الأغاني المجلد 23

هویة الکتاب

الأغاني

المؤلفين الآخرين

مدقق لغوي ومترجم:

مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربي

المجلدات : 25ج

لسان: العربية

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374

إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة التراجم

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

1 - أخبار نصيب الأصغر

نشأته:

نصيب مولى المهديّ؛ عبد نشأ باليمامة، و اشترى للمهديّ في حياة المنصور، فلما سمع شعره قال: و اللّه ما هو بدون نصيب مولى بني مروان، فأعتقه، و زوّجه أمة له يقال لها: جعفرة. و كناه أبا الحجناء، و أقطعه ضيعة بالسواد، و عمّر بعده.

يمدح الرشيد:

و هذه القصيدة يمدح بها هارون الرشيد، و هي من جيّد شعره و فيها يقول:

خليليّ إني ما يزال يشوقني *** قطين الحمى و الظاعن المتحمّل

فأقسمت لا أنسى ليالي منعج *** و لا مأسل إذ منزل الحي مأسل(1)

أ من أجل آيات و رسم كأنه *** بقية وحي أو رداء مسلسل(2)

جرى الدمع من عينيك حتى كأنه *** تحدّر درّ أو جمان مفصّل

فيا أيّها الزنجيّ مالك و الصّبا *** أفق عن طلاب البيض إن كنت تعقل

فمثلك من أحبوشة الزّنج قطّعت *** وسائل أسباب بها يتوسّل(3)

قصدنا أمير المؤمنين و دونه *** مهامه موماة من الأرض مجهل

على أرحبيّات طوى السير فانطوت *** شمائلها مما تحلّ و ترحل(4)

إلى ملك صلت الجبين كأنه *** صفيحة مسنون جلا عنه صيقل(5)

/إذا انبلج البابان و الستر دونه *** بدا مثل ما يبدو الأغرّ المحجّل

شريكان فينا منه عين بصيرة *** كلوء و قلب حافظ ليس يغفل

/فما فات عينيه وعاه بقلبه *** فآخر ما يرعى سواء و أوّل

ص: 5


1- منعج: واد يدفع في بطن فلج، حدثت به واقعة من أيام العرب. مأسل: دارة من دارات العرب و ذكرت في شعر لبيد.
2- مسلسل: رديء النسج كمهلهل. و في هج: كتاب مسلسل.
3- أحبوشة: جماعة الناس ليسوا من قبيلة كالحباشة.
4- أرحبيات: نجائب منسوبة إلى أرحب، فحل من فحولهم.
5- صلت: واضح.

و ما نازعت فينا أمورك هفوة *** و لا خطلة في الرأي و الرأي يخطل

إذا اشتبهت أعناقه بيّنت له *** معارف في أعجازه و هو مقبل

لئن نال عبد اللّه قبل خلافة *** لأنت من العهد الذي نلت أفضل

و ما زادك العهد الذي نلت بسطة *** و لكن بتقوى اللّه أنت مسربل(1)

ورثت رسول اللّه عضوا و مفصلا *** و ذا من رسول اللّه عضو و مفصل

إذا ما دهتنا من زمان ملمّة *** فليس لنا إلا عليك المعوّل

على ثقة منا تحنّ قلوبنا *** إليك كما كنّا أباك نؤمّل

و هي قصيدة طويلة، هذا مختار من جميعها.

يبذر في مال المهدي فيوثقه بالحديد:

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد. قال:

حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك، قال: حدّثني أبي، قال:

وجّه المهديّ نصيبا الشاعر مولاه إلى اليمن في شراء إبل مهريّة، و وجّه معه رجلا من الشيعة، و كتب معه إلى عامله على اليمن بعشرين ألف دينار، قال: فمدّ أبو الحجناء يده في الدنانير ينفقها في الأكل و الشرب، و شراء الجواري و التزويج، فكتب الشيعيّ بخبره إلى المهديّ، فكتب المهديّ في حمله موثقا في الحديد.

يستشفع بشعره إلى المهدي:

فلمّا دخل على المهديّ أنشده شعره، و قال:

تأوّبني ثقل من الهمّ موجع *** فأرّق عيني و الخليّون هجّع

هموم توالت لو أطاف يسيرها *** بسلمى لظلّت شمّها تتصدّع

و لكنّها نيطت فناء بحملها *** جهير المنايا حائن النفس مجزع(2)

و عادت بلاد اللّه ظلماء حندسا *** فخلت دجى ظلمائها لا تقشّع

و هي قصيدة طويلة يقول فيها:

إليك أمير المؤمنين و لم أجد *** سواك مجيرا منك يدنى و يمنع

تلمّست هل من شافع لي فلم أجد *** سوى رحمة أعطاكها اللّه تشفع

لئن جلّت الأجرام مني و أفظعت *** لعفوك عن جرمي أجلّ و أوسع

لئن لم تسعني يا ابن عمّ محمد *** لما عجزت عني وسائل أربع

ص: 6


1- في جميع النسخ: «عهد اللّه» و الصواب «عبد اللّه».
2- تراءى له الموت عيانا.

طبعت عليها صبغة ثم لم تزل *** على صالح الأخلاق و الدين تطبع(1)

تغابيك عن ذي الذنب ترجو صلاحه *** و أنت ترى ما كان يأتي و يصنع(2)

و عفوك عمّن لو تكون جريمة *** لطارت به في الجوّ نكباء زعزع(3)

و أنّك لا تنفكّ تنعش عاثرا *** و لم تعترضه حين يكبو و يخمع(4)

و حلمك عن ذي الجهل من بعد ما جرى *** به عنق من طائش الجهل أشنع(5)

ففيهنّ لي إمّا شفعن منافع *** و في الأربع الأولى إليهنّ أفزع

/مناصحتي بالفعل إن كنت نائيا *** إذا كان دان منك بالقول يخدع

/و ثانية ظنّي بك الخير غائبا *** و إن قلت عبد ظاهر الغشّ مسبع(6)

و ثالثة أني على ما هويته *** و إن كثّر الأعداء فيّ و شنّعوا

و رابعة أنّي إليك يسوقني *** ولائي فمولاك الذي لا يضيّع

و إني لمولاك الذي إن جفوته *** أتى مستكينا راهبا يتضرّع

و إني لمولاك الضعيف فأعفني *** فإني لعفو منك أهل و موضع

المهدي يقبل الشفاعة و يجيزه و يزوجه:

فقطع المهديّ عليه الإنشاد، ثم قال له: و من أعتقك يا ابن السوداء! فأومأ بيده إلى الهادي، و قال: الأمير موسى يا أمير المؤمنين، فقال المهديّ لموسى: أعتقته يا بنيّ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فأمضى المهديّ ذلك و أمر بحديده، ففكّ عنه، و خلع عليه عدّة من الخلع الوشي و الخزّ و السواد و البياض، و وصله بألفي دينار، و أمر له بجارية يقال لها: جعفرة جميلة فائقة من روقة(7) الرقيق.

فقال له سالم قيّم الرقيق: لا أدفعها إليك أو تعطيني ألف درهم، فقال قصيدته:

أ أذن الحيّ فانصاعوا بترحال *** فهاج بينهم شوقي و بلبالي(8)

و قام بها بين يدي المهديّ فلما قال:

ما زلت تبذل لي الأموال مجتهدا *** حتى لأصبحت ذا أهل و ذا مال

زوّجتني يا ابن خير الناس جارية *** ما كان أمثالها يهدى لأمثالي

ص: 7


1- في م: «خلقة» بدل «صبغة».
2- في ف: «ذي اللب» بدل «الذنب».
3- في س، ب، «جزيته»: بدل «جريمة».
4- يخمع: يعرج في المشي، و هو كناية عن التعثر.
5- العنق نوع من السير.
6- مسبع: خبيث.
7- روقة الرقيق: جمع رائقة، أي حسان الرقيق.
8- في هج: قد آذن الحي. بدل «أ آذن الحي».

زوّجتني بضّة بيضاء ناعمة *** كأنّها درّة في كفّ لآل

/حتى توهّمت أن اللّه عجّلها *** يا ابن الخلائف لي من خير أعمالي

فسألني سالم ألفا فقلت له *** أنّى لي الألف يا قبّحت من سال!

(1 أراد: من سائل، كما قالوا: شاكي السلاح و شائك:(1)

هيهات ألفك إلا أن أجيء بها *** من فضل مولى لطيف المنّ مفضال

فأمر له المهديّ بألف دينار و لسالم بألف درهم.

قال ابن أبي سعد و حدّثني غير محمد بن عبد اللّه: أنه حبس باليمن مدة طويلة، ثم أشخص إلى المهديّ، فقال و هو في الحبس، و دخلت إليه ابنته حجناء، فلما رأت قيوده بكت، فقال:

بكاؤه حين رأى بنته:

لقد أصبحت حجناء تبكي لوالد *** بدرّة عين قلّ عنه غناؤها

أ حجناء صبرا، كلّ نفس رهينة *** بموت و مكتوب عليها بلاؤها

أ حجناء أسباب المنايا بمرصد *** فإلاّ يعاجل غدوها فمساؤها

أ حجناء إن أفلت من السجن تلقني *** حتوف منايا لا يردّ قضاؤها

أ حجناء إن أضحى أبوك و دلوه *** تعرّت عرا منها و رثّ رشاؤها(2)

لقد كان يدلى في رجال كثيرة *** فيمتح ملأى و هي صفر دلاؤها

أ حجناء إن يصبح أبوك و نفسه *** قليل تمنّيها قصير عزاؤها(3)

لقد كان في دنيا تفيّأ ظلّها *** عليه و مجلوب إليه بهاؤها

قال ابن أبي سعد: و لما دخل نصيب على المهديّ مقيّدا رفده ثمامة بن الوليد العبسيّ/عنده و استعطفه له، و سوّغ عذره عنده، و لم يزل يرقق به، حتى أمر بإطلاقه، و كان نصيب في متقدّم الأيام منقطعا إلى أخيه شيبة فقال فيه:

يمدح ثمامة العبسي:

أ ثمام إنك قد فككت ثماما *** حلقا برين من النّصيب عظاما

حلقا توسّطها العمود فلزّها *** لو لا ثمامة و الإله لداما(4)

اللّه أنقذني به من هوّة *** تيهاء مهلكة تكون رجاما

ص: 8


1- تكملة من هج.
2- في م، أ، ف: «يصبح» بدل «أضحى».
3- في ف: «الضمير تمنيها طويل عناؤها».
4- لزها: ألصقها، و ليس من الأدب الجمع بين اللّه و ثمامة و تقديم ثمامة على اللّه.

فلأشكرنّك يا ثمامة ما جرت *** فرق السحاب كنهورا و ركاما(1)

و لأشكرنّك يا ثمامة ما دعت *** ورق الحمام على الغصون حماما

و خلفت شيبة في المقام و لا أرى *** كمقام شيبة في الرجال مقاما

أغنى إذا التمس الرجال غناءه *** في كلّ نازلة تكون غراما

و أعمّ منفعة و أكرم حائطا *** تهدي إليه تحيّة و سلاما(2)

لا يبعدنّ ابن الوليد فإنه *** قد نال من كل الأمور جساما

لو من سوى رهط النبيّ خليفة *** يدعى لكان خليفة و إماما

يبكي شيبة أخا ثمامة:

قال ابن أبي سعد: و دخل نصيب على ثمامة بعد وفاة أخيه شيبة، و هو يفرّق خيله على الناس، فأمر له بفرس منها؛ فأبى أن يقبله؛ و بكى، ثم قال:

/

يا شيبة الخير إمّا كنت لي شجنا *** آليت بعدك لا أبكى على شجن

أضحت جياد أبي القعقاع مقسمة *** في الأقربين بلا منّ و لا ثمن(3)

ورّثتهم فتعزّوا عنك إذ ورثوا *** و ما ورثتك غير الهم و الحزن

فجعل ثمامة و من عنده حاضر من أهله و إخوانه يبكون.

و شيبة بن الوليد هذا و أخوه من وجوه قواد المهديّ.

اليزيدي يهجو شيبة:

و في شيبة يقول أبو محمد اليزيديّ يهجوه، و كان عارضه في شيء من النحو بحضرة المهديّ:

عش بجدّ فلن يضرّك نوك *** إنما عيش من ترى بالجدود

عش بجدّ و كن هبنّقة القي *** سيّ جهلا أو شيبة بن الوليد

أخبرنا بذلك محمد بن العباس اليزيديّ عن عمه عن أبيه.

يهجو من لا يجيزه:

أخبرني عمي قال: حدّثنا القاسم بن محمد الأنباريّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن بشر البجليّ عن النضر بن طاهر قال:

أتى نصيب مولى المهديّ عبد اللّه بن محمد بن الأشعث، و هو يتقلّد صنعاء للمهديّ، فمدحه، فلم يثبه، و استكساه بردا فلم يكسه، فقال يهجوه:

ص: 9


1- كذا في ف، و في س، ب «فوق» بدل «فرق». كنهورا: قطعا من السحاب، و في س، ب: «جهاما» بدل «ركاما» و هو سحاب لا يمطر، و ليس هذا مناسبا للمدح. و الركام: المتراكم المجتمع.
2- في هج: «أكثر» بدل «أكرم».
3- كذا في ف. في س، ب: ابن قعقاع. بدل «أبي القعقاع» كذا في ف و في س، ب: «بلا حمد». بدل «بلا من».

سأكسوك من صنعاء ما قد كسوتني *** مقطّعة تبقى على قدم الدهر(1)

إذا طويت كانت فضوحك طيّها *** و إن نشرت زادتك خزيا على النّشر(2)

/أغرّك أن بيّضت بيت حمامة *** و قلت: أنا شبعان منتفج الخصر(3)

لقد كنت في سلح سلحت مخافة ال *** حروريّة الشّارين داع إلى الضرّ(4)

و لكنه يأبى بك البهر كلّما *** جريت مع الجاري و ضيق من الصدر(5)الفدم: الغليظ الجافي الأحمق، و في س، ب: «قدما»، الصحيف.(6)

مساجلة حول فرس:

/قال النضر: و كان النّصيب ملعونا، هجّاء، فأهدى للربيع بن عبد اللّه بن الربيع الحارثي فرسا فقبله، ثم ندم خوفا من ثقل الثواب، فجعل يعيب الفرس، و يذكر بطأه و عجزه، فبلغ ذلك النّصيب، فقال:

أعبت جوادنا و رغبت عنه *** و ما فيه لعمرك من معاب

و ما بجوادنا عجز و لكن *** أظنّك قد عجزت عن الثواب

فأجابه الربيع فقال:

رويدك لا تكن عجلا إلينا *** أتاك بما يسوؤك من جواب

وجدت جوادكم فدما بطيئا *** فما لكم لدينا من ثواب(6)

فلما كان بعد أيام رأى النّصيب الفرس تحت الربيع فقال له:

أخذت مشهّرا في كل أرض *** فعجّل يا ربيع مشهرات(7)

يمانية تخيّرها يمان *** منمنمة البيوت مقطّعات

/و جارية أضلّت والديها *** مولّدة و بيضا وافيات

فعجّلها و أنفذها إلينا *** و دعنا من بنات التّرّهات(8)

فأجابه الربيع فقال:

بعثت بمقرف حطم إلينا *** بطيء الحضر ثم تقول: هات(9)

ص: 10


1- ب، س: «حرمتني»، و المثبت من ف.
2- كذا، في ف و معناها «الفضيحة» و في س، ب: «رضوحك».
3- منتفج: مرتفع، و البيت كله عن دعته و سمعته و اغتراره بحالته.
4- الحرورية: طائفة من الخوارج في اليمن، كانت تتبع نجدة بن عويمر، و كان في البيت تامة، وداع حبر مبتدأ مقدر.
5- البهر: تتابع النفس من شدة الجري و انقطاعه من الإعياء.
6- كذا في ف و في س، ب: «خريت مع الخاري». بدل «جريت مع الجاري».
7- كذا في ف و في س، ب: «أجدت» بدل «أخذت».
8- الترهات: الأباطيل و مفردها ترهة.
9- كذا في ف و المقرف ما أمه عربية لا أبوه، و في س، ب: «بمقرب» بدل «بمقرب». حطم: متكسر، و الحطم داء في قوائم الدابة. و الحضر: شدة عدو الفرس.

فقال النّصيب:

في سبيل اللّه أودى فرسي *** ثم علّلت بأبيات هزج

كنت أرجو من ربيع فرجا *** فإذا ما عنده لي من فرج

بيض الدراهم بدل بيض الغواني:

قال: ثم خرج الرّبيع إلى مكة، و قد كان وعد النّصيب جارية، فلم يعطه، و أمر ابنه أن يدفع إليه ألفي درهم ففعل، فقال النّصيب:

ألا أبلغا عنّي الربيع رسالة *** ربيع بني عبد المدان الأكارم

أ عزّت عليك البيض لما أرغتها *** فرغت إلى إعداد بيض الدراهم(1)

أ لم تر أني غير مستطرف الغنى *** حديث و أنّي من ذؤابة هاشم؟(2)

و أنك لم تهبط من الأرض تلعة *** و لا نجوة إلا بعهدي و خاتمي

قال: ثم قدم الربيع فأهدى إلى دفافة بن عبد العزيز العبسيّ طبق تمر، فقال فيه دفافة:

شعر حول طبق تمر:

بعثت بتمر في طبيق كأنما *** بعثت بياقوت توقّد كالجمر

فلو أن ما تهدي سنيّا قبلته *** و لكنما أهديت مثلك في القدر

كأنّ الذي أهديت من بعد شقّة *** إلينا من الملقى على ضفّة الجسر

فأجابه الربيع فقال:

سل الناس إما كنت لا بدّ طالبا *** إليهم بألا يحملوك على القدر

فإنك إن تحمل على القدر لا تنل *** يد الدهر من برّ فتيلا و لا بحر

/لقد كنت منّي في غدير و روضة *** و في عسل جمّ و ما شئت من خمر(3)

و ما كنت منّانا و لكن كفرتني *** و أظهرت لي ذمّا فأظهرت من عذري(4)

لعمري لقد أعطيت ما لست أهله *** و لا أهل ما يلقى على ضفّة الجسر

فبلغت أبياتهما نصيبا، فشمت بالربيع، و قال فيه هذه القصيدة:

رضيتكما حرصا و منعا و لم يكن *** يهيجكما إلا الحقير من الأمر

متى يجتمع يوما حريص و مانع *** فليس إلى حمد سبيل و لا أجر

ص: 11


1- أرغتها: طلبتها، رغت: ملت وحدت.
2- كذا في ف، م، أ، و في س: ب: «مستطرق» بدل «مستطرف».
3- كذا في ف و في س، ب: «تمر» بدل «حمر».
4- كذا في ف، و في س، ب: «زمنا» بدل «ذما».

أ حار بن كعب إنّ عبسا تغلغلت *** إلى السير من نجران في طلب التّمر

فكيف ترى عبسا و عبس حريصة *** إذا طمعت في التّمر من ذلك العبر(1)

لقد كنتما في التّمر للّه أنتما *** شبيهين بالملقى على ضفّة الجسر

يرتجل مطولة في مدح الفضل بن الربيع:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد النحويّ، قال:

حدّثت من غير وجه:

/أنّ النّصيب دخل على الفصل بن يحيى بن خالد مسلّما، فوجد عنده جماعة من الشعراء قد امتدحوه، فهم ينشدونه، و يأمر لهم بالجوائز، و لم يكن امتدحه، و لا أعدّ له شيئا. فلما فرغوا - و كان يروى(2) قولا في نفسه - استأذن في الإنشاد، ثم أنشد قصيدته التي أولها قوله:

يمدح الفضل بن يحيى:

طرقتك ميّة و المزار شطيب *** و تثيبك الهجران و هي قريب(3)

للّه مية خلّة لو أنّها *** تجزي الوداد بودّها و تثيب

و كأنّ ميّة حين أتلع جيدها *** رشا أغنّ من الظباء ربيب

نصفان ما تحت المؤزّر عاتك *** دعص أغرّ و فوق ذاك قضيب(4)

ما للمنازل لا تكاد تجيب *** أني يجيبك جندل و جبوب(5)

جادتك من سبل الثريا ديمة *** ريّا و من نوء السّماك ذنوب(6)

فلقد عهدت بك الحلال بغبطة *** و الدهر غضّ و الجناب خصيب

إذ للشباب عليّ من ورق الصّبا *** ظلّ و إذ غصن الشباب رطيب

طرب الفؤاد و لات حين تطرّب *** إن الموكّل بالصّبا لطروب

و تقول ميّة ما لمثلك و الصّبا *** و اللون أسود حالك غربيب؟

شاب الغراب و ما أراك تشيب *** و طلابك البيض الحسان عجيب

أ علاقة أسبابهنّ و إنّما *** أفنان رأسك فلفل و زبيب(7)

ص: 12


1- العبر من الشيء: الكثير.
2- كذا في النسخ و لعلها: يزور قولا في نفسه، أي يعده و يهيئه.
3- كذا في ف، و في س، ب، هج: «و تنئك بالهجران» و في «المهذب»: «و نأنك بالهجران».
4- العاتك: الخالص من الألوان المحمر من الطيب.
5- جبوب: وجه الأرض الصلب.
6- كذا في ف و في س، ب: «ريان من» بدل «ريامن». و في س، ب: «السماء» بدل: «السماك».
7- الأسباب: جمع سبب، و المراد: كيف تهيم بذرات الشعور المرسلة و أنت جعد الشعر!.

/

لا تهزئي مني فربّت عائب *** ما لا يعيب الناس و هو معيب

و لقد يصاحبني الكرام و طالما *** يسمو إليّ السيّد المحجوب

و أجرّ من حلل الملوك طرائفا *** منها عليّ عصائب و سبيب(1)

و أسالب الحسناء فضل إزارها *** فأصورها و إزارها مسلوب(2)

و أقول منقوح البديّ كأنّه *** برد تنافسه التّجار قشيب(3)

/يقول فيها في مدح الفضل:

و البرمكيّ إذا تقارب سنّه *** أو باعدته السنّ فهو نجيب(4)

خرق العطاء إذا استهلّ عطاؤه *** لا متبع منّا و لا محسوب

يا آل برمك ما رأينا مثلكم *** ما منكم إلا أغرّ وهوب

و إذا بدا الفضل بن يحيى هبته *** لجلاله إنّ الجليل مهيب(5)

قاد الجياد إلى العدا و كأنها *** رجل الجراد تسوقهنّ جنوب

قبّا تبارى في الأعنّة شزّبا *** تدع الحزون كأنهنّ سهوب(6)

من كل مضطرب العنان كأنه *** ذئب يبادره الفريسة ذيب

تهوي بكلّ مغاور عاداته *** صدق اللقاء فما له تكذيب

/حتى صبحن الطالبيّ بعارض *** فيه المنايا تغتدي و تئوب

خاف ابن عبد اللّه ما خوّفته *** فجفاك ثم أتاك و هو منيب

و لقد رآك الموت إلا أنّه *** بالظنّ يخطئ مرة و يصيب

فرمى إليك بنفسه فنجا بها *** أجل إليه ينتهى مكتوب

فكسوته ثوب الأمان و إنّه *** لا حبله واه و لا مقضوب(7)

شمنا إليك مخيلة لا خلّبا *** في الشّيم إذ بعض البروق خلوب

إنّا على ثقة و ظنّ صادق *** ممّا نؤمّله فليس نخيب

يجيزه الفضل فيشكره شعرا:

قال: فاستحسنها الفضل، و أمر له بثلاثين ألف درهم، فقبضها، و وثب قائما، و هو يقول:

ص: 13


1- سبيب: جمع سببية و هي شقة رقيقة من الثياب من أي نوع كان، و قيل من الكتان خاصة.
2- أصورها: أميلها.
3- البدي: البديهة. و منقوح الكلام، أي مهذبة و محرره. و في هج: مقترح الكلام.
4- كذا في ف و في س، ب: «و إن» بدل «إذا».
5- كذا في ف و في س، ب: «هيبة». بدل «هبته» و في ب، س، «الجلال» بدل «الجليل».
6- قبا: ضوامر، مفرده أقب أو قباء، شزبا: خشنة يابسة، جمع شازب.
7- في ف و هج: فكسوته ثوب الأمان بذمة: لا حبلها واه...

إني سأمتدح الفضل الذي حنيت *** منّا عليه قلوب البرّ و الضّلع

جاد الربيع الذي كنا نؤمّله *** فكلنا بربيع الفضل مرتبع

كانت تطول بنا في الأرض نجعتنا *** فاليوم عند أبي العباس ننتجع

إن ضاق مذهبنا أو حلّ ساحتنا *** ضنك و أزم فعند الفضل متّسع(1)

ما سلّم اللّه نفس الفضل من تلف *** فما أبالي أقام الناس أم رجعوا

إن يمنعوا ما حوت منا أكفّهم *** فلن يضرّ أبا الحجناء ما منعوا

أو حلّئونا و ذادوا عن حياضهم *** يوم الشروع ففي غدرانك الشّرع(2)

يا ممسكا بعرا الدنيا إذا خشيت *** منها الزلازل و الأمر الذي يقع

/قد ضرّستك الليالي و هي خالية *** و أحكمتك النهى و الأزلم الجذع(3)

فغادرا منك حزنا عن معاسرة *** سهل الجناب يسيرا حين يتّبع(4)

لم يفتلتك نقيرا عن مخادعة *** دهي الرجال و للسؤال تنخدع(5)

فأنت مصطلح بالملك تحمله *** كما أبوك بثقل الملك مضطلع(6)

يمدح زبيده في موسم الحج:

قال ابن أبي سعد: لما حجّت أم جعفر زبيدة لقيها النّصيب، فترجّل عن فرسه و أنشأ يقول:

سيستبشر البيت الحرام و زمزم *** بأمّ وليّ العهد زين المواسم

/و يعلم من وافى المحصّب أنها *** ستحمل ثقل الغرم عن كل غارم(7)

بنو هاشم زين البرية كلّها *** و أمّ وليّ العهد زين لهاشم

سليلة أملاك تفرّعت الذّرى *** كرام لأبناء الملوك الأكارم

فو اللّه ما ندري: أفضل حديثها *** عليهم به تسمو أم المتقادم

يظنّ الذي أعطته منها رغيبة *** يقصّ عليه الناس أحلام نائم

فأمرت له بعشرة آلاف درهم و فرس، فأعطيه بلا سرج؛ فتلقّاها لما رحلت و قال:

ص: 14


1- أزم: شدة: من أزم العام يأزم: اشتد قحطه.
2- حلئونا: منعونا الشرب.
3- الأزلم الجذع: معناهما الدهر الكثير البلايا الذي لا يهرم.
4- في ب، س: «عن معشرة».
5- دهى الرجال: مصدر دهى كالدهاء، و هو جودة الرأي و البصر بالأمر.
6- كذا في ف و في ب، س: «المسك» بدل «الملك».
7- المحصب: موضع رمي الجمار بمنى.

لا بد للفرس من سرج و لجام:

لقد سادت زبيدة كلّ حيّ *** و ميت ما خلا الملك الهماما

تقى و سماحة و خلوص مجد *** إذا الأنساب أخلصت الكراما

/إذا نزلت منازلها قريش *** نزلت الأنف منها و السّناما

بلغت من المفاخر كلّ فخر *** و جاوزت الكلام فلا كلاما

و أعطيت اللّهى لكنّ طرفي *** يريد السّرج منكم و اللّجاما

فأمرت له بسرج و لجام.

الحجناء ابنته تنشد المهدي:

قال ابن أبي سعد: خرج المهدي يتنزه بعيسى باذ(1)، و قدم النّصيب، و معه ابنته حجناء، فدخل على المهديّ، و هي معه، فأنشدته قولها فيه:

ربّ عيش و لذة و نعيم *** و بهاء بمشرق الميدان

بسط اللّه فيه أبهى بساط *** من بهار و زاهر الحوذان(2)

ثم من ناضر من العشب الأخ *** ضر يزهو شقائق النّعمان(3)

مدّه اللّه بالتّحاسين حتى *** قصرت دون طوله العينان(4)

حقّقت حافتاه حيث تناهى *** بخيام في العين كالظّلمان

زيّنوا وسطها بطارمة مث *** ل الثريّا يحفّها النّسران(5)

ثم حشو الخيام بيض كأمثا *** ل المها في صرائم الكثبان(6)

/يتجاوبن في غناء شجيّ *** أسعداني يا نخلتي حلوان(7)

فبقصر السلام من سلّم اللّ *** ه و أبقى خليفة الرحمن

ص: 15


1- عيسى باذ: محلة كانت بشرق بغداد و معنى باذ عمارة: فكأن معناها عمارة عيسى هو عيسى بن المهدي.
2- بهار: نبت طيب الرائحة. الحوذان: بقلة من بقول الرياض لها نور أصفر طيب الرائحة أيضا.
3- كذا في ف، و في س، ب: «يزهى».
4- التحاسين: جمع تحسين: هو ما وضع للزينة.
5- الطارمة: بيت من خشب كالقبة، معرب.
6- صرائم الكثبان: جمع صريمة، و هي قطعة من الرمل.
7- كذا في ف، و في س، ب: «بتجارين» بدل «يتجاوبن»، و نخلتا حلوان: يطلق هذا الاسم على جملة، قرى و المراد هنا حلوان العراق، و هي في آخر السواد مما يلي بغداد شرقا. و هذا الشطر أول قصيدة لمطيع بن إياس الليثي من أهل فلسطين قال: أسعداني يا نخلتي حلوان و أبكياني من ريب هذا الزمان و اعلما أن ريبة لم يزل يفر ق بين الآلاف و الجيران

و لديه الغزلان بل هنّ أبهى *** عنده من شوادن الغزلان(1)

يا له منظرا و يوم سرور *** شهدت لذّتيه كلّ حصان

فأمر لها المهديّ بعشرة آلاف درهم، و له بمثلها؛

الحجناء تمدح العباسة بنت المهدي:

قال: ثم دخلت الحجناء على العبّاسة بنت المهدي، فأنشدتها تقول:

أتيناك يا عباسة الخير و الحيا *** و قد عجفت أدم المهاري و كلّت(2)

و ما تركت منا السّنون بقية *** سوى رمّة منا من الجهد رمّت

فقال لنا من ينصح الرأي نفسه *** و قد ولّت الأموال عنا فقلّت

عليك ابنة المهديّ عوذي ببابها *** فإن محلّ الخير في حيث حلّت

فأمرت لها بثلاثة آلاف درهم و كسوة و طيب، فقالت:

/

أغنيتني يا ابنة المهديّ أيّ غنى *** بأعجرين كثير فيهما الورق

- أي: اغنيتني على عقب ما أغناني أخوك. بأعجرين: بكيسين -:

من ضرب تسع و تسعين محكّكة *** مثل المصابيح في الظّلماء تأتلق

/أما الحسود فقد أمسى تغيّظه *** غمّا و كاد برجع الرّيق يختنق

و ذو الصداقة مسرور بنا فرح *** بادي البشارة ضاح وجهه شرق(3)

يمدح إسحاق بن الصباح:

و قال ابن أبي سعد:

كان إسحاق بن الصباح الأشعثي صديقا للنصيب، و قدم قدمة من الحجاز، فدخل على إسحاق؛ و هو يهب لجماعة وردوا عليه برّا و تمرا، فيحملونه على إبلهم و يمضون، فوهب لنصيب جارية حسناء يقال لها: مسرورة، فأردفها خلفه، و مضى و هو يقول:

إذا احتقبوا برّا فأنت حقيبتي *** من البشريّات الثقال الحقائب(4)

ظفرت بها من أشعثيّ مهذّب *** أغرّ طويل الباع جمّ المواهب

فدى لك يا إسحاق كلّ مبخّل *** ضجور إذا عضّت شداد النوائب

إذا ما بخيل القوم غيّب ماله *** فمالك عدّ حاضر غير غائب(5)

ص: 16


1- كذا في ف، و في س، ب: «شوارد» بدل «شوادن».
2- أدم: جمع أدماء، أي لونها مشرب بياضا أو سوادا.
3- كذا في ف و في س، ب: «لنا» بدل «بنا».
4- كذا في ف، و في س، ب: «الشرفيات» بدل «البشريات».
5- كذا في ف، و في س، ب: «المال» بدل «النوم» فمالك عد: أي كثير.

إذا اكتسب القوم الثّراء فإنّما *** ترى الحمد غنما من كريم المكاسب

و قال فيه أيضا:

فتى من بني الصّبّاح يهتزّ للنّدى *** كما اهتزّ مسنون الغرار عتيق

فتى لا يذمّ الضيف و الجار رفده *** و لا يجتويه صاحب و رفيق(1)

أغر لأبناء السبيل موارد *** إلى بيته تهديهم و طريق

/و إن عدّ أنساب الملوك وجدته *** إلى نسب يعلوهم و يفوق

فما في بني الصّبّاح إن بعد المدى *** على الناس إلا سابق و عريق

و إني لمن شاحنتم لمشاحن *** و إني لمن صادقتم لصديق

قال: و كان النّصيب إذا قدم على المهديّ استهداه القوّاد منه، و سألوه أن يأمره بزيارتهم، فكان فيمن استزاره خزيمة بن خازم، فوصله و حمله، و قال فيه:

يمدح خزيمة بن خازم:

وجدتك يا خزيمة أريحيّا *** بما تحوي و ذا حسب صميم

تميم كان خير بني معدّ *** و أنت اليوم خير بني تميم

سوى رهط النبيّ و هم أديم *** و أنت قددت من ذاك الأديم

و قال فيه أيضا:

يا أفضل الناس عودا عند معجمه *** إذا تفاضل يوما معجم العود

إني لواحد شعر قد عرفت به *** و ذا خزيمة أضحى واحد الجود

إن يعطك اليوم معروفا يعدك غدا *** فأنت في نائل منه و موعود(2)

و قد رأينا تميما غير مكرهة *** ألقت إليك جميعا بالمقاليد

فأنت أكرمها نفسا و أفضلها *** إنّ الصناديد أبناء الصناديد

شعره في جعد:

/قال: و كان في غزاة سمالو(3) مع المهديّ. فوقف به فرسه، و مرّ به جعد مولى عبد اللّه بن هشام بن عمرو، و بين يديه فرس يجنب(4) فقال له: قد ترى قيام فرسي تحتي، فاردد إليّ جنيبك حتى يتروّح فرسي ساعة، فسكت، و لم يجبه فقال فيه:

ص: 17


1- يجتويه: يكرهه.
2- كذا في ف و في س، ب: «على ثمة» بدل «يعدك غدا».
3- سمالو: من ثغور الشام قرب المصيصة و طرسوس، و أصلها بالصاد. و لما أنزل أهلها ببغداد سموا موضعهم بالسين.
4- فرس يجنب: يقاد إلى آخر.

/

أنادي بأعلى الصوت جعدا و قد يرى *** مكاني و لكن لا يجيب و يسمع

و لم يرني أهلا لحسن إجابة *** و لا سوئها إني إلى اللّه أرجع

فلو أنّني جازيت جعدا بفعله *** لقد لاح لي فيه من الشعر موضع

و لكنّني جافيت عنه لغيره *** بحسن الذي يأتي إليّ و يصنع

رأيتك لم تحفظ قرابة بيننا *** و ما زالت القربى لدى الناس تنفع

لا يريد شريكا:

قال: و سأل عبيد اللّه بن يحيى بن سليمان مركبا، فأعطاه إياه، و جعل معه شريكا له فيه، فقال:

لقد مدحت عبيدا إذ طمعت به *** و قد تملّقته لو ينفع الملق

فعاد يسأل ما أصبحت سائله *** فكلّنا سائل في الحرص متّفق

أ حين سار مديحي فيكم طرقا *** و حيث غنّت به الركبان و الرّفق

قطعت حبل رجاء كنت آمله *** فيما لديك فأضحى و هو منحذق(1)

قد كان أورق عودي من أبيك فقد *** لحيت عودي فجفّ العود و الورق

من نازع الكلب عرقا يرتجى شبعا *** كمصطل بحريق و هو يحترق(2)

الفضل بن يحيى يستقل ما أعطاه إياه:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزبير بن بكّار قال: كتب إليّ أبو محمد إسحاق بن أبي إبراهيم يقول:

أنشدت الفضل بن يحيى قول أبي الحجناء نصيب:

عند الملوك مضرّة و منافع *** و أرى البرامك لا تضرّ و تنفع

/إن العروق إذا استسرّ بها الثّرى *** أشر النبات بها و طاب المزرع(3)

فإذا نكرت من امرئ أعراقه *** و قديمه فانظر إلى ما يصنع

قال: فأعجبه الشعر، فقال: يا أبا محمد، كأني و اللّه لم أسمع هذا القول إلا الساعة، و ما له عندي عيب إلا أنّي لم أكافئه عليه. قال: قلت: و كيف ذلك أصلحك اللّه، و قد وهبت له ثلاثين ألف درهم! فقال: لا و اللّه ما ثلاثون ألف دينار بمكافأة له، فكيف ثلاثون ألف درهم!

ص: 18


1- منحذق: منقطع.
2- عرقا: عظما و في س، ب: «عرفا» و ما أثبتناه من ف.
3- أشر النبات: ازدهر.

جود الفضل جعل الناس كلهم شعراء:

اشارة

أخبرني أحمد بن عبد اللّه بن عمار قال: أخبرني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال:

كان أبي يستملح قول نصيب و قد رأى كثرة الشعراء على باب الفضل بن يحيى. فلما دخل الناس إليه قال له:

ما لقينا من جود فضل بن يحيى *** ترك الناس كلهم شعراء

و يقول: ما في الدنيا أحسن من هذا المعنى، و على أنه قد أخذ منهم مالا جليلا و لكن قلما سمعت بطبقته مثله.

صوت

طاف الخيال و لات حين تطرّب *** أن زار طيف موهنا من زينب(1)

طرقت فنفّرت الكرى عن نائم *** كانت وسادته ذراع الأرحبي(2)

/فبكى الشباب و عهده و زمانه *** بعد المشيب و ما بكاء الأشيب!

عروضه من الكامل، الشعر لأبي شراعة القيسي، و الغناء لدعامة البصريّ خفيف رمل بالبنصر من كتاب الهشاميّ.

ص: 19


1- في س، ب: «المطرب» بدل «تطرب».
2- الأرحبي: الجمل المنسوب إلى أرحب، و هي قبيلة من همدان.

2 - أخبار أبي شراعة و نسبه

اسمه و نسبه:

هو - فيما كتب به إلينا ابنه أبو الفيّاض سوّار بن أبي شراعة من أخباره و نسبه - أحمد بن محمد بن شراعة بن ثعلبة بن محمد بن عمير بن أبي نعيم بن خالد بن عبدة بن مالك بن مرة بن عبّاد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل:

شاعر بصريّ من شعراء الدولة العباسية جيّد الشعر جزله، ليس برقيق الطبع، و لا سهل اللّفظ، و هو كالبدويّ الشعر في مذهبه، و كان فصيحا يتعاطى الرسائل و الخطب مع شعره، و كانت به لوثة و هوج.

أمه و أبوه:

و أمه من بني تميم من بني العنبر، و ابنه أبو الفيّاض سوّار بن أبي شراعة أحد الشعراء الرواة، قدم علينا بمدينة السّلام بعد سنة ثلاثمائة، فكتب عنه أصحابنا قطعا(1) من الأخبار و اللّغة، و فاتني فلم ألقه، و كتب إليّ و إلى أبي - رحمه اللّه - بإجازة أخباره على يدي بعض إخواننا، فكانت أخبار أبيه من ذلك.

يهب نعله فتدمى إصبعه:

فمنها ما حكاه عنه أنه كان جوادا لا يليق(2) شيئا، و لا يسأل ما يقدر عليه إلا سمح به، و أنه وقف عليه سائل يوما فرمى إليه بنعله و انصرف حافيا، فعثر فدميت إصبعه فقال في ذلك:

ألا لا أبالى في العلا ما أصابني *** و إن نقبت نعلاي أو حفيت رجلي(3)

فلم تر عيني قطّ أحسن منظرا *** من النكب يدمى في المواساة و البذل(4)

و لست أبالي من تأوّب منزلي *** إذا بقيت عندي السراويل أو نعلي(5)

أخوه يقول إنه مجنون فينشد شعرا:

قال: و بلغه أن أخاه يقول: إن أخي مجنون، قد أفقرنا و نفسه، فقال:

أ أنبز مجنونا إذا جدت بالذي *** ملكت و إن دافعت عنه فعاقل

ص: 20


1- كذا في ف و في س، ب: «قطعات الأخبار».
2- لا يليق: لا يمسك.
3- في هج: «ما لقيته» لإ بدل «ما أصابني». و نقبت نعلاي: رقت أو ثقبت.
4- من النكب يدمى: و هو صدم الحجارة الرّجل، و في هج: «من الرجل تدمى».
5- تأوب منزلي: زارني ليلا.

فداموا على الزّور الذي قرفوا به *** و دمت على الإعطاء ما جاء سائل(1)

أبيت و تأبى لي رجال أشحّة *** على المجد تنميهم تميم و وائل(2)

قال: و قال أيضا في ذلك:

أ إن كنت في الفتيان آلوت سيدا *** كثير شحوب اللون مختلف العصب(3)

فما لك من مولاك إلا حفاظه *** و ما المرء إلا باللسان و بالقلب

هما الأصغران الذائدان عن الفتى *** مكارهه و الصاحبان على الخطب

فإلاّ أطق سعي الكرام فأنني *** أفكّ عن العاني و أصبر في الحرب

قصة لحن:

أخبرني عمي قال: أخبرني ميمون بن هارون قال: حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال:

كان عندي أبو شراعة بالبصرة، و أنا أتولاّها، و كان عندي عمير المغني المدني، و كان عمير بن مرة غطفانيا، و كان يغنّي صوتا يجيده، و اختاره عليه و هو:

أ تحسب ذات الخال راجية ربّا *** و قد صدعت قلبا يجنّ بها حبّا

/فاقترحه أبو شراعة على عمير، فقال: أعطني دراهم، حتى أقبل اقتراحك، فقال له أبو شراعة: أخذ المغني من الشاعر يدلّ على ضعف الشاعر، و لكني أعرضك لأبي إسحاق، فغنّاه إياه ثلاث مرات و قد شرب عليه ثلاثة أرطال، و قال:

عدوت إلى المريّ عدوة فاتك *** معنّ خليع للعواذل و العذر(4)

/فقال لشيء ما أرى قلت: حاجة *** مغلغلة بين المخنّق و النّحر(5)

فلما لواني يستثيب زجرته *** و قلت: اغترف إنّا كلانا على بحر(6)

أ ليس أبو إسحاق فيه غنى لنا *** فيجدي على قيس و أجدي على بكر

فغنّى بذات الخال حتى استخفّني *** و كاد أديم الأرض من تحتنا يجري

ابن المدبر يعطيه عشرة آلاف درهم:

حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثني محمد بن يزيد المبرد قال:

كان أبو شراعة صديقا لابن المدبّر أيام تقلّده البصرة، و كان لا يفارقه في سائر أحواله، و لا يمنعه حاجة يسأله

ص: 21


1- قرفوا به: وصموا.
2- رجال أشحة. جمع شحيح، أي بخيل، و في ف: «أعزة».
3- كذا في ف، و في س، ب: «لئن» و هو تحريف.
4- كذا في ف و في س، ب: «غدوت غدوة». بدل «عدوت» و في س، ب: مغن، بدل «معن» و معنى معن: مبالغ في العناء و التجشم.
5- مغلغلة: داخلة ممعنة، المخنق: موضع الخناق.
6- في ف: «يستثيب» أي يسألني أن أثيبه.

إياها، و لا يشفع لأحد إلا شفّعه، فلما عزل إبراهيم بن المدبر شيّعه الناس، و شيّعه أبو شراعة، فجعل يردّ الناس، حتى لم يبق غيره، فقال له: يا أبا شراعة غاية كل مودّع الفراق، فانصرف راشدا مكلوءا من غير قلى و اللّه و لا ملل، و أمر له بعشرة آلاف درهم، فعانقه أبو شراعة، و بكى؛ فأطال، ثم أنشأ يقول:

يا أبا إسحاق سر في دعة *** و امض مصحوبا فما منك خلف

ليت شعري أيّ أرض أجدبت *** فأغيثت بك من جهد العجف!

نزل الرّحم من اللّه بهم *** و حرمناك لذنب قد سلف

إنما أنت ربيع باكر *** حيثما صرّفه اللّه انصرف

خلاف حول هلال رمضان:

قال أبو الفياض سوّار بن أبي شراعة:

دخل أبي على إبراهيم بن المدبر و عنده منجّم، فماراه(1) إبراهيم بن المدبّر في رؤية/الهلال لشهر رمضان؛ فحكم المنجّم بأنه يرى، و حلف إبراهيم بعتق غلمانه أنّه لا يرى، فرئي في تلك الليلة. فأعتق غلمانه، فلما أصبح دخل الناس يهنئونه بالشهر، فأنشده أبو شراعة يقول:

أيها المكثر التّجنّي على الما *** ل إذا ما خلا من السّؤّال

أفتنا في الذين أعتقت بالأم *** س مواليك أم موالي الهلال؟

لم يكن وكدك الهلال و لكن *** تتألّى لصالح الأعمال

إنما لذتاك في المال شتّى *** صونك العرض و ابتذال المال(2)

ما نبالي إذا بقيت سليما *** من تولّت به صروف اللّيالي

لا يدعي فيغضب:

قال أبو الفيّاض: و كان أبو شراعة صديق السّدري، فدعا يوما إخوانه، و أغفل أبا شراعة. فمرّ به الرياشيّ.

فقال: يا أبا شراعة، أ لست عند السّدري معنا؟ فقال: لم يدعنا. و مرّ به جماعة من إخوانه، فسألوه عن مثل ذلك، و مرّ به عيسى بن أبي حرب الصّفار - و كان ممن دعي - فجلس و حلف ألا يبرح حتى يأتيه السّدري، فيعتذر إليه، و يدعوه، فقال أبو شراعة:

/

أير حمار في حرام شعري *** و خصيناه في حر امّ قدري

إن أنا لم أشفعهما بوفر *** لو كنت ذا و فر دعاني السّدري

أو كان من همّ هشام أمري *** أو راح إبراهيم يطري ذكري

ص: 22


1- س، ب: «فما رآه» تحريف، ماراه: بمعنى عارضه.
2- في هج: «في الدد» بدل «في المآل».

و ابن الرياشي الضعيف الأسر *** يخاف إن أردف ألاّ يجري(1)

/و أنت يا عيسى سقاك المسرى(2) *** نعم صديق عسرة و يسر

لا يستعين بإخوته في بناء داره:

قال أبو الفيّاض: سقطت دارنا بالبصرة، فعوتب أبي على بنائها، و قيل له: استعن بإخوانك إن عجزت عنه فقال:

تلوم ابنة البكريّ حين أءوبها *** هزيلا و بعض الآئبين سمين

و قالت: لحاك اللّه تستحسن العرا *** عن الدار إنّ النائبات فنون

و حولك إخوان كرام لهم غنى *** فقلت لإخواني: الكرام عيون

ذريني أمت قبل احتلال محلّة *** لها في وجوه السائلين غضون

سأفدي بمالي ماء وجهي إنني *** بما فيه من ماء الحياء ضنين(3)

في ليالي شهر رمضان:

قال سوّار بن أبي شراعة: كان إخوان أبي يجتمعون عند الحسين بن أيوب بن جعفر بن سليمان في ليالي شهر رمضان، فيهم الرياشي و الجمّاز، فقال أبي في ذلك:

لو كنت من شيعة الجمّاز أقعدني *** مقاعدا قربهنّ الريف و الشّرف

لكنّني كنت للعباس متّبعا *** و ليس في مركب العباس مرتدف(4)

قد بقيت من ليالي الشهر واحدة *** فعاودوا مالح البقّال و انصرفوا(5)

طلاقه ليلة عرس:

قال: و تزوّج نديم لأبي شراعة يقال له بيّان(6) امرأة، فاتفق عرسه في ليلة طلّق فيها أبو شراعة امرأته، فعوتب في ذلك، و قيل: بات بيّان عروسا، و بتّ عزبا، فقال في ذلك:

/

رأت عرس بيّان فهبّت تلومني *** رويدك لوما فالمطلّق أحوط

رويدك حتى يرجع البرّ أهله *** و يرحم ربّ العرس من حيث يغبط

إذا قال للطحّان عند حسابه *** أعد نظرا إني أظنك تغلط

ص: 23


1- في نسخة: «أو أردف» بدل «إن أردف».
2- كذا في ف: و معناه الذي يجري السحاب ليلا و هو اللّه، و في س، ب: «المثري. و قد يكون المراد بالمسري. السحاب نفسه، فمن أسمائه سارية، و يلاحظ في قوله: «نعم صديق» أنه لم يجر على المقياس في فاعل نعم و بئس.
3- كذا في ف و في س، ب: «ماء الحياة» بدل «ماء الحياء».
4- كذا في ف و في س، ب: «موكب» بدل «مركب». و في ه، هج: «تبعة» بتشديد الباء.
5- كذا في ف و هج و ربما كان اسمه «المنهال».
6- في ف: «تبان» بدل «بيان».

فما راعه إلا دعاء وليدة *** هلمّ إلى السّواق إن كنت تنشط

هنالك يدعو أمّه فيسبّها *** و يلتبس الأجر العقوق فيحبط(1)

فيا ذا العلا إني لفضلك شاكر *** أبيت وحيدا كلما شئت أضرط

يشمت في بيان:

قال: ثم بلغه عن بيّان هذا أنه عجز عن امرأته، و لم يصل إليها، و لقي منها شرّا، فقال في ذلك:

رمى الدهر في صحبي و فرّق جلاّسي *** و باعدهم عني بظعن و إعراس

فكلّهم يبغي غلافا لأيره *** و أقعدني عن ذاك فقري و إفلاسي

فشكرا لربّي خان بيّان أيره *** و أسعى بأيري في الظّلام على الناس(2) يمسحه بالكف حتى يقيمه *** و هل ينفع الكفّان من ثقل الراس

أولادنا أكبادنا:

و قال أبو الفياض سوّار:

نظر إليّ أبي يوما و قد سألت عمّي حاجة فردّني، فبكى، ثم قال:

حبّي لإغناء سوّار يجشّمني *** خوض الدّجى و اعتساف المهمة البيد

/كي لا تهون على الأعمام حاجته *** و لا يعلّل عنها بالمواعيد

و لا يوليهم إن جاء يسألها *** أكتاف معرضة في العيس مردود(3)

/إذا بكى قال منهم ذو الحفاظ له *** لقد بليت بخلق غير محمود

يحبذ النبيذ:

قال: و تمارى أبو شراعة و رجل من أهل بغداد في النبيذ، فجعل البغداديّ يذمّ نبيذ التمر و الدّبس(4)، فقال أبو شراعة:

إذا انتخبت حبّه و دبه *** ثم أجدت ضربه و مرسه(5)

ثم أطلت في الإناء حبسه *** شربت منه البابليّ نفسه

دراهمه تغني عن سؤال بخيلين:

قال: و أعوز أبا شراعة يومئذ النبيذ، فطلب من نديمين كانا له، فاعتلّ أحدهما بحلاوة نبيذه، و الآخر

ص: 24


1- و يلتبس الأجر: لعله و يلتمس الأجر.
2- تكملة من هد، و هج.
3- كذا في ف و المراد جعل يكثر أن يولي عرضه، في هج: «أكتاف مغرورق العينين مردود». كذا في ب و في س، ب: «العيش». بدل «العيس».
4- الدبس: عسل التمر.
5- انتخبت حبّة و دبة: وزيره. ضربه و مرسه: خروجه من الماء و دعكه باليد.

بحموضته، فاشترى من نباذ يقال له: أبو مظلومة دستيجة(1) بدرهمين، و كتب إليهما:

سيغني عن حلاوة دبس يحيى *** و يغني عن حموض أبي أميّه

أبو مظلومة الشيخ المولّي *** إذا اتّزنت يداه درهميّه

أخبرني عليّ بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال:

كان أبو شراعة قبيح الوجه جدّا، فنظر يوما في المرآة، فأطال، ثم قال: الحمد للّه الذي لا يحمد على الشرّ غيره.

يؤثر النبيذ على امرأته:

قال سوّار بن أبي شراعة: حلف أبي ألا يشرب نبيذا بطلاق امرأة كانت عنده، فهجره حولين، ثم حنث، فشرب، و طلّق امرأته و أنشأ يقول:

فمن كان لم يسمع عجيبا فإنني *** عجيب الحديث يا أميم و صادقه

و قد كان لي أنسان يا أمّ مالك *** و كلّ إذا فتّشتني أنا عاشقه

/عزيزة و الكأس التي من يحلّها *** تخادعه عن عقله فتصادقه(2)

تحاربتا عندي فعطّلت دنّها *** و أكوابها و الدهر جمّ بوائقه(3)

و مرمتها حولين ثم أزلّني *** حديث النّدامى و النشيد أوافقه

فلمّا شربت الكأس بانت بأختها *** فبان الغزال المستحبّ خلائقه

فما أطيب الكأس التي اعتضت منكم *** و لكنّها ليست بريم أعانقه

في مجلس الحسن بن رجاء:

قال أبو الفيّاض: قال أبي: قصدت الحسن بن رجاء بالأهواز، فصادفت ببابه دعبل بن عليّ الخزاعيّ و جماعة من الشعراء، و قد اعتلّ عليهم بدين لزمه و مصادرة(4) فكتب إليه:

المال و العقل شيء يستعان به *** على المقام بأبواب السلاطين

و أنت تعلم أني منهما عطل *** إذا تأملتني يا بن الدّهاقين

هل تعلم اليوم بالأهواز من رجل *** سواك يصلح للدّنيا و للدّين

قال: فوعدنا وعدا قرّبه، ثم تدافع، فكتب إليه:

آذنت جبّتي بأمر قبيح *** من فراق للطيلسان الفسيح(5)

ص: 25


1- دستيجة: إناء من زجاج.
2- في هد، هج «و تسارقه» بدل «فتصادقه».
3- بوائقه: جمع بائقة بمعنى مصيبة.
4- مصادرة: مطالبة.
5- في م، أ: «اللبيح»، و في هد. هج: «المليح».

فكأني بمن يزيد على الجبّة في ظلّ دار سهل بن نوح /

أنت روح الأهواز يا بن رجاء *** أيّ شيء يعيش إلاّ بروح

فأذن لي و للجماعة، و قضى حوائجنا.

يخدع أبناء سعيد بناقة عجفاء:

قال أبو الفيّاض و حدّثني أبي قال:

حججت، فأتيت دار سعيد بن سلم، فنحرت فيها ناقة، و قلت:

/

وردت دار سعيد و هي خالية *** و كان أبيض مطعاما ذرى الإبل

فارتحت فيها أصيلا عند ذكرته *** و صحبتي بمنى لا هون في شغل

فابتعت من إبل الجمّال دهشرة *** موسومة لم تكن بالحقّة العطل(1)

نحرتها عن سعيد ثم قلت لهم: *** زوروا الحطيم فإني غير مرتحل

قال: و بلغت الأبيات و فعلي ولده، فأحسنوا المكافأة، و أجزلوا الصّلة؛ قال: فقال له صديق له: و أنت أيضا قد استجدت لهم النّحيرة! فضحك، ثم قال: أغرّك وصفي لها؟ أشهد اللّه أني ما بلغت بها دار سعيد إلا بين عمودين.

هو خير ممن تعوله أمه:

و قال أبو الفياض:

كان أبو أمامة محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن سلم(2) - و أمه سعدى بنت عمرو بن سعيد بن سلم - صديقا لأبي شراعة، و كانت أمّه سعدى تعوله، فكان أبو شراعة لا يزال يعبث به، و بلغه أن أبا أمامة يقول:

إنّما معاش أبي شراعة من السلطان و رفده، و لو لا ذاك لكان فقيرا؛ فقال فيه:

عيّرتني نائل السلطان أطلبه *** يا ضلّ رأيك بين الخرق و النّزق(3)

لو لا امتنان من السلطان تجهله *** أصبحت بالسّود في مقعوعس خلق(4)

- السّود: موضع تنزله باهلة بالبادية(5) -:

رثّ الرّدا بين أهدام مرقّعة *** يبيت فيها بليل الجائع الفرق

ص: 26


1- دهشرة: ناقة كبيرة، و في ب، أ، م: «دوسرة» و هي بمعناها. الحقة: الساقة التي دخلت في السنة الرابعة. و العطل: هي التي لا سمة هنا و لا قلائد.
2- في «معجم ياقوت»: «سالم». بدل «سلم».
3- كذا في ف و ياقوت، و في س، ب: «الحذق» بدل «الخرق».
4- مقعوعس خلق: بال قديم.
5- في «معجم ياقوت»: السود: قرية باليمامة، و لا يناسب ذلك ما هنا.

/

لا شيء أثبت بالإنسان معرفة *** من التي حزمت جنبيه بالخرق(1)

فأين دارك منها و هي مؤمنة *** باللّه معروفة الإسلام و الشّفق!

و أين رزقك إلا من يدي مرة *** ما بتّ من مالها إلا على سرق!

تبيت و الهرّ ممدودا عيونكما *** إلى تطعّمها مخضرّة الحدق

ما بين رزقيكما إن قاس ذو فطن *** فرق سوى أنه يأتيك في طبق

شاركه في صيده للفأر تأكله *** كما تشاركه في الوجه و الخلق

أبو أمامة يفجعه في برمة طفشيل:

قال أبو الفيّاض: وزارة أبو أمامة يوما فوجد عنده طفشيلا فأكله كلّه، فقال أبو شراعة يمازحه:

عين جودي لبرمة الطفشيل *** و استهلّي فالصبر غير جميل(2)

فجعتني بها يد لم تدع للذّ *** رّ في صحن قدرها من مقيل

كان و اللّه لحمها من فصيل *** راتع يرتعي كريم البقول(3)

فخلطنا بلحمه عدس الشّا *** م إلى حمّص لنا مبلول

فأتتنا كأنها روضة بالحز *** ن تدعو الجيران للتّطفيل

ثم أكفأت فوقها جفنة الحيّ *** و علّقت صحفتي في زبيل(4)

فمنى اللّه لي بفظّ غليظ *** ما أراه يقرّ بالتّنزيل

/فانتحى دائبا يدبّل منها *** قلت: إن الثريد للتّدبيل(5)

فتغنّى صوتا ليوضح عندي *** حيّ أمّ العلاء قبل الرّحيل

نبيذ شبب بالماء:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثني سوّار بن أبي شراعة قال:

كتب أبي إلى سعيد بن موسى بن سعيد بن مسلم بن قتيبة يستهديه نبيذا، فكتب إليه سعيد: إذا سألتني - جعلني اللّه فداءك - حاجة فاشطط، و احتكم فيها حكم الصّبيّ على أهله، فإن ذلك يسرني، و أسارع إلى إجابتك فيه. و أمر له بما التمس من النبيذ، فمزجه صاحب شرابه، و بعث به إليه. فكتب إليه أبو شراعة: أستنسئ(6) اللّه

ص: 27


1- كذا في ف و في بعض النسخ: «خرمت جنبيه بالحرق».
2- الطفشيل: نوع من المرق. و في المعابهم أنه كسميدع.
3- كذا في ف و في س، ب: «رائع».
4- زبيل: قفة أو جراب.
5- كذا في ف، و معناه يكبر اللقمة للفم. و في س، ب: يذبل للتذييل.
6- أستنسئ: أسأل اللّه أن يطيل أجلك.

أجلك، و أستعيذه من الآفات لك، و أستعينه على شكر ما وهب من النّعمة فيك، إنه لذلك وليّ، و به مليّ. أتلقى غلامك المليح قدّه، السعيد بملكك جدّه بكتاب قرأته غير مستكره اللفظ، و لا مزور عن القصد، ينطق بحكمتك، و يبين عن فضلك، فو اللّه ما أوضح لي خفيّا، و لا رادني بك علما، و إذا أنت تسأل فيه أن تهب، و تحبّ أن تحمد، و لا غرو(1) أن تفعل ذلك، و من كثب أخذته، لا عن كلالة و غير كلالة ورثته، موسى أبوك، و سعيد جدّك، و عمرو عمك، و لك دار الصّلة، و دار الضيافة، و صاحب البغلة الشّهباء(2) و حصين بن الحمام و عروة بن الورد، ففي أيّ غلوات(3) المجد يطمع قرينك أن يستولى على المدى، و الأمد دونك. و كتابك إليّ أن أتحكّم عليك تحكّم الصبي على أهله، فلشدّ ما جررت إليّ معروفك، و دللت على الأنس بك، و حاشى للمحكوم له و المحكوم عليه في ذات الحسب العتيق، و المنظر الأنيق الذي يسرّ القلب، و يلائم الرّوح، و يطرد الهمّ:

تدبّ خلال شئون الفتى *** دبيب دبى النّملة المنتعش(4)

إذا فتحت فقمت ريحها *** و إن سيل خمّارها قال: خش

/ - خش: كلمة فارسية تفسيرها: طيّب -.

فإن كنت رعيت لها عهدا، و حفظت لها عندك يدا، فانظر ربّ الحانوت فامطله دينه، و اقطع السبب بينك و بينه، فقد أساء صحبتها، و أفسد بالماء حسّها، و سلّط عليها عدوّها، و اعلم بأن أباك المتمثّل بقوله:

يرى درجات المجد لا يستطيعها *** فيقعد وسط القوم لا يتكلم

و قد بسطت قدرتك لسانك، و أكثرت لك الحمد، فدونك نهزة البديهة منه:

و بادر بمعروف إذا كنت قادرا *** زوال افتقار أو غنى عنك يعقب(5)

و قد بعثت إليك بقرابة(6) مع الرسول، و أنشأت في أثرها أقول:

إليك ابن موسى الجود أعملت ناقتي *** مجلّلة يضفو عليها جلالها(7)

كتوم الوحي لا تشتكي ألم السّرى *** سواء عليها موتها و اعتلالها

إذا شربت أبصرت ما جوف بطنها *** و إن ظمئت لم يبد منها هزالها

و إن حملت حملا تكلّفت حملها *** و إن حطّ عنها لم أقل كيف حالها؟(8)

بعثنا بها تسمو العيون وراءها *** إليك و ما يخشى عليها كلالها

/و غنّى مغنّينا بصوت فشافني *** متى راجع من أم عمرو خيالها

ص: 28


1- لا غرر: لا عجب.
2- الشهبة: بياض يخالطه سواد.
3- غارات: جمع غارة: أي قدر رمية سهم أبعد ما يندر عليه.
4- دبى النملة: أصغر النمل و الجراد.
5- في ف: «منك» بدل «عنك».
6- ما يقرب من قدرك، و في بعض النسخ «بقرافة»، أي رجاحة.
7- مجللة: لابسة جلها و هو ما تلبسه الدابة لتصان به.
8- كذا في ف و في س، ب: «لم أبل» بدل «لم أقل».

أحبّ لكم قيس بن عيلان كلّها *** و يعجبني فرسانها و رجالها

و ما لي لا أهوى بقاء قبيلة *** أبوك لها بدر و أنت هلالها

/قال: فبعث إليه برسوله الذي حمل إليه النبيذ، و استملحه في شعره، و بصاحب شرابه، و كل ما كان في خزانته من الشّراب و بثلاثمائة دينار.

مساجلة حول جارية:

أخبرني الأخفش عن المبرّد و سوّار بن أبي شراعة جميعا:

أن أبا الفيّاض سوار بن أبي شراعة كان يهوى قينة بالبصرة يقال لها: مليحة، فدعيت ذات يوم إلى مجلس لم يكن حاضره، و حضر أبو عليّ البصير ذلك المجلس، فجمّشها بعض من حضر، فلم تلتفت إليه، و عرف أبو عليّ ذلك فكتب إلى أبي الفيّاض:

لك عندي بشارة فاستمعها *** و أجبني عنها أبا الفيّاض

كنت في مجلس مليحة فيه *** و هي سقم الصّحاح برء المراض

و قديما عهدتني لست في حقّ *** ك و الذبّ عنك ذا إغماض

فتغفّلتها تغفّل خصم *** و تأملتها تأمّل قاض

و رمتها العيون من كلّ أفق *** و تشاكوا بالوحي و الإيماض

من كهول و سادة سمحاء *** باللّها باخلين بالأعراض(1)

و صفات القيان أولها الغد *** ر عليه في وصلهنّ التّراضي

فتشوّفت ذاك منها و أعدد *** ت نكيري و سورتي و امتعاضي

فحمت جانب المزاح و عمّت *** هم جميعا بالصّدّ و الإعراض

و كفاني وفاؤها لك حتّى *** آذن الليل جمعهم بار فضاض

فأجابه أبو الفيّاض:

ليت شعري ما ذا دعاك إلى أن *** هجت شوقي و زدت في إمراضي؟

ذكّرتني بشراك داء قديما *** من سقام عليّ لا شك قاضي

/إن تكن أحسنت مليحة في وص *** لي و عاصت رياضة الرّوّاض

و أقامت على الوفاء و لم تر *** ع لوحي منهم و لا إيماض

فعلى صحّة الوفاء تعاقد *** نا و صون النّفوس و الأعراض

و علينا من العفاف ثياب *** هنّ أبهى من حاليات الرياض

ص: 29


1- اللها: العطايا.

ليس حظّي منها سوى النظر الخت *** ل و إني به لجذلان راض(1)

لحظات يقعن في ساحة القل *** ب وقوع السهام في الأغراض

و ابتسام كالبرق أو هو أخفى *** بين ستري تحرّز و انقباض

لا أخاف انتقاضها آخر الده *** ر بغدر و لا تخاف انتقاضي

فأبن لي أ لست تحمد ذا ال *** ودّ وقاك الردى أبو الفياض؟

يهجو بني سدس:

قال أبو الفيّاض: اتصل بأبي شراعة أن أبا ناظرة السّدوسي يغتابه، و كان مع آل أبي/سفيان بن ثور فقال يهجوهم:

لعن الإله بني سدوس كلّهم *** و رمى بمنجوف و ريّة قاف(2)

قد سبّني عضروطهم فسببتهم *** ذنب الدّنيء يناط بالأشراف(3)

لا يخرج من شتيمة إلى وليمة:

اشارة

قال أبو الفيّاض: و كان بين بعض بني عمنا و بين أبي شراعة وحشة، ثم صالحوه، و دعوه إلى طعامهم، فأبى، و قال: أمثلي يخرج من صوم إلى طعم، و من شتيمة إلى وليمة: و ما لي و لكم مثل إلا قول المتلمّس:

/

فإن تقبلوا بالودّ نقبل بمثله *** و إلا فإنا نحن آبى و أشمس(4)

و قال فيهم:

بني سوّار إن رثّت ثيابي *** و كلّ عن العشيرة فضل مالي(5)

فمطّرح و متروك كلامي *** و تجفوني الأقارب و الموالي

أ لم أك من سراة بني نعيم *** أحلّ البيت ذا العمد الطّوال

و حولي كلّ أصيد تغلبيّ *** أبيّ الضيم مشترك النوال

إذا حضر الغداء فغير مغن *** و يغني حين تشتجر العوالي(6)

و أبقوني فلست بمستكين *** لصاحب ثروة أخرى الليالي

و لا بممسّح المثرين كيما *** أمسّح من طعامهم سبالي(7)

ص: 30


1- كذا في ف و في س، ب: «ليست».
2- منجوف: منهم عريض قاف. اسم جبل محيط بالدنيا فيما يزعمون؛ و المراد داهية نكراء.
3- عضروطهم: لئيمهم.
4- كذا في ف و في م، أ: «أشوس»؛ و في س، ب: «أشرس» بدل «أشمس».
5- في ف: «بني سران» بدل «بني سوار».
6- في ف «عند مشتجر» و في سائر الأصول: حين تستجري، و في «مهذب الأغاني»: حين تشتجر.
7- السبل: جمع سبلة، و هي الدائرة وسط الشفة العليا. أو طرف الشارب.

أنا ابن العنبرية أزّرتني *** إزار المكرمات إزار خالي(1)

فإن يكن الغنى مجدا فإني *** سأدعو اللّه بالرزق الحلال

صوت

إذا أبصرتك العين من بعد غاية *** و أوقعت شكّا فيك أثبتك القلب

و لو أن ركبا يمّموك لقادهم *** نسيمك حتى يستدلّ بك الركب

الشعر لعبد اللّه بن محمد بن البوّاب، و الغناء لأحمد بن صدقة الطّنبوري، رمل مطلق في مجرى البنصر رواية الهشامي.

ص: 31


1- في م، أ: «ورثتني» بدل «أزرتني».

3 - أخبار ابن البواب

اسمه و نشأته:

هو عبد اللّه بن محمد بن عتاب بن إسحاق، من أهل بخارى وجّه(1) بجدّه و جماعة معه رهينة إلى الحجاج بن يوسف، فنزلوا عنده بواسط، فأقطعهم سكّة بها، فاختطّوها و نزلوها طول أيام بني أمية، ثم انقطعوا من الدولة العباسية إلى الربيع، فخدموه.

و كان عبد اللّه بن محمد هذا يخلف الفضل بن الربيع على حجبة الخلفاء، و كان أبوه محمد بن عتاب يخلف الربيع في أيام أبي جعفر، و كان معه فرآه أبو جعفر مع أبيه، فسأله عنه فأخبره، فكساه قباء خزّ، و كساه تحته قباء كتّان مرقوع القبّ، و قال له: هذا يخفى تحت ذاك.

ذكر لي ذلك أحمد بن القاسم بن يوسف عن محمد بن عبد اللّه بن محمد البواب عن أبيه.

و كان عبد اللّه صالح الشعر قليله، و رواية لأخبار الخلفاء عالما بأمورهم، روى عنه أبو زيد عمر بن شبّة و نظراؤه، و قد مضت/في هذا الكتاب و تأتي أخبار من روايته.

يمدح المأمون بعد أن نال منه:

اشارة

قال أحمد بن القاسم اليوسفيّ: حدّثني محمد(2) بن عبد اللّه البواب قال: حدّثني أبي قال:

حجبت موسى و هارون خليفة للفضل بن الربيع.

و خدم(3) محمدا الأمين فأغناه و أعطاه، و مدحه، و نال من المأمون و عرّض به، فأخبرني إسماعيل بن يوسف قال: حدّثني عبد اللّه بن أحمد الباهليّ قال: حدّثني الحسين بن الضحّاك قال:

لما أتى المأمون بشعر ابن البواب الذي يقول فيه:

صوت

أ يبخل فرد الحسن فرد صفاته *** عليّ و قد أفردته بهوى فرد!

رأى اللّه عبد اللّه خير عباده *** فملّكه و اللّه أعلم بالعبد

ألا إنما المأمون للناس عصمة *** مميّزة بين الضّلالة و الرّشد

- لعلويه في هذه الأبيات رمل بالوسطى -:

ص: 32


1- في س، ب: «واجه».
2- في س، ب: «عبد اللّه بن محمد».
3- في س، ب: «خلف موسى الأمين».

قال: فقال المأمون: أ ليس هو القائل:

أ عينيّ جودا و ابكيا لي محمّدا *** و لا تدخرا دمعا عليه و أسعدا(1)

فلا فرح المأمون بالملك بعده *** و لا زال في الدّنيا طريدا مشرّدا!

هيهات، و واحدة بواحدة! و لم يصله بشيء.

نزاع بينه و بين إسحاق:

هكذا روى عن الحسين(2) بن الضحاك. و قد روى أن هذين الشعرين جميعا للحسين، و أن قول المأمون هذا بعينه فيه.

و قال أحمد بن القاسم حدّثني جزء بن قطن. و أخبرني بهذا الخبر الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق، قالا جميعا: وقع بين إسحاق و بين ابن البواب شرّ فقال ابن البواب شعرا ذميما رديئا، و نسبه إلى إسحاق و أشاعه ليعيّره به و هو:

إنما أنت يا عنان سراج *** زيته الظّرف و الفتيلة عقل

قاده للشقاء مني فؤادي *** رجل حبّ لكم و للحبّ رجل(3)

هضم اليوم حبّكم كلّ حبّ *** في فؤادي فصار حبّك فجل

أنت ريحانة و راح و لكن *** كلّ أنثى سواك خلّ و بقل(4)

/و قال حماد في خبره و بلغ ذلك أبي فقال له:

الشعر قد أعيا عليك فخلّه *** و حذ العصا و اقعد على الأبواب

فجاء ابن البواب إلى إبراهيم جدّي فشكا أبي إليه فقال له: ما لك و له يا بنيّ؟ فقال له أبي: تعرّض لي فأجبته، و إن كفّ لم أرجع إلى مساءته. فتتاركا.

يهوى جارية اسمها عبادة:

قال أحمد بن القاسم: أخبرني محمد بن الحسن بن الفضل قال: أخبرني: إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحيم قال:

كان بالكرخ نخّاس يكنى أبا عمير، و كان له جوار قيان لهنّ ظرف و أدب، و كان عبد اللّه بن محمد البواب يألف جارية منهنّ يقال لها: عبّادة، و يكثر غشيان منزل أبي عمير من أجلها، فضاق ضيقة شديدة، فانقطع عن ذلك، و كره أن يقصّر عما كان يستعمله من برّهم فتعلم بضيقته، ثم نازعته نفسه إلى لقائها و زيارتها، و صعب عليه الصبر عنها، فأتاه فأصاب في منزله جماعة ممن كان يألف جواريه، فرحّب به أبو عمير و الجارية و القوم جميعا، و استبطئوا

ص: 33


1- في هج: «و لا تحزنا» بدل «و لا تدخرا».
2- كذا في ف و في س، ب: الحسن بدل «الحسين».
3- في س، ب: «رجل فتى».
4- في: هج «و روح» بدل «و راح».

زيارته، و عاتبوه على تأخره عنهم، فجعل يجمجم في عذره، و لا يصرّح، فأقام عندهم، فلما أخذ فيه النبيذ أنشأ يقول:

/

لو تشكّى أبو عمير قليلا *** لأتيناه من طريق العياده

فقضينا من العيادة حقّا *** و نظرنا في مقلتي عبّاده

فقال له أبو عمير: ما لي و لك يا أخي؟ انظر في مقلتي عبّادة متى شئت غير ممنوع، و دعني أنا في عافية، لا تتمنّ لي المرض لتعودني.

شعره في صديق مدمن:

و قال أحمد بن القاسم:

كان عبد اللّه بن إسماعيل بن عليّ بن ريطة يألف ابن البواب و يعاشره، فشرب عنده يوما حتى سكر و نام، فلما أفاق في السّحر أراد الانصراف، فحلف عليه و احتبسه، و كان عبد اللّه يهوى جارية له من جواري عمرو بن بانة، فبعث إلى عمرو بن بانة فدعاه/و سأله إحضار الجارية، فأحضرها، و انتبه عبد اللّه بن إسماعيل من نومه، و هو يتململ خمارا. فلما رآها نشط، و جلس فشرب، و تمّموا يومهم، فقال عبد اللّه بن محمد بن البواب في ذلك:

و كريم المجد محض أبوه *** فهو الصفو اللّباب النّضار

هاشميّ لقروم إذا ما *** أظلمت أوجه قوم أناروا

رمت القهوة بالنوم وهنا *** عينه فالجفن فيه انكسار

فهو من طرف يفدّيك طورا *** و يعاطيك اللواتي أداروا

ساعة ثم انثنى حين دبّت *** و مشت فيه السّلاف العقار

و أبت عيني اغتماضا فلمّا *** حان من أخرى النجوم انحدار

قلت: عبد اللّه حاذرت أمرا *** ليس يغني خائفيه الحذار

فاستوى كالهندوائيّ لمّا *** أن رأى أن ليس يغني الفرار

قلت: خذها مثل مصباح ليل *** طيّرت في حافيته الشّرار

أقبلت قطرا نطافا و لما *** يتعب العاصر منها اعتصار(1)

هي كالياقوت حمراء شيبت *** و علا الحمرة منها اصفرار(2)

كالدنانير جرى في ذراها *** فضة فالحسن منها قصار(3)

تنطق الخرس و بالصمت ترمي *** معشرا نطقا إذا ما أحاروا

ص: 34


1- كذا في ف و في س، ب: «فيها» بدل «منها».
2- كذا في ف و في س، ب: «شبت» بدل «شيبت».
3- قصار: غاية و نهاية.

يمدح المأمون:

قال أحمد: و حدّثني يعقوب بن العباس الهاشميّ أبو إسماعيل النقيب قال:

لما طال سخط المأمون على ابن البواب قال قصيدة يمدحه بها، و دسّ من غنّاه(1)/في بعضها، لما وجد منه نشاطا. فسأل من قائلها؟ فأخبر به فرضي عنه، و ردّه إلى رسمه من الخدمة، و أنشدني أبو إسماعيل القصيدة، و هي قوله:

هل للمحبّ معين *** إذ شطّ عنه القرين!

فليس يبكي لشجو ال *** حزين إلاّ الحزين

يا ظاعنا غاب عنّا *** غداة بان القطين

أبكى العيون و كانت *** به تقرّ العيون

يا أيها المأمون ال *** مبارك الميمون(2)

/لقد صفت بك دنيا *** للمسلمين و دين

عليك نور جلال *** و نور ملك مبين

القول منك فعال *** و الظنّ منك يقين

ما من يديك شمال *** كلتا يديك يمين

كأنما أنت في الجو *** د و التّقى هارون

من نال من كل فضل *** ما ناله المأمون!

تألّف الناس منه *** فضل و جود و لين

كالبدر يبدو عليه *** سكينة و سكون

فالرزق من راحتيه *** مقسّم مضمون

و كل خصلة فضل *** كانت، فمنه تكون

/و الأبيات التي فيها الغناء المذكور آنفا أربعة أبيات، أنشدنيها الأخفش و هي قوله:

أفق أيها القلب المعذّب كم تصبو *** فلا النأي عن سلماك يسلي و لا القرب

أقول غداة استخبرت ممّ علتي *** من الحبّ كرب ليس يشبهه كرب

إذا أبصرتك العين من بعد غاية *** فأدخلت شكا فيك أثبتك القلب

و لو أن ركبا يمموك لقادهم *** نسيمك حتى يستدلّ بك الركب

ص: 35


1- في س، ب: «من غنائه».
2- كذا بالأصول و التشعيث هنا يقتضي أن يكون البيت هكذا: يا أيها المأمون مبارك ميمون.

فقال الأخفش مثل هذا البيت الأخير قول الشاعر:

و استودعت نشرها الديار(1) فما *** تزداد طيبا إلا على القدم

يخشى العين على ساقيه:

أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد بن إسحاق: قال:

رأيت محمد بن عبد اللّه البواب و قد جاء إلى أبي مسلّما فاحتبسه، و رأيته و هو شيخ كبير، و كان ضخما طويلا عظيم الساقين كأنهما دنّان، و كان يشدّ في ساقيه خرزا أسود لئلا تصيبهما العين.

يملق فيغنيه أبو دلف:

اشارة

و قال محمد بن القاسم: أملق عبد اللّه بن محمد البواب حين جفاه الخليفة، و علت سنّه عن(2) الخدمة، فرحل إلى أبي دلف القاسم بن عيسى، و مدحه بقصيدة، فوهب له ثلاثين ألف درهم، و عاد بها إلى بغداد، فما نفدت حتى مات و هي قوله:

طرقتك صائدة القلوب رباب *** و نأت فليس لها إليك مآب

و تصرّمت منها العهود و غلّقت *** من دون نيل طلابها الأبواب

/فلأصدفنّ عن الهوى و طلابه *** فالحبّ فيه بليّة و عذاب

و أخصّ بالمدح المهذّب سيّدا *** نفحاته للمجتدين رغاب(3)

و إلى أبي دلف رحلت مطيّتي *** قد شفّها الإرقال و الإتعاب(4)

تعلو بنا قلل الجبال و دونها *** مما هوت أهويّة و شعاب(5)

فإذا حللت لدى الأمير بأرضه *** نلت المنى و تقضّت الآراب

ملك تأثّل عن أبيه و جدّه *** مجدا يقصّر دونه الطّلاب

/و إذا وزنت قديم ذي حسب به *** خضعت لفضل قديمه الأحساب

قوم علوا أملاك كلّ قبيلة *** فالناس كلّهم لهم أذناب(6)

ضربت عليه المكرمات قبابها *** فعلا العمود و طالت الأطناب

عقم النساء بمثله و تعطّلت *** من أن تضمّن مثله الأصلاب

ص: 36


1- في ف: «الرياض» بدل «الديار».
2- في س، ب: «من»، بدل «عن».
3- رغاب: جمع رغيبة، بمعنى واسعة.
4- الإرقال: الإسراع.
5- أهوية: هوة.
6- كذا في ف، و في س، ب: له بدل «لهم».
صوت

صغير هواك عذّبني *** فكيف به إذا احتنكا

و أنت جمعت من قلبي *** هوى قد كان مشتركا

و حبس هواك يقتلني *** و قتلي لا يحلّ لكا(1)

أ ما ترثي لمكتئب *** إذا ضحك الخليّ بكى

الشعر لمحمّد بن عبد الملك الزيات و الغناء لأبي حشيشة رمل بالوسطى عن الهشاميّ.

ص: 37


1- في س، ب: «و حسن رضاك».

4 - أخبار محمد بن عبد الملك الزيات و نسبه

اسمه و نسبه:

هو محمد بن عبد الملك الزيات بن أبان بن أبي حمزة الزيات، و أصله من جبّل(1) و يكنى أبا جعفر. و كان أبوه تاجرا من تجار الكرخ المياسير، فكان يحثّه على التجارة و ملازمتها، فيأبى إلا الكتابة و طلبها، و قصد المعالي، حتى بلغ منها أن وزر ثلاث دفعات، و هو أوّل من تولى ذلك و تمّ له.

أخبرني الأخفش عليّ بن سليمان قال: حدّثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال:

كان جدّي موسرا من تجار الكرخ، و كان يريد من أبي أن يتعلّق بالتجارة، و يتشاغل بها، فيمتنع من ذلك و يلزم الأدب و طلبه، و يخالط(2) الكتاب، و يلازم الدّواوين، فقال له ذات يوم: و اللّه ما أرى ما أنت ملازمه ينفعك؛ و ليضرّنّك؛ لأنك تدع عاجل المنفعة، و ما أنت فيه مكفيّ، و لك و لأبيك فيه مال و جاه، و تطلب الآجل الذي لا تدري كيف تكون فيه. فقال: و اللّه لتعلمنّ أيّنا ينتفع بما هو فيه؛ أ أنا أم أنت؟ ثم شخص إلى الحسن بن سهل بفم الصّلح(3)، فامتدحه بقصيدته التي أولها:

كأنها حين تناءى خطوها *** أخنس موشيّ الشّوى يرعى القلل(4)

فأعطاه عشرة آلاف درهم، فعاد بها إلى أبيه، فقال له أبوه: لا ألومك بعدها. على ما أنت فيه.

دخوله على الحسن بن سهل:

أخبرني جحظة و الصّوليّ، قالا: حدّثنا ميمون بن هارون: قال:

لما مدح محمد بن عبد الملك الحسن بن سهل، و وصله بعشرة آلاف درهم مثل بين يديه و قال له:

لم أمتدحك رجاء المال أطلبه *** لكن لتلبسني التّحجيل و الغررا

و ليس ذلك إلا أنّني رجل *** لا أطلب الورد حتى أعرف الصّدرا

و كان محمد بن عبد الملك شاعرا مجيدا، لا يقاس به أحد من الكتاب، و إن كان إبراهيم بن العباس مثله في ذلك، فإن إبراهيم مقلّ و صاحب قصار و مقطّعات، و كان محمد شاعرا يطيل فيجيد، و يأتي بالقصار فيجيد، و كان بليغا حسن اللفظ إذا تكلّم و إذا كتب.

ص: 38


1- جبل: قرية مقابلة لقرية دسكرة غربي بغداد.
2- في س، ب: «يخاطب». بدل «يخالط».
3- فم الصلح: موضع على نهر الصلح و هو نهر كبير فوق واسط، بينها و بين جبل عليه عدة قرى. و الصلح كانت دار الحسن بن سهل.
4- أخنس: ثور وحشي، و موشي الشوي: ملون الأطراف.

ينصف خصمه من نفسه:

فحدّثني/عمي رحمه اللّه قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال:

جلس أبي يوما للمظالم، فلما انقضى المجلس رأى رجلا جالسا، فقال له: أ لك حاجة؟ قال: نعم تدنيني إليك؛ فإني مظلوم. فأدناه، فقال: إني مظلوم، و قد أعوزني الإنصاف، قال: و من ظلمك؟ قال: أنت، و لست أصل إليك؛ فأذكر حاجتي؟ قال: و من يحجبك عني و قد ترى مجلسي مبذولا؟ قال: يحجبني عنك هيبتي لك و طول لسانك؛ و فصاحتك، و اطراد حجتك، قال: ففيم ظلمتك؟ قال: ضيعتي الفلانية أخذها وكيلك غصبا بغير ثمن، فإذا وجب عليها خراج أدّيته باسمي لئلا يثبت لك اسم(1) بملكها، فيبطل ملكي، فوكيلك يأخذ غلّتها، و أنا أؤدي خراجها، و هذا مما لم يسمع في الظلم مثله، فقال محمد: هذا قول تحتاج عليه إلى بيّنة و شهود و أشياء، فقال له الرجل: أ يؤمنني الوزير من غضبه، حتى أجيب؟ قال: قد أمّنتك، /قال: البينة هم الشهود، و إذا شهدوا فليس يحتاج معهم إلى شيء، فما معنى قولك: بيّنة و شهود و أشياء، أيش هذه الأشياء إلاّ العيّ و الحصر و التغطرس؟(2)فضحك، و قال: صدقت، و البلاء موكّل بالمنطق، و إني لأرى فيك مصطنعا، ثم وقّع له بردّ ضيعته و بأن يطلق له كرّ حنطة(3) و كر شعير و مائة دينار يستعين بها على عمارة ضيعته، و صيّره من أصحابه، و اصطنعه.

يهدد إبراهيم بن المهدي:

أخبرني الصّوليّ: قال: حدّثني أحمد بن محمد الطالقانيّ(4) قال: حدّثني عبيد اللّه بن محمد بن عبد الملك قال:

لمّا وثب إبراهيم بن المهديّ على الخلافة، اقترض من مياسير التّجّار مالا، فأخذ من جدّي عبد الملك عشرة آلاف درهم(5)، و قال له: أنا أردّها إذا جاءني مال، و لم يتم أمره فاستخفى، ثم ظهر و رضي عنه المأمون، فطالبه الناس بأموالهم، فقال: إنما أخذتها للمسلمين، و أردت قضاءها من فيئهم، و الأمر الآن إلى غيري، فعمل أبي محمد بن عبد الملك قصيدة يخاطب فيها المأمون، و مضى بها إلى إبراهيم بن المهديّ، فأقرأه(6) إياها و قال: و اللّه لئن لم تعطني المال الذي اقترضته من أبي لأوصلنّ هذه القصيدة إلى المأمون، فخاف أن يقرأها المأمون، فيتدبّر ما قاله، فيوقع به، فقال له: خذ مني بعض المال، و نجّم عليّ بضعه، ففعل أبي ذلك بعد أن حلّفه إبراهيم بأوكد الأيمان ألاّ يظهر القصيدة في حياة المأمون، فوفّى له أبي بذلك، و وفّى إبراهيم بأداء المال كله.

و القصيدة قوله:

/

أ لم تر أن الشيء للشيء علّة *** تكون له كالنار تقدح بالزّند

ص: 39


1- كذا في ف و «الديوان» و في س، ب: «اسم في ملكها».
2- التغطرس: التعامي عن الشيء.
3- كر حنطة: أربعون اردبا.
4- الطالقاني نسبة إلى طالقان، و هي بلدتان إحداهما بخراسان بين مرو الروز و بلخ، و الأخرى بين قزوين و أبهر، و ضبطها ياقوت بفتح اللام.
5- في ف: «دينار».
6- في س، ب: «فأقرأها» إياه.

كذلك جرّبت الأمور و إنما *** يدلّك ما قد كان قبل على البعد

و ظنّي بإبراهيم أنّ مكانه *** سيبعث يوما مثل أيامه النّكد(1)

رأيت حسينا حين صار محمد *** بغير أمان في يديه و لا عقد(2)

فلو كان أمضى السيف فيه بضربة *** فصيّره بالقاع منعفر الخدّ

إذا لم تكن للجند فيه بقية *** فقد كان ما خبّرت من خبر الجند

هم قتلوه بعد أن قتلوا له *** ثلاثين ألفا من كهول و من مرد

و ما نصروه عن يد سلفت له *** و لا قتلوه يوم ذلك عن حقد

/و لكنه الغدر الصّراح و خفة ال *** حلوم و بعد الرأي عن سنن القصد

فذلك يوم كان للناس عبرة *** سيبقى بقاء الوحي في الحجر الصّلد(3)

و ما يوم إبراهيم إن طال عمره *** بأبعد في المكروه من يومه عندي

تذكّر أمير المؤمنين مقامه *** و أيمانه في الهزل منه و في الجدّ

أما و الذي أمسيت عبدا خليفة *** له شرّ أيمان الخليفة و العبد

إذا هزّ أعواد المنابر باسته *** تغنّى بليلى أو بميّة أو هند

فو اللّه ما من توبة نزعت به *** إليك و لا ميل إليك و لا ودّ

/و لكنّ إخلاص الضمير مقرّب *** إلى اللّه زلفى لا تخيب و لا تكدي

أتاك بها طوعا إليك بأنفه *** على رغمه و استأثر اللّه بالحمد

فلا تتركن للناس موضع شبهة *** فإنك مجزيّ بحسب الذي تسدي

فقد غلطوا للناس في نصب مثله *** و من ليس للمنصور بابن و لا المهدي(4)

فكيف بمن قد بايع الناس و التقت *** ببيعته الركبان غورا إلى نجد

و من سكّ تسليم الخلافة سمعه *** ينادى به بين السّماطين من بعد

و أي امرئ سمّى بها قطّ نفسه *** ففارقها حتى يغيّب في اللّحد

و تزعم هذي النابتيّة أنّه *** إمام لها فيما تسرّ و ما تبدي(5)

يقولون سنّيّ و أيّة سنّة *** تقوم بجون اللون صعل القفا جعد(6)

ص: 40


1- النكد: المشئومة، جمع أنكد.
2- لعله يقصد بالحسين: والد طاهر بن الحسين الذي قتل الأمين.
3- الوحي: الكتابة.
4- في س، ب: «بالمنصور».
5- النابتية: أو النوابت - طائفة من الحشوية أحدثوا بدعا غريبة في الإسلام.
6- كذا في ف و «الديوان». و صعل القفا: كناية عن لؤم الحسب. و جعد: بخيل.

و قد جعلوا رخص الطعام بعهده *** زعيما له باليمن و الكوكب السّعد

إذا ما رأوا يوما غلاء رأيتهم *** يحنّون تحنانا إلى ذلك العهد

و إقباله في العيد يوجف حوله *** و جيف الجياد و اصطفاق القنا الجرد(1)

و رجّالة يمشون بالبيض قبله *** و قد تبعوه بالقضيب و بالبرد

/فإن قلت قد رام الخلافة غيره *** فلم يؤت فيما كان حاول من جدّ

فلم أجزه إذ خيّب اللّه سعيه *** على خطإ إذ كان منه و لا عمد(2)

و لم أرض بعد العفو حتّى رفعته *** و للعمّ أولى بالتّعهّد و الرّفد(3)

فليس سواء خارجيّ رمى به *** إليك سفاه الرأي و الرأي قد يردى

تعاوت له من كل أوب عصابة *** متى يوردوا لا يصدروه عن الورد(4)

و من هو في بيت الخلافة تلتقي *** به و بك الآباء في ذروة المجد

فمولاك مولاه و جندك جنده *** و هل يجمع القين الحسامين في غمد؟

و قد رابني من أهل بيتك أنّني *** رأيت لهم وجدا به أيّما وجد

يقولون لا تبعد من ابن ملمّة *** صبور عليها النفس ذي مرّة جلد

فدانا و هانت نفسه دون ملكنا *** عليه لذي الحال التي قلّ من يفدي(5)

على حين أعطى الناس صفق(6) أكفّهم *** عليّ بن موسى بالولاية و العهد

/فما كان فينا من أبى الضّيم غيره *** كريم كفى ما في القبول و في الرّدّ

و جرّد إبراهيم للموت نفسه *** و أبدى سلاحا فوق ذي ميعة نهد(7)

و أبلى و من يبلغ من الأمر جهده *** فليس بمذموم و إن كان لم يجد

فهذي أمور قد يخاف ذوو النهى *** مغبّتها و اللّه يهديك للرشد

يزري بيحيى بن خاقان:

أخبرني الصوليّ، قال: حدّثني عبد اللّه بن الحسين القطربليّ، عن جعفر بن محمد بن خلف قال:

قال لي المعلّى بن أيوب: كيف كان محلّ يحيى بن خاقان عند محمد بن عبد الملك و مقداره؟ فقلت له:

ص: 41


1- يوجف حوله: يسرع، و في ف و «الديوان» «اصطكاك»: بدل «اصطفاق» و هما بمعنى واحد، و هو اهتزاز و تحرك.
2- كذا في ف و في س، ب و «الديوان»: «على عمد».
3- في هج، هد «و لم أر» بدل «و لم أرض» و في «الديوان» هج: «رفدته» بدل «رفعته».
4- كذا في ف و «الديوان» و معناه اجتمعوا و في س، ب «تعادت» بدل «تعاوت».
5- في «الديوان»: «عليه على الحين الذي قل من يفدي».
6- ف: «صفو».
7- ذو ميعة: أول جري الفرس و نشاطه. نهد: جسيم مشرف.

سمعت محمدا يذكره، فقال: هو مهزول الألفاظ، عليل المعاني سخيف العقل، ضعيف العقدة(1)، واهي العزم مأفون الرأي.

لا يلبس القباء:

قال عبد اللّه:

و لما تولى محمد بن عبد الملك الوزارة، اشترط ألاّ يلبس القباء، و أن يلبس الدّرّاعة(2) و يتقلّد عليها سيفا بحمائل، فأجيب إلى ذلك.

من لا يرحم لا يرحم:

أخبرني الصوليّ، قال: حدّثني أبو ذكوان، قال: حدّثني طمّاس، قال ميمون بن هارون:

كان محمد بن عبد الملك، يقول: الرّحمة خور في الطبيعة، و ضعف في المنّة، ما رحمت شيئا قط. فكانوا يطعنون عليه في دينه بهذا القول، فلما وضع في الثّقل(3) و الحديد قال: ارحموني، فقالوا له: و هل رحمت شيئا قطّ فترحم! هذه شهادتك على نفسك و حكمك عليها.

أخبرني الصوليّ: قال: حدّثني أبو ذكوان، قال: حدّثني طماس، قال:

جاء أبو دنقش الحاجب إلى محمد بن عبد الملك برسالة من المعتصم ليحضر، فدخل ليلبس ثيابه، و رأى ابن دنقش الحاجب غلمانا لهم روقة(4) فقال: و هو يظنّ أنه لا يسمع:

و على اللواط فلا تلومن كاتبا *** إن اللّواط سجيّة الكتّاب

فقال محمد له:

و كما اللواط سجية الكتّاب *** فكذا الحلاق سجيّة الحجّاب(5)

لا اعتذار مع القصاص:

فاستحيا ابن دنقش، و اعتذر إليه، فقال له: إنما يقع العذر لو لم يقع الاقتصاص فأما و قد كافأتك فلا.

يرثي سكرانة:

أخبرني الصوليّ، قال: حدّثني محمد بن موسى، قال:

أنشدني الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك أبياتا، يرثي بها سكرانة أمّ ابنه عمر، و جعل الحسن يتعجب من جودتها، و يقول:

ص: 42


1- العقدة: الولاية.
2- الدراعة: ثوب كالجبة مشقوق المقدم يعمل من الصوف خاصة.
3- في هج، هد «في النثور و الحديد» بدل «في الثقل و الحديد».
4- غلمان لهم روقة: حسان، جمع رائق.
5- الحلاق: داء الأبنة.

يقول لي الخلاّن لو زرت قبرها *** فقلت: و هل غير الفؤاد لها قبر

على حين لم أحدث فأجهل قدرها *** و لم أبلغ السنّ التي معها الصبر

اعتذاره إلى عبد اللّه بن طاهر:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدّثني عبد الرحمن بن سعيد الأزرقيّ، قال: استبطأ عبد اللّه بن طاهر محمد بن عبد الملك في بعض أموره، و اتّهمه بعدوله عن شيء أراده إلى سواه، فكتب إليه محمد بن عبد الملك يعتذر من ذلك، و كتب في آخر كتابه يقول:

أ تزعم أنني أهوى خليلا *** سواك على التّداني و البعاد

جحدت إذا موالاتي عليّا *** و قلت بأنني مولى زياد

واحدة بواحدة:

قرأت في بعض الكتب:

كان عبد اللّه بن الحسن الأصبهانيّ يخلف عمرو بن مسعدة على ديوان الرسائل، فكتب إلى خالد بن يزيد بن مزيد: إن المعتصم أمير المؤمنين ينفخ منك/في غير فحم، و يخاطب امرأ غير ذي فهم، فقال محمد بن عبد الملك: هذا كلام ساقط سخيف؛ جعل أمير المؤمنين ينفخ بالزّق كأنه حدّاد، و أبطل الكتاب ثم كتب /محمد بن عبد الملك إلى عبد اللّه بن طاهر: و أنت تجري أمرك على الأربح فالأربح، و الأرجح فالأرجح، لا تسعى(1) بنقصان، و لا تميل برجحان، فقال عبد اللّه الأصبهانيّ: الحمد للّه، قد أظهر من سخافة اللفظ ما دل على رجوعه إلى صناعته من التجارة بذكره ربح السّلع، و رجحان الميزان، و نقصان الكيل، و الخسران من رأس المال.

فضحك المعتصم، و قال: ما أسرع ما انتصف الأصبهانيّ من محمد، و حقدها عليه ابن الزيات، حتى نكبه.

أ دعاء له أم عليه:

أخبرني الأخفش عن المبرّد قال:

نظر رجل كان يعادى يونس النحوي إليه و هو يهادى(2) بين اثنين من الكبر، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، أبلغت ما أرى؟ فعلم يونس أنه قال له ذلك شامتا، فقال: هذا الذي كنت أرجو فلا بلغته، فأخذه محمد بن عبد الملك الزيّات: فجعله في شعر فقال:

و عائب عابني بشيب *** لم يعد لمّا ألمّ وقته

فقلت إذ عابني بشيبي: *** يا عائب الشيب لا بلغته

منديل تحت عمامة:

و ذكر أبو مروان الخزاعيّ(3) أن أبا دهمان المغنّي سرق من محمد بن عبد الملك منديلا دبقيّا(4) فجعله تحت عمامته، و بلغ محمدا، فقال فيه:

ص: 43


1- في م، أ، تشعر بدل «تسعى».
2- في هج «يتهادى» بدل «يهادى».
3- ف: «الخرائطي».
4- دبقيا: نسبة إلى دبيق كأمير، قرية كانت بين الفرما و تنيس من أعمال مصر مشهورة بالثياب الدبقية، و هي ثياب دقيقة تكور عمائم،

و نديم سارق خاتلني *** و هو عندي غير مذموم الخلق

ضاعف الكور على هامته *** و طوى منديلنا طيّ الخرق

يا أبا دهمان لو جاملتنا *** لكفيناك مئونات السّرق

ترجوه فتحرمه:

أخبرنا أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني، قال:

كنت عند أبي الحسين بن أبي البغل لما انصرف عن بغداد بعد إشخاصه إليها للوزارة و بطلان ما نذره من ذلك و رجوعه، فجعل يحدّثنا بخبره، ثم قال: للّه درّ محمد بن عبد الملك الزيات حيث(1) يقول:

ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه *** قد كنت أحسب أنّي قد ملأت يدي

ما لي إذا غبت لم أذكر بصالحة *** و إن مرضت فطال السّقم لم أعد(2)

يتبادلان المدح:

أخبرني الصوليّ، قال: حدّثني عون بن محمد الكنديّ، قال: حدّثني عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الربيع، قال:

وصفني محمد بن عبد الملك للمعتصم، و قال: ما له نظير في ملاحة الشعر و الغناء و العلم بأمور الملوك، فلقيته فشكرته، و قلت: جعلت فداءك! أتصف شعري و أنت أشعر الناس؟ أ لست القائل:

أ لم تعجب لمكتئب حزين *** خدين صبابة و حليف صبر

يقول - إذا سألت به -: بخير *** و كيف يكون مهجور بخير؟

قال: و أين هذا، من قولك؟

يقول لي كيف أصب *** حت كيف يصبح مثلي

ماء و لا كصدّاء(3)، و مرعى و لا كالسّعدان(4).

لا ينتصف من ساقط أحمق:

أخبرني الصوليّ، قال: حدّثني عون بن محمد: قال: لقي الكنجيّ(5) محمد بن عبد الملك فسلّم عليه فلم يجبه، فقال الكنجيّ:

ص: 44


1- في م، أ: «حين» بدل «حيث».
2- في هد، هج «بواحدة» بدل «بصالحة».
3- صداء: ركية ما عندهم أعذب منها.
4- السعدان: نبت من أفضل ما يرعى.
5- ب، س: «الكتنبجي».

/

هذا و أنت ابن زيات تصغّرنا *** فكيف لو كنت يا هذا ابن عطّار؟

فبلغ ذلك محمدا، فقال: كيف ينتصف من ساقط أحمق، وضعه رفعه، و عقابه ثوابه.

أضيع ميتة:

أخبرني الصوليّ، قال: أخبرني عبد اللّه بن محمد الأزديّ، قال: حدّثني يعقوب بن التّمار، قال:

قال محمد بن عبد الملك لبعض أصحابه: ما أخّرك عنا؟ قال: موت أخي، قال: بأيّ علة؟ قال: عضّت إصبعه فأرة، فضربته الحمرة(1)، فقال محمد: ما يرد القيامة شهيد أخسّ سببا، و لا أنذل(2) قاتلا، و لا أضيع ميتة، و لا أظرف قتلة من أخيك.

خمسون بيتا في بيت:

أخبرني عمي عن أبي العيناء، قال:

كان محمد بن عبد الملك يعادي أحمد بن أبي دواد، و يهجوه، فكان أحمد يجمع الشعراء، و يحرّضهم على هجائه و يصلهم، ثم قال فيه أحمد بيتين، كانا أجود ما هجي به، و هما:

أحسن من خمسين بيتا سدى *** جمعك إيّاهنّ في بيت

ما أحوج الناس إلى مطرة *** تذهب عنهم وضر الزيت(3)

و كان ابن أبي دواد يقول: ليس أحد من العرب إلا و هو يقدر على قول الشعر، طبعا ركّب فيهم، قلّ قوله أو كثر.

أبو تمام يمدحه:

أخبرنا الصوليّ، قال: حدّثنا محمد بن موسى عن الحسن بن وهب، قال:

أنشد أبو تمام محمد بن عبد الملك قصيدته التي يقول فيها:

لهان علينا أن نقول و تفعلا(4)

فأثابه عليها و وقّع عليه:

رأيتك سهل البيع سمحا و إنما *** يغالى إذا ما ضنّ بالشيء بائعه

فأما الذي هانت بضائع بيعه *** فيوشك أن تبقى عليه بضائعه

ص: 45


1- الحمرة: ورم من جنس الطواعين ينشأ عن اتساخ جرح.
2- كذا في ف، م، أ، و في س، ب: «أنزل» بدل «أنذل».
3- رواية البغدادي في «الخزانة»: أحسن من تسعين بيتا سدى جمعك معناهن في بيت ما أحوج الملك إلى مطرة تغسل عنه وضر الزيت
4- عجزه: و نذكر بعض الفضل منك فتفضلا

هو الماء إن أجممته طاب ورده *** و يفسد منه أن تباح شرائعه

فأجابه أبو تمام و قال:

أبا جعفر إن كنت أصبحت شاعرا *** أسامح في بيعي له من أبايعه

فقد كنت قبلي شاعرا تاجرا به *** تساهل من عادت عليك منافعه

فصرت وزيرا و الوزارة مكرع *** يغصّ به بعد اللذاذة كارعه

و كم من وزير قد رأينا مسلّطا *** فعاد و قد سدّت عليه مطالعه

و للّه قوس لا تطيش سهامها *** و للّه سيف لا تفلّ مقاطعه

راشد الكاتب يطلب منه هدية:

حدّثني الصّوليّ، قال: حدّثني محمد بن يحيى بن عباد، قال: حدّثني أبي، قال:

حجّ محمد بن عبد الملك في آخر أيام المأمون، فلما قدم كتب إليه راشد الكاتب قوله:

لا تنس عهدي و لا مودّتيه *** و اشتق إلى طلعتي و رؤيتيه

/(1)إن غبت عنا فلم تغب كثرة ال *** ذكر فلا تغفلن هديتيه

التّمر و النقل و المساويك و القس *** ب و خير النعال حسن شيه(2)

فإن تجاوزت ما أقول إلى العص *** ب فذاك المأمول منك ليه(3)

فأجابه محمد بن عبد الملك:

إنك منّي بحيث يطّرد النا *** ظر من تحت ماء دمعتيه(4)

و لا و من زادني تودّده *** على صحابي بفضل غيبتيه

ما أحسن الترك و الخلاف لما *** تريد مني و ما تقول ليه

/يا بأبي أنت ما نسيتك في *** يوم دعائي و لا هديّتيه

ناجيت بالذكر و الدّعاء لك ال *** لّه لدى البيت رافعا يديه

حتى إذا ما ظننت بالملك الق *** ادر أن قد أجاب دعوتيه

قمت إلى موضع النعال و قد *** أقمت عشرين صاحبا معيه

و قلت لي صاحب أريد له *** نعلا و لو من جلود راحتيه

فانقطع القول عند واحدة *** قال الذي اختار يا بشارتيه

ص: 46


1- التكملة من هد، هج.
2- التكملة من هد، هج.
3- العصب: ضرب من البرود.
4- كذا بالنسخ و في «الديوان» نقلا عن «طبقات الشعراء» و لابن المعترض «يطرف».

فقلت عندي لك البشارة *** و الشّكر و قلاّ في جنب حاجتيه

ثم تخيّرت بعد ذاك من العص *** ب اليماني بفضل خبرتيه

موشيّة لم أزل ببائعها *** أرغب حتى زها عليّ بيه

/يرفع في سومه و أرغبه *** حتى التقى زهده و رغبتيه

و قد أتاك الذي أمرت به *** فاعذر بكثر الإنعام قلّتيه

المعتصم يأخذ برذونه فيقول في ذلك شعرا:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد، قال:

كان لمحمد بن عبد الملك برذون أشهب لم ير مثله فراهة و حسنا، فسعى به محمد بن خالد حيلويه إلى المعتصم، و وصف له فراهته(1)، فبعث المعتصم إليه فأخذه منه، فقال محمد بن عبد الملك يرثيه:

كيف العزاء و قد مضى لسبيله *** عنا فودّعنا الأحمّ الأشهب!(2)

دبّ الوشاة فأبعدوك و ربّما *** بعد الفتى و هو الأحبّ الأقرب

للّه يوم نأيت عنّي ظاعنا *** و سلبت قربك أيّ علق أسلب

نفس مفرقة أقام فريقها *** و مضى لطيّته فريق يجنب

فالآن إذ كملت أداتك كلّها *** و دعا العيون إليك لون معجب

و اختير من سرّ الحدائد خيرها *** لك خالصا و من الحليّ الأغرب

و غدوت طنّان اللّجام كأنما *** في كل عضو منك صنج يضرب

و كأنّ سرجك إذ علاك غمامة *** و كأنما تحت الغمامة كوكب

و رأى عليّ بك الصديق جلالة *** و غدا العدوّ و صدره يتلهّب

أنساك لا زالت إذا منسيّة *** نفسي و لا زالت يميني تنكب(3)

/أضمرت منك اليأس حين رأيتني *** و قوى حبالي من قواك تقضّب

و رجعت حين رجعت منك بحسرة *** للّه ما فعل الأصمّ الأشيب(4)

ناظر له ناظر:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان - رضوان اللّه عليه - قال: حدّثني محمد بن ناصح رحمة اللّه عليه، قال:

ص: 47


1- فراهته: حسنه و نشاطه.
2- الأحم الأشهب: الأسود.
3- كذا في ف و «الديوان». و في سائر النسخ «منيته» و في هج «بمثلك تنكب».
4- كذا في ف و «الديوان» و في سائر النسخ: الأحم الأشيب، و المراد به ذم محمد بن خالد.

لحقت غلاّت أهل البتّ(1) آفة في أيام محمد بن عبد الملك من جراد و عطش، فتظلّم(2) إليه جماعة منهم، فوجّه ببعض أصحابه ناظرا في أمرهم، و كان في بصره ضعف، فكتب إليه محمد بن عليّ البتّي:

أتيت أمرا يا أبا جعفر *** لم يأته برّ و لا فاجر

/أغثت أهل البتّ إذ أهلكوا *** بناظر ليس له ناظر

فبلغه، فضحك و ردّ الناظر و وقّع لهم بما سألوا بغير نظر.

مساجلة بينه و بين علي بن جبلة:

أخبرني الصوليّ رضي اللّه عنه قال: حدّثني محمد بن يحيى بن أبي عبّاد عن أبيه رضي اللّه عنهما قال:

قال عليّ بن جبلة يهجو محمد بن عبد الملك الزيات، و كان قد قصد أبا دلف القاسم بن عيسى في بعض أمره:

يا بائع الزيت عرّج غير مرموق *** لتشغلنّ عن الأرطال و السوق

من رام شتمك لم ينزع إلى كذب *** في منتماك و أبداه بتحقيق

أبوك عبد و للأمّ التي فلقت *** عن أمّ رأسك هنّ غير محلوق

/إن أنت عدّدت أصلا لا تسبّ به *** يوما فأمّك مني ذات تطليق

و لن تطيق بحول أن تزيل شجا *** أثبتّه منك في مستنزل الرّيق

اللّه أنشاك من نوك و من كذب *** لا تعطفنّ إلى لؤم لمخلوق

ما ذا يقول امرؤ غشّاك مدحته *** إلا ابن زانية أو فرخ زنديق؟

فأجابه محمد:

اشمخ بأنفك يا ذا السيّئ الأدب *** ما شئت و اضرب قذال الأرض بالذنب

و ارفع بصوتك تدعو من بذي عدن *** و من بقالي قلا بالويل و الحرب(3)

ما أنت إلا امرؤ أعطى بلاغته *** فضل العذار و لم يربع على أدب(4)

فاجمح لعلّك يوما أن تعضّ على *** لجم دلاصيّة تثنيك من كثب(5)

إنّي اعتذرت فما أحسنت تسمع من *** عذري و من قبل ما أحسنت في الطّلب

صبرا أبا دلف في كل قافية *** كالقدر وقفا على الجارات بالعقب(6)

ص: 48


1- البت: قرية من أعمال بغداد قريبة من راذان.
2- كذا في ف و في سائر النسخ «تكلم».
3- قالي قلا: مدينة بأرمينية من نواحي خلاط، بلد أبي علي القالي صاحب «الأمالي».
4- يربع: يقف.
5- لجم دلاصية: ملساء براقة.
6- العقب: جمع عقبة: أي شيء من المرق يرده مستعير القدر.

يا ربّ إن كان ما أنشأت من عرب *** شروى أبي دلف فاسخط على العرب(1)

إنّ التعصّب أبدى منك داهية *** كانت تحجّب دون الوهم بالحجب

فأجابه علي بن جبلة:

نبّهت عن سنة عينيك فاصطبر *** و اسحب بذيلك هل تقفو على أثر؟(2)

/إن يرحض اللّه عني عار مطّلبي *** إليك رفدا ألا فانجد به وغر(3)

إني و دعواك أن تأتي بمكرمة *** كمنبض القوس عن سهم بلا وتر

فاردد جفونك حسرى عن أبي دلف *** و لا ملامة أن تعشى عن القمر

لا يسخطنّ امرؤ إن ذلّ من حسب *** فاللّه أنزله في محكم السّور

لم آت سوءا و لم أسخط على أحد *** إلاّ على طلبي في مجتدى عسر(4)

أقصر أبا جعفر عن سطوة جمحت *** إن لم تقصّر بها مالت إلى القصر

فأجابه محمد بن عبد الملك:

يا أيّها العائبي و لم ير لي *** عيبا أ ما تنتهي فتزدجر!

هل لك وتر لديّ تطلبه *** فأنت صلد ما فيك معتصر

/فالحمد و المجد و الثناء لنا *** و للحسود التّراب و الحجر

و هي طويلة يقول فيها:

تعيش فينا و لا تلائمنا *** كما تعيش الحمير و البقر

تغلي علينا الأشعار منك و ما *** عندك نفع يرجّى و لا ضرر

فارس ذا الفارس:

أخبرني عمي - رحمه اللّه - قال: حدّثني عمر بن نصر الكاتب، قال: حدّثني عمي عليّ بن الحسن بن عبد الأعلى، قال محمد:

اجتاز بديع غلام عمير المأمونيّ بمحمد بن عبد الملك الزيات، و كان أحسن خلق اللّه وجها، و كان محمّد يحبّه و يجنّ به جنونا فقال:

راح علينا راكبا طرفه *** أغيد مثل الرشأ الآنس

/قد لبس القرطق و استمسكت *** كفّاه من ذي برق يابس(5)

ص: 49


1- شروى: مثل، و في هج «من أنشأنا» بدل «ما أنشأت».
2- كذا في ف، و في س، ب: «نقفو»، و معنى تقفو: تمحو.
3- في س، ب: «مطلبتي» بدل «مطلبي».
4- اجتذاه: سأله حاجة، و المراد هنا سؤال صعب النوال.
5- القرطق: القباء.

و قلّد السيف على غنجه *** كأنه في وقعة الدّاحس

أقول لمّا أن بدا مقبلا *** يا ليتني فارس ذا الفارس(1)

سماء تعوقني عن سماء:

أخبرني الأخفش، قال: حدّثني محمد بن يزيد قال:

دامت الأمطار بسرّمن رأى، فتأخّر الحسن بن وهب عن محمد بن عبد الملك الزيات، و هو يومئذ وزير، و الحسن يكتب له، فاستبطأه(2) محمد بن عبد الملك، فكتب إليه الحسن يقول:

أوجب العذر في تراخي اللقاء *** ما توالى من هذه الأنواء

لست أدري ما ذا أقول و أشكو *** من سماء تعوقني عن سماء

غير أني أدعو على تلك بالثّك *** ل و أدعو لهذه بالبقاء

فلام الإله أهديه غضّا *** لك مني يا سيّد الوزراء

مساجلة بينه و بين الحسن بن وهب:

أخبرني الصّوليّ، قال: حدّثنا محمد بن موسى، قال:

اعتلّ الحسن بن وهب، فتأخّر عن محمد بن عبد الملك أياما كثيرة، فلم يأته رسوله، و لا تعرّف خبره، فكتب إليه الحسن قوله:

أيّ هذا الوزير أيّدك اللّ *** ه و أبقاك لي بقاء طويلا

أ جميلا تراه يا أكرم النا *** س لكيما أراه أيضا جميلا

إنني قد أقمت عشرا عليلا *** ما ترى مرسلا إليّ رسولا(3)

/إن يكن موجب التعمّد في الصّ *** حّة منّا عليّ منك طويلا(4)

فهو أولى يا سيد الناس برّا *** و افتقادا لمن يكون عليلا

فلما ذا تركتني عرضة الظّنّ *** من الحاسدين جيلا فجيلا؟

أ لذنب فما علمت سوى الشك *** ر قرينا لنيّتي و دخيلا؟

أم ملال، فما علمتك للصا *** حب مثلي على الزمان ملولا؟

قد أتى اللّه بالشفاء فما أع *** رف مما أنكرت إلا قليلا

و أكلت الدّرّاج و هو غذاء *** أفلت علّتي عليه أفولا(5)

ص: 50


1- في م، أ: «راكب» بدل «فارس».
2- ب، س: «فاستبطأ».
3- في هج: «شهرا» بدل «عشرا».
4- في م: «التعهد» بدل «التعمد».
5- الدراج: كرمان طائر من طير العراق أرقط، و في هج «الدجاج» بدل «الدراج».

بعد ما كنت قد حملت من العلّ *** العضّ عبثا على الطّباع ثقيلا

/و لعلّي قدمت قبلك آتي *** ك غدا إن وجدت فيه سبيلا

فأجابه محمد بن عبد الملك:

دفع اللّه عنك نائبة الدّه *** ر و حاشاك أن تكون عليلا

أشهد اللّه ما علمت و ما ذا *** ك من العذر جائزا مقبولا

و لعمري أن لو علمت فلازمت *** ك حولا لكان عندي قليلا

إنني أرتجي و إن لم يكن ما *** كان مما نقمت إلا جليلا

أن أكون الذي إذا أضمر الإخ *** لاص لم يلتمس عليه كفيلا

ثم لا يبذل المودّة حتى *** يجعل الجهد دونها مبذولا

فإذا قال كان ما قال إذ كا *** ن بعيدا من طبعه أن يقولا

/فاجعلن لي إلى التعلّق بالعذ *** ر سبيلا إن لم أجد لي سبيلا

فقديما ما جاد بالصفح و العف *** و و ما سامح الخليل الخليلا

مساجلة أخرى بينهما:

قال: و كتب محمد بن عبد الملك إلى الحسن بن وهب و قد تأخّر عنه:

قالوا جفاك فلا عهد و لا خبر *** ما ذا تراه دهاه قلت: أيلول(1)

شهر تجذّ حبال الوصل فيه فما *** عقد من الوصل إلا و هو محلول

قال: و كان محمد قد ندبه لأن يخرج في أمر مهمّ فأجابه الحسن فقال:

إني بحول امرئ أعليت رتبته *** فحظّه منك تعظيم و تبجيل

و أنت عدّته في نيل همّته *** و أنت في كلّ ما يهواه مأمول

ما غالني عنك أيلول بلذّته *** و طيبه و لنعم الشهر أيلول

الليل لا قصر فيه و لا طول *** و الجو صاف و ظهر الكأس مرحول

و العود مستنطق عن كلّ معجبة *** يضحي بها كلّ قلب و هو متبول(2)

لكن توقّع و شك البين عن بلد *** تحلّه فوكاء العين محلول

مالي إذا شمّرت بي عنك مبتكرا *** دهم البغال أو الهوج المراسيل(3)

إلا رعاياتك اللاّتي يعود بها *** حدّ الحوادث عنّي و هو مفلول

ص: 51


1- أيلول: شهر رومي يقابله «سبتمبر» من شهور الفرنجة.
2- في هج: «في كل» بدل «عن كل».
3- المراسيل: جمع مرسال، و الهوج: جمع هوجاء، و المراد: الناقة المسرعة سهلة السير.

قال: و كان الحسن بن وهب يساير محمدا على مسنّاة(1)، فعدل عن المسنّاة لئلا/يضيق لمحمد الطريق، فظنّ محمد أنه أشفق على نفسه من المسنّاة، فعدل عنها، و لم يساعده على طريقه، و ظنّ بنفسه أن يصيبها ما يصيبه، فقال له محمد:

قد رأيناك إذ تركت المسنّا *** ة و حاذيتني يسار الطريق

و لعمري ما ذاك منك و قد جدّ *** بك الجدّ من فعال الشّفيق

ثم ساجلة ثالثة بينهما:

فقال له الحسن:

إن يكن خوفي الحتوف أراني *** أن تراني مشبّها بالعقوق

فلقد جارت الظنون على المش *** فق و الظّنّ مولع بالشفيق

/غرّر السيد الأجلّ و قد سا *** ر على الحرف من يمين الطريق(2)

فأخذت الشّمال بقيا على السي *** د إذ هالني سلوك المضيق

إنّ عندي مودّة لك حازت *** ما حوى عاشق من المعشوق

طود عزّ خصصت منه ببرّ *** صار قدري به مع العيّوق(3)

و بنفسي و إخوتي و أبي *** البرّ و عمّي و أسرتي و صديقي

من إذا ما روّعت أمّن روعي *** و إذا ما شرقت سوّغ ريقي

يمدح نفسه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش و الصوليّ، قالا: حدّثنا المبرّد، قال:

استسقى الحسن بن وهب من محمد بن عبد الملك نبيذا ببلد الروم، و هو مع المعتصم فسقاه و كتب إليه:

لم تلق مثلي صاحبا *** أبدى يدا و أعمّ جودا

/يسقي النديم بقفرة *** لم يسق فيها الماء عودا

صفراء صافية كأنّ *** بكأسها درّا نضيدا

و أجود حين أجود لا *** حصرا بذاك و لا بليدا

و إذا استقلّ بشكرها *** أوجبت بالشّكر المزيدا

خذها إليك كأنّما *** كسيت زجاجتها عقودا

و اجعل عليك بأن تقو *** م بشكرها أبدا عهودا

ص: 52


1- مسناة: سد يعترض به الوادي.
2- في س، ب: «عذر» بدل «غرر» و «الخوف» بدل «الحرف».
3- العيوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن يتلو الثريا لا يتقدمها.

يوم سرور لا يكمل:

أخبرني(1) الصوليّ، قال: حدّثني أحمد بن محمد الأنصاريّ، قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك، قال:

دعا محمد بن عبد الملك قبل وزارته الحسن بن وهب في آخر أيام المأمون، فجاءه و دخلا حمّاما له، و أقاما على لهوهما، ثم طلب الحسن بن وهب لعمل احتيج فيه إليه، فمضى، و بطل يومهم(2)، فكتب الحسن إليه:

سقيا لنضر الوجه بسّامه *** مهذّب الأخلاق قمقامه(3)

تكسبه شكرا على أنها *** مطبقة السّنّ للوّامه(4)

زرناه في يوم علا قدره *** من سائر الأيام في عامه

أسعده اللّه و أحظى به *** و جاده الغيث بإرهامه(5)

فكان مسرورا بنا باذلا *** لرحله الرحب و حمّامه

نخدمه و هو لنا خادم *** بفضله من دون خدّامه

/ثم سقانا قهوة لم يدع *** أطيب منها بقرى شامه

صهباء دلّت على دنّها *** و حدّثت عن ضعف إسلامه(6)

فأجابه محمد بن عبد الملك رحمه اللّه تعالى:

و زائر لذّ لنا يومه *** لو ساعد الدهر بإتمامه

ما ذا لقينا من دواوينه *** و خطّه فيها بأقلامه؟

أسرّ ما كنّا فمن مازح *** أو شارب قد عبّ في جامه

فارقنا فالنّفس مطروفة *** بواكف الدّمع و سجّامه

و عاد بالمدح لنا منعما *** به إلى سالف إنعامه

ليت - و أنّي لي بها منية - *** لو كنت فيه بعض قوّامه

يشكر ما نال على أنه *** لا يشكر الحرّ لحمّامه

أمسحه فيه و أدنو له *** من خلفه طورا و قدّامه

جعلت نفسي جنّة للصّبا *** و بعت إسلامي بإسلامه

ص: 53


1- من أول هذا الخبر حتى آخر الترجمة ساقط من نسختي ب، س، و مه، و التكملة من. هج و هد.
2- في هج «و بطل يومهما» بدل «و بطل يومهم».
3- القمقام - و يضم - السيد.
4- فاعل تكسبه ضمير الأخلاق، و إطباق السن: كناية عن الصمت.
5- الإرهام: الغيث.
6- ذلك كناية عن عتقها.

فصار ما يشرب حلاله *** و صرت مأخوذا بآثامه

وضعه في حديد ثقيل:

اشارة

أخبرني الحسن بن القاسم الكاتب، قال: سمعت القاسم بن ثابت يحدّث عن أبيه، قال: قال أحمد الأحول:

لما قبض على محمد بن عبد الملك الزيات تلطّفت في الوصول إليه، فرأيته في حديد ثقيل، فقلت له: أعزز عليّ ما أرى، فقال:

سل ديار الحي ما غيّرها *** و محاها و محا منظرها؟

/و هي اللاتي إذا ما انقلبت *** صيّرت معروفها منكرها(1)

إنما الدنيا كظلّ زائل *** نحمد اللّه كذا قدّرها

في هذه الأبيات رمل طنبوري لا أدري لمن هو؟ و مما يغنّى فيه من شعر محمد بن عبد الملك الزيات:

صوت

ظالمي ما علمته *** معتد لا عدمته

مطمعي بالوصال مم *** تنع حين رمته

مرصد بالخلاف و ال *** منع من حيث سمته(2)

هاجر إن وصلته *** صابر إن صرمته

كم و كم قد طويت ما *** بي و كم قد كتمته

ربّ همّ طويت في *** ك و غيظ كظمته(3)

و حياة سئمتها *** و الهوى ما سئمته

رمت شيئا هويته *** ليس لي ما حرمته

قال إذ صرّح البكا *** ء بما قد سترته(4)

لو بكى طول دهره *** بدم ما رحمته

الغناء لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل بالبنصر.

صوت

إذا أحببت لم أسل *** و إن واصلت لم أقطع

ص: 54


1- في هد «و هي الدنيا» بدل «و هي اللاتي».
2- أرصد له شيئا: أعده له.
3- في هج «طويت عنك» بدل «طويت فيك».
4- في هج «كتمته» بدل «سترته».

و إن عاتبني الناس *** تصاممت فلم أسمع

و قد جرّبت ما ضرّ *** و قد جرّبت ما ينفع

فما مثل الهوى أنه *** ك للجسم و لا أضرع

و لا كالهجر في القرب *** إلى الموت و لا أسرع

و إن أوجعني العذل *** فنيران الهوى أوجع

و هذا عدم العقل *** فما أسطيع أن أصنع

و لا و اللّه ما عندي *** لما قد حلّ بي مدفع

و لا فيّ لهجران *** ك لو لا ظلمكم موضع

الغناء لعريب لحنان: خفيف ثقيل بالبنصر، و هزج بالوسطى.

يمدح الحسن بن وهب:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد المبرّد، قال: حدّثني الحسن بن رجاء، قال:

قدم محمد بن عبد الملك على الحسن بن سهل إلى فم الصّلح، و امتدحه بقصيدته التي أولها:

كأنها حين تناءى خطوه *** أخنس موشيّ الشّوي يرعى القلل(1)

/و قال فيها:

إلى الأمير الحسن استنجدتها *** أيّ مراد و مناخ و محلّ

سيف أمير المؤمنين المنتضى *** و حصن ذي الرئاستين المقتبل(2)

آباؤك الغرّ الألى جدّهم *** كسرى أنوشروان و الناس همل

من كلّ ذي تاج إذا قال مضى *** كلّ الذي قال و إن همّ فعل

فأين لا أين و أنّى مثلكم *** أنتم الأملاك و الناس خول(3)

فأمر له بعشرة آلاف درهم.

يتنكر للحسن بن سهل فيخجله:

قال: و مرض الواثق، فدخل إليه الحسن بن سهل عائدا، و محمد بن عبد الملك يومئذ وزيره، و الحسن بن سهل متعطّل، فجعل الحسن بن سهل يتكلم في العلة و علاجها و ما يصلح للواثق من الدواء و العلاج و الغذاء أحسن

ص: 55


1- الأخنس: ذكر البقر الوحشي، موشي الشوى: منقوش الأطراف.
2- ب، س: «المعقل» بدل «المقتبل».
3- في البيت حلل عن نفسي، فالمصراع الثاني من الرمل، و القصيدة كلها من الرجز: و نرجح أنها «فأتم الأملاك». الخدل: الخدم و الحشم.

كلام، قال: فحسده محمد بن عبد الملك، و قال له: من أين لك هذا العلم يا أبا محمد؟ قال: إني كنت أستصحب من أهل كل صنعة رؤساء أهلها، و أتعلم منهم، ثم لا أرضى إلا ببلوغ الغاية، فقال له محمد - و كان حسودا: و متى كان ذلك؟ قال: في زمان قلت فيّ:

فأين لا أين و أنّى مثلكم *** أنتم الأملاك و الناس خول(1)

فخجل محمد بن عبد الملك، و أطرق، و عدل عن الجواب.

عسى أمور بعد ذلك تكون:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني حمّاد بن إسحاق قال: حدّثني ميمون بن هارون بن خلف قال:

/كنت أسير بالقرب من محمد بن عبد الملك الزيات، و هو يريد يومئذ منزله، حتى مرّ بدار إبراهيم بن رباح، فرأى فيها قبة مشيدة، فقال:

أما القباب فقد أراها شيّدت *** و عسى أمور بعد ذاك تكون

عبد عرت منه خلائق جهله *** إذ راح و هو من الثّراء سمين(2)

فما كان إلا أيّام حتى أوقع به.

ابن أبي دواد يكيد له:

أخبرني عمي قال: حدّثني الحسن بن عليّ بن عبد الأعلى عن أبيه، قال:

كان الواثق قد أصلح بين محمد بن عبد الملك الزيات و بين أحمد بن أبي دواد، فكفّ محمد عن ذكره، و جعل ابن أبي دواد يخلو بالواثق، و يغريه به، حتى قبض عليه، و كان فيما بلغه عنه أنه قد عزم على الفتك به و التدبير عليه. فقبض الواثق عليه، ثم أطلقه بعد مدة، ثم وزر للمتوكل، و كان محمد بن عبد الملك أشار بابن الواثق، و أشار ابن أبي دواد بالمتوكل، و قام و قعد في أمره حتى ولّى، و عمّمه بيده، و ألبسه البردة، و قبّل بين عينيه، و كان المتوكّل قبل ذلك يدخل على محمد بن عبد الملك في حياة الواثق يشكو إليه جفاءه له فيتجهّمه محمد، و يغلظ له الردّ، إلى أن قال يوما بحضرته: أ لا تعجبون إلى هذا العاصي، يعادي أمير المؤمنين، ثم يسألني أن أصلح له قلبه! اذهب، ويلك فأصلح نفسك له، حتى يصلح لك قلبه. فكان موقع ذلك يحسن عند الواثق، فدخل إليه يوما، و قد كان قال للواثق: إن جعفرا يدخل إليّ و له شعر قفا و طرّة مثل النساء، فقد فضحك فأمره بأن يحلقهما، و يضرب بشعرهما وجهه، فلما دخل إليه المتوكل فعل ذلك به، و تجهّمه بالقبيح، فلما ولي الخلافة خشي إن نكبه عاجلا أن يستتر أسبابه(3) فتفوته بغيته فيه، فاستوزره و خلع عليه، و جعل ابن أبي دواد يغريه به و يجد عنده لذلك موقعا/و استماعا، حتى قبض عليه و قتله، فلم يجد له من أملاكه كلّها من عين و ورق و أثاث و ضيعة إلاّ ما كانت

ص: 56


1- ارجع إلى ما كتبه من هذا البيت في التعليقة السابقة.
2- في هج: «نزت» بدل «عرت».
3- هكذا في النسخ التي بين أيدينا. و نرجح أن ثمة تحريفا، و لعل العبارة: «خشي إن نكبه عاجلا أن يستثير أحبابه».

قيمته مائة ألف دينار، فندم على ذلك، و لم يجد منه عوضا، و كان أمره مما يعتدّ على أحمد بن أبي دواد، و يقول:

أطمعتني في باطل، و حملتني على أمر لم أجد منه عوضا.

دندن الكاتب يتنبأ بما حدث له:

أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ، قال:

زعم محمد بن عيسى الفساطيطيّ، أن محمد بن عبد الملك اجتاز بدندن الكاتب، و عليه خلع الوزارة للمتوكل لما وزر له، فقال دندن:

راح الشقيّ بخلعة النّكر *** مثل الهديّ لليلة النّحر(1)

لا تمّ شهر بعد خلعته *** حتى تراه طافي الجمر(2)

و يرى يطاين من إساءته *** يهوي له بقواصم الظهر(3)

فكان الأمر كما قال.

في التنور:

قال عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى:

فلما قبض عليه المتوكل استعمل له تنّور حديد، و جعل فيه مسامير لا يقدر معها أن يتحرّك إلا دخلت في جسده، ثم أحماه له و جعله فيه، فكان يصيح: ارحموني! فيقال له: اسكت، أنت كنت تقول: ما رحمت أحدا قطّ، و الرحمة ضعف في الطبيعة، و خور في المنّة، فاصبر على حكمك! و خرج عليه عبادة، فقال: أردت أن تشويني، فشووك.

موت و مكايدة:

أخبرني طاهر بن عبد اللّه بن طاهر الهاشميّ: قال: قال العباس بن طومار:

أمر المتوكل عبادة أن يدخل إلى محمد بن عبد الملك الزيات - و قد أحمى تنور حديد، و جعله فيه - فيكايده، فدخل إليه فوقف بإزائه، ثم قال: اسمع يا محمد، كان/في جيراننا حفّار يحفر القبور، فمرضت مخنّثة من جيراني، و كانت صاحبة لي، فبادر فحفر لها قبرا من الطمع في الدراهم، فبرأت هي و مرض هو بعد أيام، فدخلت إليه صاحبتي و هو بالنزع، فقالت: وى يا فلان؟ حفرت لي قبرا و أنا في عافية، أ و ما علمت أنه من حفر بئر سوء وقع فيها، و حياتك يا محمد، لقد دفناه في ذلك القبر، و العقبى لك. قال: فو اللّه ما برح من إزاء محمد، عبد الملك يؤذيه، و يكايده إلى أن مات.

الحسن بن وهب يرثيه:

قال الصوليّ:

ص: 57


1- في هج: «جاز» بدل «راح»، الهدى: الضحية و نحوها.
2- ربما كانت «طافي الجمر» محرفة عن: صار في الجمر.
3- لم نقف فيما في أيدينا من المعاجم على هذه الصيغة (يطاين).

و قال الحسن بن وهب يرثي محمد بن عبد الملك، و كان في حياته ينتفي(1) منها، و يجحدها، ثم شاعت بعد ذلك، و وجدت بخطه:

يكاد القلب من جزع يطير *** إذا ما قيل قد قتل الوزير

أمير المؤمنين هدمت ركنا *** عليه رحاكم كانت تدور

سيبلى الملك من جزع عليه *** و يخرب حين تضطرب الأمور(2)

فمهلا يا بني العباس مهلا *** فقد كويت بفعلكم الصدور

إلى كم تنكبون الناس ظلما *** لكم في كل ملحمة عقير

جزيتم ناصرا لكم المنايا *** و ليس كذلكم يجزى النّصير

فكنتم سائقا أرسا إليكم *** و ذلك من فعالكم شهير(3)

و كأنّ صلاحه لو شئتموه *** قريبا لا يحاوله البصير

كأنّ اللّه صيّركم ملوكا *** لئلاّ تعدلوا و لأن تجوروا

ص: 58


1- ينتفي منها: يتنصل منها، و لا ينسبها إلى نفسه خوفا.
2- سيبلى: من البلى أو البلوى: كلاهما صحيح، و في هج «يحزن» بدل «يخرب».
3- في المصراع الأول التواء، و هو كذلك في النسخ، و لعله محرف عن «و كم من سابق أوما إليكم» و أوما: تخفيف أومأ بمعنى أشار.

5 - أخبار أبي حشيشة

اسمه و نسبه:

5 - أخبار أبي حشيشة(1)

أبو حشيشة لقب غلب عليه، و هو محمد بن أمية بن أبي أمية، يكنى أبا جعفر، و كان أهله جميعا متّصلين بإبراهيم بن المهديّ، و كان هو من بينهم معنيّا بالطّنبور، يغنّى أحسن غناء(2) و خدم جماعة من الخلفاء أولهم المأمون، و من بعده إلى المعتمد.

أبو صالح يكتب له في استتاره:

اشارة

و له يقول أبو صالح بن يزداد و كتب بها في استتاره(3):

جعلت فداك يا بن أبي أميّه *** أرى الأيام قد حكمت عليه

و ملّني الصديق و خان عهدي *** فما أقرا لكم كتبا إليّه

فإن كان الضمير كما بدا لي *** فهذا و الإله هو البليّة

كان أكثر انقطاعه إلى أبي أحمد بن الرشيد أيام حياته، و كان أبوه وجده و أخواله كتّابا.

و قرأت على أحمد بن جعفر جحظة ما ذكره عن أبي حشيشة في كتابه الذي ألّفه في أخبار مراتب الطّنبوريين و الطّنبوريات و كان من ذلك أنه قال:

شاهدت أبا حشيشة مدّة، و كان يتغنّى في أشعار خالد الكاتب و بني أمية، و كانت معه فقر من الأحاديث يضعها مواضعها، و كانت له صنعة تقدّم فيها كلّ طنبوريّ، لا أحاشي من قولي ذلك، فمنها:

كأنّ هموم الناس في الأرض كلّها *** عليّ و قلبي بينهم قلب واحد

و لي شاهدا عدل سهاد و عبرة *** و كم مدّع للحبّ من غير شاهد

و هو خفيف رمل مطلق. قال جحظة: و رأيته في القدمة التي قدمها مع ابن المدبّر بين يدي المعتمد، و قد غناه من شعر عليّ بن محمد بن نصر.

ص: 59


1- لم ترد هذه الترجمة في طبعة بولاق.
2- في هج: «أحسن الناس غناء».
3- في س، ب: «استفساره».
صوت

حرمت بذل نوالك *** وا سوأتا من فعالك!

لما مللت وصالي *** آيستني من وصالك

المعتمد يهب له مائتي دينار:

فوهب له مائتي دينار.

و اللحن رمل مطلق.

عريب تفضله على علويه و مخارق:

أخبرني جحظة فيما قرأته عليه، قال: حدّثني ابن نوبخت: يعني عليّ بن العباس قال:

رأيته و قد حضرت عريب عند ابن المدبر، و هو يغنّي، فقالت له عريب: أحسنت يا أبا جعفر، و لو عاش الشّيخان ما قلت لهما هذا - تعني علويه و مخارقا.

مائتا سوط إن تكلم:

حدّثني أبو حشيشة، قال: هجم عليّ خادم أسود، فقال لي: البس ثيابك، فعلمت أن هذا لا يكون إلا عن أمر خليفة أو أمير، فلم أراجعه، حتى لبست ثيابي، فمضيت معه فعبر بي الجسر، و أدخلني إلى دار لا أعرفها، ثم اجتاز بي في رواق فيه حجر تفوح منهنّ رائحة الطعام و الشراب، فأدخلت منهنّ إلى حجرة مفروشة، و جاءني بمائدة كأنها جزعة يمانية قد نشرت في عراصها الحبرة(1)، فأكلت و سقاني رطلين و جاءني بصندوق ففتحه فإذا فيه طنابير، فقال لي: اختر، فاخترت واحدا، و أخذ بيدي، فأدخلني إلى دار فيها سمّاعة(2) و فيها رجلان على أحدهما قباء غليظ، و على الآخر ثياب ملحم(3) و خزّ، فقال لي صاحب الخزّ: اجلس، فجلست، فقال: أكلت و شربت؟ فقلت: نعم.

قال: عندنا؟ قلت: نعم، قال: تغنّي ما نقول لك؟ فقلت له: قل، فقال: تغنّي بصنعتك:

/

يا كثير الإقبال و الانصراف(4)*** و ملولا و لو أشأ قلت خاف

و هو رمل مطلق، فغنّيته إياه، و جعل يطلب مني صوتا بعد صوت من صنعتي، فأغنّيه، و يستعيده، و يشرب هو و الرجل، و أسقى بالإنصاف المختوتة(5) إلى أن صلوا العشاء الآخرة، و هم لا يشربون إلا على الصوت الأول لا يريدون غيره، ثم أومأ إليّ الخادم: قم، فقمت، فقال لي صاحب القباء منهما: أ تعرفني؟ قلت: لا و اللّه، قال: أنا إسحاق بن إبراهيم الطاهريّ، و هذا محمد بن راشد الخنّاق، و اللّه لئن بلغني أنك تقول: إنك رأيتني لأضربنّك مائتي سوط، انصرف. فخرجت و دفع إلى الخادم ثلاثمائة دينار، فجهدت أن يقبل منها شيئا على سبيل البرّ، فما فعل.

ص: 60


1- الحبرة كناية عن ألوان الطعام الشهية البراقة.
2- لعل المراد بها السامعون كالنظارة بمعنى الناظرين.
3- ملحم، كمكرم: جنس من الثياب و لعله المبطن.
4- يجب قطع همزة الانصراف لإقامة الوزن.
5- المختوتة: الناقصة.

حدّثني جحظة قال: حدّثني أبو حشيشة: قال:

وجّه إليّ إسحاق بن إبراهيم الطاهريّ، فصرت إليه و هو في داره التي على طرف الخندق، فدعا بجونة(1)، فأكل و أكلت من ناحية، و دعا بستارة و قال: تغنّ بصنعتك:

عاد الهوى بالكأس بردا *** فأطع إمارة من تبدّى

و هو خفيف رمل مطلق.

فغنّيته مرارا، ثم ضرب السّتارة، و قال: فولوه، فقالته جارية فأحسنت غاية الإحسان، فضحك ثم قال: كيف تراه؟ فقلت: قد و اللّه بغّضوه إليّ، فازداد في الضحك، و أنا أرمق جبّة خزّ خضراء كانت عليه، فقال: كم ترمق(2)هذه الجبّة؟ يا غلام، كانت عشرة أثواب خزّ فقطعت منها هذه الجبّة، فهات التسعة فجيء بها، فدفعها إليّ فكنت أبيع رذالها(3) بستين دينارا.

/حدّثني جحظة قال:

حدّثني أبو حشيشة أن بني الجنيد الإسكافيّين كانوا أوّل من اصطنعه، و أنهم كانوا يسمونه الظّريف، و أن أول منزل ابتاعه من أموالهم إلى أن شاع خبره، و تفاقم أمره. قال: و كانوا آكل الناس، رأيت رجلا منهم، و قد أكل هو و ابن عم له اثنين و عشرين رأسا كبارا، و شربا، فسكرا و ناما، ثم انتبها في وقت الظّهر، فدعوا بالطعام، فعادا إلى الأكل، ما أنكر منهما شيئا.

المأمون أول خليفة سمعه:

اشارة

و نسخت من كتاب ألّفه أبو حشيشة، و جمع فيه أخباره مع من عاشره، و خدم من الخلفاء، و هو كتاب مشهور، قال:

أول من سمعني من الخلفاء المأمون، و هو بدمشق، و صفني له مخارق، فأمر بأشخاصي إليه، و أمر لي بخمسين(4) ألف درهم أتجهّز بها، فلما وصلت إليه أدناني، و أعجب بي، و قال للمعتصم: هذا ابن من خدمك و خدم آبائك و أجدادك يا أبا إسحاق، جدّ هذا أمية كاتب جدّك المهديّ على كتابة السرّ و بيت المال و الخاتم، و حجّ المهديّ أربع حجج كان جدّ هذا زميله فيها. و اشتهى المأمون من غنائي:

صوت
يضرب لغنائه بشعر فيه ذكر الشيب:

كان ينهى فنهى حين انتهى *** و انجلت عنه غيابات الصّبا

خلع اللهو و أضحى مسبلا *** للنّهى فضل قميص وردا

ص: 61


1- جونة: سلة صغيرة.
2- ترمن: تلحظها لحظا خفيفا.
3- الرذال: الدون الخسيس من كل شيء.
4- ف: «خمسة آلاف».

كيف يرجو البيض من أوّله *** في عيون البيض شيب وجلا(1)

كان كحلا لمآقيها فقد *** صار بالشيب لعينيها قذى

الشعر لدعبل، و الغناء لمحمد بن حسين بن محرز رمل بالوسطى.

قال أبو حشيشة: و كان مخارق قد نهاني أن أغنّي ما فيه ذكر الشيب من هذا الشعر، و أن أقتصر على البيتين الأوّلين؛ لأن المأمون كان يشتدّ عليه ذكر الشيب، /و يكرهه جدّا من المغنّين، و أمر ألاّ يغنّيه أحد بشعر قيل في الشيب أو فيه ذكر له، فسكرت يوما، فمررت في الشعر كلّه، فقال: يا مخارق، أ لا تحسن أدب هذا الفتى! فنقفني(2) مخارق نقفة صلبة، فما عدت بعدها لذكر شيء فيه الشيب.

لكل خليفة صوت يحبه:

اشارة

و ذكر أبو حشيشة في كتابه هذا مما كان يشتهيه عليه المأمون و غيره من الخلفاء أصواتا كثيرة، و لا فائدة في ذكرها هاهنا لأنها طويلة، فذكرت مما كان يختاره عليه كلّ خليفة صوتا. قال أبو حشيشة: كان المعتصم يشتهي عليّ:

صوت

أسرفت في سوء الصنيع *** و فتكت بي فتك الخليع

و ولعت بي متمرّدا *** و العذر في طرف الولوع(3)

صيّرت حبّك شافعا *** فأتيت من قبل الشّفيع

الشعر لأصرم بن حميد، و الغناء لأبي حشيشة.

قال: و كان الواثق يختار من غنائي:

يا تاركي متلدّد الع *** وّاد جذلان العداة(4)

انظر إليّ بعين را *** ض نظرة قبل الممات

خلّيتني بين الوعي *** د و بين ألسنة الوشاة

ما ذا يرجّي بالحيا *** ة منغّص روح الحياة؟

الشعر لمحمد بن سعيد الأسديّ، و الغناء لأبي حشيشة خفيف رمل.

قال: و كان المتوكّل يحبّني، و يستخفّني، و كانت أغانيه التي يشتهيها عليّ كثيرة منها:

ص: 62


1- شيب و جلا: انحسار مقدم الشعر، أو هو دون الصلع.
2- النقف: أشد الضرب بعصا نحوها.
3- في هج: «طرق» بدل «طرف».
4- متلدد العواد: متحير الزائرين.
صوت

أطعت الهوى و خلعت العذارا *** و باكرت بعد القراح العقارا(1)

و نازعك الكأس من هاشم *** كريم يحبّ عليها الوقارا

فتى فرّق الحمد أمواله *** يجرّ القميص و يرخي الإزارا

رأى اللّه جعفر خير الأنام *** فملّكه و وقاه الحذارا

الشعر و الغناء لأبي حشيشة.

قال: و كان الفتح بن خاقان يشتهي عليّ:

صوت

قالوا عشقت فقلت أحسن من مشى *** و العشق ليس على الكريم بعار

يا من شكوت إليه طول صبابتي *** فأجابني بتجهّم الإنكار

قال: و كان المستعين يشتهي عليّ:

صوت

و ما أنس لا أنس منها الخشوع *** و فيض الدموع و غمز اليد

و خدّي مضافا إلى خدّها *** قياما إلى الصّبح لم ترقد

الشعر لمحمد بن أبي أمية و الغناء لأبي حشيشة.

قال: و أخبرني محمد بن عليّ بن عصمة - و كان إليه الزهد في الدنيا كلّها - قال: حضرت المعتزّ و قد ورد عليه جواب كتابه إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر، و كان كتب إليه يطلبني منه، فكتب إليه محمد: إني عليل، لا فضل فيّ للخدمة، قال أبو عصمة: فقال لي المعتزّ: يا أبا محمد، صديقك أبو حشيشة يؤثر علينا آل طاهر، فقلت له:

يا سيّدي، أنا أعلم الناس بخبره، هو و اللّه عليل: ما فيه موضع لخدمة أمير المؤمنين، /قال: ثم ذكرني المعتمد.

و حرّضه(2) عليّ ابن حمدون، فكتب إلى أيوب(3) سليمان بن عبد اللّه بن طاهر - و هو يومئذ أمير بغداد - في إشخاصي، فشخّصني إليه من ساعتي، فأكرمني، و أدنى في مجلسي، و أمر لي بجائزة، و اشتهى عليّ:

قلبي يحبّك يا منى *** قلبي و يبغض من يحبّك

لأكون فردا في هوا *** ك فليت شعري كيف قلبك؟

الشعر لأحمد بن يوسف الكاتب، و الصنعة لأبي حشيشة رمل.

ص: 63


1- العقار: الخمر.
2- ب، س: «و تعرضه».
3- في هج: «فكتب إلى أبي أيوب».

مع إبراهيم بن المهدي:

اشارة

قال أبو حشيشة: سمع إبراهيم بن المهديّ أصواتا من غناء محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر و عمرو بن بانة، فاستحسنها و أخذها جواريه، و قال: الطّنبور كلّه باطل، فإن كان فيه شيء حقّ فهذا. و أشتهي(1) أن يسمعني. فهبته هيبة شديدة، و قلت: إن رضيني لم يزد ذلك في قدري، و إن لم يرضني بقيت وصمة آخر الدهر، و كان يطلبني من محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر خاصة، و من إسحاق بن عمرو بن بزيع، فكنت أفرّ منهما، حتى صرت بسرّمن رأى، و أنا في تلك الأيام منقطع إلى أبي أحمد بن الرشيد، و نحن في مضارب(2) لم نكن سكنّا المنازل بعد، فوافى إلى أبي أحمد بن الرشيد رسول إبراهيم بن المهدي فأبلغه السّلام، و قال: يقول لك عمّك: قد أعيتني الحيل في هذا الخبيث، و أنا أحبّ أن أسمعه، و هو يهرب مني، فأحبّ أن تبعث به إليّ، و يكون زيرب(3) معه تؤنسه. فقال لي:

أبو أحمد: لا بدّ أن تمضي إلى عمي، فجهدت كلّ الجهد أن يعفيني، فأبى، فلما رأيت أنه لا بدّ لي منه لبست ثيابي، و مضيت إليه، و هو نازل في دسكرة، فرحّب بي/و قرّب، و بسطني كلّ البسط و معي زيرب، و دعا بالنبيذ، و أمر خدما له كبارا، فجلسوا معي و شربوا و سقوني. و عرض لي بكلّ حيلة أن أغنّي، فهبته هيبة شديدة، و حصرت.

و شرب، و دعا بثلاث جوار، فخرجت و جلسن، و قال لهن: قلن:

صوت

كيف احتيالي و أنت لا تصل *** عيل اصطباري و قلّت الحيل

إن كان جسمي هواك ينحله *** فإن قلبي عليك يتّكل

الشعر لخالد الكاتب، و الغناء لأبي حشيشة رمل. و كان يسميه الرّهبانيّ، عمله على لحن من ألحان النصارى سمعه من رهبان في الليل يردّدونه، فغنّاه عليه.

فقالته إحداهنّ، فذهب عقلي، و سمعت شيئا لم أسمع مثله قطّ، فقال: يا خليلي، أ هذا لك؟ فقلت: نعم - أصلح اللّه الأمير - و أخذتني رعدة، ثم قال لهنّ: إيه، قلن:

صوت

ربّ ما لي و للهوى *** ما لهذا الهوى دوا

حاز طرفي الذي هوى ال *** حسن قلبي و ما حوى

الشعر لخالد، و الغناء لأبي حشيشة رمل.

فغنّته فسمعت ما هو أعجب من الأول، فقال: يا خليلي، هذا لك؟ قلت: نعم يا سيدي، قال: هكذا أخذناهما من محمد بن الحارث، ثم شرب رطلا آخر، فقلت: يا نفس(4)، دعاك الرجل يسمعك، أو يسمعك، و قوّيت عزمي، و تغنّيته بشعر خالد الكاتب، و هو هذا:

ص: 64


1- ب، س: «لو اشتهيت».
2- مضارب: جمع مضرب، و هو الفسطاط.
3- ب، س: «ربرب».
4- هج: «فقلت لنفسي».
صوت

لئن لجّ قلبك في ذكره *** و لجّ حبيبك في هجره

لقد أورث العين طول البكا *** و عزّ الفؤاد على صبره

/فإن أذهب القلب وجد به *** فجسمك لا شكّ في إثره

و أيّ محبّ تجافى الهوى *** بطول التفكّر لم يبره

فجعل يردّد البيت الأول و البيت الأخير، و قال لي: لا تخرجنّ يا خليلي من هذا إلى غيره، فلم أزل أردده عليه، حتى شرب ثلاثا، و استرحت ساعة، و شربت و طابت نفسي، ثم استعادني فغنّيته، فأعجب به خلاف الأول، فنظر إليّ و ضحك، و لم يقل شيئا، و شرب رطلا رابعا و جاءت المغرب، فقال لي: يا خليلي، ما أشك في أنك قد أوحشت ابني(1) منك، فامض في حفظ اللّه تعالى. فخرجت أطير فرحا بانصرافي سالما، فلما وافيت أبا أحمد، و بصر بي من بعيد قال: حنطة، أو شعير؟ فقلت، بل سمسم و شهد، انج على رغم أنف من رغم، فقال: ويحك، أ تراني لا أعرف فصلك! و لكن أحببت أن أستعين برأيه على رأيي فيك، و قصصت عليه القصة، فسرّه ذلك، و لم يرض حتّى دسّ إليه محمد بن راشد الخناق، فسأله عني، فقال: ما ظننت أن يكون في صناعته مثله.

إسحاق يزكيه:

قال أبو حشيشة: و سمع إسحاق بن إبراهيم الموصليّ غنائي فاستحسنه، فسئل عني، فقال: غناء الطّنبور كله ضعيف، و ما سمعت فيه قطّ أقوى و لا أصحّ من هذا.

موت أبي حشيشة:

اشارة

حدّثني جحظة، قال: كان سبب موت أبي حشيشة بسرّمن رأى، أن قلما غلام الفضل بن كاووس صار إليه في يوم بارد، فدعاه إلى الصّبوح، فقال له: أنا لا آكل إلا طعاما حارّا، و ليس عندك إلا فضيلة من مجليّة، قال:

تساعدني، و تأكل معي، فأكل منها، فجمّدت دم قلبه، فمات، فحمله إبراهيم بن المدبّر إلى بناته و ما كسبه بسرّمن رأى معه، فاقتسمنه بينهنّ.

صوت

سقيا لقاطول لا أرى بلدا *** أوطنه الموطنون يشبهها

أمنا و خفضا و لا كبهجتها *** أرغد أرض عيشا و أرفهها

البيت الأول من البيتين لعنان جارية الناطفيّ، و الثاني يقال: إنه لعمرو الوراق(2)، و يقال إنّه لأبي نواس، و يقال بل هو لها.

و الغناء لعريب خفيف رمل. و كان الشعر: «سقيا لبغداد» فعيّرته عريب و جعلت مكانه «سقيا لقاطول».

ص: 65


1- لعله يقصد بابنه الخليفة، فإنه بمثابة ابنه.
2- في هج: «لعمرو الوادي».

6 - أخبار عنان

اشارة

6 - أخبار عنان(1)

كانت عنان مولّدة من مولّدات اليمامة، و بها نشأت و تأدبت، و اشتراها الناطفيّ، و ربّاها، و كانت صفراء جميلة الوجه، شكلة(2) مليحة الأدب و الشعر سريعة البديهة. و كان فحول الشعراء يساجلونها، و يقارضونها، فتنتصف منهم.

مساجلة فاحشة بينها و بين أبي نواس:

أخبرني محمد بن جعفر الصيدلانيّ صهر المبرّد النحويّ و عليّ بن صالح بن الهيثم قال:

حدّثنا أبو هفّان عن الجمّاز قال: دخل أبو نواس يوما على عنان جارية الناطفيّ، فتحدّثا ساعة، ثم قال لها:

قد قلت شعرا، فقالت: هات فقال:

إن لي أيرا خبيثا *** لونه يحكي الكميتا

لو رأى في الجوّ صدعا *** لنزا حتّى يموتا

أو رآه فوق سقف(3) *** لتحوّل عنكبوتا

أو رآه جوف بحر *** خلته في البحر حوتا

قال: فما لبثت أن قالت:

زوّجوا هذا بألف *** و أظنّ الألف قوتا

إنني أخشى عليه *** إن تمادى أن يموتا

بادروا ما حلّ بالمس *** كين خوفا أن يفوتا

قبل أن ينتكس الدّ *** اء فلا يأتي و يؤتي

/قال: و دخل إليها يوما، فقال:

ما ذا ترين لصبّ *** يريد(4) منك قطيره

فأجابته:

إياي تعني بهذا *** عليك فاجلد عميره

ص: 66


1- هذه الترجمة مما ورد في بعض المخطوطات المعتمدة، و لم ترد في طبعة بولاق.
2- من شكلت المرأة، فهي شكلة: صارت ذا غنج و دلال.
3- في هج: «فوق سطح».
4- ف: «يكفيه».

فقال لها:

أريد هذا و أخشى *** على يدي منك غيره

قال: فخجلت و قالت: تعست، و تعس من يغار عليك.

تطارح أبا حنش:

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ: قال: حدّثنا عمر بن شبّة: قال: حدّثني أبو أحمد بن معاوية: قال:

سمعت أبا حنش يقول: قال لي الناطفيّ: لو جئت إلى عنان فطارحتها(1)، فعزمت على الغدوّ، فبتّ ليلتين أحوك بيتين، ثم غدوت عليها فقلت:

أحبّ الملاح البيض قلبي و ربّما *** أحبّ الملاح الصّفر من ولد الحبش

بكيت على صفراء منهنّ مرّة *** بكاء أصاب العين منّي بالعمش(2)

فقالت:

بكيت عليها أنّ قلبي يحبّها *** و أنّ فؤادي كالجناحين ذو رعش

تغنّيتنا بالشّعر لما أتيتنا *** فدونك خذه محكما يا أبا حنش

هي أشعر الجن و الإنس:

أخبرني أحمد: قال: حدّثني عمر بن شبّة: قال: حدّثني أحمد بن معاوية: قال:

سمعت مروان بن أبي حفصة يقول: لقيني الناطفيّ؛ فدعاني إلى عنان، فانطلقت معه، فدخل إليها قبلي، فقال لها: قد جئتك بأشعر الناس، مروان بن أبي حفصة، فوجدها عليلة، /فقالت له: إني عن مروان لفي شغل، فأهوى إليها بسوط(3) فضربها به، و قال لي: ادخل، فدخلت و هي تبكي، فرأيت الدموع تنحدر من عينيها فقلت:

بكت عنان فجرى دمعها *** كالدّرّ إذ يسبق من خيطه(4)

فقالت و هي تبكي:

فليت من يضربها ظالما *** تيبس يمناه على سوطه(5)

فقلت: أعتق مروان ما يملك إن كان في الجنّ و الإنس أشعر منها.

تجيز ما لا يجاز:

اشارة

أخبرني الجوهريّ، قال: حدّثنا أبو زيد عن أحمد بن معاوية: قال:

ص: 67


1- ف هج: «قال لي الناطفي هلم إلى عنان فطارحها».
2- في هج: «في الدهر مرة» بدل «منهن مرة».
3- هج: «بسوطه» بدل «بسوط».
4- هج و هد: «يستن» بدل «يسبق».
5- هج: «تجف يمناه» بدل «تيبس يمناه».

قال لي رجل: تصفّحت كتبا، فوجدت فيها بيتا جهدت جهدي أن أجد من يجيزه، فلم أجد، فقال لي صديق: عليك بعنان جارية الناطفيّ، فجئتها فأنشدتها:

صوت

و ما زال يشكو الحبّ حتى رأيته *** تنفّس في أحشائه و تكلّما

فما لبثت أن قالت:

و يبكي فأبكي رحمة لبكائه *** إذا ما بكى دمعا بكيت له دما

- في هذين البيتين لحن من الرّمل، أظنّه لجحظة أو لبعض طبقته - قرأت في بعض الكتب:

تعايي شاعرا:

دخل بعض الشّعراء على عنان جارية الناطفي، فقال لها مولاها عاييه(1)، فقالت:

سقيا لبغداد لا أرى بلدا *** يسكنه الساكنون يشبهها

فقال:

كأنها فضّة مموّهة *** أخلص تمويهها مموّهها

فقالت:

أمن و خفض(2) و لا كبهجتها *** أرغد أرض عيشا و أرفهها

فانقطع(3).

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدّثني ابن أبي سعيد قال: حدّثني مسعود بن عيسى، قال: أخبرني موسى بن عبد اللّه التّميميّ، قال:

دخل أبو نواس على الناطفيّ، و عنان جالسة تبكي، و خدّها على رزّة من مصراع الباب، و قد كان الناطفيّ ضربها، فأومأ إلى أبي نواس أن يحرّكها بشيء، فقال أبو نواس:

عنان لو جدت لي فإني من *** عمري في آمن الرسول بما

فردّت عليه عنان:

فإن تمادى و لا تماديت في *** قطعك حبلي أكن كمن ختما(4)

فردّ عليها أبو نواس فقال:

ص: 68


1- المعاياة: أن يأتي بكلام لها لا يهتدي لمثله.
2- في ف: «و خصب» بدل «و خفض».
3- في ف: «فانقطع الرجل».
4- يشير أبو نواس إلى آخر سورة البقرة «آمن الرسول بما أنزل» كأنه يقول: إنني من حبك ما زلت في أول سورة، فأجابته: إن قطعت حبل كنت أنا كمن ختم القرآن.

علقت من لو أتى على أنف *** س الماضين و الغابرين ما ندما

فردّت عليه:

لو نظرت عينها إلى حجر *** ولّد فيه فتورها سقما

لا تريد سوى خاتمها:

أخبرني ابن عمار(1)، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه: قال: حدّثني محمد بن أبي مروان الكاتب:

قال:

/أخذ أبو نواس من عنان جارية الناطفيّ خاتما فصّه أحمر، فأخذه أحمد بن خالد حيلويه(2) من أبي نواس، فطلبته منه عنان، فبعث إليها مكانه خاتما فصّه أخضر، فاتّهمته في ذلك، فكتب أبو نواس إلى أحمد بن خالد، فقال:

فدتك نفسي يا أبا جعفر *** جارية كالقمر الأزهر

تعلقتني و تعلّقتها *** طفلين في المهد إلى المكبر

كنت و كانت نتهادى الهوى *** بخاتمينا غير مستنكر

حنّت إلى الخاتم مني و قد *** سلبتني إياه مذ أشهر

فأرسلت فيه فغالطتها *** بخاتم في قدّه أخضر

قالت: لقد كان لنا خاتم *** أحمر أهداه إلينا سري

لكنه علّق غيري فقد *** أهدى له الخاتم لا أمتري

كفرت باللّه و آياته *** إن أنا لم أهجره فليصبر

أو فأت بالمخرج من تهمتي *** إياه في خاتمنا الأحمر(3)

فاردده تردد وصلها إنّها *** قرّة عيني يا أبا جعفر

فإنني متّهم عندها *** و أنت قد تعلم أني بري

قال: فردّ إليه الخاتم، و بعث إليه معه بألفي درهم.

الرشيد أشعر منها:

أخبرني ابن عمار و عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد المبرد، عن المازنيّ عن الأصمعيّ - و قال ابن عمار في خبره عن بعض أصحابه - أظنّه المازنيّ - عن الأصمعيّ، قال:

/ما رأيت أثر النبيذ في وجه الرشيد قطّ إلا مرّة واحدة، فإني دخلت إليه أنا و أبو حفص الشّطرنجي، فرأيت

ص: 69


1- ف: «ابن عمران» تحريف.
2- ف: «جيلوه».
3- في هد: «خاتمة» بدل «خاتمنا».

التّخثّر(1) في وجهه، فقال لنا: استبقا إلى بيت بل إلى أبيات، فمن أصاب ما في نفسي فله عشرة آلاف درهم، قال:

فأشفقت(2)، و منعتني هيبته، قال: فقال أبو حفص:

كلّما دارت الزجاجة زادت *** ه اشتياقا و حرقة فبكاك

فقال: أحسنت فلك عشرة آلاف درهم.

قال: فزالت الهيبة عني، فقلت:

لم ينلك الرجاء أن تحضريني *** و تجافت أمنيّتي عن سواك(3)

فقال: للّه درّك! لك عشرون ألف درهم، قال: فأطرق مليّا، ثم رفع رأسه إليّ، فقال: أنا و اللّه أشعر منكما، ثم قال:

فتمنّيت أن يغشّيني اللّ *** ه نعاسا لعلّ عيني تراك

الأصمعي يصرف الرشيد عنها:

أخبرني ابن عمار و الأخفش قالا: حدّثنا محمد بن يزيد عن المازني: قال:

قال الأصمعيّ: بعثت إليّ أمّ جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان، فإن صرفته عنها فلك حكمك. قال: فكنت أريغ(4) لأن أجد للقول فيها موضعا، فلا أجده، و لا أقدم عليه هيبة له، إذ دخلت يوما فرأيت في وجهه أثر الغضب، فانخزلت، فقال: مالك يا أصمعيّ؟ قلت: رأيت في وجه أمير المؤمنين أثر غضب، فلعن اللّه من أغضبه! فقال: هذا الناطفيّ و اللّه، لو لا أني لم أجر في حكم قطّ متعمّدا لجعلت على كل جبل منه قطعة، و ما لي في جاريته أرب غير الشعر، فذكرت رسالة أمّ جعفر، فقلت له: أجل و اللّه ما فيها غير/الشعر، أ فيسرّ أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق؟ فضحك حتى استلقى، و اتّصل قولي بأم جعفر فأجزلت لي الجائزة.

الرشيد يلح في طلبها:

أخبرني عمي و الحسن بن عليّ، قالا: حدّثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدّثني محمد بن هارون، عن يعقوب بن إبراهيم:

أن الرشيد طلب من الناطفيّ جاريته، فأبى أن يبيعها بأقلّ من مائة ألف دينار، فقال: أعطيك مائة ألف دينار على أن تأخذ بالدينار سبعة دراهم، فامتنع عليه، و أمر أن تحمل إليه، فذكروا أنها دخلت مجلسه، فجلست في هيئتها تنتظره فدخل عليها، فقال لها: ويلك! إن هذا قد اعتاص عليّ في أمرك، قالت: و ما يمنعك أن توفيه و ترضيه؟ فقال: ليس يقنع بما أعطيه، و أمرها بالانصراف. فبلغني أن الناطفيّ تصدّق بثلاثين ألف درهم حين رجعت إليه، فلم تزل في قلب الرشيد حتى مات مولاها، فلما مات بعث مسرورا الخادم، فأخرجها إلى باب الكرخ،

ص: 70


1- التخثر: غثيان النفس.
2- هج: «فانثنينا» بدل «فأشفقت».
3- في هد: «لم ينلني» بدل «لم ينلك».
4- أريغ: أطلب.

فأقامها على سرير و عليها رداء رشيديّ(1) قد جلّلها، فنودي عليها: من يزيد؟ بعد أن شاور الفقهاء فيها، و قال: هذه كبد رطبة، و على الرجل دين، فأشاروا ببيعها، قال: فبلغني أنها كانت تقول - و هي في المصطبة -: أهان اللّه من أهانني، و أذلّ من أذلّني، فلكزها مسرور بيده، و بلغ بها مسرور مائتي ألف درهم، فجاء رجل، فقال: عليّ زيادة خمسة و عشرين ألف درهم، فلكزه مسرور، و قال: أ تزيد على أمير المؤمنين! ثم بلغ بها مائتين و خمسين ألفا، و أخذها له قال: و لم يكن فيها شيء يعاب، و طلبوا لها عيبا لئلا تصيبها العين، فأوقعوا بخنصر رجلها(2) شيئا. و أولدها ابنين - قال: أظنهما ماتا صغيرين -(3) ثم خرج بها إلى خراسان، فمات هناك و ماتت عنان بعده.

/أبو نواس لشبب بها:

قال: و أنشدنا لأبي نواس في قصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد و يذكر عنان في تشبيبها:

عنان يا من تشبه العينا *** أنت على الحبّ تلومينا

حسنك حسن لا أرى مثله *** قد ترك الناس مجانينا

بينهما و بين العباس بن الأحنف:

أخبرني عمّي: قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ: قال: حدّثني أحمد بن القاسم العجليّ: قال: حدّثني أبو القاسم النخعيّ قال:

كان العباس بن الأحنف يهوى عنان جارية الناطفي، فجاءني يوما، فقال: امض بنا إلى عنان جارية الناطفي، فصرنا إليها، فرأيتها كالمهاجرة له، فجلسنا قليلا، ثم ابتدأ العباس فقال:

قال عباس و قد أج *** هد من وجد شديد

ليس لي صبر على الهج *** ر و لا لذع الصّدود

لا و لا يصبر للهج *** ر فؤاد من حديد

فقالت عنان:

من تراه كان أعنى *** منك عن هذا الصدود

بعد وصل لك منّي *** فيه إرغام الحسود

فاتّخذ للهجر إن شئ *** ت فؤادا من حديد

ما رأيناك على ما *** كنت تجني بجليد

فقال العباس:

ص: 71


1- في هج: «رداء سندي» بدل «رداء رشيدي».
2- في هح: «بخنصر في ظفر رجلها».
3- في هج: «ابنتين قال: أظنهما ماتا صغارا».

لو تجودين لصبّ *** راح ذا وجد شديد

و أخي جهل بما قد *** كان يجني بالصدود

/ليس من أحدث هجرا *** لصديق بسديد

ليس منه الموت إن لم *** تصليه ببعيد

قال: فقلت للعباس: ويحك! ما هذا الأمر؟ قال: أنا جنيت على نفسي بتتايهي عليها، فلم أبرح حتى ترضّيتها له.

أبو نواس يبغض الرشيد فيها:

اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ: قال: حدّثنا الحارث بن يحيى بن حمد بن أبي أميّة: قال: حدّثني يحيى بن محمد:

أن الرشيد كان يساوم بعنان جارية النّطّاف، فبلغ ذلك أمّ جعفر، فشقّ عليها، فدسّت إلى أبي نواس أن يحتال في أمرها فقال يهجوها:

إن عنان للنّطاف جارية *** أصبح حرها للنّيك ميدانا(1)

ما يشتريها إلا ابن زانية *** أو قلطبان يكون من كانا(2)

فبلغ ذلك الرشيد، فكان يقول: لعن اللّه أبا نواس، و قبّحه، فلقد أفسد عليّ لذّتي في عنان بما قال فيها، و منعني من شرائها.

صوت

مالي و للخمر و قد أرعشت *** منّي يميني هات باليسرى(3)

حتى تراني مائلا مسندا *** لا أستطيع الكأس بالأخرى(4)

الشعر للحسن بن وهب، و الغناء لعبد اللّه بن العباس الرّبعيّ، خفيف ثقيل بالوسطى(5)، و فيه أيضا له خفيف رمل بالبنصر.

ص: 72


1- البيت من المنسرح، و في وزنه خلل، و لإقامة الوزن يجب حذف لام «للنطاف» فتكون: «إن عنان النطاف جارية» كما يجب تسكين الراء من حرها في الشطر الثاني.
2- الترطبان و القلطبان: الديوث أو القواد الذي لا غيرة له.
3- هج، و هد: «بالأخرى».
4- هج، و هد: «باليسرى».
5- هج: «الربيعي، رمل بالوسطى».

7 - أخبار الحسن بن وهب

اسمه و نشأته:

7 - أخبار الحسن بن وهب(1)

هو الحسن بن وهب بن سعيد، كاتب شاعر(2) مترسّل فصيح أديب، و أخوه سليمان بن وهب فحل(3) من الكتّاب و يكنى أبا عليّ، و هو عريق في الكتابة، و لأولاده نجابة مشهورة تستغني عن وصف ذلك، و كانوا يقولون إنهم من بني الحارث بن كعب، و أصلهم نصارى، و في بني الحارث نصارى كثير.

قول البحتري فيه:

و في الحسن بن وهب يقول البحتريّ:

يا أخا الحارث بن كعب بن عمرو *** أ شهورا تصوم أم أيّاما؟(4)

و كان البحتريّ مدّاحا لهم، و له في الحسن، و قد اجتاز بمنزله بعد وفاته:

أناة أيّها الفلك المدار *** أنهب ما تطرّق أم جبار

نزلنا منزل الحسن بن وهب *** و قد درست مغانيه القفار(5)

يقول فيها يصف صبوحا كانوا قد اصطبحوه:

أقمنا، أكلنا أكل استلاب *** هناك و شربنا شرب يدار

تنازعنا المدامة و هي صرف *** و أعجلنا الطبائخ و هي نار

و لم يك ذاك سخفا غير أنّي *** رأيت الشّرب سخفهم الوقار

أخبرني الصوليّ، و ذكر ذلك عن جماعة من الكتاب:

أن الحسن بن وهب كان أشدّ تمسكا بالنسب إلى بني الحارث بن كعب من أخيه/سليمان، و كان سليمان ينكر ذلك، و يعاتب عليه أخاه الحسن و ابنه أحمد بن سليمان. و أصلهم من قرية من سواد واسط في جسر(6) سابور يقال لها «سارقيقا».

ص: 73


1- هذه الترجمة و الصوت الذي قبلها خلت منها مطبوعات «الأغاني» و هي في المخطوطات الممتدة.
2- هج: «شاعر كاتب».
3- هج: «بمحل».
4- هج: «أم أعواما» بدل «أم أياما».
5- هج: «معالمه» بدل «مغانيه».
6- هج: «خس».

يتباهون بحفظ أشعاره:

أخبرني عمي: قال: حدّثني عمر بن نصر الكاتب، و كان من مشايخ الكتّاب بسرّمن رأى، قال:

كنا نتهادى و نحن في الديوان أشعار الحسن بن وهب، و نتباهى بحفظها، قال: و أنشدني له، و كتب بها إلى أخيه سليمان بن وهب من مدينة السّلام و هو محبوس في أيام الواثق:

خطب أبا أيوب جلّ محلّه *** فإذا جزعت من الخطوب فمن لها؟

إن الذي عقد الذي انعقدت به *** عقد المكاره فيك يحسن حلّها

فاصبر لعلّ الصبر يفتق ما ترى *** و عسى بها أن ينجلي و لعلّها

قال: و كتب إليه أيضا و هو في الحبس بسرّمن رأى:

خليليّ من عبد المدان تروّحا *** و نصّا صدور العيس حسرى و طلّحا(1)

فإنّ سليمان بن وهب ببلدة *** أصاب صميم القلب منّي فأقرحا

أسائل عنه الحارسين لحبسه *** إذا ما أتوني: كيف أمسى و أصبحا!

فلا يهنئ الأعداء أسر ابن حرّة *** يراه العدا أندى يمينا و أسمحا

و أنهض للأمر الجليل بعزمة *** و أقرع للباب الأصمّ و أفتحا

أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ: قال: حدّثني محمد بن موسى بن حماد: قال:

/وجّه الحسن بن وهب إلى أبي تمام و هو بالموصل خلعا فيها خزّ و وشي، فامتدحه بقصيدة أولها:(2)

أبو عليّ و سمي منتجعه *** فاحلل بأعلى واديه أو جرعه

ثم وصف الخلعة فقال:

و قد أتاني الرسول بالملبس ال *** فخم لصيف امرئ و مرتبعه

لو أنها جلّلت أويسا لقد *** أسرعت الكبرياء في ورعه

رائق خزّ أجيد سابره *** سكب تدين الصّبا لمدّرعه

و سرّ وشي كأنّ شعري أحيا *** نا نسيب العيون من بدعه

تركتني ساهر الجفون على *** أزلم دهر بحسنها جذعه

- يعني الدهر، و الدهر يقال له: الأزلم الجذع، و الأزلم: الطويل، و الجذع: الجديد: يقول: هو قديم سالف، و يومه جديد، قال لقيط الإياديّ:

يا قوم بيضتكم لا تفضحنّ بها *** إني أخاف عليها الأزلم الجذعا(3)

-

ص: 74


1- النص: استخراج جهد الناقة في السير، و حسر و طلح البعير: أعيا و تعب.
2- الأبيات في «الديوان» 343/2-348.
3- بيضة البلد: ما يحافظ عليها و يحمي حقيقتها. و في ف: «لا تفجعن».

رواية أخرى فيما أرسله إلى أخيه في سجنه:

أخبرني الصوليّ: قال: حدّثنا محمد بن يزيد المبرد: قال:

لما حبس محمد بن عبد الملك الزيات سليمان بن وهب، و طالبه بالأموال وقت نكبته قال الحسن بن وهب:

خليليّ من عبد المدان تروّحا *** و نصّا صدور العيس حسري و طلّحا

فإنّ سليمان بن وهب بمنزل *** أصاب صميم القلب منّي فأقرحا

أسائل عنه الحارسين لحبسه *** إذا ما أتوني كيف أمسى و أصبحا

/فلا يهنئ الأعداء حبس ابن حرّة *** يراه العدا أندى يمينا و أسمحا

و قولا لهم صبرا قليلا و أصبحوا *** فما أقرب الليل البهيم من الضّحا

قال: و قيل له و سليمان محبوس: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت و اللّه قليل(1) النّشاط، كالّ القريحة، صدئ الذهن، ميّت الخاطر من سوء فعل الزّمان، و توارد الأحزان، و تغيّر الإخوان، قال: و آلى ألاّ يذوق طعاما طيّبا، و لا يشرب ماء باردا، ما دام أخوه محبوسا، فوفّى بذلك.

من قوله في حاج:

أخبرني الصوليّ: قال: أخبرني أبو الأسود: قال:

كان للحسن بن وهب جار هاشميّ، يلقّب بالطير، فحجّ سنة من السنين، و رجع آخر الناس، فقال فيه الحسن:

أ ينقص أم يزيد من الرقاعه *** أخو حمق له الدّنيا مشاعه

يحجّ على الجمال و لو تجلّى *** لمكة جاءها في بعض ساعه

الدمع حزن محلول:

أخبرني الصوليّ: قال: حدّثنا الطالقاني: قال: حدّثنا أحمد بن سليمان بن وهب. قال: رآني عمي الحسن، و أنا أبكي لفراق بعض ألاّفي فقال:

ابك فما أنفع ما في البكا *** لأنّه للوجد تسهيل

و هو إذا أنت تأمّلته *** حزن على الخدّين محلول(2)

لا تنه عن خلق:

أخبرني الصوليّ: قال: حدّثنا علي بن الصبّاح(3): قال: بلغ الحسن بن رجاء أنّ الحسن بن وهب عابه بحبّ الغلمان، و كان الحسن بن وهب أشدّ حبّا لهم منه، فقال: مثلي و مثله كما قال حسان بن ثابت:

ص: 75


1- هج: «عليل».
2- هج: «حزن جرى في الحد محلول».
3- مد: «علي بن صالح».

و إني لأغنى الناس عن فضل(1) صاحب *** يرى الناس ضلاّلا و ليس بمهتد

المسئول أحوج من السائل:

أخبرنا محمد: قال: حدّثنا الحزنبل: قال:

كتب رجل إلى الحسن بن وهب يستميحه، فوقّع في رقعته:

الجود طبعي و لكن ليس لي مال *** فكيف يحتال من بالرّهن يحتال

تكره النار:

أخبرني الحسن بن عليّ: قال: حدّثني محمد بن موسى بن حمّاد: قال:

كنت أكتب في حداثتي بين يدي الحسن بن وهب - و كان شديد الشّغف ببنات جارية محمد بن حماد كاتب راشد، فكنّا يوما عنده، و هي تغنّي، و بين أيدينا كانون فحم، فتأذّت به، فأمرت أن يباعد، فقال الحسن:

بأبي كرهت النار حتى أبعدت *** فعلمت ما معناك في إبعادها

هي ضرة لك بالتماع ضيائها *** و بحسن صورتها لدى إيقادها

و أرى صنيعك في القلوب صنيعها *** في شوكها و سيالها و قتادها(2)

شركتك في كلّ الجهات بحسنها *** و ضيائها و صلاحها و فسادها

تفاجئه بنات:

أخبرني الصّوليّ: قال: حدّثني الحسين بن يحيى: قال:

كنا عند الحسن بن وهب، فقال: لو ساعدنا الدهر لجاءتنا بنات، فما تكلّم بشيء حتى دخلت، فقال: إنّي و إياك لكما قال علي بن أمية:

و فاجأتني و القلب نحوك شاخص *** و ذكرك ما بين اللسان إلى القلب

فيا فرحة جاءت على إثر ترحة *** و يا غفلتا عنها و قد نزلت قربي(3)

تخونه شجاعته أمام بنات:

قرأت في بعض الكتب: دخلت يوما بنات على الحسن بن وهب، و هو مخمور، فسلّمت عليه، و قبلت يده، فأراد تقبيل يدها، فمنعته فرعش، فقال:

/

أقول و قد حاولت تقبيل كفّها *** و بي رعدة أهتزّ منها و أسكن

فديتك إني أشجع الناس كلّهم *** لدى الحرب إلا أنّني عنك أجبن

ص: 76


1- ف: «وصل صاحب».
2- السيال: ما طال من السمر، و القتاد: شجر له شوك كالإبر.
3- يا غفلتا قلبت ياء المتكلم ألفا و في هج: «يا غفلتي».

بنات داؤه و دواؤه:

أخبرني الصّوليّ: قال: حدّثني محمد بن موسى، قال: جاءت بنات تسأل الحسن بن وهب من علّة نالته، فحين رآها دعا برطل، فشربه على وجهها، و قال: قد عوفيت، فأقيمي اليوم عندي، فأبت و قالت: عند مولاي دعوة، فأمر بإحضار مائتي دينار، فأحضرت فقال: هذه مائة لمولاك، فابعثي بها إليه و مائة لك؛ فقالت: أمّا هو فأبعث بمائة إليه(1)؛ و أما أنا فو اللّه لا أخذت المائة الأخرى، و لأتصدقنّ بمثلها لعافيتك(2) و لكن أكتب إليه رقعة تقوم بعذري؛ فأخذ الدواة؛ و كتب إلى مولاها:

ضرّة الشمس و القمر *** متّعيني من النّظر(3)

متّعيني بجلسة *** منك يا أحسن البشر

أشتريها إن بعتن *** يها بسمعي و بالبصر

أذهب السقم سقم طر *** فك ذي الغنج و الحور(4)

فأديمي السرور لا *** تمزجي الصفو بالكدر

ليس يبقي عليّ *** حبّك هذا و لا يذر

و أنا منه فأنعمي *** بمقام على خطر

و تغنّي فداك كلّ *** مغنّ لكي أسرّ

ربع سلمى بذي بقر *** عرضة الريح و المطر(5)

عمه من ضمن عزاله:

حدّثني أبو إسحاق بن الضحاك عن أحمد بن سليمان - و الحكايتان متفقتان متقاربتان - أخبرني الصولي: قال:

حدّثني الحسين بن يحيى: قال: حدّثني أحمد بن سليمان بن وهب قال: قال لي أبي:

قد عزمت على معاتبة عمّك في حبه لبنات، فقد شهّر بها و افتضح، فكن معي، و أعنّي عليه، و كان هواي مع عمّي، فمضيت معه فقال له أبي، و قد أطال عتابه: يا أخي، جعلت فداك! الهوى ألذّ و أمتع، و الرأي أصوب و أنفع، فقال عمي متمثلا:

إذا أمرتك العاذلات بهجرها *** أبت كبد عما يقلن صديع

و كيف أطيع العاذلات و حبّها *** يؤرّقني و العاذلات هجوع

ص: 77


1- هج، هد: «فابعث إليه بمائته».
2- هج: «بمثلها من مالي لعافيتك».
3- في هد: «صورة الشمس القمر».
4- الغنج: الدل و الغزل و في ف «بالغنج».
5- بذي بقر: واد بعينه.

فالتفت إليّ أبي ينظر ما عندي، فتمثّلت:

و إني ليلحاني على فرط حبّها *** رجال أطاعتهم قلوب صحائح(1)

فنهض أبي مغضبا و ضمّني عمّي إليه، و قبّلني، و انصرفت إلى بنات، فحدّثتها بما جرى و عمّي يسمع، فأخذت العود، فغنّت:

يلومك في مودّتها أناس *** لو أنّهم برأيك لم يلوموا(2)

فيه ثقيل أوّل.

منى لومه:

قال أحمد بن سليمان، و عذلته عجوز لنا، يقال لها: منى، فقال لها: قومي، فانظري إليها، و اسمعي غناءها، ثم لوميني، فقامت معه، فرأتها، و سمعت غناءها فقالت له: لست أعاود لومك فيها بعد هذا، فأنشأ يقول:

و يوم سها عنه الزمان فأصبحت *** نواظره قد حار عنها بصيرها

/خلوت بمن أهوى به فتكاملت *** سعود أدار النحس عنّا مديرها

أ ما تعذريني يا منى في صبابتي *** بمن وجهها كالشمس يلمع نورها؟

تعمت الوسيلة بنات:

قال أحمد بن سليمان: كان لعمي كاتب يعرف بإبراهيم: نصرانيّ يأنس به، فسأل بنات مسألتها(3) عمّي أن يجعل رزقه ألف درهم في الشّهر، فلمّا شرب أقداحا، و طرب و ثبت قائمة و قالت: يا سيدي لي حاجة، فوثب عمّي، فقام لقيامها، فقالت: تجعل رزق إبراهيم ألف درهم في الشهر، فقال: سمعا و طاعة، فجلست فأنشأ يقول:

قامت فقمت و لم أكن لو لم تقم *** لأجلّ خلقا غيرها فأقوما(4)

شفعت لإبراهيم في أرزاقه *** فوددت أني كنت إبراهيما

فأجبتها إنّي مطيع أمرها *** و أراه فرضا واجبا محتوما

ما كان أطيب يومنا و أسرّه *** لو لم يكن بفراقها مختوما

قال: ثم إن عمي صار إلى أبي، فأخبره الخبر، فأمر أن يجعل لإبراهيم من ماله ألف درهم أخرى لشفاعتها.

بنات لا تزوره في علته:

أخبرني الصوليّ: قال: حدّثني إسماعيل بن الخصيب: قال: اعتلّ الحسن بن وهب، فلم تعلم بنات بذلك، و تأخّرت عن عيادته، فكتب إليها:

ص: 78


1- يلحاني: يلومني.
2- في ف: «يلومك في محبتها رجال».
3- هج: «مساءلة».
4- في نسخة: «لأسف وعدا عندنا فأقوما».

عليل أنت أعللته *** فلو أنّك علّته

بوعد أن تزوريه *** إذا ما ممكن نلته

قريبا لنفيت الدّا *** ء عنه حين واعدته

و ما ضرّك لو جاء *** رسول منك أرسلته

/فيحكي لك ما قال *** كما يحكي الذي قلته

أما و اللّه لو أن ال *** ذي يحمل حمّلته

لما احتاج إلى التعل *** يم فيما قد تجاهلته

في الشفانين الشفاء:

أخبرني الصّولي: قال أحمد بن إسماعيل: قال: حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن جميل: قال:

أهدى الحسن بن وهب إلى بنات في علة اعتلتها هدايا حسنة و أهدى معها قفص شفانين(1)، و كتب إليها:

شفاء أنين بالشفانين أملت *** لكم نفس من أهدى الشفانين عامدا

كلوها يكلّ الداء عنكم فإنني *** أزوركم للشوق لا زرت عائدا

أخبرني عمي: قال: حدّثني ميمون بن هارون: قال:

كتب الحسن بن وهب إلى بنات يوم جمعة يستدعيها، فكتبت إليه أن عند مولاها أصدقاء له، و قد منعها من المسير إليه، فكتب إليها ثانيا يقول:

لا كان سيدها الوضيع:

يومنا يوم جمعة بأبي أن *** ت و عند الوضيع لا كان قوم

سفل مثله يسومونه الخس *** ف و يرضاه و هو للوعد سوم

فامنعيهم منك البشاشة حتى *** يتغشّاهم من البرد نوم

و ليكن منك طول يومك للّه *** صلاة إلى المساء و صوم

و ارفعي عنهم الغناء و إن نا *** لك عذل من الوضيع و لوم

و اذكري مغرما بحبّك أمسى *** همه أن يديله منك يوم(2)

يناجي البرق:

أخبرني عمّي قال حدّثني ميمون بن هارون، قال:

كان الحسن بن وهب يشرب عند محمد بن عبد اللّه بن طاهر، فعرضت سحابة، فبرقت و رعدت، و قطرت، فقال الحسن:

ص: 79


1- الشفانين: ضرب من الحمام جميل الصوت بهي المنظر.
2- أدالنا اللّه من عدونا: غلبنا عليه.

هطلتنا السماء هطلا دراكا *** عارض المرزمان فيها السّماكا(1)

قلت للبرق إذا تألّف فيها *** يا زناد السماء من أوراكا؟

أ حبيبا نأيته فبكاكا *** فهو العارض الّذي استبكاكا

أم تشبهت بالأمير أبي العبّ *** اس في جوده فلست كذاكا؟(2)

بينه و بين ابن الزيات:

أخبرني عمي، قال: حدّثنا أبو العيناء، قال:

طلب محمد بن عبد الملك الزيات الحسن بن وهب، و كان قد اصطبح مع بنات فكتب إليه: يا سيدي، أنا في مجلس بهيّ، و طعام هنيّ، و شراب شهيّ، و غناء رضيّ، أ فأتحوّل عنه إلى كدّ الشقيّ، و وثبت بنات لتقوم، فردّها و كتب:

ما بان عنك الذي بن *** ت عنه لا عاش بعدك

إن لم يكن عنده الص *** بر و السّلوّ فعندك

و ما وجدته إلا *** عبد الرجاء و عبدك

فاستلبها الرسول، و مضى بها إلى محمد، فوقّع فيها:

أبا عليّ أراك الإ *** له في الأمر رشدك

إن لم تكن عندي اليو *** م كنت بالشوق عندك

فاهدم محلّك عندي *** و اجهد لذلك جهدك

/فلست أزداد إلا *** رعاية لك ودّك

و انعم بمن قلت فيها *** عبد الرجاء و عبدك

أزيل نحسك فيها *** و أطلع اللّه سعدك

و ردّ الرقعة إلى الحسن، فلما قرأها خجل، و حلف ألا يشرب النبيذ شهرا، و لا يفارق مجلس الوزير.

آخر عهد ببنات:

أخبرني عمي عن إبراهيم بن المدبّر، قال:

ولدت بنات من مولاها ولدا و سمته بإبراهيم، فأبغضها الحسن بن وهب، و كتب إليها:

نتج المهرة الهجان هجينا *** ثم سمّى الهجين إبراهيما(3)

ص: 80


1- المرزمان: نجمان في السماء مع الشعريين.
2- في هج: «فكنت كذاكا».
3- الهجين: من أبوه؛ خير من أمه.

بخليل الرحمن سمّيت عبدا *** أم قريع الفتيان ذاك الكريما(1)

و بعث بالبيتين إليها، و كان آخر عهده بها.

بينه و بين أبي تمام:

أخبرني الصولي قال: حدّثنا محمد بن موسى قال:

كان الحسن بن وهب يعشق غلاما روميّا لأبي تمام، و كان أبو تمام يعشق غلاما خزريّا للحسن، فرأى أبو تمام يوما الحسن يعبث بغلامه، فقال له: و اللّه لئن أعتقت إلى الروم لنركضنّ إلى الخزر، فقال له الحسن: لو شئت لحكمتنا و احتكمت، فقال له أبو تمام: ما أشبّهك إلا بداود، و لا أشبّه نفسي إلا بخصيمه، فقال له: لو كان هذا منظوما حفظه، فأما المنثور فهو عارض لا حقيقة له، فقال أبو تمّام:

أبا عليّ لصرف الدهر و الغير *** و للحوادث و الأيام و العبر

/أ عندك الشمس لم يحظ المغيب بها *** و أنت مضطرب الأحشاء للقمر

أذكرتني أمر داود و كنت فتى *** مصرّف القلب في الأهواء و الذّكر

إن أنت لم تترك السير الحثيث إلى *** جآذر الرّوم أعنقنا إلى الخزر(2)

إن الغزال له منّي محلّ هوى *** يحلّ مني محلّ السمع و البصر

و ربّ أمنع منه جانبا و حمى *** أمسى و لكنّه مني على خطر(3)

جرّدت منه جنود العزم فانكشفت *** منه غيابتها عن تكّة هدر

سبحان من سبّحته كلّ جارحة *** ما فيك من طمحان الأير و النظر

أنت المقيم فما تعدو رواحله *** و أيره أبا منه على سفر

غلامه و غلام أبي تمام:

قال الصوليّ: فحدّثني أحمد بن إسحاق، قال: حدّثني محمد بن إسحاق، قال: قلت لأبي تمام: غلامك أطوع للحسن بن وهب من غلام الحسن لك، قال: أجل و اللّه؛ لأنّ غلامي يجد عنده ما لا يجده غلامه عندي، و أنا أعطي غلامه قيلا و قالا، و هو يعطي غلامي ثيابا و مالا.

ابن الزيات يتجسس عليه:

اشارة

أخبرني الصّوليّ: قال: حدّثني أبو الحسن الأنصاريّ، قال: حدّثني أبي. و حدّثني الفضل الكاتب المعروف بفنجاخ:

ص: 81


1- في نسخة: أ عندك الشمس قد راقت مطالعها و أنت مشتغل الألحان بالقمر
2- جاذر: جمع جؤذر: ولد الظبي.
3- هج: «و مكثه» منّي على خطر.

أنّ الحسن بن وهب كان يكتب لمحمد بن عبد الملك الزيات، و هو وزير الواثق، و كان ابن الزيات قد وقف على ما بين الحسن بن وهب و بين أبي تمام في غلاميهما، فتقدّم إلى بعض ولده - و كانوا يجلسون عند الحسن بن وهب - بأن يعلموه بخبرهما، و ما يكون بينهما. قال: و عزم غلام أبي تمام على الحجامة، فكتب إلى/الحسن يعلمه بذلك، و يسأله التوجيه إليه بنبيذ مطبوخ، فوجّه إليه بمائة دنّ و مائة دينار، و بخلعة حسنة و بخور كثير، و كتب إليه:

ليت شعري يا أملح الناس عندي *** هل تداويت بالحجامة بعدي

دفع اللّه عنك لي كلّ سوء *** باكر رائح و إن خنت عهدي

قد كتمت الهوى بمبلغ جهدي *** فبدا منه غير ما كنت أبدي

و خلعت العذار فليعلم النا *** س بأني إياك أصفي بودّي

و ليقولوا بما أحبّوا إذا كن *** ت وصولا و لم ترعني بصدّ

من عذيري من مقلتيك و من إشر *** اق وجه من دون حمرة خدّ

قال: و وضع الرّقعة تحت مصلاّه، و بلغ محمد بن عبد الملك خبر الرّقعة، فوجّه إلى الحسن، فشغله بشيء من أمره، و أمر من أخذ الرقعة من تحت مصلاّه، و جاءه بها، فقرأها، و كتب في ظهرها:

ليت شعري عن ليت شعرك هذا *** أ بهزل تقوله أم بجدّ

فلئن كنت في المقال محقّا *** يا بن وهب لقد تغيّرت بعدي

و تشبّهت بي و كنت أرى أني *** أنا العاشق المتيّم وحدي

أترك القصد في الأمور و لو لا *** غمرات الهوى لأبصرت رشدي

و أحب الأخ المشارك في الحب *** و إن لم يكن به مثل و جدّي

كنديمي أبي عليّ و حاشا *** لنديمي مثل شقوة و جدّي

صوت

إنّ مولاي عبد غيري و لو لا *** شؤم جدي لكان مولاي عبدي

سيّدي سيدي و مولاي من أو *** رثني ذلّة و أضرع خدّي

في هذين البيتين الأخيرين لحن من الرمل، أظنه لجحظة أو غيره من طبقته.

قال: ثم وضع الرقعة في مكانها، فلما قرأها الحسن قال: إنا للّه! افتضحنا عند الوزير، و حدّث أبا تمام بما كان، و وجّه إليه بالرقعة، فلقيا محمد بن عبد الملك، و قالا له: إنما جعلنا هذين سببا للمكاتبة بالأشعار لا للريبة، فتضاحك و قال: و من يظنّ بكما غير هذا! فكان قوله أشدّ عليهما من الخبرة.

هل عاقه أيلول:

قرأت في بعض الكتب: كان الحسن بن وهب يعاشر أبا تمام عشرة متّصلة، فندب الحسن بن وهب للنظر في

ص: 82

أمر بعض النواحي، فتشاغل عن عشرة أبي تمام، فكتب إليه أبو تمام:

قالوا جفاك فلا عهد و لا حبر *** ما ذا تراه دهاه؟ قلت: أيلول

شهر كأنّ حبال الهجر منه فلا *** عقد من الوصل إلاّ و هو محلول

فأجابه الحسن:

ما عاقني عنك أيلول بلذّته *** و طيبه و لنعم الشهر أيلول

لكن توقّع و شك البين عن بلد *** تحتلّه و وكاء العين محلول

اثنان في قرن:

و قرأت فيه: كان بين الحسن بن وهب و بين الهيثم الغنويّ و أحمد بن أبي داود تباعد، فقال يهجوهما:

/

سألت أبي و كان أبي خبيرا *** بسكّان الجزيرة و السوّاد

فقلت لهم: أ هيثم من غنيّ؟ *** فقال كأحمد بن أبي دواد

فإن يك هيثم من جذم قيس *** فأحمد غير شكّ من إياد

اعتذار قبول:

أخبرني عمي: قال: حدّثني عمر بن نصر الكاتب، قال:

كتب الحسن بن وهب إلى محمد بن معروف الواسطي يسأله أن يصير إليه فكتب إليه محمد:

وقيتك كلّ مكروه بنفسي *** و بالأدنين من أهلي و جنسي

أ تأذن في التأخّر عنك يومي *** على أن ليس غيرك لي بأنس

فأجابه الحسن بن وهب، فقال:

أقم لا زلت تصبح في سرور *** و في نعم مواصلة و تمسي

فما لي راحة في حبس من لا *** أراه يكون محبوسا بحبسي

و كان الحسن يومئذ معتقلا في مطالبة يطالب بها.

وجدت في بعض الكتب بغير إسناد.

صاحب غير مؤتمن:

كان الحسن بن وهب يعشق بنات، جارية محمد بن حماد الكاتب، و كان له معها أخبار كثيرة، و كان لا يصبر عنها، فقدم الحسن بن إبراهيم بن رباح من البصرة، و اتصل به خبرها، و وصفها له الحسن بن وهب، و صار به إليها، فأتمّ ليلته معها، و مرّت بينهما أعاجيب، ثم خالفه الحسن بن إبراهيم بن رباح، و خاتله في أمرها، فكتب إليه الحسن بن وهب:

لا جميل و لا حسن *** خنت عهدي و لم أخن

ص: 83

كملت إذ فعلت *** هذا أعاجيب الزّمن (9)

/فإلى اللّه أشتكي *** ما بقلبي من الحزن

ربّ شكوى من الصد *** يق إلى غير ذي شجن

بأبي أنت يا حسن *** يا أخا الطول و المنن

أيّ رأي أراك خت *** لى في الشاهين الأغن

يتخطّى إليه دو *** ني في حالك الدّجن

فترى منه سنّة *** تتعالى عن السّنن

مع كشفي لك الحد *** يث الذي عنك لم يصن

و اعتمادي زعمت م *** نك على أحصن الجنن

و على خير صاحب *** و على خير ما سكن

خجلي من إساءة *** فضحت حسن كلّ ظنّ

ثم ممّن جرّت إلى *** من و فيمن و عند من؟

إن تكن تلك هفوة *** فهي كالشيء لم يكن

أو تكن بعت خلّتي *** بمواف من الثمن

درّة البحر من عدن *** ذخر سيف بن ذي يزن

لم يكن قطّ مثلها *** في معدّ و لا عدن

فتغافل عن جوابه، و أقام على مواصلتها و سماعها و حظر عليها، فلم يكن الحسن بن وهب يلقاها، فغلظ ذلك عليه، و كتب إليها بهذه الأبيات:

أنكرت معرفتي جعلت لك الفدا *** إنكار سيّدة تلاعب سيّدا

أنا ذو(1) منعت جفونه أن ترقدا *** و تركته ليل التمام مسهّدا

/و بريت لحم عظامه فتجرّدا *** و أزرت مضجعه النساء العوّدا

أنا ذا فإن لم تعرفيني بعد ذا *** فأنا ابن وهب ذو السماحة و النّدى

أشكو إلى اللّه الفؤاد المقصدا *** و جوى ثوى تحت الحشا متلدّدا

و غريرة ما كنت من إشفاقها *** يوما و إن بعد التلاقي مسعدا

يا ظبية في روضة مولية *** جاد الربيع ترابها فتلبّدا

هل تجزينّ الودّ منّي مثله *** أو تصدقين من المواعد موعدا؟

ص: 84


1- ذو هنا اسم موصول، أي أنا الذي منعت.

إني و إن جعل القريض يجول بي *** حتّى يغور بما أقول و ينجدا

لعلى يقين أنّ قلبك موجع *** عندي المثال أنا الحمى و لك الفدا

و كما علمت إذا لبست المجسدا *** و ثنيت خلف الأذن حاشية الرّدا(1)

و حبوت جيدك من حليّك عسجدا *** و نظمت ياقوتا به و زبرجدا

و شكوت وجدك في الغناء شكاية *** ينسي حنينا و الغريض و معبدا

سيما إذا غنّيتني بتعمّد *** بأبي و أمّي ذاك منك تعمّدا

أثوي فأقصر ليلة ليزوّدا *** و مضى و أخلف من قتيلة موعدا

صاحبه يرثي لحاله:

فوقعت الأبيات(2) في يد ابن رباح فقرأها، و علم أنّه قد بلغ منه. فكتب إليه:

فدى لك آبائي و حقّ بأن تفدّى *** فدى لك قصدا من ملامك لي قصدا

و لا تلحني في عثرة إن عثرتها *** فلا و الذي أمسيت أدعى له عبدا

و عهدك يا نفسي يقيك من الرّدى *** فأعظم به عندي و أكرم به عهدا

/يمين امرئ برّ صدوق مبرّإ *** من الإثم ما حاولت هزلا و لا جدّا

سوى ما به أزداد عندك زلفة *** و يكسبني منك المودّة و الحمدا

أرى الغيّ إن أومأت للغيّ طاعة *** لأمرك فضلا عن سوى الغيّ لي رشدا

و أسعى لما تسعى و أتبع ما ترى *** و في كلّ ما يرضيك أستغرق الجهدا

إذا أنا لم أمنحك صفو مودّتي *** فمن ذا الذي أصفي له غيرك الودّا؟

و من ذا الذي أرعى و أشكر و الذي *** يؤمّل خيرا بعد منّي أو رفدا

و أنت ثمالي و المعوّل و الذي *** أشدّ به أزري فيعصمني شدّا

و آثر خلق اللّه عندي و من له *** أياد و ودّ لست أحصيهما عدّا

فلا تحسبنّ مائلا عن خليقتي *** لك الدهر حتى أسكن القبر و اللّحدا

معاذ إلهي أن أرى لك خاذلا *** و لكنّ عذري واضح أنّ بي وجدا(3)

بأحسن من أبصرت شخصا و صورة *** و أملح خلق اللّه كلّهم قدّا

بمالكة أمري و إن كنت مالكا *** لها ففؤادي ليس من حبّها يهدا

إذا سألتهن أن أقيم عشيّة *** لأونسها لا أستطيع لها ردّا

ص: 85


1- المجسد: المصبوغ بالجساد: أي الزعفران.
2- في هج: «فوقع الشعر».
3- في ز: «أني ميت وجدا».

تراشفني صفو المودّة تارة *** و أجني إذا ما شئت من خدّها وردا

قنعت بها لمّا وثقت بحبّها *** فلا زينبا أبغي سواها و لا هندا

و لو بذلت لي جنّة الخلد منزلا *** و قلت: اجتنبها لاجتنبت لها الخلدا

المساجلة بينهما تمد:

فلما قرأها الحسن بن وهب علم أنه قد ندم فكتب إليه:

حسن يشكو إلى حسن *** فقد طعم النوم و الوسن

/و هوى أمست مطالبه *** قرنت باليأس في قرن

و حبيب في محلّته *** معه في الدار لم يبن

فإذا ما رام زورته *** فهو كالغادين في الظّعن

عجبا للشمس لم ترها *** مقلتي حولا و لم ترني

أ تراها بعدنا صرمت *** حبّنا هذا من اليمن

فقديما كان مطلعها *** بيدي سيف بن ذي يزن

فكتب إليه ابن رباح:

حسن يفدي بمهجته *** حسنا من حادث الزّمن

و يقيه ما تضمّنه *** من دخيل الهمّ و الحزن

هاك عيني فابك واقية *** عينك العبري على الشّجن

و فؤادي فامله حزنا *** من صروف الهمّ و الفتن

إن تكن شمس الضّحا حجبت *** عن سليل المجد من يمن

فهي حيرى عن مطالعها *** في سوى قوم ابن ذي يزن

رواية أخرى عن منافسه في بنات:

ثم اعتذر إليه، و رجع إلى معاشرته، و كان لا يحضر دار محمد بن حماد، و لا يسمع غناء بنات جاريته إلا مع الحسن بن وهب لا يستأثر بها عليه.

و قال محمد بن داود الجراح: حدّثني بعض أصحابنا: أنّ الحسن بن وهب، أتى أبا إسحاق إبراهيم بن العباس مستعديا على أبي محمد الحسن بن مخلد في أمر بنات جارية محمد بن حماد، و كان الحسن بن وهب يتعشقها، فأفسدها عليه الحسن بن مخلد، و لم يذكر محمد بن داود من خبرهما غير هذا، و إنما ذكرت هذه القصة على قلة الفائدة فيها ليتّضح خبره مع بنات إذ كان ما مضى ذكره من خبرها لم يقع إليّ بروايته.

يستسقيه أبو تمام فيسقيه:

أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ، قال: حدّثني عبد الرحمن بن أحمد، قال:

ص: 86

وجدت بخط محمد بن يزيد: كتب أبو تمام إلى الحسن بن وهب يستسقيه نبيذا:

جعلت فداك عبد اللّه عندي *** بعقب الهجر منه و البعاد

له لمة(1) من الكتّاب بيض *** قضوا حقّ الزيارة و الوداد

و أحسب يومهم إن لم تجدهم *** مصادف دعوة منهم جماد(2)

فكم يوم من الصهباء سار *** و آخر منك بالمعروف غاد

فهذا يستهلّ على غليلي *** و هذا يستهلّ على تلادي

فيسقي ذا مذانب كلّ عرق *** و ينزع ذا قرارة كلّ واد

دعوتهم عليك و كنت ممّن *** نعيّنه على العقد الجياد

قال: فوجّه إليه بمائة دينار و مائة دنّ نبيذا.

هو و أبو تمام يزوران أبا نهشل:

قال محمد بن داود بن الجراح:

زار الحسن بن وهب و أبو تمام أبا نهشل بن حميد، فبدأ أبو تمام، فقال:

أغصّك اللّه أبا نهشل

ثم قال للحسن أجز: فقال:

بخدّ ريم شادن أكحل

ثم قال: أجزيا أبا نهشل، فقال:

نطمع في الوصل فإن رمته *** صار مع العيّوق في منزل(3)

من كتبه إلى أبي تمام:

أخبرني جعفر بن محمد بن قدامة بن زياد الكاتب: قال:

كتب الحسن بن وهب إلى أبي تمام، و قد قدم من سفر: جعلت فداءك و وقاءك و أسعدني اللّه بما أوفى عليّ من مقدمك، و بلغ الوطر كلّ الوطر بانضمام اليد عليك، و إحاطة الملك بك، و أهلا و سهلا، فقرّب اللّه دارا قرّبتك، و أحيا ركابا أدّتك، و سقى بلادا يلتقي ليلها و نهارها عليك، و جعلك اللّه في أحصن معاقله، و أيقظ محارسه و أبعدهما على الحوادث مراما برحمته.

يدافع عن أبي تمام:

أخبرني الحسن بن علي: قال: حدّثنا محمد بن موسى: قال:

ص: 87


1- لعلها مخفف لمة أي أصحاب.
2- جماد كلمة تقال للبخيل ذما له.
3- العيوق: نجم أحمر في طرف المجرة الأيمن.

قال رجل للحسن بن وهب: إن أبا تمام سرق من رجل يقال له مكنف من ولد زهير بن أبي سلمى، و هو رجل من أهل الجزيرة قصيدته التي يقول فيها:

كأنّ بني القعقاع يوم وفاته *** نجوم سماء خرّ من بينها البدر

توفّيت الآمال بعد محمد *** و أصبح في شغل عن السّفر السّفر

فقال الحسن: هذا دعبل حكاه، و أشاعه في الناس، و قد كذب، و شعر مكنف عندي، ثم أخرجه، و أخرج هذه القصيدة بعينها، فقرأها الرجل فلم يجد فيها شيئا مما قاله أبو تمام في قصيدته: ثم دخل دعبل(1) على الحسن بن وهب، فقال له: يا أبا عليّ، بلغني أنك قلت في أبي تمام كيت و كيت، فهبه سرق هذه القصيدة كلّها، و قبلنا قولك فيه، أسرق شعره كلّه؟ أ تحسن أنت أن تقول كما قال:

شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي *** و محّت كما محّت و شائع من برد(2)

و أنجدتم من بعد إتهام داركم *** فيا دمع أنجدني على ساكني نجد؟

فانخزل دعبل و استحيا، فقال له الحسن: الندم توبة، و هذا الرجل قد توفّي، /و لعلك كنت تعاديه في الدنيا حسدا على حظّه منها، و قد مات الآن، فحسبك من ذكره، فقال له: أصدقك يا أبا عليّ، ما كان بيني و بينه شيء قط إلا أني سألته أن ينزل لي عن شيء استحسنته من شعره، فبخل عليّ به، و أما الآن فأمسك عن ذكره، فجعل الحسن يضحك من قوله و اعترافه بما اعترف به.

يعير حماد:

اشارة

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء: قال: حدّثنا إسحاق بن محمد النّخعي: قال:

كتب إبراهيم بن محمد بن أبي محمد اليزيدي إلى محمد بن حماد الكاتب يهجوه، و يعيره بعشق الحسن بن إبراهيم بن رباح و الحسن بن وهب جاريته و تغايرهما عليها:

لي خليطان محكمان يجيدا *** ن لما يعملانه حاذقان

واحد يعمل القسيّ فيأ *** تيك بها في استقامة الميزان

و فتى يعمل السكاكين في القر *** ن مقرّ بحذقه الثّقلان

و هما يطلبان قرنا على رأ *** سك فانظر في بعض ما يسألان

قلت: هل يؤلم الفتى قطع ما *** فيه تريدان أيها الفتيان؟

فأجابا بلطف قول و فهم *** قم فإنّا إذا لنوكي مدان(3)

فاقطع الآن ما برأسك منها *** إن فيما ترى لمحض بيان

ص: 88


1- في هج: «ثم دخل على تفيئة ذلك دعبل» و تفيئة الشيء: زمانه.
2- مح الثوب: بلي و الفعل يمح، و الوشيعة: المكوك.
3- نوكي: جمع أنوك، و بنو المدان: هجاهم حسان بالحمق ثم مدحهم بالفصاحة و الطول.

ذاك خير من أن يسمّى اسم سوء *** فيقال انظروا إلى القرنان(1)

صوت

قد كان عتبك مرّة مكتوما *** فاليوم أصبح ظاهرا معلوما

نال الأعادي سؤلهم لا هنّئوا *** لمّا رأونا ظاعنا و مقيما

و اللّه لو أبصرتني لأديت لي *** و الدمع يجري كالجمان سجوما(2)

هبني أسأت فعادة لك أن ترى *** متجاوزا متطاولا مظلوما(3)

الشعر لأحمد بن يوسف الكاتب، و الغناء لعبيد بن الحسن الناطفي اللّطفي، ثاني ثقيل بالوسط، و فيه خفيف رمل يقال: إنه لرذاذ، و فيه ثقيل أول مجهول.

ص: 89


1- القرنان: الديوث المشارك في قرينته.
2- لأديت لي: أي أشفقت و وفقت لي. و في ب: «لوجدتني».
3- في هج: «متطولا لا متجاوزا».

8 - أخبار أحمد بن يوسف

اسمه و نسبه:

هو أحمد بن يوسف بن صبيح الكاتب، و أصله من الكوفة، و كان مذهبه الرسائل و الإنشاء، و له رسائل معروفة، و كان يتولى ديوان الرسائل للمأمون، و يكنى أبا جعفر، و كان موسى بن عبد الملك غلامه و خرّيجه، فذكر محمد بن داود بن الجراح أن أحمد بن سعيد حدّثه عن موسى بن عبد الملك: قال: وهب لي أحمد بن يوسف ألفي(1) ألف درهم تفاريق عن ظهر يد.

أخوه القاسم رائي البهائم:

و أخوه القاسم بن يوسف أبو محمد شاعر مليح الشعر، و كان ينتمي إلى بني عجل، و لم يكن أخوه أحمد يدّعي ذلك.

و كان القاسم قد جعل وكده(2) في مدح البهائم و مراثيها فاستغرق أكثر شعره في ذلك، منها قوله يرثي شاة:

عين بكّي لعنزنا السوداء *** كالعروس الأدماء يوم الجلاء(3)

/و قوله في الشاه مرك(4):

أقفرت منك أبا *** سعد عراص و ديار

و قوله في السّنّور:

ألا قل لمجّة أو ماردة *** تبكّي على الهرّة الصائدة(5)

/و قوله في القمريّ(6):

هل لامرئ من أمان *** من طارق الحدثان؟

يتبنى جارية للمأمون:

أخبرني محمد بن خلف وكيع: قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد: قال: حدّثني رجل من ولد عبد الملك بن صالح أن الهشامي قال:

ص: 90


1- في ف: ألف درهم.
2- الوكد: بالفتح معناه المراد و الهم و القصد.
3- الأدماء: البيضاء، و يوم الجلاء: يوم الزفاف و عرض العروس.
4- الشاه مرك: الفتى من الدجاج قبل أن يبيض بأيام و هو معرب الشاه مرغك: ملك الكتكوت.
5- في ف: «مخة».
6- القمري: ضرب من الحمام.

كان أحمد بن يوسف قد تبنّى جارية للمأمون اسمها مؤنسة، فأراد المأمون أن يسافر و يحملها، فكتب إليه أحمد بن يوسف بهذا الشعر على لسانها، و أمر بعض المغنّين، فغناه به، فلما سمعه و قرأ الكتاب أمر بإخراجها إليه، و هو:

قد كان عتبك مرة مكتوما

واعظ غير متعظ:

و قال محمد بن داود: حدّثني أحمد بن أبي خيثمة الأطروش(1) قال:

عتب أحمد بن يوسف على جارية له، فقال:

و عامل بالفجور يأمر با *** لبرّ كهاد يخوض في الظّلم

أو كطبيب قد شفّه سقم *** و هو يداوي من ذلك السّقم

يا واعظ الناس غير متّعظ *** نفسك طهّر أولا فلا تلم

يقول شعراء على لسان مؤنسة:

و وجدت في بعض الكتب بلا إسناد: عتب المأمون على مؤنسة، فخرج إلى الشّمّاسيّة(2) متنزّها، و خلّفها عند أحمد بن يوسف الكاتب فرجت أن يذكرها إذا صار في متنزّهه(3)، فيرسل في حملها، فلم يفعل، و تمادى في عتبه، فسألت أحمد بن يوسف أن يقول على لسانها شعرا ترفعه(4) فقال:

/

يا سيدا فقده أغرى بي الحزنا *** لا ذقت بعدك لا نوما و لا وسنا

لا زلت بعدك مطويّا على حرق *** أشنا المقام و أشنا الأهل و الوطنا(5)

و لا التذذت بكأس في منادمة *** مذ قيل لي: إن عبد اللّه قد ظعنا

و لا أرى حسنا تبدو محاسنه *** إلاّ تذكرت شوقا وجهك الحسنا

و بعثت به إلى إسحاق الموصليّ، فغناه به، و قيل: بل بعثت به إلى سندس، فغنّته به؛ فاستحسن ذلك، و قال: لمن هذا الشعر؟. فقال أحمد بن يوسف: لمؤنسة يا سيدي تترضّاك، و تشكو البعد منك، فركب من ساعته، حتى ترضّاها، و رضي عنها.

و وجدت في هذا الكتاب قال:

كنا مع أحمد بن يوسف الكاتب في مجلس؛ و عندنا قينة، فتحلاّها(6) أحمد بن يوسف، فكتب إلى صاحب المنزل:

ص: 91


1- هد: «أحمد بن خيثمة قال: أخبرنا أبو جعفر الأطروش».
2- الشماسية: نسبة إلى بعض شماسي النصارى و هي مجاورة لدار الروم التي في أعلى بغداد.
3- كذا في ف، أو في س، ب: «منتزهة».
4- في هج: «ترققه به».
5- أشنا: أبغض و أصلها بالهمز و سهلت.
6- كذا في ف، و في س، ب: «فتحللها». و تحلاها، بمعنى استحلاها.

أنا رهن للمنايا *** بين إبرام و نقض

من هوى ظبي غرير *** مونق المنظر غضّ

ليتها جادت بتق *** بيل لخدّيها و عضّ

إن عجزتم عن شراها *** لي بفرض أو بقرض

فتمنّوا لي جميعا *** أنها قبر لبعضي

له يطل و الفضل بطل:

اشارة

أخبرني عمي: قال: حدّثنا الحسن بن عليل: قال:

ذكر مسعود بن أبي بشر أنّ أحمد بن يوسف دخل يوما على الفضل بن سهل/أو أخيه في يوم دجن، فأطال مخاطبته، و كان أحمد/بن يوسف آنسا به، ففتح دواته و كتب إليه:

صوت

أرى غيما تؤلّفه جنوب *** و أحسبه سيأتينا بهطل

فوجه الرأي أن تدعو برطل *** فتشربه و تدعو لي برطل

و دفعها إليه فقرأهما، و ضحك، و قال: إن كان هذا عين الرأي قبلناه، و لم نردّه، ثم دعا بالطعام و الشراب، فأتموا يومهم.

الغناء في هذين البيتين للقاسم بن زرزور ثاني ثقيل بالوسطى.

و مما يغنّي فيه من شعره:

صوت
يعشق محمد سعيد:

صدّ عني محمد بن سعيد *** أحسن العالمين ثاني جيد

ليس من جفوة يصدّ و لكن *** يتجنّى لحسنه في الصّدود

الغناء فيه لزرزور خفيف رمل، ذكر ذلك إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه، و محمد بن سعيد هذا كان من أولاد الكتّاب بسرّمن رأى، و كان أحمد يتعشّقه.

و من شعره الذي يغنّى فيه:

صوت

كم ليلة فيك لا صباح لها *** أحببتها قابضا على كبدي

قد غصّت العين بالدموع و قد *** وضعت خدّي على بنان يدي

كأنّ قلبي إذا ذكرتكم *** فريسة بين ساعدي أسد

ص: 92

الغناء لشارية من رواية طبّاع، و فيه خفيف رمل، ذكر حبش أنه لأحمد النّصيبي، و هو خطأ يشبه أن يكون لأحمد بن صدقة أو بعض طبقته.

صوت

الراح و النّدمان أحسن منظرا *** في كل ملتفّ الحدائق رائق

فإذا جمعت صفاءه و صفاءها *** فارجم بكل ملمة من حالق

الشعر للعطوي، و الغناء لبنان ثقيل أول بالوسطى، و فيه لذكاء وجه الرزة(1) خفيف ثقيل.

ص: 93


1- ذكاء: غلام أحمد بن يوسف كان مغنيه.

9 - أخبار العطوي

اسمه و نسبه:

هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي عطية مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، و يكنى أبا عبد الرحمن بصريّ المولد و المنشأ.

و كان شاعرا كاتبا من شعراء الدولة العباسية، و اتصل بأحمد بن أبي داود، و تقرّب إليه بمذهبه و تقدّمه فيه بقوة جداله عليه، فلما توفّي أحمد نقصت حاله. و له فيه مدائح يسيرة، و مراث كثيرة.

و اتصاله بأبي داود:

منها ما أنشدنيه الأخفش عن كوثرة أخي العطويّ:

حنّطته يا نصر بالكافور *** و زففته للمنزل المهجور

هلاّ ببعض خصاله حنّطته *** فيضوع أفق منازل و قبور؟

تاللّه لو من نشر أخلاق له *** يعزى إلى التقديس و التطهير(1)

حنّطت من سكن الثّرى و علا الرّبا *** لتزوّدوه عدّة لنشور

/فاذهب كما ذهب الوفاء فإنه *** ذهبت به ريحا صبا و دبور

و اذهب كما ذهب الشباب فإنه *** قد كان خير مصاحب و عشير

و اللّه ما أبّنته لأزيده *** شرفا و لكن نفثة المصدور

و أنشدني الأخفش للعطويّ أيضا يرثي أحمد بن أبي دواد قال:

و ليس صرير النعش ما تسمعونه *** و لكنه أصلاب قوم تقصّف

و ليس نسيم المسك ريّا حنوطه *** و لكنّه ذاك الثناء المخلّف

يعتبره الشعراء إماما:

و ذكر محمد بن داود في كتاب الشعراء، فقال: كان له فن من الشعر لم يسبق إليه، /ذهب فيه إلى مذهب أصحاب الكلام، ففاق جميع نظرائه، و خفّ شعره على كل لسان، و روي، و استعمله الكتاب، و احتذوا معانيه، و جعلوه إماما.

ص: 94


1- في ف، هد: «و لو بشريف».

قذارة و إدمان:

قال ابن داود: و حدّثني المبرّد: قال: كان العطويّ - و هو عندنا بالبصرة - لا ينطق بالشعر، ثم ورد علينا شعره لمّا صار إلى سرّ من رأى، و كنا نتهاداه، و كان مقتّرا عليه رزقه، دفرا(1) و سخا، منهوما بالنبيذ، و له فيه في وصف الصّبوح و ذكر النّدامى و المجالس أحسن قول، و ليس له قول يسقط، فمن ذلك قوله:

فيئي إلى أهدى السّبل *** قولا و علما و عمل

قاتلها اللّه لقد *** سامتكما إحدى العضل(2)

تقول هلا رحلة *** تنقلنا خير نقل

أخشى على جائلة *** الآمال جوّال الأجل

أ يضمن الآجال جامع الأموال؟

أخبرني علي بن سليمان الأخفش: قال: حدّثني محمد بن يزيد: قال:

سمع العطويّ رجلا يحدّث أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: إن فلانا قد جمع مالا، فقال عمر بن الخطاب:

فهل جمع له أياما؟ فأخذ العطوي هذا المعنى فقال:

أرفه بعيش فتى يغدو على ثقة *** إنّ الذي قسم الأرزاق يرزقه

فالعرض منه مصون لا يدنّسه *** و الوجه منه جديد ليس يخلقه

جمعت مالا ففكّر هل جمعت له *** يا جامع المال أياما تفرّقه؟(3)

المال عندك مخزون لوارثه *** ما المال مالك إلا حين تنفقه

يتمنى كأسا و ندمانا:

اشارة

و من قوله في النّدمان و النّبيذ مما يغنّي فيه ما أنشدنيه الأخفش و غيره من شيوخنا:

صوت

فكم قالوا تمنّ فقلت كاس *** يطوف بها قضيب في كثيب(4)

و ندمان تساقطني حديثا *** كلحظ الحبّ أو غضّ الرقيب

الغناء في هذين البيتين لذكاء وجه الززّة خفيف رمل.

ص: 95


1- دفرا: نتنا.
2- العضل: جمع عضلة و هي الداهية.
3- في هج: «فقل لي» بدل «ففكر».
4- في ف: كأسا، و الخطب سهل بحسب التقدير فإن قدرت فعلا نصبت، و إن قدرت أسماء كمتاي كأس» رفعت، و كذلك الحال في ندمان الآتية.

يستقي علويا نبيذا:

أخبرني عمي: قال: حدّثني كوثرة أخو العطوي قال:

كان أخي أبو عبد الرحمن يشرب مع أصدقاء له من الكتّاب، و معهم قينة يقال لها: مصباح، من أحسن الناس وجها، و أطيبهم غناء، فما زالوا في قصف و عزف إلى أن انقطع نبيذهم؛ فبقوا حيارى، و كانوا قريبا من منزل أبي العباس أحمد بن الحسين/بن موسى بن جعفر بن محمد العلويّ، و كان صديقا لأبي عبد الرحمن فكتب إليه:

يا ابن من طاب في المواليد مذ آ *** دم جرّا إلى الحسين أبيه(1)

أنا بالقرب منك عند كريم *** قد ألحّت عليه شهب سنيه(2)

عنده قينة إذا ما تغنّت *** عاد منّا(3) الفقيه غير فقيه

تزدهيني و أين مثلي في الف *** هم تغنّيه ثم لا تزدهيه؟

مجلس كالرياض حسنا و لكن *** ليس قطب السرور و اللهو فيه(4)

[فأقمه بما به يمتري دن ع *** جوز خمارة ممتريه(5)]

/و بأشياخك الكرام إلى السّؤ *** دد موسى بن جعفر و أبيه

إن تحشّمتني و إن كان إلاّ *** مثل ما يأنس الفتى بأخيه(6)

قال: فلما وصلت الرقعة إلى أبي العباس أرسل إليهم براوية شراب، فلم يزالوا يشربون مجتمعين، حتى نفدت في أخفض عيش.

يأكل الحاضر و يسمع عقد:

حدّثني أبو يعقوب إسحاق بن الضحّاك بن الخصيب الكاتب: قال:

جاءني يوما أبو عبد الرحمن العطوي بعد وفاة عمي أحمد بن الخصيب بسنتين، و كان صديقه و صنيعته، فجلس عندي يحادثني حديثه، و يبكي ساعة طويلة، ثم تغيمت السماء و هطلت، فسألته أن يقيم عندي، فحلف ألا يفعل إلا بعد أن أحضره من وقتي ما راج من الطعام، و لا أتكلّف له شيئا، ففعلت و جئته بما حضر، فقال لي: ما فعلت عقد؟ قلت: باقية، و هي في يومنا هذا مقيمة عندي، و الساعة تسمع غناءها، فقال لي: عجّل إذن فإنّ النهار قصير، ثم أنشأ يقول:

أدر الكأس قد تعالى النّهار *** ما يميت الهموم إلا العقار

ص: 96


1- في هج: «طرا» بدل «جرا».
2- سنة شهباء: جدبة.
3- في ف: «منها».
4- في هج: «وطب» بدل «قطب».
5- تكملة من هد، هج.
6- في ف: «و إن كنت» بدل «و إن كان» و في بعض النسخ: «تجشمتني» بدل «تحشمتني».

صاح هذا الشتاء فاغد عليها *** إنّ أيامه لذاذ قصار

أيّ شيء ألذ من يوم دجن *** فيه كأس على النّدامى تدار

و قيان كأنهنّ ظباء *** فإذا قلن قالت الأوتار

أحسن يوم و أطيبه:

حدّثني عمي: قال: حدّثني كوثرة: قال:

كان لأبي عبد الرحمن صديق من الأدباء، و كان يتعشّق جارية من جواري القيان يقال لها: عثعث، و كان لا يقدر عليها إلا على لقاء عسير، و اجتماع يسير، فأرسل إليها/يوما، فأحضرها(1) و أصلح جميع ما يحتاج إليه، و اتفق أن كان ذلك في(2) يوم رذاذ به من الطّيب و الحسن ما اللّه به عليم، فكتب إلى صديقه يعرفه الخبر، و يسأله المصير إليه و وصف له القصة بشعر، فقال:

يوم مطير و عيش نضير *** و كأس تدور و قدر تفور

و عثعث تأتي إذا جئتنا *** فتسمع منها غناء يصور(3)

و عندي و عندك ما تشت *** هيه شعر يمرّ و علم يدور

و إذ كان هذا كما قد وصفت *** فإن التفرّق خطب كبير

فقم نصطبح قبل فوت الزّمان *** فإنّ زمان التلهّي قصير

قال: فسار إليه صاحبه فمرّ لهما أحسن يوم و أطيبه.

نثرا استحال شعرا:

و هذا الشعر أخذه العطويّ من كلام إسحاق، أخبرني به وسواسة بن الموصلي عن حماد عن أبيه: قال: كان يألفني بعض/الأعراب و كان طيبا، فجاءني يوما، فقلت له: لم أرك أمس، فقال: دعاني صديق لي، فقلت: صف لي ما كنتم فيه، فقال لي: كنا في مجلس نظامه سرور بين قدور تفور، و كأس تدور، و غناء يصور، و حديث لا يحور(4) و ندامى كأنهم البدور.

قال إسحاق: و قلت لأعرابي: كان يألفني: أين كنت بالأمس؟ قال: كنت عند بعض ملوك سرّ من رأى، فأدخلني إلى قبة كإيوان كسرى، و أطعمني في قصاع تترى، و غنتني جارية سكرى، تلعب بالمضراب كأنه مدري، فيا ليتني لقيتها مرة أخرى.

/قال إسحاق: و قلت لبعض الأعراب: طلبتك أمس فلم أجدك فأين كنت؟ قال: كنت عند صديق لي، فأطعمني بنات التّنانير، و أطعمني أمّهات الأبازير(5) و حلواء الطّناجير(6)، و سقاني زعاف القوارير، و أسمعني غناء

ص: 97


1- تكملة من هج، و هد.
2- تكملة من هج، و هد.
3- يصور: يميل.
4- لا يجور: لا يظلم. في م، أ: «لا يجور»: أي لا يضعف.
5- الأبازير: جمع أبزار و هو التابل.
6- الطناجير: جمع طنجير بالكسر فارسي معرب إناء الطبخ و عربية: القدور.

الشادن(1) الغرير، على العيدان و الطّنابير، قد ملكت بأوقار الدراهم و الدّنانير.

دعوة سبقتها تلبيتها:

اشارة

قرأت في بعض الكتب بغير إسناد: أنّ العطوي كان يوما جالسا في منزله، و طرقه صديق له ممن كان يغنّي(2)بسرّمن رأى، فقال له: قد أهديت إليك جواريّ اليوم و نبيذا يكفيك، و حسبك بالكفاية. و أقام عنده، فدخل عليه غلام أمرد أحسن من القمر، فاحتبسوه و كتب العطويّ إلى صديق له من أهل الأدب:

يومنا طيّب به حسن الق *** صف و حثّ الأرطال و الكاسات

ما ترى البرق كيف يلمع فيه *** و رشاشا يبلّ في الساعات

و لدينا ظبي غرير ظريف *** قد غنينا به عن القينات(3)

إن تخلّفت بعد ما تصل الرّ *** قعة عنّا فأنت في الأموات

فأجابه الرجل فقال:

أنا في إثر رقعتي فاعلمن ذا *** ك على أنّني من البيّات

فأفهم الشّرط بيننا لا تقل لي *** قد تثاقلت فانصرف بحياتي

لا لسوء لكن لأمتع نفسي *** بحديث الظبي الغرير المواتي(4)

صوت

أيا بيت ليلى إنّ ليلى مريضة *** برادان لا خال لديها و لا ابن عمّ(5)

و يا بيت ليلى لو شهدتك أعولت *** عليك رجال من فصيح و من عجم

و يا بيت ليلى لا يبست(6) و لا تزل *** بلادك سقياها من الواكف الدّيم

الشعر لمرة بن عبد اللّه النّهدي، و الغناء لأحمد النّصيبي ثقيل أول بالوسطى، يقال إنه لحنين.

ص: 98


1- الشادن: الغلام من شدن الظبي إذا ترعرع، و في هج: «غناء الزرازير».
2- هج، هد: «يقين» أي: يبيع القيان.
3- في ف: «عن الفتيات».
4- كذا في ف و في س، ب: «لا لسر» بدل «لا لسوء».
5- في ف، و في س و ب: «عمم».
6- في ف: «نسيت».

10 - أخبار مرة و نسبه

اسمه و نسبه:

هو مرة بن عبد اللّه بن هليل بن يسار: أحد بني هلال بن عصم بن نصر بن مازن بن خزيمة بن نهد، و ليلى هذه من رهطه، يقال لها: ليلى بنت زهير بن يزيد بن خالد(1) بن عمرو بن سلمة.

يهجو من يخطبها:

نسخت خبرها من كتاب ابن أبي السّريّ قال: حدّثني ابن الكلبي عن أبيه. قال:

كانت امرأة من بني نهد، يقال لها: ليلى بنت زهير بن يزيد، و كان لها ابن عم يقال له مرّة بن عبد اللّه/بن هليل يهواها، و اشتد شغفه بها فخطبها، و أبوا أن يزوجوه، و كان لا يخطبها غيره إلاّ هجاه، فخطبها رجل من بني نهشل، يقال له: إران، فقال مرّة يهجوه:

و ما كنت أخشى أن تصير بمرّة *** من الدّهر ليلى زوجة لإران

لمن ليس ذا لبّ و لا ذا حفيظة *** لعرس و لا ذا منطق و بيان

لقد بليت ليلى بشرّ بليّة *** و قد أنزلت ليلى بدار هوان

تنمي إليه فيرثيها:

قال: فتزوجها المنجاب(2) بن عبد اللّه بن مسروق بن سلمة بن سعد، من بني زويّ بن مالك بن نهد، فخرج إلى البعث براذان، و هي إذ ذاك مسلحة لأهل الكوفة، فخرج بها معه، فماتت براذان و دفنت هناك. فقدم رجلان من بجيلة من مكتبهما براذان من بني نهد، و كانت بجيلة جيران بني نهد بالكوفة، فمرّا على مجلسهم، فسألوهما عمن براذان من بني نهد، فأخبراهم بسلامتهم، و نعيا إليهم ليلى و مرّة في القوم، فأنشأ يقول:

أيا ناعيي ليلى أ ما كان واحد *** من الناس ينعاها إليّ سواكما

/و يا ناعيي ليلى أ لم نك جيرة *** عليكم لها حقّ فألاّ نهاكما(3)

و يا ناعيي ليلى لقد هجتما لنا *** تجاوب نوح في الديار كلاكما

ص: 99


1- في هج: بن «خلف» بدل «خالد».
2- في هج: «المنجال».
3- كذا في ف، و في س، ب: «ندامى ذوي حق فألانهما كما».

و يا ناعيي ليلى لجلّت مصيبة *** بنا فقد ليلى لا أمرّت قواكما(1)

و لا عشتما إلا حليفي بليّة *** و لا متّ حتى يشترى كفناكما

فأشمت و الأيام فيها بوائق *** بموتكما إني أحبّ رداكما

و قال فيها أيضا:

كأنك لم تفجع بشيء تعدّه *** و لم تصطبر للنائبات من الدهر(2)

و لم تر بؤسا بعد طول غضارة *** و لم ترمك الأيام من حيث لا تدري

سقى جانبي راذان و الساحة التي *** بها دفنوا ليلى ملثّ من القطر(3)

و لا زال خصب حيث حلّت عظامها *** براذان يسقى الغيث من هطل غمر

و إن لم تكلمنا عظام و هامة *** هناك و أصداء بقين مع الصخر(4)

و قال فيها:

أيا قبر ليلى لا يبست و لا تزل *** بلادك تسقيها من الواكف الدّيم

و يا قبر ليلى غيبت عنك أمها *** و خالتها و الناصحون ذو و الذّمم

و يا قبر ليلى كم جمال تكنّه *** و كم ضمّ فيك من عفاف و من كرم(5)

/و ساق باقي الأبيات التي فيها الغناء:

هل كان تزوجها:

اشارة

و حكى الهيثم بن عدي عن شيخ من بني نهد:

أنّ مرة كان تزوجها، و كان مكتبه براذان، و أخرجها معه، ثم ضرب عليه البعث إلى خراسان، فخلّفها عند شيخ من أهل منزله هناك، و أفرد لها الشيخ دارا كانت فيها، و مضى لبعثه، ثم قدم بعد حول، فلقي فتى من أهل راذان قبل وصوله إلى دارها، فسأله عنها، فقال: أ ترى القبر الذي بفناء الدار؟ قال: نعم، قال: هو و اللّه قبرها، فجاء، فأكبّ عليه يبكي، و يندبها، و ترك مكتبه، و لزم/قبرها يغدو و يروح إليه، حتى لحق بها.

صوت

بأبي أنت يا بن من *** لا أسمّي لبعض ما

يا شبيه الهلال مث *** لك في الأفق أنجما

راقب اللّه في أس *** يرك إن كنت مسلما

الشعر لعليّ بن أمية و الغناء لعمر الميداني رمل مطلق.

ص: 100


1- في هج: «تجلت» بدل «لجلت»، و أمرت: اشتدت.
2- في ف: «تغره» بدل «تعده».
3- ملث: دائم شديد الهطل.
4- في هج: «من الصخر».
5- في هد، هج: «و كم حزت فيها».

11 - أخبار علي بن أمية

اسمه و نسبه:

علي بن أمية بن أبي أمية، و كان أبوه يكتب للمهديّ على ديوان بيت المال و ديواني الرسائل و الخاتم، و كان منقطعا إلى إبراهيم بن المهدي، و إلى الفضل بن الربيع، و قد تقدم خبر أخيه محمد في مواضع من هذا الكتاب.

الحسن يثير ضجة:

اشارة

فحدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار: قال: حدّثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات: قال: حدّثني محمد بن علي بن أمية: قال: لما قدم عليّ بن أمية، و قال:

صوت

يا ريح ما تصنعين بالدّمن؟ *** كم لك من محو منظر حسن

محوت آثارنا و أحدثت آ *** ثارا بربع الحبيب لم تكن

إن تك يا ربع قد بليت من *** الرّيح فإني بال من الحزن

قد كان يا ربع فيك لي سكن *** فصرت إذ بان بعده سكني

شبّهت ما أبلت الرياح من آ *** ثار حبيبي الثّأى بلا بدن(1)

يا ريح لا تطمسي الرموس و لا *** تمحي رسوم الديار و الدمن(2)

حاشاك يا ريح أن تكون على *** العاشق عونا لحادث الزّمن

/كثّر الناس فيه، و غناه عمرو الغزال، فقال أبو موسى الأعمى:

يا ربّ خذني و خذ عليّا و خذ *** يا ريح ما تصنعين بالدّمن

عجّل إلى النار بالثلاثة و الرا *** بع عمرو الغزال في قرن

ثم ندم، و قال: هؤلاء أهل بيت، و هم إخوتي، و لا أحبّ أن أنشب بيني و بينهم عداوة و شرّا، فأتى أميّة فقال:

إني قد أذنبت فيما بيني و بينكم ذنبا، و قد جئتك مستجيرا بك من فتيانك، فدعا بعليّ بن أمية، فقال: يا هذا، عمّك أبو موسى قد أتاك معتذرا من الشعر الذي قاله، قال: و ما هو؟ فأنشده، فقال: قد ضجرنا نحن و اللّه منه كما ضجرت

ص: 101


1- في ف: «النؤي» و في هج: «على بدني».
2- في ف: «الرسوم» بدل «الرموس» و هذا البيت و ما قبله ساقطان من ف.

أنت و أكثر، و أنت آمن من أن يكون منا جواب، و أتى محمد بن أمية، فقال له مثل ذلك، و مضى أبو موسى، فأخذ عليّ بن أمية رقعة فكتب فيها:

كم شاعر عند نفسه فطن *** ليس لدينا بالشاعر الفطن

قد أخرجت نفسه بغصّتها *** يا ريح ما تصنعين بالدّمن

و دفع الرقعة إلى غلام له، و قال: ادفعها إلى غلام أبي موسى، و قل له: يقول لك مولاك: /اذكرني بهذا إذا انصرفت إلى المنزل، فلما انصرفت إلى المنزل أتاه غلامه بالرقعة، فقال: ما هذه؟ فقال: التي بعثت بها إليّ، فقال:

و اللّه ما بعثت إليك رقعة، و أظن الفاسق قد فعلها، ثم دعا ابنه، فقرأها عليه، فلما سمع ما فيها قال: يا غلام، لا تنزع عن البغلة. فرجع إلى عليّ بن أمية، فقال: نشدتك اللّه أن تزيد على ما كان، فقال له: أنت آمن.

لحن عمرو الغزال في أبيات عليّ بن أمية رمل بالوسطى.

و قال يوسف بن إبراهيم: حدّثني إبراهيم بن المهديّ: قال: حدّثني محمد بن أيوب المكي:

بئس المغني عمرو الغزال:

أنه كان في خدمة عبيد اللّه بن جعفر بن المنصور، و كان مستخفّا لعمرو الغزال، محبّا له، و كان عمرو يستحق ذلك بكل شيء، إلا ما يدّعيه و يتحقّق به من صناعة الغناء؛ و كان ظريفا أديبا نظيف الوجه و اللباس، معه كلّ ما يحتاج إليه من آلة الفتوّة، و كان صالح الغناء، ما وقف بحيث يستحقّ، و لم يدع ما يستحقه، و أنه كان عند نفسه نظير ابن جامع و إبراهيم و طبقتهما، لا يرى لهم عليه فضلا و لا يشكّ في أنّ صنعتهم مثل صنعته، و كان عبد اللّه قليل الفهم بالصناعة، فكان يظن أنه قد ظفر منه بكنز من الكنوز، فكان أحظى الناس عنده من استحسن غناء عمرو الغزال و صنعته، و لم يكن في ندمائه(1) من يفهم هذا، ثم استزار عبيد اللّه بن جعفر أخاه عيسى، و كان أفهم منه، فقلت له:

استعن برأي أخيك في عمرو الغزال؛ إنه أفهم منك، و كانت أمّ جعفر كثيرا ما تسأل الرشيد تحويل أخيها عبيد اللّه و تقديمه و التنويه به، فكان عيسى أخوه يعرّف الرشيد أنه ضعيف عاجز لا يستحق ذلك، فلما زاره عيسى أسمعه غناء عمرو، فسمع منه سخنة عين(2)، فأظهر من السرور و الطّرب أمرا عظيما، ليزيد بذلك عبيد اللّه بصيرة فيه، و يجعله عيسى سببا قويا يشهد عند الرشيد بضعف عقله، و علمت ما أراد، و عرفت أن عمرا الغزال أول داخل على الرشيد، فلما كان وقت العصر من اليوم الثاني، لم نشعر إلا برسول الرشيد قد جاء يطلب عمرا الغزال، فوجّه إليه و أقبل يلومني و يقول: ما أظنك إلا قد فرقت بيني و بين عمرو، و كنت غنيا عن الجمع بينه و بين عيسى، و اتفق أن غنى عمرو الرشيد في هذا الشعر صنعته:

يا ريح ما تصنعين بالدّمن؟ *** كم لك من محو منظر حسن

و كان صوتا خفيفا مليحا فأطربه، و وصله بألف(3) دينار، و صار في عداد مغنّي/الرشيد، إلا أنه كان يلازم

ص: 102


1- في ف: «من ندمائه و لا من أصحابه».
2- سخنة عين: ضد قرتها و ارتياحها.
3- في ف: «بألفي».

عبيد اللّه إذا لم يكن له نوبة، فأقبلت أتعجّب من ذلك، و اتّصلت خدمته إياه ثلاث سنين، ثم انصرفا يوما من الشّمّاسية مع عبيد اللّه بن جعفر، فلقيه الخضر بن جبريل، و كان في(1) الناس في العسكر، فعاتبه عبيد اللّه على تركه و انقطاعه عنه، فقال: و اللّه ما أفعل ذلك جهلا بحقك، و لا إخلالا بواجبك، و لكنا في طريقين متباينين لا يمكن معهما الاجتماع، قال: و ما هما ويحك؟ قال: أنت على نهاية السّرف في محبّة(2) عمرو الغزال، و أنا على نهاية السّرف في بغضه(3) و أنت تتوهم أنه لا يطيب لك عيش إلا به، و أنا أتوهم أني إن عاشرته ساعة متّ، و تقطعت نفسي غيظا و كمدا، و ما يستقيم مع هذا بيننا عشرة أبدا، فقال له عبيد اللّه: إذا كان هذا(4) هكذا فأنا أعفيك منه إذا زرتني، فصر إليّ آمنا، ففعل، و لم يجلس عبيد اللّه حتى قال لحاجبه لا تدخل اليوم/أحدا، و لا تستأذن عليّ لجلوسه و دخلنا، فلما وضعت المائدة لم يأكل ثلاث لقم، حتى دخل الحاجب فوقف بين يديه، و أقبل عمرو الغزال خلفه، فرآه من أقصى الصحن، فقال له عبيد اللّه: ثكلتك أمّك! أ لم أقل لك لا تدخل عليّ أحدا من خلق اللّه؟ فقال له الحاجب: امرأته طالق ثلاثا إن كان عنده أن عمرا عندك في هذا المجرى، و لو جاء جبريل و ميكائيل و كلّ من خلق اللّه لم يدخلوا عليك إلا بإذن سوى عمرو؛ فإنك أمرتني أن آذن له خاصة و أن يدخل متى شاء، و على كلّ حال.

قال: و لم يفرغ الحاجب من كلامه حتى دخل عمرو، فجلس على المائدة و تغيّر وجه الخضر، و بانت الكراهة فيه، فما أكل أكلا فيه خير، و تبيّن عبيد اللّه ذلك، و رفعت المائدة و قدّم النبيذ، فجعل الخضر يشرب شربا كثيرا لم أكن أعهده يشرب مثله، /فظننت(5) أنه يريد بذلك أن يستتر(6) من عمرو الغزال، و عمرو يتغنّى، فلا يقتصر(7) و كلما تغنى قال له عبيد اللّه: لمن هذا الصوت يا حبيبي؟ فيقول: لي و عندنا يومئذ جوار مطربات محسنات، و هو يقطع غناءهنّ بغنائه، و تبينت في وجه الخضر العربدة إلى أن قال عمرو بعقب صوت: هذا لي، فوثب الخضر و كشف استه و خزي في وسط المجلس على بساط خزّ لم أر لأحد مثله، ثم قال: إن كان هذا الغناء لك، فهذا الخراء لي، فغضب عبيد اللّه، و قال له: يا خضر أ كنت تستطيع أن تفعل أكثر من هذا؟ قال إي و اللّه أيها الأمير، ثم وضع رجليه على سلحه، ثم أخرجهما فمشى على البساط مقبلا و مدبرا، حتى خرج و قد لوّثه، و هو يقول: هذا كله لي، و تفرّقنا عن المجلس على أقبح حال و أسوئها، و شاع الخبر، حتى بلغ الرشيد، فضحك حتى غلب عليه، و دعا الخضر، و جعله في ندمائه منذ يومئذ، و قال: هذا أطيب خلق اللّه، و انكشف عنده عوار عمرو الغزال و استرحنا منه، و أمر أن يحجب عنه، فسقط يومئذ، و قد كان الجواري و الغلمان أخذوه و لهجوا به، و كان الرشيد يكايد به إبراهيم الموصلي و ابن جامع قبل ذلك فسقط غناؤه أيضا منذ يومئذ، فما ذكر منه حرف بعد ذلك اليوم إلا صنعته في:

يا ريح ما تصنعين بالدّمن

و لو لا إعجاب الرشيد به لسقط أيضا.

ص: 103


1- في هج: «فتى الناس».
2- التكملة من: هج.
3- التكملة من: هج.
4- في س، ب: «إذا كان هكذا».
5- س، ب: «فظننته».
6- في: هج: «يستريح».
7- في هج: «فلا يفتر».

أية ريح يعني:

حدّثني الحسن بن علي عن محمد بن القاسم عن أبي هفّان: قال:

كنا في مجلس، و عندنا قينة تغنينا، و صاحب البيت يهواها، فجعلت تكايده، و تومئ إلى غيره بالمزح و التّجميش(1)، و تغيظه بجهدها، و هو يكاد يموت قلفا و همّا و تنغّص عليه يومه، و لجّت في أمرها، ثم سقط المضراب عن يدها، فأكبّت على/الأرض لتأخذه، فضرطت ضرطة سمعها جميع من حضر، و خجلت، فلم تدر ما تقول فأقبلت على عشيقها فقالت: أيش تشتهي أن أغني لك؟ فقال: غنّي(2):

يا ريح ما تصنعين بالدّمن

فخجلت و ضحك القوم و صاحب الدار، حتى أفرطوا، فبكت و قامت من المجلس، و قالت: أنتم و اللّه قوم سفل، و لعنة اللّه على من يعاشركم، و غضبت و خرجت، و كان - علم اللّه - سبب القطيعة بينهما و سلو ذلك الرجل عنها:

من الرسول؟

أخبرني ابن عمّار و عمي و الحسن بن علي، قالوا: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثنا الحسين بن الضحاك: قال:

كنت في مجلس قد دعينا إليه، و معنا علي بن أمية، فعلقت نفسه بقينة/دعيت لنا يومئذ، فأقبل عليها فقال لها: أ تغنّين قوله:

خبريني من الرسول إليك؟ *** و اجعليه من لا ينمّ عليك

و أشيري إليّ من هو بالل *** حظ ليخفى على الذين لديك

فقالت: نعم، و غنته لوقتها و زادت فيه هذا البيت، فقالت:

و أفلّي المزاح في المجلس اليو *** م فإن المزاح بين يديك(3)

ففطن لما أرادت و سرّ بذلك، ثم أقبلت على خادم واقف فقالت له: يا مسرور، اسقني، فسقاها، و فطن بن أمية أنها أرادت أن تعلمه أن مسرورا هو الرسول، فخاطبه، فوجده كما يريد، و ما زال ذلك الخادم يتردّد في الرسائل بينهما.

ص: 104


1- التجميش: المغازلة و الملاعبة.
2- ب، غن، و هو خطأ.
3- في هج: «و أقل المزاح في ذلك المجلس».

12 - أخبار عمر الميداني

متقدم في الصنعة و الأداء:

هو رجل من أهل بغداد كان ينزل الميدان(1) فعرف به، و كان لا يفارق محمدا و عليّا ابني أمية و أبا حشيشة، ينادمهم و يغنّي في أشعارهم، و كان منزله قريبا منهم، و هو أحد المحسنين المتقدمين في الصنعة و الأداء.

حدّثني جحظة: قال:

و سمعت ابن دقاق(2) في منزل أبي العبيس بن حمدون يقول: سمعت أبا حشيشة و المسدود، و من قبلهما من الطّنبوريين، فما سمعت منهم أصحّ غناء و لا أكثر تصرفا من عمر الميداني.

مائدة إسحاق و جائزته:

اشارة

حدّثني جحظة: قال: حدّثني علي بن أمية: قال:

دخلت يوما على عمر الميداني، و كان له بقّال على باب داره ينادمه و لا يفارقه، و يقارضه(3) إذا أعسر، و يتصرّف في حوائجه، فإذا حصلت له دراهم دفعها إليه يقبض منها ما رأى، لا يسأله عن شيء، فوجدت عنده يومئذ هذا البقال، فقال لنا عمر: معي أربعة دراهم تعطوني منها لعلف حماري درهما، و الثلاثة لكم، فكلوا بها ما أحببتم. و عندي نبيذ، و أنا أغنّيكم، و البقال يحضرنا من الأبقال اليابسة ما في حانوته. فوجّهنا بالبقال. فاشترى لنا بدرهم(4) لحما. و بدرهم خبزا. و بدرهم فاكهة و ريحانا. و جاءنا من حانوته بحوائج السّكباج(5) و نقل. فبينا نحن نتوقع الفراغ من القدر إذا بفرانق(6)/يدقّ الباب. فأدخله عمر: فقال له: أجب الأمير إسحاق بن إبراهيم. فحلف علينا عمر بالطلاق ألاّ نبرح، و مضى هو؛ و أكلنا السّكباج و شربنا و انصرف(7) عشاء. و بكر إليّ رسوله في السّحر أن صر إليّ، فصرت إليه، فقلت: أعطني خبرك من النّعل إلى النّعل(8). قال: دخلت فوضعت بين يديّ مائدة كأنها جزعة(9) يمانية قد قرشت في عراصها(10) الحبر فأكلت و سقبت رطلين، و دفع إليّ طنبور. فدخلت إلى إسحاق،

ص: 105


1- الميدان: محلة ببغداد من ناحية باب الأزج.
2- في س، ب: «الدقاق».
3- في ف و هج: «يقرضه».
4- زيادة عن ف.
5- السكباج: لحم يطبخ بخل، معرب.
6- الفرانق: الرسول.
7- في هج: «و انصرفنا».
8- من لبس النعل إلى خلعه: كناية عن المبدأ إلى النهاية.
9- جزعة يمانية: كناية عن حارتها و رشيها، و الجزع اليماني من الأحجار القيمة الثمينة إلى الآن.
10- هج: «في عراضها الحبر».

فوجدته في الصدر جالسا، و خلفه ستارة. و عن يمينه مخارق و عن يساره علّويه. فقال لي: أنت عمر الميداني؟ فقلت: نعم. فقال: أ أكلت؟ فقلت: نعم قال: هاهنا أو في منزلك؟ فقلت: بل هاهنا، قال: أحسنت، فغنّ بصوتك الذي صنعته فيّ:

يا شبيه الهلال كلّل في الأفق أنجما

و هو رمل مطلق، فغنّيته فضرب الستارة. و قال: قولوه أنتم، فقالوه، فقال: لمخارق و علّوية: كيف تسمعان؟ فقالا: هذا و اللّه ذا. و ذا ذاك، فرددته مرارا. و شرب عليه. و قال لي: أنا اليوم/على خلوة و لك عليّ دعوات، فانصرف اليوم بسلام. فخرجت و دفع إليّ الغلام خمسة آلاف درهم. فهي هذه، و اللّه لا استأثرت عليكم منها بدرهم. فلم نزل عنده نقصف حتى نفدت.

صوت

أمين الخالق الباري *** و راعى كلّ مخلوق

أدر راحك في المعشو *** ق من راحة معشوق(1)

الشعر لأبي أيوب سليمان بن وهب. و الغناء للقاسم بن زرزور ثقيل أول بالبنصر من جامع غنائه المأخوذ عن أبيه أبي القاسم عبيد اللّه بن القاسم.

ص: 106


1- في م، أ: «بالمعشوق».

13 - أخبار سليمان بن وهب و جمل من أحاديثه تصلح لهذا الكتاب

ينكر الانتساب إلى الحارث:

قد تقدّم نسبه في أخبار الحسن بن وهب أخيه و انتماؤه في بني الحارث بن كعب. و أن أصلهم من قرية يقال لها: سار قرمقا من طسّوج(1) خسرو سابور من سواد واسط، و كان سليمان بن وهب ينكر الانتساب إلى الحارث بن كعب على أخيه الحسن و على ابنه أبي الفضل أحمد بن سليمان بن وهب لشدة تعلقهما به، أخبرني بذلك محمد بن يحيى و غيره من شيوخنا و من مشيخة الكتّاب.

أخبرني الصوليّ: قال: حدّثني الحسن بن يحيى و عون بن محمد الكندي، أن جعفر بن محمد كان وزير المهتدي في أول أمره، فبلغه عنه تشيّع فكرهه، و قال: هذا رافضيّ لا حاجة لي فيه، و استوزر جعفر بن محمد بن عمّار، فلم يزل على وزارته حتى مضت سنة من خلافة المهتدي، ثم قدم موسى بن بغا من الجبل، و كاتبه سليمان بن وهب و ابنه عبيد اللّه، فاستوزر المهتدي سليمان بن وهب و لقب الوزير حقّا؛ لأن من كان قبله كان غير مستحق للوزارة، و لا مستقلّ بها.

ينصفه و يعطيه:

أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدّثني الحسن بن يحيى بن الجماز: قال:

لما استوزر سليمان بن وهب جلس للناس، فدخل عليه شاعر يقال له: هارون بن محمد البالسي، فذكر مظلمة له ببلده، ثم أنشده:

زيد في قدرك العليّ علوّ *** يا بن وهب من كاتب و وزير(2)

أسفر الشرق منك و الغرب عن ضو *** ء من العدل فاق ضوء البدور

/أنشر الناس غيثكم بعد ما كا *** نوا رفاتا من قبل يوم النّشور

شرّد الجور عدلكم فسرحنا *** بينكم بين روضة و سرور(3)

[(4)أنت عين الإمام و القرم مو *** سى بك تفترّ عابسات الأمور]

ص: 107


1- طسوج: كتنور. الناحية و في س، ب سطوج و في ف هج، هد: «طسوج». و في ف: «سافريقا» و انظر «معجم البلدان» «خسرو سابور».
2- في ف بعد البيت الأول: أنت عين الإمام و القرم موسى بك تفتر عابسات الأمور.
3- في ف: منكم بدل «بينكم».
4- التكملة من هد، هج.

فوقع في ظلماته [بما أراد(1)] و وصله بمائتي دينار.

يزيد المهلبي يمدحه فيزيد جائزته:

أخبرني محمد بن يحيى: قال: حدّثنا أحمد بن الخصيب: قال: لعهدي بيزيد بن محمد المهلبيّ عند سليمان ابن وهب بعد ما استوزره المهتدي، و قد أجلسه إلى جانبه، و هو ينشده قوله:

و هبتم لنا يا آل وهب مودّة *** فأبقت لنا جاها و مجدا يؤثّل(2)

فمن كان للآثام و الذلّ أرضه *** فأرضكم للأجر و العزّ منزل

رأى الناس فوق المجد مقدار مجدكم *** فقد سألوكم فوق ما كان يسأل

يقصر عن مسعاكم كلّ آخر *** و ما فاتكم ممّن تقدّم أول(3)

/بلغت الذي قد كنت أمّلته لكم *** و إن كنت لم أبلغ بكم ما أؤمّل(4)

فقطع عليه سليمان الإنشاد، و قال له: يا أبا خالد، فأنت و اللّه عندي كما قال عمارة بن عقيل لابنه:

أقهفه مسرورا إذا أبت سالما *** و أبكي من الإشفاق حين تغيب

/فقال له يزيد: فيسمع مني الوزير آخر الشّعر لا أوله، و تمم فقال:

و ما لي حق واجب غير أنّني *** بجودكم في حاجتي أتوسّل

و أنّكم أفضلتم و بررتم *** و قد يستتمّ النّعمة المتفضّل

و أوليتم فعلا جميلا مقدّما *** فعودوا فإن العود بالحرّ أجمل

و كم ملحف قد نال ما رام منكم *** و يمنعنا من مثل ذاك التجمّل

و عوّدتمونا قبل أن نسأل الغنى *** و لا بذل للمعروف و الوجه يبذل

فقال له سليمان: لا تبرح و اللّه إلاّ بقضاء حوائجك كائنة ما كانت، و لو لم أستفد من كتبة أمير المؤمنين إلا شكرك لرأيت جنابي بذلك ممرعا، و غرسي مثمرا، ثم وقّع له في رقاع كثيرة كانت بين يديه.

رجل من ذوي حرفته يطلب عمال:

أخبرني محمد: قال: حدّثنا الحزنبل: قال:

لما ولّى المهتدي سليمان بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوي حرفته، فقال: أنا - أعز اللّه الوزير - خادمك، المؤمّل دولتك، السعيد بأيامك، المطويّ القلب على ودّك، المنشور اللسان بمدحك، المرتهن بشكر نعمتك، و قد قال الشاعر:

ص: 108


1- زيادة في ف و يقتضيها المقام.
2- في ف: «و مالا». بدل «و مجدا».
3- في م، أ، هج، هد «مسعانكم» بدل «مسعاكم».
4- في ف «آمله» بدل «أملته».

وفّيت كلّ أديب ودّني ثمنا *** إلا المؤمّل دولاتي و أيّامي

فإنني ضامن ألا أكافئه *** إلا بتسويغه فضلي و إنعامي

و إنّي لكما قال القيسيّ: ما زلت أمتطي النهار إليك، و أستدلّ بفضلك عليك، حتى إذا جنّني الليل، فقبض البصر، و محا الأثر، أقام بدني؛ و سافر أملي، و الاجتهاد [عذر](1)، و إذا بلغتك فهو مرادي فقط. فقال له سليمان:

لا عليك: فإني عارف/بوسيلتك، محتاج إلى كفايتك، و لست أؤخّر عن أمري(2) النظر في أمرك و توليتك ما يحسن أثره عليك.

القاضي أحد شهودها:

و ذكر يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه قال:

ما رأيت أظرف من سليمان بن وهب، و لا أحسن أدبا: خرجنا نتلقاه عند قدومه من الجبل مع موسى بن بغا، فقال لي: هات الآن يا أبا الحسن، حدّثني بعجائبكم بعدي، و ما أظنك تحدّثني بأعجب من خبر ضرطة أبي وهب بحضرة القاضي، و ما سيّر من خبرها، و ما قيل(3) فيها، حتى قيل:

و من العجائب أنها بشهادة ال *** قاضي فليس يزيلها الإنكار

و جعل يضحك.

يعترف بفضل بن ثوابة:

قال علي بن الحسين الأصبهاني:

حضرت أبا عبد اللّه الباقطاني، و هو يتقلّد ديوان المشرق، و قد تقلّد ابن أبي السلاسل ماسبذان و مهرجان قذف(4)، و جاءه يأخذ كتبه، فجعل يوصيه كما يوصي أصحاب الدواوين العمّال، فقال ابن أبي السلاسل: كأنّك استكثرت لي هذا العمل أنت أيضا! قد كنت تكتب لأبي العباس بن ثوابة، ثم صرت صاحب ديوان، فقال له الباقطانيّ: يا جاهل يا مجنون، لو لا أنه قبيح عليّ مكافأة مثلك لراجعت الوزير - /أيده اللّه - في أمرك، حتى أزيل يدك، و من لي أن أجد مثل ابن(5) ثوابة في هذا الوقت، فأكتب له، و لا أريد الرئاسة! ثم أقبل علينا يحدثنا، فقال:

دخلت مع أبي العباس بن ثوابة إلى المهتدي، و كان سليمان بن وهب وزيره، و كان/يدخل إليه الوزير و أصحاب الدواوين و العمال و الكتّاب، فيعملون بحضرته، فيوقع إليهم في الأعمال، فأمر سليمان أن يكتب عنه عشرة كتب مختلفة إلى جماعة من العمال، فأخذ سليمان بيد أبي العباس بن ثوابة، ثم قال له: أنت اليوم أحدّ ذهنا منّي فهلمّ نتعاون، فدخلا بيتا، و دخلت معهما، و أخذ سليمان خمسة أنصاف و أبو العباس خمسة أنصاف أخر، فكتبا الكتب

ص: 109


1- زيادة في ف.
2- في هج: «عن يومي هذا» بدل «عن أمري».
3- ب: «و قيل فيها».
4- ماسبذان و مهرجان قذف: كورتان من نواحي الجبل في طريق القاصد من حلوان العراق إلى همذان.
5- في س، ب: «أبي».

التي أمر بها سليمان ما احتاج أحدهما إلى نسخه، و قد أكمل(1) كلّ واحد منهما ما كتب به صاحبه، فاستحسنه و قرّظه، ثم وضع سليمان الكتب بين يدي المهتدي، فقال له و قد قرأها: أحسنت يا سليمان، و نعم الرجل أنت لو لا المعجّل و المؤجّل، و كان سليمان إذا ولّي عاملا أخذ(2) منه مالا معجّلا، و أجّل له مالا إلى أن يتسلّم عمله، فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا قول لا يخلو من أن يكون حقّا أو باطلا، فإن كان باطلا فليس مثلك من يقوله، و إن كان حقّا - و قد علمت أن الأصول محفوظة - فما يضر من يساهمني من عمالي على بعض ما يصل إليهم من برّ؛ من غير تحيّف للرعية و لا نقص للأموال؟ فقال: إذا كان هكذا(3) فلا بأس، ثم قال له: اكتب إلى فلان العامل يقبض ضيعة فلان المصروف المعتقل في يده، بباقي ما عليه من المصادرة، فقال له أبو العباس بن ثوابة: كلّنا يا أمير المؤمنين خدمك و أولياؤك، و كلّنا حاطب في حبلك، و ساع فيما أرضاك و أيّد ملكك، أ فنمضي ما تأمر به على ما خيّلت أم نقول بالحق؟ قال: بل قل الحقّ يا أحمد فقال: يا أمير المؤمنين، الملك يقين، و المصادرة. شكّ، أ فترى أن أزيل اليقين بالشكّ؟ قال: لا، قال: فقد شهدت للرجل بالملك، و صادرته عن شكّ فيما بينك و بينه، و هل خانك أم لا، فتجعل المصادرة صلحا! فإذا قبضت ضيعته بهذا فقد أزلت اليقين بالشكّ، فقال له: صدقت، و لكن كيف الوصول إلى المال؟ فقال له: أنت لا بدّ لك من عمّال على أعمالك، و كلهم يرتزق، و يرتفق، فيحوز رفقه و رزقه/إلى منزله، فاجعله أحد عمّالك؛ ليصرف هذين الوجهين إلى ما عليه و يسعفه معاملوه، فيتخلّص بنفسه و ضيعته و يعود إليك مالك، فأمر سليمان بن وهب بأن يفعل ذلك، فلمّا خرجا من حضرة المهتدي قال له سليمان: عهدي بهذا الرجل عدوّك، و كل واحد منكما يسعى على صاحبه، فكيف زال ذلك، حتى نبت(4) عنه في هذا الوقت نيابة أحييته بها، و تخلّصت(5) نفسه و نعمته؟ فقال: إنما كنت أعاديه، و أسعى عليه و هو يقدر على الانتصاف مني، فأمّا و هو فقير إليّ فلا. فهذا مما يحظره الدين و الصناعة و المروءة. فقال له سليمان: جزاك اللّه خيرا، أما و اللّه، لأشكرن هذه النيّة لك. و لأعتقدنّك من أجلها أخا و صديقا. و لأجعلنّ هذا الرجل لك عبدا ما بقي. ثم قال الباقطاني: أ فمن كان هذا وزنه و فعله يعاب من كان يكتب له؟

من شعره في نكبته:

اشارة

أخبرني محمد بن يحيى الباقطاني: قال: حدّثنا الحسين بن يحيى الباقطاني قال:

كنت آلف سليمان بن وهب كثيرا، و أخدمه و أحادثه، و كان يخصّني و يأنس بي. /فأنشدني لنفسه يذكر نكبته في أيام الواثق:

صوت

نوائب الدهر أدّبتني *** و إنما يوعظ الأريب(6)

ص: 110


1- ف: «و قرأ كل واحد منهما... إلخ».
2- أي أخذ العامل من سليمان.
3- في ف، هج: «إذا كان هذا هكذا».
4- س، ب «ثبت» بدل «نبت»: و المصدر بعد يصحح ما أثبتناه ب.
5- في س: «و تحصلت» بدل «تخلصت».
6- في ف: «الأديب».

قد ذقت حلوا و ذقت مرّا *** كذاك عيش الفتى ضروب

ما مرّ بؤس و لا نعيم *** إلا و لي فيهما نصيب

فيه رمل محدث لا أعرف صانعه.

بينه و بين علي بن يحيى:

و ذكر يحيى بن عليّ بن يحيى أنّ جفوة نالت أباه من سليمان بن وهب فكتب إليه:

/

جفاني أبو أيوب نفسي فداؤه *** فعاتبته كيما يريع و يعتبا

فو اللّه لو لا الضنّ مني بودّه *** لكان سهيل من عتابيه أقربا(1)

فكتب إليه سليمان:

ذكرت جفائي و هو من غير شيمتي *** و إنّي لدان من بعيد تقرّبا

فكيف بخلّ لي أضنّ بودّه *** و أصفيه ودّا ظاهرا و مغيّبا

عليّ بن يحيى لا عدمت إخاءه *** فما زال في كلّ الخصال مهذّبا

و لكنّ أشغالا غدت(2) و تواترت *** فلما رأيت الشغل عاق و أتعبا

و كنت إلى عذر الأخلاّء إنّهم *** كرام و إن كان التواصل أوجبا

فإن يطلب(3) منّي عتابك أوبة *** ببرّ تجدني بالأمانة معتبا

قبلة بقبلة:

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه: قال:

كان سليمان بن وهب - و هو حدث - يتعشّق إبراهيم بن سوّار بن شداد بن ميمون، و كان من أحسن الناس وجها و أملحهم أدبا و طرفا، و كان إبراهيم هذا يتعشق جارية مغنّية يقال لها رخاص، فاجتمعوا يوما فسكر إبراهيم و نام، فرأت رخاص سليمان يقبّله، فلما انتبه لامته، و قالت: كيف أصفو لك و قد رأيت سليمان يقبّلك؟ فهجره إبراهيم، فكتب إليه سليمان:

قل للذي ليس لي من *** جوى هواه خلاص

أ إن لثمتك سرّا *** و أبصرتني رخاص

و قال لي ذاك قوم *** على اغتيابي حراص(4)

/هجرتني و أتتني *** شتيمة و انتقاص

ص: 111


1- كذا في ف، و في س، ب: «الظن» بدل «الضن».
2- ف: «عرت».
3- ف: «فإن يطلبن».
4- في ف: «و قال في ذاك قوم».

و سرّ ذاك أناسا(1) *** لهم علينا اختراص

فهاك فاقتصّ مني *** إنّ الجروح قصاص

و أهدي سليمان إلى رخاص هدايا كثيرة، فكانوا بعد ذلك يتناوبون يوما عند سليمان، و يوما عند إبراهيم، و يوما عند رخاص.

مساجلة بينه و بين أحد أصحابه:

أخبرني الصوليّ عن أحمد بن الخصيب: قال:

حضرت سليمان بن وهب، و قد جاءته رقعة من بعض من وعده أن يصرّفه من أصحابه، و فيها:

هبني رضيت منك بالقليل *** أ كان في التأويل و التنزيل!

/أو خبر جاء عن الرّسول *** أو حجة في فطر العقول

مستحسن من رجل جليل *** عال له حظّ من الجميل

ينقص ما أشاع بالتطويل *** و القول دون الفعل بالتحصيل

ليس كذا وصف الفتى النّبيل

قال: فكتب له بولاية ناحية، و أنفذ إليه مائتي دينار و كتب في رقعة:

ليس إلى الباطل من سبيل *** إلا لمن يعدل عن تعديل

و قد وفينا لك بالتحصيل *** فاطو الذي كان عن الخليل

فضلا عن الخليط و التنزيل *** و عد من القول إلى الجميل

و عفّ في الكثير و القليل *** تحظ من الرتبة بالجزيل

هل كان مرتشيا:

أخبرني محمد بن يحيى عن عبد اللّه بن الحسين بن سعد عن بعض أهله أنه كتب إلى سليمان بن وهب، و هو يتولى شيئا من أعمال الضّياع:

أطال اللّه إسعاد *** ك في الآجل و العاجل(2)

أ ما ترعى لمن أمّ *** ل فضلا حرمة الآمل

و عندي عاجل من رش *** وة يتبعها آجل(3)

ص: 112


1- في ف: «و سر ذلك قوما».
2- في ف: «في العاجل و الآجل».
3- ف: «الآجل».

و أنت العالم الشاه *** د أني كاتب عامل(1)

فولّ الكافل الباذ *** ل دون العاجز الباخل

فما أفشي لك السرّ *** فعال الأخرق الجاهل

قال: فضحك و أجلسه و كتب في رقعته:

ابن لي ما الذي تخط *** ب شرحا أيها الباذل؟

و ما تعطي إذا ولّي *** ت تعجيلا و ما الآجل؟

أ في الإسلاف تنقيص *** أم الوزن له كامل؟

و في الموقوف تضمين *** أم الوعد به حاصل؟

و هل ميقاته الغلّ *** ة في العام أو القابل؟

ابن لي ذاك و اردد رق *** عتي يا كاتبا عامل؟

فلما قرأها الرجل قطع ما بينه و بينه، و ردّ الرقعة عليه، و ولاّه سليمان ما التمس.

مع سلة رطب:

أخبرني محمد بن يحيى عن موسى البربريّ قال:

/أهدى سليمان بن وهب إلى سليمان بن عبد اللّه بن طاهر سلال رطب من ضيعته، و كتب إليه يقول:

أذن الأمير بفضله *** و بجوده و بنيله

لوليّه في برّه *** بجناه سكّر نخله

فبعثت منه بسلّة *** تحكي حلاوة عدله

قلما يصم السميع:

أخبرني محمد الباقطاني: قال:

كتب سليمان بن وهب بقلم صلب، فاعتمد عليه اعتمادا/شديدا، فصرّ القلم في يده، فقال:

إذا ما حددنا و انتضينا قواطعا *** أصمّ الذكيّ السمع منها صريرها(2)

تظلّ المنايا و العطايا شوارعا *** تدور بما شئنا و تمضي أمورها

تساقط في القرطاس منها بدائع *** كمثل اللآلي نظمها و نثيرها

تقود أبيات البيان بفطنة *** تكشّف عن وجه البلاغة نورها

ص: 113


1- في ف: «الشاهد العالم».
2- في أ، م: «وعدنا»، و الوعد نوع من سير الإبل، و في ف: «جددنا» بالجيم.

[إذا ما خطوب الدهر أرخت ستورها *** تجلت بنا عما تسرّ ستورها](1)

يرثي أخاه الحسن:

قال: و أنشدني له يرثي أخاه الحسن:

مضى مذ مضي عزّ المعالي و أصبحت *** لآلي الحجا و القول ليس لها نظم

و أضحى نجيّ الفكر بعد فراقه *** إذا همّ بالإفصاح منطقه كظم(2)

الغنى يهلك صاحبه:

و ذكر ابن المسيّب أنّ جماعة تذاكروا لمّا قبض الموفّق على سليمان بن وهب و ابنه/عبد اللّه: أنه إنما استكتبهما ليقف منهما على ذخائر موسى بن بغا و ودائعه، فلما استقصى ذلك نكبهما لكثرة مالهما، فقال ابن الرومي و كان حاضرا:

أ لم تر أن المال يتلف ربّه *** إذا جمّ آتيه و سدّ طريقه

و من جاور الماء الغزير مجمّه *** و سدّ مفيض الماء فهو غريقه

البحتري يرثيه:

اشارة

و مات سليمان بن وهب في محبسه و هو مطالب، فرثاه جماعة من الشعراء، فممّن جوّد في مرثيته البحتريّ حيث يقول:

هذا سليمان بن وهب بعد ما *** طالت مساعيه النجوم سموكا

و تنصّف الدنيا يدبّر أمرها(3) *** سبعين حولا قد تممن دكيكا(4)

أغرت به الأقدار بغت(5) ملمّة *** ما كان رسّ حديثها مأفوكا(6)

أبلغ عبيد اللّه بارع مذحج *** شرفا و معطى فضلها تمليكا(7)

و متى وجدت الناس إلا تاركا *** لحميمه في التّرب أو متروكا

بلغ الإرادة إذ فداك بنفسه *** و تودّ لو تفديه لا يفديكا(8)

ص: 114


1- التكلمة من ف، هج.
2- في ف، هج: «جنبه» بدل «منطقة».
3- في «الديوان»: «أهلها».
4- دكيكا: تاما.
5- كذا في ف و «الديوان» و في س، ب: «بعث».
6- كذا في ف. و في س، ب: «رث» بدل «رس» و في «الديوان» «رسم».
7- في ح و «الديوان» «فارع».
8- البيت في «الديوان»: بلغ الإرادة إذ فداك بنفسه و ودت لو تفديه لا يفديكما

إن الرزيّة في الفقيد فإن هفا *** جزع بلبّك فالرزيّة فيكا

لو ينجلي لك ذخرها من نكبة *** جلل لأضحكك الذي يبكيكا

صوت

لقد برّز الفضل بن يحيى و لم يزل *** يسامي من الغايات ما كان أرفعا

يراه أمير المؤمنين لملكه *** كفيلا لما أعطى من العهد مقنعا

قضى بالتي شدّت لهارون ملكه *** و أحيت ليحيي نفسه فتمتّعا(1)(2) فأمست بنو العباس بعد اختلافها *** و آل عليّ مثل زندي يد معا

لئن كان من أسدى القريض أجاده *** لقد صاغ إبراهيم فيه فأوقعا

الشعر لأبان بن عبد الحميد اللاحقيّ بقوله في الفضل بن يحيى لمّا قدم يحيى بن عبد اللّه بن الحسين على أمان الرشيد و عهده. و الغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالبنصر عن أحمد بن المكي، و كان الرشيد أمره أن يغني في هذا الشعر، و إياه عني أبان بقوله:

/لقد صاغ إبراهيم فيه فأوقعا

ص: 115


1- ب: «ملكه» بدل «نفسه».
2- تكملة من هج، هد و «التجريد».

14 - أخبار أبان بن عبد الحميد و نسبه

اسمه و نسبه:

أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير(1) مولى بني رقاش، قال أبو عبيدة: بنو رقاش ثلاثة نفر ينسبون إلى أمهم، و اسمها رقاش، و هم: مالك، و زيد مناة، و عامر، بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

صنيعة البرامكة:

أخبرني عمي: قال: حدّثنا الحسين بن عليل العنزي؛ قال: حدّثني أحمد بن مهران مولى البرامكة: قال:

شكا مروان بن أبي حفصة إلى بعض إخوانه تغيّر الرشيد عليه و إمساك يده عنه، فقال له: ويحك! أ تشكو الرشيد بعد ما أعطاك؟ قال: أو تعجب من ذلك؟ هذا أبان اللاحقيّ، قد أخذ من البرامكة بقصيدة قالها واحدة مثل ما أخذته من الرشيد في دهري كلّه، سوى ما أخذه منهم و من أشباههم بعدها، و كان أبان نقل للبرامكة كتاب كليلة و دمنة، فجعله شعرا، ليسهل حفظه عليهم، و هو معروف، أوله:

هذا كتاب أدب و محنه *** و هو الذي يدعى كليلة دمنه(2)

فيه احتيالات و فيه رشد *** و هو كتاب وضعته الهند

فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، و أعطاه الفضل خمسة آلاف دينار، و لم يعطه جعفر شيئا، و قال:

أ لا يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك؟ و عمل أيضا القصيدة التي ذكر فيها مبدأ الخلق و أمر الدنيا و شيئا من المنطق، و سماها ذات الحلل، و من الناس من ينسبها إلى أبي العتاهية، و الصحيح أنها لأبان.

بينه و بين أبي نواس:

أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد: قال: حدّثنا أبو هفّان: قال: حدّثني الحمّاز، قال:

كان يحيى بن خالد البرمكيّ قد جعل امتحان الشعراء و ترتيبهم في الجوائز إلى أبان بن عبد الحميد، فلم يرض أبو نواس المرتبة التي جعله فيها أبان، فقال يهجوه بذلك:

جالست يوما أبانا *** لا درّ درّ أبان

حتى إذا ما صلاة الأ *** ولى دنت لأوان

ص: 116


1- كذا في ف، و «خزانة الأدب» و في س، ب «عفر».
2- لا يستقيم المصراع الثاني إلا بتسكين تاء كليلة، و لو قال: يدعونه كليلة و دمنة لكان أقوم.

فقام ثمّ بها ذو *** فصاحة و بيان

فكلّما قال قلنا *** إلى انقضاء الأذان

فقال: كيف شهدتم *** بذا بغير عيان(1)

لا أشهد الدّهر حتى *** تعاين العينان

فقلت: سبحان ربّي *** فقال: سبحان ماني

فقال أبان يجيبه:

إن يكن هذا النّواسيّ *** بلا ذنب هجانا

فلقد نكناه حينا *** و صفعناه زمانا

هانئ الجربي أبوه *** زاده اللّه هوانا

سائل العباس و اسمع *** فيه من أمّك شانا(2)

/عجنوا من جلنار(3) *** ليكيدوك عجانا

جلنار(3) أم أبي نواس، و تزوجها العباس بعد أبيه.

هو و المعذل يتهاجيان:

أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ: قال: حدّثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد: قال:

كان أبان اللاحقيّ صديقا للمعذّل بن غيلان، و كانا مع صداقتهما يتعابثان بالهجاء، فيهجوه المعذّل بالكفر و ينسبه إلى الشؤم، و يهجوه أبان، و ينسبه إلى الفساء الذي تهجى به عبد القيس، و بالقصر - و كان المعذّل قصيرا - فسعى في الإصلاح بينهما أبو عيينة المهلّبيّ، فقال له أخوه عبد اللّه - و هو أسن منه -: يا أخي إن في هذين شرّا كثيرا و لا بد من أن يخرجاه، فدعهما؛ ليكون شرّهما بينهما، و إلا فرّقاه على الناس، فقال أبان يهجو المعذّل:

أحاجيكم ما قوس لحم سهامها *** من الريح لم توصل بقدّ و لا عقب(4)

و ليست بشريان و ليست بشوحط *** و ليست بنبع لا و ليست من الغرب(5)

ألا تلك قوس الدّحدحيّ معذّل *** بها صار عبديّا و تمّ له النسب(6)

تصكّ خياشيم الأنوف تعمّدا *** و إن كان راميها يريد بها العقب

فإن تفتخر يوما تميم بحاجب *** و بالقوس مضمونا لكسرى بها العرب(7)

ص: 117


1- في س، ب: «بيان».
2- في هج: «منه في أمك».
3- ف المختار، «من جلبان».
4- قد: سير من جلد، عقب: عصب يعمل منه الأوتار.
5- شريان، شوحط، نبع: أشجار تصنع منها القسي.
6- الدحدحي: القصير.
7- يقصد حاجب بن زرارة، و قصته مشهورة.

فحيّ ابن عمرو فاخرون بقوسه *** و أسهمه حتى يغلّب(1) من غلب

قال أبو قلابة: فقال المعذّل في جواب ذلك:

رأيت أبانا يوم فطر مصلّيا *** فقسّم فكري و استفزني الطرب

و كيف يصلّي مظلم القلب، دينه *** على دين ماني إنّ ذاك من العجب

يهجو أبا النضير:

أخبرني محمد بن يحيى: قال: حدّثنا عون بن محمد الكنديّ: قال:

كان لأبي النّضير حوار يغنّين، و يخرجن إلى جلّة أهل البصرة، و كان أبان بن عبد الحميد يهجوه بذلك، فمن ذلك قوله:

غضب الأحمق إذ مازحته *** كيف لو كنا ذكرنا الممرغة(2)

أو ذكرنا أنه لاعبها *** لعبة الجدّ بمزح الدغدغه(3)

سوّد اللّه بخمس وجهه *** دغن أمثال طين الردغه(4)

خنفساوان و بنتا جعل *** و التي تفترّ عنها وزغه

يكسر الشّعر و إن عاتبته *** في مجال قال: هذا في اللغة(5)

و أنشدني عمي: قال: أنشدني الكرانيّ: قال: أنشدني أبو إسماعيل اللاحقي لجدّه أبان في هجاء أبي النّضير، [و أخبرني الصوليّ أنه وجدها بخط الكراني](6):

إذا قامت بواكيك *** و قد هتّكن أستارك

أ يثنين على قبر *** ك أم يلعن أحجارك؟

و ما تترك في الدنيا *** إذا زرت غدا نارك؟

ترى في سقر المثوى *** و إبليس غدا حارك(7)

لمن تترك زقّيك *** و دنيك و أوتارك

/و خمسا من بنات اللي *** ل قد ألبسن أطمارك

تعالى اللّه ما أقبح *** إذ ولّيت أدبارك(8)

ص: 118


1- ف: «تغالب».
2- س، ب: «المزدغة»، و الكلمة: كناية عن السقوط و الفسق.
3- الدغدغة: الزغزغة.
4- دغن: سود، جمع دغناء، و أمثال طين الردغة أي سام أبرص، و في ف: رعن.
5- في م، أو في س، ب «محال» بدل «مجال» و في هج: «قال في هذا لغة».
6- زيادة عن ف.
7- في ف: «يرى» بدل «غذا».
8- في ف هج: «لقياك و إدبارك» بدل «إذ وليت أدبارك».

و قال فيه أيضا:(1)

قيان أبي النضير مثلّجات *** غناء مثل شعر أبي النضير

فلا همدان حين نصيف نبغي *** و لا الماهين(2) أيام الحرور

و لا نبغي بقرميسين(2) روحا *** و لا نبلى البغال من المسير(3) فإن رمت الغناء لديه فاصبر *** إذا ما جئته للزّمهرير

يهجو المعذل:

أخبرني محمد بن يحيى: قال: حدّثنا أبو خليفة و أبو ذكوان و الحسن بن عليّ النّهدي: قالوا:

كان المعذّل بن غيلان المهري يجالس عيسى بن جعفر بن المنصور، و هو يلي حينئذ إمارة البصرة من قبل الرشيد، فوهب للمعذّل(4) بن غيلان له بيضة عنبر وزنها أربعة أرطال، فقال أبان بن عبد الحميد:

أصلحك اللّه و قد أصلحا *** إني لا آلوك أن أنصحا

علام تعطي منوي عنبر *** و أحسب الخازن قد أرجحا

من ليس من قرد و لا كلبة *** أبهى و لا أحلى و لا أملحا(5) رسول يأجوج أتى عنهم *** يخبر أن الروم قد أقبحا

ما بين رجليه إلى رأسه *** شبر فلا شبّ و لا أفلحا(6)

على باب الفضل بن يحيى:

أخبرني الصوليّ: قال: حدّثنا أبو العيناء: قال: حدّثني الحرمازيّ: قال:

خرج أبان بن عبد الحميد من البصرة طالبا للاتصال بالبرامكة، و كان الفضل بن يحيى غائبا، فقصده، فأقام ببابه مدة مديدة لا يصل إليه فتوسّل إلى من وصّل(7) له شعرا إليه، و قيل: إنه توسل إلى بعض بني هاشم ممّن شخص مع الفضل، و قال له:

يا غزير الندى و يا جوهر الجو *** هر من آل هاشم بالبطاح

إنّ ظنّي و ليس يخلف ظنّي *** بك في حاجتي سبيل النجاح

إن من دونها لمصمت باب *** أنت من دون قفله مفتاحي

تاقت النفس يا خليل السّماح *** نحو بحر الندى مجاري الرياح

ص: 119


1- تكملة من ف، هج.
2- همذان، الماهين، قرميسين: بلاد فارسية معروفة.
3- تكملة من ف، هج.
4- ب: «فوهب المعذل». و المثبت من ف.
5- التكملة من هج.
6- في ف: «شبرن لا شب».
7- في ف: «بمن أوصل».

ثم فكّرت كيف لي و استخرت اللّ *** ه عند الإمساء و الإصباح

و امتدحت الأمير أصلحه *** اللّه بشعر مشهّر الأوضاح

فقال: هات مديحك، فأعطاه شعرا في الفضل في هذا الوزن و قافيته:

أنا من بغية الأمير و كنز *** من كنوز الأمير ذو أرباح

كاتب حاسب خطيب أديب *** ناصح زائد على النّصّاح

شاعر مفلق أخفّ من الرّيش *** ة ممّا يكون تحت الجناح(1)

و هي طويلة جدا يقول فيها:

إن دعاني الأمير عاين منّي *** شمّريا كالبلبل الصّيّاح(2)

/قال: فدعا به، و وصله، ثم خصّ بالفضل، و قدّم معه، فقرّب من قلب يحيى بن خالد و صار صاحب الجماعة و زمام أمرهم.

يصل إلى الرشيد على حساب آل علي:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي: قال: حدّثني عليّ بن محمد النوفليّ:

أنّ أبان بن عبد الحميد عاتب البرامكة على تركهم إيصاله إلى الرشيد و إيصال مديحه إليه، فقالوا له: و ما تريد من ذلك؟ فقال: أريد أن أحظى منه بمثل ما يحظى به مروان بن أبي حفصة، فقالوا له: إن لمروان مذهبا في هجاء آل أبي طالب و ذمّهم، به يحظى/و عليه يعطى، فاسلكه حتى نفعل، قال: لا أستحلّ ذلك، قالوا: فما تصنع؟ لا يجيء طلب الدنيا إلا بما لا يحلّ، فقال أبان:

نشدت بحقّ اللّه من كان مسلما *** أعمّ بما قد قلته العجم و العرب

أعمّ رسول اللّه أقرب زلفة *** لديه أم ابن العمّ في رتبة النسب

و أيّهما أولى به و بعهده *** و من ذا له حقّ التّراث بما وجب!

فإن كان عبّاس أحقّ بتلكم *** و كان عليّ بعد ذاك على سبب

فأبناء عباس هم يرثونه *** كما العمّ لابن العمّ في الإرث قد حجب

و هي طويلة، قد تركت ذكرها لما فيه، فقال له الفضل: ما يرد على أمير المؤمنين اليوم شيء أعجب إليه من أبياتك، فركب فأنشدها الرّشيد، فأمر لأبان بعشرين ألف درهم، ثم اتصلت(3) بعد ذلك خدمته الرشيد، و خصّ به.

ص: 120


1- في س، ب: «عند الجناح».
2- شمريا: ماضيا مجربا.
3- في س، ب، هج: «ثم اتصل مدحه الرشيد بعد ذلك و خص به».

بينه و بين عنان:

أخبرنا أبو العباس بن عمار عن أبي العيناء عن أبي العباس(1) بن رستم: قال:

دخلت مع أبان بن عبد الحميد على عنان جارية النّاطفي، و هي في خيش، فقال لها أبان:

/

العيش في الصيف خيش

فقالت مسرعة:

إذ لا قتال و جيش

فأنشدتها أنا لجرير قوله:

طللت أواري صاحبيّ صبابتي *** و هل علقتني من هواك علوق(2)

فقالت مسرعة:

إذا عقل الخوف اللسان تكلمت *** بأسراره عين عليه نطوق

مائدة بطيئة:

أخبرني الصوليّ: قال: حدّثنا محمد بن سعيد، قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل عن عبد اللّه بن محمد بن عثمان بن لاحق: قال:

أولم محمد بن خالد، فدعا أبان بن عبد الحميد و العتبيّ، و عبيد اللّه بن عمرو، و سهل بن عبد الحميد، و الحكم بن قنبر، فاحتبس عنهم الغداء، فجاء محمد بن خالد فوقف على الباب فقال: أ لكم أعزكم اللّه حاجة؟ يمازحهم بذلك، فقال أبان:

حاجتنا فاعجل علينا بها *** من الحشاوي كلّ طردين(3)

فقال ابن قنبر بعد ذلك:(4)

و من خبيص قد حكت عاشقا *** صفرته زين بتلوين(4)

فقال عبيد اللّه بن عمرو:

و أتبعوا ذاك بأبّيّة *** فإنكم آيين آيين(5)

/فقال سهل:

دعنا من الشعر و أوصافه *** و اعجل علينا بالأخاوين(6)

ص: 121


1- في م، أ: «عن العباس».
2- رواية «الديوان»: بت أراني صاحبي تجلدي و قد علقتني من هواك علوق.
3- الحشاوي: لعلها جمع الحشا على غير قياس: «يريد ما في البطن من كبد و طحال و كرش»، و كل طردين: طعام للأكراد.
4- تكلمة من هج.
5- بين آيين: أي أتباع دستور و في ف: «فإنكم أصحاب أبين».
6- الأخاوين: جمع إخوان لغة في الخوان كغراب و كتاب.

فأحضر الغداء، و خلع عليهم و وصلهم.

يشبّب بغلام تركي:

أخبرني الصولي: قال: حدّثنا محمد بن زياد: قال: حدّثني أبان بن سعيد الحميدي بن أبان بن عبد الحميد:

قال:

اشترى جار لجدّي أبان غلاما تركيّا بألف دينار، و كان أبان يهواه و يخفي ذلك عن مولاة، فقال فيه:

ليتني - و الجاهل المغ *** رور من غرّ بليت

نلت ممّن لا أسمّي *** و هو جاري بيت بيت

قبلة تنعش ميتا *** إنّني حيّ كميت

/نتساقى الريق بعد الش *** رب من راح كميت

لا أسمّيه و لكن *** هو في كيت و كيت(1)

و كان اسمه يتك.

يحض عمارة على الهرب من زوجها:

و قال أبو الفيّاض سوّار بن أبي شراعة:

كان في جوار أبان بن عبد الحميد رجل من ثقيف يقال له محمد بن خالد، و كان عدوّا لأبان، فتزوج بعمّارة بنت عبد الوهاب الثقفي(2)، و هي أخت عبد المجيد الذي كان ابن مناذر(3) يهواه، و رثاه، و هي مولاة جنان التي يشبّب بها أبو نواس، و يقول فيها:

/

خرجت تشهد الزفاف جنان *** فاستمالت بحسنها النّظّاره

قال أهل العروس لما رأوها *** ما دهانا بها سوى عمّاره

قال: و كانت موسرة، فقال أبان بن عبد الحميد يهجوه و يحذّرها منه:

لمّا رأيت البزّ و الشاره *** و الفرش قد ضاقت به الحاره

و اللوز و السّكّر يرمى به *** من فوق ذي الدار و ذي الداره

و أحضروا الملهين لم يتركوا *** طبلا و لا صاحب زمّارة

قلت: لما ذا؟ قيل أعجوبة *** محمد زوّج عمّاره

لا عمّر اللّه بها بيته *** و لا رأته مدركا ثاره

ص: 122


1- زيادة في ف و في بعض النسخ أن الغلام اسمه «يتك» و يعني بقوله «كيت و كيت» أن حروف يتك مندرجة في «كيت».
2- هو أبو محمد عبد الوهاب الثقفي البصري أحد الأئمة أخذ عنه الشافعي و ابن حنبل سنة 194 ه.
3- هو أبو جعفر محمد بن مناذر شاعر فصيح مقدم في العلم باللغة.

ما ذا رأت فيه و ما ذا رجت *** و هي من النّسوان مختاره

أسود كالسّفود ينسى لدى التّنّ *** ور بل محراك قيّاره(1)

يجري على أولاده خمسة *** أرغفة كالريش طيّاره(2)

و أهله في الأرض من خوفه *** إن أفرطوا في الأكل سيّاره

ويحك فرّي و أعصى ذاك بي *** فهذه أختك فرّاره(3)

إذا غفا بالليل فاستيقظي *** ثم اطفري إنك طفّاره

فصعّدت نائلة سلّما *** تخاف أن تصعده الفاره(4)

سرور غرّتها فلا أفلحت *** فإنها اللّخناء غرّاره

لو نلت ما أبعدت من ريقها *** إن لها نفثة سحّاره

/قال: فلما بلغت قصيدته هذه عمّارة هربت فحرم الثقفيّ من جهتها مالا عظيما، قال: و الثلاثة الأبيات التي أولها:

فصعّدت نائلة سلما

زادها في القصيدة بعد أن هربت.

ابن مناذر يهجوه:

أخبرني الأخفش عن المبرد عن أبي وائلة، قال:

كان أبان اللاحقيّ يولع بابن مناذر، و يقول له: إنما أنت شاعر في المراثي، فإذا مت فلا ترثني، فكثر ذلك من أبان عليه، حتى أغضبه، فقال فيه ابن مناذر:

غنج أبان و لين منطقه *** يخبر الناس أنه حلقي(5)

داء به تعرفون كلّكم *** يا آل عبد الحميد في الأفق

حتّى إذا ما المساء جلّله *** كان أطبّاؤه على الطّرق

ففرّجوا عنه بعض كربته *** بمسبطرّ مطوّق العنق(6)

/قال: و هجاه بمثل هذه القصيدة، و لم يجبه أبان خوفا منه، و سعي بينهما، فأمسك عنه.

ص: 123


1- محراك: ما يحرك به النار، و القيارة: أصحاب القير. و هو الزفت، أطلقت مجازا على محل القير.
2- في هج: «كالريح» بدل «كالريش».
3- في بعض النسخ «و اعصبي ذاك بي» و في بعضها «فاك بي».
4- في أ، م، ح: «قائله» بدل «نائلة».
5- كناية عن الأبنة من قولهم: أتان حلقية أي تداولتها الحمر حتى أصابها داء في رحمها.
6- في ف و في س، ب «بمستطير» و هو تحريف و الكلمة كناية عن العضو المعروف.

أ كان يهوديا:

أخبرني الصّولي، عن محمد بن سعيد، عن عيسى بن إسماعيل: قال:

جلس أبان بن عبد الحميد ليلة في قوم، فثلب أبا عبيدة فقال: يقدح في الأنساب و لا نسب له. فبلغ ذلك أبا عبيدة فقال في مجلسه: لقد أغفل السلطان كلّ شيء حتى أغفل أخذ الجزية من أبان اللاحقي، و هو و أهله يهود، و هذه منازلهم فيها أسفار التوراة، و ليس فيها مصحف، و أوضح الدلالة على يهوديتهم أنّ أكثرهم يدّعي حفظ التوراة، و لا يحفظ من القرآن ما يصلّي به، فبلغ ذلك أبانا(1) فقال:

/

لا تنمّنّ عن صديق حديثا *** و استعذ من تسرّر النمّام

و اخفض الصّوت إن نطقت بليل *** و التفت بالنهار قبل الكلام

أ كان كافرا:

أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة: قال:

كنا في مجلس أبي زيد الأنصاري، فذكروا أبان بن عبد الحميد، فقالوا: كان كافرا، فغضب أبو زيد، و قال:

كان جاري، فما فقدت قرآنه في ليلة قطّ.

أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعيّ عن دماذ: قال:

كان لأبان جار، و كان يعاديه، فاعتلّ علّة طويلة و أرجف أبان بموته، ثم صحّ من علّته، و خرج، فجلس على بابه، فكانت علّته من السّلّ، و كان يكنى أبا الأطول، فقال له أبان:

يقضي على جاره المريض:

اشارة

أبا الأطول طوّلت *** و ما ينجيك تطويل

بك السّلّ و لا و ال *** لّه ما يبرأ مسلول

فلا يغررك من طبّ *** ك أقوال أباطيل(2)

أرى فيك علامات *** و للأسباب تأويل(3)

هزالا قد برى جس *** مك و المسلول مهزول

و ذبّانا حواليك *** فموقوذ و مقتول(4)

و حمى منك في الظّهر *** فأنت الدهر مملول

و أعلاما سوى ذاك *** تواريها السّراويل

و لو بالفيل مما *** بك عشر ما نجا الفيل

ص: 124


1- ب: «فبلغ ذلك أبان» و هو خطأ.
2- في س، ب: «ظنك» بدل «طبك».
3- خد و المختار: «و للأشياء تأويل».
4- الذبان: الذباب و الموقوذ: الصريع.

/

فما هذا على فيك *** قلاع أم دماميل(1)

و ما زال مناجيك *** يولّي و هو مبلول(2)

لئن كان من الجوف *** لقد سال بك النيل(3)

و ذا داء يزجّيك *** فلا قال و لا قيل

فلما أنشده هذا الشعر أرعد، و اضطرب، و دخل منزله، فما خرج منه بعد ذلك، حتى مات.

صوت

ما تزال الدّيار في برقة ال *** نّجد لسعدى بقرقري تبكيني(4)

/قد تحيّلت كي أرى وجه سعدى *** فإذا كل حيلة تعييني(5)

قلت لما وقفت في سدّة البا *** ب لسعدى مقالة المسكين

افعلي بي يا ربّة الخدر خيرا *** و من الماء شربة فاسقيني

قالت: الماء في الرّكيّ كثير *** قلت: ماء الركيّ لا يرويني(6)

طرحت دوني الستور و قالت: *** كلّ يوم بعلّة تأتيني

الشعر لتويت اليمامي، و الغناء لأبي زكار الأعمى، رمل بالوسطى، ابتداؤه نشيد من رواية الهشامي.

ص: 125


1- القلاع: داء يصيب الفم.
2- في ف، هج: «و ما بال مناجيك» بدل «و ما زال مناجيك» و في س، ب: «معلول». بدل «مبلول».
3- في س، ب «لقد كاد من الخوف» و قد ورد هذا البيت مكررا آخر المقطوعة في كل الأصول ما عدا ف.
4- قرقرى: موضع باليمامة.
5- في ف «تمحلت» بدل «تحيلت».
6- في ف و «مهذب الأغاني» «لا يكفيني».

15 - أخبار تويت و نسبه

اسمه و نسبه:

15 - أخبار تويت(1) و نسبه

تويت لقب، و اسمه عبد الملك بن عبد العزيز السّلولي من أهل اليمامة، لم يقع لي غير هذا وجدته بخط أبي العبّاس بن ثوابة، عن عبد اللّه بن شبيب من أخبار رواها عنه.

و تويت أحد الشعراء اليماميين من طبقة يحيى بن طالب و بني أبي حفصة و ذويهم، و لم يفد إلى خليفة، و لا وجدت له مديحا في الأكابر و الرؤساء فأخمل ذلك ذكره، و كان شاعرا فصيحا نشأ باليمامة و توفّي بها.

حبيبته تضربه:

قال عبد اللّه بن شبيب:

كان تويت يهوى امرأة من أهل اليمامة يقال لها: سعدى بنت أزهر، و كان يقول فيها الشعر، فبلغها شعره من وراء وراء، و لم تره، فمرّ بها يوما، و هي مع أتراب لها، فقلن: هذا صاحبك، و كان دميما، فقامت إليه و قمن معها، فضربنه، و خرّقن ثيابه، فاستعدى عليهنّ فلم يعده الوالي، فأنشأ يقول:

إنّ الغواني جرحن في جسدي *** من بعد ما قد فرغن من كبدي

و قد شققن الرّداء ثمّت لم *** يعد عليهن صاحب البلد(2)

لم يعدني الأحول المشوم و قد *** أبصر ما قد صنعن في جسدي

ثم ترق له بعد ضربه:

قال: فلما جرى هذا بينه و بينها عقد له في قلبها رقّة، و كانت تتعرّض له إذا مرّ بها، و اجتاز يوما بفنائها فلم تتوار عنه، و أرته أنها لم تره، فلما وقف مليّا سترت وجهها بخمارها، فقال تويت:

ألا أيها الثار الذي ليس نائما *** على ترة إن متّ من حبّها غدا(3)

/خذوا بدمي سعدى فسعدى منيتها *** غداة النّقا صادت فؤادا مقصّدا(4)

بآية ما ردّت غداة لقيتها *** على طرف عينيها الرداء المورّدا

الوصل قبل الحج:

قال ابن شبيب: و لقيها راحلة نحو مكة حاجّة، فأخذ بخطام بعيرها و قال:

ص: 126


1- في ب: «تويت».
2- في ف، هج: «عامل» بدل «صاحب».
3- كذا في ف: «و يريد به الطالب لدمه» و في س، ب: «الساري» بدل «الثار».
4- مقصدا: مكسرا.

قل للتي بكرت تريد رحيلا *** للحجّ إذ وجدت إليه سبيلا

ما تصنعين بحجّة أو عمرة *** لا تقبلان و قد قتلت قتيلا

أحيي قتيلك ثم حجّي و انسكي *** فيكون حجّك طاهرا مقبولا

فقالت له: أرسل الخطام، خيّبك اللّه و قبحك، فأرسله، و سارت.

ثم تزوجها غيره فقال شعرا:

قال عبد اللّه بن شبيب: ثم تزوجها أبو الجنوب يحيى بن أبي حفصة، فحجبها، و انقطع ما كان بينها و بين تويت، فطفق يهجو يحيى فقال:

/

عناء سيق للقلب الطروب *** فقد حجبت معذّبة القلوب(1)

أقول و قد عرفت لها محلاّ *** ففاضت عبرة العين السّكوب

ألا يا دار سعدى كلّمينا *** و ما في دار سعدى من مجيب

و لما ضمّها و حوى عليها *** تركت له بعاقبة نصيبي

و قلت: زحام مثلك مثل يحيى *** لعمرك ليس بالرأي المصيب(2)

فما لك مثل لمّته تدرّى *** و مالك مثل بخل أبي الجنوب(3)

/إذا فقد الرغيف بكى عليه *** و أتبع ذاك تشقيق الجيوب

يعذّب أهله في القرص حتى *** يظلوا منه في يوم عصيب(4)

و قال أيضا:

ألا في سبيل اللّه نفس تقسّمت *** شعاعا و قلب للحسان صديق

أفاقت قلوب كنّ عذّبن بالهوى *** زمانا و قلبي ما أراه يفيق

سرقت فؤادي ثم لا ترجعينه *** و بعض الغواني للقلوب سروق

عروف الهوى بالوعد حتى إذا جرت *** ببينك غربان لهن نعيق

و ردّت جمال الحي و انشقّت العصا *** و آذن بالبين المشتّ صدوق(5)

ندمت على ألاّ تكوني جزيتني *** زعمت و كلّ الغانيات مذوق(6)

ص: 127


1- في س، ب: «حجت» بدل «حجبت».
2- نرجح أن «زحام» تحريف «زواج».
3- في س، ب: «ما بنيت بدأ» بدل «لمته تدري» و تدري: تسرح.
4- القرص: بسط العجين.
5- في س، ب: «رددت» بدل «وردت» و في هج: «جمال البين».
6- و كل الغانيات مذوق: أي لا يخلعن الود.

لعلك أن تنأى جميعا بغلّة *** تذوقين من حرّ الهوى و أذوق

عصيت بك الناهين حتى لو أنّني *** أموت لما أرعى عليّ شفيق(1)

من مختار قوله في سعدى:

اشارة

و من مختار قول تويت في سعدى هذه مما أخذته من رواية عبد اللّه بن شبيب من قصيدة أولها:

سنرضي في سعيدى عاذلينا *** بعاقبة و إن كرمت علينا

يقول فيها:

لقيت سعيد تمشي في جوار *** بجرعاء النّقا فلقيت حينا

سلبن القلب ثم مضين عنّي *** و قد ناديتهنّ فما لوينا

/فقلت و قد بقيت بغير قلب *** بقلبي يا سعيدى أين أينا!(2)

فما تجزين يا سعدى محبّا *** بهيم بكم و لا تقضين دينا

فقالوا إذ شكوت المطل منها *** لعمرك من سمعت له قضينا(3)

و من هذا الذي إن جاء يشكو *** إلينا الحبّ من سقم شفينا

فهنّ فواعل بي غير شكّ *** كما قلبي فعلن بصاحبينا(4) بعروة و الذي بسهام هند *** أصيب، فما أقدن و لا و دينا(5)

و من مختار قوله فيها:

سل الأطلال إن نفع السّؤال *** و إن لم يربع الركب العجال

/عن الخود التي قتلتك ظلما *** و ليس بها إذا بطشت قتال

أصابك مقلتان لها و جيد *** و أشنب بارد عذب زلال

أعارك ما تبلت به فؤادي *** من العينين و الجيد الغزال

أيا ثارات من قتلته سعدى *** دمي - لا تطلبوه - لها حلال

أرقّ لها و أشفق بعد قتلي *** على سعدى و إن قلّ النّوال

و ما جادت لنا يوما ببذل *** يمين من سعاد و لا شمال

/و من قوله فيها أيضا:

ص: 128


1- أرعى عليّ شفيق. رحمني و أبقى عليّ.
2- في ف: «لب» بدل «قلب».
3- في ف، هج «فقالت» بدل «فقالوا». في و في س، ب «به» بدل «له».
4- عروة بن حزام و صاحبته عفراء و هما من يظن من العذريين و يقال لها نهد.
5- يقصد عبد اللّه بن عجلان و صاحبته هند بنت كعب بن عمرو النهدي أيضا.

يا بنت أزهر إنّ ثأري طالب *** بدمي غدا و الثأر أجهد طالب

فإذا سمعت براكب متعصّب *** ينعى قتيلك فافزعي للراكب(1)

فلأنت من بين الأنام رميتني *** عن قوس متلفة بسهم صائب

لا تأمني شمّ الأنوف وترتهم *** و تركت صاحبهم كأمس الذاهب

من كان أصبح غالبا لهوى التي *** يهوى فإن هواك أصبح غالبي

قلت و أسبلت الدموع لتربها *** لما اغتررت و أومأت بالحاجب

قولي له: باللّه يطلق رحله *** حتى يزوّد أو يروح بصاحب

و قال فيها أيضا:

أرّق العين من الشوق السّهر *** و صبا القلب إلى أمّ عمر

و اعترتني فكرة من حبّها *** ويح هذا القلب من طول الفكر(2)

قدر سيق فمن يملكه *** أين من يملك أسباب القدر!

كلّ شيء نالني من حبّها *** - إن نجت نفسي من الموت - هدر

و قال أيضا:

يا للرّجال لقلبك المتطرّف *** و العين إن تر برق نجد تذرف(3)

و لحاجة يوم العبير تعرّضت *** كبرت فردّ رسولها لم يسعف

يا بنت أزهر ما أراك مثيبتي *** خيرا على ودّي لكم و تلطّفي

/إني و إن خبّرت أنّ حياتنا *** في طرف عينك هكذا لم تطرف

ليظلّ قلبي من مخافة بينكم *** مثل الجناح معلّقا في نفنف(4)

و ليظلّ في هجر الأحبّة طالبا *** لرضاك مما جار إن لم تسعف(5)

كأخي الفلاة يغرّه من مائها *** قطع السراب جرى بقاع صفصف

أهراق نطفته فلما جاءها *** وجد المنيّة عندها لم تخلف

ص: 129


1- في ح: «متعقب» بدل «متعصب»، و في س، ب «يبغي» بدل «ينعى».
2- في أ، ج، ف «ذكرة» بدل «فكرة»، «ذكر» بدل «فكر».
3- ب: «العين إن ترقأ بجد تذرف».
4- نفنف: مهوى بين جبلين.
5- في س، ب «مجرى» بدل «هجر» و لعلها «لم تسعفي» بالياء.
صوت

أمنت بإذن اللّه من كلّ حادث *** بقربك من خير الورى يا بن حارث

إمام حوى إرث النبي محمد *** فأكرم به من ابن عمّ و وارث

/الشعر و الغناء لمحمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، خفيف رمل بالبنصر مطلق من جامع أغانيه و عن الهشامي.

ص: 130

16 - أخبار محمد بن الحارث

مروءة أبيه:

مولى المنصور، و أصله من الرّي من أولاد المرازبة، و كان الحارث بن بُسخُنَّر أبوه رفيع القدر عند السلطان، و من وجوه قواده، و ولاه الهادي - و يقال الرشيد - الحرب و الخراج بكور الأهواز كلّها.

فأخبرني حبيب المهلّبي: قال: حدّثني النّوفليّ عن محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر: قال: كنت بالدّير، و كان رجل من أهلها يعرض عليّ الحوائج و يخدمني فيكرمني، و يذكر قديمنا، و يترحّم على أبي، فقال لي رجل من أهل تلك الناحية: أ تعرف سبب شكر هذا لأبيك؟ قلت: لا، قال: فإن أباه حدّثني - و كان يعرف بابن بانة - بأن أباك الحارث بن بُسخُنَّر اجتاز بهم يريد الأهواز فتلقاه بدجلة العوراء، و أهدى له صقورا و بواشق صائدة، فقال له: الحق بي بالأهواز، فقال له يوما: إني نظرت في أمور الأعمال بالأهواز، فلم أجد شيئا(1) منها يرتفق منه بما قدّرت أن أبرّك به، و قد ساومني التّجّار بالأهواز بالأرز، و قد جعلته لك بالسعر الذي بذلوه(2)، و سيأتونني، فأعلمهم بذلك، فقلت: نعم، فجاءوا، و خلصوه منه بأربعين ألف دينار، فصرت إلى الحارث فأعلمته، فقال لي: أرضيت بذلك؟ فقلت: نعم، قال: فانصرف.

و لما قفل الحارث من الأهواز مرّ بالمدائن، فلقيه الحسين بن محرز المدائني المغنّي فغنّاه:

قد علم اللّه علا عرشه *** أنّي إلى الحارث مشتاق

فقال له: دعني من شوقك إليّ، و سلني حاجة فإني مبادر، فقال له: عليّ دين/مائة ألف درهم، فقال: هي عليّ، و أمر له بها، و أصعد.

كان من أصحاب إبراهيم بن المهدي و يسير على منهاجه:

و كان محمد بن الحارث من أصحاب إبراهيم بن المهدي و المتعصبين له على إسحاق، و عن إبراهيم بن المهديّ أخذ الغناء، و من بحره استقى، و على منهاجه جرى.

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق، عن محمد بن هارون الهاشمي، عن هبة اللّه بن إبراهيم بن المهدي: قال:

جاسوس غير أمين:

كان المأمون قد ألزم أبي رجلا ينقل إليه كلّ ما يسمعه من لفظ جدّا و هزلا شعرا و غناء، ثم لم يثق به، فألزمه مكانه محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، فقال له: أيها الأمير، قل ما شئت و اصنع ما أحببت، فو اللّه لا بلّغت عنك أبدا

ص: 131


1- في س، ب: «فوجدت ليس فيها شيء».
2- في س، ب: «بلوه».

إلا ما تحبّ، و طالت صحبته له، حتى أمنه و أنس به، و كان محمد يغني بالمعزفة فنقله أبي إلى العود، و واظب عليه حتى حذقه، ثم قال له محمد بن الحارث يوما: أنا عبدك و خرّيجك و صنيعتك، فاخصصني بأن أروي عنك صنعتك، ففعل، و ألقى عليه غناءه أجمع، فأخذه عنه، فما ذهب عليه شيء منه و لا شذّ.

يغني للواثق:

اشارة

و قال العتّابي: حدّثني محمد بن أحمد بن المكيّ: قال: حدّثني أبي: قال:

كان محمد بن الحارث قليل الصنعة، و سمعته يغنّي الواثق في صنعته في شعر له مدحه به و هو:

أمنت بإذن اللّه من كلّ حادث *** بقربك من خير الورى يا بن حارث

فأمر له بألفي دينار.

و ذكر عليّ بن محمد الهشامي، عن حمدون بن إسماعيل، قال: كان محمد بن الحارث قد صنع هزجا في هذا الشعر:

صوت

أصبحت عبدا مسترقا *** أبكي الألى سكنوا دمشقا(1)

أعطيتهم قلبي فمن *** يبقى بلا قلب فأبقى

يهب لحنه لغيره:

و طرحه على المسدود(2)، فغنّاه، فاستحسنه محمد بن الحارث منه لطيب مسموع المسدود، ثم قال:

يا مسدود، أ تحبّ أن أهبه لك؟ قال: نعم، قال: قد فعلت، فكان يغنّيه، و يدّعيه، و هو لمحمد بن الحارث.

من ألحانه العشرة:

اشارة

و قال العتّابي: حدّثني شروين المغني المدادي(3). أن صنعة محمد بن الحارث بلغت عشرة أصوات، و أنه أخذها كلّها عنه، و أن منها في طريقه الرّمل، قال: و هو أحسن ما صنعه.

صوت

أيا من دعاني فلبّيته *** ببذل الهوى و هو لا يبذل

يدلّ عليّ بحبّي له *** فمن ذاك يفعل ما يفعل

لحن محمد بن الحارث في هذا الصوت رمل مطلق، و فيه ليزيد حوراء ثقيل أول و فيه لسليم لحن وجدته في جميع أغانيه غير مجنّس.

ص: 132


1- في ف: «أشكو» بدل «أبكي».
2- في س، ب: «المستورد» بدل «المسدود».
3- كذا بالأصول و لعلها المذاري نسبة إلى «مذار»، قرية بين واسط و البصرة.

مع ابن العباس الربيعي:

أخبرني الحسن بن عليّ: قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد: قال: حدّثني أبو توبة صالح بن محمد، عن عمرو بن بانة: قال:

كنت عند محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر في منزله، و نحن مصطبحون في يوم غيم، فبينا نحن كذلك إذ جاءتنا رقعة عبد اللّه بن العباس الربيعيّ، و قد اجتاز بنا مصعدا إلى سرّ من رأى، و هو في سفينة، ففضّها محمد، و قرأها، و إذا فيها:

/

محمد قد جادت علينا بودقها *** سحائب مزن برقها يتهلّل

و نحن من القاطول في شبه مربع *** له مسرح سهل المحلّة مبقل(1)

فمر فائزا تفديك نفسي يغنّني *** أ عن ظعن الحيّ الألى كنت تسأل؟

و لا تسقني إلا حلالا فإنّني *** أعاف من الأشياء ما لا يحلّل

فقام محمد بن الحارث مستعجلا حافيا، حتى نزل إليه فتلقّاه، و حلف عليه حتى خرج معه، و سار به إلى منزله، فاصطبحا يومئذ، و غنّاه فائز غلامه هذا الصوت، و كان صوته عليه، و غنّاه محمد بن الحارث و جواريه و كل من حضر يومئذ، و غنّانا عبد اللّه بن العباس الربيعي أيضا أصواتا و صنع يومئذ هذا الهزج، فقال:

يا طيب يومي بالمطيرة معملا *** للكأس عند محمد بن الحارث(2)

في فتية لا يسمعون لعاذل *** قولا و لا لمسوّف أو رائث

عجائز أبيه أساتذة مخارق:

اشارة

حدّثني وسواسه(3): قال: حدّثني حماد بن إسحاق: قال:

كان أبي يستحسن غناء جواري الحارث بن بُسخُنَّر، و يعتمد على تعليمهنّ لجواريه، و كان إذا اضطرب على واحدة منهنّ أو على غيرهن صوت، أو وقع فيه اختلاف، اعتمد على الرجوع فيه إليهنّ. و لقد غنّى مخارق يوما بين يديه صوتا، فتزايد فيه الزوائد التي كان يستعملها، حتى اضطرب. فضحك أبي، و قال: يا أبا المهنّأ، قد ساء بعدي أدبك في غنائك فالزم عجائز الحارث بن بُسخُنَّر يقوّمن أودك.

صوت

بنان يد تشير إلى بنان *** تجاوبتا و ما يتكلّمان

جرى الإيماء بينهما رسولا *** فأحكم وحيه المتناجيان

فلو أبصرته لغضضت طرفا *** عن المتناجيين بلا لسان

الشعر لماني(4) الموسوس، و الغناء لعمر الميداني هرج، و فيه لعريب لحن من الهزج أيضا.

ص: 133


1- «القاطول»: موضع على دجلة، و في ف: «متربع».
2- المطيرة: قرية من نواحي سامراء و كانت من متنزهات بغداد.
3- اسمه: محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي.
4- ب: «لمان».

17 - أخبار ماني الموسوس

يعارض العريان:

هو رجل من أهل مصر، يكنى أبا الحسن و اسمه محمد بن القاسم(1)، شاعر ليّن الشعر رقيقه، لم يقل شيئا إلا في الغزل، و ماني لقب غلب عليه، و كان قدم مدينة السّلام، و لقيه جماعة من شيوخنا، منهم أبو العباس محمد بن عمّار و أبو الحسن الأسديّ و غيرهما، فحدّثني أبو العباس بن عمار، قال:

كان ماني يألفني، و كان مليح الإنشاد حلوه، رقيق الشعر غزله، فكان ينشدني الشيء، ثم يخالط، فيقطعه، و كان يوما جالسا إلى جنبي، فأنشدني للعريان(2) البصريّ:

ما أنصفتك العيون لم تكف *** و قد رأيت الحبيب لم يقف

فابك ديارا حلّ الحبيب بها *** فباع منها الجفاء باللّطف

ثم استعارت مسامعا كسد الل *** وم عليها من عاشق كلف

كأنها إذ تقنّعت ببلى *** شمطاء ما تستقلّ من خرف

يا عين إمّا أريتني سكنا *** غضبان يزوي بوجه منصرف(3)

فمثّليه للقلب مبتسما *** في شخص راض عليّ منعطف

إن تصفيه للقلب منقبضا *** فأنت أشقى منه به فصفي(4)

يقال بالصّبر قتل ذي كلف *** كيف و صبري يموت من كلفي

إذا دعا الشوق عبرة لهوى *** فأيّ جفن يقول لا تكفي(5)

/و مستراد للّهو تنفسح المق *** لة في حافتيه مؤتلف(6)

قصرت أيامه على نفر *** لا منن بالنّدى و لا أسف(7)

ص: 134


1- في هج: «محمد بن الهيثم».
2- في ف، هج: «الهذيل».
3- السكن: الحبيب.
4- ب: «فصف» خطأ.
5- في ف: «فأي دمع»، بدل «فأي جفن».
6- في ف، ح: «مؤتنف».
7- في س، ب: «لا معتن» بدل «لا منن» و هي جمع منون أو منين.

بحيث إن شئت أن ترى قمرا *** يسعى عليهم بالكأس ذا نطف(1)

قال: فسألته أن يمليها عليّ، ففعل، ثم قال: اكتب، فعارضه أبو الحسن المصري: يعني «ماني» نفسه فقال:

أقفر مغني الديار بالنّجف *** و حلت عما عهدت من لطف

طويت عنها الرضا مذمّمة *** لمّا انطوى غضّ عيشها الأنف

حللت عن سكرة الصّبابة من *** خوف إلهي بمعزل قذف(2)

سئمت ورد الصّبا فقد يئست *** منى بنات الخدور و الخزف(3)

سلوت عن نهّد نسبن إلى *** حسن قوام و اللحظ في وطف(4)

يمددن حبل الصّبا لمن ألفت *** رجلاه قد المحول و الدّنف(5)

/و مدنف عاد في النحول من *** الوجد إلى مثل رقّة الألف(6)

يشارك الطير في النّحيب و لا *** يشركنه في النّول و القضف(7)

/و مسمعات نهكن أعظمه *** فهو من الضيم غير منتصف

مفتخرات بالجور عجبا كما *** يفخر أهل السّفاة بالجنف(8)

و قهوة من نتاج قطربّل *** تخطف عقل الفتى بلا عنف

ترجع شرخ الشباب للخرف ال *** فاني و تدنى الفتى من الشّغف

يصفع المؤذن:

قال: فبينا هو ينشد إذ نظر إلى إمام المسجد الذي كنّا بإزائه قد صعد المئذنة ليؤذن فأمسك عن الإنشاد، و نظر إليه - و كان شيخا ضعيف الجسم و الصوت - فأذّن أذانا ضعيفا بصوت مرتعش، فصعد إليه ماني مسرعا، حتى صار معه في رأس الصّومعة، ثم أخذ بلحيته، فصفعه في صلعته صفعة ظننت أنّه قد قلع رأسه، و جاء لها صوت منكر شديد، ثم قال له: إذا صعدت المنارة لتؤذّن، فعطعط(9)، و لا تمطمط(10)، ثم نزل و مضى يعدو على وجهه. و لقيت عنتا من عتب(11) الشيخ و شكواه إياي إلى أبي و مشايخ الجيران، يقول لهم: هذا ابن عمّار يجيء بالمجانين، فيكتب

ص: 135


1- نطف: جمع نطفة و هي القليل من الماء فيها.
2- في س، ب: «بمعرك» بدل «بمعزل».
3- الخزف: التبختر و هو هز البدن باليدين، و فعله خزف: مشى يخطر بيديه.
4- الوطف: كثرة شعر الحاجبين و العينين.
5- في س، ب، هج: «المجون» بدل «النحول».
6- في ب: «دقة» بدل «رقة».
7- القضف: النحافة.
8- في ف: «مفتخرات بجورهن كما».
9- عطعط: أي تابع الأصوات.
10- تمطمط: أي لا تتوان في الكلام، أي الأذان هنا.
11- في س، ب: «عنت».

هذيانهم، و يسلّطهم على المشايخ فيصفعونهم في الصوامع إذا أذّنوا، حتى صرت إلى منزله، فاعتذرت و حلفت أني إنما أكتب شيئا من شعره، و ما عرفت ما عمله و لا أحيط به علما.

الجارية تغني و هو يضيف:

و نسخت من كتاب لابن البراء: حدّثني أبي قال: عزم محمد بن عبد اللّه بن طاهر على الصّبوح، و عنده الحسن بن محمد بن طالوت، فقال:(1) له محمد: كنا نحتاج أن يكون معنا ثالث نأنس به و نلذّ في مجاورته فمن ترى أن يكون! فقال ابن طالوت: لقد خطر ببالي رجل ليس علينا في منادمته ثقل، قد خلا من إبرام المجالسين، و برئ من/ثقل المؤانسين، خفيف الوطأة إذا أدنيته، سريع الوثبة إذا أمرته، قال: من هو؟ قال: ماني الموسوس، قال: ما أسأت الاختيار، ثم تقدّم إلى صاحب الشّرطة يطلبه و إحضاره، فما كان بأسرع من أن قبض عليه صاحب الشرطة(2) بربع الكرخ فوافى به باب محمد بن عبد اللّه، فأدخل، و نظّف و أخذ من شعره، و ألبس ثيابا نظافا، و أدخل على محمد بن عبد اللّه، فلما مثل بين يديه سلّم، فردّ عليه، و قال له: أ ما حان لك أن تزورنا مع شوقنا إليك؟ فقال له ماني: أعزّ اللّه الأمير: الشوق شديد، و الودّ عتيد، و الحجاب صعب، و البواب فظّ، و لو تسهّل لنا الإذن لسهلت علينا الزيارة، فقال له محمد: لقد لطفت في الاستئذان، و أمره بالجلوس. فجلس، و قد كان أطعم قبل أن يدخل، فأتى محمد بن عبد اللّه بجارية لإحدى بنات المهديّ، يقال لها: منوسة، و كان يحبّ السماع منها، و كانت تكثر أن تكون عنده، فكان أول ما غنّته:

و لست بناس إذ غدوا فتحمّلوا *** دموعي على الخدّين من شدّة الوجد

و قولي و قد زالت بعيني حمولهم *** بواكر تحدى لا يكن آخر العهد(3)

فقال ماني: أ يأذن لي الأمير؟ قال: في ما ذا؟ قال: في استحسان ما أسمع، قال: نعم، قال: أحسنت و اللّه، فإن رأيت أن تزيدي مع هذا الشعر هذين البيتين:

و قمت أداري الدمع و القلب حائر *** بمقلة موقوف على الضّرّ و الجهد(4)

/و لم يعدني هذا الأمير بعدله *** على ظالم قد لجّ في الهجر و الصّدّ

فقال له محمد: و من أيّ شيء استعديت يا ماني؟ فاستحيا، و قال: لا من ظلم أيها الأمير، و لكن الطّرب حرّك شوقا كان كامنا، فظهر. ثم غنّت:

/

حجبوها عن الرياح لأنّي *** قلت: يا ريح بلّغيها السّلاما

لو رضوا بالحجاب هان و لكن *** منعوها يوم الرياح الكلاما

قال: فطرب محمد، و دعا برطل فشربه فقال ماني: ما كان على قائل هذين البيتين لو أضاف إليهما هذين البيتين:

ص: 136


1- ما بين القوسين زيادة في ف.
2- في س، ب: صاحب ربع الكرخ.
3- في ف: «بوادر» بدل «بواكر».
4- في أ: «أناجي» و في هج س، ب: «أفاجي» بدل «أداري».

فتنفّست ثم قلت لطيفي: *** ويك إن زرت طيفها إلماما

حيّها بالسلام سرّا و إلاّ *** منعوها لشقوتي أن تناما

فقال محمد: أحسنت يا ماني، ثم غنّت:

يا خليليّ ساعة لا تريما *** و على ذي صبابة فأقيما

ما مررنا بقصر زينب إلا *** فضح الدمع سرّك المكتوما

قال ماني: لو لا رهبة الأمير لأضفت إلى هذين البيتين بيتين لا يردان على سمع سامع ذي لبّ فيصدران إلا عن استحسان لهما، فقال محمد: الرغبة في حسن ما تأتي به حائلة عن كلّ رهبة، فهات ما عندك، فقال:

ظبية كالهلال لو تلحظ الصخر بطرف لغادرته هشيما و إذا ما تبسّمت خلت ما يبدو من الثّغر لؤلؤا منظوما

مختار الشعر يكسبه طبيا:

فقال محمد: إن أحسن الشعر ما دام الإنسان يشرب ما كان مكسوّا لحنا حسنا تغنّي به منوسة و أشباهها، فإن كسيت(1) شعرك من الألحان مثل ما غنّت قبله طاب، فقال: ذلك إليها.

يصف منوسة:

فقال له ابن طالوت: يا أبا الحسين(2)، كيف هي عندك في حسنها و جمالها و غنائها/و أدبها؟ قال. هي غاية ينتهي إليها الوصف، ثم يقف، قال: قل في ذلك شعرا، فقال:

و كيف صبر النفس عن غادة *** تظلمها إن قلت طاوسه

و جرت إن شبّهتها بانة *** في جنّة الفردوس مغروسه

و غير عدل إن عدلنا بها *** لؤلؤة في البحر منفوسة(3)

جلّت عن الوصف فما فكرة *** تلحقها بالنعت محسوسه

فقال له ابن طالوت: وجب شكرك يا ماني، فساعدك دهرك، و عطف عليك إلفك، و نلت سرورك، و فارقت محذورك، و اللّه يديم لنا و لك بقاء من ببقائه اجتمع شملنا، و طاب يومنا.

إذا زرت فخفف:

فقال ماني:

مدمن التخفيف موصول *** و مطيل اللّبث مملول

ص: 137


1- لعلها تحريف فإن «أكسبت» شعرك... إلخ.
2- في ف: «الحسن».
3- منفوسة: يتنافس و يرغب فيها.

فأنا أستودعكم اللّه، ثم قام فانصرف، فأمر له محمد بن عبد اللّه بصلة، ثم كان كثيرا ما يبعث يطلبه إذا شرب، فيبرّه، و يصله، و يقيم عنده.

يشبب بغلام:

اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني المبرد، قال:

حدّثني بعض الكتاب ممّن كان ماني يلزمه(1)، و يكثر عنده، قال: لقيني يوما ماني بعد انقطاع طويل عني، فقال: ما قطعني عنك إلا أني هائم، قلت: بمن؟ قال بمن إن شئت أن تراه الساعة رأيته/فعذرتني، قلت: فأنا معك، فمضى، حتى وافى باب الطاق، فأراني/غلاما جميل الوجه بين يدي بزّاز في حانوته، فلما رآه الغلام عدا، فدخل الحانوت، و وقف ماني طويلا ينتظره، فلم يخرج، فأنشأ يقول:

ذنبي إليه خضوعي حين أبصره *** و طول شوقي إليه حين أذكره(2) و ما جرحت بطرف العين مهجته *** إلا و من كبدي يقتصّ محجره

نفسي على بخله تفديه من قمر *** و إن رماني بذنب ليس يغفره

و عاذل باصطبار القلب يأمرني *** فقلت: من أين لي قلب أصبّره(3)

و مضى يعدو و يصيح: الموت مخبوء في الكتب(4).

صوت

و شادن قلبي به معمود *** شيمته الهجران و الصّدود

لا أسأم الحرص و لا يجود *** و الصبر عن رؤيته مفقود

زنّاره في خصره معقود *** كأنه من كبدي مقدود

عروضه من الرجز، و الشّعر لبكر بن خارجة، و الغناء للقاسم بن زرزور، خفيف رمل بالوسطى.

ص: 138


1- س، ب: «يكرمه».
2- زيادة في ف.
3- كذا في ف و هي أنسب من رواية س، ب: «صبر فأهجره».
4- زيادة في ف.

18 - أخبار بكر بن خارجة

كان وراقا:

كان بكر بن خارجة، رجلا من أهل الكوفة، مولى لبني أسد، و كان ورّاقا ضيّق العيش، مقتصرا على التكسب من الوراقة، و صرف أكثر ما يكسبه إلى النبيذ، و كان معاقرا للشّرب في منازل الخمّارين و حاناتهم، و كان طيّب الشّعر مليحا مطبوعا طبعا ماجنا(1).

يتعشق هدهدا:

فذكر أبو العنبس الصّيمري أن محمد بن الحجاج حدّثه قال:

رأيت بكر بن خارجة يبكّر في كل يوم بقنّينتين من شراب إلى خراب من خرابات الحيرة، فلا يزال يشربه فيه على صوت هدهد كان يأوي إلى ذلك الخراب، إلى أن يسكر، ثم ينصرف، قال: و كان يتعشق ذلك الهدهد.

و حدّثني عمي عن ابن مهرويه عن عليّ بن عبد اللّه بن سعد، قال:

كان بكر بن خارجة يتعشق غلاما نصرانيا، يقال له: عيسى بن البراء العباديّ الصّيرفي، و له فيه قصيدة مزدوجة يذكر فيها النصارى و شرائعهم و أعيادهم، و يسمّي دياراتهم، و يفضّلهم.

دعبل يحسده على بيتين قالهما:

قال: و حدّثني [من شهد دعبلا(2)] و قد أنشدني قوله في عيسى بن البراء النصراني العبادي:

زنّاره في خصره معقود *** كأنه من كبدي مقدود

فقال دعبل: ما يعلم اللّه أنّي حسدت أحدا قطّ كما حسدت بكرا على هذين البيتين.

الجاحظ يكتب أبياتا له و هو قائم:

و حدّثني عمي عن الكرانيّ، قال: حرّم بعض الأمراء بالكوفة بيع الخمر على خماري الحيرة، و ركب فكسر نبيذهم، فجاء بكر يشرب عندهم على عادته، فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب و الطرق، فبكى طويلا، و قال:

يا لقومي لما جنى السلطان *** لا يكونن لما أهان الهوان(3)

قهوة في التراب من حلب الكر *** م عقارا كأنّها الزعفران

ص: 139


1- المراد أن من سجاياه عدم المبالاة.
2- زيادة في ف و هج.
3- في ف: «لمن» بدل «لما».

قهوة في مكان سوء لقد صا *** دف سعد السعود ذاك المكان(1)

/من كميت يبدي المزاج لها لؤ *** لؤ نظم و الفصل منها جمان

فإذا ما اصطبحتها صغرت في *** القدر تختالها هي الجرذان(2)

كيف صبري عن بعض نفسي و هل *** يصبر عن بعض نفسه الإنسان!

قال: فأنشدتها الجاحظ، فقال: إن من حق الفتوة أن أكتب هذه الأبيات قائما و ما أقدر على ذلك إلا أن تعمدني، و قد كان تقوّس، فعمدته، فقام، فكتبها قائما.

الخمر تفسد عقله:

اشارة

و قال محمد بن داود بن الجرّاح في كتاب الشعراء: قال لي محمد بن الحجاج:

كانت الخمر قد أفسدت عقل بكر بن خارجة في آخر عمره، و كان يمدح و يهجو بدرهم و بدرهمين و نحو هذا فاطّرح، و ما رأيت قطّ أحفظ منه لكلّ شيء حسن، و لا أروى منه للشعر.

قال: و أنشدني بعض أصحابنا له في حال فساد عقله:

هب لي فديتك درهما *** أو درهمين إلى الثّلاثة

/إني أحبّ بني الطفي *** ل و لا أحبّ بني علاثه(3)(4) قال ابن الجراح حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال:

حدّثني بعض أصحابنا الكوفيين قال: حضرنا دعوة ليحيى بن أبي يوسف القاضي و بتنا عنده، فنمت فما أنبهني إلاّ صياح بكر يستغيث من العطش، فقلت له: مالك؟ فاشرب فالدار مليئة ماء، قال: أخاف، قلت: من أي شيء؟ قال: في الدار كلب كبير، فأخاف أن يظنني غزالا فيثب عليّ و يقطعني و يأكلني، فقلت: له ويحك يا بكر! فالحمير أشبه منك بالغزال، قم فاشرب إن كنت عطشان و أنت آمن، و كان عقله قد فسد من كثرة الشراب.

قال: و أنشدني له، و قد رأى صديقا له قرأ رقعة من صديق له آخر ثم حرقها:

لم يقو عندي على تحريق قرطاسي *** إلا امرؤ قلبه من صخرة قاسي

إن القراطيس من قلبي بمنزلة *** تحويه كالسمع و العينين في الرأس(5)

و مما يغنّى فيه من شعر بكر بن خارجة:

ص: 140


1- في ف: «صبها في مكان سوء». بدل «قهوة في مكان سوء».
2- في هج: «صغرت في القدر عندي من أجلها الخيزران».
3- بنو الطفيل: يريد بهم عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر الذي حدثت أشهر منافرة بينه و بين علقمة بن علاثة، و هو يقصد التورية بكلمة الطفيل. و بنو علاثة: يريد علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص و قد حكما هرم بن قطبة بن سنان الفزاري و قال في هذه المنافرة الأعشى يمدح عامرا و يهجو علقمة. علقم ما أنت إلى عامر الناقض الأوتار و الواتر.
4- الزيادة عن ف.
5- الزيادة عن ف.
صوت

قلبي إلى ما ضرّني داعي *** يكثر أحزاني و أوجاعي

لقلّ ما أبقى على ما أرى *** يوشك أن ينعاني الناعي

كيف احتراسي من عدوّي إذا *** كان عدوي بين أضلاعي؟

أسلمني الحبّ و أشياعي *** لمّا سعى بي عندها الساعي

لمّا دعاني حبّها دعوة *** قلت له: لبّيك من داع

الغناء لإبراهيم بن المهدي ثقيل أول، و فيه لعبد اللّه بن العباس هزج، جميعا عن الهشامي، و قيل: إن فيه لحنا لابن جامع.

و قد ذكر الصولي في أخبار العباس بن الأحنف و شعره أن(1) هذه الأبيات للعباس بن الأحنف، و ذكر محمد بن داود بن الجرّاح عن أبي هفّان أنها لبكر بن خارجة:

صوت

ويلي على ساكن شطّ الصّراه *** من وجنتيه شمت برق الحياه(2)

ما ينقضي من عجب فكرتي *** في خصلة فرّط فيها الولاه

ترك المحبين بلا حاكم *** لم يقعدوا للعاشقين القضاه(3)

الشعر لإسماعيل القراطيسي و الغناء لعباس بن مقام خفيف رمل بالوسطى.

ص: 141


1- ب: و شعر ماني.
2- الصراة: يطلق على نهرين ببغداد: الصراة الصغرى، الصراة الكبرى بقرب بغداد على فرسخ منها.
3- «لم يقعدوا»، في ياقوت «لم يجلسوا».

19 - أخبار إسماعيل القراطيسي

كان مألفا للشعراء:

هو إسماعيل بن معمر الكوفي، مولى الأشاعثة، و كان مألفا للشعراء، فكان أبو نواس و أبو العتاهية و مسلم و طبقتهم يقصدون منزله. و يجتمعون عنده، و يقصفون، و يدعو لهم القيان و غيرهن من الغلمان، و يساعدهم.

و إياه يعني أبو العتاهية بقوله:

لقد أمسى القراطيسي *** رئيسا في الكشاخين(1)

وجهه في المرآة:

و في هذه الأبيات التي فيها الغناء يقول القراطيسيّ:

/

و قد أتاني خبر ساءني *** مقالها في السر وا سوأتاه

أمثل هذا يبتغي وصلنا *** أ ما يرى ذا وجهه في المرآة!

وجه أبي العتاهية أيضا:

أخبرني ابن عمّار عن ابن مهرويه، عن عليّ بن عمران، قال: قال القراطيسي: قلت للعباس [بن الأحنف(2)]: هل قلت في معنى قولي:

و قد أتاني خبر ساءني *** مقالها في السرّ: وا سوأتاه؟

قال: نعم، و أنشدني:

جارية أعجبها حسنها *** فمثلها في الناس لم يخلق

خبّرتها أنّي محبّ لها *** فأقبلت تضحك من منطقي

و التفتت نحو فتاة لها *** كالرشا الوسنان في قرطق(3)

/قالت لها: قولي لهذا الفتى: *** انظر إلى وجهك ثم اعشق

يهجوه لأنه لا يحبوه:

أخبرني الحسن بن مهرويه، قال: حدّثني أحمد بن بشر المرثديّ، قال:

ص: 142


1- الكشاخين: مفرده كشخان و هو «الديوث» الذي لا يغار على حرمه.
2- زيادة في ف.
3- قرطق: كجندب و قنفذ و جعفر، و هو القباء، معرب «كرته»، و يقال قرطقته فتقرطق أي ألبسته القرطق فلبسه.

مدح إسماعيل القراطيسي الفضل بن الربيع(1)، فحرمه فقال:

ألا قل للّذي لم يهد *** ه اللّه إلى نفع

لئن أخطأت في مدحي *** ك ما أخطأت في منعي

لقد أحللت حاجاتي *** بواد غير ذي زرع

بيته منتدى العابثين:

اشارة

أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد عن أبي هفّان عن الجمّاز، قال:

اجتمع يوما أبو نواس و حسين الخليع و أبو العتاهية في الحمّام(2) و هم مخمورون، فقالوا: أين نجتمع؟ فقال القراطيسيّ:

ألا قوموا بأجمعكم *** إلى بيت القراطيسي

لقد هيّا لنا النزل *** غلام فاره طوسي

و قد هيّا الزّجاجات *** لنا من أرض بلقيس

و ألوانا من الطير *** و ألوانا من العيس

و قينات من الحور *** كأمثال الطواويس

فنيكوهنّ في ذاكم *** و في طاعة إبليس

صوت

أبكي إذا غضبت حتى إذا رضيت *** بكيت عند الرضا خوفا من الغضب

فالويل إن رضيت و العول إن غضبت *** إن لم يتمّ الرضا فالقلب في تعب

الشعر لأبي العبر الهاشمي، أنشدنيه الأخفش و غيره من أصحابنا، و ذكره له محمد بن داود بن الجرّاح، و الغناء لعليّة بنت المهديّ ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ.

ص: 143


1- في ف: «المأمون» بدل «الربيع».
2- في هج: «في الحمام» بعد «و هم مخمورون».

20 - أخبار أبي العبر و نسبه

اسمه و نسبه:

هو أبو العباس محمد بن أحمد، و يلقب حمدونا الحامض بن عبد اللّه بن عبد الصمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس(1) بن عبد المطلب و كان صالح الشعر مطبوعا يقول الشعر المستوي في أول عمره منذ أيام الأمين و هو غلام، إلى أن ولي/المتوكل الخلافة، فترك الجدّ، و عاد إلى الحمق و الشهرة به، و قد نيّف على الخمسين، و رأى أن شعره مع توسطه لا ينفق مع مشاهدته أبا تمام الطائيّ و البحتريّ و أبا السمط بن أبي حفصة و نظراءهم.

شاعر هازل:

حدّثني عم أبي عبد العزيز بن أحمد، قال:

سمعت حمدون الحامض يذكر أنه ابنه أبا العبر ولد بعد خمس سنين خلت من خلافة الرشيد، قال: و عمّر إلى خلافة المتوكل، و كسب بالحمق أضعاف ما كسبه كلّ شاعر كان في عصره بالجدّ، و نفق نفاقا عظيما، و كسب في أيام المتوكّل مالا جليلا، و له فيه أشعار حميدة، يمدحه بها، و يصف قصره و برج الحمام و البركة(2) كثيرة المحالّ، مفرطة السقوط، لا معنى لذكرها، سيما و قد شهرت في الناس.

فحدّثني محمد بن أبي الأزهر، قال: حدّثني الزبير بن بكّار، قال: قال لي عمي: ويحك! أ لا يأنف الخليفة لابن عمه هذا الجاهل مما قد شهّر به نفسه و فضح عشيرته! و اللّه إنه لعرّ بني آدم جميعا، فضلا عن أهله و الأدنين(3)! أ فلا يردعه و يمنعه من سوء اختياره! فقلت: إنه ليس بجاهل كما تعتقد(4)، و إنما يتجاهل، و إن له لأدبا صالحا و شعرا طيّبا، ثم أنشدته:

/

لا أقول اللّه يظلمني *** كيف أشكو غير متّهم!

و إذا ما الدّهر ضعضعني *** لم تجدني كافر النّعم

قنعت نفسي بما رزقت *** و تناهت في العلا هممي

ليس لي مال سوى كرمي *** و به أمني من العدم

فقال لي: ويحك! فلم لا يلزم هذا و شبهه؟ فقلت له: و اللّه يا عم لو رأيت ما يصل إليه بهذه الحماقات

ص: 144


1- تكملة من هج.
2- يقتضي السياق زيادة كلمة «و أخرى» بعد قوله: «و البركة».
3- في س، ب: «و الأدبيين».
4- ف: «كما نقدر».

لعذرته، فإن ما استملحت له لم ينفق به، فقال عمي - و قد غضب - أنا لا أعذره في هذا و لو حاز به الدّنيا بأسرها، لا عذرني اللّه إن عذرته إذن!

الجد في الهزل لا في الجد:

و حدّثني مدرك بن محمد الشيباني، قال: حدّثني أبو العنبس الصيمري، قال:

قلت لأبي العبر و نحن في دار المتوكل: ويحك! أيش يحملك على هذا السّخف الذي قد ملأت به الأرض خطبا و شعرا(1) و أنت أديب ظريف مليح الشعر؟ فقال لي: يا كشخان، أ تريد أن أكسد أنا و تنفق أنت؟ أنت أيضا شاعر فهم متكلّم فلم تركت العلم، و صنعت في الرقاعة نيّفا و ثلاثين كتابا، أحبّ أن تخبرني لو نفق العقل أ كنت تقدّم عليّ البحتري، و قد قال في الخليفة بالأمس:

عن أي ثغر تبتسم *** و بأيّ طرف تحتكم

فلما خرجت أنت عليه و قلت:

في أي سلح ترتطم *** و بأي كف تلتطم

أدخلت رأسك في الرّحم *** و علمت أنك تنهزم

فأعطيت الجائزة و حرم، و قرّبت و أبعد، في حر أمّك و حر أمّ كل عاقل معك! فتركته، و انصرفت.

أردأ الشعر أوسطه:

قال مدرك: ثم قال لي أبو العنبس: قد بلغني أنك تقول الشعر، فإن قدرت أن تقوله جيّدا، جيّدا؟ و إلا فليكن باردا، باردا، مثل شعر أبي العبر و إياك و الفاتر فإنه صفع كلّه.

مذهبان متناقضان:

حدّثني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني أبو العيناء، قال: أنشدت أبا العبر:

/

ما الحبّ إلا قبلة *** أو غمز كفّ و عضد

أو كتب فيها رقى *** أنفذ من نفث العقد

من لم يكن ذا حبّه *** فإنما يبغي الولد

ما الحبّ إلا هكذا *** إن نكح الحبّ فسد

فقال لي: كذب المأبون: و أكل من خراي رطلين و ربعا بالميزان، فقد أخطأ و أساء، أ لا قال كما قلت:

باض الحبّ في قلبي *** فوا ويلي إذا فرّخ

و ما ينفعني حبّي *** إذا لم أكنس البربخ

و إن لم يطرح الأصل *** ع خرجيه على المطبخ

ص: 145


1- ف: «شعرا و قصصا و خطبا».

ثم قال: كيف ترى؟ قلت: عجبا من العجب، قال: ظننت أنك تقول: لا، فأبلّ يدي و أرفعها. ثم سكت، فبادرت، و انصرفت خوفا من شرّه.

أين يهبط عليه الوحي:

حدّثني عبد العزيز بن أحمد عم أبي، قال:

كان أبو العبر يجلس بسرّمن رأى في مجلس يجتمع عليه فيه المجّان يكتبون عنه، فكان يجلس على سلّم و بين يديه بلاّعة فيها ماء و حمأة، و قد سدّ مجراها، و بين يديه قصبة طويلة، و على رأسه خفّ، و في رجليه قلنسيتان، و مستمليه في جوف بئر، /و حوله ثلاثة نفر يدقّون بالهواوين، حتى تكثر الجلبة، و يقلّ السماع، و يصيح مستمليه من جوف البئر من يكتب(1)، عذّبك اللّه، ثم يملي عليهم، فإن ضحك أحد ممن حضر قاموا فصبّوا على رأسه من ماء البلاّعة إن كان وضيعا، و إن كان ذا مروءة رشّش عليه بالقصبة من مائها، ثم يحبس في الكنيف إلى أن ينفضّ المجلس، و لا يخرج منه حتى يغرم درهمين. قال: و كانت كنيته أبا العباس، فصيرها أبا العبر، ثم كان يزيد فيها في كل سنة حرفا، حتى مات، و هي أبو العبر طردطيل طليري بك بك بك.

ما ذا يصنع بالسمكة:

حدّثني جحظة، قال: رأيت أبا العبر بسرّمن رأى، و كان أبوه شيخا صالحا، و كان لا يكلّمه، فقال له بعض إخوانه: لم هجرت ابنك؟ قال: فضحني - كما تعلمون - بما يفعله بنفسه، ثم لا يرضى بذلك، حتى يهجّنني و يؤذيني، و يضحك الناس مني، فقالوا له: و أيّ شيء من ذاك؟ و بما ذا هجّنك؟ قال: اجتاز عليّ منذ أيام و معه سلّم، فقلت له: و لأيّ شيء هذا معك؟ فقال: لا أقول لك، فأخجلني، و أضحك بي كل من كان عندي، فلما أن كان بعد أيام اجتاز بي و معه سمكة، فقلت له: إيش تعمل بهذه؟ فقال: أنيكها، فحلفت لا أكلمه أبدا.

مذهبه في الكتابة:

أخبرني عم أبي عبد العزيز، قال:

سمعت رجلا سأل أبا العبر عن هذه المحالات التي لا يتكلّم بها: أيّ شيء أصلها؟ قال: أبكّر، فأجلس على الجسر، و معي دواة و درج(2)، فأكتب كلّ شيء أسمعه من كلام الذاهب و الجائي و الملاّحين و المكارين، حتى أملأ الدّرج من الوجهين، ثم أقطعه عرضا و طولا و ألصقه مخالفا، فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه.

مذهبه في الصيد:

أخبرني عمي(3)، قال: رأيت أبا العبر واقفا على بعض آجام سرّ من رأى، و بيده/اليسرى قوس جلاهق(4)، و على يده اليمنى باشق، و على رأسه قطعة رئة في حبل مشدود بأنشوطة، و هو عريان، في أبره شعر مفتول مشدود

ص: 146


1- في ف: «من نسيت».
2- الدرج: ما يكتب فيه.
3- «عمي»: لعلها عم أبي.
4- جلاهق: بندق يرمي به.

فيه شصّ قد ألقاه في الماء للسّمك، و على شفته دوشاب(1) ملطّخ، فقلت له: /خرب بيتك، أيش هذا العمل؟ فقال: أصطاد يا كشخان يا أحمق بجميع جوارحي، إذا مرّ بي طائر رميته عن القوس، و إن سقط قريبا مني أرسلت إليه الباشق، و الرئة التي على رأسي يجيء الحدأ ليأخذها فيقع في الوهق(2) و الدّوشاب أصطاد به الذّباب، و أجعله في الشصّ، فيطلبه السمك، و يقع فيه، و الشصّ في أيري، فإذا مرّت به السمكة أحسست بها، فأخرجتها.

عبث:

قال: و كان المتوكل يرمي به في المنجنيق إلى الماء، و عليه قميص حرير، فإذا علا في الهواء صاح: الطريق الطريق، ثم يقع في الماء، فتخرجه السّبّاح، قال: و كان المتوكل يجلسه على الزّلاّقة، فينحدر فيها، حتى يقع في البركة، ثم يطرح الشبكة، فيخرجه كما يخرج السمك، ففي ذلك يقول في بعض حماقاته:

و يأمر بي الملك *** فيطرحني في البرك

و يصطادني بالشّبك *** كأني من السّمك

و يضحك كك كك ككك *** ككك كك ككك كك ككك(3)

عبثه مع إسحاق:

و حدّثني جعفر بن قدامة، قال:

قدم أبو العبر بغداد في أيام المستعين، و جلس للناس، فبعث إسحاق بن إبراهيم، فأخذه، و حبسه، فصاح في الحبس، لي نصيحة، فأخرج، و دعا به إسحاق، فقال: هات نصيحتك، قال: على أن تؤمّنني؟ قال: نعم، قال:

الكشكية - أصلحك اللّه - /لا تطيب إلا بالكشك، فضحك إسحاق و قال: هو - فيما أرى - مجنون، فقال: لا، هو امتخط حوت(4)، قال: أيش هو امتخط حوت؟ ففهم ما قاله، و تبسم ثم قال: أظنّ أنّي فيك مأثوم، قال: لا، و لكنك في ماء بصل(5)، فقال: أخرجوه عني إلى لعنة اللّه، و لا يقيم ببغداد، فأردّه إلى الحبس، فعاد إلى سرّ من رأى.

من شعره في غلام:

اشارة

و له أشعار ملاح في الجدّ، منها ما أنشدنيه الأخفش له يخاطب غلاما أمرد:

أيها الأمرد المولّع بال *** هجر أفق ما كذا سبيل الرشاد

فكأنّي بحسن وجهك قد *** ألبس في عارضيك ثوب حداد

و كأنّي بعاشقيك و قد بدّ *** لت فيهم من خلطة ببعاد

ص: 147


1- دوشاب: عصير عنب.
2- الوهق: حبل يرمي به في أنشوطة فتؤخذ به الدابة أو الإنسان، و جمعه: أوهاق.
3- زيادة في ف.
4- قسم كلمة مجنون إلى كلمتين: جعل بدل «مج» «امتخط» و بدل «نون» «حوت».
5- قسم كلمة مأثوم إلى قسمين «ماء»، «ثرم» و جعل بدلها «ماء بصل».

حين تنبو العيون عنك كما *** ينقبض السّمع عن حديث معاد

فاغتنم قبل أن تصير إلى كا *** ن و تضحي في جملة الأضداد

و أنشدني محمد بن داود بن الجرّاح له، و فيه رمل طنبوري محدث أظنّه لجحظة.

صوت
من غزله المستملح:

داء دفين و هوى بادي *** أظلم فجازيك بمرصاد

يا واحد الأمة في حسنه *** أشمت بي صدّك حسّادي(1)

قد كدت مما نال منّي الهوى *** أخفى على أعين عوّادي

عبدك يحيي موته قبلة *** تجعلها خاتمة الزّاد(2)

الحماقة أنفق:

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني أحمد بن عليّ الأنباري:

قال:

كنا يوما في مجلس يزيد بن محمد المهلّبي بسرّمن رأى، فجرى ذكر أبي العبر، فجعلوا يذكرون حماقاته و سقوطه، فقلت ليزيد: كيف كان عندك، فقد رأيته؟ فقال: ما كان إلاّ أديبا فاضلا، و لكنه رأى الحماقة أنفق و أنفع له، فتحامق.

يهجو قاضيين أعورين:

فقلت له: أنشدك أبياتا له أنشدنيها، /فانظر لو أراد دعبل - فإنه أهجى أهل زماننا - أن يقول في معناها ما قدر على أن يزيد على ما قال، قال: أنشدنيها، فأنشدته قوله:

رأيت من العجائب قاضيين *** هما أحدوثة في الخافقين

هما اقتسما العمي نصفين فذّا *** كما اقتسما قضاء الجانبين(3)

هما فأل الزمان بهلك يحيى *** إذا افتتح القضاء بأعورين(4)

و تحسب منهما من هزّ رأسا *** لينظر في مواريث و دين

كأنك قد جعلت عليه دنّا *** فتحت بزاله من فرد عين(5)

ص: 148


1- في ف «يا واحد العالم».
2- في ف هج «نفسه» بدل «موته».
3- فذا: فردا، و في هج «قدا» بمعنى: مناصفة.
4- في ف «افتتح» و في س، ب: «فتح». و القاضيان - كما في هج - هما: حيان بن بشر، و سوار بن عبد اللّه، ولاهما يحيى بن أكثم..
5- البزال: موضع ثقب الدن و الحديدة التي يفتح بها، و بزال ككتاب.

فجعل يضحك من قوله، و يعجب منه، ثم كتب الأبيات.

نصيحة:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن مهرويه: قال: حدّثني ابن أبي أحمد، قال: قال لي أبو العبر:

إذا حدّثك إنسان بحديث لا تشتهي أن تسمعه فاشتغل عنه بنتف إبطك، حتى يكون هو في عمل و أنت في عمل.

بغضه لعلي قتله:

اشارة

و قال محمد بن داود: حدّثني أبو عبد اللّه الدوادي، قال:

كان أبو العبر شديد البغض لعليّ بن أبي طالب - صلوات اللّه عليه - و له في العلويين هجاء قبيح، و كان سبب ميتته أنه خرج إلى الكوفة ليرمي بالبندق مع الرماة من أهلها في آجامهم، فسمعه بعض الكوفيين يقول في علي - صلوات اللّه عليه - قولا قبيحا استحل به دمه، فقتله في بعض الآجام، و غرّقه فيها.

صوت

صوت(1)

لقد طال عهدي بالإمام محمد *** و ما كنت أخشى أن يطول به عهدي

فأصبحت ذا بعد و داري قريبة *** فوا عجبا من قرب داري و من بعدي!

فيا ليت أنّ العيد لي عاد مرّة *** فإني رأيت العيد وجهك لي يبدي

رأيتك في برد النبيّ محمد *** كبدر الدّحى بين العمامة و البرد

الشعر لمروان بن أبي حفصة الأصغر، و الغناء لبنان خفيف رمل بالبنصر.

ص: 149


1- سبق هذا الصوت في الجزء الثاني عشر: 79 من «الأغاني» ط دار الكتب، 72 ط بيروت و جاءت بعده «أخبار مروان الأصغر» و هي غير الواردة هنا فيما عدا خبرين في روايتهما بعض اختلاف.

21 - أخبار مروان بن أبي حفصة الأصغر

كنيته:

هو مروان بن أبي الجنوب بن مروان الأكبر بن أبي حفصة. قد تقدّم خبره و نسبه، و يكنى مروان الأصغر أبا السّمط، و كان يتشبّه بجدّه في شعره، و يمدح المتوكل، و يتقرب إليه بهجاء آل أبي طالب، فتمكّن منه و قرب إليه(1)، و كسب معه مالا كثيرا، فلما أفضت الخلافة إلى المنتصر تجنّب مذهب أبيه في كل أمر، فطرده و حلف ألاّ يدخل إليه أبدا لما كان يسمعه منه في أمير المؤمنين عليّ رضي اللّه عنه.

كان يتقرب إلى المتوكل بهجاء آل أبي طالب:

فأخبرني محمد بن عمران الصيرفي و عمّي قالا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن آدم العبديّ قال:

دخل مروان بن أبي الجنوب على المتوكل فأنشده قوله:

سلام على جمل و هيهات من جمل *** و يا حبّذا جمل و إن صرمت حبلي

و هي من مشهور شعره، و فيها يقول:

أبوكم عليّ كان أفضل منكم *** أباه ذوو الشورى و كانوا ذوي عدل

و ساء رسول اللّه إذ ساء بنته *** بخطبته بنت اللعين أبي جهل

أراد على بنت النبيّ تزوّجا *** ببنت عدو اللّه، يا لك من فعل!

فذمّ رسول اللّه صهر أبيكم *** على منبر الإسلام بالمنطق الفصل(2)

و حكّم فيها حاكمين أبوكم *** هما خلعاه خلع ذي النّعل للنّعل

/و قد باعها من بعده الحسن ابنه *** فقد أبطلا دعواكما الرّثّة الحبل

و خلّيتموها و هي في غير أهلها *** طالبتموها حيث صارت إلى الأهل

فوهب له المتوكل مائة ألف درهم.

و قال محمد بن داود بن الجرّاح(3): حدّثني محمد بن القاسم قال: حدّثني أبو هاشم الجبّائي، قال:

دخل أبو السّمط على المتوكل فأنشده قوله:

ص: 150


1- هج: «فتمكن عنده و قرب منه».
2- في «المختار»: «على منبر بالمنطق الصادق الفصل».
3- هج: «محمد بن داود الجراح».

الصّهر ليس بوارث *** و البنت لا ترث الإمامه

لو كان حقكم لهم *** قامت على الناس القيامه

أصبحت بين محبّكم *** و المبغضين لكم علامه

فحشا المتوكّل فمه بجوهر لا يدرى ما قيمته.

و حدّثني أحمد بن جعفر جحظة قال: أنشد أبو السّمط المتوكل قوله:

إني نزلت بساحة المتوكل *** و نزلت في أقصى ديار الموصل

فقال الفتح بن خاقان: فإذا كانا متباعدين هكذا فمن كان الرسول؟

نقد أبو العنبس الصيمري شعرا له فتهاجرا:

فقال أبو العنبس الصّيمريّ: كانت له طيور هدّى(1) تحمل إليها كتبه، فضحك المتوكل حتى ضرب برجله الأرض و أجزل صلة الصّيمري و لم يعط أبا السّمط شيئا، فماتا متهاجرين(2).

مدح المتوكل و ولاة عهده فوهبه مالا و ثيابا:

أخبرني عمي و الحسن بن علي قالا: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال:

حدّثنا حمّاد بن أحمد البنيّ قال: أخبرني أبو السّمط مروان بن أبي الجنوب قال:

لما صرت إلى المتوكل على اللّه و مدحته و مدحت ولاة العهود الثلاثة، و أنشدته ذلك في قولي:

سقى اللّه نجدا و السّلام على نجد *** و يا حبذا نجد على النّأي و البعد

نظرت إلى نجد و بغداد دونها *** لعليّ أرى نجدا و هيهات من نجد!

بلاد بها قوم هواهم زيارتي *** و لا شيء أشهى من زيارتهم عندي

بين المتوكل و خالد بن يزيد الكاتب:

فلما استتممتها(3) أمر لي بمائة ألف درهم و خمسين ثوبا من خاص ثيابه.

أخبرني عليّ بن أبي العباس بن أبي طلحة قال: حدّثني إبراهيم بن محمد أبو إسحاق قال:

حدّثني خالد بن يزيد الكاتب قال: دعاني المتوكل ليلة و قد غنّى بين يديه عمر الطنبوري في قولي:

يا مقلتيّ قتلتماني *** فبقيت رحمة من يراني

من ذا ألوم و أنتما *** بيد الهوى أسلمتماني

ص: 151


1- «الأغاني» 86:12: «كان له حمام هدى» و جاء في الهامش: الحمام الهداء: ضرب من الحمام يدرب على السفر من مكان إلى مكان فيرسل من أمكنة بعيدة فيذهب إلى حيث يراد منه أن يذهب، الواحد هاد، و الجمع: هدى و هداء.
2- سبق الخبر في الجزء الثاني عشر: 86 مع اختلاف في الرواية.
3- «المختار»: «فلما فرغت منها أمر لي بمائة عشرين ألف درهم، و خمسين ثوبا، و ثلاثة من الظهر: فرس، و بغلة، و حمار»، و انظر «الأغاني» الجزء 81:12 ط دار الكتب فللخبر بقية.

قال: و لم يغنّه البيت الثالث، و هو:

لعبت بنا أيدي الخطو *** ب و غالنا ريب الزمان

كراهة أن يتطيّر منه، فجعل ينظر إليّ و أنا واقف، ثم قال لي: ويلك يا خالد، تهرب منا و نحن نطلبك، و أنت في غيابات صبواتك و غزلك. يا غلام اسقه ثلاثة أقداح/في القدح المبرم - و هو الذي لا قرار له، فإذا أخذه الإنسان لم يقدر أن يضعه من يده - فقلت:

سيدي لا تسقني *** أكثر من رطل نبيذ

إنّ شربي للّذي *** يؤلمني غير لذيذ

فقال: يا غلام، إن لم يشرب فاصفعه، فقلت:

سيدي حوصلتي ضيّ *** قة عن شرب رطل

فمتى زدت عليه *** خفت أن يذهب عقلي

فقال الفتح: هو كما قال يا سيّدي لا يطيق الشرب.

و حضر ابن أبي حفصة، فقال لنا المتوكل: قولا على البديهة، فقلت له:

هو يا سيدي شيخ الشعراء و مادحك، و آباؤه مدّاح آبائك، فأنشأ يقول:

يا ليت [لي] ألف عين *** عيناي لا تكفيان

فقلت له: سخنت عينك، أنا لي عين واحدة أدعو اللّه عليها بالعمى منذ ستين سنة، أقول:

يا عين أنت بليتني *** فأراحني الرحمن منك

و أنت تتمنى ألف عين. ثم قال لي المتوكل: اهجه، فقلت: إن الرجل لم يعرض لي، فأقبل هو عليّ و قال:

قل ما شئت، و ما عسى أن تقول؟ فقلت:

زاد البرد يومين *** فقال الناس: ما القصّة!

فقلنا: أنشدونا شع *** ر مروان بن أبي حفصة

/فتى من شهوة النّيك *** بحلقوم استه غصّه

و لو يرمى ببطّيخ *** لوافى دبره رصّه

قال: فضحك المتوكل حتى صفق(1) برجليه الأرض، و أفحم مروان، ثم أمر لي بجائزة فأخذتها و انصرفت.

يستدعيه المتوكل من اليمامة و يثيبه بعد أن مدحه:

اشارة

قال ابن أبي طاهر: حدّثني مروان بن أبي الجنوب قال: لما استخلف المتوكل بعثت إلى ابن أبي دواد بقصيدة مدحته فيها و ذكرت فيها ابن الزيات ببيتين و هما:

و قيل لي: الزيات لاقي حمامه *** فقلت: أتاني اللّه بالفتح و النصر

ص: 152


1- «المختار»: «حتى فحص برجليه الأرض».

لقد حفر الزيات بالبغي حفرة *** فألقاه فيها اللّه بالكفر و الغدر

قال: فذكرني ابن أبي دواد للمتوكل، فأمر بإحضاري، فقيل له: نفاه الواثق إلى اليمامة، و ذلك لميله إليك.

فقال: يحمل، فقال له ابن أبي دواد: عليه ستة آلاف دينار دين، فقال: يكتب له بها إلى عامل اليمامة، فكتب لي بها و بالحملان و المعونة، فقدمت عليه و أنشدته قولي:

صوت

رحل الشباب و ليته لم يرحل *** و الشيب حلّ و ليته لم يحلل

فلما بلغت إلى هذا البيت:

كانت خلافة جعفر كنبوّة *** جاءت بلا طلب و لا بتمحّل

وهب الإله لك الخلافة مثل ما *** وهب النبوّة للنبيّ المرسل

فأمر لي بخمسين ألف درهم.

/و في أول هذه القصيدة لعريب ثاني ثقيل بالوسطى.

و الصوت المذكور في أول هذه الأخبار من قصيدة قالها أبو السّمط في المنتصر لمّا ولي الخلافة.

يستأذن على المنتصر فلا يؤذن له:

أخبرني بخبره فيها جماعة من أصحابنا، منهم محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرد، و الحسن بن عليّ قالا:

حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثني القاسم بن محمد(1) الكاتب قال:

حدّثني المرزبان بن الفروران(2) حاجب المنتصر قال: إن مروان بن أبي حفصة الأصغر المكنى أبا السّمط استأذن على المنتصر لمّا ولي الخلافة، فقال: و اللّه لا أذنت للكافر ابن الزّانية، أ ليس هو القائل:

و حكّم فيها حاكمين أبوكم *** هما خلعاه خلع ذي النّعل للنّعل

قولوا له: و اللّه لا وصلت إليّ أبدا، فلما بلغه هذا القول عمل هذا الشّعر:

لقد طال عهدي بالإمام محمد *** و ما كنت أخشى أن يطول به عهدي

و ذكر الأبيات كلها.

قال: و سأل بنان بن عمرو، فصنع فيه لحنا و غنى به المنتصر، فلما سمعه سأل عن قائلها، فأخبرته، فقال:

أما الوصول إليّ فلا سبيل إليه، و لكن أعطوه عشرة آلاف درهم يتحمل بها إلى اليمامة.

ص: 153


1- هج: «القاسم بن أحمد الكاتب».
2- هج: «المرزبان بن فيروزان».

حرضه المتوكل على علي بن الجهم فأعنته و هجاه:

أخبرني عليّ بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال: حدّثني جعفر بن هارون بن زياد قال: حدّثني أحمد بن الفضل الكاتب قال:

لما قال عليّ بن الجهم هذه القصيدة في المتوكل:

/

اغتنم جدّة الزّمان الجديد *** و اجعل المهرجان أيمن عيد

أنشدها و أبو السمط بن أبي حفصة حاضر، فغمزه المتوكل على عليّ بن الجهم و أمره أن يعنته. فقال له:

يا عليّ، أخبرني عن قولك:

و اجعل المهرجان أيمن عيد

المهرجان عيد أم يوم لهو، إنما العيد ما تعبّد اللّه به الناس(1) مثل الفطر و الأضحى و الجمعة و أيام التشريق.

فأما المهرجان و النيروز فإنما هما أعياد المجوس(2)، لا يجوز أن يقال لخليفة اللّه في عباده و خليفة رسول اللّه في أمته: اجعل المهرجان عيدا.

فلم يلتفت إليه و أنشد حتى بلغ قوله(3):

نحن أشياعكم من آل خراسا *** ن أولو قوّة و بأس شديد

نحن أبناء هذه الخرق السّو *** د و أهل التّشيّع المحمود

فقال له مروان: لو كنتم من أهل التّشيّع المحمود ما قتل قحطبة جدّك و صلبه في عداوة بني العباس. فقال له المتوكل: ويلك، أقتل قحطبة جدّك؟ قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين. فأقبل على محمد بن عبد اللّه بن طاهر، فقال له: بحياتي الأمر كما قال مروان؟ فقال له محمد: و إن كان كما قال، فأيّ ذنب لعليّ بن الجهم؟ قد قتل اللّه أعداءكم و أبقى أولياءكم. فضحك المتوكل و قال: شهدت و اللّه بها عليه، فقال مروان في ذلك:

غضب ابن الجهم من قولي له *** إنّ في الحق لقوم مغضبه

يا بن جهم كيف تهوى معشرا *** صلبوا جدّك فوق الخشبه؟

يا إمام العدل نصحي لكم *** نصح حقّ غير نصح الكذبة

إن جدّي من رفعتم ذكره *** بكرامات لشكري موجبه

و ابن جهم من قتلتم جدّه *** و تولّى ذاك منه قحطبة

فخراسان رأت شيعتكم *** أنّه أهل لضرب الرّقبه(4)

ص: 154


1- ف: «أو يوم لهو، إنما العيد ما تعبد اللّه فيه الناس... إلخ».
2- «المختار»: «فإنهما من أعياد المجوس».
3- «المختار»: «و مر في إنشاده حتى بلغ إلى قوله».
4- هج، «المختار»: «بخراسان».

أ تراه بعدها ينصحكم *** لا و ربّ الكعبة المحتجبة(1)

هجا علي بن الجهم فلم يجبه:

أخبرني عليّ بن العباس بن أبي طلحة قال: حدّثني جعفر بن هارون قال: حدّثني أحمد بن حمدون بن إسماعيل قال:

بلغ المتوكل أنّ عليّ بن الجهم خطب امرأة من قريش فلم يزوّجوه، فسأل عن السبب في ذلك و عن قصته، و عن نسب سامة بن لؤي، فحدّث بها، ثم انتهى حديثهم بأنّ أبا بكر و عمر رضي اللّه عنهما لم يدخلاهم في قريش، و أن عثمان رضي اللّه عنه أدخلهم فيه، و أن عليّا رضي اللّه عنه أخرجهم منه، فارتدّوا مع الحارث، و أنه قتل من ارتد منهم، و سبى بقيتهم، و باعهم من مصقلة بن هبيرة. فضحك المتوكل، و بعث إلى عليّ بن الجهم فأخبره بما قال القوم فأنكر ذلك و قال. هذه الدعوى(2) من الرافضة، و شتم القوم. و كان منهم أبو السّمط فقال له:

إنّ جهما حين تنسبه *** ليس من عجم و لا عرب

لجّ في شتمي بلا سبب *** سارق للشّعر و النّسب

من أناس يدّعون أبا *** ما له في الأرض من عقب

/فغضب عليّ بن الجهم و لم يجبه؛ لأنه كان يحتقره و يستركّه(3)، و أومأ إليه المتوكل أن يزيده فقال:

أ أنتم من قريش يا بن جهم *** و قد باعوكم في من يزيد

أ ترجو أن تكاثرنا جهارا *** بنسبتكم و قد بيع الجدود؟

قال: و ما زال مروان يهجو عليّ بن الجهم فما أجابه عن شيء من شعره أنفة منه.

مدح أحمد بن أبي دواد فوصله:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدّثنا إسحاق بن محمد النخعيّ قال: حدّثني الجمّاز أبو عبد اللّه قال:

دخل مروان الأصغر على أحمد بن أبي دواد و قد أصابه الفالج و تماثل قليلا، فأنشده:

لسان أحمد سيف مسّه طبع *** من علّة فجلاه عنه جاليها(4)

ما ضرّ أحمد باقي علّة درست *** و اللّه يذهب عنه رسم باقيها

قد كان موسى على علاّت منطقه *** رسائل اللّه إذ جاءت يؤدّيها

موسى بن عمران لم ينقص نبوّته *** ضعف اللسان و قدما كان يمضيها(5)

فوصله أحمد رحمه اللّه تعالى و اعتذر إليه.

ص: 155


1- هج «المختار»: «أ تراه بعد ذا ينصحكم».
2- هج: «هذه دعوة من الرافضة».
3- يستركه: يستضعفه.
4- الطبع: الصدأ.
5- هج: «لم ينقص فتوته».

رثى ذا اليمينين فوصله عبد اللّه بن طاهر:

اشارة

أخبرني عمي قال: حدّثني متوّج قال: قال أبو السمط:

دخلت على عبد اللّه بن طاهر فقال: إني تذكرت في ليلتي هذه ذا اليمينين، فبت أرقا حزينا باكيا، فارثه في مقامك هذا بأبيات تجعل لي طريقا إلى شفاء علّتي و لك حكمك، ففكرت هنيهة ثم قلت:

/

إنّ المكارم إذ تولّى طاهر *** قطع الزمان يمينها و شمالها

لو كافحته يد المنون مجاهرا *** لاقت لوقع سيوفه آجالها

أرسى عماد خليفة في هاشم *** و رمى عماد خلافة فأزالها(1)

بكت الأعنّة و الأسنّة طاهرا *** و لطالما روّى النّجيع نهالها

ليت المنون تجانبت عن طاهر *** و لوت بذروة من تشاء حبالها(2)

ما كنت لو سلمت يمينا طاهر *** أدري و لا أسل الحوادث مالها

فقال: أحسنت و اللّه فاحتكم، فقلت له: خمسون ألف درهم أقضي منها دينا(3)، و أصلح حالي، و أبتاع ضيعة تلاصق ضيعتي. فأمر لي بها و قال: ربحنا و خسرت، و لو لم تحتكم لزدتك، و لك عندنا عدّ و عدّ بعد عدّ.

صوت

لا تلمني أن أجزعا *** سيّدي قد تمنّعا

و ابلائي(4) إن كان ما *** بيننا قد تقطّعا

إنّ موسى بفضله *** جمّع الفضل أجمعا

الشعر ليوسف بن الصّيقل و الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر.

ص: 156


1- هج: «أرسى عماد خلافة في هاشم».
2- هج: «بحانفت عن طاهر».
3- هج: «أقضي منها ديني».
4- «المختار»: «و ابلياني».

22 - أخبار يوسف بن الحجاج و نسبه

اسمه و نسبه:

هو يوسف بن الحجّاج الصيقل، يقال: إنّه من ثقيف، و يقال: إنه مولى لهم، و ذكر محمد بن داود بن الجرّاح أنه كان يلقب لقوة(1) و أنه كان يصحب أبا نواس، و يأخذ عنه، و يروي له، و أبوه الحجّاج بن يوسف محدث ثقة، و روى عنه جماعة من شيوخنا، منهم ابن منيع، و الحسن بن الطيب الشجاع، و ابن عفير الأنصاري، و كان يوسف بن الصيقل كاتبا، و مولده و منشؤه بالكوفة.

قصة هذا الصوت:

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعيّ، عن ابن شبّة، قال: قال أحمد بن صالح الهشاميّ:

قال لنا يوسف بن الصيقل يوما، و رأى الشعراء بأيديهم الرّقاع يطوفون بها، فقال: صنع اللّه لكم، ثم أقبل على إبراهيم الموصليّ، فقال له: كنا نهزل، فنأخذ الرغائب، و هؤلاء المساكين الآن يجدّون، فلا يعطون شيئا، ثم قال لإبراهيم: أتذكر و نحن بجرجان مع موسى الهادي، و قد شرب على مستشرف عال جدّا و أنت تغنيه هذا الصوت:

و استدارت رحالهم *** بالرّدينيّ شرّعا

/فقال: هذا لحن مليح، و لكني أريد له شعرا غير هذا، فإن هذا شعر بارد، و التفت إليّ فقال: اصنع في هذا الوزن شعرا، فقلت:

لا تلمني أن أجزعا *** سيّدي قد تمنّعا

فغنّيته فيه بذلك اللحن، و مرّت به إبل ينقل عليها، فقال أوقروها لهما مالا، فأوقرت مالا و حمل إلينا، فاقتسمناه، فقال إبراهيم: نعم، و أصاب كلّ واحد منا ستين ألف درهم.

نسبة هذا الصوت الذي غناه

صوت

فارس يضرب الكت *** يبة حتّى تصدّعا

في الوغى حين لا يرى *** صاحب القوس منزعا

و استدارت رحالهم *** بالرّدينيّ شرّعا

ص: 157


1- اللقوة: داء يعوج منه الوجه و يميل.

ثم ثارت عجاجة *** تحتها الموت منقعا

في هذه الأبيات رمل ينسب إلى ابن سريج و إلى سياط، و فيه لابن جامع خفيف رمل بالبنصر.

الهادي أم الرشيد؟

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، عن محمد بن عبد اللّه العبديّ، فذكر مثل هذه القصة إلا أنه حكى أنها كانت بالرّقة، لا بجرجان، و أن الرشيد كان صاحبها لا موسى.

يفاجئ الرشيد بمدحه فيجيزه:

اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ العنزيّ، عن محمد بن يونس الربيعيّ، قال: حدّثني أبو سعيد الجنديسابوريّ، قال:

لما ورد الرشيد الرّقّة خرج يوسف بن الصيقل، و كمن له في نهر جافّ على طريقه، و كان لهارون خدم صغار يسميهم النّمل يتقدّمونه، بأيديهم قسيّ البندق، يرمون بها من يعارضه في طريقه، فلم يتحرك يوسف، حتى وافته قبّة هارون على ناقة، فوثب إليه يوسف، و أقبل الخدم الصغار يرمونه، فصاح بهم الرشيد: كفّوا عنه، فكفّوا، و صاح به يوسف يقول:

صوت

أ غيثا تحمل النا *** قة أم تحمل هارونا

أم الشمس أم البدر *** أم الدّنيا أم الدّنيا

/ألا كلّ الذي عدّد *** ت قد أصبح مقرونا

على مفرق هارون *** فداه الآدميّونا(1)

فمدّ الرشيد يده إليه، و قال له: مرحبا بك يا يوسف، كيف كنت بعدي؟ ادن مني، فدنا، و أمر له بفرس، فركبه، و سار إلى جانب قبته ينشده، و يحدّثه، و الرشيد يضحك، و كان طيّب الحديث، ثم أمر له بمال، و أمر بأن يغنّى في الأبيات:

الغناء في هذه الأبيات لابن جامع خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي:

نواسي المذهب:

و قال محمد بن داود: كان يوسف فاسقا مجاهرا باللّواط، و له فيه أشعار، فمنها قوله:

لا تبخلنّ على الندي *** م بردف ذي كشح هضيم

/تعلو و ينظر حسرة *** نظر الحمار إلى القضيم(2)

و إذا فرغت فلا تقم *** حتى تصوّت بالنّديم

ص: 158


1- في هج: «هداه اللّه ميمونا» بدل المصراع الثاني.
2- القضيم: ما يقضم و يؤكل أو شعير الدّابة.

فإذا أجاب فقل هل *** مّ إلى شهادة ذي الغريم

و اتبع للذّتك الهوى *** ودع الملامة للمليم

قال: و هذا الشعر يقوله لصديق له رآه قد علا غلاما له، فخاطبه به.

و من مشهور قوله في هذا المعنى:

لا تنيكنّ ما حبيت *** غلاما مكابره

لا تمرّنّ باسته *** دون دفع المؤامرة

/إن هذا اللّواط دين *** تراه الأساوره(1)

و هم فيه منصفو *** ن بحسن المعاشرة

و من قوله في هذا المعنى أيضا هذه الأبيات:

ضع كذا صدرك لي يا سيدي *** و اتّخذ عندي إلى الحشريدا

إنّما ردفك سرج مذهب *** كشف البزيون عنه فبدا(2)

فأعرنيه و لا تبخل به *** ليس يبليه ركوبي أبدا

بل يصفّيه و يجلوه و لا *** أثر تراه فيه أبدا

فادن يا حبّ و طب نفسا به *** إنّ ذاك الدّين تقضاه غدا

لا يحب القيان:

أخبرني إسماعيل بن يونس، قال: حدّثني عمر بن شبّة عن أحمد بن صالح الهاشمي، قال:

هجا يوسف بن الصيقل القيان، فقال:

احذر فديتك ما حي *** يت حبائل المتشاكلات

فلهنّ يفلسن الفتى *** و كفى بهنّ مفلسات

ويل امرئ غرّ تجي *** ه رقاعهنّ مختّمات

و رقاعهنّ إليهم *** برقي القحاب مسطّرات(3)

و على القيادة رسله *** نّ إذا بعثن مدرّبات

يهدمن أكياس الغنيّ *** من المئونة و الهبات

حفر العلوج سواقيا *** للماء في الأرض الموات

ص: 159


1- الأساورة: قواد الفرس أو الجيد و الرمي بالسهام. و في «المختار»: «الأكاسرة».
2- البزيون: السندس و هو رقيق الديباج.
3- الروي في هذا البيت و ما بعده قياسه الرفع، لذلك يحسن تسكين الروي في القصيدة كلها على أن البحر دخله التذييل لا الترفيل.

فيصير من إفلاسه *** و من الندامة في سبات

قال: و شاعت هذه الأبيات و تهاداها الناس، و صارت عبثا بالقيان لكلّ أحد، فكانت المغنية إذا عثرت قالت:

تعس يوسف!

الموالي يتعصبون له:

اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: أخبرني عيسى بن الحسن الآدمي: قال: حدّثني أحمد بن أبي فنن، قال:

أحضر الرشيد عشرة آلاف دينار من ضرب السّنة ففرّقها، حتى بقيت منها ثلاثة آلاف دينار، فقال: ائتوني شاعرا أهبها له، فوجدوا منصورا النمريّ ببابه، فأدخل إليه، فأنشده، و كان قبيح الإنشاد، فقال له الرشيد: أعانك اللّه على نفسك، انصرف، فقال: يا أمير المؤمنين، قد دخلت إليك دخلتين، لم تعطني/فيهما شيئا، و هذه الثالثة، و و اللّه لئن حرمتني لا رفعت رأسي بين الشعراء أبدا. فضحك الرشيد، و قال: خذها، فأخذها، و نظر الرشيد إلى الموالي ينظر بعضهم بعضا، فقال: كأني قد عرفت ما أردتم إنما أردتم: أن تكون هذه الدنانير ليوسف بن الصّيقل، و كان يوسف منقطعا إلى الموالي ينادمهم، و يمدحهم، فكانوا يتعصّبون له، فقالوا: إي و اللّه يا أمير المؤمنين، فقال: هاتوا ثلاثة آلاف دينار، فأحضرت، فأقبل على يوسف. فقال: هات، أنشدنا، فأنشده يوسف:

تصدّت له يوم الرّصافة زينب

فقال له: كأنك امتدحتنا فيها، فقال: أجل، و اللّه يا أمير المؤمنين فقال: أنت ممن يوثق بنيّته، و لا تتّهم موالاته، هات من ملحك، و دع المديح، فأنشده أقوله:

صوت

العفو يا غضبان *** ما هكذا الخلاّن

هبني ابتليت بذنب *** أ ما له غفران؟

و إن تعاظم ذنب *** ففوقه الهجران

كم قد تقرّبت جهدي *** لو ينفع القربان

يا ربّ أنت على ما *** قد حلّ بي المستعان

ويلي أ لست تراني *** أهذي بها يا فلان؟

فقال الرشيد: و من فلان هذا ويلك؟ فقال له الفضل بن الربيع. هو أبان مولاك يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: و لم لم تنشدني كما قلت يا نبطي؟ فقال: لأني غضبان عليه، قال: و ما أغضبك؟ قال: مدّت دجلة، فهدمت داري و داره، فبنى داره، و علاّها، حتى سترت الهواء عني، قال: لا جرم، ليعطينّك الماصّ بظر أمّه عشرة آلاف درهم، حتى تبنى بناء يعلو على بنائه، فتستر أنت الهواء عنه، ثم قال له: خذ في شعرك، فأنشده نحوا من هذا الشعر، فقال للفضل بن الربيع: يا عباسي، ليس هذا بشعر ما هو إلا لعب، أعطوه ثلاثة آلاف درهم مكان الثلاثة الآلاف الدينار، فانصرف الموالي إلى صالح الخازن، فقالوا له: أعطه ثلاثة آلاف دينار كما أمر له أولا، فقال:

أستأمره، ثم أفعل، فقالوا له: أعطه إياها بضماننا، فإن أمضيت له و إلا كانت في أموالنا، فدفعها إليه بضمانهم،

ص: 160

فأمضيت له، فكان يوسف يقول بعد ذلك: كنا نلعب، فنأخذ مثل هذه الأموال، و أنتم تقتلون أنفسكم، فلا تأخذون شيئا!

صوت

هبّت قبيل تبلّج الفجر *** هند تقول و دمعها يجري

أنّي اعتراك و كنت في عهدي لا *** سرب الدموع و كنت ذا صبر(1)

الشعر لرجل من الشّراة يقال له: عمرو بن الحسن مولى بني تميم، يقوله في عبد اللّه بن يحيى الذي تسمّيه الخوارج طالب الحقّ، و من قتل من أصحابه معه يرثيهم. و الغناء لعبد اللّه بن أبي العلاء ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن الهشامي.

ص: 161


1- في بعض النسخ: «و كنت عهدي لا».

23 - خبر عبد اللّه بن يحيى و خروجه و مقتله

كان مجتهدا عابدا:

/أخبرني بذلك الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائني عن محمد بن أبي محمد الخزامي، و خلاّد بن يزيد، و عبد اللّه بن مصعب، و عمرو بن هشام، و عبد اللّه بن محمد الثّقفيّ، و يعقوب بن داود الثقفيّ، و حريم بن أبي يحيى:

أن عبد اللّه بن يحيى الكندي أحد بني عمرو بن معاوية كان من حضر موت، و كان مجتهدا عابدا، و كان يقول قبل أن يخرج: لقيني رجل، فأطال النظر إليّ، و قال: ممّن أنت؟ فقلت: من كندة، فقال: من أيّهم؟ فقلت: من بني شيطان، قال: و اللّه لتملكنّ، و لتبلغنّ خيلك وادي القرى(1)، و ذلك بعد أن تذهب إحدى عينيك.

إلى حضرموت:

فذهبت أتخوّف ما قال، و أستخير اللّه، فرأيت باليمن جورا ظاهرا، و عسفا شديدا، و سيرة في الناس قبيحة، فقال لأصحابه: ما يحلّ لنا المقام على ما نرى، و لا يسعنا الصبر عليه، و كتب إلى عبيدة بن مسلم بن أبي كريمة(2)الذي يقال له: كودين مولى بني تميم، و كان ينزل في الأزد، و إلى غيره من الإباضيّة بالبصرة يشاورهم في الخروج، فكتبوا إليه: إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل، فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل، و لست تدري متى يأتي عليك أجلك؟ و للّه خيرة من عباده يبعثهم إذا شاء لنصرة دينه، و يخصّ بالشهادة منهم من يشاء. و شخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي أحد بني سلمة، و بلج بن عقبة السّقوري في رجال من الإباضية، فقدموا عليه حضر موت، فحثّوه على الخروج، و أتوه بكتب أصحابه: إذا خرجتم فلا تغلّوا، و لا تغدروا، و اقتدوا بسلفكم الصالحين، و سيروا سيرتهم، فقد علمتم أن الّذي أخرجهم على السلطان العيث لأعمالهم. /فدعا أصحابه، فبايعوه، فقصدوا دار الإمارة، و على حضر موت إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكنديّ، فأخذوه، فحبسوه يوما، ثم أطلقوه، فأتى صنعاء، و أقام عبد اللّه بن يحيى بحضر موت، و كثر جمعه، و سمّوه «طالب الحق».

ثم إلى صنعاء:

فكتب إلى من كان من أصحابه بصنعاء: إني قادم عليكم، ثم استخلف على حضر موت عبد اللّه بن سعيد الحضرميّ، و توجّه إلى صنعاء سنة تسع و عشرين و مائة في ألفين، و بلغ القاسم بن عمر أخا يوسف بن عمر - و هو عامل مروان بن محمد على صنعاء - مسير عبد اللّه بن يحيى، فاستخلف على صنعاء الضحّاك بن زمل، و خرج يريد

ص: 162


1- وادي القرى: واد بين المدينة و اشأم من أعمال المدينة كثير القرى.
2- ب: إلى أبي عبيدة و مسلمة بن أبي كريمة.

الإباضية في سلاح ظاهر و عدّة و جمع كثير، فعسكر على مسيرة يوم من أبين(1) و خلّف فيها الأثقال، و تقدّمت لتقاتله، فلقيه عبد اللّه بن يحيى بلحج - قرية من أبين - قريبا من الليل، فقال الناس للقاسم: أيها الأمير، لا تقاتل الخوارج ليلا، فأبى، و قاتلهم، فقتلوا من أصحابه بشرا كثيرا، و انهزموا ليلا، فمرّ بعسكره، فأمرهم بالرحيل، و مضى إلى صنعاء، فأقام يوما، ثم خرج فعسكر قريبا من صنعاء، و خندق و خلّف بصنعاء الضحاك بن زمل، فأقبل عبد اللّه بن يحيى، فنزل جوفين(2) على ميلين من عسكر القاسم، فوجّه القاسم يزيد بن الفيض في ثلاثة آلاف من أهل الشام و أهل اليمن، فكانت بينهم مناوشة ثم تحاجزوا، فرجع يزيد إلى القاسم، فاستأذنه في بياتهم، فأبى أن يأذن له، فقال يزيد: و اللّه لئن لم تبيّتهم ليغمّنّك، فأبى أن يأذن له، و أقاموا يومين لا يلتقون، فلمّا كان في الليلة الثالثة أقبل عبد اللّه بن يحيى، /فوافاه مع طلوع الفجر، فقاتلهم الناس على الخندق، فغلبتهم الخوارج عليه، و دخلوا عسكرهم، و القاسم يصلّي، فركب، و قاتلهم الصّلت بن يوسف، فقتل في المعركة، و قام يأمر الناس يزيد بن/الفيض، فقاتلهم، حتى ارتفع النهار، ثم انهزم أهل صنعاء فأراد أبرهة بن الصبّاح اتّباعهم، فمنعه عبد اللّه بن يحيى، و اتّبع يزيد بن الفيض القاسم بن عمر، فأخبره الخبر فقال القاسم:

ألا ليت شعري هل أذودنّ بالقنا *** و بالهندوانيّات قبل مماتي(3)

و هل أصبحنّ الحارثين كليهما *** بطعن و ضرب يقطع اللهوات(4)

قال: و دخل عبد اللّه بن يحيى صنعاء، فأخذ الضّحاك بن زمل و إبراهيم بن جبلة بن مخرمة فحبسهما، و جمع الخزائن و الأموال، فأحرزها، ثم أرسل إلى الضحاك و إبراهيم، فأرسلهما، و قال لهما: حبستكما خوفا عليكما من العامة، و ليس عليكما مكروه، فأقيما إن شئتما أو اشخصا، فخرجا.

خطبته بعد فتح اليمن:

فلمّا استولى عبد اللّه بن يحيى على بلاد اليمن خطب الناس، فحمد اللّه جل و عزّ و أثنى عليه و صلّى على نبيه صلّى اللّه عليه و سلم، و وعظ، و ذكّر، و حذّر، ثم قال: إنّا ندعوكم إلى كتاب اللّه تعالى و سنة نبيه و إجابة من دعا إليهما: الإسلام ديننا، و محمد نبيّنا و الكعبة قبلتنا، و القرآن إمامنا، رضينا بالحلال حلالا لا نبغي به بديلا، و لا نشتري به ثمنا قليلا، و حرّمنا الحرام، و نبذناه وراء ظهورنا، و لا حول و لا قوة إلا باللّه، و إلى اللّه المشتكى، و عليه المعوّل. من زنى فهو كافر، و من سرق فهو كافر، و من شرب الخمر فهو كافر، و من شكّ في أنه كافر فهو كافر، ندعوكم إلى فرائض بيّنات، و آيات محكمات، و آثار مقتدى بها، و نشهد أن اللّه صادق فيما وعد؛ عدل فيما حكم/و ندعو إلى توحيد الربّ، و اليقين بالوعيد و الوعد، و أداء الفرائض، و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، و الولاية لأهل ولاية اللّه،

ص: 163


1- أبين: مخلاف باليمن من قراء (عدن).
2- ليس في «معجم البلدان» موضع في الجزيرة العربية بهذا الاسم، و لعله محرف عن «جوفين» و هي كما في «القاموس» قرية بالبحرين.
3- كذا في ف و في س، ب: «الفتى»، و البيتان في «معجم الشعراء» بالرواية الآتية: ألا ليت شعري هل أدوسن بالقنا قبالة أو نجران قبل مماتي و هل أصبحن الحارثين كليهما بسم زعاف يقطع اللهوات؟
4- الحارثان في مرة: الحارث بن ظالم الحارث بن عوف، و في باهلة: الحارث بن قتيبة، الحارث بن سهم بن عمرو، كما في «المخصص» 229/13.

و العداوة لأعداء اللّه. أيها الناس إنّ من رحمة اللّه أن جعل في كلّ فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضلّ إلى الهدى، و يصبرون على الألم في جنب اللّه تعالى، يقتلون على الحق في سالف الدهور شهداء، فما نسيهم ربّهم، «و ما كان ربّك نسيّا». أوصيكم بتقوى اللّه، و حسن القيام على ما وكّلكم اللّه بالقيام به، فأبلوا للّه بلاء حسنا في أمره و زجره(1)، أقول قولي هذا، و أستغفر اللّه لي و لكم.

يوجه أتباعه إلى مكة:

قالوا: و أقام عبد اللّه بن يحيى بصنعاء أشهرا، يحسن السّيرة فيهم و يلين جانبه لهم و يكفّ عن الناس، فكثر جمعه، و أتته الشّراة من كل جانب، فلما كان وقت الحجّ وجّه أبا حمزة المختار بن عوف، و بلج بن عقبة، و أبرهة بن الصّبّاح إلى مكة في تسعمائة، و قيل: بل في ألف و مائة، و أمره أن يقيم بمكة إذا صدر الناس، و يوجّه بلجا إلى الشام، و أقبل المختار إلى مكة، فقدمها يوم التّروية، و عليها عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، و أمه بنت عبد اللّه بن خالد بن أسيد، فكره قتالهم.

هدنة بين المختار و عبد الواحد:

و حدّثنا من هذا الموضع بخبر أبي حمزة محمد بن جرير الطّبري، قال: حدّثنا العباس بن عيسى العقيلي(2)، قال: حدّثنا هارون بن موسى العواري، قال: حدّثنا موسى بن كثير مولى الساعديّين، قال:

كان أول أمر أبي/حمزة، و هو المختار بن عوف الأزدي ثم السّلميّ من أهل البصرة أنه كان يوافي في كلّ سنة يدعو إلى خلاف مروان بن محمد و آل مروان، فلم يزل يختلف كلّ سنة حتى وافى عبد اللّه بن يحيى في آخر سنة، و ذلك سنة ثمان و عشرين و مائة، فقال له: يا رجل، إني أسمع كلاما حسنا، و أراك تدعو إلى حق، فانطلق معي، فإني رجل مطاع في قومي، فخرج به، حتى ورد حضر موت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة، قال: و قد كان مرّ أبو حمزة بمعدن بني سليم، و كثير/بن عبد اللّه عامل على المعدن، فسمع بعض كلامه، فأمر به فجلد أربعين سوطا، فلما ظهر أبو حمزة بمكة تغيّب كثير حتى كان من أمره ما كان، ثم رجع إلى موضعه، قال: فلما كان في العام المقبل تمام سنة تسع و عشرين لم يعلم الناس بعرفة إلا و قد طلعت أعلام عمائم سود خرّميّة(3) في رءوس الرماح، و هم سبعمائة، هكذا قال: هذا.

و ذكر المدائني أنهم كانوا تسعمائة أو ألفا و مائة، ففزع الناس منهم حين رأوهم، و قالوا لهم: ما لكم؟ و ما حالكم؟ فأخبروهم بخلافهم مروان و آل مروان و التبرّي منهم.

فراسلهم عبد الواحد بن سليمان، و هو يومئذ على المدينة و مكة و الموسم، و دعاهم إلى الهدنة، فقالوا: نحن بحجّنا أضنّ و عليه أشحّ، فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض، حتى ينفر الناس النّفر الأخير، و أصبحوا من غد، فوقفوا على حدة بعرفة، و دفع عبد الواحد بالناس، فلما كانوا بمنى قالوا لعبد الواحد: إنك قد

ص: 164


1- ف: «و ذكره».
2- ف: «العجلي».
3- في هج: «خرقية».

أخطأت فيهم، و لو حملت عليهم الحجّ ما كانوا إلا أكلة رأس(1)، فنزل أبو حمزة بقرن الثّعالب من منى، و نزل عبد الواحد منزل السلطان، فبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد اللّه بن حسن بن حسن بن عليّ، عليهم السّلام، و محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، و عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر و عبيد اللّه بن عمرو بن حفص العمري، و ربيعة بن عبد الرحمن(2)، في رجال من أمثالهم، فلما دنوا من قرن الثعالب لقيتهم مسالح أبي حمزة، فأخذوهم، فدخل بهم على أبي حمزة، فوجدوه جالسا، و عليه إزار قطواني(3)، قد ربطه الحورة(4) في قفاه، فلما دنوا تقدّم إليه عبد اللّه بن حسن/و محمد بن عبد اللّه بن عمرو، فنسبهما، فلمّا انتسبا له عبس في وجهيهما و بسر، و أظهر الكراهة لهما.

ثم تقدم إليه بعدهما البكري و العمريّ فنسبهما، فلما انتسبا له هشّ إليهما، و تبسّم في وجوههما، و قال: و اللّه ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما، فقال له عبد اللّه بن حسن بن حسن: و اللّه ما جئناك لتفاضل بين آبائنا، و لكن بعثنا إليك الأمير برسالة، و هذا ربيعة يخبركها، فلما ذكر ربيعة نقض العهد، قال بلج و إبراهيم - و كانا قائدين له -:

الساعة الساعة، فأقبل عليهما أبو حمزة، و قال: معاذ اللّه أن نقض العهد أو نخيس به، و اللّه لا أفعل و لو قطعت رقبتي هذه، و لكن تنقضي هذه الهدنة بيننا و بينكم. فلما أبى عليهم خرجوا، فأبلغوا عبد الواحد.

المختار يدخل مكة:

فلما كان النّفر الأول نفر عبد الواحد، و خلّى مكة لأبي حمزة، فدخلها بغير قتال.

قال هارون: و أنشدني يعقوب بن طلحة الليثي أبياتا هجي بها عبد الواحد لشاعر لم نحفل به:

زار الحجيج عصابة قد خالفوا *** دين الإله ففرّ عبد الواحد

/ترك الإمارة و الحلائل هاربا *** و مضى يخبّط كالبعير الشارد

لو كان والده تخيّر أمّه *** لصفت خلائقه(5) بعرق الوالد(6) ترك القتال و ما به من علّة *** ألا الوهون و عرفة من خالد(7)

ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة، فدعا بالدّيوان، و ضرب على الناس البعث، و زادهم في العطاء عشرة عشرة.

انتصاره في قديد:

قال هارون: أخبرني بذلك أبو ضمرة أنس بن عياض أنه كان فيمن اكتتب، قال: ثم محوت اسمي.

/قال هارون: و حدّثني غير واحد من أصحابنا أن عبد الواحد استعمل عبد العزيز بن عبد اللّه بن عمرو بن

ص: 165


1- مثل يضرب للقلة.
2- في هج: «ربيعة بن عبد الواحد».
3- نسبة إلى قطوان: موضع بالكوفة تتخذ منه الأكسية.
4- لعل المراد منه: القصارون الذين يحورون الثياب.
5- المختار: «خلا لمه».
6- تكملة من ف.
7- تكملة من ف.

عثمان على الناس، فخرجوا، فلما كانوا بالحرّة لقيتهم جزر منحورة، فمضوا، فلما كانوا بالعقيق تعلق لواؤهم بسمرة، فانكسر الرمح، و تشاءم الناس بالخروج، ثم ساروا، حتى نزلوا قديدا(1)، فنزلوها ليلا؛ و كانت قرية قديد من ناحية القصر و المنبر اليوم، و كانت الحياض هناك، فنزل قوم مغترّون ليسوا بأصحاب حرب، فلم يرعهم إلا القوم قد خرجوا عليهم من الفصل، فزعم بعض الناس أن خزاعة دلّت أبا حمزة على عورتهم؛ و أدخلوهم عليهم، فقتلوهم، و كانت المقتلة على قريش، و هم كانوا أكثر الناس، و فيهم كانت الشوكة، فأصيب منهم عدد كثير.

اليمانيون يشمتون بقريش:

قال العباس: قال هارون: فأخبرني بعض أصحابنا:

أنّ رجلا من قريش نظر إلى رجل من أهل اليمن يقول: الحمد للّه الذي أقرّ عيني بمقتل قريش، فقال له ابنه:

الحمد للّه الذي أذلّهم بأيدينا، فما كانت قريش تظنّ أن من نزل على عمان من الأزد عربيّ، قال: و كان هذان الرجلان مع أهل المدينة، فقال القرشي لابنه: يا بني، هلمّ نبدأ بهذين الرجلين، قال: نعم يا أبت، فحملا عليهما، فقتلاهما، ثم قال لابنه: أي بنيّ تقدّم، فقاتلا. حتى قتلا.

و قال المدائني: القرشي كان عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير، و المتكلّم بالكلام مع ابنه رجل من الأنصار. قال: ثم ورد فلاّل(2) الجيش المدينة، و بكى الناس قتلاهم، فكانت المرأة تقيم على حميمها النّواح، فلا تزال المرأة يأتيها الخبر بمقتل حميمها، فتنصرف، حتى ما يبقى عندها امرأة، فأنشدني أبو حمزة(3) هذه الأبيات في قتلى قديد الذين أصيبوا من قومه لبعض أصحابه(4):

/

يا لهف نفسي و لهف غير نافعة *** على فوارس بالبطحاء أنجاد

عمرو و عمرو و عبد اللّه بينهما *** و ابناهما خامس و الحارث السادي(5)

جيش من الأغمار يحارب الخوارج:

قال المدائني في خبره: كتب عبد الواحد بن سليمان إلى مروان يعتذر من إخراجه عن مكة، فكتب مروان إلى عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز - و هو عامله على المدينة - يأمره بتوجيه الجيش إلى مكة، فوجّه ثمانية آلاف رجل من قريش و الأنصار و التجار، أغمار(6) لا علم لهم بالحرب، فخرجوا في الصّبغات و الثياب الناعمة و اللهو، لا يظنّون أن للخوارج شوكة و لا يشكون أنهم في أيديهم.

ص: 166


1- قديد: موضع قرب المدينة.
2- فلال: كرمان جمع فل و هم المنهزمون في الجيش و يجمع فل أيضا على فلول.
3- ف: «أبو ضمرة».
4- ف: «لبعض أصحابهم».
5- السادس قلبت السين الأخيرة ياء قلبا غير مطرد.
6- في س، ب «أغبياء» و معنى أغمار: أنهم غير مجوبين.

يبيع جلد الدب قبل صيده:

و قال رجل من قريش: لو شاء أهل الطائف لكفونا أمر هؤلاء، و لكنهم داهنوا في أمر اللّه تعالى، و اللّه إن ظفرنا لنسيرنّ إلى أهل الطائف، فلنسبينّهم، ثم قال: من يشتري مني سبي أهل الطائف؟ فلما انهزم الناس رجع ذلك الرجل القائل: من يشتري منّي سبي أهل الطائف في أول المنهزمين، فدخل منزله، /و أراد أن يقول لجاريته:

أغلقي الباب، فقال لها: غاق باق دهشا، و لم تفهم الجارية قوله، حتى أومأ إليها بيده، فأغلقت الباب، فلقّبه أهل المدينة بعد ذلك «غاق باق».

أموي و قريشي:

قال: و كان عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز يعرض الجيش بذي الحليفة، فمرّ به أميّة بن عنبسة بن سعيد بن العاص، فرحّب به، و ضحك إليه، و مرّ به عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير، فلم يكلّمه، و لم يلتفت إليه، فقال له عمران بن عبد اللّه بن مطيع - و كان ابن خالته، أمّا هما ابنتا عبد اللّه بن خالد بن أسيد -: سبحان اللّه! مر بك شيخ من شيوخ قريش، فلم تنظر إليه، و لم تكلّمه، و مرّ بك غلام من بني أمية، فضحكت إليه و لاطفته! أما و اللّه لو قد التقى الجمعان لعلمت أيّهما أصبر؟ قال: فكان أمية بن/عنبسة أوّل من انهزم، و نكّب فرسه و مضى، و قال لغلامه:

يا مجيب، أما و اللّه لئن أحزرت(1) نفسي هذه الأكلب من الشّراة إني لعاجز. و قاتل يومئذ عمارة بن حمزة بن مصعب، حتى قتل، و تمثّل:

و إني إذا ضنّ الأمير بإذنه *** على الأذن من نفسي إذا شئت قادر

و الشعر للأغرّ بن حمّاد اليشكري.

أبو حمزة يحمس أصحابه:

قال: و لما بلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه استخلف على مكة إبراهيم(2) بن الصبّاح، و شخص إليهم، و على مقدمته بلج بن عقبة، فلما كان في الليلة التي وافاهم في صبيحتها - و أهل المدينة نزول بقديد - قال لأصحابه: إنكم لاقو قومكم غدا، و أميرهم - فيما بلغني - ابن عثمان أول من خالف سيرة الخلفاء، و بدّل سنة رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلم - و قد وضح الصبح لذي عينين، فأكثروا ذكر اللّه تعالى، و تلاوة القرآن، و وطّنوا أنفسكم على الصّبر. و صبّحهم غداة الخميس لتسع أو لسبع خلون من صفر سنة ثلاثين و مائة، فقال عبد العزيز لغلامه: أبغنا علفا قال: هو غال، قال: ويحك! البواكي علينا غدا أغلى.

رسول أبي حمزة إلى أهل المدينة:

و أرسل إليهم أبو حمزة بلج بن عقبة؛ ليدعوهم، فأتاهم في ثلاثين راكبا، فذكّرهم اللّه؛ و سألهم أن يكفّوا عنهم؛ و قال(3) لهم: خلّوا لنا سبيلنا؛ لنسير إلى من ظلمكم؛ و جار في الحكم عليكم؛ و لا تجعلوا حدّنا بكم؛ فإنا لا نريد قتالكم؛ فشتمهم أهل المدينة، و قالوا: يا أعداء اللّه، أ نحن نخلّيكم و ندعكم تفسدون في الأرض! فقالت

ص: 167


1- ب: «أجزرت».
2- في هج: «أبرهة».
3- و في س، ب: «قالوا».

الخوارج: يا أعداء اللّه، أ نحن نفسد في الأرض! إنما خرجنا لنكفّ أهل الفساد، و نقاتل من قاتلنا و استأثر بالفيء فانظروا لأنفسكم، و اخلعوا من لم يجعل اللّه له طاعة، فإنه/لا طاعة لمن عصى اللّه، و ادخلوا في السّلم، و عاونوا أهل الحقّ، فقال له(1) عبد العزيز: ما تقول في عثمان؟ قال: قد برئ المسلمون منه قبلي، و أنا متّبع آثارهم، و مقتد بهم، قال: فارجع إلى أصحابك، فليس بيننا و بينهم إلا السيف.

الآن حلت لكم دماؤهم:

فرجع إلى أبي حمزة، فأخبره، فقال: كفّوا عنهم، و لا تقاتلوهم. حتى يبدءوكم بالقتال، فواقفوهم، و لم يقاتلوهم. فرمى رجل من أهل المدينة في عسكر أبي حمزة بسهم، فجرح رجلا، فقال أبو حمزة: شأنكم الآن بهم، فقد حلّ قتالهم: فحملوا عليهم، و ثبت بعضهم لبعض، و راية قريش مع إبراهيم بن عبد اللّه بن مطيع.

ثم انكشف أهل المدينة، فلم يتبعوهم، و كان على مجنّبتهم ضمير بن صخر بن أبي الجهم بن حذيفة، فكرّ و كرّ الناس معه، فقاتلوا قليلا، ثم انهزموا، فلم يبعدوا. حتى كرّوا ثالثة، و قاتلهم أبو حمزة، فهزمهم هزيمة/لم تبق منهم باقية، فقال له عليّ بن الحصين: أتبع القوم، أو دعني أتبعهم، فأقبل المدبر، و أذفّف(2) على الجريح، فإن هؤلاء أشرّ علينا من أهل الشام، فلو قد جاءوك غدا لرأيت من هؤلاء ما تكره، فقال: لا أفعل، و لا أخالف سيرة أسلافنا. و أخذ جماعة منهم أسراء، فأراد إطلاقهم، فمنعه عليّ بن الحصين، و قال له: إنّ لأهل كلّ زمان سيرة، و هؤلاء لم يؤسروا و هم هرّاب، و إنما أسروا و هم يقاتلون، و لو قتلوا في ذلك الوقت لم يحرم قتلهم، و كذلك الآن قتلهم حلال، فدعا بهم، فكان إذا رأى رجلا من قريش قتله، و إذا رأى رجلا من الأنصار أطلقه، فأتي بمحمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، فنسبه. فقال: أنا رجل من الأنصار، فسأل الأنصار عنه، فشهدوا له، فأطلقه، فلما ولّى قال: و اللّه إني لأعلم أنه قرشيّ و ما حذاوه(3) هذا حذاوة أنصاريّ، و لكن قد أطلقته. /قال: و بلغت قتلى قديد ألفين و مائتين و ثلاثين رجلا، منهم من قريش أربعمائة و خمسون رجلا، و من الأنصار ثمانون، و من القبائل و الموالي ألف و سبعمائة، قال: و كان في قتلى قريش من بني أسد بن عبد العزّى أربعون رجلا، و قتل يومئذ أمية بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، خرج يومئذ مقنّعا، فما كلّم أحدا، و قاتل حتى قتل، و قتل يومئذ سمي مولى أبي بكر الذي يروي عنه مالك بن أنس، و دخل بلج المدينة بغير حرب، فدخلوا في طاعته، و كف عنهم، و رجع أبو حمزة إلى مكة، و كان على شرطته أبو بكر بن عبد اللّه بن عمرو من آل سراقة من بني عديّ، فكان أهل المدينة يقولون: لعن اللّه السّراقيّ، و لعن بلجا العراقي.

نائحة المدينة تبكي قتلى قديد:

و قالت نائحة أهل المدينة تبكيهم:

ما للزمان و ماليه *** أفنت قديد رجاليه

فلأبكينّ سريرة *** و لأبكينّ علانيه

ص: 168


1- ضمير «له» يعود على بلج بن عتبة، و إن لم يتقدم ذكره.
2- أذفف: أجهز.
3- حذاوة: شبه.

و لأبكينّ إذا خلو *** ت مع الكلاب العاويه

و لأثنينّ على قدي *** د بسوء ما أبلانيه

في هذه الأبيات هزج قديم يشبه أن يكون لطويس أو بعض طبقته.

عمرو بن الحسن يذكر وقعة قديد:

و قال عمرو بن الحسن(1) الكوفيّ مولى بني تميم يذكر وقعة قديد و أمر مكة و دخولهم إياها، و أنشدنيها الأخفش عن السّكريّ و الأحول و ثعلب لعمر و هذا، و كان يستجيدها و يفضّلها:

ما بال همّك ليس عنك بعازب *** يمري سوابق دمعك المتساكب

و تبيت تكتلئ النجوم بمقلة *** عبري تسرّ بكلّ نجم دائب

/حذر المنية أن تجيء بداهة *** لم أقض من تبع الشّراة مآربي

فأقود فيهم للعدا شنج النّسا *** عبل الشّوى أسوان ضمر الحالب(2)

متحدّرا كالسيّد أخلص لونه *** ماء الحسيك مع الحلال اللاتب(3)

أرمي به من جمع قومي معشرا *** بورا إلى جبريّة و معايب(4)

في فتية صبر ألّفهم به *** لفّ القداح يد المفيض الضارب(5)

فندور نحن و هم و فيما بيننا *** كأس المنون تقول: هل من شارب؟

/فنظلّ نسقيهم و نشرب من قنا *** سمر و مرهفة النّصول قواضب

بينا كذلك نحن جالت طعنة *** نجلاء بين رها و بين ترائب(6)

جوفاء منهرة ترى تامورها *** ظبتا سنان كالشّهاب الثاقب(7)

أهوي لها شقّ الشّمال كأنني *** حفض لقى تحت العجاج العاصب

يا رب أوحيها و لا تتعلّقن *** نفسي المنون لدى أكفّ قرائب(8)

كم من أولى مقة صحبتهم شروا *** فخذلتهم و لبئس فعل الصاحب

متأوّهين كأنّ في أجوافهم *** نارا تسعّرها أكفّ حواطب

ص: 169


1- في «معجم الشعراء»: «عمرو بن الحسن»، و في هج: «عمرو بن الحصين الأباضي الكوفي».
2- فرس شنج النسا: صفة مدح، أي لم تسترخ رجلاه، و كذلك عبل الشوى: ضخم الأطراف و في ف: «أشران» بدل «أسوان».
3- ف «اللاعب»، و في هج «كالسيف» بدل «كالسيد» و اللاتب: اللاّصق.
4- «معشرا بورا»: هلكى، و في ف: «حورا».
5- في ف: «أكفهم به كف».
6- بين رها و بين ترائب: الفتح بين الرجلين.
7- منهرة: موسعة، التأمور و التامور: هنا الوعاء.
8- في ف: «أوحيها» و في ف: «أقاربي».

تلقاهم فتراهم من راكع *** أو ساجد متضرّع أو ناحب

/يتلو قوارع تمتري عبراته *** فيجودها مري المريّ الحالب

سير الجائفة الأمور أطبّة *** للصّدع ذي النبأ الجليل مدائب(1)

و مبرّئين من المعايب أحرزوا *** خصل المكارم أتقياء أطائب

عرّوا صوارم للجلاد و باشروا *** حدّ الظباة بأنف و حواجب

ناطوا أمورهم بأمر أخ لهم *** فرمى بهم قحم الطريق اللاحب(2)

متربلي حلق الحديد كأنهم *** أسد على لحق البطون سلاهب(3)

قيدت من أعلى حضرموت فلم تزل *** تنفي عداها جانبا عن جانب

تحمي أعنّتها و تحوي نهبها *** للّه أكرم فتية و أسائب(4)

حتى وردن حياض مكة قطّنا *** يحكين واردة اليمام القارب(5)

ما إن أتين على أحي حبرية *** إلا تركنهم كأمر الذاهب

في كلّ معترك لها من هامهم *** فلق و أيد علّقت بمناكب

سائل بيوم قديد عن وقعاتها *** تخبرك عن وقعاتها بعجائب

عطية أبي حمزة في أهل المدينة:

و قال هارون بن موسى في رواية محمد بن جرير الطبري عن العباس بن عيسى عنه:

/ثم دخل أبو حمزة المدينة سنة ثلاثين و مائة، و مضى عبد الواحد بن سليمان إلى الشام، فرقي(6) المنبر، فحمد اللّه، و أثنى عليه. و قال:

يا أهل المدينة، سألناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم - لعمر اللّه - فيهم القول، و سألناكم: هل يقتلون بالظّن؟ فقلتم: نعم، و سألناكم: هل يستحلّون المال الحرام و الفرج الحرام؟ فقلتم: نعم، فقلنا لكم: تعالوا نحن و أنتم، فنناشدهم اللّه أن يتنحّوا عنّا و عنكم، ليختار المسلمون لأنفسهم؛ فقلتم: لا تفعلون، فقلنا لكم: تعالوا نحن و أنتم نلقاهم، فإن نظهر نحن و أنتم نأت بمن يقيم فينا كتاب اللّه و سنة نبيه، و إن نظفر نعمل في أحكامكم، و تحملكم على سنة نبيكم، و نقسم فيئكم بينكم، فإن أبيتم(7)، و قاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم، فأبعدكم اللّه، و أسحقكم يا أهل

ص: 170


1- في ف و هج: «للخطب» بدل «للصدع».
2- فحم الطريق: مصاعبه، و اللاحب: الواسع، و في ف: «لقم الطرة».
3- السلهب من الخيل. ما طابت عظامه.
4- في ف: «تخرز نهيها».
5- القارب: الطالب للماء ليلا.
6- ضمير «رقى» يعود على حمزة، لا على سليمان.
7- ف: «فأبيم» بدل «فإن أبيتم».

المدينة، مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك، و قد أصابتكم عاهة في ثماركم فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم، فكتب بوضعها عنكم، فزاد الغنيّ غنى، و زاد الفقير فقرا، فقلتم: جزاكم الله خيرا، فلا جزاه اللّه خيرا، /و لا جزاكم.

خطبة أخرى جامعة مانعة:

قال هارون: و أخبرني يحيى بن زكريا: أن أبا حمزة خطب بهذه الخطبة: رقي المنبر، فحمد اللّه، و أثنى عليه، و قال: أ تعلمون يا أهل المدينة، أنّا لم نخرج من ديارنا و أموالنا أشرا و لا بطرا و لا عبثا و لا لهوا، و لا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، و لا ثأر قديم نيل منا، و لكنّا لمّا رأينا مصابيح الحقّ قد عطّلت، و عنّف القائل بالحق، و قتل القائم بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت، و سمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن و حكم القرآن، فأجبنا داعي اللّه (وَ مَنْ لاٰ يُجِبْ دٰاعِيَ اللّٰهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) (1) فأقبلنا من قبائل شتّى، النفر منا على بعير واحد، عليه زادهم و أنفسهم، يتعاورون لحافا/واحدا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا اللّه، و أيّدنا بنصره، و أصبحنا - و اللّه - بنعمته إخوانا، ثم لقينا رجالكم بقديد، فدعونا إلى طاعة الرحمن، و حكم القرآن و دعونا إلى طاعة الشيطان، و حكم مروان، و آل مروان، شتّان - لعمر اللّه - ما بين الغيّ و الرّشد، ثم أقبلوا يهرعون، و يزفّون، قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه، و غلت بدمائهم مراجله، و صدق عليهم ظنّه، و أقبل أنصار اللّه عصائب و كتائب بكل مهنّد ذي رونق، فدارت رحانا و استدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون. و أنتم يا أهل المدينة، إن تنصروا مروان و آل مروان يسحتكم اللّه بعذاب من عنده أو بأيدينا و يشف صدور قوم مؤمنين، يا أهل المدينة: إن أوّلكم خير أوّل، و آخركم شرّ آخر، يا أهل المدينة، الناس منا و نحن منهم إلا مشركا عابد وثن، أو كافرا من أهل الكتاب، أو إماما جائرا، يا أهل المدينة، من زعم أن اللّه تعالى كلّف نفسا فوق طاقتها، أو سألها عمّا لم يؤتها فهو للّه عدوّ، و لنا حرب. يا أهل المدينة، أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها اللّه تعالى في كتابه على القويّ للضّعيف فجاء التاسع، و ليس له منها و لا سهم واحد، فأخذ جميعها(2) نفسه مكابرا محاربا لربّه، ما تقولون فيه و فيمن عاونه على فعله؟ يا أهل المدينة، بلغني أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم: هم شباب أحداث، و أعراب جفاة، ويحكم يا أهل المدينة! و هل كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، إلا شبابا أحداثا! شباب و اللّه مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشرّ أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا، قد خلطوا كلالهم بكلالهم، و قيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلّما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار؛ و إذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة، فلما نظروا إلى السيوف قد أنضيت؛ و إلى الرماح قد أشرعت و إلى السهام قد فوّقت؛ /و أرعدت الكتيبة بصواعق الموت استخفّوا و عيد الكتيبة عند وعيد اللّه، و لم يستخفّوا وعيد اللّه عند وعيد الكتيبة؛ فطوبى لهم و حسن مآب! فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية اللّه، و كم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا و ساجدا. أقول قولي هذا، و أستغفر اللّه من تقصيرنا، و ما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت و إليه أنيب.

ص: 171


1- الأحقاف: 32.
2- كذا في ف و في س، ب: «جميعهما».

مرتكب الكبيرة كافر:

قال هارون: و حدّثني جدّي أبو علقمة، قال: سمعت أبا حمزة على منبر النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقول: / «من زنى فهو كافر»، و من سرق فهو كافر، و من شك أنه كافر فهو كافر:

برح الخفاء فأين ما بك يذهب

خطبة أخرى ضافية له في أهل المدينة:

قال هارون: قال جدّي: كان أبو حمزة قد أحسن السيرة في أهل المدينة، حتى استمال الناس، و سمع بعضهم كلامه في قوله: من زنى فهو كافر، قال هارون: قال جدي:

و سمعت أبا حمزة يخطب بالمدينة، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال: يا أهل المدينة؛ ما لي رأيت رسم الدين فيكم عافيا(1)، و آثاره دارسة! لا تقبلون عليه عظة، و لا تفقهون من أهله حجّة، قد بليت فيكم جدّته، و انطمست عنكم سنّته، ترون معروفه منكرا، و المنكر من غير معروفا، إذا انكشفت لكم العبر، و أوضحت لكم النّذر، عميت عنها أبصاركم، و صمّت عنها أسماعكم، ساهين في غمرة، لاهين في غفلة، تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر، و تنقبض عن الحق إذا ذكر، مستوحشة من العلم، مستأنسة بالجهل، كلما وقعت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا، تحملون منها في صدوركم كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة، أ و لم تلن لكتاب اللّه الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية اللّه! يا أهل المدينة، ما تغني عنكم صحّة أبدانكم/إذا سقمت قلوبكم إن اللّه قد جعل لكل شيء غالبا يقاد له، و يطيع أمره، و جعل القلوب غالبة على الأبدان، فإذا مالت القلوب ميلا كانت الأبدان لها تبعا، و إنّ القلوب لا تلين لأهلها إلا بصحّتها، و لا يصحّحها إلا المعرفة باللّه، و قوّة النّية، و نفاذ البصيرة. و لو استشعرت تقوى اللّه قلوبكم لاستعملت بطاعة اللّه أبدانكم. يا أهل المدينة، داركم دار الهجرة، و مثوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، لمّا نبت به داره، و ضاق به قراره، و آذاه الأعداء، و تجهّمت له، فنقله إلى قوم - لعمري لم يكونوا أمثالكم - متوازرين مع الحقّ على الباطل، و مختارين للآجل على العاجل، يصبرون للضّرّاء رجاء ثوابها، فنصروا اللّه، و جاهدوا في سبيله، و آووا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و نصروه، و اتّبعوا النور الذي أنزل معه، و آثروا اللّه على أنفسهم و لو كانت بهم خصاصة، قال اللّه تعالى لهم و لأمثالهم و لمن اهتدى بهداهم: (وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) * (2)و أنتم أبناؤهم، و من بقي من خلفهم، تتركون أن تقتدوا بهم، أو تأخذوا بسنّتهم، عمي القلوب، صمّ الآذان، اتّبعتم الهوى، فأرداكم عن الهدى و أسهاكم، فلا مواعظ القرآن تزجركم فتزدجروا، و لا تعظكم فتعتبروا، و لا توقظكم فتستيقظوا، لبئس الخلف أنتم! من قوم مضوا قبلكم، ما سرتم بسيرتهم، و لا حفظتم وصيتهم، و لا احتذيتم مثالهم، لو شقت عنم قبورهم، فعرضت عليهم أعمالكم لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم. قال: ثم لعن أقواما.

ثم خطبة رابعة رائعة:

قال هارون: و حدّثني داود بن عبد اللّه بن أبي الكرام، و أخرج إليّ خط بن فضالة النحوي بهذا الخبر:

ص: 172


1- س، ب: «باقيا».
2- الحشر: 9.

أنا أبا حمزة بلغه أن أهل المدينة يعيبون أصحابه لحداثة أسنانهم، و خفّة أحلامهم، فبلغه ذلك عنهم؛ فصعد المنبر؛ و عليه كساء غليظ؛ و هو متنكّب قوسا عربية فحمد اللّه، و أثنى عليه و صلّى على نبيه صلّى اللّه عليه و سلم و آله، ثم قال:

يا أهل المدينة، قد بلغتني مقالتكم في أصحابي، و لو لا معرفتي بضعف رأيكم/و قلّة عقولكم لأحسنت أدبكم، ويحكم! /إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أنزل عليه الكتاب، و بيّن له فيه السّنن، و شرع له فيه الشرائع، و بيّن له فيه ما يأتي و ما يذر، فلم يكن يتقدّم إلا بأمر اللّه، و لا يحجم إلا عن أمر اللّه، حتى قبضه اللّه إليه - صلّى اللّه عليه و سلم - و قد أدّى الذي عليه، لم يدعكم من أمركم في شبهة، ثم قام من بعده أبو بكر؛ فأخذ بسنّته، و قاتل أهل الرّدّة؛ و شمّر في أمر اللّه؛ حتى قبضه اللّه إليه و الأمة عنه راضون، رحمة اللّه عليه و مغفرته؛ ثم ولي بعده عمر؛ فأخذ بسنة صاحبيه، و جنّد الأجناد؛ و مصّر الأمصار؛ و جبي الفيء؛ فقسّمه بين أهله؛ فقسّمه بين أهله؛ و شمّر عن ساقه، و حسر عن ذراعه، و ضرب في الخمر ثمانين، و قام في شهر رمضان، و غزا العدوّ في بلادهم؛ و فتح المدائن و الحصون؛ حتى قبضه اللّه إليه و الأمة عنه راضون، رحمة اللّه عليه و رضوانه و مغفرته، ثم ولي من بعده عثمان بن عفان فعمل في ستّ سنين بسنّة صاحبيه؛ ثم أحدث أحداثا أبطل آخر منها أولا، و اضطرب حبل الدين بعدها، فطلبها كلّ امرئ لنفسه، و أسرّ كلّ رجل منهم سريرة أبداها اللّه عنه؛ حتى مضوا على ذلك، ثم ولي عليّ بن أبي طالب، فلم يبلغ من الحق قصدا؛ و لم يرفع له منارا و مضى؛ ثم ولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ابن لعينه، و حلف من الأعراب، و بقية من الأحزاب، مؤلّف طليق، فسفك الدم الحرام، و اتّخذ عباد اللّه حولا، و مال اللّه دولا، و بغى دينه عوجا و دغلا(1)، و أحلّ الفرج الحرام، و عمل بما يشتهيه؛ حتى مضى لسبيله، فعل اللّه به و فعل، ثم ولى بعده ابنه يزيد: يزيد الخمور، و يزيد الصّقور، و يزيد الفهود، و يزيد الصّيود، و يزيد القرود، فخالف القرآن، و اتّبع الكهّان، و نادم القرد، و عمل بما يشتهيه حتى مضى على ذلك لعنه اللّه، و فعل به و فعل، ثم ولي مروان بن الحكم طريد لعين رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلم/و آله - و ابن لعينه؛ فاسق في بطنه و فرجه، فالعنوه و العنوا آباءه. ثم تداولها بنو مروان بعده؛ أهل بيت اللعنة، طرداء رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلم - و قوم من الطلقاء ليسوا من المهاجرين و الأنصار و لا التابعين لهم بإحسان، فأكلوا مال اللّه أكلا، و لعبوا بدين اللّه لعبا، و اتّخذوا عباد اللّه عبيدا، يورّث ذلك الأكبر منهم الأصغر. فيا لها أمة، ما أضيعها و أضعفها! و الحمد للّه ربّ العالمين، ثم مضوا على ذلك من أعمالهم و استخفافهم بكتاب اللّه تعالى؛ قد نبذوه وراء ظهورهم، لعنهم اللّه؛ فالعنوهم كما يستحقّون؛ و قد ولي منهم عمر بن عبد العزيز؛ فبلغ؛ و لم يكد؛ و عجز عن الذي أظهره، حتى مضى لسبيله - و لم يذكره بخير و لا شرّ(2) - ثم ولي يزيد بن عبد الملك، غلام ضعيف سفيه غير مأمون على شيء من أمور المسلمين، لم يبلغ أشدّه، و لم يؤانس رشده، و قد قال اللّه عزّ و جلّ: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ) (3) فأمر أمة محمد في أحكامها و فروجها و دمائهم أعظم من ذلك كلّه، و إن كان ذلك عند اللّه عظيما، مأبون في بطنه و فرجه، يشرب الحرام، و يأكل الحرام، و يلبس الحرام، و يلبس بردتين قد حيكتا له، و قوّمتا على أهلهما بألف دينار و أكثر و أقلّ، قد أخذت من غير حلّها و صرفت في غير وجهها، بعد أن ضربت فيها الأبشار(4)، و حلقت فيها الأشعار، و استحلّ ما لم يحلّ اللّه/لعبد صالح، و لا لنبي مرسل، ثم يجلس

ص: 173


1- دغلا: فسادا.
2- ما بين القوسين من كلام المؤلف.
3- النساء: 6.
4- الأبشار: جمع بشرة أي الجلود.

حبابة عن يمينه، و سلامة عن شماله تعنّيانه بمزامير الشّيطان، و يشرب الخمر الصّراح المحرمة نصّا بعينها، حتى إذا أخذت مأخذها فيه، و خالطت روحه و لحمه و دمه، و غلبت سورتها على عقله مزّق حلّتيه(1)، ثم التفت إليهما فقال:

أ تأذنان لي أن أطير؟ نعم، فطر إلى النار، إلى لعنة اللّه و ناره حيث لا يردّك اللّه.

ثم ذكر بني أمية و أعمالهم و سيرهم فقال: أصابوا إمرة ضائعة و قوما طغاما جهّالا، لا يقومون للّه بحق، و لا يفرّقون بين الضلالة و الهدى، و يرون أن بني أمية/أرباب لهم، فملكوا الأمر، و تسلّطوا فيه تسلّط ربوبية، بطشهم بطش الجبابرة، يحكمون بالهوى، و يقتلون على الغضب، و يأخذون بالظنّ، و يعطّلون الحدود بالشفاعات، و يؤمّنون الخونة و يقصون ذوي الأمانة، و يأخذون الصدقة في غير وقتها على غير فرضها، و يضعونها في غير موضعها، فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل اللّه، فالعنوهم، لعنهم اللّه! و أما إخواننا من هذه الشيعة فليسوا بإخواننا في الدين، لكن سمعت اللّه عزّ و جلّ قال في كتابه: (يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا) (2) شيعة ظاهرت بكتاب اللّه، و أعلنت الفرية على اللّه لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن، و لا عقل بالغ في الفقه، و لا تفتيش عن حقيقة الصّواب، قد قلّدوا أمرهم أهواءهم، و جعلوا دينهم عصبيّة لحزب لزموه، و أطاعوه في جميع ما يقوله لهم، غيّا كان أو رشدا، أو ضلالة أو هدى، ينتظرون الدّول في رجعة الموتى، و يؤمنون بالبعث قبل الساعة، و يدّعون علم الغيب لمخلوق(3)، لا يعلم أحدهم ما في داخل بيته، بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه أو يحويه جسمه، ينقمون المعاصي على أهلها، و يعلمون إذا ظهروا بها، و لا يعرفون المخرج منها، جفاة في الدين، قليلة عقولهم، قد قلّدوا أهل بيت من العرب دينهم، و زعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة، و تنجيهم من عقاب الأعمال السيئة (قٰاتَلَهُمُ اللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ) * (4)فأيّ هؤلاء الفرق يا أهل المدينة تتبعون؟ أو بأيّ مذاهبهم تقتدون؟ و قد بلغني مقالتكم في أصحابي، و ما عبتموه من حداثة أسنانهم، ويحكم! و هل كان أصحاب رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلم و آله - المذكورون في الخير إلا أحداثا شبابا؟ شباب و اللّه مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشرّ أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة(5) قد /نظر اللّه إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مرّ أحدهم بآية من ذكر اللّه(6) بكى شوقا، و كلما مرّ بآية من ذكر اللّه شهق خوفا، كأن زفير جهنم بين أذنيه، قد أكلت الأرض جباههم و ركبهم، و وصلوا كلال الليل بكلال النهار مصفرّة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من طول القيام و كثرة الصيام، أنضاء عبادة، موفون لعهد اللّه، منتجزون لوعد اللّه، قد شروا أنفسهم، حتى إذا التقت الكتيبتان و أبرقت سيوفها و فوّقت(7) سهامها، و أشرعت رماحها لقوا شبا الأسنّة، و شائك السهام، و ظباة السيوف بنحورهم و وجوههم و صدورهم، فمضى الشابّ منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، و اختضبت محاسن وجهه بالدماء، /و عفّر جبينه بالثّرى، و انحطّت عليه الطير

ص: 174


1- ف: «حلته».
2- الحجرات: 13.
3- ف: «لمخلوقين».
4- التوبة: 30.
5- أنضاء: جمع نضو، و هو في الأصل البعير المهزول من السفر، و المراد أن العبادة هزلتهم فأنحفتهم.
6- ف: «من ذكر الجنة».
7- ركبت في الفرق و هو موضع السهم من الوتر، و المراد الإعداد للحرب.

من السماء، و تمزقته سباع الأرض، فكم من عين في منقار طائر، طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف اللّه! و كم من وجه رقيق و جبين عتيق قد فلق بعمد الحديد. ثم بكى و قال: آه آه على فراق الإخوان! رحمة اللّه على تلك الأبدان، و أدخل اللّه أرواحهم الجنان.

مروان يغزوهم بجيش يقوده ابن عطية:

قال هارون: بلغني أنه بايعه بالمدينة ناس منهم إنسان هذليّ، و إنسان سراقي و سكسب(1) الذي كان معلم النحو، ثم خرج، و خلّف بالمدينة بعض أصحابه، فسار حتى نزل الوادي، و كان مروان قد بعث ابن عطية.

قال هارون: حدّثني أبو يحيى الزّهري أن مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف استعمل عليهم ابن عطية، فأمره بالجدّ في السير، و أعطى كلّ رجل من أصحابه مائة دينار، و فرسا عربيّا، و بغلا لثقله، و أمره أن يمضي، فيقاتلهم.

يتيامنون بغلام:

و قال المدائني: بعث عبد الملك بن عطية السعدي، أحد بني سعد بن بكر في أربعة آلاف، معه فرسان من أهل الشام و وجوههم، منهم شعيب البارقي، و رومي بن عامر/المرّي، و قيل: بل هو كلابيّ، و فيهم ألف من أهل الجزيرة، و شرطوا على مروان أنهم إذا قتلوا عبد اللّه بن يحيى و أصحابه، رجعوا إلى الجزيرة، و لم يقيموا بالحجاز، فأجابهم إلى ذلك؛ قالوا: فخرج؛ حتى إذا نزل بالمعلّى. فكان رجل من أهل المدينة يقال له: العلاء بن أفلح مولى أبي الغيث يقول:

لقيني و أنا غلام في ذلك اليوم رجل من أصحاب ابن عطية؛ فسألني: ما اسمك يا غلام؟ فقلت: العلاء، فقال: ابن من؟ فقلت: ابن أفلح، قال: أعرابيّ أم مولى؟ قلت: بل مولى، قال: مولى من؟ قلت: مولى أبي الغيث، قال: فأين نحن؟ قلت: بالمعلّى، قال: فأين نحن غدا؟ قلت: بغالب، قال: فما كلّمني، حتى أردفني خلفه، ثم مضى بي، حتى أدخلني على ابن عطية، فقال: سل هذا الغلام: ما اسمه؟ فسألني، فرددت عليه القول الذي قلت، فسرّ بذلك؛ و وهب لي دراهم.

أبو صخر الهذلي يستبشر بابن عطية:

و قال أبو صخر الهذليّ حين بلغه قدوم ابن عطية:

قل للذين استضعفوا لا تعجلوا *** أتاكم النصر و جيش جحفل

عشرون ألفا كلّهم مسربل *** يقدمهم جلد القوى مستبسل

دونكم ذا يمن فأقبلوا *** و واجهوا القوم و لا تستخجلوا(2)

عبد المليك القلّبيّ الحوّل *** أقسم لا يفلى و لا يرجّل

ص: 175


1- في ف: و سكب الذي كان معلم نحو، و سيأتي أنه بشكست في ص 248 من هذا الجزء.
2- في س، ب: «ذا يمين» بدل «ذا يمن».

حتى يبيد الأعور المضلّل *** و يقتل الصّباح و المفضّل

الأعور عبد اللّه بن يحيى رئيسهم.

ابن عطية ينتصر على بلج:

قال المدائني عن رجاله: و بعث أبو حمزة بلج بن عقبة في ستمائة رجل ليقاتل عبد الملك بن عطية، فلقيه بوادي القرى لأيام خلت من جمادي الأولى سنة ثلاثين و مائة فتواقفوا، و دعاهم بلج إلى الكتاب و السنة، و ذكر بني أمية و ظلمهم، فشتمهم أهل/الشام، و قالوا: أنتم يا أعداء اللّه أحقّ بهذا ممن ذكرتم و قلتم، فحمل عليهم بلج و أصحابه، فانكشف طائفة من أهل الشام، و ثبت ابن عطية في(1) عصبة صبروا معه، و نادى يا أهل الشام يا أهل(1)الحفاظ ناضلوا عن دينكم و أميركم، فكرّوا، و صبروا صبرا حسنا، و قاتلوا قتالا شديدا، فقتل بلج و أكثر أصحابه، و انحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل اعتصموا به، فقاتلهم ابن عطية ثلاثة/أيام فقتل منهم سبعين رجلا و نجا ثلاثون، فرجعوا إلى أبي حمزة، و نصب ابن عطية رأس بلج على رمح، قال: و اغتمّ الذين رجعوا إلى أبي حمزة من وادي القرى إلى المدينة، و هم الثلاثون، و رجعوا و جزعوا من انهزامهم، و قالوا: ما فررنا من الزّحف، فقال لهم أبو حمزة: لا تجزعوا، فأنا لكم فئة و إليّ انصرفتم.

أهل المدينة ينقضون على الخوارج:

قال المدائني: و خرج أبو حمزة من المدينة إلى مكة، و استخلف رجلا يقال له: المفضّل عليها، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن أسيد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطاب الناس إلى قتالهم، فلم يجد كبير أمر؛ لأن القتل قد كان شاع في الناس، و خرج وجوه أهل البلد عنه؛ فاجتمع إلى عمر البربر و الزّنج و أهل السوق و العبيد، فقاتل بهم الشّراة؛ فقتل المفضّل و عامّة أصحابه؛ و هرب الباقون؛ فلم يبق في المدينة منهم أحد؛ فقال في ذلك سهيل أبو البيضاء مولى زينب بنت الحكم بن العاصى:

ليت مروان رآنا *** يوم الاثنين عشيّه

إذ غسلنا العار عنّا *** و انتضينا المشرفيّة

قال: فلما قدم ابن عطية المدينة أتاه عمر بن عبد الرحمن بن أسيد؛ فقال له: أصلحك اللّه! إنّي جمعت قضّي و قضيضي(2)؛ فقاتلت هؤلاء؛ فقتلنا من امتنع من الخروج عن المدينة و أخرجنا الباقين، فلقيه أهل المدينة بقضّهم و قضيضهم.

مصرع أبي حمزة و زوجته:

قال: و أقام ابن عطية بالمدينة شهرا؛ و أبو حمزة مقيم بمكة؛ ثم توجّه إليه فقال له عليّ بن حصين العنبريّ:

إني قد كنت أشرت عليك يوم قديد و قبله أن تقتل هؤلاء الأسرى كلهم، فلم تفعل، و عرّفتك أنهم سيغدرون فلم تقبل؛ حتى قتلوا المفضّل و أصحابنا المقيمين بالمدينة؛ و أنا أشير عليك اليوم أن تضع السيف في هؤلاء؛ فإنهم كفرة

ص: 176


1- ما بين الرقمين زيادة في ف.
2- مثل يضرب للجمع بين الصغير و الكبير.

فجرة؛ و لو قدم عليك ابن عطية لكانوا أشدّ عليك منه؛ فقال: لا أرى ذلك؛ لأنهم قد دخلوا في الطاعة؛ و أقروا بالحكم؛ و وجب لهم حقّ الولاية؛ قال: إنهم سيغدرون؛ فقال: أبعدهم اللّه، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ) (1). قال: و قدم عبد الملك بن عطية مكة، فصيّر أصحابه فرقتين، و لقي الخوارج من وجهين؛ فصيّر طائفة بالأبطح؛ و صار هو في الطائفة الأخرى بإزاء أبي حمزة؛ فصار أبو حمزة أسفل مكة؛ و صيّر أبرهة بن الصّباح بالأبطح في ثمانين فارسا، فقاتلهم أبرهة؛ فانهزم أهل الشام إلى عقبة مني؛ فوقفوا عليها؛ ثم كرّوا؛ و قاتلهم؛ فقتل أبرهة: كمن له هبّار القرشيّ؛ و هو على جبل دمشق عند بئر ميمون؛ فقتله؛ و تفرق الخوارج؛ و تبعهم أهل الشام يقتلونهم؛ حتى دخلوا المسجد، و التقى أبو حمزة و ابن عطية بأسفل مكة؛ فخرج أهل مكة مع ابن عطية؛ فقتل أبو حمزة على فم الشّعب و قتلت معه امرأته؛ و هي ترتجز و تقول:

أنا الجعيداء و بنت الأعلم *** من سال عن اسمي فاسمي مريم

بعت سواريّ بسيف مخذم(2)

صلب أبي حمزة و أبرهة:

قال: و تفرّقت الخوارج فأسر أهل الشام منهم أربعمائة؛ فدعا بهم ابن عطية؛ فقال: ويلكم! ما دعاكم إلى الخروج مع هذا؟ قالوا: ضمن لنا الكنّة: يريدون الجنّة، و هي لغتهم، فقتلهم، و صلب أبا حمزة و أبرهة بن الصبّاح و رجلين من أصحابهم على فم/الشّعب؛ شعب/الخيف، و دخل علي بن الحصين دارا من دور قريش، فأحدق أهل الشام بالدار فأحرقوها، فلما رأى ذلك رمى بنفسه من الدار، فقاتلهم و أسر فقتل، و صلب مع أبي حمزة، و لم يزالوا مصلّبين حتى أفضى الأمر إلى بني العباس، و حجّ مهلهل الهجيميّ في خلافة أبي العباس، فأنزل أبا حمزة ليلا، فدفنه، و دفن خشبته.

مصرع مخنثين:

قال المدائني: و كان بمكة مخنّثان، يقال لأحدهما: سبكت، و للآخر: صقرة(3)، فكان صقرة يرجف بأهل الشام، و كان سبكت يرجف بالإباضية، فعرف الخوارج أمرهما، فوجهوا إلى سبكت، فأخذوه فقتلوه، فقال صقرة:

يا ويله هو و اللّه أيضا مقتول، و إنما كنت أنا و سبكت نتكايد و نتكاذب، فقتلوه، و غدا يجيء أهل الشام، فيقتلونني، فلما دخل ابن عطية مكة عرف خبرهما، فأخذ صقرة، فقتله.

مذهب ابن عطية:

و قال هارون في خبره: أخبرني عبد الملك بن الماجشون، قال:

لما التقى أبو حمزة و ابن عطية قال أبو حمزة: لا تقاتلوهم حتى تختبروهم فصاح بهم: ما تقولون في القرآن و العمل به؟ فصاح ابن عطية: نضمه في جوف الجوالق(4)، قال: فما تقولون في مال اليتيم؟ قال: نأكل ماله؛

ص: 177


1- الفتح: 10.
2- مخذم: قاطع.
3- ف: «يقال لأحدهما سبكت و للآخر صعترة».
4- الجوالق - بضم الجيم و كسرها و فتح اللام و كسرها: الوعاء و جمعه جوالق و المراد به (الشوال).

و نفجر بأمّه، [ثم أجاب](1) في أشياء بلغني أنه سأله عنها؛ فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم؛ حتى أمسوا؛ فصاحت الشّراة: ويحك، يا ابن عطية! إن اللّه - جل و عز - قد جعل الليل سكنا؛ فاسكن و نسكن؛ فأبى و قاتلهم؛ حتى قتلهم جميعا.

أهل المدينة يجهزون على من بقي منهم:

قال هارون: أخبرني موسى بن كثير أن أبا حمزة خطب أهل المدينة؛ و ودّعهم؛ ليخرج إلى الحرب؛ فقال:

يا أهل المدينة؛ إنا خارجون لحرب مروان؛ فإن نظهر/نعدل في أحكامكم؛ و نحملكم على سنّة نبيكم، و نقسم بينكم، و إن يكن ما تمنّون لنا فسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، قال: و وثب الناس على أصحابه حين جاءهم قتله، فقتلوهم، فكان بشكست ممن قتلوا، طلبوه فرقي في درجة كانت في دار أذينة، فلحقوه فأنزلوه منها، و هو يصيح: يا عباد اللّه، فيم تقتلونني؟ قال: و أنشدني بعض أصحابنا:

لقد كان بشكست عبد العزيز *** من أهل القراءة و المسجد

فبعدا لبشكست عبد العزيز *** و أمّا القرآن فلا يبعد

سحقا للشاري و الشامي معا:

قال هارون: و أخبرني بعض أصحابنا أنه رأى رجلا واقفا على سطح يرمي بالحجارة فقيل: ويلك! أ تدري من ترمي مع اختلاط الناس؟ قال: و اللّه ما أبالي من رميت؟ إنما هو شام و شار، و اللّه ما أبالي أيّهما قتلت!

مصرع طالب الحق:

و قال المدائني: لما قتل ابن عطية أبا حمزة بعث برأسه مع عروة بن زيد بن عطية إلى مروان، و خرج إلى الطائف، فأقام بها شهرين، و تزوج بنت محمد بن عبد اللّه بن أبي سويد الثقفي؛ و استعمل على مكة روميّ بن عامر المرّي، و أتى فلّ أبي حمزة إلى عبد اللّه بن يحيى بصنعاء. فأقبل معه أصحابه. - و قد لقبوه طالب الحق - يريد قتال ابن عطية، و بلغ ابن عطية خبره، فشخص إليه، فالتقوا بكسة(2)، فأكثر أهل الشام القتل فيهم، و أخذوا أثقالهم و أموالهم، و تشاغلوا بالنّهب، فركب عبد اللّه بن يحيى فكشفهم، فقتل منهم نحو مائة رجل، و قتل قائد من قوّادهم يقال له: يزيد بن حمل القشيريّ من أهل قنّسرين، فدمرهم(3) ابن عطية، فكرّوا، و انضم بعضهم إلى بعض. و قاتلوا حتى أمسوا، فكفّ/بعضهم عن بعض، ثم التقوا من غد في موضع كثير الشجر/و الكرم و الحيطان، فطال القتال بينهم، و استحرّ القتل في الشّراة، فترجّل عبد اللّه بن يحيى في ألف فارس؛ فقاتلوا، حتى قتلوا جميعا عن آخرهم؛ و انهزم الباقون؛ تفرّقوا في كلّ وجه. و لحق من نجا منهم بصنعاء؛ و ولّوا عليهم حمامة(4) فقال أبو صخر الهذليّ:

ص: 178


1- زيادة يقتضيها المقام.
2- في ف: «فالتقوا بكثبة» و هي موضع.
3- دمرهم: عنفهم.
4- في هج: «جمانة» بالنون.

قتلنا دعيسا و الذي يكتني الكنى *** أبا حمزة الغاوي المضلّ اليمانيا

و أبرهة الكنديّ خاضت رماحنا *** و بلجا صبحناه الحتوف القواضيا(1)

و ما تركت أسيافنا منذ جرّدت *** لمروان جبّارا على الأرض عاديا(2)

مطولة في رثاء الشراة:

قال المدائني:

و بعث عبد الملك بن عطية رأس عبد اللّه بن يحيى مع ابنه يزيد بن عبد الملك إلى مروان.

و قال عمرو بن الحصين - و يقال: الحسن العنبري - مولى لهم يرثي عبد اللّه بن يحيى و أبا حمزة. و هذه القصيدة التي في أولها الغناء المذكور أول هذه الأخبار:

هبّت قبيل تبلّج الفجر *** هند تقول و دمعها يجري

أن أبصرت عيني مدامعها *** ينهلّ واكفها على النّحر

أنّي اعتراك و كنت عهدي لا *** سرب الدموع و كنت ذا صبر

أقذى بعينك ما يفارقها *** أم عائر(3) أم ما لها تذري؟

أم ذكر أخوان فجعت بهم *** سلكوا سبيلهم على خبر

فأجبتها بل ذكر مصرعهم *** لا غيره عبراتها تمري

يا ربّ أسلكني سبيلهم *** ذا العرش و اشدد بالتّقى أزري

/في فتية صبروا نفوسهم *** للمشرفيّة و القنا السّمر

تاللّه ألقى الدهر مثلهم *** حتى أكون رهينة القبر

أوفي بذمتهم إذا عقدوا *** و أعفّ عند العسر و اليسر

متأهّلين لكلّ صالحة *** ناهين من لاقوا عن النّكر

صمت إذا احتضروا مجالسهم *** وزن لقول خطيبهم وقر(4)

إلاّ تجيبهم فإنهم *** رجف القلوب بحضرة الذّكر(5)

متأوّهون كأنّ جمر غضا *** للخوف بين ضلوعهم يسرى

تلقاهم إلاّ كأنّهم *** لخشوعهم صدروا عن الحشر

ص: 179


1- في ف: «السيوف» بدل «الحتوف».
2- في ف: «حسادا» بدل «جبارا».
3- كذا في أ، ف و معناه: كل ما أعل العين كالعوار، و في س، ب: «عابر».
4- في ف: «أذن»، و وقر جمع وقور، أي رزين، و سكنت العين.
5- في ف: «إلا تحيّهم».

فهم كأنّ بهم جوى مرض *** أو مسّهم طرف من السّحر

لا ليلهم ليل فيلبسهم *** فيه غواشي النوم بالسّكر

إلاّ كذا خلسا و آونة *** حذر العقاب و هم على ذعر

كم من أخ لك قد فجعت به *** قوّام ليلته إلى الفجر

متأوّه يتلو قوارع من *** آي القرآن مفزّع الصّدر

نصب تجيش بنات مهجته *** بالموت جيش مشاشة القدر(1)

/ظمآن و قدة كلّ هاجرة *** ترّاك لذّته على قدر

/ترّاك ما تهوى النفوس إذا *** رغب النفوس دعت إلى النّذر(2)(3) و مبرّأ من كل سيئة *** عفّ الهوى ذو مرّة شزر(4)

و المصطلي بالحرب يسعرها *** بغبارها و بفتية سعر

يجتاحها بأقلّ ذي شطب *** عضب المضارب قاطع البتر(5)

لا شيء يلقاه أسرّ له *** من طعنة في ثغرة النّحر

نجلاء منهرة تجيش بما *** كانت عواصي جوفه تجري(6)

كخليلك المختار أذك به *** من مقتد في اللّه أو مشر

خوّاض غمرة كلّ متلفة *** في اللّه تحت العثير الكدر(7)

ترّاك ذي النّخوات مختضبا *** بنجيعه بالطّعنة الشّزر

و ابن الحصين و هل له شبه *** في العرف أنّى كان و النّكر

بسّامة لم تحن أضلعه *** لذوي أخوّته على غمر

طلق اللسان بكلّ محكمة *** رآب صدع العظم ذي الوقر

لم ينفكك في جوفه حزن *** تغلي حرارته و تستشري

ترقى و آونة يخفّصها *** بتنفّس الصّعداء و الزّفر

و مخالطي بلج و خالصتي *** سمّ العدوّ و جابر الكسر

نكل الخصوم إذا هم شغبوا *** و سداد ثلمة عورة الثّغر

ص: 180


1- في ح: «ملخوف جيش»، و مشاشة القدر: العظم الهش في أطراف المفاصل، و الجيشان: التحرك و الاضطراب.
2- النذر: النحب و الأجل.
3- زيادة في ف. و الشزر: الشدة و الصعوبة.
4- زيادة في ف. و الشزر: الشدة و الصعوبة.
5- عضب المضارب قاطع البتر، صفات السيف البتار.
6- كذا في ف و قد تقدم شرح منهرة.
7- العثبر الكدر: الغبار.

/

و الخائض الغمرات يخطر في *** وسط الأعادي أيّما خطر

بمشطّب أو غير ذي شطب *** هام العدا بذبابه يفري

و أخيك أبرهة الهجان أخى *** الحرب العوان ملقّح الجمر

بمرشّة فرع تثجّ دما *** ثجّ الغوى سلافة الخمر

و الضارب الأخدود ليس لها *** حدّ ينهنها عن السّحر

و وليّ حكمهم فجعت به *** عمرو فوا كبدي على عمرو!

قوّال محكمة و ذي فهم *** عفّ الهوى متثبّت الأمر

و مسيّب فاذكر وصيّته *** لا تنس إمّا كنت ذا ذكر

فكلاهما قد كان محتسبا *** للّه ذا تقوى و ذا برّ

في مخبتين و لم أسمّهم *** كانوا يدي و هم أولو نصيري

و هم مساعر في الوغى رجح *** و خيار من يمشي على العفر(1)

حتى وفوا للّه حيث لقوا *** بعهود لا كذب و لا غدر

فتخالسوا مهجات أنفسهم *** و عداتهم بقواضب بتر

و أسنّة أثبتن في لدن *** خطّية بأكفّهم زهر

تحت العجاج و فوقهم خرق *** يخفقن من سود و من حمر

/فتفرّجت عنهم كماتهم(2)*** لم يغمضوا عينا على وتر

/فشعارهم نيران حربهم *** ما بين أعلى الشّحر فالحجر(3)

صرعى فحاجلة تنوشهم *** و خوامع لحماتهم تفري(4)

ابن عطية يتوجه إلى صنعاء:

قال المدائني: و كتب مروان إلى ابن عطية يأمره بالمسير إلى صنعاء، ليقاتل من بها من الخوارج، فاستخلف ابنه محمد بن عبد الملك على مكة، و على المدينة الوليد بن عروة بن عطية، و توجّه إلى صنعاء، و رجع أهل الجزيرة جميعا إلى بلدهم، و كذلك كان مروان شرط لهم، فلما قرب من صنعاء هرب عامل عبد اللّه بن يحيى عنها، فأخذ(5)أهل صنعاء أثقاله و حملين من مال كان معه، فسلّموا ذلك إلى ابن عطية، و تتبع أصحاب عبد اللّه بن يحيى في كل موضع يقتلهم، و أقام بصنعاء أشهرا، ثم خرج عليه رجل من أصحاب عبد اللّه بن يحيى في آل ذي الكلاع، يقال له

ص: 181


1- مساعر، جمع مسعر، يقال، فلان مسعر حروب و مردى حروب، إذا كان من المجدين المتحمسين لها، و العفر: التراب.
2- ب: «كأنهم».
3- الشحر يكسر: بلد على الخليج الفارسي، و الخجر: بلد بأعلى المدينة. و في هج: «السحر و النحر».
4- فحاجلة: جمع فحجل و هو الأفحج الذي تنداني صدور قدميه، و تنوشهم: تتناولهم، جوامع: ضباع جمع خامعة، و في ف «تبري».
5- ب، س: «فأخذ أثقاله و حملين من مال كان مع أهل صنعاء فسلموا... إلخ و العبارة غير مستقيمة.

يحيى بن عبد اللّه بن عمر بن السّباق في جمع كثير بالجند، فبعث إليه ابن عطية ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن عطية، فلقيه بالحرب، فهزمه، و قتل عامة أصحابه، و هرب منه فنجا، و خرج عليه يحيى بن كرب الحميري بساحل البحر، و انضمت إليه شذّاذ الإباضية، فبعث إليه أبا أمية الكنديّ في الوضاحية، فالتقوا بالساحل، فقتل من الإباضية نحو مائة رجل، و تحاجزوا عند المساء فهربت الإباضية إلى حضر موت، و بها عامل لعبد اللّه بن يحيى يقال له:

عبد اللّه بن معبد الجرمي(1)، فصار في جيش كثير، و استفحل أمره. و بلغ ابن عطية الخبر، فاستخلف ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن عطية على صنعاء، و شخص إلى حضر موت و بلغ عبد اللّه بن معبد مسير عبد الملك إليهم، فجمعوا الطعام و كلّ ما يحتاجون إليه في/مدينة شبام(2). و هي حصن حضر موت مخافة الحصار. ثم عزموا على لقاء ابن عطية في الفلاة، فخرجوا حتى نزلوا على أربع مراحل من حضر موت، في عدد كثير في فلاة. و أتاهم ابن عطية، فقاتلهم يومه كلّه، فلما أمسى و قد بلغه ما جمعوا في شبام حدر عسكره في بطن حضر موت إلى شبام ليلا.

ثم أصبح، فقاتلهم حتى انتصف النهار. ثم تحاجزوا، فلما أمسوا، تبع عسكره. و أصبح الخوارج، فلم يروا للقوم أثرا. فاتّبعوهم و قد سبقوهم إلى الحصن، فأخذوا جميع ما فيه و ملكوه، و نصب ابن عطية عليهم المسالح، و قطع عنهم المادّة(3) و الميرة، و جعل يقتل من يقدر عليه و يسبي و يأخذ الأموال.

مصرع ابن عطية:

ثم ورد عليه كتاب مروان بن محمد يأمره بالتعجّل إلى مكة، ليحجّ بالنّاس، فصالح أهل حضر موت على أن يردّ عليهم ما عرفوا من أموالهم. و يولي عليهم من يختارون، و سالموه(4)، فرضي بذلك، و سالمهم، و شخص إلى مكة متعجّلا مخفّا. و لما نفذ كتاب مروان ندم بعد ذلك بأيام، و قال: إنا للّه! قتلت و اللّه ابن عطية؛ هو الآن يخرج مخفّا متعجّلا، ليلحق الحج، فيقتله الخوارج. فكان كما قال: تعجّل في بضعة عشر رجلا، فلما كان بأرض مراد تلفّفت عليه جماعة، فمن كان من تلك الجماعة إباضيّا عرفه، فقال: ما ننتظر بهذا أن ندرك ثأر إخواننا فيه، و من لم يكن إباضيا ظنه من الإباضية، و أنه منهزم، فلما علم أنهم يريدونه قال لهم: ويحكم! أنا/عامل أمير المؤمنين على الحجّ، فلم يلتفتوا إلى ذلك، و قتلوه، و نصبت الإباضية رأسه، فلما فتشوا متاعه، وجدوا فيه الكتاب بولايته على الحجّ، فأخذوا من الإباضية رأسه، و دفنوه مع جسده.

قال المدائني: خرج إليه جمانة و سعيد ابنا الأخنس، في جماعة من قومهما من كندة، /و عرفه جمانة لمّا لقيه، فحمل عليه هو و أخوه و رجل آخر من همدان، يقال له: رمّانة. و ثلاثة من مراد، و خمسة من كندة، و قد توجّه في طريق مع أربعة نفر من أصحابه. و توجّه باقيهم في طريق آخر، فقصدوا حيث توجّه ابن عطية، و وجّهوا في آثار أصحابه نحو أربعين رجلا منهم، فأدركوهم فقتلوهم، و أدرك سعيد و جمانة و أصحابهما ابن عطية، فعطف عبد الملك على سعيد، فضربه و طعنه جمانة، فصرعه عن فرسه، و نزل إليه سعيد، فقعد على صدره، فقال له ابن عطية: هل لك يا سعيد في أن تكون أكرم العرب أسيرا؟ فقال: يا عدوّ اللّه، أ ترى اللّه كان يمهلك؟ أو تطمع في

ص: 182


1- في هج: «عبد اللّه بن سعيد الحضرمي».
2- ب: «سنام» و انظر «معجم البلدان»: «شبام».
3- لعلها «المياه» كما في هج.
4- ف: «و يسالمون فرضي بذلك و صالحهم».

الحياة و قد قتلت طالب الحقّ و أبا حمزة و بلجا و أبرهة! فقتله و قتل أصحابه جميعا. و بعثوا برأسه إلى حضرموت، و بلغ ابن أخيه - و هو بصنعاء - خبره. فأرسل شعيبا البارقيّ في الخيل. فقتل الرجال و الصّبيان. و بقر بطون النساء، و أخذ الأموال، و أحرب القرى، و جعل يتتبع البريّ و النّطف(1). حتى لم يبق أحد من قتلة ابن عطية و لا من الإباضية إلا قتله، و لم يزل مقيما باليمن إلى أن أفضى الأمر إلى بني هاشم، و قام بالأمر أبو العباس السفاح.

تم الجزء الثالث و العشرون من كتاب الأغاني و يليه الجزء الرابع و العشرون و أوله خبر عبدا بن أبي العلاء

ص: 183


1- النطف: النجس و المريب و هم نطفون.

ص: 184

فهرس موضوعات الجزء الثالث و العشرون

الموضوع الصفحة

أخبار نصيب الأصغر 5

أخبار أبي شراعة و نسبه 20

أخبار ابن البواب 32

أخبار محمد بن عبد الملك الزيات و نسبه 38

أخبار أبي حشيشة 59

أخبار عنان 66

أخبار الحسن بن وهب 73

أخبار أحمد بن يوسف 90

أخبار العطوي 94

أخبار مرة و نسبه 99

أخبار علي بن أمية 101

أخبار عمر الميداني 105

أخبار سليمان بن وهب 107

أخبار أبان بن عبد الحميد و نسبه 116

أخبار تويت و نسبه 126

أخبار محمد بن الحارث 131

أخبار ماني الموسوس 134

أخبار بكر بن خارجة 139

أخبار إسماعيل القراطيسي 142

أخبار أبي العبر و نسبه 144

أخبار مروان بن أبي حفصة الأصغر 150

أخبار يوسف بن الحجاج و نسبه 157

خبر عبد اللّه بن يحيى و خروجه و قتله 162

الفهرس 185

ص: 185

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.