الأغاني
المؤلفين الآخرين
مدقق لغوي ومترجم:
مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي
المجلدات : 25ج
لسان: العربية
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374
إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *
هو المنخّل بن عمرو - و يقال: المنخّل بن مسعود - بن أفلت بن عمرو بن كعب بن سواءة بن غنم بن حبيب بن يشكر بن بكر بن وائل. و ذكر أبو محلّم النسابة: أنه المدخل بن مسعود بن أفلت بن قطن بن سوأة بن مالك بن ثعلبة بن حبيب بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر. و قال ابن الأعرابيّ: هو المنخّل بن الحارث بن قيس ابن عمرو بن ثعلبة بن عديّ بن جشم بن حبيب بن كعب بن يشكر.
شاعر مقلّ من شعراء الجاهلية، و كان النعمان بن المنذر قد اتهمه بامرأته المتجرّدة - و قيل: بل وجده معها، و قيل: بل سعي به إليه في أمرها فقتله، و قيل: بل حبسه، ثم غمض خبره، فلم تعلم له حقيقة إلى اليوم. فيقال: إنه دفنه حيّا، و يقال: إنه غرقه. و العرب تضرب به المثل كما تضربه بالقارظ العنزيّ (1) و أشباهه ممن هلك و لم يعلم له خبر. و قال ذو الرّمة:
تقارب حتى تطمع التابع الصّبا *** و ليست بأدنى من إياب المنخّل
و قال النّمر بن تولب:
و قولي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم *** تلاقونه حتى يئوب المنخّل
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: أخبرني أحمد بن زهير قال: أخبرني عبد اللّه بن كريم قال:
أخبرني أبو عمرو الشيبانيّ قال:
كان سبب قتل المنخّل أنّ المتجرّدة - و اسمها ماويّة و قيل: هند بنت المنذر بن الأسود الكلبيّة - كانت عند ابن عم لها يقال له: حلم، و هو الأسود بن المنذر/بن حارثة الكلبيّ، و كانت أجمل أهل زمانها، فرآها المنذر بن المنذر الملك اللّخميّ فعشقها، فجلس ذات يوم على شرابه و معه حلم و امرأته المتجرّدة، فقال المنذر لحلم: إنه لقبيح بالرجل أن يقيم على المرأة زمانا طويلا حتى لا يبقى في رأسه و لا لحيته شعرة بيضاء إلا عرفتها، فهل لك أن تطلّق امرأتك المتجرّدة و أطلّق امرأتي سلمى؟ قال: نعم، فأخذ كلّ واحد منهما على صاحبه عهدا. قال: فطلّق المنذر امرأته سلمى، و طلّق حلم امرأته المتجرّدة، فتزوّجها المنذر و لم يطلق لسلمى أن تتزوج حلما، و حجبها - و هي أمّ ابنه النعمان بن المنذر - فقال النابغة الذبياني يذكر ذلك:
قد خادعوا حلما عن حرّة خرد *** حتى تبطّنها الخدّاع ذو الحلم
ص: 5
قال: ثم مات المنذر بن المنذر، فتزوّجها بعده النعمان بن المنذر ابنه، و كان قصيرا دميما أبرش، و كان ممن يجالسه و يشرب معه النابغة الذبيانيّ - و كان جميلا عفيفا - و المنخّل اليشكريّ - و كان يتّهم - بالمتجردة.
فأما النابغة فإن النعمان أمره بوصفها فقال قصيدته التي أولها:
من آل ميّة رائح أو مغتدى *** عجلان ذا زاد و غير مزوّد
و وصفها فأفحش فقال:
و إذا طعنت طعنت في مستهدف *** رابي المجسّة بالعبير مقرمد(1)
و إذا نزعت نزعت عن مستحصف(2) *** نزع الحزوّر(3) بالرشاء المحصد(4)
فغار المنخّل من ذلك، و قال: هذه صفة معاين، فهمّ النعمان بقتل النابغة حتى هرب منه، /و خلا المنخّل بمجالسته، و كان يهوى المتجردة و تهواه، و قد ولدت للنعمان غلامين جميلين يشبهان المنخل، و كانت العرب تقول: إنهما منه. فخرج/النعمان لبعض غزواته - قال ابن الأعرابيّ: بل خرج متصيّدا - فبعثت المتجردة إلى المنخّل فأدخلته قبّتها، و جعلا يشربان، فأخذت خلخالها و جعلته في رجله، و أسدلت شعرها فشدّت خلخالها إلى خلخاله الذي في رجله من شدة إعجابها به. و دخل النعمان بعقب ذلك فرآها على تلك الحال، فأخذه فدفعه إلى رجل من حرسه من تغلب يقال له: عكبّ، و أمره بقتله، فعذّبه حتى قتله.
فقال المنخّل يحرّض قومه عليه:
ألا من مبلغ الحيّين عنّي *** بأن القوم قد قتلوا أبيّا
فإن لم تثأروا لي من عكبّ *** فلا روّيتم أبدا صديا
و قال أيضا:
ظلّ وسط النديّ قتلى بلا جر *** م و قومي ينتجون السّخالا(5)
و قال في المتجرّدة:
ديار للّتي قتلتك غصبا *** بلا سيف يعدّ و لا نبال
بطرف ميّت في عين حيّ *** له خبل يزيد على الخبال
و قال أيضا:
و لقد دخلت على الفتا *** ة الخدر في اليوم المطير
ص: 6
الكاعب الخنساء(1) تر *** فل في الدّمقس و في الحرير
دافعتها فتدافعت *** مشى القطاة إلى الغدير
و لثمتها فتنفّست *** كتنفّس الظبي البهير(2)
و رنت و قالت يا منخّ *** ل هل بجسمك من فتور؟(3)
/ما مس جسمي غير حبّ *** ك فاهدئي عنّي و سيري
يا هند هل من نائل *** يا هند للعاني الأسير؟
و أحبّها و تحبّني *** و يحبّ ناقتها بعيري
و لقد شربت من المدى *** مة بالكبير و بالصغير
فإذا سكرت(4) فإنني *** ربّ الخورنق(5) و السرير
و إذا صحوت فإنني *** ربّ الشّويهة و البعير
يا ربّ يوم - للمنخّ *** ل قد لها فيه - قصير
و أخبرني بخبر المنخّل مع المتجرّدة أيضا عليّ بن سليمان الأخفش قال: أخبرني أبو سعيد السكريّ عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:
كانت المتجردة امرأة النعمان فاجرة، و كانت تتّهم بالمنخّل، و قد ولدت للنعمان غلامين جميلين يشبهان المنخّل، فكان يقال: إنهما منه، و كان جميلا و سيما، و كان النعمان أحمر أبرش قصيرا دميما. و كان للنعمان يوم يركب فيه فيطيل المكث، و كان المنخّل من ندمائه لا يفارقه، و كان يأتي المتجرّدة في ذلك اليوم الذي يركب فيه النعمان فيطيل عندها، حتى إذا جاء النعمان آذنتها بمجيئه وليدة لها موكّلة بذلك فتخرجه.
فركب النعمان ذات يوم و أتاها المنخّل كما كان يأتيها فلا عبته، /و أخذت قيدا، فجعلت إحدى حلقتيه في رجله و الأخرى في رجلها، و غفلت الوليدة عن ترقّب النعمان؛ لأن الوقت الذي يجيء فيه لم يكن قرب بعد، و أقبل النعمان حينئذ و لم يطل في(6) مكثه كما كان يفعل، فدخل إلى المتجرّدة، فوجدها مع المنخّل قد قيّدت رجلها، و رجله بالقيد، فأخذه النعمان فدفعه إلى عكبّ صاحب سجنه ليعذّبه - و عكبّ/رجل من لخم - فعذّبه حتى قتله.
و قال المنخّل قبل أن يموت هذه الأبيات، و بعث بها إلى ابنيه:
ألا من مبلغ الحرّين عنّي *** بأن القوم قد قتلوا أبيا
ص: 7
و إن لم تثأروا لي من عكبّ *** فلا أرويتما أبدا صديّا
يطوّف بي عكبّ في معدّ *** و يطعن بالصّملّة(1) في قفيّا
قال ابن حبيب: و زعم ابن الجصّاص أن عمرو بن هند هو قاتل المنخّل، و القول الأول أصحّ.
و هذه القصيدة التي منها الغناء يقولها في المتجرّدة، و أولها قوله:
إن كنت عاذلتي فسيري *** نحو العراق و لا تحوري
لا تسألي عن جلّ ما *** لي و اذكري كرمي و خيري
و إذا الرياح تناوحت *** بجوانب البيت الكسير(2)
ألفيتني هشّ النديّ *** بمرّ قدحي أو شجيري(3)
- الشجير: القدح الذي لم يصلح حسنا، و يقال: بل هو القدح العاريّة -.
و نهى أبو أفعى فقلّ *** دني أبو أفعى جريري(4)
و جلالة(5) خطّارة(6) *** هو جاء جائلة الضّفور(7)
/تعدو بأشعث قد وهى *** سر باله باقي المسير(8)
فضلا(9) على ظهر الطر *** يق إليك علقمة بن صير
الواهب الكوم(10) الصّفا(11) *** يا و الأؤانس في الخدور
يصفيك حين تجيئه *** بالعصب(12) و الحلي الكثير
ص: 8
و فوارس كأوار(1) حرّ *** النار أحلاس(2) الذّكور
شدّوا دوابر بيضهم *** في كلّ محكمة القتير(3)
فاستلأموا(4) و تلبّبوا *** إن التلبّب للمغير
و على الجياد المضمرا *** ت فوارس مثل الصقور
يخرجن من خلل الغبا *** ر يجفن بالنّعم الكثير
فشفيت نفسي من أول *** ئك و الفوائح بالعبير
يرفلن في المسك الذكيّ *** و صائك(5) كدم النّحير
يعكفن(6) مثل أساود التّ (7) *** نّوم لم تعكف لزور
/و لقد دخلت على الفتا *** ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الخنساء(8) تر *** فل في الدمقس و في الحرير
/فدفعتها فتدافعت *** مشى القطاة إلى الغدير
و لثمتها فتنفّست *** كتنفّس الظبي البهير
فدنت و قالت يا منخّ *** ل ما بجسمك من حرور؟
ما شفّ جسمي غير حبّك *** فاهدئي عنّي و سيري
و لقد شربت من المدى *** مة بالصغير و بالكبير
و لقد شربت الخمر بال *** خيل الإناث و بالذّكور
و لقد شربت الخمر بال *** عبد الصحيح و بالأسير
فإذا سكرت فإنني *** ربّ الخورنق و السدير
و إذا صحوت فإنني *** ربّ الشّويهة و البعير
يا ربّ يوم للمنخّ *** ل قد لها فيه قصير
يا هند هل من نائل *** يا هند للعاني الأسير(9)
ص: 9
و من الناس من يزيد في هذه القصيدة:
و أحبّها و تحبّني *** و يحبّ ناقتها بعيري
و لم أجده في رواية صحيحة.
لمن شيخان قد نشدا كلابا *** كتاب اللّه لو قبل الكتابا
أناشده فيعرض في إباء *** فلا و أبي كلاب ما أصابا
الشعر لأميّة بن الأسكر الليثيّ، و الغناء لعبد اللّه بن طاهر، رمل بالوسطى. صنعه و نسبه إلى لميس جاريته، و ذكر الهشاميّ أن اللحن لها، و ذكره عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر في جامع أغانيهم و وقع إليّ، فقال: الغناء فيه للدّار الكبيرة، و كذلك كان يكنّى عن أبيه، و عن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب و جواريهم، و يكنّى عن نفسه و جاريته شاجي و ما يصنع في دور إخوته بالدار الصغيرة.
ص: 10
هو أمية بن حرثان بن الأسكر بن عبد اللّه بن سرابيل الموت بن زهرة بن زبينة(1) بن جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.
شاعر فارس مخضرم أدرك الجاهلية و الإسلام، و كان من سادات قومه و فرسانهم، و له أيام مأثورة مذكورة.
و كان له أخ يقال له: أبو لاعق الدم، و كان من فرسان قومه و شعرائهم، و ابنه كلاب بن أمية أيضا أدرك النبي صلى اللّه عليه و سلّم فأسلم مع أبيه، ثم هاجر إلى النبي صلى اللّه عليه و سلّم فقال أبوه فيه شعرا، ذكر أبو عمرو الشيباني أنه هذا الشعر، و هو خطأ، إنما خاطبه بهذا الشعر لما غزا(2) مع أهل العراق لقتال الفرس، و خبره في ذلك يذكر بعد هذا.
قال أبو عمرو في خبره: فأمره صلى اللّه عليه و سلّم بصلة أبيه و ملازمته طاعته.
و كان عمر بن الخطاب استعمل كلابا على الأبلّة(3)، فكان أبواه ينتابانه، يأتيه أحدهما في كل سنة، ثم أبطئا عليه و كبرا فضعفا عن لقائه، فقال أبياتا و أنشدها عمر، فرقّ له و رده/إليهما، فلم يلبث معهما إلا مدة حتى نهشته أفعى؛ فمات و هذا أيضا و هم من أبي عمرو، و قد عاش كلاب حتى ولي لزياد الأبلّة، ثم استعفى، أعفاه. و سأذكر خبره في ذلك و غيره هاهنا إن شاء اللّه تعالى.
فأما خبره مع عمر فإنّ الحسن بن عليّ أخبرني به، قال: حدثني الحارث بن محمد قال: حدثني المدائنيّ عن أبي بكر الهذليّ عن الزّبيريّ عن عروة بن الزبير قال:
/هاجر كلاب بن أمية بن الأسكر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب، فأقام بها مدّة، ثم لقي ذات يوم طلحة بن عبيد اللّه و الزبير بن العوّام، فسألهما: أيّ الأعمال أفضل في الإسلام؟ فقالا: الجهاد، فسأل عمر فأغزاه في جيش، و كان أبوه قد كبر و ضعف، فلما طالت غيبة كلاب عنه قال:
لمن شيخان قد نشدا كلابا *** كتاب اللّه إن(4) قبل الكتابا
أناديه فيعرض في إباء *** فلا و أبي كلاب ما أصابا
ص: 11
إذا سجعت(1) حمامة بطن واد *** إلى(2) بيضاتها دعرا كلابا
أتاه مهاجران تكنفاه *** ففارق(3) شيخه خطأ(4) و خابا
تركت أباك مرعشة يداه *** و أمّك ما تسيغ لها شرابا
تمسّح مهره شفقا عليه *** و تجنبه أباعرها الصعابا
- قال: تجنبه و تجنّبه واحد، من قول اللّه عز و جل: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنٰامَ (5). قال: -
فإنك قد تركت أباك شيخا *** يطارق(6) أينقا شزبا(7) طرابا
/فإنك و التماس الأجر بعدي *** كباغي الماء يتّبع السرابا(8)
فبلغت أبياته عمر، فلم يردد كلابا و طال مقامه(9) فأهتر أمية و خلط جزعا عليه، ثم أتاه يوما و هو في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم و حوله المهاجرون و الأنصار، فوقف عليه ثم أنشأ يقول:
أعاذل قد عذلت بغير قدر *** و لا تدرين عاذل ما ألاقي
فإمّا كنت عاذلتي فردّي *** كلابا إذ توجّه للعراق
و لم أقض اللّبانة من كلاب *** غداة غد و أذّن بالفراق
فتى الفتيان في عسر و يسر *** شديد الرّكن في يوم التلاقي
فلا و اللّه ما باليت وجدي *** و لا شفقي عليك و لا اشتياقي
و إبقائي عليك إذا شتونا *** و ضمّك تحت نحري و اعتناقي
فلو فلق الفؤاد شديد وجد *** لهمّ سواد قلبي بانفلاق
سأستعدى على الفاروق ربّا *** له دفع الحجيج إلى بساق(10)
و أدعو اللّه مجتهدا عليه *** ببطن الأخشبين إلى دفاق
إن الفاروق لم يردد كلابا *** إلى شيخين هامهما زواق
ص: 12
قال: فبكى عمر بكاء شديدا، و كتب بردّ كلاب إلى المدينة، فلما قدم دخل إليه، فقال: ما بلغ من برّك /بأبيك؟ قال: كنت أوثره(1) و أكفيه أمره، و كنت أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبنا أغزر ناقة في إبله و أسمنها فأريحها(2) و أتركها حتى تستقرّ، ثم أغسل أخلافها حتى تبرد ثم أحتلب له(3) فأسقيه.
فبعث/عمر إلى أميّة من جاء به إليه، فأدخله يتهادى و قد ضعف بصره و انحنى. فقال له: كيف أنت يا أبا كلاب؟ قال: كما تراني يا أمير المؤمنين. قال: فهل لك من حاجة؟ قال: نعم، أشتهي أن أرى كلابا فأشمّه شمة، و أضمّه ضمّة قبل أن أموت. فبكى عمر، ثم قال: ستبلغ من هذا ما تحبّ إن شاء اللّه تعالى. ثم أمر كلابا أن يحتلب لأبيه ناقة كما كان يفعل، و يبعث إليه. بلبنها، ففعل فناوله عمر الإناء، و قال: دونك هذا يا أبا كلاب(4).
فلما أخذه و أدناه إلى فمه قال: لعمر: و اللّه يا أمير المؤمنين، إني لأشمّ رائحة يدي كلاب من هذا الإناء، فبكى عمر، و قال: هذا كلاب عندك حاضرا قد جئناك به، فوثب إلى ابنه و ضمّه إليه و قبّله، و جعل عمر يبكي و من حضره، و قال لكلاب: الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا، ثم شأنك بنفسك بعدهما، و أمر له بعطائه، و صرفه مع أبيه، فلم يزل معه مقيما حتى مات أبوه.
و نسخت من كتاب أبي سعيد السكريّ أن أمية كانت له إبل هائمة - أي أصابها الهيام و هو داء يصيب الإبل من العطش - فأخرجته بنو بكر مخافة أن يصيب إبلهم، فقال لهم: يا بني بكر، إنما هي ثلاث ليال: ليلة بالبقعاء(5)و ليلة بالفرع(6)، و ليلة بلقف(7) في سامر من بني بكر، فلم ينفعه ذلك و أخرجوه، فأتى مزينة فأجاروه، و أقام عندهم إلى أن صحّت إبله، و سكنت، فقال يمدح مزينة:
تكنّفها الهيام و أخرجوها *** فما تأوى إلى إبل صحاح
/فكان إلى مزينة منتهاها *** على ما كان فيها من جناح
و ما يكن الجناح فإنّ فيها *** خلائق ينتمين إلى صلاح
و يوما في بني ليث بن بكر *** تراعى تحت قعقعة الرماح
فإمّا أصبحن شيخا كبيرا *** وراء الدار يثقلني سلاحي
فقد آتى الصريخ إذا دعاني *** على ذي منعة(8) عتد(9) وقاح
ص: 13
و شرّ أخي مؤامرة خذول *** على ما كان مؤتكل(1) و لاح
أخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن عبد اللّه الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيبانيّ عن أبيه، و أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثنا أبو توبة عن أبي عمرو قال:
عمّر أمية بن الأسكر عمرا طويلا حتى خرف، فكان ذات يوم جالسا في نادي قومه و هو يحدّث نفسه، إذ نظر إلى راعي ضأن لبعض قومه يتعجب منه، فقام لينهض فسقط على وجهه، فضحك الراعي منه، و أقبل ابناه إليه، فلما رآهما أنشأ يقول:
يا بني(2) أمية إني عنكما غان *** و ما الغنى غير أني مرعش فان
يا بني أمية إلاّ تحفظا كبرى *** فإنما أنتما و الثّكل سيّان(3)
هل لكما في تراث تذهبان به *** إن التراث لهيّان بن بيّان
- يقال: هيان بن بيان، و هي ترى للقريب و البعيد -.
/أصبحت هزءا(4) لراعي الضأن يسخر بي(5)*** ما ذا يريبك منّي راعي الضأن
/أعجب لغيري إني تابع سلفي *** أعمام مجد و أجدادي و إخواني
و انعق بضأنك في أرض تطيف بها *** بين الأساف(6) و أنتجها بجلذان(7)
- جلذان(8): موضع بالطائف -
ببلدة لا ينام الكالئان بها *** و لا يقرّبها أصحاب ألوان
و هذه الأبيات تمثّل بها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه في خطبة له على المنبر بالكوفة.
حدثنا بها أحمد بن عبيد اللّه بن عمار و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قالا: حدثنا عمر بن شبّة قال: حدثنا محمد بن أبي رجاء، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: قال عبد اللّه بن عديّ بن الخيار:
شهدت الحكمين، ثم أتيت الكوفة و كانت لي إلى عليّ عليه السلام حاجة، فدخلت عليه، فلما رآني قال:
مرحبا بك يا ابن أمّ قتّال، أ زائرا جئتنا أم لحاجة؟ فقلت: كلّ جاء بي، جئت لحاجة، و أحببت أن أجدّد بك عهدا،
ص: 14
و سألته عن حديث فحدثني على ألاّ أحدّث به واحدا(1)، فبينا أنا يوما بالمسجد في الكوفة إذا عليّ صلوات اللّه عليه متنكّب قرنا(2) له. فجعل يقول: الصلاة جامعة. و جلس على المنبر، فاجتمع الناس، و جاء الأشعث بن قيس فجلس إلى جانب المنبر. فلما اجتمع الناس، و رضي منهم قام فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال:
/أيها الناس، إنكم تزعمون أن عندي من رسول اللّه - صلى اللّه عليه و سلّم - ما ليس عند الناس، ألا و إنه ليس(3) عندي إلا ما في قرني هذا، ثم نكت(4) كنانته، فأخرج منها صحيفة فيها: المسلمون تتكافأ دماؤهم، و هم يد على من سواهم.
من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين». فقال له الأشعث بن قيس: هذه و اللّه عليك لا لك، دعها تترحّل، فخفض عليّ - صلوات اللّه عليه - إليه بصره، و قال: ما يدريك ما عليّ مما لي! عليك لعنة اللّه و لعنة اللاعنين، حائك ابن حائك، منافق ابن منافق، كافر ابن كافر. و اللّه لقد أسرك الإسلام مرة و الكفر مرة، فما فداك من واحد منهما حسبك و لا مالك، ثم رفع إليّ بصره فقال: يا عبيد اللّه:
أصبحت قنّا لراعي الضأن يلعب بي *** ما ذا يريبك منّي راعي الضان
فقلت: بأبي أنت و أمي، قد كنت و اللّه أحبّ أن أسمع هذا منك. قال: هو و اللّه ذلك، قال:
فما قيل من بعدها من مقالة *** و لا علقت مني جديدا و لا درسا
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا الحارث، عن المدائنيّ قال:
لما مات أمية بن الأسكر عاد ابنه كلاب إلى البصرة، فكان يغزو مع المسلمين، منها مغازيهم، و شهد فتوحات كثيرة، و بقي إلى أيام زياد، فولاه الأبلّة، فسمع كلاب يوما عثمان بن أبي العاص يحدّث أن داود نبيّ اللّه - عليه السلام - كان يجمع أهله في السّحر فيقول: ادعوا ربكم فإن في السّحر ساعة لا يدعو فيها عبد مؤمن إلا غفر له، إلا أن يكون عشّارا(5) أو عريفا(6).
/فلما سمع ذلك كلاب كتب إلى زياد، فاستعفاه من عمله فأعفاه.
قال المدائنيّ: و لم يزل كلاب بالبصرة(7) حتى مات، و المربعة المعروفة بمربعة كلاب بالبصرة(8) منسوبة /إليه.
و قال أبو عمرو الشيبانيّ: كان بين بني غفار قومه و(7) و بني ليث حرب، فظفرت بنو ليث بغفار، فحالف رحضة بن خزيمة بن خلاف بن حارثة بن غفار و قومه(7) جميعا بني أسلم بن أفصى بن خزاعة، فقال أمية بن الأسكر
ص: 15
في ذلك، و كان سيد بني جندع بن ليث و فارسهم:
لقد طبت نفسا عن مواليك يا رحضا *** آثرت أذناب الشوائل و الحمضا(1)
تعلّلنا بالنّصر في كل شتوة *** و كلّ ربيع أنت رافضنا رفضا
فلو لا تأسّينا و حدّ رماحنا *** لقد جرّ قوم لحمنا تربا قضّا
- القضّ و القضيض: الحصا الصغار -
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثني أحمد بن زهير قال: حدثنا مصعب بن عبد اللّه عن أبيه قال:
افتعل عمرو بن الزبير كتابا عن معاوية إلى مروان بن الحكم بأن يدفع إليه مالا، فدفعه إليه، فلما عرف معاوية خبره كتب إلى مروان بأن يحبس عمرا حتى يؤدّي المال، فحبسه مروان، و بلغ الخبر عبد اللّه بن الزبير، فجاء إلى مروان و سأله عن الخبر، فحدّثه به، فقال: ما لكم في ذمتي، فأطلق عمرا، و أدّى عبد اللّه المال عنه، و قال: و اللّه إني لأؤديه عنه و إني لأعلم أنه غير شاكر، ثم تمثّل قول أمية بن الأسكر الليثيّ:
/فلو لا تأسّينا و حدّ رماحنا *** لقد جرّ قوم لحمنا تربا قضّا
و قال ابن الكلبيّ: حدثنا بعض بني الحارث بن كعب قال:
اجتمع يزيد بن عبد المدان و عامر بن الطّفيل بموسم عكاظ، فقدم أمية بن الأسكر، و معه بنت له من أجمل أهل زمانها، فخطبها يزيد و عامر، فقالت أمّ كلاب امرأة أمية: من هذان الرجلان؟ قال: هذا ابن الديّان، و هذا عامر بن الطفيل. قالت: أعرف ابن الديّان، و لا أعرف عامرا. قال: هل سمعت بملاعب(2) الأسنة؟ قالت: نع و اللّه. قال: فهذا ابن أخيه.
و أقبل يزيد فقال: يا أميّة أنا ابن الديان، صاحب الكثيب، و رئيس مذحج، و مكلّم العقاب، و من كان يصوب أصابعه فتنطف دما، و يدلك راحتيه فتخرجان(3) ذهبا. قال أمية: بخ بخ.
فقال عامر: جدّي الأحزم، و عمّي أبو الأصبع، و عمّي ملاعب الأسنة، و جدّي الرّحّال، و أبي فارس قرزل.
قال أمية: بخ بخ، مرعى و لا كالسّعدان(4)، فأرسلها. مثلا.
فقال يزيد: يا عامر، هل تعلم شاعرا من قومي رحل بمدحه إلى رجل من قومك؟ قال: لا، قال: فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدحهم إلى قومي؟ قال: نعم. قال: فهل لك نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان؟ فقال: لا، قال: فهل ملكناكم و لم تملكونا؟ قال: نعم، فنهض يزيد و قام، ثم قال:
ص: 16
/أميّ يا ابن الأسكر بن مدلج *** لا تجعلن(1) هوازنا كمذحج
إنك إن تلهج بأمر تلجج(2)*** ما النّبع في مغرسه كالعوسج
و لا الصّريح المحض كالممزّج
و قال مرّة بن دودان العقيلي، و كان عدوّا لعامر بن الطفيل:
يا ليت شعري عنك يا يزيد *** ما ذا الذي من عامر تريد؟
لكلّ قوم فخرهم عتيد *** أ مطلقون نحن أم عبيد؟
/لا بل عبيد زادنا الهبيد(3)
فزوّج أمية يزيد(4) فقال يزيد في ذلك:
يا للرجال لطارق الأحزان *** و لعامر بن طفيل الوسنان
كانت إتاوة قومه لمحرّق(5) *** زمنا و صارت بعد للنعمان
عدّ(6) الفوارس من هوازن كلّها *** كثفا(7) عليّ و جئت بالديان
فإذا لي الفضل المبين بوالد *** ضخم الدّسيعة(8) أزأنيّ (9) و يمان
يا عام إنك فارس متهوّر *** غضّ الشباب أخو ندى و قيان
/و اعلم بأنك يا ابن فارس قرزل *** دون الذي تسمو له و تدانى
ليست فوارس عامر بمقرّة *** لك بالفضيلة في بني عيلان
فإذا لقيت بني الخميس و مالكا *** و بني الضّباب و حيّ آل قنان
فاسأل من المرء المنوّه باسمه *** و الدافع الأعداء عن نجران؟
يعطى المقادة في فوارس قومه *** كرما لعمرك و الكريم يمان(10)
فقال عامر بن الطفيل مجيبا له:
يا للرجال لطارق الأحزان *** و لما يجيء به بنو الدّيان
فخروا عليّ بحبوة لمحرّق *** و إتاوة سلفت من النعمان
ص: 17
ما أنت و ابن محرق و قبيله *** و إتاوة اللخميّ في عيلان؟
فاقصد بذرعك قصد أمرك(1) قصده *** ودع القبائل من بني قحطان
إذ كان سالفنا الإتاوة فيهم *** أولى ففخرك فخر كل يمان
و افخر(2) برهط بني الحماس(3) و مالك *** و ابن الضّباب و زعبل و قيان
و أنا المنخل و ابن فارس فرزل *** و أبو نزار زانني و نماني(4)
و إذا تعاظمت الأمور موازنا *** كنت المنوّه باسمه و الثاني
فلما رجع القوم إلى بني عامر وثبوا على مرّة بن دودان، و قالوا: أنت شاعر بني عامر و لم تهج بني الديان، فقال:
/تكلّفني هوازن فخر قوم *** يقولون الأنام لنا عبيد
أبوهم مذحج و أبو أبيهم *** إذا ما عدّت الآباء - هود
و هل لي إن فخرت بغير فخر *** مقال و الأنام له شهود؟
فإنّا لم نزل لهم قطينا(5)*** تجيء إليهم منا الوفود
فإنّا(6) نضرب الأحلام صفحا *** عن العلياء أو(7) من ذا بكيد؟
فقولوا يا بني عيلان كنا *** لكم قنّا و ما عنكم محيد(8)
و هذا الخبر مصنوع من مصنوعات ابن الكلبيّ، و التوليد فيه بيّن، و شعره شعر ركيك غثّ، لا يشبه أشعار القوم، و إنما ذكرته لئلا يخلو الكتاب من شيء قد روي.
و قال محمد بن حبيب فيما روى عنه أبو سعيد السكّريّ، و نسخته من كتابه، قال أبو عمرو الشيبانيّ:
أصيب قوم من بني جندع بن ليث بن بكر بن هوازن رهط أمية بن الأسكر يقال لهم/: بنو زبينة، أصابهم أصحاب النبي - صلى اللّه عليه و سلّم - يوم المريسيع(9) في غزوته بني المصطلق، و كانوا جيرانه يومئذ - و معهم ناس من بني لحيان من هذيل، و مع بني جندع رجل من خزاعة يقال له: طارق، فاتهمه بنو ليث بهم، و أنه/دلّ عليهم. و كانت خزاعة مسلمها(10) و مشركها يميلون إلى النبي - صلى اللّه عليه و سلّم - على قريش. فقال أمية بن الأسكر لطارق الخزاعيّ:
ص: 18
لعمرك إني و الخزاعيّ طارقا *** كنعجة عاد حتفها تتحفّر
أثارت عليها شفرة بكراعها *** فظلّت بها من آخر الليل تجزر(1)
شمتّ بقوم هم صديقك أهلكوا *** أصابهم يوم من الدهر أعسر
كأنك لم تنبأ بيوم ذؤالة *** و يوم الرّجيع إذ تنحّر حبتر(2)
فهلاّ أباكم في هذيل و عمّكم *** ثأرتم و هم أعدى قلوبا و أوتر
و يوم الأراك يوم أردف سبيكم(3) *** صميم سراة الدّيل عبد و يعمر
و سعد بن ليث إذ تسلّ نساؤكم *** و كلب بن عوف نحّروكم و عقّروا(4)
عجبت لشيخ من ربيعة مهتر(5) *** أمرّ له يوم من الدهر منكر
فأجابه طارق الخزاعيّ فقال:
لعمرك ما أدري و إني لقائل *** إلى أيّ من يظنّني(6) أتعذّر؟
أعنّف أن كانت زبينة أهلكت *** و نال بني لحيان شرّ و نفّروا
و هذه الأبيات: الابتداء، و الجواب تمثّل بابتدائها ابن عباس في رسالة إلى معاوية، و تمثل بجوابها معاوية في رسالة أجابه بها.
حدّثني بذلك أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجليّ العطار بالكوفة، قال: حدثنا الحسين بن نصر بن مزاحم المنقريّ قال: حدثنا زيد بن المعذّل النّمريّ، قال: حدثنا يحيى بن شعيب الخراز، قال: حدثنا أبو مخنف، قال:
لما بلغ معاوية مصاب أمير المؤمنين عليّ - عليه السلام - دسّ رجلا من بني القين إلى البصرة يتجسس الأخبار و يكتب بها إليه، فدلّ على القينيّ بالبصرة في بني سليم، فأخذ و قتل.
و كتب ابن عباس من البصرة إلى معاوية:
أما بعد، فإنك و دسّك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش مثل الذي ظفرت به من يمانيتك لكما قال الشاعر:
لعمرك إني و الخزاعيّ طارقا *** كنعجة عاد حتفها تتحفّر
أثارت عليها شفرة بكراعها *** فظلّت بها من آخر الليل تجزر
ص: 19
شمتّ بقوم هم صديقك أهلكوا *** أصابهم يوم من الذهر أمعر(1)
فأجابه معاوية: أما بعد، فإن الحسن قد كتب إليّ بنحو مما كتبت به و أنّبني/بما لم أجن(2) ظنا و سوء رأي، و إنك لم تصب مثلنا، و لكن مثلنا و مثلكم كما قال طارق الخزاعيّ:
فو اللّه ما أدري و إني لصادق *** إلى أيّ من يظنّني أتعذر؟
أعنّف أن كانت زبينة أهلكت *** و نال بني لحيان شرّ و نفّروا
أ بنيّ إني قد كبرت و رابني *** بصري و فيّ لمصلح مستمتع
فلئن كبرت نقد دنوت من(3) البلى *** و حلت لكم منّي خلائق أربع
عروضه من الكامل، و الشعر لعبدة بن الطبيب، و الغناء لابن محرز، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها عن إسحاق، و فيه لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر في مجراها عنه أيضا.
ص: 20
هو فيما ذكر ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ، و أبو نصر أحمد بن حاتم عن الأصمعيّ و أبي عمرو الشيبانيّ و أبي فروة العكليّ: عبدة بن الطبيب، و الطبيب اسمه يزيد بن عمرو بن وعلة بن أنس بن عبد اللّه بن عبد تيم بن جشم بن عبد شمس. و يقال: عبشمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
و قال ابن حبيب خاصة: و قد أخبرني أبو عبيدة قال:
تميم كلها كانت في الجاهلية يقال لها: عبد تيم، و تيم: صنم كان لهم يعبدونه.
و عبدة شاعر مجيد ليس بالمكثر، و هو مخضرم، أدرك الإسلام فأسلم، و كان في جيش النعمان بن المقرّن الذين حاربوا معه الفرس بالمدائن. و قد ذكر ذلك في قصيدته التي أولها:
هل حبل خولة بعد الهجر موصول *** أم أنت عنها بعيد الدار مشغول؟
حلّت خويلة في دار مجاورة *** أهل المدينة(1) فيها الديك و الفيل
يقارعون رءوس العجم ضاحية *** منهم فوارس لا عزل و لا ميل(2)
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال:
أرثى بيت قالته العرب قول عبدة بن الطبيب:
فما كان قيس هلكه هلك واحد *** و لكنه بنيان قوم تهدّما
/و تمام هذه الأبيات: أنشدناه عليّ بن سليمان الأخفش عن السكري و المبرّد و الأحول(3) لعبدة يرثي قيسا:
عليك سلام اللّه قيس بن عاصم *** و رحمته ما شاء أن يترحّما
تحية من أوليته منك نعمة *** إذا زار عن شحط بلادك سلّما
و ما كان قيس هلكه هلك واحد *** و لكنه بنيان قوم تهدّما
ص: 21
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو عثمان الأشناندانيّ عن التوّزيّ عن أبي عبيدة عن يونس قال:
قال رجل لخالد بن صفوان: كان عبدة بن الطبيب لا يحسن أن يهجو، فقال: لا تقل ذاك، فو اللّه ما أبى من عيّ، و لكنه كان يترفع عن الهجاء و يراه ضعة، كما يرى تركه مروءة و شرفا، قال:
و أجرأ من رأيت بظهر غيب *** على عيب الرجال أولو(1) العيوب
/أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال: حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب، عن ابن الأعرابيّ: أن عبد الملك بن مروان قال يوما لجلسائه:
أيّ المناديل أشرف؟ فقال قائل منهم: مناديل مصر، كأنها غرقئ(2) البيض. و قال آخرون: مناديل اليمن، كأنها نور الربيع. فقال عبد الملك: مناديل أخي بني سعد عبدة بن الطبيب، قال:
لمّا نزلنا نصبنا ظلّ أخبية(3) *** و فار للقوم باللحم المراجيل
/ورد و أشقر(4) ما يؤنيه(5) طابخه *** ما غيّر الغلي منه فهو مأكول
ثمّت قمنا إلى جرد مسوّمة *** أعرافهنّ لأيدينا مناديل
يعني بالمراجيل: المراجل، فزاد فيها الياء ضرورة.
إن الليالي أسرعت في نقضي *** أخذن بعضي و تركن بعضي
حنين طولي و طوين عرضي *** أقعدنني من بعد طول نهض
عروضه من الرّجز، الشعر للأغلب العجليّ، و الغناء لعمرو بن بانة، هزج بالبنصر.
ص: 22
هو - فيما ذكر ابن قتيبة - الأغلب بن جشم بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل.
و هو أحد المعمّرين، عمّر في الجاهلية عمرا طويلا، و أدرك الإسلام فأسلم، و حسن إسلامه و هاجر، ثم كان فيمن توجّه إلى الكوفة مع سعد بن أبي وقّاص، فنزلها، و استشهد في وقعة بنهاوند(1)، فقبره هناك في قبور الشهداء.
و يقال: إنه أوّل من رجّز الأراجيز الطّوال من العرب، و إياه عنى الحجاج بقوله مفتخرا:
إني أنا الأغلب أمسى قد نشد(2)
قال ابن حبيب: كانت العرب تقول الرجز في الحرب و الحداء و المفاخرة و ما جرى هذا المجرى، فتأتي منه بأبيات يسيرة، فكان الأغلب أول من قصّد الرجز، ثم سلك الناس بعده طريقته.
أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحيّ أبو خليفة في كتابه إلينا، قال: أخبرنا محمد بن سلاّم، قال: حدثنا الأصمعيّ.
و أخبرنا أحمد بن محمد أبو الحسن الأسديّ قال حدثنا الرياشيّ، قال حدثنا معمر بن عبد الوارث عن أبي عمرو بن العلاء، قال:
كانت للأغلب سرحة(3) يصعد عليها، ثم يرتجز:
قد عرفتني سرحتي فأطّت(4) *** و قد شمطت بعدها و اشمطّت
فاعترضه رجل من بني سعد، ثم أحد بني الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد، فقال له:
/قبحت من سالفة(5) و من قفا *** عبد إذا ما رسب القوم طفا
ص: 23
كما شرار الرّعي(1) أطراف السّفى
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثني محمد بن عباد بن حبيب المهلّبيّ، قال: حدثني نصر بن ناب عن داود بن أبي هند عن الشعبيّ، قال:
كتب/عمر بن الخطاب إلى المغيرة بن شعبة و هو على الكوفة: أن أستنشد من قبلك من شعراء قومك(2) ما قالوا في الإسلام، فأرسل إلى الأغلب العجليّ فاستنشده فقال:
لقد سألت هيّنا موجودا *** أ رجزا تريد أم قصيدا؟
ثم أرسل إلى لبيد فقال له: إن شئت مما عفا اللّه عنه - يعني الجاهلية - فعلت. قال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق لبيد فكتب سورة البقرة في صحيفة، و قال: أبدلني اللّه عزّ و جلّ بهذه في الإسلام مكان الشعر.
فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص عمر من عطاء الأغلب خمسمائة، و جعلها في عطاء لبيد؛ فكتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، أ تنقص عطائي أن أطعتك(3)! فرد عليه خمسمائة و أقرّ عطاء لبيد على ألفين و خمسمائة.
أخبرني محمد بن عبد العزيز(4)، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا محمد بن حاتم، قال: حدثنا عليّ بن القاسم، عن الشعبيّ قال:
/دخل الأغلب على عمر، فلما رآه قال: هيه، أنت القائل:
أ رجزا تريد أم قصيدا؟ *** لقد سألت هيّنا موجودا
فقال: يا أمير المؤمنين إنما أطعتك، فكتب عمر إلى المغيرة: أن أردد عليه الخمس المائة(5) و أقرّ الخمس المائة للبيد.
ليس بذى واهنة(1) و لا نسا(2) *** نشأ بلحم و بخبز ما اشترى(3)
حتى شتا(4) ينتح(5) ذفراه(6) الندى *** خاظى(7) البضيع(8) لحمه خظا بظا(9)
/كأنما جمّع من لحم الخصى *** إذا تمطّى بين برديه صأى(10)
كأنّ عرق أيره إذا ودى(11) *** حبل عجوز ضفّرت سبع قوى
يمشي على قوائم خمس زكا(12) *** يرفع وسطاهنّ من برد النّدى
قالت: متى كنت أبا الخير متى؟ *** قال حديثا لم يغيّرني البلى
و لم أفارق خلّة لي عن قلى *** فانتسفت(13) فيشته ذات الشّوى(14)
كأن في أجلادها(15) سبع كلى(16) *** ما زال عنها بالحديث و المنى
و الخلق السّفساف يردى في الردى *** قال: أ لا ترينه قالت: أرى
قال: أ لا أدخله؟ قالت: بلى *** فشام فيها مثل محراث(17) الغضى(18)
يقول لما غاب فيها و استوى *** لمثلها كنت أحسّيك الحسا
و كان من خبر سجاح و ادعائها النبوة و تزويج مسيلمة الكذاب إياها ما أخبرنا به إبراهيم بن النسوي يحيى، عن أبيه عن شعيب عن سيف:
إنّ سجاح التميميّة ادعت النبوّة بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم، و اجتمعت/عليها بنو تميم، فكان فيما ادّعت أنه أنزل/عليها: يا أيها المؤمنون المتقون، لنا نصف الأرض، و لقريش نصفها، و لكنّ قريشا قوم يبغون.
ص: 25
و اجتمعت بنو تميم كلها إليها لتنصرها. و كان فيهم الأحنف بن قيس، و حارثة بن بدر، و وجوه تميم كلها.
و كان مؤذّنها شبيب بن ربعيّ الرياحيّ، فعمدت في جيشها إلى مسيلمة الكذاب و هو باليمامة، و قالت: يا معشر تميم، اقصدوا اليمامة، فاضربوا فيها كل هامة، و أضرموا فيها نارا ملهامة، حتى تتركوها سوداء كالحمامة(1).
و قالت لبني تميم: إن اللّه لم يجعل هذا الأمر في ربيعة، و إنما جعله في مضر، فاقصدوا هذا الجمع، فإذا فضضتموه كررتم على قريش. فسارت في قومها و هم الدّهم(2) الداهم. و بلغ مسيلمة خبرها، فضاق بها ذرعا، و تحصّن في حجر حصن اليمامة. و جاءت في جيوشها فأحاطت به، فأرسل إلى وجوه قومه و قال: ما ترون؟ قالوا:
نرى أن نسلّم هذا الأمر إليها و تدعنا، فإن لم نفعل فهو البوار.
و كان مسيلمة ذا دهاء، فقال: سأنظر في هذا الأمر. ثم بعث إليها: إن اللّه - تبارك و تعالى - أنزل عليك وحيا، و أنزل عليّ. فهلمّي نجتمع، فنتدارس ما أنزل اللّه علينا، فمن عرف الحق تبعه، و اجتمعنا فأكلنا العرب أكلا بقومي و قومك.
فبعثت إليه: أفعل، فأمر بقيّة أدم فضربت، و أمر بالعود المندليّ (3) فسجر فيها، و قال: أكثروا من الطيب و المجمر(4)، فإنّ المرأة إذا شمت رائحة الطيب ذكرت الباه، ففعلوا ذلك.
/و جاءها رسوله يخبرها بأمر القبّة المضروبة للاجتماع، فأتته فقالت: هات ما أنزل عليك. فقال: أ لم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نطفة تسعى، بين صفاق(5) و حشا، من بين ذكر و أنثى، و أموات و أحيا، ثم إلى ربهم يكون المنتهى. قالت: و ما ذا؟ قال: أ لم تر أن اللّه خلقنا أفواجا، و جعل النساء لنا أزواجا، فنولج فيهن الغراميل إيلاجا، و نخرجها منهن إذا شئن إخراجا. قالت: فبأي شيء أمرك؟ قال:
ألا قومي إلى النّيك *** فقد هبّي لك المضجع
فإن شئتي(6) ففي البيت *** و إن شئتي ففي المخدع
و إن شئتي سلقناك(7) *** و إن شئتي على أربع
و إن شئتي بثلثيه *** و إن شئتي به أجمع
قال: فقالت: لا، إلاّ به أجمع. قال: فقال: كذا أوحى اللّه إليّ، فواقعها. فلما قام عنها قالت: إن مثلي لا يجري أمرها هكذا، فيكون وصمة على قومي و عليّ، و ليكن مسلّمة النبوّة إليك، فاخطبني إلى أوليائي يزوّجوك، ثم أقود تميما معك.
فخرج و خرجت معه، فاجتمع الحيّان من حنيفة و تميم، فقالت لهم سجاح: إنه قرأ عليّ ما أنزل عليه،
ص: 26
فوجدته حقّا، فاتبعته، ثم خطبها، فزوّجوه إياها، و سألوه عن المهر، فقال: قد وضعت عنكم صلاة العصر، فبنو تميم إلى الآن بالرّمل لا يصلّونها، و يقولون: هذا حق لنا، و مهر كريمة منا لا نردّه. قال: و قال شاعر من بني تميم يذكر أمر سجاح في كلمة له:
أضحت نبيّتنا أنثى نطيف بها *** و أصبحت أنبياء اللّه ذكرانا
قال: و سمع الزبرقان بن بدر لأحنف يومئذ، و قد ذكر مسيلمة و ما تلاه عليهم، فقال/الأحنف: و اللّه ما رأيت أحمق من هذا النبي قطّ. فقال الزبرقان: و اللّه لأخبرن بذلك مسيلمة. قال: /إذا و اللّه أحلف أنك كذبت فيصدّقني و يكذبك. قال: فأمسك الزبرقان، و علم أنه قد صدق.
قال: و حدّث الحسن البصريّ بهذا الحديث، فقال: أمن و اللّه أبو بحر من نزول الوحي. قال: فأسلمت سجاح بعد ذلك و بعد قتل مسيلمة، و حسن إسلامها.
كم ليلة فيك بتّ أسهرها *** و لوعة من هواك أضمرها
و حرقة و الدموع تطفئها *** ثم يعود الجوى فيسعرها
بيضاء رود(1) الشباب قد غمست *** في خجل دائب يعصفرها
اللّه جار لها فما امتلأت *** عيناي إلا من حيث أبصرها
الشعر للبحتريّ، و الغناء لعريب، رمل مطلق من مجموع أغانيها، و هو لحن مشهور في أيدي الناس، و اللّه أعلم.
ص: 27
هو الوليد بن عبيد اللّه(1) بن يحيى بن عبيد بن شملال بن جابر بن سلمة بن مسهر بن الحارث بن خيثم(2)ابن أبي حارثة بن جدي بن تدول بن بحتر بن عتود بن عثمة(3) بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن جلهمة و هو طيّئ بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
و يكنى أبا عبادة، شاعر فاضل فصيح حسن المذهب، نقيّ الكلام، مطبوع، كان مشايخنا رحمة اللّه عليهم يختمون به الشعراء، و له تصرّف حسن فاضل نقيّ في ضروب الشعر، سوى الهجاء، فإن بضاعته فيه نزرة، و جيّده منه قليل. و كان ابنه أبو الغوث يزعم أن السبب في قلة بضاعته في هذا الفن أنه لمّا حضره الموت دعا به، و قال له:
اجمع كلّ شيء قلته في الهجاء. ففعل، فأمره بإحراقه، ثم قال له: يا بني، هذا شيء قلته في وقت، فشفيت به غيظي، و كافأت به قبيحا فعل بي، و قد انقضى أربي في ذلك، و إن بقي روي، و للناس أعقاب يورثونهم العداء و المودة، و أخشى أن يعود عليك من هذا شيء(4) في نفسك أو معاشك لا فائدة لك و لي فيه، قال: فعلمت أنه قد نصحني و أشفق عليّ، فأحرقته.
أخبرني بذلك عليّ بن سليمان الأخفش عن أبي الغوث.
و هذا - كما قال أبو الغوث - لا فائدة لك و لا لي فيه، لأن الذي وجدناه و بقي في أيدي الناس من هجائه أكثره ساقط، مثل قوله في ابن شير زاد:
/نفقت نفوق الحمار الذّكر *** و بان ضراطك عنا فمر
و مثل قوله في عليّ بن الجهم(5):
و لو أعطاك ربّك ما تمنّى(6) *** لزادك منه في غلظ الأيور
علام طفقت تهجوني مليّا *** بما لفّقت من كذب و زور
ص: 28
و أشباه لهذه الأبيات، و مثلها(1) لا يشاكل طبعه، و لا تليق بمذهبه، و تنبئ بركاكتها و غثاثة/ألفاظها عن قلّة حظّه في الهجاء، و ما يعرف له هجاء جيّد إلا قصيدتان إحداهما قوله في ابن أبي قماش:
مرّت على عزمها و لم تقف *** مبدية للشّنان و الشّنف
يقول فيها لابن أبي قماش:
قد كان في الواجب المحقّق أن *** تعرف ما في ضميرها النّطف
بما تعاطيت في العيوب و ما *** أوتيت من حكمة و من لطف
أ ما رأيت المرّيخ قد مازج الزّ *** هرة في الجدّ منه و الشّرف
و أخبرتك النّحوس أنكما *** في حالتي ثابت و منصرف
من أين أعملت ذا و أنت على *** التّقويم و الزّيج جدّ منعكف(2)
أ ما زجرت الطيّر العلا أو تعيّ *** فت المها(3) أو نظرت في الكتف
رذلت في هذه الصناعة أو *** أكديت أو رمتها على الخرف
لم تخط باب الدّهليز منصرفا *** إلا و خلخالها مع الشّنف(4)
/و هي طويلة، و لم يكن مذهبي ذكرها إلا للإخبار عن مذهبه في هذا الجنس، و قصيدته في يعقوب بن الفرج النّصرانيّ، فإنها - و إن لم تكن في أسلوب هذه و طريقتها - تجري مجرى التّهكّم باللفظ الطيّب الخبيث المعاني، و هي:
تظنّ شجوني لم تعتلج *** و قد خلج البين من قد خلج
و كان البحتريّ يتشبّه بأبي تمّام من شعره، و يحذو مذهبه، و ينحو نحوه في البديع الذي كان أبو تمام يستعمله، و يراه صاحبا و إماما، و يقدّمه على نفسه، و يقول في الفرق بينه و بينه قول منصف: إنّ جيّد أبي تمّام خير من جيّده، و وسطه و رديئه خير من وسط أبي تمّام و رديئه(5)، و كذا حكم هو على نفسه.
أخبرني محمد بن يحيى الصولي: قال: حدثني الحسين بن علي الياقظانيّ: قال:
قلت للبحتريّ: أيّما أشعر أنت أو أبو تمام؟ فقال: جيّده خير من جيّدي، و رديئي خير من رديئه.
حدثني محمد بن يحيى قال: حدثني أبو الغوث يحيى بن البحتري: قال:
كان أبي يكنّى أبا الحسن، و أبا عبادة، فأشير عليّ (6) في أيام المتوكل بأن أقتصر(6) على أبي عبادة، فإنها أشهر، فاقتصرت(6) عليها.
ص: 29
حدثني محمد قال:
سمعت عبد اللّه بن الحسين بن سعد يقول للبحتريّ - و قد اجتمعنا في دار عبد اللّه بالخلد، و عنده المبرّد في سنة ست و سبعين و مائتين، و قد أنشد البحتريّ شعرا لنفسه قد كان أبو تمام قال في مثله -: أنت و اللّه أشعر من أبي تمّام في هذا الشعر، /قال: كلاّ و اللّه، إن أبا تمام للرّئيس و الأستاذ، و اللّه ما أكلت الخبر إلاّ به، فقال له المبرّد: للّه درّك يا أبا الحسن، فإنك تأبى إلا شرفا من جميع جوانبك.
حدثني محمد: قال: حدثني الحسين بن إسحاق: قال:
قلت للبحتريّ: إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام، فقال: و اللّه ما ينفعني هذا القول، و لا يضرّ أبا تمّام، و اللّه ما أكلت الخبز إلا به، و لوددت أنّ الأمر كان كما قالوا، و لكني و اللّه تابع له آخذ منه لائذ به، نسيمي يركد عند هوائه، و أرضي تنخفض عند سمائه.
حدثني محمد بن يحيى: قال: حدثني سوّار بن أبي شراعة، عن البحتري: قال: و حدثني أبو عبد اللّه الألوسيّ، عن علي بن يوسف(1)، /عن البحتري: قال:
كان أوّل أمري في الشعر و نباهتي أنّي صرت إلى أبي تمّام، و هو بحمص، فعرضت عليه شعري، و كان الشّعراء يعرضون عليه أشعارهم، فأقبل عليّ، و ترك سائر من حضر، فلما تفرّقوا قال لي: أنت أشعر من أنشدني، فكيف باللّه حالك؟ فشكوت خلّة(2) فكتب إلى أهل معرّة النّعمان، و شهد لي بالحذق بالشعر، و شفع لي إليهم و قال: امتدحهم، فصرت إليهم، فأكرموني بكتابه، و وظّفوا لي أربعة آلاف درهم، فكانت أول مال أصبته. و قال عليّ بن يوسف في خبره: فكانت نسخة كتابه: «يصل كتابي هذا على يد الوليد أبي عبادة الطائيّ، و هو - على بذاذته(3) - شاعر، فأكرموه».
حدثني جحظة: قال: سمعت البحتريّ يقول: كنت أ تعشق غلاما من أهل/منبج يقال له شقران، و اتّفق لي سفر، فخرجت فيه، فأطلت الغيبة، ثم عدت، و قد التحى، فقلت فيه، و كان أول شعر قلته:
نبتت لحية شقرا *** ن شقيق النّفس بعدي
حلقت(4)، كيف أتته *** قبل أن ينجز وعدي!
و قد روى في غير هذه الحكاية أن اسم الغلام شندان.
حدثني عليّ بن سليمان: قال: حدثني أبو الغوث بن البحتريّ عن أبيه، و حدثني عمي: قال: حدثني علي بن العباس النّوبختيّ، عن البحتريّ، و قد جمعت الحكايتين، و هما قريبتان: قال:
ص: 30
أول ما رأيت أبا تمّام أنّي دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف، و قد مدحته بقصيدتي:
أ أفاق صبّ من هوى فأفيقا *** أو خان عهدا أو أطاع شفيقا؟
فسر بها أبو سعيد، و قال: أحسنت و اللّه يا فتى و أجدت، قال: و كان في مجلسه رجل نبيل رفيع المجلس منه، فوق كل من حضر عنده، تكاد تمسّ ركبته ركبته، فأقبل عليّ ثم قال: يا فتى، أ ما تستحي منّي! هذا شعر لي تنتحله، و تنشده بحضرتي! فقال له أبو سعيد: أ حقّا تقول! قال: نعم، و إنما علقه مني، فسبقني به إليك، و زاد فيه، ثم اندفع فأنشد أكثر هذه القصيدة، حتى شكّكني - علم اللّه - في نفسي، و بقيت متحيّرا، فأقبل عليّ أبو سعيد، فقال: يا فتى، قد كان في قرابتك منّا و ودّك لنا ما يغنيك عن هذا، فجعلت أحلف له بكل محرجة من الأيمان أنّ الشّعر لي ما سبقني إليه أحد، و لا سمعته منه، و لا انتحلته، فلم ينفع ذلك شيئا، و أطرق أبو سعيد، و قطع بي، حتى تمنّيت أني سخت في الأرض، فقمت منكسر البال أجرّ رجليّ، فخرجت، فما هو إلا أن بلغت باب الدّار حتى خرج الغلمان فردّوني، فأقبل عليّ الرّجل، فقال: الشعر لك يا بني، و اللّه/ما قلته قطّ، و لا سمعته إلا منك، و لكنني ظننت أنّك تهاونت بموضعي، فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا، تريد بذلك مضاهاتي و مكاثرتي، حتى عرّفني الأمير نسبك و موضعك، و لوددت ألاّ تلد أبدا طائيّة إلا مثلك، و جعل أبو سعيد يضحك، و دعاني أبو تمام، و ضمّني إليه، و عانقني، و أقبل يقرّظني، و لزمته بعد ذلك، و أخذت عنه، و اقتديت به، هذه رواية من ذكرت.
و قد حدثني عليّ بن سليمان الأخفش أيضا قال: حدثني عبد اللّه بن الحسين بن سند القطربليّ:
أن البحتريّ حدثه أنّه دخل على/أبي سعيد محمد بن يوسف الثّغريّ، و قد مدحه بقصيدة، و قصده بها، فألقى عنده أبا تمام و قد أنشده قصيدة له فيه، فاستأذنه البحتريّ في الإنشاد و هو يومئذ حديث السّنّ، فقال له: يا غلام أ تنشدني بحضرة أبي تمّام؟ فقال: تأذن و يستمع(1)، فقام، فأنشده إياها، و أبو تمام يسمع و يهتزّ من قرنه إلى قدمه استحسانا فلما فرغ منها قال: أحسنت و اللّه يا غلام، فممّن أنت؟ قال: من طيّئ، فطرب أبو تمّام و قال: من طيّ ء، الحمد للّه على ذلك، لوددت أن كل طائية تلد مثلك، و قبّل بين عينيه، و ضمّه إليه و قال لمحمد بن يوسف:
قد جعلت له جائزتي، فأمر محمد بها، فضمّت إلى مثلها، و دفعت(2) إلى البحتريّ، و أعطى أبا تمّام مثلها، و خصّ به، و كان مدّاحا له طول أيامه و لابنه بعده، و رثاهما بعد مقتليهما، فأجاد، و مراثيه فيهما أجود من مدائحه، و روى أنه قيل له في ذلك فقال: من تمام الوفاء أن تفضل المراثي المدائح(3) لا كما قال الآخر - و قد سئل عن ضعف مراثيه فقال -: كنا نعمل للرّجاء، نحن نعمل اليوم للوفاء. و بينهما بعد.
حدثني حكم بن يحيى الكنتحي قال:
/كان البحتريّ من أوسخ خلق اللّه ثوبا و آلة و أبخلهم على كل شيء(4)، و كان له أخ و غلام معه في داره،
ص: 31
فكان يقتلهما جوعا، فإذا بلغ منهما الجوع أتياه يبكيان، فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيّقا مقتّرا، و يقول: كلا، أجاع اللّه أكبادكما(1) و أعرى أجلادكما(2) و أطال إجهادكما.
قال حكم بن يحيى: و أنشدته يوما من شعر أبي سهل بن نوبخت، فجعل يحرّك رأسه، فقلت له: ما تقول فيه؟ فقال: هو يشبه مضغ الماء ليس له طعم و لا معنى.
و حدثني أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهانيّ الكاتب، قال:
دخلت على البحتريّ يوما فاحتبسني عنده، و دعا بطعام له، و دعاني إليه، فامتنعت من أكله، و عنده شيخ شاميّ لا أعرفه، فدعاه إلى الطّعام، فتقدّم، و أكل معه أكلا عنيفا، فغاظه ذلك، و التفت إليّ، فقال لي: أ تعرف هذا الشيخ؟ فقلت: لا، قال: هذا شيخ من بني الهجيم الذين يقول فيهم الشاعر:
و بنو(3) الهجيم قبيلة ملعونة *** حصّ اللّحى(4) متشابهو الألوان
لو يسمعون بأكلة أو شربة *** بعمان أصبح جمعهم بعمان(5)
قال: فجعل الشيخ يشتمه، و نحن نضحك.
و حدثني جحظة: قال: حدثني عليّ (6) بن يحيى المنجّم: قال:
اجتازت جارية بالمتوكّل معها كوز ماء، و هي أحسن من القمر، فقال لها: ما اسمك؟ /قالت: برهان، قال: و لمن هذا الماء؟ قالت: لستيّ قبيحة، قال: صبيّه في حلقي، فشربه عن آخره، ثم قال للبحتريّ: قل في هذا شيئا، فقال البحتريّ:
ما شربة(7) من رحيق كأسها ذهب *** جاءت بها الحور من جنّات رضوان
يوما بأطيب من ماء بلا عطش *** شربته عبثا من كف برهان
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، و أحمد بن جعفر جحظة: قالا: حدثنا أبو الغوث بن البحتري: قال:
كتبت إلى أبي يوما أطلب منه نبيذا، فبعث إليّ بنصف قنّينة درديّ (8)، و كتب إليّ: دونكها يا بنيّ، فإنها تكشف القحط، و تضبط الرّهط. قال الأخفش، و تقيت الرّهط.
حدثني أبو الفضل عباس بن أحمد بن ثوابة قال:
ص: 32
قدم البحتريّ النّيل(1) على أحمد/بن عليّ الإسكافيّ مادحا له، فلم يثبه ثوابا يرضاه بعد أن طالت مدّته عنده، فهجاه بقصيدته التي يقول فيها:
ما كسبنا من أحمد بن عليّ *** و من النّيل غير حمى النّيل
و هجاه بقصيدة أخرى أولها:
قصّة النّيل فاسمعوها عجابه
فجمع إلى هجائه إياه هجاء أبي ثوابة، و بلغ ذلك أبي، فبعث إليه بألف درهم و ثياب و دابّة بسرجها و لجامها، فردّه إليه، و قال: قد أسلفتكم إساءة لا يجوز معها قبول رفدكم(2)، فكتب إليه أبي: أمّا الإساءة فمغفورة و أما المعذرة فمشكورة، و الحسنات/يذهبن السيئات، و ما يأسو جراحك مثل يدك. و قد رددت إليك ما رددته عليّ، و أضعفته، فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا و شكرنا، و إن لم تفعل احتملنا و صبرنا. فقبل ما بعث به، و كتب إليه: كلامك و اللّه أحسن من شعري، و قد أسلفتني ما أخجلني، و حمّلتني ما أثقلني، و سيأتيك ثنائي. ثم غدا إليه بقصيدة أولها:
ضلال لها ما ذا أرادت إلى الصّد
و قال فيه بعد ذلك:
برق أضاء العقيق من ضرمه
و قال فيه أيضا:
دان دعا داعي الصّبا فأجابه
قال: و لم يزل أبي يصله بعد ذلك، و يتابع برّه لديه حتى افترقا.
أخبرني جحظة قال:
كان نسيم غلام البحتريّ الذي يقول فيه:
دعا عبرتي تجري على الجور و القصد *** أظنّ نسيما قارف الهمّ من بعدي
خلا ناظري من طيفه بعد شخصه *** فيا عجبا للدّهر فقد(3) على فقد
غلاما روميّا ليس بحسن الوجه، و كان قد جعله بابا من أبواب الحيل على النّاس، فكان يبيعه و يعتمد أن يصيّره إلى ملك بعض أهل المروءات و من ينفق عنده الأدب، فإذا حصل في ملكه شبّب به، و تشوّقه، و مدح مولاه، حتى يهبه له، فلم يزل ذلك دأبه حتى مات نسيم، فكفي النّاس أمره.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال:
ص: 33
كتب البحتريّ إلى أبي محمد بن عليّ القمّيّ (1) يستهديه نبيذا، فبعث إليه نبيذا مع/غلام له أمرد، فجمّشه(2) البحتريّ، فغضب الغلام غضبا شديدا، دلّ البحتريّ على أنه سيخبر مولاه بما جرى، فكتب إليه:
أبا جعفر كان تجميشنا *** غلامك إحدى الهنات الدّنيّه
بعثت إلينا بشمس المدام *** تضيء لنا مع شمس البريّة
فليت الهديّة كان الرّسول *** و ليت الرسول إلينا الهديّة
فبعث إليه محمد بن عليّ الغلام هديّة، فانقطع البحتريّ عنه بعد ذلك مدة، خجلا مما جرى، فكتب إليه محمد بن عليّ:
هجرت كأنّ البرّ أعقب حشمة *** و لم أر وصلا قبل ذا أعقب الهجرا
فقال فيه قصيدته التي أولها:
فتى مذحج عفوا فتى مذحج غفرا(3)
و هي طويلة. و قال فيه أيضا:
أ مواهب(4) هاتيك أم أنواء *** هطل و أخذ ذاك أم إعطاء
إن دام ذا أو بعض ذا من فعل ذا *** ذهب(5) السخاء فلا يعدّ(6) سخاء
/ليس الذي حلّت تميم وسطه *** الدّهناء، لكن صدرك الدهناء(7)
ملك أغر لآل طلحة مجده *** كفّاه بحر سماحة و سماء(8)
/و شريف أشراف إذا احتكّت بهم *** جرب القبائل أحسنوا و أساءوا(9)
أ محمد بن عليّ أسمع عذرة *** فيها شفاء للمسيء و داء
ما لي إذ ذكر الكرام رأيتني *** ما لي مع النّفر الكرام وفاء؟
يضفو عليّ العذل و هو مقارب *** و يضيق عني العذر و هو فضاء
إنّي هجرتك إذ هجرتك حشمة *** لا العود يذهبها و لا الإبداء
ص: 34
أخجلتني بندى يديك فسوّدت *** ما بيننا تلك اليد البيضاء(1)
و قطعتني بالبرّ حتى إنني *** متوهّم أن لا يكون لقاء
صلة غدت في الناس و هي قطيعة *** عجبا و برّ راح و هو جفاء
ليواصلنّك ركب شعري سائرا *** تهدى به في مدحك الأعداء(2)
حتى يتمّ لك الثّناء مخلّدا *** أبدا كما دامت لك النّعماء
فتظلّ تحسدك الملوك الصيد بي *** و أظلّ يحسدني بك الشّعراء
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش: قال: سألني القاسم بن عبيد اللّه عن خبر البحتريّ، و قد كان أسكت، و مات من تلك العلّة، فأخبرته بوفاته، و أنه مات في تلك السّكتة، فقال: ويحه رمي في أحسنه(3).
أخبرني محمد بن يحيى: قال: حدثني محمد بن عليّ الأنباريّ: قال:
سمعت البحتريّ يقول: أنشدني أبو تمام يوما لنفسه:
و سابح هطل التّعداء هتّان *** على الجراء أمين غير خوّان(4)
أظمي الفصوص و لم تظمأ قوائمه *** فخلّ عينيك في ظمآن ريّان(5)
فلو تراه مشيحا و الحصى زيم(6) *** بين السّنابك من مثنّى و وحدان
أيقنت إن لم تثبّت أنّ حافره *** من صخر تدمر أو من وجه عثمان(7)
ثم قال لي: ما هذا الشعر؟ قلت: لا أدري، قال: هذا هو المستطرد، أو قال الاستطراد. قلت: و ما معنى ذلك؟ قال: يريك أنه يريد وصف الفرس و هو يريد هجاء عثمان، و قد فعل البحتري ذلك، فقال في صفة الفرس:
ما إن يعاف قذى و لو أوردته *** يوما خلائق حمدويه الأحول
و كان حمدويه الأحول عدوّا لمحمد بن علي القمّي الممتدح بهذه القصيدة فهجاه في عرض مدحه محمدا.
و اللّه أعلم.
ص: 35
حدثني عليّ بن سليمان الأخفش: قال: حدّثني أبو الغوث بن البحتريّ: قال:
حدثني أبي: قال: قال لي أبو تمام: بلغني أنّ بني حميد أعطوك مالا جليلا فيما مدحتهم به، فأنشدني شيئا منه، فأنشدته بعض ما قلته فيهم، فقال لي: كم أعطوك؟ فقلت: كذا و كذا، فقال: ظلموك، و اللّه ما و فوك حقّك، فلم استكثرت ما دفعوه إليك؟ /و اللّه لبيت منها خير مما أخذت، ثم أطرق قليلا، ثم قال: لعمري لقد استكثرت ذلك، و استكثر لك لمّا مات الناس و ذهب/الكرام، و غاضت المكارم، فكسدت سوق الأدب، أنت و اللّه يا بنيّ أمير الشعراء غدا بعدي، فقمت فقبّلت رأسه و يديه و رجليه، و قلت له: و اللّه لهذا القول أسرّ إلى قلبي و أقوى لنفسي مما وصل إليّ من القوم.
حدثني محمد بن يحيى عن الحسن بن علي الكاتب: قال: قال لي البحتريّ: أنشدت أبا تمام يوما شيئا من شعري، فتمثّل ببيت أوس بن حجر:
إذا مقرم منا ذرا حدّ نابه *** تخمّط فينا ناب آخر مقرم(1)
ثم قال لي: نعيت و اللّه إليّ نفسي، فقلت: أعيدك باللّه من هذا القول، فقال: إنّ عمري لن يطول، و قد نشأ في طيء مثلك، أ ما علمت أنّ خالد بن صفوان رأى شبيب بن شيبة، و هو من رهطة يتكلم، فقال: يا بنيّ، لقد نعى إليّ نفسي إحسانك في كلامك،، لأنّا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب قطّ إلاّ مات من قبله، فقلت له: بل يبقيك اللّه، و يجعلني فداءك. قال: و مات أبو تمام بعد سنة.
حدثني أحمد بن جعفر جحظة: قال: حدثني أبو العنبس الصّميريّ قال:
كنت عند المتوكل و البحتريّ ينشده:
عن أيّ ثغر تبتسم *** و بأيّ طرف تحتكم؟
حتى بلغ إلى قوله:
قل للخليفة جعفر ال *** متوكّل بن المعتصم
/المبتدي للمجتدي(2) *** و المنعم بن المنتقم
أسلم لدين محمد *** فإذا سلمت فقد سلم
قال: و كان البحتريّ من أبغض الناس إنشادا، يتشادق و يتزاور(3) في مشيه مرة جانبا، و مرّة القهقري، و يهزّ
ص: 36
رأسه مرّة، و منكبيه أخرى، و يشير بكمّه، و يقف عند كل بيت، و يقول: أحسنت و اللّه، ثم يقبل على المستمعين، فيقول: ما لكم لا تقولون أحسنت؟ هذا و اللّه ما لا يحسن أحد أن يقول مثله: فضجر المتوكل من ذلك و أقبل عليّ، و قال: أ ما تسمع يا صيمريّ ما يقول؟ فقلت: بلى يا سيّدي، فمرني فيه بما أحببت، فقال: بحياتي أهجه على هذا الرّويّ الذي أنشدنيه، فقلت: تأمر ابن حمدون أن يكتب ما أقول، فدعا بداوة و قرطاس، و حضرني على البديهة أن قلت:
أدخلت رأسك في الرّحم *** و علمت أنّك تنهزم
يا بحتريّ حذار ويحك *** من قضاقضة ضغم(1)
فلقد أسلت بواديي *** ك(2) من الهجا سيل العرم
فبأيّ عرض تعتصم *** و بهتكه جفّ القلم؟
و اللّه حلفة صادق *** و بقبر أحمد و الحرم
و بحقّ جعفر الإما *** م ابن الإمام المعتصم
لأصيّرنّك شهرة *** بين المسيل إلى العلم
/حيّ الطّلول(3) بذي سلم *** حيث الأراكة و الخيم
يا بن الثّقيلة و الثق *** يل على قلوب ذوي النّعم
/و على الصغير مع الكب *** ير من الموالي و الحشم
في أي سلح ترتطم *** و بأيّ كفّ تلتقم؟
يا بن المباحة للورى *** أ من العفاف أم التّهم(4)
إذ رحل أختك للعجم *** و فراش أمّك في الظّلم
و بباب دارك حانة *** في بيته يؤتى الحكم
قال: فغضب، و خرج يعدو، و جعلت أصيح به:
أدخلت رأسك في الرّحم *** و علمت أنّك تنهزم
و المتوكل يضحك، و يصفّق حتى غاب عن عينه.
هكذا حدثني جحظة عن أبي العنبس.
و وجدت هذه الحكاية بعينها بخط الشاهيني حكاية عن أبي العنبس، فرأيتها قريبة اللفظ، موافقة المعنى لما ذكره جحظة، و الذي يتعارفه الناس أن أبا العنبس قال هذه الأبيات ارتجالا، و كان واقفا خلف البحتريّ، فلما ابتدأ و أنشد قصيدته:
ص: 37
عن أيّ ثغر تبتسم *** و بأيّ طرف تحتكم
صاح به أبو العنبس من خلفه:
في أيّ سلح ترتطم *** و بأيّ كفّ تلتقم
أدخلت رأسك في الرّحم *** و علمت أنك تنهزم
/فغضب البحتريّ، و خرج، فضحك المتوكّل حتى أكثر، و أمر لأبي العنبس بعشرة آلاف درهم و اللّه أعلم.
و أخبرني بهذا الخبر محمد بن يحيى الصّوليّ، و حدثني عبد اللّه بن أحمد بن حمدون عن أبيه: قال: و حدثني يحيى بن علي عن أبيه:
إن البحتريّ أنشد المتوكّل - و أبو العنبس الصّيمريّ حاضر - قصيدته:
عن أيّ ثغر تبتسم *** و بأيّ طرف تحتكم؟(1) إلى آخرها، و كان إذا أنشد يختال، و يعجب بما يأتي به، فإذا فرغ من القصيدة ردّ البيت الأول، فلما رده بعد فراغه منها. و قال:
عن أيّ ثغر تبتسم *** و بأيّ طرف تحتكم(2)
قال أبو العنبس و قد غمزه المتوكل أن يولع به:
في أي سلح ترتطم *** و بأي كفّ تلتقم
أدخلت رأسك في الرّحم *** و علمت أنّك تنهزم
فقال نصف البيت الثاني، فلما سمع البحتريّ قوله ولّى مغضبا، فجعل أبو العنبس يصيح به:
و علمت أنك تنهزم
فضحك المتوكل من ذلك حتى غلب، و أمر لأبي العنبس بالصّلة التي أعدّت للبحتري.
قال أحمد بن زياد(3): فحدّثني أبيّ قال:
/جاءني البحتريّ، فقال لي: يا أبا خالد أنت عشيرتي و ابن عمّي و صديقي، و قد رأيت ما جرى عليّ، أ فتأذن لي(4) أن أخرج إلى منبج بغير إذن، فقد ضاع العلم، و هلك الأدب؟ فقلت: لا تفعل من هذا شيئا، فإن الملوك تمزح بأعظم مما جرى، و مضيت معه إلى الفتح، فشكا إليه ذلك، فقال له نحوا من قولي، و وصله، /و خلع عليه، فسكن إلى ذلك.
حدثني جحظة عن عليّ بن يحيى المنجّم: قال:
لمّا قتل المتوكّل قال أبو العنبس الصّيمريّ:
ص: 38
يا وحشة الدنيا على جعفر *** على الهمام الملك الأزهر(1)
على قتيل من بني هاشم *** بين سرير الملك و المنبر
و اللّه ربّ البيت و المشعر *** و اللّه أن لو قتل البحتري
لثار بالشّام له ثائر *** في ألف نغل(2) من بني عض خرى
يقدمهم كلّ أخي ذلّة *** على حمار دابر أعور
فشاعت الأبيات حتى بلغت البحتريّ، فضحك، ثم قال: هذا الأحمق يرى أنّي أجيبه على مثل هذا، فلو عاش امرؤ القيس. فقال، من كان يجيبه(3)؟.
ص: 39
كانت عريب مغنّية محسنة، و شاعرة صالحة الشعر، و كانت مليحة الخط و المذهب في الكلام، و نهاية في الحسن و الجمال و الظّرف، و حسن الصورة و جودة الضّرب، و إتقان الصنعة و المعرفة بالنّغم و الأوتار، و الرواية للشعر و الأدب، لم يتعلق بها أحد من نظرائها، و لا رئي في النساء بعد القيان الحجازيّات القديمات، مثل جميلة و عزّة الميلاء و سلاّمة الزرقاء و من جرى مجراهن - على قلة عددهن - نظير لها، و كانت فيها من الفضائل التي وصفناها ما ليس لهنّ مما يكون لمثلها من جواري الخلفاء، و من نشأ في قصور الخلافة و غذّي برقيق العيش، الذي لا يدانيه عيش الحجاز، و النش بين العامة و العرب الجفاة، و من غلظ طبعه، و قد شهد لها بذلك من لا يحتاج مع شهادته إلى غيره.
أخبرني محمد بن خلف وكيع، عن حماد بن إسحاق: قال: قال لي أبي:
ما رأيت امرأة أضرب من عريب، و لا أحسن صنعة و لا أحسن وجها، و لا أخفّ روحا، و لا أحسن خطابا، و لا أسرع جوابا، و لا ألعب بالشّطرنج و النّرد، و لا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها. قال حمّاد:
فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم في حياة أبي، فقال: صدق أبو محمد، هي كذلك، قلت: أ فسمعتها؟ قال: نعم هناك، يعني في دار المأمون، قلت: أ فكانت كما ذكر أبو محمد في الحذق؟ فقال يحيى: هذه مسألة الجواب فيها على أبيك، فهو أعلم مني بها، فأخبرت بذلك أبي، فضحك، ثم قال: ما استحييت من قاضي القضاة أن تسأله عن مثل هذا.
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى: قال: حدثني أبي، قال:
قال لي إسحاق: كانت عندي صنّاجة(1) كنت بها معجبا، و اشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون، فبينا أنا ذات يوم في منزلي، إذ أتاني إنسان يدقّ الباب دقّا/شديدا، فقلت: انظروا من هذا؟ فقالوا: رسول أمير المؤمنين، فقلت: ذهبت صنّاجتي، تجده ذكرها له ذاكر، فبعث إليّ فيها. فلمّا مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب، و أنا مثخن، فدخلت، فسلّمت، فردّ عليّ السلام، و نظر إلى تغيّر وجهي، فقال لي: أسكن، فسكنت، فقال لي:
غنّ صوتا(2) و قال لي: أ تدري لمن هو؟ فقلت: أسمعه، ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء اللّه ذلك، فأمر جارية من وراء الستارة، فغنّته و ضربت، فإذا هي قد شبّهته بالغناء القديم، فقلت: زدني معها عودا آخر، فإنه أثبت لي، فزادني عودا آخر، /فقلت: هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة، قال: من أين قلت ذاك؟ قلت: لمّا سمعت لينه
ص: 40
عرفت أنه محدث من غناء النساء، و لما رأيت جودة مقاطعه علمت أنّ صاحبته ضاربة، و قد حفظت مقاطعه و أجزاءه، ثم طلبت عودا آخر، فلم أشكّ، فقال: صدقت، الغناء لعريب.
قال ابن المعتز: و قال يحيى بن عليّ (1):
أمرني المعتمد على اللّه أن أجمع غناءها الذي صنعته، فأخذت منها دفاترها و صحفها التي كانت قد جمعت فيها غناءها فكتبته فكان ألف صوت.
و أخبرني علي بن عبد العزيز، عن ابن خرداذبه:
أنه سأل عريب عن صنعتها، فقالت: قد بلغت إلى هذا الوقت ألف صوت.
و حدثني محمد بن إبراهيم قريض(2) أنه جمع غناءها من ديواني ابن المعتز، و أبي العبيس بن حمدون، و ما أخذه عن بدعة جاريتها التي أعطاها إياها بنو هاشم، فقابل بعضه ببعض، فكان ألفا و مائة و خمسة و عشرين صوتا.
و ذكر العتّابيّ أنّ أحمد بن يحيى حدثه: قال:
سمعت أبا عبد اللّه الهشاميّ يقول - و قد ذكرت صنعة عريب -: صنعتها مثل قول أبي دلف في خالد بن يزيد حيث يقول:
/يا عين بكّي خالدا *** ألفا و يدعى واحدا
يريد أنّ غناءها ألف صوت في معنى واحد، فهي بمنزلة صوت واحد و حكى عنه أيضا هذه الحكاية ابن المعتز.
و هذا تحامل لا يحلّ (3)، و لعمري إن في صنعتها لأشياء مرذولة ليّنة، و ليس ذلك مما يضعها، و لا عري كبير أحد من المغنّين القدماء و المتأخرين من أن يكون صنعته النادر و المتوسّط سوى قوم معدودين مثل ابن محرز و معبد في القدماء، و مثل إسحاق وحده في المتأخرين، و قد عيب بمثل هذا ابن سريج في محله، فبلغه أن المغنين يقولون: إنما يغنى ابن سريج الأرمال و الخفاف، و غناؤه يصلح للأعراس و الولائم، فبلغه ذلك فتغنى بقوله:
لقد حبّبت نعم إلينا بوجهها *** مساكن(4) ما بين الوتائر فالنّقع
ثم توفّي بعدها، و غناؤه يجري مجرى المعيب(5) عليه، و هذا إسحاق يقول في أبيه: - على عظيم محلّه في هذه الصناعة و ما كان إسحاق يشيد به من ذكره و تفضيله على ابن جامع و غيره - و لأبي ستّمائة صوت، منها مائتان تشبّه فيها بالقديم، و أتى بها في نهاية من الجودة، و مائتان غناء وسط مثل أغاني سائر الناس، و مائتان فلسية(6) وددت أنه
ص: 41
لم يظهرها و ينسبها لنفسه، فأسترها عليه، فإذا كان هذا قول إسحاق في أبيه فمن يعتذر بعده من أن يكون له جيّد و رديء، و ما عري أحد في صناعة من الصناعة من حال ينقصه عن الغاية، لأن الكمال شيء تفرّد اللّه العظيم به، و النقصان جبلّة طبع بني آدم(1) عليها، و ليس ذلك إذا وجد في بعض أغاني عريب مما يدعو إلى إسقاط سائرها، و يلزمه اسم الضّعف و اللّين، و حسب المحتجّ لها شهادة إسحاق بتفضيلها، و قلّما شهد/لأحد، أو سلم خلق - و إن تقدّم و أجمع على فضله - من شينه(2) إيّاه و طعنه عليه، لنفاسته في هذه الصناعة، و استصغاره أهلها، فقد تقدّم في أخباره مع علّوية، و مخارق، و عمرو بن بانة، و سليم بن سلام، و حسين بن محرز، و من قبلهم/و من فوقهم مثل ابن جامع و إبراهيم بن المهديّ و تهجينه إياهم، و موافقته لهم على خطئهم فيما غنّوه و صنعوه مما يستغنى به عن الإعادة في هذا الموضع، فإذا انضاف فعله هذا بهم، و تفضيله إياها، كان ذلك أدلّ على التحامل ممّن طعن عليها، و إبطاله فيما ذكرها به، و لقائل ذلك - و هو أبو عبد اللّه الهشامي - سبب كان يصطنعه عليها، فدعاه إلى ما قال، نذكره بعد هذا إن شاء اللّه تعالى.
و مما يدلّ على إبطاله أنّ المأمون أراد أن يمتحن إسحاق في المعرفة بالغناء القديم و الحديث، فامتحنه بصوت من غنائها من صنعتها، فكاد يجوز عليه، لو لا أنه أطال الفكر و التلوّم و استثبت، مع علمه بالمذاهب في الصنعة، و تقدّمه في معرفة النّغم و عللها، و الإيقاعات و مجاريها.
و أخبرنا بذلك يحيى بن عليّ بن يحيى: قال: حدثني أبي عن إسحاق:
فأمّا السبب الذي كان من أجله يعاديها الهشامي، فأخبرني به يحيى بن محمد بن عبد اللّه بن طاهر قال: ذكر لأبي أحمد عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر عمي أنّ الهشاميّ زعم أن أحسن صوت صنعته عريب:
صاح قد لمت ظالما
و إن غناءها بمنزلة قول أبي دلف في خالد:
يا عين بكّي خالدا *** ألفا و يدعى واحدا
فقال: ليس الأمر كما ذكر، و لعريب صنعة فاضلة متقدّمة، و إنما قال هذا فيها/ظلما و حسدا، و غمطها ما تستحقّه من التّفضيل، بخبر لها معه طريف، فسألناه عنه، فقال: أخرجت الهشاميّ معي إلى سرّ من رأى، بعد وفاة أخي، يعني أبا محمد بن عبد اللّه بن طاهر، فأدخلته على المعتزّ، و هو يشرب، و عريب تغنّي، فقال له: يا بن هشام، غنّ، فقال: تبت من الغناء قتل سيّدي المتوكل، فقالت له عريب: قد و اللّه أحسنت حيث تبت، فإن غناءك كان قليل المعنى، لا متقن(3) و لا صحيح و لا مطرب، فأضحكت أهل المجلس جميعا منه، فخجل؛ فكان بعد ذلك يبسط لسانه فيها، و يعيب صنعتها، و يقول: هي ألف صوت في العدد، و صوت واحد في المعنى.
و ليس الأمر كما قاله، إن لها لصنعة تشبّهت فيها بصنعة الأوائل، و جوّدت، و برزت فيها، منها:
أ إن سكنت نفسي و قلّ عويلها
و منها:
ص: 42
تقول همّي يوم ودّعتها
و منها:
إذا أردت انتصافا كان ناصركم
و منها:
بأبي من هو دائي(1)
و منها:
أسلموها في دمشق كما
و منها:
فلا تتعنّتي ظلما و زورا(2)
/و منها:
لقد لام ذا الشوق الخليّ من الهوى(3)
و نسخت ما أذكره من أخبارها، فأنسبه إلى ابن المعتزّ من كتاب دفعه إليّ محمد بن إبراهيم الجراحيّ المعروف بقريض، و أخبرني أن عبد اللّه بن المعتز دفعه إليه، من جمعه و تأليفه، فذكرت منها ما استحسنته من أحاديثها، إذا كان فيها حشو كثير، و أضفت إليه ما سمعته و وقع إليّ غير مسموع مجموعا و متفرقا، و نسبت كل رواية إلى راويها.
قال ابن المعتز: حدّثني الهشاميّ أبو عبد اللّه و أخبرني علي بن عبد العزيز، عن ابن خرداذبه قالا:
كانت عريب لعبد اللّه بن إسماعيل صاحب مراكب الرّشيد، و هو الذي ربّاها، و أدّبها، و علّمها الغناء.
قال ابن المعتزّ: و حدثني غير الهشاميّ، عن إسماعيل بن الحسين خال المعتصم: أنها بنت جعفر بن يحيى، و أنّ البرامكة لما انتهبوا سرقت و هي صغيرة.
قال: فحدثني عبد الواحد بن إبراهيم بن محمد بن الخصيب: قال:
حدّثني/من أثق به، عن أحمد بن عبد اللّه بن إسماعيل المراكبي: أنّ أمّ عريب كانت تسمّى فاطمة، و كانت قيّمة لأم عبد اللّه بن يحيى بن خالد، و كانت صبيّة نظيفة، فرآها جعفر بن يحيى، فهويها، و سأل أمّ عبد اللّه أن تزوّجه إيّاها، ففعلت، و بلغ الخبر يحيى بن خالد، فأنكره؛ و قال له: أ تتزوّج من لا تعرف لها أمّ و لا أب؟ اشتر مكانها مائة(4) جارية و أخرجها، فأخرجها، و أسكنها دارا في ناحية باب الأنبار سرّا من أبيه. و وكّل بها من يحفظها، و كان يتردّد إليها، فولدت عريب في سنة/إحدى و ثمانين و مائة، فكانت سنوها إلى أن ماتت ستا و تسعين سنة، قال:
و ماتت أمّ عريب في حياة جعفر، فدفعها إلى امرأة نصرانية، و جعلها داية لها، فلما حدثت الحادثة بالبرامكة باعتها
ص: 43
من سنبس النخّاس، فباعها من المراكبي.
قال ابن المعتز: و أخبرني يوسف بن يعقوب:
إنه سمع الفضل بن مروان يقول: كنت إذا نظرت إلى قدمي عريب شبّهتهما بقدمي جعفر بن يحيى، قال:
و سمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها ذكرت لبعض الكتّاب فقال: فما يمنعها من ذلك و هي بنت جعفر بن يحيى؟.
و أخبرني جحظة قال: دخلت إلى عريب مع شروين المغني و أبي العبيس بن حمدون، و أنا يومئذ غلام عليّ قباء و منطقة، فأنكرتني و سألت عنّي، فأخبرها شروين، و قال: هذا فتى من أهلك، هذا ابن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد، و هو يغنّي بالطّنبور، فأدنتني، و قرّبت مجلسي، و دعت بطنبور، و أمرتني بأن أغنّي فغنّيت أصواتا، فقالت: قد أحسنت يا بنيّ و لتكوننّ مغنّيا، و لكن إذا حضرت بين هذين الأسدين ضعت أنت و طنبورك بين عوديهما، و أمرت لي بخمسين دينارا.
قال ابن المعتزّ: و حدّثني ميمون بن هارون: قال:
حدّثتني عريب قالت: بعث الرشيد إلى أهلها(1) - تعني البرامكة - رسولا يسألهم عن حالهم، و أمره ألاّ يعلمهم أنه من قبله، قالت: فصار إلى عمي الفضل، فسأله، فأنشأ عمّي يقول:
سألونا عن حالنا كيف أنتم *** من هوى نجمه فكيف يكون؟
نحن قوم أصابنا عنت الدّهر *** فظلنا لريبه نستكين
/ذكرت عريب أنّ هذا الشعر للفضل بن يحيى، و لها فيه لحنان: ثاني ثقيل و خفيف ثقيل، كلاهما بالوسطى، و هذا غلط من عريب، و لعله بلغها أنّ الفضل تمثل بشعر غير هذا، فأنسيته و جعلت هذا مكانه.
فأمّا هذا الشّعر فللحسين بن الضحّاك، لا يشكّ فيه، يرثي به محمدا الأمين بعد قوله:
نحن قوم أصابنا حادث *** الدّهر فظلنا لريبه نستكين
نتمنّى من الأمين إيابا *** كلّ يوم و أين منّا الأمين؟
و هي قصيدة.
قال ابن المعتزّ: و حدّثني الهشاميّ:
إنّ مولاها خرج إلى البصرة، و أدّبها و خرّجها و علّمها الخطّ و النّحو و الشّعر و الغناء، فبرعت في ذلك كله، و تزايدت حتى قالت الشعر، و كان لمولاها صديق يقال له حاتم بن عديّ من قوّاد خراسان، و قيل: إنه كان يكتب /لعجيف على ديوان الفرض، فكان مولاها يدعوه كثيرا، و يخالطه، ثم ركبه دين فاستتر عنده، فمدّ عينه إلى عريب، فكاتبها، فأجابته، و كانت المواصلة بينهما، و عشقته عريب، فلم تزل تحتال حتى اتخذت سلّما من
ص: 44
عقب(1)، و قيل: من خيوط غلاظ، و سترته، حتى إذا همّت بالهرب إليه بعد انتقاله عن منزل مولاها بمدّة - و قد أعدّ لها موضعا - لفّت ثيابها و جعلتها في فراشها بالليل، و دثرتها بدثارها، ثم تسوّرت من الحائط، حتى هربت، فمضت إليه، فمكثت عنده زمانا، قال: و بلغني أنها لمّا صارت عنده بعث إلى مولاها يستعير منه عودا تغنّيه به، فأعاره عودها، و هو لا يعلم أنها عنده، و لا يتهمه بشيء من أمرها، فقال عيسى بن عبد اللّه بن إسماعيل المراكبيّ، و هو عيسى ابن زينب يهجو أباه و يعيّره بها، و كان كثيرا ما يهجوه:
/قاتل اللّه عريبا *** فعلت فعلا عجيبا
ركبت و الليل داج *** مركبا صعبا مهوبا(2)
فارتقت متّصلا بالنّجم *** أو منه قريبا
صبرت حتى إذا ما *** أقصد النّوم الرّقيبا(3)
مثّلت بين حشايا *** ها لكيلا تستريبا(4)
خلفا منها إذا نو *** دي لم يلف مجيبا
و مضت يحملها الخو *** ف قضيبا و كثيبا
محّة(5) لو حرّكت خفت *** عليها أن تذوبا
فتدلّت لمحبّ *** فتلقّاها حبيبا
جذلا قد نال في الدّنيا *** من الدّنيا نصيبا
أيّها الظّبي الذي تسحر *** عيناه القلوبا
و الذي يأكل بعضا *** بعضه حسنا و طيبا
كنت نهبا لذئاب *** فلقد أطعمت ذيبا
و كذا الشاة إذا لم *** يك راعيها لبيبا
لا يبالي وبأ المر *** عى إذا كان خصيبا(6)
فلقد أصبح عبد اللّه م *** كشخان حريبا(6)
/قد لعمري لطم الوجه *** و قد شقّ الجيوبا
و جرت منه دموع *** بكت الشّعر الخضيبا
و قال ابن المعتزّ: حدّثنا محمد بن موسى بن يونس:
ص: 45
أنّها ملّته بعد ذلك، فهربت منه، فكانت تغنّي عند أقوام عرفتهم ببغداد، و هي متستّرة متخفية، فلمّا كان يوم من الأيّام اجتاز ابن أخ للمراكبي ببستان كانت فيه مع قوم تغنّي، فسمع غناءها، فعرفه، فبعث إلى عمه من وقته، و أقام هو بمكانه، فلم يبرح حتى جاء عمّه، فلبّبها(1) و أخذها، فضربها مائة مقرعة، و هي تصيح: يا هذا لم تقتلني! أنا لست أصبر عليك، أنا امرأة حرّة إن كنت مملوكة فبعني، لست أصبر على الضّيقة، /فلما كان من غد ندم على فعله، و صار إليها فقبّل رأسها و رجلها، و وهب لها عشرة آلاف درهم، ثم بلغ محمّدا الأمين خبرها، فأخذها منه، قال: و كان خبرها سقط إلى محمد في حياة أبيه، فطلبها منه، فلم يجبه إلى ما سأل، و قبل ذلك ما كان طلب منه خادما عنده، فاضطغن لذلك عليه، فلما ولي الخلافة جاء المراكبيّ، و محمد راكب، ليقبّل يده، فأمر بمنعه و دفعه، ففعل ذلك الشّاكريّ، فضربه المراكبيّ و قال له: أ تمنعني من يد سيّدي أن أقبّلها؟ فجاء الشّاكريّ لمّا نزل محمد فشكاه، فدعا محمد بالمراكبيّ، و أمر بضرب عنقه، فسئل في أمره، فأعفاه، و حبسه، و طالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع، و بعث، فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له، فلما قتل محمّد هربت إلى المراكبيّ، فكانت عنده، قال: و أنشدني بعض أصحابنا لحاتم بن عديّ الذي كانت عنده لمّا هربت إليه، ثم ملّته فهربت منه، و هي أبيات عدّة، هذان منها:
و رشّوا على وجهي من الماء و اندبوا *** قتيل عريب لا قتيل حروب
فليتك إن عجّلتني فقتلتني *** تكونين من بعد الممات نصيبي
/قال ابن المعتزّ: و أمّا رواية إسماعيل بن الحسين، خال المعتصم فإنها تخالف هذا، و ذكر أنّها إنما هربت من دار مولاها المراكبيّ إلى محمد بن حامد الخاقانيّ المعروف بالخشن، أحد قوّاد خراسان قال: و كان أشقر أصهب الشعر أزرق، و فيه تقول عريب - و لها فيه هزج و رمل من روايتي الهشامي و أبي العباس -:
بأبي كلّ أزرق *** أصهب اللون أشقر(2)
جنّ قلبي به و ل *** يس جنوني بمنكر
قال ابن المعتزّ: و حدثني ابن المدبّر قال:
خرجت مع المأمون إلى أرض الروم، أطلب ما يطلبه الأحداث من الرزق، فكنا نسير مع العسكر، فلما خرجنا من الرّقّة رأينا جماعة من الحرم في العماريّات على الجمّازات(3) و كنّا رفقة، و كنّا أترابا، فقال لي أحدهم:
على بعض هذه الجمّازات عريب، فقلت: من يراهنني أمرّ في جنبات هذه العماريّات، و أنشد أبيات عيسى ابن زينب؟.
قاتل اللّه عريبا *** فعلت فعلا عجيبا
فراهتني بعضهم و عدّل الرّهنان(4) و سرت إلى جانبها فأنشدت الأبيات رافعا صوتي بها، حتى أتممتها، فإذا أنا
ص: 46
بامرأة قد أخرجت رأسها فقالت: يا فتى أنسيت(1) أجود الشّعر و أطيبه؟ أنسيت قوله:
و عريب رطبة الشّف *** رين قد نيكت ضروبا(2)
/اذهب فخذ ما بايعت فيه، ثم ألقت السّجف، فعلمت أنها عريب، و بادرت إلى أصحابي خوفا من مكروه يلحقني من الخدم.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال: قال لنا عمر بن شبّة:
كانت للمراكبيّ جارية يقال لها مظلومة، جميلة الوجه، بارعة الحسن، فكان يبعث بها مع عريب إلى الحمّام، أو إلى من تزوره من أهله و معارفه، فكانت ربما دخلت معها إلى ابن حامد الذي كانت تميل إليه، فقال فيها بعض الشعراء و قد رآها عنده:
لقد ظلموك يا مظلوم لمّا *** أقاموك الرّقيب على عريب
/و لو أولوك إنصافا و عدلا *** لما أخلوك أنت من الرّقيب
أ تنهين المريب عن المعاصي *** فكيف و أنت من شأن المريب
و كيف يجانب الجاني ذنوبا *** لديك و أنت داعية الذّنوب
فإن يسترقبوك على عريب *** فما رقبوك من غيب القلوب(3)
و في هذا المعنى، و إن لم يكن من جنس ما ذكرته ما أنشدنيه عليّ بن سليمان الأخفش في رقيبة مغنّية استحسنت و أظنه للنّاشئ:
فديتك لو أنهم أنصفوا *** لقد منعوا العين عن ناظريك(4)
أ لم يقرءوا ويحهم ما يرو *** ن من وحي طرفك في مقلتيك
و قد بعثوك رقيبا لنا *** فمن ذا يكون رقيبا عليك
تصدّين أعيننا عن سواك *** و هل تنظر العين إلا إليك
قال ابن المعتز: و حدثني عبد الواحد بن إبراهيم، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، و عن محمد بن إسحاق البغويّ، عن إسحاق بن إبراهيم:
أنّ خبر عريب لمّا نمي إلى محمد الأمين بعث في إحضارها و إحضار مولاها، فأحضرا، و غنّت بحضرة إبراهيم بن المهديّ تقول:
ص: 47
لكلّ أناس جوهر متنافس *** و أنت طراز الآنسات الملائح
فطرب محمد، و استعاد الصوت مرارا، و قال لإبراهيم: يا عمّ كيف سمعت؟ قال: يا سيدي، سمعت حسنا، و إن تطاولت بها الأيام، و سكن روعها ازداد غناؤها حسنا، فقال للفضل بن الربيع: خذها إليك، و ساوم بها، ففعل، فاشتطّ مولاها في السّوم، ثم أوجبها له بمائة ألف دينار، و انتقض أمر محمّد، و شغل عنها، و شغلت عنه، فلم يأمر لمولاها بثمنها حتى قتل بعد أن أفتضّها، فرجعت إلى مولاها، ثم هربت منه إلى حاتم بن عديّ، و ذكر باقي الخبر كما ذكره من تقدم.
و قال في خبره: إنها هربت من مولاها إلى ابن حامد(1)، فلم تزل عنده حتى قدم المأمون بغداد، فتظلّم إليه المراكبيّ من محمد بن حامد(2)، فأمر بإحضاره فأحضر، فسأله عنها فأنكر، فقال له المأمون: كذبت قد سقط إليّ خبرها. و أمر صاحب الشرطة أن يجرده في مجلس الشرطة، و يضع عليه السّياط حتى يردّها، فأخذه، و بلغها الخبر فركبت حمار مكار، و جاءت و قد جرّد ليضرب، و هي مكشوفة الوجه، و هي تصيح: أنا عريب، إن كنت مملوكة فليبعني، و إن كنت حرّة فلا سبيل له عليّ، فرفع خبرها إلى المأمون، فأمر بتعديلها(3) عند قتيبة بن زياد القاضي، فعدّلت عنده، و تقدّم إليه المراكبيّ مطالبا بها، فسأله البيّنة على ملكه إياها، فعاد متظلّما إلى المأمون، و قال: قد طولبت بما لم يطالب به أحد في رقيق، و لا يوجد مثله في يد من ابتاع عبدا أو أمة.
/و تظلمت إليه زبيدة، و قالت: من أغلظ ما جرى عليّ بعد قتل محمد ابني هجوم المراكبيّ على داري و أخذه عريبا منها. فقال المراكبيّ: إنما أخذت ملكي، لأنّه لم ينقدني الثّمن، فأمر المأمون بدفعها إلى محمد بن عمر الواقديّ - و كان قد ولاّه القضاء بالجانب/الشرقي - فأخذها من قتيبة بن زياد، فأمر ببيعها ساذجة، فاشتراها المأمون بخمسين ألف درهم، فذهبت به كلّ مذهب ميلا إليها و محبّة لها.
قال ابن المعتز: و لقد حدثني علي بن يحيى المنجم أن المأمون قبّل في بعض الأيام رجلها، قال: فلما مات المأمون بيعت في ميراثه، و لم يبع له عبد و لا أمة غيرها، فاشتراها المعتصم بمائة ألف درهم، و أعتقها، فهي مولاته.
و ذكر حمّاد بن إسحاق عن أبيه أنها لمّا هربت من دار محمد حين قتل تدلّت من قصر الخلد بحبل إلى الطريق، و هربت إلى حاتم بن عديّ.
و أخبرني جحظة، عن ميمون بن هارون:
أنّ المأمون اشتراها بخمسة آلاف دينار، و دعا بعبد اللّه بن إسماعيل، فدفعها إليه و قال: لو لا أنّي حلفت ألاّ أشتري مملوكا بأكثر من هذا لزدتك، و لكني سأوّليك عملا تكسب فيه أضعافا لهذا الثمن مضاعفة، و رمى إليه بخاتمين من ياقوت أحمر، قيمتها ألف دينار، و خلع خلعا سنيّة، فقال: يا سيدي، إنما ينتفع الأحياء بمثل هذا، و أما أنا فإني ميّت لا محالة، لأن هذه الجارية كانت حياتي، و خرج عن حضرته، فاختلط و تغيّر عقله، و مات بعد أربعين يوما.
ص: 48
قال ابن المعتز: فحدثني عليّ بن يحيى قال: حدثني كاتب الفضل بن مروان: قال:
حدثني إبراهيم بن رباح قال:
كنت أتولّى نفقات المأمون، فوصف له إسحاق بن إبراهيم الموصليّ عريب، فأمره أن يشتريها، فاشتراها بمائة ألف درهم، فأمرني المأمون بحملها، و أن أحمل إلى إسحاق مائة ألف درهم أخرى. ففعلت ذلك، و لم أدر كيف/أثبتها، فحكيت في الدّيوان أن المائة الألف خرجت في ثمن جوهرة، و المائة الألف الأخرى خرجت لصائغها و دلاّلها، فجاء الفضل بن مروان إلى المأمون، و قد رأى ذلك، فأنكره، و سألني عنه، فقلت: نعم هو ما رأيت، فسأل المأمون عن ذلك، و قال: أوجب وهب لدلاّل و صائغ مائة ألف درهم، و غلّظ القصة، فأنكرها المأمون، فدعاني، و دنوت إليه، و أخبرته أنه المال الذي خرج في ثمن عريب وصلة إسحاق، و قلت: أيّما أصوب يا أمير المؤمنين: ما فعلت أو أثبت في الدّيوان أنها خرجت في صلة مغنّ و ثمن مغنّية؟ فضحك المأمون و قال: الذي فعلت أصوب، ثم قال للفضل بن مروان: يا نبطىّ، لا تعترض على كاتبي هذا في شيء.
و قال ابن المكي: حدثني أبي عن تحرير الخادم: قال:
دخلت يوما قصر الحرم، فلمحت عريب جالسة(1) على كرسي ناشرة شعرها تغتسل، فسألت عنها، فقيل:
هذه عريب(2) دعا بها سيدها اليوم، فافتضّها.
قال ابن المعتزّ: فأخبرني ابن عبد الملك البصريّ:
أنّها لما صارت في دار المأمون احتالت حتى وصلت إلى محمد بن حامد، و كانت قد عشقته و كاتبته بصوت قالته، ثم احتالت في الخروج إليه، و كانت تلقاه في الوقت بعد الوقت، حتى حبلت منه و ولدت بنتا، و بلغ ذلك المأمون فزوّجه إياها.
و أخبرنا إبراهيم بن القاسم بن زرزور، عن أبيه، و حدّثني به المظفّر بن كيغلغ عن القاسم بن زرزور، قال:
لما وقف المأمون على خبرها مع محمد بن حامد أمر بإلباسها جبّة صوف و ختم زيقها(3) و حبسها في كنيف مظلم شهرا لا ترى الضوء، يدخل إليها خبز و ملح و ماء من تحت الباب/في كل يوم، ثم ذكرها، فرقّ لها، و أمر بإخراجها، فلما فتح الباب عنها، و أخرجت لم تتكلم بكلمة حتى اندفعت تغني:
/حجبوه عن بصري فمثّل شخصه *** في القلب فهو محجّب لا يحجب
فبلغ ذلك المأمون، فعجب منها، و قال: لن تصلح هذه أبدا، فزوّجها إيّاه.
لو كان يقدر أن يبثّك ما به *** لرأيت أحسن عاتب يتعتّب
حجبوه عن بصري فمثّل شخصه *** في القلب فهو محجب لا يحجب
ص: 49
الغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى.
قال ابن المعتزّ: و حدثني لؤلؤ صديق عليّ بن يحيى المنجّم: قال: حدثني أحمد بن جعفر بن حامد: قال:
لما توفّي عمّي محمد بن حامد صار جدّي إلى منزله، فنظر إلى تركته، و جعل يقلّب ما خلّف، و يخرج إليه منها الشيء بعد الشيء إلى أن أخرج إليه سفط مختوم، ففضّ الخاتم، و جعل يفتحه، فإذا فيه رقاع عريب إليه، فجعل يتصفّحها و يبتسم، فوقعت في يده رقعة، فقرأها، و وضعها من يده و قام لحاجة، فقرأتها فإذا فيها قوله:
ويلي عليك و منكا *** أوقعت في الحق شكّا
زعمت أنّي خئون *** جورا عليّ و إفكا
إن كان ما قلت حقا *** أو كنت أزمعت تركا
فأبدل اللّه ما بي *** من ذلّة الحبّ نسكا
/لعريب في هذه الأبيات رمل و هزج، عن الهشاميّ و الشّعر لها.
قال ابن المعتز: و حدثني عبد الوهاب بن عيسى الخراسانيّ، عن يعقوب الرّخاميّ: قال:
كنّا مع العباس بن المأمون بالرّقة و على شرطته هاشم - رجل من أهل خراسان - فخرج إليّ، و قال: يا أبا يوسف، ألقي إليك سرّا لثقتي بك، و هو عندك أمانة، قلت: هاته، قال: كنت واقفا على رأس الأمين(1) و بي حرّ شديد، فخرجت عريب، فوقفت معي، و هي تنظر في كتاب(2) فما ملكت نفسي أن أومأت بقبلة، فقالت: كحاشية البرد. فو اللّه ما أدري ما أرادت، فقلت: قالت لك: طعنة.
قال: و كيف ذاك؟ قلت: أرادت قول الشاعر:
رمى ضرع ناب فاستمرّ بطعنة *** كحاشية البرد اليماني المسهّم(3)
و حكى هذه القصة أحمد بن أبي طاهر، عن بشر بن زيد، عن عبد اللّه بن أيوب بن أبي شمر، أنهم كانوا عند المأمون و معهم محمد بن حامد، و عريب تغنّيهم، فغنّت تقول:
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة *** كحاشية البرد اليماني المسهّم:
فقال لها المأمون: من أشار إليك بقبلة، فقلت له طعنة؟ فقالت له: يا سيدي، من يشير إليّ بقبلة من
ص: 50
مجلسك؟ فقال: بحياتي عليك! قالت: محمد بن حامد، فسكت.
قال ابن المعتز: و حدثني محمد بن موسى: قال:
اصطبح المأمون يوما و معه ندماؤه، و فيهم محمد بن حامد و جماعة من المغنين، و عريب معه على مصلاّه، فأومأ محمد بن حامد إليها بقبلة، فاندفعت تغني ابتداء.
/رمى ضرع ناب فاستمرّ بطعنة *** كحاشية البرد اليمانيّ المسهّم
تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بأن تقول له: طعنة، فقال لها المأمون: أمسكي، فأمسكت، ثم أقبل على النّدماء فقال: من فيكم أومأ إلى عريب بقبله؟ و اللّه لئن لم يصدقني لأضربنّ عنقه، فقام محمد، فقال: أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها، و العفو أقرب للتقوى، فقال: قد عفوت.
فقال: كيف استدلّ أمير المؤمنين على ذلك؟ قال: ابتدأت صوتا، و هي لا تغني ابتداء إلا لمعنى، فعلمت أنها لم تبتدئ بهذا الصوت إلا لشيء أومئ به إليها، و لم يكن من شرط هذا الموضع إلاّ إيماء بقبلة، فعلمت أنها أجابت بطعنة.
قال ابن المعتز: و حدثني عليّ بن الحسين:
أنّ عريب كانت تتعشق أبا عيسى بن الرشيد و روى غيره أنها كانت لا تضرب المثل إلا بحسن وجه أبي عيسى و حسن غنائه، و كانت تزعم أنها ما عشقت أحدا من بني هاشم و أصفته المحبّة من الخلفاء و أولادهم سواه.
قال ابن المعتز: و حدثني بعض جوارينا:
إنّ عريب كانت تتعشّق صالحا المنذريّ الخادم، و تزوّجته سرّا، فوجّه به المتوكل إلى مكان بعيد في حاجة له، فقالت فيه شعرا، و صاغت لحنه في خفيف الثقيل و هو:
أمّا الحبيب فقد مضى *** بالرغم منّي لا الرّضا
أخطأت في تركي لمن *** لم ألق منه معوّضا(1)
قال: فغنّته يوما بين يدي المتوكل، فاستعاده، و جعل جواريه يتغامزن و يضحكن، فأصغت إليهنّ سرّا من المتوكل، فقالت: يا سحّاقات، هذا خير من عملكنّ.
قال: و حدّثت عن بعض جواري المتوكل، أنها دخلت يوما على عريب، فقالت لها: تعالي ويحك إليّ، فجاءت. قال: فقالت: قبّلي هذا الموضع منّي فإنك تجدين ريح الجنّة فأومأت إلى سالفتها(2)، ففعلت، ثم قالت لها: ما السبب في هذا؟ قالت: قبّلني صالح المنذريّ في ذلك الموضع.
ص: 51
قال ابن المعتز: و أخبرني أبو عبد اللّه الهشاميّ قال: حدثني حمدون بن إسماعيل، قال: حدثني محمد بن يحيى الواثقيّ، قال:
قال لي محمد بن حامد ليلة: أحبّ أن تفرغ لي مضربك، فإني أريد أن أجيئك، فأقيم عندك، ففعلت، و وافاني، فلما جلس جاءت عريب، فدخلت.
و قد حدّثني به جحظة: قال: حدثني أبو عبد اللّه بن حمدون:
أنّ عريب زارت محمد بن حامد، و جلسا جميعا، فجعل يعاتبها، و يقول: فعلت كذا، و فعلت كذا، فقالت لي: يا محمد، هذا عندك رأي(1)؟ ثم أقبلت عليه، فقالت: يا عاجز خذ بنا فيما نحن فيه و فيما جئنا إليه.
/و قال جحظة في خبره:
اجعل سراويلي مخنقتي، و ألصق خلخالي بقرطي، فإذا كان غد فاكتب إليّ بعتابك في طومار حتى أكتب إليك بعذري في ثلاثة، ودع هذا الفضول، فقد قال الشّاعر:
دعي عدّ الذّنوب إذا التقينا *** تعالي لا أعدّ و لا تعدّي(2)
و تمام هذا قوله:
فأقسم لو هممت بمدّ شعري *** إلى نار الجحيم لقلت مدّي
الشعر للمؤمّل: و الغناء لعريب، خفيف رمل، و فيه لعلوية رمل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة:
أخبرني أبو يعقوب إسحاق بن الضحّاك بن الخصيب: قال:
حدثني أبو الحسن/عليّ بن محمد بن الفرات قال: كنت يوما عند أخي أبي العباس، و عنده عريب جالسة على دست مفرد لها، و جواريها يغنّين بين يدينا و خلف ستارتنا، فقلت لأخي - و قد جرى ذكر الخلفاء -: قالت لي عريب: ناكني منهم ثمانية ما اشتهيت منهم أحدا إلا المعتزّ، فإنه كان يشبه أبا عيسى بن الرشيد. قال ابن الفرات:
فأصغيت إلى بعض بني أخي، فقلت له: فكيف ترى شهوتها الساعة، فضحك و لمحته، فقالت: أيّ شيء قلتم؟ فجحدتها. فقالت لجواريها: أمسكن، ففعلن، فقالت: هنّ حرائر لئن لم تخبراني بما قلتما لينصرفن جميعا، و هنّ حرائر(3). إن حردت من شيء جرى، و لو أنها تسفيل، فصدقتها. فقالت: و أي شيء في هذا؟ أما الشهوة فبحالها، و لكن الآلة قد بطلت(4) أو قالت: قد كلّت، عودوا إلى ما كنتم فيه.
ص: 52
و حدثني الحسن بن علي بن مودّة: قال: حدثني إبراهيم بن أبي العبيس: قال: حدثنا أبي: قال:
دخلنا على عريب يوما مسلّمين، فقالت: أقيموا اليوم عندي حتى أطعمكم لوزنيجة صنعتها بدعة بيدها من لوز رطب، و ما حضر من الوظيفة، و أغنيكم أنا و هي، قال: فقلت لها على شريطة، قالت: و ما هي؟ قلت: شيء أريد أن أسألك عنه منذ سنين، و أنا أهابك؟ قالت: ذاك لك، و أنا أقدم الجواب قبل أن تسأل، فقد علمت ما هو، فعجبت لها، و قلت: فقولي، فقالت: تريد أن تسألني عن شرطي أي شرط هو؟ فقلت: إي و اللّه ذاك الذي أردت.
قالت: شرطي أير صلب، و نكهة طيبة، فإن انضاف إلى ذلك حسن يوصف، و جمال يحمد فقد زاد قدره عندي، و إلا فهذان ما لا بدّ لي منهما.
و حدّثني الحسن بن علي، عن محمد بن ذى السّيفين إسحاق بن كنداجيق(1). عن أبيه: قال:
كانت عريب تولع بي و أنا حديث السن، فقالت لي يوما: يا إسحاق قد بلغني أنّ عندك دعوة فابعث إليّ نصيبي منها، قال: فاستأنفت طعاما كثيرا. و بعثت إليها منه شيئا كثيرا؛ فأقبل رسولي من عندها مسرعا. فقال لي:
لما بلغت إلى بابها، و عرفت خبري أمرت بالطعام فأنهب و قد وجّهت إليك برسول. و هو معي، فتحيّرت و ظننت أنها قد استقصرت فعلي، فدخل الخادم و معه شيء مشدود في منديل و رقعة، فقرأتها، فإذا فيها: بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا عجميّ يا غبيّ، ظننت أنّي من الأتراك و وخش(2) الجند، فبعثت إليّ بخبز و لحم و حلواء، اللّه المستعان عليك، يا فدتك نفسي، قد وجهت إليك زلّة(3) من حضرتي، فتعلم ذلك من الأخلاق و نحوه من الأفعال، و لا تستعمل أخلاق العامة، /في ردّ الظرف. فيزداد العيب و العتب عليك إن شاء اللّه، فكشفت المنديل، فإذا طبق و مكبّه من ذهب منسوج على عمل الخلاف، و فيه زبدية فيها لقمتان من رقاق، و قد عصبت طرفيهما و فيها قطعتان من صدر درّاج مشوي و نقل و طلع(4) و ملح. و انصرف رسولها(5).
قال ابن المعتز: حدثني الهشاميّ أبو عبد اللّه. عن رجل ذكره، عن علّوية قال:
أمرين المأمون و سائر المغنين في ليلة من اللّيالي أن نصير إليه بكرة ليصطبح، فغدونا و لقيني المراكبيّ مولى عريب، و هي يومئذ عنده، فقال لي: يا أيها الرجل الظالم المعتدي، أ ما ترقّ و لا ترحم و لا تستحي؟ عريب هائمة تحلم بك في النوم ثلاث مرات في كلّ ليلة، قال علّوية: فقلت: أمّ الخلافة زانية(6). و مضيت معه، فحين/دخلت قلت: استوثق من الباب، فإني أعرف خلق اللّه بفضول البوّابين و الحجاب، و إذا عريب جالسة على كرسيّ تطبخ،
ص: 53
و بين يديها ثلاث قدور من دجاج، فلما رأتني قامت تعانقني و تقبّلني، ثم قالت: أيما أحب إليك أن تأكل من هذه القدور، أو تشتهي شيئا يطبخ لك، فقلت: بل قدر من هذه تكفينا، فغرفت قدرا منها، و جعلتها بيني و بينها، فأكلنا و دعونا(1) بالنبيذ، فجلسنا نشرب حتى سكرنا، ثم قالت: يا أبا الحسن، صنعت البارحة صوتا في شعر لأبي العتاهية، فقلت: و ما هو؟ فقالت هو:
عذيري من الإنسان لا إن جفوته *** صفا لي و لا إن كنت طوع يديه(2)
و قالت لي: قد بقي فيه شيء، فلم نزل نردده أنا و هي حتى استوى، ثم جاء الحجّاب/فكسروا باب المراكبيّ و استخرجوني، فدخلت على المأمون، فلما رأيته أقبلت أمشي إليه برقص و تصفيق، و أنا أغنّي الصوت، فسمع و سمع من عنده ما لم يعرفوه و استظرفوه، و سألني المأمون عن خبره، فشرحته له. فقال لي: ادن و ردّده، فردّدته عليه سبع مرات. فقال في آخر مرة: يا علّوية. خذ الخلافة و اعطني هذا الصاحب.
عذيري من الإنسان لا إن جفوته *** صفا لي و لا إن كنت طوع يديه
و إنّي لمشتاق إلى قرب صاحب *** يروق و يصفو إن كدرت عليه(3)
الشعر من الطويل و هو لأبي العتاهية، و الغناء لعريب، خفيف ثقيل أول بالوسطى، و نسبه عمرو بن بانة في هذه الطريقة و الأصبغ إلى علّوية.
قال ابن المعتز: و حدثني القاسم بن زرزور: قال: حدثتني عريب قالت: كنت في أيام محمد(4) ابنة أربع عشرة سنة، و أنا حينئذ أصوغ الغناء.
قال القاسم: و كانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان و تصوغ في ذلك الشعر بعينه لحنا أجود من لحنه، فمن ذلك:
لم آت عامدة ذنبا إليك بلى *** أقرّ بالذنب فاعف اليوم عن زللي
لحنها فيه حفيف ثقيل، و لحن الواثق رمل، و لحنها أجود من لحنه، و منها:
أشكو إلى اللّه ما ألقى من الكمد *** حسبي بربّي و لا أشكو إلى أحد
لحنها و لحن الواثق جميعا من الثقيل الأول، و لحنها أجود من لحنه.
ص: 54
لم آت عامدة ذنبا إليك بلى *** أقرّ بالذّنب فاعف اليوم عن زللي
فالصّفح من سيّد أولى لمعتذر *** وقاك ربّك يوم الخوف و الوجل
الغناء للواثق رمل، و لعريب خفيف ثقيل و ذكر ذكاء وجه الرزة أن لطالب بن يزداد فيه هزجا/مطلقا.
أشكو إلى اللّه ما ألقى من الكمد *** حسبي بربي و لا أشكو إلى أحد
أين الزمان الذي قد كنت ناعمة *** في ظلّه بدنوّي منك يا سندي
و أسأل اللّه يوما منك يفرحني *** فقد كحلت جفون العين بالسّهد
شوقا إليك و ما تدري بما لقيت *** نفسي عليك و ما بالقلب من كمد(1)
الغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى، و للواثق ثقيل أول بالبنصر.
قال ابن المعتز: و كان سبب انحراف الواثق عنها. و كيادها إياه، و انحراف(2) المعتصم عنها أنه وجد لها كتابا إلى العبّاس بن المأمون ببلد الرّوم: اقتل أنت العلج ثمّ، حتى أقتل أنا الأعور الليلي هاهنا. تعنى الواثق، و كان يسهر بالليل، و كان المعتصم استخلفه ببغداد.
قال: و حدثني أبو العبيس بن حمدون قال:
غضبت عريب على بعض جواريها المذكورات - و سمّاها لي - فجئت إليها يوما. و سألتها أن تعفو عنها.
فقالت في بعض ما تقوله، مما تعتد به عليها من ذنوبها: يا أبا العبيس/إن كنت تشتهي أن ترى زناي و صفاقة وجهي و جراءتي على كل عظيمة(3) أيام شبابي(4) فانظر إليها و اعرف أخبارها.
قال ابن المعتز: و حدثني القاسم بن زرزور قال: حدثني المعتمد، قال:
حدثتني عريب أنها كانت في شبابها يقدّم إليها برذون. فتطفر عليه بلا ركاب.
قال: و حدثني الأسديّ: قال: حدثني صالح بن علي بن الرشيد المعروف بزعفرانة: قال:
تمارى خالي أبو عليّ مع المأمون في صوت، فقال المأمون: أين عريب؟ فجاءت و هي محمومة، فسألها عن
ص: 55
الصوت فقالت فيه بعلمها، فقال لها: غنيّة، فولّت لتجيء بعود، فقال لها: غنية بغير عود، فاعتمدت على الحائط للحمّي و غنّت، فأقبلت عقرب، فرأيتها قد لسعت يدها مرتين أو ثلاثا، فما نحّت يدها، و لا سكتت. حتى فرغت من الصوت، ثم سقطت و قد غشي عليها.
قال ابن المعتزّ: و حدثني أبو العباس بن الفرات: قال:
قالت لي تحفة جارية عريب: كانت عريب تجد في رأسها بردا، فكانت تغلّف شعرها مكان العلّة(1) بستّين مثقالا مسكا و عنبرا، و تغسله من جمعة إلى جمعة، فإذا غسلته أعادته، و تتقسم الجواري غسالة رأسها بالقوارير و ما تسرّحه منه بالميزان.
حدثني أحمد بن جعفر جحظة، عن عليّ بن يحيى المنجّم: قال:
دخلت يوما على عريب مسلّما عليها، فلما اطمأننت جالسا هطلت السماء بمطر عظيم، فقالت: أقم عندي اليوم حتى أغنّيك أنا و جواريّ، و ابعث إلى من أحببت من إخوانك، فأمرت بدوابّي فردّت، و جلسنا نتحدّث، فسألتني عن خبرنا بالأمس في مجلس الخليفة، و من كان يغنينا، و أيّ شيء استحسنا من الغناء، فأخبرتها أنّ صوت الخليفة كان لحنا صنعه بنان من الماخوري، فقالت: و ما هو؟ فأخبرتها أنه:
تجافي ثم تنطبق *** جفون حشوها الأرق
و ذى كلف بكى جزعا *** و سفر القوم منطلق
/به قلق يململه *** و كان و ما به قلق
جوانحه على خطر *** بنار الشّوق تحترق
فوجّهت رسولا إلى بنان، فحضر من وقته، و قد بلّته السماء، فأمرت بخلع فاخرة، فخلعت عليه، و قدّم له طعام فاخر، فأكل و جلس يشرب معنا، و سألته عن الصوت، فغناها إيّاه فأخذت دواة و رقعة و كتبت فيها:
أجاب الوابل الغدق *** و صاح النّرجس الغرق
و قد غنّى بنان لنا: *** جفون حشوها الأرق
فهات الكأس مترعة *** كأنّ حبابها حدق
قال عليّ بن يحيى: فما شربنا بقيّة يومنا إلا على هذه الأبيات.
حدّثني محمد بن خلف بن المرزبان، عن عبد اللّه بن محمد المروزيّ: قال:
ص: 56
قال لي الفضل بن العباس بن المأمون: زارتني عريب يوما و معها عدّة من جواريها، فوافتنا و نحن على شرابنا، فتحادثنا ساعة. و سألتها أن تقيم عندي، فأبت و قالت: دعاني جماعة من إخواني من أهل الأدب و الظّرف، و هم مجتمعون في جزيرة المؤيّد، فيهم إبراهيم بن المدبّر و سعيد بن حميد و يحيى بن عيسى بن منارة، و قد عزمت على المسير إليهم، فحلفت عليها. فأقامت عندنا، و دعت بدواة و قرطاس فكتبت:
بسم اللّه الرحمن الرحيم و كتبت بعد ذلك في سطر واحد ثلاثة أحرف متفرقة لم تزد عليها، و هي:
أردت، و لو لا، و لعلي(1).
/و وجهت به إليهم، فلما وصلت الرقعة عيّوا بجوابها، فأخذ إبراهيم بن المدبّر الرقعة، فكتب تحت أردت:
ليت، و تحت لو لا: ما ذا، و تحت لعلي: أرجو. و وجهوا بالرقعة فصفّقت و نعرت(2) و شربت رطلا و قالت لنا:
أ أترك هؤلاء و أقعد عندكم؟ إذا تركني اللّه من يديه، و لكنّي أخلّف عندكم من جواريّ من يكفيكم، و أقوم إليهم، ففعلت ذلك و خلّفت عندنا بعض جواريها، و أخذت معها بعضهن، و انصرفت.
أخبرنا محمد بن خلف، عن سعيد بن عثمان بن أبي العلاء، عن أبيه قال:
عتب المأمون على عريب، فهجرها أياما، ثم اعتلّت فعادها، فقال لها: كيف وجدت طعم الهجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، لو لا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، و من ذمّ بدء الغضب أحمد عاقبة الرضا، قال: فخرج المأمون إلى جلسائه، فحدثهم بالقصة، ثم قال: أ ترى هذا لو كان من كلام النظام أ لم يكن كبيرا(3)؟.
لا تريد دخيلا بينها، و بين المأمون:
حدثني محمد بن خلف، عن أبي العيناء، عن أحمد بن أبي داود: قال:
جرى بين عريب و بين المأمون كلام، فكلمها المأمون بشيء غضبت منه، فهجرته. أياما، قال أحمد بن أبي دواد: فدخلت على المأمون. فقال لي: يا أحمد، اقض بيننا، فقالت عريب: لا حاجة لي في قضائه و دخوله فيما بيننا، و أنشأت تقول:
و تخلط الهجر بالوصال لا *** يدخل في الصّلح بيننا أحد
حدّثني محمد بن خلف قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن أحمد بن حمدون، عن أبيه، قال:
كنت حاضرا مجلس المأمون ببلاد الروم بعد صلاة العشاء الآخرة في ليلة ظلماء ذات رعود و بروق، فقال لي المأمون: اركب الساعة فرس النّوبة و سر إلى عسكر أبي/إسحاق - يعني المعتصم - فأدّ إليه رسالتي في كيت و كيت، قال: فركبت/و لم تثبت مع شمعة، و سمعت وقع حافر دابة، فرهبت ذلك، و جعلت أتوقّاه، حتى صكّ ركابي
ص: 57
ركاب تلك الدّابة، و برقت بارقة فأضاءت وجه الراكب، فإذا عريب، فقلت: عريب؟ قالت: نعم، حمدون، قلت:
نعم. ثم قتل: من أين أقبلت(1) في هذا الوقت؟ قالت: من عند محمد بن حامد، قلت: و ما صنعت عنده؟ قالت عريب:(2) يا تكش، عريب(3) تجيء من عند محمد بن حامد في هذا الوقت خارجة من مضرب الخليفة و راجعة إليه، تقول لها: أيّ شيء عملت عنده؟ صلّيت معه التراويح؟! أو قرأت عليه أجزاء من القرآن، أو دارسته شيئا من الفقه، يا أحمق تعاتبنا، و تحادثنا، و اصطلحنا، و لعبنا، و شربنا، و غنينا، و تنايكنا، و انصرفنا، فأخجلتني و غاظتني، و افترقنا، و مضيت فأدّيت الرّسالة، ثم عدت إلى المأمون و أخذنا في الحديث و تناشد الأشعار، و هممت و اللّه أن أحدّثه حديثها، ثم هبته فقلت: أقدّم قبل ذلك تعريضا بشيء من الشعر، فأنشدته:
ألا حيّ أطلالا لواسعة الحبل(4) *** ألوف تسوّى صالح القوم بالرّذل
فلو أن من أمسى بجانب تلعة *** إلى جبلي طيّ فساقطة الحبل
جلوس إلى أن يقصر الظّلّ عندها *** لراحوا و كلّ القوم منها على وصل
فقال لي المأمون: اخفض صوتك لا تسمعك عريب فتغضب، و تظنّ أنّا في حديثها، فأمسكت عما أردت أن أخبره، و خار اللّه لي في ذلك.
حدثني محمد بن أحمد الحكيمي: قال: أخبرني ميمون بن هارون، قال: قال لي/ابن اليزيدي:
حدثني أبي قال: خرجنا مع المأمون في خروجه إلى بلد الرّوم، فرأيت عريب في هودج، فلما رأتني قالت لي: يا يزيديّ، أنشدني شعرا قلته حتى أصنع فيه لحنا(5) فأنشدتها:
ما ذا بقلبي من دوام الخفق(6) *** إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردنّ أو دمشق *** لأنّ من أهوى بذاك الأفق
فإن فيه و هو أعزّ الخلق *** عليّ و الزّور خلاف الحق(7)
ذاك الذي يملك منّي رقّي *** و لست أبغي ما حييت عتقي
قال: فتنفّست تنفّسا ظننت أن ضلوعها قد تقصّفت منه، فقلت: هذا و اللّه تنفس عاشق، فقالت: اسكت يا عاجز(8) أنا أعشق، و اللّه لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس، فادّعاها من أهل المجلس عشرون رئيسا طريقا.
ص: 58
حدثني محمد بن خلف: قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر: قال: حدثني أحمد بن حمدون: قال:
وقع بين عريب و بين محمد بن حامد شرّ، و كان يجد بها الوجد كلّه، فكادا يخرجان من شرّهما إلى القطيعة، و كان في قلبها منه أكثر مما في قلبه منها، فلقيته يوما، فقالت له: كيف قلبك يا محمد؟ قال: أشقى و اللّه ما كان(1)و أقرحه، /فقالت له: استبدل تسل(2)، فقال لها: لو كانت البلوى باختيار لفعلت: فقالت: لقد طال إذا تعبك، فقال: و ما يكون؟ أصبر مكرها، أ ما سمعت قول العباس بن الأحنف.
تعب يطول(3) مع الرجاء بذى الهوى *** خير له من راحة في اليأس
لو لا كرامتكم لما عاتبتكم *** و لكنتم عندي كبعض النّاس
/قال: فذرفت عيناها، و اعتذرت إليه و أعتبته، و اصطلحا، و عادا إلى أفضل ما كانا عليه.
حدثني أحمد بن جعفر جحظة: قال: قال لي أبو العباس بن حمدون - و قد تجاذبنا(4) غناء عريب - ليس غناؤها مما يعتدّ بكثرته، لأن سقطه كثير، و صنعتها ساذجة، فقلت له: و من يعرف في الناس كلّهم من مغني الدولة العباسية سلمت صنعته كلّها حتى تكون مثله! ثم جعلت أعدّ ما أعرفه من جيّد صنعتها و متقدّمها و هو يعترف بذلك، حتى عددت نحوا من مائة صوت مثل لحنها في:
يا عزّ هل لك في شيخ فتى أبدا
و
سيسليك عما فات دولة مفضل
و
صاح قد لمت ظالما
و
ضحك الزمان و أشرقت
و نحو هذا، ثم قال لي: ما خلّفت عريب بعدها امرأة مثلها في الغناء و الرّواية و الصّنعة، فقلت له: لا، و لا كثيرا من الرجال أيضا.
و لعريب في صنعتها:
يا عزّ هل لك في شيخ فتى أبدا
/خبر أخبرني ببعضه أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، عن ميمون بن هارون.
و ذكر ابن المعتز أن عبد الواحد بن إبراهيم بن الخصيب حدّثه عمّن يثق به، عن أحمد بن عبد اللّه بن إسماعيل المراكبيّ: قال:
ص: 59
قالت لي عريب: حج بي أبوك و كان مضعوفا، فكان عديلي، و كنت في طريقي أطلب الأعراب فأستنشدهم الأشعار، و أكتب عنهم النوادر و سائر ما أسمعه منهم، فوقف شيخ من الأعراب علينا يسأل، فاستنشدته، فأنشدني:
يا عزّ هل لك في شيخ فتى أبدا *** و قد يكون شباب غير فتيان
فاستحسنته، و لم أكن سمعته قبل ذلك، قلت: فأنشدني باقي الشعر، فقال لي: هو يتيم، فاستحسنت قوله و برّرته، و حفظت البيت و غنّيت فيه صوتا من الثقيل الأول، و مولاي لا يعلم بذلك لضعفه، فلمّا كان في ذلك اليوم عشيّا قال لي: ما كان أحسن ذلك البيت الذي أنشدك إياه الأعرابيّ، و قال لك: إنه يتيم. أنشدينيه إن كنت حفظته، فأنشدته، إياه، و أعلمته أني قد غنّيت فيه، ثم غنيته له، فوهب لي ألف درهم بهذا السبب، و فرح بالصوت فرحا شديدا.
قال ابن المعتز: قال ابن الخصيب:
فحدثني هذا المحدّث أنه قد حضر بعد ذلك بمجلس أبي عيسى بن المتوكل - و من هاهنا تتصل رواية ابن عمّار، عن ميمون، و قد جمعت الرّوايتين إلا أن ميمون بن هارون ذكر أنهم كانوا عند جعفر بن المأمون، و عندهم أبو عيسى، و كان عندهم عليّ بن يحيى، و بدعة جارية عريب تغنيهم - فذكر عليّ بن يحيى أن الصّنعة فيه لغير عريب، و ذكر أنها لا تدّعى هذا و كابر فيه، فقام جعفر بن المأمون، فكتب رقعة إلى عريب - و نحن لا نعلم - يسألها عن أمر الصوت و أن تكتب إليه بالقصة، ففعلت، فكتبت إليه بخطها:
/بسم اللّه الرحمن الرحيم.
هنيّا لأرباب البيوت بيوتهم *** و للعزب المسكين ما يتلمّس
أنا المسكينة، وحيدة فريدة بغير مؤنس، و أنتم فيما أنتم فيه، و قد أخذتم أنسى و من كان يلهيني، تعني جاريتها: بدعة و تحفة - فأنتم في القصف و العزف، و أنا في خلاف ذلك، هناكم اللّه و أبقاكم(1)، و سألت - مدّ اللّه في عمرك - عما اعترض فيه فلان، و القصّة في هذا الصوت/كذا و كذا، و قصّت قصّتها مع الأعرابيّ كما حدّثت به، و لم تخرم حرفا منها، فجاء الجواب إلى جعفر بن المأمون فقرأه و ضحك. ثم رمى به إلى أبي عيسى، و رمى به أبو عيسى إليّ، و قال: اقرأه، و كان عليّ بن يحيى جالسا إلى جنبي، فأراد أن يستلب الرقعة، فمنعته، و قمت ناحية، فقرأتها: فأنكر ذلك، و قال: ما هذا؟ فورّينا الأمر عنه لئلا تقع عربدة، و كان - عفا اللّه عنا و عنه - مبغضا لها.
قال ابن المعتز: و حدثني أبو الخطّاب العبّاس بن أحمد بن الفرات، قال: حدّثني أبي، قال:
كنا يوما عند جعفر بن المأمون نشرب و عريب حاضرة إذا غنّى بعض من كان هناك:
يا بدر إنّك قد كسيت مشابها *** من وجه ذاك المستنير اللاّئح
و أراك تمصح(2) بالمحاق، و حسنها *** باق على الأيام ليس ببارح
فضحكت عريب و صفّقت و قالت: ما على وجه الأرض أحد يعرف خبر هذا الصّوت غيري، فلم يقدم أحد منا
ص: 60
على مسألتها عنه غيري، فسألتها، فقالت: أنا أخبركم بقصته، و لو لا أن صاحب القصّة قد مات لما أخبرتكم، إن أبا محلّم قدم بغداد، فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك، فاطّلعت أمّ محمد(1) ابنة صالح يوما، فرأته /يبول، فأعجبها متاعه(2). و أحبّت مواصلته، فجعلت لذلك علّة بأن وجّهت إليه تقترض منه مالا، و تعلمه أنّها في ضيقة و أنّها تردّه إليه بعد جمعة، فبعث إليها عشرة آلاف درهم، و حلف أنّه لو ملك غيرها لبعث به، فاستحسنت ذلك و واصلته، و جعلت القرض سببا للوصلة، فكانت تدخله إليها ليلا، و كنت أنا أغنّي لهم، فشربنا ليلة في القمر، و جعل أبو محلّم ينظر إليه، ثم دعا بدواة و رقعة، و كتب فيها قوله:
يا بدر إنك قد كسيت مشابها *** من وجه أمّ محمد ابنة صالح
و البيت الآخر، و قال لي: غنّي فيه، ففعلت و استحسنّاه و شربنا عليه، فقالت لي أم محمد في آخر المجلس:
يا أختي، قد تنبّلت(3) في هذا الشعر إلا أنّه سيبقى عليّ فضيحة آخر الدهر، فقال أبو محلّم: و أنا أغيّره، فجعل مكان أمّ محمد ابنة صالح، «ذاك المستنير اللائح». و غنّيته كما غيّره، و أخذه الناس عني، و لو كانت أمّ محمد حيّة لما أخبرتكم بالخبر.
فإنّ الشعر لأبي محلّم النّسّابة، و الغناء لعريب ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى من رواية الهشاميّ و غيره، و أبو محلّم اسمه عوف بن محلّم.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ، عن ميمون بن هارون: قال:
كتبت عريب إلى محمد بن حامد - الذي كانت تهواه - تستزيره، فكتب إليها: إني أخاف على نفسي، فكتبت إليه.
إذا كنت تحذر ما تحذر *** و تزعم أنك لا تجسر
فما لي أقيم على صبوتي *** و يوم لقائك لا يقدر
/فصار إليها من وقته.
لعريب في هذين البيتين و بيتين آخرين بعدهما لم يذكرا في الخبر رمل، /و لشارية خفيف رمل، جمعا من رواية ابن المعتز، و البيتان الآخران:
تبيّنت عذري و ما تعذر *** و أبليت جسمي و ما تشعر
ص: 61
ألفت السّرور و خلّيتني(1) *** و دمعي من العين ما يفتر
و ذكر ميمون في هذا الخبر أن محمد بن حامد كتب إليها يعاتبها في شيء كرهه، فكتبت إليه تعتذر، فلم يقبل، فكتبت إليه بهذين البيتين الآخرين اللذين ذكرتهما بعد نسبة هذا الصوت.
أحببت من شعر بشّار لحبكم *** بيتا، كلفت به من شعر بشّار
يا رحمة اللّه حلّي في منازلنا(2) *** و جاورينا فدتك النّفس من جار
إذا ابتهلت سألت اللّه رحمته *** كنيت عنك و ما يعدوك إضماري
الشعر لأبي نواس منه البيت الأول، و الثاني لبشار ضمنه أبو نواس، و الغناء لعريب ثقيل أول بالبنصر، و لعمرو بن بانة في الثاني و الثالث رمل.
و هذا الشعر يقوله أبو نواس في رحمة بن نجاح عمّ نجاح بن سلمة الكاتب.
أخبرني بخبره عليّ بن سليمان الأخفش، عن محمد بن يزيد النحويّ: قال:
كان بشار يشبب بامرأة يقال لها رحمة، و كان أبو نواس يتعشق غلاما اسمه رحمة بن نجاح، عم نجاح بن سلمة الكاتب، و كانت متقدما في جماله، و كان أبوه/قد ألزمه و أخاه(3) رجلا مدنيا، و كان معهم كأحدهم، و أكثر أبو نواس التّشبيب برحمة في إقامته ببغداد و شخوصه عنها، و كان بشار قد قال في رحمة المرأة التي يهواها.
يا رحمة اللّه حلّي في منازلنا *** حسبي برائحة الفردوس من فيك
يا أطيب الناس ريقا غير مختبر *** إلا شهادة أطراف المساويك
فقال أبو نواس، و ضمّن بيت بشّار.
أحببت من شعر بشار لحبّكم *** بيتا كلفت به من شعر بشّار
الأبيات الثلاثة...
و قال فيه:
يا من تأهّب مزمعا لرواح *** متيمّما بغداد غير ملاح
في بطن جارية كفتك بسيرها *** رملا و كلّ سباحة السّبّاح(4)
بنيت على قدر و لاءم بينها *** صنفان من قار و من ألواح
ص: 62
و كأنها - و الماء ينضح صدرها *** و الخيزرانة(1) في يد الملاّح -
جون(2) من الغربان يبتدر الدّجى *** يهوي بصوت و اصطفاق جناح
سلّم على شاطئ الصّراة(3) و أهلها *** و اخصص هناك مدينة الوضّاح
/و اقصد - هديت(4) - و لا تكن متحيّرا *** في مقصد عن ظبي آل نجاح
عن رحمة الرحمن و اسأل من ترى *** سيماه سيما شارب للرّاح
فإذا دفعت إلى أغنّ و ألثغ *** و منعّم و مكحّل و رداح(5)
و كشمسنا و كبدرنا حاشى التي *** سمّيتها منه بنور أقاحي
/فاقصد لوقت لقائه في خلوة *** لتبوح عني ثمّ كلّ مباح
و اخبر(6) بما أحببت عن حالي التي *** ممساي فيها واحد و صباحي
قال: فافتدى أبو رحمة من أبي نواس ذكر ابنه بأن عقد بينه و بينه حرمة، و دعاه إلى منزله، فجاءه أبو نواس و المدينيّ لا يعرفه، فمازحه مزاحا أسرف عليه فيه، فقام إليه رحمة، فعرفه أنه أبو نواس، فأشفق المدينيّ من ذلك، و خاف أن يهجوه و يشهّر اسمه، فسأل رحمة أن يكلمه في الصفح له و الإغضاء عن الانتقام، فأجابه أبو نواس و قال:
اذهب سلمت من الهجاء و لذعه *** و أما و لثغة رحمة بن نجاح
لو لا فتور في كلامك يشتهى *** و ترفّقي لك بعد و استملاحي
و تكسّر في مقلتيك هو الذي *** عطف الفؤاد عليك بعد جماح
لعلمت أنك لا تمازح شاعرا *** في ساعة ليست بحين مزاح
أ أبكاك بالعرف المنزل *** و ما أنت و الطّلل المحول؟
و ما أنت ويك و رسم الدّيار *** و سنّك قد قاربت تكمل؟
/عروضه من المتقارب، و الشعر للكميت بن زيد الأسديّ، و الغناء لمعقل بن عيسى أخي أبي دلف العجليّ، و لحنه من الثقيل الأول بالبنصر، و هذان البيتان من قصيدة مدح الكميت بهما عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاصي بن أمية.
ص: 63
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثني الحسن بن عليل العنزيّ، عن عليّ بن هشام(1)، عن محمد بن عبد الأعلى بن كناسة: قال:
كان بين بني أسد و بين طيء بالحصّ - و هي قريبة من قادسيّة الكوفة - حرب، فاصطلحوا و بقي لطيئ دماء رجلين، فاحتمل ذلك رجل من بني أسد، فمات قبل أن يؤدّيه، فاحتمله الكميت بن زيد، فأعانه فيه عبد الرحمن بن عنبسة، فمدحه بقوله:
أ أبكاك بالعرف المنزل *** و ما أنت و الطّلل المحول
فأعانه الحكم بن الصلت الثقفيّ، فمدحه بقصيدته التي أولها:
رأيت الغواني وحشا نفورا
و أعانه زياد بن المغفّل الأسديّ، فمدحه بقصيدته التي أولها:
هل للشباب الذي قد فات من طلب؟
ثم جلس الكميت و قد خرج العطاء، فأقبل الرجل يعطي الكميت المائتين، و الثلاث المائة، و أكثر و أقل، قال: و كانت دية الأعرابي حينئذ ألف بعير و دية الحضريّ عشرة آلاف درهم، و كانت قيمة الجمل عشرة دراهم، فأدّى الكميت عشرين ألفا عن قيمة ألفي بعير.
منها:
هل للشباب الذي قد فات من طلب *** أم ليس غابره الماضي بمنقلب
/دع البكاء على ما فات من طلب *** فالدهر يأتي بألوان من العجب
غنّاه إبراهيم الموصليّ خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى من رواية إسحاق.
ص: 64
كان معقل بن عيسى فارسا شاعرا جوادا، مغنّيا فهما بالنّغم و الوتر، و ذكره الجاحظ مع ذكر أخيه أبي دلف و تقريظه في المعرفة بالنغم، و قال: إنه من أحسن أهل زمانه و أجود طبقته صنعة؛ إذ سلّم ذلك له أخوه معقل، و إنما أخمل ذكره ارتفاع شأن أخيه، و هو القائل لأبي دلف في عتب عتبه عليه:
أخيّ مالك ترميني فتقصدني *** و إن رميتك سهما لم يجز كبدي
أخيّ مالك مجبولا على ترتي *** كأن أجسادنا لم تغذ(1) من جسد
و هو القائل لمخارق، و قد كان زار أبا دلف إلى الجبل، ثم رجع إلى العراق، أخبرني بذلك عليّ بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكريّ:
لعمري لئن قرّت بقربك أعين *** لقد سخنت بالبين منك عيون
فسر أو أقم وقف عليك محبّتي(2) *** مكانك من قلبي عليك مصون
فما أوحش(3) الدنيا إذا كنت نازحا *** و ما أحسن الدنيا بحيث تكون
عروضه من الطويل، و الشعر لمعقل بن عيسى، و الغناء لمخارق، و لحنه من الثّقيل الأول بالوسطى، و فيه لحن لمعقل بن عيسى خفيف رمل، و فيه ثاني ثقيل يقال: إنه لمخارق، و يقال: إنه لمعقل.
/و من شعر معقل قوله يمتدح المعتصم، و فيه غناء للزّبير بن دحمان من الثقيل الأول بالبنصر:
الدار هاجك رسمها و طلولها *** أم بين سعدى يوم جدّ رحيلها
كلّ شجاك فقل لعينك أعولي *** إن كان يغني في الديار عويلها
و محمد زين الخلائف و الذي *** سنّ المكارم فاستبان سبيلها
ص: 65
أ ليس إلى أجبال شمخ إلى اللّوى *** لوى الرّمل يوما للنّفوس معاد؟
بلاد بها كنّا، و كنا من اهلها *** إذ النّاس ناس و البلاد بلاد
الشعر لرجل من عاد فيما ذكروا، و الغناء لابن محرز، و لحنه من الثّقيل الأول بالبنصر عن ابن المكي، و قيل:
إنه من منحوله إليه:
أخبرني ابن عمار(1) عن أبي سعد، عن محمد بن الصّبّاح: قال: حدثنا يحيى بن سلمة بن أبي الأشهب التيميّ (2) عن الهيثم بن عديّ: قال: أخبرني حمّاد الرّواية: قال:
حدثني ابن أخت لنا من مراد: قال: و ليت صدقات قوم من العرب، فبينا أنا أقسمها في أهلها إذ قال لي رجل منهم: أ لا أريك عجبا؟ قلت: بلى، فأدخلني في/شعب من جبل، فإذا أنا بسهم من سهام عاد، فتى قد نشب في ذروة الشّعب و إذا على الجبل تجاهي مكتوب:
/ألا هل إلى أبيات شمخ إلى اللّوى *** لوى الرّمل يوما للنفوس معاد؟
بلاد بها كنّا و كنا من أهلها *** إذ النّاس ناس و البلاد بلاد
ثم أخرجني إلى ساحل البحر، و إذا أنا بحجر يعلوه الماء طورا، و يظهر تارة، و إذا عليه مكتوب: يا ابن آدم يا ابن عبد ربه، اتّق اللّه، و لا تعجل في أمرك، فإنك لن تسبق رزقك، و لن ترزق ما ليس لك، و من البصرة إلى الديل ستمائة فرسخ، فمن لم يصدق بذلك فليمش الطريق على الساحل حتى يتحقّقه، فإن لم يقدر على ذلك فلينطح برأسه هذا الحجر.
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل *** جذر العدا و به الفؤاد موكّل
إني لأمنحك الصّدود و إنني *** قسما إليك مع الصّدود لأميل
أ تعزله: أتجنبه و أكون بمعزل عنه. العدا: جمع عدوّ، و يقال عدا بالضم و عدا بالكسر، و أمنحك: أعطيك.
و المنيحة: العطية. و في الحديث أن رجلا منح بعض ولده شيئا من ماله، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: أ كلّ ولدك منحت مثل هذا؟ قال: لا، قال: فارجعه.
الشعر للأحوص بن محمد الأنصاري، من قصيدة يمدح بها عمر بن عبد العزيز الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر، عن إسحاق و يونس و غيرهما، و فيه لابن سريج خفيف ثقيل الأول بالبنصر عن الهشامي و ابن المكي و علي بن يحيى.
ص: 66
أخبرني بخبر الأحوص في هذا الشعر الحرميّ عن الزبير(1) قال: حدثني عمر بن أبي بكر المؤمّلي، و أخبرنا به الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن مصعب الزبيريّ، عن المؤمّلي، عن عمر بن أبي بكر الموصلي، عن عبد اللّه بن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر: قال:
خرجت أنا و الأحوص بن محمد مع عبد اللّه بن الحسن بن الحسن إلى الحج، فلما كنا بقديد قلنا لعبد اللّه بن الحسن: لو أرسلت إلى سليمان بن أبي دباكل، فأنشدنا شيئا من شعره، فأرسل إليه فأتانا، فاستنشدناه، فأنشدنا قصيدته التي يقول فيها:
يا بيت خنساء الذي أتجنّب *** ذهب الشباب و حبّها لا يذهب
أصبحت أمنحك الصدود(2) و إنّني *** قسما إليك مع الصّدود لأجنب
ما لي أحنّ إلى جمالك قرّبت *** و أصدّ عنك و أنت منّي أقرب
للّه درّك هل لديك معوّل *** لمتيّم أم هل لودّك مطلب؟
فلقد رأيتك قبل ذاك و إنني *** لموكّل بهواك أو متقرّب
إذ نحن في الزمن الرخيّ و أنتم *** متجاورون كلامكم لا يرقب
تبكي الحمامة شجوها فتهيجني *** و يروح عازب همّي المتأوّب
و تهبّ جارية الرياح من ارضكم(3) *** فأرى البلاد لها تطلّ و تخصب
/و أرى السّمية باسمكم فيزيدني *** شوقا إليك رجاؤك المتنسّب(4)
/و أرى العدوّ يودّكم فأودّه *** إن كان ينسب منك أو لا ينسب
و أخالف الواشين فيك تجمّلا *** و هم عليّ ذو و ضغائن دؤّب
ثم اتخذتهم عليّ وليجة(5) *** حتى غضبت و مثل ذلك يغضب
ص: 67
قال: فلما كان من قابل حجّ أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان، فقدم المدينة، فدخل عليه الأحوص، و استصحبه، فأصحبه، فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده: ما ذا تريد بنفسك؟ تقدم بالأحوص الشام، و بها من ينافسك من بني أبيك، و هو من الأفن و السّفه على ما قد علمت فيعيبونك به. فلما رجع أبو بكر من الحج دخل عليه الأحوص متنجّزا لما وعده من الصحابة(1) فدعا له بمائة دينار و أثواب و قال: يا خال، إني نظرت فيما سألتني من الصحابة فكرهت(2) أن أهجم بك على أمير المؤمنين من غير إذنه، فيجبهك فيشمت بك عدوّي من أهل بيتي، و لكن خذ هذه الثياب و الدنانير، و أنا مستأذن لك أمير المؤمنين، فإذا أذن لك كتبت إليك، فقدمت عليّ، فقال له الأحوص: لا و لكن قد سبعت(3) عندك، و لا حاجة لي بعطيّتك، ثم خرج من عنده، فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فأرسل إلى الأحوص و هو يومئذ أمير المدينة، فلما دخل عليه أعطاه مائة دينار، و كساه ثيابا فأخذ ذلك، ثم قال له:
يا أخي هب لي عرض أبي بكر، قال: هو لك، ثم خرج الأحوص، فقال في عروض قصيدة سليمان بن أبي دباكل قصيدة مدح بها عمر بن عبد العزيز.
/و قال حماد: قال أبي: سرق أبيات سلميان بأعيانها، فأدخلها في شعره، و غيّر قوافيها فقط، فقال:
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل *** حذر العدا و به الفؤاد موكّل
أصبحت أمنحك الصّدود و إنّني *** قسما إليك مع الصّدود لأميل
فصددت عنك و ما صددت لبغضة *** أخشى مقالة كاشح لا يعقل
هل عيشنا بك في زمانك راجع *** فلقد تفاحش(4) بعدك المتعلّل؟
إني إذا قلت استقام يحطّه *** حلف كما نظر الخلاف الأقبل(5)
لو بالّذي عالجت لين فؤاده *** فأبى يلان به للان الجندل(6)
و تجنّبي بيت الحبيب أودّه *** أرضي البغيض به، حديث معضل
و لئن صددت لأنت لو لا رقبتي *** أهوى من اللائي أزور و أدخل
إنّ الشّباب و عيشنا اللذّ(7) الذي *** كنّا به زمنا نسرّ و نجذل
ذهبت بشاشته و أصبح ذكره *** حزنا يعلّ به الفؤاد و ينهل
إلاّ تذكّر ما مضى و صبابة *** منيت لقلب متيّم لا يذهل
أودى الشباب و أخلقت لذّاته *** و أنا الحزين على الشباب المعول
/يبكي لما قلب الزمان جديده *** خلقا و ليس على الزّمان معوّل(8)
ص: 68
و الرأس شامله البياض كأنه *** بعد السّواد به الثّغام المحجل(1)
و سفيهة هبّت عليّ بسحرة *** جهلا تلوم على الثّواء و تعذل(2)
فأجبتها أن قلت لست مطاعة *** فذري تنصّحك الذي لا يقبل
/إنّي كفاني أن أعالج رحلة *** عمر و نبوة من يضنّ و يبخل
بنوال ذي فجر تكون سجاله *** عمما إذا نزل الزّمان الممحل
ماض على حدث الأمور كأنه *** ذو رونق(3) عضب جلاه الصّيقل
تبدي الرجال إذا بدا إعظامه *** حذر البغاث هوى لهنّ الأجدل(4)
فيرون أنّ له عليهم سورة *** و فضيلة سبقت له لا تجهل
متحمّل ثقل الأمور حوى له *** سبق المكارم سابق متمهّل
و له إذا نسبت قريش منهم *** مجد الأرومة و الفعال الأفضل
و له بمكة إذ أميّة أهلها *** إرث إذا عدّ القديم مؤثّل
/أعيت قرابته و كان لزومه *** أمرا أبان رشاده من يعقل(5)
و سموت عن أخلاقهم فتركتهم *** لنداك إنّ الحازم المتحوّل
و لقد بدأت أريد ودّ معاشر *** و عدوا مواعد أخلفت إن حصّلوا
حتى إذا رجع اليقين مطامعي *** بأسا و أخلفني الذين أؤمّل
زايلت ما صنعوا إليك برحلة *** عجلي و عندك عنهم متحوّل
و وعدتني في حاجة فصدقتني *** و وفيت إذ كذبوا الحديث و بدّلوا
و شكوت غرما فادحا فحملته *** عنّي و أنت لمثله متحمّل
فلأشكرنّ لك الذي أوليتني *** شكرا تحلّ به المطيّ و ترحل
مدحا تكون لكم غرائب شعرها *** مبذولة و لغيركم لا تبذل
فإذا تنحّلت القريض فإنّه *** لكم يكون خيار ما أتنحّل
و لعمر من حجّ الحجيج لبيته *** تهوي به قلص المطيّ الذّمّل
ص: 69
إنّ امرأ قد نال منك قرابة *** يبغي منافع غيرها لمضلّل
تعفوا إذا جهلوا بحلمك عنهم *** و تنيل إن طلبوا النّوال فتجزل
و تكون معقلهم إذا لم ينجهم *** من شرّ ما يخشون إلاّ المعقل(1)
حتى كأنك يتّقى بك دونهم *** من أسد بيشة خادر متبسّل(2)
/و أراك تفعل ما تقول و بعضهم *** مذق(3) الحديث يقول ما لا يفعل
و أرى المدينة حين صرت أميرها *** أمن البريء بها و نام الأعزل
فقال عمر: ما أراك أعفيتني مما استعفيت منه، قال: لأنه مدح عمر و عرّض بأخيه أبي بكر.
مالي(4) أحنّ إذا جمالك قرّبت *** و أصدّ عنك و أنت منّي أقرب؟
و أرى البلاد إذا حللت بغيرها *** وحشا و إن كانت تظلّ و تخصب
/يا بيت خنساء الذي أتجنّب *** ذهب الشباب و حبّها لا يذهب
تبكي الحمامة شجوها فتهيجني *** و يروح عازب همّي المتأوّب
الشعر لسليمان بن أبي دباكل، و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر، عن عمرو.
و قال ابن المكّي: فيه خفيف ثقيل آخر لابن محرز، و أوله:
تبكي الحمامة شجوها فتهيجني
أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد: قرأت على أبي، و قال محمد بن كناسة: حدثني أبو دكين بن زكريا بن محمد بن عمار بن ياسر: قال: رأيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
و هي عجوز كبيرة و قد جعلت بين عينيها هلالا من نيلج(5) تتملّح به.
أخبرني الحرميّ عن الزبير، عن محمد بن محمد العمريّ: قال:
عاتكة التي يشبّب بها الأحوص عاتكة بنت عبد اللّه بن يزيد بن معاوية.
ص: 70
أخبرني الحرميّ، عن الزبير، عن إسحاق بن عبد الملك:
/إن الأحوص كان ليّنا، و أن عاتكة التي ينسب بها ليست عاتكة بنت عبد اللّه بن يزيد بن معاوية، و إنما هو رجل كان ينزل قرى كانت بين الأشراف كنى عنه بعاتكة.
أخبرني الحرميّ عن الزبيريّ عن يعقوب بن حكيم: قال:
كان الأحوص ليّنا، و كان يلزم نازلا بالأشراف، فنهاه أخوه عن ذلك، فتركه فرقا من أخيه، و كان يمرّ قريبا من خيمة النازل بالأشراف و يقول:
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل *** حذر العدا و به الفؤاد موكل
يكنى عنه بعاتكة و لا يقدر أن يدخل عليه.
أخبرني الحرميّ، عن الزبيري، عن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم: قال: حدثني عبد العزيز بن عمران: قال:
قدم الفرزدق المدينة، فقال لكثيّر؟ هل لك بنا في الأحوص نأتيه و نتحدث عنده؟ فقال له: و ما نصنع به؟ إذا و اللّه نجد عنده عبدا حالكا أسود حلوكا يؤثره علينا، و يبيت مضاجعه ليلته حتى يصبح، قال الفرزدق: فقلت: إن هذا من عداوة الشعراء بعضهم لبعض، قال: فانهض بنا إليه إذا - لا أب لغيرك - قال الفرزدق: فأردفت كثيّرا ورائي على بغلتي، و قلت: تلفّف(1) يا أبا صخر، فمثلك لا يكون رديفا، فخمّر رأسه و ألصق فيّ وجهه، فجعلت لا أجتاز بمجلس قوم إلا قالوا: من هذا وراءك يا أبا فراس؟ فأقول: جارية وهبها لي الأمير، فلما أكثرت عليه من ذلك، و اجتاز على بني زريق، و كان يبغضهم، فقلت لهم ما كنت أقول قبل ذلك، كشف عن رأسه و أومض(2) و قال:
كذب، و لكني كرهت أن أكون له رديفا(3) و كان حديثه لي معجبا(4)، فركبت وراءه، و لم تكن لي دابة أركبها إلا دابّته، فقالوا: لا تعجل يا أبا صخر، هاهنا دوابّ كثيرة تركب/منها ما أردت، فقال: دوابّكم و اللّه أبغض إلى من ردفه، فسكتوا عنه. و جعل يتغشّم(5) عليهم، حتى جاوز أبصارهم، فقلت: و اللّه ما قالوا لك بأسا، فما الذي أغضبك عليهم؟ فقال: و اللّه ما أعلم نفرا أشدّ تعصبا للقرشيين من نفر اجتزت بهم، قال: فقلت له: و ما أنت - لا أمّ (6) لك و لقريش - قال: أنا و اللّه أحدهم، قلت: إن كنت أحدهم فأنت و اللّه دعيّهم، قال: دعيّهم خير من صحيح نسب العرب، و إلا فأنا و اللّه من أكرم بيوتهم، أنا أحد بني الصّلت بن النضر، قلت: إنما قريش ولد فهر بن مالك، فقال: كذبت. فقال: ما علمك يا بن الجعراء بقريش؟ هم بنو النّضر بن كنانة، أ لم تر إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم انتسب إلى النّضر بن/كنانة، و لم يكن ليجاوز أكرم نسبه، قال: فخرجنا حتى أتينا الأحوص، فوجدناه في مشربة له، فقلنا له:
أ نرقى إليك أم تنزل إلينا؟ قال: لا أقدر على ذلك، عندي أمّ جعفر، و لم أرها منذ أيام، و لي فيها شغل، فقال كثيّر:
ص: 71
أم جعفر و اللّه بعض عبيد الزّرانيق(1) فقلنا له: فأنشدنا بعض ما أحدثت به، فأنشدنا قوله:
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل *** حذر العدا و به الفؤاد موكّل
حتى أتى على آخرها، فقلت لكثير: قاتله اللّه، ما أشعره، لو لا ما أفسد به نفسه، قال: ليس هذا إفسادا، هذا خسف إلى التّخوم، فقلت: صدقت، و انصرفنا من عنده، فقال: أين تريد؟ فقلت: إن شئت فمنزلي، و أحملك على البغلة، و أهب لك المطرف، و إن شئت فمنزلك و لا أرزؤك شيئا، فقال: بل منزلي، و أبذل لك ما قدرت عليه، و انصرفنا إلى منزله، فجعل يحدثني و ينشدني حتى جاءت الظّهر، فدعا لي بعشرين/دينارا و قال: استعن بهذه يا أبا فرس على مقدمك، قلت: هذا أشد من حملان بني زريق، قال: و اللّه إنك ما تأنف من أخذ هذا من أحد، غير الخليفة، قال الفرزدق: فجعلت أقول في نفسي: تاللّه إنه لمن قريش، و هممت ألا أقبل منه. فدعتني نفسي - و هي طمعة - إلى أخذها منه، فأخذتها.
معنى قول كثيّر للفرزدق: يا بن الجعراء: يعيّره بدغة، و هي أم عمرو بن تميم، و بها يضرب المثل في الحماقة، فيقال: هي أحمق من دغة، و كانت حاملا، فدخلت الخلاء، فولدت، و هي لا تعلم ما الولد، و خرجت و سلاها(2) بين رجليها، و قد استهل ولدها، فقالت: يا جارتا، أ يفتح الجعر فاه(3) فقالت جارتها: نعم يا حمقاء، و يدعو أباه، فبنو تميم يعيّرون بذلك، و يقال للمنسوب منهم: يا بن الجعراء.
أخبرني الحرميّ، عن الزبير قال: حدّثني سليمان بن داود المجمعيّ: قال:
اجتاز السّريّ بن عبد الرّحمن بن عتبة بن عويمر بن ساعدة الأنصاريّ بالأحوص و هو ينشد قوله:
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل
فقال السّريّ:
يا بيت عاتكة المنوّة باسمه *** اقعد على من تحت سقفك و اعجل
فواثبه الأحوص، و قال في ذلك:
فأنت و شتمي في أكاريس(4) مالك *** و سبّي به كالكلب إذ ينبح النّجما
/تداعى(5) إلى زيد و ما أنت منهم *** تحقّ أبا إلاّ الولاء و لا أمّا
و إنّك لو عدّدت أحساب مالك *** و أيامها فيها و لم تنطق الرّجما
أعادتك عبدا أو تنقّلت كاذبا(6) *** تلمّس في حيّ سوى مالك جذما
ص: 72
و ما أنا بالمحسوس في جذم مالك *** و لا بالمسمّى ثم يلتزم الاسما
و لكن أبي لو قد سألت وجدته *** توسّط منها العزّ و الحسب الضّخما
فأجابه السّريّ فقال:
سألت جميع هذا الخلق طرّا *** متى كان الأحيوص من رجالي
و هي أبيات ليست بجيدة و لا مختارة، فألغيت ذكرها.
أخبرني محمد بن أحمد بن الطّلاس/أبو الطّيب، عن أحمد بن الحارث الخرّاز، عن المدائني، و أخبرني به الحرميّ، عن الزبير: قال: حدثني عمي - و قد جمعت روايتيهما -.
أنّ المنصور أمر الرّبيع لما حجّ أن يسايره برجل(1) يعرف المدينة و أهلها و طرقها و دورها و حيطانها، فكان رجل من أهلها قد انقطع إلى الربيع زمانا، و هو رجل من الأنصار، فقال له: تهيأ فإني أظن جدّك قد تحرّك، إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أسايره برجل يعرف المدينة و أهلها و طرقها و حيطانها و دورها فتحسّس(2) موافقته و لا تبتدئه بشيء حتى يسألك، و لا تكتمه شيئا، و لا تسأله حاجة، فغدا عليه بالرجل، و صلّى المنصور، فقال: يا ربيع، الرجل، فقال: ها هو ذا، فسار معه يخبره عما سأل حتى ندر(3) من أبيات المدينة، فأقبل عليه المنصور، فقال:
من أنت أولا؟ فقال: من لا تبلغه/معرفتك - هكذا ذكر الخرّاز و ليس في رواية الزبير - فقال: ما لك من الأهل و الولد؟ فقال: و اللّه ما تزوجت، و لا لي خادم، قال: فأين منزلك؟ قال: ليس لي منزل، قال: فإن أمير المؤمنين قد أمر لك بأربعة آلاف درهم، فرمى بنفسه فقبّل رجله، فقال له: اركب، فركب، فلما أراد الانصراف قال للربيع: يا أبا الفضل، قد أمر لي أمير المؤمنين بصلة، قال: إيه، قال: إن رأيت أن تنجّزها لي، قال: هيهات، قال: فأصنع ما ذا؟ قال: لا أدري و اللّه - و في رواية الخراز أنه قال: ما أمر لك بشيء، و لو أمر به لدعاني، فقال: أعطه أو وقّع إليّ - فقال الفتى: هذا همّ لم يكن في الحساب، فلبثت أياما، ثم قال المنصور للربيع: ما فعل الرجل؟ قال:
حاضر، قال: سايرنا به الغداة، ففعل، و قال له الربيع: إنه خارج بعد غد، فاحتل لنفسك، فإنه و اللّه إن فاتك فإنه آخر العهد به، فسار معه، فجعل لا يمكنه شيء حتى انتهى إلى مسيره، ثم رجع و هو كالمعرض عنه، فلما خاف فوته أقبل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، هذا بيت عاتكة، قال: و ما بيت عاتكة؟ قال: الذي يقول فيه الأحوص.
يا بيت عاتكة الذي أ تعزل
قال: فمه، قال: إنه يقول فيها:
إنّ امرأ قد نال منك وسيلة *** يرجو منافع غيرها لمضلّل
و أراك تفعل ما تقول و بعضهم *** مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فقال الزّبير في خبره: فقال له: لقد رأيتك أذكرت بنفسك، يا سليمان بن مخلد، أعطه أربعة آلاف درهم، فأعطاه إياها، و قال الخرّاز في خبره: فضحك المنصور، و قال: قاتلك اللّه، ما أظرفك، يا ربيع أعطه ألف درهم،
ص: 73
فقال: يا أمير المؤمنين إنها كانت أربعة آلاف درهم، فقال: ألف يحصّل خير من أربعة آلاف لا تحصّل.
و قال الخراز في خبره: حدّثني المدائني: قال:
أخذ قوم من الزنادقة، و فيهم ابن لابن المقفع، فمرّ بهم على أصحاب المدائن، فلما رآهم ابن المقفع خشي أن يسلّم عليهم فيؤخذ، فتمثّل:
/يا بيت عاتكة الذي أتعزّل *** حذر العدا و به الفؤاد موكّل
الأبيات، ففطنوا لما أراد، فلم يسلّموا عليه، و مضى.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ عن ابن شبّة: قال:
بلغني أنّ يزيد بن عبد الملك كتب إلى عامله أن يجهّز إليه الأحوص الشاعر و معبدا المغنيّ.
فأخبرنا محمد بن خلف وكيع: قال: حدثنا عبد اللّه بن شبيب: قال: /حدثني إسماعيل بن أبي أويس: قال:
حدثني أبي: قال: حدثنا سلمة بن صفوان الزّرقي، عن الأحوص الشاعر - و ذكر إسماعيل بن سعيد(1) الدمشقي -:
أنّ الزّبير بن بكّار حدثه عن ابن أبي أويس، عن أبيه، عن مسلمة بن صفوان، عن الأحوص، و أخبرني به الحرمي، عن الزبير، عن عمه، عن جرير المدينيّ المغني، و أبو مسكين: قالوا جميعا:
كتب يزيد بن عبد الملك في خلافته إلى أمير المدينة - و هو عبد الواحد بن عبد اللّه النّصريّ - أن يحمل إليه الأحوص الشاعر و معبدا المغني مولى ابن قطن قال: فجهّزنا و حملنا إليه، فلما نزلنا عمان أبصرنا غديرا و قصورا، فقعدنا على الغدير و تحدثنا و ذكرنا المدينة، فخرجت جارية من بعض تلك القصور، و معها جرة تريد أن تستقي فيها ماء، قال الأحوص: فتغنّت بمدحي في عمر بن عبد العزيز:
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل
فتغنت بأحسن صوت ما سمعته قط، ثم طرّبت، فألقت الجرة فكسرتها، فقال معبد: غنائي و اللّه، و قلت:
شعري و اللّه، فوثبنا إليها، و قلنا لها: لمن أنت يا جارية؟ قالت: لآل سعيد بن العاص - و في خبر جرير المغني: لآل الوليد بن عقبة - ثم اشتراني/رجل من آل الوحيد بخمسين ألف درهم، و شغف بي، فغلبته بنت عم له طرأت عليه، فتزوّجها على أمري، فعاقبت منزلتها منزلتي، ثم علا مكانها مكاني، فلم تزدها الأيّام إلا ارتفاعا، و لم تزدني إلا اتضاعا، فلم ترض منه إلا بأن أخدمها، فوكلتني باستقاء الماء، فأنا على ما تريان، أخرج أستقي الماء، فإذا رأيت هذه القصور و الغدران ذكرت المدينة، فطربت إليها، فكسرت جرتي، فيعذلني أهلي، و يلومونني، قال:
فقلت لها: أنا الأحوص، و الشعر لي، و هذا معبد، و الغناء له، و نحن ماضيان إلى أمير المؤمنين، و سنذكرك له أحسن ذكر. و قال جرير في خبره و وافقه وكيع، و رواية عمر بن شبة: قالوا: فأنشأت الجارية تقول:
إن تروني الغداة أسعى بجرّ *** أستقي الماء(2) نحو هذا الغدير
ص: 74
فلقد كنت في رخاء من ال *** عيش و في كل نعمة و سرور
ثم قد تبصران ما فيه أمس *** يت و ما ذا إليه صار مصيري
فإلى اللّه أشتكي ما ألاقي *** من هوان و ما يجنّ ضميري
أبلغا عنّي الإمام و ما يع *** رف صدق الحديث غير الخبير(1)
أنني أضرب الخلائق بالعو *** د و أحكاهم ببمّ وزير(2)
فلعلّ الإله ينقذ مما *** أنا فيه فإنّني كالأسير
ليتني متّ يوم فارقت أهلي *** و بلادي فزرت أهل القبور
فاسمعا ما أقول لقّاكما *** اللّه نجاحا في أحسن التيسير
فقال الأحوص من وقته:
إنّ زين الغدير من كسر الجر *** و غنّى غناء فحل مجيد
/قلت: من أنت يا ظعين فقالت: *** كنت فيما مضى لآل الوليد
و في رواية الدّمشقي:
قلت: من أين يا خلوب فقالت: *** كنت فيما مضى لآل سعيد
ثم أصبحت بعد حيّ قريش *** في بني خالد لآل الوحيد
فغنائي لمعبد و نشيدي *** لفتى الناس الأحوص الصّنديد
فتباكيت ثم قلت: أنا الأح *** وص و الشيخ معبد فأعيدي
فأعادت لنا بصوت شجيّ *** يترك الشيخ في الصّبا كالوليد
و في رواية أبي زيد:
فأعادت فأحسنت ثم ولّت *** تتهادى فقلت قول عميد
يعجز المال عن شراك و لكن *** أنت في ذمّة الهمام يزيد(3)
و لك اليوم ذمّتي بوفاء *** و على ذاك من عظام العهود
أن سيجري لك الحديث بصوت *** معبديّ يردّ حبل الوريد(4)
يفعل اللّه ما يشاء فظنّي *** كلّ خير بنا هناك و زيدي
ص: 75
قالت القينة الكعاب:
إلى اللّه أموري *** و أرتجي تسديدي
غنّاه معبد ثاني ثقيل بالبنصر من رواية حبش و الهشامي و غيرهما، و هي طريقة هذا الصوت، و أهل العلم بالغناء لا يصححونه لمعبد.
/قال الأحوص: وضع فيه معبد لحنا فأجاده، فلما قدمنا على يزيد قال: يا معبد أسمعني أحدث غناء غنّيت و أطراه، فغناه معبد:
إنّ زين الغدير من كسر الجرّ *** و غنى غناء فحل مجيد
فقال يزيد: إن لهذا لقصّة فأخبراني بها، فأخبراه، فكتب لعامله بتلك الناحية: إنّ لآل فلان جارية، من حالها «ذيت و ذيت»، فاشترها بما بلغت، فاشتراها بمائة ألف درهم، و بعث بها هديّة، و بعث معها بألطاف كثيرة، فلما قدمت على يزيد رأى فضلا بارعا فأعجب بها، و أجازها، و أخدمها، و أقطعها، و أفرد لها قصرا، قال: فو اللّه ما برحنا حتى جاءتنا منها جوائز و كسا و طرف.
و قال الزبير في خبره عن عمّه: قال:
أظن القصة كلّها مصنوعة، و ليس يشبه الشّعر الأحوص، و لا هو من طرازه، و كذلك ذكر عمر بن شبّة في خبره.
أخبرني الحرميّ، عن الزّبير قال:
سمعت هشام بن عبد اللّه بن عكرمة يحدّث(1) عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: قال:
كنت مع يزيد بن عمر بن(2) هبيرة ليلة الفرات، فلما انهزم الناس التفت إليّ فقال: يا أبا الحارث، أمسينا و اللّه و هم كما قال الأحوص:
أبكي لما قلب الزمان جديده *** خلقا و ليس على الزمان معوّل
أخبرني الحرميّ عن الزبير عن محمد بن محمد العمري:
أنّ عاتكة بنت عبد اللّه بن يزيد بن معاوية رئيت في النّوم قبل ظهور دولة بني العباس على بني أمية كأنّها عريانة ناشرة شعرها تقول:
/أين الشّباب و عيشنا اللّذّ الذي *** كنّا به زمنا نسرّ و نجذل
ذهبت بشاشته و أصبح ذكره *** حزنا يعلّ به الفؤاد و ينهل
فتأول الناس ذلك بزوال دنيا بني أمية، فكان كما قالوا:
أخبرني بهذا الخبر الحسن بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن الجمحي، عن شيخ من قريش:
ص: 76
أنه رأى في النوم امرأة من ولد عثمان بن عفان على منائم على دار عثمان المقبلة على المسجد، و هي حاسرة في يديها عود و هي تضرب به و تغني:
أين الشباب و عيشنا اللّذّ الذي *** كنا به يوما نسرّ و نجذل
ذهبت بشاشته و أصبح ذكره *** حزنا يعلّ به الفؤاد و ينهل](1)
قال: فما لبثنا إلا يسيرا حتى خرج الأمر عن أيديهم، و قتل مروان.(2) قال إسحاق: المنامة: الدكان و جمعها منائم(3).
/يا هند إنّك لو عل *** مت بعاذلين تتابعا
قالا فلم أسمع لما(4)*** قالا و قلت بل اسمعا
هند أحبّ إليّ من *** مالي و روحي فارجعا
و لقد عصيت عواذلي *** و أطعت قلبا موجعا
الشعر لعبد اللّه بن الحسن بن الحسن عليهم السلام، و الغناء لابن سريح، و لحنه فيه لحنان أحدهما من القدر الأوسط من الثقيل، الأوّل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق و الآخر رمل بالوسطى عن عمرو، و فيه خفيف ثقيل، ذكر أبو العبيس أنه لابن سريح و ذكر الهشامي و ابن المكيّ أنه للغريض، و ذكر حبش أن لإبراهيم فيه رملا آخر بالبنصر، و قال أحمد بن عبيد: الذي صح فيه ثقيل الأول و خفيفه و رمله، و ذكر إبراهيم أن فيه لحنا لابن عبّاد.
ص: 77
عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب - عليهم السلام - و قد مضى نسبه في أخباره عمّه الحسين صلوات اللّه عليه في شعره الذي يقول فيه:
لعمرك إنني لأحبّ دارا *** تحلّ بها سكينة و الرّباب
و يكنى عبد اللّه بن الحسن أبا محمد، و أمّ عبد اللّه بن الحسن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، و أمّها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد اللّه، و أمّها الجرباء بنت قسامة بن رومان عن طيّ ء.
أخبرني أحمد بن سعيد: قال: حدثنا يحيى بن الحسن: قال:
إنما سمّيت الجرباء لحسنها، كانت لا تقف إلى جنبها امرأة، و إن كانت جميلة إلا استقبح منظرها لجمالها، و كان النساء يتحامين أن يقفن إلى جنبها، فشبّهت بالنّاقة الجرباء التي تتوقّاها الإبل مخافة أن تعديها.
و كانت أم إسحاق من أجمل نساء قريش و أسوئهن خلقا، و يقال: إن نساء بني تيم كانت لهنّ حظوة عند أزواجهنّ على سوء أخلاقهنّ، و يروى أن أمّ إسحاق كانت ربّما حملت و ولدت و هي لا تكلّم زوجها.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمّه بذلك: قال:
و قد كانت أم إسحاق عند الحسن بن عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه قبل أخيه الحسين عليه السلام، فلما حضرته الوفاة دعا بالحسين صلوات اللّه عليه فقال له: يا أخي إني أرضى هذه المرأة لك، فلا تخرجنّ من بيوتكم، فإذا انقضت عدّتها فتزوّجها. فلما توفّي الحسن عنها تزوجها الحسين عليه السلام، و قد كانت ولدت من الحسن عليه/السلام(1) ابنه طلحة بن الحسن، فهو أخو فاطمة لأمها(2) و ابن عمها، و قد درج طلحة و لا عقب له.
و من طرائف أخبار التّيميّات من نساء قريش في حظوتهن و سوء أخلاقهن ما أخبرنا به الحرميّ بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن محمد بن عبد اللّه. قال:
كانت أمّ سلمة بنت محمد بن طلحة عند عبد اللّه بن الحسن(3) و كانت تقسو عليه قسوة عظيمة و تغلظ، له، و يفرق منها و لا يخالفها، فرأى يوما منها طيب نفس، فأراد أن يشكو إليها قسوتها، فقال لها: يا بنت محمد، قد أحرق و اللّه قلبي... فحدّدت/له النّظر، و جمعت وجهها و قالت له: أحرق قلبك ما ذا؟ فخافها فلم يقدر على أن
ص: 78
يقول لها: سوء خلقك، فقال لها: حبّ أبي بكر الصّدّيق، فأمسكت عنه.
و تزوّج الحسن بن الحسن فاطمة بنت الحسين في حياة عمّه، و هو - عليه السلام - زوّجه إيّاها.
أخبرني الطّوسيّ و الحرميّ، عن الزبير، عن عمه بذلك، و حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن إسماعيل بن يعقوب قال: حدثني جدّي عبد اللّه بن موسى بن عبد اللّه بن الحسن، قال:
خطب الحسن بن الحسن إلى عمه الحسين - صلوات اللّه عليه - و سأله أن يزوّجه إحدى ابنتيه، فقال له الحسين عليه السلام: اختر يا بنيّ أحبّهما إليك، فاستحيا الحسن، و لم يحر جوابا، فقال له الحسين عليه السلام:
فإني اخترت منهما لك ابنتي فاطمة، فهي أكثر شبها بأمّي فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
أخبرني الطوسيّ و الحرميّ عن الزبير عن عمه مصعب:
/إنّ الحسن لمّا خيّره عمّه اختار فاطمة، و كانوا يقولون: إنّ امرأة، سكينة مردودتها، لمنقطعة القرين في الجمال.
أخبرني الطوسيّ و الحرميّ بن أبي العلاء، عن الزبير بن بكار، و أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ، عن أحمد بن يحيى و أحمد بن زهير، عن الزبير، و أخبرني أحمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن، عن الزبير بن بكار و اللفظ للحسن بن علي، و خبره أتمّ: قال: قال الزبير: حدثني عمي مصعب و لم يذكر أحدا.
و أخبرني محمد بن يحيى عن أيوب، عن عمر بن أبي الموالي قال الزبير: و حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن يوسف بن الماجشون، و قد دخل حديث بعضهم في بعض حديث الآخرين:
أنّ الحسن بن الحسن لما حضرته الوفاة جزع، و جعل يقول: إني لأجد كربا ليس إلا هو كرب الموت، و أعاد ذلك دفعات، فقال له بعض أهله: ما هذا الجزع، تقدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو جدّك و على عليّ و الحسن و الحسين - صلوات اللّه عليهم - و هم آباؤك؟ فقال: لعمري إنّ الأمر لكذلك، و لكن كأني بعبد اللّه بن عمرو بن عثمان حين أموت و قد جاء في مضرّجتين(1) أو ممصّرتين و هو يرجّل جمّته يقول: أنا من بني عبد مناف جئت لأشهد ابن عمّي، و ما به إلا أن يخطب فاطمة بنت الحسين، فإذا جاء فلا يدخل عليّ، فصاحت فاطمة: أ تسمع؟ قال: نعم، قالت:
أعتقت كل مملوك لي، و تصدقت بكل ملك لي إن أنا تزوجت بعدك أحدا أبدا، قال: فسكن الحسن و ما تنفّس و لا تحرّك حتى قضى، فلما ارتفع الصّياح أقبل عبد اللّه على الصّفة التي ذكرها الحسن، فقال بعض القوم: ندخله. و قال بعضهم: لا يدخل، و قال قوم: لا يضرّ دخوله، فدخل و فاطمة تصكّ وجهها، فأرسل إليها وصيفا كان معه، فجاء يتخطى النّاس حتى دنا منها فقال لها: يقول لك مولاي أبقى على وجهك فإن لنا فيه أربا، قال: /فأرسلت يدها في كمّها و اختمرت و عرف ذلك منها، فما لطمت وجهها حتى دفن صلوات اللّه عليه. فلما انقضت عدّتها خطبها فقالت: فكيف لي بنذري و يميني؟ فقال: نخلف عليك بكل عبد عبدين، و بكل شيء شيئين، ففعل و تزوجته، و قد قيل في تزويجه إياها غير هذا.
ص: 79
أخبرني به أحمد بن محمد بن إسماعيل الهمدانيّ، عن يحيى بن الحسن العلويّ، عن أخيه أبي جعفر، عن إسماعيل بن يعقوب، عن محمد بن عبد اللّه البكريّ:
أنّ/فاطمة لما خطبها عبد اللّه أبت أن تتزوّجه، فحلفت عليها أمّها لتتزوجنّه، و قامت في الشّمس، و آلت لا تبرح حتى تتزوجه، فكرهت فاطمة أن تحرج، فتزوجته.
و كان عبد اللّه بن الحسن بن الحسن شيخ أهله و سيّدا من ساداتهم و مقدّما فيهم فضلا و علما و كرما، و حبسه أبو جعفر المنصور في الهاشمية بالكوفة لمّا خرج عليه ابناه محمد و إبراهيم فمات في الحبس، و قيل: إنّه سقط عليه، و قيل غير ذلك.
أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن عن عليّ بن أحمد الباهليّ: قال: سمعت مصعبا الزبيريّ يقول:
انتهى كلّ حسن إلى عبد اللّه بن حسن، و كان يقال: من أحسن الناس؟ فيقال: عبد اللّه بن الحسن، و يقال: من أفضل الناس؟ فيقال: عبد اللّه بن الحسن.
حدثني محمد بن الحسن الخثعميّ الأشناني(1) و الحسن بن عليّ السلوليّ قالا: حدثنا عبّاد بن يعقوب قال:
حدثنا تلميذ بن سليمان، قال: رأيت عبد اللّه بن الحسن، و سمعته يقول: أنا أقرب الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، ولدتني بنت(2) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مرتين.
/حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن، عن إسماعيل بن يعقوب، عن عبد اللّه بن موسى، قال:
أوّل من اجتمعت له ولادة الحسن عليه السلام و الحسين - صلوات اللّه عليهما - عبد اللّه بن الحسن عليه السلام:
حدثني محمد بن الحسن الأشنانيّ، عن عبد اللّه بن يعقوب، عن بندقة بن محمد بن جحادة الدّهان قال:
رأيت عبد اللّه بن الحسن، فقلت: هذا و اللّه سيّد الناس، كان مكسوّا نورا من قرنه إلى قدمه.
قال عليّ بن الحسين: و قد روي ذلك في أخبار أبي جعفر محمد بن عليّ عليه السلام، و أمّه أمّ عبد اللّه بنت الحسن بن علي عليه السلام.
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن، عن القاسم بن عبد الرزّاق: قال:
جاء منظور بن زيّان الفزاريّ إلى حسن بن حسن - و هو جدّه أبو أمّه - فقال له: لعلك أحدثت بعدي أهلا، قال: نعم، تزوجت بنت عمّي الحسين بن عليّ - عليهما السلام - قال: بئسما صنعت، أ ما علمت أن الأرحام إذا التقت أضوت(3)، كان ينبغي أن تتزوج في الغرب، قال: فإن اللّه جلّ و عزّ قد رزقني منها ولدا، قال: أرنيه، فأخرج
ص: 80
إليه عبد اللّه بن الحسن فسرّ به، و قال: أنجبت، هذا و اللّه ليث غاب و معدوّ عليه، قال: فإن اللّه تعالى قد رزقني منها ولدا ثانيا، قال: فأرنيه(1)، فأخرج إليه حسن بن حسن بن حسن، فسرّ به، و قال: أنجبت، و هذا دون الأول، قال: فإن اللّه قد رزقني منها ولدا ثالثا، قال: فأرنيه(2). فأراه إبراهيم بن الحسن.
حدثني أبو عبيد محمد بن أحمد الصيرفيّ: قال: حدثنا محمد بن علي بن خلف قال:
حدثنا عمر بن عبد الغفار قال: حدثنا سعيد بن أبان القرشيّ قال:
كنت عند عمر بن عبد العزيز، فدخل عبد اللّه بن الحسن عليه، و هو يومئذ شاب في إزار و رداء، فرحّب به و أدناه و حيّاه، و أجلسه إلى جنبه و ضاحكه، ثم غمز عكنة من بطنه، و ليس في البيت حينئذ إلا أمويّ، فقيل له: ما حملك على غمز بطن هذا الفتى؟ قال: إني لأرجو بها(3) شفاعة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.
حدثني عمر بن عبد اللّه بن جميل العتكيّ، عن عمر بن شبّة، عن إسماعيل بن جعفر الجعفريّ: قال:
حدثني سعيد بن عقبة الجهنيّ: قال: إني لعند عبد اللّه بن الحسن إذ أتانى آت، فقال: هذا رجل يدعوك، فخرجت، فإذا أنا بأبي عديّ/الشاعر الأمويّ، فقال: أعلم أبا محمد، فخرج إليه عبد اللّه، و هم خائفون، فأمر له بأربعمائة دينار، و هند(4) بمائتي دينار، فخرج بستمائة دينار. و قد روى مالك بن أنس عن عبد اللّه بن الحسن الحديث.
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن قال:
حدثنا عليّ بن أحمد الباهليّ عن مصعب بن عبد اللّه قال: سئل مالك عن السّدل(5) قال: رأيت من يرضى بفعله؛ عبد اللّه بن الحسن يفعله، و السبب في حبس عبد اللّه بن الحسن و خروج ابنيه و قتلهما يطول ذكره. و قد أتى عمر بن شبّة منه بما لا يزيد عليه أحد إلا اليسير، و لكن من أخباره ما يحسن ذكره هاهنا فنذكره.
أخبرني عمر بن عبد اللّه العتكي عن عمر بن شبّة، قال: حدثني موسى بن سعيد/بن عبد الرحمن و أيوب بن عمر عن إسماعيل بن أبي عمرو قالوا:
لمّا بنى أبو العبّاس بناءه بالأنبار الذي يدعى الرّصافة: رصافة أبي العباس قال لعبد اللّه بن الحسن: ادخل فانظر و دخل معه، فلما رآه تمثل:
أ لم تر حوشبا أمسى يبنّي *** بناء نفعه لبني نفيلة(6)
ص: 81
يؤمّل أن يعمّر عمر نوح *** و أمر اللّه يحدث كلّ ليلة(1)
فاحتمله أبو العبّاس(2) و لم يبكّته بها.
أخبرني عمّي عن ابن شبّة عن يعقوب بن القاسم عن عمرو بن شهاب، و حدّثني أحمد بن محمّد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن الزّبير عن محمد بن الضّحّاك عن أبيه قالوا:
إن أبا العبّاس كتب إلى عبد اللّه بن الحسن في تغيّب ابنيه:
أريد حياته و يريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مراد(3)
قال عمر بن شبّة: و إنما كتب بها إلى محمد، قال عمر بن شبّة: فبعثوا إلى عبد الرحمن بن مسعود مولى أبي حنين(4)، فأجابه(5):
و كيف يريد ذاك و أنت منه *** بمنزلة النّياط من الفؤاد
/و كيف يريد ذاك و أنت منه *** و زندك حين تقدح من زناد(6)
و كيف يريد ذاك و أنت منه *** و أنت لهاشم رأس و هاد
أخبرني عمر بن عبد اللّه بن شبّة عن عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام عن الحسن بن زيد عن عبد اللّه بن الحسن قال:
بينا أنا في سمر أبي العباس، و كان إذا تثاءب أو ألقى المروحة من يده قمنا، فألقاها ليلة فقمنا، فأمسكني فلم يبق غيري، فأدخل يده تحت فراشه، و أخرج إضبارة كتب و قال: اقرأ يا أبا محمد، فقرأت فإذا كتاب من محمّد بن هشام بن عمرو التّغلبيّ يدعوه(7) إلى نفسه، فلما قرأته قلت له: يا أمير المؤمنين، لك عهد اللّه و ميثاقه ألاّ ترى منهما شيئا تكرهه ما كانا في الدنيا.
أخبرنا العتكيّ عن ابن شبّة عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمر، عن عبد اللّه بن عبدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال:
لما استخلف أبو جعفر ألحّ في طلب محمّد و المسألة عنه، و عمّن يؤويه، فدعا بني هاشم رجلا رجلا، فسألهم عنه، فكلهم يقول: قد علم أمير المؤمنين أنك قد عرفته بطلب هذا الشأن قبل اليوم، فهو يخافك على نفسه، و لا يريد لك خلافا، و لا يحب لك معصية، إلاّ الحسن/بن زيد فإنه أخبره خبره(8)، فقال: و اللّه ما آمن
ص: 82
و ثوبه عليك، و أنه لا ينام فيه فر(1) رأيك فيه قال ابن أبي عبيدة: فأيقظ من(2) لا ينام.
/أخبرني عمر بن عبد اللّه بن شبّة عن عيسى بن عبد اللّه بن محمّد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن محمد بن عمران عن عقبة بن سلم:
إنّ أبا جعفر دعاه، فسأله عن اسمه و نسبه، فقال: أنا عقبة بن سلم بن نافع بن الأزدهانيّ، قال: إني أرى لك هيئة و موضعا، و إني لأريدك لأمر أنا به معنيّ، قال: أرجو أن أصدّق ظنّ أمير المؤمنين، قال: فأخف شخصك، و ائتني في يوم كذا و كذا، فأتيته، فقال: إن بني عمّنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا بملكنا، و لهم شيعة بخراسان بقرية كذا و كذا، يكاتبونهم، و يرسلون إليهم بصدقات و ألطاف، فاذهب(3) حتى تأتيهم متنكّرا بكتاب تكتبه عن أهل تلك القرية، ثم تسير ناحيتهم، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم علمت ذلك، و كنت على حذر منهم حتى تلقى عبد اللّه بن الحسن متخشعا، و إن جبهك - و هو فاعل - فاصبر و عاوده أبدا حتى يأنس بك، فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل إليّ، ففعل ذلك، و فعل به حتى أنس عبد اللّه بناحيته، فقال له عقبة: الجواب، فقال له: أمّا الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد، و لكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام، و أخبرهم أنّ ابني خارج لوقت كذا و كذا، فشخص عقبة حتى قدم على أبي جعفر، فأخبره الخبر.
أخبرني العتكيّ عن عمر بن محمد بن يحيى بن الحارث بن إسحاق، قال:
سأل أبو جعفر عبد اللّه بن الحسن عن ابنيه لما حجّ، فقال: لا أعلم بهما حتى تغالظا، فأمصّه(4)، أبو جعفر، فقال له: يا أبا جعفر، بأيّ أمهاتي تمضّني؟ أ بخديجة بنت خويلد أم بفاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أم بفاطمة بنت الحسين - عليهم السلام - أم بأم إسحاق بنت طلحة؟ قال: لا و لا بواحدة منهنّ، و لكن بالجرباء بنت قسامة/فوثب المسيّب بن زهير، فقال: يا أمير المؤمنين، دعني أضرب عنق ابن الفاعلة، فقام زياد بن عبد اللّه، فألقى عليه رداءه، و قال: يا أمير المؤمنين، هبه لي، فأنا المستخرج لك ابنيه، فتخلّصه منه.
قال ابن شبّة: و حدثني بكر بن عبد اللّه مولى أبي بكر، عن علي بن رباح أخى إبراهيم بن رباح، عن صاحب المصلّى: قال:
إني لواقف على رأس أبي جعفر و هو يتغذّى بأوطاس(5)، و هو متوجّه إلى مكة، و معه على مائدته عبد اللّه بن الحسن و أبو الكرام الجعفريّ و جماعة من بني العباس، فأقبل على عبد اللّه بن الحسن، فقال: يا أبا محمد؛ محمد و إبراهيم أراهما قد استوحشا من ناحيتي، و إني لأحب أن يأنسا بي و يأتياني فأصلهما و أزوّجهما، و أخلطهما بنفسي، قال: و عبد اللّه يطرق طويلا، ثم يرفع رأسه و يقول: و حقّك يا أمير المؤمنين ما لي بهما و لا بموضعهما من البلاد علم، و لقد خرجا عن يدى، فيقول: لا تفعل يا أبا محمد، اكتب إليهما و إلى من يوصّل كتابك إليهما، قال: و امتنع أبو جعفر عن عامة غدائه ذلك اليوم إقبالا على عبد اللّه، و عبد اللّه يحلف أنه لا يعرف موضعهما، و أبو جعفر يكرر عليه: لا تفعل يا أبا محمد.
ص: 83
قال ابن شبّة: فحدّثني محمد بن عباد عن السّندي بن شاهك:
أن أبا جعفر قال لعقبة بن سلم: إذا فرغنا من الطّعام فلحظتك فامثل بين يدي عبد اللّه، فإنه سيصرف بصره عنك، فدر حتى تغمز/ظهره بإبهام رجلك، حتى يملأ عينيه منك، ثم حسبك و إياك أن يراك ما دام يأكل، ففعل ذلك عقبة، فلما رآه عبد اللّه وثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر، و قال: يا أمير المؤمنين أقلني أقالك اللّه، قال: لا أقالني اللّه إن أقلتك، ثم أمر بحبسه.
قال ابن شبة، فحدّثني أيوب بن عمر، عن محمّد بن خلف المخزوميّ قال: أخبرني العباس بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس قال:
/لمّا حجّ أبو جعفر في سنة أربعين و مائة أتاه عبد اللّه و حسن ابنا حسن، فإنهما و إياي لعنده، و هو مشغول بكتاب ينظر فيه إذ تكلّم المهديّ فلحن، فقال عبد اللّه: يا أمير المؤمنين، أ لا تأمر بهذا من يعدّل لسانه، فإنه يفعل فعل الأمة، فلم يفهم، و غمزت عبد اللّه فلم ينتبه، و عاد لأبي جعفر فأحفظ من ذلك، و قال له: أين ابنك؟ قال: لا أدري، قال: لتأتيني به، قال: لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه، قال: يا ربيع فمر به إلى الحبس.
أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن قال:
توفي عبد اللّه في محبسه بالهاشمية و هو ابن خمس و سبعين سنة في سنة خمس و أربعين و مائة و هند التي عناها عبد اللّه في شعره الذي فيه الغناء زوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد اللّه بن زمعة بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ، و أمها قرينة بنت يزيد بن عبد اللّه بن وهب بن زمعة بن الأسود بن المطّلب.
و كان أبو عبيدة جوادا و ممدّحا، و كانت هند قبل عبد اللّه بن الحسن تحت عبد اللّه بن عبد الملك بن مروان، فمات عنها.
فأخبرني الحرميّ عن الزبير عن سليمان بن عيّاش السعديّ قال:
لما توفي أبو عبيدة وجدت ابنته هند وجدا شديدا، فكلّم عبد اللّه بن الحسن محمد بن بشير الخارجي أن يدخل على هند بنت أبي عبيدة، فيعزّيها و يؤسّيها عن أبيها، فدخل معه عليها، فلما نظر إليها صاح بأبعد صوته.
قومي اضربي عينيك يا هند لن ترى *** أبا مثله تسمو إليه المفاخر(1)
و كنت إذا أسبلت فوقك والدا *** تزيني(2) كما زان اليدين الأساور
/فصكّت وجهها، و صاحت بحربها و جهدها، فقال له عبد اللّه بن الحسن: أ لهذا دخلت؟ فقال الخارجيّ:
و كيف أعزّي عن أبي عبيدة و أنا أعزّى به!.
أخبرني العتكيّ، عن شبّة: قال: حدثني عبد الرحمن بن جعفر بن سليمان، عن عليّ بن صالح، قال:
زوّج عبد الملك بن مروان ابنه عبد اللّه هند بنت أبي عبيدة و ريطة بنت عبد اللّه بن عبد المدان لما كان يقال إنه
ص: 84
كائن في أولادهما، فمات عنهما عبد اللّه أو طلقهما، فتزوج هندا عبد اللّه بن الحسن، و تزوج ريطة محمد بن عليّ، فجاءت بأبي العباس السفاح.
أخبرني العتكيّ عن عمر بن شبة عن ابن داجة(1) عن أبيه قال:
لما مات عبد اللّه بن عبد الملك رجعت هند بميراثها منه، فقال عبد اللّه بن حسن لأمه فاطمة: اخطبي عليّ هندا، فقالت: إذا تردّك، أ تطمع في هند و قد ورثت ما ورثته، و أنت ترب لا مال لك؟ فتركها و مضى إلى أبي عبيدة أبي هند، فخطبها إليه، فقال: في الرّحب و السّعة، أمّا منّي فقد زوّجتك، مكانك لا تبرح، و دخل على هند، فقال:
يا بنية، هذا عبد اللّه بن حسن، أتاك خاطبا، قالت: فما قلت له؟ قال: /زوجته. قالت: أحسنت. قد أجزت ما صنعت، و أرسلت إلى عبد اللّه: لا تبرح حتى تدخل على أهلك. قال: فتزيّنت له فبات بها معرّسا من ليلته، و لا تشعر أمّه، فأقام سبعا، ثم أصبح يوم سابعه غاديا على أمّه و عليه ردع(2) الطيب، و في غير ثيابه التي تعرف، فقالت له: يا بنيّ، من أين لك هذا؟ قال: من عند التي زعمت أنها لا تريدني.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و عمّي عبد العزيز بن أحمد بن بكّار: قالا: حدثنا الزبير: قال: حدثتني ظبية مولاة فاطمة: قالت:
كان جدّك عبد اللّه بن مصعب يستنشدني كثيرا أبيات عبد اللّه بن حسن و يعجب بها:
إنّ عيني تعوّدت كحل هند *** جمعت كفّها مع الرّفق لينا
يا عيد مالك من شوق و إيراق *** و مرّ طيف على الأهوال طرّاق(3)
يسرى على الأين و الحيّات محتفيا *** نفسي فداؤك من سار على ساق
عروضه من البسيط: العيد: ما اعتاد الإنسان من همّ أو شوق أو مرض أو ذكر. و الأين و الأيم: ضرب من الحيات. و الأين: الإعياء أيضا، و روى أبو عمرو:
يا عيد قلبك من شوق و إيراق
الشعر لتأبط شرّا، و الغناء لابن محرز ثقيل أوّل بالوسطى من رواية يحيى المكي و حبش و ذكر الهشامي أنه من منحول يحيى إلى ابن محرز.
ص: 85
هو ثابت بن جابر بن سفيان بن عميثل(1) بن عدي بن كعب بن حزن. و قيل: حرب بن تميم(2) بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس عيلان بن مضر بن نزار.
و أمّه امرأة يقال لها: أميمة، يقال: إنها من بني القين بطن من، فهم ولدت خمسة نفر: تأبط شرا، و ريش بلغب(3)، و ريش نسر، و كعب جدر، و لا بواكي له(4)، و قيل: إنها ولدت سادسا اسمه عمرو.
و تأبط شرا لقب لقّب به، ذكر الرواة أنه كان رأى كبشا في الصحراء، فاحتمله تحت إبطه، فجعل يبول عليه طول طريقه، فلما قرب من الحيّ ثقل عليه الكبش، فلم يقلّه فرمى به فإذا هو الغول، فقال له قومه: ما تأبطت يا ثابت؟ قال: الغول، قالوا: لقد تأبطت شرّا فسمّي بذلك.
و قيل: بل قالت له أمه: كل إخوتك يأتيني بشيء إذا راح غيرك، فقال لها: سآتيك الليلة بشيء، و مضى فصاد أفاعي كثيرة من أكبر ما قدر عليه، فلما راح أتى بهن في جراب متأبّطا له، فألقاه بين يديها، ففتحته، فتساعين في بيتها، فوثبت، و خرجت، فقال لها نساء الحي: ما ذا أتاك به ثابت؟ فقالت: أتاني بأفاع في جراب، قلن: و كيف حملها؟ قالت: تأبّطها، قلن: لقد تأبط شرا، فلزمه تأبط شرا.
/حدثني عمّي قال حدثني علي بن الحسن بن عبد الأعلى عن أبي محلّم بمثل هذه الحكاية و زاد فيها:
أنّ أمّه قالت له في زمن الكمأة: أ لا ترى غلمان الحي يجتنون لأهليهم الكمأة، فيروحون بها؟ فقال اعطيني جرابك، حتى أجتني لك فيه، فأعطته، فملأه لها أفاعي، و ذكر باقي الخبر مثل ما تقدم.
و من ذكر أنه إنما جاءها بالغول يحتج بكثرة أشعاره في هذا المعنى، /فإنه يصف لقاءه إيّاها في شعره كثيرا، فمن ذلك قوله:
فأصبحت الغول لي جارة *** فيا جارتا لك ما أهولا(5)
فطالبتها بضعها فالتوت *** عليّ و حاولت أن أفعلا(6)
فمن كان يسأل عن جارتي *** فإنّ لها باللّوى منزلا
ص: 86
أخبرني عمّي عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال: نزلت على حي من فهم إخوة بني عدوان من قيس، فسألتهم عن خبر تأبط شرا، فقال لي بعضهم: و ما سؤالك عنه، أ تريد أن تكون لصا؟ قلت: لا، و لكن أريد أن أعرف أخبار هؤلاء العدّائين، فأتحدّث بها، فقالوا: نحدثك بخبره: إن تأبط شرا كان أعدى ذي رجلين(1) و ذي ساقين و ذى عينين، و كان إذا جاع لم تقم له قائمة، فكان ينظر إلى الظّباء فينتقي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه فلا يفوته، حتى يأخذه، فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله.
و إنما سمّي تأبط شرا لأنه - فيما حكي لنا - لقي الغول في ليلة ظلماء في موضع يقال له رحى بطسان(2) في بلاد هذيل، فأخذت عليه الطّريق فلم يزل بها، حتى/قتلها، و بات عليها فلمّا أصبح حملها تحت إبطه و جاء بها إلى أصحابه، فقالوا له: لقد تأبّطت شرّا، فقال في ذلك:
تأبّط شرّا ثم راح أو اغتدى *** يوائم غنما أو يشيف على ذحل
- يوائم: يوافق، و يشيف: يقتدر. و قال أيضا في ذلك:
ألا من مبلغ فتيان فهم *** بما لا لاقيت عند رحى(3)
و أنّي قد لقيت الغول تهوي *** بسهب كالصحيفة صحصحان(4)
فقلت لها: كلانا نضو أين(5) *** أخو سفر فخلّي لي مكاني
فشدّت شدّة نحوي فأهوى *** لها كفّي بمصقول يماني
فأضربها بلا دهش فخرّت *** صريعا لليدين و للجران(6)
فقالت: عد، فقلت لها: رويدا *** مكانك إنني ثبت الجنان
فلم أنفكّ متّكئا عليها *** لأنظر مصبحا ما ذا أتاني(7)
إذا عينان في رأس قبيح *** كرأس الهرّ مشقوق اللّسان
و ساقا مخدج و شواة كلب *** و ثوب من عباء أو شنان(8)
أخبرنا الحسين بن يحيى: قال: قرأت على حمّاد: و حدثك أبوك عن حمزة بن عتبة اللّهبي: قال:
/قيل لتأبط شرّا: هذه الرجال غلبتها، فكيف لا تنهشك الحيّات في سراك؟ فقال: إني لأسرى البردين. يعني أول اللّيل، لأنها تمور خارجة من حجرتها، و آخر الليل تمور مقبلة إليها.
ص: 87
قال حمزة: و لقي تأبّط شرّا ذات يوم رجلا من ثقيف يقال له أبو وهب، كان جبانا(1) أهوج، و عليه حلّة جيّدة، فقال أبو وهب لتأبّط شرّا: بم تغلب الرجال يا ثابت، و أنت كما أرى دميم ضئيل؟ قال: باسمي، إنما أقول ساعة ما ألقى الرّجل: أنا تأبّط شرّا، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت، فقال له الثقفي: أقط(2) قال: قطّ، قال:
فهل لك أن تبيعني اسمك؟ قال: نعم، فبم تبتاعه؟ قال: بهذه/الحلّة و بكنيتك قال له: أفعل، ففعل، و قال له تأبّط شرّا: لك اسمي و لي كنيتك(3)؟، و أخذ حلّته و أعطاه طمرية، ثم انصرف، و قال في ذلك يخاطب زوجة الثّقفيّ:
ألا هل أتى الحسناء أنّ حليلها *** تأبّط شرّا و اكتنيت أبا وهب
فهبه تسمّى اسمي و سمّيت باسمه(4) *** فأين له صبري على معظم الخطب؟
و أين له بأس كبأسي و سورتي *** و أين له في كل فادحة قلبي؟
قال حمزة: و أحبّ تأبّط شرّا جارية من قومه، فطلبها زمانا لا يقدر عليها، ثم لقيته ذات ليلة فأجابته و أرادها، فعجز عنها، فلما رأت جزعه من ذلك تناومت عليه فآنسته و هدأ، ثم جعل يقول:
/ما لك من أير سلبت الخلّه *** عجزت عن جارية رفلّه(5)
تمشي إليك مشية خوزله(6)*** كمشية الأرخ تريد العلّه
الأرخ: الأنثى من البقر التي لم تنتج. العلة تريد أن تعل بعد النهل، أي أنها قد رويت فمشيتها ثقيلة. و العل:
الشّرب الثاني.
لو أنها راعية في ثلّه *** تحمل قلعين لها قبله
لصرت كالهراوة العتلّه(7)
أخبرني الحسن بن علي عن عبد اللّه بن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن أبي بركة الأشجعي قال:
أغار تأبط شرّا - و هو ثابت بن العميثل الفهمي، و معه ابن براق الفهميّ على بجيلة - فأطردا لهم نعما، و نذرت بهما بجيلة، فخرجت في آثارهما و مضيا هاربين في جبال السّراة، و ركبا الحزن، و عارضتهما بجيلة في السهل فسبقوهما إلى الوهط - و هو ماء لعمرو بن العاص بالطائف - فدخلوا لهما في قصبة العين، و جاءا، و قد بلغ العطش
ص: 88
منهما، إلى العين، فلما وقفا عليها قال تأبط شرّا لابن برّاق: أقلّ من الشّراب فإنها ليلة طرد، قال: و ما يدريك؟ قال: و الذي أعدو بطيره، إنّي لأسمع وجيب قلوب الرجال تحت قدميّ. و كان من أسمع العرب و أكيدهم. فقال له ابن برّاق: ذلك و جيب قلبك. فقال له تأبّط شرّا: و اللّه ما وجب قطّ، و لا كان وجّابا، و ضرب بيده عليه، و أصاخ نحو الأرض يستمع/فقال: و الذي أعدو بطيره، إني لأسمع وجيب قلوب الرّجال، فقال له ابن برّاق: فأنا أنزل قبلك، فنزل فبرك و شرب و كان أكلّ القوم عند بجيلة شوكة(1)، فتركوه و هم في الظّلمة، و نزل ثابت، فلما توسط الماء وثبوا عليه، فأخذوه و أخرجوه من العين مكتوفا، و ابن برّاق قريب منهم لا يطمعون فيه لما يعلمون من عدوه، فقال لهم ثابت: إنه من أصلف الناس و أشدّهم عجبا بعدوه، و سأقول له: استأسر معي، فسيدعوه عجبه بعدوه إلى أن يعدو من بين أيديكم، و له ثلاثة أطلاق: أولها كالرّيح الهابّة، و الثاني كالفرس الجواد، و الثالث يكبو فيه و يعثر، فإذا رأيتم منه ذلك فخذوه فإني أحب أن يصير في أيديكم كما صرت إذ خالفني و لم يقبل رأيي و نصحي له، قالوا:
فافعل، فصاح به تأبط شرّا: أنت أخي في الشدّة و الرّخاء، و قد وعدني القوم أن يمنّوا عليك و عليّ، فاستأسر، و واسني بنفسك في الشدة، كما كنت أخي في الرخاء، فضحك ابن برّاق، و علم أنه قد كادهم، و قال: مهلا يا ثابت، أ يستأسر من عنده/هذا العدو؟ ثم عدا فعدا أول طلق مثل الريح الهابة كما وصف لهم، و الثاني كالفرس الجواد، و الثالث جعل يكبو و يعثر و يقع على وجهه. فقال ثابت: خذوه، فعدوا بأجمعهم، فلما أن نفّسهم عنه شيئا عدا تأبط شرّا في كتافه، و عارضه ابن برّاق، فقطع كتافه، و أفلتا جميعا(2)، فقال تأبط شرّا قصيدته القافية في ذلك(3):
يا عيد مالك من شوق و إبراق *** و مرّ طيف على الأهوال طرّاق
يسري على الأين و الحيّات محتفيا *** نفسي فداؤك من سار على ساق(4)
طيف ابنة الحرّ إذ كنّا نواصلها *** ثم اجتنبت بها من بعد تفراق(5)
/لتقرعنّ عليّ السّنّ من ندم *** إذا تذكّرت يوما بعض أخلاقي(6)
تاللّه آمن أنثى بعد ما حلفت *** أسماء باللّه من عهد و ميثاق(7)
ممزوجة الودّ بينا واصلت صرمت *** الأوّل اللّذ مضى و الآخر الباقي
فالأوّل اللّذ مضى قال مودّتها *** و اللّذّ منها هذاء غير إحقاق(8)
تعطيك وعد أمانيّ تغرّ به *** كالقطر مرّ على صخبان برّاق(9)
إنّي إذا خلّة ضنّت بنائلها *** و أمسكت بضعيف الحبل أحذاق(10)
ص: 89
نجوت منها نجائي في بجيلة إذ *** ألقيت للقوم يوم الرّوع أرواقي(1)
و ذكرها ابن أبي سعيد في الخبر إلى آخرها.
و أما المفضّل الضّبيّ فذكر أن تأبط شرّا و عمرو بن برّاق و الشّنفري - و غيره يجعل مكان الشنفري السّليك بن السّلكة - غزوا بجيلة فلم يظفروا منهم بغرّة، و ثاروا إليهم فأسروا عمرا، و كتّفوه، و أفلتهم الآخران عدوا، فلم يقدروا عليهما، فلما علما أن ابن برّاق قد أسر قال تأبط شرا لصاحبه: امض فكن قريبا من عمرو، فإني سأتراءى لهم و أطمعهم في نفسي حتى يتباعدوا عنه، فإذا فعلوا ذلك فحلّ كتافه، و انجوا، ففعل ما أمره به، و أقبل تأبط شرّا، حتى تراءى لبجيلة، فلما رأوه طمعوا فيه، فطلبوه، و جعل يطمعهم في نفسه، و يعدو عدوا خفيفا يقرّب فيه، و يسألهم تخفيف الفدية و إعطاءه الأمان، حتى يستأسر لهم، و هم يجيبونه إلى ذلك، و يطلبونه و هو يحضر إحضارا خفيفا، و لا يتباعد، حتى علا تلعة/أشرف منها على صاحبيه، فإذا هما قد نجوا، ففطنت لهما بجيلة، فألحقتهما طلبا ففاتاهم، فقال: يا معشر بجيلة أ أعجبكم عدو ابن برّاق اليوم، و اللّه لأعدونّ لكم عدوا أنسيكم به عدوه، ثم عدا عدوا شديدا، و مضى و ذلك قوله:
يا عيد ما لك من شوق و إبراق
و أمّا الأصمعيّ فإنه ذكر فيما أخبرني به ابن أبي الأزهر عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن عمه:
أنّ بجيلة أمهلتهم حتى وردوا الماء و شربوا و ناموا، ثم شدّوا عليهم، فأخذوا تأبّط شرّا، فقال لهم: إن ابن برّاق دلاّني في هذا، و إنه لا يقدر على العدو لعقر في رجليه، فإن تبعتموه أخذتموه، فكتّفوا تأبّط شرّا، و مضوا في أثر ابن براق، فلما بعدوا عنه عدا في كتافه ففاتهم، و رجعوا.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدثنا أبو سعيد السكريّ قال: حدثنا ابن الأثرم، عن أبيه. و حدثنا محمد بن حبيب، عن أبي عمرو، قالا:
كان تأبّط شرّا يعدو على رجليه، و كان فاتكا شديدا، فبات ليلة ذات ظلمة و برق و رعد في قاع يقال له رحى بطان، فلقيته الغول فما زال يقاتلها ليلته إلى أن أصبح و هي تطلبه، قال: و الغول: سبع من سباع الجنّ، و جعل يراوغها، و هي تطلبه، و تلتمس غرّة منه، فلا تقدر عليه، إلى أن أصبح، فقال تأبط شرّا:
ألا من مبلغ فتيان فهم *** بما لاقيت عند رحى بطان
بأنّي قد لقيت الغول تهوي *** بسهب كالصحيفة صحصحان
فقلت لها: كلانا نضو أين *** أخوه سفر فخلّي لي مكاني
فشدّت شدّة نحوي فأهوى *** لها كفّي بمصقول يماني
فأضربها بلا دهش فخرّت *** صريعا لليدين و للجران
/فقالت عد، فقلت لها: رويدا *** مكانك إنني ثبت الجنان
فلم أنفكّ متّكئا عليها *** لأنظر مصبحا ما ذا أتاني
ص: 90
/إذا عينان في رأس قبيح *** كرأس الهرّ مشقوق اللّسان
و ساقا مخدج و شواة كلب *** و ثوب من عباء أو شنان(1)
قالوا: و كان من حديثه أنه خرج غازيا يريد بجيلة هو و رجل معه، و هو يريد أن يغترّهم، فيصيب حاجته، فأتى ناحية منهم، فقتل رجلا، ثم استاق غنما كثيرة، فنذروا به، فتبعه بعضهم على خيل، و بعضهم رجّالة، و هم كثير، فلما رآهم، و كان من أبصر الناس عرف وجوههم، فقال لصاحبه: هؤلاء قوم قد عرفتهم، و لن يفارقونا اليوم حتى يقاتلونا أو يظفروا بحاجتهم، فجعل صاحبه ينظر، فيقول: ما أتبيّن أحدا، حتى إذا دهموهما قال لصاحبه: اشتدّ فإني سأمنعك ما دام في يدي سهم، فاشتد الرجل، و لقيهم تأبّط شرّا، و جعل يرميهم حتى نفدت نبله، ثم إنه اشتدّ فمرّ بصاحبه فلم يطق شدّه، فقتل صاحبه، و هو ابن عمّ لزوجته، فلما رجع تأبّط شرّا و ليس صاحبه معه عرفوا أنه قد قتل، فقالت له امرأته: تركت صاحبك و جئت متباطئا، فقال تأبط شرا في ذلك:
ألا تلكما عرسي منيعة ضمّنت *** من اللّه إثما مستسرّا و عالنا(2)
تقول: تركت صاحبا لك ضائعا *** و جئت إلينا فارقا متباطنا(3)
إذا ما تركت صاحبي لثلاثة *** أو اثنين مثلينا فلا أبت آمنا(4)
/و ما كنت أبّاه على الخلّ إذ دعا *** و لا المرء يدعوني ممرّا مداهنا(5)
و كرّي إذا أكرهت رهطا و أهله *** و أرضا يكون العوص فيها عجاهنا(6)
و لمّا سمعت العوص تدعو تنفّرت *** عصافير رأسي من غواة فراتنا(7)
و لم أنتظر أن يدهموني كأنهم *** ورائي نحل في الخليّة واكنا(8)
ص: 91
و لا أن تصيب النّافذات مقاتلي *** و لم أك بالشدّ الذليق مداينا(1)
فأرسلت مثنيّا عن الشدّ واهنا *** و قلت تزحزح لا تكوننّ حائنا(2)
و حثحثت مشعوف النّجاء كأنه *** هجفّ رأى قصرا سمالا و داجنا(3)
/من الحصّ هزروف يطير عفاؤه *** إذا استدرج الفيفا و مدّ المغابنا(4)
أزج زلوج هزرفيّ زفازف *** هزفّ يبذّ الناجيات الصّوافنا(5)
فزحزحت عنهم أو تجئني منيّتي *** بغبراء أو عرفاء تفري الدّفائنا(6)
كأنّي أراها الموت لا درّ درّها *** إذا أمكنت أنيابها و البراثنا(7)
و قالت لأخرى خلفها و بناتها *** حتوف تنقّي مخّ من كان واهنا(8)
أخاليج ورّاد على ذي محافل *** إذا نزعوا مدّوا الدّلا و الشّواطنا(9)
و قال غيره: بل خرج تأبّط شرا هو و صاحبان له، حتى أغاروا على العوص من بجيلة، فأخذوا نعما لهم، و اتبعتهم العوص، فأدركوهم، و قد كانوا استأجروا لهم رجالا كثيرة، فلما رأى تأبّط شرّا ألاّ طاقة لهم بهم شمّر و تركهما، فقتل صاحباه، و أخذت النعم، و أفلت، حتى أتى بني القين من فهم، فبات عند امرأة منهم يتحدث إليها، فلما أراد أن/يأتي قومه دهنته و رجّلته، /فجاء إليهم و هم يبكون، فقالت له امرأته: لعنك اللّه تركت صاحبيك و جئت مدّهنا، و إنه إنما قال هذه القصيدة في هذا الشأن، و قال تأبّط شرّا يرثيهما و كان اسم أحدهما عمرا:
أبعد قتيل العوص آسى على فتى *** و صاحبه أو يأمل الزّاد طارق؟
أ أطرد فهما آخر الليل أبتغي *** علالة يوم أن تعوق العوائق(10)
ص: 92
لعمر فتى نلتم كأنّ رداءه *** على سرحة من سرح دومة سامق(1)
لأطرد نهبا أو نرود بفتية *** بأيمانهم سمر القنا و العقائق(2)
مساعرة شعث كأنّ عيونهم *** حريق الغضا تلفى عليها الشّقائق(3)
فعدّوا شهور الحرم ثم تعرّفوا *** قتيل أناس أو فتاة تعانق(4)
قال الأثرم: قال أبو عمرو في هذه الرواية: و خرج تأبط شرّا يريد أن يغزو هذيلا في رهط، فنزل على الأحلّ بن قنصل - رجل من بجيلة - و كان بينهما حلف، فأنزلهم و رحّب بهم، ثم إنه ابتغى لهم الذّراريح(5) ليسقيهم فيستريح منهم، ففطن له تأبط شرا، /فقام إلى أصحابه، فقال: إني أحب ألا يعلم أنا قد فطنّا له، و لكن سابّوه حتى نحلف أ لا نأكل من طعامه، ثم أغترّه فأقتله لأنه إن علم حذرني - و قد كان مالأ ابن قنصل رجل منهم يقال له لكيز قتلت فهم أخاه - فاعتلّ (6) عليه و على أصحابه فسبّوه و حلفوا ألاّ يذوقوا من طعامه و لا من شرابه، ثم خرج في وجهه، و أخذ في بطن واد فيه النّمور، و هي لا يكاد يسلم منها أحد، و العرب تسمي النمر ذا اللونين، و بعضهم يسميه السّبنتى، فنزل في بطنه و قال لأصحابه: انطلقوا جميعا فتصيّدوا، فهذا الوادي كثير الأروى، فخرجوا و صادوا، و تركوه في بطن الوادي فجاءوا فوجدوه قد قتل نمرا وحده، و غزا هذيلا فغنم و أصاب، فقال تأبّط شرّا في ذلك:
أقسمت لا أنسى و إن طال عيشنا *** صنيع لكيز و الأحلّ بن قنصل(7)
نزلنا به يوما فساء صباحنا *** فإنك عمري قد ترى أيّ منزل(8)
بكى إذ رآنا نازلين ببابه *** و كيف بكاء ذى القليل المعيّل(9)
فلا و أبيك ما نزلنا بعامر *** و لا عامر و لا الرئيس ابن قوقل(10)
ص: 93
- عامر بن مالك أبو براء ملاعب الأسنّة، و عامر بن الطّفيل، و ابن قوقل: مالك بن ثعلبة أحد بني عوف بن الخزرج -.
و لا بالشّليل(1) ربّ مروان قاعدا *** بأحسن عيش و النّفاثيّ نوفل
/ - ربّ مروان: جرير بن عبد اللّه البجلي. و نوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن يعمر أحد بني الدّيل بن بكر -.
و لا ابن وهيب كاسب الحمد و العلا *** و لا ابن ضبيع وسط آل المخبّل
و لا ابن حليس قاعدا في لقاحه(2) *** و لا ابن جريّ وسط آل المغفّل
و لا ابن رياح بالزّليفات داره *** رياح بن سعد لا رياح بن معقل
أولئك أعطى للولائد خلفة *** و أدعى إلى شحم السّديف المرعبل(3)
/و قال أيضا في هذه الرواية: كان تأبّط شرّا يشتار عسلا في غار من بلاد هذيل، يأتيه كل عام، و أنّ هذيلا ذكرته، فرصدوه لأبّان ذلك، حتى إذا جاء هو و أصحابه تدلّى، فدخل الغار، و قد أغاروا عليهم فأنفروهم، فسبقوهم و وقفوا على الغار، فحركوا الحبل، فأطلع تأبّط شرا رأسه، فقالوا: أصعد، فقال: أ لا أراكم، قالوا: بلى قد رأيتنا.
فقال: فعلام أصعد، أعلى الطّلاقة أم الفداء؟ قالوا: لا شرط لك، قال: فأراكم قاتليّ و آكلي جناي، لا و اللّه لا أفعل، قال: و كان قبل ذلك نقب في الغار نقبا أعدّه للهرب، فجعل يسيل العسل من الغار و يهريقه، ثم عمد إلى الزّق فشده على صدره ثم لصق بالعسل فلم يبرح ينزلق عليه حتى خرج سليما وفاتهم، و بين موضعه الذي وقع فيه و بين القوم مسيرة ثلاث، فقال تأبط شرّا في ذلك:
أقول للحيان و قد صفرت لهم *** و طابي و يومي ضيّق الحجر معور(4)
هما خطّتا إما إسار و منّة *** و إما دم و القتل بالحرّ أجدر(5)
/و أخرى أصادي النّفس عنها و إنها *** لمورد حزم إن ظفرت و مصدر(6)
فرشت لها صدري فزلّ عن الصّفا *** به جؤجؤ صلب و متن مخصّر(7)
ص: 94
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصّفا *** به كدحة و الموت خزيان ينظر
فأبت إلى فهم و ما كنت آئبا *** و كم مثلها فارقتها و هي تصفر(1)
إذا المرء لم يحتل و قد جدّ جدّه *** أضاع و قاسى أمره و هو مدبر
و لكن أخو الحزم الذي ليس نازلا *** به الأمر إلا و هو للحزم مبصر(2)
فذاك قريع الدّهر ما كان حوّلا *** إذا سدّ منه منخر جاش منخر
فإنّك لو قايست باللّصب حيلتي *** بلقمان لم يقصر بي الدهر مقصر(3)
و قال أيضا في حديث تأبّط شرا: إنه خرج من عدّة من فهم، فيهم عامر بن الأخنس، و الشّنفري، و المسيّب، و عمرو بن برّاق، و مرّة بن خليف، حتى بيتوا العوص و هم حيّ من بجيلة، فقتلوا منهم نفرا، و أخذوا لهم إبلا، فساقوها حتى كانوا من بلادهم على يوم و ليلة، فاعترضت لهم خثعم و فيهم ابن حاجز، و هو رئيس القوم، و هم يومئذ نحو من أربعين رجلا، فلما نظرت إليهم صعاليك فهم قالوا لعامر بن الأخنس: ما ذا ترى؟ قال: لا أرى لكم إلاّ صدق الضّراب، فإن ظفرتم فذاك، و إن قتلتم كنتم/قد أخذتم ثأركم، قال تأبط شرّا: بأبي أنت و أميّ، فنعم رئيس القوم أنت إذا جدّ الجدّ، و إذا كان قد أجمع رأيكم على هذا فإني أرى لكم أن تحملوا على القوم حملة واحدة فإنكم قليل و القوم كثير، و متى افترقتم كثركم القوم، فحملوا عليهم فقتلوا منهم في حملتهم، فحملوا ثانية فانهزمت خثعم و تفرقت، و أقبل ابن حاجز فأسند في الجبل فأعجز، فقال تأبط شرّا في ذلك:
جزى اللّه فتيانا على العوص أمطرت *** سماؤهم تحت العجاجة بالدّم
و قد لاح ضوء الفجر عرضا كأنه *** بلمحته إقراب أبلق أدهم(4)
فإنّ شفاء الداء إدراك ذحلة *** صباحا على آثار حوم عرمرم(5)
/و ضاربتهم بالسفح إذ عارضتهم *** قبائل من أبناء قسر و خثعم(6)
ضرابا عدا منه ابن حاجز هاربا *** ذرا الصّخر في جوف الوجين المديّم(7)
و قال الشّنفري في ذلك:
دعيني و قولي بعد ما شئت إنّني *** سيغدى بنعشي مرة فأغيّب
ص: 95
خرجنا فلم نعهد و قلّت وصاتنا *** ثمانية ما بعدها متعتّب(1)
سراحين فتيان كأن وجوههم *** مصابيح أو لون من الماء مذهب(2)
/نمرّ برهو الماء صفحا و قد طوت *** ثمائلنا و الزّاد ظنّ مغيّب(3)
ثلاثا على الأقدام حتى سما بنا *** على العوص شعشاع من القوم محرب(4)
فثاروا إلينا في السواد فهجهجوا *** و صوّت فينا بالصبّاح المثوّب(5)
فشنّ عليهم هزّة السيف ثابت *** و صمّم فيهم بالحسام المسيّب
و ظلت بفتيان معي أتّقيهم *** بهنّ قليلا ساعة ثم جنّبوا(6)
و قد خرّ منهم راجلان و فارس *** كميّ صرعناه و حوم مسلّب(7)
يشقّ إليه كلّ ربع و قلعة *** ثمانية و القوم رجل و مقنب(8)
فلما رآنا قومنا قيل أفلحوا *** فقلنا: اسألوا عن قائل لا يكذّب
و قال تأبط شرّا في ذلك:
أرى قدميّ وقعهما خفيف *** كتحليل الظّليم حدا رئاله(9)
أرى بهما عذابا كلّ يوم *** بخثعم أو بجيلة أو ثماله(10)
/(11)ففرّق تأبّط شرّا أصحابه، و لم يزالوا يقاتلونهم حتى انهزمت خثعم، و ساق تأبط شرّا و أصحابه الإبل حتى قدم بها عليا مكة(12).
و قال غيره: إنما سمي تأبط شرّا ببيت قاله: و هو:
تأبط شرّا ثم راح أو اغتدى *** يوائم غنما أو يشيف على ذحل(13)
ص: 96
قال: و خرج تأبط شرّا يوما يريد الغارة، فلقي لمراد فأطرده، و نذرت به مراد، فخرجوا في طلبه، فسبقهم إلى قومه، و قال في ذلك:
إذا لا لاقيت الصّدق فاربع *** عليه و لا يهمّك يوم سوّ
على أنّي بسرح بني مراد *** شجوتهم سباقا أيّ شجو
و آخر مثله لا عيب فيه *** بصرت به ليوم غير زوّ(1)
خفضت بساحة تجري علينا *** أباريق الكرامة يوم لهو(2)
أغار تأبط شرّا وحده على خثعم، فبينا هو يطوف إذ مرّ بغلام يتصيّد الأرانب، معه قوسه و نبله، فلما رآه تأبط شرّا أهوى ليأخذه، فرماه الغلام فأصاب يده اليسرى، و ضربه تأبط شرّا فقتله، و قال(3) في ذلك:
و كادت و بيت اللّه أطناب ثابت *** تقوّض عن ليلى و تبكي النّوائح
تمنّى فتى منّا يلاقى و لم يكد *** غلام نمته المحصنات الصّرائح(4)
/غلام نمى فوق الخماسيّ قدره *** و دون الذي قد ترتجيه النّواكح(5)
فإن تك نالته خطاطيف كفّه *** بأبيض قصّال نمى و هو فادح(6)
فقد شد في إحدى يديه كنانه *** يداوى لها في أسود القلب قادح(7)
- هذه الأبيات أن تكون لقوم المقتول أشبه منها بتأبط شرّا -.
فلم تر من رأي فتيلا و حاذرت *** تأيّمها من لابس الليل أروعا(1)
قليل غرار النّوم أكبر همّه *** دم الثّأر أو يلقى كميا مقنّعا(2)
قليل ادّخار الزّاد إلاّ تعلّة *** و قد نشز الشّر سوف و التصق المعى(3)
/تناضله كلّ يشجّع نفسه *** و ما طبّه في طرقه أن يشجّعا(4)
يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه *** و يصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا(5)
رأين فتى لا صيد وحش يهمّه *** فلو صافحت إنسا لصافحنه معا(6)
و لكنّ أرباب المخاض يشقّهم *** إذا افتقدوه أو رأوه مشيّعا(7)
و إني - و لا علم - لأعلم أنني *** سألقى سنان الموت يرشق أضلعا(8)
على غرّة أو جهرة من مكاثر *** أطال نزال الموت حتى تسعسعا(9)
- تسعسع: فني و ذهب. يقال: قد تسعسع الشّهر، و منه حديث عمر رضي اللّه عنه حين ذكر شهر رمضان فقال: «إن هذا الشهر قد تسعسع» -
و كنت أظن الموت في الحي أو أرى *** ألذّ و أكرى أو أموت مقنّعا(10)
و لست أبيت الدّهر إلا على فتى *** أ سلّبه أو أذعر السرب أجمعا(11)
و من يضرب الأبطال لا بدّ أنه *** سيلقى بهم من مصرع الموت مصرعا(12)
ص: 98
قال: و خرج تأبط شرّا و معه صاحبان له: عمرو بن كلاب أخو المسيّب، و سعد بن الأشرس و هم يريدون العارة على بجيلة فنذروا بهم، و هم في جبل ليس لهم طريق عليهم فأحاطوا بهم و أخذوا عليهم الطّريق، فقاتلوهم فقتل صاحبا تأبّط شرا و نجا، و لم يكد حتى أتى قومه. فقالت له امرأته و هي أخت عمرو بن كلاب إحدى نساء كعب بن علي بن إبراهيم بن رياح: هربت عن أخي و تركته و غررته، أما و اللّه لو كنت كريما لما أسلمته، فقال تأبط شرّا في ذلك:
ألا تلكما عرسي منيعة ضمّنت *** من اللّه خزيا مستسرّا و عاهنا(1)
و ذكر باقي الأبيات.
و إنما دعا امرأته إلى أن عيّرته أنه لمّا رجع بعد مقتل صاحبيه انطلق إلى امرأة كان يتحدث عندها، و هي من بني القين بن فهم، فبات عندها، فلما أصبح غدا إلى امرأته و هو مدّهن مترجّل، فلما رأته في تلك الحال علمت أين بات، فغارت عليه فعيّرته.
و ذكروا أن تأبط شرّا أغار على خثعم، فقال كاهن لهم: أروني أثره حتى آخذه لكم فلا يبرح حتى تأخذوه، فكفئوا على أثره جفنة، ثم أرسلوا إلى الكاهن فلما رأى أثره قال: هذا ما لا يجوز في صاحبه الأخذ، فقال تأبط شرا:
ألا أبلغ بني فهم بن عمرو *** على طول التّنائي و المقالة(2)
مقال الكاهن الجاميّ لمّا *** رأى أثري و قد أنهبت ماله(3)
/رأى قدميّ وقعهما حثيث *** كتحليل الظليم دعا رئاله(4)
أرى بهما عذابا كلّ عام *** لخثعم أو بجيلة أو ثماله(5)
/و شرّ كان صبّ على هذيل *** إذا علقت حبالهم حباله(6)
و يوم الأزد منهم شرّ يوم *** إذا بعدوا فقد صدّقت قاله(7)
فزعموا أن ناسا من الأزد ربئوا لتأبط شرا ربيئة(8) و قالوا: هذا مضيق ليس له سبيل إليكم من غيره، فأقيموا فيه حتى يأتيكم، فلما دنا من القوم توجس، ثم انصرف، ثم عاد فنهضوا في أثره حين رأوه لا يجوز، و مر قريبا فطمعوا فيه، و فيهم رجل يقال له حاجز؛ ليث من ليوثهم سريع، فأغروه به فلم يلحقه، فقال تأبط شرّا في ذلك:
ص: 99
تتعتعت حضني حاجز و صحابه *** و قد نبذوا خلقانهم و تشنّعوا(1)
أظن و أن صادفت وعثا و أن جرى *** بي السّهل أو متن من الأرض مهيع(2)
أجاري ظلال الطير لو فات واحد *** و لو صدقوا قالوا له هو أسرع(3)
فلو كان من فتيان قيس و خندف *** أطاف به القنّاص من حيث أفزعوا(4)
و جاب بلادا نصف يوم و ليلة *** لآب إليهم و هو أشوس أروع(5)
فلو كان منكم واحد لكفيته *** و ما ارتجعوا لو كان في القوم مطمع(6)
/فأجابه حاجز:
فإن تك جاريت الظلال فربما *** سبقت و يوم القرن عريان أسنع(7)
و خلّيت إخوان الصفاء كأنهم *** ذبائح عنز أو فحيل مصرّع(8)
تبكيهم شجو الحمامة بعد ما *** أرحت و لم ترفع لهم منك إصبع(9)
فهذي ثلاث قد حويت نجاتها *** و إن تنج أخرى فهي عندك أربع
أخبرني(10) عمّي قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال ذكر عليّ بن محمد المدائنيّ، عن ابن دأب قال:
سئل تأبط شرّا: أيّ يوم مرّ بك خير؟ قال: خرجت حتى كنت في بلاد بجيلة، أضاءت لي النار رجلا جالسا إلى امرأة. فعمدت إلى سيفي فدفنته قريبا، ثم أقبلت حتى استأنست، فنبحني الكلب، فقال: ما هذا؟ فقلت:
بائس. فقال: ادنه، فدنوت، فإذا رجل جلحاب آدم(11)، و إذا أضوى(12) الناس إلى جانبه، فشكوت إليه الجوع
ص: 100
و الحاجة، فقال: اكشف تلك القصعة، فأتيت قصعة إلى جنب إبله، فإذا فيها تمر و لبن، فأكلت منه حتى شبعت، ثم خررت متناوما، فو اللّه ما شئت أن أضطجع حتى اضطجع هو و رفع رجله على رجله، ثم اندفع يغنّي و هو يقول:
/خير اللّيالي إن سألت بليلة *** ليل بخيمة بين بيش و عثّر(1)
لضجيع آنسة كأنّ حديثها *** شهد يشاب بمزجة من عنبر
و ضجيع لاهية ألاعب مثلها *** بيضاء واضحة كظيظ المئزر(2)
و لأنت مثلهما و خير منهما *** بعد الرّقاد و قبل أن لم تسحري(3)
قال: ثم انحرف فنام، و مالت فنامت: فقلت: ما رأيت كاللّيلة في الغرّة، فإذا عشر عشراوات(4) بين أثلاث(5) فيها عبد واحد و أمة، فوثبت فانتضيت سيفي، و انتحيت للعبد فقتلته و هو نائم، ثم انحرفت إلى الرجل فوضعت سيفي على كبده حتى أخرجته من صلبه، ثم ضربت فخذ المرأة فجلست، فلما رأته مقتولا جزعت، فقلت: لا تخافي، أنا خير لك منه. قال: و قمت إلى جلّ متاعها فرحلته على بعض الإبل أنا و الأمة فما حللت عقده حتى نزلت بصعدة بني عوف بن فهر. و أعرست بالمرأة هناك و حين اضطجعت فتحت عقيرتي و غنّيت:
بحليلة البجليّ بت من ليلها *** بين الإزار و كشحها ثم الصق(6)
بأنيسة طويت على مطويّها *** طيّ الحمالة أو كطيّ المنطق(7)
/فإذا تقوم فصعدة في رملة *** لبدت بريّق ديمة لم تغدق(8)
و إذا تجيء تجيء شحب خلفها *** كالأيم أصعد في كثيب يرتقي(9)
كذب الكواهن و السّواحر و الهنا *** أن لا وفاء لعاجز لا يتّقي(10)
قال: فهذا خير يوم لقيته.
ص: 101
و شرّ يوم لقيت أنّي خرجت، حتى إذا كنت في بلاد ثمالة أطوف، حتى إذا كنت من القفير(1) عشيّا إذا أنا بسبع خلفات(2) فيهن عبد، فأقبلت نحوه، و كأنّي لا أريده و حذرني فجعل يلوذ بناقة فيها حمراء، فقلت في نفسي: و اللّه إنه ليثق بها. فأفوّق له، و وضع رجله في أرجلها و جعل يدور معها، فإذا هو على عجزها. و أرميه حين أشرف فوضعت سهمي في قلبه فخرّ، و ندّت الناقة شيئا و أتبعتها فرجعت فسقتهنّ شيئا ثم قلت: و اللّه لو ركبت الناقة و طردتهنّ، و أخذت بعثنون(3) الحمراء فوثبت، فساعة استويت عليها كرّت نحو الحيّ تريع و تبعتها الخلفات، و جعلت أسكّنها و ذهبت، فلمّا خشيت أن تطرحني في أيدي القوم رميت بنفسي عنها، فانكسرت رجلي، و انطلقت و الذّود(4) معها. فخرجت أعرّج، حتى انخنست(5) في طرف كثيب و جازني الطّلب، /فمكثت مكاني حتى أظلمت، و شبّت لي ثلاثة أنوار فإذا نار عظيمة ظننت أن لها أهلا كثيرا، و نار دونها، و نويرة صغيرة، فهويت للصّغرى، و أنا أجمر(6)، فلما نبحني الكلب نادى رجل فقال: من هذا؟ فقلت: بائس، فقال: ادنه، فدنوت و جلست و جعل يسائلني، إلى أن قال: و اللّه إني لأجد منك ريح دم. فقلت: لا و اللّه، ما بي دم. فوثب إليّ فنفضني، ثم نظر في جعبتي فإذا السهم، فقلت: رميت العشيّة أرنبا فقال كذبت، هذا ريح دم إنسان، ثم وثب إليّ و لا أدفع الشّرّ عن نفسي فأوثقني كتافا، ثم علّق جعبتي و قوسي، و طرحني في كسر البيت و نام، فلما أسحرت حرّكت رجلي، فإذا هي صالحة و انفتل الرّباط فحللته، ثم وثبت إلى قوسي و جعبتي فأخذتهما ثم هممت بقتله فقلت: أنا(7) ضمن الرّجل، و أنا أخشى أن أطلب فأدرك و لم أقتل أحدا أحب إلي، فولّيت و مضيت. فو اللّه إني لفي الصّحراء أحدّث نفسي إذا أنا به على ناقة يتبعني، فلمّا رأيته قد دنا مني جلست على قوسي و جعبتي و أمنته، و أقبل فأناخ راحلته ثم عقلها، ثم أقبل إليّ، و عهده بي عهده، فقلت له: ويلك، ما تريد منّي؟ فأقبل يشتمني، حتى إذا أمكنني، وثبت عليه فما ألبثته أن ضربت به الأرض، و بركت عليه أربطه، فجعل يصيح: يا لثمالة، لم أر كاليوم. فجنبته إلى ناقته و ركبتها، فما نزعت حتّى أحللته في الحيّ، و قلت:
أغرّك منّي يا بن فعلة علّتي *** عشيّة أن رابت عليّ روائبي(8)
و موقد نيران ثلاث فشرّها *** و ألأمها إذ قدتها غير عازب(9)
سلبت سلاحي بائسا و شتمتني *** فيا خير مسلوب و يا شرّ سالب(10)
ص: 102
/فإن أك لم أخضبك فيها فإنّها *** نيوب أساويد و شول عقارب(1)
و يا ركبة الحمراء شرّة ركبة *** و كادت تكون شرّ ركبة راكب(2)
قال: و خرج تأبّط غازيا يريد الغارة على الأزد في بعض ما كان يغير عليهم وحده، فنذرت به الأزد، فأهملوا له إبلا، و أمروا ثلاثة من ذوي بأسهم: حاجز بن أبيّ، و سواد بن عمرو بن مالك، و عوف بن عبد اللّه، أن يتبعوه حتّى ينام فيأخذوه أخذا، فكمنوا له مكمنا، و أقبل تأبّط شرّا فبصر بالإبل، فطردها بعض يومه. ثم تركها و نهض في شعب لينظر: هل يطلبه أحد؟ فكمن القوم حين رأوه و لم يرهم، فلمّا لم ير أحدا في أثره عاود الإبل فشلّها(3) يومه و ليلته و الغد حتى أمسى، ثم عقلها، و صنع طعاما فأكله، و القوم ينظرون إليه في ظله، ثم هيّأ مضطجعا على النّار، ثم أخمدها و زحف على بطنه و معه قوسه، حتى دخل بين الإبل، و خشي أن يكون رآه أحد و هو لا يعلم، و يأبى إلا الحذر و الأخذ بالحزم، فمكث ساعة و قد هيّأ سهما على كبد قوسه، فلما أحسّوا نومه أقبلوا ثلاثتهم يؤمّون المهاد الذي رأوه هيّأه، فإذا هو يرمي أحدهم فيقتله، و جال الآخران، و رمى آخر فقتله، و أفلت حاجز هاربا، و أخذ سلب الرّجلين، و أطلق عقل الإبل و شلّها حتى جاء بها قومه، و قال تأبّط في ذلك:
ترجّي نساء الأزد طلعة ثابت *** أسيرا و لم يدرين كيف حويلي(4)
/فإنّ الألى أوصيتم بين هارب *** طريد و مسفوح الدّماء قتيل(5)
وخدت بهم حتى إذا طال وخدهم *** و راب عليهم مضجعي و مقيلي(6)
مهدت لهم حتى إذا طاب روعهم *** إلى المهد خاتلت الضّيا بختيل(7)
فلما أحسّوا النّوم جاءوا كأنّهم *** سباع أصابت هجمة بسليل(8)
فقلّدت سوّار بن عمرو بن مالك *** بأسمر جسر القذّتين طميل(9)
فخرّ كأنّ الفيل ألقى جرانه *** عليه بريّان القواء أسيل(10)
ص: 103
و ظل رعاع المتن من وقع حاجز *** يخرّ و لو نهنهت غير قليل(1)
لأبت كما آبا و لو كنت قارنا *** لجئت و ما مالكت طول ذميلي(2)
/فسرّك ندماناك لمّا تتابعا *** و أنّك لم ترجع بعوص قتيل(3)
ستأتي إلى فهم غنيمة خلسة *** و في الأزد نوح ويلة بعويل
فقال حاجز بن أبيّ الأزدي يجيبه:
سألت فلم تكلّمني الرّسوم
و هي في أشعار الأزد.
فأجابه تأبّط شرّا:
لقد قال الخليّ و قال خلسا *** بظهر الليل شدّ به العكوم(4)
لطيف من سعاد عناك منها *** مراعاة النّجوم و من يهيم(5)
و تلك لئن عنيت بها رداح *** من النّسوان منطقها رخيم(6)
نياق القرط غرّاء الثّنايا *** وريداء الشّباب و نعم خيم(7)
و لكن فات صاحب بطن رهو *** و صاحبه فأنت به زعيم(8)
أؤاخذ خطّة فيها سواء *** أبيت و ليل واترها نؤوم(9)
/ثأرت به و ما اقترفت يداه *** فظلّ لها بنا يوم غشوم(10)
نحزّ رقابهم حتى نزعنا *** و أنف الموت منخره رميم(11)
ص: 104
و إن تقع النّسور عليّ يوما *** فلحم المعتفي لحم كريم(1)
و ذي رحم أحال الدّهر عنه *** فليس له لذي رحم حريم(2)
أصاب الدّهر آمن مروتيه *** فألقاه المصاحب و الحميم(3)
مددت له يمينا من جناحي *** لها وفر و كافية رحوم(4)
أواسيه على الأيّام إني *** إذا قعدت به اللّؤما ألوم(5)
ذكروا أنه لما انصرف الناس عن المستغلّ (6)؛ و هي سوق كانت العرب تجتمع بها، قال عمرو بن جابر بن سفيان أخو تأبط شرّا لمن حضر من قومه: لا و اللات و العزّى لا أرجع حتى أغير على بني عتير من هذيل، و معه رجلان من قومه هو ثالثهما، فأطردوا إبلا لبني عتير فأتبعهم أرباب الإبل، فقال عمرو: أنا كارّ على القوم و منهنههم(7) عنكما، فامضيا بالإبل. فكرّ عليهم فنهنهم طويلا، فجرح في القوم رئيسا، و رماه رجل من بني عتير بسهم فقتله، فقالت بنو عتير: هذا عمرو بن جابر، ما تصنعون/أن(8) تلحقوا بأصحابه؟ أبعدها اللّه من إبل، فإنا نخشى أن نلحقهم فيقتل القوم منا، فيكونوا قد أخذوا الثّأر، فرجعوا و لم يجاوزوه. و كانوا يظنّون أن معه أناسا كثيرا، فقال تأبّط لمّا بلغه قتل أخيه:
و حرّمت النساء و إن أحلّت *** بشور أو بمزج أو لصاب(9)
حياتي أو أزور بني عتير *** و كاهلها بجمع ذي ضباب(10)
إذا وقعت لكعب أو خثيم *** و سيار يسوغ لها شرابي(11)
أظنّي ميّتا كمدا و لمّا *** أطالع طلعة أهل الكراب(12)
و دمت مسيّرا أهدي رعيلا *** أؤم سواد طود ذي نقاب(13)
ص: 105
فأجابه أنس بن حذيفة الهذليّ:
لعلّك أن تجيء بك المنايا *** تساق لفتية منا غضاب
فتنزل في مكرّهم صريعا *** و تنزل طرقة الضّبع السّغاب(1)
تأبّط سوأة و حملت شرّا *** لعلك أن تكون من المصاب(2)
ثم أن السّمع بن جابر أخا تأبّط شرّا خرج في صعاليك من قومه يريد الغارة على بني عتير ليثأر بأخيه عمرو بن جابر، حتى إذا كان ببلاد هذيل لقي راعيا لهم، فسأله عنهم، فأخبره بأهل بيت من عتير كثير مالهم، فبيّتهم، فلم يفلت منهم مخبر، و استاقوا أموالهم، فقال في ذلك السّمع بن جابر:
بأعلى ذى جماجم أهل دار *** إذا ظعنت عشيرتهم أقاموا(3)
طرقتهم بفتيان كرام *** مساعير إذا حمي المقام
متى ما أدع من فهم تجبني *** و عدوان الحماة لهم نظام(4)
ذكروا أن تأبّط شرّا خرج و معه مرّة بن خليف يريدان الغارة على الأزد، و قد جعلا الهداية بينهما، فلما كانت هداية مرّة نعس، فجار عن الطريق، و مضيا حتى وقعا بين جبال ليس فيها جبل متقارب، و إذا فيها مياه يصيح الطير عليها؛ و إذا البيض و الفراخ بظهور الأكم، فقال تأبّط شرا: هلكنا و اللاّت يا مرّة، ما وطئ هذا المكان انس قبلنا، و لو وطئته انس ما باضت الطّير بالأرض، فاختر أية هاتين القنّتين شئت، و هما أطول شيء يريان من الجبال، فأصعد إحداهما و تصعد أنت الأخرى، فإن رأيت الحياة فألح بالثوب، و إن رأيت و الموت فألح بالسيف، فإني فاعل مثل ذلك، فأقاما يومين. ثم إن تأبط شرّا ألاح بالثّوب، و انحدرا حتى التقيا في سفح الجبل، فقال مرّة: ما رأيت يا ثابت؟ قال: دخانا أو جرادا. قال مرّة: إنك إن جزعت منه هلكنا، فقال تأبّط شرّا: أما أنا فإنّي سأخرم بك من حيث تهتدي الريح، فمكثا بذلك يومين و ليلتين، ثم تبعا الصّوت، فقال تأبط شرّا: النّعم و النّاس. أما و اللّه لئن عرفنا لنقتلنّ، و لئن أغرنا/لندركنّ، فأت الحيّ من طرف و أنا من الآخر، ثم كن ضيفا ثلاثا، فإن لم يرجع إليك قلبك فلا رجع، ثم أغر على ما قبلك إذا تدلّت الشمس فكانت قدر قامة، و موعدك الطريق. ففعلا، حتى إذا كان اليوم الثالث(5) أغار كل واحد منهما على ما يليه، فاستاقا النعم و الغنم، و طردا يوما و ليلة طردا عنيفا حتى أمسيا الليلة الثانية(6) دخلا شعبا، فنحرا قلوصا، فبينا هما يشويان إذا سمعا حسّا على باب الشّعب، فقال تأبط: الطّلب يا مرّة،
ص: 106
إن ثبت فلم يدخل فهم مجيزون، و إن دخل فهو الطلب، فلم يلبث أن سمع الحسّ يدخل، فقال مرّة: هلكنا، و وضع تأبط شرّا يده على عضد مرّة، فإذا هي ترعد، فقال: ما أرعدت عضدك إلا من قبل أمك الوابشية(1) من هذيل، خذ بظهري، فإن نجوت نجوت، و إن قتلت وقيتك. فلما دنا القوم أخذ مرّة بظهر تأبط، و حمل تأبط فقتل رجلا، و رموه بسهم فأعلقوه فيه؛ و أفلتا جميعا بأنفسهما، فلما أمنا و كان من آخر الليل، قال مرّة: ما رأيت كاليوم غنيمة أخذت على حين أشرفنا على أهلنا، و عض(2) مرّة عضده، و كان الحي الذين أغاروا عليهم بجيلة، و أتى تأبّط امرأته، فلما رأيت جراحته ولولت، فقال تأبّط في ذلك:
و بالشّعب إذ سدّت بجيلة فجّه *** و من خلفه هضب صغار و جامل(3)
شددت لنفس المرء مرّة حزمه *** و قد نصبت دون النّجاء الحبائل(4)
و قلت له: كن خلف ظهري فإنني *** سأفديك و انظر بعد ما أنت فاعل(5)
/فعاذ بحدّ السيف صاحب أمرهم *** و خلّوا عن الشيء الذي لم يحاولوا(6)
و أخطأهم قتلي و رفّعت صاحبي *** على الليل لم تؤخذ عليه المخاتل(7)
و اخطأ غنم الحيّ مرّة بعد ما *** حوته إليه كفّه و الأنامل
يعض على أطرافه كيف زوله *** و دون الملا سهل من الأرض ماثل(8)
فقلت له: هذي بتلك و قد يرى *** لها ثمنا من نفسه ما يزاول(9)
تولول سعدى أن أتيت مجرّحا *** إليها و قد منّت عليّ المقاتل(10)
و كائن أتاها هاربا قبل هذه *** و من غانم فأين منك الولاول(11)
فلما انقضت الأشهر الحرم خرج تأبط و المسيّب بن كلاب في ستة نفر يريدون الغارة على بجيلة، و الأخذ بثأر صاحبيهم عمرو بن كلاب و سعد بن الأشرس. فخرج تأبط و المسيّب بن كلاب و عامر بن الأخنس و عمرو بن برّاق
ص: 107
و مرّة بن خليف و الشّنفري بن مالك، و السّمع و كعب حدا رابنا جابر أخوا تأبّط. فمضوا حتى أغاروا على العوص، فقتلوا منهم ثلاثة نفر: فارسين و راجلا، و أطردوا لهم إبلا، و أخذوا منهم(1) امرأتين، فمضوا بما غنموا، حتى إذا كانوا على يوم و ليلة من قومهم عرضت لهم خثعم في نحو من أربعين رجلا، فيهم أبيّ بن جابر الخثعميّ، و هو رئيس/القوم، فقال تأبّط: يا قوم، لا تسلموا لهم ما في أيديكم حتى تبلوا عذرا، و قال عمر بن الأخنس: عليكم بصدق الضّراب و قد أدركتم بثأركم، و قال المسيّب: اصدقوا القوم الحملة، و إيّاكم و الفشل، و قال عمرو بن برّاق:
ابذلوا مهجكم ساعة، فإن النّصر عند الصّبر. و قال الشّنفري:
نحن الصّعاليك الحماة البزّل *** إذا لقينا لا نرى نهلّل(2)
و قال مرّة بن خليف:
يا ثابت الخير و يا بن الأخنس *** و يا بن برّاق الكريم الأشوس(3)
و الشّنفري عند حيود الأنفس *** أنا ابن حامي السّرب في المغمّس(4)
نحن مساعير الحروب الضّرس(5)
و قال كعب حدار أخو تأبّط:
يا قوم أمّا إذ لقيتم فاصبروا *** و لا تخيموا جزعا فتدبروا(6)
و قال السمع أخو تأبّط:
يا قوم كونوا عندها أحرارا *** لا تسلموا العون و لا البكارا(7)
و لا القناعيس و لا العشارا *** لخثعم و قد دعوا غرارا(8)
ساقوهم الموت معا أحرارا *** و افتخروا الدّهر بها افتخارا
/فلما سمع تأبط مقالتهم قال: بأبي أنتم و أمي، نعم الحماة إذا جدّ الجدّ، أما إذا أجمع رأيكم على قتال القوم فاحملوا و لا تتفرّقوا، فإن القوم أكثر منكم، فحملوا عليهم فقتلوا منهم، ثم كرّوا الثانية فقتلوا، ثم كرّوا الثالثة فقتلوا فانهزمت خثعم و تفرقت في رءوس الجبال، و مضى تأبّط و أصحابه بما غنموا و أسلاب من قتلوا، فقال تأبّط من ذلك:
جزى اللّه فتيانا على العوص أشرقت *** سيوفهم تحت العجاجة بالدّم
ص: 108
الأبيات...
و قال الشّنفري في ذلك:
دعيني و قولي بعد ما شئت إنني *** سيفدي بنفسي مرّة فأغيّب
الأبيات...
و قال الشّنفري أيضا:
ألا هل أتى عنّا سعاد و دونها *** مهامه بيد تعتلي بالصّعالك(1)
بأنّا صبحنا القوم في حرّ دارهم *** حمام المنايا بالسّيوف البواتك(2)
قتلنا بعمرو منهم خير فارس *** يزيد و سعدا، و ابن عوف بمالك(3)
ظللنا نفرّي بالسّيوف رءوسهم *** و نرشقهم بالنّبل بين الدّكادك(4)
قال: و خرج تأبط في سريّة من قومه، فيهم عمرو بن برّاق، و مرّة بن خليف، و المسيّب بن كلاب، و عامر بن الأخنس، و هو رأس القوم، و كعب حدار، و ريش كعب، و السّمع و شريس بنو جابر إخوة تأبط شرّا، و سعد و مالك ابنا الأقرع، حتى مروا ببني نفاثة بن الدّيل و هم يريدون الغارة عليهم، فباتوا في جبل مطلّ عليهم، فلما كان في وجه السحر أخذ عامر بن الأخنس قوسه، فوجد و ترها مسترخيا، فجعل يوترها و يقول له تأبط: بعض حطيط و ترك(5) يا عامر، و سمعه شيخ من بني نفاثة، فقال لبنات له: أنصتن فهذه و اللّه غارة لبني ليث - و كان الذي بينهم يومئذ متفاقما في قتل حميصة بن قيس أخي بلعاء، و كانوا أصابوه خطأ - و كانت بنو نفاثة في غزوة و الحيّ خلوف و ليس عندهم غير أشياخ و غلمان لا طباخ(6) بهم، فقالت امرأة منهم: اجهروا الكلام، و البسوا السّلاح، فإن لنا عدّة، فو اللات ما هم إلا تأبّط و أصحابه. فبرزن مع نوفل و أصحابه، فلما بصر بهم قال: انصرفوا فإن القوم قد نذروا بكم، فأبوا عليه إلا الغارة فسلّ تأبّط سيفه و قال: لئن أغرتم عليهم لأتّكئن على سيفي حتى أنفذه من ظهري، فانصرفوا و لا يحسبون إلا أن النساء رجال، حتى مروا بإبل البلعاء بن قيس بقرب المنازل فأطردوها، فلحقهم غلام من بني جندع بن ليث؟ فقال: يا عامر بن الأخنس، أ تهاب نساء بني نفاثة و تغير على رجال بني ليث؟ هذه و اللّه إبل لبلعاء بن قيس. فقال له عامر: أو كان رجالهم خلوفا؟ قال: نعم، قال: أقرئ بلعاء منّي السّلام، و أخبره بردّي إبله، و أعلمه أني قد حبست منها بكرا لأصحابي، فإنا قد أرملنا(7)، فقال الغلام: لئن حبست منها هلبة(8) لأعلمنّه، و لا أطرد منها بعيرا أبدا. فحمل عليه تأبّط فقتله، و مضوا بالإبل إلى قومهم؛ فقال في ذلك تأبط:
ص: 109
/ألا عجب الفتيان من أمّ مالك *** تقول: أراك اليوم أشعث أغبرا
تبوعا لآثار السّريّة بعد ما *** رأيتك برّاق المفارق أيسرا(1)
فقلت لها: يومان يوم إقامة *** أهزّ به غصنا من البان أخضرا
و يوم أهزّ السّيف في جيد أغيد *** له نسوة لم تلق مثلي أنكرا(2)
يخفن عليه و هو ينزع نفسه *** لقد كنت أبّاء الظلامة قسورا(3)
و قد صحت في آثار حوم كأنها *** عذارى عقيل أو بكارة حميرا(4)
أبعد النّفاثيّين آمل طرقة *** و آسى على شيء إذا هو أدبرا(5)
أكفكف عنهم صحبتي و إخالهم *** من الذلّ يعرا بالتّلاعة أعفرا(6)
فلو نالت الكفّان أصحاب نوفل *** بمهمهة من بطن ظرء فعرعرا(7)
و لمّا أبى الليثيّ إلا تهكّما *** بعرضي و كان العرض عرضي أو فرا(8)
فقلت له: حقّ الثناء فإنني *** سأذهب حتى لم أجد متأخّرا(9)
و لما رأيت الجهل زاد لجاجة *** يقول فلا يألوك أن تتشوّرا(10)
/دنوت له حتى كأنّ قميصه *** تشرّب من نضح الأخادع عصفرا(11)
فمن مبلغ ليث بن بكر بأنّنا *** تركنا أخاهم يوم قرن معفّرا(12)
قال: غزا تأبط بني نفاثة بن الدّيل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة و هم خلوف، ليس في دارهم رجل، و كان الخبر قد أتى تأبط، فأشرف فوق جبل ينظر إلى الحيّ و هم أسفل منه، فرأته امرأة فطرح نفسه، فعلمت المرأة أنه تأبّط، و كانت عاقلة، فأمرت النّساء فلبسن لبسة الرجال، ثم خرجن كأنهن يطلبن الضّالّة، و كان أصحابه يتفلتون و يقولون: أغز، و إنما كان في سرية من بين السّتّة إلى السبعة، فأبى أن يدعهم، و خرج يريد هذيلا، و انصرف عن النّفاثيّين، فبينا هو يتردد في تلك الجبال إذ لقي حليفا له من هذيل، فقال له: العجب لك يا تأبط، قال: و ما هو؟
ص: 110
قال: إن رجال بني نفاثة كانوا خلوفا فمكرت بك امرأة، و أنهم قد رجعوا.
ففي ذلك يقول:
ألا عجب الفتيان من أمّ مالك *** تقول: لقد أصبحت أشعث أغبرا
و ذكر باقي الأبيات المتقدّمة.
و قال غيره: لا بل قال هذه القصيدة في عامر بن الأخنس الفهميّ، و كان من حديث عامر بن الأخنس أنه غزا في نفر، بضعة و عشرين رجلا، فيهم عامر بن الأخنس، و كان سيّدا فيهم، و كان إذا خرج في غزو رأسهم، و كان يقال له سيّد الصعاليك، فخرج بهم حتى باتوا على بني نفاثة بن عدي بن الدّيل ممسين، ينتظرون أن ينام الحيّ، حتى إذا كان في سواد الليل مر بهم راع من الحي قد أغدر، فمعه غديرته(1) يسوقها/فبصر بهم و بمكانهم، فخلى الغديرة و تبع الضّراء ضراء(2) الوادي، حتى جاء الحي فأخبرهم بمكان القوم و حيث رآهم، فقاموا فاختاروا: فتيان الحي فسلحوهم، و أقبلوا نحوهم، حتى إذا دنوا منهم قال رجل من النّفاثيّين: و اللّه ما قوسي بموترة(3). فقالوا:
فأوتر قوسك، فوضع قوسه فأوترها، فقال تأبط لأصحابه:
اسكتوا، و استمع فقال: أتيتم و اللّه، قالوا: و ما ذلك؟ قال: أنا و اللّه أسمع حطيط وتر قوس. قالوا: و اللّه ما نسمع شيئا، قال: بلى و اللّه إني لأسمعه، يا قوم النّجاء، قالوا: لا و اللّه ما سمعت شيئا، فوثب فانطلق و تركهم، و وثب معه نفر، و بيّتهم(4) بنو نفاثة فلم يفلت منهم إنسان، و خرج هو و أصحابه الذين انطلقوا معه، و قتل تلك الليلة عامر بن الأخنس.
قال ابن عمير: و سألت أهل الحجاز عن عامر بن الأخنس، فزعموا أنه مات على فراشه.
فلما رجع تأبّط قالت له امرأته: تركت أصحابك، فقال حينئذ:
ألا عجب الفتيان من أمّ مالك *** تقول: لقد أصبحت أشعث أغبرا
فلما رجع تأبّط و بلغه ما لقي أصحابه قال: و اللّه ما يمسّ رأسي غسل و لا دهن حتى أثأر بهم. فخرج في نفر من قومه، حتى عرض لهم بيت من هذيل بين صوى(5) جبل، فقال: اغنموا هذا البيت أولا، قالوا: لا و اللّه، ما لنا فيه أرب، و لئن كانت/فيه غنيمة ما نستطيع أن نسوقها. فقال: إني أتفاءل أن أنزل، و وقف، و أتت به ضبع من يساره، فكرهها، و عاف(6) على غير الذي رأى، فقال: أبشري أشبعك من القوم غدا. فقال له أصحابه: ويحك، انطلق، فو اللّه ما نرى أن نقيم عليها. قال: لا و اللّه لا أريم حتى أصبح. و أتت به ضبع عن يساره فقال: أشبعك من القوم غدا. فقال أحد القوم: و اللّه إني أرى هاتين(7) غدا بك، فقال: لا و اللّه
ص: 111
لا أريم(1) حتى أصبح. فبات، حتى إذا كان في وجه الصبح، و قد رأى أهل البيت و عدّهم على النار، و أبصر سواد غلام من القوم دون المحتلم، و غدوا على القوم، فقتلوا شيخا و عجوزا، و حازوا جاريتين و إبلا. ثم قال تأبّط: إني قد رأيت معهم غلاما؛ فأين الغلام الذي كان معهم؟ فأبصر أثره فاتّبعه، فقال له أصحابه: ويلك دعه فإنك لا تريد منه شيئا، فاتّبعه، و استتر الغلام بقتادة(2) إلى جنب صخرة، و أقبل تأبّط يقصّه(3) و فوّق الغلام سهما حين رأى أنه لا ينجيه شيء، و أمهله حتى إذا دنا منه قفز قفزة، فوثب على الصّخرة، و أرسل السهم، فلم يسمع تأبّط إلا الحبضة(4) فرفع رأسه، فانتظم السهم قلبه، و أقبل نحوه و هو يقول: لا بأس، فقال الغلام: لا بأس، و اللّه لقد وضعته حيث تكره، و غشية تأبّط بالسيف و جعل الغلام يلوذ بالقتادة، و يضربها تأبط بحشاشته(5)، فيأخذ ما أصابت الضّربة منها، حتى خلص إليه، فقتله، ثم نزل إلى/أصحابه يجر رجله، فلما رأوه وثبوا، و لم يدروا ما أصابه، فقالوا: مالك؟ فلم ينطق، و مات في أيديهم، فانطلقوا و تركوه، فجعل لا يأكل منه سبع و لا طائر إلا مات، فاحتملته هذيل، فألقته في غار يقال له غار رخمان، فقالت ريطة أخته و هي يومئذ متزوجة في بني الدّيل:
نعم الفتى غادرتم برخمان *** ثابت بن جابر بن سفيان(6)
و قال مرّة بن خليف يرثيه:
إن العزيمة و العزّاء قد ثويا *** أكفان ميت غدا في غار رخمان(7)
إلاّ يكن كرسف كفّنت جيّده *** و لا يكن كفن من ثوب كتّان(8)
فإن حرّا من الأنساب ألبسه *** ريش الندى، و النّدى من خير أكفان(9)
و ليلة رأس أفعاها إلى حجر *** و يوم أور من الجوزاء رنّان(10)
أمضيت أول رهط عند آخره *** في إثر عادية أو إثر فتيان(11)
و قالت أم تأبط ترثيه:
و ابناه و ابن اللّيل(12)
ص: 112
قال أبو عمر الشّيباني: لا بل كان من شأن تأبط و هو ثابت بن جابر بن سفيان، و كان جريئا شاعرا فاتكا أنه خرج من أهله بغارة من قومه، يريدون بني صاهلة بن كاهل بن الحارث بن سعيد بن هذيل، و ذلك في عقب شهر حرام ممّا كان يحرّم أهل الجاهلية، حتى هبط صدر أدم(1)، و خفض عن جماعة بني صاهلة، فاستقبل التّلاعة، فوجد بها دارا من بني نفاثة بن عدي، ليس فيها إلا النساء، غير رحل واحد، فبصر الرجل بتأبط و خشية، و ذلك في الضّحى، فقام الرجل إلى النساء، فأمرهنّ فجعلن رءوسهن جمما و جعلن دروعهن أردية، و أخذن من بيوتهن عمدا كهيئة السيوف فجعلن لها حمائل، ثم تأبطنها ثم نهض و نهضن معه يغريهن كما يغري القوم، و أمرهن أن لا يبرزن خدّا، و جعل هو يبرز للقوم ليروه، و طفق يغري و يصيح على القوم، حتى أفزع تأبّط شرّا و أصحابه و هو على ذلك يغري(2). في بقية ليلة أو ليلتين من الشّهر الحرام، فنهضوا في شعب يقال له شعب وشل(3)، و تأبط ينهض في الشعب مع أصحابه، ثم يقف في آخرهم، ثم يقول: يا قوم لكأنما يطردكم النساء، فيصيح عليه أصحابه فيقولون: انج أدركك القوم، و تأبى نفسه، فلم يزل به أصحابه حتى مضى معهم فقال تأبّط في ذلك:
أبعد النّفاثيين أزجر طائرا *** و آسى على شيء إذا هو أدبرا(4)
أنهنه رجلي عنهم و إخالهم *** من الذّلّ يعرا بالتّلاعة أعفرا
و لو نالت الكفّان أصحاب نوفل *** بهمهمة من بين ظرء و عرعرا
/قال: ثم طلعوا الصدر حين أصبحوا فوجدوا أهل بيت شاذّ من بني قريم ذنب نمار(5) فظل يراقبهم حتى أمسوا، و ذلك البيت لساعدة بن سفيان أحد بني حارثة بن قريم، فحصرهم تأبط و أصحابه حتى أمسوا. قال: و قد كانت قالت وليدة لساعدة: إني قد رأيت اليوم القوم أو النفر بهذا الجبل، فبات الشيخ حذرا قائما بسيفه بساحة أهله. و انتظر تأبط و أصحابه أن يغفل الشيخ، و ذلك آخر ليلة من الشهر الحرام فلما خشوا أن يفضحهم الصبح، و لم يقدروا على غرّة مشوا إليه و غرّوه ببقية الشهر الحرام، و أعطوه من مواثيقهم ما أقنعه، و شكوا إليه الجوع، فلما اطمأن إليهم وثبوا عليه فقتلوه و ابنا له صغيرا حين مشى. قال: و مضى تأبط شرا إلى ابن له ذي ذؤابة، كان أبوه قد أمره فارتبأ(6) من وراء ماله، يقال له: سفيان بن ساعدة. فأقبل إليه تأبط شرّا مستترا بمجنّة، فلما خشي الغلام أن يناله تأبّط بسيفه و ليس مع الغلام سيف، و هو مفوّق سهما، رمى مجنّ تأبط بحجر، فظن تأبط أنه قد أرسل سهمه، فرمى مجنّة عن يده، و مشى إليه فأرسل الغلام سهمه فلم يخط لبّته حتى خرج منه السهم، و وقع في البطحاء حذو القوم، و أبوه ممسك، فقال أبو الغلام(7) حين وقع السهم: أ خاطئة سفيان؟
ص: 113
فحرد(1) القوم، فذلك حين قتلوا الشيخ و ابنه الصغير، و مات تأبط.
فقالت أمّه - و كانت امرأة من بني القين بن جسر بن قضاعة - ترثيه:
/قتيل ما قتيل بني قريم *** إذا ضنّت جمادى بالقطار(2)
فتى فهم جميعا غادروه *** مقيما بالحريضة من نمار(3)
و قالت أمّه ترثيه [أيضا]:
ويل أمّ طرف غادروا برخمان *** بثابت بن جابر بن سفيان(4)
يجدّل القرن و يروي النّدمان *** ذو مأقط يحمي وراء الإخوان(5)
و قالت ترثيه أيضا:
و ابناه و ابن اللّيل، ليس بزمّيل، شروب للقيل، رقود باللّيل، و واد(6) ذي هول، أجزت باللّيل، تضرب بالذّيل، برجل(7) كالثّول.
قال: و كان تأبط شرا يقول قبل ذلك:
و لقد علمت لتعدونّ *** م عليّ شتم كالحساكل(8)
/يأكلن أوصالا و لح *** ما كالشّكاعي غير جاذل(9)
يا طير كلن فإنني *** سمّ لكنّ و ذو دغاول(10)
و قال قبل موته:
لعلي ميّت كمدا و لمّا *** أطالع أهل ضيم فالكراب(11)
و إن لم آت جمع بني خثيم *** و كاهلها برجل كالضّباب
ص: 114
إذا وقعت بكعب أو قريم *** و سيّار فيا سوغ الشّراب(1)
فأجابه شاعر من بني قريم:
تأبّط سوأة و حملت شرّا *** لعلك أن تكون من المصاب(2)
لعلك أن تجيء بك المنايا *** تساق لفتية منا غضاب
فتصبح في مكرّهم صريعا *** و تصبح طرفة الضّبع السّغاب
فزلتم تهربون لو كرهتم *** تسوقون الحرائم بالنقاب(3)
/و زال بأرضكم منّا غلام *** طليعة فتية غلب الرقاب(4)
و نذكرها هنا بعد أخبار تأبط شرّا أخبار صاحبيه عمرو بن برّاق و الشّنفري و نبدأ بما يغنّى فيه من شعريهما، و نتبعه بالأخبار.
فأما عمرو بن برّاق فممّا يغنّى فيه من شعره قوله:
متى تجمع القلب الذكيّ و صارما *** و أنفا حميّا تجتنبك المظالم(5)
و كنت إذا قوم غزوني غزوتهم *** فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم!
كذبتم و بيت اللّه لا تأخذونها *** مراغمة ما دام للسيف قائم(6)
و لا صلح حتى تعثر الخيل بالقنا *** و تضرب بالبيض الرّقاق الجماجم
عروضه من الطويل، الشعر لابن برّاق و قيل ابن برّاقة. و الغناء لمحمد بن إسحاق بن عمرو بن بزيع ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي.
ص: 115
يسلبه حريم ماله فيسترده منه:(1)
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثنا السّكريّ عن ابن حبيب قال: و أخبرنا الهمدانيّ ثعلب، عن ابن الأعرابي، عن المفضّل، قالا:
أغار رجل من همدان(2) يقال له حريم على إبل لعمرو بن برّاق و خيل، فذهب بها، فأتى عمرو امرأة(3) كان يتحدّث إليها و يزورها فأخبرها أن حريما أغار على إبله و خيله فذهب بها، و أنه يريد الغارة عليه، فقالت له المرأة:
ويحك لا تعرض لتلفات حريم فإني أخافه عليك، قال: فخالفها، و أغار عليه، فاستاق كلّ شيء كان له، فأتاه حريم بعد ذلك يطلب إليه أن يردّ عليه ما أخذه منه، فقال: لا أفعل، و أبى عليه، فانصرف، فقال عمرو في ذلك:
تقول سليمى لا تعرّض لتلفة *** و ليلك عن ليل الصعاليك نائم(4)
و كيف ينام الليل من جلّ ماله *** حسام كلون الملح أبيض صارم
صموت إذا عضّ الكريهة لم يدع *** لها طمعا طوع اليمين ملازم(5)
/نقدت به ألفا و سامحت دونه *** على النقد إذ لا تستطاع الدراهم(6)
أ لم تعلمي أنّ الصعاليك نومهم *** قليل إذا نام الدّثور المسالم(7)
إذا الليل أدجى و اكفهرّت نجومه *** و صاح من الإفراط هام جواثم(8)
و مال بأصحاب الكرى غالباته *** فإني على أمر الغواية حازم(9)
كذبتم و بيت اللّه لا تأخذونها *** مراغمة ما دام للسيف قائم
ص: 116
تحالف أقوام عليّ ليسمنوا *** و جروا عليّ الحرب إذا أنا سالم(1)
أ فالآن أدعى للهوادة بعد ما *** أجيل على الحيّ المذاكي الصّلادم(2)
كأنّ حريما إذ رجا أن يضمّها *** و يذهب مالي يا ابنة القوم حالم(3)
متى تجمع القلب الذّكيّ و صارما *** و أنفا حميّا تجتنبك المظالم
و من يطلب المال الممنّع بالقنا *** يعش ذا غنىّ أو تخترمه المخارم(4)
/و كنت إذا قوم غزوني غزوتهم *** فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم
فلا صلح حتى تعثر الخيل بالقنا *** و تضرب بالبيض الرّقاق الجماجم
و أما الشنفري فإنه رجل من الأزد ثم من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد(5). و مما يغنّى فيه من شعره قوله:
12 - أخبار الشنفري و نسبه(1)
و أخبرني بخبره الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدثنا أبو يحيى المؤدب و أحمد بن أبي المنهال المهلبي، عن مؤرّج عن أبي هشام محمد بن هشام النّميريّ:
أن الشنفري كان من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد(2) بن الغوث، أسرته بنو شبابة بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان، فلم يزل فيهم حتى أسرت بنو سلامان بن مفرّج بن عوف بن ميدعان بن مالك بن الأزد رجلا من فهم، أحد بني شبابة ففدته بنو شبابة بالشّنفري قال: فكان الشنفري في بني سلامان بن مفرّج لا تحسبه إلا أحدهم حتى نازعته بنت الرجل الذي كان في حجره، و كان السّلامي اتخذه ولدا و أحسن إليه و أعطاه، فقال لها الشنفري:
اغسلي رأسي يا أخيّة و هو لا يشك في أنها أخته، فأنكرت أن يكون أخاها و لطمته، فذهب مغاضبا حتى أتى الذي اشتراه من فهم، فقال له الشنفري: اصدقني ممن أنا؟ قال: أنت من الأواس بن الحجر، فقال: أما إنّي لن أدعكم حتى أقتل منكم مائة بما استعبدتموني، ثم إنه ما زال يقتلهم حتى قتل تسعة و تسعين رجلا، و قال الشنفري للجارية السّلامية التي لطمته و قالت: لست بأخي:
ألا ليت شعري و التّلهّف ضلّة *** بما ضربت كفّ الفتاة هجينها؟(3)
/و لو علمت قعسوس أنساب والدي *** و والدها ظلّت تقاصر دونها(4)
أنا ابن خيار الحجر بيتا و منصبا *** و أمي ابنة الأحرار لو تعرفينها
قال: ثم لزم الشّنفري دار فهم فكان يغير على الأزد على رجليه فيمن تبعه من فهم، و كان يغير وحده أكثر من ذلك، و قال الشنفري لبني سلامان:
و إني لأهوى أن ألّف عجاجتي *** على ذي كساء من سلامان أو برد(5)
و أصبح بالعضداء أبغي سراتهم *** و أسلك خلا بين أرباع و السّرد(6)
فكان يقتل بني سلامان بن مفرّج حتى قعد له رهط من الغامديين من بني الرّمداء فأعجزهم
ص: 118
فأشلوا(1) عليه كلبا لهم يقال له حبيش و لم يضعوا له شيئا، و مرّ و هو هارب بقرية يقال لها دحيس برجلين من بني سلامان بن مفرج فأرادهما ثم خشي الطلب فقال:
قتيلى فجار أنتما إن قتلتما *** بجوف دحيس أو تبالة يا اسمعا(2)
يريد: يا هذان اسمعا، و قال فيما كان يطالب به بني سلامان:
فإلاّ تزرني حتفتي أو تلاقني *** أمشّ بدهر أو عذاف فنوّرا(3)
/أمشي بأطراف الحماط و تارة *** تنفّض رجلي بسبطا فعصنصرا(4)
و أبغى بني صعب بن مرّ بلادهم *** و سوف ألاقيهم إن اللّه يسّرا(5)
و يوما بذات الرّأس أو بطن منجل *** هنالك تلقى القاصي المتغوّرا(6)
قال: ثم قعد له بعد ذلك أسيد بن جابر السلاماني و خازم الفهميّ بالناصف من أبيدة و مع أسيد ابن أخيه، فمر عليهم الشنفري، فأبصر السواد بالليل فرماه، و كان لا يرى سوادا إلا رماه كائنا ما كان، فشك(7) ذراع ابن أخي أسيد إلى عضده، فلم يتكلم، فقال الشنفري: إن كنت شيئا فقد أصبتك و إن لم تكن شيئا فقد أمنتك، و كان خازم باطحا: يعني منبطحا بالطريق يرصده، فنادى أسيد: يا خازم أصلت، يعني اسلل سيفك. فقال الشنفري: لكلّ أصلت(8)، فأصلت الشنفري. فقطع إصبعين من أصابع خازم الخنصر و البنصر، و ضبطه(9) خازم حتى لحقه أسيد و ابن أخيه نجدة، فأخذ أسيد سلاح الشنفري و قد صرع الشنفري خازما و ابن أخي أسيد، فضبطاه و هما تحته، و أخذ أسيد برجل ابن أخيه، فقال أسيد: رجل من هذه؟ فقال الشنفري: رجلي، فقال ابن أخي أسيد: بل هي رجلي يا عم فأسروا الشّنفري، و أدّوه إلى أهلهم، و قالوا له: أنشدنا، /فقال: إنما النشيد على المسرّة، فذهبت مثلا، ثم ضربوا يده فتعرضت، أي اضطربت فقال الشّنفري في ذلك:
لا تبعدي إما ذهبت شامه *** فربّ واد نفرت حمامه(10)
ص: 119
و ربّ قرن فصلت عظامه
ثم قال له السّلامي: أ أطرفك(1)؟ ثم رماه في عينه فقال الشنفري له: كأنّ كنّا نفعل أي كذلك كنّا نفعل، و كان الشنفري إذا رمى رجلا منهم قال له: أ أطرفك؟ ثم يرمي عينه. ثم قالوا له حين أرادوا قتله: أين نقبرك؟ فقال:
لا تقبروني إنّ قبري محرّم *** عليكم و لكن أبشري أمّ عامر(2)
إذا احتملت رأسي و في الرأس أكثري *** و غودر عند الملتقى ثمّ سائري(3)
هنالك لا أرجو حياة تسرّني *** سمير الليالي مبسلا بالجرائر(4)
و قال تأبّط شرّا يرثي الشّنفري:
على الشّنفري سارى الغمام و رائح *** غزير الكلى، و صيّب الماء باكر(5)
/عليك جزاء مثل يومك بالجبا *** و قد أرعفت منك السّيوف البواتر(5)
و يومك يوم العيكتين و عطفة *** عطفت و قد مسّ القلوب الحناجر(6)
تجول ببزّ الموت فيهم كأنهم *** بشوكتك الحدّى ضئين نوافر(7)
فإنك لو لاقيتني بعد ما ترى - *** و هل يلقين من غيّبته المقابر -(8)
لألفيتني في غارة أنتمي بها *** إليك و إمّا راجعا أنا ثائر(9)
و إن تك مأسورا و ظلت مخيّما *** و أبليت حتى ما يكيدك واتر(10)
و حتى رماك الشّيب في الرأس عانسا *** و خيرك مبسوط و زادك حاضر(11)
ص: 120
و أجمل موت المرء إذ كان ميتا *** - و لا بد يوما - موته و هو صابر
فلا يبعدن الشّنفري و سلاحه ال *** حديد و شدّ خطوه متواتر(1)
إذا راع روع الموت راع و إن حمى *** حمى معه حرّ كريم مصابر(2)
قال: و قال غيره: لا بل كان من أمر الشنفري و سبب أسره و مقتله أنّ الأزد قتلت الحارث بن السّائب الفهميّ، فأبوا أن يبوءوا(3) بقتله، فباء بقتله رجل منهم يقال له حزام بن جابر قبل ذلك، فمات أخو الشنفري، فأنشأت أمه تبكيه، فقال الشنفري، و كان أوّل ما قاله من الشعر:
ليس لوالدة هوؤها *** و لا قولها لابنها دعدع(4)
تطيف و تحدث أحواله *** و غيرك أملك بالمصرع(5)
قال: فلما ترعرع الشنفري جعل يغير على الأزد مع فهم: فيقتل من أدرك منهم، ثم قدم منّى و بها حزام بن جابر، فقيل له: هذا قاتل أبيك(6)، فشدّ عليه فقتله، ثم سبق الناس على رجليه فقال:
قتلت حزاما مهديا بملبّد *** ببطن منّى وسط الحجيج المصوّت(7)
قال: ثم إن رجلا من الأزد أتى أسيد بن جابر، و هو أخو حزام المقتول فقال: تركت الشنفري بسوق(8)حباشة، فقال أسيد بن جابر: و اللّه لئن كنت صادقا لا نرجع/حتى نأكل من جنى أليف أبيدة(9)، فقعد له على الطريق هو و ابنا حزام، فأحسّوه في جوف الليل و قد نزع نعلا و لبس نعلا ليخفى وطأه، فلما سمع الغلامان وطأه قالا: هذه الضّبع، فقال أسيد: ليست الضّبع، و لكنه الشنفري، ليضع كل واحد منكما نعله على مقتله، حتى إذا رأى سوادهم نكص مليّا لينظر هل يتبعه أحد، ثم رجع حتى دنا منهم، فقال الغلامان: أبصرنا، فقال عمهما: لا و اللّه ما أبصركما، و لكنه أطرد؛ لكيما تتبعاه، فليضع كلّ واحد منكما نعله على مقتله. فرماهم الشنفري فخسق(10) في النعل و لم يتحرك المرميّ، ثم رمى فانتظم ساقي أسيد، فلما رأى ذلك أقبل حتى كان بينهم، فوثبوا عليه، فأخذوه
ص: 121
فشدّوه وثاقا، ثم إنهم انطلقوا به إلى قومهم، فطرحوه وسطهم، فتماروا بينهم في قتله، فبعضهم يقول: أخوكم و ابنكم، فلما رأى ذلك أحد بني حزام ضربة ضربة فقطع يده من الكوع، و كانت بها شامة سوداء، فقال الشنفري حين قطعت يده:
لا تبعدي إمّا هلكت شامه *** فربّ خرق قطعت قتامه(1)
و ربّ قرن فصلت عظامه
و قال تأبط شرّا يرثيه:
لا يبعدنّ الشّنفري و سلاحه ال *** حديد و شدّ خطوه متواتر
إذا راع روع الموت راع و إن حمى *** حمى معه حرّ كريم مصابر(2)
قال: و ذرع(3) خطو الشنفري ليلة قتل فوجد أول نزوة نزاها إحدى و عشرين/خطوة، ثم الثانية سبع عشرة خطوة.
قال: و قال ظالم العامريّ في الشّنفري و غاراته على الأزد و عجزهم عنه، و يحمد أسيد بن جابر في قتله الشنفري:
فما لكم لم تدركوا رجل شنفري *** و أنتم خفاف مثل أجنحة الغرب(4)
تعاديتم حتى إذا ما لحقتم *** تباطأ عنكم طالب و أبو سقب(5)
لعمرك للسّاعي أسيد بن جابر *** أحقّ بها منكم بني عقب الكلب(6)
قال: و لما قتل الشّنفري و طرح رأسه مرّ به رجل منهم فضرب جمجمة الشنفري بقدمه، فعقرت قدمه فمات منها، فتمّت به المائة.
و كان مما قاله الشنفري فيهم من الشعر و في لطمه المرأة التي أنكرته الذي(7) ذكرته و استغنى عن إعادته مما تقدم ذكره من شعر الشنفري، و قال الشنفري في قتله حزاما قاتل أبيه:
أرى أمّ عمرو أجمعت فاستقلّت *** و ما ودّعت جيرانها إذ تولّت(8)
فقد سبقتنا أمّ عمرو بأمرها *** و قد كان أعناق المطيّ أظلّت(9)
ص: 122
فوا ندما على أميمة بعد ما *** طمعت فهبها نعمة العيش ولّت(1)
أميمة لا يخزي نشاها حليلها *** إذا ذكر النسوان عفّت و جلّت(2)
/يحلّ بمنجاة من اللّوم بيتها *** إذا ما بيوت بالملامة حلّت
فقد أعجبتني، لا سقوط قناعها *** إذا ما مشت و لا بذات تلفّت(3)
كأنّ لها في الأرض نسيا تقصّه *** إذا ما مشت و إن تحدّثك تبلت(4)
- النّسي: الذي يسقط من الإنسان و هو لا يدري أين هو؛ يصفها بالحياء، و أنها لا تلتفت يمينا و لا شمالا و لا تبرج. و يروى:
تقصه على أمها و إن تكلّمك
فدقّت و جلّت و اسبكرّت و أكملت
فلو جنّ إنسان من الحسن جنّت(5)
تبيت بعيد النوم تهدي غبوبها
لجاراتها إذا الهديّة قلّت
- الغبوب: ما غبّ عندها من الطعام أي بات و يروى: غبوقها -
فبتنا كأنّ البيت حجّر حولنا *** بريحانة راحت عشاء و طلّت(6)
بريحانة من بطن حلية أمرعت *** لها أرج من حولها غير مسنت(7)
غدوت من الوادي الذي بين مشعل *** و بين الجبا هيهات أنسأت سربتي(8)
أمشّي على الأرض التي لن تضيرني *** لأكسب مالا أو ألاقي حمّتي(9)
إذا ما أتتني حتفتي لم أبالها *** و لم تذر خالاتي الدموع و عمّتي
/و هنّئ بي قوم و ما إن هنأتهم *** و أصبحت في قوم و ليسوا بمنبتي(10)
و أمّ عيال قد شهدت تقوتهم *** إذا أطعمتهم أو تحت و أقلّت(11)
تخاف علينا الجوع إن هي أكثرت *** و نحن جياع، أيّ ألي تألّت(12)
ص: 123
عفاهية لا يقصر السّتر دونها *** و لا ترتجى للبيت إن لم تبيّت(1)
لها و فضة فيها ثلاثون سلجما *** إذا ما رأت أولى العديّ اقشعرّت(2)
و تأتي العديّ بارزا نصف ساقها *** كعدو حمار العانة المتفلّت(3)
إذا فزّعت طارت بأبيض صارم *** و راحت بما في جفرها ثم سلّت(4)
حسام كلون الملح صاف حديده *** جراز من أقطار الحديد المنعّت(5)
تراها كأذناب المطيّ صوادرا *** و قد نهلت من الدّماء و علّت(6)
/سنجزي سلامان بن مفرج قرضهم *** بما قدّمت أيديهم و أزلّت(7)
شفينا بعبد اللّه بعض غليلنا *** و عوف لدى المعدى أوان استهلّت(8)
قتلنا حزاما مهديا بملبّد *** محلّهما بين الحجيج المصوّت(9)
فإن تقبلوا تقبل بمن نيل منهم *** و إن تدبروا فأمّ من نيل قتّت(10)
ألا لا تزرني إن تشكيت خلّتي *** كفاني بأعلى ذى الحميرة عدوتي(11)
و إني لحلو إن أريدت حلاوتي *** و مرّ إذا النفس الصّدوف استمرّت(12)
أبيّ لما آبى وشيك مفيئتي *** إلى كلّ نفس تنتحي بمودّتي(13)
ص: 124
و قال الشّنفري أيضا:
و مرقبة عنقاء يقصر دونها *** أخو الضّروة الرّجل الخفيّ المخفّف(1)
نميت إلى أعلى ذراها و قد دنا *** من الليل ملتفّ الحديقة أسدف(2)
/فبتّ على حدّ الذّراعين أحدبا *** كما يتطوّى الأرقم المتعطّف(3)
قليل جهازي غير نعلين أسحقت *** صدورهما مخصورة لا تخصّف(4)
و ملحفة درس و جرد ملاءة *** إذا أنهجت من جانب لا تكفّف(5)
و أبيض من ماء الحديد مهنّد *** مجذّ لأطراف السّواعد مقطف(6)
و صفراء من نبع أبيّ ظهيرة *** ترنّ كإرنان الشّجيّ و تهتف(7)
إذا طال فيها النزع تأتي بعجسها *** و ترمي بذرويها بهنّ فتقذف(8)
كأنّ حفيف النّبل من فوق عجسها *** عوازب نحل أخطأ الغار مطنف(9)
نأت أمّ قيس المربعين كليهما *** و تحذر أن ينأى بها المتصيّف(10)
/و إنك لو تدرين أن ربّ مشرب *** مخوف كداء البطن أو هو أخوف(11)
وردت بمأثور و نبل و ضالة *** تخيّرتها مما أريش و أرصف(12)
ص: 125
أركّبها في كل أحمر عاتر *** و أقذف منهن الذي هو مقرف(1)
و تابعت فيه البري حتى تركته *** يزفّ إذا أنفذته و يزفزف(2)
بكفّي منها للبغيض عراضة *** إذا بعت خلا ما له متخوّف(3)
و واد بعيد العمق ضنك جماعة *** بواطنه للجن و الأسد مألف(4)
تعسّفت منه بعد ما سقط الندى *** غماليل يخشى غيلها المتعسّف(5)
و إني إذا خام الجبان عن الرّدى *** فلي حيث يخشى أن يجاوز مخسف(6)
و إن امرأ أجار سعد بن مالك *** عليّ و أثواب الأقيصر يعنف(7)
/و قال الشنفري أيضا:
و مستبسل ضافى القميص ضغتّه *** بأزرق لا نكس و لا متعوّج(8)
عليه نساريّ على خوط نبعة *** و فوق كعرقوب القطاة محدرج(9)
و قاربت من كفّيّ ثم فرجتها *** بنزع إذا ما استكره النزع مخلج(10)
فصاحت بكفي صيحة ثم رجّعت *** أنين الأميم ذي الجراح المشجّج(11)
و قد روى: فناحت بكفي نوحة.
ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد - و هو غلام، فجعله الذي سباه في بهمة يرعاها مع ابنة له، فلما خلا بها الشنفري أهوى ليقبّلها، فصكّت وجهه، ثم سعت إلى أبيها فأخبرته، فخرج إليه ليقتله، فوجده و هو يقول:
/ألا هل أتى فتيان قومي جماعة *** بما لطمت كفّ الفتاة هجينها؟(1)
و لو علمت تلك الفتاة مناسبي *** و نسبتها ظلّت تقاصر دونها
أ ليس أبي خير الأواس و غيرها *** و أميّ ابنة الخيرين لو تعلمينها(2)
إذا ما أروم الودّ بيني و بينها *** يؤمّ بياض الوجه منّي يمينها(3)
قال: فلما سمع قوله سأله: ممّن هو، فقال: أنا الشنفري، أخو بني الحارث بن ربيعة، و كان من أقبح الناس وجها، فقال له: لو لا أني أخاف أن يقتلني بنو سلامان لأنكحتك ابنتي. فقال: عليّ إن قتلوك أن أقتل بك مائة رجل منهم، فأنكحه ابنته، و خلّى سبيله، فسار بها إلى قومه، فشدت بنو سلامان خلافه(4) على الرجل فقتلوه، فلما بلغه ذلك سكت و لم يظهر جزعا عليه، و طفق يصنع النبل، و يجعل أفواقها من القرون و العظام، ثم إن امرأته بنت السلامانيّ قالت له ذات يوم: لقد خست(5) بميثاق أبي عليك، فقال:
كأن قد - فلا يغررك مني تمكّثي - *** سلكت طريقا بين يربغ فالسّرد(6)
و إنّي زعيم أن تثور عجاجتي *** على ذي كساء من سلامان أو برد
هم عرفوني ناشئا ذا مخيلة *** أمشّي خلال الدار كالفرس الورد(7)
كأني إذا لم يمس في الحي مالك *** بتيهاء لا أهدى السّبيل و لا أهدي(8)
/قال: ثم غزاهم فجعل يقتلهم، و يعرفون نبله بأفواقها في قتلاهم، حتى قتل منهم تسعة و تسعين رجلا، ثم غزاهم غزوة، فنذروا به، فخرج هاربا، و خرجوا في إثره، فمر بامرأة منهم يلتمس الماء فعرفته، فأطعمته أقطا ليزيد عطشا، ثم استسقى فسقته رائبا، ثم غيّبت عنه الماء، ثم خرج من عندها، و جاءها القوم فأخبرتهم خبره، و وصفت صفته و صفة نبله، فعرفوه، فرصدوه على ركيّ لهم، و هو ركيّ ليس لهم ماء غيره، فلما جنّ عليه الليل أقبل إلى الماء، فلما دنا منه قال: إني أراكم، و ليس يرى أحدا إنما يريد بذلك أن يخرج رصدا إن كان ثمّ، فأصاخ القوم و سكتوا. و رأى سوادا، و قد كانوا أجمعوا قبل إن قتل منهم قتيل أن يمسكه الذي إلى جنبه لئلا تكون حركة، قال:
فرمى لمّا أبصر السواد، فأصاب رجلا فقلته، فلم يتحرك أحد، فلما رأى ذلك أمن في نفسه و أقبل إلى الرّكيّ،
ص: 127
فوضع سلاحه، ثم انحدر فيه، فلم يرعه(1) إلا بهم على رأسه قد أخذوا سلاحه فنزا ليخرج. فضرب بعضهم شماله فسقطت، فأخذها فرمى بها كبد الرجل، فخر عنده في القليب(2)، فوطئ على رقبته فدقها. و قال في قطع شماله:
لا تبعدي إمّا ذهبت شامه *** فربّ واد نفرت حمامه(3)
و ربّ قرن فصلت عظامه *** و ربّ حيّ فرّقت سوامه
قال: ثم خرج إليهم، فقتلوه و صلبوه، فلبث علما أو عامين مصلوبا و عليه من نذره رجل، قال: فجاء رجل منهم كان غائبا، فمر به و قد سقط فركض رأسه برجله، فدخل فيها عظم من رأسه فعّلت عليه فمات منها، فكان ذلك الرجل هو تمام المائة(4).
ألا طرقت في الدّجى زينب *** و أحبب بزينب إذ تطرق
عجبت لزينب أنّى سرت *** و زينب من ظلّها تفرق(5)
عروضه من المتقارب، الشعر لابن رهيمة، و الغناء لخليل المعلم رمل بالبنصر، عن الهشامي و أبي أيوب المدنيّ.
ص: 128
13 - أخبار الخليل و نسبه(1)
هو الخليل بن عمرو، مكيّ، مولى بني عامر بن لؤيّ، مقلّ لا تعرف له صنعة غير هذا الصوت.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدثني القطرانيّ المغني، عن محمد بن حسين(2)، قال:
كان خليل المعلم يلقب خليلان، و كان يؤدب الصّبيان و يلقنهم القرآن و الخط، و يعلّم الجواري الغناء في موضع واحد، فحدثني من حضره قال: كنت يوما عنده و هو يردّد على صبي يقرأ بين يديه وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (3) ثم يلتفت إلى صبية بين يديه فيردّد عليها:
اعتاد هذا القلب بلباله *** أن قرّبت للبين أجماله(4)
فضحكت ضحكا مفرطا لما فعله، فالتفت إليّ فقال: ويلك مالك؟ فقلت: أ تنكر ضحكي مما تفعل؟ و اللّه ما سبقك إلى هذا أحد! ثم قلت: انظر أيّ شيء أخذت على الصبيّ من القرآن، و أيّ شيء هو ذا تلقي على الصبية، و اللّه إني لأظنك ممّن يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل اللّه، فقال: أرجو ألا أكون كذلك إن شاء اللّه.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرّد قال: حدثني عبد الصمد بن المعذّل قال:
كان خليلان المعلم أحسن الناس غناء، و أفتاهم و أفصحهم، فدخل يوما على عقبة/بن سلم الأزديّ الهنائيّ فاحتبسه عنده، فأكل معه ثم شرب، و حانت منه التفاتة، فرأى عودا معلّقا، فعلم أنه عرّض له به، فدعا به و أخذه فغناهم:
بابنة الأزديّ قلبي كئيب *** مستهام عندها ما ينيب(5)
و حانت منه التفاتة فرأى وجه عقبة بن سلم متغيرا(6)، و قد ظن أنه عرّض به، ففطن لما أراد فغنّى:
ألا هزئت بنا قرش *** يّة يهتزّ موكبها(7)
ص: 129
فسرّي عن عقبة و شرب، فلما فرغ وضع العود من حجره، و حلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يغني بعد يومه ذلك إلا لمن يجوز حكمه عليه.
يا ابنة الأزديّ قلبي كئيب *** مستهام عندها ما ينيب
و لقد لاموا فقلت: دعوني *** إنّ من تنهون عنه حبيب
إنما أبلى عظامي و جسمي *** حبّها و الحبّ شيء عجيب
أيها العائب عندي هواها *** أنت تفدي من أراك تعيب(1)
عروضه من المديد(2)، و الشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي اللّه عنه - و الغناء لمعبد تقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، و فيه لمالك خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عنه، و فيه خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى/لم ينسبه إسحاق إلى أحد، و وجدته في روايات لا أثق بها منسوبا إلى حنين، و قد ذكر يونس أن فيه لحنين و لمالك كلاهما، و لعل هذا أحدهما، و ذكر حبش أن خفيف الرمل لابن سريج، و ذكر الهشاميّ و عليّ بن يحيى أن لحن مالك الآخر ثاني ثقيل، و ذكر الهشامي أن فيه لطويس هزجا مطلقا في مجرى البنصر، و ذكر عمرو بن بانة أنّ لمالك فيه ثقيلا أول و خفيفه، و لمعبد خفيف ثقيل آخر:
ألا هزئت بنا قرشيّة *** م يهتزّ موكبها
رأت بي شيبة في الرأ *** س منّي ما أغيّبها
فقالت لي: ابن قيس ذا؟ *** و بعض الشيب يعجبها
لها بعل خبيث النّفس *** يحصرها و يحجبها
يراني هكذا أمشي *** فيوعدها و يضربها
عروضه من الوافر(3)، الشعر لابن قيس الرقيات، و الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى، و فيه ليونس ثقيل أول عن إسحاق بن إبراهيم و الهشاميّ.
هل ما علمت و ما استودعت مكتوم *** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كئيب بكى لم يقض عبرته *** إثر الأحبّة يوم البين مشكوم(4)
ص: 130
يحملن أترجّة، نضخ العبير بها *** كأنّ تطيابها في الأنف مشموم(1)
كأنّ فأرة مسك في مفارقها *** للباسط المتعاطي و هو مزكوم(2)
كأنّ إبريقهم ظبي على شرف *** مفدّم بسبا الكتّان ملثوم(3)
قد أشهد الشّرب فيهم مزهر صدح *** و القوم تصرعهم صهباء خرطوم(4)
الشعر لعلقمة بن عبدة، و الغناء لابن سريج، و له فيه لحنان أحدهما في الأول و الثاني خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق، و الآخر رمل بالخنصر في مجرى البنصر في الخامس و السادس من الأبيات، و ذكر عمرو بن بانة أن في الأربعة الأبيات الأول المتوالية لمالك خفيف ثقيل بالوسطى، و فيها ثقيل أول نسبه الهشاميّ إلى الغريض، و ذكر حبش أن لحن الغريض ثاني ثقيل بالبنصر، و ذكر حبش أن في الخامس و السادس خفيف رمل بالبنصر لابن سريج.
ص: 131
14 - أخبار علقمة و نسبه(1)
هو علقمة بن عبدة بن النّعمان بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار.
و كان زيد مناة بن تميم وفد هو و بكر بن وائل - و كانا لدة عصر واحد - على بعض الملوك، و كان زيد مناة حسودا شرها طعّانا(2)، و كان بكر بن وائل خبيثا منكرا داهيا فخاف زيد مناة أن يحظى(3) من الملك بفائدة، و يقلّ معها حظّه، فقال له: يا بكر لا تلق الملك بثياب سفرك، و لكن تأهّب للقائه و ادخل عليه في أحسن زينة، ففعل بكر ذلك، و سبقه زيد مناة إلى الملك، فسأله عن بكر، فقال: ذلك مشغول بمغازلة النساء و التصدّي لهن، و قد حدّث نفسه بالتعرض لبنت الملك، فغاظه ذلك، و أمسك عنه، و نمى الخبر إلى بكر بن وائل، فدخل إلى الملك فأخبره بما دار بينه و بين زيد مناة، و صدقه عن، و اعتذر إليه مما قاله فيه عذرا قبله، فلما كان من غد اجتمعا عند الملك، فقال الملك لزيد مناة: ما تحب أن أفعل بك، فقال: لا تفعل ببكر شيئا إلا فعلت بي مثليه، و كان بكر أعور العين اليمنى، قد أصابها ماء فذهب بها، فكان لا يعلم من رآه أنه أعور، فأقبل الملك على بكر بن وائل فقال له: ما تحب أن أفعل بك يا بكر، قال: تفقأ عيني اليمنى، و تضعف لزيد مناة، فأمر بعينه العوراء ففقئت، و أمر بعيني زيد مناة ففقئتا، فخرج بكر و هو أعور بحاله، و خرج زيد مناة و هو أعمى.
و أخبرني بذلك محمد بن الحسن بن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة.
و يقال لعلقمة بن عبدة علقمة الفحل، سمّي بذلك لأنه خلف على امرأة امرئ/القيس لما حكمت له على امرئ القيس بأنه أشعر منه في صفة فرسة، فطلّقها، فخالفه عليها، و ما زالت العرب تسمية بذلك، و قال الفرزدق:
و الفحل علقمة الذي كانت له *** حلل الملوك كلامه يتنحّل(4)
أخبرني عمّي قال: حدّثني النّضر بن عمرو قال: حدثني أبو السّوّار، عن أبي عبيد اللّه مولى إسحاق بن عيسى، عن حمّاد الرواية قال:
كانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولا، و ما ردوه منها كان مردودا، فقدم
ص: 132
عليهم علقمة بن عبدة، فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:
هل ما علمت و ما استودعت مكتوم *** أم حبلها أن نأتك اليوم مصروم
فقالوا: هذه سمط(1) الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم:
طحا بك قلب في الحسان طروب *** بعيد الشّباب عصر حان مشيب
فقالوا: هاتان سمطا الدهر.
أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك، عن حماد بن إسحاق قال: سمعت أبي يقول:
سرق ذو الرّمة قوله:
يطفو إذا ما تلقّته الجراثيم(2)
من قول العجّاج:
إذا تلقّته العقاقيل طفا(3)
/و سرقه العجّاج من علقمة بن عبده في قوله:
يطفو إذا ما تلقته العقاقيل
أخبرني عمّي قال: حدثنا الكرانيّ قال: حدثنا العمريّ عن لقيط، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبّة قال: حدثني أبو عبيدة قال:
كانت تحت امرئ القيس امرأة من طيء تزوجها حين جاور فيهم، فنزل به علقمة الفحل بن عبدة التّميميّ، فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أشعر منك، فتحاكما إليها، فأنشد امرؤ القيس قوله:
خليليّ مرّا بي على أمّ جندب
حتى مرّ بقوله:
فللسّوط ألهوب و للسّاق درّة *** و للزّجر منه وقع أخرج مهذب(4)
- و يروى: «أهوج منعب(5) -
ص: 133
فأنشدها علقمة قوله:
ذهبت من الهجران في غير مذهب
حتى انتهى إلى قوله:
فأدركه حتى ثنى من عنانه *** يمرّ كغيث رائح متحلّب(1)
فقالت له: علقمة أشعر منك، قال: و كيف؟ قالت: لأنك زجرت فرسك، /و حرّكته بساقك، و ضربته بسوطك. و أنه جاء هذا الصيد، ثم أدركه ثانيا من عنانه، فغضب امرؤ القيس و قال: ليس كما قلت، و لكنك هويته، فطلّقها، فتزوجها علقمة بعد ذلك، و بهذا لقّب علقمة الفحل.
أخبرني عمي قال: حدثنا الكرانيّ قال: حدثنا العمري، عن لقيط قال:
تحاكم علقمة بن عبدة التميمي. و الزبرقان بن بدر السعدي، و المخبّل، و عمرو بن الأهتم، إلى ربيعة بن حذار الأسدي، فقال: أما أنت يا زبرقان فإن شعرك كلحم لا أنضج فيؤكل، و لا ترك نيّئا فينتفع به، و أما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرد حبرة يتلألأ في البصر، فكلما أعدّته(2) فيه نقص، و أما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرد حبرة يتلألأ في البصر، فكلما أعدّته(2) فيه نقص، و أما أنت يا مخبّل فإنك قصّرت عن الجاهلية و لم تدرك الإسلام، و أما أنت يا علقمة فإن شعرك كمزادة(3) قد أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثني عمي، عن العباس بن هشام، عن أبيه قال:
مرّ رجل من مزينة على باب رجل من الأنصار، و كان يتّهم بامرأته، فلما حاذى بابه تنفّس ثم تمثّل:
هل ما علمت و ما استودعت مكتوم *** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم؟
قال: فتعلّق به الرجل: فرفعه إلى عمر رضوان اللّه عليه، فاستعداه عليه، فقال له المتمثّل: و ما عليّ في أن أنشدت بيت شعر، فقال له عمر رضي اللّه عنه: مالك لم تنشده قبل أن تبلغ بابه؟ و لكنّك عرّضت به مع ما تعلم من القالة فيه، ثم أمر به فضرب عشرين سوطا.
بلى إنها تعفو الكلوم و إنما *** نوكّل بالأدنى و إن جلّ ما يمضي(1)
و لم أدر من ألقى عليه رداءه *** و لكنه قد بزّ عن ماجد محض(2)
الشعر لأبي خراش الهذلي، و الغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى من رواية عمرو بن بانة و ذكر يحيى بن المكي أنه لابن مسجح و ذكر الهشامي أنه ليحيى المكي، نحله ابن مسجح، و في أخبار معبد أن له فيه لحنا.
ص: 135
15 - ذكر أبي خراش الهذلي و أخباره(1)
أبو خراش اسمه خويلد بن مرّة، أحد بني قرد، و اسم قرد عمرو بن معاوية بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.
شاعر فحل من شعراء المذكورين الفصحاء، مخضرم، أدرك الجاهلية و الإسلام فأسلم و عاش بعد النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مدة، و مات في خلافة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، نهشته أفعى فمات، و كان ممن يعدو فيسبق الخيل في غارات قومه و حروبهم.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي و عمّي و الحسن بن عليّ قالوا:
حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدثنا أحمد بن عمير بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثني أبو بركة الأشجعيّ من أنفسهم قال:
خرج أبو خراش الهذليّ من أرض هذيل يريد مكّة، فقال لزوجته أمّ خراش: ويحك إني أريد مكّة لبعض الحاجة، و إنك من أفك(2) النساء، و إنّ بني الدّيل يطلبونني بتراث فإيّاك و أن تذكريني لأحد من أهل مكة حتى نصدر منها! قالت: معاذ اللّه أن أذكرك لأهل مكة و أنا أعرف السبب.
قال: فخرج بأم خراش و كمن لحاجته و خرجت إلى السوق لتشتري عطرا أو بعض ما تشتريه النساء من حوائجهن، فجلست إلى عطّار فمر بها فتيان من بني الدّيل، فقال أحدهما لصاحبه: أمّ خراش و ربّ الكعبة و إنّها لمن أفكّ النساء و إن كان أبو خراش معها فستدلّنا عليه، قال: فوقفا عليها فسلما و أحفيا(3) المسألة و السلام، فقالت: من أنتما/بأبي أنتما؟ فقالا: رجلان من أهلك من هذيل، قالت: بأبي أنتما. فإن أبا خراش معي و لا تذكراه لأحد، و نحن رائحون العشيّة، فخرج الرجلان فجمعا جماعة من فتيانهم و أخذوا مولى لهم يقال له مخلد و كان من أجود الرجال عدوا، فكمنوا في عقبة على طريقه، فلما رآهم قد لاقوه في عين الشمس قال لها: قتلتني و ربّ الكعبة لمن ذكرتني؟ فقالت: و اللّه ما ذكرتك لأحد إلا لفتيين من هذيل، فقال لها: و اللّه ما هما من هذيل و لكنهما من بني الدّيل و قد جلسا لي و جمعا عليّ جماعة من قومهم فاذهبي أنت فإذا جزت عليهم فإنهم لن يعرضوا لك لئلا أستوحش فأفوتهم، فاركضي بعيرك، وضعي عليه العصا، و النجاء النجاء.
قال: [فانطلقت](4) و هي على قعود عقيلي يسابق الريح، فلما دنا منهم و قد تلثّموا و وضعوا تمرا على طريقه
ص: 136
على كساء، فوقف قليلا كأنه يصلح شيئا، و جازت بهم أم خراش فلم يعرضوا لها لئلا ينفر منهم، و وضعت العصاء على قعودها، و تواثبوا إليه و وثب يعدو.
قال: فزاحمه على المحجّة(1) التي يسلك فيها على العقبة ظبي، فسبقه أبو خراش، و تصايح القوم: يا مخلد أخذا أخذا.
قال: ففات الأخذ. فقالوا: ضربا ضربا، فسبق الضرب، فصاحوا: رميا رميا فسبق الرمي، و سبقت أمّ خراش إلى الحيّ فنادت: ألا إنّ أبا خراش قد قتل، فقام أهل الحيّ إليها، و قام أبوه و قال: ويحك ما كانت قصّته، فقالت:
إن بني الدّيل عرضوا له الساعة في العقبة، قال: فما رأيت، أ و ما سمعت،؟ قالت: سمعتهم يقولون: يا مخلد أخذا أخذا، قال: ثم سمعت ما ذا؟ قالت: ثم سمعتهم يقولون: ضربا ضربا، قال: ثم سمعت ما ذا؟ قالت: سمعتهم يقولون: رميا رميا، قال: فإن كنت سمعت رميا رميا/فقد أفلت، و هو منا قريب، ثم صاح: يا أبا خراش، فقال أبو خراش: يا لبّيك، و إذا هو قد وافاهم على أثرها. و قال أبو خراش في ذلك:
رفوني و قالوا يا خويلد لم ترع *** فقلت و أنكرت الوجوه هم هم
رفوني بالفاء: سكّنوني و قالوا: لا بأس عليك.
فغاررت شيئا و الدّريس كأنما *** يزعزعه وعك من الموم مردم(2)
غاررت: تلبثت. و الدّريس: الخلق من الثياب، و مثله الجرد و السّحق و الحشيف. و مردم: لازم.
تذكرت ما أين المفرّ و إنني *** بحبل الذي ينجي من الموت معصم(3)
فو اللّه ما ربداء أو علج عانة *** أقبّ و ما إن تيس رمل مصمّم(4)
بأسرع منّي إذ عرفت عديّهم *** كأني لأولاهم من القرب توأم(5)
و أجود منّي حين وافيت ساعيا *** و أخطأني خلف الثّنيّة أسهم(6)
أوائل بالشّدّ الذّليق و حثّني *** لدى المتن مشبوح الذراعين خلجم(7)
/تذكّر ذحلا عندنا و هو فاتك *** من القوم يعروه اجتراء و مأثم(8)
ص: 137
تقول ابنتي لما رأتني عشيّة: *** سلمت و ما إن كدت بالأمس تسلم
فقلت و قد جاوزت صارى عشية: *** أ جاوزت أولى القوم أم أنا أحلم(1)
فلو لا دراك الشدّ آضت حليلتي *** تخيّر في خطّابها و هي أيّم(2)
فتسخط أو ترضى مكاني خليفة *** و كاد خراش عند ذلك ييتم(3)
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ و محمد بن الحسين الكنديّ خطيب المسجد الجامع بالقادسية قالا: حدثنا الرياشيّ قال: حدثنا الأصمعيّ قال: حدثني رجل من هذيل قال:
دخل أبو خراش الهذليّ مكّة و للوليد بن المغيرة المخزوميّ فرسان يريد أن يرسلهما في الحلبة، فقال للوليد:
ما تجعل لي إن سبقتهما؟ قال: إن فعلت، فهما لك، فأرسلا، وعدا بينهما فسبقهما فأخذهما.
قال الأصمعيّ: إذا فاتك الهذليّ أن يكون شاعرا أو ساعيا أو راميا فلا خير فيه.
و أخبرني بما أذكره من مجموع أخبار أبي خراش عليّ بن سليمان الأخفش، عن أبي سعيد السكريّ، و أخبرني بما أذكره من مجموع أشعارهم و أخبارهم فذكره أبو سعيد، عن محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابي، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، و عن ابن حبيب عن أبي عمرو.
و أخبرني ببعضه محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثنا الرياشيّ، عن الأصمعيّ، /و قد ذكرت ما رواه في أشعار هذيل و أخبارها كل واحد منهم عن أصحابه في مواضعه، قال السكريّ: فيما رواه عن ابن حبيب عن أبي عمرو قال:
نزل أبو خراش الهذلي على دبيّة السّلميّ - و كان صاحب العزّى التي في غطفان و كان يسدنها، و هي التي هدمها خالد بن الوليد لما بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إليها فهدمها و كسرها و قتل دبيّة السّلميّ - قال: فلما نزل عليه أبو خراش أحسن ضيافته. و رأى في رجله نعلين قد أخلقتا، فأعطاه نعلين من حذاء السّبت(4) فقال أبو خراش يمدحه:
حذاني بعد ما خذمت نعالي *** دبيّة إنّه نعم الخليل(5)
مقابلتين من صلوي مشبّ *** من الثيران وصلهما جميل(6)
بمثلهما يروح المرء لهوا *** و يقضي الهمّ ذو الأرب الرّجيل(7)
ص: 138
فنعم معرّس الأضياف تذحي *** رحالهم شآمية بليل(1)
يقاتل جوعهم بمكلّلات *** من الفرنيّ يرعبها الجميل(2)
قال أبو عمرو: الجميل: إلا هالة، و لا يقال لها جميل حتى تذاب إهالة كانت أو شحما، /و قال أبو عمرو:
و لما بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خالد بن الوليد فهدم عزّى غطفان، و كانت ببطن نخلة، نصبها ظالم بن أسعد بن عامر بن مرة و قتل دبيّة فقال أبو خراش الهذلي يرثيه:
ما لدبيّة منذ اليوم لم أره *** وسط الشّروب و لم يلمم و لم يطف(3)
لو كان حيّا لغاداهم بمترعة *** فيها الرّواويق من شيزى بني الهطف(4)
بنو الهطف: قوم من بني أسد يعملون الجفان.
كابي الرماد عظيم القدر جفنته *** حين الشتاء كحوض المنهل اللّقف(5)
- المنهل: الذي إبله عطاش. و اللقف: الذي يضرب الماء أسفله فيتساقط و هو ملآن -
أمسى سقام خلاء لا أنيس به *** إلا السّباع و مرّ الريح بالغرف(6)
و قال الأصمعيّ و أبو عمرو في روايتهما جميعا:
أخذ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في يوم حنين أسارى، و كان فيهم زهير بن العجوة أخو بني عمرو بن الحارث، فمرّ به جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، و هو مربوط في الأسرى، و كانت بينهما إحنة في الجاهلية، فضرب عنقه، فقال أبو خراش يرثيه:
فجّع أصحابى جميل بن معمر *** بذي فجر تأوي إليه الأرامل(7)
/طويل نجاد السيف ليس بحيدر *** إذا قام و استنّت عليه الحمائل(8)
إلى بيته يأوي الغريب إذا شتا *** و مهتلك بالي الدّريسين عائل(9)
تروّح مقرورا و راحت عشيّة *** لها حدب تحتثّه فيوائل(10)
ص: 139
تكاد يداه تسلمان رداءه *** من القرّ لمّا استقبلته الشمائل(1)
فما بال أهل الدّار لم يتصدّعوا *** و قد خفّ منها الموذعيّ الحلاحل(2)
فأقسم لو لاقيته غير موثق *** لآبك بالجزع الضّباع النّواهل(3)
لظلّ جميل أسوأ القوم تلّة *** و لكنّ ظهر القرن للمرء شاغل(4)
فليس كعهد الدار يا أمّ مالك *** و لكن أحاطت بالرقاب السلاسل(5)
/و عاد الفتى كالكهل ليس بقائل *** سوى الحقّ شيئا فاستراح العواذل(6)
و لم أنس أياما لنا و لياليا *** بحلية إذ نلقى بها ما نحاول(7)
و قال أيضا يرثيه:
أ في كلّ ممسى ليلة أنا قائل *** من الدهر لا يبعد قتيل جميل(8)
فما كنت أخشى أن تصيب دماءنا *** قريش و لما يقتلوا بقتيل(9)
فأبرح ما أمّرتم و عمرتم *** مدى الدهر حتى تقتلوا بغليل
و قال أبو عمرو في خبره خاصة: أقبل أبو خراش و أخوه عروة و صهيب القرديّ في بضعة عشر رجلا من بني قرد يطلبون الصيد فبينا هم بالمجمعة من نخلة لم يرعهم إلا قوم قريب من عدتهم فظنهم القرديّون قوما من بني ذؤيبة أحد بني سعد بن بكر بن هوازن أو من بني حبيب أحد بني نصر، فعدا الهذليّون إليهم يطلبونهم و طمعوا فيهم حتى خالطوهم و أسروهم جميعا، و إذا هم قوم من بني ليث بن بكر، فيهم ابنا شعوب أسرهما صهيب القردي، فهمّ بقتلهما، و عرفهم أبو خراش فاستنقذهم جميعا من أصحابه و أطلقهم، فقال أبو خراش في ذلك يمنّ على ابني شعوب أحد بني شجع بن عامر بن ليث فعله بهما:
ص: 140
/عدونا عدوة لا شكّ فيها *** و خلناهم ذؤيبة أو حبيبا(1)
فنغري الثائرين بهم و قلنا *** شفاء النفس أن بعثوا الحروبا(2)
منعنا من عديّ بني حنيف *** صحاب مضرّس و ابنى شعوبا(3)
فأثنوا يا بني شجع علينا *** و حقّ ابنى شعوب أن يثيبا
وسائل سبرة الشّجعيّ عنا *** غداة نخالهم نجوا جنيبا(4)
بأنّ السّابق القرديّ ألقى *** عليه الثوب إذ ولّى دبيبا(5)
و لو لا ذاك أرهقه صهيب *** حسام الحدّ مطرورا خشيبا(6)
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدثنا الرياشي: قال: حدثنا الأصمعيّ قال: أقفر أبو خراش الهذليّ من الزّاد أياما، ثم مرّ بامرأة من هذيل جزلة شريفة، فأمرت له بشاة فذبحت و شويت، فلما وجد بطنه ريح الطعام قرقر(7)، فضرب بيده على بطنه و قال: إنك لتقرقر لرائحة الطعام، و اللّه لأطعمت منه شيئا ثم قال: يا ربّة البيت، هل عندك شيء من صبر أو مرّ؟ قالت: تصنع به ما ذا؟ قال: أريده، فأتته منه بشيء فاقتمحه، ثم أهوى إلى بعيره فركبه، فناشدته المرأة فأبى، فقالت له: يا هذا، هل رأيت بأسا أو أنكرت شيئا؟ قال: لا و اللّه، ثم مضى و أنشأ يقول:
/و إني لأثوي الجوع حتى يملّني *** فأحيا و لم تدنس ثيابي و لا جرمي(8)
و أصطبح الماء القراح فأكتفي *** إذا الزاد أضحى للمزلّج ذا طعم(9)
أردّ شجاع البطن قد تعلمينه *** و أوثر غيري من عيالك بالطّعم(10)
مخافة أن أحيا برغم و ذلّة *** فللموت خير من حياة على رغم
و أخبرني عمّي عن هارون بن محمد الزيات، عن أحمد بن الحارث، عن المدائني بنحو مما رواه الأصمعيّ.
ص: 141
و قال أبو عمرو:
أسرت فهم عروة بن مرة أخا أبيّ خراش - و قال غيره: بل بنو كنانة أسرته - فلما دخلت الأشهر الحرم، مضى أبو خراش إليهم و معه ابنه خراش، فنزل بسيّد من ساداتهم و لم يعرّفه نفسه و لكنه استضافه فأنزله و أحسن قراه، فلما تحرّم به انتسب له، و أخبره خبر أخيه، و سأله معاونته حتى يشتريه منهم، فوعده بذلك، و غدا على القوم مع ذلك الرجل، فسألهم في الأسير أن يهبوه له، فما فعلوا، فقال لهم: فبيعونيه، فقالوا: أما هذا فنعم، فلم يزل يساومهم حتى رضوا بما بذله لهم، فدفع أبو خراش إليهم ابنه خراشا رهينة، و أطلق أخاه عروة و مضيا، حتى أخذ أبو خراش فكاك أخيه، و عاد به إلى القوم حتى أعطاهم إيّاه و أخذ ابنه. فبينما أبو خراش ذات يوم في بيته إذ جاءه عبد له فقال:
إن أخاك عروة جاءني و أخذ شاة من غنمك، فذبحها، و لطمني لمّا منعته منها، فقال له: دعه، فلما كان بعد أيام عاد، فقال له: قد أخذ أخرى، فذبحها، فقال: دعه، فلما أمسى قال له: إن أخاك اجتمع مع شرب من قومه، فلما انتشى جاء إلينا و أخذ ناقة من إبلك، لينحرها لهم فعاجله، فوثب أبو خراش إليه، فوجده قد أخذ الناقة، لينحرها، فطردها أبو خراش، فوثب أخوه عروة إليه/فلطم وجهه، و أخذ الناقة، فعقرها، و انصرف أبو خراش، فلما كان من غد لامه قومه، و قالوا له: بئست لعمر اللّه المكافأة، كانت منك لأخيك؛ رهن ابنه فيك، و فداك بماله، ففعلت به ما فعلت، فجاء عروة يعتذر إليه، فقال أبو خراش:
لعلّك نافعي يا عرو يوما *** إذا جاورت من تحت القبور
أخذت خفارتي و لطمت عيني *** و كيف تثيب بالمنّ الكبير(1)
و يوم قد صبرت عليك نفسي *** لدى الأشهاد مرتدي الحرور(2)
إذا ما كان كسّ القوم روقا *** و جالت مقلتا الرجل البصير(3)
بما يممته و تركت بكري *** و ما أطعمت من لحم الجزور(4)
قال معنى قوله بكري أي بكر ولدي أي أولهم.
و قال الأصمعيّ و أبو عبيدة و أبو عمرو و ابن الأعرابي:
كان بنو مرة عشرة: أبو خراش(5)، و أبو جندب، و عروة، و الأبحّ، و الأسود، و أبو الأسود، و عمرو، و زهير، و جنّاد، و سفيان، و كانوا جميعا شعراء دهاة سراعا لا يدركون عدوا، فأما الأسود بن مرة فإنه كان على ماء من داءة(6) و هو غلام شاب، فوردت عليه إبل/رئاب بن ناضرة بن المؤمّل من بني لحيان، و رئاب شيخ كبير، فرمى
ص: 142
الأسود ضرع ناقة من الإبل فعقرها، فغضب رئاب، فضربه بالسيف، فقتله، و كان أشدّهم أبو جندب، فعرف خبر أخيه، فغضب غضبا شديدا، و أسف، فاجتمعت رجال هذيل إليه يكلمونه و قالوا: خذ عقل(1) أخيك، و استبق ابن عمك، فلم يزالوا به حتى قال: نعم، اجمعوا العقل، فجاءوه به في مرّة واحدة، فلما أراحوه عليه صمت فطال صمته فقالوا له: أرحنا: اقبضه منا، فقال: إني أريد أن أعتمر فاحبسوه حتى أرجع، فإن هلكت(2) فلأمّ ما أنتم - هذه لغة هذيل يقولون: إمّ بالكسر، و لا يستعلمون الضم - و إن عشت فسوف ترون أمري، و ولّى ذاهبا نحو الحرم، فدعا عليه رجال من هذيل، و قالوا: اللهم لا تردّه، فخرج فقدم مكة فواعد كلّ خليع وفاتك في الحرم أن يأتوه يوم كذا و كذا، فيصيب بهم قومه، فخرج صادرا، حتى أخذته الذّبحة في جانب الحرم، فمات قبل أن يرجع، فكان ذلك خبره.
قالوا: و أما زهير بن مرة فخرج معتمرا قد جعل على جسده من لحاء(3) الحرم، حتى ورد ذات الأقير(4) من نعمان، فبينا هو يسقي إبلا له إذ ورد عليه قوم من ثمالة، فقتلوه، فله يقول أبو خراش، و قد انبعث يغزو ثمالة و يغير عليهم، حتى قتل منهم بأخيه أهل دارين، أي حلّتين من ثمالة.
خذوا ذلكم بالصّلح إني رأيتكم *** قتلتم زهيرا و هو مهد و مهمل
/مهد أي أهدى هديا للكعبة. و مهمل: قد أهمل إبله في مراعيها.
قتلتم فتى لا يفجر اللّه عامدا *** و لا يجتويه جاره عام يمحل(5)
و لهم يقول أبو خراش:
إنّي امرؤ أسأل كيما أعلما *** من شرّ رهط يشهدون الموسما؟
وجدتهم ثمالة بن أسلما
و كان أبو خراش إذا لقيهم في حروبه أوقع بهم و يقول:
إليك أمّ ذبّان *** ما ذاك من حلب الضّان(6)
لكن مصاع الفتيان *** بكل لين حرّان(7)
ص: 143
قال: و أما عروة بن مرة و خراش بن أبي خراش فأخذهما بطنان من ثمالة يقال لهما بنو رزام و بنو بلال، و كانوا متجاورين، فخرج عروة بن مرة و ابن أبي خراش أخيه مغيرين عليهم طمعا في أن يظفروا من أموالهم بشيء، فظفر بهما الثماليون، فأما بنو رزام فنهوا عن قتلهما و أبت بنو بلال إلا قتلهما، حتى كاد يكون بينهم شر، فألقى رجل من القوم ثوبه على خراش حين شغل القوم بقتل عروة، ثم قال له: انج، و انحرف القوم بعد قتلهم عروة إلى الرجل، و كانوا أسلموه إليه، فقالوا: أين خراش؟ فقال: أفلت مني، فذهب، فسعى القوم في أثره، فأعجزهم، فقال أبو خراش في ذلك يرثي أخاه عروة، و يذكر خلاص ابنه:
/حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا *** خراش و بعض الشر أهون من بعض
فو اللّه لا أنسى قتيلا رزيته *** بجانب قوسى ما حييت على الأرض(1)
بلى إنها تعفو الكلوم و إنما *** نوكّل بالأدنى و إن جلّ ما يمضي
و لم أدر من ألقى عليه رداءه *** سوى أنه قد سلّ عن ماجد محض
و لم يك مثلوج الفؤاد مهبّلا *** أضاع الشباب في الرّبيلة و الخفض(2)
و لكنه قد نازعته مجاوع *** على أنه ذو مرة صادق النهض(3)
قال: ثم إن أبا خراش و أخاه عروة(4) استنفرا حيّا من هذيل يقال لهم بنو زليقة بن صبيح ليغزوا ثمالة بهم طالبين بثأر أخيهما، فلما دنوا من ثمالة أصاب عروة ورد حمى، و كانت به حمى(5) الرّبع فجعل عروة يقول:
أصبحت مورودا فقرّبوني *** إلى سواد الحيّ يدفنوني
إنّ زهيرا وسطهم يدعوني *** ربّ المخاض و اللّقاح الجون(6)
/فلبثوا إلى أن سكنت الحمّى، ثم بيّتوا ثمالة، فوجدوهم خلوفا ليس فيهم رجال، فقتلوا من وجدوا من الرجال، و ساقوا النساء و الذراريّ و الأموال، و جاء الصائح إلى ثمالة عشاء، فلحقوهم، و انهزم أبو خراش و أصحابه، و انقطعت بنو زليقة، فنظر الأكنع الثّماليّ - و كان مقطوع الأصبع - إلى عروة فقال: يا قوم، ذلك و اللّه عروة، و أنا و اللّه رام بنفسي عليه، حتى يموت أحدنا، و خرج يمعج(7) نحو عروة، فصاح عروة بأبي خراش أخيه:
أي أبا خراش، هذا و اللّه الأكنع و هو قاتلي، فقال أبو خراش: أمضه(8)، و قعد له على طريقه، و مر به الأكنع
ص: 144
مصمّما على عروة، و هو لا يعلم بموضع أبي خراش، فوثب عليه أبو خراش، فضربه على حبل عاتقه حتى بلغت الضّربة سحره(1)، و انهزمت ثمالة، و نجا أبو خراش و عروة. و قال أبو خراش يرثي أخاه و من قتلته ثمالة و كنانة من أهله، و كان الأصمعيّ يفضّلها:
فقدت بني لبنى فلما فقدتهم *** صبرت فلم أقطع عليهم أباجلي(2)
الأبجل: عرق في الرّجل.
رماح من الخطّيّ زرق نصالها *** حداد أعاليها شداد الأسافل
فلهفي على عمرو بن مرّة لهفة *** و لهفي على ميت بقوسى المعاقل(3)
حسان الوجوه طيّب حجزاتهم *** كريم نثاهم غير لفّ معازل(4)
/قتلت قتيلا لا يحالف غدرة *** و لا سبّة لا زلت أسفل سافل(5)
و قد أمنوني و اطمأنّت نفوسهم *** و لم يعلموا كلّ الذي هو داخلي
فمن كان يرجو الصلح منيّ فإنه *** كأحمر عاد أو كليب بن وائل(6)
أصيبت هذيل بابن لبنى و جدّعت *** أنوفهم باللّوذعيّ الحلاحل(7)
رأيت بني العلاّت لما تضافروا *** يحوزون سهمي دونهم بالشّمائل(8)
قالوا: و أما أبو الأسود فقتلته فهم بياتا تحت الليل، و أما الأبحّ فكان شاعرا، فأمسى بدار بعرعر من ضيم، فذكر لسارية بن زنيم العبديّ أحد بني عبد بن عديّ بن الدّيل، فخرج بقوم من عشيرته يريده و من معه، فوجدوهم قد ظعنوا. و كان بين بني عبد بن عدي بن الدّيل و بينهم حرب، فقال الأبحّ في ذلك:
لعمرك ساري بن أبي زنيم *** لأنت بعرعر الثأر المنيم(9)
تركت بني معاوية بن صخر *** و أنت بمربع و هم بضيم(10)
ص: 145
تساقيهم على رصف و ظرّ *** كدابغة و قد حلم الأديم(1)
/رصف و ظرّ: ماءان، و مربع و ضيم: موضعان.
فلم نتركهم قصدا و لكن *** فرقت من المصالت كالنّجوم(2)
رأيتهم فوارس غير عزل *** إذا شرق المقاتل بالكلوم(3)
فأجابه سارية، فقال:
لعلك يا أبحّ حسبت أنّي *** قتلت الأسود الحسن الكريما
أخذتم عقله و تركتموه *** يسوق الظّمي وسط بني تميما(4)
عيّرهم بأخذ دية الأسود بن مرة أخيهم، و أنهم لم يدركوا بثأره، و بنو تميم من هذيل.
قالوا: و أما جنادة و سفيان فماتا، و قتل عمرو، و لم يسمّ قاتله. قالوا: و أمهم جميعا لبنى إلا سفيان بن مرة، فإن أمه أم عمرو القرديّة، و كان أيسر القوم و أكثرهم مالا.
و قال أبو عمرو: و غزا أبو خراش فهما(5)، فأصاب منهم عجوزا، و أتى بها منزل قومه، فدفعها إلى شيخ منهم، و قال: احتفظ بها حتى آتيك، و انطلق لحاجته، فأدخلته بيتا صغيرا، و أغلقت عليه، و انطلقت، فجاء أبو خراش، و قد ذهبت، فقال:
سدّت عليه دولجا يمّمت *** بني فالج بالليث أهل الخزائم(6)
/الدولج: بيت صغير يكون للبهم، و الليث: ماء لهم، و الخزائم البقر واحدتها خزومة.
و قالت له: دنّخ مكانك إنني *** سألقاك إن وافيت أهل المواسم
يقال: دنّخ الرجل و دمّخ إذا أكبّ على وجهه و يديه.
و قال أبو عمرو: دخلت أميمة امرأة عروة بن مرة على أبي خراش و هو يلاعب ابنه فقالت له: يا أبا خراش تناسيت عروة، و تركت الطلب بثأرة، و لهوت مع ابنك، أما و اللّه لو كنت المقتول ما غفل عنك، و لطلب قاتلك حتى يقتله، فبكى أبو خراش، و أنشأ يقول:
لعمري لقد راعت أميمة طلعتي *** و إنّ ثوائي عندها لقليل(7)
ص: 146
و قالت: أراه بعد عروة لاهيا *** و ذلك رزء لو علمت جليل
فلا تحسبي أني تناسيت فقده *** و لكنّ صبري يا أميم جميل(1)
أ لم تعلمي أن قد تفرّق قبلنا *** نديما صفاء مالك و عقيل(2)
أبى الصبر أنّي لا يزال يهيجني *** مبيت لنا فيما خلا و مقيل(3)
و أني إذا ما الصّبح آنست ضوأه *** يعادوني قطع عليّ ثقيل(4)
/قال أبو عمرو: فأما أبو جندب أخو أبي خراش فإنه كان جاور بني نفاثة بن عديّ بن الدّيل حينا من الدهر، ثم إنهم هموا بأن يغدروا به، و كانت له إبل كثيرة فيها أخوه جنادة، فراح عليه أخوه جنادة ذات ليلة، و إذا به كلوم، فقال له أبو جندب: مالك؟ فقال: ضربني رجل من جيرانك، فأقبل أبو جندب، حتى أتى جيرانه من بني نفاثة، فقال لهم: يا قوم، ما هذا الجوار؟ لقد كنت أرجو من جواركم خيرا من هذا، أ يتجاور أهل الأعراض بمثل هذا؟.
فقالوا: أ و لم يكن بنو لحيان(5)، يقتلوننا، فو اللّه ما قرّت دماؤنا، و ما زالت تغلي، و اللّه إنك للثّار المنيم(6)، فقال: أما إنه لم يصب أخي إلاّ خير، و لكنما هذه معاتبة لكم، و فطن للذي يريد القوم من الغدر به، و كان بأسفل دفاق(7)، فأصبحوا ظاعنين، و تواعدوا ماء(8) ظرّ، فنفذ الرجال إلى الماء، و أخّروا النساء لأن يتبعنهم إذا نزلوا، و اتخذوا الحياض للإبل، فأمر أبو جندب أخاه جنادة و قال له: اسرح مع نعم القوم.
ثم توقّف، و تأخّر، حتى تمرّ عليك النّعم كلّها، و أنت في آخرها سارح بإبلك، و اتركها متفرقة في المرعى، فإذا غابوا عنك فاجمع إبلك، و اطردها نحو أرضنا، و موعدك نجد ألوذ ثنيّة(9)، في طريق بلاده، و قال لامرأته أمّ زنباع و هي من بني كلب بن عوف: اظعني و تمكّثي، حتى تخرج آخر ظعينة من النساء.
ثم توجّهي، فموعدك ثنيّة يدعان من جانب النخلة، و أخذ أبو جندب دلوه، /و ورد مع الرجال، فاتّخذ القوم الحياض، و اتخذ أبو جندب حوضا، فملأه ماء، ثم قعد عنده، فمرّت به إبل ثمّ إبل، فكلّما وردت إبل سأل عن إبله فيقولون: قد بلغت، تركناها بالضّجن(10).
ثم قدمت النساء كلما قدمت ظعينة سألها عن أهله، فيقولون: بلغتك، تركناها تظعن، حتى إذا ورد آخر النّعم
ص: 147
و آخر الظّعن قال: و اللّه لقد حبس أهلي حابس، أبصر يا فلان، حتى أستأنس أهلي و إبلي، و طرح دلوه على الحوض.
ثم ولّى، حتى أدرك القوم بحيث وعدهم، فقال أبو جندب في ذلك:
أقول لأمّ زنباع أقيمي *** صدور العيس شطر بني تميم(1)
و غرّبت الدّعاء و أين منّي *** أناس بين مرّ و ذي يدوم(2)
غربت الدّعاء: دعوت من بعيد.
و حيّ بالمناقب قد حموها *** لدى قرّان حتى بطن ضيم(3)
و أحياء لدى سعد بن بكر *** بأملاح فظاهرة الأديم(4)
أولئك معشري و هم أرومي *** و بعض القوم ليس بذي أروم(5)
هنالك لو دعوت أتاك منهم *** رجال مثل أرمية الحميم
الأرمية: السحاب الشديد الوقع، واحدها رميّ، و الحميم: مطر القيظ.
أقلّ اللّه خيرهم أ لمّا *** يدعهم بعض شرّهم القديم(6)
/أ لمّا يسلم الجيران منهم *** و قد سال الفجاج من الغميم(7)
غداة كأنّ جنّاد بن لبنى *** به نضخ العبير من الكلوم(8)
دعا حولي نفاثة ثم قالوا: *** لعلك لست بالثّأر المنيم
المنيم: الذي إذا أدرك استراح أهله و ناموا.
نعوا من قتّلت لحيان منهم *** و من يغترّ بالحرب القروم(9)
قالوا جميعا: و كان أبو جندب ذا شرّ و بأس، و كان قومه يسمونه المشئوم، فاشتكى شكوى شديدة، و كان له جار من خزاعة يقال له حاطم، فوقعت به بنو لحيان، فقتلوه قبل أن يستبلّ (10) أبو جندب من مرضه، و استاقوا أمواله، و قتلوا امرأته، و قد كان أبو جندب كلّم قومه، فجمعوا لجاره غنما، فلما أفاق أبو جندب من مرضه خرج من أهله، حتى قدم مكة، ثم جاء يمشي، حتى استلم الركن، و قد شق ثوبه عن استه، فعرف الناس أنه يريد شرا، فجعل يصيح و يقول:
ص: 148
إني امرؤ أبكي على جاريّة *** أبكي على الكعبيّ و الكعبيّة(1)
و لو هلكت بكيا عليه *** كانا مكان الثوب من حقويّة(2)
/فلما فرغ من طوافه، و قضى حاجته من مكة خرج في الخلعاء من بكر و خزاعة، فاستجاشهم على بني لحيان، فقتل منهم قتلى، و سبى من نسائهم و ذراريهم سبايا، و قال في ذلك:
لقد أمسى بنو لحيان منّي *** بحمد اللّه في خزي مبين
تركتهم على الرّكبات صعرا *** يشيبون الذّوائب بالأنين(3)
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ، قال: حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ قال: حدثني عمي قال:
هاجر خراش بن أبي خراش الهذليّ في أيام عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، و غزا مع المسلمين، فأوغل في أرض العدو، فقدم أبو خراش المدينة، فجلس بين يدي عمر، و شكا إليه شوقه إلى ابنه، و أنه رجل قد انقرض أهله، و قتل إخوته، و لم يبق له ناصر و لا معين غير ابنه خراش، و قد غزا و تركه، و أنشأ يقول:
ألا من مبلغ عني خراشا *** و قد يأتيك بالنّبإ البعيد
و قد يأتيك بالأخبار من لا *** تجهّز بالحذاء و لا تزيد
- تزيد و تزوّد واحد، من الزاد -
يناديه ليغبقه كليب *** و لا يأتي، لقد سفه الوليد(4)
/فردّ إناءه لا شيء فيه *** كأنّ دموع عينيه الفريد(5)
و أصبح دون عابقه و أمسى *** جبال من حرار الشام سود(6)
ألا فاعلم خراش بأنّ خبر الم *** هاجر بعد هجرته زهيد(7)
رأيتك و ابتغاء البرّ دوني *** كمحصور اللّبان و لا يصيد(8)
قال: فكتب عمر رضي اللّه عنه بأن يقبل خراش إلى أبيه، و ألا يغزو من كان له أب شيخ إلا بعد أن يأذن له.
ص: 149
أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ، قال: حدثنا عمر بن شبة: قال: حدثنا الأصمعيّ. و أخبرني حبيب بن نصر، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدثنا عليّ بن الصبّاح، عن ابن الكلبيّ، عن أبيه.
و أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدثنا أبو غسّان دماذ: قال أبو عبيدة:
و أخبرني أيضا هاشم، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ، عن عمه، و ذكره أبو سعيد السكري في رواية الأخفش عنه عن أصحابه، قالوا جميعا:
أسلم أبو خراش فحسن إسلامه، ثم أتاه نفر من أهل اليمن قدموا حجّاجا، فنزلوا بأبي خراش و الماء منهم غير بعيد، فقال: يا بني عمي، ما أمسى عندنا ماء، و لكن هذه شاة و برمة و قربة، فردوا الماء، و كلوا شاتكم، ثم دعوا برمتنا و قربتنا على الماء، حتى نأخذها، قالوا: و اللّه ما نحن بسائرين في ليلتنا هذه، و ما نحن ببارحين حيث أمسينا، فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته، و سعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى، ثم أقبل/صادرا، فنهشته حية قبل أن يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء، و قال: اطبخوا شاتكم و كلوا و لم يعلمهم بما أصابه، فباتوا على شاتهم يأكلون حتى أصبحوا، و أصبح أبو خراش في الموت، فلم يبرحوا حتى دفنوه، و قال و هو يعالج الموت:
لعمرك و المنايا غالبات *** على الإنسان تطلع كلّ نجد
لقد أهلكت حيّة بطن أنف *** على الأصحاب ساقا ذات فقد(1)
و قال أيضا:
لقد أهلكت حية بطن أنف *** على الأصحاب ساقا ذات فضل
فما تركت عدوّا بين بصرى *** إلى صنعاء يطلبه بذحل(2)
قال: فبلغ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه خبره، فغضب غضبا شديدا، و قال: لو لا أن تكون سبّة لأمرت ألاّ يضاف يمان أبدا، و لكتبت بذلك إلى الآفاق. إن الرجل ليضيف أحدهم، فيبذل مجهوده فيسخطه(3) و لا يقبله منه، و يطالبه بما لا يقدر عليه، كأنه يطالبه بدين، أو يتعنّته ليفضحه، فهو يكلفه التكاليف، حتى أهلك ذلك من فعلهم رجلا مسلما، و قتله، ثم كتب إلى عامله باليمن بأن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرّمهم ديته، و يؤدبهم بعد ذلك بعقوبة تمسهم جزاء لأعمالهم.
16 - أخبار ابن دارة و نسبه(1)
هو عبد الرحمن بن مسافع بن دارة، و قيل: بل هو عبد الرحمن بن ربعيّ بن مسافع بن دارة، و أخوه مسافع بن دارة، و كلاهما شاعر، و في شعريهما جيعا غناء يذكر هاهنا و أخوهما سالم بن مسافع بن دارة شاعر أيضا و في بعض شعره غناء يذكر بعد أخبار هذين. فأما سالم فمخضرم قد أدرك الجاهلية و الإسلام. و أما هذان فمن شعراء الإسلام، و دارة لقب غلب على جدّهم، و مسافع أبوهم، و هو ابن شريح بن يربوع الملقب بدارة بن كعب بن عديّ بن جشم بن عوف بن بهثة بن عبد اللّه بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر. و هذا الشعر يقوله عبد الرحمن في حبس السّمهريّ العكليّ اللص و قتله و كان نديما له و أخا.
أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعيّ، قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة قال:(2) لما أخذ السمهريّ العكليّ و حبس و قتل، - و كانت بنو أسد أخذته و بعثت به إلى السلطان و كان نديما لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة، فقتل بعد طول حبس - فقال(3) عبد الرحمن بن مسافع يهجو بني أسد و يحرّض عليهم عكلا.
إن يمس بالعينين سقم فقد أتى *** لعينيك من طول البكاء على جمل(4)
تهيم بها لا الدهر فان و لا المنى *** سواها و لا تسلى بنأي و لا شغل(5)
/كبيضة أدحيّ بميث خميلة *** يحفّفها جون بجؤجئه الصّعل(6)
و ما الشمس تبدو يوم غيم فأشرقت *** على الشّامة العنقاء فالنّير فالذبل(7)
بدا حاجب منها و ضنّت بحاجب *** بأحسن منها يوم زالت على الحمل(8)
ص: 151
يقولون: ازل حبّ جمل و قربها *** و قد كذبوا ما في المودة من ازل(1)
إذا شطحت عنّي وجدت حرارة *** على كبدي كادت بها كمدا تغلي(2)
و لم أر محزونين أجمل لوعة *** على نائبات الدهر منّي و من جمل
كلانا يذود النفس و هي حزينة *** و يضمر وجدا كالنوافذ بالنبل(3)
و إني لمبلي اليأس من حبّ غيرها *** فأمّا على جمل فإني لا أبلي(4)
و إنّ شفاء النفس لو تسعف المنى *** ذوات الثنايا الغرّ و الحدق النّجل
أولئك إن يمنعن فالمنع شيمة *** لهنّ و إن يعطين يحمدن بالبذل
سأمسك بالوصل الذي كان بيننا *** و هل ترك الواشون و النأي من وصل(5)
ألا سقّياني قهوة فارسية *** من الأوّل المختوم ليست من الفضل(6)
/تنسّي ذوي الأحكام و اللبّ حلمهم *** إذا أزبدت في دنّها زبد الفحل(7)
و يا راكبا إمّا عرضت فبلّغن *** على نأيهم مني القبائل من عكل
بأنّ الذي أمست تجمجم فقعس *** إسار بلا أسر و قتل بلا قتل(8)
و كيف تنام الليل عكل و لم تنل *** رضى قود بالسمهريّ و لا عقل؟(9)
فلا صلح حتى تنحط الخيل في القنا *** و توقد نار الحرب بالحطب الجزل(10)
و جرد تعادي بالكماة كأنها *** تلاحظ من غيظ بأعينها القبل(11)
عليها رجال جالدوا يوم منعج *** ذوي التاج ضربوا الملوك على الوهل(12)
بضرب يزيل الهام عن مستقرّه *** و طعن كأفواه المفرّجة الهدل(13)
ص: 152
علام تمشّى فقعس بدمائكم *** و ما هي بالفرع المنيف و لا الأصل؟(1)
و كنّا حسبنا فقعسا قبل هذه *** أذلّ على وقع الهوان من النّعل
فقد نظرت نحو السماء و سلّمت *** على الناس و اعتاضت بخصب من المحل
/رمى اللّه في أكبادكم أن نجت بها *** شعاب القنان من ضعيف و مع وغل(2)
و إن أنتم لم تثأروا بأخيكم *** فكونوا نساء للخلوق و للكحل(3)
و بيعوا الرّدينيات بالحلي و اقعدوا *** على الذلّ و ابتاعوا المغازل بالنّبل(4)
ألا حبّذا من عنده القلب في كبل *** و من حبّة داء و خبل من الخبل(5)
و من هو لا ينسى و من كلّ قوله *** لدينا كطعم الراح أو كجنى النّحل
و من إن نأى لم يحدث النأي بغضه *** و من إن دنا في الدار أرصد بالبذل(6)
و أمّا خبر السمهريّ و مقتله فإن عليّ بن سليمان الأخفش أخبرني به قال: حدثنا أبو سعيد السّكّريّ قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن أبي عمرو الشيبانيّ قال:
لقي السّمهريّ بن بشر بن أقيش(7) بن مالك بن الحارث بن أقيش العكلي و يكنى أبا الديل هو و بهدل و مروان بن قرفة الطائيان عون بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب و معه خاله: أحد بني حارثة بن لأم من طيء بالثعلبية، و هو يريد الحج من الكوفة، أو يريد المدينة، و زعم آخرون أنهم لقوه بين نخل و المدينة، فقالوا له: العراضة، أي مر لنا بشيء فقال: يا غلام(8)، جفّن لهم، فقالوا: لا و اللّه ما الطعام/نريد، فقال: عرّضهم(9)، فقالوا: و لا ذلك نريد، فارتاب بهم، فأخذ السيف فشدّ عليهم، و هو صائم، و كان بهدل لا يسقط له سهم، فرمى عونا فأقصده، فلما قتلوه ندموا، فهربوا، و لم يأخذوا إبله، فتفرقت إبله، و نجا خاله الطائي، إما عرفوه فكفوا عن قتله، و إما هرب و لم يعرف القتلة، فوجد بعض إبله في يدي شافع بن واتر الأسديّ.
و بلغ عبد الملك بن مروان الخبر فكتب إلى الحجاج بن يوسف، و هو عامله على العراق، و إلى هشام بن
ص: 153
إسماعيل، و هو عامله على المدينة، و إلى عامل اليمامة أن يطلبوا قتلة عون، و يبالغوا في ذلك؛ و أن يأخذوا السّعاة به أشد أخذ، و يجعلوا لمن دلّ عليهم جعله(1)، و انشام(2) السمهريّ في بلاد غطفان في بلاد ما شاء اللّه.
ثم مرّ بنخل، فقالت عجوز من بني فزارة: أظن و اللّه هذا العكليّ الذي قتل عونا، فوثبوا عليه، فأخذوه، و مر أيوب بن سلمة المخزوميّ بهم، فقالت له بنو فزارة: هذا العكليّ قاتل عون ابن عمك، فأخذه منهم، فأتى به هشام بن إسماعيل المخزومي عامل عبد الملك على المدينة، فجحد و أبى أن يقرّ، فرفعه إلى السجن فحبسه.
و زعم آخرون أن بني عذرة أخذوه فلما عرفت إبل عون في يدي شافع بن واتر اتهموه بقتله، فأخذوه، و قالوا:
أنت قرفتنا(3)، قتلت عونا، و حبسوه بصلّ: ماء لبني أسد، و جحد، و قد كان عرف من قتله، إما أن يكون كان معهم، فورّي عنهم، و برأ نفسه، و إما أن يكون أودعوها إياه، أو باعوها منه، فقال شافع:
/فإن سرّكم أن تعلموا أين ثأركم *** فسلمى معان و ابن قرفة ظالم(4)
و في السجن عكليّ شريك لبهدل *** فولّوا ذباب السّيف من هو حازم(5)
فو اللّه ما كنا جناة و لا بنا *** تأوّب عونا حتفه و هو صائم(6)
فعرفوا من قتله، فألحّوا على بهدل في الطلب، و ضيقوا على السمهريّ في القيود و السجن، و جحد، فلما كان ذلك من إلحاحهم على السمهريّ أيقنت نفسه أنه غير ناج، فجعل يلتمس الخروج من السجن، فلما كان يوم الجمعة و الإمام يخطب، و قد شغل الناس بالصلاة فكّ إحدى حلقتي قيده، و رمى بنفسه من فوق السجن، و الناس في صلاتهم، فقصد نحو الحرة، فولج غارا من الحرة، و انصرف الإمام من الصلاة فخاف أهل المدينة عامتهم أتباعه، و غلقوا أبوابهم، و قال لهم الأمير: اتّبعوه فقالوا: و كيف نتبعه وحدنا، فقال لهم: أنتم ألفا رجل، فكيف تكونون وحدكم؟ فقالوا: أرسل معنا الأبلّيّين؛ و هم حرس و أعوان من أهل الأبلّة، فأعجزهم الطلب، فلما أمسى كسر الحلقة الأخرى، ثم همس(7) ليلته طلقا، فأصبح و قد قطع أرضا بعيدة، فبينا هو يمضي إذ نعب غراب عن شماله، فتطيّر، فإذا الغراب على شجرة بان ينشنش(8) ريشه، و يلقيه، فاعتاف(9) شيئا في نفسه، فمضى، و فيها ما فيها، فإذا هو قد لقي راعيا في وجهه ذلك، فسأله: من أنت؟ قال: رجل من لهب من أزد شنوءة أنتجع أهلي، فقال له:
هل عندك شيء من زجر قومك؟ فقال: إني لآنس من ذلك شيئا أي/لأبصر، فقص عليه حاله غير أنه ورّى(10)الذّنب على غيره و العيافة، و خبّره عن الغراب و الشجرة، فقال اللّهبيّ: هذا الذي فعل ما فعل، و رأى الغراب على
ص: 154
البانة يطرح ريشه سيصلب، فقال السمهريّ: بفيك(1) الحجر، فقال اللهبي: بل بفيك الحجر، استخبرتني فأخبرتك ثم تغضب. ثم مضى حتى اغترز في بلاد قضاعة، و ترك بلاد غطفان(2) و ذكر بعض الرواة أنه توقف يومه و ليلته فيما يعمله؛ و هل يعود من حيث جاء ثم سار(3). حتى أتى أرض عذرة بن سعد يستجير القوم فجاء إلى القوم متنكرا، و يستحلب الرعيان اللبن، فيحلبون له، و لقيه عبد اللّه الأحدب السعديّ: أحد بني مخزوم من بني عبد شمس، و كان أشدّ منه و ألصّ، فجنى جناية، فطلب، فترك بلاد تميم، و لحق ببلاد قضاعة، و هو على نجيبة لا تساير، فبينا السمهري يماشي راعيا لبني عذرة، و يحدثه عن خيار إبلهم، و يسأله السمهريّ عن ذلك - و إنما يسأله عن أنجاهنّ ليركبها. فيهرب بها، لئلا يفارق الأحدب - أشار له إلى ناقة، فقال السمهري: هذه(4) خير من التي تفضلها، هذه لا تجاري، فتحيّن الغفلة، فلما غفل وثب عليها، ثم صاح بها فخرجت تطير به، و ذلك في آخر الليل، فلما أصبحوا فقدوها، و فقدوه، فطلبوه في الأثر. و خرجا(5) حتى إذا كان حجر عن يسارهما، و هو واد في جبل، أو شبه الثقب فيه استقبلتهما سعة هي أوسع من الطريق، فظنا أن الطريق فيها، فسارا مليا فيها، و لا نجم يأتمان به، فلما عرفا أنهما حائدان، و التفت عليهما الجبال أمامهما، و جدّ الطلب إثر بعيريهما، و رواه و قد سلك الثقب في غير طريق عرفوا أنه سيرجع، فقعدوا له(6) بفم الثقب ثم كرا راجعين، /و جاءت الناقة، و على رأسها مثل الكوكب من لغامها، فلما أبصر القوم همّ أن يعقر ناقتهم، فقال له الأحدب: ما هذا جزاؤها. فنزل، نزل الأحدب، فقاتلهما القوم، حتى كادوا(7) يغشون السّمهريّ فهتف بالأحدب، فطرد عنه القوم، حتى توقلا في الجبل، و في ذلك يقول السّمهريّ يعتذر من ضلاله:
و ما كنت - محيارا و لا فزع السّرى *** و لكن حذا حجر بغير دليل(8)
و قال الأحدب في ذلك:
لمّا دعاني السمهريّ أجبته *** بأبيض من ماء الحديد صقيل
و ما كنت ما اشتدّت على السيف قبضتي *** لأسلم من حبّ الحياة زميلي
و قال السّمهريّ أيضا:
نجوت و نفسي عند ليلى رهينة *** و قد غمّني داج من الليل دامس(9)
و غامست عن نفسي بأخلق مقصل *** و لا خير في نفس امرئ لا تغامس(10)
و لو أن ليلى أبصرتني غدوة *** و مطواي و الصفّ الذين أمارس(11)
ص: 155
إذا لبكت ليلى عليّ و أعولت *** و ما نالت الثوب الذي أنا لابس(1)
فرجع إلى صحراء منعج، و هي إلى جنب أضاخ، و الحلّة قريب منها، و فيها منازل عكل، فكان يتردد و لا يقرب الحلة، و قد كان أكثر الجعل فيه، فمرّ بابني فائد/ابن حبيب من بني أسد، ثم من بني فقعس فقال: أجيرا متنكرا، فحلبا له، فشرب و مضى لا يعرفانه، و ذهبا، ثم لبث السمهري ساعة، و كرّ راجعا فتحدث إلى أخت ابني فائد، فوجداه منبطحا على بطنه يحدثها، فنظر أحدهما إلى ساقه مكدّحة(2)، إذا كدوح طريّة، فأخبر أخاه بذلك، فنظر، فرأى ما أخبره أخوه، فارتابا به، فقال أحدهما: هذا و اللّه السمهريّ الذي جعل فيه ما جعل، فاتفقا على مضابرته(3)، فوثبا عليه، فقعد أحدهما على ظهره، و أخذ الآخر برجليه فوثب السمهري، فألقى الذي على ظهره، و قال: أ تلعبان؟ و قد ضبط رأس الذي كان على ظهره تحت إبطه، و عالجه الآخر، فجعل(4) رأسه تحت إبطه أيضا، و جعلا يعالجانه، فناديا أختهما أن تعينهما، فقالت: أ لي الشّرك في جعلكما؟ قالا: نعم، فجاءت بجرير(5) فجعلته في عنقه بأنشوطه ثم جذبته، و هو مشغول بالرّجلين يمنعهما، فلما استحكمت العقدة، و راحت من علابيّه(6) خلى عنهما، و شد أحدهما، فجاء بصرار(7)، فألقاه في رجله، و هو يداور الآخر، و الأخرى تخنقه؛ فخرّ لوجهه، فربطاه، ثم انطلقا به إلى عثمان بن حيان المرّيّ، و هو في إمارته على المدينة فأخذا ما جعل لأخذه، فكتب فيه إلى الخليفة، فكتب أن أدفعه إلى ابن أخي عون: عدي، فدفع إليه، فقال السمهريّ: أ تقتلني و أنت لا تدري أقاتل عمك أنا أم لا؟ ادن أخبرك، فأراد الدّنوّ منه، فنودي: إياك و الكلب، و إنما أراد أن يقطع أنفه، فقتله بعمه. و لما حبسه ابن حيّان في السجن تذكر زجر اللّهبيّ و صدقه، فقال:
ألا أيّها البيت الذي أنا هاجره *** فلا البيت منسىّ و لا أنا زائره
/ألا طرقت ليلى و ساقي رهينة *** بأشهب مشدود عليّ مسامره(8)
فإن أنج يا ليلى فربّ فتى نجا *** و إن تكن الأخرى فشيء أحاذره
و ما أصدق الطير التي برحت لنا *** و ما أعيف اللّهبيّ لا عزّ ناصره(9)
رأيت غرابا ساقطا فوق بانة *** ينشنش أعلى ريشه و يطايره(10)
فقال غراب باغتراب من النوى *** و بان ببين من حبيب تحاذره(11)
ص: 156
فكان اغتراب بالغراب ونية *** و بالبان بين بيّن لك طائره(1)
و قال السّمهري في الحبس يحرض أخاه مالكا على ابني فائد:
فمن مبلغ عنّي خليلي مالكا *** رسالة مشدود الوثاق غريب
و من مبلغ حزما و تيما و مالكا *** و أرباب حامي الحفر رهط شبيب
ليبكوا التي قالت بصحراء منعج *** لي الشّرك يا بني فائد بن حبيب(2)
أ تضرب في لحمي بسهم و لم يكن *** لها في سهام المسلمين نصيب(3)
/و قال السمهريّ يرقّق بني أسد:
تمنّت سليمى أن أقيل بأرضها *** و أنّي لسلمى ويبها ما تمنّت(4)
ألا ليت شعري هل أزورنّ ساجرا *** و قد رويت ماء الغوادي و علّت(5)
بني أسد هل فيكم من هوادة *** فتغفر إن كانت بي النعل زلّت(6)
و بنو تميم تزعم أن البيت لمرة بن محكان السعديّ.
و قال السمهريّ في الحبس يذم قومه:
لقد جمع الحدّاد بين عصابة *** تسائل في الأقياد ما ذا ذنوبها(7)
بمنزلة أمّا اللئيم فشامت *** بها و كرام القوم باد شحوبها(8)
إذا حرسيّ قعقع الباب أرعدت *** فرائص أقوام و طارت قلوبها(9)
ألا ليتني من غير عكل قبيلتي *** و لم أدر ما شبّان عكل و شيبها؟
قبيلة «من» لا يقرع الباب وفدها *** لخير و لا يهدي الصواب خطيبها(10)
/نرى الباب لا نستطيع شيئا وراءه *** كأنّا قنيّ أسلمتها كعوبها(11)
ص: 157
و إن تك عكل سرّها ما أصابني *** فقد كنت مصبوبا على ما يريبها(1)
و قال السمهريّ أيضا في الحبس:
ألا حيّ ليلى إذ ألمّ لمامها *** و كان مع القوم الأعادي كلامها(2)
تعلّل بليلى إنما أنت هامة *** من الغد يدنو كلّ يوم حمامها(3)
و بادر بليلى أوجه الركب إنهم *** متى يرجعوا يحرم عليك كلامها(4)
و كيف ترجّيها و قد حيل دونها *** و أقسم أقوام مخوف قسامها(5)
لأجتنبنها أو ليبتدرنّني *** ببيض عليها الأثر فعم كلامها(6)
لقد طرقت ليلى و رجلي رهينه *** فما راعني في السجن إلا لمامها(7)
فلمّا انتبهت للخيال الذي سرى *** إذا الأرض قفر قد علاها قتامها
/فإلاّ تكن ليلى طوتك فإنه *** شبية بليلى حسنها و قوامها(8)
ألا ليتنا نحيا جميعا بغبطة *** و تبلى عظامي حين تبلى عظامها
و قال أيضا:
ألا طرقت ليلى و ساقي رهينة *** بأسمر مشدود عليّ ثقيل(9)
فما البين يا سلمى بأن تشحط النّوى *** و لكنّ بينا ما يريد عقيل(10)
فإن أنج منها أنج من ذى عظيمة *** و إن تكن الأخرى فتلك سبيل(11)
و قال أيضا و هو طريد:
فلا تيأسا من رحمة اللّه و انظرا *** بوادي جبونا أن تهبّ شمال(12)
ص: 158
و لا تيأسا أن ترزقا أريحيّة *** كعين المها أعناقهنّ طوال(1)
من الحارثيّين الذين دماؤهم *** حرام و أما مالهم فحلال
و قال أيضا:
أ لم تر أنّي و ابن أبيض قد جفت *** بنا الأرض إلا أن نؤمّ الفيافيا(2)
/طريدين من حيّين شتى أشدّنا *** مخافتنا حتى نخلنا التّصافيا(3)
و ما لمته في أمر حزم و نجدة *** و لا لامني في مرّتي و احتياليا
و قلت له إذ حلّ يسقي و يستقي *** و قد كان ضوء الصبح للّيل حاديا:
لعمري لقد لاقت ركابك مشربا *** لئن هي لم تضبح عليهنّ عاليا(4)
و أخذت طيّئ ببهدل و مروان أخيه أشدّ الأخذ، و حبسوا، فقالوا: إن حبسنا لم نقدر عليهما و نحن محبوسون، و لكن خلّوا عنا، حتى نتجسّس عنهما، فنأتيكم بهما، و كانا تأبدا مع الوحش يرميان الصّيد فهو رزقهما.
و لما طال ذلك على مروان هبط إلى راع، فتحدث إليه فسقاه، و بسطه، حتى اطمأن إليه، و لم يشعره أنه يعرفه، فجعل يأتيه بين الأيام، فلا ينكره، فانطلق الراعي، فأخبره باختلافه إليه، فجاء معه الطلب، و أكمنهم، حتى إذا جاء مروان إلى الراعي كما كان يفعل سقاه، و حدثه فلم يشعر حتى أطافوا به، فأخذوه، و أتوا به عثمان بن حيان أيضا عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة، فأعطى الذي دلّ عليه جعله، و قتله.
و أما بهدل فكان يأوي إلى هضبة سلمى، فبلغ ذلك سيّدا من سلمى(5)، من طيء، فقال: قد أخيفت طيّ ء، و شرّدت من السهل من أجل هذا الفاسق الهارب، فجاء حتى حلّ بأهله أسفل تلك الهضبة و معه أهلات(6) من قومه، فقال لهم: إنكم بعيني الخبيث، فإذا كان النهار فليخرج الرجال من البيوت، /و ليخلوا النساء، فإنه إذا رأى ذلك انحدر إلى القباب، و طلب الحاجة و العلّ (7) فكانوا يخلون الرجال نهارا فإذا أظلموا ثابوا إلى رحالهم أياما، فظنّ بهدل أنهم يفعلون ذلك لشغل يأتيهم، فانحدر إلى قبة السّيّد، و قد أمر النساء: إن انحدر إليكن رجل فإنه ابن عمكن، فأطعمنه و ادهنّ رأسه.
و في قبة السيد ابنتان له فسألهما: من أنتما؟ فأخبرتاه، و أطعمتاه، ثم انصرف فلما راح أبوهما أخبرتاه، فقال:
ص: 159
أحسنتما إلى ابن عمكما، فجعل ينحدر إليهما، حتى اطمأنّ، و غسلتا رأسه، و فلّتاه و دهنتاه، فقال الشيخ لابنتيه:
أفلياه، و لا تدهناه إذا أتاكما هذه المرة، و اعقدا خصل لمّته إذا نعس رويدا بخمل القطيفة.
ثم إذا شددنا عليه فأقلبا القطيفة على وجهه، و خذا أنتما بشعره من ورائه فمدّا به إليكما، ففعلتا، و اجتمع له أصحابه، فكروا إلى رحالهم قبل الوقت الذي كانوا يأتونها، و شدّوا عليه، فربطوه، فدفعوه إلى عثمان بن حيّان، فقتله، فقالت بنت بهدل ترثيه:
فيا ضيعة الفتيان إذ يعتلونه *** ببطن الشّرى مثل الفنيق المسدم(1)
دعا دعوة لما أتى أرض مالك *** و من لا يجب عند الحفيظة يسلم(2)
/أ ما كان في قيس من ابن حفيظة *** من القوم طلاّب التّرات غشمشم(3)
فيقتل جبرا بامرئ لم يكن به *** بواء و لكن لا تكايل بالدم(4)
و كان دعا: يا لمالك لينتزعوه، فلم يجبه أحد.
قال: و لما قال عبد الرحمن بن دارة ابن عم سالم بن دارة هذه القصيدة(5) يحضّ عكلا على بني فقعس اعترض الكميت بن معروف الفقعسيّ، فعيره بقتل سالم حين قتله زميل الفزاريّ، فقال قوله:
فلا تكثروا فيه الضّجاج فإنه *** محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا
فقال عبد الرحمن بن دارة:
فيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن *** مغلغلة عنّي القبائل من عكل
جلت حمما عنها القصاف و ما جلت *** قشير و في الشّدّات و الحرب ما يجلي(6)
فإن بك باع الفقعسيّ دماءهم *** بوكس فقد كانت دماؤكم تغلي(7)
/و كيف تنام الليل عكل و لم يكن *** لها قود بالسّمهريّ و لا عقل(8)
ص: 160
رمى اللّه في أكبادهم إن نجت بها *** حروف القنان من ذليل و من وغل
و كنا حسبنا فقعسا قبل هذه *** أذلّ على طول الهوان من النّعل
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم *** فكونوا بغايا للخلوق و للكحل
و بيعوا الردينيّات بالحلي و اقعدوا *** على الوتر و ابتاعوا المغازل بالنّبل
فإنّ الذي كانت تجمجم فقعس *** قتيل بلا قتلى و تبل بلا تبل
فلا سلم حتى تنحط الخيل بالقنا *** و توقد نار الحرب بالحطب الجزل
فلما بلغ قوله مالكا أخا السمهريّ بخراسان، انحطّ من خراسان، حتى قدم بلاد عكل فاستجاش نفرا من قومه، فعلقوا(1) في أرض بني أسد يطلبون الغرّة فوجدوا بثادق(2) رجلا معه امرأة من فقعس، فقتلوه، و حزّوا رأسه، و ذهبوا بالرأس، و تركوا جسده، كما قتلوها أيضا، و ذكر لي: أن الرجل ابن سعدة و المرأة التي كانت معه هي سعدة أمّه، فقال عبد الرحمن في ذلك:
ما لقتيل فقعس لا رأس له *** هلاّ سألت فقعسا من جدّله(3)
لا يتبعنّ فقعسيّ جمله *** فردا إذا ما الفقعسيّ أعمله(4)
لا يلقينّ قاتلا فيقتله *** بسيفه قد سمّه و صقله(5)
/و قال عبد الرحمن أيضا:
لمّا تمالى القوم في رأد الضّحى *** نظرا و قد لمع السّراب فجالا(6)
نظر ابن سعدة نظرة ويلا لها *** كانت لصحبك و المطيّ خبالا(7)
لمحا رأى من فوق طود يافع *** بعض العداة و جنّة و ظلالا(8)
عيّرتني طلب الحمول و قد أرى *** لم آتهنّ مكفّفا بطّالا(9)
فانظر لنفسك يا بن سعدة هل ترى *** ضبعا تجرّ بثادق أوصالا
ص: 161
أوصال سعدة و الكميت و إنما *** كان الكميت على الكميت عيالا(1)
و قال عبد الرحمن في ذلك:
أصبحتم ثكلى لئاما و أصبحت *** شياطين عكل قد عراهنّ فقعس(2)
/قضى مالك ما قد قضى ثم قلّصت *** به في سواد الليل و جناء عرمس(3)
فأضحت بأعلى ثادق و كأنها *** محالة غرب تستمرّ و تمرس(4)
و حدثني علي بن سليمان الأخفش أنّ بني أسد ظفرت بعبد الرحمن بن دارة بالجزيرة بعد ما أكثر من سبّهم و هجائهم و تآمروا في قتله، فقال بعضهم: لا تقتلوه، و لتأخذوا عليه أن يمدحنا و نحسن إليه فيمحو بمدحه ما سلف من هجائه، فعزموا على ذلك، ثم إن رجلا منهم كان قد عضّه بهجائه، اغتفله فضربه بسيفه، فقتله و قال في ذلك:
قتل ابن دارة بالجزيرة سبّنا *** و زعمت أن سبابنا لا يقتل
قال علي بن سليمان: و قد روي أن البيت المتقدم:
فلا تكثروا فيه الضّجاج فإنه *** محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا
لهذا الشاعر الذي قتل ابن دارة، و هو من بني أسد، و هكذا ذكر السكّريّ.
17 - أخبار مسعود بن خرشة(1)
مسعود بن خرشة(2) أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، شاعر إسلامي بدويّ من لصوص بني تميم، قال أبو عمرو: و كان مسعود بن خرشة يهوى امرأة من قومه من بني مازن يقال لها: جمل بنت شراحيل، أخت تمّام بن شراحيل المازنيّ الشاعر، فانتجع قومها و نأوا عن بلادهم، فقال مسعود:
كلانا يرى الجوزاء يا جمل إذ بدت *** و نجم الثّريّا و المزار بعيد(3)
فكيف بكم يا جمل أهلا و دونكم *** بحور يقمّصن السّفين و بيد(4)
إذا قلت: قد حان القفول يصدّنا *** سليمان عن أهوائنا و سعيد(5)
قال أبو عمرو: ثم خطبها رجل من قومها، و بلغ ذلك مسعودا فقال:
أيا جمل لا تشقي بأقعس حنكل *** قليل النّدى يسعى بكير و محلب(6)
له أعنز حوّ ثمان كأنما *** يراهنّ غرّ الخيل أو هنّ أنجب(7)
و قال أبو عمرو: و سرق مسعود بن خرشة إبلا من مالك بن سفيان بن عمرو الفقعسيّ، هو و رفقاء له، و كان معه رجلان من قومه، فأتوا بها اليمامة ليبيعوها، /فاعترض عليهم أمير كان بها من بني أسد، ثم عزل و ولّي مكانه رجل من بني عقيل فقال مسعود في ذلك:
يقول المرجفون: أ جاء عهد *** كفى عهدا بتنفيذ القلاص(8)
أتى عهد الأمارة من عقيل *** أغرّ الوجه ركّب في النواصي(9)
ص: 163
حصون بني عقيل كلّ عضب *** إذا فزعوا و سابغة دلاص(1)
و ما الجارات عند المحل فيهم *** و لو كثر الروازح بالخماص(2)
قال: و قال مسعود «و قد»(3) طلبه و الي اليمامة، فلجأ إلى موضع فيه ماء و قصب:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** بوعثاء فيها للظباء مكانس(4)
و هل أنجون من ذي لبيد بن جابر *** كأنّ بنات الماء فيه المجالس(5)
و هل أسمعن صوت القطا تندب القطا *** إلى الماء منه رابع و خوامس(6)
ص: 164
18 - أخبار بحر و نسبه(1)
هو بحر بن العلاء، مولى بني أميّة، حجازيّ، أدرك دولة بني هاشم(2)، و عمّر إلى أيام الرشيد، و قد هرم، و كان له أخ يقال له عباس، و أخوه بحر أصغر منه، مات في أيام المعتصم، و كان يلقّب حامض الرأس، و له صنعة، و أقدمه الرشيد عليه، ثم كرهه، فصرفه.
حدثني جحظة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: حدثني أحمد بن أبي خالد الأحول، عن علي بن صالح صاحب المصلّى:
أن الرشيد سمع من علّوية و مخارق و هما يومئذ من صغار المغنّين في الطبقة الثالثة(3) أصواتا استحسنها، و لم يكن سمعها، فقال لهما: ممن أخذتما هذه الأصوات، فقالا: من بحر، فاستعادها، و شرب عليها، ثم غناه مخارق بعد أيام صوتا لبحر، فأمر بإحضاره، و أمره أن يغني ذلك الصوت، فغناه، فسمع الرشيد صوتا حائلا مرتعشا فلم يعجبه، و استثقله لولائه لبني أمية، فوصله، و صرفه، و لم يصل إليه بعد ذلك.
صوت(4)
ألا يا لقومي للنوائب و الدّهر *** و للمرء يردي نفسه و هو لا يدري
و للأرض كم من صالح قد تودّأت *** عليه فوارته بلمّاعة قفر
عروضه من الطويل، قال الأصمعي: يقال للرجل أو للقوم إذا دعوتهم: يا لكذا «بفتح اللام» و إذا دعوت للشيء. قلت بالكسرة، تقول: يا للرجال و يا للقوم. و تقول: يا للغنيمة و يا للحادثة، أي اعجلوا للغنيمة و للحادثة، فكأنه قال: يا قوم اعجلوا للغنيمة. و روى الأصمعي و غيره مكان قد تودّأت: قد تلمّأت عليه، و تلاءمت، أي وارته، و يروى: تأكمت أي صارت أكمة.
الشعر لهدبة بن خشرم، و الغناء لمعبد ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.
ص: 165
19 - أخبار هدبة بن خشرم و نسبه(1)و قصته في قوله هذا الشعر و خبر مقتله
هو هدبة بن خشرم(2) بن كرز بن أبي حيّة بن الكاهن - و هو سلمة - بن أسحم(3) بن عامر بن ثعلبة بن عبد اللّه بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم؛ و سعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف بن قضاعة؛ و يقال: بل هو سعد بن أسلم، و هذيم عبد لأبيه رباه، فقيل: سعد بن هذيم، يعني سعدا هذا.
و هدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز، و كان شاعرا راوية، كان يروي للحطيئة، و الحطيئة يروي لكعب بن زهير، و كعب بن زهير يروي لأبيه زهير، و كان جميل رواية هدبة، و كثير رواية جميل، فلذلك قيل: إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر كثير.
و كان لهدبة ثلاثة إخوة كلهم شاعر: حوط و سيحان و الواسع، أمهم حيّة بنت أبي بكر بن أبي حيّة من رهطهم الأدنين، و كانت شاعرة أيضا.
و هذا الشعر يقوله هدبة في قتله زيادة بن زيد بن مالك بن عامر بن قرّة بن حنش بن عمرو بن عبد اللّه بن ثعلبة بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم.
أخبرني بالخبر في ذلك جماعة من شيوخنا، فجمعت بعض روايتهم إلى بعض، و اقتصرت على ما لا بدّ منه من الأشعار، و أتيت بخبرهما على شرح، و ألحقت ما نقص من رواية بعضهم عن رواية صاحبه في موضع النقصان.
فممّن حدثني به محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكيّ: تينة قال: حدثنا خلف بن المثنى الحدانيّ (4)، عن أبي عمر و المدينيّ.
و أخبرني الحسن بن يحيى، و محمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجيّ، عن حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه.
و أخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ، عن ابن قتيبة.
و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، عن علي بن محمد بن سليمان النوفليّ، عن أبيه عن عمه. و قد نسبت
ص: 166
إلى كل واحد منهم ما انفرد به من الرواية، و جمعت ما اتفقوا عليه، قال عيسى بن إسماعيل في خبره خاصة:
كان أول ما هاج الحرب بين بني عامر بن عبد اللّه بن ذبيان و بين بني رقاش، و هم بنو قرّة بن حفش(1) بن عمرو بن عبد اللّه بن ثعلبة بن ذبيان، و هم رهط زيادة بن زيد، و بنو عامر رهط هدبة، أن حوط بن خشرم أخا هدبة راهن زيادة بن زيد على جملين من إبلهما، و كان مطلقهما(2) من الغاية على يوم و ليلة، و ذلك في القيظ، فتزودوا الماء في الروايا و القرب، و كانت أخت حوط سلمى بنت خشرم تحت زيادة بن زيد، فمالت مع أخيها على زوجها، فوهّنت أوعية زيادة، ففنى ماؤه قبل ماء صاحبه، فقال زيادة:
قد جعلت نفسي في أديم *** محرّم الدّباغ ذي هزوم
ثمّ رمت بي عرض الدّيموم *** في بارح من وهج السّموم(3)
عند اطّلاع و عرة النجوم(4)
- /قال اليزيديّ في خبره: المحرّم: الذي لم يدبغ، و الهزوم: الشقوق.
- قال: - و قال زيادة أيضا:
قد علمت سلمة بالعميس *** ليلة مرمار و مرمريس(5)
أنّ أبا المسور ذو شريس *** يشفي صداع الأبلج الدّلعيس(6)
العميس: موضع، و المرمار و المرمريس: الشّدة و الاختلاط، و أبا المسور يعني زيادة نفسه، و كانت كنيته أبا المسور.
قال: فكان ذلك أول ما أثبت الضغائن بينهما، ثم إن هدبة بن خشرم و زيادة بن زيد اصطحبا، و هما مقبلان من الشام، في ركب من قومهما، فكانا يتعاقبان السّوق بالإبل، و كان مع هدبة أخته فاطمة، فنزل زيادة فارتجز فقال:
عوجي علينا و اربعي يا فاطما *** ما دون أن يرى البعير قائما
- أي ما بين مناخ البعير إلى قيامه -.
أ لا ترين الدمع منّي ساجما *** حذار دار منك لن تلاءما(7)
فعرّجت مطّردا عراهما *** فعما يبذّ القطف الرّواسما(8)
ص: 167
- مطّرد: متتابع السير، و عراهم: شديد، و فعم: ضخم، و الرسيم: سير فوق العنق، و الرّواسم: الإبل التي تسير هذا السير الذي ذكرناه -.
/كأنّ في المثناة منه عائما *** إنّك و اللّه لأن تباغما(1)
- المثناة: الزمام، و عائم: سائح، تباغم: تكلّم -.
خودا كأنّ البوص و المآكما *** منها نقا مخالط صرائما(2)
- البوص: العجز، و المأكمتان: ما عن يمين العجز و شماله، و النقا: ما عظم من الرمل. و الصرائم: دونه -.
خير من استقبالك السّمائما *** و من مناد يبتغي معاكما(3)
و يروى: و من نداء، أي رجل(4) تناديه تبتغي أن يعينك على عكمك حتى تشده.
فغضب هدبة حين سمع زيادة يرتجز بأخته، فنزل فرجز بأخت زيادة، و كانت تدعى - فيما روى اليزيديّ - أمّ حازم، و قال الآخرون: أمّ القاسم، فقال هدبة:
لقد أراني و الغلام الحازما *** نزجي المطيّ ضمّرا سواهما(5)
متى تظنّ القلص الرّواسما *** و الجلّة النّاجية العياهما(6)
العياهم: الشّداد.
/يبلغن أمّ حازم و حازما *** إذا هبطن مستحيرا قاتما(7)
و رجّع الحادي لها الهماهما *** أ لا ترين الحزن مني دائما(8)
حذار دار منك لن تلاءما *** و اللّه لا يشفي الفؤاد الهائما(9)
تمساحك اللّبّات و المآكما *** و لا اللّمام دون أن تلازما(10)
و لا اللّئام دون أن تفاقما *** و لا الفقام دون أن تفاغما(11)
ص: 168
و تعلو القوائم القوائما
قال: فشتمه زيادة، و شتمه هدبة، و تسابّا طويلا، فصاح بهما القوم: اركبا، لا حملكما اللّه. فإنا قوم حجّاج، و خشوا أن يقع بينهما شر فوعظوهما، حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه، و هدبة أشدهما حنقا، لأنه رأى أن زيادة قد ضامه، إذ رجز بأخته و هي تسمع قوله، و رجز هو بأخته، و هي غائبة لا تسمع قوله، فمضيا و لم يتحاورا بكلمة، حتى قضيا حجّهما، و رجعا إلى عشيرتيهما.
قال اليزيديّ خاصة في خبره:
ثم التقى نفر من بني عامر، من رهط هدبة، فيهم أبو جبر، و هو رئيسهم الذي لا يعصونه، و خشرم أبو هدبة، و زفر عم هدبة، و هو الذي بعث الشّر، و حجّاج بن/سلامة، و هو أبو ناشب، و نفر من بني رفاش رهط زيادة، و فيهم زيادة بن زيد، و إخوته: عبد الرحمن و نفّاع و أدرع بواد من أودية حرّتهم، فكان بينهم كلام، فغضب ابن الغسّانية، و هو أدرع، و كان زفر عم هدبة يعزى إلى رجل من بني رقاش، فقام له أدرع فرجز به فقال:
أدّوا إلينا زفرا *** نعرف منه النّظرا
و عينه و الأثرا(1)
قال: فغضب رهط هدبة، و ادّعوا حدّا على بني رقاش، فتداعوا إلى السلطان، ثم اصطلحوا على أن يدفع إليهم أدرع، فيخلو به نفر منهم، فما رأوه عليه أمضوه، فلما خلوا به ضربوه الحدّ ضربا مبرّحا، فراح بنو رقاش و قد أضمروا الحرب و غضبوا، فقال عبد الرحمن بن زيد:
ألا أبلغ أبا جبر رسولا *** فما بيني و بينكم عتاب
أ لم تعلم بأن القوم راحوا *** عشية فارقوك و هم غضاب
فأجابه الحجاج بن سلامة فقال:
إن كان ما لاقى ابن كنعاء مرغما *** رقاش فزاد اللّه رغما سبالها(2)
منعنا أخانا إذا ضربنا أخاكم *** و تلك من الأعداء لا مثل مالها(3)
قال اليزيدي في خبره: و جعل هدبة و زيادة يتهاديان الأشعار، و يتفاخران، و يطلب/كلّ واحد منهما العلوّ على صاحبه في شعره، و ذكر أشعارا كثيرة، فذكرت بعضها، و أتيت بمختار ما فيه، فمن ذلك قول زيادة في قصيدة أولها:
أراك خليلا قد عزمت التّجنبا *** و قطّعت حاجات الفؤاد فأصحبا(4)
ص: 169
و أنك للناس الخليل إذا دنت *** به الدار، و الباكي إذا ما تغيّبا(1)
و قد أعذرت صرف الليالي بأهلها *** و شحط النّوى بيني و بينك مطلبا(2)
فلا هي تألو ما نأت و تباعدت *** و لا هو يألو ما دنا و تقرّبا(3)
أطعت بها قول الوشاة فلا أرى ال *** وشاة انتهوا عنه و لا الدهر أعتبا(4)
فهلاّ صرمت و الحبال متينة *** أميمة إن واش وشى و تكذّبا(5)
إذا خفت شكّ الأمر فارم بعزمه *** غيابته يركب بك الدهر مركبا
و إن وجهة سدّت عليك فروجها *** فإنّك لاق لا محالة مذهبا
يلام رجال قبل تجريب غيبهم *** و كيف يلام المرء حتى يجرّبا
و إنّي لمعراض قليل تعرّضي *** لوجه امرئ يوما إذا ما تجنّبا(6)
قليل عثارى حين أذعر، ساكن *** جناني إذا ما الحرب هرّت لتكلبا(7)
/بحسبك ما يأتيك فاجمع لنازل *** قراه و نوّبه إذا ما تنوّبا(8)
و لا تنتجع شرّا إذا حيل دونه *** بستر وهب أسبابه ما تهيّبا
أنا ابن رقاش و ابن ثعلبة الذي *** بني هاديا يعلو الهوادي أغلبا(9)
بنى العزّ بنيانا لقومي فماصعوا *** بأسيافهم عنه فأصبح مصعبا(10)
فما إن ترى في الناس أما كأمّنا *** و لا كأبينا حين ننسبه أبا
أتمّ و أنمي بالبنين إلى العلا *** و أكرم منا في المناصب منصبا(11)
ملكنا و لم نملك و قدنا و لم نقد *** كأنّ لنا حقا على الناس ترتبا
- قال اليزيديّ: ترتب: ثابت لازم -.
ص: 170
بآية أنّا لا نرى متتوّجا *** من الناس يعلونا إذا ما تعصّبا(1)
و لا ملكا إلا اتّقانا بملكه *** و لا سوقة إلا على الخرج أتعبا(2)
ملكنا ملوكا و استبحنا حماهم *** و كنّا لهم في الجاهلية موكبا(3)
ندامى و أردافا فلم تر سوقة *** توازننا فاسأل إيادا و تغلبا(4)
/فأجابه هدبة، و هذا مختار ما فيها فقال:
تذكر شجوا من أميمة منصبا *** تليدا و منتابا من الشوق مجلبا(5)
تذكّر حبّا كان في ميعة الصّبا *** و وجدا بها بعد المشيب معتّبا(6)
إذا كاد ينساها الفؤاد ذكرتها *** فيا لك ما عنّى الفؤاد و عذّبا(7)
غدا في هواها مستكينا كأنه *** خليع قداح لم يجد متنشّبا(8)
و قد طال ما علّقت ليلى مغمّرا *** وليدا إلى أن صار رأسك أشيبا
- المغمّر: للغمر أي غير حدث -.
رأيتك في ليلى كذى الدّاء لم يجد *** طبيبا يداوي ما به فتطبّبا
فلما اشتفى مما به كرّ طبّه *** على نفسه من طول ما كان جرّبا(9)
فلم يزل هدبة يطلب غرّة زيادة حتى أصابها فبيّته فقتله، و تنحى مخافة السلطان، و على المدينة يومئذ سعيد بن العاص، فأرسل إلى عم هدبة و أهله فحبسهم بالمدينة، فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه و تخلّص عمّه و أهله، فلم يزل محبوسا حتى شخص عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة إلى معاوية، فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد منه إذا قامت البينة، فأقامها، فمشت عذرة إلى عبد الرحمن، فسألوه قبول الدية فامتنع، و قال:
أنختم علينا كلكل الحرب مرّة *** فنحن منيخوها عليكم بكلكل
فلا يدعني قومي لزيد بن مالك *** لئن لم أعجّل ضربة أو أعجّل(10)
ص: 171
أبعد الذي بالنّعف نعف كويكب *** رهينة رمس ذي تراب و جندل(1)
كريم أصابته ديات كثيرة *** فلم يدر حتى حين من كل مدخل(2)
أذكّر بالبقيا على من أصابني *** و بقياي أني جاهد غير مؤتلي(3)
غناه ابن سريج رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، و قيل: إنه لمالك بن أبي المسح و له فيه لحن آخر.
و أما علي بن محمد النوفليّ، فذكر عن أبيه: أنّ سعيد بن العاص كره الحكم بينهما، فحملهما إلى معاوية، فنظر في القصة، ثم ردها إلى سعيد. و أما غيره فذكر أن سعيدا هو الذي حكم بينهما من غير أن يحملهما إلى معاوية.
قال علي بن محمد عن أبيه:
فلما صاروا بين يدي معاوية قال عبد الرحمن أخو زيادة له: يا أمير المؤمنين أشكو/إليك مظلمتي(4) و ما دفعت إليه، و جرى عليّ و على أهلي و قرباي(5) و قتل أخي زيادة، و ترويع نسوتي، فقال له(6) معاوية: يا هدبة قل.
فقال: إن هذا رجل سجّاعة(7)، فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاما أو شعرا فعلت، قال: لا بل شعرا، فقال هدبة هذه القصيدة ارتجالا:
ألا يا لقومي للنّوائب و الدّهر *** و للمرء يردي نفسه و هو لا يدري(8)
و للأرض كم من صالح قد تأكّمت *** عليه فوارته بلمّاعة قفر
فلا تتّقي ذا هيبة لجلاله *** و لا ذا ضياع هنّ يتركن للفقر(9)
حتى قال:
رمينا فرامينا فصادف رمينا *** منايا رجال في كتاب و في قدر
و أنت أمير المؤمنين فما لنا *** وراءك من معدّى و لا عنك من قصر
فإن تك في أموالنا لم نضق بها *** ذراعا، و إن صبر فنصبر للصّبر
ص: 172
فقال له معاوية: أراك قد أقررت(1) بقتل صاحبهم، ثم قال لعبد الرحمن: هل لزيادة ولد؟ قال: نعم، المسور، و هو غلام صغير لم يبلغ، و أنا عمه و وليّ دم أبيه، فقال: إنك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق، و المسور أحق بدم أبيه فردّه إلى المدينة فحبس ثلاث سنين حتى بلغ المسور.
أخبرني الحرميّ بن العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: نسخت من كتاب عامر بن صالح قال:
دخل جميل بن معمر العذريّ على هدبة بن خشرم السّجن و هو محبوس بدم زيادة بن زيد، و أهدى له بردين من ثياب كساه إياها سعيد بن العاص، و جاءه بنفقة، فلما دخل إليه عرض ذلك عليه، و سأله أن يقبله منه، فقال له هدبة: أ أنت يا بن معمر الذي تقول:
بني عامر أنّى انتجعتم و كنتم *** إذا عدّد الأقوام كالخصية الفرد؟
أما و اللّه لئن خلّص اللّه لي ساقي لأمدنّ لك مضمارك(2)، خذ برديك و نفقتك، فخرج جميل، فلما بلغ باب السجن خارجا قال: اللهم أغن(3) عنّي أجدع بني عامر، قال: و كانت بنو عامر قد قلّت، فحالفت لإياد.
قال أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائني:
فقالت أم هدبة فيه لما شخص إلى المدينة فحبس بها:
أيا إخوتي أهل المدينة أكرموا *** أسيركم إن الأسير كريم
فربّ كريم قد قراه و ضافه *** و ربّ أمور كلّهن عظيم
عصى جلّها يوما عليه فراضه *** من القوم عيّاف أشمّ حليم(4)
فأرسل هدبة العشيرة(5) إلى عبد الرحمن في أول سنة فكلموه، فاستمع منهم ثم قال:
/أبعد الذي بالنّعف نعف كويكب *** رهينة رمس ذي تراب و جندل(6)
أذكّر بالبقيا على من أصابني *** و بقياي أني جاهد غير مؤتلي
فرجعوا إلى هدبة بالأبيات فقال: لم يؤيسني بعد، فلما كانت السنة الثالثة بلغ المسور، فأرسل هدبة إلى عبد الرحمن من كلّمه فأنصت حتى فرغوا، ثم قام عنه مغضبا و أنشأ يقول:
ص: 173
سأكذب أقواما يقولون: إنّني *** سآخذ مالا من دم أنا ثائره(1)
فباست امرئ و است التي زحرت به *** يسوق سواما من أخ هو واتره(2)
و نهض، فرجعوا إلى هدبة فأخبروه الخبر فقال: الآن أيست منه، و ذهب عبد الرحمن بالمسور، و قد بلغ إلى و الي المدينة، و هو سعيد بن العاص، و قيل مروان بن الحكم، فأخرج هدبة.
قالوا: فلما كان في الليلة التي قتل في صاحبها أرسل إلى امرأته، و كان يحبها: ائتيني الليل أستمتع بك و أودّعك، فأتته في اللّباس و الطيّب، فصارت إلى رجل(3)، قد طال حبسه، و أنتنت في الحديد رائحته، فحادثها، و بكى، و بكت، ثم راودها عن نفسها، و طاوعته، فلما علاها سمعت قعقعة الحديد فاضطربت تحته، فتنحّى عنها و أنشأ يقول:
/و أدنيتني حتى إذا ما جعلتني *** لدى الخصر أو أدنى استقلّك راجف(4)
فإن شئت و اللّه انتهيت و إنّني *** لئلا تريني آخر الدهر خائف
رأت ساعدي غول و تحت ثيابه *** جآجئ يدمى حدّها و الحراقف(5)
ثم قال الشعر حتى أتى عليه و هو طويل جدا و فيه يقول:
فلم تر عيني مثل سرب رأيته *** خرجن علينا من زقاق ابن واقف(6)
تضمّخن في الجاديّ حتى كأنّما الأ *** نوف إذا استعرضتهنّ رواعف(7)
خرجن بأعناق الظباء و أعين ال *** جآذر و ارتجّت لهن السّوالف(8)
فلو أنّ شيئا صاد شيئا بطرفه *** لصدن ظباء فوقهنّ المطارف(9)
غنى فيه الغريض رملا بالبنصر من رواية حبش، و فيه لحن خفيف ثقيل، و ذكر إسحاق أن فيه لحنا ليونس، و لم يذكر طريقته في مجرده.
ص: 174
أخبرنا الحرميّ قال: حدثنا الزبير عن عمه قال:
مرّ أبو الحارث جمين يوما بسوق المدينة، فخرج عليه رجل من زقاق ابن واقف بيده ثلاث سمكات قد شقّ أجوافها: و قد خرج شحمها، فبكى أبو الحارث، ثم قال: تعس الذي يقول:
فلم تر عيني مثل سرب رأيته *** خرجن علينا من زقاق بن واقف
و انتكس و لا انجبر، و اللّه لهذه السمكات الثلاث أحسن من السرب الذي وصف.
و أحسب أن هذا الخبر مصنوع لأنه ليس بالمدينة بزقاق ابن واقف، و لا بها سمك، و لكن رويت ما روي.
و قال حماد بن إسحاق عن أبيه أنّ ابن كناسة قال:
مرّ بهدبة على حبيّ (1)؛ فقالت: في سبيل اللّه شبابك و جلدك و شعرك و كرمك؛ فقال هدبة:
تعجّب حبيّ من أسير مكبّل *** صليب العصا باق على الرّسفان(2)
فلا تعجبي منّي حليلة مالك *** كذلك يأتي الدهر بالحدثان
و قال النّوفليّ عن أبيه:
فلما مضي به من السجن للقتل، التفت فرأى امرأته؛ و كانت من أجمل النساء فقال:
/أقلّي عليّ اللّوم يا أمّ بوزعا *** و لا تجزعي ممّا أصاب فأوجعا
و لا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا *** أغمّ القفا و الوجه ليس بأنزعا(3)
كليلا سوى ما كان من حدّ ضرسه *** أكيبد مبطان العشيّات أروعا(4)
ضروبا بلحييه على عظم زوره *** إذا الناس هشّوا للفعال تقنّعا(5)
و حلّي بذي أكرومة و حميّة *** و صبر إذا ما الدهر عضّ فأسرعا
و قال حمّاد عن أبيه عن مصعب بن عبد اللّه قال:
ص: 175
لما أخرج هدبة من السجن ليقتل، جعل الناس يتعرّضون له و يخبرون صبره، و يستنشدونه، فأدركه عبد الرحمن بن حسّان(1)، فقال له: يا هدبة، أ تأمرني أن أتزوج هذه بعدك، يعني زوجته، و هي تمشي خلفه فقال: نعم، إن كنت من شرطها، قال: و ما شرطها؟ قال: قد قلت في ذلك:
فلا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا *** أغمّ القفا و الوجه ليس بأنزعا(2)
و كوني حبيسا أو لأروع ماجد *** إذا ضنّ أعشاش الرّجال تبرّعا(3)
فمالت زوجته إلى جزّار و أخذت شفرته، فجدعت بها أنفها، و جاءته تدمى/مجدوعة فقالت: أ تخاف أن يكون بعد هذا نكاح؟ قال: فرسف في قيوده و قال: الآن طاب الموت.
و قال النوفليّ عن أبيه:
إنها فعلت ذلك بحضرة مروان و قالت له: إن لهدبة عندي وديعة، فأمهله حتى آتية بها، قال: أسرعي، فإن الناس قد كثروا، و كان جلس لهم بارزا عن داره(4)، فمضت إلى السّوق، فانتهت إلى قصّاب و قالت: أعطني شفرتك، و خذ هذين الدرهمين و أنا أردّها عليك، ففعل، فقربت من حائط، و أرسلت ملحفتها على وجهها، ثم جدعت أنفها من أصله، و قطعت شفتيها، ثم ردّت الشفرة، و أقبلت حتى دخلت بين الناس و قالت: يا هدبة، أ تراني متزوجة بعد ما ترى؟ قال: لا، الآن طابت نفسي بعد بالموت، ثم خرج يرسف في قيوده، فإذا هو بأبويه يتوقعان الثّكل، فهما بسوء حال، فأقبل عليهما و قال:
أبلياني اليوم صبرا منكما *** إنّ حزنا إن بدا بادئ شرّ
لا أراني اليوم إلا ميّتا *** إنّ بعد الموت دار المستقرّ(5)
اصبرا اليوم فإني صابر *** كلّ حيّ لقضاء و قدر
قال النوفليّ: فحدثني أبي قال:
حدثني رجل من عذرة عن أبيه قال: إني لببلادنا يوما في بعض المياه، فإذا أنا بامرأة تمشي أمامي و هي مدبرة، و لها خلق عجيب من عجز و هيئة، و تمام جسم، و كمال قامه، فإذا صبيّان قد اكتنفاها يمشيان، قد ترعرعا، فتقدّمتها، و التفتّ إليها، فإذا هي أقبح منظر، و إذا هي مجدوعة الأنف، مقطوعة الشفتين، فسألت عنها فقيل لي:
هذه امرأة هدبة، تزوّجت(6) بعده رجلا، فأولدها هذين الصّبيّين.
ص: 176
قال ابن قتيبة في حديثه:
فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدّية عنه، قال: أعطيك ما لم يعطه أحد من العرب أعطيك مائة ناقة حمراء ليس فيها جدّاء(1) و لا ذات داء، فقال له: و اللّه لو نقبت لي قبّتك هذه، ثم ملأتها لي ذهبا، ما رضيت بها من دم هذا الأجدع، فلم يزل سعيد يسأله، و يعرض عليه فيأبى، ثم قال له: و اللّه لو أردت قبول الدية لمنعني قوله:
لنجدعنّ بأيدينا أنوفكم *** و يذهب القتل فيما بيننا هدرا
فدفعه حينئذ ليقتله بأخيه.
قال حمّاد: و قرأت على أبي عن مصعب بن عبد اللّه الزبيريّ قال:
و مرّ هدبة بحبّى، فقالت له: كنت أعدّك في الفتيان، و قد زهدت فيك اليوم، لأني لا أنكر أن يصبر الرّجال على الموت، لكن كيف تصبر عن هذه(2)؟ فقال: أما و اللّه إنّ حبّي لها لشديد، و إن شئت لأصفنّ لك ذلك، و وقف الناس معه، فقال:
وجدت بها ما لم تجد أمّ واحد *** و لا وجد حبّى بابن أمّ كلاب(3)
رأته طويل السّاعدين شمر دلا *** كما تشتهي من قوة و شباب(4)
فانقمعت(5) داخلة إلى بيتها فأغلقت الباب دونه. قالوا: فدفع إلى أخي زيادة ليقتله، قال: فاستأذن في أن يصلّي ركعتين، فأذن له، فصلاهما و خفّف، ثم التفت إلى من حضر فقال: لو لا أن يظنّ بي الجزع لأطلتهما، فقد كنت محتاجا إلى إطالتهما، ثم قال/لأهله: إنه بلغني أنّ القتيل يعقل ساعة بعد سقوط رأسه، فإن عقلت فإني قابض رجلي و باسطها ثلاثا، ففعل ذلك حين قتل، و قال قبل أن يقتل:
إن تقتلوني في الحديد فإني *** قتلت أخاكم مطلقا لم يقيّد(6)
فقال عبد الرحمن أخو زيادة: و اللّه لا قتلته إلا مطلقا من وثاقه، فأطلق له، فقام إليه و هز السيف ثم قال:
قد علمت نفسي و أنت تعلمه *** لأقتلنّ اليوم من لا أرحمه
ثم قتله.
فقال حمّاد في روايته:
و يقال: إن الذي تولّى قتله ابنه المسور، دفع إليه عمّه السيف و قال له: قم فاقتل قاتل أبيك، فقام، فضربه ضربتين قتله فيهما.
ص: 177
أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حمّاد: قرأت على أبي قال:
بلغني أنّ هدبة أول من أقيد منه في الإسلام.
قال أحمد بن الحارث الخرّاز(1): قال المدائني:
مرّت كاهنة بأمّ هدبة و هو و أخوته نيام بين يديها، فقالت: يا هذه، إن الذي معي(2) يخبرني عن بنيك هؤلاء بأمر. قالت: و ما هو؟ قالت: أمّا هدبة و حوط فيقتلان صبرا(3)، و أما الواسع و سيحان فيموتان كمدا، فكان كذلك.
/أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حمّاد: قرأت على أبي: أخبرك مروان بن أبي حفصة قال:
كان هدبة أشعر الناس منذ يوم دخل السجن إلى أن أقيد منه، قال الخرّاز عن المدائنيّ: قال واسع بن خشرم يرثي هدبة لمّا قتل:
يا هدب يا خير فتيان العشيرة من *** يفجع بمثلك في الدّنيا فقد فجعا
اللّه يعلم أنّي لو خشيتهم *** أو أوجس القلب من خوف لهم فزعا(4)
لم يقتلوه و لم أسلم أخي لهم *** حتى نعيش جميعا أو نموت معا(5)
و هذه الأبيات تمثّل بها إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب رضي عنهم، لما بلغه قتل أخيه محمد.
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة قال:
حدثني مصعب الزبيريّ قال:
كنّا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا خبر هدبة و زيادة و أشعارهما ازدريناه، و كنّا نرفع من قدر أخبارها و أشعارهما و نعجب بها.
أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال: أخبرني محمد بن الحسن الأحول، عن رواية من الكوفيين قالوا:
كان جميل بن معمر العذريّ راوية هدبة، و كان هدبة راوية الحطيئة، و كان الحطيئة راوية كعب بن زهير و أبيه.
حدثني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال:
ص: 178
حدثني أبو المغيرة محمد بن إسحاق قال: حدثني أبو مصعب الزّبيريّ قال: حدّثني المنكدر بن محمد بن المنكدر، عن أبيه قال:
بعث هدبة بن خشرم إلى عائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يقول لها: استغفري لي، فقالت: إن قتلت استغفرت لك.
أ لم تر أنّي يوم جوّ سويقة *** بكيت فنادتني هنيدة ماليا؟
فقلت لها: إنّ البكاء لراحة *** به يشتفي من ظنّ أن لا تلاقيا
قفي ودّعينا يا هنيد فإنّني *** أرى القوم قد شاموا العقيق اليمانيا(1)
- و يروى: أرى الركب قد شاموا -.
إذا اغرورقت عيناي أسبل منهما *** إلى أن تغيب الشّعريان بكائيا(2)
الشعر للفرزدق من قصيدة يهجو بها جريرا، و هي فيما قيل أول قصيدة هجاه بها، و الغناء لابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي، قال الهشامي: و فيه لمالك ثقيل أول، و ابتداء اللحنين جميعا.
أ لم تر أني يوم جوّ سويقة
و لعلوية فيه لحن من الرمل المطلق ابتداؤه:
قفي و دعينا يا هنيد فإنني:
ص: 179
الفرزدق لقب غلب عليه، و تفسيره الرغيف الضخم الذي يجفّفه النساء للفتوت، و قيل: بل هو القطعة من العجين التي تبسط، فيخبز منها الرغيف، شبّه وجهه بذلك؛ لأنه كان غليظا جهما. و اسمه همّام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم.
قال أبو عبيدة: اسم دارم بحر، و اسم أبيه مالك عوف و يقال عرف. و سمّى دارم دارما لأن قوما أتوا أباه مالكا في حمالة(1) فقال له: قم يا بحر فأتني بالخريطة - يعني خريطة كان له فيها مال - فحملها يدرم عنها ثقلا، و الدّرمان: تقارب الخطو، فقال لهم: جاءكم يدرم بها، فسمى دارما، و سمي أبوه مالك عرفا لجوده.
و أم غالب ليلى بنت حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع.
و كان للفرزدق أخ يقال له هميم، و يلقب الأخطل، ليست له نباهة، فأعقب ابنا يقال له محمد، فمات و الفرزدق حيّ فرثاه، و خبره يأتي بعد. و كان للفرزدق من الولد خبطة و لبطة و سبطة، هؤلاء المعروفون، و كان له غيرهم فماتوا، و لم يعرفوا. و كان له بنات خمس أو ست.
و أم الفرزدق - فيما ذكر أبو عبيدة - لينة بنت قرظة الضبية.
و كان يقال لصعصعة محي الموءودات؛ و ذلك أنه كان مر برجل من قومه، و هو يحفر بئرا، و امرأته تبكي، فقال لها صعصعة: ما يبكيك؟ قالت: يريد أن يئد ابنتي هذه، فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: الفقر. قال:
فإني اشتريها منك بناقتين يتبعهما أولادهما، تعيشون بألبانهما، و لا تئد الصبية، قال: قد فعلت، فأعطاه الناقتين و جملا كان تحته فحلا، و قال/في نفسه: إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، فجعل على/نفسه ألاّ يسمع موءودة إلا فداها، فجاء الإسلام و قد فدى ثلاثمائة موءودة، و قيل: أربعمائة.
أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعي، عن دماذ، عن أبي عبيدة.
و أخبرني بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيديّ و عليّ بن سليمان الأخفش قالا: حدثنا أبو سعيد السكريّ، عن محمد بن حبيب، عن أبي عبيدة عن عقال بن شبة قال: قال صعصعة:
خرجت باغيا ناقتين لي فارقتين - و الفارق: التي تفرق إذا ضربها المخاض فتندّ على وجهها، حتى تنتج - فرفعت لي نار فسرت نحوها، و هممت بالنزول، فجعلت النار تضىء مرة، و تخبو أخرى، فلم تزل تفعل ذلك حتى قلت: اللهمّ لك عليّ إن بلّغتني هذه النار ألاّ أجد أهلها يوقدون لكربة يقدر أحد من الناس أن يفرّجها إلا
ص: 180
فرّجتها عنهم، قال: فلم أسر إلا قليلا حتى أتيتها، فإذا حيّ من بني أنمار بن الهجيم بن عمرو بن تميم، و إذا أنا بشيخ حادر أشعر(1) يوقدها في مقدم بيته، و النساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض(2)، قد حبستهنّ ثلاث ليال.
فسلّمت فقال الشيخ: من أنت؟ فقلت: أنا صعصعة بن ناجية بن عقال، قال: مرحبا بسيدنا، ففيم أنت يا بن أخي؟ فقلت: في بغاء ناقتين لي فارقتين عمّي عليّ أثرهما، فقال: قد وجدتهما بعد أن أحيا اللّه بهما أهل بيت من قومك، و قد نتجناهما، و عطفت إحداهما على الأخرى، و هما تانك في أدنى الإبل. قال: قلت: ففيم توقد نارك منذ الليلة؟ قال: أوقدها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ ثلاث ليال، و تكلّمت النساء فقلن: قد جاء الولد، فقال الشيخ: إن كان غلاما فو اللّه ما أدري ما أصنع به، و إن كانت جارية فلا أسمعنّ صوتها - أي اقتلها - فقلت: يا هذا ذرها فإنها ابنتك، و رزقها على اللّه، فقال: اقتلنها، فقلت: أنشدك اللّه، فقال: إني أراك بها حفيّا، فاشترها مني، فقلت: إني أشتريها منك، فقال: ما تعطيني؟ قلت: أعطيك إحدى ناقتيّ قال: لا، قلت: فأزيدك الأخرى، فنظر إلى جملي الذي تحتي، فقال: لا، إلا أن تزيدني/جملك هذا، فإني أراه حسن اللون شابّ السّن، فقلت: هو لك و الناقتان على أن تبلغني أهلي عليه، قال: قد فعلت، فابتعتها منه بلقوحين(3) و جمل، و أخذت عليه عهد اللّه و ميثاقه ليحسننّ برّها وصلتها ما عاشت، حتى تبين منه، أو يدركها الموت، فلما برزت من عنده حدثتني نفسي و قلت: إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، فآليت ألاّ يئد أحد بنتا له إلا اشتريتها منه بلقوحين و جمل، فبعث اللّه عزّ و جل محمدا عليه السلام، و قد أحييت مائة موءودة إلا أربعا، و لم يشاركني في ذلك أحد، حتى أنزل اللّه تحريمه في القرآن، و قد فخر بذلك الفرزدق في عدّة قصائد من شعره، و منها قصيدته التي أوّلها:
أبي أحد الغيثين صعصعة الذي *** متى تخلف الجوزاء و الدّلو يمطر(4)
أجار بنات الوائدين و من يجر *** على الفقر يعلم أنه غير مخفر(5)
على حين لا تحيا البنات و إذ هم *** عكوف على الأصنام حو المدوّر(6)
-(7) المدوّر: يعني الدّوّار الذي حول الصنم، و هو طوافهم(8) -.
أنا ابن الذي ردّ المنية فضله *** فما حسب دافعت عنه بمعور(9)
/و فارق ليل من نساء أتت أبي *** تمارس ريحا ليلها غير مقمر(10)
ص: 181
فقالت: أجر لي ما ولدت فإنني *** أتيتك من هزلى الحمولة مقتر(1)
/هجفّ من العثو الرءوس إذا بدت *** له ابنة عام يحطم العظم منكر(2)
رأس الأرض منها راحة فرمى بها *** إلى خدد منها إلى شرّ مخفر(3)
فقال لها: فيئي فإني بذمتي *** لبنتك جار من أبيها القنوّر(4)
و وفد غالب بن صعصعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم(5) فأسلم و قد كان وفده أبوه صعصعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم(6) فأخبره بفعله في الموءودات، فاستحسنه و سأله: هل له في ذلك من أجر؟ قال: نعم فأسلم و عمّر غالب، حتى لحق أمير المؤمنين عليّا صلوات اللّه عليه بالبصرة، و أدخل إليه الفرزدق، و أظنه مات في إمارة زياد و ملك معاوية.
أخبرني محمد بن الحسين الكنديّ و هاشم بن محمد الخزاعيّ، و عبد العزيز بن أحمد عم أبي قالوا: حدثنا الرّياشيّ قال: حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية، قال: حدثني عقال بن كسيب أبو الخنساء العنبريّ، قال: حدثني الطفيل بن عمرو الربعيّ، عن ربيعة بن مالك بن حنظلة، عن صعصعة بن ناجية المجاشعيّ جدّ الفرزدق قال:
قدمت على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فعرض عليّ الإسلام، فأسلمت، و علّمني آيات من القرآن، فقلت: يا رسول اللّه إني عملت أعمالا في الجاهلية هل لي فيها من أجر؟ فقال: و ما عملت؟ فقلت: إني أضللت ناقتين لي عشراوين، فخرجت أبغيهما على جمل، فرفع لي بيتان في فضاء من الأرض، فقصدت قصدهما، فوجدت في أحدهما شيخا كبيرا، فقلت له: هل أحسست من ناقتين عشراوين؟ قال: و ما نارهما؟ - يعني السّمة - فقلت: ميسم بني دارم، فقال: قد أصبت ناقتيك و نتجناهما، و ظأرتا(7) على أولادهما/و نعش اللّه بهما أهل بيت من قومك من العرب من مضر، فبينا هو يخاطبني إذ نادته امرأة من البيت الآخر: قد ولدت، فقال: و ما ولدت؟ إن كان غلاما فقد شركنا في قوتنا، و إن كانت جارية فادفنوها، فقالت: هي جارية: أ فائدها؟ فقلت: و ما هذا المولود؟ قالت: بنت لي، فقلت:
إني أشتريها منك، فقال: يا أخا بني تميم، أ تقول لي: أ تبيعني ابنتك و قد أخبرتك أني من العرب من مضر؟ فقلت:
إني لا أشتري منك رقبتها، إنما أشتري دمها لئلا تقتلها، فقال: و بم تشتريها؟ فقلت: بناقتيّ هاتين و ولديهما. قال:
لا حتى تزيدني هذا البعير الذي تركبه: قلت: نعم، على أن ترسل معي رسولا فإذا بلغت أهلي رددت إليك البعير(8) ففعل، فلما بلغت أهلي رددت إليه البعير(9)، فلما كان في بعض الليل فكرت في نفسي فقلت: إن هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، فظهر الإسلام و قد أحييت ثلاثمائة و ستين موءودة، أشتري كلّ واحدة منهن
ص: 182
بناقتين عشراوين و جمل، فهل لي في ذلك من أجر يا رسول اللّه؟ فقال عليه السلام: هذا باب من البر، و لك أجره إذ منّ اللّه عليك بالإسلام، قال عباد: و مصداق ذلك قول الفرزدق:
و جدّي الذي منع الوائدات *** و أحيا الوئيد فلم يوأد(1)
أخبرني محمد بن يحيى، عن الغلاّبيّ، عن العباس بن بكار، عن أبي بكر الهذليّ قال:
وفد صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في وفد من تميم، و كان صعصعة قد منع الوئيد في الجاهلية، فلم يدع تميما تئد، و هو يقدر على ذلك، فجاء الإسلام و قد/فدى أربعمائة جارية، فقال للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم:
أوصني، فقال: أوصيك بأمك و أبيك و أخيك و أختك و إمائك، قال: زدني، قال: احفظ ما بين لحييك(2)، و ما بين رجليك.
/ثم قال له عليه السلام: ما شيء بلغني عنك فعلته؟ قال: يا رسول اللّه رأيت الناس يموجون على غير وجه، و لم أدر أين الوجه، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه، و رأيتهم يئدون بناتهم، فعلمت أنّ ربّهم لم يأمرهم بذلك، فلم أتركهم يئدون، و فديت من قدرت عليه.
و روى أبو عبيدة أنه قال للنّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: إني حملت حمالات في الجاهلية و الإسلام، و عليّ منها ألف بعير، فأديت من ذلك سبعمائة، فقال له: إن الإسلام أمر بالوفاء، و نهى عن الغدر، فقال: حسبي حسبي، و وفّى بها.
و روي أنه إنما قال هذا القول لعمر بن الخطاب، و قد وفد إليه في خلافته.
و كان صعصعة شاعرا و هو الذي يقول: أنشدنيه محمد بن يحيى له:
إذا المرء عادى من يودّك صدره *** و كان لمن عاداك خدنا مصافيا
فلا تسألن عما لديه فإنّه *** هو الداء لا يخفي بذلك خافيا(3)
أخبرني محمد بن يحيى، عن محمد بن زكريا؛ عن عبد اللّه بن الضحاك، عن الهيثم بن عديّ، عن عوانة قال:
تراهن نفر من كلب ثلاثة على أن يختاروا من تميم و بكر نفرا ليسائلوهم، فأيّهم أعطى، و لم يسألهم عن نسبهم من هم؟ فهو أفضلهم، فاختار كل رجل منهم رجلا؛ و الذين اختيروا عمير بن السليك(4)، بن قيس بن مسعود الشيبانيّ، و طلبة بن قيس بن عاصم المنقريّ، و غالب بن صعصعة المجاشعيّ أبو الفرزدق، فأتوا ابن السّليك فسألوه مائة ناقة، فقال: من أنتم؟ فانصرفوا عنه.
ثم أتوا طلبة بن قيس، فقال لهم مثل قول الشيبانيّ، فأتوا غالبا، فسألوه، /فأعطاهم مائة ناقة و راعيها، و لم يسألهم من هم فساروا بها ليلة، ثم ردّوها، و أخذ صاحب غالب الرّهن، و في ذلك يقول الفرزدق:
ص: 183
و إذا ناحبت(1) كلب على الناس أيّهم *** أحقّ بتاج الماجد المتكرّم(1)
على نفر هم من نزار ذوي العلا *** و أهل الجراثيم التي لم تهدّم(2)
فلم يجز عن أحسابهم غير غالب *** جرى بعنان كلّ أبيض خضرم(3)
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن جهم السليطيّ، عن إياس بن شبة، عن عقال بن صعصعة، قال:
أجدبت بلاد تميم، و أصابت بني حنظلة سنة(4) في خلافة عثمان، فبلغهم خصب عن بلاد كلب بن وبرة، فانتجعتها بنو حنظلة، فنزلوا أقصى الوادي، و تسرّع غالب بن صعصعة فيهم وحده دون بني مالك(5) بن حنظلة، و لم يكن مع بني يربوع من بني مالك غير غالب(6)، فنحر ناقته فأطعمهم إيّاها، فلما وردت إبل سحيم بن وثيل الرّياحيّ حبس منها ناقة، فنحرها من غد، فقيل لغالب: إنما نحر سحيم مواءمة لك - أي مساواة لك - فضحك غالب، و قال: كلا، و لكنه امرؤ كريم، و سوف انظر في ذلك، فلما وردت إبل غالب حبس منها ناقتين، فنحرهما، فأطعمهما بني يربوع، فعقر سحيم ناقتين، فقال غالب: الآن علمت أنه يوائمني، فقعر غالب عشرا، فأطعمها بني يربوع فعقر سحيم عشرا، فلما بلغ غالبا فعله ضحك، و كانت إبله ترد لخمس، فلما وردت عقرها كلها عن آخرها، /فالمكثر يقول: كانت أربعمائة، و المقلّ يقول: كانت مائة، فأمسك سحيم حينئذ؛ ثم إنه عقر في خلافة عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه بكناسة الكوفة مائتي ناقة و بعير، فخرج الناس بالزنابيل/و الأطباق و الحبال لأخذ اللحم، و رآهم عليّ عليه السلام، فقال: أيّها الناس لا يحل لكم، إنّما أهلّ (7) بها لغير اللّه عزّ و جلّ. قال: فحدثني من حضر ذلك قال: كان الفرزدق يومئذ مع أبيه و هو غلام، فجعل غالب يقول: يا بنيّ، اردد عليّ، و الفرزدق يردّها عليه، و يقول له: يا أبت اعقر، قال جهم: فلم يغن عن سحيم فعله، و لم يجعل كغالب إذا لم يطق فعله.
حدثني محمد بن يحيى عن محمد بن القاسم - يعني أبا العيناء - عن أبي زيد النحويّ، عن أبي عمرو قال:
جاء غالب أبو الفرزدق إلى عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه بالفرزدق بعد الجمل بالبصرة، فقال: إن ابني هذا من شعراء مضر(8) فاسمع منه، قال: علمه القرآن، فكان ذلك في نفس الفرزدق، فقيّد نفسه في وقت، و آلى:
لا يحلّ قيده حتى يحفظ القرآن.
ص: 184
قال محمد بن يحيى: فقد صح لنا أن الفرزدق كان شاعرا موصوفا أربعا و سبعين سنة، و ندع ما قبل ذلك، لأن مجيئة به بعد الجمل - على الاستظهار - كان في سنة ست و ثلاثين، و توفي الفرزدق في سنة عشر و مائة في أول خلافة هشام هو و جرير و الحسن البصريّ و ابن سيرين في ستة أشهر، و حكي ذلك عن جماعة، منهم الغلابيّ عن ابن عائشة عن أبيه.
أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ عن الغلابي، عن ابن عائشة أيضا، عن أبيه قال: قال الفرزدق أيضا:
كنت أجيد الهجاء في أيام عثمان، قال: و مات غالب أبو الفرزدق في أول أيام معاوية و دفن بكاظمة فقال الفرزدق يرثيه:
لقد ضمّت الأكفان من آل دارم *** فتى فائض الكفّين محض الضّرائب(1)
أخبرني حبيب المهلبيّ قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عمران الضبيّ، قال: حدثني جعفر بن محمد العنبريّ، عن خالد بن أم كلثوم، قال:
قيل للمفضل الضبي: الفرزدق أشعر أم جرير؟ قال الفرزدق: قال: قلت: و لم؟ قال: لأنه قال بيتا هجا فيه قبيلتين و مدح فيه قبيلتين(2) و أحسن في ذلك(3) فقال:
عجبت لعجل إذ تهاجي عبيدها *** كما آل يربوع هجوا آل دارم(4)
فقيل له: قد قال جرير:
إنّ الفرزدق و البعيث و أمّه *** و أبا البعيث لشرّ ما إستار(5)
فقال: و أيّ شيء أهون من أن يقول إنسان: فلان و فلان و فلان و الناس كلهم بنو الفاعلة!.
أخبرني عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: حدثني موسى بن طلحة، قال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنّى:
كان الشعراء في الجاهلية من قيس، و ليس في الإسلام مثل حظّ تميم في الشعر، و أشعر تميم جرير و الفرزدق(6)، و من بني تغلب الأخطل(7).
قال يونس بن حبيب: ما ذكر جرير و الفرزدق في مجلس شهدته قط فاتّفق المجلس على أحدهما، قال: و كان يونس فرزدقيّا.
ص: 185
أخبرني عمي، عن محمد بن رستم الطبريّ، عن أبي عثمان المازنيّ قال:
مر الفرزدق/بابن ميّادة(1) الرمّاح و الناس حوله(2) و هو ينشد:
/لو أنّ جميع الناس كانوا بربوة *** و جئت بجدّي ظالم و ابن ظالم
لظلّت رقاب الناس خاضعة لنا *** سجودا على أقدامنا بالجماجم
فسمعه الفرزدق، فقال: أما و اللّه يا بن الفارسية لتدعنّه لي أو لأنبشنّ أمّك من قبرها، فقال له ابن ميادة: خذه لا بارك اللّه لك فيه، فقال الفرزدق:
لو أنّ جميع النّاس كانوا بربوة *** و جئت بجدّي دارم و ابن دارم
لظلّت رقاب الناس خاضعة لنا *** سجودا على أقدامنا بالجماجم
أخبرني عمي، عن الكرانيّ، عن أبي فراس الهيثم بن فراس، قال: حدثني ورقة بن معروف، عن حماد الرواية قال:
دخل جرير و الفرزدق على يزيد بن عبد الملك و عنده بنيّة له يشمّها فقال جرير: ما هذه يا أمير المؤمنين عندك؟ قال: بنيّة لي، قال: بارك اللّه لأمير المؤمنين فيها. فقال الفرزدق: إن يكن دارم يضرب(3) فيها فهي أكرم العرب، ثم أقبل يزيد على جرير فقال: مالك و الفرزدق؟ قال: إنه يظلمني و يبغي عليّ، فقال الفرزدق: وجدت آبائي يظلمون آباءه فسرت فيه بسيرتهم، قال جرير: و أما و اللّه(4) لتردّنّ الكبائر على أسافلها سائر اليوم، فقال الفرزدق: أمّا بك يا حمار بني كليب فلا، و لكن إن شاء صاحب السرير، فلا و اللّه ما لي كفء غيره، فجعل يزيد يضحك.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، عن محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابيّ، عن حماد الرواية قال:
أنشدني الفرزدق يوما شعرا له ثم قال لي: أتيت الكلب - يعني جريرا - قلت: نعم، قال: أ فأنا أشعر أم هو؟ قلت: أنت في بعض و هو في بعض، قال: لم تناصحني، /قال: قلت: هو أشعر منك إذا أرخى من خناقة(5)، و أنت أشعر منه إذا خفت أو رجوت، قال(6): قضيت لي و اللّه عليه(7) و هل الشعر إلا في الخبر و الشّر.
قال: و روى عن أبي الزناد عن أبيه قال:
قال لي جرير: يا أبا عبد الرحمن: أنا شعر أم هذا الخبيث - يعني الفرزدق - و ناشدني لأخبرنّه، فقلت: لا و اللّه ما يشاركك و لا يتعلق بك في النسيب قال: أوه(8) قضيت و اللّه له عليّ، أنا و اللّه أخبرك: ما دهاني، إلاّ أنّي
ص: 186
هاجيت كذا و كذا شاعرا، فسمّى عددا كثيرا، و أنه تفرّد لي وحدي(1).
أخبرني عبد اللّه قال: قال المازنيّ: قال أبو علي الحرمازيّ:
كان من خبر الفرزدق و النّوار ابنة أعين بن صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعيّ - و كانت ابنة عمه - أنه خطبها رجل من بني عبد اللّه بن دارم فرضيته، و كان الفرزدق وليّها، فأرسلت إليه أن زوّجني من هذا الرجل، فقال:
لا أفعل أو تشهديني أنك قد رضيت بمن زوّجتك، ففعلت، فلما توثّق منها، قال: أرسلي إلى القوم فليأتوا، فجاءت بنو عبد اللّه بن دارم فشحنوا مسجد بني مجاشع و جاء الفرزدق، فحمد اللّه، و أثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولّتني أمرها، و أشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة ناقة حمراء سوداء الحدقة. فنفرت من ذلك و أرادت الشخوص إلى ابن الزبير حين أعياها أهل البصرة(2) ألاّ يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود، و أعياها الشهود أن يشهدوا لها اتّقاء الفرزدق، و ابن الزبير يومئذ أمير(3) الحجاز و العراق يدعي له بالخلافة/ - فلم تجد من يحملها، /و أتت فتية من بني عديّ بن عبد مناة بن أدّ، يقال لهم بنو أمّ النّسير، فسألتهم برحم تجمعهم و إياها - و كانت بينها و بينهم قرابة - فأقسمت عليهم أمها: ليحملنها، فحملوها، فبلغ ذلك الفرزدق، فاستنهض عدّة من أهل البصرة فأنهضوه، و أوقروا له عدة من الإبل، و أعين بنفقة، فتبع النّوار، و قال:
أطاعت بني أم النّسير فأصبحت *** على شارف ورقاء صعب ذلولها(4)
و إنّ الذي أمسى يخبّب زوجتي *** كماش إلى أسد الشّرى يستبيلها(5)
فأدركها و قد قدمت مكة، فاستجارت بخولة بنت منظور بن زبّان بن سيار الفزاري، و كانت عند عبد اللّه بن الزبير، فلما قدم الفرزدق مكة اشرأب الناس إليه، و نزل على بني عبد اللّه بن الزبير، فاستنشدوه، و استحدثوه ثم شفعوا له إلى أبيهم، فجعل يشفعهم في الظاهر، حتى إذا صار إلى خولة قلبته عن رأيه، فمال إلى النّوار، فقال الفرزدق في ذلك:
أمّا بنوه فلم تقبل شفاعتهم *** و شفّعت بنت منظور بن زبّانا(6)
ليس الشّفيع الذي يأتيك مؤتزرا *** مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
لعريب في هذا البيت خفيف رمل.
قال: و سفر بينهما رجال من بني تميم كانوا بمكة، فاصطلحا على أن يرجعا إلى البصرة، و لا يجمعهما ظل و لا كنّ حتى يجمعا في أمرهما ذلك بني تميم، و يصيرا على حكمهم. ففعلا، فلما صارا إلى البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها.
ص: 187
/قال: و قال غير الحرمازيّ: إن ابن الزبير قال للفرزدق: جئني بصداقها و إلا فرّقت بينكما، فقال الفرزدق:
أنا في بلاد غربة فكيف أصنع؟ قالوا له: عليك بسلم بن زياد، فإنه محبوس في السجن يطالبه ابن الزبير بمال، فأتاه فقصّ عليه قصته قال: كم صداقها؟ قال: أربعة آلاف درهم، فأمر له بها و بألفين للنفقة، فقال الفرزدق:
دعي مغلقي الأبواب دون فعالهم *** و لكن تمشّي بي - هبلت - إلى سلم(1)
إلى من يرى المعروف سهلا سبيله *** و يفعل أفعال الرجال التي تنمي(2)
قال: فدفعها إليه ابن الزبير، فقال الفرزدق:
هلمّي لابن عمك لا تكوني *** كمختار على الفرس الحمارا
قال: فجاء بها إلى البصرة - و قد أحبلها - فقال جرير في ذلك:
ألا تلكم عرس الفرزدق جامحا *** و لو رضيت رمح استه لاستقرّت(3)
فأجابه الفرزدق، و قال:
و أمّك لو لاقيتها بطمرّة *** و جاءت بها جوف استها لاستقرّت(4)
و قال الفرزدق و هو يخاصم النوار:
/تخاصمني و قد أولجت فيها *** كرأس الضّبّ يلتمس الجراد(5)
/قال الحرمازيّ: و مكثت النّوار عنده زمانا، ترضى عنه أحيانا، و تخاصمه أحيانا، و كانت النّوار امرأة صالحة، فلم تزل تشمئزّ منه، و تقول له: ويحك! أنت تعلم أنك إنما تزوجت بي ضغطة(6) و على خدعة، ثم لا تزال في كلّ ذلك، حتى حلفت بيمين موثّقة، ثم حنثت. و تجنّبت فراشه، فتزوج عليها امرأة يقال لها جهيمة(7)من بني النمر بن قاسط حلفاء لبني الحارث بن عباد بن ضبيعة(8) و أمّها الخميصة من بني الحارث بن عباد، فنافرته الخميصة، و استعدت عليه فأنكرها الفرزدق، و قال: إنها مني بريء طالق و طلق ابنتها، و قال:
إن الخميصة كانت لي و لا بنتها *** مثل الهراسة بين النّعل و القدم(9)
إذا أتت أهلها مني مطلّقة *** فلن أردّ عليها زفرة النّدم(10)
ص: 188
جعل يأتي النوار و به ردع الخلوق(1) و عليه الأثر فقالت له النّوار: هل تزوجتها إلا هداديّة - تعني حيّا من أزد عمان - فقال الفرزدق في ذلك:
تريك نجوم الليل و الشّمس حيّة *** كرام بنات الحارث بن عباد(2)
أبوها الذي قاد النّعامة بعد ما *** أبت وائل في الحرب غير تماد(3)
/نساء أبوهنّ الأعزّ و لم تكن *** من الأزد في جاراتها و هداد
و لم يك في الحيّ الغموض محلّها *** و لا في العمانيّين رهط زياد(4)
عدلت بها ميل النّوار فأصبحت *** و قد رضيت بالنّصف بعد بعاد(5)
قال: فلم تزل النوار ترققه، و تستعطفه، حتى أجابها إلى طلاقها، و أخذ عليها ألاّ تفارقه و لا تبرح من منزله، و لا تتزوج رجلا بعده، و لا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له، و أخذت عليه أن يشهد الحسن البصريّ على طلاقها، ففعل ذلك.
قال المازنيّ: و حدثني محمد بن روح العدوي عن أبي شفقل راوية الفرزدق قال:
ما استصحب الفرزدق أحدا غيري و غير راوية آخر، و قد صحب النّوار رجال كثيرة، إلا أنهم كانوا يلوذون بالسّواري خوفا من أن يراهم الفرزدق، فأتيا الحسن فقال له الفرزدق: يا أبا سعيد، قال له الحسن: ما تشاء؟ قال: أشهد أن النّوار طالق ثلاثا، فقال الحسن: قد شهدنا، فلما انصرفنا قال: يا أبا شفقل، قد ندمت، فقلت له: و اللّه إني لأظن أن دمك يترقرق، أ تدري من أشهدت؟ و اللّه لئن رجعت لترجمن بأحجارك، فمضى و هو يقول:
ندمت ندامة الكسعيّ لمّا *** غدت منّي مطلّقة نوار(6)
و لو أنّي ملكت يدي و قلبي *** لكان عليّ للقدر الخيار
و كانت جنّتي فخرجت منها *** كآدم حين أخرجه الضّرار(7)
و كنت كفاقئ عينيه عمدا *** فأصبح ما يضيء له النهار
و أخبرني بخبره مع النّوار أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني محمد بن يحيى، عن
ص: 189
أبيه يحيى بن علي بن حميد:
أنّ النّوار لمّا كرهت الفرزدق حين زوّجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم(1) المنقري ليمنعوها(2) فقال الفرزدق فيهم:
بني عاصم لا تجنبوها فإنكم *** ملاجئ للسوآت دسم العمائم(3)
بني عاصم لو كان حيّا أبوكم *** للام بنيه اليوم قيس بن عاصم(4)
فبلغهم ذلك الشعر، فقالوا: و اللّه لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة،(5) و خلّوه و النوار(6) و أرادت منافرته(7) إلى ابن الزبير، فلم يقدر أحد على أن يكريها(8)(,7) خوفا منه(9). ثم إن قوما من بني عديّ يقال لهم بنو أم النّسير أكروها، فقال الفرزدق:
و لو لا أن يقول بنو عديّ *** أ لم تك أمّ حنظلة النّوار
أتتكم يا بني ملكان عنّي *** قواف لا تقسّمها التّجار
و قال فيهم أيضا:
لعمري لقد أردى النّوار و ساقها *** إلى البور أحلام خفاف عقولها(10)
/أطاعت بني أمّ النّسير فأصبحت *** على قتب يعلو الفلاة دليلها(11)
و قد سخطت منّي النّوار الذي ارتضى *** به قبلها الأزواج خاب رحيلها(12)
و إن امرأ أمسى يخبّب زوجتي *** كساع إلى أسد الشرى يستبيلها(13)
و من دون أبواب الأسود بسالة *** و بسطة أيد يمنع الضّيم طولها(14)
و إنّ أمير المؤمنين لعالم *** بتأويل ما وصّى العباد رسولها(15)
ص: 190
فدونكها يا بن الزبير فإنها *** مولّعة يوهي الحجارة قيلها(1)
و ما جادل الأقوام من ذي خصومة *** كورهاء مشنوء إليها حليلها(2)
فلما قدمت مكة نزلت على تماضر بنت منظور بن زبّان زوجة عبد اللّه بن الزبير، و نزل الفرزدق بحمزة بن عبد اللّه بن الزبير، و مدحه بقوله:
أمسيت قد نزلت بحمزة حاجتي *** إن المنوّه باسمه الموثوق
بأبي عمارة خير من وطئ الحصا *** و جرت له في الصالحين عروق
بين الحواريّ الأعزّ و هاشم *** ثم الخليفة بعد و الصّدّيق(3)
/غنّى في هذه الأبيات ابن سريج رملا بالبنصر.
قال: فجعل أمر النّوار يقوى، و أمر الفرزدق يضعف، فقال:
أمّا بنوه فلم تقبل شفاعتهم *** و شفّعت بنت منظور بن زبّانا
و قال ابن الزبير للنّوار: إن شئت فرّقت بينكما، و قتلته، فلا يهجونا أبدا، و إن شئت سيّرته إلى بلاد العدو، فقالت: ما أريد واحدة منهما، فقال لها: فإنه ابن عمك و هو فيك راغب، فأزوّجك إياه، قالت: نعم، فزوجها منه، فكان الفرزدق يقول: خرجنا و نحن متباغضان، فعدنا متحابين.
قال: و كان الفرزدق قال لعبد اللّه بن الزبير - و قد توجه الحكم عليه - إنما تريد أن أفارقها فتثب عليها، و كان ابن الزبير حديدا(4)، فقال له: هل أنت و قومك إلا جالية(5) العرب؟.
ثم أمر به فأقيم، و أقبل على من حضر، فقال: إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة و خمسين سنة، فاستلبوه، فاجتمعت العرب عليها لما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط، فأجلتها من أرض تهامة، قال: فلقي الفرزدق بعض الناس، فقال: إيه يعيرنا ابن الزبير بالجلاء! اسمع، ثم قال:
فإن تغضب قريش أو تغضّب *** فإنّ الأرض توعبها تميم(6)
/هم عدد النجوم و كلّ حيّ *** سواهم لا تعدّ له نجوم
و لو لا بيت مكة ما ثويتم *** بها صحّ المنابت و الأروم(7)
ص: 191
/بها كثر العديد و طاب منكم *** و غيركم أخيذ الريش هيم(1)
فمهلا عن تعلّل من غدرتم *** بخونته و عذّبه الحميم(2)
أعبد اللّه مهلا عن أذاتي *** فإني لا الضعيف و لا الشوم
و لكنّي صفاة لم تدنّس *** تزلّ الطير عنها و العصوم(3)
أنا ابن العاقر الخور الصّفايا *** بضوّي حين فتّحت العكوم(4)
قال: فبلغ هذا الشّعر ابن الزبير، و خرج للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه، فغمز عنقه، فكاد يدقها، ثم قال:
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا *** و لو رضيت رمح استه لاستقرّت
و قال: هذا الشعر لجعفر بن الزبير.(5) و قيل: إن الذي كان تقرّر عليه عشرة آلاف درهم، و إنّ سلم بن زياد أمر له بعشرين ألف درهم مهرا و نفقة، فقبضها، فقالت له زوجته أمّ عثمان بنت عبد اللّه/بن عمرو بن أبي العاص الثقفيّة: أ تعطي عشرين ألف درهم و أنت محبوس(6)؟ فقال:
ألا بكرت عرسي تلوم سفاهة *** على ما مضى مني و تأمر بالبخل
فقلت لها - و الجود منّي سجيّة -: *** و هل يمنع المعروف سؤّاله مثلي؟(7)
ذريني فإنّي غير تارك شيمتي *** و لا مقصر طول الحياة عن البذل
و لا طارد ضيفي إذا جاء طارقا *** و قد طرق الأضياف شيخي من قبلي(8)
أ أبخل؟ إن البخل ليس بمخلدي *** و لا الجود يدنيني إلى الموت و القتل
أبيع بني حرب بآل خويلد! *** و ما ذاك عند اللّه في البيع بالعدل؟(9)
ص: 192
و ليس ابن مروان الخليفة مشبها *** لفحل بني العوّام، قبّح من فحل
فإن تظهروا لي البخل آل خويلد *** فما دأبكم دأبي و لا شكلكم شكلي
و إن تقهروني حين غابت عشيرتي *** فمن عجب الأيام أن تقهروا مثلي
فلما اصطلحا، و رضيت به(1)، ساق إليها مهرها، و دخل بها، و أحبلها قبل أن يخرج من مكة.
ثم خرجا و هما عديلان في محمل.
و أخبرني أبو خليفة، عن محمد بن سلام، عن إبراهيم بن حبيب بن الشّهيد بنحو من هذه القصة.
/قال عمر بن شبّة: قال الفرزدق في خبره:
يا حمز هل لك في ذي حاجة عرضت *** أنضاؤه بمكان غير ممطور(2)
فأنت أحرى قريش أن تكون لها *** و أنت بين أبي بكر و منظور(3)
بين الحواريّ و الصدّيق في شعب *** ثبتن في طنب الإسلام و الخير(4)
أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا محمد بن سلاّم قال: حدثنا عبد القاهر بن السّريّ السلمي، قال:
كان فتى من بني حرام(5) شويعر هجا الفرزدق، قال: فأخذناه، فأتينا به الفرزدق و قلنا: هذا بين يديك فإن شئت فاضرب، و ان شئت فاحلق، فلا عدوى عليك و لا قصاص، قد برئنا إليك منه، فخلّى سبيله و قال:
فمن يك خائفا لأذاة شعري *** فقد أمن الهجاء بنو حرام
هم قادوا سفيههم و خافوا *** قلائد مثل أطواق الحمام
قال ابن سلاّم: و حدثني عبد القاهر قال:
مرّ الفرزدق بمجلسنا مجلس بني حرام و معنا عنبسة مولى عثمان بن عفان، فقال: يا أبا فراس، متى تذهب إلى الآخرة؟ قال: و ما حاجتك إلى ذاك يا أخي؟ قال: أكتب معك إلى أبي، قال: أنا لا أذهب إلى حيث أبوك، أبوك في النار، أكتب إليه مع ريالويه و اصطقانوس.
أخبرني الحسن بن يحيى، عن حماد، عن أبيه قال: أخبرني مخبر، عن خالد بن كلثوم الكلبيّ، قال:
ص: 193
مررت بالفرزدق، و قد كنت دوّنت شيئا من شعره و شعر جرير، و بلغه ذلك، فاستجلسني، فجلست إليه، و عذت باللّه من شره، و جعلت أحدثه/حديث أبيه و أذكر له ما يعجبه، ثم قلت له: إني لأذكر يوم لقّبك بالفرزدق، قال: و أي يوم؟ قلت: مررت به و أنت صبيّ، فقال له بعض من كان يجالسه: كأنّ ابنك هذا الفرزدق دهقان الحيرة في تيهه و أبّهته، فسمّاك بذلك، فأعجبه هذا القول، و جعل يستعيد، ثم قال: أنشدني بعض أشعار ابن المراغة فيّ، فجعلت أنشده، حتى انتهيت، ثم قال: فأنشد نقائضها التي أجبته بها، فقلت: /ما أحفظها، فقال: يا خالد، أتحفظ ما قاله فيّ و لا تحفظ نقائضه؟ و اللّه لأهجونّ كلبا هجاء يتصل عاره بأعقابها إلى يوم القيامة، إن لم تقم حتى تكتب نقائضها أو تحفظها و تنشدينها، فقلت: أفعل فلزمته شهرا، حتى حفظت نقائضها، و أنشدته إياها خوفا من شره.
أخبرني عبد اللّه بن مالك قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: حدثني الأصمعي قال:
تزوج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس الشيباني، و خاصمته النّوار و أخذت بلحيته، فجاذبها و خرج عنها مغضبا و هو يقول:
قامت نوار إليّ تنتف لحيتي *** تنتاف جعدة لحية الخشخاش
كلتاهما أسد إذا ما أغضبت *** و إذا رضين فهنّ خير معاش
قال: و الخشخاش رجل من عنزة، و جعدة امرأته، فجاءت جعدة إلى النّوار، فقالت: ما يريد مني الفرزدق؟ أ ما وجد لامرأته أسوة غيري.
و قال الفرزدق للنوار يفضّل عليها حدراء.
لعمري لأعرابيّة في مظلّة *** تظلّ بروقي بيتها الريح تخفق(1)
أحبّ إلينا من ضناك ضفنّة *** إذا وضعت عنها المراويح تعرق(2)
كريم غزال أو كدرّة غائص *** تكاد - إذا مرت - لها الأرض تشرق
/فلما سمعت النوار ذلك أرسلت إلى جرير، و قالت للفرزدق: و اللّه لأخزينّك يا فاسق فجاء جرير، فقالت له: أما ترى ما قال الفاسق، و شكته إليه، و أنشدته شعره، فقال جرير: أنا أكفيك، و أنشأ يقول:
و لست بمطي الحكم عن شفّ منصب *** و لا عن بنات الحنظليّين راغب(3)
و هنّ كماء المزن يشفى به الصّدى *** و كانت ملاحا غيرهنّ المشارب(4)
ص: 194
لقد كنت أهلا أن يسوق دياتكم *** إلى آل زيق أن بعيبك عائب(1)
و ما عدلت ذات الصليب ظعينة *** عتيبة و الرّدفان منها و حاجب(2)
أ أهديت يا زيق بن بسطام طبية *** إلى شرّ من تهدى إليه القرائب(3)
ألا ربّما لم نعط زيقا بحكمه *** و أدّى إلينا الحكم و الغلّ لازب(4)
/حوينا أبا زيق و زيقا و عمّه *** و جدّه زيق قد حوتها المقانب(5)
فأجابه الفرزدق فقال:
تقول كليب حين مثّت سبالها *** و أعشب من مروتها كلّ جانب(6)
لسوّاق أغنام رعتهنّ أمّه *** إلى أن علاها الشيب فوق الذوائب(7)
أ لست إذا القعساء مرت براكب *** إلى آل بسطام بن قيس بخاطب(8)
و قالوا: سمعنا أنّ حدراء زوّجت *** على مائة شمّ الذّرى و الغوارب(9)
فلو كنت من أكفاء حدراء لم تلم *** على دارميّ بين ليلى و غالب
فنل مثلها من مثلهم ثم أمّهم *** بملكك من مال مراح و عازب(10)
و إني لأخشى إن خطبت إليهم *** عليك الذي لاقى يسار الكواعب(11)
ص: 195
و لو تنكح الشّمس النجوم بناتها *** نكحنا بنات الشمس قبل الكواكب
/(1)و في المناقضات التي دارت بين الفرزدق و جرير حول زواج بنت زيق، قال جرير أبياته التي أولها:
يا زيق أنكحت قينا في استه حمم *** يا زيق ويحك من أنكحت يا زيق(2)
أين الألى أنزلوا النعمان ضاحية *** أم أين أبناء شيبان الغرانيق؟(3)
يا ربّ قائلة بعد البناء بها: *** لا الصهر راض و لا ابن القين معشوق
غاب المثنّى فلم يشهد نجيّكما *** و الحوفزان و لم يشهدك مفروق(4)
و الفرزدق يقول لجرير:
إن كان أنفك قد أعياك محمله *** فاركب أتانك ثم اخطب إلى زيق(5)
أخبرني الحسن بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن زكريا بن ثباة الثقفي(6) قال:
أنشدني الفرزدق قصيدته التي رثى فيها ابنه، فلما انتهى إلى قوله:
بفي الشّامتين الصّخر إن كان مسّني *** رزيّة شبل مخدر في الضّراغم(7)
[/فلما فرغ](8) /قال: يا أبا يحيى، أ رأيت ابني؟ قلت: لا، قال: و اللّه ما كان يساوي عباءته.
قال إسحاق: حدثني أبو محمد العبديّ، عن اليربوعيّ، عن أبي نصر قال: قدم لبطة بن الفرزدق الحيرة، فمر بقوم من بني تغلب فاستقراهم فقروه، ثم قالوا له: من أنت؟ قال: ابن شاعركم و مادحكم، و أنا و اللّه ابن الذي يقول فيكم:
أضحى لتغلب من تميم شاعر *** يرمي الأعادي بالقريض الأثقل
ص: 196
إن غاب كعب بني جعيل عنهم *** و تنمّر الشعراء بعد الأخطل(1)
يتباشرون بموته و وراءهم *** منّي لهم قطع العذاب المرسل
فقالوا له: فأنت ابن الفرزدق إذا، قال: أنا هو، فتنادوا: يا آل تغلب، اقضوا حق شاعركم و الذائد عنكم في ابنه، فجعلوا له مائة ناقة، و ساقوها إليه، فانصرف بها.
أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلاّم قال: أتى الفرزدق عبد اللّه بن مسلم الباهليّ فسأله فثقل عليه الكثير، و خشية في القليل، و عنده عمرو بن عفراء الضّبيّ رواية الفرزدق و قد كان هجاه جرير لروايته للفرزدق في قوله:
و نبّئت جوّابا و سلما يسبّني *** و عمرو بن عفري. لا سلام على عمرو(2)
فقال ابن عفراء للباهليّ: لا يهولنّك أمره، أنا أرضيه عنك فأرضاه بدون ما كان همّ له به، فأعطاه ثلاثمائة درهم، فقبلها الفرزدق و رضي عنه، فبلغه بعد ذلك صنيع عمرو فقال:
/ستعلم يا عمرو بن عفري من الذي *** يلام إذا ما الأمر غبّت عواقبه(3)
نهيت ابن عفرى أن يعفّر أمّه *** كعفر السّلا إذ جرّرته ثعالبه(4)
فلو كنت ضبّيا صفحت و لو سرت *** على قدمي حيّاته و عقاربه(5)
و لكن ديافيّ أبوه و أمّه *** بحوران يعصرن السليط أقاربه(6)
و لما رأى الدّهنا رمته جبالها *** و قالت ديافيّ مع الشام جانبه(7)
فإن تغضب الدهنا عليك فما بها *** طريق لمرتاد تقاد ركائبه(8)
تضنّ بمال الباهليّ كأنما *** تضنّ على المال الذي أنت كاسبه
و إنّ امرأ يغتابني لم أطأ له *** حريما و لا ينهاه عنّي أقاربه(9)
كمحتطب يوما أساود هضبة *** أتاه بها في ظلمة الليل حاطبه(10)
أ حين التقى ناباي و ابيضّ مسحلي *** و أطرق إطراق الكرى من يجانبه(11)
ص: 197
فقال ابن عفراء، و أتاه في نادي قومه: أجهد جهدك، هل هو إلا أن تسبني، و اللّه لا أدع لك مساءة إلا أتيتها، و لا تأمرني بشيء إلا اجتنبته و لا تنهاني عن شيء إلا ركبته، قال: فاشهدوا أني أنهاه أن ينيك أمه، فضحك القوم و خجل ابن عفري.
أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: حدثنا شعيب بن صخر قال:
/تزوج ذبيان بن أبي ذبيان العدوي من بلعدوية، فدعا الناس في وليمته، فدعا ابن أبي شيخ الفقيميّ، فألقى الفرزدق عنده، فقال له: يا أبا فراس، انهض، قال: إنه لم يدعني، قال: إن ابن ذبيان يؤتى و إن لم يدع، ثم لا تخرج من عنده إلا بجائزة فأتياه، فقال الفرزدق حين دخل:
كم قال لي ابن أبي شيخ و قلت له: *** كيف السّبيل إلى معروف ذبيان
/إنّ القلوص إذا ألقت جآجئها *** قدام بابك لم نرحل بحرمان(1)
قال: أجل يا أبا فراس فدخل فتغدى عنده، و أعطاه ثلاثمائة درهم.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال: حدثني أبو بكر المدنيّ قال:
دخل الفرزدق المدينة فوافق فيها موت طلحة بن عبد الرحمن بن عوف الزّهريّ - و كان سيدا سخيّا شريفا - فقال: يا أهل المدينة، أنتم أذل قوم للّه، قالوا: و ما ذاك يا أبا فراس؟ قال: غلبكم الموت على طلحة حتى أخذه(2) منكم.
و أتى مكة، فأتى عمرو بن عبد اللّه بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحيّ - و هو سيد أهل مكة يومئذ - و ليس عنده نقد حاضر، و هو يتوقع أعطيته و أعطية ولده و أهله، فقال: و اللّه يا أبا فراس، ما وافقت عندنا نقدا، و لكن عروضا(3) إن شئت، فعندنا رقيق فرهة(4)، فإن شئت أخذتهم، قال: نعم، فأرسل له بوصفاء من بنيه و بني أخيه، فقال: هم لك عندنا حتى تشخص، و جاءه العطاء، فأخبره الخبر و فداهم، فقال الفرزدق و نظر إلى عبد العزيز بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد و كان يطوف بالبيت الحرام يتبختر:
/تمشي تبختر حول البيت منتخبا *** لو كنت عمرو بن عبد اللّه لم تزد(5)
أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: حدثنا عامر بن أبي عامر - و هو صالح بن رستم الخراز - قال:
أخبرني أبو بكر الهذلي قال:
ص: 198
إنا لجلوس عند الحسن إذ جاء الفرزدق يتخطى حتى جلس إلى جنبه، فجاء رجل، فقال: يا أبا سعيد: الرجل يقول: لا و اللّه، بلى و اللّه في كلامه، قال: لا يريد اليمين، فقال الفرزدق: أ و ما سمعت ما قلت في ذلك؟ قال الحسن: ما كلّ ما قلت سمعوا فما قلت؟ قال: قلت:
و لست بمأخوذ بلغو تقوله *** إذا لم تعمّد عاقدات العزائم(1)
قال: فلم ينشب أن جاء رجل آخر، فقال: يا أبا سعيد. نكون في هذه المغازي فنصب المرأة لها زوج، أ فيحلّ غشيانها و إن لم يطلّقها زوجها؟ فقال الفرزدق: أ و ما سمعت ما قلت في ذلك؟ قال الحسن: ما كلّ ما قلت سمعوا فما قلت؟ قال: قلت:
و ذات حليل أنكحتنا رماحنا *** حلالا لمن يبني بها لم تطلّق(2)
قال أبو خليفة: أخبرني محمد بن سلام، و أخبرني محمد بن جعفر قالا:
أتى الفرزدق الحسن(3)، فقال: إني هجوت إبليس فاسمع؟ قال لا حاجة لنا بما تقول، قال: لتسمعنّ أو لأخرجنّ، فأقول للناس: إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس، قال: اسكت فإنك بلسانه تنطق.
قال محمد بن سلام: أخبرني سلام أبو المنذر، عن علي بن زيد قال: ما سمعت الحسن متمثلا شعرا قط إلا بيتا واحدا و هو قوله:
الموت باب و كلّ الناس داخله *** فليت شعري بعد الباب ما الدّار؟
قال: و قال لي يوما: ما تقول في قول الشاعر:
لو لا جرير هلكت بجيلة *** نعم الفتى و بئست القبيلة
أ هجاه أم مدحه؟ قلت: مدحه و هجا قومه، قال: ما مدح من هجي قومه.
و قال جرير بن حازم: /و لم أسمعه ذكر شعرا قط إلا:
ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميّت الأحياء
و قال رجل لابن سيرين و هو قائم يستقبل القبلة يريد أن يكبّر: أ يتوضّأ(4) من الشعر؟ فانصرف بوجهه إليه فقال:
ألا أصبحت عرس الفرزدق ناشزا *** و لو رضيت رمح استه لاستقرّت
ص: 199
ثم كبر.
قال ابن سلاّم: و كان الفرزدق أكثرهم بيتا مقلّدا - و المقلّد: المغني(1) المشهور الذي يضرب به المثل - من ذلك قوله:
فيا عجبا حتى كليب تسبني *** كأنّ أباها نهشل أو مجاشع(2)(3) و قوله:
ليس الكرام بناحليك أباهم *** حتى يردّ إلى عطية نهشل(4)
/و قوله:
و كنّا إذا الجبّار صعّر خدّه *** ضربناه حتى تستقيم الأخادع(5)
و قوله:
و كنت كذئب السوء لما رأى دما *** بصاحبه يوما أحال على الدّم(6)
و قوله:
ترجّي ربيع أن تجيء صغارها *** بخير و قد أعيا ربيعا كبارها
و قوله:
أكلت دوابرها الإكام فمشيها *** مما و جئن كمشية الإعياء(7)
و قوله:
قوارص تأتيني و تحتقرونها *** و قد يملأ القطر الإناء فيفعم
و قوله:
أحلامنا تزن الجبال رزانة *** و تخالنا جنا إذا ما نجهل(8)
.
و قوله(9)
و إنك إذ تسعى لتدرك دارما *** لأنت المعنّى يا جرير المكلّف(10)
و قوله:
فإن تنج مني تنج من ذي عظيمة *** و إلا فإنّي لا إخالك ناجيا
و قوله:
ترى كل مظلوم إلينا فراره *** و يهرب منا جهده كلّ ظالم
و قوله:
ترى الناس ما سرنا يسيرون حولنا *** و إن نحن أومأنا إلى النّاس وقّفوا
و قوله:
فسيف بني عبس و قد ضربوا به *** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد(11)
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها *** و يقطعن أحيانا مناط القلائد
ص: 200
/و كان يداخل الكلام، و كان ذلك يعجب(1) أصحاب النحو، من ذلك قوله يمدح هشام بن إسماعيل المخزوميّ خال هشام بن عبد الملك:
و أصبح ما في الناس إلا مملّكا *** أبو أمه حيّ أبوه يقاربه(2)
و قوله:
تاللّه قد سفهت أميّة رأيها *** فاستجهلت سفهاؤها حلماءها(3)
و قوله:
أ لستم عائجين بنا لعنّا *** نرى العرصات أو أثر الخيام(4)
فقالوا: إن فعلت فأغن عنا *** دموعا غير راقئة السّجام(5)
و قوله:
فهل أنت إن ماتت أتانك راحل *** إلى آل بسطام بن قيس فخاطب(6)
و قوله:
فنل مثلها من مثلهم ثم دلّهم *** على دارميّ بين ليلى و غالب(7)
و قوله:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني *** نكن مثل من - يا ذئب - يصطحبان(8)
/و قوله:
إنا و إياك إن بلّغن أرحلنا *** كمن بواديه بعد المحل ممطور(9)
و قوله:
بنى الفارق أمّك و ابن أروى *** به عثمان مروان المصابا(10)
/و قوله:
إلى ملك ما أمّه من محارب *** أبوه و لا كانت كليب تصاهره(11)
و قوله:
إليك أمير المؤمنين رمت بنا *** هموم المنا و الهوجل المتعسّف(12)
و عضّ زمان يا بن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحتا أو مجلّف(13)
ص: 201
و قوله:
و لقد دنت لك بالتخلّف إذ دنت *** منها بلا بخل و لا مبذول(1)
و كأنّ لون رضاب فيها إذ بدا *** برد بفرع بشامة مصقول(2)
و قوله فيها لمالك بن المنذر:
إنّ ابن ضبّاري ربيعة مالكا *** للّه سيف صنيعة مسلول(3)
ما نال من آل المعلّى قبله *** سيف لكل خليفة و رسول(4)
/ما من يدي رجل أحقّ بما أتى *** من مكرمات عطاية الأخطار(5)
من راحتين يزيد يقدح زنده *** كفّاهما و يشدّ عقد جوار(6)
و قوله:
إذا جئته أعطاك عفوا و لم يكن *** على ماله حال الندى منك سائله(7)
لدى ملك لا تنصف النعل ساقه *** أجل لا، و إن كانت طوالا حمائله(8)
و قوله:
و الشيب ينهض في الشباب كأنه *** ليل يسير بجانبيه نهار
قال أبو خليفة: أخبرنا محمد بن سلام قال: حدثني شعيب بن صخر، عن محمد بن زياد، و أخبرني به الجوهري و جحظة عن ابن شبّة، عن محمد بن سلام، و كان محمد في زمام الحجاج زمانا قال:
انتهيت إلى الفرزدق بعد موت الحجاج بالرّدم(9) و هو قائم و الناس حوله(10) ينشد مديح سليمان بن عبد الملك:
و كم أطلقت كفاك من غلّ بائس *** و من عقدة ما كان يرجى انحلالها
كثيرا من الأيدي التي قد تكتّفت *** فككت و أعناقا عليها غلالها(11)
قال: قلت: أنا و اللّه أحدهم، فأخذ بيدي و قال: أيها الناس سلوه عما أقول و اللّه ما كذبت قط.
أخبرني جحظة قال: حدثني ابن شبة، عن محمد بن سلاّم فذكر مثله و قال فيه: و اللّه ما كذبت قط و لا أكذب أبدا.
ص: 202
قال أبو خليفة: قال ابن سلام: و سمعت الحارث بن محمد بن زياد يقول:
كتب يزيد بن المهلب لما فتح جرجان إلى أخيه مدركة أو مروان: أحمل إليّ الفرزدق، فإذا شخص فأعط أهله كذا و كذا؛ ذكر عشرة آلاف درهم، فقال له الفرزدق: ادفعها إليّ، قال: اشخص و أدفعها إلى أهلك، فأبى، و خرج و هو يقول:
دعاني إلى جرجان و الرّيّ دونه *** لآتيه إنّي إذا لزءور(1)
لآتي من آل المهلب ثائرا *** بأعراضهم و الدّائرات تدور(2)
سآبى و تأبى لي تميم و ربما *** أبيت فلم يقدر عليّ أمير
قال أبو خليفة: قال ابن سلاّم:
و سمعت سلمة بن عيّاش قال: حبست في السجن، فإذا فيه الفرزدق قد حبسه مالك بن المنذر بن الجارود، فكان يريد أن يقول البيت فيقول صدره و أسبقه إلى القافية، و يجيء إلى القافية فأسبقه إلى الصدر، فقال لي: ممّن أنت؟ قلت: من قريش قال: كلّ أير حمار من قريش، من أيّهم أنت؟ قلت: من بني عامر بن لؤي، قال: لئام و اللّه أذلة، جاورتهم فكانوا شرّ جيران، قلت: أ لا أخبرك بأذلّ منهم و ألأم؟ قال: من؟ قلت: بنو مجاشع، قال: و لم ويلك! قلت: أنت سيدهم و شاعرهم و ابن سيدهم، جاءك شرطي مالك، حتى أدخلك السجن، لم يمنعوك. قال: قاتلك اللّه.
قال أبو خليفة: قال ابن سلاّم:
و كان مسلمة بن/عبد الملك على العراق بعد قتل يزيد بن المهلب فلبث بها غير كثير، ثم عزله يزيد بن عبد الملك، و استعمل عمر بن هبيرة على العراق فأساء عزل مسلمة، فقال الفرزدق و أنشدنيه يونس:
/ولت بمسلمة الركاب مودّعا *** فارعي فزارة لا هناك المرتع(3)
فسد الزمان و بدّلت أعلامه *** حتى أميّة عن فزارة تنزع(4)
و لقد علمت إذا فزارة أمّرت *** أن سوف تطمع في الإمارة أشجع(5)
و بحقّ ربك ما لهم و لمثلهم *** في مثل ما نالت فزارة مطمع(6)
عزل ابن بشر و ابن عمرو قبله *** و أخو هراة لمثلها يتوقّع
ابن بشر: عبد الملك بن بشر بن مروان، كان على البصرة، أمّره عليها مسلمة. و ابن عمرو: سعيد بن
ص: 203
حذيفة بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، و أخو هراة: عبد العزيز بن الحكم بن أبي العاص.
و يروى للفرزدق في ابن هبيرة:
أمير المؤمنين و أنت عفّ *** كريم لست بالطّبع الحريص(1)
أ ولّيت العراق و رافديه *** فزاريّا أحذّ يد القميص(2)
و لم يك قبلها راعي مخاض *** لتأمنه على و ركي قلوص(3)
تفنّن بالعراق أبو المثنّى *** و علّم أهله أكل الخبيص(4)
/و أنشدني له يونس:
جهّز فإنك ممتار و مبتعث *** إلى فزارة عيرا تحمل الكمرا(5)
إنّ الفزاريّ لو يعمى فأطعمه *** أير الحمار طبيب أبرأ البصرا
إن الفزاريّ لا يشفيه من قرم *** أطائب العير حتى ينهش الذّكرا
يقول لمّا رأى ما في إنائهم: *** للّه ضيف الفزاريين ما انتظرا(6)
فلما قدم خالد بن عبد اللّه القسريّ واليا على ابن هبيرة حبسه في السجن، فنقب له سرب، فخرج منه، فهرب إلى الشام، فقال فيه الفرزدق يذكر خروجه:
و لما رأيت الأرض قد سدّ ظهرها *** و لم تر إلا بطنها لك مخرجا
دعوت الذي ناداه يونس بعد ما *** ثوى في ثلاث مظلمات ففرّجا(7)
فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة *** و ما سار سار مثلها حين أدلجا
خرجت و لم تمنن عليك شفاعة *** سوى ربذ التقريب من آل أعوجا(8)
أغرّ من الحوّ اللهاميم إذ جرى *** جرى بك محبوك القرى غير أفحجا(9)
جرى بك عريان الحماتين ليله *** به عنك أرخى اللّه ما كان أشرجا(10)
ص: 204
و ما احتال محتال كحيلته التي *** بها نفسه تحت الصّريمة أولجا(1)
/و ظلماء تحت الأرض قد خضت هولها *** و ليل كلون الطيلسانيّ أدعجا(2)
هما ظلمتا ليل و أرض تلاقتا *** على جامع من همّه ما تعوّجا(3)
/فحدثني جابر بن جندل قال: فقيل لابن هبيرة: من سيد العراق؟ قال: الفرزدق هجاني أميرا و مدحني سوقة و قال الفرزدق لخالد القسري حين قدم العراق أميرا لهشام:
ألا قطع الرحمن ظهر مطيّة *** أتتنا تمطّى من دمشق بخالد(4)
و كيف يؤمّ المسلمين و أمّه *** تدين بأنّ اللّه ليس بواحد
بنى بيعة فيها الصّليب لأمّة *** و هدم من كفر منار المساجد
و قال أيضا:
نزلت بجيلة واسطا فتمكّنت *** و نفت فزارة عن قرار المنزل(5)
و قال أيضا:
لعمري لئن كانت بجيلة زانها *** جرير لقد أخزى بجيلة خالد
فلما قدم العراق خالد أميرا أمّر على شرطة البصرة مالك بن المنذر بن الجارود، و كان عبد الأعلى بن عبد اللّه بن عامر يدّعي على مالك قرية(6)، فأبطلها خالد، و حفر النهر الذي سماه المبارك، فاعترض عليه الفرزدق، فقال:
أهلكت مال اللّه في غير حقّه *** على النّهر المشئوم غير المبارك
و تضرب أقواما صحاحا ظهورهم *** و تترك حقّ اللّه في ظهر مالك(7)
/أ إنفاق مال اللّه في غير كنهه *** و منعا لحقّ المرملات الضرائك؟(8)
أخبرني عبد اللّه بن مالك قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن الأصمعيّ قال: قال أعين بن لبطة:
دخل الفرزدق على الحجاج لما تزوج حدراء يستميحه مهرها، فقال له: تزوّجت أعرابية على مائة بعير، فقال
ص: 205
له عنبسة بن سعيد: إنما هي فرائض قيمتها ألفا درهم، - الفريضة عشرون درهما - فقال له الحجاج: ليس غيرها، يا كعب، أعط الفرزدق ألفي درهم.
قال: و قدم الفضيل العنزيّ بصدقات بكر بن وائل،(1) فاشترى الفرزدق مائة بعير بألفين و خمسمائة درهم على أن يثبتها له في الديوان، قال الفرزدق: فصليت مع الحجاج الظهر حتى إذا سلّم، خرجت فوقفت في الدار فرآني، فقال مهيم(2)، فقلت: إن الفضيل العنزي قدم بصدقات بكر بن وائل(3)، و قد اشتريت منه مائة بعير بألفين و خمسمائة درهم على أن تحتسب له في الديوان، فإن رأى الأمير أن يأمر لي بإثباتها له فعل، فأمر أبا كعب أن يثبت للفضيل ألفين و خمسمائة درهم، و نسي ما كان أمر له به(4)، قال: فلما جاء الفرزدق بالإبل قالت له النوار:
خسرت صفقتك، أ تتزوج أعرابية نصرانية سوداء مهزولة خمشاء(5) الساقين على مائة من الإبل؟ فقال يعرّض بالنّوار و كانت أمها وليدة:
لجارية بين السّليل عروقها *** و بين أبي الصّهباء من آل خالد(6)
أحقّ بإغلاء المهور من التي *** ربت تتردّى في حجور الولائد
/فأبت النوار عليه أن يسوقها كلها، فحبس بعضها، و امتار(7) عليه ما يحتاج إليه أهل البادية، و مضى و معه دليل يقال له أوفى بن خنزير، قال أعين: فلما كان في أدنى الحي رأوا كبشا مذبوحا، فقال الفرزدق: يا أوفى، هلكت و اللّه حدراء، قال: و ما علمك بذلك؟ قال: و يقال: إن أوفى قال للفرزدق: يا أبا فراس لن ترى حدراء، فمضوا حتى وقفوا على نادي زيق، و هو جالس، فرحب به، و قال له: انزل فإن حدراء قد ماتت، و كان زيق نصرانيا فقال: قد عرفنا أن نصيبك/من ميراثها في دينكم النصف، و هو لك عندنا، فقال له الفرزدق: و اللّه لا أرزؤك منه قطميرا، فقال زيق: يا بني دارم، ما صاهرنا أكرم منكم في الحياة و لا أكرم منكم شركة في الممات، فقال الفرزدق:
عجبت لحادينا المقحّم سيره *** بنا موجعات من كلال و ظلّعا(8)
ليدنينا ممن إلينا لقاؤه *** حبيب و من دار أردنا لتجمعا
و لو نعلم الغيب الذي من أمامنا *** لكرّبنا الحادي المطيّ فأسرعا(9)
يقولون: زر حدراء و التّرب دونها *** و كيف بشيء وصله قد تقطّعا(10)
ص: 206
يقول ابن خنزير: بكيت و لم تكن *** على امرأة عيني إخال لتدمعا
و أهون رزء لامرئ غير جازع *** رزيئة مرتج الروادف أفرعا(1)
و لست - و إن عزّت - عليّ بزائر *** ترابا على مرموسة قد تضعضعا(2)
/(3)و قيل إن النّوار كانت استعانت بأم هاشم لا بتماضر، و أم هاشم أخت تماضر؛ لأن تماضر ماتت عند عبد اللّه بعد أن ولدت له خبيبا و ثابتا ابنى عبد اللّه بن الزبير، و تزوّج بعدها أختها أم هاشم، فولدت له هاشما و حمزة و عبّادا، و في أم هاشم يقول الفرزدق:
تروّحت الرّكبان يا أمّ هاشم *** و هنّ مناخات لهن حنين
و حبّسن حتّى ليس فيهن نافق *** لبيع و لا مركوبهن سمين(4)
أخبرنا عبد اللّه قال: حدثنا محمد بن حبيب قال: حدثني الأصمعيّ قال:
نشزت رهيمة بنت غنيّ بن درهم النّمريّة بالفرزدق فطلّقها، و قال يهجوها بقوله:
لا ينكحن بعدي فتى نمرية *** مرمّلة من بعلها لبعاد(5)
و بيضاء زعراء المفارق شختة *** مولّعة في خضرة و سواد(6)
لها بشر شئن كأن مضمّه *** إذا عانقت بعلا مضمّ قتاد(7)
قرنت بنفسي الشؤم في ورد حوضها *** فجرّعته ملحا بماء رماد
و ما زلت - حتى فرّق اللّه بيننا *** له الحمد - منها في أذى و جهاد
تجدّد لي ذكرى عذاب جهنّم *** ثلاثا تمسّيني بها و تغادي(8)
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني الحسين(9) بن موسى قال: قال المدائني: لقي الفرزدق جارية لبني نهشل، فجعل ينظر إليها نظرا شديدا، فقالت له: مالك تنظر؟ فو اللّه لو كان لي ألف حر ما طمعت في واحد منها، قال: و لم يا لخناء(10)؟ قالت: لأنك قبيح المنظر سيّئ المخبر فيما أرى، فقال: أما و اللّه لو جربتني لعفّى خبري
ص: 207
على منظري، قال: ثم كشف لها عن مثل ذراع البكر، فتضبّعت(1) له عن مثل سنام البكر(2) فعالجها، فقالت:
أ نكاح بنسيئة؟ هذا شر القضية، قال: ويحك، ما معي إلا جبتي، أ فتسلبينني إياها ثم تسنّمها، فقال:
أولجت فيها كذراع البكر *** مد ملك الرأس شديد الأسر(3)
زاد على شبر و نصف شبر *** كأنني أولجته في جمر
يطير عنه نفيان الشّعر *** نفى شعور الناس يوم النحر(4)
قال: فحملت منه، ثم ماتت، فبكاها و بكى ولده منها.
و غمد سلاح قد رزئت فلم أنح *** عليه و لم أبعث عليه البواكيا
و في جوفه من دارم ذو حفيظة *** لو أنّ المنايا أنسأته لياليا
و لكنّ ريب الدهر يعثر بالفتى *** فلم يستطع ردّا لما كان جائيا(5)
و كم مثله في مثلها قد وضعته *** و ما زلت وثّابا أجرّ المخازيا(6)
/فقال جرير يعيره:
و/كم لك يا بن القين إنّ جاء سائل *** من ابن قصير الباع مثلك حامله(7)
و آخر لم تشعر به قد أضعته *** و أوردته رحما كثيرا غوائله(8)
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: حدثني محمد بن سليمان الكوفي(9)عن أبيه قال:
تزوج الفرزدق ظبية ابنة حالم من بني مجاشع بعد أن أسنّ، فضعف، و تركها عند أمها بالبادية سنة، و لم يكن صداقها عنده، فكتب إلى أبان بن الوليد البجليّ - و هو على فارس عامل لخالد بن عبد اللّه القسريّ - فأعطاه ما سأل و أرضاه، فقال يمدحه:
فلو جمعوا من الخلاّن ألفا *** فقالوا: أعطنا بهم أبانا
لقلت لهم: إذا لغبنتموني *** و كيف أبيع من شرط الزمانا(10)
ص: 208
خليل لا يرى المائة الصّفايا *** و لا الخيل الجياد و لا القيانا
عطاء دون أضعاف عليها *** و يطعم ضيفه العبط السّمانا
العبط: الإبل التي لا وجع بها.
فما أرجو لظبية غير ربّي *** و غير أبي الوليد بما أعانا(1)
/أعان بهجمة أرضت أباها *** و كانت عنده غلقا رهانا(2)
و قال أيضا في ذلك:
لقد طال ما استودعت ظبية أمّها *** و هذا زمان ردّ فيه الودائع
و قال حين أراد أن يبني بها:
أبادر سؤّالا بظبية أنني *** أتتني بها الأهوال من كل جانب(3)
بمالئة الحجلين لو أنّ ميّتا *** و لو كان في الأموات تحت النصائب(4)
دعته لألقى التّرب عند انتفاضه *** - و لو كان تحت الراسيات الرواسب -(5)
فلما ابتنى منها عجز عنها فقال:
يا لهف نفسي على نعظ فجعت به *** حين التقى الرّكب المحلوق و الرّكب(6)
و قال جرير:
و تقول ظبية إذ رأتك محوقلا *** - حوق الحمار - من الخبال الخابل(7)
إنّ البليّة و هي كلّ بلية *** شيخ يعلّل عرسه بالباطل
لو قد علقت من المهاجر سلّما *** لنجوت منه بالقضاء الفاصل(8)
/قال: فنشزت فيه، و نافرته إلى المهاجر، و بلغه قول جرير فقال المهاجر: لو أتتني بالملائكة معها لقضيت للفرزدق عليها.
قال: و كان للفرزدق ابنة يقال لها مكية، و كانت زنجية، و كان إذا حمي الوطيس، و بلغ منه الهجاء يكتنى بها، و يقول:
ص: 209
ذاكم إذا ما كنت ذا محميّه *** بدارميّ أمّه ضبّيه(1)
صمحمح يكنى أبا مكّية
و قال في أمها:
/يا ربّ خود من بنات الزّنج *** تحمل تنّورا شديد الوهج(2)
أقعب مثل القدح الخلنج *** يزداد طيبا عند طول الهرج(3)
مخجتها بالأير أيّ مخج(4)
فقالت له النوار: ريحها مثل ريحك.
و قال في أم مكية يخاطب النّوار:
فإن يك خالها من آل كسرى *** فكسرى كان خيرا من عقال
و أكثر جزية تهدى إليه *** و أصبر عند مختلف العوالي
/قال: و كانت أم النّوار(5) خراسانية، فقال لها في أم مكية:
أغرك منها أدمة عربيّة *** علت لونها إن البجاديّ أحمر(6)
حدثني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبي قال:
دخل الفرزدق على سعيد بن العاص و هو والي المدينة لمعاوية فأنشده:
نرى الغرّ الجحاجح من قريش *** إذا ما الخطب في الحدثان غالا(7)
وقوفا ينظرون إلى سعيد *** كأنهم يرون به هلالا
و عنده كعب بن جعيل، فلما فرغ من إنشاده قال كعب: هذه و اللّه رؤياي البارحة، رأيت كأنّ ابن مرّة في نواحي المدينة و أنا أضم ذلاذلي(8) خوفا منه، فلما خرج الفرزدق خرج مروان في أثره فقال: لم ترض أن تكون قعودا حتى جعلتنا قياما في قولك:
ص: 210
قياما ينظرون إلى سعيد *** كأنهم يرون به هلالا
فقال له: يا أبا عبد الملك إنك من بينهم صافن(1)، فحقد عليه مروان ذلك، و لم تطل الأيام حتى عزل سعيد، و ولّي مروان فلم يجد على الفرزدق متقدّما(2) حتى قال قصيدته التي قال فيها:
/هما دلّتاني من ثمانين قامة *** كما انقضّ باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا *** أ حيّ يرجّى أم قتيل نحاذره
فقلت: ارفعا الأمراس لا يشعروا بنا *** و أقبلت في أعقاب ليل أبادره(3)
أبادر بوّابين لم يشعروا بنا *** و أحمر من ساج تلوح مسامره(4)
فقال له مروان: أ تقول هذا بين أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أخرج عن المدينة فذلك قول جرير:
تدلّيت تزني من ثمانين قامة *** و قصّرت عن باع الندى و المكارم(5)
أخبرنا(6) ابن دريد، قال: أخبرنا الرياشي، عن محمد بن سلاّم، قال:
دخل الفرزدق المدينة هاربا من زياد، و عليها سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس أميرا من قبل معاوية، فدخل على سعيد، و مثل بين يديه، و هو معتم(7)، و في مجلس سعيد الحطيئة و كعب بن جعيل التغلبي، و صاح الفرزدق: أصلح اللّه الأمير، أنا عائذ باللّه و بك، أنا رجل من تميم، ثم أحد بني دارم، أنا الفرزدق بن غالب، قال:
فأطرق سعيد مليّا، فلم يجبه، فقال الفرزدق: رجل لم يصب دما حراما، و لا مالا حراما، فقال سعيد: إن كنت كذلك فقد أمنت، فأنشده:
/إليك فررت منك و من زياد *** و لم أحسب دمي لكما حلالا(8)
و لكنّي هجوت و قد هجاني *** معاشر قد رضخت لهم سجالا(9)
فإن يكن الهجاء أحلّ قتلي *** فقد قلنا لشاعرهم و قالا
ص: 211
أرقت فلم أنم ليلا طويلا *** أراقب هل أرى النّسرين زالا(1)
عليك بني أمية فاستجرهم *** و خذ منهم لما تخشى حبالا
فإنّ بني أمية في قريش *** بنوا لبيوتهم عمدا طوالا
ترى الغرّ الجحاجح من قريش *** إذا ما الأمر في الحدثان غالا
قياما ينظرون إلى سعيد *** كأنّهم يرون به هلالا
قال: فلما قال هذا البيت، قال الحطيئة لسعيد: هذا و اللّه الشعر، لا ما كنت تعلّل به منذ اليوم، فقال كعب بن جعيل: فضلته على نفسك(2)، فلا تفضله على غيرك، قال: بلى و اللّه إنه ليفضلني و غيري، يا غلام، أدركت من قبلك، و سبقت من بعدك، و لئن طال عمرك لتبرزنّ.
ثم عبث الحطيئة بالفرزدق، فقال: يا غلام، أنجدت أمّك؟ قال: لا بل أبي، أراد الحطيئة: إن كانت أمك أنجدت فقد أصبتها فولدتك إذ شابهتني في الشعر، فقال الفرزدق: لا بل أبي(3)، فوجده لقنا.
أخبرني ابن دريد قال: قال لنا أبو حاتم: قال الأصمعي:
/و من عبثات الفرزدق أنه لقي مخنّثا فقال له: من أين راحت عمتنا؟ فقال له المخنث: نفاها الأغر بن عبد العزيز يريد قول جرير:
نفاك الأغرّ ابن عبد العزيز *** و حقّك تنفى من المسجد
أخبرنا ابن دريد عن الرياشيّ، عن النضر بن شميل قال: قال جرير:
ما قال لي ابن القين بيتا إلا و قد اكتفأته، أي قلبته إلا قوله:
ليس الكرام بناحليك أباهم *** حتى يرد إلى عطية تعتل(4)
/فإني لا أدري كيف أقول فيها.
و أخبرني ابن دريد قال: حدثنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبيّ، عن عوانة بن الحكم، قال:
بينما جرير واقف في المربد و قد ركبه الناس و عمر بن لجأ مواقفه(5) فأنشده عمر جواب قوله:
ص: 212
يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم *** لا يقذفنّكم في سوأة عمر
أ حين صرت سماما يا بني لجأ *** و خاطرت بي عن أحسابها مضر(1)
فقال عمر جواب هذا:
لقد كذبت و شرّ القول أكذبه *** ما خاطرت بك عن أحسابها مضر
أ لست نزوة خوّار على أمة؟ *** لا يسبق الحلبات اللؤم و الخور(2)
/و قد كان الفرزدق رفده بهذين البيتين في هذه القصيدة، فقال جرير لما سمعها: قبحا لك يا بن لجأ، أ هذا شعرك، كذبت و اللّه و لو متّ (3)، هذا شعر حنظلى، هذا شعر العزيز(4) يعني الفرزدق فأبلس عمر فما ردّ جوابا.
و خرج غنيم بن أبي الرّقراق حتى أتى الفرزدق، فضحك، و قال: إيه يا بن أبي الرقراق، و إن عندك لخبرا، قلت: خزي أخوك ابن قتب، فحدثته، فضحك، حتى فحص برجليه، ثم قال في ساعته:
و ما أنت إن قرما تميم تساميا *** أخا التّيم إلا كالوشيظة في العظم(5)
فلو كنت مولى الظلم أو في ثيابه *** ظلمت و لكن لا يدي لك بالظّلم(6)
فلما بلغ هذان البيتان جريرا قال: ما أنصفني في شعر قط قبل هذا يعني قوله:
... إن قرما تميم تساميا
أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا الرياشيّ قال:
كان الفرزدق مهيبا تخافه الشعراء، فمر يوما بالشمردل، و هو ينشد قصيدته حتى بلغ إلى قوله:
و ما بين من لم يعط سمعا و طاعة *** و بين تميم غير حزّ الغلاصم(7)
/قال: و اللّه لتتركنّ هذا البيت أو لتتركنّ عرضك، قال: خذه على كره مني، فهو في قصيدة الفرزدق التي أولها قوله:
تحنّ بزوراء المدينة ناقتي
ص: 213
قال: و كان الفرزدق يقول: خير السرقة ما لا يجب فيه القطع يعني سرقة الشعر.
أخبرنا ابن دريد عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، عن الضحاك بن بهلول الفقيميّ قال:
بينما أنا بكاظمة و ذو الرّمة ينشد قصيدته التي يقول فيها:
أ حين أعاذت بي تميم نساءها *** و جرّدت تجريد اليماني من الغمد
إذا راكبان قد تدلّيا من نعف كاظمة متقنعان، فوقفا، فلما و فرغ ذو الرمة حسر الفرزدق عن وجهه، و قال: يا عبيد، اضممها إليك - يعني راويته - و هو عبيد أخو بني ربيعة ابن حنظلة، فقال ذو الرمة: نشدتك اللّه يا أبا فراس إن فعلت، قال: دع ذا عنك، فانتحلها في قصيدته و هي أربعة أبيات:
أ حين أعاذت بي تميم نساءها *** و جرّدت تجريد اليماني من الغمد
و مدت بضبعيّ الرّباب و مالك *** و عمرو، و شالت من ورائي بنو سعد(1)
/و من آل يربوع زهاء كأنه *** دجى الليل محمود النّكاية و الورد(2)
و كنّا إذا الجبّار صعّر خدّه *** ضربناه فوق الأنثيين على الكرد(3)
أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة قال:
/اجتمع الفرزدق، و جرير و كثير و ابن الرّقاع عند سليمان بن عبد الملك، فقال: أنشدونا من فخركم شيئا حسنا، فبدرهم الفرزدق، فقال:
و ما قوم إذا العلماء عدّت *** عروق الأكرمين إلى التراب(4)
بمختلفين إن فضّلتمونا *** عليهم في القديم و لا غضاب
و لو رفع السحاب إليه قوما *** علونا في السماء إلى السحاب
فقال سليمان: لا تنطقوا، فو اللّه ما ترك لكم مقالا.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك قال: حدثنا محمد بن عمران الضبي، عن سليمان بن أبي سليمان الجوزجاني قال:
غاب الفرزدق فكتبت النوار تشكو إليه مكية(5) و كتب إليه أهله يشكون سوء خلقها و تبذّيها عليهم فكتب إليهم:
ص: 214
كتبتم عليها أنها ظلمتكم *** كذبتم و بيت اللّه بل تظلمونها
فإلاّ تعدّوا أنها من نسائكم *** فإنّ ابن ليلى والد لا يشينها(1)
و إنّ لها أعمام صدق و اخوة *** و شيخا إذا شاءت تنمّر دونها(2)
قال: و كان للفرزدق ثلاثة أولاد يقال لواحد منه لبطة، و الآخر حبطة، و الثالث، سبطة، و كان لبطة من العققة فقال له الفرزدق:
أ إن أرعشت كفّا أبيك و أصبحت *** يداك يدي ليث فإنك جادبه
إذا غالب ابن بالشباب أبا له *** كبيرا فإن اللّه لا بدّ غالبه
/رأيت تباشير العقوق هي التي *** من ابن امرئ ما إن يزال يعاتبه(3)
و لما رآني قد كبرت و أنني *** أخو الحي و استغنى عن المسح شاربه(4)
أصاخ لغربان النّجيّ و إنه *** لأزور عن بعض المقالة جانبه(5)
قال(6) أبو عبيدة في «كتاب النقائض»: قال رؤبة بن العجاج: حج سليمان بن عبد الملك، و حجت معه الشعراء، فمر بالمدينة منصرفا، فأتي بأسرى من الروم نحو أربعمائة، فقعد سليمان، و عنده عبد اللّه بن حسن بن حسن - عليهم السلام - و عليه ثوبان ممصّران(7)، و هو أقربهم منه مجلسا، فأدنوا إليه بطريقهم، و هو في جامعة(8)، فقال لعبد اللّه بن حسن: قم، فاضرب عنقه فقام، فما أعطاه أحد سيفا، حتى دفع إليه حرسيّ سيفا كليلا، فضربه، فأبان عنقه و ذراعه، و أطنّ (9) ساعده و بعض الغلّ، فقال له سليمان: و اللّه ما ضربته بسيفك و لكن بحسبك، و جعل يدفع الأسرى إلى الوجوه، فيقتلونهم، حتى دفع إلى جرير رجلا منهم، فدست إليه بنو عبس سيفا قاطعا في قراب أبيض، فضربه، فأبان رأسه، و دفع إلى الفرزدق أسير، فدست إليه القيسيّة سيفا كليلا، فضرب به الأسير ضربات، فلم يصنع شيئا، فضحك سليمان و ضحك الناس معه. و قيل: إن سليمان لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفا، و قال:
اقتله به، فقال: لا، بل أقتله/بسيف مجاشع(10)، و اخترط سيفه، فضربه، فلم يغن شيئا، فقال سليمان: أما و اللّه لقد بقى عليك عارها و شنارها، فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها، و أولها:
ص: 215
ألا حيّ ربع المنزل المتقادم *** و ما حلّ مذ حلّت به أمّ سالم
منها:
أ لم تشهد الجونين و الشّعب ذا الغضى *** و كرّات قيس يوم دير الجماجم؟(1)
تحرّض يا بن القين قيسا ليجعلوا *** لقومك يوما مثل يوم الأراقم(2)
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع *** ضربت و لم تضرب بسيف ابن ظالم(3)
ضربت به عند الإمام فأرعشت *** يداك و قالوا: محدث غير صارم
فقال الفرزدق يجيب جريرا عن قوله:
و هل ضربة الرّوميّ جاعلة لكم *** أبا عن كليب أو أبا مثل دارم(4)
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها *** و تقطع أحيانا مناط التمائم(5)
و لا تقتل الأسرى و لكن نفكّهم *** إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
و قال يعرّض بسليمان، و يعيّره نبوّ سيف ورقاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر، و بنو عبس هم أخوال سليمان:
/فإن يك سيف خان أو قدر أبى *** بتعجيل نفس حتفها غير شاهد(6)
فسيف بني عبس و قد ضربوا به *** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد(7)
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها *** و تقطع أحيانا مناط القلائد
و أولها:
تباشر يربوع بنبوة ضربة *** ضربت بها بين الطّلا و المحارد(8)
و لو شئت قد السيف ما بين عنقه *** إلى علق بين الحجابين جامد(9)
و قيل: إن الفرزدق قال لسليمان: يا أمير المؤمنين، هب لي هذا الأسير، فوهبه له، فأعتقه، و قال الأبيات التي منها:
ص: 216
و لا نقتل الأسرى و لكن نفكّهم *** إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
ثم أقبل على راويته، فقال: كأني بابن المراغة، و قد بلغه خبري، فقال:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع *** ضربت و لم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت *** يداك و قالوا محدث غير صارم
فما لبثنا إلا أياما يسيرة، حتى جاءتنا القصيدة، و فيها البيتان، فعجبنا من فطنة الفرزدق:
و قال أيضا في ذلك:
أ يعجب النّاس أن أضحكت خيرهم *** خليفة اللّه يستسقى به المطر
/فما نبا السيف عن جبن و عن دهش *** عند الإمام و لكن أخّر القدر
و لو ضربت به عمدا مقلّده *** لخرّ جثمانه ما فوقه شعر(1)
و ما يقدّم نفسا قبل ميتتها *** جمع اليدين و لا الصّمصامة الذكر(2)
و أخبرني عبد اللّه بن مالك قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن أبي عبيدة، قال:
هجا الفرزدق خالدا القسريّ و ذكر المبارك: النهر الذي حفره بواسط، فبلغه ذلك، و كتب خالد إلى مالك بن المنذر أن احبس الفرزدق فإنه هجا نهر أمير المؤمنين بقوله:
و أهلكت مال اللّه في غير حقّه *** على نهرك المشئوم غير المبارك
الأبيات، فأرسل مالك إلى أيوب بن عيسى الضّبيّ، فقال: ائتني بالفرزدق، فلم يزل يعمل فيه حتى أخذه، فطلب إليهم أن يمروا به على بني حنيفة، فقال الفرزدق: ما زلت أرجو أن أنجو حتى جاوزت بني حنيفة، فلما قيل لمالك: هذا الفرزدق انتفخ وريد مالك غضبا، فلما أدخل عليه قال:
أقول لنفسي حين غصّت بريقها *** ألا ليت شعري ما لها عند مالك؟
لها عنده أن يرجع اللّه روحها *** إليها و تنجو من جميع المهالك(3)
و أنت ابن حبّاري ربيعة أدركت *** بك الشمس و الخضراء ذات الحبائك(4)
/فسكن مالك، و أمر به إلى السجن، فقال يهجو أيوب بن عيسى الضّبّي:
فلو كنت قيسيّا إذا ما حبستني *** و لكنّ زنجيّا غليظا مشافره(5)
ص: 217
متتّ له بالرّحم بيني و بينه *** فألفيته مني بعيدا أواصره(1)
و قلت: امرؤ من آل ضبة فاعتزى *** لغيرهم لون استه و محاجره(2)
فسوف يرى النوبيّ ما اجترحت له *** يداه إذا ما الشّعر عيّت نوافره(3)
ستلقي عليك الخنفساء إذا فست *** عليك من الشعر الذي أنت حاذره(4)
و تأتي ابن زبّ الخنفساء قصيدة *** تكون له مني عذابا يباشره
تعذرت يا بن الخنفساء و لم تكن *** لتقبل لابن الخنفساء معاذره
فإنكما يا بني يسار نزوتما *** على ثفرها ما حنّ للزيت عاصره(5)
لزنجّية بظراء شقق بظرها *** زحير بأيوب شديد زوافره(6)
ثم مدح خالد بن عبد اللّه و مالك بن المنذر و هو محبوس مديحا كثيرا، فأنشدني يونس في كلمة له طويلة.
/يا مال هل هو مهلكي ما لم أقل *** و ليعلمنّ من القصائد قيلي(7)
يا مال هل لك في كبير قد أتت *** تسعون فوق يديه غير قليل
فتجير ناصيتي و تفرج كربتي *** عني و تطلق لي يداك كبولي
و لقد بنى لكم المعلّى ذروة *** رفعت بناءك في أشمّ طويل
و الخيل تعلم في جذيمة أنها *** تردى بكل سميدع بهلول(8)
فاسقوا فقد ملأ المعلّى حوضكم *** بذنوب ملتهم الرّباب سجيل(9)(10) و قال يمدح مالكا و كانت أم مالك هذا بنت مالك بن مسمع:
و قرم بين أولاد المعلّى *** و أولاد المسامعة الكرام
تخمّط في ربيعة بين بكر *** و عبد القيس في الحسب اللّهام(11)
فلما لم تنفعه مديحة مالك، قال يمدح هشام بن عبد الملك، و يعتذر إليه:
ألكني إلى راعي البريّة و الذي *** له العدل في الأرض العريضة نوّرا(12)
ص: 218
فإن تنكروا شعري إذا خرجت له *** بوادر لو يرمى بها لتفقّرا(1)
ثبير و لو مست حراء لحرّكت *** به الراسيات الصّمّ حتى تكوّرا(2)
/إذا قال غاو من معدّ قصيدة *** بها حرب كانت وبالا مدمّرا(3)
أ ينطقها غيري و أرمى بجرمها *** فكيف ألوم الدّهر أن يتغيّرا
لئن صبرت نفسي لقد أمرت به *** و خير عباد اللّه من كان أصبرا
و كنت ابن أحذار و لو كنت خائفا *** لكنت من العصماء في الطود أحذرا(4)
و لكن أتوني آمنا لا أخافهم *** نهارا و كان اللّه ما شاء قدّرا
أخبرني أبو خليفة، عن محمد بن سلام قال: حدثني أبو يحيى قال:
قال الفرزدق لابنه لبطة و هو محبوس اشخص إلى هشام، و أمدحه بقصيدة، و قال: استعن بالقيسية، و لا يمنعك قولي فيهم فإنهم سيغضبون لك و قال:
بكت عين محزون ففاض سجامها *** و طالت ليالي ساهر لا ينامها
فإن تبك لا تبك المصيبات إذ أتى *** بها الدهر و الأيام جمّ خصامها(5)
و لكنما تبكي تهتّك خالد *** محارم منّا لا يحل حرامها
فقل لبني مروان: ما بال ذمّة *** و حرمة حقّ ليس يرعى ذمامها
أ نقتل فيكم أن قتلنا عدوّكم *** على دينكم و الحرب باق قتامها(6)
أتاك بقتل ابن المهلّب خالد *** و فينا بقيّات الهدى و إمامها(7)
فغيّر - أمير المؤمنين - فإنها *** يمانية حمقاء و أنت هشامها(8)
أرى مضر المضرين قد ذلّ نصرها *** و لكن عسى أن لا يذلّ شآمها(9)
/فمن مبلغ بالشام قيسا و خندفا *** أحاديث ما يشفى ببرء سقامها
أحاديث منا نشتكيها إليهم *** و مظلمة يغشى الوجوه قتامها
فإن من بها لم ينكر الضّيم منهم *** فيغضب منها كهلها و غلافها(10)
ص: 219
نمت مثلها من مثلهم و تنكلّوا *** فيعلم أهل الجور كيف انتقامها(1)
بغلباء من جمهورنا مضريّة *** يزايل فيها أذرع القوم هامها(2)
و بيض على هام الرجال كأنّها *** كواكب يحولها لسار ظلامها
غضبنا لكم يا آل مروان فاغضبوا *** عسى أنّ أرواحا يسوغ طعامها
و لا تقطعوا الأرحام منا فإنها *** ذنوب من الأعمال يخشى أثامها(3)
أ لم تك في الأرحام منّا و منكم *** حواجز أيام عزيز مرامها
فترعى قريش من تميم قرابة *** و نجزي بأيام عزيز مرامها
لقد علمت أبناء خندف أننا *** ذراها و أنا عزّها و سنامها
و قد علم الأحياء من كل موطن *** إذا عدّت الأحياء أنا كرامها
و أنّا إذا الحرب العوان تضرّمت *** نليها إذا ما الحرب شبّ ضرامها
قوام قوى الإسلام و الأمر كلّه *** و هل طاعة إلا تميم قوامها
/تميم التي تخشى معدّ و غيرها *** إذا ما أبي أن يستقيم همامها(4)
إلى اللّه تشكو عزّنا الأرض فوقها *** و تعلم أنا ثقلها و غرامها
شكتنا إلى اللّه العزيز فأسمعت *** قريبا، و أعيا من سواه كلامها
نصول بحول اللّه في الأمر كلّه *** إذا خيف من مصدوعة ما التآمها(5)
فأعانته القيسية و قالوا: كلما كان ناب من مضر أو شاعر أو سيد وثب عليه خالد.
و قال الفرزدق أبياتا كتب بها إلى سيد بن الوليد الأبرش و كلم له هشاما:
إلى الأبرش الكلبيّ أسندت حاجة *** تواكلها حيّا تميم و وائل(6)
على حين أن زلت بي النعل زلّة *** فأخلف ظنّي كلّ حاف و ناعل
فدونكها يا بن الوليد فإنها *** مفضّلة أصحابها في المحافل(7)
ص: 220
و دونكها يا بن الوليد فقم بها *** فقام امرئ في قومه غير خامل
فكلم هشاما و أمر بتخليته فقال يمدح الأبرش:
/لقد وثب الكلبيّ وثبة حازم *** إلى خير خلق اللّه نفسا و عنصرا
إلى خير أبناء الخليفة لم يجد *** لحاجته من دونها متأخّرا
أبى حلف كلب في تميم و عقدها *** كما سنّت الآباء أن يتغيّرا
/و كان هذا الحلف حلفا قديما بين تميم و كلب في الجاهلية، و ذلك قول جرير بن الخطفى في الحلف:
تميم إلى كلب و كلب إليهم *** أحقّ و أدنى من صداء و حميرا
و قال الفرزدق:
أشدّ حبال بين حيّين مرّة *** حبال أمرّت من تميم و من كلب(1)
و ليس قضاعيّ لدينا بخائف *** و لو أصبحت تغلي القدور من الحرب
و قال أيضا:
أ لم تر قيسا قيس عيلان شمّرت *** لنصري و حاطتني هناك قرومها
فقد حالفت قيس على النأي كلّهم *** تميما فهم منها و منها تميمها(2)
و عادت عدوّي إن قيسا لأسرتي *** و قومي إذا ما الناس عدّ صميمها
أخبرني ابن دريد: قال حدثني أبو حاتم، عن أبي عبيدة، قال:
بينما الفرزدق جالس بالبصرة أيام زياد في سكّة ليس لها منفذ إذ مرّ به رجلان من قومه كانا في الشرطة و هما راكبان، فقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن أفزّعه - و كان جبانا - فحرّكا دابّتيهما نحوه فأدبر مولّيا فعثر من طرف برده فشقه، و انقطع شسع نعله، و انصرفا عنه، و عرف أنهما هزئا منه فقال:
لقد خار إذ يجري عليّ حماره *** ضرار الخنا و العنبريّ بن أخوقا(3)
و ما كنت لو خوّفتماني كلاكما *** بأمّيكما عريانتين لأفرقا
/و لكنما خوّفتماني بخادر *** شتيم إذا ما صادف القرن مزّقا(4)
أخبرني عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: حدثنا القحذمي عن بعض ولد قتيبة بن مسلم
ص: 221
عن ابن زالان المازنيّ، قال: حدثني الفرزدق، قال:
لما طردني زياد أتيت المدينة و عليها مروان بن الحكم، فبلغه أني خرجت من دار ابن صياد، و هو رجل يزعم أهل المدينة أنه الدّجال، فليس يكلمه أحد، و لا يجالسه أحد، و لم أكن عرفت خبره، فأرسل إليّ مروان فقال:
أ تدري ما مثلك؟ حديث تحدث به العرب: أن ضبعا مرت بحي قوم، و قد رحلوا، فوجدت مرآة، فنظرت وجهها فيها، فلما نظرت قبح وجهها ألقتها، و قالت: من شرّ ما اطّرحك أهلك، و لكن من شر ما اطّرحك أميرك(1)، فلا تقيمنّ بالمدينة بعد ثلاثة أيام، قال: فخرجت أريد اليمن، حتى إذا صرت بأعلى ذي قسيّ - و هو طريق اليمن من البصرة - فإذا رجل مقبل، فقلت: من أين أوضع الراكب(2)؟ قال: من البصرة، قلت: فما الخبر وراءك؟ قال: أتانا أن زيادا مات بالكوفة، قال: فنزلت عن راحلتي، فسجدت، و قلت: لو رجعت، فمدحت عبيد اللّه بن زياد، و هجوت مروان بن الحكم، فقلت:
وقفت بأعلى ذى قسيّ مطيّتى *** أمثّل في مروان و ابن زياد
/فقلت: عبيد اللّه خيرهما لنا *** و أدناهما من رأفة و سداد(3)
و مضيت لوجهي، حتى وطئت بلاد بني عقيل فوردت ما بين مياههم(4) فإذا بيت عظيم و إذا فيه امرأة سافرة لم أر كحسنها و هيئتها قط، فدنوت، فقلت: أ تأذنين/في الظل؟ قالت: أنزل فلك الظّل و القرى، فأنخت، و جلست إليها، قال: فدعت جارية لها سوداء كالراعية، فقالت: ألطفيه(5) شيئا و اسعي إلى الرّاعي، فردّي عليّ شاة، فاذبحيها له، و أخرجت إليّ تمرا و زبدا، قال: و حادثتها فو اللّه ما رأيت مثلها قطّ، ما أنشدتها شعرا إلا أنشدتني أحسن منه، قال: فأعجبني المجلس و الحديث إذ أقبل رجل بين بردين، فلما رأته رمت ببرقعها على وجهها، و جلس(6) و أقبلت عليه بوجهها و حديثها، فدخلني من ذلك غيظ، فقلت للحين: هل لك في الصراع؟ فقال: سوأة لك(7)، إنّ الرجل لا يصارع ضيفه، قال: فألححت عليه، فقالت له: ما عليك لو لا عبت ابن عمك؟ فقام، و قمت، فلما رمى ببرده، إذا خلق عجيب، فقلت: هلكت و ربّ الكعبة، فقبض على يدي، ثم اختلجني(8) إليه، فصرت في صدره، ثم حملني، قال: فو اللّه ما اتّقيت الأرض إلا بظهر كبدي و جلس على صدري، فما ملكت نفسي أن ضرطت ضرطة منكرة، قال: و ثرت إلى جملي فقال: أنشدك اللّه(9)، فقالت المرأة: عافاك اللّه الظلّ (10)و القرى، فقلت: أخزى اللّه ظلّكم و قراكم، و مضيت، فبينا أسير إذ لحقني الفتى على نجيب يجنب بختيّا(11) برحله
ص: 222
و زمامه، و كان رحله من أحسن الرحال، فقال: يا هذا، و اللّه ما سرني ما كان، و قد أراك أبدعت أي كلّت ركابك، فخذ هذا النجيب، و إيّاك أن تخدع عنه، فقد و اللّه أعطيت به مائتي دينار قلت: نعم آخذه، و لكن أخبرني من أنت؟ و من هذه المرأة؟ قال: أنا توبة بن الحميّر، و تلك ليلى الأخيليّة، /و قد أخبرني بهذا الخبر عمي.
قال: حدثني القاسم بن محمد الأنباريّ، قال: حدثني أحمد بن عبيد، عن الأصمعيّ، قال:
كانت امرأة من عقيل يقال لها ليلى، يتحدث إليها الشباب، فدخل الفرزدق إليها، فجعل يحادثها، و أقبل فتى من قومها، كانت تألفه، و دخل إليها فأقبلت عليه بحديثها، و تركت الفرزدق، فغاظه ذلك، فقال للرّجل:
أ تصارعني؟ قال: ذلك إليك، فقام إليه الرجل فلم يلبث أن أخذ الفرزدق مثل الكرة فصرعه، و جلس على صدره، فضرط الفرزدق، فوثب عنه الرجل خجلا، و قال له الرجل: يا أبا فراس، هذا مقام العائذ بك، و اللّه ما أردت بك ما جرى، فقال: ويحك، ما بي أن صرعتني، و لكن كأني بابن الأتان جرير، و قد بلغه خبري هذا، فقال يهجوني:
جلست إلى ليلى لتحظى بقربها *** فخانك دبر لا يزال يخون
فلو كنت ذا حزم شددت وكاءها *** كما شدّ خرتا للدّلاص قيون(1)
قالوا: فو اللّه ما مضت أيام حتى بلغ جريرا الخبر، فقال فيه هذين البيتين.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، قال: حدثني محمد بن موسى، قال: حدثني القحذميّ، قال: حدثني بعض أصحابنا، عن عبد اللّه بن زالان التميميّ راوية الفرزدق، أن الفرزدق قال: أصابنا بالبصرة مطر(2) جود ليلا، فإذا أنا بأثر دوابّ قد خرجت ناحية البرّية، فظننت قوما قد خرجوا لنزهة، فقلت: خليق أن تكون معهم سفرة و شراب.
فقصصت أثرهم، حتى وقفت إلى بغال عليها رحائل/موقوفة على غدير، فأغذذت(3) السير نحو الغدير، فإذا نسوة مستنقعات في الماء، فقلت: لم أر كاليوم قط، /و لا يوم دارة جلجل(4)، و انصرفت مستحييا منهن، فنادينني:
باللّه يا صاحب البغلة، ارجع نسألك عن شيء، فانصرفت إليهن، و هن في الماء إلى حلوقهن، فقلن: باللّه إلا ما خبرتنا بحديث دارة جلجل، فقلت: إن امرأ القيس كان عاشقا لابنة عم له يقال لها عنيزة، فطلبها زمانا، فلم يصل إليها، و كان في طلب غرّة من أهلها؛ ليزورها، فلم يقض له، حتى كان يوم الغدير، و هو يوم دارة جلجل، و ذلك أن الحي احتملوا(5)، فتقدم الرجال، و تخلف النساء و الخدم و الثّقل(6)، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع قومه غلوة، فكمن في غيابة من الأرض، حتى مر به النساء فإذا فتيات، و فيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فذهب عنا بعض الكلال، فنزلن إليه، و نحّين العبيد عنهن، ثم تجردن فاغتمسن في الغدير، كهيئتكن
ص: 223
الساعة، فأتاهن امرؤ القيس محتالا كنحو ما أتيتكن، و هن غوافل، فأخذ ثيابهن، فجمعها - و رمى الفرزدق بنفسه عن بغلته فأخذ بعض أثوابهن، فجمعها، و وضعها على صدره - و قال(1) لهن كما أقول لكن: و اللّه لا أعطي جارية منكن ثوبها، و لو أقامت في الغدير يومها، حتى تخرج مجردة، قال الفرزدق: فقالت إحداهن، و كانت أمجنهن:
ذلك كان عاشقا لابنة عمه، أ فعاشق أنت لبعضنا؟ قال: لا و اللّه، ما أعشق منكن واحدة، و لكن أشتهيكن، قال:
فنعرن(2)، و صفّقن بأيديهن، و قلن: خذ في حديثك، فلست منصرفا إلا بما تحب، قال الفرزدق في حديث امرئ القيس: فتأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار، ثم خشين أن يقصّرن دون المنزل الذي أردنه، فخرجت إحداهن، فوضع لها ثوبها ناحية! فأخذته فلبسته، ثم تتابعن/على ذلك حتى بقيت عنيزة، فناشدته اللّه أن يطرح إليها ثوبها، فقال: دعينا منك؛ فأنا حرام(3) إن أخذت ثوبك إلا بيدك، فخرجت فنظر إليها مقبلة و مدبرة، فوضع لها ثوبها، فأخذته، و أقبلن عليه يلمنه، و يعذلنه، و يقلن: عرّيتنا، و حبستنا، و جوّعتنا، قال: فإن نحرت لكنّ مطيتي أ تأكلن منها؟ قلن: نعم، فاخترط(4) سيفه، فعقرها، و نحرها، و كشطها، و صاح بالخدم، فجمعوا له حطبا، فأجّج نارا عظيمة، ثم جعل يقطّع لهنّ من سنامها و أطايبها و كبدها، فيلقيها على الجمر، فيأكلن، و يأكل معهن، و يشرب من ركوة(5) كانت معه و يغنيهن، و ينبذ إلى العبيد و الخدم من الكباب، حتى شبعن، و طربن، فلما أراد الرّحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته(6)، و قالت الأخرى: أنا أحمل رحله، و قالت الأخرى: أنا أحمل حشيته و أنساعه(7)، فتقسّمن متاع راحلته بينهن، و بقيت عنيزة لم يحمّلها شيئا، فقال لها امرؤ القيس: يا ابنة الكرام، لا بد لك أن تحمليني معك؛ فإني لا أطيق المشي، و ليس من عادتي، فحملته على غارب بعيرها، فكان يدخل رأسه في خدرها، فيقبّلها، فإذا امتنعت مال حدجها(8)، فتقول: يا مرأ القيس، عقرت بعيري، فانزل، فذلك قوله:
تقول و قد مال الغبيط بنا معا: *** عقرت بعيري يا مرأ القيس فانزل
فلما فرغ الفرزدق من الحديث قالت تلك الماجنة: قاتلك اللّه، ما أحسن حديثك يا فتى/و أظرفك، فمن أنت؟ قال: قلت: من مضر، قالت: و من أيها؟ فقلت: من/تميم، قالت: و من أيها؟ قلت: إلى هاهنا انتهى الكلام، قالت: إخالك و اللّه الفرزدق قلت: الفرزدق شاعر و أنا راوية، قالت: دعنا من توريتك على نسبك(9)، أسألك باللّه، أنت هو؟ قال: أنا هو و اللّه، قالت: فإن كنت أنت هو(10) فلا أحسبك مفارقا ثيابنا إلا عن رضا، قلت: أجل، قالت: فاصرف وجهك عنا ساعة و همست إلى صويحباتها بشيء لم أفهمه، فغططن في الماء، فتوارين، و أبدين رءوسهن، و خرجن، و مع كل واحدة منهن ملء كفيها طينا، و جعلن يتعادين نحوي، فضربن بذلك الطين
ص: 224
و الحمأة(1) وجهي، و ملأن عيني و ثيابي، فوقعت على وجهي، فصرت مشغولا بعيني و ما فيها، و شددن على ثيابهن، فأخذنها، و ركبت الماجنة بغلتي، و تركتني منبطحا بأسوإ حال و أخزاها و هي تقول: زعم الفتى أنه لا بد أن ينيكنا، فما زلت(2) من ذلك المكان حتى غسلت وجهي و ثيابي، و جففتها، و انصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي على قدمي، و بغلتي قد وجهن بها إلى منزلي مع رسول لهن، و قلن: قل له تقول لك أخواتك: طلبت منّا ما لم يمكننا، و قد وجهنا إليك بزوجتك، فنكها سائر ليلتك و هذا كسر(3) درهم لحمّامك إذا أصبحت، فكان إذا حدث بهذا الحديث يقول: ما منيت بمثلهن.
أخبرني عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا أبو مسلم الحرّانيّ، قال: حدثني الأصمعيّ، قال: حدثنا العلاء بن أسلم، قال:
/لما مات زياد رثاه مسكين الدّراميّ، فقال الفرزدق:
أ مسكين أبكى اللّه عينيك إنما *** جرى في ضلال دمعها إذ تحدّرا
بكيت امرأ من آل ميسان كافرا *** ككسرى على عدّانه أو كقيصرا(4)
أقول له لمّا أتاني نعيّه *** به لا بطبي بالصّريمة أعفرا(5)
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، عن أبي مسلم الحرّاني، قال: حدثنا الأصمعي، قال: حدثنا العلاء بن أسلم، قال:
لما أراد المهلب الخروج إلى الأزارقة(6) لقي الفرزدق جريرا، فقال له: يا أبا فراس، هل لك أن تكلم المهلب، حتى يضع عني البحث، و أعطيك ألف درهم، فكلم المهلب، فأجابه فلامه جذيع، رجل من عشيرته، و شكا ذلك إلى خيرة امرأة المهلب و قال لها: لا يزال الآن الرجل يجيء فيسأل في عشيرته و صديقه، فلامته خيرة بنت ضمرة القشيرية، فقال المهلب. إنما اشتريت عرضي منه، فبلغ ذلك الفرزدق، فقال يهجو جذيعا.
إن تبن دارك يا جذيع فما بنى *** لك يا جذيع أبوك من بنيان
و أبوك ملتزم السفينة عاقد *** خصييه فوق بنائق التّبّان(7)
و يظلّ يدفع باسته متقاعسا *** في البحر معتمدا على السّكان(8)
ص: 225
لا تحسبنّ دارهما جمّعتها *** تمحو مخازيك التي بعمان
/و قال يهجو خيرة.
ألا قشر الإله بني قشير *** كقشر عصا المنقّح من معال(1)
أرى رهطا لخيرة لم يئوبوا *** بسهم في اليمين و لا الشمال(2)
/إذا رهزت رأيت بني قشير *** من الخيلاء منتفشي السّبال
فغضب بنو المهلب لما هجا جذيعا و خيرة، فنالوا منه، فهجاهم، فقال:
و كائن للمهلّب من نسيب *** يرى بلبانة أثر الزّيار(3)
بخارك لم يقد فرسا و لكن *** يقود السّاج بالمسد المغار(4)
عمّي بالتّنائف حين يضحي *** دليل اللّيل في اللجج الغمار(5)
و ما للّه يسجد إذ يصلّي *** و لكن يسجدون لكل نار
فلما وليّ يزيد بن المهلب خراسان و العراق بعد أبيه - ولاّه سليمان بن عبد الملك - خاف الفرزدق من بني المهلّب، فقال يمدحهم:
فلأمدحنّ بني المهلّب مدحة *** غرّاء قاهرة على الأشعار
/مثل النجوم أمامها قمراؤها *** تجلو العمى و تضيء ليل السّاري(6)
ورثوا الطّعان عن المهلّب و القرى *** و خلائقا كتدفّق الأنهار
كان المهلّب للعراق وقاية *** و حيا الرّبيع و معقل الفرّار
و إذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم *** خضع الرّقاب نواكس الأبصار
ما زال مذ شدّ الإزار بكفه *** و دنا فأدرك خمسة الأشبار(7)
أ يزيد إنك للمهلب أدركت *** كفّاك خير خلائق الأخيار
ص: 226
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: حدثني الأصمعي، قال:
لما قدم يزيد بن المهلب واسطا قال لأمية بن الجعد - و كان صديق الفرزدق -: إنّي لأحب أن تأتيني بالفرزدق، فقال للفرزدق: ما ذا فاتك من يزيد أعظم الناس عفوا، و أسخى الناس كفّا، قال: صدقت، و لكن أخشى أن آتيه فأجد العمانيّة ببابه فيقوم إليّ رجل منهم فيقول: هذا الفرزدق الذي هجانا، فيضرب عنقي، فيبعث إليه يزيد، فيضرب عنقه، و يبعث إلى أهلي ديتي، فإذا يزيد قد صار أوفى العرب، و إذا الفرزدق فيما بين ذلك قد ذهب، قال(1): لا و اللّه لا أفعل، فأخبر يزيد بما قال، فقال: أمّا إذ قد وقع هذا بنفسه فدعه لعنه اللّه.
قال ابن حبيب: و حدثنا يعقوب بن محمد الزهريّ عن أبيه عن جده قال:
دخل الفرزدق مع فتيان من آل المهلب في بركة يتبرّدون فيها، و معهم ابن أبي علقمة الماجن، فجعل يتفلّت إلى الفرزدق، فيقول: دعوني أنكحه، حتى لا يهجونا/أبدا، و كان الفرزدق من أجبن الناس، فجعل يستغيث، و يقول: ويلكم! لا يمسّ جلده جلدي، فيبلغ ذلك جريرا، فيوجب عليّ أنه قد كان منه الذي يقول، فلم يزل يناشدهم حتى كفوه عنه.
أخبرني عبيد اللّه قال: حدثني محمد بن حبيب قال: حدثني موسى بن طلحة قال: لمّا ولي خالد بن عبد اللّه العراق، فقدمها و كان من أشد خلق اللّه عصبيّة على نزار فقال(2) لبطة بن الفرزدق: فلبس أبي من صالح ثيابه؛ و خرج يريد السلام عليه، فقلت له: يا أبت، إن هذا الرجل يمانيّ، و فيه من العصبية ما قد علمت، فلو(3) دخلت إليه فأنشدته مدائحك أهل اليمن لعل اللّه أن يأتيك منه بخير، فإنك قد كبرت على الرحلة، فجعل/لا يردّ عليّ شيئا؛ حتى دفعنا إلى البواب؛ فأذن له؛ فدخل؛ و سلم؛ فاستجلسه(4)؛ ثم قال: إيه يا أبا فراس، أنشدنا مما أحدثت، فأنشدته:
يختلف الناس ما لم نجتمع لهم *** و لا خلاف إذا ما أجمعت مضر
فينا الكواهل و الأعناق تقدمها *** فيها الرءوس و فيها السّمع و البصر(5)
و لا نحالف غير اللّه من أحد *** إلا السيوف إذا ما اغرورق النظر(6)
و من يمل يمل المأثور قلّته *** بحيث يلقى حفافي رأسه الشعر(7)
ص: 227
أما الملوك فإنا لا نلين لهم *** حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
/ثم قام، فخرجنا، قلت: أ هكذا أوصيتك(1)؟ قال: اسكت، لا أمّ لك فما كنت قطّ أملأ لقلبه مني الساعة.
أخبرني عبد اللّه: قال حدثني محمد بن حبيب، عن موسى بن طلحة قال:
كان الفرزدق في حلقة في المسجد الجامع، و فيها المنذر بن الجارود العبديّ، فقال المنذر: من الذي يقول:
وجدنا في كتاب بني تميم *** أحقّ الخيل بالركض المعار(2)
فقال الفرزدق: يا أبا الحكم هو الذي يقول:
أ شارب قهوة و خدين زير *** و عبديّ لفسوته بخار(3)
وجدنا الخيل في أبناء بكر *** و أفضل خيلهم خشب وقار(4)
قال: فخجل المنذر، حتى ما قدر على الكلام.
أخبرني عبد اللّه بن مالك: قال: حدثني محمد بن موسى قال: حدثنا الأصمعيّ قال:
دخل الفرزدق على بعض خلفاء بني مروان ففاخره قوم من الشعراء فأنشأ يقول:
ما حملت ناقة من معشر رجلا *** مثلى إذا الريح لفّتني على الكور(5)
أعزّ قوما و أوفى عند مكرمة *** لمعظم من دماء القوم مهجور(6)
/فقال له: إيه، فقال:
إلاّ قريشا فإنّ اللّه فضّلها *** على البريّة بالإسلام و الخير(7)
تلقى وجوه بني مروان تحسبها *** عند اللقاء مشوفات الدّنانير(8)
ففضّله عليهم، و وصله.
قال ابن حبيب: و كان الفرزدق يهاجي الأشهب بن رميلة النهشليّ و بني فقيم، فأرفث(9) بهم، فاستعدوا عليه
ص: 228
زيادا، فحدثني جابر بن جندل: قال: فأتى عيسى بن حصيلة بن مغيث بن نصر بن خالد السّلمي ثم من بني بهز، فقال: يا أبا حصيلة، إن هذا الرجل قد أخافني؛ و قد لفظني جميع من كنت أرجو، قال: فمرحبا بك يا أبا فراس، فكان عنده ليالي، ثم قال: إني أريد أن ألحق بالشام، قال: إن أقمت ففي الرّحب و السّعة، و إن شخصت فهذه ناقة أرحبيّة(1) أمتّعك بها، و ألف درهم، فركب الناقة، و خرج من عنده ليلا، فأرسل عيسى معه من أجازه من البيوت؛ فأصبح و قد جاوز مسيرة ثلاث، فقال يمدحه:
كفاني بها البهزيّ حملان من أبى *** من الناس، و الجاني تخاف جرائمه(2)
فتى الجود عيسى و المكارم و العلا *** إذا المال لم ينفع بخيلا كرائمه
/و من كان يا عيسى يؤنّب ضيفه *** فضيفك يا عيسى هنيء مطاعمه(3)
/و قال: تعلّم أنها أرحبيّة *** و أنّ لك الليل الذي أنت جاشمه(4)
فأصبحت و الملقى ورائي و حنبل *** و ما صدرت حتى علا النجم عاتمه(5)
تزاور في آل الحقيق كأنها *** ظليم تبارى جنح ليل نعائمه(6)
رأت دون عينيها ثويّة فانجلى *** لها الصبح عن صعل أسيل مخاطمه(7)
و قال:
تداركني أسباب عيسى من الرّدى *** و من يك مولاه فليس بواحد
نمته النواصي من سليم إلى العلا *** و أعراق صدق بين نصر و خالد
سأثني بما أوليتني و أربّه *** إذا القوم عدّوا فضلهم في المشاهد
فلما بلغ زيادا شخوصه أتبعه عليّ بن زهدم الفقيميّ: أحد بني موألة(8) فلم يلحقه فقال الفرزدق:
فإنك لو لا لاقيتني بن زهدم *** لأبت شعاعيّا على غير تمثال(9)
فأتى بكر بن وائل، فجاورهم، فأمن، فقال:
ص: 229
/و قد مثلت أين المسير فلم تجد *** لعوذتها كالحيّ بكر بن وائل(1)
و سارت إلى الأجفان خمسا فأصبحت *** مكان الثريا من يد المتناول(2)
و ما ضرها إذ جاورت في بلادها *** بني الحصن ما كان اختلاف القبائل
الحصن بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.
و هرب الفرزدق من زياد، فأتى سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، و هو على المدينة لمعاوية بن أبي سفيان، فأمنه سعيد، فبلغ الفرزدق أن زيادا قال: لو أتاني أمّنته، و أعطيته، فقال في كلمة له:
دعاني زياد للعطاء و لم أكن *** لآتيه ما ساق ذو حسب وقرا(3)
و عند زياد لو أراد عطاءهم *** رجال كثير قد يرى بهم فقرا(4)
قعود لدى الأبواب طلاّب حاجة *** عوان من الحاجات أو حاجة بكرا(5)
فلما خشيت أن يكون عطاؤه *** أداهم سودا أو محدرجة سمرا(6)
نميت إلى حرف أضرّ بنيّها *** سرى الليل و استعراضها البلد القفرا(7)
/فلما اطمأن عند سعيد بن العاصي بالمدينة قال:
ألا من مبلغ عنّي زيادا *** مغلغلة يخبّ بها البريد(8)
بأنّ قد فررت إلى سعيد *** و لا يسطاع ما يحمي سعيد
فررت إليه من ليث هزبر *** تفادى عن فريسته الأسود(9)
فإن شئت انتميت إلى النصارى *** و ناسبني و ناسبت اليهود
و إن شئت انتسبت إلى فقيم *** و ناسبني و ناسبت القرود
و أبغضهم إليّ بنو فقيم *** و لكن سوف آتي ما تريد(10)
ص: 230
فأقام الفرزدق بالمدينة؛ فكان يدخل بها على القيان. فقال:
إذا شئت غنّاني من العاج قاصف *** على معصم ريّان لم يتخدّد(1)
/لبيضاء من أهل المدينة لم تعش *** ببؤس و لم تتبع حمولة مجحد(2)
و قامت تخشّيني زيادا و أجفلت *** حواليّ في بردي يمان و مجسد(3)
فقلت: دعيني من زياد فإنّني *** أرى الموت وقّاعا على كل مرصد
فلما هلك زياد رثاه مسكين بن عامر بن شريح بن عمرو بن عدي بن عدس بن عبد اللّه بن دارم، فقال:
/رأيت زيادة الإسلام ولّت *** جهارا حين فارقها زياد
فبلغ ذلك الفرزدق، فقال:
أ مسكين أبكى اللّه عينيك إنّما *** جرى في ضلال دمعها فتحدّرا(4)
أ تبكي امرأ من آل ميسان كافرا *** ككسرى على عدّانه أو كقيصرا
أقول له لما أتاني نعيّه: *** به لا بظبي بالصّريمة أعفرا
فقال مسكين:
ألا أيها المرء الذي لست قائما *** و لا قاعدا في القوم إلاّ انبرى ليا
فجئني بعمّ مثل عمّي أو أب *** كمثل أبي أو خال صدق كخاليا
بعمرو بن عمرو أوزارة ذي الندى *** سموت به حتى فرعت الرّوابيا
فأمسك الفرزدق عنه، و كان يقول: نجوت من أن يهجوني مسكين، فإن أجبته ذهبت بشطر فخري، و إن أمسكت عنه كانت و صمة على مدى الدهر.
أخبرني(5) أبو خليفة، فقال: أخبرنا ابن سلام، قال: حدثني الحكم بن محمد المازني، قال: كان تميم بن زيد القضاعي، ثمّ أحد بني القين بن جسر غزا الهند في جيش، فجمّرهم(6)؛ و في جيشه رجل يقال له حبيش، فلما طالت غيبته على أمه اشتاقته، فسألت عمن يكلم لها تميم بن زيد أن يقفل ابنها، فقيل لها: عليك بالفرزدق، فاستجيري بقبر أبيه، فأتت قبر غالب بكاظمة، حتى علم الفرزدق مكانها.
ص: 231
/ثمّ أتته، و طلبت إليه حاجتها، فكتب إلى تميم بن زيد هذه الأبيات:
هب لي حبيشا و اتخذ فيه منّة *** لغصّة أمّ ما يسوغ شرابها
أتتني فعادت يا تميم بغالب *** و بالحفرة السافي عليها ترابها
تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي *** بظهر فلا يخفى عليّ جوابها
فلما أتاه كتابه لم يدر ما اسمه حبيش أو حنيش، فأخرج «ديوانه»، و أقفل كل حبيش و حنيش في جيشه، و هم عدّة، و أنفذهم إلى الفرزدق.
قال أبو خليفة: قال ابن سلاّم، و حدّثني أبو يحيى الضبي، قال:
ضرب مكاتب لبنى منقر بساطا على قبر غالب أبي الفرزدق؛ فقدم الناس على الفرزدق، فأخبروه بمكانه عند قبر أبيه.
ثم قدم عليه فقال:
بقبر ابن ليلى غالب عذت بعد ما *** خشيت الرّدى أو أن أردّ على قسر
فأخبرني قبر ابن ليلى فقال لي: *** فكاكك أن تأتي الفرزدق بالمصر(1)
فقال الفرزدق: صدق أبي؛ أنخ؛ ثمّ طاف له في النّاس؛ حتى جمع له مكاتبته و فضلا.
و كان نفيع ذو الأهدام: أحد بني جعفر بن كلاب يتعصب لجرير بمدحه قيسا؛ فهجاه الفرزدق، فاستجارت أمه بقبر غالب؛ و عاذت من هجاء الفرزدق؛ فقال:
/و نبّئت ذا الأهدام يعوى و دونه *** من الشّام زرّاعاتها و قصورها
على حين لم أترك على الأرض حيّة *** و لا نابحا إلا استقرّ عقورها
كلاب نبحن الحيّ من كل جانب *** فعاد عواء بعد نبح هريرها(2)
عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب *** فلا و الذي عاذت به لا أضيرها
لئن نافع لم يرع أرحام أمّه *** و كانت كدلو لا يزال يعيرها(3)
لبئس دم المولود بلّ ثيابها *** عشيّة نادى بالغلام بشيرها
و إنّي على إشفاقها من مخافتي *** و إن عقّها بي نافع لمجيرها
و لو أنّ أمّ الناس حوّاء جاورت *** تميم بن مرّ لم تجد من يجيرها(4)
ص: 232
و هذا البيت يروى لغيره في غير هذه القصيدة(1).
أخبرني عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: حدثنا أحمد بن حاتم المعروف بابن نصر، عن الأصمعيّ، قال:
كان عبد اللّه بن عطية راوية الفرزدق و جرير، قال: فدعاني الفرزدق يوما، فقال: إني قلت بيت شعر و النّوار طالق إن نقضه ابن المراغة(2)، قلت: ما هو؟ قال: قلت:
فإني أنا الموت الذي هو نازل *** بنفسك فانظر كيف أنت تحاوله(3)
ارحل إليه بالبيت، قال: فرحلت إلى اليمامة، قال: و لقيت جريرا بفناء بيته يعبث بالرمل، فقلت: إن الفرزدق قال بيتا، و حلف بطلاق النوار أنك لا تنقضه، قال: هيه، /أظنّ و اللّه ذلك؟ ما هو؟ ويلك، فأنشدته إياه، فجعل يتمرغ في الرمل، و يحثوه على رأسه و صدره، حتى كادت الشمس تغرب، ثم قال: أنا أبو حزرة، طلقت امرأة الفاسق، و قال:
أنا الدهر يفني الموت و الدهر خالد *** فجئني بمثل الدهر شيئا يطاوله
ارحل إلى الفاسق، قال: فقدمت على الفرزدق، فأنشدته إياه، و أعلمته بما قال، فقال: أقسمت عليك لما سترت هذا الحديث.
أخبرني عبد اللّه، قال: أخبرني محمد بن حبيب، قال: حدثنا الأصمعي و أبو عبيدة، قال:
دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة و عنده ناس من اليمامة، فضحكوا فقال: يا أبا فراس أ تدري ممّ ضحكوا؟ قال: لا، قال: من جفائك، قال: أصلح اللّه الأمير، حججت، فإذا أنا برجل منهم على عاتقه الأيمن صبي، و على عاتقه الأيسر صبي؛ و إذا امرأة آخذه بمئزره؛ و هو يقول:
أنت وهبت زائدا و مزيدا *** و كهلة أولج فيها الأجردا(4)
/و المرأة تقول من خلفه: إذا شئت، فسألت: ممن هو؟ فقيل: من الأشعريين، أ فأنا أجفى أم ذلك؟ فقال بلال: لا حيّاك اللّه، قد علمت أنهم لن يفلتوا منك.
أخبرني عبد اللّه بن مالك، قال: حدثني محمد بن حبيب، قال: حدثنا موسى بن طلحة، عن أبي زيد الأنصاريّ، قال:
ص: 233
ركب الفرزدق بغلته، فمر بنسوة؛ فلما حاذاهنّ لم تتمالك البغلة أن ضرطت، فضحكن منه، فالتفت إليهنّ، فقال: لا تضحكن، فما حملتني أنثى إلا ضرطت، فقالت له/إحداهن: ما حملتك أنثى أكثر من أمك، فأراها قاست منك ضراطا كثيرا، فحرك بغلته، و هرب منهن، و بهذا الإسناد قال:
أتى الفرزدق الحسن البصري؛ فقال: إني قد هجوت إبليس، فقال: كيف تهجوه و عن لسانه تنطق؟.
يسأل الفرزدق فيفحمه:
و بهذا الإسناد قال حمزة بن بيض للفرزدق: يا أبا فراس، أسألك عن مسألة، قال: سل عما أحببت، قال:
أيما أحبّ إليك؟ أ تسبق الخير أم يسبقك؟ قال: إن سبقني فاتني، و إن سبقته فتّه، و لكن نكون معا، لا يسبقني، و لا أسبقه، و لكن أسألك عن مسألة. قال ابن بيض: سل، قال: أيما أحبّ إليك؟ أن تنصرف إلى منزلك، فتجد امرأتك قابضة على أير رجل، أم تراه قابضا على هنها، قال: فتحير، و كان قد نهي عنه، فلم يقبل.
أخبرني عبد اللّه قال: حدثني محمد بن عمران الضبي، قال: حدثني الأصمعي، قال: اجتمع الفرزدق و جرير عند بشر بن مروان فرجا أن يصلح بينهما حتى يتكافّا، فقال لهما: ويحكما! قد بلغتما من السن ما قد بلغتما، و قربت آجالكما؛ فلو اصطلحتما و وهب كلّ واحد منكما لصاحبه ذنبه، فقال جرير:(1) أصلح اللّه الأمير، إنه يظلمني، و يتعدى عليّ، فقال الفرزدق:(2) أصلح اللّه الأمير إني وجدت آبائي يظلمون آباءه. فسلكت طريقهم في ظلمه، فقال بشر: عليكما لعنة اللّه، لا تصطلحان و اللّه أبدا.
و أخبرني عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا محمد بن عمران الضبيّ، قال: حدثنا الأصمعيّ: قال الفرزدق:
ما أعياني جواب أحد ما أعياني جواب دهقان مرة قال لي: أنت الفرزدق الشاعر؟ قلت: نعم؛ قال: أ فأموت إن هجوتني؟ قلت: لا، قال: /أ فتموت عيشونة ابنتي؟ قلت: لا، قال: فرجلي إلى عنقي في حر أمّك، قال(3):
قلت: ويلك! لم تركت رأسك؟ قال: حتى انظر أي شيء تصنع؟.
أخبرني عبد اللّه، قال: حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي، قال:
مرّ الفرزدق بمأجل(4) فيه ماء، فأشرع بغلته فيه، فقال له مجنون بالبصرة: يقال له حربيش: نحّ بغلتك، جذ اللّه رجليك، قال: و لم؟ ويلك، قال: لأنك كذوب الحنجرة، زاني الكمرة، فقال الفرزدق لبغلته: عدس و مضى، و كره أن يسمع قوله الناس.
ص: 234
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، عن ابن حبيب، عن سعدان بن المبارك، قال: قيل للفرزدق: ما اختيارك في شعرك للقصار؟ قال: لأني رأيتها أثبت في الصدور، و في المحافل أجول؛ قال: و قيل للحطيئة: ما بال قصارك أكثر من طوالك؟ قال: لأنها في الآذان أولج، و في أفواه الناس أعلق.
أخبرني عبد اللّه بن حبيب، عن سعدان بن المبارك، قال: قيل لعقيل بن علّفة: مالك تقصّر في هجائك؟ قال:
حسبك من القلادة ما أحاط بالرقبة.
أخبرني عبد اللّه، عن محمد بن علي بن سعيد الترمذي، عن أحمد بن حاتم: أبي نصر، قال:
قال الجهم بن سويد بن المنذر الجرمي للفرزدق: أ ما وجدت أمّك اسما لك إلا الفرزدق الذي تكسره النساء في سويقها(1)؟ قال: و العرب تسمى خبز الفتوت الفرزدق فأقبل/الفرزدق على قوم معه في المجلس. فقال: ما اسمه؟ فلم يخبروه باسمه، فقال: و اللّه لئن لم تخبروني لأهجونكم كلكم، قال: الجهم بن سويد بن المنذر، فقال الفرزدق: /أحقّ الناس ألا يتكلّم في هذا أنت؛ لأن اسمك اسم متاع المرأة، و اسم أبيك اسم الحمار و اسم جدك اسم الكلب(2).
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، عن الزبير عن عمه عن بعض القرويين، قال:
قدم علينا الفرزدق، فقلنا له: قدم علينا جرير، فأنشدنا قصيدة يمدح بها هؤلاء القوم، و مضى يريدهم، فقال:
أنشدونيها، فأنشدناه قصيدة كثيّر التي يقول فيها(3).
و ما زالت رقاك تسلّ ضغني *** و تخرج من مكامنها ضبابي(4)
و يرقيني لك الحاوون حتى *** أجابك حية تحت الحجاب(5)
قال: فجعل وجهه يتغير، و عندنا كانون، و نحن في الشتاء، فلما رأينا ما به قلنا: هوّن عليك يا أبا فراس، فإنما هي لابن أبي جمعة(6)، فانثنى سريعا ليسجد، فأصاب ناحية الكانون وجهه فأدماه.
أخبرني عبد اللّه بن مالك، عن محمد بن موسى، قال: أخبرني القحذميّ، قال:
ص: 235
لقي الفرزدق الحسين بن علي عليهما السلام متوجها إلى الكوفة خارجا من مكة في اليوم السادس من ذي الحجة فقال له الحسين - صلوات اللّه عليه و آله -: ما وراءك؟ قال: يا بن رسول اللّه، أنفس الناس معك، /و أيديهم عليك؛ قال: ويحك، معي وقر بعير من كتبهم يدعونني، و يناشدونني اللّه، قال: فلما قتل الحسين - صلوات اللّه عليه - قال الفرزدق: انظروا فإن غضبت العرب لابن سيّدها و خيرها فاعلموا أنه سيدوم عزّها، و تبقى هيبتها، و إن صبرت عليه، و لم تتغير لم يزدها اللّه إلا ذلاّ إلى آخر الدهر، و أنشد في ذلك:
فإن أنتم لم تثأروا لابن خيركم *** فألقوا السلاح و اغزلوا بالمغازل
أخبرنا عبد اللّه بن مالك: قال: أخبرني أبو مسلم؛ قال: حدثني الأصمعي، قال: أنشد الراعي الفرزدق أربع قصائد، فقال له الفرزدق: أعيدها عليك، لقد أتى علي زمان، و لو سمعت ببيت شعر و أنا أهوي في بئر ما ذهب عني(1).
أخبرني عبد اللّه بن مالك قال حدثني أبو مسلم الحرانيّ عن الأصمعيّ، قال:
تغدّى الفرزدق عند صديق له. ثم انصرف فمر ببني أسد، فحدثهم ساعة ثم استسقى ماء، فقال فتى منهم: أو لبنا، فقال: لبنا، فقام إلى عسّ (2)، فصب فيه رطلا من خمر، ثم حلب، و ناوله إياه، فلما كرع فيه انتفخت أوداجه(3)، و احمر وجهه ثم رد العسّ، و قال: جزاك اللّه خيرا، فإني ما علمتك تحب أن تحفي(4) صديقك، و تخفي معروفك ثم مضى.
و أخبرنا عبد اللّه بن مالك، عن محمد بن موسى، عن القحذميّ، قال:
كان الفرزدق أراد امرأة شريفة على نفسها، فامتنعت عليه، و تهددها بالهجاء و الفضيحة، فاستغاثت بالنّوار امرأته، و قصّت عليها القصة، فقالت لها: واعديه ليلة، ثم أعلميني، ففعلت، /و جاءت النوار، فدخلت الحجلة مع المرأة، فلما دخل الفرزدق البيت أمرت الجارية، فأطفأت السراج، و غادرت(5) المرأة الحجلة، و اتبعها(6)الفرزدق، فصار إلى الحجلة، و قد انسلّت المرأة خلف الحجلة، و بقيت النوار فيها، فوقع بالنّوار و هو لا يشك أنها صاحبته، فلما فرغ قالت له: يا عدو اللّه، يا فاسق، فعرف نغمتها، و أنه خدع، فقال/لها: و أنت هي يا سبحان اللّه! ما أطيبك حراما، و أردأك(7) حلالا.
ص: 236
أخبرني عبد اللّه بن مالك. قال: حدثني محمد بن موسى، قال: حدثني القحذمي قال:
استعمل الحجاج الخيار بن سبرة المجاشعي على عمان، فكتب إليه الفرزدق يستهديه جارية فكتب إليه الخيار:
كتبت إليّ تستهدي الجواري *** لقد أنعظت من بلد بعيد
فأجابه الفرزدق:
أ لا قال الخيار و كان جهلا *** قد استهدى الفرزدق من بعيد(1)
فلو لا أن أمك كان عمّي *** أباها كنت أخرس بالنشيد(2)
و أنّ أبي لعمّ أبيك لحّا *** و أنك حين أغضب من أسودي(3)
إذا لشددت شدّة أعوجيّ *** يدقّ شكيم مجدول الحديد(4)
أخبرنا عبد اللّه بن مالك عن الأصمعي قال:
سمع الفرزدق رجلا يقرأ: وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالاً مِنَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ غفور رحيم فقال(5): لا ينبغي أن يكون هذا هكذا، قال: فقيل له: إنما هو عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال: هكذا ينبغي أن يكون.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا أبو مسلم، قال: حدثنا الأصمعي: قال:
مرّ أسماء بن خارجة الفزاريّ على الفرزدق، و هو يهنأ(6) بعيرا له بنفسه، فقال له أسماء: يا فرزدق كسد شعرك، و اطرحتك الملوك، فصرت إلى مهنة إبلك، فقد أمرت لك بمائة بعير، فقال الفرزدق فيه يمدحه:
إنّ السّماح الذي في الناس كلهم *** قد حازه اللّه للمفضال أسماء
يعطي الجزيل بلا منّ يكدّره *** عفوا و يتبع آلاء بنعماء(7)
ما ضرّ قوما إذا أمسى يجاورهم *** ألاّ يكونوا ذوي إبل و لا شاء
أخبرني عبد اللّه بن مالك(8) عن محمد بن موسى بن طلحة، قال: قال أبو عبيدة:
ص: 237
دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة، فأنشده قصيدته المشهورة فيهم التي يقول فيها:
فإن أبا موسى خليل محمد *** و كفّاه يمنى للهدى و شمالها
فقال ابن أبي بردة: هلكت و اللّه يا أبا فراس، فارتاع الشيخ، و قال: كيف/ذاك؟ قال ذهب شعرك، أين مثل شعرك في سعيد، و في العباس بن الوليد، و سمّى قوما فقال: جئني بحسب مثل أحسابهم، حتى أقول فيك كقولي فيهم، فغضب بلال حتى(1) درّت أوداجه(2) و دعي له بطست(3) فيه ماء بارد، فوضع يده فيها، حتى سكن، فكلمه فيه جلساؤه و قالوا: قد كفاك الشيخ نفسه و قلّ ما يبقى حتى يموت، فلم يحل عليه الحول حتى مات.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، عن محمد بن موسى، عن سعيد بن همام اليماميّ، قال:
شرب الفرزدق شرابا باليمامة و هو يريد العراق، فقال لصاحب له: إنّ الغلمة قد آذتني(4) فأكسبني بغيّا، قال:
من أين أصيب لك هاهنا بغيا؟ قال: فلا بد لك من أن تحتال، قال: فمضى الرجل إلى القرية، و ترك الفرزدق ناحية؛ فقال: هل من امرأة تقبّل(5)، فإن معي امرأتي و قد أخذها الطّلق فبعثوا معه امرأة، فأدخلها الفرزدق، و قد غطّاه، فلما دنت منه واثبها. ثمّ ارتحل مبادرا، و قال: كأني بابن الخبيثة(6) يعني جريرا لو قد بلغه الخبر قد قال:
/و كنت إذا حللت بدار قوم *** رحلت بخزية و تركت عارا
قال: فبلغ جريرا الخبر، فهجاه بهذا الشعر.
و أخبرنا عبد اللّه بن مالك، عن محمد بن موسى، قال: قال أبو نهشل: حدثنا بعض أصحابنا: قال:
وقف الفرزدق على الشمردل، و هو ينشد قصيدة له، فمر هذا البيت في بعض قوله:
و ما بين من لم يعط سمعا و طاعة *** و بين جرير غير حزّ الحلاقم(7)
فقال الفرزدق: يا شمردل، لتتركن هذا البيت لي أو لتتركن عرضك؛ قال: خذه، لا بارك اللّه لك فيه فهو في قصيدته التي ذكر فيها قتيبة بن مسلم، و هي التي أولها قوله:
تحنّ إلى زورا اليمامة ناقتي *** حنين عجول تبتغي البوّ رائم(8)
ص: 238
أخبرنا عبد اللّه بن مالك قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن الأصمعيّ، قال:
جاءت امرأة إلى قبر غالب أبي الفرزدق؛ فضربت عليه فسطاطا. فأتاها فسألها عن أمرها. فقالت: إني عائذة بقبر غالب من أمر نزل بي، قال لها: و ما هو، قد ضمنت خلاصك منه، قالت: إن ابنا لي أغزى إلى السّند مع تميم بن زيد(1)؛ و هو واحدي قال: انصرفي، فعليّ انصرافه إليك إن شاء اللّه، قال: و كتب من وقته إلى تميم(2) بقوله:
تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي *** بظهر فلا يخفى عليّ جوابها
/وهب لي حبيشا و اتّخذ فيه منّة *** لحرمة أمّ ما يسوغ شرابها
أتتني فعاذت يا تميم بغالب *** و بالحفرة السّافي عليها ترابها
قال: فعرض تميم جميع من معه من الجند، فلم يدع أحدا اسمه حبيش، و لا حنيش إلا وصله، و أذن له في الانصراف إلى أهله.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، قال: أخبرنا محمد بن حبيب، عن الأصمعي، قال:
مرّ الفرزدق بصديق له، فقال له: ما تشتهي يا أبا فراس؟ قال: أشتهي شواء رشراشا، و نبيذا سعيرا، و غناء يفتق السمع.
الرشراش: الرّطب، و السّعير: الكثير.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك. قال: حدثنا محمد بن حبيب: قال: حدثني السعديّ، عن أبي مالك الزيدي(3).
قال:
أتينا الفرزدق لنسمع منه شيئا، فجلسنا ببابه ننتظر، إذ خرج علينا في ملحفة. فقال لنا: يا أعداء اللّه، ما اجتماعكم ببابي؟ و اللّه لو أردت أن أزني ما قدرت.
أخبرني عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا أبو مسلم، قال حدثنا الأصمعي عن هشام بن القاسم، قال:
قال الفرزدق: قد علم الناس أني فحل الشعراء، و ربما أتت عليّ الساعة لقلع ضرس من أضراسي أهون عليّ من قول بيت شعر.
حدثنا عبد اللّه بن مالك عن أبي مسلم، عن الأصمعي، قال:
ص: 239
كان الفرزدق و أبو شقفل راويته في المسجد؛ فدخلت امرأة، فسألت عن مسألة، و توسّمت؛ فرأت هيئة أبي شقفل، فسألته عن مسألتها، فقال الفرزدق:
أبو شقفل شيخ عن الحق جائر *** بباب الهدى و الرّشد غير بصير
/فقالت المرأة: سبحان اللّه؟ أ تقول هذا لمثل هذا الشيخ؟ فقال أبو شقفل: دعيه فهو أعلم بي.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: حدثنا المدائنيّ، قال:
خرج الفرزدق حاجا، فمر بالمدينة، فأتى سكينة بنت الحسين صلوات اللّه عليه و آله، فقالت: يا فرزدق. /من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت؛ أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنبه عزيز *** عليّ و من زيارته لمام
و من أمسي و أصبح لا أراه *** و يطرقني إذا هجع النيام(1)
فقال: و اللّه لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه. فقالت: أقيموه: فأخرج. ثم عاد إليها في اليوم الثاني. فقالت له: يا فرزدق. من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت: أشعر منك الذي يقول:
لو لا الحياء لها جني استعبار *** و لزرت قبرك و الحبيب يزار
لا يلبث القرفاء أن يتفرّقوا *** ليل يكرّ عليهم و نهار
كانت إذا هجر الضجيع فراشها *** كتم الحديث و عفّت الأسرار(2)
قال: أ فأسمعك(3) أحسن منه؟ قالت: اخرج.
ثم عاد إليها في اليوم الثالث و على رأسها جارية كأنها ظبية، فاشتد عجبه بها. فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت. أشعر منك الذي يقول:
/إنّ العيون التي في طرفها مرض *** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا(4)
يصرعن ذا اللّبّ حتى لا حراك له *** و هنّ أضعف خلق اللّه أركانا(5)
ثم قالت: قم فاخرج. فقال لها: يا بنت رسول اللّه، إن لي عليك لحقّا. إذ كنت إنما جئت مسلّما عليك، فكان من تكذيبك إيّاي و صنيعك(6) بي حين أردت أن أسمعك شيئا من شعري ما ضاق به صدري. و المنايا تغدو و تروح، و لا أدري، لعلي لا أفارق المدينة حتى أموت. فإن متّ فمري من يدفنني في حر هذه الجارية التي على رأسك، فضحكت سكينة، حتى كادت تخرج من ثيابها، و أمرت له بالجارية، و قالت: أحسن صحبتها؛ فقد آثرتك
ص: 240
بها على نفسي، قال: فخرج و هو آخذ بريطتها(1).
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: حدثنا المدائني قال:
و قد الحتات عمّ الفرزدق على معاوية، فخرجت جوائزهم، فانصرفوا، و مرض الحتات، فأقام عند معاوية حتى مات، فأمر معاوية بماله، فأدخل بيت المال، فخرج الفرزدق إلى معاوية، و هو غلام، فلما أذن للناس دخل بين السماطين(2)، و مثل بين يدي معاوية، فقال:
أبوك و عمّي يا معاوي ورّثا *** تراثا فيحتاز التّراث أقاربه(3)
/فما بال ميراث الحتات أكلته *** و ميراث حرب جامد لي ذائبه؟(4)
فلو كان هذا الأمر في جاهليّة *** علمت من المولى القليل حلائبه(5)
و لو كان هذا الأمر في ملك غيركم *** لأدّاه لي أو غصّ بالماء شاربه(6)
فقال له معاوية: من أنت؟ قال: أنا الفرزدق قال: ادفعوا إليه ميراث عمه الحتات، و كان ألف دينار، فدفع إليه.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، عن أبي حمزة الأنصاري، قال: أخبرنا أبو زيد، قال: قال أبو عبيدة.
انصرف الفرزدق من عند بعض الأمراء في غداة باردة، و أمر بجزور، فنحرت ثمّ قسّمت، فأغفل امرأة من بني فقيم، نسيها، فرجزت به، فقالت:
/فيشلة هدلاء ذات شقشق *** مشرفة اليافوخ و المحوّق(7)
مدمجة ذات حفاف أخلق *** نيطت بحقوي قطم عشنّق(8)
أولجتها في سبّة الفرزدق(9)
ص: 241
قال أبو عبيدة: فبلغني أنه هرب منها، فدخل في بيت حمّاد بن الهيثم(1)، ثمّ إن الفرزدق قال فيها بعد ذلك:
/قتلت قتيلا لم ير الناس مثله *** أقلّبه ذا تومتين مسوّرا(2)
حملت عليه حملتين بطعنة *** فغادرته فوق الحشايا مكوّرا(3)
ترى جرحه من بعد ما قد طعنته *** يفوح كمثل المسك خالط عنبرا(4)
و ما هو يوم الزحف بارز قرنه *** و لا هو ولّى يوم لاقى فأدبرا
بني دارم ما تأمرون بشاعر *** برود الثّنايا ما يزال مزعفرا(5)
إذا ما هو استلقى رأيت جهازه *** كمقطع عنق الناب أسود أحمرا(6)
و كيف أهاجي شاعرا رمحه استه *** أعدّ ليوم الروع درعا و مجمرا(7)
فقالت المرأة: ألا لا أرى الرجال يذكرون منّي هذا، و عاهدت اللّه أ لا تقول شعرا.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك بن مسلم، عن الأصمعيّ قال:
مرّ الفرزدق يوما في الأزد، فوثب عليه ابن أبي علقمة لينكحه، و أعانه على ذلك سفهاؤهم، /فجاءت مشايخ الأزد و أولو النّهى منهم، فصاحوا بابن أبي علقمة و بأولئك السفهاء، فقال لهم ابن أبي علقمة: ويلكم! أطيعوني اليوم، و اعصوني الدهر؛ هذا شاعر مضر و لسانها، قد شتم أعراضكم، و هجا ساداتكم، و اللّه لا تنالون من مضر مثلها أبدا، فحالوا بينه و بينه، فكان الفرزدق يقول بعد ذلك: قاتله اللّه. إي و اللّه، لقد كان أشار عليهم بالرأي.
أخبرني عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: قال الكلبي: قال إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص. و أخبرنا بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيديّ و الأخفش جميعا، عن السكريّ، عن ابن حبيب، عن أبي عبيدة و الكلبيّ: قال: و أخبرنا به إبراهيم بن سعدان، عن أبيه، عن أبي عبيدة، قالوا جميعا:
قدم الفرزدق المدينة في إمارة أبان بن عثمان، فأتى الفرزدق و كثير عزة، فبينا هما يتناشدان الأشعار إذ طلع
ص: 242
عليهما غلام شخت(1) رقيق الأدمة، في ثوبين ممصرين، فقصد نحونا، فلم يسلم، و قال: أيكم الفرزدق؟ فقلت(2) مخافة أن يكون من قريش: أ هكذا تقول لسيد العرب و شاعرها؟ فقال: لو كان كذلك لم أقل هذا، فقال له الفرزدق: من أنت لا أمّ لك، قال: رجل من الأنصار، ثم من بني النجار، ثم أنا ابن أبي بكر بن حزم، بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب، و تزعمه مضر، و قد قال شاعرنا حسان بن ثابت شعرا، فأردت أن أعرضه عليك، و أؤجلك سنة، فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب، كما قيل، و إلا فأنت منتحل كذّاب، ثم أنشده:
أ لم تسأل الرّبع الجديد التكلّما
حتى بلغ إلى قوله:
و أبقى لنا مرّ الحروب و رزؤها *** سيوفا و أدراعا و جمّا عرمرما(3)
/متى ما تردنا من معدّ عصابة *** و غسان نمنع حوضنا أن يهدّما
/لنا حاضر فعم و باد كأنه *** شماريخ رضوى عزة و تكرّما(4)
أبى فعلنا المعروف أن ننطق الخنا *** و قائلنا بالعرف إلا تكلّما(5)
بكل فتى عاري الأشاجع لاحه *** قراع الكماة يرشح المسك و الدّما(6)
ولدنا بني العنقاء و ابني محرّق *** فأكرم بذا خالا و أكرم بذا ابنما(7)
يسوّد ذا المال القليل إذا بدت *** مروءته فينا و إن كان معدما(8)
و إنا لنقري الضيف إن جاء طارقا *** من الشحم ما أمسى صحيحا مسلّما(9)
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى *** و أسيافنا يقطرن من نجدة دما(10)
فأنشده القصيدة، و هي نيّف و ثلاثون بيتا، و قال له: قد أجّلتك في جوابها حولا، فانصرف الفرزدق مغضبا، يسحب رداءه، و ما يدري أيّة طرقه(11) حتى خرج من المسجد، فأقبل على كثير، فقال له: قاتل اللّه الأنصار(12) ما أفصح لهجتهم، و أوضح حجّتهم، و أجود شعرهم، فلم نزل في حديث الأنصار و الفرزدق بقية يومنا، حتى إذا كان /من الغد خرجت من منزلي إلى المسجد الذي كنت فيه بالأمس، فأتى كثيّر، فجلس معي، و إنّا لنتذاكر الفرزدق،
ص: 243
و نقول: ليت شعري ما صنع؟ إذ طلع علينا في حلّة أفواف(1)، قد أرخى غديرته، حتى جلس في مجلسه بالأمس، ثم قال: ما فعل الأنصاري؟ فنلنا منه، و شتمناه، فقال: قاتله اللّه: ما منيت بمثله، و لا سمعت بمثل شعره، فارقته، و أتيت منزلي، فأقبلت أصعّد و أصوّب في كل فن من الشعر، فكأني مفحم لم أقل شعرا قط، حتى إذا نادى المنادى بالفجر رحلت ناقتي، و أخذت بزمامها حتى أتيت ريّانا(2)، و هو جبل بالمدينة، ثم ناديت بأعلى صوتي: أخاكم أخاكم، يعني شيطانه، فجاش صدري كما يجيش المرجل، فعقلت ناقتي و توسدت ذراعها، فما عتمت(3) حتى قلت مائة بيت من الشعر و ثلاثة عشر بيتا، فبينا هو ينشد إذ طلع الأنصاري، حتى إذا انتهى إلينا سلم علينا، ثم قال:
إني لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقّتّه لك، و لكني أحببت أ لا أراك إلا سألتك: إيش(4) صنعت؟ فقال:
اجلس، و أنشده قوله:
عزفت بأعشاش و ما كنت تعزف *** و أنكرت من حدراء ما كنت تعرف
و لجّ بك الهجران حتى كأنما *** ترى الموت في البيت الذي كنت تألف
في رواية ابن حبيب: تيلف(5) حتى بلغ إلى قوله:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا *** و إن نحن أومأنا إلى النّاس وقّفوا
/و أنشدها الفرزدق، حتى بلغ إلى آخرها، فقام الأنصاري كئيبا، فلما توارى طلع أبوه أبو بكر بن خزم في مشيخة من الأنصار، فسلموا عليه، و قالوا: يا أبا فراس، قد عرفت حالنا و مكاننا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قد بلغنا أن سفيها من سفهائنا ربما تعرض لك، فنسألك بحق اللّه و حق رسوله لما حفظت فينا وصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و وهبتنا له، و لم تفضحنا.
قال محمد بن إبراهيم: فأقبلت عليه أكلمه، فلما أكثرنا عليه، قال: اذهبوا، فقد وهبتكم لهذا القرشي.
[قال سليمان بن عبد الملك للفرزدق: أنشدني أجود شعر عملته، فأنشده:
عزفت بأعشاش و ما كدت تعزف(6)
فقال: زدني: فأنشده:
ثلاث و اثنتان فتلك خمس *** و واحدة تميل إلى الشّمام(7)
فبتن بجانبيّ مصرّعات *** و بتّ أفضّ أغلاق الختام(8)
ص: 244
فقال له سليمان: ما أراك إلا قد أحللت نفسك للعقوبة، أقررت بالزنى عندي، و أنا إمام، و لا تريد مني إقامة الحد عليك، فقال: إن أخذت فيّ بقول اللّه عزّ و جلّ لم تفعل. قال: و ما قال؟. قال: قال اللّه تبارك و تعالى:
وَ الشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغٰاوُونَ، أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وٰادٍ يَهِيمُونَ، وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ ، فضحك سليمان و قال:
تلافيتها و درأت عنك الحدّ و خلع عليه و أجازه](1).
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن الأصمعي، قال:
قدم الفرزدق الشام و بها جرير بن الخطفي، فقال له جرير: ما ظننتك تقدم بلدا أنا فيه، فقال له/الفرزدق: إني طالما أخلفت ظن العاجز.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك قال: حدثنا محمد بن موسى بن طلحة: قال: قال أبو مخنف:
كان الفرزدق(2) لعنة، أي يتلعّن به كأنه لعنة على قوم، و كان جرير شهابا من شهب النار.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، قال: حدثنا الأزديّ: قال: حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن أبيه، قال: قال أبو عمرو ابن العلاء(3):
مر الفرزدق بمحمد بن وكيع بن أبي سود، و هو على ناقة فقال له: غدّني، قال: ما يحضرني غداء، قال:
فاسقني سويقا، قال: ما هو عندي، قال: فاسقني نبيذا، قال: أو صاحب نبيذ عهدتني، قال: فما يحضرني غداء، قال:
فاسقني سويقا، قال: ما هو عندي، قال: فاسقني نبيذا، قال: أو صاحب نبيذ عهدتني، قال: فما يقعدك في الظل؟ قال: فما أصنع؟ قال أطل وجهك بدبس(4)، ثم تحوّل إلى الشمس، و اقعد فيها، حتى يشبه لونك لون أبيك الذي تزعمه، قال أبو عمرو: فما زال ولد محمد يسبّون بذلك من قول الفرزدق انتهى.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، عن ابن حبيب، عن موسى بن طلحة، عن أبي عبيدة، عن أبي العلاء: قال: أخبرني هاشم بن القاسم العنزي أنه قال:
جمعني و الفرزدق مجلس، فتجاهلت عليه، فقلت له: من أنت؟ قال: أ ما تعرفني؟ قلت: لا، قال: فأنا أبو فراس، قلت: و من أبو فراس، قال: أنا الفرزدق، قلت: و من الفرزدق؟ قال: أ و ما تعرف الفرزدق؟ قلت: أعرف الفرزدق/أنه شيء يتّخذه النساء عندنا، يتسمن به و هو الفتوت، فضحك و قال: الحمد للّه الذي جعلني في بطون نسائكم.
أخبرني عبد اللّه بن مالك، عن محمد بن حبيب، عن النضر بن حديد، قال:
ص: 245
مر الفرزدق بماء لبني كليب مجتازا، فأخذوه، و كان جبانا، فقالوا: و اللّه لتلقينّ منا ما تكره، أو لتنكحنّ هذه الأتان، و أتوه بأتان، فقال: ويلكم! اتقوا اللّه، فإنه شيء ما فعلته قط، فقالوا: إنه لا ينجيك و اللّه إلا الفعل قال: أمّا إذا أبيتم فأتوني بالصخرة التي يقوم عليها(1) عطية، فضحكوا، و قالوا: اذهب لأصحبك اللّه.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، عن محمد بن موسى، عن العتبي قال:
دخل الفرزدق على قوم يشربون عند رجل بالبصرة، و في صدر مجلسهم فتى أسود، و على رأسه إكليل؛ فلم يحفل بالفرزدق، و لم يحف به تهاونا، فغضب الفرزدق من ذلك و قال:
جلوسك في صدر الفراش مذلّة *** و رأسك في الإكليل إحدى الكبائر
و ما نطفت كأس و لا لذّ طعمها *** ضربت على حافاتها بالمشافر(2)
أخبرني عبد اللّه بن مالك عن محمد بن موسى، عن العتبي قال:
لما مات وكيع بن أبي سود أقبل الفرزدق حين أخرج، و عليه قميص أسود، و قد شقه إلى سرته و هو يقول:
فمات و لم يوتر و ما من قبيلة *** من الناس إلا قد أباءت على وتر(3)
و إنّ الذي لاقى وكيعا و ناله *** تناول صدّيق النبيّ أبا بكر(4)
/قال: فعلق الناس الشعر، فجعلوا ينشدونه، حتى دفن، و تركوا الاستغفار له.
أخبرنا عبد اللّه بن علي بن الحسن الهاشمي، عن حيان بن علي العنزي، عن مجالد، عن الشعبي قال:
حج الفرزدق بعد ما كبر، و قد أتت له سبعون سنة، و كان هشام بن عبد الملك قد حج في ذلك العام فرأى عليّ بن الحسين في غمار الناس في الطواف، فقال: من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها؟ فقالوا: هذا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم، فقال الفرزدق:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** و البيت يعرفه و الحلّ و الحرم
/هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم *** هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله *** بجدّه أنبياء اللّه قد ختموا(5)
و ليس قولك: من هذا بضائره *** العرب تعرف من أنكرت و العجم
إذا رأته قريش قال قائلها: *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ص: 246
يغضي حياء و يغضي من مهابته *** فما يكلّم إلا حين يبتسم
بكفّه خيزران ريحها عبق *** من كفّ أروع في عرنينه شمم(1)
يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم(2)
اللّه شرّفه قدما و عظّمه *** جرى بذاك له في لوحه القلم
/أيّ الخلائق ليست في رقابهم *** لأوّليّة هذا أوله نعم؟(3)
من يشكر اللّه يشكر أوّليّة ذا *** فالدّين من بيت هذا ناله الأمم
ينمي إلى ذروة الدين التي قصرت *** عنها الأكفّ و عن إدراكها القدم
من جدّه دان فضل الأنبياء له *** و فضل أمّته دانت له الأمم
مشتقّة من رسول اللّه نبعته *** طابت مغارسه و الخيم و الشّيم(4)
ينشقّ ثوب الدجى عن نور غرّته *** كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلم
من معشر حبّهم دين، و بغضهم *** كفر و قربهم منجى و معتصم
مقدّم بعد ذكر اللّه ذكرهم *** في كلّ بدء و مختوم به الكلم
إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمتهم *** أو قيل من خير أهل الأرض قيل: هم
لا يستطيع جواد كنه جودهم *** و لا يدانيهم قوم و إن كرموا
يستدفع الشّرّ و البلوى بحبّهم *** و يستربّ به الإحسان و النّعم(5)(6) و قد حدثني بهذا الخبر أحمد بن الجعد، قال: حدثنا أحمد بن القاسم البرتيّ، قال: حدثنا إسحاق بن محمد النخعيّ، فذكر أن هشاما حجّ في حياة أبيه، فرأى عليّ بن الحسين رضي اللّه تعالى عنهم يطوف بالبيت و الناس يفرجون له. فقال: من هذا؟ فقال الأبرش الكلبي: ما أعرفه، فقال الفرزدق: و لكني أعرفه، فقال: من هو؟ فقال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
و ذكر الأبيات... إلخ(7).
/قال: فغضب هشام فحبسه بين مكة و المدينة فقال:
أ تحبسني بين المدينة و التي *** إليها قلوب الناس يهوى منيبها(8)
ص: 247
يقلّب رأسا لم يكن رأس سيّد *** و عينا له حولاء باد عيوبها(1)
فبلغ شعره هشاما، فوجّه، فأطلقه.
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، عن محمد بن موسى، عن الهيثم بن عديّ، قال: أخبرنا أبو روح الراسبيّ، قال:
لما ولي خالد بن عبد اللّه العراق ولّى مالك بن المنذر شرطة البصرة، فقال الفرزدق:
يبغّض فينا شرطة المصر أنني *** رأيت عليها مالكا عقب الكلب
قال، فقال مالك: عليّ به، فمضوا به إليه، فقال:
أقول لنفسي إذ تغصّ بريقها *** ألا ليت شعري ما لها عند مالك؟
قال: فسمع قوله حائك يطلع من(2) طرازه، فقال:
لها عنده أن يرجع اللّه ريقها *** إليها و تنجو من عظيم المهالك(3)
فقال الفرزدق هذا أشعر الناس، و ليعودنّ مجنونا، يصيح الصبيان في أثره(4) فقال: فرأوه بعد ذلك مجنونا يصيح الصبيان في أثره(5).
/أخبرنا/عبد اللّه بن مالك قال: حدثنا محمد بن علي بن سعيد، قال حدثنا القحذميّ: قال:
فلما أتوا مالك بن المنذر بالفرزدق قال: هيه عقب الكلب، قال: ليس هذا هكذا قلت، و إنما قلت:
أ لم ترني ناديت بالصوت مالكا *** ليسمع لما غصّ من ريقه الفم
أعوذ بقبر فيه أكفان منذر *** فهن لأيدي المستجيرين محرم(6)
قال: قد عذت بمعاذ(7)، و خلّى سبيله.
أخبرنا عبد اللّه قال: حدثني محمد بن موسى، قال:
كتب خالد القسريّ إلى مالك بن المنذر يأمره بطلب الفرزدق، و يذكر أنه بلغه أنه هجاه، و هجا نهره المبارك(8)، و هو النهر الذي بواسط الذي كان خالد حفره،(9) فاشتد مالك في طلبه حتى ظفر به في البراجم(10)فأخذه و حبسه و مرّوا به على بني مجاشع، فقال: يا قوم، اشهدوا أنه لا خاتم بيدي، و ذلك أنه(11) أخذ عمر بن
ص: 248
يزيد بن أسيد، ثم أمر به فلويت عنقه، ثم أخرجوه ليلا إلى السجن، فجعل رأسه يتقلب، و الأعوان يقولون له: قوّم رأسك، فلما أتوا به السّجّان قال: لا أتسلمه منكم ميتا، فأخذوا المفاتيح منه، و أدخلوه الحبس، و أصبح ميتا، فسمّعوا أنه مصّ خاتمه و كان فيه سم، فمات، و تكلم الناس في أمره، فدخل لبطة بن الفرزدق على أبيه، فقال: يا بني، هل كان من خبر؟ قال: نعم، عمر بن يزيد مصّ خاتمه في الحبس، و كان فيه سم، فمات، فقال الفرزدق:
و اللّه يا بني لئن لم تلحق بواسط ليمص(1) أبوك خاتمه، و قال في ذلك:
/أ لم يك قتل عبد اللّه ظلما *** أبا حفص من الحرم العظام(2)
قتيل عداوة لم يجن ذنبا *** يقطّع و هو يهتف للإمام
قال: و كان عمر عارض خالدا و هو يصف لهشام طاعة أهل اليمن و حسن موالاتهم و نصيحتهم، فصفّق عمرو بن يزيد إحدى يديه على الأخرى، حتى سمع له في الإيوان دويّ، ثم قال: كذب و اللّه يا أمير المؤمنين، ما أطاعت اليمانية، و لا نصحت، أ ليس(3) هم أعداؤك و أصحاب يزيد بن المهلب و ابن الأشعث؟ و اللّه ما ينعق ناعق إلا أسرعوا الوثبة إليه، فاحذرهم يا أمير المؤمنين(4) قال: فتبين ذلك في وجه هشام(5) و وثب رجل من بني أمية، فقال لعمرو بن يزيد: وصل اللّه رحمك و أحسن جزاءك، فلقد شددت من أنفس قومك، و انتهزت الفرصة في وقتها، و لكن أحسب هذا الرجل سيلي العراق، و هو منكر حسود، و ليس(6) يخار لك إن ولى، فلم يرتدع عمر بقوله، و ظن أنه لا يقدم عليه، فلما ولى لم تكن له همة غيره، حتى قتله، قال:
ثم إن مالكا وجّه الفرزدق إلى خالد، فلما قدم به عليه وجده قد حج، و استخلف أخاه أسد بن عبد اللّه على العراق، فحبسه أسد، و وافق عنده جريرا، فوثب يشفع له، و قال: إن رأى الأمير أن يهبه لي، فقال أسد: أتشفع له يا جرير؟ فقال: إن ذلك أذلّ له - أصلحك اللّه - و كلم أسدا ابنه المنذر، فخلّى سبيله، فقال الفرزدق في ذلك:
لا فضل إلا فضل أمّ على ابنها *** كفضل أبي الأشبال عند الفرزدق(7)
تداركني من هوّة دون قعرها *** ثمانون باعا للطّوال العشنّق(8)
/و قال جرير يذكر شفاعته له:
و هل لك في عان و ليس بشاكر *** فتطلق عنه عضّ مسّ الحدائد(9)
ص: 249
يعود و كان الخبث منه سجية *** و إن قال: إني منته غير عائد
/أخبرني عبيد اللّه، عن محمد بن موسى، عن القحذمي، قال:
كان سبب هرب الفرزدق من زياد، و هو على العراق، أنه كان هجا بني فقيم، فقال فيهم أبياتا منها:
و آب الوفد وفد بني فقيم *** بأخبث ما تئوب به الوفود
أتونا بالقرود معادليها *** فصار الجدّ للجدّ السعيد(1)
و قال يهجو زيد بن مسعود الفقيمي و الأشهب بن رميلة بأبيات، منها قوله:
تمنّى ابن مسعود لقائي سفاهة *** لقد قال مينا يوم ذاك و منكرا(2)
غناء قليل عن فقيم و نهشل *** مقام هجين ساعة ثم أدبرا(3)
يعني الأشهب بن رميلة، و كان الأشهب خطب إلى بني فقيم، فردوه، و قالوا له: اهج الفرزدق حتى نزوّجك، فرجز به الأشهب، فقال:
/يا عجبا هل يركب القين الفرس *** و عرق القين على الخيل نجس؟(4)
و إنما سلاحه إذا جلس *** الكلبتان و العلاة و القبس(5)
فلما بلغ الفرزدق قوله هجاه، فأرفث(6) له، و ألح الفرزدق على النهشليين بالهجاء، فشكوه إلى زياد، و كان يزيد بن مسعود ذا منزلة عند زياد، فطلبه زياد، فهرب، فأتى بكر بن وائل، فأجاروه، فقال الفرزدق يمدحهم بأبيات:
إني و إن كانت تميم عمارتي *** و كنت إلى القرموس منها القماقم(7)
لمثن على أبناء بكر بن وائل *** ثناء يوافي ركبهم في المواسم(8)
همو يوم ذي قار أناخوا فجالدوا *** برأس به تدمى رءوس الصّلادم(9)
ص: 250
و هرب، حتى أتى سعيد بن العاص، فأقام بالمدينة يشرب، و يدخل إلى القيان، و قال:
إذا شئت غنّاني من العاج قاصف *** على معصم ريّان لم يتخدّد(1)
لبيضاء من أهل المدينة لم تعش *** ببؤس و لم تتبع حمولة مجحد
و قامت تخشّيني زيادا و أجفلت *** حواليّ في برد يمان و مجسد
فقلت: دعيني من زياد فإنني *** أرى الموت وقّافا على كلّ مرصد
فبلغ شعره مروان، فدعاه، و توعده، و أجّله ثلاثا، و قال: اخرج عني، فأنشأ يقول الفرزدق:
دعانا ثم أجلنا ثلاثا *** كما وعدت لمهلكها ثمود(2)
قال مروان(3): قولوا له عني: إني أجبته، فقلت:
قل للفرزدق و السّفاهة كاسمها *** إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس(4)
ودع المدينة إنها محظورة *** و الحق بمكة أو ببيت المقدس
قال: و عزم على الشخوص إلى مكة، فكتب له مروان إلى بعض عماله، ما بين مكة و المدينة بمائتي دينار، فارتاب بكتاب مروان، فجاء به إليه و قال:
مروان إنّ مطيتي معقولة *** ترجو الحباء و ربّها لم ييأس
آتيتني بصحيفة مختومة *** يخشى عليّ بها حباء النّقرس(5)
/ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن *** نكراء مثل صحيفة المتلمّس(6)
قال: و رمى بها إلى مروان، فضحك، و قال: ويحك! إنك أميّ، لا تقرأ، فاذهب بها إلى من يقرؤها، ثم ردّها، حتى أختمها، فذهب بها، فلما قرئت إذا فيها جائزة، قال: فردّها إلى مروان، فختمها، و أمر له الحسين بن عليّ عليهما السلام بمائتي دينار، قال: و لما بلغ جريرا أنه أخرج عن المدينة قال:
/إذا حلّ المدينة فارجموه *** و لا تدنوه من جدث الرسول(7)
فما يحمى عليه شراب حدّ *** و لا ورهاء غائبة الحليل(8)
فأجابه الفرزدق، فقال:
ص: 251
نعتّ لنا من الورهاء نعتا *** قعدت به لأمّك بالسبيل
فلا تبغي إذا ما غاب عنها *** عطية غير نعتك من حليل(1)
أخبرنا عبد اللّه بن مالك، قال: حدثني محمد بن موسى، قال: حدثنا أبو عكرمة الضبّيّ عن أبي حاتم السجستاني، عن محمد بن عبد اللّه الأنصاري، قال أبو عكرمة: و حكي لنا عن لبطة بن الفرزدق أن أباه أصابته ذات الجنب، فكانت سبب وفاته.
قال: و وصف له أن يشرب النّفط الأبيض، فجعلناه له في قدح، و سقيناه إياه، فقال: يا بني عجّلت لأبيك شراب أهل النار، فقلت له: يا أبت، قل: لا إله إلا اللّه، فجعلت أكررها عليه مرارا، فنظر إليّ و جعل يقول:
فظلّت تعالى باليفاع كأنها *** رماح نحاها وجهه الرّيح راكز(2)
فكان ذا هجّيراه حتى مات.
أخبرني أبو خليفة، عن محمد بن سلاّم، قال: حدثني شعيب بن صخر، قال:
دخل بلال بن أبي بردة على الفرزدق في مرضه الذي مات فيه، و هو يقول:
أروني من يقوم لكم مقامي *** إذا ما الأمر جلّ عن الخطاب
/البيتين(3)، فقال بلال: إلى اللّه، إلى اللّه.
أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن الأصمعيّ، قال:
كان الفرزدق قد دبّر عبيدا له، و أوصى بعتقهم بعد موته، و يدفع شيء من ماله إليهم، فلما احتضر جمع سائر أهل بيته، و أنشأ يقول:
أروني من يقوم لكم مقامي *** إذا ما الأمر جلّ عن الخطاب
إلى من تفزعون إذا حثوتم *** بأيديكم عليّ من التّراب
فقال له بعض عبيده - الذين أمر بعتقهم -: إلى اللّه، فأمر بيعه قبل وفاته، و أبطل وصيته فيه، و اللّه أعلم.
أخبرني الحسن بن عليّ، عن بشر بن مروان، عن الحميديّ، عن سفيان، عن لبطة بن الفرزدق قال:
لمّا احتضر أبو فراس قال - أي لبطة: أبغني كتابا أكتب فيه وصيتي، فأتيته بكتاب فكتب وصيّته:
أروني من يقوم لكم مقامي
البيتين، فقالت مولاة له - قد كان أوصى لها بوصية -: إلى اللّه عزّ و جلّ، فقال: يا لبطة، امحها من الوصية.
ص: 252
قال سفيان: نعم ما قالت و بئس ما قال أبو فراس.
و قال عوانة: قيل للفرزدق في مرضه الذي مات فيه أوص، فقال:
أوصي تميما إن قضاعة ساقها *** ندى الغيث عن دار بدومة أو جدب(1)
/فإنكم الأكفاء و الغيث دولة *** يكون بشرق من بلاد و من غرب(2)
إذا انتجعت كلب عليكم فوسّعوا *** لها الدار في سهل المقامة و الرّحب
فأعظم من أحلام عاد حلومهم *** و أكثرهم عند العديد من التّرب
أشدّ حبال بعد حيّين مرّة *** حبال أمرّت من تميم و من كلب(3)
قال: و توفي للفرزدق ابن صغير قبل وفاته بأيام، و صلّى عليه، ثم التفت إلى الناس، فقال:
و ما نحن إلا مثلهم غير أنّنا *** أقمنا قليلا بعدهم و تقدّموا
قال: فلم يلبث إلا أياما حتى مات.
أنشد عند موته:
و قال المدائنيّ: قال لبطة: أغمي على أبي، فبكينا، ففتح عينيه، و قال: أ عليّ تبكون؟ قلنا: نعم، أ فعلى ابن المراغة نبكي؟ فقال: ويحكم! أ هذا موضع ذكره؟ و قال:
إذا ما دبّت الأنقاء فوقي *** و صاح صدى عليّ مع الظلام(4)
فقد شمتت أعاديكم و قالت: *** أدانيكم من أين لنا المحامي؟
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب إجازة، قال: حدثنا محمد بن سلام، قال: حدثنا أبو العرّاف، قال:
نعي الفرزدق لجرير، و هو عند المهاجر بن عبد اللّه باليمامة، فقال:
/مات الفرزدق بعد ما جرّعته *** ليت الفرزدق كان عاش قليلا(5)
فقال له المهاجر: بئس ما قلت، أ تهجو ابن عمك بعد ما مات! و لو رثيته كان أحسن بك. فقال: و اللّه إني لأعلم أنّ بقائي بعده لقليل، و أنّ نجمي لموافق لنجمه، أ فلا أرثيه؟ قال: أبعد ما قيل لك: أ لو كنت بكيته ما نسيتك العرب.
ص: 253
قال أبو خليفة: قال ابن سلام: فأنشدني معاوية بن عمرو، قال: أنشدني عمارة بن عقيل لجرير يرثي الفرزدق بأبيات منها:
فلا ولدت بعد الفرزدق حامل *** و لا ذات بعل من نفاس تعلّت(1)
هو الوافد المأمون و الرّاتق الثّأى *** إذا النعل يوما بالعشيرة زلّت(2)
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، عن ابن شبة بخبر جرير لمّا بلغه وفاة الفرزدق، و هو عند المهاجر، فذكر نحوا مما ذكره ابن سلام، و زاد فيه، قال:
ثم قال، و بكى، و ندم، و قال: ما تقارب رجلان في أمر قط، فمات أحدهما إلا أوشك صاحبه أن يتبعه.
قال أبو زيد: مات الحسن و ابن سيرين و الفرزدق و جرير في سنة عشر و مائة، فقبر الفرزدق بالبصرة، و قبر جرير و أيوب السّختياني و مالك بن دينار باليمامة في موضع واحد.
و هذا غلط من أبي زيد عمر بن شبة، لأن الفرزدق مات بعد يوم كاظمة، و كان ذلك في سنة اثنتي عشرة و مائة، و قد قال فيه الفرزدق شعرا، و ذكره في مواضع من قصائده، و يقوّي ذلك ما أخبرنا به وكيع، قال:
/حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدثني ابن النّطّاح، عن المدائنيّ، عن أبي اليقظان و أبي همّام المجاشعيّ:
أن الفرزدق مات سنة أربع عشرة و مائة.
قال أبو عبيدة:
حدثني أبو أيوب بن كسيب من آل الخطفي، و أمه ابنة جرير بن عطية، قال:
بينا جرير في مجلس بفناء داره بحجر إذ راكب قد أقبل، فقال له جرير: من أين وضح الراكب(3)؟ قال: من البصرة، فسأل عن الخبر، فأخبره بموت الفرزدق، فقال:
/مات الفرزدق بعد ما جرّعته *** ليت الفرزدق كان عاش قليلا
ثم سكت ساعة، فظننّاه يقول شعرا، فدمعت عيناه، فقال القوم: سبحان اللّه، أ تبكي على الفرزدق! فقال:
و اللّه ما أبكي إلا على نفسي، أما و اللّه إن بقائي؛ خلافه(4) لقليل، إنه قل ما كان مثلنا رجلان يجتمعان على خير أو شر إلا كان أمد ما بينهما قريبا، ثم أنشأ يقول:
فجعنا بحمّال الدّيات ابن غالب *** و حامي تميم كلّها و البراجم
ص: 254
بكيناك حدثان الفراق و إنما *** بكيناك شجوا للأمور العظائم(1)
فلا حملت بعد ابن ليلى مهيرة *** و لا شدّ أنساع المطيّ الرّواسم(2)
/و قال البلاذريّ: حدثنا أبو عدنان(3)، عن أبي اليقظان، قال:
أسنّ الفرزدق حتى قارب المائة فأصابته الدّبيلة(4)، و هو بالبادية فقدم إلى البصرة؛ فأتي برجل من بني قيس متطبب؛ فأشار بأن يكوى، و يشرب النّفط الأبيض، فقال: أ تعجّلون لي طعام أهل النار في الدنيا؟ و جعل يقول:
أروني من يقوم لكم مقامي *** إذا ما الأمر جلّ عن الخطاب
و قال أبو ليلى المجاشعيّ يرثى الفرزدق:
لعمري لقد أشجعى تميما و هدّها *** على نكبات الدهر موت الفرزدق
عشيّة قدنا للفرزدق نعشه *** إلى جدث في هوّة الأرض معمق
لقد غيّبوا في اللّحد من كان ينتمي *** إلى كل بدر في السماء محلّق
ثوى حامل الأثقال عن كل مثقل *** و دفّاع سلطان الغشوم السّملّق(5)
لسان تميم كلّها و عمادها *** و ناطقها المعروف عند المخنّق(6)
فمن لتميم بعد موت ابن غالب *** إذا حل يوم مظلم غير مشرق
لتبك النّساء المعولات ابن غالب *** لجان و عان في السلاسل موثق
و قال ابن زكريا الغلابيّ، عن ابن عائشة، قال:
مات الفرزدق و جرير في سنة عشرة و مائة، و مات جرير بعده بستة أشهر، و مات في هذه السنة الحسن البصريّ و ابن سيرين، قال:
/فقالت امرأة من أهل البصرة: كيف يفلح بلد مات فقيهاه و شاعراه في سنة؟ و نسبت جريرا إلى البصرة لكثرة قدومه إليها من اليمامة، و قبر جرير باليمامة، و بها مات، و قبر الأعشى أيضا باليمامة: أعشى بني قيس بن ثعلبة، و قبر الفرزدق بالبصرة في مقابر بني تميم:
ص: 255
و قال جرير لما بلغه موت الفرزدق: قلّما تصاول فحلان، فمات أحدهما إلا أسرع لحاق الآخر به.
و رثاهما جماعة، فمنهم أبو ليلى الأبيض(1)، من بني الأبيض بن مجاشع فقال فيهما:
لعمري لئن قرما تميم تتابعا *** مجيبين للدّاعي الذي قد دعاهما
لربّ عدوّ فرّق الدهر بينه *** و بينهما لم تشوه ضغمتاهما(2)
أخبرني ابن عمار، عن يعقوب بن إسرائيل، عن قعنب بن المحرز الباهلي، عن الأصمعي، عن جرير يعني أبا حازم(3) قال:
رئي الفرزدق و جرير في النوم، فرئي الفرزدق بخير، و جرير معلّق(4).
قال قعنب: و أخبرني الأصمعيّ، عن روح الطائيّ (5)، قال:
رئيّ الفرزدق في النوم، فذكر/أنه غفر له بتكبيرة كبّرها في المقبرة عند قبر غالب.
/قال قعنب: و أخبرني أبو عبيدة النحويّ و كيسان بن المعروف النحوي، عن لبطة بن الفرزدق، قال:
رأيت أبي فيما يرى النائم، فقلت له: ما فعل اللّه بك؟ قال. نفعتني الكلمة التي نازعنيها(6) الحسن على القبر.
أخبرني وكيع، عن محمد بن إسماعيل الحسانيّ، عن عليّ بن عاصم، عن سفيان بن الحسن، و أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام - و الرواية قريب بعضها من بعض -: أنّ النّوار لما حضرها الموت أوصت الفرزدق - و هو ابن عمها - أن يصلّي عليها الحسن البصريّ، فأخبره الفرزدق، فقال: إذا فرغتم منها فأعلمني، و أخرجت، و جاءها الحسن، و سبقهما الناس، فانتظروهما، فأقبلا، و الناس ينتظرون، فقال الحسن: ما للناس؟ فقال: ينتظرون خير الناس و شرّ الناس، فقال: إنّي لست بخيرهم، و لست بشرهم، و قال له الحسن على قبرها: ما أعددت لهذا المضجع، فقال: شهادة أن لا إله إلا اللّه منذ سبعين سنة.
هذا لفظ محمد بن سلاّم. و قال وكيع في خبره: فتشاغل الفرزدق بدفنها، و جلس الحسن يعظ الناس، فلما فرغ الفرزدق وقف على حلقة(7) الحسن، و قال:
ص: 256
لقد خاب من أولاد آدم من مشى *** إلى الناس مغلول القلادة أزرقا(1)
أخاف وراء القبر إن لم يعافني *** أشدّ من القبر التهابا و أضيقا
/إذا جاءنى يوم القيامة قائد *** عنيف و سوّاق يقود الفرزدقا(2)
أخبرنا أحمد: قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا حيان(3) بن هلال: قال: حدثنا خالد بن الحر: قال:
رأيت الحسن في جنازة أبي رجاء العطارديّ، فقال للفرزدق: ما أعددت لهذا اليوم؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا اللّه منذ بضع و تسعين(4) سنة، قال إذا تنجو إن صدقت. قال: و قال الفرزدق: في هذه الجنازة خير الناس و شر الناس، فقال الحسن: لست بخير الناس و لست بشرهم.
أخبرنا ابن عمار، عن أحمد بن إسرائيل، عن عبيد اللّه بن محمد القرشيّ بطوس، قال:
حدثني يزيد بن هاشم العبديّ: قال: حدثنا أبي: قال: حدثنا فضيل الرّقاشيّ قال:
خرجت في ليلة باردة، فدخلت المسجد، فسمعت نشيجا و بكاء كثيرا، فلم أعلم من صاحب ذلك، إلى أن أسفر الصبح، فإذا الفرزدق، فقلت: يا أبا فراس، تركت(5) النّوار، و هي لينة الدّثار دفئة الشّعار، قال: إني و اللّه ذكرت ذنوبي، فأقلقتني، ففزعت إلى اللّه عز و جلّ.
أخبرني وكيع، عن أبي العباس مسعود بن عمرو بن مسعود الجحدريّ قال: حدثني هلال بن يحيى(6)الرازيّ: قال: حدثني شيخ كان ينزل سكة قريش: قال:
/رأيت الفرزدق في النوم فقلت: يا أبا فراس، ما فعل اللّه بك؟ قال: غفر لي بإخلاصي يوم الحسن، و قال:
لو لا شيبتك لعذّبتك بالنار.
أخبرني هاشم الخزاعيّ عن دماذ، عن أبي عبيدة، عن لبطة بن الفرزدق، عن أبيه: قال:
لقيت الحسين بن عليّ - صلوات اللّه عليهما - و أصحابه بالصّفاح، و قد ركبوا الإبل، و جنّبوا الخيل، متقلّدين السيوف، متنكبين القسيّ، عليهم يلامق(7) من الديباج، فسلمت عليه، و قلت: أين تريد؟ قال: العراق، فكيف تركت الناس؟ قال: تركت الناس قلوبهم معك، و سيوفهم عليك، و الدنيا مطلوبة، و هي في أيدي/بني أمية، و الأمر
ص: 257
إلى اللّه عز و جل، و القضاء ينزل من السماء بما شاء.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ، و أحمد بن عبد العزيز، عن ابن شبّة قال: حدثني هارون بن عمر، عن ضمرة بن شوذب قال:
قيل لأبي هريرة: هذا الفرزدق، قال: هذا الذي يقذف المحصنات، ثم قال له: إني أرى عظمك رقيقا و عرقك(1) دقيقا، و لا طاقة لك بالنار، فتب، فإن التّوبة مقبولة من ابن آدم حتى يطير غرابه(2).
أخبرني هاشم بن محمد، عن الرياشيّ، عن المنهال بن بحر بن أبي سلمة، عن صالح المريّ، عن حبيب بن أبي محمد، قال:
رأيت الفرزدق بالشام، فقال: قال لي أبو هريرة: إنه سيأتيك قوم يؤيسونك من رحمة اللّه، فلا تيأس.
قال أبو الفرج: و الفرزدق مقدّم على الشعراء الإسلاميين هو و جرير و الأخطل، /و محلّه في الشعر أكبر من أن ينبّه عليه بقول، أو يدلّ على مكانه بوصف؛ لأن الخاص و العام يعرفانه بالاسم، و يعلمان تقدّمه بالخبر الشائع علما يستغنى به عن الإطالة في الوصف، و قد تكلّم الناس في هذا قديما و حديثا، و تعصبوا، و احتجوا بما لا مزيد فيه، و اختلفوا بعد اجتماعهم على تقديم هذه الطبقة في أيّهم أحقّ بالتقدم على سائرها، فأمّا قدماء أهل العلم و الرواة فلم يسوّوا بينهما و بين الأخطل؛ لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر، و لا له مثل ما لهما من فنونه، و لا تصرّف كتصرّفهما في سائره، و زعموا أن ربيعة أفرطت فيه، حتى ألحقته بهما، و هم في ذلك طبقتان، أما من كان يميل إلى جزالة الشعر، و فخامته، و شدّة أسره، فيقدّم الفرزدق، و أما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين، و إلى الكلام السّمح السهل الغزل فيقدّم جريرا.
أخبرنا أبو خليفة: قال حدثنا محمد بن سلاّم، قال: سمعت يونس بن حبيب يقول:
ما شهدت مشهدا(3) قط ذكر فيه الفرزدق و جرير، فاجتمع أهل ذلك المجلس على أحدهما. قال ابن سلام:
و كان يونس يقدم الفرزدق تقدمة بغير إفراط، و كان المفضل يقدمه تقدمة شديدة.
قال ابن سلام: و قال ابن دأب، و سئل عنهما، فقال: الفرزدق أشعر خاصّة و جرير أشعر عامّة.
أخبرني الجوهريّ و حبيب المهلبيّ عن ابن شبة، عن العلاء بن الفضل: قال: قال لي أبو البيداء: يا أبا الهذيل، أيّهما أشعر؟ أ جرير أم الفرزدق؟ قال: قلت: ذاك إليك، ثم قال: أ لم تسمعه يقول:
/ما حمّلت ناقة من معشر رجلا *** مثلي إذا الريح لفّتني على الكور(4)
إلا قريشا فإن اللّه فضّلها *** مع النبوّة بالإسلام و الخير
ص: 258
و يقول جرير:
لا تحسبنّ مراس الحرب إذ لقحت *** شرب الكسيس و أكل الخبز بالصّير؟(1)
سلح و اللّه أبو حزرة.
أخبرني هاشم الخزاعيّ، عن أبي حاتم السجستانيّ، عن أبي عبيدة، قال:
سمعت يونس يقول: لو لا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب
أخبرني هاشم الخزاعيّ، عن أبي غسان، عن أبي عبيدة قال: قال يونس أبو البيداء: قال الفرزدق:
كنت أهاجي شعراء قومي، و أنا غلام في خلافة عثمان بن عفان، فكان قومي يخشون معرّة لساني منذ يومئذ، و وفد بي أبي إلى عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه عام الجمل، فقال له: إن ابني هذا يقول الشعر، فقال: علّمه القرآن، فهو(2) خير له.
قال أبو عبيدة: و مات الفرزدق في سنة عشر و مائة، و قد/نيّف على التسعين سنة، كان منها خمسة(3) و سبعين سنة يباري الشعراء، و يهجو الأشراف فيغضّهم، ما ثبت له أحد منهم قط، إلا جريرا.
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ: قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدثني محمد بن معاوية الأسديّ، قال: حدثنا ابن الرازي، عن خالد بن كلثوم قال:
قيل للفرزدق: مالك و للشعر؟ فو اللّه ما كان أبوك غالب شاعرا، و لا كان صعصعة شاعرا، فمن أين لك هذا؟ قال: من قبل خالي، قيل: أيّ أخوالك؟ قال: خالي العلاء بن قرظة(4) الذي يقول:
إذا ما الدهر جرّ على أناس *** بكلكلة أناخ بآخرينا(5)
فقل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون كما لقينا
أخبرني عمّي قال: حدثنا الكرانيّ. عن العمريّ، عن الهيثم بن عديّ، عن حمّاد الراوية، و أخبرني هاشم الخزاعي: قال: حدثنا دماذ، عن أبي عبيدة قال:
ص: 259
دخل قوم من بني ضبّة على الفرزدق فقالوا له: قبّحك اللّه من ابن أخت! قد عرّضتنا لهذا الكلب السفيه - يعنون جريرا - حتى يشتم أعراضنا، و يذكر نساءنا، فغضب الفرزدق، و قال: بل قبّحكم اللّه من أخوال! فو اللّه لقد(1) شرّفكم من فخري أكثر مما غضّكم من هجاء جرير، أ فأنا ويلكم عرّضتكم لسويد بن أبي كاهل حيث يقول:
لقد زرقت عيناك يا بن مكعبر *** كما كلّ ضبّيّ من اللؤم أزرق
ترى اللؤم فيهم لائحا في وجوههم *** كما لاح في خيل الحلائب أبلق(2)
أو أنا عرّضتكم للأغلب العجليّ حيث يقول:
لن تجد الضّبّيّ إلاّ فلاّ *** عبدا إذانا و لقوم ذلاّ(3)
/مثل قفا المدية أو أكلاّ *** حتى يكون الألأم الأقلاّ
أو أنا عرّضتكم له حيث يقول:
إذا رأيت رجلا من ضبّه *** فنكه عمدا في سواء السّبّه(4)
إن اليمانيّ عقاص الزّبّه(5)
أو أنا عرضتكم لمالك بن نويرة حيث يقول:
و لو يذبح الضّبيّ بالسيف لم تجد *** من اللؤم للضّبيّ لحما و لا دما!
و اللّه لما ذكرت من شرفكم، و أظهرت من أيامكم أكثر، أ لست القاتل:
و أنا ابن حنظلة الأغرّ و إنني *** في آل ضبّة للمعمّ المخول
فرعان قد بلغ السّماء ذراهما *** و إليهما من كل خوف يعقل(6)
أخبرنا أبو خليفة، عن ابن سلام، عن أبي بكر محمد بن واسع و عبد القاهر قالا:
كان(7) فتى في بني حرام بن سماك شويعر، قد هجا الفرزدق، فأخذناه، فأتينا به الفرزدق، و قلنا: هو بين يديك، فإن شئت فاضرب، و إن شئت فاحلق، لا عدوى عليك و لا قصاص، فخلّى عنه و قال:
فمن يك خائفا لأذاة قولي *** فقد أمن الهجاء بنو حرام
هم قادوا سفيههم و خافوا *** قلائد مثل أطواق الحمام
ص: 260
/أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: حدثني الحكم بن محمد، قال: /كان رجل من قضاعة ثم من بني القين على السّند، و في حبسه رجل يقال له حبيش - أو خنيش - و طالت غيبته عن أهله، فأتت أمّه قبر غالب بكاظمة، فأقامت عليه، حتى علم الفرزدق بمكانها، ثم إنها أتت فطلبت إليه في(1) أمر ابنها، فكتب إلى تميم القضاعيّ.
هب لي خنيسا و اتّخذ فيه منّة *** لغصّة أمّ ما يسوغ شرابها
أتتني فعاذت يا تميم بغالب *** و بالحفرة السّافي عليه ترابها
تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي *** بظهر فلا يخفى عليّ جوابها(2)
فلما أتاه الكتاب لم يدر: أ خنيس أم حبيش! فأطلقهما جميعا.
أخبرني أبو خليفة: قال: حدثنا محمد بن سلام: قال: حدثني أبو يحيى الضّبيّ قال: ضرب مكاتب لبني منقر خيمة على قبر غالب، فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه أنهم رأوا بناء على قبر غالب أبيه، ثم قدم عليه، و هو بالمربد فقال:
بقبر ابن ليلى غالب عذت بعد ما *** خشيت الرّدى أو أن أردّ على قسر(3)
فخاطبني قبر ابن ليلى و قال لي: *** فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر
فقال له الفرزدق: صدق أبي، أنخ أنخ، ثم طاف في الناس، حتى جمع له كتابته و فضلا.
أخبرني ابن خلف وكيع، عن هارون بن الزيات، عن أحمد بن حماد بن الجميل، قال: حدثنا القحذميّ، عن ابن عياش: قال:
/لقيت الفرزدق فقلت له: يا أبا فراس، أنت الذي تقول:
فليت الأكفّ الدافنات ابن يوسف *** يقطّعن إذ غيّبن تحت السقائف(4)
فقال: نعم، أنا، فقلت له: ثم قلت بعد ذلك له:
لئن نفر الحجّاج آل معتّب *** لقوا دولة كان العدوّ يدالها(5)
ص: 261
لقد أصبح الأحياء منهم أذلة *** و في الناس موتاهم كلوحا سبالها(1)
قال: فقال الفرزدق: نعم، نكون مع الواحد منهم ما كان اللّه معه، فإذا تخلى منه انقلبنا عليه.
أخبرنا هاشم بن محمد، عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعيّ، عن عمه، عن بعض أشياخه قال:
شهد الفرزدق عند إياس بن معاوية، فقال: أجزنا شهادة الفرزدق أبي فراس، و زيدونا شهودا، فقام الفرزدق فرحا، فقيل له: أما(2) و اللّه ما أجاز شهادتك قال: بلى، قد سمعته يقول: قد قبلنا شهادة أبي فراس، قالوا: أ فما سمعته يستزيد شاهدا آخر؟ فقال: و ما يمنعه(3) ألا يقبل شهادتي، و قد قذفت ألف محصنة!.
أخبرنا ابن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس: قال:
كان عطية بن جعال الغدانيّ (4) صديقا و نديما للفرزدق، فبلغ الفرزدق أنّ رجلا/من بني غدانة هجاه و عاون جريرا عليه، و أنه أراد أن يهجو بني غدانة، فأتاه عطية بن جعال فسأله أن يصفح له عن قومه، و يهب له أعراضهم، ففعل، ثم قال:
أ بني غدانة إنني حرّرتكم *** فوهبتكم لعطية بن جعال
لو لا عطية لاجتدعت أنوفكم *** من بين ألأم أعين و سبال(5)
فبلغ ذلك عطية، فقال: ما أسرع ما ارتجع أخي(6) هبته، قبحها اللّه من هبة ممنونة مرتجعة.
/أخبرني وكيع، عن هارون بن محمد: قال: حدثني قبيصة بن معاوية المهلّبيّ، عن المدائني، عن محمد بن النضر:
أن الفرزدق(7) مرّ بباب المفضّل بن المهلّب، فأرسل إليه غلمة، فاحتملوه، حتى أدخل إليه بواسط، و قد خرج من تيّار ماء كان فيه، فأمر به، فألقى فيه، بثيابه، و عنده ابن أبي علقمة اليحمديّ المجنون، فسعى إلى الفرزدق، فقال له المفضل: ما تريد؟ قال: أريد أن أنيكه و أفضحه، فو اللّه لا يهجو بعدها أحدا من الأزد، فصاح
ص: 262
الفرزدق: اللّه(1) اللّه أيها الأمير فيّ، أنا في جوارك و ذمتك؛ فمنع عنه ابن أبي علقمة، فلما خرج قال: قاتل اللّه مجنونهم؛ و اللّه لو مسّ ثوبه ثوبي لقام بها جرير و قعد؛ و فضحني في العرب فلم يبق لي فيهم باقية.
و أخبرني بنحو هذا الخبر حبيب المهلبيّ، عن ابن شبة، عن محمد بن يحيى، عن عبد الحميد، عن أبيه، عن جده: قال أبو زيد: و أخبرني أبو عاصم عن الحسن بن دينار، قال: قال لي الفرزدق:
/ما مر بي يوم قط أشدّ عليّ من يوم دخلت فيه على أبي عيينة بن المهلب - و كان يوما شديد الحر - فما منّا أحد إلا جلس في أبزن(2). فقلنا له: إن أردت أن تنفعنا فابعث إلى ابن أبي علقمة، فقال: لا تريدوه؛ فإنه يكدّر علينا مجلسنا، فقلنا: لا بد منه، فأرسل إليه، فلما دخل فرآني؛ قال الفرزدق و اللّه. و وثب إليّ، و قد أنعظ أيره، و جعل يصيح: و اللّه لأنيكنّه؛ فقلت لأبي عيينة: اللّه اللّه فيّ، أنا في جوارك، فو اللّه لئن دنا إليّ لا تبقى له باقية مع جرير؛ فلم يتكلم أبو عيينة؛ و لم تكن لي همة إلا أن عدوت حتى صعدت إلى السطح، فاقتحمت الحائط، فقيل له:
و لا يوم زياد(3) كان مثل يومئذ، فقال: و لا مثل يوم زياد(4).
أخبرني عمي، عن ابن أبي سعد، عن أحمد بن عمر، عن إسحاق بن مروان مولى جهينة و كان يقال له: كوزا الرواية؛ قال أحمد بن عمر: و أخبرني عثمان بن خالد العثماني(5):
أن الفرزدق قدم المدينة في سنة مجدبة حصّاء(6) فمشى أهل المدينة إلى عمر بن عبد العزيز، فقالوا له: أيها الأمير، إن الفرزدق قدم مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة التي أهلكت عامة الأموال التي لأهل المدينة، و ليس عند أحد منهم ما يعطيه شاعرا، فلو أن الأمير بعث إليه، فأرضاه، و تقدم إليه(7) ألا يعرض لأحد بمدح و لا هجاء؛ فبعث إليه عمر: إنك يا فرزدق قدمت مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة، و ليس عند أحد ما يعطيه شاعرا، و قد أمرت لك بأربعة آلاف درهم؛ فخذها، و لا تعرض لأحد/بمدح و لا هجاء، فأخذها الفرزدق، و مرّ بعبد اللّه بن عمرو بن عثمان، و هو جالس في سقيفة داره، و عليه مطرف(8) خزّ أحمر و جبّة خزّ أحمر، فوقف عليه، و قال:
أعبد اللّه أنت أحقّ ماش *** و ساع بالجماهير الكبار
نما الفاروق أمّك و ابن أروى *** أبوك فأنت منصدع النّهار(9)
هما قمرا السماء و أنت نجم *** به في الليل يدلج كلّ سار
ص: 263
فخلع عليه الجبة و العمامة و المطرف، و أمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج رجل كان حضر عبد اللّه و الفرزدق عنده، و رأى ما أعطاه إياه، و سمع ما أمره عمر به من ألا يعرض لأحد، فدخل إلى عمر بن عبد العزيز؛ فأخبره، فبعث إليه عمر: أ لم أتقدم إليك يا فرزدق أ لا تعرض لأحد بمدح و لا هجاء؟ أخرج، فقد أجلتك ثلاثا، فإن وجدتك بعد ثلاث نكّلت بك؛ /فخرج و هو يقول:
فأجّلني و واعدني ثلاثا *** كأوعدت لمهلكها ثمود(1)
قال: و قال جرير فيه:
نفاك الأغرّ ابن عبد العزيز *** و مثلك ينفى من المسجد
و شبهت نفسك أشقى ثمود *** فقالوا: ضللت و لم تهتد(2)
أخبرني(3) حبيب المهلّبي، عن ابن أبي سعد، عن صباح، عن النوفليّ بن خاقان، عن يونس النحويّ قال:
/مدح الفرزدق عمر بن مسلم الباهلي، فأمر له بثلاثمائة درهم، و كان عمرو بن عفراء الضّبيّ صديقا لعمر، فلامه، و قال: أ تعطي الفرزدق ثلاثمائة درهم، و إنّما كان يكفيه عشرون درهما، فبلغه ذلك فقال:
نهيت ابن عفرى أن يعفّر أمّه *** كعفر السّلا إذا جرّرته ثعالبه
و إنّ امرأ يغتابنى لم أطأ له *** حريما فلا ينهاه عنّي أقاربه
كمحتطب يوما أساود هضبة *** أتاه بها في ظلمة الليل حاطبه
أ لمّا استوى ناباي و ابيضّ مسحلي *** و أطرق إطراق الكرى من أحاربه؟
فلو كان ضبّيّا صفحت و لو سرت *** على قدمي حيّاته و عقاربه
و لكن ديافيّ أبوه و أمه *** بحوران يعصرن السّليط قرائبه
الهشامي و ابن المكي و حبش. و قبل أن أذكر أخباره و نسبه فإني أذكر الرواية في أنّ هذا الشعر له.
أخبرنا محمد بن خلف وكيع: قال: أخبرني عبد الواحد بن سعيد، قال: حدثني أبو بشر (1)، محمد بن خالد البجليّ: قال: حدثني أبو الخطّاب بن يزيد بن عبد الرحمن: قال: سمعت أبي يحدث: قال: حدثني مسمع بن مالك بن جحوش البجليّ، قال:
ركب خالد بن عبد اللّه، و هو أمير العراق، و هو يومئذ بالكوفة إلى ضيعته التي يقال لها المكرخة، و هي من الكوفة على أربعة فراسخ، و ركبت معه في زورق، فقال لي: نشدتك اللّه يا بن جحوش، هل سمعت غريض مكة يتغنى:
و مقالها بالنّعف نعف محسّر *** لفتاتها: هل تعرفين المعرضا
قل: قلت: نعم، قال: الشعر و اللّه لي، و الغناء لغريض مكة، و ما وجدت هذا الشعر في شيء من دواوين عمر بن أبي ربيعة التي رواها المدنيّون و المكيّون؛ و إنما يوجد في الكتب المحدثة و الإسنادات المنقطعة، ثم نرجع الآن إلى ذكره.
ص: 265
الموضوع الصفحة
أخبار المنخل و نسبه 5
أخبار أمية بن الأسكر و نسبه 11
نسب عبدة بن الطبيب و أخباره 21
أخبار الأغلب و نسبه 23
أخبار البحتري و نسبه 28
ذكر نتف من أخبار عريب مستحسنة 40
ذكر معقل بن عيسى 65
الأحوص و بعض أخباره 67
ذكر عبد اللّه بن الحسن بن الحسن عليهم السلام و نسبه و أخباره و خبر هذا الشعر 78
أخبار تأبط شرا و نسبه 86
عمرو بن براق 116
أخبار الشنفري و نسبه 118
أخبار الخليل و نسبه 129
أخبار علقمة و نسبه 132
ذكر أبي خراش الهذلي و أخباره 136
أخبار ابن دارة و نسبه 151
أخبار مسعود بن خرشة 163
أخبار بحر و نسبه 165
أخبار هدبة بن خشرم و نسبه 166
نسب الفرزدق و أخباره و ذكر مناقضاته 180
ص: 266