الأغاني
المؤلفين الآخرين
مدقق لغوي ومترجم:
مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي
المجلدات : 25ج
لسان: العربية
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374
إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *
هو قيس بن الخطيم(1) بن عديّ بن عمرو بن سود(2) بن ظفر، و يكنى قيس أبا يزيد.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا محمد بن موسى بن حمّاد [قال حدّثنا حماد](3) بن إسحاق عن أبيه قال:
أنشد ابن أبي عتيق قول قيس بن الخطيم:
بين شكول(4) النساء خلقتها *** حذوا(5) فلا جبلة(6) و لا قضف(7)
/فقال: لو لا أن أبا يزيد قال: حذوا ما درى الناس كيف يحشون(8) هذا الموضع.
و كان أبوه الخطيم قتل و هو صغير، قتله رجل من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج، فلما بلغ قتل قاتل أبيه، و نشبت لذلك حروب بين قومه و بين الخزرج و كان سببها.
فأخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال أخبرني أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل قال:
كان سبب قتل الخطيم أنّ رجلا من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج يقال له مالك اغتاله فقتله، و قيس يومئذ صغير، و كان عديّ أبو الخطيم أيضا قتل [قبله](9)، قتله رجل من عبد القيس(10)، فلما بلغ قيس بن الخطيم و عرف أخبار قومه و موضع ثأره لم يزل يلتمس غرّة من قاتل أبيه و جدّه في/المواسم حتى ظفر بقاتل أبيه بيثرب فقتله، و ظفر
ص: 5
بقاتل جدّه بذي المجاز(1)، فلما أصابه وجده في ركب عظيم من قومه، و لم يكن معه إلا رهط من الأوس، فخرج حتى أتى حذيفة بن بدر الفزاريّ، فاستنجده فلم ينجده، فأتى خداش بن زهير فنهض معه ببنى عامر حتى أتوا قاتل عديّ، فإذا هو واقف على راحلته في السّوق، فطعنه قيس بحربة فقتله، ثم استمرّ. فأراده رهط الرجل، فحالت بنو عامر دونه؛ فقال في ذلك قيس بن الخطيم:
ثأرت عديّا و الخطيم فلم أضع *** ولاية أشياخ جعلت(2) إزاءها
ضربت بذي الزّجّين(3) ربقة(4) مالك *** فأبت بنفس قد أصبت شفاءها
و سامحني(5) فيها ابن عمرو بن عامر *** خداش فأدّى نعمة و أفاءها
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر *** لها نفذ لو لا الشّعاع(6) أضاءها
ملكت(7) بها كفّي فأنهرت(8) فتقها *** يرى قائم من دونها ما وراءها
هذه رواية ابن الأعرابيّ عن المفضّل. و أما ابن الكلبيّ فإنه ذكر أن رجلا من قريش أخبره عن أبي عبيدة أن محمد بن عمّار بن ياسر، و كان عالما بحديث الأنصار، قال:
كان من حديث قيس بن الخطيم أن جدّه عديّ بن عمرو قتله رجل من بني عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة يقال له مالك، و قتل أباه الخطيم بن عديّ رجل من عبد القيس(9) ممن يسكن هجر؛ و كان قيس يوم قتل أبوه صبيا صغيرا، و قتل الخطيم قبل أن يثأر بأبيه عديّ؛ فخشيت أمّ قيس على ابنها أن يخرج فيطلب بثأر أبيه و جده فيهلك، فعمدت إلى كومة من تراب عند باب دارهم، فوضعت عليها أحجارا تقول لقيس: هذا قبر أبيك و جدّك، فكان قيس لا يشكّ أن/ذلك على ذلك. و نشأ أيّدا شديد الساعدين، فنازع يوما فتى من فتيان بني ظفر، فقال له ذلك الفتى: و اللّه لو جعلت شدّة ساعديك على قاتل أبيك و جدّك لكان خيرا لك من أن تخرجها عليّ؛ فقال: و من قاتل أبي و جدي؟ قال: سل أمّك تخبرك؛ فأخذ السيف و وضع قائمه على الأرض و ذبابه(10) بين ثدييه و قال لأمه:
أخبريني من قتل أبي و جدّي؟ قالت: ماتا كما يموت الناس و هذان قبراهما بالفناء؛ فقال: و اللّه لتخبرينني(11) من قتلهما أو لأتحاملنّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري؛ فقالت: أمّا جدّك فقتله رجل من بني عمرو بن عامر بن
ص: 6
ربيعة يقال له مالك، و أما أبوك فقتله رجل من عبد القيس(1) ممن يسكن هجر؛ فقال: و اللّه لا أنتهي حتى أقتل قاتل أبي و جدّي؛ فقالت: يا بنيّ إن مالكا قاتل جدّك من قوم خداش بن زهير، و لأبيك عند خداش نعمة هو لها شاكر، فأته فاستشره في أمرك و استعنه يعنك؛ فخرج قيس من ساعته حتى أتى ناضحه(2) و هو يسقي نخله، فضرب الجرير(3) بالسيف فقطعه، فسقطت الدلو في البئر، و أخذ برأس الجمل فحمل عليه غرارتين من تمر، و قال: من يكفيني أمر هذه العجوز؟ (يعني أمّه) فإن متّ أنفق عليها من هذا الحائط(4) حتى تموت ثم هو له، و إن عشت فمالي عائد إليّ و له منه ما شاء أن يأكل من تمره(5)؛ فقال رجل من قومه: أنا له، فأعطاه الحائط ثم خرج يسأل عن خداش بن زهير حتى دلّ عليه بمرّ الظّهران(6)، /فصار إلى خبائه فلم يجده، فنزل تحت شجرة يكون تحتها أضيافه، ثم نادى امرأة خداش: هل من طعام؟ فأطلعت إليه فأعجبها جماله، و كان من أحسن الناس وجها؛ /فقالت: و اللّه ما عندنا من نزل(7) نرضاه لك إلا تمرا؛ فقال: لا أبالي، فأخرجي ما كان عندك؛ فأرسلت إليه بقباع(8) فيه تمر، فأخذ منه تمرة فأكل شقّها و ردّ شقّها الباقي في القباع، ثم أمر بالقباع فأدخل على امرأة خداش بن زهير، ثم ذهب لبعض حاجاته. و رجع خداش فأخبرته امرأته خبر قيس، فقال: هذا رجل متحرّم(9). و أقبل قيس راجعا و هو مع امرأته يأكل رطبا؛ فلما رأى خداش رجله و هو على بعيره قال لامرأته: هذا ضيفك؟ قالت: نعم؛ قال: كأن قدمه قدم الخطيم صديقي اليثربيّ؛ فلما دنا منه قرع طنب البيت بسنان رمحه و استأذن، فأذن له خداش فدخل إليه، فنسبه(10) فانتسب(11) و أخبره بالذي جاء له، و سأله أن يعينه و أن يشير عليه في أمره؛ فرحّب به خداش و ذكر نعمة أبيه عنده، و قال: إن هذا الأمر ما زلت أتوقّعه منك منذ حين. فأمّا قاتل جدّك فهو ابن عم لي و أنا أعينك عليه، فإذا اجتمعنا في نادينا جلست إلى جنبه و تحدّثت معه، فإذا ضربت فخذه فثب إليه فاقتله. فقال قيس: فأقبلت معه نحوه حتى قمت على رأسه لمّا جالسه خداش، فحين ضرب فخذه ضربت رأسه بسيف يقال له: ذو الخرصين، فثار إليّ القوم ليقتلوني، فحال خداش بينهم و بيني و قال: دعوه فإنه و اللّه ما قتل إلا قاتل جدّه. ثم دعا خداش بجمل من إبله فركبه، و انطلق مع قيس إلى العبدي الذي قتل أباه، حتى إذا كانا قريبا من هجر أشار عليه خداش أن ينطلق حتى يسأل عن قاتل أبيه، فإذا دلّ عليه قال له: إن لصّا من لصوص قومك عارضني فأخذ متاعا لي، فسألت من سيد قومه فدللت عليك، فانطلق معي حتى تأخذ متاعي منه؛ فإن اتّبعك وحده فستنال/ما تريد منه، و إن أخرج(12) معه غيره فاضحك، فإن سألك ممّ ضحكت فقل: إن الشريف عندنا لا يصنع كما صنعت إذا دعي إلى اللص من قومه، إنما
ص: 7
يخرج وحده بسوطه دون سيفه، فإذا رآه اللص أعطى(1) كل شيء أخذ هيبة له، فإن أمر أصحابه بالرجوع فسبيل ذلك، و إن أبى إلاّ أن يمضوا معه فأتني به، فإني أرجو أن تقتله و تقتل أصحابه. و نزل خداش تحت ظل شجرة، و خرج قيس حتى أتى العبديّ فقال له ما أمره خداش فأحفظه، فأمر أصحابه فرجعوا و مضى مع قيس؛ فلما طلع على خداش، قال له: اختر يا قيس إما أن أعينك و إما أن أكفيك؛ قال: لا أريد واحدة منهما، و لكن إن قتلني فلا يفلتنّك؛ ثم ثار إليه(2) فطعنه قيس بالحربة في خاصرته فأنفذها من الجانب الآخر فمات مكانه، فلما فرغ منه قال له خداش: إنا إن فررنا الآن طلبنا قومه، و لكن ادخل بنا مكانا قريبا من مقتله، فإن قومه لا يظنون أنك قتلته و أقمت قريبا منه(3)، و لكنهم إذا افتقدوه اقتفوا أثره، فإذا وجدوه قتيلا خرجوا في طلبنا في كل وجه، فإذا يئسوا رجعوا.
قال: فدخلا في دارات من رمال هناك، و فقد العبديّ قومه فاقتفوا أثره فوجدوه قتيلا، فخرجوا يطلبونهما في كل وجه ثم رجعوا، فكان من أمرهم ما قال خداش. و أقاما مكانهما أياما ثم خرجا، فلم يتكلما حتى أتيا منزل خداش، ففارقه عنده/قيس بن الخطيم و رجع إلى أهله. ففي ذلك يقول قيس:
تذكّر ليلى حسنها و صفاءها *** و بانت فما إن يستطيع لقاءها
و مثلك قد أصبيت ليست بكنّة(4) *** و لا جارة أفضت إليّ خباءها(5)
/إذا ما اصطبحت أربعا خطّ مئزري(6) *** و أتبعت دلوي في السّماح رشاءها(7)
ثأرت عديّا و الخطيم فلم أضع *** وصيّة(8) أشياخ جعلت إزاءها
و هي قصيدة طويلة.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل قال حدّثنا زكريا بن يحيى المنقريّ قال حدّثنا زياد بن بيان(9) العقيليّ قال حدّثنا أبو خولة الأنصاريّ عن أنس بن مالك قال:
جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في مجلس ليس فيه إلا خزرجيّ ثم استنشدهم قصيدة قيس بن الخطيم، يعني قوله:
أ تعرف رسما كاطّراد(10) المذاهب *** لعمرة وحشا غير موقف راكب
فأنشده بعضهم إياها، فلما بلغ إلى قوله:
ص: 8
أجالدهم يوم الحديقة(1) حاسرا *** كأن يدي بالسيف مخراق(2) لاعب
فالتفت إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «هل كان كما ذكر»؛ فشهد له ثابت بن قيس بن شمّاس و قال له: و الذي بعثك بالحق يا رسول اللّه، لقد خرج إلينا يوم سابع عرسه عليه غلالة و ملحفة مورّسة(3) فجالدنا كما ذكر. هكذا في هذه الرواية.
/و قد أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمي مصعب قال:
لم تكن بينهم في هذه الأيام حروب إلا في يوم بعاث(4) فإنه كان عظيما، و إنما كانوا يخرجون فيترامون بالحجارة و يتضاربون بالخشب.
قال الزّبير و أنشدت محمد بن فضالة قول قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا *** كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
فضحك و قال: ما اقتتلوا يومئذ إلا بالرطائب و السّعف.
قال أبو الفرج: و هذه القصيدة التي استنشدهم إياها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من جيّد شعر قيس بن الخطيم، و مما أنشده نابغة بني ذبيان فاستحسنه و فضّله و قدّمه من أجله.
أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال قال أبو غزيّة قال حسّان بن ثابت:
قدم النابغة المدينة فدخل السّوق فنزل عن راحلته، ثم جثا على ركبتيه، ثم اعتمد على عصاه، ثم أنشأ يقول:
عرفت منازلا بعريتنات(5) *** فأعلى الجزع للحيّ المبنّ(6)
/فقلت: هلك الشيخ و رأيته قد تبع قافية منكرة. قال و يقال: إنه قالها في موضعه، فما زال ينشد حتى أتى على آخرها، ثم قال: أ لا رجل ينشد؟ فتقدّم قيس بن الخطيم فجلس بين يديه و أنشده:
أ تعرف رسما كاطّراد المذاهب
حتى فرغ منها؛ فقال: أنت أشعر الناس يا ابن أخي. قال حسان: فدخلني منه، و إنّي في ذلك لأجد القوّة في نفسي عليهما(7)، ثم تقدّمت فجلست بين يديه؛ فقال: أنشد فو اللّه إنك لشاعر قبل أن تتكلّم، قال: و كان يعرفني قبل ذلك، فأنشدته؛ فقال أنت أشعر الناس. قال الحسن(8) بن موسى: و قالت الأوس: لم يزد قيس بن/الخطيم النابغة على:
ص: 9
أ تعرف رسما كاطّراد المذاهب
- نصف البيت - حتى قال أنت أشعر الناس.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير قال قال سليمان بن داود المجمّعيّ:
كان قيس بن الخطيم مقرون الحاجبين أدعج(1) العينين أحمر الشفتين برّاق الثّنايا كأن بينها برقا، ما رأته حليلة رجل قطّ إلاّ ذهب عقلها.
أخبرني الحسن قال حدّثنا محمد قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني حسن بن موسى عن سليمان بن داود المجمّعيّ قال:
/قال حسّان بن ثابت للخنساء: أهجي قيس بن الخطيم؛ فقالت: لا أهجو أحدا أبدا حتى أراه. قال:
فجاءته يوما فوجدته في مشرقة(2) ملتفّا في كساء له، فنخسته برجلها و قالت: قم، فقام؛ فقالت: أدبر، فأدبر؛ ثم قالت: أقبل، فأقبل. قال: و اللّه لكأنها تعترض عبدا تشتريه، ثم عاد إلى حاله نائما؛ فقالت: و اللّه لا أهجو هذا أبدا.
قال الزّبير و حدّثني عمّي مصعب قال:
كانت عند قيس بن الخطيم حوّاء بنت يزيد بن سنان بن كريز بن زعوراء(3) فأسلمت، و كانت تكتم قيس بن الخطيم إسلامها، فلما قدم قيس مكة عرض عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الإسلام، فاستنظره قيس حتى يقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المدينة؛ فسأله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أن يجتنب زوجته حواء بنت يزيد، و أوصاه بها خيرا، و قال له: إنها قد أسلمت؛ ففعل قيس و حفظ وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال: «و في الأديعج».
قال أبو الفرج و أحسب هذا غلطا من مصعب، و أن صاحب هذه القصة قيس بن شمّاس، و أما قيس بن الخطيم فقتل قبل الهجرة.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش النحويّ عن أبي سعيد السّكّريّ عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل:
/أن حرب الأوس و الخزرج لما هدأت، تذكرت الخزرج قيس بن الخطيم و نكايته فيهم، فتوامروا(4)
ص: 10
و تواعدوا قتله؛ فخرج عشيّة من منزله في ملاءتين يريد مالا له بالشّوط(1) حتى مرّ بأطم(2) بني حارثة، فرمي من الأطم بثلاثة أسهم، فوقع أحدها في صدره، فصاح صيحة سمعها رهطه، فجاءوا فحملوه إلى منزله، فلم يروا له كفؤا إلا أبا صعصعة يزيد بن عوف بن مدرك النّجّاريّ، فاندسّ إليه رجل حتى اغتاله في منزله، فضرب عنقه و اشتمل على رأسه، فأتى به قيسا و هو بآخر رمق، فألقاه بين يديه و قال: يا قيس قد أدركت بثأرك؛ فقال: عضضت بأير أبيك إن كان غير أبي صعصعة! فقال: هو أبو صعصعة، و أراه الرأس! فلم يلبث قيس بعد ذلك أن مات.
و هذا الشعر أعني:
أجدّ بعمرة غنيانها
فيما قيل يقوله قيس في عمرة بنت رواحة، و قيل: بل قاله في عمرة: امرأة كانت لحسّان بن ثابت، و هي عمرة بنت صامت بن خالد. و كان حسّان ذكر(3) ليلى بنت الخطيم في شعره، فكافأه قيس بذلك، و كان هذا في حربهم التي يقال لها يوم الرّبيع(4).
فأخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال أخبرنا الزّبير قال حدّثني مصعب قال:
/مرّ حسّان بن ثابت بليلى بنت الخطيم - و قيس بن الخطيم أخوها بمكة حين خرجوا يطلبون الحلف في قريش - فقال لها حسان: اظعني فالحقي بالحيّ فقد ظعنوا، و ليت شعري/ما خلّفك و ما شأنك: أقلّ ناصرك أم راث رافدك(5)؟ فلم تكلّمه و شتمه نساؤها؛ فذكرها في شعره في يوم الربيع الذي يقول فيه:
لقد هاج نفسك أشجانها *** و عاودها اليوم أديانها(6)
تذكرت ليلى و أنّي بها *** إذا قطّعت منك أقرانها(7)
و حجّل(8) في الدار غربانها *** و خفّ من الدار سكّانها
و غيّرها معصرات الرّياح *** و سحّ الجنوب و تهتانها
مهاة من العين تمشي بها *** و تتبعها ثمّ غزلانها
وقفت عليها فساءلتها *** و قد ظعن الحيّ: ما شأنها
فعيّت و جاوبني دونها *** بما راع قلبي أعوانها
ص: 11
و هي طويلة. فأجابه قيس بن الخطيم بهذه القصيدة التي أوّلها:
أجدّ بعمرة غنيانها
و فخر فيها بيوم الرّبيع و كان لهم فقال:
و نحن الفوارس يوم الرّبي *** ع قد علموا كيف فرسانها
حسان الوجوه حداد السيو *** ف يبتدر المجد شبّانها
و هي أيضا طويلة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرنا الأصمعيّ قال حدّثني شيخ قدم من المدينة(1)، و أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا أبو غسّان عن أبي السائب المخزوميّ، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال ذكر لي عن جعفر بن محرز(2) السّدوسيّ، قالوا(3):
دخل النّعمان بن بشير الأنصاريّ المدينة أيام يزيد بن معاوية و ابن الزّبير، فقال: و اللّه لقد أخفقت(4)أذناي من الغناء فأسمعوني؛ فقيل له: لو وجّهت إلى عزّة فإنها من(5) قد عرفت! قال: إي و ربّ البيت، إنها(6) لمن يزيد النفس طيبا و العقل شحذا، ابعثوا إليها عن رسالتي، فإن أبت صرنا إليها؛ فقال له بعض القوم: إن النّقلة تشتدّ عليها لثقل بدنها و ما بالمدينة دابة تحملها؛ فقال النعمان: و أين النجائب عليها الهوادج! فوجّه إليها بنجيب فذكرت علّة، فلما عاد الرسول إلى النعمان قال لجليسه أنت كنت أخبر بها، قوموا بنا؛ فقام هو مع خواصّ أصحابه حتى طرقوها، فأذنت و أكرمت و اعتذرت، فقبل النعمان عذرها و قال: غنّيني، فغنته:
أجدّ بعمرة غنيانها *** فتهجر أم شأننا شأنها
فأشير إليها أنها أمّه فسكتت؛ فقال: غنّيني فو اللّه ما ذكرت إلا كرما و طيبا! لا تغنّيني سائر اليوم غيره؛ فلم تزل تغنّيه هذا اللحن فقط حتى انصرف.
و تذاكروا هذا الحديث عند الهيثم بن عديّ، فقال: أ لا أزيدكم فيه طريفة(7)! قلنا بلى يا أبا عبد الرحمن؛ قال قال لقيط: كنت عند سعيد الزّبيريّ قال سمعت عامرا الشعبيّ/يقول: اشتاق النّعمان بن بشير إلى الغناء فصار إلى منزل عزّة، فلما انصرف إذا امرأة بالباب منتظرة له، فلما خرج شكت إليه كثرة غشيان زوجها إياها؛ فقال لها النعمان بن بشير: لأقضينّ بينكما بقضية لا تردّ عليّ، قد أحلّ اللّه له/من النساء مثنى و ثلاث و رباع، فله امرأتان
ص: 12
بالنهار و امرأتان بالليل. فهذا يدلّ على أن المعنيّة بهذا الشعر عمرة بنت رواحة(1).
و أما ما ذكر أنه عنى عمرة امرأة حسان بن ثابت، فأخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزّبير بن بكّار عن عمه:
أن قيس بن الخطيم لما ذكر حسّان أخته ليلى في شعره ذكر امرأته عمرة، و هي التي يقول فيها حسان:
أزمعت عمرة صرما فابتكر
أخبرني الحسن قال حدّثنا أحمد قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي مصعب قال:
تزوّج حسّان بن ثابت عمرة بنت الصامت بن خالد بن عطية الأوسيّة ثم إحدى بني عمرو بن عوف، فكان كل واحد منهما معجبا بصاحبه، و إن الأوس أجاروا مخلّد بن الصامت الساعديّ فقال في ذلك أبو قيس بن الأسلت:
أجرت مخلّدا و دفعت عنه *** و عند اللّه صالح ما أتيت
فتكلم حسان في أمره بكلام أغضب عمرة، فعيّرته بأخواله و فخرت عليه بالأوس؛ فغضب لهم فطلقها، فأصابها من ذلك ندم و شدّة؛ و ندم هو بعد فقال:
أزمعت(2) عمرة صرما فابتكر *** إنما يدهن(3) للقلب الحصر(4)
لا يكن حبّك حبّا ظاهرا *** ليس هذا منك يا عمر بسرّ
سألت حسّان من أخواله *** إنما يسأل بالشيء الغمر(5)
قلت أخوالي بنو كعب إذا *** أسلم الأبطال عورات الدّبر
يريد يدهن القلب، فأدخل اللام زائدة للضرورة. عمر: ترخيم عمرة. و السر: الخالص الحسن. غنّت في هذه الأبيات عزّة الميلاء ثاني ثقيل بالبنصر من رواية حبش.
و تمام القصيدة:
ربّ خال لي لو أبصرته *** سبط المشية في اليوم الخصر(6)
عند هذا الباب إذ ساكنه *** كلّ وجه حسن النّقبة(7) حرّ
ص: 13
يوقد النار إذا ما أطفئت *** يعمل القدر بأثباج الجزر(1)
/من يغرّ الدهر أو يأمنه *** من قبيل(2) بعد عمرو و حجر(3)
ملكا من جبل الثلج إلى *** جانبي أيلة(4) من عبد و حرّ
ثم كانا خير من نال النّدى *** سبقا الناس بإقساط(5) و برّ
فارسي خيل إذا ما أمسكت *** ربّة الخدر بأطراف السّتر
أتيا فارس في دارهم *** فتناهوا بعد إعصار(6) بقرّ
ثم نادوا يا لغسّان اصبروا *** إنه يوم مصاليت(7) صبر
اجعلوا معقلها أيمانكم *** بالصّفيح المصطفى غير الفطر(8)
بضراب تأذن(9) الجنّ له *** و طعان مثل أفواه الفقر(10)
و لقد يعلم من حاربنا *** أننا ننفع قدما و نضر
صبر للموت إن حلّ بنا *** صادقوا البأس غطاريف فخر
/و أقام العزّ فينا و الغنى *** فلنا فيه على الناس الكبر(11)
/منهم أصلي فمن يفخر به *** يعرف(12) الناس بفخر المفتخر
نحن أهل العزّ و المجد معا *** غير أنكاس(13) و لا ميل عسر
فاسألوا عنا و عن أفعالنا *** كلّ قوم عندهم علم الخبر
قال الزبير فحدّثني عمّي قال: ثم إن حسّان بن ثابت مرّ يوما بنسوة فيهن عمرة بعد ما طلّقها، فأعرضت عنه و قالت لامرأة منهنّ: إذا حاذاك هذا الرجل فاسأليه من هو و انسبيه و انسبي أخواله و هي متعرّضة له، فلما حاذاهنّ
ص: 14
سألته من هو و نسبته فانتسب لها، فقالت: فمن أخوالك؟ فأخبرها، فبصقت عن شمالها و أعرضت عنه؛ فحدّد النظر إليها و عجب من فعلها و جعل ينظر إليها، فبصر بامرأته و هي تضحك فعرفها و علم أن الأمر من قبلها أتى، فقال في ذلك:
قالت له يوما تخاطبه *** ريّا الروادف(1) غادة الصّلب
أما المروءة و الوسامة أو *** حشم(2) الرجال فقد بدا، حسبي
فوددت أنك لو تخبّرنا *** من والدك و منصب(3) الشّعب(4)
فضحكت ثم رفعت متّصلا(5) *** صوتي كرفع(6) المنطق الشّغب
/جدّي أبو ليلى و والده *** عمرو و أخوالي بنو كعب
و أنا من القوم الذين إذا *** أزم(7) الشتاء بحلقة الجدب
أعطى ذوو الأموال معسرهم *** و الضاربين بموطن الرّعب
قال مصعب: و أبو ليلى الذي عناه حسّان: حرام بن عمرو بن زيد مناة.
و مما فيه صنعة من المائة المختارة من شعر قيس بن الخطيم:
يحيى بن عليّ في الاختيار الواثقيّ. و هو في كتاب إسحاق لقفا النجّار ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، و لعلّه غير هذا اللحن المختار.
و هذا الشعر يقوله قيس بن الخطيم في حرب كانت بينهم و بين بني جحجبى و بني خطمة، و لم يشهدها قيس و لا كانت في عصره، و إنما أجاب عن ذكرها شاعرا منهم يقال له: درهم بن يزيد. قال أبو المنهال عتيبة(1) بن المنهال: بعث رجل من غطفان من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان إلى يثرب بفرس و حلّة مع رجل من غطفان و قال:
ادفعهما إلى أعز أهل يثرب - قال و قيل: إن الباعث بهما عبد ياليل(2) بن عمرو الثّقفيّ. قال و قيل: بل الباعث بهما علقمة بن علاثة - فجاء الرسول بهما حتى/ورد سوق بني قينقاع فقال ما أمر به، فوثب إليه رجل من غطفان كان جارا لمالك بن العجلان الخزرجيّ يقال له كعب الثّعلبيّ، فقال: مالك بن العجلان أعزّ أهل يثرب؛ و قام رجل آخر فقال: بل أحيحة بن الجلاح أعزّ أهل يثرب، و كثر الكلام؛ فقبل الرسول الغطفانيّ قول الثعلبيّ الذي كان جارا لمالك بن العجلان و دفعهما إلى مالك؛ فقال كعب الثعلبيّ: أ لم أقل لكم: إن حليفي أعزّكم و أفضلكم! فغضب رجل من بني عمرو بن عوف يقال له سمير فرصد الثعلبيّ حتى قتله، فأخبر مالك بذلك، فأرسل إلى بني عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس: إنكم قتلتم منّا قتيلا فأرسلوا إلينا بقاتله؛ فلما جاءهم رسول مالك تراموا به: فقالت بنو زيد: إنما قتلته بنو جحجبى، و قالت بنو جحجبى: إنما قتلته بنو زيد؛ ثم أرسلوا إلى مالك: إنه قد كان في السوق التي قتل فيها صاحبكم ناس كثير، و لا يدرى أيّهم قتله؛ و أمر مالك أهل تلك السوق أن يتفرّقوا، فلم يبق فيها غير سمير و كعب، فأرسل مالك إلى بني عمرو بن عوف بالذي بلغه من ذلك و قال: إنما قتله سمير، فأرسلوا به إليّ أقتله؛ فأرسلوا إليه: إنه ليس لك أن تقتل سميرا بغير بيّنة؛ و كثرت الرسل بينهم في ذلك: يسألهم مالك أن يعطوه سميرا و يأبون أن يعطوه إياه. ثم إن بني عمرو بن عوف كرهوا أن ينشبوا بينهم و بين مالك حربا، فأرسلوا إليه يعرضون عليه الدّية فقبلها؛ فأرسلوا إليه: إن صاحبكم حليف و ليس لكم فيه إلا نصف الدية، فغضب مالك و أبى أن يأخذ فيه إلا الدية كاملة أو يقتل سميرا؛ فأبت بنو عمرو بن عوف أن يعطوه إلاّ دية الحليف و هي نصف الدية، ثم دعوه أن يحكم بينهم/و بينه عمرو بن امرئ القيس أحد بني الحارث بن الخزرج و هو جدّ عبد اللّه بن رواحة ففعل؛ فانطلقوا حتى جاءوه في بني الحارث بن الخزرج، فقضى على مالك بن العجلان أنه ليس له في حليفه إلاّ دية الحليف، و أبى مالك أن يرضى بذلك و آذن بني عمرو بن عوف بالحرب، و استنصر قبائل الخزرج، فأبت بنو الحارث بن الخزرج أن تنصره غضبا حين ردّ قضاء عمرو بن امرئ القيس؛ فقال مالك بن العجلان يذكر خذلان بني الحارث بن الخزرج له و حدب بني عمرو بن عوف على سمير، و يحرّض بني النجّار على نصرته:
إن سميرا أرى عشيرته *** قد حدبوا دونه و قد أنفوا
إن يكن الظنّ صادقا ببني النّ *** جّار لا يطعموا الذي علفوا
لا يسلمونا لمعشر أبدا *** ما دام منّا ببطنها شرف(3)
ص: 16
لكن مواليّ قد بدا لهم *** رأي سوى ما لديّ أو ضعفوا
[يقال: علفوا الضيم إذا أقرّوا به، أي ظنّي أنهم لا يقبلون الضيم](1).
بين بني جحجبى و بين بني *** زيد فأنّى لجاري التّلف(2)
يمشون في البيض و الدروع كما *** تمشي جمال مصاعب قطف(3)
كما تمشّى الأسود في رهج(4) ال *** موت إليه و كلّهم لهف
/غنّى في هذه الأبيات معبد خفيف ثقيل عن إسحاق، و ذكر الهشاميّ أن فيه لحنا من/الثقيل الأوّل للغريض:
و قال درهم بن يزيد(5) بن ضبيعة أخو سمير في ذلك:
يا قوم لا تقتلوا سميرا فإ *** نّ القتل فيه البوار و الأسف
إن تقتلوه ترنّ(6) نسوتكم *** على كريم و يفزع السّلف
إني لعمر الذي يحجّ له الن *** اس و من دون بيته سرف
يمين برّ باللّه مجتهد *** يحلف إن كان ينفع الحلف
لا نرفع العبد فوق سنّته *** ما دام منّا ببطنها شرف
إنك لاق غدا غواة بني *** عمّي فانظر ما أنت مزدهف(7)
فأبد سيماك يعرفوك كما *** يبدون سيماهم فتعترف
معنى قوله «فأبد سيماك»: أن مالك بن العجلان كان إذا شهد الحرب يغيّر لباسه و يتنكّر لئلا يعرف فيقصد.
و قال درهم بن يزيد في ذلك:
يا مال لا تبغين ظلامتنا *** يا مال إنّا معاشر أنف
يا مال و الحقّ إن قنعت به *** فيه و فينا لأمرنا نصف
إنّ بجيرا عبد فخذ ثمنا *** فالحقّ يوفى به و يعترف
ثم اعلمن إن أردت ضيم بني *** زيد فإنّي و من له الحلف
ص: 17
/
لأصبحن داركم بذي لجب *** جون له من أمامه عزف(1)
البيض حصن لهم إذا فزعوا *** و سابغات كأنها النّطف(2)
و البيض قد ثلّمت مضاربها *** بها نفوس الكماة تختطف
كأنها في الأكفّ إذ لمعت *** وميض برق يبدو و ينكسف(3)
و قال قيس بن الخطيم الظّفريّ أحد بني النّبيت في ذلك، و لم يدركه و إنما قاله بعد هذه الحرب بزمان، و من هذه القصيدة الصوت المذكور:
ردّ الخليط الجمال فانصرفوا *** ما ذا عليهم لو أنهم وقفوا
لو وقفوا ساعة نسائلهم *** ريث يضحّي جماله السّلف(4)
فيهم لعوب العشاء آنسة ال *** دّل عروب يسوؤها الخلف(5)
بين شكول النساء خلقتها *** قصد فلا جبلة و لا قضف
تنام عن كبر شأنها فإذا *** قامت رويدا تكاد تنغرف(6)
تغترق الطرف(7) و هي لاهية *** كأنما شفّ وجهها نزف
/حوراء(8) جيداء يستضاء بها *** كأنها خوط بانة قصف(9)
قضى لها اللّه حين صوّرها ال *** خالق أن لا يكنّها سدف(10)
خود يغثّ الحديث ما صمتت(11) *** و هو بفيها ذو لذة طرف(12)
تخزنه و هو مشتهى حسن *** و هو إذا ما تكلمت أنف(13)
ص: 18
و هي طويلة يقول فيها:
/
أبلغ بني جحجبى و إخوتهم *** زيدا بأنّا وراءهم أنف(1)
إنا و إن قلّ نصرنا لهم *** أكبادنا من ورائهم تجف
لمّا بدت نحونا جباههم *** حنّت إلينا الأرحام و الصّحف(2)
نفلي بحدّ الصّفيح هامهم *** و فلينا هامهم بها جنف(3)
يتبع آثارها إذا اختلجت *** سخن عبيط عروقه تكف(4)
إنّ بني عمّنا طغوا و بغوا *** و لجّ منهم في قومهم سرف
/فردّ عليه حسّان بن ثابت و لم يدرك ذلك:
ما بال عينيك دمعها يكف(5) *** من ذكر خود شطّت بها قذف(6)
بانت بها غربة تؤمّ بها *** أرضا سوانا و الشكل مختلف
ما كنت أدري بوشك بينهم *** حتى رأيت الحدوج تنقذف
دع ذا و عدّ القريض في نفر *** يرجون مدحي و مدحي الشرف
إن تدع قومي للمجد تلفهم *** أهل فعال يبدو إذا وصفوا
إن سميرا عبد طغى سفها *** ساعده أعبد لهم نطف(7)
قال: ثم أرسل مالك بن العجلان إلى بني عمرو بن عوف يؤذنهم بالحرب، و يعدهم يوما يلتقون فيه، و أمر قومه فتهيّئوا للحرب، و تحاشد(8) الحيّان و جمع بعضهم لبعض. و كانت يهود قد حالفت قبائل الأوس و الخزرج، إلاّ بني قريظة و بني النّضير فإنهم لم يحالفوا أحدا منهم، حتى كان هذا الجمع، فأرسلت إليهم الأوس و الخزرج، كلّ يدعوهم إلى نفسه، فأجابوا الأوس و حالفوهم، و التي حالفت قريظة و النّضير من الأوس أوس اللّه و هي خطمة و واقف و أميّة و وائل، فهذه قبائل أوس اللّه. ثم زحف مالك بمن معه من الخزرج، و زحفت الأوس بمن معها من
ص: 19
حلفائها من قريظة و النضير، فالتقوا بفضاء كان بين بئر سالم(1) و قباء، و كان أوّل يوم التقوا فيه، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انصرفوا و هم منتصفون جميعا، ثم التقوا مرة أخرى عند/أطم بني قينقاع، فاقتتلوا حتى حجز الليل بينهم، و كان الظّفر يومئذ للأوس على الخزرج، فقال أبو قيس بن الأسلت في ذلك:
لقد رأيت بني عمرو فما وهنوا *** عند اللقاء و ما همّوا(2) بتكذيب
ألا فدى لهم أمّي و ما ولدت *** غداة يمشون إرقال المصاعيب
بكلّ سلهبة(3) كالأيم ماضية *** و كلّ أبيض ماضي الحدّ مخشوب
- أصل المخشوب: الحديث الطبع، ثم صار كل مصقول مخشوبا؛ فشبهها بالحية في انسلالها - قال: فلبث الأوس و الخزرج متحاربين عشرين سنة في أمر سمير يتعاودون القتال في تلك السنين، و كانت لهم فيها أيام و مواطن لم تحفظ، فلما رأت الأوس طول الشرّ و أن مالكا لا ينزع(4)، قال لهم سويد بن صامت الأوسيّ - و كان يقال له الكامل في الجاهلية، و كان الرجل عند العرب(5) إذا كان شاعرا شجاعا كاتبا سابحا راميا سمّوه الكامل، و كان /سويد أحد الكملة -: يا قوم، أرضوا هذا الرجل من حليفه، و لا تقيموا على حرب إخوتكم فيقتل بعضكم بعضا و يطمع فيكم غيركم، و إن حملتم على أنفسكم بعض الحمل. فأرسلت الأوس إلى مالك بن العجلان يدعونه إلى أن يحكم بينه و بينهم ثابت بن المنذر بن حرام أبو حسّان بن ثابت، فأجابهم إلى ذلك، فخرجوا حتى أتوا ثابت بن المنذر، و هو في البئر التي يقال لها سميحة(6)، فقالوا: إنا قد حكّمناك بيننا؛ فقال: لا حاجة لي في ذلك؛ قالوا:
و لم؟ قال: أخاف أن تردّوا حكمي/كما رددتم حكم عمرو بن امرئ القيس؛ قالوا: فإنا لا نردّ حكمك فاحكم بيننا؛ قال: لا أحكم بينكم حتى تعطوني موثقا و عهدا لترضون بحكمي و ما قضيت به و لتسلمنّ له؛ فأعطوه على ذلك عهودهم و مواثيقهم، فحكم بأن يودى حليف مالك دية الصريح ثم تكون السنّة فيهم بعده على ما كانت عليه:
الصريح(7) على ديته و الحليف على ديته، و أن تعدّ القتلى الذين أصاب بعضهم من بعض في حربهم [ثم يكون بعض ببعض](8) ثم يعطوا الدية لمن كان له فضل في القتلى من الفريقين، فرضي بذلك مالك و سلّمت الأوس و تفرّقوا على أنّ على بني النّجّار نصف دية جار مالك معونة لإخوتهم، و على بني عمرو بن عوف نصفها؛ فرأت بنو عمرو بن عوف أنهم لم يخرجوا إلا الذي كان عليهم، و رأى مالك أنه قد أدرك ما كان يطلب، و ودي جاره دية الصريح.
و يقال: بل الحاكم المنذر أبو ثابت.
ص: 20
18 - ذكر طويس و أخباره(1)
طويس لقب غلب عليه، و اسمه عيسى بن عبد اللّه، و كنيته أبو عبد المنعم و غيّرها المخنّثون فجعلوها أبا عبد النّعيم، و هو مولى بني مخزوم. و قد حدّثني جحظة عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الواقديّ عن ابن أبي الزّناد: قال سعد بن أبي وقّاص: كني طويس أبا عبد المنعم.
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن المسيّبي(2) و محمد بن سلاّم الجمحيّ، و عن الواقديّ عن ابن أبي الزّناد؛ و عن المدائني عن زيد بن أسلم عن أبيه، و عن ابن الكلبيّ عن أبيه و عن أبي مسكين.
قالوا: أوّل من غنّى بالعربيّ بالمدينة طويس، و هو أوّل من ألقى الخنث بها، و كان طويلا أحول يكنى أبا عبد المنعم، مولى بني مخزوم، و كان لا يضرب بالعود. إنما كان ينقر بالدفّ، و كان ظريفا عالما بأمر المدينة و أنساب أهلها، و كان يتّقى للسانه.
قالوا(3): و سئل عن مولده فذكر أنه ولد يوم قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و فطم يوم مات أبو بكر، و ختن يوم قتل عمر، و زوّج يوم قتل عثمان، و ولد له يوم قتل عليّ رضوان اللّه عليهم أجمعين. قال و قيل: إنه ولد له يوم مات الحسن بن عليّ/عليهما السلام. قال: و كانت أمي تمشي بين نساء الأنصار بالنّميمة. قالوا: و أوّل غناء غنّاه و هزج به(4):
كيف يأتي من بعيد *** و هو يخفيه القريب
نازح بالشأم عنّا *** و هو مكسال هيوب
قد براني الحبّ حتى *** كدت من وجدي أذوب
ص: 21
/الغناء لطويس هزج بالبنصر.
قال إسحاق: أخبرني الهيثم بن عديّ قال قال صالح بن حسّان الأنصاريّ أنبأني أبي قال:
اجتمع يوما جماعة بالمدينة يتذاكرون أمر المدينة إلى أن ذكروا طويسا، فقالوا: كان و كان؛ فقال رجل منا:
أما لو شاهدتموه لرأيتم ما تسرّون به علما و ظرفا و حسن غناء و جودة نقر بالدفّ، و يضحك كلّ ثكلى حرّى؛ فقال بعض القوم: و اللّه إنه على ذلك كان مشئوما؛ و ذكر خبر ميلاده كما قال الواقدي، إلا أنه قال: ولد يوم مات نبيّنا صلّى اللّه عليه و سلّم، و فطم يوم مات صدّيقنا، و ختن يوم قتل فاروقنا، و زوّج يوم قتل نورنا، و ولد له يوم قتل أخو نبينا(1)؛ و كان مع هذا مخنّثا يكيدنا و يطلب عثراتنا؛ و كان مفرطا في طوله مضطربا في خلقه أحول. فقال رجل من جلّة أهل المجلس: لئن كان كما قلت لقد كان ممتعا فهما يحسن رعاية من حفظ له حقّ المجالسة، و رعاية حرمة الخدمة، و كان لا يحمل قول من لا يرعى له بعض ما يرعاه له.
و لقد كان معظّما لمواليه بني مخزوم و من والاهم من سائر قريش، و مسالما لمن عاداهم دون التّحكيك به؛ و ما يلام من قال بعلم و تكلّم على فهم، و الظالم/الملوم، و البادئ أظلم. فقال رجل آخر: لئن كان ما قلت لقد رأيت قريشا يكتنفونه و يحدقون به و يحبّون مجالسته و ينصتون إلى حديثه و يتمنّون غناءه، و ما وضعه شيء إلا خنثه، و لو لا ذلك ما بقي رجل من قريش و الأنصار و غيرهم إلا أدناه.
أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلاني قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم قال حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني إسماعيل بن جامع عن سياط قال:
كان أوّل من تغنّى بالمدينة غناء يدخل في الإيقاع(2) طويس، و كان مولده يوم مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و فطامه في اليوم الذي توفّي فيه أبو بكر، و ختانه في اليوم الذي قتل فيه عمر، و بناؤه بأهله في اليوم الذي قتل فيه عثمان، و ولد له يوم قتل عليّ رضوان اللّه عليهم أجمعين، و ولد و هو ذاهب العين اليمنى.
و كان يلقّب بالذائب، و إنما لقّب بذلك لأنه غنى:
قد براني الحبّ حتى *** كدت من وجدي أذوب
أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه قال أخبرني ابن الكلبيّ عن أبي مسكين قال:
كان بالمدينة مخنّث يقال له النّغاشيّ، فقيل لمروان بن الحكم: إنه لا يقرأ من كتاب اللّه شيئا، فبعث إليه يومئذ، و هو على المدينة، فاستقرأه أمّ الكتاب؛ فقال: و اللّه ما معي بناتها، أو ما أقرأ البنات فكيف أقرأ أمّهنّ!
ص: 22
فقال: أ تهزأ لا أمّ لك! فأمر به فقتل في موضع يقال له بطحان(1)، و قال: من جاءني فمخنّث فله عشرة دنانير.
فأتي طويس و هو في بني الحارث بن الخزرج من المدينة، و هو يغنّي بشعر حسّان بن ثابت:
/
لقد هاج نفسك أشجانها *** و عاودها اليوم أديانها
تذكّرت هندا و ما ذكرها *** و قد قطّعت منك أقرانها
وقفت عليها فساءلتها *** و قد ظعن الحيّ ما شأنها
فصدّت و جاوب من دونها *** بما أوجع القلب أعوانها
/فأخبر بمقالة مروان فيهم؛ فقال: أ ما فضّلني الأمير عليهم بفضل حتى جعل فيّ و فيهم أمرا واحدا! ثم خرج حتى نزل السّويداء - على ليلتين من المدينة في طريق الشام - فلم يزل بها عمره، و عمّر حتى مات في ولاية الوليد بن عبد الملك.
قال إسحاق و أخبرني ابن الكلبيّ قال أخبرني خالد بن سعيد عن أبيه و عوانة قالا:
قال هيت(2) المخنّث لعبد اللّه بن أبي أميّة: إن فتح اللّه عليكم الطائف فسل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم بادية بنت غيلان بن سلمة بن معتّب، فإنها هيفاء شموع(3) نجلاء، إن تكلّمت تغنّت، و إن قامت تثنّت، تقبل بأربع و تدبر بثمان(4)، مع ثغر كأنه الأقحوان، و بين رجليها كالإناء المكفوء(5)، كما قال قيس بن الخطيم:
تغترق الطرف و هي لاهية *** كأنما شفّ وجهها نزف
بين شكول النساء خلقتها *** قصد فلا جبلة و لا قضف
/فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «لقد غلغلت النظر يا عدوّ اللّه»، ثم جلاه عن المدينة إلى الحمى(6). قال هشام: و أوّل ما اتّخذت النّعوش(7) من أجلها. قال: فلما فتحت الطائف تزوّجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له بريهة. فلم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فلما ولي أبو بكر رضي اللّه عنه كلّم فيه فأبى أن يردّه؛ فلما ولي عمر رضي اللّه عنه كلّم فيه فأبى أن يردّه و قال: إن رأيته لأضربنّ عنقه؛ فلما ولي عثمان رضي اللّه عنه كلّم فيه فأبى أن
ص: 23
يردّه؛ فقيل له: قد كبر و ضعف و احتاج؛ فأذن له أن يدخل كلّ جمعة فيسأل و يرجع إلى مكانه. و كان هيت مولى لعبد اللّه بن أبي أميّة بن المغيرة المخزوميّ، و كان طويس له؛ فمن ثمّ قيل(1) الخنث.
و جلس يوما فغنّى في مجلس فيه ولد لعبد اللّه بن أبي أمية:
تغترق الطرف و هي لاهية
إلى آخر البيتين؛ فأشير إلى طويس أن اسكت؛ فقال: و اللّه ما قيل هذان البيتان في ابنة غيلان بن سلمة و إنما هذا مثل ضربه هيت في أمّ بريهة؛ ثم التفت إلى ابن عبد اللّه فقال: يا ابن الطاهر، أوجدت عليّ في نفسك؟ أقسم باللّه قسما حقا لا أغنّي بهذا الشعر أبدا.
قال إسحاق و حدّثنا أبو الحسن الباهليّ الراوية عن بعض أهل المدينة، و حدّثنا الهيثم بن عديّ و المدائنيّ، قالوا:
/كان عبد اللّه بن جعفر معه إخوان له في عشيّة من عشايا الربيع، فراحت عليهم السماء بمطر جود فأسال(2)كلّ شيء؛ فقال عبد اللّه: هل لكم في العقيق؟ - و هو متنزّه أهل المدينة في أيام الرّبيع و المطر - فركبوا دوابّهم ثم انتهوا إليه فوقفوا على شاطئه و هو يرمي بالزّبد مثل مدّ الفرات، فإنهم لينظرون إذ هاجت السماء، فقال عبد اللّه لأصحابه ليس معنا جنّة نستنجنّ بها و هذه سماء خليقة أن تبلّ ثيابنا، فهل لكم في منزل طويس فإنه قريب منا فنستكنّ فيه و يحدّثنا و يضحكنا؟ و طويس في النّظّارة يسمع كلام عبد اللّه بن جعفر؛ فقال له عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت: جعلت فداءك! و ما تريد من طويس عليه غضب اللّه: مخنّث شائن لمن عرفه؛ فقال له عبد اللّه: لا تقل ذلك، فإنه مليح خفيف لنا فيه أنس؛ فلما استوفى طويس كلامهم تعجّل إلى منزله فقال لامرأته: ويحك! قد جاءنا عبد اللّه بن جعفر سيد الناس، فما/عندك؟ قالت: نذبح هذه العناق(3)، و كانت عندها عنيقة قد ربّتها باللبن، و اختبز خبزا رقاقا؛ فبادر فذبحها و عجنت هي. ثم خرج فتلقّاه مقبلا إليه؛ فقال له طويس: بأبي أنت و أمي؛ هذا المطر، فهل لك في المنزل فتستكنّ فيه إلى أن تكفّ السماء؟ قال: إياك أريد؛ قال: فامض يا سيدي على بركة اللّه، و جاء يمشي بين يديه حتى نزلوا، فتحدّثوا حتى أدرك الطعام، فقال: بأبي أنت و أمي، تكرمني إذ دخلت منزلي بأن تتعشّى عندي؛ قال: هات ما عندك؛ فجاءه بعناق سمينة و رقاق، فأكل و أكل القوم حتى تملّئوا(4)، فأعجبه طيب طعامه، فلما غسلوا/أيديهم قال: بأبي أنت و أمي، أ تمشّى معك و أغنّيك؟ قال: افعل يا طويس؛ فأخذ ملحفة فأتزر بها و أرخى لها ذنبين، ثم أخذ المربّع(5) فتمشّى و أنشأ يغنّي:
يا خليلي نابني سهدي *** لم تنم عيني و لم تكد
كيف تلحوني(6) على رجل *** آنس تلتذّه كبدي
ص: 24
مثل ضوء البدر طلعته *** ليس بالزّمّيلة(1) النّكد
فطرب القوم و قالوا أحسنت و اللّه يا طويس. ثم قال: يا سيدي، أ تدري لمن هذا الشعر؟ قال: لا و اللّه، ما أدري لمن هو، إلا أني سمعت شعرا حسنا؛ قال: هو لفارعة(2) بنت ثابت أخت حسّان بن ثابت و هي تتعشّق عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزوميّ و تقول فيه هذا الشعر؛ فنكّس القوم رءوسهم، و ضرب عبد الرحمن برأسه على صدره(3)، فلو شقّت الأرض له لدخل فيها(4).
قال و حدّثني ابن الكلبيّ و المدائنيّ عن جعفر بن محرز قال:
خرج عمر بن عبد العزيز، و هو على المدينة، إلى السّويداء و خرج الناس معه، و قد أخذت المنازل، فلحق بهم يزيد بن بكر بن دأب اللّيثيّ و سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت الأنصاريّ، فلقيهما طويس فقال لهما:
بأبي أنتما و أمّي! عرّجا إلى منزلي؛ فقال يزيد لسعيد: مل بنا مع أبي عبد النّعيم(5)؛ فقال سعيد: أين تذهب/مع هذا المخنّث! فقال يزيد: إنما هو منزل ساعة فمالا، و احتمل طويس الكلام على سعيد(6)، فأتيا منزله فإذا هو قد نضحه و نصّعه(7)، فأتاهما بفاكهة من فاكهة الماء(8)؛ ثم قال سعيد: لو أسمعتنا يا أبا عبد النّعيم! فتناول خريطة(9)فاستخرج منها دفّا ثم نقره و قال:
يا خليلي نابني سهدي *** لم تنم عيني و لم تكد
فشرابي ما أسيغ و ما *** أشتكي ما بي إلى أحد
كيف تلحوني على رجل *** آنس تلتذّه كبدي
مثل ضوء البدر صورته *** ليس بالزّمّيلة النّكد
من بني آل المغيرة لا *** خامل نكس و لا جحد(10)
نظرت يوما فلا نظرت *** بعده عيني إلى أحد
ثم ضرب بالدفّ الأرض؛ فقال سعيد: ما رأيت [كاليوم](11) قطّ شعرا أجود و لا غناء أحسن منه؛ فقال له
ص: 25
طويس: يا ابن الحسام، أ تدري من يقوله؟ قال: لا؛ قال: قالته عمّتك خولة بنت ثابت تشبّب بعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ؛ فخرج سعيد و هو يقول: ما رأيت كاليوم قطّ(1) مثل/ما استقبلني به هذا المخنّث! و اللّه لا يفلتني! فقال يزيد: دع هذا و أمته و لا ترفع به رأسا. قال أبو الفرج الأصبهاني: هذه الأبيات، فيما ذكر الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير بن بكّار، لابن زهير المخنّث.
قال إسحاق و حدّثني الهيثم بن عديّ عن ابن عيّاش، و ابن الكلبيّ عن أبي مسكين، قالا:
قدم ابن سريج المدينة فغنّاهم، فاستظرف الناس غناءه و آثروه على كلّ من غنّى؛ و طلع عليهم طويس فسمعهم و هم يقولون ذلك(2)، فاستخرج دفّا من حضنه ثم نقر به و غنّاهم بشعر عمارة بن الوليد المخزوميّ في خولة بنت ثابت، عارضها بقصيدتها فيه:
يا خليلي نابني سهدي *** لم تنم عيني و لم تكد
و هو:
تناهى فيكم وجدي(3) *** و صدّع حبّكم كبدي
فقلبي مسعر حزنا *** بذات الخال في الخدّ
فما لاقى أخو عشق *** عشير(4) العشر من جهدي
فأقبل عليهم ابن سريج فقال: و اللّه هذا أحسن الناس غناء.
أخبرني وكيع محمد بن خلف قال حدّثنا إسماعيل بن مجمّع قال حدّثني المدائنيّ قال:
قدم ابن سريج المدينة فجلس يوما في جماعة و هم يقولون: أنت و اللّه أحسن الناس غناء، إذ مرّ بهم طويس فسمعهم و ما يقولون: فاستلّ دفّه من حضنه و نقره و تغنّى:
إن المجنّبة(5) التي *** مرّت بنا قبل الصّباح
في حلّة موشيّة *** مكيّة غرثى الوشاح(6)
زين لمشهد فطرهم *** و تزينهم يوم الأضاحي
- الشعر لابن زهير المخنّث. و الغناء لطويس هزج، أخبرنا بذلك الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير بن بكّار - فقال ابن سريج: هذا و اللّه أحسن الناس غناء لا أنا.
ص: 26
قال إسحاق حدّثني المدائنيّ قال: حدّثت أنّ طويسا تبع جارية فراوغته فلم ينقطع عنها، فخبّت(1) في المشي فلم ينقطع عنها؛ فلما جازت بمجلس وقفت ثم قالت: يا هؤلاء، لي صديق و لي زوج و مولى ينكحني، فسلوا هذا ما يريد منّي! فقال أضيّق ما قد وسّعوه. ثم جعل يتغنّى:
أفق يا قلب عن جمل *** و جمل قطّعت حبلي
أفق عنها فقد عنّي *** ت حولا في هوى جمل
و كيف يفيق محزون *** بجمل هائم العقل
براه الحبّ في جمل *** فحسبي الحبّ من ثقل(2)
و حسبي فيك ما ألقى *** من التّفنيد و العذل
و قد ما لامني فيها(3) *** فلم أحفل بهم أهلي
قال إسحاق و قال المدائنيّ قال مسلمة بن محارب حدّثني رجل من أصحابنا قال:
خرجنا في سفرة و معنا رجل، فانتهينا إلى واد فدعونا بالغداء، فمدّ الرجل يده إلى الطعام فلم يقدر عليه، و هو قبل ذلك يأكل معنا في كلّ منزل، فخرجنا نسأل عن حاله/فلقينا رجلا طويلا/أحول مضطرب الخلق في زيّ الأعراب، فقال لنا: ما لكم؟ فأنكرنا سؤاله لنا، فأخبرناه خبر الرجل؛ فقال: ما اسم صاحبكم؟ فقلنا: أسيد؛ فقال:
هذا واد قد أخّذت(4) سباعه فارحلوا، فلو قد جاوزتم الوادي استمرّ(5) صاحبكم و أكل. قلنا في أنفسنا: هذا من الجنّ، و دخلتنا فزعة؛ ففهم ذلك و قال: ليفرخ(6) روعكم فأنا طويس. قال له بعض من معنا من بني غفار أو من بني عبس: مرحبا بك يا أبا عبد النّعيم، ما هذا الزّيّ! فقال: دعاني بعض أودّائي من الأعراب فخرجت إليهم و أحببت أن أتخطّى الأحياء فلا ينكروني. فسألت الرجل أن يغنّينا؛ فاندفع و نقر بدفّ كان معه مربّع، فلقد تخيّل لي أنّ الوادي ينطق معه حسنا، و تعجّبنا من علمه و ما أخبرنا [به](7) من أمر صاحبنا.
و كان الذي غنّى به في شعر عروة بن الورد في سلمى امرأته الغفاريّة حيث رهنها على الشراب:
سقوني الخمر ثم تكنّفوني *** عداة اللّه من كذب و زور
و قالوا لست بعد فداء سلمى *** بمفن ما لديك و لا فقير
ص: 27
فلا و اللّه لو ملّكت أمري *** و من لي بالتّدبّر في الأمور
إذا لعصيتهم في حبّ سلمى *** على ما كان من حسك(1) الصدور
فيا للنّاس كيف غلبت أمري *** على شيء و يكرهه ضميري
قال إسحاق و حدّثني الواقديّ قال حدّثني عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن أبيه قال:
لما غزا النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بني النّضير و أجلاهم عن المدينة خرجوا يريدون خيبر يضربون بدفوف و يزمرون بالمزامير و على النساء المعصفرات و حليّ الذهب مظهرين لذلك تجلّدا، و مرّت في الظّعن(2) يومئذ سلمى امرأة عروة بن الورد [العبسي](3)، و كان عروة حليفا في بني عمرو بن عوف، و كانت سلمى من بني غفار، فسباها عروة من قومها و كانت ذات جمال فولدت له أولادا و كان شديد الحب لها و كان ولده يعيّرون بأمّهم و يسمّون بني الأخيذة - أي السّبية - فقالت: أ لا ترى ولدك يعيّرون؟ قال: فما ذا ترين؟ قالت: أرى أن تردّني إلى قومي حتى يكونوا هم الذين يزوّجونك فأنعم(4) لها، فأرسلت إلى قومها أن ألقوه بالخمر ثم اتركوه حتى يسكر و يثمل فإنه لا يسأل حينئذ شيئا إلا أعطاه؛ فلقوه و قد نزل في بني النّضير فسقوه الخمر، فلما سكر سألوه سلمى فردّها عليهم ثم أنكحوه بعد.
و يقال: إنما جاء بها إلى بني النّضير، و كان صعلوكا يغير، فسقوه الخمر، فلما انتشى منعوه و لا شيء معه إلا هي فرهنها، و لم يزل يشرب حتى غلقت(5)؛ فلما قال لها: انطلقي قالت: لا سبيل إلى ذلك، قد أغلقتني. فبهذا صارت عند بني النّضير. فقال في ذلك:
سقوني الخمر ثم تكنّفوني *** عداة اللّه(6) من كذب و زور
/هذه الأبيات مشهورة بأن لطويس فيها غناء، و ما وجدته في شيء من الكتب مجنّسا فتذكر طريقته.
قال إسحاق و حدّثني المدائنيّ قال: كان طويس ولعا بالشعر الذي قالته الأوس و الخزرج في حروبهم، و كان يريد بذلك الإغراء، فقلّ مجلس اجتمع فيه هذان/الحيّان فغنّى فيه طويس إلا وقع فيه شيء؛ فنهي عن ذلك، فقال:
و اللّه لا تركت الغناء بشعر الأنصار حتى يوسّدوني التراب؛ و ذلك لكثرة تولّع القوم به، فكان يبدي السرائر و يخرج الضغائن، فكان القوم يتشاءمون به.
ص: 28
و كان يستحسن غناؤه و لا يصبر عن حديثه و يستشهد على معرفته، فغنّى يوما بشعر قيس بن الخطيم في حرب الأوس و الخزرج و هو:
ردّ الخليط الجمال فانصرفوا *** ما ذا عليهم لو أنهم وقفوا
لو وقفوا ساعة نسائلهم *** ريث يضحّي جماله السّلف
فليت أهلي و أهل أثلة في ال *** دّار قريب من حيث نختلف
فلما بلغ إلى آخر بيت غنّى فيه طويس من هذه القصيدة و هو:
أبلغ بني جحجبى و قومهم *** خطمة أنّا وراءهم أنف
تكلّموا و انصرفوا و جرت بينهم دماء، و انصرف طويس من عندهم سليما لم يكلّم و لم يقل له شيء.
قال إسحاق فحدّثني الواقديّ و أبو البختريّ(1)، قالا:
قال قيس بن الخطيم هذه القصيدة لشغب أثاره القوم بعد دهر طويل(2). و نذكر سبب أوّل ما جرى بين الأوس و الخزرج من الحرب:
/قال إسحاق قال أبو عبد اللّه اليزيدي [و أبو البختريّ](3)، و حدّثني مشايخ لنا قالوا: كانت الأوس و الخزرج أهل عزّ و منعة و هما أخوان لأب و أمّ و هما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، و أمّهما قيلة بنت جفنة بن عتبة بن عمرو؛ و قضاعة تذكر أنها قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. و كانت أوّل حرب جرت بينهم في مولى كان لمالك بن العجلان قتله سمير بن يزيد بن مالك، و سمير رجل من الأوس ثم أحد بني عمرو بن عوف، و كان مالك سيد الحيّين(4) في زمانه، و هو الذي ساق تبّعا إلى المدينة و قتل الفطيون(5)صاحب زهرة(6) و أذلّ اليهود للحيّين جميعا، فكان له بذلك الذكر و الشرف عليهم، و كانت دية المولى فيهم - و هو الحليف - خمسا من الإبل، و دية الصريح عشرا، فبعث مالك إلى عمرو بن عوف: ابعثوا إليّ سميرا حتى أقتله بمولاي فإنّا نكره أن تنشب بيننا و بينكم حرب؛ فأرسلوا إليه: إنّا نعطيك الرضا من مولاك فخذ منا
ص: 29
عقله(1)، فإنك قد عرفت/أن الصريح لا يقتل بالمولى؛ قال: لا آخذ في مولاي دون دية الصريح، فأبوا إلا دية المولى. فلما رأى ذلك مالك بن العجلان جمع قومه من الخزرج، و كان فيهم مطاعا، و أمرهم بالتهيّؤ للحرب. فلمّا بلغ الأوس استعدّوا لهم و تهيّئوا للحرب و اختاروا الموت على الذلّ؛ ثم خرج بعض القوم إلى بعض فالتقوا بالصّفينة بين بئر سالم(2) و بين قباء (قرية لبني عمرو بن عوف) فاقتتلوا قتالا شديدا حتى نال بعض القوم من بعض. ثم إنّ رجلا من الأوس نادى: يا مالك، ننشدك اللّه و الرّحم(3) - و كانت أمّ مالك إحدى نساء بني عمرو بن عوف - فاجعل بيننا و بينك عدلا من قومك فما حكم علينا سلّمنا لك؛ فارعوى مالك عند ذلك، و قال نعم؛ فاختاروا عمرو بن امرئ القيس أحد بني الحارث بن الخزرج فرضي القوم به، و استوثق منهم، ثم قال: فإنّي أقضي بينكم: إن كان سمير قتل صريحا من القوم فهو به قود، و إن قبلوا العقل فلهم/دية الصريح؛ و إن كان قتل مولى فلهم دية المولى بلا نقص، و لا يعطى فوق نصف الدية، و ما أصبتم منا في هذه الحرب ففيه الدية مسلّمة إلينا، و ما أصبنا منكم فيها علينا فيه دية مسلّمة إليكم. فلما قضى بذلك عمرو بن امرئ القيس غضب مالك بن العجلان و رأى أن يردّ عليه رأيه، و قال: لا أقبل هذا القضاء؛ و أمر قومه بالقتال، فجمع القوم بعضهم لبعض ثم التقوا بالفضاء(4) عند آطام بني قينقاع، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم تداعوا إلى الصلح فحكّموا ثابت بن حرام بن المنذر أبا حسّان بن ثابت النّجّاريّ، فقضى بينهم أن يدوا مولى مالك بن العجلان بدية الصّريح ثم تكون السّنّة فيهم بعده على مالك و عليهم كما كانت أوّل مرّة: المولى على ديته؛ و الصّريح على ديته؛ فرضي مالك و سلّم الآخرون. و كان ثابت إذ حكّموه/أراد إطفاء النائرة(5) فيما بين القوم و لم شعثهم، فأخرج خمسا من الإبل من قبيلته حين أبت عليه الأوس أن تؤدّي إلى مالك أكثر من خمس و أبى مالك أن يأخذ دون عشر. فلما أخرج ثابت الخمس أرضى مالكا بذلك و رضيت الأوس، و اصطلحوا بعهد و ميثاق ألا يقتل رجل في داره و لا معقله - و المعاقل: النخل - فإذا خرج رجل من داره أو معقله فلا دية له و لا عقل. ثم انظروا(6) في القتلى فأيّ الفريقين فضل على صاحبه ودى له صاحبه. فأفضلت الأوس على الخزرج بثلاثة نفر فودتهم الأوس و اصطلحوا. ففي ذلك يقول حسّان بن ثابت لما كان أبوه أصلح بينهم و رضاهم بقضائه في ذلك:
و أبي في سميحة القائل الفا *** صل حين التفّت عليه الخصوم
و في ذلك يقول قيس بن الخطيم قصيدته و هي طويلة:
ردّ الخليط الجمال فانصرفوا *** ما ذا عليهم لو أنّهم وقفوا
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن أبيه قال:
ص: 30
كان عمر بن عبد العزيز ينشد قول قيس بن الخطيم:
بين شكول النساء خلقتها *** قصد فلا جبلة و لا قضف
تنام عن كبر شأنها فإذا *** قامت رويدا تكاد تنقصف
تغترق الطرف و هي لاهية *** كأنما شفّ وجهها نزف
ثم يقول: قائل هذا الشعر أنسب(1) الناس.
يا لقومي قد أرّقتني الهموم *** ففؤادي مما يجنّ سقيم
أندب الحبّ في فؤادي ففيه *** لو تراءى للناظرين كلوم
يجنّ: يخفى، و الجنّة من ذلك، و الجنّ أيضا مأخوذ منه. و أندب: أبقى فيه ندبا و هو أثر الجرح؛ قال ذو الرّمّة:
تريك سنّة(2) وجه غير مقرفة *** ملساء ليس بها خال و لا ندب
الشعر لابن قيس الرّقيّات فيما قيل. و الغناء لطويس، و لحنه المختار خفيف رمل مطلق/في مجرى الوسطى، قال إسحاق: و هو أجود لحن غنّاه طويس، و وجدته في كتاب الهشاميّ خفيف رمل بالوسطى منسوبا إلى ابن طنبورة. قال و قال ابن المكيّ: إنه لحكم، و قال عمرو بن بانة: إنه لابن عائشة أوّله هذان البيتان، و بعدهما:
ما لذا الهمّ لا يريم فؤادي(3) *** مثل ما يلزم الغريم الغريم
إنّ من فرّق الجماعة منّا *** بعد خفض(4) و نعمة لذميم
انقضت أخبار طويس.
حجب الألى كنّا نسرّ بقربهم *** يا ليت أنّ حجابهم لم يقدر
ص: 31
حجبوا و لم نقض اللّبانة منهم *** و لنا إليهم صبوة لم تقصر(1)
و يحيط مئزرها بردف كامل *** رابى المجسّة(2) كالكثيب الأعفر
و إذا مشت خلت الطريق لمشيها *** و حلا(3) كمشي المرجحنّ(4) الموقر
لم يقع إلينا قائل هذا الشعر. و الغناء لقفا النجّار، و لحنه المختار من النقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. و يقال: إن فيه لحنا لابن سريج. و ذكر يحيى بن عليّ [ابن يحيى](5) في الاختيار الواثقيّ أنّ لحن قفا النجّار المختار من الثقيل الأوّل.
أفق يا دارميّ فقد بليتا *** و إنك سوف توشك أن تموتا
أراك تزيد عشقا(6) كلّ يوم *** إذا ما قلت إنك قد بريتا
الشعر و الغناء جميعا لسعيد الدارميّ، و لحنه المختار من خفيف الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.
ص: 32
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمه قال:
الدارميّ من ولد سويد بن زيد الذي كان جدّه قتل أسعد بن عمرو بن هند، ثم هربوا إلى مكة فحالفوا بني نوفل بن عبد مناف.
و كان الدارميّ في أيّام عمر بن عبد العزيز، و كانت له أشعار و نوادر، و كان من ظرفاء أهل مكّة، و له أصوات يسيرة. و هو الذي يقول:
و لما رأيتك أوليتني ال *** قبيح و أبعدت عنّي الجميلا
تركت وصالك في جانب *** و صادفت في الناس خلا بديلا
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم عن/الأصمعيّ، و أخبرني عمّي قال حدّثنا فضل اليزيديّ عن إسحاق بن إبراهيم عن الأصمعيّ، و أخبرني عمّي قال حدّثنا أبو الفضل الرّياشيّ عن الأصمعيّ، قال و حدّثني به النّوشجانيّ عن شيخ له من البصريّين عن الأصمعيّ عن ابن أبي الزّناد، و لم يقل عن ابن أبي الزناد [غيره](1):
أنّ تاجرا من أهل الكوفة قدم المدينة بخمر(2) فباعها كلها و بقيت السود منها فلم تنفق(3)، و كان صديقا للدارميّ، فشكا ذاك إليه، و قد كان نسك(4) و ترك الغناء و قول الشعر؛ فقال له: لا تهتمّ بذلك فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع؛ ثم قال:
قل للمليحة في الخمار الأسود *** ما ذا صنعت براهب متعبّد
قد كان شمّر للصلاة ثيابه *** حتى وقفت له بباب المسجد
ص: 33
و غنّى فيه، و غنّى فيه أيضا سنان الكاتب، و شاع في الناس و قالوا: قد فتك(1) الدارميّ و رجع عن نسكه؛ فلم تبق في المدينة ظريفة إلا ابتاعت خمارا أسود حتى نفد ما كان مع العراقيّ منها؛ فلما علم بذلك الدارميّ رجع إلى نسكه و لزم المسجد.
فأما نسبة هذا الصوت فإنّ الشعر فيه للدارميّ و الغناء أيضا، و هو خفيف ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لسنان الكاتب رمل بالوسطى عن حبش. و ذكر حبش أن فيه لابن سريج هزجا بالبنصر.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثني أبو هفّان قال: حضرت يوما مجلس بعض قوّاد الأتراك و كانت له ستارة فنصبت، فقال لها(2): غنّي صوت الخمار الأسود المليح، فلم ندر ما أراد حتى غنّت:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ثم أمسك ساعة ثم قال لها غنّي:
إني خريت و جئت أنتقله
فضحكت ثم قالت: هذا يشبهك! فلم ندر أيضا ما أراد حتى غنّت:
إنّ الخليط أجدّ منتقله
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا هارون بن محمد قال حدّثني محمد بن أخي سلّم(3) الخزاعيّ قال حدّثني الحرمازيّ قال زعم [لي](4) ابن مودود قال:
/كان الدارميّ المكيّ شاعرا ظريفا و كانت متفتّيات(5) أهل مكة لا يطيب لهن متنزّه إلاّ بالدارمي، فاجتمع جماعة منهنّ في متنزّه لهنّ، و فيهنّ صديقة له، و كلّ واحدة منهنّ قد واعدت هواها(6)، فخرجن حتى أتين الجحفة(7) و هو معهنّ؛ فقال بعضهنّ لبعض: كيف لنا أن نخلو مع هؤلاء الرجال من الدارميّ؟ فإنّا إن فعلنا قطّعنا في الأرض(8)! قالت لهنّ صاحبته: أنا أكفيكنّه؛ قلن: إنا نريد ألاّ يلومنا؛ قالت: عليّ أن ينصرف حامدا، و كان أبخل الناس، فأتته فقالت: يا دارميّ، إنّا قد تفلنا(9) فاجلب لنا طيبا(10)؛ قال نعم هو ذا، آتي سوق الجحفة آتيكنّ منها بطيب؛ فأتى المكارين فاكترى حمارا فصار عليه إلى مكة و هو يقول:
ص: 34
أنّا باللّه ذي العزّ *** و بالرّكن و بالصّخره
من اللائي يردن الطّي *** ب في اليسر و في العسره(1)
و ما أقوى على هذا *** و لو كنت على البصرة
فمكث النسوة ما شئن. ثم قدم من مكة فلقيته صاحبته ليلة في الطّواف، فأخرجته إلى ناحية المسجد و جعلت تعاتبه على ذهابه و يعاتبها، إلى أن قالت له: يا دارميّ، بحقّ هذه/البنيّة(2) أ تحبّني؟ فقال نعم، فبربّها أ تحبّيني؟ قالت نعم؛ قال: فيا لك الخير فأنت تحبّيني و أنا أحبّك، فما مدخل الدراهم بيننا!.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي قال:
كان الدارميّ عند عبد الصمد بن عليّ يحدّثه، فأغفى عبد الصمد فعطس الدارميّ عطسة هائلة، ففزع عبد الصمد فزعا شديدا و غضب غضبا شديدا، ثم استوى جالسا و قال: يا عاضّ كذا من أمه(3) أ تفزّعني! قال: لا و اللّه و لكن هكذا عطاسي! قال: و اللّه لأنقعنّك في دمك(4) أو تأتينّي ببيّنة على ذلك؛ قال: فخرج و معه حرسيّ(5)لا يدري أين يذهب به، فلقيه ابن الريّان(6) المكيّ فسأله؛ فقال: أنا أشهد لك؛ فمضى حتى دخل على عبد الصمد؛ فقال له: بم تشهد لهذا؟ قال: أشهد أني رأيته مرّة عطس عطسة فسقط(7) ضرسه؛ فضحك عبد الصمد و خلّى سبيله.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا هارون بن محمد قال حدّثنا الزبير قال:
قال محمد بن إبراهيم الإمام للدارميّ: لو صلحت عليك ثيابي لكسوتك؛ قال: فديتك! إن لم تصلح عليّ ثيابك صلحت عليّ دنانيرك.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا الزبير، و نسخت من كتاب هارون بن محمد: حدّثنا الزبير قال حدّثني يونس بن عبد اللّه الخيّاط قال:
/خرج الدارميّ مع السّعاة(8)، فصادف جماعة منهم قد نزلوا على الماء فسألهم فأعطوه دراهم، فأتى بها في ثوبه، و أحاط به أعرابيّات فجعلن يسألنه و ألححن عليه و هو يردّهن؛ فعرفته صبيّة منهنّ فقالت: يا أخواتي، أ تدرين
ص: 35
من تسألن منذ اليوم؟ هذا الدارميّ السائل. ثم أنشدت:
إذا كنت لا بدّ مستطعما *** فدع عنك من كان يستطعم
فولّى الدارميّ هاربا منهنّ و هنّ يتضاحكن به.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال أخبرني أحمد بن أبي خيثمة قال حدّثنا مصعب الزبيريّ قال:
أتى الدارميّ الأوقص القاضي بمكّة في شيء فأبطأ عليه فيه، و حاكمه إليه خصم له في حقّ، فحبسه به حتى أدّاه إليه. فبينا الأوقص يوما في المسجد الحرام يصلّي و يدعو و يقول: يا ربّ أعتق رقبتي من النار، إذ قال له الدارميّ و الناس يسمعون: أولك رقبة تعتق! لا و اللّه ما جعل اللّه، و له الحمد، لك من عتق و لا رقبة! فقال له الأوقص: ويلك! و من أنت؟ قال: أنا الدارميّ، حبستني و قتلتني؛ قال: لا تقل ذلك و ائتني فإني أعوّضك؛ فأتاه ففعل ذلك به.
أخبرني الحرميّ أحمد بن محمد بن إسحاق قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي قال:
مدح الدارميّ عبد الصمد بن عليّ بقصيدة و استأذنه في الإنشاد فأذن له؛ فلما فرغ أدخل إليه رجل من الشّراة(1)؛ فقال لغلامه: أعط هذا مائة دينار و اضرب عنق/هذا؛ فوثب الدارميّ فقال: بأبي أنت و أمي! برّك و عقوبتك جميعا نقد! فإن رأيت أن تبدأ بقتل هذا، فإذا فرغ منه أمرته فأعطاني! فإني لن أريم من حضرتك حتى يفعل ذلك؛ قال: و لم ويلك؟ قال: أخشى أن يغلط فيما بيننا، و الغلط في هذا لا يستقال؛ فضحك و أجابه إلى ما سأل.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي قال:
أصابت الدارميّ قرحة في صدره، فدخل إليه بعض أصدقائه يعوده. فرآه قد نفث/من فيه نفثا أخضر، فقال له: أبشر، قد اخضرّت القرحة و عوفيت؛ فقال: هيهات! و اللّه لو نفثت كلّ زمرّدة في الدنيا ما أفلتّ منها.
يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا *** زدت الفؤاد على علاّته وصبا
ربع تبدّل ممّن كان يسكنه *** عفر الظّباء و ظلمانا به عصبا(2)
الشعر لهلال بن الأسعر المازنيّ، أخبرني بذلك وكيع عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه. و هكذا هو في رواية عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ. و من لا يعلم ينسبه إلى عمر ابن أبي ربيعة و إلى الحارث بن خالد و نصيب، و ليس
ص: 36
كذلك. و الغناء في اللحن المختار لعزّور(1) الكوفيّ، و من الناس من يقول عزّون بالنون و تشديد الزاي، و هو رجل من أهل الكوفة غير مشهور و لا كثير الصنعة، و لا أعلم أنّي سمعت له بخبر و لا صنعة/غير هذا الصوت. و لحن هذا المختار ثقيل أول بالبنصر في مجراها عن إسحاق، و هكذا نسبه في الاختيار الواثقيّ. و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه لابن عائشة لحنا من الثقيل الأول بالبنصر. و في أخبار الغريض عن حمّاد أنّ له فيه ثقيلا أول. و قال الهشاميّ: فيه لعبد اللّه بن العبّاس لحن من الثقيل الثاني. و ذكر حبش أنّ فيه لحسين بن(2) محرز خفيف رمل(3) بالبنصر.
ص: 37
هو، فيما ذكر خالد بن كلثوم، هلال بن الأسعر بن خالد بن الأرقم بن قسيم(1) بن ناشرة بن سيّار بن رزام بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم. شاعر إسلاميّ من شعراء الدولة الأموية، و أظنه قد أدرك الدولة العباسية، و كان رجلا شديدا عظيم الخلق أكولا معدودا من الأكلة. قال أبو عمرو: و كان هلال فارسا شجاعا شديد البأس و البطش أكثر الناس أكلا و أعظمهم في حرب غناء. هذا لفظ أبي عمرو. و قال أبو عمرو: و عمّر هلال بن أسعر عمرا طويلا و مات بعد بلايا عظام مرّت على رأسه. قال: و كان رجل من قومه من بني رزام بن مالك يقال له المغيرة بن قنبر يعوله و يفضل عليه و يحتمل ثقله و ثقل عياله فهلك، فقال هلال يرثيه:
ألا ليت المغيرة كان حيّا *** و أفنى قبله الناس الفناء
ليبك على المغيرة كلّ خيل *** إذا أفنى عرائكها(2) اللّقاء
و يبك على المغيرة كلّ كلّ *** فقير كان ينعشه العطاء
و يبك على المغيرة كلّ جيش *** تمور(3) لدى معاركه الدّماء
فتى الفتيان فارس كلّ حرب *** إذا شالت(4) و قد رفع اللّواء
/لقد وارى جديد(5) الأرض منه *** خصالا عقد عصمتها الوفاء
فصبرا للنوائب إن ألمّت *** إذا ما ضاق بالحدث الفضاء
هزبر تنجلي الغمرات عنه *** نقيّ العرض همّته العلاء
/إذا شهد الكريهة خاض منها *** بحورا لا تكدّرها الدّلاء
جسور لا يروّع عند روع(6) *** و لا يثني عزيمته اتّقاء
ص: 38
حليم في مشاهده إذا ما *** حبا الحلماء أطلقها المراء(1)
حميد في عشيرته فقيد(2) *** يطيب عليه في الملأ الثناء
فإن تكن المنية أقصدته(3) *** و حمّ(4) عليه بالتلف القضاء
فقد أودى به كرم و خير(5) *** و عود بالفضائل و ابتداء
وجود لا يضمّ إليه جودا *** مراهنه إذا جدّ الجراء(6)
و قال خالد بن كلثوم: كان هلال بن الأسعر، فيما ذكروا، يرد مع الإبل فيأكل ما وجد عند أهله ثم يرجع إليها و لا يتزوّد طعاما و لا شرابا حتى يرجع يوم ورودها، لا يذوق فيما بين ذلك طعاما و لا شرابا، و كان عاديّ الخلق(7)لا توصف صفته.
قال/خالد بن كلثوم فحدّثنا عنه من أدركه: أنه كان يوما في إبل له، و ذلك عند الظّهيرة في يوم شديد وقع الشمس محتدم الهاجرة و قد عمد إلى عصاه فطرح عليها كساءه ثم أدخل رأسه تحت كسائه من الشمس، فبينا هو كذلك إذ مرّ به رجلان أحدهما من بني نهشل و الآخر من بني فقيم(8)، كانا أشدّ تميميّين في ذلك الزمان بطشا، يقال لأحدهما الهيّاج، و قد أقبلا من البحرين و معهما أنواط(9) من تمر هجر(10)، و كان هلال بناحية الصّعاب(11)؛ فلما انتهيا إلى الإبل، و لا يعرفان هلالا بوجهه و لا يعرفان أن الإبل له، ناديا: يا راعي، أ عندك شراب تسقينا؟ و هما يظنّانه عبدا لبعضهم؛ فناداهما هلال و رأسه تحت كسائه: عليكما الناقة(12) التي صفتها كذا في موضع كذا
ص: 39
فأنيخاها(1) فإنّ عليها و طبين(2) من لبن، فاشربا منهما ما بدا لكما. قال فقال له أحدهما: ويحك! انهض يا غلام فأت بذلك اللبن! فقال لهما: إن تك لكما حاجة فستأتيانها فتجدان(3) الوطبين فتشربان؛ قال فقال أحدهما: إنك يا ابن اللّخناء لغليظ الكلام، قم فاسقنا، ثم دنا من هلال و هو على تلك الحال. و قال لهما، حيث قال له أحدهما:
«إنك يا ابن اللخناء لغليظ الكلام»، أراكما و اللّه ستلقيان هوانا و صغارا؛ و سمعا ذلك منه، فدنا أحدهما فأهوى له ضربا بالسّوط على عجزه و هو مضطجع، فتناول هلال يده فاجتذبه إليه و رماه تحت فخذه ثم ضغطه ضغطة؛ فنادى صاحبه: ويحك أغثني قد قتلني! فدنا/صاحبه منه، فتناوله هلال أيضا فاجتذبه فرمى به تحت فخذه الأخرى، ثم أخذ برقابهما فجعل يصكّ برءوسهما(4) بعضا ببعض لا يستطيعان أن يمتنعا منه؛ فقال أحدهما: كن هلالا و لا نبالي(5) ما صنعت؛ فقال لهما: أنا و اللّه هلال، و لا و اللّه لا تفلتان منّي حتى تعطياني عهدا و ميثاقا لا تخيسان(6)به: لتأتيانّ المربد(7) إذا قدمتما البصرة، ثم لتناديانّ بأعلى أصواتكما بما كان منّي و منكما؛ فعاهداه و أعطياه نوطا من التمر الذي معهما، و قدما البصرة فأتيا المربد فناديا بما كان منه و منهما.
و حدّث خالد عن كنيف(8) بن عبد اللّه المازنيّ قال: كنت يوما مع هلال و نحن نبغي إبلا لنا، فدفعنا إلى قوم من بكر بن وائل و قد لغبنا(9) و عطشنا، و إذا نحن بفتية شباب عند ركيّة(10) لهم/و قد وردت إبلهم، فلما رأوا هلالا استهولوا خلقه و قامته، فقام رجلان منهم إليه فقال له أحدهما: يا عبد اللّه، هل لك في الصّراع؟ فقال له هلال: أنا إلى غير ذلك أحوج؛ قال: و ما هو؟ قال: إلى لبن و ماء فإنّني لغب ظمآن؛ قال: ما أنت بذائق من ذلك شيئا حتى تعطينا عهدا لتجيبنّنا إلى الصّراع إذا أرحت(11) و رويت؛ فقال لهما هلال: إنني لكم ضيف، و الضيف لا يصارع [آهله(12) و] ربّ منزله، و أنتم مكتفون من ذلك بما أقول لكم: اعمدوا إلى أشدّ فحل في إبلكم و أهيبه صولة و إلى أشدّ رجل منكم ذراعا، فإن لم أقبض على هامة البعير و على يد صاحبكم فلا يمتنع الرجل و لا البعير حتى أدخل يد الرجل في فم البعير، فإن لم أفعل ذلك فقد صرعتموني، و إن فعلته علمتم أن صراع أحدكم أيسر من ذلك. قال: فعجبوا من مقالته تلك، و أومئوا إلى فحل في إبلهم هائج صائل قطم(13)؛ فأتاه هلال و معه نفر من
ص: 40
أولئك القوم و شيخ لهم، فأخذ بهامة الفحل مما فوق مشفره فضغطها ضغطة جرجر الفحل [منها](1) و استخذى و رغا، و قال: ليعطني من أحببتم يده أولجها في فم هذا الفحل. قال فقال الشيخ: يا قوم تنكّبوا هذا الشيطان، فو اللّه ما سمعت فلانا(2) (يعني الفحل)(3) جرجر منذ بزل(4) قبل اليوم، فلا تعرضوا لهذا الشيطان. و جعلوا يتبعونه و ينظرون إلى خطوه و يعجبون من طول أعضائه حتى جازهم.
قال و حدّثنا من سمع هلالا يقول: قدمت المدينة و عليها رجل من آل مروان، فلم أزل أضع عن إبلي و عليها أحمال للتجار حتى أخذ بيدي و قيل لي: أجب الأمير. قال: قلت لهم: ويلكم! إبلي و أحمالي! فقيل: لا بأس على إبلك و أحمالك. قال: فانطلق بي حتى أدخلت على الأمير، فسلّمت عليه ثم قلت: جعلت فداك! إبلي و أمانتي! قال فقال: نحن ضامنون لإبلك و أمانتك حتى نؤدّيها إليك. قال فقلت/عند ذلك: فما حاجة الأمير إليّ جعلني اللّه فداه؟ قال فقال لي - و إلى جنبه رجل أصفر، لا(5) و اللّه ما رأيت رجلا قطّ أشدّ خلقا منه و لا أغلظ عنقا، ما أدري أطوله أكثر أم عرضه -: إن هذا العبد الذي ترى لا و اللّه ما ترك بالمدينة عربيّا(6) يصارع إلا صرعه، و بلغني عنك قوّة، فأردت أن يجري اللّه صرع هذا العبد على يديك فتدرك ما عنده من أوتار العرب. قال فقلت: جعلني اللّه فداء الأمير، إني لغب نصب جائع، فإن رأى الأمير أن يدعني اليوم حتى أضع عن إبلي و أؤدّي أمانتي و أريح يومي هذا و أجيئه غدا فليفعل. قال فقال لأعوانه: انطلقوا معه فأعينوه على الوضع عن إبله و أداء أمانته و انطلقوا به إلى المطبخ فأشبعوه؛ ففعلوا جميع ما أمرهم به. قال: فظللت بقية يومي ذلك و بتّ ليلتي تلك بأحسن حال شبعا و راحة و صلاح أمر، فلما كان من الغد غدوت عليه و عليّ جبّة لي صوف و بتّ(7) و ليس عليّ إزار إلا أني قد شددت بعمامتي وسطي، فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام، و قال للأصفر: قم إليه، فقد أرى أنه أتاك اللّه بما يخزيك؛ فقال العبد: اتّزر يا أعرابيّ؛ فأخذت بتّي فاتّزرت به على جبّتي؛ فقال: هيهات! هذا لا يثبت، إذا قبضت عليه جاء في يدي؛ قال فقلت: و اللّه ما لي من إزار؛ قال: فدعا الأمير بملحفة ما رأيت قبلها و لا علا جلدي مثلها، فشددت بها على حقوي(8) و خلعت الجبّة؛ قال: و جعل العبد يدور/حولي و يريد ختلي و أنا منه وجل و لا أدري كيف أصنع به، ثم دنا مني دنوة فنقد(9) جبهتي بظفرة نقدة [حتى](10) ظننت أنه قد شجّني و أوجعني، /فغاظني ذلك، فجعلت انظر
ص: 41
في خلقه بم أقبض منه، فما وجدت في خلقه شيئا أصغر من رأسه، فوضعت إبهاميّ في صدغيه(1) و أصابعي الأخر في أصل أذنيه، ثم غمزته غمزة صاح منها: قتلتني! قتلتني! فقال الأمير: اغمس رأس العبد في التراب؛ قال فقلت له: ذلك لك عليّ؛ قال: فغمست و اللّه رأسه في التراب و وقع شبيها بالمغشيّ عليه، فضحك الأمير حتى استلقى و أمر لي بجائزة(2) و كسوة و انصرفت.
قال أبو الفرج: و لهلال أحاديث كثيرة من أعاجيب شدّته. و قد ذكره حاجب بن ذبيان(3) فقال لقوم من بني رباب من بني حنيفة في شيء كان بينهم فيه أربع ضربات بالسيف، فقال حاجب:
و قائلة و باكية بشجو *** لبئس السيف سيف بني رباب
و لو لاقى هلال بني رزام *** لعجّله إلى يوم الحساب
و كان هلال بن الأسعر ضربه رجل من بني عنزة ثم من بني جلاّن يقال له عبيد بن جريّ(4) في شيء كان بينهما، فشجّه و خمشه(5) خماشة، فأتى هلال بني جلاّن فقال: إن صاحبكم قد فعل بي ما ترون فخذوا لي بحقّي، فأوعدوه و زجروه(6)؛ فخرج من عندهم و هو يقول: عسى أن يكون لهذا جزاء حتى أتى بلاد قومه؛ فمضى/لذلك زمن طويل حتى درس ذكره؛ ثم إن عبيد بن جريّ قدم الوقبي - و هو موضع من بلاد بني مالك - فلما قدمها ذكر هلالا و ما كان بينه و بينه فتخوّفه؛ فسأل عن أعزّ أهل الماء، فقيل له: معاذ بن جعدة بن ثابت بن زرارة بن ربيعة بن سيّار بن رزام بن مازن؛ فأتاه فوجده غائبا عن الماء، فعقد عبيد بن جريّ طرف ثيابه إلى جانب طنب بيت معاذ - و كانت العرب إذا فعلت ذلك وجب على المعقود بطنب بيته للمستجير به أن يجيره و أن يطلب له بظلامته - و كان يوم فعل ذلك غائبا عن الماء، فقيل: رجل استجار بآل معاذ بن جعدة. ثم خرج عبيد بن جريّ ليستقي، فوافق قدوم هلال بإبله يوم وروده، و كان إنما يقدمها في الأيام، فلما نظر هلال إلى ابن جريّ ذكر ما كان بينه و بينه، و لم يعلم باستجارته بمعاذ بن جعدة، فطلب شيئا يضربه به فلم يجده، فانتزع المحور(7) من السّانية فعلاه به ضربة على رأسه فصرع و وقيذا(8) و قيل: قتل هلال بن الأسعر جار معاذ بن جعدة! فلما سمع ذلك هلال تخوّف بني جعدة الرّزاميّين، و هم بنو عمه، فأتى راحلته ليركبها. قال(9) هلال: فأتتني خولة بنت يزيد(10) بن ثابت أخي بني
ص: 42
جعدة بن ثابت، و هي جدّة أبي السّفّاح زهيد(1) بن عبد اللّه بن مالك أمّ أبيه، فتعلّقت بثوب هلال، ثم قالت: أي عدوّ اللّه قتلت جارنا! و اللّه لا تفارقني حتى يأتيك رجالنا! قال هلال: و المحور في يدي لم أضعه؛ قال: فهممت أن أعلو به رأس خولة، ثم قلت في نفسي: عجوز لها سنّ و قرابة! قال: فضربتها برجلي ضربة رميت بها من بعيد، ثم أتيت/ناقتي فأركبها(2) ثم أضربها هاربا. و جاء معاذ بن جعدة و إخوته - و هم يومئذ تسعة إخوة - و عبد اللّه بن مالك زوج لبنت معاذ [و](3) يقال لها جبيلة، و هو مع/ذلك ابن عمتهم خولة بنت يزيد بن ثابت، فهو معهم كأنه بعضهم؛ فجاءوا من آخر النهار فسمعوا الواعية(4) على الجلاّنيّ و هو دنف لم يمت، فسألوا عن تلك الواعية فأخبروا بما كان من استجارة الجلاّنيّ بمعاذ بن جعدة و ضرب هلال له من بعد ذلك؛ فركب الاخوة التسعة و عبد اللّه بن مالك عاشرهم، و كانوا أمثال الجبال في شدّة خلقهم مع نجدتهم، و ركبوا معهم بعشرة غلمة لهم أشدّ منهم خلقا لا يقع لأحد منهم سهم في غير موضع يريده من رميّته، حتى تبعوا هلالا؛ و قد نسل(5) هلال من الهرب يومه ذلك كلّه و ليلته، فلما أصبح أمنهم و ظنّ أن قد أبعد في الأرض و نجا منهم؛ و تبعوه، فلما أصبحوا من تلك الليلة قصّوا(6)أثره، و كان لا يخفى أثره على أحد لعظم قدمه، فلحقوه من بعد الغد، فلما أدركوه و هم عشرون و معهم النّبل و القسيّ و السيوف و التّرسة(7)، ناداهم: يا بني جعدة، إني أنشدكم اللّه! أن أكون قتلت رجلا غريبا طلبته بترة تقتلوني و أنا ابن عمّكم! و ظنّ أنّ الجلاّنيّ قد مات، و لم يكن مات إلى أن تبعوه و أخذوه؛ فقال معاذ: و اللّه لو أيقنّا أنه قد مات ما ناظرنا بك(8) القتل من ساعتنا و لكنّا تركناه و لم يمت، و لسنا نحبّ قتلك إلاّ أن تمتنع منا، و لا نقدم عليك حتى نعلم ما يصنع جارنا؛ فقاتلهم و امتنع منهم، فجعل معاذ يقول لأصحابه و غلمانه: لا ترموه/بالنبل و لا تضربوه بالسيوف، و لكن ارموه بالحجارة و اضربوه بالعصيّ حتى تأخذوه؛ ففعلوا ذلك، فما قدروا على أخذه حتى كسروا من إحدى يديه ثلاث أصابع و من الأخرى إصبعين، و دقّوا ضلعين من أضلاعه و أكثروا الشّجاج في رأسه، ثم أخذوه و ما كادوا يقدرون على أخذه، فوضعوا في رجله أدهم(9)، ثم جاءوا به و هو معروض على بعير حتى انتهوا به إلى الوقبى فدفعوه إلى الجلاّني و لم يمت بعد، فقالوا(10): انطلقوا به معكم إلى بلادكم و لا تحدثوا في أمره شيئا حتى تنظروا ما يصنع بصاحبكم، فإن مات فاقتلوه و إن حيي فأعلمونا حتى نحمل لكم أرش(11) الجناية. فقال الجلاّنيّون: وفت ذمّتكم يا بني جعدة، و جزاكم اللّه أفضل ما يجزي به خيار الجيران، إنّا نتخوّف أن ينزعه منّا قومكم إن خلّيتم عنّا و عنهم و هو في أيدينا؛ فقال لهم معاذ: فإني أحمله معكم و أشيّعكم حتى تردوا بلادكم، ففعلوا ذلك،
ص: 43
فحمل معروضا على بعير و ركبت أخته جماء(1) بنت الأسعر معه، و جعل يقول: قتلتني بنو جعدة! و تأتيه أخته بمغرة(2) فيشربها فيقال: يمشي(3) بالدّم، لأن بني جعدة فرثوا(4) كبده في جوفه. فلمّا بلغوا أدنى بلاد بكر بن وائل قال الجلاّنيّون لمعاذ و أصحابه: أدام اللّه عزّكم، و قد وفيتم فانصرفوا. و جعل هلال يريهم أنّه يمشي في اللّيلة عشرين مرّة. فلمّا ثقل الجلاّنيّ و تخوّف هلال أن يموت من ليلته أو يصبح ميّتا، تبرّز هلال كما كان يصنع و في رجله الأدهم كأنه يقضي حاجة، و وضع كساءه على عصاه في ليلة ظلماء، ثم اعتمد على الأدهم فحطمه، ثم طار تحت ليلته على رجليه، و كان أدلّ الناس فتنكّب الطّريق التي تعرف و يطلب فيها/و جعل يسلك المسالك التي لا يطمع فيها. حتّى انتهى إلى رجل من بني أثاثة بن مازن يقال له السّعر بن يزيد بن طلق(5) بن جبيلة بن أثاثة بن مازن، فحمله السّعر على ناقة له يقال لها ملوة، فركبها ثمّ تجنّب بها الطريق/فأخذ نحو بلاد قيس بن عيلان، تخوّفا من بني مازن أن يتبعوه أيضا فيأخذوه، فسار ثلاث ليال و أيّامها حتّى نزل اليوم الرّابع، فنحر الناقة فأكل لحمها كلّه إلا فضلة فضلت منها فاحتملها، ثم أتى بلاد اليمن فوقع بها، فلبث زمانا و ذلك عند مقام(6) الحجاج بالعراق، فبلغ إفلاته من بالبصرة من بكر بن وائل، فانطلقوا إلى الحجّاج فاستعدوه و أخبروه بقتله صاحبهم؛ فبعث الحجاج إلى عبد اللّه بن شعبة بن العلقم، و هو يومئذ عريف بني مازن حاضرتهم و باديتهم، فقال له: لتأتينّي بهلال أو لأفعلنّ بك و لأفعلن؛ فقال له عبد اللّه بن شعبة: إن أصحاب هلال و بني عمّه قد صنعوا كذا و كذا: فاقتصّ عليه ما صنعوا في طلبه و أخذه و دفعه إلى الجلاّنيّين و تشييعهم إيّاه حتّى وردوا بلاد بكر بن وائل؛ فقال له الحجّاج: ويلك! ما تقول؟ قال فقال بعض البكريّين: صدق، أصلح اللّه الأمير؛ قال فقال الحجّاج: فلا يرغم اللّه إلاّ أنوفكم(7)، اشهدوا أنّي قد آمنت كلّ قريب لهلال و حميم و عريف و منعت من أخذ أحد به و من طلبه حتّى يظفر به البكريّون أو يموت قبل ذلك.
فلمّا وقع هلال إلى بلاد اليمن بعث إلى بني رزام بن مازن(8) بشعر يعاتبهم فيه و يعظّم عليهم حقّه و يذكر قرابته، و ذلك أنّ سائر بني مازن قاموا ليحملوا ذلك الدّم، فقال معاذ: /لا أرضى و اللّه أن يحمل لجاري دم واحد حتى يحمل له دم و لجواري دم آخر، و إن أراد هلال الأمان وسطنا حمل له دم ثالث؛ فقال هلال في ذلك:
بني مازن لا تطردوني فإنّني *** أخوكم و إن جرّت جرائرها(9) يدي
و لا تثلجوا أكباد بكر بن وائل *** بترك أخيكم كالخليع المطرّد
و لا تجعلوا حفظي بظهر و تحفظوا *** بعيدا ببغضاء يروح و يغتدي(10)
فإنّ القريب حيث كان قريبكم *** و كيف بقطع الكفّ من سائر اليد
ص: 44
و إن البعيد إن دنا فهو جاركم *** و إن شطّ عنكم فهو أبعد أبعد
و إنّي و إن أوجدتموني(1) لحافظ *** لكم حفظ راض عنكم غير موجد
سيحمي حماكم بي و إن كنت غائبا *** أغرّ إذا ما ريع لم يتبلّد
و تعلم بكر أنّكم حيث كنتم *** و كنت من الأرض الغريبة محتدي
و أنّي ثقيل حيث كنت على العدا *** و أنّي و إن أوحدت لست بأوحد
و أنهم لمّا أرادوا هضيمتي *** منوا(2) بجميع القلب عضب مهنّد
حسام متى يعزم على الأمر يأته *** و لم يتوقّف للعواقب في غد
و هم بدءوا بالبغي حتّى إذا جزوا *** بأفعالهم قالوا لجازيهم(3) قد(4)
فلم يك منهم في البديهة(5) منصف *** و لم يك فيهم في العواقب مهتدي
/و لم يفعلوا فعل الحليم فيجملوا(6) *** و لم يفعلوا فعل العزيز المؤيّد
فإن يسر لي إيعاد(7) بكر فربّما *** منعت الكرى بالغيظ من متوعّد
و ربّ حمى قوم أبحت و مورد *** وردت بفتيان الصباح و مورد
/و سجف دجوجيّ من الليل حالك *** رفعت بعجلي الرّجل موّارة اليد(8)
سفينة خوّاض بحور همومه *** قليل التياث(9) العزم عند التردّد
جسور على الأمر المهيب إذا ونى *** أخو الفتك ركّاب قرى(10) المتهدّد
و قال و هو بأرض اليمن:
أقول و قد جاوزت نعمى و ناقتي *** تحنّ إلى جنبي(11) فليج(12) مع الفجر
سقى اللّه يا ناق البلاد التي بها *** هواك، و إن عنّا نأت، سبل(13) القطر
ص: 45
فما
عن قلى منّا لها خفّت النّوى *** بنا عن مراعيها و كثبانها العفر
و لكنّ صرف الدّهر فرّق بيننا *** و بين الأداني، و الفتى غرض الدهر
فسقيا لصحراء الإهالة(1) مربعا *** و للوقبى من منزل دمث(2) مثري
و سقيا و رعيا حيث حلّت لمازن *** و أيّامها الغرّ المحجّلة الزّهر
/قال خالد بن كلثوم: و لما دفع هلال إلى أولياء الجلاّنيّ ليقتلوه بصاحبهم جاء رجل يقال له: حفيد كان هلال قد وتره فقال: و اللّه لأؤنّبنّه(3) و لأصغّرنّ إليه نفسه و هو في القيود مصبور(4) للقتل، فأتاه فلم يدع له شيئا مما يكره إلا عدّة عليه. قال: و إلى جنب هلال حجر يملأ الكفّ، فأخذه هلال فأهوى به للرجل فأصاب جبينه فاجتلف(5) جلفة من وجهه و رأسه، ثم رمى بها و قال: خذ القصاص منّي الآن، و أنشأ يقول:
أنا ضربت كربا و زيدا *** و ثابتا مشّيتهم رويدا
كما أفدت(6) حينه عبيدا *** و قد ضربت بعده حفيدا
قال: و هؤلاء كلّهم من بني رزام بن مازن، و كلّهم كان هلال قد نكأ(7) فيهم.
قال خالد بن كلثوم: و لما طال مقام هلال باليمن نهضت بنو مازن بأجمعهم إلى بني رزام بن مازن رهط هلال و رهط معاذ بن جعدة جار الجلاّنيّ المقتول، فقالوا: إنكم قد أسأتم بابن عمّكم و جزتم الحدّ في الطلب بدم جاركم، فنحن نحمل لكم ما أردتم، فحمل ديسم بن المنهال بن خزيمة(8) بن شهاب بن أثاثة(9) بن ضباب بن حجيّة(10) بن كابية بن حرقوص بن مازن الذي طلب معاذ بن جعدة أن يحمل لجاره، لفضل عزّه و موضعه في عشيرته، و كان الذي طلب ثلاثمائة بعير؛ فقال هلال في ذلك:
/
إن ابن كابية المرزّأ(11) ديسما *** واري الزناد بعيد ضوء النار
من كان يحمل ما تحمّل ديسم *** من حائل فنق(12) و أمّ حوار
ص: 46
عيّت(1)
بنو عمرو بحمل هنائد(2)*** فيها العشار(3) ملابئ الأبكار
حتى تلافاها كريم سابق *** بالخير حلّ منازل الأخيار
حتى إذا وردت جميعا أرزمت(4)*** جلاّن بعد تشمّس و نفار
ترعى بصحراء(5) الإهالة روبة(6)*** و العنظوان(7) منابت(8) الجرجار(9)
و قال خالد بن كلثوم: كان قمير بن سعد مصدّقا على بكر بن وائل، فوجد منهم رجلا قد سرق/صدقته(10)، فأخذه قمير ليحبسه، فوثب قومه و أرادوا أن يحولوا بين قمير و بينه و هلال حاضر، فلما رأى ذلك هلال وثب على البكريّين فجعل يأخذ الرجلين منهم فيكنفهما(11) و يناطح بين رءوسهما، فانتهى إلى قمير أعوانه فقهروا البكريّين؛ فقال هلال في ذلك:
/دعاني قمير دعوة فأجبته *** فأيّ امرئ في الحرب حين دعاني
معي مخذم قد أخلص القين حدّه *** يخفّض عند الرّوع روع جناني
و ما زلت مذ شدّت يميني حجزتي(12) *** أحارب أو في ظلّ حرب(13) تراني
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا حكيم بن سعد عن زفر بن هبيرة قال:
ص: 47
تقاوم هلال بن أسعر المازنيّ، و هو أحد بني رزام بن مازن، و نهيس(1) الجلاّنيّ من عنزة و هما يسقيان إبلهما، فخذف(2) هلال نهيسا بمحور في يده فأصابه فمات، فاستعدى ولده بلال(3) بن أبي بردة على هلال فحبسه فأسلمه قومه بنو رزام و عمل في أمره ديسم بن المنهال(4) أحد بني كابية بن حرقوص فافتكّه بثلاث ديات، فقال هلال يمدحه:
تدارك ديسم حسبا و مجدا *** رزاما بعد ما انشقّت عصاها
همو حملوا المئين فألحقوها(5) *** بأهليها فكان لهم سناها
/و ما كانت لتحملها رزام *** بأستاه معقّصة لحاها
بكابية بن حرقوص و جدّ *** كريم لا فتى إلا فتاها
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و أحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا(6) حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدّثني نصر بن عليّ الجهضميّ قال حدّثنا الأصمعيّ، و أخبرني أبو عبيد(7) محمد بن أحمد بن المؤمّل الصّيرفيّ قال حدّثنا فضل بن الحسن قال حدّثنا نصر بن عليّ عن الأصمعيّ قال حدّثنا المعتمر بن سليمان قال:
قلت لهلال بن أسعر: ما أكلة أكلتها بلغتني عنك؟ قال: جعت مرّة و معي بعيري فنحرته و أكلته إلا ما حملت منه على ظهري، قال أبو عبيد في حديثه عن فضل(8): ثم أردت امرأتي فلم أقدر على جماعها؛ فقالت لي:
ويحك! كيف تصل إليّ و بيني و بينك بعير! قال المعتمر: فقلت له: كم تكفيك هذه الأكلة؟ قال: أربعة أيام.
و حدّثني به ابن عمّار(9) قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أحمد بن معاوية عن الأصمعيّ عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: قلت لهلال بن الأسعر - هكذا قال ابن أبي سعد: معتمر عن أبيه و قال في خبره: فقلت له؛ كم تكفيك هذه الأكلة؟ فقال: خمسا.
/أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدّثنا نصر بن عليّ قال حدّثني الأصمعيّ قال حدّثني شيخ من بني مازن قال:
ص: 48
أتانا هلال بن أسعر المازنيّ فأكل جميع ما في بيتنا، فبعثنا إلى الجيران نقترض الخبز فلما رأى الخبز قد اختلف عليه قال: كأنكم أرسلتم إلى الجيران، أ عندكم سويق(1)؟ قلنا: نعم، فجئته بجراب طويل فيه سويق و ببرنيّة(2) نبيذ، فصبّ السويق كلّه و صبّ عليه النبيذ حتى أتى على السّويق و النبيذ كلّه.
أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا محمد بن موسى قال حدّثنا أحمد بن/الحارث عن المدائنيّ:
أن هلال بن أسعر مرّ على رجل من بني مازن بالبصرة و قد حمل من بستانه رطبا في زواريق(3)، فجلس على زورق صغير منها و قد كثب(4) الرطب فيه و غطّي بالبواري(5)؛ قال له: يا ابن عمّ آكل من رطبك هذا؟ قال: نعم؛ قال: ما يكفيني(6)؟ قال: ما يكفيك؛ فجلس على صدر الزورق و جعل يأكل إلى أن اكتفى، ثم قام فانصرف، فكشف الزورق فإذا هو مملوء نوى قد أكل رطبه و ألقى النوى فيه.
/قال المدائنيّ و حدّثني من سأله عن أعجب شيء أكله، فقال: مائتي رغيف مع مكّوك(7) ملح.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني الحسن بن عليّ بن منصور الأهوازيّ، و كان كهلا سريّا معدّلا، قال حدّثني شبان(8) النّيليّ عن صدقة بن عبيد المازنيّ قال:
أولم(9) عليّ أبي لما تزوّجت فعملنا عشر جفان ثريدا من جزور. فكان أوّل من جاءنا هلال بن أسعر المازنيّ، فقدّمنا إليه جفنة فأكلها ثم أخرى ثم أخرى حتى أتى على العشر، ثم استسقى فأتي بقربة من نبيذ فوضع طرفها في شدقه ففرّغها في جوفه، ثم قام فخرج؛ فاستأنفنا عمل الطعام.
أخبرني الجوهريّ قال حدّثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدّثنا نصر بن عليّ عن الأصمعيّ قال: حدّثني أبو عمرو بن العلاء قال: رأيت هلال بن أسعر ميتا و لم أره حيّا، فما رأيت أحدا على سرير(10) أطول منه.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن يزيد قال حدّثني بعض حاشية السلطان قال:
ص: 49
غنّى إبراهيم الموصليّ الرشيد يوما:
يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا *** زدت الفؤاد على علاّته وصبا(1)
/ - قال: و الصنعة فيه لرجل من أهل الكوفة يقال له عزّون(2) - فأعجب به الرشيد و طرب له و استعاده مرارا؛ فقال له الموصليّ: يا أمير المؤمنين فكيف لو سمعته من عبدك مخارق، فإنه أخذه عنّي و هو يفضل فيه الخلق جميعا و يفضلني، فأمر بإحضار مخارق، فأحضر فقال له غنّني:
يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا *** زدت الفؤاد على علاّته وصبا
فغنّاه إياه؛ فبكى و قال: سل حاجتك! قال مخارق: فقلت: تعتقني يا أمير المؤمنين من الرقّ و تشرّفني بولائك، أعتقك اللّه من النار، قال: أنت حرّ لوجه اللّه، أعد الصوت؛ قال: فأعدته، فبكى و قال: سل حاجتك، فقلت: يا أمير المؤمنين ضيعة تقيمني غلّتها؛ فقال: قد أمرت لك بها، أعد الصوت؛ فأعدته فبكى و قال: سل حاجتك؛ فقلت: يأمر لي أمير المؤمنين بمنزل و فرشه و ما يصلحه و خادم فيه؛ قال: ذلك لك، أعده؛ فأعدته فبكى و قال: سل حاجتك؛ قلت: حاجتي يا أمير المؤمنين أن يطيل اللّه بقاءك و يديم عزّك و يجعلني من كل سوء فداءك؛ قال: فكان إبراهيم الموصليّ سبب عتقه بهذا الصوت(3).
أخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف وكيع قال حدّثني هارون بن مخارق، و حدّثني به الصّوليّ أيضا عن وكيع عن هارون بن مخارق قال:
كان أبي إذا غنّى هذا الصوت:
يا ربع سلمى لقد هيجت لي طربا *** زدت الفؤاد على علاّته وصبا
/يقول: أنا مولى هذا الصوت؛ فقلت له يوما: يا أبت، و كيف ذلك؟ فقال: غنّيته مولاي الرشيد/فبكى و قال: أحسنت، أعد فأعدت؛ فبكى و قال: أحسنت! أنت حرّ لوجه اللّه و أمر لي بخمسة آلاف دينار، فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاي، و ذكر(4) قريبا مما ذكره المبرّد(5) من باقي الخبر.
حدّثني الحسن بن علي قال حدّثنا ابن أبي الدّنيا قال حدّثني إسحاق النّخعيّ عن حسين بن الضّحّاك عن مخارق:
أن الرشيد أقبل يوما على المغنّين و هو مضطجع، فقال: من منكم يغني:
يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا *** زدت الفؤاد على علاّته وصبا
قال: فقمت فقلت: أنا، فقال: هاته؛ فغنيته فطرب و شرب، ثم قال: عليّ بهرثمة، فقلت في نفسي: ما تراه يريد منه! فجاءوا بهرثمة فأدخل إليه و هو يجرّ سيفه، فقال: يا هرثمة، مخارق الشاري الذي قتلناه بناحية الموصل ما كانت كنيته؟ فقال: أبو المهنّا؛ فقال: انصرف فانصرف؛ ثم أقبل عليّ فقال: قد كنيتك أبا المهنّا لإحسانك، و أمر
ص: 50
لي بمائة ألف درهم، فانصرفت بها و بالكنية.
و خلّ كنت عين الرّشد منه *** إذا نظرت و مستمعا سميعا
أطاف بغيّة(1) فعدلت عنه *** و قلت له أرى أمرا فظيعا
الشعر لعروة بن الورد، و الغناء في اللحن المختار لسياط ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة. و فيه لإبراهيم ما خوريّ بالوسطى عن عمرو أيضا.
ص: 51
عروة بن الورد بن زيد، و قيل: ابن عمرو بن زيد بن عبد اللّه بن ناشب بن هريم(1) بن لديم بن عوذ(2) بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الرّيث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، شاعر من شعراء الجاهلية و فارس من فرسانها و صعلوك(3) من صعاليكها المعدودين المقدّمين الأجواد.
و كان يلقّب عروة(4) الصعاليك لجمعه إيّاهم و قيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم و لم يكن لهم معاش و لا مغزى، و قيل: بل لقّب عروة الصّعاليك لقوله:
لحى اللّه صعلوكا إذا جنّ ليله *** مصافي(5) المشاش آلفا كلّ مجزر
يعدّ الغنى من دهره كلّ ليلة *** أصاب قراها من صديق ميسّر(6)
و للّه صعلوك(7) صفيحة وجهه *** كضوء شهاب القابس المتنوّر
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال بلغني أن معاوية(8) قال:
لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوّج إليهم.
/أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عديّ، و حدّثنا إبراهيم بن أيّوب عن عبد اللّه بن مسلم قالا جميعا:
قال عبد الملك بن مروان: ما يسرّني أن أحدا من العرب ولدني(9) ممّن لم يلدني إلا عروة بن الورد لقوله:
ص: 52
إنّي(1)
امرؤ عافي إنائي شركة *** و أنت امرؤ عافي إنائك واحد
/أ تهزأ منّي أن سمنت و أن ترى *** بجسمي مسّ(2) الحقّ و الحقّ جاهد
أفرّق(3) جسمي في جسوم كثيرة *** و أحسو قراح الماء و الماء بارد
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثني عمر بن شبّة قال:
بلغني أن عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه قال للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنّا ألف حازم، قال:
و كيف؟ قال: كان فينا قيس بن زهير و كان حازما و كنا لا نعصيه، و كنا نقدم إقدام عنترة، و نأتمّ بشعر عروة بن الورد، و ننقاد لأمر الرّبيع بن زياد.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبة قال:
و يقال: إن عبد الملك قال: من زعم أن حاتما أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرنا إبراهيم بن المنذر قال حدّثنا معن بن عيسى قال:
سمعت أن(4) عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب قال لمعلّم ولده: لا تروّهم قصيدة عروة بن الورد التي يقول فيها:
دعيني للغنى أسعى فإنّي *** رأيت الناس شرّهم الفقير
و يقول: إن هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثني محمد بن يحيى قال حدّثني عبد العزيز بن عمران الزّهريّ عن عامر بن جابر قال:
أغار عروة بن الورد على مزينة فأصاب منهم امرأة من كنانة ناكحا، فاستاقها و رجع و هو يقول:
تبغّ عديّا(5) حيث حلّت ديارها *** و أبناء عوف في القرون الأوائل
فإلاّ أنل أوسا فإنّي حسبها *** بمنبطح الأدغال(6) من ذي السلائل(7)
ص: 53
ثم أقبل سائرا حتى نزل ببني النّضير، فلما رأوها أعجبتهم فسقوه الخمر، ثم استوهبوها منه فوهبها لهم، و كان لا يمسّ النساء، فلما أصبح و صحا ندم فقال:
سقوني الخمر ثم تكنّفوني
الأبيات. قال: و جلاها(1) النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مع من جلا من بني النضير.
/و ذكر أبو عمرو الشّيبانيّ من خبر عروة بن الورد و سلمى هذه أنه أصاب امرأة من بني كنانة بكرا يقال لها سلمى و تكنى أمّ وهب، فأعتقها و اتّخذها لنفسه، فمكثت عنده بضع عشرة سنة و ولدت له أولادا و هو لا يشكّ في أنها أرغب الناس فيه، و هي تقول له: لو حججت بي فأمرّ على أهلي و أراهم! فحجّ بها، فأتى مكة ثم أتى المدينة، و كان يخالط من أهل يثرب بني النّضير فيقرضونه إن احتاج و يبايعهم(2) إذا غنم، و كان قومها يخالطون بني النّضير، فأتوهم و هو عندهم؛ فقالت لهم سلمى: إنه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام، فتعالوا إليه و أخبروه أنكم تستحيون أن نكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحته سبيّة، و افتدوني منه فإنه لا يرى أنّي أفارقه و لا أختار عليه أحدا، فأتوه فسقوه الشّراب، فلمّا ثمل قالوا له: فادنا بصاحبتنا فإنها وسيطة(3) النسب فينا معروفة، و إنّ علينا سبّة أن تكون سبيّة، فإذا صارت إلينا و أردت معاودتها فاخطبها إلينا فإننا ننكحك؛ فقال لهم: ذاك لكم، و لكن لي الشرط فيها أن تخيّروها، فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها و إن اختارتكم انطلقتم/بها؛ قالوا: ذاك لك؛ قال:
دعوني أله بها الليلة و أفادها(4) غدا، فلمّا كان الغد جاءوه فامتنع من فدائها؛ فقالوا له: قد فاديتنا بها منذ البارحة، و شهد عليه بذلك جماعة ممّن حضر، فلم يقدر على الامتناع و فاداها، فلما فادوه بها خيّروها فاختارت أهلها، ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة أما إنّي أقول فيك و إن فارقتك الحقّ: و اللّه ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك و أغضّ طرفا و أقلّ فحشا و أجود يدا و أحمى لحقيقة(5)؛ و ما مرّ عليّ يوم منذ كنت عندك إلا و الموت فيه أحبّ إليّ من الحياة بين/قومك، لأنّي لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أمة عروة كذا و كذا إلا سمعته؛ و و اللّه لا انظر في وجه غطفانيّة أبدا، فارجع راشدا إلى ولدك و أحسن إليهم. فقال عروة في ذلك:
سقوني الخمر ثم تكنّفوني
و أوّلها:
أرقت و صحبتي بمضيق عمق(6) *** لبرق من تهامة مستطير
سقى سلمى و أين ديار سلمى *** إذا كانت مجاورة السّرير(7)
ص: 54
إذا حلّت بأرض بني عليّ *** و أهلي بين إمّرة(1) و كير
ذكرت منازلا من أمّ وهب *** محلّ الحيّ أسفل من نقير(2)
و أحدث معهد(3) من أمّ وهب *** معرّسنا بدار بني النّضير
و قالوا ما تشاء فقلت ألهو *** إلى الأصباح آثر ذي أثير(4)
بآنسة الحديث رضاب فيها *** بعيد النوم كالعنب العصير
و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش عن ثعلب عن ابن الأعرابيّ بهذه الحكاية كما ذكر أبو عمرو، و قال فيها:
إنّ قومها أغلوا بها الفداء، و كان معه طلق و جبار أخوه و ابن عمه، فقالا له: و اللّه لئن قبلت ما أعطوك لا تفتقر أبدا، و أنت على النساء قادر/متى شئت، و كان قد سكر فأجاب إلى فدائها، فلما صحا ندم فشهدوا(5) عليه بالفداء فلم يقدر على الامتناع. و جاءت سلمى تثني عليه فقالت: و اللّه إنك ما علمت لضحوك مقبلا كسوب مدبرا خفيف على متن الفرس(6) ثقيل على العدوّ(7) طويل العماد كثير الرّماد راضي الأهل و الجانب(8)، فاستوص ببنيك خيرا، ثم فارقته. فتزوّجها رجل من بني عمّها، فقال لها يوما من الأيام: يا سلمى، أثني عليّ كما أثنيت على عروة - و قد كان قولها فيه شهر - فقالت له: لا تكلّفني ذلك فإني إن قلت الحقّ غضبت و لا و اللاّت و العزّى لا أكذب؛ فقال: عزمت عليك لتأتيني في مجلس قومي فلتثنين عليّ بما تعلمين، و خرج فجلس في نديّ القوم، و أقبلت فرماها القوم بأبصارهم، فوقفت عليهم و قالت: أنعموا صباحا، إنّ هذا عزم عليّ أن أثني عليه بما أعلم. ثم أقبلت عليه فقالت:
و اللّه إنّ شملتك لالتحاف، و إنّ شربك لاشتفاف(9)، و إنك لتنام ليلة تخاف، و تشبع ليلة تضاف، و ما ترضي الأهل و لا الجانب، ثم انصرفت. فلامه قومه و قالوا: ما كان أغناك عن هذا القول منها.
أخبرني الأخفش عن ثعلب عن ابن الأعرابيّ قال حدّثني أبو فقعس قال:
كان عروة بن الورد إذا أصابت الناس سنة شديدة تركوا في دارهم المريض و الكبير و الضعيف، و كان عروة بن الورد يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته في الشدّة ثم يحفر لهم الأسراب و يكنف عليهم الكنف(10)و يكسبهم(11)، و من/قوي منهم - إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوّته - خرج به معه فأغار، و جعل
ص: 55
لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا، حتى إذا أخصب الناس و ألبنوا و ذهبت السّنة ألحق كلّ إنسان بأهله و قسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، فربما أتى الإنسان منهم أهله و قد استغنى، فلذلك سمّي عروة الصعاليك، فقال في ذلك(1) بعض السنين و قد ضاقت حاله:
لعلّ ارتيادي(2) في البلاد و بغيتي *** و شدّي حيازيم المطيّة بالرّحل
سيدفعني يوما إلى ربّ هجمة(3) *** يدافع عنها بالعقوق و بالبخل
فزعموا أن اللّه عز و جل قيّض له و هو مع قوم من هلاّك(4) عشيرته في شتاء شديد ناقتين دهماوين، فنحر لهم إحداهما و حمل متاعهم و ضعفاءهم على الأخرى، و جعل ينتقل بهم من مكان إلى مكان، و كان بين النّقرة(5)و الرّبذة(6) فنزل بهم ما بينهما بموضع يقال له: ماوان(7). ثم إن اللّه عز و جل قيّض له رجلا صاحب مائة من الإبل قد فرّ بها من حقوق(8) قومه - و ذلك أوّل ما ألبن الناس - فقتله و أخذ إبله و امرأته، و كانت من أحسن النساء، فأتى بالإبل أصحاب الكنيف فحلبها لهم و حملهم عليها، حتى إذا دنوا من عشيرتهم أقبل يقسمها بينهم و أخذ مثل نصيب أحدهم، فقالوا: لا(9) و اللات/و العزّى لا نرضى حتى تجعل المرأة نصيبا فمن شاء أخذها، فجعل يهمّ بأن يحمل عليهم فيقتلهم و ينتزع الإبل منهم، ثم يذكر أنهم صنيعته و أنه إن فعل ذلك أفسد ما كان يصنع، فأفكر طويلا ثم أجابهم إلى أن يردّ عليهم الإبل إلا راحلة يحمل عليها المرأة حتى يلحق بأهله، فأبوا ذلك عليه، حتى انتدب رجل منهم فجعل له راحلة من نصيبه؛ فقال عروة في ذلك قصيدته التي أوّلها:
ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم *** كما الناس لمّا أمرعوا و تموّلوا
و إني لمدفوع إليّ ولاؤهم *** بماوان إذ نمشي و إذ نتململ
و إنّي و إيّاهم كذي الأمّ أرهنت(10) *** له ماء عينيها تفدّي و تحمل(11)
ص: 56
فباتت بحدّ(1) المرفقين كليهما(2) *** توحوح ممّا نالها و تولول(3)
تخيّر من أمرين ليسا بغبطة *** هو الثّكل إلا أنّها قد تجمّل(4)
و قال ابن الأعرابيّ في هذه الرّواية أيضا: كان عروة قد سبى امرأة من بني هلال بن عامر بن صعصعة يقال لها:
ليلى بنت شعواء، فمكثت عنده زمانا و هي معجبة له تريه أنّها تحبّه، ثم استزارته أهلها فحملها حتّى أتاهم بها، فلمّا أراد الرّجوع أبت أن ترجع معه، و توعّده قومها بالقتل فانصرف عنهم، و أقبل عليها فقال لها: يا ليلى، خبّري صواحبك(5) عنّي كيف أنا؛ فقالت: ما أرى لك عقلا! أ تراني قد اخترت عليك و تقول: خبّري عنّي! فقال في ذلك:
/
تحنّ إلى ليلى بجوّ(6) بلادها *** و أنت عليها بالملا(7) كنت أقدرا
و كيف ترجّيها و قد حيل دونها *** و قد جاوزت حيّا بتيماء منكرا
/لعلّك يوما أن تسرّي(8) ندامة *** عليّ بما جشّمتني يوم غضورا(9)
و هي طويلة. قال: ثمّ إن بني عامر أخذوا امرأة من بني عبس ثم من بني سكين يقال لها أسماء، فما لبثت عندهم إلاّ يوما حتّى استنقذها قومها؛ فبلغ عروة أنّ عامر بن الطّفيل فخر بذلك و ذكر أخذه إيّاها، فقال عروة يعيّرهم(10) بأخذه ليلى بنت شعواء الهلالية:
إن تأخذوا أسماء موقف ساعة *** فمأخذ ليلى و هي عذراء أعجب
لبسنا زمانا حسنها و شبابها *** و ردّت إلى شعواء و الرّأس أشيب
ص: 57
كمأخذنا حسناء كرها و دمعها *** غداة اللّوي معصوبة يتصبّب
و قال ابن الأعرابيّ: أجدب ناس من بني عبس في سنة أصابتهم فأهلكت أموالهم و أصابهم جوع شديد و بؤس، فأتوا عروة بن الورد فجلسوا أمام بيته، فلمّا بصروا به صرخوا و قالوا: يا أبا الصّعاليك، أغثنا؛ فرقّ لهم و خرج ليغزو بهم/و يصيب معاشا، فنهته امرأته عن ذلك لما تخوّفت عليه من الهلاك، فعصاها و خرج غازيا، فمرّ بمالك بن حمار الفزاريّ ثم الشّمخيّ(1)؛ فسأله: أين يريد؟ فأخبره، فأمر له بجزور فنحرها فأكلوا منها؛ و أشار عليه مالك أن يرجع، فعصاه و مضى حتّى انتهى إلى بلاد بني القين، فأغار عليهم فأصاب هجمة(2) عاد بها على نفسه و أصحابه؛ و قال في ذلك:
أرى أمّ حسّان الغداة تلومني *** تخوّفني الأعداء و النّفس أخوف
تقول سليمى لو أقمت لسرّنا *** و لم تدر أنّى للمقام أطوّف
لعلّ الذي خوّفتنا من أمامنا *** يصادفه في أهله المتخلّف
و هي طويلة.
و قال في ذلك أيضا:
أ ليس ورائي أن أدبّ على العصا *** فيشمت(3) أعدائي و يسأمني أهلي
رهينة قعر البيت كلّ عشيّة *** يطيف بي(4) الولدان أهدج(5) كالرّأل
أقيموا بني لبنى صدور ركابكم *** فكلّ منايا النّفس(6) خير من الهزل(7)
فإنكم لن تبلغوا كلّ همّتي *** و لا أربى(8) حتّى تروا منبت الأثل(9)
/لعلّ ارتيادي في البلاد و حيلتي(10) *** و شدّي حيازيم المطيّة بالرّحل
سيدفعني يوما إلى ربّ هجمة *** يدافع عنها بالعقوق و بالبخل
ص: 58
نسخت من «كتاب أحمد بن القاسم بن يوسف» قال حدّثني حرّ(1) بن قطن أنّ ثمامة بن الوليد دخل على المنصور؛ فقال: يا ثمامة، أتحفظ حديث ابن عمّك عروة الصّعاليك بن الورد العبسيّ؟ فقال: أيّ حديثه يا أمير المؤمنين؟ فقد كان كثير الحديث حسنه؛ قال: حديثه مع الهذليّ الذي أخذ فرسه؛ قال: ما يحضرني ذلك فأرويه يا أمير المؤمنين؛ فقال المنصور: خرج عروة حتّى دنا من منازل هذيل فكان منها على نحو ميلين و قد جاع فإذا هو بأرنب فرماها ثم أورى نارا فشواها و أكلها و دفن النّار على مقدار ثلاث أذرع و قد ذهب اللّيل و غارت النّجوم، ثمّ أتى سرحة(2) فصعدها و تخوّف الطّلب، فلما تغيّب فيها إذ الخيل قد/جاءت و تخوّفوا البيات(3). قال:
فجاءت جماعة منهم و معهم رجل على فرس فجاء حتى ركز رمحه في موضع النّار و قال: لقد رأيت النّار هاهنا؛ فنزل رجل فحفر قدر ذراع فلم يجد شيئا، فأكبّ القوم على الرّجل(4) يعذلونه و يعيبون أمره و يقولون: عنّيتنا في مثل هذه اللّيلة القرّة و زعمت لنا شيئا كذبت فيه؛ فقال: ما كذبت، و لقد رأيت النّار في موضع رمحي؛ فقالوا: ما رأيت شيئا و لكن تحذلقك(5) و تدهّيك(6) هو الذي حملك على هذا، /و ما نعجب إلاّ لأنفسنا حين أطعنا أمرك و اتّبعناك؛ و لم يزالوا بالرجل حتّى رجع عن قوله لهم. و اتّبعهم عروة، حتّى إذا وردوا منازلهم جاء عروة فتكمّن(7)في كسر(8) بيت؛ و جاء الرّجل إلى امرأته و قد خالفه إليها عبد أسود، و عروة ينظر، فأتاها العبد بعلبة فيها لبن فقال: اشربي؛ فقالت لا، أو تبدأ، فبدأ الأسود فشرب؛ فقالت للرجل حين جاء: لعن اللّه صلفك(9)! عنّيت قومك منذ اللّيلة؛ قال: لقد رأيت نارا، ثمّ دعا بالعلبة ليشرب، فقال حين ذهب ليكرع: ريح رجل و ربّ الكعبة! فقالت امرأته: و هذه أخرى، أيّ(10) ريح رجل تجده في إنائك غير ريحك! ثم صاحت، فجاء قومها فأخبرتهم خبره، فقالت: يتّهمني و يظنّ بي الظّنون! فأقبلوا عليه باللّوم حتّى رجع عن قوله؛ فقال عروة: هذه ثانية. قال ثم أوى الرجل إلى فراشه، فوثب عروة إلى الفرس و هو يريد أن يذهب به، فضرب الفرس بيده و تحرّك(11)، فرجع عروة إلى موضعه، و وثب الرجل فقال: ما كنت لتكذبيني(12) فمالك؟ فأقبلت عليه امرأته لوما و عدلا. قال: فصنع عروة ذلك
ص: 59
ثلاثا و صنعه(1) الرجل، ثم أوى الرجل إلى فراشه و ضجر من كثرة ما يقوم، فقال: لا أقوم إليك اللّيلة؛ و أتاه عروة فحال(2) في متنه و خرج ركضا، و ركب الرجل/فرسا عنده أنثى. قال عروة: فجعلت أسمعه خلفي يقول: الحقي فإنك من نسله. فلما انقطع عن البيوت، قال له عروة بن الورد: أيّها الرجل قف، فإنك لو عرفتني لم تقدم عليّ، أنا عروة بن الورد، و قد رأيت اللّيلة منك عجبا، فأخبرني به و أردّ إليك فرسك؛ قال: و ما هو؟ قال: جئت مع قومك حتّى ركزت رمحك في موضع نار قد كنت أوقدتها فثنوك عن ذلك فانثنيت و قد صدقت، ثم اتّبعتك حتّى أتيت منزلك و بينك و بين النار ميلان فأبصرتها منهما، ثم شممت رائحة رجل في إنائك، و قد رأيت الرجل حين آثرته زوجتك بالإناء، و هو عبدك الأسود و أظن أن بينهما ما لا تحبّ، فقلت: ريح رجل؛ فلم تزل تثنيك عن ذلك حتى انثنيت، ثم خرجت إلى فرسك فأردته فاضطرب و تحرّك فخرجت إليه، ثم خرجت و خرجت، ثم أضربت عنه، فرأيتك في هذه الخصال أكمل الناس و لكنك تنثني و ترجع؛ فضحك و قال: ذلك لأخوال السّوء، و الذي رأيت من صرامتي فمن قبل أعمامي و هم هذيل، و ما رأيت من كعاعتي(3) فمن قبل أخوالي و هم بطن من خزاعة، و المرأة التي رأيت عندي امرأة منهم و أنا نازل فيهم، فذلك الذي يثنيني عن أشياء كثيرة، و أنا لا حق بقومي و خارج عن أخوالي هؤلاء و مخلّ سبيل المرأة، و لو لا ما رأيت من كعاعتي لم يقو على مناوأة قومي أحد من العرب. فقال عروة: خذ فرسك راشدا؛ قال: ما كنت لآخذه منك و عندي من نسله جماعة مثله، فخذه مباركا لك فيه. /قال ثمامة: إنّ له عندنا أحاديث كثيرة ما سمعنا له بحديث هو أظرف من هذا.
قال المنصور: أ فلا أحدّثك له بحديث هو أظرف من هذا؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، فإن الحديث إذا جاء منك كان له فضل على غيره؛ قال: خرج عروة و أصحابه حتى أتى ماوان/فنزل أصحابه و كنف عليهم كنيفا من الشجر، و هم أصحاب الكنيف الذي سمعته قال فيهم:
ألا إنّ أصحاب الكنيف وجدتهم *** كما الناس لمّا أمرعوا و تموّلوا
و في هذه الغزاة يقول عروة:
أقول لقوم(4) في الكنيف تروّحوا *** عشيّة قلنا حول ماوان رزّح(5)
و في هذه القصيدة يقول:
ليبلغ(6) عذرا أو يصيب غنيمة *** و مبلغ نفس عذرها مثل(7) منجح
ص: 60
ثم مضى يبتغي لهم شيئا و قد جهدوا، فإذا هو بأبيات شعر و بامرأة قد خلا من سنّها و شيخ كبير كالحقاء(1)الملقى، فكمن في كسر بيت منها، و قد أجدب الناس و هلكت الماشية، فإذا هو في البيت بسحور ثلاثة مشويّة - فقال ثمامة: و ما السّحور؟ قال: الحلقوم بما فيه - و البيت خال فأكلها، و قد مكث قبل ذلك يومين لا يأكل شيئا فاشبعته و قوي، فقال: لا أبالي من لقيت بعد هذا. و نظرت المرأة فظنّت أنّ الكلب أكلها فقالت للكلب: أ فعلتها يا خبيث! و طردته. فإنه لكذلك/إذا هو عند المساء بإبل قد ملأت الأفق و إذا هي تلتفت فرقا، فعلم أن راعيها جلد شديد الضرب لها، فلما أتت المناخ بركت، و مكث الراعي قليلا ثم أتى ناقة منها فمرى(2) أخلافها، ثم وضع العلبة على ركبتيه و حلب حتى ملأها، ثم أتى الشيخ فسقاه، ثم أتى ناقة أخرى ففعل بها ذلك(3) و سقى العجوز، ثم أتى أخرى ففعل بها كذلك فشرب هو، ثم التفع بثوب و اضطجع ناحية، فقال الشيخ للمرأة و أعجبه ذلك: كيف ترين ابني؟ فقالت: ليس بابنك! قال: فابن من ويلك؟ قالت: ابن عروة بن الورد، قال: و من أين؟ قالت: أتذكر يوم مرّ بنا يريد(4) سوق ذي المجاز فقلت: هذا عروة بن الورد، و وصفته لي بجلد فإني استطرفته(5). قال: فسكت، حتى إذا نوّم(6) وثب عروة و صاح بالإبل فاقتطع منها نحوا من النصف و مضى و رجا ألاّ يتبعه الغلام - و هو غلام حين بدا شاربه - فاتّبعه. قال: فاتخذا(7) و عالجه، قال: فضرب به الأرض فيقع قائما، فتخوّفه على نفسه، ثم واثبه فضرب به و بادره، فقال: إنّي عروة بن الورد، و هو يريد أن يعجزه عن نفسه. قال: فارتدع، ثم قال مالك ويلك! لست أشكّ أنك قد سمعت ما كان من أمّي؛ قال قلت نعم. فاذهب معي أنت و أمك و هذه الإبل ودع هذا الرجل فإنه لا ينهاك(8) عن شيء، قال: الذي بقي من عمر الشيخ قليل، و أنا مقيم معه ما بقي، فإن له حقّا و ذماما، فإذا هلك فما أسرعني إليك، و خذ من هذه الإبل بعيرا؛ قلت: لا يكفيني، إنّ معي/أصحابي(9) قد خلّفتهم؛ قال: فثانيا، قلت لا؛ قال: فثالثا، و اللّه لا زدتك على ذلك(10). فأخذها و مضى إلى أصحابه، ثم إنّ الغلام لحق به بعد هلاك الشيخ.
قال: و اللّه يا أمير المؤمنين لقد زيّنته عندنا و عظّمته في قلوبنا؛ قال: فهل أعقب عندكم؟ قال لا، و لقد كنا نتشاءم /بأبيه، لأنه هو الذي أوقع الحرب بين عبس و فزارة بمراهنته حذيفة، و لقد بلغني أنه كان له ابن أسنّ من عروة فكان يؤثره على عروة فيما يعطيه و يقرّبه، فقيل له: أ تؤثر الأكبر مع غناه عنك على الأصغر مع ضعفه! قال: أ ترون هذا الأصغر! لئن بقي مع ما رأى ما شدّة نفسه ليصيرنّ الأكبر عيالا عليه.
ص: 61
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا *** فخالني دونه بل خلته دوني
فإن تصبك من الأيام جائحة *** لم أبك منك على دنيا و لا دين
الشعر لذي الإصبع العدوانيّ، و الغناء لفيل(1) مولى العبلات هزج خفيف بإطلاق الوتر في مجرى البنصر.
معنى قوله أزرى بنا: قصّر بنا، يقال: زريت عليه إذا عبت عليه فعله، و أزريت به إذا قصّرت به في شيء. و شالت نعامتهم إذا انتقلوا بكلّيتهم، يقال: شالت نعامتهم، و زفّ رألهم، إذا انتقلوا(2) عن الموضع فلم يبق فيه منهم أحد و لم يبق لهم فيه شيء. و خالني: ظنني، يقال: خلت كذا و كذا فأنا أخاله إذا ظننته. و الجائحة: النازلة التي تجتاح و لا تبقى على ما نزلت به.
ص: 62
هو حرثان بن الحارث بن محرّث بن ثعلبة بن سيّار(1) بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عباد(2) بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن سعد(3) بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، أحد بني عدوان و هم بطن من جديلة. شاعر فارس من قدماء الشعراء في الجاهلية و له غارات كثيرة في العرب و وقائع مشهورة.
أخبرنا محمد بن خلف وكيع و ابن عمّار و الأسديّ، قالوا حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا أبو عثمان المازنيّ عن الأصمعيّ قال:
نزلت عدوان على ماء فأحصوا فيهم سبعين ألف غلام أغرل(4) سوى من كان مختونا لكثرة عددهم، ثم وقع بأسهم بينهم فتفانوا فقال ذو الإصبع:
عذير الحيّ من عدوا *** ن كانوا حيّة الأرض(5)
بغى بعضهم بعضا *** فلم يبقوا على بعض
فقد صاروا أحاديث *** برفع القول و الخفض(6)
/و منهم كانت السّادا *** ت و الموفون بالقرض
و منهم من يجيز النا *** س بالسّنة و الفرض
و منهم حكم يقضي *** فلا ينقض ما يقضي
غنّى في هذه الأبيات مالك ثقيلا(7) أوّل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو.
ص: 63
/و أما قول ذي الإصبع:
و منهم حكم يقضي
فإنه يعني عامر بن الظّرب العدوانيّ، كان حكما للعرب تحتكم إليه.
حدّثنا محمد بن العبّاس اليزيديّ عن محمد بن حبيب قال:
قيس تدّعي هذه الحكومة و تقول: إنّ عامر بن الظّرب العدوانيّ هو الحكم و هو الذي كانت العصا تقرع له، و كان قد كبر فقال له الثاني من ولده: إنك ربّما أخطأت في الحكم فيحمل عنك؛ قال: فاجعلوا لي أمارة أعرفها فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الحكم و الصواب، فكان يجلس قدّام بيته و يقعد ابنه في البيت و معه العصا، فإذا زاغ(1)أو هفا قرع له الجفنة فرجع إلى الصواب. و في ذلك يقول المتلمّس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا *** و ما علّم الإنسان إلا ليعلما
قال ابن حبيب: و ربيعة تدّعيه لعبد اللّه بن عمرو بن الحارث بن همّام. و اليمن تدّعيه لربيعة بن مخاشن، و هو ذو الأعواد، و هو أوّل من جلس على منبر أو سرير و تكلّم؛ و فيه يقول الأسود بن يعفر:
و لقد علمت لو أنّ علمي نافعي *** أنّ السبيل سبيل ذي الأعواد
/أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ أبو دلف قال أخبرنا الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ قال:
زعم أبو عمرو بن العلاء أنه ارتحلت عدوان من منزل، فعدّ فيهم أربعون ألف غلام أقلف(2). قال الرياشيّ و أخبرني رجل عن هشام بن الكلبيّ قال: وقع على إياد البقّ فأصاب كلّ رجل منهم بقتان.
أخبرني أحمد بن عبيد(3) اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن نعيم قال حدّثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة قال أخبرني محمد بن زياد الزّياديّ، و أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عمر بن شبة و لم يسنده إلى أحد و روايته أتمّ:
أنّ عبد الملك بن مروان لما قدم الكوفة بعد قتله مصعب بن الزبير جلس لعرض(4) أحياء العرب - و قال عمر بن شبة: إنّ مصعب بن الزبير كان صاحب هذه القصّة - فقام إليه معبد بن خالد الجدليّ، و كان قصيرا دميما، فتقدّمه إليه رجل منا حسن الهيئة؛ قال معبد: فنظر عبد الملك إلى الرجل و قال: ممن أنت؟ فسكت و لم يقل شيئا و كان منّا، فقلت من خلفه: نحن يا أمير المؤمنين من جديلة؛ فأقبل على الرجل و تركني، فقال: من أيّكم ذو الإصبع؟ قال الرجل: لا أدري؛ قلت: كان عدوانيّا؛ فأقبل على الرجل و تركني و قال: لم سمّي ذا الإصبع؟ قال الرجل: لا أدري؛ فقلت: نهشته حية في إصبعه فيبست؛ فأقبل على الرجل و تركني، فقال: و بم كان يسمّى قبل
ص: 64
ذلك؟ قال الرجل: لا أدري؛ قلت: كان يسمّى حرثان؛ فأقبل على الرجل و تركني، فقال: من أيّ عدوان كان؟ فقلت من خلفه: من بني ناج الذين يقول فيهم الشاعر:
/
و أما بنو ناج فلا تذكرنّهم *** و لا تتبعن عينيك ما كان هالكا
إذا قلت معروفا لأصلح بينهم *** يقول وهيب لا أسالم ذلكا
و روى عمر بن شبة: لا أسلّم.
فأضحى كظهر الفحل جبّ سنامه *** يدبّ إلى الأعداء أحدب باركا
/فأقبل على الرجل و تركني و قال أنشدني قوله:
عذير الحيّ من عدوان
قال الرجل: لست أرويها؛ قلت: يا أمير المؤمنين إن شئت أنشدتك؛ قال: ادن منّي، فإني أراك بقومك عالما؛ فأنشدته:
و ليس المرء في شيء *** من الإبرام و النقض
إذا أبرم أمرا خا *** له يقضي و ما يقضي
يقول اليوم أمضيه *** و لا يملك ما يمضي
عذير الحيّ من عدوا *** ن كانوا حيّة الأرض
بغى بعضهم بعضا *** فلم يبقوا على بعض
فقد صاروا أحاديث *** برفع القول و الخفض
و منهم كانت السادا *** ت و الموفون بالقرض
و منهم حكم يقضي *** فلا ينقض ما يقضي
و منهم من يجيز النا *** س بالسّنّة و الفرض
و هم من ولدوا أشبوا(1) *** بسرّ الحسب المحض
و ممّن ولدوا عام *** ر ذو الطول و ذو العرض(2)
و هم بوّوا(3) ثقيفا دا *** ر لا ذلّ و لا خفض
/فأقبل على الرجل و تركني و قال: كم عطاؤك؟ فقال: ألفان، فأقبل عليّ فقال: كم عطاؤك؟ فقلت:
خمسمائة؛ فأقبل على كاتبه و قال: اجعل الألفين لهذا و الخمسمائة لهذا؛ فانصرفت بها.
و قوله: «و منهم من يجيز الناس» فإنّ إجازة الحج كانت لخزاعة فأخذتها منهم عدوان فصارت إلى رجل منهم
ص: 65
يقال له أبو سيّارة أحد بني وابش(1) بن زيد(2) بن عدوان. و له يقول الراجز:
خلّوا السبيل عن أبي سيّاره *** و عن مواليه بني فزاره
حتى يجيز سالما حماره *** مستقبل الكعبة يدعو جاره
قال: و كان أبو سيارة يجيز الناس في الحج بأن يتقدّمهم على حمار، ثم يخطبهم فيقول: اللهم أصلح بين نسائنا، و عاد بين رعائنا، و اجعل المال في سمحائنا، أوفوا بعهدكم، و أكرموا جاركم، و اقروا ضيفكم، ثم يقول:
أشرق(3) ثبير كيما نغير، و كانت هذه إجازته، ثم ينفر(4) و يتبعه الناس. ذكر ذلك أبو عمرو الشّيبانيّ و الكلبيّ و غيرهما.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا أبو بكر العليميّ قال حدّثنا محمد بن داود الهشاميّ قال: كان لذي الإصبع أربع بنات و كنّ يخطبن إليه فيعرض ذلك عليهنّ فيستحين و لا يزوّجهنّ، و كانت أمّهنّ تقول: لو زوّجتهنّ! فلا يفعل. قال: فخرج ليلة إلى متحدّث لهنّ فاستمع عليهنّ و هنّ لا يعلمن فقلن:
تعالين نتمنّى و لنصدق، فقالت الكبرى:
ألا ليت زوجي من أناس ذوي غنى *** حديث الشباب(5) طيب الريح و العطر(6)
طبيب بأدواء النساء كأنه *** خليفة جان لا ينام على وتر
/فقلن لها: أنت تحبّين رجلا ليس من قومك. فقالت الثانية:
ألا هل أراها ليلة و ضجيعها *** أشمّ كنصل السيف غير مبلّد
لصوق بأكباد النساء و أصله *** إذا ما انتمى من سرّ أهلي و محتدي
فقلن لها: أنت تحبّين رجلا من قومك. فقالت الثالثة:
ألا ليته يملا الجفان لضيفه(7) *** له جفنة يشقى بها النّيب(8) و الجزر(9)
ص: 66
له حكمات(1)
الدّهر من غير كبرة *** تشين و لا الفاني و لا الضّرع الغمر(2)
/فقلن لها: أنت تحبّين رجلا شريفا. و قلن للصّغرى: تمنّي؛ فقالت: ما أريد شيئا؛ قلن: و اللّه لا تبرحين حتّى نعلم ما في نفسك؛ قالت: زوج من عود خير من قعود. فلمّا سمع ذلك أبوهنّ زوّجهنّ أربعتهنّ. فمكثن برهة ثم اجتمعن إليه، فقال للكبرى: يا بنيّة، ما مالكم؟ قالت: الإبل؛ قال: فكيف تجدونها؟ قالت: خير مال، نأكل لحومها مزعا(3)، و نشرب ألبانها جرعا، و تحملنا و ضعيفنا معا؛ قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم الحليلة، و يعطي الوسيلة(4)؛ قال: مال عميم و زوج كريم. ثم قال للثانية: يا بنيّة ما مالكم؟ قالت: البقر؛ قال: فكيف تجدونها؛ قالت: خير مال، تألف الفناء، و تودّك(5) السّقاء، و تملأ الإناء، و نساء في نساء؛ قال:
فكيف تجدين زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم أهله و ينسى فضله؛ قال: حظيت و رضيت. ثم قال للثالثة: ما مالكم؟ قالت: المعزى؛ قال: فكيف تجدونها؟ قالت: لا بأس بها نولدها فطما(6)، و نسلخها أدما(7)؛ قال:
فكيف تجدين زوجك؟ قالت: لا بأس به ليس بالبخيل الحكر(8) و لا بالسّمح البذر، قال: جدوى(9) مغنية. ثم قال للرابعة: يا بنية، ما مالكم؟ قالت: الضّأن؛ قال: و كيف تجدونها؟ قالت: شرّ مال، جوف(10) لا يشبعن، و هيم(11)/لا ينقعن، و صمّ(12) لا يسمعن، و أمر مغويتهنّ يتبعن(13)؛ قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: شرّ زوج، يكرم نفسه و يهين عرسه؛ قال: «أشبه امرأ بعض بزّه»(14).
و ذكر الحسن بن عليل العنزي في خبر عدوان الذي رواه عن أبي عمرو بن العلاء أنه لا يصحّ من أبيات ذي الإصبع الضّاديّة إلاّ الأبيات التي أنشدها و أنّ سائرها منحول.
ص: 67
أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن عبد اللّه الحزنبل قال حدّثني عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ عن أبيه قال: عمّر ذو الإصبع العدواني عمرا طويلا حتى خرّف(1) و أهتر و كان يفرّق ماله، فعذله أصهاره و لاموه و أخذوا على يده(2)؛ فقال في ذلك:
أهلكنا اللّيل و النّهار معا *** و الدّهر يعدو مصمّما جذعا(3)
فليس فيما أصابني عجب *** إن كنت شيبا أنكرت أو صلعا
و كنت إذ رونق الشّباب به *** ماء شبابي تخاله شرعا
و الحيّ فيه الفتاة ترمقني *** حتّى مضى شأو ذاك فانقشعا(4)
إنّكما صاحبيّ لم تدعا *** لومي و مهما أضق فلن تسعا
لم تعقلا جفوة عليّ و لم *** أشتم صديقا و لم أنل طبعا(5)
/إلاّ بأن تكذبا عليّ و ما *** أملك أن تكذبا و أن تلعا(6)
لابن سريح في هذه الأبيات لحنان: أحدهما ثاني ثقيل بالسبّابة و البنصر عن يحيى المكيّ، و الآخر ثقيل أوّل عن الهشاميّ.
و إنّني سوف أبتدي بندى *** يا صاحبيّ الغداة فاستمعا
ثمّ سلا جارتي و كنّتها *** هل كنت فيمن أراب أو خدعا(7)
أو دعتاني فلم أجب، و لقد *** تأمن منّي حليلتي الفجعا(8)
آبى فلا أقرب الخباء إذا *** ما ربّه بعد هدأة هجعا
و لا أروم الفتاة زورتها *** إن نام عنها الحليل أو شسعا(9)
و ذاك في حقبة خلت و مضت *** و الدّهر يأتي على الفتى لمعا(10)
ص: 68
إن تزعما أنّني كبرت فلم *** ألف ثقيلا نكسا و لا ورعا(1)
إمّا تري شكّتي(2) رميح أبي *** سعد فقد أحمل السّلاح معا
/أبو سعد: ابنه، و رميح: عصا كانت لابنه يلعب بها مع الصّبيان يطاعنهم بها كالرّمح، فصار يتوكّأ هو عليها و يقوده ابنه هذا بها(3).
السّيف و الرّمح و الكنانة قد *** أكملت فيها معابلا(4) صنعا(5)
و المهر صافي الأديم أصنعه(6) *** يطير عنه عفاؤه قزعا(7)
أقصر من قيده و أردعه *** حتّى إذا السّرب ريع أو فزعا
كان أمام الجياد يقدمها *** يهزّ لدنا و جؤجؤا تلعا(8)
فغامس(9) الموت أو حمى ظعنا(10) *** أو ردّ نهبا لأيّ ذاك سعى
قال أبو عمرو: و لمّا احتضر ذو الإصبع دعا ابنه أسيدا(11) فقال له: يا بنيّ، إن أباك قد فني و هو حيّ و عاش حتّى سئم العيش، و إنّي موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته، فاحفظ عنّي: ألن جانبك لقومك يحبّوك، و تواضع لهم يرفعوك، /و ابسط لهم وجهك يطيعوك، و لا تستأثر عليهم بشيء يسوّدوك؛ و أكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم و يكبر على مودّتك صغارهم، و اسمح بمالك، و احم حريمك، و أعزز جارك، و أعن من استعان بك، و أكرم ضيفك، و أسرع النّهضة(12) في الصّريخ، فإن لك أجلا لا يعدوك، و صن وجهك عن مسألة أحد شيئا، فبذلك يتم سوددك؛ ثم أنشأ يقول:
ص: 69
أ أسيد إن مالا ملك *** ت فسر به سيرا جميلا
آخ الكرام إن استطع *** ت إلى إخائهم سبيلا
و اشرب بكأسهم و إن *** شربوا به السّمّ الثّميلا(1)
أهن اللّئام و لا تكن *** لإخائهم جملا ذلولا
إنّ الكرام إذا توا *** خيهم وجدت لهم فضولا(2)
ودع الذي يعد العشي *** رة أن يسيل و لن(3) يسيلا
/أ بنيّ إن المال لا *** يبكي إذا فقد البخيلا
أ أسيد إن أزمعت من *** بلد إلى بلد رحيلا
فاحفظ و إن شحط المزا *** ر أخا أخيك أو الزّميلا(4)
/و اركب بنفسك إن همم *** ت بها الحزونة و السّهولا
و صل الكرام و كن لمن *** ترجو مودّته وصولا
الغناء للهذليّ خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو.
ودع التّواني في الأمو *** ر و كن لها سلسا ذلولا
و ابسط يمينك بالنّدى *** و امدد لها باعا طويلا
و ابسط يديك بما ملك *** ت و شيّد الحسب الأثيلا
و اعزم إذا حاولت أم *** را يفرج الهمّ الدّخيلا
و ابذل لضيفك ذات رح *** لك(5) مكرما حتّى يزولا
و احلل على الأيفاع لل *** عافين و اجتنب المسيلا
و إذا القروم تخاطرت *** يوما و أرعدت الخصيلا(6)
فاهصر كهصر الليث خضّ *** ب(7) من فريسته التّليلا(8)
ص: 70
و انزل إلى الهيجا إذا *** أبطالها كرهوا النزولا
و إذا دعيت إلى المه *** مّ فكن لفادحه حمولا
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن العتبيّ قال:
جرى بين عبد اللّه بن الزّبير و عتبة بن أبي سفيان لحاء(1) بين يدي معاوية، فجعل ابن الزبير يعدل بكلامه عن عتبة و يعرّض بمعاوية، حتى أطال و أكثر [من ذلك](2)، فالتفت إليه معاوية متمثّلا و قال:
/
ورام بعوران(3) الكلام كأنها *** نوافر صبح نفّرتها المراتع
و قد يدحض(4) المرء الموارب بالخنا *** و قد تدرك المرء الكريم المصانع
ثم قال لابن الزّبير: من يقول هذا؟ فقال: ذو الإصبع؛ فقال: أ ترويه؟ قال لا؛ فقال: من هاهنا يروي هذه الأبيات؟ فقام رجل من قيس فقال: أنا أرويها يا أمير المؤمنين؛ فقال: أنشدني؛ فأنشده حتى أتى على قوله:
و ساع برجليه لآخر قاعد *** و معط كريم ذو يسار و مانع
و بان لأحساب الكرام و هادم *** و خافض مولاه سفاها و رافع
و مغض على بعض الخطوب(5) و قد بدت *** له عورة من ذي القرابة ضاجع
و طالب حوب باللسان و قلبه *** سوى(6) الحقّ لا تخفى عليه الشرائع
فقال له معاوية: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة؛ قال: اجعلوها ألفا، و قطع الكلام بين عبد اللّه و عتبة.
قال أبو عمرو(7): و كان لذي الإصبع ابن عمّ يعاديه فكان يتدسّس إلى مكارهه/و يمشي(8) به إلى أعدائه و يؤلّب عليه و يسعى بينه و بين بني عمّه و يبغيه عندهم شرّا؛ فقال فيه - و قد أنشدنا الأخفش هذه الأبيات [أيضا](9)عن ثعلب و الأحول السّكري:
/
يا صاحبيّ قفا قليلا *** و تخبّرا عنّي لميسا
ص: 71
عمّن أصابت قلبه *** في مرّها فغدا(1) نكيسا(2)
و لي ابن عمّ لا يزا *** ل إليّ منكره(3) دسيسا
دبّت له فأحسّ بع *** د البرء من سقم رسيسا(4)
إمّا علانية و إمّ *** ا مخمرا(5) أكلا(6) و هيسا
إني رأيت بني أبي *** ك يحمّجون(7) إليّ شوسا(8)
حنقا عليّ و لن ترى *** لي فيهم أثرا بئيسا(9)
أنحوا(10) على حرّ الوجو *** ه بحدّ مئشار(11) ضروسا
لو كنت(12) ماء لم تكن *** عذب المذاق و لا مسوسا(13)
ملحا بعيد القعر قد *** فلّت حجارته الفئوسا
منّاع ما ملكت يدا *** ك(14) و سائل لهم نحوسا
/و أنشدنا الأخفش عن هؤلاء الرواة بعقب هذه الأبيات - و ليس من شعر ذي الإصبع و لكنه يشبه معناه -:
لو كنت ماء كنت غير عذب *** أو كنت سيفا كنت غير عضب
أو كنت طرفا كنت غير ندب(15) *** أو كنت لحما كنت لحم كلب
قال: و في مثله أنشدنا:
ص: 72
لو كنت مخّا كنت مخّا ريرا(1) *** أو كنت بردا كنت زمهريرا
أو كنت ريحا كانت الدّبورا
قال أبو عمرو، و كان السبب في تفرّق عدوان و قتال بعضهم بعضا حتى تفانوا: أن بني ناج بن يشكر بن عدوان أغاروا على بني عوف بن سعد بن ظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان، و نذرت(2) بهم بنو عوف فاقتتلوا، فقتل بنو ناج ثمانية نفر، فيهم عمير بن مالك سيّد بني عوف، و قتلت بنو عوف رجلا منهم يقال له سنان بن جابر، و تفرّقوا على حرب. و كان الذي أصابوه من بني واثلة(3) بن عمرو بن عباد و كان سيّدا، فاصطلح سائر الناس على الديات أن يتعاطوها و رضوا بذلك، و أبى مرير بن جابر أن يقبل بسنان بن جابر دية، و اعتزل هو و بنو أبيه و من أطاعهم و من(4) و الاهم، و تبعه(5) على ذلك كرب بن خالد(6) أحد بني عبس بن ناج، فمشى إليهما ذو الإصبع و سألهما قبول الدية و قال: قد قتل منّا ثمانية نفر فقبلنا الدية و قتل/منكم رجل فاقبلوا ديته؛ فأبيا ذلك و أقاما على الحرب، فكان ذلك مبدأ حرب بعضهم بعضا حتى تفانوا و تقطّعوا. فقال ذو الإصبع في ذلك:
و يا بؤس للأيّام و الدّهر هالكا *** و صرف اللّيالي يختلفن كذلكا
/أبعد بني ناج و سعيك فيهم *** فلا تتبعن عينيك ما كان هالكا
إذا قلت معروفا لأصلح بينهم *** يقول مرير لا أحاول ذلكا
فأضحوا كظهر العود جبّ سنامه *** تحوم(7) عليه الطير أحدب باركا
فإن تك عدوان بن عمرو تفرّقت *** فقد غنيت(8) دهرا ملوكا هنالكا
فإن يكن حبّها أمسى لنا شجنا *** و أصبح الولي(1) منها لا يواتيني
فقد غنينا(2) و شمل الدار يجمعنا *** أطيع ريّا و ريّا لا تعاصيني
نرمي الوشاة فلا نخطي مقاتلهم *** بخالص(3) من صفاء الودّ مكنون
و لي ابن عمّ على ما كان من خلق *** مختلفان فأقليه(4) و يقليني
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا *** فخالني دونه بل خلته دوني
/لاه(5) ابن عمّك لا أفضلت في حسب *** شيئا و لا أنت ديّاني(6) فتخزوني
و لا تقوت عيالي يوم مسغبة *** و لا بنفسك في العزّاء(7) تكفيني
فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي *** فإنّ ذلك ممّا ليس يشجيني
و لا ترى فيّ غير الصّبر منقصة *** و ما سواه فإنّ اللّه يكفيني
لو لا أواصر قربى لست تحفظها *** و رهبة اللّه في مولى يعاديني
إذا بريتك بريا لا انجبار له *** إنّي رأيتك لا تنفكّ تبريني
إنّ الذي يقبض الدنيا و يبسطها *** إن كان أغناك عنّي سوف يغنيني
اللّه يعلمكم و اللّه يعلمني *** و اللّه يجزيكم عنّي و يجزيني
ما ذا عليّ و إن كنتم ذوي رحمي *** ألاّ أحبّكم إن لم تحبّوني
لو تشربون دمي لم يرو شاربكم *** و لا دماؤكم جمعا تروّيني
و لي ابن عمّ لو أنّ الناس في كبدي *** لظلّ محتجزا(8) بالنّبل يرميني
يا عمرو إن لا(9) تدع شتمي و منقصتي *** أضربك حتى تقول الهامة اسقوني(10)
كلّ امرئ صائر يوما لشيمته *** و إن تخلّق أخلاقا إلى حين
إنّي لعمرك ما بابي بذي غلق(11) *** عن(12) الصّديق و لا خيري بممنون
ص: 74
/
و لا لساني على الأدنى بمنطلق *** بالمنكرات و لا فتكي بمأمون
لا يخرج القسر(1) منّي غير مغضبة(2)*** و لا ألين لمن لا يبتغي ليني
و أنتم معشر زيد على مائة *** فأجمعوا أمركم شتّى فكيدوني
فإن علمتم سبيل الرّشد فانطلقوا *** و إن غبيتم(3) طريق الرشد فأتوني
/يا ربّ ثوب حواشيه كأوسطه *** لا عيب في الثوب من حسن و من لين
يوما شددت على فرغاء(4) فاهقة *** يوما من الدّهر تارات تماريني
ما ذا على إذا تدعونني فزعا *** ألاّ أجيبكم إذ لا تجيبوني
و كنت(5) أعطيكم ما لي و أمنحكم *** ودّي على مثبت في الصدر مكنون
يا ربّ حيّ شديد الشّغب ذي لجب(6)*** ذعرت(7) من راهن منهم و مرهون
رددت باطلهم في رأس قائلهم *** حتى يظلّوا خصوما(8) ذا أفانين
يا عمرو لو كنت لي ألفيتني يسرا(9)*** سمحا كريما أجازي من يجازيني
قال أبو عمرو: و قال ذو الإصبع يرثي قومه:
و ليس المرء في شيء *** من الإبرام و النقض
إذا يفعل شيئا خا *** له يقضي و ما يقضي
جديد العيش ملبوس *** و قد يوشك أن ينضى(10)
/و قد مضى بعض هذه القصيدة متقدّما في صدر هذه الأخبار، و تمامها:
و أمر اليوم أصلحه *** و لا تعرض لما(11) يمضي
ص: 75
فبينا المرء في عيش *** له من عيشة خفض
أتاه طبق(1) يوما *** على مزلقة دحض
و هم كانوا فلا تكذب *** ذوي القوّة و النّهض
و هم إن ولدوا أشبوا(2) *** بسرّ الحسب المحض
لهم كانت أعالي الأر *** ض فالسرّان فالعرض(3)
إلى ما حازه الحزن *** فما أسهل للحمض(4)
إلى الكفرين من نخل *** ة فالدّاءة(5) فالمرض
لهم كان جمام(6) الما *** ء لا المزجى(7) و لا البرض
فكان الناس إذا همّوا *** بيسر خاشع مغضي
تنادوا ثم ساروا ب *** رئيس لهم مرضي
/فمن ساجلهم حربا *** ففي الخيبة و الخفض
و هم نالوا على الشّنآ *** ن و الشّحناء و البغض
معالي لم ينلها النّا *** س في بسط و لا قبض
قد
لقيت فهم و عدوانها *** قتلا و هلكا آخر الغابر
كانوا ملوكا سادة في الذّرى(1)*** دهرا لها الفخر على الفاخر
/حتى تساقوا كأسهم بينهم *** بغيا فيا للشّارب الخاسر
بادوا فمن يحلل بأوطانهم *** يحلل برسم مقفر داثر(2)
قال أبو عمرو: و لأمامة ابنته هذه يقول ذو الإصبع و رأته قد نهض فسقط(3) و توكّأ على العصا فبكت فقال:
جزعت أمامة أن مشيت على العصا *** و تذكّرت إذ نحن م الفتيان
فلقبل ما رام الإله بكيده *** إرما و هذا الحيّ من عدوان
/بعد الحكومة و الفضيلة و النّهي *** طاف الزمان عليهم بأوان
و تفرّقوا و تقطّعت أشلاؤهم *** و تبدّدوا فرقا بكلّ مكان
جدب البلاد فأعقمت أرحامهم *** و الدّهر غيّرهم مع الحدثان
حتى أبادهم على أخراهم *** صرعى بكلّ نقيرة و مكان
لا تعجبنّ أمام من حدث عرا *** فالدّهر غيّرنا مع الأزمان
ص: 77
23 - ذكر قيل(1) مولى العبلات
قال هارون بن محمد بن عبد الملك: أخبرني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
كان يحيى قيل عبدا للثّريّا و رضيّا و أخواتهما بنات [عليّ بن](2) عبد اللّه بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس موليات الغريض.
قال و حدّثني حمّاد قال [حدّثني](2) أبي قال حدّثني ابن أبي جناح قال حدّثنا مقاحف(3) بن ناصح مولى عبد اللّه بن عباس قال قال حدّثني هشام بن المرّيّة - و هي أمّه، و هو مولى بني مخزوم - قال:
كان يحيى قيل عبدا لامرأة من العبلات، و له من الغناء:
و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني يحيى بن المقداد الزّمعيّ قال حدّثني عمّي موسى بن يعقوب الزّمعيّ قال أنشدني أبو دهبل الجمحيّ لنفسه:
ألا علق القلب المتيّم كلثما *** لجوجا و لم يلزم من الحبّ ملزما
خرجت بها من بطن مكة بعد ما *** أصات المنادي للصّلاة و أعتما
ص: 78
فما نام من راع(1)
و لا ارتدّ سامر *** من الحيّ حتى جاوزت بي يلملما(2)
و مرّت ببطن اللّيث تهوي كأنها *** تبادر بالإدلاج نهبا مقسّما
أجازت على البزواء(3) و اللّيل كاسر *** جناحين بالبزواء وردا(4) و أدهما
فما ذرّ قرن الشمس حتى تبيّنت *** بعليب(5) نخلا مشرفا و مخيّما
و مرّت على أشطان(6) دومة(7) بالضحى *** فما خزرت(8) للماء عينا و لا فما
/و ما شربت حتى ثنيت زمامها *** و خفت عليها أن تحزّ(9) و تكلما
/فقلت لها قد تعت(10) غير ذميمة *** و أصبح وادي البرك(11) غيثا مديّما
قال فقلت [له](12): يا عمّ ما كنت إلا على الريح! فقال: يا ابن أخي إنّ عمّك كان إذا همّ فعل، و هي العجاجة، أ ما سمعت قول أخي ببني مرّة(13):
إذا أقبلت قلت مشحونة *** أقلّت(14) لها الريح قلعا(15) جفولا
و إن أدبرت قلت مذعورة *** من الرّمد(16) تتبع هيقا(17) ذمولا
ص: 79
و إن أعرضت(1) خال فيها البصي *** ر ما لا يكلّفه أن يفيلا(2)
/يدا(3) سرحا مائرا(4) ضبعها *** تسوم(5) و تقدم رجلا زجولا
فمرّت على كشب(6) غدوة *** و مرّت فويق أريك(7) أصيلا
تخبّط بالليل حزّانه(8) *** كخبط القويّ العزيز الذّليلا
أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني ابن(9) أصبغ السلميّ قال: جاء إنسان يغنّي إلى عيّاش المنقريّ بالعقيق فجعل يغنّيه قول أبي دهبل:
ألا علق القلب المتيم كلثما
و جعل يعيده فلما أكثر قال له عيّاش: كم تنذر(10) بالعجوز عافاك اللّه! اسم أمي كلثم، قال: و تسمع العجوز، فقالت: لا و اللّه ما كان بيني و بينه شيء. قال: و من غنائه:
/
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا *** فخالني دونه بل خلته دوني
فإن تصبك من الأيام جائحة *** لا نبك(11) منك على دنيا و لا دين
[و أوّل هذه الأبيات فيما أنشدناه عليّ بن سليمان الأخفش عن ثعلب](12).
لي ابن عمّ على ما كان من خلق *** مختلفان فأقليه و يقليني
ص: 80
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب *** عنّي و لا أنت ديّاني فتخزوني
غنّى في هذين البيتين الهذليّ ثاني(1) ثقيل بالوسطى.
و قد عجبت و ما في الدّهر من عجب *** يد تشجّ(2) و أخرى منك تأسوني
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه *** يوما فتدركه العواقب قد نما(3)
يجزيك أو يثنى عليك و إنّ من *** أثنى عليك بما فعلت فقد جزى(4)
/ [عروضه من الكامل](5). الشعر لغريض(6) اليهودي و هو السموأل(7) بن عادياء، و قيل إنه لابنه سعية(8) بن غريض، و قيل إنه لزيد(9) بن عمرو بن نفيل، و قيل إنه لورقة بن نوفل، و قيل إنه لزهير بن جناب(10)، و قيل إنه لعامر بن المجنون الجرميّ(11) الذي يقال له: مدرج الرّيح، و الصحيح أنه لغريض أو لابنه.
ص: 81
24 - خبر غريض(1) اليهودي
و غريض هذا من اليهود من ولد الكاهن بن هارون بن عمران صلّى اللّه عليه و سلّم، و كان موسى عليه الصلاة و السلام وجّه جيشا إلى العماليق و كانوا قد طغوا(2) و بلغت غاراتهم إلى الشام و أمرهم إن ظفروا بهم أن يقتلوهم أجمعين، فظفروا بهم فقتلوهم أجمعين سوى ابن لملكهم(3) كان غلاما جميلا فرحموه و استبقوه، و قدموا الشام بعد وفاة موسى عليه السلام فأخبروا بني إسرائيل بما فعلوه؛ فقالوا: أنتم عصاة لا تدخلون الشام علينا أبدا، /فأخرجوهم عنها. فقال بعضهم لبعض: ما لنا بلد غير البلد الذي ظفرنا به و قتلنا أهله؛ فرجعوا إلى يثرب فأقاموا بها و ذلك قبل ورود الأوس و الخزرج إياها عند وقوع سيل العرم(4) باليمن، فمن هؤلاء اليهود قريظة و النّضير و بنو قينقاع و غيرهم، و لم أجد لهم نسبا فأذكره لأنهم ليسوا من العرب فتدوّن العرب أنسابهم إنما هم حلفاؤهم، و قد شرحت أخبارهم و ما يغنّى به من أشعارهم في موضع آخر من هذا الكتاب.
و الغناء في اللحن المختار لابن صاحب الوضوء و اسمه محمد و كنيته أبو عبد اللّه، و كان أبوه على الميضأة(5)بالمدينة فعرف بذلك، و هو يسير الصناعة ليس ممن خدم الخلفاء/و لا شهر عندهم شهرة غيره. و هذا الغناء ماخوري بالبنصر و فيه ليونس ثاني ثقيل بالبنصر.
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا الرّياشيّ و عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن الأصمعيّ عن ابن أبي الزّناد عن هشام بن عروة قال:
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه *** لغريض اليهودي
و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثنا أحمد بن عيسى قال حدّثنا مؤمّل بن عبد الرحمن الثّقفيّ قال حدّثني سهل(6) بن المغيرة عن الزّهريّ عن عروة عن عائشة قالت:
ص: 82
دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أنا أتمثّل بهذين البيتين:
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه *** يوما فتدركه العواقب قد نما(1)
يجزيك أو يثني عليك و إنّ من *** أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: «ردّي عليّ قول اليهوديّ قاتله اللّه! لقد أتاني جبريل برسالة من ربي: أيّما رجل صنع إلى أخيه صنيعة فلم يجد له جزاء إلا الثناء عليه و الدعاء له فقد كافأه».
/قال أبو زيد: و قد حدّثني أبو عثمان محمد بن يحيى أن هذا الشعر لورقة بن نوفل، و قد ذكر الزّبير بن بكار أيضا أنّ هذا الشعر لورقة بن نوفل و ذكر هذين البيتين في قصيدة أوّلها:
رحلت قتيلة عيرها قبل الضحى *** و أخال أن شحطت بجارتك(2) النّوى
أ و كلّما رحلت قتيلة غدوة *** و غدت مفارقة لأرضهم بكى
و لقد ركبت على السّفين ملجّجا(3) *** أذر الصّديق و أنتحي دار العدا
و لقد دخلت البيت يخشى أهله *** بعد الهدوء و بعد ما سقط الندى
فوجدت فيه حرّة(4) قد زيّنت *** بالحلي تحسبه بها جمر الغضا
فنعمت بالا إذ أتيت(5) فراشها *** و سقطت منها حين جئت على هوى
فلتلك لذّات الشّباب قضيتها *** عنّي فسائل بعضهم ما ذا(6) قضى
فرج(7) الرّباب فليس يؤدي فرجه *** لا حاجة قضّى و لا ماء بغى
فارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه *** يوما فتدركه العواقب قد نما
يجزيك أو يثني عليك و إنّ من *** أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
ص: 83
هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّي بن قصيّ، و أمه هند بنت أبي كثير(1) بن عبد بن قصيّ. /و هو أحد من اعتزل عبادة الأوثان في الجاهلية و طلب الدّين و قرأ الكتب و امتنع من أكل ذبائح الأوثان.
غير
ارفع ضعيفك...
و لقد طرقت البيت يخشى أهله *** بعد الهدوء و بعد ما سقط الندى
فوجدت فيه حرّة قد زيّنت *** بالحلي تحسبه بها جمر الغضا
الشعر لورقة بن نوفل(2). و الغناء لابن محرز من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
أخبرنا الطّوسيّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا عبد اللّه بن معاذ عن معمر عن الزّهريّ عن عروة بن الزّبير قال:
سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن ورقة بن نوفل كما بلغنا فقال: «قد رأيته في المنام كأنّ عليه ثيابا بيضا فقد(3) أظنّ أن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض».
/قال الزبير و حدّثنا عبد اللّه بن معاذ عن معمر عن الزّهريّ عن عائشة:
أنّ خديجة بنت خويلد انطلقت بالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّي و هو ابن عمّ خديجة أخي أبيها، و كان امرأ تنصّر في الجاهلية، و كان يكتب الكتاب(4) العبرانيّ فيكتب بالعبرانيّة من الإنجيل ما شاء أن يكتب، و كان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك؛ قال ورقة: يا ابن أخي
ص: 84
ما ذا ترى؟ فأخبره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خبر ما رأى فقال ورقة: هذا الناموس(1) الذي أنزله اللّه تبارك و تعالى على موسى؛ يا ليتني فيها جذع(2)، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك؛ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه سلّم: «أ و مخرجيّ هم» قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل(3) ما جئت به إلا عودي، و إن يدركني يومك لأنصرنّك نصرا مؤزّرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفّي.
قال الزّبير حدّثني عثمان عن الضحّاك بن(4) عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد قال قال عروة: كان بلال لجارية من بني جمح بن عمرو، و كانوا يعذّبونه برمضاء(5) مكة، يلصقون ظهره بالرّمضاء ليشرك باللّه؛ فيقول: أحد أحد؛ فيمرّ عليه ورقة/بن نوفل و هو على ذلك يقول: أحد أحد، فيقول ورقة بن نوفل: أحد أحد و اللّه يا بلال! و اللّه لئن قتلتموه لاتّخذته حنانا(6) كأنه يقول: لأتمسّحنّ به. و قال ورقة بن نوفل في ذلك:
لقد نصحت لأقوام و قلت لهم *** أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدنّ(7) إلها غير خالقكم *** فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد(8)
سبحان ذي العرش سبحانا نعوذ به *** و قبل قد سبّح الجوديّ و الجمد(9)
مسخّر كلّ ما تحت السماء له *** لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته *** يبقى الإله و يودي المال و الولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه *** و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
و لا سليمان إذ دان الشّعوب له *** و الجنّ و الإنس تجري بينها البرد(10)
ص: 85
قال الزبير حدّثني عمي قال حدّثنا الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن هشام بن عروة:
أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال لأخي ورقة بن نوفل أو لابن أخيه: «شعرت أنّي قد رأيت لورقة جنّة، أو جنّتين»، يشكّ هشام.
قال عروة: و نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن سبّ ورقة.
و قال الزبير و حدّثني عمّي قال حدّثني الضحّاك عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن هشام بن عروة عن أبيه:
أن خديجة كانت تأتي ورقة بما يخبرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنه يأتيه، فيقول ورقة: لئن كان ما يقول حقّا إنه ليأتيه الناموس الأكبر ناموس عيسى ابن مريم الذي لا يجيزه أهل الكتاب إلا بثمن(1)، و لئن نطق و أنا حيّ لأبلينّ فيه للّه بلاء حسنا.
ص: 86
هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّي بن رياح(1) بن عبد اللّه بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب بن لؤيّ بن غالب. و أمه جيداء بنت خالد بن جابر بن أبي حبيب بن فهم. و كانت جيداء عند نفيل بن عبد العزّي فولدت له الخطّاب أبا عمر بن الخطّاب و عبدنهم(2)، ثم مات عنها نفيل فتزوّجها(3) ابنه عمرو فولدت له زيدا، و كان هذا نكاحا ينكحه أهل الجاهليّة.
و كان زيد بن عمرو أحد من اعتزل عبادة الأوثان و امتنع من أكل ذبائحهم، و كان يقول: يا معشر قريش، أ يرسل اللّه قطر السماء و ينبت بقل الأرض و يخلق السائمة فترعى فيه و تذبحوها(4) لغيره(5)! و اللّه ما أعلم على ظهر الأرض أحدا على دين إبراهيم غيري.
أخبرنا الطّوسيّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي مصعب بن عبد اللّه و محمد بن الضحّاك عن أبيه، قالا:
كان الخطّاب بن نفيل قد أخرج زيد بن عمرو من مكة و جماعة من قريش و منعوه أن يدخلها حين فارق أهل الأوثان، و كان أشدّهم عليه الخطّاب بن نفيل. /و كان زيد بن عمرو إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال(6): لبّيك حقّا حقّا؛ تعبّدا و رقّا؛ البرّ(7) أرجو لا الخال(8)، و هل مهجّر(9) كمن قال(10)! [ثم يقول](11):
عدت بما عاذ به إبراهيم *** مستقبل الكعبة و هو قائم
ص: 87
يقول أنفي(1) لك عان راغم *** مهما تجشّمني فإنّي جاشم(2)
ثم يسجد. قال محمد بن الضحّاك عن أبيه: [و](3) هو الذي يقول:
لا همّ إنّي حرم لا حلّه(4) *** و إنّ داري أوسط المحلّة
عند الصّفا ليست بها مضلّه
قال الزبير و حدّثني مصعب بن عبد اللّه عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال قال هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: قال زيد بن عمرو بن نفيل:
عزلت الجنّ و الجنّان عنّي(5) *** كذلك يفعل الجلد الصّبور
/فلا العزّى أدين و لا ابنتيها *** و لا صنمي بني غنم(6) أزور(7)
/و لا هبلا(8) أدين و كان ربّا *** لنا في الدهر إذ حلمي صغير
أ ربّا واحدا أم ألف ربّ *** أدين إذا تقسّمت الأمور
أ لم تعلم بأنّ اللّه أفنى *** رجالا كان شأنهم الفجور
و أبقى آخرين ببرّ قوم *** فيربو منهم الطفل الصغير
و بينا المرء يعثر ثاب(9) يوما *** كما يتروّح الغصن النّضير
فقال ورقة بن نوفل لزيد بن عمرو بن نفيل:
رشدت و أنعمت ابن عمرو و إنما *** تجنّبت تنّورا من النار حاميا
بدينك ربّا ليس رب كمثله *** و تركك جنّان(10) الجبال كما هيا
ص: 88
أقول إذا ما زرت أرضا مخوفة *** حنانيك لا تظهر عليّ الأعاديا
حنانيك إنّ الجنّ كانت رجاءهم *** و أنت إلهي ربّنا و رجائيا
أدين لربّ يستجيب و لا أرى *** أدين لمن لا يسمع الدهر داعيا
أقول إذا صلّيت في كلّ بيعة *** تباركت قد أكثرت باسمك داعيا
يقول: خلقت خلقا كثيرا يدعون باسمك.
/قال الزّبير و حدّثني مصعب بن عبد اللّه قال حدّثني الضحّاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن موسى بن عقبة قال سمعت من أرضى يحدّث:
أن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم و يقول: الشاة خلقها اللّه و أنزل من السماء ماء و أنبت لها من الأرض نباتا ثم تذبحونها على غير اسم اللّه! إنكارا لذلك و إعظاما له.
قال الزبير: و حدّثني مصعب بن عبد اللّه عن الضحّاك بن عثمان بن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد اللّه أنه سمع عبد اللّه بن عمر يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح(1)، و كان قبل أن ينزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الوحي، فقدّم إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سفرة(2) فيها لحم، فأبى أن يأكل، و قال: إنّي لا آكل إلاّ ما ذكر اسم اللّه عليه.
قال الزبير و حدّثني مصعب بن عبد اللّه عن الضحّاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد اللّه قال - قال موسى: لا أراه إلاّ حدّثه عن عبد اللّه بن عمر -:
إن زيد بن عمرو خرج إلى الشّأم يسأل عن الدّين و يتّبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال: لعلّي أدين بدينكم فأخبرني بدينكم؛ فقال اليهوديّ: إنّك لا تكون على ديننا حتّى تأخذ بنصيبك من غضب اللّه؛ فقال زيد بن عمرو: /لا أفرّ إلاّ من غضب اللّه و ما أحمل من غضب اللّه شيئا أبدا و أنا أستطيع، فهل تدلّني على دين ليس فيه هذا؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون(3) حنيفا؛ قال: و ما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم؛ فخرج من عنده و تركه.
فأتى عالما من علماء النّصارى فقال له نحوا ممّا قال لليهوديّ(4)، فقال له النّصرانيّ: إنك لن تكون على ديننا حتّى تأخذ بنصيبك من لعنة اللّه؛ فقال: إني لا أمل من لعنة اللّه و لا من غضبه شيئا أبدا و أنا أستطيع، فهل تدلّني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحوا مما قال اليهوديّ: /لا أعلمه إلا أن يكون حنيفا؛ فخرج من عندهما و قد رضي بما أخبراه و اتّفقا عليه من دين إبراهيم، فلما برز رفع يديه و قال؛ اللّهم [إنّي](5) على دين إبراهيم.
ص: 89
قال الزبير و حدّثني مصعب بن عبد اللّه عن الضّحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد قال قال هشام بن عروة:
بلغنا أنّ زيد بن عمرو كان بالشأم، فلما بلغه خبر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أقبل يريده فقتله أهل ميفعة(1).
قال الزّبير و حدّثني مصعب بن عبد اللّه عن الضّحاك بن عثمان عن عبد الرحمن ابن أبي الزّناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد بن عمرو قال:
سألت أنا و عمر بن الخطّاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عن زيد فقال: «يأتي يوم القيامة أمّة وحده».
/و أنشد محمد بن الضحّاك عن الحزاميّ عن أبيه لزيد بن عمرو:
أسلمت وجهي لمن أسلمت *** له المزن تحمل عذبا زلالا
و أسلمت وجهي لمن أسلمت *** له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدّها *** سواء و أرسى عليها الجبالا
و أما زهير بن جناب الكلبيّ فإنّه أحد المعمّرين، يقال: إنه عمّر مائة و خمسين سنة و هو - فيما ذكر - أحد الذين شربوا الخمر في الجاهليّة حتّى قتلتهم؛ و كان قد بلغ من السنّ الغاية التي ذكرناها، فقال ذات يوم: إنّ الحيّ ظاعن، فقال عبد اللّه [ابن عليم](2) بن جناب: إن الحي مقيم؛ فقال زهير: إن الحيّ مقيم؛ فقال عبد اللّه: إنّ الحيّ ظاعن؛ فقال: من هذا الذي يخالفني منذ اليوم! قيل: ابن أخيك عبد اللّه بن عليم؛ فقال: أ و ما هاهنا أحد ينهاه عن ذلك! قالوا: لا؛ فغضب و قال: لا أراني قد خولفت، ثم دعا بالخمر فشربها(3) صرفا بغير مزاج و على غير طعام حتّى قتلته. و هو الذي يقول في ذمّ الكبر و طول الحياة:
الموت خير للفتى *** فليهلكن و به بقيّة
من أن يرى الشّيخ(4) البجا *** ل إذا تهادى بالعشيّة
أ بنيّ إن أهلك فقد *** أورثتكم مجدا بنيّة
/و تركتكم أبناء سا *** دات زنادكم و ريّه
ص: 90
بل كلّ(1) ما نال الفتى *** قد نلته إلا التّحيّة(2)
و أمّا مدرج الرّيح فاسمه عامر بن المجنون الجرميّ، و إنما سمّي مدرج الريح بشعر قاله في امرأة كان يزعم أنّه يهواها من الجنّ و أنّها تسكن الهواء(3) و تتراءى له، و كان محمّقا؛ و شعره هذا:
لابنة الجنّيّ في الجوّ طلل *** دارس الآيات عاف كالخلل
درسته الرّيح من بين صبا *** و جنوب درجت حينا و طلّ
الغناء فيه لحنين ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ و ابن المكيّ، و ذكر حبش أنّه لمعبد، و ذكر عمرو بن بانة أنّ لحن حنين من خفيف الثّقيل الأوّل بالبنصر. و أخبار عامر بن المجنون تذكر في موضع آخر إن شاء اللّه تعالى.
و أما سعية بن غريض فقد كان ذكر خبر جدّه/السّموءل بن غريض بن عاديا في موضع غير هذا. و كان سعية بن غريض شاعرا، و هو الذي يقول لمّا حضرته الوفاة يرثي نفسه:
يا ليت شعري حين يذكر صالحي(4) *** ما ذا تؤبّنني به أنواحي(5)
أ يقلن لا تبعد، فربّ كريهة *** فرّجتها ببشارة و سماح
و إذا دعيت لصعبة سهّلتها *** أدعى بأفلح تارة و نجاح
/ - غنّاه ابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو - و أسلم(6) سعية و عمّر عمرا طويلا، و يقال: إنّه مات في آخر(7) خلافة معاوية.
فأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أحمد بن معاوية عن الهيثم بن عديّ قال:
ص: 91
حجّ معاوية حجّتين في خلافته، و كانت له ثلاثون بغلة يحجّ عليها نساؤه و جواريه. قال: فحجّ في إحداهما فرأى شيخا(1) يصلّي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال: من هذا؟ قالوا: سعية بن غريض، و كان من اليهود، فأرسل إليه يدعوه، فأتاه رسوله فقال: أجب أمير المؤمنين؛ قال: أ و ليس قد مات أمير المؤمنين! قيل:
فأجب معاوية؛ فأتاه فلم يسلّم عليه بالخلافة؛ فقال له معاوية: ما فعلت أرضك التي بتيماء؟ قال: يكسى منها العاري و يردّ فضلها على الجار؛ قال: أ فتبيعها(2)؟ قال: نعم؛ قال: بكم؟ قال: بستّين ألف دينار، و لو لا خلّة أصابت الحيّ لم أبعها؛ قال: لقد أغليت! قال: أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار ثم لم تبل(3)! قال: أجل، و إذ بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك يرثي [به](4) نفسه؛ فقال: قال أبي:
/
يا ليت شعري حين أندب هالكا *** ما ذا تؤبّنني به أنواحي
أ يقلن لا تبعد(5)، فربّ كريهة *** فرّجتها بشجاعة(6) و سماح
و لقد ضربت بفضل مالي حقّه *** عند الشّتاء و هبّة الأرواح
و لقد أخذت الحقّ غير مخاصم *** و لقد رددت الحقّ غير ملاحي
و إذا دعيت لصعبة سهّلتها *** أدعى بأفلح مرّة و نجاح
فقال: أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك؛ قال: كذبت و لؤمت؛ قال: أما كذبت فنعم، و أمّا لؤمت فلم، قال: لأنك كنت ميّت الحقّ في الجاهلية و ميّته في الإسلام، أمّا في الجاهلية فقاتلت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و الوحي حتى جعل اللّه [عزّ و جلّ](7) كيدك المردود، و أمّا في الإسلام فمنعت ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الخلافة، و ما أنت و هي! و أنت طليق(8) ابن طليق! فقال معاوية: قد خرف(9) الشيخ فأقيموه، فأخذ بيده فأقيم.
/و سعية هذا هو الذي يقول:
/
عجنا فما كلّمتنا الدار إذ سئلت *** و ما بها عن جواب خلت من صمم
الشعر لسعية بن غريض، و الغناء لابن محرز ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر.
اسمه محمد بن عبد اللّه، و يكنى أبا عبد اللّه، مولى بني أميّة، و هو من أهل المدينة؛ و كان أبوه على ميضأة المدينة فسمّي صاحب الوضوء. و هو قليل الصّنعة لم يذكر له إسحاق إلا صوتين كلاهما في خفيف الثقيل الثاني المعروف با الماخوريّ و لا ذكر له غير إسحاق سواهما إلا ما هو مرسوم في الكتاب الباطل المنسوب إلى إسحاق فإن له فيه شيئا كثيرا لا أصل له، و في كتاب حبش [الصينيّ](1). و هو رجل لا يحصّل ما يقوله و يرويه.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه [عن](2) جدّه عن سياط عن يونس الكاتب قال:
غنيّ ابن صاحب الوضوء في شعر النابغة:
خطاطيف حجن(1) في حبال متينة *** تمدّ بها أيد إليك نوازع
و في شعر بعض اليهود:
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه *** يوما فتدركه العواقب قد نما
فأجاد فيهما ما شاء و أحسن غاية الإحسان؛ فقيل له: أ لا تزيد و تصنع شيئا [آخر](4)؟ فقال: لا و اللّه حتى أرى غيري قد صنع مثل ما صنعت و أزيد، و إلاّ فحسبي هذا.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و إسماعيل بن يونس(2) الشّيعي، قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن عليّ - قال ابن عمار في خبره: و كان يسمّى المبارك - قال حدّثنا أبو مسلمة(3) المصبحيّ قال:
قدم علينا أسود من أهل الكوفة فغنّى:
ارفع ضعيفك لا يحرّ بك ضعفه *** يوما فتدركه العواقب قد نما
قال: فمررت بعبد اللّه بن عامر الأسلميّ، و كان يؤمّنا و هو قائم يصلّي الظهر، فقلت [له](7): قدم علينا أسود من الكوفة يغنّي كذا و كذا [فأجاده](8)؛ فأشار إليّ بيده أن اجلس؛ فلما قضى صلاته قال: أخذته عنه؟
ص: 93
قلت(1): نعم؛ قال: فأمرّه عليّ، ففعلت؛ قال: فلما كان بالليل صلّى بنا فأدّاه في المحراب.
يا ليلتي(2) تزداد نكرا *** من حبّ من أحببت بكرا
حوراء إن نظرت إلي *** ك سقتك بالعينين خمرا
الشعر لبشّار، و الغناء في اللحن الغناء ليزيد حوراء رمل بالبنصر عن عمرو و يحيى المكيّ و إسحاق. و فيه لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو و إبراهيم الموصليّ.
ص: 94
28 - أخبار بشار(1) بن برد و نسبه
هو، فيما ذكره الحسن بن عليّ عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن غيلان(2) الشّعوبيّ، /بشّار بن برد بن يرجوخ بن أزد كرد بن شروستان بن بهمن بن دارا بن فيروز بن كرديه بن ماهفيدان بن دادان بن بهمن بن أزد كرد بن حسيس بن مهران بن خسروان بن أخشين بن شهرداد بن نبوذ بن ماخرشيدا نماذ بن شهريار بن بنداد سيحان بن مكرر بن أدريوس بن يستاسب [بن لهراسف](3). قال: و كان يرجوخ من طخارستان(4) من سبى المهلّب بن أبي صفرة. و يكنى بشّار أبا معاذ. و محلّه في الشعر و تقدّمه طبقات المحدثين فيه بإجماع الرّواة و رئاسته عليهم من غير اختلاف في ذلك يغني عن وصفه و إطالة ذكر محله(5). و هو من مخضرمي شعراء الدولتين العبّاسية و الأموية، قد شهر فيهما و مدح و هجا و أخذ(6) سنيّ الجوائز مع الشعراء.
أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم قال قال حميد بن سعيد.
كان بشّار من شعب أدريوس بن يستاسب الملك بن لهراسف الملك. قال: و هو بشّار بن برد بن بهمن بن أزد كرد بن شروستان بن بهمن بن دارا بن فيروز. قال: و كان يكنى أبا معاذ.
في ضيعتها بالبصرة المعروفة «بخيرتان»(1) مع عبيد لها و إماء، فوهبت بردا بعد أن زوجته لامرأة من بني عقيل كانت متّصلة بها، فولدت له امرأته و هو في ملكها بشارا فأعتقته العقيليّة.
و أخبرني محمد(2) بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: كان برد أبو بشار مولى أمّ الظّباء العقيليّة السّدوسية، فادّعى بشار أنه مولى بني عقيل لنزوله فيهم.
و أخبرني أحمد بن العبّاس العسكريّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني رجل من ولد بشار يقال له حمدان كان قصّارا(3) بالبصرة، قال: ولاؤنا لبني عقيل؛ فقلت: لأيّهم؟ فقال: لبني ربيعة بن عقيل.
و أخبرني وكيع قال حدّثني سليمان المدنيّ(4) قال قال أحمد بن معاوية الباهليّ: كان بشار و أمّه لرجل من الأزد، فتزوّج امرأة من بني عقيل، فساق إليها بشارا و أمّه في صداقها، و كان بشّار ولد مكفوفا(5) فأعتقته العقيليّة.
/أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثني الحسن(6) بن عليل العنزي قال حدّثنا قعنب بن المحرز الباهليّ قال حدّثني محمد بن الحجّاج قال:
باعت أمّ بشّار بشّارا على أمّ الظّباء السّدوسيّة بدينارين فأعتقته. و أمّ الظباء امرأة أوس بن ثعلبة أحد بن تيم اللاّت بن ثعلبة، و هو صاحب قصر أوس بالبصرة؛ و كان أوس أحد فرسان بكر بن وائل بخراسان.
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثنا محمد بن زيد العجليّ قال أخبرني بدر بن مزاحم:
أنّ بردا أبا بشّار كان طيّانا يضرب اللّبن، و أراني أبي بيتين [لنا](7) فقال لي: لبن(8) هذين البيتين من ضرب برد أبي بشّار. فسمع هذه الحكاية حمّاد عجرد فهجاه فقال:
يا بن برد إخسأ إليك فمثل ال *** كلب في الناس أنت لا الإنسان
بل لعمري لأنت شرّ من الكل *** ب و أولى منه بكلّ هوان
/و لريح الخنزير أهون من ري *** حك يا ابن الطيّان ذي التّبّان(9)
ص: 96
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن أبي الصّلت البصريّ عن أبي عدنان قال حدّثني يحيى بن الجون العبديّ راوية بشّار قال:
/قال: لما دخلت على المهديّ قال لي: فيمن تعتدّ يا بشّار؟ فقلت: أمّا اللّسان و الزّيّ فعربيّان، و أمّا الأصل فعجميّ، كما قلت في شعري يا أمير المؤمنين:
و نبّئت قوما بهم جنّة *** يقولون من ذا و كنت العلم
ألا أيّها السائلي جاهدا(1) *** ليعرفني أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر *** فروعي و أصلي قريش العجم
فإني لأغني مقام الفتى *** و أصبي الفتاة فما تعتصم
قال: و كان أبو دلامة حاضرا فقال: كلاّ! لوجهك أقبح من ذلك و وجهي مع وجهك؛ فقلت: كلاّ! و اللّه ما رأيت رجلا أصدق على نفسه و أكذب على جليسه منك، و اللّه إني لطويل القامة عظيم الهامة تامّ الألواح أسجح(2)الخدّين، و لربّ(3) مسترخي المذروين(4) للعين فيه مراد قد جلس من الفتاة حجرة(5) و جلست منها حيث أريد، فأنت مثلي يا مرضعان(6)! [قال](7): فسكت عنّي، ثم قال لي المهديّ: فمن أيّ العجم أصلك؟ فقلت: من أكثرها في الفرسان، و أشدّها على الأقران، أهل طخارستان(8)؛ فقال بعض القوم: أولئك الصّغد؛ فقلت: لا، الصّغد تجار؛ فلم يردد ذلك المهديّ.
و قد كانت بتدمر خيل قيس *** فكان لتدمر فيها دمار
بحيّ من بني عيلان شوس(1) *** يسير الموت حيث يقال ساروا
و ما نلقاهم إلا صدرنا *** بريّ منهم و هم حرار(2)
و مرّة يتبرّأ من ولاء العرب فيقول:
أصبحت مولى ذي الجلال و بعضهم *** مولى العريب فخذ(3) بفضلك فافخر
مولاك أكرم من تميم كلّها *** أهل الفعال(4) و من قريش المشعر
فارجع إلى مولاك غير مدافع *** سبحان مولاك الأجلّ الأكبر
و قال يفتخر بولاء بني عقيل:
إنّني من بني عقيل بن كعب *** موضع السّيف من طلى(5) الأعناق
و يكنى بشّار أبا معاذ، و يلقّب بالمرعّث.
/أخبرني عمّي و يحيى بن عليّ قالا حدّثنا أبو أيوب المدينيّ قال حدّثني محمد بن سلاّم قال: بشّار المرعّث هو بشار بن برد، و إنما سمّي المرعّث بقوله:
/
قال ريم مرعّث *** ساحر الطّرف و النّظر
لست و اللّه نائلي *** قلت أو(6) يغلب القدر
أنت إن رمت وصلنا *** فانج، هل تدرك القمر
قال أبو أيّوب: و قال لنا ابن سلاّم مرّة أخرى: إنّما سمّي بشّار المرعّث، لأنه كان لقميصه جيبان: جيب عن يمينه و جيب عن شماله، فإذا أراد لبسه ضمّه عليه من غير أن يدخل رأسه فيه، و إذا أراد نزعه حلّ أزراره و خرج منه، فشبّهت تلك الجيوب بالرّعاث لاسترسالها و تدلّيها، و سمّي من أجلها المرعّث.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا عليّ بن مهديّ قال حدّثني أبو حاتم قال قال لي أبو عبيدة:
لقّب بشّار بالمرعّث لأنه كان في أذنه و هو صغير رعاث. و الرّعاث: القرطة، واحدتها رعثة و جمعها رعاث، [و رعثات](7). و رعثات الديك: اللحم المتدلّي تحت حنكه؛ قال الشاعر:
ص: 98
سقيت أبا المصرّع(1) إذ أتاني *** و ذو الرّعثات منتصب يصيح
شرابا يهرب الذّبّان منه *** و يلثغ حين يشربه الفصيح
قال: و الرّعث: الاسترسال و التساقط. فكأنّ اسم القرطة اشتقّ منه.
أخبرني محمد بن عمران قال حدّثني العنزيّ قال حدّثنا محمد(2) بن بدر العجليّ قال: سمعت الأصمعيّ يذكر أن بشّارا كان من أشدّ الناس تبرّما بالناس، و كان يقول: الحمد للّه الذي ذهب ببصري؛ فقيل له: و لم يا أبا معاذ؟ قال: لئلاّ أرى من أبغض. و كان يلبس قميصا له لبنتان(3)، فإذا أراد أن ينزعه نزعه من أسفله، فبذلك سمّي المرعّث.
أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعيّ قال حدّثنا قعنب بن محرز عن الأصمعيّ قال:
كان بشّار ضخما، عظيم الخلق و الوجه، مجدورا، طويلا، جاحظ المقلتين قد تغشّاهما لحم أحمر، فكان أقبح الناس عمى و أفظعه(4) منظرا، و كان إذا أراد أن ينشد صفّق بيديه و تنحنح و بصق عن يمينه و شماله ثم ينشد فيأتي بالعجب.
أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبي المدينيّ عن محمد بن سلاّم قال:
ولد بشّار أعمى، و هو الأكمه. و قال في تصداق ذلك أبو هشام الباهليّ يهجوه:
و عبدي فقا(5) عينيك في الرّحم أيره *** فجئت و لم تعلم لعينيك فاقيا
أ أمّك يا بشّار كانت عفيفة؟ *** عليّ إذا مشي إلى البيت حافيا
قال: و لم يزل بشّار منذ قال فيه هذين البيتين منكسرا.
/أخبرنا هاشم بن محمد قال حدّثنا الرّياشيّ عن الأصمعيّ قال:
ولد بشّار أعمى فما نظر إلى الدنيا قطّ، و كان يشبّه الأشياء بعضها ببعض في شعره فيأتي بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله؛ فقيل له يوما و قد أنشد قوله:
كأنّ مثار النقع فوق رءوسنا *** و أسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ص: 99
ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه، فمن أين لك هذا و لم تر الدنيا قطّ و لا شيئا فيها؟ فقال: إن عدم النظر يقوّي ذكاء القلب و يقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفّر حسّه و تذكو قريحته؛ ثم أنشدهم قوله:
/
عميت جنينا و الذكاء من العمى *** فجئت عجيب الظنّ للعلم موئلا
و غاض ضياء العين للعلم رافدا *** لقلب(1) إذا ما ضيّع الناس حصّلا
و شعر كنور الروض(2) لاءمت بينه *** بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا
أخبرنا هاشم قال حدّثنا العنزيّ عن قعنب بن محرز عن أبي عبد اللّه الشرادنيّ(3) قال: كان بشّار أعمى طويلا [ضخما](4) آدم مجدورا.
و أخبرني يحيى بن عليّ عن أبيّ أيوب المدينيّ قال قال الحمرانيّ(5) قالت لي عمّتي: زرت قرابة لي في بني عقيل فإذا أنا بشيخ أعمى ضخم ينشد:
من المفتون بشّار بن برد *** إلى شيبان كهلهم و مرد
بأن(6) فتاتكم سلبت فؤادي *** فنصف عندها و النصف عندي
فسألت عنه فقيل لي: هذا بشّار.
/أخبرني محمد بن يحيى الصّيرفي قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثنا أبو زيد قال سمعت أبا محمد التّوزيّ يقول:
قال بشّار: أزري بشعري الأذان. يقول: إنه إسلاميّ.
و أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال قال أبو عبيدة:
قال بشّار الشعر و لم يبلغ عشر سنين، ثم بلغ الحلم و هو مخشيّ معرّة لسانه.
قال: و كان بشّار يقول: هجوت جريرا فأعرض عنّي و استصغرني، و لو أجابني لكنت أشعر الناس.
و أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:
كان الأصمعيّ يقول: بشّار خاتمة الشعراء، و اللّه لو لا أنّ أيّامه تأخّرت لفضّلته على كثير منهم.
ص: 100
قال أبو زيد: كان راجزا مقصّدا(1).
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا محمد بن صالح بن النّطّاح(2) قال حدّثني أبو عبيدة: قال سمعت بشّارا يقول و قد أنشد(3) في شعر الأعشى:
و أنكرتني و ما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلا الشّيب و الصّلعا
فأنكره، و قال: هذا بيت مصنوع ما يشبه كلام الأعشى؛ فعجبت لذلك. فلمّا كان بعد هذا بعشر سنين كنت جالسا عند يونس، فقال: حدّثني أبو عمرو بن العلاء أنه صنع هذا البيت و أدخله في شعر الأعشى:
/
و أنكرتني و ما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلا الشيب و الصلعا
فجعلت حينئذ أزداد عجبا من فطنة بشّار و صحّة قريحته و جودة نقده للشعر.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال:
قال بشار: لي اثنا عشر ألف بيت عين؛ فقيل له(4): هذا ما لم يكن يدّعيه أحد قطّ سواك؛ فقال: لي اثنتا عشرة ألف قصيدة، لعنها اللّه و لعن قائلها إن لم يكن في كل واحدة منها بيت عين.
و أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا عليّ بن مهديّ عن أبي حاتم قال:
قلت لأبي عبيدة: أ مروان عندك أشعر أم بشّار؟ فقال: حكم بشّار لنفسه بالاستظهار أنه قال ثلاثة عشر ألف بيت جيّد، و لا يكون عدد الجيّد من شعر شعراء الجاهليّة و الإسلام هذا العدد، و ما أحسبهم برّزوا في مثلها، و مروان أمدح للملوك.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا الأصمعيّ قال:
قال بشّار الشعر و له عشر سنين، فما بلغ الحلم إلاّ و هو مخشيّ معرّة اللسان/بالبصرة. قال: و كان يقول:
هجوت جريرا فاستصغرني و أعرض عنّي، و لو أجابني لكنت أشعر أهل زماني.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا أبو العواذل زكريّا بن هارون قال:
/قال بشّار: لي اثنا عشر ألف بيت جيّدة؛ فقيل له: كيف(5)؟ قال: لي اثنتا عشرة ألف قصيدة، أما في كلّ قصيدة منها بيت جيّد!.
ص: 101
و قال الجاحظ في كتاب البيان و التبيين و قد ذكره: كان بشّار [شاعرا](1) خطيبا صاحب منثور و مزدوج(2)و سجع و رسائل، و هو من المطبوعين أصحاب الإبداع و الاختراع المفتّنين(3) في الشعر القائلين في أكثر أجناسه و ضروبه؛ قال الشعر في حياة جرير و تعرّض له، و حكي عنه أنه قال: هجوت جريرا فأعرض عنّي، و لو هاجاني لكنت أشعر الناس.
قال الجاحظ: و كان بشّار يدين بالرّجعة(4)، و يكفّر جميع الأمّة، و يصوّب رأي إبليس في تقديم النار على الطّين، و ذكر ذلك(5) في شعره فقال:
الأرض مظلمة و النار مشرقة *** و النار معبودة مذ كانت النار
قال: و بلغه عن أبي حذيفة واصل بن عطاء إنكار لقوله و هتف به، فقال يهجوه:
ما لي أشايع غزّالا(6) له عنق *** كنقنق الدّوّ(7) إن ولّى و إن مثلا
عنق الزّرافة ما بالي و بالكم *** تكفّرون رجالا كفّروا(8) رجلا!
/قال: فلما تتابع على واصل منه ما يشهد على إلحاده(9) خطب به واصل، و كان ألثغ على الراء فكان يجتنبها في كلامه، فقال: أ ما لهذا الأعمى الملحد، أ ما لهذا المشنّف المكنيّ بأبي معاذ من يقتله؟ أما و اللّه لو لا [أن](10) الغيلة سجيّة من سجايا الغالية لدسست إليه من يبعج بطنه في جوف منزله أو في حفله(11)، ثم كان لا يتولّى ذلك إلا عقيليّ أو سدوسيّ! فقال أبا معاذ(12) و لم يقل بشّارا، و قال المشنّف و لم يقل المرعّث، و قال: من سجايا الغالية و لم يقل الرافضة، و قال: في منزله و لم يقل في داره، و قال: يبعج بطنه و لم يقل يبقر، للثّغة التي كانت به في الرّاء.
ص: 102
قال: و كان واصل قد بلغ من اقتداره على الكلام و تمكّنه من العبارة أن حذف الراء من جميع كلامه و خطبه و جعل مكانها ما يقوم مقامها.
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي عن عافية بن شبيب قال حدّثني أبو سهيل قال حدّثني سعيد بن سلاّم قال:
كان بالبصرة ستّة من أصحاب الكلام: عمرو بن عبيد، و واصل بن عطاء، و بشّار الأعمى، و صالح بن عبد القدّوس، و عبد الكريم بن أبي العوجاء، و رجل من الأزد - قال أبو أحمد: يعني جرير بن حازم - فكانوا يجتمعون في منزل الأزديّ و يختصمون عنده. فأمّا عمرو و واصل فصارا إلى الاعتزال. و أمّا عبد الكريم/و صالح فصحّحا التوبة. و أمّا بشّار فبقي متحيّرا مخلّطا. و أمّا الأزديّ فمال إلى قول السّمنيّة(1)، و هو مذهب من مذاهب الهند، و بقي ظاهره على ما كان عليه. قال: فكان عبد الكريم يفسد الأحداث؛ فقال له عمرو بن عبيد: قد بلغني أنّك تخلو بالحدث من أحداثنا فتفسده [و تستزلّه](2) و تدخله في دينك، فإن خرجت من مصرنا و إلاّ قمت فيك مقاما آتي فيه على نفسك؛ فلحق بالكوفة، فدلّ عليه محمد بن سليمان فقتله و صلبه بها. و له يقول بشّار:
/
قل لعبد(3) الكريم يا ابن أبي العو *** جاء بعت الإسلام بالكفر موقا(4)
لا تصلّي و لا تصوم فإن صم *** ت فبعض النّهار صوما رقيقا
لا تبالي إذا أصبت من الخم *** ر عتيقا ألاّ تكون عتيقا
ليت شعري غداة حلّيت في الجي *** د حنيفا حلّيت أم زنديقا
أنت ممّن يدور في لعنة الل *** ه صديق لمن ينيك الصديقا(5)
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثني الرّياشيّ قال: سئل الأصمعيّ عن بشّار و مروان أيّهما أشعر؟ فقال:
بشّار؛ فسئل عن السبب في ذلك، فقال: لأنّ مروان سلك طريقا كثر من يسلكه فلم يلحق من تقدّمه، و شركه فيه من كان في عصره، و بشّار سلك طريقا لم يسلك و أحسن فيه و تفرّد به، و هو أكثر تصرّفا و فنون شعر و أغزر و أوسع بديعا، و مروان لم يتجاوز مذاهب الأوائل.
/أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثني العنزيّ عن أبي حاتم قال سمعت الأصمعيّ و قد عاد إلى البصرة من بغداد فسأله رجل عن مروان بن أبي حفصة، فقال: وجد أهل بغداد قد ختموا به الشّعراء و بشّار أحقّ بأن يختموهم به من
ص: 103
مروان؛ فقيل له: و لم؟ فقال: و كيف لا يكون كذلك و ما كان مروان في حياة بشّار يقول شعرا حتّى يصلحه له بشّار و يقوّمه! و هذا سلّم الخاسر من طبقة مروان يزاحمه بين أيدي الخلفاء بالشعر و يساويه في الجوائز، و سلّم معترف بأنه تبع لبشّار.
أخبرني جحظة قال سمعت عليّ بن يحيى المنجّم يقول: سمعت من لا أحصي من الرّواة يقولون: أحسن الناس ابتداء في الجاهليّة امرؤ القيس حيث يقول:
ألا انعم صباحا أيّها الطّلل البالي
و حيث يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل
و في الإسلام القطاميّ حيث يقول:
إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل
و من المحدّثين بشّار حيث يقول:
أبى طلل بالجزع أن يتكلّما *** و ما ذا عليه لو أجاب متيّما
و بالفرع(1) آثار بقين و باللّوى(2) *** ملاعب لا يعرفن إلا توهّما
/و في هذين البيتين لابن المكّي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى(3) من كتابه. و فيهما لابن جؤذر رمل.
أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن أبي حاتم قال:
كان الأصمعيّ يعجب بشعر بشّار لكثرة فنونه و سعة تصرّفه، و يقول: كان مطبوعا لا يكلّف طبعه شيئا متعذّرا لا كمن يقول البيت و يحكّكه أياما. و كان يشبّه بشّارا بالأعشى و النّابغة الذّبيانيّ، و يشبّه مروان بزهير و الحطيئة، و يقول: هو متكلّف.
قال الكرانيّ: قال أبو حاتم: و قلت لأبي زيد: أيّما أشعر بشّار أم مروان؟ فقال: بشّار أشعر، و مروان أكفر.
ص: 104
قال أبو حاتم: و سألت أبا زيد مرّة أخرى عنهما فقال: مروان أجدّ و بشّار أهزل؛ فحدّثت الأصمعيّ بذلك؛ فقال: بشار يصلح للجدّ و الهزل، و مروان لا يصلح إلاّ لأحدهما.
نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى قال حدّثنا عليّ بن مهديّ قال حدّثنا نجم بن النّطّاح قال:
عهدي بالبصرة/و ليس فيها غزل و لا غزلة إلاّ يروي من شعر بشّار، و لا نائحة و لا مغنّية إلاّ لتكسّب به، و لا ذو شرف إلاّ و هو يهابه و يخاف معرّة لسانه.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن المبارك قال حدّثني أبي قال:
قلت لبشّار: ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلاّ و قد قال فيه شيئا استنكرته العرب من ألفاظهم و شكّ فيه، و إنه ليس في شعرك ما يشكّ فيه؛ قال: و من/أين يأتيني الخطأ! ولدت هاهنا و نشأت في حجور ثمانين شيخا من فصحاء بني عقيل ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، و إن دخلت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، و أيفعت(1)فأبديت(2) إلى أن أدركت، فمن أين يأتيني الخطأ!.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و أحمد بن عبد العزيز و يحيى بن عليّ قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال:
كان الأصمعيّ يقول: إنّ بشّارا خاتمة الشعراء، و اللّه لو لا أنّ أيّامه تأخّرت لفضّلته على كثير منهم.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني أبو الفضل المروزيّ قال حدّثني قعنب بن المحرز الباهليّ قال قال الأصمعيّ:
لقي أبو عمرو بن العلاء بعض الرّواة فقال له: يا أبا عمرو، من أبدع الناس بيتا؟ قال: الذي يقول:
لم يطل ليلي و لكن لم أنم *** و نفى عنّي الكرى طيف ألمّ
روّحي عنّي قليلا و اعلمي *** أنّني يا عبد من لحم و دم
قال: فمن أمدح الناس؟ قال: الذي يقول:
لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى *** و لم أدر أنّ الجود من كفّه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى *** أفدت و أعداني فأتلفت(3) ما عندي
/قال: فمن أهجى الناس؟ قال: الذي يقول:
رأيت السّهيلين استوى الجود فيهما *** على بعد ذا من ذاك في حكم حاكم
ص: 105
سهيل بن عثمان يجود بماله *** كما جاد بالوجعاء(1) سهيل بن سالم
قال: و هذه الأبيات كلّها لبشّار.
لم يطل ليلي و لكن لم أنم *** و نفى عنّي الكرى طيف ألمّ
و إذا قلت لها جودي لنا *** خرجت بالصّمت عن لا و نعم
نفّسي(2) يا عبد عنّي و اعلمي *** أنّني يا عبد من لحم و دم
إنّ في برديّ جسما ناحلا *** لو توكّأت عليه لانهدم
حتم الحبّ لها في عنقي *** موضع الخاتم من أهل الذّمم
غناه إبراهيم هزجا بالسّبابة في مجرى الوسطى عن ابن المكيّ و الهشاميّ. و فيه لقعنب الأسود خفيف ثقيل.
فأما الأبيات التي ذكر أبو عمرو أنّه فيها أمدح الناس و أوّلها:
لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى
فإنه ذكر أنها لبشّار. و ذكر الزّبير بن بكّار أنها لابن الخيّاط/في المهديّ، و ذكر له فيها معه خبرا طويلا قد ذكرته في أخبار ابن الخيّاط في هذا الكتاب(3).
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا عليّ بن مهديّ الكسرويّ قال حدّثنا أبو حاتم قال:
/كان بشار كثير الولوع بديسم العنزيّ و كان صديقا له و هو مع ذلك يكثر هجاءه، و كان ديسم لا يزال يحفظ شيئا من شعر حمّاد و أبي هشام الباهليّ في بشّار؛ فبلغه ذلك فقال فيه:
أ ديسم يا ابن الذئب من نحل زارع *** أ تروي هجائي سادرا(4) غير مقصر
قال أبو حاتم: فأنشدت أبا زيد هذا البيت و سألته ما يقول فيه، فقال: لمن هذا الشعر؟ فقلت: لبشار [يقوله](5) في ديسم العنزيّ؛ فقال: قاتله اللّه ما أعلمه بكلام العرب! ثم قال: الدّيسم: ولد الذئب من الكلبة، و يقال للكلاب: أولاد زارع. و العسبار: ولد الضّبع من الذئب(6). و السّمع: ولد الذئب(7) من الضّبع. و تزعم
ص: 106
العرب أن السّمع لا يموت حتف أنفه، و أنه أسرع من الريح و إنما هلاكه بعرض من(1) أعراض الدنيا.
أخبرنا حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:
كان بالبصرة رجل يقال له: حمدان الخرّاط، فاتخذ جاما لإنسان كان بشّار عنده، فسأله بشار أن يتخذ له جاما فيه صور طير تطير، فاتخذه له و جاءه به، فقال له: ما في هذا الجام؟ فقال: صور طير تطير؛ فقال [له: قد](2) كان ينبغي أن تتخذ فوق/هذه الطير طائرا من الجوارح كأنه يريد صيدها، فإنه كان أحسن؛ قال: لم أعلم؛ قال: بلى قد علمت، و لكن علمت(3) أني أعمى لا أبصر شيئا! و تهدّده بالهجاء، فقال له حمدان: لا تفعل فإنك تندم؛ قال:
أو تهدّدني أيضا! قال: نعم؛ قال: فأيّ شيء تستطيع أن تصنع بي إن هجوتك! قال: أصوّرك على باب داري بصورتك هذه و أجعل من خلفك قردا ينكحك حتى يراك الصّادر و الوارد؛ قال(4) بشار: اللّهمّ أخزه، أنا أمازحه و هو يأبى إلا الجدّ!.
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى و الحسن بن عليّ و محمد بن عمران الصّيرفيّ قالوا: حدّثنا العنزيّ قال حدّثني جعفر بن محمد [العدويّ(5) عن محمد] بن سلاّم قال حدّثني مخلد أبو سفيان قال:
كان جرير بن المنذر السّدوسيّ يفاخر بشّارا؛ فقال فيه بشّار:
أمثل بني مضر وائل *** فقدتك من فاخر ما أجنّ
أ في النوم هذا أبا منذر *** فخيرا رأيت و خيرا يكن
رأيتك و الفخر في مثلها *** كعاجنة غير ما تطّحن
و قال يحيى في خبره: فحدّثني محمد بن القاسم قال حدّثني عاصم(6) بن وهب أبو شبل الشاعر البرجميّ قال حدّثني محمد بن الحجّاج السرادانيّ(7) قال:
/كنّا عند بشّار و عنده رجل ينازعه في اليمانية و المضريّة إذ أذّن المؤذّن، فقال له بشار: رويدا، تفهّم هذا الكلام؛ فلما قال: أشهد أنّ محمدا رسول اللّه، قال له بشّار: أ هذا الذي نودي باسمه مع اسم اللّه عزّ و جلّ من مضرّ
ص: 107
هو أم من صداء و عكّ و حمير؟ فسكت الرجل.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال أنشد(1) بشار قول الشاعر:
و قد جعل الأعداء ينتقصوننا *** و تطمع فينا ألسن و عيون
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة *** إذا غمزوها بالأكفّ تلين
/فقال: و اللّه لو زعم أنها عصا مخّ أو عصا زبد، لقد كان جعلها جافية خشنة بعد أن جعلها عصا! أ لا قال كما قلت:
و دعجاء المحاجر من معدّ *** كأن حديثها ثمر الجنان
إذا قامت لمشيتها(2) تثنّت *** كأن عظامها من خيزران
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرني محمد بن [صالح بن](3) الحجاج قال:
قلت لبشار: إنّي أنشدت فلانا قولك:
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى *** ظمئت و أيّ الناس تصفو مشاربه
فقال لي: ما كنت أظنه إلا لرجل كبير؛ فقال لي بشار: ويلك! أ فلا قلت له: هو و اللّه لأكبر الجنّ و الإنس!.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبو الشّبل عن محمد بن الحجاج قال:
كان بشّار يهوى امرأة من أهل البصرة فراسلها يسألها زيارته، فوعدته بذلك ثم أخلفته، و جعل ينتظرها ليلته حتى أصبح، فلما لم تأته أرسل إليها يعاتبها فاعتذرت بمرض أصابها؛ فكتب إليها بهذه الأبيات:
يا ليلتي تزداد نكرا *** من حبّ من أحببت بكرا
حوراء إن نظرت إلي *** ك سقتك بالعينين خمرا
و كأن رجع حديثها *** قطع الرياض كسين زهرا
و كأن تحت لسانها *** هاروت ينفث فيه سحرا
و تخال ما جمعت علي *** ه ثيابها ذهبا و عطرا
ص: 108
و كأنها برد الشرا *** ب صفا و وافق منك فطرا
جنّيّة إنسيّة *** أو بين ذاك أجلّ أمرا
و كفاك أنّي لم أحط *** بشكاة من أحببت خبرا
إلا مقالة زائر *** نثرت لي الأحزان نثرا
متخشّعا تحت الهوى *** عشرا و تحت الموت عشرا
حدّثني جحظة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال:
كان إسحاق الموصليّ لا يعتدّ ببشار و يقول: هو كثير التخليط في شعره(1)، و أشعاره مختلفة، لا يشبه بعضها بعضا؛ أ ليس هو القائل:
/
إنما عظم سليمى حبّتي(2)*** قصب السّكّر لا عظم الجمل
و إذا أدنيت منها بصلا *** غلب المسك على ريح البصل
لو قال كلّ شيء جيّد ثم أضيف إلى هذا لزيّفه. قال: و كان يقدّم عليه مروان و يقول: هذا هو أشدّ استواء شعر منه، و كلامه و مذهبه أشبه بكلام العرب و مذاهبها، و كان لا يعدّ أبا نواس البتة و لا يرى فيه خيرا.
حدّثنا محمد بن عليّ(3) بن يحيى قال حدّثنا محمد بن زكريّا قال حدّثنا محمد بن عبد الرحمن التّيميّ قال:
دخل بشّار إلى إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن، فأنشده قصيدة يهجو فيها المنصور و يشير عليه برأي يستعمله في أمره، فلما قتل/إبراهيم خاف بشار، فقلب الكنية، و أظهر أنه كان قالها في أبي مسلم و حذف منها أبياتا و أوّلها:
أبا جعفر ما طول عيش بدائم *** و لا سالم عمّا قليل بسالم
قلب هذا البيت فقال: «أبا مسلم».
على الملك الجبّار يقتحم الردى *** و يصرعه في المأزق المتلاحم
كأنك لم تسمع بقتل متوّج *** عظيم و لم تسمع بفتك(4) الأعاجم
تقسّم كسرى رهطه بسيوفهم *** و أمسى أبو العباس أحلام نائم
يعني الوليد بن يزيد.
و قد كان لا يخشى انقلاب مكيدة *** عليه و لا جري النّحوس الأشائم
مقيما على اللّذات حتى بدت له *** وجوه المنايا حاسرات العمائم
ص: 109
/
و قد ترد الأيام غرّا و ربّما *** وردن كلوحا باديات الشّكائم
و مروان(1) قد دارت على رأسه الرحى *** و كان لما أجرمت نزر الجرائم
فأصبحت تجري سادرا في طريقهم *** و لا تتّقي أشباه تلك النقائم
تجرّدت للإسلام تعفو(2) سبيله *** و تعري مطاه(3) للّيوث الضّراغم
فما زلت حتى استنصر الدين أهله *** عليك فعاذوا بالسّيوف الصوارم
فرم وزرا ينجيك يا ابن سلامة *** فلست بناج من مضيم و ضائم
جعل موضع «يا ابن سلامة» «يا ابن وشيكة»(4) و هي أمّ أبي مسلم.
لحا اللّه قوما رأسوك عليهم *** و ما زلت مرءوسا خبيث المطاعم
أقول لبسّام عليه جلالة *** غدا أريحيّا عاشقا للمكارم
من الفاطميّين الدّعاة إلى الهدى *** جهارا و من يهديك مثل ابن فاطم(5)
هذا البيت الذي [خافه و](6) حذفه بشار من الأبيات.
سراج لعين المستضيء و تارة *** يكون ظلاما للعدوّ المزاحم
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن *** برأي نصيح أو نصيحة حازم
و لا تجعل الشّورى عليك غضاضة *** فإنّ الخوافي قوّة للقوادم
و ما خير كفّ أمسك الغلّ(7) أختها *** و ما خير سيف لم يؤيّد بقائم
/و خلّ الهوينا للضّعيف و لا تكن *** نئوما فإن الحزم ليس بنائم
و حارب إذا لم تعط إلا ظلامة *** شبا الحرب خير من قبول المظالم
قال محمد بن يحيى: فحدّثني الفضل بن الحباب قال سمعت أبا عثمان المازنيّ يقول سمعت أبا عبيدة يقول:
ميميّة بشار هذه أحب إليّ من ميميّتي جرير و الفرزدق.
قال محمد: و حدّثني ابن الرّياشيّ قال حدّثني أبي قال:
قال الأصمعيّ قلت لبشّار: يا أبا معاذ، إن الناس يعجبون من أبياتك في المشورة؛ فقال لي: يا أبا سعيد، إن
ص: 110
المشاور بين صواب يفوز بثمرته أو خطأ يشارك/في مكروهه؛ فقلت له: أنت و اللّه في قولك هذا أشعر منك في شعرك.
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الفضل بن محمد اليزيديّ عن إسحاق و حدّثني به محمد بن مزيد بن أبي الأزهر عن حمّاد عن أبيه قال:
كان بشّار جالسا في دار المهديّ و الناس ينتظرون الإذن، فقال بعض موالي المهديّ لمن حضر: ما عندكم في قول اللّه عزّ و جلّ:
(وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبٰالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ) فقال له بشار: النّحل التي يعرفها الناس؛ قال هيهات يا أبا معاذ، النحل: بنو هاشم، و قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ) يعني العلم؛ فقال له بشّار: أراني اللّه طعامك و شرابك و شفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم، فقد أوسعتنا غثاثة؛ فغضب و شتم بشّارا؛ و بلغ المهديّ الخبر فدعا بهما فسألهما عن القصة، فحدّثه بشّار بها؛ فضحك حتى أمسك على بطنه، ثم قال للرجل: أجل! فجعل اللّه طعامك و شرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فإنك بارد غثّ. و قال/محمد بن مزيد في خبره: إنّ الذي خاطب بشّارا بهذه الحكاية و أجابه عنها من موالي المهديّ المعلّى بن طريف.
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
دخل يزيد بن منصور الحميريّ على المهديّ و بشّار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها، فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد بن منصور الحميريّ، و كانت فيه غفلة، فقال له: يا شيخ، ما صناعتك؟ فقال: أثقب اللؤلؤ؛ فضحك المهديّ ثم قال لبشّار: أعزب(1) ويلك؛ أ تتنادر على خالي! فقال له: و ما أصنع به! يرى شيخا أعمى ينشد الخليفة شعرا و يسأله عن صناعته!.
أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه قال:
وقف على بشّار بعض المجّان و هو ينشد شعرا؛ فقال له: استر شعرك هذا كما تستر عورتك؛ فصفّق بشّار بيديه و غضب و قال له: من أنت ويلك؟ قال: أنا أعزّك اللّه رجل من باهلة(2)، و أخوالي [من](3) سلول(4)، و أصهاري عكل(5)، و اسمي كلب، و مولدي بأضاخ(6)، و منزلي بنهر(7) بلال؛ فضحك بشّار ثم قال: اذهب
ص: 111
ويلك! فأنت عتيق لؤمك، قد علم اللّه أنك استترت منّي بحصون من حديد.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني الفضل بن سعيد قال حدّثني أبي قال:
مرّ بشار بقاصّ بالبصرة(1) فسمعه يقول في قصصه: من صام رجبا و شعبان و رمضان بنى اللّه له قصرا في الجنّة صحنه ألف فرسخ في مثلها و علوه ألف فرسخ و كلّ باب من أبواب بيوته و مقاصره عشرة فراسخ في مثلها، قال: فالتفت بشار إلى قائده. فقال: بئست و اللّه الدار هذه في كانون الثاني(2).
قال الفضل بن سعيد و حدّثني رجل من أهل البصرة ممن كان يتزوّج بالنّهاريّات(3) قال: تزوّجت امرأة منهن فاجتمعت معها في علو بيت و بشّار تحتنا، أو كنا في أسفل البيت و بشار في علوه مع امرأة، فنهق حمار في الطريق فأجابه حمار في الجيران و حمار في الدار فارتجّت الناحية بنهيقها، و ضرب الحمار الذي في الدار الأرض برجله و جعل يدقّها بها دقّا شديدا فسمعت بشّارا يقول للمرأة: نفخ - يعلم اللّه - في الصّور و قامت القيامة أ ما تسمعين كيف يدقّ على أهل القبور حتى يخرجوا منها! قال: و لم يلبث أن فزعت شاة كانت في السطح فقطعت حبلها و عدت فألقت طبقا و غضارة(4)/الى الدار فانكسرا، و تطاير حمام و دجاج كنّ في الدار لصوت الغضارة و بكى صبيّ في الدار؛ فقال بشّار: صحّ و اللّه الخبر و نشر أهل القبور من قبورهم أزفت - يشهد اللّه - الآزفة و زلزلت الأرض زلزالها؛ فعجبت من كلامه و غاظني ذلك؛ /فسألت من المتكلم؟ فقيل لي: بشار، فقلت: قد علمت أنه لا يتكلّم بمثل هذا غير بشّار.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن محمد جدار(5) قال حدّثني قدامة بن نوح قال:
مرّ بشار برجل قد رمحته(6) بغلة و هو يقول: الحمد للّه شكرا، فقال له بشّار: استزده يزدك. قال: و مرّ به قوم يحملون جنازة و هم يسرعون المشي بها، فقال: ما لهم مسرعين! أ تراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا فيؤخذ منهم!.
مات ابن له فرثاه:
ص: 112
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن عافية بن شبيب، و أخبرني به وكيع عن محمد بن عمر بن محمد بن عبد الملك عن الحسن بن جمهور، قالا(1):
توفّى ابن لبشار فجزع عليه؛ فقيل له: أجر قدّمته، و فرط افترطته، و ذخر أحرزته، فقال: ولد دفنته، و ثكل تعجّلته، و غيب وعدته فانتظرته؛ و اللّه لئن لم أجزع للنقص لا أفرح للزيادة. و قال يرثيه:
أجارتنا لا تجزعي و أنيبي *** أتاني من الموت المطلّ نصيبي
بنيّ على رغمي و سخطي رزئته *** و بدّل أحجارا و جال(2) قليب
و كان كريحان الغصون(3) تخاله *** ذوي بعد إشراق يسرّ و طيب
/أصيب بنيّ حين أورق غصنه *** و ألقى عليّ الهمّ كلّ قريب
عجبت لإسراع المنيّة نحوه *** و ما كان لو ملّيته(4) بعجيب
أخبرني يحيى بن عليّ قال ذكر عافية بن شبيب عن أبي عثمان اللّيثيّ، و حدّثني به الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه عن أبي مسلم، قالا:
رفع غلام بشّار إليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم، فصاح به بشّار و قال: و اللّه ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمى بعشرة دراهم، و اللّه لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم.
أخبرنا محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبيّ قال حدّثنا أبو معاذ النّميريّ قال: قلت لبشّار: لم مدحت يزيد بن حاتم ثم هجوته؟ قال: سألني أن أنيكه فلم أفعل؛ فضحكت ثم قلت: فهو كان ينبغي له أن يغضب، فما موضع الهجاء! فقال: أظنّك تحبّ أن تكون شريكه؛ فقلت: أعوذ باللّه من ذلك ويلك(5)!
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا أحمد بن خلاّد، و أخبرنا يحيى بن عليّ و محمد بن عمران الصّيرفيّ، قالا حدّثنا العنزيّ قال حدّثنا أحمد بن خلاّد قال حدّثني أبي قال قلت لبشّار: إنك لتجيء بالشيء الهجين(6) المتفاوت، قال: و ما ذاك؟ قال قلت: بينما تقول شعرا تثير(7) به النقع و تخلع به القلوب، مثل قولك:
إذا ما غضبنا غضبة مضريّة *** هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدما
ص: 113
إذا ما أعرنا سيّدا من قبيلة *** ذرى منبر صلّى علينا و سلّما
/تقول:
ربابة ربّة البيت *** تصبّ الخلّ في الزّيت
لها عشر دجاجات *** و ديك حسن الصّوت
فقال: لكلّ وجه و موضع، فالقول الأوّل جدّ، و هذا قلته في ربابة جاريتي، و أنا لا آكل البيض من السّوق، و ربابة [هذه](1) لها عشر دجاجات و ديك فهي تجمع لي البيض [و تحفظه عندها](1)، فهذا عندها من قولي أحسن من:
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل
عندك.
أخبرني الحسن [بن عليّ](2) قال حدّثني أحمد بن محمد جدار قال حدّثني قدامة بن نوح قال:
كان بشّار يحشو شعره إذا أعوزته القافية و المعنى بالأشياء التي لا حقيقة لها، فمن ذلك أنه أنشد يوما شعرا له فقال فيه:
غنّني للغريض يا بن قنان
فقيل له: من ابن قنان هذا، لسنا نعرفه من مغنّي البصرة؟ قال: و ما عليكم منه! أ لكم قبله دين فتطالبوه به، أو ثأر تريدون أن تدركوه، أو كفلت لكم به فإذا غاب طالبتموني بإحضاره؟ قالوا: ليس بيننا و بينه شيء من هذا، و إنما أردنا أن نعرفه، فقال: هو رجل يغنّي لي و لا يخرج من بيتي؛ فقالوا له: إلى متى؟ قال: مذ يوم ولد و إلى يوم يموت. قال: و أنشدنا أيضا في هذه القصيدة:
...................(3) و وافا *** ني هلال السماء في البردان
/فقلنا: يا أبا معاذ. أين البردان هذا؟ لسنا نعرفه بالبصرة، فقال: هو بيت في بيتي سمّيته البردان، أ فعليكم من تسميتي داري و بيوتها شيء فتسألوني عنه!.
حدّثني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثني أبو غسّان دماذ - و اسمه رفيع بن سلمة - قال حدّثني يحيى بن الجون العبديّ راوية بشّار قال:
كنا عند بشّار يوما فأنشدنا قوله:
و جارية خلقت وحدها *** كأن النساء لديها خدم
ص: 114
دوار(1) العذارى إذا زرنها *** أطفن بحوراء مثل الصّنم(2).
ظمئت إليها فلم تسقني *** بريّ و لم تشفني من سقم
و قالت هويت فمت راشدا *** كما مات عروة(3) غمّا بغمّ
فلما رأيت الهوى قاتلي *** و لست بجار و لا بابن عمّ
دسست إليها أبا مجلز *** و أيّ فتى إن أصاب اعتزم
فما زال حتى أنابت له *** فراح و حلّ لنا ما حرم
فقال له رجل: و من أبو مجلز هذا يا أبا معاذ؟ قال: و ما حاجتك إليه! لك عليه دين أو تطالبه بطائلة(4)! هو رجل يتردّد بيني و بين معارفي في رسائل. قال: و كان كثيرا ما يحشو شعره بمثل هذا.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
كانت بالبصرة قينة لبعض ولد سليمان بن عليّ و كانت محسنة بارعة الظّرف، و كان بشّار صديقا لسيّدها و مدّاحا له، فحضر مجلسه يوما و الجارية تغنّي؛ فسرّ بحضوره و شرب حتى سكر و نام، و نهض بشّار؛ فقالت: يا أبا معاذ، أحبّ أن تذكر يومنا هذا في قصيدة و لا تذكر فيها اسمي و لا اسم سيّدي و تكتب بها إليه؛ فانصرف و كتب إليه:
و ذات دلّ كأن البدر صورتها *** باتت تغنّي عميد(5) القلب سكرانا:
/ (إنّ العيون التي في طرفها حور *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا)
فقلت أحسنت يا سؤلي و يا أملي *** فأسمعيني جزاك اللّه إحسانا:
(يا حبّذا جبل الرّيان(6) من جبل *** و حبّذا ساكن الريّان من كانا)
قالت فهلا، فدتك النفس، أحسن من *** هذا لمن كان صبّ القلب حيرانا:
(يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة *** و الأذن تعشق قبل العين أحيانا)
فقلت أحسنت أنت الشمس طالعة *** أضرمت في القلب و الأحشاء نيرانا
فأسمعيني صوتا مطربا هزجا(7) *** يزيد صبّا محبّا فيك أشجانا
يا ليتني كنت تفّاحا مفلّجة(8) *** أو كنت من قضب الريحان ريحانا
ص: 115
حتى إذا وجدت ريحي فأعجبها *** و نحن في خلوة مثلّث إنسانا
فحرّكت عودها ثم انثنت طربا *** تشدو به ثم لا تخفيه كتمانا:
(أصبحت أطوع خلق اللّه كلّهم *** لأكثر الخلق لي في الحبّ عصيانا)
/فقلت أطربتنا يا زين مجلسنا *** فهات إنك بالإحسان أولانا
لو كنت أعلم أنّ الحبّ يقتلني *** أعددت لي قبل أن ألقاك أكفانا
فغنّت الشّرب صوتا مؤنقا(1) رملا *** يذكي السّرور و يبكي العين ألوانا:
(لا يقتل اللّه من دامت مودّته *** و اللّه يقتل أهل الغدر أحيانا)
و وجّه بالأبيات إليها، فبعث إليه سيّدها بألفي دينار و سرّ بها سرورا شديدا.
أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدثني الحسن بن عليل قال حدثني عليّ بن منصور أبو الحسن الباهليّ قال حدّثني أبو عبد اللّه المقرئ الجحدريّ الذي كان يقرأ في المسجد الجامع بالبصرة، قال:
دخل أعرابيّ على مجزأة بن ثور السّدوسيّ و بشّار عنده و عليه بزّة الشعراء، فقال الأعرابيّ: من الرجل؟ فقالوا: رجل شاعر؛ فقال: أ مولى هو أم عربيّ؟ قالوا: بل مولى؛ فقال الأعرابيّ: و ما للموالي و للشعر! فغضب بشّار و سكت هنيهة، ثم قال: أ تأذن لي يا أبا ثور؟ قال: قل ما شئت يا أبا معاذ؛ فأنشأ بشّار يقول:
خليلي لا أنام على اقتسار *** و لا آبى على مولى و جار
سأخبر فاخر الأعراب عنّي *** و عنه حين تأذن بالفخار
أ حين كسيت بعد العري خزّا *** و نادمت الكرام على العقار
تفاخر يا ابن راعية و راع *** بني الأحرار حسبك من خسار
و كنت إذا ظمئت إلى قراح *** شركت الكلب في ولغ الإطار(2)
تريغ(3) بخطبة كسر المواني *** و ينسيك المكارم صيد فار
/و تغدو(4) للقنافذ تدّريها(5) *** و لم تعقل(6) بدرّاج(7) الدّيار
و تتّشح(8) الشّمال للابسيها *** و ترعى الضأن بالبلد القفار
ص: 116
مقامك بيننا دنس علينا *** فليتك غائب في حرّ نار
/و فخرك بين خنزير و كلب *** على مثلي من الحدث الكبار
فقال مجزأة للأعرابيّ: قبحك اللّه! فأنت كسبت هذا الشرّ لنفسك و لأمثالك!.
أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدّثني العنزيّ عن الرّياشيّ قال:
حضر بشّار باب محمد بن سليمان، فقال له الحاجب: اصبر؛ فقال: إنّ الصبر لا يكون إلا على بليّة؛ فقال له الحاجب: إنّي أظنّ أنّ وراء قولك هذا شرّا و لن أتعرّض له، فقم فادخل.
أخبرني وكيع قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن محمد بن سلاّم قال:
قال هلال الرأي(1) - و هو هلال بن عطية - لبشّار و كان له صديقا يمازحه: إنّ اللّه لم يذهب بصر أحد إلا عوّضه بشيء، فما عوّضك؟ قال: الطويل العريض؛ قال: و ما هذا؟ قال: ألاّ أراك و لا أمثالك من الثقلاء. ثم قال له: يا هلال أ تطيعني/في نصيحة أخصّك بها؟ قال نعم؛ قال: إنك كنت تسرق الحمير زمانا ثم تبت و صرت رافضيّا، فعد إلى سرقة الحمير، فهي و اللّه خير لك من الرّفض(2).
قال محمد بن سلاّم: و كان هلال يستثقل، و فيه يقول بشّار:
و كيف يخفّ لي بصري و سمعي *** و حولي عسكران من الثّقال
قعودا حول دسكرتي(3) و عندي *** كأنّ لهم عليّ فضول مال
إذا ما شئت صبّحني هلال *** و أيّ الناس أثقل من هلال
و أخبرني أبو دلف الخزاعيّ بهذا الخبر عن عيسى بن إسماعيل عن ابن عائشة، فذكر أنّ الذي خاطب بشّارا بهذه المخاطبة ابن سيّابة، فلما أجابه بشّار بالجواب المذكور، قال له: من أنت؟ قال: ابن سيّابة؛ فقال له: يا ابن سيّابة، لو نكح الأسد ما افترس؛ قال: و كان يتّهم بالأبنة.
قال أيوب و حدّثني محمد بن سلاّم و غيره قالوا: مرّ ابن أخي بشّار به و معه قوم؛ فقال لرجل معه: من هذا؟ فقال: ابن أخيك؛ قال: أشهد أن أصحابه أنذال؛ قال: و كيف علمت؟ قال: ليست لهم نعال.
ص: 117
أخبرنا محمد بن عليّ قال حدّثني أبي قال حدّثني عافية بن شبيب عن أبي دهمان الغلابيّ(1)، قال:
مررت ببشّار يوما و هو جالس على بابه وحده و ليس معه خلق و بيده مخصرة(2) يلعب بها و قدّامه طبق فيه تفّاح و أترجّ(3)، فلما رأيته و ليس عنده أحد تاقت نفسي/إلى أن أسرق ما بين يديه، فجئت قليلا قليلا و هو كافّ [يده](4) حتى مددت يدي لأتناول منه، فرفع القضيب و ضرب به يدي ضربة كاد يكسرها، فقلت [له](1): قطع اللّه يدك يا ابن الفاعلة، أنت الآن أعمى! فقال: يا أحمق، فأين الحسّ!.
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني العنزيّ قال حدّثني خالد بن يزيد بن وهب بن جرير عن أبيه قال:
كان لبشّار في داره مجلسان: مجلس يجلس فيه بالغداة يسمّيه «البردان» و مجلس يجلس فيه بالعشيّ اسمه «الرّقيق»، فأصبح ذات يوم فاحتجم و قال لغلامه: أمسك عليّ بابي و اطبخ لي من طيّب طعامي و صفّ نبيذي؛ قال:
فإنه لكذلك إذ قرع الباب قرعا عنيفا؛ فقال: ويحك يا غلام! انظر من يدقّ الباب دقّ الشّرط؛ قال: فنظر الغلام، فقال له: نسوة خمس بالباب يسألن أن تقول لهنّ شعرا ينحن به؛ فقال: أدخلهنّ، فلمّا دخلن نظرن إلى النبيذ مصفّى في قنانيّه/في جانب بيته؛ قال: فقالت واحدة منهنّ: هو خمر، و قالت الأخرى: هو زبيب و عسل، و قالت الثالثة: نقيع زبيب؛ فقال: لست بقائل لكنّ حرفا أو تطعمن من طعامي و تشربن من شرابي؛ قال: فتماسكن ساعة، ثم قالت واحدة منهنّ: ما عليكنّ! هو أعمى فكلن [من](5) طعامه و اشربن من شرابه و خذن شعره؛ فبلغ ذلك الحسن البصريّ فعابه و هتف ببشّار؛ فبلغه ذلك - و كان بشّار يسمّي الحسن البصريّ القسّ - فقال:
لما طلعن من الرّقي *** ق عليّ بالبردان خمسا
و كأنهنّ أهلّة *** تحت الثياب زففن شمسا
لمّا طلعن حففنها *** و أصخن ما يهمسن همسا
فسألنني من في البيو *** ت فقلت ما يؤوين إنسا
ليت العيون الطارفا(8) *** ت طمسن عنّا اليوم طمسا
ص: 118
فأصبن من طرف الحدي *** ث لذاذة و خرجن ملسا(1)
لو لا تعرّضهنّ لي *** يا قسّ كنت كأنت قسّا
غنّى في هذه الأبيات يحيى المكّي، و لحنه رمل بالبنصر عن عمرو.
أخبرنا يحيى قال حدّثني العنزيّ قال حدّثنا عليّ بن محمد قال حدّثني جعفر بن محمد النوفليّ - و كان يروي شعر بشّار بن برد - قال: جئت بشّارا ذات يوم فحدّثني، قال: ما شعرت منذ أيّام إلا بقارع يقرع بابي مع الصّبح، فقلت: يا جارية انظري من هذا، فرجعت إليّ و قالت: هذا مالك بن دينار؛ فقلت: ما هو من أشكالي و لا أضرابي، ثمّ قلت: ائذني له، فدخل فقال: يا أبا معاذ، أ تشتم أعراض الناس و تشبّب بنسائهم! فلم يكن عندي إلاّ أن دفعت عن نفسي و قلت: لا أعود، فخرج عنّي، و قلت في أثره:
غدا مالك بملاماته *** عليّ و ما بات من باليه
تناول خودا هضيم الحشي *** من الحور محظوظة(2) عاليه
/فقلت دع اللّوم في حبّها *** فقبلك أعييت عذّاليه
و إنّي لأكتمهم سرّها *** غداة تقول لها الجالية(3)
عبيدة مالك مسلوبة *** و كنت معطّرة حاليه
فقالت على رقبة(4): إنّني *** رهنت المرعّث(5) خلخاليه
بمجلس يوم سأوفي به *** و لو أجلب الناس أحواليه(6)
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني السّميدع(7) بن محمّد الأزديّ قال حدّثني عبد الرحمن بن
ص: 119
الجهم عن هشام بن الكلبيّ قال:
كان أوّل بدء بشّار أنّه عشق جارية يقال لها فاطمة، و كان قد كفّ و ذهب بصره، فسمعها تغنّي فهويها و أنشأ يقول:
/
درّة بحريّة مكنونة *** مازها التّاجر من بين الدّرر
عجبت فطمة من نعتي لها *** هل يجيد النّعت مكفوف البصر
أمتا(1) بدّد هذا لعبي *** و وشاحي حلّه حتّى انتثر
/فدعيني معه يا أمتا(2)*** علّنا في خلوة نقضي الوطر
أقبلت مغضبة تضربها *** و اعتراها كجنون مستعر
بأبي و اللّه ما أحسنه *** دمع عين يغسل الكحل قطر
أيّها النّوّام هبّوا ويحكم *** و اسألوني اليوم ما طعم السّهر
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني خالد بن يزيد بن وهب بن جرير قال حدّثني أبي عن الحكم بن مخلد بن حازم قال: مررت أنا و رجل من عكل من أبناء سوّار بن عبد اللّه بقصر أوس(3)، فإذا نحن ببشّار في ظلّ القصر وحده، فقال لي العكليّ: لا بدّ لي من أن أعبث ببشّار؛ فقلت: ويحك، مه لا تعرّض بنفسك و عرضك له؛ فقال: إنّي لا أجده في وقت أخلى منه في هذا الوقت؛ قال فوقفت ناحية و دنا منه فقال:
يا بشّار؛ فقال: من هذا الذي لا يكنيني و يدعوني باسمي؟ قال: سأخبرك من أنا، فأخبرني أنت عن أمّك: أ ولدتك أعمى أم عميت بعد ما ولدتك؟ قال: و ما تريد إلى ذلك؟ قال: وددت أنّه فسح(4) لك في بصرك ساعة لتنظر إلى وجهك في المرآة، فعسى أن تمسك عن هجاء الناس و تعرف قدرك؛ فقال: ويحكم! من هذا؟ أ ما أحد يخبرني من هذا؟ فقال له: على رسلك، أنا رجل من عكل و خالي يبيع الفحم بالعبلاء(5) فما تقدر أن تقول لي؟ قال: لا شيء، اذهب، بأبي أنت، في حفظ اللّه.
ص: 120
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني هارون بن عليّ بن يحيى المنجّم قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني العبّاس بن خالد البرمكيّ قال:
كان الزّوّار يسمّون في قديم الدّهر إلى أيّام خالد بن برمك السّؤّال؛ فقال خالد: هذا و اللّه أستثقله(1)لطلاّب الخير، و أرفع قدر الكريم عن أن يسمّي به أمثال هؤلاء المؤمّلين، لأنّ فيهم الأشراف و الأحرار و أبناء النّعيم و من لعلّه خير ممن يقصد و أفضل أدبا، و لكنّا نسمّيهم الزّوّار؛ فقال بشّار يمدحه بذلك:
حذا خالد في فعله حذو برمك *** فمجد له مستطرف و أصيل
و كان ذوو الآمال يدعون قبله *** بلفظ على الإعدام فيه دليل
يسمّون بالسّؤال في كلّ موطن *** و إن كان فيهم نابه و جليل
فسمّاهم الزّوّار سترا عليهم *** فأستاره في المجتدين(2) سدول
قال: و قال بشّار هذا الشعر في مجلس خالد في الساعة التي تكلّم خالد بهذا الكلام في أمر الزوّار، فأعطاه لكلّ بيت ألف درهم.
أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبو شبل عاصم(3) بن وهب قال: نهق حمار ذات يوم بقرب بشّار، فخطر بباله بيت فقال:
/
ما قام أير حمار فامتلا شبقا *** إلا تحرّك عرق في است تسنيم
/قال: و لم يرد تسنيما بالهجاء؛ و لكنه لمّا بلغ إلى قوله: «إلا تحرّك عرق» قال: في است من؟ و مرّ به تسنيم بن الحواري(4) و كان صديقه، فسلّم عليه و ضحك، فقال: في است تسنيم علم اللّه؛ فقال له: أيش(5)ويحك!؟ فأنشده البيت؛ فقال له: عليك لعنة اللّه! فما عندك فرق بين صديقك و عدوّك، أيّ شيء حملك على هذا! أ لا قلت: «في است حمّاد» الذي هجاك و فضحك و أعياك، و ليست قافيتك على الميم فأعذرك! قال: صدقت و اللّه في هذا كلّه، و لكن ما زلت أقول: في است من؟ في است من؟ و لا يخطر ببالي أحد حتّى مررت و سلّمت فرزقته؛ فقال له تسنيم: إذا كان هذا جواب السّلام عليك فلا سلّم اللّه عليك و لا عليّ حين سلّمت عليك؛ و جعل بشّار يضحك و يصفّق بيديه و تسنيم يشتمه.
أخبرنا عيسى بن الحسين قال حدّثنا عليّ بن محمّد النّوفليّ عن عمّه قال:
ص: 121
قالت امرأة لبشّار: ما أدري لم يهابك الناس مع قبح وجهك! فقال لها بشّار: ليس من حسنه يهاب الأسد.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن الحجّاج قال:
دخل بشار على عقبة(1) بن سلّم، فأنشده بعض مدائحه فيه و عنده عقبة بن رؤبة ينشده رجزا يمدحه به، فسمعه بشّار و جعل يستحسن ما قاله إلى أن فرغ؛ ثم أقبل/على بشّار فقال: هذا طراز لا تحسنه أنت يا أبا معاذ؛ فقال له بشّار: أ لي يقال هذا! أنا و اللّه أرجز منك و من أبيك و جدّك؛ فقال له عقبة: أنا و اللّه و أبي فتحنا للناس باب الغريب و باب الرّجز، و و اللّه إني لخليق أن أسدّه عليهم؛ فقال بشّار: ارحمهم رحمك اللّه! فقال عقبة: أ تستخفّ بي يا أبا معاذ و أنا شاعر ابن شاعر! فقال له بشّار: فأنت إذا من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا؛ ثمّ خرج من عنده عقبة مغضبا. فلما كان من غد غدا على عقبة بن سلّم و عنده عقبة بن رؤبة، فأنشده أرجوزته التي مدحه فيها:
يا طلل الحيّ بذات الصّمد(2) *** باللّه خبّر كيف كنت بعدي
أوحشت من دعد و ترب دعد *** سقيا لأسماء ابنة الأشدّ
قامت تراءى إذ رأتني وحدي *** كالشّمس تحت الزّبرج(3) المنقدّ
صدّت بخدّ و جلت عن خدّ *** ثم انثنت كالنّفس المرتدّ
عهدي بها سقيا له من عهد *** تخلف وعدا و تفي بوعد
فنحن من جهد الهوى في جهد *** و زاهر من سبط و جعد
أهدى له الدّهر و لم يستهد(4) *** أفواف(5) نور الحبر المجدّ
يلقى الضّحى ريحانه بسجد *** بدّلت من ذاك بكى لا يجدي
وافق حظّا من سعى بجدّ *** ما ضرّ أهل النّوك ضعف الجدّ
الحرّ يلحى و العصا للعبد *** و ليس للملحف مثل الردّ
/و النّصف(6) يكفيك من التعدّي *** و صاحب كالدّمّل الممدّ(7)
/حملته في رقعة من جلدي *** أرقب منه مثل يوم الورد(8)
حتى مضى غير فقيد الفقد *** و ما درى ما رغبتي من زهدي
ص: 122
اسلم و حيّيت أبا الملدّ *** مفتاح باب الحدث المنسدّ
مشترك النّيل وريّ الزّند *** أغرّ لباس ثياب الحمد
ما كان منّي لك غير الودّ *** ثم ثناء مثل ريح الورد
نسجته في محكمات النّدّ *** فالبس طرازي(1) غير مستردّ
للّه أيامك في معدّ *** و في بني قحطان غير عدّ
يوما بذي طخفة(2) عند الحدّ *** و مثله أودعت أرض الهند
بالمرهفات و الحديد السّرد(3) *** و المقربات المبعدات الجرد
إذا الحيا(4) أكدى بها لا تكدي *** تلحم أمرا و أمورا تسدي(5)
و ابن حكيم إن أتاك يردي(6) *** أصمّ لا يسمع صوت الرعد
حيّيته(7) بتحفة المعدّ *** فانهدّ مثل الجبل المنهدّ
كلّ امرئ رهن بما يؤدّي *** و ربّ ذي تاج كريم الجدّ
كآل كسرى و كآل برد *** أنكب(8) جاف عن سبيل القصد
فصلته عن ماله و الولد
/فطرب عقبة بن سلّم و أجزل صلته، و قام عقبة بن رؤبة فخرج عن المجلس بخزي، و هرب من تحت ليلته فلم يعد إليه.
و ذكر لي أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعيّ هذا الخبر عن الجاحظ، و زاد فيه الجاحظ قال: فانظر إلى سوء أدب عقبة بن رؤبة و قد أجمل بشّار محضره و عشرته، فقابله بهذه المقابلة القبيحة، و كان أبوه أعلم خلق اللّه به، لأنه قال له و قد فاخره بشعره: أنت يا بنيّ ذهبان(9) الشّعر إذا متّ مات شعرك معك، فلم يوجد من يرويه بعدك؛ فكان كما قال له، ما يعرف له بيت واحد و لا خبر غير هذا الخبر القبيح الإخبار عنه الدالّ على سخفه و سقوطه و سوء أدبه.
ص: 123
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا أبو غسّان دماذ قال حدّثنا أبو عبيدة قال:
كان بشّار يهوى امرأة من أهل البصرة يقال لها عبيدة(1)، فخرجت عن البصرة إلى عمان(2) مع زوجها، فقال بشار فيها:
هوى صاحبي ريح الشّمال إذا جرت *** و أشفى لقلبي أن تهبّ جنوب
و ما ذاك إلا أنها حين تنتهي *** تناهى و فيها من عبيدة طيب
عذيري من العذّال إذ يعذلونني *** سفاها و ما في العاذلين لبيب
يقولون لو عزّيت قلبك لارعوى *** فقلت و هل للعاشقين قلوب
إذا نطق القوم الجلوس فإنّني *** مكبّ(3) كأني في الجميع غريب
أخبرني هاشم قال حدّثني دماذ قال حدّثني رجل من الأنصار قال:
جاء أبو الشّمقمق إلى بشّار يشكو إليه الضّيقة(4) و يحلف له أنه ما عنده شيء؛ فقال له بشّار: و اللّه ما عندي شيء يغنيك و لكن قم معي إلى عقبة بن سلّم، فقام معه فذكر له أبا الشمقمق و قال: هو شاعر و له شكر و ثناء، فأمر له بخمسمائة درهم؛ فقال له بشّار:
يا واحد العرب الذي *** أمسى و ليس له نظير
لو كان مثلك آخر *** ما كان في الدنيا فقير
فأمر لبشّار بألفي درهم؛ فقال له أبو الشمقمق: نفعتنا و نفعناك يا أبا معاذ؛ فجعل بشّار يضحك.
فلم يركب القبّة(1) و ركب نجيبا فسار بيننا، فجعلت الشمس تضحك(2) بين عينيه، فقال: إني قائل بيتا فمن أجازه وهبت له جبّتي هذه؛ فقلنا: يقول أمير المؤمنين، فقال:
و هاجرة نصبت لها جبيني *** يقطّع ظهرها ظهر العظايه(3)
/فبدر بشار الأعمى فقال:
وقفت بها القلوص ففاض دمعي *** على خدّي و أقصر واعظايه
فنزع الجبّة و هو راكب فدفعها إليه. فقلت لبشّار بعد ذلك: ما فعلت بالجبّة؟ فقال بشّار: بعتها و اللّه بأربعمائة دينار.
أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ قال حدّثني عبد الرحمن بن العباس بن الفضل بن عبد الرحمن بن عيّاش بن أبي ربيعة(4) عن أبيه قال:
كان بشّار منقطعا إليّ و إلى إخوتي فكان يغشانا كثيرا، ثم خرج إبراهيم بن عبد اللّه فخرج معه عدّة منّا، فلما قتل إبراهيم توارينا، و حبس المنصور منّا عدّة من إخوتي، فلما ولي المهديّ أمّن الناس جميعا و أطلق المحبوسين، فقدمت بغداد أنا و إخوتي نلتمس أمانا من المهديّ، و كان الشعراء يجلسون بالليل في مسجد(5) الرّصافة ينشدون و يتحدّثون، فلم أطلع بشّارا على نفسي إلا بعد أن أظهر لنا المهديّ الأمان، و كتب أخي إلى خليفته بالليل، فصحت به: يا أبا معاذ من الذي يقول:
أحبّ الخاتم الأحم *** ر من حبّ مواليه
/فأعرض عنّي و أخذ في بعض إنشاده شعره، ثم صحت: يا أبا معاذ من الذي يقول:
إنّ سلمى خلقت من قصب(6) *** قصب السكّر لا عظيم الجمل
و إذا أدنيت منها بصلا *** غلب المسك على ريح البصل
فغضب و صاح: من الذي يقرّعنا بأشياء كنا نعبث بها في الحداثة فهو يعيّرنا بها! فتركته ساعة ثم صحت به:
يا أبا معاذ من الذي يقول:
ص: 125
/
أ خشّاب حقّا أنّ دارك تزعج *** و أنّ الذي بيني و بينك ينهج(1)
فقال: ويحك! عن مثل هذا فسل، ثم أنشدها حتى أتى على آخرها، و هي من جيّد شعره، و فيه غناء:
فوا كبدا قد أنضج الشوق نصفها *** و نصف على نار الصّبابة ينضج
و وا حزنا منهنّ يحففن هودجا *** و في الهودج المحفوف بدر متوّج
فإن جئتها بين النساء فقل لها *** عليك سلام مات من يتزوّج
بكيت و ما في الدمع منك خليفة *** و لكنّ أحزاني عليك توهّج
الغناء لسليم بن سلاّم رمل بالوسطى. و وجدت هذا الخبر بخط ابن مهرويه فذكر أنه قال هذه القصيدة في امرأة كانت تغشى مجلسه و كان إليها مائلا يقال لها خشّابة، فارسيّة، فزوّجت و أخرجت عن البصرة.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثني أبو حاتم:
/قال أبو النّضير الشاعر: أنشدت بشّارا قصيدة لي، فقال لي: أ يجيئك شعرك هذا كلّما شئت أم هذا شيء يجيئك في الفينة(2) بعد الفينة إذا تعمّلت(3) له؟ فقلت: بل هذا شعر يجيئني كلما أردته؛ فقال لي: قل فإنك شاعر؛ فقلت له: لعلّك حابيتني أبا معاذ و تحمّلت(4) لي؛ فقال: أنت أبقاك اللّه أهون عليّ من ذلك.
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ عن العمريّ عن عبّاس بن عبّاس الزّناديّ عن رجل من باهلة، قال:
كنت عند بشّار الأعمى فأتاه رجل فسلّم عليه، فسأله عن خبر جارية عنده و قال: كيف ابنتي؟ قال: في عافية، تدعوك اليوم؛ فقال بشّار: يا باهليّ انهض بنا، فجئنا إلى منزل نظيف و فرش سريّ(5)، فأكلنا، ثم جيء بالنبيذ فشربنا مع الجارية، فلمّا أراد الانصراف قامت فأخذت بيد بشّار، فلما صار في الصحن أومأ إليها ليقبّلها، فأرسلت يدها من يده، فجعل يجول في العرصة(6)؛ و خرج المولى فقال: مالك يا أبا معاذ؟ فقال: أذنبت ذنبا و لا أبرح أو أقول شعرا، فقال:
أتوب إليك من السيئات *** و أستغفر اللّه من فعلتي
تناولت ما لم أرد نيله *** على جهل أمري و في سكرتي
و و اللّه و اللّه ما جئته *** لعمد و لا كان من همّتي
ص: 126
و إلا فمتّ إذا ضائعا *** و عذّبني اللّه في ميتتي
فمن نال خيرا على قبلة *** فلا بارك اللّه في قبلتي
أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ عن الأصمعيّ قال:
لما أنشد بشّار أرجوزته:
يا طلل الحيّ بذات الصّمد
أبا الملدّ(1) عقبة بن سلّم أمر له بخمسين ألف درهم، فأخّرها عنه وكيله ثلاثة أيام، فأمر غلامه بشّار أن يكتب على باب عقبة عن يمين الباب:
ما زال ما منّيتني من همّي *** و الوعد غمّ فأزح من غمّي
إن لم ترد حمدي فراقب ذمّي
فلما خرج عقبة رأى ذلك، فقال: هذه من فعلات بشّار، ثم دعا بالقهرمان(2)، فقال: هل حملت/إلى بشّار ما أمرت له به؟ فقال: أيها الأمير نحن مضيقون(3) و غدا أحملها إليه؛ فقال: زد فيها عشرة آلاف درهم و احملها إليه الساعة؛ فحملها من وقته.
أخبرني هاشم قال حدّثنا أبو غسّان دماذ قال:
سألت أبا عبيدة عن السبب الذي من أجله نهى المهديّ بشّارا عن ذكر النساء قال: كان أوّل ذلك استهتار نساء البصرة و شبّانها بشعره، حتى قال سوّار بن عبد اللّه الأكبر و مالك بن دينار؛ ما شيء أدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى؛ و ما زالا يعظانه؛ و كان واصل بن عطاء يقول: إنّ من أخدع حبائل الشيطان و أغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد. فلما كثر ذلك و انتهى خبره من وجوه كثيرة إلى المهديّ، و أنشد المهديّ ما مدحه به، نهاه عن ذكر النساء و قول التشبيب، و كان المهديّ من أشدّ الناس غيرة؛ قال: فقلت له: ما أحسب شعر/هذا أبلغ في هذه المعاني من شعر كثيّر و جميل و عروة بن حزام و قيس بن ذريح و تلك الطبقة؛ فقال: ليس كلّ من يسمع تلك الأشعار يعرف المراد منها، و بشّار يقارب النساء حتى لا يخفى عليهنّ ما يقول و ما يريد، و أيّ حرّة حصان تسمع قول بشّار فلا يؤثّر في قلبها، فكيف بالمرأة الغزلة و الفتاة التي لا همّ لها إلا الرجال! ثم أنشد قوله:
قد لامني في خليلتي عمر *** و اللّوم في غير كنهه ضجر(4)
قال أفق قلت لا فقال بلى *** قد شاع في الناس منكما الخبر
ص: 127
قلت و إذ شاع ما اعتذارك *** ممّا ليس لي فيه عندهم عذر
ما ذا عليهم و ما لهم خرسوا *** لو أنّهم في عيوبهم نظروا
أعشق وحدي و يؤخذون به *** كالتّرك تغزو فتؤخذ الحزر
يا عجبا للخلاف يا عجبا *** بفي الذي لام في الهوى الحجر
حسبيّ و حسب الذي كلفت به *** منّي و منه الحديث و النّظر
أو قبلة في خلال ذاك و ما *** بأس إذا لم تحلّ لي الأزر
أو عضّة في ذراعها و لها *** فوق ذراعي من عضّها أثر
أو لمسة دون مرطها(1) بيدي *** و الباب قد حال دونه السّتر
و الساق برّاقة مخلخلها *** أو مصّ ريق و قد علا البهر(2)
و استرخت الكفّ للعراك و قا *** لت إيه عنّي و الدّمع منحدر
انهض فما أنت كالذي زعموا *** أنت و ربّي مغازل أشر
قد غابت اليوم عنك حاضنتي *** و اللّه لي منك فيك ينتصر
/يا ربّ خذ لي فقد ترى ضرعي *** من فاسق جاء ما به سكر
أهوى إلى معضدي(3) فرضّضه *** ذو قوّة ما يطاق مقتدر
ألصق بي لحية له خشنت *** ذات سواد كأنها الإبر
حتّى علاني و أسرتي غيب(4) *** ويلي عليهم لو أنّهم حضروا
/أقسم باللّه لا نجوت بها *** فاذهب فأنت المساور الظّفر
كيف بأمّي إذا رأت شفتي *** أم كيف إن شاع منك ذا الخبر
قد كنت أخشى الذي ابتليت به *** منك فما ذا أقول يا عبر(5)
قلت لها عند ذاك يا سكني *** لا بأس إني مجرّب(6) خبر
قولي لها بقّة لها ظفر *** إن كان في البقّ ما له ظفر
ثم قال له: بمثل هذا الشعر تميل القلوب و يلين الصّعب.
ص: 128
قال دماذ قال لي أبو عبيدة: قال رجل يوما لبشّار في المسجد الجامع يعابثه: يا أبا معاذ، أ يعجبك الغلام الجادل(1)؟ فقال غير محتشم و لا مكترث: لا، و لكن تعجبني أمّه.
أخبرني عمّي قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني محمد بن سهل عن محمد بن الحجّاج قال:
ورد بشّار على خالد بن برمك و هو بفارس فامتدحه؛ فوعده و مطله؛ فوقف على طريقه و هو يريد المسجد، فأخذ بلجام بغلته و أنشده:
/
أظلّت علينا منك يوما سحابة *** أضاءت لنا برقا و أبطأ رشاشها(2)
فلا غيمها يجلي فييأس طامع *** و لا غيثها يأتي فيروى عطاشها
فحبس بغلته و أمر له بعشرة آلاف درهم، و قال: لن تنصرف السحابة حتى تبلّك إن شاء اللّه.
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا الحسن بن عليل قال حدّثني عليّ بن حرب الطائيّ قال حدّثني إسماعيل بن زياد الطائيّ قال:
كان رجل منا يقال له سعد بن القعقاع يتندّم(3) بشّارا في المجانة، فقال لبشّار و هو ينادمه: ويحك يا أبا معاذ! قد نسبنا الناس إلى الزّندقة، فهل لك أن تحجّ بنا حجّة تنفي ذلك عنا؟ قال: نعم ما رأيت! فاشتريا بعيرا و محملا و ركبا، فلما مرّا بزرارة(4) قال له: ويحك يا أبا معاذ! ثلاثمائة فرسخ متى نقطعها! مل بنا إلى زرارة نتنعّم فيها، فإذا قفل الحاجّ عارضناهم بالقادسيّة(5) و جززنا رءوسنا فلم يشكّ الناس أنّا جئنا من الحجّ؛ فقال له بشّار:
نعم ما رأيت لو لا خبث لسانك، و إني أخاف أن تفضحنا. قال: لا تخف. فمالا إلى زرارة فما زالا يشربان الخمر و يفسقان، فلما نزل الحاجّ بالقادسية راجعين، أخذا بعيرا و محملا و جزّا رءوسهما و أقبلا و تلقّاهما الناس يهنّئونهما؛ فقال سعد بن القعقاع:
/
أ لم ترني و بشّارا حججنا *** و كان الحجّ من خير التّجارة
خرجنا طالبي سفر بعيد *** فمال بنا الطريق إلى زرارة
فآب الناس قد حجّوا و برّوا *** و أبنا موقرين من الخساره
ص: 129
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم الدّينوريّ قال حدّثني محمد بن عمران بن مطر الشاميّ قال حدّثني محمد بن الحسّان(1) الضّبّيّ قال حدّثني محمود الورّاق قال حدّثني داود بن رزين قال:
أتينا بشّارا فأذن لنا و المائدة موضوعة بين يديه فلم يدعنا إلى طعامه، فلما أكل دعا بطست فكشف عن سوأته فبال؛ ثم حضرت الظهر و العصر فلم يصلّ، فدنونا منه فقلنا: أنت أستاذنا و قد رأينا منك أشياء أنكرناها؛ قال: و ما هي؟ قلنا: دخلنا و الطعام بين يديك فلم تدعنا إليه؛ فقال: إنما أذنت لكم أن تأكلوا و لو لم أرد أن تأكلوا لما أذنت /لكم(2)؛ قال: ثم ما ذا؟ قلنا: و دعوت بطست و نحن حضور فبلت و نحن نراك؛ فقال: أنا مكفوف و أنتم بصراء و أنتم المأمورون بغضّ الأبصار، ثم قال: و مه(3)؛ قلنا: حضرت الظهر و العصر و المغرب فلم تصلّ؛ فقال: إن الذي يقبلها تفاريق يقبلها جملة.
أخبرنا يحيى قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ عن بعض أصحاب بشّار قال:
كنا إذا حضرت الصلاة نقوم و يقعد بشّار فنجعل حول ثيابه ترابا لننظر هل يصلّي، فنعود و التراب بحاله.
أخبرنا يحيى قال أخبرنا أبو أيّوب عن الحرمازيّ قال:
قعد إلى بشّار رجل فاستثقله فضرط عليه ضرطة، فظنّ الرجل أنّها أفلتت منه، ثم ضرط أخرى، فقال:
أفلتت، ثم ضرط ثالثة(4)، فقال: يا أبا معاذ، ما هذا؟ قال: مه! أ رأيت أم سمعت؟ قال: بل سمعت صوتا قبيحا، فقال: فلا تصدّق حتى ترى.
قال: و أنشد أبو أيّوب لبشّار في رجل استثقله:
ربّما يثقل الجليس و إن كا *** ن خفيفا في كفّة الميزان
كيف لا تحمل الأمانة أرض *** حملت فوقها أبا سفيان
و قال فيه أيضا:
هل لك في مالي و عرضي معا *** و كلّ ما يملك جيرانيه
و اذهب إلى أبعد ما ينتوى(5) *** لا ردّك اللّه و لا ماليه
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثني محمد بن إبراهيم الجيليّ(6) قال حدّثني محمد بن عمران
ص: 130
الضّبّيّ قال أنشدنا الوليد بن يزيد قول بشّار الأعمى:
أيّها الساقيان صبّا شرابي *** و اسقياني من ريق بيضاء رود(1)
إن دائي الظّما و إن دوائي *** شربة من رضاب ثغر برود
و لها مضحك كغرّ الأقاحي *** و حديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السّواد من حبّة القل *** ب و نالت زيادة المستزيد
ثم قالت نلقاك بعد ليال *** و الليالي يبلين كلّ جديد
عندها الصبر عن لقائي و عندي *** زفرات يأكلن قلب الحديد
/قال: فطرب الوليد و قال: من لي بمزاج كاسي هذه من ريق سلمى فيروى ظمئي و تطفأ غلّتي! ثم بكى حتى مزج كأسه بدمعه، و قال: إن فاتنا ذاك فهذا.
أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن محمد بن سليمان الطّفاويّ قال حدّثني عبد اللّه بن أبي بكر - و كان جليسا لبشّار - قال: كان لنا جار يكنى أبا زيد و كان صديقا لبشّار، فبعث إليه يوما يطلب منه ثيابا بنسيئة(2) فلم يصادفها عنده، فقال يهجوه:
ألا إنّ أبا زيد *** زنى في ليلة القدر
و لم يرع، تعالى اللّ *** ه ربّي، حرمة الشّهر
و كتبها في رقعة و بعث بها إليه، و لم يكن أبو زيد ممن يقول الشعر، فقلبها و كتب في ظهرها:
ألا إن أبا زيد *** له في ذلكم عذر
/أتته أمّ بشّار *** و قد ضاق بها الأمر
فواثبها فجامعها *** و ما ساعده الصّبر
قال: فلما قرئت على بشّار غضب و ندم على تعرّضه لرجل لا نباهة له، فجعل ينطح الحائط برأسه غيظا، ثم قال: لا تعرّضت لهجاء سفلة(3) مثل هذا أبدا.
أخبرني عمّي قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني بعض ولد أبي عبيد اللّه وزير المهديّ، قال:
دخل بشّار على المهديّ و قد عرضت عليه(4) جارية مغنّية فسمع غناءها فأطربه و قال لبشّار: قل في صفتها شعرا؛ فقال:
ص: 131
/و رائحة(1)
للعين فيها محيلة(2)*** إذا برقت لم تسق بطن صعيد
من المستهلاّت السّرور على الفتى *** خفا(3) برقها في عبقر(4) و عقود
كأن لسانا ساحرا في كلامها *** أعين بصوت للقلوب صيود
تميت به ألبابنا و قلوبنا *** مرارا و تحييهنّ بعد همود
أخبرني عمّي قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ قال قال أبو عدنان حدّثني يحيى بن الجون قال:
دخل بشّار يوما على عقبة بن سلّم فأنشده قوله فيه:
إنّما لذّة الجواد ابن سلّم *** في عطاء و مركب للّقاء
ليس يعطيك للرجاء و لا الخو *** ف و لكن يلذّ طعم العطاء
يسقط الطير حيث ينتثر الح *** بّ و تغشى منازل الكرماء
لا أبالي صفح اللئيم و لا تج *** ري دموعي على الحرون الصّفاء
فعلى عقبة السلام مقيما *** و إذا سار تحت ظلّ اللواء
فوصله(5) بعشرة آلاف درهم. و في هذه الأبيات خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر لرذاذ، و هو من مختار صنعته و صدورها و مما تشبّه فيه بالقدماء و مذاهبهم.
أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا أحمد بن خلاّد عن الأصمعيّ، و أخبرني به الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن خلاّد عن الأصمعيّ قال:
/كنت أشهد خلف بن أبي عمرو بن العلاء و خلفا الأحمر يأتيان بشّارا و يسلّمان عليه بغاية التعظيم ثم يقولان: يا أبا معاذ، ما أحدثت؟ فيخبرهما و ينشدهما و يسألانه و يكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الظهر ثم ينصرفان عنه، فأتياه يوما فقالا له: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلّم(6) بن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكما؛
ص: 132
قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب؛ فقال: نعم، بلغني أنّ سلما يتباصر(1) بالغريب فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرفه؛ قالا: فأنشدناها، فأنشدهما:
بكّرا صاحبيّ قبل الهجير *** إنّ ذاك النجاح في التّبكير
حتى فرغ منها؛ فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان «إن ذاك النجاح»:
بكّرا فالنجاح في/التبكير
كان أحسن؛ فقال بشّار: بنيتها أعرابيّة و حشيّة، فقلت: «إنّ ذاك النجاح» كما يقول الأعراب البدويّون، و لو قلت: «بكّرا فالنجاح» كان هذا من كلام المولّدين و لا يشبه ذلك الكلام و لا يدخل في معنى القصيدة؛ فقام خلف فقبّل بين عينيه؛ و قال له خلف بن أبي عمرو يمازحه: لو كان علاثة(2) ولدك يا أبا معاذ لفعلت كما فعل أخي، و لكنّك مولى، فمدّ بشار يده فضرب بها فخذ خلف و قال:
أرفق بعمرو إذا حرّكت نسبته *** فإنه عربيّ من قوارير
فقال له: أ فعلتها يا أبا معاذ! قال: و كان أبو عمرو يغمز في نسبه.
و أخبرني ببعض هذا الخبر حبيب بن نصر عن عمر بن شبّة عن أبي عبيدة، فذكر نحوه و قال فيه: إنّ سلما يعجبه الغريب.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال قال لي خلف:
كنت أسمع ببشّار قبل أن أراه، فذكروه لي يوما و ذكروا بيانه و سرعة جوابه و جودة شعره، فاستنشدتهم شيئا من شعره، فأنشدوني شيئا لم يكن بالمحمود عندي، فقلت: و اللّه لآتينّه و لأطأطأنّ منه، فأتيته و هو جالس على بابه، فرأيته(3) أعمى قبيح المنظر عظيم الجثة، فقلت: لعن اللّه من يبالي بهذا، فوقفت أتأمّله طويلا، فبينما أنا كذلك إذ جاءه رجل فقال: إنّ فلانا سبّك عند الأمير محمد بن سليمان و وضع منك؛ فقال: أو قد فعل؟ قال: نعم؛ فأطرق، و جلس الرجل عنده و جلست، و جاء قوم فسلّموا عليه فلم يردد عليهم، فجعلوا ينظرون إليه و قد درّت(4) أوداجه، فلم يلبث إلا ساعة حتى أنشدنا بأعلى صوته و أفخمه:
نبّئت نائك أمّه يغتابني *** عند الأمير و هل عليّ أمير
ناري محرّقة و بيتي واسع *** للمعتفين و مجلسي معمور
و لي المهابة في الأحبّة و العدا *** و كأنني أسد له تامور(5)
ص: 133
غرثت(1) حليلته و أخطأ صيده *** فله على لقم(2) الطريق زئير
قال: فارتعدت و اللّه فرائصي و اقشعرّ جلدي و عظم في عيني جدّا، حتى قلت في نفسي: الحمد للّه الذي أبعدني من شرّك.
نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثنا العباس بن خالد قال:
مدح بشّار خالد بن برمك فقال فيه:
لعمري لقد أجدى عليّ ابن برمك *** و ما كلّ من كان الغنى عنده يجدي
حلبت بشعري راحتيه فدرّتا *** سماحا كما درّ السّحاب مع الرّعد
إذا جئته للحمد أشرق وجهه *** إليك و أعطاك الكرامة بالحمد
له نعم في القوم لا يستثيبها *** جزاء وكيل التاجر المدّ بالمدّ
مفيد و متلاف، سبيل تراثه(3) *** إذا ما غدا أو راح كالجزر و المدّ
أ خالد إنّ الحمد يبقى لأهله *** جمالا و لا تبقى الكنوز على الكدّ
فأطعم و كل من عارة مستردّة *** و لا تبقها، إن العواري للرّدّ
فأعطاه خالد ثلاثين ألف درهم، و كان قبل ذلك يعطيه في كلّ وفادة خمسة آلاف درهم، /و أمر خالد أن يكتب هذان البيتان(4) في صدر مجلسه الذي كان يجلس فيه. و قال ابنه يحيى بن خالد: آخر ما أوصاني به أبي العمل بهذين البيتين.
أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن عمر بن أبي سعد قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن عثمان قال:
كان أبو الوزير مولى عبد القيس من عمّال الخراج، و كان عفيفا بخيلا، فسأل عمر(5) بن العلاء، و كان جوادا شجاعا، في رجل فوهب له مائة ألف درهم؛ فدخل/أبو الوزير على المهديّ فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عمر بن العلاء خائن؛ قال: و من أين علمت ذلك؟ قال: كلّم في رجل كان أقصى أمله ألف درهم فوهب له مائة ألف درهم؛ فضحك المهديّ ثم قال: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شٰاكِلَتِهِ) (6)، أ ما سمعت قول بشّار في عمر:
ص: 134
إذا دهمتك عظام الأمور *** فنبّه لها عمرا ثم نم
فتى لا ينام على دمنة(1) *** و لا يشرب الماء إلا بدم
أ و ما سمعت قول أبي العتاهيّة فيه:
إنّ المطايا تشتكيك لأنها *** قطعت إليك سباسبا و رمالا
فإذا وردن بنا وردن مخفّة *** و إذا رجعن بنا رجعن ثقالا
- الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة - أ و ليس الذي يقول فيه أبو العتاهية:
يا ابن العلاء و يا ابن القرم مرداس *** إني لأطريك في صحبي و جلاّسي
حتى إذا قيل ما أعطاك من نشب *** ألفيت من عظم ما أسديت كالناسي
ثم قال: من اجتمعت ألسن الناس على مدحه كان حقيقا أن يصدّقها بفعله.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أبو بكر الرّبعيّ قال:
كانت لبشّار جارية سوداء و كان يقع عليها، و فيها يقول:
و غادة سوداء برّاقة *** كالماء في طيب و في لين
كأنها صيغت لمن نالها *** من عنبر بالمسك معجون
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني أبو الشّبل البرجميّ قال: قال رجل لبشّار: إنّ مدائحك عقبة بن سلّم فوق مدائحك كلّ أحد؛ فقال بشّار: إنّ عطاياه إيّاي كانت فوق عطاء كلّ أحد، دخلت إليه يوما فأنشدته:
حرّم اللّه أن ترى كابن سلّم *** عقبة الخير مطعم الفقراء
ليس يعطيك للرّجاء و لا الخو *** ف و لكن يلذّ طعم العطاء
يسقط الطير حيث ينتثر الح *** بّ و تغشى منازل الكرماء
فأمر لي بثلاثة آلاف دينار، و ها أنا قد مدحت المهديّ و أبا عبيد اللّه وزيره - أو قال يعقوب بن داود - و أقمت بأبوابهما حولا فلم يعطياني شيئا، أ فألام على مدحي هذا!.
و نسخت من كتاب هارون بن عليّ أيضا حدّثني [عليّ قال حدّثني](2) عبيد اللّه بن أبي الشّيص عن دعبل بن عليّ قال:
ص: 135
كان بشّار/يعطي أبا الشّمقمق في كلّ سنة مائتي درهم، فأتاه أبو الشمقمق في بعض تلك السنين فقال له: هلمّ الجزية يا أبا معاذ؛ فقال: ويحك! أ جزية هي! قال: هو ما تسمع؛ فقال له بشّار يمازحه: أنت أفصح منّي؟ قال:
لا؛ قال: فأعلم منّي بمثالب الناس؟ قال: لا؛ قال: فأشعر منّي؟ قال: لا؛ قال: فلم أعطيك؟ قال: لئلاّ أهجوك؛ فقال له: إنّ هجوتني هجوتك؛ فقال له أبو الشمقمق: هكذا هو؟ قال: نعم، فقل ما بدا لك؛ فقال أبو الشمقمق:
إني إذا ما شاعر هجانيه *** و لجّ في القول له لسانيه
أدخلته في است أمّه علانيه *** بشّار يا بشّار.........
/و أراد أن يقول: «يا ابن الزانية»؛ فوثب بشّار فأمسك فاه، و قال: أراد و اللّه أن يشتمني، ثم دفع إليه مائتي درهم ثم قال له: لا يسمعنّ هذا منك الصّبيان يا أبا الشمقمق.
أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني محمد بن بكر قال حدّثني الأصمعيّ قال:
أمر عقبة بن سلّم [الهنائيّ](1) لبشّار بعشرة آلاف درهم، فأخبر أبو الشمقمق بذلك فوافى بشّارا فقال له:
يا أبا معاذ، إني مررت بصبيان فسمعتهم ينشدون:
هلّلينه هلّلينه *** طعن قثّاة لتينه(2)
إنّ بشّار بن برد *** تيس أعمى في سفينه
فأخرج إليه بشّار مائتي درهم فقال: خذ هذه و لا تكن راوية الصبيان يا أبا الشمقمق.
أخبرني أحمد قال حدّثنا أبو محمد الصّعتريّ قال حدّثنا محمد بن عثمان البصريّ قال:
استمنح بشّار بن برد العباس بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن عباس فلم يمنحه، فقال يهجوه:
ظلّ اليسار على العباس ممدود *** و قلبه أبدا في البخل معقود
إنّ الكريم ليخفي عنك عسرته *** حتى تراه غنيّا و هو مجهود
و للبخيل على أمواله علل *** زرق العيون عليها أوجه سود
إذا تكرهت أن تعطي القليل و لم *** تقدر على سعة لم يظهر الجود
أورق بخير ترجّى للنّوال فما *** ترجى الثمار إذا لم يورق العود
بثّ النّوال و لا تمنعك قلّته *** فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود
أخبرني أحمد قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني المغيرة بن محمد المهلّبيّ قال حدّثني أبي عن عبّاد بن عبّاد قال:
ص: 136
مررت ببشّار فقلت: السّلام عليك يا أبا معاذ؛ فقال: و عليك السلام، أ عبّاد؟ فقلت: نعم؛ قال: إني لحسن الرأي فيك؛ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك منك يا أبا معاذ!.
أخبرني يحيى بن عليّ قال أخبرني محمد بن عمر الجرجانيّ عن أبي يعقوب الخريميّ(1) الشاعر أنّ بشّارا قال: لم أزل منذ سمعت قول امرئ القيس في تشبيهه شيئين بشيئين في بيت واحد حيث يقول:
كأنّ قلوب الطير رطبا و يابسا *** لدى و كرها العنّاب و الحشف البالي
أعمل نفسي في تشبيه شيئين بشيئين في بيت حتى قلت:
/
كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا *** و أسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ليل من النّقع لا شمس و لا قمر *** إلا جبينك و المذروبة الشّرع(2)
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبي قال: كان إسحاق الموصليّ يطعن على شعر بشّار و يضع منه و يذكر أنّ كلامه مختلف لا يشبه بعضه بعضا؛ فقلنا: أ تقول هذا القول لمن يقول:
إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا *** صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدا أوصل أخاك فإنه *** مقارف(3) ذنب مرّة و مجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى *** ظمئت و أيّ الناس تصفو مشاربه
- لأبي العبيس بن حمدون في هذه الأبيات خفيف ثقيل بالبنصر - قال عليّ بن يحيى: و هذا الكلام الذي ليس فوقه كلام من الشعر و لا حشو فيه؛ فقال لي إسحاق: أخبرني أبو عبيدة معمر بن المثنّى أن شبيل بن عزرة(4)الضّبعيّ أنشده هذه الأبيات للمتلمّس، و كان عالما بشعره لأنهما جميعا من بني ضبيعة؛ فقلت له: أ فليس قد ذكر أبو عبيدة أنه قال لبشّار: إن شبيلا أخبره أنها للمتلمّس؛ فقال: كذب و اللّه شبيل، هذا شعري، و لقد مدحت به ابن هبيرة فأعطاني عليه أربعين ألفا. و قد صدق بشّار، قد(5) مدح في هذه القصيدة ابن هبيرة، و قال فيها:
ص: 137
رويد(1)
تصاهل بالعراق جيادنا *** كأنك بالضّحاك قد قام نادبه
وسام لمروان و من دونه الشّجا *** و هول كلجّ البحر جاشت غواربه
أحلّت به أمّ المنايا بناتها *** بأسيافنا، إنّا ردى من نحاربه
و كنّا إذا دبّ العدوّ لسخطنا *** و راقبنا في ظاهر لا نراقبه
ركبنا له جهرا بكلّ مثقّف *** و أبيض تستسقي الدّماء مضاربه
/ثم قلت لإسحاق: أخبرني عن قول بشّار في هذه القصيدة:
فلمّا تولّى الحرّ و اعتصر الثّرى *** لظى الصّيف من نجم توقّد لاهبه
و طارت عصافير الشّقائق(2) و اكتسى *** من الآل(3) أمثال المجرّة(4) ناضبه
غدت عانة تشكو بأبصارها الصّدى *** إلى الجأب إلا أنها لا تخاطبه
- العانة: القطيع من الحمير، و الجأب: ذكرها. و معنى شكواها الصدى بأبصارها أن العطش قد تبيّن في أحداقها فغارت - قال: و هذا من أحسن ما وصف به الحمار و الأتن، أ فهذا للمتلمّس أيضا! قال: لا؛ فقلت: أ فما هو في غاية الجودة و شبيه بسائر الشعر، فكيف قصد بشّار لسرقة تلك الأبيات خاصّة! و كيف خصه بالسرقة منه وحده من بين الشعراء و هو قبله بعصر طويل! و قد روى الرّواة شعره و علم بشّار أنّ ذلك لا يخفى، و لم يعثر على بشّار أنه سرق شعرا قطّ جاهليّا و لا إسلاميا. و أخرى فإنّ شعر المتلمّس يعرف في بعض شعر بشّار؛ فلم يردد/ذلك بشيء.
و قد أخبرني بهذا الخبر هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة أنّ بشّارا أنشده:
إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا *** صديقك لم تلق(5) الذي لا تعاتبه
و ذكر الأبيات. قال: و أنشدتها شبيل بن عزرة الضّبعيّ، فقال: هذا للمتلمّس؛ فأخبرت بذلك بشّارا، قال:
كذب و اللّه شبيل، لقد مدحت ابن هبيرة بهذه القصيدة و أعطاني عليها أربعين ألفا.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا عليّ بن مهديّ قال حدّثنا عليّ بن إبراهيم المروزيّ، و كان أبوه من قوّاد طاهر، قال حدّثني أبي قال:
لما خلع محمّد المأمون و ندب له عليّ بن عيسى، ندب المأمون للقاء عليّ بن عيسى طاهر بن الحسين
ص: 138
ذا اليمينين(1) و جلس له لعرضه و عرض أصحابه، فمرّ به ذو اليمينين معترضا و هو ينشد:
رويد(2) تصاهل بالعراق جيادنا *** كأنك بالضحّاك قد قام نادبه
فتفاءل المأمون بذلك فاستدناه فاستعاده البيت فأعاد عليه؛ فقال ذو الرّئاستين(3): يا أمير المؤمنين هو حجر(4) العراق؛ قال: أجل. فلما صار ذو اليمينين إلى العراق سأل: هل بقي من ولد بشّار أحد؟ فقالوا: لا؛ فتوهّمت أنه قد كان همّ لهم بخير.
أخبرنا يحيى قال حدّثنا أبي قال أخبرني أحمد بن صالح - و كان أحد الأدباء - قال:
غضب بشّار على سلّم الخاسر و كان من تلامذته و رواته، فاستشفع عليه بجماعة من إخوانه فجاءوه في أمره؛ فقال لهم:
كلّ حاجة لكم مقضيّة/إلا سلما؛ قالوا ما جئناك إلا في سلّم و لا بدّ من أن ترضى عنه لنا؛ فقال: أين هو الخبيث؟ قالوا: ها هو هذا؛ فقام إليه سلّم فقبّل رأسه و مثل بين يديه و قال: يا أبا معاذ، خرّيجك و أديبك؛ فقال: يا سلّم، من الذي يقول:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطيّبات الفاتك اللّهج
قال: أنت يا أبا معاذ، جعلني اللّه فداءك! قال: فمن الذي يقول:
من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللّذّة الجسور(5)
قال: خرّيجك يقول ذلك (يعني نفسه)؛ قال: أ فتأخذ معانيّ التي قد عنيت بها و تعبت في استنباطها، فتكسوها ألفاظا أخفّ من ألفاظي حتى يروى ما تقول و يذهب شعري! لا أرضى عنك أبدا، قال: فما زال يتضرّع إليه، و يشفع له القوم حتى رضي عنه. و في هذه القصيدة يقول بشّار:
لو كنت تلقين ما نلقى قسمت لنا *** يوما نعيش به منكم و نبتهج
قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم *** ما في التّلاقي و لا في قبلة حرج
من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطّيّبات الفاتك اللّهج
أشكو إلى اللّه هما ما يفارقني *** و شرّعا(1) في فؤادي الدّهر تعتلج
/أخبرنا محمد بن عمران الصيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا أحمد بن خلاّد قال: أنشدت الأصمعيّ قول بشّار يهجو باهلة:
/
و دعاني معشر كلّهم *** حمق دام لهم ذاك الحمق
ليس من جرم و لكن غاظهم *** شرفي العارض قد سدّ الأفق
فاغتاظ الأصمعيّ فقال: ويلي على هذا العبد القنّ ابن(2) القنّ!.
نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى قال حدّثني عليّ بن مهدي. قال حدّثني عباس بن خالد قال سمعت غير واحد من أهل البصرة يحدّث:
أنّ امرأة قالت لبشّار: أيّ رجل أنت لو كنت أسود اللحية و الرأس! قال بشّار: أ ما علمت أن بيض البزاة أثمن من سود الغربان؛ فقالت له: أمّا قولك فحسن في السّمع، و من لك بأن يحسن شيبك في العين كما حسن قولك في السّمع! فكان بشّار يقول: ما أفحمني قطّ غير هذه المرأة.
و نسخت من كتابه: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني إسحاق بن كلبة قال قال لي أبو عثمان المازنيّ:
سئل بشار: أيّ متاع الدنيا آثر عندك؟ فقال: طعام مزّ(3)، و شراب مرّ، و بنت عشرين بكر.
أخبرني عمي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، و أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أبو توبة عن صالح بن عطيّة قال:
كان النساء المتظرّفات يدخلن إلى بشّار في كلّ جمعة يومين، فيجتمعن عنده و يسمعن من شعره، فسمع كلام امرأة منهنّ فعلقها قلبه و راسلها يسألها أن تواصله؛ /فقالت لرسوله: و أيّ معنى فيك لي أو لك فيّ! و أنت أعمى لا تراني فتعرف حسني و مقداره، و أنت قبيح الوجه فلا حظّ لي فيك! فليت شعري لأيّ شيء تطلب وصال مثلى! و جعلت تهزأ به في المخاطبة؛ فأدّى الرّسول الرّسالة، فقال له: عد إليها فقل لها:
ص: 140
أ يرى له فضل على آيارهم *** و إذا أشظّ(1) سجدن غير أوابي
تلقاه بعد ثلاث عشرة قائما *** فعل المؤذّن شكّ يوم سحاب
و كأنّ هامة رأسه بطّيخة *** حملت إلى ملك بدجلة جابي(2)
أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم قال حدّثنا أبو هفّان قال أخبرني أحمد بن عبد الأعلى الشيبانيّ عن أبيه قال:
قال مروان لبشّار لما أنشده هذا البيت:
و إذا قلت لها جودي لنا *** خرجت بالصّمت من لا و نعم
جعلني اللّه فداءك يا أبا معاذ! هلا قلت: «خرست بالصّمت»؛ قال: إذا أنا في عقلك فضّ اللّه فاك! أ أتطيّر على من أحبّ بالخرس!.
نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثني بعض أصحابنا قال: وفد بشّار إلى خالد بن برمك و هو على فارس فأنشده:
أ خالد لم أخبط(3) إليك بذمّة *** سوى أنّني عاف و أنت جواد
أ خالد بين الأجر و الحمد حاجتي *** فأيّهما تأتي فأنت عماد
فإن تعطني أفرغ عليك مدائحي *** و إن تأب لم يضرب عليّ سداد(4)
/ركابي على حرف و قلبي مشيّع(5) *** و مالي بأرض الباخلين بلاد
إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها *** خرجت مع البازي عليّ سواد
قال: فدعا خالد بأربعة آلاف دينار في أربعة أكياس فوضع واحدا عن يمينه و واحدا عن شماله و آخر بين يديه و آخر خلفه، و قال: يا أبا معاذ، هل استقلّ العماد؟ فلمس الأكياس ثم قال: استقلّ و اللّه أيّها الأمير.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال قال محمد بن الحجّاج حدّثني بشّار قال:
دخلت على الهيثم بن معاوية و هو أمير البصرة، فأنشدته:
إنّ السّلام أيّها الأمير *** عليك و الرّحمة و السّرور
فسمعته يقول: إنّ هذا الأعمى لا يدعنا أو يأخذ من دراهمنا شيئا؛ فطمعت فيه فما برحت حتّى انصرفت بجائزته.
ص: 141
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل عن محمد بن سلاّم قال:
وقف رجل من بني زيد شريف، لا أحبّ أن أسمّيه، على بشّار، فقال له: يا بشّار قد أفسدت علينا موالينا، تدعوهم إلى الانتفاء منّا و ترغّبهم في الرّجوع إلى أصولهم و ترك الولاء، و أنت غير زاكي الفرع و لا معروف الأصل؛ فقال له بشار: و اللّه لأصلي أكرم من الذّهب، و لفرعي أزكى من عمل الأبرار، و ما في الأرض كلب يودّ أنّ نسبك له بنسبه، و لو شئت أن أجعل جواب كلامك كلاما(1) لفعلت، و لكنّ موعدك/غدا بالمربد؛ فرجع الرجل إلى منزله و هو يتوهّم أنّ بشّارا يحضر معه المربد ليفاخره، فخرج من الغد يريد المربد فإذا رجل ينشد:
شهدت على الزّيديّ أنّ نساءه *** ضباع(2) إلى أير العقيليّ تزفر
فسأل عمّن قال هذا البيت؛ فقيل له: هذا لبشّار فيك؛ فرجع إلى منزله من فوره و لم يدخل المربد حتّى مات.
قال ابن سلاّم: و أنشد رجل يوما يونس في هذه القصيدة و هي:
بلوت بني زيد فما في كبارهم *** حلوم و لا في الأصغرين مطهّر
فأبلغ بني زيد و قل لسراتهم *** و إن لم يكن فيهم سراة توقّر
لأمّكم الويلات إنّ قصائدي *** صواعق منها منجد و مغوّر
أجدّهم(3) لا يتّقون دنيّة *** و لا يؤثرون الخير و الخير يؤثر
يلفّون(4) أولاد الزّنا في عدادهم *** فعدّتهم من عدّة الناس أكثر
إذا ما رأوا من دأبه مثل دأبهم *** أطافوا به، و الغيّ للغيّ أصور(5)
و لو فارقوا من فيهم من دعارة(6) *** لما عرفتهم أمّهم حين تنظر
لقد فخروا بالملحقين(7) عشيّة *** فقلت افخروا إن كان في اللؤم مفخر
/يريدون مسعاتي(8) و دون لقائها *** قناديل أبواب السّماوات تزهر(9)
ص: 142
فقل في بني زيد كما قال معرب *** قوارير حجّام غدا تتكسّر
فقال يونس للذي أنشده: حسبك حسبك! من هيّج هذا الشيطان عليهم؟ قيل: فلان؛ فقال: /ربّ سفيه قوم قد كسب لقومه شرّا عظيما.
أخبرني عمي قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن بشر بن هلال قال حدّثني محمد بن محمد البصريّ قال حدّثني النضر بن طاهر أبو الحجاج قال:
قال بشار: دعاني عقبة بن سلّم و دعا بحمّاد عجرد و أعشى باهلة، فلما اجتمعنا عنده قال لنا: إنه خطر ببالي البارحة مثل يتمثّله الناس: «ذهب الحمار يطلب قرنين فجاء بلا أذنين» فأخرجوه من الشعر، و من أخرجه فله خمسة آلاف درهم، و إن لم تفعلوا جلدتكم كلّكم خمسمائة؛ فقال حمّاد: أجّلنا أعزّ اللّه الأمير شهرا؛ و قال الأعشى:
أجّلنا أسبوعين؛ قال: و بشّار ساكت لا يتكلّم؛ فقال له عقبة: مالك [يا(1) أعمى] لا تتكلّم! أعمى اللّه قلبك! فقال:
أصلح اللّه الأمير، قد حضرني شيء فإن أمرت قلته؛ فقال قل؛ فقال:
شطّ بسلمى عاجل البين *** و جاورت أسد بني القين
و رنّت النفس لها رنّة *** كادت لها تنشقّ نصفين
يا ابنة من لا أشتهي ذكره *** أخشى عليه علق الشّين
و اللّه لو ألقاك لا اتّقي *** عينا لقبّلتك ألفين
/طالبتها ديني فراغت به *** و علّقت قلبي مع الدّين
فصرت كالعير غدا طالبا *** قرنا فلم يرجع بأذنين
قال: فانصرف بشّار بالجائزة.
نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثنا عليّ بن مهديّ قال حدّثني عبد اللّه بن عطية الكوفيّ قال حدّثني عثمان بن عمرو الثقفيّ قال قال أبان بن عبد الحميد اللاحقيّ:
نزل في ظاهر البصرة قوم من أعراب قيس(2) عيلان و كان فيهم بيان و فصاحة، فكان بشّار يأتيهم و ينشدهم أشعاره التي يمدح بها قيسا فيجلّونه لذلك و يعظّمونه، و كان نساؤهم يجلسن معه و يتحدّثن إليه و ينشدهنّ أشعاره في الغزل و كنّ يعجبن به، و كنت كثيرا ما آتي ذلك الموضع فأسمع منه و منهم، فأتيتهم يوما فإذا هم قد ارتحلوا، فجئت إلى بشّار فقلت له: يا أبا معاذ، أعلمت أنّ القوم قد ارتحلوا؟ قال: لا؛ فقلت: فاعلم؛ قال: قد علمت لا علمت! و مضيت، فلمّا كان بعد ذلك بأيام سمعت الناس ينشدون:
دعا بفراق من تهوى أبان *** ففاض الدّمع و احترق الجنان
ص: 143
كأن شرارة وقعت بقلبي *** لها في مقلتي و دمي استنان(1)
إذا أنشدت أو نسمت عليها *** رياح الصّيف هاج لها دخان
فعلمت أنها لبشّار، فأتيته فقلت: يا أبا معاذ، ما ذنبي إليك؟ قال: ذنب غراب البين؛ فقلت: هل ذكرتني بغير هذا؟ قال: لا؛ فقلت: أنشدك اللّه ألاّ تزيد؛ فقال: امض لشأنك فقد تركتك.
و نسخت من كتابه: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني يحيى بن سعيد الأيوزرذي(2) المعتزليّ قال حدّثني أحمد بن المعذّل عن أبيه قال:
أنشد بشّار جعفر بن سليمان:
أقلّي فإنّا لاحقون و إنّما *** يؤخّرنا أنّا يعدّ لنا عدّا
و ما كنت إلا كالأغرّ ابن جعفر *** رأى المال لا يبقى فأبقى به حمدا
/فقال له جعفر بن سليمان: من ابن جعفر؟ قال: الطيّار(3) في الجنة؛ فقال: لقد ساميت غير مسامى! فقال:
و اللّه ما يقعدني عن شأوه بعد النسب، لكن قلّة النشب(4)، و إني لأجود بالقليل و إن لم يكن عندي الكثير، و ما على من جاد بما يملك ألاّ يهب البدور(5)؛ فقال له جعفر: لقد هززت أبا معاذ، ثم دعا له بكيس فدفعه إليه.
و نسخت من كتابه: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني أحمد بن سعيد الرازيّ عن سليمان بن سليمان العلويّ قال:
قيل لبشّار: إنك لكثير الهجاء! فقال: إني وجدت الهجاء المؤلم آخذ بضبع(6) الشاعر من المديح الرائع، و من أراد من الشّعراء أن يكرم في دهر اللئام على المديح فليستعدّ للفقر و إلا فليبالغ في الهجاء ليخاف فيعطى.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة قال:
كان برد أبو بشّار طيّانا حاذقا بالتّطيين، و ولد له بشّار و هو أعمى، فكان يقول: /ما رأيت مولودا أعظم بركة منه، و لقد ولد لي و ما عندي درهم فما حال الحول حتى جمعت مائتي درهم. و لم يمت برد حتى قال بشّار الشّعر.
و كان لبشّار أخوان يقال لأحدهما: بشر، و للآخر: بشير، و كانا قصّابين و كان بشّار بارّا بهما، على أنه كان ضيّق
ص: 144
الصدر متبرّما بالناس، فكان يقول: اللهمّ إني(1) قد تبرّمت بنفسي و بالناس جميعا، اللهم فأرحني منهم. و كان إخوته يستعيرون ثيابه فيوسّخونها و ينتنون ريحها، فاتخذ قميصا له جيبان و حلف ألاّ يعيرهم ثوبا من ثيابه، فكانوا يأخذونها بغير إذنه؛ فإذا دعا بثوبه فلبسه فأنكر رائحته فيقول(2) إذا وجد رائحة كريهة من ثوبه: «أينما أتوجّه ألق سعدا»(3). فإذا أعياه الأمر خرج إلى الناس في تلك الثياب على نتنها و وسخها، فيقال له: ما هذا يا أبا معاذ؟ فيقول: هذه ثمرة صلة الرّحم. قال: و كان يقول الشّعر و هو صغير، فإذا هجا قوما جاءوا إلى أبيه فشكوه فيضربه ضربا شديدا، فكانت أمّه تقول: كم تضرب هذا الصبيّ الضرير، أ ما ترحمه! فيقول: بلى و اللّه إني لأرحمه و لكنه يتعرّض للناس فيشكونه إليّ؛ فسمعه بشّار فطمع فيه فقال له: يا أبت إنّ هذا الذي يشكونه منّي إليك هو قول الشعر، و إني إن ألممت عليه أغنيتك و سائر أهلي، فإن شكوني إليك فقل لهم: أ ليس اللّه يقول: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمىٰ حَرَجٌ) (4). فلما عاودوه شكواه قال لهم برد ما قاله بشّار؛ فانصرفوا و هم يقولون: فقه برد أغيظ لنا من شعر بشّار.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمد بن عثمان الكريزيّ قال حدّثني بعض الشعراء قال:
/أتيت بشّارا الأعمى و بين يديه مائتا دينار(5)، فقال لي: خذ منها ما شئت، أو تدري ما سببها؟ قلت: لا؛ قال: جاءني فتى فقال لي: أنت بشّار؟ فقلت: نعم؛ فقال: إني آليت أن أدفع إليك مائتي دينار و ذلك أني عشقت امرأة فجئت إليها فكلّمتها فلم تلتفت إليّ، فهممت أن أتركها فذكرت قولك:
لا يؤيسنّك من مخبّأة *** قول تغلّظه و إن جرحا
عسر النّساء إلى مياسرة *** و الصّعب يمكن بعد ما جمحا
/فعدت إليها فلازمتها حتى بلغت منها حاجتي.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن أبي حاتم قال:
كان الأخفش طعن على بشّار في قوله:
فالآن أقصر عن سميّة باطلي *** و أشار بالوجلى عليّ مشير
و في قوله:
على الغزلى منّي السّلام فربّما *** لهوت بها في ظلّ مرءومة(6) زهر
ص: 145
و في قوله في صفة سفينة:
تلاعب نينان البحور و ربّما *** رأيت نفوس القوم من جريها تجري
و قال: لم يسمع من الوجل و الغزل فعلى، و لم أسمع بنون و نينان(1)؛ فبلغ ذلك بشّارا فقال: ويلي على القصّارين(2)! متى كانت الفصاحة في بيوت القصارين! دعوني و إيّاه؛ فبلغ ذلك الأخفش فبكى و جزع؛ فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: و ما لي لا أبكي/و قد وقعت في لسان بشّار الأعمى! فذهب أصحابه إلى بشار فكذّبوا عنه و استوهبوا منه عرضه و سألوه ألاّ يهجوه؛ فقال: قد وهبته للؤم عرضه. فكان الأخفش بعد ذلك يحتجّ بشعره في كتبه ليبلغه؛ فكفّ عن ذكره بعد هذا.
قال: و قال غير أبي حاتم: إنما بلغه أنّ سيبويه عاب هذه الأحرف(3) عليه لا الأخفش، فقال يهجوه:
أ سبويه يا ابن الفارسيّة ما الذي *** تحدّثت عن شتمي و ما كنت تنبذ
أظلت تغنّي سادرا(4) في مساءتي *** و أمّك بالمصرين تعطي و تأخذ
قال: فتوقّاه سيبويه بعد ذلك، و كان إذا سئل عن شيء فأجاب عنه و وجد له شاهدا من شعر بشّار احتجّ به استكفافا لشرّه.
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني أحمد بن عليّ بن سويد بن منجوف قال:
كان بشّار مجاورا لبني عقيل و بني سدوس في منزل الحيّين، فكانوا لا يزالون يتفاخرون، فاستعانت عقيل ببشّار و قالوا: له: يا أبا معاذ، نحن أهلك و أنت ابننا و ربيت في حجورنا فأعنّا؛ فخرج عليهم و هم يتفاخرون، فجلس ثم أنشد:
كأنّ بني سدوس رهط ثور *** خنافس تحت منكسر الجدار
تحرّك للفخار زبانييها(5) *** و فخر الخنفساء من الصّغار
فوثب بنو سدوس إليه فقالوا: ما لنا و لك يا هذا! نعوذ باللّه من شرّك! فقال: هذا دأبكم إن عاودتم مفاخرة بني عقيل؛ فلم يعاودوها.
/أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني محمد بن إسماعيل عن محمد بن سلاّم قال: قال يونس النحويّ: العجب من الأزد يدعون هذا العبد ينسب بنسائهم و يهجو رجالهم - يعني بشّارا - و يقول:
ص: 146
ألا يا صنم الأزد ال *** ذي يدعونه ربّا
ألا يبعثون إليه من يفتق بطنه!.
أخبرني الحسن قال حدّثني ابن مهرويه عن أحمد(1) بن إسماعيل عن محمد بن سلاّم قال:
مرّ ابن أخ لبشّار ببشّار و معه قوم: فقال لرجل معه و سمع/كلامه: من هذا؟ فقال: ابن أخيك؛ قال: أشهد أنّ أصحابه سفلة؛ قال: و كيف علمت؟ قال: ليس عليهم نعال.
أخبرني الحسن قال حدّثنا محمد بن القاسم قال حدّثني الفضل بن يعقوب قال:
كنّا عند جارية لبعض التّجار بالكرخ تغنّينا، و بشّار عندنا، فغنّت في قوله:
إنّ الخليفة قد أبى *** و إذا أبى شيئا أبيته
و مخضّب رخص البنا *** ن بكى عليّ و ما بكيته
يا منظرا حسنا رأي *** ت(2) بوجه جارية فديته
بعثت إليّ تسومني *** ثوب الشّباب و قد طويته
فطرب بشّار و قال: هذا و اللّه يا أبا عبد اللّه أحسن من سورة الحشر!. و قد روى هذه الكلمة عن بشّار غير من ذكرته فقال عنه: إنه قال: هي و اللّه أحسن من سورة الحشر. الغناء في هذه الأبيات. و تمام الشعر:
/
و أنا المطلّ على العدا *** و إذا غلا الحمد اشتريته
و أميل في أنس النّدي *** م من الحياء و ما اشتهيته
و يشوقني بيت الحبي *** ب إذا غدوت و أين بيته
حال الخليفة دونه *** فصبرت عنه و ما قليته
و أنشدني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعيّ هذه الأبيات و أخبرني أنّ الجاحظ أخبره أن المهديّ نهى بشّارا عن الغزل و أن يقول شيئا من النسيب، فقال هذه الأبيات. قال: و كان الخليل بن أحمد ينشدها و يستحسنها و يعجب بها.
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا دماذ أبو غسّان عن محمد بن الحجّاج قال:
ص: 147
قالت بنت بشّار لبشّار: يا أبت، مالك يعرفك الناس و لا تعرفهم؟ قال: كذلك الأمير يا بنيّة.
أخبرني عبد اللّه بن محمد الرازيّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ قال:
قال عبد اللّه بن مسور الباهليّ يوما لأبي النّضير، و قد تحاورا في شيء: يا ابن اللّخناء، أ تكلّمني و لو اشتريت عبدا بمائتي درهم و أعتقته لكان خيرا منك! فقال له أبو النّضير: و اللّه لو كنت ولد زنا لكنت خيرا من باهلة كلّها؛ فغضب الباهليّ؛ فقال له بشّار: أنت منذ ساعة تزنّي(1) أمّا و لا يغضب، فلما كلّمك كلمة واحدة لحقك هذا كلّه! فقال له: و أمّه مثل أمّي يا أبا معاذ! فضحك، ثم قال: و اللّه لو كانت أمّك أمّ الكتاب ما كان بينكما من المصارمة هذا كلّه!.
نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني سعيد بن عبيد الخزاعيّ قال:
ورد بشار بغداد فقصد يزيد بن مزيد، و سأله أن يذكره للمهديّ، فسوّفه أشهرا؛ ثم ورد روح(2) بن حاتم فبلغه خبر بشّار، فذكره للمهديّ من غير أن يلقاه، و أمر بإحضاره فدخل إلى المهديّ و أنشده شعرا مدحه به، فوصله بعشرة آلاف درهم و وهب له عبدا و قينة و كساه كسا كثيرة؛ و كان يحضر قيسا مرّة، فقال بشّار يهجو يزيد بن مزيد:
و لمّا التقينا بالجنينة(3) غرّني *** بمعروفه حتى خرجت أفوق(4)
/غرّني: أوجرني(5) كما يغرّ الصبيّ أو يوجر اللبن.
حباني بعبد قعسريّ(6) و قينة *** و وشي و آلاف لهنّ بريق
فقل ليزيد يلعص(7) الشهد خاليا *** لنا دونه عند الخليفة سوق
رقدت فنم يا بن الخبيثة إنها *** مكارم لا يسطيعهنّ لصيق
أبى لك عرق من فلانة أن ترى *** جوادا و رأس حين(8) شبت حليق
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ قال: كان بشّار كتب إلى إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بقصيدة يمدحه بها و يحرّضه و يشير عليه، فلم تصل إليه حتى قتل، و خاف بشّار أن تشتهر فقلبها
ص: 148
و جعل التحريض فيها على أبي مسلم و المدح و المشورة لأبي جعفر المنصور، فقال:
أبا مسلم ما طيب عيش بدائم *** و لا سالم عما قليل بسالم
/و إنما كان قال: «أبا جعفر ما طيب عيش» فغيّره و قال فيها:
إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن *** بعزم نصيح أو بتأييد حازم
و لا نجعل الشّورى عليك غضاضة *** مكان الخوافي نافع للقوادم
و خلّ الهوينى للضعيف و لا تكن *** نئوما فإنّ الحزم ليس بنائم
و ما خير كفّ أمسك الغلّ أختها *** و ما خير سيف لم يؤيّد بقائم
و حارب إذا لم تعط إلا ظلامة *** شبا الحرب خير من قبول المظالم
و أدن على القربى المقرّب نفسه *** و لا تشهد الشّورى امرأ غير كاتم
فإنك لا تستطرد الهمّ بالمنى *** و لا تبلغ العليا بغير المكارم
إذا كنت فردا هرّك(1) القوم مقبلا *** و إن كنت أدنى لم تفز بالعزائم
و ما قرع الأقوام مثل مسيّع(2) *** أريب و لا جلّى العمى مثل عالم
قال الأصمعيّ: فقلت لبشّار: إني رأيت رجال الرأي يتعجّبون من أبياتك في المشورة؛ فقال: أ ما علمت أنّ المشاورين إحدى الحسنيين: بين صواب يفوز بثمرته أو خطأ يشارك في مكروهه؛ فقلت: أنت و اللّه أشعر في هذا الكلام منك في الشعر.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني عليّ بن الصبّاح عن بعض الكوفيين قال:
مررت ببشّار و هو متبطّح(3) في دهليزه كأنه جاموس، فقلت له: يا أبا معاذ، من القائل:
/
في حلّتي جسم فتى ناحل *** لو هبّت الريح به طاحا
قال: أنا؛ قلت: فما حملك على هذا الكذب؟ و اللّه إني لأرى أن لو بعث اللّه الرياح التي أهلك بها الأمم الخالية ما حرّكتك من موضعك! فقال بشّار: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة؛ فقال: يا أهل الكوفة لا تدعون ثقلكم و مقتكم على كل حال!.
نسخت من كتاب هارون بن عليّ: قال حدّثني عافية بن شبيب قال:
قدم كرديّ بن عامر المسمعيّ من مكة، فلم يهد لبشّار شيئا و كان صديقه؛ فكتب إليه:
ص: 149
/
ما أنت يا كرديّ بالهشّ *** و لا أبرّيك من الغشّ
لم تهدنا(1) نعلا و لا خاتما *** من أين أقبلت؟ من الحشّ!(2)
فأهدى إليه هديّة حسنة و جاءه فقال: عجلت يا أبا معاذ علينا، فأنشدك اللّه ألاّ تزيد شيئا على ما مضى.
و نسخت من كتابه عن عافية بن شبيب أيضا قال حدّثني صديق لي قال:
قلت لبشّار: كنّا أمس في عرس فكان أوّل صوت غنّى به المغنّي:
هوى صاحبي ريح الشّمال إذا جرت *** و أشفى لنفسي أن تهبّ جنوب
و ما ذاك إلا أنها حين تنتهي *** تناهى و فيها من عبيدة طيب
فطرب و قال: هذا(3) و اللّه أحسن من فلج(4) يوم القيامة.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبي عن عافية بن شبيب عن أبي جعفر الأسديّ قال:
/مدح بشّار المهديّ فلم يعطه شيئا؛ فقيل له: لم يستجد شعرك؛ فقال: و اللّه لقد قلت شعرا لو قيل في الدهر لم يخش صرفه على أحد، و لكنّا نكذب في القول فنكذب(5) في الأمل.
أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني يحيى بن خليفة الدارميّ عن نصر بن عبد الرحمن العجليّ قال:
هجا بشّار روح بن حاتم؛ فبلغه ذلك فقذفه و تهدّده؛ فلما بلغ ذلك بشّارا قال فيه:
تهدّدني أبو خلف *** و عن أوتاره ناما
بسيف لأبي صفر *** ة لا يقطع إبهاما
كأنّ الورس يعلوه *** إذا ما صدره قاما
- قال ابن أبي سعد: و من الناس من يروي هذين البيتين لعمرو الظالمي - قال: فبلغ ذلك روحا فقال: كلّ مالي صدقة إن وقعت عيني عليه لأضربنّه ضربة بالسيف و لو أنه بين يدي الخليفة! فبلغ ذلك بشّارا فقام من فوره حتى دخل على المهديّ؛ فقال له: ما جاء بك في هذا الوقت؟ فأخبره بقصّة روح و عاذ به منه، فقال: يا نصير،
ص: 150
وجّه إلى روح من يحضره الساعة؛ فأرسل إليه في الهاجرة، و كان ينزل المخرّم(1)، فظنّ هو و أهله أنه دعي لولاية.
قال: يا روح، إني بعثت إليك في حاجة؛ فقال له: أنا عبدك يا أمير المؤمنين فقل ما شئت سوى بشّار فإني حلفت في أمره/بيمين غموس(2)؛ قال: قد علمت و إيّاه أردت؛ قال له: فاحتل ليميني يا أمير المؤمنين؛ فأحضر القضاة و الفقهاء فاتّفقوا على أن يضربه ضربة على جسمه بعرض السيف، و كان بشار وراء الخيش(3)، فأخرج و أقعد و استلّ روح سيفه فضربه ضربة بعرضه؛ فقال: أوّه باسم اللّه! فضحك المهديّ و قال له: ويلك! هذا و إنما ضربك بعرضه و كيف لو ضربك بحدّه!.
أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو عبيدة قال:
مدح بشّار سليمان بن هشام بن عبد الملك و كان مقيما بحرّان و خرج إليه فأنشده قوله فيه:
نأتك على طول التجاور زينب *** و ما شعرت أن النّوى سوف تشعب(4)
يرى الناس ما تلقى بزينب إذا نأت *** عجيبا و ما تخفي بزينب أعجب
/و قائلة لي حين جدّ رحيلنا *** و أجفان عينيها تجود و تسكب
أ غاد إلى حرّان في غير شيعة *** و ذلك شأو عن هواها مغرّب(5)
فقلت لها كلّفتني طلب الغنى *** و ليس وراء ابن الخليفة مذهب
سيكفي فتى من سعيه حدّ سيفه *** و كور علافيّ و وجناء ذعلب(6)
/إذا استوغرت دار(7) عليه رمى بها *** بنات الصّوى(8) منها ركوب(9) و مصعب
فعدّي إلى يوم ارتحلت وسائلي *** بزورك و الرّحّال من جاء يضرب
لعلك أن تستيقني(10) أن زورتي *** سليمان من سير الهواجر تعقب
ص: 151
أغرّ هشاميّ القناة إذا انتمى *** نمته بدور ليس فيهنّ كوكب
و ما قصدت يوما مخيلين(1) خيله *** فتصرف إلاّ عن دماء تصبّب
فوصله سليمان بخمسة آلاف درهم و كان يبخّل، فلم يرضها و انصرف عنه مغضبا فقال:
إن أمس منقبض اليدين عن النّدى *** و عن العدوّ مخيّس(2) الشيطان
فلقد أروح عن اللئام مسلّطا *** ثلج المقيل(3) منعّم النّدمان
في ظلّ عيش عشيرة محمودة *** تندى يدي و يخاف فرط لساني
أزمان جنّيّ الشباب مطاوع *** و إذ الأمير عليّ من حرّان
ريم بأحوية(4) العراق إذا بدا *** برقت عليه أكلّة(5) المرجان
/فاكحل بعبدة مقلتيك من القذى *** و بوشك رؤيتها من الهملان
فلقرب من تهوى و أنت متيّم *** أشفى لدائك من بني مروان
فلما رجع إلى العراق برّه ابن هبيرة و وصله، و كان يعظّم بشّارا و يقدّمه، لمدحه قيسا و افتخاره بهم، فلما جاءت دولة أهل خراسان عظم شأنه.
أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن الحجّاج قال:
قدم بشار الأعمى على المهديّ بالرّصافة فدخل عليه في البستان فأنشده مديحا فيه تشبيب حسن، فنهاه عن التشبيب لغيرة شديدة كانت فيه، فأنشده مديحا فيه، يقول فيه:
كأنما جئته أبشّره *** و لم أجيء راغبا و محتلبا
يزيّن المنبر الأشمّ بعط *** فيه و أقواله إذا خطبا
تشمّ نعلاه في النّدى كما *** يشمّ ماء الرّيحان منتهبا(6)
فأعطاه خمسة آلاف درهم و كساه و حمله على بغل و جعل له وفادة في كلّ سنة و نهاه عن التشبيب البتّة، فقدم عليه في السنة الثالثة فدخل عليه فأنشده:
تجاللت(7) عن فهر و عن جارتي فهر *** و ودّعت نعمى بالسّلام و بالبشر
ص: 152
و قالت سليمى فيك عنّا جلادة(1) *** محلّك دان و الزيارة عن عفر(2)
أخي في الهوى ما لي أراك جفوتنا *** و قد كنت تقفونا على العسر و اليسر
تثاقلت إلا عن يد أستفيدها *** و زورة أملاك أشدّ بها أزري
/و أخرجني من وزر خمسين حجّة *** فتى هاشميّ يقشعر من الوزر
دفنت الهوى حيّا فلست بزائر *** سليمى و لا صفراء ما قرقر(3) القمري
و مصفرّة بالزعفران جلودها *** إذا اجتليت مثل المفرطحة الصّفر(4)
فربّ ثقال الرّدف هبّت تلومني *** و لو شهدت قبري لصلّت على قبري
تركت لمهديّ الأنام وصالها *** و راعيت عهدا بيننا ليس بالختر(5)
و لو لا أمير المؤمنين محمد *** لقبّلت فاها أو لكان بها فطري
لعمري لقد أوقرت نفسي خطيئة *** فما أنا بالمزداد وقرا على وقر
في قصيدة طويلة امتدحه بها، فأعطاه ما كان يعطيه قبل ذلك و لم يزده شيئا.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل العتكيّ عن محمد بن سلاّم عن بعض أصحابه قال:
حضرنا جنازة ابن لبشّار توفّي، فجزع عليه جزعا شديدا، و جعلنا نعزّيه و نسلّيه فما يغني ذلك شيئا، ثم التفت إلينا و قال: للّه درّ جرير حيث يقول و قد عزّي بسوادة ابنه:
قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم *** كيف العزاء و قد فارقت أشبالي
ودّعتني حين كفّ الدّهر من بصري *** و حين صرت كعظم الرّمّة البالي
أودى سوادة يجلو مقلتي لحم(6) *** باز يصرصر فوق المربأ(7) العالي
إلاّ تكن لك بالدّيرين(8) نائحة *** فربّ نائحة بالرّمل معوال
ص: 153
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني خلاّد الأرقط قال:
لمّا أنشد المهديّ قول بشار:
لا يؤيسنّك من مخبّأة *** قول تغلّظه و إن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة *** و الصّعب يمكن بعد ما جمحا
فنهاه(1) المهديّ عن قوله مثل هذا، ثم حضر مجلسا لصديق له يقال له عمرو بن سمّان، فقال له: أنشدنا يا أبا معاذ شيئا من غزلك، فأنشأ يقول:
و قائل هات شوّقنا فقلت له *** أ نائم أنت يا عمرو بن سمّان
أ ما سمعت بما قد شاع في مضر *** و في الحليفين من نجر(2) و قحطان
قال الخليفة لا تنسب بجارية *** إيّاك إياك أن تشقى بعصيان
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا سليمان بن أيوب المدائنيّ قال:
قال مروان بن أبي حفصة: قدمت البصرة فأنشدت بشارا قصيدة لي و استنصحته فيها؛ فقال لي: ما أجودها! تقدم بغداد فتعطى عليها عشرة آلاف درهم؛ فجزعت من ذلك و قلت: قتلتني! فقال: هو ما أقول لك؛ و قدمت بغداد فأعطيت عليها عشرة آلاف درهم؛ ثم قدمت عليه قدمة أخرى فأنشدته قصيدتي:
طرقتك زائرة فحيّ خيالها
فقال: تعطى عليها مائة ألف درهم؛ فقدمت فأعطيت مائة ألف درهم، فعدت إلى البصرة فأخبرته بحالي في المرّتين، /و قلت له: ما رأيت أعجب من حدسك(3)! فقال: /يا بنيّ، أ ما علمت أنه لم يبق أحد أعلم بالغيب من عمّك!. أخبرنا بهذا الخبر محمد بن يحيى الصّولي قال: حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ عن محمد بن عبد اللّه بن أبي عيينة عن مروان أنه قدم على بشّار فأنشده قوله:
طرقتك زائرة فحيّ خيالها
فقال له: يعطونك عليها عشرة آلاف درهم، ثم قدم عليه فأنشده قوله:
أنّى يكون و ليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام
فقال: يعطونك عليها مائة ألف درهم، و ذكر باقي الخبر مثل الذي قبله.
ص: 154
أخبرني عيسى قال حدّثنا سليمان قال:
قال بعض أصحاب بشّار: كنا نكون عنده فإذا حضرت الصلاة قمنا إليها و نجعل على ثيابه ترابا حتى ننظر هل يقوم يصلّي، فنعود و التراب بحاله و ما صلّى.
أخبرني عيسى قال حدّثنا سليمان قال:
قال أبو عمرو: بعث المهدي إلى بشّار فقال له: قل في الحبّ شعرا و لا تطل و اجعل الحبّ قاضيا بين المحبّين و لا تسمّ أحدا؛ فقال:
اجعل الحبّ بين حبّي و بيني *** قاضيا إنّني به اليوم راضي
فاجتمعنا فقلت يا حبّ نفسي *** إنّ عيني قليلة الإغماض
أنت عذّبتني و أنحلت جسمي *** فارحم اليوم دائم الأمراض
قال لي لا يحلّ حكمي عليها *** أنت أولى بالسّقم و الإحراض(1)
قلت لمّا أجابني بهواها *** شمل الجور في الهوى كلّ قاضي
فبعث إليه المهديّ: حكمت علينا و وافقنا ذلك، فأمر له بألف دينار.
أخبرني عيسى قال حدّثني سليمان المدنيّ قال حدّثني الفضل بن إسحاق الهاشميّ قال:
أنشد بشّار قوله:
يروّعه السّرار(2) بكلّ أرض *** مخافة أن يكون به السّرار
فقال له رجل: أظنك أخذت هذا من قول أشعب: ما رأيت اثنين يتسارّان إلا ظننت أنهما يأمران لي بشيء؛ فقال: إن كنت أخذت هذا من قول أشعب فإنك أخذت ثقل الرّوح و المقت من الناس جميعا فانفردت به دونهم، ثم قام فدخل و تركنا. و أخذ أبو نواس هذا المعنى بعينه من بشار فقال فيه:
تركتني الوشاة نصب المسرّي *** ن و أحدوثة بكلّ مكان
ما أرى خاليين في السرّ إلاّ *** قلت ما يخلوان إلا لشاني
ص: 155
أخبرني عمّي(1) قال حدّثني سليمان قال قال لي أبو عدنان حدّثني سعيد - جليس كان لأبي زيد - قال:
أتاني أعشى سليم و أبو حنش فقالا لي: انطلق معنا إلى بشّار فتسأله أن ينشدك شيئا من هجائه في حمّاد عجرد أو في عمرو الظالميّ فإنه إن عرفنا لم ينشدنا، فمضيت معهما حتى دخلت على بشّار فاستنشدته فأنشد قصيدة له على الدال فجعل يخرج من واد في الهجاء إلى واد آخر و هما يستمعان و بشّار لا يعرفهما، فلما خرجا قال أحدهما للآخر: أ ما تعجب مما جاء به هذا الأعمى؟ فقال أبو حنش: أمّا أنا فلا أعرّض - و اللّه - والديّ له أبدا؛ و كانا قد جاءا يزورانه، و أحسبهما أرادا أن يتعرّضا لمهاجاته.
أخبرني/هاشم بن محمد الخزاعيّ عن الجاحظ قال:
كان بشّار صديقا لأبي حذيفة واصل بن عطاء قبل أن يدين بالرجعة(2) و يكفّر الأمّة، و كان قد مدح واصلا و ذكر خطبته التي خطبها فنزع منها كلّها الراء و كانت على البديهة، و هي أطول من خطبتي خالد بن صفوان و شبيب بن شيبة(3)، فقال:
تكلّفوا(4) القول و الأقوام قد حفلوا *** و حبّروا خطبا ناهيك من خطب
فقام مرتجلا تغلي(5) بداهته *** كمرجل القين لمّا حفّ باللّهب
و جانب الراء لم يشعر به أحد *** قبل التصفّح و الإغراق(6) في الطلب
قال: فلمّا دان بالرجعة زعم أن الناس كلّهم كفروا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؛ فقيل له: و عليّ بن أبي طالب؟ فقال:
و ما شرّ الثلاثة أمّ عمرو *** بصاحبك الذي لا تصبحينا(7)
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال قال لي محمد بن الحجّاج:
/قال بشّار: ما كان الكميت شاعرا؛ فقيل له: و كيف و هو الذي يقول!:
أنصف امرئ من نصف حيّ يسبّني *** لعمري لقد لاقيت خطبا من الخطب
ص: 156
هنيئا لكلب أنّ كلبا يسبّني *** و أنّي لم أردد جوابا على كلب
فقال بشّار: لا بلّ(1) شانئك، أ ترى رجلا لو ضرط ثلاثين سنة لم يستحل من ضرطه ضرطة واحدة!
نسخت من كتاب هارون بن عليّ بن يحيى: حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني حجّاج المعلّم قال سمعت سفيان بن عيينة يقول:
عهدي بأصحاب الحديث و هم أحسن الناس أدبا ثم صاروا الآن أسوأ الناس أدبا، و صبرنا عليهم حتى أشبهناهم(2)، فصرنا كما قال الشاعر:
و ما أنا إلا كالزمان إذا صحا *** صحوت و إن ماق(3) الزمان أموق
أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن الحجّاج قال:
كنّا مع بشّار فأتاه رجل فسأله عن منزل رجل ذكره له، فجعل يفهّمه و لا يفهم، فأخذ بيده و قام يقوده(4) إلى منزل الرجل و هو يقول:
أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم *** قد ضلّ من كانت العميان تهديه
حتى صار به إلى منزل الرجل، ثم قال له: هذا هو منزله يا أعمى.
أخبرني عمّي قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال:
زعم أبو دعامة أن عطاء الملط(5) أخبره أنه أتى بشّارا فقال له: يا أبا معاذ، أنشدك شعرا حسنا؟ فقال: ما أسرّني بذلك، فأنشده:
أ عاذلتيّ اليوم ويلكما مهلا *** فما جزعا م الآن أبكي و لا جهلا
فلما فرغ منها قال له بشّار: أحسنت(6)، ثم أنشده على رويّها و وزنها:
لقد كاد ما أخفي من الوجد و الهوى *** يكون جوى بين الجوانح أو خبلا
/
إذا قال مهلا ذو القرابة زادني *** ولوعا بذكراها و وجدا بها مهلا
ص: 157
فلا يحسب البيض الأوانس أنّ في *** فؤادي سوى سعدى لغانية فضلا
فأقسم إن كان الهوى غير بالغ *** بي القتل من سعدى لقد جاوز القتلا
فيا صاح خبّرني الذي أنت صانع *** بقاتلتي ظلما و ما طلبت ذحلا(1)
سوى أنّني في الحبّ بيني و بينها *** شددت على أكظام(2) سرّ لها قفلا
- و ذكر أحمد بن المكيّ أنّ لإسحاق في هذه الأبيات ثقيلا أوّل بالوسطى - فاستحسنت القصيدة و قلت: يا أبا معاذ، قد و اللّه أجدت و بالغت، فلو تفضّلت بأن تعيدها! فأعادها على خلاف ما أنشدنيها في المرّة الأولى، فتوهّمت أنه قالها في تلك الساعة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن خلاّد(3) قال حدّثني أبي قال:
كنت أكلّم بشّارا و أردّ عليه سوء مذهبه بميله إلى الإلحاد، فكان يقول: لا أعرف إلا ما عاينته أو عاينت مثله؛ و كان الكلام يطول بيننا، فقال لي: ما أظنّ الأمر يا أبا خالد(4) إلا كما تقول، و أن الذي نحن فيه خذلان، و لذلك أقول:
طبعت على ما فيّ غير مخيّر *** هواي و لو خيّرت كنت المهذّبا
أريد فلا أعطي و أعطى(5) و لم أرد *** و قصّر علمي أن أنال المغيّبا
فأصرف عن قصدي و علمي مقصّر *** و أمسي و ما أعقبت إلا التعجّبا
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني ابن مهرويه قال حدّثني أحمد بن خلاّد بن المبارك قال حدّثني أبي قال:
كان بالبصرة فتى من بني منقر أمّه عجليّة، و كان يبعث إلى بشّار في كل أضحيّة بأضحيّة من الأضاحي التي كان أهل البصرة يسمّنونها سنة و أكثر للأضاحي ثم تباع الأضحيّة بعشرة دنانير، و يبعث معها بألف درهم؛ قال: فأمر وكيله في بعض السنين أن يجريه على رسمه، فاشترى له نعجة كبيرة غير سمينة و سرق باقي الثمن، و كانت نعجة عبدليّة من نعاج عبد اللّه بن دارم و هو نتاج مرذول، فلما أدخلت عليه قالت له جاريته ربابة: ليست هذه الشاة من الغنم التي كان يبعث بها إليك؛ فقال: أدنيها منّي فأدنتها و لمسها بيده ثم قال: اكتب يا غلام:
/
وهبت لنا يا فتى منقر *** و عجل و أكرمهم أولا
ص: 158
و أبسطهم راحة في النّدى *** و أرفعهم ذروة في العلا
عجوزا قد أوردها عمرها *** و أسكنها الدهر دار البلى
سلوحا(1) توهّمت أن الرّعاء *** سقوها ليسهلها الحنظلا
و أضرط من أمّ مبتاعها *** إن اقتحمت بكرة حرملا(2)
فلو تأكل الزّبد بالنّرسيان(3) *** و تدّمج(4) المسك و المندلا
لما طيّب اللّه أرواحها *** و لا بلّ من عظمها الأقحلا(5)
وضعت يميني على ظهرها *** فخلت حراقفها(6) جندلا
/و أهوت شمالي لعرقوبها *** فخلت عراقبها مغزلا
و قلّبت أليتها بعد ذا *** فشبّهت عصعصها(7) منجلا
فقلت أبيع فلا مشربا(8) *** أرجّي لديها و لا مأكلا
أم أشوي و أطبخ من لحمها *** و أطيب من ذاك مضغ السّلى(9)
إذا ما أمرّت على مجلس *** من العجب(10) سبّح أو هلّلا
/رأوا آية خلفها سائق *** يحثّ و إن هرولت هرولا
و كنت أمرت بها ضخمة *** بلحم و شحم قد استكملا
و لكنّ روحا عدا طوره *** و ما كنت أحسب أن يفعلا
فعضّ الذي خان في أمرها *** من است أمّه بظرها الأغرلا(11)
و لو لا مكانك قلّدته *** علاطا(12) و أنشقته الخردلا
و لو لا استحائيك خضّبتها *** و علقت في جيدها جلجلا
ص: 159
فجاءتك حتى ترى حالها *** فتعلم أنّي بها مبتلى
سألتك لحما لصبياننا *** فقد زدتني فيهم عيّلا
فخذها و أنت بنا محسن *** و ما زلت بي محسنا مجملا
قال: و بعث بالرقعة إلى الرجل؛ فدعا بوكيله و قال له: ويلك! تعلم أني أفتدي من بشّار بما أعطيه و توقعني في لسانه! اذهب فاشتر أضحيّة، و إن قدرت أن تكون مثل الفيل فافعل، و ابلغ بها ما بلغت و ابعث بها إليه.
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ قال حدّثني عمّي قال أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال:
رأيت بشّارا المرعّث يرثي بنيّة له و هو يقول:
يا بنت من لم يك يهوى بنتا *** ما كنت إلا خمسة أو ستّا
حتّى حللت في الحشى و حتّى *** فتّت قلبي من جوى فانفتّا
/لأنت خير من غلام بتّا(1) *** يصبح سكران و يمسي بهتا(2)
أخبرني وكيع قال حدّثني أبو أيوب المدينيّ قال:
كان نافع بن عقبة بن سلّم جوادا ممدّحا، و كان بشّار منقطعا إلى أبيه، فلما مات أبوه وفد إليه و قد ولي مكان أبيه، فمدحه بقوله:
و لنافع فضل على أكفائه *** إن الكريم أحقّ بالتفضيل
يا نافع الشّبرات(3) حين تناوحت *** هوج الرياح و أعقبت بوبول
أشبهت عقبة غير ما متشبّه *** و نشأت في حلم و حسن قبول
و وليت فينا أشهرا فكفيتنا *** عنت المريب و سلّة التّضليل(4)
تدعى هلالا في الزمان و نافعا *** و السّلم نعم أبوّة المأمول
فأعطاه مثل ما كان أبوه يعطيه في كلّ سنة إذا وفد عليه.
ص: 160
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني إبراهيم بن عقبة الرفاعيّ قال حدّثني إسحاق/بن إبراهيم التمّار البصريّ قال:
دخل المهديّ إلى بعض حجر الحرم فنظر إلى جارية منهن تغتسل، فلما رأته حصرت(1) و وضعت يدها على فرجها، فأنشأ يقول:
نظرت عيني لحيني
/ثم أرتج عليه، فقال: من بالباب من الشعراء؟ قالوا: بشّار، فأذن له فدخل؛ فقال له: أجز:
نظرت عيني لحيني
فقال بشّار:
نظرت عيني لحيني *** نظرا وافق شيني
سترت لمّا رأتني *** دونه بالراحتين
فضلت منه فضول *** تحت طيّ العكنتين
فقال له المهديّ: قبّحك اللّه ويحك! أ كنت ثالثنا! ثم ما ذا؟ فقال:
فتمنّيت و قلبي *** للهوى في زفرتين
أنّني كنت عليه *** ساعة أو ساعتين
فضحك المهديّ و أمر له بجائزة؛ فقال: يا أمير المؤمنين أقنعت من هذه الصفة بساعة أو ساعتين؟ فقال:
أخرج عنّي قبّحك اللّه! فخرج بالجائزة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا أبو شبل عاصم بن وهب البرجميّ قال حدّثني محمد بن الحجّاج قال:
جاءنا بشّار يوما فقلنا له: ما لك مغتمّا؟ فقال: مات حماري فرأيته في النوم فقلت له: لم متّ؟ أ لم أكن أحسن إليك! فقال:
سيّدي خذ بي أتانا *** عند باب الأصبهاني
تيّمتني ببنان *** و بدل قد شجاني
تيّمتني يوم رحنا *** بثناياها الحسان
و بغنج و دلال *** سلّ جسمي و براني
ص: 161
/
و لها خدّ أسيل *** مثل خدّ الشيفران(1)
فلذا متّ و لو عش *** ت إذا طال هواني
فقلت له: ما الشيفران؟ قال: ما يدريني! هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته فاسأله.
أخبرني الحسن قال حدّثني محمد بن القاسم قال حدّثني علي بن إياس قال حدّثني السّريّ بن الصبّاح قال:
شهد بشّار مجلسا فقال: لا تصيّروا مجلسنا هذا شعرا كلّه و لا حديثا كلّه و لا غناء كلّه، فإن العيش فرص، و لكن غنّوا و تحدّثوا و تناشدوا و تعالوا نتناهب العيش تناهبا.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن ابن عائشة قال:
جاء بشّار يوما إلى أبي و أنا على الباب، فقال لي: من أنت يا غلام؟ فقلت: من ساكني الدار؛ قال: فكلّمني و اللّه بلسان ذرب و شدق هريت(2).
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن أبي حاتم قال:
كان سهيل بن عمر(3) القرشيّ يبعث إلى بشّار في كلّ سنة بقواصر(4) تمر، ثم أبطأ عليه سنة؛ فكتب إليه بشّار:
تمركم يا سهيل درّ و هل يط *** مع في الدرّ من يدي متعتّي(5)
فاحبني يا سهيل من ذلك التم *** ر نواة تكون قرطا لبنتي
/فبعث إليه بالتمر و أضعفه له، و كتب إليه يستعفيه من الزيادة في هذا الشعر.
و نسخت من كتاب هارون بن عليّ: عن عافية بن شبيب عن الحسن بن صفوان قال:
جلس إلى بشّار أصدقاء من أهل الكوفة كانوا على مثل مذهبه، فسألوه أن ينشدهم شيئا مما أحدثه، فأنشدهم قوله:
أنّى دعاه الشّوق فارتاحا *** من بعد ما أصبح جحجاحا(6)
ص: 162
حتّى أتى على قوله:
في حلّتي جسم فتى ناحل *** لو هبّت الرّيح به طاحا(1)
فقالوا: يا ابن الزانية، أ تقول هذا و أنت كأنّك فيل عرضك أكثر(2) من طولك! فقال: قوموا عنّي يا بني الزّناء؛ فإنّي مشغول القلب، لست أنشط اليوم لمشاتمتكم.
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى عن أبيه عن عافية بن شبيب قال:
كان لبشّار مجلس يجلس فيه بالعشيّ يقال له البردان، فدخل إليه نسوة في مجلسه هذا فسمعن شعره، فعشق امرأة منهنّ، و قال لغلامه: عرّفها محبّتي لها، و اتبعها إذا انصرفت إلى منزلها؛ ففعل الغلام و أخبرها بما أمره فلم تجبه إلى ما أحبّ، فتبعها إلى منزلها حتّى عرفه، فكان يتردّد إليها حتّى برمت(3) به، فشكته إلى زوجها، فقال لها:
أجيبيه و عديه إلى أن يجيئك إلى هاهنا ففعلت، و جاء بشّار مع امرأة وجّهت بها إليه، فدخل و زوجها جالس و هو لا يعلم، فجعل يحدّثها ساعة، و قال لها: ما اسمك بأبي أنت؟ فقالت: أمامة؛ فقال:
أمامة قد وصفت لنا بحسن *** و إنّا لا نراك فألمسينا
/قال: فأخذت يده فوضعتها على أير زوجها و قد أنعظ، ففزع و وثب قائما و قال:
عليّ أليّة ما دمت حيّا *** أمسّك طائعا إلا بعود
و لا أهدي لقوم أنت فيهم *** سلام اللّه إلاّ من بعيد
طلبت غنيمة فوضعت كفّي *** على أير أشدّ من الحديد
فخير منك من لا خير فيه *** و خير من زيارتكم قعودي
و قبض زوجها عليه و قال: هممت بأن أفضحك؛ فقال له: كفاني، فديتك، ما فعلت بي، و لست و اللّه عائدا إليها أبدا، فحسبك ما مضى، و تركه و انصرف(4). و قد روي مثل هذه الحكاية عن الأصمعيّ في قصّة بشّار هذه.
و هذا الخبر بعينه يحكى بإسناد أقوى من هذا الإسناد و أوضح عن أبي العبّاس الأعمى السائب بن فرّوخ، و قد ذكرته في أخبار أبي العباس بإسناده.
نسخت من كتاب هارون بن عليّ: قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثني حمدان الآبنوسيّ قال حدّثنا أبو نواس قال:
كان لبشّار خمسة ندماء فمات منهم أربعة و بقي واحد يقال له البراء، فركب في زورق يريد عبور دجلة
ص: 163
العوراء(1) فغرق، و كان المهديّ قد نهى بشّارا عن ذكر النساء و العشق، فكان بشار يقول: ما خير في الدنيا بعد الأصدقاء؛ ثم رثى أصدقاءه بقوله:
/
يا ابن موسى ما ذا يقول الإمام *** في فتاة بالقلب منها أوام
بتّ من حبّها أوقّر بالكأ *** س و يهفو على فؤادي الهيام(2)
/ويحها كاعبا تدلّ بجهم *** كعثبيّ(3) كأنّه حمّام
لم يكن بينها و بيني إلاّ *** كتب العاشقين و الأحلام
يا ابن موسى اسقني ودع عنك سلمى *** إنّ سلمى حمى و فيّ احتشام
ربّ كأس كالسّلسبيل تعلّل *** ت بها و العيون عنّي نيام
حبست للشّراة في بيت رأس(4)*** عتّقت عانسا عليها الختام
نفحت نفحة فهزّت نديمي *** بنسيم و انشقّ عنها الزّكام
و كأنّ المعلول منها إذا را *** ح شج في لسانه برسام(5)
صدمته الشّمول حتّى بعيني *** ه انكسار و في المفاصل خام(6)
و هو باقي الأطراف حيّت(7) به الكأ *** س و ماتت أوصاله و الكلام
و فتى يشرب المدامة بالما *** ل و يمشي(8) يروم ما لا يرام
أنفدت كأسه الدنانير حتّى *** ذهب العين و استمرّ السّوام(9)
تركته الصّهباء يرنو بعين *** نام إنسانها و ليست تنام
/جنّ من شربة تعلّ بأخرى *** و بكى حين سار فيه المدام
كان لي صاحبا فأودى به الدّه *** ر و فارقته عليه السّلام
بقي النّاس بعد هلك نداما *** ي وقوعا لم يشعروا ما الكلام(10)
ص: 164
كجزور(1)
الأيسار لا كبد في *** ها لباغ و لا عليها سنام
يا ابن موسى فقد الحبيب العي *** ن قذاة و في الفؤاد سقام
كيف يصفو لي النعيم وحيدا *** و الأخلاّء في المقابر هام(2)
نفستهم(3) عليّ أم المنايا *** فأنامتهم بعنف فناموا
لا يغيض انسجام عيني عنهم *** إنّما غاية الحزين السّجام(4)
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرياشيّ عن الأصمعيّ:
أن بشّارا وفد إلى عمر بن هبيرة و قد مدحه بقوله:
يخاف المنايا أن ترحّلت صاحبي *** كأنّ المنايا في المقام تناسبه
فقلت له إنّ العراق مقامه *** وخيم إذا هبّت عليك جنائبه
لألقى بني عيلان إنّ فعالهم(5) *** تريد على كلّ الفعال مراتبه
أولاك الألى شقّوا العمى بسيوفهم *** عن العين حتّى أبصر الحقّ طالبه
و جيش كجنح الليل يزحف بالحصا *** و بالشوك و الخطّيّ حمرا ثعالبه(6)
/غدونا له و الشّمس في خدر أمّها *** تطالعنا و الطّلّ(7) لم يجر ذائبه
بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه *** و تدرك من نجّى الفرار مثالبه
/كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا *** و أسيافنا ليل تهاوى(8) كواكبه
بعثنا لهم موت الفجاءة إنّنا *** بنو الموت خفّاق علينا سبائبه(9)
فراحوا فريق في الإسار و مثله *** قتيل و مثل لاذ بالبحر هاربه
إذا الملك الجبّار صعّر خدّه(10) *** مشينا إليه بالسّيوف نعاتبه
ص: 165
فوصله بعشرة آلاف درهم، فكانت أوّل عطيّة سنيّة أعطيها بشّار و رفعت من ذكره، و هذه القصيدة هي التي يقول فيها:
إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا *** صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدا أوصل أخاك فإنه *** مقارف(1) ذنب مرّة و مجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى *** ظمئت و أيّ النّاس تصفو مشاربه
الغناء في هذه الأبيات لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل بالبنصر في مجراها.
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال ذكر أبو أيّوب المدينيّ عن الأصمعيّ قال:
كان لبشّار مجلس يجلس فيه يقال له البردان، و كان النساء يحضرنه فيه، فبينما هو ذات يوم في مجلسه إذ سمع كلام امرأة في المجلس فعشقها، فدعا غلامه فقال: /إذا تكلّمت المرأة عرّفتك فاعرفها، فإذا انصرفت من المجلس فاتبعها و كلّمها و أعلمها أنّى لها محبّ؛ و قال فيها:
يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة *** و الأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا: بمن لا ترى تهذي! فقلت لهم *** الأذن كالعين توفي(2) القلب ما كانا
هل من دواء لمشغوف بجارية *** يلقى بلقيانها روحا(3) و ريحانا
و قال في مثل ذلك:
قالت عقيل بن كعب إذ تعلّقها *** قلبي فأضحى به من حبّها أثر
أنّى و لم ترها تهذي! فقلت لهم *** إنّ الفؤاد يرى ما لا يرى البصر
أصبحت كالحائم الحيران مجتنبا *** لم يقض وردا و لا يرجى له صدر
قال يحيى بن عليّ و أنشدني أصحاب أحمد بن إبراهيم عنه لبشّار في هذا المعنى و كان يستحسنه:
يزهّدني في حبّ عبدة معشر *** قلوبهم فيها مخالفة قلبي
فقلت دعوا قلبي و ما اختار و ارتضى *** فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحبّ
فما تبصر العينان في موضع الهوى *** و لا تسمع الأذنان إلاّ من القلب
و ما الحسن إلاّ كلّ حسن دعا الصّبا *** و ألّف بين العشق و العاشق الصّبّ
قال أبو أحمد: و قال في مثل ذلك:
ص: 166
يا قلب ما لي أراك لا تقر(1) *** إيّاك أعني و عندك الخبر
أذعت بعد الألى مضوا حرقا *** أم ضاع ما استودعوك إذ بكروا
/قال أبو أحمد: و قال في مثل ذلك:
إنّ سليمى و اللّه يكلؤها *** كالسّكر تزداده على السّكر
بلّغت عنها شكلا(2) فأعجبني *** و السّمع بكفيك غيبة البصر
أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال حدّثني أبي قال:
زعم أبو العالية أنّ بشّارا قدم على المهديّ، فلمّا استأذن عليه قال له الربيع: قد أذن لك و أمرك ألاّ تنشد شيئا من الغزل و التشبيب فأدخل على ذلك، فأنشده قوله:
يا منظرا حسنا رأيته *** من وجه جارية فديته
بعثت إليّ تسومني *** برد الشّباب و قد طويته
و اللّه ربّ محمّد *** ما إن غدرت و لا نويته
أمسكت عنك و ربّما *** عرض البلاء و ما ابتغيته
إنّ الخليفة قد أبى *** و إذا أبى شيئا أبيته
و مخضّب رخص البنا *** ن بكى عليّ و ما بكيته
و يشوقني بيت الحبي *** ب إذا ادّكرت و أين بيته
قام الخليفة دونه *** فصبرت عنه و ما قليته
و نهاني الملك الهما *** م عن النّسيب(3) و ما عصيته
لا بل وفيت فلم أضع *** عهدا و لا رأيا رأيته
و أنا المطلّ على العدا *** و إذا غلا علق(4) شريته
أصفي(5) الخليل إذا دنا *** و إذا نأى عنّي نأيته
/ثم أنشده ما مدحه به بلا تشبيب، فحرمه و لم يعطه شيئا؛ فقيل له: إنّه لم يستحسن شعرك؛ فقال: و اللّه لقد مدحته بشعر لو مدح به الدهر لم يخش صرفه على أحد، و لكنّه كذّب أملي لأنّي كذبت في قولي. ثم قال في ذلك:
ص: 167
خليليّ إنّ العسر سوف يفيق *** و إنّ يسارا في غد لخليق
و ما كنت إلا كالزّمان إذا صحا *** صحوت و إن ماق(1) الزّمان أموق
أ أدماء(2) لا أستطيع في قلّة الثّرى *** خزوزا(3) و وشيا و القليل محيق(4)
خذي من يدي ما قلّ إنّ زماننا *** شموس(5) و معروف الرجال رقيق(6)
لقد كنت لا أرضى بأدنى معيشة *** و لا يشتكي بخلا عليّ رفيق
خليليّ إنّ المال ليس بنافع *** إذا لم ينل منه أخ و صديق
و كنت إذا ضاقت عليّ محلّة *** تيمّمت أخرى ما عليّ تضيق
و ما خاب بين اللّه و الناس عامل *** له في التّقى أو في المحامد سوق
و لا ضاق فضل اللّه عن متعفّف *** و لكنّ أخلاق الرجال تضيق
أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثني عمر بن شبّة قال:
بلغ المهديّ قول بشّار:
/
قاس الهموم تنل بها نجحا *** و الليل إنّ وراءه صبحا
/لا يؤيسنّك من مخبّأة *** قول تغلّظه و إن جرحا
عسر النّساء إلي مياسرة *** و الصّعب يمكن بعد ما جمحا
فلمّا قدم عليه استنشده هذا الشعر فأنشده إياه، و كان المهديّ غيورا، فغضب و قال: تلك أمّك يا عاضّ كذا من أمّه(7)! أ تحضّ الناس على الفجور و تقذف المحصنات المخبّآت! و اللّه لئن قلت بعد هذا بيتا واحدا في نسيب لآتينّ على روحك؛ فقال بشار في ذلك:
و اللّه لو لا رضا الخليفة ما *** أعطيت ضيما عليّ في شجن
و ربّما خير لابن آدم في ال *** كره و شقّ الهوى على البدن
فاشرب على ابنة الزّمان فما *** تلقى زمانا صفا من الأبن(8)
ص: 168
اللّه يعطيك من فواضله *** و المرء يغضي عينا على الكمن(1)
قد عشت بين الرّيحان و الراح و ال *** مزهر(2) في ظلّ مجلس حسن
و قد ملأت البلاد ما بين فغ *** فور(3) إلى القيروان فاليمن
قال عمر بن شبّة: فغفور: ملك الصين.
شعرا تصلّي له العواتق(4) و ال *** ثّيب(5) صلاة الغواة للوثن
/ثم نهاني المهديّ فانصرفت *** نفسي صنيع الموفّق اللّقن(6)
فالحمد للّه لا شريك له *** ليس بباق شيء على الزّمن
ثم أنشده قصيدته التي أوّلها:
تجاللت عن فهر و عن جارتي فهر
و وصف بها تركه التشبيب، و مدحه فقال:
تسلّى عن الأحباب صرّام خلّة *** و وصّال أخرى ما يقيم على أمر
و ركّاض أفراس الصّبابة و الهوى *** جرت حججا ثم استقرّت فما تجري
فأصبحن ما يركبن إلاّ إلى الوغى *** و أصبحت لا يزرى عليّ و لا أزري
فهذا و إنّي قد شرعت(7) مع التّقى *** و ماتت همومي الطارقات فما تسري
ثم قال يصف السفينة:
و عذراء لا تجري بلحم و لا دم *** قليلة شكوى الأين(8) ملجمة الدّبر
إذا ظعنت(9) فيها الفلول(10) تشخّصت *** بفرسانها لا في وعوث(11) و لا وعر
ص: 169
و إن قصدت زلّت على متنصّب *** ذليل القوى لا شيء يفري كما تفري
تلاعب تيّار البحور و ربّما *** رأيت نفوس القوم من جريها تجري
قال: و كان قال: «نينان البحور» فعابه بذلك سيبويه(1) فجعله «تيّار البحور».
/
إلى ملك من هاشم في نبوّة *** و من حمير في الملك في العدد الدّثر(2)
من المشترين الحمد تندى من النّدى *** يداه و يندي عارضاه من العطر
/فألزمت حبلي حبل من لا تغبّه *** عفاة الندى من حيث يدري و لا يدري
بنى لك عبد اللّه بيت خلافة *** نزلت بها بين الفراقد و النّسر
و عندك عهد من وصاة(3) محمّد *** فرعت(4) به الأملاك من ولد النّضر
فلم يحظ منه أيضا بشيء، فهجاه فقال في قصيدته:
خليفة يزني بعمّاته *** يلعب بالدّبّوق(5) و الصّولجان
أبدلنا اللّه به غيره *** و دسّ موسى في حر الخيزران(6)
و أنشدها في حلقة يونس النّحويّ، فسعي به إلى يعقوب بن داود، و كان بشّار قد هجاه فقال:
بني أميّة هبّوا طال نومكم *** إنّ الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا *** خليفة اللّه بين الزّقّ و العود
فدخل يعقوب على المهديّ فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّ هذا الأعمى الملحد الزنديق قد هجاك؛ فقال: بأيّ شيء؟ فقال: بما لا ينطق به لساني و لا يتوهّمه فكري؛ قال له: بحياتي إلاّ أنشدتني! فقال: و اللّه لو خيّرتني بين إنشادي إياه و بين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي؛ فحلف عليه المهديّ بالأيمان التي لا فسحة فيها أن يخبره؛ فقال: أمّا لفظا فلا، و لكنّي أكتب ذلك، فكتبه و دفعه إليه؛ فكاد/ينشقّ غيظا، و عمد على الانحدار إلى البصرة للنّظر في أمرها، و ما وكده(7) غير بشّار، فانحدر، فلما بلغ إلى البطيحة(8) سمع أذانا في وقت ضحى النّهار،
ص: 170
فقال: انظروا ما هذا الأذان! فإذا بشّار يؤذّن سكران؛ فقال له: يا زنديق يا عاضّ بظر أمه، عجبت أن يكون هذا غيرك، أ تلهو بالأذان في غير وقت صلاة و أنت سكران! ثم دعا بابن نهيك فأمره بضربه بالسّوط فضربه بين يديه على صدر الحرّاقة(1) سبعين سوطا أتلفه فيها، فكان إذا أوجعه السوط يقول: حسّ - و هي كلمة تقولها العرب للشيء إذا أوجع - فقال له بعضهم: انظر إلى زندقته يا أمير المؤمنين، يقول: حسّ، و لا يقول: باسم اللّه؛ فقال: ويلك! أ طعام هو فأسمّي اللّه عليه! فقال له الآخر: أ فلا قلت: الحمد للّه؛ قال: أو نعمة هي حتّى أحمد اللّه عليها! فلما ضربه سبعين سوطا بان الموت فيه، فألقي في سفينة حتّى مات ثم رمي به في البطيحة، فجاء بعض أهله فحملوه إلى البصرة فدفن بها.
أخبرني عمّي قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال حدّثني خالد بن يزيد بن وهب بن جرير عن أبيه قال:
لما ولي صالح بن داود أخو يعقوب بن داود وزير المهديّ البصرة، قال بشّار يهجوه:
هم حملوا فوق المنابر صالحا *** أخاك فضجّت من أخيك المنابر
فبلغ ذلك يعقوب فدخل على المهديّ فقال: يا أمير المؤمنين، أبلغ من قدر هذا الأعمى المشرك أن يهجو أمير المؤمنين! قال: ويحك! و ما قال؟ قال: يعفيني/أمير المؤمنين من إنشاده، ثم ذكر باقي الخبر مثل الذي تقدّمه. فقال خالد بن يزيد بن وهب في خبره: و خاف يعقوب بن داود أن يقدم على المهديّ فيمدحه و يعفو عنه، فوجّه إليه من استقبله/فضربه بالسّياط حتّى قتله ثم ألقاه في البطيحة في الخرّارة(2).
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا عليّ بن محمد(3) النّوفليّ عن أبيه و عن جماعة من رواة البصريين، و أخبرنا يحيى بن عليّ عن أحمد بن أبي طاهر عن علي بن محمد، و خبره أتم، قالوا:
خرج بشّار إلى المهديّ، و يعقوب بن داود وزيره، فمدحه و مدح يعقوب، فلم يحفل به يعقوب و لم يعطه شيئا، و مرّ يعقوب ببشّار يريد منزله، فصاح به بشّار:
طال الثّواء على رسوم المنزل
فقال يعقوب:
فإذا تشاء أبا معاذ فارحل
فغضب بشّار و قال يهجوه:
بني أميّة هبّوا طال نومكم *** إنّ الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا *** خليفة اللّه بين الزّقّ و العود
قال النوفليّ: فلما طالت أيام بشّار على باب يعقوب دخل عليه، و كان من عادة بشّار إذا أراد أن ينشد أو
ص: 171
يتكلّم أن يتفل عن يمينه و شماله و يصفّق بإحدى يديه على الأخرى، ففعل ذلك و أنشد:
يعقوب قد ورد العفاة عشيّة *** متعرّضين لسيبك المنتاب(1)
فسقيتهم و حسبتني كمّونة *** نبتت لزارعها بغير شراب
/مهلا لديك فإنّني ريحانة *** فاشمم بأنفك و اسقها بذناب(2)
طال الثواء على تنظّر حاجة *** شمطت(3) لديك فمن لها بخضاب
تعطي الغزيرة(4) درّها فإذا أبت *** كانت ملامتها على الحلاّب
يقول ليعقوب: أنت من المهديّ بمنزلة الحالب من الناقة الغزيرة التي إذا لم يوصل إلى درّها فليس ذلك من قبلها، إنّما هو من منع الحالب منها، و كذلك الخليفة ليس(5) من قبله لسعة معروفة، إنما هو من قبل السبب إليه.
قال: فلم يعطف ذلك يعقوب عليه و حرمه، فانصرف إلى البصرة مغضبا. فلمّا قدم المهديّ البصرة أعطى عطايا كثيرة و وصل الشعراء، و ذلك كلّه على يدي يعقوب، فلم يعط بشّارا شيئا من ذلك، فجاء بشّار إلى حلقة يونس النّحويّ فقال: هل هاهنا أحد يحتشم(6)؟ قالوا له: لا؛ فأنشأ بيتا يهجو فيه المهديّ، فسعى به أهل الحلقة إلى يعقوب؛ فقال يونس(7) للمهديّ: إنّ بشارا زنديق و قامت عليه البيّنة عندي بذلك، و قد هجا أمير المؤمنين، فأمر ابن نهيك بأخذه، و أزف خروجهم فخرجوا و أخرجه ابن نهيك معه في زورق. فلما كانوا بالبطيحة ذكره المهديّ فأرسل إلى ابن نهيك يأمره أن يضرب بشّارا ضرب التلف و يلقيه بالبطيحة، فأمر به فأقيم على صدر السفينة و أمر الجلاّدين أن يضربوه ضربا يتلفون فيه نفسه ففعلوا ذلك، فجعل يسترجع(8)؛ فقال بعض من حضر: أ ما تراه/لا يحمد اللّه! فقال بشّار: أ نعمة هي فأحمد اللّه عليها! إنّما هي بليّة أسترجع عليها، فضرب سبعين سوطا مات منها و ألقي في البطيحة.
قال يحيى بن عليّ فحكى قعنب بن محرز الباهليّ قال حدّثني محمد بن الحجّاج قال:
لما ضرب بشار بالسّياط و طرح في السفينة قال: ليت عين أبي الشّمقمق رأتني حين يقول:
/
إنّ بشّار بن برد *** تيس أعمى في سفينه(9)
ص: 172
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و حبيب بن نصر المهلّبي قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:
أمر المهديّ عبد الجبار صاحب الزنادقة فضرب بشّارا، فما بقي بالبصرة شريف إلا بعث إليه بالفرش و الكسوة و الهدايا و مات بالبطيحة. قال: و كانت وفاته و قد ناهز ستّين سنة.
قال عمر بن شبّة حدّثني سالم بن عليّ، قال: كنّا عند يونس فنعى بشّارا إلينا ناع، فأنكر يونس ذلك و قال: لم يمت؛ فقال الرجل: أنا رأيت قبره، فقال: أنت رأيته؟ قال: نعم، و إلا فعليّ و عليّ، و حلف له حتّى رضي، فقال يونس: «لليدين و للفم»(1).
قال أبو زيد و حدّثني جماعة من أهل البصرة منهم محمّد بن عون بن بشير(2)، و كان يتّهم بمذهب بشّار، فقال:
/لمّا مات بشّار ألقيت جثّته بالبطيحة في موضع يعرف بالحرّارة، فحمله الماء فأخرجه إلى دجلة البصرة فأخذ فأتي به أهله فدفنوه، قال و كان كثيرا ما ينشدني:
سترى حول سريري *** حسّرا(3) يلطمن لطما
يا قتيلا قتلته *** عبدة الحوراء ظلما
قال: و أخرجت جنازته فما تبعها أحد إلاّ أمة له سوداء سنديّة عجماء ما تفصح، رأيتها خلف جنازته تصيح:
وا سيّداه! وا سيّداه!.
قال أبو زيد و حدّثني سالم بن عليّ(4) قال:
لمّا مات بشّار و نعي إلى أهل البصرة تباشر عامّتهم و هنّأ بعضهم بعضا و حمدوا اللّه و تصدّقوا، لما كانوا منوا(5)به من لسانه.
و قال أبو هشام الباهليّ فيما أخبرنا به يحيى بن عليّ في قتل بشّار:
يا بؤس ميت لم يبكه أحد *** أجل و لم يفتقده مفتقد
لا أمّ أولاده بكته و لم *** يبك عليه لفرقة ولد
و لا ابن أخت بكى و لا ابن أخ *** و لا حميم رقّت له كبد
بل زعموا أنّ أهله فرحا *** لمّا أتاهم نعيّه سجدوا
ص: 173
قال: و قال أيضا في ذلك:
قد تبع الأعمى قفا عجرد *** فأصبحا جارين في دار
قالت بقاع الأرض لا مرحبا *** بروح حمّاد و بشّار
/تجاورا بعد تنائيهما *** ما أبغض الجار إلى الجار
صارا جميعا في يدي مالك *** في النّار و الكافر في النار
قال أبو أحمد يحيى بن عليّ و أخبرنا بعض إخواني عن عمر بن محمّد عن أحمد بن خلاّد عن أبيه قال:
مات بشّار سنة ثمان و ستين و مائة و قد بلغ نيّفا و سبعين(1) سنة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال:
لمّا ضرب المهديّ بشّارا بعث إلى منزله من يفتّشه، و كان يتّهم بالزندقة فوجد. في منزله طومار(2) فيه:
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ * إني أردت هجاء آل سليمان بن عليّ لبخلهم فذكرت قرابتهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم/فأمسكت عنهم إجلالا له صلّى اللّه عليه و سلّم، على أنّي قد قلت فيهم:
دينار آل سليمان و درهمهم *** كالبابليّين(3) حفّا بالعفاريت
لا يبصران و لا يرجى لقاؤهما *** كما سمعت بهاروت و ماروت(4)
فلما قرأه المهديّ بكى و ندم على قتله، و قال: لا جزى اللّه يعقوب بن داود خيرا، فإنّه لمّا هجاه لفّق عندي شهودا على أنّه زنديق فقتلته ثمّ ندمت حين لا يغني النّدم.
/أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا عمر بن محمّد بن عبد الملك قال حدّثني محمد بن هارون قال:
لمّا نزل المهديّ البصرة كان معه حمدويه صاحب الزّنادقة فدفع إليه بشّارا و قال: اضربه ضرب التلف، فضربه ثلاثة عشر سوطا، فكان كلّما ضربه سوطا قال له: أوجعتني ويلك! فقال: يا زنديق، أ تضرب و لا تقول: باسم اللّه! قال: ويلك! أ ثريد هو فأسمّي(5) [اللّه] عليه! قال: و مات من ذلك الضّرب.
و لبشّار أخبار كثيرة قد ذكرت في عدّة مواضع: منها أخباره مع عبدة فإنّها أفردت في بعض شعره فيها الذي
ص: 174
غنّى فيه المغنّون، و أخباره مع حمّاد عجرد في تهاجيهما فإنّها أيضا أفردت، و كذلك أخباره مع أبي هاشم الباهليّ فإنّا لم نجمع جميعها في هذا الموضع، إذ كان كلّ صنف منها مستغنيا بنفسه حسبما شرط في تصدير الكتاب.
يزيد حوراء رجل من أهل المدينة ثم من موالي بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، و يكنى أبا خالد، مغنّ محسن كثير الصّناعة، من طبقة ابن جامع و إبراهيم الموصليّ، و كان ممن قدم على المهديّ في خلافته فغنّاه، و كان حسن الصّوت حلو الشمائل.
و ذكر ابن خرداذبه(1) أنه بلغه أن إبراهيم الموصليّ حسده على شمائله و إشارته في الغناء، فاشترى عدّة جوار و شاركه فيهنّ، و قال له: علّمهن فما رزق اللّه فيهن من ربح فهو بيننا، و أمرهن أن يجعلن وكدهنّ(2) أخذ إشارته(3)ففعلن ذلك، و كان إبراهيم يأخذها عنهن هو و ابنه و يأمرهن بتعليم كلّ من يعرفنه ذلك حتى شهرها في الناس؛ فأبطل عليه ما كان منفردا به من ذلك.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن موسى قال حدّثني جماعة من موالي الرشيد:
أن يزيد حوراء كان صديقا لأبي العتاهية، فقال أبو العتاهية أبياتا في أمر عتبة يتنجّز فيها المهديّ ما وعد إيّاه من تزويجها، فإذا وجد المهديّ طيّب النفس غنّاه بها، و هي:
و لقد تنسّمت الرياح حاجتي *** فإذا لها من راحتيك نسيم
أشربت نفسي من رجائك ما له *** عنق يخبّ إليك بي و رسيم(4)
/و رميت نحو سماء جودك(5) ناظري *** أرعى مخايل برقه و أشيم
و لربّما استيأست ثم أقول لا، *** إنّ الّذي ضمن النجاح كريم
فصنع فيها لحنا و توخّى لها وقتا وجد المهديّ فيه طيّب النفس فغنّاه بها، فدعا بأبي العتاهية و قال له: أمّا عتبة فلا سبيل إليها لأن مولاتها منعت من ذلك. و لكن هذه/خمسون ألف درهم فاشتر ببعضها خيرا من عتبة، فحملت إليه و انصرف.
ص: 175
أخبرني عمّي قال حدّثني أحمد بن المرزبان قال حدّثنا شيبة بن هشام عن عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ(1) قال:
كان يزيد حوراء نظيفا ظريفا حسن الوجه شكلا(2)، لم يقدم علينا من الحجاز أنظف و لا أشكل منه، و ما كنت تشاء أن ترى خصلة جميلة فيه لا تراها في أحد منهم إلا رأيتها فيه، و كان يتعصّب لإبراهيم الموصليّ على ابن جامع، فكان إبراهيم يرفع منه و يشيع ذكره بالجميل و ينبّه على مواضع تقدّمه و إحسانه و يبعث بابنه إسحاق إليه يأخذ عنه.
و كان صديقا لأبي مالك الأعرج التّميميّ لا يكاد أن يفارقه، فمرض مرضا شديدا و احتضر، فاغتمّ عليه الرشيد و بعث بمسرور الخادم يسأل عنه، ثم مات؛ فقال أبو مالك يرثيه:
لم يمتّع من الشباب يزيد *** صار في التّرب و هو غضّ جديد
خانه دهره و قابله من *** ه بنحس و دابرته(3) السّعود
/حين زفّت دنياه من كل وجه *** و تدانى إليه منه البعيد
فكأن لم يكن يزيد و لم يش *** ج نديما يهزّه التّغريد
و في هذه الأبيات لحسين بن محرز لحن من الثقيل الثاني بالبنصر، من نسخة عمرو بن بانة.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أحمد بن أبي يوسف قال حدّثني الحسين بن جمهور بن زياد بن طرخان(4) مولى المنصور قال حدّثني أبو محمد عبد الرحمن بن عيينة بن شارية الدّؤليّ قال حدّثني محمد بن ميمون أبو زيد قال حدّثني يزيد حوراء المغنّي قال:
كلّمني أبو العتاهية في أن أكلّم له المهديّ في عتبة، فقلت له: إن الكلام لا يمكنني و لكن قل شعرا أغنّه به، فقال:
نفسي بشيء من الدنيا معلّقة *** اللّه و القائم المهديّ يكفيها
ص: 176
إني لأيأس منها ثم يطمعني *** فيها احتقارك للدنيا و ما فيها
قال: فعملت فيه لحنا و غنيته به، فقال: ما هذا؟ فأخبرته خبر أبي العتاهية، فقال: ننظر فيما سأل، فأخبرت أبا العتاهية، ثم مضى شهر فجاءني و قال: هل حدث خبر؟ فقلت: لا، قال: فاذكرني للمهديّ، قلت: إن أحببت ذلك فقل شعرا تحرّكه و تذكّره وعده حتى أغنّيه به، فقال:
ليت شعري ما عندكم ليت شعري *** فلقد أخّر الجواب لأمر
ما جواب أولى بكلّ جميل *** من جواب يردّ من بعد شهر
قال يزيد: فغنّيت به المهديّ فقال: عليّ بعتبة فأحضرت، فقال: إنّ أبا العتاهية كلّمني فيك، فما تقولين، و لك و له عندي ما تحبّان مما لا تبلغه أمانيكما؟ فقالت له: قد علم أمير المؤمنين ما أوجب اللّه عليّ من حقّ مولاتي، و أريد أن أذكر لها هذا، قال: فافعلي؛ قال: و أعلمت أبا/العتاهية، و مضت أيّام فسألني معاودة المهديّ، فقلت: قد عرفت الطريق فقل ما شئت حتى أغنّيه به، فقال:
أشربت قلبي من رجائك ما له *** عنق يخبّ إليك بي و رسيم
و أملت نحو سماء جودك ناظري *** أرعى مخايل برقها و أشيم
و لربّما استيأست ثم أقول لا *** إنّ الذي وعد النجاح كريم
قال يزيد: فغنّيته المهديّ، فقال: عليّ بعتبة فجاءت، فقال: ما صنعت؟ فقالت: ذكرت ذلك لمولاتي فكرهته و أبته، فليفعل أمير المؤمنين ما يريد، فقال: ما كنت لأفعل شيئا تكرهه، فأعلمت أبا العتاهية بذلك، فقال:
قطّعت منك حبائل الآمال *** و أرحت من حلّ و من ترحال
ما كان أشأم إذ رجاؤك قاتلي(1) *** و بنات وعدك يعتلجن(2) ببالي
و لئن طمعت لربّ برقة خلّب *** مالت بذي(3) طمع و لمعة آل
أخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
قال يزيد حوراء: كنت أجلس بالمدينة على أبواب قريش، فكانت تمرّ بي جارية تختلف إلى الزرقاء تتعلّم منها الغناء، فقلت لها يوما: افهمي قولي و ردّي جوابي و كوني عند ظنّي، فقالت: هات ما عندك، فقلت: باللّه ما
ص: 177
اسمك؟ فقالت: ممنّعة؛ فأطرقت طيرة(1) من اسمها مع طمعي فيها، فقلت: بل باذلة أو مبذولة إن شاء اللّه، فاسمعي منّي، فقالت و هي تتبسّم: إن كان عندك شيء فقل، فقلت:
ليهنك(2) منّى أنني لست مفشيا *** هواك إلى غيري و لو متّ من كرب
و لا مانحا خلقا سواك مودّتي *** و لا قائلا ما عشت من حبّكم حسي
قال: فنظرت إليّ طويلا، ثم قالت: أنشدك اللّه، أ عن فرط محبّة أم اهتياج غلمة تكلّمت؟ فقلت: لا و اللّه و لكن عن فرط محبّة، فقالت:
فو اللّه ربّ الناس لا خنتك الهوى *** و لا زلت مخصوص المحبّة من قلبي
فثق بي فإنّي قد وثقت و لا تكن *** على غير ما أظهرت لي يا أخا الحبّ
قال: فو اللّه لكأنما أضرمت في قلبي نارا، فكانت تلقاني في الطريق الذي كانت تسلكه فتحدّثني و أتفرّج(3)بها، ثم اشتراها بعض أولاد الخلفاء، فكانت تكاتبني و تلاطفني دهرا طويلا.
يا ليلة جمعت لنا الأحبابا *** لو شئت دام لنا النعيم و طابا
بتنا نسقاها شمولا قرقفا(4) *** تدع الصحيح بعقله مرتابا
حمراء مثل دم الغزال و تارة *** عند المزاج تخالها زريابا(5)
من كفّ جارية كأنّ بنانها *** من فضّة قد قمّعت(6) عنّابا
/و كأنّ يمناها إذا نقرت بها *** تلقي على الكفّ الشّمال حسابا
عروضه من الكامل. الشعر لعكّاشة العمّيّ، و الغناء لعبد الرحيم الدّفّاف، و لحنه المختار هزج بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.
ص: 178
هو عكّاشة بن عبد الصّمد العمّيّ من أهل البصرة من بني العمّ. و أصل بني العمّ كالمدفوع، يقال: إنهم نزلوا ببني تميم بالبصرة في أيّام عمر بن الخطّاب فأسلموا و غزوا مع المسلمين و حسن بلاؤهم، فقال الناس: أنتم، و إن لم تكونوا من العرب، إخواننا و أهلنا و أنتم الأنصار و الإخوان و بنو العمّ، فلقّبوا بذلك و صاروا في جملة العرب.
و قال بعض الشعراء - و هو كعب بن معدان - يهجو بني ناجية و يشبّههم ببني العمّ:
وجدنا آل سامة في قريش *** كمثل العمّ بين بني تميم
و يروى: «في سلفي تميم».
أخبرني عيسى بن الحسين عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني أبو عبيدة قال:
لما تواقف(1) جرير و الفرزدق بالمربد للهجاء اقتتلت بنو يربوع و بنو مجاشع، فأمدّت بنو العمّ بني مجاشع و جاءوهم و في أيديهم الخشب فطردوا بني يربوع؛ فقال جرير: من هؤلاء؟ قالوا: بنو العمّ، فقال جرير يهجوهم:
ما للفرزدق من عزّ يلوذ به *** إلاّ بني العمّ في أيديهم الخشب
سيروا بني العمّ فالأهواز(2) داركم *** و نهر تيري(3) و لم تعرفكم العرب
/و عكّاشة شاعر مقلّ من شعراء الدولة العباسيّة، ليس ممّن شهر و شاع شعره في أيدي الناس و لا ممّن خدم الخلفاء و مدحهم.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عليّ بن الحسن عن ابن الأعرابيّ قال حدّثني سعيد بن حميد الكاتب البصريّ قال قال أبي:
كان عكّاشة بن عبد الصّمد العمّيّ صديقا لي و إلفا، و كنّا نتعاشر و لا نكاد نفترق و لا يكتم أحدنا صاحبه شيئا،
ص: 179
فرأيته في بعض أيّامه متغير الهيئة عمّا عهدته مقسّم القلب و الفكر غير آخذ ما كنّا فيه من الفكاهة و المزاح، فسألته عن حاله فكاتمنيها مليّا، ثم أخبرني أنه يهوى جارية لبعض الهشاميّين يقال لها نعيم، و أن مرامها عليه مستصعب لا يراها إلاّ من جناح لدارهم، تشرف عليه في الفيئة(1) بعد الفيئة فتكلّمه كلاما يسيرا ثم تذهب، فعاتبته على ذلك فلم يزدجر و تمادى في أمره، ثم جاءني يوما، فقال: قد وعدتني الزيارة لأنّ شكواي إليها طالت، فقلت له: فهل حقّقت لك الوعد على يوم بعينه؟ قال: لا، إنما سألتها الزيارة فقالت: نعم أفعل، فقلت له: هذا و اللّه أعجب من سائر ما مضى، و أيّ شيء لك في هذا من الفائدة بلا تحصيل وعد! فقال لي: يا أخي، إنّ لي في قولها: «نعم» فرجا كبيرا، فقلت: أنت أقنع الناس؛ ثم جاءني بعد يومين و هو كاسف البال مهموم، فقلت له: ما لك؟ فقال: مضيت إلى نعيم فتنجّزت وعدها، فقالت لي: إن لي صاحبة أستنصحها و أعلم أنها تشفق عليّ شفقة الأخت على أختها و الأمّ على ولدها و قد/نهتني عن ذلك، و قالت لي: إنّ في الرجال غدرا و مكرا، و لا آمن أن تفتضحي ثم لا تحصلي منه على شيء؛ و قد انقطعت عنّي ثم أنشدني لنفسه:
/
علام حبل الصفاء منصرم *** و فيم عنّي الصدود و الصّمم
يا من كنينا عن اسمه زمنا *** نتبع مرضاته و يجترم(2)
قد عيل صبري و أنت لاهية *** عنّي و قلبي عليك يضطرم
من جذّ حبل الوفاء سيّدتي *** منك و من سامني له العدم
فكم أتاني واش يعيبكم *** فقلت اخسأ لأنفك الرّغم
أنت الفدا و الحمى لمن عبت فار *** جع صاغرا راغما لك الندم
يا ربّ خذ لي من الوشاة إذا *** قاموا و قمنا إليك نختصم
دبّوا إليها يوسوسون لها *** كي يستزلّوا حبيبتي زعموا
هيهات من ذاك ضلّ سعيهم *** ما قلبها المستعار يقتسم
يا حاسدينا موتوا بغيظكم *** حبلي متين بقولها نعم
باللّه لا تشمتي العداة بنا *** كوني كقلبي فلست أتّهم
- الغناء في هذه الأبيات لعريب رمل. و قيل: إنه لغيرها - قال: ثم طال ترداده إليها و استصلاحه لها، فلم ألبث أن جاءتني رقعته في يوم خميس يعلمني أنها قد حصلت عنده و يستدعيني فحضرت، و توارت عنّي ساعة و هو يخبرها أنّه لا فرق بيني و بينه و لا يحتشمني في حل البتّة إلى أن خرجت، فاجتمعنا و شربنا و غنّت غناء حسنا إلى وقت العصر ثم انصرفت، و أخذ دواة و رقعة فكتب فيها:
ص: 180
/
سقيا لمجلسنا الذي كنّا به *** يوم الخميس جماعة أترابا
في غرفة مطرت سماوة(1) سقفها *** بحيا النعيم من الكروم شرابا
إذ نحن نسقاها شمولا قرقفا *** تدع الصحيح بعقله مرتابا
حمراء مثل دم الغزال و تارة *** بعد المزاج تخالها زريابا
من كفّ جارية كأنّ بنانها *** من فضّة قد قمّعت عنّابا
تزداد حسنا كأسها من كفّها *** و يطيب منها نشرها أحقابا
و إذا المزاج علا فشجّ جبينها *** نفثت(2) بألسنة المزاج حبابا
و تخال ما جمعت فأحدق سمطه *** بالطّوق ريق حبائب و رضابا
كفت المناصف(3) أن تذبّ أكفّها *** عنها إذا جعلت تفوح ذبابا
و العود متّبع غناء خريدة *** غردا يقول كما تقول صوابا
و كأنّ يمناها إذا نطقت به *** تلقي على يدها الشّمال حسابا
فهناك خفّ(4) بنا النعيم و صار من *** دون الثقيل لنا عليه حجابا
/آليت لا ألحي على طلب الهوى *** متلذّذا حتى أكون ترابا
اشترى نعيم بغداديّ و سافر بها فأسف و قال شعرا:
قال: ثم قدم قادم من أهل بغداد فاشترى نعيم هذه من مولاتها و رحل إلى بغداد، فعظم أسف عكّاشة و حزنه عليها و استهيم بها طول عمره، فاستحالت صورته و طبعه و خلقه إلى أن فرّق الدهر بيننا، فكان أكثر وكده(5) و شغله أن يقول فيها الشعر و ينوح به عليها و يبكي؛ قال حميد بن سعيد فأنشدني أبي له في ذلك:
/
ألا ليت شعري هل يعودنّ ما مضى *** و هل راجع ما مات من صلة الحبل
و هل أجلسن في مثل مجلسنا الذي *** نعمنا به يوم السعادة بالوصل
عشيّة صبّت لذّة الوصل ظيبها *** علينا و أفنان الجنان جنى البذل
و قد دار ساقينا بكأس رويّة *** ترحّل أحزان الكئيب مع العقل
و شجّ شمولا بالمزاج فطيّرت *** كألسنة الحيّات خافت من القتل
فبتنا و عين الكأس سحّ دموعها *** لكلّ فتى يهتزّ للمجد كالنّصل
ص: 181
و قينتنا كالظبي تسمح بالهوى *** و بثّ تباريح الفؤاد على رسل(1)
إذا ما حكت بالعود رجع لسانها *** رأيت لسان العود من كفّها يملي
فلم أر كاللّذّات أمطرت الهوى *** و لا مثل يومي ذاك صادفه مثلي
و مما قاله فيها:
أ نعيم حبّك سلّني و بلاني *** و إلى الأمرّ من الأمور دعاني
أ نعيم لو تجدين وجدي و الذي *** ألقى بكيت من الذي أبكاني
أ نعيم سيّدتي عليك تقطّعت *** نفسي من الحسرات و الأحزان
أ نعيم قد رحم الهوى قلبي و قد *** بكت الثياب أسى على جثماني
أ نعيم و انحدرت مدامع مقلتي *** حتّى رحمت لرحمتي إخواني
أ نعيم مثّلك الهيام لمقلتي *** فكأنّني ألقاك كلّ مكان
أ نعيم نظرة سحر عينك بالهوى *** معروفة بالقتل في إنسان
أ نعيم(2) اشفي أو دعي من داؤه *** و دواؤه بيديك مقترنان
هذا و كم من مجلس لي مؤنق *** بين النعيم و بين عيش داني
نازعته أردانه فلبستها *** مع ظبية في عيشنا الفينان
/تنسي الحليم من الرجال معاده *** بين الغناء و عودها الحنّان
حتى يعود كأنّ حبّة قلبه *** مشدودة بمثالث(3) و مثاني
ظلّت تغنّيني و تعطف كفّها *** بالعود بين الرّاح و الرّيحان
فسمعت ما أبكى و أضحك سامعا *** و سكرت من طرب و من أشجان
و مشيت في لجج الهوى متبخترا *** و مشى إليّ اللهو في الألوان
فعلمت أن قد عاد قلبي عائد *** من بين عود مطرب و بنان
/و مما قاله أيضا فيها:
نعيم هل بكيت كما بكيت *** و هل بعدي وفيت كما وفيت
ألا يا ليت شعري كيف بعدي اص *** طبارك(4) إذ نأيت و إذ نأيت
فكم من عبرة ذرفت فلمّا *** خشيت عيون أهلي و استحيت
ص: 182
نهضت بها مكاتمة فلمّا *** خلوت ذرفتها حتّى اشتفيت
و قلت لصحبتي لمّا رماني *** هواك بدائه حتى انطويت
أراني من هموم النفس ميتا *** و لم أر في نعيم ما نويت
فليت الموت عجّل قبض روحي *** جهارا فاسترحت و أين ليت
و قال أيضا في فراقه إيّاها:
أ نعيم في قلبي عليك شرار *** و على الفؤاد من الصّبابة نار
و على الجفون غشاوة و على الهوى *** داع دعته لحيني الأقدار
بمضلّة لبّ الحليم إذا رمت *** بالمقلتين كأنها سحّار
طالبتها حولين لا ليلي بها *** ليل و لا هذا النهار نهار
/حتى إذا ظفرت يداي بكاعب *** كالشمس تقصر دونها الأبصار
و ثلجت صدرا بالفتاة و صارتا *** كالنفس نفسانا و قرّ قرار
بلغ الشقاء أشدّ ما يسطيعه *** فينا و فرّق بيننا المقدار
و مما يغنّي فيه من شعر عكّاشة الذي قاله في هذه الجارية:
لهفي على الزمن الذي *** ولّى ببهجته القصير
قد كان يؤنقني الهوى *** و يقرّ عيني بالسرور
إذ نحن خلاّن الهوى *** ريحاننا عبق العبير
و غناؤنا وصف الهوى *** نلتذّ بالحبّ اليسير
الغناء في هذه الأبيات لابن صغير العين من كتاب إبراهيم و لم يذكر طريقته. و فيه لأبي العبيس بن حمدون خفيف رمل. و تمام هذه الأبيات:
وجه التواصل بيننا *** في الحسن كالقمر المنير
إيماؤنا يحكي الكلى *** م و سرّنا فطن المشير
و حديثنا بحواجب *** نطقت بألسنة الضّمير
بل رسلنا الكتب التي *** تجري بخافية الصّدور
حدّثني الحسن بن عليل قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا أبو مسلم عن المدائنيّ قال:
أنشد عكّاشة بن عبد الصّمد المهديّ قوله في الخمر:
ص: 183
حمراء مثل دم الغزال و تارة *** عند(1) المزاج تخالها زريابا
/فقال له المهديّ: لقد أحسنت في وصفها إحسان من قد شربها، و لقد استحققت بذلك الحدّ، فقال:
أ يؤمنني أمير المؤمنين حتّى أتكلّم بحجّتي؟ قال: قد أمّنتك، قال: و ما يدريك يا أمير المؤمنين أنّي أحسنت و أجدت صفتها إن كنت لا تعرفها؟ فقال له المهديّ: أعزب قبّحك اللّه.
قال الحسن و أخبرني بهذا الخبر أحمد بن سعيد(2) الدمشقيّ قال حدّثنا الزبير بن بكّار أنّ عكّاشة أنشد موسى الهادي هذا الشعر ثم أنشده قوله:
كأنّ فضول الكأس من زبداتها(3) *** خلاخل شدّت بالجمان إلى حجل(4)
فقال له موسى: و اللّه لأجلدنّك حدّ الخمر، قال: و لم يا أمير المؤمنين! إنّما نقول و لا نفعل، فقال: كذبت، قد وصفتها صفة عالم بها، قال: فاجعل لي الأمان حتّى أتكلّم بحجّتي، قال: تكلّم و أنت آمن، قال: أجدت وصفها أم لم أجد؟ قال: بلى قد أجدت، قال: و ما يدريك أني أجدت إن كنت لا تعرفها! إن كنت وصفتها بطبعي دون امتحاني فقد شركتني في ذلك بطبعك، و إن كان وصفها لا يعلم إلا بالتجربة فقد شركتني أيضا فيها؛ فضحك موسى و قال له: قد نجوت بحيلتك منّي، قاتلك اللّه فما أدهاك!.
و مما وجدت فيه غناء من شعر عكّاشة قوله:
و جاءوا إليه بالتّعاويذ(5) و الرّقى *** و صبّوا عليه الماء من شدّة النّكس(6)
و قالوا به من أعين الجنّ نظرة *** و لو صدقوا قالوا به أعين الإنس
الغناء لعريب. و منها:
طرفي يذوب و ماء طرفك جامد *** و عليّ من سيما هواك شواهد
هذا هواك قسمته بين الورى *** و منحتني أرقا و طرفك راقد
فعليّ منه اليوم تسعة أسهم *** و على جميع النّاس سهم واحد
الغناء لجحظة. و منها:
ص: 184
غاد(1) الهوى بالكأس بردا *** و أطع إمارة من تبدّى(2)
و منها:
كما اشتهت خلقت حتّى إذا اعتدلت *** تمّت قواما فلا طول و لا قصر
و منها:
و زعفرانيّة في اللّون تحسبها *** إذا تأمّلتها في جسم كافور
تخال أنّ سقيط الطّلّ بينهما *** دمع تحيّر في أجفان مهجور
ص: 185
عبد الرّحيم بن الفضل الكوفيّ، و يكنى أبا القاسم، و قيل: هو عبد الرحيم بن سعد، و قيل: عبد الرحيم بن الهيثم بن سعد، مولى لآل الأشعث بن قيس، و قيل: بل هو مولى خزاعة.
ذكر أبو أيّوب المدينيّ أنّ حمّادا الراوية حدّثه قال: رأيت عبد الرّحيم الدفّاف أيّام هارون الرشيد(1) بالرّقّة و قد ظهرت(2)، فحضرني و سمعته يغنّي يومئذ صوتا سئل عنه فذكر أنّه من صنعته، و هو:
فديتك لو تدرين كيف أحبّكم *** و كيف إذا ما غبت عنك أقول
و كان عبد الرحيم منقطعا إلى عليّ بن المهديّ المعروف بأمّه ريطة بنت أبي العبّاس.
/فأخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد قال حدّثني عبد الصّمد بن المعذّل قال:
غنّت جارية يوما بحضرة الرشيد:
قل لعليّ أيا فتى العرب *** و خير نام و خير مكتسب
أعلاك جدّاك يا عليّ إذا *** قصّر جدّ عن ذروة الحسب
/فأمر بضرب عنقها، فقالت: يا سيّدي ما ذنبي! هذا صوت علّمته، و اللّه ما أدري من قاله و لا فيمن قيل؛ فعلم أنّها صدقت، فقال لها: عمّن أخذته؟ فقالت: عن عبد الرحيم الدّفّاف، فأمر بإحضاره فأحضر، فقال له:
يا عاضّ بظر أمه، أ تغنّي في شعر تفاخر فيه بيني و بين أخي! جرّدوه، فجرّدوه، و دعا له بالسياط، فضرب بين يديه خمسمائة سوط.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد عن القطرانيّ عن محمد بن جبر قال:
ص: 186
قال لي عبد الرحيم بن القاسم الدفّاف: دخلت على عليّ بن ريطة يوما و ستارته منصوبة، فغنّت جاريته:
أناس أمنّاهم فنموا حديثنا *** فلما كتمنا السرّ عنهم تقوّلوا
فقلت: أ رأيت إن غنّيتك هذا الصوت و في تمامه زيادة بيت واحد، أيّ شيء لي عليك؟ قال: خلعتي التي عليّ، فغنّيته:
فلم يحفظوا الودّ الذي كان بيننا *** و لا حين همّوا بالقطيعة أجملوا(1)
قال: فنزع خلعته فخلعها عليّ، و أقمت عنده بقيّة يومي على عربدة كانت فيه.
الشعر لعباس بن الأحنف، و الغناء لعبد الرحيم الدّفّاف هزج بالبنصر. و هذا أخذه العبّاس من قول أبي دهبل:
أمنّا أناسا كنت تأتمنينهم *** فزادوا علينا في الحديث و أوهموا
و قالوا لها ما لم نقل ثمّ أكثروا *** عليّ و باحوا بالذي كنت أكتم
/و في هذين البيتين أغانيّ قديمة: منها لحن لابن سريج رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و لابن زرزور(2) الطائفيّ خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه خفيف رمل بالبنصر و الوسطى لمتيّم و عريب.
بكرت سميّة غدوة فتمتّعي *** و غدت غدوّ مفارق لم يربع
و تعرّضت لك فاستبتك بواضح *** صلت كمنتصّ الغزال الأتلع
عروضه من الكامل. و الشعر للحادرة الثّعلبيّ، و الغناء في اللحن المختار لسعيد بن مسجح، و إيقاعه من خفيف الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجزى البنصر عن إسحاق، و ذكر عمرو بن بانة أنه لابن محرز. و فيهما للغريض ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو و فيهما خفيف رمل بالوسطى لابن سريج عن حبش.
و مما يغنّى فيه من هذه القصيدة:
أ سمي ما يدريك كم من فتية *** بادرت(3) لذّتهم بأدكن مترع
/بكروا عليّ بسحرة فصبحتهم *** من عاتق كدم الذبيح مشعشع
غنّاه مالك، و لحنه من الثقيل الأوّل بالبنصر عن عمرو. و فيه لمالك خفيف ثقيل آخر أيضا. و فيهما لعلّويه ثقيل أوّل صحيح من جيّد صنعته. قوله: فتمتّعي يخاطب نفسه، أي تمتّعي منها قبل فراقها. و لم يربع: لم يقم.
و الواضح الصّلت: /يعني عنقها، و أصل الصلت: الماضي، و منه الناقة المصلات: الماضية، و شدّ عليه بالسيف
ص: 187
صلتا أي خارجا من غمده. و الصلت في هذا الشعر: الطويل الذي لا قصر فيه. و المنتصّ: المنتصب، يقال: انتصّ فلان أي انتصب، و منصّة العروس مأخوذة من هذا، و منه نصّ الحديث: رفعه إلى صاحبه. و استبتك: غلبتك على عقلك. و الواضح: الخالص الأبيض. و أدكن مترع يعني الزّقّ. و المشعشع: المرقرق بالماء.
الحادرة لقب غلب عليه، و الحويدرة أيضا؛ و اسمه قطبة بن أوس بن محصن بن جرول بن حبيب بن عبد العزّي بن خزيمة بن رزام بن مازن بن ثعلبة بن سعد(1) بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان(2) بن مضر بن نزار، شاعر جاهليّ مقلّ. أخبرني بنسبه هذا محمد بن العبّاس اليزيديّ عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن قريب ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه. قال: و إنما سمّي الحادرة بقول زبّان(3) بن سيّار الفزاريّ له:
كأنك حادرة المنكبي *** ن رصعاء تنقض في حائر(4)
عجوز ضفادع محجوبة(5) *** يطيف بها ولدة الحاضر(6)
قال: و الحادرة: الضخم.
و ذكر أبو عمرو الشّيبانيّ أن الحادرة خرج هو و زبّان الفزاريّ يصطادان فاصطادا جميعا، فخرج زبّان يشتوي و يأكل في الليل وحده؛ فقال الحادرة:
تركت رفيق رحلك قد تراه *** و أنت لفيك في الظّلماء هادي
/فحقدها عليه زبّان، ثم أتيا غديرا فتجرّد الحادرة، و كان ضخم المنكبين أرسح، فقال زبّان:
كأنك حادرة المنكبي *** ن رصعاء تنقض في حائر
فقال له الحادرة:
لحا اللّه زبّان من شاعر *** أخي خنعة(7) فاجر غادر
كأنك فقّاحة(8) نوّرت *** مع الصبح في طرف الحائر
ص: 188
فغلب هذا اللقب على الحادرة.
بكرت سمية
:
حدّثني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ قال حدّثني عمّي قال سمعت شيخا من بني كنانة من أهل المدينة يقول:
كان حسّان بن ثابت إذا قيل له: تنوشدت الأشعار في موضع كذا و كذا يقول: فهل أنشدت كلمة الحويدرة:
بكرت سميّة غدوة فتمتّعي
قال أبو عبيدة: و هي من مختار الشعر، أصمعيّة مفضّليّة.
نسخت من كتاب ابن الأعرابيّ قال حدّثني المفضّل قال:
كان الحادرة جارا لرجل من بني سليم، فأغار زبّان بن سيّار على إبله فأخذها فدفعها إلى رجل من أهل وادي القرى يهوديّ، و كان له عليه دين فأعطاه إيّاها بدينه، و كان أهل وادي القرى حلفاء لبني ثعلبة؛ فلما سمع اليهوديّ بذلك قال: سيجعل الحادرة هذا سببا لنقض العهد الذي بيننا و بينه، و نحن نقرأ الكتاب/و لا ينبغي لنا أن نغدر، فردّ الإبل على الحادرة فردّها على جاره، و رجع إلى زبّان فقال له: أعطني مالي الذي عليك، فأعطاه إياه زبّان، و وقع الهجاء بينه و بين الحادرة؛ فقال الحادرة فيه:
لعمرة بين الأخرمين(1) طلول *** تقادم منها مشهر(2) و محيل
وقفت بها حتى تعالى لي الضّحى *** لأخبر عنها إنّني لسئول
يقول فيها:
فإن تحسبوها بالحجاب ذليلة *** فما أنا يوما إن ركبت ذليل
سأمنعها في عصبة ثعلبيّة *** لهم عدد واف و عزّ أصيل(3)
فإن شئتم عدنا صديقا و عدتم *** و إمّا أبيتم فالمقام زحول(4)
قال: و لجّ الهجاء بينهما بعد ذلك فكان هذا سببه.
و نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ يذكر عن أبيه:
ص: 189
أن جيشا لبني عامر بن صعصعة أقبل و عليهم ثلاثة رؤساء: ذؤاب بن غالب من عقيل ثم من بني كعب بن ربيعة، و عبد اللّه بن عمرو من بني الصّموت، و عقيل بن مالك من بني نمير(1)، و هم يريدون غزو بني ثعلبة بن سعد رهط الحادرة/و من معهم من محارب، و كانوا يومئذ معهم، فنذرت(2) بهم بنو ثعلبة، فركب قيس بن مالك المحاربيّ الخصفيّ و جؤيّة بن نصر الجرميّ أحد بني ثعلبة للنظر إلى القوم، فلما دنوا منهم عرف عقيل بن مالك النميريّ(3) جؤيّة بن نصر الجرميّ، فناداه: إليّ يا جؤيّة بن نصر فإنّ لي خبرا أسرّه إليك؛ فقال: إليك أقبلت لكن لغير ما ظننت، فقال له: ما فعلت قلوص؟ - يعني امرأته -؛ فقال: هي في الظّعن أسرّ ما كانت قطّ و أجمله؛ ثم حمل كلّ واحد منهما على صاحبه و اختلفا طعنتين(4) فطعنه جؤيّة طعنة دقّت صلبه، و انطلق قيس بن مالك المحاربيّ إلى بني ثعلبة فأنذرهم، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزمت بنو نمير و سائر بني عامر و مات عقيل النّميري و قتل ذؤاب بن غالب و عبد اللّه بن عمرو أحد بني الصّموت؛ فقال الحادرة في ذلك:
كأنّ عقيلا في الضّحى حلّقت به *** و طارت به في الجوّ عنقاء مغرب(5)
و يروى: «و طارت به في اللّوح»، و هو الهواء.
و ذي كرم يدعوكم آل عامر *** لدى معرك سرباله يتصبّب
رأت عامر وقع السيوف فأسلموا *** أخاهم و لم يعطف من الخيل مرهب
و سلّم لمّا أن رأى الموت عامر *** له مركب فوق الأسنّة أحدب
/إذا ما أظلّته عوالي رماحنا *** تدلّى به نهد(6) الجزارة منهب(7)
على صلويه(8) مرهفات كأنها *** قوادم نسر بزّ عنهنّ منكب
قال: و في هذه الوقعة يقول خداش بن زهير:
أيا أخوينا من أبينا و أمّنا *** إليكم إليكم لا سبيل إلى جسر
/جسر: قبيلة من محارب. قال: و هذا اليوم يعرف بيوم شواحط، قبيلة من محارب(9).
ص: 190
و قال أبو عمرو: خرج خارجة بن حصن في جمع من بني فزارة و من بني ثعلبة بن سعد و هو يريد غزو بني عبس بن بغيض، فلقوا جيشا لبني تميم على ماء يقال له «الكفافة» و تميم في جمع سعد و الرّباب و بني عمرو، فقاتلوهم قتالا شديدا و هزمت تميم و أجفلت، و هذا اليوم يقال له: «يوم كفافة»، فقال الحادرة في ذلك:
و نحن منعنا من تميم و قد طغت *** مراعي الملا حتى تضمّنها نجد
كمعطفنا يوم الكفافة(1) خيلنا *** لتتبع أخرى الجيش إذ بلغ الجدّ
/على حين شالت(2) و استخفّت رجالهم *** جلائب(3) أحياء يسيل بها الشدّ
إذا هي شكّ السّمهريّ نحورها *** و خامت(4) عن الأبطال أتعبها القدّ(5)
تكرّ سراعا في المضيق عليهم *** و تثنى بطاء ما تخبّ و لا تعدو
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم *** بإحساننا إن الثناء هو الخلد
ص: 191
سعيد بن مسجح أبو عثمان مولى بني جمح، و قيل: إنه مولى بني نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب. مكيّ أسود، مغنّ متقدّم من فحول المغنّين و أكابرهم، و أوّل من صنع الغناء منهم، و نقل غناء الفرس إلى غناء العرب، ثم رحل إلى الشام و أخذ ألحان الروم و البربطيّة(1) و الأسطوخوسيّة، و انقلب إلى فارس فأخذ بها غناء كثيرا و تعلّم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز و قد أخذ محاسن تلك النّغم، و ألقى منها ما استقبحه من النّبرات و النغم التي هي موجودة في نغم غناء الفرس و الروم خارجة عن غناء العرب، و غنّى على هذا المذهب، فكان أوّل من أثبت ذلك و لحنّه و تبعه الناس بعد.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، و الحسين بن يحيى قالا: حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن هشام بن المرّيّة: أنّ أوّل من غنّى هذا الغناء العربيّ بمكّة ابن مسجح مولى بني مخزوم، و ذلك أنه مرّ بالفرس و هم يبنون المسجد الحرام، /فسمع غناءهم بالفارسيّة فقلبه في شعر عربيّ؛ و هو الذي علّم ابن سريج و الغريض، و كان ابن مسجح مولّدا أسود يكنى بأبي عيسى.
فخاف أن يكون أهل الشام قد وصلوا إليه، و كانت ليلة ظلماء ذات ريح شديدة صعبة و رعد و برق، فرفع نارا على رأس رمح لينظر إلى الناس فأطارتها الريح فوقعت على أستار الكعبة فأحرقتها و استطالت فيها، و جهد الناس في إطفائها فلم يقدروا، و أصبحت الكعبة تتهافت(1) و ماتت امرأة من قريش، فخرج الناس كلّهم في جنازتها خوفا من أن ينزل العذاب عليهم، و أصبح ابن الزّبير ساجدا يدعو و يقول: اللهم إني لم أتعمّد ما جرى فلا تهلك عبادك بذنبي و هذه ناصيتي بين يديك؛ فلمّا تعالى النهار أمن و تراجع/الناس، فقال لهم: اللّه اللّه أن ينهدم في بيت أحدكم حجر فيزول عن موضعه فيبنيه و يصلحه و أترك الكعبة خرابا؛ ثم هدمها مبتدئا بيده و تبعه الفعلة حتى بلغوا إلى قواعدها، و دعا ببنّائين من الفرس و الروم فبناها.
قال إسحاق: و أخبرني ابن الكلبيّ عن أبي مسكين قال:
كان سعيد بن مسجح أسود مولّدا يكنى أبا عيسى مولى لبني جمح، فرأى الفرس و هم يعملون الكعبة لابن الزّبير و يتغنّون بالفارسيّة فاشتقّ غناءه على ذلك.
/قال إسحاق: و حدّثني محمد بن سلاّم عن شعيب بن صخر و جرير قالا:
كان سعيد بن مسجح أسود و هو مولى بني جمح يكنى أبا عيسى.
قال إسحاق: و حدّثني المدائني عن صخر بن جعفر عن أبي قبيل بمثل ذلك، و ذكر أنه كان يكنى أبا عثمان.
قال: و هو مولى لبني نوفل بن الحارث كان هو و ابن سريج لرجل واحد، و لذلك قبل عنه ابن سريج.
قال إسحاق: و حدّثني الهيثم بن عديّ عن صالح بن حسّان فذكر مثل ما ذكر أبو قبيل من كنيته و ولائه، و قال:
كان ابن مسجح فطنا كيّسا ذكيّا، و كان أصفر حسن اللون، و كان مولاه معجبا به، و كان يقول في صغره: ليكوننّ لهذا الغلام شأن، و ما منعني من عتقه إلا حسن فراستي فيه، و لئن عشت لأتعرّفنّ ذلك، و إن متّ فهو حرّ، فسمعه مولاه يوما و هو يتغنّى بشعر ابن الرّقاع العامليّ، و هو من الثقيل الأوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى:
لو لا الحياء و أنّ رأسي قد عثا(1) *** فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
/فدعا به مولاه فقال له: يا بنيّ أعد ما سمعته منك عليّ، فأعاده فإذا هو أحسن مما ابتدأ به، فقال: إن هذا لمن بعض ما كنت أقول، ثم قال: أنّى لك هذا؟ قال: سمعت هذه الأعاجم تتغنّى بالفارسيّة فثقفتها(2) و قلبتها في هذا الشعر، قال له: فأنت حرّ لوجه اللّه، فلزم مولاه و كثر أدبه و اتسع في غنائه و مهر بمكّة و أعجبوا به لظرفه و حسن ما سمعوه منه، فدفع إليه مولاه عبيد بن سريج، و قال له: يا بنيّ علّمه و اجتهد فيه؛ و كان ابن سريج أحسن الناس صوتا، فتعلّم منه ثم برّز عليه حتى لم يعرف له نظير.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا أخي هارون عن ابن الماجشون عن شيخ من أهل المدينة، و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان و الحسين بن يحيى قالا أخبرنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال ذكر ابن الكلبيّ عن أبي مسكين عن شيخ من أهل المدينة قال:
دخلت على رجل من قريش بالمدينة و عنده رجل ساكن الطّرف نبيل تأخذه العين، لا أعرفه؛ فقال له القرشيّ:
أقسمت عليك إلاّ ما غنّيت صوتا، فحوّل خاتمه من خنصره اليسرى إلى بنصره اليمنى، ثم تناول قدحا، فغنّاه لحن ابن سريج في شعر كعب بن جعيل:
إذا امتشطت(3) عالوا لها بوسادة *** و مدّت عسيب المتن أن يتعفّرا
ثوت نصف شهر تحسب الشهر ليلة *** تناغي(4) غزالا ساجي(5) الطرف أحورا
/تزيّن حتى تسلب المرء عقله *** و حتى يحار الطرف فيها و يسكرا(6)
/ثم غنّى في شعر توبة بن الحميّر:
و غيّرني إن كنت لمّا تغيّري *** هواجر تكتنّينها و أسيرها
و أدماء(7) من سرّ المهارى(8) كأنها *** مهاة(9) صوار(10) غير ما مسّ كورها
ص: 194
قطعت بها أجواز(1) كلّ تنوفة *** مخوف رداها كلّما استنّ(2) مورها
ترى ضعفاء القوم فيها كأنهم *** دعاميص(3) ماء نشّ(4) عنها غديرها
قال: فقلت له إني لأروي هذا الشعر و ما أعرف هذه الأبيات فيه، فقال: هكذا رويتها عن عبد اللّه بن جعفر، قال: و إذا هو نافع الخير مولى عبد اللّه بن جعفر.
الغناء في هذين اللحنين لابن مسجح و لم أجد لهما طريقة في شيء من الكتب التي مرّت. و ذكر حبش أن في أبيات كعب بن جعيل لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى.
حدّثني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب و عمّي و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالوا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عبد اللّه بن محمد بن موسى الهاشميّ قال حدّثني أحمد بن موسى بن حمزة بن عمارة بن صفوان الجمحيّ عن أبيه قال:
/أوّل من نقل الغناء الفارسيّ من الفارسيّ إلى الغناء العربيّ سعيد بن مسجح مولى بني مخزوم. قال: و قد يختلف في ولائه إلا أن الأغلب عليه ولاء بني مخزوم، و ذلك أنّ معاوية بن أبي سفيان لما بنى دوره التي يقال لها:
«الرّقط»(5) - و هي ما بين الدارين إلى الرّدم(6): أوّلها الدار البيضاء و آخرها دار الحمّام، و هي على يسار المصعد من المسجد إلى «ردم عمر» - حمل(7) لها بنّاءين فرسا من العراق فكانوا يبنونها بالجصّ و الآجر، و كان سعيد بن مسجح يأتيهم فيسمع من غنائهم على بنيانهم، فما استحسن من ألحانهم أخذه و نقله إلى الشعر العربيّ، ثم صاغ على نحو ذلك؛ و هو الذي علّم الغريض، فكان من قديم غنائه الذي صنعه على تلك الأغاني:
أ سلام إنّك قد ملكت فأسجحي(8) *** قد يملك الحرّ الكريم فيسجح
منّي على عان أطلت عناءه *** في الغلّ عندك و العناة تسرّح
إنّي لأنصحكم و أعلم أنه *** سيّان عندك من يغشّ و ينصح
ص: 195
و إذا شكوت إلى سلامة حبّها *** قالت أجدّ منك ذا أم تمزح
- الشعر للأحوص. و الغناء لابن مسجح ثقيل أوّل بالبنصر. ولد حمان فيه ثقيل أوّل بالبنصر. و لمالك فيه خفيف ثقيل عن الهشاميّ - قال: و هو أوّل من غنّى الغناء العربيّ المنقول عن الفارسيّ. و عاش سعيد بن مسجح حتى لقيه معبد و أخذ عنه في أيام الوليد بن عبد الملك.
حدّثني عمّي و الحسين بن القاسم الكوفيّ قالا جميعا حدّثنا محمد بن سعيد الكرانيّ قال حدّثني النضر بن عمرو قال حدّثني أبو أميّة القرشيّ قال حدّثنا دحمان الأشقر قال:
كنت عاملا لعبد الملك بن مروان بمكة فنمي إليه أنّ رجلا أسود يقال له: سعيد بن مسجح أفسد فتيان قريش و أنفقوا عليه أموالهم، فكتب إليّ: أن اقبض ماله و سيّره، ففعلت. /فتوجّه ابن مسجح إلى الشام فصحبه رجل له جوار مغنّيات في طريقه، فقال له: أين تريد؟ فأخبره خبره، و قال له: أريد الشام، قال له: فتكون معي؟ قال: نعم، فصحبه حتى بلغا دمشق فدخلا مسجدها فسألا: من أخصّ الناس بأمير المؤمنين؟ فقالوا: هؤلاء النفر من قريش و بنو عمّه، فوقف ابن مسجح عليهم و سلّم ثم قال: يا فتيان، هل فيكم من نضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض و كان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها: «برق الأفق» فتثاقلوا به إلا فتى منهم تذمّم(1) فقال: أنا أضيفك، و قال لأصحابه: انطلقوا أنتم و أنا أذهب مع ضيفي، قالوا: لا، بل تجيء أنت و ضيفك، فذهبوا جميعا إلى بيت القينة، فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد: إني رجل أسود و لعلّ فيكم من يقذرني فأنا أجلس و آكل ناحية و قام، فاستحيوا منه و بعثوا إليه بما أكل، فلما صاروا/إلى الشراب قال لهم مثل ذلك، ففعلوا به، و أخرجوا جاريتين فجلستا على سرير قد وضع لهما، فغنّتا إلى العشاء ثم دخلتا، و خرجت جارية حسنة الوجه و الهيئة و هما معها فجلست على السرير و جلستا أسفل منها عن يمين السرير و شماله، قال ابن مسجح: فتمثّلت(2)هذا البيت:
فقلت أشمس أم مصابيح بيعة *** بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم
فغضبت الجارية و قالت: أ يضرب هذا الأسود بي الأمثال! فنظروا إليّ نظرا منكرا و لم يزالوا يسكّنونها، ثم غنّت صوتا، فقال ابن مسجح: أحسنت و اللّه، فغضب مولاها و قال: أمثل هذا الأسود يقدم على جاريتي! فقال لي الرجل الذي أنزلني عنده: قم فانصرف إلى منزلي فقد ثقلت على القوم، فذهبت أقوم فتذمّم القوم و قالوا لي: بل أقم و أحسن أدبك فأقمت، و غنّت فقلت: أخطأت و اللّه يا زانية و أسأت، ثم اندفعت فغنّيت الصوت فوثبت الجارية فقالت لمولاها: هذا و اللّه أبو عثمان سعيد بن مسجح، فقلت: إني و اللّه أنا هو، و اللّه لا أقيم عندكم، فوثب القرشيّون فقال هذا: يكون عندي، و قال هذا: يكون عندي، و قال هذا: بل عندي، فقلت: و اللّه لا أقيم إلا عند سيّدكم - يعني الرجل الذي أنزله منهم - ثم سألوه عما أقدمه فأخبرهم الخبر، فقال له صاحبه: إني أسمر الليلة مع
ص: 196
أمير المؤمنين فهل تحسن أن تحدو؟ قال: لا، و لكني أستعمل حداء، قال: فإن منزلي بحذاء منزل أمير المؤمنين فإن وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك، و مضى إلى عبد الملك فلما رآه طيّب النفس أرسل إلى ابن مسجح و أخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا:
/
إنك يا معاذ يا ابن الفضّل *** إن زلزل الأقدام لم تزلزل
عن دين موسى و الكتاب المنزل *** تقيم أصداغ(1) القرون الميّل
للحقّ حتى ينتحوا للأعدل
فقال عبد الملك للقرشيّ: من هذا؟ قال: رجل حجازيّ قدم عليّ، قال: أحضره فأحضره له، و قال له: أحد مجدّا، ثم قال له: هل تغنّي غناء الركبان؟ قال: نعم، قال: غنّه، فتغنّى، فقال له: فهل تغنّي الغناء المتقن؟ قال:
نعم، قال: غنّه، فتغنّى فاهتزّ عبد الملك طربا، ثم قال له: أقسم إن لك في القوم لأسماء/كثيرة، من أنت؟ ويلك! قال له: أنا المظلوم المقبوض ماله المسيّر عن وطنه سعيد بن مسجح، قبض مالي عامل الحجاز و نفاني، فتبسّم عبد الملك ثم قال له: قد وضح عذر فتيان قريش في أن ينفقوا عليك أموالهم، و أمّنه و وصله و كتب إلى عامله بردّ ماله عليه و ألاّ يعرض له بسوء.
سلا دار ليلى هل تبين فتنطق *** و أنّى تردّ القول بيداء سملق(2)
و أنّى تردّ القول دار كأنها *** لطول بلاها و التقادم مهرق(3)
عروضه من الطويل، الشّعر لابن المولى. و ذكر يحيى بن عليّ بن يحيى عن إسحاق أن الشعر للأعشى؛ و ذلك غلط، و قد التمسناه في شعر كل أعشى ذكر في شعراء العرب فلم نجده، و لا رواه أحد من الرّواة لأحد منهم، و وجدناه في شعر ابن المولى من قصيدة له طويلة جيّدة، و قد أثبتناها بعقب أخباره ليوقف على صحّة ما ذكرناه، إذ كان الغلط إذا وقع من مثل هذه الجهة احتيج إلى إيضاح الحجّة على ما خالفه و الدّلالة على الصواب فيه. و الغناء في اللحن المختار لعطرّد ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق و يونس و عمرو، و فيه لأيّوب زهرة خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ و أحمد بن المكيّ. و في غناء أيّوب زهرة زيادة بيتين و هما:
و قال خليلي و البكا لي غالب *** أ قاض عليك ذا الأسى و التشوّق
ص: 197
هو محمد بن عبد اللّه بن مسلم بن المولى مولى الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف، شاعر متقدّم مجيد من مخضرمي الدولتين و مدّاحي أهلهما، و قدم على المهديّ و امتدحه بعدّة قصائد فوصله بصلات سنّية، و كان ظريفا عفيفا نظيف الثياب حسن الهيئة.
أخبرني عمّي قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه الحزنبل قال قال لي محمد بن صالح بن النّطّاح:
كان ابن المولى يسمّى محمدا مولى بني عمرو بن عوف من الأنصار، و كان مسكنه بقباء، و كان يقدم على المهديّ فيمدحه، فقدم عليه فأنشده قوله:
سلا دار ليلى هل تبين فتنطق *** و أنّى تردّ القول بيداء سملق
و أنّى تردّ القول دار كأنها *** لطول بلاها و التقادم مهرق
و قال خليلي و البكالي غالب *** أ قاض عليك ذا الأسى و التشوّق
و إنسان عيني في دوائر لجّة *** من الدمع يبدو تارة ثم يغرق
يقول فيها:
إلى القائم المهديّ أعملت ناقتي *** بكل فلاة آلها(1) يترقرق
إذا غال(2) منها الركب صحراء برّحت *** بهم بعدها في السير صحراء دردق(3)
/رميت قراها(4) بين يوم و ليلة *** بفتلاء(5) لم ينكب(6) لها الزّور مرفق
ص: 199
مزمّرة(1)
سقبا كأن زمامها *** بجرداء من عمّ(2) الصّنوبر معلق
موكّلة بالفادحات كأنها *** و قد جعلت منها الثّميلة(3) تخلق
بقيّ(4) الملاهيق(5) أمام رئاله(6)*** أصمّ هجفّ(7) أقرع الرأس نقنق(8)
تراها إذا استعجلتها و كأنها *** على الأين يعروها من الرّوع أولق(9)
مورّكة(10) أرض العذيب(11) و قد بدا *** فسرّ به للآئبين الخورنق(12)
فاستحسنها المهديّ و أجزل صلته، و أمر فغنّي في نسيب القصيدة. فأمّا ما شرطت ذكره من تمام القصيدة فهو بعقب البيت الثاني منها:
عفتها الرياح الرامسات(13) مع البلى *** بأذيالها و الرائح المتبعّق(14)
بكل شآبيب من الماء خلفها *** شآبيب ماء مزنها متألّق
/إذا ريّق(15) منها هريقت سجاله *** أعيد لها كرفئ(16) ماء و ريّق
فأصبح يرمي بالرّباب(17) كأنما *** بأرجله منه نعام معلّق
فلا تبك أطلال الديار فإنها *** خبال(18) لمن لا يدفع(19) الشوق عولق(20)
ص: 200
و إنّ سفاها أن ترى متفجّعا *** بأطلال دار أو يقودك معلق
فلا تجزعن للبين كلّ جماعة *** و جدّك مكتوب عليها التفرّق
و خذ بالتعزّي(1) كلّ ما أنت لابس *** جديدا على الأيام بال و مخلق
فصبر الفتى عما تولّى فإنه *** من الأمر أولى بالسّداد و أوفق
و يروى: «أدنى للذي هو أوفق».
و إنك بالإشفاق لا تدفع(2) الرّدى *** و لا الحين مجلوب فما لك تشفق
كأنّ لم يرعك الدهر أو أنت آمن *** لأحداثه فيما يغادي و يطرق
و قال خليلي و البكالى غالب *** أ قاض عليك ذا الأسى و التشوّق
و قد طال توقاني أكفكف عبرة *** على دمنة كادت لها النفس تزهق
و إنسان عيني في دوائر لجّة *** من الماء يبدو تارة ثم يغرق
و للدّمع من عيني شريجا(3) صبابة *** مرشّ(4) الرّجا(5) و الجائل المترقرق
و كنت أخا عشق و لم يك صاحبي *** فيعذرني ممّا يصبّ و يعشق
/و قد يعذر الصبّ السقيم ذوي الهوى *** و يلحى المحبّين الصديق فيخرق
و عاب رجال أن علقت و قد بدا *** لهم بعض ما أهوى و ذو الحلم يعلق
و القصيدة طويلة. و في بعض ما ذكرته منها دلالة على صحّة ما قلته.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز قال:
خرجت أنا و أبو السائب المخزوميّ و عبيد اللّه بن مسلم بن جندب و ابن المولى و أصبغ بن عبد العزيز بن مروان إلى قباء، و ابن المولى متنكّب(6) قوسا عربية، فأنشد ابن المولى لنفسه:
/
و أبكي فلا ليلى بكت من صبابة *** إليّ و لا ليلى لذي الودّ تبذل
و أخنع(7) بالعتبى إذا كنت مذنبا *** و إن أذنبت كنت الذي أتنصّل
فقال له أبو السائب و عبيد اللّه بن مسلم بن جندب: من ليلى هذه حتّى نقودها إليك؟ فقال لهما ابن المولى:
ما هي و اللّه إلاّ قومي هذه سمّيتها ليلى.
ص: 201
في هذين البيتين ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى لخزرج، و يقال: إنه لهاشم بن سليمان.
أخبرني عمّي قال حدثنا أبو هفّان قال أخبرني أبو محلّم عن المفضّل الضّبيّ قال:
وفد ابن المولى على يزيد بن حاتم و قد مدحه بقصيدته التي يقول فيها:
يا واحد العرب الذي *** أضحى و ليس له نظير
لو كان مثلك آخر *** ما كان في الدّنيا فقير
/قال: فدعا بخازنه و قال: كم في بيت مالي؟ فقال له: من الورق(1) و العين بقيّة عشرون ألف دينار، فقال:
ادفعها إليه، ثم قال: يا أخي، المعذرة إلى اللّه و إليك، و اللّه لو أنّ في ملكي أكثر لما احتجبتها(2) عنك.
أخبرني الحسن بن عليّ و محمد بن خلف بن المرزبان قالا حدثنا أحمد بن زهير(3) بن حرب قال حدّثنا مصعب الزّبيريّ عن عبد الملك بن الماجشون قال:
كان ابن المولى مدّاحا لجعفر بن سليمان و قثم بن العبّاس الهاشميّين و يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب، و استفرغ مدحه في يزيد و قال فيه قصيدته التي يقول فيها:
يا واحد العرب الذي دانت له *** قحطان قاطبة و ساد نزارا
إنّي لأرجو إن لقيتك سالما *** ألاّ أعالج بعدك الأسفارا
رشت(4) النّدى و لقد تكسّر ريشه *** فعلا النّدى فوق البلاد و طارا
ثم قصده بها إلى مصر و أنشده إيّاها؛ فأعطاه حتّى رضي. و مرض ابن المولى عنده مرضا طويلا و ثقل حتّى أشفى(5)، فلمّا أفاق من علّته و نهض، دخل عليه يزيد بن حاتم متعرّفا خبره، فقال: لوددت و اللّه يا أبا عبد اللّه ألاّ تعالج بعدي الأسفار حقا، ثم أضعف صلته.
أخبرني الحسن قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثني الزّبير بن بكّار عن عبد الملك بن عبد العزيز قال أخبرني ابن المولى قال:
ص: 202
/كنت أمدح يزيد بن حاتم من غير أن أعرفه و لا ألقاه، فلما ولاّه المنصور مصر أخذ على طريق المدينة فلقيته فأنشدته، و قد خرج من مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى أن صار إلى مسجد الشّجرة، فأعطاني رزمتي(1) ثياب و عشرة آلاف دينار فاشتريت بها ضياعا تغلّ(2) ألف دينار، أقوم في أدناها و أصيح بقيّمي و لا(3) يسمعني و هو في أقصاها.
أخبرني عمّي قال حدّثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو قال: بلغني أنّ الحسن ابن زيد دعا بابن المولى فأغلظ له و قال: أ تشبّب بحرم المسلمين و تنشد ذلك في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و في الأسواق و المحافل ظاهرا! فحلف له بالطّلاق أنّه ما تعرّض لمحرّم قطّ و لا شبّب بامرأة مسلم و لا معاهد قطّ، قال: فمن ليلى هذه التي تذكر في شعرك؟ فقال له: امرأتي طالق إن كانت إلاّ قوسي هذه، سمّيتها ليلى لأذكرها في شعري، /فإن الشعر لا يحسن إلاّ بالتشبيب، فضحك الحسن ثم قال: إذا كانت القصة هذه فقل ما شئت.
فقال(4) الحزنبل: و حدّثت عن ابن عائشة محمد بن يحيى قال: قدم ابن المولى إلى العراق في بعض سنيه(5) فأخفق و طال مقامه و غرض(6) به و تشوّق إلى المدينة فقال في ذلك:
ذهب الرجال فلا أحسّ رجالا *** و أرى الإقامة بالعراق ضلالا
و طربت إذ ذكر المدينة ذاكر *** يوم الخميس فهاج(7) لي بلبالا(8)
/فظللت انظر في السماء كأنّني *** أبغي بناحية السماء هلالا
طربا إلى أهل الحجاز و تارة *** أبكي بدمع مسبل(9) إسبالا
غنّى في هذه الأربعة الأبيات ابن عائشة. و لحنه ثاني ثقيل عن الهشاميّ. و ذكره حمّاد عن أبيه في أخباره و لم يذكر طريقته.
فيقال قد أضحى يحدّث نفسه *** و العين تذرف في الرّداء سجالا(10)
ص: 203
إنّ الغريب إذا تذكّر أوشكت *** منه المدامع أن تفيض علالا(1)
و لقد أقول لصاحبي و كأنّه *** ممّا يعالج ضمّن(2) الأغلالا
خفّض عليك فما يرد بك تلقه *** لا تكثرنّ و إن جزعت مقالا
قد كنت إذ تدع المدينة كالذي *** ترك البحار و يمّم الأوشالا(3)
فأجابني خاطر بنفسك لا تكن *** أبدا تعدّ مع العيال عيالا
و اعلم بأنك لن تنال جسيمة *** حتّى تجشّم نفسك الأهوالا
إنّي و جدّك يوم أترك زاخرا *** بحرا ينفّل سيبه الأنفالا(4)
لأضلّ من جلب القوافي صعبة(5) *** حتّى أذل متونها إذلالا
قال الحزنبل: و حدّثني عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال حدّثني مولى للحسن بن زيد قال:
قدم ابن المولى على المهديّ و قد مدحه بقصيدته التي يقول فيها:
و ما قارع الأعداء مثل محمّد *** إذا الحرب أبدت عن حجول(6) الكواعب
/فتى ماجد الأعراق من آل هاشم *** تبحبح(7) منها في الذّرى و الذّوائب
أشمّ من الرّهط الذين كأنّهم *** لدى حندس(8) الظّلماء زهر الكواكب
إذا ذكرت يوما مناقب هاشم *** فإنكم منها بخير المناصب
و من عيب في أخلاقه و نصابه(9) *** فما في بني العبّاس عيب لعائب
و إنّ أمير المؤمنين و رهطه *** لأهل المعالي من لؤيّ بن غالب
أولئك أوتاد البلاد و وارثو الن *** بيّ بأمر الحقّ غير التّكاذب
ثم ذكر فيها آل أبي طالب فقال:
و ما نقموا إلا المودّة منهم *** و أن غادروا فيهم جزيل المواهب
و أنهم نالوا لهم بدمائهم *** شفاء نفوس من قتيل و هارب
ص: 204
/
و قاموا لهم دون العدا و كفوهم *** بسمر القنا و المرهفات القواضب(1)
و حاموا على(2) أحسابهم و كرائم *** حسان الوجوه واضحات التّرائب
و إن أمير المؤمنين لعائد *** بإنعامه فيهم على كلّ تائب
إذا ما دنوا أدناهم و إذا هفوا *** تجاوز عنهم ناظرا في العواقب
شفيق على الأقصين أن يركبوا الرّدى *** فكيف به في واشجات(3) الأقارب
قال: فوصله المهديّ بصلة سنيّة، و قدم المدينة فأنفق و بنى داره و لبس ثيابا فاخرة، و لم يزل كذلك مدى حياته بعد ما حباه. ثم قدم(4) على الحسن بن زيد و كانت له عليه وظيفة في كلّ سنة فدخل عليه فأنشده قوله يمدحه:
/
هاج شوقي تفرّق الجيران *** و اعترتني طوارق الأحزان
و تذكّرت ما مضى من زماني *** حين صار الزمان شرّ زمان
يقول فيها يمدح الحسن بن زيد:
و لو أن امرأ ينال خلودا *** بمحلّ و منصب و مكان
أو ببيت ذراه تلصق بالنج *** م قرانا في غير برج قران
أو بمجد الحياة أو بسماح *** أو بحلم أوفى على ثهلان(5)
أو بفضل لناله حسن الخي *** ر بفضل الرسول ذي البرهان
فضله واضح برهط أبي القا *** سم رهط اليقين و الإيمان
هم ذوو النور و الهدى و مدى الأم *** ر و أهل البرهان و العرفان(6)
معدن الحق و النبوّة و العد *** ل إذا ما تنازع الخصمان
و ابن زيد إذا الرجال تجاروا *** يوم حفل و غاية و رهان
سابق مغلق جيز رهان *** ورث السّبق من أبيه الهجان(7)
قال: فلما أنشده إياها دعا به خاليا ثم قال له: يا عاضّ كذا من أمه، أمّا إذا جئت إلى الحجاز فتقول لي هذا، و أما إذا مضيت إلى العراق فتقول:
و إن أمير المؤمنين و رهطه *** لرهط المعالي من لؤيّ بن غالب
ص: 205
أولئك أوتاد البلاد و وارثو ال *** نبيّ بأمر الحقّ غير التّكاذب
فقال له: أ تنصفني يا ابن الرسول أم لا؟ فقال: نعم، فقال: أ لم أقل:
و إن أمير المؤمنين و رهطه
/أ لستم رهطه؟ فقال: دع هذا، أ لم تقدر أن ينفق شعرك و مديحك إلا بتهجين أهلي و الطعن عليهم و الإغراء بهم حيث تقول:
و ما نقموا إلا المودّة منهم *** و أن غادروا فيهم جزيل المواهب
و أنهم نالوا لهم بدمائهم *** شفاء نفوس من قتيل و هارب
فوجم ابن المولى و أطرق ثم قال: يا ابن الرسول إن الشاعر يقول و يتقرّب بجهده، ثم قام فخرج من عنده منكسرا، فأمر الحسن وكيله أن يحمل إليه وظيفته و يزيده فيها ففعل، /فقال ابن المولى: و اللّه لا أقبلها و هو عليّ ساخط، فأما إن قرنها بالرضا فقبلتها، و أما إن أقام و هو عليّ ساخط البتّة فلا؛ فعاد الرسول إلى الحسن فأخبره؛ فقال له: قل له: قد رضيت فاقبلها. و دخل على الحسن فأنشده قوله فيه:
سألت فأعطاني و أعطى و لم أسل *** و جاد كما جادت غواد(1) رواعد
فأقسم لا أنفكّ أنشد مدحه *** إذا جمعتني في الحجيج المشاهد
إذا قلت يوما في ثنائي قصيدة *** ثنيت بأخرى حيث تجزى القصائد
قال الحزنبل: و حدّثني مالك بن وهب مولى يزيد بن حاتم المهلّبيّ قال:
لما انصرف يزيد بن حاتم من حرب الأزارقة(2) و قد ظفر، خلع عليه و عقد له لواء على كور الأهواز و سائر ما افتتحه، فدخل عليه ابن المولى و قد مدحه فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشده:
ألا يا لقومي هل لما فات مطلب *** و هل يعذرن ذو صبوة و هو أشيب
يحنّ إلى ليلى و قد شطّت النوى *** بليلى كما حنّ اليراع المثقّب(3)
/غنّى في هذين البيتين عطرّد، و لحنه رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة؛ و فيه ليونس لحن ذكره لنفسه في كتابه و لم يذكر طريقته.
تقرّبت(4) ليلى كي تثيب فزادني *** بعادا على بعد إليها التقرّب
ص: 206
فداويت وجدي باجتناب فلم يكن *** دواء لما ألقاه(1) منها التجنّب
فلا أنا عند النّأي سال لحبها *** و لا أنا منها مشتف حين تصقب(2)
و ما كنت بالراضي بما غيره الرّضا *** و لكنني أنوي العزاء فأغلب
و ليل خداريّ(3) الرّواق جشمته *** إذا هابه السارون لا أتهيّب
لأظفر يوما من يزيد بن حاتم *** بحبل جوار ذاك ما كنت أطلب
بلوت و قلّبت الرجال كما بلا *** بكفّيه أوساط القداح مقلّب
و صعّدني همّي(4) و صوّب مرّة *** و ذو الهمّ يوما مصعد و مصوّب
لأعرف ما آتى(5) فلم أر مثله *** من الناس فيما حاز شرق و مغرب
أكرّ على جيش و أعظم هيبة *** و أوهب في جود لما ليس يوهب
تصدّى رجال(6) في المعالي ليلحقوا *** مداك و ما أدركته فتذبذبوا
و رمت الذي راموا فأذللت صعبه *** و راموا الذي أذللت منه فأصعبوا(7)
/و مهما تناول من منال سنيّة *** يساعدك فيها المنتمى(8) و المركّب(9)
و منصب(10) آباء كرام نماهم *** إلى المجد آباء كرام و منصب
كواكب دجن كلّما انقضّ كوكب *** بدا منهم بدر منير و كوكب
أنار به آل المهلّب بعد ما *** هوى منكب منهم بليل و منكب
/و ما زال إلحاح الزمان عليهم *** بنائبة كادت لها الأرض تخرب(11)
فلو أبقت الأيام حيّا نفاسة *** لأبقاهم للجود ناب و مخلب
ص: 207
و كنت ليومي نعمة و نكاية *** كما فيهما للنّاس كان المهلّب
ألا حبّذا الأحياء منكم و حبّذا *** قبور بها موتاكم حين غيّبوا
فأمر له يزيد بن حاتم بعشرة آلاف درهم و فرس بسرجه و لجامه و خلعة، و أقسم على من كان بحضرته أن يجيزوه كلّ واحد منهم بما يمكنه، فانصرف بملء يده.
قال الحزنبل: أنشدني عمرو بن أبي عمرو لابن المولى و كان يستحسنها:
حيّ المنازل قد بلينا *** أقوين(1) عن مرّ السنّينا
و سل الدّيار لعلّها *** تخبرك(2) عن أمّ البنينا
/بانت و كلّ قرينة *** يوما مفارقة قرينا
و أخو الحياة من الحيا *** ة معالج غلظا و لينا
غنّى في هذه الأبيات نبية(3) خفيف ثقيل بالبنصر.
و ترى الموكّل بالغوا *** ني راكبا أبدا فنونا
و من البليّة أن تدا *** ن بما كرهت و لن تدينا
و المرء تحرم نفسه *** ما لا يزال به حزينا
و تراه يجمع ماله *** جمع الحريص لوارثينا
يسعى بأفضل سعيه *** فيصير ذاك لقاعدينا
لم يعط ذا النّسب القري *** ب و لم يجد للأبعدينا
قد حلّ منزله الذمي *** م و فارق المتنصّحينا(4)
قال الحزنبل: و ذكر أحمد بن صالح بن النّطّاح عن المدائنيّ: أن المهديّ لمّا وليّ الخلافة و حجّ فرّق في قريش و الأنصار و سائر الناس أموالا عظيمة و وصلهم صلات سنيّة، فحسنت أحوالهم بعد جهد أصاب الناس في أيّام أبيه، لتسرّعهم(5) مع محمد بن عبد اللّه بن حسن، و كانت سنة ولايته سنة خصب و رخص، فأحبّه الناس و تبرّكوا به، و قالوا: هذا هو المهديّ، و هذا ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و سميّه، فلقوه فدعوا له و أثنوا عليه، و مدحته الشعراء، فمدّ
ص: 208
عينه في الناس فرأى ابن المولى فأمر بتقريبه فقرّب منه؛ فقال له: هات يا مولى الأنصار ما عندك، فأنشده [قوله فيه](1):
/
يا ليل لا تنجلي يا ليل بالزاد *** و اشفي بذلك داء الحائم الصادي
و أنجزي عدة كانت لنا أملا *** قد جاء ميعادها من بعد ميعاد
ما ضرّه غير أن أبدي مودّته *** إنّ المحبّ هواه ظاهر بادي
ثم قال فيها يصف ناقته:
/
تطوي البلاد إلى جمّ منافعه *** فعّل خير لفعل الخير عوّاد
للمهتدين(2) إليه من منافعه *** خير يروح و خير باكر غادي
أغنى قريشا و أنصار النبيّ و من *** بالمسجدين بإسعاد و إحفاد(3)
كانت منافعه في الأرض شائعة *** تترى(4) و سيرته كالماء للصّادي
خليفة اللّه عبد اللّه والده *** و أمّه حرّة تنمى لأمجاد
من خير ذي يمن في خير رابية *** من القبول إليها معقل(5) النّادي
حتى أتى على آخرها؛ فأمر له بعشرة آلاف درهم و كسوة، و أمر صاحب الجاري(6) بأن يجري له و لعياله في كلّ سنة ما يكفيهم، و ألحقهم في شرف العطاء.
قال: و ذكر ابن النطّاح عن عبد اللّه بن مصعب الزبيريّ قال:
وفدنا إلى المهديّ و نحن جماعة من قريش و الأنصار، فلما دخلنا عليه سلّمنا و دعونا و أثنينا، فلما فرغنا من كلامنا أقبل على ابن المولى فقال: هات يا محمّد ما قلت، فأنشده:
نادى الأحبّة باحتمال *** إنّ المقيم إلى زوال
ردّ القيان(7) عليهم *** ذلل المطيّ من الجمال
فتحمّلوا بعقيلة *** زهراء آنسة الدّلال
ص: 209
كالشمس راق جمالها *** بين النّساء على الجمال
لمّا رأيت جمالهم *** في الآل(1) تغرق باللآلي
يا ليت ذلك بعد أن *** أظهرت أنّك لا تبالي
و لمثل ما جرّبت من *** إخلافهنّ لذي الوصل
أسلاك عن طلب الصّبا *** و أخو الصّبا لا بدّ سالي
يا ابن الأطايب للأطا *** يب ذا المكارم و المعالي
و ابن الهداة بنى الهدا *** ة و كاشفي ظلم الضّلال
أصبحت أكرم غالب *** عند التّفاخر و النّضل
و إذا تحصّل(2) هاشم *** يعلو بمجدك كلّ عالي
و يكون بيتك منهم *** في الشاهقات من القلال(3)
/هذا و أنت ثمالها(4) *** و ابن الثّمال أخو(5) الثّمال
و مآلها بأمورها *** إنّ الأمور إلى مآل
قال: فأمر له خاصّة بعشرة آلاف درهم معجّلة، ثم ساواه بسائر الوفد بعد ذلك في الجائزة و أعطاه مثل ما أعطاهم، و قال: ذلك بحقّ المديح، و هذا بحقّ الوفادة.
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ أبو أحمد و عمّي قالا حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني إبراهيم بن إسحاق بن عبد الرحمن بن طلحة بن عمر بن عبيد اللّه قال حدّثني عبد اللّه بن إبراهيم/الجمحيّ قال:
قدم عبد الملك بن مروان المدينة، و كان ابن المولى يكثر مدحه، و كان يسأل عنه من غير أن يكونا التقيا - قال: و ابن المولى مولى الأنصار - فلما قدم عبد الملك المدينة قدم ابن المولى، لما بلغه من مسألة عبد الملك عنه، فوردها و قد رحل عبد الملك عنها، فأتبعه(6) فأدركه بإضم بذي خشب بين عين مروان و عين الحديد، و هما جميعا لمروان، فالتفت عبد الملك إليه و ابن المولى على نجيب متنكّبا قوسا عربية، فقال له عبد الملك: ابن المولى؟ قال: لبّيك يا أمير المؤمنين؛ قال: مرحبا بمن نالنا شكره و لم ينله منا فعل، ثم قال له: أخبرني عن ليلى التي تقول فيها:
ص: 210
و أبكى فلا ليلى بكت من صبابة *** إليّ و لا ليلى لذي الودّ تبذل
و اللّه لئن كانت ليلى حرّة لأزوّجنّكها، و لئن كانت أمة لأبتاعنّها لك بما بلغت، فقال: كلاّ يا أمير المؤمنين، و اللّه ما كنت لأذكر حرمة حرّ أبدا و لا أمته، و اللّه ما ليلى إلا قوسي هذه، سمّيتها ليلى لأشبّب بها، و إن الشاعر لا يستطاب إذا/لم يتشبّب(1)؛ فقال له عبد الملك: ذلك و اللّه أظرف لك، فأقام عنده يومه و ليلته ينشده و يسامره، ثم أمر له بمال و كسوة، و انصرف إلى المدينة.
أخبرني حبيب المهلّبيّ عن الزّبير و غيره عن محمد بن فضالة النحويّ قال:
قدم ابن المولى البصرة، فأتى جعفر بن سليمان فوقف على طريقه و قد ركب فناداه:
كم صارخ يدعو و ذي فاقة *** يا جعفر الخيرات يا جعفر
أنت الذي أحييت بذل الندى *** و كان قد مات فلا يذكر
سليل عبّاس وليّ الهدى *** و من به في المحل يستمطر
هذا امتداحيك عقيد(2) الندى *** أشهد(3) بالمجد لك الأشقر
ص: 211
عطرّد مولى الأنصار، ثم مولى بن عمرو بن عوف، و قيل: إنه مولى مزينة، مدنيّ، يكنى أبا هارون، و كان ينزل قباء. و زعم إسحاق أنه كان جميل الوجه، حسن الغناء، طيّب الصوت، جيّد الصّنعة، حسن الرأي و المروءة، فقيها قارئا للقرآن، و كان يغنّي مرتجلا، و أدرك دولة بني أميّة، و بقي إلى أيام الرشيد، و ذكر ابن خرداذبه فيما حدّثني به عليّ بن عبد العزيز عنه: أنه كان معدّل الشهادة بالمدينة؛ أخبره بذلك يحيى بن عليّ المنجم عن أبي أيّوب المدينيّ عن إسحاق.
و أخبرنا محمد بن خلف وكيع عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه:
أن سلمة بن عبّاد ولي القضاء بالبصرة، فقصد ابنه عبّاد بن سلمة عطرّدا و هو بها مقيم قد قصد آل سليمان بن عليّ و أقام معهم؛ فأتى بابه ليلا فدقّ عليه و معه جماعة من أصحابه أصحاب القلانس، فخرج عطرّد إليه، فلما رآه و من معه فزع؛ فقال: لا ترع.
إني قصدت إليك من أهلي *** في حاجة يأتي لها مثلي
فقال: و ما هي أصلحك اللّه؟ قال:
لا طالبا شيئا إليك سوى *** «حيّ الحمول بجانب العزل»(1)
/فقال: انزلوا على بركة اللّه، فلم يزل يغنّيهم هذا و غيره حتى أصبحوا.
حيّ الحمول بجانب العزل *** إذ لا يوافق شكلها شكلي
اللّه أنجح ما طلبت به *** و البرّ خير حقيبة الرّحل
إني بحبلك واصل حبلي *** و بريش نبلك رائش نبلي
و شمائلي ما قد علمت و ما *** نبحت كلابك طارقا مثلي
الشعر لامرئ القيس بن عابس الكنديّ، هكذا روى أبو عمرو الشّيبانيّ، و قال: إن من يرويه
ص: 212
لامرئ القيس بن حجر يغلط. و الغناء لعطّرد ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو بن بانة، و فيه لعمرو بن بانة ثقيل بالوسطى من روايته أيضا، و فيه لابن عائشة خفيف رمل بالبنصر، و فيه عنه و عن دنانير لمالك خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، و فيه عنه أيضا لإبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر.
و أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ و أخبرني به الحسن بن عليّ قال:
كتب إليّ أبو أيّوب المدينيّ، و خبره أتمّ، قال: حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ عن أبيه عن إبراهيم بن خالد المعيطيّ(1) قال:
دخلت على المهديّ، و قد كان وصف له غنائي، فسألني عن الغناء و عن علمي به، فجاذبته من ذلك طرفا؛ فقال لي: أ تغنّي النواقيس؟ قلت: نعم، و أغنّي الصّلبان يا أمير المؤمنين، فتبسّم. و النواقيس لحن معبد، كان معبد و أهل الحجاز يسمونه النواقيس، و هو:
سلا دار ليلى هل تبين فتنطق *** و أنّي تردّ القول بيداء سملق
/قال: ثم قال لي المهديّ و هو يضحك: غنّه، فغنّيته فأمر لي بمال جزيل و خلع عليّ و صرفني، ثم بلغني أنه قال: هذا معيطيّ(2) و أنا لا آنس به، و لا حاجة لي إلى أن أدنيه من خلوتي و أنا لا آنس به. هكذا ذكر في هذا الخبر أن اللّحن لمعبد، و ما ذكره أحد من رواة الغناء له، و لا وجد في ديوان من دواوينهم منسوبا إليه على انفراد به(3)و لا شركة فيه، و لعلّه غلط.
و قد أخبرني هذا الخبر الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:
كان إبراهيم بن خالد المعيطيّ يغنّي، فدخل يوما الحمّام و ابن جامع فيه، و كان له شيء يجاوز ركبتيه، فقال له ابن جامع: يا إبراهيم أ تبيع هذا البغل؟ قال: لا بل أحملك عليه يا أبا القاسم؛ فلما خرج ابن جامع من الحمّام رأى ثياب المعيطي رثّة فأمر له بخلعة من ثيابه، فقال له المعيطيّ: لو قبلت حملاني(4) قبلت خلعتك، فضحك ابن جامع و قال له: مالك أخزاك اللّه! ويلك! أ ما تدع ولعك و بطالتك و شرّك! و دخل إلى الرشيد فحدّثه حديثه؛ فضحك و أمر بإحضاره، فأحضر، فقال له: أ تغنّي النواقيس؟ قال: نعم، و أغنّي الصلبان أيضا. ثم ذكر باقي الخبر مثل الذي تقدّمه.
ص: 213
أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ عن إسحاق قال:
كان عطرّد منقطعا في دولة بني هاشم إلى آل سليمان بن عليّ لم يخدم غيرهم، و توفّي في خلافة المهديّ.
قال: و كان يوما يغنّي/بين يدي سليمان بن عليّ، فغنّاه:
أله فكم من ماجد قد لها *** و من كريم عرضه وافر
- الغناء لعطرّد ثاني ثقيل عن الهشاميّ - فقيل له: سرقت هذا من لحن الغريض:
يا ربع سلاّمة بالمنحنى *** فخيف(1) سلع جادك الوابل
فقال: لم أسرقه و لكنّ العقول تتوافق، و حلف أنه لم يسمعه قطّ.
يا ربع سلاّمة بالمنحنى *** فخيف سلع جادك الوابل
إن تمس وحشا طالما قد ترى *** و أنت معمور بهم آهل
أيام سلاّمة رعبوبة(2) *** خود لعوب حبّها قاتل
محطوطة(3) المتن هضيم الحشى *** لا يطّبيها(4) الورع(5) الواغل(6)
/الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن يحيى المكيّ. قال: و من الناس من ينسبه إلى ابن سريج.
أخبرني أحمد بن عليّ بن يحيى قال سمعت جدّي عليّ بن يحيى قال حدّثني أحمد بن إبراهيم الكاتب قال حدّثني خالد بن كلثوم قال:
كنت مع زبراء بالمدينة و هو وال عليها؛ و هو من بني هاشم أحد بني ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، فأمر بأصحاب الملاهي فحبسوا و حبس عطرّد فيهم، فجلس ليعرضهم، و حضر رجال من أهل المدينة شفعوا لعطرّد، و أخبروه أنه من أهل الهيئة و المروءة و النّعمة و الدّين، فدعا به فخلّى سبيله، و أمره برفع حوائجه إليه فدعا له، و خرج فإذا هو بالمغنّين أحضروا ليعرضوا، فعاد إليه عطرّد، فقال: أصلح اللّه الأمير، أعلى الغناء حبست هؤلاء؟
ص: 214
قال: نعم؛ قال: فلا تظلمهم، فو اللّه ما أحسنوا منه شيئا قط! فضحك و خلّى سبيلهم.
أخبرني محمد بن مزيد و جحظة قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال قرأت على أبي عن محمد بن عبد الحميد بن إسماعيل بن عبد الحميد بن يحيى عن عمّه أيّوب بن إسماعيل قال:
لما استخلف الوليد بن يزيد كتب إلى عامله بالمدينة يأمره بالشخوص إليه بعطرّد المغنّي؛ قال عطرّد: فأقرأني العامل الكتاب و زوّدني نفقة و أشخصني إليه، فأدخلت عليه و هو جالس في قصره على شفير بركة مرصّصة مملوءة خمرا ليست بالكبيرة و لكنها يدور الرجل فيها سباحة، فو اللّه ما تركني أسلّم عليه حتى قال: /أ عطرد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: لقد كنت إليك مشتاقا يا أبا هارون. غنّني:
حيّ الحمول بجانب العزل *** إذ لا يلائم شكلها شكلي
إني بحبلك واصل حبلي *** و بريش نبلك رائش نبلي
و شمائلي ما قد علمت و ما *** نبحت كلابك طارقا مثلي
قال: فغنّيته إيّاه، فو اللّه ما أتممته حتى شقّ حلّة وشى كانت عليه لا أدري كم قيمتها، فتجرّد/منها كما ولدته أمّه و ألقاها نصفين، و رمى بنفسه في البركة فنهل منها حتى تبيّنت - علم اللّه - فيها أنها قد نقصت نقصانا بينا، و أخرج منها و هو كالميّت سكرا، فأضجع و غطّي، فأخذت الحلّة و قمت، فو اللّه ما قال لي أحد: دعها و لا خذها، فانصرفت إلى منزلي متعجّبا مما رأيت من ظرفه و فعله و طربه؛ فلما كان من غد جاءني رسوله في مثل الوقت فأحضرني، فلما دخلت عليه قال لي: يا عطرّد، قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين؛ قال غنّني:
أ يذهب عمري هكذا لم أنل بها *** مجالس تشفي قرح قلبي من الوجد
و قالوا تداو إنّ في الطّبّ راحة *** فعلّلت نفسي بالدواء فلم يجد
فغنّيته إيّاه، فشقّ حلّة وشى كانت تلتمع عليه بالذهب التماعا احتقرت و اللّه الأولى عندها، ثم ألقى نفسه في البركة فنهل فيها حتى تبيّنت - علم اللّه - نقصانها، و أخرج [منها](1) كالميّت سكرا، و ألقي و غطّي فنام، و أخذت الحلّة فو اللّه ما قال لي أحد: دعها و لا خذها، و انصرفت؛ فلما كان اليوم الثالث جاءني رسوله فدخلت إليه و هو في بهو قد ألقيت ستوره، فكلّمني من وراء الستور و قال: يا عطرّد/، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين؛ قال: كأني بك الآن قد أتيت المدينة فقمت بي في مجلسها و محفلها و قعدت و قلت: دعاني أمير المؤمنين فدخلت إليه فاقترح عليّ فغنّيته و أطربته فشقّ ثيابه و أخذت سلبه و فعل و فعل، و اللّه يا ابن الزانية، لئن تحرّكت شفتاك بشيء مما جرى فبلغني لأضربنّ عنقك، يا غلام أعطه ألف دينار، خذها و انصرف إلى المدينة؛ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في تقبيل يده، و يزوّدني نظرة منه و أغنّيه صوتا! فقال: لا حاجة بي و لا بك إلى ذلك، فانصرف. قال عطرّد:
فخرجت من عنده و ما علم اللّه أني ذكرت شيئا مما جرى حتى مضت من دولة بني هاشم مدّة.
ص: 215
الصوت الأوّل ممّا غنّاه عطرّد الوليد قد نسب في أوّل أخباره، و الثاني الذي أوّله:
أ يذهب عمري هكذا لم أنل بها
الغناء فيه لعطرّد ثاني ثقيل بالسبّابة(1) في مجرى البنصر عن إسحاق، و فيه ليونس من كتابه لحن لم يذكر طريقته؛ و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى.
إن امرأ تعتاده ذكر(2) *** منها ثلاث منى لذو صبر
و مواقف بالمشعرين(3) لها *** و مناظر الجمرات(4) و النحر
و إفاضة الرّكبان خلفهم *** مثل الغمام أرذّ(5) بالقطر
حتى استلمن الركن في أنف(6) *** من ليلهنّ يطأن في الأزر(7)
يقعدن في التّطواف آونة *** و يطفن أحيانا على فتر(8)
/ففرغن من سبع و قد جهدت(9) *** أحشاؤهنّ موائل الخمر(10)
الشعر للحارث بن خالد المخزوميّ، و الغناء في اللحن المختار للأبجر، و إيقاعه من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر في الأوّل و الثاني و السادس من الأبيات عن إسحاق. و فيه للغريض خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و لابن سريج في الثالث و الرابع رمل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق.
ص: 216
الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب. و أمّه فاطمة بنت أبي سعيد بن الحارث بن هشام، و أمّها بنت أبي جهل بن هشام. و كان العاص بن هشام جدّ الحارث بن خالد خرج مع المشركين يوم بدر فقتله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدّثني مصعب بن عبد اللّه قال:
قامر أبو لهب العاص بن هشام في عشر من الإبل فقمره(1) أبو لهب، ثم في عشر فقمره، ثم في عشر فقمره، ثم في عشر فقمره، ثم في عشر فقمره، إلى أن خلعه من ماله فلم يبق له شيء، فقال له: إني أرى القداح قد حالفتك يا ابن عبد المطّلب فهلمّ أقامرك، فأيّنا قمر كان عبدا لصاحبه، قال: افعل، ففعل، فقمره أبو لهب فكره أن يسترقّه فتغضب بنو مخزوم، فمشى إليهم و قال: افتدوه منّي بعشر من الإبل؛ فقالوا: لا و اللّه و لا بوبرة، فاسترقّه فكان يرعى له إبلا إلى أن خرج المشركون إلى بدر. و قال غير مصعب: فاسترقّه و أجلسه قينا(2) يعمل الحديد.
فلما خرج المشركون إلى بدر كان من لم يخرج أخرج بديلا، و كان أبو لهب عليلا فأخرجه و قعد، على أنه إن عاد إليه أعتقه، فقتله عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه يومئذ.
و الحارث بن خالد أحد شعراء قريش المعدودين الغزليّين، و كان يذهب مذهب عمر بن أبي ربيعة لا يتجاوز الغزل إلى المديح و لا الهجاء، و كان يهوى عائشة بنت طلحة بن عبيد اللّه و يشبّب بها؛ و ولاّه عبد الملك بن مروان مكّة، و كان ذا قدر و خطر و منظر في قريش؛ و أخوه عكرمة بن خالد المخزوميّ محدّث جليل من وجوه التابعين، قد روى عن جماعة من الصحابة؛ و له أيضا أخ يقال له عبد الرحمن بن خالد، شاعر، و هو الذي يقول:
رحل الشباب وليته لم يرحل *** و غدا لطيّة(3) ذاهب متحمّل(4)
ولّى بلا ذمّ و غادر بعده *** شيبا أقام مكانه في المنزل
ليت الشباب ثوى لدينا حقبة *** قبل المشيب وليته لم يعجل
ص: 217
فنصيب من لذّاته و نعيمه *** كالعهد إذ هو في الزمان الأوّل
و فيه غناء.
حدّثني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرياشيّ قال حدّثنا الأصمعيّ قال:
قال معاذ بن العلاء أخو أبي عمرو بن العلاء: كان أبو عمرو إذا لم يحجّ استبضعني(1) الحروف(2) أسأل عنها الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة الشاعر و آتيه بجوابها؛ قال: فقدمت عليه سنة من السنين و قد ولاّه عبد الملك بن مروان مكة، فلما رآني قال: يا معاذ، /هات ما معك من بضائع أبي عمرو، فجعلت أعجب من اهتمامه بذلك و هو أمير.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار، و أخبرني به الحسن بن عليّ عن أحمد بن سعيد عن الزبير، و لفظه أتمّ، قال حدّثني محمد بن الضحّاك الحزاميّ قال:
كانت العرب تفضّل قريشا في كلّ شيء إلا الشعر، فلما نجم في قريش عمر بن أبي ربيعة و الحارث بن خالد المخزوميّ و العرجيّ و أبو دهبل و عبيد(3) اللّه بن قيس الرّقيّات(4)، أقرّت لها العرب بالشعر أيضا.
أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم و إسماعيل بن يونس و حبيب بن نصر و أحمد بن عبد العزيز قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن يحيى أبو غسّان قال:
تفاخر مولى لعمر بن أبي ربيعة و مولى للحارث بن خالد بشعريهما، فقال مولى الحارث لمولى عمر: دعني منك فإنّ مولاك و اللّه لا يعرف المنازل إذا قلبت، يعني قول الحارث:
إني و ما نحروا غداة منى *** عند الجمار تئودها(5) العقل
ص: 218
لو بدّلت أعلى(1) مساكنها *** سفلا و أصبح سفلها يعلو
/فيكاد يعرفها الخبير بها *** فيردّه الإقواء(2) و المحل
لعرفت مغناها بما احتملت *** منّي الضلوع لأهلها قبل
- قال عمر بن شبّة: و حدّثني محمد بن سلاّم بهذا الخبر على نحو ممّا ذكره أبو غسّان، و زاد فيه: - فقال مولى ابن أبي ربيعة لمولى الحارث: و اللّه ما يحسن مولاك في شعر إلا نسب إلى مولاي.
قال ابن سلاّم: و أنشد الحارث بن خالد عبد اللّه بن عمر هذه الأبيات كلّها حتى انتهى إلى قوله:
لعرفت مغناها بما احتملت *** منّي الضلوع لأهلها قبل
فقال له ابن عمر: قل: إن شاء اللّه؛ قال: إذا يفسد بها الشعر يا عمّ، فقال له: يا بن أخي، إنه لا خير في شيء يفسده «إن شاء اللّه». قال عمر: و حدّثني هذه الحكاية إسحاق بن إبراهيم في مخاطبته لابن عمر و لم يسندها إلى أحد، و أظنّه لم يروها إلا عن محمد بن سلاّم. و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان عن أبي الفضل المرورّوذيّ عن إسحاق عن أبي عبيدة، فذكر قصّة الحارث مع ابن عمر مثل الذي تقدّمه.
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال حدّثني أبو سلمة الغفاريّ عن يحيى بن عروة بن أذينة عن أبيه قال:
كان كثيّر جالسا في فتية من قريش إذ مرّ بهم سعيد الراس(3)، و كان مغنّيا، فقالوا لكثيّر: يا أبا صخر، هل لك أن نسمعك غناء هذا، فإنه مجيد؟ قال: افعلوا؛ فدعوا به فسألوه أن يغنّيهم:
أحد أن يقول مثل هذا؛ فقال: بلى، الحارث بن خالد حيث يقول:
إني و ما نحروا غداة منى *** عند الجمار تئودها العقل
لو بدّلت أعلى مساكنها *** سفلا و أصبح سفلها يعلو
لعرفت مغناها بما احتملت *** منّي الضلوع لأهلها قبل
التي أوّلها:
هلاّ سألت معالم الأطلال
لابن سريج منها في الثاني و الثالث رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و للغريض في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر عنه. و فيهما(1) لعلّويه/رمل بالوسطى عن عمرو. و في أبيات الحارث بن خالد لإبراهيم الموصليّ رمل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق أيضا.
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا الخليل بن أسد عن العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال:
دخل أشعب مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فجعل يطوف الحلق(2)، فقيل له: ما تريد؟ فقال: أستفتي في مسألة؛ فبينا هو كذلك إذ مرّ برجل من ولد الزبير و هو مسند إلى سارية(3) و بين يديه رجل علويّ، فخرج أشعب مبادرا؛ فقال له الذي سأله عن دخوله و تطوافه: أوجدت من أفتاك في مسألتك؟ قال: لا، و لكني علمت ما هو خير لي منها؛ قال:
و ما ذاك؟ قال: وجدت المدينة قد صارت كما قال الحارث بن خالد:
قد بدّلت أعلى مساكنها *** سفلا و أصبح سفلها يعلو
رأيت رجلا من ولد الزبير جالسا في الصدر، و رجلا من ولد عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه جالسا بين يديه، فكفى هذا عجبا، فانصرفت.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرني هذا الخبر إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن يحيى أبو غسّان، و أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا
ص: 220
عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو(1) عبد اللّه بن محمد بن حفص عن أبيه قال قال محمد بن خلف أخبرني به/أبو أيوب سليمان بن أيوب(2) المدنيّ قال حدّثنا مصعب الزّبيريّ، و أخبرني به أيضا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني عمّي، و قد جمعت رواياتهم في هذا الخبر:
أنّ بني مخزوم كلّهم كانوا زبيريّة سوى الحارث بن خالد فإنه كان مروانيا.
فلما ولي عبد الملك الخلافة عام الجماعة وفد عليه في دين كان عليه و ذلك في سنة خمس و سبعين؛ و قال مصعب في خبره: بل حجّ عبد الملك في تلك السنة فلما انصرف رحل معه الحارث إلى دمشق، فظهرت له منه جفوة، و أقام ببابه شهرا لا يصل إليه، فانصرف عنه و قال فيه:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة *** فلما انجلت قطّعت نفسي ألومها
و ما بي و إن أقصيتني من ضراعة *** و لا افتقرت نفسي إلى من يضيمها
هذا البيت في رواية ابن المرزبان وحده:
عطفت عليك النفس حتى كأنما *** بكفّيك بؤسي أو عليك نعيمها
/و بلغ عبد الملك خبره و أنشد الشعر، فأرسل إليه من ردّه من طريقه؛ فلما دخل عليه قال له: حار(3)، أخبرني عنك: هل رأيت عليك في المقام ببابي غضاضة أو في قصدي دناءة؟ قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين؛ قال:
فما حملك على ما قلت و فعلت؟ قال: جفوة ظهرت لي، كنت(4) حقيقا بغير هذا، قال: فاختر، فإن شئت أعطيتك مائة ألف درهم، أو قضيت دينك، أو ولّيتك مكّة سنة، فولاّه إياها، فحجّ بالناس و حجّت عائشة بنت طلحة عامئذ، و كان يهواها، فأرسلت إليه: أخّر/الصلاة حتى أفرغ من طوافي، فأمر المؤذّنين فأخّروا الصلاة حتى فرغت من طوافها، ثم أقيمت الصلاة فصلّى بالناس، و أنكر أهل الموسم ذلك من فعله و أعظموه، فعزله و كتب إليه يؤنّبه فيما فعل؛ فقال: ما أهون و اللّه غضبه إذا رضيت! و اللّه لو لم تفرغ من طوافها إلى الليل لأخّرت الصلاة إلى الليل. فلمّا قضت حجّها أرسل إليها: يا ابنة عمّي ألمّي بنا أوعدينا مجلسا نتحدّث فيه؛ فقالت: في غد أفعل ذلك، ثم رحلت من ليلتها؛ فقال الحارث فيها:
ما ضرّكم لو قلتم سددا *** إنّ المطايا عاجل غدها
و لها علينا نعمة سلفت *** لسنا على الأيام نجحدها
لو تمّمت أسباب نعمتها *** تمّت بذلك عندنا يدها
ص: 221
لمعبد في هذه الأبيات ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو بن بانة و يونس و دنانير، و قد ذكره إسحاق فنسبه إلى ابن محرز ثقيلا أوّل في أصوات قليلة الأشباه؛ و قال عمرو بن بانة: من الناس من نسبه إلى الغريض.
و ما بي و إن أقصيتني من ضراعة *** و لا افتقرت نفسي إلى من يهينها
بلى بأبي إني إليك لضارع *** فقير و نفسي ذاك منها(1) يزينها
/البيت الأوّل للحارث بن خالد، و الثاني ألحق به. و الغناء للغريض ثقيل أوّل بالوسطى عن ابن المكيّ.
و ذكر الهشاميّ أن لحن الغريض خفيف ثقيل في البيت الأوّل فقط، و حكى أن قافيته على ما كان الحارث قاله:
و لا افتقرت نفسي إلى من يضيمها
و أن الثقيل الأوّل لعليّة بنت المهديّ، و من غنائها البيت المضاف. و أخلق بأن يكون الأمر على ما ذكره، لأن البيت الثاني ضعيف يشبه شعرها.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر و إسماعيل بن يونس قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان محمد بن يحيى قال:
لما تزوّج مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة و رحل بها إلى العراق، قال الحارث بن خالد في ذلك:
ظعن الأمير بأحسن الخلق *** و غدا بلبّك مطلع الشّرق
/في البيت ذي الحسب الرفيع و من *** أهل التّقى و البرّ و الصّدق
فظللت كالمقهور مهجته *** هذا الجنون و ليس بالعشق
أترجّة عبق العبير بها *** عبق الدّهان بجانب الحقّ
ما صبّحت أحدا برؤيتها *** إلا غدا بكواكب الطّلق(2)
و هي أبيات، غنّى ابن محرز في البيتين الأوّلين خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، و ذكر عمرو بن بانة أن فيهما لمالك ثقيلا بالوسطى، و ذكر/حبش أن فيهما لمالك رملا بالوسطى، و ذكر حبش أيضا أن فيهما للدّلال ثاني ثقيل بالبنصر، و لابن سريج و مالك رملين، و لسعيد بن جابر هزجا بالوسطى.
ص: 222
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر و الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلاّم عن ابن جعدبة قال:
لما أن قدمت عائشة بنت طلحة أرسل إليها الحارث بن خالد و هو أمير على مكة: إني أريد السلام عليك، فإذا خفّ عليك أذنت، و كان الرسول الغريض، فقالت له: إنّا حرم، فإذا أحللنا أذنّاك، فلما أحلّت سرت على بغلاتها، و لحقها الغريض بعسفان(1) أو قريب منه، و معه كتاب الحارث إليها:
ما ضرّكم لو قلتم سددا
- الأبيات المذكورة -؛ فلما قرأت الكتاب قالت: ما يدع الحارث باطله! ثم قالت للغريض: هل أحدثت شيئا؟ قال: نعم، فاسمعي، ثم اندفع يغنّي في هذا الشعر؛ فقالت عائشة: و اللّه ما قلنا إلا سددا، و لا أردنا إلا أن نشتري لسانه؛ و أتى على الشعر كلّه، فاستحسنته عائشة، و أمرت له بخمسة آلاف درهم و أثواب، و قالت: زدني، فغنّاها في قول الحارث بن خالد أيضا:
زعموا بأن البين بعد غد *** فالقلب مما أحدثوا يجف
و العين منذ أجدّ بينهم *** مثل الجمان دموعها تكف
/و مقالها و دموعها سجم *** أقلل حنينك حين تنصرف
تشكو و نشكو ما أشتّ(2) بنا *** كلّ بوشك البين معترف
- إيقاع هذا الصوت ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى عن الهشاميّ، و لم يذكر له حماد طريقا - قال: فقالت له عائشة: يا غريض، بحقّي عليك أ هو أمرك أن تغنّيني في هذا الشعر؟ فقال: لا، و حياتك يا سيدتي! فأمرت له بخمسة آلاف درهم، ثم قالت له: غنّني في شعر(3) غيره؛ فغنّاها [قول(4) عمر فيها]:
فتولّت حمولها و استقلّت *** لم ننل طائلا و لم نقض دينا
و لقد قلت يوم مكّة لمّا *** أرسلت تقرأ السلام علينا
أنعم اللّه بالرسول الذي أر *** سل و المرسل الرسالة عينا(1)
/ - الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء للغريض خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق، و غيره ينسبه إلى ابن سريج. و فيه لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى(2) عن عمرو، و أظنه هذا اللحن - قال: فضحكت ثم قالت: و أنت يا غريض فأنعم اللّه بك عينا، و بابن أبي ربيعة عينا، لقد تلطّفت حتى أدّيت إلينا رسالته، و إن وفاءك/له لممّا يزيدنا رغبة فيك و ثقة بك. و قد كان عمر سأل الغريض أن يغنّيها هذا الصوت لأنه قد كان ترك ذكرها لمّا غضبت بنو تيم من ذلك، فلم يحبّ التصريح بها و كره إغفال ذكرها؛ و قال له عمر: إن أبلغتها هذه الأبيات في غناء فلك خمسة آلاف درهم.
فوفى له بذلك، و أمرت له عائشة بخمسة آلاف درهم أخرى؛ ثم انصرف الغريض من عندها فلقي عاتكة بنت يزيد بن معاوية امرأة عبد الملك بن مروان، و كانت قد حجّت في تلك السنة، فقال لها جواريها: هذا الغريض؛ فقالت لهنّ: عليّ به، فجيء به إليها. قال الغريض: فلما دخلت سلّمت فردّت عليّ و سألتني عن الخبر، فقصصته عليها؛ فقالت: غنّني بما غنّيتها به، ففعلت فلم أرها تهشّ لذلك، فغنّيتها معرّضا لها و مذكّرا بنفسي في شعر مرّة بن محكان السّعديّ يخاطب امرأته و قد نزل به أضياف:
أقول و الضّيف مخشيّ ذمامته(3) *** على الكريم و حقّ الضيف قد وجبا
يا ربّة البيت قومي غير صاغرة *** ضمّي إليك رحال القوم و القربا
في ليلة من جمادى ذات أندية(4) *** لا يبصر الكلب من ظلمائها الطّنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة *** حتى يلفّ على خيشومه الذّنبا
- الشعر لمرّة بن محكان السّعديّ، و الغناء لابن سريج. ذكر يونس أن فيه ثلاثة ألحان، فوجدت منها واحدا في كتاب عمرو بن بانة رملا بالوسطى، و الآخر في كتاب/الهشاميّ خفيف ثقيل بالوسطى، و الآخر ثاني ثقيل في كتاب أحمد بن المكيّ - قال: فقالت و هي متبسّمة: قد وجب حقّك يا غريض، فغنّني؛ فغنّيتها:
ص: 224
يا دهر قد أكثرت فجعتنا *** بسراتنا و وقرت(1) في العظم
و سلبتنا ما لست مخلفه *** يا دهر ما أنصفت في الحكم
لو كان لي قرن أناضله *** ما طاش عند حفيظة سهمي
لو كان يعطي النّصف(2) قلت له *** أحرزت سهمك فاله عن سهمي(3)
فقالت: نعطيك النّصف و لا نضيع سهمك عندنا، و نجزل لك قسمك، و أمرت لي بخمسة آلاف درهم و ثياب عدنيّة(4) و غير ذلك من الألطاف، و أتيت الحارث بن خالد فأخبرته الخبر و قصصت عليه القصّة؛ فأمر لي بمثل ما أمرتا لي به جميعا، فأتيت ابن أبي ربيعة و أعلمته بما جرى، فأمر لي بمثل ذلك، فما انصرف واحد من ذلك الموسم بمثلي ما انصرفت به: بنظرة/من عائشة و نظرة من عاتكة و هما من أجمل نساء عالمهما، و بما أمرتا لي به، و بالمنزلة عند الحارث و هو أمير مكّة، و ابن أبي ربيعة، و ما أجازاني به جميعا من المال.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أبو الحسن المروزيّ قال حدّثنا محمد بن سلاّم عن يونس قال:
/لما حجّت عائشة بنت طلحة أرسل إليها الحارث بن خالد و هو أمير مكة: أنعم اللّه بك عينا و حيّاك، و قد أردت زيارتك فكرهت ذلك إلاّ عن أمرك، فإن أذنت فيها فعلت؛ فقالت لمولاة لها جزلة(5): و ما أردّ على هذا السفيه؟ فقالت لها: أنا أكفيك، فخرجت إلى الرسول و قالت له: اقرأ عليه السّلام، و قل له: و أنت أنعم اللّه بك عينا و حيّاك، نقضي نسكنا ثم يأتيك رسولنا إن شاء اللّه، ثم قالت لها: قومي فطوفي و اسعي و اقضي عمرتك و اخرجي في الليل، ففعلت؛ و أصبح الحارث فسأل عنها فأخبر خبرها، فوجّه إليها رسولا بهذه الأبيات، فوجدها قد خرجت عن عمل مكّة، فأوصل الكتاب إليها، فقالت لمولاتها: خذيه فإني أظنه بعض سفاهاته، فأخذته و قرأته و قالت له: ما قلنا إلا سددا(6) و أنت فارغ للبطالة(7)، و نحن عن فراغك في شغل.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ و إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال: زعم كلثوم بن أبي بكر بن عمر بن الضّحّاك بن قيس الفهريّ قال:
ص: 225
قدم المدينة قادم من مكّة فدخل على عائشة بنت طلحة، فقالت له: من أين أقبل الرجل؟ قال: من مكّة، فقالت: فما فعل الأعرابيّ؟ فلم يفهم ما أرادت، فلما عاد إلى مكّة دخل على الحارث، فقال له: من أين؟ قال: من المدينة، قال: فهل دخلت على عائشة بنت طلحة؟ قال: نعم، قال: فعمّا ذا سألتك؟ /قال: قالت لي: ما فعل الأعرابيّ؟ قال له الحارث: فعد إليها و لك هذه الراحلة و الحلة و نفقتك لطريقك و ادفع إليها هذه الرقعة، و كتب إليها فيها:
من كان يسأل عنا أين منزلنا *** فالأقحوانة(1) منا منزل قمن(2)
إذ نلبس العيش صفوا ما يكدّره *** طعن الوشاة و لا ينبو بنا الزمن
قال إسحاق: و زادني غير كلثوم فيها:
ليت الهوى لم يقرّبني إليك و لم *** أعرفك إذ كان حظّي منكم الحزن
غنّى في هذه الأبيات ابن محرز خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق، و ذكر يونس أن فيها لحنا و لم يجنّسه، و ذكر عمرو أن فيه لبابويه ثاني ثقيل بالبنصر.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن محمد بن سلاّم، قال:
لما ولّى عبد الملك بن مروان الحارث بن خالد المخزوميّ مكّة بعث إلى الغريض فقال له: لا أرينّك في عملي(3)، و كان قبل ذلك يطلبه و يستدعيه فلا يجيبه، فخرج الغريض إلى ناحية الطائف، و بلغ ذلك الحارث فرقّ له فردّه و قال له: لم كنت تبغضنا و تهجر شعرنا و لا تقربنا؟ قال له الغريض: كانت هفوة من هفوات/النفس، و خطرة من خطرات الشيطان، و مثلك وهب الذنب، /و صفح عن الجرم، و أقال العثرة، و غفر الزّلّة، و لست بعائد إلى ذلك أبدا؛ قال: و هل غنّيت في شيء من شعري؟ قال: نعم، قد غنّيت في ثلاثة أصوات من شعرك، قال: هات ما غنّيت، فغنّيت:
كأن فيهم غداة البين إذ رحلوا *** أدماء(1) طاع(2) لها الحوذان(3) و النّفل(4)
- الغناء للغريض ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ و حبش؛ قال حبش: و فيه لابن سريج خفيف رمل بالبنصر، و لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر - فقال له: أحسنت و اللّه يا غريض، هات ما غنّيت فيه أيضا من شعري، فغنّاه في قوله:
يا ليت شعري و كم من منية قدرت *** وفقا و أخرى أتى من دونها القدر
و مضمر الكشح يطويه الضجيع له *** طيّ الحمالة(5) لا جاف و لا فقر(6)
له شبيهان(7) لا نقص يعيبهما *** بحيث كانا و لا طول و لا قصر
/ - لم أعرف لهذا الشعر لحنا في شيء من الكتب و لا سمعته - فقال له الحارث: أحسنت و اللّه يا غريض، إيه، و ما ذا(8) أيضا؟ فغنّاه قوله:
عفت الديار فما بها أهل *** حزّانها(9) و دماثها(10) السهل
إني و ما نحروا غداة منى *** عند الجمار تؤدها العقل
- الأبيات المذكورة و قد مضت نسبتها معها - فقال له الحارث: يا غريض لا لوم في حبّك، و لا عذر في هجرك، و لا لذّة لمن لا يروّح قلبه بك، يا غريض لو لم يكن لي في ولايتي مكّة حظّ إلا أنت لكان حظّا كافيا وافيا، يا غريض إنما الدنيا زينة، فأزين الزينة ما فرح(11) النفس، و لقد فهم قدر الدنيا على حقيقته من فهم قدر الغناء.
أخبرني الحسن بن عليّ عن أحمد بن زهير عن مصعب الزّبيريّ قال:
أنشدت سكينة بنت الحسين قول الحارث بن خالد:
ففرغن من سبع و قد جهدت *** أحشاؤهن موائل الخمر
ص: 227
فقالت: أحسن عندكم ما قال؟ قالوا: نعم، فقالت: و ما حسنه! فو اللّه لو طافت الإبل سبعا لجهدت أحشاؤها.
أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه عن كلثوم بن أبي بكر قال:
لما مات عمر بن عبد اللّه التّيميّ عن عائشة بنت طلحة و كانت قبله عند مصعب بن الزبير قيل للحارث بن خالد: ما يمنعك الآن منها؟ قال: لا يتحدّث و اللّه رجال من قريش أنّ نسيبي بها كان لشيء من الباطل.
أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثني عمّي عبيد اللّه عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:
لما خرج ابن الأشعث على عبد الملك بن مروان شغل عن أن يولّي على الحجّ رجلا، و كان الحارث بن خالد عامله على مكّة، فخرج أبان بن عثمان من المدينة و هو عامله عليها، فغدا على الحارث بمكّة ليحجّ بالناس؛ فنازعه الحارث و قال له: لم يأتني كتاب أمير المؤمنين بتوليتك على الموسم، و تغالبا فغلبه أبان بن عثمان/بنسبه، و مال إليه الناس فحجّ بهم؛ فقال الحارث بن خالد في ذلك:
فإن تنج منها يا أبان مسلّما *** فقد أفلت الحجّاج خيل شبيب
و كاد غداة الدّير(1) ينفد حضنه *** غلام بطعن القرن جدّ طبيب
و أنسوه وصف الدّير لما رآهم *** و حسّن خوف الموت كلّ معيب(2)
فلقيه الحجّاج بعد ذلك، فقال: ما لي و لك يا حارث! أ ينازعك أبان عملا فتذكرني! فقال له: ما اعتمدت مساءتك و لكن بلغني أنك أنت كاتبته، قال: و اللّه ما فعلت، فقال له الحارث: المعذرة إلى اللّه و إليك أبا محمد.
نسخت من كتاب هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات: حدّثني عمرو(3) بن سلّم قال حدّثني هارون بن موسى الفرويّ قال حدّثني موسى بن جعفر أن يحيى قال حدّثني مؤدّب لبني هشام بن عبد الملك قال:
/بينا أنا ألقي على ولد هشام شعر قريش إذ أنشدتهم شعر الحارث بن خالد:
إن امرأ تعتاده ذكر *** منها ثلاث منى لذو صبر
و هشام مصغ إليّ حتى ألقيت عليهم قوله:
ففرغن من سبع و قد جهدت *** أحشاؤهن موائل الخمر
فانصرف و هو يقول: هذا كلام معاين.
ص: 228
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أبو عبد اللّه السّدوسيّ قال و حدّثنا أبو حاتم السجستانيّ قال أخبرنا أبو عبيدة قال:
قدمت عائشة بنت طلحة مكّة تريد العمرة، فلم يزل الحارث يدور حولها و ينظر إليها و لا يمكنه كلامها حتى خرجت، فأنشأ يقول - و ذكر في هذه الأبيات بسرة حاضنتها و كنى عنها -:
يا دار أقفر رسمها *** بين المحصّب(1) و الحجون(2)
أقوت و غيّر آيها *** مرّ الحوادث و السّنين
و استبدلوا ظلف(3) الحجا *** ز و سرّة(4) البلد الأمين
يا بسر إنّي فاعلمي *** باللّه مجتهدا يميني
ما إن صرمت حبالكم *** فصلي حبالي أو ذريني
/في هذه الأبيات ثاني ثقيل لمالك بالبنصر عن الهشاميّ و حبش، قال: و فيها لابن مسجح ثقيل أوّل، و ذكر أحمد بن المكيّ أنّ فيها لابن سريج رملا بالبنصر؛ فيها لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى عن حبش.
أخبرني الطّوسيّ و الحرميّ بن أبي العلاء قالا حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني مصعب بن عثمان بن مصعب بن عروة بن الزّبير، و أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان عن أحمد بن زهير عن مصعب الزّبيريّ قال:
كانت أمّ عبد الملك بنت عبد اللّه بن خالد بن أسيد عند الحارث بن خالد، فولدت منه فاطمة بنت الحارث، و كانت قبله عند عبد اللّه بن مطيع، فولدت منه عمران و محمدا، فقال فيها الحارث و كنّاها بابنها عمران:
يا أمّ عمران ما زالت و ما برحت *** بي الصبابة حتى شفّني الشّفق(5)
/القلب تاق إليكم كي يلاقيكم *** كما يتوق إلى منجاته الغرق
تنيل نزرا قليلا و هي مشفقة *** كما يخاف مسيس الحيّة الفرق(6)
قال مصعب بن عثمان: فأنشد رجل يوما بحضرة ابنها عمران بن عبد اللّه بن مطيع هذا الشعر، ثم فطن فأمسك؛ فقال له: لا عليك، فإنها كانت زوجته. و قال ابن المرزبان في خبره: فقال له: امض رحمك اللّه و ما بأس
ص: 229
بذلك، رجل تزوّج(1) بنت عمّه و كان لها كفؤا كريما فقال فيها شعرا بلغ ما بلغ، فكان ما ذا!.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أحمد بن عبد الرحمن التّميميّ عن أبي شعيب الأسديّ عن القحذميّ قال:
بينا الحارث بن خالد واقف على جمرة العقبة إذ رأى أمّ بكر و هي ترمي الجمرة فرأى أحسن الناس وجها، و كان في خدّها خال ظاهر، فسأل عنها فأخبر باسمها حتى عرف رحلها، ثم أرسل إليها يسألها أن تأذن له في الحديث، فأذنت له، فكان يأتيها يتحدّث إليها حتى انقضت أيام الحجّ، فأرادت الخروج إلى بلدها، فقال فيها:
ألا قل لذات الخال يا صاح في الخدّ *** تدوم إذا بانت على أحسن العهد
و منها علامات بمجرى وشاحها *** و أخرى تزين الجيد من موضع العقد
و ترعى من الودّ الذي كان بيننا *** فما يستوي راعي الأمانة و المبدي
و قل قد وعدت اليوم وعدا فأنجزي *** و لا تخلفي، لا خير في مخلف الوعد
وجودي عليّ اليوم منك بنائل *** و لا تبخلي، قدّمت قبلك في اللّحد
فمن ذا الذي يبدي السرور إذا دنت *** بك الدار أو يعنى بنأيكم بعدي
دنوّكم منّا رخاء نناله *** و نأيكم و البعد جهد على جهد
كثير إذا تدنو اغتباطي بك النوى *** و وجدي إذا ما بنتم ليس كالوجد
أقول و دمعي فوق خدّي مخضل(2) *** له وشل(3) قد بلّ تهتانه خدّي
لقد منح اللّه البخيلة ودّنا *** و ما منحت ودّي بدعوى و لا قصد
أخبرني محمد بن خلف قال و حدّثت عن المدائنيّ و لست أحفظ من حدّثني به قال:
/طافت ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود و أمّها ميمونة بنت أبي سفيان ابن حرب بالكعبة، فرآها الحارث بن خالد فقال فيها:
أطافت بنا شمس النهار و من رأى *** من الناس شمسا بالعشاء تطوف
أبو أمّها أوفى قريش بذمّة *** و أعمامها إمّا سألت ثقيف
و فيها يقول:
ص: 230
أ من طلل بالجزع من مكّة(1) السّدر *** عفا بين أكناف المشقّر(2) فالحضر(3)
ظللت و ظلّ القوم من غير حاجة *** لدن غدوة(4) حتى دنت حزّة(5) العصر
يبكّون من ليلى عهودا قديمة *** و ما ذا يبكّي القوم من منزل قفر
الغناء في هذه الأبيات لابن سريج ثاني ثقيل بالخنصر و البنصر عن يحيى المكيّ، و ذكر/غيره أنه للغريض.
و في ليلى هذه يقول - أنشدناه وكيع عن عبد اللّه بن شبيب عن إبراهيم بن المنذر الحزاميّ للحارث بن خالد، و في بعض الأبيات غناء -:
لقد أرسلت في السرّ ليلى تلومني *** و تزعمني ذا ملّة طرفا(6) جلدا
و قد أخلفتنا كلّ ما وعدت به *** و و اللّه ما أخلفتها عامدا وعدا
/فقلت مجيبا للرسول الذي أتى *** تراه، لك الويلات، من قولها جدّا؟
إذا جئتها فأقر السلام و قل لها *** دعي الجور ليلى و اسلكي منهجا قصدا
أ في مكثنا عنكم ليال مرضتها *** تزيدينني ليلى على مرضي جهدا
تعدّين ذنبا واحدا ما جنيته *** عليّ و ما أحصي ذنوبكم عدّا
فإن شئت حرّمت النساء سواكم *** و إن شئت لم أطعم نقاخا(7) و لا بردا
و إن شئت غرنا(8) بعدكم ثم لم نزل *** بمكة حتى تجلسي(9) قابلا نجدا
الغناء للغريض ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و ذكر ابن المكيّ أن فيه لدحمان ثاني ثقيل بالوسطى لا
ص: 231
أدري أ هذا أم غيره. و فيه(1) ثقيل أوّل للأبجر عن يونس و الهشاميّ. و فيه لابن سريج رمل بالبنصر. و لعرار خفيف ثقيل عن الهشاميّ و حبش.
أخبرني محمد بن خلف قال أخبرني محمد بن الحارث الخرّاز قال حدّثنا أبو الحسن المدائنيّ قال:
كان الحارث بن خالد واليا على مكّة، و كان أبان بن عثمان ربما جاءه كتاب الخليفة أن يصلّي بالناس و يقيم لهم حجّهم، فتأخّر عنه في سنة الحرب كتابه و لم يأت الحارث كتاب، فلما حضر الموسم شخص أبان من المدينة، فصلّى بالناس و عاونته بنو أميّة و مواليهم فغلب الحارث على الصلاة، فقال:
/
فإن تنج منها يا أبان مسلّما *** فقد أفلت الحجّاج خيل شبيب
فبلغ ذلك الحجّاج فقال: ما لي و للحارث! أ يغلبه أبان بن عثمان على الصلاة و يهتف بي أنا! ما ذكره إيّاي! فقال له عبيد بن موهب: أ تأذن أيها الأمير في إجابته و هجائه؟ قال: نعم؛ فقال عبيد:
أبا وابص ركّب علاتك(2) و التمس *** مكاسبها إن اللئيم كسوب
و لا تذكر الحجّاج إلا بصالح *** فقد عشت من معروفه بذنوب(3)
و لست بوال ما حييت إمارة *** لمستخلف إلا عليك رقيب
قال المدائنيّ: و بلغني أن عبد الملك قال للحارث: أيّ البلاد أحبّ إليك؟ قال: ما حسنت فيه حالي و عرض وجهي، ثم قال:
لا كوفة أمّي و لا بصرة أبي *** و لست كمن يثنيه عن وجهه الكسل(4)
منها في تشبيب الحارث بامرأته أمّ عمران:
بان الخليط الذي كنّا به نثق *** بانوا و قلبك مجنون بهم علق
تنيل نزرا قليلا و هي مشفقة *** كما يخاف مسيس الحيّة الفرق
يا أمّ عمران ما زالت و ما برحت *** بي الصّبابة حتى شفّني الشّفق
ص: 232
/لا
أعتق اللّه رقّي من صبابتكم *** ما ضرّني أنني صبّ بكم قلق
ضحكت عن مرهف الأنياب ذي أشر(1)*** لا قضم(2) في ثناياه و لا روق(3)
يتوق قلبي إليكم كي يلاقيكم *** كما يتوق إلى منجاته الغرق
غنّى ابن محرز في الثالث ثم السادس ثم الخامس ثم الثاني، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، و للغريض في الرابع و الثاني و الثالث و السادس خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو، و لسلسل في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل مطلق عن الهشاميّ، و لابن سريج في الثاني و الأوّل و الرابع و الخامس رمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق، و للهذليّ في الثاني ثم الأوّل هزج عن الهشاميّ. و ذكر حبش أن فيها لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى، و لابن محرز ثاني ثقيل آخر بالبنصر. و ذكر الهشاميّ أن لابن سريج في الأبيات خفيف رمل.
و ممّا يغنّي فيه من شعر الحارث بن خالد في عائشة بنت طلحة تصريحا و تعريضا ببسرة جاريتها:
يا ربع بسرة بالجناب تكلّم *** و ابن لنا خبرا و لا تستعجم
ما لي رأيتك بعد أهلك موحشا *** خلقا كحوض الباقر(4) المتهدّم
/تسبي الضجيع إذا النجوم تغوّرت *** طوع الضجيع أنيقة المتوسّم
قبّ(5) البطون أوانس مثل الدّمى *** يخلطن ذاك بعفّة و تكرّم
الغناء لمعبد خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. و الأبيات أكثر من هذه إلا أني اعتمدت على ما غنّي فيه.
و منها صوت قد جمعت فيه عدّة طرائق و أصوات في أبيات من القصيدة:
أعرفت أطلال الرّسوم تنكّرت *** بعدي و بدّل آيهنّ دثورا(6)
و تبدّلت بعد الأنيس بأهلها *** عفرا(7) بواغم(8) يرتعين وعورا
ص: 233
من كلّ مصبية الحديث ترى لها *** كفلا كرابية الكثيب وثيرا
دع ذا و لكن هل رأيت ظعائنا *** قرّبن أجمالا لهنّ بكورا
قرّبن كلّ مخيّس(1) متحمّل(2) *** بزلا(3) تشبّه هامهنّ قبورا
يفتن لا يألون كلّ مغفّل *** يملأنه بحديثهنّ سرورا
يا دار حسّرها(4) البلى تحسيرا *** و سفت عليها الريح بعدك بورا
دقّ التراب نخيله فمخيّم *** بعراصها و مسيّر تسييرا
/يا ربع بسرة إن أضرّ بك البلى *** فلقد عهدتك آهلا معمورا
/عقب الرّذاذ خلافهم(5) فكأنّما *** بسط الشّواطب(6) بينهنّ حصيرا
إن يمس حبلك بعد طول تواصل *** خلقا و يصبح بينكم(7) مهجورا
فلقد أراني، و الجديد إلى بلى *** زمنا بوصلك قانعا مسرورا
جذلا بمالي عندكم لا أبتغي *** للنفس غيرك خلّة و عشيرا
كنت المنى و أعزّ من وطئ الحصا *** عندي و كنت بذاك منك و جديرا
غنّى في الأوّل و الثاني من هذه الأبيات معبد، و لحنه ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو، مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، و للغريض فيه(8) ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو، و لإسحاق فيهما ثاني ثقيل، و لإبراهيم فيهما و في الثالث خفيف ثقيل بالسبابة و الوسطى عن ابن المكّيّ، و غنّى الغريض في الثالث و السادس و الرابع و الخامس ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق، و غنّى معبد في السابع و الثامن و العاشر خفيف ثقيل بالسبّابة و الوسطى عن يحيى المكّيّ؛ و فيها ثاني ثقيل ينسب إلى طويس و ابن مسجح و ابن سريج، و لمالك في التاسع و العاشر و الحادي عشر و الثاني عشر خفيف ثقيل بالسبابة و الوسطى عن يحيى المكيّ، و فيها بأعيانها/لابن سريج رمل بالسبّابة و الوسطى عن يحيى أيضا، و ليحيى المكّيّ في الحادي عشر و ما بعده إلى آخر الأبيات ثاني ثقيل، و لإبراهيم فيها بعينها ثقيل أوّل عن الهشاميّ، و فيها لإسحاق رمل، و في الثالث و الرابع لحن لخليدة المكّيّة خفيف رمل عن الهشاميّ أيضا.
ص: 234
و منها من أبيات قالها بالشأم عند عبد الملك أوّلها:
هل تعرف الدار أضحت آيها عجما *** كالرّقّ(1) أجرى عليها حاذق قلما
بالخيف هاجت شئونا(2) غير جامدة *** فانهلّت العين تذري واكفا سجما
دار لبسرة أمست ما تكلّمنا *** و قد أبنت لها لو تعرف الكلما
واها لبسرة لو يدنو الأمير بها *** يا ليت بسرة قد أمست لنا أمما(3)
حلّت بمكّة لا دار مصاقبة(4) *** هيهات جيرون(5) ممّن يسكن الحرما
يا بسر إنكم شطّ البعاد بكم *** فما تنيلوننا وصلا و لا نعما
غنّى في هذين البيتين الهذليّ ثاني ثقيل بالوسطى، و فيهما ليحيى المكّيّ ثقيل أوّل بالبنصر، جميعا من روايته:
قد قلت بالخيف إذ قالت لجارتها *** أدام وصل الذي أهدى لنا الكلما
لا يرغم اللّه أنفا أنت حامله *** بل أنف شانيك فيما سرّكم رغما
إن كان رابك شيء لست أعلمه *** منّي فهذي يميني بالرضا سلما(6)
/أو كنت أحببت شيئا مثل حبّكم *** فلا أرحت إذا أهلا و لا نعما
لا تكليني(7) إلى من ليس يرحمني *** وقاك من تبغضين الحتف و السّقما
إن الوشاة كثير إن أطعتهم *** لا يرقبون بنا إلاّ(8) و لا ذمما
غنى ابن محرز في:
لا يرغم اللّه أنفا أنت حامله
ص: 235
خفيف ثقيل(1) بالبنصر، و لابن مسجح فيه ثاني ثقيل عن حبش؛ و في:
لا تكليني إلى من ليس يرحمني
لابن محرز ثقيل أوّل بالبنصر عن حبش و الهشاميّ.
أخبرني محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى قالا أخبرنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الزّبيريّ قال:
أذّن المؤذّن يوما و خرج الحارث بن خالد إلى الصلاة، فأرسلت إليه عائشة ابنة طلحة: إنه بقي عليّ شيء من طوافي لم أتمّه، فقعد و أمر المؤذّنين فكفّوا عن الإقامة و جعل الناس يصيحون حتى فرغت من طوافها، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فعزله و ولّى مكّة عبد الرحمن بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد، و كتب إلى الحارث: /ويلك، أ تركت الصلاة لعائشة بنت طلحة! فقال الحارث: و اللّه لو لم تقض طوافها إلى الفجر لما كبّرت؛ و قال في ذلك:
لم أرحّب بأن سخطت و لكن *** مرحبا أن رضيت عنّا و أهلا
إنّ وجها رأيته ليلة البد *** ر عليه انثنى الجمال و حلاّ
وجهها الوجه لو يسال(2) به المز *** ن من الحسن و الجمال استهلاّ
إن عند الطّواف حين أتته *** لجمالا فعما و خلقا رفلاّ(3)
و كسين الجمال إن غبن عنها *** فإذا ما بدت لهنّ اضمحلاّ
في شعر الحارث هذا غناء قد جمع كلّ ما في شعره منه على اختلاف طرائقه، و هو:
أثل جودي على المتيّم أثلا *** لا تزيدي فؤاده بك خبلا
أثل إني و الراقصات(4) بجمع *** يتبارين في الأزمّة فتلا(5)
سانحات يقطعن من عرفات *** بين أيدي المطيّ حزنا و سهلا
و الأكفّ المضمّرات على الرك *** ن بشعث سعوا إلى البيت رجلي(6)
لا أخون الصديق في السرّ حتى *** ينقل البحر بالغرابيل نقلا
أو تمرّ الجبال مرّ سحاب *** مرتق قد وعى من الماء ثقلا
ص: 236
أنعم اللّه لي بذا الوجه عينا *** و به مرحبا و أهلا و سهلا
/حين قالت لا تفشينّ حديثي *** يا ابن عمّي أقسمت قلت أجل لا(1)
اتقي اللّه و اقبلي العذر منّي *** و تجافي عن بعض ما كان زلاّ
لا تصدّي فتقتليني ظلما *** ليس قتل المحبّ للحبّ حلاّ
ما أكن سؤتكم به فلك العت *** بى لدينا و حقّ ذاك و قلاّ
لم أرحّب بأن سخطت و لكن *** مرحبا أن رضيت عنّا و أهلا
/إنّ شخصا رأيته ليلة البد *** ر عليه انثنى الجمال و حلاّ
جعل اللّه كلّ أنثى فداء *** لك بل خدّها لرجلك نعلا
وجهك البدر لو سألت به المز *** ن من الحسن و الجمال استهلاّ
غنّى معبد في الأبيات الأربعة الأولى خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو، و لابن تيزن(2) في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل عن إسحاق، و لابن سريج في الأوّل و الثاني و الخامس ثقيل أوّل عن الهشاميّ، و للغريض في الخامس إلى الثامن خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو، ولد حمان في التاسع و العاشر و الثالث عشر و الرابع عشر خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو، و لمالك في التاسع إلى آخر الثاني عشر لحن ذكره يونس و لم يجنّسه، و لابن سريج في هذه الأبيات بعينها رمل بالوسطى عن عمرو، و للغريض فيها أيضا خفيف رمل بالبنصر عن ابن المكيّ، و لابن عائشة في الخامس إلى آخر الثامن لحن ذكره حمّاد عن أبيه و لم يذكر طريقته.
/و منها:
غنّي في هذه الأبيات الغريض، و لحنه من الثقيل الأوّل بالوسطى عن الهشاميّ.
و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا عبد اللّه بن محمد قال أخبرني محمد بن سلاّم قال:
كانت سوداء بالمدينة مشغوفة بشعر عمر بن أبي ربيعة، و كانت من مولّدات مكّة، فلما ورد على أهل المدينة نعي عمر بن أبي ربيعة أكبروا ذلك و اشتدّ عليهم، و كانت السوداء أشدّهم حزنا و تسلّبا(1) و جعلت لا تمرّ بسكّة من سكك المدينة إلا ندبته، فلقيها بعض فتيان مكّة، فقال لها: خفّضي عليك، فقد نشأ ابن عمّ له يشبه شعره شعره، فقالت: أنشدني بعضه، فأنشدها قوله:
إني و ما نحروا غداة منى *** عند الجمار تئودها العقل
الأبيات كلّها، قال: فجعلت تمسح عينيها من الدموع و تقول: الحمد للّه الذي لم يضيّع حرمه.
أخبرني اليزيديّ قال حدّثني عمّي (جدّ عبيد اللّه) عن ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:
ناضل(2) سليمان بن عبد الملك بين الحارث و بين رجل من أخواله من بني عبس، فرمى(3) [الحارث بن] خالد فأخطأ و رمى العبسيّ فأصاب، فقال:
أنا نضلت(4) الحارث بن خالد
ثم رمى العبسيّ فأخطأ و رمى الحارث فأصاب، فقال الحارث:
حسبت نضل الحارث بن خالد
و رميا فأخطأ العبسيّ و أصاب الحارث، فقال الحارث:
مشيك بين الزّرب(5) و المرابد(6)
و رميا فأخطأ العبسيّ و أصاب الحارث، فقال الحارث:
و إنك الناقص غير الزائد
فقال سليمان: /أقسمت عليك يا حارث إلاّ كففت عن القول و الرّمي فكفّ.
ص: 238
الأبجر لقب غلب عليه، و اسمه عبيد اللّه بن القاسم بن ضبية(1)، و يكنى أبا طالب، هكذا روى محمد بن عبد اللّه بن مالك عن إسحاق، و روى هارون بن الزيّات عن حمّاد عن أبيه: أن اسمه محمد بن القاسم بن ضبية، و هو مولى لكنانة ثم لبني بكر، و يقال: إنه مولى لبني ليث.
أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن مالك و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه و هارون بن الزّيات قالا(2) حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد عن محمد بن عبد اللّه بن مالك قال:
كنا يوما جلوسا عند إسحاق، فغنّتنا جارية يقال لها «سمحة»:
إنّ العيون التي في طرفها مرض(3) *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فهبت إسحاق أن أسأله لمن الغناء، فقلت لبعض من كان معنا: سله، فسأله فقال له إسحاق: ما كان عهدي بك في شبيبتك لتسألنا عن هذا، فقال: أحببته لمّا أسننت، فقال: لا و لكنّ هذا النّقب عمل هذا اللّص، و ضرب بيده إلى/تلابيبي، فقال له الرجل: صدقت يا أبا محمد، فأقبل عليّ فقال لي: أ لم أقل لك إذا اشتهيت شيئا فسل عنه، أما لأعطينّك فيه ما تعابي(4) به من شئت منهم، أ تدري لمن الشعر؟ فقلت: لجرير، فقال لي: و الغناء للأبجر، و كان مدنيّا منشؤه بمكّة، أو مكيّا منشؤه بالمدينة، أ تدري ما اسمه؟ قلت: لا، قال: اسمه عبيد اللّه بن القاسم بن ضبية، أ تدري ما كنيته؟ قلت: لا، قال: أبو طالب، ثم قال: اذهب فعاي بهذا من شئت منهم فإنك تظفر به.
و قال هارون: حدّثني حمّاد عن أبيه قال: الأبجر اسمه محمد بن القاسم بن ضبية و قال مرّة أخرى:
عبيد اللّه بن القاسم، مولى لبني بكر بن كنانة، و قيل: إنه مولى لبني ليث، يلقّب بالحسحاس.
قال هارون: و حدّثني حماد عن أبيه قال حدّثني عورك اللّهبيّ قال:
ص: 239
لم يكن بمكّة أحد أظرف و لا أسرى و لا أحسن هيئة من الأبجر، كانت حلّته بمائة دينار و فرسه بمائة دينار و مركبه بمائة دينار، و كان يقف بين المأزمين(1) فيرفع صوته فيقف الناس له يركب بعضهم بعضا.
أخبرني عليّ بن عبد العزيز الكاتب عن [عبيد اللّه(2) بن] عبد اللّه بن خرداذبه عن إسحاق، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، قالا(3):
/جلس الأبجر في ليلة اليوم السابع من أيام الحجّ على قريب من التّنعيم(4) فإذا عسكر جرّار قد أقبل في آخر الليل، و فيه دوابّ تجنب و فيها فرس أدهم عليه سرج حليته ذهب فاندفع، فغنّى:
عرفت ديار الحيّ خالية قفرا *** كأن بها لمّا توهمتها سطرا
فلما سمعه من في القباب و المحامل أمسكوا، و صاح صائح: ويحك! أعد الصوت، فقال: لا و اللّه! إلا بالفرس الأدهم بسرجه و لجامه و أربعمائة دينار، فإذا الوليد بن يزيد صاحب/الإبل، فنودي: أين منزلك و من أنت؟ فقال: أنا الأبجر و منزلي على باب زقاق الخرّازين، فغدا عليه رسول الوليد بذلك الفرس و أربعمائة دينار و تخت من ثياب وشى و غير ذلك، ثم أتى به الوليد فأقام عنده، و راح مع(5) أصحابه عشيّة التّروية(6) و هو أحسنهم هيئة، و خرج معه أو بعده إلى الشام.
قال إسحاق: و حدّثني عورك اللّهبيّ أن خروجه كان معه، و ذلك في ولاية محمد بن هشام بن إسماعيل مكّة، و في تلك السنة حجّ الوليد، لأن هشاما أمره بذلك ليهتكه عند أهل الحرم، فيجد السبيل إلى خلعه، فظهر منه أكثر مما أراد به من التّشاغل بالمغنّين و اللهو، و أقبل الأبجر معه حتى قتل الوليد، ثم خرج إلى مصر فمات بها.
عرفت ديار الحيّ خالية قفرا *** كأنّ بها لمّا توهّمتها سطرا
وقفت بها كيما تردّ جوابها *** فما بيّنت لي الدار عن أهلها خبرا
الغناء لأبي عبّاد ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو، و فيه لسياط خفيف رمل بالبنصر.
ص: 240
قال إسحاق: و حدّثت أنّ الأبجر أخذ صوتا من الغريض ليلا ثم دخل في الطواف حين أصبح، فرأى عطاء بن أبي رباح يطوف بالبيت، فقال: يا أبا محمد، اسمع صوتا أخذته في هذه الليلة من الغريض؛ قال له: ويحك! أ في هذا الموضع! فقال: كفرت بربّ هذا البيت لئن لم تسمعه منّي سرّا لأجهرنّ به؛ فقال: هاته، فغنّاه:
صوت(1)
عوجي علينا ربّة الهودج *** إنّك إلاّ تفعلي تحرجي(2)
إنّي أتيحت لي يمانية *** إحدى بني الحارث من مذحج
نلبث حولا كاملا كلّه *** لا نلتقي إلا على منهج
في الحجّ إن حجّت و ما ذا منى *** و أهله إن هي لم تحجج
فقال له عطاء: الخير الكثير و اللّه في منى و أهله حجّت أو لم تحجّ، فاذهب الآن. و قد مرّت نسبة هذا الصوت و خبره في أخبار العرجيّ و الغريض.
قال إسحاق: و ذكر عمرو بن الحارث عن عبد اللّه(3) بن عبيد بن عمير قال: ختن عطاء بن أبي رباح بنيه أو بني أخيه، فكان الأبجر يختلف إليهم ثلاثة أيام يغنّي لهم.
قال هارون بن محمد حدّثني حمّاد بن إسحاق قال نسخت من كتاب ابن أبي نجيح(4) بخطّه: حدّثني غرير بن طلحة الأرقميّ عن يحيى بن عمران عن عمر بن حفص بن أبي كلاب قال:
كان الأبجر مولانا و كان مكّيّا، فكان إذا قدم المدينة نزل علينا، فقال لنا يوما: أسمعوني غناء ابن عائشتكم هذا، فأرسلنا فيه فجمعنا بينهما في بيت ابن هبّار فتغنّى ابن عائشة، فقال الأبجر: كلّ مملوك لي حرّ إن تغنّيت معك إلاّ بنصف صوتي، ثم أدخل إصبعه في شدقه فتغنّى، فسمع صوته من في السّوق فحشر الناس علينا، فلم يفترقا حتى تشاتما؛ قال: و كان ابن عائشة حديدا(5) جاهلا.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال و حدّثني ابن أبي سعد قال حدّثني القطرانيّ المغنّي عن محمد/بن جبر عن إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني ابن أشعب عن أبيه قال:
ص: 241
دعي ذات يوم المغنّون للوليد بن يزيد، و كنت نازلا معهم، فقلت للرسول: خذني فيهم؛ قال: لم أومر بذلك و إنما أمرت بإحضار المغنّين و أنت بطّال(1) لا تدخل في جملتهم؛ فقلت: أنا و اللّه أحسن غناء منهم، ثم اندفعت فغنّيته؛ فقال: لقد سمعت حسنا و لكنّي أخاف؛ فقلت: لا خوف عليك، و لك مع هذا شرط، قال: و ما هو؟ /قلت: كلّ ما أصبته فلك شطره؛ فقال للجماعة: اشهدوا عليه، فشهدوا، و مضينا فدخلنا على الوليد و هو لقس(2)النفس، فغنّاه المغنّون في كل فنّ من خفيف و ثقيل، فلم يتحرّك و لا نشط، فقام الأبجر إلى الخلاء، و كان خبيثا داهيا، فسأل الخادم عن خبره، و بأيّ سبب هو خاثر(3)؟ فقال: بينه و بين امرأته شرّ، لأنه عشق أختها فغضبت عليه فهو إلى أختها أميل، و قد عزم على طلاقها و حلف لها ألاّ يذكرها أبدا بمراسلة و لا مخاطبة، و خرج على هذا الحال من عندها؛ فعاد الأبجر إلينا و ما حلس حتى اندفع فغنّى:
فبيني فإنّي لا أبالي و أيقني *** أ صعّد باقي حبّكم أم تصوّبا
أ لم تعلمي أنّي عزوف عن الهوى *** إذا صاحبي من غير شيء تغضّبا
فطرب الوليد و ارتاح و قال: أصبت يا عبيد و اللّه ما في نفسي، و أمر له بعشرة آلاف درهم و شرب حتى سكر، و لم يحظ بشيء أحد سوى الأبجر، فلما أيقنت بانقضاء المجلس و ثبت فقلت: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تأمر من يضربني مائة الساعة بحضرتك! فضحك و قال: قبّحك اللّه! و ما السبب في ذلك؟ فأخبرته بقصتي مع الرسول و قلت:
إنه بدأني من المكروه في أوّل يومه بما اتصل عليّ إلى آخره، فأريد أن أضرب مائة و يضرب بعدي مثلها، فقال له:
لقد لطفت، أعطوه مائة دينار و أعطوا الرسول خمسين دينارا من مالنا عوضا عن الخمسين التي أراد أن يأخذها؛ فقبضتها و ما حظي أحد بشيء غيري و غير الرسول. و الشعر الذي غنّى فيه الأبجر الوليد بن يزيد لعبد الرحمن بن الحكم أخي مروان بن الحكم، و الغناء للأبجر ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لغيره عدّة ألحان نسبت.
حمزة المبتاع بالمال الثّنا *** و يرى في بيعه أن قد غبن
فهو إن أعطى عطاء فاضلا *** ذا إخاء لم يكدّره بمنّ
و إذا ما سنة مجدبة *** برت الناس كبري بالسّفن(4)
ص: 242
كان للناس ربيعا مغدقا *** ساقط الأكناف إن راح أرجحنّ(1)
نور شرق بيّن في وجهه *** لم يصب أثوابه لون الدّرن
عروضه من الرمل. الشعر لموسى شهوات. و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.
ص: 243
هو موسى بن يسار(1) مولى قريش، و يختلف في ولائه فيقال: إنه مولى بني سهم، و يقال: مولى بني تيم بن مرّة، و يقال: مولى بني عديّ بن كعب؛ و يكنى أبا محمد، و شهوات لقب غلب عليه.
و حدّثني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:
إنما لقّب موسى شهوات لأنه كان سئولا ملحفا، فكان كلّما رأى مع أحد شيئا يعجبه من مال أو متاع أو ثوب أو فرس(2)، تباكى، فإذا قيل له: ما لك؟ قال: أشتهي هذا؛ فسمّي موسى شهوات. قال: و ذكر آخرون أنه كان من أهل أذربيجان و أنه نشأ بالمدينة و كان يجلب إليه القند(3) و السكّر، فقالت له امرأة من أهله: ما يزال موسى يجيئنا بالشهوات؛ فغلبت عليه.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:
كان محمد بن يحيى يقول: موسى شهوات مولى بني عديّ بن كعب، و ليس ذاك بصحيح، هو مولى تيم بن مرّة. و ذكر عبد اللّه بن شبيب عن الحزاميّ: أنه مولى بني سهم.
/و أخبرني وكيع عن أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب و محمد بن سلاّم قال: موسى شهوات مولى بني سهم.
و أخبرني محمد بن الحسن(4) بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال:
هوي موسى شهوات جارية بالمدينة فاستهيم بها و ساوم مولاها فيها فاستام(5) بها عشرة آلاف درهم، فجمع كلّ ما يملكه و استماح إخوانه فبلغ أربعة آلاف درهم، فأتى إلى سعيد بن خالد العثمانيّ فأخبره بحاله و استعان به، و كان صديقه و أوثق الناس عنده، فدافعه(6) و اعتلّ عليه فخرج من عنده؛ فلما ولّى تمثّل سعيد قول الشاعر:
كتبت إليّ تستهدي الجواري *** لقد أنعظت من بلد بعيد
ص: 244
فأتى سعيد بن خالد بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد فأخبره بقصّته فأمر له بستة آلاف درهم، فلما قبضها و نهض قال له: اجلس، إذا ابتعتها بهذا المال و قد أنفدت كلّ ما تملك فبأيّ حال تعيشان! ثم دفع إليه ألفي درهم و كسوة و طيبا، و قال: أصلح بهذا شأنكما؛ فقال فيه:
أبا خالد أعني سعيد بن خالد *** أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد
و لكنّني أعني ابن عائشة الذي *** أبو أبويه خالد بن أسيد
عقيد(1) الندى ما عاش يرضى به النّدى *** فإن مات لم يرض النّدى بعقيد
دعوه دعوه إنكم قد رقدتم *** و ما هو عن أحسابكم برقود
قتلت أناسا هكذا في جلودهم *** من الغيظ لم تقتلهم بحديد
قال: فشكاه العثمانيّ إلى سليمان بن عبد الملك، فأحصر موسى و قال له: يا عاضّ كذا و كذا، أ تهجو سعيد بن خالد! فقال: و اللّه يا أمير المؤمنين ما هجوته و لكنّي مدحت ابن عمّه فغضب هو، ثم أخبره بالقصّة؛ فقال للعثمانيّ: قد صدق، إنما نسب من مدحه إلى أبيه ليعرف. قال: و كان سليمان إذا نظر إلى سعيد بن خالد بن عبد اللّه يقول: لعمري و اللّه ما أنت عن أحسابنا برقود.
و أخبرني محمد بن عبد اللّه اليزيديّ قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ/قال حدّثنا مصعب بن عبد اللّه بهذا الحديث فذكر نحو ما ذكره أبو عبيدة و قال فيه:
و كان سعيد بن خالد هذا تأخذه الموتة(2) في كلّ سنة، فأرادوا علاجه، فتكلّمت صاحبته على لسانه و قالت:
أنا كريمة بنت ملحان سيّد الجنّ، و إن عالجتموه قتلتموه، فو اللّه لو وجدت أكرم منه لهويته.
أخبرني وكيع عن أبي حمزة أنس بن خالد الأنصاريّ عن قبيصة بن عمر بن حفص المهلّبيّ عن أبي عبيدة قال حدّثني الحارث بن سليمان الهجيميّ(3)، - و هو أبو خالد بن الحارث المحدّث - قال: و كان عنده رؤبة بن العجّاج، قال:
شهدت مجلس أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك و أتاه سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفّان، فقال:
يا أمير المؤمنين، أتيتك مستعديا، قال: و من بك؟ قال: موسى شهوات، قال: و ما له؟ قال: سمّع(4) بي و استطال في عرضي، فقال: يا غلام، /عليّ بموسى فأتني به فأتي به، فقال: ويلك! أ سمعت به و استطلت في عرضه؟ قال:
ما فعلت يا أمير المؤمنين و لكنّي مدحت ابن عمّه فغضب هو، قال: و كيف ذلك؟ قال: علقت جارية لم يبلغ ثمنها
ص: 245
جدتي(1)، فأتيته و هو صديقي فشكوت إليه ذلك، فلم أصب عنده شيئا، فأتيت ابن عمّه سعيد بن خالد بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد فشكوت إليه ما شكوته إلى هذا، فقال: تعود إليّ، فتركته ثلاثا ثم أتيته فسهّل من إذني، فلما استقرّ بي المجلس قال: يا غلام، قل لقيّمتي: هاتي وديعتي، ففتح بابا بين بيتين و إذا بجارية، فقال لي: أ هذه بغيتك(2)؟ قلت: نعم فداك أبي و أمّي! قال: اجلس ثم قال: يا غلام، قل لقيّمتي: هاتي ظبية(3) نفقتي، فأتي بظبية فنثرت بين يديه فإذا فيها مائة دينار ليس فيها غيرها فردّت في الظّبية، ثم قال: عتيدة(4) طيبي، فأتي بها، فقال:
ملحفة(5) فراشي، فأتي بها، فصيّر ما في الظبية و ما في العتيدة في حواشي الملحفة، ثم قال: شأنك بهواك و استعن بهذا عليه؛ فقال له سليمان بن عبد الملك: فذلك حين تقول ما ذا؟ قال: قلت:
أنا خالد أعني سعيد بن خالد *** أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد
و لكنني أعني ابن عائشة الذي *** أبو أبويه خالد بن أسيد
عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى *** فإن مات لم يرض الندى بعقيد
دعوه دعوه إنكم قد رقدتم *** و ما هو عن أحسابكم برقود
فقال سليمان: عليّ يا غلام بسعيد بن خالد، فأتي به، فقال: أحقّ ما وصفك به موسى؟ قال: و ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ فأعاد عليه، فقال: قد كان ذلك/يا أمير المؤمنين، قال: فما طوّقتك هذه الأفعال؟ قال: دين ثلاثين ألف دينار؛ فقال له: قد أمرت لك بمثلها و بمثلها و بمثلها و بثلث مثلها، فحملت إليه مائة ألف دينار؛ قال:
فلقيت سعيد بن خالد بعد ذلك فقلت له: ما فعل المال الذي وصلك به سليمان؟ قال: ما أصبحت و اللّه أملك منه إلا خمسين دينارا؛ قلت: ما اغتاله؟ قال: خلّة(6) من صديق أو فاقة من ذي رحم.
أخبرني وكيع قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب الزبيريّ و محمد بن سلاّم قال:
عشق موسى شهوات جارية(7) بالمدينة فأعطى بها عشرة آلاف درهم؛ ثم ذكر باقي الحديث مثل حديث سليمان بن أبي شيخ؛ و قال/و فيه: أما و اللّه لئن مدحته و هو سميّك و أبوه سمي أبيك و لم أفرّق بينكما ليقولن للناس:
أ هذا أم هذا، و لكن و اللّه لأقولنّ قولا لا يشكّ فيه. و تمام هذه الأبيات التي مدح بها سعيدا بعد الأربعة المذكورة منها:
فدى للكريم العبشميّ ابن خالد *** بنيّ و ما لي طارفي و تليدي
على وجهه تلقى الأيامن و اسمه *** و كلّ جواري طيره بسعود
ص: 246
أبان و ما استغنى عن الثّدي خيره *** أبان به في المهد قبل قعود
دعوه دعوه إنكم قد رقدتم *** و ما هو عن أحسابكم برقود
ترى الجند و الجنّاب(1) يغشون بابه *** بحاجاتهم من سيّد و مسود
فيعطي و لا يعطى و يغشى و يجتدى *** و ما بابه للمجتدي بسديد
/قتلت أناسا هكذا في جلودهم *** من الغيظ لم تقتلهم بحديد
يعيشون ما عاشوا بغيظ و إن تحن *** مناياهم يوما تحن بحقود
فقل لبغاة العرف قد مات خالد *** و مات الندى إلا فضول سعيد
قال وكيع في خبره: أمّا قوله: «لا أعني ابن بنت سعيد» فإنّ أمّ سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان آمنة بنت سعيد بن العاصي، و عائشة أمّ عقيد الندى بنت عبد اللّه بن خلف الخزاعيّة أخت طلحة الطّلحات، و أمّها صفيّة بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار بن قصيّ، و أمّ أبي(2) عقيد الندى رملة بنت معاوية بن أبي سفيان.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال:
لما أنشد موسى شهوات سليمان بن عبد الملك شعره في سعيد بن خالد قال له: اتّفق اسماهما و اسما أبويهما، فتخوّفت أن يذهب شعري باطلا ففرّقت بينهما بأمّهما، فأغضبه أن مدحت ابن عمّه، فقال له سليمان: بلى و اللّه لقد هجوته و ما خفي عليّ و لكني لا أجد إليك سبيلا، فأطلقه.
أخبرني وكيع قال حدّثني أحمد بن زهير قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال حدّثنا محمد بن مسلمة الثقفيّ قال:
قال موسى شهوات لمعبد: أ أمدح حمزة بن عبد اللّه بن الزبير بأبيات و تغنّي فيها و يكون ما يعطينا بيني و بينك؟ قال: نعم؛ فقال موسى:
/
حمزة المبتاع بالمال الثّنا *** و يرى في بيعه أن قد غبن
فهو إن أعطى عطاء فاضلا *** ذا إخاء لم يكدّره بمنّ
و إذا ما سنة مجحفة *** برت الناس كبري بالسّفن
حسرت(3) عنه نقيّا عرضه *** ذا بلاء عند مخناها(4) حسن
نور صدق بين في وجهه *** لم يدنّس ثوبه لون الدّرن
كنت للناس ربيعا مغدقا *** ساقط الأكناف إن راح ارجحنّ
ص: 247
قال أحمد بن زهير: و أوّل هذه القصيدة عن غير ابن سلاّم:
شاقني اليوم حبيب قد ظعن *** ففؤادي مستهام مرتهن
/إنّ هندا تيمتني حقبة *** ثم بانت و هي للنفس شجن
فتنة ألحقها اللّه بنا *** عائذ باللّه من شرّ الفتن
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرني الطّلحي قال أخبرني عبد الرحمن بن حمّاد عن عمران بن موسى بن طلحة قال:
لما زفّت فاطمة بنت الحسين رضوان اللّه عليه إلى عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفّان، عارضها(1) موسى شهوات:
طلحة الخير جدّكم *** و لخير الفواطم
أنت للطاهرات من *** فرع تيم و هاشم
أرتجيكم لنفعكم *** و لدفع المظالم
فأمر له بكسوة و دنانير و طيب.
قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العنزيّ عن العتبيّ قال:
كانت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تحت عمر بن عبد العزيز، فلما مات عنها تزوّجها داود بن سليمان بن مروان و كان قبيح الوجه، فقال في ذلك موسى شهوات:
أبعد الأغرّ ابن عبد العزيز *** قريع(2) قريش إذا يذكر
تزوّجت داود مختارة *** ألا ذلك الخلف الأعور(3)
فكانت إذا سخطت عليه تقول: صدق و اللّه موسى، إنك لأنت الخلف الأعور، فيشتمه داود.
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن لقيط قال:
أقام موسى شهوات ليزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية على بابه بدمشق، و كان فتى جوادا سمحا، فلما ركب وثب إليه فأخذ بعنان دابّته، ثم قال:
قم فصوّت إذا أتيت دمشقا: *** يا يزيد بن خالد بن يزيد
ص: 248
يا يزيد بن خالد إن تجبني *** يلقني طائري بنجم السّعود
فأمر له بخمسة آلاف درهم و كسوة، و قال له: كلما شئت فنادنا نجبك.
أخبرنا وكيع قال حدّثني أحمد بن زهير قال حدّثنا مصعب الزّبيريّ قال:
زوّج موسى شهوات بنت مولى لمعن بن عبد الرحمن بن عوف يقال له: داود بن أبي حميدة، فلما جليت(1)عليه قال داود: ما للجلوة؟ فأنشأ يقول:
/
تقول لي النساء غداة تجلى *** حميدة يا فتى للجلاء
فقلت لهم سمرقند(2) و بلخ(3)*** و ما بالصين من نعم(4) و شاء(5)
أبوها حاتم إن سيل خيرا *** و ليث كريهة عند اللقاء
أخبرني وكيع قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا مصعب قال:
قضى أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب على موسى شهوات بقضيّة، و كان خالد بن عبد الملك(6) استقضاه في أيام هشام بن عبد الملك، فقال موسى يهجوه:
وجدتك فهّا(7) في القضاء مخلّطا(8) *** فقدتك من قاض و من متأمّر
/فدع عنك ما شيدته ذات رخة(9) *** أذى الناس لا تحشرهم كلّ محشر
ثم ولي القضاء سعيد بن سليمان بن زيد(10) بن ثابت الأنصاريّ، فقال يمدحه:
من سرّه الحكم صرفا لا مزاج له *** من القضاة و عدل غير مغموز
فليأت دار سعيد الخير إنّ بها *** أمضى على الحقّ من سيف ابن جرموز(11)
ص: 249
قال: و كان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قد ولي المدينة و اشتدّ على السفهاء و الشعراء و المغنّين، و لحق موسى شهوات بعض ذلك منه، و كان قبيح الوجه، فقال موسى يهجوه:
/
قل لسعد وجه العجوز لقد كن *** ت لما قد(1) أوتيت سعدا مخيلا(2)
إن تكن ظالما جهولا فقد كا *** ن أبوك الأدنى ظلوما جهولا
و قال يهجوه:
لعن اللّه و العباد ثطيط(3) ال *** وجه لا يرتجى قبيح(4) الجوار
يتّقي الناس فحشه و أذاه *** مثل ما يتّقون بول الحمار
لا تغرّنك سجدة بين عيني *** ه حذار(5) منها و منه حذار
إنها سجدة بها يخدع النا *** س، عليها من سجدة بالدّبار(6)
أخبرني عمّي قال أخبرني ثعلب عن عبد اللّه بن شبيب قال:
ذكر الحزاميّ(7) أنّ موسى شهوات سأل بعض آل الزبير حاجة فدفعه عنها، و بلغ ذلك عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، فبعث إليه بما كان التمسه من الزّبيريّ من غير مسألة؛ فوقف عليه موسى و هو جالس في المسجد، ثم أنشأ يقول:
ليس فيما بدا لنا منك عيب *** عابه الناس غير أنك فاني
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى *** غير أن لا بقاء للإنسان
/و الشعر المذكور فيه الغناء، يقوله موسى شهوات في حمزة بن عبد اللّه بن الزبير، و كان فتى كريما جوادا على هوج كان فيه، و ولاّه أبوه العراقين و عزل مصعبا لمّا تزوّج سكينة بنت الحسين رضي اللّه عنه و عائشة بنت طلحة و أمهر كلّ واحدة منهما ألف ألف درهم.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ عن مصعب الزبيريّ، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرني عبيد اللّه بن محمد الرّازي و الحسين بن علي: قال عبيد اللّه حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ، و قال الحسين حدّثنا الحارث بن أبي أسامة عن المدائنيّ عن أبي محنف:
ص: 250
أن أنس بن زنيم اللّيثيّ كتب إلى عبد اللّه بن الزّبير:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة *** من ناصح لك لا يريك خداعا
بضع(1) الفتاة بألف ألف كامل *** و تبيت قادات الجيوش جياعا
لو لأبي(2) حفص أقول مقالتي *** و أبثّ ما أبثثتكم لارتاعا
/فلما وصلت الأبيات إليه جزع ثم قال: صدق و اللّه، لو لأبي حفص يقول: إنّ مصعبا تزوج امرأتين بألفي ألف درهم لارتاع، إنّا بعثنا مصعبا إلى العراق فأغمد سيفه و سلّ أيره و سنعزله، فدعا بابنه حمزة، و أمّه بنت منظور بن زبّان الفزاريّ و كان لها منه محلّ لطيف، فولاّه البصرة و عزل مصعبا. فبلغ قوله عبد الملك في أخيه مصعب، فقال:
لكنّ أبا خبيب أغمد سيفه و أيره و خيره.
و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبة قال: هذه الأبيات لعبد اللّه بن همّام(3)السّلوليّ.
قالوا جميعا: فلما ولي ابنه حمزة البصرة أساء السّيرة و خلّط تخليطا شديدا، و كان جوادا شجاعا أهوج، فوفدت إلى أبيه الوفود في أمره، و كتب إليه الأحنف بأمره و ما ينكره الناس منه و أنه يخشى أن تفسد عليه طاعتهم؛ فعزله عن البصرة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا المدائنيّ قال:
لما قدم حمزة بن عبد اللّه البصرة واليا عليها، و كان جوادا شجاعا مخلّطا: يجود أحيانا حتى لا يدع شيئا يملكه إلا وهبه و يمنع أحيانا ما لا يمنع من مثله، فظهرت منه بالبصرة خفّة و ضعف. و ركب يوما إلى فيض(4) البصرة، فلما رآه قال: إنّ هذا الغدير إن رفقوا به ليكفينّهم صيفتهم هذه، فلما كان بعد ذلك ركب إليه فوافقه جازرا(5)فقال: قد رأيته ذات يوم فظننت أن لن يكفيهم؛ فقال له الأحنف: إنّ هذا ماء يأتينا ثم يغيض عنّا ثم يعود. و شخص إلى الأهواز فرأى جبلها، فقال: هذا قعيقعان - و قعيقعان: جبل بمكّة - فلقّب ذلك الجبل بقعيقعان.
قال أبو زيد: و حدّثني غير المدائنيّ أنه سمع بذكر الجبل بالبصرة، فدعا بعامله فقال له: ابعث فأتنا بخراج الجبل؛ فقال له: إن الجبل ليس ببلد فآتيك بخراجه. و بعث إلى مردانشاه فاستحثّه بالخراج فأبطأ به، فقام إليه بسيفه فقتله؛ فقال له/الأحنف: ما أحدّ سيفك أيّها الأمير! و همّ بعبد العزيز بن شبيب(6) بن خيّاط أن يضربه بالسّياط؛
ص: 251
فكتب(1) إلى ابن الزبير بذلك و قال له: إذا كانت لك بالبصرة حاجة فاصرف ابنك عنها و أعد إليها مصعبا؛ ففعل ذلك. و قال بعض الشعراء يهجو حمزة و يعيبه بقوله في أمر الماء الذي رآه قد جزر:
يا بن الزّبير بعثت حمزة عاملا *** يا ليت حمزة كان خلف عمان
أزرى بدجلة حين عبّ عبابها *** و تقاذفت بزواخر الطّوفان
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة قال:
خطب النّوار ابنة أعين المجاشعيّة رجل من قومها، فجعلت أمرها إلى الفرزدق، و كان ابن عمها دنية(2)، ليزوّجها منه، فأشهد عليها بذلك و بأنّ أمرها إليه شهودا عدولا؛ فلما أشهدتهم على نفسها قال لهم الفرزدق: فإني أشهدكم أنّي قد تزوّجتها، فمنعته النّوار نفسها و خرجت إلى الحجاز إلى عبد اللّه بن الزّبير، فاستجارت بامرأته بنت منظور بن زبّان، و خرج الفرزدق فعاذ بابنه حمزة، و قال يمدحه:
يا حمز هل لك في ذي حاجة، غرضت(3) *** أنضاؤه بمكان(4) غير ممطور
/فأنت أولى قريش أن تكون لها *** و أنت بين أبي بكر و منظور
/فجعل أمر النّوار يقوى و أمر الفرزدق يضعف؛ فقال الفرزدق في ذلك:
أمّا بنوه فلم تنفع شفاعتهم *** و شفّعت بنت منظور بن زبّانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا(5) *** مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
فبلغ ابن الزّبير شعره، و لقيه على باب المسجد و هو خارج منه فضغط حلقه حتى كاد يقتله، ثم خلاّه و قال:
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا(6) *** و لو رضيت رمح(7) استه لاستقرّت
ثم دخل إلى النّوار فقال لها: إن شئت فرّقت بينك و بينه ثم ضربت عنقه فلا يهجونا أبدا، و إن شئت أمضيت نكاحه فهو ابن عمّك و أقرب الناس إليك، و كانت امرأة صالحة، فقالت: أ و ما غير هذا؟ قال: لا؛ قالت: ما أحبّ أن يقتل و لكني أمضي أمره فلعلّ اللّه أن يجعل في كرهي إيّاه خيرا؛ فمضت إليه و خرجت معه إلى البصرة.
أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الزّبيريّ:
أن حمزة بن عبد اللّه كان جوادا، فدخل إليه معبد يوما و قد أرسله ابن قطن مولاه يقترض له من حمزة ألف
ص: 252
دينار فأعطاه ألف الدينار، فلما خرج من عنده قيل له: هذا عبد ابن قطن و هو يروي فيك شعر موسى شهوات فيحسن/روايته، فأمر بردّه فردّ، و قال له ما حكاه القوم عنه، فغنّاه معبد الصوت فأعطاه أربعين دينارا؛ و لما كان بعد ذلك ردّ ابن قطن عليه المال فلم يقبله، و قال له: إنه إذا خرج عنّي مال لم يعد إلى ملكي. و قد روي أنّ الداخل على حمزة و المخاطب في أمره بهذه المخاطبة(1) ابن سريج، و ليس ذلك بثبت، هذا هو الصحيح، و الغناء لمعبد.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة عن محمد بن يحيى الغسّانيّ:
أن موسى شهوات أملق، فقال لمعبد: قد قلت في حمزة بن عبد اللّه شعرا فغنّ فيه حتى يكون أجزل لصلتنا؛ ففعل ذلك معبد و غنّى في هذه الأبيات، ثم دخلا على حمزة فأنشده إيّاها موسى ثم غنّاه فيها معبد، فأمر لكل واحد منهما بمائتي دينار.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عبد اللّه عن عبد اللّه بن عيّاش قال:
كان موسى شهوات مولى لسليمان بن أبي خيثمة بن حذيفة العدويّ، و كان شاعرا من شعراء أهل الحجاز، و كان الخلفاء من بني أميّة يحسنون إليه و يدرّون عطاءه و تجيئه صلاتهم إلى الحجاز.
و كانت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تحت عمر بن عبد العزيز، فلما مات عنها تزوّجها داود بن سليمان بن مروان و كان دميما قبيحا، فقال موسى شهوات في ذلك:
أبعد الأغرّ ابن عبد العزيز *** قريع قريش إذا يذكر
تزوّجت داود مختارة *** ألا ذلك الخلف الأعور
فغلب عليه ذلك في بني مروان، فكان يقال له: الخلف الأعور.
بالربع من ودّان مبدا(1) لنا *** و محورا ناهيك من محور
في محضر كنّا به نلتقي *** يا حبّذا ذلك من محضر
إذ نحن و الحيّ به جيرة *** فيما مضى من سالف الأعصر
الشعر للوليد بن يزيد، و قيل: إنه لعمر بن أبي ربيعة، و قيل: إنه للعرجيّ، و هو للوليد صحيح، و الغناء و اللحن المختار لابن سريج خفيف رمل بالبنصر في مجراها، و فيه لشارية(2) خفيف رمل آخر عن ابن المعتزّ، و ذكر الهشاميّ أنّ فيه لحكم الواديّ خفيف رمل أيضا.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائنيّ قال:
كان زيد بن عمرو بن عثمان قد تزوّج سكينة بنت الحسين رضي اللّه تعالى عنه، فعتب عليها يوما، فخرج إلى مال له، فذكر أشعب أن سكينة دعته فقالت/له: إن ابن عثمان خرج عاتبا عليّ فاعلم لي حاله، قلت: لا أستطيع أن أذهب إليه الساعة، فقالت: أنا أعطيك ثلاثين دينارا، فأعطتني إياها فأتيته ليلا دخلت الدار، فقال: انظروا من في الدار، فأتوه فقالوا: أشعب، فنزل عن فرشه و صار إلى الأرض فقال: أ شعيب(3)؟ قلت: نعم، قال: ما جاء بك؟ قلت: أرسلتني سكينة لأعلم خبرك، أ تذكّرت منها ما تذكّرت منك؟ و أنا أعلم أنك قد فعلت حين نزلت عن فرشك و صرت إلى الأرض، قال: دعني من هذا و غنّني:
عوجا به فاستنطقاه فقد *** ذكّرني ما كنت لم أذكر
فغنّيته فلم يطرب، ثم قال: غنّني ويحك غير هذا، فإن أصبت ما في نفسي فلك حلّتي هذه و قد اشتريتها آنفا بثلاثمائة دينار، فغنّيته:
علق القلب بعض ما قد شجاه *** من حبيب أمسى هوانا هواه
ما ضراري نفسي بهجران(4) من لي *** س مسيئا و لا بعيدا نواه
و اجتنابي بيت الحبيب و ما الخل *** د بأشهى إليّ من أن أراه
فقال: ما عدوت ما في نفسي، خذ الحلّة، فأخذتها و رجعت إلى سكينة فقصصت عليها القصّة، فقالت: و أين الحلّة؟ قلت: معي، فقالت: و أنت الآن تريد أن تلبس حلّة ابن عثمان! لا و اللّه و لا كرامة! فقلت: قد أعطانيها، فأي شيء تريدين منّي! فقالت: أنا أشتريها منك، فبعتها إياها بثلاثمائة دينار.
ص: 254
/الشعر المذكور في هذا الخبر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء للدارمي خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى، و ذكر عمرو بن بانة أنه للهذليّ، و فيه لابن جامع ثاني/ثقيل بالوسطى.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه أن رجلا كانت له جارية يهواها و تهواه فغاضبها يوما و تمادى ذلك بينهما، و اتّفق أنّ مغنية دخلت فغنتهما:
ما ضراري نفسي بهجران من لي *** س مسيئا و لا بعيدا نواه
فقالت الجارية: لا شيء و اللّه إلا الحمق، ثم قامت إلى مولاها فقبّلت رأسه و اصطلحا.
يا ويح نفسي لو أنه أقصر(1) *** ما كان عيشي كما أرى أكدر
يا من عذيري ممن كلفت به *** يشهد قلبي بأنه يسحر
يا ربّ يوم رأيتني مرحا *** آخذ في اللهو مسبل المئزر
بين ندامى تحثّ كأسهم *** عليهم كفّ شادن(2) أحور
الشعر لأبي العتاهية و الغناء لفريدة خفيف رمل بالبنصر.
إلى هنا انتهى الجزء الثالث من كتاب الأغاني و يليه إن شاء اللّه تعالى الجزء الرابع منه، و أوّله:
ذكر نسب أبي العتاهية و أخباره سوى ما كان منها مع عتبة
ص: 255
ص: 256
الموضوع الصفحة
ذكر قيس بن الخطيم و أخباره و نسبه 5
ذكر طويس و أخباره 21
ذكر الدارميّ و خبره و نسبه 33
أخبار هلال و نسبه 38
أخبار عروة بن الورد و نسبه 52
ذكر ذي الإصبع العداونيّ و نسبه و خبره 63
ذكر قيل مولى العبلات 78
خبر غريض اليهوديّ 82
ذكر ورقة بن نوفل و نسبه 84
خبر زيد بن عمرو و نسبه 87
أخبار ابن صاحب الوضوء و نسبه 93
أخبار بشار بن برد و نسبه 91
أخبار يزيد حوراء 171
أخبار عكاشة العميّ و نسبه 175
أخبار عبد الرحيم الدفاف و نسبه 182
أخبار الحادرة الثعلبي و نسبه 184
أخبار ابن مسجح و نسبه 188
أخبار ابن المولى و نسبه 195
أخبار عطرّد و نسبه 208
أخبار الحارث بن خالد المخزوميّ و نسبه 213
أخبار الأبجر و نسبه 235
أخبار موسى شهوات و نسبه 240
فهرس الموضوعات 257
ص: 257