): ما كان بين السبوطة و الجعودة.
6- أربعا: أقيما. و مغني الحيّ: محل إقامتهم. و مثل: قام و انتصب.
7- الوادي: كل منفرج بين الجبال و التلال و الآكام يكون مسلكا للسيل و منفذا. و ربما اكتفى فيه بالكسرة عن الياء؛ كما قال أبو الرّبيس التغلبي: لا صلح بيني فاعلموه و لا بينكم ما حملت عاتقي سيفي و ما كنا بنجد و ما قرقر قمر الواد بالشاهق
8- سبل (بالتحريك): اسم المصدر من أسبل المطر و الدمع إذا هطلا؛ و لذلك لا يؤنث و لا يثنى و لا يجمع إذا وصف به.
9- في م: «لسليمان». و في سائر الأصول: «لسليم الوادي».

لقد

أرسلت نعم إلينا أن ائتنا *** فأحبب بها من مرسل متغصّب

يغنّى منها في قوله:

صوت

فقلت لجنّاد خذ السيف و اشتمل *** عليه برفق و ارقب الشمس تغرب

و أسرج لي الدّهماء و اعجل بممطري(1) *** و لا تعلمن حيّا من النّاس مذهبي(2)

فلمّا التقينا سلّمت و تبسّمت *** و قالت مقال المعرض المتجنّب

أ من أجل واش كاشح(3) بنميمة *** مشى بيننا صدّقته لم تكذّب

و قطّعت حبل الوصل منّا، و من يطع *** بذي ودّه قول المؤرّش(4) يعتب

صوت

ما بال أهلك يا رباب *** خزرا(5) كأنّهم غضاب

إن زرت أهلك أوعدوا *** و تهرّ دونهم الكلاب

عروضه من الكامل(6). الشعر لعلس ذي جدن الحميريّ، أخبرنا بذلك محمد بن الحسن بن دريد عن عمّه عن العبّاس بن هشام عن أبيه. و الغناء لطويس؛ و لحنه المختار خفيف رمل بالبنصر.

44 - نسب علس ذي جدي و أخباره

نسبه و سبب لقبه:

هو علس بن زيد بن الحارث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن زيد(7) الجمهور بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أعز(8) بن الهمّ بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن/يعرب بن قحطان. و هو ملك من ملوك حمير. و لقّب

ص: 405


1- الممطر و الممطرة (بكسر الميم فيهما): ثوب من صوف يلبس في المطر يتوقى به منه.
2- هذه رواية «الديوان» في هذا الشطر. و في الأصول: و لا يعلمن حيّ من الناس مذهبي و في هذه الأبيات اختلاف يسير عما في «الديوان».
3- الكاشح: العدوّ المضمر للعداوة؛ لأنه يطوي كشحه على العداوة أو لأنه يتباعد عنك و يوليك كشحه.
4- أرّش بين القوم: أفسد. و في س: «المحرش». و المحرّش: الذي يغري بعض القوم ببعض.
5- خزرا: جمع أخزر. و الأخزر: الذي ينظر بلحظ عينه.
6- هو من مجزوء الكامل المرفّل.
7- في «نهاية الأرب» (ج 2 ص 308 طبعة أولى) عند كلامه على نسب أحد ولد الهميسع بن حمير: «... زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، و هم حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو... إلخ» و يلاحظ أن بين سياق النسبين خلافا.
8- في «نهاية الأرب» (ص 309): «ابن زهير بن أيمن بن الهميسع». و في كتاب «العبر» لابن خلدون (ج 2 ص 51 طبع بلاق): «زهير بن أبين بن الهميسع».

ذا جدن لحسن صوته - و الجدن: الصوت بلغتهم - و يقال: إنه أوّل من تغنّى باليمن.

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن ابن الكلبيّ و أبي مسكين قالا: إنّما سمّي ذا جدن لحسن صوته.

قبره بصنعاء و آثاره:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا عليّ بن الصّبّاح عن ابن الكلبيّ عن إسماعيل بن إبراهيم بن ذي الشّعار الهمدانيّ عن حيّان بن هانئ الأرحبيّ عن أبيه قال:

أخبرني رجل من أهل صنعاء: أنّهم حفروا حفيرا في زمن مروان، فوقفوا على أزج(1) له باب، فإذا هم برجل على سرير كأعظم ما يكون من الرجال، عليه خاتم من ذهب و عصابة من ذهب، و عند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه: «أنا علس ذو جدن القيل، لخليلي منّي النّيل، و لعدوّي منّي الويل. طلبت فأدركت و أنا ابن مائة سنة من عمري، و كانت الوحش تأذن(2) لصوتي. و هذا سيفي ذو الكفّ عندي، و درعي ذات الفروج و رمحي الهزبريّ، و قوسي الفجواء(3)، و قربي(4) ذات الشرّ، فيها ثلاثمائة حشر، من صنعة ذي نمر(5)؛ أعددت ذلك لدفع الموت عنّي فخانني». قال: فنظرنا فإذا جميع ذلك عنده. و وجدت هذا الخبر عن ابن الكلبيّ في بعض الكتب من غير رواية ابن عمّار، فوجدت فيه: فإذا طول السيف اثنا عشر شبرا، و عليه مكتوب تحت شاربه(6) بالمسند(7): «باست امرئ كنت في يده فلم ينتصر».

انقضت أخباره.

ص: 406


1- عبارة «القاموس» و «شرحه» مادّة أزج: «الأزج محركة: ضرب من الأبنية». و في «الصحاح» و «المصباح» و «اللسان»: الأزج: بيت يبنى طولا و يقال له بالفارسية أوستان.
2- تأذن كتفرح: تسمع. يشير بذلك إلى جمال صوته.
3- القوس الفجواء: هي التي يبين وترها عن كبدها، و مثل الفجواء الفجّاء و المنفجّة.
4- القرن: الجعبة. و الحشر: الدقيق من الأسنّة.
5- ذو نمر: واد بنجد في ديار بني كلاب. (انظر «معجم ياقوت» في نمر، و كتاب «ما يعوّل عليه في المضاف و المضاف إليه» في «ذي نمر»).
6- للسيف شاربان و هما، كما قال ابن شميل، أنفان طويلان أسفل القائم، أحدهما من أحد الجانبين و الآخر من الجانب الآخر، و تحتهما الغاشية. و الشارب و الغاشية يكونان من حديد و فضة و أدم.
7- المسند: خط لحمير، و هو موجود بكثرة في الحجارة و قصور اليمن، و ترى صورته في كتاب «منتخبات في أخبار اليمن» (ص 52 طبع ليدن) و كتاب «تاريخ الأدب» للمرحوم حفني ناصف بك (ج 1 ص 50 طبع مصر).

45 - أخبار طويس و نسبه

اشارة

45 - أخبار طويس(1) و نسبه

أوّل من صنع الهزج و الرمل و اشتهر بالهزج:

طويس لقب، و اسمه طاوس(2)، مولى بني مخزوم. و هو أوّل من غنّى الغناء المتقن من المخنّثين. و هو أوّل من صنع الهزج و الرّمل في الإسلام. و كان يقال: أحسن الناس غناء في الثّقيل ابن محرز، و في الرمل ابن سريج، و في الهزج طويس. و كان الناس يضربون به المثل، فيقال: «أهزج من طويس».

غنى أبان بن عثمان بالمدينة فطرب و سأله عن عقيدته و عن سنه و عن شؤمه:

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر و الحسين بن يحيى قالا: حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبيّ عن أبيه و أبي مسكين، قال إسحاق: و حدّثني المدائنيّ و الهيثم بن عديّ عن صالح بن كيسان:

أنّ أبان بن عثمان وفد على عبد الملك بن مروان، فأمّره على الحجاز؛ فأقبل حتّى إذا دنا من المدينة تلقّاه أهلها، و خرج إليه أشرافها، فخرج معهم طويس؛ فلمّا رآه سلّم عليه، ثم قال له: أيها الأمير، إنّي كنت أعطيت اللّه عهدا لئن رأيتك أميرا لأخضبنّ يديّ إلى المرفقين، ثم أزدو(3) بالدّفّ بين يديك، ثم أبدى عن دفّه و تغنّى بشعر ذي جدن الحميريّ:

ما بال أهلك يا رباب *** خزرا كأنّهم غضاب

قال: فطرب أبان حتى كاد أن يطير، ثم جعل يقول له: حسبك يا طاوس - و لا يقول له: يا طويس لنبله في عينه - ثم قال له: اجلس فجلس. فقال له أبان: قد زعموا أنّك كافر. فقال: جعلت فداءك! و اللّه إنّي لأشهد أن لا إله/إلاّ اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه، و أصلّي الخمس، و أصوم شهر رمضان، و أحجّ البيت. فقال: أ فأنت أكبر أم عمرو بن عثمان؟ - و كان عمرو أخا أبان لأبيه و أمّه - فقال له طويس: أنا و اللّه، جعلت فداءك، مع جلائل(4) نساء قومي، أمسك بذيولهنّ يوم زفّت أمّك المباركة إلى أبيك الطيّب(5). قال: فاستحيا أبان و رمى بطرفه إلى الأرض.

ص: 407


1- تقدمت لطويس ترجمة أخرى في الجزء الثالث من هذه الطبعة (صفحة 27-44). و قد ذكرنا هناك ما قد يكون سببا في تكرار الترجمة، و بينا سبب عدم ضمنا إحدى الترجمتين إلى الأخرى.
2- تقدم في ترجمته في الجزء الثالث من هذا الكتاب أن اسمه عيسى بن عبد اللّه.
3- أزدو: أضرب.
4- كذا في ح، ط، ء. و في سائر النسخ: «حلائل» بالحاء المهملة، و هو تصحيف.
5- قال ابن عبد ربه في «العقد الفريد» (ج 3 ص 242) بعد أن ساق هذه القصة: «انظر إلى حذفه ورقة أدبه كيف لم يقل أمك الطيبة إلى أبيك المبارك». و فسر ذلك الجاحظ في كتابه «الحيوان» (ج 4 ص 19) فقال: «و لو قال شهدت زفاف أمك الطيبة إلى أبيك المبارك لم يحسن ذلك؛ لأن قولك طيب إنما يدل على قدر ما اتصل به من الكلام، و قد قال الشاعر: و الطيبون معاقد الأزر و قد يخلو الرجل بالمرأة فيقول وجدتها طيبة، يريد طيبة الكوم (الوطء) لذيذة نفس الوطء».

و أخبرني بهذه/القصة إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا العتبيّ عن أبيه بمثل هذه القصة عن أبان و طويس. و زاد فيها أنّ طويسا قال له: نذري أيّها الأمير! قال: و ما نذرك؟ قال: نذرت إن رأيتك أميرا في هذه الدار أن أغنّي لك و أزدو بدفّي بين يديك. فقال له: أوف بنذرك؛ فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) . قال: فأخرج يديه مخضوبتين، و أخرج دفّه و تغنّى:

ما بال أهلك يا رباب

و زاد فيه: فقال له أبان: يقولون: إنّك مشئوم، قال: و فوق ذلك! قال: و ما بلغ من شؤمك؟ قال: ولدت ليلة قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و فطمت ليلة مات أبو بكر رضي اللّه عنه، و احتلمت ليلة قتل عمر رضوان اللّه عليه، و زفّت إليّ أهلي ليلة قتل عثمان رضي اللّه عنه. قال: فاخرج عنّي عليك الدّبار(1).

أهدر دمه أمير المدينة مع المخنثين:

أخبرني إسماعيل قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن الوليد قال حدّثني مصعب بن عثمان عن نوفل بن عمارة قال:

/خرج يحيى(2) بن الحكم و هو أمير على المدينة، فبصر بشخص بالسّبخة مما يلي مسجد الأحزاب، فلمّا نظر إلى يحيى بن الحكم جلس، فاستراب به، فوجّه أعوانه في طلبه؛ فأتي به كأنه امرأة في ثياب مصبّغة مصقولة و هو ممتشط مختضب. فقال له أعوانه: هذا ابن نغاش(3) المخنّث. فقال له: ما أحسبك تقرأ من كتاب اللّه عزّ و جلّ شيئا، اقرأ أمّ القرآن. فقال: يا أبانا لو عرفت أمّهنّ عرفت البنات. فقال له: أ تتهزّأ بالقرآن لا أمّ لك! و أمر به فضربت عنقه. و صاح في المخنّثين: من جاء بواحد منهم فله ثلاثمائة(4) درهم. قال زرجون المخنّث: فخرجت بعد ذلك أريد العالية، فإذا بصوت دفّ أعجبني، فدنوت من الباب حتى فهمت نغمات قوم آنس بهم، ففتحته و دخلت، فإذا بطويس قائم في يده الدّفّ يتغنّى؛ فلمّا رآني قال لي: إيه يا زرجون! قتل يحيى بن الحكم ابن(5)نغاش؟ قلت نعم. [قال](6): و جعل(7) في المخنّثين ثلاثمائة درهم؟ قلت نعم. فاندفع يغنّي:

ما بال أهلك يا رباب *** خزرا كأنّهم غضاب

إن زرت أهلك أوعدوا *** و تهرّ دونهم كلاب

ثم قال لي: ويحك! أ فما جعل فيّ زيادة و لا فضّلني عليهم في الجعل بفضلي [شيئا](8).

ص: 408


1- كذا في أكثر الأصول. و في م: «الدمار» و معناهما: الهلاك.
2- ساق المؤلف هذا الخبر في الجزء الثالث من هذا الكتاب (ص 29 من هذه الطبعة) منسوبا لأخيه مروان، و كلاهما ولي المدينة.
3- في الخبر السابق بالجزء الثالث: «النغاشي».
4- في الخبر السابق: «عشرة دنانير».
5- في ب، س: «قال ابن نغاش» بزيادة «قال». و لا يستقيم معها السياق.
6- زيادة في ط، ء.
7- في ب، س: «أ و جعل» بهمزة الاستفهام. على أن الاستفهام مفهوم من سياق الكلام.
8- زيادة عن م، س.
مالك بن أنس و حسين بن دحمان الأشقر:

أخبرني محمد بن عمرو(1) العتّابيّ قال حدّثنا محمد بن خلف بن المرزبان - و لم أسمعه أنا من(2) محمد بن خلف - قال حدّثني إسحاق بن محمد بن أبان الكوفيّ قال حدّثني حسين بن دحمان الأشقر قال:

كنت بالمدينة، فخلا لي الطريق وسط النهار، فجعلت أتغنّى:

ما بال أهلك يا رباب *** خزرا كأنّهم غضاب

قال: فإذا خوخة(3) قد فتحت، و إذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء، فقال: يا فاسق أسأت التأدية، و منعت القائلة، و أذعت الفاحشة؛ ثم اندفع يغنّيه، فظننت أنّ طويسا قد نشر بعينه(4)؛ فقلت له: أصلحك اللّه! من أين لك هذا الغناء؟ فقال: نشأت و أنا غلام حدث أتبع المغنّين و آخذ عنهم، فقالت لي أمّي: يا بنيّ إنّ المغنّي إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء و اطلب الفقه؛ فإنه لا يضرّ معه قبح الوجه. فتركت المغنّين و اتّبعت الفقهاء، فبلغ اللّه بي عزّ و جلّ ما ترى. فقلت له: فأعد جعلت فداءك! قال: لا و لا كرامة! أ تريد أن تقول: أخذته/عن مالك بن أنس! و إذا هو مالك بن أنس و لم أعلم.

صوت من المائة المختارة

لمن ربع بذات الجي *** ش أمسى دارسا خلقا

وقفت به أسائله *** و مرّت عيسهم حزقا(5)

علوا بك ظاهر البيدا *** ء و المحزون قد قلقا

حديث النبي عن انخساف الأرض بجيش يغزو الكعبة:

- ذات الجيش: موضع. ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّ جيشا يغزو الكعبة، فيخسف بهم إلاّ رجلا واحدا يقلب وجهه إلى قفاه، فيرجع إلى قومه كذلك، فيخبرهم الخبر. حدّثني بهذا الحديث أحمد بن محمد الجعديّ قال حدّثنا محمد بن بكّار قال حدّثنا إسماعيل بن زكريّا عن محمد بن سوقة قال سمعت نافع بن(6) جبير بن مطعم يقول حدّثتني عائشة قالت:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم و آخرهم». قالت

ص: 409


1- كذا في ط، ء. و في ح: «محمد بن عمرو العباسي القرشي». و في ب، س: «محمد بن عمر العباسيّ القرشي». و في م: «محمد بن العمرو الغنائي القرشي». و قد بحثنا عنه في «إنباه الرواة» للقفطي و «معجم الأدباء» لياقوت و «تاريخ ابن خلكان» و «نزهة الألباء» لابن الأنباري و «بغية الوعاة» للسيوطي و «تهذيب التهذيب» لابن حجر العسقلاني، فلم نجده حتى نرجح إحدى هذه الروايات.
2- هذه الجملة المعترضة ساقطة من ء، ط.
3- الخوخة: البويب، أو الباب الصغير في الباب الكبير.
4- كذا في ح، س، م. و في باقي الأصول: «يغنيه» بصيغة الفعل المضارع.
5- حزقا: جماعات، واحده حزقة.
6- كذا في أكثر الأصول، و هو الموافق لما في الطبري و «تهذيب التهذيب». و في ء، ط: «نافع بن حسن بن معظم» و هو تحريف.

عائشة: فقلت يا رسول اللّه، كيف يخسف بأوّلهم و آخرهم و فيهم سواهم و من ليس منهم؟ قال: «يخسف بأوّلهم و آخرهم ثم يبعثون على [قدر](1) نيّاتهم» - الشعر للأحوص، و الغناء في هذا اللحن المختار للدّلال المخنّث و هو أحد من خصاه ابن حزم بأمر الوليد بن عبد الملك مع المخنّثين. و الخبر في ذلك يذكر بعد. و لحنه المختار من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر في الأوّل و الثالث. و لإسحاق فيه ثقيل أوّل آخر. و فيه لمالك لحن من خفيف الرّمل عن يونس و الهشاميّ و غيرهما. و فيه رمل ينسب إلى ابن سريج، و هو مما يشكّ في نسبته إليه. و قيل:

إنّ خفيف الرّمل لابن سريج، و الرّمل لمالك. و ذكر حبش أنّ فيه للدّلال خفيف ثقيل بالبنصر أيضا.

ص: 410


1- الزيادة عن م، س.

46 - ذكر الأحوص و أخباره و نسبه

اسم الأحوص و لقبه و نسبه:

هو الأحوص. و قيل: إنّ اسمه عبد اللّه، و إنّه لقّب الأحوص لحوص(1) كان في عينيه. و هو ابن محمد بن عبد اللّه بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح - و اسم أبي الأقلح قيس - بن عصيمة بن النّعمان بن أميّة بن ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. و كان يقال لبني ضبيعة بن زيد في الجاهلية: بنو كسر الذّهب. و قال الأحوص حين نفي إلى اليمن:

بدّل الدّهر من ضبيعة عكّا(2) *** جيرة و هو يعقب الأبدالا

سبب تسمية جدّه عاصم حميّ الدبر:

و كان جدّه عاصم يقال له حميّ الدّبر؛ و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعثه بعثا، فقتله المشركون؛ و أرادوا أن يصلبوه فحمته الدّبر، و هي النّحل، فلم يقدروا عليه، حتى بعث اللّه عزّ و جلّ الوادي(3) في الليل فاحتمله فذهب به. و في ذلك يقول الأحوص مفتخرا:

و أنا(4) ابن الذي حمت لحمه الدّب *** ر قتيل اللّحيان(5) يوم الرّجيع

قصة وفد عضل و القارة و قتل البعث الذي أرسل معهم:

حدّثنا بالخبر في ذلك محمد بن جرير الطّبريّ قال حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة بن الفضل قال حدّثنا

محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال:

محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر(6) بن قتادة قال:

/قدم على رسول اللّه/صلى اللّه عليه و سلّم بعد أحد رهط من عضل و القارة(7)، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ فينا إسلاما و خيرا،

ص: 411


1- الحوص (بالتحريك و بابه كفرح): ضيق في مؤخر العينين أو في إحداهما.
2- عك: قبيلة من قحطان باليمن.
3- الوادي: كل مفرج بين الجبال و التلال و الآكام، و المراد هنا: السيل الذي يجري فيه.
4- صحح العلامة الشنقيطي بقلمه بهامش نسخته من كتاب «معجم ما استعجم» للبكري (المحفوظ بدار الكتب المصرية طبع أوروبا تحت رقم 2 جغرافيا ص 401) كلمة «و أنا» بكلمة «و أبى».
5- لحيان (بفتح اللام و كسرها): حيّ من هذيل.
6- كذا في ح. و في باقي الأصول: «عن قتادة». و الصواب في ح؛ لأن الذي في «تهذيب التهذيب» و «الخلاصة» أن عاصم بن عمر لم يرو عن جدّه قتادة بل روى عن أبيه عمر.
7- قال القسطلاني في «شرح البخاري» (ج 6 ص 373 طبع بلاق): «عضل: بطن من الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ينسبون إلى عضل بن الديش. و القارة: بطن من الهون ينسبون إلى الديش المذكور. أو القارة: أكمة سوداء، كأنهم نزلوا عندها فسموا بها». و قد ذكر ابن دريد في «الاشتقاق» (ص 110): أن الهون و عضل و القارة إخوة لهذيل و فسر أسماءهم. و سأل الأخفش

فابعث معنا نفرا من أصحابك، يفقّهونا(1) في الدّين، و يقرءونا(1) القرآن، و يعلّمونا(1) شرائع الإسلام؛ فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم معهم نفرا ستّة(2) من أصحابه: مرثد بن أبي مرثد الغنويّ حليف حمزة بن عبد المطّلب، و خالد بن البكير حليف بني عديّ بن كعب، و عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخا بني عمرو بن عوف، و خبيب بن عديّ أخا بني جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف، و زيد بن الدّثنّة(3) أخا بني بياضة بن عامر، و عبد اللّه بن طارق حليفا(4) لبني ظفر من بليّ، و أمّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم [عليهم](5) مرثد بن أبي مرثد، /فخرجوا مع القوم، حتّى إذا كانوا على الرّجيع (ماء لهذيل(6) بناحية من الحجاز من صدر(7) الهدأة) غدروا بهم، و استصرخوا عليهم هذيلا، فلم يرع القوم و هم في رحالهم إلاّ بالرّجال في أيديهم السيوف قد غشوهم؛ فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم؛ فقالوا: [إنّا](8) و اللّه ما نريد قتلكم، و لكنّا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكّة، و لكم عهد اللّه و ميثاقه ألاّ نقتلكم. فأمّا مرثد بن أبي مرثد، و خالد بن البكير، و عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقالوا: إنّا و اللّه لا نقبل من مشرك عهدا و لا عقدا أبدا! فقاتلوهم حتّى قتلوهم جميعا. و أمّا زيد بن الدّثنّة، و خبيب بن عديّ، و عبد اللّه بن طارق فلانوا و رقّوا و رغبوا في الحياة و أعطوا بأيديهم(9)؛ فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكّة ليبيعوهم بها؛ حتّى إذا كانوا بالظّهران(10) انتزع عبد اللّه بن طارق يده من القرآن(11)، ثم أخذ سيفه و استأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره(12) بالظّهران. و أمّا خبيب بن عديّ و زيد بن الدّثنّة، فقدموا بهما مكّة فباعوهما. فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التّميميّ حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل - و كان حجير أخا الحارث بن عامر بن نوفل لأمّه - ليقتله بأبيه(13). و أمّا زيد بن الدّثنّة فابتاعه صفوان/بن أميّة ليقتله بأميّة بن خلف أبيه. و قد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه

ص: 412


1- كذا في ح بحذف النون مجزوما في جواب الطلب. و في سائر الأصول بإثبات نون الرفع، على أن تكون الجملة صفة لنفر.
2- وردت هذه الأسماء مضطربة في بعض الأصول. و ما أثبتناه عن ط، ب. و هو الموافق لما في الطبري (قسم أول ص 1432 طبع أوروبا) و «السيرة» لابن هشام (ص 638 طبع أوروبا). و قد ذكرت هذه الأسماء في «نهاية الأرب» (ج 3 ص 375 طبعة أولى) و «شرح القاموس» (مادة رجع) كما هنا بزيادة سابع هو معتب بن عبيد أخو عبد اللّه بن طارق لأمه. إلا أنه ذكر بدل معتب بن عبيد هذا في «شرح القاموس» «مغيث بن عبيدة» و هو تحريف.
3- الدثنة: بفتح الدال المهملة و كسر الثاء المثلثة و النون المفتوحة المشدّدة ثم تاء تأنيث، قال ابن دريد: من قولهم: دثن الطائر إذا طاف حول وكره و لم يسقط عليه. (انظر «الاشتقاق» ص 272 و «شرح الزرقاني على المواهب اللدنية» ج 2 ص 80 طبع بلاق).
4- كذا في ح، م. و هو الموافق لما في الطبري و «السيرة» و في سائر الأصول: «حلفاء» و هو تحريف.
5- زيادة عن م.
6- في «معجم ما استعجم» للبكري: «ماء لهذيل لبني لحيان منهم بين مكة و عسفان بناحية الحجاز... إلخ».
7- كذا في «معجم ما استعجم» للبكري نقلا عن ابن إسحاق. و ضبط البكري «الهدأة» بالعبارة فقال: «بفتح الهاء و إسكان الدال المهملة بعدها همزة مفتوحة». و في جميع الأصول: «الهدّة» بدون همز. و في «السيرة» و «تاريخ الطبري»: «صدور الهدأة». و في س، ح: «حدود» بالدال المهملة، و هو تحريف. و الهدأة: موضع بين عسفان و مكة.
8- زيادة عن ء، ط، م.
9- أعطوا بأيديهم: انقادوا.
10- الظهران: واد بين مكة و عسفان.
11- القران: الحبل.
12- في ط، ء: «فقبروه».
13- كذا في: ح: م، و هو الموافق لما في «السيرة» و الطبري. و في سائر الأصول: «بابنه» و هو تحريف؛ لأن الذي قتله خبيب يوم بدر هو الحارث بن عامر بن نوفل والد عقبة، كما يجيء بعد في حديث أبي كريب.

ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد(1)، و كانت قد نذرت حين قتل عاصم ابنها(2) يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنّ في قحفه(3) الخمر، فمنعته الدّبر. فلمّا حالت بينهم و بينه قالوا: دعوه حتى يمسي، فتذهب عنه فنأخذه. فبعث اللّه عزّ و جلّ الوادي فاحتمل عاصما فذهب به. و كان عاصم قد أعطى اللّه عزّ و جلّ عهدا لا يمسّه مشرك أبدا و لا يمسّ مشركا أبدا تنجّسا(4) منه. فكان عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه يقول حين بلغه أن الدّبر منعته:

«عجبا لحفظ اللّه عزّ و جلّ العبد المؤمن! كان عاصم نذر ألاّ يمسّه مشرك و لا يمسّ مشركا أبدا في حياته، فمنعه اللّه بعد مماته كما امتنع منه في حياته!».

رواية أخرى عن البعث و مصيره:

قال محمد بن جرير: و أمّا غير ابن إسحاق، فإنّه قصّ من خبر هذه السّريّة غير الذي قصّه غيره:

من ذلك ما حدّثنا أبو كريب قال حدّثنا جعفر بن عون العمريّ قال حدّثنا إبراهيم بن إسماعيل عن عمر(5) أو عمرو بن أسيد عن أبي هريرة:

/أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعث عشرة رهط، و أمّر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فخرجوا، حتّى إذا كانوا بالهدأة ذكروا لحيّ من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فبعثوا إليهم مائة رجل راميا، فوجدوا مأكلهم حيث/أكلوا التّمر، فقالوا: نوى يثرب! ثم اتّبعوا آثارهم؛ حتّى إذا أحسّ بهم عاصم و أصحابه التجئوا إلى جبل، فأحاط بهم الآخرون فاستنزلوهم، و أعطوهم العهد. فقال عاصم: و اللّه لا أنزل على عهد كافر، اللّهمّ أخبر نبيّك عنّا. و نزل إليهم ابن الدّثنّة البياضيّ، و خبيب، و رجل آخر؛ فأطلق القوم أوتار قسيّهم، ثم أوثقوهم، فجرحوا رجلا من الثلاثة، فقال: هذا و اللّه أوّل الغدر، و اللّه لا أتبعكم، فضربوه و قتلوه؛ و انطلقوا بخبيب و ابن الدّثنّة إلى مكّة، فدفعوا خبيبا إلى بني الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، و كان خبيب هو الذي قتل الحارث بأحد. فبينما خبيب عند بنات الحارث، استعار من إحدى بنات الحارث موسى ليستحد(6) بها للقتل، فما راع المرأة و لها صبيّ يدرج إلاّ خبيب قد أجلس الصبيّ على فخذه و الموسى بيده، فصاحت المرأة؛ فقال خبيب: أ تحسبين أنّي أقتله! إنّ الغدر ليس من

ص: 413


1- كذا في «طبقات ابن سعد» (ق 2 ج 3 ص 33 طبع أوروبا) و «تاريخ الطبري» و «سيرة ابن هشام» و «معجم ما استعجم» للبكري. و في الأصول: «سهيل» و هو خطأ.
2- في «معجم ما استعجم»: «ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد أم مسافع و الجلاس ابني طلحة، و كان عاصم قتلهما يوم أحد فنذرت... إلخ». و في «طبقات ابن سعد» أنها جعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة.
3- العظم الذي فوق الدماغ.
4- يقال: فلان يتنجس إذا فعل فعلا يخرج به عن النجاسة، كما يقال: يتأثم و يتحرج و يتحنث إذا فعل فعلا يحرج به عن الإثم و الحرج و الحنث.
5- كذا في «تاريخ الطبري» (قسم أوّل ص 1434 طبع أوروبا) و قد ذكره صاحب «تهذيب التهذيب» في اسم عمرو بن أبي سفيان بن أسيد و أورد اسمه أيضا في «عمر» و أحاله على «عمرو»، و هذا يفيد ترجيحه اسم «عمرو»، كما أنه أثبت في ترجمة أبي هريرة رواية عمرو بن أبي سفيان بن أسيد عنه. و في ح: «عن عمر أو عمرو بن أسد». و في سائر الأصول: «عمرو بن عمرو بن أسد» و هما تحريف؛ لأنه لم يوجد في أسماء الرواة من تسمى بهذا الاسم.
6- يستحدّ: يحلق شعر عانته. قال في «اللسان» مادة حدد: «و في حديث خبيب أنه استعار موسى استحدّ بها لأنه كان أسيرا عندهم و أرادوا قتله، فاستحدّ لئلا يظهر شعر عانته عند قتله». و منه الحديث حين قدم من سفر فأراد الناس أن يطرقوا النساء ليلا فقال: «أمهلوا كي تمتشط الشّعثة و تستحدّ المغيبة». قال أبو عبيد: «و هو استفعال من الحديدة يعني الاستحلاق بها، استعمله على طريق الكناية و التورية».

شأننا. قال: فقالت المرأة بعد: ما رأيت أسيرا قطّ خيرا من خبيب، لقد رأيته و ما بمكة من ثمرة و إنّ في يده لقطفا من عنب يأكله، إن كان إلاّ رزقا رزقه اللّه خبيبا. و بعث حيّ من قيس إلى عاصم ليؤتوا من لحمه بشيء، و قد كان لعاصم فيهم آثار(1) بأحد، فبعث اللّه عليه دبرا فحمت لحمه/فلم يستطيعوا أن يأخذوا من لحمه شيئا. فلمّا خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه، قال: ذروني أصلّ ركعتين، فتركوه فصلّى ركعتين - فجرت سنّة لمن قتل صبرا أن يصلّي ركعتين - ثم قال: لو لا أن يقال جزع لزدت، و ما أبالي:

على أيّ شقّ كان للّه مصرعي(2)

ثم قال:

و ذلك في ذات(3) الإله و إن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزّع

اللّهمّ أحصهم عددا(4)، و خذهم بددا. ثم خرج به أبو سروعة(5) بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف فضربه فقتله.

حدّثنا محمد قال حدّثنا أبو كريب قال حدّثنا جعفر بن عون عن إبراهيم بن إسماعيل، قال و أخبرني جعفر بن عمرو بن أميّة عن أبيه عن جدّه:

/أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعثه وحده عينا إلى قريش. قال: فجئت إلى خشبة خبيب و أنا أتخوّف العيون، فرقيت فيها، فحللت خبيبا فوقع إلى الأرض، فانتبذت(6) غير بعيد، ثم التفتّ فلم أر لخبيب أثرا، فكأنّما الأرض ابتلعته، فلم تظهر لخبيب رمّة حتّى الساعة.

قال محمد بن جرير: و أمّا زيد بن الدّثنّة، فإنّ صفوان بن أميّة بعث [به](7) - فيما حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة عن ابن إسحاق - [مع](7) مولى له يقال له نسطاس إلى التّنعيم، فأخرجه من الحرم ليقتله؛ و اجتمع [إليه](7)رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب؛ فقال له أبو سفيان حين قدّم ليقتل: أنشدك اللّه يا زيد، أ تحبّ أنّ محمدا عندنا الآن مكانك فنضرب عنقه و أنّك في أهلك؟ فقال: و اللّه ما أحبّ أنّ محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه

ص: 414


1- كذا في أكثر النسخ. و آثار: جمع ثأر على القلب. و في ح: «أوتار» جمع وتر، و هو الجناية التي يجنيها الرجل على غير، من قتل أو نهب أو سبى.
2- هذا الشطر من قصيدة نسبها ابن هشام في «السيرة» (ص 643 طبع أوروبا) لخبيب هذا، و مطلعها: لقد جمع الأحزاب حولي و ألبوا قبائلهم و استجمعوا كل مجمع
3- في ذات الإله: في طاعته و طلب رضاه و ثوابه. و الأوصال: جمع وصل و هو العضو. و الشلو (بكسر الشين المعجمة و سكون اللام): الجسد. و ممزع: مقطع.
4- أحصهم: أهلكهم بحيث لا تبقى من عددهم أحدا. و خذهم بددا: قال ابن الأثير: يروي بكسر الباء، جمع بدّة و هي الحصة و النصيب، أي اقتلهم حصصا مقسمة لكل واحد حصته و نصيبه، و يروى بالفتح من التبديد أي متفرّقين في القتل واحدا بعد واحد.
5- أبو سروعة (بكسر السين المهملة و فتحها، كما في شرح القسطلاني على «صحيح البخاري» ج 6 ص 376 طبع بلاق): كنية عقبة بن الحارث النوفلي القرشي الصحابي، و هو الذي قتل خبيب بن عدي. و قال في «القاموس» مادّة سرع: «و أبو سروعة، و لا يكسر و قد تضم الراء، عقبة ابن الحارث الصحابي». قال شارحه: «و في التكملة: و أصحاب الحديث يقولون: أبو سروعة بكسر السين، و قد ضبطه النووي بالوجهين، ثم قال: و بعضهم يقول: أبو سروعة مثال فروقة و ركوبة، و الصواب ما عليه أهل اللغة».
6- كذا في الطبري (قسم أوّل ص 1436 طبع أوروبا). و انتبذ: تنحى. و في ح، م: «فاستدرت». و في سائر الأصول: «فاشتددت».
7- الزيادة عن الطبري (قسم أوّل ص 1437).

شوكة تؤذيه و أنا جالس في أهلي! قال يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحبّ أحدا كحبّ أصحاب محمد محمدا! ثم قتله نسطاس.

نزول عبد اللّه و أبي أحمد ابني جحش من المهاجرين على عاصم بن ثابت:

أخبرني أحمد بن الجعد قال حدّثنا محمد بن إسحاق(1) المسيّبيّ قال حدّثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب(2) قال:

/نزل عبد اللّه(3) و أبو أحمد ابنا جحش، حين قدما مهاجرين، على عاصم بن ثابت، و كنيته أبو سليمان.

شعر لعاصم بن ثابت و كنيته:

و قال عاصم:

/

أبو سفيان(4) و ريش المقعد *** و مجنأ من جلد ثور أجرد

و ذكر لنا الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير أنّ عاصما، فيما قيل، كان يكنى أبا سفيان. قال: و قال في يوم الرّجيع:

أنا أبو سفيان(5) مثلي راما *** أضرب كبش العارض(6) القدّاما

كنية الأحوص و اسم أمه و بعض صفاته:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا إسماعيل بن(7) عبد اللّه عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمّه قال:

ص: 415


1- كذا في ح. و في سائر الأصول: «محمد بن القاسم». و الذي في «تهذيب التهذيب» أن الذي روى عن محمد بن فليح هو محمد بن إسحاق المسيبي.
2- كذا في أكثر الأصول. و في ط، ء: «أبي شهاب»، و هو تحريف. و في «تهذيب التهذيب» أن ابن شهاب اسمه محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن عبد اللّه الزهري، و هو الذي يروي عنه موسى بن عقبة.
3- هو عبد اللّه بن جحش بن رباب بن يعمر أبو محمد الأسدي. و أمه أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو و أخوه أبو أحمد صحابيان، و أختهما زينب بنت جحش زوج النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم. (انظر «أسد الغابة في معرفة الصحابة» ج 3 ص 131 طبع بلاق).
4- كذا في ح، و هو الموافق لما في «سيرة ابن هشام» (ص 638 طبع أوروبا). و في م: أبو سليمان و صنع المقعد و مجنأ من جلد ثور أجلد و في سائر الأصول: «أبو سليمان وضيع المقعد». و المقعد: فرخ النسر، و ريشه أجود الريش، و قيل: المقعد: النسر الذي قشب له (خلط له السم في اللحم) حتى صيد فأخذ ريشه. و قيل: المقعد: اسم رجل كان يريش السهام و المجنأ: الترس الذي لا حديد به. يريد: أنا أبو سليمان و معي سهام راشها المقعد، و ترس من جلد قوي، فما عذري إذا لم أقاتل.
5- في «السيرة»: أبو سليمان و مثلي راما و كان قومي معشرا كراما و لم يذكر في «السيرة» أن عاصما تكنّى بأبي سفيان.
6- في ب، س: «العارضي» تحريف. و الكبش: الرئيس. و العارض: الجيش تشبيها له بالسرب العظيم من الجراد في انتشاره، أو بالسحاب. و القدّام (بفتح القاف و ضمها مع تشديد الدال) و القدّيم (بكسر القاف): السيد و من يتقدّم الناس بالشرف.
7- كذا في ء، ط، م، و هو الصواب؛ لأن الذي روى عن إسماعيل بن إبراهيم هو إسماعيل بن عبد اللّه كما في «الطبقات» لابن سعد (ج 5 ص 310) «و تهذيب التهذيب» (ج 1 ص 272). و في سائر الأصول: «عن عبد اللّه» تحريف.

/كنية الأحوص أبو محمد. و أمّه أثيلة بنت عمير بن مخشيّ(1)؛ و كان أحمر أحوص العينين.

رأي الفرزدق في شعره:

قال الزبير فحدّثني محمد بن يحيى قال:

قدم الفرزدق المدينة، ثم خرج منها، فسئل عن شعرائها، فقال: رأيت بها شاعرين و عجبت لهما: أحدهما أخضر يسكن خارجا من بطحان(2) (يريد ابن هرمة)؛ و الآخر أحمر كأنّه و حرة على برودة في شعره (يريد الأحوص). و الوحرة(3): يغسوب أحمر ينزل الأنبار(4).

هجاؤه لابنه:

و قال الأحوص يهجو نفسه و يذكر حوصه(5):

أقبح(6) به من ولد و أشقح *** مثل جريّ الكلب لم يفقّح(7)

إن ير سوءا لم يقم فينبح *** بالباب عند حاجة المستفتح

قال الزّبير: و لم يبق للأحوص من ولده غير رجلين.

طبقته في الشعر عند ابن سلام و رأي أبي الفرج فيه:

قال الزّبير: و جعل محمد بن سلاّم الأحوص، و ابن قيس الرّقيّات، و نصيبا، و جميل بن معمر طبقة سادسة من شعراء الإسلام، و جعله بعد ابن قيس(8)، و بعد نصيب. [قال أبو الفرج](9): و الأحوص، لو لا ما وضع به نفسه من

ص: 416


1- كذا في أكثر الأصول. و في ء، ط: «محشي» بالحاء المهملة.
2- بطحان (بضم الأوّل و سكون الثاني أو بفتح الأوّل و كسر الثاني): واد بالمدينة، و هو أحد أوديتها الثلاثة: العقيق و بطحان و قناة. (انظر «القاموس» و «شرحه» مادة بطح) و «معجم البلدان» (في بطحان).
3- كذا في ء، ط. و في سائر الأصول: «قال: و الوحرة يعسوب إلخ». و كلمة «قال» غير محتاج إليها هنا في الكلام.
4- كذا في أكثر الأصول. و الأنبار، كما في ياقوت: حدّ بابل؛ سميت بذلك لأنه كان يجمع بها أنابير الحنطة و الشعير و القت و التبن، و كانت الأكاسرة ترزق أصحابها منها، و كان يقال لها الأهراء. فلما دخلتها العرب عرّبتها فقالت الأنبار. و هذا التفسير الذي ذكره المؤلف للوحرة غريب؛ إذ أجمعت «كتب اللغة» التي بين أيدينا على أن الوحرة (بالتحريك): دويبة تشبه سامّ أبرص، و قال الجوهري: الوحرة بالتحريك: دويبة حمراء تلزق بالأرض. و في ح: «يلزم البئار».
5- لعل هاهنا سقطا؛ فإنه يهجو بهذا الشعر ابنه لا نفسه.
6- أثبتنا هذين البيتين كما رواهما الجاحظ في كتابه «الحيوان» (ج 1 ص 254 طبع الحلبي) و قد قال: إنه هجا بهما ابنه. و قد وردا في ب، س هكذا: أسمج به من ولد و أقبح مثل جرى الكلب لم يفقح يشر سوءا لم يقم فينبح بالباب عند حاجة المستفتح و في ء، ط: «يسري شوى ما لم يقم فينبح». و في م: «بشر سوء لم يقصر فينبح».
7- يقال: فقح الجرو و فقح (بالتضعيف)، و ذلك أوّل ما يفتح عينيه و هو صغير.
8- كذا في س، ب، ح. و في ط، ء ورد هذان الاسمان بتقديم الثاني على الأوّل. و في م وردا هكذا: «بعد ابن قيس و قبل نصيب». و قد ورد في «طبقات الشعراء» لمحمد بن سلام المذكور (ص 137 طبع ليدن) أن شعراء الطبقة السادسة هم: عبيد اللّه بن قيس الرقيات، و الأحوص، و جميل، و نصيب.
9- زيادة عن م.

دنيء الأخلاق و الأفعال، أشدّ تقدّما منهم عند جماعة أهل الحجاز و أكثر الرّواة؛ و هو أسمح طبعا، و أسهل كلاما، و أصحّ معنى منهم؛ و لشعره رونق و ديباجة صافية و حلاوة و عذوبة ألفاظ ليست لواحد منهم. و كان قليل المروءة و الدّين، هجّاء للناس، مأبونا فيما يروى عنه.

جلد سليمان بن عبد الملك إياه و السبب في ذلك:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني أبو عبيدة أنّ جماعة من أهل المدينة أخبروه:

أنّ السبب في جلد سليمان(1) بن عبد الملك، أو الوليد بن عبد الملك إيّاه و نفيه له، أنّ شهودا شهدوا عليه عنده أنه قال: إذا أخذت جريري(2) لم أبال أيّ الثلاثة لقيت ناكحا أو منكوحا أو زانيا. قالوا(3): و انضاف إلى ذلك أنّ سكينة/بنت الحسين رضي اللّه عنهما فخرت يوما برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛ ففاخرها بقصيدته التي يقول فيها:

ليس جهل أتيته ببديع

فزاده ذلك حنقا عليه و غيظا حتّى نفاه.

فخرت سكينة بالنبيّ ففاخرها بجدّه و خاله:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة:

أنّ الأحوص كان يوما عند سكينة، فأذّن المؤذّن، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أنّ محمدا رسول اللّه، فخرت سكينة بما سمعت؛ فقال الأحوص:

فخرت و انتمت فقلت ذريني *** ليس جهل أتيته ببديع

فأنا(4) ابن الذي حمت لحمه الدّب *** ر قتيل اللّحيان يوم الرّجيع

غسّلت خالي الملائكة الأب *** رار ميتا طوبى له من صريع

قال أبو زيد: و قد لعمري فخر بفخر لو على غير سكينة فخر به! و بأبي سكينة صلّى اللّه عليه و سلّم/حمت أباه(5) الدّبر و غسّلت خاله الملائكة.

هجاؤه لابن حزم عامل المدينة:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن يحيى عن أيّوب بن عمر عن أبيه قال:

ص: 417


1- في م: «في ضرب ابن حزم». و ابن حزم هذا هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كان عاملا لسليمان بن عبد الملك على المدينة.
2- الجرير: الزمام، و هذا كناية عن إطلاق سراحه: و في الحديث أن الصحابة نازعوا جرير بن عبد اللّه زمامه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «خلوا بين جرير و الجرير» أي دعوا له زمامه. و في ح، م: «صريرتي». و في سائر الأصول: «صريري»، و هما تحريف.
3- في ء، ط: «قال»:
4- نبهنا فيما تقدّم أن المرحوم الأستاذ الشنقيطي صحح هذه الكلمة ب «و أبى ابن الذي...».
5- كذا في ح. و في أكثر الأصول: «لحمه».

لمّا جاء ابن حزم عمله من قبل سليمان بن عبد الملك على المدينة و الحجّ، جاءه ابن أبي جهم بن(1) حذيفة و حميد بن عبد الرحمن بن عوف و سراقة، فدخلوا عليه/فقالوا له: إيه يا ابن حزم! ما الذي جاء بك؟ قال:

استعملني و اللّه أمير المؤمنين على المدينة على رغم أنف من رغم أنفه. فقال له ابن أبي جهم: يا ابن حزم، فإنّي أوّل من يرغم من ذلك أنفه. قال فقال ابن حزم: صادق، و اللّه يحبّ الصّادقين. فقال الأحوص:

سليمان إذ ولاّك ربّك حكمنا *** و سلطاننا فاحكم إذا قلت و اعدل

يؤمّ حجيج المسلمين ابن فرتني *** فهب ذاك حجّا ليس بالمتقبّل

فقال ابن أبي عتيق(2) للأحوص: الحمد للّه يا أحوص، إذ لم أحجّ ذلك العام بنعمة ربّي و شكره. قال:

الحمد للّه الذي صرف ذلك عنك يا بن أبي بكر الصّدّيق، فلم يضلل دينك، و لم تعنّ(3) نفسك، و تر ما يغيظك و يغيظ المسلمين معك.

وفد على الوليد و تعرّض للخبازين فأمر عامل المدينة بجلده:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه عن عمّه موسى بن عبد العزيز قال:

وفد الأحوص على الوليد بن عبد الملك و امتدحه، فأنزله منزلا، و أمر بمطبخة أن يمال عليه؛ و نزل على الوليد بن عبد الملك شعيب بن عبد اللّه بن عمرو بن العاصي، فكان الأحوص يراود و صفاء للوليد خبّازين عن(4)أنفسهم و يريدهم أن يفعلوا به. و كان شعيب قد غضب على مولى له و نحاه. فلمّا خاف الأحوص أن يفتضح بمراودته الغلمان، اندسّ لمولى شعيب ذلك فقال: ادخل على أمير المؤمنين فاذكر له أنّ شعيبا أرادك عن نفسك، ففعل المولى. فالتفت الوليد إلى شعيب/فقال: ما يقول هذا؟ فقال: لكلامه غور(5) يا أمير المؤمنين، فاشدد به يدك يصدقك. فشدد عليه، فقال: أمرني بذلك الأحوص. فقال قيّم الخبّازين: أصلحك اللّه! إنّ الأحوص يراود الخبّازين عن أنفسهم. فأرسل به الوليد إلى ابن حزم بالمدينة، و أمره أن يجلده مائة، و يصبّ على رأسه زيتا، و يقيمه على البلس(6)؛ ففعل ذلك به. فقال و هو على البلس أبياته التي يقول فيها:

ما من مصيبة نكبة أمنى(7) بها *** إلاّ تشرّفني و ترفع(8) شأني

ص: 418


1- كذا في ط، ء، و هو الموافق لما في «تاريخ الطبري»، و هو أبو بكر بن عبد اللّه بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي، كما في «تهذيب التهذيب». و في ب، س، ح: «ابن أبي جهم حذيفة» بدون ذكر «ابن» و هو خطأ. و في م: «ابن حذيفة» بالخاء المعجمة، و هو تصحيف.
2- أبو عتيق: لقب محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر.
3- كذا في ح، م. و عنّى نفسه و أعناها: أنصبها و كلفها ما يشق عليها. و في سائر الأصول: «و تغر نفسك».
4- في جميع الأصول: «على أنفسهم».
5- أي في كلامه معنى خفيّ غير واضح.
6- البلس (بضمتين): جمع بلاس كسحاب، و هي غرائر كبار من مسوح يجعل فيها التين و يشهر عليها من ينكل به و ينادي عليه. و من دعائهم: «أرانيك اللّه على البلس».
7- في ط، ء: «أعيا». و في «ديوان الحماسة»: ما تعتريني من خطوب ملمة إلا تشرفني و تعظم شاني و أوّل الأبيات فيه: إني على ما قد علمت محسّد أنمى على البغضاء و الشنآن
8- في ط، ء: «و تعظم».
شعره الذي أنشده حين شهر به:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أيّوب بن عمر قال أخبرني عبد اللّه بن عمران بن أبي فروة قال:

رأيت الأحوص حين وقفه ابن حزم على البلس في سوق المدينة و إنّه ليصيح و يقول:

ما من مصيبة نكبة أمنى بها *** إلاّ تعظّمني و ترفع شاني

و تزول حين تزول عن متخمّط(1) *** تخشى بوادره على الأقران

إنّي إذا خفي(2) اللّئام رأيتني *** كالشمس لا تخفى بكلّ مكان

شعره في هجو ابن حزم:

قال: و هجا الأحوص ابن حزم بشعر كثير، منه:

أقول و أبصرت ابن حزم بن فرتني *** وقوفا له بالمأزمين(3) القبائل

/ترى فرتنى كانت بما بلغ ابنها *** مصدّقة لو قال ذلك قائل

- أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير عن أبي عبيدة قال: كلّ أمة يقال لها فرتنى. و أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال: فرتني(4): الأمة بنت الأمة - قال الزّبير: فقال ابن حزم حين سمع قول الأحوص فيه «ابن فرتنى» لرجل من قومه له علم: أ نحن من ولد فرتنى؟ أو تعرفها(5)؟ فقال: لا و اللّه! قال: و لا أنا أعلم و اللّه ذلك! و لقد عضهني(6) به، و لو كانت ولدتني لم أجهل ذلك.

قال الزّبير: و حدّثني عمّي مصعب عن عبد اللّه بن محمد بن عمارة قال:

فرتنى: أمّ لهم في الجاهليّة من بلقين(7)، كانوا يسبّون بها، لا أدري ما أمرها، قد طرحوها من كتاب النّسب و هي أمّ خالد [بنت خالد](8) بن سنان بن وهب بن لوذان السّاعديّة أمّ بني حزم.

ص: 419


1- المتخمط: المتكبر.
2- في «طبقات ابن سلام الجمحي»: «إني إذا جهل... إلخ».
3- المأزمان، كما في ياقوت: جبلا مكة. قال أهل اللغة: هما مضيقا جبلين. و قيل: هو اسم موضع بمكة بين المشعر الحرام و عرفة، و فيه أقوال غير هذا.
4- و فرتني: المرأة الفاجرة و الأمة. ذهب ابن جني إلى أن نونه زائدة، و جعله سيبويه رباعيا.
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «أو نعرفها» بالنون.
6- كذا في أكثر الأصول. و عضهني: بهتني أي رماني بالزور و البهتان و قال فيّ ما لم يكن. و في م: «عضبني» و العضب: الشتم و التناول.
7- بلقين بفتح فسكون: حيّ من بني أسد كما قالوا: بلحارث و بلهجيم، و أصلها بنو القين. قال ابن الجوّاني: «العرب تعتمد ذلك فيما ظهر في واحده النطق باللام، مثل الحارث و الخزرج و العجلان، و لا يقولون ذلك فيما لم تظهر لامه، فلا يقولون بلنجار في بني النجار؛ لأن اللام لا تظهر في النطق بالنجار فلا تجوّزه العربية و لم يقل في «الأنساب».
8- هذه العبارة ساقطة في ح، و قد وردت في م: «ابن خالد».

/أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون(1): أنّ الأحوص قال لابن حزم:

لعمري لقد أجرى ابن حزم بن فرتنى *** إلى غاية فيها السّمام المثمّل(2)

و قد قلت مهلا آل حزم بن فرتنى *** ففي ظلمنا صاب(3) ممرّ و حنظل

و هي طويلة. و قال أيضا:

أهوى أميّة إنّ شطّت و إن قربت *** يوما و أهدي لها نصحي و أشعاري

و لو وردت عليها الفيض(4) ما حفلت *** و لا شفت(5) عطشي من مائه الجاري

لا تأوينّ(6) لحزميّ رأيت به *** ضرّا و لو طرح(7) الحزميّ في النّار

الناخسين(8) بمروان بذي خشب *** و النفحمين على عثمان في الدّار

دفع عنه بنو زريق فمدحهم:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني جماعة من مشايخ الأنصار:

أنّ ابن حزم لمّا جلد الأحوص [و](9) وقفه على البلس يضربه، جاءه بنو زريق(10) فدفعوا عنه، و احتملوه من أعلى البلس. فقال في ذلك - قال ابن الزبير: أنشدنيه عبد الملك بن الماجشون عن يوسف بن أبي سلمة الماجشون -:

إمّا تصبني المنايا و هي لاحقة *** و كلّ جنب له قد حمّ مضطجع

فقد جزيت بني حزم بظلمهم *** و قد جزيت زريقا بالّذي صنعوا

ص: 420


1- الماجشون ذكره «القاموس» (في مادّة مجش) بضم الجيم. و قال شارحه: «و يكسر الجيم و يفتح فهو إذا مثلث». ثم نقل عن حاشية المواهب اللدنية أنه «بكسر الجيم و ضم الشين». و قال: «و على كسر الجيم و ضم الشين اقتصر النووي رحمه اللّه في «شرح مسلم» و الحافظ ابن حجر في «التقريب». و اقتصر السمعاني في «الأنساب» أيضا على كسر الجيم. و هو معرّب ماه كون. و معناه الورد، أو الأبيض المشرب بحمرة، أو لون القمر.
2- المثمل: السم المقوّي بالسّلع و هو شجر مرّ. و قال ابن سيده: و سم مثمّل: طال إنقاعه و بقي. و قال الأزهري: و نرى أنه الذي أنقع فبقي و ثبت.
3- الصاب: عصارة شجر مرّ، و قيل: هو شجر إذا اعتصر خرج منه كهيئة اللبن، و ربما نزت منه نزية (قطرة) فتقع في العين كأنها شهاب نار، و ربما أضعف البصر. و ممرّ، من أمرّ الشيء فهو ممرّ إذا كان مرّا.
4- الفيض: نهر بالبصرة.
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «سقت».
6- أوى لفلان: رحمه ورق له. و الرواية فيما تقدّم (ج 1 ص 26 من هذه الطبعة) «لا ترثين» كما في ح هنا.
7- في ب، س: «و لو ألقي». و في الجزء الأوّل: «و لو سقط».
8- الناخسين بمروان، يريد الطاردين لمروان و المزعجين له؛ يقال: نخسوا بفلان إذا نخسوا دابته من خلفه و طردوه حتى سيروه في البلاد. و تفسير «ذي خشب» و قصة طرد مروان مذكوران في الجزء الأوّل (ص 23 و ما بعدها من هذه الطبعة).
9- التكملة عن م.
10- بنو زريق: خلق من الأنصار، و هم بنو زريق بن عامر بن زريق الخزرجيّ، إليه يرجع كل زرقي ما خلا زريق بن ثعلبة طيء. (انظر «القاموس» و «شرحه» مادة زرق).

قوم أبى طبع(1) الأخلاق أوّلهم *** فهم على ذاك من أخلاقهم طبعوا

و إن أناس ونوا عن كلّ مكرمة *** و ضاق باعهم عن وسعهم وسعوا

إنّي رأيت غداة السّوق محضرهم *** إذ نحن ننظر ما يتلى و نستمع

نفاه ابن حزم إلى دهلك و شعره في ذلك:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي(2) قال حدّثني غير واحد من أهل العلم:

أنّ أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم جلد الأحوص في الخنث(3)، و طاف به و غرّبه إلى دهلك(4) في محمل(5) عريانا. فقال الأحوص و هو يطاف به:

ما من مصيبة نكبة أبلى بها

الأبيات. و زاد فيها:

إنّي على ما قد ترون محسّد *** أنمى على البغضاء و الشّنآن

/أصبحت للأنصار فيما نابهم *** خلفا و للشّعراء من حسّان

قال الزّبير: و مما ضرب(6) فيه أيضا قوله:

شرّ الحزّاميّين ذو السّنّ منهم *** و خير الحزاميّين يعدله الكلب

فإن جئت شيخا من حزام وجدته *** من النّوك و التقصير ليس له قلب

فلو سبّني عون إذا لسببته *** بشعري أو بعض الأولى جدّهم كعب

- عون، يعني عون بن محمد بن عليّ بن أبي طالب عليه رضوان اللّه. و كعب، يعني كعب بن لؤيّ -:

أولئك أكفاء لبيتي بيوتهم *** و لا تستوي الأعلاث(7) و الأقدح القضب

أعانه فتى من بني جحجبى فدعا عليه

:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن ثابت الأنصاريّ عن محمد بن فضالة قال:

ص: 421


1- الطبع (بالتحريك): الدنس و العيب، و كل شين في دين أو دنيا فهو طبع. و أصله من الوسخ و الدنس يغشيان السيف، ثم استعير فيما يشبه ذلك من الأوزار و الآثام و غيرهما من المقابح.
2- في ح: «الموصليّ» و انظر الحاشية رقم 1 ص 123 من هذا الجزء.
3- كذا في أكثر الأصول. و الخنث (بالضم): اسم من التخنث. و في ب، س: «الخبث» بالباء و هو تصحيف.
4- دهلك (بفتح أوّله و سكون ثانيه و لام مفتوحة و آخره كاف)، اسم أعجميّ معرب، و هي جزيرة في بحر القلزم، في طريق المسافرين في بحر عيذاب إلى اليمن، بينها و بين اليمن نحو ثلاثين ميلا، و هي ضيقة حرجة حارّة، كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها.
5- في ط، ء: «في محمل عري». و كانت تكون هذه الرواية جميلة لو أنها كانت: على فرس عري أو على دابة عري.
6- كذا في ح. و في سائر الأصول: «و مما صرف فيه».
7- الأعلاث من الشجر: القطع المختلفة مما يقدح به من المرخ و اليبيس واحدها علث بالكسر. و الأقداح: جمع فدح و هو السهم قبل -

كان الأحوص بن محمد الأنصاريّ قد أوسع قومه هجاء فملاهم شرّا، فلم يبق له فيهم صديق، إلاّ فتى من بني جحجبى(1). فلمّا أراد الأحوص الخروج إلى يزيد بن عبد الملك، نهض الفتى في جهاره و قام بحوائجه و شيّعه؛ فلمّا كان بسقاية سليمان و ركب الأحوص محمله، أقبل على الفتى فقال: لا أخلف اللّه عليك بخير! فقال: /مه! غفر اللّه لك! قال الأحوص: لا و اللّه أو أعلّقها حربا! يعني قباء(2) و بني عمرو بن عوف.

هجا معن بن حميد الأنصاريّ فعفا عنه ثم هجا ابن أبي جرير فأهاله و هدّده:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن يحيى قال قال غسّان بن عبد الحميد:

أقبل الأحوص حتّى وقف على معن بن حميد الأنصاريّ، أحد بني عمرو بن عوف بن جحجبى، فقال:

رأيتك مزهوّا كأنّ أباكم *** صهيبة أمسى خير عوف مركّبا

تقرّ بكم كوثى(3) إذا ما نسبتم *** و تنكركم عمر بن عوف بن جحجبى

عليك بأدنى الخطب إن أنت نلته *** و أقصر فلا يذهب بك التّيه مذهبا

فقام إليه بنوه و مواليه؛ فقال: دعوا الكلب، خلّوا عنه، لا يمسّه أحد منكم؛ فانصرف. حتّى إذا كان عند أحجار المراء بقباء لقيه ابن أبي جرير أحد بني العجلان، و كان شديدا ضابطا(4)؛ فقال له الأحوص:

إنّ بقوم سوّدوك لحاجة *** إلى سيّد لو يظفرون بسيّد

فألقى ثيابه و أخذ بحلق الأحوص، و مع الأحوص راويته، و جاء الناس [ليخلّصوه](5)، فحلف لئن خلّصه أحد من يديه ليأخذنّه و ليدعنّ الأحوص؛ فخنقه حتى استرخى، و تركه حتى أفاق؛ ثم قال له: كلّ مملوك لي حرّ، لئن(6)سمع أو سمعت هذا البيت من أحد من الناس لأضربنّك ضربة بسيفي أريد بها نفسك و لو كنت/تحت أستار الكعبة. فأقبل الأحوص على راويته فقال: إنّ هذا مجنون، و لم يسمع هذا البيت غيرك؛ فإيّاك أن يسمعه منك خلق.

لقي عباد بن حمزة و محمد بن مصعب فلم يهشا له ثم تهدّداه إن هجاهما:

أخبرني الحرميّ و الطّوسيّ قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني بعض أصحابنا:

ص: 422


1- جحجبى بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس و هو جدّ أحيحة بن الجلاح اليثربي: حي من الأنصار ثم من الأوس. (انظر «القاموس» و «شرحه» مادة جحجب).
2- كذا بالأصول.
3- كوثى: محلة بمكة لبني عبد الدار.
4- ضابط: شديد البطش و القوّة و الجسم.
5- . زيادة عن م.
6- كذا في م. و في ط: «لئن سمعت هذا البيت...». و في سائر الأصول: «كل مملوك لي حر إن سمع أو سمعت...».

أنّ الأحوص مرّ بعبّاد بن حمزة بن عبد اللّه بن الزّبير و محمد بن مصعب بن الزّبير بخيمتي(1) أمّ معبد، و هما يريدان الحجّ مرجعه من عند يزيد بن عبد الملك، و هو على نجيب له فاره و رحل فاخر و بزة مرتفعة، فحدّثهما أنّه قدم على يزيد بن عبد الملك، فأجازه و كساه و أخدمه(2)؛ فلم يرهما يهشّان لذلك، فجعل يقول: خيمتي أمّ معبد، عبّاد و محمد، كأنه يروض القوافي للشعر يريد/قوله. فقال له محمد بن مصعب: إنّ أراك في تهيئة شعر و قواف و أراك تريد أن تهجونا! و كلّ مملوك(3) لي حرّ لئن هجوتنا بشيء إن لم أضربك بالسيف مجتهدا(4) على نفسك.

فقال الأحوص: جعلني اللّه فداك! إنّي أخاف أن تسمع هذا فيّ عدوّا فيقول شعرا يهجو كما به فينحلنيه(5)، و أنا أبرئكما الساعة، كلّ مملوك لي حرّ إن هجوتكما ببيت شعر أبدا.

أراد أن يصحب محمد بن عباد في طريقه إلى مكة فأبى محمد:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي مصعب قال حدّثنا الزبير بن خبيب(6) عن أبيه خبيب بن ثابت قال:

/خرجنا مع محمد بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزّبير إلى العمرة، فإنّا لبقرب قديد(7) إذ لحقنا الأحوص الشاعر على جمل برحل؛ فقال: الحمد للّه الّذي وفّقكم لي(8)، ما أحبّ أنّكم غيركم، و ما زلت أحرك في آثاركم مذ رفعتم لي(9)؛ فقد ازددت بكم غبطة. فأقبل عليه محمد، و كان صاحب جدّ يكره الباطل و أهله، فقال: لكنّا و اللّه ما اغتبطنا بك و لا نحبّ مسايرتك، فتقدّم عنّا أو تأخّر. فقال: و اللّه ما رأيت كاليوم جوابا! قال: هو ذاك. قال: و كان محمد صاحب جدّ [يكره الباطل و أهله](10)، فأشفقنا مما صنع، و معه عدّة من آل الزبير(11)، فلم يقدر أحد منهم أن يردّ عليه. قال: و تقدّم الأحوص، و لم يكن لي شأن غير أن أعتذر إليه. فلمّا هبطنا من المشلّل(12) على خيمتي أمّ

ص: 423


1- خيمة أم معبد و يقال بئر أم معبد: موضع بين مكة و المدينة نزله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في هجرته. و معه أبو بكر رضي اللّه عنه، و قصته مشهورة. قالوا: لما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يزل مساحلا حتى انتهى إلى قديد فانتهى إلى خيمة منتبذة، و ذكروا الحديث، و سمع هاتف ينشد: جزى اللّه خيرا و الجزاء بكفه رفيقين قالا خيمتي أمّ معبد
2- اخدمه: وهب له خادما.
3- في الأصول: «و كل مملوك له».
4- الاجتهاد: بذل الوسع و المجهود في طلب الأمر، و هو افتعال من الجهد بمعنى الطاقة. فلعل معنى قوله: «مجتهدا على نفسك»: باذلا ما في وسعي و طاقتي في القضاء على نفسك.
5- نخله القول: نسبه إليه و هو لم يقله.
6- كذا في «المشتبه» للذهبي (ص 147) و «فهرس» الطبري. و في الأصول: «حبيب» بالحاء المهملة، و هو تصحيف.
7- قال ياقوت في «معجمه»: «قديد بالتصغير: اسم موضع قرب مكة. قال ابن الكلبيّ: لما رجع تبّع من المدينة بعد حربه لأهلها نزل قديدا فهبت ريح قدّت خيم أصحابه، فسمى قديدا». و قال في «اللسان» مادّة قدد: «قديد: ماء بالحجاز و هو مصغر، و ورد ذكره في الحديث؛ قال ابن سيده: و قديد موضع، و بعضهم لا يصرفه و يجعله اسما للبقعة».
8- وفقكم لي: جعلكم تصادفونني و تلاقونني. و في «اللسان» (مادة وفق): «و يقال: وفقت له و وفّقت له و وفقته و وفقني، و ذلك إذا صادفني و لقيني».
9- رفع لي الشيء: أبصرته من بعد.
10- زيادة عن ط، م، ء.
11- في ط، م، ء: «من ولد الزبير».
12- المشلل (بالضم فالفتح و فتح اللام المشدّدة): جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر. (انظر ياقوت في المشلل).

معبد سمعت الأحوص يهمهم(1) بشيء، فتفهّمته فإذا هو يقول: خيمتي أم معبد، محمد، كأنّه يهيّئ القوافي؛ فأمسكت راحلتي حتّى جاءني محمد، فقلت. إنّي سمعت هذا يهيّئ لك القوافي، فإمّا أذنت لنا أن نعتذر إليه و نرضيه، و إمّا خلّيت(2) بيننا و بينه فنضربه(3)؛ فإنّا لا نصادفه في أخلى من هذا المكان. قال: كلاّ! إنّ سعد بن مصعب قد أخذ عليه ألاّ يهجو زبيريّا أبدا، فإن فعل رجوت أن يخزيه اللّه، دعه.

هجا سعد بن مصعب فلما أراد ضربه حلف له ألا يهجو زبيريا فتركه:

قال الزّبير: و أمّا خبره مع سعد بن مصعب، فحدّثني به عمّي مصعب قال أخبرني يحيى بن الزّبير بن عبّاد أو مصعب بن عثمان - شكّ: أيّهما حدّثه - قال:

كانت أمة الملك بنت حمزة بن عبد اللّه بن الزّبير، تحت سعد بن مصعب بن الزّبير، و كان فيهم مأتم، فاتّهمته بامرأة، فغارت عليه و فضحته. فقال الأحوص يمازحه:

و ليس بسعد النّار من تزعمونه *** و لكنّ سعد النار سعد بن مصعب

أ لم تر أنّ القوم ليلة نوحهم *** بغوه فألفوه على شرّ مركب

فما يبتغي بالغيّ لا درّ درّه *** و في بيته مثل الغزال المربّب

- قال: و سعد النار رجل يقال له سعد حضنة، و هو الذي جدّد لزياد بن عبيد اللّه(4) الحارثيّ الكتاب الذي في جدار المسجد، و هو آيات من القرآن أحسب أنّ منها (إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي الْقُرْبىٰ وَ يَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ) . فلمّا فرغ منه قال لزياد: أعطني أجري. فقال له زياد: انتظر، فإذا رأيتنا نعمل بما كتبت، فخذ أجرك -.

قال: فعمل سعد بن مصعب سفرة، و قال للأحوص: اذهب بنا إلى سدّ عبيد اللّه بن عمر نتغدّ عليه، و نشرب من مائه، و نستنقع فيه؛ فذهب معه. فلمّا صارا إلى الماء، أمر غلمانه أن يربطوه و أراد ضربه، و قال: ما جزعت من هجائك إيّاي، و لكن ما ذكرك زوجتي؟! فقال له: يا سعد، إنك لتعلم أنّك إن ضربتني لم اكفف عن الهجاء، و لكن خير لك من ذلك أحلف(5) لك بما/يرضيك ألاّ أهجوك و لا أحدا من آل الزّبير أبدا؛ فأحلفه و تركه.

هجا مجمع بن يزيد فسبه:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني مصعب عمّي عن مصعب بن عثمان قال:

قال الأحوص لمجمّع بن يزيد بن جارية(6):

ص: 424


1- الهمهمة: الكلام الخفيّ، و قيل: الهمهمة: تردّد الزئير في الصدر من الهمّ و الحزن؛ يقال: همهم الأسد، و همهم الرجل، إذا لم يبين كلامه.
2- في الأصول: «و إما أن خليت» بزيادة «أن».
3- في ط، م، ء: «فضربناه».
4- كذا في م، و هو الموافق لما في الطبري. و في ح: «لعبيد اللّه بن زياد الحارثي». و في أكثر الأصول: «لزياد بن عبد اللّه».
5- سياق الكلام يقتضي وجود «أن» المصدرية، فهي إذا محذوفة مقدّرة.
6- مجمع، بضم أوّله و فتح الجيم و تشديد الميم المكسورة. و جارية، بالجيم و الراء و الياء المثناة من تحت كما في «تهذيب التهذيب» في اسم مجمع. و قد ورد هذا الاسم في الأصول: «حارثة» بالحاء و الراء و الثاء المثلثة، و هو تصحيف.

و جمّعت من أشياء شتّى خبيثة *** فسمّيت لمّا جئت منها مجمّعا

فقال له مجمّع: إنّي لا أحسن الشعر، ثم أخذ كرنافة(1) فغمسها في ماء فغاصت، ثم رفع يده عنها فطفت، فقال: هكذا و اللّه كانت تصنع خالاتك السّواحر.

طلب من أمّ ليث أن تدخله إلى جارة لها فأبت فعرّضا بها في شعره:

أخبرني الحرميّ قال و حدّثنا الزّبير قال:

كانت امرأة يقال لها أمّ ليث امرأة صدق(2)، فكانت قد فتحت بينها و بين جارة لها من الأنصار خوخة، و كانت الأنصاريّة من أجمل أنصاريّة خلقت. فكلّم الأحوص أمّ ليث أن تدخله في بيتها يكلّم الأنصاريّة من الخوخة التي فتحت بينها و بينها، فأبت؛ فقال: أما لأكافئنّك، ثم قال:

هيهات منك بنو عمر و مسكنهم *** إذا تشتّيت قنّسرين(3) أو حلبا

قامت تراءى و قد جدّ الرحيل بنا *** بين السّقيفة و الباب الذي نقبا

إني لمانحها ودّي و متّخذ *** بأمّ ليث إلى معروفها سببا

فلمّا بلغت الأبيات زوج المرأة، سدّ الخوخة؛ فاعتذرت إليه أمّ ليث، فأبى أن يقبل و يصدّقها. فكانت أمّ ليث تدعو على الأحوص.

وعده مخزوميّ أن يعينه عند الوليد ثم أحلف:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني أبي قال:

ركب الأحوص إلى الوليد بن عبد الملك قبل ضرب ابن حزم إيّاه، فلقيه رجل من بني مخزوم يقال له محمد بن عتبة، فوعده أن يعينه. فلمّا دخل على الوليد قال: ويحك! ما هذا الذي رميت به يا أحوص؟ قال: و اللّه يا أمير المؤمنين، لو كان الذي رماني به ابن حزم من أمر الدّين لاجتنبته، فكيف و هو من أكبر معاصي اللّه! فقال ابن عتبة: يا أمير المؤمنين، إنّ من فضل ابن حزم و عذله كذا و كذا، و أثنى عليه. فقال الأحوص: هذا و اللّه كما قال الشاعر(4):

و كنت كذئب السّوء لمّا رأى دما *** بصاحبه يوما(5) أحال على الدّم

شكاه أهل المدينة فنفى إلى دهلك ثم استعطف عمر بن عبد العزيز فلم يعطف عليه:

فأمّا خبره في بقيّة أيّام سليمان بن عبد الملك و عمر بن عبد العزيز، فأخبرني به أبو خليفة الفضل بن الحباب

ص: 425


1- الكرنافة: واحدة الكرناف (بكسر الكاف و ضمها)، و هو أصول الكرب التي تبقى في جذع النخلة بعد قطع السعف.
2- إذا قلت: رجل صدق أو امرأة صدق بالإضافة كسرت الصاد، و إن نعتّ به فتحتها.
3- قنسرين (بكسر القاف و فتح النون مشدّدة): كورة بالشام بالقرب من حلب، و هي أحد أجناد الشام. فتحها أبو عبيدة بن الجرّاح رضي اللّه عنه في سنة سبع عشرة.
4- هو الفرزدق.
5- أحال على الدم: أقبل عليه. و مثله قول الشاعر: فتى ليس لابن العمّ كالذئب إن رأى بصاحبه يوما دما فهو آكله

[الجمحيّ](1) قال حدّثنا عون بن محمد بن سلاّم قال حدّثني أبي عمّن حدّثه عن الزّهريّ، و أخبرني به الطّوسيّ و الحرميّ بن أبي العلاء قالا: حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب عن مصعب بن عثمان قال:

كان الأحوص ينسب بنساء ذوات أخطار من أهل المدينة، و يتغنّى في شعره معبد و مالك، و يشيع ذلك في الناس، فنهي فلم ينته؛ فشكي إلى عامل سليمان بن عبد الملك على المدينة و سألوه الكتاب فيه إليه، ففعل ذلك.

فكتب سليمان إلى عامله يأمره أن يضربه مائة سوط و يقيمه على البلس للناس، ثم يصيّره إلى دهلك(2) ففعل ذلك به؛ فثوى هناك سلطان(3) سليمان بن عبد الملك. ثم ولي عمر/ابن عبد العزيز؛ فكتب إليه يستأذنه في القدوم و يمدحه؛ فأبى أن يأذن له. و كتب فيما كتب إليه به:

/

أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن *** هديت أمير المؤمنين رسائلي

و قل لأبي حفص إذا ما لقيته *** لقد كنت نفّاعا قليل الغوائل

و كيف ترى للعيش طيبا و لذّة *** و خالك أمسى موثقا في الحبائل!

- هذه الأبيات من رواية الزّبير وحده، و لم يذكرها ابن سلاّم - قال: فأتى رجال من الأنصار عمر بن عبد العزيز، فكلّموه فيه و سألوه أن يقدمه، و قالوا له: قد عرفت نسبه و موضعه و قديمه، و قد أخرج إلى أرض الشّرك، فنطلب إليك أن تردّه إلى حرم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و دار قومه. فقال لهم عمر: فمن الذي يقول:

فما هو إلاّ أن أراها فجاءة *** فأبهت حتّى ما أكاد أجيب

قالوا: الأحوص. قال: فمن الذي يقول:

أدور و لو لا أن أرى أمّ جعفر *** بأبياتكم ما درت حيث أدور(4)

و ما كنت زوّارا و لكنّ ذا الهوى *** إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور

قالوا: الأحوص. قال: فمن الذي يقول:

كأنّ لبنى صبير غادية(5) *** أو دمية زيّنت بها البيع

اللّه بيني و بين قيّمها *** يفرّ منّي بها و أتّبع

/قالوا: الأحوص. قال: بل اللّه بين قيّمها و بينه. قال: فمن الذي يقول:

ستبقى لها(6) في مضمر القلب و الحشا *** سريرة حبّ يوم تبلى السّرائر

ص: 426


1- زيادة عن س، ح.
2- دهلك: جزيرة في بحر اليمن و هو مرسي بين بلاد اليمن و الحبشة، بلدة ضيقة حرجة حارة، كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها. (راجع ياقوت).
3- يريد: مدة سلطانه.
4- هذا البيت لعروة بن حزام العذري، كما ذكره المؤلف في ترجمته ضمن شعر له، و كما ذكره ابن قتيبة في كتابه «الشعر و الشعراء»، لا للأحوص.
5- الصبير: السحاب الأبيض الذي يصبر بعضه فوق بعض درجا. و الغادية: السحابة تنشأ غدوة.
6- في «الشعر و الشعراء» (ص 330 طبع أوروبا): «ستبلى لكم».

قالوا: الأحوص. قال: إنّ الفاسق عنها يومئذ لمشغول، و اللّه لا أردّه ما كان لي سلطان. قال: فمكث هناك بقيّة ولاية عمر و صدرا من ولاية يزيد بن عبد الملك.

غنت حبابة يزيد بن عبد الملك بشعر فلما علم أنه للأحوص أطلقه و أجازه:

قال: فبينا يزيد و جاريته حبابة ذات ليلة على سطح تغنّيه بشعر الأحوص، قال لها: من يقول هذا الشعر؟ قالت: لا و عينيك ما أدري! - قال: و قد كان ذهب من الليل شطره - فقال: ابعثوا إلى ابن شهاب الزّهريّ، فعسى أن يكون عنده علم من ذلك. فأتي الزّهريّ فقرع عليه بابه فخرج مروّعا إلى يزيد. فلمّا صعد إليه قال له يزيد: لا ترع، لم ندعك إلاّ لخير، اجلس، من يقول هذا الشعر؟ قال: الأحوص بن محمد يا أمير المؤمنين. قال: ما فعل؟ قال:

قد طال حبسه بدهلك. قال: قد عجبت لعمر كيف أغفله. ثم أمر بتخلية سبيله، و وهب له أربعمائة دينار. فأقبل الزّهريّ من ليلته إلى قومه من الأنصار فبشّرهم بذلك.

قصيدته التي يعاتب بها عمر بن عبد العزيز على إدنائه زيد بن أسلم و إقصائه له:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا محمد بن إسماعيل و محمد بن زيد الأنصاريّ قالا:

لمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة أدنى زيد بن أسلم، و جفا الأحوص. فقال له الأحوص:

أ لست أبا حفص هديت مخبّري *** أ في الحقّ أن أقصى و يدنى ابن أسلما

فقال عمر: ذلك هو الحق.

/قال الزّبير: و أنشدنيها عبد الملك بن الماجشون عن يوسف بن الماجشون:

ألا صلة الأرحام أدنى إلى التّقى *** و أظهر في أكفائه(1) لو تكرّما

/فما ترك الصّنع الذي قد صنعته *** و لا الغيظ منّي ليس جلدا و أعظما

و كنّا ذوي قربى لديك فأصبحت *** قرابتنا ثديا أجدّ(2) مصرّما

و كنت و ما أمّلت منك كبارق *** لوى قطره من بعد ما كان غيّما

و قد كنت أرجى الناس عندي مودّة *** ليالي كان الظنّ غيبا مرجّما

أعدّك حرزا إن جنيت ظلامة *** و مالا ثريّا حين أحمل مغرما

تدارك بعتبى عاتبا ذا قرابة *** طوى الغيظ لم يفتح بسخط له فما

قيل إنه دس إلى حبابة الشعر الذي غنت يزيد به فأطلقه و أجازه:
اشارة

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال: كتب إليّ إسحاق بن إبراهيم أنّ أبا عبيدة حدّثه:

أنّ الأحوص لم يزل مقيما بدهلك حتّى مات عمر بن عبد العزيز، فدسّ إلى حبابة فغنّت يزيد بأبيات له - قال أبو عبيدة: أظنّها قوله:

ص: 427


1- في ط: «و أطهر في أكفانه».
2- كذا في ء، ط و «الشعر و الشعراء». و ثدي أجدّ: يابس لا لبن به. و مصرّم: منقطع اللبن. و في ب، س: «أحذ» بالحاء و الذال المعجمة، و هو تصحيف.
صوت

أيّ هذا المخبّري عن يزيد *** بصلاح فداك أهلي و مالي

ما أبالي إذا يزيد بقي لي *** من تولّت به صروف الليالي

لم يجنّسه. كذا جاء في الخبر أنها غنّته به، و لم يذكر طريقته قال أبو عبيدة: أراه عرّض بعمر بن عبد العزيز و لم يقدر أن يصرّح مع بني مروان - فقال: من/يقول هذا؟ قالت: الأحوص، و هوّنت أمره، و كلّمته في أمانه فأمّنه. فلمّا أصبح حضر فاستأذنت له، ثمّ أعطاه مائة ألف درهم.

أخبرنا الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الهيثم بن عديّ عن صالح بن حسّان:

أنّ الأحوص دسّ إلى حبابة، فغنّت يزيد قوله:

كريم قريش حين ينسب و الذي *** أقرّت له بالملك كهلا و أمردا

و ليس و إن أعطاك في اليوم مانعا *** إذا عدت من أضعاف أضعافه(1) غدا

أهان تلاد المال في الحمد إنّه *** إمام هدى يجري على ما تعوّدا

تشرّف مجدا من أبيه و جدّه *** و قد ورثا بنيان مجد تشيّدا(2)

فقال يزيد: ويلك يا حبابة! من هذا من قريش؟ قالت: و من يكون! أنت هو يا أمير المؤمنين. فقال: و من قال هذا الشعر؟ قالت: الأحوص يمدح به أمير المؤمنين؛ فأمر به أمير المؤمنين أن يقدم عليه من دهلك، و أمر له بمال و كسوة.

أخبره يزيد بن عبد الملك بأنه معجب بشعر له في مدحهم:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني بعض أهل العلم قال:

دخل الأحوص على يزيد بن عبد الملك و هو خليفة؛ فقال له يزيد: و اللّه لو لم تمت إلينا بحرمة، و لا توسّلت بدالّة، و لا جدّدت لنا مدحا(3)، غير أنك مقتصر على البيتين اللذين قلتهما فينا، لكنت مستوجبا لجزيل الصّلة منّي حيث تقول:

و إنّي لأستحييكم أن يقودني *** إلى غيركم من سائر الناس مطمع

/و أن أجتدي للنفع غيرك منهم *** و أنت إمام للرعيّة مقنع(4)

قال: و هذه قصيدة مدح بها عمر بن عبد العزيز.

ص: 428


1- كذا في ح، م. و في سائر الأصول: «أضعاف إعطائه».
2- في م: «مشيدا» و في ء، ط: «وشيدا».
3- كذا في «الأمالي» لأبي عليّ القالي (ج 1 ص 69 طبع دار الكتب المصرية). و في الأصول: «و لم تضربنا بدالة و لم تجدّد لنا مديحة... إلخ».
4- رجل مقنع (بفتح الميم): يقنع به و يرضى برأيه و قضائه.
لما ولي يزيد بعث إليه فأكرمه فمدحه:
اشارة

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الزّهريّ قال حدّثني عمر بن موسى بن عبد العزيز قال:

لمّا ولي يزيد بن عبد الملك بعث إلى الأحوص، فأقدم عليه، فأكرمه و أجازه بثلاثين ألف/درهم. فلمّا قدم قباء صبّ المال على نطع و دعا جماعة من قومه، و قال: إنّي قد عملت لكم طعاما. فلمّا دخلوا عليه كشف لهم عن ذلك المال، و قال: (أَ فَسِحْرٌ هٰذٰا أَمْ أَنْتُمْ لاٰ تُبْصِرُونَ) .

قال الزّبير: و قال في يزيد بن عبد الملك يمدحه حينئذ بهذه القصيدة:

صرمت حبلك الغداة نوار *** إنّ صرما لكلّ حبل قصار(1)

و هي طويلة، يقول فيها:

من يكن سائلا فإنّ يزيدا *** ملك من عطائه الإكثار

عمّ معروفه فعزّ به الدّي *** ن و ذلّت لملكه الكفّار

و أقام الصّراط فابتهج(2) ال *** حقّ منيرا كما أنار النّهار

و من هذه القصيدة بيتان يغنّى فيهما، و هما:

صوت

بشر لو يدبّ ذرّ عليه *** كان فيه من مشيه آثار

إنّ أروى إذا تذكّر أروى *** قلبه كاد قلبه يستطار

/غنّت فيه عريب لحنا من الثقيل الأوّل بالبنصر، و ذكر ابن المكّي أنه لجدّه يحيى.

بعث يزيد إليه و إلى ابن حزم فأراد أن يكيد عنده لابن حزم فلم يقبل منه و أهانه:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي مصعب عن مصعب بن عثمان قال:

حجّ يزيد بن عبد الملك فتزوّج بنت عون بن محمد بن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه و أصدقها مالا كثيرا؛ فكتب الوليد بن عبد الملك إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: إنّه بلغ أمير المؤمنين أنّ يزيد بن عبد الملك قد تزوّج بنت عون بن محمد بن عليّ بن أبي طالب و أصدقها مالا كثيرا، و لا أراه فعل ذلك إلاّ و هو يراها خيرا منه، قبّح اللّه رأيه! فإذا جاءك كتابي هذا فادع عونا فاقبض المال منه؛ فإن لم يدفعه إليك فأضربه بالسّياط حتى تستوفيه منه ثم افسخ نكاحه. فأرسل أبو بكر بن محمد بن عمرو إلى عون بن محمد و طالبه بالمال. فقال له: ليس عندي شيء و قد فرّقته. فقال له أبو بكر: إنّ أمير المؤمنين أمرني إن لم تدفعه إليّ كلّه أن أضربك بالسّياط ثم لا أرفعها عنك حتى أستوفيه منك. فصاح به يزيد: تعال إليّ، فجاءه؛ فقال له فيما بينه و بينه: كأنّك خشيت أن أسلمك إليه، ادفع إليه المال و لا تعرّض له نفسك؛ فإنّه إنّ دفعه إليّ رددته عليك، و إن لم يردّه عليّ أخلفته عليك، ففعل. فلمّا

ص: 429


1- القصار: الغاية.
2- في ح، م: «فانتهج» بالنون بدل الباء. و على هذه الرواية يكون الفعل مبنيا للمفعول.

ولي يزيد بن عبد الملك، كتب في أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم و في الأحوص، فحملا إليه، لما بين أبي بكر و الأحوص من العداوة؛ و كان أبو بكر قد ضرب الأحوص و غرّبه إلى دهلك و أبو بكر مع عمر بن عبد العزيز، و عمر إذ ذاك على المدينة. فلمّا صارا بباب يزيد أذن للأحوص، فرفع أبو بكر يديه يدعو، فلم يخفضهما حتى خرج الغلمان بالأحوص ملبّبا(1) مكسور الأنف، و إذا هو لمّا دخل على يزيد/قال له: أصلحك اللّه! هذا ابن حزم الذي سفّه رأيك و ردّ نكاحك. فقال يزيد: كذبت! عليك لعنة اللّه و على من يقول ذلك! اكسروا أنفه، و أمر به فأخرج ملبّبا.

قصته مع عبد الحكم بن عمرو الجمحي:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه عن عبد اللّه بن/عمرو(2) الجمحيّ قال:

كان عبد الحكم(3) بن عمرو بن عبد اللّه بن صفوان الجمحيّ قد اتّخذ بيتا فجعل فيه شطرنجات و نردات و قرقات(4) و دفاتر فيها من كلّ علم، و جعل في الجدار أوتادا، فمن جاء علّق ثيابه على وتد منها، ثم جرّ دفترا فقرأه، أو بعض ما يلعب به فلعب به مع بعضهم. قال: فإنّ عبد الحكم يوما لفي المسجد الحرام إذا فتى داخل من باب الحنّاطين، باب بني جمح، عليه ثوبان معصفران مدلوكان و على أذنه ضغث(5) ريحان و عليه ردع(6) الخلوق، فأقبل يشقّ الناس حتى جلس إلى عبد الحكم بن عمرو بن عبد اللّه؛ فجعل من رآه يقول: ما ذا صبّ عليه من هذا! أ لم يجد أحدا يجلس إليه غيره! و يقول بعضهم: فأيّ شيء يقوله له عبد الحكم و هو أكرم من أن يجبه من يقعد إليه! فتحدّث إليه ساعة ثم أهوى فشبّك يده في يد عبد الحكم و قام يشقّ المسجد حتّى خرج من باب الحنّاطين - قال عبد الحكم:

فقلت في نفسي: ما ذا سلّط اللّه عليّ منك! رآني معك نصف الناس في المسجد و نصفهم في الحنّاطين - حتّى دخل مع عبد الحكم بيته، فعلّق رداءه على وتد و حلّ أزراره و اجترّ الشّطرنج/و قال: من يلعب؟ فبينا هو كذلك إذ دخل الأبجر المغنّي، فقال له: أي زنديق ما جاء بك إلى هاهنا؟ و جعل يشتمه و يمازحه. فقال له عبد الحكم: أ تشتم رجلا في منزلي! فقال: أتعرفه؟ هذا الأحوص. فاعتنقه عبد الحكم و حيّاه. و قال له: أمّا إذ كنت(7) الأحوص فقد هان عليّ ما فعلت.

خطب عبد الملك بن مروان أهل المدينة و تمثل بشعر له:

أخبرني الطّوسيّ و الحرميّ قالا حدّثنا الزّبير بن بكار قال حدّثني حميد بن عبد العزيز عن أبيه قال:

لمّا قدم عبد الملك بن مروان حاجّا سنة خمس و سبعين، و ذلك بعد ما اجتمع الناس عليه بعامين، جلس على المنبر فشتم أهل المدينة و وبّخهم، ثم قال: إنّي و اللّه يا أهل المدينة قد بلوتكم فوجدتكم تنفسون القليل و تحسدون

ص: 430


1- ملببا: مأخوذا بتلابيبه، و هو أن يجمع ثيابه عند صدره و نحره ثم يجرّ منها.
2- في ح، م: «عمر».
3- في ح، م: «عبد الحكيم».
4- النردات: جمع نرد و هو ما يعرف اليوم «بالطاولة». و القرقات: جمع قرق و هي لعبة للصبيان يخطّون بها أربعة و عشرين خطأ مربعة، كل مربع منها داخل الآخر، و يصفون بين تلك المربعات حصيات صغيرة على طريقة مخصوصة.
5- الضغث: كل ما ملأ الكف من النبات.
6- الردع: اللطخ بالزعفران. و الخلوق: ضرب من الطيب، و قيل: الزعفران.
7- كذا في م. و في سائر النسخ: «فقال إذا كنت... إلخ».

على الكثير، و ما وجدت لكم مثلا إلاّ ما قال مخنّثكم و أخوكم الأحوص:

و كم نزلت بي من خطوب مهمّة *** خذلتم عليها(1) ثم لم أتخشّع

فأدبر عنّي شرّها لم أبل(2) بها *** و لم أدعكم في كربها المتطلّع

فقام إليه نوفل بن مساحق فقال: يا أمير المؤمنين، أقررنا بالذّنب و طلبنا المعذرة؛ فعد بحلمك، فذلك ما يشبهنا منك و يشبهك منّا؛ فقد قال من ذكرت من بعد بيتيه الأوّلين:

و إنّي لمستأن و منتظر بكم *** و إن لم تقولوا في الملمّات دع دع(3)

أؤمّل منكم أن تروا غير رأيكم *** وشيكا و كيما تنزعوا خير منزع

أثر أهل دهلك عنه الشعر و عن عراك بن مالك الفقه:

أخبرني الحرمي و الطّوسيّ قالا حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن الضحّاك عن المنذر بن عبد اللّه الحزاميّ:

أنّ عراك(4) بن مالك كان من أشدّ أصحاب عمر بن عبد العزيز على بني مروان في انتزاع ما حازوا من الفيء و المظالم من أيديهم. فلمّا ولي يزيد بن عبد الملك ولّى عبد الواحد بن عبد اللّه النّصري(5) المدينة، فقرّب عراك بن مالك و قال: صاحب الرجل الصالح، و كان لا يقطع أمرا دونه، و كان يجلس معه على سريره. فبينا هو معه إذ أتاه كتاب يزيد بن عبد الملك: أن ابعث مع عراك بن مالك حرسيا حتى ينزله أرض دهلك و خذ من عراك/حمولته.

فقال لحرسيّ بين يديه و عراك معه على السرير: خذ بيد عراك فابتع من ماله راحلة ثم توجّه به نحو دهلك حتى تقرّه فيها؛ ففعل ذلك الحرسيّ. قال: و أقدم الأحوص؛ فمدحه الأحوص؛ فأكرمه و أعطاه. قال: فأهل دهلك يأثرون الشعر عن الأحوص، و الفقه عن عراك ابن مالك.

كاد له الجراح الحكمي بأذربيجان لهجائه يزيد بن المهلب و أهانه:

أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب عن محمد بن سلاّم عن أبي الغرّاف(6) عمن يثق به قال:

بعث يزيد بن عبد الملك حين قتل يزيد بن المهلّب في الشعراء، فأمر بهجاء يزيد بن المهلّب، منهم الفرزدق و كثيّر و الأحوص. فقال الفرزدق: لقد امتدحت بني/المهلّب بمدائح ما امتدحت بمثلها أحدا، و إنه لقبيح بمثلي أن

ص: 431


1- في م: «... خطوب ملمة صبرت عليها...»
2- أبل: أصله أبالي، فحذف آخره للجازم، ثم حذفت حركة اللام تخفيفا كما تحذف نون يكون بعد الجازم، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين.
3- هذه كلمة تقال للعاثر، و معناها: دع العثار و قم و انتعش و اسلم، و قد تجعل اسما كالكلمة و تعرب؛ قال الشاعر: لحي اللّه قوما لم يقولوا لعاثر و لا لابن عم ناله العثر دعدعا
4- هو عراك بن مالك الغفاري التابعي، مات في ولاية يزيد بن عبد الملك. و قد ورد هذا الاسم محرّفا في أكثر الأصول.
5- كذا في ح، م. و هو الموافق لما في «الخلاصة» (ص 247) و «تهذيب التهذيب» (ج 2 ص 436) و «الأنساب» للسمعاني. و ينتسب كما هو مذكور في الأخيرين إلى نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن بن مالك بن عوف. و قد أصلح المرحوم الأستاذ الشنقيطي نسخته بما صوبناه. و في ب، س: «البصري» و هو تصحيف.
6- كذا في ح. و في سائر النسخ: «أبو العوّام» و هو تحريف. و أبو الغراف هذا من شيوخ ابن سلام.

يكذّب نفسه على كبر السّنّ، فليعفني أمير المؤمنين؛ قال: فأعفاه. و قال كثيّر: إنّي أكره أن أعرّض نفسي لشعراء أهل العراق إن هجوت بني المهلّب. و أمّا الأحوص فإنّه هجاهم. ثم بعث به يزيد بن عبد الملك إلى الجرّاح بن عبد اللّه الحكميّ و هو بأذربيجان، و قد كان بلغ الجرّاح هجاء الأحوص بني المهلّب، فبعث إليه بزقّ من خمر فأدخل منزل الأحوص، ثم بعث إليه خيلا فدخلت منزله فصبّوا الخمر على رأسه ثم أخرجوه على رءوس الناس فأتوا به الجرّاح، فأمر بحلق رأسه و لحيته، و ضربه الحدّ بين أوجه الرجال، و هو يقول: ليس هكذا تضرب الحدود؛ فجعل الجرّاح يقول: أجل! و لكن لما تعلم. ثم كتب إلى يزيد بن عبد الملك يعتذر فأغضى له عليها.

رأي أبي الفرج فيه و استدلاله على هذا الرأي:

قال أبو الفرج الأصبهانيّ: و ليس ما جرى من ذكر الأحوص إرادة للغضّ منه في شعره، و لكنّا ذكرنا من كلّ ما يؤثر عنه ما تعرف به حاله من تقدّم و تأخّر، و فضيلة و نقص؛ فأمّا تفضيله و تقدّمه في الشعر فمتعالم مشهور، و شعره ينبئ عن نفسه و يدلّ على فضله فيه و تقدّمه و حسن رونقه و تهدّبه و صفائه.

رأي الفرزدق و جرير في نسيبه:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء و الطّوسيّ قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عبد الملك بن عبد العزيز(1) قال حدّثني عبد اللّه بن مسلم بن جندب الهذليّ قال حدّثنا شيخ لنا من هذيل كان خالا للفرزدق من بعض أطرافه قال:

سمعت بالفرزدق و جرير على باب الحجّاج، فقلت: لو تعرّضت ابن أختنا! فامتطيت إليه بعيرا، حتى وجدتهما قبل أن يخلصا(2)، و لكلّ واحد منهما شيعة؛ فكنت/في شيعة الفرزدق؛ فقام الآذن يوما فقال: أين جرير؟ فقال جرير: هذا أبو فراس؛ فأظهرت شيعته لومه و أسرّته. فقال الآذن: أين الفرزدق؟ فقام فدخل. فقالوا لجرير: أ تناوئه و تهاجيه و تشاخصه، ثم تبدّى عليه فتأبى و تبدّيه؟! قضيت له على نفسك! فقال لهم: إنّه نزر القول، و لم ينشب(3) أن ينفد ما عنده و ما قال فيه فيفاخره و يرفع نفسه عليه؛ فما جئت به بعد حمدت عليه و استحسن. فقال قائلهم: لقد نظرت نظرا بعيدا. قال: فما نشبوا أن خرج الآذن فصاح: أين جرير؟ فقام جرير فدخل. قال:

فدخلت، فإذا ما مدحه به الفرزدق قد نفد، و إذا هو يقول:

أين الذين بهم تسامي دارما(4) *** أم من إلى سلفي(5) طهيّة تجعل

قال: و عمامته على رأسه مثل المنسف(6)، فصحت من ورائه:

ص: 432


1- كذا في ء، ط، م، و هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد اللّه بن أبي سلمة الماجشون. و في سائر الأصول: «قال حدّثنا عبد العزيز» و فيه حذف؛ لأن الزبير بن بكار روى عن عبد الملك و لم يرو عن أبيه.
2- يخلصا: يصلا؛ يقال: خلص فلان إلى كذا إذا وصل إليه.
3- لم ينشب: لم يلبث. و هذا اللفظ عند العرب عبارة عن السرعة. و أصله من نشب العظم في الخلق و الصيد في الحبالة. أي لم يعلق به شيء يمنعه من ذلك.
4- دارم: اسم قبيلة.
5- في ب، س: «سفلى طهية» و هو تحريف. و التصويب عن بقية الأصول و النقائض (ص 183). و طهية: بنت عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم، كانت عند مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد، فولدت له أبا سود و عوفا و جشيشا، فغلبت على بنيها فنسبوا إليها.
6- المنسف: الغربال الكبير.

هذا ابن يوسف فاعلموا و تفهّموا *** برح الخفاء فليس حين تناجي

/من سدّ مطّلع(1) النّفاق عليكم *** أم من يصول كصولة الحجّاج

أم من يغار على النّساء حفيظة *** إذ لا يثقن بغيرة الأزواج

قل للجبان إذا تأخّر سرجه *** هل أنت من شرك المنيّة ناجي

قال: و ما تشبيبها؟ و طرب: فقال جرير:

/

لجّ الهوى بفؤادك الملجاج(2)*** فاحبس بتوضح باكر الأحداج

و أمرّها، أو قال: أمضاها. فقال: أعطوه كذا و كذا؛ فاستقللت ذلك. فقال الهذليّ: و كان جرير عربيّا قرويّا، فقال للحجّاج: قد أمر لي الأمير بما لم يفهم عنه، فلو دعا كاتبا و كتب بما أمر به الأمير! فدعا كاتبا و احتاط فيه بأكثر من ضعفه، و أعطى الفرزدق أيضا. قال الهذليّ: فجئت الفرزدق فأمر لي بستّين دينارا و عبد، و دخلت على رواته فوجدتهم يعدّلون ما انحرف من شعره، فأخذت من شعره ما أردت. ثم قلت له: يا أبا فراس، من أشعر الناس؟ قال: أشعر الناس بعدي ابن المراغة. قلت: فمن أنسب الناس؟ قال الذي يقول:

لي ليلتان فليلة معسولة *** ألقى الحبيب بها بنجم الأسعد

و مريحة(3) همّي عليّ كأنّني *** حتّى الصّباح معلّق بالفرقد

قلت: ذاك الأحوص. قال: ذاك هو. قال الهذليّ: ثم أتيت جريرا فجعلت أستقلّ عنده ما أعطاني صاحبي أستخرج به منه؛ فقال: كم أعطاك ابن أختك؟ فأخبرته. فقال: و لك مثله؛ فأعطاني ستين دينارا و عبدا. قال:

و جئت رواته و هم يقوّمون ما انحرف من شعره و ما فيه من السّناد(4)، فأخذت منه ما أردت، ثم قلت: يا أبا حزرة، من أنسب الناس؟ قال الذي يقول:

/

يا ليت شعري عمّن كلفت به *** من خثعم إذ نأيت ما صنعوا

قوم يحلّون بالسّدير(5) و بال *** حيرة منهم مرأى و مستمع

أن شطّت الدار عن ديارهم *** أ أمسكوا بالوصال أم قطعوا

بل هم على خير ما عهدت و ما *** ذلك إلاّ التأميل و الطّمع

قلت: و من هو؟ قال: الأحوص. فاجتمعا على أن الأحوص أنسب الناس.

ص: 433


1- المطلع: المأتي؛ تقول: من أين مطّلع هذا الأمر، أي من أين مأتاه.
2- الملجاج: اللجوج. و قد ورد هذا البيت في «الأمالي» (ج 3 ص 43 طبع دار الكتب المصرية) و «ديوانه» المطبوع و المخطوط هكذا: هاج الهوى لفؤادك المهتاج فانظر بتوضح باكر الأحداج و توضح: موضع معروف في بلاد بني يربوع. و الأحداج: جمع حدج و هو مركب من مراكب النساء نحو الهودج و المحفة. يريد، على هذه الرواية، هاج باكر الأحداج الهوى لفؤادك، فارم بطرفك نحو توضح.
3- مريحة: من أراح الإبل إذا ردّها إلى المراح من العشيّ، و المراد أنها تسوق إليه همه.
4- السناد: كل عيب يوجد في القافية قبل الرويّ، و فسره ابن سيده بأنه المخالفة بين الحركات التي تلي الأرداف في الرويّ. (انظر الحاشية رقم 1 ص 143 من الجزء الأوّل و الحاشية رقم 1 ص 348 من الجزء الثاني من هذه الطبعة).
5- السدير: نهر بالحيرة، و قيل: السدير: قصر في الحيرة من منازل آل المنذر. (انظر الحاشية رقم 2 ص 137 ج 2 من هذه الطبعة).
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء:
اشارة

منها الأبيات التي يقول فيها الأحوص:

لي ليلتان فليلة معسولة

و أوّل ما يغنّى به فيها:

صوت

يا للرّجال لوجدك المتجدّد *** و لما تؤمّل من عقيلة في غد

ترجو مواعد بعث آدم دونها *** كانت خبالا للفؤاد المقصد

هل تذكرين عقيل أو أنساكه *** بعدي تقلّب ذا الزّمان المفسد

يومي و يومك بالعقيق إذ الهوى *** منّا جميع الشّمل لم يتبدّد

لي ليلتان فليلة معسولة *** ألقى الحبيب بها بنجم الأسعد

و مريحة همّي عليّ كأنّني *** حتّى الصباح معلّق بالفرقد

/ - عروضه من الكامل. يقال: يا للرّجال و يا للرجال بالكسر و الفتح(1) و في الحديث أنّ عمر رضي اللّه عنه صاح لمّا طعن: يا للّه يا للمسلمين. و قوله: / «في غد»، يريد فيما بعد و في باقي الدهر؛ قال اللّه سبحانه:

(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّٰابُ الْأَشِرُ) . و الخبل و الخبال: النّقصان من الشيء. و المخبّل، أصله مأخوذ من النقص لأنه ناقص العقل. و المعسولة: الحلوة المشتهاة -.

الشعر للأحوص. و الغناء في البيت الأوّل و الثاني لمالك خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي و حبش. و في الثالث و الرابع لسليمان(2) أخي بابويه ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و فيهما و في الخامس و السادس لحن لابن سريج ذكره يونس و لم يجنّسه. و ذكر حمّاد بن إسحاق عن أبيه أنّ لمعبد في الأبيات كلها لحنا و أنه من صحيح غنائه، و لم يجنّسه.

سألت امرأة ابنا للأحوص عن شعر له:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه. عن أيّوب بن عباية قال:

بلغني أنّ ابنا للأحوص بن محمد الشاعر دخل على امرأة شريفة، و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني إبراهيم بن زيد عن عنبسة(3) بن سعيد بن العاصي قال أخبرني أشعب(4) بن جبير قال:

حضرت امرأة شريفة و دخل عليها ابن الأحوص بن محمد الشاعر؛ فقالت له: أ تروي قول أبيك:

ص: 434


1- لام الاستغاثة تفتح مع المستغاث و تكسر مع المستغاث لأجله. فإذا دخلت على ضمير، مثل يا لك، فتحت دائما، و كسرت مع ياء المتكلم، و احتمل الكلام حينئذ الأمرين.
2- في م: «لسليم».
3- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «إبراهيم بن زيد بن عنبسة»، و هو تحريف.
4- كذا في ب، ح، م. و في سائر النسخ: «أشعث» و هو تصحيف.

لي

ليلتان فليلة معسولة *** ألقى الحبيب بها بنجم الأسعد

و مريحة همّي عليّ كأنّني *** حتّى الصباح معلّق بالفرقد

/قال نعم. قالت: أ تدري أيّ الليلتين التي يبيت فيها معلّقا بالفرقد؟ قال: لا و اللّه. قالت: هي ليلة أمّك التي يبيت معها فيها. قال إبراهيم في خبره: فقلت لأشعب: يا أبا العلاء، فأيّ ليلتيه المعسولة؟ فقال:

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا *** و يأتيك بالأخبار من لم تزوّد

هي ليلة الإسراف(1)، و لا تسأل عمّا بعدها.

ما قاله ابن جندب حين أنشد شعر الأحوص:

أخبرني عبد العزيز ابن بنت الماجشون قال:

أنشد ابن جندب قول الأحوص:

لي ليلتان فليلة معسولة *** ألقى الحبيب بها بنجم الأسعد

و مريحة همّي عليّ كأنّني *** حتّى الصباح معلّق بالفرقد

فقال: أما إنّ اللّه يعلم أنّ الليلة المريحة همّي لألذّ الليلتين عندي. قال الحرميّ بن أبي العلاء: و ذلك لكلفه بالغزل و الشّوق و الحنين و تمنّي اللقاء.

من هي عقيلة التي شغف بها الأحوص:

و للأحوص مع عقيلة هذه أخبار قد ذكرت في مواضع أخر. و عقيلة امرأة من ولد عقيل بن أبي طالب رضي اللّه عنه. و قد ذكر الزّبير عن ابن بنت الماجشون عن خاله أنّ عقيلة هذه هي سكينة بنت الحسين عليهما السلام، كنى عنها بعقيلة.

أعجب أبو عبيدة بن محمد بن عمار ببيت له و حلف لا يسمعه إلا جرّ رسنه:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي:

أنّ إنسانا أنشد عند إبراهيم بن هشام و هو والي المدينة قول الأحوص:

إذ أنت فينا لمن ينهاك(2) عاصية *** و إذ أجرّ إليكم سادرا رسني

/فوثب أبو عبيدة بن عمّار بن ياسر(3) قائما ثم أرخى رداءه و مضى يمشي على تلك الحال و يجرّه/حتى بلغ العرض(4) ثم رجع. فقال له إبراهيم بن هشام حين جلس: ما شأنك؟ فقال: أيّها الأمير، إني سمعت هذا البيت مرّة فأعجبني، فحلفت لا أسمعه إلاّ جررت رسني.

ص: 435


1- كذا في ط. و في سائر الأصول: «ليلة الأشراف» بالشين المعجمة.
2- كذا في ح، م، و قد اتفقت عليها الأصول فيما بعد. و في سائر النسخ هنا: «يهواك».
3- نسبه إلى جده لشهرته؛ فإن أبا أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر.
4- العرض (بالكسر): الوادي فيه زروع و نخل؛ يقال: أخصبت أعراض المدينة؛ و هي قراها التي في أوديتها. و يراد به هنا مكان بعينه.
نسبة هذا البيت و ما غنّي فيه من الشعر
صوت

سقيا لربعك من ربع بذي سلّم *** و للزّمان به إذ ذاك من زمن

إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية *** و إذ أجرّ إليكم سادرا رسني

عروضه من البسيط. غنّى ابن سريج في هذين البيتين لحنا من الثقيل الأوّل بالوسطى(1) عن عمرو. و ذكر إسحاق فيه لحنا من الثقيل الأوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى و لم ينسبه إلى أحد، و ذكر حبش(2) أنّه للغريض.

كان حماد الراوية يفضله على الشعراء في النسيب:

أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم عن سالم بن أبي السّحماء و كان صاحب حمّاد الراوية:

أنّ حمّادا كان يقدّم الأحوص في النّسيب.

هجا رجلا فاستعدى عليه الفرزدق و جريرا فلم ينصراه فعاد فصالحه:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا عمر بن أبي سليمان عن يوسف بن أبي سليمان بن عنيزة(3) قال:

/هجا الأحوص رجلا من الأنصار من بني حرام يقال له ابن بشير، و كان كثير المال؛ فغضب من ذلك، فخرج حتّى قدم على الفرزدق بالبصرة و أهدى إليه و ألطفه(4)، فقبل منه، ثم جلسا يتحدّثان؛ فقال الفرزدق: ممن أنت؟ قال: من الأنصار. قال: ما أقدمك؟ قال: جئت مستجيرا باللّه عزّ و جلّ ثم بك من رجل هجاني. قال: قد أجارك اللّه منه و كفاك مئونته، فأين أنت عن الأحوص؟ قال: هو الذي هجاني. فأطرق ساعة ثم قال: أ ليس هو الذي يقول:

ألا قف برسم الدّار فاستنطق الرّسما *** فقد هاج أحزاني و ذكّرني نعما(5)

قال بلى. قال: فلا و اللّه لا أهجو رجلا هذا شعره. فخرج ابن بشير فاشترى أفضل من الشّراء الأوّل من الهدايا، فقدم بها على جرير؛ فأخذها و قال له: ما أقدمك؟ قال: جئت مستجيرا باللّه و بك من رجل هجاني. فقال:

قد أجارك اللّه عزّ و جلّ منه و كفاك، أين أنت عن ابن عمّك الأحوص بن محمد؟ قال: هو الذي هجاني. قال:

فأطرق ساعة ثم قال: أ ليس هو الذي يقول:

تمشّي بشتمي في أكاريس(6) مالك *** تشيد به كالكلب إذ ينبح النّجما

فما أنا بالمخسوس في جذم(7) مالك *** و لا بالمسمّى ثم يلتزم الاسما

ص: 436


1- في ح: «بالسبابة في مجرى الوسطى».
2- في ط، ء: «يونس».
3- في ح: «عنترة».
4- ألطفه: أكرمه و بره بطرف التحف، و الاسم «اللطف» بالتحريك.
5- ورد في بعض الأصول: «نعمي» بالياء في آخره؛ و قد سموا «بنعم» «و نعمى».
6- أكاريس: جمع الجمع لكرس و هو هنا الجماعة من الناس.
7- الجذم: الأصل.

و لكنّ بيتي إن سألت وجدته *** توسّط منها العزّ و الحسب الضّخما

قال: بلى و اللّه. قال: فلا و اللّه لا أهجو شاعرا هذا شعره. قال: فاشتري أفضل من تلك الهدايا و قدم على الأحوص فأهداها إليه و صالحه.

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت

ألا قف برسم الدّار فاستنطق الرّسما *** فقد هاج أحزاني و ذكّرني نعمى

فبتّ كأنّي شارب من مدامة *** إذا أذهبت همّا أتاحت له همّا

غنّاه إبراهيم الموصليّ خفيف رمل بالوسطى عن الهشاميّ. و ذكر عبد اللّه بن العبّاس/الرّبيعي أنّه له.

أنشد أبو السائب المخزومي شعرا له فطرب و مدحه:
اشارة

أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزّبير قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز قال:

قال لي أبو السائب المخزوميّ: أنشدني للأحوص؛ فأنشدته قوله:

قالت و قلت تحرّجي وصلي *** حبل امرئ بوصالكم صبّ

واصل إذا بعلي فقلت لها *** الغدر شيء ليس من ضربي(1)

صوت

ثنتان لا أدنو لوصلهما(2) *** عرس الخليل و جارة الجنب(3)

أمّا الخليل فلست فاجعه *** و الجار أوصاني به ربّي

عوجوا كذا نذكر لغانية *** بعض الحديث مطيّكم صحبي

و نقل لها فيم الصّدود و لم *** نذنب بل انت بدأت بالذّنب

إن تقبلي نقبل و ننزلكم *** منّا بدار السّهل و الرّحب

أو تدبري تكدر معيشتنا *** و تصدّعي متلائم الشّعب

/ - غنّى في «ثنتان لا أدنو» و الذي بعده ابن جامع ثقيلا أوّل بالوسطى. و غنّى في «عوجوا كذا نذكر لغانية» و الأبيات التي بعده ابن محرز لحنا من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل مطلقا في مجرى البنصر - قال: فأقبل عليّ أبو السائب فقال: يا ابن أخي، هذا و اللّه المحبّ عينا لا الذي يقول:

و كنت إذا خليل رام صرمي *** وجدت وراي منفسحا عريضا

ص: 437


1- كذا في ح. و في سائر النسخ: «شعبي».
2- في ب، س: «بوصلهما» تحريف.
3- جار الجنب بالفتح: اللازق بك إلى جنبك.

اذهب فلا صحبك اللّه و لا وسّع عليك (يغني قائل هذا البيت).

سأل المهدي عن أنسب بيت قالته العرب فأجاب رجل من شعره فأجازه:

أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزّبير قال حدّثنا خالد بن وضّاح قال حدّثني عبد الأعلى بن عبد اللّه بن محمد بن صفوان الجمحيّ قال:

حملت دينا بعسكر المهديّ، فركب المهديّ بين أبي عبيد اللّه و عمر بن بزيع، و أنا وراءه في موكبه على برذون قطوف(1)؛ فقال: ما أنسب بيت قالته العرب؟ فقال له أبو عبيد اللّه: قول امرئ القيس:

و ما ذرفت عيناك إلا لتضربي *** بسهميك في أعشار قلب مقتّل

فقال: هذا أعرابيّ قحّ. فقال عمر بن بزيع: قول كثير يا أمير المؤمنين:

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما *** تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل

فقال: ما هذا بشيء و ما له يريد أن ينسى ذكرها حتى تمثّل له! فقلت: عندي حاجتك يا أمير المؤمنين جعلني اللّه فداك! قال: الحق بي. قلت: لا لحاق بي، ليس ذلك في دابّتي. قال: احملوه على دابّة. قلت: هذا أوّل الفتح؛ فحملت على دابّة، فلحقت. فقال: ما عندك؟ فقلت: قول الأحوص:

/

إذا قلت إنّي مشتف بلقائها *** فحمّ التلاقي بيننا زادني سقما

فقال: أحسن و اللّه! اقضوا عنه دينه؛ فقضي عنّي ديني.

نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
اشارة

/منها الشعر الذي(2) هو:

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما *** تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل

صوت

ألا حيّيا ليلى أجدّ رحيلي *** و آذن أصحابي غدا بقفول

و لم أر من ليلى نوالا أعدّه *** ألا ربّما طالبت غير منيل

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما *** تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل

و ليس خليلي بالملول و لا الذي *** إذا غبت عنه باعني بخليل

و لكن خليلي من يدوم وصاله *** و يحفظ سرّي عند كلّ دخيل

عروضه من الطويل. الشعر لكثيّر. و الغناء في ثلاثة الأبيات الأول لإبراهيم، و لحنه من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. و لابنه إسحاق في:

و ليس خليلي بالملول و لا الّذي

ص: 438


1- القطوف: الدابة التي تبطئ في سيرها.
2- كذا في ب. و في س: «الذي هو أوّله». و في سائر النسخ: «الذي أوله».

ثقيل آخر بالوسطى.

حديث ابن سلام عن كثير و جميل:

أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم، و أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير عن محمد بن سلاّم قال:

كان لكثيّر في النّسيب حظّ وافر، و جميل مقدّم عليه و على أصحاب النسيب جميعا، و لكثيّر من فنون الشّعر ما ليس لجميل. و كان كثيّر راوية جميل، و كان جميل/صادق الصّبابة و العشق، و لم يكن كثيّر بعاشق، و كان يتقوّل.

قال: و كان الناس يستحسنون بيت كثيّر في النّسيب:

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما *** تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل

قال: و قد رأيت من يفضّل عليه بيت جميل:

خليليّ فيما عشتما هل رأيتما *** قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي

حديث ابن مصعب الزبيري عن كثير:

قرأت في كتاب منسوب إلى أحمد بن يحيى البلاذريّ: و ذكر إسحاق بن إبراهيم الموصليّ أنّ عبد اللّه بن مصعب الزّبيريّ كان يوما يذكر شعر كثيّر و يصف تفضيل أهل الحجاز إيّاه، إلى أن انتهى إلى هذا البيت. قال إسحاق: فقلت له: إنّ الناس يعيبون عليه هذا المعنى و يقولون: ما له يريد أن ينساها! فتبسّم ابن مصعب ثم قال:

إنّكم يا أهل العراق لتقولون ذلك.

سئل كثير عن أنسب بيت قاله فأجاب:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثني أبو يحيى الزّهريّ(1) قال حدّثني الهزبريّ(2) قال:

قيل لكثيّر: ما أنسب بيت قلته؟ قال: الناس يقولون:

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما *** تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل

و أنسب عندي منه قولي:

و قل أمّ عمر داؤه و شفاؤه *** لديها و ريّاها الشّفاء من الخبل(3)

و قد قيل: إنّ بعض هذه الأبيات للمتوكّل اللّيثيّ.

ص: 439


1- في م: «الزبيري».
2- في ط، ء، م: «الهديري».
3- كذا في ط، ء، م. و لعله من القصيدة التي منها: خليليّ فيما عشتما هل رأيتما قتيلا بكى من حب قاتله قبلي و في سائر الأصول: لديها و رباها إليه طبيب
قال محرز بن جعفر إن الشعر في الأنصار و استشهد بشعر صاحبهم الأحوص:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عثمان - قال الحرميّ: أحسبه ابن عبد الرحمن المخزوميّ - قال حدّثنا إبراهيم بن أبي عبد اللّه قال:

قيل لمحرز بن جعفر: أنت صاحب شعر، و نراك تلزم الأنصار، و ليس هناك منه شيء؛ قال: بلى و اللّه، إنّ هناك للشّعر عين الشّعر، و كيف لا يكون الشعر هناك و صاحبهم/الأحوص الذي يقول:

يقولون لو ماتت لقد غاض حبّه *** و ذلك حين الفاجعات و حيني

لعمرك إنّي إن تحمّ وفاتها *** بصحبة من يبقى لغير ضنين

و هو الذي يقول:

و إنّي لمكرام لسادات مالك *** و إنّي لنوكى مالك لسبوب

و إنّي على الحلم الذي من سجيّتي *** لحمّال أضغان لهنّ طلوب

ما قاله الأحوص من الشعر في مرض موته:

أخبرني الحرميّ قال حدّثني الزّبير قال حدّثني عمّي مصعب قال حدّثني يحيى بن الزّبير بن عبّاد بن حمزة بن عبد اللّه بن الزّبير، قال الزّبير و حدّثني عليّ بن صالح عن عامر بن صالح:

أنّ الأحوص قال في مرضه الذي مات فيه - و قال عامر بن صالح: حين هرب من عبد الواحد النّصريّ إلى البصرة -:

يا بشر يا ربّ محزون بمصرعنا *** و شامت جذل ما مسّه الحزن

و ما شمات امرئ إن(1) مات صاحبه *** و قد يرى أنّه بالموت مرتهن

يا بشر هبّي فإنّ النّوم أرّقه *** نأي مشتّ و أرض غيرها الوطن

ص: 440


1- في ط، م: «قد مات».

47 - ذكر الدّلال و قصته حين خصي و من خصي معه و السبب في ذلك و سائر أخباره

اسمه و كنيته و ولاؤه:

الدّلال اسمه ناقد(1)، و كنيته أبو زيد(2). و هو مدنيّ مولى بني فهم.

و أخبرني عليّ بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال:

قال إسحاق: لم يكن في المخنّثين أحسن وجها و لا أنظف ثوبا و لا أظرف من الدّلال. قال: و هو أحد من خصاه ابن حزم. فلمّا فعل ذلك به قال: الآن تمّ الخنث.

و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أبي عبد اللّه مصعب الزّبيريّ قال:

الدّلال مولى عائشة بنت سعيد بن العاص.

كان ظريفا صاحب نوادر و كان يغني غناء كثير العمل:

و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبد اللّه مصعب الزّبيري قال:

كان الدّلال من أهل المدينة، و لم يكن أهلها يعدّون في الظّرفاء و أصحاب النوادر من المخنّثين بها إلاّ ثلاثة:

طويس، و الدّلال، و هنب(3)؛ فكان هنب أقدمهم، و الدلال أصغرهم. و لم يكن بعد طويس أظرف من الدّلال و لا أكثر ملحا.

/قال إسحاق: و حدّثني هشام بن المرّيّة عن جرير، و كانا نديمين مدنيّين، قال: ما ذكرت الدّلال قطّ إلاّ ضحكت لكثرة نوادره. قال: و كان نزر الحديث، فإذا تكلّم أضحك الثّكلى، و كان ضاحك السنّ، و صنعته نزرة جيّدة، و لم يكن يغنّي إلاّ غناء مضعفا، يعني كثير العمل.

كان أهل المدينة يفخرون به:

قال إسحاق: و حدّثني أيّوب بن عباية قال:

شهدت أهل المدينة إذا ذكروا الدّلال و أحاديثه، طوّلوا رقابهم و فخروا به؛ فعلمت أنّ ذلك لفضيلة كانت فيه.

ص: 441


1- كذا في «شرح القاموس» (مادة دلل) «و نهاية الأرب» (ج 4 ص 315). و في س، م: «نافد» بألفاء و الدال المهملة. و في باقي الأصول: «نافذ» بالفاء و الذال المعجمة.
2- كذا في «شرح القاموس» «و نهاية الأرب». و في جميع الأصول: «أبو يزيد».
3- كذا في ب، س. و في «شرح القاموس» (مادة هنب) أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم نفى مخنثين أحدهما «هيت» و الآخر «ماتع». قال إنما هو «هنب» فصحفه أصحاب الحديث. و قال الأزهري: رواه الشافعي و غيره «هيت»، و أظنه صوابا. و قد ورد في «المشتبه»: «هيت». و قد ورد هذا الاسم في باقي الأصول مضطربا.
كان يلازم النساء:

قال و حدّثني ابن جامع عن يونس قال:

كان الدّلال مبتلى بالنّساء و الكون معهنّ، و كان يطلب فلا يقدر عليه، و كان بديع الغناء صحيحه حسن الجرم(1).

سبب لقبه، و توسطه بين الرجال و النساء:

قال إسحاق و حدّثني الزّبيريّ قال:

إنّما لقّب بالدّلال لشكله(2) و حسن دلّه و ظرفه و حلاوة منطقه و حسن وجهه و إشارته. و كان مشغوفا(3) بمخالطة النّساء و وصفهنّ للرجال. و كان من أراد خطبة امرأة سأله عنها و عن غيرها، فلا يزال يصف له النساء واحدة /فواحدة حتّى ينتهي إلى وصف ما يعجبه؛ ثم يتوسّط بينه و بين من يعجبه منهنّ حتّى يتزوّجها؛ فكان يشاغل كلّ من جالسه عن الغناء بتلك الأحاديث كراهة منه للغناء.

/قال إسحاق(4) و حدّثني مصعب الزّبيريّ قال:

أنا أعلم خلق اللّه بالسبب الذي من أجله خصي الدّلال؛ و ذلك أنه كان القادم يقدم المدينة، فيسأل عن المرأة يتزوّجها فيدلّ على الدّلال؛ فإذا جاءه قال له: صف لي من تعرف من النساء للتزويج؛ فلا يزال يصف له واحدة بعد واحدة حتّى ينتهي إلى ما يوافق هواه؛ فيقول: كيف لي بهذه؟ فيقول: مهرها كذا و كذا؛ فإذا رضي بذلك أتاها الدّلال، فقال لها: إنّي قد أصبت لك رجلا من حاله و قصّته و هيئته و يساره و لا عهد له بالنساء، و إنما قدم بلدنا آنفا؛ فلا يزال بذلك يشوّقها و يحرّكها حتّى تطيعه؛ فيأتي الرجل فيعلمه أنه قد أحكم له ما أراد. فإذا سوّي الأمر و تزوّجته المرأة، قال لها: قد آن لهذا الرجل أن يدخل بك، و الليلة موعده، و أنت مغتلمة شبقة جامّة(5)؛ فساعة يدخل عليك قد دفقت عليه مثل سيل العرم، فيقذرك و لا يعاودك، و تكونين من أشأم النّساء على نفسك و غيرك. فتقول: فكيف أصنع؟ فيقول: أنت أعلم بدواء حرك و دائه و ما يسكّن غلمتك. فتقول: أنت أعرف. فيقول: ما أجد له شيئا أشفى من النّيك. فيقول لها: إن لم تخافي الفضيحة فابعثي إلى بعض الزّنوج حتّى يقضي بعض وطرك و يكفّ عادية حرك؛ فتقول له: ويلك! و لا كلّ هذا! فلا تزال المحاورة بينهما حتّى يقول لها: فكما جاء(6) عليّ أقوم، فأخفّفك و أنا و اللّه إلى التخفيف أحوج. فتفرح المرأة فتقول: هذا أمر مستور، فينيكها؛ حتّى إذا قضى لذّته منها، قال لها: أمّا أنت فقد استرحت و أمنت العيب، و بقيت أنا. ثم يجيء إلى الزوج فيقول له: قد واعدتها/أن تدخل عليك الليلة، و أنت

ص: 442


1- كذا في أكثر الأصول. و الجرم بالكسر هنا: الصوت أو جهارته. و في م «و نهاية الأرب» (ح 4 ص 216): «الجزم» و الجزم: وضع الحروف مواضعها في بيان و مهل.
2- الشكل (بالكسر): الدل. و الشكل (بالفتح): الهيئة و المذهب.
3- فيء، ح، م: «مشعوفا» بالعين المهملة، و كلاهما بمعنى واحد. و قد قرئ بهما في قوله تعالى: (قَدْ شَغَفَهٰا حُبًّا).
4- اشتمل هذا الخبر على ألفاظ صريحة في الفحش، و قد آثرنا إبقاءه كما هو احتفاظا بكيان «الأغاني» الذي يعدّ من أجل مصادر التاريخ و الأدب العربي.
5- يقال: جم الفرس و غيره، إذا ترك الضراب فتجمع ماؤه.
6- في م: «فكما حكم عليّ أقوم».

رجل عزب(1)، و نساء المدينة خاصّة يردن المطاولة في الجماع، و كأنّي بك كما تدخله عليها تفرغ و تقوم، فتبغضك و تمقتك و لا تعاودك بعدها و لو أعطيتها الدنيا، و لا تنظر في وجهك بعدها. فلا يزال في مثل هذا القول حتّى يعلم أنّه قد هاجت شهوته؛ فيقول له: كيف أعمل؟ قال: تطلب زنجيّة فتنيكها مرّتين أو ثلاثا حتى تسكن غلمتك؛ فإذا دخلت الليلة إلى أهلك لم تجد أمرك إلاّ جميلا. فيقول له ذاك: أعوذ باللّه من هذه الحال، أ زنا و زنجيّة! لا و اللّه لا أفعل! فإذا أكثر محاورته قال له: فكما جاء عليّ قم فنكني أنا حتّى تسكن غلمتك و شبقك؛ فيفرح فينيكه مرّة أو مرّتين. فيقول له: قد استوى أمرك الآن و طابت نفسك، و تدخل على زوجتك فتنيكها نيكا يملؤها سرورا و لذّة.

فينيك المرأة قبل زوجها، و ينيكه الرجل قبل امرأته. فكان ذلك دأبه، إلى أن بلغ خبره سليمان بن عبد الملك، و كان غيورا شديد الغيرة، فكتب بأن يحصى هو و سائر المخنّثين [بالمدينة و مكة](2)، و قال: إنّ هؤلاء يدخلون على نساء قريش و يفسدونهنّ. فورد الكتاب على ابن حزم فخصاهم. هذه رواية إسحاق عن الزّبيري. و السبب في هذا أيضا مختلف فيه، و ليس كلّ الرواة يروون ذلك كما رواه مصعب.

رواية أخرى في السبب الذي خصي من أجله الدلال و سائر المخنثين بالمدينة:
اشارة

فممّا روي من أمرهم ما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ - و هذا الخبر أصحّ ما روي في ذلك إسنادا - قال أخبرنا أبو زيد عمر بن شبّة عن معن/بن عيسى، هكذا رواه الجوهريّ، و أخبرنا به إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان قال: قال ابن جناح حدّثني معن بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن أبيه و عن(3) محمد بن معن الغفاريّ قالا:

/كان سبب ما خصي له المخنّثون بالمدينة أنّ سليمان بن عبد الملك كان في نادية(4) له يسمر ليلة على ظهر سطح، فتفرّق عنه جلساؤه، فدعا بوضوء فجاءت به جارية له. فبينا هي تصبّ عليه إذ أومأ بيده و أشار بها مرّتين أو ثلاثا، فلم تصبّ عليه؛ فأنكر ذلك فرفع رأسه، فإذا هي مصغية بسمعها إلى ناحية العسكر، و إذا صوت رجل يغنّي، فأنصت له حتى سمع جميع ما تغنّى به. فلمّا أصبح أذن للناس، ثم أجرى ذكر الغناء فليّن فيه حتى ظنّ القوم أنه يشتهيه و يريده، فأفاضوا فيه بالتّسهيل و ذكر من كان يسمعه. فقال سليمان: فهل بقي أحد يسمع منه الغناء؟ فقال رجل من القوم: عندي يا أمير المؤمنين رجلان من أهل أيلة مجيدان محكمان. قال: و أين منزلك؟ فأومأ إلى الناحية التي كان الغناء منها. قال: فابعث إليهما، ففعل. فوجد الرسول أحدهما، فأدخله على سليمان؛ فقال: ما اسمك؟ قال: سمير، فسأله عن الغناء، فاعترف به. فقال: متى عهدك به؟ قال: الليلة الماضية. قال: و أين كنت؟ فأشار إلى الناحية التي سمع سليمان منها الغناء. قال: فما غنّيت به؟ فأخبره الشعر الذي سمعه سليمان. فأقبل على القوم فقال: هدر الجمل فضبعت(5) الناقة، و نبّ التّيس فشكرت الشاة، و هدر(6) الحمام فزافت(7) الحمامة، و غنّى

ص: 443


1- في م: «غريب عزب».
2- زيادة عن م.
3- في ء، ط: «عن أبيه محمد بن معن الغفاري» و هو تحريف؛ إذ أن أبا عبد الرحمن هذا هو عبد اللّه بن ذكوان المعروف بأبي الزناد.
4- كذا في م. و النادية: مؤنث النادي و هو مجلس القوم و متحدثهم. و في سائر النسخ: «بادية» بالباء الموحدة.
5- ضبعت الناقة: اشتهت الفحل. و نبّ التيس: صاح عند الهياج. و شكرت الشاة: امتلأ ضرعها، و يكنى بذلك عن حنينها.
6- في م: «هدل»، و الهديل: كالهدير، و قيل هو صوت الذكر خاصة.
7- زافت الحمامة: تبخترت في مشيتها بين يدي الذكر و أقبلت عليه ناشرة جناحيها و ذباباها.

الرجل فطربت المرأة، ثم أمر به فخصي. و سأل عن الغناء أين أصله؟ فقيل: بالمدينة في المخنّثين، و هم أئمّته و الحذّاق فيه. فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ، و كان عامله عليها، أن أخص(1) من قبلك من المخنّثين المغنّين - فزعم موسى بن جعفر بن/أبي كثير قال أخبرني بعض الكتّاب قال: قرأت كتاب سليمان في الديوان، فرأيت على الخاء نقطة كتمرة العجوة. قال: و من لا يعلم يقول: إنّه صحّف القارئ، و كانت أحص - قال: فتتبعهم ابن حزم فخصى منهم تسعة؛ فمنهم الدّلال، و طريف(2)، و حبيب نومة الضّحى. و قال بعضهم حين خصي: سلم الخاتن و المختون. و هذا كلام يقوله الصبيّ إذا ختن.

قال: فزعم ابن أبي ثابت الأعرج قال أخبرني حماد بن نشيط الحسنيّ قال: أقبلنا من مكة و معنا بدراقس(3)و هو الذي ختنهم، و كان غلامه قد أعانه على خصائهم، فنزلنا على حبيب نومة الضّحى، فاحتفل لنا و أكرمنا. فقال له ثابت(4): من أنت؟ قال: يا ابن أخي أ تجهلني و أنت وليت ختاني! أو قال: و أنت ختنتني. قال: وا سوأتاه! و أيّهم أنت؟ قال أنا حبيب. [قال ثابت:](5) فاجتنبت طعامه و خفت أن يسمني. قال: و جعلت لحية الدّلال بعد سنة أو سنتين تتناثر. و أمّا ابن الكلبيّ فإنه ذكر عن أبي مسكين و لقيط أن أيمن كتب بإحصاء من في المدينة من المخنّثين ليعرفهم، فيوفد عليه من يختاره للوفادة؛ فظنّ [الوالي](5) أنه يريد الخصاء، فخصاهم.

أخبرني وكيع قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني محمد بن سلاّم قال حدّثني ابن جعدبة، و نسخت أنا من كتاب أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدينيّ عن ابن جعدبة و اللفظ له:

أنّ الذي هاج سليمان بن عبد الملك على ما صنعه بمن كان بالمدينة من/المخنّثين، أنّه كان مستلقيا على فراشه في الليل، و جارية له إلى جنبه، و عليها غلالة و رداء/معصفران، و عليها وشاحان من ذهب، و في عنقها فصلان من لؤلؤ و زبرجد و ياقوت، و كان سليمان بها مشغوفا(6)، و في عسكره رجل يقال له سمير الأيليّ يغنّي، فلم يفكّر سليمان في غنائه شغلا بها و إقبالا عليها، و هي لاهية عنه لا تجيبه مصغية إلى الرجل، حتى طال ذلك عليه، فحوّل وجهه عنها مغضبا، ثم عاد إلى ما كان مشغولا عن فهمه بها، فسمع سميرا يغنّي بأحسن صوت و أطيب نغمة:

صوت

محجوبة سمعت صوتي فأرّقها *** من آخر اللّيل حتّى شفّها(7) السّهر

تدني على جيدها ثنتي(8) معصفرة *** و الحلي منها على لبّاتها خصر

ص: 444


1- ذكر الجاحظ في كتاب «الحيوان» (ج 1 ص 55 طبع مصر): أن الذي أمر بخصاء المخنثين هو هشام بن عبد الملك، و أن الذي تولى ذلك هو عثمان بن حيّان والي المدينة. ثم ساق بعد ذلك طرفا من القصة.
2- في ط، م: «طريفة».
3- كذا ورد هذا الاسم مضبوطا في ط.
4- لم يتقدّم لثابت هذا ذكر في الكلام. و لعله اسم آخر لبدراقس أو اسم غلامه الذي كان يعينه.
5- زيادة يقتضيها السياق.
6- في م: «مشعوفا» بالعين المهملة، و كلاهما بمعنى واحد.
7- في ط: «حتى ظلها السحر». و في «المحاسن و الأضداد» ص 293: «لما بلها السحر».
8- كذا في ء، ط، م. و في ح: «تثنى». و في سائر النسخ: «ثنتي» و كلاهما تصحيف.

في ليلة النصف ما يدري مضاجعها *** أوجهها عنده أبهى أم القمر

- و يروى:

أوجهها ما يرى أم وجهها القمر

لو خلّيت لمشت نحوي على قدم

تكاد من رقّة للمشي تنفطر

- الغناء لسمير الأيليّ رمل مطلق بالبنصر عن حبش. و أخبرني ذكاء وجه الرّزّة أنّه سمع فيه لحنا للدّلال من الثقيل الأوّل - فلم يشكك سليمان أنّ الذي بها مما سمعت، و أنّها تهوى سميرا؛ فوجّه من وقته من أحضره و حبسه، و دعا لها بسيف و نطع، و قال: و اللّه لتصدقنّي أو لأضربنّ عنقك! قالت: سلني عمّا تريد. قال: أخبرني عمّا بينك و بين هذا الرجل. قالت: و اللّه ما أعرفه و لا رأيته قطّ، و أنا جارية منشئي الحجاز، و من هناك حملت إليك، و و اللّه /ما أعرف بهذه البلاد أحدا سواك. فرقّ لها، و أحضر الرجل فسأله، و تلطّف له في المسألة، فلم يجد بينه و بينها سبيلا، و لم تطب نفسه بتخليته سويّا(1) فخصاه؛ و كتب في المخنّثين بمثل ذلك. هذه الرواية الصحيحة.

أسف ابن أبي عتيق لخصاء الدلال:

و قد أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي قال:

قيل للوليد بن عبد الملك: إنّ نساء قريش يدخل عليهنّ المخنّثون بالمدينة، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا يدخل عليكنّ هؤلاء». فكتب إلى ابن حزم الأنصاريّ أن اخصهم، فخصاهم. فمرّ ابن أبي عتيق فقال: أ خصيتم الدّلال! أما و اللّه لقد كان يحسن:

لمن ربع بذات الجي *** ش أمسى دارسا خلقا

تأبّد(2) بعد ساكنه *** فأصبح أهله فرقا

وقفت به أسائله *** و مرّت عيسهم حزقا(3)

ثم ذهب ثم رجع، فقال: إنما أعني خفيفه، لست أعني ثقيله.

أسف الماجشون لذلك:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الواقديّ عن ابن الماجشون:

أنّ خليفة صاحب الشّرطة لمّا خصي المخنّثون مرّ بأبيه(4) الماجشون و هو في حلقته؛ فصاح به: تعال، فجاءه؛ فقال: أ خصيتم الدّلال؟ قال نعم. قال: أما إنّه كان يجيد:

لمن ربع بذات الجي *** ش أمسى دارسا خلقا

ثم مضى غير بعيد فردّه، ثم قال: أستغفر اللّه! إنما أعني هزجه لا ثقيله.

ص: 445


1- سويا: كاملا.
2- تأبد: توحش.
3- حزقا: جماعات.
4- في الأصول: «مرّ بابن الماجشون» و هو تحريف؛ إذ الذي كان يعجبه الدلال و يستحسن غناءه و يدنيه و يقرّ به هو الماجشون لا ابنه. و ابن الماجشون هذا لم ير الدلال، و إنما تحدّث إليه عنه أبوه. (انظر ص 280 من هذا الجزء).
أضحك الناس في الصلاة:

أخبرني الحسين بن/يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني حمزة النّوفليّ قال:

صلّى الدّلال المخنّث إلى جانبي في المسجد، فضرط ضرطة هائلة سمعها من في المسجد، فرفعنا رءوسنا و هو ساجد، و هو يقول في سجوده رافعا بذلك صوته: سبّح لك أعلاي و أسفلي؛ فلم يبق في المسجد أحد إلاّ فتن و قطع صلاته بالضحك.

طرب شيخ في مجلس ابن جعفر للغناء و كان يكرهه:

أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه عن المدائنيّ عن أشياخه:

أنّ عبد اللّه بن جعفر قال لصديق له: لو غنّتك جاريتي فلانة:

لمن ربع بذات الجي *** ش أمسى دارسا خلقا

لما أدركت دكّانك(1). فقال: جعلت فداك، قد وجبت جنوبها (فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا الْبٰائِسَ الْفَقِيرَ) . فقال عبد اللّه: يا غلام، مر فلانة أن تخرج؛ فخرجت معها عودها. فقال عبد اللّه: إن هذا الشيخ يكره السماع. فقال:

ويحه! لو كره الطعام و الشراب كان أقرب له إلى الصواب! فقال الشيخ: فكيف ذاك و بهما الحياة؟ فقالت: إنّهما ربّما قتلا و هذا لا يقتل. فقال عبد اللّه غنّي:

لمن ربع بذات الجي *** ش أمسى دارسا خلقا

فغنّت؛ فجعل الشيخ يصفّق و يرقص و يقول:

هذا أوان الشّدّ فاشتدّي زيم

و يحرّك رأسه و يدور حتى وقع مغشيّا عليه، و عبد اللّه بن جعفر يضحك منه.

غنى الدلال الغمر بن يزيد فطرب:
اشارة

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان قال:

مرّ الغمر بن يزيد بن عبد الملك حاجّا، فغنّاه الدّلال:

/

بانت سعاد و أمسى حبلها انصرما *** و احتلّت الغمر(2) فالأجراع(3) من إضما(4)

ص: 446


1- الدكان: بناء يسطح أعلاه و يجلس عليه كالمصطبة في مصر. أي لأصابك من غنائها ما يعوقك عن أن تصل إلى المكان الذي تجلس فيه. و في ح، م: «ذكاتك».
2- تقدّم في الجزء الأوّل (ص 49 من هذه الطبعة): «الغور». و الغمر: الماء الكثير، أو بئر قديمة بمكة، أو موضع بينه و بينها يومان.
3- كذا في أكثر الأصول. و في ح، م: «فالأجزاع» بالزاي المعجمة. و الأجراع: جمع جرع و هو مفرد أو جمع جرعة و هي الرملة الطيبة المنبت لا وعوثة فيها.
4- اضم (بكسر ففتح): واد بجبل تهامة، و هو الوادي الذي فيه المدينة. و قد ورد هذا البيت في «ديوان» النابغة الذبياني هكذا: بانت سعاد و أمسى حبلها انجذما و احتلت الشرع فالأجزاع من إضما و شرع: قرية على شرقيّ ذرة فيها مزارع و نخيل على عيون، و واديها يقال له رخيم. و الأجزاع: جمع جزع بالكسر - و قال أبو عبيدة: اللائق به أن يكون مفتوحا -: منعطف الوادي. و في «تاج العروس» (أضم): و احتلت الشرع فالخبتين من إضما و الخبت: المتسع من بطون الأرض. (انظر «القاموس» و «شرحه» و ياقوت في هذه المواد).

فقال له الغمر: أحسنت و اللّه، و غلبت فيه ابن سريج! فقال له الدّلال: نعمة اللّه عليّ فيه أعظم من ذلك. قال:

و ما هي؟ قال: السّمعة، لا يسمعه أحد إلاّ علم أنه غناء مخنّث حقّا.

نسبة هذا الصوت:

صوت

بانت سعاد و أمسى حبلها انصرما *** و احتلّت الغمر فالأجراع من إضما

إحدى(1) بلي و ما هام الفؤاد بها *** إلاّ السّفاة و إلاّ ذكرة حلما

هلاّ سألت بني ذبيان ما حسبي *** إذا الدّخان تغشّى(2) الأشمط البرما

الشعر للنابغة الذّبيانيّ. و الغناء للدّلال خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشامي. و فيه خفيف ثقيل(3) بالبنصر لمعبد عن عمرو بن بانة. و فيه لابن سريج ثقيل أوّل/بالبنصر عن حبش. و فيه لنشيط ثاني ثقيل بالبنصر عنه. و ذكر الهشاميّ أنّ لحن معبد ثقيل أوّل، و ذكر حمّاد أنّه للغريض. و فيه لجميلة و دحمان لحنان، و يقال: إنهما جميعا من الثقيل الأوّل.

احتكم إليه شيعي و مرجئ:

أخبرني الحسين بن يحيى قال أخبرنا حمّاد بن إسحاق إجازة عن أبيه عن المدائنيّ قال:

اختصم شيعيّ و مرجئ(4)، فجعلا بينهما أوّل من يطلع، فطلع الدّلال. فقالا له: أبا زيد، أيّهما خير: الشّيعيّ أم المرجئ؟ فقال: لا أدري إلاّ أنّ أعلاي شيعيّ و أسفلي مرجئ!

هرب من المدينة إلى مكة:

قال إسحاق قال المدائنيّ و أخبرني أبو مسكين عن فليح بن سليمان قال:

كان الدّلال ملازما لأمّ سعيد الأسلميّة/و بنت ليحيى بن الحكم بن أبي العاصي، و كانتا من أمجن النّساء، كانتا تخرجان فتركبان الفرسين فتستبقان عليهما حتى تبدو خلا خيلهما. فقال معاوية لمروان بن الحكم: اكفني بنت أخيك؛ فقال: أفعل. فاستزارها، و أمر ببئر فحفرت في طريقها، و غطّيت بحصير، فلمّا مشت عليه سقطت في البئر فكانت قبرها. و طلب الدّلال فهرب إلى مكة. فقال له نساء أهل مكة: قتلت نساء أهل المدينة و جئت لتقتلنا! فقال:

و اللّه ما قتلهنّ(5) إلا الحكاك. فقلن: اعزب أخزاك اللّه، و لا أدنى بك [دارا(6)، و لا آذانا بك]! قال: فمن لكنّ

ص: 447


1- بليّ كغنيّ: قبيلة من قضاعة. و السفاه: الطيش و خفة الحلم. و الذكرة (بالكسر و الضم): نقيض النسيان.
2- تغشّى: تلبّس. و الأشمط: الذي خالطه الشيب. و خص الأشمط لأنه أجزع للبرد من الشاب فهو يتغشى النار قبله. و البرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر لبخله.
3- في م: «ثقيل أوّل بالبنصر».
4- المرجئة: جماعة كانوا يؤخرون العمل عن النية و العقد، و كانوا يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. و هم فرق أربع: مرجئة الخوارج، و مرجئة القدرية، و مرجئة الجبرية، و المرجئة الخالصة. (انظر «الملل و النحل» للشهرستاني ص 103 طبع أوروبا).
5- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «ما قتلهنّ أحد إلا الحكاك».
6- زيادة عن س، م.

/بعدي يدلّ على دائكنّ و يعلم موضع شفائكنّ؟ و اللّه ما زنيت قطّ و لا زني بي، و إنّي لأشتهي ما تشتهي نساؤكم و رجالكم.

كان الماجشون يقرّب الدلال و يستحسن غناءه:
اشارة

قال إسحاق و حدّثني الواقديّ عن ابن الماجشون قال:

كان أبي يعجبه الدّلال و يستحسن غناءه و يدنيه و يقرّبه، و لم أره أنا، فسمعت أبي يقول: غنّاني الدّلال يوما بشعر مجنون بني عامر، فلقد خفت الفتنة على نفسي. فقلت: يا أبت، و أيّ شعر تغنّى؟ قال قوله.

صوت

عسى اللّه أن يجري المودّة بيننا *** و يوصل حبلا منكم بحباليا

فكم من خليلي جفوة قد تقاطعا *** على الدّهر لمّا أن أطالا التّلاقيا

و إنّي لفي كرب و أنت خليّة *** لقد فارقت في الوصف حالك حاليا

عتبت فما أعتبتني بمودّة *** و رمت فما أسعفتني بسؤاليا

الغناء في هذا الشعر للغريض ثقيل أوّل بالوسطى، و لا أعرف فيه لحنا غيره. و ذكر حماد في أخبار الدّلال أنّه للدّلال، و لم يجنّسه.

غرر بمخة المخنث فغابت خثيم بن عراك صاحب الشرطة:

قال إسحاق و حدّثني الواقديّ عن عثمان بن إبراهيم الحاطبيّ قال:

قدم مخنّث من مكة يقال له مخّة، فجاء إلى الدّلال فقال: يا أبا زيد، دلّني على بعض مخنّثي أهل المدينة أكايده و أمازحه ثم أجاذبه. قال: قد وجدته لك - و كان خثيم(1) بن عراك بن مالك صاحب شرطة زياد بن عبيد اللّه(2)الحارثيّ جاره، و قد خرج في ذلك الوقت ليصلّي في المسجد - فأومأ إلى خثيم فقال: الحقة في المسجد؛ فإنّه /يقوم فيه فيصلّي ليرائي الناس، فإنّك ستظفر بما تريد منه. فدخل(3) المسجد و جلس إلى جنب ابن عراك، فقال:

عجّلي بصلاتك لا صلّى اللّه عليك! فقال خثيم: سبحان اللّه! فقال المخنّث: سبّحت في جامعة(4) قرّاصة، انصرفي حتّى أتحدّث معك. فانصرف خثيم من صلاته، و دعا بالشّرط و السّياط فقال: خذوه فأخذوه(5)، فضربه مائة و حبسه.

ص: 448


1- كذا في ح، و هو الموافق لما في «تهذيب التهذيب» «و طبقات ابن سعد» (ج 5 ص 187) «و تقريب التهذيب» «و شرح القاموس». و في ب، س: «خيثم». و ورد في ء، ط مضطربا غير واضح.
2- كذا في ء، ط، م و هو الموافق لما في الطبري (قسم 2 ص 1468 طبع أوروبا) او ابن الأثير (ج 5 ص 345 طبع أوروبا). و في سائر الأصول: «زياد بن عبد اللّه» و هو تحريف.
3- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «فجلس في المسجد و جلس إلخ». و لعلها «فجاس في المسجد».
4- الجامعة: الغل لأنها تجمع اليدين إلى العنق.
5- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «فأخذه».
أضحك الناس في الصلاة فتهدّده الوالى:

أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه قال:

صلّى الدّلال يوما خلف الإمام بمكة، فقرأ: (وَ مٰا لِيَ لاٰ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ؛ فقال الدّلال: لا أدري و اللّه! فضحك أكثر الناس و قطعوا الصلاة. فلمّا قضى الوالي صلاته دعا به و قال له: ويلك! أ لا تدع هذا المجون و السّفه! فقال له: قد كان عندي أنّك تعبد اللّه، فلمّا سمعتك تستفهم، طننت أنّك قد تشكّكت في ربّك فثبّتّك. فقال له: أنا شككت(1) في ربّي و أنت ثبّتني! اذهب لعنك اللّه! و لا تعاود(2) فأبالغ و اللّه في عقوبتك!

قصته مع رجل زوّجه امرأة لم يدخل بها:

قال إسحاق و حدّثني الواقديّ عن عثمان بن إبراهيم قال:

سأل رجل الدّلال أن يزوّجه امرأة فزوّجه. فلمّا أعطاها صداقها و جاء بها إليه فدخلت عليه، قام إليها فواقعها، فضرطت قبل أن يطأها، فكسل عنها الرجل و مقتها و أمر/بها فأخرجت؛ و بعث إلى الدّلال، فعرّفه ما جرى عليه. فقال له الدّلال: /فديتك! هذا كلّه من عزّة نفسها. قال: دعني منك؛ فإنّي قد أبغضتها، فاردد عليّ دراهمي، فردّ بعضها. فقال له: لم رددت بعضها و قد خرجت كما دخلت؟ قال: للرّوعة التي أدخلتها على استها.

فضحك و قال له: اذهب فأنت أقضى الناس و أفقههم.

مكر مع فتية من قريش و سيق إلى الأمير فأراد أن يحدّه ثم عفا عنه:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني محمد بن سلاّم عن أبيه قال، [و] أخبرني به الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن محمد بن سلاّم عن أبيه [قال]:

أنّ الدّلال خرج يوما مع فتية من قريش في نزهة لهم، و كان معهم غلام جميل الوجه، فأعجبه؛ و علم القوم بذلك، فقالوا: قد ظفرنا به بقية يومنا، و كان لا يصبر في مجلس حتّى ينقضي، و ينصرف عنه استثقالا لمحادثة الرجال و محبة في محادثة النساء. فغمزوا الغلام عليه؛ و فطن لذلك فغضب، و قام لينصرف؛ فأقسم الغلام عليه و القوم جميعا فجلس. و كان معهم شراب فشربوا، و سقوه و حملوا عليه لئلاّ يبرح، ثم سألوه أن يغنّيهم فغنّاهم:

صوت

زبيريّة بالعرج منها منازل *** و بالخيف من أدنى منازلها رسم(3)

أسائل عنها كلّ ركب لقيته *** و ما لي بها من بعد مكّتنا علم

أيا صاحب الخيمات من بطن أرثد(4) *** إلى النخل من ودّان ما فعلت نعم

ص: 449


1- كذا في ح. و في ء، ط: «أنا أشك في ربي و أنت تثبتني». و في سائر النسخ: «أنا أثبك في ربي و أنت ثبتني».
2- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «و لا تعاوده».
3- ورد في س، م بعد هذا البيت: «و رواه آخرون: و بالخيف من أعلى منازلها رسم».
4- كذا في ح و ياقوت. و أرثد: اسم واد بين مكة و المدينة في وادي الأبواء. و ودّان: قرية جامعة من نواحي الفرع، بينها و بين هرشى

فإن تك حرب بين قومي و قومها *** فإنّي لها في كلّ نائرة(1) سلم

/ - ذكر يحيى(2) المكّيّ و عمرو بن بانة أنّ الغناء في هذا الشعر لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى، و ذكر غيرهما أنه للدّلال. و فيه لمخارق رمل. و ذكر إسحاق هذا اللحن في طريقة الثقيل الثاني و لم ينسبه إلى أحد - قال: فاستطير القوم فرحا و سرورا و علا نعيرهم؛ فنذر(3) بهم السّلطان، و تعادت(4) الأشراط، فأحسّوا بالطّلب فهربوا؛ و بقي الغلام و الدّلال ما يطيقان براحا من السّكر؛ فأخذا فأتي بهما أمير المدينة. فقال للدّلال: يا فاسق! فقال له: من فمك إلى السماء. قال: جئوا(5) فكّه؛ قال: و عنقه أيضا. قال: يا عدوّ اللّه! أ ما وسعك بيتك حتّى خرجت بهذا الغلام إلى الصحراء تفسق به! فقال: لو علمت أنّك تغار علينا و تشتهي أن نفسق(6) سرّا ما خرجت من بيتي. قال:

جرّدوه و اضربوه حدّا. قال: و ما ينفعك من ذلك! و أنا و اللّه أضرب في كلّ يوم حدودا. قال: و من يتولّى ذلك منك؟ قال: أيور المسلمين. قال: ابطحوه على وجهه و اجلسوا على ظهره. قال: أحسب أنّ الأمير قد اشتهى أن يرى كيف أناك. قال: أقيموه لعنه اللّه و اشهروه في المدينة مع الغلام. فأخرجا يدار بهما في السّكك. فقيل له: ما هذا يا دلال؟ قال: اشتهى الأمير أن يجمع بين الرأسين، فجمع بيني و بين هذا الغلام و نادى علينا، و لو قيل له الآن: إنّك قوّاد غضب! فبلغ قوله الوالي فقال: خلّوا سبيلهما، لعنة اللّه عليهما!

شهادة معبد في غناء الدلال:

قال إسحاق في خبره خاصّة - و لم يذكره أبو أيّوب - فحدّثني أبي عن ابن جامع عن سياط قال:

/سمعت يونس يقول قال لي معبد: ما ذكرت غناء الدّلال في هذا الشعر:

زبيريّة بالعرج منها منازل

إلاّ جدّد لي سرورا، و لوددت أنّي كنت سبقته إليه لحسنه عندي. قال يونس: فقلت له: ما بلغ من حسنه /عندك؟ قال: يكفيك أني لم أسمع أحسن منه قطّ.

ما كان بينه مع بعض المخنثين و بين عبد الرحمن بن حسان:
اشارة

أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه عن الهيثم بن عديّ عن صالح بن حسّان قال:

كان بالمدينة عرس، فاتّفق فيه الدّلال و طويس و الوليد المخنّث، فدخل عبد الرحمن بن حسّان، فلمّا رآهم قال: ما كنت لأجلس في مجلس فيه هؤلاء. فقال له طويس: قد علمت يا عبد الرحمن نكايتي فيك و أنّ جرحي

ص: 450


1- النائرة: العداوة و الشحناء، مشتقة من النار.
2- كذا في ط، و قد تقدّم كذلك مرارا. و في سائر النسخ: «يحيى بن المكي» و هو تحريف و له ترجمة في الجزء السادس من «الأغاني» طبع بولاق.
3- نذر: علم.
4- تعادت: من العدو و هو سرعة الجري.
5- جثوا: اضربوا؛ يقال: وجأ عنقه يجؤه مثل وضع يضع.
6- في جميع الأصول: «تفسق» بالتاء.

إيّاك لم يندمل - يعني خبره معه بحضرة عبد اللّه بن جعفر، و ذكره لعمّته الفارعة - فاربح نفسك و أقبل على شأنك؛ فإنّه لا قيام لك بمن يفهمك فهمي. و قال له الدّلال: يا أخا الأنصار! إنّ أبا عبد النّعيم أعلم بك منّي، و سأعلمك بعض ما أعلم به. ثم اندفع و نقر بالدّفّ، و كلّهم ينقر بدفّه معه، فتغنّى:

صوت

أ تهجر يا إنسان من أنت عاشقه *** و من أنت مشتاق إليه و شائقه(1)

و ريم أحمّ المقلتين موشّح *** زرابيّه(2) مبثوثة و نمارقه

ترى الرّقم(3) و الدّيباج في بيته معا *** كما زيّن الروض الأنيق(4) حدائقه

/و سرب ظباء ترتعي جانب الحمى *** إلى الجوّ(5) فالخبتين بيض عقائقه(6)

و ما من حمى في الناس إلاّ لنا حمى *** و إلاّ لنا غربيّة و مشارقه

فاستضحك عبد الرحمن و قال: اللّهمّ غفرا، و جلس.

لحن الدّلال في هذه الأبيات هزج بالبنصر عن يحيى المكيّ و حمّاد.

استدعاه سليمان بن عبد الملك سرا فغناه فطرب و أعاده إلى الحجاز مكرما:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أبي عبد اللّه الجمحيّ عن محمد بن عثمان عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: سمعت عمّي عتبة يقول حدّثني مولى للوليد بن عبد الملك قال:

كان الدّلال ظريفا جميلا حسن البيان، من أحضر الناس جوابا و أحجّهم؛ و كان سليمان بن عبد الملك قد رقّ له حين خصي غلطا، فوجّه إليه مولى له و قال له: جئني به سرّا، و كانت تبلغه نوادره و طيبه، و حذّر رسوله أن يعلم بذلك أحد. فنفذ المولى إليه و أعلمه ما أمره به، و أمره بالكتمان و حذّره أن يقف على مقصده أحد، ففعل. و خرج به إلى الشام، فلمّا قدم أنزله المولى منزله المولى منزله و أعلم سليمان بمكانه؛ فدعا به ليلا فقال: ويلك ما خبرك؟ فقال: جببت من القبل مرّة أخرى يا أمير المؤمنين، فهل تربد أن تجبّني المرّة من الدّبر؟! فضحك و قال: اعزب أخزاك اللّه! ثم قال له: غنّ. فقال: لا أحسن إلاّ بالدّفّ. فأمر فأتي له بدفّ؛ فغنّى في شعر العرجيّ:

أ في رسم دار دمعك المتحدّر *** سفاها و ما استنطاق ما ليس يخبر

تغيّر ذاك الربع من بعد جدّة *** و كلّ جديد مرّة متغيّر

ص: 451


1- فيء، ط، ب: «و وامقه».
2- الزرابيّ: البسط. و قيل: كل ما بسط و اتكئ عليه. و النمارق: الوسائد.
3- الرقم: ضرب مخطط من الوشي أو الخز أو البرود.
4- في ح: «الروض الأثيث». و الأثيث: الكثير العظيم.
5- الجوّ و الخبتان: كلاهما موضع.
6- الأقرب أن يكون «بيض عقائقه» مرتبطا بالموضع الذي قبله، و أن يكون المراد بالعقائق: النهاء (جمع نهي بكسر أوّله و فتحه) الغدران في الأخاديد المنعقة (العميقة).

لأسماء إذ قلبي بأسماء مغرم *** و ما ذكر أسماء الجميلة مهجر

/و ممشى ثلاث بعد هدء(1) كواعب *** كمثل الدّمى بل هنّ من ذاك أنضر

فسلّمن تسليما خفيّا و سقّطت *** مصاعبة(2) ظلع من السير حسّر

لها أرج من زاهر البقل و الثّرى *** و برد إذا ما باشر الجلد يخصر(3)

فقالت لتربيها الغداة تبقّيا(4) *** بعين و لا تستبعدا حين أبصر

/و لا تظهرا برديكما و عليكما *** كساءان من خزّ بنقش(5) و أخضر

فعدّي فما هذا العتاب بنافع *** هواي و لا مرجي الهوى حين يقصر

فقال له سليمان: حقّ لك يا دلال أن يقال لك الدّلال! أحسنت و أجملت! فو اللّه ما أدري أيّ أمريك أعجب:

أ سرعة جوابك و جودة فهمك أم حسن غنائك، بل جميعا عجب! و أمر له بصلة سنيّة. فأقام عنده شهرا يشرب على غنائه، ثم سرّحه إلى الحجاز [مكرما](6).

قصته مع شامي من قوّاد هشام أراد أن يتزوّج من المدينة:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الأصمعيّ قال:

حجّ هشام بن عبد الملك، فلمّا قدم المدينة نزل رجل من أشراف أهل الشام و قوّادهم بجنب(7) دار الدّلال، فكان الشاميّ يسمع غناء الدّلال و يصغي إليه و يصعد فوق السطح ليقرب من الصوت؛ ثم بعث إلى الدّلال: إمّا أن تزورنا و إمّا/أن نزورك؛ فبعث إليه الدّلال: بل تزورنا. فتهيّأ الشاميّ(8) و مضى إليه، و كان للشاميّ غلمان روقة(9)، فمضى معه بغلامين منهم كأنّهما درّتان. فغنّاه الدّلال:

قد كنت آمل فيكم أملا *** و المرء ليس بمدرك أمله

حتّى بدا لي منكم خلف *** فزجرت قلبي عن هوى جهله(10)

ليس الفتى بمخلّد أبدا *** حقّا و ليس بفائت أجله

ص: 452


1- الهدء: الهزيع من الليل، و قيل: من أوّله إلى ثلثه و ذلك ابتداء سكونه.
2- مصاعبة: جمع مصعب و هو الفحل الذي تركته فلم تركبه و لم يمسه حبل حتى صار صعبا.
3- يخصر: يبرد.
4- كذا في م. و تبقيا بعين أي انتظرا بمرأى مني؛ يقال: بقاه و بقّاه و أبقاه و تبقّاه، كله بمعنى انتظره. في ء، ط: «فقالت لتربيها فديت تنقبا بعين...». و في سائر النسخ: «فقالت لتربيها الغداة تنقبا لعين...».
5- في ح، ء، ط: «بنفس».
6- زيادة عن ء، ط، م.
7- كذا في م. و في سائر النسخ: «تحت».
8- في م: «فبعث الشامي بما يصلح و مضى إلخ».
9- الروقة: الحسان؛ يقال: غلمان روقة و جارية روقة.
10- في ح، م: فزجرت قلبي فارعوى جهله

حيّ العمود و من بعقوته(1) *** وقفا العمود و إن جلا أهله(2)

قال: فاستحسن الشاميّ غناءه، و قال له: زدني؛ فقال: أ و ما يكفيك ما سمعت؟ قال: لا و اللّه ما يكفيني.

قال: فإنّ لي إليك حاجة. قال: و ما هي؟ قال: تبيعني أحد هذين الغلامين أو كليهما. قال: اختر أيّهما شئت؛ فاختار أحدهما. فقال الشاميّ: هو لك؛ فقبله الدّلال، ثم غنّاه:

دعتني دواع من أريّا فهيّجت *** هوى كان قدما من فؤاد طروب

لعلّ زمانا قد مضى أن يعود لي *** فتغفر أروى عند ذاك ذنوبي

سبتني أريّا يوم نعف محسّر(3) *** بوجه جميل للقلوب سلوب

فقال له الشاميّ: أحسنت! ثم قال له: أيها الرجل الجميل، إن لي إليك حاجة. قال: و ما هي؟ قال: أريد وصيفة ولدت في حجر صالح، و نشأت في خير، جميلة الوجه مجدولة، وضيئة، جعدة(4)، في بياض مشربة حمرة، حسنة القامة، سبطة(5)، أسيلة الخدّ، /عذبة اللسان، لها شكل و دلّ، تملأ العين و النفس. فقال له الدّلال:

قد أصبتها لك، فما لي عليك إن دللتك؟ قال: غلامي هذا. قال: إذا رأيتها و قبلتها(6) فالغلام لي؟ قال نعم. فأتى امرأة كنى عن اسمها، فقال لها: جعلت فداك! إنّه نزل بقربي رجل من أهل الشام من قوّاد هشام له ظرف و سخاء، و جاءني زائرا فأكرمته، و رأيت معه غلامين كأنّهما الشمس الطالعة و القمر المنير و الكواكب الزاهرة، ما وقعت عيني على مثلهما و لا ينطلق لساني بوصفهما، فوهب لي أحدهما و الآخر عنده؛ و إن لم يصل إليّ فنفسي خارجة. قالت:

فتريد ما ذا؟ قال: طلب منّي وصيفة يشتريها على صفة لا أعلمها في أحد إلاّ في فلانة بنتك، فهل لك أن تريها له؟ قالت: و كيف لك بأن يدفع الغلام إليك إذا رآها؟ قال: فإنّي قد شرطت عليه ذلك عند النظر لا عند البيع. قالت:

فشأنك و لا يعلم/أحد بذلك. فمضى الدلال فجاء الشاميّ معه. فلمّا صار إلى المرأة أدخلته، فإذا هو بحجلة(7)و فيها امرأة على سرير مشرف برزة جميلة، فوضع له كرسيّ فجلس. فقالت له: أ من العرب أنت؟ قال نعم. قالت:

من أيّهم؟ قال: من خزاعة. قالت: مرحبا بك و أهلا، أيّ شيء طلبت؟ فوصف الصفة؛ فقالت: أصبتها، و أصغت(8) إلى جارية لها فدخلت فمكثت هنيهة ثم خرجت؛ فنظرت إليها المرأة فقالت لها: أي حبيبتي، اخرجي؛ فخرجت وصيفة ما رأى الرّاءون مثلها. فقالت لها: أقبلي فأقبلت، ثم قالت لها: أدبري، فأدبرت تملأ العين و النفس؛ فما بقي منها شيء إلاّ وضع يده عليه. فقالت: أ تحبّ أن نؤزّرها لك؟ قال نعم. قالت: أي حبيبتي ائتزري، فضمّها الإزار و ظهرت محاسنها الخفيّة، و ضرب بيده على عجيزتها و صدرها. ثم قالت: أ تحبّ أن

ص: 453


1- العقوة: الساحة.
2- كذا في جميع الأصول. و فيه إقواء.
3- النعف: المرتفع من الأرض في اعتراض. و قيل: ما انحدر عن السفح و غلظ و كان فيه صعود و هبوط. (و محسر بالضم فالفتح و كسر السين المشدّدة): موضع بين مكة و عرفة، و قيل: بين منى و عرفة، و قيل: بين منى و المزدلفة.
4- الجعدة: التي في شعرها جعودة.
5- كذا في أكثر الأصول؛ يقال: غلام سبط الجسم أي حسن القدّ لطيفه. و في ء، ط: «شاطّة» أي حسنة القوام في اعتدال.
6- كذا في: ح. و في سائر الأصول: «قلبتها».
7- الحجلة: بيت يزين بالثياب و الأسرّة و الستور.
8- أي مالت إليها برأسها.

/نجرّدها لك؟ قال نعم. قالت: أي حبيبتي وضّحي؛ فألقت إزارها فإذا أحسن خلق اللّه كأنّها سبيكة. فقالت:

يا أخا أهل الشام كيف رأيت؟ قال: منية(1) المتمنّي. قال: بكم تقولين؟ قالت: ليس يوم النظر يوم البيع، و لكن تعود غدا حتى نبايعك و لا تنصرف إلاّ على الرّضا، فانصرف من عندها. فقال له الدّلال: أرضيت؟ قال: نعم، ما كنت أحسب أنّ مثل هذه في الدنيا؛ فإن الصفة لتقصر دونها. ثم دفع إليه الغلام الثاني. فلمّا كان من الغد قال له الشاميّ: امض بنا، فمضيا حتّى قرعا الباب؛ فأذن لهما، فدخلا و سلما، و رحّبت المرأة بهما، ثم قالت للشاميّ:

أعطنا ما تبذل؛ قال: ما لها عندي ثمن إلاّ و هي أكبر منه، فقولي يا أمة اللّه. قالت: بل قل؛ فإنّا لم نوطئك أعقابنا و نحن نريد خلافك و أنت لها رضا. قال: ثلاثة آلاف دينار. فقالت: و اللّه لقبلة من هذه خير من ثلاثة آلاف دينار.

قال: بأربعة آلاف دينار. قالت: غفر اللّه لك! أعطنا أيّها الرجل. قال: و اللّه ما معي غيرها - و لو كان لزدتك - إلاّ رقيق و دوابّ و خرثيّ(2) أحمله إليك. قالت: ما أراك إلاّ صادقا، أ تدري من هذه؟ قال: تخبريني. قالت: هذه ابنتي فلانة بنت فلان، و أنا فلانة بنت فلان، و قد كنت أردت أن أعرض عليك وصيفة عندي، فأحببت إذا رأيت غدا غلظ أهل الشام و جفاءهم، ذكرت ابنتي فعلمت أنّكم في غير شيء، قم راشدا. فقال للدّلال: خدعتني! قال: أو لا ترضى أن ترى ما رأيت من مثلها و تهب مائة غلام مثل غلامك؟ قال: أمّا هذا فنعم. و خرجا من عندها.

نسبة ما عرفت نسبته من الغناء المذكور في هذا الخبر
صوت

قد كنت آمل فيكم أملا *** و المرء ليس بمدرك أمله

حتّى بدا لي منكم خلف *** فزجرت قلبي عن هوى جهله

الشعر للمغيرة بن عمرو بن عثمان. و الغناء للدّلال، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالبنصر في مجراها؛ وجدته في بعض كتب إسحاق بخطّ يده هكذا. و ذكر عليّ بن يحيى المنجّم أنّ هذا اللحن في هذه الطريقة لابن سريج، و أنّ لحن الدّلال خفيف(3) ثقيل نشيد. و ذكر أحمد بن المكّيّ أنّ لحن الدّلال ثاني ثقيل بالوسطى، و لحن ابن سريج ثقيل أوّل. و فيه/لمتيّم و عريب خفيفا(4) ثقيل، المطلق المسجح منهما لعريب.

و منها:

صوت

دعتني دواع من أريّا فهيّجت *** هوى كان قدما من فؤاد طروب

سبتني أريّا يوم نعف محسّر *** بوجه صبيح للقلوب سلوب

لعلّ زمانا قد مضى أن يعود لي *** و تغفر أروى عند ذاك ذنوبي

ص: 454


1- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «منتهى المتمني».
2- الخرئي: متاع البيت و أثاثه، و هو أيضا أردأ المتاع.
3- في ح: «ثاني ثقيل».
4- في ح: «خفيف ثقيل».

الغناء للدّلال خفيف ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها من رواية حمّاد عن أبيه، و ذكر يحيى المكيّ أنه لابن سريج.

غنى نائلة بنت عمار الكلبي فأجازته:

أخبرني الحسين(1) بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أبي قبيصة قال:

/جاء الدّلال يوما إلى منزل نائلة بنت عمّار الكلبيّ، و كانت عند معاوية فطلّقها، فقرع الباب فلم يفتح له؛ فغنّى في شعر مجنون بني عامر و نقر(2) بدفّه:

خليليّ لا و اللّه ما أملك البكا *** إذا علم من أرض ليلى بدا ليا

خليليّ إن بانوا بليلى فهيّئا *** لي النّعش و الأكفان و استغفرا ليا

فخرج حشمها فزجروه و قالوا: تنحّ عن الباب. و سمعت الجلبة فقالت: ما هذه الضّجّة بالباب؟ فقالوا:

الدّلال. فقالت: ائذنوا له. فلمّا دخل عليها شقّ ثيابه و طرح التراب على رأسه و صاح بويله و حربه؛ فقالت له:

الويل ويلك! ما دهاك؟ و ما أمرك؟ قال: ضربني حشمك. قالت: و لم؟ قال: غنّيت صوتا أريد أن أسمعك إيّاه لأدخل إليك؛ فقالت: أفّ لهم و تفّ! نحن نبلغ لك ما تحبّ و نحسن تأديبهم. يا جارية هاتي ثيابا مقطوعة. فلمّا طرحت عليه جلس. فقالت: ما حاجتك؟ قال: لا أسألك حاجة حتّى أغنّيك. قالت: فذاك إليك؛ فاندفع يغنّي شعر جميل:

ارحميني فقد بليت فحسبي *** بعض ذا الدّاء يا بثينة حسبي

لامني فيك يا بثينة صحبي *** لا تلوموا قد أقرح الحبّ قلبي

زعم الناس أنّ دائي طبّي *** أنت و اللّه يا بثينة طبّي(3)

ثم جلس فقال: هل من طعام؟ قالت: عليّ بالمائدة؛ فأتي بها كأنها كانت مهيّأة عليها أنواع الأطعمة، فأكل، ثم قال: هل من شراب؟ قالت: أمّا نبيذ فلا، و لكن غيره. فأتي بأنواع الأشربة، فشرب من جميعها. ثم قال: هل من فاكهة؟ فأتي بأنواع الفواكه فتفكّه، ثم قال: حاجتي خمسة آلاف درهم، و خمس/حلل من حلل معاوية، و خمس حلل من حلل حبيب بن مسلمة، و خمس حلل من حلل النّعمان بن بشير. فقالت: و ما أردت بهذا؟ قال:

هو ذاك، و اللّه ما أرضى ببعض دون بعض، فإمّا الحاجة و إما الردّ. فدعت له بما سأل، فقبضه و قام. فلمّا توسّط الدار غنّى و نقر بدفّه:

ليت شعري أ جفوة أم دلال *** أم عدوّ أتى بثينة بعدي

فمريني أطعك في كلّ أمر *** أنت و اللّه أوجه الناس عندي

ص: 455


1- في ح، س، ب: «محمد بن الحسين عن حماد».
2- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «و نقر بدفه عليه».
3- كذا في س، م. و في سائر الأصول: أنت و اللّه يا حميتك طبي

و كانت نائلة عند معاوية، فقال لفاختة بنت قرظة(1): اذهبي فانظري إليها، فذهبت فنظرت إليها، فقالت له:

ما رأيت مثلها، و لكنّي رأيت تحت سرّتها خالا ليوضعنّ منه رأس زوجها/في حجرها. فطلّقها معاوية؛ فتزوّجها بعده رجلان: أحدهما حبيب بن مسلمة، و الآخر النّعمان بن بشير؛ فقتل أحدهما فوضع رأسه في حجرها.

نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
صوت

خليليّ لا و اللّه ما أملك البكا *** إذا علم من أرض ليلى بدا ليا

خليليّ إن بانوا بليلى فهيّئا *** لي النّعش و الأكفان و استغفرا ليا

أ مضروبة ليلى على أن أزورها *** و متّخذ ذنبا لها أن ترانيا

خليليّ لا و اللّه ما أملك الذي *** قضى اللّه في ليلى و لا ما قضى ليا

قضاها لغيري و ابتلاني بحبها *** فهلاّ بشيء غير ليلى ابتلانيا

الشعر للمجنون. و الغناء لابن محرز ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر الهشاميّ أنّ فيه لحنا لمعبد ثقيلا أوّل لا يشك فيه. قال: و قد قال/قوم: إنه منحول يحيى المكيّ. و فيه لإبراهيم خفيف ثقيل عن الهشاميّ أيضا. و فيه ليحيى المكيّ رمل من رواية ابنه أحمد. و فيه خفيف رمل عن أحمد بن عبيد لا يعرف صانعه.

و منها:

صوت

ليت شعري أ جفوة أم دلال *** أم عدوّ أتى بثينة بعدي

فمريني أطعك في كلّ أمر *** أنت و اللّه أوجه الناس عندي

الشعر لجميل. و الغناء لابن محرز خفيف ثقيل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لعلّويه خفيف ثقيل آخر. و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه خفيف ثقيل بالوسطى لمعبد. و ذكر إسحاق أن فيه رملا بالبنصر في مجراها و لم ينسبه إلى أحد، و ذكر الهشاميّ أنّه لمالك. و فيه لمتيّم خفيف رمل. و فيه لعريب ثقيل أوّل [بالبنصر](2). و ذكر حبش أنّ فيه للغريض ثقيلا أوّل بالبنصر. و لمعبد فيه ثقيل أوّل بالوسطى. و ذكر ابن المكيّ أنّ فيه خفيف ثقيل لمالك و علّويه.

غنى في زفاف ابنة عبد اللّه بن جعفر:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائنيّ عن عوانة بن الحكم قال:

ص: 456


1- كذا في أكثر الأصول، و هو الموافق لما في الطبري (قسم أول ص 2889 طبع أوروبا) و في حا: «فرضة» بالضاد المعجمة.
2- زيادة في ء، ط، م.

لمّا أراد عبد اللّه بن جعفر إهداء(1) بنته إلى الحجّاج، كان ابن أبي عتيق عنده، فجاءه الدّلال متعرّضا فاستأذن.

فقال له ابن جعفر: لقد جئتنا يا دلال في وقت حاجتنا إليك. قال: ذلك قصدت. فقال له ابن أبي عتيق: غنّنا؛ فقال ابن جعفر: ليس وقت ذلك، نحن في شغل عن هذا. فقال ابن أبي عتيق: و ربّ/الكعبة ليغنّينّ. فقال له ابن جعفر: هات. فغنّى و نقر بالدّفّ - و الهوادج و الرّواحل قد هيّئت، و صيّرت بنت ابن جعفر فيها مع جواريها و المشيّعين لها -:

يا صاح لو كنت عالما خبرا *** بما يلاقي المحبّ لم تلمه(2)

لا ذنب لي في مقرّط(3) حسن *** أعجبني دلّه و مبتسمه

شيمته البخل و البعاد لنا *** يا حبّذا هو و حبّذا شيمه

مضمّخ بالعبير عارضه *** طوبى لمن شمّه و من لثمه(4)

/ - قال: و لابن محرز في هذا الشعر لحن أجود من لحن الدّلال - فطرب ابن جعفر و ابن أبي عتيق. و قال له ابن جعفر: زدني و طرب. فأعاد اللحن ثلاثا ثم غنّى:

بكر العواذل في الصّبا *** ح يلمنني و ألومهنّه

و يقلن شيب قد علا *** ك و قد كبرت فقلت إنّه

و مضت بنت ابن جعفر، فاتّبعها يغنّيها بهذا الشعر - و لعبد آل الهذليّ فيه لحن و هو أحسنها -:

إنّ الخليط أجدّ فاحتملا *** و أراد غيظك بالذي فعلا

فوقفت انظر بعض شأنهم *** و النّفس مما تأمل الأملا

و إذا البغال تشدّ صافنة(5) *** و إذا الحداة قد أزمعوا الرّحلا

فهناك كاد الشّوق يقتلني *** لو أنّ شوقا قبله قتلا

/فدمعت عينا عبد اللّه بن جعفر، و قال للدّلال: حسبك! فقد أوجعت قلبي! و قال لهم: امضوا في حفظ اللّه على خير طائر و أيمن نقيبة.

ص: 457


1- الإهداء: الزفاف.
2- لم تلمه، أصل ميمه الإسكان فنقلت إليه ضمة الهاء؛ كقوله: عجبت و الدهر كثير عجبه من عنزيّ سبني لم أضربه نقل ضمة الهاء إلى الباء.
3- كذا في ء، ط. و المقرط: المتحلى بالقرط. و في سائر الأصول: «مقرطق». و المقرطق: لابس القرطق، و هو قباء ذو طاق واحد.
4- لثمه، أصل ميمه الفتح، فنقلت إليه ضمة الهاء بعده على لغة لخم؛ لأنهم يجيزون في الوقف نقل حركة الحرف الأخير إلى المتحرك قبله؛ كقوله: «من يأتمر بالخير فيما قصده».
5- تشدّ: تهيأ عليها الرحال. و الصافن من الخيل و نحوه: القائم على ثلاث قوائم و قد أقام الرابعة على طرف الحافر.
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت

بكر العواذل في الصّبا *** ح يلمنني و ألومهنّه

و يقلن شيب قد علا *** ك و قد كبرت فقلت إنّه

لا بدّ من شيب فدع *** ن و لا تطلن ملامكنّه

يمشين كالبقر الثّقا *** ل عمدن نحو مراحهنّه(1)

يحفين في الممشى القري *** ب إذا يردن صديقهنّه

الشعر لابن قيس الرقيّات. و الغناء لابن مسجح خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه ثقيل أوّل للغريض عن الهشاميّ. و فيه خفيف ثقيل آخر بالوسطى ليعقوب بن هبّار عن الهشاميّ و دنانير، و ذكر حبش أنّه ليعقوب.

و منها:

صوت

إنّ الخليط أجدّ فاحتملا *** و أراد غيظك بالذي فعلا

الأبيات الأربعة.

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء للغريض ثقيل أوّل بالسبّابة عن يحيى المكّي. و فيه ليحيى أيضا ثقيل أوّل بالوسطى من رواية أحمد ابنه، و ذكر حبش أنّ هذا اللحن لبسباسة بنت معبد.

سأله ابن أبي ربيعة الغناء في شعر له فغناه فأجازه:

أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه عن عثمان بن حفص الثّقفيّ قال:

كان للدّلال صوت يغنّي به و يجيده، و كان عمر بن أبي ربيعة سأله الغناء فيه و أعطاه مائة دينار ففعل، و هو قول عمر:

صوت

أ لم تسأل الأطلال و المتربّعا *** ببطن حليّات دوارس بلقعا(2)

إلى السّرح من وادي المغمّس بدّلت *** معالمه و بلا و نكباء زعزعا

و قرّبن أسباب الهوى لمتيّم *** يقيس ذراعا كلّما قسن إصبعا

/فقلت لمطريهنّ في الحسن إنّما *** ضررت فهل تسطيع نفعا فتنفعا

ص: 458


1- المراح (بالضم): مأوى الإبل و البقر و الغنم.
2- تقدّم هذا الشعر و التعليق عليه في صفحتي 131، 176 من الجزء الأوّل من هذه الطبعة.

الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء للغريض فيه لحنان: أحدهما في الأوّل و الثاني من الأبيات ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو، و الآخر في الثالث و الرابع ثاني ثقيل بالبنصر. و في هذين البيتين الآخرين لابن سريج ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و في الأوّل و الثاني للهذليّ خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و فيهما لابن جامع رمل بالوسطى عنه أيضا. و قال يونس: لمالك فيه لحنان، و لمعبد لحن واحد.

روى هشام بن المرّية عن جرير صوتين له:

أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني هشام بن المرّيّة قال:

كنّا نعرف للدّلال صوتين عجيبين، و كان جرير يغنّي بهما فأعجب من حسنهما. فأخذتهما عنه و أنا أغنّي بهما.

فأمّا أحدهما فإنّه يفرح القلب. و الآخر يرقص كلّ من سمعه. فأمّا الذي يفرح القلب فلابن سريج فيه أيضا لحن حسن و هو:

/

و لقد جرى لك يوم سرحة(1) مالك *** مما تعيّف سانح و بريح

أحوى القوادم بالبياض ملمّع *** قلق المواقع بالفراق يصيح

الحبّ أبغضه إليّ أقلّه *** صرّح بذاك فراحتي التّصريح

بانت عويمة(2) فالفؤاد قريح *** و دموع عينك في الرّداء سفوح

و الآخر:

كلّما أبصرت وجها *** حسنا قلت خليلي

فإذا ما لم يكنه *** صحت ويلي و عويلي

فصلي حبل محبّ *** لكم جدّ وصول

و انظري لا تخذليه *** إنّه غير خذول

نسبة هذين الصوتين

للدّلال في الشعر الأوّل الذي أوّله:

و لقد جرى لك يوم سرحة مالك

خفيف ثقيل بالوسطى. و فيه لابن سريج ثقيل أوّل عن الهشاميّ. و قال حبش: إنّ للدّلال فيه لحنين: خفيف ثقيل أوّل(3) و خفيف رمل. و أوّل خفيف الرّمل:

بانت عويمة فالفؤاد قريح

و ذكر أنّ لحن ابن سريج ثاني ثقيل، و أنّ لابن مسجح فيه أيضا خفيف ثقيل.

ص: 459


1- في ء، ط، م: «سرحة رائع».
2- في ء، ط: «عوينة».
3- كلمة «أوّل» ساقطة في ط، ء.

و الصوت الثاني الذي أوّله:

كلّما أبصرت وجها *** حسنا قلت خليلي

/الغناء فيه لعطرّد خفيف ثقيل بالوسطى عن حبش، و يقال إنّه للدّلال. و فيه ليونس خفيف رمل. و فيه لإبراهيم الموصليّ خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو.

شرب النبيذ و كان لا يشربه فسكر حتى خلع ثيابه:

أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن مصعب بن عبد اللّه الزّبيريّ قال:

كان الدّلال لا يشرب النبيذ، فخرج مع قوم إلى متنزّه لهم و معهم نبيذ، فشربوا و لم يشرب منه، و سقوه عسلا مجدوحا(1)، و كان كلّما تغافل صيّروا في شرابه النبيذ فلا ينكره، و كثر ذلك حتّى سكر و طرب، و قال: اسقوني من شرابكم، فسقوه حتى ثمل، و غنّاهم في شعر الأحوص:

طاف الخيال و طاف الهمّ فاعتكرا *** عند الفراش فبات الهمّ محتضرا(2)

أراقب النّجم كالحيران مرتقبا *** و قلّص النوم عن عينيّ فانشمرا

/من لوعة أورثت قرحا على كبدي *** يوما فأصبح منها القلب منفطرا

و من يبت مضمرا همّا كما ضمنت *** منّي الضّلوع يبت مستبطنا غيرا

فاستحسنه القوم و طربوا و شربوا. ثم غنّاهم:

طربت و هاجك من تدّكر *** و من لست من حبّه تعتذر

فإن نلت منها الذي أرتجي *** فذاك لعمري الذي أنتظر

و إلاّ صبرت فلا مفحشا *** عليها بسوء و لا مبتهر(3)

- لحن الدلال في هذا الشعر خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن حبش. قال: و ذكر قوم أنّه للغريض -.

/قال: و سكر حتّى خلع ثيابه و نام عريانا، فغطّاه القوم بثيابهم و حملوه إلى منزله ليلا فنوّموه و انصرفوا عنه.

فأصبح و قد تقيّأ و لوّث ثيابه بقيئه، فأنكر نفسه، و حلف ألاّ يغنّي أبدا و لا يعاشر من يشرب النبيذ؛ فوفى بذلك إلى أن مات. و كان يجالس المشيخة و الأشراف فيفيض معهم في أخبار الناس و أيّامهم حتى قضى نحبه.

[انقضت(4) أخبار الدلال].

ص: 460


1- المجدوح: المخلوط.
2- في ء، ط: طاف الخيال و طال الليل فاعتكرا عند الفراش فآب الهم محتضرا و اعتكر الليل: اشتدّ سواده. و اعتكر أيضا: اختلط. و محتضرا: حاضرا؛ يقال: حضر الهمّ و احتضر.
3- الابتهار: قول الكذب و الحلف عليه. و في جميع الأصول: «منتهر» بالنون.
4- زيادة عن م.
و مما في شعر الأحوص من المائة المختارة
صوت من المائة المختارة

يا دين(1) قلبك منها لست ذاكرها *** إلا ترقرق ماء العين أو دمعا

أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني *** حتّى إذا قلت هذا صادق نزعا

لا أستطيع نزوعا عن محبّتها *** أو يصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا

كم من دنيّ(2) لها قد صرت أتبعه *** و لو سلا القلب عنها صار لي تبعا

و زادني كلفا في الحبّ أن منعت(3) *** و حبّ شيء إلى الإنسان ما منعا(4)

/الشعر للأحوص. و الغناء ليحيى بن واصل المكيّ، و هو رجل قليل الصّنعة غير مشهور، و لا وجدت له خبرا فأذكره. و لحنه المختار ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها عن إسحاق. و ذكر يونس أنّ فيه لحنا لمعبد و لم يجنّسه.

محبوبة الأحوص في كبرها:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا مطرّف بن عبد اللّه المدنيّ(5) [قال] حدّثني أبي عن جدّي قال:

بينا أطوف بالبيت و معي أبي، إذا بعجوز كبيرة يضرب أحد لحييها الآخر. فقال لي أبي: أ تعرف هذه؟ قلت:

لا، و من هي؟ قال: هذه التي يقول فيها الأحوص:

يا سلّم ليت لسانا تنطقين به *** قبل الذي نالني من حبّكم قطعا

يلومني فيك أقوام أجالسهم *** فما أبالي أطار اللوم أم وقعا

ص: 461


1- المراد بالدين هنا الداء؛ قال الشاعر: يا دين قلبك من سلمى و قد دينا قال المفضل: معناه يا داء قلبك القديم. و قال اللحياني: المعنى يا عادة قلبك. (انظر «اللسان» «و شرح القاموس» مادة دين).
2- الدنى (بالهمز و بتشديد الياء بدون همز): الخسيس الحقير.
3- يحتمل أن يكون «منعت» مبنيا للفاعل أو للمفعول.
4- أورد النحويون هذا البيت شاهدا على أن «حب» أفعل تفضيل حذفت همزته مثل خير و شر، إلا أن الحذف فيهما هو الكثير و الحذف في أحب قليل. و في «اللسان» (مادة حبب): «و أنشد الفراء: و زاده كلفا في الحب أن منعت و حب شيئا إلى الإنسان ما منعا قال: و موضع «ما» رفع، أراد حبب فأدغم».
5- في جميع الأصول: «الهذلي» و هو تحريف (انظر الحاشية رقم 2 صفحة 29 من الجزء الأوّل من هذه الطبعة).

أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني *** حتّى إذا قلت هذا صادق نزعا

قال: فقلت له: يا أبت، ما أرى أنّه كان في هذه خير قطّ. فضحك ثم قال: يا بنيّ هكذا يصنع الدهر بأهله.

حدّثنا به وكيع قال حدّثنا ابن أبي سعد قال حدّثنا إبراهيم بن المنذر قال حدّثنا أبو خويلد(1) مطرّف بن عبد اللّه المدنيّ(2) عن أبيه، و لم يقل عن جدّه، و ذكر الخبر مثل الذي قبله.

صوت من المائة المختارة

كالبيض بالأدحيّ يلمع في الضّحى *** فالحسن حسن و النّعيم نعيم

حلّين من(3) درّ البحور كأنّه *** فوق النّحور إذا يلوح نجوم

الأدحيّ: المواضع التي يبيض فيها النّعام، واحدتها أدحيّة(4). و ذكر أبو عمرو(5) الشّيبانيّ أنّ الأدحيّ البيض نفسه. و يقال فيه أدحيّ و أداح(6) أيضا.

الشعر لطريح بن إسماعيل الثّقفيّ. و الغناء لأبي سعيد مولى فائد، و لحنه المختار من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه للهذليّ خفيف ثقيل من رواية الهشاميّ. و قد سمعنا من يغنّي فيه لحنا من خفيف الرّمل، و لست أعرف لمن هو.

ص: 462


1- كذا في أكثر النسخ. و في م: حدّثنا أبو خويلد عن مطرف... إلخ) و ليس في ترجمة مطرف بن عبد اللّه أنه يكنى أبا خويلد بل كنيته أبو مصعب. و ليس هناك من الرواة من يسمى أبا خويلد يروي عنه إبراهيم بن المنذر و يروى هو عن مطرف، حتى نرجح ما في م.
2- في جميع الأصول: «الهذلي» و هو تحريف (انظر الحاشية رقم 2 صفحة 29 من الجزء الأول من هذه الطبعة).
3- فيء، ط: «حلين مرجان البحور».
4- ظاهر كلام المؤلف في تفسير الأدحيّ أنه جمع. و الذي في «لسان العرب» «و القاموس و شرحه»: أن الأدحيّ. و الأدحية (بضم الهمزة فيهما و كسرها) و الأدحوّة: مبيض النعام في الرمل، و جمع الكلّ: الأداحيّ و مثلها مدحي (وزان مسعى).
5- في ب، س: «أبو عمر» و هو تحريف.
6- لعله على حذف الياء من «أفاعيل» و إلا فحقه «أداحيّ».

48 - ذكر طريح و أخباره و نسبه

نسبه:

هو - فيما أخبرني به محمد بن الحسن بن دريد عن عمّه عن ابن الكلبيّ في كتاب النسب إجازة، و أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبي أيّوب المدينيّ عن ابن عائشة و محمد بن سلاّم و مصعب الزّبيريّ، قال: - طريح بن إسماعيل بن عبيد بن أسيد بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزّى بن عنزة بن عوف بن قسيّ - و هو ثقيف - بن منبّه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر.

ثقيف و الخلاف في نسبه:

قال ابن الكلبيّ: و من النسّابين من يذكر أنّ ثقيفا هو قسيّ بن منبّه بن النّبيت بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعميّ بن إياد بن نزار. و يقال: إنّ ثقيفا كان عبدا لأبي رغال، و كان أصله من قوم نجوا من ثمود، فانتمى بعد ذلك إلى قيس. و روي عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه و كرّم وجهه: أنّه مرّ بثقيف، فتغامزوا به؛ فرجع إليهم فقال لهم: يا عبيد أبي رغال، إنما كان أبوكم عبدا له فهرب منه، فثقفه(1) بعد ذلك، ثم انتمى إلى قيس.

و قال الحجّاج في خطبة خطبها بالكوفة: بلغني أنّكم تقولون إنّ ثقيفا من بقيّة ثمود، ويلكم! و هل نجا(2) من ثمود إلاّ خيارهم و من آمن بصالح فبقي معه عليه السّلام! ثم قال: قال اللّه تعالى: (وَ ثَمُودَ فَمٰا أَبْقىٰ) . فبلغ ذلك الحسن البصريّ: فتضاحك ثم قال: حكم لكع لنفسه، إنما قال عزّ و جلّ: (فَمٰا أَبْقىٰ) أي لم يبقهم بل أهلكهم.

فرفع ذلك إلى الحجّاج فطلبه، فتوارى عنه حتى هلك الحجّاج. و هذا كان سبب تواريه منه. ذكر ابن الكلبيّ أنّه بلغه عن الحسن.

/و كان حمّاد الراوية يذكر أنّ أبا رغال أبو ثقيف كلّها، و أنّه من بقيّة ثمود، و أنّه كان ملكا بالطائف، فكان يظلم رعيّته. فمرّ بامرأة ترضع صبيّا يتيما بلبن عنز لها، فأخذها منها، و كانت سنة مجدبة؛ فبقي الصبيّ بلا مرضعة(3) فمات، فرماه اللّه بقارعة فأهلكه، فرجمت العرب قبره، و هو بين مكة و الطائف. و قيل: بل كان قائد الفيل و دليل الحبشة لمّا غزوا الكعبة، فهلك فيمن هلك منهم، فدفن بين مكة و الطائف؛ فمرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بقبره، فأمر برجمه فرجم؛ فكان ذلك سنّة.

ص: 463


1- نقفه: أدركه و ظفر به.
2- في ء، ط: «و هل بقي».
3- المرضع: المرأة لها ولد ترضعه، و لا تلحقها التاء اكتفاء بتأنيثها في المعنى؛ لأنها خاصة بالإناث كما في طالق. فإذا ألقمت الصبيّ ثديها فهي مرضعة (بالهاء). قال أبو زيد في قوله تعالى: (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّٰا أَرْضَعَتْ) هي التي ترضع و ثديها في في ولدها.

قال ابن الكلبيّ و أخبرني أبي عن أبي صالح(1) عن ابن عبّاس قال:

كان ثقيف و النّخع من إياد؛ فثقيف قسيّ بن منبّه بن النّبيت بن/يقدم بن أقصى بن دعميّ بن إياد. و النّخع(2)ابن عمرو بن الطمنان بن عبد مناة بن يقدم بن أقصى، فخرجا و معهما عنز لهما لبون يشربان لبنها، فعرض لهما مصدّق(3) لملك اليمن فأراد أخذها؛ فقالا له: إنّما نعيش بدرّها؛ فأبى أن يدعها؛ فرماه أحدهما فقتله. ثم قال لصاحبه: إنّه لا يحملني و إيّاك أرض فأمّا النّخع فمضى إلى بيشة(4) فأقام بها/و نزل القسيّ موضعا قريبا من الطائف؛ فرأى جارية ترعى غنما لعامر بن الظّرب العدوانيّ، فطمع فيها، و قال: أقتل الجارية ثم أحوي الغنم.

فأنكرت الجارية منظره، فقالت له: إني أراك تريد قتلي و أخذ الغنم، و هذا شيء إن فعلته قتلت و أخذت الغنم منك، و أظنّك غريبا جائعا؛ فدلّته على مولاها. فأتاه و استجار به فزوّجه بنته، و أقام بالطائف. فقيل: للّه درّه ما أثقفه حين ثقف عامرا فأجاره. و كان قد مرّ بيهوديّة بوادي(5) القرى حين قتل المصدّق، فأعطته قضبان كرم فغرسها بالطائف فأطعمته و نفعته.

قال ابن الكلبيّ في خبر طويل ذكره: كان قسيّ مقيما باليمن، فضاق عليه موضعه و نبا به، فأتى الطائف - و هو يومئذ منازل فهم و عدوان ابني عمرو بن قيس بن عيلان - فانتهى إلى الظّرب العدوانيّ، و هو أبو عامر بن الظّرب، فوجده نائما تحت شجرة، فأيقظه و قال: من أنت؟ قال: أنا الظّرب. قال: عليّ أليّة إن لم أقتلك أو تحالفني(6)و تزوّجني ابنتك، ففعل. و انصرف الظّرب و قسيّ معه، فلقيه ابنه عامر بن الظّرب فقال: من هذا معك يا أبت؟ فقصّ قصّته. قال عامر: للّه أبوه! لقد ثقف أمره؛ فسمّي يومئذ ثقيفا. قال: و عيّر الظّرب تزويجه(7) قسيّا، و قيل: زوّجت عبدا. فسار إلى الكهّان يسألهم، فانتهى إلى شقّ/ابن صعب(8) البجليّ و كان أقربهم منه. فلمّا انتهى إليه قال: إنّا قد جئناك في أمر فما هو؟ قال: جئتم في قسيّ، و قسيّ عبد إياد، أبق ليلة الواد(9)، في وجّ(10) ذات الأنداد، فوالى سعدا ليفاد(11)، ثم لوى بغير معاد. (يعني سعد بن قيس بن عيلان بن مضر). قال: ثم توجّه إلى سطيح الذّئبيّ (حيّ

ص: 464


1- هو أبو صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب و يقال له باذان أو باذام، و هو الذي يروي عنه ابن الكلبي و يروي هو عن ابن عباس. (راجع «تهذيب التهذيب»).
2- في «صبح الأعشى» (ج 1 ص 327) «و أنساب السمعاني» في الكلام على النخع: «النخع و اسمه جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج». و في كتاب «الاشتقاق» لابن دريد: «فمن بني علة النخع قبيلة و أخوه جسر». و في كتاب «المعارف» لابن قتيبة: «فولد علة عمرا، فولد عمرو جسرا و كعبا. فأما جسر فهو أبو النخع بن جسر بن عمرو».
3- المصدق: عامل الزكاة الذي يأخذها من أربابها.
4- بيشة: قرية باليمن.
5- وادي القرى: واد بين المدينة و الشام كثير القرى، فتحه النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عنوة سنة سبع من الهجرة، ثم صالح أهله على الجزية.
6- كذا في م. و في ء، ط: «أ و تحالفني لتزوّجني». و في سائر النسخ: «أ و تحلف لي لتزوّجني».
7- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «بتزويجه». قال في «المصباح»: «و عيرته كذا و عيرته به: قبحته عليه و نسبته إليه، يتعدّى بنفسه و بالباء؛ قال المرزوقي في «شرح الحماسة»: «و المختار أن يتعدّى بنفسه؛ قال الشاعر: أ عيّرتنا ألبانها و لحومها و ذلك عار يا بن ريطة ظاهر»
8- كذا في ء، ط، و هو الموافق لما في الطبري (قسم 1 ص 911-914). و في سائر الأصول: «مصعب» و هو تحريف.
9- في جميع الأصول: «الوادي» و الوادي يكون في الوقف بالياء و بدونها؛ و قد حذفنا هاهنا للسجع؛ لأن السجع وقف. على أنه قد يكتفي في «الوادي» بالكسرة عن الياء. (راجع الحاشية رقم 7 ص 215 من هذا الجزء).
10- وجّ: اسم واد بالطائف.
11- ليفاد: ليطلق. و أصله ليفادي من المفاداة، حذف منه الحرف الأخير لالتزام السجع.

من غسّان، و يقال: إنّهم حيّ من قضاعة نزول في غسّان)، فقال: إنّا جئناك في أمر فما هو؟ قال: جئتم في قسيّ، و قسيّ من ولد ثمود القديم، ولدته أمّه بصحراء بريم(1)، فالتقطه إياد و هو عديم، فاستعبده و هو مليم(2). فرجع الظّرب و هو لا يدري ما يصنع في أمره، و قد وكّد عليه في الحلف و التزويج؛ و كانوا على كفرهم يوفون بالقول.

فلهذا يقول من قال: إنّ ثقيفا من ثمود؛ لأن إيادا من ثمود.

قال: و قد قيل: إنّ حربا كانت بين إياد و بين قيس، و كان رئيسهم عامر بن الظّرب، فظفرت بهم قيس، فنفتهم إلى ثمود و أنكروا أن يكونوا من نزار.

قال: و قال عامر بن الظّرب في ذلك:

قالت إياد قد رأينا نسبا *** في ابني نزار و رأينا غلبا

سيري إياد قد رأينا عجبا *** لا أصلكم منّا فسامي الطّلبا

دار ثمود إذ رأيت السّببا

/قال: و قد روي عن الأعمش أنّ عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه قال(3) على المنبر بالكوفة و ذكر ثقيفا: لقد هممت أن أضع على ثقيف الجزية؛ لأنّ ثقيفا كان عبدا لصالح/نبيّ اللّه عليه السّلام، و إنّه سرّحه إلى عامل له على الصدقة، فبعث العامل معه بها، فهرب و استوطن الحرم، و إنّ أولى الناس بصالح محمد صلّى اللّه عليهما و سلّم، و إنّي أشهدكم أنّي قد رددتهم إلى الرّقّ.

قال: و بلغنا أنّ ابن عبّاس قال، و ذكر عنده ثقيف، فقال: هو قسيّ بن منبّه، و كان عبدا لامرأة صالح نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و هي الهيجمانة بنت سعد، فوهبته لصالح، و إنّه سرّحه إلى عامل له على الصّدقة؛ ثم ذكر باقي خبره مثل ما قال عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه. و قال فيه: إنّه مرّ برجل معه غنم و معه ابن له صغير ماتت أمّه فهو يرضع من شاة ليست في الغنم لبون غيرها، فأخذ الشاة؛ فناشده اللّه، و أعطاه عشرا فأبى، فأعطاه جميع الغنم فأبى.

فلمّا رأى ذلك تنحّى، ثم نثل(4) كنانته فرماه ففلق قلبه؛ فقيل له: قتلت رسول رسول اللّه صالح. فأتى صالحا فقصّ عليه قصّته؛ فقال: أبعده اللّه! فقد كنت أنتظر هذا منه؛ فرجم قبره، فإلى(5) اليوم و الليلة يرجم، و هو أبو رغال.

قال: و بلغنا عن عبد اللّه بن عبّاس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين انصرف من الطائف مر بقبر أبي رغال فقال: «هذا قبر أبي رغال و هو أبو ثقيف كان في الحرم فمنعه اللّه عزّ و جلّ، فلمّا خرج منه رماه اللّه و فيه عمود من ذهب»؛ فابتدره المسلمون فأخرجوه.

/قال: و روى عمرو بن عبيد عن الحسن أنّه سئل عن جرهم: هل بقي منهم أحد؟ قال: ما أدري، غير أنّه لم يبق من ثمود إلاّ ثقيف في قيس عيلان، و بنو لجا في طيّئ، و الطّفاوة في بني أعصر.

ص: 465


1- كذا في م، ح. و يريم: موضع بنجد و واد بالحجاز قرب مكة. و في سائر الأصول: «تريم» بالتاء المثناة من فوق. و تريم: إحدى مدينتي حضرموت و المدينة الأخرى شبام.
2- ألام الرجل: فعل ما يلام عليه.
3- في ح: «قام».
4- نثل الكنانة: استخرج ما فيها من النبل.
5- كذا في م. و في سائر النسخ: «فرجم قبره إلى اليوم و الليلة و هو أبو رغال».

قال عمرو بن عبيد و قال الحسن: ذكرت القبائل عند النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال: «قبائل تنتمي إلى العرب و ليسوا من العرب حمير من تبّع و جرهم من عاد و ثقيف من ثمود».

قال: و روي عن قتادة أنّ رجلين جاءا إلى عمران بن حصين. فقال لهما: ممن أنتما؟ قالا: من ثقيف. فقال لهما: أ تزعمان أنّ ثقيفا من إياد؟ قالا نعم. قال: فإن إيادا من ثمود؛ فشقّ ذلك عليهما. فقال لهما: أ ساءكما قولي؟ قالا: نعم و اللّه. قال: فإنّ اللّه أنجى من ثمود صالحا و الذين آمنوا معه؛ فأنتم إن شاء اللّه من ذرّيّة من آمن، و إن كان أبو رغال قد أتى ما بلغكما. قالا له: فما اسم أبي رغال؛ فإن الناس قد اختلفوا علينا في اسمه؟ قال: قسيّ بن منبّه.

قال: و روى الزّهريّ أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يحبّ ثقيفا، و من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يبغض الأنصار».

قال: و بلغنا عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال: «بنو هاشم و الأنصار حلفان و بنو أميّة و ثقيف حلفان».

قال: و في ثقيف يقول حسّان بن ثابت رضي اللّه تعالى عنه:

إذا الثّقفيّ فاخركم فقولوا *** هلمّ نعدّ شأن أبي رغال

/أبوكم أخبث الآباء قدما *** و أنتم مشبهوه على مثال(1)

عبيد الفزر أورثهم بنيه(2) *** و ولّى عنهم أخرى الليالي

أم طريح و نسبها:

و أمّ طريح بنت عبد اللّه بن سباع بن عبد العزّى بن نضلة بن غبشان(3) من خزاعة، و هم حلفاء بني زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ. و سباع بن عبد العزّى هو الذي قتله حمزة بن عبد المطلب يوم أحد. و لمّا برز إليه سباع قال له حمزة: هلمّ إليّ يا ابن مقطّعة البظور/ - و كانت أمّه تفعل ذلك و تقبل(4) نساء قريش بمكة - فحمي وحشيّ(5) لقوله و غضب لسباع، فرمى حمزة بحربته فقتله - رحمة اللّه عليه - و قد كتب ذلك في خبر غزاة أحد في بعض هذا الكتاب.

ص: 466


1- ورد هذا الشطر في «ديوان حسان» (ص 36 طبع ليدن): و أولاد الخبيث على مثال
2- كذا في «ديوان حسان». و في جميع الأصول: «أورثه». و ورد البيت في «ديوان حسان» ضمن بيتين هما: عبيد الفزر أورثهم بنيه و آلى لا يبيعهم بمال و ما لكرامة حبسوا و لكن أراد هوانهم أخرى الليالي و الفزر: أبو قبيلة من تميم، و هو سعد بن زيد مناة بن تميم.
3- كذا في ء، ط، م، و هو الموافق لما في «السيرة» (ص 611 طبع أوروبا). و في سائر الأصول: «غبشان بن خزاعة» و هو تحريف؛ لأن غبشان هو ابن سليم بن ملكان بن أقصى بن خزاعة، كما في «السيرة».
4- تقبل نساء قريش (كتفرح): تتلقى أولادهنّ عند الولادة، و هي القابلة.
5- يدل ما في «صحيح البخاري» على أن قتل وحشيّ لحمزة إنما كان بتحريض مولاه جبير بن مطعم؛ و ذلك أن حمزة - رضي اللّه تعالى عنه - كان قتل ببدر طعيمة بن عديّ بن الخيار عم جبير. فقال جبير لوحشيّ: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حرّ. فلما بارز حمزة سباعا و قتله كان وحشي متربصا له تحت صخره، فلما دنا منه رماه بحربته فأرداه. (و الخبر مذكور في «صحيح البخاري» بتفصيل، فانظر في كتاب «المغازي» - باب قتل حمزة رضي اللّه عنه).
كنيته:

و يكنى طريح أبا الصّلت؛ كني بذلك لابن كان له اسمه صلت. و له يقول:

/

يا صلت إنّ أباك رهن منيّة *** مكتوبة لا بدّ أن يلقاها

سلفت سوالفها(1) بأنفس من مضى *** و كذاك يتبع باقيا أخراها

و الدّهر يوشك أن يفرّق ريبه(2)*** بالموت أو رحل تشتّ(3) نواها

لا بدّ بينكما(4) فتسمع دعوة *** أو تستجيب لدعوة تدعاها

طرح ابنه الصلت إلى أخواله بعد موت أمه:

و أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى إجازة قال أخبرني أبو الحسن الكاتب: أنّ أمّ الصّلت بن طريح ماتت و هو صغير، فطرحه طريح إلى أخواله بعد موت أمّه. و فيه يقول:

بات الخيال من الصّليت مؤرّقي *** يفري(5) السّراة مع الرّباب الملثق(6)

ما راعني إلاّ بياض وجيهه *** تحت الدّجنّة(7) كالسّراج المشرق

نشأ في دولة بني أمية و أدرك دولة بني العباس و كان مدّاحا للوليد بن يزيد و غضب عليه ثم رضي عنه:

و نشأ طريح في دولة بني أميّة، و استفرغ شعره في الوليد بن يزيد، و أدرك دولة بني العباس، و مات في أيام المهديّ(8)؛ و كان الوليد له مكرما مقدّما؛ لانقطاعه إليه و لخئولته في(9) ثقيف.

فأخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني أحمد بن حمّاد(10) بن الجميل عن العتبيّ عن سهم بن عبد الحميد قال أخبرني طريح بن إسماعيل الثّقفيّ قال:

/خصصت بالوليد بن يزيد حتى صرت أخلو معه. فقلت له ذات يوم و أنا معه في مشربة(11):

يا أمير المؤمنين، خالك يحبّ أن تعلم شيئا من خلقه. قال: و ما هو؟ قلت: لم أشرب شرابا قطّ ممزوجا إلاّ من لبن أو عسل. قال: قد عرفت ذاك و لم يباعدك من قلبي. قال: و دخلت يوما إليه و عنده الأمويّون، فقال لي: إليّ يا خالي، و أقعدني إلى جانبه، ثم أتى بشراب فشرب، ثم ناولني القدح؛ فقلت: يا أمير المؤمنين قد أعلمتك رأيي

ص: 467


1- في ء، ط: «سوابقها».
2- في م: «يفرق بينهم».
3- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «تشب» بالباء الموحدة، و هو تصحيف.
4- كذا في الأصول!
5- كذا في م. و في سائر النسخ: «يقري» بالقاف.
6- الملثق: البالّ؛ يقال: لثق الطائر إذا ابتلّ ريشه، و ألثقه غيره إذا بلّه.
7- الدجنة: الظلام.
8- في ء، ط، م: «في أيام الهادي».
9- في ب، س: «من».
10- في ط: «أحمد بن محمد بن الجميل». و في ء: «أحمد بن محمد الجميل» و في م: «أحمد بن حماد بن عبد الحميد».
11- المشربة (بضم الراء و فتحها): الغرفة. و في ء، ط: «و نحن في مشرقة» و المشرقة (مثلثة الراء): موضع القعود في الشمس بالشتاء.

في الشراب. قال: ليس لذلك أعطيتك، إنّما دفعته إليك لتناوله الغلام، و غضب. فرفع القوم أيديهم كأنّ صاعقة نزلت(1) على الخوان؛ فذهبت أقوم، فقال: اقعد. فلمّا خلا البيت افترى عليّ، ثم قال: يا عاضّ كذا و كذا! أردت أن تفضحني، و لو لا أنّك خالي لضربتك ألف سوط! ثم نهى الحاجب عن إدخالي، و قطع عني أرزاقي. فمكثت ما شاء اللّه. ثم دخلت عليه يوما متنكرا، فلم يشعر إلاّ و أنا بين يديه و أنا أقول:

يا ابن الخلائف ما لي بعد تقربة *** إليك أقصى و في حاليك لي عجب

ما لي أذاد(2) و أقصى(3) حين أقصدكم *** كما توقّي من ذي العرّة(4) الجرب

كأنّني لم يكن بيني و بينكم *** إلّ(5) و لا خلّة ترعى و لا نسب

لو كان بالودّ يدنى منك أزلفني *** بقربك الود و الإشفاق و الحدب

و كنت دون رجال قد جعلتهم *** دوني إذ ما رأوني مقبلا قطبوا(6)

/إن يسمعوا الخير يخفوه و إن سمعوا *** شرّا أذاعوا و إن لم يسمعوا كذبوا

رأوا صدودك عنّي في اللّقاء فقد *** تحدّثوا أنّ حبلى منك منقضب

/فذو الشّماتة مسرور بهيضتنا *** و ذو النّصيحة و الإشفاق مكتئب

قال: فتبسّم و أمرني بالجلوس فجلست. و رجع إليّ و قال: إيّاك أن تعاود. و تمام هذه القصيدة:

أين الذّمامة و الحقّ الذي نزلت *** بحفظه و بتعظيم له الكتب

و حوكي الشّعر أصفيه و أنظمه *** نظم القلائد فيها الدّرّ و الذهب

و إنّ سخطك شيء لم أناج به *** نفسي و لم يك مما كنت أكتسب

لكن أتاك بقول كاذب أثم *** قوم بغوني فنالوا فيّ ما طلبوا

و ما عهدتك فيما زلّ تقطع ذا *** قربى و لا تدفع الحقّ الذي يجب

و لا توجّع من حقّ تحمّله *** و لا تتبّع بالتكدير ما تهب

فقد تقرّبت جهدا من رضاك بما *** كانت تنال به من مثلك القرب

فغير دفعك حقّي و ارتفاضك لي *** و طيّك الكشح عنّي كنت أحتسب

أ مشمت بي أقواما صدورهم *** عليّ فيك إلى الأذقان تلتهب

قد كنت أحسب أنّي قد لجأت إلى *** حرز و ألاّ يضرّوني و إن ألبوا(7)

ص: 468


1- في ء، ط، م: «كأن صاعقة وقعت عليهم».
2- أذاد: أمنع و أدفع.
3- كذا في م. و في ء، ط: «و أرمي». و في سائر النسخ: و أنهي.
4- العرّة: الحرب.
5- إلّ: عهد. و خلة: الصداقة.
6- قطبوا: عبسوا و غضبوا.
7- ألبوا: تجمعوا.

إنّ التي صنتها عن معشر طلبوا *** منّي إليّ الذي لم ينجح الطّلب

أخلصتها لك إخلاص امرئ علم الأقوام أنّ ليس إلاّ فيك يرتغب

أصبحت تدفعها منّي(1) و أعطفها *** عليك و هي لمن يحبى بها رغب

فإن وصلت فأهل العرف أنت و إن *** تدفع يديّ فلي بقيا و منقلب

/إنّي كريم كرام عشت في أدب *** نفى العيوب و ملك(2) الشّيمة الأدب

قد يعلمون بأنّ العسر منقطع *** يوما و أنّ الغنى لا بدّ منقلب

فمالهم حبس(3) في الحقّ مرتهن *** مثل الغنائم تحوى ثم تنتهب

و ما على جارهم ألاّ يكون له *** إذا تكنّفه أبياتهم نشب

لا يفرحون إذا ما الدّهر طاوعهم *** يوما بيسر و لا يشكون إن نكبوا

فارقت قومي فلم أعتض بهم عوضا *** و الدّهر يحدث أحداثا لها نوب

رواية المدائني في ذلك:

و أمّا المدائنيّ فقال: كان الوليد بن يزيد يكرم طريحا، و كانت له منه منزلة قريبة و مكانة، و كان يدني مجلسه، و جعله أوّل داخل و آخر خارج، و لم يكن يصدر إلاّ عن رأيه. فاستفرغ مديحه كلّه و عامّة شعره فيه؛ فحسده ناس من أهل بيت الوليد. و قدم حمّاد الراوية على التّفئة(4) الشام، فشكوا ذلك إليه و قالوا: و اللّه لقد ذهب طريح بالأمير(5)، فما نالنا منه ليل و لا نهار. فقال حمّاد: ابغوني من ينشد الأمير بيتين من شعر، فأسقط منزلته. فطلبوا إلى الخصيّ الذي كان يقوم على رأس الوليد، و جعلوا له عشرة آلاف درهم على أن ينشدهما الأمير في خلوة، فإذا سأله من قول من ذا؟ قال: من قول طريح؛ فأجابهم الخصيّ إلى ذلك، و علّموه البيتين. فلمّا كان ذات يوم دخل طريح على الوليد و فتح الباب و أذن للناس فجلسوا طويلا ثم نهضوا، و بقي طريح مع الوليد و هو وليّ عهد؛ ثم دعا/بغدائه فتغدّيا جميعا. ثم إنّ طريحا خرج و ركب إلى منزله، و ترك الوليد في مجلسه ليس معه أحد، فاستلقى على فراشه.

و اغتنم الخصيّ خلوته فاندفع ينشد:

/

سيري ركابي إلى من تسعدين به *** فقد أقمت بدار الهون ما صلحا

سيري إلى سيّد سمح خلائقه *** ضخم الدّسيعة(6) قرم يحمل المدحا

فأصغى الوليد إلى الخصيّ بسمعه و أعاد الخصيّ غير مرّة؛ ثم قال الوليد: ويحك يا غلام! من قول من هذا؟ قال: من قول طريح. فغضب الوليد حتى امتلأ غيظا؛ ثم قال: وا لهفا على أمّ لم تلدني! قد جعلته أوّل داخل و آخر

ص: 469


1- في ح، م: «عني».
2- ملك الشيمة: قوامها و معظمها.
3- حبس (بضمتين): محبوس.
4- التفئة: الحين و الزمان.
5- كذا في ء، م، ط، و هو الصواب؛ إذ كان الوليد في ذلك الوقت وليّ عهد.
6- الدسيعة: العطية الجزيلة، و الجفنة الواسعة، و المائدة الكريمة.

خارج، ثم يزعم أنّ هشاما يحمل المدح و لا أحملها! ثم قال: عليّ بالحاجب، فأتاه. فقال: لا أعلم ما أذنت لطريح و لا رأيته على وجه الأرض؛ فإن حاولك فاخطفه بالسيف. فلمّا كان العشيّ و صلّيت العصر، جاء طريح للساعة التي كان يؤذن له فيها، فدنا من الباب ليدخل. فقال له الحاجب: وراءك! فقال: ما لك! هل دخل عليّ وليّ العهد أحد بعدي؟ قال: لا! و لكن ساعة ولّيت من عنده دعاني فأمرني ألاّ آذن لك، و إن حاولتني في ذلك خطفتك بالسيف. فقال: لك عشرة آلاف [درهم](1) و أذن لي في الدخول عليه. فقال له الحاجب: و اللّه لو أعطيتني خراج العراق ما أذنت لك في ذلك، و ليس لك من خير في الدخول عليه فارجع. قال: ويحك! هل تعلم من دهاني عنده؟ قال الحاجب: لا و اللّه! لقد دخلت عليه و ما عنده أحد، و لكنّ اللّه يحدث ما يشاء في اللّيل و النهار. قال: فرجع طريح و أقام بباب الوليد سنة لا يخلص إليه و لا يقدر على الدخول عليه. و أراد الرجوع إلى بلده و قومه فقال: و اللّه إنّ هذا لعجز بي أن أرجع من غير أن ألقى وليّ العهد فأعلم من دهاني عنده. و رأى أناسا كانوا له أعداء قد فرحوا بما كان من أمره، فكانوا يدخلون على الوليد/و يحدّثونه و يصدر عن رأيهم. فلم يزل يلطف بالحاجب(2) و يمنّيه؛ حتّى قال له الحاجب: أمّا إذ أطلت المقام فإنّي أكره أن تنصرف على حالك هذه، و لكنّ الأمير إذا كان يوم كذا و كذا دخل الحمّام، ثم أمر بسريره فأبرز، و ليس عليه يومئذ حجاب؛ فإذا كان ذلك اليوم أعلمتك فتكون قد دخلت عليه و ظفرت بحاجتك و أكون أنا على حال عذر. فلمّا كان ذلك اليوم، دخل الحمّام و أمر بسريره فأبرز و جلس عليه، و أذن للناس فدخلوا عليه، و الوليد ينظر إلى من أقبل. و بعث الحاجب إلى طريح، فأقبل و قد تتامّ الناس. فلما نظر الوليد إليه من بعيد صرف عنه وجهه، و استحيا أن يردّه من بين الناس؛ فدنا فسلّم فلم يردّ عليه السّلام. فقال طريح يستعطفه و يتضرّع إليه:

نام الخليّ من الهموم و بات لي *** ليل أكابده و همّ مضلع

و سهرت لا أسري و لا في لذّة *** أرقي و أغفل ما لقيت الهجّع

أبغي وجوه مخارجي من تهمة *** أزمت عليّ و سدّ منها المطلع

جزعا لمعتبة الوليد و لم أكن *** من قبل ذاك من الحوادث أجزع

يا ابن الخلائف إنّ سخطك لامرئ *** أمسيت عصمته بلاء مفظع

فلأنزعنّ عن الذي لم تهوه *** إن كان لي و رأيت ذلك منزع

/فاعطف فداك أبي عليّ توسّعا *** و فضيلة فعلى الفضيلة تتبع

فلقد كفاك و زاد ما قد نالني *** إن كنت لي ببلاء ضرّ تقنع

سمة لذاك عليّ جسم شاحب *** باد تحسّره و لون أسفع(3)

/إن كنت في ذنب عتبت فإنّني *** عمّا كرهت لنازع متصرّع

ص: 470


1- زيادة في ء.
2- في ط، ء: «يلطف للحاجب». و في أساس البلاغة: «و أنا ألطف بفلان إذا أريته مودّة و رفقا في المعاملة». و في «اللسان»: «يقال: لطف به و له بالفتح يلطف لطفا إذا رفق به...».
3- أسفع: شاحب متغير من مقاساة المشاق.

و يئست منك فكلّ عسر باسط *** كفّا إليّ و كلّ يسر أقطع(1)

من بعد أخذي من حبالك بالّذي *** قد كنت أحسب أنّه لا يقطع

فاربب(2) صنيعك بي فإنّ بأعين *** للكاشحين و سمعهم(3) ما تصنع

أدفعتني حتى انقطعت و سدّدت *** عني الوجوه و لم يكن لي مدفع

و رجيت و اتّقيت يداي و قيل قد *** أمسى يضرّ إذا أحبّ و ينفع

و دخلت في حرم الذّمام و حاطني *** خفر أخذت به و عهد مولع

أ فهادم ما قد بنيت و خافض *** شرفي و أنت لغير ذلك أوسع

أ فلا خشيت شمات قوم فتّهم *** سبقا و أنفسهم عليك تقطّع

و فضلت في الحسب الأشمّ عليهم *** و صنعت في الأقوام ما لم يصنعوا(4)

فكأنّ آنفهم بكلّ صنيعة *** أسديتها و جميل فعل(5) تجدع

ودّوا لو أنّهم ينال أكفّهم *** شلل و أنك عن صنيعك تنزع

أو تستليم(6) فيجعلونك أسوة *** و أبى الملام لك النّدى و الموضع

قال: فقرّبه و أدناه، و ضحك إليه، و عاد له إلى ما كان عليه.

عاتبه المنصور في شعر مدح به الوليد فأحسن الاعتذار:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن شبيب قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن حمزة بن عتبة اللّهبيّ عن أبيه:

أنّ طريحا دخل على أبي جعفر المنصور و هو في الشّعراء؛ فقال له: لا حيّاك اللّه و لا بيّاك! أ ما اتّقيت اللّه - ويلك! - حيث تقول للوليد بن يزيد:

/

لو قلت للسيل دع طريقك و ال *** موج عليه كالهضب يعتلج

لساخ و ارتدّ(7) أو لكان له *** في سائر الأرض عنك منعرج

فقال له طريح: قد علم اللّه عزّ و جلّ أنّي قلت ذاك و يد ممدودة إليه عزّ و جلّ، و إيّاه تبارك و تعالى عنيت. فقال المنصور: يا ربيع، أما ترى هذا التخلّص!

ص: 471


1- أقطع: مقطوع اليد.
2- اربب صنيعك: زده.
3- كذا في م. و في سائر النسخ: «و سمعها».
4- في م: «ما لا يصنع».
5- كذا في ح. و في سائر النسخ: «و جميل فعلك».
6- تستليم: تفعل ما تستحق عليه اللوم؛ فكأنك تطلب إلى الناس أن يلوموك.
7- في هامش ط كتبت هذه العبارة: «الصحيح: لارتد أو ساخ أو لكان له». و هي أيضا رواية «اللسان» (مادة ولج).
أدخل على الوليد فمدحه فطرب و أجازه:
اشارة

نسخت من كتاب أحمد بن الحارث مما أجاز لي أبو أحمد الجريريّ(1) روايته عنه: حدّثنا المدائنيّ:

أنّ الوليد جلس يوما في مجلس له عامّ، و دخل إليه أهل بيته و مواليه و الشعراء و أصحاب الحوائج فقضاها، و كان أشرف يوم رئى له؛ فقام بعض الشعراء فأنشد، ثم وثب طريح، و هو عن يسار الوليد، و كان أهل بيته عن يمينه، و أخواله عن شماله و هو فيهم، فأنشده:

صوت

أنت ابن(2) مسلنطح البطاح و لم *** تطرق(3) عليك الحنيّ و الولج

طوبى لفرعيك(4) من هنا و هنا *** طوبى لأعراقك التي تشج(5)

/لو قلت للسيل دع طريقك و ال *** موج عليه كالهضب يعتلج(6)

لساخ و ارتدّ أو لكان له *** في سائر الأرض عنك منعرج

ولاؤه، و كان مغنيا و شاعرا:

فطرب الوليد بن يزيد حتّى رئى الارتياح فيه، و أمر له بخمسين ألف درهم، و قال: ما أرى أحدا منكم يجيئني اليوم بمثل ما قال خالي، فلا ينشدني أحد بعده شيئا؛ و أمر لسائر الشعراء بصلات و انصرفوا، و احتبس طريحا عنده، و أمر ابن عائشة فغنّى في هذا الشعر.

نسبة هذا الصوت

أنت ابن مسلنطح البطاح و لم *** تطرق عليك الحنيّ و الولج

الأبيات الأربعة. عروضه عن المنسرح. غنّاه ابن عائشة، و لحنه رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق.

طلب إليه المهدي أن يغنيه صوتا له فغناه غيره و اعتذر عنه:

المسلنطح من البطاح: ما اتّسع و استوى سطحه منها. و تطرق عليك: تطبق عليك و تغطّيك و تضيّق مكانك؛

ص: 472


1- كذا في ح، و هو الموافق لما في «الأنساب» للسمعاني (ص 129). و في سائر الأصول: «الحريري» بالحاء المهملة.
2- سيشرح أبو الفرج بعد قليل هذا الشعر.
3- في كتاب «الشعر و الشعراء» «و اللسان» (مادتي ولج و سلطح): «تعطف» و قال في «اللسان» (مادة طرق): «و أطرق جناح الطائر: لبس الريش الأعلى الريش الأسفل، و أطرق عليه الليل ركب بعضه بعضا. و قوله: و لم تطرق عليك الحنيّ و الولج أي لم يوضع بعضه على بعض فتراكب». و تفسير صاحب «اللسان» هذا هو الذي يتفق مع معنى كلمات البيت. و منه يعلم ما في تفسير أبي الفرج لهذه الكلمة من بعد.
4- في ء، ط: «طيبا لفرعيك... طيبا لأعراقك».
5- تشج: تشتبك و تلتف.
6- يعتلج: يلتطم.

يقال: طرقت الحادثة بكذا و كذا إذا أتت بأمر ضيّق معضل. و الوشيج: أصول النبت؛ يقال: أعراقك واشجة في الكرم، أي نابتة فيه. قال الشاعر(1):

و هل ينبت الخطّيّ إلاّ وشيجه *** و تنبت إلاّ في مغارسها النّخل(2)

يعني أنّه كريم الأبوين من قريش و ثقيف. و قد ردّد طريح هذا المعنى في الوليد، فقال في كلمة له:

و اعتام(3) كهلك(4) من ثقيف كفأه *** فتنازعاك فأنت جوهر جوهر

فنمت فروع القريتين قصيّها(5) *** و قسيّها بك في الأشمّ الأكبر

/و الحنيّ: ما انخفض من الأرض، و الواحدة(6) حنا، و الجمع حنيّ مثل عصا و عصيّ. و الولج: كلّ متّسع في الوادي، الواحدة ولجة(7). و يقال: الولجات بين الجبال مثل الرّحاب. أي لم تكن بين الحنيّ و لا الولج فيخفى مكانك، أي لست في موضع خفيّ من الحسب. و قال أبو عبيدة: سمع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه رجلا يقول لآخر يفخر عليه: أنا ابن مسلنطح البطاح، و ابن كذا و كذا؛ فقال له عمر: إن كان لك عقل فلك أصل، و إن كان لك خلق فلك شرف، و إن كان لك تقوى فلك كرم، و إلاّ فذاك الحمار خير منك. أحبّكم إلينا قبل أن نراكم أحسنكم سمتا، فإذا تكلّمتم فأبينكم منطقا، فإذا اختبرناكم فأحسنكم فعلا.

قوله: «لو قلت للسيل دع طريقك»، يقول: أنت ملك هذا الأبطح و المطاع فيه، فكلّ من تأمره يطيعك فيه، حتى لو أمرت السّيل بالانصراف عنه لفعل لنفوذ أمرك. و إنما ضرب هذا مثلا و جعله مبالغة؛ لأنّه لا شيء أشدّ تعذّرا من هذا و شبهه، فإذا صرفه كان على كل شيء سواه أقدر. و قوله: «لساخ» أي لغاض في الأرض. «و ارتد» أي عدل عن طريقه، و إن لم يجد إلى ذلك سبيلا كان له منعرج عنك إلى سائر الأرض.

غضب الوليد على ابن عائشة فلما غناه في شعره طرب و رضي عنه:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه(8) قال إسحاق و حدّثني به الواقديّ عن أبي الزّناد عن إبراهيم بن عطيّة:

/أنّ الوليد بن يزيد لمّا ولي الخلافة بعث إلى المغنّين بالمدينة و مكة فأشخصهم إليه، و أمرهم أن يتفرّقوا و لا

ص: 473


1- هو زهير بن أبي سلمى.
2- في ء، ط، م: و تغرس إلا في منابتها النخل
3- اغتام: اختار.
4- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «أهلك» تحريف.
5- قصيّ: ابو عدّة بطون من قريش. و قسيّ (بفتح فكسر و تشديد آخره): هو ثقيف، و قد تقدّم في أوّل ترجمة طريح.
6- لم نجد في كتب اللغة التي بين أيدينا («كاللسان» «و القاموس و شرحه» «و الصحاح») ما يؤيد التفسير الذي ذكره أبو الفرج لمعنى هذه الكلمة و لا لمفردها. و عبارة «اللسان» (في مادة حنا): «... و الحنو: كل شيء فيه اعوجاج أو شبه الاعوجاج كعظم الحجاج و الحي و الضلع و القفّ و الحقف و منعرج الوادي، و الجمع أحناء و حنّي و حنيّ...».
7- في «اللسان» (مادة ولج): «... ابن الأعرابي: ولاج الوادي: معاطفه، واحدتها ولجة، و الجمع الولج». و منه يعلم أن الولج جمع الجمع لولجة.
8- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه قال إسحاق إلخ». و لم نثبت هذه الزيادة لأننا لم نجد في كتب التراجم أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي روى عن محمد بن السائب الكلبيّ.

يدخلوا نهارا لئلا يعرفوا، و كان إذ ذاك/يتستّر في أمره و لا يظهره. فسبقهم ابن عائشة فدخل نهارا و شهر أمره، فحبسه الوليد و أمر به فقيّد، و أذن للمغنّين و فيهم معبد، فدخلوا عليه دخلات. ثم إنّه جمعهم ليلة فغنّوا له حتى طرب و طابت نفسه. فلمّا رأى ذلك منه معبد قال لهم: أخوكم ابن عائشة فيما قد علمتم، فاطلبوا فيه. ثم قال:

يا أمير المؤمنين، كيف ترى مجلسنا هذا؟ قال: حسنا لذيذا. قال: فكيف لو رأيت ابن عائشة و سمعت ما عنده! قال: فعليّ به. فطلع ابن عائشة يرسف في قيده. فلمّا نظر إليه الوليد، اندفع ابن عائشة فغنّاه في شعر طريح، و الصنعة فيه له:

أنت ابن مسلنطح البطاح و لم *** تطرق عليك الحنيّ و الولج

فصاح الوليد(1): اكسروا قيده و فكّوا عنه؛ فلم يزل عنده أثيرا مكرما.

غنى مسلمة بن محمد بن هشام من شعره فتذكر قومه:

أخبرني الحسن بن عليّ(2) قال حدّثنا ابن أبي سعد عن الحزاميّ عن عثمان بن حفص عن إبراهيم بن عبد السّلام بن أبي الحارث الذي يقول له عمر بن أبي ربيعة:

يا أبا الحارث قلبي طائر *** فأتمر(3) أمر رشيد مؤتمن

قال: و اللّه إنّي لقاعد مع مسلمة بن محمد بن هشام إذ مرّ به ابن جوان بن عمر بن أبي ربيعة، و كان يغنّي؛ فقال له: اجلس يا ابن أخي غنّنا. فجلس فغنّى:

أنت ابن مسلنطح البطاح و لم *** تطرق عليك الحنيّ و الولج

/فقال له: يا ابن أخي، ما أنت و هذا حين تغنّاه، و لا حظّ لك فيه! هذا قاله طريح فينا:

إذ النّاس ناس و الزّمان زمان

و مما في المائة الصوت المختارة من الأغاني من أشعار طريح بن إسماعيل التي مدح بها الوليد بن يزيد:

صوت من المائة المختارة

ويحي غدا إن غدا عليّ بما *** أحذر من لوعة الفراق غد

و كيف صبري و قد تجاوب بال *** فرقة منها الغراب و الصّرد(4)

الشعر لطريح بن إسماعيل. و الغناء لابن مشعب الطائفيّ، و لحنه المختار من الرّمل بالوسطى.

ص: 474


1- كذا في ء، م، ط. و في سائر النسخ: «فصاح به الوليد».
2- كذا في ط، م، ء. و في سائر النسخ: «الحسين بن يحيى». و المعروف أن الحسن بن عليّ يروي عن عبد اللّه بن أبي سعد (انظر ص 68 ج 2 من هذا الكتاب).
3- كذا في ط، م، ء و فيما تقدم في الجزء الأوّل (ص 114 من هذه الطبعة). و في سائر الأصول هنا: «فاستمع».
4- الصرد (بضم ففتح): طائر أبقع أبيض البطن أخضر الظهر ضخم الرأس و المنقار له مخلب يصطاد العصافير و صغار الطير، جمعه صردان، و يكنى بأبي كثير، و يسمى الأخطب لخضرة ظهره، و الأخيل لاختلاف لونه. و هو مما يتشاءم به من الطير؛ قال الشاعر: فما طائري يوما عليك بأخيلا

49 - ذكر ابن مشعب و أخباره

اشارة

49 - ذكر ابن مشعب(1) و أخباره

ابن مشعب و أصله:

هو رجل من أهل الطائف مولى لثقيف، و قيل: إنّه من أنفسهم، و انتقل إلى مكة فكان بها. و إيّاه يعني العرجي بقوله:

بفناء بيتك و ابن مشعب حاضر *** في سامر عطر و ليل مقمر

فتلازما عند الفراق صبابة *** أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

كان عامة الغنّاء الذي ينسب إلى أهل مكة له:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:

ابن مشعب مغنّ من أهل الطائف، و كان من أحسن الناس غناء، و كان في زمن ابن سريج و الأعرج؛ و عامّة الغناء الذي ينسب إلى أهل مكة له، و قد تفرّق غناؤه، فنسب بعضه إلى ابن سريج، و بعضه إلى الهذليّين، /و بعضه إلى ابن محرز. قال: و من غنائه الذي ينسب إلى ابن محرز:

يا دار عاتكة الّتي بالأزهر

و منه أيضا:

أقفر ممن يحلّه السّند(2) *** فالمنحنى(3) فالعقيق فالجمد(4)

انتهى مريض أن يغني في شعر العرجي الذي ورد فيه اسمه:

أخبرني الحسين قال قال حمّاد و حدّثني أبي قال:

مرض رجل من أهل المدينة بالشأم، فعاده جيرانه و قالوا له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي إنسانا يضع فمه على أذني و يغنّيني في بيتي العرجيّ:

/

بفناء بيتك و ابن مشعب حاضر *** في سامر عطر و ليل مقمر

ص: 475


1- نلاحظ أن صاحب «الأغاني» أفحم ترجمة ابن مشعب هذا في وسط ترجمة طريح. و لما يتحدث عنه إلا قليلا، ثم عاد إلى حديثه عن طريح.
2- في «معجم ما استعجم» للبكري: سند: ماء تهامة معروف. و قال أبو بكر: سند (بفتحتين): ماء معروف لبني سعد.
3- المنحنى: موضع قرب مكة، كما في شرح «القاموس».
4- الجمد (بضمتين): جبل لبني نصر بنجد، كما في «معجم ياقوت».

فتلازما عند الفراق صبابة *** أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني

يا دار عاتكة الّتي بالأزهر *** أو فوقه بقفا الكثيب الأحمر

بفناء بيتك و ابن مشعب حاضر *** في سامر عطر و ليل مقمر

فتلازما عند الفراق صبابة *** أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

الشعر للعرجيّ. و الغناء لابن محرز خفيف ثقيل أوّل بالبنصر، و ذكر إسحاق أنّه لابن مشعب. و ذكر حبش أنّ فيه لابن المكيّ هزجا خفيفا بالبنصر.

و أمّا الصوت الآخر الذي أوّله:

أقفر ممن يحلّه السّند

فإنّه الصوت الذي ذكرناه الذي فيه اللحن المختار، و هو أوّل قصيدة طريح التي منها:

ويحي غدا إن غدا عليّ بما *** أكره من لوعة الفراق غد

و ليس يغنّى فيه في زماننا هذا. و هذه القصيدة طويلة يمدح فيها طريح الوليد بن يزيد، يقول فيها:

لم يبق فيها من المعارف بع *** د الحيّ إلاّ الرّماد و الوتد

و عرصة نكّرت معالمها الرّ *** يح بها مسجد و منتضد(1)

أنشد المنصور قصيدة طريح الدالية فمدحها:
اشارة

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثني محمد بن خلف القارئ قال أخبرنا هارون بن محمد، و أخبرنا به وكيع - و أظنه هو الذي كنى عنه يحيى بن عليّ، فقال: /محمد بن خلف القارى - [قال](2) حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني عليّ بن عبد اللّه اللّهبيّ قال حدّثنا أبي عن أبيه قال:

أنشد المنصور هذه القصيدة، فقال للربيع: أسمعت أحدا من الشعراء ذكر في باقي معالم الحيّ المسجد غير طريح!. و هذه القصيدة من جيّد قصائد طريح، يقول فيها:

لم أنس سلمى و لا ليالينا *** بالحزن إذ عيشنا بها رغد(3)

إذ نحن في ميعة الشّباب و إذ *** أيّامنا تلك غضّة جدد

في عيشة كالفريد عازبة(4) الشّ *** قوة خضراء غصنها خضد(5)

ص: 476


1- منتضد: مجتمع و مقام؛ يقال: انتضد القوم بمكان كذا إذا أقاموا به.
2- زيادة عن ح، م.
3- عيش رغد (بفتح الغين و كسرها): مخصب رفيه غزير، و مثلهما رغد (بسكون الغين) و رغيد و راغد و أرغد.
4- عازبة الشقوة: بعيدتها.
5- خضد (بالتحريك): رطب.

نحسد فيها على النّعيم و ما *** يولع إلاّ بالنّعمة الحسد

أيّام سلمى غريرة(1) أنف *** كأنّها خوط بانة رؤد(2)

ويحي غدا إن غدا عليّ بما *** أكره من لوعة الفراق غد

قد كنت أبكي من الفراق و حيّ *** انا جميع و دارنا صدد(3)

فكيف صبري و قد تجاوب بال *** فرقة منها الغراب و الصّرد

/دع عنك سلمى لغير مقلية *** و عدّ مدحا بيوته شرد

للأفضل الأفضل الخليفة عب *** د اللّه من دون شأوه صعد

في وجهه النّور يستبان كما *** لاح سراج النّهار إذ يقد

/يمضي على خير ما يقول و لا *** يخلف ميعاده إذا يعد

من معشر لا يشمّ من خذلوا *** عزّا و لا يستذلّ من رفدوا

بيض عظام الحلوم حدّهم *** ماض حسام و خيرهم عتد(4)

أنت إمام الهدى الذي أصلح اللّ *** ه به الناس بعد ما فسدوا

لمّا أتى الناس أنّ ملكهم *** إليك قد صار أمره سجدوا

و استبشروا بالرضا تباشرهم *** بالخلد لو قيل إنّكم خلد

و عجّ بالحمد أهل أرضك *** حتّى كاد يهتزّ فرحة أحد

و استقبل الناس عيشة أنفا *** إن تبق فيها لهم فقد سعدوا

رزقت من ودّهم و طاعتهم *** ما لم يجده لوالد ولد

أثلجهم منك أنّهم علموا *** أنّك فيما وليت مجتهد

و أنّ ما قد صنعت من حسن *** مصداق ما كنت مرّة تعد

ألّفت أهواءهم فأصبحت الأ *** ضغان سلما و ماتت الحقد

كنت أرى أنّ ما وجدت من ال *** فرحة لم يلق مثله أحد

حتّى رأيت العباد كلّهم *** قد وجدوا من هواك ما أجد

ص: 477


1- غريرة: بلهاء لصغر سنها و قلة تجاربها. و أنف: عذراء.
2- الخوط: الغصن. و الرّؤد: الغصن أرطب ما يكون و أرخصه؛ و ذلك حين يكون في السنة التي نبت فيها. تشبه به الجارية الحسنة الشباب من النعمة.
3- يقال: دار فلان صدد دار فلان و بصددها أي قبالتها.
4- عند: حاضر معدّ.
صوت

قد طلب الناس ما بلغت فما *** نالوا و لا قاربوا و قد جهدوا

يرفعك اللّه بالتّكرّم و الت *** قوى فتعلو و أنت مقتصد

حسب امرئ من غنى تقرّبه *** منك و إن لم يكن له سبد(1)

فأنت أمن لمن يخاف و لل *** مخذول أودى نصيره عضد

/ - غنّى في هذه الأبيات الأربعة إبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر -.

كلّ امرئ ذي(2) يد تعدّ علي *** ه منك معلومة يد و يد

فهم ملوك ما لم يروك فإن *** داناهم منك منزل خمدوا

تعروهم رعدة لديك كما *** قفقف(3) تحت الدّجنّة الصّرد

لا خوف ظلم و لا قلى خلق *** إلاّ جلالا كساكه الصّمد

و أنت غمر النّدى إذا هبط ال *** زّوّار أرضا تحلّها حمدوا

فهم رفاق فرفقة صدرت *** عنك بغنم و رفقة ترد

إن حال دهر بهم(4) فإنّك لا *** تنفكّ عن حالك الّتي عهدوا

قد صدّق اللّه مادحيك فما *** في قولهم فرية و لا فند

ذكاء جعفر بن يحيى و علمه بالأشعار و الألحان:

/أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني الحسين بن يحيى قال:

سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصليّ يحلف باللّه الذي لا إله إلاّ هو إنه ما رأى أذكى من جعفر بن يحيى قطّ، و لا أفطن، و لا أعلم بكلّ شيء، و لا أفصح لسانا، و لا أبلغ في مكاتبة. قال: و لقد كنّا يوما عند الرشيد، فغنّى أبي لحنا في شعر طريح بن إسماعيل، و هو:

قد طلب الناس ما بلغت فما *** نالوا و لا قاربوا و قد جهدوا

فاستحسن الرشيد اللحن و الشعر و استعاده و وصل أبي عليه. و كان اللحن(5) في طريقة خفيف الثقيل الأوّل.

فقال جعفر بن يحيى: قد و اللّه يا سيّدي أحسن، و لكنّ اللحن مأخوذ من لحن الدّلال الذي غنّاه في شعر أبي زبيد:

ص: 478


1- كذا في ح، م. و السبد: الشّعر، و يكنى به عن المال. و يقال: ما له سبد و لا لبد أي ما له شيء. و في سائر الأصول: «سند».
2- في ح: «ذي ندى».
3- قفقف: ارتعد من البرد. و الصرد: المقرور.
4- في ح: «لهم».
5- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «و كان اللحن الذي في طريقة خفيف الثقيل إلخ».

/

من ير العير لابن أروى على ظه *** ر المروري(1) حداتهنّ عجال

و أمّا الشعر فنقله طريح من قول زهير:

سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم *** فلم يبلغوا(2) و لم يلاموا(3) و لم يألوا

قال إسحاق: فعجبت و اللّه من علمه بالألحان و الأشعار، و إذا اللحن يشبه لحن الدّلال، قال: و كذلك الشعر؛ فاغتممت أنّي لم أكن فهمت اللحن، و كان ذلك أشدّ عليّ من ذهاب أمر الشعر عليّ، و أنا و اللّه مع ذلك أغنّي الصوتين و أحفظ الشعرين. قال الحسين: و لحن الدّلال في شعر أبي زبيد هذا من خفيف الثقيل أيضا.

صادف طريح أبا ورقاء في سفر فأنس به و ذكر له قصته مع أعرابي عاشق:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى إجازة قال حدّثني أبو الحسن البلاذريّ أحمد بن يحيى و أبو أيّوب المدينيّ، قال البلاذريّ و حدّثني الحرمازيّ، و قال أبو أيّوب(3) و حدّثونا عن الحرمازيّ قال حدّثني أبو القعقاع سهل(4) بن عبد الحميد عن أبي ورقاء الحنفيّ قال:

/خرجت من الكوفة أريد بغداد، فلمّا صرت إلى أوّل خان نزلته، بسط غلماننا و هيّئوا غداءهم، و لم يجيء أحد بعد، إذ رمانا الباب برجل فاره البرذون(5) حسن الهيئة، فصحت بالغلمان، فأخذوا دابّته فدفعها إليهم، و دعوت بالغداء، فبسط يده غير محتشم، و جعلت لا أكرمه بشيء إلا قبله. ثم جاء غلمانه بعد ساعة في ثقل(6) سريّ و هيئة حسنة. فتناسبنا(7) فإذا الرجل طريح بن إسماعيل الثّقفيّ. فلمّا ارتحلنا في قافلة غنّاء لا يدرك طرفاها. قال:

فقال لي: ما حاجتنا إلى زحام الناس و ليست بنا إليهم وحشة و لا علينا خوف! نتقدّمهم بيوم فيخلو لنا الطريق و نصادف الخانات فارغة و نودع أنفسنا إلى أن يوافوا. قلت: ذلك إليك. قال: فأصبحنا الغد فنزلنا الخان فتغدّينا و إلى جانبنا نهر ظليل؛ فقال: هل لك أن نستنقع(8) فيه؟ فقلت له: شأنك. فلمّا سرا(9) ثيابه إذا [ما] بين عصعصه إلى(10) عنقه ذاهب، و في جنبيه أمثال الجرذان، فوقع في نفسي منه شيء(11). فنظر إليّ ففطن و تبسّم، ثم قال: قد

ص: 479


1- كذا في أكثر الأصول. و المروري على وزن فعلعل: جمع مروراة و هي الفلاة البعيدة المستوية. («معجم ما استعجم» ص 520). و في ح «و الشعر و الشعراء» (ص 167): «المروي». و المروّي (بضم أوّله و فتح ثانيه بعده واو مشدّدة مفتوحة): موضع. («معجم ما استعجم» ص 526).
2- في «ديوان زهير» (طبعة دار الكتب ص 114): «فلم يفعلوا». و في س: «فلم يفعلوا و لم يليموا». أي لم يأتوا ما يلامون عليه، أو لم يلاموا، حين لم يبلغوا منزلة هؤلاء القوم لأنها أعلى من أن تبلغ؛ فهم معذورون في التقصير عنها و التوقف دونها، و هم مع ذلك لم يألوا أي لم يقصروا في السعي بجميل الفعل.
3- كذا في ء، ط، م. و في سائر الأصول: «و قال أبو أيوب و حدّثني الحرمازي... إلخ».
4- في ء، ط: «سهيل بن عبد الحميد».
5- البرذون الفاره: النشيط السريع السير.
6- الثقل: متاع المسافر و حشمه.
7- تناسبنا: ذكر كل منا نسبه.
8- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «تستنقع» بالتاء في أوّله.
9- سرا ثيابه سروا: ألقاها عنه مثل سرى سريا و أسرى، و الواو أغلى. (انظر «اللسان» مادة سرا).
10- في ء، ط، م: «كرده». و الكرد (بالفتح). العنق، و قيل أصله.
11- في ء: ط، م: «شر».

رأيت ذعرك مما رأيت؛ و حديث هذا إذا سرنا العشيّة إن شاء اللّه تعالى أحدّثك به. قال: فلمّا ركبنا قلت: الحديث! قال: نعم! قدمت من عند الوليد بن يزيد بالدّنيا، و كتب إلى يوسف بن عمر مع فرّاش فملأ يدي أصحابي(1)، فخرجت أبادر الطائف. فلمّا امتدّ لي الطريق و ليس يصحبني فيه خلق، عنّ لي(2) أعرابيّ على بعير له، فحدّثني، فإذا هو حسن الحديث، و روى لي الشّعر فإذا هو/راوية، و أنشدني لنفسه فإذا هو/شاعر. فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: لا أدري. قلت: فأين تريد؟ فذكر قصّة يخبر فيها أنّه عاشق لمريئة قد أفسدت عليه عقله، و سترها عنه(3) أهلها و جفاه(4) أهله، فإنّما يستريح إلى الطريق ينحدر مع منحدريه و يصعد مع مصعديه. قلت: فأين هي؟ قال: غدا ننزل بإزائها. فلمّا نزلنا أراني ظربا(5) على يسار الطريق، فقال لي: أ ترى ذلك الظّرب؟ قلت: أراه. قال:

فإنّها في مسقطه. قال: فأدركتني أريحيّة الشباب، فقلت: أنا و اللّه آتيها برسالتك. قال: فخرجت و أتيت الظّرب، و إذا بيت حريد(6)، و إذا فيه امرأة جميلة ظريفة، فذكرته لها، فزفرت زفرة كادت أضلاعها تساقط. ثم قالت: أو حيّ هو؟ قلت: نعم، تركته في رحلي وراء هذا الظّرب، و نحن بائتون و مصبحون. فقالت: يا أبي أرى لك وجها يدلّ على خير، فهل لك في الأجر؟ فقلت: فقير و اللّه إليه. قالت: فالبس ثيابي و كن مكاني و دعني حتّى آتيه، و ذلك مغيربان الشمس. قلت: أفعل(7). قالت: إنّك إذا أظلمت أتاك زوجي في هجمة(8) من إبله، فإذا بركت أتاك و قال:

يا فاجرة يا هنتاه(9)، فيوسعك شتما فأوسعه صمتا، ثم يقول: اقمعي(10) سقاءك، فضع القمع في هذا السّقاء حتّى يحقن(11) فيه، و إيّاك/و هذا الآخر فإنّه واهي الأسفل. قال: فجاء ففعلت ما أمرتني به، ثم قال: اقمعي سقاءك، فحيّنني(12) اللّه، فتركت الصحيح و قمعت الواهي، فما شعر إلاّ باللبن بين رجليه، فعمد إلى رشاء(13) من قد مربوع، فثناه باثنين فصار على ثمان قوى، ثم جعل لا يتّقي منّي رأسا و لا رجلا و لا جنبا، فخشيت أن يبدو له وجهي، فتكون الأخرى، فألزمت وجهي الأرض، فعمل بظهري ما ترى.

ص: 480


1- كذا في ح. و في سائر النسخ: «أصحابه».
2- عنّ لي: عرض لي.
3- في ح: «و حدّ عليها أهلها». و حدّ عليه: غضب عليه.
4- فيء، ط: «و خلعه»؛ يقال: خلع فلان ابنه إذا تبرأ منه. و كان في الجاهلية إذا قال قائل: هذا ابني قد خلعته، لا يؤخذ بعد بجريرته.
5- كذا في ب، س. و الظرب: الرابية الصغيرة. و في سائر الأصول: «ظريبا» بالتصغير.
6- كذا في ء، ط. و الحريد: المعتزل المتنحى. و في حديث صعصعة «فرفع لي بيت حريد» أي منتبذ متنح عن الناس. و في م: «بيت جريد» بالجيم المعجمة. و في سائر النسخ: «جديد» و كلاهما تحريف.
7- كذا في ء، ط. و في سائر الأصول: «فقلت افعلي».
8- الهجمة من الإبل: أوّلها أربعون إلى ما زادت، أو ما بين السبعين إلى المائة، فإذا بلغت المائة فهي هنيدة.
9- يا هنتاه: أي يا هذه، و قيل: يا بلهاء. و تفتح النون و تسكن، و تضم الهاء الأخيرة و تسكن. (انظر «اللسان» مادة هنو).
10- قمع الإناء: وضع القمع في فمه ليصب فيه الدهن و غيره.
11- حقن اللبن (من باب نصر): جمعه.
12- حينه اللّه: لم يوفقه للرشاد.
13- الرشاء: الحبل. و القدّ: السير المقدود من الجلد. و مربوع: ذو أربع قوى.

50 - ذكر أخبار أبي سعيد مولى فائد و نسبه

ولاؤه، و كان مغنيا و شاعرا:

أبو سعيد مولى فائد. و فائد مولى عمرو بن عثمان بن عفّان رضي اللّه تعالى عنه. و ذكر ابن خرداذبه أنّ اسم أبي سعيد إبراهيم. و هو يعرف في الشعراء بابن أبي سنّة(1) مولى بني أميّة، و في المغنّين بأبي سعيد مولى فائد.

و كان شاعرا مجيدا و مغنّيا، و ناسكا بعد ذلك، فاضلا مقبول الشهادة بالمدينة معدّلا. و عمّر إلى خلافة الرشيد، و لقيه إبراهيم بن المهديّ و إسحاق الموصليّ و ذووهما. و له قصائد جياد في مراثي بني أميّة الذين قتلهم عبد اللّه و داود ابنا عليّ بن عبد اللّه بن العبّاس، يذكر هاهنا في موضعه منها ما تسوق(2) الأحاديث ذكره.

طلب إليه المهدي أن يغنيه صوتا له فغناه غيره و اعتذر عنه:

أخبرني عليّ بن عبد العزيز عن عبيد اللّه(3) بن عبد اللّه عن إسحاق، و أخبرني الحسين بن يحيى عن ابن أبي الأزهر عن حمّاد عن أبيه، و أخبرنا به يحيى بن عليّ عن أخيه أحمد بن عليّ عن عافية بن شبيب عن أبي جعفر الأسديّ عن إسحاق، قال يحيى خاصّة في خبره:

قال إسحاق: حججت مع الرشيد، فلمّا قربت من مكة استأذنته في التقدّم فأذن لي، فدخلت مكة، فسألت عن أبي سعيد مولى فائد، فقيل لي: هو في المسجد الحرام. فأتيت المسجد فسألت عنه، فدللت عليه، فإذا هو قائم يصلّي، فجئت فجلست قريبا منه. فلمّا فرغ قال لي: يا فتى، أ لك حاجة؟ قلت: نعم، تغنّيني: «لقد طفت سبعا». هذه رواية يحيى بن عليّ. و أمّا الباقون فإنّهم ذكروا عن إسحاق أنّ المهديّ قال [هذا](4) لأبي سعيد و أمره أن يغنّي له:

/

لقد طفت سبعا قلت لمّا قضيتها *** ألا ليت هذا لا عليّ و لا ليا

/و رفق به و أدنى مجلسه، و قد كان نسك؛ فقال: أ و أغنّيك يا أمير المؤمنين أحسن منه؟ قال: أنت و ذاك. فغنّى(5):

إنّ هذا الطويل من آل حفص *** نشر المجد بعد ما كان ماتا

و بناه على أساس وثيق *** و عماد قد أثبتت إثباتا

ص: 481


1- في م: «بابن أبي شبة».
2- كذا في ح، م. و في سائر الأصول: «يسوق» بالياء المثناة من تحت.
3- في م: «عبيد اللّه بن عباس».
4- التكملة عن ء، ط.
5- كذا في ح. و في سائر الأصول: «فقال».

مثل ما قد بنى له أوّلوه *** و كذا يشبه البناة(1) البنانا

- الشعر و الغناء لأبي سعيد مولى فائد - فأحسن. فقال له المهديّ: أحسنت يا أبا سعيد! فغنّني «لقد طفت سبعا». قال: أ و أغنّيك أحسن منه؟ قال: أنت و ذاك. فغنّاه:

قدم الطويل فأشرقت و استبشرت *** أرض الحجاز و بان في الأشجار

إنّ الطويل من آل حفص فاعلموا *** ساد الحضور و ساد في الأسفار

فأحسن فيه. فقال: غنّني «لقد طفت سبعا». قال: أ و أغنيك أحسن منه؟ قال: فغنّني. فغناه:

أيّها السائل الذي يخبط الأر *** ض دع الناس أجمعين وراكا

و ات هذا الطويل من آل حفص *** إن تخوّفت علية(2) أو هلاكا

فأحسن فيه. فقال له: غنّني «لقد طفت سبعا»، فقد أحسنت فيما غنّيت، و لكنا نحبّ أن تغنّي ما دعوناك إليه. فقال: لا سبيل إلى ذلك يا أمير المؤمنين؛ لأنّي رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في منامي و في يده شيء لا أدري ما هو، /و قد رفعه ليضربني به و هو يقول: يا أبا سعيد، لقد طفت سبعا، لقد طفت سبعا سبعا طفت! ما صنعت بأمّتي في هذا الصوت! فقلت له: بأبي أنت و أمي اغفر لي، فو الّذي بعثك بالحقّ و اصطفاك بالنبوّة لا غنّيت هذا الصوت أبدا؛ فردّ يده ثم قال: عفا اللّه عنك إذا! ثم انتبهت. و ما كنت لأعطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم شيئا في منامي فأرجع عنه في يقظتي.

فبكى المهديّ و قال: أحسنت يا أبا سعيد أحسن اللّه إليك! لا تعد في غنائه، و حباه و كساه و أمر بردّه إلى الحجاز.

فقال له أبو سعيد: و لكن اسمعه يا أمير المؤمنين من منّة جارية البرامكة. و أظنّ حكاية من حكى ذلك عن المهديّ غلطا؛ لأن منّة جارية البرامكة لم تكن في أيّام المهديّ، و إنما نشأت و عرفت في أيّام الرشيد.

و قد حدّثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ عن أبيه أنّه هو الذي لقي أبا سعيد مولى فائد و جاراه هذه القصّة. و ذكر ذلك أيضا حمّاد بن إسحاق عن إبراهيم بن المهديّ. و قد يجوز أن يكون إبراهيم بن المهديّ و إسحاق سألاه عن هذا الصوت فأجابهما فيه بمثل ما أجاب المهديّ. و أمّا خبر إبراهيم بن المهديّ خاصّة فله معان غير هذه، و الصوت الذي سأله عنه غير هذا؛ و سيذكر بعد انقضاء هذه الأخبار لئلاّ تنقطع.

أراده إبراهيم بن المهدي على الذهاب إلى بغداد فأبى:

و أخبرني إسماعيل(3) بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة:

أنّ إبراهيم بن المهديّ لقي أبا سعيد مولى فائد؛ و ذكر الخبر بمثل الذي قبله، و زاد فيه: فقال له: اشخص معي إلى بغداد، فلم يفعل. فقال: ما كنت لآخذك بما لا تحبّ، و لو كان غيرك لأكرهته على ما أحبّ، و لكن دلّني /على من ينوب/عنك. فدلّه على ابن جامع، و قال له: عليك بغلام من بني سهم قد أخذ عنّي و عن نظرائي

ص: 482


1- في ء، ط، م هنا و فيما يأتي: و كذا يشبه النبات النباتا
2- في م: «غيلة». و في ء، ط: «عولة».
3- في ب، س: «إسحاق»، و هو تحريف.

و تخرّج، و هو كما تحبّ. فأخذه إبراهيم معه فأقدمه بغداد؛ فهو الذي كان سبب وروده إيّاها.

نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني
صوت من المائة المختارة

لقد طفت سبعا قلت لمّا قضيتها *** ألا ليت هذا لا عليّ و لا ليا

يسائلني صحبي فما أعقل الّذي *** يقولون من ذكر لليلى اعترانيا

عروضه من الطويل. ذكر يحيى بن عليّ أنّ الشعر و الغناء لأبي سعيد مولى فائد، و ذكر غيره أنّ الشعر للمجنون. و لحنه خفيف رمل بالبنصر و هو المختار. و ذكر حبش أنّ فيه لإبراهيم خفيف رمل آخر. و الذي ذكر يحيى بن عليّ من أنّ الشعر لأبي سعيد مولى فائد هو الصحيح.

أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن عيسى بن إسماعيل عن القحذميّ أنّه أنشده لأبي سعيد مولى فائد. قال عمّي:

و أنشدني هذا الشعر أيضا أحمد بن أبي طاهر عن أبي دعامة لأبي سعيد. و بعد هذين البيتين اللّذين مضيا هذه الأبيات:

إذا جئت باب الشّعب شعب ابن(1) عامر *** فأقرئ غزال الشّعب منّي سلاميا

و قل لغزال الشّعب هل أنت نازل *** بشعبك أم هل يصبح(2) القلب ثاويا

لقد زادني الحجّاج شوقا إليكم *** و قد كنت قبل اليوم للحجّ قاليا

و ما نظرت عيني إلى وجه قادم *** من الحجّ إلاّ بلّ دمعي ردائيا

/في البيت الأوّل من هذه الأبيات، و هو:

إذا جئت باب الشعب شعب ابن عامر

[لحن] لابن جامع خفيف رمل عن الهشاميّ.

و منها:

صوت

إنّ هذا الطويل من آل حفص *** نشر المجد بعد ما كان ماتا

و بناه على أساس وثيق *** و عماد قد أثبتت إثباتا

مثل ما قد بنى له أوّلوه *** و كذا يشبه البناة البناتا

ص: 483


1- شعب بني عامر: ماء أوّله الأبلّة، كما في «معجم ياقوت».
2- لعل الأوجه: «أم هل تصبح» بالخطاب.

عروضه من الخفيف. الشعر و الغناء لأبي سعيد مولى فائد. و لحنه رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.

و منها:

صوت

قدم الطويل فأشرقت لقدومه *** أرض الحجاز و بان في الأشجار

إنّ الطويل من آل حفص فاعلموا *** ساد الحضور و ساد في الأسفار

الشعر و الغناء لأبي سعيد.

و منها:

صوت

أيّها الطالب الذي يخبط الأر *** ض دع الناس أجمعين وراكا

/و ات هذا الطويل من آل حفص *** إن تخوّفت عيلة أو هلاكا

/عروضه من الخفيف. الشعر لأبي سعيد مولى فائد، و قيل: إنّه للدّارميّ. و الغناء لأبي سعيد خفيف ثقيل.

و فيه للدّارميّ ثاني ثقيل.

الطويل من آل حفص الذي غناه الشعراء في هذه الأشعار، هو عبد اللّه بن عبد الحميد بن حفص، و قيل: ابن أبي حفص بن المغيرة المخزوميّ؛ و كان ممدّحا.

مدحه لعبد اللّه بن عبد الحميد المخزومي:
اشارة

فأخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى إجازة عن أبي أيّوب المدينيّ قال حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه:

أنّ عبد اللّه بن عبد الحميد المخزوميّ، كان يعطي الشعراء فيجزل، و كان موسرا، و كان سبب يساره ما صار إليه من أمّ سلمة المخزوميّة امرأة أبي العبّاس السفّاح؛ فإنّه تزوّجها بعده، فصار إليه منها مال عظيم، فكان يتسمّح به و يتفتّى(1) و يتّسع في العطايا. و كانت أمّ سلمة مائلة إليه، فأعطته ما لا يدرى ما هو، ثم إنّها اتّهمته بجارية لها فاحتجبت عنه، فلم تعد إليه حتّى مات. و كان جميل الوجه طويلا. و فيه يقول أبو سعيد مولى فائد:

إنّ هذا الطويل من آل حفص *** نشر المجد بعد ما كان ماتا

و فيه يقول الدّارميّ:

أيّها السائل الذي يخبط الأر *** ض دع الناس أجمعين وراكا

و ات هذا الطويل من آل حفص *** إنّ تخوّفت عيلة أو هلاكا

و فيه يقول الدّارميّ أيضا:

ص: 484


1- يتفتى: يتسخى.
صوت

إنّ الطويل إذا حللت به *** يوما كفاك مئونة الثّقل

/ - و يروى:

ابن الطويل إذا حللت به

و حللت في دعة و في كنف

رحب الفناء و منزل سهل

غنّاه ابن عبّاد الكاتب، و لحنه من الثقيل الأوّل بالبنصر عن ابن المكّي.

غنى إبراهيم بن المهدي في المسجد:

فأمّا خبر إبراهيم بن المهديّ مع أبي سعيد مولى فائد الذي قلنا إنّه يذكر هاهنا، فأخبرني به الحسن بن عليّ قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني القطرانيّ المغنّي قال حدّثني ابن جبر قال:

سمعت إبراهيم بن المهديّ يقول: كنت بمكة في المسجد الحرام، فإذا شيخ قد طلع و قد قلب إحدى نعليه على الأخرى و قام يصلّي؛ فسألت عنه فقيل لي: هذا أبو سعيد مولى فائد. فقلت لبعض الغلمان: احصبه فحصبه؛ فأقبل عليه و قال: ما يظنّ أحدكم إذا دخل المسجد إلاّ أنّه له. فقلت للغلام: قل له: يقول لك مولاي: ابلغني؛ فقال ذلك له. فقال له أبو سعيد: من مولاك حفظه اللّه؟ قال: مولاي إبراهيم بن المهديّ، فمن أنت؟ قال: أنا أبو سعيد مولى فائد؛ و قام فجلس بين يديّ، و قال: لا و اللّه - بأبي أنت و أمّي - ما عرفتك! فقلت: لا عليك! أخبرني عن هذا الصوت:

أفاض المدامع قتلى كدى(1) *** و قتلى بكثوة(2) لم ترمس

/قال: هو لي. قلت: و ربّ هذه البنيّة لا تبرح حتى تغنيه. قال: و ربّ هذه البنيّة لا تبرح حتّى تسمعه. قال:

ثم قلب إحدى نعليه و أخذ بعقب الأخرى، و جعل يقرع بحرفها على/الأخرى و يغنّيه حتّى أتى عليه، فأخذته منه.

قال ابن جبر: و أخذته أنا من إبراهيم بن المهديّ.

ردّ محمد بن عمران القاضي شهادته ثم قبلها و صار يذهب إليه لسماعها:

أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم قال حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني دنية(3) المدنيّ صاحب العبّاسة بنت المهديّ، و كان آدب من قدم علينا من أهل الحجاز:

أنّ أبا سعيد مولى فائد حضر مجلس محمد بن عمران التّيميّ قاضي المدينة لأبي جعفر، و كان مقدّما لأبي سعيد. فقال له ابن عمران التيميّ: يا أبا سعيد أنت القائل:

ص: 485


1- كذا في أكثر الأصول. و كدى (بالضم و القصر): موضع بأسفل مكة عند ذي طوى بقرب شعب الشافعيين، و كدى (منقوصة كفتى): ثنية بالطائف. و في ح كداء (كسماء): اسم لعرفات أو جبل بأعلى مكة. و الشاعر يريد موضعا بعينه من هذه المواضع كانت به وقعة و قتلى، و كل منها يحتمله وزن الشعر.
2- كثوة (بالضم) بموضع.
3- كذا في ب، س. و في ح: «دينه المدني» بتقديم الياء المثناة على النون. و قد ورد في ء، ط هكذا: «دينه المدييني» بدون نقط.

لقد طفت سبعا قلت لمّا قضيتها *** ألا ليت هذا لا عليّ و لا ليا

فقال: إي لعمر أبيك، و إني لأدمجه إدماجا من لؤلؤ. فردّ محمد بن عمران شهادته في ذلك المجلس. و قام أبو سعيد من مجلسه مغضبا و حلف ألاّ يشهد عنده أبدا. فأنكر أهل المدينة على ابن عمران ردّه شهادته، و قالوا:

عرّضت حقوقنا للتّوى(1) و أموالنا للتلف؛ لأنا كنّا نشهد هذا الرجل لعلمنا بما كنت عليه و القضاة قبلك من الثقة به و تقديمه و تعديله. فندم ابن عمران بعد ذلك على ردّ شهادته، و وجّه إليه يسأله حضور(2) مجلسه و الشهادة عنده ليقضي بشهادته؛ فامتنع، و ذكر أنه لا يقدر على/حضور مجلسه ليمين لزمته إن حضره حنث. قال: فكان ابن عمران بعد ذلك، إذا ادّعى أحد عنده شهادة أبي سعيد، صار إليه إلى منزله أو مكانه من المسجد حتّى يسمع منه و يسأله عما يشهد به فيخبره. و كان محمد بن عمران كثير اللّحم، عظيم البطن. كبير العجيزة، صغير القدمين، دقيق الساقين، يشتدّ عليه المشي، فكان كثيرا ما يقول: لقد أتعبني هذا الصوت «لقد طفت سبعا» و أضرّ بي ضررا طويلا شديدا. و أنا رجل ثقال، بتردّدي إلى أبي سعيد لأسمع شهادته.

ردّ المطلب بن حنطب شهادته فقال له شعرا فقلها:

أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا النّضر بن عمرو عن الهيثم بن عديّ قال:

كان المطّلب بن عبد اللّه بن حنطب قاضيا على مكة، فشهد عنده أبو سعيد مولى فائد بشهادة؛ فقال له المطّلب: [ويحك!](3) أ لست الذي يقول:

لقد طفت سبعا قلت لمّا قضيتها *** ألا ليت هذا لا عليّ و لا ليا

لا قبلت لك شهادة أبدا. فقال له أبو سعيد: أنا و اللّه الذي أقول:

كأنّ وجوه الحنطبيّين(4) في الدّجى *** قناديل تسقيها السّليط(5) الهياكل

فقال الحنطبيّ: إنّك ما علمتك إلاّ دبّابا حول البيت في الظّلم، مدمنا للطّواف به في الليل و النهار؛ و قبل شهادته.

نسبة الصوت المذكور قبل هذا، الذي في حديث إبراهيم بن المهديّ و خبره
صوت

أفاض المدامع قتلي كدى *** و قتلي بكثوة لم ترمس

ص: 486


1- كذا في ب، ح، س. و التوى (وزان الحصى، و قد يمدّكما في «المصباح»): الهلاك. و في سائر الأصول: «الثوى» بالثاء المثلثة، و هو تصحيف.
2- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «يسأله حضور الشهادة في مجلسه ليقضي بشهادته إلخ».
3- زيادة عن م.
4- الحنطبيون: بطن من مخزوم، ينسبون إلى حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم القرشي الصحابي.
5- السليط: الزيت و كل دهن عصر من حب.

و قتلي بوجّ(1) و باللاّبتي *** ن من(2) يثرب خير ما أنفس

و بالزّابيين نفوس(3) ثوت *** و أخرى بنهر أبي فطرس(4)

أولئك قومي أناخت بهم *** نوائب من زمن متعس

إذا ركبوا زيّنوا الموكبين *** و إن جلسوا الزّين في المجلس

/هم أضرعوني لريب الزّمان *** و هم ألصقوا الرّغم(5) بالمعطس

عروضه من المتقارب. الشعر للعبليّ، و اسمه عبد اللّه بن عمر(6)، و يكنّى أبا عديّ، و له أخبار تذكر مفردة في موضعها إن شاء اللّه. و الغناء لأبي سعيد مولى فائد، و لحنه من الثقيل الثاني بالسبّابة في مجرى البنصر. و قصيدة العبليّ أوّلها:

/

تقول أمامة لمّا رأت *** نشوزي عن المضجع الأنفس

أنشد عبد اللّه بن عمر العبلي عبد اللّه بن حسن شعره في رثاء قومه فبكى:

نسخت من كتاب الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار، و أخبرني الأخفش عن المبرّد عن المغيرة بن محمد المهلّبيّ عن الزّبير عن سليمان بن عيّاش(7) السّعديّ قال:

جاء عبد اللّه بن عمر العبليّ إلى سويقة(8) و هو طريد بني العبّاس؛ و ذلك بعقب(9) أيّام بني أميّة و ابتداء خروج ملكهم إلى بني العبّاس، فقصد عبد اللّه و حسنا ابني الحسن بن حسن بسويقة؛ فاستنشده عبد اللّه بن حسن شيئا من شعره فأنشده؛ فقال له: أريد أن تنشدني شيئا مما رثيت به قومك(10)؛ فأنشده قوله:

تقول أمامة لمّا رأت *** نشوزي عن المضجع الأنفس

و قلّة نومي على مضجعي *** لدى هجعة الأعين النّعّس

ص: 487


1- وج: اسم واد بالطائف.
2- اللابتان: تثنية لابة و هي الحرّة، و هما حرتان تكتنفان المدينة. و في الحديث: أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم حرّم ما بين لابتيها، يعني المدينة. و الحرّة: أرض ذات حجارة نخرة سود كأنها أحرقت بالنار.
3- الزابيان: تثنية زاب، و ربما قيل فيه: «زابي» (بياء في آخره) فيثني على «زابيين». و هو اسم لروافد كثيرة. و لعل الشاعر يريد الزاب الأعلى الذي بين الموصل و إربل. و فيه كانت وقعة بين مروان الحمار بن محمد و بني العباس؛ أو الزاب الأسفل و بينه و بين الزاب الأعلى مسيرة يومين أو ثلاثة، و عليه كان مقتل عبيد اللّه بن زياد و هو من بني أمية. (انظر «معجم ياقوت»).
4- كذا في ح، م. و نهر أبي فطرس: نهر قرب الرملة من أرض فلسطين على اثني عشر ميلا من الرملة، و مخرجه من أعين في الحبل المتصل بنابلس، و يصب في البحر الملح بين يدي مدينتي أرسوف و يافا؛ و به كانت الوقعة التي بين عبد اللّه بن علي بن عبد اللّه بن العباس و بين بني أمية، فقتلهم في سنة 132 ه. و في سائر الأصول: «نهر أبي بطرس» بالباء الموحدة، و هو تحريف.
5- الرغم (مثلث الراء): التراب. و المعطس (كمجلس و مقعد): الأنف.
6- فيء، ط، م: «عمرو». و هو تحريف.
7- كذا في س، م. و في سائر الأصول: «عباس».
8- سويقة: موضع قرب المدينة يسكنه آل عليّ بن أبي طالب.
9- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «بعقب آخر أيام بني أمية إلخ».
10- فيء، ط، م: «بني أمية».

أبي ما عراك؟ فقلت الهموم *** عرون(1) أباك فلا تبلسي(2)

عرون أباك فحبّسنه *** من الذّلّ في شرّ ما محبس

لفقد الأحبّة إذ نالها *** سهام من الحدث المبئس(3)

رمتها المنون بلا نكّل *** و لا طائشات و لا نكّس

بأسهمها المتلفات النفوس *** متى ما تصب مهجة تخلس

فصرّعنهم في نواحي البلاد *** ملقّى بأرض و لم يرسس(4)

/تقيّ(5) أصيب و أثوابه *** من العيب و العار لم تدنس

و آخر قد دسّ في حفرة *** و آخر قد طار لم يحسس

إذا عنّ ذكرهم لم ينم *** أبوك و أوحش في المجلس

فذاك الذي غالني(6) فاعلمي *** و لا تسألي بامرئ متعس

أذلّوا قناتي لمن رامها *** و قد ألصقوا الرّغم بالمعطس

قال: فرأيت عبد اللّه بن حسن و إنّ دموعه لتجري على خدّه.

غنى الرشيد و كان مغضبا فسكن غضبه:

و قد أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز(7) عن المدائنيّ عن إبراهيم بن رباح قال:

عمّر أبو سعيد بن أبي سنّة مولى بني أميّة و هو مولى فائد مولى عمرو بن عثمان إلى أيّام الرشيد؛ فلمّا حجّ أحضره فقال: أنشدني قصيدتك:

تقول أمامة لمّا رأت

فاندفع فغنّاه قبل أن ينشده الشعر لحنه في أبيات منها، أوّلها:

أفاض المدامع قتلى كدى

و كان الرشيد مغضبا فسكن غضبه و طرب، فقال: أنشدني القصيدة. فقال: يا أمير المؤمنين، كان القوم مواليّ

ص: 488


1- في ء، ط، م: «عرين» و عراه يعريه و يعروه (من بابي ضرب و نصر): غشيه.
2- لا تبلسي: لا تحزني.
3- في ح: «الحدث الموئس».
4- في م: «ترمس» و صوابه: «يرمس» بالياء. و الرمس و الرس: الدفن. و في الحادي عشر (ص 298 من هذه الطبعة): فصرعاهم في نواحي البلا د تلقى بأرض و لم ترمس
5- في م: «نقيّ».
6- في ح: «عالني».
7- انظر الحاشية رقم 2 ص 277 من الجزء الثالث من هذا الكتاب.

و أنعموا عليّ، فرثيتهم(1) و لم أهج أحدا؛ فتركه.

كان ابن الأعرابي ينشد شعر العبلي فصحّفه فردّه أبو هفان:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثنا الحزنبل قال:

كنّا عند ابن/الأعرابيّ و حضر معنا أبو هفان(2)، فأنشدنا ابن الأعرابيّ عمن أنشده قال: قال ابن أبي سبة العبليّ(3):

أفاض المدامع قتلى كذا *** و قتلى بكبوة لم ترمس

فغمز أبو هفّان رجلا و قال له: قل له: ما معنى «كذا»؟ قال: يريد كثرتهم. فلمّا قمنا قال لي أبو هفّان:

أسمعت إلى هذا المعجب الرّقيع! صحّف اسم الرجل، هو ابن أبي سنّة، فقال: ابن أبي سبّة؛ و صحّف في بيت واحد موضعين، فقال: «قتلى كذا» و هو كدى، و «قتلى بكبوة» و هو بكثوة. و أغلظ عليّ من هذا أنه يفسّر تصحيفه بوجه وقاح. و هذا الشعر الذي غنّاه أبو سعيد يقوله أبو عديّ عبد اللّه بن عمر العبليّ فيمن قتله عبد اللّه بن عليّ بنهر أبي فطرس أبو العبّاس السفّاح أمير المؤمنين بعدهم من بني أميّة. و خبرهم و الوقائع التي كانت بينهم مشهورة يطول ذكرها جدّا. و نذكر هاهنا ما يستحسن منها.

ص: 489


1- يلاحظ هنا أن أبا الفرج قد نسب قصيدة: تقول أمامة لما رأت لأبي سعيد بن أبي سنة، مع أنه في الخبر الذي تقدّمه نسبها لعبد اللّه بن عمر العبليّ، و سينسبها إليه بعد أسطر، كما نسبها إليه أيضا في ترجمته الخاصة به في (ج 11 ص 293-309 من هذه الطبعة).
2- أبو هفان: كنية عبد اللّه بن أحمد الهزمي، كما في «معجم ياقوت» في كلامه على «كثوة».
3- كذا في جميع الأصول. و يلاحظ أن «العبليّ» ليس نسبة لأبي سنة، و إنما هو نسبة لأبي عديّ عبد اللّه بن عمر صاحب هذا الشعر، كما سيذكره المؤلف في هذا الخبر بعد قليل.

51 - ذكر من قتل أبو العبّاس السفّاح من بني اميّة

اشارة

51 - ذكر(1) من قتل أبو العبّاس السفّاح من بني اميّة

مقتل مروان بن محمد و ظفر عبد الصمد بن علي برأسه:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني مسبّح بن حاتم العكليّ(2) قال حدّثني الجهم بن السّبّاق عن صالح بن ميمون مولى عبد الصمد بن عليّ، قال:

لمّا استمرّت الهزيمة بمروان، أقام عبد اللّه بن عليّ بالرّقّة، و أنفذ أخاه عبد الصمد في طلبه فصار إلى دمشق، و أتبعه جيشا عليهم أبو إسماعيل عامر الطويل من قوّاد خراسان، فلحقه و قد جاز مصر في قرية تدعى بوصير(3)، فقتله، و ذلك يوم الأحد ثلاث بقين من ذي الحجّة، و وجّه برأسه إلى عبد اللّه بن عليّ، فأنفذه عبد اللّه بن عليّ إلى أبي العباس. فلمّا وضع بين يديه خرّ للّه ساجدا، ثم رفع رأسه و قال: الحمد للّه الذي أظهرني عليك و أظفرن بك و لم يبق ثاري قبلك و قبل رهطك أعداء الدّين؛ ثم تمثّل قول ذي الإصبع العدوانيّ:

لو(4) يشربون دمي لم يرو شاربهم *** و لا دماؤهم للغيظ ترويني

أتى عبد اللّه بن علي ابن مسلمة بن عبد الملك فأبى و قاتل حتى قتل:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني محمد بن يزيد قال:

نظر عبد اللّه بن عليّ إلى فتى عليه أبّهة الشّرف و هو يقاتل مستنتلا(5)، فناداه: يا فتى، لك الأمان و لو كنت مروان بن محمد. فقال: إلاّ أكنه فلست بدونه. قال: فلك الأمان من كنت. فأطرق ثم قال:

/

أذلّ الحياة و كره الممات *** و كلاّ أرى لك شرّا وبيلا

- و يروى:

و كلاّ أراه طعاما وبيلا

ص: 490


1- زيادة عن ب، س.
2- في م: «مسبح بن حاتم العتكي».
3- هي بوصير قوريدس من أعمال الفيوم التي قتل بها مروان المذكور، كما في «تقويم البلدان» لأبي الفدا إسماعيل (ص 107 طبع أوروبا و «معجم البلدان» لياقوت في كلامه على «بوصير». و في كتاب «ولاة مصر و قضائها» للكندي (ص 96 طبع بيروت) أنه «قتل ببوصير من كورة الأشمونين يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة سنة اثنتين و ثلاثين و مائة». و كورة الأشمونين من كور الصعيد الأدنى غربي النيل كما في «معجم ياقوت». و في «النجوم الزاهرة» (ج 1 ص 317 طبع دار الكتب المصرية) أنه قتل ببوصير بالجيزة.
4- ورد هذا البيت في «الأمالي» (ج 1 ص 256 طبع دار الكتب المصرية). في قصيدة ذي الإصبع العدوانيّ هكذا: لو تشربون دمي لم يرو شاربكم و لا دماؤكم جمعا تروّيني
5- كذا في س. و المستنتل: الخارج من الصف المتقدم على أصحابه. و في سائر الأصول: «مستقتلا».

فإن لم يكن غير إحداهما *** فسيرا إلى الموت سيرا جميلا

ثم قاتل حتى قتل. قال: فإذا هو ابن مسلمة(1) بن عبد الملك بن مروان.

اجتمع عند السفاح جماعة من بني أمية فأنشده سديف شعرا يغريه بهم فقتلهم و كتب إلى عماله بقتلهم:

أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن سعد الكرانيّ قال حدّثني النّضر بن عمرو عن المعيطيّ، و أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال قال أبو السائب سلّم بن جنادة السّوائيّ(2) سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين يقول:

دخل سديف - و هو مولى لآل أبي لهب - على أبي العبّاس بالحيرة. هكذا قال وكيع. و قال الكرانيّ في خبره و اللفظ له: كان أبو العبّاس جالسا في مجلسه على سريره و بنو هاشم دونه/على الكراسيّ، و بنو أميّة على الوسائد قد ثنيت لهم، و كانوا في أيّام دولتهم يجلسون هم و الخلفاء منهم على السرير، و يجلس بنو هاشم على الكراسيّ؛ فدخل الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، بالباب رجل حجازيّ أسود راكب على نجيب متلثّم يستأذن و لا يحبر باسمه، و يحلف ألاّ يحسر اللّثام عن وجهه حتّى يراك. قال: هذا مولاي سديف، يدخل، فدخل. فلمّا نظر إلى أبي العبّاس و بنو أميّة حوله، حدر اللّثام عن وجهه و أنشأ يقول(3):

/

أصبح الملك ثابت الأساس *** بالبهاليل(4) من بني العبّاس

بالصدور المقدّمين قديما *** و الرّءوس القماقم الرّؤاس(5)

يا أمير المطهرين من الذّمّ و يا رأس منتهى كلّ راس

أنت مهديّ هاشم و هداها *** كم أناس رجوك بعد إياس(6)

لا تقيلنّ بعد شمس عثارا *** و اقطعن كلّ رقلة(7) و غراس

أنزلوها بحيث أنزلها اللّه بدار الهوان و الإتعاس

ص: 491


1- في «النجوم الزاهرة» (ج 1 ص 258 طبع دار الكتب المصرية) بعد ذكر هذين البيتين: «فإذا هو ابن عبد الملك، و قيل: ابن لمسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم».
2- السوائيّ (بالضم و التخفيف و الهمز): نسبة إلى سواءة بن عامر بن صعصعة.
3- اتفق «الكامل» للمبرد (ص 707 طبع أوروبا) «و العقد الفريد» (ج 2 ص 356 طبع مصر) على أن قائل هذا الشعر هو شبل بن عبد اللّه مولى بني هاشم. و يؤكد هذا الشعر نفسه؛ إذ يقول فيه، على رواية،: نعم شبل الهراش مولاك شبل لو نجا من حبائل الإفلاس و اتفقا أيضا على أن شعر سديف هو: لا يغرّنك ما ترى من أناس إن تحت الضلوع داء دويا فضع السيف و ارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أمويا و اختلفا فيمن أنشد بين يديه هذا الشعر؛ ففي «العقد الفريد» أنه أبو العباس السفاح، و في «الكامل» أنه عبد اللّه بن عليّ.
4- البهاليل: جمع بهلول و هو العزيز الجامع لكل خير، أو هو الحيّ الكريم.
5- الرؤاس: الولاة و الحكام.
6- في ء، ط: كم أناس رجوك بعد أناس
7- الرقلة: النخلة الطويلة التي تفوت اليد.

خوفهم أظهر التّودّد منهم *** و بهم منكم كحزّ المواسي

أقصهم أيّها الخليفة و احسم *** عنك بالسّيف شأفة الأرجاس

و اذكرن(1) مصرع الحسين و زيد(2) *** و قتيل(3) بجانب المهراس(4)

و الإمام(5) الذي بحرّان أمسى *** رهن قبر في غربة و تناسي

فلقد ساءني و ساء سوائي *** قربهم من نمارق و كراسي

نعم كلب(6) الهراش مولاك لو لا *** أود(7) من حبائل الإفلاس

/فتغيّر لون أبي العبّاس و أخذه زمع(8) و رعدة؛ فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك إلى رجل منهم، و كان إلى جنبه، فقال: قتلنا و اللّه العبد. ثم أقبل أبو العبّاس عليهم فقال: يا بني الفواعل، أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا و أنتم أحياء تتلذّذون في الدنيا! خذوهم! فأخذتهم الخراسانيّة بالكافر(9) كوبات، فأهمدوا، إلاّ ما كان من عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فإنّه استجار بداود بن عليّ و قال له: إنّ أبي لم يكن كآبائهم و قد علمت صنيعته إليكم؛ فأجاره و استوهبه من السفّاح، و قال له: قد علمت يا أمير المؤمنين صنيع أبيه إلينا. فوهبه له و قال له: لا تريني وجهه، و ليكن بحيث تأمنه؛ و كتب إلى عمّاله في النواحي بقتل بني أميّة.

سبب قتل السفاح لبني أمية و تشفيه فيهم:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني أحمد بن سعيد الدّمشقيّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار عن عمّه:

أنّ سبب قتل بني أمية: أنّ السفاح أنشد قصيدة مدح بها، فأقبل على بعضهم فقال: أين هذا مما مدحتم به! فقال: هيهات! لا يقول و اللّه أحد فيكم مثل قول ابن قيس الرّقيّات فينا:

ما نقموا من بني أميّة إلاّ أنّهم يحلمون إن غضبوا

و أنّهم معدن الملوك و لا *** تصلح إلاّ عليهم العرب

فقال له: يا ماصّ كذا من أمّه! أ و إنّ الخلافة لفي نفسك بعد! خذوهم! فأخذوا فقتلوا.

ص: 492


1- في «الكامل»: «و اذكروا».
2- هو زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، قتل في أيام هشام بن عبد الملك.
3- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «و قتيلا». و يعني به حمزة بن عبد المطلب، قتله يوم أحد وحشيّ غلام جبير بن مطعم.
4- المهراس فيما ذكر المبرد: ماء بأحد؛ روي أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عطش يوم أحد فجاءه عليّ في درقة بماء من المهراس، فعافه و غسل به الدم عن وجهه. قال المبرد في «الكامل»: و إنما نسب شبل قتل حمزة إلى بني أمية لأن أبا سفيان بن حرب كان قائد الناس يوم أحد.
5- الإمام الذي بحرّان: هو إبراهيم الإمام رأس الدعوة العباسية، و قد قتله مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية صبرا.
6- في «الكامل» «و العقد الفريد»: نعم شبل الهراش مولاك شبل لو نجا من حبائل الإفلاس
7- الأود هنا: الكد و التعب و الجهد.
8- الزمع: شبه الرعدة تأخذ الإنسان.
9- في ح: «بالكفر كربات». و لعله اسم أعجميّ لآلات يضرب بها كالعمد و غيرها.
بسط السفاح على قتلاهم بساطا تغدى عليه و هم يضطربون تحته:

أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن النّضر بن عمرو عن المعيطيّ:

/أنّ أبا العباس دعا بالغداء/حين قتلوا، و أمر ببساط فبسط عليهم، و جلس فوقه يأكل و هم يضطربون تحته.

فلمّا فرغ من الأكل قال: ما أعلمني أكلت أكلة قطّ أهنأ و لا أطيب لنفسي منها. فلمّا فرغ قال: جرّوا بأرجلهم؛ فألقوا في الطريق يلعنهم الناس أمواتا كما لعنوهم أحياء. قال: فرأيت الكلاب تجرّ بأرجلهم و عليهم سراويلات الوشى حتى أنتنوا؛ ثم حفرت لهم بئر فألقوا فيها.

أنشد ابن هرمة داود بن علي شعرا فأوغر صدره على بعض أمويين في مجلسه:

أخبرني عمر بن عبد اللّه بن جميل العتكيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن معن الغفاريّ عن أبيه قال:

لمّا أقبل داود بن عليّ من مكة أقبل معه بنو حسن جميعا و حسين بن عليّ بن حسين و عليّ بن عمر(1) بن عليّ بن حسين و جعفر بن محمد و الأرقط محمد بن عبد اللّه و حسين بن زيد و محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان و عبد اللّه بن عنبسة بن سعيد بن العاصي و عروة و سعيد ابنا خالد بن سعيد بن عمرو بن عثمان، فعمل لداود مجلس بالرّويثة(2)؛ فجلس عليه هو و الهاشميّون، و جلس الأمويّون تحتهم؛ فأنشده إبراهيم بن هرمة قصيدة يقول فيها.

فلا عفا اللّه عن مروان مظلمة *** و لا أميّة بئس المجلس النّادي(3)

كانوا كعاد فأمسى اللّه أهلكهم *** بمثل ما أهلك الغاوين من عاد

فلن يكذّبني من هاشم أحد *** فيما أقول و لو أكثرت تعدادي

/قال: فنبذ داود نحو ابن عنبسة ضحكة كالكشرة. فلمّا قام قال عبد اللّه [ابن حسن](4) لأخيه حسن: أ ما رأيت ضحكته إلى ابن عنبسة! الحمد للّه الذي صرفها عن أخي(5) (يعني العثمانيّ)، قال: فما هو إلاّ أن قدم(6)المدينة حتّى قتل ابن عنبسة.

استحلف عبد اللّه بن حسن داود بن علي ألا يقتل أخويه محمدا و القاسم:

قال محمد بن معن حدّثني محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان قال:

استحلف أخي عبد اللّه بن حسن داود بن عليّ، و قد حجّ معه سنة اثنتين و ثلاثين و مائة، بطلاق امرأته مليكة بنت داود بن حسن ألاّ يقتل أخويه محمدا و القاسم ابني عبد اللّه. قال: فكنت أختلف إليه آمنا و هو يقتل بني أميّة،

ص: 493


1- كذا في ط، م، و هو الموافق لما في الطبري (قسم 3 ص 191 طبع أوروبا). و في ء: «على بن عمرو بن علي بن حسين». و في سائر الأصول: «علي بن محمد بن علي بن حسين»، و هما تحريف.
2- الرويثة: موضع على ليلة من المدينة.
3- في ب، س، م: «البادي» بالباء الموحدة.
4- زيادة عن ح.
5- هو أخوه لامّه، كما ذكر ذلك في كتب التاريخ.
6- في ب، س: «فما هو إلا أنه ما قدم المدينة إلخ».

و كان يكره أن يراني أهل خراسان و لا يستطيع إليّ سبيلا ليمينه. فاستدناني يوما فدنوت منه، فقال: ما أكثر الغفلة و أقلّ الحزمة! فأخبرت بها عبد اللّه بن حسن؛ فقال: يا ابن أمّ، تغيّب عن الرجل؛ فتغيّبت عنه حتّى مات.

أنشد سديف السفاح شعرا و عنده رجال من بني أمية فأمر بقتلهم:

أخبرني الحسن بن عليّ و محمد بن يحيى قالا حدّثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدّثني إسماعيل بن إبراهيم عن الهيثم بن بشر مولى محمد بن عليّ قال:

أنشد سديف أبا العبّاس، و عنده رجال من بني أميّة، قوله:

يا بن عمّ النبيّ أنت ضياء *** استبنّا بك اليقين الجليّا

فلمّا بلغ قوله:

جرّد السّيف و ارفع العفو حتّى *** لا ترى فوق ظهرها أمويا

لا يغرّنك ما ترى من رجال *** إنّ تحت الضّلوع داء دويا

بطن البغض في القديم فأضحى *** ثاويا في قلوبهم مطويا

/و هي طويلة، قال(1): يا سديف، خلق الإنسان من عجل، ثم قال:

أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا *** فلن تبيد و للآباء أبناء

/ثم أمر بمن عنده منهم فقتلوا.

حضر سليمان بن علي جماعة من بني أمية فأمر بقتلهم:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني عليّ بن محمد بن سليمان النّوفليّ عن أبيه عن عمومته:

أنّهم حضروا سليمان بن عليّ بالبصرة، و قد حضره جماعة من بني أميّة عليهم الثّياب الموشيّة المرتفعة، فكأنّي انظر إلى أحدهم و قد اسودّ شيب في عارضيه من الغالية(2)، فأمر بهم فقتلوا و جرّوا بأرجلهم، فألقوا على الطريق، و إنّ عليهم لسراويلات الوشي و الكلاب تجرّ بأرجلهم.

وفد عمرو بن معاوية على سليمان بن علي يسأله الأمان فأجابه «إليه»:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن عمرو(3) قال أخبرني طارق بن المبارك عن أبيه قال:

جاءني رسول عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة، فقال لي: يقول لك عمرو: قد جاءت هذه الدولة و أنا حديث السنّ كثير العيال منتشر المال، فما أكون في قبيلة إلاّ شهر أمري و عرفت، و قد اعتزمت على أن أفدي حرمي بنفسي؛ و أنا صائر إلى باب الأمير سليمان بن عليّ، فصر إليّ. فوافيته فإذا عليه طيلسان مطبق أبيض و سراويل وشي

ص: 494


1- في الأصول: «فقال».
2- الغالية: ضرب من الطيب.
3- في ح، م: «محمد بن عبد اللّه بن عمر».

مسدول، فقلت: يا سبحان اللّه! ما تصنع الحداثة بأهلها! أ بهذا اللباس تلقى هؤلاء القوم لما تريد لقاءهم فيه! فقال:

لا و اللّه، و لكنّه ليس عندي ثوب إلاّ أشهر مما(1) ترى. فأعطيته طيلساني و أخذت طيلسانه و لويت سراويله إلى /ركبتيه؛ فدخل ثم خرج مسرورا. فقلت له: حدّثني ما جرى بينك و بين الأمير. قال: دخلت عليه و لم نتراء قطّ، فقلت: أصلح اللّه الأمير! لفظتني البلاد إليك، و دلّني فضلك عليك؛ فإمّا قتلتني غانما، و إمّا رددتني سالما. فقال:

و من أنت؟ ما أعرفك؛ فانتسبت له. فقال: مرحبا بك، أقعد فتكلّم آمنا غانما؛ ثم أقبل عليّ فقال: ما حاجتك يا ابن أخي؟ فقلت: إنّ الحرم اللواتي أنت أقرب الناس إليهنّ معنا و أولى الناس بهنّ بعدنا، قد خفن لخوفنا، و من خاف خيف عليه. فو اللّه ما أجابني إلاّ بدموعه على خدّيه؛ ثم قال: يا ابن أخي، يحقن اللّه دمك، و يحفظك في حرمك، و يوفّر عليك مالك. و و اللّه لو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت، فكن متواريا كظاهر، و آمنا كخائف، و لتأتني رقاعك. قال: فكنت و اللّه أكتب إليه كما يكتب الرجل إلى أبيه و عمّه. قال: فلمّا فرغ من الحديث رددت عليه طيلسانه؛ فقال: مهلا(2)، فإنّ ثيابنا إذا فارقتنا لن ترجع إلينا.

شعر لسديف في تحريض السفاح على بني أمية:

أخبرني [أحمد بن عبد اللّه قال حدّثنا](3) أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:

قال سديف لأبي العبّاس يحضّه على بني أميّة و يذكر من قتل مروان و بنو أميّة من قومه:

كيف بالعفو عنهم و قديما *** قتلوكم و هتّكوا الحرمات

أين زيد و أين يحيى بن زيد *** يا لها من مصيبة و ترات

و الإمام الذي أصيب بحرّا *** نّ إمام الهدى و رأس الثّقات

قتلوا(4) آل أحمد لا عفا الذّن *** ب لمروان غافر السّيّئات

شعر لرجل من شيعة بني العباس في التحريض على بني أمية:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال:

أنشدني محمد بن يزيد لرجل من شيعة بني العبّاس يحرّضهم على بني أميّة:

إيّاكم أن تلينوا(5) لاعتذارهم *** فليس ذلك إلاّ الخوف و الطّمع

/لو أنّهم أمنوا أبدوا عداوتهم *** لكنّهم قمعوا بالذلّ فانقمعوا

أ ليس في ألف شهر قد مضت لهم *** سقوكم جرعا من بعدها جرع

ص: 495


1- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «إلا أشهر من هذه».
2- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «مه».
3- زيادة عن س، م.
4- في ح: قتلوا آل أحمد لا عفا اللّ ه لمروان سافر السيئات
5- في ح. «تنيبوا». و في م: إياكم أن يليتوا الاعتذار لكم

حتّى إذا ما انقضت أيّام مدّتهم *** متّوا إليكم بالأرحام التي قطعوا

هيهات لا بدّ أن يسقوا بكأسهم *** ريّا و أن يحصدوا الزّرع الذي زرعوا

إنّا و إخواننا الأنصار شيعتكم *** إذا تفرّقت الأهواء و الشّيع

إيّاكم أن يقول الناس إنّهم *** قد ملّكوا ثم ما ضرّوا و لا نفعوا

رواية أخرى في تحريض سديف للسفاح:

و ذكر ابن المعتزّ: أنّ جعفر بن إبراهيم حدّثه عن إسحاق بن منصور عن أبي الخصيب في قصّة سديف بمثل ما ذكره الكرانيّ عن النضر بن عمرو عن المعيطيّ، إلاّ أنّه قال فيها:

فلمّا أنشده ذلك التفت إليه أبو الغمر سليمان بن هشام فقال: يا ماصّ بظر أمّه! أ تجبهنا بهذا و نحن سروات الناس! فغضب أبو العبّاس؛ و كان سليمان بن هشام صديقه قديما و حديثا يقضي حوائجه في أيّامهم و يبرّه؛ فلم يلتفت إلى ذلك، و صاح بالخراسانيّة: خذوهم؛ فقتلوا جميعا إلاّ سليمان بن هشام، فأقبل عليه السفّاح فقال: يا أبا الغمر، ما أرى لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا. قال: لا و اللّه. فقال: اقتلوه، و كان إلى جنبه، فقتل؛ و صلبوا في بستانه، حتى تأذّى جلساؤه بروائحهم، فكلّموه في ذلك، فقال: و اللّه لهذا ألذّ عندي من شمّ المسك و العنبر، غيظا عليهم و حنقا.

نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء
صوت

أصبح الدّين(1) ثابت الأساس *** بالبهاليل من بني العبّاس

بالصّدور المقدّمين قديما *** و الرّءوس القماقم الرّؤاس

عروضه من الخفيف، الشعر لسديف. و الغناء لعطرّد رمل بالبنصر عن حبش. قال: و فيه لحكم الواديّ ثاني ثقيل. و فيه ثقيل أوّل مجهول.

و مما قاله أبو سعيد مولى فائد في قتلى بني أميّة و غنّى فيه:

صوت

بكيت و ما ذا يردّ البكاء *** و قلّ البكاء لقتلى كداء(2)

أصيبوا معا فتولّوا معا *** كذلك كانوا معا في رخاء

بكت لهم الأرض من بعدهم *** و ناحت عليهم نجوم السماء

و كانوا الضياء فلمّا انقضى الزّمان بقومي تولّى الضياء

ص: 496


1- في م: «أصبح الملك»، و هي الرواية التي وردت فيما مرّ.
2- وردت القافية في هذا الشعر، في «معجم ياقوت» في الكلام على كذا، بالقصر.

عروضه من المتقارب. الشعر و الغناء لأبي سعيد مولى فائد، و لحنه من الثقيل الأوّل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة و إسحاق و غيرهما.

و مما قاله فيهم و غنّى فيه على أنّه قد نسب إلى غيره:

صوت

أثّر الدهر في رجالي فقلّوا *** بعد جمع فراح عظمي مهيضا

/ما تذكّرتهم فتملك عيني *** فيض غرب و حقّ لي أن تفيضا

/الشعر و الغناء لأبي سعيد خفيف ثقيل بالوسطى عن ابن المكيّ و الهشاميّ. و روى الشّيعيّ عن عمر بن شبّة عن إسحاق أنّ الشعر لسديف و الغناء للغريض. و لعلّه و هم.

و منها:

صوت

أولئك قومي بعد عزّ و منعة *** تفانوا فإلاّ تذرف العين أكمد

كأنّهم لا ناس للموت غيرهم *** و إن كان فيهم منصفا غير معتدي

الشعر و الغناء لأبي سعيد. و فيه لحن لمتيّم.

ركب المأمون إلى جبل الثلج فغناه علوية بشعر ندب فيه بني أمية فسبه ثم كلم فيه فرضي:

أخبرني عبد اللّه بن الرّبيع قال حدّثنا أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال حدّثني عمّي طيّاب بن إبراهيم قال:

ركب المأمون بدمشق يتصيّد حتّى بلغ جبل الثّلج، فوقف في بعض الطريق على بركة عظيمة في جوانبها أربع سروات(1) لم ير أحسن منها و لا أعظم، فنزل المأمون و جعل ينظر إلى آثار بني أميّة و يعجب منها و يذكرهم، ثم دعا بطبق عليه بزماورد(2) و رطل نبيذ؛ فقام علّويه فغنّى:

أولئك قومي بعد عزّ و منعة *** تفانوا فإلاّ تذرف العين أكمد

/قال: فغضب المأمون و أمر برفع الطبق، و قال: يا ابن الزانية! أ لم يكن لك وقت تبكي فيه على قومك إلاّ هذا الوقت! قال: نعم أبكي عليهم! مولاكم زرياب(3) يركب معهم في مائة غلام، و أنا مولاهم معكم أموت جوعا!

ص: 497


1- السرو: شجر حسن الهيئة قويم الساق، واحده سروة.
2- البزماورد: طعام يسمى لقمة القاضي، و فخذ الست، و لقمة الخليفة، و هو مصنوع من اللحم المقلي بالزبد و البيض. و في «شفاء الغليل»: «زماورد» و العامة تقول: «بزماورد»: كلمة فارسية استعملتها العرب للرقاق الملفوف باللحم.
3- زرياب: هو علي بن نافع المغني مولى المهدي و معلم إبراهيم الموصلي، صار إلى الشام ثم صار إلى المغرب إلى بني أمية، فقدم الأندلس على عبد الرحمن الأوسط سنة 136 ه فركب بنفسه لتلقيه، كما حكاه ابن خلدون. و زرياب لقب غلب عليه ببلده، لسواد لونه مع فصاحة لسانه، شبه بطائر أسود غرّاد. و كان شاعرا مطبوعا و أستاذا في الموسيقى. (انظر «شرح القاموس» مادة زرب، «و تاريخ بغداد» لابن طيفور ج 6 ص 284 طبع أوروبا).

فقام المأمون فركب و انصرف الناس، و غضب على علّويه عشرين يوما؛ فكلّمه فيه عبّاس أخو بحر؛ فرضي عنه، و وصله بعشرين ألف درهم.

صوت من المائة المختارة
اشارة

مهاة لو أنّ الذّرّ تمشي ضعافه *** على متنها بضّت مدارجه دما(1)

فقلن لها قومي فديناك فاركبي *** فأومت بلالا غير أن تتكلّما(2)

عروضه من الطويل. بضّت: سالت. يقول: لو مشى الذرّ على جلدها لجرى منه الدّم من رقّته. و روى الأصمعيّ:

منعّمة لو يصبح الذّرّ ساريا *** على متنها بضّت مدارجه دما

الشعر لحميد بن ثور الهلاليّ. و الغناء في اللحن المختار لفليح بن أبي العوراء، و لحنه من الثقيل الأوّل بالوسطى. و ذكر عمرو بن بانة أنّ لحن فليح من خفيف الثقيل الأوّل بالوسطى، و أنّ الثقيل الأوّل للهذليّ.

/و مما يغنّى فيه من هذه القصيدة:

صوت

إذا شئت غنّتني بأجزاع(3) بيشة *** أو النّخل من تثليث(4) أو من يلملما(5)

ص: 498


1- رواية «عيون الأخبار» (ج 4 ص 143 طبع دار الكتب المصرية): على جلدها نضّت مدارجه دما و نضّت بالنون أيضا: سالت.
2- رواية «عيون الأخبار»: فأومت بلالا غير ما أن تكلما
3- كذا في ح، م. و في سائر الأصول: «بأجراع» بالراء المهملة. و قد تقدّم تفسيرهما في الحاشية رقم 2 ص 278 من هذا الجزء. و بيشة: اسم قرية غنّاء في واد كثير الأهل من بلاد اليمن.
4- تثليث (بكسر اللام و ياء ساكنة و ثاء أخرى مثلثة): موضع بالحجاز قرب مكة.
5- كذا بالأصول. و يلملم و يقال فيه: ألملم و يرمرم: ميقات أهل اليمن، و هو جبل على مرحلتين من مكة، و فيه مسجد معاذ بن جبل. و ورد هذا البيت في «معجم البلدان» لياقوت (ج 1 ص 487) هكذا: إن شئت غنتني بأجزاع بيشة و بالرّزن من تثليث أو من بمببما و قال: بمببم بفتحتين بوزن غشمشم: موضع أو جبل. و لم تجتمع الباء و الميم في كلمة اجتماعهما في هذه الكلمة. و رواه بعضهم يبمبم. و في «معجم ما استعجم» (ص 850): «إذا شئت..... يبنبما» و يبنبم (بفتح أوّله و ثانيه بعده نون و باء أخرى): واد شجير قبل تثليث. و قد ورد هذا البيت في «الكامل» للمبرد (ص 503 طبع أوروبا) كما هنا، و أشير في هامشه إلى عدّة روايات في هذا الاسم تقرب في الرسم من هذه الروايات التي ذكرناها.

مطوّقة طوقا و ليس بحلية *** و لا ضرب صوّاغ بكفّيه درهما

تبكّي(1) على فرح لها ثمّ تغتدي *** مولّهة تبغي لها الدّهر مطعما

تؤمّل منه مؤنسا لانفرادها *** و تبكي عليه إن زقا أو ترنّما

/و غنّاه محمد الرّفّ(2) خفيف رمل بالوسطى.

ص: 499


1- رواية «الكامل» للمبرد: مطوّقة خطباء تسجع كلما دنا الصيف و انجال الربيع فأنجما محلاّة طوق لم يكن من تميمة و لا ضرب صوّاغ بكفيه درهما و أنجم: أقلع مثل انجال.
2- في ح: «محمد الزف» بالزاي المعجمة. (انظر ما كتبناه عليه في الحاشية رقم 2 ص 306 من الجزء الأوّل من هذه الطبعة).

52 - ذكر حميد بن ثور و نسبه و أخباره

نسبه و طبقته في الشعراء:

هو حميد بن ثور بن عبد اللّه بن عامر بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار. و هو من شعراء الإسلام. و قرنه ابن سلاّم بنهشل بن حرّيّ و أوس(1) بن مغراء.

هو مخضرم أدرك عمر بن الخطاب:

و قد أدرك حميد بن ثور عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه، و قال الشعر في أيّامه. و قد أدرك الجاهليّة أيضا.

نهى عمر الشعراء عن التشبيب فقال شعرا:
اشارة

أخبرنا وكيع قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد و عبد اللّه بن شبيب قالا حدّثنا إبراهيم بن المنذر الحزاميّ قال حدّثني محمد بن فضالة النحويّ قال:

تقدّم عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إلى الشعراء ألاّ يشبّب أحد بامرأة إلاّ جلده. فقال حميد(2) بن ثور:

أبى اللّه إلاّ أنّ سرحة(3) مالك *** على كلّ أفنان العضاه(4) تروق(5)

فقد ذهبت عرضا و ما فوق طولها *** من السّرح إلاّ عشّة و سحوق

- العشّة: القليلة الأغصان و الورق. و السّحوق: الطويلة المفرطة -.

/

فلا الظّلّ(6) من برد الضّحى تستطيعه(7)*** و لا الفيء من برد العشيّ تذوق

ص: 500


1- عدّه ابن سلام في الطبقة الثالثة من الشعراء الإسلاميين. أما حميد بن ثور و نهشل بن حريّ فقد عدّهما في الطبقة الرابعة من الشعراء الإسلاميين. (راجع «طبقات الشعراء» لمحمد بن سلام الجمحي ص 129، 130 طبع أوروبا).
2- في م: «فقال حميد بن ثور و كانت له صحبة فذكر شعرا فيه».
3- السرحة: الشجرة الطويلة، و يكنى الشعراء بها عن المرأة.
4- العضاهة بالكسر: أعظم الشجر أو كل ذات شوك أو ما عظم منها و طال، كالعضه كعنب و العضهة كعنبسة، و الجمع: عضاه و عضون و عضوات.
5- أي تزيد عليها بحسنها و بهائها؛ من قولهم: راق فلان على فلان إذا زاد عليه فضلا.
6- الظل: ما كان أوّل النهار إلى الزوال. و الفيء: ما كان بعد الزوال إلى الليل. فالظل غربيّ تنسخه الشمس، و الفيء شرقيّ ينسخ الشمس. و البرد: من معانيه الظل و الفيء. يقال: البردان و الأبردان للظل و الفيء، و أيضا للغداة و العشيّ. و ظاهر الكلام يقتضي أن يكون المراد من «البرد» في الموضعين هنا: الظل و الفيء، على أن تكون «من» بيانية.
7- في «معجم البلدان» لياقوت في الكلام على سرحة: «تستظله».

فهل أنا إن علّلت نفسي بسرحة *** من السّرح موجود(1) عليّ طريق

و هي قصيدة طويلة أوّلها:

نأت أمّ عمر فالفؤاد مشوق *** يحنّ إليها والها و يتوق

صوت

و فيها مما يغنّى فيه:

سقى السّرحة المحلال(2) و الأبرق(3) الذي *** به السّرح غيث دائم و بروق

و هل أنا إن علّلت نفسي بسرحة *** من السّرح موجود عليّ طريق

غنّاه إسحاق، و لحنه ثاني ثقيل [بالوسطى](4).

وفد على بعض خلفاء بني أمية بشعر فوصله:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير عن عمّه قال:

وفد حميد بن ثور على بعض خلفاء بني أميّة؛ فقال له: ما جاء بك؟ فقال:

أتاك بي اللّه الذي فوق من ترى *** و خير و معروف عليك دليل

/و مطويّة الأقراب(5) أمّا نهارها *** فنصّ(6) و أمّا ليلها فذميل

و يطوي عليّ اللّيل حضنيه إنّني *** لذاك إذا هاب الرجال فعول

فوصله و صرفه شاكرا.

ص: 501


1- في «الاقتضاب» للبطليوسي (ص 459): «مأخوذ عليّ». و في «كنايات الجوجاني» (ص 7): «مسدود عليّ». و كل مستقيم المعنى.
2- المحلال: التي يكثر الناس الحلول بها. قال ابن سيده: و عندي أنها تحل الناس كثيرا؛ لأن مفعالا إنما هي في معنى فاعل لا في معنى مفعول.
3- الأبرق: أرض غليظة واسعة مختلطة بحجارة و رمل. و المراد به هنا موضع بعينه.
4- زيادة عن س، م.
5- الأقراب: جمع قرب (بالضم و بضمتين) و هو الخاصرة، و قيل: القرب من لدن الشاكلة إلى مراقّ البطن. و في «التهذيب»: فرس لاحق الأقراب، يجمعونه و إنما له قربان لسعته؛ كما يقال: شاة ضخمة الخواصر، و إنما لها خاصرتان. (انظر «اللسان» مادة قرب).
6- كذا في أكثر الأصول. و النص: أقصى السير. و الذميل: السير اللين. و في ء، ط: «فسبت». و السبت: ضرب من سير للإبل.

53 - أخبار فليح بن أبي العوراء

هو مولى بني مخزوم و أحد مغني الدولة العباسية:

فليح رجل من أهل مكة، مولى لبني مخزوم، و لم يقع إلينا اسم أبيه. و هو أحد مغنّي الدولة العبّاسيّة، له محلّ كبير من صناعته، و موضع جليل. و كان إسحاق إذا عدّ من سمع من المحسنين ذكره فيهم و بدأ به. و هو أحد الثلاثة الذين اختاروا المائة الصوت للرشيد.

مدح إسحاق الموصلي غناءه:

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني ابن المكّيّ عن أبيه عن إسحاق قال:

ما سمعت أحسن غناء من فليح بن أبي العوراء و ابن جامع: فقلت له: فأبو إسحاق؟ (يعني أباه)؛ فقال: كان هذان لا يحسنان/غير الغناء، و كان أبو إسحاق فيه مثلهما، و يزيد عليهما فنونا من الأدب و الرواية لا يداخلانه فيها.

كان يحكي الأوائل فيصيب و يحسن:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا يزيد بن محمد(1) المهلّبيّ قال:

قال لي إسحاق: أحسن من سمعت غناء عطرّد و فليح.

و كان(2) فليح أحد الموصوفين بحسن الغناء المسموع في أيّامه، و هو أحد من كان يحكي الأوائل فيصيب و يحسن.

أمره الرشيد بتعليم ابن صدقة صوتا له:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني محمد بن محمد العنبسيّ قال حدّثني محمد بن الوليد الزّبيريّ قال:

/سمعت كثير بن المحوّل يقول: كان مغنّيان بالمدينة يقال لأحدهما فليح بن أبي العوراء، و الآخر سليمان بن

ص: 502


1- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «محمد بن يزيد المهلبي» و هو خطأ.
2- في س، م، ح، زيادة قبل هذا الخبر هي: «و قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: كان فليح أحد الموصوفين... إلخ».

سليم؛ فخرج إليهما رسول الرشيد يقول لفليح غناؤك من حلق أبي صدقة(1) أحسن منه من حلقك، فعلّمه إيّاه - قال: و كان يغنّي صوتا يجيده، و هو:

خير ما نشربها(2) بالبكر

- قال: فقال فليح للرسول: قال له: حسبك. قال: فسمعنا ضحكه من وراء السّتارة.

كانت ترفع الستارة بينه و بين المهدي دون سائر المغنين:
اشارة

أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم قال حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ قال حدّثنا الفضل بن الربيع:

أنّ المهديّ كان يسمع المغنّين جميعا، و يحضرون مجلسه، فيغنّونه من وراء السّتارة لا يرون له وجها إلاّ فليح بن أبي العوراء؛ فإنّ عبد اللّه بن مصعب الزّبيريّ كان يروّيه شعره و يغنّي فيه في مدائحه للمهديّ؛ فدسّ في أضعافها بيتين يسأله فيهما أن ينادمه، و سأل فليحا أن يغنّيهما في أضعاف أغانيه، و هما:

صوت

صوت(3)

يا أمين الإله في الشّرق و الغر *** ب على الخلق و ابن عمّ الرّسول

مجلسا بالعشيّ عندك في المي *** دان أبغي و الإذن لي في الوصول

/فغنّاه فليح إيّاهما. فقال المهديّ: يا فضل، أجب عبد اللّه إلى ما سأل، و أحضره مجلسي إذا حضره أهلي و مواليّ و جلست لهم، و زده على ذلك أن ترفع بيني و بين راويته فليح السّتارة؛ فكان فليح أوّل مغنّ عاين وجهه في مجلسهم.

دعاه محمد بن سليمان بن علي أوّل دخوله بغداد و وصله:

أخبرني رضوان قال حدّثني يوسف بن إبراهيم قال حدّثني بعد قدومي فسطاط مصر زياد بن أبي الخطّاب كاتب مسرور خادم الرشيد، قال: سمعت محبوب بن الهفتيّ يحدّث أبي، قال:

دعاني محمد بن سليمان بن عليّ، فقال لي: قد قدم فليح من الحجاز و نزل عند مسجد ابن رغبان(4)، فصر إليه، فأعلمه أنّه إن جاءني قبل أن يدخل إلى الرشيد، خلعت عليه خلعة سريّة من ثيابي و وهبت له خمسة آلاف درهم. فمضيت إليه فخبّرته بذلك؛ فأجابني إليه إجابة مسرور به نشيط له. و خرج معي، فعدل إلى حمّام كان بقربه، فدعا القيّم فأعطاه درهمين و سأله أن يجيئه بشيء يأكله و نبيذ يشربه؛ فجاءه برأس كأنه رأس عجل و نبيذ

ص: 503


1- هو أبو صدقة مسكين بن صدقة أحد مغني عصر الرشيد. ذكر له أبو الفرج ترجمة في (ج 21 طبع أوروبا).
2- في ء، ط، م: «ما تشربها».
3- هذه الكلمة ساقطة في ء، ط، م. و مما يرجح سقوطها أن أبا الفرج لم يذكر طريقة الغناء في هذا الشعر.
4- في ح: «ابن زغبان» بالزاي قبل الغين. و في سائر الأصول: «ابن عتاب» و كلاهما محرّف عن «ابن رغبان». و يقع مسجد ابن رغبان هذا في غربي بغداد و كان مزبلة. قال بعض الدهاقين: مر بي رجل و أنا واقف عند المزبلة التي صارت مسجد ابن رغبان قبل أن تبنى بغداد، فوقف عليها و قال: ليأتين على الناس زمان من طرح في هذا الموضع شيئا فأحسن أحواله أن يحمل ذلك في ثوبه؛ فضحكت تعجبا. فما مرت إلا أيام حتى رأيت مصداق ما قال. (انظر «معجم البلدان» لياقوت ج 4 ص 524 طبع أوروبا).

دوشابيّ(1) غليظ مسحوريّ(2) رديء. فقلت/له: لا تفعل، و جهدت به ألاّ يأكل و لا يشرب إلاّ عند محمد بن سليمان؛ فلم يلتفت إليّ، و أكل ذلك الرأس و شرب من ذلك النبيذ الغليظ حتّى طابت نفسه، و غنّى و غنّى القيّم معه مليّا؛ ثم خاطب القيّم بما أغضبه، و تلاحيا و تواثبا؛ فأخذ القيّم شيئا فضربه به على رأسه فشجّه حتّى جرى دمه.

فلمّا رأى الدم/على وجهه اضطرب و جزع و قام يغسل جرحه، و دعا بصوفة محرقة و زيت، و عصبه و تعمّم و قام معي. فلمّا دخلنا دار محمد بن سليمان. و رأى الفرش و الآلة و حضر الطعام فرأى سروه(3) و طيبه، و حضر النبيذ و آلته، و مدّت الستائر و غنّى الجواري، أقبل عليّ و قال: يا مجنون! سألتك باللّه أيّما أحقّ بالعربدة و أولى: مجلس القيّم أم مجلس الأمير؟ فقلت: و كأنه لا بدّ من عربدة! قال: لا! و اللّه ما لي منها بدّ، فأخرجتها من رأسي هناك.

فقلت: أمّا على هذا الشرط فالذي فعلت أجود. فسألني محمد عما كنّا فيه فأخبرته؛ فضحك ضحكا كثيرا، و قال:

هذا الحديث و اللّه أظرف و أطيب من كلّ غناء؛ و خلع عليه و أعطاه خمسة آلاف درهم.

اتفق مع حكم الوادي على إسقاط ابن جامع عند يحيى بن خالد:

قال هارون بن محمد و حدّثني حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبو إسحاق القرمطيّ قال حدّثنا مدركة بن يزيد قال:

قال لي فليح بن أبي العوراء: بعث يحيى بن خالد إليّ و إلى حكم الواديّ و إلى ابن جامع، فأتيناه. فقلت لحكم: إن قعد ابن جامع معنا فعاونّي عليه لنكسره. فلمّا صرنا إلى الغناء غنّى حكم؛ فصحت و قلت: هكذا و اللّه يكون الغناء! ثم غنيت، ففعل لي حكم مثل ذلك. و غنّى ابن جامع فما كنّا معه في شيء. فلمّا كان/العشيّ أرسل إلى جاريته دنانير: إنّ أصحابك عندنا، فهل لك أن تخرجي إلينا؟ فخرجت و خرج معها و صائف؛ فأقبل عليها يقول لها من حيث يظنّ أنّا لا نسمع: ليس في القوم أنزه نفسا من فليح. ثم أشار إلى غلام له: أن ائت كلّ إنسان بألفي درهم، فجاء بها؛ فدفع إلى ابن جامع ألفي درهم فأخذها فطرحها في كمّه، و فعل بحكم الواديّ مثل ذلك فطرحها في كمّه، و دفع إليّ ألفين. فقلت لدنانير: قد بلغ منّي النبيذ، فاحبسيها لي عندك حتى تبعثي بها إليّ؛ فأخذت الدراهم منّي و بعثت بها إليّ من الغد، و قد زادت عليها؛ و أرسلت إليّ: قد بعثت إليك بوديعتك و بشيء أحببت أن تفرّقه على أخواتي (تعني جواريّ).

طلبه الفضل بن الربيع فجيء به مريضا فغنى و رجع ثم مات في علته:

قال هارون بن محمد و حدّثني حمّاد قال حدّثني أبي قال:

كنّا عند الفضل بن الربيع، فقال: هل لك في فليح بن أبي العوراء؟ قلت نعم. فأرسل إليه، فجاء الرسول

ص: 504


1- الدوشابي: نسبة إلى الدوشاب و هو نبيذ التمر معرّب؛ قال ابن المعتز: لا تخلط الدوشاب في قدح بصفاء ماء طيب البرد و قال ابن الرومي: علّني أحمد من الدوشاب شربة بغّضت قناع الشباب
2- مسحوري: فاسد.
3- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «و رأى سروره به و طيبه»: و هو تحريف. و السرو: الشرف و السخاء. و لعل المراد بسرو الطعام جودته و كثرته.

فقال: هو عليل؛ فعاد إليه فقال الرسول: لا بدّ من أن تجيء؛ فجاء به محمولا في محفّة؛ فحدّثنا ساعة ثم غنّى.

فكان فيما غنّى:

تقول عرسي إذ نبا المضجع *** ما بالك الليلة لا تهجع

فاستحسنّاه منه و استعدناه منه مرارا؛ ثم انصرف و مات في علّته تلك؛ و كان آخر العهد به ذلك المجلس.

روى قصة فتى عاشق غناه هو و عشيقته فبعثت إليه مهرها ليخطبها إلى أبيها:

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني محمد بن أحمد بن يحيى المكّيّ قال حدّثني أبي عن فليح بن أبي العوراء قال:

كان بالمدينة فتى يعشق ابنة عمّ له، فوعدته أن تزوره. و شكا إليّ أنّها تأتيه و لا شيء عنده، فأعطيته دينارا للنفقة. فلمّا زارته قالت له: من يلهّينا؟ قال: صديق لي، و وصفني لها، و دعاني فأتيته؛ فكان أوّل ما غنّيته:

/

من الخفرات لم تفضح أخاها *** و لم ترفع لوالدها شنارا(1)

فقامت إلى ثوبها فلبسته لتنصرف؛ فعلق بها و جهد بها كلّ الجهد في أن تقيم، فلم تقم و انصرفت. فأقبل عليّ يلومني في أن غنّيتها ذلك الصوت. فقلت: و اللّه ما هو شيء اعتمدت به مساءتك، و لكنه شيء اتّفق. قال: فلم نبرح حتى عاد رسولها بعدها و معه صرّة فيها ألف/دينار و دفعها إلى الفتى و قال له: تقول لك ابنة عمّك: هذا مهري ادفعه إلى أبي، و اخطبني؛ ففعل فتزوّجها.

نسبة هذا الصوت
صوت

من الخفرات لم تفضح أخاها *** و لم ترفع لوالدها شنارا

كأنّ مجامع الأرداف منها *** نقا(2) درجت عليه الريح هارا

يعاف وصال ذات البذل قلبي *** و أتّبع الممنّعة النّوارا(3)

و الشعر لسليك بن السّلكة السّعديّ. و الغناء لابن سريج رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و فيه لابن الهربذ لحن من رواية بذل، أوّله:

يعاف وصال ذات البذل قلبي

و بعده:

غذاها قارص(4) يغدو عليها *** و محض حين تنتظر العشارا

ص: 505


1- الخفرة: الشديدة الحياء. و الشنار: العيب و العار.
2- النقا (مقصور): الكثيب من الرمل. و هار: سقط و تهدّم.
3- النوار: المرأة النفور من الريبة و الجمع نور.
4- القارص: لبن يحذي اللسان أو حامض يحلب عليه حليب كثير حتى تذهب الحموضة. و المحض: اللبن الخالص. و العشار: جمع -
ورد دمشق على إبراهيم بن المهدي فأخذ عنه جواريه غناء و انتشرت أغانيه بها:

أخبرني رضوان بن أحمد قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم قال حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ قال:

كتب إليّ جعفر بن يحيى و أنا عامل للرشيد على جند دمشق: قد قدم علينا فليح بن أبي العوراء، فأفسد علينا بأهزاجه و خفيفه كلّ غناء سمعناه قبله. و أنا محتال لك في تخليصه إليك، لتستمتع به كما استمتعنا. فلم ألبث أن ورد عليّ فليح بكتاب الرشيد يأمر له بثلاثة آلاف دينار. فورد عليّ رجل أذكرني لقاؤه الناس، و أخبرني أنه قد ناهز المائة، فأقام عندي ثلاث سنين، فأخذ عنه جواريّ كلّ ما كان معه [من الغناء](1)، و انتشرت أغانيه بدمشق.

غنى موفق ألحان فليح بفسطاط مصر عند مقدم عنبسة بن إسحاق:
اشارة

قال يوسف: ثم قدم علينا شابّ من المغنّين مع عليّ بن زيد بن الفرج الحرّانيّ، عند مقدم عنبسة بن إسحاق فسطاط مصر، يقال له مونق؛ فغنّاني من غناء فليح:

صوت

صوت(2)

يا قرّة العين اقبلي عذري *** ضاق بهجرانكم صدري

لو هلك الهجر استراح الهوى *** ما لقي الوصل من الهجر

- و لحنه خفيف رمل - فلم أر بين ما غنّاه و بين ما سمعته في دار أبي إسحاق فرقا؛ فسألته من أين أخذه؟ فقال: أخذته بدمشق؛ فعلمت أنّه مما أخذه أهل دمشق عن فليح.

صوت من المائة المختارة

أ فاطم إنّ النأي يسلي ذوي الهوى *** و نأيك عنّي زاد قلبي بكم وجدا

أرى حرجا ما نلت من ودّ غيركم *** و نافلة ما نلت من ودّكم رشدا

و ما نلتقي من بعد نأي و فرقة *** و شحط نوى إلاّ وجدت له بردا

ص: 506


1- زيادة عن ء، ط، م.
2- زيادة عن ء، ط.

على كبد قد كاد يبدي بها الهوى *** ندوبا و بعض القوم يحسبني جلدا

عروضه من الطويل. النأي: البعد، و مثله الشّحط. و الحرج: الضّيق؛ قال اللّه تعالى: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) . و النّدوب: آثار الجراح، واحدها ندب.

الشعر لإبراهيم بن هرمة. و الغناء في اللحن المختار، على ما ذكره إسحاق، ليونس الكاتب، و هو من الثقيل الأوّل/بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. و ذكر يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه مثل ذلك. و ذكر حبش بن موسى أنّ الغناء لمرزوق الصرّاف أو ليحيى بن واصل. و في هذه الأبيات للهذليّ لحن من خفيف الثقيل الأوّل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة، و من الناس من ينسب اللحنين جميعا إليه.

ص: 507

54 - ذكر ابن هرمة و أخباره و نسبه

نسبه:

هو إبراهيم بن عليّ بن سلمة بن هرمة بن هذيل، هكذا ذكر يعقوب بن السّكّيت. و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير بن بكّار عن عمّه مصعب، و ذكر ذلك العبّاس بن هشام الكلبيّ عن أبيه هشام بن محمد بن السائب، قالوا جميعا: هو إبراهيم بن عليّ بن سلمة بن عامر بن هرمة بن الهديل بن ربيع بن عامر بن صبيح بن كنانة بن عديّ بن قيس بن الحارث بن فهر - و فهر أصل قريش، فمن لم يكن من ولده لم يعدّ من قريش، و قد قيل ذلك في النّضر بن كنانة - و فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. قال من ذكرنا من النسّابين: قيس بن الحارث هو الخلج، و كانوا في عدوان ثم انتقلوا إلى بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن. فلما استخلف عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه أتوه ليفرض لهم، فأنكر نسبهم. فلما استخلف عثمان أتوه فأثبتهم في بني الحارث بن فهر و جعل لهم معهم ديوانا. و سمّوا الخلج لأنّهم اختلجوا ممن كانوا معه من عدوان و من بني نصر بن معاوية. و أهل المدينة يقولون: إنّما سمّوا الخلج لأنهم نزلوا بالمدينة على خلج (و واحدها خليج) فسمّوا بذلك.

و لهم بالمدينة عدد. قال مصعب: كان لإبراهيم بن هرمة عمّ يقال له هرمة الأعور، فأرادت الخلج نفيه منهم؛ فقال: أمسيت ألأم العرب دعيّ أدعياء. ثم قال يهجوهم:

رأيت بني فهر سباطا(1) أكفّهم *** فمال بال - أنبوني - أكفّكم قفدا(2)

/و لم تدركوا ما أدرك القوم قبلكم *** من المجد إلا دعوة(3) ألحقت كدّا

على ذي أيادي الدّهر أفلح جدّهم *** و خبتم فلم يصرع لكم جدّكم جدّا

نفاه بنو الحارث بن فهر عنهم فعاتبهم فصار منهم لساعته:

و قال يحيى بن عليّ حدّثني أبو أيّوب المدينيّ عن المدائنيّ عن أبي سلمة الغفاريّ قال:

نفى بنو الحارث بن فهر ابن هرمة، فقال:

أ حار بن فهر كيف تطّرحونني *** و جاء العدا من غيركم تبتغي نصري

ص: 508


1- سباط: جمع سبط: وصف من السبوطة و هي الاعتدال و السهولة و الطول. و يكنى بسبوطة اليدين عن الكرم؛ يقال: رجل سبط اليدين إذا كان سخيا سمحا كريما، كما يقال: رجل جعد اليدين إذا كان بخيلا.
2- كذا في ط، و هو الذي يقتضيه سياق الكلام. و في ب، س: «أكفهم». و جملة أنبوني - و هو أمر من أنبأ خففت همزته فحذفت - معترضة بين المضاف و المضاف إليه. و القفد: ميل في الكف. يريد أنهم بخلاء.
3- الدعوة (بالفتح و تكسر): الاسم من ادعى بمعنى زعم.

قال: فصار من ولد فهر في ساعته.

كان يقول: أنا ألأم العرب:

قال يحيى بن عليّ و حدّثني أحمد بن يحيى الكاتب قال حدّثني العبّاس بن هشام الكلبيّ عن أبيه قال:

كان ابن هرمة يقول: أنا ألأم العرب، دعيّ أدعياء: هرمة دعيّ في الخلج، و الخلج أدعياء في قريش.

قصته مع أسلميّ ضافه:

حدّثني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي عبيدة بن محمد بن عمّار بن ياسر قال:

زرت عبد اللّه بن حسن بباديته و زاره ابن هرمة، فجاء رجل من أسلم؛ فقال ابن هرمة لعبد اللّه بن حسن:

أصلحك اللّه! سل الأسلميّ أن يأذن لي أن أخبرك خبري و خبره. فقال له عبد اللّه بن حسن: ائذن له، فأذن له الأسلميّ. فقال له إبراهيم بن هرمة: /إنّي خرجت - أصلحك اللّه - أبغي ذودا(1) لي، /فأوحشت(2) و ضفت هذا الأسلميّ، فذبح لي شاة و خبز لي خبزا و أكرمني، ثم غدوت من عنده، فأقمت ما شاء اللّه. ثم خرجت أيضا في بغاء ذود لي، فأوحشت فضفته فقراني بلبن و تمر، ثم غدوت من عنده فأقمت ما شاء اللّه. ثم خرجت في بغاء ذود لي، فأوحشت، فقلت: لو ضفت الأسلميّ! فاللّبن و التمر خير من الطّوى؛ فضفته فجاءني بلبن حامض. فقال: قد أجبته - أصلحك اللّه - إلى ما سأل، فسله أن يأذن لي أن أخبرك لم فعلت. فقال له: ائذن له؛ فأذن له. فقال الأسلميّ:

ضافني، فسألته من هو؟ فقال: رجل من قريش، فذبحت له الشاة التي ذكر، و و اللّه لو كان غيرها عندي لذبحته له حين ذكر أنّه من قريش. ثم غدا من عندي و غدا عليّ الحيّ فقالوا: من كان ضيفك البارحة؟ قلت: رجل من قريش؛ فقالوا: لا و اللّه ما هو من قريش، و لكنه دعيّ فيها. ثم ضافني الثانية على أنه دعيّ في قريش، فجئته بلبن و تمر و قلت: دعيّ قريش خير من غيره. ثم غدا من عندي و غدا عليّ الحيّ فقالوا: من كان ضيفك البارحة؟ قلت الرجل الذي زعمتم أنّه دعيّ في قريش؛ فقالوا: لا و اللّه ما هو بدعيّ في قريش، و لكنّه دعيّ أدعياء قريش. ثم جاءني الثالثة، فقريته لبنا حامضا، و و اللّه لو كان عندي شرّ منه لقريته إيّاه. قال: فانخذل ابن هرمة، و ضحك عبد اللّه و ضحكنا معه.

لقيه ابن ميادة و طلب مهاجاته ثم تبين أنه يمزح:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير قال حدّثني نوفل بن ميمون قال:

لقي ابن ميّادة ابن هرمة، فقال ابن ميادة: و اللّه لقد كنت أحبّ أن ألقاك، لا بدّ من أن نتهاجى، و قد فعل الناس ذلك قبلنا، فقال ابن هرمة: بئس و اللّه ما دعوت إليه و أحببته، و هو يظنّه جادّا. ثم قال له ابن هرمة: أما و اللّه إنّني للّذي أقول:

ص: 509


1- الذود: القطيع من الإبل من الثلاث إلى التسع، و قيل: ما بين الثلاث إلى الثلاثين، و لا يكون إلا من الإناث دون الذكور. قال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة».
2- يقال: أوحش الرجل إذا جاع و نفد زاده.

/

إنّي لميمون جوارا و إنّني *** إذا زجر الطّير العدا لمشوم

و إنّي لملآن(1) العنان مناقل(2)*** إذا ما ونى يوما ألّف(3) سئوم

فودّ رجال أنّ أمّي تقنّعت *** بشيب يغشّي الرأس و هي عقيم

فقال ابن ميّادة: و هل عندك جراء(4)؟ ثكلتك أمّك! أنت ألأم من ذلك! ما قلت إلاّ مازحا.

أخبرنا [به](5) وكيع قال حدّثنا محمد بن إسماعيل قال قال عبد العزيز بن عمران:

اجتمع ابن هرمة و ابن ميّادة عند جميع بن عمر بن الوليد، فقال ابن ميّادة لابن هرمة: قد كنت أحبّ أن ألقاك.

ثم ذكر نحوه.

أنكر عليه أن تمضغ الناطف مع قدوم وزير فحمله و تلقى به الموكب:

و قال هارون بن محمد بن عبد الملك حدّثنا عليّ بن محمد بن سليمان النّوفليّ قال حدّثني أبو سلمة الغفاريّ عن أبيه قال:

وفدت على المهديّ في جماعة من أهل المدينة، و كان فيمن وفد يوسف بن موهب(6) و كان في رجال بني هاشم من بني نوفل، و كان معنا ابن هرمة؛ فجلسنا يوما على دكّان قد هيّئ لمسجد و لم يسقّف، في عسكر المهديّ؛ و قد كنّا نلقى الوزراء و كبراء/السلطان، و كانوا قد عرفونا؛ و إذا حيال الدّكّان رجل بين يديه ناطف(7)يبيعه في يوم شات شديد البرد، فأقبل إذ ضربه بفأسه فتطاير جفوفا؛ فأقبل ابن هرمة علينا، فقال ليوسف: يا ابن عمّ رسول اللّه - صلى اللّه عليه و سلّم - أ ما معك درهم نأكل به من هذا الناطف؟ فقال له: متى عهدتني أحمل الدّراهم! قال: فقلت له:

لكنّي أنا معي، فأعطيته/درهما خفيفا(8)، فاشترى به ناطفا على طبق للنّاطفيّ فجاء بشيء كثير، فأقبل يتمضّغه

ص: 510


1- يقال: ملأ فلان عنان جواده إذا أعداه و حمله على الحضر الشديد.
2- كذا في ء. ط. و المناقل: السريع نقل القوائم. و في سائر الأصول: «مثاقل» بالثاء المثلثة و هو تصحيف.
3- الألف: الثقيل البطيء.
4- كذا في أكثر النسخ. و في ء، ط: «جرّي» و الجراء (بالفتح و الكسر) و الجراية و الجري (بالفتح فيهما): الفتوة.
5- زيادة عن ط، ء.
6- في «اللسان» و «القاموس» و «شرحه» مادّة وهب: «و موهب كمقعد اسم. قال سيبويه: جاءوا به على مفعل (بالفتح) لأنه اسم ليس على الفعل؛ إذ لو كان على الفعل لكان مفعلا (بكسر العين). فقد يكون ذلك لمكان العلمية؛ لأن الأعلام مما تغير القياس» اه.
7- الناطف: نوع من الحلواء. و قال الجوهري: هو القبّيط لأنه يتنطف قبل استضرابه أي يقطر قبل خثورته. و جعل النابغة الجعدي الحمر ناطفا فقال: و بات فريق ينضحون كأنما سقوا ناطفا من أذرعات مفلفلا و كذلك جعلها ابن هرمة، كما سيأتي قريبا في ص 373.
8- يريد بذلك الدراهم الصغار ذات الوزن الخفيف. قال المقريزي في كتابه «شذور العقود في ذكر النقود» (ص 16 طبع أوروبا): «و كان الناس قبل عبد الملك يؤدّون زكاة أموالهم شطرين من الكبار و الصغار. فلما اجتمعوا مع عبد الملك على ما عزم عليه عمد إلى درهم واف، فوزنه فإذا هو ثمانية دوانيق، و إلى درهم من الصغار فإذا هو أربعة دوانيق، فجمعها و حمل زيادة الأكبر على نقص الأصغر و جعلهما درهمين متساويين زنة كل منهما ستة دوانيق سواء» اه. ثم قال: «صنع عبد الملك في الدراهم ثلاث فضائل: الأولى أن كل سبعة مثاقيل زنة عشرة دراهم و الثانية أنه عدل بين كبارها و صغارها حتى اعتدلت و صار الدرهم ستة دوانيق. و الثالثة أنه موافق لما سنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في فريضة الزكاة بغير وكس و لا اشطاط؛ فمضت بذلك السنة و اجتمعت عليه الأمة... إلخ».

وحده و يحدّثنا و يضحك. فما راعنا إلاّ موكب أحد الوزيرين: أبي عبيد اللّه أو يعقوب بن داود. ثم أقبلت المطرّقة(1)؛ فقلنا: مالك قاتلك اللّه! يهجم علينا هذا و أصحابه، فيرون الناطف بين أيدينا فيظنّون أنّا كنّا نأكل معك.

قال: فو اللّه ما أحد أولى بالسّتر على أصحابه و تقلّد البليّة منك يا ابن عمّ رسول اللّه! فضعه بين يديك. قال:

اعزب(2) قبحك اللّه! قال: فأنت يا ابن أبي ذرّ، فزبرته(3). /قال: فقال: قد علمت أنّه لا يبتلى بهذا إلاّ دعيّ أدعياء عاضّ كذا من أمّه. ثم أخذ الطبق في يده فحمله و تلقّى به الموكب، فما مرّ به أحد له نباهة إلاّ مازحه، حتى مضى القوم جميعا.

مدح عبد اللّه بن حسن فأكرمه:

و قال هارون حدّثني أبو حذافة السّهميّ قال حدّثنا إسحاق بن نسطاس قال:

كان ابن هرمة مشتهرا بالنبيذ، فأتى عبد اللّه بن حسن و هو بالسّيالة(4)، فأنشده مديحا له. فقام عبد اللّه إلى غنم كانت له، فرمى بساجة(5) عليها فافترقت فرقتين، فقال: اختر أيّهما شئت - قال: فإمّا أن تكون زادت بواحدة أو نقصت بواحدة على الأخرى. قال: و كانت ثلاثمائة - و كتب له إلى المدينة بدنانير. فقال له: يا ابن هرمة، انقل عيالك إلينا يكونوا مع عيالنا. فقال: أفعل يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.

دعاه صديق و هو يزمع السفر إلى النبيذ فشرب حتى حمل سكران:

ثم قدم ابن هرمة المدينة و جهّز عياله لينقلهم إلى عبد اللّه بن حسن، و اكترى من رجل من مزينة.

فبينا هو قد شدّ متاعه و حمله و الكريّ(6) ينتظره أن يتحمّل، إذ أتاه صديق له، فقال: أي أبا إسحاق، عندي و اللّه نبيذ يسقط لحم الوجه. فقال: ويحك! أ ما ترانا على مثل هذه الحال! أ عليها يمكن الشراب! فقال: إنما هي ثلاثة لا تزد عليهنّ شيئا. فمضى معه و هم وقوف ينظرون(7)؛ فلم يزل يشرب حتى مضى من الليل صدر صالح؛ ثم أتى به و هو سكران، فطرح في شقّ المحمل و عادلته(8) امرأته و مضوا.

«لامته امرأته على ذلك فأجابها بشعر»:

فلمّا أسحروا رفع رأسه فقال: أين أنا؟ فأقبلت عليه امرأته تلومه و تعذله، و قالت: قد أفسد عليك هذا النبيذ دينك و دنياك، فلو تعلّلت عنه(9) بهذه الألبان! فرفع رأسه إليها و قال:

ص: 511


1- لعله يريد بهم الذين يتقدّمون الموكب يفسحون له الطريق.
2- أي اذهب و ابعد.
3- زبره هنا: نهره و أغلظ له في القول.
4- السيالة كسحابة: موضع بقرب المدينة على مرحلة.
5- الساجة: ضرب من الملاحف منسوجة، أو هي واحدة الساج و هو خشب يجلب من الهند.
6- الكريّ كغنى: المكاري.
7- في ء، ط، م: «ينتظرون»، و هما بمعنى واحد.
8- عادلته أي كانت معه في الشق الآخر من المحمل.
9- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «عليه»، و هو تحريف.

/

لا نبتغي(1) لبن البعير و عندنا *** ماء الزّبيب و ناطف المعصار

هو أحد من ختم بهم الشعراء في رأي الأصمعيّ:

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا زكريّا بن يحيى بن خلاّد قال:

كان الأصمعيّ يقول: ختم الشعراء بابن هرمة، و الحكم الخضريّ(2)، و ابن ميّادة، و طفيل الكنانيّ، و مكين(3) العذريّ.

رهن رداءه في النبيذ:

قال هارون بن محمد بن عبد الملك حدّثني أبو حذافة السّهميّ أحمد بن إسماعيل قال:

كان ابن هرمة مدمنا للشراب مغرما به؛ فأتى أبا عمرو بن أبي راشد مولى عدوان؛ فأكرمه و سقاه أيّاما ثلاثة.

فدعا ابن هرمة بالنبيذ؛ فقال له غلام لأبي عمرو ابن أبي راشد: قد نفد نبيذنا. فنزع ابن هرمة رداءه عن ظهره فقال للغلام: اذهب به إلى ابن حونك(4) (نبّاذ كان بالمدينة)، فارهنه عنده و ائتنا بنبيذ، ففعل. و جاء ابن(5) أبي راشد، فجعل يشرب معه من ذلك النبيذ. فقال له: أين رداؤك يا أبا إسحاق؟ فقال: نصف في القدح و نصف في بطنك.

مدح محمد بن عمران الطلحيّ فاحتجب عنه فمدح محمد بن عبد العزيز فأجازه:

قال هارون حدّثني محمد بن عمر بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزّهريّ قال حدّثني عمّي عبد العزيز بن إسماعيل قال:

/مدح ابن هرمة محمد بن عمران الطّلحيّ، و بعث إليه بالمديح مع/ابن ربيح(6)، فاحتجب عنه؛ فمدح محمد بن عبد العزيز؛ و كان ابن هرمة مريضا، فقال قصيدته التي يقول فيها:

إنّي دعوتك إذ جفيت و شفّني *** مرض تضاعفني(7) شديد المشتكى

و حبست عن طلب المعيشة و ارتقت *** دوني الحوائج في وعور المرتقى

فأجب أخاك فقد أناف بصوته *** يا ذا الإخاء و يا كريم المرتجى

ص: 512


1- في ط، م، ء: «لا تبتغي» بالتاء الفوقية. و يكون الخطاب، على هذه الرواية لأنثى.
2- في ب، س: «الحضرمي» و هو تصحيف.
3- كذا في ح، ء، ط «و الشعر و الشعراء» (ص 473 طبع أوروبا). و في ب، س: «دكين» بالدال المهملة. و في م: «ذكين» بالذال المعجمة.
4- في ح: «ابن هويك». و قد ضبط فيها بالقلم بضم الهاء و فتح الواو و سكون الياء. و في م: «ابن حوقل» بالقاف و اللام.
5- كذا في أكثر النسخ. و في س، م: «و جاء إلى ابن حوقل بن أبي راشد» بزيادة «إلى ابن حوقل» سهوا من الناسخ.
6- كذا في ط، ء، م، و سيذكر غير مرة في جميع الأصول كذلك. و في ح: «ابن زنيج» بالزاي و النون و الجيم. و في ب، س: «ابن ربيع»، و كلاهما تحريف. و ابن ربيح هذا هو راوية ابن هرمة.
7- كذا في أكثر الأصول. و لم نجد هذه الصيغة في كتب اللغة تدل على المعنى المراد هنا و هو أضعفني و أسقمني. و في م، ح: «يضاعفنى» بالياء و ضاعفه: جعله ضعفين. فلعل المراد على هذه الرواية: مرض يضاعف شكواي.

و لقد حفيت(1) صبيت عكّة(2) بيتنا *** ذوبا(3) و مزت بصفوه عنك القذى

فخذ الغنيمة و اغتنمني إنّني *** غنم لمثلك و المكارم تشترى

لا ترمينّ بحاجتي و قضائها *** ضرح(4) الحجاب كما رمى بي من رمى

فركب إلى جعفر بن سليمان نصف النّهار؛ فقال: ما نزعك(5) يا أبا عبد اللّه في هذا الوقت؟ قال: حاجة لم أر فيها أحدا أكفى منّي. قال: و ما هي؟ قال: قد مدحني ابن هرمة بهذه الأبيات، فأردت من أرزاقي مائة دينار. قال:

و من عندي مثلها/قال: و من الأمير أيضا! قال: فجاءت المائتا الدينار إلى ابن هرمة، فما أنفق منها إلاّ دينارا واحدا حتّى مات، و ورث الباقي أهله.

امتدح أبا جعفر فلما أجازه لم يرض و طلب أن يحتال له في إباحة الشراب:

و قال أحمد بن أبي خيثمة عن أبي الحسن المدائنيّ قال:

امتدح ابن هرمة أبا جعفر فوصله بعشرة آلاف درهم. فقال: لا تقع منّي هذه. قال: ويحك! إنّها كثيرة. قال:

إن أرادت أن تهنئني فأبح لي الشراب فإنّي مغرم به. فقال: ويحك! هذا حدّ من حدود اللّه. قال: احتل لي يا أمير المؤمنين. قال نعم. فكتب إلى والي المدينة: من أتاك بابن هرمة سكران فاضربه مائة و اضرب ابن هرمة ثمانين.

قال: فجعل الجلواز(6) إذا مرّ بابن هرمة سكران، قال: من يشتري الثمانين بالمائة!

امتدح الحسن بن زيد فأجازه و عرض بعبد اللّه بن حسن و أخويه لأنهم و عدوه و أخلفوه:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني أبو زيد عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو سلمة الغفاريّ قال أخبرنا ابن ربيح راوية ابن هرمة قال:

أصابت ابن هرمة أزمة؛ فقال لي في يوم حارّ: اذهب فتكار حمارين إلى ستّة أميال، و لم يسمّ موضعا. فركب واحدا و ركبت واحدا، ثم سرنا حتى صرنا إلى قصور الحسن بن زيد ببطحاء ابن أزهر، فدخلنا مسجده. فلمّا مالت الشمس خرج علينا مشتملا على(7) قميصه، فقال لمولى له: أذّن فأذّن، و لم يكلّمنا كلمة. ثم قال له: أقم فأقام، فصلّى بنا، ثم أقبل على ابن هرمة فقال: مرحبا بك يا أبا إسحاق، حاجتك؟ قال: نعم، بأبي أنت و أمي، أبيات قلتها - و قد كان عبد اللّه و حسن و إبراهيم بنو حسن بن حسن و عدوه شيئا فأخلفوه - فقال: هاتها. فقال:

ص: 513


1- حفيت: أعطيت. و في م: «خفيت» بالخاء المعجمة و هو تصحيف و في ب، ط، ء، س: «جفيت» بالجيم و هو تصحيف أيضا. و في ح: «خبيت» و لعلها مصحفة عن «حبيت» و هي «كحفيت» وزنا و معنى. و الذي ظهر لنا في معنى البيت أنه يريد: لقد منحت خير ما نملك و هو ما في عكتنا من عسل مصفى، يكنى بذلك عن مديحه الحسن.
2- العكة: زقيق صغير للسمن و العسل. و في الحديث: أن رجلا كان يهدي للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم العكة من السمن و العسل. قال ابن الأثير في «النهاية»: «و هي وعاء من جلود مستدير، يختص بهما و هو بالسمن أخص».
3- الذوب: العسل.
4- كذا في ء، ط. و الضرح: أن يؤخذ شيء فيرمي به في ناحية. و في ب، س: «ضوح» بالواو. و في م: «صرح» بالصاد و كلاهما تحريف.
5- ما نزعك يريد: ما حركك من مكانك و ما جاء بك.
6- الجلواز: الشرطيّ؛ سمى بذلك لسرعته و خفته في ذهابه و مجيئه بين يدي الأمير.
7- كذا في جميع النسخ. و هذا الفعل إنما يتعدى بالباء.

/

أما بنو هاشم حولي فقد قرعوا *** نبل الضّباب(1) التي جمعت في قرن

فما بيثرب منهم من أعاتبه *** إلاّ عوائد أرجوهنّ من حسن

اللّه أعطاك فضلا من عطيّته *** على هن و هن فيما مضى و هن(2)

قال: حاجتك! قال: لابن أبي مضرّس عليّ خمسون و مائة دينار. قال: فقال لمولى له: يا هيثم، اركب هذه البغلة فأتني بابن أبي مضرّس و ذكر(3) حقّه. قال: فما صلّينا العصر حتّى جاء به. فقال له: مرحبا بك يا ابن أبي مضرّس، أ معك ذكر حقّك على ابن هرمة قال نعم. قال: فامحه، فمحاه. ثم قال: يا هيثم، بع ابن أبي مضرّس من تمر(4) الخانقين بمائة و خمسين دينارا و زده على(5) كلّ دينار ربع/دينار، وكل ابن هرمة بخمسين و مائة دينار تمرا، وكل ابن ربيح بثلاثين دينارا تمرا. قال: فانصرفنا من عنده؛ فلقيه محمد بن عبد اللّه بن حسن بالسّيالة، و قد بلغه الشعر، فغضب لأبيه و عمومته فقال: أي ماصّ بظر أمّه! أنت القائل:

على هن و هن فيما مضى و هن

فقال: لا و اللّه! و لكنّي الذي أقول لك:

لا و الّذي أنت منه نعمة سلفت *** نرجو عواقبها في آخر الزّمن

لقد أتيت بأمر ما عمدت له *** و لا تعمّده قولي و لا سنني

/فكيف أمشي مع الأقوام معتدلا *** و قد رميت بريء العود بالأبن(6)

ما غيّرت وجهه أمّ مهجّنة *** إذا القتام تغشّى أوجه الهجن(7)

قال: و أمّ الحسن أمّ ولد.

لما عرض بعبد اللّه بن حسن و إخوته قطع عنه ما كان يجريه عليه فما زال به حتى رضي:

قال هارون: فحدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أيّوب بن عباية قال:

لمّا قال ابن هرمة هذا الشعر في حسن بن زيد، قال عبد اللّه بن حسن: و اللّه ما أراد الفاسق غيري و غير أخويّ: حسن و إبراهيم. و كان عبد اللّه يجري على ابن هرمة رزقا فقطعه عنه و غضب عليه. فأتاه يعتذر، فنحّي و طرد؛ فسأل رجالا أن يكلّموه، فردّهم؛ فيئس من رضاه و اجتنبه و خافه. فمكث ما شاء اللّه، ثم مرّ عشيّة و عبد اللّه

ص: 514


1- الضباب هنا: الأحقاد. يقال: في قلبه ضب أي غل داخل، كالضب الممعن في حجزه. و الظاهر أنه يريد أن يقول: إنهم سلوا أحقادهم و أظهروا عداوتهم و أنا قد كتمتها و أخفيتها.
2- هن: كلمة يكنى بها عن اسم الإنسان. و قد كررها الشاعر ثلاثا لأنه أراد ثلاثة أشخاص معينين.
3- ذكر الحق: الصك الذي يكتب فيه الدين.
4- في ط، ء: «ثمر» بالثاء المثلثة. و الخانقان: موضع بالمدينة و هو مجمع مياه أوديتها الثلاثة: بطحان و العقيق و قناة.
5- في ط، ء، م: «و زده في كل دينار».
6- الأبن: جمع ابنة و هي العقدة تكون في العود تفسده و يعاب بها. و قولهم: ليس في حسب فلان ابنة، أي عيب، مأخوذ من هذا.
7- الهجين: من أبوه خير من أمه أو من أبوه عربيّ و أمه غير عربية، و جمعه: هجن و هجناء و هجنان و مهاجين و مهاجنة.

على زربيّة(1) في ممرّ المنبر، و لم تكن تبسط لأحد غيره في ذلك المكان. فلمّا رأى عبد اللّه تضاءل و تقنفذ و تصاغر و أسرع المشي. فكأنّ عبد اللّه رقّ له، فأمر به فردّ عليه، فقال: يا فاسق، يا شارب الخمر، على هن و هن! أتفضّل الحسن عليّ و على أخويّ! فقال: بأبي أنت و أمّي! و ربّ هذا القبر ما عنيت إلاّ فرعون و هامان و قارون، أ فتغضب لهم! فضحك و قال: و اللّه ما أحسبك إلاّ كاذبا. قال: و اللّه ما كذبتك. فأمر بأن تردّ عليه جرايته.

قصيدة له خالية من الحروف المعجمة:

أخبرني يحيى بن عليّ إجازة قال أخبرني أبو أيّوب المدينيّ عن مصعب قال:

إنّما اعتذر ابن هرمة بهذا إلى محمد بن عبد اللّه بن حسن.

قال يحيى: و أخبرني أبو أيّوب عن عليّ بن صالح قال:

/أنشدني عامر بن صالح قصيدة لابن هرمة نحوا من أربعين بيتا، ليس فيها حرف يعجم؛ و ذكر هذه الأبيات منها. و لم أجد هذه القصيدة في شعر ابن هرمة، و لا كنت أظنّ أن أحدا تقدّم رزينا العروضيّ إلى هذا الباب.

و أوّلها:

أرسم سودة أمسى دارس الطّلل *** معطّلا ردّه الأحوال كالحلل

هكذا ذكر يحيى بن عليّ في خبره أنّ القصيدة نحو من أربعين بيتا؛ و وجدتها في رواية الأصمعيّ و يعقوب بن السّكّيت اثني عشر بيتا، فنسختها هاهنا للحاجة إلى ذلك. و ليس فيها حرف يعجم إلاّ ما اصطلح عليه الكتّاب من تصبيرهم مكان ألف ياء مثل «أعلى» فإنّها في اللفظ بالألف و هي تكتب بالياء، و مثل «رأى» و نحو هذا، و هو في التحقيق في اللفظ بالألف، و إنما اصطلح الكتّاب على كتابته بالياء كما ذكرناه. و القصيدة:

أرسم سودة محل دارس الطّلل *** معطّل ردّه الأحوال كالحلل

لمّا رأى أهلها سدّوا مطالعها *** رام الصّدود و عاد الودّ كالمهل(2)

و عاد ودّك داء لا دواء له *** و لو دعاك طوال الدّهر للرّحل

/ما وصل سودة إلاّ وصل صارمة *** أحلها(3) الدهر دارا مأكل الوعل(4)

و عاد أمواهها سدما(5) و طار لها *** سهم دعا أهلها للصّرم و العلل

ص: 515


1- الزربية (بفتح فسكون): البساط و النمرقة، و قيل: هي كل ما بسط و اتكئ عليه، و الجمع زرابيّ.
2- كذا في أكثر الأصول. و المهل: ما ذاب من صفر أو حديد؛ و به فسر قوله تعالى: (وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغٰاثُوا بِمٰاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرٰابُ وَ سٰاءَتْ مُرْتَفَقاً). و حركت هاؤه للضرورة. و لعله يريد أنه لما حيل بينه و بينها عانى من ودّه لها ما يعانيه متجرّع هذا الشراب. و في ح: رام الصدود و عاد الودّ كالعمل
3- في ء، ط، م: أحلها الودّ دهرا معقل الوعل و هذا لا يتفق و الإهمال المراد في هذه القصيدة.
4- الوعل: تيس الجبل. يريد بذلك استعصاءها و منعتها.
5- سدما: متغيرة من طول المكث.

صدّوا و صدّ و ساء المرء صدّهم *** و حام للورد ردها حومة العلل

- حومة الماء، كثرته و غمرته(1). و العلل: الشّرب الثاني. و الرّدة: مستنقع الماء -:

/

و حلّئوه(2) رداها ماؤها عسل *** ما ماء رده لعمر اللّه كالعسل

دعا الحمام حماما سدّ مسمعه *** لمّا دعاه رآه(3) طامح الأمل

طموح سارحة(4) حوم ملمّعة *** و ممرع السرّ سهل ماكد السّهل

و حاولوا ردّ أمر لا مردّ له *** و الصّرم داء لأهل اللّوعة الوصل

أحلّك اللّه أعلى كلّ مكرمة *** و اللّه أعطاك أعلى صالح العمل

سهل موارده سمح مواعده *** مسود لكرام سادة حمل(5)

عاب المسوّر بن عبد الملك شعره فقال فيه شعرا:

قال يحيى بن عليّ و حدّثني أبو أيّوب المدينيّ عن أبي حذيفة قال:

كان المسوّر بن عبد الملك المخزوميّ يعيب شعر ابن هرمة، و كان المسوّر هذا عالما بالشعر و النّسب(6)؛ فقال ابن هرمة فيه:

إيّاك لا ألزمن لحييك من لجمي *** نكلا(7) ينكّل قرّاصا(8) من اللّجم

يدقّ لحييك أو تنقاد متّبعا *** مشي المقيّد ذي القردان(9) و الحلم

/إنّي إذا ما امرؤ خفّت نعامته(10) *** إليّ و استحصدت منه قوى الوذم(11)

عقدت في ملتقى أوداج لبّته *** طوق الحمامة لا يبلى على القدم

ص: 516


1- هذا التفسير غير واضح. و لعله المرة من الحوم.
2- حلأهم عن الماء: منعهم عنه.
3- كذا في ء، ط و «مختار الأغاني» لابن منظور. و في سائر الأصول: لما دعاه و دهر طامح الأمل
4- السارحة: الماشية. و الحوم: القطيع الضخم. و الملمع: الذي في جسده بقع تخالف سائر لونه. و الممرع: المخصب. و السر هنا: بطن الوادي و أكرم موضع فيه. و الماكد: الدائم الذي لا ينقطع.
5- حمل: جمع حمول، و هو كثير الاحتمال لما ينوبه لحلمه و كرمه.
6- كذا في ط، ء. و في باقي الأصول: «... و النسيب».
7- النكل: اللجام.
8- كذا في ط، ء. و القرّاص (بالصاد المهملة): وصف من القرص و هو معروف. و في سائر الأصول: «قراضا» بالضاد المعجمة. و القرّاض: القطاع، و به يستقيم المعنى أيضا.
9- القردان: جمع قرادة و هي دويبة تتعلق بالبعير و نحوه. و الحلم (بالتحريك واحده حلمة بالتحريك أيضا) قيل: هو الصغير من القراد و قيل: هو الضخم، و هو الأشهر. قال الأصمعي: القراد أوّل ما يكون صغيرا: قمقامة ثم يصير حمنانة ثم يصير قرادا ثم حلمة.
10- النعامة هنا: القدم. و يكنى بخفة النعامة عن السرعة؛ يقال: خفّت نعامتهم، أو شالت نعامتهم، إذا أسرعوا.
11- الوذم (بالتحريك): سيور تقدّ مستطيلة. و استحصد قواها: إحكام فتلها. و قد يكنى بذلك عن الغضب؛ فيقال: استحصد حبل فلان إذا غضب.

إنّي امرؤ لا أصوغ الحلي تعمله *** كفّاي لكن لساني صائغ الكلم

إنّ الأديم الذي أمسيت تقرظه *** جهلا لذو نغل باد و ذو حلم(1)

و لا يئطّ(2) بأيدي الخالقين و لا *** أيدي الخوالق إلاّ جيّد الأدم

عاتب عبد اللّه بن مصعب في تفضيله ابن أذينة عليه:

قال يحيى و حدّثني أبو أيّوب عن مصعب بن عبد اللّه عن أبيه قال:

لقيني ابن هرمة فقال لي: يا ابن مصعب، أتفضّل عليّ ابن أذينة! أ ما شكرت قولي:

فما لك مختلاّ عليك خصاصة *** كأنّك لم تنبت ببعض المنابت

كأنّك لم تصحب شعيب بن جعفر *** و لا مصعبا ذا المكرمات ابن ثابت

- يعني مصعب بن عبد اللّه - قال: فقلت: يا أبا إسحاق، أقلني و روّني من شعرك ما شئت؛ فإنّي لم أرو لك شيئا. فروّاني عبّاسيّاته(3) تلك.

ثناؤه على إبراهيم بن عبد اللّه و إبراهيم بن طلحة لإكرامهما له و شعره في الأوّل:

قال يحيى: و أخبرني أبو أيّوب المدينيّ عن مصعب بن عبد اللّه عن مصعب بن عثمان قال:

/قال ابن هرمة: ما رأيت أحدا قطّ أسخى و لا أكرم من رجلين: إبراهيم بن عبد اللّه بن مطيع، و إبراهيم بن طلحة بن عمرو بن عبد اللّه بن معمر. أمّا إبراهيم بن طلحة فأتيته فقال: أحسنوا ضيافة أبي إسحاق، فأتيت بكلّ شيء من الطعام، فأردت أن أنشده؛ فقال: ليس هذا وقت الشعر. ثم أخرج الغلام إليّ رقعة فقال: ائت بها الوكيل. فأتيته بها، فقال: إن شئت أخذت لك جميع ما كتب به، و إن شئت أعطيتك القيمة. قلت: و ما أمر لي به؟ فقال: مائتا شاة برعائها و أربعة أجمال و غلام جمّال و مظلّة و ما تحتاج إليه، و قوتك و قوت عيالك سنة. قلت: فأعطني القيمة؛ فأعطاني مائتي دينار. و أمّا إبراهيم/بن عبد اللّه فأتيته في منزله بمشاش(4) على بئر ابن(5) الوليد بن عثمان بن عفّان؛ فدخل إلى منزله ثم خرج إليّ برزمة من ثياب و صرّة من دراهم و دنانير و حليّ، ثم قال: لا و اللّه ما بقّينا في منزلنا ثوبا إلاّ ثوبا نواري به امرأة، و لا حليا و لا دينارا و لا درهما. و قال يمدح إبراهيم:

أرّقتني تلومني أمّ بكر *** بعد هدء و اللّوم قد يؤذيني

حذّرتني الزمان ثمّت قالت *** ليس هذا الزمان بالمأمون

ص: 517


1- الأديم: الجلد. و يقرظه: يدبغه بالقرظ لإصلاحه. و النغل (بالتحريك): الفساد. و الحلم (بالتحريك): فساد في الجلد، سببه أنه يقع فيه دود فيتثقب.
2- يئط: يصوّت. و الخالقون: وصف من قولهم: خلق الجلد إذا قدّره قبل قطعه.
3- لعله يريد قصائده التي مدح بها بني العباس.
4- مشاش: (بضم أوله و شين معجمة أيضا في آخره): موضع بين دار بني سليم و بين مكة، و بينه و بين مكة نصف مرحلة. (انظر «معجم ما استعجم» للبكري في اسم مشاش ج 2 ص 560 طبع أوروبا).
5- في ء، ط: «بئر الوليد». و كان لعثمان بن عفان (رضي اللّه عنه) ابن يسمى الوليد، و لا ندري أ كانت هذه البئر له أم لابنه.

قلت لمّا هبّت تحذّرني الدّه *** ر دعي اللّوم عنك و استبقيني

إنّ ذا الجود و المكارم إبرا *** هيم يعنيه كلّ ما يعنيني

قد خبرناه في القديم فألفي *** نا مواعيده كعين اليقين

قلت ما قلت للّذي هو حقّ *** مستبين لا للّذي يعطيني

/نضحت أرضنا سماؤك بعد ال *** جدب منها و بعد سوء الظّنون

فرعينا آثار غيث هراقت *** ه يدا محكم القوى ميمون

طلب من محمد بن عمران علفا بإغراء محمد الزهري فأعطاه كل ما ورده:

و قال هارون حدّثنا حمّاد عن عبد اللّه بن إبراهيم الحجبيّ:

أنّ إبلا لمحمد بن عمران تحمل علفا مرّت بمحمد بن عبد العزيز الزّهريّ و معه ابن هرمة، فقال: يا أبا إسحاق، أ لا تستعلف محمد بن عمران! و هو يريد أن يعرّضه لمنعه فيهجوه. فأرسل ابن هرمة في أثر الحمولة رسولا حتّى وقف على ابن عمران، فأبلغه رسالته؛ فردّ إليه الإبل بما عليها، و قال: إن احتجت إلى غيرها زدناك. فأقبل ابن هرمة على محمد بن عبد العزيز فقال له: اغسلها عنّي، فإنّه إن علم أنّي استعلفته و لا دابّة لي وقعت منه(1) في سوأة. قال: بما ذا؟ قال: تعطيني حمارك. قال: هو لك بسرجه و لجامه. فقال ابن هرمة: من حفر حفرة سوء وقع فيها.

وفد على السري بن عبد اللّه باليمامة و مدحه فأكرمه و كان يحب أن يفد عليه:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا أبو يحيى هارون بن عبد اللّه الزّهريّ عن ابن زريق(2)، و كان منقطعا إلى أبي العبّاس(3) بن محمد و كان من أروى الناس، قال:

كنت مع السّريّ بن عبد اللّه باليمامة، و كان يتشوّق إلى إبراهيم بن عليّ بن هرمة و يحبّ أن يفد عليه؛ فأقول:

ما يمنعك أن تكتب إليه؟ فيقول: أخاف أن يكلّفني من المئونة ما لا أطيق. فكنت أكتب بذلك إلى ابن هرمة، فكره(4) أن يقدم عليه إلاّ بكتاب منه؛ ثم غلب فشخص إليه، فنزل عليّ و معه راويته ابن ربيح. فقلت له: ما منعك(5) من القدوم على الأمير و هو من الحرص/على قدومك على ما كتبت به إليك؟ قال: الذي منعه من الكتاب إليّ. فدخلت على السّريّ فأخبرته بقدومه؛ فسرّ بذلك و جلس للناس مجلسا عامّا، ثم أذن لابن هرمة فدخل عليه و معه راويته ابن ربيح. و كان ابن هرمة قصيرا دميما أريمص(6)، و كان ابن ربيح طويلا جسيما نقيّ الثياب. فسلّم

ص: 518


1- في ط، ء، م: «وقعت معه».
2- كذا في جميع الأصول فيما سيأتي (ص 386). و في أكثر الأصول هنا: «عن أبي زريق». و في م، س: «ابن أبي زريق».
3- أبو العباس بن محمد، هو عبد اللّه السفاح أوّل خلفاء بني العباس.
4- في ط، ء: «فيكره».
5- كذا في ط، م. و في سائر الأصول: «ما يمنعك».
6- أريمص: تصغير أرمص، وصف من الرمص في العين و هو كالغمص، و قيل: الرمص: ما سال مما تلفظ به العين، و الغمص: ما جمد، و قيل العكس.

على السّريّ ثم قال له: أصلحك اللّه! إنّي قد قلت شعرا أثنيت فيه عليك. فقال: أنشد؛ فقال: هذا ينشد فجلس.

فأنشده ابن ربيح قصيدته التي أوّلها:

عوجا على ربع ليلى أمّ محمود *** كيما نسائله من دون عبّود(1)

عن أمّ محمود إذ شطّ المزار بها *** لعلّ ذلك يشفي داء معمود(2)

فعرّجا بعد تغوير(3) و قد وقفت *** شمس النهار و لاذ الظّلّ بالعود

/شيئا فما رجعت أطلال منزلة *** قفر جوابا لمحزون الجوى مودي(4)

ثم قال فيها يمدح السريّ:

ذاك السّريّ الذي لو لا تدفّقه *** بالعرف(5) متنا حليف المجد و الجود

من يعتمدك ابن عبد اللّه مجتديا(6) *** لسيب عرفك يعمد(7) خير معمود

/يا ابن الأساة الشّفاة المستغاث بهم *** و المطعمين ذرى الكوم المقاحيد(8)

و السّابقين إلى الخيرات قومهم *** سبق الجياد إلى غاياتها القود(9)

أنت ابن مسلنطح البطحاء منبتكم *** بطحاء مكة لا روس القراديد(10)

لكم سقايتها(11) قدما و ندوتها *** قد حازها والد منكم لمولود

لو لا رجاؤك لم تعسف بنا قلص *** أجواز مهمهة قفر الصّوى بيد(12)

ص: 519


1- عبود و صغر: جبلان ما بين المدينة و السيالة ينظر أحدهما إلى الآخر، و بينهما طريق المدينة.
2- المعمود: من هدّه العشق.
3- التغوير: النزول وقت القائلة. و في ء، ط: «تعويق». و التعويق: الانصراف عن الشيء و الانحباس عنه. و في «مختار الأغاني» لابن منظور: «تطويل».
4- المودي: الهالك.
5- كذا في ح. و في سائر النسخ: بالعرف مات حليف المجد و العود
6- في ح: «مجتهدا».
7- معمود: مقصود.
8- كذا في أكثر الأصول. و الذرى (بضم الذال): جمع ذروة (بضم الأوّل و كسره). و ذروة كل شيء: أعلاه، و ذروة السنام و الرأس: أشرفهما. و الكوم: الضخام الأسنمة، الواحد أكوم و كوماء. و المقاحيد: جمع مقحاد و هي الناقة العظيمة السنام. و في ء، ط، م: «ذرى الكوم الفراقيد» و الفراقيد: جمع فرقد و هو ولد البقرة، و قيل: ولد البقرة الوحشية. و ظاهر أن الرواية الأولى هي الصحيحة.
9- القود: جمع أقود، و هو من الخيل الطويل العنق.
10- اسلنطح الوادي: اتسع. (انظر ص 317 من هذا الجزء). و روس: جمع رأس، خففت همزته. و القراديد: جمع قردود و هو ما ارتفع من الأرض و غلظ، و قيل: جمع قردد، و زادوا الياء كراهية التضعيف.
11- السقاية: ما كانت قريش تسقيه الحجاج من النبيذ المنبوذ في الماء، و كان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية و الإسلام. و الندوة: دار الندوة بمكة و هي التي بناها قصيّ. سميت بذلك لاجتماعهم فيها لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر ندوا إليها للتشاور.
12- كذا في أكثر الأصول. و العسق: السير في المفازة و قطعها بغير قصد و لا هداية. و الصوى: الأعلام من الحجارة تنصب في الفيافي و المفازات المجهولة يستدل بها على الطريق. و في ح: أجواب مهمهة قفر الطوى بيد

لكن دعاني وميض لاح معترضا *** من نحو أرضك في دهم مناضيد(1)

و أنشده أيضا قصيدة مدحه فيها، أوّلها:

أ في طلل قفر تحمّل آهله *** وقفت و ماء العين ينهلّ هامله

تسائل عن سلمى سفاها و قد نأت *** بسلمى نوى شحط فكيف تسائله

/و ترجو و لم ينطق و ليس بناطق *** جوابا محيل(2) قد تحمّل آهله

و نؤي كخطّ النّون ما إن تبينه *** عفته ذيول(3) من شمال تذايله(4)

ثم قال فيها يمدح السّريّ:

فقل للسّريّ الواصل البرّ ذي النّدى *** مديحا إذا ما بثّ صدّق قائله

جواد على العلاّت يهتزّ للنّدى *** كما اهتزّ عضب أخلصته صياقله

نفى الظّلم عن أهل اليمامة عدله *** فعاشوا و زاح(5) الظّلم عنهم و باطله

و ناموا بأمن بعد خوف و شدّة *** بسيرة عدل ما تخاف غوائله

و قد علم المعروف أنّك خدنه *** و يعلم هذا الجوع(6) أنّك قاتله

بك اللّه أحيا أرض حجر و غيرها(7) *** من الأرض حتّى عاش بالبقل آكله

و أنت ترجّى للّذي أنت أهله *** و تنفع ذا القربى لديك و سائله

و أنشده أيضا مما مدحه به قوله:

عوجا نحيّ الطّلول بالكثب(8)

يقول فيها يمدحه:

دع عنك سلمى و قل محبّرة(9) *** لماجد الجدّ طيّب النّسب

ص: 520


1- دهم: سود. و مناضيد: متراكبة بعضها فوق بعض. يريد سحبا هذا وصفها.
2- المحيل: الذي أتت عليه أحوال فغيرته. يقال: أحالت الدار و أحولت.
3- ذيل الريح: ما انسحب منها على الأرض. و ذيل الريح أيضا: ما تتركه في الرمال على هيئة الرسن، و ما جرّته على الأرض من التراب و القتام. و قيل: أذيال الريح و مآخيرها التي تكسح بها ما خف لها.
4- تذايله: لعله يريد أنها تجرّ عليه ذيولها و تعفيه. و في أكثر الأصول: «تذائله» بالهمز.
5- زاح هنا: ذهب؛ فهو لازم مثل انزاح.
6- في «مختار الأغاني»: «الجور» بالراء المهملة.
7- كذا في أكثر الأصول. و حجر (بالفتح) مدينة اليمامة و أم قراها. و في م: بك اللّه أحيا الأرض حجرا و أهلها
8- الكثب (بالتحريك): موضع بديار بني طيء.
9- حبر الشعر و الكلام: حسنه و أجاده.

محض مصفّى العروق يحمده *** في العسر و اليسر كلّ مرتغب

/الواهب الخيل في أعنّتها *** و الوصفاء الحسان كالذّهب

مجدا و حمدا يفيده كرما *** و الحمد في الناس خير مكتسب

قال: فلمّا فرغ ابن ربيح، قال السّريّ لابن هرمة: مرحبا بك يا أبا إسحاق! ما حاجتك؟ قال: جئتك عبدا مملوكا. قال: [لا!](1) بل حرّا كريما و ابن عمّ، فما ذاك؟ قال: ما تركت لي مالا إلاّ رهنته، و لا صديقا إلاّ كلّفته - قال أبو يحيى: يقول لي ابن زريق(2): حتّى كأنّ لي ديّانا و عليه مالا - فقال له السّريّ: /و ما دينك؟ قال: سبعمائة دينار. قال: قد قضاها اللّه عزّ و جلّ عنك. قال: فأقام أيّاما، ثم قال لي: قد اشتقت. فقلت له: قل شعرا تشوّق فيه. فقال قصيدته التي يقول فيها:

أ الحمامة(3) في نخل ابن هدّاج *** هاجت صبابة عاني القلب مهتاج

أم المخبّر أنّ الغيث قد وضعت *** منه العشار تماما غير إخداج(4)

شقّت(5) سوائفها بالفرش(6) من ملل *** إلى الأعراف(7) من حزن و أولاج(8)

حتّى كأنّ وجوه الأرض ملبسة *** طرائفا من سدى عصب و ديباج

/و هي طويلة مختارة من شعره، يقول فيها يمدح السّريّ:

أمّا السّريّ فإنّي سوف أمدحه *** ما المادح الذاكر الإحسان كالهاجي

ذاك الذي هو بعد اللّه أنقذني *** فلست أنساه إنقاذي و إخراجي

ليث بحجر إذا ما هاجه فزع *** هاج إليه بالجام و إسراج

لأحبونّك مما أصطفي مدحا *** مصاحبات لعمّار و حجّاج

أسدى الصنيعة من برّ و من لطف *** إلى قروع لباب الملك ولاّج

كم من يد لك في الأقوام قد سلفت *** عند امرئ ذي غنى أو عند محتاج

ص: 521


1- الزيادة عن «مختار الأغاني» لابن منظور.
2- كذا ورد هذا الاسم هنا في جميع الأصول. (انظر ص 382 من هذا الجزء).
3- في «مختار الأغاني» لابن منظور: «إن الحمامة».
4- أخدجت الناقة: ألقت ولدها قبل أوانه لغير تمام الأيام و إن كان تامّ الخلق.
5- كذا في م. و شقت: انفطرت عن النبات، أو المراد: شق نباتها؛ فأسند الفعل إلى الأرض على سبيل المجاز؛ يقال: شق النبات يشق شقوقا؛ و ذلك أوّل ما تنفطر عنه الأرض. و السوائف: جمع سائفة و هي أرض بين الرمل و الجلد أو جانب من الرمل ألين ما يكون. و في سائر الأصول: «شقت شوائفها».
6- الفرش: واد بين غميس الحمام و ملل، كما في «معجم البلدان» لياقوت، نزله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين مسيره إلى بدر. و ملل: موضع بين الحرمين؛ سمى بذلك لأن الماشي إليه من المدينة لا يبلغه إلا بعد ملل و جهد. و قد نزله أيضا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين مسيره إلى بدر.
7- الأعارف: جبال باليمامة، كما في ياقوت.
8- كذا في م. و الحزن: ما غلظ من الأرض. و الأولاج: ما غمض من الأرض، واحده: ولجة. و في سائر الأصول: «من حزن ؟؟؟»

فأمر له بسبعمائة دينار في قضاء دينه، و مائة دينار يتجهّز بها، و مائة دينار يعرّض بها أهله، و مائة دينار إذا قدم على أهله.

قوله: «يعرّض بها أهله» أي يهدي لهم بها هديّة، و العراضة: الهديّة. قال الفرزدق يهجو هشام بن عبد الملك:

كانت عراضتك الّتي عرّضتنا *** يوم المدينة زكمة و سعالا

أنكر شعرا له في بني فاطمة خوفا من العباسيين:

أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني نوفل بن ميمون قال أخبرني أبو مالك محمد بن عليّ بن هرمة قال:

قال ابن هرمة:

و مهما ألام(1) على حبّهم *** فإنّي أحبّ بني فاطمه

بني بنت من جاء بالمحكما *** ت و الدّين و السّنّة القائمه

/فلقيه بعد ذلك رجل فسأله: من قائلها؟ فقال: من عضّ بظر أمّه. فقال له ابنه: يا أبت، أ لست قائلها؟ قال بلى. قال: فلم شتمت نفسك؟ قال: أ ليس أن يعضّ المرء بظر أمّه خيرا(2) من أن يأخذه ابن قحطبة(3)!

خبره مع رجل يتجر بعرض ابنتيه:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا جعفر بن مدرك الجعديّ قال:

جاء ابن هرمة إلى رجل كان بسوق النّبط، معه زوجة له و ابنتان كأنّهما ظبيتان [يقود عليهما](4)، بمال فدفعه إليه، فكان يشتري لهم طعاما و شرابا. فأقام ابن هرمة مع ابنتيه حتّى خفّ ذلك المال، و جاء قوم آخرون معهم مال؛ فأخبرهم بمكان ابن هرمة؛ فاستثقلوه و كرهوا أن يعلم بهم؛ فأمر ابنتيه، فقالتا له: يا أبا إسحاق، أ ما دريت ما النّاس فيه؟ [قال: و ما هم فيه(5)؟ قالتا:] زلزل بالرّوضة، فتغافلهما. ثم جاء أبوهما متفازعا فقال: أي أبا إسحاق، ألا

ص: 522


1- لم يجزم الفعل هنا، و هو شاذ.
2- في الأصول: «خير» بدون ألف.
3- هو حميد بن قحطبة بن شبيب بن خالد بن جعدان الطائي. ولي مصر من قبل الخليفة أبي جعفر المنصور بعد عزل محمد بن الأشعث في أوائل سنة ثلاث و أربعين و مائة. و كان أميرا شجاعا و قائدا مقداما عارفا بأمور الحروب و الوقائع، و تنقل في الأعمال الجليلة، معظما عند بني العباس، و قد حضر مع أبيه قحطبة كثيرا من الوقائع في ابتداء دعوة بني العباس. و مات في خلافة المهدي سنة تسع و خمسين و مائة (راجع «النجوم الزاهرة» ج 1 ص 349 طبع دار الكتب المصرية). و في مختصر كتاب «الأغاني» المسمى «بتجريد الأغاني» من ذكر المثالث و المثاني، لابن واصل الحموي المتوفي سنة 697 ه ورد بعد ذكر هذا الخبر ما نصه: «قلت و إنما خاف ابن هرمة من نسبة الشعر إليه لأن المنصور كان شديد الطلب لمن يميل إلى العلويين و التتبع لمن يحبهم بخروجهم عليه. و كان خرج عليه محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة و أخوه إبراهيم بالبصرة سنة خمس و أربعين و مائة، فهزما و قتلا و حمل رأسهما إليه» اه.
4- الزيادة عن «مختصر الأغاني» لابن واصل الحموي (ص 192 من النسخة الفوتوغرافية المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 5071 أدب).
5- الزيادة عن «مختار الأغاني» لابن منظور (ص 85 طبع مصر).

تفزع لما الناس فيه! قال: و ما هم فيه؟ قال: زلزل بالرّوضة. قال: قد جاءكم الآن إنسان معه مال، و قد/نفضت(1)ما جئتكم به و ثقلت(2) عليه؛ فأردت إدخاله و إخراجي. أ يزلزل بروضة من رياض الجنّة و يترك منزلك و أنت تجمع فيه/الرجال على ابنتيك! و اللّه لا عدت إليه! و خرج من عنده.

و روى هذا الخبر عن الزّبير هارون بن محمد الزيّات فزاد فيه، قال: ثم خرج من عندهم، فأتى عبد اللّه بن حسن فقال: إنّي قد مدحتك فاستمع منّي. قال: لا حاجة لي بذلك، أنا أعطيك ما تريد و لا أسمع. قال: إذا أسقط و يكسد سوقي(3). فسمع منه و أمر له بمائتي(4) دينار؛ فأخذها و عاد إلى الرجل، و قال: قد جئتك بما تنفقه كيف شئت. و لم يزل مقيما عنده حتّى نفدت.

قصته مع محمد بن عبد العزيز و محمد بن عمران و غيرهما:

قال الزّبير: و حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد العزيز قال حدّثني عمّي عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال:

وافينا الحجّ في عام من الأعوام الخالية، فأصبحت بالسّيالة، فإذا إبراهيم بن عليّ ابن هرمة يأتينا؛ فاستأذن على أخي محمد بن عبد العزيز فأذن له؛ فدخل عليه فقال: يا أبا عبد اللّه، أ لا أخبرك ببعض ما تستظرف(5)؟ قال:

بلى، و ربّما فعلت يا أبا إسحاق. قال: فإنّه أصبح عندنا هاهنا منذ أيام محمد بن عمران و إسماعيل بن عبد اللّه بن جبير، و أصبح ابن عمران بجملين له ظالعين(6)، فإذا رسوله يأتيني أن أجب؛ فخرجت/حتى أتيته؛ فأخبرني بظلع جمليه، و قال لي: أردت أن أبعث إلى ناضحين(7) لي بعمق(8) لعلي أوتي بهما إلى هاهنا لأمضي عليهما، و يصير هذان الظالعان إلى مكانهما. ففرّغ لنا دارك و اشتر لنا علفا و استلنه بجهدك؛ فإنّا مقيمون هاهنا حتى تأتينا(9) جمالنا.

فقلت: في الرّحب و القرب، و الدّار(10) فارغة، و زوجته طالق إن اشتريت عود علف، عندي حاجتك منه. فأنزلته و دخلت إلى السوق، فما أبقيت فيه شيئا من رسل(11) و لا جداء و لا طرفة و لا غير ذلك إلا ابتعت منه فاخره، و بعثت به إليه مع دجاج كان عندنا. قال: فبينا أنا أدور في السوق إذ وقف عليّ عبد لإسماعيل بن عبد اللّه يساومني بحمل علف لي، فلم أزل أنا و هو حتّى أخذه منّي بعشرة دراهم، و ذهب به فطرحه لظهره. و خرجت عند الرّواح أتقاضى

ص: 523


1- كذا في م. و الذي في «اللسان»: «و أنفض القوم: نفد طعامهم و زادهم مثل أرملوا... و أنفضوا زادهم أنفدوه... و نفض القوم نفضا: ذهب زادهم... و قوم نفض أي نفضوا زادهم». و في سائر الأصول: «تنضب» و هو تحريف.
2- في م: «و ثقلت عليكم».
3- في «مختار الأغاني»: «شعري».
4- في «مختار الأغاني»: «بمائة».
5- في م: «أ لا أخبرك ببعض ما يستطرف».
6- الظالع: الذي يغمز في مشيه.
7- الناضح: البعير يستقى عليه، ثم استعمل في كل بعير و إن لم يحمل الماء.
8- عمق: ماء ببلاد مزينة من أرض الحجاز، كما في «معجم ما استعجم» للبكري.
9- كذا في م. و في سائر النسخ: «حتى يأتينا».
10- في م: «الدار» بدون واو.
11- الرسل (بكسر الراء»: اللبن ما كان. و الجداء: جمع جدي، و هو الذكر من أولاد المعز. و الطرفة: ما يطرف به الرجل صاحبه و يتحفه به.

العبد ثمن حملي، فإذا هو لإسماعيل بن عبد اللّه و لم أكن دريت. فلما رآني مولاه حيّاني و رحّب بي، و قال: هل من حاجة يا أبا إسحاق؟ فأعلمه العبد أنّ العلف لي. فأجلسني فتغدّيت عنده، ثم أمر لي مكان كلّ درهم منها بدينار، و كانت معه زوجته فاطمة بنت عبّاد، فبعثت إليّ بخمسة دنانير. قال: و راحوا، و خرجت بالدنانير ففرّقتها على غرمائي، و قلت: عند ابن عمران عوض منها. قال: فأقام عندي ثلاثا، و أتاه جملاه، فما فعل بي شيئا. فبينا هو يترحّل و في نفسه منّي ما لا أدري به، إذ كلّم غلاما له بشيء فلم يفهم. فأقبل عليّ فقال: ما أقدر على إفهامه مع قعودك عندي، قد و اللّه آذيتني و منعتني(1) ما أردت. فقمت مغتمّا بالذي قال؛ حتّى إذا كنت على باب الدار لقيني إنسان/فسألني: هل فعل إليك(2) شيئا؟ فقلت: أنا و اللّه بخير إذ تلف(3) مالي و ربحت بدني. قال: و طلع عليّ و أنا أقولها، فشتمني و اللّه يا أبا عبد اللّه حتّى ما أبقى لي، و زعم أنّه لو لا إحرامه لضربني؛ و راح و ما أعطاني درهما.

فقلت:

يا من يعين على ضيف ألمّ بنا *** ليس بذي(4) كرم يرجى و لا دين

أقام عندي ثلاثا سنّة سلفت *** أغضيت منها على الأقذاء و الهون(5)

مسافة البيت عشر غير مشكلة *** و أنت تأتيه في شهر و عشرين

/لست تبالي فوات الحجّ إن نصبت *** ذات الكلال و أسمنت ابن حرقين(6)

تحدّث النّاس عمّا فيك من كرم *** هيهات ذاك لضيفان المساكين

أصبحت تخزن ما تحوي و تجمعه *** أبا سليمان من أشلاء(7) قارون

مثل ابن عمران آباء له سلفوا *** يجزون فعل ذوي الإحسان بالدّون

أ لا تكون كإسماعيل إنّ له *** رأيا أصيلا و فعلا غير ممنون

أو مثل زوجته فيما ألمّ بها *** هيهات من أمّها ذات النّطاقين(8)

فلمّا أنشدها قال له محمد بن عبد العزيز: نحن نعينك يا أبا إسحاق؛ لقوله: «يا من يعين». قال: قد رفعك اللّه عن العون الذي أريده، ما أردت إلاّ رجلا/مثل عبد اللّه بن خنزيرة و طلحة أطباء الكلبة يمسكونه لي و آخذ خوط سلم فأوجع به خواصره و جواعره. قال: و لمّا بلغ في إنشاده إلى قوله:

مثل ابن عمران آباء له سلفوا

ص: 524


1- في م: «قد و اللّه آذيتني و منعني مكانك معي مما أردت».
2- كذا في م. و في سائر الأصول: «هل فعل إليّ شيئا».
3- في م: «أنا و اللّه بخير أن تلف...» و كلتا العبارتين صحيحة.
4- في م: «فليس ذا كرم...».
5- في ح: «... على الأقذاء في عيني».
6- كذا في أكثر الأصول. و في: ح: «ابن حرفين» بالفاء.
7- لعله يريد: من بقايا قارون، أو لعلها محرفة عن «أسلاب».
8- ذات النطاقين: أسماء بنت أبي بكر الصديق؛ سميت بذلك لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال لها: «أنت و نطاقاك في الجنة». و قد دخل هذا الشعر السناد، و هو أن يخالف الشاعر بين الحركات التي تلي الأرداف في الرويّ.

أقبل عليّ فقال: عذرا إلى اللّه تعالى و إليكم! إنّي لم أعن من آبائه طلحة بن عبيد اللّه. قال: و نزل إليه إسماعيل بن جعفر بن محمد، و كان عندنا، فلم يكلّمه حتّى ضرب أنفه، و قال له: فعنيت من آبائه أبا سليمان محمد بن طلحة يا دعيّ! قال: فدخلنا بينهما. و جاء رسول محمد بن طلحة بن عبيد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصّدّيق رضي اللّه عنه إلى ابن هرمة يدعوه، فذهب إليه. فقال له: ما الذي بلغني من هجائك أبا سليمان! و اللّه لا أرضى حتى تحلف ألاّ تقول له أبدا إلاّ خيرا، و حتى تلقاه فترضّاه إذا رجع، و تحتمل كلّ ما أزلّ إليك و تمدحه.

قال: أفعل، بالحبّ و الكرامة. قال: و إسماعيل بن جعفر لا تعرض له إلاّ بخير؛ قال نعم. قال: فأخذ عليه الأيمان فيهما و أعطاه ثلاثين دينارا، و أعطاه محمد بن عبد العزيز مثلها. قال: و اندفع ابن هرمة يمدح محمد بن عمران:

أ لم تر أنّ القول يخلص صدقه *** و تأبى فما تزكو لباغ بواطله

ذممت امرأ لم يطبع(1) الذّمّ عرضه *** قليلا لدى تحصيله من يشاكله

فما بالحجاز من فتى ذي إمارة *** و لا شرف إلا ابن عمران فاضله

فتى لا يطور(2) الذّمّ ساحة بيته *** و تشقى به ليل التّمام(3) عواذله

/أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا أحمد بن عمر الزّهريّ قال حدّثنا أبو بكر بن عبد اللّه بن جعفر المسوريّ قال:

مدح إبراهيم بن هرمة محمد بن عمران الطّلحيّ، فألفاه راويته(4) و قد جاءته عير له تحمل غلّة قد جاءته من الفرع(5) أو خيبر. فقال له رجل كان عنده: أعلم و اللّه أنّ أبا ثابت بن عمران بن عبد العزيز أغراه بك و أنا حاضر عنده و أخبره بعيرك هذه. فقال: إنّما أراد أبو ثابت أن يعرّضني للسانه، قودوا إليه القطار، فقيد إليه.

طلب من عمر بن القاسم تمرا على ألاّ يعمل منه نبيذا ثم عمل:

أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني يحيى بن محمد عن عبد اللّه(6) بن عمر بن القاسم قال:

جاء أبي تمر من صدقة عمر؛ فجاءه ابن هرمة فقال: أمتع اللّه بك! أعطني من هذا التّمر. قال: يا أبا إسحاق، لو لا أنّي أخاف أن تعمل منه نبيذا لأعطيتك. قال: فإذا علمت أنّي أعمل منه نبيذا لا تعطيني. قال: فخافه فأعطاه.

فلقيه بعد ذلك؛ /فقال له: ما في الدّنيا أجود من نبيذ يجيء من صدقة عمر؛ فأخجله.

سمع جرير شعره فمدحه:

أخبرنا الحرميّ قال أخبرنا الزّبير قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز قال:

ص: 525


1- أي لم يسمه بما يشينه. و يحتمل أن يكون من طبع الشيء: دنس، و أطبعه: دنّسه.
2- لا يطور: لا يقرب. و في حديث علي كرم اللّه وجهه: «و اللّه لا أطور به ما سمر سمير» أي لا أقربه.
3- ليل التمام (بالكسر و قد يفتح): أطول ما يكون من ليالي الشتاء.
4- كذا في م. و في سائر الأصول: «روايته»، و هو تحريف.
5- الفرع (بالضم): قرية من نواحي الرّبذة عن يسار السّقيا بينها و بين المدينة ثمانية برد على طريق مكة.
6- كذا في م و هو الموافق لما في الطبري (قسم 3 ص 238 طبع أوروبا). و في سائر الأصول: «عن عبد العزيز بن القاسم»، و هو تحريف.

قدم جرير المدينة، فأتاه ابن هرمة و ابن أذينة فأنشداه؛ فقال جرير: القرشيّ أشعرهما، و العربيّ أفصحهما.

مدح المطلب بن عبد اللّه قليم لمدحه غلاما حديث السن فأجاب:

أخبرنا يحيى بن عليّ إجازة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني عبد اللّه بن محمد:

أنّ ابن هرمة قال يمدح أبا الحكم المطّلب بن عبد اللّه:

لمّا رأيت الحادثات كنفنني *** و أورثنني بؤسى ذكرت أبا الحكم

سليل ملوك سبعة قد تتابعوا *** هم المصطفون و المصفّون بالكرم

فلاموه و قالوا: أ تمدح غلاما حديث السنّ بمثل هذا! قال نعم! و كانت له ابنة يلقّبها «عيينة» - و قال الزبير: كان يلقّبها «عينة» - فقال:

كانت عيينة فينا و هي عاطلة *** بين الجواريّ فحلاّها أبو الحكم

فمن لحانا على حسن المقال له *** كان المليم و كنّا نحن لم نلم(1)

شكا حاله لعبد العزيز بن المطلب فأكرمه ثم عاوده فردّه فهجاه:

قال يحيى و حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الزّبيريّ عن نوفل بن ميمون قال:

أرسل ابن هرمة إلى عبد العزيز بن المطّلب بكتاب يشكو فيه بعض حاله؛ فبعث إليه بخمسة عشر دينارا.

فمكث شهرا ثم بعث يطلب منه شيئا آخر بعد ذلك؛ فقال: إنّا و اللّه ما نقوى على ما كان يقوى عليه الحكم بن المطّلب. و كان عبد العزيز قد خطب إلى امرأة من ولد عمر فردّته، فخطب إلى امرأة من بني عامر بن لؤيّ فزوّجوه.

فقال ابن هرمة:

خطبت إلى كعب فردّوك صاغرا *** فحوّلت من كعب إلى جذم(2) عامر

و في عامر عزّ قديم و إنّما *** أجازك فيهم هزل أهل المقابر

/و قال فيه أيضا:

أبا لبخل تطلب ما قدّمت *** عرانين جادت بأموالها

هيهات! خالفت فعل الكرام *** خلاف الجمال بأبوالها

خبره مع امرأة تزوّجها:

و قال هارون بن محمد حدّثني مغيرة بن محمد قال حدّثني أبو محمد السّهميّ قال حدّثني أبو كاسب(3) قال:

تزوّج ابن هرمة بامرأة؛ فقالت له: أعطني شيئا؛ فقال: و اللّه ما معي إلاّ نعلاي، فدفعهما إليها، و مضى معها

ص: 526


1- لم نلم: لم نأت ما نلام عليه؛ و منه المليم (بضم الميم) من ألام الرجل فهو مليم إذا أتى ما يلام عليه.
2- الجذم (بالكسر): أصل الشيء.
3- في م: «ابن كاسب».

فتورّكها مرارا. فقالت له. أجفيتني(1)؛ فقال لها: الذي أحفى صاحبه منّا يعضّ بظر أمّه.

أغراه قوم بالحكم بن المطلب بأن يطلب منه شاة كانت عزيزة عليه فأعطاه الحكم كل ما عنده من شاء:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني المسيّبيّ محمد بن إسحاق قال حدّثني إبراهيم بن سكرة جار أبي ضمرة قال:

جلس ابن هرمة مع قوم على شراب، فذكر الحكم بن المطّلب فأطنب في مدحه. فقالوا له: إنّك لتكثر ذكر رجل لو طرقته الساعة في شاة يقال لها «غرّاء» تسأله إيّاها لردّك عنها. فقال: أ هو يفعل هذا؟ قالوا: إي و اللّه. و كانوا قد عرفوا أنّ الحكم بها معجب، و كانت في داره سبعون شاة تحلب. فخرج و في رأسه ما فيه، فدقّ الباب فخرج إليه غلامه. فقال له: أعلم أبا مروان بمكاني - و كان قد أمر ألاّ يحجب إبراهيم بن هرمة عنه - فأعلمه به، فخرج إليه متّشحا فقال: أ في مثل هذه الساعة يا أبا إسحاق! فقال: نعم/جعلت فداك، ولد لأخ لي مولود فلم تدرّ عليه أمّه، فطلبوا/له شاة حلوبة فلم يجدوها، فذكروا له شاة عندك يقال لها «غرّاء»، فسألني أن أسألكها. فقال: أ تجيء في هذه الساعة ثم تنصرف بشاة واحدة! و اللّه لا تبقى في الدار شاة إلاّ انصرفت بها، سقهنّ معه يا غلام، فساقهنّ.

فخرج بهنّ إلى القوم، فقالوا: ويحك! أيّ شيء صنعت! فقصّ عليهم القصة. قال: و كان فيهنّ و اللّه ما ثمنه عشرة دنانير و أكثر من عشرة.

لما سمع بقتل الوليد أنشد شعرا في مدحه:

قال هارون و حدّثني حمّاد بن إسحاق قال ذكر أبي عن أيّوب بن عباية عن عمر بن أيّوب اللّيثيّ قال:

شرب ابن هرمة عندنا يوما فسكر فنام. فلمّا حضرت الصلاة تحرّك أو حرّكته. فقال لي و هو يتوضّأ: ما كان حديثكم اليوم؟ قلت يزعمون أنّ الوليد قتل؛ فرفع رأسه إليّ و قال:

و كانت أمور الناس منبتّة القوى *** فشدّ الوليد حين قام نظامها

خليفة حقّ لا خليفة باطل *** رمى عن قناة الدّين حتى أقامها

ثم قال لي: إيّاك أن تذكر من هذا شيئا؛ فإنّي لا أدري ما يكون.

كان ابن الأعرابي يقول: ختم الشعراء بابن هرمة:

أخبرني عليّ بن سليمان النحويّ قال حدّثنا أبو العبّاس الأحول عن ابن الأعرابيّ: أنه كان يقول: ختم الشعراء بابن هرمة.

سكر مرّة سكرا شديدا فعتب عليه جيرانه فأجابهم:

أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال أخبرني أحمد بن يحيى البلاذريّ:

(2) كذا في ح. و في م: «فذكرت لي شاة». و في سائر الأصول: «فذكرت شاة».

ص: 527


1- أحفيتني هنا: أجهدتني.

/أنّ ابن هرمة كان مغرما بالنبيذ، فمرّ على جيرانه و هو شديد(1) السّكر حتى دخل منزله. فلمّا كان من الغد دخلوا عليه(2) فعاتبوه على الحال التي رأوه عليها؛ فقال لهم: أنا في طلب مثلها منذ دهر، أ ما سمعتم قولي:

أسأل اللّه سكرة قبل موتي *** و صياح الصّبيان يا سكران

قال: فنفضوا ثيابهم و خرجوا، و قالوا: ليس يفلح و اللّه هذا أبدا.

لم يحمل جنازته إلا أربعة نفر و كان ذلك مصداقا لشعر له:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال: أنشدني عمّي لابن هرمة:

ما أظنّ الزمان يا أمّ عمر(3) *** تاركا إن هلكت من يبكيني

قال: فكان و اللّه كذلك؛ لقد مات فأخبرني من رأى جنازته ما يحملها إلاّ أربعة نفر، حتّى دفن بالبقيع.

ولد سنة 90 ه و مدح المنصور و عمره خمسون سنة و عاش بعد ذلك طويلا:

قال يحيى بن عليّ - أراه(4) عن البلاذريّ -: ولد ابن هرمة سنة تسعين، و أنشد أبا جعفر المنصور في سنة أربعين و مائة قصيدته التي يقول فيها:

إنّ الغواني قد أعرضن مقلية *** لمّا رمى هدف الخمسين ميلادي

قال: ثم عمّر بعدها مدّة طويلة.

ص: 528


1- في «مختار الأغاني» لابن منظور (ج 1 ص 92 طبع مصر): «منبتّ سكرا» أي منقطع. و في ء، ط، م: «فمر على جيرانه و هو مثبت سكرا» بالثاء المثلثة و هو تصحيف عن «منبت».
2- كذا في «مختار الأغاني» لابن منظور. و في جميع الأصول: «إليه».
3- في ح: «يا أم سعد».
4- في م: «رواه عن البلاذريّ».

55 - ذكر أخبار يونس الكاتب

نسب يونس الكاتب و منشؤه و من أخذ عنهم، و هو أوّل من دوّن الغناء:

هو يونس بن سليمان بن كرد بن شهريار، من ولد هرمز. و قيل: إنّه مولى لعمرو بن الزّبير. و منشؤه و منزله بالمدينة. و كان أبوه فقيها(1)، فأسلمه في الديوان فكان من كتّابه. و أخذ الغناء عن معبد و ابن سريج و ابن محرز و الغريض، و كان أكثر روايته عن معبد؛ و لم يكن في أصحاب معبد أحذق و لا أقوم بما أخذ عنه منه. و له غناء حسن، و صنعة كثيرة، و شعر جيّد. و كتابه في الأغاني و نسبها إلى من غنّى فيها هو الأصل الذي يعمل عليه و يرجع إليه. و هو أوّل من دوّن الغناء.

شعر مسعود بن خالد في مدحه:

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا حماد بن إسحاق قال حدّثني أبي قال/أنشدني مسعود بن خالد الموريانيّ(2) لنفسه في يونس:

يا يونس الكاتب يا يونس *** طاب لنا اليوم بك المجلس

إنّ المغنّين إذا ما هم *** جاروك أخنى بهم المقبس

تنشر ديباجا و أشباهه *** و هم إذا ما نشروا كربسوا(3)

خرج مع بعض فتيان المدينة إلى دومة فتغنوا و اجتمع عليهم النساء فتغنى ابن عائشة ففرق جمعهم إليه:
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال: ذكر إبراهيم بن قدامة الجمحيّ قال:

اجتمع فتيان من فتيان أهل المدينة فيهم يونس الكاتب و جماعة ممن يغنّي، فخرجوا إلى واد يقال له دومة من بطن العقيق، في أصحاب لهم فتغنّوا، و اجتمع/إليهم نساء أهل الوادي - قال بعض من كان معهم: فرأيت حولنا مثل مراح الضأن - و أقبل محمد بن عائشة و معه صاحب له؛ فلمّا رأى جماعة النساء عندهم حسدهم، فالتفت إلى صاحبه فقال: أما و اللّه لأفرّقنّ هذه الجماعة! فأتى قصرا من قصور العقيق، فعلا سطحه و ألقى رداءه و اتّكأ عليه و تغنّى:

ص: 529


1- في «مختصر الأغاني» لابن واصل الحموي: «و كان أبوه مقيما بها».
2- كذا في أكثر الأصول، و هو الموافق لما في «تاريخ الطبري» (قسم ثالث ص 370 و 372 طبع أوروبا). و المورياني (بضم الميم و كسر الراء): نسبة إلى موريان: قرية بخوزستان. و في م: «المرزباني» و هو تحريف.
3- كربسوا: أتوا بالكرابيس، و هي الثياب الخشنة من القطن.
صوت

هذا مقام مطرد *** هدمت منازله و دوره

رقّى(1) عليه عداته *** ظلما فعاقبه أميره

- الغناء لابن عائشة رمل بالوسطى، و الشعر لعبيد بن حنين مولى آل زيد بن الخطّاب، و قيل: إنّه لعبد اللّه بن أبي كثير مولى بني مخزوم - قال: فو اللّه ما قضى صوته حتّى ما بقيت امرأة منهنّ إلاّ جلست تحت القصر الذي هو عليه و تفرّق عامّة أصحابهم. فقال يونس و أصحابه: هذا عمل ابن عائشة و حسده.

صاحب الشعر الذي تغنى به ابن عائشة و سبب قوله:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو غسّان محمد بن يحيى عن أبيه قال:

تزوّج عبد اللّه بن أبي كثير مولى بني مخزوم بالعراق في ولاية مصعب بن الزّبير امرأة من بني عبد بن(2)بغيض بن عامر بن لؤيّ، ففرّق مصعب بينهما. فخرج حتّى قدم على عبد اللّه بن الزّبير بمكة فقال:

/

هذا مقام مطرد *** هدمت منازله و دوره

رقّت عليه عداته *** كذبا فعاقبه أميره

في أن شربت بجمّ ما *** ء كان حلاّ لي غديره

فلقد قطعت الخرق(3) بع *** د الخرق معتسفا(4) أسيره

حتّى أتيت خليفة الرّحمن ممهودا سريره

حيّيته بتحيّة *** في مجلس حضرت(5) صقوره

فكتب عبد اللّه إلى مصعب: أن اردد عليه امرأته؛ فإنّي لا أحرّم ما أحلّ اللّه عزّ و جلّ؛ فردّها عليه. هذه رواية عمر بن شبّة.

و أخبرني الحسن بن عليّ عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن المدائنيّ عن سحيم بن حفص: أنّ المتزوّج بهذه المرأة عبيد بن حنين مولى آل زيد بن الخطّاب، و أنّ المفرّق. بينهما الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة الذي يقال له القباع(6)؛ و ذكر باقي الخبر مثل الأوّل.

ص: 530


1- رقى عليه عداته: تقوّلوا عليه ما لم يقل. قال في «القاموس»: و رقّى عليه كلاما ترقية: رفع. و في «اللسان» «و نهاية ابن الأثير»: «... و في حديث استراق السمع: و لكنهم يرقّون فيه أي يتزيدون؛ يقال: رقّى فلان عليّ الباطل؛ إذا تقوّل ما لم يكن و زاد فيه».
2- كذا في أكثر الأصول. و بغيض بن عامر كان شريفا، و هو الذي نقل الحطيئة إلى جواره من جوار الزبرقان. و أدرك بغيض الإسلام و وفد إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فسماه حبيبا. و في م: «من عبد بغيض». و في ح: «من بني عبد الغيض».
3- الخرق: القفر.
4- معتسفا: خابطا الطريق على غير هداية و لا دراية. و في م: «منقطعا أسيره».
5- كذا في أكثر الأصول. و في ب، س: «حصرت» بالصاد المهملة.
6- كان الحارث بن عبد اللّه أميرا على البصرة، و لقبه أهلها القباع؛ و ذلك أنه مر بقوم يكيلون بقفيز فقال: إن قفيزكم لقباع. أي كبير -
ذهب إلى الشام فبعث إليه الوليد بن يزيد ليغنيه ثم وصله:

أخبرني عمّي قال حدّثني طلحة بن عبد اللّه الطّلحيّ قال حدّثني أحمد/بن الهيثم قال:

خرج يونس الكاتب من المدينة إلى الشام في تجارة؛ فبلغ الوليد بن يزيد مكانه؛ فلم يشعر يونس إلاّ برسله قد دخلوا عليه الخان، فقالوا له: أجب الأمير - و الوليد إذ ذاك أمير - قال: فنهضت معهم حتى أدخلوني على الأمير، لا أدري/من هو، إلاّ أنّه من أحسن الناس وجها و أنبلهم، فسلمت عليه، فأمرني بالجلوس، ثم دعا بالشراب و الجواري؛ فكنّا(1) يومنا و ليلتنا في أمر عجيب. و غنيته فأعجب بغنائي إلى أن غنّيته:

إن يعش مصعب فنحن بخير *** قد أتانا من عيشنا ما نرجّي

ثم تنبّهت فقطعت الصوت. فقال: ما لك؟ فأخذت أعتذر من غنائي بشعر في مصعب. فضحك و قال: إنّ مصعبا قد مضى و انقطع أثره و لا عداوة بيني و بينه، و إنّما أريد الغناء، فأمض الصوت؛ فعدت فيه فغنّيته. فلم يزل يستعيدنيه حتى أصبح، فشرب مصطبحا و هو يستعيدني هذا الصوت ما يتجاوزه حتى مضت ثلاثة أيّام. ثم قلت له:

جعلني اللّه فداء الأمير! أنا رجل تاجر خرجت مع تجّار و أخاف أن يرتحلوا فيضيع مالي. فقال لي: أنت تغدو غدا؛ و شرب باقي ليلته، و أمر لي بثلاثة آلاف دينار فحملت إليّ، و غدوت إلى أصحابي. فلمّا خرجت من عنده سألت عنه، فقيل لي: هذا الأمير الوليد بن يزيد وليّ عهد أمير المؤمنين هشام. فلمّا استخلف بعث إليّ فأتيته، فلم أزل معه حتى قتل.

صوت من المائة المختارة
أصواته المعروفة بالزبائب:

أقصدت زينب قلبي بعد ما *** ذهب الباطل عنّي و الغزل

و علا المفرق شيب شامل *** واضح في الرأس منّي و اشتعل

الشعر لابن رهيمة المدنيّ. و الغناء في اللحن المختار لعمر الواديّ ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها عن إسحاق.

و فيه ليونس الكاتب لحنان: أحدهما خفيف ثقيل/أوّل بالبنصر(2) في مجرى الوسطى عن إسحاق، و الآخر رمل بالسبّابة في مجرى البنصر عنه أيضا. و فيه رملان بالوسطى و البنصر: أحدهما لابن المكّيّ، و الآخر لحكم، و قيل:

إنه لإسحاق من رواية الهشاميّ. و لحن يونس في هذا الشعر من أصواته المعروفة بالزّيانب، و الشعر فيها كلّها لابن رهيمة في زينب بنت عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام؛ و هي سبعة: أحدها قد مضى. و الآخر:

ص: 531


1- في «نهاية الأرب» للنويري (ج 4 ص 310 طبع دار الكتب المصرية): «فمكثنا».
2- في ح: «أوّل بالخنصر».
صوت

أقصدت زينب قلبي *** و سبت عقلي و لبّي

تركتني مستهاما *** أستغيث اللّه ربّي

ليس لي ذنب إليها *** فتجازيني بذنبي

و لها عندي ذنوب *** في تنائيها و قربي

غنّاه يونس رملا بالبنصر. و فيه لحكم هزج خفيف بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق.

و منها:

صوت

/

وجد الفؤاد بزينبا *** وجدا شديدا متعبا

أصبحت من وجدي بها *** أدعى سقيما مسهبا(1)

و جعلت زينب سترة *** و أتيت أمرا معجبا

غنّاه يونس ثقيلا أوّل مطلقا في مجرى البنصر عن عمرو و إسحاق، و هو مما يشكّ فيه من غناء يونس. و لعليّة بنت المهديّ فيه ثقيل أوّل آخر لا يشكّ فيه أنّه لها، /كنت فيه عن رشأ الخادم - و ذكر أحمد بن عبيد أنّ فيه من الغناء لحنين هما جميعا من الثقيل الأوّل ليونس - و من لا يعلم يزعم أنّ الشّعر لها.

و منها:

صوت

إنّما زينب المنى *** و هي الهمّ و الهوى

ذات دلّ تضني الصّحي(2) *** ح و تبري من الجوى

لا يغرّنك أن دعو *** ت فؤادي فما التوى(3)

و احذري هجرة الحبي *** ب إذا ملّ و انزوى

غنّاه يونس رملا بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق.

و منها:

صوت

إنّما زينب همّي *** بأبي تلك و أمّي

بأبي زينب لا أك *** ني و لكنّي أسمّي

ص: 532


1- أسهب الرجل (مبنيا للمجهول): ذهب عقله، أو تغير لونه من حب أو غيره.
2- في ح: «... تصبي الحليم».
3- كذا في م. و في ح: «إلى التوى» بالتاء المثناة من فوق. و التوى: الهلاك. و في سائر الأصول: «إلى النوى» بالنون.

بأبي زينب من قا *** ض قضى عمدا بظلمي

بأبي من ليس لي في *** قلبه قيراط رحم(1)

غنّاه يونس رملا بالبنصر عن عمرو، و له فيه لحن آخر.

و منها:

صوت

يا زينب الحسناء يا زينب *** يا أكرم النّاس إذا تنسب

تقيك نفسي حادثات الرّدى *** و الأم تفديك معا و الأب

/هل لك في ودّ امرئ صادق *** لا يمذق الودّ و لا يكذب

لا يبتغي في ودّه محرما *** هيهات منك العمل الأريب(2)

غنّاه يونس ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق.

و منها:

صوت

فليت الذي يلحى على زينب المنى *** تعلّقه مما لقيت عشير(3)

فحسبي له بالعشر ممّا لقيته *** و ذلك فيما قد تراه يسير

غنّاه يونس ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن الهشامي.

هذه سبعة أصوات قد مضت و هي المعروفة بالزيانب. و من الناس من يجعلها ثمانية، و يزيد فيها لحن يونس في:

تصابيت أم هاجت لك الشوق زينب

و ليس هذا منها؛ و إن كان ليونس لحنه، فإنّ/شعره لحجيّة بن المضرّب الكنديّ، و قد كتب في موضع آخر؛ و إنّما الزيانب في شعر ابن رهيمة. و منهم من يعدّها تسعة و يضيف إليها:

قولا لزينب لو رأي *** ت تشوّقي لك و اشترافي(4)

و هذا اللحن لحكم. و الشعر لمحمد بن أبي العبّاس السفّاح في زينب بنت سليمان بن عليّ، و قد كتب في موضع آخر.

انقضت أخبار يونس الكاتب.

ص: 533


1- الرحم: (بالضم): مصدر رحم كالرحمة.
2- المحرم: الحرام. و الأريب: ذو الريب. و في م: «العمل الأعيب».
3- العشير: جزء من عشرة أجزاء كالعشر.
4- الاشتراف: التطلع.

56 - أخبار ابن رهيمة

شبب بزينب بنت عكرمة فأمر هشام بن عبد الملك بضربه فتوارى و ظهر في أيام الوليد بن يزيد و قال شعرا:
اشارة

أخبرني محمد بن جعفر النحويّ قال حدّثنا أحمد بن القاسم قال حدّثني أبو هفّان عن إسحاق قال:

كان ابن رهيمة يشبّب بزينب بنت عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، و يغني يونس بشعره، فافتضحت بذلك. فاستعدى عليه أخوها هشام بن عبد الملك، فأمر بضربه خمسمائة سوط، و أن يباح دمه إن وجد قد عاد لذكرها، و أن يفعل ذلك بكلّ من غنّى في شيء من شعره. فهرب هو و يونس فلم يقدر عليهما. فلمّا ولي الوليد بن يزيد ظهرا. و قال ابن رهيمة:

لئن كنت أطردتني(1) ظالما *** لقد كشف اللّه ما أرهب

و لو نلت منّي ما تشتهي *** لقلّ إذا رضيت زينب

و ما شئت فاصنعه بي بعد ذا *** فحبّي لزينب لا يذهب

و في الأصوات المعروفة بالزيانب يقول أبان بن عبد الحميد اللاّحقيّ:

أحبّ(2) من الغناء خفي *** فه إن فاتني الهزج

و أشنأ «ضوء برق»(3) مث *** ل ما أشنا «عفا مزج»

و أبغض «يوم تنأى و *** «الزّيانب» كلّها سمج

/و يعجببي لإبراه *** يم و الأوتار تختلج(4)

«أدير مدامة صرفا *** كأنّ صبيبها ودج»(5)

يعني أبان لحن إبراهيم. و الشعر لأبان أيضا، و هو:

ص: 534


1- أطرده: صيره طريدا. و أطرد السلطان فلانا: أمر بطرده أو بإخراجه من البلد.
2- وردت هذه الأبيات في كتاب «الأوراق» للصولي (المحفوظ منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية تحت رقم 3530 أدب) ضمن قصيدة طويلة مثبتة في ترجمة أبان هذا، و مطلعها: أ أحزنك الألى ردّوا جمال الحيّ و ادّلجوا
3- يريد الشاعر بما وضعناه بين هذه العلامات أصواتا في الغناء.
4- كذا في كتاب «الأوراق» للصولي. و في الأصول: «تعتلج» بالعين المهملة. و ما أثبتناه أنسب بالمعنى. على أن كلمة «تعتلج» قد وردت في بيت آخر من هذه القصيدة، و هو: نعم فبنات همّ الصد ر في الأحشاء تعتلج
5- الودج: عرق الأخدع الذي يقطعه الذابح فلا يبقى معه حياة. و المراد تشبيه لون الخمرة بلون الدم الذي يسيل من الأخدع عند الذبح.
صوت

أدير(1) مدامة صرفا *** كأنّ صبيبها ودج

فظلّ تخاله ملكا *** يصرّفها و يمتزج

الشعر لأبان، و الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لابن جامع ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق أيضا.

و ممّا في غناء يونس من المائة المختارة المذكورة في هذا الكتاب:

صوت من المائة المختارة

ألا يا لقومي للرّقاد المسهّد(2) *** و للماء ممنوعا من الحائم الصّدي

و للحال بعد الحال يركبها الفتى *** و للحبّ بعد السّلوة المتمرّد(3)

/الشعر لإسماعيل بن يسار النّسائي من قصيدة مدح بها عبد الملك بن مروان؛ و ذكر يحيى بن عليّ عن أبيه عن إسحاق: أنّها(4) للغول بن عبد اللّه بن صيفيّ الطّائي. و الصحيح أنّها لإسماعيل. و أنا أذكر خبره مع عبد الملك بن مروان و مدحه إيّاه بها ليعلم صحّة ذلك. و الغناء ليونس، و لحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل مطلق في مجرى البنصر. و تمام هذه الأبيات:

و للمرء لا عمّن(5) يحبّ بمرعو *** و لا لسبيل الرّشد يوما بمهتدى

و قد قال أقوام و هم يعذلونه(6) *** لقد طال تعذيب الفؤاد المصيّد

ص: 535


1- نسب المؤلف هذين البيتين في (ج 12 ص 110 طبع بلاق) المطبع بن إياس. و هو خطأ.
2- في «مختصر الأغاني» لابن واصل الحموي: «المشرّد».
3- في م: «المتردّد».
4- كذا في ط، ح، ء. و في سائر الأصول: «أنه للغول». و التذكير باعتبار أنه شعر.
5- كذا في م، و في سائر النسخ: «عما»، و كلاهما صحيح.
6- في م: «يعذلونني... الفؤاد المعبّد». و في ح: لقد طاب تعذيب الفؤاد المفند

57 - أخبار إسماعيل بن يسار و نسبه

كان منقطعا إلى آل الزبير ثم اتصل بعبد الملك بن مروان و مدحه و الخلفاء من ولده:

حدّثني عمّي قال حدّثني أحمد بن أبي خيثمة قال حدّثنا مصعب بن عبد اللّه الزّبيريّ قال:

كان إسماعيل بن يسار النّسائيّ مولى بني تيم بن مرّة: تيم قريش، و كان منقطعا إلى آل الزّبير. فلمّا أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان، وفد إليه مع عروة بن الزّبير، و مدحه و مدح الخلفاء من ولده بعده. و عاش عمرا طويلا إلى أن أدرك آخر سلطان بني أميّة، و لم يدرك الدولة العبّاسيّة. و كان طيّبا مليحا مندرا(1) بطّالا، مليح الشّعر، و كان كالمنقطع إلى عروة بن الزّبير، و إنّما سمّي إسماعيل بن يسار النّسائيّ(2)، لأنّ أباه كان يصنع طعام العرس و يبيعه، فيشتريه منه من أراد التعريس من المتجمّلين و ممن لم تبلغ حاله اصطناع ذلك.

سبب تلقيبه بالنسائي:

و أخبرني الأسديّ قال حدّثنا أبو الحسن محمد بن صالح بن النّطّاح قال:

إنّما سمّي إسماعيل بن يسار النّسائيّ لأنه كان يبيع النّجد و الفرش التي تتّخذ للعرائس؛ فقيل له إسماعيل بن يسار النّسائيّ.

و أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد عن ابن عائشة:

أنّ إسماعيل بن يسار النّسائيّ إنّما لقّب بذلك لأنّ أباه كان يكون عنده طعام العرسات(3) مصلحا أبدا؛ فمن طرقه وجده عنده معدّا.

نادرة له مع عروة بن الزبير أثناء سفرهما للشام:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال قال مصعب بن عثمان:

لمّا خرج عروة بن الزّبير إلى الشام يريد الوليد بن عبد الملك، أخرج معه إسماعيل بن يسار النّسائيّ، و كان منقطعا إلى آل الزّبير، فعادله(4). فقال عروة ليلة من اللّيالي لبعض غلمانه: انظر كيف ترى المحمل؟ قال: أراه

ص: 536


1- مندرا: يأتي بالنوادر من قول أو فعل. و بطال: كثير الهزل و المزاح؛ يقال: بطل الرجل يبطل بطالة (من باب فرح) إذا هزل.
2- النسائيّ: نسبة إلى النساء الذي هو من أسماء جموع المرأة. و في «اللسان»: أن سيبويه يقول في النسبة إلى نساء: نسوي ردّا له إلى واحده.
3- العرسات: جمع عرس و هو طعام الوليمة. و في ح، م: «العرسان» بالنون في آخره. و في سائر الأصول: «العرسيات».
4- عادله: ركب معه في المحمل مقابلا له.

معتدلا. قال إسماعيل: اللّه أكبر، ما اعتدل الحقّ و الباطل قبل الليلة قطّ؛ فضحك عروة، و كان يستخفّ إسماعيل و يستطيبه.

تساب هو و آخر يكنى أبا قيس في اسميهما فغلبه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن سعيد قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي عن أيّوب بن عباية المخزوميّ:

أنّ إسماعيل بن يسار كان ينزل في موضع يقال له حديلة(1) و كان له جلساء يتحدّثون عنده، ففقدهم أيّاما، و سأل عنهم فقيل: هم عند رجل يتحدّثون إليه طيّب الحديث حلو ظريف قدم عليهم يسمّى محمدا و يكنى أبا قيس.

فجاء إسماعيل فوقف عليهم، فسمع الرجل القوم يقولون: قد جاء صديقنا إسماعيل بن يسار؛ فأقبل عليه فقال له:

أنت إسماعيل؟ قال نعم. قال: رحم اللّه أبويك فإنّهما سمّياك باسم صادق الوعد و أنت أكذب الناس. فقال له:

إسماعيل: ما اسمك؟ قال: محمد. قال: أبو من؟ قال: أبو قيس. قال: لا(2)! و لكن لا رحم اللّه أبويك؛ فإنّهما سمّياك باسم نبيّ و كنّياك بكنية قرد. /فأفحم الرجل و ضحك القوم، و لم يعد إلى مجالستهم، فعادوا إلى مجالسة إسماعيل.

استأذن على الغمر بن يزيد فحجبه ساعة فدخل يبكي لحجبه و ادّعى نيته نفاقا:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز(3) قال حدّثنا المدائنيّ عن نمير العذريّ قال:

استأذن إسماعيل بن يسار النّسائيّ على الغمر بن يزيد بن عبد الملك يوما، فحجبه ساعة ثم أذن له، فدخل يبكي. فقال له الغمر: مالك يا أبا فائد تبكي؟ قال: و كيف لا أبكي و أنا على مروانيّتي و مروانيّة أبي أحجب عنك! فجعل الغمر يعتذر إليه و هو يبكي؛ فما سكت حتّى وصله الغمر بجملة لها قدر. و خرج من عنده، فلحقه رجل فقال له: أخبرني ويلك يا إسماعيل، أيّ مروانيّة كانت لك أو لأبيك؟ قال: بغضنا إيّاهم، امرأته(4) طالق إن لم يكن يلعن(5) مروان و آله كلّ يوم مكان التسبيح، و إن لم يكن أبوه حضره الموت، فقيل له: قل لا إله إلاّ اللّه، فقال: لعن اللّه مروان، تقرّبا بذلك إلى اللّه تعالى و إبدالا له من التوحيد و إقامة له مقامه.

شعره الذي يفخر فيه بالعجم على العرب:
اشارة

أخبرني عمّي قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني مصعب قال:

قال إسماعيل بن يسار النّسائيّ قصيدته التي أوّلها:

ص: 537


1- كذا في ب، ح. ء، ط. و حديلة محلة بالمدينة بها دار عبد الملك بن مروان. و في سائر الأصول: «جديلة» بالجيم. و جديلة: مكان في طريق خارج البصرة؛ و هذا لا يتفق مع سياق الخبر.
2- في ح: «قال: و لكن لا رحم... إلخ» بدون «لا».
3- كذا في ح، و هو الصواب. (راجع الحاشية 2 ص 277 ج 3 من هذه الطبعة). و في سائر الأصول: «أحمد بن إسماعيل الخزاز» بزايين.
4- في ط، ء: «مرته الطلاق». مرة (على وزن ستة): لغة في امرأة.
5- كذا في ط، م. ء. و في سائر الأصول: «إن لم تكن أمه تلعن... إلخ».

ما على رسم منزل بالجناب(1) *** لو أبان الغداة رجع الجواب

غيّرته الصّبا و كلّ ملثّ(2) *** دائم الودق مكفهرّ السّحاب

/دار هند و هل زماني بهند *** عائد بالهوى و صفو الجناب

كالذي كان و الصفاء مصون *** لم تشبه بهجرة و اجتناب

ذاك منها إذ أنت كالغصن غضّ *** و هي رؤد(3) كدمية المحراب

غادة تستبي العقول بعذب *** طيّب الطعم بارد الأنياب

و أثيث(4) من فوق لون نقيّ *** كبياض اللّجين في الزّرياب

فأقلّ الملام فيها و أقصر *** لجّ قلبي من لوعة و اكتئاب(5)

صاح أبصرت أو سمعت براع *** ردّ في الضّرع ما قرى في العلاب(6)

[انقضت شرّتي و أقصر جهلي *** و استراحت عواذلي من عتابي](7)

و قال فيها يفخر على العرب بالعجم:

ربّ خال متوّج لي و عمّ *** ماجد مجتدى كريم النّصاب

إنّما سمّي الفوارس بالفر *** س مضاهاة رفعة الأنساب

فاتركي الفخر يا أمام علينا *** و اتركي الجور و انطقي بالصّواب

و اسألي إن جهلت عنّا و عنكم *** كيف كنّا في سالف الأحقاب

إذ نربّي بناتنا و تدسّو *** ن سفاها بناتكم في التّراب

/فقال رجل من آل كثير بن الصّلت: إنّ حاجتنا إلى بناتنا غير حاجتكم؛ فأفحمه. يريد: أنّ العجم يربّون بناتهم لينكحوهنّ، و العرب لا تفعل ذلك. و في هذه الأبيات غناء، نسبته:

ص: 538


1- الجناب (بالفتح): الفناء و ما قرب من محلة القوم، و قيل: هو موضع في أرض كلب في السّماوة بين العراق و الشام. و الجناب (بالكسر): موضع بعراض خيبر و سلاح و وادي القرى، و قيل: هو من منازل بني مازن. و قال نصر: الجناب: من ديار بني فزارة بين المدينة و فيد. (انظر «معجم البلدان» لياقوت).
2- يقال: ألثّ المطر و لث إذا أقام أياما و لم يقلع. و الودق: المطر.
3- الرؤد: الشابة الحسنة. و الدّمية: الصورة.
4- شعر أثيث: كثير عظيم. و الزرياب: الذهب، و قيل: ماؤه، معرب زر أي ذهب، و آب أي ماء (خففت الهمزة فأبدلت ياء). و في ح: «و الزرباب» بواو العطف.
5- في ء، ط: «من عولتي و اكتئابي». و العولة و العول: البكاء و الصياح.
6- كذا في أكثر الأصول. و قرى الماء في الحوض: جمعه. و العلاب: جمع علبة، و هي إناء كالقدح الضخم، تتخذ من جلود الإبل أو الخشب يحلب فيها. و في ء، ط و «تجريد الأغاني» لابن واصل الحموي: «الحلاب» بالحاء المهملة. و الحلاب (بالكسر): الإناء الذي يحلب فيه اللبن.
7- الزيادة عن «تجريد الأغاني» لابن واصل الحموي، و قد ذكره المؤلف بعد قليل.
صوت

صاح أبصرت أو سمعت براع *** ردّ في الضّرع ما قرى في العلاب

انقضت شرّتي و أقصر جهلي *** و استراحت عواذلي من عتابي

/الشعر لإسماعيل بن يسار النّسائيّ. و الغناء لمالك خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. و ذكر عمرو بن بانة في نسخته الأولى أنّ فيه للغريض خفيف ثقيل بالبنصر، و ذكر في نسخته الثانية أنه لابن سريج. و ذكر الهشاميّ أنّ لحن ابن سريج رمل بالوسطى، و أنّ لحن الغريض ثقيل أوّل.

كان شعوبيا شديد التعصب للعجم:

و حدّثني بهذا الخبر عمّي قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب قال:

إسماعيل بن يسار يكنى أبا فائد، و كان أخواه محمد و إبراهيم شاعرين أيضا، و هم من سبى فارس. و كان إسماعيل شعوبيّا(1) شديد التعصّب للعجم، و له شعر كثير يفخر فيه بالأعاجم. قال: فأنشد يوما في مجلس فيه أشعب قوله:

إذ نربّي بناتنا و تدسّو *** ن سفاها بناتكم في التّراب

فقال له أشعب: صدقت و اللّه يا أبا فائد، أراد القوم بناتهم لغير ما أردتموهنّ له. قال: و ما ذاك؟ قال: دفن القوم بناتهم خوفا من العار، و ربّيتموهنّ لتنكحوهنّ. قال: فضحك القوم حتى استعربوا(2)، و خجل إسماعيل حتّى لو قدر أن يسيخ في الأرض لفعل.

رماه عبد الصمد في البركة بثيابه بإيعاز من الوليد بن يزيد ثم مدح الوليد فأكرمه:

أخبرني الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرني أبو سلمة الغفاريّ قال أخبرنا أبو عاصم الأسلميّ قال:

بينا ابن يسار النّسائيّ مع الوليد بن يزيد جالس على بركة، إذ أشار الوليد إلى مولى له يقال له عبد الصمد، فدفع ابن يسار النسائيّ في البركة بثيابه؛ فأمر به الوليد فأخرج. فقال ابن يسار:

قل لوالي العهد(3) إن لاقيته *** و وليّ العهد أولى بالرّشد

إنّه و اللّه لو لا أنت لم *** ينج منّي سالما عبد الصّمد

ص: 539


1- الشعوبية: فرقة لا تفضل العرب على العجم و لا ترى لهم فضلا على غيرهم، و يرون التسوية بين الشعوب.
2- أي بالغوا في الضحك.
3- كذا في أكثر النسخ. و في ط، ء: «قل لولي العهد... إلخ» بدون ألف بعد الواو. و على هذه الرواية يكون قد دخله الخزم، و هو زيادة حرف في أوّل الجزء أو حرفين أو حروف من حروف المعاني نحن الواو و بل و إذا. و أكثر ما جاء من الخزم بحروف العطف. فالخزم بالواو كقول امرئ القيس: و كأن ثبيرا في أفانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمّل و قد يأتي الخزم في أوّل المصراع الثاني، كما أنشد ابن الأعرابي: بل بريقا بتّ أرقبه «بل» لا يرى إلا إذا اعتلما و ربما اعترض في حشو النصف الثاني بين سبب و وتد، كقول مطر بن أشيم: الفخر أوّله جهل و آخره حقد «إذا» تذكرت الأقوال و الكلم

إنّه قد رام منّي خطّة *** لم يرمها قبله منّي أحد

فهو مما رام منّي كالذي *** يقنص الدّرّاج(1) من خيس(2) الأسد

فبعث إليه الوليد بخلعة سنية وصلة و ترضّاه. و قد روي هذا الخبر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت في قصة أخرى، و ذكر هذا الشعر له فيه.

استنشد أحد ولد جعفر بن أبي طالب الأحوص قصيدة فلما سمعها أنشد هو قصيدة من شعره فأعجب بها الطالبي:
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد قرأت على أبي(3): حدّثني مصعب بن عبد اللّه قال سمعت إبراهيم بن أبي عبد اللّه يقول:

ركب فلان من ولد جعفر بن أبي طالب رحمه اللّه بإسماعيل بن يسار النّسائيّ حتّى أتى به قباء؛ فاستخرج الأحوص فقال له: أنشدني قولك:

ما ضرّ جيراننا إذ انتجعوا *** لو أنّهم قبل بينهم ربعوا

فأنشده القصيدة. فأعجب بها، ثم انصرف. فقال له إسماعيل بن يسار: أ ما جئت إلاّ لما أرى؟ قال لا(4).

قال: فاسمع، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

ما ضر أهلك لو تطوّف عاشق *** بفناء بيتك أو ألمّ فسلّما

فقال: و اللّه لو كنت سمعت هذه القصيدة أو علمت أنك قلتها لما أتيته. و في أبيات من هذا الشعر غناء نسبته:

صوت

يا هند ردّي الوصل أن يتصرّما *** وصلي امرأ كلفا بحبّك مغرما

لو تبذلين لنا دلالك مرّة *** لم نبغ منك سوى دلالك محرما

/منع الزيارة أنّ أهلك كلّهم *** أبدوا لزورك غلظة و تجهّما

ما ضرّ أهلك لو تطوّف عاشق *** بفناء بيتك أو ألمّ فسلّما

الشعر لإسماعيل بن يسار النّسائيّ. و الغناء لابن مسجح خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لإبراهيم الموصليّ رمل بالبنصر عن حبش.

ص: 540


1- الدرّاج (بضم الدال و تشديد الراء): طائر أسود باطن الجناحين و ظاهرهما أغبر على خلقة القطا إلا أنه ألطف. و جعله الجاحظ من أقسام الحمام؛ لأنه يجمع فراخه تحت جناحيه كما يجمع الحمام. و هو من طير العراق كثير النتاج. و في المثل: فلان «يطلب الدرّاج من خيس الأسد». يضرب لمن يطلب ما يتعذر وجوده. (انظر كتاب «حياة الحيوان» للدميري ج 1 ص 417 طبع بلاق).
2- خيس الأسد: غابته و مكانه.
3- في م: «... قرأت على أبي قال حدّثني...».
4- كذا في جميع الأصول. و ظاهر أن المقام مقام «بلى». فلعل هذا خطأ من النساخ.
سمع زبان السوّاق شعره فبكى:

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: أنشد رجل زبّان(1) السوّاق قول إسماعيل بن يسار:

ما ضرّ أهلك لو تطوّف عاشق *** بفناء بيتك أو ألمّ فسلّما

فبكى زبّان(1)، ثم قال: لا شيء و اللّه إلاّ الضّجر و سوء الخلق و ضيق الصدر، و جعل يبكي و يمسح عينيه.

شعره الذي تشاجر بسببه أبو المعافي مع زبان السوّاق:
اشارة

أخبرني محمد بن جعفر الصّيدلانيّ النحويّ صهر المبرّد(2) قال حدّثني طلحة بن عبد اللّه بن(3) إسحاق الطّلحيّ قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني جعفر بن الحسين المهلّبي قال:

أنشدت زبّان(3) السّواق قول إسماعيل بن يسار النّسائيّ:

صوت

إن جملا(4) و إن تبيّنت منها *** نكبا عن مودّتي و ازورارا

شرّدت(5) بادّكارها النّوم عنّي *** و أطير العزاء منّي فطارا

ما على أهلها و لم تأت(6) سوءا *** أن تحيّا تحيّة أو تزارا

يوم أبدوا لي التّجهّم فيها *** و حموها لجاجة و ضرارا

/فقال زبّان: لا شيء و أبيهم إلاّ اللّحز(7) و قلّة المعرفة و ضيق العطن(8). فصاح عليه أبو المعافى و قال:

فعلى من ذاك ويلك! أ عليك أو على أبيك أو أمّك؟ فقال له زبّان: إنّما أتيت يا أبا المعافى من نفسك، لو كنت تفعل هذا ما اختلفت أنت و ابنك. فوثب إليه أبو المعافى يرميه بالتّراب و يقول له: ويحك يا سفيه! تحسن الدّياثة! و زبّان يسعى هربا منه.

الغناء في هذه الأبيات لابن مسجح خفيف ثقيل بالوسطى عن ابن المكيّ و حمّاد، و ذكر الهشاميّ و حبش أنه لابن محرز، و أنّ لحن ابن مسجح ثاني ثقيل.

ص: 541


1- في ح: «ريان السوّاق» بالراء و الياء المثناة من تحت.
2- في «إنباه الرواة» للقفطي (ص 56 ج 2 قسم أوّل، عن النسخة الفوتوغرافية المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 2579 تاريخ): «محمد بن جعفر الصيدلاني صهر أبي العباس المبرد على ابنته».
3- في ط، م، ء: «أبو إسحاق». و لم نوفق لتحقيق هذا الاسم في المظانّ: أ هو كنية لطلحة أم أن إسحاق اسم جدّه.
4- في ح: «إن جملا خلى تبينت...».
5- في ط، م، ء: «شرقت بادّكارها اليوم عيني». و شرقت العين: احمرّت، أو امتلأت بالدمع.
6- كذا في ط، ء. و في سائر الأصول: «و لم نأت» بالنون.
7- كذا في ط، ء. و اللحز (بالتحريك): الشح و البخل. و في سائر الأصول: «اللحن» النون بدل الزاي، و هو تحريف.
8- ضيق العطن: كناية عن الجمق و ضيق الصدر.
طلبه الوليد بن يزيد من الحجاز فحضر و أنشده فأكرمه:

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق الموصليّ قال:

غنّي الوليد بن يزيد في شعر لإسماعيل بن يسار، و هو:

حتّى إذا الصبح بدا ضوأه *** و غارت الجوزاء و المرزم(1)

خرجت و الوطء خفيّ كما *** ينساب من مكمنه الأرقم(2)

فقال: من يقول هذا؟ قالوا: رجل من أهل الحجاز يقال له إسماعيل بن يسار النّسائي؛ فكتب في إشخاصه إليه. فلمّا دخل عليه استنشده القصيدة التي هذان البيتان منها؛ فأنشده:

كلثم أنت الهمّ يا كلثم *** و أنتم دائي الذي أكتم

أكاتم الناس هوى شفّني *** و بعض كتمان الهوى أحزم

/قد لمتني ظلما بلا ظنّة *** و أنت فيما بيننا ألوم

أبدي الذي تخفينه ظاهرا *** ارتدّ عنه فيك أو أقدم

/إمّا بيأس منك أو مطمع *** يسدى بحسن الودّ أو يلحم

لا تتركيني هكذا ميّتا *** لا أمنح الودّ و لا أصرم

أوفي بما قلت و لا تندمي *** إنّ الوفيّ القول لا يندم

آية(3) ما جئت على رقبة *** بعد الكرى و الحيّ قد نوّموا

أخافت المشي حذار العدا(4) *** و الليل داج حالك مظلم

و دون ما حاولت(5) إذ زرتكم *** أخوك و الخال معا و العم

و ليس إلاّ اللّه لي صاحب *** إليكم و الصارم اللّهذم(6)

حتّى دخلت البيت فاستذرفت *** من شفق عيناك لي تسجم

ثم انجلى الحزن و روعاته *** و غيّب الكاشح و المبرم(7)

فبتّ فيما شئت من نعمة(8) *** يمنحنيها(9) نحرها و الفم

ص: 542


1- المرزم: من نجوم المطر، و أكثر ما يذكر هذا اللفظ بصيغة المثنى، فيقال: المرزمان.
2- الأرقم: أخبث الحيات، و الأنثى «رقشاء»، بالشين، و لا يقال: «رقماء» بالميم؛ لأنه قد جعل اسما منسلخا عن الوصفة.
3- في ب، ح: «إيه بما جئت... إلخ».
4- في ء، ط، م: «حذار الردى».
5- في ح: «و دون ما جاوزت».
6- اللهذم: القاطع من السيوف و الأسنة.
7- المبرم: الجليس الثقيل.
8- النعمة بفتح النون: المسرة و الفرح و الترفه.
9- في ء، ط، م: «جاد بها لي ثغرها و الفم».

حتّى إذا الصبح بدا ضوأه *** و غارت(1) الجوزاء و المرزم

خرجت و الوطء خفيّ كما *** ينساب من مكمنه الأرقم

قال: فطرب الوليد حتّى نزل عن فرشه و سريره، و أمر المغنّين فغنّوه الصوت و شرب عليه أقداحا، و أمر لإسماعيل بكسوة و جائزة سنيّة، و سرّحه إلى المدينة.

نسبة هذا الصوت
سمع شيخ قينة تغني بشعره فألقى بنفسه في الفرات إعجابا به:

الشعر لإسماعيل بن يسار النّسائيّ. و الغناء لابن سريج رمل.

حدّثنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق الموصليّ قال حدّثنا محمد بن كناسة قال:

اصطحب شيخ و شباب في سفينة من الكوفة؛ فقال بعض الشباب للشيخ: إنّ معنا قينة لنا، و نحن نجلّك و نحبّ أن نسمع(2) غناءها. قال: اللّه المستعان؛ فأنا أرقى على الأطلال(3) و شأنكم. فغنّت:

حتّى إذا الصبح بدا ضوأه *** و غارت الجوزاء و المرزم

أقبلت و الوطء خفيّ كما *** ينساب من مكمنه الأرقم

قال: فألقى الشيخ بنفسه في الفرات، و جعل يخبط بيديه و يقول: أنا الأرقم! أنا الأرقم! فأدركوه و قد كاد يغرق؛ فقالوا: ما صنعت بنفسك؟ فقال: إنّي و اللّه أعلم من معاني الشعر ما لا تعلمون.

مدح عبد اللّه بن أنس فلم يكرمه فهجاه:

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبو مسلم المستملي عن المدائنيّ قال:

مدح إسماعيل بن يسار النّسائيّ رجلا من أهل المدينة يقال له عبد اللّه بن أنس، و كان قد اتّصل ببني مروان و أصاب منهم خيرا، و كان إسماعيل صديقا/له؛ فرحل إلى دمشق إليه، فأنشده مديحا له و متّ إليه بالجوار و الصداقة؛ فلم يعطه شيئا. فقال يهجوه:

لعمرك ما إلى حسن رحلنا *** و لا زرنا حسينا يا ابن أنس

(يعني الحسن و الحسين رضي اللّه تعالى عنهما).

ص: 543


1- في ء، ط: «و غابت» و كلتاهما بمعنى.
2- في ء، ط: «تسمع» بتاء الخطاب.
3- كذا في م. و الأطلال: جمع طلل. و طلل السفينة: شراعها. و في س: «الظلال». و في سائر الأصول: «الأظلال» و كلاهما تحريف.

و لا(1) عبدا لعبدهما(2) فنحظى *** بحسن الحظّ منهم غير بخس

/و لكن ضبّ جندلة(3) أتينا *** مضبّا(4) في مكامنه يفسّي

فلمّا أن أتيناه و قلنا *** بحاجتنا تلوّن لون ورس(5)

و أعرض غير منبلج لعرف *** و ظلّ مقرطبا(6) ضرسا بضرس(7)

فقلت لأهله أبه كزاز(8) *** و قلت لصاحبي أ تراه يمسي

فكان الغنم أن قمنا جميعا *** مخافة أن نزنّ(9) بقتل نفس

رثاؤه لمحمد بن عروة:

حدّثني عمّي(10) قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا مصعب بن عبد اللّه قال:

وفد عروة بن الزّبير إلى الوليد بن عبد الملك و أخرج معه إسماعيل بن يسار النّسائيّ، فمات في تلك الوفادة محمد بن عروة بن الزّبير، و كان مطّلعا على دوابّ الوليد بن عبد الملك، فسقط من فوق السطح بينها، فجعلت ترمحه(11) حتى قطّعته، كان جميل الوجه جوادا. فقال إسماعيل بن يسار يرثيه:

صلّى الإله على فتى فارقته *** بالشأم في جدث الطّويّ(12) الملحد(13)

بوّأته بيديّ دار إقامة *** نائي المحلة عن مزار العوّد

و غبرت أعوله(14) و قد أسلمته *** لصفا(15) الأماعز و الصّفيح(16) المسند

ص: 544


1- ورد بعض هذه الأبيات في كتاب «عيون الأخبار» (ج 3 ص 154 طبع دار الكتب المصرية) منسوبا إلى الحارث الكنديّ هكذا: فلما أن أتيناه و قلنا بحاجتنا تلوّن لون ورس و آض بكفه يحتك ضرسا يرينا أنه وجع بضرس فقلت لصاحبي أبه كزاز و قلت أسرّه أ تراه يمسي و قمنا هاربين معا جميعا نحاذر أن نزنّ بقتل نفس
2- كذا في ط، م، ء. و في سائر الأصول: «لعبدهم».
3- الجندلة: واحدة الجندل و هي الحجارة.
4- أضب في المكان: لزمه فلم يفارقه.
5- الورس: نبات أصفر يكون باليمن يتخذ منه طلاء للوجه، و نباته مثل نبات السمسم.
6- المقرطب (بكسر الطاء): الغضبان.
7- كذا في ء، ط. و في سائر النسخ: «ضرسا لضرس».
8- الكزاز (كغراب و رمّان): داء يأخذ من شدّة البرد و تعتري منه رعدة.
9- نزن: نتهم.
10- في م: «حدّثني الحسن». و هو الحسن بن محمد عمّ صاحب «الأغاني».
11- ترمحه: تضربه بأرجلها.
12- الطويّ: المراد به هنا القبر المعرّش بالحجارة و الآجرّ.
13- ألحد القبر: عمل له لحدا.
14- أعول الرجل: رفع صوته بالبكاء.
15- الصفا: جمع صفاة و هي الحجر الصلد الضخم لا ينبت. و الأماعز: جمع أمعز، و هو المكان الصلب الكثير الحصى.
16- الصفيح و الصفيحة: واحد الصفائح و هي الحجارة العريضة. و المسند: المتراكب بعضه فوق بعض.

متخشّعا للدهر ألبس حلّة *** في النائبات بحسرة و تجلّد

أعني ابن عروة إنّه قد هدّني *** فقد ابن عروة هدّة لم تقصد

فإذا ذهبت إلى العزاء أرومه *** ليرى المكاشح بالعزاء تجلّدي

منع التّعزّي أنّني لفراقه *** لبس العدوّ عليّ جلد الأربد(1)

و نأى الصديق فلا صديق أعدّه *** لدفاع نائبة الزّمان المفسد

فلئن تركتك يا محمد ثاويا *** لبما تروح(2) مع الكرام و تغتدي

/كان الذي يزع العدوّ بدفعه *** و يردّ نخوة ذي المراح(3) الأصيد

فمضى لوجهته و كلّ معمّر *** يوما سيدركه حمام الموعد

دخل على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير و مدحه فأكرمه:

حدّثني عمّي قال حدّثني أحمد بن أبي خيثمة قال حدّثنا مصعب بن عبد اللّه عن أبيه:

أن إسماعيل بن يسار دخل على عبد الملك بن مروان لمّا أفضى إليه الأمر بعد مقتل عبد اللّه بن الزّبير، فسلّم و وقف موقف المنشد و استأذن في الإنشاد. فقال له عبد الملك: الآن يا ابن يسار! إنّما أنت امرؤ زبيريّ، فبأيّ لسان تنشد؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، أنا أصغر شأنا من ذلك، و قد صفحت عن أعظم جرما و أكثر غناء لأعدائك منّي، و إنما أنا شاعر مضحك. فتبسّم عبد الملك؛ و أومأ إليه الوليد بأن ينشد. فابتدأ فأنشد قوله:

ألا يا لقومي للرّقاد المسهّد *** و للماء ممنوعا من الحائم الصّدي

و للحال بعد الحال يركبها الفتى *** و للحبّ بعد السّلوة المتمرّد

و للمرء يلحى في التصابي و قبله *** صبا بالغواني كلّ قرم ممجّد

و كيف تناسي القلب سلمى و حبّها *** كجمر غضى بين الشّراسيف(4) موقد

حتى انتهى إلى قوله:

/

إليك إمام النّاس من بطن يثرب *** و نعم أخو ذي الحاجة المتعمّد

رحلنا لأنّ الجود منك خليقة *** و أنّك لم يذمم جنابك مجتدي

ملكت فزدت النّاس ما لم يزدهم *** إمام من المعروف غير المصرّد(5)

/و قمت(6) فلم تنقض قضاء خليفة *** و لكن بما ساروا من الفعل تقتدي

ص: 545


1- الأربد هنا: الأسد.
2- كذا في ء، ط، م. و في سائر النسخ: «على الكرام».
3- المراح: الأشر و النشاط. و الأصيد: الذي يرفع رأسه كبرا. و منه قيل لملك: أصيد؛ لأنه لا يلتفت يمينا و لا شمالا.
4- الشراسيف: أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن.
5- صرّد عطاءه: قلّله، و قيل: أعطاه قليلا قليلا.
6- في ء، ط. «و قلت».

و لمّا وليت الملك ضاربت دونه *** و أسندته لا تأتلي خير مسند

جعلت هشاما و الوليد ذخيرة *** وليّين للعهد الوثيق المؤكّد

قال: فنظر إليهما عبد الملك متبسّما، و التفت إلى سليمان فقال: أخرجك إسماعيل من هذا الأمر. فقطب سليمان و نظر إلى إسماعيل نظر مغضب. فقال إسماعيل: يا أمير المؤمنين، إنما وزن الشعر أخرجه من البيت الأوّل، و قد قلت بعده:

و أمضيت عزما في سليمان راشدا *** و من يعتصم باللّه مثلك يرشد

فأمر له بألفي درهم صلة، و زاد في عطائه، و فرض له، و قال لولده: أعطوه؛ فأعطوه ثلاثة آلاف درهم.

استنشده هشام بن عبد الملك فافتخر و رمى به في بركة ماء و نفاه إلى الحجاز:

أخبرني عمّي قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة قال ذكر ابن النّطّاح عن أبي اليقظان:

أنّ إسماعيل بن يسار دخل على هشام بن عبد الملك في خلافته و هو بالرّصافة جالس على بركة له في قصره، فاستنشده و هو يرى أنه ينشده مديحا له؛ فأنشده قصيدته التي يفتخر فيها بالعجم:

يا ربع رامة(1) بالعلياء من ريم(2) *** هل ترجعنّ إذا حيّيت تسليمي

/ما بال حيّ غدت بزل المطيّ بهم *** تخدي لغربتهم سيرا بتقحيم(3)

كأنّني يوم ساروا شارب سلبت *** فؤاده قهوة من خمر داروم(4)

حتّى انتهى إلى قوله:

إنّي و جدّك ما عودي بذي خور *** عند الحفاظ و لا حوضي بمهدوم

أصلي كريم و مجدي لا يقاس به *** و لي لسان كحدّ السّيف مسموم(5)

أحمي به مجد أقوام ذوي حسب *** من كلّ قرم بتاج الملك معموم

جحاجح(6) سادة بلج مرازبة *** جرد عتاق مساميح مطاعيم

ص: 546


1- رامة: منزل بينه و بين الرمادة ليلة في طريق البصرة إلى مكة. و بين رامة و بين البصرة اثنتا عشرة مرحلة. و قيل: رامة: هضبة أو جبل ببني دارم.
2- رئم (بكسر أوّله و همز ثانيه و سكونه و قيل بالياء غير مهموز): واد لمزينة قرب المدينة، و قيل: على ثلاثين ميلا من المدينة، و قيل: على أربعة برد من المدينة أو ثلاثة. (و البريد فرسخان أو أربعة فراسخ، و الفرسخ: ثلاثة أميال).
3- بزل (ككتب و يسكن): جمع بزول، و البزول: الناقة في تاسع سنيها و ليس بعده سن تسمى. و خدي الفرس و البعير: أسرع و زجّ بقوائمه. و التقحيم: طيّ المنازل و عدم النزول بها؛ يقال: قحم المنازل إذا طواها، و قحّمت الإبل راكبيها: جعلتهم يطوون المنازل منزلا منزلا من غير أن ينزلوا بها.
4- داروم: قلعة بعد غزّة للقاصد إلى مصر، و الواقف فيها يرى البحر إلا أن بينها و بين البحر مقدار فرسخ، خربها صلاح الدين لما ملك الساحل في سنة 584 ه تنسب إليها الخمر.
5- الظاهر أن هذه الكلمة مرفوعة، و بذلك يكون في الشعر إقواء. على أنه يمكن أن يكون أصل الكلام: «إلى لسان...» بدل «و لي لسان...».
6- جحاجح: جمع جحجح، و الجحجح و الجحجاح: السيد الكريم. و المرازبة: جمع مرزبان، و هو رئيس الفرس.

من مثل كسرى و سابور الجنود معا *** و الهرمزان(1) لفخر أو لتعظيم

أسد الكتائب يوم الرّوع إن زحفوا *** و هم أذلّوا ملوك التّرك و الرّوم

يمشون في حلق الماذيّ سابغة *** مشى الضّراغمة الأسد اللّهاميم(2)

هناك إن تسألي تنبي بأنّ لنا *** جرثومة(3) قهرت عزّ الجراثيم

قال: فغضب هشام و قال له: يا عاضّ بظر أمّه! أ عليّ تفخر و إيّاي تنشد قصيدة تمدح بها نفسك و أعلاج قومك!! غطّوه في الماء، فغطّوه في البركة/حتى كادت نفسه تخرج، ثم أمر بإخراجه و هو بشرّ و نفاه من وقته، فأخرج عن الرّصافة منفيّا إلى الحجاز. قال: كان مبتلى بالعصبيّة للعجم و الفخر بهم، فكان لا يزال مضروبا محروما مطرودا.

مدح الوليد و الغمر ابني يزد فأكرماه:
اشارة

أخبرني عمّي قال/حدّثني أحمد بن أبي خيثمة قال قال ابن النطّاح و حدّثني أبو اليقظان:

أنّ إسماعيل بن يسار وفد إلى الوليد بن يزيد، و قد أسنّ و ضعف، فتوسّل إليه بأخيه الغمر و مدحه بقوله:

نأتك سليمى فالهوى متشاجر *** و في نأيها للقلب داء مخامر

نأتك و هام القلب، نأيا بذكرها(4) *** و لجّ كما لجّ الخليع المقامر

بواضحة الأقراب(5) خفّاقة الحشى *** برهرهة(6) لا يجتويها(7) المعاشر

يقول فيها يمدح الغمر بن يزيد:

إذا عدّد الناس المكارم و العلا *** فلا يفخرن يوما على الغمر فاخر

فما مرّ من يوم على الدهر واحد *** على الغمر إلاّ و هو في الناس غامر(8)

تراهم خشوعا حين يبدو(9) مهابة *** كما خشعت يوما لكسرى الأساور

أغرّ بطاحيّ(10) كأنّ جبينه *** إذا ما بدا بدر إذا لاح باهر

ص: 547


1- الهرمزان: الكبير من ملوك العجم.
2- حلق: جمع حلقة و هي هنا الدرع. و الماذي: الدروع السهلة اللينة أو البيضاء. و اللهاميم: جمع لهميم و هو السابق الجواد من الخيل و الناس.
3- جرثومة الشيء: أصله.
4- أي نأتك نأيا و هام القلب بذكرها.
5- الأقراب: جمع قرب و هي الخاصرة.
6- البرهرهة: المرأة البيضاء الشابة الناعمة.
7- في أكثر الأصول: «لا يستويها». و في م: «لا يحتويها» و كلاهما تحريف. و ما أثبتناه هو تصحيح الشنقيطي في نسخته، و هو الذي يستقيم به المعنى. و اجتواه: كرهه.
8- في م: فما مر من يوم من الدهر واحد من الغمر إلا و هو للناس غامر
9- كذا في ح، و به صحح الشنقيطي نسخته. و في سائر الأصول: «تبدو».
10- البطاحيّ: نسبة إلى البطاح، و هي التي كان ينزلها قريش البطاح، و هم أشرف قريش و أكرمهم. (انظر الحاشية رقم 3 ص 254 من الجزء الأوّل من هذه الطبعة).

/

وقى عرضه بالمال فالمال جنّة *** له و أهان المال و العرض وافر

و في سيبه للمجتدين عمارة *** و في سيفه للدّين عزّ و ناصر

نماه إلى فرعي لؤيّ بن غالب *** أبوه أبو العاصي و حرب و عامر

و خمسة آباء له قد تتابعوا *** خلائف عدل ملكهم متواتر

بهاليل سبّاقون في كلّ غاية *** إذا استبقت في المكرمات المعاشر

هم خير من بين الحجون إلى الصّفا *** إلى حيث أفضت بالبطاح الحزاور(1)

و هم جمعوا هذا الأنام على الهدى *** و قد فرّقت بين الأنام البصائر

قال: فأعطاه الغمر ثلاثة آلاف درهم و أخذ له من أخيه الوليد ثلاثة آلاف درهم.

أخبرني عمي قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب قال:

لمّا مات محمد بن يسار، و كانت وفاته قبل أخيه، دخل إسماعيل على هشام بن عروة، فجلس عنده و حدّثه بمصيبته و وفاة أخيه، ثم أنشده يرثيه:

عيل العزاء و خانني صبري *** لمّا نعى الناعي أبا بكر

و رأيت ريب الدّهر أفردني *** منه و أسلم للعدا ظهري

من طيّب الأثواب مقتبل *** حلو الشمائل ماجد غمر(2)

فمضى لوجهته و أدركه *** قدر أنيح له من القدر

و غبرت(3) مالي من تذكّره *** إلاّ الأسى و حرارة الصدر

و جوى يعاودني(4) و قلّ له *** منّي الجوى و محاسن الذّكر

/لمّا هوت أيدي الرّجال به *** في قعر ذات جوانب غبر

و علمت أنّي لن ألاقيه *** في الناس حتّى ملتقى الحشر

كادت لفرقته و ما ظلمت *** نفسي تموت على شفا القبر

و لعمر من حبس الهديّ له *** بالأخشبين(5) صبيحة النّحر

/لو كان نيل الخلد يدركه *** بشر بطيب الخيم و النّجر(6)

ص: 548


1- الحزاور: جمع حزورة، و هي الرابية الصغيرة، و منها الحزورة: سوق مكة و قد دخلت في المسجد لما زيد فيه. و في الحديث: وقف النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بالحزورة فقال: «يا بطحاء مكة ما أطيبك من بلدة و أحبك إليّ، و لو لا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك».
2- الغمر: الكريم الواسع الخلق.
3- غبر هنا: مكث و بقي.
4- كذا في ح. و في سائر الأصول: «يعاورني» بالراء.
5- الأخشبان: جبلان يضافان تارة إلى مكة و تارة إلى منى، أحدهما أبو قبيس و الآخر قعيقعان. و يقال: بل هما أبو قبيس و الجبل الأحمر المشرف هنالك.
6- الخيم: الطبيعة و السجية، و قيل: الأصل. و النجر: الأصل.

لغبرت لا تخشى المنون و لا *** أودى بنفسك حادث الدّهر

و لنعم مأوى المرملين إذا *** قحطوا و أخلف صائب القطر

كم قلت آونة و قد ذرفت *** عيني فماء شئونها يجري

أنّي و أيّ فتى يكون لنا *** شرواك(1) عند تفاقم الأمر

لدفاع خصم ذي مشاغبة *** و لعائل ترب أخي فقر

و لقد علمت و إن ضمنت جوى *** مما أجنّ كواهج الجمر

ما لامرئ دون المنيّة من *** نفق فيحرزه و لا ستر

قال: و كان بحضرة هشام رجل من آل الزّبير، فقال له: أحسنت و أسرفت في القول، فلو قلت هذا في رجل من سادات قريش لكان كثيرا. فزجره هشام و قال: بئس و اللّه ما واجهت به جليسك؛ فشكره إسماعيل، و جزاه خيرا. فلمّا انصرف تناول هشام الرجل الزّبيريّ و قال: ما أردت إلى رجل شاعر ملك قوله فصرف أحسنه إلى أخيه! ما زدت على أن أغريته بعرضك و أعراضنا لو لا أنّي/تلافيته. و كان محمد بن يسار أخو إسماعيل هذا الذي رثاه(2)شاعرا من طبقة أخيه؛ و له أشعار كثيرة. و لم أجد له خبرا فأذكره، و لكن له أشعار كثيرة يغنّى فيها. منها قوله في قصيدة طويلة:

صوت

غشيت الدار بالسّند *** دوين الشّعب من أحد

عفت بعدي و غيّرها *** تقادم سالف الأبد

الغناء لحكم الواديّ خفيف ثقيل عن الهشاميّ.

و لإسماعيل بن يسار ابن يقال له إبراهيم، شاعر أيضا، و هو القائل:

مضى الجهل عنك إلى طيّته *** و آبك حلمك من غيبته(3)

و أصبحت تعجب مما رأي *** ت من نقض دهر و من مرّته

و هي طويلة يفتخر فيها بالعجم كرهت الإطالة بذكرها.

انقضت أخباره.

ص: 549


1- شرواك: مثلك.
2- كذا في م: و في سائر الأصول: «أخو إسماعيل هذا رثاء شاعرا...».
3- في ح: «من غيته» و الغية: الضلال و الفساد.
صوت

صوت(1)

كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** و أيسر جرما منك ضرّج بالدّم

رمى ضرع ناب فاستمرّ بطعنة *** كحاشية البرد اليماني المنمنم(2)

عروضه من الطويل. الشعر للنابغة الجعديّ. و الغناء للهذليّ في اللحن المختار، و طريقته من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و نذكر هاهنا/سائر ما يغنّى به في هذه الأبيات و غيرها من هذه القصيدة و ننسبه إلى صانعه(3)، ثم نأتي بعده بما يتبعه من أخباره. فمنها على الولاء سوى لحن الهذليّ:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا *** و أيسر جرما منك ضرّج بالدّم

/رمى ضرع ناب فاستمرّ بطعنة *** كحاشية البرد اليماني المسهّم(4)

أيا دار سلمى بالحروريّة(5) اسلمي *** إلى جانب الصّمّان(6) فالمتثلّم(7)

أقامت به البردين ثم تذكّرت *** منازلها بين الدّخول فجرثم(8)

و مسكنها بين الغروب(9) إلى اللّوى *** إلى شعب ترعى بهنّ فعيهم(10)

ليالي تصطاد الرجال بفاحم(11) *** و أبيض كالإغريض لم يتثلّم

في البيت الأوّل و الثاني لابن سريج ثقيل أوّل آخر بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق(12) و يونس.

و فيهما لمالك خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و للغريض في الثالث و الرابع و الأوّل و الثاني ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و لإسحاق في الثالث و الأوّل ثقيل أوّل بالوسطى(13)، ذكر ذلك أبو العبيس

ص: 550


1- في م: «صوت من المائة المختارة».
2- برد منمنم: مرقوم موشي. و في م في هذا الموضع: «المسهم» كما في سائر الأصول فيما يأتي.
3- في م: «إلى صاحبه».
4- البرد المسهم: المخطط.
5- قال ياقوت: الحرورية منسوب في قول النابغة الجعدي حيث قال، ثم ذكر البيتين: أيا دار سلمى، و الذي بعده. و ربما كان منسوبا إلى حروراء، و هي رملة و عثة بالدهناء، أو موضع بظاهر الكوفة نزل به الخوارج الذين خالفوا عليّ بن أبي طالب، فنسبوا إليه.
6- الصمان: بلد لبني تميم أرضه صلبة صعبة الموطئ.
7- المتثلم (رواه أهل المدينة بفتح اللام و هو الذي ضبطه به ياقوت، و رواه غيرهم من أهل الحجاز بالكسر): موضع بأوّل أرض الصمان.
8- جرثم: ماء من مياه بني أسد تجاه الجواء، كما قال البكري في «معجم ما استعجم»، و استشهد بقول النابغة الجعدي و ذكر البيت هكذا: أقامت به البردين ثم تذكرت منازلهم بين الجواء و جرثم
9- الغروب: موضع لم يعينه ياقوت و قال: ذكره صاحب «اللسان».
10- عيهم: موضع على طريق اليمامة إلى نجد.
11- الفاحم: الشعر الأسود الحسن. و الإغريض: الطلع حين ينشق عنه كافوره. يريد ذلك وجهها.
12- هذه الكلمة ساقطة في ب.
13- في م: «بالبنصر، و لإبراهيم في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل بالوسطى ذكر ذلك أبو العنبس... إلخ».

و الهشاميّ. و للغريض في الرابع ثم الأوّل خفيف ثقيل بالوسطى في رواية/عمرو بن بانة. و لمعبد فيهما(1) و فيّ الخامس و السادس خفيف ثقيل من رواية أحمد بن المكيّ. و لابن سريج في الخامس و السادس ثقيل أوّل بالبنصر من رواية عليّ(2) بن يحيى المنجّم، و ذكر غيره أنّه للغريض. و لإبراهيم فيه ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ، و ذكر حبش أنه لمعبد. و لابن محرز في الأوّل و الثاني و الثالث و الرابع هزج، ذكر ذلك أبو العبيس(3)، و ذكر قمريّ أنّه لأبي عيسى بن المتوكل لا يشكّ فيه. و للدّلال في الخامس و السادس ثاني ثقيل عن الهشاميّ، و ذكر أبو العبيس أنّه للهذليّ. و لعبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر في الرابع خفيف رمل. و لإسحاق في الثالث و الرابع أيضا ما خوريّ، و لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالوسطى فيهما، و قيل: إنّه لحنه الذي ذكرنا متقدّما، و إنه ليس في هذا الشعر غيره. و ذكر حبش أنّ في هذه الأبيات التي أوّلها: «كليب لعمري» خفيف رمل بالوسطى، و للهذليّ خفيف ثقيل بالبنصر، و للدّلال رمل؛ فذلك ثمانية عشر صوتا. و أخبرني محمد بن إبراهيم قريص أنّ له فيهما (أعني الأوّل و الثاني) خفيفا(4) بالوسطى.

انتهى الجزء الرابع من كتاب الأغاني و يليه الجزء الخامس و أوّله ذكر النابغة الجعديّ و نسبه و أخباره

ص: 551


1- كذا في م. و في سائر النسخ: «فيها».
2- كذا في م. و في سائر النسخ: «علي بن أبي يحيى المنجم». و هو تحريف.
3- في م: «أبو العنبس» انظر الحاشية رقم 4 ص 96 من الجزء الأوّل من هذه الطبعة.
4- في م: «خفيف ثقيل بالوسطى».

فهرس موضوعات الجزء الرابع

الموضوع الصفحة

ذكر نسب أبي العتاهية و أخباره 261

أخبار فريدة 337

ذكر أمية بن أبي الصلت و نسبه و خبره 342

أخبار حسان بن ثابت و نسبه 352

ذكر الخبر عن غزاة بدر 376

نسب علس ذي جدن و أخباره 405

أخبار طويس و نسبه 407

ذكر الأحوص و أخباره و نسبه 411

ذكر الدلال و قصته 441

ذكر طريح و أخباره و نسبه 463

ذكر أخبار أبي سعيد مولى فائد و نسبه 481

ذكر من قتل أبو العباس السفاح من بني أمية 490

ذكر حميد بن ثور و نسبه و أخباره 500

أخبار فليح بن أبي العوراء 502

ذكر ابن هرمة و أخباره و نسبه 508

ذكر أخبار يونس الكاتب 529

أخبار ابن رهيمة 534

أخبار إسماعيل بن يسار و نسبه 536

فهرس موضوعات الجزء الرابع 553

ص: 552

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.