الأغاني
المؤلفين الآخرين
مدقق لغوي ومترجم:
مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربي
المجلدات : 25ج
لسان: العربية
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374
إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
نصيب مولى المهديّ؛ عبد نشأ باليمامة، و اشترى للمهديّ في حياة المنصور، فلما سمع شعره قال: و اللّه ما هو بدون نصيب مولى بني مروان، فأعتقه، و زوّجه أمة له يقال لها: جعفرة. و كناه أبا الحجناء، و أقطعه ضيعة بالسواد، و عمّر بعده.
و هذه القصيدة يمدح بها هارون الرشيد، و هي من جيّد شعره و فيها يقول:
خليليّ إني ما يزال يشوقني *** قطين الحمى و الظاعن المتحمّل
فأقسمت لا أنسى ليالي منعج *** و لا مأسل إذ منزل الحي مأسل(1)
أ من أجل آيات و رسم كأنه *** بقية وحي أو رداء مسلسل(2)
جرى الدمع من عينيك حتى كأنه *** تحدّر درّ أو جمان مفصّل
فيا أيّها الزنجيّ مالك و الصّبا *** أفق عن طلاب البيض إن كنت تعقل
فمثلك من أحبوشة الزّنج قطّعت *** وسائل أسباب بها يتوسّل(3)
قصدنا أمير المؤمنين و دونه *** مهامه موماة من الأرض مجهل
على أرحبيّات طوى السير فانطوت *** شمائلها مما تحلّ و ترحل(4)
إلى ملك صلت الجبين كأنه *** صفيحة مسنون جلا عنه صيقل(5)
/إذا انبلج البابان و الستر دونه *** بدا مثل ما يبدو الأغرّ المحجّل
شريكان فينا منه عين بصيرة *** كلوء و قلب حافظ ليس يغفل
/فما فات عينيه وعاه بقلبه *** فآخر ما يرعى سواء و أوّل
ص: 5
و ما نازعت فينا أمورك هفوة *** و لا خطلة في الرأي و الرأي يخطل
إذا اشتبهت أعناقه بيّنت له *** معارف في أعجازه و هو مقبل
لئن نال عبد اللّه قبل خلافة *** لأنت من العهد الذي نلت أفضل
و ما زادك العهد الذي نلت بسطة *** و لكن بتقوى اللّه أنت مسربل(1)
ورثت رسول اللّه عضوا و مفصلا *** و ذا من رسول اللّه عضو و مفصل
إذا ما دهتنا من زمان ملمّة *** فليس لنا إلا عليك المعوّل
على ثقة منا تحنّ قلوبنا *** إليك كما كنّا أباك نؤمّل
و هي قصيدة طويلة، هذا مختار من جميعها.
أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد. قال:
حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك، قال: حدّثني أبي، قال:
وجّه المهديّ نصيبا الشاعر مولاه إلى اليمن في شراء إبل مهريّة، و وجّه معه رجلا من الشيعة، و كتب معه إلى عامله على اليمن بعشرين ألف دينار، قال: فمدّ أبو الحجناء يده في الدنانير ينفقها في الأكل و الشرب، و شراء الجواري و التزويج، فكتب الشيعيّ بخبره إلى المهديّ، فكتب المهديّ في حمله موثقا في الحديد.
فلمّا دخل على المهديّ أنشده شعره، و قال:
تأوّبني ثقل من الهمّ موجع *** فأرّق عيني و الخليّون هجّع
هموم توالت لو أطاف يسيرها *** بسلمى لظلّت شمّها تتصدّع
و لكنّها نيطت فناء بحملها *** جهير المنايا حائن النفس مجزع(2)
و عادت بلاد اللّه ظلماء حندسا *** فخلت دجى ظلمائها لا تقشّع
و هي قصيدة طويلة يقول فيها:
إليك أمير المؤمنين و لم أجد *** سواك مجيرا منك يدنى و يمنع
تلمّست هل من شافع لي فلم أجد *** سوى رحمة أعطاكها اللّه تشفع
لئن جلّت الأجرام مني و أفظعت *** لعفوك عن جرمي أجلّ و أوسع
لئن لم تسعني يا ابن عمّ محمد *** لما عجزت عني وسائل أربع
ص: 6
طبعت عليها صبغة ثم لم تزل *** على صالح الأخلاق و الدين تطبع(1)
تغابيك عن ذي الذنب ترجو صلاحه *** و أنت ترى ما كان يأتي و يصنع(2)
و عفوك عمّن لو تكون جريمة *** لطارت به في الجوّ نكباء زعزع(3)
و أنّك لا تنفكّ تنعش عاثرا *** و لم تعترضه حين يكبو و يخمع(4)
و حلمك عن ذي الجهل من بعد ما جرى *** به عنق من طائش الجهل أشنع(5)
ففيهنّ لي إمّا شفعن منافع *** و في الأربع الأولى إليهنّ أفزع
/مناصحتي بالفعل إن كنت نائيا *** إذا كان دان منك بالقول يخدع
/و ثانية ظنّي بك الخير غائبا *** و إن قلت عبد ظاهر الغشّ مسبع(6)
و ثالثة أني على ما هويته *** و إن كثّر الأعداء فيّ و شنّعوا
و رابعة أنّي إليك يسوقني *** ولائي فمولاك الذي لا يضيّع
و إني لمولاك الذي إن جفوته *** أتى مستكينا راهبا يتضرّع
و إني لمولاك الضعيف فأعفني *** فإني لعفو منك أهل و موضع
فقطع المهديّ عليه الإنشاد، ثم قال له: و من أعتقك يا ابن السوداء! فأومأ بيده إلى الهادي، و قال: الأمير موسى يا أمير المؤمنين، فقال المهديّ لموسى: أعتقته يا بنيّ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فأمضى المهديّ ذلك و أمر بحديده، ففكّ عنه، و خلع عليه عدّة من الخلع الوشي و الخزّ و السواد و البياض، و وصله بألفي دينار، و أمر له بجارية يقال لها: جعفرة جميلة فائقة من روقة(7) الرقيق.
فقال له سالم قيّم الرقيق: لا أدفعها إليك أو تعطيني ألف درهم، فقال قصيدته:
أ أذن الحيّ فانصاعوا بترحال *** فهاج بينهم شوقي و بلبالي(8)
و قام بها بين يدي المهديّ فلما قال:
ما زلت تبذل لي الأموال مجتهدا *** حتى لأصبحت ذا أهل و ذا مال
زوّجتني يا ابن خير الناس جارية *** ما كان أمثالها يهدى لأمثالي
ص: 7
زوّجتني بضّة بيضاء ناعمة *** كأنّها درّة في كفّ لآل
/حتى توهّمت أن اللّه عجّلها *** يا ابن الخلائف لي من خير أعمالي
فسألني سالم ألفا فقلت له *** أنّى لي الألف يا قبّحت من سال!
(1 أراد: من سائل، كما قالوا: شاكي السلاح و شائك:(1)
هيهات ألفك إلا أن أجيء بها *** من فضل مولى لطيف المنّ مفضال
فأمر له المهديّ بألف دينار و لسالم بألف درهم.
قال ابن أبي سعد و حدّثني غير محمد بن عبد اللّه: أنه حبس باليمن مدة طويلة، ثم أشخص إلى المهديّ، فقال و هو في الحبس، و دخلت إليه ابنته حجناء، فلما رأت قيوده بكت، فقال:
لقد أصبحت حجناء تبكي لوالد *** بدرّة عين قلّ عنه غناؤها
أ حجناء صبرا، كلّ نفس رهينة *** بموت و مكتوب عليها بلاؤها
أ حجناء أسباب المنايا بمرصد *** فإلاّ يعاجل غدوها فمساؤها
أ حجناء إن أفلت من السجن تلقني *** حتوف منايا لا يردّ قضاؤها
أ حجناء إن أضحى أبوك و دلوه *** تعرّت عرا منها و رثّ رشاؤها(2)
لقد كان يدلى في رجال كثيرة *** فيمتح ملأى و هي صفر دلاؤها
أ حجناء إن يصبح أبوك و نفسه *** قليل تمنّيها قصير عزاؤها(3)
لقد كان في دنيا تفيّأ ظلّها *** عليه و مجلوب إليه بهاؤها
قال ابن أبي سعد: و لما دخل نصيب على المهديّ مقيّدا رفده ثمامة بن الوليد العبسيّ/عنده و استعطفه له، و سوّغ عذره عنده، و لم يزل يرقق به، حتى أمر بإطلاقه، و كان نصيب في متقدّم الأيام منقطعا إلى أخيه شيبة فقال فيه:
أ ثمام إنك قد فككت ثماما *** حلقا برين من النّصيب عظاما
حلقا توسّطها العمود فلزّها *** لو لا ثمامة و الإله لداما(4)
اللّه أنقذني به من هوّة *** تيهاء مهلكة تكون رجاما
ص: 8
فلأشكرنّك يا ثمامة ما جرت *** فرق السحاب كنهورا و ركاما(1)
و لأشكرنّك يا ثمامة ما دعت *** ورق الحمام على الغصون حماما
و خلفت شيبة في المقام و لا أرى *** كمقام شيبة في الرجال مقاما
أغنى إذا التمس الرجال غناءه *** في كلّ نازلة تكون غراما
و أعمّ منفعة و أكرم حائطا *** تهدي إليه تحيّة و سلاما(2)
لا يبعدنّ ابن الوليد فإنه *** قد نال من كل الأمور جساما
لو من سوى رهط النبيّ خليفة *** يدعى لكان خليفة و إماما
قال ابن أبي سعد: و دخل نصيب على ثمامة بعد وفاة أخيه شيبة، و هو يفرّق خيله على الناس، فأمر له بفرس منها؛ فأبى أن يقبله؛ و بكى، ثم قال:
/
يا شيبة الخير إمّا كنت لي شجنا *** آليت بعدك لا أبكى على شجن
أضحت جياد أبي القعقاع مقسمة *** في الأقربين بلا منّ و لا ثمن(3)
ورّثتهم فتعزّوا عنك إذ ورثوا *** و ما ورثتك غير الهم و الحزن
فجعل ثمامة و من عنده حاضر من أهله و إخوانه يبكون.
و شيبة بن الوليد هذا و أخوه من وجوه قواد المهديّ.
و في شيبة يقول أبو محمد اليزيديّ يهجوه، و كان عارضه في شيء من النحو بحضرة المهديّ:
عش بجدّ فلن يضرّك نوك *** إنما عيش من ترى بالجدود
عش بجدّ و كن هبنّقة القي *** سيّ جهلا أو شيبة بن الوليد
أخبرنا بذلك محمد بن العباس اليزيديّ عن عمه عن أبيه.
أخبرني عمي قال: حدّثنا القاسم بن محمد الأنباريّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن بشر البجليّ عن النضر بن طاهر قال:
أتى نصيب مولى المهديّ عبد اللّه بن محمد بن الأشعث، و هو يتقلّد صنعاء للمهديّ، فمدحه، فلم يثبه، و استكساه بردا فلم يكسه، فقال يهجوه:
ص: 9
سأكسوك من صنعاء ما قد كسوتني *** مقطّعة تبقى على قدم الدهر(1)
إذا طويت كانت فضوحك طيّها *** و إن نشرت زادتك خزيا على النّشر(2)
/أغرّك أن بيّضت بيت حمامة *** و قلت: أنا شبعان منتفج الخصر(3)
لقد كنت في سلح سلحت مخافة ال *** حروريّة الشّارين داع إلى الضرّ(4)
و لكنه يأبى بك البهر كلّما *** جريت مع الجاري و ضيق من الصدر(5)الفدم: الغليظ الجافي الأحمق، و في س، ب: «قدما»، الصحيف.(6)
/قال النضر: و كان النّصيب ملعونا، هجّاء، فأهدى للربيع بن عبد اللّه بن الربيع الحارثي فرسا فقبله، ثم ندم خوفا من ثقل الثواب، فجعل يعيب الفرس، و يذكر بطأه و عجزه، فبلغ ذلك النّصيب، فقال:
أعبت جوادنا و رغبت عنه *** و ما فيه لعمرك من معاب
و ما بجوادنا عجز و لكن *** أظنّك قد عجزت عن الثواب
فأجابه الربيع فقال:
رويدك لا تكن عجلا إلينا *** أتاك بما يسوؤك من جواب
وجدت جوادكم فدما بطيئا *** فما لكم لدينا من ثواب(6)
فلما كان بعد أيام رأى النّصيب الفرس تحت الربيع فقال له:
أخذت مشهّرا في كل أرض *** فعجّل يا ربيع مشهرات(7)
يمانية تخيّرها يمان *** منمنمة البيوت مقطّعات
/و جارية أضلّت والديها *** مولّدة و بيضا وافيات
فعجّلها و أنفذها إلينا *** و دعنا من بنات التّرّهات(8)
فأجابه الربيع فقال:
بعثت بمقرف حطم إلينا *** بطيء الحضر ثم تقول: هات(9)
ص: 10
فقال النّصيب:
في سبيل اللّه أودى فرسي *** ثم علّلت بأبيات هزج
كنت أرجو من ربيع فرجا *** فإذا ما عنده لي من فرج
قال: ثم خرج الرّبيع إلى مكة، و قد كان وعد النّصيب جارية، فلم يعطه، و أمر ابنه أن يدفع إليه ألفي درهم ففعل، فقال النّصيب:
ألا أبلغا عنّي الربيع رسالة *** ربيع بني عبد المدان الأكارم
أ عزّت عليك البيض لما أرغتها *** فرغت إلى إعداد بيض الدراهم(1)
أ لم تر أني غير مستطرف الغنى *** حديث و أنّي من ذؤابة هاشم؟(2)
و أنك لم تهبط من الأرض تلعة *** و لا نجوة إلا بعهدي و خاتمي
قال: ثم قدم الربيع فأهدى إلى دفافة بن عبد العزيز العبسيّ طبق تمر، فقال فيه دفافة:
بعثت بتمر في طبيق كأنما *** بعثت بياقوت توقّد كالجمر
فلو أن ما تهدي سنيّا قبلته *** و لكنما أهديت مثلك في القدر
كأنّ الذي أهديت من بعد شقّة *** إلينا من الملقى على ضفّة الجسر
فأجابه الربيع فقال:
سل الناس إما كنت لا بدّ طالبا *** إليهم بألا يحملوك على القدر
فإنك إن تحمل على القدر لا تنل *** يد الدهر من برّ فتيلا و لا بحر
/لقد كنت منّي في غدير و روضة *** و في عسل جمّ و ما شئت من خمر(3)
و ما كنت منّانا و لكن كفرتني *** و أظهرت لي ذمّا فأظهرت من عذري(4)
لعمري لقد أعطيت ما لست أهله *** و لا أهل ما يلقى على ضفّة الجسر
فبلغت أبياتهما نصيبا، فشمت بالربيع، و قال فيه هذه القصيدة:
رضيتكما حرصا و منعا و لم يكن *** يهيجكما إلا الحقير من الأمر
متى يجتمع يوما حريص و مانع *** فليس إلى حمد سبيل و لا أجر
ص: 11
أ حار بن كعب إنّ عبسا تغلغلت *** إلى السير من نجران في طلب التّمر
فكيف ترى عبسا و عبس حريصة *** إذا طمعت في التّمر من ذلك العبر(1)
لقد كنتما في التّمر للّه أنتما *** شبيهين بالملقى على ضفّة الجسر
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد النحويّ، قال:
حدّثت من غير وجه:
/أنّ النّصيب دخل على الفصل بن يحيى بن خالد مسلّما، فوجد عنده جماعة من الشعراء قد امتدحوه، فهم ينشدونه، و يأمر لهم بالجوائز، و لم يكن امتدحه، و لا أعدّ له شيئا. فلما فرغوا - و كان يروى(2) قولا في نفسه - استأذن في الإنشاد، ثم أنشد قصيدته التي أولها قوله:
طرقتك ميّة و المزار شطيب *** و تثيبك الهجران و هي قريب(3)
للّه مية خلّة لو أنّها *** تجزي الوداد بودّها و تثيب
و كأنّ ميّة حين أتلع جيدها *** رشا أغنّ من الظباء ربيب
نصفان ما تحت المؤزّر عاتك *** دعص أغرّ و فوق ذاك قضيب(4)
ما للمنازل لا تكاد تجيب *** أني يجيبك جندل و جبوب(5)
جادتك من سبل الثريا ديمة *** ريّا و من نوء السّماك ذنوب(6)
فلقد عهدت بك الحلال بغبطة *** و الدهر غضّ و الجناب خصيب
إذ للشباب عليّ من ورق الصّبا *** ظلّ و إذ غصن الشباب رطيب
طرب الفؤاد و لات حين تطرّب *** إن الموكّل بالصّبا لطروب
و تقول ميّة ما لمثلك و الصّبا *** و اللون أسود حالك غربيب؟
شاب الغراب و ما أراك تشيب *** و طلابك البيض الحسان عجيب
أ علاقة أسبابهنّ و إنّما *** أفنان رأسك فلفل و زبيب(7)
ص: 12
/
لا تهزئي مني فربّت عائب *** ما لا يعيب الناس و هو معيب
و لقد يصاحبني الكرام و طالما *** يسمو إليّ السيّد المحجوب
و أجرّ من حلل الملوك طرائفا *** منها عليّ عصائب و سبيب(1)
و أسالب الحسناء فضل إزارها *** فأصورها و إزارها مسلوب(2)
و أقول منقوح البديّ كأنّه *** برد تنافسه التّجار قشيب(3)
/يقول فيها في مدح الفضل:
و البرمكيّ إذا تقارب سنّه *** أو باعدته السنّ فهو نجيب(4)
خرق العطاء إذا استهلّ عطاؤه *** لا متبع منّا و لا محسوب
يا آل برمك ما رأينا مثلكم *** ما منكم إلا أغرّ وهوب
و إذا بدا الفضل بن يحيى هبته *** لجلاله إنّ الجليل مهيب(5)
قاد الجياد إلى العدا و كأنها *** رجل الجراد تسوقهنّ جنوب
قبّا تبارى في الأعنّة شزّبا *** تدع الحزون كأنهنّ سهوب(6)
من كل مضطرب العنان كأنه *** ذئب يبادره الفريسة ذيب
تهوي بكلّ مغاور عاداته *** صدق اللقاء فما له تكذيب
/حتى صبحن الطالبيّ بعارض *** فيه المنايا تغتدي و تئوب
خاف ابن عبد اللّه ما خوّفته *** فجفاك ثم أتاك و هو منيب
و لقد رآك الموت إلا أنّه *** بالظنّ يخطئ مرة و يصيب
فرمى إليك بنفسه فنجا بها *** أجل إليه ينتهى مكتوب
فكسوته ثوب الأمان و إنّه *** لا حبله واه و لا مقضوب(7)
شمنا إليك مخيلة لا خلّبا *** في الشّيم إذ بعض البروق خلوب
إنّا على ثقة و ظنّ صادق *** ممّا نؤمّله فليس نخيب
قال: فاستحسنها الفضل، و أمر له بثلاثين ألف درهم، فقبضها، و وثب قائما، و هو يقول:
ص: 13
إني سأمتدح الفضل الذي حنيت *** منّا عليه قلوب البرّ و الضّلع
جاد الربيع الذي كنا نؤمّله *** فكلنا بربيع الفضل مرتبع
كانت تطول بنا في الأرض نجعتنا *** فاليوم عند أبي العباس ننتجع
إن ضاق مذهبنا أو حلّ ساحتنا *** ضنك و أزم فعند الفضل متّسع(1)
ما سلّم اللّه نفس الفضل من تلف *** فما أبالي أقام الناس أم رجعوا
إن يمنعوا ما حوت منا أكفّهم *** فلن يضرّ أبا الحجناء ما منعوا
أو حلّئونا و ذادوا عن حياضهم *** يوم الشروع ففي غدرانك الشّرع(2)
يا ممسكا بعرا الدنيا إذا خشيت *** منها الزلازل و الأمر الذي يقع
/قد ضرّستك الليالي و هي خالية *** و أحكمتك النهى و الأزلم الجذع(3)
فغادرا منك حزنا عن معاسرة *** سهل الجناب يسيرا حين يتّبع(4)
لم يفتلتك نقيرا عن مخادعة *** دهي الرجال و للسؤال تنخدع(5)
فأنت مصطلح بالملك تحمله *** كما أبوك بثقل الملك مضطلع(6)
قال ابن أبي سعد: لما حجّت أم جعفر زبيدة لقيها النّصيب، فترجّل عن فرسه و أنشأ يقول:
سيستبشر البيت الحرام و زمزم *** بأمّ وليّ العهد زين المواسم
/و يعلم من وافى المحصّب أنها *** ستحمل ثقل الغرم عن كل غارم(7)
بنو هاشم زين البرية كلّها *** و أمّ وليّ العهد زين لهاشم
سليلة أملاك تفرّعت الذّرى *** كرام لأبناء الملوك الأكارم
فو اللّه ما ندري: أفضل حديثها *** عليهم به تسمو أم المتقادم
يظنّ الذي أعطته منها رغيبة *** يقصّ عليه الناس أحلام نائم
فأمرت له بعشرة آلاف درهم و فرس، فأعطيه بلا سرج؛ فتلقّاها لما رحلت و قال:
ص: 14
لقد سادت زبيدة كلّ حيّ *** و ميت ما خلا الملك الهماما
تقى و سماحة و خلوص مجد *** إذا الأنساب أخلصت الكراما
/إذا نزلت منازلها قريش *** نزلت الأنف منها و السّناما
بلغت من المفاخر كلّ فخر *** و جاوزت الكلام فلا كلاما
و أعطيت اللّهى لكنّ طرفي *** يريد السّرج منكم و اللّجاما
فأمرت له بسرج و لجام.
قال ابن أبي سعد: خرج المهدي يتنزه بعيسى باذ(1)، و قدم النّصيب، و معه ابنته حجناء، فدخل على المهديّ، و هي معه، فأنشدته قولها فيه:
ربّ عيش و لذة و نعيم *** و بهاء بمشرق الميدان
بسط اللّه فيه أبهى بساط *** من بهار و زاهر الحوذان(2)
ثم من ناضر من العشب الأخ *** ضر يزهو شقائق النّعمان(3)
مدّه اللّه بالتّحاسين حتى *** قصرت دون طوله العينان(4)
حقّقت حافتاه حيث تناهى *** بخيام في العين كالظّلمان
زيّنوا وسطها بطارمة مث *** ل الثريّا يحفّها النّسران(5)
ثم حشو الخيام بيض كأمثا *** ل المها في صرائم الكثبان(6)
/يتجاوبن في غناء شجيّ *** أسعداني يا نخلتي حلوان(7)
فبقصر السلام من سلّم اللّ *** ه و أبقى خليفة الرحمن
ص: 15
و لديه الغزلان بل هنّ أبهى *** عنده من شوادن الغزلان(1)
يا له منظرا و يوم سرور *** شهدت لذّتيه كلّ حصان
فأمر لها المهديّ بعشرة آلاف درهم، و له بمثلها؛
قال: ثم دخلت الحجناء على العبّاسة بنت المهدي، فأنشدتها تقول:
أتيناك يا عباسة الخير و الحيا *** و قد عجفت أدم المهاري و كلّت(2)
و ما تركت منا السّنون بقية *** سوى رمّة منا من الجهد رمّت
فقال لنا من ينصح الرأي نفسه *** و قد ولّت الأموال عنا فقلّت
عليك ابنة المهديّ عوذي ببابها *** فإن محلّ الخير في حيث حلّت
فأمرت لها بثلاثة آلاف درهم و كسوة و طيب، فقالت:
/
أغنيتني يا ابنة المهديّ أيّ غنى *** بأعجرين كثير فيهما الورق
- أي: اغنيتني على عقب ما أغناني أخوك. بأعجرين: بكيسين -:
من ضرب تسع و تسعين محكّكة *** مثل المصابيح في الظّلماء تأتلق
/أما الحسود فقد أمسى تغيّظه *** غمّا و كاد برجع الرّيق يختنق
و ذو الصداقة مسرور بنا فرح *** بادي البشارة ضاح وجهه شرق(3)
و قال ابن أبي سعد:
كان إسحاق بن الصباح الأشعثي صديقا للنصيب، و قدم قدمة من الحجاز، فدخل على إسحاق؛ و هو يهب لجماعة وردوا عليه برّا و تمرا، فيحملونه على إبلهم و يمضون، فوهب لنصيب جارية حسناء يقال لها: مسرورة، فأردفها خلفه، و مضى و هو يقول:
إذا احتقبوا برّا فأنت حقيبتي *** من البشريّات الثقال الحقائب(4)
ظفرت بها من أشعثيّ مهذّب *** أغرّ طويل الباع جمّ المواهب
فدى لك يا إسحاق كلّ مبخّل *** ضجور إذا عضّت شداد النوائب
إذا ما بخيل القوم غيّب ماله *** فمالك عدّ حاضر غير غائب(5)
ص: 16
إذا اكتسب القوم الثّراء فإنّما *** ترى الحمد غنما من كريم المكاسب
و قال فيه أيضا:
فتى من بني الصّبّاح يهتزّ للنّدى *** كما اهتزّ مسنون الغرار عتيق
فتى لا يذمّ الضيف و الجار رفده *** و لا يجتويه صاحب و رفيق(1)
أغر لأبناء السبيل موارد *** إلى بيته تهديهم و طريق
/و إن عدّ أنساب الملوك وجدته *** إلى نسب يعلوهم و يفوق
فما في بني الصّبّاح إن بعد المدى *** على الناس إلا سابق و عريق
و إني لمن شاحنتم لمشاحن *** و إني لمن صادقتم لصديق
قال: و كان النّصيب إذا قدم على المهديّ استهداه القوّاد منه، و سألوه أن يأمره بزيارتهم، فكان فيمن استزاره خزيمة بن خازم، فوصله و حمله، و قال فيه:
وجدتك يا خزيمة أريحيّا *** بما تحوي و ذا حسب صميم
تميم كان خير بني معدّ *** و أنت اليوم خير بني تميم
سوى رهط النبيّ و هم أديم *** و أنت قددت من ذاك الأديم
و قال فيه أيضا:
يا أفضل الناس عودا عند معجمه *** إذا تفاضل يوما معجم العود
إني لواحد شعر قد عرفت به *** و ذا خزيمة أضحى واحد الجود
إن يعطك اليوم معروفا يعدك غدا *** فأنت في نائل منه و موعود(2)
و قد رأينا تميما غير مكرهة *** ألقت إليك جميعا بالمقاليد
فأنت أكرمها نفسا و أفضلها *** إنّ الصناديد أبناء الصناديد
/
أنادي بأعلى الصوت جعدا و قد يرى *** مكاني و لكن لا يجيب و يسمع
و لم يرني أهلا لحسن إجابة *** و لا سوئها إني إلى اللّه أرجع
فلو أنّني جازيت جعدا بفعله *** لقد لاح لي فيه من الشعر موضع
و لكنّني جافيت عنه لغيره *** بحسن الذي يأتي إليّ و يصنع
رأيتك لم تحفظ قرابة بيننا *** و ما زالت القربى لدى الناس تنفع
قال: و سأل عبيد اللّه بن يحيى بن سليمان مركبا، فأعطاه إياه، و جعل معه شريكا له فيه، فقال:
لقد مدحت عبيدا إذ طمعت به *** و قد تملّقته لو ينفع الملق
فعاد يسأل ما أصبحت سائله *** فكلّنا سائل في الحرص متّفق
أ حين سار مديحي فيكم طرقا *** و حيث غنّت به الركبان و الرّفق
قطعت حبل رجاء كنت آمله *** فيما لديك فأضحى و هو منحذق(1)
قد كان أورق عودي من أبيك فقد *** لحيت عودي فجفّ العود و الورق
من نازع الكلب عرقا يرتجى شبعا *** كمصطل بحريق و هو يحترق(2)
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزبير بن بكّار قال: كتب إليّ أبو محمد إسحاق بن أبي إبراهيم يقول:
أنشدت الفضل بن يحيى قول أبي الحجناء نصيب:
عند الملوك مضرّة و منافع *** و أرى البرامك لا تضرّ و تنفع
/إن العروق إذا استسرّ بها الثّرى *** أشر النبات بها و طاب المزرع(3)
فإذا نكرت من امرئ أعراقه *** و قديمه فانظر إلى ما يصنع
قال: فأعجبه الشعر، فقال: يا أبا محمد، كأني و اللّه لم أسمع هذا القول إلا الساعة، و ما له عندي عيب إلا أنّي لم أكافئه عليه. قال: قلت: و كيف ذلك أصلحك اللّه، و قد وهبت له ثلاثين ألف درهم! فقال: لا و اللّه ما ثلاثون ألف دينار بمكافأة له، فكيف ثلاثون ألف درهم!
ص: 18
أخبرني أحمد بن عبد اللّه بن عمار قال: أخبرني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال:
كان أبي يستملح قول نصيب و قد رأى كثرة الشعراء على باب الفضل بن يحيى. فلما دخل الناس إليه قال له:
ما لقينا من جود فضل بن يحيى *** ترك الناس كلهم شعراء
و يقول: ما في الدنيا أحسن من هذا المعنى، و على أنه قد أخذ منهم مالا جليلا و لكن قلما سمعت بطبقته مثله.
هو - فيما كتب به إلينا ابنه أبو الفيّاض سوّار بن أبي شراعة من أخباره و نسبه - أحمد بن محمد بن شراعة بن ثعلبة بن محمد بن عمير بن أبي نعيم بن خالد بن عبدة بن مالك بن مرة بن عبّاد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل:
شاعر بصريّ من شعراء الدولة العباسية جيّد الشعر جزله، ليس برقيق الطبع، و لا سهل اللّفظ، و هو كالبدويّ الشعر في مذهبه، و كان فصيحا يتعاطى الرسائل و الخطب مع شعره، و كانت به لوثة و هوج.
و أمه من بني تميم من بني العنبر، و ابنه أبو الفيّاض سوّار بن أبي شراعة أحد الشعراء الرواة، قدم علينا بمدينة السّلام بعد سنة ثلاثمائة، فكتب عنه أصحابنا قطعا(1) من الأخبار و اللّغة، و فاتني فلم ألقه، و كتب إليّ و إلى أبي - رحمه اللّه - بإجازة أخباره على يدي بعض إخواننا، فكانت أخبار أبيه من ذلك.
فمنها ما حكاه عنه أنه كان جوادا لا يليق(2) شيئا، و لا يسأل ما يقدر عليه إلا سمح به، و أنه وقف عليه سائل يوما فرمى إليه بنعله و انصرف حافيا، فعثر فدميت إصبعه فقال في ذلك:
ألا لا أبالى في العلا ما أصابني *** و إن نقبت نعلاي أو حفيت رجلي(3)
فلم تر عيني قطّ أحسن منظرا *** من النكب يدمى في المواساة و البذل(4)
و لست أبالي من تأوّب منزلي *** إذا بقيت عندي السراويل أو نعلي(5)
قال: و بلغه أن أخاه يقول: إن أخي مجنون، قد أفقرنا و نفسه، فقال:
أ أنبز مجنونا إذا جدت بالذي *** ملكت و إن دافعت عنه فعاقل
ص: 20
فداموا على الزّور الذي قرفوا به *** و دمت على الإعطاء ما جاء سائل(1)
أبيت و تأبى لي رجال أشحّة *** على المجد تنميهم تميم و وائل(2)
قال: و قال أيضا في ذلك:
أ إن كنت في الفتيان آلوت سيدا *** كثير شحوب اللون مختلف العصب(3)
فما لك من مولاك إلا حفاظه *** و ما المرء إلا باللسان و بالقلب
هما الأصغران الذائدان عن الفتى *** مكارهه و الصاحبان على الخطب
فإلاّ أطق سعي الكرام فأنني *** أفكّ عن العاني و أصبر في الحرب
أخبرني عمي قال: أخبرني ميمون بن هارون قال: حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال:
كان عندي أبو شراعة بالبصرة، و أنا أتولاّها، و كان عندي عمير المغني المدني، و كان عمير بن مرة غطفانيا، و كان يغنّي صوتا يجيده، و اختاره عليه و هو:
أ تحسب ذات الخال راجية ربّا *** و قد صدعت قلبا يجنّ بها حبّا
/فاقترحه أبو شراعة على عمير، فقال: أعطني دراهم، حتى أقبل اقتراحك، فقال له أبو شراعة: أخذ المغني من الشاعر يدلّ على ضعف الشاعر، و لكني أعرضك لأبي إسحاق، فغنّاه إياه ثلاث مرات و قد شرب عليه ثلاثة أرطال، و قال:
عدوت إلى المريّ عدوة فاتك *** معنّ خليع للعواذل و العذر(4)
/فقال لشيء ما أرى قلت: حاجة *** مغلغلة بين المخنّق و النّحر(5)
فلما لواني يستثيب زجرته *** و قلت: اغترف إنّا كلانا على بحر(6)
أ ليس أبو إسحاق فيه غنى لنا *** فيجدي على قيس و أجدي على بكر
فغنّى بذات الخال حتى استخفّني *** و كاد أديم الأرض من تحتنا يجري
حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثني محمد بن يزيد المبرد قال:
كان أبو شراعة صديقا لابن المدبّر أيام تقلّده البصرة، و كان لا يفارقه في سائر أحواله، و لا يمنعه حاجة يسأله
ص: 21
إياها، و لا يشفع لأحد إلا شفّعه، فلما عزل إبراهيم بن المدبر شيّعه الناس، و شيّعه أبو شراعة، فجعل يردّ الناس، حتى لم يبق غيره، فقال له: يا أبا شراعة غاية كل مودّع الفراق، فانصرف راشدا مكلوءا من غير قلى و اللّه و لا ملل، و أمر له بعشرة آلاف درهم، فعانقه أبو شراعة، و بكى؛ فأطال، ثم أنشأ يقول:
يا أبا إسحاق سر في دعة *** و امض مصحوبا فما منك خلف
ليت شعري أيّ أرض أجدبت *** فأغيثت بك من جهد العجف!
نزل الرّحم من اللّه بهم *** و حرمناك لذنب قد سلف
إنما أنت ربيع باكر *** حيثما صرّفه اللّه انصرف
قال أبو الفياض سوّار بن أبي شراعة:
دخل أبي على إبراهيم بن المدبر و عنده منجّم، فماراه(1) إبراهيم بن المدبّر في رؤية/الهلال لشهر رمضان؛ فحكم المنجّم بأنه يرى، و حلف إبراهيم بعتق غلمانه أنّه لا يرى، فرئي في تلك الليلة. فأعتق غلمانه، فلما أصبح دخل الناس يهنئونه بالشهر، فأنشده أبو شراعة يقول:
أيها المكثر التّجنّي على الما *** ل إذا ما خلا من السّؤّال
أفتنا في الذين أعتقت بالأم *** س مواليك أم موالي الهلال؟
لم يكن وكدك الهلال و لكن *** تتألّى لصالح الأعمال
إنما لذتاك في المال شتّى *** صونك العرض و ابتذال المال(2)
ما نبالي إذا بقيت سليما *** من تولّت به صروف اللّيالي
قال أبو الفيّاض: و كان أبو شراعة صديق السّدري، فدعا يوما إخوانه، و أغفل أبا شراعة. فمرّ به الرياشيّ.
فقال: يا أبا شراعة، أ لست عند السّدري معنا؟ فقال: لم يدعنا. و مرّ به جماعة من إخوانه، فسألوه عن مثل ذلك، و مرّ به عيسى بن أبي حرب الصّفار - و كان ممن دعي - فجلس و حلف ألا يبرح حتى يأتيه السّدري، فيعتذر إليه، و يدعوه، فقال أبو شراعة:
/
أير حمار في حرام شعري *** و خصيناه في حر امّ قدري
إن أنا لم أشفعهما بوفر *** لو كنت ذا و فر دعاني السّدري
أو كان من همّ هشام أمري *** أو راح إبراهيم يطري ذكري
ص: 22
و ابن الرياشي الضعيف الأسر *** يخاف إن أردف ألاّ يجري(1)
/و أنت يا عيسى سقاك المسرى(2) *** نعم صديق عسرة و يسر
قال أبو الفيّاض: سقطت دارنا بالبصرة، فعوتب أبي على بنائها، و قيل له: استعن بإخوانك إن عجزت عنه فقال:
تلوم ابنة البكريّ حين أءوبها *** هزيلا و بعض الآئبين سمين
و قالت: لحاك اللّه تستحسن العرا *** عن الدار إنّ النائبات فنون
و حولك إخوان كرام لهم غنى *** فقلت لإخواني: الكرام عيون
ذريني أمت قبل احتلال محلّة *** لها في وجوه السائلين غضون
سأفدي بمالي ماء وجهي إنني *** بما فيه من ماء الحياء ضنين(3)
قال سوّار بن أبي شراعة: كان إخوان أبي يجتمعون عند الحسين بن أيوب بن جعفر بن سليمان في ليالي شهر رمضان، فيهم الرياشي و الجمّاز، فقال أبي في ذلك:
لو كنت من شيعة الجمّاز أقعدني *** مقاعدا قربهنّ الريف و الشّرف
لكنّني كنت للعباس متّبعا *** و ليس في مركب العباس مرتدف(4)
قد بقيت من ليالي الشهر واحدة *** فعاودوا مالح البقّال و انصرفوا(5)
قال: و تزوّج نديم لأبي شراعة يقال له بيّان(6) امرأة، فاتفق عرسه في ليلة طلّق فيها أبو شراعة امرأته، فعوتب في ذلك، و قيل: بات بيّان عروسا، و بتّ عزبا، فقال في ذلك:
/
رأت عرس بيّان فهبّت تلومني *** رويدك لوما فالمطلّق أحوط
رويدك حتى يرجع البرّ أهله *** و يرحم ربّ العرس من حيث يغبط
إذا قال للطحّان عند حسابه *** أعد نظرا إني أظنك تغلط
ص: 23
فما راعه إلا دعاء وليدة *** هلمّ إلى السّواق إن كنت تنشط
هنالك يدعو أمّه فيسبّها *** و يلتبس الأجر العقوق فيحبط(1)
فيا ذا العلا إني لفضلك شاكر *** أبيت وحيدا كلما شئت أضرط
قال: ثم بلغه عن بيّان هذا أنه عجز عن امرأته، و لم يصل إليها، و لقي منها شرّا، فقال في ذلك:
رمى الدهر في صحبي و فرّق جلاّسي *** و باعدهم عني بظعن و إعراس
فكلّهم يبغي غلافا لأيره *** و أقعدني عن ذاك فقري و إفلاسي
فشكرا لربّي خان بيّان أيره *** و أسعى بأيري في الظّلام على الناس(2) يمسحه بالكف حتى يقيمه *** و هل ينفع الكفّان من ثقل الراس
و قال أبو الفياض سوّار:
نظر إليّ أبي يوما و قد سألت عمّي حاجة فردّني، فبكى، ثم قال:
حبّي لإغناء سوّار يجشّمني *** خوض الدّجى و اعتساف المهمة البيد
/كي لا تهون على الأعمام حاجته *** و لا يعلّل عنها بالمواعيد
و لا يوليهم إن جاء يسألها *** أكتاف معرضة في العيس مردود(3)
/إذا بكى قال منهم ذو الحفاظ له *** لقد بليت بخلق غير محمود
قال: و تمارى أبو شراعة و رجل من أهل بغداد في النبيذ، فجعل البغداديّ يذمّ نبيذ التمر و الدّبس(4)، فقال أبو شراعة:
إذا انتخبت حبّه و دبه *** ثم أجدت ضربه و مرسه(5)
ثم أطلت في الإناء حبسه *** شربت منه البابليّ نفسه
قال: و أعوز أبا شراعة يومئذ النبيذ، فطلب من نديمين كانا له، فاعتلّ أحدهما بحلاوة نبيذه، و الآخر
ص: 24
بحموضته، فاشترى من نباذ يقال له: أبو مظلومة دستيجة(1) بدرهمين، و كتب إليهما:
سيغني عن حلاوة دبس يحيى *** و يغني عن حموض أبي أميّه
أبو مظلومة الشيخ المولّي *** إذا اتّزنت يداه درهميّه
أخبرني عليّ بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال:
كان أبو شراعة قبيح الوجه جدّا، فنظر يوما في المرآة، فأطال، ثم قال: الحمد للّه الذي لا يحمد على الشرّ غيره.
قال سوّار بن أبي شراعة: حلف أبي ألا يشرب نبيذا بطلاق امرأة كانت عنده، فهجره حولين، ثم حنث، فشرب، و طلّق امرأته و أنشأ يقول:
فمن كان لم يسمع عجيبا فإنني *** عجيب الحديث يا أميم و صادقه
و قد كان لي أنسان يا أمّ مالك *** و كلّ إذا فتّشتني أنا عاشقه
/عزيزة و الكأس التي من يحلّها *** تخادعه عن عقله فتصادقه(2)
تحاربتا عندي فعطّلت دنّها *** و أكوابها و الدهر جمّ بوائقه(3)
و مرمتها حولين ثم أزلّني *** حديث النّدامى و النشيد أوافقه
فلمّا شربت الكأس بانت بأختها *** فبان الغزال المستحبّ خلائقه
فما أطيب الكأس التي اعتضت منكم *** و لكنّها ليست بريم أعانقه
قال أبو الفيّاض: قال أبي: قصدت الحسن بن رجاء بالأهواز، فصادفت ببابه دعبل بن عليّ الخزاعيّ و جماعة من الشعراء، و قد اعتلّ عليهم بدين لزمه و مصادرة(4) فكتب إليه:
المال و العقل شيء يستعان به *** على المقام بأبواب السلاطين
و أنت تعلم أني منهما عطل *** إذا تأملتني يا بن الدّهاقين
هل تعلم اليوم بالأهواز من رجل *** سواك يصلح للدّنيا و للدّين
قال: فوعدنا وعدا قرّبه، ثم تدافع، فكتب إليه:
آذنت جبّتي بأمر قبيح *** من فراق للطيلسان الفسيح(5)
ص: 25
فكأني بمن يزيد على الجبّة في ظلّ دار سهل بن نوح /
أنت روح الأهواز يا بن رجاء *** أيّ شيء يعيش إلاّ بروح
فأذن لي و للجماعة، و قضى حوائجنا.
قال أبو الفيّاض و حدّثني أبي قال:
حججت، فأتيت دار سعيد بن سلم، فنحرت فيها ناقة، و قلت:
/
وردت دار سعيد و هي خالية *** و كان أبيض مطعاما ذرى الإبل
فارتحت فيها أصيلا عند ذكرته *** و صحبتي بمنى لا هون في شغل
فابتعت من إبل الجمّال دهشرة *** موسومة لم تكن بالحقّة العطل(1)
نحرتها عن سعيد ثم قلت لهم: *** زوروا الحطيم فإني غير مرتحل
قال: و بلغت الأبيات و فعلي ولده، فأحسنوا المكافأة، و أجزلوا الصّلة؛ قال: فقال له صديق له: و أنت أيضا قد استجدت لهم النّحيرة! فضحك، ثم قال: أغرّك وصفي لها؟ أشهد اللّه أني ما بلغت بها دار سعيد إلا بين عمودين.
و قال أبو الفياض:
كان أبو أمامة محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن سلم(2) - و أمه سعدى بنت عمرو بن سعيد بن سلم - صديقا لأبي شراعة، و كانت أمّه سعدى تعوله، فكان أبو شراعة لا يزال يعبث به، و بلغه أن أبا أمامة يقول:
إنّما معاش أبي شراعة من السلطان و رفده، و لو لا ذاك لكان فقيرا؛ فقال فيه:
عيّرتني نائل السلطان أطلبه *** يا ضلّ رأيك بين الخرق و النّزق(3)
لو لا امتنان من السلطان تجهله *** أصبحت بالسّود في مقعوعس خلق(4)
- السّود: موضع تنزله باهلة بالبادية(5) -:
رثّ الرّدا بين أهدام مرقّعة *** يبيت فيها بليل الجائع الفرق
ص: 26
/
لا شيء أثبت بالإنسان معرفة *** من التي حزمت جنبيه بالخرق(1)
فأين دارك منها و هي مؤمنة *** باللّه معروفة الإسلام و الشّفق!
و أين رزقك إلا من يدي مرة *** ما بتّ من مالها إلا على سرق!
تبيت و الهرّ ممدودا عيونكما *** إلى تطعّمها مخضرّة الحدق
ما بين رزقيكما إن قاس ذو فطن *** فرق سوى أنه يأتيك في طبق
شاركه في صيده للفأر تأكله *** كما تشاركه في الوجه و الخلق
قال أبو الفيّاض: وزارة أبو أمامة يوما فوجد عنده طفشيلا فأكله كلّه، فقال أبو شراعة يمازحه:
عين جودي لبرمة الطفشيل *** و استهلّي فالصبر غير جميل(2)
فجعتني بها يد لم تدع للذّ *** رّ في صحن قدرها من مقيل
كان و اللّه لحمها من فصيل *** راتع يرتعي كريم البقول(3)
فخلطنا بلحمه عدس الشّا *** م إلى حمّص لنا مبلول
فأتتنا كأنها روضة بالحز *** ن تدعو الجيران للتّطفيل
ثم أكفأت فوقها جفنة الحيّ *** و علّقت صحفتي في زبيل(4)
فمنى اللّه لي بفظّ غليظ *** ما أراه يقرّ بالتّنزيل
/فانتحى دائبا يدبّل منها *** قلت: إن الثريد للتّدبيل(5)
فتغنّى صوتا ليوضح عندي *** حيّ أمّ العلاء قبل الرّحيل
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثني سوّار بن أبي شراعة قال:
كتب أبي إلى سعيد بن موسى بن سعيد بن مسلم بن قتيبة يستهديه نبيذا، فكتب إليه سعيد: إذا سألتني - جعلني اللّه فداءك - حاجة فاشطط، و احتكم فيها حكم الصّبيّ على أهله، فإن ذلك يسرني، و أسارع إلى إجابتك فيه. و أمر له بما التمس من النبيذ، فمزجه صاحب شرابه، و بعث به إليه. فكتب إليه أبو شراعة: أستنسئ(6) اللّه
ص: 27
أجلك، و أستعيذه من الآفات لك، و أستعينه على شكر ما وهب من النّعمة فيك، إنه لذلك وليّ، و به مليّ. أتلقى غلامك المليح قدّه، السعيد بملكك جدّه بكتاب قرأته غير مستكره اللفظ، و لا مزور عن القصد، ينطق بحكمتك، و يبين عن فضلك، فو اللّه ما أوضح لي خفيّا، و لا رادني بك علما، و إذا أنت تسأل فيه أن تهب، و تحبّ أن تحمد، و لا غرو(1) أن تفعل ذلك، و من كثب أخذته، لا عن كلالة و غير كلالة ورثته، موسى أبوك، و سعيد جدّك، و عمرو عمك، و لك دار الصّلة، و دار الضيافة، و صاحب البغلة الشّهباء(2) و حصين بن الحمام و عروة بن الورد، ففي أيّ غلوات(3) المجد يطمع قرينك أن يستولى على المدى، و الأمد دونك. و كتابك إليّ أن أتحكّم عليك تحكّم الصبي على أهله، فلشدّ ما جررت إليّ معروفك، و دللت على الأنس بك، و حاشى للمحكوم له و المحكوم عليه في ذات الحسب العتيق، و المنظر الأنيق الذي يسرّ القلب، و يلائم الرّوح، و يطرد الهمّ:
تدبّ خلال شئون الفتى *** دبيب دبى النّملة المنتعش(4)
إذا فتحت فقمت ريحها *** و إن سيل خمّارها قال: خش
/ - خش: كلمة فارسية تفسيرها: طيّب -.
فإن كنت رعيت لها عهدا، و حفظت لها عندك يدا، فانظر ربّ الحانوت فامطله دينه، و اقطع السبب بينك و بينه، فقد أساء صحبتها، و أفسد بالماء حسّها، و سلّط عليها عدوّها، و اعلم بأن أباك المتمثّل بقوله:
يرى درجات المجد لا يستطيعها *** فيقعد وسط القوم لا يتكلم
و قد بسطت قدرتك لسانك، و أكثرت لك الحمد، فدونك نهزة البديهة منه:
و بادر بمعروف إذا كنت قادرا *** زوال افتقار أو غنى عنك يعقب(5)
و قد بعثت إليك بقرابة(6) مع الرسول، و أنشأت في أثرها أقول:
إليك ابن موسى الجود أعملت ناقتي *** مجلّلة يضفو عليها جلالها(7)
كتوم الوحي لا تشتكي ألم السّرى *** سواء عليها موتها و اعتلالها
إذا شربت أبصرت ما جوف بطنها *** و إن ظمئت لم يبد منها هزالها
و إن حملت حملا تكلّفت حملها *** و إن حطّ عنها لم أقل كيف حالها؟(8)
بعثنا بها تسمو العيون وراءها *** إليك و ما يخشى عليها كلالها
/و غنّى مغنّينا بصوت فشافني *** متى راجع من أم عمرو خيالها
ص: 28
أحبّ لكم قيس بن عيلان كلّها *** و يعجبني فرسانها و رجالها
و ما لي لا أهوى بقاء قبيلة *** أبوك لها بدر و أنت هلالها
/قال: فبعث إليه برسوله الذي حمل إليه النبيذ، و استملحه في شعره، و بصاحب شرابه، و كل ما كان في خزانته من الشّراب و بثلاثمائة دينار.
أخبرني الأخفش عن المبرّد و سوّار بن أبي شراعة جميعا:
أن أبا الفيّاض سوار بن أبي شراعة كان يهوى قينة بالبصرة يقال لها: مليحة، فدعيت ذات يوم إلى مجلس لم يكن حاضره، و حضر أبو عليّ البصير ذلك المجلس، فجمّشها بعض من حضر، فلم تلتفت إليه، و عرف أبو عليّ ذلك فكتب إلى أبي الفيّاض:
لك عندي بشارة فاستمعها *** و أجبني عنها أبا الفيّاض
كنت في مجلس مليحة فيه *** و هي سقم الصّحاح برء المراض
و قديما عهدتني لست في حقّ *** ك و الذبّ عنك ذا إغماض
فتغفّلتها تغفّل خصم *** و تأملتها تأمّل قاض
و رمتها العيون من كلّ أفق *** و تشاكوا بالوحي و الإيماض
من كهول و سادة سمحاء *** باللّها باخلين بالأعراض(1)
و صفات القيان أولها الغد *** ر عليه في وصلهنّ التّراضي
فتشوّفت ذاك منها و أعدد *** ت نكيري و سورتي و امتعاضي
فحمت جانب المزاح و عمّت *** هم جميعا بالصّدّ و الإعراض
و كفاني وفاؤها لك حتّى *** آذن الليل جمعهم بار فضاض
فأجابه أبو الفيّاض:
ليت شعري ما ذا دعاك إلى أن *** هجت شوقي و زدت في إمراضي؟
ذكّرتني بشراك داء قديما *** من سقام عليّ لا شك قاضي
/إن تكن أحسنت مليحة في وص *** لي و عاصت رياضة الرّوّاض
و أقامت على الوفاء و لم تر *** ع لوحي منهم و لا إيماض
فعلى صحّة الوفاء تعاقد *** نا و صون النّفوس و الأعراض
و علينا من العفاف ثياب *** هنّ أبهى من حاليات الرياض
ص: 29
ليس حظّي منها سوى النظر الخت *** ل و إني به لجذلان راض(1)
لحظات يقعن في ساحة القل *** ب وقوع السهام في الأغراض
و ابتسام كالبرق أو هو أخفى *** بين ستري تحرّز و انقباض
لا أخاف انتقاضها آخر الده *** ر بغدر و لا تخاف انتقاضي
فأبن لي أ لست تحمد ذا ال *** ودّ وقاك الردى أبو الفياض؟
قال أبو الفيّاض: اتصل بأبي شراعة أن أبا ناظرة السّدوسي يغتابه، و كان مع آل أبي/سفيان بن ثور فقال يهجوهم:
لعن الإله بني سدوس كلّهم *** و رمى بمنجوف و ريّة قاف(2)
قد سبّني عضروطهم فسببتهم *** ذنب الدّنيء يناط بالأشراف(3)
قال أبو الفيّاض: و كان بين بعض بني عمنا و بين أبي شراعة وحشة، ثم صالحوه، و دعوه إلى طعامهم، فأبى، و قال: أمثلي يخرج من صوم إلى طعم، و من شتيمة إلى وليمة: و ما لي و لكم مثل إلا قول المتلمّس:
/
فإن تقبلوا بالودّ نقبل بمثله *** و إلا فإنا نحن آبى و أشمس(4)
و قال فيهم:
بني سوّار إن رثّت ثيابي *** و كلّ عن العشيرة فضل مالي(5)
فمطّرح و متروك كلامي *** و تجفوني الأقارب و الموالي
أ لم أك من سراة بني نعيم *** أحلّ البيت ذا العمد الطّوال
و حولي كلّ أصيد تغلبيّ *** أبيّ الضيم مشترك النوال
إذا حضر الغداء فغير مغن *** و يغني حين تشتجر العوالي(6)
و أبقوني فلست بمستكين *** لصاحب ثروة أخرى الليالي
و لا بممسّح المثرين كيما *** أمسّح من طعامهم سبالي(7)
ص: 30
أنا ابن العنبرية أزّرتني *** إزار المكرمات إزار خالي(1)
فإن يكن الغنى مجدا فإني *** سأدعو اللّه بالرزق الحلال
إذا أبصرتك العين من بعد غاية *** و أوقعت شكّا فيك أثبتك القلب
و لو أن ركبا يمّموك لقادهم *** نسيمك حتى يستدلّ بك الركب
الشعر لعبد اللّه بن محمد بن البوّاب، و الغناء لأحمد بن صدقة الطّنبوري، رمل مطلق في مجرى البنصر رواية الهشامي.
ص: 31
هو عبد اللّه بن محمد بن عتاب بن إسحاق، من أهل بخارى وجّه(1) بجدّه و جماعة معه رهينة إلى الحجاج بن يوسف، فنزلوا عنده بواسط، فأقطعهم سكّة بها، فاختطّوها و نزلوها طول أيام بني أمية، ثم انقطعوا من الدولة العباسية إلى الربيع، فخدموه.
و كان عبد اللّه بن محمد هذا يخلف الفضل بن الربيع على حجبة الخلفاء، و كان أبوه محمد بن عتاب يخلف الربيع في أيام أبي جعفر، و كان معه فرآه أبو جعفر مع أبيه، فسأله عنه فأخبره، فكساه قباء خزّ، و كساه تحته قباء كتّان مرقوع القبّ، و قال له: هذا يخفى تحت ذاك.
ذكر لي ذلك أحمد بن القاسم بن يوسف عن محمد بن عبد اللّه بن محمد البواب عن أبيه.
و كان عبد اللّه صالح الشعر قليله، و رواية لأخبار الخلفاء عالما بأمورهم، روى عنه أبو زيد عمر بن شبّة و نظراؤه، و قد مضت/في هذا الكتاب و تأتي أخبار من روايته.
قال أحمد بن القاسم اليوسفيّ: حدّثني محمد(2) بن عبد اللّه البواب قال: حدّثني أبي قال:
حجبت موسى و هارون خليفة للفضل بن الربيع.
و خدم(3) محمدا الأمين فأغناه و أعطاه، و مدحه، و نال من المأمون و عرّض به، فأخبرني إسماعيل بن يوسف قال: حدّثني عبد اللّه بن أحمد الباهليّ قال: حدّثني الحسين بن الضحّاك قال:
لما أتى المأمون بشعر ابن البواب الذي يقول فيه:
أ يبخل فرد الحسن فرد صفاته *** عليّ و قد أفردته بهوى فرد!
رأى اللّه عبد اللّه خير عباده *** فملّكه و اللّه أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عصمة *** مميّزة بين الضّلالة و الرّشد
- لعلويه في هذه الأبيات رمل بالوسطى -:
ص: 32
قال: فقال المأمون: أ ليس هو القائل:
أ عينيّ جودا و ابكيا لي محمّدا *** و لا تدخرا دمعا عليه و أسعدا(1)
فلا فرح المأمون بالملك بعده *** و لا زال في الدّنيا طريدا مشرّدا!
هيهات، و واحدة بواحدة! و لم يصله بشيء.
هكذا روى عن الحسين(2) بن الضحاك. و قد روى أن هذين الشعرين جميعا للحسين، و أن قول المأمون هذا بعينه فيه.
و قال أحمد بن القاسم حدّثني جزء بن قطن. و أخبرني بهذا الخبر الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق، قالا جميعا: وقع بين إسحاق و بين ابن البواب شرّ فقال ابن البواب شعرا ذميما رديئا، و نسبه إلى إسحاق و أشاعه ليعيّره به و هو:
إنما أنت يا عنان سراج *** زيته الظّرف و الفتيلة عقل
قاده للشقاء مني فؤادي *** رجل حبّ لكم و للحبّ رجل(3)
هضم اليوم حبّكم كلّ حبّ *** في فؤادي فصار حبّك فجل
أنت ريحانة و راح و لكن *** كلّ أنثى سواك خلّ و بقل(4)
/و قال حماد في خبره و بلغ ذلك أبي فقال له:
الشعر قد أعيا عليك فخلّه *** و حذ العصا و اقعد على الأبواب
فجاء ابن البواب إلى إبراهيم جدّي فشكا أبي إليه فقال له: ما لك و له يا بنيّ؟ فقال له أبي: تعرّض لي فأجبته، و إن كفّ لم أرجع إلى مساءته. فتتاركا.
قال أحمد بن القاسم: أخبرني محمد بن الحسن بن الفضل قال: أخبرني: إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحيم قال:
كان بالكرخ نخّاس يكنى أبا عمير، و كان له جوار قيان لهنّ ظرف و أدب، و كان عبد اللّه بن محمد البواب يألف جارية منهنّ يقال لها: عبّادة، و يكثر غشيان منزل أبي عمير من أجلها، فضاق ضيقة شديدة، فانقطع عن ذلك، و كره أن يقصّر عما كان يستعمله من برّهم فتعلم بضيقته، ثم نازعته نفسه إلى لقائها و زيارتها، و صعب عليه الصبر عنها، فأتاه فأصاب في منزله جماعة ممن كان يألف جواريه، فرحّب به أبو عمير و الجارية و القوم جميعا، و استبطئوا
ص: 33
زيارته، و عاتبوه على تأخره عنهم، فجعل يجمجم في عذره، و لا يصرّح، فأقام عندهم، فلما أخذ فيه النبيذ أنشأ يقول:
/
لو تشكّى أبو عمير قليلا *** لأتيناه من طريق العياده
فقضينا من العيادة حقّا *** و نظرنا في مقلتي عبّاده
فقال له أبو عمير: ما لي و لك يا أخي؟ انظر في مقلتي عبّادة متى شئت غير ممنوع، و دعني أنا في عافية، لا تتمنّ لي المرض لتعودني.
و قال أحمد بن القاسم:
كان عبد اللّه بن إسماعيل بن عليّ بن ريطة يألف ابن البواب و يعاشره، فشرب عنده يوما حتى سكر و نام، فلما أفاق في السّحر أراد الانصراف، فحلف عليه و احتبسه، و كان عبد اللّه يهوى جارية له من جواري عمرو بن بانة، فبعث إلى عمرو بن بانة فدعاه/و سأله إحضار الجارية، فأحضرها، و انتبه عبد اللّه بن إسماعيل من نومه، و هو يتململ خمارا. فلما رآها نشط، و جلس فشرب، و تمّموا يومهم، فقال عبد اللّه بن محمد بن البواب في ذلك:
و كريم المجد محض أبوه *** فهو الصفو اللّباب النّضار
هاشميّ لقروم إذا ما *** أظلمت أوجه قوم أناروا
رمت القهوة بالنوم وهنا *** عينه فالجفن فيه انكسار
فهو من طرف يفدّيك طورا *** و يعاطيك اللواتي أداروا
ساعة ثم انثنى حين دبّت *** و مشت فيه السّلاف العقار
و أبت عيني اغتماضا فلمّا *** حان من أخرى النجوم انحدار
قلت: عبد اللّه حاذرت أمرا *** ليس يغني خائفيه الحذار
فاستوى كالهندوائيّ لمّا *** أن رأى أن ليس يغني الفرار
قلت: خذها مثل مصباح ليل *** طيّرت في حافيته الشّرار
أقبلت قطرا نطافا و لما *** يتعب العاصر منها اعتصار(1)
هي كالياقوت حمراء شيبت *** و علا الحمرة منها اصفرار(2)
كالدنانير جرى في ذراها *** فضة فالحسن منها قصار(3)
تنطق الخرس و بالصمت ترمي *** معشرا نطقا إذا ما أحاروا
ص: 34
قال أحمد: و حدّثني يعقوب بن العباس الهاشميّ أبو إسماعيل النقيب قال:
لما طال سخط المأمون على ابن البواب قال قصيدة يمدحه بها، و دسّ من غنّاه(1)/في بعضها، لما وجد منه نشاطا. فسأل من قائلها؟ فأخبر به فرضي عنه، و ردّه إلى رسمه من الخدمة، و أنشدني أبو إسماعيل القصيدة، و هي قوله:
هل للمحبّ معين *** إذ شطّ عنه القرين!
فليس يبكي لشجو ال *** حزين إلاّ الحزين
يا ظاعنا غاب عنّا *** غداة بان القطين
أبكى العيون و كانت *** به تقرّ العيون
يا أيها المأمون ال *** مبارك الميمون(2)
/لقد صفت بك دنيا *** للمسلمين و دين
عليك نور جلال *** و نور ملك مبين
القول منك فعال *** و الظنّ منك يقين
ما من يديك شمال *** كلتا يديك يمين
كأنما أنت في الجو *** د و التّقى هارون
من نال من كل فضل *** ما ناله المأمون!
تألّف الناس منه *** فضل و جود و لين
كالبدر يبدو عليه *** سكينة و سكون
فالرزق من راحتيه *** مقسّم مضمون
و كل خصلة فضل *** كانت، فمنه تكون
/و الأبيات التي فيها الغناء المذكور آنفا أربعة أبيات، أنشدنيها الأخفش و هي قوله:
أفق أيها القلب المعذّب كم تصبو *** فلا النأي عن سلماك يسلي و لا القرب
أقول غداة استخبرت ممّ علتي *** من الحبّ كرب ليس يشبهه كرب
إذا أبصرتك العين من بعد غاية *** فأدخلت شكا فيك أثبتك القلب
و لو أن ركبا يمموك لقادهم *** نسيمك حتى يستدلّ بك الركب
ص: 35
فقال الأخفش مثل هذا البيت الأخير قول الشاعر:
و استودعت نشرها الديار(1) فما *** تزداد طيبا إلا على القدم
أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد بن إسحاق: قال:
رأيت محمد بن عبد اللّه البواب و قد جاء إلى أبي مسلّما فاحتبسه، و رأيته و هو شيخ كبير، و كان ضخما طويلا عظيم الساقين كأنهما دنّان، و كان يشدّ في ساقيه خرزا أسود لئلا تصيبهما العين.
و قال محمد بن القاسم: أملق عبد اللّه بن محمد البواب حين جفاه الخليفة، و علت سنّه عن(2) الخدمة، فرحل إلى أبي دلف القاسم بن عيسى، و مدحه بقصيدة، فوهب له ثلاثين ألف درهم، و عاد بها إلى بغداد، فما نفدت حتى مات و هي قوله:
طرقتك صائدة القلوب رباب *** و نأت فليس لها إليك مآب
و تصرّمت منها العهود و غلّقت *** من دون نيل طلابها الأبواب
/فلأصدفنّ عن الهوى و طلابه *** فالحبّ فيه بليّة و عذاب
و أخصّ بالمدح المهذّب سيّدا *** نفحاته للمجتدين رغاب(3)
و إلى أبي دلف رحلت مطيّتي *** قد شفّها الإرقال و الإتعاب(4)
تعلو بنا قلل الجبال و دونها *** مما هوت أهويّة و شعاب(5)
فإذا حللت لدى الأمير بأرضه *** نلت المنى و تقضّت الآراب
ملك تأثّل عن أبيه و جدّه *** مجدا يقصّر دونه الطّلاب
/و إذا وزنت قديم ذي حسب به *** خضعت لفضل قديمه الأحساب
قوم علوا أملاك كلّ قبيلة *** فالناس كلّهم لهم أذناب(6)
ضربت عليه المكرمات قبابها *** فعلا العمود و طالت الأطناب
عقم النساء بمثله و تعطّلت *** من أن تضمّن مثله الأصلاب
ص: 36
صغير هواك عذّبني *** فكيف به إذا احتنكا
و أنت جمعت من قلبي *** هوى قد كان مشتركا
و حبس هواك يقتلني *** و قتلي لا يحلّ لكا(1)
أ ما ترثي لمكتئب *** إذا ضحك الخليّ بكى
الشعر لمحمّد بن عبد الملك الزيات و الغناء لأبي حشيشة رمل بالوسطى عن الهشاميّ.
ص: 37
هو محمد بن عبد الملك الزيات بن أبان بن أبي حمزة الزيات، و أصله من جبّل(1) و يكنى أبا جعفر. و كان أبوه تاجرا من تجار الكرخ المياسير، فكان يحثّه على التجارة و ملازمتها، فيأبى إلا الكتابة و طلبها، و قصد المعالي، حتى بلغ منها أن وزر ثلاث دفعات، و هو أوّل من تولى ذلك و تمّ له.
أخبرني الأخفش عليّ بن سليمان قال: حدّثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال:
كان جدّي موسرا من تجار الكرخ، و كان يريد من أبي أن يتعلّق بالتجارة، و يتشاغل بها، فيمتنع من ذلك و يلزم الأدب و طلبه، و يخالط(2) الكتاب، و يلازم الدّواوين، فقال له ذات يوم: و اللّه ما أرى ما أنت ملازمه ينفعك؛ و ليضرّنّك؛ لأنك تدع عاجل المنفعة، و ما أنت فيه مكفيّ، و لك و لأبيك فيه مال و جاه، و تطلب الآجل الذي لا تدري كيف تكون فيه. فقال: و اللّه لتعلمنّ أيّنا ينتفع بما هو فيه؛ أ أنا أم أنت؟ ثم شخص إلى الحسن بن سهل بفم الصّلح(3)، فامتدحه بقصيدته التي أولها:
كأنها حين تناءى خطوها *** أخنس موشيّ الشّوى يرعى القلل(4)
فأعطاه عشرة آلاف درهم، فعاد بها إلى أبيه، فقال له أبوه: لا ألومك بعدها. على ما أنت فيه.
أخبرني جحظة و الصّوليّ، قالا: حدّثنا ميمون بن هارون: قال:
لما مدح محمد بن عبد الملك الحسن بن سهل، و وصله بعشرة آلاف درهم مثل بين يديه و قال له:
لم أمتدحك رجاء المال أطلبه *** لكن لتلبسني التّحجيل و الغررا
و ليس ذلك إلا أنّني رجل *** لا أطلب الورد حتى أعرف الصّدرا
و كان محمد بن عبد الملك شاعرا مجيدا، لا يقاس به أحد من الكتاب، و إن كان إبراهيم بن العباس مثله في ذلك، فإن إبراهيم مقلّ و صاحب قصار و مقطّعات، و كان محمد شاعرا يطيل فيجيد، و يأتي بالقصار فيجيد، و كان بليغا حسن اللفظ إذا تكلّم و إذا كتب.
ص: 38
فحدّثني/عمي رحمه اللّه قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال:
جلس أبي يوما للمظالم، فلما انقضى المجلس رأى رجلا جالسا، فقال له: أ لك حاجة؟ قال: نعم تدنيني إليك؛ فإني مظلوم. فأدناه، فقال: إني مظلوم، و قد أعوزني الإنصاف، قال: و من ظلمك؟ قال: أنت، و لست أصل إليك؛ فأذكر حاجتي؟ قال: و من يحجبك عني و قد ترى مجلسي مبذولا؟ قال: يحجبني عنك هيبتي لك و طول لسانك؛ و فصاحتك، و اطراد حجتك، قال: ففيم ظلمتك؟ قال: ضيعتي الفلانية أخذها وكيلك غصبا بغير ثمن، فإذا وجب عليها خراج أدّيته باسمي لئلا يثبت لك اسم(1) بملكها، فيبطل ملكي، فوكيلك يأخذ غلّتها، و أنا أؤدي خراجها، و هذا مما لم يسمع في الظلم مثله، فقال محمد: هذا قول تحتاج عليه إلى بيّنة و شهود و أشياء، فقال له الرجل: أ يؤمنني الوزير من غضبه، حتى أجيب؟ قال: قد أمّنتك، /قال: البينة هم الشهود، و إذا شهدوا فليس يحتاج معهم إلى شيء، فما معنى قولك: بيّنة و شهود و أشياء، أيش هذه الأشياء إلاّ العيّ و الحصر و التغطرس؟(2)فضحك، و قال: صدقت، و البلاء موكّل بالمنطق، و إني لأرى فيك مصطنعا، ثم وقّع له بردّ ضيعته و بأن يطلق له كرّ حنطة(3) و كر شعير و مائة دينار يستعين بها على عمارة ضيعته، و صيّره من أصحابه، و اصطنعه.
أخبرني الصّوليّ: قال: حدّثني أحمد بن محمد الطالقانيّ(4) قال: حدّثني عبيد اللّه بن محمد بن عبد الملك قال:
لمّا وثب إبراهيم بن المهديّ على الخلافة، اقترض من مياسير التّجّار مالا، فأخذ من جدّي عبد الملك عشرة آلاف درهم(5)، و قال له: أنا أردّها إذا جاءني مال، و لم يتم أمره فاستخفى، ثم ظهر و رضي عنه المأمون، فطالبه الناس بأموالهم، فقال: إنما أخذتها للمسلمين، و أردت قضاءها من فيئهم، و الأمر الآن إلى غيري، فعمل أبي محمد بن عبد الملك قصيدة يخاطب فيها المأمون، و مضى بها إلى إبراهيم بن المهديّ، فأقرأه(6) إياها و قال: و اللّه لئن لم تعطني المال الذي اقترضته من أبي لأوصلنّ هذه القصيدة إلى المأمون، فخاف أن يقرأها المأمون، فيتدبّر ما قاله، فيوقع به، فقال له: خذ مني بعض المال، و نجّم عليّ بضعه، ففعل أبي ذلك بعد أن حلّفه إبراهيم بأوكد الأيمان ألاّ يظهر القصيدة في حياة المأمون، فوفّى له أبي بذلك، و وفّى إبراهيم بأداء المال كله.
و القصيدة قوله:
/
أ لم تر أن الشيء للشيء علّة *** تكون له كالنار تقدح بالزّند
ص: 39
كذلك جرّبت الأمور و إنما *** يدلّك ما قد كان قبل على البعد
و ظنّي بإبراهيم أنّ مكانه *** سيبعث يوما مثل أيامه النّكد(1)
رأيت حسينا حين صار محمد *** بغير أمان في يديه و لا عقد(2)
فلو كان أمضى السيف فيه بضربة *** فصيّره بالقاع منعفر الخدّ
إذا لم تكن للجند فيه بقية *** فقد كان ما خبّرت من خبر الجند
هم قتلوه بعد أن قتلوا له *** ثلاثين ألفا من كهول و من مرد
و ما نصروه عن يد سلفت له *** و لا قتلوه يوم ذلك عن حقد
/و لكنه الغدر الصّراح و خفة ال *** حلوم و بعد الرأي عن سنن القصد
فذلك يوم كان للناس عبرة *** سيبقى بقاء الوحي في الحجر الصّلد(3)
و ما يوم إبراهيم إن طال عمره *** بأبعد في المكروه من يومه عندي
تذكّر أمير المؤمنين مقامه *** و أيمانه في الهزل منه و في الجدّ
أما و الذي أمسيت عبدا خليفة *** له شرّ أيمان الخليفة و العبد
إذا هزّ أعواد المنابر باسته *** تغنّى بليلى أو بميّة أو هند
فو اللّه ما من توبة نزعت به *** إليك و لا ميل إليك و لا ودّ
/و لكنّ إخلاص الضمير مقرّب *** إلى اللّه زلفى لا تخيب و لا تكدي
أتاك بها طوعا إليك بأنفه *** على رغمه و استأثر اللّه بالحمد
فلا تتركن للناس موضع شبهة *** فإنك مجزيّ بحسب الذي تسدي
فقد غلطوا للناس في نصب مثله *** و من ليس للمنصور بابن و لا المهدي(4)
فكيف بمن قد بايع الناس و التقت *** ببيعته الركبان غورا إلى نجد
و من سكّ تسليم الخلافة سمعه *** ينادى به بين السّماطين من بعد
و أي امرئ سمّى بها قطّ نفسه *** ففارقها حتى يغيّب في اللّحد
و تزعم هذي النابتيّة أنّه *** إمام لها فيما تسرّ و ما تبدي(5)
يقولون سنّيّ و أيّة سنّة *** تقوم بجون اللون صعل القفا جعد(6)
ص: 40
و قد جعلوا رخص الطعام بعهده *** زعيما له باليمن و الكوكب السّعد
إذا ما رأوا يوما غلاء رأيتهم *** يحنّون تحنانا إلى ذلك العهد
و إقباله في العيد يوجف حوله *** و جيف الجياد و اصطفاق القنا الجرد(1)
و رجّالة يمشون بالبيض قبله *** و قد تبعوه بالقضيب و بالبرد
/فإن قلت قد رام الخلافة غيره *** فلم يؤت فيما كان حاول من جدّ
فلم أجزه إذ خيّب اللّه سعيه *** على خطإ إذ كان منه و لا عمد(2)
و لم أرض بعد العفو حتّى رفعته *** و للعمّ أولى بالتّعهّد و الرّفد(3)
فليس سواء خارجيّ رمى به *** إليك سفاه الرأي و الرأي قد يردى
تعاوت له من كل أوب عصابة *** متى يوردوا لا يصدروه عن الورد(4)
و من هو في بيت الخلافة تلتقي *** به و بك الآباء في ذروة المجد
فمولاك مولاه و جندك جنده *** و هل يجمع القين الحسامين في غمد؟
و قد رابني من أهل بيتك أنّني *** رأيت لهم وجدا به أيّما وجد
يقولون لا تبعد من ابن ملمّة *** صبور عليها النفس ذي مرّة جلد
فدانا و هانت نفسه دون ملكنا *** عليه لذي الحال التي قلّ من يفدي(5)
على حين أعطى الناس صفق(6) أكفّهم *** عليّ بن موسى بالولاية و العهد
/فما كان فينا من أبى الضّيم غيره *** كريم كفى ما في القبول و في الرّدّ
و جرّد إبراهيم للموت نفسه *** و أبدى سلاحا فوق ذي ميعة نهد(7)
و أبلى و من يبلغ من الأمر جهده *** فليس بمذموم و إن كان لم يجد
فهذي أمور قد يخاف ذوو النهى *** مغبّتها و اللّه يهديك للرشد
أخبرني الصوليّ، قال: حدّثني عبد اللّه بن الحسين القطربليّ، عن جعفر بن محمد بن خلف قال:
قال لي المعلّى بن أيوب: كيف كان محلّ يحيى بن خاقان عند محمد بن عبد الملك و مقداره؟ فقلت له:
ص: 41
سمعت محمدا يذكره، فقال: هو مهزول الألفاظ، عليل المعاني سخيف العقل، ضعيف العقدة(1)، واهي العزم مأفون الرأي.
قال عبد اللّه:
و لما تولى محمد بن عبد الملك الوزارة، اشترط ألاّ يلبس القباء، و أن يلبس الدّرّاعة(2) و يتقلّد عليها سيفا بحمائل، فأجيب إلى ذلك.
أخبرني الصوليّ، قال: حدّثني أبو ذكوان، قال: حدّثني طمّاس، قال ميمون بن هارون:
كان محمد بن عبد الملك، يقول: الرّحمة خور في الطبيعة، و ضعف في المنّة، ما رحمت شيئا قط. فكانوا يطعنون عليه في دينه بهذا القول، فلما وضع في الثّقل(3) و الحديد قال: ارحموني، فقالوا له: و هل رحمت شيئا قطّ فترحم! هذه شهادتك على نفسك و حكمك عليها.
أخبرني الصوليّ: قال: حدّثني أبو ذكوان، قال: حدّثني طماس، قال:
جاء أبو دنقش الحاجب إلى محمد بن عبد الملك برسالة من المعتصم ليحضر، فدخل ليلبس ثيابه، و رأى ابن دنقش الحاجب غلمانا لهم روقة(4) فقال: و هو يظنّ أنه لا يسمع:
و على اللواط فلا تلومن كاتبا *** إن اللّواط سجيّة الكتّاب
فقال محمد له:
و كما اللواط سجية الكتّاب *** فكذا الحلاق سجيّة الحجّاب(5)
فاستحيا ابن دنقش، و اعتذر إليه، فقال له: إنما يقع العذر لو لم يقع الاقتصاص فأما و قد كافأتك فلا.
أخبرني الصوليّ، قال: حدّثني محمد بن موسى، قال:
أنشدني الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك أبياتا، يرثي بها سكرانة أمّ ابنه عمر، و جعل الحسن يتعجب من جودتها، و يقول:
ص: 42
يقول لي الخلاّن لو زرت قبرها *** فقلت: و هل غير الفؤاد لها قبر
على حين لم أحدث فأجهل قدرها *** و لم أبلغ السنّ التي معها الصبر
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدّثني عبد الرحمن بن سعيد الأزرقيّ، قال: استبطأ عبد اللّه بن طاهر محمد بن عبد الملك في بعض أموره، و اتّهمه بعدوله عن شيء أراده إلى سواه، فكتب إليه محمد بن عبد الملك يعتذر من ذلك، و كتب في آخر كتابه يقول:
أ تزعم أنني أهوى خليلا *** سواك على التّداني و البعاد
جحدت إذا موالاتي عليّا *** و قلت بأنني مولى زياد
قرأت في بعض الكتب:
كان عبد اللّه بن الحسن الأصبهانيّ يخلف عمرو بن مسعدة على ديوان الرسائل، فكتب إلى خالد بن يزيد بن مزيد: إن المعتصم أمير المؤمنين ينفخ منك/في غير فحم، و يخاطب امرأ غير ذي فهم، فقال محمد بن عبد الملك: هذا كلام ساقط سخيف؛ جعل أمير المؤمنين ينفخ بالزّق كأنه حدّاد، و أبطل الكتاب ثم كتب /محمد بن عبد الملك إلى عبد اللّه بن طاهر: و أنت تجري أمرك على الأربح فالأربح، و الأرجح فالأرجح، لا تسعى(1) بنقصان، و لا تميل برجحان، فقال عبد اللّه الأصبهانيّ: الحمد للّه، قد أظهر من سخافة اللفظ ما دل على رجوعه إلى صناعته من التجارة بذكره ربح السّلع، و رجحان الميزان، و نقصان الكيل، و الخسران من رأس المال.
فضحك المعتصم، و قال: ما أسرع ما انتصف الأصبهانيّ من محمد، و حقدها عليه ابن الزيات، حتى نكبه.
أخبرني الأخفش عن المبرّد قال:
نظر رجل كان يعادى يونس النحوي إليه و هو يهادى(2) بين اثنين من الكبر، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، أبلغت ما أرى؟ فعلم يونس أنه قال له ذلك شامتا، فقال: هذا الذي كنت أرجو فلا بلغته، فأخذه محمد بن عبد الملك الزيّات: فجعله في شعر فقال:
و عائب عابني بشيب *** لم يعد لمّا ألمّ وقته
فقلت إذ عابني بشيبي: *** يا عائب الشيب لا بلغته
و نديم سارق خاتلني *** و هو عندي غير مذموم الخلق
ضاعف الكور على هامته *** و طوى منديلنا طيّ الخرق
يا أبا دهمان لو جاملتنا *** لكفيناك مئونات السّرق
أخبرنا أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني، قال:
كنت عند أبي الحسين بن أبي البغل لما انصرف عن بغداد بعد إشخاصه إليها للوزارة و بطلان ما نذره من ذلك و رجوعه، فجعل يحدّثنا بخبره، ثم قال: للّه درّ محمد بن عبد الملك الزيات حيث(1) يقول:
ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه *** قد كنت أحسب أنّي قد ملأت يدي
ما لي إذا غبت لم أذكر بصالحة *** و إن مرضت فطال السّقم لم أعد(2)
أخبرني الصوليّ، قال: حدّثني عون بن محمد الكنديّ، قال: حدّثني عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الربيع، قال:
وصفني محمد بن عبد الملك للمعتصم، و قال: ما له نظير في ملاحة الشعر و الغناء و العلم بأمور الملوك، فلقيته فشكرته، و قلت: جعلت فداءك! أتصف شعري و أنت أشعر الناس؟ أ لست القائل:
أ لم تعجب لمكتئب حزين *** خدين صبابة و حليف صبر
يقول - إذا سألت به -: بخير *** و كيف يكون مهجور بخير؟
قال: و أين هذا، من قولك؟
يقول لي كيف أصب *** حت كيف يصبح مثلي
ماء و لا كصدّاء(3)، و مرعى و لا كالسّعدان(4).
أخبرني الصوليّ، قال: حدّثني عون بن محمد: قال: لقي الكنجيّ(5) محمد بن عبد الملك فسلّم عليه فلم يجبه، فقال الكنجيّ:
ص: 44
/
هذا و أنت ابن زيات تصغّرنا *** فكيف لو كنت يا هذا ابن عطّار؟
فبلغ ذلك محمدا، فقال: كيف ينتصف من ساقط أحمق، وضعه رفعه، و عقابه ثوابه.
أخبرني الصوليّ، قال: أخبرني عبد اللّه بن محمد الأزديّ، قال: حدّثني يعقوب بن التّمار، قال:
قال محمد بن عبد الملك لبعض أصحابه: ما أخّرك عنا؟ قال: موت أخي، قال: بأيّ علة؟ قال: عضّت إصبعه فأرة، فضربته الحمرة(1)، فقال محمد: ما يرد القيامة شهيد أخسّ سببا، و لا أنذل(2) قاتلا، و لا أضيع ميتة، و لا أظرف قتلة من أخيك.
أخبرني عمي عن أبي العيناء، قال:
كان محمد بن عبد الملك يعادي أحمد بن أبي دواد، و يهجوه، فكان أحمد يجمع الشعراء، و يحرّضهم على هجائه و يصلهم، ثم قال فيه أحمد بيتين، كانا أجود ما هجي به، و هما:
أحسن من خمسين بيتا سدى *** جمعك إيّاهنّ في بيت
ما أحوج الناس إلى مطرة *** تذهب عنهم وضر الزيت(3)
و كان ابن أبي دواد يقول: ليس أحد من العرب إلا و هو يقدر على قول الشعر، طبعا ركّب فيهم، قلّ قوله أو كثر.
أخبرنا الصوليّ، قال: حدّثنا محمد بن موسى عن الحسن بن وهب، قال:
أنشد أبو تمام محمد بن عبد الملك قصيدته التي يقول فيها:
لهان علينا أن نقول و تفعلا(4)
فأثابه عليها و وقّع عليه:
رأيتك سهل البيع سمحا و إنما *** يغالى إذا ما ضنّ بالشيء بائعه
فأما الذي هانت بضائع بيعه *** فيوشك أن تبقى عليه بضائعه
ص: 45
هو الماء إن أجممته طاب ورده *** و يفسد منه أن تباح شرائعه
فأجابه أبو تمام و قال:
أبا جعفر إن كنت أصبحت شاعرا *** أسامح في بيعي له من أبايعه
فقد كنت قبلي شاعرا تاجرا به *** تساهل من عادت عليك منافعه
فصرت وزيرا و الوزارة مكرع *** يغصّ به بعد اللذاذة كارعه
و كم من وزير قد رأينا مسلّطا *** فعاد و قد سدّت عليه مطالعه
و للّه قوس لا تطيش سهامها *** و للّه سيف لا تفلّ مقاطعه
حدّثني الصّوليّ، قال: حدّثني محمد بن يحيى بن عباد، قال: حدّثني أبي، قال:
حجّ محمد بن عبد الملك في آخر أيام المأمون، فلما قدم كتب إليه راشد الكاتب قوله:
لا تنس عهدي و لا مودّتيه *** و اشتق إلى طلعتي و رؤيتيه
/(1)إن غبت عنا فلم تغب كثرة ال *** ذكر فلا تغفلن هديتيه
التّمر و النقل و المساويك و القس *** ب و خير النعال حسن شيه(2)
فإن تجاوزت ما أقول إلى العص *** ب فذاك المأمول منك ليه(3)
فأجابه محمد بن عبد الملك:
إنك منّي بحيث يطّرد النا *** ظر من تحت ماء دمعتيه(4)
و لا و من زادني تودّده *** على صحابي بفضل غيبتيه
ما أحسن الترك و الخلاف لما *** تريد مني و ما تقول ليه
/يا بأبي أنت ما نسيتك في *** يوم دعائي و لا هديّتيه
ناجيت بالذكر و الدّعاء لك ال *** لّه لدى البيت رافعا يديه
حتى إذا ما ظننت بالملك الق *** ادر أن قد أجاب دعوتيه
قمت إلى موضع النعال و قد *** أقمت عشرين صاحبا معيه
و قلت لي صاحب أريد له *** نعلا و لو من جلود راحتيه
فانقطع القول عند واحدة *** قال الذي اختار يا بشارتيه
ص: 46
فقلت عندي لك البشارة *** و الشّكر و قلاّ في جنب حاجتيه
ثم تخيّرت بعد ذاك من العص *** ب اليماني بفضل خبرتيه
موشيّة لم أزل ببائعها *** أرغب حتى زها عليّ بيه
/يرفع في سومه و أرغبه *** حتى التقى زهده و رغبتيه
و قد أتاك الذي أمرت به *** فاعذر بكثر الإنعام قلّتيه
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد، قال:
كان لمحمد بن عبد الملك برذون أشهب لم ير مثله فراهة و حسنا، فسعى به محمد بن خالد حيلويه إلى المعتصم، و وصف له فراهته(1)، فبعث المعتصم إليه فأخذه منه، فقال محمد بن عبد الملك يرثيه:
كيف العزاء و قد مضى لسبيله *** عنا فودّعنا الأحمّ الأشهب!(2)
دبّ الوشاة فأبعدوك و ربّما *** بعد الفتى و هو الأحبّ الأقرب
للّه يوم نأيت عنّي ظاعنا *** و سلبت قربك أيّ علق أسلب
نفس مفرقة أقام فريقها *** و مضى لطيّته فريق يجنب
فالآن إذ كملت أداتك كلّها *** و دعا العيون إليك لون معجب
و اختير من سرّ الحدائد خيرها *** لك خالصا و من الحليّ الأغرب
و غدوت طنّان اللّجام كأنما *** في كل عضو منك صنج يضرب
و كأنّ سرجك إذ علاك غمامة *** و كأنما تحت الغمامة كوكب
و رأى عليّ بك الصديق جلالة *** و غدا العدوّ و صدره يتلهّب
أنساك لا زالت إذا منسيّة *** نفسي و لا زالت يميني تنكب(3)
/أضمرت منك اليأس حين رأيتني *** و قوى حبالي من قواك تقضّب
و رجعت حين رجعت منك بحسرة *** للّه ما فعل الأصمّ الأشيب(4)
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان - رضوان اللّه عليه - قال: حدّثني محمد بن ناصح رحمة اللّه عليه، قال:
ص: 47
لحقت غلاّت أهل البتّ(1) آفة في أيام محمد بن عبد الملك من جراد و عطش، فتظلّم(2) إليه جماعة منهم، فوجّه ببعض أصحابه ناظرا في أمرهم، و كان في بصره ضعف، فكتب إليه محمد بن عليّ البتّي:
أتيت أمرا يا أبا جعفر *** لم يأته برّ و لا فاجر
/أغثت أهل البتّ إذ أهلكوا *** بناظر ليس له ناظر
فبلغه، فضحك و ردّ الناظر و وقّع لهم بما سألوا بغير نظر.
أخبرني الصوليّ رضي اللّه عنه قال: حدّثني محمد بن يحيى بن أبي عبّاد عن أبيه رضي اللّه عنهما قال:
قال عليّ بن جبلة يهجو محمد بن عبد الملك الزيات، و كان قد قصد أبا دلف القاسم بن عيسى في بعض أمره:
يا بائع الزيت عرّج غير مرموق *** لتشغلنّ عن الأرطال و السوق
من رام شتمك لم ينزع إلى كذب *** في منتماك و أبداه بتحقيق
أبوك عبد و للأمّ التي فلقت *** عن أمّ رأسك هنّ غير محلوق
/إن أنت عدّدت أصلا لا تسبّ به *** يوما فأمّك مني ذات تطليق
و لن تطيق بحول أن تزيل شجا *** أثبتّه منك في مستنزل الرّيق
اللّه أنشاك من نوك و من كذب *** لا تعطفنّ إلى لؤم لمخلوق
ما ذا يقول امرؤ غشّاك مدحته *** إلا ابن زانية أو فرخ زنديق؟
فأجابه محمد:
اشمخ بأنفك يا ذا السيّئ الأدب *** ما شئت و اضرب قذال الأرض بالذنب
و ارفع بصوتك تدعو من بذي عدن *** و من بقالي قلا بالويل و الحرب(3)
ما أنت إلا امرؤ أعطى بلاغته *** فضل العذار و لم يربع على أدب(4)
فاجمح لعلّك يوما أن تعضّ على *** لجم دلاصيّة تثنيك من كثب(5)
إنّي اعتذرت فما أحسنت تسمع من *** عذري و من قبل ما أحسنت في الطّلب
صبرا أبا دلف في كل قافية *** كالقدر وقفا على الجارات بالعقب(6)
ص: 48
يا ربّ إن كان ما أنشأت من عرب *** شروى أبي دلف فاسخط على العرب(1)
إنّ التعصّب أبدى منك داهية *** كانت تحجّب دون الوهم بالحجب
فأجابه علي بن جبلة:
نبّهت عن سنة عينيك فاصطبر *** و اسحب بذيلك هل تقفو على أثر؟(2)
/إن يرحض اللّه عني عار مطّلبي *** إليك رفدا ألا فانجد به وغر(3)
إني و دعواك أن تأتي بمكرمة *** كمنبض القوس عن سهم بلا وتر
فاردد جفونك حسرى عن أبي دلف *** و لا ملامة أن تعشى عن القمر
لا يسخطنّ امرؤ إن ذلّ من حسب *** فاللّه أنزله في محكم السّور
لم آت سوءا و لم أسخط على أحد *** إلاّ على طلبي في مجتدى عسر(4)
أقصر أبا جعفر عن سطوة جمحت *** إن لم تقصّر بها مالت إلى القصر
فأجابه محمد بن عبد الملك:
يا أيّها العائبي و لم ير لي *** عيبا أ ما تنتهي فتزدجر!
هل لك وتر لديّ تطلبه *** فأنت صلد ما فيك معتصر
/فالحمد و المجد و الثناء لنا *** و للحسود التّراب و الحجر
و هي طويلة يقول فيها:
تعيش فينا و لا تلائمنا *** كما تعيش الحمير و البقر
تغلي علينا الأشعار منك و ما *** عندك نفع يرجّى و لا ضرر
أخبرني عمي - رحمه اللّه - قال: حدّثني عمر بن نصر الكاتب، قال: حدّثني عمي عليّ بن الحسن بن عبد الأعلى، قال محمد:
اجتاز بديع غلام عمير المأمونيّ بمحمد بن عبد الملك الزيات، و كان أحسن خلق اللّه وجها، و كان محمّد يحبّه و يجنّ به جنونا فقال:
راح علينا راكبا طرفه *** أغيد مثل الرشأ الآنس
/قد لبس القرطق و استمسكت *** كفّاه من ذي برق يابس(5)
ص: 49
و قلّد السيف على غنجه *** كأنه في وقعة الدّاحس
أقول لمّا أن بدا مقبلا *** يا ليتني فارس ذا الفارس(1)
أخبرني الأخفش، قال: حدّثني محمد بن يزيد قال:
دامت الأمطار بسرّمن رأى، فتأخّر الحسن بن وهب عن محمد بن عبد الملك الزيات، و هو يومئذ وزير، و الحسن يكتب له، فاستبطأه(2) محمد بن عبد الملك، فكتب إليه الحسن يقول:
أوجب العذر في تراخي اللقاء *** ما توالى من هذه الأنواء
لست أدري ما ذا أقول و أشكو *** من سماء تعوقني عن سماء
غير أني أدعو على تلك بالثّك *** ل و أدعو لهذه بالبقاء
فلام الإله أهديه غضّا *** لك مني يا سيّد الوزراء
أخبرني الصّوليّ، قال: حدّثنا محمد بن موسى، قال:
اعتلّ الحسن بن وهب، فتأخّر عن محمد بن عبد الملك أياما كثيرة، فلم يأته رسوله، و لا تعرّف خبره، فكتب إليه الحسن قوله:
أيّ هذا الوزير أيّدك اللّ *** ه و أبقاك لي بقاء طويلا
أ جميلا تراه يا أكرم النا *** س لكيما أراه أيضا جميلا
إنني قد أقمت عشرا عليلا *** ما ترى مرسلا إليّ رسولا(3)
/إن يكن موجب التعمّد في الصّ *** حّة منّا عليّ منك طويلا(4)
فهو أولى يا سيد الناس برّا *** و افتقادا لمن يكون عليلا
فلما ذا تركتني عرضة الظّنّ *** من الحاسدين جيلا فجيلا؟
أ لذنب فما علمت سوى الشك *** ر قرينا لنيّتي و دخيلا؟
أم ملال، فما علمتك للصا *** حب مثلي على الزمان ملولا؟
قد أتى اللّه بالشفاء فما أع *** رف مما أنكرت إلا قليلا
و أكلت الدّرّاج و هو غذاء *** أفلت علّتي عليه أفولا(5)
ص: 50
بعد ما كنت قد حملت من العلّ *** العضّ عبثا على الطّباع ثقيلا
/و لعلّي قدمت قبلك آتي *** ك غدا إن وجدت فيه سبيلا
فأجابه محمد بن عبد الملك:
دفع اللّه عنك نائبة الدّه *** ر و حاشاك أن تكون عليلا
أشهد اللّه ما علمت و ما ذا *** ك من العذر جائزا مقبولا
و لعمري أن لو علمت فلازمت *** ك حولا لكان عندي قليلا
إنني أرتجي و إن لم يكن ما *** كان مما نقمت إلا جليلا
أن أكون الذي إذا أضمر الإخ *** لاص لم يلتمس عليه كفيلا
ثم لا يبذل المودّة حتى *** يجعل الجهد دونها مبذولا
فإذا قال كان ما قال إذ كا *** ن بعيدا من طبعه أن يقولا
/فاجعلن لي إلى التعلّق بالعذ *** ر سبيلا إن لم أجد لي سبيلا
فقديما ما جاد بالصفح و العف *** و و ما سامح الخليل الخليلا
قال: و كتب محمد بن عبد الملك إلى الحسن بن وهب و قد تأخّر عنه:
قالوا جفاك فلا عهد و لا خبر *** ما ذا تراه دهاه قلت: أيلول(1)
شهر تجذّ حبال الوصل فيه فما *** عقد من الوصل إلا و هو محلول
قال: و كان محمد قد ندبه لأن يخرج في أمر مهمّ فأجابه الحسن فقال:
إني بحول امرئ أعليت رتبته *** فحظّه منك تعظيم و تبجيل
و أنت عدّته في نيل همّته *** و أنت في كلّ ما يهواه مأمول
ما غالني عنك أيلول بلذّته *** و طيبه و لنعم الشهر أيلول
الليل لا قصر فيه و لا طول *** و الجو صاف و ظهر الكأس مرحول
و العود مستنطق عن كلّ معجبة *** يضحي بها كلّ قلب و هو متبول(2)
لكن توقّع و شك البين عن بلد *** تحلّه فوكاء العين محلول
مالي إذا شمّرت بي عنك مبتكرا *** دهم البغال أو الهوج المراسيل(3)
إلا رعاياتك اللاّتي يعود بها *** حدّ الحوادث عنّي و هو مفلول
ص: 51
قال: و كان الحسن بن وهب يساير محمدا على مسنّاة(1)، فعدل عن المسنّاة لئلا/يضيق لمحمد الطريق، فظنّ محمد أنه أشفق على نفسه من المسنّاة، فعدل عنها، و لم يساعده على طريقه، و ظنّ بنفسه أن يصيبها ما يصيبه، فقال له محمد:
قد رأيناك إذ تركت المسنّا *** ة و حاذيتني يسار الطريق
و لعمري ما ذاك منك و قد جدّ *** بك الجدّ من فعال الشّفيق
فقال له الحسن:
إن يكن خوفي الحتوف أراني *** أن تراني مشبّها بالعقوق
فلقد جارت الظنون على المش *** فق و الظّنّ مولع بالشفيق
/غرّر السيد الأجلّ و قد سا *** ر على الحرف من يمين الطريق(2)
فأخذت الشّمال بقيا على السي *** د إذ هالني سلوك المضيق
إنّ عندي مودّة لك حازت *** ما حوى عاشق من المعشوق
طود عزّ خصصت منه ببرّ *** صار قدري به مع العيّوق(3)
و بنفسي و إخوتي و أبي *** البرّ و عمّي و أسرتي و صديقي
من إذا ما روّعت أمّن روعي *** و إذا ما شرقت سوّغ ريقي
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش و الصوليّ، قالا: حدّثنا المبرّد، قال:
استسقى الحسن بن وهب من محمد بن عبد الملك نبيذا ببلد الروم، و هو مع المعتصم فسقاه و كتب إليه:
لم تلق مثلي صاحبا *** أبدى يدا و أعمّ جودا
/يسقي النديم بقفرة *** لم يسق فيها الماء عودا
صفراء صافية كأنّ *** بكأسها درّا نضيدا
و أجود حين أجود لا *** حصرا بذاك و لا بليدا
و إذا استقلّ بشكرها *** أوجبت بالشّكر المزيدا
خذها إليك كأنّما *** كسيت زجاجتها عقودا
و اجعل عليك بأن تقو *** م بشكرها أبدا عهودا
ص: 52
أخبرني(1) الصوليّ، قال: حدّثني أحمد بن محمد الأنصاريّ، قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك، قال:
دعا محمد بن عبد الملك قبل وزارته الحسن بن وهب في آخر أيام المأمون، فجاءه و دخلا حمّاما له، و أقاما على لهوهما، ثم طلب الحسن بن وهب لعمل احتيج فيه إليه، فمضى، و بطل يومهم(2)، فكتب الحسن إليه:
سقيا لنضر الوجه بسّامه *** مهذّب الأخلاق قمقامه(3)
تكسبه شكرا على أنها *** مطبقة السّنّ للوّامه(4)
زرناه في يوم علا قدره *** من سائر الأيام في عامه
أسعده اللّه و أحظى به *** و جاده الغيث بإرهامه(5)
فكان مسرورا بنا باذلا *** لرحله الرحب و حمّامه
نخدمه و هو لنا خادم *** بفضله من دون خدّامه
/ثم سقانا قهوة لم يدع *** أطيب منها بقرى شامه
صهباء دلّت على دنّها *** و حدّثت عن ضعف إسلامه(6)
فأجابه محمد بن عبد الملك رحمه اللّه تعالى:
و زائر لذّ لنا يومه *** لو ساعد الدهر بإتمامه
ما ذا لقينا من دواوينه *** و خطّه فيها بأقلامه؟
أسرّ ما كنّا فمن مازح *** أو شارب قد عبّ في جامه
فارقنا فالنّفس مطروفة *** بواكف الدّمع و سجّامه
و عاد بالمدح لنا منعما *** به إلى سالف إنعامه
ليت - و أنّي لي بها منية - *** لو كنت فيه بعض قوّامه
يشكر ما نال على أنه *** لا يشكر الحرّ لحمّامه
أمسحه فيه و أدنو له *** من خلفه طورا و قدّامه
جعلت نفسي جنّة للصّبا *** و بعت إسلامي بإسلامه
ص: 53
فصار ما يشرب حلاله *** و صرت مأخوذا بآثامه
أخبرني الحسن بن القاسم الكاتب، قال: سمعت القاسم بن ثابت يحدّث عن أبيه، قال: قال أحمد الأحول:
لما قبض على محمد بن عبد الملك الزيات تلطّفت في الوصول إليه، فرأيته في حديد ثقيل، فقلت له: أعزز عليّ ما أرى، فقال:
سل ديار الحي ما غيّرها *** و محاها و محا منظرها؟
/و هي اللاتي إذا ما انقلبت *** صيّرت معروفها منكرها(1)
إنما الدنيا كظلّ زائل *** نحمد اللّه كذا قدّرها
في هذه الأبيات رمل طنبوري لا أدري لمن هو؟ و مما يغنّى فيه من شعر محمد بن عبد الملك الزيات:
ظالمي ما علمته *** معتد لا عدمته
مطمعي بالوصال مم *** تنع حين رمته
مرصد بالخلاف و ال *** منع من حيث سمته(2)
هاجر إن وصلته *** صابر إن صرمته
كم و كم قد طويت ما *** بي و كم قد كتمته
ربّ همّ طويت في *** ك و غيظ كظمته(3)
و حياة سئمتها *** و الهوى ما سئمته
رمت شيئا هويته *** ليس لي ما حرمته
قال إذ صرّح البكا *** ء بما قد سترته(4)
لو بكى طول دهره *** بدم ما رحمته
الغناء لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل بالبنصر.
إذا أحببت لم أسل *** و إن واصلت لم أقطع
ص: 54
و إن عاتبني الناس *** تصاممت فلم أسمع
و قد جرّبت ما ضرّ *** و قد جرّبت ما ينفع
فما مثل الهوى أنه *** ك للجسم و لا أضرع
و لا كالهجر في القرب *** إلى الموت و لا أسرع
و إن أوجعني العذل *** فنيران الهوى أوجع
و هذا عدم العقل *** فما أسطيع أن أصنع
و لا و اللّه ما عندي *** لما قد حلّ بي مدفع
و لا فيّ لهجران *** ك لو لا ظلمكم موضع
الغناء لعريب لحنان: خفيف ثقيل بالبنصر، و هزج بالوسطى.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد، قال: حدّثني الحسن بن رجاء، قال:
قدم محمد بن عبد الملك على الحسن بن سهل إلى فم الصّلح، و امتدحه بقصيدته التي أولها:
كأنها حين تناءى خطوه *** أخنس موشيّ الشّوي يرعى القلل(1)
/و قال فيها:
إلى الأمير الحسن استنجدتها *** أيّ مراد و مناخ و محلّ
سيف أمير المؤمنين المنتضى *** و حصن ذي الرئاستين المقتبل(2)
آباؤك الغرّ الألى جدّهم *** كسرى أنوشروان و الناس همل
من كلّ ذي تاج إذا قال مضى *** كلّ الذي قال و إن همّ فعل
فأين لا أين و أنّى مثلكم *** أنتم الأملاك و الناس خول(3)
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
قال: و مرض الواثق، فدخل إليه الحسن بن سهل عائدا، و محمد بن عبد الملك يومئذ وزيره، و الحسن بن سهل متعطّل، فجعل الحسن بن سهل يتكلم في العلة و علاجها و ما يصلح للواثق من الدواء و العلاج و الغذاء أحسن
ص: 55
كلام، قال: فحسده محمد بن عبد الملك، و قال له: من أين لك هذا العلم يا أبا محمد؟ قال: إني كنت أستصحب من أهل كل صنعة رؤساء أهلها، و أتعلم منهم، ثم لا أرضى إلا ببلوغ الغاية، فقال له محمد - و كان حسودا: و متى كان ذلك؟ قال: في زمان قلت فيّ:
فأين لا أين و أنّى مثلكم *** أنتم الأملاك و الناس خول(1)
فخجل محمد بن عبد الملك، و أطرق، و عدل عن الجواب.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني حمّاد بن إسحاق قال: حدّثني ميمون بن هارون بن خلف قال:
/كنت أسير بالقرب من محمد بن عبد الملك الزيات، و هو يريد يومئذ منزله، حتى مرّ بدار إبراهيم بن رباح، فرأى فيها قبة مشيدة، فقال:
أما القباب فقد أراها شيّدت *** و عسى أمور بعد ذاك تكون
عبد عرت منه خلائق جهله *** إذ راح و هو من الثّراء سمين(2)
فما كان إلا أيّام حتى أوقع به.
أخبرني عمي قال: حدّثني الحسن بن عليّ بن عبد الأعلى عن أبيه، قال:
كان الواثق قد أصلح بين محمد بن عبد الملك الزيات و بين أحمد بن أبي دواد، فكفّ محمد عن ذكره، و جعل ابن أبي دواد يخلو بالواثق، و يغريه به، حتى قبض عليه، و كان فيما بلغه عنه أنه قد عزم على الفتك به و التدبير عليه. فقبض الواثق عليه، ثم أطلقه بعد مدة، ثم وزر للمتوكل، و كان محمد بن عبد الملك أشار بابن الواثق، و أشار ابن أبي دواد بالمتوكل، و قام و قعد في أمره حتى ولّى، و عمّمه بيده، و ألبسه البردة، و قبّل بين عينيه، و كان المتوكّل قبل ذلك يدخل على محمد بن عبد الملك في حياة الواثق يشكو إليه جفاءه له فيتجهّمه محمد، و يغلظ له الردّ، إلى أن قال يوما بحضرته: أ لا تعجبون إلى هذا العاصي، يعادي أمير المؤمنين، ثم يسألني أن أصلح له قلبه! اذهب، ويلك فأصلح نفسك له، حتى يصلح لك قلبه. فكان موقع ذلك يحسن عند الواثق، فدخل إليه يوما، و قد كان قال للواثق: إن جعفرا يدخل إليّ و له شعر قفا و طرّة مثل النساء، فقد فضحك فأمره بأن يحلقهما، و يضرب بشعرهما وجهه، فلما دخل إليه المتوكل فعل ذلك به، و تجهّمه بالقبيح، فلما ولي الخلافة خشي إن نكبه عاجلا أن يستتر أسبابه(3) فتفوته بغيته فيه، فاستوزره و خلع عليه، و جعل ابن أبي دواد يغريه به و يجد عنده لذلك موقعا/و استماعا، حتى قبض عليه و قتله، فلم يجد له من أملاكه كلّها من عين و ورق و أثاث و ضيعة إلاّ ما كانت
ص: 56
قيمته مائة ألف دينار، فندم على ذلك، و لم يجد منه عوضا، و كان أمره مما يعتدّ على أحمد بن أبي دواد، و يقول:
أطمعتني في باطل، و حملتني على أمر لم أجد منه عوضا.
أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ، قال:
زعم محمد بن عيسى الفساطيطيّ، أن محمد بن عبد الملك اجتاز بدندن الكاتب، و عليه خلع الوزارة للمتوكل لما وزر له، فقال دندن:
راح الشقيّ بخلعة النّكر *** مثل الهديّ لليلة النّحر(1)
لا تمّ شهر بعد خلعته *** حتى تراه طافي الجمر(2)
و يرى يطاين من إساءته *** يهوي له بقواصم الظهر(3)
فكان الأمر كما قال.
قال عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى:
فلما قبض عليه المتوكل استعمل له تنّور حديد، و جعل فيه مسامير لا يقدر معها أن يتحرّك إلا دخلت في جسده، ثم أحماه له و جعله فيه، فكان يصيح: ارحموني! فيقال له: اسكت، أنت كنت تقول: ما رحمت أحدا قطّ، و الرحمة ضعف في الطبيعة، و خور في المنّة، فاصبر على حكمك! و خرج عليه عبادة، فقال: أردت أن تشويني، فشووك.
أخبرني طاهر بن عبد اللّه بن طاهر الهاشميّ: قال: قال العباس بن طومار:
أمر المتوكل عبادة أن يدخل إلى محمد بن عبد الملك الزيات - و قد أحمى تنور حديد، و جعله فيه - فيكايده، فدخل إليه فوقف بإزائه، ثم قال: اسمع يا محمد، كان/في جيراننا حفّار يحفر القبور، فمرضت مخنّثة من جيراني، و كانت صاحبة لي، فبادر فحفر لها قبرا من الطمع في الدراهم، فبرأت هي و مرض هو بعد أيام، فدخلت إليه صاحبتي و هو بالنزع، فقالت: وى يا فلان؟ حفرت لي قبرا و أنا في عافية، أ و ما علمت أنه من حفر بئر سوء وقع فيها، و حياتك يا محمد، لقد دفناه في ذلك القبر، و العقبى لك. قال: فو اللّه ما برح من إزاء محمد، عبد الملك يؤذيه، و يكايده إلى أن مات.
قال الصوليّ:
ص: 57
و قال الحسن بن وهب يرثي محمد بن عبد الملك، و كان في حياته ينتفي(1) منها، و يجحدها، ثم شاعت بعد ذلك، و وجدت بخطه:
يكاد القلب من جزع يطير *** إذا ما قيل قد قتل الوزير
أمير المؤمنين هدمت ركنا *** عليه رحاكم كانت تدور
سيبلى الملك من جزع عليه *** و يخرب حين تضطرب الأمور(2)
فمهلا يا بني العباس مهلا *** فقد كويت بفعلكم الصدور
إلى كم تنكبون الناس ظلما *** لكم في كل ملحمة عقير
جزيتم ناصرا لكم المنايا *** و ليس كذلكم يجزى النّصير
فكنتم سائقا أرسا إليكم *** و ذلك من فعالكم شهير(3)
و كأنّ صلاحه لو شئتموه *** قريبا لا يحاوله البصير
كأنّ اللّه صيّركم ملوكا *** لئلاّ تعدلوا و لأن تجوروا
ص: 58
5 - أخبار أبي حشيشة(1)
أبو حشيشة لقب غلب عليه، و هو محمد بن أمية بن أبي أمية، يكنى أبا جعفر، و كان أهله جميعا متّصلين بإبراهيم بن المهديّ، و كان هو من بينهم معنيّا بالطّنبور، يغنّى أحسن غناء(2) و خدم جماعة من الخلفاء أولهم المأمون، و من بعده إلى المعتمد.
و له يقول أبو صالح بن يزداد و كتب بها في استتاره(3):
جعلت فداك يا بن أبي أميّه *** أرى الأيام قد حكمت عليه
و ملّني الصديق و خان عهدي *** فما أقرا لكم كتبا إليّه
فإن كان الضمير كما بدا لي *** فهذا و الإله هو البليّة
كان أكثر انقطاعه إلى أبي أحمد بن الرشيد أيام حياته، و كان أبوه وجده و أخواله كتّابا.
و قرأت على أحمد بن جعفر جحظة ما ذكره عن أبي حشيشة في كتابه الذي ألّفه في أخبار مراتب الطّنبوريين و الطّنبوريات و كان من ذلك أنه قال:
شاهدت أبا حشيشة مدّة، و كان يتغنّى في أشعار خالد الكاتب و بني أمية، و كانت معه فقر من الأحاديث يضعها مواضعها، و كانت له صنعة تقدّم فيها كلّ طنبوريّ، لا أحاشي من قولي ذلك، فمنها:
كأنّ هموم الناس في الأرض كلّها *** عليّ و قلبي بينهم قلب واحد
و لي شاهدا عدل سهاد و عبرة *** و كم مدّع للحبّ من غير شاهد
و هو خفيف رمل مطلق. قال جحظة: و رأيته في القدمة التي قدمها مع ابن المدبّر بين يدي المعتمد، و قد غناه من شعر عليّ بن محمد بن نصر.
ص: 59
حرمت بذل نوالك *** وا سوأتا من فعالك!
لما مللت وصالي *** آيستني من وصالك
فوهب له مائتي دينار.
و اللحن رمل مطلق.
أخبرني جحظة فيما قرأته عليه، قال: حدّثني ابن نوبخت: يعني عليّ بن العباس قال:
رأيته و قد حضرت عريب عند ابن المدبر، و هو يغنّي، فقالت له عريب: أحسنت يا أبا جعفر، و لو عاش الشّيخان ما قلت لهما هذا - تعني علويه و مخارقا.
حدّثني أبو حشيشة، قال: هجم عليّ خادم أسود، فقال لي: البس ثيابك، فعلمت أن هذا لا يكون إلا عن أمر خليفة أو أمير، فلم أراجعه، حتى لبست ثيابي، فمضيت معه فعبر بي الجسر، و أدخلني إلى دار لا أعرفها، ثم اجتاز بي في رواق فيه حجر تفوح منهنّ رائحة الطعام و الشراب، فأدخلت منهنّ إلى حجرة مفروشة، و جاءني بمائدة كأنها جزعة يمانية قد نشرت في عراصها الحبرة(1)، فأكلت و سقاني رطلين و جاءني بصندوق ففتحه فإذا فيه طنابير، فقال لي: اختر، فاخترت واحدا، و أخذ بيدي، فأدخلني إلى دار فيها سمّاعة(2) و فيها رجلان على أحدهما قباء غليظ، و على الآخر ثياب ملحم(3) و خزّ، فقال لي صاحب الخزّ: اجلس، فجلست، فقال: أكلت و شربت؟ فقلت: نعم.
قال: عندنا؟ قلت: نعم، قال: تغنّي ما نقول لك؟ فقلت له: قل، فقال: تغنّي بصنعتك:
/
يا كثير الإقبال و الانصراف(4)*** و ملولا و لو أشأ قلت خاف
و هو رمل مطلق، فغنّيته إياه، و جعل يطلب مني صوتا بعد صوت من صنعتي، فأغنّيه، و يستعيده، و يشرب هو و الرجل، و أسقى بالإنصاف المختوتة(5) إلى أن صلوا العشاء الآخرة، و هم لا يشربون إلا على الصوت الأول لا يريدون غيره، ثم أومأ إليّ الخادم: قم، فقمت، فقال لي صاحب القباء منهما: أ تعرفني؟ قلت: لا و اللّه، قال: أنا إسحاق بن إبراهيم الطاهريّ، و هذا محمد بن راشد الخنّاق، و اللّه لئن بلغني أنك تقول: إنك رأيتني لأضربنّك مائتي سوط، انصرف. فخرجت و دفع إلى الخادم ثلاثمائة دينار، فجهدت أن يقبل منها شيئا على سبيل البرّ، فما فعل.
ص: 60
حدّثني جحظة قال: حدّثني أبو حشيشة: قال:
وجّه إليّ إسحاق بن إبراهيم الطاهريّ، فصرت إليه و هو في داره التي على طرف الخندق، فدعا بجونة(1)، فأكل و أكلت من ناحية، و دعا بستارة و قال: تغنّ بصنعتك:
عاد الهوى بالكأس بردا *** فأطع إمارة من تبدّى
و هو خفيف رمل مطلق.
فغنّيته مرارا، ثم ضرب السّتارة، و قال: فولوه، فقالته جارية فأحسنت غاية الإحسان، فضحك ثم قال: كيف تراه؟ فقلت: قد و اللّه بغّضوه إليّ، فازداد في الضحك، و أنا أرمق جبّة خزّ خضراء كانت عليه، فقال: كم ترمق(2)هذه الجبّة؟ يا غلام، كانت عشرة أثواب خزّ فقطعت منها هذه الجبّة، فهات التسعة فجيء بها، فدفعها إليّ فكنت أبيع رذالها(3) بستين دينارا.
/حدّثني جحظة قال:
حدّثني أبو حشيشة أن بني الجنيد الإسكافيّين كانوا أوّل من اصطنعه، و أنهم كانوا يسمونه الظّريف، و أن أول منزل ابتاعه من أموالهم إلى أن شاع خبره، و تفاقم أمره. قال: و كانوا آكل الناس، رأيت رجلا منهم، و قد أكل هو و ابن عم له اثنين و عشرين رأسا كبارا، و شربا، فسكرا و ناما، ثم انتبها في وقت الظّهر، فدعوا بالطعام، فعادا إلى الأكل، ما أنكر منهما شيئا.
و نسخت من كتاب ألّفه أبو حشيشة، و جمع فيه أخباره مع من عاشره، و خدم من الخلفاء، و هو كتاب مشهور، قال:
أول من سمعني من الخلفاء المأمون، و هو بدمشق، و صفني له مخارق، فأمر بأشخاصي إليه، و أمر لي بخمسين(4) ألف درهم أتجهّز بها، فلما وصلت إليه أدناني، و أعجب بي، و قال للمعتصم: هذا ابن من خدمك و خدم آبائك و أجدادك يا أبا إسحاق، جدّ هذا أمية كاتب جدّك المهديّ على كتابة السرّ و بيت المال و الخاتم، و حجّ المهديّ أربع حجج كان جدّ هذا زميله فيها. و اشتهى المأمون من غنائي:
كان ينهى فنهى حين انتهى *** و انجلت عنه غيابات الصّبا
خلع اللهو و أضحى مسبلا *** للنّهى فضل قميص وردا
ص: 61
كيف يرجو البيض من أوّله *** في عيون البيض شيب وجلا(1)
كان كحلا لمآقيها فقد *** صار بالشيب لعينيها قذى
الشعر لدعبل، و الغناء لمحمد بن حسين بن محرز رمل بالوسطى.
قال أبو حشيشة: و كان مخارق قد نهاني أن أغنّي ما فيه ذكر الشيب من هذا الشعر، و أن أقتصر على البيتين الأوّلين؛ لأن المأمون كان يشتدّ عليه ذكر الشيب، /و يكرهه جدّا من المغنّين، و أمر ألاّ يغنّيه أحد بشعر قيل في الشيب أو فيه ذكر له، فسكرت يوما، فمررت في الشعر كلّه، فقال: يا مخارق، أ لا تحسن أدب هذا الفتى! فنقفني(2) مخارق نقفة صلبة، فما عدت بعدها لذكر شيء فيه الشيب.
و ذكر أبو حشيشة في كتابه هذا مما كان يشتهيه عليه المأمون و غيره من الخلفاء أصواتا كثيرة، و لا فائدة في ذكرها هاهنا لأنها طويلة، فذكرت مما كان يختاره عليه كلّ خليفة صوتا. قال أبو حشيشة: كان المعتصم يشتهي عليّ:
أسرفت في سوء الصنيع *** و فتكت بي فتك الخليع
و ولعت بي متمرّدا *** و العذر في طرف الولوع(3)
صيّرت حبّك شافعا *** فأتيت من قبل الشّفيع
الشعر لأصرم بن حميد، و الغناء لأبي حشيشة.
قال: و كان الواثق يختار من غنائي:
يا تاركي متلدّد الع *** وّاد جذلان العداة(4)
انظر إليّ بعين را *** ض نظرة قبل الممات
خلّيتني بين الوعي *** د و بين ألسنة الوشاة
ما ذا يرجّي بالحيا *** ة منغّص روح الحياة؟
الشعر لمحمد بن سعيد الأسديّ، و الغناء لأبي حشيشة خفيف رمل.
قال: و كان المتوكّل يحبّني، و يستخفّني، و كانت أغانيه التي يشتهيها عليّ كثيرة منها:
ص: 62
أطعت الهوى و خلعت العذارا *** و باكرت بعد القراح العقارا(1)
و نازعك الكأس من هاشم *** كريم يحبّ عليها الوقارا
فتى فرّق الحمد أمواله *** يجرّ القميص و يرخي الإزارا
رأى اللّه جعفر خير الأنام *** فملّكه و وقاه الحذارا
الشعر و الغناء لأبي حشيشة.
قال: و كان الفتح بن خاقان يشتهي عليّ:
قالوا عشقت فقلت أحسن من مشى *** و العشق ليس على الكريم بعار
يا من شكوت إليه طول صبابتي *** فأجابني بتجهّم الإنكار
قال: و كان المستعين يشتهي عليّ:
و ما أنس لا أنس منها الخشوع *** و فيض الدموع و غمز اليد
و خدّي مضافا إلى خدّها *** قياما إلى الصّبح لم ترقد
الشعر لمحمد بن أبي أمية و الغناء لأبي حشيشة.
قال: و أخبرني محمد بن عليّ بن عصمة - و كان إليه الزهد في الدنيا كلّها - قال: حضرت المعتزّ و قد ورد عليه جواب كتابه إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر، و كان كتب إليه يطلبني منه، فكتب إليه محمد: إني عليل، لا فضل فيّ للخدمة، قال أبو عصمة: فقال لي المعتزّ: يا أبا محمد، صديقك أبو حشيشة يؤثر علينا آل طاهر، فقلت له:
يا سيّدي، أنا أعلم الناس بخبره، هو و اللّه عليل: ما فيه موضع لخدمة أمير المؤمنين، /قال: ثم ذكرني المعتمد.
و حرّضه(2) عليّ ابن حمدون، فكتب إلى أيوب(3) سليمان بن عبد اللّه بن طاهر - و هو يومئذ أمير بغداد - في إشخاصي، فشخّصني إليه من ساعتي، فأكرمني، و أدنى في مجلسي، و أمر لي بجائزة، و اشتهى عليّ:
قلبي يحبّك يا منى *** قلبي و يبغض من يحبّك
لأكون فردا في هوا *** ك فليت شعري كيف قلبك؟
الشعر لأحمد بن يوسف الكاتب، و الصنعة لأبي حشيشة رمل.
ص: 63
قال أبو حشيشة: سمع إبراهيم بن المهديّ أصواتا من غناء محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر و عمرو بن بانة، فاستحسنها و أخذها جواريه، و قال: الطّنبور كلّه باطل، فإن كان فيه شيء حقّ فهذا. و أشتهي(1) أن يسمعني. فهبته هيبة شديدة، و قلت: إن رضيني لم يزد ذلك في قدري، و إن لم يرضني بقيت وصمة آخر الدهر، و كان يطلبني من محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر خاصة، و من إسحاق بن عمرو بن بزيع، فكنت أفرّ منهما، حتى صرت بسرّمن رأى، و أنا في تلك الأيام منقطع إلى أبي أحمد بن الرشيد، و نحن في مضارب(2) لم نكن سكنّا المنازل بعد، فوافى إلى أبي أحمد بن الرشيد رسول إبراهيم بن المهدي فأبلغه السّلام، و قال: يقول لك عمّك: قد أعيتني الحيل في هذا الخبيث، و أنا أحبّ أن أسمعه، و هو يهرب مني، فأحبّ أن تبعث به إليّ، و يكون زيرب(3) معه تؤنسه. فقال لي:
أبو أحمد: لا بدّ أن تمضي إلى عمي، فجهدت كلّ الجهد أن يعفيني، فأبى، فلما رأيت أنه لا بدّ لي منه لبست ثيابي، و مضيت إليه، و هو نازل في دسكرة، فرحّب بي/و قرّب، و بسطني كلّ البسط و معي زيرب، و دعا بالنبيذ، و أمر خدما له كبارا، فجلسوا معي و شربوا و سقوني. و عرض لي بكلّ حيلة أن أغنّي، فهبته هيبة شديدة، و حصرت.
و شرب، و دعا بثلاث جوار، فخرجت و جلسن، و قال لهن: قلن:
كيف احتيالي و أنت لا تصل *** عيل اصطباري و قلّت الحيل
إن كان جسمي هواك ينحله *** فإن قلبي عليك يتّكل
الشعر لخالد الكاتب، و الغناء لأبي حشيشة رمل. و كان يسميه الرّهبانيّ، عمله على لحن من ألحان النصارى سمعه من رهبان في الليل يردّدونه، فغنّاه عليه.
فقالته إحداهنّ، فذهب عقلي، و سمعت شيئا لم أسمع مثله قطّ، فقال: يا خليلي، أ هذا لك؟ فقلت: نعم - أصلح اللّه الأمير - و أخذتني رعدة، ثم قال لهنّ: إيه، قلن:
ربّ ما لي و للهوى *** ما لهذا الهوى دوا
حاز طرفي الذي هوى ال *** حسن قلبي و ما حوى
الشعر لخالد، و الغناء لأبي حشيشة رمل.
فغنّته فسمعت ما هو أعجب من الأول، فقال: يا خليلي، هذا لك؟ قلت: نعم يا سيدي، قال: هكذا أخذناهما من محمد بن الحارث، ثم شرب رطلا آخر، فقلت: يا نفس(4)، دعاك الرجل يسمعك، أو يسمعك، و قوّيت عزمي، و تغنّيته بشعر خالد الكاتب، و هو هذا:
ص: 64
لئن لجّ قلبك في ذكره *** و لجّ حبيبك في هجره
لقد أورث العين طول البكا *** و عزّ الفؤاد على صبره
/فإن أذهب القلب وجد به *** فجسمك لا شكّ في إثره
و أيّ محبّ تجافى الهوى *** بطول التفكّر لم يبره
فجعل يردّد البيت الأول و البيت الأخير، و قال لي: لا تخرجنّ يا خليلي من هذا إلى غيره، فلم أزل أردده عليه، حتى شرب ثلاثا، و استرحت ساعة، و شربت و طابت نفسي، ثم استعادني فغنّيته، فأعجب به خلاف الأول، فنظر إليّ و ضحك، و لم يقل شيئا، و شرب رطلا رابعا و جاءت المغرب، فقال لي: يا خليلي، ما أشك في أنك قد أوحشت ابني(1) منك، فامض في حفظ اللّه تعالى. فخرجت أطير فرحا بانصرافي سالما، فلما وافيت أبا أحمد، و بصر بي من بعيد قال: حنطة، أو شعير؟ فقلت، بل سمسم و شهد، انج على رغم أنف من رغم، فقال: ويحك، أ تراني لا أعرف فصلك! و لكن أحببت أن أستعين برأيه على رأيي فيك، و قصصت عليه القصة، فسرّه ذلك، و لم يرض حتّى دسّ إليه محمد بن راشد الخناق، فسأله عني، فقال: ما ظننت أن يكون في صناعته مثله.
قال أبو حشيشة: و سمع إسحاق بن إبراهيم الموصليّ غنائي فاستحسنه، فسئل عني، فقال: غناء الطّنبور كله ضعيف، و ما سمعت فيه قطّ أقوى و لا أصحّ من هذا.
حدّثني جحظة، قال: كان سبب موت أبي حشيشة بسرّمن رأى، أن قلما غلام الفضل بن كاووس صار إليه في يوم بارد، فدعاه إلى الصّبوح، فقال له: أنا لا آكل إلا طعاما حارّا، و ليس عندك إلا فضيلة من مجليّة، قال:
تساعدني، و تأكل معي، فأكل منها، فجمّدت دم قلبه، فمات، فحمله إبراهيم بن المدبّر إلى بناته و ما كسبه بسرّمن رأى معه، فاقتسمنه بينهنّ.
سقيا لقاطول لا أرى بلدا *** أوطنه الموطنون يشبهها
أمنا و خفضا و لا كبهجتها *** أرغد أرض عيشا و أرفهها
البيت الأول من البيتين لعنان جارية الناطفيّ، و الثاني يقال: إنه لعمرو الوراق(2)، و يقال إنّه لأبي نواس، و يقال بل هو لها.
و الغناء لعريب خفيف رمل. و كان الشعر: «سقيا لبغداد» فعيّرته عريب و جعلت مكانه «سقيا لقاطول».
ص: 65
6 - أخبار عنان(1)
كانت عنان مولّدة من مولّدات اليمامة، و بها نشأت و تأدبت، و اشتراها الناطفيّ، و ربّاها، و كانت صفراء جميلة الوجه، شكلة(2) مليحة الأدب و الشعر سريعة البديهة. و كان فحول الشعراء يساجلونها، و يقارضونها، فتنتصف منهم.
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلانيّ صهر المبرّد النحويّ و عليّ بن صالح بن الهيثم قال:
حدّثنا أبو هفّان عن الجمّاز قال: دخل أبو نواس يوما على عنان جارية الناطفيّ، فتحدّثا ساعة، ثم قال لها:
قد قلت شعرا، فقالت: هات فقال:
إن لي أيرا خبيثا *** لونه يحكي الكميتا
لو رأى في الجوّ صدعا *** لنزا حتّى يموتا
أو رآه فوق سقف(3) *** لتحوّل عنكبوتا
أو رآه جوف بحر *** خلته في البحر حوتا
قال: فما لبثت أن قالت:
زوّجوا هذا بألف *** و أظنّ الألف قوتا
إنني أخشى عليه *** إن تمادى أن يموتا
بادروا ما حلّ بالمس *** كين خوفا أن يفوتا
قبل أن ينتكس الدّ *** اء فلا يأتي و يؤتي
/قال: و دخل إليها يوما، فقال:
ما ذا ترين لصبّ *** يريد(4) منك قطيره
فأجابته:
إياي تعني بهذا *** عليك فاجلد عميره
ص: 66
فقال لها:
أريد هذا و أخشى *** على يدي منك غيره
قال: فخجلت و قالت: تعست، و تعس من يغار عليك.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ: قال: حدّثنا عمر بن شبّة: قال: حدّثني أبو أحمد بن معاوية: قال:
سمعت أبا حنش يقول: قال لي الناطفيّ: لو جئت إلى عنان فطارحتها(1)، فعزمت على الغدوّ، فبتّ ليلتين أحوك بيتين، ثم غدوت عليها فقلت:
أحبّ الملاح البيض قلبي و ربّما *** أحبّ الملاح الصّفر من ولد الحبش
بكيت على صفراء منهنّ مرّة *** بكاء أصاب العين منّي بالعمش(2)
فقالت:
بكيت عليها أنّ قلبي يحبّها *** و أنّ فؤادي كالجناحين ذو رعش
تغنّيتنا بالشّعر لما أتيتنا *** فدونك خذه محكما يا أبا حنش
أخبرني أحمد: قال: حدّثني عمر بن شبّة: قال: حدّثني أحمد بن معاوية: قال:
سمعت مروان بن أبي حفصة يقول: لقيني الناطفيّ؛ فدعاني إلى عنان، فانطلقت معه، فدخل إليها قبلي، فقال لها: قد جئتك بأشعر الناس، مروان بن أبي حفصة، فوجدها عليلة، /فقالت له: إني عن مروان لفي شغل، فأهوى إليها بسوط(3) فضربها به، و قال لي: ادخل، فدخلت و هي تبكي، فرأيت الدموع تنحدر من عينيها فقلت:
بكت عنان فجرى دمعها *** كالدّرّ إذ يسبق من خيطه(4)
فقالت و هي تبكي:
فليت من يضربها ظالما *** تيبس يمناه على سوطه(5)
فقلت: أعتق مروان ما يملك إن كان في الجنّ و الإنس أشعر منها.
أخبرني الجوهريّ، قال: حدّثنا أبو زيد عن أحمد بن معاوية: قال:
ص: 67
قال لي رجل: تصفّحت كتبا، فوجدت فيها بيتا جهدت جهدي أن أجد من يجيزه، فلم أجد، فقال لي صديق: عليك بعنان جارية الناطفيّ، فجئتها فأنشدتها:
و ما زال يشكو الحبّ حتى رأيته *** تنفّس في أحشائه و تكلّما
فما لبثت أن قالت:
و يبكي فأبكي رحمة لبكائه *** إذا ما بكى دمعا بكيت له دما
- في هذين البيتين لحن من الرّمل، أظنّه لجحظة أو لبعض طبقته - قرأت في بعض الكتب:
دخل بعض الشّعراء على عنان جارية الناطفي، فقال لها مولاها عاييه(1)، فقالت:
سقيا لبغداد لا أرى بلدا *** يسكنه الساكنون يشبهها
فقال:
كأنها فضّة مموّهة *** أخلص تمويهها مموّهها
فقالت:
أمن و خفض(2) و لا كبهجتها *** أرغد أرض عيشا و أرفهها
فانقطع(3).
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدّثني ابن أبي سعيد قال: حدّثني مسعود بن عيسى، قال: أخبرني موسى بن عبد اللّه التّميميّ، قال:
دخل أبو نواس على الناطفيّ، و عنان جالسة تبكي، و خدّها على رزّة من مصراع الباب، و قد كان الناطفيّ ضربها، فأومأ إلى أبي نواس أن يحرّكها بشيء، فقال أبو نواس:
عنان لو جدت لي فإني من *** عمري في آمن الرسول بما
فردّت عليه عنان:
فإن تمادى و لا تماديت في *** قطعك حبلي أكن كمن ختما(4)
فردّ عليها أبو نواس فقال:
ص: 68
علقت من لو أتى على أنف *** س الماضين و الغابرين ما ندما
فردّت عليه:
لو نظرت عينها إلى حجر *** ولّد فيه فتورها سقما
أخبرني ابن عمار(1)، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه: قال: حدّثني محمد بن أبي مروان الكاتب:
قال:
/أخذ أبو نواس من عنان جارية الناطفيّ خاتما فصّه أحمر، فأخذه أحمد بن خالد حيلويه(2) من أبي نواس، فطلبته منه عنان، فبعث إليها مكانه خاتما فصّه أخضر، فاتّهمته في ذلك، فكتب أبو نواس إلى أحمد بن خالد، فقال:
فدتك نفسي يا أبا جعفر *** جارية كالقمر الأزهر
تعلقتني و تعلّقتها *** طفلين في المهد إلى المكبر
كنت و كانت نتهادى الهوى *** بخاتمينا غير مستنكر
حنّت إلى الخاتم مني و قد *** سلبتني إياه مذ أشهر
فأرسلت فيه فغالطتها *** بخاتم في قدّه أخضر
قالت: لقد كان لنا خاتم *** أحمر أهداه إلينا سري
لكنه علّق غيري فقد *** أهدى له الخاتم لا أمتري
كفرت باللّه و آياته *** إن أنا لم أهجره فليصبر
أو فأت بالمخرج من تهمتي *** إياه في خاتمنا الأحمر(3)
فاردده تردد وصلها إنّها *** قرّة عيني يا أبا جعفر
فإنني متّهم عندها *** و أنت قد تعلم أني بري
قال: فردّ إليه الخاتم، و بعث إليه معه بألفي درهم.
أخبرني ابن عمار و عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد المبرد، عن المازنيّ عن الأصمعيّ - و قال ابن عمار في خبره عن بعض أصحابه - أظنّه المازنيّ - عن الأصمعيّ، قال:
/ما رأيت أثر النبيذ في وجه الرشيد قطّ إلا مرّة واحدة، فإني دخلت إليه أنا و أبو حفص الشّطرنجي، فرأيت
ص: 69
التّخثّر(1) في وجهه، فقال لنا: استبقا إلى بيت بل إلى أبيات، فمن أصاب ما في نفسي فله عشرة آلاف درهم، قال:
فأشفقت(2)، و منعتني هيبته، قال: فقال أبو حفص:
كلّما دارت الزجاجة زادت *** ه اشتياقا و حرقة فبكاك
فقال: أحسنت فلك عشرة آلاف درهم.
قال: فزالت الهيبة عني، فقلت:
لم ينلك الرجاء أن تحضريني *** و تجافت أمنيّتي عن سواك(3)
فقال: للّه درّك! لك عشرون ألف درهم، قال: فأطرق مليّا، ثم رفع رأسه إليّ، فقال: أنا و اللّه أشعر منكما، ثم قال:
فتمنّيت أن يغشّيني اللّ *** ه نعاسا لعلّ عيني تراك
أخبرني ابن عمار و الأخفش قالا: حدّثنا محمد بن يزيد عن المازني: قال:
قال الأصمعيّ: بعثت إليّ أمّ جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان، فإن صرفته عنها فلك حكمك. قال: فكنت أريغ(4) لأن أجد للقول فيها موضعا، فلا أجده، و لا أقدم عليه هيبة له، إذ دخلت يوما فرأيت في وجهه أثر الغضب، فانخزلت، فقال: مالك يا أصمعيّ؟ قلت: رأيت في وجه أمير المؤمنين أثر غضب، فلعن اللّه من أغضبه! فقال: هذا الناطفيّ و اللّه، لو لا أني لم أجر في حكم قطّ متعمّدا لجعلت على كل جبل منه قطعة، و ما لي في جاريته أرب غير الشعر، فذكرت رسالة أمّ جعفر، فقلت له: أجل و اللّه ما فيها غير/الشعر، أ فيسرّ أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق؟ فضحك حتى استلقى، و اتّصل قولي بأم جعفر فأجزلت لي الجائزة.
أخبرني عمي و الحسن بن عليّ، قالا: حدّثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدّثني محمد بن هارون، عن يعقوب بن إبراهيم:
أن الرشيد طلب من الناطفيّ جاريته، فأبى أن يبيعها بأقلّ من مائة ألف دينار، فقال: أعطيك مائة ألف دينار على أن تأخذ بالدينار سبعة دراهم، فامتنع عليه، و أمر أن تحمل إليه، فذكروا أنها دخلت مجلسه، فجلست في هيئتها تنتظره فدخل عليها، فقال لها: ويلك! إن هذا قد اعتاص عليّ في أمرك، قالت: و ما يمنعك أن توفيه و ترضيه؟ فقال: ليس يقنع بما أعطيه، و أمرها بالانصراف. فبلغني أن الناطفيّ تصدّق بثلاثين ألف درهم حين رجعت إليه، فلم تزل في قلب الرشيد حتى مات مولاها، فلما مات بعث مسرورا الخادم، فأخرجها إلى باب الكرخ،
ص: 70
فأقامها على سرير و عليها رداء رشيديّ(1) قد جلّلها، فنودي عليها: من يزيد؟ بعد أن شاور الفقهاء فيها، و قال: هذه كبد رطبة، و على الرجل دين، فأشاروا ببيعها، قال: فبلغني أنها كانت تقول - و هي في المصطبة -: أهان اللّه من أهانني، و أذلّ من أذلّني، فلكزها مسرور بيده، و بلغ بها مسرور مائتي ألف درهم، فجاء رجل، فقال: عليّ زيادة خمسة و عشرين ألف درهم، فلكزه مسرور، و قال: أ تزيد على أمير المؤمنين! ثم بلغ بها مائتين و خمسين ألفا، و أخذها له قال: و لم يكن فيها شيء يعاب، و طلبوا لها عيبا لئلا تصيبها العين، فأوقعوا بخنصر رجلها(2) شيئا. و أولدها ابنين - قال: أظنهما ماتا صغيرين -(3) ثم خرج بها إلى خراسان، فمات هناك و ماتت عنان بعده.
/أبو نواس لشبب بها:
قال: و أنشدنا لأبي نواس في قصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد و يذكر عنان في تشبيبها:
عنان يا من تشبه العينا *** أنت على الحبّ تلومينا
حسنك حسن لا أرى مثله *** قد ترك الناس مجانينا
أخبرني عمّي: قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ: قال: حدّثني أحمد بن القاسم العجليّ: قال: حدّثني أبو القاسم النخعيّ قال:
كان العباس بن الأحنف يهوى عنان جارية الناطفي، فجاءني يوما، فقال: امض بنا إلى عنان جارية الناطفي، فصرنا إليها، فرأيتها كالمهاجرة له، فجلسنا قليلا، ثم ابتدأ العباس فقال:
قال عباس و قد أج *** هد من وجد شديد
ليس لي صبر على الهج *** ر و لا لذع الصّدود
لا و لا يصبر للهج *** ر فؤاد من حديد
فقالت عنان:
من تراه كان أعنى *** منك عن هذا الصدود
بعد وصل لك منّي *** فيه إرغام الحسود
فاتّخذ للهجر إن شئ *** ت فؤادا من حديد
ما رأيناك على ما *** كنت تجني بجليد
فقال العباس:
ص: 71
لو تجودين لصبّ *** راح ذا وجد شديد
و أخي جهل بما قد *** كان يجني بالصدود
/ليس من أحدث هجرا *** لصديق بسديد
ليس منه الموت إن لم *** تصليه ببعيد
قال: فقلت للعباس: ويحك! ما هذا الأمر؟ قال: أنا جنيت على نفسي بتتايهي عليها، فلم أبرح حتى ترضّيتها له.
أخبرني الحسن بن عليّ: قال: حدّثنا الحارث بن يحيى بن حمد بن أبي أميّة: قال: حدّثني يحيى بن محمد:
أن الرشيد كان يساوم بعنان جارية النّطّاف، فبلغ ذلك أمّ جعفر، فشقّ عليها، فدسّت إلى أبي نواس أن يحتال في أمرها فقال يهجوها:
إن عنان للنّطاف جارية *** أصبح حرها للنّيك ميدانا(1)
ما يشتريها إلا ابن زانية *** أو قلطبان يكون من كانا(2)
فبلغ ذلك الرشيد، فكان يقول: لعن اللّه أبا نواس، و قبّحه، فلقد أفسد عليّ لذّتي في عنان بما قال فيها، و منعني من شرائها.
7 - أخبار الحسن بن وهب(1)
هو الحسن بن وهب بن سعيد، كاتب شاعر(2) مترسّل فصيح أديب، و أخوه سليمان بن وهب فحل(3) من الكتّاب و يكنى أبا عليّ، و هو عريق في الكتابة، و لأولاده نجابة مشهورة تستغني عن وصف ذلك، و كانوا يقولون إنهم من بني الحارث بن كعب، و أصلهم نصارى، و في بني الحارث نصارى كثير.
و في الحسن بن وهب يقول البحتريّ:
يا أخا الحارث بن كعب بن عمرو *** أ شهورا تصوم أم أيّاما؟(4)
و كان البحتريّ مدّاحا لهم، و له في الحسن، و قد اجتاز بمنزله بعد وفاته:
أناة أيّها الفلك المدار *** أنهب ما تطرّق أم جبار
نزلنا منزل الحسن بن وهب *** و قد درست مغانيه القفار(5)
يقول فيها يصف صبوحا كانوا قد اصطبحوه:
أقمنا، أكلنا أكل استلاب *** هناك و شربنا شرب يدار
تنازعنا المدامة و هي صرف *** و أعجلنا الطبائخ و هي نار
و لم يك ذاك سخفا غير أنّي *** رأيت الشّرب سخفهم الوقار
أخبرني الصوليّ، و ذكر ذلك عن جماعة من الكتاب:
أن الحسن بن وهب كان أشدّ تمسكا بالنسب إلى بني الحارث بن كعب من أخيه/سليمان، و كان سليمان ينكر ذلك، و يعاتب عليه أخاه الحسن و ابنه أحمد بن سليمان. و أصلهم من قرية من سواد واسط في جسر(6) سابور يقال لها «سارقيقا».
ص: 73
أخبرني عمي: قال: حدّثني عمر بن نصر الكاتب، و كان من مشايخ الكتّاب بسرّمن رأى، قال:
كنا نتهادى و نحن في الديوان أشعار الحسن بن وهب، و نتباهى بحفظها، قال: و أنشدني له، و كتب بها إلى أخيه سليمان بن وهب من مدينة السّلام و هو محبوس في أيام الواثق:
خطب أبا أيوب جلّ محلّه *** فإذا جزعت من الخطوب فمن لها؟
إن الذي عقد الذي انعقدت به *** عقد المكاره فيك يحسن حلّها
فاصبر لعلّ الصبر يفتق ما ترى *** و عسى بها أن ينجلي و لعلّها
قال: و كتب إليه أيضا و هو في الحبس بسرّمن رأى:
خليليّ من عبد المدان تروّحا *** و نصّا صدور العيس حسرى و طلّحا(1)
فإنّ سليمان بن وهب ببلدة *** أصاب صميم القلب منّي فأقرحا
أسائل عنه الحارسين لحبسه *** إذا ما أتوني: كيف أمسى و أصبحا!
فلا يهنئ الأعداء أسر ابن حرّة *** يراه العدا أندى يمينا و أسمحا
و أنهض للأمر الجليل بعزمة *** و أقرع للباب الأصمّ و أفتحا
أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ: قال: حدّثني محمد بن موسى بن حماد: قال:
/وجّه الحسن بن وهب إلى أبي تمام و هو بالموصل خلعا فيها خزّ و وشي، فامتدحه بقصيدة أولها:(2)
أبو عليّ و سمي منتجعه *** فاحلل بأعلى واديه أو جرعه
ثم وصف الخلعة فقال:
و قد أتاني الرسول بالملبس ال *** فخم لصيف امرئ و مرتبعه
لو أنها جلّلت أويسا لقد *** أسرعت الكبرياء في ورعه
رائق خزّ أجيد سابره *** سكب تدين الصّبا لمدّرعه
و سرّ وشي كأنّ شعري أحيا *** نا نسيب العيون من بدعه
تركتني ساهر الجفون على *** أزلم دهر بحسنها جذعه
- يعني الدهر، و الدهر يقال له: الأزلم الجذع، و الأزلم: الطويل، و الجذع: الجديد: يقول: هو قديم سالف، و يومه جديد، قال لقيط الإياديّ:
يا قوم بيضتكم لا تفضحنّ بها *** إني أخاف عليها الأزلم الجذعا(3)
-
ص: 74
أخبرني الصوليّ: قال: حدّثنا محمد بن يزيد المبرد: قال:
لما حبس محمد بن عبد الملك الزيات سليمان بن وهب، و طالبه بالأموال وقت نكبته قال الحسن بن وهب:
خليليّ من عبد المدان تروّحا *** و نصّا صدور العيس حسري و طلّحا
فإنّ سليمان بن وهب بمنزل *** أصاب صميم القلب منّي فأقرحا
أسائل عنه الحارسين لحبسه *** إذا ما أتوني كيف أمسى و أصبحا
/فلا يهنئ الأعداء حبس ابن حرّة *** يراه العدا أندى يمينا و أسمحا
و قولا لهم صبرا قليلا و أصبحوا *** فما أقرب الليل البهيم من الضّحا
قال: و قيل له و سليمان محبوس: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت و اللّه قليل(1) النّشاط، كالّ القريحة، صدئ الذهن، ميّت الخاطر من سوء فعل الزّمان، و توارد الأحزان، و تغيّر الإخوان، قال: و آلى ألاّ يذوق طعاما طيّبا، و لا يشرب ماء باردا، ما دام أخوه محبوسا، فوفّى بذلك.
أخبرني الصوليّ: قال: أخبرني أبو الأسود: قال:
كان للحسن بن وهب جار هاشميّ، يلقّب بالطير، فحجّ سنة من السنين، و رجع آخر الناس، فقال فيه الحسن:
أ ينقص أم يزيد من الرقاعه *** أخو حمق له الدّنيا مشاعه
يحجّ على الجمال و لو تجلّى *** لمكة جاءها في بعض ساعه
أخبرني الصوليّ: قال: حدّثنا الطالقاني: قال: حدّثنا أحمد بن سليمان بن وهب. قال: رآني عمي الحسن، و أنا أبكي لفراق بعض ألاّفي فقال:
ابك فما أنفع ما في البكا *** لأنّه للوجد تسهيل
و هو إذا أنت تأمّلته *** حزن على الخدّين محلول(2)
أخبرني الصوليّ: قال: حدّثنا علي بن الصبّاح(3): قال: بلغ الحسن بن رجاء أنّ الحسن بن وهب عابه بحبّ الغلمان، و كان الحسن بن وهب أشدّ حبّا لهم منه، فقال: مثلي و مثله كما قال حسان بن ثابت:
ص: 75
و إني لأغنى الناس عن فضل(1) صاحب *** يرى الناس ضلاّلا و ليس بمهتد
أخبرنا محمد: قال: حدّثنا الحزنبل: قال:
كتب رجل إلى الحسن بن وهب يستميحه، فوقّع في رقعته:
الجود طبعي و لكن ليس لي مال *** فكيف يحتال من بالرّهن يحتال
أخبرني الحسن بن عليّ: قال: حدّثني محمد بن موسى بن حمّاد: قال:
كنت أكتب في حداثتي بين يدي الحسن بن وهب - و كان شديد الشّغف ببنات جارية محمد بن حماد كاتب راشد، فكنّا يوما عنده، و هي تغنّي، و بين أيدينا كانون فحم، فتأذّت به، فأمرت أن يباعد، فقال الحسن:
بأبي كرهت النار حتى أبعدت *** فعلمت ما معناك في إبعادها
هي ضرة لك بالتماع ضيائها *** و بحسن صورتها لدى إيقادها
و أرى صنيعك في القلوب صنيعها *** في شوكها و سيالها و قتادها(2)
شركتك في كلّ الجهات بحسنها *** و ضيائها و صلاحها و فسادها
أخبرني الصّوليّ: قال: حدّثني الحسين بن يحيى: قال:
كنا عند الحسن بن وهب، فقال: لو ساعدنا الدهر لجاءتنا بنات، فما تكلّم بشيء حتى دخلت، فقال: إنّي و إياك لكما قال علي بن أمية:
و فاجأتني و القلب نحوك شاخص *** و ذكرك ما بين اللسان إلى القلب
فيا فرحة جاءت على إثر ترحة *** و يا غفلتا عنها و قد نزلت قربي(3)
قرأت في بعض الكتب: دخلت يوما بنات على الحسن بن وهب، و هو مخمور، فسلّمت عليه، و قبلت يده، فأراد تقبيل يدها، فمنعته فرعش، فقال:
/
أقول و قد حاولت تقبيل كفّها *** و بي رعدة أهتزّ منها و أسكن
فديتك إني أشجع الناس كلّهم *** لدى الحرب إلا أنّني عنك أجبن
ص: 76
أخبرني الصّوليّ: قال: حدّثني محمد بن موسى، قال: جاءت بنات تسأل الحسن بن وهب من علّة نالته، فحين رآها دعا برطل، فشربه على وجهها، و قال: قد عوفيت، فأقيمي اليوم عندي، فأبت و قالت: عند مولاي دعوة، فأمر بإحضار مائتي دينار، فأحضرت فقال: هذه مائة لمولاك، فابعثي بها إليه و مائة لك؛ فقالت: أمّا هو فأبعث بمائة إليه(1)؛ و أما أنا فو اللّه لا أخذت المائة الأخرى، و لأتصدقنّ بمثلها لعافيتك(2) و لكن أكتب إليه رقعة تقوم بعذري؛ فأخذ الدواة؛ و كتب إلى مولاها:
ضرّة الشمس و القمر *** متّعيني من النّظر(3)
متّعيني بجلسة *** منك يا أحسن البشر
أشتريها إن بعتن *** يها بسمعي و بالبصر
أذهب السقم سقم طر *** فك ذي الغنج و الحور(4)
فأديمي السرور لا *** تمزجي الصفو بالكدر
ليس يبقي عليّ *** حبّك هذا و لا يذر
و أنا منه فأنعمي *** بمقام على خطر
و تغنّي فداك كلّ *** مغنّ لكي أسرّ
ربع سلمى بذي بقر *** عرضة الريح و المطر(5)
حدّثني أبو إسحاق بن الضحاك عن أحمد بن سليمان - و الحكايتان متفقتان متقاربتان - أخبرني الصولي: قال:
حدّثني الحسين بن يحيى: قال: حدّثني أحمد بن سليمان بن وهب قال: قال لي أبي:
قد عزمت على معاتبة عمّك في حبه لبنات، فقد شهّر بها و افتضح، فكن معي، و أعنّي عليه، و كان هواي مع عمّي، فمضيت معه فقال له أبي، و قد أطال عتابه: يا أخي، جعلت فداك! الهوى ألذّ و أمتع، و الرأي أصوب و أنفع، فقال عمي متمثلا:
إذا أمرتك العاذلات بهجرها *** أبت كبد عما يقلن صديع
و كيف أطيع العاذلات و حبّها *** يؤرّقني و العاذلات هجوع
ص: 77
فالتفت إليّ أبي ينظر ما عندي، فتمثّلت:
و إني ليلحاني على فرط حبّها *** رجال أطاعتهم قلوب صحائح(1)
فنهض أبي مغضبا و ضمّني عمّي إليه، و قبّلني، و انصرفت إلى بنات، فحدّثتها بما جرى و عمّي يسمع، فأخذت العود، فغنّت:
يلومك في مودّتها أناس *** لو أنّهم برأيك لم يلوموا(2)
فيه ثقيل أوّل.
قال أحمد بن سليمان، و عذلته عجوز لنا، يقال لها: منى، فقال لها: قومي، فانظري إليها، و اسمعي غناءها، ثم لوميني، فقامت معه، فرأتها، و سمعت غناءها فقالت له: لست أعاود لومك فيها بعد هذا، فأنشأ يقول:
و يوم سها عنه الزمان فأصبحت *** نواظره قد حار عنها بصيرها
/خلوت بمن أهوى به فتكاملت *** سعود أدار النحس عنّا مديرها
أ ما تعذريني يا منى في صبابتي *** بمن وجهها كالشمس يلمع نورها؟
قال أحمد بن سليمان: كان لعمي كاتب يعرف بإبراهيم: نصرانيّ يأنس به، فسأل بنات مسألتها(3) عمّي أن يجعل رزقه ألف درهم في الشّهر، فلمّا شرب أقداحا، و طرب و ثبت قائمة و قالت: يا سيدي لي حاجة، فوثب عمّي، فقام لقيامها، فقالت: تجعل رزق إبراهيم ألف درهم في الشهر، فقال: سمعا و طاعة، فجلست فأنشأ يقول:
قامت فقمت و لم أكن لو لم تقم *** لأجلّ خلقا غيرها فأقوما(4)
شفعت لإبراهيم في أرزاقه *** فوددت أني كنت إبراهيما
فأجبتها إنّي مطيع أمرها *** و أراه فرضا واجبا محتوما
ما كان أطيب يومنا و أسرّه *** لو لم يكن بفراقها مختوما
قال: ثم إن عمي صار إلى أبي، فأخبره الخبر، فأمر أن يجعل لإبراهيم من ماله ألف درهم أخرى لشفاعتها.
أخبرني الصوليّ: قال: حدّثني إسماعيل بن الخصيب: قال: اعتلّ الحسن بن وهب، فلم تعلم بنات بذلك، و تأخّرت عن عيادته، فكتب إليها:
ص: 78
عليل أنت أعللته *** فلو أنّك علّته
بوعد أن تزوريه *** إذا ما ممكن نلته
قريبا لنفيت الدّا *** ء عنه حين واعدته
و ما ضرّك لو جاء *** رسول منك أرسلته
/فيحكي لك ما قال *** كما يحكي الذي قلته
أما و اللّه لو أن ال *** ذي يحمل حمّلته
لما احتاج إلى التعل *** يم فيما قد تجاهلته
أخبرني الصّولي: قال أحمد بن إسماعيل: قال: حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن جميل: قال:
أهدى الحسن بن وهب إلى بنات في علة اعتلتها هدايا حسنة و أهدى معها قفص شفانين(1)، و كتب إليها:
شفاء أنين بالشفانين أملت *** لكم نفس من أهدى الشفانين عامدا
كلوها يكلّ الداء عنكم فإنني *** أزوركم للشوق لا زرت عائدا
أخبرني عمي: قال: حدّثني ميمون بن هارون: قال:
كتب الحسن بن وهب إلى بنات يوم جمعة يستدعيها، فكتبت إليه أن عند مولاها أصدقاء له، و قد منعها من المسير إليه، فكتب إليها ثانيا يقول:
يومنا يوم جمعة بأبي أن *** ت و عند الوضيع لا كان قوم
سفل مثله يسومونه الخس *** ف و يرضاه و هو للوعد سوم
فامنعيهم منك البشاشة حتى *** يتغشّاهم من البرد نوم
و ليكن منك طول يومك للّه *** صلاة إلى المساء و صوم
و ارفعي عنهم الغناء و إن نا *** لك عذل من الوضيع و لوم
و اذكري مغرما بحبّك أمسى *** همه أن يديله منك يوم(2)
أخبرني عمّي قال حدّثني ميمون بن هارون، قال:
كان الحسن بن وهب يشرب عند محمد بن عبد اللّه بن طاهر، فعرضت سحابة، فبرقت و رعدت، و قطرت، فقال الحسن:
ص: 79
هطلتنا السماء هطلا دراكا *** عارض المرزمان فيها السّماكا(1)
قلت للبرق إذا تألّف فيها *** يا زناد السماء من أوراكا؟
أ حبيبا نأيته فبكاكا *** فهو العارض الّذي استبكاكا
أم تشبهت بالأمير أبي العبّ *** اس في جوده فلست كذاكا؟(2)
أخبرني عمي، قال: حدّثنا أبو العيناء، قال:
طلب محمد بن عبد الملك الزيات الحسن بن وهب، و كان قد اصطبح مع بنات فكتب إليه: يا سيدي، أنا في مجلس بهيّ، و طعام هنيّ، و شراب شهيّ، و غناء رضيّ، أ فأتحوّل عنه إلى كدّ الشقيّ، و وثبت بنات لتقوم، فردّها و كتب:
ما بان عنك الذي بن *** ت عنه لا عاش بعدك
إن لم يكن عنده الص *** بر و السّلوّ فعندك
و ما وجدته إلا *** عبد الرجاء و عبدك
فاستلبها الرسول، و مضى بها إلى محمد، فوقّع فيها:
أبا عليّ أراك الإ *** له في الأمر رشدك
إن لم تكن عندي اليو *** م كنت بالشوق عندك
فاهدم محلّك عندي *** و اجهد لذلك جهدك
/فلست أزداد إلا *** رعاية لك ودّك
و انعم بمن قلت فيها *** عبد الرجاء و عبدك
أزيل نحسك فيها *** و أطلع اللّه سعدك
و ردّ الرقعة إلى الحسن، فلما قرأها خجل، و حلف ألا يشرب النبيذ شهرا، و لا يفارق مجلس الوزير.
أخبرني عمي عن إبراهيم بن المدبّر، قال:
ولدت بنات من مولاها ولدا و سمته بإبراهيم، فأبغضها الحسن بن وهب، و كتب إليها:
نتج المهرة الهجان هجينا *** ثم سمّى الهجين إبراهيما(3)
ص: 80
بخليل الرحمن سمّيت عبدا *** أم قريع الفتيان ذاك الكريما(1)
و بعث بالبيتين إليها، و كان آخر عهده بها.
أخبرني الصولي قال: حدّثنا محمد بن موسى قال:
كان الحسن بن وهب يعشق غلاما روميّا لأبي تمام، و كان أبو تمام يعشق غلاما خزريّا للحسن، فرأى أبو تمام يوما الحسن يعبث بغلامه، فقال له: و اللّه لئن أعتقت إلى الروم لنركضنّ إلى الخزر، فقال له الحسن: لو شئت لحكمتنا و احتكمت، فقال له أبو تمام: ما أشبّهك إلا بداود، و لا أشبّه نفسي إلا بخصيمه، فقال له: لو كان هذا منظوما حفظه، فأما المنثور فهو عارض لا حقيقة له، فقال أبو تمّام:
أبا عليّ لصرف الدهر و الغير *** و للحوادث و الأيام و العبر
/أ عندك الشمس لم يحظ المغيب بها *** و أنت مضطرب الأحشاء للقمر
أذكرتني أمر داود و كنت فتى *** مصرّف القلب في الأهواء و الذّكر
إن أنت لم تترك السير الحثيث إلى *** جآذر الرّوم أعنقنا إلى الخزر(2)
إن الغزال له منّي محلّ هوى *** يحلّ مني محلّ السمع و البصر
و ربّ أمنع منه جانبا و حمى *** أمسى و لكنّه مني على خطر(3)
جرّدت منه جنود العزم فانكشفت *** منه غيابتها عن تكّة هدر
سبحان من سبّحته كلّ جارحة *** ما فيك من طمحان الأير و النظر
أنت المقيم فما تعدو رواحله *** و أيره أبا منه على سفر
قال الصوليّ: فحدّثني أحمد بن إسحاق، قال: حدّثني محمد بن إسحاق، قال: قلت لأبي تمام: غلامك أطوع للحسن بن وهب من غلام الحسن لك، قال: أجل و اللّه؛ لأنّ غلامي يجد عنده ما لا يجده غلامه عندي، و أنا أعطي غلامه قيلا و قالا، و هو يعطي غلامي ثيابا و مالا.
أخبرني الصّوليّ: قال: حدّثني أبو الحسن الأنصاريّ، قال: حدّثني أبي. و حدّثني الفضل الكاتب المعروف بفنجاخ:
ص: 81
أنّ الحسن بن وهب كان يكتب لمحمد بن عبد الملك الزيات، و هو وزير الواثق، و كان ابن الزيات قد وقف على ما بين الحسن بن وهب و بين أبي تمام في غلاميهما، فتقدّم إلى بعض ولده - و كانوا يجلسون عند الحسن بن وهب - بأن يعلموه بخبرهما، و ما يكون بينهما. قال: و عزم غلام أبي تمام على الحجامة، فكتب إلى/الحسن يعلمه بذلك، و يسأله التوجيه إليه بنبيذ مطبوخ، فوجّه إليه بمائة دنّ و مائة دينار، و بخلعة حسنة و بخور كثير، و كتب إليه:
ليت شعري يا أملح الناس عندي *** هل تداويت بالحجامة بعدي
دفع اللّه عنك لي كلّ سوء *** باكر رائح و إن خنت عهدي
قد كتمت الهوى بمبلغ جهدي *** فبدا منه غير ما كنت أبدي
و خلعت العذار فليعلم النا *** س بأني إياك أصفي بودّي
و ليقولوا بما أحبّوا إذا كن *** ت وصولا و لم ترعني بصدّ
من عذيري من مقلتيك و من إشر *** اق وجه من دون حمرة خدّ
قال: و وضع الرّقعة تحت مصلاّه، و بلغ محمد بن عبد الملك خبر الرّقعة، فوجّه إلى الحسن، فشغله بشيء من أمره، و أمر من أخذ الرقعة من تحت مصلاّه، و جاءه بها، فقرأها، و كتب في ظهرها:
ليت شعري عن ليت شعرك هذا *** أ بهزل تقوله أم بجدّ
فلئن كنت في المقال محقّا *** يا بن وهب لقد تغيّرت بعدي
و تشبّهت بي و كنت أرى أني *** أنا العاشق المتيّم وحدي
أترك القصد في الأمور و لو لا *** غمرات الهوى لأبصرت رشدي
و أحب الأخ المشارك في الحب *** و إن لم يكن به مثل و جدّي
كنديمي أبي عليّ و حاشا *** لنديمي مثل شقوة و جدّي
إنّ مولاي عبد غيري و لو لا *** شؤم جدي لكان مولاي عبدي
سيّدي سيدي و مولاي من أو *** رثني ذلّة و أضرع خدّي
في هذين البيتين الأخيرين لحن من الرمل، أظنه لجحظة أو غيره من طبقته.
قال: ثم وضع الرقعة في مكانها، فلما قرأها الحسن قال: إنا للّه! افتضحنا عند الوزير، و حدّث أبا تمام بما كان، و وجّه إليه بالرقعة، فلقيا محمد بن عبد الملك، و قالا له: إنما جعلنا هذين سببا للمكاتبة بالأشعار لا للريبة، فتضاحك و قال: و من يظنّ بكما غير هذا! فكان قوله أشدّ عليهما من الخبرة.
قرأت في بعض الكتب: كان الحسن بن وهب يعاشر أبا تمام عشرة متّصلة، فندب الحسن بن وهب للنظر في
ص: 82
أمر بعض النواحي، فتشاغل عن عشرة أبي تمام، فكتب إليه أبو تمام:
قالوا جفاك فلا عهد و لا حبر *** ما ذا تراه دهاه؟ قلت: أيلول
شهر كأنّ حبال الهجر منه فلا *** عقد من الوصل إلاّ و هو محلول
فأجابه الحسن:
ما عاقني عنك أيلول بلذّته *** و طيبه و لنعم الشهر أيلول
لكن توقّع و شك البين عن بلد *** تحتلّه و وكاء العين محلول
و قرأت فيه: كان بين الحسن بن وهب و بين الهيثم الغنويّ و أحمد بن أبي داود تباعد، فقال يهجوهما:
/
سألت أبي و كان أبي خبيرا *** بسكّان الجزيرة و السوّاد
فقلت لهم: أ هيثم من غنيّ؟ *** فقال كأحمد بن أبي دواد
فإن يك هيثم من جذم قيس *** فأحمد غير شكّ من إياد
أخبرني عمي: قال: حدّثني عمر بن نصر الكاتب، قال:
كتب الحسن بن وهب إلى محمد بن معروف الواسطي يسأله أن يصير إليه فكتب إليه محمد:
وقيتك كلّ مكروه بنفسي *** و بالأدنين من أهلي و جنسي
أ تأذن في التأخّر عنك يومي *** على أن ليس غيرك لي بأنس
فأجابه الحسن بن وهب، فقال:
أقم لا زلت تصبح في سرور *** و في نعم مواصلة و تمسي
فما لي راحة في حبس من لا *** أراه يكون محبوسا بحبسي
و كان الحسن يومئذ معتقلا في مطالبة يطالب بها.
وجدت في بعض الكتب بغير إسناد.
كان الحسن بن وهب يعشق بنات، جارية محمد بن حماد الكاتب، و كان له معها أخبار كثيرة، و كان لا يصبر عنها، فقدم الحسن بن إبراهيم بن رباح من البصرة، و اتصل به خبرها، و وصفها له الحسن بن وهب، و صار به إليها، فأتمّ ليلته معها، و مرّت بينهما أعاجيب، ثم خالفه الحسن بن إبراهيم بن رباح، و خاتله في أمرها، فكتب إليه الحسن بن وهب:
لا جميل و لا حسن *** خنت عهدي و لم أخن
ص: 83
كملت إذ فعلت *** هذا أعاجيب الزّمن (9)
/فإلى اللّه أشتكي *** ما بقلبي من الحزن
ربّ شكوى من الصد *** يق إلى غير ذي شجن
بأبي أنت يا حسن *** يا أخا الطول و المنن
أيّ رأي أراك خت *** لى في الشاهين الأغن
يتخطّى إليه دو *** ني في حالك الدّجن
فترى منه سنّة *** تتعالى عن السّنن
مع كشفي لك الحد *** يث الذي عنك لم يصن
و اعتمادي زعمت م *** نك على أحصن الجنن
و على خير صاحب *** و على خير ما سكن
خجلي من إساءة *** فضحت حسن كلّ ظنّ
ثم ممّن جرّت إلى *** من و فيمن و عند من؟
إن تكن تلك هفوة *** فهي كالشيء لم يكن
أو تكن بعت خلّتي *** بمواف من الثمن
درّة البحر من عدن *** ذخر سيف بن ذي يزن
لم يكن قطّ مثلها *** في معدّ و لا عدن
فتغافل عن جوابه، و أقام على مواصلتها و سماعها و حظر عليها، فلم يكن الحسن بن وهب يلقاها، فغلظ ذلك عليه، و كتب إليها بهذه الأبيات:
أنكرت معرفتي جعلت لك الفدا *** إنكار سيّدة تلاعب سيّدا
أنا ذو(1) منعت جفونه أن ترقدا *** و تركته ليل التمام مسهّدا
/و بريت لحم عظامه فتجرّدا *** و أزرت مضجعه النساء العوّدا
أنا ذا فإن لم تعرفيني بعد ذا *** فأنا ابن وهب ذو السماحة و النّدى
أشكو إلى اللّه الفؤاد المقصدا *** و جوى ثوى تحت الحشا متلدّدا
و غريرة ما كنت من إشفاقها *** يوما و إن بعد التلاقي مسعدا
يا ظبية في روضة مولية *** جاد الربيع ترابها فتلبّدا
هل تجزينّ الودّ منّي مثله *** أو تصدقين من المواعد موعدا؟
ص: 84
إني و إن جعل القريض يجول بي *** حتّى يغور بما أقول و ينجدا
لعلى يقين أنّ قلبك موجع *** عندي المثال أنا الحمى و لك الفدا
و كما علمت إذا لبست المجسدا *** و ثنيت خلف الأذن حاشية الرّدا(1)
و حبوت جيدك من حليّك عسجدا *** و نظمت ياقوتا به و زبرجدا
و شكوت وجدك في الغناء شكاية *** ينسي حنينا و الغريض و معبدا
سيما إذا غنّيتني بتعمّد *** بأبي و أمّي ذاك منك تعمّدا
أثوي فأقصر ليلة ليزوّدا *** و مضى و أخلف من قتيلة موعدا
فوقعت الأبيات(2) في يد ابن رباح فقرأها، و علم أنّه قد بلغ منه. فكتب إليه:
فدى لك آبائي و حقّ بأن تفدّى *** فدى لك قصدا من ملامك لي قصدا
و لا تلحني في عثرة إن عثرتها *** فلا و الذي أمسيت أدعى له عبدا
و عهدك يا نفسي يقيك من الرّدى *** فأعظم به عندي و أكرم به عهدا
/يمين امرئ برّ صدوق مبرّإ *** من الإثم ما حاولت هزلا و لا جدّا
سوى ما به أزداد عندك زلفة *** و يكسبني منك المودّة و الحمدا
أرى الغيّ إن أومأت للغيّ طاعة *** لأمرك فضلا عن سوى الغيّ لي رشدا
و أسعى لما تسعى و أتبع ما ترى *** و في كلّ ما يرضيك أستغرق الجهدا
إذا أنا لم أمنحك صفو مودّتي *** فمن ذا الذي أصفي له غيرك الودّا؟
و من ذا الذي أرعى و أشكر و الذي *** يؤمّل خيرا بعد منّي أو رفدا
و أنت ثمالي و المعوّل و الذي *** أشدّ به أزري فيعصمني شدّا
و آثر خلق اللّه عندي و من له *** أياد و ودّ لست أحصيهما عدّا
فلا تحسبنّ مائلا عن خليقتي *** لك الدهر حتى أسكن القبر و اللّحدا
معاذ إلهي أن أرى لك خاذلا *** و لكنّ عذري واضح أنّ بي وجدا(3)
بأحسن من أبصرت شخصا و صورة *** و أملح خلق اللّه كلّهم قدّا
بمالكة أمري و إن كنت مالكا *** لها ففؤادي ليس من حبّها يهدا
إذا سألتهن أن أقيم عشيّة *** لأونسها لا أستطيع لها ردّا
ص: 85
تراشفني صفو المودّة تارة *** و أجني إذا ما شئت من خدّها وردا
قنعت بها لمّا وثقت بحبّها *** فلا زينبا أبغي سواها و لا هندا
و لو بذلت لي جنّة الخلد منزلا *** و قلت: اجتنبها لاجتنبت لها الخلدا
فلما قرأها الحسن بن وهب علم أنه قد ندم فكتب إليه:
حسن يشكو إلى حسن *** فقد طعم النوم و الوسن
/و هوى أمست مطالبه *** قرنت باليأس في قرن
و حبيب في محلّته *** معه في الدار لم يبن
فإذا ما رام زورته *** فهو كالغادين في الظّعن
عجبا للشمس لم ترها *** مقلتي حولا و لم ترني
أ تراها بعدنا صرمت *** حبّنا هذا من اليمن
فقديما كان مطلعها *** بيدي سيف بن ذي يزن
فكتب إليه ابن رباح:
حسن يفدي بمهجته *** حسنا من حادث الزّمن
و يقيه ما تضمّنه *** من دخيل الهمّ و الحزن
هاك عيني فابك واقية *** عينك العبري على الشّجن
و فؤادي فامله حزنا *** من صروف الهمّ و الفتن
إن تكن شمس الضّحا حجبت *** عن سليل المجد من يمن
فهي حيرى عن مطالعها *** في سوى قوم ابن ذي يزن
ثم اعتذر إليه، و رجع إلى معاشرته، و كان لا يحضر دار محمد بن حماد، و لا يسمع غناء بنات جاريته إلا مع الحسن بن وهب لا يستأثر بها عليه.
و قال محمد بن داود الجراح: حدّثني بعض أصحابنا: أنّ الحسن بن وهب، أتى أبا إسحاق إبراهيم بن العباس مستعديا على أبي محمد الحسن بن مخلد في أمر بنات جارية محمد بن حماد، و كان الحسن بن وهب يتعشقها، فأفسدها عليه الحسن بن مخلد، و لم يذكر محمد بن داود من خبرهما غير هذا، و إنما ذكرت هذه القصة على قلة الفائدة فيها ليتّضح خبره مع بنات إذ كان ما مضى ذكره من خبرها لم يقع إليّ بروايته.
أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ، قال: حدّثني عبد الرحمن بن أحمد، قال:
ص: 86
وجدت بخط محمد بن يزيد: كتب أبو تمام إلى الحسن بن وهب يستسقيه نبيذا:
جعلت فداك عبد اللّه عندي *** بعقب الهجر منه و البعاد
له لمة(1) من الكتّاب بيض *** قضوا حقّ الزيارة و الوداد
و أحسب يومهم إن لم تجدهم *** مصادف دعوة منهم جماد(2)
فكم يوم من الصهباء سار *** و آخر منك بالمعروف غاد
فهذا يستهلّ على غليلي *** و هذا يستهلّ على تلادي
فيسقي ذا مذانب كلّ عرق *** و ينزع ذا قرارة كلّ واد
دعوتهم عليك و كنت ممّن *** نعيّنه على العقد الجياد
قال: فوجّه إليه بمائة دينار و مائة دنّ نبيذا.
قال محمد بن داود بن الجراح:
زار الحسن بن وهب و أبو تمام أبا نهشل بن حميد، فبدأ أبو تمام، فقال:
أغصّك اللّه أبا نهشل
ثم قال للحسن أجز: فقال:
بخدّ ريم شادن أكحل
ثم قال: أجزيا أبا نهشل، فقال:
نطمع في الوصل فإن رمته *** صار مع العيّوق في منزل(3)
أخبرني جعفر بن محمد بن قدامة بن زياد الكاتب: قال:
كتب الحسن بن وهب إلى أبي تمام، و قد قدم من سفر: جعلت فداءك و وقاءك و أسعدني اللّه بما أوفى عليّ من مقدمك، و بلغ الوطر كلّ الوطر بانضمام اليد عليك، و إحاطة الملك بك، و أهلا و سهلا، فقرّب اللّه دارا قرّبتك، و أحيا ركابا أدّتك، و سقى بلادا يلتقي ليلها و نهارها عليك، و جعلك اللّه في أحصن معاقله، و أيقظ محارسه و أبعدهما على الحوادث مراما برحمته.
أخبرني الحسن بن علي: قال: حدّثنا محمد بن موسى: قال:
ص: 87
قال رجل للحسن بن وهب: إن أبا تمام سرق من رجل يقال له مكنف من ولد زهير بن أبي سلمى، و هو رجل من أهل الجزيرة قصيدته التي يقول فيها:
كأنّ بني القعقاع يوم وفاته *** نجوم سماء خرّ من بينها البدر
توفّيت الآمال بعد محمد *** و أصبح في شغل عن السّفر السّفر
فقال الحسن: هذا دعبل حكاه، و أشاعه في الناس، و قد كذب، و شعر مكنف عندي، ثم أخرجه، و أخرج هذه القصيدة بعينها، فقرأها الرجل فلم يجد فيها شيئا مما قاله أبو تمام في قصيدته: ثم دخل دعبل(1) على الحسن بن وهب، فقال له: يا أبا عليّ، بلغني أنك قلت في أبي تمام كيت و كيت، فهبه سرق هذه القصيدة كلّها، و قبلنا قولك فيه، أسرق شعره كلّه؟ أ تحسن أنت أن تقول كما قال:
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي *** و محّت كما محّت و شائع من برد(2)
و أنجدتم من بعد إتهام داركم *** فيا دمع أنجدني على ساكني نجد؟
فانخزل دعبل و استحيا، فقال له الحسن: الندم توبة، و هذا الرجل قد توفّي، /و لعلك كنت تعاديه في الدنيا حسدا على حظّه منها، و قد مات الآن، فحسبك من ذكره، فقال له: أصدقك يا أبا عليّ، ما كان بيني و بينه شيء قط إلا أني سألته أن ينزل لي عن شيء استحسنته من شعره، فبخل عليّ به، و أما الآن فأمسك عن ذكره، فجعل الحسن يضحك من قوله و اعترافه بما اعترف به.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء: قال: حدّثنا إسحاق بن محمد النّخعي: قال:
كتب إبراهيم بن محمد بن أبي محمد اليزيدي إلى محمد بن حماد الكاتب يهجوه، و يعيره بعشق الحسن بن إبراهيم بن رباح و الحسن بن وهب جاريته و تغايرهما عليها:
لي خليطان محكمان يجيدا *** ن لما يعملانه حاذقان
واحد يعمل القسيّ فيأ *** تيك بها في استقامة الميزان
و فتى يعمل السكاكين في القر *** ن مقرّ بحذقه الثّقلان
و هما يطلبان قرنا على رأ *** سك فانظر في بعض ما يسألان
قلت: هل يؤلم الفتى قطع ما *** فيه تريدان أيها الفتيان؟
فأجابا بلطف قول و فهم *** قم فإنّا إذا لنوكي مدان(3)
فاقطع الآن ما برأسك منها *** إن فيما ترى لمحض بيان
ص: 88
ذاك خير من أن يسمّى اسم سوء *** فيقال انظروا إلى القرنان(1)
قد كان عتبك مرّة مكتوما *** فاليوم أصبح ظاهرا معلوما
نال الأعادي سؤلهم لا هنّئوا *** لمّا رأونا ظاعنا و مقيما
و اللّه لو أبصرتني لأديت لي *** و الدمع يجري كالجمان سجوما(2)
هبني أسأت فعادة لك أن ترى *** متجاوزا متطاولا مظلوما(3)
الشعر لأحمد بن يوسف الكاتب، و الغناء لعبيد بن الحسن الناطفي اللّطفي، ثاني ثقيل بالوسط، و فيه خفيف رمل يقال: إنه لرذاذ، و فيه ثقيل أول مجهول.
ص: 89
هو أحمد بن يوسف بن صبيح الكاتب، و أصله من الكوفة، و كان مذهبه الرسائل و الإنشاء، و له رسائل معروفة، و كان يتولى ديوان الرسائل للمأمون، و يكنى أبا جعفر، و كان موسى بن عبد الملك غلامه و خرّيجه، فذكر محمد بن داود بن الجراح أن أحمد بن سعيد حدّثه عن موسى بن عبد الملك: قال: وهب لي أحمد بن يوسف ألفي(1) ألف درهم تفاريق عن ظهر يد.
و أخوه القاسم بن يوسف أبو محمد شاعر مليح الشعر، و كان ينتمي إلى بني عجل، و لم يكن أخوه أحمد يدّعي ذلك.
و كان القاسم قد جعل وكده(2) في مدح البهائم و مراثيها فاستغرق أكثر شعره في ذلك، منها قوله يرثي شاة:
عين بكّي لعنزنا السوداء *** كالعروس الأدماء يوم الجلاء(3)
/و قوله في الشاه مرك(4):
أقفرت منك أبا *** سعد عراص و ديار
و قوله في السّنّور:
ألا قل لمجّة أو ماردة *** تبكّي على الهرّة الصائدة(5)
/و قوله في القمريّ(6):
هل لامرئ من أمان *** من طارق الحدثان؟
أخبرني محمد بن خلف وكيع: قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد: قال: حدّثني رجل من ولد عبد الملك بن صالح أن الهشامي قال:
ص: 90
كان أحمد بن يوسف قد تبنّى جارية للمأمون اسمها مؤنسة، فأراد المأمون أن يسافر و يحملها، فكتب إليه أحمد بن يوسف بهذا الشعر على لسانها، و أمر بعض المغنّين، فغناه به، فلما سمعه و قرأ الكتاب أمر بإخراجها إليه، و هو:
قد كان عتبك مرة مكتوما
و قال محمد بن داود: حدّثني أحمد بن أبي خيثمة الأطروش(1) قال:
عتب أحمد بن يوسف على جارية له، فقال:
و عامل بالفجور يأمر با *** لبرّ كهاد يخوض في الظّلم
أو كطبيب قد شفّه سقم *** و هو يداوي من ذلك السّقم
يا واعظ الناس غير متّعظ *** نفسك طهّر أولا فلا تلم
و وجدت في بعض الكتب بلا إسناد: عتب المأمون على مؤنسة، فخرج إلى الشّمّاسيّة(2) متنزّها، و خلّفها عند أحمد بن يوسف الكاتب فرجت أن يذكرها إذا صار في متنزّهه(3)، فيرسل في حملها، فلم يفعل، و تمادى في عتبه، فسألت أحمد بن يوسف أن يقول على لسانها شعرا ترفعه(4) فقال:
/
يا سيدا فقده أغرى بي الحزنا *** لا ذقت بعدك لا نوما و لا وسنا
لا زلت بعدك مطويّا على حرق *** أشنا المقام و أشنا الأهل و الوطنا(5)
و لا التذذت بكأس في منادمة *** مذ قيل لي: إن عبد اللّه قد ظعنا
و لا أرى حسنا تبدو محاسنه *** إلاّ تذكرت شوقا وجهك الحسنا
و بعثت به إلى إسحاق الموصليّ، فغناه به، و قيل: بل بعثت به إلى سندس، فغنّته به؛ فاستحسن ذلك، و قال: لمن هذا الشعر؟. فقال أحمد بن يوسف: لمؤنسة يا سيدي تترضّاك، و تشكو البعد منك، فركب من ساعته، حتى ترضّاها، و رضي عنها.
و وجدت في هذا الكتاب قال:
كنا مع أحمد بن يوسف الكاتب في مجلس؛ و عندنا قينة، فتحلاّها(6) أحمد بن يوسف، فكتب إلى صاحب المنزل:
ص: 91
أنا رهن للمنايا *** بين إبرام و نقض
من هوى ظبي غرير *** مونق المنظر غضّ
ليتها جادت بتق *** بيل لخدّيها و عضّ
إن عجزتم عن شراها *** لي بفرض أو بقرض
فتمنّوا لي جميعا *** أنها قبر لبعضي
أخبرني عمي: قال: حدّثنا الحسن بن عليل: قال:
ذكر مسعود بن أبي بشر أنّ أحمد بن يوسف دخل يوما على الفضل بن سهل/أو أخيه في يوم دجن، فأطال مخاطبته، و كان أحمد/بن يوسف آنسا به، ففتح دواته و كتب إليه:
أرى غيما تؤلّفه جنوب *** و أحسبه سيأتينا بهطل
فوجه الرأي أن تدعو برطل *** فتشربه و تدعو لي برطل
و دفعها إليه فقرأهما، و ضحك، و قال: إن كان هذا عين الرأي قبلناه، و لم نردّه، ثم دعا بالطعام و الشراب، فأتموا يومهم.
الغناء في هذين البيتين للقاسم بن زرزور ثاني ثقيل بالوسطى.
و مما يغنّي فيه من شعره:
صدّ عني محمد بن سعيد *** أحسن العالمين ثاني جيد
ليس من جفوة يصدّ و لكن *** يتجنّى لحسنه في الصّدود
الغناء فيه لزرزور خفيف رمل، ذكر ذلك إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه، و محمد بن سعيد هذا كان من أولاد الكتّاب بسرّمن رأى، و كان أحمد يتعشّقه.
و من شعره الذي يغنّى فيه:
كم ليلة فيك لا صباح لها *** أحببتها قابضا على كبدي
قد غصّت العين بالدموع و قد *** وضعت خدّي على بنان يدي
كأنّ قلبي إذا ذكرتكم *** فريسة بين ساعدي أسد
ص: 92
الغناء لشارية من رواية طبّاع، و فيه خفيف رمل، ذكر حبش أنه لأحمد النّصيبي، و هو خطأ يشبه أن يكون لأحمد بن صدقة أو بعض طبقته.
الراح و النّدمان أحسن منظرا *** في كل ملتفّ الحدائق رائق
فإذا جمعت صفاءه و صفاءها *** فارجم بكل ملمة من حالق
الشعر للعطوي، و الغناء لبنان ثقيل أول بالوسطى، و فيه لذكاء وجه الرزة(1) خفيف ثقيل.
ص: 93
هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي عطية مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، و يكنى أبا عبد الرحمن بصريّ المولد و المنشأ.
و كان شاعرا كاتبا من شعراء الدولة العباسية، و اتصل بأحمد بن أبي داود، و تقرّب إليه بمذهبه و تقدّمه فيه بقوة جداله عليه، فلما توفّي أحمد نقصت حاله. و له فيه مدائح يسيرة، و مراث كثيرة.
منها ما أنشدنيه الأخفش عن كوثرة أخي العطويّ:
حنّطته يا نصر بالكافور *** و زففته للمنزل المهجور
هلاّ ببعض خصاله حنّطته *** فيضوع أفق منازل و قبور؟
تاللّه لو من نشر أخلاق له *** يعزى إلى التقديس و التطهير(1)
حنّطت من سكن الثّرى و علا الرّبا *** لتزوّدوه عدّة لنشور
/فاذهب كما ذهب الوفاء فإنه *** ذهبت به ريحا صبا و دبور
و اذهب كما ذهب الشباب فإنه *** قد كان خير مصاحب و عشير
و اللّه ما أبّنته لأزيده *** شرفا و لكن نفثة المصدور
و أنشدني الأخفش للعطويّ أيضا يرثي أحمد بن أبي دواد قال:
و ليس صرير النعش ما تسمعونه *** و لكنه أصلاب قوم تقصّف
و ليس نسيم المسك ريّا حنوطه *** و لكنّه ذاك الثناء المخلّف
و ذكر محمد بن داود في كتاب الشعراء، فقال: كان له فن من الشعر لم يسبق إليه، /ذهب فيه إلى مذهب أصحاب الكلام، ففاق جميع نظرائه، و خفّ شعره على كل لسان، و روي، و استعمله الكتاب، و احتذوا معانيه، و جعلوه إماما.
ص: 94
قال ابن داود: و حدّثني المبرّد: قال: كان العطويّ - و هو عندنا بالبصرة - لا ينطق بالشعر، ثم ورد علينا شعره لمّا صار إلى سرّ من رأى، و كنا نتهاداه، و كان مقتّرا عليه رزقه، دفرا(1) و سخا، منهوما بالنبيذ، و له فيه في وصف الصّبوح و ذكر النّدامى و المجالس أحسن قول، و ليس له قول يسقط، فمن ذلك قوله:
فيئي إلى أهدى السّبل *** قولا و علما و عمل
قاتلها اللّه لقد *** سامتكما إحدى العضل(2)
تقول هلا رحلة *** تنقلنا خير نقل
أخشى على جائلة *** الآمال جوّال الأجل
أخبرني علي بن سليمان الأخفش: قال: حدّثني محمد بن يزيد: قال:
سمع العطويّ رجلا يحدّث أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: إن فلانا قد جمع مالا، فقال عمر بن الخطاب:
فهل جمع له أياما؟ فأخذ العطوي هذا المعنى فقال:
أرفه بعيش فتى يغدو على ثقة *** إنّ الذي قسم الأرزاق يرزقه
فالعرض منه مصون لا يدنّسه *** و الوجه منه جديد ليس يخلقه
جمعت مالا ففكّر هل جمعت له *** يا جامع المال أياما تفرّقه؟(3)
المال عندك مخزون لوارثه *** ما المال مالك إلا حين تنفقه
و من قوله في النّدمان و النّبيذ مما يغنّي فيه ما أنشدنيه الأخفش و غيره من شيوخنا:
فكم قالوا تمنّ فقلت كاس *** يطوف بها قضيب في كثيب(4)
و ندمان تساقطني حديثا *** كلحظ الحبّ أو غضّ الرقيب
الغناء في هذين البيتين لذكاء وجه الززّة خفيف رمل.
ص: 95
أخبرني عمي: قال: حدّثني كوثرة أخو العطوي قال:
كان أخي أبو عبد الرحمن يشرب مع أصدقاء له من الكتّاب، و معهم قينة يقال لها: مصباح، من أحسن الناس وجها، و أطيبهم غناء، فما زالوا في قصف و عزف إلى أن انقطع نبيذهم؛ فبقوا حيارى، و كانوا قريبا من منزل أبي العباس أحمد بن الحسين/بن موسى بن جعفر بن محمد العلويّ، و كان صديقا لأبي عبد الرحمن فكتب إليه:
يا ابن من طاب في المواليد مذ آ *** دم جرّا إلى الحسين أبيه(1)
أنا بالقرب منك عند كريم *** قد ألحّت عليه شهب سنيه(2)
عنده قينة إذا ما تغنّت *** عاد منّا(3) الفقيه غير فقيه
تزدهيني و أين مثلي في الف *** هم تغنّيه ثم لا تزدهيه؟
مجلس كالرياض حسنا و لكن *** ليس قطب السرور و اللهو فيه(4)
[فأقمه بما به يمتري دن ع *** جوز خمارة ممتريه(5)]
/و بأشياخك الكرام إلى السّؤ *** دد موسى بن جعفر و أبيه
إن تحشّمتني و إن كان إلاّ *** مثل ما يأنس الفتى بأخيه(6)
قال: فلما وصلت الرقعة إلى أبي العباس أرسل إليهم براوية شراب، فلم يزالوا يشربون مجتمعين، حتى نفدت في أخفض عيش.
حدّثني أبو يعقوب إسحاق بن الضحّاك بن الخصيب الكاتب: قال:
جاءني يوما أبو عبد الرحمن العطوي بعد وفاة عمي أحمد بن الخصيب بسنتين، و كان صديقه و صنيعته، فجلس عندي يحادثني حديثه، و يبكي ساعة طويلة، ثم تغيمت السماء و هطلت، فسألته أن يقيم عندي، فحلف ألا يفعل إلا بعد أن أحضره من وقتي ما راج من الطعام، و لا أتكلّف له شيئا، ففعلت و جئته بما حضر، فقال لي: ما فعلت عقد؟ قلت: باقية، و هي في يومنا هذا مقيمة عندي، و الساعة تسمع غناءها، فقال لي: عجّل إذن فإنّ النهار قصير، ثم أنشأ يقول:
أدر الكأس قد تعالى النّهار *** ما يميت الهموم إلا العقار
ص: 96
صاح هذا الشتاء فاغد عليها *** إنّ أيامه لذاذ قصار
أيّ شيء ألذ من يوم دجن *** فيه كأس على النّدامى تدار
و قيان كأنهنّ ظباء *** فإذا قلن قالت الأوتار
حدّثني عمي: قال: حدّثني كوثرة: قال:
كان لأبي عبد الرحمن صديق من الأدباء، و كان يتعشّق جارية من جواري القيان يقال لها: عثعث، و كان لا يقدر عليها إلا على لقاء عسير، و اجتماع يسير، فأرسل إليها/يوما، فأحضرها(1) و أصلح جميع ما يحتاج إليه، و اتفق أن كان ذلك في(2) يوم رذاذ به من الطّيب و الحسن ما اللّه به عليم، فكتب إلى صديقه يعرفه الخبر، و يسأله المصير إليه و وصف له القصة بشعر، فقال:
يوم مطير و عيش نضير *** و كأس تدور و قدر تفور
و عثعث تأتي إذا جئتنا *** فتسمع منها غناء يصور(3)
و عندي و عندك ما تشت *** هيه شعر يمرّ و علم يدور
و إذ كان هذا كما قد وصفت *** فإن التفرّق خطب كبير
فقم نصطبح قبل فوت الزّمان *** فإنّ زمان التلهّي قصير
قال: فسار إليه صاحبه فمرّ لهما أحسن يوم و أطيبه.
و هذا الشعر أخذه العطويّ من كلام إسحاق، أخبرني به وسواسة بن الموصلي عن حماد عن أبيه: قال: كان يألفني بعض/الأعراب و كان طيبا، فجاءني يوما، فقلت له: لم أرك أمس، فقال: دعاني صديق لي، فقلت: صف لي ما كنتم فيه، فقال لي: كنا في مجلس نظامه سرور بين قدور تفور، و كأس تدور، و غناء يصور، و حديث لا يحور(4) و ندامى كأنهم البدور.
قال إسحاق: و قلت لأعرابي: كان يألفني: أين كنت بالأمس؟ قال: كنت عند بعض ملوك سرّ من رأى، فأدخلني إلى قبة كإيوان كسرى، و أطعمني في قصاع تترى، و غنتني جارية سكرى، تلعب بالمضراب كأنه مدري، فيا ليتني لقيتها مرة أخرى.
/قال إسحاق: و قلت لبعض الأعراب: طلبتك أمس فلم أجدك فأين كنت؟ قال: كنت عند صديق لي، فأطعمني بنات التّنانير، و أطعمني أمّهات الأبازير(5) و حلواء الطّناجير(6)، و سقاني زعاف القوارير، و أسمعني غناء
ص: 97
الشادن(1) الغرير، على العيدان و الطّنابير، قد ملكت بأوقار الدراهم و الدّنانير.
قرأت في بعض الكتب بغير إسناد: أنّ العطوي كان يوما جالسا في منزله، و طرقه صديق له ممن كان يغنّي(2)بسرّمن رأى، فقال له: قد أهديت إليك جواريّ اليوم و نبيذا يكفيك، و حسبك بالكفاية. و أقام عنده، فدخل عليه غلام أمرد أحسن من القمر، فاحتبسوه و كتب العطويّ إلى صديق له من أهل الأدب:
يومنا طيّب به حسن الق *** صف و حثّ الأرطال و الكاسات
ما ترى البرق كيف يلمع فيه *** و رشاشا يبلّ في الساعات
و لدينا ظبي غرير ظريف *** قد غنينا به عن القينات(3)
إن تخلّفت بعد ما تصل الرّ *** قعة عنّا فأنت في الأموات
فأجابه الرجل فقال:
أنا في إثر رقعتي فاعلمن ذا *** ك على أنّني من البيّات
فأفهم الشّرط بيننا لا تقل لي *** قد تثاقلت فانصرف بحياتي
لا لسوء لكن لأمتع نفسي *** بحديث الظبي الغرير المواتي(4)
هو مرة بن عبد اللّه بن هليل بن يسار: أحد بني هلال بن عصم بن نصر بن مازن بن خزيمة بن نهد، و ليلى هذه من رهطه، يقال لها: ليلى بنت زهير بن يزيد بن خالد(1) بن عمرو بن سلمة.
نسخت خبرها من كتاب ابن أبي السّريّ قال: حدّثني ابن الكلبي عن أبيه. قال:
كانت امرأة من بني نهد، يقال لها: ليلى بنت زهير بن يزيد، و كان لها ابن عم يقال له مرّة بن عبد اللّه/بن هليل يهواها، و اشتد شغفه بها فخطبها، و أبوا أن يزوجوه، و كان لا يخطبها غيره إلاّ هجاه، فخطبها رجل من بني نهشل، يقال له: إران، فقال مرّة يهجوه:
و ما كنت أخشى أن تصير بمرّة *** من الدّهر ليلى زوجة لإران
لمن ليس ذا لبّ و لا ذا حفيظة *** لعرس و لا ذا منطق و بيان
لقد بليت ليلى بشرّ بليّة *** و قد أنزلت ليلى بدار هوان
قال: فتزوجها المنجاب(2) بن عبد اللّه بن مسروق بن سلمة بن سعد، من بني زويّ بن مالك بن نهد، فخرج إلى البعث براذان، و هي إذ ذاك مسلحة لأهل الكوفة، فخرج بها معه، فماتت براذان و دفنت هناك. فقدم رجلان من بجيلة من مكتبهما براذان من بني نهد، و كانت بجيلة جيران بني نهد بالكوفة، فمرّا على مجلسهم، فسألوهما عمن براذان من بني نهد، فأخبراهم بسلامتهم، و نعيا إليهم ليلى و مرّة في القوم، فأنشأ يقول:
أيا ناعيي ليلى أ ما كان واحد *** من الناس ينعاها إليّ سواكما
/و يا ناعيي ليلى أ لم نك جيرة *** عليكم لها حقّ فألاّ نهاكما(3)
و يا ناعيي ليلى لقد هجتما لنا *** تجاوب نوح في الديار كلاكما
ص: 99
و يا ناعيي ليلى لجلّت مصيبة *** بنا فقد ليلى لا أمرّت قواكما(1)
و لا عشتما إلا حليفي بليّة *** و لا متّ حتى يشترى كفناكما
فأشمت و الأيام فيها بوائق *** بموتكما إني أحبّ رداكما
و قال فيها أيضا:
كأنك لم تفجع بشيء تعدّه *** و لم تصطبر للنائبات من الدهر(2)
و لم تر بؤسا بعد طول غضارة *** و لم ترمك الأيام من حيث لا تدري
سقى جانبي راذان و الساحة التي *** بها دفنوا ليلى ملثّ من القطر(3)
و لا زال خصب حيث حلّت عظامها *** براذان يسقى الغيث من هطل غمر
و إن لم تكلمنا عظام و هامة *** هناك و أصداء بقين مع الصخر(4)
و قال فيها:
أيا قبر ليلى لا يبست و لا تزل *** بلادك تسقيها من الواكف الدّيم
و يا قبر ليلى غيبت عنك أمها *** و خالتها و الناصحون ذو و الذّمم
و يا قبر ليلى كم جمال تكنّه *** و كم ضمّ فيك من عفاف و من كرم(5)
/و ساق باقي الأبيات التي فيها الغناء:
و حكى الهيثم بن عدي عن شيخ من بني نهد:
أنّ مرة كان تزوجها، و كان مكتبه براذان، و أخرجها معه، ثم ضرب عليه البعث إلى خراسان، فخلّفها عند شيخ من أهل منزله هناك، و أفرد لها الشيخ دارا كانت فيها، و مضى لبعثه، ثم قدم بعد حول، فلقي فتى من أهل راذان قبل وصوله إلى دارها، فسأله عنها، فقال: أ ترى القبر الذي بفناء الدار؟ قال: نعم، قال: هو و اللّه قبرها، فجاء، فأكبّ عليه يبكي، و يندبها، و ترك مكتبه، و لزم/قبرها يغدو و يروح إليه، حتى لحق بها.
بأبي أنت يا بن من *** لا أسمّي لبعض ما
يا شبيه الهلال مث *** لك في الأفق أنجما
راقب اللّه في أس *** يرك إن كنت مسلما
الشعر لعليّ بن أمية و الغناء لعمر الميداني رمل مطلق.
ص: 100
علي بن أمية بن أبي أمية، و كان أبوه يكتب للمهديّ على ديوان بيت المال و ديواني الرسائل و الخاتم، و كان منقطعا إلى إبراهيم بن المهدي، و إلى الفضل بن الربيع، و قد تقدم خبر أخيه محمد في مواضع من هذا الكتاب.
فحدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار: قال: حدّثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات: قال: حدّثني محمد بن علي بن أمية: قال: لما قدم عليّ بن أمية، و قال:
يا ريح ما تصنعين بالدّمن؟ *** كم لك من محو منظر حسن
محوت آثارنا و أحدثت آ *** ثارا بربع الحبيب لم تكن
إن تك يا ربع قد بليت من *** الرّيح فإني بال من الحزن
قد كان يا ربع فيك لي سكن *** فصرت إذ بان بعده سكني
شبّهت ما أبلت الرياح من آ *** ثار حبيبي الثّأى بلا بدن(1)
يا ريح لا تطمسي الرموس و لا *** تمحي رسوم الديار و الدمن(2)
حاشاك يا ريح أن تكون على *** العاشق عونا لحادث الزّمن
/كثّر الناس فيه، و غناه عمرو الغزال، فقال أبو موسى الأعمى:
يا ربّ خذني و خذ عليّا و خذ *** يا ريح ما تصنعين بالدّمن
عجّل إلى النار بالثلاثة و الرا *** بع عمرو الغزال في قرن
ثم ندم، و قال: هؤلاء أهل بيت، و هم إخوتي، و لا أحبّ أن أنشب بيني و بينهم عداوة و شرّا، فأتى أميّة فقال:
إني قد أذنبت فيما بيني و بينكم ذنبا، و قد جئتك مستجيرا بك من فتيانك، فدعا بعليّ بن أمية، فقال: يا هذا، عمّك أبو موسى قد أتاك معتذرا من الشعر الذي قاله، قال: و ما هو؟ فأنشده، فقال: قد ضجرنا نحن و اللّه منه كما ضجرت
ص: 101
أنت و أكثر، و أنت آمن من أن يكون منا جواب، و أتى محمد بن أمية، فقال له مثل ذلك، و مضى أبو موسى، فأخذ عليّ بن أمية رقعة فكتب فيها:
كم شاعر عند نفسه فطن *** ليس لدينا بالشاعر الفطن
قد أخرجت نفسه بغصّتها *** يا ريح ما تصنعين بالدّمن
و دفع الرقعة إلى غلام له، و قال: ادفعها إلى غلام أبي موسى، و قل له: يقول لك مولاك: /اذكرني بهذا إذا انصرفت إلى المنزل، فلما انصرفت إلى المنزل أتاه غلامه بالرقعة، فقال: ما هذه؟ فقال: التي بعثت بها إليّ، فقال:
و اللّه ما بعثت إليك رقعة، و أظن الفاسق قد فعلها، ثم دعا ابنه، فقرأها عليه، فلما سمع ما فيها قال: يا غلام، لا تنزع عن البغلة. فرجع إلى عليّ بن أمية، فقال: نشدتك اللّه أن تزيد على ما كان، فقال له: أنت آمن.
لحن عمرو الغزال في أبيات عليّ بن أمية رمل بالوسطى.
و قال يوسف بن إبراهيم: حدّثني إبراهيم بن المهديّ: قال: حدّثني محمد بن أيوب المكي:
أنه كان في خدمة عبيد اللّه بن جعفر بن المنصور، و كان مستخفّا لعمرو الغزال، محبّا له، و كان عمرو يستحق ذلك بكل شيء، إلا ما يدّعيه و يتحقّق به من صناعة الغناء؛ و كان ظريفا أديبا نظيف الوجه و اللباس، معه كلّ ما يحتاج إليه من آلة الفتوّة، و كان صالح الغناء، ما وقف بحيث يستحقّ، و لم يدع ما يستحقه، و أنه كان عند نفسه نظير ابن جامع و إبراهيم و طبقتهما، لا يرى لهم عليه فضلا و لا يشكّ في أنّ صنعتهم مثل صنعته، و كان عبد اللّه قليل الفهم بالصناعة، فكان يظن أنه قد ظفر منه بكنز من الكنوز، فكان أحظى الناس عنده من استحسن غناء عمرو الغزال و صنعته، و لم يكن في ندمائه(1) من يفهم هذا، ثم استزار عبيد اللّه بن جعفر أخاه عيسى، و كان أفهم منه، فقلت له:
استعن برأي أخيك في عمرو الغزال؛ إنه أفهم منك، و كانت أمّ جعفر كثيرا ما تسأل الرشيد تحويل أخيها عبيد اللّه و تقديمه و التنويه به، فكان عيسى أخوه يعرّف الرشيد أنه ضعيف عاجز لا يستحق ذلك، فلما زاره عيسى أسمعه غناء عمرو، فسمع منه سخنة عين(2)، فأظهر من السرور و الطّرب أمرا عظيما، ليزيد بذلك عبيد اللّه بصيرة فيه، و يجعله عيسى سببا قويا يشهد عند الرشيد بضعف عقله، و علمت ما أراد، و عرفت أن عمرا الغزال أول داخل على الرشيد، فلما كان وقت العصر من اليوم الثاني، لم نشعر إلا برسول الرشيد قد جاء يطلب عمرا الغزال، فوجّه إليه و أقبل يلومني و يقول: ما أظنك إلا قد فرقت بيني و بين عمرو، و كنت غنيا عن الجمع بينه و بين عيسى، و اتفق أن غنى عمرو الرشيد في هذا الشعر صنعته:
يا ريح ما تصنعين بالدّمن؟ *** كم لك من محو منظر حسن
و كان صوتا خفيفا مليحا فأطربه، و وصله بألف(3) دينار، و صار في عداد مغنّي/الرشيد، إلا أنه كان يلازم
ص: 102
عبيد اللّه إذا لم يكن له نوبة، فأقبلت أتعجّب من ذلك، و اتّصلت خدمته إياه ثلاث سنين، ثم انصرفا يوما من الشّمّاسية مع عبيد اللّه بن جعفر، فلقيه الخضر بن جبريل، و كان في(1) الناس في العسكر، فعاتبه عبيد اللّه على تركه و انقطاعه عنه، فقال: و اللّه ما أفعل ذلك جهلا بحقك، و لا إخلالا بواجبك، و لكنا في طريقين متباينين لا يمكن معهما الاجتماع، قال: و ما هما ويحك؟ قال: أنت على نهاية السّرف في محبّة(2) عمرو الغزال، و أنا على نهاية السّرف في بغضه(3) و أنت تتوهم أنه لا يطيب لك عيش إلا به، و أنا أتوهم أني إن عاشرته ساعة متّ، و تقطعت نفسي غيظا و كمدا، و ما يستقيم مع هذا بيننا عشرة أبدا، فقال له عبيد اللّه: إذا كان هذا(4) هكذا فأنا أعفيك منه إذا زرتني، فصر إليّ آمنا، ففعل، و لم يجلس عبيد اللّه حتى قال لحاجبه لا تدخل اليوم/أحدا، و لا تستأذن عليّ لجلوسه و دخلنا، فلما وضعت المائدة لم يأكل ثلاث لقم، حتى دخل الحاجب فوقف بين يديه، و أقبل عمرو الغزال خلفه، فرآه من أقصى الصحن، فقال له عبيد اللّه: ثكلتك أمّك! أ لم أقل لك لا تدخل عليّ أحدا من خلق اللّه؟ فقال له الحاجب: امرأته طالق ثلاثا إن كان عنده أن عمرا عندك في هذا المجرى، و لو جاء جبريل و ميكائيل و كلّ من خلق اللّه لم يدخلوا عليك إلا بإذن سوى عمرو؛ فإنك أمرتني أن آذن له خاصة و أن يدخل متى شاء، و على كلّ حال.
قال: و لم يفرغ الحاجب من كلامه حتى دخل عمرو، فجلس على المائدة و تغيّر وجه الخضر، و بانت الكراهة فيه، فما أكل أكلا فيه خير، و تبيّن عبيد اللّه ذلك، و رفعت المائدة و قدّم النبيذ، فجعل الخضر يشرب شربا كثيرا لم أكن أعهده يشرب مثله، /فظننت(5) أنه يريد بذلك أن يستتر(6) من عمرو الغزال، و عمرو يتغنّى، فلا يقتصر(7) و كلما تغنى قال له عبيد اللّه: لمن هذا الصوت يا حبيبي؟ فيقول: لي و عندنا يومئذ جوار مطربات محسنات، و هو يقطع غناءهنّ بغنائه، و تبينت في وجه الخضر العربدة إلى أن قال عمرو بعقب صوت: هذا لي، فوثب الخضر و كشف استه و خزي في وسط المجلس على بساط خزّ لم أر لأحد مثله، ثم قال: إن كان هذا الغناء لك، فهذا الخراء لي، فغضب عبيد اللّه، و قال له: يا خضر أ كنت تستطيع أن تفعل أكثر من هذا؟ قال إي و اللّه أيها الأمير، ثم وضع رجليه على سلحه، ثم أخرجهما فمشى على البساط مقبلا و مدبرا، حتى خرج و قد لوّثه، و هو يقول: هذا كله لي، و تفرّقنا عن المجلس على أقبح حال و أسوئها، و شاع الخبر، حتى بلغ الرشيد، فضحك حتى غلب عليه، و دعا الخضر، و جعله في ندمائه منذ يومئذ، و قال: هذا أطيب خلق اللّه، و انكشف عنده عوار عمرو الغزال و استرحنا منه، و أمر أن يحجب عنه، فسقط يومئذ، و قد كان الجواري و الغلمان أخذوه و لهجوا به، و كان الرشيد يكايد به إبراهيم الموصلي و ابن جامع قبل ذلك فسقط غناؤه أيضا منذ يومئذ، فما ذكر منه حرف بعد ذلك اليوم إلا صنعته في:
يا ريح ما تصنعين بالدّمن
و لو لا إعجاب الرشيد به لسقط أيضا.
ص: 103
حدّثني الحسن بن علي عن محمد بن القاسم عن أبي هفّان: قال:
كنا في مجلس، و عندنا قينة تغنينا، و صاحب البيت يهواها، فجعلت تكايده، و تومئ إلى غيره بالمزح و التّجميش(1)، و تغيظه بجهدها، و هو يكاد يموت قلفا و همّا و تنغّص عليه يومه، و لجّت في أمرها، ثم سقط المضراب عن يدها، فأكبّت على/الأرض لتأخذه، فضرطت ضرطة سمعها جميع من حضر، و خجلت، فلم تدر ما تقول فأقبلت على عشيقها فقالت: أيش تشتهي أن أغني لك؟ فقال: غنّي(2):
يا ريح ما تصنعين بالدّمن
فخجلت و ضحك القوم و صاحب الدار، حتى أفرطوا، فبكت و قامت من المجلس، و قالت: أنتم و اللّه قوم سفل، و لعنة اللّه على من يعاشركم، و غضبت و خرجت، و كان - علم اللّه - سبب القطيعة بينهما و سلو ذلك الرجل عنها:
أخبرني ابن عمّار و عمي و الحسن بن علي، قالوا: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثنا الحسين بن الضحاك: قال:
كنت في مجلس قد دعينا إليه، و معنا علي بن أمية، فعلقت نفسه بقينة/دعيت لنا يومئذ، فأقبل عليها فقال لها: أ تغنّين قوله:
خبريني من الرسول إليك؟ *** و اجعليه من لا ينمّ عليك
و أشيري إليّ من هو بالل *** حظ ليخفى على الذين لديك
فقالت: نعم، و غنته لوقتها و زادت فيه هذا البيت، فقالت:
و أفلّي المزاح في المجلس اليو *** م فإن المزاح بين يديك(3)
ففطن لما أرادت و سرّ بذلك، ثم أقبلت على خادم واقف فقالت له: يا مسرور، اسقني، فسقاها، و فطن بن أمية أنها أرادت أن تعلمه أن مسرورا هو الرسول، فخاطبه، فوجده كما يريد، و ما زال ذلك الخادم يتردّد في الرسائل بينهما.
ص: 104
هو رجل من أهل بغداد كان ينزل الميدان(1) فعرف به، و كان لا يفارق محمدا و عليّا ابني أمية و أبا حشيشة، ينادمهم و يغنّي في أشعارهم، و كان منزله قريبا منهم، و هو أحد المحسنين المتقدمين في الصنعة و الأداء.
حدّثني جحظة: قال:
و سمعت ابن دقاق(2) في منزل أبي العبيس بن حمدون يقول: سمعت أبا حشيشة و المسدود، و من قبلهما من الطّنبوريين، فما سمعت منهم أصحّ غناء و لا أكثر تصرفا من عمر الميداني.
حدّثني جحظة: قال: حدّثني علي بن أمية: قال:
دخلت يوما على عمر الميداني، و كان له بقّال على باب داره ينادمه و لا يفارقه، و يقارضه(3) إذا أعسر، و يتصرّف في حوائجه، فإذا حصلت له دراهم دفعها إليه يقبض منها ما رأى، لا يسأله عن شيء، فوجدت عنده يومئذ هذا البقال، فقال لنا عمر: معي أربعة دراهم تعطوني منها لعلف حماري درهما، و الثلاثة لكم، فكلوا بها ما أحببتم. و عندي نبيذ، و أنا أغنّيكم، و البقال يحضرنا من الأبقال اليابسة ما في حانوته. فوجّهنا بالبقال. فاشترى لنا بدرهم(4) لحما. و بدرهم خبزا. و بدرهم فاكهة و ريحانا. و جاءنا من حانوته بحوائج السّكباج(5) و نقل. فبينا نحن نتوقع الفراغ من القدر إذا بفرانق(6)/يدقّ الباب. فأدخله عمر: فقال له: أجب الأمير إسحاق بن إبراهيم. فحلف علينا عمر بالطلاق ألاّ نبرح، و مضى هو؛ و أكلنا السّكباج و شربنا و انصرف(7) عشاء. و بكر إليّ رسوله في السّحر أن صر إليّ، فصرت إليه، فقلت: أعطني خبرك من النّعل إلى النّعل(8). قال: دخلت فوضعت بين يديّ مائدة كأنها جزعة(9) يمانية قد قرشت في عراصها(10) الحبر فأكلت و سقبت رطلين، و دفع إليّ طنبور. فدخلت إلى إسحاق،
ص: 105
فوجدته في الصدر جالسا، و خلفه ستارة. و عن يمينه مخارق و عن يساره علّويه. فقال لي: أنت عمر الميداني؟ فقلت: نعم. فقال: أ أكلت؟ فقلت: نعم قال: هاهنا أو في منزلك؟ فقلت: بل هاهنا، قال: أحسنت، فغنّ بصوتك الذي صنعته فيّ:
يا شبيه الهلال كلّل في الأفق أنجما
و هو رمل مطلق، فغنّيته فضرب الستارة. و قال: قولوه أنتم، فقالوه، فقال: لمخارق و علّوية: كيف تسمعان؟ فقالا: هذا و اللّه ذا. و ذا ذاك، فرددته مرارا. و شرب عليه. و قال لي: أنا اليوم/على خلوة و لك عليّ دعوات، فانصرف اليوم بسلام. فخرجت و دفع إليّ الغلام خمسة آلاف درهم. فهي هذه، و اللّه لا استأثرت عليكم منها بدرهم. فلم نزل عنده نقصف حتى نفدت.
أمين الخالق الباري *** و راعى كلّ مخلوق
أدر راحك في المعشو *** ق من راحة معشوق(1)
الشعر لأبي أيوب سليمان بن وهب. و الغناء للقاسم بن زرزور ثقيل أول بالبنصر من جامع غنائه المأخوذ عن أبيه أبي القاسم عبيد اللّه بن القاسم.
ص: 106
قد تقدّم نسبه في أخبار الحسن بن وهب أخيه و انتماؤه في بني الحارث بن كعب. و أن أصلهم من قرية يقال لها: سار قرمقا من طسّوج(1) خسرو سابور من سواد واسط، و كان سليمان بن وهب ينكر الانتساب إلى الحارث بن كعب على أخيه الحسن و على ابنه أبي الفضل أحمد بن سليمان بن وهب لشدة تعلقهما به، أخبرني بذلك محمد بن يحيى و غيره من شيوخنا و من مشيخة الكتّاب.
أخبرني الصوليّ: قال: حدّثني الحسن بن يحيى و عون بن محمد الكندي، أن جعفر بن محمد كان وزير المهتدي في أول أمره، فبلغه عنه تشيّع فكرهه، و قال: هذا رافضيّ لا حاجة لي فيه، و استوزر جعفر بن محمد بن عمّار، فلم يزل على وزارته حتى مضت سنة من خلافة المهتدي، ثم قدم موسى بن بغا من الجبل، و كاتبه سليمان بن وهب و ابنه عبيد اللّه، فاستوزر المهتدي سليمان بن وهب و لقب الوزير حقّا؛ لأن من كان قبله كان غير مستحق للوزارة، و لا مستقلّ بها.
أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدّثني الحسن بن يحيى بن الجماز: قال:
لما استوزر سليمان بن وهب جلس للناس، فدخل عليه شاعر يقال له: هارون بن محمد البالسي، فذكر مظلمة له ببلده، ثم أنشده:
زيد في قدرك العليّ علوّ *** يا بن وهب من كاتب و وزير(2)
أسفر الشرق منك و الغرب عن ضو *** ء من العدل فاق ضوء البدور
/أنشر الناس غيثكم بعد ما كا *** نوا رفاتا من قبل يوم النّشور
شرّد الجور عدلكم فسرحنا *** بينكم بين روضة و سرور(3)
[(4)أنت عين الإمام و القرم مو *** سى بك تفترّ عابسات الأمور]
ص: 107
فوقع في ظلماته [بما أراد(1)] و وصله بمائتي دينار.
أخبرني محمد بن يحيى: قال: حدّثنا أحمد بن الخصيب: قال: لعهدي بيزيد بن محمد المهلبيّ عند سليمان ابن وهب بعد ما استوزره المهتدي، و قد أجلسه إلى جانبه، و هو ينشده قوله:
و هبتم لنا يا آل وهب مودّة *** فأبقت لنا جاها و مجدا يؤثّل(2)
فمن كان للآثام و الذلّ أرضه *** فأرضكم للأجر و العزّ منزل
رأى الناس فوق المجد مقدار مجدكم *** فقد سألوكم فوق ما كان يسأل
يقصر عن مسعاكم كلّ آخر *** و ما فاتكم ممّن تقدّم أول(3)
/بلغت الذي قد كنت أمّلته لكم *** و إن كنت لم أبلغ بكم ما أؤمّل(4)
فقطع عليه سليمان الإنشاد، و قال له: يا أبا خالد، فأنت و اللّه عندي كما قال عمارة بن عقيل لابنه:
أقهفه مسرورا إذا أبت سالما *** و أبكي من الإشفاق حين تغيب
/فقال له يزيد: فيسمع مني الوزير آخر الشّعر لا أوله، و تمم فقال:
و ما لي حق واجب غير أنّني *** بجودكم في حاجتي أتوسّل
و أنّكم أفضلتم و بررتم *** و قد يستتمّ النّعمة المتفضّل
و أوليتم فعلا جميلا مقدّما *** فعودوا فإن العود بالحرّ أجمل
و كم ملحف قد نال ما رام منكم *** و يمنعنا من مثل ذاك التجمّل
و عوّدتمونا قبل أن نسأل الغنى *** و لا بذل للمعروف و الوجه يبذل
فقال له سليمان: لا تبرح و اللّه إلاّ بقضاء حوائجك كائنة ما كانت، و لو لم أستفد من كتبة أمير المؤمنين إلا شكرك لرأيت جنابي بذلك ممرعا، و غرسي مثمرا، ثم وقّع له في رقاع كثيرة كانت بين يديه.
أخبرني محمد: قال: حدّثنا الحزنبل: قال:
لما ولّى المهتدي سليمان بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوي حرفته، فقال: أنا - أعز اللّه الوزير - خادمك، المؤمّل دولتك، السعيد بأيامك، المطويّ القلب على ودّك، المنشور اللسان بمدحك، المرتهن بشكر نعمتك، و قد قال الشاعر:
ص: 108
وفّيت كلّ أديب ودّني ثمنا *** إلا المؤمّل دولاتي و أيّامي
فإنني ضامن ألا أكافئه *** إلا بتسويغه فضلي و إنعامي
و إنّي لكما قال القيسيّ: ما زلت أمتطي النهار إليك، و أستدلّ بفضلك عليك، حتى إذا جنّني الليل، فقبض البصر، و محا الأثر، أقام بدني؛ و سافر أملي، و الاجتهاد [عذر](1)، و إذا بلغتك فهو مرادي فقط. فقال له سليمان:
لا عليك: فإني عارف/بوسيلتك، محتاج إلى كفايتك، و لست أؤخّر عن أمري(2) النظر في أمرك و توليتك ما يحسن أثره عليك.
و ذكر يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه قال:
ما رأيت أظرف من سليمان بن وهب، و لا أحسن أدبا: خرجنا نتلقاه عند قدومه من الجبل مع موسى بن بغا، فقال لي: هات الآن يا أبا الحسن، حدّثني بعجائبكم بعدي، و ما أظنك تحدّثني بأعجب من خبر ضرطة أبي وهب بحضرة القاضي، و ما سيّر من خبرها، و ما قيل(3) فيها، حتى قيل:
و من العجائب أنها بشهادة ال *** قاضي فليس يزيلها الإنكار
و جعل يضحك.
قال علي بن الحسين الأصبهاني:
حضرت أبا عبد اللّه الباقطاني، و هو يتقلّد ديوان المشرق، و قد تقلّد ابن أبي السلاسل ماسبذان و مهرجان قذف(4)، و جاءه يأخذ كتبه، فجعل يوصيه كما يوصي أصحاب الدواوين العمّال، فقال ابن أبي السلاسل: كأنّك استكثرت لي هذا العمل أنت أيضا! قد كنت تكتب لأبي العباس بن ثوابة، ثم صرت صاحب ديوان، فقال له الباقطانيّ: يا جاهل يا مجنون، لو لا أنه قبيح عليّ مكافأة مثلك لراجعت الوزير - /أيده اللّه - في أمرك، حتى أزيل يدك، و من لي أن أجد مثل ابن(5) ثوابة في هذا الوقت، فأكتب له، و لا أريد الرئاسة! ثم أقبل علينا يحدثنا، فقال:
دخلت مع أبي العباس بن ثوابة إلى المهتدي، و كان سليمان بن وهب وزيره، و كان/يدخل إليه الوزير و أصحاب الدواوين و العمال و الكتّاب، فيعملون بحضرته، فيوقع إليهم في الأعمال، فأمر سليمان أن يكتب عنه عشرة كتب مختلفة إلى جماعة من العمال، فأخذ سليمان بيد أبي العباس بن ثوابة، ثم قال له: أنت اليوم أحدّ ذهنا منّي فهلمّ نتعاون، فدخلا بيتا، و دخلت معهما، و أخذ سليمان خمسة أنصاف و أبو العباس خمسة أنصاف أخر، فكتبا الكتب
ص: 109
التي أمر بها سليمان ما احتاج أحدهما إلى نسخه، و قد أكمل(1) كلّ واحد منهما ما كتب به صاحبه، فاستحسنه و قرّظه، ثم وضع سليمان الكتب بين يدي المهتدي، فقال له و قد قرأها: أحسنت يا سليمان، و نعم الرجل أنت لو لا المعجّل و المؤجّل، و كان سليمان إذا ولّي عاملا أخذ(2) منه مالا معجّلا، و أجّل له مالا إلى أن يتسلّم عمله، فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا قول لا يخلو من أن يكون حقّا أو باطلا، فإن كان باطلا فليس مثلك من يقوله، و إن كان حقّا - و قد علمت أن الأصول محفوظة - فما يضر من يساهمني من عمالي على بعض ما يصل إليهم من برّ؛ من غير تحيّف للرعية و لا نقص للأموال؟ فقال: إذا كان هكذا(3) فلا بأس، ثم قال له: اكتب إلى فلان العامل يقبض ضيعة فلان المصروف المعتقل في يده، بباقي ما عليه من المصادرة، فقال له أبو العباس بن ثوابة: كلّنا يا أمير المؤمنين خدمك و أولياؤك، و كلّنا حاطب في حبلك، و ساع فيما أرضاك و أيّد ملكك، أ فنمضي ما تأمر به على ما خيّلت أم نقول بالحق؟ قال: بل قل الحقّ يا أحمد فقال: يا أمير المؤمنين، الملك يقين، و المصادرة. شكّ، أ فترى أن أزيل اليقين بالشكّ؟ قال: لا، قال: فقد شهدت للرجل بالملك، و صادرته عن شكّ فيما بينك و بينه، و هل خانك أم لا، فتجعل المصادرة صلحا! فإذا قبضت ضيعته بهذا فقد أزلت اليقين بالشكّ، فقال له: صدقت، و لكن كيف الوصول إلى المال؟ فقال له: أنت لا بدّ لك من عمّال على أعمالك، و كلهم يرتزق، و يرتفق، فيحوز رفقه و رزقه/إلى منزله، فاجعله أحد عمّالك؛ ليصرف هذين الوجهين إلى ما عليه و يسعفه معاملوه، فيتخلّص بنفسه و ضيعته و يعود إليك مالك، فأمر سليمان بن وهب بأن يفعل ذلك، فلمّا خرجا من حضرة المهتدي قال له سليمان: عهدي بهذا الرجل عدوّك، و كل واحد منكما يسعى على صاحبه، فكيف زال ذلك، حتى نبت(4) عنه في هذا الوقت نيابة أحييته بها، و تخلّصت(5) نفسه و نعمته؟ فقال: إنما كنت أعاديه، و أسعى عليه و هو يقدر على الانتصاف مني، فأمّا و هو فقير إليّ فلا. فهذا مما يحظره الدين و الصناعة و المروءة. فقال له سليمان: جزاك اللّه خيرا، أما و اللّه، لأشكرن هذه النيّة لك. و لأعتقدنّك من أجلها أخا و صديقا. و لأجعلنّ هذا الرجل لك عبدا ما بقي. ثم قال الباقطاني: أ فمن كان هذا وزنه و فعله يعاب من كان يكتب له؟
أخبرني محمد بن يحيى الباقطاني: قال: حدّثنا الحسين بن يحيى الباقطاني قال:
كنت آلف سليمان بن وهب كثيرا، و أخدمه و أحادثه، و كان يخصّني و يأنس بي. /فأنشدني لنفسه يذكر نكبته في أيام الواثق:
قد ذقت حلوا و ذقت مرّا *** كذاك عيش الفتى ضروب
ما مرّ بؤس و لا نعيم *** إلا و لي فيهما نصيب
فيه رمل محدث لا أعرف صانعه.
و ذكر يحيى بن عليّ بن يحيى أنّ جفوة نالت أباه من سليمان بن وهب فكتب إليه:
/
جفاني أبو أيوب نفسي فداؤه *** فعاتبته كيما يريع و يعتبا
فو اللّه لو لا الضنّ مني بودّه *** لكان سهيل من عتابيه أقربا(1)
فكتب إليه سليمان:
ذكرت جفائي و هو من غير شيمتي *** و إنّي لدان من بعيد تقرّبا
فكيف بخلّ لي أضنّ بودّه *** و أصفيه ودّا ظاهرا و مغيّبا
عليّ بن يحيى لا عدمت إخاءه *** فما زال في كلّ الخصال مهذّبا
و لكنّ أشغالا غدت(2) و تواترت *** فلما رأيت الشغل عاق و أتعبا
و كنت إلى عذر الأخلاّء إنّهم *** كرام و إن كان التواصل أوجبا
فإن يطلب(3) منّي عتابك أوبة *** ببرّ تجدني بالأمانة معتبا
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه: قال:
كان سليمان بن وهب - و هو حدث - يتعشّق إبراهيم بن سوّار بن شداد بن ميمون، و كان من أحسن الناس وجها و أملحهم أدبا و طرفا، و كان إبراهيم هذا يتعشق جارية مغنّية يقال لها رخاص، فاجتمعوا يوما فسكر إبراهيم و نام، فرأت رخاص سليمان يقبّله، فلما انتبه لامته، و قالت: كيف أصفو لك و قد رأيت سليمان يقبّلك؟ فهجره إبراهيم، فكتب إليه سليمان:
قل للذي ليس لي من *** جوى هواه خلاص
أ إن لثمتك سرّا *** و أبصرتني رخاص
و قال لي ذاك قوم *** على اغتيابي حراص(4)
/هجرتني و أتتني *** شتيمة و انتقاص
ص: 111
و سرّ ذاك أناسا(1) *** لهم علينا اختراص
فهاك فاقتصّ مني *** إنّ الجروح قصاص
و أهدي سليمان إلى رخاص هدايا كثيرة، فكانوا بعد ذلك يتناوبون يوما عند سليمان، و يوما عند إبراهيم، و يوما عند رخاص.
أخبرني الصوليّ عن أحمد بن الخصيب: قال:
حضرت سليمان بن وهب، و قد جاءته رقعة من بعض من وعده أن يصرّفه من أصحابه، و فيها:
هبني رضيت منك بالقليل *** أ كان في التأويل و التنزيل!
/أو خبر جاء عن الرّسول *** أو حجة في فطر العقول
مستحسن من رجل جليل *** عال له حظّ من الجميل
ينقص ما أشاع بالتطويل *** و القول دون الفعل بالتحصيل
ليس كذا وصف الفتى النّبيل
قال: فكتب له بولاية ناحية، و أنفذ إليه مائتي دينار و كتب في رقعة:
ليس إلى الباطل من سبيل *** إلا لمن يعدل عن تعديل
و قد وفينا لك بالتحصيل *** فاطو الذي كان عن الخليل
فضلا عن الخليط و التنزيل *** و عد من القول إلى الجميل
و عفّ في الكثير و القليل *** تحظ من الرتبة بالجزيل
و أنت العالم الشاه *** د أني كاتب عامل(1)
فولّ الكافل الباذ *** ل دون العاجز الباخل
فما أفشي لك السرّ *** فعال الأخرق الجاهل
قال: فضحك و أجلسه و كتب في رقعته:
ابن لي ما الذي تخط *** ب شرحا أيها الباذل؟
و ما تعطي إذا ولّي *** ت تعجيلا و ما الآجل؟
أ في الإسلاف تنقيص *** أم الوزن له كامل؟
و في الموقوف تضمين *** أم الوعد به حاصل؟
و هل ميقاته الغلّ *** ة في العام أو القابل؟
ابن لي ذاك و اردد رق *** عتي يا كاتبا عامل؟
فلما قرأها الرجل قطع ما بينه و بينه، و ردّ الرقعة عليه، و ولاّه سليمان ما التمس.
أخبرني محمد بن يحيى عن موسى البربريّ قال:
/أهدى سليمان بن وهب إلى سليمان بن عبد اللّه بن طاهر سلال رطب من ضيعته، و كتب إليه يقول:
أذن الأمير بفضله *** و بجوده و بنيله
لوليّه في برّه *** بجناه سكّر نخله
فبعثت منه بسلّة *** تحكي حلاوة عدله
أخبرني محمد الباقطاني: قال:
كتب سليمان بن وهب بقلم صلب، فاعتمد عليه اعتمادا/شديدا، فصرّ القلم في يده، فقال:
إذا ما حددنا و انتضينا قواطعا *** أصمّ الذكيّ السمع منها صريرها(2)
تظلّ المنايا و العطايا شوارعا *** تدور بما شئنا و تمضي أمورها
تساقط في القرطاس منها بدائع *** كمثل اللآلي نظمها و نثيرها
تقود أبيات البيان بفطنة *** تكشّف عن وجه البلاغة نورها
ص: 113
[إذا ما خطوب الدهر أرخت ستورها *** تجلت بنا عما تسرّ ستورها](1)
يرثي أخاه الحسن:
قال: و أنشدني له يرثي أخاه الحسن:
مضى مذ مضي عزّ المعالي و أصبحت *** لآلي الحجا و القول ليس لها نظم
و أضحى نجيّ الفكر بعد فراقه *** إذا همّ بالإفصاح منطقه كظم(2)
و ذكر ابن المسيّب أنّ جماعة تذاكروا لمّا قبض الموفّق على سليمان بن وهب و ابنه/عبد اللّه: أنه إنما استكتبهما ليقف منهما على ذخائر موسى بن بغا و ودائعه، فلما استقصى ذلك نكبهما لكثرة مالهما، فقال ابن الرومي و كان حاضرا:
أ لم تر أن المال يتلف ربّه *** إذا جمّ آتيه و سدّ طريقه
و من جاور الماء الغزير مجمّه *** و سدّ مفيض الماء فهو غريقه
و مات سليمان بن وهب في محبسه و هو مطالب، فرثاه جماعة من الشعراء، فممّن جوّد في مرثيته البحتريّ حيث يقول:
هذا سليمان بن وهب بعد ما *** طالت مساعيه النجوم سموكا
و تنصّف الدنيا يدبّر أمرها(3) *** سبعين حولا قد تممن دكيكا(4)
أغرت به الأقدار بغت(5) ملمّة *** ما كان رسّ حديثها مأفوكا(6)
أبلغ عبيد اللّه بارع مذحج *** شرفا و معطى فضلها تمليكا(7)
و متى وجدت الناس إلا تاركا *** لحميمه في التّرب أو متروكا
بلغ الإرادة إذ فداك بنفسه *** و تودّ لو تفديه لا يفديكا(8)
ص: 114
إن الرزيّة في الفقيد فإن هفا *** جزع بلبّك فالرزيّة فيكا
لو ينجلي لك ذخرها من نكبة *** جلل لأضحكك الذي يبكيكا
لقد برّز الفضل بن يحيى و لم يزل *** يسامي من الغايات ما كان أرفعا
يراه أمير المؤمنين لملكه *** كفيلا لما أعطى من العهد مقنعا
قضى بالتي شدّت لهارون ملكه *** و أحيت ليحيي نفسه فتمتّعا(1)(2) فأمست بنو العباس بعد اختلافها *** و آل عليّ مثل زندي يد معا
لئن كان من أسدى القريض أجاده *** لقد صاغ إبراهيم فيه فأوقعا
الشعر لأبان بن عبد الحميد اللاحقيّ بقوله في الفضل بن يحيى لمّا قدم يحيى بن عبد اللّه بن الحسين على أمان الرشيد و عهده. و الغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالبنصر عن أحمد بن المكي، و كان الرشيد أمره أن يغني في هذا الشعر، و إياه عني أبان بقوله:
/لقد صاغ إبراهيم فيه فأوقعا
ص: 115
أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير(1) مولى بني رقاش، قال أبو عبيدة: بنو رقاش ثلاثة نفر ينسبون إلى أمهم، و اسمها رقاش، و هم: مالك، و زيد مناة، و عامر، بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.
أخبرني عمي: قال: حدّثنا الحسين بن عليل العنزي؛ قال: حدّثني أحمد بن مهران مولى البرامكة: قال:
شكا مروان بن أبي حفصة إلى بعض إخوانه تغيّر الرشيد عليه و إمساك يده عنه، فقال له: ويحك! أ تشكو الرشيد بعد ما أعطاك؟ قال: أو تعجب من ذلك؟ هذا أبان اللاحقيّ، قد أخذ من البرامكة بقصيدة قالها واحدة مثل ما أخذته من الرشيد في دهري كلّه، سوى ما أخذه منهم و من أشباههم بعدها، و كان أبان نقل للبرامكة كتاب كليلة و دمنة، فجعله شعرا، ليسهل حفظه عليهم، و هو معروف، أوله:
هذا كتاب أدب و محنه *** و هو الذي يدعى كليلة دمنه(2)
فيه احتيالات و فيه رشد *** و هو كتاب وضعته الهند
فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، و أعطاه الفضل خمسة آلاف دينار، و لم يعطه جعفر شيئا، و قال:
أ لا يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك؟ و عمل أيضا القصيدة التي ذكر فيها مبدأ الخلق و أمر الدنيا و شيئا من المنطق، و سماها ذات الحلل، و من الناس من ينسبها إلى أبي العتاهية، و الصحيح أنها لأبان.
أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد: قال: حدّثنا أبو هفّان: قال: حدّثني الحمّاز، قال:
كان يحيى بن خالد البرمكيّ قد جعل امتحان الشعراء و ترتيبهم في الجوائز إلى أبان بن عبد الحميد، فلم يرض أبو نواس المرتبة التي جعله فيها أبان، فقال يهجوه بذلك:
جالست يوما أبانا *** لا درّ درّ أبان
حتى إذا ما صلاة الأ *** ولى دنت لأوان
ص: 116
فقام ثمّ بها ذو *** فصاحة و بيان
فكلّما قال قلنا *** إلى انقضاء الأذان
فقال: كيف شهدتم *** بذا بغير عيان(1)
لا أشهد الدّهر حتى *** تعاين العينان
فقلت: سبحان ربّي *** فقال: سبحان ماني
فقال أبان يجيبه:
إن يكن هذا النّواسيّ *** بلا ذنب هجانا
فلقد نكناه حينا *** و صفعناه زمانا
هانئ الجربي أبوه *** زاده اللّه هوانا
سائل العباس و اسمع *** فيه من أمّك شانا(2)
/عجنوا من جلنار(3) *** ليكيدوك عجانا
جلنار(3) أم أبي نواس، و تزوجها العباس بعد أبيه.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ: قال: حدّثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد: قال:
كان أبان اللاحقيّ صديقا للمعذّل بن غيلان، و كانا مع صداقتهما يتعابثان بالهجاء، فيهجوه المعذّل بالكفر و ينسبه إلى الشؤم، و يهجوه أبان، و ينسبه إلى الفساء الذي تهجى به عبد القيس، و بالقصر - و كان المعذّل قصيرا - فسعى في الإصلاح بينهما أبو عيينة المهلّبيّ، فقال له أخوه عبد اللّه - و هو أسن منه -: يا أخي إن في هذين شرّا كثيرا و لا بد من أن يخرجاه، فدعهما؛ ليكون شرّهما بينهما، و إلا فرّقاه على الناس، فقال أبان يهجو المعذّل:
أحاجيكم ما قوس لحم سهامها *** من الريح لم توصل بقدّ و لا عقب(4)
و ليست بشريان و ليست بشوحط *** و ليست بنبع لا و ليست من الغرب(5)
ألا تلك قوس الدّحدحيّ معذّل *** بها صار عبديّا و تمّ له النسب(6)
تصكّ خياشيم الأنوف تعمّدا *** و إن كان راميها يريد بها العقب
فإن تفتخر يوما تميم بحاجب *** و بالقوس مضمونا لكسرى بها العرب(7)
ص: 117
فحيّ ابن عمرو فاخرون بقوسه *** و أسهمه حتى يغلّب(1) من غلب
قال أبو قلابة: فقال المعذّل في جواب ذلك:
رأيت أبانا يوم فطر مصلّيا *** فقسّم فكري و استفزني الطرب
و كيف يصلّي مظلم القلب، دينه *** على دين ماني إنّ ذاك من العجب
أخبرني محمد بن يحيى: قال: حدّثنا عون بن محمد الكنديّ: قال:
كان لأبي النّضير حوار يغنّين، و يخرجن إلى جلّة أهل البصرة، و كان أبان بن عبد الحميد يهجوه بذلك، فمن ذلك قوله:
غضب الأحمق إذ مازحته *** كيف لو كنا ذكرنا الممرغة(2)
أو ذكرنا أنه لاعبها *** لعبة الجدّ بمزح الدغدغه(3)
سوّد اللّه بخمس وجهه *** دغن أمثال طين الردغه(4)
خنفساوان و بنتا جعل *** و التي تفترّ عنها وزغه
يكسر الشّعر و إن عاتبته *** في مجال قال: هذا في اللغة(5)
و أنشدني عمي: قال: أنشدني الكرانيّ: قال: أنشدني أبو إسماعيل اللاحقي لجدّه أبان في هجاء أبي النّضير، [و أخبرني الصوليّ أنه وجدها بخط الكراني](6):
إذا قامت بواكيك *** و قد هتّكن أستارك
أ يثنين على قبر *** ك أم يلعن أحجارك؟
و ما تترك في الدنيا *** إذا زرت غدا نارك؟
ترى في سقر المثوى *** و إبليس غدا حارك(7)
لمن تترك زقّيك *** و دنيك و أوتارك
/و خمسا من بنات اللي *** ل قد ألبسن أطمارك
تعالى اللّه ما أقبح *** إذ ولّيت أدبارك(8)
ص: 118
و قال فيه أيضا:(1)
قيان أبي النضير مثلّجات *** غناء مثل شعر أبي النضير
فلا همدان حين نصيف نبغي *** و لا الماهين(2) أيام الحرور
و لا نبغي بقرميسين(2) روحا *** و لا نبلى البغال من المسير(3) فإن رمت الغناء لديه فاصبر *** إذا ما جئته للزّمهرير
أخبرني محمد بن يحيى: قال: حدّثنا أبو خليفة و أبو ذكوان و الحسن بن عليّ النّهدي: قالوا:
كان المعذّل بن غيلان المهري يجالس عيسى بن جعفر بن المنصور، و هو يلي حينئذ إمارة البصرة من قبل الرشيد، فوهب للمعذّل(4) بن غيلان له بيضة عنبر وزنها أربعة أرطال، فقال أبان بن عبد الحميد:
أصلحك اللّه و قد أصلحا *** إني لا آلوك أن أنصحا
علام تعطي منوي عنبر *** و أحسب الخازن قد أرجحا
من ليس من قرد و لا كلبة *** أبهى و لا أحلى و لا أملحا(5) رسول يأجوج أتى عنهم *** يخبر أن الروم قد أقبحا
ما بين رجليه إلى رأسه *** شبر فلا شبّ و لا أفلحا(6)
أخبرني الصوليّ: قال: حدّثنا أبو العيناء: قال: حدّثني الحرمازيّ: قال:
خرج أبان بن عبد الحميد من البصرة طالبا للاتصال بالبرامكة، و كان الفضل بن يحيى غائبا، فقصده، فأقام ببابه مدة مديدة لا يصل إليه فتوسّل إلى من وصّل(7) له شعرا إليه، و قيل: إنه توسل إلى بعض بني هاشم ممّن شخص مع الفضل، و قال له:
يا غزير الندى و يا جوهر الجو *** هر من آل هاشم بالبطاح
إنّ ظنّي و ليس يخلف ظنّي *** بك في حاجتي سبيل النجاح
إن من دونها لمصمت باب *** أنت من دون قفله مفتاحي
تاقت النفس يا خليل السّماح *** نحو بحر الندى مجاري الرياح
ص: 119
ثم فكّرت كيف لي و استخرت اللّ *** ه عند الإمساء و الإصباح
و امتدحت الأمير أصلحه *** اللّه بشعر مشهّر الأوضاح
فقال: هات مديحك، فأعطاه شعرا في الفضل في هذا الوزن و قافيته:
أنا من بغية الأمير و كنز *** من كنوز الأمير ذو أرباح
كاتب حاسب خطيب أديب *** ناصح زائد على النّصّاح
شاعر مفلق أخفّ من الرّيش *** ة ممّا يكون تحت الجناح(1)
و هي طويلة جدا يقول فيها:
إن دعاني الأمير عاين منّي *** شمّريا كالبلبل الصّيّاح(2)
/قال: فدعا به، و وصله، ثم خصّ بالفضل، و قدّم معه، فقرّب من قلب يحيى بن خالد و صار صاحب الجماعة و زمام أمرهم.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي: قال: حدّثني عليّ بن محمد النوفليّ:
أنّ أبان بن عبد الحميد عاتب البرامكة على تركهم إيصاله إلى الرشيد و إيصال مديحه إليه، فقالوا له: و ما تريد من ذلك؟ فقال: أريد أن أحظى منه بمثل ما يحظى به مروان بن أبي حفصة، فقالوا له: إن لمروان مذهبا في هجاء آل أبي طالب و ذمّهم، به يحظى/و عليه يعطى، فاسلكه حتى نفعل، قال: لا أستحلّ ذلك، قالوا: فما تصنع؟ لا يجيء طلب الدنيا إلا بما لا يحلّ، فقال أبان:
نشدت بحقّ اللّه من كان مسلما *** أعمّ بما قد قلته العجم و العرب
أعمّ رسول اللّه أقرب زلفة *** لديه أم ابن العمّ في رتبة النسب
و أيّهما أولى به و بعهده *** و من ذا له حقّ التّراث بما وجب!
فإن كان عبّاس أحقّ بتلكم *** و كان عليّ بعد ذاك على سبب
فأبناء عباس هم يرثونه *** كما العمّ لابن العمّ في الإرث قد حجب
و هي طويلة، قد تركت ذكرها لما فيه، فقال له الفضل: ما يرد على أمير المؤمنين اليوم شيء أعجب إليه من أبياتك، فركب فأنشدها الرّشيد، فأمر لأبان بعشرين ألف درهم، ثم اتصلت(3) بعد ذلك خدمته الرشيد، و خصّ به.
ص: 120
أخبرنا أبو العباس بن عمار عن أبي العيناء عن أبي العباس(1) بن رستم: قال:
دخلت مع أبان بن عبد الحميد على عنان جارية النّاطفي، و هي في خيش، فقال لها أبان:
/
العيش في الصيف خيش
فقالت مسرعة:
إذ لا قتال و جيش
فأنشدتها أنا لجرير قوله:
طللت أواري صاحبيّ صبابتي *** و هل علقتني من هواك علوق(2)
فقالت مسرعة:
إذا عقل الخوف اللسان تكلمت *** بأسراره عين عليه نطوق
أخبرني الصوليّ: قال: حدّثنا محمد بن سعيد، قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل عن عبد اللّه بن محمد بن عثمان بن لاحق: قال:
أولم محمد بن خالد، فدعا أبان بن عبد الحميد و العتبيّ، و عبيد اللّه بن عمرو، و سهل بن عبد الحميد، و الحكم بن قنبر، فاحتبس عنهم الغداء، فجاء محمد بن خالد فوقف على الباب فقال: أ لكم أعزكم اللّه حاجة؟ يمازحهم بذلك، فقال أبان:
حاجتنا فاعجل علينا بها *** من الحشاوي كلّ طردين(3)
فقال ابن قنبر بعد ذلك:(4)
و من خبيص قد حكت عاشقا *** صفرته زين بتلوين(4)
فقال عبيد اللّه بن عمرو:
و أتبعوا ذاك بأبّيّة *** فإنكم آيين آيين(5)
/فقال سهل:
دعنا من الشعر و أوصافه *** و اعجل علينا بالأخاوين(6)
ص: 121
فأحضر الغداء، و خلع عليهم و وصلهم.
أخبرني الصولي: قال: حدّثنا محمد بن زياد: قال: حدّثني أبان بن سعيد الحميدي بن أبان بن عبد الحميد:
قال:
اشترى جار لجدّي أبان غلاما تركيّا بألف دينار، و كان أبان يهواه و يخفي ذلك عن مولاة، فقال فيه:
ليتني - و الجاهل المغ *** رور من غرّ بليت
نلت ممّن لا أسمّي *** و هو جاري بيت بيت
قبلة تنعش ميتا *** إنّني حيّ كميت
/نتساقى الريق بعد الش *** رب من راح كميت
لا أسمّيه و لكن *** هو في كيت و كيت(1)
و كان اسمه يتك.
و قال أبو الفيّاض سوّار بن أبي شراعة:
كان في جوار أبان بن عبد الحميد رجل من ثقيف يقال له محمد بن خالد، و كان عدوّا لأبان، فتزوج بعمّارة بنت عبد الوهاب الثقفي(2)، و هي أخت عبد المجيد الذي كان ابن مناذر(3) يهواه، و رثاه، و هي مولاة جنان التي يشبّب بها أبو نواس، و يقول فيها:
/
خرجت تشهد الزفاف جنان *** فاستمالت بحسنها النّظّاره
قال أهل العروس لما رأوها *** ما دهانا بها سوى عمّاره
قال: و كانت موسرة، فقال أبان بن عبد الحميد يهجوه و يحذّرها منه:
لمّا رأيت البزّ و الشاره *** و الفرش قد ضاقت به الحاره
و اللوز و السّكّر يرمى به *** من فوق ذي الدار و ذي الداره
و أحضروا الملهين لم يتركوا *** طبلا و لا صاحب زمّارة
قلت: لما ذا؟ قيل أعجوبة *** محمد زوّج عمّاره
لا عمّر اللّه بها بيته *** و لا رأته مدركا ثاره
ص: 122
ما ذا رأت فيه و ما ذا رجت *** و هي من النّسوان مختاره
أسود كالسّفود ينسى لدى التّنّ *** ور بل محراك قيّاره(1)
يجري على أولاده خمسة *** أرغفة كالريش طيّاره(2)
و أهله في الأرض من خوفه *** إن أفرطوا في الأكل سيّاره
ويحك فرّي و أعصى ذاك بي *** فهذه أختك فرّاره(3)
إذا غفا بالليل فاستيقظي *** ثم اطفري إنك طفّاره
فصعّدت نائلة سلّما *** تخاف أن تصعده الفاره(4)
سرور غرّتها فلا أفلحت *** فإنها اللّخناء غرّاره
لو نلت ما أبعدت من ريقها *** إن لها نفثة سحّاره
/قال: فلما بلغت قصيدته هذه عمّارة هربت فحرم الثقفيّ من جهتها مالا عظيما، قال: و الثلاثة الأبيات التي أولها:
فصعّدت نائلة سلما
زادها في القصيدة بعد أن هربت.
أخبرني الأخفش عن المبرد عن أبي وائلة، قال:
كان أبان اللاحقيّ يولع بابن مناذر، و يقول له: إنما أنت شاعر في المراثي، فإذا مت فلا ترثني، فكثر ذلك من أبان عليه، حتى أغضبه، فقال فيه ابن مناذر:
غنج أبان و لين منطقه *** يخبر الناس أنه حلقي(5)
داء به تعرفون كلّكم *** يا آل عبد الحميد في الأفق
حتّى إذا ما المساء جلّله *** كان أطبّاؤه على الطّرق
ففرّجوا عنه بعض كربته *** بمسبطرّ مطوّق العنق(6)
/قال: و هجاه بمثل هذه القصيدة، و لم يجبه أبان خوفا منه، و سعي بينهما، فأمسك عنه.
ص: 123
أخبرني الصّولي، عن محمد بن سعيد، عن عيسى بن إسماعيل: قال:
جلس أبان بن عبد الحميد ليلة في قوم، فثلب أبا عبيدة فقال: يقدح في الأنساب و لا نسب له. فبلغ ذلك أبا عبيدة فقال في مجلسه: لقد أغفل السلطان كلّ شيء حتى أغفل أخذ الجزية من أبان اللاحقي، و هو و أهله يهود، و هذه منازلهم فيها أسفار التوراة، و ليس فيها مصحف، و أوضح الدلالة على يهوديتهم أنّ أكثرهم يدّعي حفظ التوراة، و لا يحفظ من القرآن ما يصلّي به، فبلغ ذلك أبانا(1) فقال:
/
لا تنمّنّ عن صديق حديثا *** و استعذ من تسرّر النمّام
و اخفض الصّوت إن نطقت بليل *** و التفت بالنهار قبل الكلام
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة: قال:
كنا في مجلس أبي زيد الأنصاري، فذكروا أبان بن عبد الحميد، فقالوا: كان كافرا، فغضب أبو زيد، و قال:
كان جاري، فما فقدت قرآنه في ليلة قطّ.
أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعيّ عن دماذ: قال:
كان لأبان جار، و كان يعاديه، فاعتلّ علّة طويلة و أرجف أبان بموته، ثم صحّ من علّته، و خرج، فجلس على بابه، فكانت علّته من السّلّ، و كان يكنى أبا الأطول، فقال له أبان:
أبا الأطول طوّلت *** و ما ينجيك تطويل
بك السّلّ و لا و ال *** لّه ما يبرأ مسلول
فلا يغررك من طبّ *** ك أقوال أباطيل(2)
أرى فيك علامات *** و للأسباب تأويل(3)
هزالا قد برى جس *** مك و المسلول مهزول
و ذبّانا حواليك *** فموقوذ و مقتول(4)
و حمى منك في الظّهر *** فأنت الدهر مملول
و أعلاما سوى ذاك *** تواريها السّراويل
و لو بالفيل مما *** بك عشر ما نجا الفيل
ص: 124
/
فما هذا على فيك *** قلاع أم دماميل(1)
و ما زال مناجيك *** يولّي و هو مبلول(2)
لئن كان من الجوف *** لقد سال بك النيل(3)
و ذا داء يزجّيك *** فلا قال و لا قيل
فلما أنشده هذا الشعر أرعد، و اضطرب، و دخل منزله، فما خرج منه بعد ذلك، حتى مات.
ما تزال الدّيار في برقة ال *** نّجد لسعدى بقرقري تبكيني(4)
/قد تحيّلت كي أرى وجه سعدى *** فإذا كل حيلة تعييني(5)
قلت لما وقفت في سدّة البا *** ب لسعدى مقالة المسكين
افعلي بي يا ربّة الخدر خيرا *** و من الماء شربة فاسقيني
قالت: الماء في الرّكيّ كثير *** قلت: ماء الركيّ لا يرويني(6)
طرحت دوني الستور و قالت: *** كلّ يوم بعلّة تأتيني
الشعر لتويت اليمامي، و الغناء لأبي زكار الأعمى، رمل بالوسطى، ابتداؤه نشيد من رواية الهشامي.
ص: 125
15 - أخبار تويت(1) و نسبه
تويت لقب، و اسمه عبد الملك بن عبد العزيز السّلولي من أهل اليمامة، لم يقع لي غير هذا وجدته بخط أبي العبّاس بن ثوابة، عن عبد اللّه بن شبيب من أخبار رواها عنه.
و تويت أحد الشعراء اليماميين من طبقة يحيى بن طالب و بني أبي حفصة و ذويهم، و لم يفد إلى خليفة، و لا وجدت له مديحا في الأكابر و الرؤساء فأخمل ذلك ذكره، و كان شاعرا فصيحا نشأ باليمامة و توفّي بها.
قال عبد اللّه بن شبيب:
كان تويت يهوى امرأة من أهل اليمامة يقال لها: سعدى بنت أزهر، و كان يقول فيها الشعر، فبلغها شعره من وراء وراء، و لم تره، فمرّ بها يوما، و هي مع أتراب لها، فقلن: هذا صاحبك، و كان دميما، فقامت إليه و قمن معها، فضربنه، و خرّقن ثيابه، فاستعدى عليهنّ فلم يعده الوالي، فأنشأ يقول:
إنّ الغواني جرحن في جسدي *** من بعد ما قد فرغن من كبدي
و قد شققن الرّداء ثمّت لم *** يعد عليهن صاحب البلد(2)
لم يعدني الأحول المشوم و قد *** أبصر ما قد صنعن في جسدي
قال: فلما جرى هذا بينه و بينها عقد له في قلبها رقّة، و كانت تتعرّض له إذا مرّ بها، و اجتاز يوما بفنائها فلم تتوار عنه، و أرته أنها لم تره، فلما وقف مليّا سترت وجهها بخمارها، فقال تويت:
ألا أيها الثار الذي ليس نائما *** على ترة إن متّ من حبّها غدا(3)
/خذوا بدمي سعدى فسعدى منيتها *** غداة النّقا صادت فؤادا مقصّدا(4)
بآية ما ردّت غداة لقيتها *** على طرف عينيها الرداء المورّدا
قال ابن شبيب: و لقيها راحلة نحو مكة حاجّة، فأخذ بخطام بعيرها و قال:
ص: 126
قل للتي بكرت تريد رحيلا *** للحجّ إذ وجدت إليه سبيلا
ما تصنعين بحجّة أو عمرة *** لا تقبلان و قد قتلت قتيلا
أحيي قتيلك ثم حجّي و انسكي *** فيكون حجّك طاهرا مقبولا
فقالت له: أرسل الخطام، خيّبك اللّه و قبحك، فأرسله، و سارت.
قال عبد اللّه بن شبيب: ثم تزوجها أبو الجنوب يحيى بن أبي حفصة، فحجبها، و انقطع ما كان بينها و بين تويت، فطفق يهجو يحيى فقال:
/
عناء سيق للقلب الطروب *** فقد حجبت معذّبة القلوب(1)
أقول و قد عرفت لها محلاّ *** ففاضت عبرة العين السّكوب
ألا يا دار سعدى كلّمينا *** و ما في دار سعدى من مجيب
و لما ضمّها و حوى عليها *** تركت له بعاقبة نصيبي
و قلت: زحام مثلك مثل يحيى *** لعمرك ليس بالرأي المصيب(2)
فما لك مثل لمّته تدرّى *** و مالك مثل بخل أبي الجنوب(3)
/إذا فقد الرغيف بكى عليه *** و أتبع ذاك تشقيق الجيوب
يعذّب أهله في القرص حتى *** يظلوا منه في يوم عصيب(4)
و قال أيضا:
ألا في سبيل اللّه نفس تقسّمت *** شعاعا و قلب للحسان صديق
أفاقت قلوب كنّ عذّبن بالهوى *** زمانا و قلبي ما أراه يفيق
سرقت فؤادي ثم لا ترجعينه *** و بعض الغواني للقلوب سروق
عروف الهوى بالوعد حتى إذا جرت *** ببينك غربان لهن نعيق
و ردّت جمال الحي و انشقّت العصا *** و آذن بالبين المشتّ صدوق(5)
ندمت على ألاّ تكوني جزيتني *** زعمت و كلّ الغانيات مذوق(6)
ص: 127
لعلك أن تنأى جميعا بغلّة *** تذوقين من حرّ الهوى و أذوق
عصيت بك الناهين حتى لو أنّني *** أموت لما أرعى عليّ شفيق(1)
و من مختار قول تويت في سعدى هذه مما أخذته من رواية عبد اللّه بن شبيب من قصيدة أولها:
سنرضي في سعيدى عاذلينا *** بعاقبة و إن كرمت علينا
يقول فيها:
لقيت سعيد تمشي في جوار *** بجرعاء النّقا فلقيت حينا
سلبن القلب ثم مضين عنّي *** و قد ناديتهنّ فما لوينا
/فقلت و قد بقيت بغير قلب *** بقلبي يا سعيدى أين أينا!(2)
فما تجزين يا سعدى محبّا *** بهيم بكم و لا تقضين دينا
فقالوا إذ شكوت المطل منها *** لعمرك من سمعت له قضينا(3)
و من هذا الذي إن جاء يشكو *** إلينا الحبّ من سقم شفينا
فهنّ فواعل بي غير شكّ *** كما قلبي فعلن بصاحبينا(4) بعروة و الذي بسهام هند *** أصيب، فما أقدن و لا و دينا(5)
و من مختار قوله فيها:
سل الأطلال إن نفع السّؤال *** و إن لم يربع الركب العجال
/عن الخود التي قتلتك ظلما *** و ليس بها إذا بطشت قتال
أصابك مقلتان لها و جيد *** و أشنب بارد عذب زلال
أعارك ما تبلت به فؤادي *** من العينين و الجيد الغزال
أيا ثارات من قتلته سعدى *** دمي - لا تطلبوه - لها حلال
أرقّ لها و أشفق بعد قتلي *** على سعدى و إن قلّ النّوال
و ما جادت لنا يوما ببذل *** يمين من سعاد و لا شمال
/و من قوله فيها أيضا:
ص: 128
يا بنت أزهر إنّ ثأري طالب *** بدمي غدا و الثأر أجهد طالب
فإذا سمعت براكب متعصّب *** ينعى قتيلك فافزعي للراكب(1)
فلأنت من بين الأنام رميتني *** عن قوس متلفة بسهم صائب
لا تأمني شمّ الأنوف وترتهم *** و تركت صاحبهم كأمس الذاهب
من كان أصبح غالبا لهوى التي *** يهوى فإن هواك أصبح غالبي
قلت و أسبلت الدموع لتربها *** لما اغتررت و أومأت بالحاجب
قولي له: باللّه يطلق رحله *** حتى يزوّد أو يروح بصاحب
و قال فيها أيضا:
أرّق العين من الشوق السّهر *** و صبا القلب إلى أمّ عمر
و اعترتني فكرة من حبّها *** ويح هذا القلب من طول الفكر(2)
قدر سيق فمن يملكه *** أين من يملك أسباب القدر!
كلّ شيء نالني من حبّها *** - إن نجت نفسي من الموت - هدر
و قال أيضا:
يا للرّجال لقلبك المتطرّف *** و العين إن تر برق نجد تذرف(3)
و لحاجة يوم العبير تعرّضت *** كبرت فردّ رسولها لم يسعف
يا بنت أزهر ما أراك مثيبتي *** خيرا على ودّي لكم و تلطّفي
/إني و إن خبّرت أنّ حياتنا *** في طرف عينك هكذا لم تطرف
ليظلّ قلبي من مخافة بينكم *** مثل الجناح معلّقا في نفنف(4)
و ليظلّ في هجر الأحبّة طالبا *** لرضاك مما جار إن لم تسعف(5)
كأخي الفلاة يغرّه من مائها *** قطع السراب جرى بقاع صفصف
أهراق نطفته فلما جاءها *** وجد المنيّة عندها لم تخلف
ص: 129
أمنت بإذن اللّه من كلّ حادث *** بقربك من خير الورى يا بن حارث
إمام حوى إرث النبي محمد *** فأكرم به من ابن عمّ و وارث
/الشعر و الغناء لمحمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، خفيف رمل بالبنصر مطلق من جامع أغانيه و عن الهشامي.
ص: 130
مولى المنصور، و أصله من الرّي من أولاد المرازبة، و كان الحارث بن بُسخُنَّر أبوه رفيع القدر عند السلطان، و من وجوه قواده، و ولاه الهادي - و يقال الرشيد - الحرب و الخراج بكور الأهواز كلّها.
فأخبرني حبيب المهلّبي: قال: حدّثني النّوفليّ عن محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر: قال: كنت بالدّير، و كان رجل من أهلها يعرض عليّ الحوائج و يخدمني فيكرمني، و يذكر قديمنا، و يترحّم على أبي، فقال لي رجل من أهل تلك الناحية: أ تعرف سبب شكر هذا لأبيك؟ قلت: لا، قال: فإن أباه حدّثني - و كان يعرف بابن بانة - بأن أباك الحارث بن بُسخُنَّر اجتاز بهم يريد الأهواز فتلقاه بدجلة العوراء، و أهدى له صقورا و بواشق صائدة، فقال له: الحق بي بالأهواز، فقال له يوما: إني نظرت في أمور الأعمال بالأهواز، فلم أجد شيئا(1) منها يرتفق منه بما قدّرت أن أبرّك به، و قد ساومني التّجّار بالأهواز بالأرز، و قد جعلته لك بالسعر الذي بذلوه(2)، و سيأتونني، فأعلمهم بذلك، فقلت: نعم، فجاءوا، و خلصوه منه بأربعين ألف دينار، فصرت إلى الحارث فأعلمته، فقال لي: أرضيت بذلك؟ فقلت: نعم، قال: فانصرف.
و لما قفل الحارث من الأهواز مرّ بالمدائن، فلقيه الحسين بن محرز المدائني المغنّي فغنّاه:
قد علم اللّه علا عرشه *** أنّي إلى الحارث مشتاق
فقال له: دعني من شوقك إليّ، و سلني حاجة فإني مبادر، فقال له: عليّ دين/مائة ألف درهم، فقال: هي عليّ، و أمر له بها، و أصعد.
و كان محمد بن الحارث من أصحاب إبراهيم بن المهدي و المتعصبين له على إسحاق، و عن إبراهيم بن المهديّ أخذ الغناء، و من بحره استقى، و على منهاجه جرى.
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق، عن محمد بن هارون الهاشمي، عن هبة اللّه بن إبراهيم بن المهدي: قال:
كان المأمون قد ألزم أبي رجلا ينقل إليه كلّ ما يسمعه من لفظ جدّا و هزلا شعرا و غناء، ثم لم يثق به، فألزمه مكانه محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، فقال له: أيها الأمير، قل ما شئت و اصنع ما أحببت، فو اللّه لا بلّغت عنك أبدا
ص: 131
إلا ما تحبّ، و طالت صحبته له، حتى أمنه و أنس به، و كان محمد يغني بالمعزفة فنقله أبي إلى العود، و واظب عليه حتى حذقه، ثم قال له محمد بن الحارث يوما: أنا عبدك و خرّيجك و صنيعتك، فاخصصني بأن أروي عنك صنعتك، ففعل، و ألقى عليه غناءه أجمع، فأخذه عنه، فما ذهب عليه شيء منه و لا شذّ.
و قال العتّابي: حدّثني محمد بن أحمد بن المكيّ: قال: حدّثني أبي: قال:
كان محمد بن الحارث قليل الصنعة، و سمعته يغنّي الواثق في صنعته في شعر له مدحه به و هو:
أمنت بإذن اللّه من كلّ حادث *** بقربك من خير الورى يا بن حارث
فأمر له بألفي دينار.
و ذكر عليّ بن محمد الهشامي، عن حمدون بن إسماعيل، قال: كان محمد بن الحارث قد صنع هزجا في هذا الشعر:
أصبحت عبدا مسترقا *** أبكي الألى سكنوا دمشقا(1)
أعطيتهم قلبي فمن *** يبقى بلا قلب فأبقى
و طرحه على المسدود(2)، فغنّاه، فاستحسنه محمد بن الحارث منه لطيب مسموع المسدود، ثم قال:
يا مسدود، أ تحبّ أن أهبه لك؟ قال: نعم، قال: قد فعلت، فكان يغنّيه، و يدّعيه، و هو لمحمد بن الحارث.
و قال العتّابي: حدّثني شروين المغني المدادي(3). أن صنعة محمد بن الحارث بلغت عشرة أصوات، و أنه أخذها كلّها عنه، و أن منها في طريقه الرّمل، قال: و هو أحسن ما صنعه.
أيا من دعاني فلبّيته *** ببذل الهوى و هو لا يبذل
يدلّ عليّ بحبّي له *** فمن ذاك يفعل ما يفعل
لحن محمد بن الحارث في هذا الصوت رمل مطلق، و فيه ليزيد حوراء ثقيل أول و فيه لسليم لحن وجدته في جميع أغانيه غير مجنّس.
ص: 132
أخبرني الحسن بن عليّ: قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد: قال: حدّثني أبو توبة صالح بن محمد، عن عمرو بن بانة: قال:
كنت عند محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر في منزله، و نحن مصطبحون في يوم غيم، فبينا نحن كذلك إذ جاءتنا رقعة عبد اللّه بن العباس الربيعيّ، و قد اجتاز بنا مصعدا إلى سرّ من رأى، و هو في سفينة، ففضّها محمد، و قرأها، و إذا فيها:
/
محمد قد جادت علينا بودقها *** سحائب مزن برقها يتهلّل
و نحن من القاطول في شبه مربع *** له مسرح سهل المحلّة مبقل(1)
فمر فائزا تفديك نفسي يغنّني *** أ عن ظعن الحيّ الألى كنت تسأل؟
و لا تسقني إلا حلالا فإنّني *** أعاف من الأشياء ما لا يحلّل
فقام محمد بن الحارث مستعجلا حافيا، حتى نزل إليه فتلقّاه، و حلف عليه حتى خرج معه، و سار به إلى منزله، فاصطبحا يومئذ، و غنّاه فائز غلامه هذا الصوت، و كان صوته عليه، و غنّاه محمد بن الحارث و جواريه و كل من حضر يومئذ، و غنّانا عبد اللّه بن العباس الربيعي أيضا أصواتا و صنع يومئذ هذا الهزج، فقال:
يا طيب يومي بالمطيرة معملا *** للكأس عند محمد بن الحارث(2)
في فتية لا يسمعون لعاذل *** قولا و لا لمسوّف أو رائث
حدّثني وسواسه(3): قال: حدّثني حماد بن إسحاق: قال:
كان أبي يستحسن غناء جواري الحارث بن بُسخُنَّر، و يعتمد على تعليمهنّ لجواريه، و كان إذا اضطرب على واحدة منهنّ أو على غيرهن صوت، أو وقع فيه اختلاف، اعتمد على الرجوع فيه إليهنّ. و لقد غنّى مخارق يوما بين يديه صوتا، فتزايد فيه الزوائد التي كان يستعملها، حتى اضطرب. فضحك أبي، و قال: يا أبا المهنّأ، قد ساء بعدي أدبك في غنائك فالزم عجائز الحارث بن بُسخُنَّر يقوّمن أودك.
بنان يد تشير إلى بنان *** تجاوبتا و ما يتكلّمان
جرى الإيماء بينهما رسولا *** فأحكم وحيه المتناجيان
فلو أبصرته لغضضت طرفا *** عن المتناجيين بلا لسان
الشعر لماني(4) الموسوس، و الغناء لعمر الميداني هرج، و فيه لعريب لحن من الهزج أيضا.
ص: 133
هو رجل من أهل مصر، يكنى أبا الحسن و اسمه محمد بن القاسم(1)، شاعر ليّن الشعر رقيقه، لم يقل شيئا إلا في الغزل، و ماني لقب غلب عليه، و كان قدم مدينة السّلام، و لقيه جماعة من شيوخنا، منهم أبو العباس محمد بن عمّار و أبو الحسن الأسديّ و غيرهما، فحدّثني أبو العباس بن عمار، قال:
كان ماني يألفني، و كان مليح الإنشاد حلوه، رقيق الشعر غزله، فكان ينشدني الشيء، ثم يخالط، فيقطعه، و كان يوما جالسا إلى جنبي، فأنشدني للعريان(2) البصريّ:
ما أنصفتك العيون لم تكف *** و قد رأيت الحبيب لم يقف
فابك ديارا حلّ الحبيب بها *** فباع منها الجفاء باللّطف
ثم استعارت مسامعا كسد الل *** وم عليها من عاشق كلف
كأنها إذ تقنّعت ببلى *** شمطاء ما تستقلّ من خرف
يا عين إمّا أريتني سكنا *** غضبان يزوي بوجه منصرف(3)
فمثّليه للقلب مبتسما *** في شخص راض عليّ منعطف
إن تصفيه للقلب منقبضا *** فأنت أشقى منه به فصفي(4)
يقال بالصّبر قتل ذي كلف *** كيف و صبري يموت من كلفي
إذا دعا الشوق عبرة لهوى *** فأيّ جفن يقول لا تكفي(5)
/و مستراد للّهو تنفسح المق *** لة في حافتيه مؤتلف(6)
قصرت أيامه على نفر *** لا منن بالنّدى و لا أسف(7)
ص: 134
بحيث إن شئت أن ترى قمرا *** يسعى عليهم بالكأس ذا نطف(1)
قال: فسألته أن يمليها عليّ، ففعل، ثم قال: اكتب، فعارضه أبو الحسن المصري: يعني «ماني» نفسه فقال:
أقفر مغني الديار بالنّجف *** و حلت عما عهدت من لطف
طويت عنها الرضا مذمّمة *** لمّا انطوى غضّ عيشها الأنف
حللت عن سكرة الصّبابة من *** خوف إلهي بمعزل قذف(2)
سئمت ورد الصّبا فقد يئست *** منى بنات الخدور و الخزف(3)
سلوت عن نهّد نسبن إلى *** حسن قوام و اللحظ في وطف(4)
يمددن حبل الصّبا لمن ألفت *** رجلاه قد المحول و الدّنف(5)
/و مدنف عاد في النحول من *** الوجد إلى مثل رقّة الألف(6)
يشارك الطير في النّحيب و لا *** يشركنه في النّول و القضف(7)
/و مسمعات نهكن أعظمه *** فهو من الضيم غير منتصف
مفتخرات بالجور عجبا كما *** يفخر أهل السّفاة بالجنف(8)
و قهوة من نتاج قطربّل *** تخطف عقل الفتى بلا عنف
ترجع شرخ الشباب للخرف ال *** فاني و تدنى الفتى من الشّغف
قال: فبينا هو ينشد إذ نظر إلى إمام المسجد الذي كنّا بإزائه قد صعد المئذنة ليؤذن فأمسك عن الإنشاد، و نظر إليه - و كان شيخا ضعيف الجسم و الصوت - فأذّن أذانا ضعيفا بصوت مرتعش، فصعد إليه ماني مسرعا، حتى صار معه في رأس الصّومعة، ثم أخذ بلحيته، فصفعه في صلعته صفعة ظننت أنّه قد قلع رأسه، و جاء لها صوت منكر شديد، ثم قال له: إذا صعدت المنارة لتؤذّن، فعطعط(9)، و لا تمطمط(10)، ثم نزل و مضى يعدو على وجهه. و لقيت عنتا من عتب(11) الشيخ و شكواه إياي إلى أبي و مشايخ الجيران، يقول لهم: هذا ابن عمّار يجيء بالمجانين، فيكتب
ص: 135
هذيانهم، و يسلّطهم على المشايخ فيصفعونهم في الصوامع إذا أذّنوا، حتى صرت إلى منزله، فاعتذرت و حلفت أني إنما أكتب شيئا من شعره، و ما عرفت ما عمله و لا أحيط به علما.
و نسخت من كتاب لابن البراء: حدّثني أبي قال: عزم محمد بن عبد اللّه بن طاهر على الصّبوح، و عنده الحسن بن محمد بن طالوت، فقال:(1) له محمد: كنا نحتاج أن يكون معنا ثالث نأنس به و نلذّ في مجاورته فمن ترى أن يكون! فقال ابن طالوت: لقد خطر ببالي رجل ليس علينا في منادمته ثقل، قد خلا من إبرام المجالسين، و برئ من/ثقل المؤانسين، خفيف الوطأة إذا أدنيته، سريع الوثبة إذا أمرته، قال: من هو؟ قال: ماني الموسوس، قال: ما أسأت الاختيار، ثم تقدّم إلى صاحب الشّرطة يطلبه و إحضاره، فما كان بأسرع من أن قبض عليه صاحب الشرطة(2) بربع الكرخ فوافى به باب محمد بن عبد اللّه، فأدخل، و نظّف و أخذ من شعره، و ألبس ثيابا نظافا، و أدخل على محمد بن عبد اللّه، فلما مثل بين يديه سلّم، فردّ عليه، و قال له: أ ما حان لك أن تزورنا مع شوقنا إليك؟ فقال له ماني: أعزّ اللّه الأمير: الشوق شديد، و الودّ عتيد، و الحجاب صعب، و البواب فظّ، و لو تسهّل لنا الإذن لسهلت علينا الزيارة، فقال له محمد: لقد لطفت في الاستئذان، و أمره بالجلوس. فجلس، و قد كان أطعم قبل أن يدخل، فأتى محمد بن عبد اللّه بجارية لإحدى بنات المهديّ، يقال لها: منوسة، و كان يحبّ السماع منها، و كانت تكثر أن تكون عنده، فكان أول ما غنّته:
و لست بناس إذ غدوا فتحمّلوا *** دموعي على الخدّين من شدّة الوجد
و قولي و قد زالت بعيني حمولهم *** بواكر تحدى لا يكن آخر العهد(3)
فقال ماني: أ يأذن لي الأمير؟ قال: في ما ذا؟ قال: في استحسان ما أسمع، قال: نعم، قال: أحسنت و اللّه، فإن رأيت أن تزيدي مع هذا الشعر هذين البيتين:
و قمت أداري الدمع و القلب حائر *** بمقلة موقوف على الضّرّ و الجهد(4)
/و لم يعدني هذا الأمير بعدله *** على ظالم قد لجّ في الهجر و الصّدّ
فقال له محمد: و من أيّ شيء استعديت يا ماني؟ فاستحيا، و قال: لا من ظلم أيها الأمير، و لكن الطّرب حرّك شوقا كان كامنا، فظهر. ثم غنّت:
/
حجبوها عن الرياح لأنّي *** قلت: يا ريح بلّغيها السّلاما
لو رضوا بالحجاب هان و لكن *** منعوها يوم الرياح الكلاما
قال: فطرب محمد، و دعا برطل فشربه فقال ماني: ما كان على قائل هذين البيتين لو أضاف إليهما هذين البيتين:
ص: 136
فتنفّست ثم قلت لطيفي: *** ويك إن زرت طيفها إلماما
حيّها بالسلام سرّا و إلاّ *** منعوها لشقوتي أن تناما
فقال محمد: أحسنت يا ماني، ثم غنّت:
يا خليليّ ساعة لا تريما *** و على ذي صبابة فأقيما
ما مررنا بقصر زينب إلا *** فضح الدمع سرّك المكتوما
قال ماني: لو لا رهبة الأمير لأضفت إلى هذين البيتين بيتين لا يردان على سمع سامع ذي لبّ فيصدران إلا عن استحسان لهما، فقال محمد: الرغبة في حسن ما تأتي به حائلة عن كلّ رهبة، فهات ما عندك، فقال:
ظبية كالهلال لو تلحظ الصخر بطرف لغادرته هشيما و إذا ما تبسّمت خلت ما يبدو من الثّغر لؤلؤا منظوما
فقال محمد: إن أحسن الشعر ما دام الإنسان يشرب ما كان مكسوّا لحنا حسنا تغنّي به منوسة و أشباهها، فإن كسيت(1) شعرك من الألحان مثل ما غنّت قبله طاب، فقال: ذلك إليها.
فقال له ابن طالوت: يا أبا الحسين(2)، كيف هي عندك في حسنها و جمالها و غنائها/و أدبها؟ قال. هي غاية ينتهي إليها الوصف، ثم يقف، قال: قل في ذلك شعرا، فقال:
و كيف صبر النفس عن غادة *** تظلمها إن قلت طاوسه
و جرت إن شبّهتها بانة *** في جنّة الفردوس مغروسه
و غير عدل إن عدلنا بها *** لؤلؤة في البحر منفوسة(3)
جلّت عن الوصف فما فكرة *** تلحقها بالنعت محسوسه
فقال له ابن طالوت: وجب شكرك يا ماني، فساعدك دهرك، و عطف عليك إلفك، و نلت سرورك، و فارقت محذورك، و اللّه يديم لنا و لك بقاء من ببقائه اجتمع شملنا، و طاب يومنا.
فقال ماني:
مدمن التخفيف موصول *** و مطيل اللّبث مملول
ص: 137
فأنا أستودعكم اللّه، ثم قام فانصرف، فأمر له محمد بن عبد اللّه بصلة، ثم كان كثيرا ما يبعث يطلبه إذا شرب، فيبرّه، و يصله، و يقيم عنده.
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني المبرد، قال:
حدّثني بعض الكتاب ممّن كان ماني يلزمه(1)، و يكثر عنده، قال: لقيني يوما ماني بعد انقطاع طويل عني، فقال: ما قطعني عنك إلا أني هائم، قلت: بمن؟ قال بمن إن شئت أن تراه الساعة رأيته/فعذرتني، قلت: فأنا معك، فمضى، حتى وافى باب الطاق، فأراني/غلاما جميل الوجه بين يدي بزّاز في حانوته، فلما رآه الغلام عدا، فدخل الحانوت، و وقف ماني طويلا ينتظره، فلم يخرج، فأنشأ يقول:
ذنبي إليه خضوعي حين أبصره *** و طول شوقي إليه حين أذكره(2) و ما جرحت بطرف العين مهجته *** إلا و من كبدي يقتصّ محجره
نفسي على بخله تفديه من قمر *** و إن رماني بذنب ليس يغفره
و عاذل باصطبار القلب يأمرني *** فقلت: من أين لي قلب أصبّره(3)
و مضى يعدو و يصيح: الموت مخبوء في الكتب(4).
و شادن قلبي به معمود *** شيمته الهجران و الصّدود
لا أسأم الحرص و لا يجود *** و الصبر عن رؤيته مفقود
زنّاره في خصره معقود *** كأنه من كبدي مقدود
عروضه من الرجز، و الشّعر لبكر بن خارجة، و الغناء للقاسم بن زرزور، خفيف رمل بالوسطى.
ص: 138
كان بكر بن خارجة، رجلا من أهل الكوفة، مولى لبني أسد، و كان ورّاقا ضيّق العيش، مقتصرا على التكسب من الوراقة، و صرف أكثر ما يكسبه إلى النبيذ، و كان معاقرا للشّرب في منازل الخمّارين و حاناتهم، و كان طيّب الشّعر مليحا مطبوعا طبعا ماجنا(1).
فذكر أبو العنبس الصّيمري أن محمد بن الحجاج حدّثه قال:
رأيت بكر بن خارجة يبكّر في كل يوم بقنّينتين من شراب إلى خراب من خرابات الحيرة، فلا يزال يشربه فيه على صوت هدهد كان يأوي إلى ذلك الخراب، إلى أن يسكر، ثم ينصرف، قال: و كان يتعشق ذلك الهدهد.
و حدّثني عمي عن ابن مهرويه عن عليّ بن عبد اللّه بن سعد، قال:
كان بكر بن خارجة يتعشق غلاما نصرانيا، يقال له: عيسى بن البراء العباديّ الصّيرفي، و له فيه قصيدة مزدوجة يذكر فيها النصارى و شرائعهم و أعيادهم، و يسمّي دياراتهم، و يفضّلهم.
قال: و حدّثني [من شهد دعبلا(2)] و قد أنشدني قوله في عيسى بن البراء النصراني العبادي:
زنّاره في خصره معقود *** كأنه من كبدي مقدود
فقال دعبل: ما يعلم اللّه أنّي حسدت أحدا قطّ كما حسدت بكرا على هذين البيتين.
و حدّثني عمي عن الكرانيّ، قال: حرّم بعض الأمراء بالكوفة بيع الخمر على خماري الحيرة، و ركب فكسر نبيذهم، فجاء بكر يشرب عندهم على عادته، فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب و الطرق، فبكى طويلا، و قال:
يا لقومي لما جنى السلطان *** لا يكونن لما أهان الهوان(3)
قهوة في التراب من حلب الكر *** م عقارا كأنّها الزعفران
ص: 139
قهوة في مكان سوء لقد صا *** دف سعد السعود ذاك المكان(1)
/من كميت يبدي المزاج لها لؤ *** لؤ نظم و الفصل منها جمان
فإذا ما اصطبحتها صغرت في *** القدر تختالها هي الجرذان(2)
كيف صبري عن بعض نفسي و هل *** يصبر عن بعض نفسه الإنسان!
قال: فأنشدتها الجاحظ، فقال: إن من حق الفتوة أن أكتب هذه الأبيات قائما و ما أقدر على ذلك إلا أن تعمدني، و قد كان تقوّس، فعمدته، فقام، فكتبها قائما.
و قال محمد بن داود بن الجرّاح في كتاب الشعراء: قال لي محمد بن الحجاج:
كانت الخمر قد أفسدت عقل بكر بن خارجة في آخر عمره، و كان يمدح و يهجو بدرهم و بدرهمين و نحو هذا فاطّرح، و ما رأيت قطّ أحفظ منه لكلّ شيء حسن، و لا أروى منه للشعر.
قال: و أنشدني بعض أصحابنا له في حال فساد عقله:
هب لي فديتك درهما *** أو درهمين إلى الثّلاثة
/إني أحبّ بني الطفي *** ل و لا أحبّ بني علاثه(3)(4) قال ابن الجراح حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال:
حدّثني بعض أصحابنا الكوفيين قال: حضرنا دعوة ليحيى بن أبي يوسف القاضي و بتنا عنده، فنمت فما أنبهني إلاّ صياح بكر يستغيث من العطش، فقلت له: مالك؟ فاشرب فالدار مليئة ماء، قال: أخاف، قلت: من أي شيء؟ قال: في الدار كلب كبير، فأخاف أن يظنني غزالا فيثب عليّ و يقطعني و يأكلني، فقلت: له ويحك يا بكر! فالحمير أشبه منك بالغزال، قم فاشرب إن كنت عطشان و أنت آمن، و كان عقله قد فسد من كثرة الشراب.
قال: و أنشدني له، و قد رأى صديقا له قرأ رقعة من صديق له آخر ثم حرقها:
لم يقو عندي على تحريق قرطاسي *** إلا امرؤ قلبه من صخرة قاسي
إن القراطيس من قلبي بمنزلة *** تحويه كالسمع و العينين في الرأس(5)
و مما يغنّى فيه من شعر بكر بن خارجة:
ص: 140
قلبي إلى ما ضرّني داعي *** يكثر أحزاني و أوجاعي
لقلّ ما أبقى على ما أرى *** يوشك أن ينعاني الناعي
كيف احتراسي من عدوّي إذا *** كان عدوي بين أضلاعي؟
أسلمني الحبّ و أشياعي *** لمّا سعى بي عندها الساعي
لمّا دعاني حبّها دعوة *** قلت له: لبّيك من داع
الغناء لإبراهيم بن المهدي ثقيل أول، و فيه لعبد اللّه بن العباس هزج، جميعا عن الهشامي، و قيل: إن فيه لحنا لابن جامع.
و قد ذكر الصولي في أخبار العباس بن الأحنف و شعره أن(1) هذه الأبيات للعباس بن الأحنف، و ذكر محمد بن داود بن الجرّاح عن أبي هفّان أنها لبكر بن خارجة:
هو إسماعيل بن معمر الكوفي، مولى الأشاعثة، و كان مألفا للشعراء، فكان أبو نواس و أبو العتاهية و مسلم و طبقتهم يقصدون منزله. و يجتمعون عنده، و يقصفون، و يدعو لهم القيان و غيرهن من الغلمان، و يساعدهم.
و إياه يعني أبو العتاهية بقوله:
لقد أمسى القراطيسي *** رئيسا في الكشاخين(1)
و في هذه الأبيات التي فيها الغناء يقول القراطيسيّ:
/
و قد أتاني خبر ساءني *** مقالها في السر وا سوأتاه
أمثل هذا يبتغي وصلنا *** أ ما يرى ذا وجهه في المرآة!
أخبرني ابن عمّار عن ابن مهرويه، عن عليّ بن عمران، قال: قال القراطيسي: قلت للعباس [بن الأحنف(2)]: هل قلت في معنى قولي:
و قد أتاني خبر ساءني *** مقالها في السرّ: وا سوأتاه؟
قال: نعم، و أنشدني:
جارية أعجبها حسنها *** فمثلها في الناس لم يخلق
خبّرتها أنّي محبّ لها *** فأقبلت تضحك من منطقي
و التفتت نحو فتاة لها *** كالرشا الوسنان في قرطق(3)
/قالت لها: قولي لهذا الفتى: *** انظر إلى وجهك ثم اعشق
أخبرني الحسن بن مهرويه، قال: حدّثني أحمد بن بشر المرثديّ، قال:
ص: 142
مدح إسماعيل القراطيسي الفضل بن الربيع(1)، فحرمه فقال:
ألا قل للّذي لم يهد *** ه اللّه إلى نفع
لئن أخطأت في مدحي *** ك ما أخطأت في منعي
لقد أحللت حاجاتي *** بواد غير ذي زرع
أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد عن أبي هفّان عن الجمّاز، قال:
اجتمع يوما أبو نواس و حسين الخليع و أبو العتاهية في الحمّام(2) و هم مخمورون، فقالوا: أين نجتمع؟ فقال القراطيسيّ:
ألا قوموا بأجمعكم *** إلى بيت القراطيسي
لقد هيّا لنا النزل *** غلام فاره طوسي
و قد هيّا الزّجاجات *** لنا من أرض بلقيس
و ألوانا من الطير *** و ألوانا من العيس
و قينات من الحور *** كأمثال الطواويس
فنيكوهنّ في ذاكم *** و في طاعة إبليس
أبكي إذا غضبت حتى إذا رضيت *** بكيت عند الرضا خوفا من الغضب
فالويل إن رضيت و العول إن غضبت *** إن لم يتمّ الرضا فالقلب في تعب
الشعر لأبي العبر الهاشمي، أنشدنيه الأخفش و غيره من أصحابنا، و ذكره له محمد بن داود بن الجرّاح، و الغناء لعليّة بنت المهديّ ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ.
ص: 143
هو أبو العباس محمد بن أحمد، و يلقب حمدونا الحامض بن عبد اللّه بن عبد الصمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس(1) بن عبد المطلب و كان صالح الشعر مطبوعا يقول الشعر المستوي في أول عمره منذ أيام الأمين و هو غلام، إلى أن ولي/المتوكل الخلافة، فترك الجدّ، و عاد إلى الحمق و الشهرة به، و قد نيّف على الخمسين، و رأى أن شعره مع توسطه لا ينفق مع مشاهدته أبا تمام الطائيّ و البحتريّ و أبا السمط بن أبي حفصة و نظراءهم.
حدّثني عم أبي عبد العزيز بن أحمد، قال:
سمعت حمدون الحامض يذكر أنه ابنه أبا العبر ولد بعد خمس سنين خلت من خلافة الرشيد، قال: و عمّر إلى خلافة المتوكل، و كسب بالحمق أضعاف ما كسبه كلّ شاعر كان في عصره بالجدّ، و نفق نفاقا عظيما، و كسب في أيام المتوكّل مالا جليلا، و له فيه أشعار حميدة، يمدحه بها، و يصف قصره و برج الحمام و البركة(2) كثيرة المحالّ، مفرطة السقوط، لا معنى لذكرها، سيما و قد شهرت في الناس.
فحدّثني محمد بن أبي الأزهر، قال: حدّثني الزبير بن بكّار، قال: قال لي عمي: ويحك! أ لا يأنف الخليفة لابن عمه هذا الجاهل مما قد شهّر به نفسه و فضح عشيرته! و اللّه إنه لعرّ بني آدم جميعا، فضلا عن أهله و الأدنين(3)! أ فلا يردعه و يمنعه من سوء اختياره! فقلت: إنه ليس بجاهل كما تعتقد(4)، و إنما يتجاهل، و إن له لأدبا صالحا و شعرا طيّبا، ثم أنشدته:
/
لا أقول اللّه يظلمني *** كيف أشكو غير متّهم!
و إذا ما الدّهر ضعضعني *** لم تجدني كافر النّعم
قنعت نفسي بما رزقت *** و تناهت في العلا هممي
ليس لي مال سوى كرمي *** و به أمني من العدم
فقال لي: ويحك! فلم لا يلزم هذا و شبهه؟ فقلت له: و اللّه يا عم لو رأيت ما يصل إليه بهذه الحماقات
ص: 144
لعذرته، فإن ما استملحت له لم ينفق به، فقال عمي - و قد غضب - أنا لا أعذره في هذا و لو حاز به الدّنيا بأسرها، لا عذرني اللّه إن عذرته إذن!
و حدّثني مدرك بن محمد الشيباني، قال: حدّثني أبو العنبس الصيمري، قال:
قلت لأبي العبر و نحن في دار المتوكل: ويحك! أيش يحملك على هذا السّخف الذي قد ملأت به الأرض خطبا و شعرا(1) و أنت أديب ظريف مليح الشعر؟ فقال لي: يا كشخان، أ تريد أن أكسد أنا و تنفق أنت؟ أنت أيضا شاعر فهم متكلّم فلم تركت العلم، و صنعت في الرقاعة نيّفا و ثلاثين كتابا، أحبّ أن تخبرني لو نفق العقل أ كنت تقدّم عليّ البحتري، و قد قال في الخليفة بالأمس:
عن أي ثغر تبتسم *** و بأيّ طرف تحتكم
فلما خرجت أنت عليه و قلت:
في أي سلح ترتطم *** و بأي كف تلتطم
أدخلت رأسك في الرّحم *** و علمت أنك تنهزم
فأعطيت الجائزة و حرم، و قرّبت و أبعد، في حر أمّك و حر أمّ كل عاقل معك! فتركته، و انصرفت.
قال مدرك: ثم قال لي أبو العنبس: قد بلغني أنك تقول الشعر، فإن قدرت أن تقوله جيّدا، جيّدا؟ و إلا فليكن باردا، باردا، مثل شعر أبي العبر و إياك و الفاتر فإنه صفع كلّه.
حدّثني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني أبو العيناء، قال: أنشدت أبا العبر:
/
ما الحبّ إلا قبلة *** أو غمز كفّ و عضد
أو كتب فيها رقى *** أنفذ من نفث العقد
من لم يكن ذا حبّه *** فإنما يبغي الولد
ما الحبّ إلا هكذا *** إن نكح الحبّ فسد
فقال لي: كذب المأبون: و أكل من خراي رطلين و ربعا بالميزان، فقد أخطأ و أساء، أ لا قال كما قلت:
باض الحبّ في قلبي *** فوا ويلي إذا فرّخ
و ما ينفعني حبّي *** إذا لم أكنس البربخ
و إن لم يطرح الأصل *** ع خرجيه على المطبخ
ص: 145
ثم قال: كيف ترى؟ قلت: عجبا من العجب، قال: ظننت أنك تقول: لا، فأبلّ يدي و أرفعها. ثم سكت، فبادرت، و انصرفت خوفا من شرّه.
حدّثني عبد العزيز بن أحمد عم أبي، قال:
كان أبو العبر يجلس بسرّمن رأى في مجلس يجتمع عليه فيه المجّان يكتبون عنه، فكان يجلس على سلّم و بين يديه بلاّعة فيها ماء و حمأة، و قد سدّ مجراها، و بين يديه قصبة طويلة، و على رأسه خفّ، و في رجليه قلنسيتان، و مستمليه في جوف بئر، /و حوله ثلاثة نفر يدقّون بالهواوين، حتى تكثر الجلبة، و يقلّ السماع، و يصيح مستمليه من جوف البئر من يكتب(1)، عذّبك اللّه، ثم يملي عليهم، فإن ضحك أحد ممن حضر قاموا فصبّوا على رأسه من ماء البلاّعة إن كان وضيعا، و إن كان ذا مروءة رشّش عليه بالقصبة من مائها، ثم يحبس في الكنيف إلى أن ينفضّ المجلس، و لا يخرج منه حتى يغرم درهمين. قال: و كانت كنيته أبا العباس، فصيرها أبا العبر، ثم كان يزيد فيها في كل سنة حرفا، حتى مات، و هي أبو العبر طردطيل طليري بك بك بك.
حدّثني جحظة، قال: رأيت أبا العبر بسرّمن رأى، و كان أبوه شيخا صالحا، و كان لا يكلّمه، فقال له بعض إخوانه: لم هجرت ابنك؟ قال: فضحني - كما تعلمون - بما يفعله بنفسه، ثم لا يرضى بذلك، حتى يهجّنني و يؤذيني، و يضحك الناس مني، فقالوا له: و أيّ شيء من ذاك؟ و بما ذا هجّنك؟ قال: اجتاز عليّ منذ أيام و معه سلّم، فقلت له: و لأيّ شيء هذا معك؟ فقال: لا أقول لك، فأخجلني، و أضحك بي كل من كان عندي، فلما أن كان بعد أيام اجتاز بي و معه سمكة، فقلت له: إيش تعمل بهذه؟ فقال: أنيكها، فحلفت لا أكلمه أبدا.
أخبرني عم أبي عبد العزيز، قال:
سمعت رجلا سأل أبا العبر عن هذه المحالات التي لا يتكلّم بها: أيّ شيء أصلها؟ قال: أبكّر، فأجلس على الجسر، و معي دواة و درج(2)، فأكتب كلّ شيء أسمعه من كلام الذاهب و الجائي و الملاّحين و المكارين، حتى أملأ الدّرج من الوجهين، ثم أقطعه عرضا و طولا و ألصقه مخالفا، فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه.
فيه شصّ قد ألقاه في الماء للسّمك، و على شفته دوشاب(1) ملطّخ، فقلت له: /خرب بيتك، أيش هذا العمل؟ فقال: أصطاد يا كشخان يا أحمق بجميع جوارحي، إذا مرّ بي طائر رميته عن القوس، و إن سقط قريبا مني أرسلت إليه الباشق، و الرئة التي على رأسي يجيء الحدأ ليأخذها فيقع في الوهق(2) و الدّوشاب أصطاد به الذّباب، و أجعله في الشصّ، فيطلبه السمك، و يقع فيه، و الشصّ في أيري، فإذا مرّت به السمكة أحسست بها، فأخرجتها.
قال: و كان المتوكل يرمي به في المنجنيق إلى الماء، و عليه قميص حرير، فإذا علا في الهواء صاح: الطريق الطريق، ثم يقع في الماء، فتخرجه السّبّاح، قال: و كان المتوكل يجلسه على الزّلاّقة، فينحدر فيها، حتى يقع في البركة، ثم يطرح الشبكة، فيخرجه كما يخرج السمك، ففي ذلك يقول في بعض حماقاته:
و يأمر بي الملك *** فيطرحني في البرك
و يصطادني بالشّبك *** كأني من السّمك
و يضحك كك كك ككك *** ككك كك ككك كك ككك(3)
و حدّثني جعفر بن قدامة، قال:
قدم أبو العبر بغداد في أيام المستعين، و جلس للناس، فبعث إسحاق بن إبراهيم، فأخذه، و حبسه، فصاح في الحبس، لي نصيحة، فأخرج، و دعا به إسحاق، فقال: هات نصيحتك، قال: على أن تؤمّنني؟ قال: نعم، قال:
الكشكية - أصلحك اللّه - /لا تطيب إلا بالكشك، فضحك إسحاق و قال: هو - فيما أرى - مجنون، فقال: لا، هو امتخط حوت(4)، قال: أيش هو امتخط حوت؟ ففهم ما قاله، و تبسم ثم قال: أظنّ أنّي فيك مأثوم، قال: لا، و لكنك في ماء بصل(5)، فقال: أخرجوه عني إلى لعنة اللّه، و لا يقيم ببغداد، فأردّه إلى الحبس، فعاد إلى سرّ من رأى.
و له أشعار ملاح في الجدّ، منها ما أنشدنيه الأخفش له يخاطب غلاما أمرد:
أيها الأمرد المولّع بال *** هجر أفق ما كذا سبيل الرشاد
فكأنّي بحسن وجهك قد *** ألبس في عارضيك ثوب حداد
و كأنّي بعاشقيك و قد بدّ *** لت فيهم من خلطة ببعاد
ص: 147
حين تنبو العيون عنك كما *** ينقبض السّمع عن حديث معاد
فاغتنم قبل أن تصير إلى كا *** ن و تضحي في جملة الأضداد
و أنشدني محمد بن داود بن الجرّاح له، و فيه رمل طنبوري محدث أظنّه لجحظة.
داء دفين و هوى بادي *** أظلم فجازيك بمرصاد
يا واحد الأمة في حسنه *** أشمت بي صدّك حسّادي(1)
قد كدت مما نال منّي الهوى *** أخفى على أعين عوّادي
عبدك يحيي موته قبلة *** تجعلها خاتمة الزّاد(2)
أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني أحمد بن عليّ الأنباري:
قال:
كنا يوما في مجلس يزيد بن محمد المهلّبي بسرّمن رأى، فجرى ذكر أبي العبر، فجعلوا يذكرون حماقاته و سقوطه، فقلت ليزيد: كيف كان عندك، فقد رأيته؟ فقال: ما كان إلاّ أديبا فاضلا، و لكنه رأى الحماقة أنفق و أنفع له، فتحامق.
فقلت له: أنشدك أبياتا له أنشدنيها، /فانظر لو أراد دعبل - فإنه أهجى أهل زماننا - أن يقول في معناها ما قدر على أن يزيد على ما قال، قال: أنشدنيها، فأنشدته قوله:
رأيت من العجائب قاضيين *** هما أحدوثة في الخافقين
هما اقتسما العمي نصفين فذّا *** كما اقتسما قضاء الجانبين(3)
هما فأل الزمان بهلك يحيى *** إذا افتتح القضاء بأعورين(4)
و تحسب منهما من هزّ رأسا *** لينظر في مواريث و دين
كأنك قد جعلت عليه دنّا *** فتحت بزاله من فرد عين(5)
ص: 148
فجعل يضحك من قوله، و يعجب منه، ثم كتب الأبيات.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن مهرويه: قال: حدّثني ابن أبي أحمد، قال: قال لي أبو العبر:
إذا حدّثك إنسان بحديث لا تشتهي أن تسمعه فاشتغل عنه بنتف إبطك، حتى يكون هو في عمل و أنت في عمل.
و قال محمد بن داود: حدّثني أبو عبد اللّه الدوادي، قال:
كان أبو العبر شديد البغض لعليّ بن أبي طالب - صلوات اللّه عليه - و له في العلويين هجاء قبيح، و كان سبب ميتته أنه خرج إلى الكوفة ليرمي بالبندق مع الرماة من أهلها في آجامهم، فسمعه بعض الكوفيين يقول في علي - صلوات اللّه عليه - قولا قبيحا استحل به دمه، فقتله في بعض الآجام، و غرّقه فيها.
صوت(1)
لقد طال عهدي بالإمام محمد *** و ما كنت أخشى أن يطول به عهدي
فأصبحت ذا بعد و داري قريبة *** فوا عجبا من قرب داري و من بعدي!
فيا ليت أنّ العيد لي عاد مرّة *** فإني رأيت العيد وجهك لي يبدي
رأيتك في برد النبيّ محمد *** كبدر الدّحى بين العمامة و البرد
الشعر لمروان بن أبي حفصة الأصغر، و الغناء لبنان خفيف رمل بالبنصر.
ص: 149
هو مروان بن أبي الجنوب بن مروان الأكبر بن أبي حفصة. قد تقدّم خبره و نسبه، و يكنى مروان الأصغر أبا السّمط، و كان يتشبّه بجدّه في شعره، و يمدح المتوكل، و يتقرب إليه بهجاء آل أبي طالب، فتمكّن منه و قرب إليه(1)، و كسب معه مالا كثيرا، فلما أفضت الخلافة إلى المنتصر تجنّب مذهب أبيه في كل أمر، فطرده و حلف ألاّ يدخل إليه أبدا لما كان يسمعه منه في أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه.
فأخبرني محمد بن عمران الصيرفي و عمّي قالا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن آدم العبديّ قال:
دخل مروان بن أبي الجنوب على المتوكل فأنشده قوله:
سلام على جمل و هيهات من جمل *** و يا حبّذا جمل و إن صرمت حبلي
و هي من مشهور شعره، و فيها يقول:
أبوكم عليّ كان أفضل منكم *** أباه ذوو الشورى و كانوا ذوي عدل
و ساء رسول اللّه إذ ساء بنته *** بخطبته بنت اللعين أبي جهل
أراد على بنت النبيّ تزوّجا *** ببنت عدو اللّه، يا لك من فعل!
فذمّ رسول اللّه صهر أبيكم *** على منبر الإسلام بالمنطق الفصل(2)
و حكّم فيها حاكمين أبوكم *** هما خلعاه خلع ذي النّعل للنّعل
/و قد باعها من بعده الحسن ابنه *** فقد أبطلا دعواكما الرّثّة الحبل
و خلّيتموها و هي في غير أهلها *** طالبتموها حيث صارت إلى الأهل
فوهب له المتوكل مائة ألف درهم.
و قال محمد بن داود بن الجرّاح(3): حدّثني محمد بن القاسم قال: حدّثني أبو هاشم الجبّائي، قال:
دخل أبو السّمط على المتوكل فأنشده قوله:
ص: 150
الصّهر ليس بوارث *** و البنت لا ترث الإمامه
لو كان حقكم لهم *** قامت على الناس القيامه
أصبحت بين محبّكم *** و المبغضين لكم علامه
فحشا المتوكّل فمه بجوهر لا يدرى ما قيمته.
و حدّثني أحمد بن جعفر جحظة قال: أنشد أبو السّمط المتوكل قوله:
إني نزلت بساحة المتوكل *** و نزلت في أقصى ديار الموصل
فقال الفتح بن خاقان: فإذا كانا متباعدين هكذا فمن كان الرسول؟
فقال أبو العنبس الصّيمريّ: كانت له طيور هدّى(1) تحمل إليها كتبه، فضحك المتوكل حتى ضرب برجله الأرض و أجزل صلة الصّيمري و لم يعط أبا السّمط شيئا، فماتا متهاجرين(2).
أخبرني عمي و الحسن بن علي قالا: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال:
حدّثنا حمّاد بن أحمد البنيّ قال: أخبرني أبو السّمط مروان بن أبي الجنوب قال:
لما صرت إلى المتوكل على اللّه و مدحته و مدحت ولاة العهود الثلاثة، و أنشدته ذلك في قولي:
سقى اللّه نجدا و السّلام على نجد *** و يا حبذا نجد على النّأي و البعد
نظرت إلى نجد و بغداد دونها *** لعليّ أرى نجدا و هيهات من نجد!
بلاد بها قوم هواهم زيارتي *** و لا شيء أشهى من زيارتهم عندي
فلما استتممتها(3) أمر لي بمائة ألف درهم و خمسين ثوبا من خاص ثيابه.
أخبرني عليّ بن أبي العباس بن أبي طلحة قال: حدّثني إبراهيم بن محمد أبو إسحاق قال:
حدّثني خالد بن يزيد الكاتب قال: دعاني المتوكل ليلة و قد غنّى بين يديه عمر الطنبوري في قولي:
يا مقلتيّ قتلتماني *** فبقيت رحمة من يراني
من ذا ألوم و أنتما *** بيد الهوى أسلمتماني
ص: 151
قال: و لم يغنّه البيت الثالث، و هو:
لعبت بنا أيدي الخطو *** ب و غالنا ريب الزمان
كراهة أن يتطيّر منه، فجعل ينظر إليّ و أنا واقف، ثم قال لي: ويلك يا خالد، تهرب منا و نحن نطلبك، و أنت في غيابات صبواتك و غزلك. يا غلام اسقه ثلاثة أقداح/في القدح المبرم - و هو الذي لا قرار له، فإذا أخذه الإنسان لم يقدر أن يضعه من يده - فقلت:
سيدي لا تسقني *** أكثر من رطل نبيذ
إنّ شربي للّذي *** يؤلمني غير لذيذ
فقال: يا غلام، إن لم يشرب فاصفعه، فقلت:
سيدي حوصلتي ضيّ *** قة عن شرب رطل
فمتى زدت عليه *** خفت أن يذهب عقلي
فقال الفتح: هو كما قال يا سيّدي لا يطيق الشرب.
و حضر ابن أبي حفصة، فقال لنا المتوكل: قولا على البديهة، فقلت له:
هو يا سيدي شيخ الشعراء و مادحك، و آباؤه مدّاح آبائك، فأنشأ يقول:
يا ليت [لي] ألف عين *** عيناي لا تكفيان
فقلت له: سخنت عينك، أنا لي عين واحدة أدعو اللّه عليها بالعمى منذ ستين سنة، أقول:
يا عين أنت بليتني *** فأراحني الرحمن منك
و أنت تتمنى ألف عين. ثم قال لي المتوكل: اهجه، فقلت: إن الرجل لم يعرض لي، فأقبل هو عليّ و قال:
قل ما شئت، و ما عسى أن تقول؟ فقلت:
زاد البرد يومين *** فقال الناس: ما القصّة!
فقلنا: أنشدونا شع *** ر مروان بن أبي حفصة
/فتى من شهوة النّيك *** بحلقوم استه غصّه
و لو يرمى ببطّيخ *** لوافى دبره رصّه
قال: فضحك المتوكل حتى صفق(1) برجليه الأرض، و أفحم مروان، ثم أمر لي بجائزة فأخذتها و انصرفت.
قال ابن أبي طاهر: حدّثني مروان بن أبي الجنوب قال: لما استخلف المتوكل بعثت إلى ابن أبي دواد بقصيدة مدحته فيها و ذكرت فيها ابن الزيات ببيتين و هما:
و قيل لي: الزيات لاقي حمامه *** فقلت: أتاني اللّه بالفتح و النصر
ص: 152
لقد حفر الزيات بالبغي حفرة *** فألقاه فيها اللّه بالكفر و الغدر
قال: فذكرني ابن أبي دواد للمتوكل، فأمر بإحضاري، فقيل له: نفاه الواثق إلى اليمامة، و ذلك لميله إليك.
فقال: يحمل، فقال له ابن أبي دواد: عليه ستة آلاف دينار دين، فقال: يكتب له بها إلى عامل اليمامة، فكتب لي بها و بالحملان و المعونة، فقدمت عليه و أنشدته قولي:
رحل الشباب و ليته لم يرحل *** و الشيب حلّ و ليته لم يحلل
فلما بلغت إلى هذا البيت:
كانت خلافة جعفر كنبوّة *** جاءت بلا طلب و لا بتمحّل
وهب الإله لك الخلافة مثل ما *** وهب النبوّة للنبيّ المرسل
فأمر لي بخمسين ألف درهم.
/و في أول هذه القصيدة لعريب ثاني ثقيل بالوسطى.
و الصوت المذكور في أول هذه الأخبار من قصيدة قالها أبو السّمط في المنتصر لمّا ولي الخلافة.
أخبرني بخبره فيها جماعة من أصحابنا، منهم محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرد، و الحسن بن عليّ قالا:
حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثني القاسم بن محمد(1) الكاتب قال:
حدّثني المرزبان بن الفروران(2) حاجب المنتصر قال: إن مروان بن أبي حفصة الأصغر المكنى أبا السّمط استأذن على المنتصر لمّا ولي الخلافة، فقال: و اللّه لا أذنت للكافر ابن الزّانية، أ ليس هو القائل:
و حكّم فيها حاكمين أبوكم *** هما خلعاه خلع ذي النّعل للنّعل
قولوا له: و اللّه لا وصلت إليّ أبدا، فلما بلغه هذا القول عمل هذا الشّعر:
لقد طال عهدي بالإمام محمد *** و ما كنت أخشى أن يطول به عهدي
و ذكر الأبيات كلها.
قال: و سأل بنان بن عمرو، فصنع فيه لحنا و غنى به المنتصر، فلما سمعه سأل عن قائلها، فأخبرته، فقال:
أما الوصول إليّ فلا سبيل إليه، و لكن أعطوه عشرة آلاف درهم يتحمل بها إلى اليمامة.
ص: 153
أخبرني عليّ بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال: حدّثني جعفر بن هارون بن زياد قال: حدّثني أحمد بن الفضل الكاتب قال:
لما قال عليّ بن الجهم هذه القصيدة في المتوكل:
/
اغتنم جدّة الزّمان الجديد *** و اجعل المهرجان أيمن عيد
أنشدها و أبو السمط بن أبي حفصة حاضر، فغمزه المتوكل على عليّ بن الجهم و أمره أن يعنته. فقال له:
يا عليّ، أخبرني عن قولك:
و اجعل المهرجان أيمن عيد
المهرجان عيد أم يوم لهو، إنما العيد ما تعبّد اللّه به الناس(1) مثل الفطر و الأضحى و الجمعة و أيام التشريق.
فأما المهرجان و النيروز فإنما هما أعياد المجوس(2)، لا يجوز أن يقال لخليفة اللّه في عباده و خليفة رسول اللّه في أمته: اجعل المهرجان عيدا.
فلم يلتفت إليه و أنشد حتى بلغ قوله(3):
نحن أشياعكم من آل خراسا *** ن أولو قوّة و بأس شديد
نحن أبناء هذه الخرق السّو *** د و أهل التّشيّع المحمود
فقال له مروان: لو كنتم من أهل التّشيّع المحمود ما قتل قحطبة جدّك و صلبه في عداوة بني العباس. فقال له المتوكل: ويلك، أقتل قحطبة جدّك؟ قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين. فأقبل على محمد بن عبد اللّه بن طاهر، فقال له: بحياتي الأمر كما قال مروان؟ فقال له محمد: و إن كان كما قال، فأيّ ذنب لعليّ بن الجهم؟ قد قتل اللّه أعداءكم و أبقى أولياءكم. فضحك المتوكل و قال: شهدت و اللّه بها عليه، فقال مروان في ذلك:
غضب ابن الجهم من قولي له *** إنّ في الحق لقوم مغضبه
يا بن جهم كيف تهوى معشرا *** صلبوا جدّك فوق الخشبه؟
يا إمام العدل نصحي لكم *** نصح حقّ غير نصح الكذبة
إن جدّي من رفعتم ذكره *** بكرامات لشكري موجبه
و ابن جهم من قتلتم جدّه *** و تولّى ذاك منه قحطبة
فخراسان رأت شيعتكم *** أنّه أهل لضرب الرّقبه(4)
ص: 154
أ تراه بعدها ينصحكم *** لا و ربّ الكعبة المحتجبة(1)
أخبرني عليّ بن العباس بن أبي طلحة قال: حدّثني جعفر بن هارون قال: حدّثني أحمد بن حمدون بن إسماعيل قال:
بلغ المتوكل أنّ عليّ بن الجهم خطب امرأة من قريش فلم يزوّجوه، فسأل عن السبب في ذلك و عن قصته، و عن نسب سامة بن لؤي، فحدّث بها، ثم انتهى حديثهم بأنّ أبا بكر و عمر رضي اللّه عنهما لم يدخلاهم في قريش، و أن عثمان رضي اللّه عنه أدخلهم فيه، و أن عليّا رضي اللّه عنه أخرجهم منه، فارتدّوا مع الحارث، و أنه قتل من ارتد منهم، و سبى بقيتهم، و باعهم من مصقلة بن هبيرة. فضحك المتوكل، و بعث إلى عليّ بن الجهم فأخبره بما قال القوم فأنكر ذلك و قال. هذه الدعوى(2) من الرافضة، و شتم القوم. و كان منهم أبو السّمط فقال له:
إنّ جهما حين تنسبه *** ليس من عجم و لا عرب
لجّ في شتمي بلا سبب *** سارق للشّعر و النّسب
من أناس يدّعون أبا *** ما له في الأرض من عقب
/فغضب عليّ بن الجهم و لم يجبه؛ لأنه كان يحتقره و يستركّه(3)، و أومأ إليه المتوكل أن يزيده فقال:
أ أنتم من قريش يا بن جهم *** و قد باعوكم في من يزيد
أ ترجو أن تكاثرنا جهارا *** بنسبتكم و قد بيع الجدود؟
قال: و ما زال مروان يهجو عليّ بن الجهم فما أجابه عن شيء من شعره أنفة منه.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدّثنا إسحاق بن محمد النخعيّ قال: حدّثني الجمّاز أبو عبد اللّه قال:
دخل مروان الأصغر على أحمد بن أبي دواد و قد أصابه الفالج و تماثل قليلا، فأنشده:
لسان أحمد سيف مسّه طبع *** من علّة فجلاه عنه جاليها(4)
ما ضرّ أحمد باقي علّة درست *** و اللّه يذهب عنه رسم باقيها
قد كان موسى على علاّت منطقه *** رسائل اللّه إذ جاءت يؤدّيها
موسى بن عمران لم ينقص نبوّته *** ضعف اللسان و قدما كان يمضيها(5)
فوصله أحمد رحمه اللّه تعالى و اعتذر إليه.
ص: 155
أخبرني عمي قال: حدّثني متوّج قال: قال أبو السمط:
دخلت على عبد اللّه بن طاهر فقال: إني تذكرت في ليلتي هذه ذا اليمينين، فبت أرقا حزينا باكيا، فارثه في مقامك هذا بأبيات تجعل لي طريقا إلى شفاء علّتي و لك حكمك، ففكرت هنيهة ثم قلت:
/
إنّ المكارم إذ تولّى طاهر *** قطع الزمان يمينها و شمالها
لو كافحته يد المنون مجاهرا *** لاقت لوقع سيوفه آجالها
أرسى عماد خليفة في هاشم *** و رمى عماد خلافة فأزالها(1)
بكت الأعنّة و الأسنّة طاهرا *** و لطالما روّى النّجيع نهالها
ليت المنون تجانبت عن طاهر *** و لوت بذروة من تشاء حبالها(2)
ما كنت لو سلمت يمينا طاهر *** أدري و لا أسل الحوادث مالها
فقال: أحسنت و اللّه فاحتكم، فقلت له: خمسون ألف درهم أقضي منها دينا(3)، و أصلح حالي، و أبتاع ضيعة تلاصق ضيعتي. فأمر لي بها و قال: ربحنا و خسرت، و لو لم تحتكم لزدتك، و لك عندنا عدّ و عدّ بعد عدّ.
لا تلمني أن أجزعا *** سيّدي قد تمنّعا
و ابلائي(4) إن كان ما *** بيننا قد تقطّعا
إنّ موسى بفضله *** جمّع الفضل أجمعا
الشعر ليوسف بن الصّيقل و الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر.
ص: 156
هو يوسف بن الحجّاج الصيقل، يقال: إنّه من ثقيف، و يقال: إنه مولى لهم، و ذكر محمد بن داود بن الجرّاح أنه كان يلقب لقوة(1) و أنه كان يصحب أبا نواس، و يأخذ عنه، و يروي له، و أبوه الحجّاج بن يوسف محدث ثقة، و روى عنه جماعة من شيوخنا، منهم ابن منيع، و الحسن بن الطيب الشجاع، و ابن عفير الأنصاري، و كان يوسف بن الصيقل كاتبا، و مولده و منشؤه بالكوفة.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعيّ، عن ابن شبّة، قال: قال أحمد بن صالح الهشاميّ:
قال لنا يوسف بن الصيقل يوما، و رأى الشعراء بأيديهم الرّقاع يطوفون بها، فقال: صنع اللّه لكم، ثم أقبل على إبراهيم الموصليّ، فقال له: كنا نهزل، فنأخذ الرغائب، و هؤلاء المساكين الآن يجدّون، فلا يعطون شيئا، ثم قال لإبراهيم: أتذكر و نحن بجرجان مع موسى الهادي، و قد شرب على مستشرف عال جدّا و أنت تغنيه هذا الصوت:
و استدارت رحالهم *** بالرّدينيّ شرّعا
/فقال: هذا لحن مليح، و لكني أريد له شعرا غير هذا، فإن هذا شعر بارد، و التفت إليّ فقال: اصنع في هذا الوزن شعرا، فقلت:
لا تلمني أن أجزعا *** سيّدي قد تمنّعا
فغنّيته فيه بذلك اللحن، و مرّت به إبل ينقل عليها، فقال أوقروها لهما مالا، فأوقرت مالا و حمل إلينا، فاقتسمناه، فقال إبراهيم: نعم، و أصاب كلّ واحد منا ستين ألف درهم.
فارس يضرب الكت *** يبة حتّى تصدّعا
في الوغى حين لا يرى *** صاحب القوس منزعا
و استدارت رحالهم *** بالرّدينيّ شرّعا
ص: 157
ثم ثارت عجاجة *** تحتها الموت منقعا
في هذه الأبيات رمل ينسب إلى ابن سريج و إلى سياط، و فيه لابن جامع خفيف رمل بالبنصر.
أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، عن محمد بن عبد اللّه العبديّ، فذكر مثل هذه القصة إلا أنه حكى أنها كانت بالرّقة، لا بجرجان، و أن الرشيد كان صاحبها لا موسى.
أخبرني الحسن بن عليّ العنزيّ، عن محمد بن يونس الربيعيّ، قال: حدّثني أبو سعيد الجنديسابوريّ، قال:
لما ورد الرشيد الرّقّة خرج يوسف بن الصيقل، و كمن له في نهر جافّ على طريقه، و كان لهارون خدم صغار يسميهم النّمل يتقدّمونه، بأيديهم قسيّ البندق، يرمون بها من يعارضه في طريقه، فلم يتحرك يوسف، حتى وافته قبّة هارون على ناقة، فوثب إليه يوسف، و أقبل الخدم الصغار يرمونه، فصاح بهم الرشيد: كفّوا عنه، فكفّوا، و صاح به يوسف يقول:
أ غيثا تحمل النا *** قة أم تحمل هارونا
أم الشمس أم البدر *** أم الدّنيا أم الدّنيا
/ألا كلّ الذي عدّد *** ت قد أصبح مقرونا
على مفرق هارون *** فداه الآدميّونا(1)
فمدّ الرشيد يده إليه، و قال له: مرحبا بك يا يوسف، كيف كنت بعدي؟ ادن مني، فدنا، و أمر له بفرس، فركبه، و سار إلى جانب قبته ينشده، و يحدّثه، و الرشيد يضحك، و كان طيّب الحديث، ثم أمر له بمال، و أمر بأن يغنّى في الأبيات:
الغناء في هذه الأبيات لابن جامع خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي:
و قال محمد بن داود: كان يوسف فاسقا مجاهرا باللّواط، و له فيه أشعار، فمنها قوله:
لا تبخلنّ على الندي *** م بردف ذي كشح هضيم
/تعلو و ينظر حسرة *** نظر الحمار إلى القضيم(2)
و إذا فرغت فلا تقم *** حتى تصوّت بالنّديم
ص: 158
فإذا أجاب فقل هل *** مّ إلى شهادة ذي الغريم
و اتبع للذّتك الهوى *** ودع الملامة للمليم
قال: و هذا الشعر يقوله لصديق له رآه قد علا غلاما له، فخاطبه به.
و من مشهور قوله في هذا المعنى:
لا تنيكنّ ما حبيت *** غلاما مكابره
لا تمرّنّ باسته *** دون دفع المؤامرة
/إن هذا اللّواط دين *** تراه الأساوره(1)
و هم فيه منصفو *** ن بحسن المعاشرة
و من قوله في هذا المعنى أيضا هذه الأبيات:
ضع كذا صدرك لي يا سيدي *** و اتّخذ عندي إلى الحشريدا
إنّما ردفك سرج مذهب *** كشف البزيون عنه فبدا(2)
فأعرنيه و لا تبخل به *** ليس يبليه ركوبي أبدا
بل يصفّيه و يجلوه و لا *** أثر تراه فيه أبدا
فادن يا حبّ و طب نفسا به *** إنّ ذاك الدّين تقضاه غدا
أخبرني إسماعيل بن يونس، قال: حدّثني عمر بن شبّة عن أحمد بن صالح الهاشمي، قال:
هجا يوسف بن الصيقل القيان، فقال:
احذر فديتك ما حي *** يت حبائل المتشاكلات
فلهنّ يفلسن الفتى *** و كفى بهنّ مفلسات
ويل امرئ غرّ تجي *** ه رقاعهنّ مختّمات
و رقاعهنّ إليهم *** برقي القحاب مسطّرات(3)
و على القيادة رسله *** نّ إذا بعثن مدرّبات
يهدمن أكياس الغنيّ *** من المئونة و الهبات
حفر العلوج سواقيا *** للماء في الأرض الموات
ص: 159
فيصير من إفلاسه *** و من الندامة في سبات
قال: و شاعت هذه الأبيات و تهاداها الناس، و صارت عبثا بالقيان لكلّ أحد، فكانت المغنية إذا عثرت قالت:
تعس يوسف!
أخبرني الحسن بن عليّ، قال: أخبرني عيسى بن الحسن الآدمي: قال: حدّثني أحمد بن أبي فنن، قال:
أحضر الرشيد عشرة آلاف دينار من ضرب السّنة ففرّقها، حتى بقيت منها ثلاثة آلاف دينار، فقال: ائتوني شاعرا أهبها له، فوجدوا منصورا النمريّ ببابه، فأدخل إليه، فأنشده، و كان قبيح الإنشاد، فقال له الرشيد: أعانك اللّه على نفسك، انصرف، فقال: يا أمير المؤمنين، قد دخلت إليك دخلتين، لم تعطني/فيهما شيئا، و هذه الثالثة، و و اللّه لئن حرمتني لا رفعت رأسي بين الشعراء أبدا. فضحك الرشيد، و قال: خذها، فأخذها، و نظر الرشيد إلى الموالي ينظر بعضهم بعضا، فقال: كأني قد عرفت ما أردتم إنما أردتم: أن تكون هذه الدنانير ليوسف بن الصّيقل، و كان يوسف منقطعا إلى الموالي ينادمهم، و يمدحهم، فكانوا يتعصّبون له، فقالوا: إي و اللّه يا أمير المؤمنين، فقال: هاتوا ثلاثة آلاف دينار، فأحضرت، فأقبل على يوسف. فقال: هات، أنشدنا، فأنشده يوسف:
تصدّت له يوم الرّصافة زينب
فقال له: كأنك امتدحتنا فيها، فقال: أجل، و اللّه يا أمير المؤمنين فقال: أنت ممن يوثق بنيّته، و لا تتّهم موالاته، هات من ملحك، و دع المديح، فأنشده أقوله:
العفو يا غضبان *** ما هكذا الخلاّن
هبني ابتليت بذنب *** أ ما له غفران؟
و إن تعاظم ذنب *** ففوقه الهجران
كم قد تقرّبت جهدي *** لو ينفع القربان
يا ربّ أنت على ما *** قد حلّ بي المستعان
ويلي أ لست تراني *** أهذي بها يا فلان؟
فقال الرشيد: و من فلان هذا ويلك؟ فقال له الفضل بن الربيع. هو أبان مولاك يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: و لم لم تنشدني كما قلت يا نبطي؟ فقال: لأني غضبان عليه، قال: و ما أغضبك؟ قال: مدّت دجلة، فهدمت داري و داره، فبنى داره، و علاّها، حتى سترت الهواء عني، قال: لا جرم، ليعطينّك الماصّ بظر أمّه عشرة آلاف درهم، حتى تبنى بناء يعلو على بنائه، فتستر أنت الهواء عنه، ثم قال له: خذ في شعرك، فأنشده نحوا من هذا الشعر، فقال للفضل بن الربيع: يا عباسي، ليس هذا بشعر ما هو إلا لعب، أعطوه ثلاثة آلاف درهم مكان الثلاثة الآلاف الدينار، فانصرف الموالي إلى صالح الخازن، فقالوا له: أعطه ثلاثة آلاف دينار كما أمر له أولا، فقال:
أستأمره، ثم أفعل، فقالوا له: أعطه إياها بضماننا، فإن أمضيت له و إلا كانت في أموالنا، فدفعها إليه بضمانهم،
ص: 160
فأمضيت له، فكان يوسف يقول بعد ذلك: كنا نلعب، فنأخذ مثل هذه الأموال، و أنتم تقتلون أنفسكم، فلا تأخذون شيئا!
هبّت قبيل تبلّج الفجر *** هند تقول و دمعها يجري
أنّي اعتراك و كنت في عهدي لا *** سرب الدموع و كنت ذا صبر(1)
الشعر لرجل من الشّراة يقال له: عمرو بن الحسن مولى بني تميم، يقوله في عبد اللّه بن يحيى الذي تسمّيه الخوارج طالب الحقّ، و من قتل من أصحابه معه يرثيهم. و الغناء لعبد اللّه بن أبي العلاء ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن الهشامي.
ص: 161
/أخبرني بذلك الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائني عن محمد بن أبي محمد الخزامي، و خلاّد بن يزيد، و عبد اللّه بن مصعب، و عمرو بن هشام، و عبد اللّه بن محمد الثّقفيّ، و يعقوب بن داود الثقفيّ، و حريم بن أبي يحيى:
أن عبد اللّه بن يحيى الكندي أحد بني عمرو بن معاوية كان من حضر موت، و كان مجتهدا عابدا، و كان يقول قبل أن يخرج: لقيني رجل، فأطال النظر إليّ، و قال: ممّن أنت؟ فقلت: من كندة، فقال: من أيّهم؟ فقلت: من بني شيطان، قال: و اللّه لتملكنّ، و لتبلغنّ خيلك وادي القرى(1)، و ذلك بعد أن تذهب إحدى عينيك.
فذهبت أتخوّف ما قال، و أستخير اللّه، فرأيت باليمن جورا ظاهرا، و عسفا شديدا، و سيرة في الناس قبيحة، فقال لأصحابه: ما يحلّ لنا المقام على ما نرى، و لا يسعنا الصبر عليه، و كتب إلى عبيدة بن مسلم بن أبي كريمة(2)الذي يقال له: كودين مولى بني تميم، و كان ينزل في الأزد، و إلى غيره من الإباضيّة بالبصرة يشاورهم في الخروج، فكتبوا إليه: إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل، فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل، و لست تدري متى يأتي عليك أجلك؟ و للّه خيرة من عباده يبعثهم إذا شاء لنصرة دينه، و يخصّ بالشهادة منهم من يشاء. و شخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي أحد بني سلمة، و بلج بن عقبة السّقوري في رجال من الإباضية، فقدموا عليه حضر موت، فحثّوه على الخروج، و أتوه بكتب أصحابه: إذا خرجتم فلا تغلّوا، و لا تغدروا، و اقتدوا بسلفكم الصالحين، و سيروا سيرتهم، فقد علمتم أن الّذي أخرجهم على السلطان العيث لأعمالهم. /فدعا أصحابه، فبايعوه، فقصدوا دار الإمارة، و على حضر موت إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكنديّ، فأخذوه، فحبسوه يوما، ثم أطلقوه، فأتى صنعاء، و أقام عبد اللّه بن يحيى بحضر موت، و كثر جمعه، و سمّوه «طالب الحق».
فكتب إلى من كان من أصحابه بصنعاء: إني قادم عليكم، ثم استخلف على حضر موت عبد اللّه بن سعيد الحضرميّ، و توجّه إلى صنعاء سنة تسع و عشرين و مائة في ألفين، و بلغ القاسم بن عمر أخا يوسف بن عمر - و هو عامل مروان بن محمد على صنعاء - مسير عبد اللّه بن يحيى، فاستخلف على صنعاء الضحّاك بن زمل، و خرج يريد
ص: 162
الإباضية في سلاح ظاهر و عدّة و جمع كثير، فعسكر على مسيرة يوم من أبين(1) و خلّف فيها الأثقال، و تقدّمت لتقاتله، فلقيه عبد اللّه بن يحيى بلحج - قرية من أبين - قريبا من الليل، فقال الناس للقاسم: أيها الأمير، لا تقاتل الخوارج ليلا، فأبى، و قاتلهم، فقتلوا من أصحابه بشرا كثيرا، و انهزموا ليلا، فمرّ بعسكره، فأمرهم بالرحيل، و مضى إلى صنعاء، فأقام يوما، ثم خرج فعسكر قريبا من صنعاء، و خندق و خلّف بصنعاء الضحاك بن زمل، فأقبل عبد اللّه بن يحيى، فنزل جوفين(2) على ميلين من عسكر القاسم، فوجّه القاسم يزيد بن الفيض في ثلاثة آلاف من أهل الشام و أهل اليمن، فكانت بينهم مناوشة ثم تحاجزوا، فرجع يزيد إلى القاسم، فاستأذنه في بياتهم، فأبى أن يأذن له، فقال يزيد: و اللّه لئن لم تبيّتهم ليغمّنّك، فأبى أن يأذن له، و أقاموا يومين لا يلتقون، فلمّا كان في الليلة الثالثة أقبل عبد اللّه بن يحيى، /فوافاه مع طلوع الفجر، فقاتلهم الناس على الخندق، فغلبتهم الخوارج عليه، و دخلوا عسكرهم، و القاسم يصلّي، فركب، و قاتلهم الصّلت بن يوسف، فقتل في المعركة، و قام يأمر الناس يزيد بن/الفيض، فقاتلهم، حتى ارتفع النهار، ثم انهزم أهل صنعاء فأراد أبرهة بن الصبّاح اتّباعهم، فمنعه عبد اللّه بن يحيى، و اتّبع يزيد بن الفيض القاسم بن عمر، فأخبره الخبر فقال القاسم:
ألا ليت شعري هل أذودنّ بالقنا *** و بالهندوانيّات قبل مماتي(3)
و هل أصبحنّ الحارثين كليهما *** بطعن و ضرب يقطع اللهوات(4)
قال: و دخل عبد اللّه بن يحيى صنعاء، فأخذ الضّحاك بن زمل و إبراهيم بن جبلة بن مخرمة فحبسهما، و جمع الخزائن و الأموال، فأحرزها، ثم أرسل إلى الضحاك و إبراهيم، فأرسلهما، و قال لهما: حبستكما خوفا عليكما من العامة، و ليس عليكما مكروه، فأقيما إن شئتما أو اشخصا، فخرجا.
فلمّا استولى عبد اللّه بن يحيى على بلاد اليمن خطب الناس، فحمد اللّه جل و عزّ و أثنى عليه و صلّى على نبيه صلّى اللّه عليه و سلم، و وعظ، و ذكّر، و حذّر، ثم قال: إنّا ندعوكم إلى كتاب اللّه تعالى و سنة نبيه و إجابة من دعا إليهما: الإسلام ديننا، و محمد نبيّنا و الكعبة قبلتنا، و القرآن إمامنا، رضينا بالحلال حلالا لا نبغي به بديلا، و لا نشتري به ثمنا قليلا، و حرّمنا الحرام، و نبذناه وراء ظهورنا، و لا حول و لا قوة إلا باللّه، و إلى اللّه المشتكى، و عليه المعوّل. من زنى فهو كافر، و من سرق فهو كافر، و من شرب الخمر فهو كافر، و من شكّ في أنه كافر فهو كافر، ندعوكم إلى فرائض بيّنات، و آيات محكمات، و آثار مقتدى بها، و نشهد أن اللّه صادق فيما وعد؛ عدل فيما حكم/و ندعو إلى توحيد الربّ، و اليقين بالوعيد و الوعد، و أداء الفرائض، و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، و الولاية لأهل ولاية اللّه،
ص: 163
و العداوة لأعداء اللّه. أيها الناس إنّ من رحمة اللّه أن جعل في كلّ فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضلّ إلى الهدى، و يصبرون على الألم في جنب اللّه تعالى، يقتلون على الحق في سالف الدهور شهداء، فما نسيهم ربّهم، «و ما كان ربّك نسيّا». أوصيكم بتقوى اللّه، و حسن القيام على ما وكّلكم اللّه بالقيام به، فأبلوا للّه بلاء حسنا في أمره و زجره(1)، أقول قولي هذا، و أستغفر اللّه لي و لكم.
قالوا: و أقام عبد اللّه بن يحيى بصنعاء أشهرا، يحسن السّيرة فيهم و يلين جانبه لهم و يكفّ عن الناس، فكثر جمعه، و أتته الشّراة من كل جانب، فلما كان وقت الحجّ وجّه أبا حمزة المختار بن عوف، و بلج بن عقبة، و أبرهة بن الصّبّاح إلى مكة في تسعمائة، و قيل: بل في ألف و مائة، و أمره أن يقيم بمكة إذا صدر الناس، و يوجّه بلجا إلى الشام، و أقبل المختار إلى مكة، فقدمها يوم التّروية، و عليها عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، و أمه بنت عبد اللّه بن خالد بن أسيد، فكره قتالهم.
و حدّثنا من هذا الموضع بخبر أبي حمزة محمد بن جرير الطّبري، قال: حدّثنا العباس بن عيسى العقيلي(2)، قال: حدّثنا هارون بن موسى العواري، قال: حدّثنا موسى بن كثير مولى الساعديّين، قال:
كان أول أمر أبي/حمزة، و هو المختار بن عوف الأزدي ثم السّلميّ من أهل البصرة أنه كان يوافي في كلّ سنة يدعو إلى خلاف مروان بن محمد و آل مروان، فلم يزل يختلف كلّ سنة حتى وافى عبد اللّه بن يحيى في آخر سنة، و ذلك سنة ثمان و عشرين و مائة، فقال له: يا رجل، إني أسمع كلاما حسنا، و أراك تدعو إلى حق، فانطلق معي، فإني رجل مطاع في قومي، فخرج به، حتى ورد حضر موت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة، قال: و قد كان مرّ أبو حمزة بمعدن بني سليم، و كثير/بن عبد اللّه عامل على المعدن، فسمع بعض كلامه، فأمر به فجلد أربعين سوطا، فلما ظهر أبو حمزة بمكة تغيّب كثير حتى كان من أمره ما كان، ثم رجع إلى موضعه، قال: فلما كان في العام المقبل تمام سنة تسع و عشرين لم يعلم الناس بعرفة إلا و قد طلعت أعلام عمائم سود خرّميّة(3) في رءوس الرماح، و هم سبعمائة، هكذا قال: هذا.
و ذكر المدائني أنهم كانوا تسعمائة أو ألفا و مائة، ففزع الناس منهم حين رأوهم، و قالوا لهم: ما لكم؟ و ما حالكم؟ فأخبروهم بخلافهم مروان و آل مروان و التبرّي منهم.
فراسلهم عبد الواحد بن سليمان، و هو يومئذ على المدينة و مكة و الموسم، و دعاهم إلى الهدنة، فقالوا: نحن بحجّنا أضنّ و عليه أشحّ، فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض، حتى ينفر الناس النّفر الأخير، و أصبحوا من غد، فوقفوا على حدة بعرفة، و دفع عبد الواحد بالناس، فلما كانوا بمنى قالوا لعبد الواحد: إنك قد
ص: 164
أخطأت فيهم، و لو حملت عليهم الحجّ ما كانوا إلا أكلة رأس(1)، فنزل أبو حمزة بقرن الثّعالب من منى، و نزل عبد الواحد منزل السلطان، فبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد اللّه بن حسن بن حسن بن عليّ، عليهم السّلام، و محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، و عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر و عبيد اللّه بن عمرو بن حفص العمري، و ربيعة بن عبد الرحمن(2)، في رجال من أمثالهم، فلما دنوا من قرن الثعالب لقيتهم مسالح أبي حمزة، فأخذوهم، فدخل بهم على أبي حمزة، فوجدوه جالسا، و عليه إزار قطواني(3)، قد ربطه الحورة(4) في قفاه، فلما دنوا تقدّم إليه عبد اللّه بن حسن/و محمد بن عبد اللّه بن عمرو، فنسبهما، فلمّا انتسبا له عبس في وجهيهما و بسر، و أظهر الكراهة لهما.
ثم تقدم إليه بعدهما البكري و العمريّ فنسبهما، فلما انتسبا له هشّ إليهما، و تبسّم في وجوههما، و قال: و اللّه ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما، فقال له عبد اللّه بن حسن بن حسن: و اللّه ما جئناك لتفاضل بين آبائنا، و لكن بعثنا إليك الأمير برسالة، و هذا ربيعة يخبركها، فلما ذكر ربيعة نقض العهد، قال بلج و إبراهيم - و كانا قائدين له -:
الساعة الساعة، فأقبل عليهما أبو حمزة، و قال: معاذ اللّه أن نقض العهد أو نخيس به، و اللّه لا أفعل و لو قطعت رقبتي هذه، و لكن تنقضي هذه الهدنة بيننا و بينكم. فلما أبى عليهم خرجوا، فأبلغوا عبد الواحد.
فلما كان النّفر الأول نفر عبد الواحد، و خلّى مكة لأبي حمزة، فدخلها بغير قتال.
قال هارون: و أنشدني يعقوب بن طلحة الليثي أبياتا هجي بها عبد الواحد لشاعر لم نحفل به:
زار الحجيج عصابة قد خالفوا *** دين الإله ففرّ عبد الواحد
/ترك الإمارة و الحلائل هاربا *** و مضى يخبّط كالبعير الشارد
لو كان والده تخيّر أمّه *** لصفت خلائقه(5) بعرق الوالد(6) ترك القتال و ما به من علّة *** ألا الوهون و عرفة من خالد(7)
ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة، فدعا بالدّيوان، و ضرب على الناس البعث، و زادهم في العطاء عشرة عشرة.
قال هارون: أخبرني بذلك أبو ضمرة أنس بن عياض أنه كان فيمن اكتتب، قال: ثم محوت اسمي.
/قال هارون: و حدّثني غير واحد من أصحابنا أن عبد الواحد استعمل عبد العزيز بن عبد اللّه بن عمرو بن
ص: 165
عثمان على الناس، فخرجوا، فلما كانوا بالحرّة لقيتهم جزر منحورة، فمضوا، فلما كانوا بالعقيق تعلق لواؤهم بسمرة، فانكسر الرمح، و تشاءم الناس بالخروج، ثم ساروا، حتى نزلوا قديدا(1)، فنزلوها ليلا؛ و كانت قرية قديد من ناحية القصر و المنبر اليوم، و كانت الحياض هناك، فنزل قوم مغترّون ليسوا بأصحاب حرب، فلم يرعهم إلا القوم قد خرجوا عليهم من الفصل، فزعم بعض الناس أن خزاعة دلّت أبا حمزة على عورتهم؛ و أدخلوهم عليهم، فقتلوهم، و كانت المقتلة على قريش، و هم كانوا أكثر الناس، و فيهم كانت الشوكة، فأصيب منهم عدد كثير.
قال العباس: قال هارون: فأخبرني بعض أصحابنا:
أنّ رجلا من قريش نظر إلى رجل من أهل اليمن يقول: الحمد للّه الذي أقرّ عيني بمقتل قريش، فقال له ابنه:
الحمد للّه الذي أذلّهم بأيدينا، فما كانت قريش تظنّ أن من نزل على عمان من الأزد عربيّ، قال: و كان هذان الرجلان مع أهل المدينة، فقال القرشي لابنه: يا بني، هلمّ نبدأ بهذين الرجلين، قال: نعم يا أبت، فحملا عليهما، فقتلاهما، ثم قال لابنه: أي بنيّ تقدّم، فقاتلا. حتى قتلا.
و قال المدائني: القرشي كان عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير، و المتكلّم بالكلام مع ابنه رجل من الأنصار. قال: ثم ورد فلاّل(2) الجيش المدينة، و بكى الناس قتلاهم، فكانت المرأة تقيم على حميمها النّواح، فلا تزال المرأة يأتيها الخبر بمقتل حميمها، فتنصرف، حتى ما يبقى عندها امرأة، فأنشدني أبو حمزة(3) هذه الأبيات في قتلى قديد الذين أصيبوا من قومه لبعض أصحابه(4):
/
يا لهف نفسي و لهف غير نافعة *** على فوارس بالبطحاء أنجاد
عمرو و عمرو و عبد اللّه بينهما *** و ابناهما خامس و الحارث السادي(5)
قال المدائني في خبره: كتب عبد الواحد بن سليمان إلى مروان يعتذر من إخراجه عن مكة، فكتب مروان إلى عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز - و هو عامله على المدينة - يأمره بتوجيه الجيش إلى مكة، فوجّه ثمانية آلاف رجل من قريش و الأنصار و التجار، أغمار(6) لا علم لهم بالحرب، فخرجوا في الصّبغات و الثياب الناعمة و اللهو، لا يظنّون أن للخوارج شوكة و لا يشكون أنهم في أيديهم.
ص: 166
و قال رجل من قريش: لو شاء أهل الطائف لكفونا أمر هؤلاء، و لكنهم داهنوا في أمر اللّه تعالى، و اللّه إن ظفرنا لنسيرنّ إلى أهل الطائف، فلنسبينّهم، ثم قال: من يشتري مني سبي أهل الطائف؟ فلما انهزم الناس رجع ذلك الرجل القائل: من يشتري منّي سبي أهل الطائف في أول المنهزمين، فدخل منزله، /و أراد أن يقول لجاريته:
أغلقي الباب، فقال لها: غاق باق دهشا، و لم تفهم الجارية قوله، حتى أومأ إليها بيده، فأغلقت الباب، فلقّبه أهل المدينة بعد ذلك «غاق باق».
قال: و كان عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز يعرض الجيش بذي الحليفة، فمرّ به أميّة بن عنبسة بن سعيد بن العاص، فرحّب به، و ضحك إليه، و مرّ به عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير، فلم يكلّمه، و لم يلتفت إليه، فقال له عمران بن عبد اللّه بن مطيع - و كان ابن خالته، أمّا هما ابنتا عبد اللّه بن خالد بن أسيد -: سبحان اللّه! مر بك شيخ من شيوخ قريش، فلم تنظر إليه، و لم تكلّمه، و مرّ بك غلام من بني أمية، فضحكت إليه و لاطفته! أما و اللّه لو قد التقى الجمعان لعلمت أيّهما أصبر؟ قال: فكان أمية بن/عنبسة أوّل من انهزم، و نكّب فرسه و مضى، و قال لغلامه:
يا مجيب، أما و اللّه لئن أحزرت(1) نفسي هذه الأكلب من الشّراة إني لعاجز. و قاتل يومئذ عمارة بن حمزة بن مصعب، حتى قتل، و تمثّل:
و إني إذا ضنّ الأمير بإذنه *** على الأذن من نفسي إذا شئت قادر
و الشعر للأغرّ بن حمّاد اليشكري.
قال: و لما بلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه استخلف على مكة إبراهيم(2) بن الصبّاح، و شخص إليهم، و على مقدمته بلج بن عقبة، فلما كان في الليلة التي وافاهم في صبيحتها - و أهل المدينة نزول بقديد - قال لأصحابه: إنكم لاقو قومكم غدا، و أميرهم - فيما بلغني - ابن عثمان أول من خالف سيرة الخلفاء، و بدّل سنة رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلم - و قد وضح الصبح لذي عينين، فأكثروا ذكر اللّه تعالى، و تلاوة القرآن، و وطّنوا أنفسكم على الصّبر. و صبّحهم غداة الخميس لتسع أو لسبع خلون من صفر سنة ثلاثين و مائة، فقال عبد العزيز لغلامه: أبغنا علفا قال: هو غال، قال: ويحك! البواكي علينا غدا أغلى.
و أرسل إليهم أبو حمزة بلج بن عقبة؛ ليدعوهم، فأتاهم في ثلاثين راكبا، فذكّرهم اللّه؛ و سألهم أن يكفّوا عنهم؛ و قال(3) لهم: خلّوا لنا سبيلنا؛ لنسير إلى من ظلمكم؛ و جار في الحكم عليكم؛ و لا تجعلوا حدّنا بكم؛ فإنا لا نريد قتالكم؛ فشتمهم أهل المدينة، و قالوا: يا أعداء اللّه، أ نحن نخلّيكم و ندعكم تفسدون في الأرض! فقالت
ص: 167
الخوارج: يا أعداء اللّه، أ نحن نفسد في الأرض! إنما خرجنا لنكفّ أهل الفساد، و نقاتل من قاتلنا و استأثر بالفيء فانظروا لأنفسكم، و اخلعوا من لم يجعل اللّه له طاعة، فإنه/لا طاعة لمن عصى اللّه، و ادخلوا في السّلم، و عاونوا أهل الحقّ، فقال له(1) عبد العزيز: ما تقول في عثمان؟ قال: قد برئ المسلمون منه قبلي، و أنا متّبع آثارهم، و مقتد بهم، قال: فارجع إلى أصحابك، فليس بيننا و بينهم إلا السيف.
فرجع إلى أبي حمزة، فأخبره، فقال: كفّوا عنهم، و لا تقاتلوهم. حتى يبدءوكم بالقتال، فواقفوهم، و لم يقاتلوهم. فرمى رجل من أهل المدينة في عسكر أبي حمزة بسهم، فجرح رجلا، فقال أبو حمزة: شأنكم الآن بهم، فقد حلّ قتالهم: فحملوا عليهم، و ثبت بعضهم لبعض، و راية قريش مع إبراهيم بن عبد اللّه بن مطيع.
ثم انكشف أهل المدينة، فلم يتبعوهم، و كان على مجنّبتهم ضمير بن صخر بن أبي الجهم بن حذيفة، فكرّ و كرّ الناس معه، فقاتلوا قليلا، ثم انهزموا، فلم يبعدوا. حتى كرّوا ثالثة، و قاتلهم أبو حمزة، فهزمهم هزيمة/لم تبق منهم باقية، فقال له عليّ بن الحصين: أتبع القوم، أو دعني أتبعهم، فأقبل المدبر، و أذفّف(2) على الجريح، فإن هؤلاء أشرّ علينا من أهل الشام، فلو قد جاءوك غدا لرأيت من هؤلاء ما تكره، فقال: لا أفعل، و لا أخالف سيرة أسلافنا. و أخذ جماعة منهم أسراء، فأراد إطلاقهم، فمنعه عليّ بن الحصين، و قال له: إنّ لأهل كلّ زمان سيرة، و هؤلاء لم يؤسروا و هم هرّاب، و إنما أسروا و هم يقاتلون، و لو قتلوا في ذلك الوقت لم يحرم قتلهم، و كذلك الآن قتلهم حلال، فدعا بهم، فكان إذا رأى رجلا من قريش قتله، و إذا رأى رجلا من الأنصار أطلقه، فأتي بمحمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، فنسبه. فقال: أنا رجل من الأنصار، فسأل الأنصار عنه، فشهدوا له، فأطلقه، فلما ولّى قال: و اللّه إني لأعلم أنه قرشيّ و ما حذاوه(3) هذا حذاوة أنصاريّ، و لكن قد أطلقته. /قال: و بلغت قتلى قديد ألفين و مائتين و ثلاثين رجلا، منهم من قريش أربعمائة و خمسون رجلا، و من الأنصار ثمانون، و من القبائل و الموالي ألف و سبعمائة، قال: و كان في قتلى قريش من بني أسد بن عبد العزّى أربعون رجلا، و قتل يومئذ أمية بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، خرج يومئذ مقنّعا، فما كلّم أحدا، و قاتل حتى قتل، و قتل يومئذ سمي مولى أبي بكر الذي يروي عنه مالك بن أنس، و دخل بلج المدينة بغير حرب، فدخلوا في طاعته، و كف عنهم، و رجع أبو حمزة إلى مكة، و كان على شرطته أبو بكر بن عبد اللّه بن عمرو من آل سراقة من بني عديّ، فكان أهل المدينة يقولون: لعن اللّه السّراقيّ، و لعن بلجا العراقي.
و قالت نائحة أهل المدينة تبكيهم:
ما للزمان و ماليه *** أفنت قديد رجاليه
فلأبكينّ سريرة *** و لأبكينّ علانيه
ص: 168
و لأبكينّ إذا خلو *** ت مع الكلاب العاويه
و لأثنينّ على قدي *** د بسوء ما أبلانيه
في هذه الأبيات هزج قديم يشبه أن يكون لطويس أو بعض طبقته.
و قال عمرو بن الحسن(1) الكوفيّ مولى بني تميم يذكر وقعة قديد و أمر مكة و دخولهم إياها، و أنشدنيها الأخفش عن السّكريّ و الأحول و ثعلب لعمر و هذا، و كان يستجيدها و يفضّلها:
ما بال همّك ليس عنك بعازب *** يمري سوابق دمعك المتساكب
و تبيت تكتلئ النجوم بمقلة *** عبري تسرّ بكلّ نجم دائب
/حذر المنية أن تجيء بداهة *** لم أقض من تبع الشّراة مآربي
فأقود فيهم للعدا شنج النّسا *** عبل الشّوى أسوان ضمر الحالب(2)
متحدّرا كالسيّد أخلص لونه *** ماء الحسيك مع الحلال اللاتب(3)
أرمي به من جمع قومي معشرا *** بورا إلى جبريّة و معايب(4)
في فتية صبر ألّفهم به *** لفّ القداح يد المفيض الضارب(5)
فندور نحن و هم و فيما بيننا *** كأس المنون تقول: هل من شارب؟
/فنظلّ نسقيهم و نشرب من قنا *** سمر و مرهفة النّصول قواضب
بينا كذلك نحن جالت طعنة *** نجلاء بين رها و بين ترائب(6)
جوفاء منهرة ترى تامورها *** ظبتا سنان كالشّهاب الثاقب(7)
أهوي لها شقّ الشّمال كأنني *** حفض لقى تحت العجاج العاصب
يا رب أوحيها و لا تتعلّقن *** نفسي المنون لدى أكفّ قرائب(8)
كم من أولى مقة صحبتهم شروا *** فخذلتهم و لبئس فعل الصاحب
متأوّهين كأنّ في أجوافهم *** نارا تسعّرها أكفّ حواطب
ص: 169
تلقاهم فتراهم من راكع *** أو ساجد متضرّع أو ناحب
/يتلو قوارع تمتري عبراته *** فيجودها مري المريّ الحالب
سير الجائفة الأمور أطبّة *** للصّدع ذي النبأ الجليل مدائب(1)
و مبرّئين من المعايب أحرزوا *** خصل المكارم أتقياء أطائب
عرّوا صوارم للجلاد و باشروا *** حدّ الظباة بأنف و حواجب
ناطوا أمورهم بأمر أخ لهم *** فرمى بهم قحم الطريق اللاحب(2)
متربلي حلق الحديد كأنهم *** أسد على لحق البطون سلاهب(3)
قيدت من أعلى حضرموت فلم تزل *** تنفي عداها جانبا عن جانب
تحمي أعنّتها و تحوي نهبها *** للّه أكرم فتية و أسائب(4)
حتى وردن حياض مكة قطّنا *** يحكين واردة اليمام القارب(5)
ما إن أتين على أحي حبرية *** إلا تركنهم كأمر الذاهب
في كلّ معترك لها من هامهم *** فلق و أيد علّقت بمناكب
سائل بيوم قديد عن وقعاتها *** تخبرك عن وقعاتها بعجائب
و قال هارون بن موسى في رواية محمد بن جرير الطبري عن العباس بن عيسى عنه:
/ثم دخل أبو حمزة المدينة سنة ثلاثين و مائة، و مضى عبد الواحد بن سليمان إلى الشام، فرقي(6) المنبر، فحمد اللّه، و أثنى عليه. و قال:
يا أهل المدينة، سألناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم - لعمر اللّه - فيهم القول، و سألناكم: هل يقتلون بالظّن؟ فقلتم: نعم، و سألناكم: هل يستحلّون المال الحرام و الفرج الحرام؟ فقلتم: نعم، فقلنا لكم: تعالوا نحن و أنتم، فنناشدهم اللّه أن يتنحّوا عنّا و عنكم، ليختار المسلمون لأنفسهم؛ فقلتم: لا تفعلون، فقلنا لكم: تعالوا نحن و أنتم نلقاهم، فإن نظهر نحن و أنتم نأت بمن يقيم فينا كتاب اللّه و سنة نبيه، و إن نظفر نعمل في أحكامكم، و تحملكم على سنة نبيكم، و نقسم فيئكم بينكم، فإن أبيتم(7)، و قاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم، فأبعدكم اللّه، و أسحقكم يا أهل
ص: 170
المدينة، مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك، و قد أصابتكم عاهة في ثماركم فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم، فكتب بوضعها عنكم، فزاد الغنيّ غنى، و زاد الفقير فقرا، فقلتم: جزاكم الله خيرا، فلا جزاه اللّه خيرا، /و لا جزاكم.
قال هارون: و أخبرني يحيى بن زكريا: أن أبا حمزة خطب بهذه الخطبة: رقي المنبر، فحمد اللّه، و أثنى عليه، و قال: أ تعلمون يا أهل المدينة، أنّا لم نخرج من ديارنا و أموالنا أشرا و لا بطرا و لا عبثا و لا لهوا، و لا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، و لا ثأر قديم نيل منا، و لكنّا لمّا رأينا مصابيح الحقّ قد عطّلت، و عنّف القائل بالحق، و قتل القائم بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت، و سمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن و حكم القرآن، فأجبنا داعي اللّه (وَ مَنْ لاٰ يُجِبْ دٰاعِيَ اللّٰهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) (1) فأقبلنا من قبائل شتّى، النفر منا على بعير واحد، عليه زادهم و أنفسهم، يتعاورون لحافا/واحدا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا اللّه، و أيّدنا بنصره، و أصبحنا - و اللّه - بنعمته إخوانا، ثم لقينا رجالكم بقديد، فدعونا إلى طاعة الرحمن، و حكم القرآن و دعونا إلى طاعة الشيطان، و حكم مروان، و آل مروان، شتّان - لعمر اللّه - ما بين الغيّ و الرّشد، ثم أقبلوا يهرعون، و يزفّون، قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه، و غلت بدمائهم مراجله، و صدق عليهم ظنّه، و أقبل أنصار اللّه عصائب و كتائب بكل مهنّد ذي رونق، فدارت رحانا و استدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون. و أنتم يا أهل المدينة، إن تنصروا مروان و آل مروان يسحتكم اللّه بعذاب من عنده أو بأيدينا و يشف صدور قوم مؤمنين، يا أهل المدينة: إن أوّلكم خير أوّل، و آخركم شرّ آخر، يا أهل المدينة، الناس منا و نحن منهم إلا مشركا عابد وثن، أو كافرا من أهل الكتاب، أو إماما جائرا، يا أهل المدينة، من زعم أن اللّه تعالى كلّف نفسا فوق طاقتها، أو سألها عمّا لم يؤتها فهو للّه عدوّ، و لنا حرب. يا أهل المدينة، أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها اللّه تعالى في كتابه على القويّ للضّعيف فجاء التاسع، و ليس له منها و لا سهم واحد، فأخذ جميعها(2) نفسه مكابرا محاربا لربّه، ما تقولون فيه و فيمن عاونه على فعله؟ يا أهل المدينة، بلغني أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم: هم شباب أحداث، و أعراب جفاة، ويحكم يا أهل المدينة! و هل كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، إلا شبابا أحداثا! شباب و اللّه مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشرّ أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا، قد خلطوا كلالهم بكلالهم، و قيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلّما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار؛ و إذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة، فلما نظروا إلى السيوف قد أنضيت؛ و إلى الرماح قد أشرعت و إلى السهام قد فوّقت؛ /و أرعدت الكتيبة بصواعق الموت استخفّوا و عيد الكتيبة عند وعيد اللّه، و لم يستخفّوا وعيد اللّه عند وعيد الكتيبة؛ فطوبى لهم و حسن مآب! فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية اللّه، و كم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا و ساجدا. أقول قولي هذا، و أستغفر اللّه من تقصيرنا، و ما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت و إليه أنيب.
ص: 171
قال هارون: و حدّثني جدّي أبو علقمة، قال: سمعت أبا حمزة على منبر النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقول: / «من زنى فهو كافر»، و من سرق فهو كافر، و من شك أنه كافر فهو كافر:
برح الخفاء فأين ما بك يذهب
قال هارون: قال جدّي: كان أبو حمزة قد أحسن السيرة في أهل المدينة، حتى استمال الناس، و سمع بعضهم كلامه في قوله: من زنى فهو كافر، قال هارون: قال جدي:
و سمعت أبا حمزة يخطب بالمدينة، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال: يا أهل المدينة؛ ما لي رأيت رسم الدين فيكم عافيا(1)، و آثاره دارسة! لا تقبلون عليه عظة، و لا تفقهون من أهله حجّة، قد بليت فيكم جدّته، و انطمست عنكم سنّته، ترون معروفه منكرا، و المنكر من غير معروفا، إذا انكشفت لكم العبر، و أوضحت لكم النّذر، عميت عنها أبصاركم، و صمّت عنها أسماعكم، ساهين في غمرة، لاهين في غفلة، تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر، و تنقبض عن الحق إذا ذكر، مستوحشة من العلم، مستأنسة بالجهل، كلما وقعت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا، تحملون منها في صدوركم كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة، أ و لم تلن لكتاب اللّه الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية اللّه! يا أهل المدينة، ما تغني عنكم صحّة أبدانكم/إذا سقمت قلوبكم إن اللّه قد جعل لكل شيء غالبا يقاد له، و يطيع أمره، و جعل القلوب غالبة على الأبدان، فإذا مالت القلوب ميلا كانت الأبدان لها تبعا، و إنّ القلوب لا تلين لأهلها إلا بصحّتها، و لا يصحّحها إلا المعرفة باللّه، و قوّة النّية، و نفاذ البصيرة. و لو استشعرت تقوى اللّه قلوبكم لاستعملت بطاعة اللّه أبدانكم. يا أهل المدينة، داركم دار الهجرة، و مثوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، لمّا نبت به داره، و ضاق به قراره، و آذاه الأعداء، و تجهّمت له، فنقله إلى قوم - لعمري لم يكونوا أمثالكم - متوازرين مع الحقّ على الباطل، و مختارين للآجل على العاجل، يصبرون للضّرّاء رجاء ثوابها، فنصروا اللّه، و جاهدوا في سبيله، و آووا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و نصروه، و اتّبعوا النور الذي أنزل معه، و آثروا اللّه على أنفسهم و لو كانت بهم خصاصة، قال اللّه تعالى لهم و لأمثالهم و لمن اهتدى بهداهم: (وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) * (2)و أنتم أبناؤهم، و من بقي من خلفهم، تتركون أن تقتدوا بهم، أو تأخذوا بسنّتهم، عمي القلوب، صمّ الآذان، اتّبعتم الهوى، فأرداكم عن الهدى و أسهاكم، فلا مواعظ القرآن تزجركم فتزدجروا، و لا تعظكم فتعتبروا، و لا توقظكم فتستيقظوا، لبئس الخلف أنتم! من قوم مضوا قبلكم، ما سرتم بسيرتهم، و لا حفظتم وصيتهم، و لا احتذيتم مثالهم، لو شقت عنم قبورهم، فعرضت عليهم أعمالكم لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم. قال: ثم لعن أقواما.
قال هارون: و حدّثني داود بن عبد اللّه بن أبي الكرام، و أخرج إليّ خط بن فضالة النحوي بهذا الخبر:
ص: 172
أنا أبا حمزة بلغه أن أهل المدينة يعيبون أصحابه لحداثة أسنانهم، و خفّة أحلامهم، فبلغه ذلك عنهم؛ فصعد المنبر؛ و عليه كساء غليظ؛ و هو متنكّب قوسا عربية فحمد اللّه، و أثنى عليه و صلّى على نبيه صلّى اللّه عليه و سلم و آله، ثم قال:
يا أهل المدينة، قد بلغتني مقالتكم في أصحابي، و لو لا معرفتي بضعف رأيكم/و قلّة عقولكم لأحسنت أدبكم، ويحكم! /إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنزل عليه الكتاب، و بيّن له فيه السّنن، و شرع له فيه الشرائع، و بيّن له فيه ما يأتي و ما يذر، فلم يكن يتقدّم إلا بأمر اللّه، و لا يحجم إلا عن أمر اللّه، حتى قبضه اللّه إليه - صلّى اللّه عليه و سلم - و قد أدّى الذي عليه، لم يدعكم من أمركم في شبهة، ثم قام من بعده أبو بكر؛ فأخذ بسنّته، و قاتل أهل الرّدّة؛ و شمّر في أمر اللّه؛ حتى قبضه اللّه إليه و الأمة عنه راضون، رحمة اللّه عليه و مغفرته؛ ثم ولي بعده عمر؛ فأخذ بسنة صاحبيه، و جنّد الأجناد؛ و مصّر الأمصار؛ و جبي الفيء؛ فقسّمه بين أهله؛ فقسّمه بين أهله؛ و شمّر عن ساقه، و حسر عن ذراعه، و ضرب في الخمر ثمانين، و قام في شهر رمضان، و غزا العدوّ في بلادهم؛ و فتح المدائن و الحصون؛ حتى قبضه اللّه إليه و الأمة عنه راضون، رحمة اللّه عليه و رضوانه و مغفرته، ثم ولي من بعده عثمان بن عفان فعمل في ستّ سنين بسنّة صاحبيه؛ ثم أحدث أحداثا أبطل آخر منها أولا، و اضطرب حبل الدين بعدها، فطلبها كلّ امرئ لنفسه، و أسرّ كلّ رجل منهم سريرة أبداها اللّه عنه؛ حتى مضوا على ذلك، ثم ولي عليّ بن أبي طالب، فلم يبلغ من الحق قصدا؛ و لم يرفع له منارا و مضى؛ ثم ولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ابن لعينه، و حلف من الأعراب، و بقية من الأحزاب، مؤلّف طليق، فسفك الدم الحرام، و اتّخذ عباد اللّه حولا، و مال اللّه دولا، و بغى دينه عوجا و دغلا(1)، و أحلّ الفرج الحرام، و عمل بما يشتهيه؛ حتى مضى لسبيله، فعل اللّه به و فعل، ثم ولى بعده ابنه يزيد: يزيد الخمور، و يزيد الصّقور، و يزيد الفهود، و يزيد الصّيود، و يزيد القرود، فخالف القرآن، و اتّبع الكهّان، و نادم القرد، و عمل بما يشتهيه حتى مضى على ذلك لعنه اللّه، و فعل به و فعل، ثم ولي مروان بن الحكم طريد لعين رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلم/و آله - و ابن لعينه؛ فاسق في بطنه و فرجه، فالعنوه و العنوا آباءه. ثم تداولها بنو مروان بعده؛ أهل بيت اللعنة، طرداء رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلم - و قوم من الطلقاء ليسوا من المهاجرين و الأنصار و لا التابعين لهم بإحسان، فأكلوا مال اللّه أكلا، و لعبوا بدين اللّه لعبا، و اتّخذوا عباد اللّه عبيدا، يورّث ذلك الأكبر منهم الأصغر. فيا لها أمة، ما أضيعها و أضعفها! و الحمد للّه ربّ العالمين، ثم مضوا على ذلك من أعمالهم و استخفافهم بكتاب اللّه تعالى؛ قد نبذوه وراء ظهورهم، لعنهم اللّه؛ فالعنوهم كما يستحقّون؛ و قد ولي منهم عمر بن عبد العزيز؛ فبلغ؛ و لم يكد؛ و عجز عن الذي أظهره، حتى مضى لسبيله - و لم يذكره بخير و لا شرّ(2) - ثم ولي يزيد بن عبد الملك، غلام ضعيف سفيه غير مأمون على شيء من أمور المسلمين، لم يبلغ أشدّه، و لم يؤانس رشده، و قد قال اللّه عزّ و جلّ: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ) (3) فأمر أمة محمد في أحكامها و فروجها و دمائهم أعظم من ذلك كلّه، و إن كان ذلك عند اللّه عظيما، مأبون في بطنه و فرجه، يشرب الحرام، و يأكل الحرام، و يلبس الحرام، و يلبس بردتين قد حيكتا له، و قوّمتا على أهلهما بألف دينار و أكثر و أقلّ، قد أخذت من غير حلّها و صرفت في غير وجهها، بعد أن ضربت فيها الأبشار(4)، و حلقت فيها الأشعار، و استحلّ ما لم يحلّ اللّه/لعبد صالح، و لا لنبي مرسل، ثم يجلس
ص: 173
حبابة عن يمينه، و سلامة عن شماله تعنّيانه بمزامير الشّيطان، و يشرب الخمر الصّراح المحرمة نصّا بعينها، حتى إذا أخذت مأخذها فيه، و خالطت روحه و لحمه و دمه، و غلبت سورتها على عقله مزّق حلّتيه(1)، ثم التفت إليهما فقال:
أ تأذنان لي أن أطير؟ نعم، فطر إلى النار، إلى لعنة اللّه و ناره حيث لا يردّك اللّه.
ثم ذكر بني أمية و أعمالهم و سيرهم فقال: أصابوا إمرة ضائعة و قوما طغاما جهّالا، لا يقومون للّه بحق، و لا يفرّقون بين الضلالة و الهدى، و يرون أن بني أمية/أرباب لهم، فملكوا الأمر، و تسلّطوا فيه تسلّط ربوبية، بطشهم بطش الجبابرة، يحكمون بالهوى، و يقتلون على الغضب، و يأخذون بالظنّ، و يعطّلون الحدود بالشفاعات، و يؤمّنون الخونة و يقصون ذوي الأمانة، و يأخذون الصدقة في غير وقتها على غير فرضها، و يضعونها في غير موضعها، فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل اللّه، فالعنوهم، لعنهم اللّه! و أما إخواننا من هذه الشيعة فليسوا بإخواننا في الدين، لكن سمعت اللّه عزّ و جلّ قال في كتابه: (يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا) (2) شيعة ظاهرت بكتاب اللّه، و أعلنت الفرية على اللّه لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن، و لا عقل بالغ في الفقه، و لا تفتيش عن حقيقة الصّواب، قد قلّدوا أمرهم أهواءهم، و جعلوا دينهم عصبيّة لحزب لزموه، و أطاعوه في جميع ما يقوله لهم، غيّا كان أو رشدا، أو ضلالة أو هدى، ينتظرون الدّول في رجعة الموتى، و يؤمنون بالبعث قبل الساعة، و يدّعون علم الغيب لمخلوق(3)، لا يعلم أحدهم ما في داخل بيته، بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه أو يحويه جسمه، ينقمون المعاصي على أهلها، و يعلمون إذا ظهروا بها، و لا يعرفون المخرج منها، جفاة في الدين، قليلة عقولهم، قد قلّدوا أهل بيت من العرب دينهم، و زعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة، و تنجيهم من عقاب الأعمال السيئة (قٰاتَلَهُمُ اللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ) * (4)فأيّ هؤلاء الفرق يا أهل المدينة تتبعون؟ أو بأيّ مذاهبهم تقتدون؟ و قد بلغني مقالتكم في أصحابي، و ما عبتموه من حداثة أسنانهم، ويحكم! و هل كان أصحاب رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلم و آله - المذكورون في الخير إلا أحداثا شبابا؟ شباب و اللّه مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشرّ أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة(5) قد /نظر اللّه إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مرّ أحدهم بآية من ذكر اللّه(6) بكى شوقا، و كلما مرّ بآية من ذكر اللّه شهق خوفا، كأن زفير جهنم بين أذنيه، قد أكلت الأرض جباههم و ركبهم، و وصلوا كلال الليل بكلال النهار مصفرّة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من طول القيام و كثرة الصيام، أنضاء عبادة، موفون لعهد اللّه، منتجزون لوعد اللّه، قد شروا أنفسهم، حتى إذا التقت الكتيبتان و أبرقت سيوفها و فوّقت(7) سهامها، و أشرعت رماحها لقوا شبا الأسنّة، و شائك السهام، و ظباة السيوف بنحورهم و وجوههم و صدورهم، فمضى الشابّ منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، و اختضبت محاسن وجهه بالدماء، /و عفّر جبينه بالثّرى، و انحطّت عليه الطير
ص: 174
من السماء، و تمزقته سباع الأرض، فكم من عين في منقار طائر، طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف اللّه! و كم من وجه رقيق و جبين عتيق قد فلق بعمد الحديد. ثم بكى و قال: آه آه على فراق الإخوان! رحمة اللّه على تلك الأبدان، و أدخل اللّه أرواحهم الجنان.
قال هارون: بلغني أنه بايعه بالمدينة ناس منهم إنسان هذليّ، و إنسان سراقي و سكسب(1) الذي كان معلم النحو، ثم خرج، و خلّف بالمدينة بعض أصحابه، فسار حتى نزل الوادي، و كان مروان قد بعث ابن عطية.
قال هارون: حدّثني أبو يحيى الزّهري أن مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف استعمل عليهم ابن عطية، فأمره بالجدّ في السير، و أعطى كلّ رجل من أصحابه مائة دينار، و فرسا عربيّا، و بغلا لثقله، و أمره أن يمضي، فيقاتلهم.
و قال المدائني: بعث عبد الملك بن عطية السعدي، أحد بني سعد بن بكر في أربعة آلاف، معه فرسان من أهل الشام و وجوههم، منهم شعيب البارقي، و رومي بن عامر/المرّي، و قيل: بل هو كلابيّ، و فيهم ألف من أهل الجزيرة، و شرطوا على مروان أنهم إذا قتلوا عبد اللّه بن يحيى و أصحابه، رجعوا إلى الجزيرة، و لم يقيموا بالحجاز، فأجابهم إلى ذلك؛ قالوا: فخرج؛ حتى إذا نزل بالمعلّى. فكان رجل من أهل المدينة يقال له: العلاء بن أفلح مولى أبي الغيث يقول:
لقيني و أنا غلام في ذلك اليوم رجل من أصحاب ابن عطية؛ فسألني: ما اسمك يا غلام؟ فقلت: العلاء، فقال: ابن من؟ فقلت: ابن أفلح، قال: أعرابيّ أم مولى؟ قلت: بل مولى، قال: مولى من؟ قلت: مولى أبي الغيث، قال: فأين نحن؟ قلت: بالمعلّى، قال: فأين نحن غدا؟ قلت: بغالب، قال: فما كلّمني، حتى أردفني خلفه، ثم مضى بي، حتى أدخلني على ابن عطية، فقال: سل هذا الغلام: ما اسمه؟ فسألني، فرددت عليه القول الذي قلت، فسرّ بذلك؛ و وهب لي دراهم.
و قال أبو صخر الهذليّ حين بلغه قدوم ابن عطية:
قل للذين استضعفوا لا تعجلوا *** أتاكم النصر و جيش جحفل
عشرون ألفا كلّهم مسربل *** يقدمهم جلد القوى مستبسل
دونكم ذا يمن فأقبلوا *** و واجهوا القوم و لا تستخجلوا(2)
عبد المليك القلّبيّ الحوّل *** أقسم لا يفلى و لا يرجّل
ص: 175
حتى يبيد الأعور المضلّل *** و يقتل الصّباح و المفضّل
الأعور عبد اللّه بن يحيى رئيسهم.
قال المدائني عن رجاله: و بعث أبو حمزة بلج بن عقبة في ستمائة رجل ليقاتل عبد الملك بن عطية، فلقيه بوادي القرى لأيام خلت من جمادي الأولى سنة ثلاثين و مائة فتواقفوا، و دعاهم بلج إلى الكتاب و السنة، و ذكر بني أمية و ظلمهم، فشتمهم أهل/الشام، و قالوا: أنتم يا أعداء اللّه أحقّ بهذا ممن ذكرتم و قلتم، فحمل عليهم بلج و أصحابه، فانكشف طائفة من أهل الشام، و ثبت ابن عطية في(1) عصبة صبروا معه، و نادى يا أهل الشام يا أهل(1)الحفاظ ناضلوا عن دينكم و أميركم، فكرّوا، و صبروا صبرا حسنا، و قاتلوا قتالا شديدا، فقتل بلج و أكثر أصحابه، و انحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل اعتصموا به، فقاتلهم ابن عطية ثلاثة/أيام فقتل منهم سبعين رجلا و نجا ثلاثون، فرجعوا إلى أبي حمزة، و نصب ابن عطية رأس بلج على رمح، قال: و اغتمّ الذين رجعوا إلى أبي حمزة من وادي القرى إلى المدينة، و هم الثلاثون، و رجعوا و جزعوا من انهزامهم، و قالوا: ما فررنا من الزّحف، فقال لهم أبو حمزة: لا تجزعوا، فأنا لكم فئة و إليّ انصرفتم.
قال المدائني: و خرج أبو حمزة من المدينة إلى مكة، و استخلف رجلا يقال له: المفضّل عليها، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن أسيد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطاب الناس إلى قتالهم، فلم يجد كبير أمر؛ لأن القتل قد كان شاع في الناس، و خرج وجوه أهل البلد عنه؛ فاجتمع إلى عمر البربر و الزّنج و أهل السوق و العبيد، فقاتل بهم الشّراة؛ فقتل المفضّل و عامّة أصحابه؛ و هرب الباقون؛ فلم يبق في المدينة منهم أحد؛ فقال في ذلك سهيل أبو البيضاء مولى زينب بنت الحكم بن العاصى:
ليت مروان رآنا *** يوم الاثنين عشيّه
إذ غسلنا العار عنّا *** و انتضينا المشرفيّة
قال: فلما قدم ابن عطية المدينة أتاه عمر بن عبد الرحمن بن أسيد؛ فقال له: أصلحك اللّه! إنّي جمعت قضّي و قضيضي(2)؛ فقاتلت هؤلاء؛ فقتلنا من امتنع من الخروج عن المدينة و أخرجنا الباقين، فلقيه أهل المدينة بقضّهم و قضيضهم.
قال: و أقام ابن عطية بالمدينة شهرا؛ و أبو حمزة مقيم بمكة؛ ثم توجّه إليه فقال له عليّ بن حصين العنبريّ:
إني قد كنت أشرت عليك يوم قديد و قبله أن تقتل هؤلاء الأسرى كلهم، فلم تفعل، و عرّفتك أنهم سيغدرون فلم تقبل؛ حتى قتلوا المفضّل و أصحابنا المقيمين بالمدينة؛ و أنا أشير عليك اليوم أن تضع السيف في هؤلاء؛ فإنهم كفرة
ص: 176
فجرة؛ و لو قدم عليك ابن عطية لكانوا أشدّ عليك منه؛ فقال: لا أرى ذلك؛ لأنهم قد دخلوا في الطاعة؛ و أقروا بالحكم؛ و وجب لهم حقّ الولاية؛ قال: إنهم سيغدرون؛ فقال: أبعدهم اللّه، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ) (1). قال: و قدم عبد الملك بن عطية مكة، فصيّر أصحابه فرقتين، و لقي الخوارج من وجهين؛ فصيّر طائفة بالأبطح؛ و صار هو في الطائفة الأخرى بإزاء أبي حمزة؛ فصار أبو حمزة أسفل مكة؛ و صيّر أبرهة بن الصّباح بالأبطح في ثمانين فارسا، فقاتلهم أبرهة؛ فانهزم أهل الشام إلى عقبة مني؛ فوقفوا عليها؛ ثم كرّوا؛ و قاتلهم؛ فقتل أبرهة: كمن له هبّار القرشيّ؛ و هو على جبل دمشق عند بئر ميمون؛ فقتله؛ و تفرق الخوارج؛ و تبعهم أهل الشام يقتلونهم؛ حتى دخلوا المسجد، و التقى أبو حمزة و ابن عطية بأسفل مكة؛ فخرج أهل مكة مع ابن عطية؛ فقتل أبو حمزة على فم الشّعب و قتلت معه امرأته؛ و هي ترتجز و تقول:
أنا الجعيداء و بنت الأعلم *** من سال عن اسمي فاسمي مريم
بعت سواريّ بسيف مخذم(2)
قال: و تفرّقت الخوارج فأسر أهل الشام منهم أربعمائة؛ فدعا بهم ابن عطية؛ فقال: ويلكم! ما دعاكم إلى الخروج مع هذا؟ قالوا: ضمن لنا الكنّة: يريدون الجنّة، و هي لغتهم، فقتلهم، و صلب أبا حمزة و أبرهة بن الصبّاح و رجلين من أصحابهم على فم/الشّعب؛ شعب/الخيف، و دخل علي بن الحصين دارا من دور قريش، فأحدق أهل الشام بالدار فأحرقوها، فلما رأى ذلك رمى بنفسه من الدار، فقاتلهم و أسر فقتل، و صلب مع أبي حمزة، و لم يزالوا مصلّبين حتى أفضى الأمر إلى بني العباس، و حجّ مهلهل الهجيميّ في خلافة أبي العباس، فأنزل أبا حمزة ليلا، فدفنه، و دفن خشبته.
قال المدائني: و كان بمكة مخنّثان، يقال لأحدهما: سبكت، و للآخر: صقرة(3)، فكان صقرة يرجف بأهل الشام، و كان سبكت يرجف بالإباضية، فعرف الخوارج أمرهما، فوجهوا إلى سبكت، فأخذوه فقتلوه، فقال صقرة:
يا ويله هو و اللّه أيضا مقتول، و إنما كنت أنا و سبكت نتكايد و نتكاذب، فقتلوه، و غدا يجيء أهل الشام، فيقتلونني، فلما دخل ابن عطية مكة عرف خبرهما، فأخذ صقرة، فقتله.
و قال هارون في خبره: أخبرني عبد الملك بن الماجشون، قال:
لما التقى أبو حمزة و ابن عطية قال أبو حمزة: لا تقاتلوهم حتى تختبروهم فصاح بهم: ما تقولون في القرآن و العمل به؟ فصاح ابن عطية: نضمه في جوف الجوالق(4)، قال: فما تقولون في مال اليتيم؟ قال: نأكل ماله؛
ص: 177
و نفجر بأمّه، [ثم أجاب](1) في أشياء بلغني أنه سأله عنها؛ فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم؛ حتى أمسوا؛ فصاحت الشّراة: ويحك، يا ابن عطية! إن اللّه - جل و عز - قد جعل الليل سكنا؛ فاسكن و نسكن؛ فأبى و قاتلهم؛ حتى قتلهم جميعا.
قال هارون: أخبرني موسى بن كثير أن أبا حمزة خطب أهل المدينة؛ و ودّعهم؛ ليخرج إلى الحرب؛ فقال:
يا أهل المدينة؛ إنا خارجون لحرب مروان؛ فإن نظهر/نعدل في أحكامكم؛ و نحملكم على سنّة نبيكم، و نقسم بينكم، و إن يكن ما تمنّون لنا فسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، قال: و وثب الناس على أصحابه حين جاءهم قتله، فقتلوهم، فكان بشكست ممن قتلوا، طلبوه فرقي في درجة كانت في دار أذينة، فلحقوه فأنزلوه منها، و هو يصيح: يا عباد اللّه، فيم تقتلونني؟ قال: و أنشدني بعض أصحابنا:
لقد كان بشكست عبد العزيز *** من أهل القراءة و المسجد
فبعدا لبشكست عبد العزيز *** و أمّا القرآن فلا يبعد
قال هارون: و أخبرني بعض أصحابنا أنه رأى رجلا واقفا على سطح يرمي بالحجارة فقيل: ويلك! أ تدري من ترمي مع اختلاط الناس؟ قال: و اللّه ما أبالي من رميت؟ إنما هو شام و شار، و اللّه ما أبالي أيّهما قتلت!
و قال المدائني: لما قتل ابن عطية أبا حمزة بعث برأسه مع عروة بن زيد بن عطية إلى مروان، و خرج إلى الطائف، فأقام بها شهرين، و تزوج بنت محمد بن عبد اللّه بن أبي سويد الثقفي؛ و استعمل على مكة روميّ بن عامر المرّي، و أتى فلّ أبي حمزة إلى عبد اللّه بن يحيى بصنعاء. فأقبل معه أصحابه. - و قد لقبوه طالب الحق - يريد قتال ابن عطية، و بلغ ابن عطية خبره، فشخص إليه، فالتقوا بكسة(2)، فأكثر أهل الشام القتل فيهم، و أخذوا أثقالهم و أموالهم، و تشاغلوا بالنّهب، فركب عبد اللّه بن يحيى فكشفهم، فقتل منهم نحو مائة رجل، و قتل قائد من قوّادهم يقال له: يزيد بن حمل القشيريّ من أهل قنّسرين، فدمرهم(3) ابن عطية، فكرّوا، و انضم بعضهم إلى بعض. و قاتلوا حتى أمسوا، فكفّ/بعضهم عن بعض، ثم التقوا من غد في موضع كثير الشجر/و الكرم و الحيطان، فطال القتال بينهم، و استحرّ القتل في الشّراة، فترجّل عبد اللّه بن يحيى في ألف فارس؛ فقاتلوا، حتى قتلوا جميعا عن آخرهم؛ و انهزم الباقون؛ تفرّقوا في كلّ وجه. و لحق من نجا منهم بصنعاء؛ و ولّوا عليهم حمامة(4) فقال أبو صخر الهذليّ:
ص: 178
قتلنا دعيسا و الذي يكتني الكنى *** أبا حمزة الغاوي المضلّ اليمانيا
و أبرهة الكنديّ خاضت رماحنا *** و بلجا صبحناه الحتوف القواضيا(1)
و ما تركت أسيافنا منذ جرّدت *** لمروان جبّارا على الأرض عاديا(2)
قال المدائني:
و بعث عبد الملك بن عطية رأس عبد اللّه بن يحيى مع ابنه يزيد بن عبد الملك إلى مروان.
و قال عمرو بن الحصين - و يقال: الحسن العنبري - مولى لهم يرثي عبد اللّه بن يحيى و أبا حمزة. و هذه القصيدة التي في أولها الغناء المذكور أول هذه الأخبار:
هبّت قبيل تبلّج الفجر *** هند تقول و دمعها يجري
أن أبصرت عيني مدامعها *** ينهلّ واكفها على النّحر
أنّي اعتراك و كنت عهدي لا *** سرب الدموع و كنت ذا صبر
أقذى بعينك ما يفارقها *** أم عائر(3) أم ما لها تذري؟
أم ذكر أخوان فجعت بهم *** سلكوا سبيلهم على خبر
فأجبتها بل ذكر مصرعهم *** لا غيره عبراتها تمري
يا ربّ أسلكني سبيلهم *** ذا العرش و اشدد بالتّقى أزري
/في فتية صبروا نفوسهم *** للمشرفيّة و القنا السّمر
تاللّه ألقى الدهر مثلهم *** حتى أكون رهينة القبر
أوفي بذمتهم إذا عقدوا *** و أعفّ عند العسر و اليسر
متأهّلين لكلّ صالحة *** ناهين من لاقوا عن النّكر
صمت إذا احتضروا مجالسهم *** وزن لقول خطيبهم وقر(4)
إلاّ تجيبهم فإنهم *** رجف القلوب بحضرة الذّكر(5)
متأوّهون كأنّ جمر غضا *** للخوف بين ضلوعهم يسرى
تلقاهم إلاّ كأنّهم *** لخشوعهم صدروا عن الحشر
ص: 179
فهم كأنّ بهم جوى مرض *** أو مسّهم طرف من السّحر
لا ليلهم ليل فيلبسهم *** فيه غواشي النوم بالسّكر
إلاّ كذا خلسا و آونة *** حذر العقاب و هم على ذعر
كم من أخ لك قد فجعت به *** قوّام ليلته إلى الفجر
متأوّه يتلو قوارع من *** آي القرآن مفزّع الصّدر
نصب تجيش بنات مهجته *** بالموت جيش مشاشة القدر(1)
/ظمآن و قدة كلّ هاجرة *** ترّاك لذّته على قدر
/ترّاك ما تهوى النفوس إذا *** رغب النفوس دعت إلى النّذر(2)(3) و مبرّأ من كل سيئة *** عفّ الهوى ذو مرّة شزر(4)
و المصطلي بالحرب يسعرها *** بغبارها و بفتية سعر
يجتاحها بأقلّ ذي شطب *** عضب المضارب قاطع البتر(5)
لا شيء يلقاه أسرّ له *** من طعنة في ثغرة النّحر
نجلاء منهرة تجيش بما *** كانت عواصي جوفه تجري(6)
كخليلك المختار أذك به *** من مقتد في اللّه أو مشر
خوّاض غمرة كلّ متلفة *** في اللّه تحت العثير الكدر(7)
ترّاك ذي النّخوات مختضبا *** بنجيعه بالطّعنة الشّزر
و ابن الحصين و هل له شبه *** في العرف أنّى كان و النّكر
بسّامة لم تحن أضلعه *** لذوي أخوّته على غمر
طلق اللسان بكلّ محكمة *** رآب صدع العظم ذي الوقر
لم ينفكك في جوفه حزن *** تغلي حرارته و تستشري
ترقى و آونة يخفّصها *** بتنفّس الصّعداء و الزّفر
و مخالطي بلج و خالصتي *** سمّ العدوّ و جابر الكسر
نكل الخصوم إذا هم شغبوا *** و سداد ثلمة عورة الثّغر
ص: 180
/
و الخائض الغمرات يخطر في *** وسط الأعادي أيّما خطر
بمشطّب أو غير ذي شطب *** هام العدا بذبابه يفري
و أخيك أبرهة الهجان أخى *** الحرب العوان ملقّح الجمر
بمرشّة فرع تثجّ دما *** ثجّ الغوى سلافة الخمر
و الضارب الأخدود ليس لها *** حدّ ينهنها عن السّحر
و وليّ حكمهم فجعت به *** عمرو فوا كبدي على عمرو!
قوّال محكمة و ذي فهم *** عفّ الهوى متثبّت الأمر
و مسيّب فاذكر وصيّته *** لا تنس إمّا كنت ذا ذكر
فكلاهما قد كان محتسبا *** للّه ذا تقوى و ذا برّ
في مخبتين و لم أسمّهم *** كانوا يدي و هم أولو نصيري
و هم مساعر في الوغى رجح *** و خيار من يمشي على العفر(1)
حتى وفوا للّه حيث لقوا *** بعهود لا كذب و لا غدر
فتخالسوا مهجات أنفسهم *** و عداتهم بقواضب بتر
و أسنّة أثبتن في لدن *** خطّية بأكفّهم زهر
تحت العجاج و فوقهم خرق *** يخفقن من سود و من حمر
/فتفرّجت عنهم كماتهم(2)*** لم يغمضوا عينا على وتر
/فشعارهم نيران حربهم *** ما بين أعلى الشّحر فالحجر(3)
صرعى فحاجلة تنوشهم *** و خوامع لحماتهم تفري(4)
قال المدائني: و كتب مروان إلى ابن عطية يأمره بالمسير إلى صنعاء، ليقاتل من بها من الخوارج، فاستخلف ابنه محمد بن عبد الملك على مكة، و على المدينة الوليد بن عروة بن عطية، و توجّه إلى صنعاء، و رجع أهل الجزيرة جميعا إلى بلدهم، و كذلك كان مروان شرط لهم، فلما قرب من صنعاء هرب عامل عبد اللّه بن يحيى عنها، فأخذ(5)أهل صنعاء أثقاله و حملين من مال كان معه، فسلّموا ذلك إلى ابن عطية، و تتبع أصحاب عبد اللّه بن يحيى في كل موضع يقتلهم، و أقام بصنعاء أشهرا، ثم خرج عليه رجل من أصحاب عبد اللّه بن يحيى في آل ذي الكلاع، يقال له
ص: 181
يحيى بن عبد اللّه بن عمر بن السّباق في جمع كثير بالجند، فبعث إليه ابن عطية ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن عطية، فلقيه بالحرب، فهزمه، و قتل عامة أصحابه، و هرب منه فنجا، و خرج عليه يحيى بن كرب الحميري بساحل البحر، و انضمت إليه شذّاذ الإباضية، فبعث إليه أبا أمية الكنديّ في الوضاحية، فالتقوا بالساحل، فقتل من الإباضية نحو مائة رجل، و تحاجزوا عند المساء فهربت الإباضية إلى حضر موت، و بها عامل لعبد اللّه بن يحيى يقال له:
عبد اللّه بن معبد الجرمي(1)، فصار في جيش كثير، و استفحل أمره. و بلغ ابن عطية الخبر، فاستخلف ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن عطية على صنعاء، و شخص إلى حضر موت و بلغ عبد اللّه بن معبد مسير عبد الملك إليهم، فجمعوا الطعام و كلّ ما يحتاجون إليه في/مدينة شبام(2). و هي حصن حضر موت مخافة الحصار. ثم عزموا على لقاء ابن عطية في الفلاة، فخرجوا حتى نزلوا على أربع مراحل من حضر موت، في عدد كثير في فلاة. و أتاهم ابن عطية، فقاتلهم يومه كلّه، فلما أمسى و قد بلغه ما جمعوا في شبام حدر عسكره في بطن حضر موت إلى شبام ليلا.
ثم أصبح، فقاتلهم حتى انتصف النهار. ثم تحاجزوا، فلما أمسوا، تبع عسكره. و أصبح الخوارج، فلم يروا للقوم أثرا. فاتّبعوهم و قد سبقوهم إلى الحصن، فأخذوا جميع ما فيه و ملكوه، و نصب ابن عطية عليهم المسالح، و قطع عنهم المادّة(3) و الميرة، و جعل يقتل من يقدر عليه و يسبي و يأخذ الأموال.
ثم ورد عليه كتاب مروان بن محمد يأمره بالتعجّل إلى مكة، ليحجّ بالنّاس، فصالح أهل حضر موت على أن يردّ عليهم ما عرفوا من أموالهم. و يولي عليهم من يختارون، و سالموه(4)، فرضي بذلك، و سالمهم، و شخص إلى مكة متعجّلا مخفّا. و لما نفذ كتاب مروان ندم بعد ذلك بأيام، و قال: إنا للّه! قتلت و اللّه ابن عطية؛ هو الآن يخرج مخفّا متعجّلا، ليلحق الحج، فيقتله الخوارج. فكان كما قال: تعجّل في بضعة عشر رجلا، فلما كان بأرض مراد تلفّفت عليه جماعة، فمن كان من تلك الجماعة إباضيّا عرفه، فقال: ما ننتظر بهذا أن ندرك ثأر إخواننا فيه، و من لم يكن إباضيا ظنه من الإباضية، و أنه منهزم، فلما علم أنهم يريدونه قال لهم: ويحكم! أنا/عامل أمير المؤمنين على الحجّ، فلم يلتفتوا إلى ذلك، و قتلوه، و نصبت الإباضية رأسه، فلما فتشوا متاعه، وجدوا فيه الكتاب بولايته على الحجّ، فأخذوا من الإباضية رأسه، و دفنوه مع جسده.
قال المدائني: خرج إليه جمانة و سعيد ابنا الأخنس، في جماعة من قومهما من كندة، /و عرفه جمانة لمّا لقيه، فحمل عليه هو و أخوه و رجل آخر من همدان، يقال له: رمّانة. و ثلاثة من مراد، و خمسة من كندة، و قد توجّه في طريق مع أربعة نفر من أصحابه. و توجّه باقيهم في طريق آخر، فقصدوا حيث توجّه ابن عطية، و وجّهوا في آثار أصحابه نحو أربعين رجلا منهم، فأدركوهم فقتلوهم، و أدرك سعيد و جمانة و أصحابهما ابن عطية، فعطف عبد الملك على سعيد، فضربه و طعنه جمانة، فصرعه عن فرسه، و نزل إليه سعيد، فقعد على صدره، فقال له ابن عطية: هل لك يا سعيد في أن تكون أكرم العرب أسيرا؟ فقال: يا عدوّ اللّه، أ ترى اللّه كان يمهلك؟ أو تطمع في
ص: 182
الحياة و قد قتلت طالب الحقّ و أبا حمزة و بلجا و أبرهة! فقتله و قتل أصحابه جميعا. و بعثوا برأسه إلى حضرموت، و بلغ ابن أخيه - و هو بصنعاء - خبره. فأرسل شعيبا البارقيّ في الخيل. فقتل الرجال و الصّبيان. و بقر بطون النساء، و أخذ الأموال، و أحرب القرى، و جعل يتتبع البريّ و النّطف(1). حتى لم يبق أحد من قتلة ابن عطية و لا من الإباضية إلا قتله، و لم يزل مقيما باليمن إلى أن أفضى الأمر إلى بني هاشم، و قام بالأمر أبو العباس السفاح.
تم الجزء الثالث و العشرون من كتاب الأغاني و يليه الجزء الرابع و العشرون و أوله خبر عبدا بن أبي العلاء
ص: 183
ص: 184
الموضوع الصفحة
أخبار نصيب الأصغر 5
أخبار أبي شراعة و نسبه 20
أخبار ابن البواب 32
أخبار محمد بن عبد الملك الزيات و نسبه 38
أخبار أبي حشيشة 59
أخبار عنان 66
أخبار الحسن بن وهب 73
أخبار أحمد بن يوسف 90
أخبار العطوي 94
أخبار مرة و نسبه 99
أخبار علي بن أمية 101
أخبار عمر الميداني 105
أخبار سليمان بن وهب 107
أخبار أبان بن عبد الحميد و نسبه 116
أخبار تويت و نسبه 126
أخبار محمد بن الحارث 131
أخبار ماني الموسوس 134
أخبار بكر بن خارجة 139
أخبار إسماعيل القراطيسي 142
أخبار أبي العبر و نسبه 144
أخبار مروان بن أبي حفصة الأصغر 150
أخبار يوسف بن الحجاج و نسبه 157
خبر عبد اللّه بن يحيى و خروجه و قتله 162
الفهرس 185
ص: 185
الأغاني
سایر نویسندگان
مصحح و مترجم:
مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربی
المجلدات : 25ج
زبان: عربی
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سال نشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
کد کنگره: PJA 3892 /الف 6 1374
تنظیم متن دیجیتال میثم حیدری
ص: 186
ص: 187
ص: 188
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
عبد اللّه(1) بن أبي العلاء، رجل من أهل سرّ من رأى. و كان يأخذ عن إسحاق و طبقته فبرع، و له صنعة يسيرة جيّدة.
و ابنه أحمد بن عبد اللّه بن أبي العلاء، أحد المحسنين المتقدّمين، أخذ عن مخارق(2) و علّوية و طبقتهما. و عمّر إلى آخر أيّام المعتضد(3) و كانت(4) فيه عربدة.
و كان عبد اللّه بن أبي العلاء حسن الوجه و الزّيّ، ظريفا شكلا(5).
حدّثني ذكاء وجه الرّزّة قال: قال لي ابن المكّيّ المرتجل(6):
كان يقوّم دابة عبد اللّه بن أبي العلاء و ثيابه إذا ركب ألف دينار.
قال: و قال لي ابن المكيّ: حدّثني أبي، قال:
نظر أحمد بن يوسف الكاتب إلى عبد اللّه بن أبي العلاء عند إسحاق، و هو يطارحه، فأقام عند إسحاق، و سأله احتباس عبد اللّه عنده، فأمره بذلك، فاعتلّ عليه(7). و قال: أريد أن أشيّع غازيا يخرج من جيراننا، فقال له أحمد ابن يوسف:
/لا تخرجنّ مع الغزاة مشيّعا *** إنّ الغزيّ يراك أفضل مغنم
ودع الحجيج و لا تشيّع وفدهم(8)*** أخشى عليك من الحجيج المحرم
ما أنت إلاّ غادة ممكورة(9)*** لو لا شواربك المحيطة بالفم
ص: 189
و قد روي(1) هذا الشعر لسعيد بن حميد(2) في عبد اللّه بن أبي العلاء. و هو الصّحيح.
فأقسم عليه إسحاق(3) أن يقيم، فأقام.
و قال لي(4) جعفر بن قدامة، و قد تجاذبنا هذا الخبر: حدّثني حمّاد بن إسحاق، عن أبيه(5):
أنّ العشرة اتّصلت بين عبد اللّه و بين أحمد بن يوسف، و تعشّقه و أنفق(6)/عليه جملة من المال، حتّى اشتهر به، فعاتبه(7) محمد بن عبد الملك الزيّات، في ذلك(8)، فقال له:
/لا تعذلني يا أبا جعفر(9)*** عذل الأخلاّء من اللّوم
إنّ استه مشربة حمرة *** كأنّها وجنة مكظوم(10)
و قد قيل: إنّ هذين البيتين لأحمد بن يوسف في موسى بن عبد الملك.
و كان بعض الشعراء قد أولع بعبد اللّه بن أبي العلاء، يهجوه و يذكر أنّ أباه أبا العلاء هو سالم السّقّاء، و فيه يقول هذا الشعر(11)
كنت في مجلس أنيق جميل(12)*** فأتانا ابن سالم مختالا
فتغنّى صوتا فأخطأ فيه *** و ابتدا ثانيا فكان محالا(13)
و ابتغى خلعة(14) على ذاك منّا *** فخلعنا على قفاه النّعالا
و فيه يقول هذا الشاعر، أنشدناه ابن عمّار و غيره:
ص: 190
إذا ابن أبي العلاء أقيم عنّا *** فأهلا بالمجالس و الرّحيق
قفاه على أكفّ الشّرب وقف *** و جلدة وجهه ميدان ريق(1)
أ فاطم حيّيت بالأسعد *** متى عهدنا(2) لا تبعدى(3)
تبارك ذو العرش، ما ذا نرى *** من الحسن في جانب المسجد(4)
فإن شئت آليت بين المقا *** م و الرّكن و الحجر الأسود
أ أنساك(5) ما دام عقلي معي *** أمدّ به أمد السّرمد
الشعر لأميّة بن أبي عائد. و الغناء لحكم الوادي، هزج خفيف، بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى، عن إسحاق. و فيه للأبجر ثقيل أوّل بالوسطى، عن عمرو. و قال ابن المكيّ(6): فيه هزج ثقيل بالبنصر لعمر(7)الوادي. و فيه لفليح لحن من رواية بذل، و لم يذكر طريقته(8).
ص: 191
2 - نسب أمية بن أبي عائذ و أخباره(1)
أميّة بن أبي عائذ العمريّ، أحد بني عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل. شاعر إسلاميّ من شعراء الدّولة الأمويّة. و هذا أكثر ما وجدته من نسبه في سائر النسخ.
و كان أميّة أحد مدّاحي بني مروان، و له في عبد الملك و عبد العزيز ابني مروان قصائد مشهورة.
فذكر ابن الأعرابيّ و أبو عبيدة جميعا:
أنه وفد إلى عبد العزيز إلى(2) مصر، و قد امتدحه بقصيدته التي أوّلها:
ألا إنّ قلبي مع(3) الظاعنينا *** حزين فمن ذا يعزّي الحزينا
فيا لك(4) من روعة يوم بانوا(5) *** بمن كنت أحسب ألاّ يبينا
في هذين البيتين للحسين بن محرز خفيف ثقيل، عن الهشاميّ.
و في هذه القصيدة يقول:
إلى سيّد الناس عبد العزيز أع *** ملت للسّير حرفا أمونا(6)
/صهابيّة كعلاة القيو *** ن(7) من ضرب جوهر(8) ما يخلصونا
/إذا أزبدت من تباري المطيّ *** حلت بها خبلا(9) أو جنونا
تؤمّ النّواعش و الفرقدين(10) *** تنصّب للقصد منها الجبينا
ص: 192
إلى معدن الخير عبد العزيز *** تبلّغنا(1) ظلّعا قد حفينا
ترى الأدم و العيس تحت المسو *** ح قد عدن من عرق الأين جونا(2)
تسير(3) بمدحي عبد العز *** يز ركبان مكّة و المنجدونا
محبّرة من صريح الكلى *** م ليس كما لفّق(4) المحدثونا
و كان امرا سيّدا ماجدا *** يصفّي العتيق و ينفي الهجينا(5)
قال: و طال مقامه عند عبد العزيز، و كان يأنس به، و وصله صلات سنيّة، فتشوّق إلى البادية و إلى أهله، فقال لعبد العزيز:
متى راكب من أهل مصر و أهله *** بمكّة من مصر العشيّة راجع
بلى إنّها قد تقطع الخرق(6) ضمّر *** تباري السّرى و المعسفون الزعازع
متى ما تجزها يا بن مروان(7) تعترف *** بلاد سليمى(8) و هي خوصاء(9) ظالع
و باتت تؤمّ(10) الدّار من كلّ جانب *** لتخرج و اشتدّت عليها المصارع
فلما رأت ألاّ خروج و أنّما *** لها من هواها ما تجنّ الأضالع
تمطّت بمجدول سبطر(11) فطالعت *** و ما ذا من اللّوح اليماني تطالع!(12)
فقال له عبد العزيز: اشتقت - و اللّه - إلى أهلك يا أميّة، فقال: نعم - و اللّه(13) - أيّها الأمير، فوصله و أذن له.
و ممّا يغنّى فيه من شعر أميّة:
ص: 193
تمرّ(1) كجندلة المنجني *** ق يرمى بها السّور يوم القتال
فما ذا تخطرف من قلة(2) *** و من حدب و إكام توالي(3)
و من سيرها العنق المسبطرّ *** و العجرفيّة بعد الكلال
الغناء لابن عائشة(4). و قد ذكر في أخباره مع غريبه، و أحاديث لابن عائشة في معناه(5).
أ أمّ نهيك ارفعي الطّرف صاعدا(6) *** و لا تيأسي أن يثري الدهر بائس
سيغنيك سيري في البلاد و مطلبي *** و بعل التي لم تخط في الحيّ(7) جالس
سأكسب مالا أو تبيتنّ(8) ليلة *** بصدرك من وجد عليّ وساوس
و من يطلب المال(9) الممنّع بالقنا *** يعش مثريا أو يود فيما يمارس(10)
الشعر: لعبد اللّه بن أبي معقل الأنصاريّ. و الغناء: لسليم، خفيف ثقيل بالوسطى، عن عمرو. و قد ذكر ابن المكّيّ أن فيه لإبراهيم لحنا من الهزج بالوسطى، و ذكر الهاشميّ و حبش(11) أن فيه لإبراهيم ثاني ثقيل، و ذكر حبش أنه لإسحاق.
ص: 194
/هو عبد اللّه بن أبي معقل(1) بن نهيك بن إساف بن عديّ بن زيد(2) بن جشم بن حارثة(3) بن الحارث بن الخزرج(4) بن عمرو - و هو النّبيت - بن مالك بن الأوس(5) بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب(6) بن يعرب بن قحطان.
شاعر مقلّ حجازيّ(7) من شعراء الدّولة الأمويّة.
و كان يقال لأبيه: منهب الورق. و قيل: بل جدّ المسمّى بذلك، لأنه كسب مالا، فعجب أهل المدينة من كثرته(8)، فأباحهم إيّاه فنهبوه(9).
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء(10) قال: حدّثني أبو بكر عبد اللّه بن جعفر بن مصعب بن عبد اللّه الزّبيريّ قال:
حدّثني جدّي مصعب(11) بن عبد اللّه، عن ابن القدّاح أنّه قال:
هذا البيتان، يعني قوله:
أ ممّ نهيك ارفعي الطرف صاعدا...
و الذي بعده لعبد اللّه بن أبي معقل بن نهيك بن إساف، و الناس يروونهما لجدّه... و ليس ذلك بصحيح؛ هما لعبد اللّه(12).
ص: 195
و كان عبّاد بن نهيك بن إساف، عمّه(1)، أدرك النبيّ - صلّى اللّه عليه و سلّم - و صحبه(2)، و صلّى معه إلى القبلتين، و صلّى معه الظهر، و صلّى معه في ركعتين منها(3) إلى بيت المقدس، و ركعتين إلى الكعبة.
و أدرك النبيّ - صلّى اللّه عليه و سلم و آله(4) - و هو شيخ كبير(5) لا فضل فيه(6)، فوضع عنه الغزو.
و كان نهيك بن إساف يهاجي أبا الخضر(7) الأشهليّ في الجاهليّة. و أشعارهما(8) موجودة في أشعار الأنصار.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء(9) قال: حدّثني عبد اللّه بن جعفر عن جدّه مصعب، عن ابن القدّاح قال:
/كان ابن معقل محسودا في قومه، يجاهرونه بالعداوة، ليساره و سعة ماله، و يحسدونه(10)، و كان بنى قصرا في بني حارثة، و سماه: «مرغما» و قال له قائل(11): مالك و لقومك؟ فقال: مالي إليهم(12) ذنب(13) إلا أنّي أثريت و كنت معدما، و بنيت مرغما(14)، و أنكحت مريم و مريم - يعني ابنته مريم و بنت ابنه مريم.
فأمّا ابنته مريم(15) فتزوّجها حبيب بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية، و بنت ابنه مسكين بن عبد اللّه بن أبي معقل(16) - و هي مريم - تزوّجها(17) محمد بن خالد بن الزّبير بن العوّام.
أخبرني الحرميّ قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار قال: حدّثني عمّي مصعب(18) قال:
خطب محمد بن خالد بن الزّبير و حبيب بن الحكم بن أبي العاصي إلى عبد اللّه بن أبي معقل ابنته مريم،
ص: 196
فأرغبه حبيب في الصّداق(1) فزوّجه إيّاها، ثم شبّت مريم بنت مسكين بن عبد اللّه بن أبي معقل، فبرعت في الجمال(2). و لقي محمد بن خالد/يوما(3) فقال له: يا بن خالد، إن تكن مريم قد فاتتك فقد يفعت مريم بنت أخيها(4)، و ما هي بدونها في الجمال، و قد آثرتك بها. قال: فتزوّجها على عشرين ألفا.
و قال ابن القدّاح:
كان ابن أبي معقل كثير الأسفار في طلب الرّزق، فلامته امرأته أمّ نهيك - و هي ابنة عمّه - على ذلك، و قد قدم من مصر، فلم يلبث أن قال لها(5): جهّزيني إلى الكوفة، إلى المغيرة بن شعبة، فإنّه صديقي و قد وليها(6)، فجهّزته ثم قالت: لن(7) تزال في أسفارك هذه تتردّد(8) حتّى تموت، فقال لها: أو أثري. ثم أنشأ يقول:
أ أمّ نهيك ارفعي الطّرف صاعدا *** و لا تيأسي أن يثري الدّهر يائس
و هي قصيدة فيها ممّا يغنّى فيه قوله:
/فلو لا ثلاث هنّ من عيشة الفتى *** وجدك لم أحفل متى قام رامس(9)
فمنهنّ تحريك الكميت عنانه *** إذا ابتدر النّهب البعيد الفوارس
و منهنّ سبق العاذلات بشربة *** كأنّ أخاها - و هو يقظان - ناعس
و منهنّ تجريد(10) الأوانس كالدّمى *** إذا ابتزّ عن أكفالهنّ الملابس
/الغناء في هذه الأبيات: لمقاسة بن ناصح، ثقيل أوّل بالبنصر. و فيها للحسين بن محرز خفيف ثقيل من جامع أغانيه. و هو لحن معروف مشهور(11).
قال ابن القدّاح:
ص: 197
ثم قدم المدينة، فلم يزل مقيما بها(1) حتى ولي مصعب بن الزّبير العراق(2)، فوفد إليه ابن أبي معقل(3)، و لقيه، فدخل إليه يوما و هو يندب الناس إلى غزوة زرنج و يقول: من لها؟ فوثب عبد اللّه أبي معقل و قال: أنا لها، فقال له: اجلس، ثم(4) ندب الناس، فانتدب لها مرة ثانية، فقال له مصعب: اجلس، ثم ندبهم(5) ثالثة، فقال له عبد اللّه: أنا لها، فقال له: اجلس. فقال له: أدنني إليك حتّى أكلّمك، فأدناه، فقال: قد علمت أنّه ما يمنعك(6) منّي إلا أنّك تعرفني، و لو انتدب إليها(7) رجل ممّن لا تعرفه لبعثته، فلعلّك تحسدني(8) أن أصيب خيرا(9) أو أستشهد فأستريح من الدّنيا و طلبها(10) فأعجبه قوله و جزالته فولاّه، فأصاب في وجهه ذلك مالا كثيرا، و انصرف إلى المدينة، فقال لزوجته: أ لم أخبرك في شعري أنّه:
/سيغنيك سيري في البلاد و مطلبي *** و بعل التي لم تحظ في الحيّ جالس
فقالت: بلى و اللّه، لقد أخبرتني و صدق(11) خبرك.
4 - ذكر نسب القطامي و أخباره(1)
القطاميّ لقب غلب عليه، و اسمه عمير بن شييم(2)، و كان نصرانيّا، و هو شاعر إسلاميّ مقلّ مجيد(3).
أخبرني عمّي قال: حدّثنا الكرانيّ قال: حدّثنا العمريّ، عن الهيثم بن عديّ، عن عبد اللّه بن عياش، عن مجالد، عن الشّعبيّ قال: قال عبد الملك بن مروان، و أنا حاضر، للأخطل: يا أخطل، أ تحبّ أنّ لك بشعرك شعر شاعر من العرب؟ قال: اللهمّ لا، إلا شاعرا منّا مغدف القناع(4)، خامل الذّكر، حديث السّنّ، إن يكن في أحد خير فسيكون فيه، و لوددت أنّي سبقته(5) إلى قوله:
/يقتلننا بحديث ليس يعلمه *** من يتّقين و لا مكنونه بادي
فهنّ ينبذن من قول يصبن به *** مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي
أخبرني أبو الحسن الأسديّ، قال: حدّثنا محمد بن صالح بن(6) النّطّاح قال:
/القطاميّ أوّل من لقّب «صريع الغواني» بقوله:
صريع غوان راقهنّ و رقنه *** لدن شبّ حتى شاب سود الذّوائب(7)
قال أبو عمرو الشيبانيّ:
نزل القطاميّ في بعض أسفاره بامرأة من محارب قيس، فنسبها، فقالت: أنا من قوم يشتوون
ص: 200
القدّ(1) من الجوع، قال: و من هؤلاء ويحك؟ قالت: محارب، و لم تقره، فبات عندها بأسوإ ليلة، فقال فيها قصيدة أوّلها(2):
نأتك بليلى نيّة لم تقارب *** و ما حبّ ليلى من فؤادي بذاهب
يقول فيها:
و لا بدّ أنّ الضيف يخبر ما رأى *** مخبّر أهل أو مخبّر صاحب(3)
سأخبرك الأنباء(4) عن أمّ منزل *** تضيّفتها بين العذيب(5) فراسب(6)
تلفعت(7) في طلّ و ريح تلفّني *** و في طرمساء(8) غير ذات كواكب
/إلى حيزبون توقد النار بعد ما *** تلفّعت الظّلماء من كلّ جانب
تصلّى بها برد العشاء(9) و لم تكن *** تخال وميض(10) النّار يبدو لراكب
فما راعها إلا بغام مطيّة(11) *** تريح بمحسور من الصّوت لاغب
تقول و قد قربت كوري و ناقتي *** إليك فلا تذعر عليّ ركائبي
فلمّا تنازعنا الحديث سألتها: *** من الحيّ؟ قالت: معشر من محارب
من المشتوين(12) القدّ ممّا تراهم *** جياعا و ريف الناس(13) ليس بعازب(14)
فلمّا بدا حرمانها الضّيف لم يكن *** عليّ مناخ السّوء ضربة لازب
قال أبو عمرو بن العلاء:
أول ما حرّك من القطاميّ و رفع من ذكره أنه قدم في خلافة الوليد بن عبد الملك دمشق ليمدحه، فقيل له: إنّه بخيل لا يعطي الشّعراء. و قيل: بل قدمها في خلافة عمر بن عبد
ص: 201
العزيز(1)، فقيل له: إن الشعر لا ينفق عند هذا(2) و لا يعطي عليه(3) شيئا، و هذا عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك(4) فامتدحه، فمدحه، بقصيدته التي أوّلها(5):
/إنّا محيّوك فاسلم أيها الطّلل *** و إن بليت و إن طالت بك الطّيل(6)
فقال له: كم أمّلت من أمير المؤمنين؟ قال: أمّلت أن يعطيني ثلاثين ناقة. فقال: قد أمرت لك بخمسين ناقة موقرة(7) برّا و تمرا و ثيابا، ثم أمر بدفع(8) ذلك إليه.
و في أوّل هذه القصيدة غناء نسبته:
في مرثية أو صفة حرب(1) لكان أشعر النّاس.
و أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال: حدّثني ميمون بن هارون قال: حدّثني رجل كان يديم الأسفار، قال:
سافرت مرّة إلى الشّام على طريق البرّ(2)، فجعلت أتمثّل بقول القطاميّ(3):
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته *** و قد يكون مع المستعجل الزّلل(4)
و معي أعرابيّ قد استأجرت(5) منه مركبي، فقال: ما زاد قائل هذا الشعر على أن ثبّط النّاس عن الجزم، فهلاّ قال بعد بيته(6) هذا:
و ربّما ضرّ بعض الناس بطؤهم(7) *** و كان خيرا لهم لو أنّهم عجلوا(8)
و كان السبب في أسر القطاميّ، على ما حكاه من ذكرنا، و ذكر ابن الكلبيّ عن عرام بن حازم بن عطيّة الكلبيّ قال:
/أغار زفر بن الحارث على أهل المصيّخ(9)، و به جماعة من الحاجّ و غيرهم، و قد أصاب أول النّهار أهل ماء يقال له: حصف(10)، و فيه سيّد بني الجلاح مصاد بن المغيرة بن أبي جبلة، فأسره، فأتى به قرقيسيا(11)، ثم منّ عليه، و قتل عفيف بن(12) حسّان بن حصين من بني الجلاح، ثم مضى زفر إلى المصيّخ فاجتمع من بها إلى عمير بن حسّان بن عمر بن جبلة فامتنعوا، فقال لهم زفر: إني لا أريد دماءكم، فأعطوا بأيديكم. فأبوا و قاتلوا(13)
ص: 203
فقتل(1) منهم جماعة كثيرة، و قتل معهم رجلان من تغلب، يقال لأحدهما: جسّاس، و الآخر غنيّ، و هو أبو جسّاس. و قد قالت له امرأته: يا أبا جسّاس، هؤلاء قومك فأتهم حين اجتمعوا و امتنعوا، فقال: اليوم نزاريّ و أمس كلبيّ! ما أنا بمفارقهم، فقاتل حتّى قتل، فكانت القتلى يوم المصيّخ(2) من كلب ثمانية عشر رجلا و التّغلبيّين، و بقي الماء ليس فيه إلا النّساء. فلمّا انصرف عنهم زفر أراد النساء أن يجررن القتلى إلى بئر يقال لها: كوكب. فلما أردن أن يجررن رجلا قالت وليته من النّساء: لا يكون فلان تحت رجالكنّ كلّهم، فأتت أمّ عمير بن حسّان، و هي كيّسة(3)/بنت أبيّ، فأعلقت في رجله رداءها، ثم قالت: اجسر عمير فإنّ(4) أباك كان جسورا، ثم ألقت عليه التّراب و الحطب ليكون بينه و بين أصحابه شيء. ثم جعلن كلما ألقين رجلا ألقين عليه التّراب و الحطب حتى وارتهم القليب. و لمّا بلغ حميد بن حريث بن بحدل ما لقي قومه أقبل حتى أتى تدمر(5)ليجمع أصحابه، و ليغير على قيس. فلما وقعت الدّماء نهض بنو نمير، و هم يومئذ ببطن الجبل، و هو على مياه لهم(6)، إلى حميد بن حريث بن بحدل، حتى(7) قدم وراءه يتهيّأ للغارة، و اجتمعت إليه كلب، و قالوا له: إن كنت تبرئنا ببراءتنا، و تعرف جوارنا أقمنا، و إن كنت تتخوّف علينا من قومك شيئا لحقنا بقومنا، فقال: أ تريدون أن تكونوا أدلاّءهم حتى تنجلي هذه الفتنة؟ فاحتبسهم فيها، و خليفته في تدمر رجل من كلب يقال له: مطر بن عوص، و كان/فاتكا، فأراد حميدا على قتلهم، فأبى و كره الدّماء، فلمّا سار حميد، و قد عاد زفر أيضا مغيرا، ليردّه عمّا يريده، فنزل قرية له، و بلغه مسير زفر فاغتاظ و أخذ في التّعبئة، فأتاه مطر و كان خرج معه مشيّعا له انتهازا لدماء الّذين في يده من النّميريّين، فقال: ما أصنع بهؤلاء الأسارى الّذين في يدي و قد قتل أهل مصبح؟ فقال و هو لا يعقل من الوجد: اذهب فاقتلهم. فخرج مطر يركض إلى تدمر، تخوّف ألاّ يبدوا له(8)، فلمّا أتى تدمر قتلهم(9)، و انتبه حميد بعد ذلك بساعة فقال: أين مطر حتى أوصيه؟ قالوا: انصرف، قال(10): أدركوا عدوّ اللّه، فإنّي أخاف على من بيده من النّميريّين.
و بعث فارسا يركض يمنع مطرا عن قتلهم، فأتاه و قد قتل كلّ من كان في يده/من الأسرى إلاّ رجلين - و كانوا ستّين رجلا - فلما بلّغه الرّسول رسالة حميد قال النّميريّان الباقيان: خلّ عنا فقد أمرت بتخلية سبيلنا، فقال: أبعد أهل المصيّخ! لا و اللّه لا تخبّران عنهم، ثم قتلهما. فلمّا بلغ زفر قتل النّميريّين بسط يده(11) على كلّ من أدرك من كلب، و استحلّ الدّماء، و أخذ في واد يقال له وادي الجيوش، و قد انتشرت به كلب للصّيد، فلم يدرك به أحدا إلاّ قتله، فقتل أكثر من خمسمائة، و لم يلقه حميد. ثم انصرف إلى قرقيسياء.
ص: 204
و ذكر بعض بني نمير أن زفر أغار على كلب يوم حفير(1) و يوم المصيّخ و يوم الفرس، فقتل منهم أكثر من ألف رجل، قال: و أغار عليهم زفر في يوم الإكليل فقتل منهم مقتلة عظيمة، و استاق نعما كثيرة.
و ذكر عرّام(2) قال: قتل زفر يوم الإكليل جبير بن ثعلبة من بني الجلاح، و حسّان بن حصين من بني الجلاح، و محمّد بن طفيل بن مطير بن أبي جبلة، و عمرو بن حسّان بن عوف من بني الجلاح، و محمد بن جبلة بن عوف، أخوان لأمّ. و قالت امرأة من بني كلب ترثيهم:
أبعد من دلّيت في كوكب *** يا نفس ترجين ثواء الرّجال؟
قال لقيط: أخبرني بعض بني نمير قال:
أغار عمير بن الحباب على كلب فأصابهم يوم الغوير و يوم الهبل و يوم كآبة.
فأمّا يوم الغوير(3) فإنّه أرسل رجلا من بني نمير يقال له كليب بن سلمة عينا له، ليعلم له علم(4) ابن بحدل، و كانت أمّ النميريّ كلبيّة، فكانت تتكلّم(5) بكلامهم، /فكان الحسام(6) بن سالم طريدا فيهم فنذروا به فقتلوه و أخذوا فرسه، فلقي كليب بن سلمة رجلا من بني كلب فعرفه، فقال: من أين جئت؟ فقال: من عند الأمير حميد ابن حريث، قال: و أين تركته؟ قال: بمكان كذا و كذا، قال كليب: كذبت! أنا أحدث به عهدا منك، قال: فأين تركته أنت؟ قال بغوير الضبع، قال: لكنّي فارقته أمس، فخرج النميريّ يسوق الكلبيّ إلى أصحابه - قال: فو اللّه إنّي لو أشاء أن أقتله لقتلته، أو آخذه لأخذته - فخرج يسوقه، حتّى إذا نظر إلى القوم أنكرهم، فقال: و اللّه(7) ما أرى هؤلاء أصحابنا. قال: و يستدبره النّميريّ فيطعنه(8) عند ناغض(9) كتفه اليمنى، حتى أخرج السّنان من حلمة الثّدي، و أخطأ المقتل، و حرّك الكلبيّ فرسه مولّيا، فاتّبعته الخيل حتى يدفع إلى ابن بحدل فانهزم، فقتلوا من كلب مقتلة عظيمة، و اتّبع عمير بن بحدل فجعل يقول لفرسه:
/أقدم صدام(10) إنّه ابن بحدل
لا تدرك الخيل و أنت تدأل(11)
ألاّ تمرّ مثل مرّ الأجدل(12)
ص: 205
قال: فمضى حميد حتى يدفع إلى الغوير(1)، و قد كاد الرّمح يناله، فانطلق يريد الباب، فطعن عمير الباب و كسر رمحه فيه، فلم يفلت من تلك الخيل غير حميد و شبل بن الخيتار. فلمّا بلغ ذلك بشر بن مروان قال لخالد بن يزيد بن معاوية: كيف ترى خالي طرد خالك؟.
/و قال عمير:
و أفلتنا ركضا حميد بن بحدل *** على سابح غوج اللّبان مثابر(2)
و نحن جلبنا الخيل قبّا شوازبا *** دقاق الهوادي داميات الدّوابر(3)
إذا انتقصت من شأوه الخيل خلفه *** ترامى به فوق الرماح الشواجر(4)
تسائل عن حيي رفيدة(5) بعد ما *** قضت وطرا من عبد ودّ و عامر
و قال شبل بن الخيتار:
نجّى الحساميّة الكبداء مبترك *** من جريها و حثيث الشدّ مذعور(6)
من بعد ما التثق السّربال طعنته *** كأنّه بنجيع الورس ممكور(7)
ولّى حميد و لم ينظر فوارسه *** قبل التّقرّة و المغرور مغرور(8)
فقد جزعت غداة الروع إذ لقحت *** أبطال قيس عليها البيض مشجور
يهدي أوائلها سمح خلائقه *** ماضي العنان على الأعداء منصور
يخرجن من برض الإكليل طالعة *** كأنّهن جراد الحرّة الزّور
/و ذكر زياد بن يزيد بن عمير بن الحباب، عن أشياخ قومه، قال:
أغار عمير بن الحباب على كلب، فلقي جمعا لهم بالإكليل في ستمائة أو سبعمائة، فقتل منهم فأكثر، فقالت هند الجلاحيّة تحرّض كلبا:
ألا هل ثائر بدماء قوم *** أصابهم عمير بن الحباب!
و هل في عامر يوما نكير *** و حيي عبد ودّ أو جناب!
ص: 206
فإن لم يثأروا من قد أصابوا *** فكانوا أعبدا لبني كلاب
أبعد بني الجلاح و من تركتم *** بجانب كوكب تحت التراب
تطيب لغائر منكم حياة *** ألا لا عيش للحيّ المصاب
فاجتمعوا فقاتلهم عمير، و أصاب فيهم، ثم أغار فلقي جمعا منهم بالجوف فقتلهم، ثم أغار عليهم بالسّماوة فقتل منهم مقتلة عظيمة، فقال عمير:
ألا يا هند هند بني الجلاح *** سقيت الغيث من قلل السّحاب
أ لمّا تخبري عنّا بأنّا *** نردّ الكبش أعضب في تباب
ألا يا هند لو عاينت يوما *** لقومك لامتنعت من الشّراب
غداة ندوسهم بالخيل حتّى *** أباد القتل حيّ بني جناب
و لو عطفت مواساة حميدا *** لغودر شلوه جزر الذّئاب(1)
/و ذكر زياد بن يزيد بن عمير بن الحباب، عن أشياخ قومه، قال: خرج عمير فأغار على قومه(2) أيضا يوم الغوير، فلمّا دنا من الغوير و صار بين حميد و دمشق دعا رجلا من بني نمير، و قال له: سر الآن حتى تأتي حميد بن بحدل، فقل له: أجب، /فإن قال: من؟ فقل: صاحب عقد(3) خرج قبل ذلك بيومين من دمشق، فإن جاء معك فلا تهجه حتى تأتيني به، فنكون نحن الذين نلي منه ما نريد أن نلي، فإنّه إن ركب الحساميّة لم يدرك. فأتاه النميريّ فقال: أجب، فقال: و من؟ قال: فلان بن فلان صاحب العقد. قال: فركب ابن بحدل الحسامية. ثم خرج يسير في أثر النّميريّ، حتى طلع النميريّ على عمير، فقال النميريّ في نفسه: أقتله أنا أحبّ إليّ من أن يقتله عمير لقتله الحسام بن سالم، فعطف عليه، و ولّى حميد، و أتّبعه عمير و أصحابه، و ترك العسكر، و أمرهم عمير أن يميلوا إلى القوم(4)، فذلك حيث يقول لفرسه:
أقدم صدام إنّه ابن بحدل
فاستباح(5) عسكر ابن بحدل و انصرف.
ثم أغار عليهم يوم دهمان كما ذكر عون بن حارثة بن عديّ بن جبلة أحد بني زهير عن أبيه: قال:
أغار عمير على كلب، فأخذ الأموال، و قتل الرّجال، و بلغ ابن بحدل مخرجه من الجزيرة، فجمع له، ثم خرج يعارضه، حتى إذا دنا منهم بعث العين يأخذ لهم(6) أثر القوم، فأتاه العين فأخبره أنّ عميرا قد أتى دهمان فاستباح فيهم(7)، ثم خلّف عسكره و خرج هو في طلب قوم قد سمع بهم، فقال حميد لأصحابه: تهيئوا للبيات،
ص: 207
و ليكن شعاركم: «نحن عباد اللّه حقّا حقّا»(1). فبيّتهم فقتل فيهم فأوجع. و انقلب عمير حين أصبح، إلى عسكره، حتى إذا أشرف على عسكره رأى ما أنكره من كثرة السّواد، /فقال لأصحابه: إني أرى شيئا ما أعرفه، و ما هو بالذي خلفنا، فلما رآهم ابن بحدل قال لأصحابه: احملوا عليهم، فقتل من الفريقين جميعا(2)، فقال ابن مخلاة:
لقد طار في الآفاق أنّ ابن بحدل *** حميدا شفى كلبا فقرّت عيونها
و قال منذر بن حسّان:
و بادية الجواعر من نمير *** تنادي و هي سافر النّقاب
تنادي بالجزيرة: يا لقيس *** و قيس بئس فتيان الضّراب
قتلنا منهم مائتين صبرا *** و ألفا بالتّلاع و بالرّوابي
و أفلتنا هجين بني سليم *** يفدّي المهر من حبّ الإياب
فلو لا اللّه و المهر المفدّى *** لغودر و هو غربال الإهاب
ثم سار عمير، و جمع لهم أكثر ممّا كان تجمّع، فأغار عليهم، فقتل منهم مقتلة، و استاق الغنائم و سبى. فلمّا سمعت كلب بإيقاعه تحمّلت من منازلها هاربة منه، فلم يبق منهم أحد في موضع يقدر عمير على الغارة عليه إلاّ أن يخوض إليهم غيرهم من الأحياء، و يخلّف مدائن الشّام خلف ظهره، و صاروا جميعا إلى الغوير(3)، فقال عمير في ذلك:
بشّر بني القين بطعن شرج(4) *** يشبع أولاد الضّباع العرج
/ما زال إمراري لهم و نسجي *** و عقبتي للكور بعد السّرج
حتّى اتّقونى بالظّهور الفلج *** هل أجزين يوما بيوم المرج
و يوم دهمان و يوم هرج
/و قال رجل من نمير:
أخذت نساء عبد اللّه قهرا *** و ما أعفيت نسوة آل كلب
صبحناهم بخيل مقربات(5) *** و طعن لا كفاء له و ضرب
يبكين ابن عمرو و هو تسفي *** عليه الرّيح تربا بعد ترب
و سعد قد دنا منه حمام *** بأسمر من رماح الخطّ صلب
و قد قالت أمامة إذ رأتني: *** بليت و ما لقيت لقاء صحب
و قد فقدت معانقتي زمانا *** و شدّ المعصمين فويق حقب
ص: 208
لقد بدّلت بعدي وجه سوء *** و آثارا بجلدك يا بن كعب
فقلت لها كذلك من يلاقي *** عتاق الخيل تحمل كل صعب
و قال المجير بن أسلم القشيريّ:
أصبحت أمّ معمر عذلتني *** في ركوبي إلى منادي الصّباح
فدعيني أفيد قومك مجدا *** تندبيني به لدى الأنواح
كلّ حيّ أذقت نعمي و بؤسى *** ببني عامر الطّوال الرّماح
و صدمنا(1) كلبا فبين قتيل *** أو سليب مشرّد من جراح
و أتونا بكلّ أجرد صاف *** و رجال معدّة و سلاح
و قال أيضا:
أبلغ عامرا عنّي رسولا *** و أبلغ إن عرضت بني جناب
هلمّ إلى جياد مضمرات *** و بيض لا تفلّ من الضّراب
/و سمر في المهزّة ذات لين *** نقيم بهنّ من صعر الرّقاب
إذا حشدت سليم حول بيتي *** و عامرها المركّب في النّصاب
فمن هذا يقارب فخر قومي *** و من هذا الذي يرجوا اغتصابي؟
و قال زفر بن الحارث:
يا كلب قد كلب الزّمان(2) عليكم *** و أصابكم منّي عذاب مرسل
أ يهولنا يا كلب أصدق شدّة *** يوم اللّقاء أم الهويل الأوّل
إنّ السّماوة لا سماوة فالحقي *** بالغور فالأفحاص بئس الموئل
فجنوب عكّا فالسّواحل إنّها *** أرض تذوب بها اللّقاح و تهزل
أرض المذلّة حيث عقّت أمّكم *** و أبوكم أو حيث مزّع(3) بحدل
و قال عمير بن الحباب:
/وردن على الغوير غوير كلب *** كأنّ عيونها قلب انتزاح
أقرّ العين مصرع عبد ودّ *** و ما لاقت سراة بني الجلاح
و قائمة تنادي يا لكلب *** و كلب بئس فتيان الصبّاح
و قال عمير أيضا:
ص: 209
و كلب تركنا جمعهم بين هارب *** حذار المنايا أو قتيل مجدّل
و أفلتنا لمّا التقينا بعاقد *** على سابح عند الجراء ابن بحدل
و أقسم لو لاقيته لعلوته *** بأبيض قطّاع الضّريبة مقصل(1)
/و قال عمير أيضا:
و كلبا تركناهم فلو لا أذلّة *** أدرنا عليهم مثل راغية البكر
و قال جهم القشيريّ:
يا كلب مهلا عن بني عامر *** فليس فيها الجدّ بالعاثر
ولّى حميد و هو في كربة *** على طويل متنه ضامر
بالأمّ يفديها و قد شمّرت *** كاللّبوة الممطولة الكاسر
هلاّ صبرتم للقنا ساعة *** و لم تكن بالماجد الصابر؟
و قال عمير:
و أفلتنا ركضا حميد بن بحدل *** على سابح غوج اللّبان مثابر
إذا انتقصت من شأوه الخيل خلفه *** ترامى به فوق الرّماح الشّواجر
لدن غدوة حتى نزلنا عشيّة *** يمرّ كمرّيخ الغلام المخاطر
و قال عمير:
يا كلب لم تترك لكم أرماحنا *** بلوى السّماوة فالغوير مرادا
يا كلب أحرمنا(2) السماوة فانظري *** غير السّماوة في البلاد بلادا
و لقد صككنا بالفوارس جمعكم *** و عديدكم يا كلب حتى بادا
و لقد سبقت بوقعة تركتكم *** يا كلب بالحرب العوان بعادا(3)
/و قال(4) زفر بن الحارث:
ص: 210
جرى اللّه خيرا كلّما ذرّ(1) شارق *** سعيدا و لاقته التحيّة و الرّحب
و حلحلة(2) المغوار للّه جدّه *** فلو لم ينله القتل بادت إذن كلب
بني عبد ودّ لا نطالب ثأرنا *** من الناس بالسّلطان إن شبّت الحرب
و لكنّ بيض الهند تسعر نارنا *** إذا ما خبت نار الأعادى فما تخبو
أبادتكم فرسان قيس فما لكم *** عديد إذا عدّ الحصى لا و لا عقب
بأيديهم بيض رقاق كأنّها *** إذا ما انتضوها في أكفّهم الشّهب
فسبّوهم إن أنتم لم تطالبوا *** بثأركم قد ينفع الطالب السّبّ
/و ما امتنع الأقوام عنّا بنأيهم *** سواء علينا النأي في الحرب و القرب
و قال عمير:
شفيت الغليل من قضاعة عنوة *** فظلّ لها يوم أغرّ محجّل
جزيناهم بالمرج يوما مشهّرا *** فلاقوا صباحا ذا وبال و فتّلوا
فلم يبق إلا هارب من سيوفنا *** و إلاّ قتيل في مكرّ(3) مجدّل(4)
/و قال ابن الصّفّار المحاربيّ(5):
عظمت مصيبة تغلب ابنة وائل *** حتى رأت كلب مصيبتها سوى(6)
شمتوا و كان اللّه قد أخزاهم *** و تريد كلب أن يكون لها أسا(7)
و بكم بدأنا يا لكلب قتلهم *** و لعلّنا يوما نعود لكم عسى
أخنت على كلب صدور رماحنا *** ما بين أقبلة الغوير إلى سوا(8)
و عركن بهراء بن عمرو عركة *** شفت الغليل و مسّهم منّا أذى
و قال الرّاعي:
متى نفترش يوما عليما بغارة *** يكونوا كعوص أو أذلّ و أضرعا(9)
ص: 211
و حيّ الجلاح قد تركنا بدارهم *** سواعد ملقاة و هاما مصرعا
و نحن جدعنا أنف كلب و لم ندع *** لبهراء في ذكر من النّاس مسمعا
قتلنا لو أنّ القتل يشفي صدورنا *** بتدمر ألفا من قضاعة أقرعا(1)
/و قال زفر بن الحارث - و ذكر أبو عبيدة أنها لعقيل بن علّفة(2):
أقرّ العيون أنّ رهط ابن بحدل *** أذيقوا هوانا بالذي كان قدّما
صبحناهم البيض الرّقاق ظباتها *** بجانب خبث و الوشيج المقوّما
و جرداء ملّتها الغزاة فكلّها *** ترى قلقا تحت الرّحالة أهضما
بكلّ فتى لم تأبر النّخل أمّه *** و لم يدع يوما للغرائر معكما
و هذه الحروب التي جرت: ببنات قين(3). فلما ألحّ عمير بالغارات على كلب رحلت حتى نزلت غوريّ(4)الشام، فلما صارت كلب بالموضع(5) الذي صارت قيس، انصرفت قيس في بعض ما كانت تنصرف من غزو كلب، و هم مع عمير، فنزلوا بثني من أثناء الفرات بين منازل بني تغلب، و في بني تغلب امرأة من تميم يقال لها: أم دويل ناكحة(6) في بني مالك بن جشم بن بكر، و كان دويل من فرسان بني تغلب، و كانت لها أعنز بمجنبة(7)، فأخذوا من أعنزها(8)، أخذها غلام من بني الحريش، فشكوا ذلك إلى عمير فلم يشكهم، و قال: معرّة الجند. فلمّا رأى أصحابه أنه لم يقدعهم وثبوا على بقيّة أعنزها فأخذوها و أكلوها، فلمّا أتاها دويل أخبرته بما لقيت، فجمع/جمعا ثم سار فأغار على بني الحريش، فلقي جماعة منهم فقاتلوه، فخرج رجل من بني الحريش - زعمت تغلب أنّه مات بعد ذلك - و أخذ ذودا(9) لامرأة من بني الحريش يقال لها: أمّ الهيثم، فبلغ الأخطل الوقعة، فلم يدر ما هي، و قال و هو براذان(10):
ص: 212
/أتاني و دوني الزّابيان(1) كلاهما *** و دجلة(2) أنباء أمرّ من الصّبر
أتاني بأن ابني نزار تهاديا *** و تغلب أولى بالوفاء و بالغدر
فلما تبين الخبر قال:
و جاءوا بجمع ناصري أمّ هيثم *** فما رجعوا من ذودها ببعير
فلمّا بلغ ذلك قيسا أغارت على بني تغلب بإزاء الخابور(3)، فقتلوا منهم ثلاثة نفر، و استاقوا خمسة و ثلاثين بعيرا، فخرجت جماعة من تغلب، فأتوا زفر بن الحارث و ذكروا له القرابة و الجهوار، و هم بقرقيسيا، و قالوا: ائتنا برحالنا و ردّ علينا نعمنا، فقال: أما النّعم فنردّها(4) عليكم، أو ما قدرنا لكم عليه، و نكمل لكم نعمكم من نعمنا إن لم نصبها كلّها، و ندي لكم القتلى، قالوا له: فدع لنا قريات(5) الخابور، و رحّل قيسا عنها، فإنّ هذه الحروب لن تطفأ ما داموا مجاورينا، فأبى ذلك زفر، و أبواهم أن يرضوا إلاّ بذلك، فناشدهم اللّه و ألحّ عليهم، فقال له رجل من النّمر كان معهم: و اللّه ما يسرّني أنّه وقاني حرب قيس كلب أبقع تركته في غنمي اليوم، و ألحّ عليهم زفر يطلب إليهم و يناشدهم، /فأبوا فقال عمير: لا عليك، لا تكثر، فو اللّه إنّي لأرى عيون قوم ما يريدون إلا محاربتك، فانصرفوا من عنده، ثم جمعوا جمعا، و أغاروا على ما قرب من قرقيسيا من قرى القيسيّة، فلقيهم عمير بن الحباب، فكان النّميريّ الذي تكلّم عند زفر أول قتيل، و هزم التغلبيّين، فأعظم ذلك الحيّان جميعا قيس و تغلب، و كرهوا الحرب و شماتة العدوّ.
فذكر سليمان بن عبد اللّه بن الأصمّ:
أنّ إياس بن الخرّاز، أحد بني عتيبة بن سعد بن زهير، و كان شريفا من عيون تغلب، دخل قرقيسيا لينظر و يناظر زفر فيما كان بينهم، فشدّ عليه يزيد بن بحزن(6) القرشيّ فقتله، فتذمّم زفر من ذلك، و كان كريما مجمّعا لا يحب الفرقة، فأرسل إلى الأمير(7) ابن قرشة بن عمرو بن ربعيّ بن زفر بن عتيبة بن بعج بن عتيبة(8) بن سعد بن زهير بن جشم بن الأرقم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، فقال له: هل لك أن تسود بني(9) نزار فتقبل مني الدّية عن ابن عمّك؟ فأجابه إلى ذلك. و كان قرشة من أشراف بني تغلب، فتلافى زفر ما بين الحيّين، و أصلح بينهم، و في الصدور ما فيها، فوفد عمير على المصعب بن الزبير، فأعلمه أنه قد أولج قضاعة بمدائن الشام، و أنه لم يبق إلا حيّ من ربيعة أكثرهم نصارى، فسأله أن يولّيه عليهم، فقال: اكتب إلى زفر، فإن هو أراد ذلك و إلاّ ولاّك، فلمّا قدم على زفر ذكر له ذلك فشقّ عليه ذلك، و كره أن يليهم عمير فيحيف بهم و يكون ذلك داعية إلى
ص: 213
منافرته، فوجّه إليهم قوما، و أمرهم أن يرفقوا بهم، فأتوا أخلاطا من بني تغلب من مشارق الخابور فأعلموهم الذي وجّهوا به، فأبوا عليهم، فانصرفوا إلى زفر، فردّهم و أعلمهم أنّ المصعب كتب إليه بذلك، و لا يجد بدّا من أخذ ذلك منهم أو محاربتهم، فقتلوا بعض الرسل.
و ذكر ابن الأصمّ:
أنّ زفر لمّا أتاه ذلك اشتدّ عليه، و كره استفساد بني تغلب، فصار إليهم عمير بن الحباب فلقيهم قريبا من ماكسين(1) على شاطئ الخابور، بينه و بين قرقيسيا مسيرة يوم، فأعظم فيها القتل.
و ذكر زياد بن يزيد بن عمير(2)/بن الحباب:
أن القتل استحرّ ببني عتّاب بن سعد، و النّمر، و فيهم أخلاط تغلب، و لكنّ هؤلاء معظم الناس، فقتلوهم بها قتلا شديدا، و كان زفر بن يزيد أخو الحارث بن جشم له عشرون ذكرا لصلبه، و أصيب يومئذ أكثرهم، و أسر القطاميّ الشاعر و أخذت إبله، فأصاب عمير و أصحابه شيئا كثيرا من النّعم، و رئيس تغلب يومئذ عبد اللّه بن شريح بن مرّة بن عبد اللّه بن عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتّاب بن سعد بن زهير بن جشم، فقتل، و قتل أخوه، و قتل مجاشع بن الأجلح، و عمرو بن معاوية من بني خالد بن كعب بن زهير، و عبد الحارث بن عبد المسيح الأوسيّ، و سعدان بن عبد يسوع بن حرب(3)، و سعد ودّ بن أوس من بني جشم بن زهير، و جعل عمير يصيح بهم: «ويلكم لا تستبقوا(4) أحدا» و نادى رجل من بني قشير يقال له النّدّار: «أنا(5) جار لكلّ حامل أتتني، فهي آمنة»، فأتته الحبالى، فبلغني أنّ المرأة كانت تشدّ على بطنها الجفنة من تحت ثوبها تشبيها بالحبلى بما جعل لهنّ. فلمّا اجتمعن له بقر/بطونهنّ فأفظع ذلك زفر و أصحابه، و لام زفر عميرا فيمن بقر من النّساء، فقال ما فعلته و لا أمرت به، فقال في ذلك الصفّار المحاربيّ:
بقرنا منكم ألفي بقير *** فلم نترك لحاملة جنينا
و قال الأخطل يذكر ذلك:
فليت الخيل قد وطئت قشيرا *** سنابكها و قد سطع الغبار
فنجزيهم ببغيهم علينا *** بني لبنى بما فعل الغدار
و قال الصّفّار:
تمنّيت بالخابور قيسا فصادفت *** منايا لأسباب وفاق على قدر
و قال جرير:
نبّئت أنّك بالخابور ممتنع *** ثم انفرجت انفراجا بعد إقرار(6)
ص: 214
فقال زفر بن الحارث يعاتب عميرا بما كان منه في الخابور:
ألا من مبلغ عنّي عميرا *** رسالة عاتب و عليك زاري
أ تترك(1) حيّ ذي كلع و كلب *** و تجعل(2) حدّ نابك في نزار
كمعتمد على إحدى يديه *** فخانته بوهي و انكسار
و لمّا أسر القطاميّ أتى زفر(3) بقرقيسيا فخلّى سبيله، ورد عليه مائة ناقة، كما ذكر أدهم بن عمران العبديّ، فقال القطاميّ يمدحه:
قفى قبل التفرّق يا ضباعا *** و لا يك موقف منك الوداعا
/قفي فادي أسيرك إنّ قومي *** و قومك لا أرى لهم اجتماعا(4)
أ لم يحزنك أنّ حبال قيس *** و تغلب قد تباينت انقطاعا
فصارا ما تغبّهما أمور *** تزيد سنا حريقتها ارتفاعا(5)
كما العظم الكسير يهاض حتى *** يبتّ و إنّما بدأ انصداعا(6)
/فأصبح سبل ذلك قد ترقى(7) *** إلى من كان منزله يفاعا(8)
فلا تبعد دماء ابني نزار *** و لا تقرر عيونك يا قضاعا(9)
و من يكن استلام إلى ثويّ *** فقد أحسنت يا زفر المتاعا(10)
ص: 215
أ كفرا بعد ردّ الموت عنّي *** و بعد عطائك المائة الرّتاعا(1)
/فلو بيدي سواك غداة زلّت *** بي القدمان لم أرج اطّلاعا(2)
إذن لهلكت لو كانت صغار *** من الأخلاق تبتدع ابتداعا(3)
فلم أر منعمين أقلّ منّا *** و أكرم عند ما اصطنعوا اصطناعا
من البيض الوجوه بني نفيل *** أبت أخلاقهم إلاّ اتّساعا
بني القرم الذي علمت معدّ *** تفضّل قومها سعة و باعا(4)
و قال أيضا:
يا زفر بن الحارث بن الأكرم *** قد كنت في الحرب قديم المقدم(5)
إذ أحجم القوم و لمّا تحجم *** إنّك و ابنيك حفظتم محرمي
و حقن اللّه بكفّيك دمي *** من بعد ما جفّ لساني و فمي(6)
أنقذتني من بطل(7) معمّم *** و الخيل تحت العارض المسوّم(8)
و تغلب يدعون: يا للأرقم
/و قال أيضا(9):
يا ناق خبّي خببا زورا(10) *** و قلّبي منسمك المغبرا
و عارضي اللّيل إذا ما اخضرّا *** سوف تلاقين(11) جوادا حرّا
ص: 216
سيّد قيس زفر الأغرّا *** ذاك الذي بايع ثمّ برّا
و نقض الأقوام و استمرا *** قد نفع اللّه به و ضرّا
و كان في الحرب شهابا مرّا
و قال أيضا:
كأنّ في المركب حين راحا *** بدرا يزيد البصر انفضاحا(1)
ذا بلج ساواك أنّي امتاحا(2) *** و قرّ عينا و رجا الرّباحا
أ لا ترى ما غشي الأركاحا(3) *** و غشي الخابور و الأملاحا(4)
يصفّقون بالأكفّ الرّاحا
/و قال فيه أيضا [هذه القصيدة التي فيها الغناء المذكور بذكر أخبار القطاميّ(5)]:
ما اعتاد حبّ سليمى حين معتاد *** و لا تقضّى بواقي دينها الطادي(6)
بيضاء محطوطة المتنين بهكنة *** ريّا الرّوادف لم تمغل بأولاد(7)
ما للكواعب ودّعن الحياة كما *** ودّعننى و اتّخذن الشّيب ميعادي(8)
أبصارهنّ إلى الشّبّان مائلة *** و قد أراهنّ عنّي غير صدّاد
إذ باطلي لم تقشّع جاهليّته *** عنّي و لم يترك الخلاّن تقوادي
كنيّة الحيّ من ذي القيضة(9) احتملوا *** مستحقبين فؤادا(10) ما له فادي
بانوا و كانوا(11) حياتي في اجتماعهم *** و في تفرّقهم قتلي و إقصادي
يقتلننا بحديث ليس يعلمه *** من يتّقين و لا مكنونه بادي(12)
ص: 217
فهنّ ينبذن من قول يصبن به *** مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي
يقول فيها في مدح زفر بن الحارث:
من مبلغ زفر القيسيّ مدحته *** من القطاميّ قولا غير إفناد(1)
/إنّي و إن كان قومي ليس بينهم *** و بين قومك إلاّ ضربة الهادي
مثن عليك بما استبقيت معرفتي *** و قد تعرّض منّي مقتل بادي(2)
فلن أثيبك(3) بالنّعماء مشتمة *** و لن أبدّل إحسانا بإفساد
فإن هجوتك ما تمّت مكارمتي *** و إن مدحت(4) فقد أحسنت إصفادي
و ما نسيت مقام الورد(5) تحبسه(6) *** بيني و بين حفيف الغابة الغادي
لو لا كتائب من عمرو تصول(7) بها *** أرديت يا خير من يندو له النّادي(8)
/إذ لا ترى العين إلا كلّ سلهبة *** و سابح مثل سيد الرّدهة العادي(9)
إذ الفوارس من قيس بشكّتهم *** حولي شهود و ما قومي بشهّادي(10)
إذ يعتريك رجال يسألون دمي *** و لو أطعتهم أبكيت عوّادي
فقد عصيتهم و الحرب مقبلة *** لا بل قدحت زنادا غير صلاّد(11)
ص: 218
/و الصّيد آل نفيل خير قومهم *** عند الشتاء إذا ما ضنّ بالزّاد
المانعون غداة الرّوع جارهم *** بالمشرفيّة من ماض و منآد(1)
أيّام قومي مكاني منصب لهم *** و لا يظنّون إلاّ أنّني رادي(2)
فانتاشني لك من غمّاء مظلمة(3)*** حبل تضمّن إصداري و إيرادي
و لا كردّك مالي(4) بعد ما كربت *** تبدي الشماتة(5) أعدائي و حسّادي
فإن قدرت على خير(6) جزيت به *** و اللّه يجعل أقواما بمرصاد
قال ابن سلام: فلما سمع زفر هذا قال: لا أقدرك اللّه على ذلك.
و قال أيضا:
ألا من مبلغ زفر بن عمرو *** و خير القول ما نطق الحكيم(7)
/أبيّ ما يقاد الدّهر قسرا(8) *** و لا لهوى المصرّف يستقيم
أنوف حين يغضب مستعزّ(9) *** جنوح(10) يستبدّ به العزيم(11)
فما آل الحباب(12) إلى نفيل(13) *** إذا عدّ الممهّل و القديم
كأنّ أبا الحباب إلى نفيل *** حمار عضّه فرس عذوم(14)
ص: 219
بنى لك عامر(1) و بنو كلاب *** أروما ما يوازيه(2) أروم
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة، قال: حدّثني علي بن يحيى المنجّم، قال: سمعت من لا أحصي من الرّواة يقولون:
أحسن الناس ابتداء قصيد في الجاهليّة امرؤ القيس، حيث يقول:
ألا عم صباحا أيها الطّلل البالي(3)..
و حيث يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل..
/و في الإسلاميين القطاميّ، حيث يقول:
إنا محيّوك فاسلم أيها الطّلل(4)
و في المحدثين بشار، حيث يقول:
أبى طلل بالجزع أن يتكلّما *** و ما ذا عليه لو أجاب متيّما؟(5)
و بالفرع آثار لهند و باللّوى *** ملاعب ما يعرفن إلاّ توهّما
نسخت من كتاب أحمد بن الحارث الخرّاز - و لم أسمعه من أحد، و هو خبر فيه طول اقتصرت(6) منه على ما فيه من خبر القطاميّ - قال أحمد بن الحارث الخرّاز: حدّثني المدائنيّ، عن عبد الملك بن مسلم، قال:
قال عبد الملك بن مروان للأخطل، و عنده عامر الشّعبي: أ تحبّ أن لك قياضا(7) بشعرك شعر أحد من العرب أم(8) تحبّ أنك قلته؟ قال:
لا و اللّه يا أمير المؤمنين، إلا أنّي وددت أني كنت قلت أبياتا قالها رجل منّا مغدف القناع، قليل السّماع، قصير الذّراع، قال: و ما قال؟ فأنشد قول القطاميّ(9):
إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل *** و إن بليت و إن طالت بك الطّيل(10)
ص: 220
/ليس الجديد(1) به تبقى بشاشته *** إلا قليلا و لا ذو خلّة يصل
و العيش لا عيش(2) إلا ما تقرّ به *** عين و لا حال إلا سوف تنتقل(3)
إن ترجعي من أبي عثمان منجحة *** فقد يهون على المستنجح العمل
و الناس من يلق خيرا قائلون له *** ما يشتهي و لأمّ المخطئ الهبل
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته *** و قد يكون مع المستعجل الزّلل
حتى أتى على آخرها(4).
قال الشّعبيّ: فقلت له: قد قال القطاميّ أفضل من هذا، قال: و ما قال؟ قلت: قال(5):
طرقت جنوب رجالنا من مطرق *** ما كنت أحسبها قريب المعتق(6)
قطعت إليك بمثل حيد جداية *** حسن معلّق تومتيه مطوّق(7)
/و مصرّعين من الكلال كأنّما *** بكروا الغبوق من الرّحيق المعتق(8)
متوسّدين ذراع كلّ شملّة *** و مفرّج عرق المقذّ منوّق(9)
و جثت على ركب تهدّ بها الصّفا *** و على كلاكل كالنّقيل المطرق(10)
و إذا سمعن إلى هماهم رفقة *** و من النّجوم غوابر لم تخفق(11)
ص: 221
جعلت تميل خدودها آذانها *** طربا بهنّ إلى حداء السّوق(1)
كالمنصتات إلى الزّمير(2) سمعنه *** من رائع لقلوبهنّ مشوّق
فإذا نظرن إلى الطّريق رأينه *** لهقا كشاكلة الحصان الأبلق(3)
و إذا تخلّف بعدهنّ لحاجة *** حاد يشسع نعله لم يلحق(4)
/و إذا يصيبك - و الحوادث جمّة - *** حدث حداك إلى أخيك الأوثق(5)
ليت الهموم عن الفؤاد تفرّجت *** و خلا التّكلّم للّسان المطلق(6)
قال: فقال عبد الملك بن مروان: ثكلت القطاميّ أمّه، هذا و اللّه الشّعر، قال: فالتفت إليّ الأخطل فقال لي(7): يا شعبيّ، إن لك فنونا في الأحاديث، و إنما لنا فنّ واحد، فإن رأيت ألاّ تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حربي(8) فقلت: و كرامة(9)، لا أعرض لك في شعر أبدا، فأقلني هذه(10) المرّة.
ثم التفتّ إلى عبد الملك بن مروان، فقلت: يا أمير المؤمنين: أسألك أن تستغفر لي الأخطل، فإني لا أعاود ما يكره، فضحك عبد الملك بن مروان و قال: يا أخطل إن الشّعبيّ في جواري، فقال: يا أمير المؤمنين: قد بدأته بالتحذير، و إذا ترك ما نكره لم نعرض له إلا بما يحب. فقال عبد الملك بن مروان للأخطل: فعليّ ألاّ يعرض لك إلا بما تحبّ أبدا، فقال له الأخطل: أنت تتكفّل بذلك يا أمير المؤمنين؟ قال عبد الملك بن مروان: أنا أكفل به، إن شاء اللّه تعالى.
ص: 222
يا بن الذين سما كسرى لجمعهم *** فجلّلوا وجهه قارا بذي قار(1)
دوّخ خراسان بالجرد العتاق و با *** لبيض الرّقاق بأيدي كلّ مسعار(2)
الشّعر لأبي نجدة - و اسمه لجيم(3) بن سعد - شاعر من(4) بني عجل.
أخبرني بذلك جماعة من أهله/و كان أبو نجدة هذا مع أحمد بن عبد العزيز بن دلف بن أبي دلف، منقطعا إليه.
و الغناء لكنيز دبّة(5)، و لحنه فيه خفيف(6) بالبنصر، ابتداؤه نشيد.
و كان سبب قوله هذا الشعر أنّ قائدا من قوّاد أحمد بن عبد العزيز التجأ(7) إلى عمرو بن اللّيث، و هو يومئذ بخراسان، فغمّ ذلك أحمد و أقلقه(8)، فدخل عليه أبو نجدة، فأنشده هذين البيتين، و بعدهما:
يا من تيمّم عمرا يستجير به *** أ ما سمعت ببيت فيه سيّار(9)
/المستجير بعمرو عند كربته *** كالمستجير من الرّمضاء بالنّار(10)
فسرّ أحمد بذلك، و سرّي عنه(11)، و أمر لأبي نجدة بجائزة، و خلع عليه و حمله، و غنّى(12) فيه كنيز لحنه هذا(13)، و هو لحن حسن مشهور في عصرنا هذا، فأمر لكنيز أيضا بجائزة، و خلع عليه و حمله.
سمعت أبا عليّ محمد بن المرزبان يحدّث أبي - رحمه اللّه - بهذا على سبيل المذاكرة، و كانت بيننا و بين آل المرزبان مودّة قديمة و صهر.
ص: 223
5 - خبر وقعة ذي قار(1)التي فخر بها في هذا الشعر
أخبرنا بخبرها عليّ بن سليمان الأخفش، عن السّكريّ، عن محمد بن حبيب، عن ابن الكلبيّ، عن خراش(2)ابن إسماعيل. و أضفت إلى ذلك رواية الأثرم عن أبي عبيدة، و عن هشام أيضا، عن أبيه، قالوا:
كان من حديث ذي قار أنّ كسرى أبرويز بن هرمز لمّا غضب على النّعمان بن المنذر أتى النّعمان هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو بين ربيعة بن ذهل بن شيبان(3)، فاستودعه ماله و أهله و ولده(4)، و ألف شكّة، و يقال:
أربعة آلاف شكّة - قال ابن الأعرابيّ: و الشّكّة: السّلاح كلّه(5) - و وضع و ضائع(6) عند أحياء من العرب(7)، ثم هرب و أتى طيّئا(8) لصهره فيهم.
/و كانت عنده فرعة بنت سعيد(9) بن حارثة بن لأم(10)، و زينب بنت أوس بن حارثة، فأبوا أن يدخلوه جبلهم(11)، و أتته بنو رواحة بن ربيعة بن عبس(12)، فقالوا له: «أبيت اللّعن، أقم عندنا، فإنّا مانعوك ممّا نمنع منه أنفسنا»، فقال: ما أحبّ أن تهلكوا بسببي، فجزيتم(13) خيرا.
ثم خرج حتى وضع يده في يد كسرى، فحبسه بساباط(14)، و يقال بخانقين(15) - و قد مضى خبره(16) مشروحا
ص: 224
في أخبار عديّ بن زيد(1) - قالوا: فلمّا هلك النعمان جعلت بكر بن وائل تغير على(2) السّواد(3)، فوفد قيس بن مسعود بن قيس بن خالد ذي الجدّين(4)، بن عبد اللّه(5) بن عمرو إلى كسرى، فسأله أن يجعل له أكلا و طعمة، على أن يضمن له على بكر بن وائل ألاّ يدخلوا السّواد و لا يفسدوا فيه، فأقطعه الأبلّة(6) و ما والاها.
/و قال: هل(7)، تكفيك و تكفي أعراب قومك؟.. و كانت له حجرة(8) فيها مائة(9) من الإبل للأضياف، إذا نحرت ناقة ردّت مكانها ناقة أخرى(10) و إيّاه عنى الشّماخ بقوله:
فادفع بألبانها عنكم كما دفعت *** عنهم لقاح بني قيس بن مسعود(11)
قال: فكان(12) يأتيه من أتاه منهم فيعطيه جلّة تمر و كرباسة(13)، حتى قدم الحارث بن وعلة بن مجالد(14) بن يثربيّ بن الدّيّان بن الحارث بن مالك بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، و المكسّر بن حنظلة(15) بن حييّ بن ثعلبة(16) بن سيار بن حييّ بن(17) حاطبة بن الأسعد(18) بن جذيمة بن سعد بن عجل بن لجيم(19)، فأعطاهما/جلتي تمر و كرباستين، فغضبا و أبيا أن يقبلا ذلك منه، فخرجا و استغويا(20)/ناسا من بكر بن وائل، ثم أغارا على السّواد، فأغار الحارث على أسافل رود ميسان(21) و هي من جرد(22)، و أغار المكسّر على الأنبار، فلقيه رجل من العباديّين(23)
ص: 225
من أهل الحيرة، قد نتجت بعض نوقهم، فحملوا الحوار على ناقة، و صرّوا(1)، الإبل.
فقال العباديّ: لقد صبّح الأنبار شرّ، جمل يحمل جملا(2)، و جمل برته(3) عود، فجعلوا يضحكون من جهله بالإبل.
قال: و أغار بجير بن عائذ بن سويد العجليّ(4)، و معه مفروق بن عمرو الشّيبانيّ على القادسيّة و طيرناباذ(5)و ما والاهما، و كلّهم ملأ يديه غنيمة. فأما مفروق و أصحابه فوقع فيهم الطاعون فموّت منهم خمسة نفر مع من موّت من أصحابهم، فدفنوا بالدّجيل، و هو رحلة من العذيب يسيرة، فقال مفروق:
أتاني بأنباط السّواد يسوقهم *** إليّ و أودت رجلتي و فوارسي
فلمّا بلغ ذلك كسرى اشتدّ حنقه على بكر بن وائل، و بلغه أن حلقة(6) النّعمان و ولده و أهله عندهم، فأرسل كسرى إلى قيس بن مسعود، و هو بالأبلّة(7) فقال: /غررتني(8) من قومك، و زعمت(9) أنك تكفينيهم، و أمر به فحبس بساباط، و أخذ كسرى في تعبئة الجيوش إليهم، فقال قيس بن مسعود، و هو محبوس(10)، من أبيات(11):
ألا أبلغ بني ذهل رسولا *** فمن هذا يكون لكم مكاني(12)
أ يأكلها ابن وعلة في ظليف *** و يأمن هيثم و ابنا سنان؟(13)
و يأمن فيكم الذّهليّ بعدي *** و قد وسموكم سمة البيان
ألا من مبلغ قومي و من ذا *** يبلّغ عن أسير في الإوان(14)
- يعني الإيوان(15) -
تطاول ليله و أصاب حزنا *** و لا يرجو الفكاك مع المنان(16)
ص: 226
يعني بالهيثم(1)، و ابني سنان: الهيثم بن جرير بن يساف بن ثعلبة بن سدوس بن ذهل بن ثعلبة، و أبو علباء(2) بن الهيثم.
/و قال قيس بن مسعود ينذر(3) قومه:
ألا ليتني أرشو سلاحي و بغلتي *** لمن يخبر الأنباء بكر بن وائل(4)
و يروي: لمن يعلم الأنباء(5)
فأوصيهم باللّه و الصّلح بينهم *** لينصأ معروف و يزجر جاهل(6)
وصاة امرئ لو كان فيكم أعانكم *** على الدّهر، و الأيام فيها الغوائل
فايّاكم و الطّفّ لا تقربنّه *** و لا البحر إنّ الماء للبحر واصل(7)
و لا أحبسنكم عن بغا الخير إنّني *** سقطت على ضرغامة فهو آكل(8)
رواه ابن الأعرابيّ فقال:
... إنّ الماء للقود واصل(9)
أي أنه معين لهم، يقود الخيل إليكم(10).
/قال: و قال قيس أيضا ينذرهم:
تعنّاك من ليلى مع اللّيل خائل *** و ذكر لها في القلب ليس يزايل(11)
أحبّك حبّ الخمر(12) ما كان حبّها *** إلىّ و كلّ في فؤادي داخل
ص: 227
ألا ليتني أرشو سلاحي و بغلتي *** فيخبر قومي اليوم ما أنا قائل(1)
/فإنّا ثوينا في شعوب و إنّهم *** غزتهم جنود جمّة و قبائل(2)
و إنّ جنود العجم بيني و بينكم *** فيا فلجي يا قوم إن لم تقاتلوا(3)
قال: فلمّا وضح لكسرى و استبان أنّ مال النّعمان و حلقته و ولده عند ابن مسعود بعث إليه كسرى رجلا يخبره أنّه قال له: إن النعمان إنما كان عاملي، و قد استودعك(4) ماله و أهله(5) و الحلقة(6)، فابعث بها إليّ(7) و لا تكلّفني أن أبعث إليك و لا إلى(8) قومك بالجنود، تقتل المقاتلة و تسبي الذّرّيّة. فبعث إليه هانئ(9):
إنّ الذي بلغك باطل، و ما عندي قليل و لا كثير(10)، و إن يكن الأمر كما قيل فإنما أنا أحد رجلين، إما رجل استودع أمانة، فهو حقيق أن يردّها على من استودعه/إيّاها(11)، و لن(12) يسلّم الحرّ أمانته. أو رجل مكذوب عليه، فليس ينبغي للملك أن يأخذه(13) بقول عدوّ أو حاسد.
قال: و كانت الأعاجم قوما لهم حلم(14)، قد سمعوا ببعض علم العرب(15)، و عرفوا(16) أنّ هذا الأمر كائن فيهم(17).
فلما ورد عليه كتاب هانئ بهذا(18) حملته الشّفقة أن يكون ذلك قد اقترب، فأقبل حتى قطع الفرات، فنزل غمر بني مقاتل(19). و قد أحنقه ما صنعت بكر بن وائل في السّواد و منع هانئ إيّاه ما منعه.
قال: و دعا كسرى إياس بن قبيصة الطائيّ، و كان عامله على عين التّمر و ما والاها إلى الحيرة(20)، و كان
ص: 228
كسرى قد أطعمه ثلاثين(1) قرية على شاطئ الفرات، فأتاه(2) في صنائعه من العرب الذين كانوا بالحيرة، فاستشاره في الغارة على بكر بن وائل، و قال: ما ذا ترى؟ و كم ترى أن نغزيهم من الناس؟ فقال له إياس: إن الملك لا يصلح أن يعصيه(3) أحد من رعيته، و إن تطعني لم تعلم أحدا(4) لأيّ شيء عبرت/و قطعت(5) الفرات، فيروا أنّ شيئا من أمر(6) العرب قد كربك(7)، و لكن ترجع و تضرب عنهم، و تبعث عليهم العيون حتى ترى غرّة(8) منهم ثم ترسل حلبة(9) من العجم فيها بعض القبائل التي تليهم، فيوقعون بهم وقعة الدّهر، و يأتونك بطلبتك. فقال له كسرى: أنت رجل من العرب، و بكر بن وائل أخوالك - و كانت أمّ إياس(10): أمامة بنت مسعود، أخت هانئ بن مسعود(11) - فأنت تتعصّب لهم، و لا تألوهم نصحا(12). فقال إياس: رأي الملك أفضل(13) فقام إليه عمرو بن عديّ ابن زيد العباديّ - و كان كاتبه و ترجمانه بالعربية، في أمور العرب(14) - فقال له: أقم(15) أيّها الملك - و ابعث إليهم بالجنود يكفوك. فقام(16) إليه النّعمان بن زرعة بن هرميّ، من ولد السّفّاح التّغلبيّ، فقال(17): أيّها الملك، إنّ هذا الحيّ من بكر بن وائل إذا قاظوا(18) بذي قار تهافتوا تهافت الجراد في النّار. فعقد للنّعمان بن زرعة على تغلب و النّمر(19)، و عقد لخالد بن يزيد البهرانيّ على قضاعة و إياد، و عقد لإياس بن قبيصة على/جميع العرب، و معه كتيبتاه الشّهباء و الدّوسر، فكانت العرب ثلاثة آلاف. و عقد للهامرز على ألف من الأساورة(20)، و عقد لخنابرين(21)على ألف، و بعث معهم باللّطيمة، و هي عير كانت تخرج من العراق، فيها البزّ و العطر و الألطاف(22)، توصل إلى
ص: 229
باذام(1) عامله باليمن، و قال: إذا فرغتم من عدوّكم فسيروا بها إلى اليمن، و أمر عمرو بن عديّ أن يسير بها، و كانت العرب تخفرهم و تجيرهم(2) حتى تبلغ اللّطيمة اليمن(3). و عهد كسرى إليهم إذا شارفوا بلاد بكر بن وائل و دنوا منها(4) أن يبعثوا إليهم النّعمان بن زرعة، فإن أتوكم(5)/بالحلقة و مائة غلام منهم يكونون رهنا(6) بما أحدث(7) سفهاؤهم، فاقبلوا منهم، و إلاّ فقاتلوهم(8). و كان كسرى قد أوقع قبل ذلك ببني تميم، يوم الصّفقة(9)فالعرب وجلة خائفة منه(10). /و كانت حرقة بنت حسّان بن النّعمان بن المنذر يومئذ في بني سنان، هكذا في هذه الرّواية.
و قال ابن الكلبيّ: حرقة بنت النّعمان(11)، و هي هند، و الحرقة لقب، و هذا هو الصحيح. فقالت تنذرهم:
ألا أبلغ بني بكر رسولا *** فقد جدّ النّفير بعنقفير(12)
فليت الجيش كلّهم فداكم *** و نفسي و السّرير و ذا السّرير(13)
كأنّي حين جدّ بهم إليكم *** معلّقة الذّوائب بالعبور(14)
فلو أنّي أطقت لذاك دفعا *** إذن لدفعته بدمي و زيري(15)
فلمّا بلغ بكر بن وائل الخبر سار هانئ بن مسعود حتى انتهى إلى(16) ذي قار، فنزل به، و أقبل النعمان بن زرعة، و كانت أمّه قلطف بنت النّعمان بن معد يكرب التّغلبيّ، و أمّها الشّقيقة بنت الحارث الوصّاف العجليّ(17)،
ص: 230
حتى نزل على ابن أخته(1)/مرّة بن عمرو(2) بن عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه(3) بن قيس(4) بن سعد بن عجل، فحمد اللّه النّعمان و أثنى عليه ثم قال: إنّكم أخوالي و أحد طرفيّ، و إنّ الرائد لا يكذب أهله، و قد أتاكم ما لا قبل لكم به من أحرار فارس، و فرسان العرب، و الكتيبتان: الشّهباء(5) و الدّوسر، و إن في هذا الشّرّ(6) خيارا. و لأن يفتدى بعضكم بعضا خير من أن تصطلموا(7)، فانظروا هذه الحلقة فادفعوها و ادفعوا رهنا من أبنائكم إليه بما أحدث(8) سفهاؤكم. فقال له القوم: ننظر في أمرنا. و بعثوا إلى من يليهم من بكر بن وائل، و برزوا ببطحاء ذي قار بين الجلهتين.
قال الأثرم: جلهة الوادي: ما استقبلك منه و اتّسع لك(9). و قال ابن الأعرابيّ: جلهة الوادي: مقدّمه، مثل جلهة الرأس إذا ذهب شعره، يقال: رأس أجله.
قال: و كان مرداس بن أبي عامر السّلميّ مجاورا فيهم يومئذ، فلمّا رأى الجيوش قد أقبلت إليهم حمل عياله فخرج عنهم، و أنشأ يقول يحرّضهم بقوله:
أبلغ سراة بني بكر مغلغلة *** إنّي أخاف عليهم سربة الدّار(10)
/إنّي أرى الملك الهامرز منصلتا *** يزجي جيادا و ركبا غير أبرار(11)
لا تلقط البعر الحوليّ نسوتهم *** للجائزين على أعطان ذي قار(12)
فإن أبيتم فإنّي رافع ظعني *** و منشب في جبال اللّوب أظفاري(13)
ص: 231
و جاعل بيننا وردا غواربه *** ترمى إذا ما ربا الوادي بتيّار
ربا: ارتفع و طال(1)، و قوله: وردا غواربه: أراد البحر.
قال علي بن الحسين الأصفهانيّ(2):
هذه الحكاية عندي في أمر مرداس(3) بن أبي عامر(4) خطأ(5)، لأن وقعة(6) ذي قار كانت بعد هجرة النبيّ - صلّى اللّه عليه و سلم و آله - و كانت بين بدر و أحد/و مرداس بن أبي عامر، و حرب بن أميّة أبو أبي سفيان ماتا في وقت واحد(7)، كانا مرّا بالقريّة(8)، و هي غيضة ملتفّة الشّجر، فأحرقا شجرها ليتّخذاها مزرعة، فكانت تخرج من الغيضة حيّات بيض فتطير حتى تغيب، و مات حرب و مرداس بعقب ذلك، فتحدّث قومهما أنّ الجنّ قتلتهما لإحراقهما/منازلهم من الغيضة، و ذلك قبل مبعث النبيّ - صلّى اللّه عليه و سلّم - بحين. ثم كانت بين أبي سفيان و بين العبّاس بن مرداس منازعة في هذه القرية، و لهما في ذلك خبر ليس هذا موضعه. و أظنّ أنّ هذه الأبيات للعبّاس بن مرداس بن أبي عامر(9).
رجع الحديث إلى سياقته في حديث ذي قار.
قال:
و جعلت بكر بن وائل حين بعثوا إلى من حولهم(10) من قبائل بكر لا ترفع لهم جماعة إلاّ قالوا: سيدنا في هذه. فرفعت لهم جماعة، فقالوا(11): سيّدنا في هذه، فلمّا دنوا إذا هم بعبد(12) عمرو بن بشر بن مرثد(13)، فقالوا:
لا، ثم رفعت لهم أخرى، فقالوا: في هذه سيّدنا، فإذا هو جبلة بن باعث بن صريم اليشكريّ، فقالوا: لا، /فرفعت(14) أخرى، فقالوا: في هذه سيّدنا، فإذا هو الحارث بن وعلة بن مجالد الذّهليّ(15) فقالوا: لا، ثم رفعت لهم أخرى، فقالوا: في هذه سيّدنا، فإذا فيها الحارث بن ربيعة بن عثمان التيميّ، من تيم اللّه، فقالوا: لا ثم رفعت
ص: 232
لهم أخرى أكبر ممّا كان يجيء(1)، فقالوا: لقد جاء سيّدنا، فإذا رجل أصلع الشعر، عظيم البطن، مشرب حمرة، فإذا هو حنظلة بن ثعلبة بن سيّار بن حييّ(2) بن حاطبة بن الأسعد بن جذيمة بن سعد بن عجل، فقالوا: يا أبا معدان، قد طال انتظارنا، و قد كرهنا أن نقطع أمرا دونك، و هذا ابن أختك النعمان بن زرعة قد جاءنا، و الرائد لا يكذب أهله، قال: فما الّذي أجمع عليه رأيكم، و اتّفق عليه ملؤكم؟ قالوا: قال: إن اللّخي أهون من الوهي(3) و إنّ في الشرّ خيارا، و لأن يفتدي بعضكم بعضا خير من أن تصطلموا(4) جميعا.
قال حنظلة: فقبّح اللّه هذا رأيا، لا تجرّ أحرار فارس غرلها(5) ببطحاء ذي قار و أنا أسمع الصوت(6). ثم أمر بقبّته فضربت بوادي ذي قار، ثم نزل و نزل الناس فأطافوا به، ثم قال لهانئ بن مسعود: يا أبا أمامة، إن ذمّتكم ذمّتنا عامّة، و إنّه لن يوصل إليك/حتى تفنى أرواحنا، فأخرج هذه الحلقة ففرّقها بين قومك، فإن تظفر(7) فستردّ عليك، و إن تهلك فأهون مفقود.
فأمر بها فأخرجت، ففرقها بينهم، ثم قال حنظلة للنعمان: لو لا أنّك رسول لما أبت إلى قومك سالما. فرجع النعمان إلى أصحابه فأخبرهم بما ردّ عليه القوم، فباتوا ليلتهم مستعدّين للقتال، و باتت بكر بن وائل يتأهّبون للحرب.
فلمّا أصبحوا أقبلت الأعاجم نحوهم، و أمر حنظلة بالظعن(8) جميعا فوقفها خلف النّاس، ثم قال: يا معشر(9) بكر بن وائل، قاتلوا عن ظعنكم أو دعوا(10)، فأقبلت الأعاجم يسيرون على تعبئة، فلمّا رأتهم(11) بنو قيس ابن ثعلبة انصرفوا فلحقوا بالحيّ(12) فاستخفوا فيه، فسمّي: «حيّ(13) بني قيس بن ثعلبة» قال: و هو(14) على موضع خفيّ فلم يشهدوا ذلك اليوم.
و كان(15) ربيعة بن غزالة السّكونيّ، ثم التّجيبيّ، يومئذ هو(16)، و قومه/نزولا في بني شيبان، فقال: يا بني
ص: 233
شيبان، أما لو أنّي(1)، كنت منكم لأشرت عليكم برأي مثل عروة العكم(2)، فقالوا: فأنت(3) و اللّه من أوسطنا(4)، فأشر(5) علينا، فقال: لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فتهلككم بنشّابها(6)، و لكن تكردسوا لهم كراديس(7)، فيشدّ عليهم كردوس، فإذا أقبلوا عليه شدّ الآخر، فقالوا: فإنّك قد رأيت رأيا، ففعلوا.
فلمّا التقى الزحفان، و تقارب القوم قام حنظلة بن ثعلبة فقال:
يا معشر بكر بن وائل، إنّ النّشّاب الذي(8) مع الأعاجم يعرفكم، فإذا أرسلوه لم يخطئكم(9)، فعاجلوهم باللّقاء(10)، و ابدءوهم بالشّدّة.
ثم قام هانئ بن مسعود فقال: يا قوم، مهلك معذور خير من نجاء(11) معرور(12)/و إن الحذر لا يدفع القدر، و إن الصّبر من أسباب الظّفر، المنيّة و لا الدّنيّة، و استقبال الموت خير من استدباره، و الطّعن في الثّغر خير(13) و أكرم من الطعن في الدّبر، يا قوم، جدّوا فما من الموت(14) بدّ، فتح لو كان له رجال، أسمع صوتا و لا أرى قوما، يا آل بكر، شدّوا و استعدّوا، و إلاّ تشدّوا تردّوا.
ثمّ قام شريك بن عمرو بن شراحيل بن مرّة بن همّام فقال: يا قوم، إنما تهابونهم أنكم ترونهم عند الحفاظ أكثر منكم، و كذلك أنتم في أعينهم(15)، فعليكم بالصبر، فإنّ الأسنّة تردي(16) الأعنّة، يا آل بكر قدما قدما.
ثم قام عمرو بن جبلة بن باعث بن صريم اليشكريّ فقال:
يا قوم لا تغرركم(17) هذي(18) الخرق *** و لا وميض البيض(19) في الشّمس برق
ص: 234
من لم يقاتل منكم هذي(1) العنق(2) *** فجنّبوه الرّاح(3) و اسقوه المرق
ثم قام حنظلة بن ثعلبة إلى وضين راحلة(4) امرأته فقطعه، ثم تتبّع/الظّعن يقطع(5) و ضنهنّ لئلا يفرّ عنهن الرجال(6)، فسمّي يومئذ: «مقطّع الوضين»(7).
و الوضين: بطان الناقة.
قالوا: و كانت(8) بنو عجل في الميمنة بإزاء خنابرين(9)، و كانت بنو شيبان في الميسرة بإزاء كتيبة الهامرز، و كانت أفناء(10) بكر بن وائل في القلب(11)، فخرج أسوار(12) من الأعاجم مسوّر(13)، في أذنيه درّتان، من(14) كتيبة الهامرز يتحدّى الناس للبراز، فنادى في بني شيبان فلم يبرز له أحد(15) حتى إذا دنا من بني يشكر برز له(16) يزيد بن حارثة أخو(17) بني ثعلبة بن عمرو فشدّ عليه بالرّمح، فطعنه فدقّ(18) صلبه، و أخذ حليته و سلاحه(19)، فذلك قول سويد بن أبي(20) كاهل يفتخر(21):
و منّا يزيد إذ تحدّى(22) جموعكم *** فلم تقربوه، المرزبان المشهر(23)
ص: 235
و بارزه منّا غلام بصارم *** حسام إذا لاقى الضّريبة يبتر(1)
ثم إن القوم اقتتلوا صدر نهارهم أشدّ قتال(2) رآه الناس(3)، إلى أن زالت الشمس، فشدّ الحوفزان(4)و اسمه الحارث بن شريك - على الهامرز فقتله، و قتلت بنو عجل خنابرين(5)، و ضرب اللّه وجوه الفرس فانهزموا، و تبعتهم(6) بكر بن وائل، فلحق(7) مرثد بن الحارث بن ثور بن حرملة بن علقمة بن عمرو بن سدوس، النعمان بن زرعة، فأهوى له طعنا(8)، فسبقه النّعمان بصدر فرسه فأفلته، فقال مرثد في ذلك:
و خيل تبارى للطّعان شهدتها(9) *** فأغرقت فيها الرّمح و الجمع محجم
/و أفلتني النّعمان(10) قاب(11) رماحنا *** و فوق قطاة المهر أزرق لهذم(12)
قال: و لحق أسود بن بجير بن عائذ بن شريك العجليّ النعمان بن زرعة، فقال له: يا نعمان، هلمّ إليّ، فأنا خير آسر لك(13)، و خير لك من العطش(14).
قال: و من أنت؟ قال: الأسود(15) بن بجير، فوضع يده في يده، فجزّ ناصيته، و خلّي سبيله، و حمله الأسود على فرس له، و قال له: انج على هذه(16)، فإنها أجود(17) من فرسك، و جاء الأسود بن بجير(18) على فرس النّعمان
ص: 236
ابن زرعة و قتل خالد بن يزيد البهرانيّ(1)، قتله الأسود بن شريك بن عمرو، و قتل يومئذ عمرو بن عديّ بن زيد العباديّ الشاعر، فقال أمّه ترثيه:
/ويح عمرو بن عديّ من رجل *** حان(2) يوما بعد ما قيل كمل
كان لا يعقل(3) حتى ما إذا *** جاء يوم يأكل الناس عقل
أيّهم دلاّك عمرو للرّدى *** و قديما حين المرء الأجل
/ليت نعمان علينا ملك(4)*** و بنيّ لي(5) حيّ لم يزل
قد تنظّرنا لغاد أوبة *** كان لو أغنى(6) عن المرء الأمل
بان منه عضد عن(7) ساعد *** بؤس للدّهر و بؤسى(8) للرجل
قال: و أفلت إياس بن قبيصة على فرس له، كانت(9) عند رجل من بني تيم اللّه، يقال له: أبو ثور»، فلما أراد أياس أن يغزوهم أرسل إليه(10) أبو ثور بها، فنهاه أصحابه أن يفعل، فقال: و للّه ما في فرس إياس ما يعزّ رجلا و لا يذلّه، و ما كنت لا قطع رحمه فيها(11)، فقال إياس:
غذاها أبو ثور فلما رأيتها *** دخيس دواء لا أضيع غذاؤها(12)
فأعددتها كفأ ليوم كريهة(13) *** إذا أقبلت بكر تجرّ رشاؤها(14)
قال: و أتبعتهم بكر بن وائل يقتلونهم بقيّة يومهم و ليلتهم(15)، حتى(16) أصبحوا/من الغد، و قد شارفوا السّواد و دخلوه(17)، فذكروا أنّ مائة من بكر بن وائل، و سبعين من عجل، و ثلاثين من أفناء بكر بن وائل، أصبحوا و قد دخلوا السّواد في طلب القوم، فلم يفلت منهم كبير أحد و أقبلت بكر بن وائل على الغنائم فقسّموها بينهم،
ص: 237
و قسّموا تلك اللّطائم بين نسائهم، فذلك قول الدّيان(1)، بن جندل:
إن كنت ساقية يوما على كرم *** فاسقي فوارس من ذهل بن شيبانا
و اسقي فوارس حاموا عن ديارهم *** و اعلى مفارقهم مسكا و ريحانا
قال: فكان(2) أوّل من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس(3) بن قبيصة و كان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش(4) إلاّ نزع كتفيه، فلمّا أتاه أياس سأله عن الخبر، فقال: هزمنا(5) بكر بن وائل، فأتيناك(6) بنسائهم، فأعجب ذلك كسرى و أمر له بكسوة، و إنّ(7) إياسا استأذنه عند ذلك، فقال: إنّ أخي مريض بعين التّمر، فأردت أن آتيه(8)، و إنّما أراد أن يتنحّى عنه، فأذن له كسرى، فترك فرسه «الحمامة» و هي التي كانت عند أبي ثور بالحيرة(9)، و ركب نجيبة(10) فلحق/بأخيه، ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة(11) و هو بالخورنق، فسأل: هل دخل على الملك أحد؟ فقالوا: نعم، إياس، فقال: ثكلت إياسا أمّه! و ظنّ أنه قد حدّثه بالخبر، فدخل عليه فحدّثه بهزيمة القوم و قتلهم، فأمر به فنزعت كتفاه(12).
قال: و كانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر، و رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلّم - بالمدينة، فلمّا بلغه ذلك قال: هذا يوم(13) انتصفت فيه العرب من العجم، و بي نصروا».
قال ابن الكلبيّ(14): و أخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: ذكرت وقعة ذي قار عند النبي - صلّى اللّه عليه و سلّم - فقال: «ذلك يوم انتصفت فيه العرب من العجم و بي نصروا».
و روي أن النبي - صلّى اللّه عليه و سلّم - مثّلت له الوقعة و هو(15) بالمدينة، فرفع يديه فدعا لبني شيبان، أو لجماعة ربيعة بالنّصر، و لم يزل يدعو لهم حتى أرى هزيمة/الفرس.
و روي أنّه قال: «إيها(16) بني ربيعة، اللهمّ انصر بني ربيعة(17)» فهم إلى الآن إذا حاربوا دعوا(18) بشعار النبيّ -
ص: 238
صلّى اللّه عليه و سلّم - و دعوته لهم، و قال قائلهم: «يا رسول اللّه وعدك»، فإذا دعوا بذلك نصروا.
و قال أبو كلبّة(1) التّيميّ يفخر(2) بيوم ذي قار:
لو لا فوارس لا ميل و لا عزل *** من اللّهازم ما قظتم بذي قار(3)
ما زلت مفترسا أجساد أفتية(4) *** تثير(5) أعطافها منها بآثار
إنّ الفوارس من عجل هم أنفوا *** من أن يخلّوا لكسرى عرصة الدّار(6)
لاقوا فوارس من عجل بشكّتها(7) *** ليسوا إذا قلّصت حرب بأغمار
قد أحسنت ذهل شيبان و ما عدلت *** في يوم ذي قار فرسان ابن سيّار
هم الذين أتوهم عن شمائلهم(8) *** كما تلبّس و راد بصدّار
فأجابه الأعشى فقال:
أبلغ أبا كلبة التّيميّ مألكة *** فأنت من معشر - و اللّه - أشرار
شيبان تدفع عنك الحرب آونة *** و أنت تنبح نبح الكلب في الغار(9)
و قال بكير الأصمّ(10):
إن كنت ساقية المدامة أهلها *** فاسقي على كرم بني همّام(11)
/و أبا ربيعة كلّها و محلّما *** سبقوا بأنجد غاية الأيّام(12)
زحفوا بجمع لا ترى أقطاره *** لقحت به حرب لغير تمام
عرب ثلاثة آلف و كتيبة *** ألفان عجم من بني الفدّام(13)
ص: 239
ضربوا بني الأحرار يوم لقوهم *** بالمشرفيّ على شئون الهام(1)
و غدا ابن مسعود فأوقع وقعة *** ذهبت لهم في معرق(2) و شآم
و قال الأعشى:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي *** و راكبها يوم اللّقاء و قلّت
هم ضربوا بالحنو حنو قراقر *** مقدّمة الهامرز حتى تولّت(3)
/و قال بعض شعراء ربيعة(4) في يوم ذي قار:
ألا من لليل لا تغور(5) كواكبه *** و همّ سري بين الجوانح جانبه(6)
ألا هل أتاها أنّ جيشا عرمرما *** بأسفل ذي قار أبيدت كتائبه(7)
فما حلقة النّعمان يوم طلبتها *** بأقرب من نجم السماء تراقبه
و قال الأعشى:
حلفت بالملح و الرّماد و بالعزّ *** ى و باللّات تسلم الحلقه
حتّى يظلّ الهمام منجدلا *** و يقرع النّبل طرّة الدّرقه(8)
ص: 240
و قال ابن قرد الخنزير التّيميّ(1):
ألا أبلغ بني ذهل رسولا *** فلا شتما أردت و لا فسادا
/هزرت الحاملين لكي يعودوا *** إذا يوم من الحدثان عادا(2)
وجدت الرّفد رفد بني لجيم *** إذا ما قلّت الأرفاد زادا
هم ضربوا الكتائب يوم كسرى *** أمام الناس إذ كرهوا الجلادا
و هم ضربوا القباب ببطن فلج *** و ذادوا عن محارمنا ذيادا
/و قال الأعشى في ذلك:
لو أنّ كلّ معدّ كان شاركنا *** في يوم ذي قار ما أخطاهم الشّرف(3)
لمّا أتونا كأنّ الليل يقدمهم *** مطبّق الأرض تغشاها لهم سدف(4)
بطارق و بنو ملك مرازبة *** من الأعاجم في آذانها النّطف(5)
من كلّ مرجانة في البحر أحرزها(6) *** تيّارها(7) و وقاها طينها الصّدف
و ظعننا(8) خلفنا تجري(9) مدامعها *** أكبادها وجلا ممّا ترى تجف(10)
يحسرن عن أوجه(11) قد عاينت عبرا(12) *** و لاحها غبرة ألوانها كسف(13)
ما في الخدود صدود عن وجوههم *** و لا عن الطّعن في اللبّات منحرف(14)
/عودا على بدئهم(15) ما إن يلبّثهم *** كرّ الصّقور بنات الماء تختطف
ص: 241
لمّا(1) أمالوا إلى النّشّاب أيديهم *** ملنا ببيض فظلّ الهام يقتطف(2)
و خيل بكر فما تنفكّ تطحنهم *** حتى تولّوا و كاد اليوم ينتصف
و قال حريم(3) بن الحارث التّيميّ:
و إنّ لجيما أهل عزّ و ثروة *** و أهل أياد لا ينال قديمها
هم منعوا في يوم قار نساءنا *** كما منع الشّول الهجان قرومها(4)
إذا قيل يوما أقدموا يتقدّموا(5) *** و هل يمنع(6) المخزاة(7) إلا صميمها
قال: و لم يزل قيس بن مسعود في سجن كسرى(8) بساباط، حتى مات فيه.
خليليّ ما صبري على الزّفرات *** و ما طاقتي بالهمّ و العبرات
تساقط نفسي كلّ يوم و ليلة *** على إثر ما قد فاتها حسرات
الشعر: للقحيف العقيليّ. و الغناء: لإبراهيم الموصليّ(9)، رمل بالوسطى(10)، عن عمرو بن بانة(11)، و ذكر الهشاميّ أن الرّمل لعلوية، و أن لحن إبراهيم من الثّقيل الأوّل(12) بالوسطى(13).
ص: 242
القحيف بن حميّر(1)، أحد بني قشير بن مالك بن خفاجة بن عقيل(2) بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
شاعر مقلّ من شعراء الإسلام.
و كان(3) يشبّب بخرقاء التي كان ذو الرّمّة يشبّب بها(4).
فأخبرني محمّد بن خلف بن وكيع(5)، و عمّي، قالا: حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك، عن العدويّ، عن أبي الحسن المدائنيّ، عن الصّباح بن الحجّاج عن أبيه(6)، قال:
مررت بخرقاء و هي بفلج(7) فقالت: أقضيت حجّك و أتممته؟ فقلت: نعم، فقالت: لم تفعل شيئا، فقلت:
و لم؟ فقالت: /لأنّك لم تلمم بي و لا سلّمت عليّ، أ و ما سمعت قول ذي الرّمّة(8):
تمام الحجّ أن تقف المطايا *** على خرقاء واضعة اللّثام(9)
/فقال: هيهات يا خرقاء، ذهب ذاك(10) منك، فقالت: لا تقل ذاك، أ ما سمعت قول القحيف عمّك(11):
و خرقاء لا تزداد إلاّ ملاحة *** و لو عمّرت تعمير نوح و جلّت
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزبير بن بكّار قال:
ص: 243
حدّثنا(1) عبد اللّه بن إبراهيم الجمحيّ قال: حدّثني أبو الشّبل(2) المعدّيّ(3) قال:
نسب(4) ذو الرّمّة بخرقاء البكّائيّة، و كانت أصبح من القبس(5)، و بقيت بقاء طويلا، فنسب(6) بها القحيف العقيليّ(7) فقال:
و خرقاء لا تزداد إلاّ ملاحة *** و لو عمّرت تعمير نوح و جلّت
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: حدّثني أبو غسّان دماذ(8) قال:
كبرت خرقاء حتى جاوزت تسعين سنة، و أحبّت أن تنفّق ابنتها و تخطب، فأرسلت إلى القحيف العقيليّ، و سألته أن يشبّب بها، فقال:
/لقد أرسلت خرقاء نحوي جريّها(9)*** لتجعلني خرقاء ممّن أضلّت
و خرقاء لا تزداد إلاّ ملاحة *** و لو عمّرت تعمير نوح و جلّت
و قال عمرو بن أبي عمرو الشيبانيّ:
كان القحيف العقيليّ يتحدث إلى امرأة من عبس، و قد جاورهم و أقام عندهم شهرا و هام بها عشقا، و كان يخبرها أن له نعما و مالا، و هويته العبسيّة، و كان من أجمل الرجال و أشطّهم(10)، فلمّا طال عليها و استحيا من كذبه إيّاها في ماله ارتحل عنهم، و قال:
تقول لي أخت عبس: ما أرى إبلا *** و أنت تزعم من والاك صنديد
فقلت: يكفي مكان اللّوم مطّرد *** فيه القتير بسمر القين مشدود(11)
و شكّة صاغها وفراء كاملة *** و صارم من سيوف الهند مقدود
ص: 244
إنّي ليرعى رجال لي سوامهم *** لي العقائل منها و المقاحيد(1)
و قال أبو عمرو:
كان الوليد بن يزيد بن عبد الملك ولّى عليّ بن المهاجر بن عبد اللّه الكلابيّ اليمامة. فلمّا قتل الوليد بن يزيد جاءه المهير بن سلمى الحنفيّ فقال له: إن الوليد قد قتل، و إنّ لك عليّ حقا، و كان أبوك لي مكرما، و قد قتل صاحبك(2)، فاختر خصلة من ثلاث: إن شئت أن تقيم فينا و تكون كأحدنا فافعل، و إن شئت أن تتحوّل عنّا إلى دار /عمّك، فتنزلها أنت و من معك إلى أن يرد أمر الخليفة المولّى فتعمل بما(3) يأمر به، فافعل. و إن شئت فخذ من المال المجتمع ما شئت و الحق بدار قومك.. فأنف عليّ بن المهاجر من ذلك و لم يقبله، و قال للمهير:
أنت تعزلني(4) يا بن اللّخناء(5)؟ فخرج المهير مغضبا، و التفّ(6) معه أهل اليمامة، و كان مع عليّ ستّمائة رجل من أهل الشام و مثلهم من قومه و زوّاره، فدعاهم المهير و ذكر لهم رأيه، فأبوا عليه و قاتلوه، و جاء سهم عائر فوقع في كبد صانع من أهل اليمامة، فقال المهير: احملوا عليهم، فحملوا عليهم(7) فانهزموا، و قتل منهم نفر، و دخلوا القصر و أغلقوا الباب و كان من جذوع، /فدعا المهير بالسّعف فأحرقه، و دخل أصحابه(8) فأخذوا(9) ما في القصر، و قام(10) عبد اللّه بن النّعمان(11) القيسيّ في نقر من قومه فحموا بيت المال و منعوا منه، فلم يقدر عليه المهير، و جمع المهير جيشا يريد أن يغزو بهم بني عقيل و بني كلاب، و سائر بطون بني عامر(12)، فقال القحيف بن حمير لمّا بلغه ذلك(13):
أ من أهل الأراك عفت ربوع(14) *** نعم سقيا لهم لو تستطيع
زيارتهم، و لكن أحضرتنا *** هموم ما يزال لها مشيع
ص: 245
غنّى في هذين البيتين إبراهيم، فيما ذكره هو(1) في كتابه، و لم يذكر طريقته:
كأنّ البين جرّعني زعافا(2) *** من الحيّات مطعمه فظيع
و ماء قد وردت على جباه(3) *** حمام حائم(4) و قطا وقوع
و ممّا يغنّى فيه من هذه القصيدة:
جعلت عمامتي صلة لدلوي(5) *** إليه حين لم ترد النّسوع(6)
لأسقي فتية و منقّبات(7) *** أضرّ بنقيها(8) سفر وجيع
/قال أبو الفرج(9): غنّى في هذين البيتين سليم، خفيف رمل بالوسطى، ذكر ذلك حبش(10):
لقد جمع المهير لنا فقلنا: *** أ تحسبنا تروّعنا الجموع؟
سترهبنا حنيفة(11) إن رأتنا *** و في أيماننا البيض اللّموع
عقيل تغتزي(12) و بنو قشير *** توارى(13) عن سواعدها الدّروع
و جعدة و الحريش(14) ليوث غاب *** لهم في كلّ معركة صريع
فنعم القوم في اللّزبات(15) قومي *** بنو كعب إذا جحد(16) الرّبيع
كهول معقل الطّرداء فيهم *** و فتيان غطارفة فروع
فمهلا يا مهير فأنت عبد *** لكعب سامع لهم مطيع
قال: و بعث المهير رجلا من بني حنيفة يقال له: المندلف(17) بن إدريس الحنفيّ، إلى الفلج، و هو منزل لبني
ص: 246
جعدة، و أمره أن يأخذ صدقات بني كعب جميعا، فلمّا بلغهم خبره أرسلوا في أطرافهم(1) يستصرخون عليه(2)، فأتاهم أبو لطيفة بن مسلمة العقيليّ في عالم من عقيل، فقتلوا المندلف و صلبوه، فقال القحيف في ذلك:
/أتانا بالعقيق صريخ كعب *** فحنّ النّبع و الأسل النّهال(3)
و حالفنا السّيوف و مضمرات *** سواء هنّ فينا و العيال(4)
تعادى شزّبا مثل السّعالي *** و من زبر الحديد لها نعال(5)
و قال أيضا، و يروى(6) لنجدة الخفاجيّ:
لقد منع الفرائض عن عقيل *** بطعن تحت ألوية و ضرب
ترى(7) منه المصدّق يوم وافى *** أطلّ على معاشرة بصلب
يقول لي المفتي /قال أبو عمرو في أخباره:
و نظر بعض فقهاء(8) أهل مكّة إلى القحيف، و هو يحدّ النظر إلى امرأة، فنهاه عن ذلك، و قال له: أ ما تتّقي اللّه(9)؟ تنظر هذا النّظر إلى غير حرمة لك و أنت محرم(10)؟ فقال القحيف:
أقسمت لا أنسى و إن شطّت النّوى *** عرانينهنّ الشّمّ و الأعين النّجلا
/و لا المسك من أعطافهنّ و لا البرى *** ضممن و قد لوّينها قضبا خدلا(11)
يقول لي المفتي و هنّ عشيّة *** بمكة يلمحن المهدّبة السّحلا(12):
ص: 247
تق اللّه لا تنظر إليهنّ يا فتى *** و ما خلتني في الحجّ ملتمسا وصلا
و إنّ صبا ابن الأربعين لسبّة *** فكيف مع اللائي مثلن بنا مثلا(1)
عواكف بالبيت الحرام و ربّما *** رأيت عيون القوم من نحوها نجلا(2)
كففنا عن بني ذهل *** و قلنا: القوم إخوان(3)
عسى الأيام أن يرجع *** ن قوما كالّذي كانوا
فلمّا صرّح الشرّ *** و أمسى و هو عريان(4)
و لم يبق سوى العدوا *** ن دنّاهم كما دانوا
الشعر: للفند الزّمّانيّ، و الغناء: لعبد اللّه بن دحمان، خفيف رمل بالبنصر، عن بذل و الهشاميّ و ابن المكيّ.
و تمام هذا الشعر(5):
شددنا شدّة اللّيث *** غدا و اللّيث غضبان
بضرب فيه تفجيع *** و تأييم و إرنان(6)
و طعن كفم الزّقّ *** غذا و الزّقّ ملآن(7)
و في العدوان للعدوا *** ن توهين و إقران
و بعض الحلم عند الجه *** ل للذلّة إذعان
و في الشّرّ نجاة حي *** ن لا ينجيك إحسان
قوله: دنّاهم كما دانوا، أي جزيناهم(8).
/و مثله قول الآخر:
إنّا كذاك ندين الناس(9) بالدّين
و التأييم(10): ترك النساء أيامي. و الإرنان و الرّنّة: البكاء و العويل.
و الإقران: الطّاقة للشّيء، قال اللّه عز و جل: (وَ مٰا كُنّٰا لَهُ مُقْرِنِينَ) (11) أي مطيقين.
ص: 248
7 - أخبار الفند الزّمّاني(1) و نسبه
الفند: لقب غلب عليه، شبّه بالفند من الجبل، و هو القطعة العظيمة(2)، لعظم خلقه.
و اسمه: شهل(3) بن شيبان بن ربيعة بن زمّان(4) بن مالك بن صعب(5) بن عليّ بن بكر بن وائل.
و كان أحد فرسان ربيعة المشهورين(6) المعدودين، و شهد حرب بكر(7) و تغلب و قد قارب المائة السنة(8)، فأبلى بلاء حسنا، و كان مشهده في يوم التّحالق(9) الذي يقول فيه طرفة:
سائلوا عنّا الذي يعرفنا *** بقوانا يوم تحلاق اللّمم
يوم تبدي البيض عن أسؤقها *** و تلفّ الخيل أعراج النّعم(10)
/و قد مضى خبره في مقتل كليب(11).
و قال ابن الكلبيّ:
لمّا كان يوم التحالق أقبل الفند الزّمّانيّ إلى بني شيبان، و هو شيخ كبير قد جاوز مائة سنة، و معه بنتان له شيطانتان من شياطين الإنس(1)، فكشفت إحداهما عنها و تجرّدت، و جعلت تصيح ببني شيبان و من معهم من بني بكر(2):
وعا وعا وعا وعا(3).
حرّ الجواد و التظى(4).
و ملئت منه الرّبى(5).
/يا حبّذا يا حبّذا.
ثم تجرّدت الأخرى و أقبلت(8) تقول:
إن تقبلوا نعانق *** و نفرش النّمارق
أو تدبروا نفارق *** فراق غير وامق(9)
قال: و التقى الناس يومئذ، فأصعد عوف بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة(10)، ابنته على جمل له في ثنيّة قضة(11)، حتى إذا توسّطها ضرب عرقوبي الجمل، ثم نادى:
أنا البرك أنا البرك
أنزل حيث أدرك(12)
ثم نادى: و محلوفة لا يمرّ بي رجل من بكر بن وائل إلاّ ضربته بسيفي هذا، أ في كلّ يوم تفرّون
ص: 250
فيعطف القوم؟ /فقاتلوا حتى ظفروا فانهزمت تغلب.
قال ابن الكلبيّ:
و لحق الفند الزّمّانيّ رجلا من بني تغلب يقال له: مالك بن عوف، قد طعن صبيّا من صبيان بكر بن وائل، فهو في رأس قناته، و هو يقول:
يا ويس أمّ الفرخ، فطعنه الفند و هو وراءه ردف(1) له فأنفدهما جميعا، و جعل يقول:
أيا طعنة ما شيخ *** كبير يفن بالي(2)
تفتّيت بها إذ ك *** ره الشّكّة أمثالي
تقيم المأتم الأعلى *** على جهد و إعوال
كجيب الدّفنس الورها *** ء ريعت بعد إجفال(3)
و يروى: قد ريعت بإجفال(4).
ص: 251
و كان عبد اللّه في(3) جنبة(4) إبراهيم بن المهديّ و متعصّبا له، و كان أخوه الزّبير في جنبة(4) إسحاق الموصليّ و متعصّبا له، فكان كلّ(5) واحد منهما يرفع من صاحبه و يشيد بذكره(6) فعلا الزّبير بتقديم إسحاق له، لتمكّن إسحاق و قبول النّاس منه، و لم يرتفع عبد اللّه(7) بذكر إبراهيم له(8)، مع غضّ إسحاق منه، و كان الزّبير على كلّ حال يتقدّم أخاه عبد اللّه.
فأخبرني(9) الحسين بن يحيى، عن حمّاد، عن أبيه، قال: كان أبي كثيرا ما يقول: ما رأيت أقلّ عقلا و معرفة ممّن يقول: إنّ دحمان كان فاضلا، و اللّه/ما يساوي غناؤه كله(10) فلسين(11)، و أشبه الناس به(12) صوتا و صنعة و بلادة و بردا(13): ابنه عبد اللّه، و لكنّ المحسن - و اللّه - المجمل المؤدّي الضارب المطرب: ابنه/الزّبير.(14) و قال يوسف بن إبراهيم:
كان أبو إسحاق يؤثر عبد اللّه بن دحمان و يقدّمه، و إذا صنع(15) صوتا عرضه على أبي إسحاق فيقوّمه له و يصلحه، مضادّة لأخيه الزّبير في أمره، لميل(16) الزّبير إلى إسحاق(17) و تعصّبه له، و أوصله إلى الرشيد مع المغنين، عدة مرّات، أخرج له في جميعها جائزة.
ص: 252
أقول لمّا أتاني ثمّ مصرعه *** لا يبعد الرّمح ذو النّصلين و الرّجل
التارك القرن مصفرّا أنامله *** كأنّه من عقار قهوة ثمل
ليس بعلّ كبير لا شباب له *** لكن أثيلة صافي الوجه مقتبل
يجيب بعد الكرى لبّيك داعيه *** مجذامة لهواه قلقل عجل
قوله: لا يبعد الرّمح، يعني ابنه الذي رثاه، شبّهه بالرّمح في نفاذه و حدّته.
و النّصلان(1): السّنان و الزّجّ.
و الرجل(2): يعني به ابنه أيضا من الرّجلة(3)، يصفه بها، أو أنّه(4) عنى: لا يبعد الرجل و رمحه.
و العلّ: الكبير السّنّ الصّغير الجسم، و يقال أيضا للقراد: علّ.
و المقتبل: المقبل(5).
و قوله: مجذامة لهواه، يعني أنّه يقطع هواه و لا يتّبعه فيما يغضّ من قدره.
و قلقل: خفيف(6) سريع، و المتقلقل: الخفيف(7).
/الشّعر للمتنخّل الهذليّ. و الغناء: لمعبد، و له فيه لحنان:
أحدهما من القدر الأوسط من الثّقيل الأوّل، بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، عن إسحاق، و الآخر خفيف ثقيل بالبنصر، عن عمرو.
و ذكر الهشاميّ أنّ فيه للغريض(8) لحنا من الثّقيل الأوّل(9)، ابتداؤه:
ليس بعلّ كبير لا شباب له
و الذي بعده:
و أن لجميلة فيه خفيف ثقيل. و فيه ثاني ثقيل(10) ينسب إلى ابن سريج، و أظنّه ليحيى المكّيّ(11).
و قال حبش: فيه لعبد اللّه بن العبّاس ثقيل أوّل بالبنصر.
ص: 253
المتنخّل لقب، و اسمه مالك بن عويمر بن عثمان بن سويد بن حبيش(1)، بن خناعة بن الدّيل بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.
هذه رواية ابن الكلبيّ و أبي عمرو.
و روى السّكّريّ عن الرّياشيّ عن الأصمعيّ، و عن ابن حبيب، عن أبي عبيدة و ابن الأعرابيّ: أنّ اسمه مالك بن عويمر بن عثمان بن حبيش(2) بن عادية بن صعصعة بن كعب(3) بن طابخة بن لحيان بن هذيل، و يكنّى أبا أثيلة.
من شعراء هذيل و فحولهم(4) و فصحائهم.
و هذه القصيدة يرثي بها ابنه أثيلة، قتلته بنو سعد بن فهم بن عمرو(5) بن قيس بن عيلان بن مضر.
و كان من خبر مقتله فيما ذكر(6) أبو عمرو(5) الشيبانيّ:
أنّه خرج في نفر من قومه يريد الغارة على فهم، فسلكوا النّجديّة(7)، /حتى إذا بلغوا السّراة(8) أتاه رجل فقال: أين تريدون؟ قالوا(9): نريد فهما فقال: أ لا أدلّكم على خير من ذلكم(10)، و على قوم دارهم خير من دار فهم(11)؟ هذه دار بني حوف(12) عندكم، فانصبّوا عليهم على الكداء حتى تبيّتوا بني حوف. فقبلوا منه و انحرفوا عن طريقهم، و سلكوا في شعب في ظهر الطّريق(13) حتى نفذوه، ثم سلكوا على السّمرة، فمرّوا بدار «بني قريم»
ص: 254
بالسّرو، و قد لصقت سيوفهم بأغمادهم(1) من الدّم، /فوجدوا إياس بن المقعد في الدّار، و كان سيدا، فقال: من أين أقبلتم؟ فقالوا: أتينا بني حوف، فدعا لهم(2) بطعام و شراب، حتى إذا أكلوا و شربوا(3) دلّهم على الطريق و ركب معهم، حتى أخذوا سنن قصدهم، فأتوا بني حوف، و إذا هم قد اجتمعوا مع بطن من فهم للرّحيل عن دارهم، فلقيهم أول من الرّجال على الخيل(4) فعرفوهم، فحملوا عليهم و أطردوهم و رموهم، فأثبتوا(5) أثيلة جريحا و مضوا لطيّتهم. و عاد إليه أصحابه فأدركوه و لا تحامل به، فأقاموا عليه حتى مات، و دفنوه في موضعه.
/فلمّا رجعوا سألهم عنه المتنخّل(6)، فدامجوه(7) و ستروه.
:
ثم أخبره بعضهم بخبره، فقال يرثيه:
ما بال عينك تبكي دمعها خضل *** كما و هي سرب الأخراب منبزل(8)
لا تفتأ الدهر من سحّ بأربعة *** كأنّ إنسانها بالصّاب مكتحل(9)
تبكي على رجل لم تبل جدّته *** خلّى عليها فجاجا بينها خلل(10)
و قد عجبت و هل بالدّهر من عجب *** أنّي قتلت و أنت الحازم البطل؟(11)
ويل أمّه رجلا تأبى به غبنا *** إذا تجرّد لا خال و لا بخل(12)
ص: 255
/ - خال: من الخيلاء. و يروى: خذل(1) -.
السالك الثّغرة اليقظان كالئها *** مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل(2)
و التارك القرن مصفرّا أنامله *** كأنّه من عقار قهوة ثمل(3)
مجدّلا يتسقّى جلده دمه *** كما يقطّر جذع الدّومة القطل(4)
ليس بعلّ كبير لا شباب به *** لكن أثيلة صافي الوجه مقتبل(5)
يجيب بعد الكرى لبّيك داعيه *** مجذامة لهواه قلقل عجل(6)
حلو و مرّ كعطف القدح مرّته *** في كلّ آن أتاه الليل ينتعل(7)
فاذهب فأيّ فتى في النّاس أحرزه *** من حتفه ظلم دعج و لا جبل(8)
/فلو قتلت و رجلي غير كارهة ال *** إدلاج فيها قبيض الشّدّ و النسل(9)
إذن لأعملت نفسي في غزاتهم *** أو لابتعثت به نوحا له زجل(10)
أقول لمّا أتاني الناعيان به: *** لا يبعد الرمح ذو النّصلين و الرجل(11)
رمح لنا كان لم يفلل ننوء به *** توفى به الحرب و العزّاء و الجلل(12)
ص: 256
ريّاء شمّاء لا يدنوا لقلّتها *** إلا السّحاب و إلا النّوب و السّبل(1)
و قال أبو عمرو الشيبانيّ: كان عمرو بن عثمان، أبو المتنخل يكنّى أبا مالك، فهلك، فرثاه المتنخّل(2) فقال:
ألا من ينادى أبا مالك *** أ في أمرنا أمره أم سواه(3)
/فو اللّه ما إن أبو مالك *** بوان و لا بضعيف قواه(4)
و لا بألدّ له نازع *** يعادي أخاه إذا ما نهاه(5)
و لكنّه هيّن ليّن *** كعالية الرّمح عرد نساه(6)
إذا سدته سدت مطواعة *** و مهما وكلت إليه كفاه(7)
/أبو مالك قاصر فقره *** على نفسه و مشيع غناه(8)
و لا بألدّ له نازع *** يعادي أخاه إذا ما نهاه
/و لكنّه هيّن ليّن *** كعالية الرّمح عرد نساه
إذا سدته سدت مطواعة *** و مهما وكلت إليه كفاه
أبو مالك قاصر فقره *** على نفسه و مشيع غناه
ثم يقول:
«لقد أنجبت أمّ ولدتك يا زيد، اللّهم اشدد أزري بزيد».
أخبرني(1) محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثنا الرّياشيّ، عن الأصمعيّ قال:
أجود طائية قالتها العرب قصيدة المتنخّل:
عرفت بأجدث فنطف عرق *** علامات كتحبير النّماط(2)
كأنّ مزاحف الحيّات فيها *** قبيل الصّبح آثار السّياط(3)
في هذين البيتين غناء(4).
عجبت لسعي الدّهر بيني و بينها *** فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدهر(5)
فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى *** و زدت على ما لم يكن بلغ الهجر
و يا حبّها زدني جوى كلّ ليلة *** و يا سلوة الأيام موعدك الحشر
ص: 258
أما و الذي أبكى و أضحك و الّذي *** أمات و أحيا و الذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى *** أليفين منها لا يروعهما الزجر
الشّعر: لأبي صخر الهذليّ. و الغناء: لمعبد في الأوّل و الثاني من الأبيات، ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو، و لابن سريج في الرابع و الخامس ثقيل أول(1)/و لعريب فيهما(2) أيضا ثقيل أول آخر، و هو الذي فيه استهلال، و للواثق فيهما(2) رمل، و لابن سريج أيضا ثاني ثقيل في الثالث(3) و ما بعده، عن أحمد بن المكيّ، و ذكر(4) ابن المكيّ أن الثقيل الثاني بالوسطى(5) لجده يحيى المكيّ.
ص: 259
10 - أخبار أبي صخر الهذلي(1) و نسبه(2)
هو عبد اللّه بن سلم(3) السّهميّ، أحد بني مرمض(4).. و هذا أكثر ما وجدته من نسبه في نسخة السّكريّ، و هي أتمّ النسخ ممّا يأثره عن الرياشيّ عن الأصمعيّ، و عن الأثرم عن أبي عبيدة، و عن ابن حبيب، عن ابن الأعرابيّ.
و هو شاعر إسلاميّ من شعراء الدّولة الأموية، و كان مواليا لبني مروان(5)، متعصّبا لهم، و له في عبد الملك(6) بن مروان مدائح(7)، و في أخيه عبد العزيز، و عبد العزيز بن عبد اللّه بن خالد(8) بن أسيد.
و حسبه ابن الزّبير إلى أن قتل.
فأخبرني يحيى بن أحمد(9) بن الجون، مولى بني أميّة - لقيته بالرّقّة - قال: /حدّثني الفيض بن عبد الملك قال: حدّثني مولاي(10) عن أبيه، عن مسلمة بن الوليد القرشيّ، عن عبد العزيز(11) بن عمر بن عبد العزيز قال:
لما ظهر عبد اللّه الزّبير بالحجاز و غلب عليها، بعد موت يزيد بن معاوية، و تشاغل بنو أميّة بالحرب بينهم في مرج راهط(12) و غيره، دخل عليه أبو صخر الهذليّ، في هذيل(13).
ص: 260
و قد جاءوا ليقبضوا عطاءهم(1)، و كان عارفا بهواه في بني أميّة، فمنعه عطاءه، فقال: علام(2) تمنعني حقّا لي؛ و أنا امرؤ مسلم، ما أحدثت في الإسلام حدثا، و لا أخرجت من طاعة يدا؟ قال: عليك بني(3) أميّة فاطلب عندهم(4)، عطاءك.
قال: إذن أحدهم سباطا(5) أكفّهم، سمحة أنفسهم، بذلاء(6) لأموالهم وهّابين لمجتديهم، كريمة أعراقهم، شريفة أصولهم، زاكية فروعهم، قريبا من رسول اللّه - صلى اللّه عليه و سلّم - نسبهم و سبهم، ليسوا إذا نسبوا بأذناب و لا وشائظ(7) و لا أتباع، و لا هم في قريش كفقعة(8) القاع، لهم السؤدد في/الجاهلية، و الملك في الإسلام، لا كمن لا يعدّ في عيرها و لا نفيرها(9)، و لا حكّم آباؤه في نقيرها و لا قطميرها(10)، ليس من أحلافها المطيّبين(11)، و لا من ساداتها المطعمين، و لا من جودائها(12) الوهّابين، و لا من هاشمها المنتخبين، و لا عبد شمسها المسوّدين، و كيف تقابل الرءوس بالأذناب؟ و أين النّصل من الجفن؟ و السّنان من الزّجّ؟ و الذّنابى من القدامى؟(13) و كيف يفضّل الشّحيح على الجواد، و السّوقة على الملك، و المجيع(14) بخلا على المطعم فضلا؟ فغضب ابن الزّبير حتى ارتعدت فرائصه، و عرق جبينه، و اهتزّ من قرنه إلى قدمه و امتقع لونه، ثم قال له(15): يا بن البوّالة على عقبيها، يا جلف، يا جاهل، أما و اللّه لو لا الحرمات الثّلاث: حرمة الإسلام، و حرمة الحرم، و حرمة الشهر الحرام، لأخذت الذي في عيناك.
ثمّ أمر به إلى سجن عارم(16)، فحبس به(17) مدّة، ثم استوهبته هذيل(18)/و من له بين(19) قريش خئولة في
ص: 261
هذيل، فأطلقه بعد سنة، و أقسم ألاّ يعطيه عطاء مع المسلمين أبدا.
فلمّا كان عام الجماعة و ولّي عبد الملك و حجّ، لقيه أبو صخر، فلمّا رآه عبد الملك قرّبه و أدناه، و قال له: إنه(1)لم يخف عليّ خبرك «مع الملحد»(2) و لا ضاع لك عندي هواك و موالاتك(3)؛ فقال: أما إذ(4) شفى اللّه منه نفسي(5)، و رأيته(6) قتيل سيفك؛ و صريع(7) أوليائك، مصلوبا مهتوك السّتر، مفرّق الجمع(8)، فما أبالي ما فاتني من الدّنيا.
ثم استأذنه أبو صخر(9) في الإنشاد، فأذن له، فمثل بين يديه قائما(10)، و أنشأ يقول(11):
عفت ذات عرق عصلها فرئامها *** فدهناؤها وحش و أجلى سوامها(12)
/على أنّ مرسى خيمة خفّ أهلها *** بأبطح محلال و هيهات عامها(13)
إذا اعتلجت فيها الرّياح فأدرجت *** عشيّا جرى في جانبيها قمامها(14)
و إنّ معاجي في الدّيار و موقفي *** بدارسة الرّبعين بال ثمامها(15)
لجهل و لكنّي أسلّي ضمانة *** يضعّف أسرار الفؤاد سقامها(16)
فأقصر فلا ما قد مضى لك راجع *** و لا لذّة الدّنيا يدوم دوامها
و فدّ أمير المؤمنين الذي رمى *** بجأواء جمهور تسيل إكامها(17)
ص: 262
من أرض قرى الزيتون مكّة بعد ما *** غلبنا عليها و استحلّ حرامها
يقول: رمى مكّة بالرجال من أهل الشام، و هي أرض الزّيتون(1).
و إذ عاث فيها النّاكثون و أفسدوا *** فخيفت أقاصيها و طار حمامها(2)
/فشجّ بهم عرض الفلاة تعسّفا *** إذ الأرض أخفى مستواها سوامها(3)
فصبّحهم بالخيل تزحف بالقنا *** و بيضاء مثل الشّمس يبرق لامها(4)
لهم عسكر ضافي الصّفوف عرمرم *** و جمهورة يثني العدوّ انتقامها(5)
فطهّر منهم بطن مكة ماجد *** أبي الضّيم و الميلاء حين يسامها(6)
فدع ذا و بشّر شاعري أمّ مالك *** بأبيات ما خزي طويل عرامها(7)
شاعري أمّ مالك: رجلان من كنانة كانا مع ابن الزّبير، يمدحانه و يحرّضانه على أبي صخر، لعداوة كانت بينهما و بينه(8).
فإن تبد تجدع منخراك بمدية *** مشرشرة حرّى حديد حسامها(9)
/و إن تخف عنّا أو تخف من أذاتنا *** تنوشك نابا حيّة و سمامها(10)
ص: 263
فلو لا قريش لاسترقّت عجوزكم *** و طال على قطبي رحاها احتزامها(1)
قال: فأمر له عبد الملك بما فاته من العطاء(2)، و مثله صلة(3) من ماله، و كساه و حمله.
و نسخت من كتاب أبي سعيد السّكّريّ، عن محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابي و أبي عبيدة(4) قالا:
كان أبو صخر الهذليّ منقطعا إلى أبي خالد عبد العزيز بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد(5)، مدّاحا له، فقال له يوما: ارثني يا أبا صخر، و أنا حيّ(6)، حتى(7) أسمع كيف تقول، و أين مراثيك لي بعدي من مديحك(8) إيّاي في حياتي؟.
فقال: أعيذك باللّه أيّها الأمير من ذلك(9)، بل يبقيك اللّه(10) و يقدّمني قبلك، فقال: ما من ذلك بدّ. قال:
فرثاه بقصيدته(11) التي يقول فيها:
/أبا خالد نفسي وقت نفسك الرّدى *** و كان بها من قبل عثرتك العثر(12)
لتبكك يا عبد العزيز قلائص *** أضرّ بها نصّ الهواجر و الزّجر(13)
سمون بنا يجتبن كلّ تنوفة *** تضلّ بها عن بيضهنّ القطا الكدر(14)
فما قدمت حتى تواتر سيرها *** و حتى أنيخت و هي ظالعة دبر(15)
ص: 264
ففرّج عن ركبانها الهمّ و الطّوى *** كريم المحيّا ماجد واجد صقر(1)
أخو شتوات تقتل الجوع داره *** لمن جاء لا ضيق الفناء و لا وعر(2)
و لا تهنئ الفتيان بعدك لذّة *** و لا بلّ هام الشامتين بك القطر(3)
و إن تمس رمسا بالرّصافة ثاويا *** فما مات يا بن العيص نائلك الغمر(4)
و ذي ورق من فضل مالك ماله *** و ذي حاجة قد رشت ليس له وفر
فأمسى مريحا بعد ما قد يئوبه *** و كلّ به المولى و ضاق به الأمر(5)
/قال: فأضعف له عبد العزيز جائزته و وصله، و أمر أولاده(6) فرووا القصيدة.
و قال أبو عمرو الشيبانيّ:
كان لأبي صخر ابن يقال له داود(7) لم يكن له ولد غيره، فمات، فجزع عليه جزعا شديدا حتى خولط، فقال يرثيه(8):
لقد جاهني طيف لداود بعد ما *** دنت فاستقلّت تاليات الكواكب
و ما في ذهول النفس عن غير سلوة *** رواح من السّقم الذي هو غالبي(9)
و عندك لو يحيا صداك فنلتقي *** شفاء لمن غادرت يوم التناضب(10)
فهل لك طبّ نافعي من علاقة *** تهيّمني بين الحشا و التّرائب
تشكّيتها إذ صدّع الدّهر شعبنا *** فأمست و أعيت بالرّقي و الطّبائب(11)
ص: 265
و لو لا يقيني أنّما الموت عزمة *** من اللّه حتى يبعثوا للمحاسب(1)
لقلت له فيما ألمّ برمسه: *** هل أنت غدا غاد معي فمصاحبي
/و ما ذا ترى في غائب لا يغبّني *** فلست بناسيه و ليس بآئب(2)
سألت مليكي إذ بلاني بفقده *** وفاة بأيدي الرّوم بين المقانب
ثنوني و قد قدّمت ثأري بطعنة *** تجيش بموّار من الجوف ثاعب(3)
فقد خفت أن ألقي المنايا و إنّني *** لتابع من وافى حمام الجوالب(4)
و لمّا أطاعن في العدوّ تنفّلا *** إلى اللّه أبغي فضله و أضارب(5)
و أعطف وراء المسلمين بطعنة *** على دبر مجل من العيش ذاهب(6)
أصبحت تنقصني و تقرع مروتي *** بطرا و لم يرعب شعابك وابلي(1)
و تنلك أظفاري و يبرك مسحلي *** بري الشّسيب من السّراء الذّابل(2)
فتكون للباقين بعدك عبرة *** و أطأ جبينك وطأة المتثاقل
و قال أبو عمرو:
و كان أبو صخر الهذليّ يهوى امرأة من قضاعة، مجاورة فيهم، يقال لها ليلي بنت سعد، و تكنّى أمّ حكيم، و كانا يتواصلان برهة من دهرهما، ثم تزوجت و رحل بها زوجها إلى قومه(3)، فقال في ذلك أبو صخر:
ألمّ خيال طارق متأوّب *** لأمّ حكيم بعد ما نمت موصب(4)
و قد دنت الجوزاء و هي كأنّها *** و مرزمها بالغور ثور و ربرب(5)
/فبات شرابي في المنام مع المنى *** غريض اللّمى يشفي جوى الحزن أشنب(6)
قضاعيّة أدنى ديار تحلّها *** قناة و أنّي من قناة المحصّب(7)
سراج الدّجى تغتلّ بالمسك طفلة *** فلا هي متفال و لا اللّون أكهب(8)
دميثة ما تحت الثّياب عميمة *** هضيم الحشا بكر المجسّة ثيّب(9)
تعلّقتها نفودا لذيذا حديثها *** ليالي لا عمى و لا هي تحجب(10)
فكان لها ودّي و محض علاقتي *** وليدا إلى أن رأسي اليوم أشيب(11)
ص: 267
فلم أر مثلي أيأست بعد علمها *** بودّي و لا مثلي على اليأس يطلب
و لو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا *** و من دون رمسينا من الأرض سبسب(1)
لظلّ صدى رمسي و لو كنت رمّة *** لصوت صدى ليلى يهشّ و يطرب(2)
و قصيدة أبي صخر(3) التي فيها الغناء المذكور من مختار شعر هذيل(4)، و أوّلها:
لليلى بذات الجيش دار عرفتها *** و أخرى بذات البين آياتها سطر(5)
وقفت برسميها فلمّا تنكّرا *** صدفت و عين دمعها سرب همر(6)
و في الدّمع إن كذّبت بالحبّ شاهد *** يبيّن ما أخفي كما بيّن البدر
صبرت فلمّا غال نفسي و شفّها *** عجاريف نأي دونها غلب الصّبر(7)
إذا لم يكن بين الخليلين ردّة *** سوى ذكر شيء قد مضى درس الذّكر(8)
و هذا البيت خاصّة رواه الزّبير بن بكّار لنصيب(9):
إذا قلت هذا حبن أسلو يهيجني *** نسيم الصّبا من حيث يطّلع الفجر
/و إنّي لتعروني لذكراك فترة *** كما انتفض العصفور بلّله القطر(10)
هجرتك حتّى قيل لا يعرف الهوى *** و زرتك حتى قيل ليس له صبر(11)
ص: 268
صدقت أنا الصّبّ المصاب الذي به *** تباريح حبّ خامر القلب أو سحر
أما و الّذي أبكى و أضحك و الّذي *** أمات و أحيا و الذي أمره الأمر(1)
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى *** أليفين منها لم يروّعهما الزّجر(2)
فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى *** وردت علي ما لم يكن بلغ الهجر(3)
و يا حبّها زدني جوى كلّ ليلة *** و يا سلوة الأيّام موعدك الحشر(4)
عجبت لسعى الدّهر بيني و بينها *** فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر(5)
فليست عشيّات الحمى برواجع *** لنا أبدا ما أورق السّلم النّضر(6)
و إنّي لآتيها لكيما تثيبني *** و أوذنها بالصّرم ما وضح الفجر(7)
فما هو إلاّ أن أراها فجاءة *** فأبهت لا عرف لديّ و لا نكر(8)
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها *** و ينبت في أطرافها الورق الخضر(9)
في هذه الأبيات ثقيل أوّل قديم مجهول، و في البيت الأخير لعريب خفيف ثقيل، و قد أضافت إليه بيتا ليس من الشعر، و هو:
ص: 269
أبى القلب إلاّ حبّها عامريّة *** لها كنية «عمرو» و ليس لها «عمرو»(1)
أخبرني محمد بن مزيد قال:
حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال: حدّثني أبي عن جدّي قال:
دخلت يوما على موسى الهادي و هو مصطبح، فقال لي: يا إبراهيم غنّني، فإن أطربتني فلك حكمك، فغنّيته:
و إنّي لتعروني لذكراك فترة(2) *** كما انتفض العصفور بلّله القطر
فضرب بيده(3) إلى جنب درّاعته فشقّها حتى انتهى به إلى صدره.
ثمّ غنيته:
أمّا و الذي أبكى و أضحك و الذي *** أمات و أحيا و الّذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى *** أليفين منها لا يروعهما الزّجر
فشق درّاعته حتى انتهى(4) إلى آخرها.
ثم غنيته:
فيا حبّها زدني جوى كلّ ليلة *** و يا سلوة الأيّام موعدك الحشر
فشقّ جبّة كانت تحت الدّرّاعة حتى هتكها.
ثمّ غنّيته:
عجبت لسعي الدّهر بيني و بينها *** فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر
فشقّ قميصا كان تحت ثيابه حتى بدا جسمه(5). ثم قال: أحسنت و اللّه/فاحتكم. فقلت: تهب لي، يا أمير(6) المؤمنين، عين مروان(7) بالمدينة، فغضب حتى دارت عيناه في رأسه، ثم قال: لا، و لا كرامة، أردت أن تجعلني أحدوثة للناس، و تقول: أطربته فحكمني، فحكمت، فأمضى حكمي.
ثم قال لإبراهيم الحرّاني: خذ بيد هذا الجاهل و أدخله(8)، بيت مال الخاصّة(9) فإن أخذ كلّ شيء فيه فلا
ص: 270
تمنعه منه، فدخلت معه فأخذت مالا جليلا و انصرفت(1).
و(2) ممّا يغنّى فيه من شعر أبي صخر الهذليّ قوله من قصيدة له:
بيد الذي شغف الفؤاد بكم *** فرج الذي ألقى من الهمّ(3)
همّ من أجلك ليس يكشفه *** إلا مليك جائز الحكم(4)
فاستيقني أن قد كلفت بكم *** ثمّ افعلي ما شئت عن علم(5)
قد كان صرم في الممات لنا *** فعجلت قبل الموت بالصّرم
/الشعر لأبي صخر الهذليّ. و الغناء للغريض، ثقيل أول بالوسطى، عن عمرو و فيه لسياط ثقيل أول آخر بالبنصر، ابتداؤه نشيد(6):
فاستيقني أن قد كلفت بكم
و هكذا ذكر الهشاميّ أيضا، و ذكر أنّ لحن الغريض ثاني ثقيل، و أنّ فيه لابن جامع خفيف رمل(7).
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثنا محمد بن الحسن الحرون(8) قال: حدّثني الكسرويّ(9) قال:
لقي إبراهيم النّظّام غلاما(10) أمرد(11) فاستحسنه، فقال له: يا بنيّ، لو لا أنّه قد سبق من قول الحكماء ما جعلوا(12) به السّبيل لمثلي إلى مثلك في قولهم(13): «لا ينبغي لأحد أن يكبر عن(14) أن يسأل، كما لا ينبغي لأحد
ص: 271
أن يصغر عن أن يقول» /لما أنست(1) إلى مخاطبتك، و لا هششت(2) لمحادثتك(3)، و لكنّه سبب الإخاء، و عقد المودّة، و محلّك من قلبي(4) محلّ الرّوح من جسد الجبان. فقال له الغلام و هو لا يعرفه: لئن قلت ذاك أيّها الرجل لقد قال الأستاذ إبراهيم النّظّام(5): «الطبائع تجاذب(6) ما شاكلها بالمجانسة، و تميل إلى ما يوافقها بالمؤانسة(7)» و كياني مائل إلى كيانك بكلّيّتي، و لو كان ما انطوى(8) لك عليه عرضا ما اعتددت به ودّا، و لكنّه جوهر جسمي، فبقاؤه ببقاء النفس، و عدمه بعدمها، و أقول كما قال الهذليّ:
/فاستيقني أن قد كلفت بكم *** ثم افعلي ما شئت عن علم(9)
/فقال له النظّام: إنما خاطبتك بما سمعت(10)، و أنت عندي غلام مستحسن، و لو علمت أنك بهذه المنزلة لرفعتك إلى رتبتها(11).
قال أبو الحسن الأخفش: فأخذ أبو دلف(12) هذا المعنى فقال:
أحبّك يا جنان و أنت منّي *** محلّ الرّوح من جسد الجبان(13)
و لو أنّي أقول مكان نفسي *** لخفت عليك بادرة الزمان(14)
لإقدامي إذا ما الخيل خامت(15) *** وهاب كماتها حرّ الطّعان(16)
و تمام(17) أبيات أبي صخر الميميّة التي ذكرت فيها الغناء الأخير و خبره أنشدنيها الأخفش عن السّكريّ عن أصحابه:
ص: 272
/و لما بقيت ليبقينّ جوى *** بين الجوانح مضرع جسمي(1)
و يقرّ عيني و هي نازحة *** مالا يقرّ بعين ذي الحلم(2)
أطلال نعم إذ كلفت بها *** يأدين هذا القلب من نعم(3)
و لو أنّني أسقى على سقمي *** بلمى عوارضها شفى سقمي(4)
و لقد عجبت لنبل مقتدر *** يسط الفؤاد بها و لا يدمي(5)
يرمي فيجرحني برميته *** فلو أنّني أرمي كما يرمي(6)
أو كان قلب إذ عزمت له *** صرمي و هجري كان ذا عزم(7)
أو كان لي غنم بذكركم *** أمسيت قد أثريت من غنم(8)
قلت: نعم. و كان عليّ يومئذ(1) طيلسان لي أسمّيه من غلظه و ثقله «مقطّع الأزرار»(2) فخرجنا حتى جئنا إلى الجبّانة(3)، إلى دار مسلم(4) بن يحيى الأرتّ صاحب الخمر، مولى بني زهرة(5) فأذن لنا، فدخلنا بيتا طوله اثنتا عشرة ذراعا(6) في مثلها(7)، و سمكه في السماء ستّ عشرة(8) ذراعا، ما فيه إلا نمرقتان قد ذهبت منهما(9)اللّحمة و بقي السّدى، و فراش محشوّ ليفا(10)، و كرسيّان من خشب قد تقلّع(11) عنهما الصّبغ من قدمهما(12)/و بينهما مرفقتان محشوّتان باللّيف. ثم طلعت(13) علينا عجوز كلفاء(14) عجفاء، كأنّ شعرها شعر ميّت، عليها قرقل(15) هرويّ أصفر غسيل(16)، كأنّ وركيها في خيط(17) من رسحها(18) حتى جلست، فقلت لأبي السّائب: بأبي أنت و أميّ(19)؟ ما هذه؟ قال: اسكت: فتناولت عودا فضربت، و غنّت:
بيد الذي شغف الفؤاد بكم *** فرج الذي ألقى من الهمّ
قال غرير: فحسنت - و اللّه(20) -، في عيني، و جاء نقاء و صفاء(21)، فأذهب الكلف من وجهها، و زحف(22)، أبو السّائب/و زحفت معه. ثمّ غنّت(23):
ممّا تضمّن من غريرة قلبه *** يا قلب إنّك بالحسان لمغرم(1)
/يا ليت أنّك يا حسام بأرضنا *** تلقى المراسي دائما و تخيّم(2)
فتذوق لذّة عيشنا و نعيمه *** و نكون أجوارا فما ذا تنقم(3)
الغناء لحكم، خفيف رمل بالوسطى، عن الهشاميّ.
فقال أبو السّائب: إن نقم هذا فيعضّ(4) بظر أمّه، و زحف و زحفت معه، حتى قاربت النّمرقة و ربت(5)العجفاء في عيني كما يربو السّويق شيب بماء قربة(6).
ثم غنّت:
يا طول ليلي أعالج السّقما *** إذ حلّ دون الأحبّة الحرما
ما كنت أخشى فراق بينكم *** فاليوم أضحى فراقكم عزما(7)
الغناء للغريض، ثقيل أول بالوسطى في مجراها، و له أيضا فيه(8)، خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر جميعا، عن إسحاق.
قال غرير: فألقيت طيلساني و تناولت شاذكونة(9)، فوضعتها على رأسي و صحت كما يصاح بالمدينة: الدّخن بالنّوى، و قام أبو السّائب، و تناول ربعة(10)/فيها قوارير دهن كانت في البيت، فوضعها على رأسه، و صاح ابن الأرتّ(11) صاحب الجارية، و كان ألثغ: «قواليلى قواليلى(12)» - يريد:
قواريري قواريري - أسألك باللّه، فلم يلتفت أبو السّائب إلى قوله، و حرّك رأسه مرحا فاضطربت(13) القوارير و تكسّرت، و سال الدّهن على وجه أبي السائب و ظهره و صدره(14)، ثم وضع الرّبعة و قال لها: لقد هجت لي داء قديما.
ص: 275
قال: و مكثنا نختلف إليها سنين، في كلّ جمعة يومين، و قال:
ثم بعث عبد الرحمن بن معاوية بن هشام من الأندلس، فاشتريت له العجفاء و حملت إليه.
ألا هل إلى ريح الخزامى و نظرة *** إلى قرقرى قبل الممات سبيل(1)
فيا أثلاث القاع من بطن توضح *** حنيني إلى أطلالكنّ طويل(2)
و يا أثلات القاع قلبي موكّل *** بكنّ، و جدوى خير كنّ قليل(3)
و يا أثلات القاع قد ملّ صحبتي *** وقوفي، فهل في ظلّكنّ مقيل؟(4)
الشعر: ليحيى بن طالب(5) الحنفيّ، و الغناء لعلوية، خفيف رمل بالوسطى(6)، عن عمرو. و فيه لإبراهيم لحن ماخوريّ بالوسطى، و فيه لعريب رمل، و لمتيم خفيف رمل آخر عن الهشاميّ. و فيه لابن المكّي خفيف ثقيل من كتابه(7) و ذكر ابن المعتزّ أن لحن عريب و متيّم جميعا من الرمل.
ص: 276
11 - أخبار يحيى بن طالب(1)
يحيى بن طالب: شاعر من أهل اليمامة، ثم(2) من بني حنيفة. لم يقع إلىّ نسبه. و هو من شعراء(3) الدّولة العبّاسيّة مقلّ، و كان فصيحا شاعرا غزلا فارسا(4).
و ركبه دين في بلده فهرب إلى الرّيّ، /و خرج مع بعث إليها(5)، فمات بها، و قد ذكر ذلك في هذه القصيدة فقال:
أريد رجوعا نحوكم فيصدّني *** إذا رمته دين عليّ ثقيل(6)
حدّثني محمد بن مزيد(7) قال:
حدثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: غنّى أبي الرشيد في شعر يحيى بن طالب:
ألا هل إلى شمّ الخزامى و نظرة *** إلى قرقرى قبل الممات سبيل
فأطربه، فسأله عن قائل الشعر، فذكره له(8) و أعلمه أنّه حيّ، و أنّه هرب من دين عليه، و أنشده قوله:
أريد رجوعا نحوكم فيصدّني *** إذا رمته دين عليّ ثقيل
/فأمر الرشيد أن يكتب إلى عامل الريّ بقضاء دينه(9)، و إعطائه نفقة، و إنفاذه إليه على البريد(10)، فوصل الكتاب يوم مات يحيى بن طالب.
ص: 277
أخبرنا محمد بن خلف وكيع و عمّي قالا: حدّثنا عبد اللّه بن شبيب قال:
حدّثني الجهم بن المغيرة قال: كنّا عند حترش(1) بن ثمال القريظيّ بضريّة(2) فمرّت بنا جارية صفراء مولّدة، فقال لي حترش: استفتح كلامها فانظر فإنها ظريفة، فقلت لها:(3) يا جارية(4)، أين نشأت؟ قالت: بقرقرى، فقلت لها: أين من شعبعب(5)؟ فضحكت ثم قالت: بين الحوض و العطن، قلت:
فمن الذي يقول:
يا صاحبيّ فدت نفسي نفوسكما *** عوجا عليّ صدور الأبغل السّنن(6)
ثم ارفعا الطّرف ننظر صبح خامسة *** لقرقرى يا عناء النفس بالوطن(7)
/يا ليت شعري و الإنسان ذو أمل *** و العين تذرف أحيانا من الحزن(8)
هل أجعلنّ يدي للخدّ مرفقة *** على شعبعب بين الحوض و العطن؟(9)
فالتفتت إلى حترش بن ثمال فقالت(10): أخبره بقائلها، فقال: ما أعرفه، فقالت: بلى، هذا يقوله شاعرنا و ظريف بلادنا و غزلها. فقال لها حترش: ويحك، و من ذلك؟ فقالت: أشهد إن كنت لا تعرفه و أنت من هذا البلد إنّها لسوأة(11)، ذلك يحيى بن طالب الحنفيّ، أقسم باللّه ما منعك من معرفته إلاّ غلظ الطّبع، و جفاء الخلق. فجعل يضحك من قولها و تعجّبنا منها(12).
قال رجل ليحيى بن طالب الحنفيّ: لو ركبت معي في البحر(1)، و شغلت مالك في تجاراته(2) لأثريت و حسنت حالك، فقال يحيى بن طالب:
لشربك بالأنقاء رنقا و صافيا *** أعفّ و أعفى من ركوبك في البحر
إذا أنت لم تنظر لنفسك خاليا *** أحاطت بك الأحزان من حيث لا تدري
حدّثني(3) محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني أبو عليّ الحنفي؛ قال:
حدّثني عمي(4) عن عليّ بن عمر قال:
غنّي الرشيد يوما بشعر يحيى بن طالب:
ألا هل إلى شمّ الخزامى و نظرة *** إلى قرقرى قبل الممات سبيل
و ذكر الخبر كما ذكره(5) حمّاد بن إسحاق(6)، إلا أنّه قال: فوجده قد مات قبل وصول البريد بشهر.
أخبرني(7) هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه قال:
كان يحيى بن طالب يجالس امرأة من قومه و يألفها، ثم خرج مع والي اليمامة إلى مكة، و ابتاع(8) منه الوالي إبلا بتأخير، فلمّا صار إلى مكّة(9) عزل الوالي، فلوى(10) يحيى بماله(11) مدّة، فضاق صدره، و تشوّق(12) إلى اليمامة و صاحبته التي كان يتحدّث إليها، فقال:
تصبّرت عنها كارها و هجرتها(13) *** و هجرانها عندي أمرّ من الصّبر(14)
ص: 279
إذا ارتحلت نحو اليمامة رفقة *** دعاني الهوى و اهتاج قلبي للذّكر(1)
كأنّ فؤادي كلّما عنّ ذكرها *** جناحا غراب رام نهضا إلى وكر(2)
الغناء للزفّ، ثقيل أول عن الهشاميّ في هذين البيتين.
و قال فيها:
مداينة السّلطان باب مذلّة *** و أشبه شيء بالقناعة و الفقر
إذا أنت لم تنظر لنفسك خاليا *** أحاطت بك الأحزان من حيث لا تدري
يحن إلى قرقرى(3)
أخبرني الحسين بن يحيى، عن حمّاد عن أبيه، قال: قال أبو الذّيّال الحنفيّ: خرج يحيى بن طالب الحنفيّ من اليمامة يريد خراسان على البريد، فقال و هو بقومس:
أقول لأصحابي و نحن بقومس *** نراوح أكتاف المحذّفة الجرد(4)
بعدنا و عهد اللّه من أهله قرقرى *** و فيها الألى نهوى و زدنا على البعد(5)
أخبرنا الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن موسى بن حمّاد قال: حدّثني عبد اللّه بن بشر، عن أبي فراس الهيثم بن فراس الكلابيّ قال:
/كنت مع أبي و نحن قاصدون اليمامة(6)، فلما رأيناها لقينا رجل، فقال له أبي: أين قرقرى؟ قال: وراءك.
قال: فأين شعبعب؟ قال: بإزائه، قال: أرني ذلك، فأراه(7) إيّاه حتى عرفه، فقال لي: ارجع بنا إلى الموضع، فقلت له. يا أبت(8) قد تعبنا و تعبت ركائبنا، فما لك هناك(9)! قال: إنك لأحمق، ارجع ويلك(10)، فرجعت معه
ص: 280
حتى أتى شعبعب، و صار إلى الحوض و العطن، و أناخ راحلته، و قال لي: أنخ(1)، فأنخت، و نزل فنظر إلى شعبعب و قرقرى ساعة، ثم اضطجع بين الحوض و العطن اضطجاعة(2)، و يده(3) تحت خدّه، ثم قام فركب(4)، فقلت: يا أبت ما أردت بهذا؟ فقال: يا جاهل، أ ما سمعت قول يحيى بن طالب:
هل أجعلنّ يدي للخدّ مرفقة *** على شعبعب بين الحوض و العطن
أ فليس عجزا أن نكون قد أتينا عليهما و هما أمنية المتمنّي(5) فلا ننال ما تمنّاه منهما، و قد قدرت(6) عليه؟ فجعلت أعجب من قوله و فعله.
أخبرنا(7) محمد بن جعفر النحويّ قال: حدّثني طلحة بن عبد اللّه الطّلحيّ قال: حدّثنا أبو العالية عن رجل من بني حنيفة قال:
/كان يحيى بن طالب جوادا، شاعرا جميلا، حمّالا لأثقال قومه و مغارمهم، سمحا(8) يقرى الأضياف، ما تشاء أن ترى في فتى خصلة جميلة إلا رأيتها فيه. فدخلت عليه و هو في آخر رمق(9)، فسألته عن خبره، و سلّيته و قلت له ما طابت به نفسه، ثم أنشدني قوله(10):
ما أنا كالقول الذي قلت إن زوى(11) *** محلّي عن مالي حذار النّوائب
بمنزلة بين الطريقين قابلت *** بوادي كحيل كلّ ماش و راكب(12)
حللت على رأس اليفاع و لم أكن *** كمن لاذ من خوف القرى بالحواجب
فلا تسأل الضّيفان من هم و أذنهم *** هم الناس من معروف وجه و جانب
و قولوا إذا ما الضّيف حلّ بنجوة *** ألا في سبيل اللّه يحيى بن طالب
قال أبو العالية: كحيل: نخل بناحية فران(13) دون قرقرى، و هناك كان منزل يحيى بن طالب(14).
ص: 281
و قد جمع معه كلّ ما يغنيّ فيه من القصيدة:
لعمرك إنّي يوم بصري و ناقتي *** لمختلفا(1) الأهواء مصطحبان
متى تحملي شوقي و شوقك تظلعي *** و مالك بالحمل الثّقيل يدان
/ألا يا غرابي دمنة الدّار خبّرا *** أبا لبين من عفراء تنتحبان؟(2)
فإن كان حقّا ما تقولان فانهضا *** بلحمي إلى وكريكما فكلاني(3)
و لا يعلمنّ الناس ما كان ميتتي(4) *** و لا يأكلنّ الطّير ما تذران
جعلت لعرّاف اليمامة حكمه *** و عرّاف حجر إن هما شفياني(5)
فما تركا من حيلة يعلمانها *** و لا رقية إلاّ و قد رقياني(6)
و قالا: شفاك اللّه و اللّه ما لنا *** بما حمّلت منك الضّلوع يدان(7)
/كأنّ قطاة علّقت بجناحها *** على كبدي من شدّة الخفقان
الشعر لعروة بن حزام، و الغناء لإبراهيم الموصليّ في الأربعة الأبيات الأول، ثقيل أوّل بالوسطى، و لعريب في الرابع و الخامس و السادس و التاسع هزج مطلق في مجرى البنصر، عن إسحاق، و في السابع و ما بعده إلى آخرها ثقيل أوّل ينسب إلى أبي العبيس بن حمدون، و إلى غيره.
ص: 282
هو عروة بن حزام بن مهاصر، أحد بني حزام بن ضبّة(1) بن عبد بن كبير(2) بن عذرة(3).
شاعر إسلاميّ، أحد المتيّمين الّذين قتلهم الهوى، لا يعرف له شعر إلا في عفراء بنت عمّه: عقال بن مهاصر، و تشبيبه بها(4).
أخبرني بخبرها جماعة من الرّواة؛ فمنه ما أخبرني به الحسن بن عليّ بن محمد الآدميّ قال: حدّثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدّثني موسى بن عيسى الجعفريّ، عن الأسباط بن عيسى العذريّ.
و أخبرني الحسين بن يحيى المرداسيّ، و محمد بن مزيد(5) بن أبي الأزهر، عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن رجاله.
و أخبرني(6) أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدّثنا عمر بن شبّة. و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال:
حدّثنا الزّبير بن بكّار عمّن أسند إليه. و أخبرني إبراهيم بن أيّوب الصائغ عن ابن قتيبة.
و قد سقت رواياتهم و جمعتها:
/قال الأسباط(7) بن عيسى - و روايته كأنها أتمّ الروايات و أشدّها اتّساقا(8) - أدركت شيوخ الحيّ يذكرون:
أنّه كان من حديث عروة بن حزام و عفراء بنت عقال: أن حزاما هلك و ترك(9) ابنه عروة صغيرا في حجر عمّه عقال بن مهاصر. و كانت عفراء تربا لعروة، يلعبان جميعا، و يكونان معا، حتى ألف(10) كلّ واحد منهما صاحبه إلفا شديدا. و كان عقال يقول لعروة، لما يرى من إلفهما: أبشر، فإن عفراء امرأتك(11)، إن شاء اللّه. فكانا كذلك حتى
ص: 283
لحقت عفراء بالنّساء، و لحق عروة بالرجال، فأتى عروة عمّة له يقال لها: هند بنت مهاصر، فشكا إليها ما به من حبّ عفراء(1)، و قال لها في بعض ما يقول لها: يا عمّة، إنّي لأكلّمك(2) و أنا منك مستح(3)، و لكن لم أفعل هذا حتى ضقت ذرعا بما أنا فيه، فذهبت عمّته إلى أخيها فقالت له(4): يا أخي، قد أتيتك في حاجة أحبّ أن تحسن فيها الردّ(5)، فإنّ اللّه يأجرك بصلة رحمك(6) فيما(7)/أسألك. فقال لها: قولي، فلن تسألي(8) حاجة إلا رددتك بها. قالت: تزوّج عروة بن اخيك(9) بابنتك(10) عفراء، فقال: ما عنه مذهب، و لا هو دون رجل يرغب فيه(11)، و لا بنا عنه رغبة؛ و لكنّه ليس بذي مال، و ليست عليه عجلة. فطابت نفس عروة، و سكن بعض السّكون.
و كانت أمّها سيّئة الرأي فيه، تريد(12) لابنتها ذا مال و وفر، و كانت عرضة ذلك كمالا و جمالا، فلما تكاملت سنّه(13) و بلغ أشدّه عرف أنّ رجلا من قومه ذا يسار و مال/كثير يخطبها، فأتى عمّه، فقال: يا عمّ، قد عرفت حقّي و قرابتي، و إني ولدك و ربّيت في حجرك، و قد بلغني أن رجلا يخطب(14) عفراء، فإن أسعفته(15)بطلبته قتلتني و سفكت دمي، فأنشدك اللّه و رحمي و حقّي، فرقّ له و قال له(16): يا بنيّ، أنت معدم، و حالنا قريبة من حالك، و لست مخرجها إلى سواك، و أمّها قد أبت أن تزوّجها(17) إلا بمهر غال، فاضطرب و استرزق اللّه تعالى(18)».
فجاء إلى أمّها فألطفها(19) و داراها، فأبت أن تجيبه إلا بما تحتكمه(20) من المهر، و بعد أن يسوق شطره إليها، فوعدها بذلك.
ص: 284
و علم أنه لا ينفعه قرابة و لا غيرها إلاّ بالمال(1) الذي يطلبونه(2)، فعمل على قصد ابن عمّ له موسر كان مقيما باليمن(3)، فجاء إلى عمّه و امرأته(4) فأخبرهما بعزمه، فصوّباه و وعداه ألاّ يحدثا(5) حدثا حتى يعود.
و صار في ليلة رحيله إلى عفراء، فجلس عندها ليلة هو و جواري الحيّ(6)، يتحدّثون حتى أصبحوا(7)، ثم ودّعها و ودّع الحيّ و شدّ على راحلته، و صحبه في طريقه فتيان من بني هلال(8)، بن عامر كانا يألفانه(9)، و كان حيّاهم متجاورين، و كان في طول سفره ساهيا يكلّمانه فلا يفهم، فكرة في عفراء(10)، حتى يردّ القول عليه(11) مرارا، حتى قدم على ابن عمّه، فلقيه(12) و عرّفه حاله و ما قدم له، فوصله و كساه، و أعطاه مائة من الإبل، فانصرف بها إلى أهله.
و قد كان(13) رجل من أهل الشّام من أسباب(14) بني أميّة نزل في حيّ(15) عفراء، /فنحر و وهب و أطعم(16)، و كان ذا مال عظيم(17)، فرأى عفراء، و كان منزله قريبا من منزلهم، فأعجبته و خطبها(18) إلى أبيها، فاعتذر إليه و قال: قد سمّيتها إلى ابن أخ(19) لي يعدلها(20) عندي، و ما إليها لغيره سبيل(21)، فقال له: إني أرغبك في المهر، قال: لا حاجة لي بذلك(22)، فعدل إلى أمّها، فوافق عندها قبولا، لبذله و رغبة(23) في ماله. فأجابته
ص: 285
و وعدته(1)، و جاءت إلى عقال فآدته(2) و صخبت معه(3)، و قالت: أيّ خير في عروة حتى تحبس ابنتي عليه و قد جاءها الغنيّ يطرق عليها بابها؟ و اللّه ما ندري أ عروة حيّ أم ميّت؟ و هل ينقلب إليك(4) بخير أم لا؟ فتكون قد حرمت ابنتك خيرا حاضرا و رزقا سنيّا(5)، فلم تزل به(5) حتى قال لها: فإن عاد لي خاطبا أجبته. فوجّهت إليه أن عد إليه(6) خاطبا. فلمّا كان من غد نحر جزرا(7) عدّة، و أطعم/و وهب و جمع الحيّ معه على طعامه، و فيهم أبو عفراء، فلمّا طعموا(8) أعاد القول في الخطبة، فأجابه و زوّجه(9)، و ساق إليه المهر، و حوّلت إليه عفراء(10) و قالت قبل أن يدخل بها(11):
يا عرو إنّ الحيّ قد نقضوا *** عهد الإله و حاولوا الغدرا
في أبيات طويلة.
فلمّا كان اللّيل دخل بها زوجها، و أقام فيهم ثلاثا، ثم ارتحل بها إلى الشام، و عمد أبوها إلى قبر عتيق، فجدّده و سوّاه، و سأل الحيّ(12) كتمان أمرها(13).
و قدم عروة بعد أيّام، فنعاها أبوها إليه، و ذهب به(14) إلى ذلك القبر، فمكث يختلف إليه أيّاما و هو مضنى هالك، حتى جاءته جارية من(15) الحيّ فأخبرته الخبر(16)، فتركهم و ركب بعض إبله، و أخذ معه زادا و نفقة، و رحل إلى الشّام فقدمها(17) و سأل عن الرجل فأخبر به، و دلّ عليه، فقصده و انتسب له إلى عدنان(18)، فأكرمه و أحسن ضيافته، فمكث أيّاما(19) حتى أنسوا به، ثم قال لجارية لهم: «هل لك في يد تولينيها(20)؟ /قالت: نعم، قال:
ص: 286
تدفعين خاتمي هذا إلى مولاتك. فقالت(1): سوأة لك، أ ما تستحي لهذا(2)/القول؟ فأمسك عنها، ثم أعاد عليها و قال لها: ويحك! هي(3) و اللّه بنت عمّي، و ما أحد منّا إلا و هو(4) أعزّ على صاحبه من الناس جميعا(5)، فاطرحي هذا الخاتم في صبوحها(6)، فإذا(7) أنكرت عليك فقولي لها: اصطبح ضيفك(8) قبلك، و لعلّه سقط منه. فرقّت الأمة و فعلت ما أمرها به.
فلما شربت عفراء اللبن رأت الخاتم فعرفته، فشهقت(9)، ثم قالت: اصدقيني عن الخبر، فصدقتها(10). فلمّا جاء زوجها قالت له: أ تدري من ضيفك هذا(11)؟ قال: نعم، فلان بن فلان(12)، للنّسب الذي انتسب له عروة، فقالت: كلا و اللّه يا هذا(13)، بل هو عروة بن حزام ابن عمّي، و قد كتم(14) نفسه(15) حياء منك.
/و قال عمر بن شبّة في خبره:
بل جاء ابن عمّ له فقال: أ تركتم هذا الكلب الذي قد(16) نزل بكم هكذا في داركم يفضحكم؟ فقال له(17):
و من تعني؟ قال: عروة بن حزام العذريّ ضيفك(18) هذا، قال: أ و إنّه(19) لعروة؟ بل أنت و اللّه الكلب، و هو الكريم القريب.
قالوا جميعا:
هذا المكان أبدا، و خرج و تركه مع عفراء يتحدّثان(1). و أوصى خادما له بالاستماع عليهما، و إعادة ما تسمعه(2)منهما عليه، فلمّا خلوا تشاكيا ما وجدا(3) بعد الفراق، فطالت الشّكوى، و هو يبكي أحرّ بكاء، ثم أتته بشراب و سألته أن يشربه، فقال: و اللّه ما دخل جوفي حرام قطّ، و لا ارتكبته منذ كنت، و لو استحللت حراما لكنت(4) قد استحللته منك، فأنت(5) حظّي من الدّنيا، و قد ذهبت منّي، و ذهبت بعدك فما أعيش! /و قد أجمل هذا الرجل الكريم و أحسن، و أنا مستحيى(6) منه، و و اللّه لا أقيم بعد علمه مكاني(7)، و إنّي عالم(8) أنّي أرحل(9) إلى منيّتي. فبكت و بكى، و انصرف.
فلما جاء زوجها أخبرته(10) الخادم بما دار بينهما(11)، فقال: يا عفراء، امنعي ابن عمّك من الخروج، فقالت: لا يمتنع، هو و اللّه أكرم و أشد حياء من أن يقيم بعد ما جرى بينكما، فدعاه و قال له: يا أخي(12)، اتّق اللّه في نفسك، فقد عرفت خبرك، و إنّك إن رحلت(13) تلفت، و و اللّه لا أمنعك من الاجتماع معها أبدا(14)، و لئن(15) شئت لأفارقنّها(16) و لأنزلنّ(17) عنها لك. فجزاه خيرا، و أثنى عليه، و قال: إنما كان الطّمع فيها آفتي، و الآن قد(18) يئست، و قد(19) حملت نفسي على اليأس(20) و الصّبر، فإنّ اليأس يسلي(21)، و لي أمور، /و لا بدّ لي من رجوعي(22) إليها، فإن وجدت من نفسي(23) قوّة على(24) ذلك، و إلا
ص: 288
رجعت(1) إليكم و زرتكم، حتّى يقضي اللّه من(2) أمري ما يشاء. فزوّدوه و أكرموه و شيّعوه، فانصرف(3). فلمّا رحل عنهم نكس بعد صلاحه(4) و تماثله، و أصابه غشي و خفقان؛ فكان كلّما أغمي(5) عليه ألقي على وجهه خمار لعفراء زوّدته إيّاه؛ فيفيق.
قال: و لقيه في الطّريق ابن مكحول(6) عرّاف اليمامة، فرآه و جلس عنده؛ و سأله عمّا به؛ و هل هو خبل أو(7)جنون؟ فقال له عروة: أ لك عنده علم بالأوجاع؟. قال: نعم؛ فأنشأ يقول:
و ما بي(8) من خبل و لا(9) بي جنّة(10) *** و لكنّ عمّي يا أخيّ كذوب(11)
/أقول لعرّاف اليمامة داوني *** فإنّك إن داويتني لطبيب(12)
فوا كبدا أمست رفاتا كأنمّا *** يلذّعها بالموقدات طبيب(13)
عشيّة لا عفراء منك بعيدة *** فتسلو و لا عفراء منك قريب(14)
/عشيّة لا خلفي مكرّ و لا الهوى *** أمامي و لا يهوى هواي غريب(15)
ص: 289
فو اللّه لا أنساك ما هبّت الصّبا *** و ما عقّبتها في الرّياح جنوب(1)
و إنّي لتغشاني لذكراك هزّة(2) *** لها بين جلدي و العظام دبيب(3)
و قال أيضا يخاطب صاحبيه الهلاليّين بقصّته(4):
خليليّ من عليا هلال(5) بن عامر *** بصنعاء عوجا اليوم و انتظراني
/و لا تزهدا في الذّخر(6) عندي و أجملا *** فإنّكما بي اليوم مبتليان
ألمّا على عفراء إنّكما غدا *** بوشك(7) النّوى و البين معترفان
فيا واشي عفراء ويحكما بمن *** و ما و إلى من جئتما(8) تشيان(9)
بمن لو أراه عانيا لفديته *** و من لو رآني عانيا لفداني(10)
متى تكشفا عنّي القميص تبيّنا *** بي الضّرّ من عفراء يا فتيان
إذن تريا لحما قليلا و أعظما *** بلين و قلبا دائم الخفقان(11)
و قد تركتني لا أعي لمحدّث *** حديثا و إن ناجيته و نجاني(12)
ص: 290
جعلت لعرّاف اليمامة حكمه *** و عرّاف حجر إن هما شفياني(1)
/فما تركا من حيلة يعرفانها *** و لا شربة إلا و قد سقياني(2)
و رشّا على وجهي من الماء ساعة *** و قاما مع العوّاد يبتدران
و قالا: شفاك اللّه و اللّه ما لنا *** بما ضمّنت منك الضّلوع يدان(3)
فويلي على عفراء ويلا(4) كأنّه *** على الصّدر و الأحشاء(5) حدّ سنان
أحبّ ابنة العذريّ حبّا و إن نأت *** و دانيت فيها(6) غير ما متداني(7)
إذا رام قلبي هجرها حال دونه *** شفيعان من قلبي لها جدلان(8)
غنّته شاريه؛ و لحنه من الثقيل الأوّل(9).
إذا قلت: لا، قالا: بلى، ثمّ أصبحا *** جميعا على الرأي الّذي يريان
/تحمّلت(10) من(11) عفراء ما ليس لي به *** و لا للجبال(12) الرّاسيات يدان
فيا ربّ أنت المستعان على الّذي *** تحمّلت من عفراء منذ زمان(13)
كأنّ قطاة علّقت بجناحها *** على كبدي من شدة الخفقان(14)
في:
تحمّلت من عفراء.....
و الذي بعده، ثقيل أوّل، يقال إنه لأبي العبيس بن حمدون.
ص: 291
قال: فلم يزل في طريقه(1) حتى مات قبل أن يصل إلى حيّه بثلاث ليال، و بلغ عفراء خبر وفاته، فجزعت جزعا شديدا، و قالت ترثيه:
ألا أيّها الرّكب المخبّون(2) ويحكم *** بحقّ(3) نعيتم عروة بن حزام
فلا(4) تهنأ الفتيان بعدك لذّة *** و لا رجعوا من غيبة بسلام
/و قل(5) للحبالى: لا ترجّين غائبا *** و لا فرحات بعده بغلام(6)
قال: و لم تزل تردّد هذه الأبيات و تندبه(7) بها، حتى ماتت بعده بأيّام قلائل(8).
و ذكر عمر بن شبّة في خبره:
أنّه لم يعلم بتزويجها حتى لقي الرّفقة التي هي فيها، و أنّه كان توجّه إلى ابن عمّ له/بالشّام، لا باليمن(9)، فلمّا رآها وقف دهشا(10)، ثم قال:
فما هي(11) إلا أن أراها فجاءة *** فأبهت حتى ما أكاد أجيب
و أصدف(12) عن رأيي الذي كنت أرتئي *** و أنسى الذي أزمعت(13)، حين(14) تغيب
و يظهر قلبي عذرها و يعينها *** عليّ فما لي في الفؤاد نصيب
ص: 292
/و قد علمت نفسي مكان شفائها *** قريبا، و هل ما لا ينال قريب؟
حلفت بربّ السّاجدين لربّهم *** خشوعا، و فوق السّاجدين رقيب(1)
لئن كان برد الماء حرّان صاديا *** إليّ حبيبا إنّها لحبيب(2)
و قال(3) أبو زيد في خبره:
ثم عاد من عند عفراء إلى أهله، و قد ضني و نحل، و كانت له أخوات و خالة و جدّة، فجعلن يعظنه و لا ينفع(4)، و جئن(5) بأبي كحيلة رباح بن شدّاد(6) مولى بني ثعيلة(7)، و هو عرّاف حجر(8)، ليداويه فلم ينفعه دواؤه.
و ذكر أبو زيد قصيدته النّونيّة التي تقدّم ذكرها، و زاد فيها:
و عينان أوفيت نشرا(9) فتنظرا *** مآقيهما(10) إلا هما تكفان
سوى أنّني قد قلت يوما لصاحبي *** ضحى و قلوصانا بنا تخدان
ألا حبّذا(11) من حبّ عفراء واديا *** نعام و بزل(12) حيث يلتقيان
أخبرني(1) الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار قال: حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، عن أبي السّائب قال:
أخبرني ابن أبي عتيق قال: و اللّه إنّي لأسير في أرض عذرة إذا بامرأة تحمل غلاما جزلا(2)، ليس يحمل مثله(3)، فعجبت لذلك، حتى أقبلت به، فإذا له لحية، فدعوتها فجاءت، فقلت لها: ويحك! ما هذا؟ فقالت: هل سمعت بعروة بن حزام؟ فقلت: نعم، قالت: هذا و اللّه عروة. فقلت له: أنت/عروة(4)؟ فكلمني و عيناه تذرفان(5) و تدوران في رأسه، و قال: نعم أنا و اللّه القائل:
جعلت لعرّاف اليمامة حكمه *** و عرّاف حجر إن هما شفيان
فقالا: نعم نشفي من الدّاء كلّه *** و قاما مع العوّاد يبتدران
فعفراء أحظى الناس عندي مودّة *** و عفراء عنّي المعرض المتواني
قال: و ذهبت المرأة، فما برحت من الماء حتى سمعت الصّيحة، فسألت عنها، فقيل: مات عروة بن حزام.
قال عبد الملك: فقلت لأبي السائب: و من(6) أيّ شيء مات؟ أظنّه شرق، فقال: سخنت عيناك(7)، بأيّ شيء شرق؟ قلت بريقه - و أنا أريد العبث بأبي السائب - أ فترى أحدا يموت من الحبّ؟ قال: و اللّه لا تفلح أبدا، نعم يموت خوفا أن يتوب اللّه عليه(8)!!
أخبرني عمّي قال: حدّثنا/الكرانيّ، عن العمري، عن الهيثم بن عديّ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النعمان بن بشير قال:
ولاني عثمان - رضي اللّه عنه - صدقات سعد هذيم(9)، و هم: بليّ، و سلامان و عذرة، و ضبّة بن الحارث،
ص: 294
و وائل: بنو زيد، فلمّا قبضت الصدقة قسّمتها في أهلها، فلمّا فرغت و انصرفت بالسهمين إلى عثمان - رضي اللّه عنه - إذا أنا ببيت مفرد/عن الحيّ، فملت إليه، فإذا أنا بفتى راقد في فناء(1) البيت، و إذا بعجوز من ورائه في كسر البيت، فسلّمت عليه، فردّ عليّ بصوت ضعيف(2)، فسألته: مالك؟ فقال:
كأنّ قطاة علّقت بجناحها *** على كبدي من شدّة الخفقان
و ذكر الأبيات النونيّة المعروفة، ثم شهق شهقة خفيفة(3) كانت نفسه فيها، فنظرت إلى(4) وجهه فإذا هو قد قضى(5) فقلت: أيّتها العجوز، من هذا الفتى منك؟ قالت: ابني، فقلت: إني أراه قد قضى، فقالت(6): و أنا و اللّه أرى ذلك، فقامت فنظرت في وجهه ثم قالت: فاظ و ربّ محمد، قال: فقلت لها: يا أمّاه(7)، من هو؟ فقالت:
عروة بن حزام، أحد بني ضبّة، و أنا أمّه، فقلت لها؛ ما بلغ به ما أرى؟ قالت: الحبّ، و اللّه ما سمعت له منذ سنة كلمة و لا أنّة إلا اليوم، فإنه أقبل عليّ ثم قال:
من كان من أمّهاتي(8) باكيا أبدا *** فاليوم إنّي أراني اليوم مقبوضا
يسمعننيه فإنّي غير سامعه *** إذا علوت رقاب القوم(9) معروضا
قال: فما برحت من الحيّ حتى عسّلته، و كفّنته، و صلّيت عليه، و دفنته.
و ذكر أبو زيد عمر بن شبّة في خبره، هذه القصة عن عروة بن الزّبير، فقال هذين البيتين بحضرته:
من كان من أخواتي باكيا أبدا......
قال: فحضرنه فبرزن - و اللّه - كأنهنّ الدّمى(10)، فشققن جيوبهنّ، و ضربن خدودهنّ(11)، فأبكين كلّ من حضر. و قضى من يومه.
و بلغ عفراء خبره، فقامت لزوجها فقالت: يا هناء، قد كان من خبر ابن عمي ما كان بلغك، و و اللّه ما عرفت منه(12) قطّ إلاّ الحسن الجميل، و قد مات فيّ و بسببي، و لا بدّ لي من أن أندبه و أقيم(13) مأتما عليه(14). قال:
ص: 295
افعلي. فما زالت تندبه ثلاثا، حتى توفّيت في اليوم الرابع.
و بلغ معاوية بن أبي سفيان خبرهما(1)، فقال: لو علمت بحال(2) هذين الحرّين الكريمين لجمعت بينهما.
و روي هذا الخبر عن هارون بن موسى القرويّ، عن محمد بن الحارث المخزوميّ، عن هشام بن عبد اللّه، عن عكرمة، عن هشام(3) بن عروة عن أبيه، أنّه كان شاهدا ذلك اليوم. و لم يذكر النعمان بن بشير في خبره.
و ذكر هارون بن مسلمة عن غصين بن برّاق، عن أم جميل الطائيّة: أنّ عفراء كانت يتيمة في حجر عمّها عمّه(4)، فعرضها عليه فأباها، ثم طال المدى، و انصرف عروة في يوم عيد، بعد أن صلّى صلاة العيد، فرآها و قد زيّنت، فرأى منها جمالا بارعا، و قدّمت له تحفة فنال منها و هو ينظر إليها، ثم خطبها إلى عمّه فمنعه ذلك(5)، مكافأة لما كان من كراهته لها لمّا عرضها عليه، و زوّجها رجلا غيره فخرج بها إلى الشام، و تمادى في حبّها حتى قتله.
حدّثنا(6) محمد بن خلف وكيع قال: حدّثنا عبد اللّه بن شبيب قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة و غيره، عن سليمان بن عبد العزيز بن عمران الزّهريّ قال: حدّثني خارجة المكّيّ:
أنه رأى عروة بن حزام يطاف به حول البيت، قال: فدنوت منه، فقلت: من أنت؟ فقال: الذي أقول(7):
أ في كلّ يوم أنت رام بلادها *** بعينين إنسانا هما غرقان!
/ألا فاحملاني بارك اللّه فيكما *** إلى حاضر الرّوحاء ثم ذراني(8)
فقلت له: زدني، فقال: لا و اللّه و لا حرفا(9).
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثني أبو سعيد السكّريّ قال: حدّثني(10) محمد بن حبيب قال: ذكر الكلبيّ، عن أبي صالح، قال:
ص: 296
/كنت مع ابن عبّاس بعرفة(1)، فأتاه فتيان يحملون بينهم(2) فتى لم يبق منه(3) إلا خياله، فقالوا له: يا بن عمّ رسول اللّه، ادع له، فقال: و ما به؟ فقال الفتى:
بنا من جوى الأحزان في الصدر لوعة *** تكاد لها نفس الشّفيق(4) تذوب
و لكنّما أبقى حشاشة معول(5) *** على ما به عود هناك صليب
قال: ثم خفت في أيديهم فإذا هو قد مات.
فقال ابن عبّاس:
هذا قتيل الحبّ لا عقل و لا قود
ثم ما رأيت ابن عبّاس سأل اللّه - جلّ و عزّ - في عشيّته إلاّ العافية، ممّا(6) ابتلي به ذلك الفتى، قال: و سألنا عنه فقيل: هذا عروة بن حزام.
أعالي أعلى اللّه جدّك عاليا *** و أسقى بريّاك العضاة البواليا
أعالي ما شمس النهار إذا بدت *** بأحسن ممّا تحت(7) برديك عاليا
أعالي لو أنّ النساء ببلدة *** و أنت بأخرى لاتّبعتك ماضيا
أعالي لو أشكو الذي قد أصابني *** إلى غصن رطب لأصبح ذاويا(8)
اشعر للقتّال الكلابيّ.
و قد أدخل بعض الرّواة الأوّل(9) من هذه الأبيات مع أبيات سحيم عبد بني الحسحاس التي أوّلها:
فما بيضة بات الظّليم يحفّها(10)...
ص: 297
في لحن واحد. و ذكرت ذلك في موضعه(1)، و أفردته على حدته(2)، و أتيت به(3) على حقيقته.
و الغناء لابن سريج، ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى. و ذكر الهشاميّ أن فيه/لأبي كامل ثاني ثقيل، لا أدري أ هذا(4) يعني أم غيره. و وافقه إبراهيم في لحن أبي كامل و لم يجنّسه، و زعم(5) أن فيه لحنا آخر لابن عبّاد، و فيه ثقيل أول، ذكر ابن المكيّ أنه لمعبد. و ذكر الهشاميّ أنّه ليحيى منحول إلى معبد. و ذكر حبش أنّه لطويس(6).
و في هذه القصيدة يقول القتّال(7):
أعالي أخت المالكيّين نوّلي *** بما ليس مفقودا و فيه شفائيا(8)
أ صارمتي أمّ العلاء و قد رمى *** بي الناس(9) في أمّ العلاء المراميا
أيا إخوتي لا أصبحن بمضلّة *** تشيب إذا عدّت عليّ النّواصيا
فراد لديك القوم و اشعب بحقّهم(10) *** كما كنت لو كنت الطّريد مراديا
و شمّر و لا تجعل عليك غضاضة *** و لا تنس يا بن المضرحيّ بلائيا
و لهذه القصيدة أخبار تذكر في مواضعها هاهنا إن شاء اللّه تعالى.
ص: 298
القتّال لقب غلب عليه، لتمرّده و فتكه. و اسمه: عبد اللّه بن المضرّحيّ(1) بن عامر الهصّان(2) بن/كعب بن عبد اللّه(3) بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. و يكنى أبا المسيّب، و أمّه عمرة بنت حرقة(4) بن عوف بن شدّاد بن ربيعة بن عبد اللّه بن أبي بكر بن كلاب.
و قد ذكرها في شعرها و فخر بها، فقال:
لقد ولدتني حرّة ربعيّة *** من اللاء لم يحضرن في القيظ ذبذبا(5)
نسخت من كتاب لمحمّد بن داود بن الجرّاح خبره، و ذكر أنّ عبد اللّه بن سليمان السّجستانيّ دفعه إليه و أخبره أنّه سمعه من عمر بن شبّة و أجاز له روايته، و أخبرني بأكثر رواية عمر بن شبّة هذه الأخفش عن السكّريّ عنه في أخبار اللّصوص(6) و جمعت ذلك أجمع.
/قال عمر بن شبّة: حدّثني حميد بن مالك بن يسار(7) المسمعيّ قال: حدّثني شدّاد بن عقبة بن رافع بن زمل ابن شعيب بن الحارث بن عامر بن كعب بن عبد اللّه(8) بن أبي بكر بن كلاب. و كانت أمّ رافع جنوب بنت القتّال.
و حدّثني شيخ من بني أبي بكر بن كلاب، يكنى أبا خالد، أيضا بحديث القتّال(9)، قال أبو خالد:
كان القتّال قتّال(10) ربيعة بن عبد اللّه بن أبي بكر بن كلاب، يتحدّث إلى ابنة عمّ له يقال لها(11) العالية(12) بنت
ص: 299
عبيد اللّه(1)، و كان لها أخ غائب يقال له: زياد بن عبيد اللّه(2). فلمّا قدم رأى القتّال يتحدّث إلى أخته، فنهاه(3)و حلف: لئن رآه ثانية ليقتلنّه. فلمّا كان بعد ذلك بأيّام رآه عندها(4)، فأخذ السيف و بصر به القتّال، فخرج هاربا، و خرج في إثره، فلمّا دنا منه ناشده(5) القتّال باللّه(6) و الرحم، فلم يلتفت/إليه فبينا هو يسعى، و قد كاد يلحقه، وجد(7) رمحا مركوزا - و قال للسكريّ(8): وجد سيفا - فأخذه و عطف على زياد فقتله، و قال:
نهيت زيادا و المقامة(9) بيننا *** و ذكّرته أرحام سعر(10) و هيثم
فلمّا رأيت أنه غير منته *** أملت له كفّي بلدن مقوّم
و لمّا رأيت أنني قد قتلته *** ندمت عليه أيّ ساعة مندم
و قال أيضا(11):
نهيت زيادا و المقامة(12) بيننا *** و ذكّرته باللّه حولا مجرّما
فلمّا رأيت أنّه غير منته *** و مولاي لا يزداد إلاّ تقدّما
أملت له كفّي بأبيض صارم *** حسام إذا ما صادف العظم صمّما
بكفّ امرئ لم تخدم(13) الحيّ أمّه *** أخي نجدات لم يكن متهضّما
ثم خرج هاربا، و أصحاب القتيل يطلبونه، فمرّ بابنة عمّ(14) له تدعى: زينب، متنحّية عن الماء، فدخل عليها، فقالت له: ويحك! ما دهاك؟ قال: ألقي عليّ ثيابك، فألقت/عليه ثيابها، و ألبسته برقعها(15)، و كانت تمسّ حنّاء، فأخذ الحنّاء فلطّخ(16) بها يديه(17) و تنحّت عنه، و مرّ(18) الطلب به(19)، فلمّا أتوا البيت قالوا و هم يظنّون
ص: 300
أنّه(1) زينب... أين الخبيث؟ فقال لهم(2): أخذ هاهنا(3)، لغير الوجه الذي أراد(4) أن يأخذه. فلمّا عرف أن قد بعدوا أخذ في وجه آخر، فلحق بعماية، و عماية(5) جبل، فاستتر فيه، و قال في ذلك:
فمن مبلغ فتيان قومي أنّني *** تسمّيت لمّا شبّت الحرب زينبا(6)
/و أرخيت جلبابي على نبت لحيتي *** و أبديت للنّاس البنان المخضّبا(7)
و قال أيضا(8):
جزى اللّه عنّا و الجزاء بكفّه *** عماية خيرا أمّ كلّ طريد
فما يزدهيها(9) القوم إن نزلوا بها *** و إن أرسل السّلطان كلّ بريد
/حمتني منها كلّ عنقاء عيطل *** و كلّ صفا جمّ القلات كئود(10)
فمكث بعماية زمانا يأتيه أخ له(11) بما يحتاج إليه، و ألفه نمر في الجبل كان يأوي معه في شعب(12).
و أخبرني عبد اللّه بن مالك، قال: حدّثني محمد بن حبيب، عن ابن الكلبيّ، قال:
كان القتّال الكلابيّ أصاب دما، فطلب به، فهرب إلى جبل يقال له عماية، فأقام في شعب من شعابه، و كان يأوي إلى ذلك الشّعب نمر، فراح إليه كعادته، فلمّا رأى القتّال كشر عن أنيابه، و دلع لسانه(13) فجرد القتّال سيفه من جفنه، فردّ النمر لسانه، فشام القتّال سيفه(14)، فربض بإزائه، و أخرج براثنه، فسلّ(15) القتّال سهامه من كنانته(16)، فضرب بيده و زأر، فأوتر القتّال قوسه، و أنبض وترها(17)، فسكن النّمر و ألفه.
ص: 301
فقال ابن الكلبيّ في هذا الخبر، و وافقه عمر بن شبّة في روايته:
كان النمر يصطاد الأروى(1)، فيجيء بما يصطاده، فيلقيه بين يدي القتّال، فيأخذ/منه ما يقوته(2)، و يلقي الباقي للنّمر فيأكله، و كان القتّال يخرج إلى الوحش فيرمي بنبله(3)، فيصيب منه الشيء بعد الشيء، فيأتي به الكهف، فيأخذ لقوته بعضه، و يلقي الباقي للنّمر. و كان القتّال إذا ورد الماء قام عليه(4) النّمر حتى يشرب، ثم يتنحّى القتّال(5) عنه و يرد النّمر، فيقوم عليه القتّال حتى يشرب، فقال القتّال في ذلك من قصيدة له:
و لي صاحب في الغار يعدل صاحبا *** أبا الجون إلاّ أنّه لا يعلّل(6)
أبو الجون: صديق له كان يأنس به، فشبهه به(7). و في رواية عمر بن شبّة(8): أخي الجون، فإن القتّال كان له أخ اسمه الجون، فشبّهه به:
كلانا عدوّ لا يرى في عدوّه *** مهزّا و كلّ في العداوة مجمل(9)
إذا ما التقينا كان أنس(10) حديثنا *** صماتا(11) و طرف كالمعابل(12) أطحل(13)
لنا مورد قلت بأرض مضلّة *** شريعتنا: لأيّنا جاء أوّل(14)
/تضمّنت الأروى لنا بشوائنا *** كلانا له منها سديف مخردل(15)
فأغلبه في صنعة الزّاد إنّني *** أميط الأذى عنه و ما إن يهلّل(16)
ص: 302
أي ما يسمّي اللّه تعالى عند صيده(1).
أخبرني اليزيديّ قال: حدّثني عمّي الفضل عن إسحاق الموصلي، و أخبرني به محمد بن جعفر(2)الصّيدلانيّ، عن الفضل، عن إسحاق. و أخبرني به وسواسة بن الموصليّ عن حمّاد، عن أبيه، قال:
قال أبو المجيب أو شدّاد بن عقبة:
دعا رجل من الحيّ يقال له أبو سفيان، القتّال الكلابيّ إلى وليمة، فجلس القتّال ينتظر رسوله و لا يأكل(3)حتى انتصف(4) النهار، و كانت عنده فقرة(5) من حوار، فقال لامرأته:
فإنّ أبا سفيان ليس بمولم *** فقومي فهاتي فقرة من حوارك(6)
/قال إسحاق: فقلت له: ثمّ مه؟ قال: لم يأت بعده بشيء، إنّما أرسله يتيما. فقلت له: لمه(7)؟ أ فلا أزيدك /إليه بيتا آخر ليس بدونه؟ قال(8): بلى، فقلت:
فبيتك خير من بيوت كثيرة *** و قدرك خير من وليمة جارك(9)
فقال: بأبي أنت و أميّ، و اللّه لقد أرسلته مثلا(10)، و ما انتظرت به العرب، و إنك لبزّ طرّاز ما رأيت بالعراق مثله، و ما يلام الخليفة(11) أن يدنيك و يؤثرك و يتملّح(12) بك، و لو كان الشّباب يشترى لابتعته لك بإحدى يديّ، و يمنى عينيّ، و على أنّ فيك بحمد اللّه بقية تسرّ الودود، و ترغم الحسود.
لا يبعد اللّه فتيانا أقول لهم *** بالأبرق الفرد لمّا فاتني نظري(1)
أ لا ترون بأعلى عاسم(2) ظعنا *** نكّبن فحلين و استقبلن ذا بقر
و قال أبو زيد عمر بن شبّة من رواية ابن داود(3) عنه: حدّثني سعيد بن مالك قال: حدّثني(4) شدّاد بن عقبة قال:
اقتتل بنو جعفر بن كلاب و بنو العجلان بن كعب بن ربيعة بن صعصعة، فقتلت بنو جعفر بن كلاب(5) رجلا من بني العجلان، قال شدّاد، و كانت جدّة القتّال أمّ أبيه(6) عجلانيّة، و هي خولة بنت قيس بن زياد بن مالك بن العجلان، فاستبطأ القتّال أخواله بني العجلان(7) في الطّلب بثأرهم من بني جعفر، و جعل يحضّهم و يحرّضهم، فقال في ذلك(8)، و قد بلغه أنّهم أخذوا من بني جعفر دية المقتول، فعيّرهم بما فعلوا و قال:
لعمري لحيّ من عقيل لقيتهم *** بخطمة أو لاقيتهم بالمناسك(9)
عليهم من الحوك اليمانيّ بزّة *** على أرحبيّات طوال الحوارك(10)
أحبّ إلى نفسي و أملح عندها *** من السّروات آل قيس بن مالك
إذا ما لقيتم عصبة جعفريّة *** كرهتم بني اللّكعاء وقع النيازك(11)
/فلستم بأخوالي فلا تصلبنّى *** و لكنّما أمّي لإحدى العواتك(12)
قصار العماد لا ترى سرواتهم(13) *** مع الوفد جثّامون عند المبارك(14)
ص: 304
قتلتم فلمّا أن طلبتم عقلتم *** كذلك يؤتى بالذّليل كذلك(1)
و قال ابن حبيب:
خرج ابن هبّار القرشيّ إلى الشام في تجارة أو إلى بعض بني أميّة، فاعترضه جماعة فيهم القتّال الكلابيّ و غيره، فقتلوه و أخذوا ماله. و شاع خبره، فاتّهم به(2) جماعة من بني كلاب و غيرهم من فتّاك العرب، فأخذوا و حبسوا، أخذهم عامل مروان بن الحكم، فوجّههم إليه و هو بالمدينة، فحبسهم ليبحث عن الأمر، ثم يقتل، قتله ابن هبّار، فلمّا خشي القتّال أن يعلم أمره، و رأى أصحابه ليس فيهم غناء - اغتال السّجّان فقتله، و خرج هو و من كان معه من السّجن فهربوا(3)، فقال يذكر ذلك:
/أميم أثيبي قبل جدّ التّزيّل *** أثيبي بوصل أو بصرم معجّل(4)
أميم و قد حمّلت ما حمّل امرؤ *** و في الصّرم إحسان إذا لم تنوّلي(5)
/و هي قصيدة طويلة يقول فيها:
و إنّي و ذكري أمّ حسّان كالفتى *** متى ما يذق طعم المدامة يجهل(6)
ألا حبّذا تلك البلاد و أهلها *** لو أنّ عذابي بالمدينة ينجلي(7)
برزت لها من سجن مروان غدوة *** فآنستها بالأيم لم تتحوّل(8)
و آنست حيّا بالمطالي و جاملا *** أبابيل هطلى بين راع و مهمل(9)
نظرت و قد جلّى الدّجى طامس الصّوى *** بسلع و قرن الشمس لم يترجّل(10)
و شبّت لنا نار لليلى صباحه *** يذكّى بعود جمرها و قرنفل(11)
ص: 305
يضيء سناها وجه ليلى كأنّما *** يضيء سناها وجه أدماء مغزل
علا عظمها و استعجلت عن لداتها *** و شبّت شبابا و هي لمّا تسربل(1)
/و لما رأيت الباب قد حيل دونه *** و خفت لحاقا من كتاب مؤجّل
حملت علي المكروه نفسا شريفة *** إذا وطّئت لم تستقد للتّذلّل(2)
و كالئ باب السّجن ليس بمنته *** و كان فراري منه ليس بمؤتلي(3)
إذا قلت رفّهني من السّجن ساعة *** و تمّم بها النّعمى عليّ و أفضل(4)
يشدّ وثاقا عابسا و يغلّني *** إلى حلقات من عمود موصّل(5)
فقلت له و السّيف يعضب رأسه *** أنا ابن أبي التيماء غير المنحّل(6)
عرفت نداي من نداه و شيمتي *** و ريحا تغشّاني إذا اشتدّ مسحلي(7)
تركت عتاق الطّير تحجل حوله *** على عدواء كالحوار المجدّل
و قال أبو زيد في خبره:
و أنشدني شدّاد للقتّال الكلابيّ يذكر قتل ابن هبّار:
تركت ابن هبّار لدى الباب مسندا *** و أصبح دوني شابة و أرومها(8)
بسيف امرئ ما إن أخبّر باسمه *** و إن حقرت نفسي إليّ همومها(9)
هكذا روى ابن حبيب و عمر بن شبّة.
و نسخت من كتاب للشاهينيّ بخطه في شعر للقتّال(10) و أخبار من أخباره قال:
حبس القتّال في دم ابن عمّه الذي قتله، فحبس زمانا في السّجن(11)، ثم كان بين ابن هبّار القرشيّ و بين ابن عمّ له من قريش إحنة(12)، فبلغ ابن عمّه أنّ القتّال محبوس في سجن المدينة(13)، فأتاه فقال له: أ رأيت أن أنا
ص: 306
أخرجتك أ تقتل ابن عمّي المعروف بابن هبّار؟ قال: نعم(1) فإني سأرسل إليك بحديدة في طعامك، فعالج بها قيدك حتى تفكّه ثم البسه حتى لا تنكر، فإذا خرجت إلى الوضوء فاهرب من الحرس، فإني جالس لك و مخلصك و معطيك فرسا تنجو عليه، و سيفا تمتنع به، فإن خلّصك ذلك و إلا فأبعدك اللّه، فقال: قد رضيت.
قال: و كان أهل المدينة يخرجون المحتبسين(2)، إذا أمسوا للوضوء، و معهم الحرس، ففعل ما أمره به(3)، و أتاه القرشيّ فخلّصه و آواه(4)، و حتى أمسك عنه الطّلب، ثم جاء به و أعطاه سيفا، فقتل(5) ابن عمّه المعروف بابن هبّار، و وهب له نجيبا، فنجا عليه و قال:
/تركت ابن هبّار لدى الباب مسندا *** و أصبح دوني شابة و أرومها(6)
بسيف امرئ لا أخبر الناس باسمه *** و لو أجهشت نفسي إليّ همومها(7)
و قال: أبو زيد: عمر بن شبّة فيما رواه عن أصحابه:
مرّ القتّال بعلية بنت شيبة بن عامر بن ربيعة بن كعب بن عمرو(8) بن عبد بن أبي بكر و أخويها: جهم و أويس، فسألها زماما فأبت أن تعطيه، و كانت جدّتهم أمّ أبيهم أمة يقال لها، أمّ حدير و كانت لقريظة(9) بن حذيفة بن عمّار ابن ربيعة بن كعب بن عبد بن أبي بكر، فولدت له أمّ هؤلاء(10)، و اسمها نجيبة، فولدت له عليّة هذه، فقال القتّال يهجوهم:
يا قبّح اللّه صبيانا تجيء بهم *** أمّ الهنيبر من زند لها واري(11)
من كلّ أعلم منشقّ مشافره *** و مؤذن ما وفى شبرا بمشبار(12)
ص: 307
/يا ويح شيماء لم تنبذ بأحرار *** مثلي إذا ما اعتراني بعض زوّاري(1)
إنّ القريظين لم يدعوك كنّتهم *** فأقصري آل مسعود و دينار(2)
أمّا الإماء فما يدعونني ولدا *** إذا تحدّث عن نقضي و أمراري(3)
يا بنت أمّ حدير لو وهبت لنا *** ثنتين من محكم بالقدّ أوتاري(4)
أمّا جديدا و إمّا باليا خلقا *** عاد العذارى لقطعية بأسيار(5)
لكان رداء قليلا و اعتجنت له *** صهباء مقّعها حاجي و أسفاري(6)
أنا ابن أسماء أعمامي لها و أبي *** إذا ترامى بنو الإموان بالعار(7)
قد جرّب الناس عودي يقرعون به *** و أقصروا عن صليب غير خوّار(8)
/ما أرضع الدّهر إلاّ ثدي واضحة *** لواضح الوجه يحمي حوزة الجار(9)
يستلب القرن مهريه و صعدته *** حقّا و ينزع عنه ذات أزرار(10)
من آل سفيان أو ورقاء يمنعها *** تحت العجاجة طعن غير عوّار(11)
يمنعها كلّ مذرور، بصعدته *** نضح الدّباء، على عريان مغوار(12)
ص: 308
تسمع فيهم إذا استسمعت واعية *** عزف القيان و قولا يا لعرعار(1)
طوال أنضية الأعناق لم يجدوا *** ريح الإماء إذا راحت بأزفار(2)
و القوم أعلم أنّا من خيارهم *** إذا تقلّدت عضبا غير ميشار(3)
فرّا بسيري و برد اللّيل يضربني *** عرض الفلاة يبنيان و أكوار(4)
أمّا الرّواسم أطلاحا فتعرفني *** إذا اعتصبت على رأسي بأطمار(5)
و لم أنازع بني السّوداء فيئهم *** و العظلميّات من يعر و أمهار(6)
/فكلّ سوداء لم تحلق عقيقتها *** كأنّ أصداغها يطلين بالقار(7)
لقد شرتني بنو بكر فما ربحت *** و لا رأيت عليها جزأة الشّاري(8)
إن العروق إذا استنزعتها نزعت *** و العرق يسري إذا ما عرّس السّاري(9)
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال: حدّثنا عمر بن شبّة قال: أنشدني الأصمعيّ للقتّال رائية(10) يقول فيها:
/إن العروق إذا استنزعتها نزعت *** و العرق يسري إذا ما عرّس السّاري
قد جرّب الناس عودي يقرعون به *** فأقصروا عن صليب غير خوّار
فقال: لقد أحسن و أجاد، لو لا أنه أفسدها بقوله إنه طلب جعلا(11) فلم يعطه، و كان في دناءة نفسه يشبه الحطيئة، و كان فارسا شاعرا شجاعا(12).
و قال السكريّ في روايته:
ص: 309
زوّج القتال ابنته أمّ قيس - و اسمها قطاة - رذاذ بن الأخرم(1) بن مالك بن مطرف بن كعب بن عوف بن عبد(2) بن أبي بكر، فمكثت عنده زمانا، و ولدت له أولادا ثم أغارها(3) فشكت إلى أبيها، فاستعدى عليه و رماه بخادمها، /و جاء زذاذ بالبينة(4) على قذفه إيّاه بالأمة فأقيم ليضرب، فلم تنتصر له عشيرته، و قامت عشيرة رذاذ فاستوهبوا حدّه من صاحبهم، فوهبه لهم، و كانت عشيرة القتال تبغضه لكثرة جناياته، و ما يلحقها(5) من أذاه، و لا تمنعه من مكروه، فقال يهجو قومه:
إذا ما لقيتم راكبا متعمّما *** فقولوا له: ما الرّاكب المتعمّم؟(6)
فإن يك من كعب بن عبد فإنّه *** لئيم المحيّا حالك اللّون أدهم
دعوت أبا كعب ربيعة دعوة *** و فوقي غواشي الموت تنحى و تنجم
و لم أك أدري أنّه ثكل أمّه *** إذا قيل للأحرار في الكربة اقدموا(7)
فلو كنت من قوم كرام أعزّة *** لحاميت عنّي حين أحمى و أضرم(8)
دعوت فكم أسمعت من كلّ مؤذن *** قبيح المحيّا شانه الوجه و الفم(9)
سوى أنّ آل الحارث الخير ذبّبوا *** بأعيط لا و غل و لا متهضّم(10)
ألا إنّهم قومي و قوم ابن مالك *** بنو أمّ ذئب و ابن كبشة خيثم(11)
و لكنّما قومي قماشة حاطب *** يجمّعها بالكفّ، و اللّيل مظلم
بنت القتّال فخرج القتال في سفر له، فلمّا آب منه أقبل حين أناخ إلى أهله، فوجد عند بنت ورقاء جرير بن الحصين، فلمّا رأى جرير القتّال نهض، فسأل القتّال عنه، فقالت له امرأته أم رياح - و هي صفية و يقال صفيفة(1)بنت الحارث بن الهصّان -: إن هذا البيت لبيت لا نزال نسمع فيه ما لا يعجبنا فطلّق(2) القتّال بنت ورقاء، و هي حامل، فولدت له بعد طلاقها المسيّب ابنه.
و قال السكّريّ في خبره: فقال القتّال في ذلك:
و لمّا أن رأيت بني حصين *** بهم جنف إلى الجارات باد(3)
خلعت عذارها و لهيت عنها *** كما خلع العذار من الجواد(4)
/و قلت لها: عليك بني حصين *** فما بيني و بينك من عواد
أناديها بأسفل واردات *** نكدت أبا المسيّب من تنادي؟(5)
و في رواية السكري:
أناديها و ما يوم كيوم *** قضى فيه امرؤ وطر الفؤاد
فرحت كأنّني سيف صقيل *** و عزّت جارة ابن أبي قراد
/قال: ثم إن كلاب بن ورقاء بن حذيفة بن عمّار بن ربيعة بن كعب بن عبد بن أبي بكر، نحر جزورا و صنع طعاما و جمع القوم عليه و قال: كلوا أيها الفتيان(6)، فإنّ الطّعام فيكم خير منه في الشّيوخ(7). فقال القتّال: أنا و اللّه خير للفتيان(8) منك، أرى المرأة قد أعجبت أحدهم فأطلقها له(9). و في القوم جرير بن الحصين الذي كان وجده عند امرأته، فرفع جرير السّوط فضرب به(10) أنف القتّال.
ثم إنهم أعطوا القتّال حقّه فلم يقبله حتى أدرك ابناه: المسيّب و عبد السّلام.
و قال السّكّريّ: حتى احتلم ولده الأربعة، و هم: حبيب، و عبد الرحمن، و عبد الحيّ(11) و عمير، و أمّهم: ريّا
ص: 311
بنت نفر(1) بن عامر بن كعب بن أبي بكر، فحملهم على الخيل حين أظلم اللّيل، ثم أتى بهم بني حصين(2) فلقي لقاحا لهم ثمانين(3)، /فأشمرها(4) و بات يسوقها، لا تتخلّف ناقة إلا عقرها حتى حبسها على الحصى، حين طلعت الشّمس، و الحصى(5): ماء لعبد اللّه بن أبي بكر، فحبسها و زجرهم عنها، حتى جاء(6) بنو حصين فعقلوا له من ضربته أربعين بكرة و أهدرت الضّربة، و إنما أخذ الأربعين بكرة(7) مكرها، لأن قومه أجبروه على ذلك.
قال شدّاد: و في ابنه عبد السّلام، يقول:
عبد السّلام تأمّل هل ترى ظعنا *** إني كبرت و أنت اليوم ذو بصر(8)
لا يبعد اللّه فتيانا أقول لهم *** بالأبرق الفرد لمّا فاتني نظري
يا هل ترون بأعلى عاصم ظعنا *** نكّبن فحلين و استقبلن ذا بقر
صلّى على عمرة الرحمن و ابنتها *** ليلى و صلّى على جاراتها الأخر
هنّ الحرائر لا ربّات أحمرة *** سود المحاجر لا يقر أن بالسّور
قال أبو زيد: و حدّثني شدّاد بن عقبة قال:
أتى الأخرم بن مالك بن مطرف بن كعب بن عوف بن عبد بن أبي بكر و محصن بن الحارث بن الهصّان في نفر من بني(9) أبي بكر القتّال و هو محبوس، فشرطوا عليه ألا يذكر عالية في شعره، و هي التي ينسب بها في أشعاره، فضمن ذلك لهم، فأخرجوه(10)/من السّجن(11) عشاء، ثم راح القوم من السّجن، و راح القتّال معهم، حتى إذا كان في بعض الليل انحدر يسوق بهم، و يقول:
قلت له يا أخرم بن مال(12)
إن كنت لم تزر على وصالي(13)
و لم تجدني فاحش الخلال
فارفع لنا من قلص عجال
ص: 312
مستوسقات كالقطا عبال(1)
لعلنا نطرق أمّ عال(2)
تخيّري خيّرت في الرّجال
بين قصير باعه تنبال
و أمّه راعية الجمال
تبيت بين القدر و الجعال(3)
أذاك أم منخرق السّربال(4)
كريم عمّ و كريم خال
متلف مال و مفيد مال
و لا تزال آخر الليالي
قلوصه تعثر في النّقال
/النّقال: المناقلة(5).
قال شدّاد: فنزل القوم فربطوه، ثم آلوا ألاّ يحلّوه(6) حتى يوثّق لهم بيمين ألا يذكرها أبدا، ففعل و حلّوه(7)قال: و هي امرأة من بني نصر بن معاوية، و كانت زوجة رجل من أشراف الحيّ.
قال: و حدّثني أبو خالد، قال:
كانت لعم القتّال سرّيّة، فقال له القتّال: /لا تطأها(8)، فإنا قوم نبغض أن تلد فينا الإماء، فعصاه عمّه، فضربها القتّال بسيفه فقتلها، فادّعى عمّه أنّه قتلها و في بطنها جنين منه، فمشى القتّال إليها فأخرجها من قبرها، و ذهب معه بقوم عدول، و شقّ بطنها و أخرج رحمها حتّى رأوه لا حمل فيه، فكذّبوا عمّه، فقال(9)، في ذلك:
أنا الذي انتشلتها انتشالا *** ثمّ دعوت غلمة أزوالا(10)
ص: 313
فصدعوا و كذّبوا ما قالا(1)
/و قال و أنشدني له أيضا:
أنا الذي ضربتها بالمنصل *** عند القرين السائل المضل(2)
ضربا بكفّي بطل لم ينكل(3)
و قال السكريّ في روايته:
أراد القتّال أن يتزوّج بنت المحلّق بن حنتم، فتزوّجها عبد الرحمن بن صاغر(4) البكّائيّ، فلقي مولاة لها(5)يقال لها: جون، فقال لها: ما فعلت؟ قالت: تزوّجها عبد الرحمن بن صاغر؛ فقال: ما لها و لعبد الرحمن؟ فقال له: ذاك ابن فارس عرّاد. قال: فأنا ابن فارس ذي الرّحل، و أنا ابن فارس العوجاء(6)، ثمّ انصرف و أنشأ يقول:
يا بنت جون أ بانت بنت شدّاد؟(7) *** نعم لعمري لغور بعد إنجاد
لمطلع الشّمس ما هذا بمنحدر *** نحو الرّبيع و لا هذا بإصعاد
قالت فوارس عرّاد، فقلت لها: *** و فيم أمّي من فرسان عرّاد
فرسان ذي الرّحل و العوجاء(8) و ابنتها *** فدى لهم رهط ردّاد و شدّاد(9)
و القصيدة التي في أوّلها الغناء المذكور، يقولها القتّال يحضّ أخاه و عشيرته/على تخلّصه من المطالبة التي يطالب بها في قتل(10) زياد بن عبيد اللّه، و احتمال العقل عنه، و يلومهم في قعودهم عن المطالبة بثأر لهم قبل بني جعفر بن كلاب.
و كان السبب في ذلك فيما ذكره عمر بن شبّة، عن حميد بن مالك عن أبي خالد الكلابيّ، قال:
كان عمرو بن سلمة بن سكن بن قريظ بن عبد بن أبي بكر، أسلم فحسن إسلامه و وفد إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فاستقطعه حمى بين الشقراء(11)، و السّعديّة، و السعديّة: ماء لعمرو بن سلمة، و الشقراء: ماء(12) لبني قتادة
ص: 314
ابن سكن بن قريظ، و هي رحبة طولها تسعة أميال في ستة أميال، فأقطعه إيّاها، فأحماها ابنه جحوّش، فاسترعاه نفر من بني جعفر بن كلاب خيلهم(1) و فيهم أحدر بن بشر بن عامر بن مالك بن جعفر، فأرعاهم فحملوا نعمهم(2) مع خيلهم بغير إذنه، فأخبر بذلك فغضب و أراد إخراجهم منه، فقاتلوه، فكانت بينهم شجاج بالعصيّ و الحجارة، من غير رمي و لا طعان و لا تسايف، فظهر عليهم جحوّش، ثم تداعوا إلى الصّلح و مشت السّفراء بينهم على أن يدعوا جميعا الجراحات، فتواعدوا للصّلح بالغداة، و أخ لجحوّش يقال له سعيد(3) في حلقه سلعة، و هو شنج متنحّ(4)عن الحيّ عند امرأة من بني أبي بكر(5) ترقبه، فرجع إلى أخيه و معه رجلان من قومه، يقال لأحدهما: محرز بن يزيد، و للآخر: الأخدر بن الحارث، /فلقيهم قراد بن الأخدر بن بشر بن عامر بن مالك، و ابن عمّه أبو ذرّ بن أشهل، و رجل آخر من الجعفريّين، فحمل قراد على سعيد(6) فطعنه فقتله، فحذف محرز بن يزيد فرس قراد فعقرها، /فأردفه أبو ذرّ خلفه، و لحقوا بأصحابهم(7) الجعفريين، و أوقد جحوّش بن عمرو نار الحرب في رأس جرعاء طويلة، فاجتمعت إليه بنو أبي بكر، و خرج فراد هاربا إلى بشر بن مروان، و هو ابن عمّته، حتّى إذا كان بالقنان(8)، حميت عليه الشّمس، فأناخ إلى بيت امرأة من بني أسد، فقال(9) في بيتها، فبينا هو نائم إذ نبّهته الأسدية فقالت له(10): ما دهاك ويحك؟ انظر إلى الطّير تحوم حول ناقتك، فخرج يمشي إلى ناقته، فإذا هي قد خدجت، و الطير تمزّق ولدها، فجاء فأخبرها، فقالت: إنّ لك لخبرا فأصدقني عنه، فلعلّه أن يكون لك فيه فائدة، فأخبرها أنّه مطلوب بدم، فهو هارب طريد، قالت: فهل وراءك أحد تشفق(11) عليه؟ فقال: أخ لي يقال له جبأة(12)و هو أحبّ الناس إليّ. قالت: فإنّه في أيدي أعدائك، فارجع أو امض، فخرج لوجهه إلى بشر.
قال: و لما حرّض القتّال قومه على الطّلب بثأرهم في الجعفريّين و عيّرهم بالقعود عنهم(13) مضى جميعهم لقتال بني جعفر، فقال لهم الجعفريّون: يا قومنا، ما لنا في قتالكم/حاجة(14)، و قاتل صاحبكم قد هرب و هذا أخوه جبأة، فاقتلوه(15)، فرضوا بذلك فأخذوا جبأة(16)، فلما صاروا بأسود العين قدّمه جحوّش فضرب عنقه بأخيه سعيد(17).
ص: 315
و ممّا قاله القتّال في تحريضهم في قصيدة طويلة:
فيا لأبي بكر و يا لجحوّش *** و للّه مولى دعوة لا يجابها(1)
أ في كلّ عام لا تزال كتيبة *** ذؤيبيّة تهفو عليكم عقابها؟(2)
لهم جزر منكم عبيط كأنّه *** وقاع الملوك فتكها و اغتصابها(3)
و انتم عديد في حديد و شكّة *** و غاب رماح يوجف القلب غابها(4)
يسقّى ابن بشر ثم يمسح بطنه *** و حولي رجال ما يسوغ شرابها(5)
فما الشرّ كلّ الشر لا خير بعده *** على الناس إلاّ أن تذلّ رقابها
نساء ابن بشر بدّن و نساؤنا *** بلايا عليها كلّ يوم سلا بها
تنام فتقضي نومة الليل عرسه *** و أمّ سعيد ما تنام كلابها
فإن نحن لم نغضب لهم فنثيبهم *** و كلّ يد موف إلينا ثوابها
فنحن بنو اللائي زعمتم و أنتم *** بنو محصنات لم تدنّس ثيابها(6)
كما أودى بماء الشّنّة *** المخروزة السّرب(1)
على عبد بن زهرة طو *** ل هذا اللّيل أكتئب
الشعر لأبي العيال الهذليّ و الغنار لمعبد ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق و ابن المكّي و غيرهما(2) مما لا يشكّ فيه من صنعته، و في الثالث و الرابع من الأبيات لمالك خفيف ثقيل عن الهشاميّ، و من الناس من ينسبه إلى معبد أيضا، و في الأوّل و الثّاني و الثّالث لمعبد أيضا خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو بن بانة، و ذكر الهشاميّ و حمّاد بن/إسحاق أنه لابن عائشة، و فيه لمالك هزج بالبنصر فيما ذكر حبش.
ص: 317
14 - أخبار أبي العيال و نسبه(1)
أبو العيال بن أبي عنترة(2)، و قال أبو عمرو الشّيبانيّ: ابن أبي عنبر بالباء(3) و لم أجد له نسبا يتجاوز هذا في شيء من الرّوايات، و هو أحد بني خناعة(4) بن سعد بن هذيل، و هذا أكثر ما وجدته من نسبه، شاعر فصيح مقدّم، من شعراء هذيل، مخضرم، أدرك الجاهليّة و الإسلام، ثم أسلم فيمن أسلم من هذيل، و عمّر إلى خلافة معاوية.
و هذه القصيدة(5) يرثي بها ابن عمّه عبد بن زهرة، و يقال: إنّه كان أخاه لأمّه أيضا.
يصف غزاة لمعاوية فيبكيه(6)
أخبرني محمّد بن العبّاس اليزيديّ فيما قرأته عليه من شعر هذيل، عن الرّياشيّ، عن الأصمعيّ. و نسخت أيضا خبره الذي أذكره من نسخة أبي عمرو الشّيبانيّ قالا:
كان عبد بن زهرة غزا الرّوم في أيام معاوية.
و قال أبو عمرو خاصّه: مع يزيد بن معاوية في غزاته التي أغراه أبوه إيّاها، فأصيب في تلك الغزاة جماعة من المسلمين من رؤسائهم(7) و حماتهم، و كانت شوكة/الرّوم شديدة، قتل فيها(8) عبد العزيز بن زرارة الكلابيّ، و عبد بن زهرة الهذليّ و خلق من المسلمين، ثم فتح اللّه عليهم، و كان أبو العيال حاضرا تلك الغزاة فكتب إلى معاوية قصيدة قرأها و قرئت على الناس، فبكى الناس و بكى معاوية بكاء شديدا جزعا لما كتب به.
و القصيدة:
من أبي العيال أخي هذيل فاعلموا *** قولي و لا تتجمجموا ما أرسل
أبلغ معاوية بن صخر آية *** يهوي إليه بها البريد الأعجل
و المرء عمرا فأته بصحيفة *** منّي يلوح بها كتاب منمل
ص: 318
لا تتجمجموا: لا تكتموا. و المنمل: كأنّ سطوره آثار نمل.
و إلى ابن سعد أن أؤخّره فقد *** أزرى بنا في قسمه إذ يعدل(1)
و إلى أولي الأحلام حيث لقيتهم *** أهل البقيّة و الكتاب المنزل(2)
في ديوان الرّجل: حيث البقية و الكتاب المنزل.
أنّا لقينا بعدكم بديارنا *** من جانب الأمراج يوما يسأل(3)
أمرا تضيق به الصّدور و دونه *** مهج النّفوس و ليس عنه معدل
في كلّ معترك ترى منّا فتى *** يهوى كعزلاء المزادة تزعل
/تزعل: تدفع دفعا.
أو سيّدا كهلا يمور(4) دماغه *** أو جانحا في رأس رمح يسعل
يسعل: يشرق بالدّم.
و ترى النّبال تعير في أقطارنا *** شمسا كأنّ نصالهنّ السّنبل
و ترى الرّماح كأنّما هي بيننا *** أشطان بئر يوغلون و نوغل
حتى إذا رجب تولّى فانقضى *** و جماديان و جاء شهر مقبل
شعبان قدّرنا لوقت رحيلهم *** تسعا يعدّ لها الوفاء و تكمل
و تجرّدت حرب يكون حلابها *** علقا و يمريها الغويّ المبطل
فاستقبلوا طرف الصّعيد إقامة *** طورا و طورا رحلة فتحمّلوا(5)
قال الأصمعيّ و أبو عمرو:
و كان أبو العيال و بدر بن عامر، و هما جميعا من بني خناعة(6) بن سعد بن هذيل يسكنان مصر، و كانا خرجا إليها في خلافة عمر بن الخطّاب رضوان اللّه عليه، و أبو العيال معه ابن أخ له، فبينا ابن أخي أبي العيال قائم عند قوم ينتضلون إذ أصابه سهم فقتله، فكان فيه بعض الهيج، فخاصم في ذلك أبو العيال، و اتّهم بدر بن عامر، و خشي أن يكون ضلعه مع خصمائه، فاجتمعا في ذلك في مجلس فتناثّا(7) فقال بدر بن عامر:
ص: 319
/بخلت فطيمة بالذي تولين *** إلا الكلام و قل ما يجديني
و لقد تناهى القلب حين نهيته *** عنها و قد يغوي إذا يعصيني(1)
أ فطيم هل تدرين كم من متلف *** جاوزت لا مرعى و لا مسكون؟
يقول فيها:
و أبو العيال أخي و من يعرض له *** منكم بسوء يؤذني و يسوني
إنّي وجدت أبا العيال و رهطه *** كالحصن شدّ(2) بجندل موضون
أعيا الغرانيق(3) الدّواهي دونه *** فتركنه أبرّ بالتّحصين(4) أسد تفرّ الأسد من وثباته(5) *** بعوارض الرّجّاز أو بعيون
و لصوته زجل إذا آنسته *** جرّ الرّحى بشعيره(6) المطحون
و إذا عددت ذوي الثّقات وجدته(7) *** ممّن يصول به إليّ يميني(4)
فأجابه أبو العيال فقال:
إن البلاء لدى المقاوس معرض(8) *** ما كان من غيب و رجم ظنون
/(9)في «الديوان»: لدى المقاوس مخرج: و المقوس الحبل الذي يمدّ به على صدور الخيل أي فما كان عنده من خير أو شرّ فسيخرج عند الرّهان و العدو(10).
و إذا الجواد ونّي و أخلف منسرا(11) *** ضمرا فلا توقن له بيقين
لو كان عندك ما تقول جعلتني *** كنزا لريب الدّهر غير ضنين(12)
و لقد رمقتك في المجالس كلّها *** فإذا و أنت تعين من يبغيني(13)
هلاّ درأت الخصم حين رأيتهم *** جنفا عليّ بألسن و عيون؟(14)
ص: 320
و زجرت عنّي كلّ(1) أشوس كاشح *** ترع(2) المقالة شامخ العرنين
فأجابه بدر بن عامر فقال:
أقسمت لا أنسى منيحة واحد *** حتى تخيّط بالبياض قروني(3)
حتى أصير بمسكن(4) أنوي به *** لقرار ملحدة العداء(5) شطون
و منحتني جدّاء(6) حين منحتني *** شحصا بمالئة الحلاب لبون
/(7)الشّحص: ما ليس فيه لبن من المال(7)
و حبوتك النّصح الذي لا يشترى *** بالمال فانظر بعد ما تحبوني
/و تأمّل السّبت(8) الذي أحذوكه *** فانظر بمثل إمامه فاحذوني
فأجابه أبو العيال:
أقسمت لا أنسى شباب(9) قصيدة *** أبدا فما هذا الذي ينسيني
و لسوف تنساها و تعلم أنّها *** تبع لآبية العصاب زبون(10)
و منحتني فرضيت رأي منيحتي *** فإذا بها و اللّه طيف جنون(11)
جهراء لا تألو إذا هي أظهرت *** بصرا و لا من حاجة تغنيني(12)
قرّب حذاءك قاحلا أو ليّنا *** فتمنّ في التّخصير و التّلسين(13)
/و ارجع منيحتك الّتي أتبعتها *** هوعا و حدّ مذلّق مسنون(14)
ص: 321
و لهما في هذا المعنى نقائض طوال بطول ذكرها، و ليست لها طلاوة إلا ما يستفاد في شعر أمثالهما من الفصاحة، و إنما ذكرت ما ذكرت هاهنا منها لأنّي لم أجد لهذا الشّاعر خبرا غير ما ذكرته.
أ لم تسأل بعارمة الدّيارا *** عن الحيّ المفارق أين سارا؟
بلى ساءلتها فأبت جوابا *** و كيف سؤالك الدّ من القفارا؟
الشعر للرّاعي، و الغناء لإسحاق خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو بن جامع و إسحاق(1).
ص: 322
هو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل بن قطن بن ربيعة(1) بن عبد اللّه بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر(2).
و يكنى أبا جندل، و الرّاعي لقب غلب عليه، لكثرة وصفه الإبل، و جودة نعته إيّاها.
و هو شاعر فحل من شعراء الإسلام، و كان مقدّما مفضّلا حتى، اعترض بين جرير و الفرزدق، استكفّه جرير فأبى أن يكفّ، فهجاه ففضحه.
و قد ذكرت بعض أخباره في ذلك مع أخبار جرير، و أتممتها هنا.
و قصيدة الرّاعي هذه يمدح(3) بها سعيد بن عبد الرّحمن بن عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة، و فيها يقول:
ترجّي من سعيد بني لؤيّ *** أخي الأعياص(4) أنواء غزارا
تلقّى نوءهنّ سرار شهر *** و خير النّوء ما لقي السّرارا
خليل تعزب العلاّت عنه *** إذا ما حان يوما أن يزارا
متى ما تأته ترجو نداه *** فلا بخلا تخاف و لا اعتذارا
/هو الرّجل الذي نسبت قريش *** فصار المجد فيها(5) حيث صارا
و أنضاء(6) تحنّ إلى سعيد *** طروقا ثم عجّلن ابتكارا
على أكوارهنّ بنو سبيل(7) *** قليل نومهم إلا غرارا
ص: 323
حمدن مزاره و لقين منه *** عطاء لم يكن عدة ضمارا
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدثنا الحسن(1) بن الحسين السكّريّ عن الرّياشيّ/عن الأصمعيّ، قال:
و ذكره المغيرة بن حجناء قال: حدّثني أبي عن أبيه قال:
كان راعي الإبل يقضي للفرزدق على جرير و يفضّله، و كان راعي الإبل قد ضخم أمره، و كان من أشعر النّاس، فلما أكثر من ذلك خرج جرير إلى رجال من قومه فقال: أ لا تعجبون لهذا الرّجل الذي يقضي للفرزدق عليّ و يفضّله(2) و هو يهجو قومه و أنا أمدحهم؟ قال جرير:
ثم ضربت رأيي فيه، فخرجت ذات يوم أمشي إليه. قال: و لم يركب جرير دابّته، و قال: و اللّه ما يسرّني أن يعلم أحد بسيري إليه. قال: و كان لراعي الإبل و للفرزدق و جلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها.
قال: فخرجت أتعرّض لها لألقاه من حيال(3) حيث كنت أراه.
/ثمّ إذا انصرف من مجلسه لقيته، و ما يسرني أن يعلم أحد، حتى إذا هو قد مرّ على بغلة له، و ابنه(4) جندل يسير وراءه راكبا مهرا له أحوى محذوف الذّنب و إنسان يمشي معه و يسأله عن بعض السّبب، فلما استقبلته قلت له:
مرحبا بك يا أبا جندل. و ضربت بشمالي إلى معرفة(5) بغلته، ثم قلت: يا أبا جندل، إنّ قولك يستمع، و إنك تفضّل عليّ الفرزدق تفضيلا قبيحا، و أنا أمدح قومك و هو يهجوهم، و هو ابن عمّي، و ليس منك، و لا عليك كلفة في أمري معه، و قد يكفيك من ذلك هيّن، و أن تقول إذا ذكرنا: كلاهما شاعر كريم، فلا تحمل منه لائمة و لا منّي، قال: فبينا أنا و هو كذلك، و هو واقف عليّ لا يردّ جوابا لقولي، إذ لحق بالرّاعي ابنه جندل، فرفع كرمانيّة معه، فضرب(6) بها عجز بغلته، ثم قال: أراك واقفا على كلب بني(7) كليب، كأنّك تخشى منه شرّا أو ترجو منه خيرا، فضرب(8) البغلة ضربة شديدة، فزحمتني زحمة وقعت منها قلنسوتي. فو اللّه لو يعوج عليّ الرّاعي لقلت: سفيه غوىّ - يعني جندلا ابنه - و لكنه لا و اللّه ما عاج عليّ، فأخذت قلنسوتي فمسحتها و أعدتها على رأسي و قلت:
أ جندل ما تقول بنو نمير *** إذا ما الأير في است أبيك غابا؟
قال: فسمعت الرّاعي يقول لابنه: أما و اللّه لقد طرحت قلنسوته طرحة مشئومة، قال جرير: و لا و اللّه ما كانت القلنسوة بأغيظ أمره إليّ لو كان عاج عليّ.
ص: 324
فانصرف جرير مغضبا حتى إذا صلّى العشاء و منزله في علّيّة قال: ارفعوا إليّ باطية من نبيد، و أسرجوا(1) لي، فأسرجوا له و أتوه بباطية من نبيذ فجعل يهيم فسمعته عجوز في الدّار، فطلعت في الدّرجة حتى إذا نظرت إليه فإذا هو على الفراش عريان لما هو فيه، فانحدرت فقالت: ضيفكم مجنون، رأيت منه كذا و كذا، فقالوا لها: اذهبي لطيّتك، نحن أعلم به و بما يمارس، فما زال كذلك حتّى كان السّحر فإذا هو يكبّر، قد قالها ثمانين بيتا، فلمّا بلغ إلى قوله:
فغضّ الطّرف إنّك من نمير *** فلا كعبا بلغت و لا كلابا
فذاك حين كبّر، ثم قال: أحزيته و اللّه(2) زيته و ربّ الكعبة(3) أصبح، حتى إذا عرف أنّ النّاس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد، و كان جرير يعرف مجلس الرّاعي و مجلس الفرزدق، فدعا بدهن فادّهن(3)، و كفّ رأسه، و كان حسن الشّعر، ثم قال: يا غلام(4) أسرج لي، فأسرج له حصانا، ثمّ قصد مجلسهم، حتّى إذا كان بموضع(5) السّلام لم يسلّم، ثم قال: يا غلام، قل لعبيد/الرّاعي: أ بعثتك نسوتك تكسبهنّ المال بالعراق؟ و الذي نفس جرير بيده، لترجعنّ(6) إليهنّ بما يسوؤهن و لا يسرهن ثم ندفع في القصيدة فأنشدها، فنكّس الفرزدق رأسه، و أطرق راعي الإبل، فلو انشقّت له الأرض لساخ فيها، و أرمّ القوم(7)، حتى إذا فرغ منها، سار، فوثب راعي الإبل من ساعته(8)فركب بغلته/بشرّ و عرّ(9)، و تفرّق أهل المجلس، و صعد الرّاعي إلى منزله الذي كان ينزله، ثم قال لأصحابه:
ركابكم ركابكم، فليس لكم هاهنا مقام، فضحكم و اللّه جرير فقال له بعضهم: ذلك شؤمك و شؤم جندل ابنك؛ قال: فما اشتغلوا بشيء غير ترحّلهم، قالوا: فسرنا و اللّه إلى أهلنا سيرا ما سراه أحد، و هم بالشّريف(10)، و هو أعلى دار بني نمير، فحلف راعي الإبل أنّهم وجدوا في أهلهم قول جرير:
فغضّ الطّرف إنّك من نمير
يتناشده النّاس، و أقسم باللّه ما بلغه إنسان قطّ، و إن لجرير لأشياعا من الجنّ فتشاءمت به بنو نمير، و سبّوه و سبّوا ابنه، فهم إلى الآن يتشاءمون بهم و بولدهم.
أخزيته و اللّه و أخبرني بهذا الخبر عمّي قال: حدثنا الكرانيّ، قال: حدّثني النّضر بن عمرو؛ عن أبي عبيدة بمثله أو نحو
ص: 325
منه، و قال في خبره:
أ جئت توقر إبلك لنسائك برّا و تمرا؟ و اللّه لأحملنّ إلى أعجازها كلاما يبقى ميسمه عليهنّ ما بقي اللّيل و النّهار يسوؤك و إيّاهنّ استماعه.
و قال في خبره أيضا:
فلما قال:
فغضّ الطّرف إنّك من نمير
وثب وثبة دقّ رأسه السّقف، فجاء له صوت هائل، و سمعت عجوز كانت ساكنة في علو(1) ذلك الموضع صوته فصاحت: يا قوم، ضيفكم و اللّه مجنون، فجئنا إليه و هو يحبو و يقول: غضضته و اللّه، أخزيته و اللّه، فضحته و ربّ الكعبة، فقلت له: مالك يا أبا حزرة؟ فأنشدنا القصيدة، ثم غدا بها عليه.
و ذكر ابن الكلبيّ، عن النّهشلي، عن مسحل بن كسيب؛ عن جرير في خبره مع الحجّاج لمّا سأله عمّن هجاه من الشّعراء قال:
قال لي الحجّاج: مالك و للرّاعي؟ فقلت: أيّها الأمير، قدم(2) البصرة، و ليس بيني و بينه عمل، فبلغني أنّه قال في قصيدة له:
يا صاحبيّ دنا الرّواح فسيرا *** غلب الفرزدق في الهجاء جريرا
و قال أيضا في كلمة له.
رأيت الجحش جحش بني كليب *** تيمّم حوض دجلة ثم هابا
فأتيته و قلت: يا أبا جندل، إنّك شيخ مضر(3) و قد بلغني تفضيلك الفرزدق عليّ، فإن أنصفتني(4) و فضّلتني كنت أحقّ بذلك، لأنّي مدحت قومك و هجاهم.
و ذكر باقي الخبر نحوا ممّا ذكره من تقدّم، و قال في خبره:
قلت له: إنّ أهلك بعثوك مائرا، و بئس و اللّه المائر أنت، و إنّما بعثني أهلي لأقعد لهم على قارعة هذا المربد، فلا يسبّهم أحد إلا سببته فإنّ عليّ نذرا إن كحلت عيني بغمض، حتى أخزيك، فما أصبحت حتى وفيت بيميني(5)قال: ثم غدوت عليه فأخذت بعنانه، فما فارقني حتى أنشدته إيّاها - فلما بلغت قولي:
/أ جندل ما تقول بنو نمير *** إذا ما الأير في است أبيك غابا؟
قال: فأرسل يدي ثم قال: يقولون شرا و اللّه.
ص: 326
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش؛ قال: حدّثني/محمد بن الحسن بن الحرون(1) قال: قال أبو عبيدة:
أنشد جرير الرّاعي هذه القصيدة و الفرزدق حاضر - فلما بلغ فيها قوله:
بها برص بأسفل(2) إسكتيها
غطّى الفرزدق عنفقته بيده، فقال جرير:
كعنفقة الفرزدق حين شابا
فقال الفرزدق: أخزاك اللّه، و اللّه لقد علمت أنّك لا تقول غيرها، قال: فسمع رجل كان حاضرا أبا عبيدة يحدّث بها، فحلف يمينا جزما أنّ الفرزدق لقّن جريرا هذا المصراع بتغطية عنفقته، و لو لم يفعل لما انتبه لذلك، و ما كان هذا بيتا(3). قاله متقدّما، و إنما انتبه لذلك.
أخبرنا أبو خليفة قال: حدّثنا محمد بن سلاّم قال: أخبرني أبو الغرّاف قال:
الذي هاج التّهاجي بين جرير و الرّاعي أنّ الرّاعي(4) كان يسأل عن جرير و الفرزدق.: الفرزدق أكرمهما و أشعرهما؛ فلقيه جرير فاستعذره(5) من نفسه.
/ثم ذكر باقي الخبر مثل ما تقدم، و زاد فيه:
أنّ الرّاعي قال لابنه جندل لمّا ضرب بغلته:
أ لم تر أنّ كلب بني كليب *** أراد حياض دجلة ثم هابا
و نفرت البغلة فزحمته حتى سقطت قلنسوة جرير، فقال الرّاعي لابنه: أما و اللّه لتكوننّ فعلة مشئومة عليك و ليهجونّي(6) و إياك، فليته لا يجاوزنا و لا يذكر نسوتنا. و علم الرّاعي أنه قد أساء و ندم، فتزعم بنو نمير أنه(7) حلف ألا يجيب جريرا سنة غضبا على ابنه، و أنه(8) مات قبل أن تمضي سنة، و يقول غير بني نمير: إنه كمد لمّا سمعها فمات كمدا.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي(9) و أبو الحسن عليّ بن سليمان الأخفض، قالا. حدثنا أبو سعيد السّكريّ، عن محمد بن حبيب و إبراهيم بن سعدان، عن أبي عبيدة و سعدان و المفضل و عمارة بن عقيل، و أخبرنا به
ص: 327
أبو خليفة، عن محمد بن سلام، عن أبي البيداء قالوا جميعا:
مرّ راكب بالرّاعي و هو يتغنّى:
و عاو عوى من غير شيء رميته *** بقافية أنفاذها(1) تقطر الدّما
خروج بأفواه الرّواة كأنّها *** قرا هندوانيّ إذا هزّ صمّما(2)
فسمعها الرّاعي فأتبعه رسولا، و قال له: من يقول هذين البيتين؟ /قال جرير، فقال الرّاعي: أ ألام أن يغلبني هذا؟ و اللّه لو اجتمع الجنّ و الإنس على صاحب هذين البيتين ما أغنوا فيه شيئا.
قال ابن سلام خاصّة في خبره: و هذان البيتان لجرير في البعيث، و كذلك كان خبره معه، اعترضه في غير شيء.
أخبرنا أبو خليفة قال: أخبرنا محمد بن سلاّم، قال:
كان الرّاعي من رجال العرب و وجوه قومه، و كان يقال له في شعره: كأنه يعتسف الفلاة بغير دليل، أي أنه لا يحتذي شعر شاعر، و لا يعارضه، و كان مع ذلك بذيّا هجّاء لعشيرته، فقال له جرير:
و قرضك في هوزان شرّ قرض *** تهجنهم(3) و تمتدح الوطابا
أخبرنا أبو خليفة، قال: أخبرنا محمد بن سلاّم قال: قال أبو الغرّاف:
جاور راعي الإبل بني سعد بن زيد مناة بن تميم، فنسب(4) بامرأة منهم من بني عبد شمس، ثم أحد بني وابشيّ(5)، فقال:
بني وابشيّ قد هوينا جواركم(6) *** و ما جمعتنا نيّة قبلها معا
خليطين من حيّين شتّى تجاورا *** جميعا و كانا بالتفرّق أمتعا(7)
/أرى أهل ليلى لا يبالي أميرهم(8) *** على حالة المحزون أن يتصدّعا
و قال فيها أيضا:
ص: 328
تذكّر هذا القلب هند بني سعد *** سفاها و جهلا ما تذكّر من هند
تذكّر عهدا كان بيني و بينها *** قديما و هل أبقت لك الحرب من عهد؟
في هذين البيتين لحن من الثّقيل الأول بالوسطى، و ذكر الهشاميّ أنه لنبيه، و ذكر قمري(1) و ذكاء وجه الرّزّة (2) أنه لبنان.
قال ابن سلاّم:
فلما بلغهم شعره أزعجوه و أصابوه، بأذى، فخرج عنهم و قال فيهم:
أرى إبلي تكالأ راعياها *** مخافة جارها الدّنس الذّميم
و قد جاورتهم فرأيت سعدا *** شعاع(3) الأمر عازبة الحلوم(4) مغانيم القرى سرقا إذا ما *** أجنّت ظلمة اللّيل البهيم(3)
فأمّي أرض قومك إنّ سعدا *** تحمّلت المخازي عن تميم
عند عبد الملك بن مروان(5)
أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلاّم، عن عبد القاهر بن السّريّ، قال:
وفد الرّاعي إلى عبد الملك بن مروان، فقال لأهل بيته: تروّحوا(6) إلى هذا الشيخ فإني أراه منجبا(4)
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال: حدّثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس: قال:
/قدم جندل بن الرّاعي على بلال بن أبي بردة، و قد مدحه، و كان يكثر ذكر أبيه و وصفه، فقال له بلال:
أ ليس أبوك الذي يقول في بنت عمّه، و أمّها امرأة من قومه(7):
فلمّا قضت من ذي الأراك لبانة *** أرادت إلينا حاجة لا نريدها
و قد كان بعد هجاء جرير إيّاه مغلّبا؟ فقال له جندل: لئن كان جرير غلبه لما أمسك عنه عجزا، و لكنّه أقسم غضبا عليّ ألا يجيبه سنة، فأين أنت عن قوله في عديّ بن الرّقاع العامليّ:
لو كنت من أحد يهجى هجوتكم *** يا بن الرقاع و لكن لست من أحد
تأبى قضاعة لم تعرف(8) لكم نسبا *** و ابنا نزار و أنتم بيضة البلد
ص: 329
قال: فضحك بلال و قال له: أمّا في هذا فقد صدقت.
أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ و عمّي قالا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال:
حدثنا محمد بن عبد الرّحمن، عن ابن عائشة قال:
لمّا أنشد عبيد بن حصين الرّاعي عبد الملك بن مروان قوله:
فإن رفعت بهم رأسا نعشتهم(1) *** و إن لقوا مثلها من قابل فسدوا
قال له عبد الملك: فتريد ما ذا؟ قال: تردّ عليهم صدقاتهم فتنعشهم، فقال عبد الملك: هذا كثير، قال: أنت أكثر منه، قال: قد فعلت، فسلني حاجة تخصّك(2)، /قال: قد قضيت حاجتي. قال: سل(3) حاجتك لنفسك؟ قال: ما كنت لأفسد هذه المكرمة:
حدّثني أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني قال: حدثنا يحيى بن الحسن العلوي، قال حدثنا إسماعيل بن يعقوب، عن عثمان بن نمير، عن أبيه قال:
كنت عند العبّاس بن محمد في يوم شات(4)، فدخل عليه موسى بن عبد اللّه بن حسن، فقال له العبّاس بن محمد: يا أبا الحسن، ما لي أراك متغيّرا؟ فقال له موسى: و اللّه إني لأعرق(5) ممّا كان اليوم، قال: و ما كان يا أبا الحسن؟ فقال: ذاك أنّ أمير المؤمنين أخرج لي و للعبّاس بن الحسن خمسين ألفا: للعبّاس منها ثلاثون ألفا، و اللّه ما أجد لي و لكم مثلا إلا ما قال أخو بني(6) العنبر، و جاور هو و راعي الإبل في بني سعد(7) بن زيد مناة، فكانوا/إذا مدحهم الراعي أخذوا مال العنبريّ فأعطوه الرّاعي، فقال العنبريّ في ذلك:
أ يقطع موصول و يوصل جانب *** أسعد بن زيد عمرك اللّه أجملى
فإنّا بأرض هاهنا غير طائل *** متى تعلفوا بالرّغم و الخسف نأكل
قال: فقال له العبّاس: إنكم نازعتم القوم ثوبهم(8)،(9) و كان عباس و أهله أعوانا له على حذية منكم(10) مع ذلك فعباس الذي يقول لبنت حيدة المحاربية يرثيها:
/أتت دون الفراش فأبشرتنا(11)*** مصيبتنا بأخت بني حداد
ص: 330
كأنّ الموت لا يعني سوانا *** عشيّة نحوها يحدوه حادي
فإنّ خليفة اللّه المرجّى *** و غيث الناس(1) في الأزم الشّداد
تطاول ليله فعداك حتّى *** كأنّك لا تثوب(2) إلى معاد
يظلّ - و حقّ ذاك - كأنّ شوكا *** عليه العين تطرف من سهاد
فليت نفوسنا حقّا فدتها *** و كلّ طريف مال أو تلاد
/و جندل بن الراعي شاعر؛ و هو القائل، و في شعره هذا صنعة:
طلبت الهوى الغوريّ(3) حتى بلغته *** و سيّرت في نجديّة ما كفانيا
و قلت لحلمي لا تنزعنّي(4) عن الصّبا *** و للشّيب لا تذعر(5) عليّ الغوانيا
الشعر لجندل بن الرّاعي، و الغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر؛ عن عمرو من جامع إسحاق و قال الهشامي:
و له فيه أيضا ثاني ثقيل، و هو لحن مشهور، و ما وجدناه في جامعه، و لعله شذّ عنه أو غلط الهشامي في نسبته إليه، و قال حبش: فيه أيضا لإسحاق خفيف رمل.
أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدّثني أبو عبد اللّه الهشاميّ قال: قال إسحاق: قال أبو عبيدة:
كانت لجندل بن الرّاعي امرأة من بني عقيل، و كان بخيلا، فنظر إليها يوما و قد هزلت و تخدّد(6) لحمها، فأنشأ يقول:
عقيليّة أمّا أعالي عظامها *** فعوج و أمّا لحمها فقليل(7)
فقالت مجيبة له عن ذلك:
عقيليّة حسناء أزرى بلحمها *** طعام لديك ابن الرّعاء قليل
فجعل جندل يسبّها و يضربها و هي تقول: قلت فأجبت، و كذبت فصدقت، فما غضبك؟
ص: 331
أصبح الحبل(1) من سلا *** مة رثّا مجذّذا
حبّذا أنت يا سلا *** مة ألفين حبّذا
ثم ألفين مضعفي *** ن و إلفين هكذا
في صميم الأحشاء منّي *** و في القلب قد حذا
حذوة من صبابة *** تركته مفلّذا(2)
/الشعر لعمّار ذي كبار(3) و الغناء لحكم الوادي هزج بالوسطى عن الهشامي. قال الهشاميّ و ذكر يحيى المكّي أنه لسليم الوادي لا لحكم.
ص: 332
هو عمّار بن عمرو بن عبد الأكبر يلقّب ذا كبار، همدانيّ صليبة، كوفيّ، وجدت ذلك في كتاب محمد بن عبد اللّه الحزنبل.
و كان ليّن الشّعر ماجنا خمّيرا معاقرا للشراب، و قد حدّ فيه مرّات، و كان يقول شعرا ظريفا يضحك من أكثره، شديد التّهافت(1) جمّ السخف، و له أشياء صالحة نذكر أجودها في هذا الموضع من أخباره و منتخب أشعاره؛ و كان هو و حمّاد الراوية و مطيع بن إياس يتنادمون و يجتمعون على شأنهم لا يفترقون، و كلهم كان متّهما بالزّندقة.
و عمّار ممّن نشأ في دولة بني أميّة، و لم أسمع له بخبر في الدّولة العباسية، و لا كان مع شهوة النّاس لشعره و استطابتهم إياه ينتجع أحدا و لا يبرح الكوفة لعشاء بصره و ضعف نظره(2).
فأخبرني به محمد بن مزيد قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الرّاوية، و أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثنا أحمد بن الهيثم الفراسيّ(3) قال: حدّثنا العمري(4) عن الهيثم بن عدي عن حماد الرواية، و لفظ الرجلين كالمتقارب(5) قال:
استقدمني هشام بن عبد الملك في خلافته، و أمر لي بصلة سنيّة و حملان(6) لما دخلت عليه استنشدني قصيدة الأفوه الأوديّ:
/لنا معاشر لم يبنوا لقومهم *** و إن بني قومهم ما أفسدوا عادوا
قال: فأنشدته إياها، ثم استنشدني قول أبي ذؤيب الهذليّ:
أ من البنون و ريبها تتوجّع
فأنشدته إيّاها، ثم استنشدني قول عديّ بن زيد:
أرواح مودّع أم بكور
فأنشدته إياها، فأمر لي بمنزل و جراية، و أقمت عنده شهرا، فسألني عن أشعار العرب و أيامها و مآثرها
ص: 333
و محاسن أخلاقها، و أنا أخبره و أنشده، ثم أمر لي بجائزة و خلعة و حملان، و ردّني إلى الكوفة، فعلمت أنّ أمره مقبل(1).
ثم استقدمني الوليد بن يزيد بعده، فما سألني عني شيء من الجدّ إلا مرّة واحدة، ثم جعلت أنشده بعدها في ذلك النحو فلا يلتفت إليه، و لا يهشّ إلى شيء منه، حتى جرى ذكر عمّار بن ذي كبار فتشوّقه(2) و سأل عنه، و ما ظننت أنّ شعر عمّار شيء يراد أو يعبأ به(3). ثم قال لي: هل عندك شيء من شعره؟ فقلت: نعم أنا أحفظ قصيدة له، و كنت لكثرة عبثي به(4) قد حفظتها، فأنشدته قصيدته التي يقول فيها:
حبّذا أنت يا سلا *** مة ألفين حبّذا
أشتهي منك منك من *** ك مكانا مجنبذا(5)
مفعما في قبالة(6) *** بين ركنين ربّذا
/مدغما(7) ذا مناكب *** حسن القدّ محتذى
رابيا ذا محسّة *** أخنسا قد تقنفذا
لم تر العين مثله *** في منام و لا كذا
/تامكا كالسّنام إذ *** بذّ عنه مقذّذا(8)
ملء كفّي ضجيعها *** نال منها تفخّذا
لو تأمّلته دهش *** ت و عاينت جهبذا(9)
طيّب العرف و المجسّ *** ة و اللّمس هربذا(10)
فأجا(11) فيه فيه في *** ه بأير كمثل ذا
ليت أيري و ليت ح *** رك جميعا تآخذا
فأخذ ذا بشعر ذا(12) *** و أخذ ذا بقعر ذا
ص: 334
قال: فضحك الوليد حتى سقط على قفاه، و صفّق بيديه و رجليه، و أمر بالشراب فأحضر، و أمرني بالإنشاد، فجعلت أنشده هذه الأبيات و أكرّرها عليه، و هو يشرب و يصفّق حتى سكر، و أمر لي بحلّتين و ثلاثين ألف درهم، فقبضتها، ثم قال لي: ما فعل عمّار؟ فقلت: حيّ كميّت، قد عشي(1) بصره، و ضعف جسمه و لا حراك به. فأمر له بعشرة آلاف درهم، فقلت له: أ لا أخبر أمير المؤمنين بشيء يفعله لا ضرر عليه فيه، /و هو أحبّ إلى عمّار من الدّنيا بحذافيرها لو سيقت إليه؟ فقال: و ما ذاك؟ قلت: إنه لا يزال ينصرف من الحانات و هو سكران، فترفعه الشّرط، فيضرب الحدّ، فقد قطّع بالسّياط، و هو لا يدع الشّراب و لا يكفّ عنه. فتكتب بألاّ يعرض له. فكتب إلى عامله بالعراق ألاّ يرفع إليه أحد من الحرس عمّارا في سكر و لا غيره إلا ضرب الرافع له حدّين و أطلق عمّارا.
فأخذت المال و جئته به، و قلت له: ما ظننت أنّ اللّه يكسب أحدا بشعرك نقيرا(2) و لا يسأل عنه عاقل، حتى كسبت بأوضع شيء قلته ثلاثين ألفا، قال: عزّ عليّ فذلك لقلّة شكرك يا بن الزانية(3)، فهات نصيبي منها، فقلت:
لقد استغنيت عن ذلك بما خصصت به، و دفعت إليه العشرة آلاف درهم. فقال: وصلك اللّه يا أخي و جزاك اللّه خيرا، و لكنها سبب هلاكي و قتلي، لأني أشرب بها ما دام(4) معي منها درهم، و أضرب أبدا حتى أموت، فقلت له:
لقد كفيتك ذلك، و هذا عهد أمير المؤمنين ألاّ تضرب، و أن يضرب كلّ من يرفعك حدّين: فقال: و اللّه لأنا أشدّ فرحا بهذا من فرحي بالمال(5)، فجزيت خيرا من أخ و صديق؛ و قبض المال فلم يزل يشرب حتى مات، و بقيّته عنده.
نسخت من كتاب الحزنبل المشتمل على شعر عمّار و أخباره:
أنّ عمّارا ذا كبار كانت له امرأة يقال لها دومة بنت رباح، و كان يكنّيها أمّ عمّار و كانت قد تخلّقت بخلقه في شرب الشّراب و المجون و السّفه، حتى صارت(6) تدخل/الرجال عليها و تجمعهم على الفواحش، ثم حجّت في إمارة يوسف بن عمر(7) فقال لها عمار:
اتقي اللّه قد حججت و توبي *** لا يكوننّ ما صنعت خبالا
ويك يا دوم لا تدومي على الخم *** ر و لا تدخلي عليك الرّجالا
إنّ بالمصر يوسفا فاحذريه *** لا تصيري للعالمين نكالا
و ثقيف إن تثقفنك بحدّ *** لم يساو الإهاب منك قبالا(8)
/قد مضى ما مضى و قد كان ما كا *** ن و أودى الشّباب منك فزالا
ص: 335
قال: فضربته دومة و خرّقت ثيابه(1)، و نتفت لحيته، و قالت: أ تجعلني غرضا لشعرك؟ فطلّقها و اشترى جارية حسناء، فزادت في أذاه و ضربه غيرة عليه، فشكاها إلى يوسف بن عمر، فوجّه(2) إليها بخدم من خدمه، و أمرهم بضربها و كسر نبيذها، و إغرامها ثياب عمّار، ففعلوا ذلك، و بلغوا منها الرّضا لعمّار، فقال في ذلك عمّار:
إنّ عرسي لا هداها *** (3) اللّه بنت لرباح
كلّ يوم تفزع ال *** جلاّس منها بالصّياح
و ربوخ(4) حين تؤتى *** و تهيّا للنّكاح
كلب دبّاغ عقور *** هرّ من بعد نباح
و لها لون كداجي اللّي *** ل من غير صباح
/و لسان صارم كالسّي *** ف مشحوذ النّواحي
يقطع الصّخر و يفري *** ه كما تفري المساحي
عجّل اللّه خلاصي *** من يديها و سراحي
تتعب الصّاحب و الجا *** ر و تبغي من تلاحي
زعمت أنّي بخيل *** و قد أخنى بي سماحي
و رأت كفّي صفرا *** من تلادي و لقاحي
كذبت بنت رباح *** حين همّت باطّراحي
حاتم لو كان حيّا *** عاش في ظلّ جناحي
و لقد أهلكت مالي *** في ارتياحي و سماحي
ثم ما أبقيت شيئا *** غير زادي(5) و سلاحي
و كميت بين أشطا *** ن جواد ذي مراح
يسبق الخيل بتقريب(6) *** و شدّ كالرّياح
ثم غارت و تجنّت *** و أجدّت في الصيّاح
لابتياعي أملح النّسو *** ان من فيء(7) الرّماح
ص: 336
دمية المحراب حسنا *** و حكت بيض الأداحي(1)
هي أشهى(2) لصدى الظّ *** مآن من برد القراح
/قلت: يا دومة بيني *** إنّ في البين صلاحي
فأنا اليوم طليق *** من إساري ذو ارتياح(3)
لست عمّن ظفرت كفّ *** ي بها اليوم بصاح
أنا مجنون بريم مخ *** طف الخصر رداح(4)
مشبع الدّملج و الخلخال *** جوّال الوشاح
/أنّ عمّار بن عمرو *** ذا كبار ذو امتداح
و هجاء سار في النّ *** اس لا يمحوه ماحي
أبدا ما عاش ذو *** روح و نودي بالفلاح
قال: و كان لعمّار جار يبيع الرّءوس يقال له غلام أبي داود، فطرق عمّارا قوم كانوا يعاشرونه و يدعونه فقالوا:
أطعمنا و اسقنا، و لم يكن عنده شيء يومئذ، فبعث إلى صاحب الرءوس يسأله أن يوجّه إليه بثلاثة أرؤس ليعطيه ثمنها إذا جاءه شيء، فلم يفعل، فباع قميصا له و اشترى للقوم ما يصلحهم و شربوا عنده، فلما أصبح القوم خرج إلى المحلّة، و أهلها مجتمعون، فأنشأ يقول:
غلام لأبي داو *** د يدعى سالق الرّوس
و في حجزته قمل *** كأمثال الجواميس(5) فمن ذا يشتري الرّو *** س و قد عشّش في الرّوس
رءوس قد أراحت *** كرءوس في النّواويس(6)
/تحاكي أوجه الموتى *** و ريحا كالكرابيس(7)
ينقّي القمل(8) منهنّ *** إذا باع بتدليس
قال: فشاعت الأبيات في النّاس، فلم يقرب أحد ذلك الرجل، و لا اشترى منه شيئا، فقام من موضعه ذلك، و عطّل حانوته.
ص: 337
قال: و حضر عمّار ذو كبار مع همدان(1) لقبض عطائه، فقال له خالد بن عبد اللّه: ما كنت لأعطيك شيئا. فقال: و لم أيّها الأمير؟ قال: لأنك تنفق مالك في الخمور و الفجور، فقال: هيهات ذلك، و هل بقي لي أرب في هذا و أنا الذي أقول:
أير(2) عمّار أصبح ال *** يوم رخوا قد انكسر
أ لداء يرى به *** أم من الهمّ و الضّجر؟
أم به أخذة فقد *** تطلق الأخذة النّشر
فلئن كان قوّس الي *** وم أو عضّه الكبر
فلقد ما قضى و نا *** ل من اللّذّة الوطر
و لقد كنت منعظا *** و أبدا(3) قائم الذّكر
و أنا اليوم لو أرى(4) *** الحور عندي لما انتشر
/ساقط رأسه على *** خصيتيه به زور
كلّما سمته النّهو *** ض إلى كوّة(5) عثر
قال: فضحك خالد، و أمر له بعطائه، فلمّا قبضه قضى منه دينه، و أصلح حاله، و عاد لشأنه، و قال:
أصبح اليوم أير عمّا *** ر(6) قد قام و اسبطرّ
أخذ الرّزق فاستشا *** ط قياما من البطر
فهو اليوم كالشّظا *** ظ من النّعظ و الأشر
يترك القرن في المك *** رّ صريعا و ما فتر
يشرع العود للطّع *** ان إذا انصاع ذو الخور(7)
سلم نعم الضّجيع أن *** ت لنا(8) ليلة الخصر
/ليلة الرّعد و البرو *** ق(9) مع الغيم و المطر
ليتني قد لقيتكم *** في خلاء من البشر(10)
ص: 338
فنشرنا حديثنا *** عندكم كلّ منتشر
خاليا ليلة التّما *** م بسلمى إلى السّحر
فهي كالدّرّة النّقيّ *** ة و الوجه كالقمر
قال: و خرج عمّار في بعض أسفاره، و معه رجل يعرف بدندان، فلما بلغا إلى الفرات نزلا على قرية يقال لها ناباذ، و أراد العبور فلم يجدا معبرا(1) فقال له دندان: أنا أعبرك، فنزل معه(2) ما توسّطا الفرات خلّى عنه، فبعد جهد ما نجا، فقال عمّار في ذلك:
كاد دندن بأن يجعلني *** يوم ناباذ طعاما للسّمك
قلت: دندان أغشني فمضى *** و أنا أعلو و أهوي في الدّرك
و لقد أوقعني في ورطة *** شيّبت رأسي و عاينت الملك
ليت دندان بكفّي أسد *** أو قتيلا ثاويا فيمن هلك
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال: حدّثنا محمد بن صالح بن النطّاح، عن أبي اليقظان قال:
دخل عمّار ذو كبار على خالد القسريّ بالكوفة، فلمّا مثل بين يديه صاح به: أيّها الأمير(3):
أخلقت ريطتي(4) و أودى القميص *** و إزاري و البطن طاو خميص
قال: خالد: فنصنع ما ذا؟ ما كلّ من أخلقت ثيابه كسوناه فقال:
و خلا منزلي فلا شيء فيه *** لست ممّن يخشى(5) عليه اللّصوص
فقال له خالد: ذلك من سوء فعلك و شربك الخمر بما تعطاه، فقال:
و استحلّ الأمير حبس عطائي *** خالد إنّ خالدا لحريص
/فقال خالد و قد غضب: على ما ذا ثكلتك أمّك؟ قال:
ذو اجتهاد على العبادة و الخي *** ر و لكن في رزقنا تعويص(6)
فقال: على ما ذا تقبض العطاء و لا غناء فيك عن المسلمين؟ فقال:
رخّص اللّه في الكتاب لذي العذ *** ر و ما عند خالد ترخيص
فقال: أ و لم نرخّص لذي العذر أن يقيم و يبعث مكانه رسولا؟ فقال:
ص: 339
كلّف البائس الفقير بديلا *** هل له عنه معدل أو محيص!
العليل الكبير ذا العرج الظا *** لع أعشى بعينه تلحيص(1)
يا أبا الهيثم المبارك جد لي *** بعطاء ما شانه تنغيص
و برزقي فإننا قد رزحنا *** من ضياع و للعيال بصيص
كبصيص الفرخين ضمهما العشّ *** و غاذيهما أسير قنيص
قال: فدمّعت عينا خالد، فأمر له بعطائه.
و(2) هذه الأبيات من قصيدة يقول فيها:
و ترى البيت مقشعرّا قواء(3) *** من نواحيه دورق و أصيص
و بجاد ممزّق و خوان *** ندرت رجله و أخرى رهيص(4)
و لقد كان ذا قوائم ملس *** تؤكل اللّحم فوقه و الخبيص(5)
/شطنت هكذا شوارد بالمص *** ر و عنّي لم يلهه التّربيص(6)
و تولّى في كلّ بحر و برّ *** همّه العرس فيه و التّحصيص(7)
متعال عليّ آخر محبو *** ر يغاديه بطّة و مصوص(8)
و شواء ملهوج و رءوس *** و صيود قد حازها التّقنيص(9)
ثمّ لا بدّ يلتقي الوزن بالقس *** ط لدى الحشر فاحذروا أن يبوصوا(10)
أكثروا الملك جانبا و اجمعوه *** سوف يودي(11) بذلك التنقيص
و نسخت من كتاب الحزنبل:
أنّ عمّارا وقف على عاصم بن عقيل بن جعدة بن هبيرة المخزوميّ فقال له:
ص: 340
/عاصم يا بن عقيل *** أفسح العالم باعا
وارث المجد قديما *** ساميا ينمي ارتفاعا
عن هبير و ابنه جع *** دة فاحتلّ التّلاعا
فقال له عاصم: أسمعت يا عمّار فقل فقد أبلغت في الثّناء(1)، فقال:
/اكسني أصلحك الل *** ه قميصا و صقاعا(2)
و أرحني من ثياب *** باليات تتداعى
طال ترقيعي لها حت *** ى لقد صارت رقاعا
كلّها لا شيء فيها *** غير قمل تتساعى
لم تزل تولي الذي ير *** جوك برّا و اصطناعا
فنزع عاصم جبّة كانت عليه، و أمر غلامه فجعل تحتها قميصا و دفعها إليه، و أمر له بمائتي درهم.
فأمّا القصيدة الذّالية، التي استحسنها الوليد، و سأل حمّادا الرّاوية عنها فإنها كثيرة المرذول، و لكنها مضحكة طيّبة من الشّعر المرذول(3) و فيها يقول:
أنت وجدا بها كمغض *** ي جفون(4) على القذى
لم يقل قائل من النّ *** اس قولا كنحو ذا(5)
تحت حرّ وصلته *** صار شعرا(6) مهذّذا
قول عمّار ذي كبا *** ر فيا حسن ما احتذى
علّلاني بذكرها *** و اسقياني محذّذا
تترك الأذن سخنة *** أرجوانا بها خذا(7)
و من صالح شعره قوله:
ص: 341
شجا قلبي غزال ذو *** دلال واضح السّنّه
أسيل الخدّ مربوب *** و في منطقه غنّه
ألا إنّ الغواني قد *** برى جسمي هواهنّه
و قالوا: شفّك الحور *** هوى قلت لهم: إنّه
و لكنّي على ذاك *** معنى بأذاهنّه(1)
أراح اللّه عمّارا *** من الدّنيا و منهنّه
بعيدات قريبات *** فلا كان و لا كنّه
فقد أذهل منّي العقل *** و القلب شجا هنّه
يمنّين الأباطيل *** و يجحدن الذي قلنه
يتغزل بقصيدة أخرى ميمية طويلة(2)
و قوله أيضا:
يا دوم دام صلاحكم *** و سقاك ربّي صفوة الدّيم
من كلّ دان مسبل هطل *** متتابع سحّ من الرّهم(3)
ترد الوحوش إليه سارعة *** و الطير أفواجا من القحم(4)
قلقلت من وجد بكم كبدي *** و صدعت صدعا غير ملتئم
و تركتني لعواذلي غرضا *** كاللّحم متّركا على الوضم(5)
/برح الخفاء و قد علمت به *** إني لحبّك غير مكتتم
أخفيته حتّى و هي جلدي *** و برى فؤادي و استباح دمي
يا أحسن الثّقلين كلّهم *** و أتمّ من يخطو على قدم
يصبوا الحليم لحسن بهجتها *** و يزيده ألما إلى أ لم
تفترّ عن سمطين من برد *** متفلّج عن حسن مبتسم(6)
كالأقحوان لغبّ سارية *** جنح العشاء ينير في الظّلم
حمّ اللّثات يروق ناظره *** ما عيب من روق و لا قصم(7)
ص: 342
تؤمي بكفّ رطبة خضبت *** و أنامل ينطفن كالغنم(1)
و بمقلة حوراء ساجية(2) *** و بحاجب كالنّون بالقلم
و الجيد منها جيد مغزلة(3) *** تحنو إلى خشف(4) بذي سلم
و كدمية المحراب ماثلة *** و الفرع جثل(5) النبت كالحمم
و كأنّ ريقتها إذا رقدت *** راح يفوح بأطيب النسم
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثنا الحسن بن أحمد بن طالب الدّيناريّ قال: حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، قال:
/قال حمّاد الراوية:
أرسل الوليد بن يزيد إليّ بمائتي دينار: و أمر يوسف بن عمر بحملي(6)، على البريد، فقلت: يسألني عن مآثر طرفيه قريش أو ثقيف، فنظرت في كتابي ثقيف و قريش حتى حفظتهما، فلما قدمت عليه سألني عن أشعار/بليّ، فأنشدته منها ما حفظته، ثم قال لي: أنشدني في الشّراب، و عنده قوم من وجوه أهل الشام. فأنشدته لعمّار ذي كبار:
أصبح القوم قهوة *** في أباريق تحتذى
من كميت مدامة *** حبّذا تلك حبّذا
تترك الأذن شربها *** أرجوانا بها خذا
فقال: أعدها، فأعدتها، فقال لخدمه: خذوا آذان القوم، قال: فأتينا بالشراب فسقينا حتى ما درينا متى(7)نقلنا، ثم حملنا فطرحنا في دار الضّيفان، فما أيقظنا إلا حرّ الشّمس و جعل شيخ من أهل الشّام يشتمني و يقول: فعل اللّه بك و فعل، أنت صنعت بنا هذا.
عبد اللّه بن مصعب بن ثابت بن عبد اللّه بن الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب ابن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب.
شاعر فصيح خطيب ذو عارضة و بيان و اعتبار(1) بين الرجال و كلام في المحافل، و قد نادم أوائل الخلفاء من بني العبّاس، و تولى لهم أعمالا، و كان خرج مع محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالمدينة على أبي جعفر المنصور فيمن خرج من آل الزبير، فلمّا قتل محمد(2) استتر عنه و قيل: بل كان استتاره مدّة يسيرة إلى أن حجّ(3) أبو جعفر المنصور و آمن النّاس جميعا فظهر.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثنا عمّي و فليح بن إسماعيل، عن الربيع ابن يونس بن محمد بن أبي فروة قال:
دخلت على المهديّ، و إذا هو يكتب على الأرض بفحمة قول عبد اللّه بن مصعب:
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها *** مقالة واش أو عيد أمير
فلن يمنعوا عينيّ من دائم البكا *** و لن يخرجوا(4) ما قد أجنّ ضميري
و ما برح الواشون(5) حتى بدت لنا *** بطون الهوى مقلوبة لظهور
إلى اللّه أشكو ما ألاقي من الجوى *** و من نفس يعتادني و زفير
/و يقول أحسن و اللّه عبد اللّه بن مصعب ما شاء.
و هذه الأبيات تنسب إلى المجنون أيضا؛ و فيها بيتان فيهما غناء ليزيد حوراء خفيف رمل بالوسطى من رواية عمرو بن بانة، و يقال: إنه للزّبير بين دحمان، و ذكر حبش أنّ فيهما لإسحاق خفيف ثقيل أوّل بالوسطى.
أخبرني/أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدّثنا عمر بن شبّة؛ قال: حدّثني محمد بن الحسن بن زياد.
ص: 344
و نسخت(1) هذا الخبر من كتاب أبي سعد العدويّ(2)، عن أبي الطّرمّاح مولى آل مصعب بن الزّبير من أهل ضريّة، و روايته أتمّ.
أنّ عبد اللّه بن مصعب لمّا ولي اليمامة مرّ بالحوأب يوما - و هو ماء لبني أبي بكر بن كلاب، و هو الذي ذكره النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لعائشة(3) - فرأى على الماء جارية منهم، فهويها و هويته، و قال:
يا جمل للواله المستعبر الوصب *** ما ذا تضمّن من حزن و من نصب؟
أنّى أتيحت له للحين جارية *** في غير ما أمم منها و لا صقب(4)
جارية من أبي بكر كلفت بها *** ممّن يحلّ من الحصّاء و الحوب(5)
من غير معرفة إلا تعرّضها *** حينا لذلك إن الحين مجتلبي
قامت تعرّض لي عمدا فقلت لها: *** يا عمرك اللّه، هل تدرين ما حسبي
/(6)بين الحواريّ و الصّدّيق في نسب *** ينهى عن الفحش مثلي غير مؤتشب(7)
و لا أدبّ إلى الجارات منسربا *** تاللّه إني لعزهاة(8) عن الرّيب 6
فخطبها، و كانت العرب لا تنكح الرجل(9) امرأة شبب بها قبل خطبته، فلم يزوّجوها إياه، فلما يئست منه قالت:
إذا خدرت رجلي ذكرت ابن مصعب *** فإن قيل عبد اللّه، خفّ فتورها
ألا ليتني صاحبت ركب ابن مصعب *** إذا ما مطاياه اتلأبّت(10) صدورها
لقد كنت أبكي و اليمامة دونه *** فكيف إذا التفّت عليه قصورها؟
قال أبو الطّرمّاح في خبره: و كان(11) لها إخوة شرش غير فقتلوها.
أخبرنا ببعض هذه القصة ابن عمار، عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ، عن أبيه، عن أبي عمر الزّهري، و ذكر الشّعرين جميعا و الألفاظ قريبة.
ص: 345
و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه(1) بن عمّار، قال: حدّثني عليّ بن محمد النّوفلي عن أبي عمر الزّهري، قال:
حدّثني أبي:
أنّ عبد اللّه بن مصعب خاصم رجلا من ولد عمر بن الخطّاب بحضرة المهديّ، فقال له عبد اللّه بن مصعب:
أنا ابن صفيّة، قال، هي أدنتك من الظّلّ و لولاها لكنت/ضاحيا و كنت بين الفرث و الحويّة(2). قال: أنا ابن الحواريّ(3) قال له العمريّ: بل أنت بن وردان المكاري(4) قال: و كان يقال: إنّ أمّه كانت تهوى رجلا يكرى الحمير يقال له وردان، فكان(5) من يسبّه ينسبه إليه، و قال فيه الشّاعر:
أ تدعى حواريّ الرّسول سفاهة(6) *** و أنت لوردان الحمير سليل
فقال: و اللّه لأنا بأبي أشبه من التمرة بالتمرة و الغراب بالغراب، قال له العمري: كذبت، و إلا فأخبرني ما بال آل الزّبير ثطّ اللّحى(7) و أنت ألحى(8) و مالهم(9) سمرا جعادا و أنت أحمر سبط؟ قال: أ لي تقول هذا يا بن قتيل أبي لؤلؤة قال العمريّ: يا بن قتيل ابن جرموز على ضلالة، أ تعيّرني أن قتل أبي رجل نصرانيّ و هو أمير المؤمنين قائما يصلي في محرابه و قد قتل أباك رجل مسلم بين الصّفّين(10) يدفعه عن باطل، و يدعوه إلى حق، فأنا أقول: رحم اللّه ابن جرموز، فقل أنت: رحم اللّه أبا لؤلؤة، ثم أقبل على المهديّ فقال:
أ لا تسمع يا أمير المؤمنين ما يقول عائد الكلب في عمر بن الخطاب، و قد عرفت ما كانت بينه و بين أبيك العبّاس بن عبد المطلب(11) ابنه عبد اللّه من المودّة، و تعلم ما بين(12)/جده/عبد اللّه بن الزّبير، و بين جدّك عبد اللّه(13)ابن العباس من العداوة فأعن(14) يا أمير المؤمنين أولياءك على أعدائك، فوثب رجل من آل طلحة، فقال له: يا أمير المؤمنين، أ لا تكفّ هذين السّفيهين عن تناول أعراض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و آله؟ و تكلّم النّاس بينهما و توسّطوا كلامهما و أكثروا، فأمر المهديّ بكفّهما و التّفريق بينهما.
قال النّوفليّ: و كان عبد اللّه بن مصعب يلقّب عائد الكلب لقوله:
ص: 346
ما لي مرضت فلم يعدني عائد *** منكم و يمرض كلبكم فأعود؟
و أشدّ من مرضي عليّ صدودكم *** و صدود عبدكم(1) عليّ شديد
فلقّب عائد الكلب:
قال ابن عمّار: هكذا حفظي عن النوفليّ، و قد يزيد القول و ينقص.
لحكم الوادي في هذين البيتين اللّذين أولهما:
ما لي مرضت فلم يعدني عائد *** منكم و يمرض كلبكم فأعود
لحنان خفيف ثقيل بالوسطى، عن إبراهيم و حبش، و رمل بالوسطى عن الهشامي(2).
أخبرنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار(3)، قال: حدّثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ، قال:
أنشد الأحيحيّ المهديّ قصيدة مدحه بها، و كان عبد اللّه بن مصعب حاضرا، فحسده على إقبال المهديّ عليه، و كان المهديّ يحبّه، فجعل يخاطب المهديّ و يحدّثه، /فقال له: أمسك فما يشغلني كلامك عنه، فقطع الأحيحيّ الإنشاد، ثم أقبل على المهديّ فقال له:
عبد مناف أبو أبوّتنا *** و عبد شمس و هاشم توم
بحران خرّ العوام بينهما *** فالتطما و البحار(4) تلتطم
فقال له المهديّ: كذاك هو، فدع هذا المعنى و عد إلى ما كنت فيه، و خجل عبد اللّه فما انتفع بنفسه يومئذ.
قال ابن عمّار: فحدّثني بعض شيوخنا قال:
كنت عند مصعب بن عبد اللّه الزّبيري(5) يوما و قد جرى(6) ذكر الأحيحي، فأنشدته هذين البيتين، فتغيّر لونه، ثم قال لي: نعم، قد كان خاطب أبي بهما فأمضّه، فلمّا قمنا عنه قال لي: ويحك، أ تنشد رجلا كنت تتعلّم منه و تأخذ عنه هجاء في أبيه؟ فقلت له: دعني فإني أحببت أن أغضّ من كبره قال: و كان في مصعب(7) بعض ذلك.
زارت سليمى و كان الحيّ قد رقدا(8) *** و لم تخف من عدو كاشح رصدا
لقد وفت لك سلمى بالذي وعدت *** لكنّ عقبة لم يوف الذي وعدا
ص: 347
عروضه من البسيط، الشعر لابن مفرّغ الحميريّ، و الغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن أحمد بن المكيّ، و فيه لعواد لحن من كتاب(1) إبراهيم غير مجنّس.
و قد تقدّمت أخبار ابن مفرّغ مستقصاة فيما قبل هذا من الكتاب، فاستغنى عن إعادتها هاهنا و إعادة شيء منها، إذ كان قد مضى منها ما فيه كفاية و للّه الحمد(2).
عمارة هو ابن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية بن الخطفي(1)، و قد تقدم(2) نسبه و نسب جدّه في أول الكتاب، و يكنى عمارة أبا عقيل، شاعر(3) مقدّم فصيح، و كان يسكن بادية البصرة، و يزور الخلفاء في الدولة العباسية فيجزلون صلته، و يمدح قوّادهم و كتّابهم(4) فيحظى منهم بكل فائدة، و كان النّحويّون بالبصرة يأخذون عنه اللّغة.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: سمعت محمد بن يزيد يقول: ختمت الفصاحة في شعر(5) المحدثين بعمارة بن عقيل.
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ، و الحسن بن عليّ، و الصّوليّ قالوا: حدّثنا الحسن بن عليل الغنزيّ قال:
سمعت سلم بن خالد بن معاوية بن أبي عمرو بن العلاء يقول:
كان جدّي أبو عمرو يقول: ختم الشّعر بذي الرّمّة، و لو رأى جدّي عمارة بن عقيل لعلم أنه أشعر في مذاهب الشعراء من ذي الرّمّة.
قال العنزيّ؛ و لعمري لقد صدق.
و سمعت سلما يقول: هو أشدّ استواء في شعره من جرير، لأنّ جريرا سقط(6) في شعره و ضعف، و ما وجدوا لعمارة سقطة واحدة في شعره.
قال العنزيّ: و حدّثني أحمد بن الحكم بن بشر بن أبي عمرو بن العلاء قال:
/أتيت عمارة أسأله عن شيء أكتبه عنه، فقال لي: من أنت؟ فقلت أنا ابن الحكم(7) بن بشر بن أبي عمرو ابن العلاء فقال لي: كان أبوك صديقي، ثم أنشدني:
بنى لكم العلاء بناء صدق *** و تعمر ذاك يا حكم بن بشر
ص: 349
فما مدحي لكم لأصيب مالا *** و لكن مدحكم زين لشعري
حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال: حدّثنا أبو ذكوان قال: حدّثنا أبو محلّم قال:
هجا عمارة بن عقيل امرأة، ثم أتته في حاجة(1) بعد ذلك، فجعل يعتذر إليها، فقالت له: خفّض عليك يا أخي، فلو صرّ(2) الهجاء أحدا لقتلك و قتل أباك و جدّك.
قال مؤلّف هذا الكتاب(3):
و كان عمارة هجّاء خبيث اللّسان، فهجا(4) فروة بن حميصة الأسديّ و طال(5) التّهاجي بينهما، فلم يغلب أحدهما صاحبه(6) حتى قتل فروة.
و أخبرني محمد بن يحيى قال:
حدّثنا أبو ذكوان قال: قال لي عمارة: ما هاجيت شاعرا قطّ إلا كفيت مئونته في سنة أو أقلّ من سنة، إمّا أن يموت، أو يقتل، أو أفحمه، حتى هاجاني أبو الرّدينيّ العكليّ، فخنقني(7) بالهجاء، ثم هجا بني نمير فقال:
أ توعدني لتقتلني نمير *** متى قتلت نمير من هجاها؟
/فكفانيه بنو نمير فقتلوه، فقتلت بنو عكل - و هو يومئذ ثلاثمائة رجل - أربعة آلاف رجل من بني نمير.
و قتلت لهم شاعرين: رأس الكلب(8) و شاعرا آخر.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال: حدّثني العنزي قال:
حدّثني محمد بن عبد اللّه بن آدم العبديّ قال: حدّثني عمارة بن عقيل قال:
كنت جالسا مع المأمون، فإذا أنا بهاتف يهتف من خلفي و يقول:
/نجّى عمارة منّا أنّ مدّته *** فيها تراخ و ركض السّابح النّقل
و لو ثقفناه أوهينا جوانحه *** بذابل من رماح الخطّ معتدل
فإنّ أعناقكم للسّيف محلبة(9)*** و إنّ مالكم المرعيّ كالهمل
ص: 350
إذ لا يوطّن عبد اللّه مهجته *** على النّزال و لا لصّا بنى حمل
قال: و هذا الشّعر لفروة بن حميصة فيّ. قال: فدخلني من ذلك ما اللّه يعلمه(1)، و ما ظننت أنّ شعر فروة وقع إلى من هنالك(2)، ثم خرج عليّ بن هشام من المجلس و هو يضحك، فقلت: يا أبا الحسن، أ تفعل بي مثل هذا و أنا صديقك؟ فقال: ليس عليك في هذا شيء، فقلت: من أين وقع إليك شعر فروة؟(3) قال: و هل بقي كتاب إلا و هو عندي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين،(4) أهجى في دارك و بحضرتك؟ فضحك، فقلت: يا أمير المؤمنين(5)أنصفني، فقال: دع هذا و أخبرني بخبر هذا الرجل، و ما كان بينك و بينه فأنشدته قصيدتي فيه، فلما انتهيت إلى قولي:
/ما في السّوية أن تجرّ عليهم *** و تكون يوم الرّوع أوّل صادر
أعجب المأمون هذا البيت فقال لي، المأمون: أ لهذه القصيدة نقيضة؟ قلت: نعم، قال: فهاتها، فقلت له:
أوذي سمعي بلساني؟ فقال: عليّ ذلك، فأنشدته إياها، فلما بلغت إلى قوله:
و ابن المراغة جاحر(6) من خوفنا *** باد بمنزلة(7) الذّليل الصّاغر
يخشى الرّياح بأن تكون طليعة *** أو أن تحلّ به عقوبة قادر(8)
فقال لي. أوجعك يا عمارة، فقلت: ما أوجعته به أكثر.
أخبرني محمد قال: حدّثني الحسن قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن آدم قال: حدّثني عمارة قال: إنما قتل فروة قولي له:
ما في السّويّة أن تجرّ عليهم *** و تكون يوم الرّوع أوّل صادر
فلما أحاطت به طيّئ و قد كان في معاذ و موئل، و كان كثير الظّفر بهم(9) كثير العفو عمّن قدر عليه منهم، فقالوا له: و اللّه لا عرضنا لك و لا أوصلنا إليك سوءا فامض لطيّتك(10) و لكنّ الوتر معك فإن لنا فيهم ثأرا، فقال فروة: فأنا إذا كما قال ابن المراغة:
ما في السّويّة أن تجرّ عليهم *** و تكون يوم الرّوع أوّل صادر
/فلم يزل يحمي أصحابه و ينكي(11) في القوم حتى اضطرّهم إلى قتله، و كان جمعهم أضعاف جمعه(12).(13)
ص: 351
أخبرني محمد قال: حدّثني الحسن قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن آدم قال:
قيل لعمارة: أ قتلت فروة؟ فقال: و اللّه ما قتلته و لكني أ قتلته أي سبّبت له سببا قتل به(1).
أخبرني محمد قال: حدثنا الحسن قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه قال: حدّثني عمارة قال:
رحت إلى المأمون، فكان ربما قرّب إليّ الشيء من الشّراب أشربه بين يديه، و كان يأمر بكتب كثير مما أقوله، فقال لي يوما: كيف قلت: قالت مفدّاة؟ و نظر إليّ نظرا منكرا، فقلت(2): يا أمير المؤمنين، مفدّاة امرأتي، و كانت نظرت إليّ و قد افتقرت(3) و ساءت حالي، قال: فكيف قلته؟ فأنشدته:
قالت مفدّاة لمّا أن رأت أرقي *** و الهمّ يعتادني من طيفه لمم(4)
أنهبت(5) مالك في الأدنين آصرة *** و في الأباعد حتى حفّك العدم
فاطلب إليهم تجد ما كنت من حسن *** تسدي إليهم فقد ثابت لهم صرم(6)
/فقلت: عاذلتي، أكثرت لائمتي *** و لم يمت حاتم هزلا و لا هرم(7)
/قال: فنظر إليّ المأمون مغضبا و قال: لقد علت همّتك أن ترقى بنفسك إلى هرم و قد خرج من ماله في إصلاح قومه.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال: حدّثني(8) العنزيّ قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه قال: حدثنا(9) عمارة قال:
استشفعت بعليّ بن هشام في أن يؤذن لي في الانصراف، فقال: ما أفعل ذلك لأنك(10) تنشد أمير المؤمنين إذا خلوت به و تخبره عن وقائعك و فعالك(11) ثم تخبره أنّك مظلوم، و قد أخذ هذا أمير المؤمنين عليك. ثم تذاكرنا(12)فقال: أ ما تذكر أبا الرّازي حين أوقع بقومك و أوقعوا به، ثم تدخل على أمير المؤمنين مغضبا فتقول:
ص: 352
علام نزار الخيل تفأى رءوسنا(1) *** و قد أسلمت مع النّبيّ نزار؟
و هي أبيات قالها حين قتلهم أبو الرّازي - و كان عمارة قد خرج من عند المأمون فنظر إلى رءوس أصحابه، فدخل فأنشد هذا البيت - قال: و أكره أن تتبعك(2) نفسي أمير المؤمنين فيجد على من كلمه فيك، فعليك بعمرو بن مسعدة و أبي عبّاد فإنّهما يكتبان(3) بين يدي أمير المؤمنين، و يخلوان معه و يمازحانه، فأتيت أبا عبّاد/فذكرت له التشوّق(4) إلى العيال، و سألته الاستئذان، فصاح في وجهي و قال: مقامك أحبّ إلى أمير المؤمنين من ظعنك، و ما أفعل ما يكرهه(5) فذهبت من فوري إلى عمرو بن مسعدة، فدخلت عليه و هو يختضب، فشكوت إليه الأمر فقال:
يا أبا عقيل، لقد أذنت لك في ساعة ما أظهر فيها لأحد، و لي حاجة، قلت: و ما هي؟ قال: ألف درهم تجعل لك في كيس تشتري بها عبدا يؤنسك في طريقك، و لست أقصّر فيما تحبّ. فتلعثمت ساعة و تلكأت، فقال: حقّا، لئن لم تأخذها لا كلمتك، فأخذتها و انصرفت و أنا أقول:
عمرو بن مسعدة الكريم فعاله *** خير و أمجد من أبي عبّاد
من لم يزمزم والداه و لم يكن *** بالرّيّ علج بطانة و حصاد(6)
بصّرته سبل الرّشاد فما اهتدى *** لسبيل مكرمة و لا لرشاد(7)
و عرفت إذ علقت يدي بعنانه *** أنّي علقت عنان غير جواد(8) لو كان يعلم إذ يشيح تحرّقي *** في كلّ مكرمة و لين قيادي
عرف المصدّق رأيه أني امرؤ *** يفني العطاء طرائفي و تلادي(9)
و أصون عرضي بالسّخاء إن غدت *** غبر المحاجر شعّثا أولادي
أخبرني محمد بن يحيى قال: حدّثنا العنزي قال: حدّثني سلم بن خالد قال:
/أنشد عمارة قصيدة له، فقال فيها: الأرياح و الأمطار، فقال له أبو حاتم السّجستاني: هذا لا يجوز، إنّما هو الأرواح، فقال:
لقد جذبني إليها طبعي، فقال له أبو حاتم: قد اعترضه علمي، فقال: أ ما تسمع قولهم(10): رياح؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك، قال: صدقت، و رجع(11).
ص: 353
حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا الحسن، قال: حدثنا العنزيّ، قال:
قدم عمارة البصرة أيّام(1) الواثق، فأتاه علماء البصرة و أنا معهم و كنت غلاما فأنشدهم قصيدة يمدح فيها(2)الواثق فلمّا بلغ إلى قوله:
و بقيت في السّبعين أنهض صاعدا *** فمضى لداتي كلّهم فتشعّبوا
بكى على ما مضى من عمره، فقالوا له: أملها علينا، قال: لا أفعل حتى أنشدها أمير المؤمنين، فإني مدحت رجلا مرّة بقصيدة فكتبها منّي رجل ثم سبقني بها إليه،(3) ثم خرج إليّ الواثق(4) فلما قدم أتوه و أنا/معهم فأملاها عليهم.
ثم حدّثهم فقال: أدخلني إسحاق بن إبراهيم على الواثق، فأمر لي بخلعة و جائزة فجاءني بهما خادم، فقلت:
قد بقي من خلعتي(5) شيء قال: و ما بقي؟ قلت: خلع عليّ المأمون خلعة و سيفا. فرجع إلى الواثق/فأخبره، فأمره بإدخالي، فقال: يا عمارة، ما تصنع بسيف؟ أ تريد أن تقتل به بقيّة الأعراب الذين قتلتهم بمقالك(6)؟ قلت: لا و اللّه يا أمير المؤمنين و لكن لي شريك في نخيل(7) لي باليمامة، ربما خانني فيه فلعلي أجرّبه عليه، فضحك و قال:
نأمر لك به قاطعا، فدفع إليّ سيفا من سيوفه.
أخبرنا الصّوليّ قال: حدّثني يزيد بن محمد المهلبيّ قال:
حدّثني النّخعيّ قال:
لما قدم عمارة إلى بغداد قال لي: كلّم لي المأمون - و كان النّخعيّ من ندماء المأمون - قال: فما زلت أكلّمه حتى أوصلته إليه، فأنشده هذه القصيدة:
حتّام قلبك بالحسان موكل *** كلف بهنّ و هنّ عنه ذهّل؟
فلما فرغ قال لي: يا نخعيّ، ما أدري أكثر ما قال إلا أن أقيسه(8)، و قد أمرت له لكلامك فيه بعشرين ألف درهم.
حدّثني الصّوليّ، قال: حدّثني الحسن، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن آدم العبديّ قال:
كانت بنو تميم اجتمعت ببغداد على عمارة حين قال شعره الذي يقدّم فيه خالد بن يزيد على تميم بن خزيمة،
ص: 354
فقالوا له: قطع اللّه رحمك و أهانك و أذلّك، أتقدّم غلاما من ربيعة على شيخ من بني تميم، تميم بن خزيمة، و هو مع ذلك من بيت تميم؟ و لاموه، فقال:
/صهوا يا تميم إنّ شيبان وائل *** بطرفهم عنكم أضنّ و أرغب(1)
أ أن سمت برذونا بطرف غضبتم *** علىّ و ما في السّوق و السّوم مغضب
فإن أكرمت أو أنجبت أمّ خالد *** فزند الرّياحيّين أورى و أثقب(2)
قال: ثمّ حدّثنا عمارة قال: قال لي عليّ بن هشام - و فيه عصبيّة على العرب -: قد علمت مكانك منّي، و قيامي بأمرك، حتى قرّبك أمير المؤمنين المأمون، و المائة(3) الألف التي وصلتك أنا سببها، و هاهنا من بني عمّك من هو أقرب إليك، و أجدر أن يعينني على ما قبل(4) أمير المؤمنين لك، فقلت: و من هو؟ قال: تميم بن خزيمة، قال: قلت: إيه، قال: و خالد بن يزيد بن مزيد، قلت: سآتيهما، فبعث معي شاكريّا(5)، من شاكريّته، حتى وقف بي على باب تميم، فلمّا نظر إليّ غلمانه أنكروا أمري(6) فدنا الشّاكريّ فقال: أعلموا الأمير أنّ على الباب ابن جرير الشّاعر جاء(7) مسلما فتوانوا، و خرج غلام أعرف أنه غلام الأمير، فحجبني(8)، فدخلني من ذاك ما اللّه به عالم، فقلت للشّاكريّ: أين منزل خالد؟ فقال: اتبعني فما كان إلا قليلا حتى وقف بي على بابه، و دخل بعض غلمانه يطلب الإذن، فما كان إلا قليلا حتى خرج في قميصه و ردائه، يتبعه حشمه. فقال لي بعض القوم: هذا خالد/قد أقبل إليك، قال: فأردت أن أنزل إليه، فوثب وثبة فإذا هو معي آخذ بعضدي يريد أن أتكئ عليه، فجعلت أقول:
جعلني اللّه فداك، أنزل، فيأبى حتى أخذ بعضدي، فأنزلني و أدخلني، و قرّب إليّ الطعام و الشراب، فأكلت و شربت، و أخرج إليّ خمسة آلاف درهم و قال: يا أبا عقيل، ما آكل إلا بالدّين، و أنا على جناح من ولاية أمير المؤمنين، فإن صحّت لي، لم أدع أن أغنيك، و هذه خمسة أثواب خزّ قد آثرتك بها، كنت قد ادّخرتها، قال/عمارة، فخرجت و أنا أقول:(9) أ أترك إن قلّت دراهم خالد *** زيارته إني إذا للئيم(10)
فليت بثوبيه لنا كان خالد *** و كان لبكر بالثّراء تميم
فيصبح(11) فينا سابق متمهّل *** و يصبح في بكر أغمّ يهيم
ص: 355
فقد يسلع المرء اللئيم اصطناعه *** و يعتلّ نقد المرء و هو كريم(1) قال اليزيديّ: يسلع: أي تكثر سلعته. و السّلعة: المتاع(2)أخبرني الصّوليّ، قال: حدّثني الحسن قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه قال: حدّثني عمارة قال:
لمّا بلغ خالد بن يزيد هذا الشّعر قال لي: يا أبا عقيل، أبلغك أنّ أهلي يرتضون منّي ببديل كما رضيت بنو تميم بتميم بن خزيمة؟ فقلت: إنما طلبت حظّ نفسي و سقت مكرمة إلى أهلي لو جاز ذلك، فما زال يضاحكني.
أخبرني الصّوليّ قال: حدّثنا الحسن قال:
سمعت عبد اللّه بن محمد النّباجيّ يقول: سمعت عمارة يقول: ما هجيت بشيء أشدّ علي من بيت فروة:
و ابن المراغة جاحر من خوفنا *** بالوشم منزلة الذّليل الصّاغر
أخبرني محمد بن يحيى قال: حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدّثني النّباجيّ قال:
لمّا قال عمارة يمدح خالدا:
تأبى خلائق خالد و فعاله *** إلاّ تجنّب كلّ أمر عائب
فإذا حضرت الباب عند غدائه *** أذن الغداء لنا برغم الحاجب
لقيه خالد فقال له: أوجبت و اللّه عليّ حقّا ما حييت.
قال العنزيّ: و سمعت سلم بن خالد يقول: قلت لعمارة: ما أجود شعرك؟ قال: ما هجوت به الأشراف. فقلت: و من هم؟ قال: بنو أسد، و هل هاجاني أشرف(3)، من بني أسد؟ (4) قال: العنزيّ: و حدّثني أبو الأشهب الأسديّ من ولد بشر بن أبي خازم قال:
لمّا أنشد فروة بن حميصة قول عمارة فيه:
ما في السّويّة أن تجرّ عليهم *** و تكون يوم الرّوع أوّل صادر
قال: و اللّه ما قتلني إلا هذا البيت.
/فلمّا تكاثرت عليه الخيل يوم قتل قيل له: انج بنفسك، قال: كلاّ و اللّه، لا حقّقت قول عمارة، فصبر حتى قتل.
و كان فروة من أحسن النّاس وجها و شعرا و قدّا، لو كان امرأة لانتحرت عليه بنو أسد:
ص: 356
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ، قال: حدّثني العنزيّ، قال:
حدّثني عليّ بن مسلم قال: أنشدت يعقوب بن السّكيت قصيدة عمارة التي ردّ فيها على رجاء بن هارون أخي بني تيم اللات بن ثعلبة التي أوّلها:
حيّ الدّيار كأنّها أسطار *** بالوحي يدرس صحفها الأخبار
لعب البلى بجديدها و تنفّست *** عرصاتها الأرواح و الأمطار
قال أبو عليّ: و هذا البيت الذي أخطأ فيه عمارة فقال: الأرياح، فردّه عليه أبو حاتم السّجستانيّ و هو يتغيّظ - فلما بلغ إلى قوله:
و جموع أسعد إذ تعضّ(1) رءوسهم *** بيض يطير لوقعهنّ شرار
حتى إذا عزموا الفرار و أسلموا *** بيضا حواصن ما بهنّ قرار
لحقت حفيظتنا بهنّ و لم نزل *** دون النّساء إذا فزعن نغار
قال ابن السّكّيت: للّه درّه، ما سمعت هجاء قط أكرم من هذا.
أخبرني محمد بن يحيى قال:
وفد عمارة على المتوكل، فعمل فيه شعرا، فلم يأت بشيء، و لم يقارب، و كان عمارة قد اختلّ و انقطع في آخر عمره، فصار إلى إبراهيم بن سعدان/المؤدّب، و كان قد روى عنه شعره القديم كله، فقال له: أحبّ أن تخرج إليّ أشعاري كلها لأنقل ألفاظها(2) إلى مدح الخليفة، فقال: لا و اللّه أو تقاسمني جائزتك، فحلف له على ذلك، فأخرج إليه شعره، و قلب قصيدة إلى/المتوكل، و أخذ بها منه عشرة آلاف درهم، و أعطى إبراهيم بن سعدان نصفها، و اللّه أعلم.
تفرّق أهلي من مقيم و ظاعن *** فللّه درّي أيّ أهلي أتبع
أقام الّذين لا أبالي فراقهم *** و شطّ الذين بينهم أتوقّع(3)
الشعر للمتلمس، و الغناء لمتيم خفيف ثقيل بالوسطى.
ص: 357
19 - أخبار المتلمس و نسبه(1)
المتلمس لقب غلب عليه ببيت قاله و هو:
فهذا أوان العرض جنّ ذبابه *** زنابيره و الأزرق المتلمّس(2)
و اسمه جرير بن عبد المسيح بن عبد اللّه بن دوفن بن حرب بن وهب بن جليّ بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة ابن نزار.
قال ابن حبيب فيما أخبرنا به عبد اللّه بن مالك النحوي عنه:
ضبيعات العرب ثلاث كلّها من ربيعة: ضبيعة بن ربيعة و هم هؤلاء، و يقال: ضبيعة أضجم، و ضبيعة بن قيس ابن ثعلبة، و ضبيعة بن عجل بن لجيم.
قال: و كان العز و الشرف و الرئاسة على ربيعة في ضبيعة أضجم، و كان سيدها الحارث بن الأضجم، و به سمّيت ضبيعة أضجم، و كان يقال للحارث حارث الخير بن عبد اللّه بن دوفن بن حرب، و إنما لقّب بذلك لأنه أصابته لقوة(3)، فصار أضجم، و لقّب بذلك، و لقّبت به قبيلته.
ثم انتقلت الرّئاسة عن بني ضبيعة فصارت في عنزة، و هو عامر بن أسد بن ربيعة بن نزار، و كان يلي ذلك فيهم القدار أحد بني الحارث بن الدّول بن صباح بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة.
/ثم انتقلت الرئاسة عنهم، فصارت في عبد القيس فكان يليها فيهم الأفكل و هو عمرو.
هنا انقطع ما ذكره الأصفهاني رحمه اللّه(4).
تم الكتاب و الحمد للّه
ص: 358
و قد استعنا بالكتب الآتية(1) في تصحيح هذا الكتاب نذكرها مرتبة حسب الحروف الهجائية:
1 - أخبار أبي نواس طبع مصر.
2 - الاشتقاق لابن دريد.
3 - الأمالي و النوادر لأبي علي القالي.
4 - الأنساب للسمعاني.
5 - بدائع الزهور لابن إياس.
6 - بغية الوعاة للسيوطي.
7 - التاج للجاحظ.
8 - تاريخ ابن جرير الطبري.
9 - تقريب التهذيب في أسماء الرجال للحافظ بن حجر العسقلاني.
10 - تهذيب التهذيب في أسماء الرجال له أيضا.
11 - الحماسة الصغرى لأبي تمام المعروفة بالوحشيات.
12 - خزانة الأدب للبغدادي.
13 - الخصائص لابن جني.
14 - خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال لصفيّ الدين الخزرجي.
ص: 359
15 - ديوان أبي تمام.
16 - ديوان جرير.
17 - ديوان الحماسة لأبي تمام الطائي.
18 - ديوان عمر بن أبي ربيعة.
19 - ديوان الفرزدق.
20 - ديوان النابغة الذبياني.
21 - زهر الآداب للحصري.
22 - سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب للشيخ محمد أمين البغدادي.
23 - شرح الأشعار الستة للأعلم الشنتمري.
24 - شرح ديوان الحماسة للتبريزي.
25 - شفاء الغليل للشهاب الخفاجي.
26 - صبح الأعشى للقلقشندي.
27 - طبقات النحاة البصريين لأبي سعيد السيرافي.
28 - العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين.
29 - العقد الفريد لابن عبد ربه.
30 - العمدة لابن رشيق القيرواني.
31 - فهرست ابن النديم.
ص: 360
32 - الكامل لابن الأثير.
33 - الكامل للمبرد.
34 - كتاب البخلاء للجاحظ.
35 - كتاب الحيوان للجاحظ.
36 - كتاب سيبويه.
37 - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي.
38 - لطائف المعارف لأبي منصور الثعالبي.
39 - ما يعوّل عليه في المضاف و المضاف إليه للمحبّي.
40 - المثل السائر لابن الأثير الجزري.
41 - مجمع الأمثال للميداني.
42 - المحاسن و المساوي للبيهقي.
43 - المخصص لابن سيده.
44 - مسالك الأبصار لابن فضل اللّه العمري.
45 - المسالك و الممالك لابن خرداذبه.
46 - المشتبه في أسماء الرجال للحافظ الذهبي.
47 - المعارف لابن قتيبة.
48 - معاهد التنصيص لعبد الرحيم العباسي.
49 - معجم الأدباء لياقوت.
50 - معجم البلدان لياقوت.
51 - معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري.
52 - المعرّب للجواليقي.
53 - المغني في أسماء الرجال للشيخ محمد طاهر الهندي المطبوع بهامش تقريب التهذيب.
54 - مفردات ابن البيطار.
55 - الملل و النحل للشهرستاني.
56 - الموشح لأبي عبيد اللّه المرزباني.
ص: 361
57 - نفح الطيب للمقرّي.
58 - النهاية في غريب الحديث لابن الأثير.
59 - نهاية الأرب للنويري.
60 - وفيات الأعيان لابن خلكان.
ص: 362
الموضوع الصفحة
خبر عبد اللّه بن أبي العلاء... 189
نسب أمية بن أبي عائذ و أخباره... 192
أخبار عبد اللّه بن أبي معقل و نسبه... 195
ذكر نسب القطامي و أخباره... 200
خبر وقعة ذي قار... 224
أخبار القحيف و نسبه... 243
أخبار الفند الزماني و نسبه... 249
أخبار عبد اللّه بن دحمان... 252
أخبار المتنخل و نسبه... 254
أخبار أبي صخر الهذلي و نسبه... 260
أخبار يحيى بن طالب... 277
أخبار عروة بن حزام... 283
أخبار القتال و نسبه... 299
أخبار أبي العيال و نسبه... 318
نسب الراعي و أخباره... 323
أخبار عبد اللّه بن مصعب و نسبه... 344
أخبار المتلمس و نسبه... 358
فهرس الموضوعات... 363
ص: 363