الأغاني المجلد 19-20

هویة الکتاب

الأغاني

المؤلفين الآخرين

مدقق لغوي ومترجم:

مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي

المجلدات : 25ج

لسان: العربية

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374

إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري

ص: 1

المجلد 19

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة التراجم

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *

1 - ذكر أبي محجن و نسبه

اشارة

1 - ذكر أبي محجن و نسبه(1)

نسبه

أبو محجن عبد اللّه(2) بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن عنزة بن عوف بن قسيّ و هو ثقيف، و قد مضى نسبه في عدّة مواضع.

و أبو محجن من المخضرمين الّذين أدركوا الجاهلية و الإسلام، و هو شاعر فارس شجاع معدود في أولي البأس و النّجدة، و كان من المعاقرين للخمر المحدودين في شربها.

نفاه عمر بجزيرة حضوضي مع ابن جهراء ففر منه

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن الحسن الأحول، عن ابن الأعرابيّ ، عن المفضّل، قال:

لمّا كثر شرب أبي محجن الخمر، و أقام عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه عليه الحدّ مرارا و هو لا ينتهي، نفاه إلى جزيرة في البحر يقال لها حضوضى(3)، و بعث معه حرسيّا(4) يقال له ابن جهراء، فهرب منه على ساحل البحر، و لحق بسعد بن أبي وقّاص، و قال في ذلك يذكر هربه من ابن جهراء:

الحمد للّه نجّاني و خلّصني *** من ابن جهراء و البوصيّ (5) قد حبسا

من يجشم البحر و البوصيّ مركبه *** إلى حضوضى فبئس المركب التمسا

/أبلغ لديك أبا حفص مغلغلة *** عبد الإله إذا ما غار أو جلسا

أنّي أكرّ على الأولى إذا فزعوا *** يوما و أحبس تحت الرّاية الفرسا

أغشى الهياج و تغشاني مضاعفة *** من الحديد إذا ما بعضهم خنسا(6)

ص: 5


1- هذه الترجمة جاءت بالجزء الحادي و العشرين و موضعها هنا كما جاءت في ف و غيرها من النسخ المخطوطة الموثوق بها.
2- في «المؤتلف و المختلف» للآمدي ط. الحلبي/ 133: حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفي.
3- قال الحازمي: حضوضى: جزيرة في البحر، و في «معجم ياقوت»: حضوضى: جبل في الغرب، كانت العرب في الجاهلية تنفي إليه خلعاءها.
4- الحرسي: واحد حرس السلطان.
5- البوصي: ضرب من السفن (فارسي معرب).
6- خنس: تأخر و تخلف.
أحب الشموس الأنصارية فشكاه زوجها لعمر

هذه رواية ابن الأعرابيّ عن المفضّل، قال ابن الأعرابيّ : و حدّثني ابن دأب بسبب نفي عمر إيّاه، فذكر أنّ أبا محجن هوي امرأة من الأنصار يقال لها شموس، فحاول النّظر إليها بكلّ حيلة، فلم يقدر عليها، فآجر نفسه من عامل يعمل في حائط(1) إلى جانب منزلها، فأشرف من كوّة(2) في البستان، فرآها فأنشأ يقول:

و لقد نظرت إلى الشّموس و دونها *** حرج من الرّحمن غير قليل

قد كنت أحسبني كأغنى واحد *** ورد المدينة عن زراعة فول

رجع إلى حديث فراره من ابن جهراء

فاستعدى زوجها عليه عمر بن الخطّاب، فنفاه إلى حضوضى، و بعث معه رجلا يقال له ابن جهراء قد كان أبو بكر رضي اللّه عنه يستعين به، قال له عمر: لا تدع أبا محجن يخرج معه سيفا، فعمد أبو محجن إلى سيفه فجعل نصله في غرارة و جعل جفنة في غرارة أخرى، فيهما دقيق له.

فلما انتهى به إلى السّاحل و قرب البوصيّ اشترى أبو محجن شاة و قال لابن جهراء: هلمّ نتغدّ و وثب إلى الغرارة كأنّه يخرج منها فأخذ السيف، فلما رآه ابن جهراء و السيف في يده خرج يعدو حتى ركب بعيره راجعا إلى عمر، فأخبره الخبر.

قاتل العجم يوم أرماث بعد أن أطلقته امرأة بن أبي وقاص
اشارة

و أقبل أبو محجن إلى سعد بن أبي وقّاص و هو يقاتل العجم يوم القادسيّة، و بلغ عمر خبره، فكتب إلى سعد بحبسه، فحبسه، فلما كان يوم أرماث(3)؛ و التحم القتال سأل أبو محجن امرأة سعد أن تعطيه فرس سعد و تحلّ قيده ليقاتل المشركين، فإن استشهد فلا تبعة عليه، و إن سلم عاد حتى يضع رجله في القيد، فأعطته الفرس، و خلّت سبيله، و عاهدها على الوفاء، فقاتل فأبلى بلاء حسنا إلى الليل، ثم عاد إلى حبسه.

حدّثني بهذا الحديث عمّي عن الخرّاز، عن المدائنيّ ، عن إبراهيم بن حكيم، عن عاصم بن عروة:

أنّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه غرّب رجلا من ثقيف و هو أبو محجن، و كان يدمن الخمر و أمر ابن جهراء النّصريّ و رجلا آخر أن يحملاه في البحر، و ذكر الخبر مثل الّذي قبله، و زاد فيه: و قال أبو محجن أيضا:

ص: 6


1- الحائط: البستان.
2- الكوة: الخرق.
3- ف: يوم «قس الناطف»، و في «معجم البلدان» 1-211: أرماث كأنه جمع رمث: اسم نبت بالبادية، كان أول يوم من أيام القادسية يسمونه يوم أرماث، و ذلك في أيام عمر بن الخطاب و إمارة سعد بن أبي وقاص، قال ياقوت: و لا أدري أ هو موضع أم أرادوا النبت المذكور. قال عمرو بن شأس الأسدي: عشية أرماث و نحن نذودهم ذياد العوافي عن مشاربها عكلا و فيه 4-97: قس الناطف: موضع قريب من الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي كانت به وقعة بين الفرس و المسلمين في سنة 13 ه في خلافة عمر بن الخطاب، و أمير المسلمين أبو عبيد بن مسعود بن عمرو، و يعرف هذا اليوم بيوم الجسر.
صوت

صاحبا سوء صحبتهما *** صاحباني يوم أرتحل

و يقولان: ارتحل معنا *** فأنادي(1): إنّني ثمل

إنّني باكرت مترعة *** مزّة راووقها خضل(2)

/الغناء في البيتين الأخيرين لنشو خفيف رمل و أوله:

و يقولان اصطبح معنا

قال الأصبهانيّ : و هذه القصة كانت لأبي محجن في يوم من أيّام حرب القادسية يقال له: يوم أرماث، و كانت أيّامها المشهورة يوم أغواث و يوم أرماث و يوم الكتائب و خبرها يطول جدّا؛ و ليس في كلّها كان لأبي محجن خبر، و إنما ذكرنا هاهنا خبره، فذكرنا منها ما كان اتّصاله بخبر أبي محجن.

حدّثنا بذلك محمد بن جرير الطّبريّ ، قال: كتب إليّ السّريّ بن يحيى؛ يذكر عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن طلحة و زياد و ابن مخراق، عن رجل من طيئ قال:

لمّا كان يوم الكتائب اقتتل المسلمون و الفرس منذ أصبحوا إلى أن انتصف النّهار، فلما غابت(3) الشّمس تزاحف الناس فاقتتلوا حتى انتصف اللّيل؛ و هذه اللّيلة الّتي كان في صبيحتها يوم أرماث، و قد كان المسلمون يوم أغواث أشرفوا على الظّفر و قتلوا عامّة أعلام الفرس، و جالت خيلهم في القلب، فلو لا أنّ رجلهم(4) ثبتوا حتى كرّت الخيل لكان رئيسهم قد أخذ؛ لأنه كان ينزل عن فرسه؛ و يجلس على سريره، و يأمر النّاس بالقتال؛ قالوا: فلمّا انتصف اللّيل تحاجز الناس، و بات المسلمون ينتمون منذ لدن أمسوا.

و سمع ذلك سعد فاستلقى لينام، و قال لبعض من عنده: إن تمّ الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء على عدوّهم؛ و إن سكتوا و سكت العدو فلا تنبّهني فإنهم على السواء؛ و إن سمعت العدوّ ينتمون و هؤلاء سكوت فأنبهني فإن انتماء العدوّ من السّوء.

/قالوا: و لما اشتدّ القتال في تلك الليلة، و كان أبو محجن قد حبسه سعد بكتاب عمر، و قيّده فهو في القصر، صعد أبو محجن إلى سعد يستعفيه و يستقيله، فزبره(5) و ردّه، فنزل فأتى سلمى بنت أبي حفصة فقال:

يا بنت آل أبي حفصة، هل لك إليّ خير؟ قالت: و ما ذاك ؟ قال: تخلّين عنّي و تعيرينني البلقاء، فللّه عليّ إن سلّمني اللّه أن أرجع إلى حضرتك حتى تضعي رجليّ في قيدي. فقالت: و ما أنا و ذاك ؟ فرجع يرسف في قيوده و يقول:

كفى حزنا أن تردي(6) الخيل بالقنا *** و أترك مشدودا عليّ وثاقيا

ص: 7


1- في: ما، مج، س: «و أقول».
2- الراووق: الباطية أو الكأس، و الخضل: المبتلّ النديّ .
3- ف: «فلما قامت الشمس».
4- الرجل: جمع الراجل و هو الماشي على رجليه.
5- زبره عن كذا: منعه و نهاه.
6- في ما، مج، المختار: «ترتدي». و ردي الفرس: رجم الأرض بحوافره في سيره و عدوه.

إذا قمت عنّاني الحديد و غلّقت *** مصاريع من دوني تصمّ المناديا

و قد كنت ذا مال كثير و إخوة *** فقد تركوني واحدا لا أخاليا

و قد شفّ جسمي أنّني كلّ شارق *** أعالج كبلا مصمتا قد برانيا(1)

فللّه درّي يوم أترك موثقا *** و تذهل عنّي أسرتي و رجاليا

حبيسا عن الحرب العوان و قد بدت *** و إعمال غيري يوم ذاك العواليا

و للّه عهد لا أخيس بعهده *** لئن فرجت ألاّ أزور الحوانيا(2)

فقالت له سلمى: إني قد استخرت اللّه و رضيت بعهدك، فأطلقته و قالت: أمّا الفرس فلا أعيرها، و رجعت إلى بيتها، فاقتادها أبو محجن و أخرجها من باب القصر الّذي يلي الخندق، فركبها ثم دبّ عليها، حتى إذا كان بحيال الميمنة، و أضاء النّهار، و تصافّ النّاس، كبّر، ثم حمل على ميسرة القوم فلعب برمحه و سلاحه/بين الصّفّين، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبدر(3) أمام الناس، فحمل على القوم فلعب بين الصّفّين برمحه و سلاحه، و كان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا؛ فعجب الناس منه و هم لا يعرفونه و لم يروه بالأمس، فقال بعض القوم: هذا من أوائل أصحاب هشام بن عتبة أو هشام بنفسه. و قال قوم: إن كان الخضر يشهد الحروب فهو صاحب البلقاء. و قال آخرون: لو لا أنّ الملائكة لا تباشر القتال ظاهرا لقلنا هذا ملاك بيننا؛ و جعل سعد يقول - و هو مشرف ينظر إليه -: الطّعن طعن أبي محجن، و الضّبر ضبر البلقاء(4). و لو لا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن و هذه البلقاء، فلم يزل يقاتل حتى انتصف الليل، فتحاجز أهل العسكرين و أقبل أبو محجن حتى دخل القصر، و وضع عن نفسه و دابّته، و أعاد رجليه في القيد، و أنشأ يقول:

لقد علمت ثقيف غير فخر *** بأنّا نحن أكرمهم سيوفا

و أكثرهم دروعا سابغات *** و أصبرهم إذا كرهوا الوقوفا

و أنّا رفدهم في كلّ يوم *** فإن جحدوا فسل بهم عريفا(5)

و ليلة قادس لم يشعروا بي *** و لم أكره بمخرجي الزّحوفا

فإن أحبس فقد عرفوا بلائي *** و إن أطلق أجرّعهم حتوفا(6)

فقالت له سلمى: يا أبا محجن؛ في أيّ شيء حبسك هذا الرّجل ؟ فقال: أما و اللّه ما حبسني بحرام أكلته و لا

ص: 8


1- الشارق: الشمس حين تشرق، و الكبل: القيد.
2- لا أخيس بالعهد: لا أنقضه. و الحواني: الخمارات.
3- في تاريخ الطبري 3-548 ط. المعارف: «فندر أمام الناس»، أي تقدم.
4- الضبر: جمع القوائم و الوثب.
5- في تاريخ الطبري 3-549 ط. المعارف: و أنا وفدهم في كل يوم فإن عميوا فسل بهم عريفا
6- في تاريخ الطبري 3-549 ط. المعارف: فإن أحبس فذلكم بلائي و إن أترك أذيقهم الحتوفا

شربته، و لكني كنت صاحب شراب في الجاهلية و أنا/امرؤ شاعر يدبّ الشّعر على لساني فينفثه(1) أحيانا، فحبسني لأني قلت:

إذا متّ فادفنّي إلى أصل كرمة *** تروّي عظامي بعد موتي عروقها

و لا تدفننّي في الفلاة فإنني *** أخاف إذا ما متّ ألاّ أذوقها(2)

ليروى بخمر الحصّ (3) لحمي فإنّني *** أسير لها من بعد ما قد أسوقها

سعد بن أبي وقاص يعلم خبر إطلاقه و صدق قتاله فيفرج عنه

قال: و كانت سلمى قد رأت في المسلمين جولة، و سعد بن أبي وقّاص في القصر لعلّة كانت به، لم يقدر معها على حضور الحرب، و كانت قبله عند المثنّى بن حارثة الشّيبانيّ ! فلما قتل خلف عليها سعد، فلما رأت شدّة البأس صاحت: وا مثنّياه و لا مثنّى لي اليوم، فلطمها سعد، فقالت: أفّ لك، أجبنا و غيرة ؟ و كانت مغاضبة لسعد عشيّة أرماث و ليلة الهدأة و ليلة السّواد، حتى إذا أصبحت أتته و صالحته، و أخبرته خبر أبي محجن، فدعا به و أطلقه و قال: اذهب فلست مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم، و اللّه إني لا أجبت لساني إلى صفة قبيح أبدا.

خرج مع سعد بن أبي وقاص لحرب الأعاجم

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ ، و حبيب بن نصر المهلبيّ ، قالا: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثنا محمد بن حاتم، قال: حدّثنا محمد بن حازم، قال: حدّثنا عمرو بن المهاجر، عن إبراهيم بن محمد بن سعد، عن أبيه، و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن دينار مولى بني هاشم، عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل، و روايته أتمّ ، قالوا:

كان أبو محجن الثّقفيّ فيمن خرج مع سعد بن أبي وقّاص لحرب الأعاجم/فكان سعد يؤتى به شاربا فيتهدّده فيقول له: لست تاركها إلا للّه عزّ و جلّ ؛ فأمّا لقولك فلا. قالوا: فأتي به يوم القادسيّة و قد شرب الخمر؛ فأمر به إلى القيد، و كانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى النّاس؛ فاستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فلما التقى الناس قال أبو محجن:

كفى حزنا أن تردي الخيل بالقنا *** و أترك مشدودا عليّ وثاقيا

يقسم على ألاّ يشرب الخمر بعد أن عفا عنه سعد

و ذكر الأبيات و سائر خبره مثل ما ذكره محمد بن جرير، و زاد فيه: فجاءت زبراء امرأة سعد - هكذا قال:

و الصّحيح أنها سلمى - فأخبرت سعدا بخبره؛ فقال سعد: أما و اللّه لا أضرب اليوم رجلا أبلى اللّه المسلمين على يده

ص: 9


1- في تاريخ الطبري 4-124 ط. الحسينية: «يبعثه على شفتي أحيانا فيساء لذلك ثنائي، و لذلك حبسني».
2- أذوقها مرفوعة باعتبار «أن» مخففة من الثقيلة، و اسمها ضمير الشأن أو ضمير متكلم محذوف و جملة أذوقها خبر، و انظر «خزانة الأدب» 3-550 ط. بولاق.
3- الحص «بالضم» في اللغة الورس، و هو موضع بنواحي حمص ينسب إليه الخمر، و أورد ياقوت في 2-74، الأبيات الثلاثة، و جاء البيت الأخير برواية: و يروى بخمر الحص لحدي فإنني أسير لها من بعد ما قد أسوقها و هذه روايته أيضا في «تاريخ الطبري» 3-549 ط. المعارف.

ما أبلاهم، فخلّى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ كان الحدّ يقام عليّ و أطهّر منها، فأما إذ بهرجتني(1)فلا و اللّه لا أشربها أبدا. و قال ابن الأعرابيّ في خبره: و قال أبو محجن في ذلك:

إن كانت الخمر قد عزّت و قد منعت *** و حال من دونها الإسلام و الحرج

فقد أباكرها صرفا و أمزجها *** ريّا و أطرب أحيانا و أمتزج

و قد تقوم على رأسي منعمة *** خود إذا رفعت في صوتها غنج(2)

ترفّع الصّوت أحيانا و تخفضه *** كما يطنّ ذباب الرّوضة الهزج

يرد على امرأة ظنت أنه فر من المعركة

أخبرني الجوهريّ و المهلّبيّ قالا: حدّثنا عمر بن شبّة و قال:

لمّا انصرف أبو محجن ليعود إلى محبسه رأته امرأة فظنّته منهزما؛ فأنشأت تعيّره بفراره:

/من فارس كره الطّعان يعيرني *** رمحا إذا نزلوا بمن الصّفّر

فقال لها أبو محجن:

إن الكرام على الجياد مبيتهم *** فدعي الرّماح لأهلها و تعطّري

يرثي أبا عبيد بن مسعود بعد أن قتله فيل الأعداء

و ذكر السّريّ ، عن شعيب، عن سيف في خبره، و وافقته رواية ابن الأعرابي عن المفضّل:

أنّ النّاس لمّا التقوا مع العجم يوم قس النّاطف، كان مع الأعجام فيل يكرّ عليهم، فلا تقوم له الخيل؛ فقال أبو عبيد بن مسعود: هل له مقتل ؟ فقيل له: نعم؛ خرطومه إلا أنّه لا يفلت منه من ضربه؛ قال: فأنا أهب نفسي للّه، و كمن له حتى إذا أقبل وثب إليه فضرب خرطومه بالسّيف؛ فرمى به، ثم شدّ عليه الفيل فقتله، ثم استدار فطحن الأعاجم و انهزموا، فقال أبو محجن الثّقفيّ يرثي أبا عبيد:

أنّى تسدّت(3) نحونا أمّ يوسف *** و من دون مسراها فياف مجاهل

إلى فتية بالطّفّ نيلت(4) سراتهم *** و غودر أفراس لهم و رواحل

و أضحى أبو جبر خلاء بيوته *** و قد كان يغشاها الضّعاف الأرامل

و أضحى بنو عمرو لدى الجسر منهم *** إلى جانب الأبيات جود و نائل

و ما لمت نفسي فيهم غير أنّها *** لها أجل لم يأتها و هو عاجل

و ما رمت حتى خرّقوا بسلاحهم *** إهابي و جادت بالدّماء الأباجل(5)

ص: 10


1- بهرجتني: أهدرتني بإسقاط الحد عني (اللسان).
2- الخود: المرأة الشابة. و الغنج: الدلال. و في س، ف: «فيها إذا رفعت في صوتها غنج».
3- تسدت نحونا: جازت.
4- ف: «حلت سراتهم».
5- رمت: فارقت و برحت. و الإهاب: الجلد. و الأباجل: جمع أبجل و هو عرق غليظ في الرجل أو في اليد بإزاء الأكحل.

/و حتى رأيت مهرتي مزوئرة *** من النّبل(1) يدمى نحرها و الشّواكل

و ما رحت حتى كنت آخر رائح(2)*** و صرّع حولي الصّالحون الأماثل

مررت على الأنصار وسط رحالهم *** فقلت: ألا هل منكم اليوم قافل ؟

و قرّبت روّاحا و كورا و نمرقا *** و غودر في ألّيس(3) بكر و وائل

ألا لعن اللّه الذين يسرّهم *** رداي و ما يدرون ما اللّه فاعل

يقسم في شعر له بأنه لا يشرب الخمر أبدا

قال الأخفش في روايته، عن الأحول، عن ابن الأعرابيّ ، عن المفضّل: قال أبو محجن في تركه الخمر:

رأيت الخمر صالحة و فيها *** مناقب تهلك الرّجل الحليما

فلا و اللّه أشربها حياتي *** و لا أسقي بها أبدا نديما

معاوية و ابن أبي محجن

أخبرني عمّي قال: حدّثنا محمد بن سعد الكرانيّ قال: حدّثنا العمريّ ، عن لقيط، عن الهيثم بن عديّ .

و أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه، و أخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قالوا:

دخل ابن أبي محجن على معاوية، فقال له: أ ليس أبوك الّذي يقول:

إذا متّ فادفنّي إلى أصل كرمة(4) *** تروّي عظامي بعد موتي عروقها

و لا تدفننّي بالفلاة فإنّني *** أخاف إذا ما متّ ألاّ أذوقها

/فقال ابن أبي محجن: لو شئت لذكرت ما هو أحسن من هذا من شعره؛ قال: و ما ذاك ؟ قال: قوله:

لا تسألي الناس عن مالي و كثرته *** و سائلي الناس ما فعلي و ما خلقي(5)

أعطي السّنان غداة الرّوع حصّته *** و عامل الرّمح أرويه من العلق(6)

و أطعن الطعنة النّجلاء عن عرض *** و أحفظ السرّ فيه ضربة العنق

عفّ المطالب عمّا لست نائله *** - و إن ظلمت - شديد الحقد و الحنق

ص: 11


1- كذا في «معجم البلدان». و مزوئرة: معرضة و منحرفة. و الشواكل جمع شاكلة و هي الخاصرة. و في س: «لدى الفيل» بدل «من النبل» و في ف: «أرى الفيل».
2- ف: «أول رائح».
3- أ ليس: الموضع الّذي كانت فيه الوقعة بين المسلمين و الفرس في أول أرض العراق من ناحية البادية. و في ف، ما، مج: «و غودر في الأبيات».
4- في «الشعر و الشعراء»، و «خزانة الأدب»: «إلى جنب كرمة».
5- في «الشعر و الشعراء»: لا تسأل الناس: ما مالي و كثرته و سائل القوم: ما حزمي و ما خلقي
6- عامل الرمح: ما يلي السنان، و العلق: الدم.

و قد أجود و ما لي بذي فنع *** و قد أكرّ وراء المحجر البرق(1)

و القوم أعلم أني من سراتهم *** إذا سما بصر الرّعديدة الشّفق(2)

قد يعسر المرء حينا و هو ذو كرم *** و قد يثوب(3) سوام العاجز الحمق

سيكثر المال يوما بعد قلّته *** و يكتسي العود بعد اليبس بالورق

فقال معاوية: لئن كنا أسأنا لك القول لنحسننّ لك الصّفد(4)، ثم أجزل جائزته و قال: إذا ولدت النّساء فلتلد مثلك!.

عمر بن الخطاب يحده و جماعة من أصحابه في شربهم الخمر
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ و عيسى بن الحسين الورّاق، قالا: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني صالح بن عبد الرّحمن الهاشميّ ، عن العمريّ ، عن العتبيّ ، قال: أتى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بجماعة فيهم أبو محجن الثقفيّ و قد شربوا الخمر، فقال: أ شربتم الخمر بعد أن حرّمها اللّه و رسوله، فقالوا: ما حرّمها اللّه و لا رسوله؛ إن اللّه تعالى يقول: /لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ جُنٰاحٌ فِيمٰا طَعِمُوا إِذٰا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ (5)؛ فقال عمر لأصحابه: ما ترون فيهم ؟ فاختلفوا فيهم فبعث إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فشاوره؛ فقال عليّ : إن كانت هذه الآية كما يقولون فينبغي أن يستحلّوا الميتة و الدّم و لحم الخنزير؛ فسكتوا، فقال عمر لعليّ : ما ترى فيهم ؟ قال: أرى إن كانوا شربوها مستحلّين لها أن يقتلوا، و إن كانوا شربوها و هم يؤمنون أنها حرام أن يحدّوا، فسألهم؛ فقالوا: و اللّه ما شككنا في أنها حرام، و لكنا قدّرنا أن لنا نجاة فيما قلناه، فجعل يحدّهم رجلا رجلا، و هم يخرجون حتى انتهى إلى أبي محجن، فلما جلده أنشأ يقول:

أ لم تر أنّ الدهر يعثر بالفتى *** و لا يستطيع المرء صرف المقادر

صبرت(6) فلم أجزع و لم أك كائعا *** لحادث دهر في الحكومة جائر

و إني لذو صبر و قد مات إخوتي *** و لست عن الصهباء يوما بصابر

رماها أمير المؤمنين بحتفها *** فخلاّنها يبكون حول المعاصر

فلما سمع عمر قوله:

و لست عن الصّهباء يوما بصابر

قال: قد أبديت ما في نفسك و لأزيدنّك عقوبة لإصرارك على شرب الخمر؛ فقال له عليّ عليه السّلام:

ما ذلك لك، و ما يجوز أن تعاقب رجلا قال: لأفعلنّ و هو لم يفعل، و قد قال اللّه في سورة الشعراء: وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ (7)

ص: 12


1- في ما، ف: «و قد أكر وراء المحجر الفرق». و الفنع: الكثرة، و المحجر: المغطى المستور. و البرق: الدهش المتحير حتى لا يطرف.
2- في الشعر و الشعراء - 388 ط. الحلبي، و الخزانة 3-555: «إذا تطيش يد الرعديدة الفرق». و الرعديدة: الجبان يرعد عند القتال.
3- يثوب: يجتمع. و في شرح شواهد المغني - 38: «و قد يثوب الغنى للحاجز الحمق».
4- الصفد: العطاء.
5- سورة المائدة، الآية: 93.
6- في ف، ما: «ضربت» بدل «صبرت». و الكائع: الجبان الهياب.
7- سورة الشعراء، الآية: 226.

، فقال عمر: قد استثنى اللّه منهم قوما فقال: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ (1). فقال عليّ عليه السّلام: أ فهؤلاء عندك منهم و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا يشرب العبد الخمر حين يشربها و هو مؤمن».

قبره في أذربيجان نبتت عليه كرمة
اشارة

أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس، قال: حدّثنا العمريّ ، عن الهيثم بن عديّ ، قال:

أخبرني من مرّ بقبر أبي محجن الثقفيّ في نواحي أذربيجان - أو قال في نواحي جرجان - فرأيت قبره و قد نبتت عليه ثلاثة أصول كرم قد طالت و أثمرت و هي معروشة، و على قبره مكتوب: هذا قبر أبي محجن الثقفيّ ، فوقفت طويلا أتعجّب مما اتّفق له حتى صار كأمنيّة بلغها حيث يقول:

إذا متّ فادفنّي إلى أصل كرمة *** تروّي عظامي بعد موتي عروقها

صوت

ألا يا لقومي لا أرى النّجم طالعا *** و لا الشّمس إلاّ حاجبي بيميني

معزّبتي خلف القفا بعمودها *** فجلّ نكيري أن أقول ذريني

أمين على أسرارهنّ و قد أرى *** أكون على الأسرار غير أمين

فللموت خير من حداج موطّأ *** مع الظّعن لا يأتي المحلّ لحين

عروضه من الطّويل؛ و المعزّية: امرأة تكون مع الشّيخ الخرف تكلؤه. و قوله:

أمين على أسرارهنّ ...

أي أنّ النّساء صرن يتحدّثن بين يديّ بأسرارهنّ ، و يفعلن ما كنّ قبل ذلك يرهبنني فيه؛ لأني لا أضرّهن.

و الحداج و الحدج: مركب من مراكب النّساء.

الشّعر لزهير بن جناب الكلبيّ ، و الغناء لأهل مكة، و لحنه من خفيف الثّقيل الأول بالوسطى عن الهشاميّ و حبش، و فيه لحنين ثاني ثقيل بالوسطى.

ص: 13


1- سورة الشعراء، الآية: 227.

2 - أخبار زهير بن جناب و نسبه

اشارة

2 - أخبار زهير بن جناب و نسبه(1)

نسبه

زهير بن جناب بن هبل بن عبد اللّه بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللاّت بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب(2) بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

شاعر جاهليّ ، و هو أحد المعمّرين، و كان سيّد بني كلب و قائدهم في حروبهم؛ و كان شجاعا مظفّرا ميمون النّقيبة في غزواته، و هو أحد من ملّ عمره فشرب الخمر صرفا حتى قتلته.

و لم يوجد شاعر في الجاهليّة و الإسلام ولد من الشّعراء أكثر ممّن ولد زهير، و سأذكر أسماءهم و شيئا من شعرهم بعقب ذكر خبره إن شاء اللّه تعالى.

سبب غزوة غطفان

قال ابن الأعرابيّ : كان سبب غزوة زهير بن جناب غطفان أنّ بني بغيض حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم، فتعرّضت لهم صداء و هي قبيلة من مذحج؛ فقاتلوهم و بنو بغيض سائرون بأهليهم و نسائهم و أموالهم، فقاتلوا عن حريمهم فظهروا على صداء فأوجعوا فيهم و نكئوا(3)؛ و عزّت بنو بغيض بذلك و أثرت و أصابت غنائم؛ فلمّا رأوا ذلك قالوا: أما و اللّه لنتّخذنّ حرما مثل حرم مكة لا يقتل صيده، و لا يعضد شجره، و لا يهاج عائذه(4)، فوليت ذلك بنو مرّة بن عوف.

ثمّ كان القائم على أمر الحرم و بناء حائطه رياح بن ظالم، ففعلوا ذلك و هم/على ماء لهم يقال له بسّ (5).

و بلغ فعلهم و ما أجمعوا عليه زهير بن جناب و هو يومئذ سيّد بني كلب؛ فقال: و اللّه لا يكون ذلك أبدا و أنا حيّ ، و لا أخلّي غطفان تتّخذ حرما أبدا.

قتل فارسهم الأسير و ردّ نساءهم و قال شعرا في ذلك.

فنادى في قومه فاجتمعوا إليه فقام فيهم، فذكر حال غطفان و ما بلغه عنها؛ و أنّ أكرم مأثرة يعتقدها هو و قومه أن يمنعوهم من ذلك و يحولوا بينهم و بينه، فأجابوه، و استمدّ بني القين من جشم(6) فأبوا أن يغزوا معه، فسار في

ص: 14


1- جاءت هذه الترجمة في الجزء الحادي و العشرين، و موضعها هنا وفقا لما جاء في ف و غيرها من المخطوطات الموثوقة.
2- ف: «وبرة بن ثعلبة».
3- ما: «و نكوا». و نكأ العدوّ: جرحه و قتله.
4- لا يهاج عائذه: لا يفزع من يلجأ إليه و يعتصم به.
5- في «معجم ياقوت» 1-622، بسّ : «ماء لغطفان».
6- استمد بني القين من جشم: طلب منهم المدد.

قومه حتى غزا غطفان؛ فقاتلهم فظفر بهم زهير و أصاب حاجته فيهم، و أخذ فارسا منهم أسيرا في حرمهم الّذي بنوه، فقال لبعض أصحابه: اضرب رقبته، فقال: إنّه بسل(1)، فقال زهير: و أبيك ما بسل عليّ بحرام.

ثم قام إليه فضرب عنقه و عطّل ذلك الحرم؛ ثم منّ على غطفان و ردّ النّساء و استاق الأموال؛ و قال زهير في ذلك:

و لم تصبر لنا غطفان لمّا *** تلاقينا و أحرزت النّساء

فلو لا الفضل منّا ما رجعتم *** إلى عذراء شيمتها الحياء

و كم غادرتم بطلا كميّا(2) *** لدى الهيجاء كان له غناء

فدونكم ديونا فاطلبوها *** و أوتارا و دونكم اللّقاء

فإنّا حيث لا نخفي عليكم *** ليوث حين يحتضر اللّواء(3)

فخلّى بعدها غطفان بسّا *** و ما غطفان و الأرض الفضاء!

/فقد أضحى لحيّ بني جناب *** فضاء الأرض و الماء الرّواء(4)

و يصدق طعننا في كلّ يوم *** و عند الطّعن يختبر اللّقاء

نفينا نخوة الأعداء عنّا *** بأرماح أسنّتها ظماء

و لو لا صبرنا يوم التقينا *** لقينا مثل ما لقيت صداء

غداة تعرّضوا لبني بغيض *** و صدق الطّعن للنّوكى(5) شفاء

و قد هربت حذار الموت قين *** على آثار من ذهب العفاء

و قد كنّا رجونا أن يمدّوا *** فأخلفنا من إخوتنا الرّجاء

و ألهى القين عن نصر الموالي *** حلاب النّيب و المرعى الضّراء(6)

طعنه ابن زيّابة و ظن أنه مات فحمل إلى قومه و عوفي

و قال أبو عمرو الشّيباني: كان أبرهة حين طلع نجدا أتاه زهير بن جناب، فأكرمه أبرهة و فضّله على من أتاه من العرب، ثم أمّره على ابني وائل: تغلب و بكر، فوليهم حتى(7) أصابتهم سنة شديدة، فاشتدّ عليهم ما يطلب منهم زهير، فأقام بهم زهير في الجدب، و منعهم من النّجعة حتى يؤدّوا ما عليهم، فكادت مواشيهم تهلك. فلما رأى ذلك ابن زيّابة - أحد بني تيم اللّه بن ثعلبة، و كان رجلا فاتكا - بيّت زهيرا(8) و كان نائما في قبّة له من أدم، فدخل فألفى زهيرا نائما، و كان رجلا عظيم البطن، فاعتمد التّيميّ بالسّيف على بطن زهير حتى أخرجه من ظهره مارقا بين

ص: 15


1- بسل: حرام.
2- في ف: «و كم غادرت من بطل كمي».
3- يحتضر: يحضر. و في «مختار الأغاني»: «... حين يهتصر اللواء» أي حين يسقط.
4- الماء الرواء: العذب أو الكثير.
5- النوكى جمع أنوك، و هو الأحمق أو العاجز الجاهل.
6- في مج: «و ألهى القين عن محض الموالي». و في ف: «جلاب النبت» بدل «حلاب النيب». و الضراء: الشجر الملتف.
7- في ف: «حين أصابتهم».
8- بيت فلانا: أوقع به ليلا دون أن يعلم.

الصّفاق، و سلمت أعفاج بطنه(1)، و ظنّ التّيميّ أنّه/قد قتله، و علم زهير أنه قد سلم، فتخوّف أن يتحرّك فيجهز عليه، فسكت. و انصرف ابن زيّابة إلى قومه، فقال لهم: قد - و اللّه - قتلت زهيرا و كفيتكموه، فسرّهم ذلك. و لمّا علم زهير أنه لم يقدم عليه إلا عن ملأ من قومه بكر و تغلب - و إنما مع زهير نفر من قومه بمنزلة الشّرط - أمر زهير قومه فغيّبوه بين عمودين في ثياب ثم أتوا القوم فقالوا لهم: إنكم قد فعلتم بصاحبنا ما فعلتم، فأذنوا لنا في دفنه، ففعلوا.

شعر ابن زيابة في نبوّ سيفه عنه

فحملوا زهيرا ملفوفا في عمودين و الثّياب عليه، حتى إذا بعدوا عن القوم أخرجوه فلفّفوه في ثيابه، ثم حفروا حفيرة و عمّقوا، و دفنوا فيها العمودين، ثم ساروا و معهم زهير، فلمّا بلغ زهير أرض قومه جمع لبكر و تغلب الجموع، و بلغهم أنّ زهيرا حيّ ، فقال ابن زيّابة:

طعنة ما طعنت في غبش(2) اللّي *** ل زهيرا و قد توافى الخصوم

حين تجبي له المواسم بكر *** أين بكر، و أين منها الحلوم!

خانني السيف إذ طعنت زهيرا *** و هو سيف مضلّل مشئوم(3)

غزا بكرا و تغلب و شعره في ذلك

قال: و جمع زهير بني كلب و من تجمّع له من شذّاذ العرب و القبائل(4)، و من أطاعه من أهل اليمن، فغزا بكرا و تغلب ابني وائل، و هم على ماء يقال له الحبيّ (5)، و قد كانوا نذروا(6) به، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم انهزمت بكر و أسلمت بني تغلب، فقاتلت شيئا من قتال ثم انهزمت، و أسر كليب و مهلهل/ابنا ربيعة، و استيقت الأموال، و قتلت كلب في تغلب قتلى كثيرة، و أسروا جماعة من فرسانهم و وجوههم، و قال زهير بن جناب في ذلك:

تبّا لتغلب أن تساق نساؤهم *** سوق الإماء إلى المواسم عطّلا(7)

لحقت أوائل خيلنا سرعانهم(8) *** حتى أسرن على الحبيّ مهلهلا

إنّا - مهلهل - ما تطيش رماحنا *** أيام تنقف(9) في يديك الحنظلا

ولّت حماتك هاربين من الوغى *** و بقيت في حلق الحديد مكبّلا

فلئن قهرت لقد أسرتك عنوة *** و لئن قتلت لقد تكون مؤمّلا(10)

ص: 16


1- الصفاق: الجلد الباطن تحت الجلد الظاهر. و الأعفاج: جمع عفج، و هي معي الإنسان.
2- في المختار: «في غلس الصبح». و في الشعر و الشعراء - 339 ط. الحلبي: «غبس الليل»، و كلها بمعنى الظلمة.
3- في «الشعر و الشعراء» - 339: «خانني الرمح... و هو رمح...».
4- ف، المختار: «من شذاذ القبائل».
5- في ما: «الجبيّ ». و في المختار: «الحنيّ » و كلاهما «تصحيف»، و حبيّ : موضع بتهامة.
6- نذروا به: علموا به فحذروه و استعدوا له.
7- ف، ما: «إذ تساق». و عطل: بدون حلي.
8- سرعان الخيل: أوائلها.
9- ف، المختار: «ينبت في يديك». و تنقف الحنظل: تشقّه.
10- س، ف: «مرملا»، و المرمل: الملطخ بالدم.

و قال أيضا يعيّر بني تغلب بهذه الواقعة في قصيدة أوّلها:

حيّ دارا تغيّرت بالجناب *** أقفرت من كواعب أتراب

يقول فيها:

أين أين الفرار من حذر المو *** ت و إذ يتّقون بالأسلاب!

إذ أسرنا مهلهلا و أخاه *** و ابن عمرو في القدّ و ابن شهاب

و سبينا من تغلب كلّ بيضا *** ء رقود الضّحى برود الرّضاب

يوم يدعو مهلهل بالبكر *** ها أهذي حفيظة الأحساب(1)!

ويحكم ويحكم أبيح حماكم *** يا بني تغلب أ ما من ضراب!

و هم هاربون في كلّ فجّ *** كشريد النّعام فوق الرّوابي

/و استدارت رحى المنايا عليهم *** بليوث من عامر و جناب

طحنتهم أرحاؤها(2) بطحون *** ذات ظفر حديدة الأنياب

فهم بين هارب ليس يألو *** و قتيل معفّر في التّراب

فضل العزّ عزّنا حين نسمو *** مثل فضل السّماء فوق السّحاب

وفد مع أخيه حارثة على أحد ملوك غسان

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثنا عمّي، عن ابن الكلبيّ ، عن أبيه، قال:

وفد زهير بن جناب و أخوه حارثة على بعض ملوك غسّان، فلما دخلا عليه(3) حدّثاه و أنشداه، فأعجب بهما و نادمهما، فقال يوما لهما: إن أمّي عليلة شديدة العلّة، و قد أعياني دواؤها، فهل تعرفان لها دواء؟ فقال حارثة:

كميرة حارّة - و كانت فيه لوثة - فقال الملك: أيّ شيء قلت ؟ فقال له زهير: كميئة حارّة تطعمها، فوثب الملك - و قد فهم الأولى و الآخرة - يريهما أنه يأمر بإصلاح الكمأة لها، و حلم عن مقالة حارثة. و قال حارثة لزهير: يا زهير اقلب ما شئت ينقلب، فأرسلها مثلا.

ذهب عقله آخر عمره فكان يخرج فيرده أحد ولده

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن الغيث الباهليّ عن أبيه، قال:

كان من حديث زهير بن جناب الكلبيّ أنّه كان قد بلغ عمرا طويلا حتى ذهب عقله، و كان يخرج تائها لا يدري أين يذهب، فتلحقه المرأة من أهله و الصّبيّ ، فتردّه و تقول له: إني أخاف عليك الذّئب أن يأكلك، فأين تذهب ؟ فذهب يوما من أيّامه، و لحقته ابنة له فردّته، فرجع معها و هو يهدج كأنه رأل(4)، و راحت عليهم سماء في الصيف /فعلتهم منها بغشة(5) ثم أردفها غيث، فنظر و سمع له الشّيخ زجلا منكرا. فقال: ما هذا يا بنيّة ؟ فقالت: عارض

ص: 17


1- في «المختار»: «ويحكم في حفيظة الأحساب». و في ف: «أين حامي حفيظة الأحساب».
2- في «المختار»: «رحاؤها»، و الطحون: الحرب.
3- ف: «دخلا إليه».
4- الرأل: ولد النعام.
5- البغشة: المطرة الضعيفة.

هائل إن أصابنا دون أهلنا هلكنا، فقال: انعتيه لي، فقالت: أراه منبطحا مسلنطحا(1)، قد ضاق ذرعا و ركب ردعا(2)، ذا هيدب(3) يطير، و هماهم(4) و زفير، ينهض نهض الطير الكسير، عليه مثل شباريق(5) السّاج، في ظلمة اللّيل الدّاج، يتضاحك مثل شعل النيران، تهرب منه الطير، و توائل(6) منه الحشرة. قال: أي بنية، وائلي منه إلى عصر(7) قبل أن لا عين و لا أثر.

كان يدعى الكاهن لصحة رأيه

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني أحمد بن عبيد، عن ابن الكلبيّ ، عن أبيه، عن مشيخة من الكلبيّين قالوا:

عاش زهير بن جناب بن هبل بن عبد اللّه خمسين و مائتي سنة أوقع فيها مائتي وقعة في العرب، و لم تجتمع قضاعة إلا عليه و على حنّ بن زيد العذريّ ، و لم يكن في اليمن أشجع و لا أخطب و لا أوجه عند الملوك من زهير.

و كان يدعى الكاهن، لصحّة رأيه.

عمّر حتى ملّ عمره، و شعره في ذلك

قال هشام: ذكر حمّاد الرّاوية أنّ زهيرا عاش أربعمائة و خمسين سنة، قال: /و قال الشّرقيّ بن القطاميّ :

عاش زهير أربعمائة سنة، فرأته ابنة له فقالت لابن ابنها: خذ بيد جدّك، فقال له: من أنت ؟ فقال: فلان بن فلان بن فلانة، فأنشأ يقول:

أ بنيّ إن أهلك فقد *** أورثتكم مجدا بنيّة

و تركتكم أبناء سا *** دات زنادكم و ريّه(8)

و لكلّ ما نال الفتى *** قد نلته إلا التّحيّة(9)

و الموت خير للفتى *** فليهلكن و به بقيّه

من أن يرى الشّيخ البجا *** ل و قد تهادى بالعشيّه(10)

و لقد شهدت النّار للأس *** لاف توقد في طميّه(11)

ص: 18


1- ف: «أراه مسطحا مسلنطحا متبطحا». و المسلنطح: الواقع على وجهه.
2- ركب ردعا: سقط و كأنه وقع على عنقه.
3- الهيدب: السحاب الداني.
4- الهماهم: جمع همهمة، و هي ترديد الزفير.
5- الشباريق: القطع.
6- توائل منه: تطلب النجاة.
7- عصر - بكسر أوله و سكون ثانيه - و رواه بعضهم بالتحريك، و الأول أشهر و أكثر: هو كل ما يتحصن به.
8- في أمالي المرتضى 240:1: «و تركتكم أرباب سادات». زنادكم ورية: كني بذلك عن بلوغ مأربهم.
9- التحية: الملك أو البقاء.
10- البجال: الّذي يبجله قومه. و في الشعر و الشعراء: «من أن يرى الشيخ الكبير».
11- في معجم ياقوت: طمية: جبل في طريق مكة، و روى البيت فيه: و لقد شهدت النار بالأنفار توقد في طميّه

و لقد رحلت البازل ال *** كوماء ليس لها وليّه(1)

و خطبت خطبة ماجد(2) *** غير الضّعيف و لا العييّه

و لقد غدوت بمشرف ال *** قطرين لم يغمز شظيّه(3)

فأصبت من بقر الجنا *** ب ضحى و من حمر القفيّه(4)

/قال ابن الكلبيّ : و قال زهير في كبره أيضا:

ألا يا لقومي لا أرى النّجم طالعا *** و لا الشّمس إلا حاجبي بيميني

معزّبتي عند القفا بعمودها *** فأقصى نكيري أن أقول ذريني(5)

أمين على أسرارهنّ و قد أرى(6) *** أكون على الأسرار غير أمين

فللموت خير من حداج موطّأ *** على الظّعن لا يأتي المحلّ لحين

قال: و قال زهير أيضا في كبره:

إن تنسني الأيام إلا جلالة *** أمت حين لا تأسى عليّ العوائد

فيأذى بي الأدنى و يشمت بي العدا *** و يأمن كيدي الكاشحون الأباعد

قال: و قال زهير أيضا:

لقد عمّرت حتى لا أبالي *** أ حتفي في صباحي أم مسائي

و حقّ لمن أتت مائتان عاما *** عليه أن يملّ من الثّواء

شهدت الموقدين على خزازى *** و بالسّلاّن جمعا ذا زهاء(7)

و نادمت الملوك من آل عمرو *** و بعدهم بني ماء السماء

خالفه ابن أخيه عبد اللّه بن عليم فشرب الخمر

قال ابن الكلبيّ : و كان زهير إذا قال: ألا إن الحيّ ظاعن، ظعنت قضاعة؛ و إذا قال: ألا إن الحيّ مقيم، نزلوا و أقاموا. فلمّا أن أسنّ نصب ابن أخيه عبد اللّه بن عليم للرّئاسة في كلب، و طمع أن يكون كعمّه و تجتمع قضاعة كلّها عليه، فقال/زهير يوما: ألا إنّ الحيّ ظاعن، فقال عبد اللّه: ألا إنّ الحيّ مقيم، فقال زهير: ألا إنّ الحيّ مقيم، فقال عبد اللّه: ألا إنّ الحيّ ظاعن، فقال زهير: من هذا المخالف عليّ منذ اليوم ؟ فقالوا: ابن أخيك عبد اللّه بن عليم، فقال: أعدى الناس للمرء ابن أخيه إلاّ أنّه لا يدع قاتل عمّه أو يقتله. ثم أنشأ يقول:

ص: 19


1- البازل: الناقة انشق نابها بدخولها في السنة التاسعة، و الكوماء: الضخمة السنام. و الولية: كل ما ولى ظهر البعير من كساء أو غيره.
2- في أمالي المرتضى: «و خطبت خطبة حازم».
3- مشرف القطرين: مرتفع الجانبين. و غمزت الدابة: مالت من رجلها أي ظلعت، و الشظية: عظم الساق.
4- القفية: الناحية.
5- المعزّبة: امرأة الرجل، و القفا: موضع.
6- في أمالي المرتضى: «أمينا على سر النساء و ربما».
7- في معجم البلدان: خزازى: جبل. و في ف: حوازى (تحريف). و السلان: الأودية. و كانت عندهما وقائع. و قوم ذو زهاء: ذو عدد كثير. و في المعمرين - 27: «شهدت المحضئين على خزاز».

و كيف بمن لا أستطيع فراقه *** و من هو إن لم تجمع الدّار آلف!

أمير شقاق إن أقم لا يقم معي *** و يرحل، و إن أرحل يقم و يخالف(1)

ثم شرب الخمر صرفا حتّى مات.

قال: و ممّن شرب الخمر صرفا حتى مات عمرو بن كلثوم التّغلبيّ ، و أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنّة.

قال هشام(2): عاش هبل بن عبد اللّه جدّ زهير بن جناب ستّمائة سنة و سبعين، و هو القائل:

يا ربّ يوم قد غني فيه هبل *** له نوال و درور و جذل(3)

كأنّه في العزّ عوف أو حجل

قال: عوف و حجل: قبيلتان من كلب.

كان نازلا مع الجلاح بن عوف فأنذرته أخته فخالفه الجلاح فرحل هو و قال شعرا

و قال أبو عمرو الشّيباني: كان الجلاح بن عوف السّحميّ قد وطّأ لزهير بن جناب و أنزله معه، فلم يزل في جناحه حتى كثر ماله و ولده، و كانت أخت زهير متزوّجة في بني القين بن جسر، فجاء رسولها إلى زهير و معه برد فيه صرار رمل و شوكة قتاد، /فقال زهير لأصحابه: أتتكم شوكة شديدة، و عدد كثير فاحتملوا، فقال له الجلاح:

أ نحتمل لقول امرأة! و اللّه لا نفعل، فقال زهير:

أما الجلاح فإنّني فارقته *** لا عن قلّى و لقد تشطّ بنا النّوى

فلئن ظعنت لأصبحنّ مخيّما(4) *** و لئن أقمت لأظعننّ على هوى

قال: فأقام الجلاح، و ظعن زهير، و صبّحهم الجيش فقتل عامّة قوم الجلاح و ذهبوا بماله.

قال: و اسم الجلاح عامر بن عوف بن بكر بن عوف بن عامر بن عوف بن عذرة.

اجتمع مع عشيرته فقصده الجيش فهزمهم و قتل رئيسا منهم

و مضى زهير لوجهه حتى اجتمع مع عشيرته من بني جناب، و بلغ الجيش خبره فقصدوه، فحاربهم و ثبت لهم فهزمهم و قتل رئيسا منهم، فانصرفوا عنه خائبين، فقال زهير:

أ من آل سلمى ذا الخيال المؤرّق *** و قد يمق(5) الطيف الغريب المشوّق

و أنّي اهتدت سلمى لوجه محلّنا *** و ما دونها من مهمه الأرض يخفق

فلم تر إلا هاجعا عند حرّة *** على ظهرها كور عتيق و نمرق(6)

و لمّا رأتني و الطّليح تبسّمت *** كما انهلّ أعلى عارض يتألّق

فحيّيت عنّا زوّدينا تحيّة *** لعلّ بها العاني من الكبل يطلق

ص: 20


1- ف: «أمين شقاء...».
2- ف: «هاشم».
3- الدرور: الكثرة. و الجذل: الفرح. و في ف: «و دروه»، و هو التلألؤ.
4- مخيما: مقيما.
5- يمق: يحب.
6- الكور: الرحل. و النمرق: الوسادة الصغيرة.

فردّت سلاما ثم ولت بحاجة *** و نحن لعمري يا ابنة الخير أشوق(1)

/فيا طيب ما ريّا(2) و يا حسن منظر *** لهوت به لو أنّ رؤياك تصدق

و يوم أثالى قد عرفت رسومها *** فعجنا إليها و الدّموع ترقرق

و كادت تبين القول لمّا سألتها *** و تخبرني لو كانت الدار تنطق

فيا دار سلمى هجت للعين عبرة *** فماء الهوى يرفضّ أو يترقرق(3)

و قال زهير في هذه القصيدة يذكر خلاف الجلاح عليه:

أيا قومنا إن تقبلوا الحقّ فانتهوا *** و إلا فأنياب من الحرب تحرق(4)

فجاءوا إلى رجراجة مكفهرّة *** يكاد المدير نحوها الطّرف يصعق(5)

سيوف و أرماح بأيدي أعزّة *** و موضونة ممّا أفاد محرّق(6)

فما برحوا حتى تركنا رئيسهم *** و قد مار فيه المضرحيّ المذلّق(7)

و كائن ترى من ماجد و ابن ماجد *** له طعنة نجلاء للوجه يشهق

و قال زهير في ذلك أيضا:

سائل أميمة عنّي هل وفيت لها *** أم هل منعت من المخزاة جيرانا

لا يمنع الضّيف إلا ماجد بطل *** إنّ الكريم كريم أينما كانا(8)

لمّا أبى جيرتي إلا مصمّمة *** تكسو الوجوه من المخزاة ألوانا

/ملنا عليهم بورد لا كفاء له *** يفلقن بالبيض تحت النّقع أبدانا

إذا ارجحنّوا علونا هامهم قدما *** كأنّما نختلي بالهام خطبانا(9)

كم من كريم هوى للوجه منعفرا *** قد اكتسى ثوبه في النّقع ألوانا

و من عميد تناهى بعد عثرته *** تبدو ندامته للقوم خزيانا

كل أولاده شعراء و هذه نماذج من شعرهم
اشارة

و أمّا الشعراء من ولد زهير:

فمنهم مصاد بن أسعد بن جنادة بن صهبان بن امرئ القيس بن زهير بن جناب، و هو القائل:

ص: 21


1- في ر: «... ثم ولت لحاجة...».
2- في ف: «فيا طيب مثوانا».
3- في ف: «يتدفق». و جاء في ف: «قال مؤلف هذا الكتاب: أخذ ذو الرمة هذا البيت كله فقال: أدارا بحزوى هجت للعين عبرة فماء الهوى يرفض أو يترقرق
4- تحرق: تحتك شدة و غيظا فيسمع لها صوت.
5- كتيبة رجراجة: تموج من كثرتها. و في ف: «يكاد المرنّى» بدل «يكاد المدير».
6- الموضونة: الدرع المنسوجة أو المقاربة النسج.
7- المضرحى: النسر، و المذلّق: المحدد الطرف. و في ر: «و قد حار فيه المضرحيّ ».
8- ف: «حيثما كانا».
9- ارجحنوا: مالوا و وقعوا. نختلي: نقطع. الخطبان: نبت، أو الخضر من ورق السمر.

تمنّيت أن تلقى لقاح ابن محرز *** و قبلك شامتها العيون النّواظر

ممنّحة في الأقربين مناخة *** و للضّيف فيها و الصّديق معاقر(1)

فهلاّ بني عيناء عاينت جمعهم *** بحالة(2) إذا سدّت عليك المصادر

- و منهم حريث بن عامر بن الحارث بن امرئ القيس بن زهير بن جناب، و هو القائل:

أرى قومي بني قطن أرادوا *** بألاّ يتركوا بيديّ مالا

فإن لم أجزهم غيظا بغيظ *** و أوردهم على عجل شلالا(3)

فليت التّغلبيّة لم تلدني *** و لا أغنت بما ولدت قبالا(4)

- و منهم الحزنبل بن سلامة بن زهير بن أسعد بن صهبان بن امرئ القيس بن زهير بن جناب، و هو القائل:

/عبثت بمنخرق القميص كأنّه *** وضح الهلال على الخمور معذل

يا سلم ويحك و الخليل معاتب *** أزمعت أن تصلي سواي و تبخلي

لمّا رأيت بعارضيّ و لمّتي *** غير المشيب على الشباب المبدل(5)

صرّمت حبل فتى يهشّ إلى النّدى *** لو تطلبين نداه لم يتعلّل

إنا لنصبر عند معترك الوغى *** و نبذ مكرمة الكريم المفضل(6)

- و منهم غرير بن أبي جابر بن زهير بن جناب، و هو القائل:

أبلغ أبا عمرو و أن *** ت عليّ ذو النّعم الجزيله

أنّا منعنا أن تذلّ *** بلادكم و بنو جديله

و طرقتهم ليلا أخ *** برهم بهم و معي وصيله(7)

فصدقتهم خبري فطا *** روا في بلادهم الطّويله

- و منهم عرفجة بن جنادة بن أبيّ بن النّعمان(8) بن زهير بن جناب، و هو القائل:

عفا أبرق العزّاف من أمّ جابر *** فمنعرج الوادي عفا فحفير

فروض ثوير عن يمين رويّة *** كأن لم تربّعه أوانس حور(9)

رقاق الثّنايا و الوجوه، كأنها *** ظباء الفلا(10) في لحظهن فتور

ص: 22


1- س: «ممنحة في الأمر بين مباحة». و في ف: «ممنحة في الأقربين مباحة».
2- حالة: موضع. و في ر: «بحالك».
3- شلالا: متفرقين.
4- ف: «و لا غنيت...». و قبالا، أي بما يقبل.
5- س، ر: «غير الشباب على المشيب المبدل».
6- ف: «الأفضل».
7- وصيلة: رفقة أو سيف.
8- س، ف: «بن أبي النعمان».
9- أبرق العزاف، و ثوير، و روية: مياه في بلاد العرب. و حفير: موضع بين مكة و المدينة.
10- ف: «ظباء الملا».

- و منهم المسيّب بن رفل(1) بن حارثة بن جناب بن قيس بن امرئ القيس بن أبي جابر بن زهير بن جناب، و هو القائل:

/قتلنا يزيد بن المهلّب بعد ما *** تمنّيتم أن يغلب الحقّ باطله

و ما كان منكم في العراق منافق *** عن الدّين إلا من قضاعة قاتله

تجلّله قحل بأبيض صارم *** حسام جلا عن شفرتيه صياقله(2)

يعني بالفحل ابن عيّاش بن شمر بن أبي شراحيل بن غرير بن أبي جابر بن زهير بن جناب، و هو الّذي قتل يزيد بن المهلّب.

و من بني زهير شعراء كثير، ذكرت منهم الفحول دون غيرهم.

صوت

تدّعى الشوق إن نأت *** و تجنّى إذا دنت

سرّني لو صبرت عن *** ها فتجزى بما جنت

إنّ سلمى لو اتّقت *** ربّها فيّ أنجزت

زرعت في الحشا الهوى *** و سقته حتى نبت(3)

الشّعر لمسلم بن الوليد، و الغناء لعريب خفيف ثقيل. و قيل: إنه لأبي العبيس بن حمدون. و ذكر الهشاميّ أن لإسحاق في: إنّ سلمى... و ما بعده لحنا من الثّقيل الأول بالبنصر.

ص: 23


1- ف: «المسيب بن زفر» و جاء في ذلك «المسيب بن الرفل الزهيري من ولد زهير بن جناب».
2- ف، س: «تجلله فحل».
3- الأبيات في شرح الديوان - 308 ط. دار المعارف. و بعد البيت الأول: و اعتدنا و أخلفت فأساءت و أحسنت

3 - نسب مسلم بن الوليد و أخباره

اشارة

3 - نسب مسلم بن الوليد و أخباره(1)

نسبه

و هو مسلم بن الوليد، أبوه الوليد مولى الأنصار ثم مولى أبي أمامة أسعد بن زرارة الخزرجيّ .

كان يلقب صريع الغواني

يلقّب صريع الغواني، شاعر متقدم من شعراء الدّولة العبّاسيّة، منشؤه و مولده الكوفة.

و هو - فيما زعموا - أوّل من قال الشّعر المعروف بالبديع، هو لقّب هذا الجنس البديع و اللّطيف(2). و تبعه فيه جماعة، و أشهرهم فيه أبو تمّام الطائيّ فإنه جعل شعره كلّه مذهبا واحدا فيه. و مسلم كان متقنّنا متصرّفا في شعره.

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: قال أبو العباس محمد بن يزيد:

كان مسلم شاعرا حسن النّمط، جيّد القول في الشراب(3)، و كثير من الرّواة يقرنه بأبي نواس في هذا المعنى.

و هو أوّل من عقد هذه المعاني الظّريفة و استخرجها.

اتهم بأنه أول من أفسد الشعر

حدّثنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: سمعت أبي، يقول: أول من أفسد الشّعر مسلم بن الوليد، جاء بهذا الّذي سمّاه النّاس البديع، ثم جاء الطّائيّ بعده فتفنّن فيه(4).

كان منقطعا إلى يزيد بن يزيد

أخبرني إبراهيم بن أيّوب عن عبد اللّه بن مسلم الدّينوريّ ، قال:

كان مسلم بن الوليد و أخوه سليمان منقطعين إلى يزيد بن مزيد و محمد بن منصور بن زياد، ثم الفضل بن سهل بعد ذلك. و قلّد الفضل مسلما المظالم بجرجان فمات بها.

/أخبرني عليّ بن سليمان، قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال:

كان السبب في قول مسلم:

تدّعي الشوق إن نأت *** و تجنّي إذا دنت

ص: 24


1- سقطت هذه الترجمة من طبعة بولاق، و موضعها هنا كما جاءت في نسخة ف و غيرها من النسخ الخطية الموثوقة.
2- في مي: «فجنس البديع، و تبعه...» و في مج: «و هو لقب الجنس البديع و تبعه...».
3- في مي، مج: «جيد الغزل في الشراب».
4- في ما: «فجن فيه فتحير الناس». و في ف: «ثم جاء الطائي بعده فتحير الناس فيه».
غازل جارية منزلها في مهب الشمال من منزله، و لم يكن يهواها
اشارة

أنّه علق جارية ذات ذكر و شرف(1)، و كان منزلها في مهبّ الشّمال من منزله، و في ذلك يقول:

صوت

أحبّ الرّيح ما هبّت شمالا *** و أحسدها إذا هبت جنوبا

أهابك أن أبوح بذات نفسي *** و أفرق إن سألتك أن أخيبا

و أهجر صاحبي حبّ التّجنّي *** عليه إذا تجنّيت الذّنوبا(2)

كأني حين أغضي عن سواكم *** أخاف لكم على عيني رقيبا

غنّى عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعي في هذه الأبيات هزجا بالبنصر عن الهشاميّ .

كان يحب جاريته محبة شديدة

قال: و كانت له جارية يرسلها إليها و يبثّها سرّه، و تعود إليه بأخبارها و رسائلها؛ فطال ذلك بينهما؛ حتى أحبّتها الجارية الّتي علقها مسلم و مالت إليها، و كلتاهما في نهاية الحسن و الكمال.

و كان مسلم يحبّ جاريته هذه محبّة شديدة، و لم يكن يهوى تلك، إنما كان يريد الغزل و المجون و المراسلة، و أن يشيع له حديث(3) بهواها، و كان يرى ذلك من/الملاحة و الظّرف و الأدب، فلما رأى مودّة تلك لجاريته هجر جاريته مظهرا لذلك، و قطعها عن الذّهاب إلى تلك، و ذلك قوله:

و أهجر صاحبي حبّ التّجنّي *** عليه إذا تجنّيت الذّنوبا

و راسلها مع غير جاريته الأولى، و ذلك قوله:

تدّعى الشوق إن نأت *** و تجنّى إذا دنت

واعدتنا و أخلفت *** ثم ساءت فأحسنت(4)

سرّني لو صبرت عن *** ها فتجزى بما جنت

(5) إنّ سلمى لو اتّقت *** ربّها فيّ أنجزت

زرعت في الحشا الهوى *** و سقته حتى نبت(5)

أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن يزيد، قالا: حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه، قال:

لقي مسلم بن الوليد أبا نواس فقال له: ما أعرف لك بيتا إلا فيه سقط، قال: فما تحفظ من ذلك ؟ قال: قل أنت ما شئت حتى أريك سقطه فيه، فأنشده:

ص: 25


1- في ما: «ذات خطر و شرف».
2- في الديوان - 274 ط. المعارف: «إن تجنبت».
3- في مي: «و أن يسمع له حديث...» الخ.
4- في ما، و الديوان - 308، و «المختار»: «فأساءت و أحسنت». (5-5) التكلمة من مي و الديوان - 308.

ذكر الصّبوح سحيرة(1) فارتاحا *** و أملّه ديك الصّباح صياحا

فقال له مسلم: فلم أملّه و هو الّذي أذكره و به ارتاح ؟ فقال أبو نواس: فأنشدني شيئا من شعرك ليس فيه خلل، فأنشده مسلم:

/عاصى الشّباب فراح غير مفنّد(2)*** و أقام بين عزيمة و تجلّد

فقال له أبو نواس: قد جعلته رائحا مقيما في حال واحدة و بيت واحد. فتشاغبا و تسابّا ساعة، و كلا البيتين صحيح المعنى.

ذكر أمام المأمون و عرضت أبيات من شعره أعجبته

أخبرني جعفر بن قدامة قال: قال لي محمد بن عبد اللّه بن مسلم: حدّثني أبي، قال:

اجتمع أصحاب المأمون عنده يوما، فأفاضوا في ذكر الشّعر و الشّعراء، فقال له بعضهم: أين أنت يا أمير المؤمنين عن مسلم بن الوليد؟ قال: حيث يقول ما ذا؟ قال: حيث يقول و قد رثى رجلا:

أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه *** فطيب تراب القبر دلّ على القبر

و حيث مدح رجلا بالشّجاعة فقال:

يجود بالنّفس إذ ضنّ (3) الجواد بها *** و الجود بالنّفس أقصى غاية الجود

و هجا رجلا بقبح الوجه و الأخلاق فقال:

قبحت مناظره فحين خبرته *** حسنت مناظره لقبح المخبر

و تغازل فقال:

هوّى يجدّ و حبيب يلعب *** أنت لقى بينهما معذّب

فقال المأمون: هذا أشعر من خضتم اليوم في ذكره.

الرشيد ينبه يزيد بن مزيد إلى ما قاله فيه مسلم من مدح

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ و الحسن بن عليّ الخفّاف، قالا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ ، قال:

حدّثني قعنب بن المحرز، و ابن النّطّاح، عن القحذميّ ، قال:

/قال يزيد بن مزيد: أرسل إليّ الرّشيد يوما في وقت لا يرسل فيه إلى مثلي فأتيته لابسا سلاحي، مستعدّا لأمر إن أراده، فلما رآني ضحك إليّ ثم قال: يا يزيد خبّرني من الّذي يقول فيك:

تراه في الأمن في درع مضاعفة *** لا يأمن الدّهر أن يدعى على عجل(4)

صافي العيان طموح العين همّته *** فكّ العناة و أسر الفاتك الخطل

ص: 26


1- في ما، ف: «بسحرة».
2- في مي، مج: «ذكر الصبوح فراح غير مفند». و التفنيد: اللوم. و البيت في الديوان - 230 من قصيدة طويلة.
3- في مي، و العقد، و ديوان المعاني: «إن ضن الجواد». و في الديوان - 164: «إذ أنت الضنين بها». و في تاريخ بغداد: «إذ ضن البخيل بها».
4- في الشعر و الشعراء 811:2، و الأغاني 41:5: «أن يأتي على عجل». و في شرح سقط الزن 68: «أن يؤتى على عجل».

للّه من هاشم في أرضه جبل *** و أنت و ابنك ركنا(1) ذلك الجبل

فقلت: لا أعرفه يا أمير المؤمنين. قال: سوأة لك من سيّد قوم يمدح بمثل هذا الشّعر و لا تعرف قائله، و قد بلغ أمير المؤمنين فرواه و وصل قائله، و هو مسلم بن الوليد. فانصرفت فدعوت به و وصلته و ولّيته.

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ ، و الحسن بن عليّ الخفّاف، قالا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ ، قال:

حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن سليمان الحنفيّ ذو الهدمين، قال: حدّثني أبي، قال:

دخل يزيد بن مزيد على الرّشيد فقال له: يا يزيد، من الّذي يقول فيك:

لا يعبق الطّيب خدّيه و مفرقه *** و لا يمسّح عينيه من الكحل

قد عوّد الطّير عادات وثقن بها *** فهنّ يتبعنه(2) في كلّ مرتحل

يزيد بن مزيد يسمع مدحه فيه و يأمر له بجائزة

فقال: لا أعرف قائله يا أمير المؤمنين. فقال له هارون: أ يقال فيك مثل هذا/الشّعر و لا تعرف قائله! فخرج من عنده خجلا، فلما صار إلى منزله دعا حاجبه فقال له: من بالباب من الشّعراء؟ قال: مسلم بن الوليد، فقال:

و كيف حجبته عنّي فلم تعلمني بمكانه ؟ قال: أخبرته أنّك مضيق(3)، و أنّه ليس في يديك شيء تعطيه إياه، و سألته الإمساك و المقام أياما إلى أن تتّسع. قال: فأنكر ذلك عليه و قال: أدخله إليّ . فأدخله إليه، فأنشده قوله:

أجررت حبل خليع في الصّبا غزل *** و شمّرت همم العذّال في عذلي(4)

ردّ البكاء على العين الطّموح هوّى *** مفرّق بين توديع و مرتحل(5)

أ ما كفى البين أن أرمى بأسهمه *** حتى رماني بلحظ الأعين النّجل!

مما جنت لي - و إن كانت منّى صدقت - *** صبابة خلس التّسليم بالمقل(6)

فقال له: قد أمرنا لك بخمسين ألف درهم، فاقبضها و اعذر. فخرج الحاجب فقال لمسلم: قد أمرني أن أرهن ضيعة من ضياعه على مائة ألف درهم، خمسون ألفا لك و خمسون ألفا لنفقته. و أعطاه إيّاها، و كتب صاحب الخبر بذلك إلى الرّشيد، فأمر ليزيد بمائتي ألف درهم و قال: اقض الخمسين الّتي أخذها الشّاعر و زده مثلها. و خذ مائة ألف لنفقتك. فافتكّ ضيعته، و أعطى مسلما خمسين ألفا أخرى.

يزوره صديق من الكوفة فيبيع خفيه ليقدم له طعاما

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن عبيد الكوفيّ ، و عليّ بن الحسن كلاهما، قال: أخبرني عليّ بن عمرو، قال:

/حدّثني مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغوائي قال: كنت يوما جالسا في دكان خيّاط بإزاء منزلي، إذ

ص: 27


1- في المختار من شعر بشار - 30: «و أنت و ابناك ركنا ذلك الجبل».
2- في مي: «فهن يصحبنه».
3- أضاق الرجل فهو مضيق: ضاق عليه معاشه.
4- في الديوان - 1: «في العذل».
5- في المختار: «و محتمل». و في الديوان ط. المعارف: «هاج البكاء... و محتمل».
6- في الديوان - 3: «مما جنى لي».

رأيت طارقا ببابي، فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل الكوفة قد قدم من قمّ ، فسررت به، و كأنّ إنسانا لطم وجهي، لأنّه لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه، فقمت فسلّمت عليه، و أدخلته منزلي، و أخذت خفّين كانا لي أتجمّل بهما، فدفعتهما إلى جاريتي، و كتبت معهما رقعة إلى بعض معارفي في السّوق، أسأله أن يبيع الخفّين و يشتري لي لحما و خبزا بشيء سمّيته. فمضت الجارية و عادت إليّ و قد اشترى لها ما قد حدّدته له، و قد باع الخفّين(1) بتسعة دراهم، فكأنّها إنما جاءت بخفّين جديدين. فقعدت أنا و ضيفي نطبخ، و سألت جارا لي أن يسقينا قارورة نبيذ، فوجّه بها إليّ ، و أمرت الجارية بأن تغلق باب الدّار مخافة طارق يجيء فيشركنا فيما نحن فيه، ليبقى لي و له ما نأكله إلى أن ينصرف.

يصل إليه رسول يزيد بن مزيد و يدفع إليه عشرة آلاف درهم

فإنّا لجالسان نطبخ حتى طرق الباب طارق، فقلت لجاريتي: انظري من هذا. فنظرت من شقّ الباب فإذا رجل عليه سواد و شاشيّة و منطقة و معه شاكريّ ، فخبّرتني بموضعه فأنكرت أمره(2)، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: لست بصاحب دعارة، و لا للسّلطان عليّ سبيل. ففتحت الباب و خرجت إليه، فنزل عن دابّته و قال: أ أنت مسلم بن الوليد؟ قلت: نعم. فقال: كيف لي بمعرفتك ؟ قلت: الّذي دلّك على منزلي يصحّح لك معرفتي. فقال لغلامه:

امض إلى الخيّاط فسله عنه. فمضى فسأله عنّي فقال: نعم هو مسلم بن الوليد. فأخرج إليّ كتابا من خفّه، و قال:

هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إليّ ، يأمرني ألاّ أفضّه إلا عند لقائك، فإذا فيه: إذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع إليه /هذه العشرة آلاف درهم، الّتي أنفذتها تكون له في منزله، و ادفع ثلاثة آلاف درهم نفقة ليتحمّل بها إلينا. فأخذت الثّلاثة و العشرة، و دخلت إلى منزلي و الرّجل معي، فأكلنا ذلك الطعام، و ازددت فيه و في الشّراب، و اشتريت فاكهة، و اتّسعت و وهبت لضيفي من الدّراهم ما يهدي به هديّة لعياله.

يذهب إلى يزيد و ينشده قصيدة في مدحه

و أخذت في الجهاز، ثم ما زلت معه حتى صرنا إلى الرّقّة إلى باب يزيد، فدخل الرّجل و إذا هو أحد حجّابه، فوجده في الحمّام، فخرج إليّ فجلس معي قليلا، ثم خبّر الحاجب بأنّه قد خرج من الحمّام، فأدخلني إليه، و إذا هو على كرسيّ جالس، و على رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة، و بيده هو مرآة، و مشط يسرّح لحيته، فقال لي:

يا مسلم، ما الّذي بطّأ بك عنّا؟ فقلت: أيّها الأمير، قلّة ذات اليد. قال: فأنشدني. فأنشدته قصيدتي الّتي مدحته فيها:

أجررت حبل خليع في الصّبا غزل *** و شمّرت همم العذّال في عذلي

فلما صرت إلى قولي:

لا يعبق الطّيب خدّيه و مفرقه *** و لا يمسّح عينيه من الكحل(3)

ص: 28


1- في ف و المختار: «الخف».
2- في ما: «أمري». و الشاشية: العمامة. و المنطقة: الحزام ينتطق به. و الشاكري: الأجير.
3- في الأغاني 44/5، و ابن خلكان 284/2: «كفيه و مفرقه». و جاء في شرح الديوان - 13: «لا يعبق الطيب خديه و مفرقه أي لا يلصق بهما. و لا يمسح عينيه من الكحل أي لا يتكحل... يطعن بذلك على بني عمه الذين كانوا أقبلوا إلى أبيهم ليلا متعطرين، و أقبل هو إليه في السلاح».
يقص عليه سبب دعوته له

وضع المرآة في غلافها، و قال للجارية: انصرفي، فقد حرّم علينا مسلم الطّيب. فلما فرغت من القصيدة قال لي: يا مسلم، أ تدري ما الّذي حداني إلى أن وجهت إليك ؟ فقلت: لا و اللّه ما أدري. قال: كنت عند الرّشيد منذ ليال أغمّز(1) رجليه، إذ قال لي: يا يزيد، من القائل فيك:

/سلّ الخليفة سيفا من بني مطر *** يمضي فيخترم الأجساد و الهاما(2)

كالدّهر لا ينثني عمّا(3) يهمّ به *** قد أوسع الناس إنعاما و إرغاما

فقلت: لا و اللّه ما أدري. فقال لي الرّشيد: يا سبحان اللّه! أنت مقيم على أعرابيّتك، يقال فيك مثل هذا الشّعر و لا تدري من قائله! فسألت عن قائله، فأخبرت أنّك أنت هو، فقم حتى أدخلك على أمير المؤمنين.

يدخل على الرشيد و يمدحه فيأمر له بجائزة

ثم قام فدخل على الرّشيد، فما علمت حتى خرج عليّ الإذن فأذن لي، فدخلت على الرّشيد، فأنشدته ما لي فيه من الشّعر، فأمر لي بمائتي ألف درهم، فلما انصرفت إلى يزيد أمر لي بمائة و تسعين ألفا، و قال: لا يجوز لي أن أعطيك مثل ما أعطاك أمير المؤمنين. و أقطعني إقطاعات تبلغ غلّتها مائتي ألف درهم.

يهجو يزيد فيدعوه الرشيد و يحذره

قال مسلم: ثم أفضت بي الأمور بعد ذلك إلى أن أغضبني فهجوته، فشكاني إلى الرّشيد، فدعاني و قال:

أ تبيعني عرض يزيد؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال لي: بكم ؟ فقلت: برغيف خبز. فغضب حتى خفته على نفسي، و قال: قد كنت على أن أشتريه منك بمال جسيم، و لست أفعل و لا كرامة، فقد علمت إحسانه إليك، و أنا نفيّ من أبي، و و اللّه ثمّ و اللّه لئن بلغني أنّك هجوته لأنزعنّ لسانك من بين فكّيك، فأمسكت عنه بعد ذلك، و ما ذكرته بخير و لا شرّ.

البيدق يصله بيزيد بن مزيد و يسمعه شعره فيأمر له بجائزة

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه اليعقوبيّ ، قال:

/حدّثني البيدق(4) الرّاوية - و كان من أهل نصيبين - قال: دخلت دار يزيد بن مزيد يوما و فيها الخلق، و إذا فتى شابّ جالس في أفناء النّاس، و لم يكن يزيد عرفه بعد، و إذا هو مسلم بن الوليد، فقال لي: ما في نفسي أن أقول شعرا أبدا، فقلت: و لم ؟ قال: لأنّي قد مدحت هذا الرّجل بشعر ما مدح بمثله قطّ، و لست أجد من يوصّله، فقلت له: أنشدني بعضه، فأنشدني منه:

موف على مهج في يوم ذي رهج *** كأنّه أجل يسعى إلى أمل

ص: 29


1- الغمز: الكبس باليد و الجس.
2- في الديوان - 63: «فيخترق الأجساد...». و في ديوان المعاني: «فيخترق الأحشاء...».
3- في الديوان - 62: «لا ينثني عمن يهم به».
4- في مي: «البيزق».

يقري السّيوف نفوس النّاكثين به *** و يجعل الرّوس تيجان القنا الذّبل

لا يعبق الطّيب خدّيه و مفرقه *** و لا يمسّح عينيه من الكحل

إذا انتضى سيفه كانت مسالكه *** مسالك الموت في الأجسام و القلل(1)

و إن خلت بحديث النّفس فكرته *** عاش الرّجاء و مات الخوف من وجل(2)

كاللّيث إن هجته فالموت راحته *** لا يستريح إلى الأيّام و الدّول

للّه من هاشم في أرضه جبل *** و أنت و ابنك ركنا ذلك الجبل

صدّقت ظنّي و صدّقت الظّنون به *** و حطّ جودك عقد الرّحل عن جملي(3)

قال: فأخذت منها بيتين، ثم قلت له: أنشدني أيضا ما لك فيه، فأنشدني قصيدة أخرى ابتداؤها:

/طيف الخيال حمدنا منك إلماما *** داويت سقما و قد هيّجت أسقاما

يقول فيها:

كالدّهر لا ينثني عمّا يهمّ به *** قد أوسع النّاس إنعاما و إرغاما

قال: فأنشدت هذه الأبيات يزيد بن مزيد، فأمر له بخمسمائة درهم. ثم ذكرته بالرّقّة فقلت له: هذا الشّاعر الّذي قد مدحك فأحسن، تقتصر به على خمسمائة درهم! فبعث إليه بخمسمائة درهم أخرى، قال: فقال لي مسلم:

جاءتني و قد رهنت طيلساني على رءوس الإخوان(4)، فوقعت منّي أحسن موقع.

تضمخ يزيد بالطيب ثم غسله لئلا يكذب قول مسلم

أخبرني محمد بن عمران، قال: حدّثنا العنزيّ ، عن محمد بن بدر العجليّ ، عن إبراهيم بن سالم، عن أبي فرعون مولى يزيد بن مزيد قال:

ركب يزيد يوما إلى الرّشيد فتغلّف بغالية(5)، ثم لم يلبث أن عاد فدعا بطست فغسل الغالية، و قال: كرهت أن أكذّب قول مسلم بن الوليد:

لا يعبق الطّيب خدّيه و مفرقه *** و لا يمسّح عينيه من الكحل

يشير على يزيد بن مزيد بإحراق كتاب وصله

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة، قال:

كان مسلم بن الوليد جالسا بين يدي يزيد بن مزيد فأتاه كتاب فيه مهمّ له، فقرأه سرّا و وضعه، ثم أعاد قراءته و وضعه، ثم أراد القيام، فقال له مسلم بن الوليد:

ص: 30


1- في الديوان - 14: «في الأبدان و القلل».
2- في الديوان - 24: «حيي الرجاء»، و في المستجاد - 101: «... بحديث النفس نظرته». و جاء في الشرح: «إذا خلت بحديث النفس فكرته فإنه يفكر في بذل العطايا للناس فيموت خوفهم للفقر عند ذلك».
3- في ف: «و حل جودك»، و المثبت من ما، مج، و الديوان - 23، و جاء في الشرح: «صدّقت ظني و ظن من علم إقبالي إليك، و أغنيتني عن السفر فلا أحتاج إلى أن أسافر بعدها أبدا».
4- ف: «على رءوس لإخواني».
5- تغلف بغالية: تطيب بالطيب.

الحزم تحريقه إن كنت ذا حذر(1) *** و إنّما الحزم سوء الظّنّ بالنّاس

لقد أتاك و قد أدّى أمانته *** فاجعل صيانته في بطن أرماس

/قال: فضحك يزيد و قال: صدقت لعمري. و خرّق الكتاب، و أمر بإحراقه.

انقطع إلى محمد بن يزيد بعد موت أبيه ثم هجره

حدّثني عمّي و جحظة، قالا: حدّثنا عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى، قال: حدّثني أبو محلّم، و حدّثني عمّي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة، قال:

كان مسلم بن الوليد صديقا ليزيد بن مزيد و مدّاحا له، فلما مات انقطع إلى ابنه محمد بن يزيد، و مدحه كما مدح أباه، فلم يصنع إليه خيرا، و لم يرضه ما فعله به، فهجره و انقطع عنه، فكتب إليه يستحفيه(2) و يلومه على انقطاعه عنه، و يذكّره حقوق أبيه عليه، فكتب إليه مسلم:

لبست عزاء عن لقاء محمد *** و أعرضت عنه منصفا و ودودا

و قلت لنفس قادها الشّوق نحوه *** فعوّضها حبّ اللّقاء صدودا

هبيه امرأ قد كان أصفاك ودّه *** فمات و إلاّ فاحسبيه يزيدا

لعمري لقد ولّى فلم ألق بعده *** وفاء لذي عهد يعدّ حميدا

مات يزيد ببرذعة فرثاه مسلم

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني أحمد بن محمد بن أبي سعد، قال:

أهديت إلى يزيد بن مزيد جارية و هو يأكل، فلما رفع الطّعام من بين يديه وطئها فلم ينزل عنها، إلا ميّتا، و هو ببرذعة(3)، فدفن في مقابر برذعة، و كان مسلم معه في صحابته فقال يرثيه:

/قبر ببرذعة استسرّ ضريحه *** خطرا تقاصر دونه الأخطار

أبقى الزّمان على ربيعة بعده *** حزنا كعمر الدّهر ليس يعار

سلكت بك العرب السّبيل إلى العلا *** حتى إذا بلغوا المدى بك حاروا

و يروى:

حتى إذا سبق الرّدى بك حاروا(4)

- هكذا أنشده الأخفش -:

نفضت بك الأحلاس نفض إقامة *** و استرجعت روّادها الأمصار

فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة *** أثنى عليها السّهل و الأوعار

ص: 31


1- في الديوان - 324، و عيون الأخبار: «تخريقه».
2- استحفاء: استخبره. و في مي، ما: «يستجفيه».
3- برذعة: بلد في أقصى أذربيجان.
4- في مي، مج: «حتى إذا بلغوا المداخل جاروا». و في ف: «حتى إذا بلغوا المدى بك جاروا».
قصة راويته الّذي أرسله إلى داود بن يزيد المهلبي

نسخت من كتاب جدّي يحيى بن محمد بن ثوابة: حدّثني الحسن بن سعيد، عن أبيه، قال:

كان داود بن يزيد بن حاتم المهلّبيّ يجلس للشّعراء في السّنة مجلسا واحدا فيقصدونه لذلك اليوم و ينشدونه، فوجّه إليه مسلم بن الوليد راويته بشعره الّذي يقول فيه:

جعلته حيث ترتاب الرّياح به *** و تحسد الطّير فيه أضبع البيد(1)

فقدم عليه يوم جلوسه للشّعراء، و لحقه بعقب خروجهم عنه، فتقدّم إلى الحاجب و حسر لثامه عن وجهه ثم قال له: استأذن لي على الأمير. قال: و من أنت ؟ قال: شاعر. قال: قد انصرم وقتك، و انصرف الشّعراء، و هو على القيام. فقال له: ويحك/قد وفدت على الأمير بشعر ما قالت العرب مثله. قال: و كان مع الحاجب أدب يفهم به ما يسمع، فقال: هات حتى أسمع، فإن كان الأمر كما ذكرت أوصلتك إليه. فأنشده بعض القصيدة، فسمع شيئا يقصر الوصف عنه، فدخل على داود فقال له: قد قدم على الأمير شاعر بشعر ما قيل فيه مثله، فقال: أدخل قائله.

فأدخله، فلمّا مثل بين يديه سلّم و قال: قدمت على الأمير - أعزّه اللّه - بمدح يسمعه فيعلم به تقدّمي على غيري ممّن امتدحه. فقال: هات. فلما افتتح القصيدة و قال:

لا تدع بي الشّوق إني غير معمود *** نهى النّهى عن هوى البيض الرّعاديد(2)

استوى جالسا و أطرق، حتى أتى الرّجل على آخر الشّعر، ثم رفع رأسه إليه ثم قال: أ هذا شعرك ؟ قال: نعم أعزّ اللّه الأمير، قال: في كم قلته يا فتى ؟ قال: في أربعة أشهر، أبقاك اللّه، قال: لو قلته في ثمانية أشهر لكنت محسنا، و قد اتّهمتك لجودة شعرك و خمول ذكرك، فإن كنت قائل هذا الشّعر فقد أنظرتك أربعة أشهر في مثله، و أمرت بالإجراء عليك، فإن جئتنا بمثل هذا الشّعر وهبت لك مائة ألف درهم و إلا حرمتك. فقال: أو الإقالة، أعزّ اللّه الأمير. قال: أقلتك، قال: الشّعر لمسلم بن الوليد، و أنا راويته و الوافد عليك بشعره. فقال:(3) أنا ابن حاتم(3)، إنّك لمّا افتتحت شعره فقلت:

لا تدع بي الشّوق إنّي غير معمود

سمعت كلام مسلم يناديني فأجبت نداءه و استويت جالسا. ثم قال: يا غلام، أعطه عشرة آلاف درهم، و احمل السّاعة إلى مسلم مائة ألف درهم.

أنشد الفضل بن سهل شعرا فولاه البريد بجرجان

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني مسعود بن عيسى العبديّ ، قال: أخبرني موسى بن عبد اللّه التّميميّ ، قال:

دخل مسلم بن الوليد الأنصاريّ على الفضل بن سهل لينشده شعرا، فقال له: أيّها الكهل، إنّي أجلّك عن الشّعر فسل حاجتك، قال: بل تستتمّ اليد عندي بأن تسمع، فأنشده:

ص: 32


1- في مي، مج: «أسبع» بدل: «أضبع».
2- في الديوان - 151: «نهى النهي عن هوى الهيف الرعاديد». (3-3) التكملة من ما، ساقطة من مي، مج.

دموعها من حذار البين تنسكب *** و قلبها مغرم من حرّها يجب

جدّ الرّحيل به عنها ففارقها *** لبينه اللّهو و اللّذّات و الطّرب

يهوى المسير إلى مرو و يحزنه *** فراقها فهو ذو نفسين يرتقب

فقال له الفضل: إني لأجلّك عن الشعر، قال: فأغنني بما أحببت من عملك؛ فولاّه البريد بجرجان.

قال بيتا من الشعر أخذ معناه من التوراة

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني الحسين بن أبي السّريّ .

و أخبرني بهذه الأخبار محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني إبراهيم بن محمد الورّاق، عن الحسين بن أبي السّريّ قال: قيل لمسلم بن الوليد: أيّ شعرك أحبّ إليك ؟ قال: إن في شعري لبيتا أخذت معناه من التّوراة، و هو قولي:

دلّت على عيبها الدّنيا و صدّقها *** ما استرجع الدّهر ممّا كان أعطاني

قذف في البحر بدفتر فيه شعره فقلّ شعره

قال الحسين: و حدّثني جماعة من أهل جرجان أنّ راوية مسلم جاء إليه بعد أن تاب ليعرض عليه شعره، فتغافله مسلم، ثم أخذ منه الدّفتر الّذي في يده، فقذف به في البحر، فلهذا قلّ شعره، فليس في أيدي النّاس منه إلا ما كان بالعراق، و ما كان في أيدي الممدوحين من مدائحهم.

كان يكره لقب صريع الغواني

قال الحسين: و حدّثني الحسين بن دعبل، قال: قال أبي لمسلم: ما معنى ذلك:

لا تدع بي الشّوق إنّي غير معمود

قال: لا تدعني صريع الغواني فلست كذلك؛ و كان يلقّب هذا اللّقب و كان له كارها.

عتب عليه عيسى بن داود ثم رضي عنه

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال: عتب عيسى بن داود(1)على مسلم بن الوليد فهجره، و كان إليه محسنا، فكتب إليه مسلم:

شكرتك للنّعمى فلمّا رميتني *** بصدّك تأديبا شكرتك في الهجر

فعندي للتّأديب شكر و للنّدى *** و إن شئت كان العفو أدعى(2) إلى الشّكر

إذا ما اتّقاك(3) المستليم بعذره *** فعفوك خير من ملام على عذر

قال: فرضي عنه و عاد له إلى حاله.

ص: 33


1- كذا في مي، مج. و في ف: «عيسى برد أبيرود». و في ما: «عيسى بن يزد أبيرود»
2- في ما و الديوان - 319: «أدنى»، و المثبت من ف، مي، مج.
3- في ما: و الديوان - 319: «إذا ما التقاك».
كان بخيلا

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن الأشعث، قال: حدّثني دعبل بن عليّ ، قال:

كان مسلم بن الوليد من أبخل الناس، فرأيته يوما و قد استقبل الرّضا عن غلام له بعد موجدة، فقال له: قد رضيت عنك و أمرت لك بدرهم.

يذمه دعبل عند الفضل بن سهل فيهجوه

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عمرو بن سعيد قال:

خرج دعبل إلى خراسان لمّا بلغه حظوة مسلم بن الوليد عند الفضل بن سهل. فصار إلى مرو، و كتب إلى الفضل بن سهل:

لا تعبأن بابن الوليد فإنه *** يرميك بعد ثلاثة بملال

إنّ الملول و إن تقادم عهده *** كانت مودّته كفيء ظلال

قال: فدفع الفضل إلى مسلم الرّقعة و قال له: انظر يا أبا الوليد إلى رقعة دعبل فيك، فلمّا قرأها قال له: هل عرفت لقب دعبل و هو غلام أمرد و هو يفسق به ؟ قال: لا، قال: كان يلقّب بميّاس، ثم كتب إليه:

ميّاس قل لي: أين أنت من الورى *** لا أنت معلوم(1) و لا مجهول!

أمّا الهجاء فدقّ عرضك دونه *** و المدح عنك كما علمت جليل

فاذهب فأنت طليق عرضك إنّه *** عرض عززت به و أنت ذليل

ما جرى بينه و بين دعبل بسبب جارية

أخبرني محمد بن الحسين الكنديّ الكوفيّ مؤدّبي، قال: حدّثني أزهر بن محمد، قال:

حدّثني الحسين بن دعبل، قال: سمعت أبي يقول: بينا أنا جالس بباب الكرخ إذ مرّت بي جارية لم أر أحسن منها وجها و لا قدّا تتثنّى في مشيها و تنظر في أعطافها، فقلت متعرّضا لها:

دموع عيني بها انبساط *** و نوم عيني به انقباض

/فأجابتني بسرعة فقالت:

و ذا قليل لمن دهته *** بلحظها الأعين المراض

فأدهشتني و عجبت منها فقلت:

فهل لمولاي عطف قلب *** و للّذي في الحشا انقراض

فأجابتني غير متوقّفة فقالت:

إن كنت تهوى الوداد منا *** فالودّ في ديننا قراض

ص: 34


1- في ف، مي، مج: معقول.

قال: فما دخل أذني كلام قطّ أحلى من كلامها، و لا رأيت أنضر وجها منها، فعدلت بها عن ذلك الشعر(1)و قلت:

أ ترى الزّمان يسرّنا بتلاق *** و يضمّ مشتاقا إلى مشتاق

فأجابتني بسرعة فقالت:

ما للزّمان و للتّحكّم بيننا *** أنت الزّمان فسرّنا بتلاق

قال: فمضيت أمامها أؤمّ بها دار مسلم بن الوليد و هي تتبعني، فصرت إلى منزله، فصادفته على عسرة، فدفع إليّ منديلا و قال: اذهب فبعه، و خذ لنا ما نحتاج إليه و عد؛ فمضيت مسرعا. فلما رجعت وجدت مسلما قد خلا بها في سرداب، فلما أحسّ بي وثب إليّ و قال: عرّفك اللّه يا أبا عليّ جميل ما فعلت، و لقّاك ثوابه، و جعله أحسن حسنة لك، فغاظني قوله و طنزه(2)، و جعلت أفكّر أيّ شيء أعمل به، فقال: بحياتي يا أبا عليّ أخبرني من الّذي يقول:

بتّ في درعها و بات رفيقي *** جنب القلب طاهر الأطراف

/فقلت:

من له في حر امّه ألف قرن *** قد أنافت على علوّ مناف!

و جعلت أشتمه و أثب(3) عليه، فقال لي: يا أحمق، منزلي دخلت، و منديلي بعت، و دراهمي أنفقت، على من تحرد أنت ؟ و أيّ شيء سبب حردك يا قوّاد؟ فقلت له: مهما كذبت عليّ فيه من شيء فما كذبت في الحمق و القيادة.

هجاؤه ثلاثة كانوا يصلونه أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه و العنزيّ ، عن محمد بن عبد اللّه العبديّ ، قال:

هجا مسلم بن الوليد سعيد بن سلم و يزيد بن مزيد و خزيمة بن خازم فقال:

ديونك لا يقضى الزّمان غريمها *** و بخلك بخل الباهليّ سعيد

سعيد بن سلم أبخل(4) النّاس كلّهم *** و ما قومه من بخله ببعيد

يزيد له فضل و لكنّ مزيدا *** تدارك فينا بخله بيزيد(5)

خزيمة لا عيب له(6) غير أنه *** لمطبخه قفل و باب حديد

هجاؤه سعيد بن سلم أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة، قال: حدّثنا الأصمعيّ ، قال:

قال لي سعيد بن سلم: قدمت عليّ امرأة من باهلة من اليمامة، فمدحتني بأبيات، ما تمّ سروي بها حتى

ص: 35


1- في ما: «الوجه».
2- طنزه: سخريته و تهكمه.
3- ف: «و أبث عليه».
4- في الديوان - 271: «سعيد بن سلم ألأم الناس كلهم».
5- في الديوان - 271: «تدارك أقصى مجده بيزيد».
6- في الديوان - 271: «خزيمة لا بأس به غير أنه».

نغّصنيها مسلم بن الوليد بهجاء بلغني أنّه هجاني به، فقلت: ما الأبيات الّتي مدحت بها؟ فأنشدني:

/قتيبة قيس ساد قيسا و سلمها *** فلما تولّى ساد قيسا سعيدها

و سيّد قيس سيّد النّاس كلّها *** و إن مات من رغم و ذلّ حسودها

هم رفعوا كفّيك بالمجد و العلا *** و من يرفع الأبناء إلا جدودها

إذا مدّ للعليا سعيد يمينه *** ثنت كفّه عنها أكفّا تريدها

قال الأصمعيّ : فقلت له: فبأيّ شيء نغّصها عليك مسلم ؟ فضحك و قال: كلّفتني شططا، ثم أنشد:

و أحببت من حبّها(1) الباخلين *** حتى و مقت ابن سلم سعيدا

إذا سيل عرفا كسا وجهه *** ثيابا من النّقع صفرا و سودا(2)

يغار(3) على المال فعل الجوا *** د و تأبى خلائقه أن يجودا

يهجو بعض الكتاب لأنه لم يعجبه شعره

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا الكرانيّ ، قال: حدّثني النّوشجانيّ الخليل بن أسد، قال: حدّثني عليّ بن عمرو، قال:

وقف بعض الكتّاب على مسلم بن الوليد و هو ينشد شعرا له في محفل، فأطال ثم انصرف، و قال لرجل كان معه: ما أدري أيّ شيء أعجب الخليفة و الخاصّة من شعر هذا؟ فو اللّه ما سمعت منه طائلا، فقال مسلم: ردّوا عليّ الرّجل، فردّ إليه، فأقبل عليه ثم قال:

أمّا الهجاء فدقّ عرضك دونه *** و المدح عنك كما علمت جليل

فاذهب فأنت طليق عرضك إنه *** عرض عززت به و أنت ذليل

كان أستاذا لدعبل ثم تخاصما و لم يلتقيا

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني إبراهيم بن محمد الورّاق، قال: حدّثني الحسين بن أبي السّريّ ، قال:

كان مسلم بن الوليد أستاذ دعبل و عنه أخذ، و من بحره استقى. و حدّثني دعبل أنّه كان لا يزال يقول الشّعر فيعرضه على مسلم، فيقول له: إيّاك أن يكون أوّل ما يظهر لك ساقطا فتعرف به، ثم لو قلت كلّ شيء جيّدا كان الأوّل أشهر عنك، و كنت أبدا لا تزال تعيّر به، حتّى قلت:

أين الشّباب و أيّة سلكا

فلما سمع هذه قال لي: أظهر الآن شعرك كيف شئت.

قال الحسن: و حدّثني أبو تمّام الطّائيّ قال:

ص: 36


1- في ما: «من أجلها».
2- في الديوان - 270: «ثيابا من اللؤم حمرا و سودا».
3- في ف: «أغار». و في الديوان - 270: «يغير».

ما زال دعبل متعصّبا لمسلم، مائلا إليه، معترفا بأستاذيّته حتى ورد عليه جرجان، فجفاه مسلم، و هجره دعبل، فكتب إليه:

أبا مخلد كنّا عقيدي مودّة *** هوانا و قلبانا جميعا معا معا

أحوطك بالغيب الّذي أنت حائطي *** و أجزع إشفاقا بأن تتوجّعا(1)

فصيّرتني بعد انتكاثك(2) متهما *** لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا

غششت الهوى حتى تداعت أصوله *** بنا و ابتذلت الوصل حتى تقطّعا

و أنزلت من بين الجوانح و الحشا *** ذخيرة ودّ طال ما قد تمنّعا

فلا تلحينّي ليس لي فيك مطمع *** تخرّقت حتى لم أجد لك مرقعا

فهبك يميني استأكلت فقطعتها *** و جشّمت قلبي صبره فتشجّعا(3)

/قال: ثم تهاجرا بعد ذلك، فما التقيا حتى ماتا.

محمد بن أبي أمية يمزح معه

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: أخبرني أحمد بن أبي أميّة، قال: لقي أخي محمد بن أبي أميّة مسلم بن الوليد و هو يتثنّى(4)، و رواته مع بعض أصحابه(5)، فسلّم عليه، ثم قال له: قد حضرني شيء.

فقال: هاته، قال: على أنه مزاح و لا تغضب، قال: هاته و لو كان شتما، فأنشدته:

من رأى فيما خلا رجلا *** تيهه أربى على جدته

يتمشّى راجلا و له *** شاكريّ في قلنسيته

فسكت عنه مسلم و لم يجبه، و ضحك ابن أبي أميّة و افترقا.

لقي محمد بن أبي أمية بعد موت برذونه فردّ عليه مزاحه

قال: و كان لمحمد برذون يركبه فنفق، فلقيه مسلم و هو راجل، فقال: ما فعل برذونك ؟ قال: نفق، قال:

فنجازيك إذا على ما أسلفتناه، ثم أنشده:

قل لابن ميّ لا تكن جازعا *** لن يرجع البرذون باللّيث(6)

طامن أحشاءك فقدانه(7) *** و كنت فيه عالي الصّوت

ص: 37


1- المختار: «من أن يتوجعا». و في ف: «أحوطك بالغيب الّذي لست حائطي».
2- المختار: «بعد انتهابك».
3- المختار: «صبوة فتجشعا» بدل: «صبره فتجشعا».
4- في ما: «يمشي».
5- في مي: «و طويلته مع بعض أصحابه».
6- في الديوان - 282: «ليس على البرذون من فوت». و البرذون: ضرب من الدواب يخالف الخيل العراب، عظيم الخلقة، غليظ الأعضاء.
7- في الديوان - 282: «طأطأ من تيهك فقدانه».

و كنت لا تنزل عن ظهره *** و لو من الحشّ (1) إلى البيت

ما مات من سقم و لكنّه(2) *** مات من الشّوق إلى الموت

أبو تمام يحفظ شعره و شعر أبي نواس

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثني أحمد بن سعيد الحريريّ أنّ أبا تمّام حلف ألاّ يصلّي حتى يحفظ شعر مسلم و أبي نواس، فمكث/شهرين كذلك حتى حفظ شعرهما. قال: و دخلت عليه فرأيت شعرهما بين يديه، فقلت له: ما هذا؟ فقال: اللاّت و العزّى و أنا أعبدهما من دون اللّه.

اجتمع مع أبي نواس فتناشدا شعرهما

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني سمعان بن عبد الصّمد، قال: حدّثني دعبل بن عليّ ، قال:

كان أبو نواس يسألني أن أجمع بينه و بين مسلم بن الوليد؛ و كان مسلم يسألني أن أجمع بينه و بين أبي نواس، و كان أبو نواس إذا حضر تخلّف مسلم، و إذا حضر مسلم تخلّف أبو نواس، إلى أن اجتمعا، فأنشده أبو نواس:

أ جارة بيتينا أبوك غيور *** و ميسور ما يرجى لديك عسير

و أنشده مسلم:

للّه من هاشم في أرضه جبل *** و أنت و ابنك ركنا ذلك الجبل

فقلت لأبي نواس: كيف رأيت مسلما؟ فقال: هو أشعر النّاس بعدي. و سألت مسلما و قلت: كيف رأيت أبا نواس ؟ فقال: هو أشعر الناس و أنا بعده.

أمر له ذو الرئاستين بمال عظيم بعد أن أنشده شعرا شكا فيه حاله

أخبرني الحسن، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني إبراهيم بن عبد الخالق الأنصاريّ من ولد النّعمان بن بشير، قال: حدّثني مسلم بن الوليد، قال:

وجّه إليّ ذو الرّئاستين، فحملت إليه، فقال: أنشدني قولك:

بالغمر من زينب أطلال *** مرّت بها بعدك أحوال

فأنشدته إيّاها حتّى انتهيت إلى قولي:

و قائل ليست له همّة *** كلاّ و لكن ليس لي مال

و همّة المقتر أمنيّة *** همّ مع الدّهر(3) و أشغال

/لا جدة أنهض عزمي بها(4) *** و الناس سؤّال و بخّال

ص: 38


1- الحش: البستان.
2- في الديوان - 282: «ما مات من حتف و لكنه».
3- الديوان - 121: «عون على الدهر».
4- في الديوان - 150: «لا حدة تنهض في عزمها».

فاقعد مع الدّهر إلى دولة *** ترفع فيها حالك الحال(1)

قال: فلمّا أنشدته هذا البيت قال: هذه و اللّه الدّولة الّتي ترفع حالك(2). و أمر لي بمال عظيم و قلّدني - أو قال قبّلني - جوز جرجان(3).

هجا معن بن زائدة و يزيد بن مزيد فهدده الرشيد

حدّثني جحظة، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال:

كان مسلم بن الوليد قد انحرف عن معن بن زائدة بعد مدحه إياه، لشيء أوحشه منه، فسأله يزيد بن مزيد أن يهبه له، فوعده و لم يفعل، فتركه يزيد خوفا منه، فهجاه هجاء كثيرا، حتى حلف له الرشيد إن عاود هجاءه قطع لسانه، فمن ذلك قوله فيه:

يا معن إنّك لم تزل في خزية *** حتى لففت أباك في الأكفان

فاشكر بلاء الموت عندك إنّه *** أودى بلؤم الحيّ من شيبان

قال: و هجا أيضا يزيد بن مزيد بعد مدحه إياه فقال:

أ يزيد يا مغرور ألأم من مشى *** ترجو الفلاح و أنت نطفة(4) مزيد

إن كنت تنكر منطقي فاصرخ به *** يوم العروبة(5) عند باب المسجد

في من يزيد فإن أصبت بمزيد *** فلسا فهاك على مخاطرة يدي

/هكذا روى جحظة في هذا الخبر، و الشّعران جميعا في يزيد بن مزيد، فالأوّل منهما أوّله:

أ يزيد إنّك لم تزل في خزية

و هكذا هو في شعر مسلم. و لم يلق مسلم معن بن زائدة، و لا له فيه مدح و لا هجاء.

رثاؤه يزيد بن مزيد

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن جشم، قال:

كان يزيد بن مزيد قد سأل مسلم بن الوليد عما يكفيه و يكفي عياله، فأخبره فجعله جراية له، ثم قال: ليس هذا مما تحاسب به بدلا من جائزة أو ثواب مديح. فكان يبعث به إليه في كلّ سنة، فلمّا مات يزيد رثاه مسلم فقال:

أ حقّا أنّه أودى يزيد *** تبيّن أيّها النّاعي المشيد!

أ تدري من نعيت و كيف دارت *** به شفتاك دار بها الصّعيد(6)

ص: 39


1- في الديوان - 150: «فاصبر مع الدهر... تحمل فيها...».
2- في مي، مج: «الّتي ترفع حالك الخال». و في المختار: «هذه الدولة الّتي يرفع فيها حالك».
3- ما: «حوز». و لعلها جوزجانان أو جوزجان، و هما واحد. اسم لكورة واسعة من كور بلخ بخراسان. و قبّله: جعله يلتزم العمل.
4- في ف: «خلفة».
5- يوم العروبة: يوم الجمعة، و هو من أسمائها القديمة.
6- في الديوان - 147: تأمل من نعيت و كيف فاهت به شفتاك كان بها الصعيد

أحامي المجد و الإسلام أودى *** فما للأرض ويحك لا تميد!

تأمّل هل ترى الإسلام مالت *** دعائمه و هل شاب الوليد

و هل شيمت سيوف بني نزار *** و هل وضعت عن الخيل اللّبود

و هل تسقي البلاد عشار(1) مزن *** بدرّتها و هل يخضرّ عود

أ ما هدّت لمصرعه نزار *** بلى و تقوّض المجد المشيد

و حلّ ضريحه إذ حلّ فيه *** طريف المجد و الحسب التّليد

/أما و اللّه ما تنفكّ عيني *** عليك بدمعها أبدا تجود

و إن تجمد دموع لئيم قوم *** فليس لدمع ذي حسب جمود

أبعد يزيد تختزن البواكي *** دموعا أو تصان لها خدود

لتبكك قبّة الإسلام لمّا *** وهت أطنابها و وهى العمود

و يبكك شاعر لم يبق دهر *** له نشبا و قد كسد القصيد

فإن يهلك يزيد فكلّ حيّ *** فريس للمنيّة أو طريد

هكذا في الخبر، و القصيدة للتّيميّ .

مدح الفضل بن سهل

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ ، قال: حدّثنا الهشاميّ ، قال: حدّثني عبد اللّه بن عمرو، قال: حدّثني موسى بن عبد اللّه التّميميّ ، قال: دخل مسلم بن الوليد على الفضل بن سهل، فأنشده قوله فيه:

لو نطق الناس أو أنبوا بعلمهم *** و نبّهت عن معالي دهرك الكتب(2)

لم يبلغوا منك أدنى ما تمت به *** إذا تفاخرت الأملاك و انتسبوا

فأمر له عن كلّ بيت من هذه القصيدة بألف درهم.

رثاؤه الفضل بن سهل

ثم قتل الفضل فقال يرثيه:

ذهلت فلم أنقع غليلا بعبرة *** و أكبرت أن ألقى بيومك ناعيا

فلمّا بدا لي أنّه لاعج الأسى *** و أن ليس إلا الدّمع للحزن شافيا

أقمت لك الأنواح ترتدّ بينها *** مآتم تندبن(3) النّدى و المعاليا

و ما كان منعى الفضل منعاة واحد(4) *** و لكنّ منعى الفضل كان مناعيا

/أ للبأس أم للجود أم لمقاوم *** من الملك يزحمن الجبال الرّواسيا!

ص: 40


1- في ما، و الوفيات: ثقال مزن. و عشار معدول عن عشرة عشرة، يقال: جاءوا عشار أي جاءوا عشرة عشرة.
2- في الديوان - 304: «... أو أثنوا بعلمهم». و في المختار: «و نبأت عن معالي دهرك».
3- ف: «تبدين الندى و المعاليا».
4- و في ف و الديوان - 346: «منعى و حادة». و في ما و المختار: «منعى و جادة».

عفت بعدك الأيّام لا بل تبدّلت *** و كنّ كأعياد فعدن مباكيا

فلم أر إلاّ قبل يومك ضاحكا *** و لم أر إلا بعد يومك باكيا

عابه العباس بن الأحنف في مجلس فهجاه

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ ، قال: حدّثنا محمد بن عجلان، قال: حدّثنا يعقوب بن السّكّيت، قال:

أخبرني محمد بن المهنّأ، قال:

كان العبّاس بن الأحنف مع إخوان له على شراب، فذكروا مسلم بن الوليد، فقال بعضهم: صريع الغواني، فقال العبّاس: ذاك ينبغي أن يسمّى صريع الغيلان لا صريع الغواني، و بلغ ذلك مسلما فقال يهجوه:

بنو حنيفة لا يرضى الدّعيّ بهم *** فاترك حنيفة و اطلب غيرها نسبا

فاذهب فأنت طليق الحلم(1) مرتهن *** بسورة الجهل ما لم أملك الغضبا

اذهب إلى عرب ترضى بنسبتهم *** إني أرى لك خلقا يشبه العربا

منّيت منّي و قد جدّ الجراء(2) بنا *** بغاية منعتك الفوت و الطّلبا

ينصرف عن هجاء خزيمة بن خازم و يتمسك بهجاء سعيد بن سلم

أخبرني محمد بن يزيد، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، عن جدّه، قال: قلت لمسلم بن الوليد:

ويحك! أما استحييت من النّاس حين تهجو خزيمة بن خازم، و لا استحييت منا و نحن إخوانك، و قد علمت أنّا نتولاّه و هو من تعرف فضلا و جودا؟ فضحك، و قال لي: يا أبا إسحاق، لغيرك الجهل، أ ما تعلم أنّ الهجاء آخذ بضبع الشّاعر و أجدّى عليه من المديح المضرع ؟ و ما ظلمت مع ذلك منهم أحدا، /ما مضى فلا سبيل إلى ردّه، و لكن قد وهبت لك عرض خزيمة بعد هذا. قال: ثم أنشدني قوله في سعيد بن سلم:

ديونك لا يقضى الزّمان غريمها *** و بخلك بخل الباهليّ سعيد

سعيد بن سلم أبخل الناس كلّهم *** و ما قومه من بخله ببعيد

فقلت له: و سعيد بن سلم صديقي أيضا، فهبه لي، فقال: إن أقبلت على ما يعنيك، و إلا رجعت فيما وهبت لك من خزيمة، فأمسكت عنه راضيا بالكفاف.

مدح محمد بن يزيد بن مزيد ثم انصرف عنه

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني عبد اللّه بن محمد بن موسى بن عمر بن حمزة بن بزيع، قال: حدّثني عبد اللّه بن الحسن اللّهبيّ ، قال:

كان مسلم بن الوليد مدّاحا ليزيد بن مزيد، و كان يؤثره و يقدّمه و يجزل صلته، فلما مات وفد على ابنه محمد، فمدحه و عزّاه عن أبيه، و أقام ببابه أيّاما فلم ير منه ما يحبّ ، فانصرف عنه و قال فيه:

لبست عزاء عن لقاء محمد *** و أعرضت عنه منصفا و ودودا

ص: 41


1- في الديوان - 259: «فاقعد فأنت طليق العفو مرتهن».
2- في الديوان - 259: «و قد هاج الرهان». و الجراء: الفتوة.

و قلت لنفس قادها الشّوق نحوه *** فعوّضها منه اللّقاء صدودا(1)

هبيه امرأ قد كان أصفاك ودّه *** و مات و إلا فاحسبيه يزيدا

لعمري لقد ولّى فلم ألق بعده *** وفاء لذي عهد يعدّ حميدا

مدح الفضل بن يحيى فأجزل له العطاء و وهبه جارية أعجبته بعد أن قال فيها شعرا

أخبرني حبيب بن نصر، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود، قال:

/دخل مسلم بن الوليد يوما على الفضل بن يحيى، و قد كان أتاه خبر مسيره، فجلس للشّعراء فمدحوه و أثابهم، و نظر في حوائج النّاس فقضاها، و تفرّق النّاس عنه، و جلس للشّرب، و مسلم غير حاضر لذلك، و إنّما بلغه حين انقضى المجلس، فجاءه فأدخل إليه فاستأذن في الإنشاد، فأذن له، فأنشده قوله فيه:

أتتك المطايا تهتدي بمطيّة *** عليها فتى كالنّصل مؤنسه النّصل

يقول فيها:

وردت(2) رواق الفضل آمل فضله *** فحطّ الثّناء الجزل نائله الجزل

فتى ترتعي الآمال مزنة جوده(3) *** إذا كان مرعاها الأمانيّ و المطل

تساقط يمناه النّدى و شماله *** الرّدى و عيون القول منطقه الفصل

ألحّ على الأيام يفري خطوبها *** على منهج ألفى أباه به قبل

أناف به العلياء يحيى و خالد *** فليس له مثل و لا لهما مثل

فروع أصابت مغرسا متمكّنا *** و أصلا فطابت حيث وجّهها الأصل(4)

بكفّ أبي العبّاس يستمطر الغنى *** و تستنزل النّعمى و يسترعف النّصل

قال: فطرب الفضل طربا شديدا، و أمر بأن تعدّ الأبيات، فعدّت فكانت ثمانين بيتا فأمر له بثمانين ألف درهم، و قال: لو لا أنّها أكثر ما وصل به الشّعراء لزدتك، و لكنّه شأو لا يمكنني أن أتجاوزه - يعني أنّ الرشيد رسمه لمروان بن أبي/حفصة - و أمره بالجلوس معه و المقام عنده لمنادمته، فأقام عنده، و شرب معه، و كان على رأس الفضل وصيفة تسقيه كأنها لؤلؤة، فلمح الفضل مسلما ينظر إليها، فقال: قد - و حياتي يا أبا الوليد - أعجبتك، فقل فيها أبياتا حتى أهبها لك، فقال:

إن كنت تسقين غير الرّاح فاسقيني *** كأسا ألذّ بها من فيك تشفيني

عيناك راحي، و ريحاني حديثك لي، *** و لون خدّيك لون الورد يكفيني

إذا نهاني عن شرب الطّلا حرج *** فخمر عينيك يغنيني و يجزيني

ص: 42


1- في الديوان - 310: «فعوضها حب اللقاء صدودا».
2- في الديوان - 263: «وردن رواق الفضل فضل ابن جعفر».
3- في ما: «فضله». و في المختار: «الأماني و البطل».
4- في ما: «فطالت». و في الديوان - 264: فروع تلقتها المغارس فاعتلى بها عاطفا أعناقها قصده الأصل

لو لا علامات شيب لو أتت وعظت *** لقد صحوت و لكن سوف تأتيني

أرضي الشّباب فإن أهلك فعن قدر *** و إن بقيت فإن الشّيب يشقيني(1)

فقال له: خذها بورك لك فيها. و أمر بتوجيهها مع بعض خدمها إليه.

ماتت زوجته فجزع عليها و تنسك

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن إبراهيم، قال:

كانت لمسلم بن الوليد زوجة من أهله، كانت تكفيه أمره و تسرّه فيما تليه له(2) منه، فماتت فجزع عليها جزعا شديدا، و تنسّك مدّة طويلة، و عزم على ملازمة ذلك، فأقسم عليه بعض إخوانه ذات يوم أن يزوره ففعل، فأكلوا و قدّموا الشّراب، فامتنع منه مسلم و أباه، و أنشأ يقول:

بكاء و كأس، كيف يتّفقان ؟(3) *** سبيلاهما في القلب مختلفان

دعاني و إفراط البكاء فإنّني *** أرى اليوم فيه غير ما تريان

غدت و الثّرى أولى بها من وليّها *** إلى منزل ناء لعينك دان

/فلا حزن حتى تذرف العين ماءها *** و تعترف الأحشاء للخفقان

و كيف بدفع اليأس للوجد بعدها *** و سهماهما(4) في القلب يعتلجان!

هاجاه ابن قنبر فأمسك عنه بعد أن بسط لسانه فيه

أخبرني حبيب بن نصر، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني عليّ بن الصّبّاح، قال: حدّثني مالك بن إبراهيم، قال:

كان مسلم بن الوليد يهاجي الحكم بن قنبر المازنيّ ، فغلب عليه ابن قنبر مدة و أخرسه، ثم أثاب مسلم بعد أن انخزل و أفحم، فهتك ابن قنبر حتى كفّ عن مناقضته، فكان يهرب منه، فإذا لقيه مسلم قبض عليه و هجاه و أنشده ما قاله فيه فيمسك عن إجابته؛ ثم جاءه ابن قنبر إلى منزله و اعتذر إليه ممّا سلف، و تحمّل عليه بأهله و سأله الإمساك، فوعده بذلك، فقال فيه:

حلم ابن قنبر حين أقصر جهله *** هل كان يحلم شاعر عن شاعر؟

ما أنت بالحكم الّذي سمّيته *** غالتك حلمك هفوة من قاهر

لو لا اعتذارك لارتمى بك زاخر *** مرح العباب يفوت طرف النّاظر

لا ترتعن لحمى لسانك بعدها *** إنّي أخاف عليك شفرة جازر

و استغنم العفو الّذي أوتيته *** لا تأمننّ عقوبة من قادر

ص: 43


1- في الديوان - 344: «... فإن الشيب يسليني».
2- المختار: «و تستره عن الناس بمالها».
3- المختار: «يجتمعان».
4- في ف، ما: «و همّاهما».
مسلم و ابن قنبر يتهاجيان في مسجد الرصافة

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه أبو بكر العبديّ ، قال:

رأيت مسلم بن الوليد و ابن قنبر في مسجد الرّصافة في يوم جمعة، و كل واحد منهما بإزاء صاحبه، و كانا يتهاجيان، فبدأ مسلم فقال:

أنا النّار في أحجارها مستكنّة *** فإن كنت ممن يقدح النّار فاقدح

/فأجابه ابن قنبر فقال:

قد كنت تهوي و ما قوسي بموترة *** فكيف ظنّك بي و القوس في الوتر

قال: فوثب إليه مسلم و تواخزا(1) و تواثبا، و حجز الناس بينهما فتفرّقا.

لامه رجل من الأنصار على انخزاله أمام ابن قنبر فعاد إلى هجائه

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن عبيد الكوفيّ ، قال: حدّثني عليّ بن عمروس الأنصاريّ ، قال:

جاء رجل من الأنصار ثم من الخزرج إلى مسلم بن الوليد فقال له: ويلك ما لنا و لك، قد فضحتنا و أخزيتنا، تعرّضت لابن قنبر فهاجيته، حتى إذا أمكنته من أعراضنا انخزلت عنه و أرعيته لحومنا، فلا أنت سكتّ و وسعك ما وسع غيرك، و لا أنت لمّا انتصرت انتصفت. فقال له مسلم: فما أصنع ؟ فأنا أصبر عليه، فإن كفّ و إلا تحمّلت عليه بإخوانه، فإن كفّ و إلا وكلته إلى بغيه، و لنا شيخ يصوم الدهر و يقوم الليل، فإن أقام على ما هو عليه سألته أن يسهر له ليلة يدعو اللّه عليه فيها فإنها تهلكه، فقال له الأنصاريّ : سخنت عينك! أ و بهذا تنتصف ممن هجاك ؟ ثم قال له:

قد لاذ من خوف ابن قنبر مسلم *** بدعاء والده مع الأسحار

و رأيت شرّ وعيده أن يشتكي *** ما قد عراه إلى أخ أو جار

ثكلتك أمّك قد هتكت حريمنا *** و فضحت أسرتنا بني النجار

عمّمت خزرجنا و معشر أوسنا *** خزيا جنيت به على الأنصار

فعليك من مولّى و ناصر أسرة *** و عشيرة غضب الإله الباري

قال: فكاد مسلم أن يموت غمّا و بكاء و قال له: أنت شرّ عليّ من ابن قنبر. ثم أثاب و حمي، فهتك ابن قنبر و مزّقه حتى تركه، و تحمّل عليه بابنه و أهله حتى أعفاه من المهاجاة.

رجع الحديث عما وقع بينه و بين ابن قنبر

و نسخت هذا الخبر من كتاب جدّي يحيى بن محمد بن ثوابة بخطه، قال:

حدّثني الحسن بن سعيد، قال: حدّثني منصور بن جمهور قال:

ص: 44


1- تواخزا: طعن كل منهم صاحبه طعنة غير نافذة.

لما هجا ابن قنبر مسلم بن الوليد أمسك عنه مسلم بعد أن أشلى(1) عليه لسانه قال: فجاءه عمّ له فقال له:

يا هذا الرجل، إنك عند الناس فوق ابن قنبر في عمود الشعر، و قد بعث(2) عليك لسانه ثم أمسكت عنه، فإما أن قارعته أو سالمته. فقال له مسلم: إن لنا شيخا و له مسجد يتهجّد فيه، و له بين ذلك دعوات يدعو بهنّ ، و نحن نسأله أن يجعله من بعض دعواته، فإنا نكفاه، فأطرق الرجل ساعة ثم قال:

غلب ابن قنبر و اللئيم مغلّب *** لما اتّقيت هجاءه بدعاء

ما زال يقذف بالهجاء و لذعه *** حتى اتّقوه بدعوة الآباء!

قال: فقال له مسلم: و اللّه ما كان ابن قنبر يبلغ مني هذا كلّه، فأمسك لسانك عني، و تعرّف خبره بعد هذا.

قال: فبعث - و اللّه - عليه من لسان مسلم ما أسكته. هكذا جاء في الأخبار.

و قد حدّثني بخبر مناقضته ابن قنبر جماعة ذكروا قصائدهما جميعا، فوجدت في الشعر الفضل لابن قنبر عليه، لأن له عدة قصائد لا نقائض لها، يذكر فيها تعريده(3) عن الجواب، و قصائد يذكر فيها أنّ مسلما فخر على قريش و على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و رماه بأشياء تبيح دمه، فكفّ مسلم عن مناقضته خوفا منها، و جحد أشياء كان قالها فيه.

فمن أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال:

حدّثني عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن الوليد مولى الأنصار، و كان عالما بشعر مسلم بن الوليد و أخباره، قال:

سبب المهاجاة بينه و بين ابن قنبر

كان سبب المهاجاة بين مسلم بن الوليد و الحكم بن قنبر أنّ الطّرمّاح بن حكيم قد كان هجا بني تميم بقصيدته الّتي يقول فيها:

لا عزّ نصر امرئ أضحى له فرس *** على تميم يريد النصر من أحد

إذا دعا بشعار الأزد نفّرهم *** كما ينفّر صوت الليث بالنّقد

لو حان ورد تميم ثم قيل لهم: *** حوض الرسول عليه الأزد، لم ترد

أو أنزل اللّه وحيا أن يعذّبها *** إن لم تعد لقتال الأزد، لم تعد

و هي قصيدة طويلة، و كان الفرزدق أجاب الطّرماح عنها، ثم إن ابن قنبر المازنيّ قال بعد خبر طويل يرد على الطّرمّاح:

يا عاويا هاج ليثا بالعواء له *** شئن البراثن ورد اللون ذا لبد(4)

أيّ الموارد هابت جمّ غمرته *** بنو تميم على حال فلم ترد

أ لم ترد يوم قندابيل معلمة *** بالخيل تضبر نحو الأزد كالأسد(5)

ص: 45


1- أشلى لسانه: أطلقه.
2- في مي: «بعثت».
3- تعريده: هربه.
4- في مي: «ذا اللبد».
5- قندابيل: مدينة بالسند. و في ف: «قتل أبيك» بدل: «قندابيل» و ضبرت الفرس: جمعت قوائمها و وثبت.

بفتية لم تنازعها فتطبعها(1) *** بلؤمها طيّئ ثديا و لم تلد

خاضت إلى الأزد بحرا ذا غوارب من *** سمر طوال و بحرا من قنا قصد(2)

فأوردتها مناياها بمرهفة *** ملس المضارب لم تفلل و لم تكد

و هي قصيدة طويلة. و قد كان الطّرمّاح قال أيضا:

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا *** و لو سلكت طرق المكارم ضلّت

أرى الليل يجلوه النهار و لا أرى *** عظام المخازي عن تميم تجلّت

/و قد كان الفرزدق أيضا أجابه عنها، و قال ابن قنبر(3) ينقضها:

لعمرك ما ضلّت تميم و لا جرت *** على إثر أشياخ عن المجد ضلّت

و لا جبنت بل أقدمت يوم كسّرت *** لها الأزد أغماد السّيوف و سلّت

بغائط قندابيل و الموت خائض *** عليها بآجال لها قد أظلّت(4)

فما برحت تسقى كئوس حمامها *** إذا نهلت كرّوا عليها فعلّت

إلى أن أبادتهم تميم و أكذبت *** أمانيّ للشّيطان عنها اضمحلّت

و حان فراق منهم كلّ خدلة *** مفارقة بعلا به قد تملّت

و هي أيضا طويلة قال: فبلغ مسلم بن الوليد هجاء ابن قنبر للأزد و طيّى و ردّه على الطّرمّاح بعد موته.

فغضب من ذلك. و قال: ما المعنى في مناقضة رجل ميّت و إثارة الشّرّ بذكر القبائل، لا سيّما و قد أجابه الفرزدق عن قوله ؟ فأبى ابن قنبر إلا تماديا في مناقضته، فقال مسلم قصيدته الّتي أولها:

آيات أطلال برامة درّس *** هجن الصّبابة إذ ذكرت(5) معرّسي

أوحت إلى درر الدّموع فأسبلت *** و استفهمتها غير أن لم تنبس

يقول فيها يصف الخمر:

صفراء من حلب الكروم كسوتها *** بيضاء من حلب الغيوم البجّس(6)

طارت(7) و لاوذها الحباب فحاكها *** فكأن حليتها جنيّ النّرجس

/و يقول فيها يصف السّيوف:

و تفارق الأغماد تبدو تارة *** حمرا و تخفى تارة في الأرؤس

حرب يكون وقودها أبناءها *** لقحت على عقر و لمّا تنفس

ص: 46


1- في ما، مهذب الأغاني: «قتطعنها».
2- القصد: القطع جمع قصدة.
3- في ما: «و قال الفرزدق يجيبه».
4- في ف: «... و الموت جائل... عليها بآجال لهم قد أظلت».
5- في ما: «و الهوى بمعرّسي». و في الديوان - 130: «و استثرن معرّسي».
6- في الديوان - 131: «من صوب الغيوم البجّس».
7- في الديوان - 132: «مزجت». و في مي: «طارت و لاذ بها الحباب فحاطها».

من هارب ركب النّجاء و مقعص *** جثمت منيّته على المتنفّس

غصبته أطراف الأسنّة نفسه *** فثوى فريسة ولّغ أو نهّس

إن كنت نازلة اليفاع فنكّبي *** دار الرّباب و خزرجي أو أوسي

و تجنّبي الجعراء(1) إنّ سيوفهم *** حدث و إن قناتهم لم تضرس

هل طيّئ الأجبال شاكرة امرئ *** ذاد القوافي عن حماها مردس(2)

أحمي - أبا نفر - عظام حفيرة *** درست و باقي غرسها لم يدرس

كافأت نعمتها بضعف بلائها *** ثم انفردت بمنصب لم يدنس(3)

و إذا افتخرت عددت سعي مآثر *** قصرت على الإغضاء طرف الأشوس

رفعت بنو النّجّار حلفي فيهم(4) *** ثم انفردت فأفسحوا عن مجلسي

فاعقل لسانك عن شتائم قومنا(5) *** لا يعلقنّك خادر من مأنس

أخلفت فخرك(6) من أبيك و جئتني *** بأب جديد بعد طول تلمّس

أخذت عليه المحكمات طريقها *** فغدا يهاجي أعظما في مرمس(7)

/قال: فلم يجبه ابن قنبر عن هذه بشيء، ثم التقيا فتعاتبا، و اعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال مسلم يهجوه:

حلم ابن قنبر حين قصّر شعره *** هل كان يحلم شاعر عن شاعر

يهجو قريشا و يفخر بالأنصار

و قد مضت هذه الأبيات متقدّما. قال: و مكث ابن قنبر حينا لا يجيبه عن هذا و لا عن غيره بشيء طلبا للكفاف، ثم هجا مسلم قريشا و فخر بالأنصار فقال:

قل لمن تاه إذ بنا عزّ جهلا *** ليس بالتّيه يفخر الأحرار

فتناهوا و أقصروا فلقد جا *** رت عن القصد فيكم الأنصار(8)

أيّكم حاط ذا جوار بعزّ *** قبل أن تحتويه منّا الدّار

أو رجا أن يفوت قوما بوتر *** لم تزل تمتطيهم الأوتار

لم يكن ذاك فيكم فدعوا الفخر *** بما لا يسوغ فيه افتخار

و نزارا ففاخروا تفضلوهم *** و دعوا من له عبيدا نزار

ص: 47


1- في مي، مج: «الحمراء». و في الديوان - 136: «الخفراء».
2- في الديوان - 137: «الأقعس» بدل «مردس». و المردس: الآلة الّتي تسوى و تكسر.
3- في ما: «لم ينجس».
4- في الديوان - 136: «بيتي فيهم... ثم انتميت».
5- في الديوان - 139: «عرضنا».
6- في الديوان - 139: «أخلقت فخرك». و في ف، ما: «نجرك».
7- في ما: «مدرس». و في الديوان - 140: «فغدا يناقض أعظما في أرمس».
8- في الديوان - 315: «الأبصار» بدل «الأنصار».

فبنا عزّ منكم الذّلّ و الدّ *** هر عليكم بريبة كرّار

حاذروا دولة الزّمان عليكم *** إنّه بين أهله أطوار

فتردّوا و نحن للحالة الأو *** لي و للأوحد(1) الأذلّ الصّغار

فاخرتنا لمّا بسطنا لها الف *** خر قريش و فخرها مستعار

ذكرت عزّها و ما كان فيها *** قبل أن يستجيرنا مستجار

إنّما كان عزّها في جبال *** ترتقيها كما ترقّى الوبار(2)

/أيّها الفاخرون بالعزّ، و ال *** عزّ لقوم سواهم و الفخار

أخبرونا من الأعزّ أ المن *** صور حتى اعتلى أم الأنصار؟

فلنا العزّ قبل عزّ قريش *** و قريش تلك الدّهور تجار

ابن قنبر يجيبه

قال: فانبرى له ابن قنبر يجيبه فقال:

ألا أمثل أمير المؤمنين بمسلم *** و أفلق به الأحشاء من كل مجرم

و لا ترجعن عن قتله باستتابة *** فما هو عن شتم النّبي بمحرم(3)

و لا عن مساواة له و لقومه *** قريش بأصداء لعاد و جرهم

و يفخر بالأنصار جهلا على الّذي *** بنصرته فازوا بحظّ و مغنم

و سمّوا به الأنصار لا عزّ قائل *** أراد قريشا بالمقال المذمّم

و منهم رسول اللّه أزكى من انتمى *** إلى نسب زاك و مجد مقدّم

و ما كانت الأنصار قبل اعتصامها *** بنصر قريش في المحلّ المعظّم

و لا بالألى يعلون أقدار قومهم *** صداء و خولان و لخم و سلهم

و لكنّهم باللّه عاذوا و نصرهم *** قريشا و من يستعصم اللّه يعصم

فعزّوا و قد كانوا و فطيون(4) فيهم *** من الذلّ في باب من العز مبهم

يسومهم الفطيون ما لا يسامه *** كريم و من لا ينكر الظّلم يظلم

و إنّ قريشا بالمآثر فضّلت *** على الخلق طرّا من فصيح و أعجم

فما بال هذا العلج ضلّ ضلاله *** يمدّ إليهم كفّ أجذم أعسم(5)

يسامي قريشا مسلم و هم هم *** بمولى يمانيّ و بيت مهدّم

/إذا قام فيه غيرهم لم يكن له *** مقام به من لؤم مبنى و مدعم

ص: 48


1- في ف: و «للأدحر».
2- في ف: «إنما كان غيرها». و الوبار: جمع وبر؛ و هو حيوان من ذوات الحافر في حجم الأرنب.
3- في ف: «بمحجم».
4- الفطيون: ملك تملك بيثرب. و قال ابن الكلبي: الفطيون اسمه عامر بن عامر بن ثعلبة (الاشتقاق لابن دريد).
5- الأعسم، من عسم الكف و هو يبس مفصل الرسغ حتى يعوج.

جعاسيس(1) أشباه القرود لو أنّهم *** يباعون ما ابتيعوا جميعا بدرهم

و ما مسلم من هؤلاء و لا ألى *** و لكنّه من نسل علج ملكّم

تولّى زمانا غيرهم ثمّت ادّعى *** إليهم فلم يكرم و لم يتكرّم(2)

فإن يك منهم فالنّضير و لفّهم(3) *** مواليه لا من يدّعي بالتّزعّم

و إن تدعه الأنصار مولى أسمهم *** بقافية تستكره الجلد بالدّم

عقابا لهم في إفكهم و ادّعائهم *** لأقلف منقوش الذراع موشّم

فلا تدّعوه و انتفوا(4) منه تسلموا *** بنفيكموه من مقام و مأثم

و إلا فغضّوا الطّرف و انتظروا الرّدى *** إذا اختلفت فيكم صوارد أسهمي

و لم تجدوا منها مجنّا يجنّكم *** إذا ذلعت من كلّ فجّ و معلم

و أنتم بنو أذناب من أنتم له *** و لستم بأبناء السّنام المقدّم

و لا ببني الرأس الرفيع محلّه *** فيسمو بكم مولّى مسام و ينتمي

فكيف رضيتم أن يسامى نبيّكم *** ببيتكم الرّثّ القصير المهدّم

سأحطم من سامى النبيّ تطاولا *** عليه و أكوي منتماه بميسم

أ يعدل بيت يثربيّ بكعبة(5) *** ثوتها قريش في المكان المحرّم

/قريش خيار اللّه و اللّه خصّهم *** بذلك فاقعس أيّها العلج و ارغم

و من يدّعي منه الولاء مؤخّر *** إذا قيل للجاري إلى المجد أقدم

قال: و كان مسلم قال هذه القصيدة في قريش و كتمها، فوقعت إلى ابن قنبر، و أجابه عنها، و استعلى عليه و هتكه، و أغرى به السّلطان، فلم يكن عند مسلم في هذا جواب أكثر من الانتفاء منها، و نسبتها إلى ابن قنبر، و الادّعاء عليه أنّه ألصقها به و نسبها إليه، ليعرّضه للسّلطان، و خافه فقال ينتفي من هذه القصيدة و يهجو تميما:

قصيدته في هجاء تميم

دعوت أمير المؤمنين و لم تكن *** هناك، و لكن من يخف يتجسّم

و إنّك إذ تدعو الخليفة ناصرا *** لكالمترقّي في السماء بسلّم

كذاك الصّدى تدعو من حيث لا ترى *** و إن تتوهّمه تمت في التّوهّم

هجوت قريشا عامدا و نحلتني *** رويدك يظهر ما تقول فيعلم

إذا كان مثلي في قبيلي فإنّه *** على ابني لؤيّ قصرة غير متهم

ص: 49


1- الجعاسيس: جمع جعسوس، و هو القصير. و في مي: «جعاميس». و الجعسوس: الرجيع. يقال: رمى بجعاميس بطنه.
2- في ما: «و لما يكرم».
3- في مي، مج: «و لفه».
4- في مي، مج «و ابعدوا».
5- في ف، مي، مج: «أ تعدل بيتا يثربيا بكعبة».

سيكشفك التّعديل عمّا قرفتني *** به فتأخّر عارفا أو تقدّم(1)

فإنّ قريشا لا تغيّر ودّها(2) *** و لا يستمال عهدها بالتّزعّم

مضى سلف منهم و صلّى بعقبهم *** لنا سلف في الأوّل المتقدّم

جروا فجرينا سابقين بسبقهم *** كما اتّبعت كفّ نواشر معصم

و إنّ الّذي يسعى ليقطع بيننا *** كملتمس اليربوع في جحر أرقم

أضلّك قدع الآبدات طريقها *** فأصبحت من عميائها في تهيّم(3)

/و خانتك عند الجري - لمّا اتّبعتها - *** تميم فحاولت العلا بالتقحّم

فأصبحت ترميني بسهمي و تتّقى *** يدي بيدي، أصليت نارك فاضرم

ابن قنبر يهجوه

قال: ثم هجاه ابن قنبر بقصيدة أوّلها:

قل لعبد النّضير مسلم الوغد ال *** دّنيّ اللئيم شيخ(4) النّصاب

اخس يا كلب إذ نبحت فإنّي *** لست ممن يجيب نبح الكلاب

أ فأرضى و منصبي منصب العزّ *** و بيتي في ذروة الأحساب

أن أحطّ الرّفيع من سمك بيتي *** بمهاجاة أوشب الأوشاب

من إذا سيل: من أبوه ؟ بدا منه *** حياء يحميه رجع(5) الجواب

و إذا قيل حين يقبل: من *** أنت و من تعتزيه في الأنساب

قلت: هاجي ابن قنبر، فتسر *** بلت بذكري فخرا لدى النّسّاب

ابن قنبر يتابع هجاءه
اشارة

و هي قصيدة طويلة، فلم يجبه مسلم عنها بشيء، فقال فيه ابن قنبر أيضا:

لست أنفيك إن سواي نفاكا *** عن أبيك الّذي له منتماكا

و لما ذا أنفيك يا بن وليد *** من أب إن ذكرته أخزاكا

و لو أنّي طلبت ألأم منه *** لم أجده إن لم تكن أنت ذاكا

لو سواه أباك كان جعلنا *** ه إن(6) الناس طاوعونا أباكا

حاك دهرا بغير حذق(7) لبرد *** و تحوك الأشعار أنت كذاكا

ص: 50


1- قرفتني: اتهمتني. و التعديل: تزكية الشهود.
2- في ما، و الديوان - 339: «لا يغادر ودّها».
3- في الديوان - 339: «أضلك قرع الآبدات...»، و القدع: المجاوزة. و تهيمه الهوى تهيما: حمله على الهيام.
4- في مي: «سنخ». و السّنخ: الأصل.
5- في مي: «ردّ الجواب».
6- في ما: «إذا الناس».
7- و في ف: «حاك دهرا بغير جدّ لبرد».

/و هي طويلة، فلم يجبه مسلم عنها بشيء، فقال ابن قنبر أيضا يهجوه:

فخر العبد عبد قنّ (1) اليهود *** بضعيف من فخره مردود

فاخر الغرّ من قريش بإخوا *** ن خنازير [من] يثرب و القرود

يتولّى بني النّضير و يدعو *** بهم الفخر من مكان بعيد

و بني الأوس و الخزرج أهل الذّ *** لّ في سالف الزّمان التّليد

إذ رضوا بافتضاض(2) فطيون منهم *** كلّ بكر ريّا الرّوادف رود

و بنو عمّها شهود لما يف *** عل فطيون قبّحوا من شهود

خلف باب الفطيون و البغل منهم(3) *** لا بذي غيرة و لا بنجيد

فإذا ما قضى اليهوديّ منها *** نحبه(4) قنّعوا بخزي جديد

قال: فلما أفحش في هذه القصيدة و في عدّة قصائد قالها، و مسلم لا يجيبه، مشى إليه قوم من مشيخة الأنصار، و استعانوا بمشيخة من قرّاء تميم و ذوي العلم و الفضل منهم، فمشوا معهم إليه فقالوا له: أ لا تستحي من أن تهجو من لا يجيبك ؟ أنت بدأت الرّجل فأجابك، ثم عدت فكفّ ، و تجاوزت ذلك إلى ذكر أعراض الأنصار الّتي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يحميها و يذبّ عنها و يصونها، لغير حال أحلّت لك ذلك منهم، فما زالوا يعظونه و يقولون له كل قول حتى أمسك عن المناقضة لمسلم، فانقطعت.

صوت

ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتهم *** شمس الضحى و أبو إسحاق و القمر

يحكي أفاعيله(5) في كلّ نائبة *** الغيث و الليث و الصّمصامة الذّكر

الشّعر لمحمد بن وهيب، و الغناء لعلّويه ثقيل أول بالوسطى، و فيه لإبراهيم بن المهديّ ثقيل أول آخر عن الهشاميّ .

ص: 51


1- في ف: «فخر العبد، علج قن اليهود». و في مي: «فخر العلج، علج قن اليهود».
2- افتض الجارية: أزال بكارتها.
3- البعل: المرأة. و في ما، مي: «و الفعل فيهم».
4- في ما: «وطرا».
5- في مي: «فعائله».

4 - أخبار محمد بن وهيب

اشارة

4 - أخبار محمد بن وهيب(1)

شعراء الدولة العباسية

محمد بن وهيب الحميريّ صليبة شاعر من أهل بغداد من شعراء الدولة العباسية، و أصله من البصرة(2)، و له أشعار كثيرة يذكرها فيها و يتشوّقها، و يصف إيطانه إياها و منشأه بها.

مدح الحسن بن رجاء ثم المأمون فأكرمه

(3) و كان يستمنح الناس بشعره، و يتكسّب بالمديح، ثم توسّل إلى الحسن بن سهل بالحسن بن رجاء بن أبي الضّحاك و مدحه، فأوصله إليه و سمع شعره فأعجب به و اقتطعه إليه، و أوصله إلى المأمون حتى مدحه و شفع له فأسنى جائزته، ثم لم يزل منقطعا إليه حتى مات. و كان يتشيّع، و له مراث في أهل البيت.

منزلته

هو متوسط من شعراء طبقته، و في شعره أشياء نادرة فاضلة، و أشياء متكلفة(3).

المعتصم يسمع مديحه و يجيزه دون غيره

أخبرنا محمد بن خلف وكيع، قال: زعم أبو محلّم، و أخبرني عمّي، عن عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى، عن أبي محلّم، قال:

اجتمع الشعراء على باب المعتصم فبعث إليهم محمد بن عبد الملك الزّيات أنّ أمير المؤمنين يقول لكم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل/قول النمريّ في الرشيد:

خليفة اللّه إن الجود أودية *** أحلّك اللّه منها حيث تجتمع

من لم يكن بأمين اللّه معتصما *** فليس بالصلوات الخمس ينتفع

إن أخلف القطر لم تخلف مخايله(3) *** أو ضاق أمر ذكرناه فيتّسع

/فليدخل و إلا فلينصرف، فقام محمد بن وهيب فقال: فينا من يقول مثله، قال: و أيّ شيء قلت ؟ فقال:

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم *** شمس الضّحى و أبو إسحاق و القمر

ص: 52


1- موضع هذه الترجمة هنا كما جاءت في ف و المخطوطات الموثوقة بعد ترجمة مسلم بن الوليد، و جاءت في طبعة بولاق بعد ترجمة عبد اللّه بن العباس الربيعي.
2- في المختار: «من شعراء البصرة». (3-3) التكملة من ف.
3- المخايل من السحب: المنذرة بالمطر. و يقال: ظهرت في فلان مخايل النجابة: دلائلها و مظنتها.

تحكي(1) أفاعيله في كل نائبة *** الغيث و الليث و الصّمصامة الذّكر

فأمر بإدخاله و أحسن جائزته.

رجع الحديث عن صلته بالحسن بن رجاء
اشارة

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن محمد بن مروان بن موسى قال:

حدّثني محمد بن وهيب الشاعر قال:

لما تولّى الحسن بن رجاء بن أبي الضّحاك الجبل قلت فيه شعرا و أنشدته أصحابنا دعبل بن عليّ و أبا سعد المخزوميّ ، و أبا تمام الطائيّ ، فاستحسنوا الشعر و قالوا: هذا لعمري من الأشعار الّتي تلقى بها الملوك، فخرجت إلى الجبل فلما صرت إلى همذان أخبره الحاجب بمكاني فأذن لي فأنشدته الشعر فاستحسن منه قولي:

أجارتنا إنّ التّعفّف بالياس *** و صبرا على استدرار دنيا بإبساس(2)

حريّان ألاّ يقذفا بمذلة *** كريما و ألاّ يحوجاه إلى الناس

أجارتنا إنّ القداح كواذب *** و أكثر أسباب النّجاح مع الياس

فأمر حاجبه بإضافتي فأقمت بحضرته كلما دخلت إليه لم أنصرف إلا بحملان أو خلعة أو جائزة حتى انصرم الصّيف فقال لي: يا محمد إن الشتاء عندنا علج(3) فأعدّ يوما للوداع. فقلت: خدمة الأمير أحبّ إليّ ، فلما كاد الشتاء أن يشتدّ قال لي: هذا أوان(4) الوداع، فأنشدني الثلاثة الأبيات فقد فهمت الشعر كله، فلما أنشدته:

/أجارتنا إن القداح كواذب *** و أكثر أسباب النّجاح مع الياس

قال: صدقت، ثم قال: عدّوا أبيات القصيدة فأعطوه لكل بيت ألف درهم، فعدّت فكانت اثنين و سبعين بيتا، فأمر لي باثنين و سبعين ألف درهم، و كان فيما أنشدته في مقامي و استحسنه قولي:

صوت

دماء المحبّين لا تعقل(5) *** أ ما في الهوى حكم يعدل!

تعبّدني حور الغانيات *** و دان الشباب له الأخطل(6)

و نظرة عين تعلّلتها *** غرارا كما ينظر الأحول

مقسّمة بين وجه الحبيب *** و طرف الرقيب متى يغفل

ص: 53


1- انظر ص 73.
2- الإبساس: التصويت للناقة بلطف لتسكن و تدرّ.
3- في مي: «صعب». و العلج: الشديد.
4- مي: «يوم الوداع».
5- لا تعقل: لا تدفع ديتها.
6- الأخطل: السريع الخفيف أو الأحمق.

(1) في هذه الأبيات هزج طنبوريّ سمعته من جحظة فذكر أنه يراه للمسدود و لم يحقّق صانعه.

قال الأصبهانيّ : و هذه الأبيات له في المطّلب بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ .

قال محمد بن وهيب: و أهدي إلى الحسن بن رجاء غلام فأعجب به فكتبت إليه:

ليهنك الزائر الجديد *** جرى به الطائر السعيد

جاء مشوق إلى مشوق *** فذا ودود و ذا ودود

يوم نعيم و يوم لهو *** خصصت فيه بما تريد

إلف مشوق أتاه ألف *** فمستفاد و مستفيد(1)

/حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار بهذا الحديث، عن يعقوب بن إسرائيل قرقارة، عن محمد بن محمد بن مروان(1) بن موسى، عن محمد بن وهيب، فذكر مثل الّذي قبله و زاد فيه، فلم يزل يستعيدني:

/أجارتنا إن القداح كواذب *** و أكثر أسباب النّجاح مع الياس

و أنا أعيده عليه، فانصرفت من عنده بأكثر مما كنت أؤمل.

دخل على أبي دلف فأعظمه لإعجابه بشعره
اشارة

حدّثني عليّ بن صالح بن الهيثم الأنباريّ الكاتب، قال: حدّثني أبو هفّان، قال: حدّثني خالي، قال:

كنت عند أبي دلف القاسم بن عيسى، فدخل عليه محمد بن وهيب الشاعر فأعظمه جدّا، فلما انصرف قال له أخوه معقل: يا أخي، قد فعلت بهذا ما لم يستحقّه، ما هو في بيت من الشّرف، و لا في كمال من الأدب، و لا بموضع من السلطان، فقال: بلى يا أخي، إنه لحقيق بذلك، أو لا يستحقه و هو القائل:

صوت

يدلّ على أنني عاشق *** من الدمع مستشهد ناطق

ولي مالك أنا عبد له *** مقرّ بأني له وامق

إذا ما سموت إلى وصله *** تعرّض لي دونه عائق

و حاربني فيه ريب الزّمان *** كأنّ الزّمان له عاشق

في هذه الأبيات رمل طنبوريّ أظنّه لجحظة.

هنأ المطلب بن عبد اللّه بعد عودته من الحج فوصله بصلة كبيرة

حدّثني عمّي، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك، قال:

/لما قدم المطّلب بن عبد اللّه بن مالك من الحج لقيه محمد بن وهيب مستقبلا مع من تلقّاه، و دخل إليه مهنئا بالسّلامة بعد استقراره، و عاد إليه في الثالثة(2) فأنشده قصيدة طويلة مدحه بها، يقول فيها:

ص: 54


1- ف: «محمد بن محمد بن هارون».
2- ب: «في الثانية».

و ما زلت أسترعي(1) لك اللّه غائبا *** و أظهر إشفاقا عليك و أكتم

و أعلم أنّ الجود ما غبت غائب *** و أنّ النّدى في حيث كنت مخيّم(2)

إلى أن زجرت الطير سعدا سوانحا *** و حمّ لقاء بالسّعود و مقدم

و ظلّ يناجيني بمدحك خاطر(3) *** و ليلي ممدود الرّواقين أدهم

و قال: طواه الحجّ فاخشع لفقده *** و لا عيش حتى يستهلّ المحرّم

سيفخر ما ضمّ الحطيم و زمزم *** بمطّلب لو أنه يتكلّم

و ما خلقت إلا من الجود كفّه *** على أنها و البأس خدنان توأم

أعدت إلى أكناف مكة بهجة *** خزاعيّة كانت تجلّ و تعظم

ليالي سمّار الحجون إلى الصّفا *** خزاعة إذ خلّت لها البيت جرهم

و لو نطقت بطحاؤها و حجونها *** و خيف منّى و المأزمان(4) و زمزم

إذا لدعت(5) أجزاء جسمك كلها *** تنافس في أقسامه لو تحكّم

و لو ردّ مخلوق إلى بدء خلقه *** إذا كنت جسما بينهن تقسّم

/سما بك منها كل خيف فأبطح *** نما بك(6) منه الجوهر المتقدّم

و حنّ إليك الركن حتى كأنّه *** و قد جئته خلّ عليك مسلّم

قال: فوصله صلة سنية و أهدى له هدية حسنة من طرف ما قدم به و حمله، و اللّه أعلم.

مدح الحسن بن سهل فأطربه و لم يقصد غيره إلى أن مات

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني الحسن بن الحسن بن رجاء، عن أبيه و أهله، /قالوا:

كان محمد بن وهيب الحميريّ لمّا قدم المأمون من خراسان مضاعا مطّرحا، إنما يتصدى للعامة و أوساط الكتّاب(7) و القوّاد بالمديح و يسترفدهم فيحظى باليسير، فلما هدأت الأمور و استقرّت و استوسقت جلس أبو محمد الحسن بن سهل يوما منفردا بأهله و خاصّته و ذوي مودّته و من يقرب من أنسه، فتوسل إليه محمد بن وهيب بأبي حتى أوصله مع الشعراء، فلما انتهى إليه القول استأذن في الإنشاد فأذن له، فأنشده قصيدته الّتي أولها:

ودائع أسرار طوتها السرائر *** و باحت بمكتوماتهنّ النّواظر

ملكت بها(8) طيّ الضمير و تحته *** شبا لوعة عضب الغرارين باتر

ص: 55


1- ب: «أستدعي» و أسترعي لك اللّه: أطلب منه أن يرعاك.
2- ب: «في حيث أنت مخيم».
3- ب: «خاطري».
4- المأزمان: موضع بمكة بين المشعر الحرام و مكة.
5- ف: «إذا لادعت... تنافس في أحكامها».
6- ف: «نصابك منه».
7- مي: «و أوساط الناس من الكتاب».
8- ف: «تمكن في طي الضمير». و في المختار: «ملكن إلى طي الضمير».

فأعجم عنها ناطق و هو معرب *** و أعربت العجم الجفون العواطر(1)

أ لم تغذني السّرّاء في ريّق الهوى(2) *** غريرا بما تجني عليّ الدّوائر

تسالمني الأيّام في عنفوانه *** و يكلؤني طرف من الدهر ناظر

حتى انتهى إلى قوله:

/إلى الحسن الباني العلا يمّمت بنا(3)*** عوالي المنى حيث الحيا المتظاهر

إلى الأمل المبسوط و الأجل الّذي *** بأعدائه تكبوا الجدود العواثر

و من أنبعت عين المكارم كفّه *** يقوم مقام القطر و الروض دائر

تعصّب تاج الملك في عنفوانه *** و أطّت به عصر الشّباب المنابر(4)

تعظّمه(5) الأوهام قبل عيانه *** و يصدر عنه الطّرف و الطّرف حاسر

به تجتدى النّعمى و تستدرك المنى *** و تستكمل الحسنى و ترعى الأواصر

أصات بنا داعي نوالك مؤذنا *** بجودك إلا أنه لا يحاور(6)

قسمت صروف الدهر بأسا و نائلا *** فمالك موتور و سيفك واتر

و لمّا رأى اللّه الخلافة قد وهت *** دعائمها و اللّه بالأمر خابر

بنى بك أركانا عليك محيطة *** فأنت لها دون الحوادث ساتر(7)

و أرعن فيه للسوابغ جنّة *** و سقف سماء أنشأته الحوافر(8)

يعني أنّ على الدروع من الغبار ما قد غشيها فصار كالجنة لها.

لها فلك فيه الأسنّة أنجم *** و نقع المنايا مستطير و ثائر

أجزت قضاء الموت في مهج العدا *** ضحى فاستباحتها المنايا الغوادر

/لك اللّحظات الكالئات قواصدا *** بنعمى و بالبأساء و هي شوازر(9)

و لم لم تكن إلا بنفسك فاخرا *** لما انتسبت إلاّ إليك المفاخر

قال: فطرب أبو محمد حتى نزل عن سريره إلى الأرض و قال: أحسنت و اللّه و أجملت، و لو لم تقل قط

ص: 56


1- في ب: «و أعجبت العجم». و في مي، مد: «الجفون الفواتر». و في ف: «الجفون النواظر».
2- ب: «أ لم تقذني السراء في رتق الهوى».
3- ف: «... المعالي صمت بنا».
4- و أطت المنابر: صوتت. و في ف: «و أطت به غض الشباب المآثر».
5- ب: «تعطفه».
6- ب: «أهاب بنا... بدونك إلا أنه لا يحاور».
7- في المختار: جاء عجز البيت التالي مكان هذا العجز.
8- جيش أرعن: له فضول يشبه رعن الجبل. و يقال: لقوهم بأرعن أي بجيش مضطرب لكثرته. و السوابغ جمع سابغة، و هي الدرع الواسعة. الجنة: السترة. الحوافر جمع حافر، و هو من الدابة بمنزلة القدم للإنسان.
9- في ب: «و بالبأساء فيه شواذر». و الشوازر من شزره و شزر إليه: نظر إليه بمؤخر عينه. و أكثر ما يكون في حال الإعراض أو الغضب.

و لا تقول في باقي دهرك غير هذا لما احتجت إلى القول، و أمر له بخمسة آلاف دينار فأحضرت و اقتطعه إلى نفسه، فلم يزل في جنبته(1) أيّام ولايته و بعد ذلك إلى أن مات ما تصدّى لغيره.

تردد على علي بن هشام فحجبه فهجاه هجاء موجعا

حدّثني أحمد بن جعفر جحظة، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال:

كان/محمد بن وهيب الحميريّ الشاعر قد مدح عليّ بن هشام و تردّد إليه و إلى بابه دفعات، فحجبه و لقيه يوما، فعرض له في طريقه و سلّم عليه، فلم يرفع إليه طرفه، و كان فيه تيه شديد، فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها، فلما وصلت إليه خرّقها و قال: أيّ شيء يريد هذا الثقيل السّيّئ الأدب ؟ فقيل له ذلك فانصرف مغضبا و قال: و اللّه ما أردت ماله و إنما أردت التوسّل بجاهه سيغني اللّه جل و عز عنه، أما و اللّه ليذمّنّ مغبّة فعله. و قال يهجوه:

أزرت بجود عليّ خيفة العدم(2) *** فصدّ منهزما عن شأو ذي الهمم

لو كان من فارس في بيت مكرمة *** أو كان من ولد الأملاك في العجم

أو كان أوله أهل البطاح أو الرّ *** كب الملبّنون إهلالا إلى الحرم

أيام تتّخذ الأصنام آلهة *** فلا ترى عاكفا إلا على صنم

لشجّعته على فعل الملوك لهم *** طبائع لم ترعها خيفة العدم

/لم تند كفّاك(3) من بذل النّوال كما *** لم يند سيفك مذ قلّدته بدم

كنت امرأ رفعته فتنة فعلا *** أيامها غادرا بالعهد و الذّمم

حتى إذا انكشفت عنّا عمايتها(4) *** و رتّب النّاس بالأحساب و القدم

مات التّخلّق و ارتدّتك مرتجعا *** طبيعة نذلة الأخلاق و الشّيم

كذاك من كان لا رأسا و لا ذنبا *** كزّ(5) اليدين حديث العهد بالنّعم

هيهات ليس بحمّال الدّيات و لا *** معطي الجزيل و لا المرهوب ذي النّقم

قال: فحدّثني بعض بني هاشم أنّ هذه الأبيات لمّا بلغت عليّ بن هشام ندم على ما كان منه، و جزع لها و قال: لعن اللّه اللّجاج فإنه شرّ خلق تخلّقه الناس، ثم أقبل على أخيه الخليل بن هشام فقال: اللّه يعلم أني لا أدخل على الخليفة و عليّ السيف إلا و أنا مستح منه، أذكر قول ابن وهيب فيّ :

لم تند كفّاك من بذل النّوال كما *** لم يند سيفك مذ قلّدته بدم

حدثني محمد بن يحيى الصّوليّ ، قال: حدثني ميمون(6) بن هارون، قال: من سمع ابن الأعرابيّ ، يقول:

ص: 57


1- جنبته: ناجيته.
2- ف: «ازردت عليه بجود خيفة العدم».
3- في المختار: «لم تند كفك».
4- في المختار، مي، ب: «غيابتها».
5- في معاهد التنصيص 224:1: «كد اليدين».
6- ف: «محمد بن هارون».

أهجى بيت قاله المحدثون قول محمد بن وهيب:

لم تند كفّاك من بذل النوال كما *** لم يند سيفك مذ قلّدته بدم

تعرض لأعرابية فأجابته جوابا مسكتا

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني محمد بن مرزوق البصريّ ، قال:

/حدثني محمد بن وهيب قال: جلست بالبصرة إلى عطّار فإذا أعرابية سوداء قد جاءت فاشترت من العطّار خلوقا فقلت له: تجدها اشترته لابنتها و ما ابنتها و ما ابنتها إلا خنفساء، فالتفتت إليّ متضاحكة، ثم قالت: لا و اللّه، لكن مهاة جيداء(1)، إن قامت فقناة، و إن قعدت فحصاة، و إن مشت فقطاه، أسفلها كثيب، و أعلاها قضيب، لا كفتياتكم اللواتي تسمّنونهن بالفتوت(2)، ثم انصرفت و هي تقول:

إن الفتوت للفتاة مضرطه *** يكربها في البطن حتى تثلطه(3)

//فلا أعلمني ذكرتها إلا أضحكني ذكرها.

تردد على مجلس يزيد بن هارون ثم تركه

حدثني عيسى بن الحسين الورّاق، قال: حدثنا أبو هفّان، قال:

كان محمد بن وهيب يتردد إلى مجلس يزيد بن هارون، فلزمه عدّة مجالس يملي فيها كلها فضائل أبي بكر و عمر و عثمان رضي اللّه عنهم، لا يذكر شيئا من فضائل عليّ عليه السّلام، فقال فيه ابن وهيب:

آتي يزيد بن هارون أدالجه(4) *** في كل يوم و ما لي و ابن هارون

فليت لي بيزيد حين أشهده *** راحا و قصفا و ندمانا يسلّيني

أغدو إلى عصبة صمّت مسامعهم *** عن الهدى بين زنديق و مأفون

لا يذكرون عليّا في مشاهدهم *** و لا بنيه بني البيض الميامين

/اللّه(5) يعلم أني لا أحبّهم *** كما هم بيقين لا يحبّوني

و يستطيعون عن ذكرى(6) أبا حسن *** و فضله قطّعوني بالسّكاكين

و لست أترك تفضيلي له أبدا *** حتى الممات على رغم الملاعين(7)

ص: 58


1- ب: «لا و اللّه و لكن مهاة خبنداة».
2- فت الشيء: دقه و كسره فهو مفتوت و فتيت و فتوت.
3- ب: «يكربها بالليل» - و يكربها: يشق عليها.
4- أصل المدالجة: السير في آخر الليل، و منه قول البحتري: و من سحر به دالجت فيها تغنم قينة و هبوب ساق و المقصود هنا أسهر معه وقتا طويلا من الليل.
5- مي، مد، ف: «إني لأعلم».
6- مي، ف: «في ذكري».
7- ف: «على رغم المعادين».
مذهبه من شعره

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني إسحاق بن محمد الكوفيّ ، قال: حدثني محمد بن القاسم بن يوسف. و أخبرني به الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا أحمد بن القاسم، قال: حدثني إسحاق، عن محمد بن القاسم بن يوسف قال:

كان محمد بن وهيب يأتي أبي فقال له أبي يوما: إنك تأتينا و قد عرفت مذاهبنا فنحبّ أن تعرّفنا مذهبك فنوافقك أو نخالفك، فقال له: في غد أبيّن لك أمري و مذهبي. فلما كان من غد كتب إليه:

أيّها السّائل قد بيّ *** نت إن كنت ذكيّا

أحمد اللّه كثيرا *** بأياديه عليّا

شاهدا(1) أن لا إله *** غيره ما دمت حيّا

و على أحمد بالصّد *** ق رسولا و نبيّا

و منحت الودّ قربا *** ه و واليت الوصيّا

و أتاني خبر مطّرح *** لم يك شيّا

أن على غير اجتماع *** عقدوا الأمر بديّا

فوقفت القوم تيما *** و عديّا و أميّا

غير شتّام و لكنّي *** تولّيت عليّا

اعتزازه بشعره

حدثني جحظة، قال: حدثني عليّ بن يحيى المنجم، قال:

بلغ محمد بن وهيب أنّ دعبل بن عليّ قال: أنا ابن قولي(2):

لا تعجبي يا سلم من رجل *** ضحك المشيب برأسه فبكى

و أنّ أبا تمام قال: أنا ابن قولي(2):

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل

فقال محمد بن وهيب: و أنا ابن قولي(2):

ما لمن تمّت محاسنه *** أن يعادي طرف من رمقا

/لك أن تبدي لنا حسنا *** و لنا أن نعمل الحدقا

قال أبو الفرج الأصبهانيّ (3): و هذا من جيّد شعره و نادره، و أول هذه الأبيات قوله:

نم فقد وكّلت بي الأرقا *** لاهيا تغري بمن عشقا(4)

ص: 59


1- ف: «شاهد» بدل «شاهدا».
2- في ب: «قال أين قولي».
3- ف: «قال مؤلف هذا الكتاب».
4- ف: «لاهيا بعدا لمن عشقا».

إنّما أبقيت من جسدي *** شبحا غير الّذي خلقا

كنت كالنّقصان في قمر *** ماحقا(1) منه الّذي اتّسقا

و فتى ناداك من كثب *** أسعرت أحشاؤه حرقا(2)

غرقت في الدّمع مقلته *** فدعا إنسانها الغرقا

إنّما عاقبت ناظره *** أن أعاد اللّحظ(3) مسترقا

ما لمن تمّت محاسنه *** أن يعادي طرف من رمقا

/لك أن تبدي لنا حسنا *** و لنا أن نعمل الحدقا

قدحت كفّاك زند هوى *** في سواد القلب فاحترقا

وصف غلمان أحمد بن هشام فوهبه غلاما فمدحه

حدثني عمّي، قال: حدثني أبو عبد اللّه الهشاميّ ، عن أبيه، قال:

دخل محمد بن وهيب على أحمد بن هشام يوما و قد مدحه، فرأى بين يديه غلمانا روقة مردا و خدما بيضا فرّها(4) في نهاية الحسن و الكمال و النظافة، فدهش لما رأى و بقي متبلّدا لا ينطق حرفا، فضحك أحمد منه و قال له:

ما لك ؟ ويحك! تكلّم بما تريد، فقال:

قد كانت الأصنام و هي قديمة *** كسرت و جدّعهنّ إبراهيم

و لديك أصنام سلمن من الأذى *** وصفت لهنّ غضارة(5) و نعيم

و بنا إلى صنم نلوذ بركنه *** فقر و أنت إذا هززت كريم

فقال له: اختر من شئت، فاختار واحدا منهم، فأعطاه إياه، فقال يمدحه:

فضلت مكارمه على الأقوام *** و علا فحاز(6) مكارم الأيّام

و علته أبّهة الجلال كأنّه *** قمر بدا لك من خلال غمام

إنّ الأمير على البريّة كلّها *** بعد الخليفة أحمد بن هشام

الحسن بن سهل يصله بالمأمون فيمدحه

و أخبرني جعفر بن قدامة في خبره الّذي ذكرته آنفا عنه، عن الحسن بن الحسن بن رجاء، عن أبيه، قال:

لمّا قدم المأمون، لقيه أبو محمد الحسن بن سهل، فدخلا جميعا، فعارضهما ابن وهيب و قال:

/اليوم جدّدت النّعماء و المنن *** فالحمد للّه حلّ العقدة الزّمن

ص: 60


1- ب: «ما خفي منه».
2- ف: «... من كرب... ملأت أحشاءه حرقا».
3- ب: «إذ أعاد الطرف».
4- الروقة: الجميل جدا من الغلمان و الجواري - للمذكر و المؤنث و المفرد و المثنى و الجمع. و فره فراهة: جمل و حسن أو حذق و مهر فهو فاره جمعه فرّه.
5- ف: «نضارة». و الغضارة: النعمة و طيب العيش.
6- ف، ب، المختار: «فخار».

اليوم أظهرت الدّنيا محاسنها *** للنّاس لما التقى المأمون و الحسن

قال: فلما جلسا سأله المأمون عنه فقال: هذا رجل من حمير، شاعر مطبوع، اتصل بي متوسلا إلى أمير المؤمنين و طالبا الوصول مع نظرائه، فأمر المأمون بإيصاله مع الشعراء، فلما وقف بين يديه، و أذن له في الإنشاد، أنشده قوله:

طلان طال عليهما الأمد *** دثرا فلا علم و لا نضد

/لبسا البلى فكأنّما وجدا *** بعد الأحبّة مثل ما أجد

حيّيتما طللين، حالهما *** بعد الأحبّة غير ما عهدوا

إمّا طواك(1) سلوّ غانية *** فهواك لا ملل و لا فند

إن كنت صادقة الهوى فردي *** في الحبّ منهلي(2) الّذي أرد

أدمي هرقت و أنت آمنة *** أم ليس لي عقل و لا قود(3)؟

إن كنت فتّ و خانني سبب *** فلربّما يخطئ(4) مجتهد

حتى انتهى إلى قوله في مدح المأمون:

يا خير منتسب لمكرمة *** في المجد حيث تبحبح(5) العدد

في كل أنملة لراحته *** نوء يسحّ و عارض حشد(6)

/و إذا القنا رعفت أسنّته *** علقا و صمّ كعوبها قصد(7)

فكأنّ ضوء جبينه قمر *** و كأنّه في صولة أسد

و كأنّه روح تدبّرنا *** حركاته و كأنّنا جسد

المأمون يستشير فيه الحسن بن سهل ثم يلحقه بجوائز مروان بن أبي حفصة

فاستحسنها المأمون و قال لأبي محمد: احتكم له، فقال: أمير المؤمنين أولى بالحكم، و لكن إن أذن لي في المسألة سألت له، فأما الحكم فلا، فقال: سل، فقال: يلحقه بجوائز مروان بن أبي حفصة، فقال: ذلك و اللّه أردت، و أمر بأن تعدّ أبيات قصيدته و يعطى لكل بيت ألف درهم، فعدّت فكانت خمسين، فأعطي خمسين ألف درهم.

من مدائحه للمأمون

قال الأصبهانيّ : و له في المأمون و الحسن بن سهل خاصة مدائح شريفة نادرة، من عيونها قوله في المأمون في قصيدة أولها:

ص: 61


1- في ف: «إن ماطلوك».
2- في مد: «منهلنا». و في المختار و معاهد التنصيص: «منهله».
3- لا عقل و لا قود أي لا دية و لا قصاص.
4- مد، ف: «فلربما لم يحظ مجتهد».
5- في ب، المختار: «حيث ينتج العدد».
6- النوء: المطر. و العارض: السحاب المعترض في الأفق. و حشد: لا ينقطع ماؤه.
7- العلق: القطعة من العلق للدم، و الرمح الأصم: الصلب المتين، و القصد: جمع قصدة؛ و هي القطعة مما يكسر.

العذر إن أنصفت متّضح *** و شهيد حبّك(1) أدمع سفح

فضحت ضميرك عن ودائعه *** إنّ الجفون نواطق فصح(2)

و إذا تكلّمت العيون(3) على *** إعجامها فالسّر مفتضح

ربما أبيت معانقي قمر *** للحسن فيه مخايل تضح(4)

نشر الجمال على محاسنه *** بدعا و أذهب همّه الفرح

يختال في حلل الشّباب به *** مرح و داؤك أنه مرح

ما زال يلثمني مراشفه *** و يعلّني الإبريق و القدح

/حتى استردّ اللّيل خلعته *** و نشا خلال سواده وضح

و بدا الصّباح كأن غرّته *** وجه الخليفة حين يمتدح

يقول فيها:

نشرت بك الدّنيا محاسنها *** و تزيّنت بصفاتك المدح

و كأنّ ما قد غاب عنك له *** بإزاء طرفك عارضا شبح(5)

و إذا سلمت فكلّ حادثة *** جلل فلا بؤس و لا ترح

مدح المطلب بن عبد اللّه فوصله و أقام عنده مدة
اشارة

/أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدثني أهلنا:

أنّ محمد بن وهيب قصد المطّلب بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ - عمّ أبي - و قد ولي الموصل و كان له صديقا حفيّا، و كان كثير الرّفد له و الثّواب على مدائحه، فأنشده قوله فيه:

صوت

دماء المحبّين لا تعقل *** أ ما في الهوى حاكم(6) يعدل

تعبّدني حور الغانيات *** و دان الشّباب له الأخطل(7)

و نظرة عين تلافيتها *** غرارا كما ينظر الأحول

مقسّمة بين وجه الحب *** يب و طرف الرّقيب متى يغفل

أذمّ على غربات(8) النّوى *** إليك السّلوّ و لا أذهل

ص: 62


1- ف: «و شهود حبك».
2- مي، مد، ب: «فضح».
3- التجريد: «و إذا تكلمت الجفون».
4- مي، مد: «ربما أبيت... مخايل فصح». و في ب: «مخايل نصح». و تضح: تبين و تظهر.
5- ف: «بإزاء طرفك عارض سنح».
6- ب: «حكم يعدل».
7- ب: «الأخطل». و الأخطل: الخفيف السريع أو الأحمق.
8- الغربات جمع غربة، و هي البعد.

و قالوا عزاؤك بعد الفراق *** إذا حمّ مكروهه أجمل

أقيدي دما سفكته العيون *** بإيماض كحلاء لا تكحل

فكلّ سهامك لي مقصد(1) *** و كلّ مواقعها مقتل

سلام على المنزل المستحيل *** و إن ضنّ بالمنطق المنزل

و عضب(2) الضّريبة يلقى الخطوب *** بجدّ عن الدّهر لا ينكل

تغلغل شرقا إلى مغرب *** فلمّا تبدّت له الموصل

ثوى حيث لا يستمال الأريب *** و لا يؤلف اللّقن الحوّل

لدى ملك قابلته السّعود *** و جانبه الأنجم الأفّل

لأيّامه سطوات الزّمان *** و إنعامه حين لا موئل

سما مالك بك للباهرات *** و أوحدك المربأ الأطول

و ليس بعيدا بأن تحتذي(3) *** مذاهب آسادها الأشبل

قال: فوصله و أحسن جائزته و أقام عنده مدة، ثم استأذنه في الانصراف فلم يأذن له، و زاد في ضيافته(4)و جراياته و جدّد له صلة، فأقام عنده برهة أخرى، ثم دخل عليه فأنشده:

ألا هل إلى ظلّ العقيق و أهله(5) *** إلى قصر أوس فالحزير معاد؟

و هل لي بأكناف المصلّى فسفحه *** إلى السّور مغدى ناعم و مراد؟

فلم تنسني نهر الأبلّة نيّة *** و لا عرصات المربدين بعاد(6)

/هنالك لا تبني الكواعب خيمة *** و لا تتهادى كلثم و سعاد

أجدّي(7) لا ألقى النّوى مطمئنّة *** و لا يزدهيني مضجع و مهاد

فقال له: أبيت إلا الوطن و النّزاع إليه! ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، و أوقر له زورقا من طرف الموصل و أذن له.

المأمون يتمثل من شعره

المأمون يتمثل من شعره(8) حدثني محمد بن يحيى الصّولي، قال: حدثني أبو عبد اللّه الماقطانيّ ، عن عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى، عن سعيد بن وهيب، قال:

كان المأمون كثيرا ما يتمثّل إذا كربه الأمر:

ص: 63


1- مقصد: مصيب قاتل.
2- ب: «و غض الضريبة».
3- مد: «و ليس بديعا بأن تحتذي». و في مي: «و ليس عجيبا بأن تحتذى». و في ف: «و ليس بديعا بأن تقتفى».
4- ف، مي: «في إقامته».
5- ب: «ألا هل إليّ فيّ العقيق و ظلّه».
6- ف: «و لا يتهادى بالمرين بعاد».
7- ف: «أجدك لا تلقى النوى».
8- من أول هنا حتى آخر الترجمة ساقط من ب ثابت في ف، مي، مم.

ألا ربّما ضاق الفضاء بأهله *** و أمكن من بين الأسنّة مخرج

قصيدته في ابن عباد وزير المأمون حين أبعده

قال الأصبهانيّ : و هذا الشعر لمحمد بن وهيب يقوله في ابن عبّاد وزير المأمون، و كان له صديقا، فلما ولي الوزارة اطّرحه لانقطاعه إلى الحسن بن سهل فقال فيه قصيدة أوّلها:

تكلّم بالوحي البنان المخضّب *** و للّه شكوى معجم كيف يعرب ؟

أ إيماء أطراف البنان و وجهها *** أباتا له كيف الضّمير المغيّب ؟

و قد كان حسن الظّنّ أنجب مرّة *** فأحمد عقبى أمره المتعقّب

فلما تدبّرت الظّنون(1) مراقبا *** تقلّب حاليها إذا هي تكذب

بدأت بإحسان فلما شكرته *** تنكّرت لي حتى كأنّي مذنب

و كلّ فتى يلقي الخطوب بعزمه *** له مذهب عمّن له عنه مذهب

/و هل يصرع الحبّ الكريم و قلبه *** عليم بما يأتي و ما يتجنّب

تأنّيت حتى أوضح العلم أنّني *** مع الدهر يوما مصعد و مصوّب

و ألحقت أعجاز الأمور صدورها *** و قوّمها غمز القداح المقلّب

و أيقنت أن اليأس للعرض صائن *** و أن سوف أغضي للقذي حين أرغب

أ غادرتني بين الظّنون مميّزا *** شواكل أمر بينهن مجرّب

يقرّبني من كنت أصفيك دونه *** بودّي و تنأى بي فلا أتقرّب

فللّه حظّي منك كيف أضاعه *** سلوّك عنّي و الأمور تقلب

أبعدك أستسقي بوارق مزنة *** و إن جاد هطّل من المزن هيدب(2)

إذا ما رأيت البرق أغضيت دونه *** و قلت إذا ما لاح: ذا البرق خلّب

و إن سنحت لي فرصة لم أسامها *** و أعرضت عنها خوف ما أترقّب

تأدّبت عن حسن الرّجاء فلن أرى *** أعود له إن الزّمان(3) مؤدّب

و قال له أيضا:

هل الهمّ إلا كربة تتفرّج *** لها معقب تحدى إليه و تزعج(4)

و ما الدّهر إلا عائد مثل سالف *** و ما العيش إلا جدّة ثم تنهج(5)

و كيف أشيم البرق و البرق خلّب *** و يطمعني ريعانه المتبلّج(6)

/و كيف أديم الصبر لابي ضراعة *** و لا الرّزق محظور و لا أنا محرج ؟

ص: 64


1- ف: «الأمور».
2- الهيدب: السحاب المتدلى الّذي يدنو من الأرض و يرى كأنه خيوط عند انصبابه.
3- مي، مم: «الرجاء».
4- مي: «هل الدهر» بدل: «هل الهم».
5- المختار: «و ما الدهر إلا غابر». الجدّة: الطريقة. و تنهج: تبلى.
6- المختار: «و مطمعني إنعامه المتبلج». و المبتلج: المنير.

ألا ربّما كان التّصبّر ذلّة *** و أدنى إلى الحال الّتي هي أسمج

و هل يحمل الهمّ الفتى و هو ضامن *** سرى الليل رحّال العشيّات مدلج

و لا صبر ما أعدى على الدّهر مطلب *** و أمكن إدلاج و أصحر منهج(1)

ألا ربّما ضاق الفضاء بأهله *** و أمكن من بين الأسنّة مخرج

و قد يركب الخطب الّذي هو قاتل *** إذا لم يكن إلا عليه معرّج

مدح الأفشين فأجازه المعتصم

حدثني بعض أصحابنا عن أحمد بن أبي كامل قال:

كان محمد بن وهيب تيّاها شديد الذّهاب بنفسه، فلمّا قدم الأفشين - و قد قتل بابك - مدحه بقصيدته الّتي أوّلها:

طلول و مغانيها *** تناجيها و تبكيها

يقول فيها:

بعثت الخيل، و الخير *** عقيد في نواصيها

و هي من جيّد شعره، فأنشدناها ثم قال: ما لها عيب سوى أنها لا أخت لها.

قال: و أمر المعتصم للشعراء الذين مدحوا الأفشين بثلاثمائة ألف درهم جرت تفرقتها على يد ابن أبي دواد، فأعطى منها محمد بن وهيب ثلاثين ألفا، و أعطى أبا تمّام عشرة آلاف درهم. قال ابن أبي كامل: فقلت لعليّ بن يحيى المنجّم: أ لا تعجب من هذا الحظّ؟ يعطى أبو تمام عشرة آلاف و ابن وهيب ثلاثين ألفا، و بينهما كما بين السماء و الأرض. /فقال: لذلك علّة لا تعرفها؛ كان ابن وهيب مؤدّب الفتح بن خاقان، فلذلك وصل إلى هذه الحال.

يذكر الدنيا و يصف حاله و هو عليل

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ . قال: حدثني أبو زكوان، قال:

حدثني من دخل إلى محمد بن وهيب يعوده و هو عليل قال: فسألته عن خبره فتشكّى ما به ثم قال:

نفوس المنايا بالنّفوس تشعّب *** و كلّ له من مذهب الموت مذهب

نراع لذكر الموت ساعة ذكره *** و تعترض الدّنيا فنلهو و نلعب

و آجالنا في كلّ يوم و ليلة *** إلينا على غرّاتنا تتقرّب

أ أيقن أنّ الشيب ينعى حياته *** مدرّ لأخلاف الخطيئة مذنب

يقين كأنّ الشّكّ أغلب أمره *** عليه و عرفان إلى الجهل ينسب

و قد ذمّت الدّنيا إليّ نعيمها *** و خاطبني إعجامها و هو معرب

ص: 65


1- البيت من نسختي مي، مم. و جاء مكان هذا البيت في المختار: أبي لي إغضاء الجفون على القذى يقيني ألاّ عسر إلا سيفرج و أصحر: اتسع.

و

لكنّني منها خلقت لغيرها *** و ما كنت منه فهو عندي(1) محبّب

ابن أبي فنن و أبو يوسف الكندي يطعنان عليه فيرد عليهما من ينصفه

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني أحمد بن أبي كامل، قال:

كنّا في مجلس و معنا أبو يوسف الكنديّ و أحمد بن أبي فنن، فتذاكرنا شعر محمد بن وهيب فطعن عليه ابن أبي فنن و قال: هو متكلّف حسود، إذا أنشد شعرا لنفسه قرظه و وصفه في نصف يوم و شكا أنّه مظلوم منحوس الحظّ و أنّه لا تقصّر به عن مراتب القدماء حال، فإذا أنشد شعر غيره حسده، و إن كان على نبيذ عربد عليه، و إن كان صاحيا عاداه و اعتقد فيه كلّ مكروه. فقلت له: كلاكما لي صديق، و ما أمتنع من/وصفكما جميعا بالتّقدّم و حسن الشعر، فأخبرني عمّا أسألك عنه إخبار منصف، أو يعدّ متكلّفا من يقول:

أبي لي إغضاء الجفون على القذى *** يقيني أن لا عسر إلاّ مفرّج

ألا ربّما ضاق الفضاء بأهله *** و أمكن من بين الأسنّة مخرج ؟

أو يعدّ متكلّفا من يقول:

رأت وضحا من مفرق الرأس راعها *** شريحين مبيضّ به و بهيم ؟

فأمسك ابن أبي فنن، و اندفع الكنديّ فقال: كان ابن وهيب ثنويّا. فقلت له: من أين علمت ذاك ؟ أكلّمك على مذهب الثّنويّة قطّ؟ قال: لا، و لكني استدللت من شعره على مذهبه، فقلت: حيث يقول ما ذا؟ فقال: حيث يقول:

طللان طال عليهما الأمد

و حيث يقول:

تفترّ عن سمطين من ذهب

إلى غير ذلك مما يستعمله في شعره من ذكر الاثنين.

فشغلني و اللّه الضّحك عن جوابه. و قلت له: يا أبا يوسف، مثلك لا ينبغي أن يتكلّم فيما لم ينفذ فيه علمه.

يستنجز محمد بن عبد الملك الزيات حاجته
اشارة

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدّثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ، عن أبيه، قال:

سأل محمد بن وهيب محمد بن محمد بن عبد الملك الزّيّات حاجة فأبطأ فيها، فوقف عليه ثم قال له:

/طبع الكريم على وفائه *** و على التّفضّل في إخائه

تغني عنايته الصّديق *** عن التّعرّض لاقتضائه

حسب الكريم حياؤه(2)*** فكل الكريم إلى حيائه(2)

فقال له: حسبك فقد بلغت إلى ما أحببت(3)، و الحاجة تسبقك إلى منزلك. و وفى له بذلك.

ص: 66


1- المختار: «فهو شيء محبب».
2- و في التجريد: «.... حباؤه... حبائه» بدل: «حياؤه... حياته...».
3- ف: «فقد حثثت فأبلغت». و في التجريد: «قد حنّنت فأبلغت».
صوت

وددت على ما كان من سرف الهوى *** و غيّ الأماني أنّ ما شئت يفعل

/فترجع أيّام تقضّت و لذّة *** تولّت، و هل يثنى من الدّهر(1) أوّل!

الشعر لمزاحم العقيليّ ، و الغناء لمقاسة بن ناصح، خفيف رمل بالبنصر عن الهشاميّ . قال الهشاميّ . قال الهشاميّ : و فيه لأحمد بن يحيى المكّيّ رمل.

ص: 67


1- ب، س: «من العيش».

5 - أخبار مزاحم و نسبه

نسبه

هو مزاحم بن عمرو(1) بن الحارث بن مصرّف بن الأعلم بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن.

و قيل: مزاحم بن عمرو بن مرّة بن الحارث بن مصرّف بن الأعلم، و هذا القول عندي أقرب إلى الصواب.

بدويّ شاعر فصيح إسلاميّ ، صاحب قصيد و رجز، كان في زمن جرير و الفرزدق. و كان جرير يصفه و يقرّظه و يقدّمه.

بيتان له تمنى جرير أنهما له

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيديّ ، عن إسحاق الموصليّ ، قال:

قال لي عمارة بن عقيل: كان جرير يقول: ما من بيتين كنت أحبّ أن أكون سبقت إليهما غير بيتين من قول مزاحم العقيليّ :

وددت على ما كان من سرف الهوى *** و غيّ الأماني أنّ ما شئت يفعل

فترجع أيّام مضين و لذّة *** تولّت و هل يثنى من العيش أوّل!

قال المفضّل: قال إسحاق: سرف الهوى: خطؤه، و مثله قول جرير:

أعطوا هنيدة(2) تحدوها ثمانية *** ما في عطائهم منّ و لا سرف

/أراد أنهم يحفظون(3) مواضع الصنائع، لا أنه وصفهم بالاقتصاد و التوسّط في الجود.

إسحاق يعجب بشعره

قال إسحاق: و واعدني زياد الأعرابيّ موضعا من المسجد، فطلبته فيه فلم أجده، فقلت له بعد ذلك: طلبتك لموعدك(4) فلم أجدك. فقال: أين طلبتني ؟ فقلت: في موضع كذا و كذا، فقال: هناك و اللّه سرفتك، أي أخطأتك.

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال:

ص: 68


1- مي، ف: «مزاحم بن الحارث بن مصرف»، و في الخزانة 45:3: «مزاحم بن الحارث: شاعر إسلامي من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة».
2- هنيدة: مائة من الإبل.
3- ف: «لا يخطئون» بدل «يحفظون». و في ب: «أراد أنهم لا يخطئون مواضع الصنائع إلا أنه...».
4- مي: «لموضعك».

أنشدني حماد عن أبيه لمزاحم العقيليّ قال - و كان يستجيدها و يستحسنها -:

لصفراء في قلبي من الحبّ شعبة *** حمى لم تبحه الغانيات صميم(1)

بها حلّ بيت الحبّ ثم ابتنى بها *** فبانت بيوت الحيّ و هو مقيم

بكت دارهم من نأيهم فتهلّلت *** دموعي فأيّ الجازعين ألوم!

أ مستعبرا يبكي من الحزن و الجوى *** أم آخر يبكي شجوه فيهيم ؟

تضمّنه من حبّ صفراء بعد ما *** سلا هيضات الحب فهو كليم(2)

و من يتهيّض(3) حبّهن فؤاده *** يمت أو يعش ما عاش و هو سقيم

كحرّان صاد ذيد عن برد مشرب *** و عن بللات الرّيق(4) فهو يحوم

منعه عمه من زواجه بابنته لفقره

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا أبو سعيد السّكّري، قال: أخبرنا محمد بن حبيب، عن ابن أبي الدّنيا العقيليّ - قال ابن حبيب: و هو صاحب الكسائيّ و أصحابنا - قال:

كان مزاحم العقيليّ خطب ابنة عم له دنية(5) فمنعه أهلها لإملاقه و قلة ماله، و انتظروا/بها/رجلا موسرا في قومها كان يذكرها و لم يحقق، و هو يومئذ غائب. فبلغ ذلك مزاحما من فعلهم، فقال لعمّه: يا عمّ ، أ تقطع رحمي و تختار عليّ غيري لفضل أباعر تحوزها و طفيف من الحظ تحظى به! و قد علمت أني أقرب إليك من خاطبها الّذي تريده، و أفصح منه لسانا، و أجود كفّا، و أمنع جانبا، و أغنى عن العشيرة! فقال له: لا عليك فإنها إليك صائرة، و إنما أعلّل أمّها بهذا، ثم يكون أمرها لك، فوثق به.

تزوجت ابنة عمه في غيابه فقال فيها شعرا

و أقاموا مدة، ثم ارتحلوا و مزاحم غائب، و عاد الرجل الخاطب لها فذاكروه(6) أمرها، فرغب فيها، فأنكحوه إياها، فبلغ ذلك مزاحما فأنشأ يقول:

نزلت بمفضى سيل حرسين و الضّحى *** يسيل بأطراف المخارم آلها(7)

بمسقيّة الأجفان أنفد دمعها *** مقاربة الألاّف ثمّ زيالها(8)

فلما نهاها اليأس أن تؤنس الحمى *** حمى البئر جلّى عبرة العين جالها(9)

ص: 69


1- ب: «سموم». و في مي، مد: «جموم». و في ب: «لم تبحه الغانيات سموم».
2- ب: «فهو كظيم». و الهيضات جمع هيضة، و هي معاودة الهم و الحزن.
3- تهيضه الغرام: عاوده مرة بعد أخرى.
4- مي: «نهلات الريق».
5- ابنة عم له دنية أي، لاصقة النسب.
6- ب: «فذكروا».
7- حرس: من مياه بني عقيل بنجد. و المخارم: الطرق في الغليظ من الأرض. و في مي، مد، ف: «نظرت» بدل: «نزلت». و في ب: «يسير بأيام المخارم».
8- ف: «مفارقة الألاف».
9- مي، ف: «حمى البين جلى عبرة البين جالها».

أ يا ليل إن تشحط بك الدار غربة *** سوانا و يعيي النّفس فيك احتيالها

فكم ثم كم من عبرة قد رددتها *** سريع على جيب القميص انهلالها(1)

خليليّ هل من حيلة تعلمانها *** يقرّب من ليلى إلينا احتيالها

فإنّ بأعلى الأخشبين أراكة *** عدتني عنها الحرب دان ظلالها

و في فرعها لو تستطاع جنابها *** جنى يجتنيه المجتني لو ينالها

هنيئا لليلى مهجة ظفرت بها *** و تزويج ليلى حين حان ارتحالها

/فقد حبسوها محبس البدن و ابتغى *** بها الرّبح أقوام تساخف مالها(2)

فإنّ مع الرّكب الذين تحمّلوا *** غمامة صيف زعزعتها شمالها

سجنه ثم هربه

و قال محمد بن حبيب في خبره، قال ابن الأعرابيّ :

وقع بين مزاحم العقيلي و بين رجل من بني جعدة لحاء في ماء فتشاتما و تضاربا بعصيّهما، فشجّه مزاحم شجّة أمّته(3)، فاستعدت بنو جعدة على مزاحم فحبس حبسا طويلا، ثم هرب من السّجن، فمكث في قومه مدة، و عزل ذلك الوالي و ولى غيره، فسأله ابن عمّ لمزاحم يقال له مغلّس أن يكتب أمانا لمزاحم، فكتبه له، و جاء مغلّس و الأمان معه، فنفر مزاحم منه و ظنّها خيلة من السّلطان، فهرب و قال في ذلك:

أتاني بقرطاس الأمير مغلّس *** فأفزع قرطاس الأمير فؤاديا

فقلت له: لا مرحبا بك مرسلا *** إليّ و لا لي من أميرك داعيا(4)

أ ليست جبال القهر قعسا مكانها *** و عروى و أجبال الوحاف كما هيا؟(5)

أخاف ذنوبي أن تعدّ ببابه *** و ما قد أزلّ الكاشحون أماميا

و لا أستريم عقبة الأمر بعد ما *** تورّط في بهماء كعبي و ساقيا(6)

هوى امرأة من قومه و تزوجت غيره

أخبرني محمد بن مزيد، و أحمد بن جعفر جحظة، قالا: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

كان مزاحم العقيليّ يهوى امرأة من قومه يقال لها ميّة، فتزوّجت رجلا كان/أقرب إليها من مزاحم، فمر عليها بعد أن دخل بها زوجها، فوقف عليها ثم قال:

/أيا شفتي ميّ أ ما من شريعة *** من الموت إلا أنتما توردانيا!

و يا شفتي ميّ أمالي إليكما *** سبيل و هذا الموت قد حلّ دانيا!

ص: 70


1- ف: «انهمالها».
2- تساخف مالها: رق حالها.
3- أمته: أصابت أم دماغه.
4- ف، مي: «و لا لبّى أميرك».
5- قعسا جمع أقعس أي ثابتة. و في مد: «تمسي مكانها».
6- مد، ف: «و لا أستديم... تورّط بي و هنا بكعبي و ساقيا».

و يا شفتي ميّ أ ما تبذلان لي *** بشيء و إن أعطيت أهلي و ماليا!

فقالت: أعزز عليّ يا بن عمّ بأن تسأل ما لا سبيل إليه، و هذا أمر قد حيل دونه، فاله عنه. فانصرف.

جرير يتمنى أن يكون له بعض شعر مزاحم

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد النّحويّ ، قال:

حدّثني عمارة بن عقيل قال: قال لي أبي: قال عبد الملك بن مروان لجرير: يا أبا حرزة، هل تحب أن يكون لك بشيء من شعرك شيء من شعر غيرك ؟ قال: لا، ما أحبّ ذلك، إلا أنّ غلاما ينزل الرّوضات من بلاد بني عقيل يقال له مزاحم العقيليّ ، يقول حسنا من الشعر(1) لا يقدر أحد من أن يقول مثله، كنت أحبّ أن يكون لي بعض شعره مقايضة ببعض شعري.

هوى امرأة من قومه يقال لها ليلى و تزوجت غيره
اشارة

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثني عمّي، عن العبّاس بن هشام، عن أبيه، قال:

كان مزاحم العقيليّ يهوى امرأة من قومه يقال لها ليلى، فغاب غيبة عن بلاده، ثم عاد و قد زوّجت، فقال في ذلك:

أتاني بظهر الغيب أن قد تزوّجت *** فظلّت بي الأرض الفضاء تدور

و زايلني لبّي و قد كان حاضرا *** و كاد جناني عند ذاك يطير

فقلت و قد أيقنت أن ليس بيننا *** تلاق و عيني بالدموع(2) تمور

/أ يا سرعة الأخبار حين تزوّجت *** فهل يأتينّي بالطّلاق بشير

و لست بمحص حبّ ليلى لسائل *** من النّاس إلا أن أقول كثير

صوت

لها في سواد القلب تسعة أسهم *** و للناس طرّا من هواي عشير(3)

قال ابن الكلبيّ : و من الناس من يزعم أنّ ليلى هذه التي يهواها مزاحم العقيليّ هي التي كان يهواها المجنون، و أنهما اجتمعا هو و مزاحم في حبّها.

هوى امرأة أخرى من قشير و تزوجت غيره

قال الأصبهانيّ : و قد أخبرني بشرح هذا الخبر الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، عن عليّ بن الصّباح، عن ابن الكلبيّ ، قال:

كان مزاحم بن مرّة العقيلي يهوي امرأة(4) من قشير يقال لها ليلى بنت موازر، و يتحدّث إليها مدة حتى شاع أمرهما، و تحدّثت جواري الحيّ به، فنهاه أهلها عنها، و كانوا متجاورين، و شكوه إلى الأشياخ من قومه فنهوه

ص: 71


1- مي، مد: «وحشيّا من الشعر».
2- مي: «و عيني بالدماء».
3- عشير، أي جزء من العشرة.
4- ف: «جارية من قشير».

و اشتدّوا عليه، فكان يتفلّت إليها في أوقات الغفلات، فيتحدّثان و يتشاكيان، ثم انتجعت بنو قشير في ربيع لهم ناحية غير تلك قد نضّرها غيث و أخصبها، فبعد عليه خبرها و اشناقها، فكان يسأل عنها كلّ وارد، و يرسل إليها بالسلام مع كل صادر، حتى ورد عليه يوما راكب من قومها، فسأله عنها فأخبره أنها خطبت فزوّجت، فوجم طويلا ثم أجهش باكيا و قال:

أتاني بظهر الغيب أن قد تزوّجت *** فظلّت بي الأرض الفضاء تدور

و ذكر الأبيات الماضية.

/و قد أنشدني هذه القصيدة لمزاحم ابن أبي الأزهر، عن حمّاد/عن أبيه، فأتى بهذه الأبيات و زاد فيها:

و تنشر نفسي بعد موتي بذكرها *** مرارا فموت مرّة و نشور

عججت لربي عجّة(1) ما ملكتها *** و ربّي بذي الشّوق الحزين بصير

ليرحم ما ألقى و يعلم أنّني *** له بالذي يسدي إليّ شكور

لئن كان يهدى برد أنيابها العلا *** لأحوج منّي إنّني لفقير

الفرزدق و جرير و ذو الرمة يفضلونه على أنفسهم
اشارة

حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبو أيوب المدينيّ ، قال: قال أبو عدنان:

أخبرنا تميم بن رافع قال: حدّثت أنّ الفرزدق دخل على عبد الملك بن مروان - أو بعض بنيه - فقال له:

يا فرزدق، أ تعرف أحدا أشعر منك ؟ قال: لا، إلا غلاما من بني عقيل، يركب أعجاز الإبل و ينعت الفلوات فيجيد، ثم جاءه جرير فسأله عن مثل ما سأل عنه الفرزدق فأجابه بجوابه، فلم يلبث أن جاءه ذو الرّمة فقال له: أنت أشعر النّاس ؟ قال: لا، و لكن غلام من بني عقيل يقال له مزاحم يسكن الرّوضات ؟ يقول وحشيّا من الشعر لا يقدر على مثله، فقال: فأنشدني بعض ما تحفظ من ذلك، فأنشده قوله:

خليليّ عوجا بي على الدار نسأل *** متى عهدها بالظّاعن المترحّل(2)

فعجت و عاجوا فوق بيداء موّرت(3) *** بها الريح جولان التراب المنخّل

حتى أتى على آخرها ثم قال: ما أعرف أحدا يقول قولا يواصل هذا.

صوت

أكذّب طرفي عنك في كلّ ما أرى *** و أسمع أذني منك ما ليس تسمع

فلا كبدي تبلى و لا لك رحمة *** و لا عنك إقصار و لا فيك مطمع

لقيت أمورا فيك لم ألق مثلها *** و أعظم منها فيك ما أتوقع

فلا تسأليني في هواك زيادة *** فأيسره يجزي و أدناه يقنع

الشعر لبكر بن النّطّاح، و الغناء لحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى عن الهشاميّ .

ص: 72


1- عج الرجل: صاح و رفع صوته، و في ف: حججت لربي حجة.
2- في الخزانة 45:3: «بالظاعن المتحمل».
3- مي، مد: «صفقت»، و موّرت: أثارت.

6 - أخبار بكر بن النطاح و نسبه

اسمه و نسبه

بكر بن النطّاح الحنفيّ (1). يكنى أبا وائل، هكذا أخبرنا وكيع عن عبد اللّه بن شبيب، و ذكر غيره أنه عجليّ من بني سعد بن عجل، و احتجّ من ذكر أنه عجليّ بقوله:

فإن يك جدّ القوم فهر بن مالك *** فجدّي عجل قرم بكر بن وائل

و أنكر ذلك من زعم أنه حنفيّ و قال: بل قال:

فجدّي لجيم قرم بكر بن وائل

و عجل بن لجيم و حنيفة بن لجيم أخوان.

و كان بكر بن النطّاح صعلوكا يصيب الطّريق، ثم أقصر عن ذلك، فجعله أبو دلف من الجند، و جعل له رزقا سلطانيّا، و كان شجاعا بطلا فارسا شاعرا حسن الشّعر و التصرّف فيه، كثير الوصف لنفسه بالشجاعة و الإقدام.

قصته مع أبي دلف

/فأخبرني الحسن بن عليّ (2)، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني أبي، قال:

قال بكر بن النّطّاح الحنفيّ قصيدته التي يقول فيها:

هنيئا لإخواني ببغداد عيدهم *** و عيدي بحلوان قراع الكتائب

و أنشدها أبا دلف فقال له: إنك لتكثر الوصف لنفسك بالشّجاعة، و ما رأيت لذلك عندك أثرا قطّ، و لا فيك، فقال له: أيّها الأمير و أيّ غناء يكون عند الرجل الحاسر الأعزل ؟ فقال: أعطوه فرسا و سيفا و ترسا و درعا و رمحا، فأعطوه ذلك أجمع، فأخذه و ركب الفرس و خرج على وجهه، فلقيه مال لأبي دلف يحمل من بعض ضياعه، فأخذه /و خرج جماعة من غلمانه فمانعوه عنه، فجرحهم جميعا و قطعهم و انهزموا. و سار بالمال، فلم ينزل إلا على عشرين فرسخا، فلما اتصل خبره بأبي دلف قال: نحن جنينا على أنفسنا، و قد كنّا أغنياء عن إهاجة أبي وائل، ثم كتب إليه بالأمان، و سوّغه المال، و كتب إليه: صر إلينا فلا ذنب لك، لأنا نحن كنا سبب فعلك بتحريكنا إياك و تحريضنا؛ فرجع و لم يزل معه يمتدحه، حتى مات.

ص: 73


1- في تاريخ بغداد 90:7: بكر بن النطاح بن أبي حمار الحنفي.
2- ف: «عليّ بن الحسين».
قصته مع الرشيد و يزيد بن مزيد

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني محمد بن موسى، قال: حدّثني الحسن بن إسماعيل، عن ابن الحفصيّ ، قال: قال يزيد بن مزيد:

وجّه إليّ الرشيد في وقت يرتاب فيه البريء، فلمّا مثلت بين يديه قال: يا يزيد، من الّذي يقول:

و من يفتقر منّا يعش بحسامه *** و من يفتقر من سائر النّاس يسأل

فقلت له: و الّذي شرّفك و أكرمك بالخلافة ما أعرفه، قال: فمن الّذي يقول:

و إن يك جدّ القوم فهر بن مالك *** فجدّي لجيم قرم بكر بن وائل

قلت: لا و الّذي أكرمك و شرّفك يا أمير المؤمنين ما أعرفه، قال: و الّذي كرّمني و شرّفني إنك لتعرفه، أ تظن يا يزيد أني إذا أوطأتك بساطي و شرّفتك بصنيعتي أني أحتملك على هذا؟ أو تظن أني لا أراعي أمورك و أتقصّاها، و تحسب أنه يخفى عليّ شيء منها؟ و اللّه إن عيوني لعليك في خلواتك و مشاهدك، هذا جلف من أجلاف ربيعة عدا طوره و ألحق قريشا بربيعة فأتني به. فانصرفت و سألت عن قائل الشعر، فقيل لي: هو بكر بن النطاح، و كان أحد أصحابي، فدعوته و أعلمته ما كان من الرشيد، فأمرت له بألفي درهم، و أسقطت اسمه من الديوان، و أمرته ألا يظهر ما دام الرّشيد حيّا، فما ظهر حتى مات الرشيد، فلما مات ظهر، فألحقت اسمه و زدت في عطائه(1).

شعره في جارية تدعى رامشنة

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثني محمد بن حمزة العلويّ ، قال: حدّثني أبو غسّان دماذ، قال:

حضرت بكر بن النّطّاح الحنفيّ في منزل بعض الحنفيّين، و كانت للحنفيّ جارية يقال لها رامشنة، فقال فيها بكر بن النطاح:

حيّتك بالرّامشن رامشنة *** أحسن من رامشنة الآس

جارية لم يقتسم بضعها *** و لم تبت(2) في بيت نخّاس

أفسدت إنسانا على أهله *** يا مفسد النّاس على النّاس

/و قال فيها:

أكذّب طرفي عنك و الطّرف صادق *** و أسمع أذني منك ما ليس تسمع

و لم أسكن الأرض التي تسكنينها *** لكي لا يقولوا صابر ليس يجزع

فلا كبدي تبلى و لا لك رحمة *** و لا عنك إقصار و لا فيك مطمع

لقيت أمورا فيك لم ألق مثلها *** و أعظم منها منك ما أتوقّع

فلا تسأليني في هواك زيادة *** فأيسره يجزي و أدناه يقنع

ص: 74


1- مي، مد، ف: «و زدت في إنزاله».
2- ف، مي، مد: «تقم»، بدل: «تبت».
المأمون يعجب بشعره و ينقد سلوكه

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، عن عليّ بن الصّباح - و أظنه مرسلا و أن بينه و بينه ابن أبي سعد أو غيره، لأنه لم يسمع من عليّ بن الصبّاح - قال: حدّثني أبو الحسين الراوية، قال لي المأمون:

أنشدني أشجع بيت و أعفّه و أكرمه من شعر المحدثين، فأنشدته:

و من يفتقر منّا يعش بحسامه *** و من يفتقر من سائر النّاس يسأل

و إنّا لنلهو بالسّيوف كما لهت *** عروس بعقد أو سخاب(1) قرنفل

/فقال: ويحك! من يقول هذا؟ فقلت: بكر بن النطّاح، فقال: أحسن و اللّه، و لكنه قد كذب في قوله، فما باله يسأل أبا دلف و يمتدحه و ينتجعه! هلاّ أكل خبزه بسيفه كما قال!.

مدح أبا دلف فأعطاه جائزة
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني أبو الحسن الكسكريّ (2)، قال:

بلغني أن أبا دلف لحق أكرادا قطعوا الطّريق في عمله، و قد أردف منهم فارس رفيقا له خلفه، فطعنهما جميعا فأنفذهما، فتحدّث الناس بأنه نظم(3) بطعنة واحدة فارسين على فرس، فلما قدم من وجهه دخل إليه بكر بن النّطّاح فأنشده:

صوت

قالوا: و ينظم فارسين بطعنة *** يوم اللّقاء و لا يراه جليلا

لا تعجبوا فلو أنّ طول قناته *** ميل إذا نظم الفوارس ميلا(4)

قال: فأمر له أبو دلف بعشرة آلاف درهم، فقال بكر فيه:

له راحة لو أنّ معشار جودها *** على البرّ كان البرّ أندى من البحر

و لو أنّ خلق اللّه في جسم فارس *** و بارزه كان الخليّ من العمر

أبا دلف بوركت في كل بلدة *** كما بوركت في شهرها ليلة القدر

عشق غلاما نصرانيا و قال فيه شعرا

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، و عيسى بن الحسين، قالا: حدّثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدّثني أبو زائدة، قال:

/كان بكر بن النّطّاح الحنفيّ يتعشّق غلاما نصرانيّا و يجنّ به، و فيه يقول:

ص: 75


1- سخاب قرنفل: عقد قرنفل.
2- ف: «العسكري». و في مد: «الكسكوبي». و الكسكري نسبة إلى كسكر: كورة واسعة بالقرب من البصرة.
3- ف: «أنه أنفذ بطعنة واحدة».
4- في فوات الوفيات 79:1: «لا تعجبن لو كان مد قناته... ميلا...».

يا من إذا درس الإنجيل كان له *** قلب التّقيّ عن القرآن منصرفا

إنّي رأيتك في نومي تعانقني *** كما تعانق لام الكاتب الألفا

رده أبو دلف فغضب عليه و انصرف عنه

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ ، قال: حدّثني الحسن بن عبد الرحمن/الرّبعيّ (1)، قال:

كان بكر بن النّطّاح يأتي أبا دلف في كل سنة، فيقول له: إلى جنب أرضي أرض تباع و ليس يحضرني ثمنها، فيأمر له بخمسة آلاف درهم و يعطيه ألفا لنفقته(2)، فجاءه في بعض السنين فقال له مثل ذلك، فقال له أبو دلف:

ما تفنى هذه الأرضون الّتي إليها جانب ضيعتك(3)! فغضب و انصرف عنه، و قال:

يا نفس لا تجزعي من التّلف *** فإن في اللّه أعظم الخلف

إن تقنعي باليسير تغتبطي *** و يغنك اللّه عن أبي دلف

رده قرّة بن محرز فغضب عليه و انصرف عنه كذلك

قال: و كان بكر بن النّطّاح يأتي قرّة بن محرز الحنفيّ بكرمان فيعطيه عشرة آلاف درهم، و يجري عليه في كل شهر يقيم عنده ألف درهم، فاجتاز به قرّة يوما و هو ملازم في السّوق و غرماؤه يطالبونه بدين، فقال له: ويحك! أ ما يكفيك ما أعطيك حتى تستدين و تلازم في السّوق! فغضب عليه و انصرف عنه و أنشأ يقول:

ألا يا قرّ لا تك سامريّا(4) *** فتترك من يزورك في جهاد

أتعجب أن رأيت عليّ دينا *** و قد أودى الطّريف مع التّلاد

ملأت يدي من الدّنيا مرارا *** فما طمع العواذل في اقتصادي

و لا وجبت عليّ زكاة مال *** و هل تجب الزّكاة على جواد!

مدح أبا دلف ببيتين فأعطاه جائزة

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

كنت يوما عند عليّ بن هشام، و عنده جماعة فيهم عمارة بن عقيل، فحدّثته أنّ بكر بن النطّاح دخل إلى أبي دلف و أنا عنده، فقال لي أبو دلف: يا أبا محمد أنشدني مديحا فاخرا تستطرفه، فبدر إليه بكر و قال: أنا أنشدك أيها الأمير بيتين قلتهما فيك في طريقي هذا إليك و أحكّمك، فقال: هات، فإن شهد لك أبو محمد رضينا، فأنشده:

إذا كان الشّتاء فأنت شمس *** و إن حضر المصيف(5) فأنت ظلّ

و ما تدري إذا أعطيت مالا *** أ تكثر في سماحك أم تقل

ص: 76


1- ف، ب: «الحسن بن عبد اللّه بن الربعيّ ».
2- ف، مي: «لنفقتها».
3- مي، مد: «أرضك».
4- سامري، منسوب إلى السامريّ ، من قوم موسى الّذي جعل من الذهب عجلا يعبد.
5- فوات الوفيات 79:1: «و إن كان المصيف...».

فقلت له: أحسن و اللّه ما شاء و وجبت مكافأته، فقال: أما إذ رضيت فأعطوه عشرة آلاف درهم، فحملت إليه، و انصرفت إلى منزلي، فإذا أنا بعشرين ألفا قد سبقت إليّ ، وجّه بها أبو دلف، قال: فقال عمارة لعليّ بن هشام: فقد قلت أنا في قريب من هذه القصّة:

و لا عيب فيهم غير أنّ أكفّهم *** لأموالهم مثل السّنين الحواطم(1)

و أنهم لا يورثون بذيهم *** - و إن ورثوا خيرا - كنوز الدّراهم

رثى معقل بن عيسى

أخبرني عمّي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة، قال:

كان معقل بن عيسى صديقا لبكر بن النطّاح، و كان بكر فاتكا صعلوكا، فكان لا يزال قد أحدث حادثة في عمل أبي دلف، أو جنى جناية، فيهمّ به فيقوم دونه معقل حتى يتخلّصه، فمات معقل فقال بكر بن النطاح يرثيه بقوله:

/و حدّث عنه بعض من قال إنّه *** رأت عينه فيما ترى عين حالم(2)

/كأنّ الّذي يبكي على قبر معقل(3)*** و لم يره يبكي على قبر حاتم

و لا قبر كعب إذ يجود بنفسه *** و لا قبر حلف الجود قيس بن عاصم

فأيقنت أنّ اللّه فضّل معقلا *** على كل مذكور بفضل المكارم

هجاه عباد بن الممزق لبخله

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا الكرانيّ ، قال: حدّثني العمريّ ، قال:

كان بكر بن النّطاح الحنفيّ أبو وائل بخيلا، فدخل عليه عبّاد بن الممزّق يوما، فقدّم إليه خبزا يابسا قليلا بلا أدم، و رفعه من بين يديه قبل أن يشبع، فقال عبّاد يهجوه:

من يشتري مني أبا وائل *** بكر بن نطّاح بفلسين ؟

كأنما الآكل من خبزه *** يأكله من شحمة العين

قال: و كان عبّاد هذا هجّاء ملعونا، و هو القائل:

أنا الممزّق أعراض اللّئام كما *** كان الممزّق أعراض اللّئام أبي

مدح مالك بن طوق ثم هجاه

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا أبو هفّان، قال:

كان بكر بن النّطّاح قصد مالك بن طوق فمدحه، فلم يرض ثوابه، فخرج من عنده و قال يهجوه:

فليت جدا مالك كلّه *** و ما يرتجى منه من مطلب

أصبت بأضعاف أضعافه *** و لم أنتجعه و لم أرغب

ص: 77


1- حطمه: كسره، و السنون الحواطم: المهلكة.
2- ف، المختار: و حدثني عن بعض من قال إنه رأت عينه فيما ترى عين نائم
3- المختار: «كأن الندى يبكي على قبر معقل».

أسأت اختياري منك الثّواب(1) *** لي الذّنب جهلا و لم تذنب

/و كتبها في رقعة و بعث بها إليه، فلما قرأها وجّه جماعة من أصحابه في طلبه، و قال لهم: الويل لكم إن فاتكم بكر بن النّطّاح.

اعتذر إليه و أعطاه فمدحه

و لا بد أن تنكفئوا على أثره(2) و لو صار إلى الجبل، فلحقوه فردّوه إليه، فلما دخل داره و نظر إليه قام فتلقاه و قال: يا أخي، عجلت علينا و ما كنّا نقتصر بك على ما سلف و إنما بعثنا إليك بنفقة، و عوّلنا بك على ما يتلوها، و اعتذر كلّ واحد منهما إلى صاحبه، ثم أعطاه حتى أرضاه، فقال بكر بن النّطّاح يمدحه:

أقول لمرتاد ندى غير مالك *** كفى بذل هذا الخلق بعض عداته

فتى جاد بالأموال في كلّ جانب *** و أنهبها(3) في عوده و بداته

فلو خذلت أمواله بذل(4) كفّه *** لقاسم من يرجوه شطر حياته

و لو لم يجد في العمر قسمة ماله(5) *** و جاز له الإعطاء من حسناته

لجاد بها من غير كفر بربّه *** و شاركهم في صومه و صلاته

فوصله صلة ثانية لهذه الأبيات، و انصرف عنه راضيا.

هكذا ذكر أبو هفّان في خبره و أحسبه غلطا، لأن أكثر مدائح بكر بن النّطّاح في مالك بن عليّ الخزاعيّ - و كان يتولّى طريق خراسان - و صار إليه بكر بن النّطاح بعد وفاة أبي دلف و مدحه، فأحسن تقبّله و جعله في جنده، و أسنى له الرّزق، فكان معه، إلى أن قتله الشّراة بحلوان، فرثاه بكر بعدّة قصائد هي من غرر شعره و عيونه.

كان مع مالك الخزاعي يوم أن قتل فرثاه

فحدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، عن أبي وائلة السّدوسيّ ، قال:

عاثت الشّراة بالجبل عيثا شديدا، و قتلوا الرجال و النساء و الصّبيان، /فخرج إليهم مالك بن عليّ الخزاعيّ و قد وردوا حلوان، فقاتلهم قتالا شديدا فهزمهم عنها، و ما زال يتبعهم حتى بلغ بهم قرية يقال لها: حدّان(6)، فقاتلوه عندها قتالا شديدا، و ثبت الفريقان إلى الليل حتى حجز بينهم، و أصابت مالكا ضربة على رأسه أثبتته(7)، و علم أنه ميّت، فأمر بردّه إلى حلوان، فما بلغها حتى مات، فدفن على باب حلوان، و بنيت لقبره قبّة على قارعة الطريق، و كان معه بكر بن النّطّاح يومئذ، فأبلى بلاء حسنا، و قال بكر يرثيه:

ص: 78


1- ب: «أسأت اختياري فنلت النوى».
2- مي: «و لا بد أن تبلغوا في أثره».
3- فوات الوفيات 79:1: «و أوهبها».
4- فوات الوفيات: «جود كفه».
5- فوات الوفيات: «قسمة باذل».
6- حدّان - بالضم -: إحدى محالّ البصرة القديمة. و في ف: «حيداد».
7- أثبتته: جعلته ثابتا في مكانه لا يفارقه.

يا عين جودي بالدّموع السّجام *** على الأمير اليمنيّ الهمام

على فتى الدّنيا و صنديدها *** و فارس الدّين و سيف الإمام

لا تدخري الدمع على هالك *** أيتم إذ أودى جميع الأنام

طاب ثرى حلوان إذ ضمّنت *** عظامه، سقيا لها من عظام

أغلقت الخيرات أبوابها *** و امتنعت بعدك يا بن الكرام

و أصبحت خيلك بعد الوجا *** و الغزو تشكو منك طول الجمام

ارحل بنا نقرب إلى مالك *** كيما نحيّي قبره بالسّلام

كان لأهل الأرض في كفّه *** غنى عن البحر و صوب الغمام

و كان في الصّبح كشمس الضّحى *** و كان في الليل كبدر الظّلام(1)

وسائل يعجب من موته *** و قد رآه و هو صعب المرام

/قلت له عهدي به معلما *** يضربهم عند ارتفاع القتام

و الحرب من طاولها(2) لم يكد *** يفلت من وقع صقيل حسام

لم ينظر الدّهر لنا إذ عدا *** على ربيع النّاس في كل عام

لن يستقيلوا أبدا فقده *** ما هيّج الشّجو دعاء الحمام

قال: و قال أيضا يرثيه:

أيّ امرئ خضب الخوارج ثوبه(3) *** بدم عشيّة راح من حلوان

يا حفرة ضمّت محاسن مالك *** ما فيك من كرم و من إحسان

لهفي على البطل المعرّض خدّه *** و جبينه لأسنة الفرسان

خرق الكتيبة معلما متكنّبا (9) *** و المرهفات عليه كالنّيران

ذهبت بشاشة كلّ شيء بعده *** فالأرض موحشة بلا عمران

هدم الشّراة غداة مصرع مالك *** شرف العلا و مكارم البنيان

قتلوا فتى العرب الّذي كانت به *** تقوى على اللّزبات(4) في الأزمان

حرموا معدّا ما لديه و أوقعوا *** عصبيّة في قلب كلّ يماني

تركوه في رهج العجاج كأنه(5) *** أسد يصول بساعد و بنان

هوت الجدود عن السّعود لفقده *** و تمسّكت بالنّحس و الدّبران

/لا يبعدنّ أخو خزاعة إذ ثوى *** مستشهدا في طاعة الرّحمن

/عزّ الغواة به و ذلّت أمة *** محبوّة بحقائق الإيمان

ص: 79


1- في المختار: «و كان بالليل كبدر التمام».
2- مي: «حاولها».
3- ف: «تربه».
4- ف، المختار: «الأزمات». و اللزبات جمع: لزبة، و هي الشدة أو القحط.
5- المختار: «تركوه في رهج الغبار كأنه» و الرهج: الغبار أو ما أثير منه. و العجاج: الغبار.

و بكاه مصحفه و صدر قناته(1) *** و المسلمون و دولة السّلطان

و غدت تعقّر خيله و تقسّمت *** أدراعه و سوابغ الأبدان

أ فتحمد الدّنيا و قد ذهبت *** بمن كان المجير لنا من الحدثان!

تشوقه بغداد و هو بالجبل

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: أنشدني أبو غسّان دماذ لبكر بن النّطّاح يتشوّق بغداد و هو بالجبل يومئذ:

نسيم المدام و برد السّحر *** هما هيّجا الشّوق حتى ظهر

تقول: اجتنب دارنا بالنّهار *** و زرنا إذا غاب ضوء القمر

فإنّ لنا حرسا إن رأوك *** ندمت و أعطوا عليك الظّفر

و كم صنع اللّه من مرّة *** عليهم و قد أمروا بالحذر

سقى اللّه بغداد من بلدة *** و ساكن بغداد صوب المطر

و نبّئت أنّ جواري القصو *** ر صيّرن ذكري حديث السّمر

ألا ربّ سائلة بالعرا *** ق عنّي و أخرى تطيل الذّكر(2)

تقول: عهدنا أبا وائل *** كظبي الفلاة المليح الحور

ليالي كنت أزور القيان *** كأنّ ثيابي بهار الشّجر(3)

هوى جارية من القيان و قال فيها شعرا
اشارة

حدّثني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال:

كان بكر بن النّطّاح يهوى جارية من جواري القيان و تهواه، و كانت لبعض الهاشميّين، يقال لها درّة، و هو يذكرها في شعره كثيرا، و كان يجتمع معها في منزل/رجل من الجند من أصحاب أبي دلف يقال له: الفرز، فسعى به إلى مولاها، و أعلمه أنه قد أفسدها و واطأها على أن تهرب معه إلى الجبل، فمنعه من لقائها و حجبه عنها، إلى أن خرج إلى الكرج مع أبي دلف، فقال بكر بن النّطّاح في ذلك:

أهل دار بين الرّصافة و الجس *** ر أطالوا غيظي بطول الصّدود

عذّبوني ببعدهم و ابتلوا قلب *** ي بحزنين(4): طارف و تليد

ما تهبّ الشّمال إلا تنفّ *** ست و قال الفؤاد للعين: جودي

قلّ عنهم صبري و لم يرحموني *** فتحيّرت كالطّريد الشّريد

وكلتني الأيام فيك إلى نفس *** ي فأعييت و انتهى مجهود

و قال فيها أيضا و فيه غناء من الرمل الطنبوريّ :

ص: 80


1- مد، ب: «و صدر حسامه».
2- ف، مي: «الفكر».
3- البهار: نبت طيب الرائحة.
4- ب: «بحبين».

العين تبدي الحبّ و البغضا *** و تظهر الإبرام و النّقضا

درّة ما أنصفتني في الهوى *** و لا رحمت الجسد المنضى(1)

مرّت بنا في قرطق(2) أخضر *** يعشق منها بعضها بعضا

غضبي و لا و اللّه يا أهلها *** لا أشرب البارد أو ترضى

/كيف أطاعتكم بهجري و قد *** جعلت خدّيّ لها أرضا!

و قال فيها أيضا و فيه رمل طنبوري:

صدّرت فأمسى لقاؤها حلما(3) *** و استبدل الطرف بالدّموع دما

و سلّطت حبّها على كبدي *** فأبدلتني بصحّة سقما

/و صرت فردا أبكي لفرقتها *** و أقرع السّنّ بعدها ندما

شقّ عليها قول الوشاة لها: *** أصبحت في أمر ذا الفتى علما

لو لا شقائي و ما بليت به *** من هجرها ما استثرت ما اكتتما(4)

كم حاجة في الكتاب بحت بها *** أبكيت منها القرطاس و القلما

و قال فيها أيضا، و فيه رمل لأبي الحسن أحمد بن جعفر جحظة:

بعدت عني فتغيّرت لي *** و ليس عندي لك تغيير

فجدّدي ما رثّ من وصلنا *** و كلّ ذنب لك مغفور

أطيّب النّفس بكتمان ما *** سارت به من غدرك العير

وعدك يا سيّدتي غرّني *** منك و من يعشق مغرور

يحزنني علمي بنفسي إذا *** قال خليلي أنت مهجور

يا ليت من زيّن هذا لها *** جارت لنا فيه المقادير

ساقي النّدامى سقّها صاحبي(5) *** فإنني ويحك معذور

أ أشرب الخمر على هجرها *** إني إذا بالهجر مسرور!

و فيها يقول و قد خرج مع أبي دلف إلى أصبهان:

يا ظبية السّيب التي أحببتها *** و منحتها لطفي و لين جناحي

عيناي باكيتان بعدك للّذي *** أودعت قلبي من ندوب جراح

سقيا لأحمد من أخ و لقاسم *** فقدا غدوّي لاهيا و رواحي

ص: 81


1- المنضى: المهزول.
2- القرطق: قباء ذو طاق واحد «معرب».
3- مي: «حرما»، و في ب: «حمما».
4- ب: «لو لا سقامي ما بيت به من هجرها لاستترت فاكتتما»
5- ب: «ساقي المدام أسقها صاحبي».

/و تردّدي من بيت فرز آمنا *** من قرب كلّ مخالف و ملاحي

أيام تغبطني الملوك و لا أرى *** أحدا له كتدلّلي و مراحي

تصف القيان إذا خلون مجانتي *** و يصفن للشّرب الكرام سماحي

و مما يغنّى فيه من شعر بكر بن النّطّاح في هذه الجارية قوله:

صوت

هل يبتلى أحد بمثل بليّتي *** أم ليس لي في العالمين ضريب ؟

قالت عنان و أبصرتني شاحبا: *** يا بكر مالك قد علاك شحوب ؟

فأجبتها: يا أخت لم يلق الّذي *** لاقيت إلا المبتلى أيّوب

قد كنت أسمع بالهوى فأظنّه *** شيئا يلذّ لأهله و يطيب

حتى ابتليت بحلوه و بمرّه *** فالحلو منه للقلوب مذيب

و المرّ يعجز منطقي عن وصفه *** للمرّ وصف يا عنان عجيب

/فأنا الشّقيّ بحلوه و بمرّه *** و أنا المعنّى الهائم المكروب

يا درّ حالفك الجمال فما له *** في وجه إنسان سواك نصيب

كلّ الوجوه تشابهت و بهرتها *** حسنا فوجهك في الوجوه غريب

و الشمس يغرب في الحجاب ضياؤها *** عنّا و يشرق وجهك المحجوب

و مما يغنّى فيه من شعره فيها أيضا:

غضب الحبيب عليّ في حبّي له *** نفسي الفداء لمذنب غضبان

ما لي بما ذكر الرّسول يدان بل *** إن تمّ رأيك ذا خلعت عناني

/يا من يتوق إلى حبيب مذنب *** طاوعته فجزاك بالعصيان

هلاّ انتحرت فكنت أول هالك *** إن لم يكن لك بالصّدود يدان

كنّا و كنتم كالبنان و كفّها *** فالكفّ مفردة بغير بنان

خلق السّرور لمعشر خلقوا له *** و خلقت للعبرات و الأحزان

صوت

ليت شعري أ أوّل الهرج هذا *** أم زمان من فتنة غير هرج(1)

إن يعش مصعب فنحن بخير *** قد أتانا من عيشنا ما نرجّي(2)

ملك يطعم الطّعام و يسقي *** لبن البخت في عساس الخلنج(3)

ص: 82


1- الهرج: الفتنة و الاختلاط.
2- في الديوان - 180 ط. بيروت: «... فإنا بخير... قد أتانا من عيشه...».
3- في الديوان - 180:

جلب الخيل من تهامة حتّى *** بلغت خيله(1) قصور زرنج

حيث لم تأت قبله خيل ذي الأكتاف يوجفن(2) بين قفّ و مرج عروضه من الخفيف. الشعر لعبيد اللّه بن قيس الرّقيّات، و الغناء ليونس الكاتب ماخوري بالبنصر، و فيه لمالك ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق.

ص: 83


1- في الديوان - 180: «وردت خيله» و زرنج: مدينة بسجستان.
2- في الديوان - 180: «يرجعن». و ذو الأكتاف: سابور بن هرمز قاتل العرب و نزع أكتاف من قتلهم.

7 - مقتل مصعب بن الزبير

خرج لمحاربة عبد الملك بن مروان

و هذا الشعر يقوله عبيد اللّه بن قيس لمصعب بن الزّبير لما حشد للخروج عن الكوفة لمحاربة عبد الملك بن مروان.

استشارة عبد الملك بن مروان في المسير إلى العراق

و كان السبب في ذلك، فيما أجاز لنا الحرميّ بن أبي العلاء روايته عنه، عن الزّبير بن بكار، عن المدائنيّ ، قال:

لما كانت سنة اثنتين و سبعين، استشار عبد الملك بن مروان عبد الرحمن بن الحكم في المسير إلى العراق و مناجزة مصعب، فقال: يا أمير المؤمنين، قد واليت بين عامين تغزو فيهما و قد خسرت خيلك و رجالك، و عامك هذا عام حارد فأرح نفسك و رجلك(1) ثم ترى رأيك. فقال: إني أبادر ثلاثة أشياء، و هي أنّ الشام أرض بها المال قليل فأخاف أن ينفد ما عندي، و أشراف أهل العراق قد كاتبوني يدعونني إلى أنفسهم، و ثلاثة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد كبروا و نفدت أعمارهم، و أنا أبادر بهم الموت أحبّ أن يحضروا معي.

ثم دعا يحيى بن الحكم - و كان يقول: من أراد أمرا فليشاور يحيى بن الحكم فإذا أشار عليه بأمر فليعمل بخلافه. فقال: ما ترى في المسير إلى العراق ؟ قال: أرى أن ترضى بالشام و تقيم بها و تدع مصعبا/بالعراق، فلعن اللّه العراق! فضحك عبد الملك.

و دعا عبد اللّه بن خالد بن أسيد فشاوره، فقال: يا أمير المؤمنين قد غزوت مرة فنصرك اللّه، ثم غزوت ثانية فزادك اللّه بها عزّا، فأقام عامك هذا.

فقال لمحمد بن مروان: ما ترى ؟ قال: أرجو أن ينصرك اللّه أقمت أم غزوت، فشمّر فإن اللّه ناصرك. فأمر الناس فاستعدوا للمسير، فلما أجمع عليه قالت عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجته: يا أمير المؤمنين، وجّه الجنود و أقم، فليس الرأي أن يباشر/الخليفة الحرب بنفسه، فقال: لو وجّهت أهل الشام كلّهم فعلم مصعب أنّي لست معهم لهلك الجيش كله، ثم تمثل:

و مستخبر عنّا يريد بنا الرّدى *** و مستخبرات و العيون سواكب

ثم قدّم محمد بن مروان و معه عبد اللّه بن خالد بن أسيد و بشر بن مروان، و نادى مناديه: إن أمير المؤمنين قد استعمل عليكم سيّد الناس محمد بن مروان. و بلغ مصعب بن الزبير مسير عبد الملك، فأراد الخروج فأبى عليه أهل

ص: 84


1- ف: «فأرح نفسك و جسدك».

البصرة و قالوا: عدوّنا مطلّ علينا - يعنون الخوارج - فأرسل إليهم بالمهلّب و هو بالموصل، و كان عامله عليها، فولاّه قتال الخوارج، و خرج مصعب فقال بعض الشعراء:

أ كلّ عام لك باجميرا *** تغزو بنا و لا تفيد خيرا(1)

القتال بينه و بين عبد الملك

قال: و كان مصعب كثيرا ما يخرج إلى باجميرا يريد الشام ثم يرجع، فأقبل عبد الملك حتى نزل الأخنونيّة(2)و نزل مصعب بمسكن إلى جنب أوانا(3) و خندق خندقا ثم تحوّل و نزل دير الجاثليق و هو بمسكن، و بين العسكرين ثلاثة فراسخ - و يقال فرسخان - فقدّم عبد الملك محمدا و بشرا أخويه و كلّ واحد منهما على جيش و الأمير محمد، و قدّم مصعب إبراهيم بن الأشتر، ثم كتب عبد الملك إلى أشراف أهل الكوفة و البصرة، يدعوهم إلى نفسه و يمينهم، فأجابوه و شرطوا عليه شروطا، و سألوه ولايات، و سأله ولاية أصبهان أربعون رجلا منهم، فقال عبد الملك لمن حضره: ويحكم! ما أصبهان هذه! تعجّبا ممن يطلبها(4)، و كتب إلى إبراهيم بن الأشتر: لك ولاية ما سقى الفرات إن تبعتني، فجاء إبراهيم بالكتاب إلى مصعب فقال: هذا كتاب عبد الملك، و لم يخصصني بهذا دون غيري من نظرائي، ثم قال: فأطعني فيهم، قال: أصنع ما ذا؟ قال: تدعوهم/فتضرب أعناقهم. قال: أقتلهم على ظن ظننته! قال: فأوقرهم حديدا و ابعث بهم إلى أرض المدائن(5) حتى تنقضي الحرب، قال: إذا تفسد قلوب عشائرهم، و يقول الناس: عبث مصعب بأصحابه. قال: فإن لم تفعل فلا تمدّني بهم فإنهم كالمومسة تريد كل يوم خليلا، و هم يريدون كل يوم أميرا.

أرسل عبد الملك إلى مصعب رجلا يدعوه إلى أن يجعل الأمر شورى في الخلافة، فأبى مصعب، فقدّم عبد الملك أخاه محمدا ثم قال: اللهم انصر محمدا - ثلاثا - ثم قال: اللهم انصر أصلحنا و خيرنا لهذه الأمة. قال:

و قدّم مصعب إبراهيم بن الأشتر، فالتقت المقدمتان و بين عسكر مصعب و عسكر ابن الأشتر فرسخ، و دنا عبد الملك حتى قرب من عسكر محمد، فتناوشوا، فقتل رجل على مقدمة محمد/يقال له فراس، و قتل صاحب لواء بشر و كان يقال له أسيد، فأرسل محمد إلى عبد الملك أنّ بشرا قد ضيّع لواءه. فصرف(6) عبد الملك الأمر كله إلى محمد، و كفّ الناس و تواقفوا، و جعل أصحاب ابن الأشتر يهمّون بالحرب و محمد بن مروان يكف أصحابه، فأرسل عبد الملك إلى محمد: ناجزهم، فأبى، فأوفد(7) إليه رسولا آخر و شتمه، فأمر محمد رجلا فقال له: قف خلفي في ناس من أصحابك فلا تدعنّ أحدا يأتيني من قبل عبد الملك، و كان قد دبّر تدبيرا سديدا في تأخير المناجزة إلى وقت رآه، فكره أن يفسد عبد الملك تدبيره عليه، فوجّه إليه عبد الملك عبد اللّه بن خالد بن أسيد، فلما رأوه أرسلوه إلى محمد بن مروان: هذا عبد اللّه بن خالد بن أسيد، فقال: ردّوه بأشد ممّا رددتم من جاء قبله، فلما قرب المساء أمر

ص: 85


1- باجميرا: موضع في أرض الموصل. ذكره ياقوت في 454:1، و أورد البيت و عزاه لأبي جهم الكناني.
2- في معجم البلدان: الأخنونية: موضع من أعمال بغداد.
3- في معجم البلدان: أوانا: بليدة كثيرة البساتين و الشجر نزهة، بينها و بين بغداد عشرة فراسخ.
4- ف: «تعجبا من كثرة من يطلبها».
5- الطبري 185:7: ط الحسينية: «أبيض كسرى». و في ف: «أبيض المدائن».
6- ف: «فصيّر عبد الملك الأمر كله إلى محمد».
7- ف: «فرد عليه رسولا آخر».

محمد بن مروان أصحابه بالحرب، و قال: حرّكوهم قليلا، فتهايج الناس، و وجه مصعب عتّاب(1) بن ورقاء الرّياحيّ يعجّز إبراهيم، فقال له: قد قلت له: لا تمدّني بأحد من أهل العراق فلم يقبل، و اقتتلوا، و أرسل/إبراهيم بن الأشتر إلى أصحابه - بحضرة الرسول ليرى خلاف أهل العراق عليه في رأيه - ألا تنصرفوا عن الحرب حتى ينصرف أهل الشام عنكم، فقالوا: و لم لا ننصرف ؟ فانصرفوا و انهزم الناس حتى أتوا مصعبا. و صبر إبراهيم بن الأشتر فقاتل حتى قتل، فلما أصبحوا أمر محمد بن مروان رجلا فقال: انطلق إلى عسكر مصعب فانظر كيف تراهم بعد قتل ابن الأشتر، قال: لا أعرف موضع عسكرهم، فقال له إبراهيم بن عديّ الكنانيّ : انطلق فإذا رأيت النخل فاجعله منك موضع سيفك، فمضى الرجل حتى أتى عسكر مصعب، ثم رجع إلى محمد فقال: رأيتهم منكسرين. و أصبح معصب فدنا منه، و دنا محمد بن مروان حتى التقوا، فترك قوم من أصحاب مصعب مصعبا و أتوا محمد بن مروان، فدنا إلى مصعب ثم ناداه: فداك أبي و أمي، إن القوم خاذلوك و لك الأمان، فأبى قبول ذلك، فدعا محمد بن مروان ابنه عيسى بن مصعب، فقال له أبوه: انظر ما يريد محمد، فدنا منه فقال له: إني لكم ناصح؛ إن القوم خاذلوكم و لك و لأبيك الأمان، و ناشده. فرجع إلى أبيه فأخبره، فقال: إني أظن القوم سيفون، فإن أحببت أن تأتيهم فأتهم، فقال: و اللّه لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك و رغبت بنفسي عنك، قال: فتقدم حتى أحتسبك، فتقدم و تقدم ناس معه فقتل و قتلوا، و ترك أهل العراق مصعبا حتى بقي في سبعة. و جاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى، فشد عليه مصعب فقتله، ثم شد على الناس فانفرجوا، ثم رجع فقعد على مرفقة ديباج، ثم جعل يقوم عنها و يحمل على أهل الشام فيفرجون عنه، ثم يرجع فيقعد على المرفقة، حتى فعل ذلك مرارا، و أتاه عبيد اللّه بن زياد بن ظبيان فدعاه إلى المبارزة، فقال له: اعزب يا كلب، و شد عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها و جرحه، فرجع عبيد اللّه فعصّب رأسه، و جاء ابن أبي فروة كاتب مصعب فقال له: جعلت فداك، قد تركك القوم و عندي خيل مضمّرة فاركبها و انج بنفسك، فدفع في صدره و قال: ليس أخوك بالعبد.

مقتل مصعب

و رجع ابن ظبيان إلى مصعب، فحمل عليه، و زرق(2)/زائدة بن قدامة مصعبا و نادى: /يا لثارات المختار! فصرعه، و قال عبيد اللّه لغلام له(3): احتزّ رأسه، فنزل فاحتز رأسه، فحمله إلى عبد الملك، فيقال: إنه لما وضعه بين يديه سجد. قال ابن ظبيان: فهمت و اللّه أن أقتله فأكون أفتك العرب، قتلت ملكين من قريش في يوم واحد، ثم وجدت نفس تنازعني إلى الحياة فأمسكت.

قال: و قال يزيد بن الرّقاع العامليّ أخو عديّ بن الرقاع و كان شاعر أهل الشام:

نحن قتلنا ابن الحواريّ مصعبا *** أخا أسد و المذحجيّ اليمانيا

يعني ابن الأشتر، قال:

و مرّت عقاب الموت منا بمسلم *** فأهوت له ظفرا(4) فأصبح ثاويا

ص: 86


1- ف: «و وجه مصعب إبراهيم بن عتاب بن ورقة».
2- زرقه: رماه بالمزراق. و في ف: «و زرق ابن زائدة بن قدامة مصعبا».
3- مم: «لغلام له ديلمي».
4- ب، مد: «فأهوت له طير». و في الطبري 187:7 ط الحسينية: «فأهوت له نابا».

قال الزبير: و يروى هذا الشعر للبعيث اليشكريّ ، و مسلم الّذي عناه هو مسلم بن عمرو الباهلي.

مقتل مسلم بن عمرو الباهلي

حدثنا محمد بن العباس اليزيديّ ، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا محمد بن الحكم، عن عوانة، قال:

كان مسلم بن عمرو الباهليّ على ميسرة إبراهيم بن الأشتر، فطعن و سقط فارتثّ (1)، فلما قتل مصعب أرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية أن يطلب له الأمان من عبد الملك، فأرسل إليه: ما تصنع بالأمان و أنت بالموت ؟ قال:

ليسلم لي مالي و يأمن ولدي. قال: فحمل على سرير فأدخل على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك لأهل الشام: هذا أكفر الناس لمعروف، ويحك أ كفرت معروف يزيد بن معاوية عندك ؟ فقال له خالد: تؤمّنه يا أمير المؤمنين، فأمّنه، ثم حمل فلم يبرح الصّحن حتى مات، فقال الشاعر:

نحن قتلنا ابن الحواريّ مصعبا *** أخا أسد و المذحجيّ اليمانيا

/حدثنا محمد بن العباس، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائنيّ ، قال:

قال رجل لعبيد اللّه بن زياد بن ظبيان: بما ذا تحتجّ عند اللّه عز و جل من قتلك لمصعب ؟ قال: إن تركت أحتجّ رجوت أن أكون أخطب من صعصعة بن صوحان.

مصعب و سكينة بنت الحسين

و قال مصعب الزبيريّ في خبره: قال الماجشون:

فلما كان يوم قتل مصعب دخل إلى سكينة بنت الحسين عليهما السّلام فنزع عنه ثيابه، و لبس غلالة(2) و توشح بثوب، و أخذ سيفه، فعلمت سكينة أنه لا يريد أن يرجع فصاحت من خلفه: وا حزناه(3) عليك يا مصعب، فالتفت إليها و قد كانت تخفى ما في قلبها منه، أو كلّ هذا لي في قلبك! فقالت: إي و اللّه، و ما كنت أخفي أكثر، فقال:

لو كنت أعلم أن هذا كله لي عندك لكانت لي و لك حال، ثم خرج و لم يرجع.

قال مصعب: و حدثني مصعب بن عثمان: أن مصعب بن الزبير لما قدمت عليه سكينة أعطى أخاها عليّ بن الحسين عليهم السّلام - و هو كان حملها إليه - أربعين ألف دينار.

قال مصعب: و حدثني معاوية بن بكر الباهليّ قال:

قالت سكينة: دخلت على مصعب و أنا أحسن من النار الموقدة. قال: و كانت قد ولدت منه بنتا، فقال لها:

سميها زبراء، فقالت: بل أسميها باسم بعض أمهاتي، فسمتها الرّباب.

قال: فحدثني محمد بن سلام، عن شعيب بن صخر، عن أمه سعدة بنت عبد اللّه بن سالم، قالت:

لقيت سكينة بنت الحسين بين مكة و منّى فقالت: قفي يا بنت عبد اللّه، ثم كشفت عن ابنتها فإذا هي قد أثقلتها

ص: 87


1- ارتث: حمل من المعركة جريحا و فيه رمق.
2- الغلالة: شعار يلبس تحت الثوب و تحت الدرع أيضا.
3- ف: «وا حرباه عليك يا مصعب».

باللؤلؤ. فقالت: و اللّه ما ألبستها/إياه إلا لتفضحه، قال: فلما/قتل مصعب ولي أمر ماله عروة بن الزبير، فزوّج(1)ابنه عثمان بن عروة ابنة أخيه من سكينة و هي صغيرة فماتت قبل أن تبلغ، فورث عثمان بن عروة منها عشرة آلاف دينار.

قال: و لما دخلت سكينة الكوفة بعد قتل مصعب خطبها عبد الملك فقالت: و اللّه لا يتزوجني بعده قاتله أبدا.

و تزوجت عبد اللّه بن عثمان بن عبد اللّه بن حكيم بن حزام، و دخلت بينها و بينه رملة بنت الزبير أخت مصعب حتى تزوجها خوفا من أن تصير إلى عبد الملك، فولدت منه ابنا فسمته عثمان - و هو الّذي يلقّب بقرين - و ربيحة ابني عبد اللّه بن عثمان، فتزوج ربيحة العباس بن الوليد بن عبد الملك.

عبيد اللّه بن قيس الرقيات يرثي مصعبا
اشارة

ثم مات عبد اللّه بن عثمان عنها فتزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، فقال عبيد اللّه بن قيس الرقيات يرثي مصعبا:

صوت

إن الرّزيّة يوم مس *** كن(2) و المصيبة و الفجيعة

يا ابن الحواريّ الّذي *** لم يعده يوم الوقيعه

غدرت به مضر العرا *** ق و أمكنت منه ربيعة(3)

تاللّه(4) لو كانت له *** بالدّير يوم الدير شيعه

لوجدتموه حين يد *** لج لا يعرّس(5) بالمضيعه

غنّاه يونس الكاتب من كتابه، و لحنه خفيف رمل بالوسطى، و فيه لموسى/شهوات خفيف رمل بالبنصر عن حبش، و قيل: بل هو هذا اللحن، و غلط من نسبه إلى موسى.

و قال عديّ بن الرّقاع العامليّ يذكر مقتله:

لعمري لقد أصحرت(6) خيلنا *** بأكناف دجلة للمصعب

يهزّون كلّ طويل القنا *** ة معتدل النّصل و الثّعلب(7)

فداؤك أمّي و أبناؤها *** و إن شئت زدت عليهم(8) أبي

ص: 88


1- ب: «فزوج ابنه عثمان بن عروة منها بعشرة آلاف دينار».
2- مسكن «بكسر الكاف»: موضع على نهر دجيل عند دير الجاثليق به قبر مصعب. «معجم البلدان».
3- في معجم البلدان بعد هذا البيت: و أصبت و ترك يا رب يع و كنت سامعا مطيعا
4- في معجم البلدان: يا لهف لو كانت لها... و جاء بعده: أو لم يخونوا عهده أهل العراق بنو اللكيعة
5- عرّس المسافر: نزل آخر الليل للراحة.
6- أصحرت: برزت في الصحراء.
7- الثعلب هنا: طرف الرمح في أسفل السنان.
8- ف: «زدت عليها».

و ما قلتها رهبة إنما *** يحلّ العقاب على المذنب

إذا شئت دافعت مستقتلا(1) *** أزاحم كالجمل الأجرب

فمن يك منّا يبت آمنا *** و من يك من غيرنا يهرب

غنّاه معبد من رواية إسحاق ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.

ابن قيس يرثي مصعبا

و قال ابن قيس يرثي مصعبا:

لقد أورث المصرين خزيا و ذلّة *** قتيل بدير الجاثليق مقيم

فما قاتلت في اللّه بكر بن وائل *** و لا صبرت عند اللّقاء تميم

و لكنه رام القيام و لم يكن *** لها مضريّ يوم ذاك كريم

مصعب يسأل عن قتل الحسين

قال الزبير: و كان مصعب لمّا قدم الكوفة يسأل عن الحسين بن عليّ عليهما السّلام و عن قتله، فجعل عروة بن المغيرة يحدّثه عن ذلك، فقال متمثّلا بقول سليمان بن قتّة:

فإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم *** تأسّوا فسنّوا للكرام التّأسّيا

/قال عروة: فعلمت أن مصعبا لا يفرّ أبدا.

الحجاج يتأسى بموقف مصعب

قال الزبير: و قال أبو الحكم بن خلاد بن قرّة السّدوسيّ : حدثني أبي، قال:

لما كان يوم السّبخة حين عسكر الحجاج بإزاء شبيب الشاريّ قال له الناس: لو تنحّيت أيها الأمير عن هذه السّبخة ؟ فقال لهم: ما تنحّوني - و اللّه - إليه أنتن، و هل ترك مصعب لكريم مفرّا؟ ثم تمثّل قول الكلحبة:

إذا المرء لم يغش المكاره أوشكت *** حبال الهوينى بالفتى أن تقطّعا

خطبة عبد اللّه بن الزبير بعد مقتل مصعب

قال الزبير: و حدّثني المدائنيّ ، عن عوانة و الشّرقيّ بن القطاميّ ، عن أبي جناب، قال: حدّثني شيخ من أهل مكة، قال:

لما أتى عبد اللّه بن الزبير قتل مصعب أضرب عن ذكره أياما حتى تحدثت به إماء مكة في الطريق، ثم صعد المنبر فجلس عليه مليّا لا يتكلم، فنظرت إليه و الكآبة على وجهه، و جبينه يرشح عرقا، فقلت لآخر إلى جنبي: ما له لا يتكلم ؟ أ تراه يهاب المنطق ؟ فو اللّه إنه لخطيب، فما تراه يهاب ؟ قال: أراه يريد أن يذكر قتل مصعب سيّد العرب فهو يفظع لذكره، و غير ملوم(2) فقال: الحمد للّه الّذي له الخلق و الأمر و مالك الدنيا و الآخرة، يعزّ من يشاء و يذلّ

ص: 89


1- ف، المختار: «نازلت مستقبلا».
2- ب: «و هو بفظيع ما تذكره غير ملوم».

من يشاء، ألا إنه لم يذلّ و اللّه من كان الحق معه و إن كان مفردا ضعيفا، و لم يعزّ من كان الباطل معه، و إن كان في العدّة و العدد و الكثرة، ثم قال: إنه قد أتانا خبر من العراق بلد الغدر و الشقاق فساءنا و سرّنا، أتانا أن مصعبا قتل رحمة اللّه عليه و مغفرته، فأما الّذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعد ذو الرأي و الدين إلى جميل الصبر. و أما الّذي سرّنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة له و أن اللّه عز و جل جاعل لنا و له ذلك خيرة إن شاء اللّه تعالى. إن أهل العراق أسلموه و باعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه و أخسره، أسلموه إسلام/النّعم المخطّم(1) فقتل، و لئن قتل لقد قتل أبوه و عمّه و أخوه و كانوا الخيار الصالحين، إنا و اللّه ما نموت حتف أنوفنا، ما نموت إلا قتلا، قعصا بين قصد(2) الرّماح و تحت ظلال السّيوف و ليس كما يموت بنو مروان، و اللّه ما قتل رجل منهم في جاهلية و لا إسلام قط، و إنما الدنيا عارية من الملك القهار، الّذي لا يزول سلطانه، و لا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا عليّ لا آخذها أخذ الأشر البطر، و إن تدبر عني لا أبك عليها بكاء الخرف المهتر. ثم نزل.

رجل من بني أسد يرثي مصعبا

و قال رجل من بني أسد بن عبد العزّى يرثي مصعبا:

لعمرك إنّ الموت منا لمولع *** بكلّ فتى رحب الذّراع أريب

فإن يك أمسى مصعب نال حتفه *** لقد كان صلب العود غير هيوب(3)

جميل المحيّا يوهن القرن غربه *** و إن عضّه دهر فغير رهوب

أتاه حمام الموت وسط جنوده *** فطاروا شلالا(4) و استقى بذنوب

و لو صبروا نالوا حبا(5) و كرامة *** و لكنّهم ولّوا بغير قلوب

كان مصعب أشجع الناس

قال: و قال عبد الملك يوما لجلسائه: من أشجع الناس ؟ فأكثروا في هذا المعنى، فقال: أشجع الناس مصعب بن الزبير، جمع بين عائشة بنت طلحة و سكينة بنت الحسين و أمة(6) الحميد بنت عبد اللّه بن عاصم، و ولي العراقين، ثم زحف إلى الحرب، فبذلت له الأمان/و الحباء و الولاية و العفو عمّا خلص في يده، فأبى قبول ذلك، و اطّرح كل/ما كان مشغوفا(7) به من ماله و أهله وراء ظهره، و أقبل بسيفه قرما(8) يقاتل و ما بقي معه إلا سبعة نفر حتى قتل كريما.

ص: 90


1- المخطم: الّذي جعل الخطام على أنفه ليعتاد به.
2- قصد الرماح جمع قصدة؛ و هي القطعة منه بعد كسرها.
3- ف: جميل المحيا يوهن القرن عزمه و إن عزه دهر فغير هيوب و إن يك أمسى مصعب نال حتفه لقد كان صلب العود غير رهوب
4- فطاروا شلالا: فروا متفرقين.
5- الحبا: جمع حبوة، و هي العطية.
6- ف: «و أمة الحميد...».
7- ف: «ما كان مشغولا به من ماله».
8- ف، مد: «و أقبل بسيفه قدما».. و قرم: شديد الرغبة، من قرم اللحم و إليه: اشتدت شهوته إليه فهو قرم.
ابن قيس الرقيات يمدح مصعبا

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال:

لمّا ولي مصعب بن الزبير العراق أقرّ عبد العزيز بن عبد اللّه بن عامر على سجستان و أمدّه بخيل، فقال ابن قيس الرّقيّات:

ليت شعري أ أوّل الهرج هذا *** أم زمان من فتنة غير هرج ؟

إن يعش مصعب فنحن بخير *** قد أتانا من عيشنا ما نرجّي

أعطي النّصر و المهابة في *** الأعداء حتى أتوه من كل فجّ

حيث لم تأت قبله خيل ذي *** الأكتاف يوجفن بين قفّ و مرج

ملك يطعم الطّعام و يسقى *** لبن البخت في عساس الخلنج

قال الزبير: حدّثني عمّي مصعب: أن عبيد اللّه بن قيس كان عند عبد الملك، فأقبل غلمان له معهم عساس خلنج فيها لبن البخت، فقال عبد الملك: يا بن قيس، أين هذا من عساس مصعب التي تقول فيها:

ملك يطعم الطعام و يسقي *** لبن البخت في عساس الخلنج ؟

فقال: لا أين يا أمير المؤمنين، لو طرحت عساسك هذه في عسّ من عساس مصعب لوسعها و تغلغلت في جوفه، فضحك عبد الملك ثم قال: قاتلك اللّه يا بن قيس، فإنك تأبى إلا كرما و وفاء.

قصة يونس الكاتب و الوليد بن يزيد
اشارة

حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن الطيب، قال: قال لي أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود:

خرج يونس الكاتب من المدينة يريد الشام بتجارة، فبلغ الوليد بن يزيد مكانه فأتته رسله و هو في الخان، و ذلك في خلافة هشام، و الوليد يومئذ أمير، فقالوا له: أجب الأمير، قال: فذهبت معهم، فأدخلوني عليه و لا أدري من هو إلا أنه حسن الوجه نبيل، فسلمت عليه، فأمرني بالجلوس فجلست، و دعا بالشراب و الجواري، فكنّا يومنا و ليلتنا في أمر عجيب، و غنيته فأعجبه غنائي، و كان ممّا أعجبه:

ليت شعري أ أوّل الهرج هذا *** أم زمان من فتنة غير هرج ؟

فلم يزل يستعيده إلى الصبح، ثم اصطبح عليه ثلاثة أيام، فقلت: أيها الأمير، أنا رجل تاجر قدمت هذا البلد في تجارة لي، و قد ضاعت، فقال: تخرج غدا غدوة و قد ربحت أكثر من تجارتك. و تمّم شربه، فلما أردت الانصراف لحقني غلام من غلمانه بثلاثة آلاف دينار، فأخذتها و مضيت، فلما أفضت الخلافة إليه أتيته، فلم أزل مقيما عنده حتى قتل.

قال أحمد بن الطيب - و ذكر مصعب الزّبيريّ - أنّ يونس قال:

كنت أشرب مع أصحاب لي فأردت أن أبول، فقمت و جلست أبول على كثيب رمل، فخطر ببالي قول ابن قيس:

ليت شعري أ أوّل الهرج هذا

ص: 91

فغنيت فيه لحنا استحسنته و جاء عجبا من العجب، فألقيته على جاريتي عاتكة، و ردّدته حتى أخذته، و شاع لي في الناس(1)، فكان أول صوت شاع لي و ارتفع به قدري و قرنت بالفحول من المغنّين، و عاشرت الخلفاء من أجله، و أكسبني مالا جليلا.

صوت

أ لا ناد جيراننا(2) يقصدوا *** فنقضى اللّبانة أو نعهد

كأنّ على كبدي جمرة(3) *** حذارا من البين ما تبرد

الشعر لكثيّر، و الغناء لأشعب المعروف بالطمع(4)، ثاني ثقيل بالوسطى، و في البيت الثاني لابن جامع لحن من الثقيل الأول بالبنصر عن حبش.

ص: 92


1- ف: «و شاع في الدنيا».
2- ب: «أنادي لجيراننا».
3- ب: «كأن على كبدي قرحة».
4- ف: «لأشعب الطامع».

8 - ذكر أشعب و أخباره

نسبه

هو أشعب بن جبير، و اسمه شعيب، و كنيته أبو العلاء، كان يقال لأمه: أم الخلندج، و قيل: بل أم جميل، و هي مولاة أسماء بنت أبي بكر و اسمها حميدة(1). و كان أبوه خرج مع المختار بن أبي عبيدة(2)، و أسره مصعب فضرب عنقه صبرا، و قال: تخرج عليّ و أنت مولاي ؟ و نشأ أشعب بالمدينة في دور(3) آل أبي طالب، و تولّت تربيته و كفلته عائشة بنت عثمان بن عفان.

و حكي عنه أنه حكى عن أمه أنها كانت تغري بين أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و أنها زنت فحلقت و طيف بها، و كانت تنادي على نفسها: من رآني فلا يزنين(4)، فقالت لها امرأة كانت تطّلع عليها: يا فاعلة، نهانا اللّه عز و جل عنه فعصيناه، أو نطيعك و أنت مجلودة محلوقة راكبة على جمل!.

أمه كانت مستظرفة من زوجات النبي

و ذكر رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ فيما أجاز لي روايته عنه، عن يوسف بن الداية، عن إبراهيم بن المهدي:

أن عبيدة بن أشعب أخبره - و قد سأله عن أوّلهم و أصلهم - أن أباه و جدّه كانا موليي عثمان، و أن أمه كانت مولاة لأبي سفيان بن حرب، و أن ميمونة أم المؤمنين أخذتها معها لمّا تزوجها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فكانت تدخل إلى أزواج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فيستظرفنها، ثم إنها فارقت ذلك و صارت تنقل أحاديث بعضهن إلى بعض و تغري بينهن، فدعا النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عليها فماتت.

/و ذكروا أنه كان مع عثمان - رضي اللّه عنه - في الدار، فلما حصر جرّد مماليكه السيوف ليقاتلوا، فقال لهم عثمان: من أغمد سيفه فهو حرّ، قال أشعب: فلما وقعت و اللّه في أذني كنت أول من أغمد سيفه، فأعتقت.

سنّ أشعب

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني إسحاق الموصليّ ، قال:

حدّثني الفضل بن الرّبيع، قال:

ص: 93


1- ف، و التجريد: «أم الجلندح، و قيل: بل أم حميد». و في تاريخ بغداد 37:7: أم حميدة بضم الحاء و بفتحها، و قيل: إن أمه جعدة مولاة اسماء بنت أبي بكر الصديق.
2- ف، مي: «عبيد».
3- ب: «في ديوان آل أبي طالب».
4- ف: «فلا يزني».

كان أشعب عند أبي سنة أربع و خمسين و مائة، ثم خرج إلى المدينة فلم يلبث أن جاء نعيه. و هو أشعب بن جبير، و كان أبوه مولى لآل الزّبير، فخرج مع المختار، فقتله مصعب صبرا مع من قتل.

أخبرني الجوهريّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل اليزيديّ ، قال: حدّثني التّوزيّ ، عن الأصمعيّ ، قال:

قال أشعب: نشأت أنا و أبو الزّناد في حجر عائشة بنت عثمان، فلم يزل يعلو و أسفل حتى بلغنا هذه المنزلة.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال:

حدثنا عبيد اللّه(1) بن الحسن والي المأمون على المدينة، قال:

حدّثني محمد بن عثمان بن عفان قال: قلت لأشعب: لي إليك حاجة، فحلف بالطلاق لابنة وردان(2):

لا سألته حاجة إلا قضاها، فقلت له: أخبرني عن سنّك، فاشتد ذلك عليه حتى ظننت أنه سيطلّق، فقلت له: على رسلك، و حلفت له إني لا أذكر سنّه ما دام حيّا، فقال لي: أمّا إذ فعلت فقد هوّنت عليّ ، أنا و اللّه حيث حصر جدّك عثمان بن عفان، أسعى في الدار ألتقط السهام. قال الزبير/: و أدركه أبي.

أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه اليعقوبيّ ، عن الهيثم بن عديّ ، قال:

/قال أشعب: كنت ألتقط السهام من دار عثمان يوم حوصر، و كنت في شبيبتي ألحق الحمر الوحشية عدوا.

أمه يطاف بها بعد أن بغت

أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الجهم أبو مسلم و أحمد بن إسماعيل، قالا: أخبرنا المدائنيّ ، قال:

كان أشعب الطامع(3) - و اسمه شعيب - مولى لآل الزبير من قبل أبيه، و كانت أمه مولاة لعائشة بنت عثمان بن عفان؛ و كانت بغت(4) فضربت و حلقت و طيف بها و هي تنادي: من رآني فلا يزنين، فأشرفت عليها امرأة فقالت:

يا فاعلة، نهانا اللّه عز و جل عن الزنا فعصيناه، و لسنا ندعه لقولك و أنت محلوقة مضروبة يطاف بك.

أخبرني أحمد، قال: حدثنا أحمد بن مهرويه، قال: كتب إليّ ابن أبي خيثمة يخبرني أن مصعب بن عبد اللّه أخبره، قال:

اسم أشعب شعيب، و يكنى أبا العلاء، و لكنّ الناس قالوا أشعب فبقيت عليه، و هو شعيب بن جبير مولى آل الزبير، و هم يزعمون اليوم أنهم من العرب، فزعم أشعب أن أمه كانت تغري بين أزواج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و رحمهم، و امرأة أشعب بنت وردان، و وردان الّذي بني قبر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حين بني عمر بن العزيز المسجد.

ص: 94


1- ف: «عبد اللّه بن الحسن».
2- ف: «فحلف بطلاق بنت وردان».
3- ب: «الطمع». و في مد: «كثير الطمع».
4- ف: «و كانت تعيث فحلقت و ضربت و حملت على جمل و طيف بها».
كان أشعب حسن الصوت بالقرآن
اشارة

أخبرني أحمد قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: و كتب إليّ ابن أبي خيثمة يخبرني أنّ مصعب بن عبد اللّه أخبره، قال:

كان أشعب من القرّاء للقرآن، و كان قد نسك و غزا، و كان حسن الصوت بالقرآن، و ربما صلّى بهم القيام.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال:

/كان أشعب مع ملاحته و نوادره يغني أصواتا فيجيدها، و فيه يقول عبد اللّه بن مصعب الزّبيريّ :

صوت

إذا تمزّزت صراحيّة(1) *** كمثل ريح المسك أو أطيب

ثم تغنّى لي بأهزاجه *** زيد أخو الأنصار أو أشعب

حسبت أنّي ملك جالس *** حفّت به الأملاك و الموكب

و ما أبالي و إله الورى *** أ شرّق العالم أم غرّبوا

غنّى في هذه الأبيات زيد الأنصاريّ خفيف رمل بالبنصر.

و قد روى أشعب الحديث عن جماعة من الصحابة:

أخبرني عمي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد أن الربيع بن ثعلب حدثهم، قال: حدّثني أبو البحتري:

حدّثني أشعب، عن عبد اللّه بن جعفر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لو دعيت إلى ذراع لأجبت، و لو أهدي إليّ كراع لقبلت».

أشعب و سالم بن عبد اللّه

قال ابن أبي سعد، و روي عن محمد بن عباد بن موسى، عن عتّاب بن إبراهيم(2)، عن أشعب الطامع - قال عتاب: و إنما حملت هذا الحديث عنه لأنه عليه - قال: دخلت إلى سالم بن عبد اللّه بستانا له(3) فأشرف عليّ و قال:

يا أشعب، ويلك لا تسأل، فإني سمعت أبي يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «ليأتينّ أقوام يوم القيامة ما في وجوههم/مزعة لحم(4)، قد أخلقوها بالمسألة».

و يروى عن يزيد بن موهب الرمليّ (5)، عن عثمان بن محمد، عن أشعب، عن/عبد اللّه بن جعفر: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تختّم في يمينه.

ص: 95


1- تمزز الشراب: تمصصه. و الصراحية: آنية الخمر و المراد الخمر.
2- ف: «عباد بن إبراهيم».
3- ف: «بيتا له».
4- المزعة: القطعة من اللحم و غيرها.
5- ب: «يزيد بن وهب المؤملي».

أخبرني أحمد، قال: حدّثني عمر بن شبّة، قال: حدّثني الأصمعيّ ، عن أشعب، قال: استنشدني ابن لسالم بن عبد اللّه بن عمر غناء الرّكبان بحضرة أبيه سالم فأنشدته، و رأس أبيه سالم في بتّ (1) فلم ينكر ذلك.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني أبو مسلم، عن عبد الرحمن بن الحكم(2)، عن المدائني، قال: دفعت عائشة بنت عثمان أشعب في البزّازين فقالت له بعد حول:

أ توجّهت لشيء؟ قال: نعم، تعلمت نصف العمل و بقي نصفه، قالت: و ما تعلمت ؟ قال: تعلمت النشر و بقي الطيّ .

أشعب يدعو اللّه أن يذهب عنه الحرص ثم يستقبل ربه

قال المدائنيّ : و قال أشعب: تعلقت بأستار الكعبة فقلت: اللهم أذهب عني الحرص و الطلب إلى الناس، فمررت بالقرشيّين و غيرهم فلم يعطني أحد شيئا، فجئت إلى أمي فقالت: ما لك قد جئت خائبا؟ فأخبرتها، فقالت:

لا و اللّه لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربّك، فرجعت فقلت: يا رب أقلني، ثم رجعت، فلم أمرّ بمجلس لقريش و غيرهم إلا أعطوني و وهب لي غلام، فجئت إلى أمي بحمار موقر من كل شيء، فقالت: ما هذا الغلام ؟ فخفت أن أخبرها بالقصة فتموت فرحا، فقلت: وهبوا لي، قالت: أي شيء؟ قلت: غين، قالت: أيّ شيء غين ؟ قلت: لام، قالت: و أيّ شيء لام ؟ قلت: ألف، قالت: و أيّ شيء ألف ؟ قلت: ميم، قال: و أيّ شيء ميم ؟ قلت: غلام. فغشي عليها. و لو لم أقطّع الحروف لماتت الفاسقة فرحا.

أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني العباس بن ميمون، قال: سمعت الأصمعيّ ، يقول:

سمعت أشعب يقول: سمعت الناس يموجون في أمر عثمان. قال الأصمعيّ : ثم أدرك المهديّ .

صفته

أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق بن سعيد الرّبيعيّ (3)، قال: حدّثني هند بن حمدان(4) الأرقميّ المخزوميّ ، قال: أخبرني أبي، قال: كان أشعب أزرق أحول أكشف أقرع(5).

قال: و سمعت الأرقميّ يقول: كان أشعب يقول: كنت أسقي الماء في فتنة عثمان بن عفان. و اللّه أعلم.

أشعب و الدينار

أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا عيسى بن موسى، قال: حدّثنا الأصمعيّ ، قال:

أصاب أشعب دينارا بالمدينة، فاشترى به قطيفة، ثم خرج إلى قباء يعرّفها، ثم أقبل عليّ فيما أحسب - شك أبو يحيى - فقال: أ تراها تعرّف.

ص: 96


1- البت: الطيلسان من خز و نحوه.
2- ف، مم: «أبو مسلم عبد الرحمن بن الجهم».
3- ب: «عبد الخالق بن سعيد الزينبي».
4- ف: «هند بن حمران الأرقمي».
5- ف: «أفدع» و الأكشف: الّذي انحسر مقدم شعر رأسه.

قال أحمد: و حدثناه أبو محمد بن سعد، قال: حدّثني أحمد بن معاوية بن بكر، قال: حدّثني الواقديّ ، قال:

كنت مع أشعب نريد المصلّى، فوجد دينارا، فقال لي: يا بن واقد، قلت: ما تشاء؟ قال: وجدت دينارا فما أصنع به ؟ قال: قلت: عرّفه، قال: أم العلاء إذا طالق، قال: قلت: فما تصنع به إذا؟ قال: أشتري به قطيفة أعرّفها.

قال: و حدّثني محمد بن القاسم، قال: و حدّثنيه محمد بن عثمان(1) الكريزيّ ، عن الأصمعيّ : أن أشعب وجد دينارا فتخرّج من أخذه دون أن يعرّفه، فاشترى به قطيفة، ثم قام على باب المسجد الجامع فقال: من يتعرف الوبدة(2)؟.

أخبرني أحمد الجوهريّ ، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: سألت العنزيّ ، فقال: الوبد/من كل شيء:

الخلق؛ وبد الثوب و ومد إذا أخلق.

أشعب يطرب الناس بغنائه

أخبرنا أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا عيسى بن موسى، قال: حدثنا الأصمعيّ ، قال:

رأيت أشعب يغنّي و كأن صوته صوت بلبل.

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن عبد اللّه في رفقة فيها ألف محمل، و كان ثمّ قاصّ يقصّ عليهم، فجئت فأخذت في أغنية من الرقيق، فتركوه و أقبلوا إليّ ، فجاء يشكوني إلى سالم فقال: إن هذا صرف وجوه الناس عني، قال: و أتيت سالما - و أحسبه قال - و القاسم، فسألتهما بوجه اللّه العظيم، فأعطياني، و كانا يبغضانني أو أجدهما يبغضني في اللّه، قال: قلنا: لا تجعل هذا في الحديث، قال: بلى.

حدّثنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: و حدّثناه قعنب بن محرز الباهليّ ، قال: أخبرنا الأصمعيّ ، عن أشعب، قال:

قدم علينا قاصّ كوفيّ يقصّ في رفقته، و فيها ألف بعير، فخرجنا و أحرمنا من الشّجرة بالتّلبية، فأقبل الناس إليّ و تركوه. قال: ابن أمّ حميد، فجاء إليّ عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان، فقال: إنّ مولاك هذا قد ضيّق عليّ معيشتي.

أشعب و زياد بن عبد اللّه الحارثي

أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم عبد الرحمن بن الجهم، عن المدائنيّ ، قال:

تغدّى أشعب مع زياد بن عبد اللّه الحارثيّ ، فجاءوا بمضيرة(3)، فقال أشعب لخبّاز: ضعها بين يديّ ، فوضعها بين يديه، فقال زياد: من يصلّي بأهل السّجن ؟ قال: ليس لهم إمام، قال: أدخلوا أشعب يصلّي بهم، قال أشعب:

أو غير ذلك أصلح اللّه الأمير؟ قال: و ما هو؟ قال: أحلف ألاّ آكل مضيرة أبدا.

أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثني قعنب بن المحرز، قال: حدّثنا الأصمعيّ ، قال:

ص: 97


1- ف: «محمد بن عمران الكريزي».
2- ف: «من يتعرف الومدة».
3- المضيرة عند العرب: طبخ اللحم باللبن البحت الصريح الّذي قد حذى اللسان حتى ينضج اللحم و تخثر المضيرة.

/ولّى المنصور زياد بن عبد اللّه الحارثيّ مكة و المدينة، قال أشعب: فلقيته بالجحفة(1) فسلّمت عليه، قال:

فحضر الغداء، و أهدي إليه جدّي فطبخه مضيرة، و حشيت القبة(2) قال: فأكلت أكلا أتملّح به، و أنا أعرف صاحبي، ثم أتى بالقبّة، فشققتها، فصاح الطبّاخ: إنا للّه! شقّ القبة، قال: فانقطعت، فلما فرغت قال: يا أشعب! هذا رمضان قد حضر، و لا بدّ أن تصلي بأهل السجن، قلت: و اللّه ما أحفظ من كتاب اللّه إلا ما أقيم به صلاتي، قال: لا بدّ منه، قال: قلت: أ و لا آكل جديا مضيرة ؟ قال: و ما أصنع به و هو في بطنك ؟ قال: قلت: الطّريق بعيد أريد أن أرجع إلى المدينة، قال: يا غلام، هات ريشة ذنب ديك - قال أشعب: و الجحفة أطول بلاد اللّه ريشة ذنب ديك - قال:

فأدخلت في حلقي فتقيّأت ما أكلت، ثم قال لي: ما رأيك ؟ قال: قلت: لا أقيم ببلدة يصاح فيها: شقّ القبة، قال:

لك وظيفة على السلطان و أكره أن أكسرها عليك، فقل و لا تشطط قال: قلت: نصف درهم كراء حمار يبلّغني المدينة، قال: أنصفت و أعطانيه.

من طرائف أشعب

أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرني أبو مسلم، عن المدائنيّ ، قال:

أتى أشعب بفالوذجة عند بعض الولادة، فأكل منها، فقيل له: كيف تراها يا أشعب ؟ قال: امرأته طالق إن لم تكن عملت قبل أن يوحي اللّه عز و جل إلى النحل.

أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثنا عبد اللّه بن شعيب الزّبيريّ (3)، عن عمّه. قال أبو بكر: و حدّثني ابن أبي سعد، قال: حدّثني عبد اللّه بن شعيب(3) و هو أتمّ من هذا و أكثر كلاما، قال:

/جاء/أشعب إلى أبي بكر بن يحيى من آل الزبير، فشكا إليه، فأمر له بصاع من تمر، و كانت حال أشعب رثّة، فقال له أبو بكر بن يحيى: ويحك يا أشعب! أنت في سنّك و شهرتك تجيء في هذه الحال فتضع نفسك فتعطي مثل هذا؟ اذهب فادخل الحمام فاخضب لحيتك، قال أشعب: ففعلت، ثم جئته فألبسني ثياب صوف له و قال: اذهب الآن فاطلب، قال: فذهبت إلى هشام بن الوليد صاحب البغلة من آل أبي ربيعة، و كان رجلا شريفا موسرا، فشكا إليه فأمر له بعشرين دينارا، فقبضها أشعب و خرج إلى المسجد، و طفق كلما جلس في حلقة يقول:

أبو بكر بن يحيى، جزاه اللّه عني خيرا، أعرف الناس بمسألة، فعل بي و فعل، فيقص قصته، فبلغ ذلك أبا بكر فقال: يا عدوّ نفسه! فضحتني في الناس، أ فكان هذا جزائي!.

أخبرنا أحمد، قال: قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرني محمد بن الحسين بن عبد الحميد، قال:

حدّثني شيخ أنه نظر إلى أشعب بموضع يقال له الفرع(4) يبكي و قد خضب بالحناء، فقالوا: يا شيخ ما يبكيك ؟ قال: لغربة هذا الجناح، و كان على دار واحدة ليس بالفرع غيره.

أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرني محمد بن الحسين، قال: حدّثني أبي، قال:

ص: 98


1- الجحفة: قرية كبيرة على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل. و في ب: «بالمحفة» تحريف.
2- القبة: هنة ذات أطباق متصلة بالكرش.
3- ف: «عبد اللّه بن مصعب الزبيري».
4- الفرع: قرية من نواحي الربذة بينها و بين المدينة ثمانية برد على طريق مكة.

نظرت إلى أشعب يسلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: و هو يدعو و يتضرّع، قال: فأدمت نظري إليه، فكلما أدمت النظر إليه كلّح و بثّ أصابعه في يده بحذائي حتى هربت فسألت عنه فقالوا: هذا أشعب.

أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني محمد بن الحسين، قال: حدّثني إسحاق بن إبراهيم بن عجلان الفهريّ ، قال:

/إن أشعب مرّ برشّ قد رشّ من الليل في بعض نواحي المدينة فقال: كأن هذا الرش كساء برنكانيّ (1) فلما توسطه قال: أظنني و اللّه قد صدقت، و جلس يلمس الأرض.

أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا بعض المدنيين، قال:

كان لأشعب خرق في بابه، فينام و يخرج يده من الخرق و يطمع أن يجيء إنسان فيطرح في يده شيئا؛ من الطمع.

أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدّثنا الزبير، قال: حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الزهريّ ، قال:

صلّى أشعب يوما إلى جانب مروان بن أبان بن عثمان، و كان مروان عظيم الخلق و العجيزة، فأفلتت منه ريح عند نهوضه، لها صوت، فانصرف أشعب من الصلاة، فوهم الناس أنه هو الّذي خرجت منه الريح، فلما انصرف مروان إلى منزله جاءه أشعب فقال له: الدّية، فقال: دية ما ذا؟ فقال: دية الضرطة الّتي تحمّلتها عنك، و اللّه و إلا شهّرتك، فلم يدعه حتى أخذ منه شيئا صالحا.

أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثني إبراهيم بن الجنيد، قال: حدّثني سوّار بن عبد اللّه(2)، قال: حدّثني مهديّ (3) بن سليمان المنقريّ مولى لهم، عن أشعب، قال:

دخلت على القاسم بن محمد و كان يبغضني في اللّه و أحبّه فيه، فقال: ما أدخلك عليّ؟ اخرج عني، فقلت:

أسألك باللّه لما جددت(4) عذقا، قال: يا غلام، جدّ له عذقا، فإنه سأل بمسألة لا يفلح من ردّها أبدا.

/أخبرنا أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا الرّياشيّ ، قال: حدّثني أبو سلمة أيوب بن عمر، عن المحرزيّ ، و هو أيوب بن عباية أبو سليمان، قال:

كان/لأشعب عليّ في كل سنة دينار، قال: فأتاني يوما ببطحان(5) فقال: عجّل لي ذلك الدينار، ثم قال: لقد رأيتني أخرج من بيتي فلا أرجع شهرا مما آخذ من هذا و هذا و هذا.

ص: 99


1- البرنكانيّ : كساء من صوف.
2- ب: «سوار بن عبد».
3- ب: «معدي بن سليمان».
4- جددت: قطعت.
5- بطحان: واد بالمدينة و هو أحد أوديتها الثلاثة، و هي العقيق و بطحان و قناة.
بين أشعب و ابنه

أخبرنا أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني عليّ بن محمد النوفليّ ، قال: سمعت أبي يحكي عن بعض المدنيين، قال:

كبر أشعب فملّه الناس و برد عندهم، و نشأ ابنه فتغنّى و بكى و أندر(1)، فاشتهى الناس ذلك، فأخصب و أجدب أبوه، فدعاه يوما و جلس هو و عجوزه، و جاء ابنه و امرأته فقال له: بلغني أنك قد تغنّيت و أندرت و حظيت(2)، و أن الناس قد مالوا إليك فهلم حتى أخايرك(3)، قال: نعم، فتغنّى أشعب فإذا هو قد انقطع و أرعد، و تغنّى ابنه فإذا هو حسن الصوت مطرب، و انكسر أشعب ثم أندر فكان الأمر كذلك، ثم خطبا فكان الأمر كذلك، فاحترق أشعب فقام فألقى ثيابه، ثم قال: نعم، فمن أين لك مثل خلقي ؟ من لك بمثل حديثي ؟ قال: و انكسر الفتى، فنعرت(4) العجوز و من معها عليه.

حديثه عن وفاة بنت الحسين بن علي

أخبرني أحمد، قال: حدّثني عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدّثني عليّ بن الحسين(5) بن هارون، قال: حدّثني محمد بن عباد بن موسى، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن سليمان و كان جارنا هنا، قال:

حدّثني محمد بن حرب الهلاليّ - و كان على شرطة محمد بن سليمان - قال:

دخلت على جعفر بن سليمان و عنده أشعب يحدّثه قال:

/كانت بنت حسين بن عليّ عند عائشة بنت عثمان تربّيها حتى صارت امرأة، و حج الخليفة فلم يبق في المدينة خلق من قريش إلا وافى الخليفة إلا من لا يصلح لشيء، فماتت بنت حسين بن عليّ ، فأرسلت عائشة إلى محمد بن عمرو بن حزم و هو والي المدينة، و كان عفيفا حديدا(6) عظيم اللّحية، له جارية موكّلة بلحيته إذا ائتزر لا يأتزر عليها، و كان إذا جلس للناس جمعها ثم أدخلها تحت فخذه. فأرسلت عائشة: يا أخي قد ترى ما دخل عليّ من المصيبة بابنتي، و غيبة(7) أهلي و أهلها، و أنت الوالي، فأمّا ما يكفي النساء من النساء فأنا أكفيكه بيدي و عيني، و أما ما يكفي الرجال من الرجال فاكفنيه، مر بالأسواق أن ترفع، و أمر بتجويد عمل نعشها، و لا يحملها إلا الفقهاء الألبّاء من قريش بالوقار و السكينة، و قم على قبرها و لا يدخله إلا قرابتها من ذوي الحجا و الفضل، فأتى ابن حزم رسولها حين تغدّى و دخل ليقيل، فدخل عليه فأبلغه رسالتها، فقال ابن حزم لرسولها: أقرئ ابنة المظلوم السّلام و أخبرها أني قد سمعت الواعية(8) و أردت الركوب إليها فأمسكت عن الركوب حتى أبرد، ثم أصلّي، ثم أنفّذ كلّ ما أمرت به. و أمر حاجبه و صاحب شرطته برفع الأسواق، و دعا الحرس و قال: خذوا السّياط حتى تحولوا بين

ص: 100


1- أندر: أتى بنادر من قول أو فعل.
2- ب: «و خطبت».
3- خايره في كذا: غالبه فغلبه و كان خيرا منه.
4- نعرت العجوز: صاحت و صخبت.
5- ب: «علي بن الحسن».
6- رجل حديد: فيه بأس و شدّة.
7- ف: «و نجيبة أهلي و أهلها».
8- الواعية: الصراخ على الميت.

الناس و بين النعش إلا ذوي قرابتها بالسكينة و الوقار، ثم نام و انتبه و أسرج له، و اجتمع كلّ من كان بالمدينة، و أتى باب عائشة حين أخرج النعش، فلما رأى الناس النعش التقفوه، فلم يملك ابن حزم و لا الحرس منه شيئا، و جعل ابن حزم يركض خلف النعش و يصيح بالناس من السّفلة و الغوغاء: اربعوا أي ارفقوا فلم يسمعوا، حتى بلغ بالنعش القبر، فصلى عليها، ثم وقف على القبر فنادى: من هاهنا من قريش ؟ فلم يحضره إلا مروان بن أبان بن عثمان، /و كان رجلا عظيم البطن بادنا(1) لا يستطيع أن ينثني من بطنه، سخيف(2) العقل، فطلع و عليه سبعة قمص، /كأنها درج، بعضها أقصر من بعض و رداء عدنيّ يثمن ألفي درهم، فسلّم و قال له ابن حزم: أنت لعمري قريبها، و لكنّ القبر ضيّق لا يسعك، فقال: أصلح اللّه الأمير إنما تضيق الأخلاق. قال ابن حزم: إنا للّه، ما ظننت أن هذا هكذا كما أرى، فأمر أربعة فأخذوا بضبعه(3) حتى أدخلوه في القبر، ثم أتى خراء الزّنج، و هو عثمان بن عمرو بن عثمان فقال: السّلام عليك أيها الأمير و رحمة اللّه، ثم قال: وا سيدتاه وا بنت أختاه! فقال ابن حزم: تاللّه لقد كان يبلغني عن هذا أنه مخنّث، فلم أكن أرى أنه بلغ هذا كله، دلّوه فإنه عورة هو و اللّه أحق بالدفن منها، فلما أدخلا قال مروان لخراء الزنج: تنحّ إليك شيئا فقال له خراء الزنج: الحمد للّه رب العالمين، جاء الكلب الإنسيّ يطرد الكلب الوحشيّ ، فقال لهما ابن حزم: اسكتا قبّحكما اللّه و عليكما لعنته، أيكما الإنسيّ من الوحشيّ ، و اللّه لئن لم تسكتا لآمرنّ بكما تدفنان، ثم جاء خال للجارية من الحاطبيّين و هو ناقة من مرض لو أخذ بعوضة لم يضبطها فقال:(4) أنا خالها و أمي سودة و أمها حفصة، ثم رمى بنفسه في القبر، فأصاب ترقوة خراء الزنج فصاح: أوه(4) ألح اللّه الأمير دقّ و اللّه عرقوبي، فقال ابن حزم: دق اللّه عرقوبك، و ترقوتك اسكت ويلك، ثم أقبل على أصحابه فقال: ويحكم إني خبّرت أن الجارية بادن، و مروان لا يقدر أن ينثني من بطنه، و خراء الزنج مخنّث لا يعقل سنّة و لا دفنا، و هذا الحاطبيّ لو أخذ عصفورا لم يضبطه لضعفه، فمن يدفن هذه الجارية ؟ و اللّه ما أمرتني بهذا بنت المظلوم، فقال له جلساؤه: لا و اللّه ما بالمدينة خلق من قريش، و لو كان في هؤلاء خير لما بقوا، فقال: من هاهنا من مواليهم ؟ فإذا أبو هانئ الأعمى و هو ظئر(4) لها، فقال ابن حزم: من أنت رحمك اللّه ؟ قال: أنا أبو هانئ ظئر عبد اللّه بن عمرو بن عثمان و أنا أدفن أحياءهم و أمواتهم، فقال: أنا في طلبك، ادخل رحمك اللّه، فادفن/هؤلاء الأحياء، حتى يدلّى عليك(5) الموتى(7) ثم أقبل على أصحابه فقال: إنا للّه - و هذا أيضا أعمى لا يبصر، فنادوا: من هاهنا من مواليهم(7) فإذا برجل يزيديّ يقال له أبو موسى قد جاء، فقال له ابن حزم: من أنت أيضا؟ قال: أنا أبو موسى صالمين، و أنا ابن السميط سميطين(6) و السعيد سعيدين، و الحمد للّه رب العالمين، فقال ابن حزم: و اللّه العظيم لتكونن لهم خامسا، رحمك اللّه يا بنت رسول اللّه، فما اجتمع على جيفة خنزير و لا كلب ما اجتمع على جثتك، فإنا للّه و إنا إليه راجعون،(9) و أظنه سقط رجل آخر(9).

ص: 101


1- ف: «عظيم البطن فأفاء».
2- رجل سخيف العقل: ناقصه.
3- الضبع: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاها و هما ضبعان. (4-4) . تكملة من ف.
4- الظئر: الناقة تعطف على ولد غيرها، و منه قيل للمرأة الأجنبية تحضن ولد غيرها: ظئر و للرجل الحاضن: ظئر أيضا.
5- ف: «حتى يدلي إليك الموتى». (7-7) . التكملة من ف.
6- ف: «و أنا ابن أبي السميط سميطين». (9-9) . التكملة من ف.

أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني اليعقوبيّ محمد بن عبد اللّه، قال: حدّثني أبو بكر الزلال الزبيريّ ، قال:(1) حدّثني من رأى أشعب و قد علّق رأس كلبه و هو يضربه و يقول له: تنبح الهدية و تبصبص للضيف.

أرضع أشعب جديا لبن زوجته

أخبرنا أحمد، قال: حدّثني عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن محمد الزّبيري أبو الطّاهر، قال:(1) حدّثني يحيى بن محمد بن أبي قتيلة، قال:

غذا أشعب جديا بلبن زوجته و غيرها حتى بلغ الغاية قال: و من مبالغته في ذلك أن قال لزوجته: أي ابنة وردان، إني أحب أن ترضعيه بلبنك. قال: ففعلت، قال: ثم جاء به إلى إسماعيل بن جعفر بن محمد فقال: باللّه إنه لابني، قد رضع بلبن زوجتي و قد حبوتك به، و لم أر أحدا يستأهله سواك، قال: فنظر إسماعيل إلى فتنة من الفتن فأمر به فذبح و سمط، فأقبل عليه أشعب، فقال: المكافأة، فقال: ما عندي و اللّه اليوم شيء، و نحن من تعرف، و ذلك غير فائت لك، فلما يئس منه قام من عنده فدخل على أبيه جعفر بن محمد، ثم اندفع يشهق/حتى التقت أضلاعه، ثم قال: أخلني، قال: ما معنا أحد يسمع و لا عين عليك، قال: وثب ابنك إسماعيل على ابني فذبحه و أنا انظر إليه، قال: فارتاع/جعفر و صاح: ويلك! و فيم ؟ و تريد ما ذا؟ قال: أمّا ما أريد فو اللّه ما لي في إسماعيل حيلة و لا يسمع هذا سامع أبدا بعدك. فجزاه خيرا و أدخله منزله، و أخرج إليه مائتي دينار و قال له: خذ هذه و لك عندنا ما تحبّ ، قال: و خرج إلى إسماعيل لا يبصر ما يطأ عليه، فإذا به مترسّل في مجلسه، فلما رأى وجه أبيه نكره، و قام إليه، فقال: يا إسماعيل أو فعلتها بأشعب ؟ قتلت ولده، قال: فاستضحك و قال: جاءني بجدي من صفته كذا، و خبّره الخبر، فأخبره أبوه ما كان منه و صار إليه. قال: فكان جعفر يقول لأشعب: رعبتني رعبك اللّه(1) فيقول:

روعة ابنك و اللّه إيّاي في الجدي أكبر من روعتك أنت في المائتي الدّينار.

حزن أشعب لوفاة خالد بن عبد اللّه

أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن إسحاق المسيّبيّ (2)، قال:

حدّثني عمير بن عبد اللّه بن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة - قال: و عمير لقب و اسمه عبد الرحمن - عن أشعب، قال:

أتيت خالد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان ليلة أسأله، فقال لي: أنت على طريقة لا أعطي على مثلها، قلت: بلى جعلت فداءك، فقال: قم فإن قدر شيء فسيكون، قال: فقمت، فإني لفي بعض سكك المدينة، إذ لقيني رجل فقال: يا أشعب إن كان اللّه قد ساق إليك رزقا فما أنت صانع ؟ قلت: أشكر اللّه و أشكر من فعله، قال: كم عيالك ؟ فأخبرته قال: قد أمرت أن أجري عليك و على عيالك ما كنت(3) حيّا، قال: من أمرك ؟ قال:

ص: 102


1- ف: «رعتني راعك اللّه».
2- ب: «السيبي»، و في مد، مم: «السبيبيّ ».
3- ف: «ما دمت حيا».

لا أخبرك ما كانت هذه فوق هذه، يريد السماء، و أشار إليها قال: قلت: إن هذا معروف يشكر، قال: الّذي أمرني لم يرد شكرك، و هو يتمنى(1) ألاّ يصل مثلك. قال: فمكثت آخذ ذلك إلى أن توفّي خالد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، قال: فشهدته قريش و حفل له الناس قال: فشهدته فلقيني ذلك الرجل فقال: يا أشعب/انتف رأسك و لحيتك، هذا و اللّه صاحبك الّذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك، و كان و اللّه يتمنّى مباعدة مثلك، قال: فحمله و اللّه الكرم إذ سألته أن فعل بك ما فعل، قال عمير: قال أشعب: فعملت بنفسي و اللّه حينئذ ما حلّ و حرم.

أشعب في المسجد

أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال:

كان أشعب يوما في المسجد يدعو و قد قبّض وجهه فصيّره كالصّبرة(2) المجموعة، فرآه عامر بن عبد اللّه بن الزبير فحصبه(3) و ناداه: يا أشعب، إذا تناجى ربك فناجه بوجه طلق، قال: فأرخى لحيه(4) حتى وقع على زوره، قال: فأعرض عنه عامر و قال: و لا كلّ هذا.

جز أشعب لحيته

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني الزّبير، قال: حدّثني مصعب، قال:

جزّ أشعب لحيته فبعث إليه نافع بن ثابت بن عبد اللّه بن الزّبير: أ لم أقل لك إن البطّال(5) أملح ما يكون إذا طالت لحيته فلا تجزز لحيتك.

طرائف من طمعه و بخله

أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا أبو الحسن المدائنيّ ، قال:

وقف أشعب على امرأة تعمل طبق خوص فقال: لتكبّريه فقالت: لم ؟ أ تريد أن تشتريه ؟ قال: لا، و لكن عسى أن يشتريه إنسان فيهدي إليّ فيه/، فيكون كبيرا خير من أن يكون صغيرا.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى/قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال: قالت صديقة أشعب لأشعب: هب لي خاتمك أذكرك به، قال: اذكريني أنّي منعتك إياه؛ فهو أحبّ إليّ .

أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:

ص: 103


1- ف: «و هو يتمرى».
2- الصبرة: الكومة من الطعام. و في ف: «كالسفرة».
3- ب: «فحبسه».
4- اللحى: عظم الحنك و هو الّذي عليه الأسنان. و في ف: «إنما تناجى ربك فناجه...».
5- البطال: المتعلل.

قال أشعب مرة للصبيان: هذا عمرو بن عثمان يقسّم مالا، فمضوا، فلما أبطئوا عنه اتّبعهم؛ يحسب أنّ الأمر قد صار حقّا كما قال.

أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:

دعا زياد بن عبد اللّه أشعب فتغدّى معه، فضرب بيده إلى جدي بين يديه، و كان زياد أحد(1) البخلاء بالطعام، فغاظه ذلك، فقال لخدمه: أخبروني عن أهل السجن ألهم إمام يصلّي بهم ؟ و كان أشعب من القرّاء لكتاب اللّه تعالى، قالوا: لا، قال: فأدخلوا أشعب فصيّروه إماما لهم، قال أشعب: أو غير ذلك ؟ قال: و ما هو؟ قال:

أحلف لك - أصلحك اللّه - ألاّ أذوق جديا أبدا، فخلاّه.

أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:

رأيت أشعب بالمدينة يقلّب مالا كثيرا فقلت له: ويحك ما هذا الحرص! و لعلك أن تكون أيسر ممّن تطلب منه(2)، قال: إني قد مهرت في هذه(3) المسألة، فأنا أكره أن أدعها فتنفلت منّي.

/أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:

قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك ؟ قال: ما رأيت اثنين يتسارّان قطّ إلا كنت أراهما يأمران لي بشيء.

أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدثنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:

قال أشعب لأمه: رأيتك في النوم مطليّة بعسل و أنا مطليّ بعذرة، فقالت: يا فاسق هذا عملك الخبيث كساكه(4) اللّه عز و جل، قال: إن في الرؤيا شيئا آخر، قالت: ما هو؟ قال: رأيتني ألطعك و أنت تلطعيني(5)، قالت:

لعنك اللّه يا فاسق.

أخبرنا أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:

كان أشعب يتحدّث إلى امرأة بالمدينة حتى عرف ذلك، فقالت لها جاراتها يوما: لو سألته شيئا فإنه موسر، فلما جاء قالت: إن جاراتي ليقلن لي: ما يصلك بشيء، فخرج نافرا من منزلها، فلم يقربها شهرين، ثم إنه جاء ذات يوم فجلس على الباب، فأخرجت إليه قدحا ملآن ماء، فقالت: اشرب هذا من الفزع، فقال: اشربيه أنت من الطمع.

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم و أحمد بن يحيى - و اللّفظ لأحمد - قال: أخبرنا المدائنيّ عن جهم بن خلف، قال:

حدّثني رجل قال: قلت لأشعب: لو تحدّثت عندي العشيّة ؟ فقال: أكره أن يجيء ثقيل، قال: قلت: ليس غيرك و غيري، قال: فإذا صلّيت الظهر فأنا عندك، /فصلّى و جاء، فلما وضعت الجارية الطعام إذا بصديق لي يدقّ الباب، فقال: أ لا ترى قد صرت إلى ما أكره ؟ قال: قلت: إن عندي فيه عشر خصال، قال: فما هي ؟ قال: أولها أنه

ص: 104


1- ب: «أخا البخلاء».
2- ب: «... و لعلك أن تكون أسيرا ممن تطلب منه».
3- ب: «إني قد مهدت المسألة».
4- ف: «ألبسكه اللّه».
5- لطع الشيء: لحسه.

لا يأكل و لا يشرب، قال: التّسع الخصال لك، أدخله. قال أبو مسلم/: إن كرهت واحدة منها لم أدخله.

أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:

دخل أشعب يوما على الحسين بن عليّ و عنده أعرابيّ قبيح المنظر مختلف الخلقة، فسبّح أشعب حين رآه، و قال للحسين عليه السّلام: بأبي أنت و أمي، أ تأذن لي أن أسلح عليه ؟ فقال الأعرابيّ : ما شئت، و مع الأعرابيّ قوس و كنانة، ففوّق له سهما و قال: و اللّه لئن فعلت لتكوننّ آخر سلحة سلحتها، قال أشعب للحسين: جعلت فداءك، قد أخذني القولنج(1).

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:

ذكر أشعب بالمدينة رجلا قبيح الاسم، فقيل له: يا أبا العلاء، أ تعرف فلانا؟ قال: ليس هذا من الأسماء الّتي عرضت على آدم.

وجدت في بعض الكتب، عن أحمد بن الحارث الخراز(2)، عن المدائنيّ ، قال:

توضّأ أشعب فغسل رجله اليسرى و ترك اليمنى فقيل له: لم تركت غسل اليمنى ؟ قال: لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:

«أمّتي غرّ محجّلون من آثار الوضوء، و أنا أحبّ أن أكون أغرّ محلا مطلق اليمنى»(3).

/و أخبرت بهذا الإسناد قال:

سمع أشعب حبّي المدينيّة تقول: اللهم لا تمتني حتى تغفر لي ذنوبي، فقال لها: يا فاسقة أنت لم تسألي اللّه المغفرة إنما سألته عمر الأبد، يريد أنه لا يغفر لها أبدا.

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ ، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، عن فليح بن سليمان، قال:

ساوم أشعب رجلا بقوس عربيّة فقال الرجل: لا أنقصها عن دينار، قال أشعب: أعتق ما أملك لو أنها إذا رمي بها طائر في جوّ السماء وقع مشويّا بين رغيفين ما أخذتها بدينار.

أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا مسلم، قال: أخبرنا المدائني، قال:

أهدى رجل من بني عامر بن لؤيّ إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر بن محمد فالوذجة، و أشعب حاضر، قال:

كل يا أشعب، فلما أكل منها قال: كيف تجدها يا أشعب ؟ قال: أنا بريء من اللّه و رسوله إن لم تكن عملت قبل أن يوحي اللّه عزّ و جلّ إلى النّحل، أي ليس فيها من الحلاوة شيء.

أخبرنا أحمد قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:

سأل سالم بن عبد اللّه أشعب عن طمعه، قال: قلت لصبياني مرّة: هذا سالم قد فتح باب صدقة عمر(4)،

ص: 105


1- القولنج: مرض معوي مؤلم يصعب معه خروج البراز و الريح.
2- ب: «الحزاز».
3- ب: «أغر محجل ثلاث مطلق اليمين».
4- مد: «صدقاته».

فانطلقوا يعطكم تمرا، فمضوا، فلما أبطئوا ظننت أنّ الأمر كما قلت فاتّبعتهم.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرني المدائنيّ ، قال:

/بينا أشعب يوما يتغدّى إذ دخلت جارة(1) له، و مع أشهب امرأته تأكل، فدعاها لتتغدّى، فجاءت الجارة(1)فأخذت العرقوب بما عليه - قال: و أهل المدينة يسمونه عرقوب ربّ البيت - قال: فقام أشعب فخرج ثم عاد فدقّ الباب، فقالت له امرأته: يا سخين العين ما لك! قال: أدخل ؟ قالت: أ تستأذن أنت، و أنت ربّ البيت ؟ قال: لو كنت ربّ البيت ما كانت العرقوب بين يدي هذه.

أشعب يبكي نفسه

أخبرني بعض أصحابنا، قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدّمشقيّ ، قال: حدثنا الزبير، قال: حدّثني مصعب، قال: قال لي ابن كليب:

حدّثت مرّة أشعب بملحة فبكى، فقلت: ما يبكيك ؟ قال: أنا بمنزلة شجرة/الموز إذا نشأت ابنتها قطعت، و قد نشأت أنت في مواليّ و أنا الآن أموت، فإنما أبكي على نفسي.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال:

كان أشعب الطّمع يغنّي و له أصوات قد حكيت عنه، و كان ابنه عبيدة يغنّيها، فمن أصواته هذه:

أروني من يقوم لكم مقامي *** إذا ما الأمر جلّ عن الخطاب

إلى من تفزعون إذا حثوتم *** بأيديكم عليّ من التراب

أشعب و سكينة بنت الحسين
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدّمشقيّ ، قال: حدثنا الزبير بن بكّار، قال:

حدثنا شعيب بن عبيدة بن أشعب، عن أبيه، عن جدّه، قال:

كانت سكينة بنت الحسين بن عليّ عليهم السّلام عند زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان/قال: و قد كانت أحلفته ألاّ يمنعها سفرا و لا مدخلا و لا مخرجا فقالت: اخرج بنا إلى حمران(2) من ناحية عسفان، فخرج بها فأقامت، ثم قالت له: اذهب بنا نعتمر، فدخل بها مكة، فأتاني آت، فقال: تقول لك ديباجة الحرم - و هي امرأة من ولد عتّاب بن أسيد -: لك عشرون دينارا إن جئتني يزيد بن عمرو الليلة في الأبطح،(3) قال أشعب: و أنا أعرف سكينة و أعلم ما هي، ثم غلب عليّ طباع السوء و الشره، فقلت لزيد فيما بيني و بينه: إن ديباجة الحرم أرسلت إليّ بكيت و كيت، فقال: عدها الليلة بالأبطح(3)، فأرسلت إليها فواعدتها الأبطح و إذا الديباجة قد افترشت بساطا في الأبطح و طرحت النمارق، و وضعت حشايا و عليها أنماط، فجلست عليها، فلما طلع زيد قامت إليه، فتلقّته و سلّمت

ص: 106


1- ب: «جارية».
2- حمران: ماء في ديار الرباب (معجم البلدان). و في ب، مد: «حمدان»، تحريف. (3-3) التكملة من ف.

عليه، ثم رجعت إلى مجلسها، فلم ننشب أن سمعنا شحيج بغلة سكينة، فلما استبانها زيد قام فأخذ بركابها، و اختبأت ناحية، فقامت الديباجة إلى سكينة فتلقّتها و قبّلت بين عينيها، و أجلستها على الفراش، و جلست هي على بعض النمارق، فقالت سكينة: أشعب و اللّه صاحب هذا الأمر، و لست لأبي إن لم يأت يصيح صياح الهرة(1) لن يقوم لي بشيء أبدا، فطلعت على أربع أصيح صياح الهرة(1)، ثم دعت جارية معه مجمر كبير فحفنت منه و أكثرت، و صبّت في حجر الديباجة،(2) و حفنت لمن معها فصبّته في حجورهن(2) و ركبت و ركب زيد و أنا معهم، فلما صارت إلى منزلها قالت لي: يا أشعب أ فعلتها؟ قلت: جعلت فداءك، إنما جعلت لي عشرين دينارا، و قد عرفت طمعي و شرهي، و اللّه لو جعلت لي العشرين دينارا على قتل أبويّ لقتلتهما، قال: فأمرت بالرحيل إلى الطائف، فأقامت بالطائف و حوّطت(1) من ورائها بحيطان و منعت زيدا أن يدخل عليها. قال: ثم قالت لي يوما: قد أثمنا في زيد و فعلنا(2) ما لا يحل لنا، ثم أمرت بالرحيل إلى المدينة، و أذنت لزيد فجاءها.

/قال الزّبير: و حدّثني عبد اللّه بن محمد بن أبي سلمة قال:

جاء أشعب إلى مجلس أصحابنا فجلس فيه، فمرّت جارية لأحدهم بحزمة عراجين من صدقة عمر، فقال له أشعب: فديتك، أنا محتاج إلى حطب فمر لي بهذه الحزمة، قال: لا، و لكن أعطيك نصفها على أن تحدّثني بحديث ديباجة الحرم، فكشف أشعب ثوبه عن استه و استوفز و جعل يخنس(3) و يقول: إن لهذا زمانا(4)، و جعلت خصيتاه تخطّان الأرض، ثم قال: أعطاني و اللّه فلان في حديث ديباجة الحرم عشرين دينارا، و أعطاني فلان كذا، و أعطاني فلان كذا، حتى عدّ أموالا، و أنت الآن تطلبها مني بنصف حزمة عراجين! ثم قام فانصرف.

و في ديباجة الحرم يقول عمر بن أبي ربيعة:

صوت

ذهبت و لم تلمم بديباجة الحرم *** و قد كنت منها في عناء و في سقم

جننت بها لمّا سمعت بذكرها *** و قد كنت مجنونا بجاراتها القدم

إذا أنت لم تعشق و لم تدر ما لهوي *** فكن حجرا بالحزن من حرّة أصمّ (5)

غناه مالك بن أبي السّمح من رواية يونس عن حبيش(6).

قال الزبير: و حدّثني شعيب بن عبيدة، عن أبيه، قال:

دخل رجل من قريش على سكينة بنت الحسين عليهما السّلام، قال: فإذا أنا بأشعب متفحّج(7) جالس تحت

ص: 107


1- ف: «و أحاطت».
2- ف: «و عملنا ما لا يحل لنا».
3- استوفز في قعدته: قعد منتصبا غير مطمئن. و خنس: تأخر.
4- ف: «أف لهذا زمنا، أف لهذا زمنا»، بدل: «إن لهذا زمانا».
5- ف: «من صخرة أصم».
6- ب، مد، مم: «غير مجنس» بدل: «عن حبيش».
7- المتفحج: المفرج بين رجليه.

السرير، فلما رآني جعل يقرقر مثل الدجاجة فجعلت انظر إليه و أعجب، فقالت: ما لك تنظر إلى هذا؟ قلت: إنه لعجب، قالت: إنه لخبيث، قد أفسد علينا أمورنا بغباوته، فحضنته بيض دجاج، ثم أقسمت أنه لا يقوم عنه حتى ينفق(1). /و هذا الخبر عندنا غير مشروح، و لكن هذا ما سمعناه، و نسخته على الشرح من أخبار إبراهيم بن المهديّ الّتي رواها عنه يوسف بن إبراهيم، و قد ذكر في أخبار سكينة.

و روى عن أحمد بن الحسن البزّاز: وجدت بخط ابن الوشّاء، عن أبي الوشاء، عن الكديمي، عن أبي عاصم قال: قيل لأشعب الطامع: أ رأيت أحدا قط أطمع منك، قال: نعم كلبا يتبعني أربعة أميال على مضغ العلك(2).

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، و عمي عبد العزيز بن أحمد(3)، و حبيب بن نصر المهلّبيّ ، قالوا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدّثني مصعب، عن عثمان بن المنذر، عن عبد اللّه بن أبي بشر بن عثمان بن المغيرة، قال:

سمعت جلبة شديدة مقبلة من البلاط، و أسرعت فإذا جماعة مقبلة، و إذا امرأة قد فرعتهم طولا، و إذا أشعب بين أيديهم بكفّه دفّ و هو يغنّي به و يرقص و يحرف استه و يحركها و يقول:

ألا حيّ الّتي خرجت *** قبيل الصّبح فاختمرت

يقال بعينها رمد *** و لا و اللّه ما رمدت

فإذا تجاوز في الرقص الجماعة رجع إليهم حتى يخالطهم و يستقبل المرأة فيغنّي في وجهها و هي تبسم و تقول:

حسبك الآن، فسألت عنها، فقالوا: هذه جارية صريم المغنية استلحقها صريم عند موته، و اعترف بأنها بنته، فحاكمت ورثته(4) إلى السلطان، فقامت لها البينة فألحقها به و أعطاها الميراث منه، و كانت أحسن خلق اللّه غناء، كان يضرب بها المثل في الحجاز فيقال: أحسن من غناء الصّريميّة.

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا الدمشقيّ ، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال: و حدّثني أبي، قال:

/اجتازت جنازة الصّريميّة بأشعب و هو جالس في قوم من قريش فبكى عليها ثم قال: ذهب اليوم الغناء كله، و على أنها الزانية كانت - لا رحمها اللّه - شرّ خلق اللّه، فقيل: يا أشعب ليس بين بكائك عليها و لعنك إيّاها فصل في كلامك، قال: نعم، كنّا نجيئها الفاجرة بكبش، فيطبخ لنا في دارها ثم لا تعشّينا - يشهد اللّه - إلا بسلق.

أشعب و الغاضري

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا مصعب:

بلغ أشعب أن الغاضريّ (5) قد أخذ في مثل مذهبه و نوادره، و أن جماعة قد استطابوه، فرقبه حتى علم أنه في مجلس/من مجالس قريش يحادثهم و يضحكهم فصار إليه، ثم قال له: قد بلغني أنك قد نحوت نحوي و شغلت عنّي من كان يألفني فإن كنت مثلي فافعل كما أفعل، ثم غضّن(6) وجهه و عرّضه و شنّجه حتى صار عرضه أكثر من طوله،

ص: 108


1- ف: «ينقب».
2- العلك: اللبان.
3- كذا في جميع النسخ و نرجح أن يكون أحمد بن عبد العزيز.
4- ف: «فخاصمت ورثته».
5- ب: «الناضري».
6- غضن وجهه: ثناه. و في ب: «غض».

و صار في هيئة لم يعرفه أحد بها، ثم أرسل وجهه و قال له: افعل هكذا و طوّل وجهه حتى كاد ذقنه يجوز صدره، و صار كأنه وجه الناظر في سيفه، ثم نزع ثيابه و تحادب فصار في ظهره حدبة كسنام البعير، و صار طوله مقدار شبر أو أكثر، ثم نزع سراويله و جعل يمد جلد خصييه حتى حكّ بهما الأرض، ثم خلاّهما من يده و مشى و جعل يخنس(1) و هما يخطّان الأرض، ثم قام فتطاول و تمدّد و تمطّى حتى صار أطول ما يكون من الرجال، فضحك و اللّه القوم حتى أغمي عليهم و قطع الغاضريّ فما تكلم بنادرة، و لا زاد على أن يقول: يا أبا العلاء لا أعاود ما تكره، إنما أنا تلميذك و خرّيجك، ثم انصرف أشعب و تركه.

من أخلاق أمه

أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ ، قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم، عن إبراهيم بن المهديّ ، عن عبيدة بن أشعب، عن أبيه: أنه كان مولده في سنة تسع من الهجرة، و أن أباه كان من مماليك عثمان، و أنّ أمّه كانت تنقل كلام أزواج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بعضهن إلى بعض، فتلقي بينهن الشّرّ، فتأذّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بذلك، /فدعا اللّه عز و جل عليها فأماتها، و عمّر ابنها أشعب حتى هلك في أيام المهديّ .

كان من المعتزلة

و كان في أشعب خلال، منها أنه كان أطيب أهل زمانه عشرة و أكثرهم نادرة، و منها: أنه كان أحسن الناس أداء لغناء سمعه، و منها: أنه أقوم أهل دهره بحجج المعتزلة و كان امرأ منهم.

أشعب و عبد اللّه بن عمر

قال إبراهيم بن المهديّ فحدّثني عبيدة بن أشعب، عن أبيه، قال: بلغني أن عبد اللّه بن عمر كان في مال له(2)يتصدق بثمرته، فركبت ناضحا(3) و وافيته في ماله، فقلت: يا بن أمير المؤمنين و يا بن الفاروق أوقر لي بعيري هذا تمرا، فقال لي: أ من المهاجرين أنت ؟ قلت: اللهمّ لا، قال: فمن الأنصار أنت ؟ فقلت: اللهم لا، قال: أ فمن التابعين بإحسان ؟ فقلت: أرجو، فقال: إلى أن يحقّق رجاؤك، قال: أ فمن أبناء السبيل أنت ؟ قلت: لا، قال: فعلام أوقر لك بعيرك تمرا؟ قلت: لأني سائل، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن أتاك سائل على فرس فلا تردّه»، فقال: لو شئنا أن نقول لك: إنه قال: لو أتاك على فرس، و لم يقل أتاك على ناضح بعير(4) لقلنا، و لكنّي أمسك عن ذلك لاستغنائي عنه؛ لأني قلت لأبي عمر بن الخطاب: إذا أتاني سائل على فرس يسألني أعطيته ؟ فقال: إني سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عما سألتني عنه، فقال لي: نعم إذا لم تصب راجلا و نحن أيها الرّجل نصيب رجّالة فعلام أعطيك و أنت على بعير؟ فقلت له: بحق أبيك الفاروق، و بحق اللّه عز و جل، و بحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لما أوقرته لي تمرا، فقال لي عبد اللّه: أنا موقره لك تمرا، و و حق اللّه و و حق رسوله لئن عاودت استحلافي لا أبررت لك قسمك، و لو أنك اقتصرت على استحلافي بحق أبي عليّ في تمرة أعطيكها لما أنفدت قسمك، لأني سمعت أبي يقول: إن

ص: 109


1- خنس: تخلف و توارى.
2- ف: «بلغني مكان عبد اللّه بن عمر في مال له».
3- ف: «أتاك على بعير».
4- الناضح: البعير يستقى عليه.

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: لا تشدّ الرّحال إلى مسجد لرجاء الثواب إلا إلى المسجد الحرام و مسجدي/بيثرب، /و لا يبرّ امرؤ قسم مستحلفه إلا أن يستحلفه بحق اللّه و حق رسوله، ثم قال للسودان في تلك الحال(1): أوقروا له بعيره تمرا، قال: و لما أخذ السودان في حشو الغرائر قلت: إن السودان أهل طرب، و إن أطربتهم أجادوا حشو غرائري، فقلت:

يا بن الفاروق، أ تأذن لي في الغناء فأغنّيك ؟ فقال لي: أنت و ذلك(2)، فاندفعت في النّصب(3)، فقال لي: هذا الغناء الّذي لم نزل نعرفه. ثم غنيته صوتا آخر لطويس المغنّي و هو:

خليليّ ما أخفي من الحب ناطق *** و دمعي بما قلت الغداة شهيد(4)

فقال لي عبد اللّه: يا هناه، لقد حدث في هذا المعنى ما لم نكن نعرفه، قال: ثم غنّيته لابن سريج:

يا عين جودي بالدموع السّفاح *** و ابكي على قتلى قريش البطاح

فقال: يا أشعب، ويحك، هذا يحيق الفؤاد - أراد: يحرق الفؤاد، لأنه كان ألثغ لا يبين بالراء و لا باللام. قال أشعب: و كان بعد ذلك لا يرائي إلا استعادني هذا الصوت.

من نوادره

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني عمي، قال:

لقي أشعب صديق لأبيه فقال له: ويحك يا أشعب، كان أبوك ألحى و أنت أنطّ(5) فإلى من خرجت ؟ قال: إلى أمّي.

من حيله

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: أخبرنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: حدثنا مصعب بن عبد اللّه، عن مصعب بن عثمان، قال:

لقي أشعب سالم بن عبد اللّه بن عمر فقال: يا أشعب، هل لك في هريس قد أعدّ لنا؟ قال: نعم، بأبي أنت و أمي. قال: فصر إليّ ، فمضى إلى منزله، فقالت له امرأته: قد/وجّه إليك عبد اللّه بن عمرو بن عثمان يدعوك.

قال: ويحك، إن لسالم بن عبد اللّه هريسة قد دعاني إليها، و عبد اللّه بن عمرو في يدي متى شئت، و سالم إنما دعوته للناس فلتة، و ليس لي بدّ من المضيّ إليه. قالت: إذا يغضب عبد اللّه، قال: آكل عنده، ثم أصير إلى عبد اللّه. فجاء إلى سالم و جعل يأكل أكل متعالل فقال له: كل يا أشعب و ابعث ما فضل عنك إلى منزلك، قال: ذاك أردت بأبي أنت و أمّي، فقال: يا غلام، احمل هذا إلى منزله، فحمله و مضى معه فجاء به امرأته فقالت له: ثكلتك أمّك، قد حلف عبد اللّه أن لا يكلّمك شهرا، قال: دعيني و إياه، هاتي شيئا من زعفران، فأعطته و دخل الحمّام يمسح على وجهه و يديه(6) و جلس في الحمام حتى صفّره، ثم خرج متكئا على عصا يرعد، حتى أتى دار عبد اللّه بن عمرو،

ص: 110


1- ب: «ثم قال للسودان في ذلك المال».
2- ف: «أنت و رأيك».
3- النصب: نوع من الغناء.
4- ب: «باطل» بدل «ناطق». و «شهير» بدل «شهيد».
5- الأنط: الخفيف شعر اللحية أو الحاجبين.
6- ف: «و بدنه».

فلما رآه حاجبه قال: ويحك، بلغت بك العلّة ما أرى ؟ و دخل و أعلم صاحبه فأذن له، فلما دخل عليه إذا سالم بن عبد اللّه عنده، فجعل يزيد في الرّعدة و يقارب الخطو، فجلس و ما يقدر أن يستقلّ ، فقال عبد اللّه: ظلمناك يا أشعب في غضبنا عليك، فقال له سالم: ما لك ويلك! أ لم تكن عندي آنفا و أكلت هريسة ؟ فقال له: و أيّ أكل ترى بي ؟ قال: ويلك! أ لم أقل لك كيت و كيت و تقل لي كيت و كيت ؟ قال له: شبّه لك، قال: لا حول و لا قوة إلا باللّه، و اللّه إني لأظنّ الشيطان يتشبّه بك. ويلك! أ جادّ أنت ؟ قال: عليّ و عليّ إن كنت خرجت منذ شهر(1). فقال له عبد اللّه:

اعزب ويحك أ تبهته، لا أمّ لك! قال: ما قلت إلا حقّا، قال: بحياتي اصدقني و أنت آمن من غضبي، قال:

لا و حياتك لقد صدق. ثم حدّثه بالقصة فضحك حتى استلقى على قفاه.

ابنه يذكر بعض طرائف أبيه

ابنه يذكر بعض طرائف أبيه(2)

أخبرني رضوان بن أحمد بن يوسف بن إبراهيم، عن إبراهيم بن المهديّ :

أنّ الرشيد لمّا ولاّه دمشق بعث إليه عبد اللّه بن أشعب، و كان يقدم عليه من الحجاز إذا أراد أن يطرب.

/قال إبراهيم: و كان يحدّثني من حديث أبيه بالطرائف:

عادلته(3) يوما و أنا خارج من دمشق في قبّة على بغل لألهو بحديثه، فأصابنا في الطريق برد شديد فدعوت بدوّاج سمّور(4) لألبسه، فأتيت به فلما لبسته أقبلت على ابن أشعب فقلت: حدّثني بشيء من طمع أبيك. فقال لي:

ما لك و لأبي، ها أنا إذا دعوت بالدّوّاج فما شككت و اللّه في أنك إنما جئت به لي، فضحكت من قوله، و دعوت بغيره فلبسته و أعطيته إياه، ثم قلت له:

أ لأبيك ولد غيرك ؟ فقال: كثير، فقلت: عشرة ؟ قال: أكثر، قلت: فخمسون ؟ قال: أكثر كثير، قلت: مائة ؟ قال: دع المئين و خذ الألوف، فقلت: ويلك! أيّ شيء تقوله ؟ أشعب أبوك ليس بينك و بينه أب، فكيف يكون له ألوف من الولد؟ فضحك ثم قال: لي في هذا خبر ظريف، فقلت له: حدّثني به، فقال:

كان أبي منقطعا إلى سكينة بنت الحسين، و كانت متزوجة بزيد بن عمرو بن عثمان بن عفان و كانت محبّة له، فكان لا يستقر معها، تقول له: أريد الحج فيخرج معها، فإذا أفضوا إلى مكة تقول: أريد الرجوع إلى المدينة، فإذا عاد إلى المدينة، قالت: أريد العمرة، فهو معها في سفر لا ينقضي. قال عبد اللّه: فحدّثني أبي قال:

كانت قد حلّفته بما لا كفّارة له ألا يتزوج عليها و لا يتسرّى و لا يلمّ بنسائه و جواريه إلا بإذنها، و حجّ الخليفة في سنة من السنين فقال لها: قد حج الخليفة و لا بدّ لي من لقائه، قالت: فاحلف بأنك لا تدخل الطائف، و لا تلمّ بجواريك على وجه و لا سبب، فحلف لها بما رضيت به من الأيمان على ذلك، ثم قالت له: احلف بالطلاق، فقال: لا أفعل، و لكن ابعثي معي بثقتك، فدعتني و أعطتني ثلاثين دينارا و قالت لي: اخرج معه، و حلّفتني/بطلاق بنت وردان زوجتي ألا أطلق له الخروج إلى الطائف بوجه و لا سبب، فحلفت لها بما أثلج صدرها، فأذنت له فخرج و خرجت معه. فلما حاذينا الطائف قال لي: يا أشعب، أنت تعرفني و تعرف صنائعي عندك، و هذه ثلاثمائة دينار،

ص: 111


1- ف: «إن كنت رأيتك منذ شهر».
2- سقط هذا الخبر من ب، و أثبتناه من ف، ما، مد.
3- عادله: ركب معه.
4- الدواج: اللحاف الّذي يلبس. و السمور: حيوان بري يتخذ من جلده فراء ثمينة للينها و خفتها و إدفائها.

خذها بارك اللّه لك فيها و أذن لي ألمّ بجواريّ ، فلما سمعتها ذهب عقلي ثم قلت: يا سيدي، هي سكينة، فاللّه اللّه فيّ . فقال: أو تعلم سكينة الغيب! فلم يزل بي حتى أخذتها و أذنت له، فمضى و بات عند جواريه. فلما أصبحنا رأيت أبيات قوم من العرب قريبة منا، فلبست حلّة وشي كانت لزيد قيمتها ألف دينار، و ركبت فرسه و جئت إلى النساء فسلّمت فرددن، و نسبنني فانتسبت نسب زيد، فحادثنني و أنسن بي. و أقبل رجال الحيّ ، و كلما جاء رجل سأل عن نسبي فخبّر به هابني و سلّم عليّ و عظّمني و انصرف، إلى أن أقبل شيخ كبير منكر مبطون، فلما خبّر بي و بنسبي شال حاجبيه عن عينه، ثم نظر إليّ و قال: و أبي ما هذه خلقة قرشيّ و لا شمائله، و ما هو إلا عبد لهم نادّ، و علمت أنه يريد شرّا، فركبت الفرس ثم مضيت، و لحقني فرماني بسهم فما أخطأ قربوس السرج، و ما شككت أنه يلحقني بآخر يقتلني فسلحت - يعلم اللّه - في ثيابي فلوّثها و نفذ إلى الحلّة فصيّرها شهرة(1)، و أتيت رحل زيد بن عمرو فجلست أغسل الحلّة و أجففها، و أقبل زيد بن عمرو، فرأى ما لحق الحلّة و السرج، فقال لي: ما القصة ؟ ويلك! فقلت: يا سيدي الصدق أنجى، و حدثته الحديث فاغتاظ ثم قال لي: أ لم يكفك أن تلبس حلتي و تصنع بها ما صنعت، و تركب فرسي و تجلس إلى النساء حتى انتسبت بنسبي و فضحتني، و جعلتني عند العرب ولاّجا جمّاشا(2)، و جرى عليك ذلّ نسب إليّ ، أنا نفيّ من أبي و منسوب إلى أبيك إن لم أسؤك و أبلغ في ذلك.

ثم لقي الخليفة و عاد و دخلنا إلى سكينة، فسألته عن خبره كله فخبرها حتى انتهى إلى ذكر/جواريه، فقالت:

إيه و ما كان من خبرك في طريقك ؟ هل مضيت إلى جواريك بالطائف ؟ فقال لها: لا أدري، سلي ثقتك. فدعتني فسألتني، و بدأت فحلفت لها بكل يمين محرجة أنه ما مرّ بالطائف و لا دخلها و لا فارقني، فقال لها: اليمين الّتي حلف بها لازمة لي إن لم أكن دخلت الطائف و بتّ عند جواريّ و غسّلتهن(3) جميعا، و أخذ مني ثلاثمائة دينار، و فعل كذا و كذا، و حدّثها الحديث كله و أراها الحلّة و السرج، فقالت لي: أ فعلتها يا أشعب! أنا نفيّة من أبي إن أنفقتها إلا فيما يسوؤك، ثم أمرت بكبس(4) منزلي و إحضارها الدنانير فأحضرت، فاشترت بها خشبا و بيضا و سرجينا، و عملت من الخشب بيتا فحبستني فيه و حلفت ألا أخرج منه و لا أفارقه حتى أحضن البيض كلّه إلى أن ينقب، فمكثت أربعين يوما أحضن لها البيض حتى نقب، و خرج منه فراريج كثيرة فربّتهن و تناسلن فكنّ بالمدينة يسمّين بنات أشعب و نسل أشعب، فهؤلاء إلى الآن بالمدينة نسل يزيد على الألوف، كلهن أهلي و أقاربي.

قال إبراهيم: فضحكت و اللّه من قوله ضحكا ما أذكر أنّي ضحكت مثله قط و وصلته، و لم يزل عندي زمانا حتى خرج إلى المدينة و بلغني أنه مات هناك(5).

يتسور البستان طلبا للطعام

أخبرني أحمد، قال: حدّثنا مصعب بن عبد اللّه بن عثمان، قال:

قال رجل/لأشعب: إنّ سالم بن عبد اللّه قد مضى إلى بستان فلان و معه طعام كثير، فبادر حتى لحقه فأغلق

ص: 112


1- الشهرة: ظهور الشيء في شنعة.
2- الولاج: الكثير الدخول. و الجماش: المتعرض للنساء.
3- غسلتهن: جامعتهن.
4- كبس دار فلان: هجم عليها فجأة و أحاط بها.
5- انتهى الخبر المشار إلى أوله في الحاشية رقم 3 ص 162.

الغلام الباب دونه، فتسوّر عليه، فصاح به سالم: بناتي ويلك بناتي، فناداه أشعب: لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا لَنٰا فِي بَنٰاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مٰا نُرِيدُ (1)، فأمر بالطعام فأخرج إليه منه ما كفاه.

يقوقئ مثل الدجاجة

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني عمّي، قال:

/بعثت سكينة إلى أبي الزّناد فجاءها تستفتيه في شيء، فاطّلع أشعب عليه من بيت و جعل يقوقئ مثل ما تقوقئ الدجاجة، قال: فسبّح أبو الزّناد و قال: ما هذا؟ فضحكت و قالت: إن هذا الخبيث أفسد علينا بعض أمرنا، فحلفت أن يحضن بيضا في هذا البيت و لا يفارقه حتى ينقب، فجعل أبو الزّناد يعجب من فعلها.

و قد أخبرني محمد بن جعفر النحويّ بخبر سكينة الطويل على غير هذه الرواية، و هو قريب منها، و قد ذكرته في أخبار سكينة بنت الحسين مفردا عن أخبار أشعب هذه في أخبارها مع زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان.

عبد يسلح في يده

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: حدثنا مصعب، قال: حدّثني بعض المدنيين، قال:

كان لأشعب حرق في بابه، فكان ينام ثم يخرج يده من الخرق يطمع في أن يجيء إنسان يطرح في يده شيئا من شدة الطمع، فبعث إليه بعض من كان يعبث به من مجّان آل الزبير بعبد له فسلح في يده، فلم يعد بعدها إلى أن يخرج يده.

و أخبرني به الجوهريّ ، عن ابن مهرويه، عن محمد بن الحسن، عن مصعب، عن بعض المدنيين فذكر نحوه و لم يذكر ما فعل به الماجن.

أشعب و سالم بن عبد اللّه بن عمر

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ ، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن محمد الزّبيريّ أبو طاهر، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن أبي قتيلة، قال: حدّثني إسماعيل بن جعفر بن محمد الأعرج أنّ أشعب حدّثه، قال:

جاءني فتية من قريش فقالوا: إنا نحب أن تسمع سالم بن عبد اللّه بن عمر صوتا من الغناء و تعلمنا ما يقول لك، و جعلوا لي على ذلك جعلا فتنني(2)، فدخلت على سالم فقلت: /يا أبا عمر، إنّ لي مجالسة و حرمة و مودة و سنّا، و أنا مولع بالتّرنم، قال: و ما التّرنّم ؟ قلت: الغناء، قال: في أي وقت ؟ قلت: في الخلوة و مع الإخوان في المنزه، فأحب أن أسمعك، فإن كرهته أمسكت عنه، و غنّيته فقال: ما أرى بأسا، فخرجت فأعلمتهم، قالوا: و أي شيء غنيته ؟ قلت: غنيته:

قرّبا مربط النّعامة منّي *** لقحت حرب وائل عن حيالي(3)

ص: 113


1- سورة هود: 79.
2- ف: «جعلا قيدني». و الجعل: الأجر الّذي يأخذه الإنسان على فعل شيء.
3- البيت للحارث بن عباد، و انظر الأمالي 131:2 ط دار الكتب.

فقالوا: هذا بارد و لا حركة فيه، و لسنا نرضى، فلما رأيت دفعهم إياي و خفت ذهاب ما جعلوه لي رجعت فقلت: يا أبا عمر، آخر، فقال: ما لي و لك ؟ فلم أملّكه كلامه حتى غنيت، فقال: ما أرى بأسا، فخرجت إليهم فأعلمتهم فقالوا: و أي شيء غنيته ؟ فقلت: غنّيته قوله:

لم يطيقوا أن ينزلوا و نزلنا *** و أخو الحرب من أطاق النّزالا

فقالوا: ليس هذا بشيء، فرجعت إليه فقال: مه، قلت: و آخر، فلم أملّكه أمره حتى غنيت:

غيّضن من عبراتهنّ و قلن لي: *** ما ذا لقيت من الهوى و لقينا(1)

/فقال: نهلا نهلا(2)، فقلت: لا و اللّه إلا بذاك السّداك، و فيه تمر عجوة من صدقة عمر فقال: هو لك، فخرجت به عليهم و أنا أخطر فقالوا: مه، فقلت: غنّيت الشيخ:

غيّضن من عبراتهنّ و قلن لي *** .....................

فطرب و فرض لي فأعطاني هذا، و كذبتهم، و اللّه ما أعطانيه إلا استكفافا حتى صمت.

/قال ابن أبي سعد: السّداك: الزّبيل الكبير. و فرض لي أي نقّطني، يعني ما يهبه الناس للمغنّين و يسمّونه النّقط.

كانت له ألحان مطربة و شهد له معبد

حدّثني الجوهريّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثني قعنب بن المحرز، عن الأصمعيّ ، قال:

حدّثني جعفر بن سليمان، قال:

قدم أشعب أيام أبي جعفر، فأطاف به فتيان بني هاشم و سألوه أن يغنّيهم فغنّى فإذا ألحانه مطربة(3) و حلقه على حاله، فقال له جعفر بن المنصور: لمن هذا الشعر و الغناء:

لمن طلل بذات الجي *** ش أمسى دارسا خلقا؟

فقال له: أخذت الغناء عن معبد، و هو للدّلال، و لقد كنت آخذ اللحن عن معبد فإذا سئل عنه قال: عليكم بأشعب فإنه أحسن تأدية له مني.

أشعب يلازم جريرا و يغنيه في شعره
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، عن عبد اللّه بن مصعب، قال:

قدم جرير المدينة، فاجتمع إليه الناس يستنشدونه و يسألونه عن شعره، فينشدهم و يأخذون عنه و ينصرفون، و لزمه أشعب من بينهم فلم يفارقه، فقال له جرير: أراك أطولهم جلوسا و أكثرهم سؤالا، و إني لأظنّك ألأمهم حسبا، فقال له: يا أبا حزرة، أنا و اللّه أنفعهم لك، قال: و كيف ذلك ؟ قال: أنا آخذ شعرك فأحسّنه و أجوّده، قال:

ص: 114


1- البيت لجرير في شرح ديوان جرير 578 ط الصاوي، و قبله: إن الذين غدوا بلبك غادروا و شلا بعينك ما يزال معينا
2- ف، مد: «مهلا مهلا». و النهل: ما أكل من الطعام.
3- ف: «ألحانه طربة».

كيف تحسّنه و تجوّده ؟ قال: فاندفع فغناه في شعره و الغناء لابن سريج:

صوت

يا أخت ناجية السّلام عليكم *** قبل الرحيل و قبل لوم العذّل(1)

لو كنت أعلم أن آخر عهدكم *** يوم الرّحيل فعلت ما لم أفعل

/قال: فطرب جرير حتى بكى و جعل يزحف إليه حتى لصقت ركبته بركبته و قال: أشهد أنك تحسّنه و تجوّده، فأعطاه من شعره ما أراد، و وصله بدنانير و كسوة.

حدّثني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثني أبي، قال: قال الهيثم بن عديّ :

لقيت أشعب فقلت له: كيف ترى أهل زمانك هذا؟ قال: يسألون عن أحاديث الملوك و يعطون إعطاء العبيد.

أشعب و أم عمر بنت مروان

حدّثني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا مصعب، قال:

حجّت أم عمر بنت مروان فاستحجبت(2) أشعب و قالت له: أنت أعرف الناس بأهل المدينة، فأذن لهم على مراتبهم، و جلست لهم مليّا، ثم قامت فدخلت القائلة، فجاء طويس فقال لأشعب: استأذن لي على أم عمر، فقال:

ما زالت جالسة و قد دخلت، فقال له: يا أشعب ملكت يومين فلم تفتّ بعرتين و لم تقطع شعرتين، فدقّ أشعب الباب و دخل إليها، فقال لها: أنشدك اللّه يا ابنة مروان، هذا طويس بالباب فلا تتعرّضي للسانه و لا تعرّضيني، فأذنت له، فلما دخل إليها قال لها: و اللّه لئن كان بابك غلقا لقد كان باب/أبيك فلقا(3)، ثم أخرج دفّه و نقر به و غنّى:

ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه *** في النوم غير مصرّد محسوب

كان المنى بلقائها فلقيتها *** فلهوت من لهو امرئ مكذوب

قالت: أيهما أحبّ إليك العاجل أم الآجل ؟ فقال: عاجل و آجل، فأمرت له بكسوة.

/أخبرني الجوهريّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، عن أبي مسلم، عن المدائنيّ ، قال:

حدّث رجل من أهل المدينة أشعب بحديث أعجبه فقال له: في حديثك هذا شيء، قال: و ما هو؟ قال: تقليبه على الرأس.

أشعب و الوليد بن يزيد

أخبرني الجوهريّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: حدثنا المدائنيّ ، قال:

بعث الوليد بن يزيد إلى أشعب بعد ما طلّق امرأته سعدة فقال له: يا أشعب، لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلّغ رسالتي سعدة، فقال له: أحضر المال حتى انظر إليه، فأحضر الوليد بدرة فوضعها أشعب على عنقه، ثم قال: هات رسالتك يا أمير المؤمنين، قال: قل لها: يقول لك:

ص: 115


1- ف: «قبل الفراق و قبل عذل العذل».
2- استحجبت أشعب: ولته الحجابة.
3- باب غلق: مغلق، فعل بمعنى مفعول. و فلق: مفتوح. و في مد: «دلقا».

أ سعدة هل إليك لنا سبيل *** و هل حتى القيامة من تلاقي ؟!

بلى، و لعلّ دهرا أن يواتي *** بموت من حليلك أو طلاق

فأصبح شامتا و تقرّ عيني *** و يجمع شملنا بعد افتراق

قال: فأتى أشعب الباب، فأخبرت بمكانه، فأمرت ففرشت لها فرش و جلست فأذنت له، فدخل فأنشدها ما أمره، فقالت لخدمها: خذوا الفاسق، فقال: يا سيدتي إنها بعشرة آلاف درهم، قالت: و اللّه لأقتلنّك أو تبلّغه كما بلغتني، قال: و ما تهبين لي ؟ قالت: بساطي الّذي تحتي، قال: قومي عنه، فقالت فطواه ثم قال: هاتي رسالتك جعلت فداءك، قالت: قل له:

أ تبكي على لبنى و أنت تركتها *** فقد ذهبت لبنى فما أنت صانع ؟!

فأقبل أشعب فدخل على الوليد فأنشده البيت، فقال: أوّه! قتلتني و اللّه، ما تراني صانعا بك يا بن الزانية ؟ اختر إمّا أن أدلّيك منكّسا في بئر، أو أرمي بك من فوق القصر/منكّسا، أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربة، فقال:

ما كنت فاعلا بي شيئا من ذلك، قال: و لم ؟ قال: لأنّك لم تكن لتعذّب رأسا فيه عينان قد نظرتا إلى سعدة فقال:

صدقت يا بن الزّانية، اخرج عنّي.

و قد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد، عن حمّاد، عن أبيه، عن الهيثم بن عديّ ، أنّ سعدة لمّا أنشدها أشعب قوله:

أ سعدة هل إليك لنا سبيل *** و هل حتّى القيامة من تلاقي ؟!

قالت: لا و اللّه لا يكون ذلك أبدا، فلما أنشدها:

بلى و لعلّ دهرا أن يواتي *** بموت من حليلك أو طلاق

قالت: كلاّ إن شاء اللّه، بل يفعل اللّه ذلك به، فلمّا أنشدها:

فأصبح شامتا و تقرّ عيني *** و يجمع شملنا بعد افتراق

قالت: بل تكون الشّماتة به، و ذكر باقي الخبر مثل حديث الجوهريّ ، عن ابن مهرويه.

/أخبرني عمّي، قال: حدّثنا محمد بن سعد الكرانيّ ، قال: حدّثنا العمريّ ، عن الهيثم بن عديّ ، قال:

كتب الوليد بن يزيد في إشخاص أشعب من الحجاز إليه و جمله على البريد، فحمل إليه، فلما دخل أمر بأن يلبس تبّانا(1) و يجعل فيه ذنب قرد، و يشدّ في رجليه أجراس، و في عنقه جلاجل، ففعل به ذلك، فدخل و هو عجب من العجب، فلما رآه ضحك منه و كشف عن أيره، قال أشعب: فنظرت إليه كأنّه ناي مدهون، فقال لي: /اسجد للأصمّ ويلك، يعني أيره، فسجدت، ثم رفعت رأسي و سجدت أخرى، فقال: ما هذا؟ فقلت: الأولى للأصمّ ، و الثانية لخصيتيك، فضحك و أمر بنزع ما كان ألبسنيه و وصلني، و لم أزل من ندمائه حتى قتل.

أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

قال رجل لأشعب إنه أهدي إلى زياد بن عبد اللّه الحارثيّ قبّة أدم قيمتها عشرة آلاف درهم فقال: امرأته الطّلاق

ص: 116


1- التبان: سراويل قصيرة إلى الركبة أو ما فوقها تستر العورة. و في مد: «ثيابا».

لو أنّها قبّة الإسلام ما ساوت ألف درهم. فقيل له: إن معها جبّة وشي حشوها قزّ قيمتها عشرون ألف دينار، فقال:

أمّه زانية لو أنّ حشوها زغب أجنحة الملائكة ما ساوت عشرين دينارا.

أشعب و رجل من ولد عامر بن لؤي

أخبرني عمّي، قال: حدّثني أبو أيوب المدائنيّ ، قال: حدّثني مصعب بن عبد اللّه الزّبيري، عن أبيه، قال:

حدّثني أشعب، قال:

ولي المدينة رجل من ولد عامر بن لؤيّ ، و كان أبخل النّاس و أنكدهم(1)، و أغراه اللّه بي يطلبني في ليله و نهاره، فإن هربت منه هجم على منزلي بالشّرط، و إن كنت في موضع بعث إلى من أكون معه أو عنده يطلبني منه، فيطالبني بأن أحدّثه و أضحكه، ثم لا أسكت و لا ينام(2)، و لا يطعمني و لا يعطيني شيئا، فلقيت منه جهدا عظيما و بلاء شديدا. و حضر الحجّ ، فقال لي: يا أشعب، كن معي، فقلت: بأبي أنت و أمي، أنا عليل، و ليست لي نية في الحج. فقال: عليه و عليه، و قال: إن الكعبة بيت النّار، لئن لم تخرج معي لأودعنّك الحبس حتى أقدم، فخرجت معه مكرها، فلما نزلنا المنزل أظهر أنّه صائم و نام حتى تشاغلت، ثم أكل ما في سفرته، و أمر غلامه أن يطعمني رغيفين بملح، فجئت و عندي أنّه صائم، و لم أزل أنتظر المغرب/أتوقّع إفطاره، فلما صلّيت المغرب قلت لغلامه:

ما ينتظر بالأكل ؟ قال: قد أكل منذ زمان، قلت: أ و لم يكن صائما؟ قال: لا، قلت: أ فأطوي أنا؟ قال: قد أعدّ لك ما تأكله فكل، و أخرج إليّ الرّغيفين و الملح فأكلتهما و بتّ ميّتا جوعا، و أصبحت فسرنا حتى نزلنا المنزل، فقال لغلامه: ابتع لنا لحما بدرهم، فابتاعه، فقال: كبّب لي قطعا، ففعل، فأكله و نصب القدر، فلما اغبرّت قال: اغرف لي منها قطعا، ففعل، فأكلها، ثم قال: اطرح فيها دقّة و أطعمني منها، ففعل، ثم قال: ألق توابلها و أطعمني منها، ففعل؛ و أنا جالس انظر إليه لا يدعوني، فلما استوفى اللّحم كلّه قال: يا غلام، أطعم أشعب، و رمى إليّ برغيفين، فجئت إلى القدر و إذا ليس فيها إلا مرق و عظام، فأكلت الرّغيفين، و أخرج له جرابا فيه فاكهة يابسة، فأخذ منها حفنة فأكلها، و بقي في كفّه كفّ لوز بقشره، و لم يكن له فيه حيلة، فرمى به إليّ و قال: كل هذا يا أشعب، فذهبت أكسر واحدة منها فإذا بضرسي قد انكسرت منه قطعة فسقطت/بين يديّ ، و تباعدت أطلب حجرا أكسره به، فوجدته، فضربت له لوزة فطفرت - يعلم اللّه - مقدار رمية حجر، و عدوت في طلبها، فبينما أنا في ذلك إذ أقبل بنو مصعب - يعني ابن ثابت و إخوته - يلبّون بتلك الحلوق الجهوريّة، فصحت بهم: الغوث الغوث العياذ باللّه و بكم يا آل الزّبير، الحقوني أدركوني، فركضوا إليّ ، فلما رأوني قالوا: أشعب، ما لك ويلك! قلت: خذوني معكم تخلّصوني من الموت، فحملوني معهم، فجعلت أرفرف بيدي كما يفعل الفرخ إذا طلب الزّقّ من أبويه، فقالوا: ما لك ويلك! قلت: ليس هذا وقت الحديث، زقّوني مما معكم، فقد متّ ضرّا و جوعا منذ ثلاث، قال: فأطعموني حتى تراجعت نفسي، و حملوني معهم في محمل، ثم قالوا: أخبرنا بقصّتك، فحدّثتهم و أريتهم ضرسي المكسورة، فجعلوا يضحكون/و يصفّقون و قالوا: ويلك! من أين وقعت على هذا؟ هذا من أبخل خلق اللّه و أدنئهم نفسا، فحلفت بالطّلاق أني لا أدخل المدينة ما دام له بها سلطان، فلم أدخلها حتى عزل.

ص: 117


1- مد: «و أنكرهم».
2- ف: «و لا أنام».
أشعب يسقط الغاضري

أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ ، قال: حدّثنا يوسف بن إبراهيم، قال: حدّثنا إبراهيم بن المهديّ ، قال:

حدّثني عبيدة بن أشعب، قال:

كان الغاضريّ مندر(1) أهل المدينة و مضحكهم قبل أبي، فأسقطه أبي و اطّرح، و كان الغاضريّ حسن الوجه مادّ القامة عبلا فخما، و كان أبي قصيرا دميما قليل اللّحم؛ إلاّ أنّه كان يتضرّم و يتوقّد ذكاء و حدّة و خفّة روح، و كان الغاضريّ يحسده إلا أنهما متساويان، و كان الغاضريّ لقيطا منبوذا لا يعرف له أب، فمرّ يوما - و معه فتية من قريش - بأبي في المسجد و قد تأذّي بثيابه فنزعها، و تجرّد و جلس عريانا، فقال لهم الغاضريّ : أنشدتكم اللّه هل رأيتم أعجب من هذه الخلقة! يريد خلقة أبي، فقال له أبي: إنّ خلقتي لعجيبة، و أعجب منها أنه زقّني(2) اثنان فصرت نضوا(3)، و زقّك واحد فصرت بختيّا(4)، قال: و أهل المدينة يسمون المهلوس(5) من الفراخ النّضو و المسرول(6) البختيّ ، فغضب الغاضريّ عند ذلك و شتمه، فسقط و استبرد، و ترك النوادر بعد ذلك، و غلب أبي على أهل المدينة و استطابوه، و كان هذا سببه.

أشعب و زياد بن عبد اللّه الحارثي

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

/كان زياد بن عبد اللّه الحارثيّ أبخل خلق اللّه، فأولم وليمة لطهر بعض أولاده، و كان النّاس يحضرون و يقدّم الطّعام فلا يأكلون منه إلا تعلّلا و تشعّثا(7) لعلمهم به، فقدّم فيما قدّم جدي مشويّ فلم يعرض له أحد، و جعل يردّده على المائدة ثلاثة أيّام و الناس يجتنبونه إلى أن انقضت الوليمة، فأصغى أشعب إلى بعض من كان هناك فقال: امرأته الطّلاق إن لم يكن هذا الجدي بعد أن ذبح و شوي أطول عمرا و أمدّ حياة منه قبل أن يذبح، فضحك الرّجل، و سمعها زياد فتغافل.

غضبت سكينة عليه فأمرت بحلق لحيته

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك، عن إسحاق، قال: حدّثني إبراهيم بن المهديّ ، عن عبيدة بن أشعب، قال:

غضبت سكينة على أبي في شيء خالفها فيه فحلفت لتحلقنّ لحيته، و دعت بالحجّام فقالت له: احلق لحيته، فقال له الحجّام: انفخ شدقيك حتى أتمكّن منك، فقال له: يا بن البظراء، أمرتك أن تحلق لحيتي أو تعلّمني الزّمر! خبّرني عن امرأتك إذا أردت أن تحلق/حرها تنفخ أشداقه! فغضب الحجّام و حلف ألاّ يحلق لحيته و انصرف، و بلغ سكينة الخبر و ما جرى بينهما فضحكت و عفت عنه.

ص: 118


1- أندر: أتى بالنوادر من قول أو فعل فهو مندر.
2- زق الطائر فرخه: أطعمه بفيه.
3- النضو: المهزول.
4- البختي: الواحد من الإبل الخراسانية.
5- هلسه المرض: هزله فهو مهلوس.
6- حمامة مسرولة: في رجليها ريش كأنه سراويل.
7- تشعث من الطعام: أكل منه قليلا.
بين زياد بن عبد اللّه الحارثي و كاتبه

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أبو العيناء، عن الأصمعيّ ، قال:

أهدى كاتب لزياد بن عبد اللّه الحارثيّ إليه طعاما، فأتي به و قد تغدّى فغضب و قال: ما أصنع به و قد أكلت ؟ ادعوا أهل الصّفة(1) يأكلونه، فبعث إليهم و سأل/كاتبه: فيم دعا أهل الصّفّة ؟ فعرّف، فقال الكاتب: عرّفوه أنّ في السّلال أخبصة(2) و حلواء و دجاجا و فراخا، فأخبر بذلك، فأمر بكشفها، فلما رآها أمر برفعها فرفعت، و جاء أهل الصّفّة فأعلم، فقال: اضربوهم عشرين عشرين درّة، و احبسوهم فإنهم يفسون في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و يؤذون المصلّين، فكلّم فيهم، فقال: حلّفوهم ألاّ يعاودوا و أطلقوهم.

أشعب و أبان بن عثمان و الأعرابي

أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا ابن زبالة، قال: حدثنا ابن زبنّج راوية ابن هرمة، عن أبيه، قال:

كان أبان بن عثمان من أهزل النّاس و أعبثهم(3)، و بلغ من عبثه أنه كان يجيء باللّيل إلى منزل رجل في أعلى المدينة له لقب يغضب منه فيقول له: أنا فلان بن فلان، ثم يهتف بلقبه، فيشتمه أقبح شتم و أبان يضحك. فبينما نحن ذات يوم عنده و عنده أشعب إذ أقبل أعرابيّ و معه جمل له، و الأعرابيّ أشقر أزرق أزعر(4) غضوب يتلظّى كأنه أفعى، و يتبيّن الشّرّ في وجهه ما يدنو منه أحد إلا شتمه و نهره، فقال أشعب لأبان: هذا و اللّه من البادية(5) ادعوه، فدعي و قيل له: إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك، فأتاه فسلّم عليه، فسأله أبان عن نسبه فانتسب له، فقال: حيّاك اللّه يا خالي، حبيب ازداد حبّا، فجلس، فقال له: إنّي في طلب جمل مثل جملك هذا منذ زمان فلم أجده كما أشتهي بهذه الصّفة، و هذه القامة، و اللون، و الصدر، و الورك، و الأخفاف، /فالحمد للّه الّذي جعل ظفري به من عند من أحبّه، أ تبيعه ؟ فقال: نعم أيها الأمير، فقال: فإنّي قد بذلت لك به مائة دينار - و كان الجمل يساوي عشرة دنانير - فطمع الأعرابيّ و سرّ و انتفخ، و بان السّرور و الطّمع في وجهه، فأقبل أبان على أشعب ثم قال له: ويلك يا أشعب! إنّ خالي هذا من أهلك و أقاربك - يعني في الطمع - فأوسع له ممّا عندك. فقال له: نعم بأبي أنت و زيادة، فقال له أبان: يا خالي، إنما زدتك في الثمن على بصيرة و إنما الجمل يساوي ستّين دينارا، و لكن بذلت لك مائة لقلّة النّفد عندنا، و إني أعطيك به عروضا(6) تساوي مائة، فزاد طمع الأعرابيّ و قال: قد قبلت ذلك أيّها الأمير، فأسرّ إلى أشعب، فأخرج شيئا مغطّى فقال له: أخرج ما جئت به، فأخرج جرد عمامة خزّ خلق تساوي أربعة دراهم، فقال له:

قوّمها يا أشعب، فقال له: عمامة الأمير تعرف به، و يشهد فيها الأعياد و الجمع و يلقى فيها الخلفاء؛ خمسون دينارا.

ص: 119


1- أهل الصفة: فقراء المهاجرين و من لم يكن له منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه.
2- الأخبصة جمع خبيص؛ و هي الحلواء المخلوطة من التمر و السمن.
3- مد، و نهاية الأرب 34:4: «و أولعهم».
4- الأزعر: السيئ الخلق.
5- ف: «الهابة»، أي الصنف. يقال: هذا بابته: من الصنف الّذي يصلح للسخرية. و في معجم البلدان 452:1: بابه: من قرى بخارى.
6- العروض جمع عرض، و هو كل شيء سوى الدراهم و الدنانير.

فقال: ضعها بين يديه. و قال لابن زبنج، أثبت قيمتها. فكتب ذلك، و وضعت العمامة بين يدي الأعرابيّ ، فكاد يدخل بعضه في بعض غيظا، و لم يقدر على الكلام، ثم قال: هات قلنسوتي، فأخرج قلنسوة طويلة خلقة قد علاها الوسخ و الدّهن و تخرّقت، تساوي نصف درهم، فقال: قوّم، فقال: قلنسوة الأمر تعلو هامته/و يصلّي فيها الصّلوات الخمس، و يجلس للحكم؛ ثلاثون دينارا. قال: أثبت، فأثبت ذلك، و وضعت القلنسوة بين يدي الأعرابيّ ، فتربّد وجهه و جحظت عيناه و همّ بالوثوب، ثم تماسك و هو متقلقل.

ثم قال لأشعب: هات ما عندك، فأخرج خفّين خلقين قد نقبا(1) و تقشّرا و تفتّقا، فقال له: قوّم، فقال: خفّا الأمير يطأ بهما الرّوضة، و يعلو بهما منبر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم؛ /أربعون دينارا. فقال: ضعهما بين يديه فوضعهما. ثم قال للأعرابيّ : اضمم إليك متاعك، و قال لبعض الأعوان: اذهب فخذ الجمل، و قال لآخر: امض مع الأعرابيّ فاقبض منه ما بقي لنا عليه من ثمن المتاع و هو عشرون دينارا، فوثب الأعرابيّ فأخذ القماش فضرب به وجوه القوم لا يألو في شدّة الرّمي به، ثم قال له: أ تدري أصلحك اللّه من أي شيء أموت ؟ قال: لا، قال: لم أدرك أباك عثمان فأشترك و اللّه في دمه إذ ولد مثلك، ثم نهض مثل المجنون حتى أخذ برأس بعيره، و ضحك أبان حتى سقط و ضحك كلّ من كان معه. و كان الأعرابيّ بعد ذلك إذا لقي أشعب يقول له: هلمّ إليّ يا بن الخبيثة حتى أكافئك على تقويمك المتاع يوم قوّم، فيهرب أشعب منه.

يخشى أن تحسده العجوز على خفة موته

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائنيّ ، قال: حدّثني شيخ من أهل المدينة، قال:

كانت بالمدينة عجوز شديدة العين، لا تنظر إلى شيء تستحسنه إلا عانته(2)، فدخلت على أشعب و هو في الموت، و هو يقول لبنته: يا بنيّة، إذا متّ فلا تندبيني، و الناس يسمعونك، فتقولين: وا أبتاه أندبك للصّوم و الصّلوات، وا أبتاه أندبك للفقه و القراءة، فيكذّبك النّاس و يلعنوني. و التفت أشعب فرأى المرأة، فغطّى وجهه بكمّه و قال لها: يا فلانة باللّه إن كنت استحسنت شيئا ممّا أنا فيه فصلّي على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لا تهلكيني. فغضبت المرأة و قالت: سخنت عينك(3)، في أيّ شيء أنت مما يستحسن! أنت في آخر رمق! قال: قد علمت و لكن قلت لئلا تكوني/قد استحسنت خفّة الموت عليّ و سهولة النّزع، فيشتدّ ما أنا فيه. و خرجت من عنده و هي تشتمه، و ضحك كلّ من كان حوله من كلامه، ثم مات.

أمثلة من طرائفه و طمعه

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: حدّثنا أبو أيوب المدينيّ ، عن مصعب، قال:

لاعب أشعب رجلا بالنّرد، فأشرف على أن يقمره إلا بضرب دويكين، و وقع الفصّان في يد ملاعبه، فأصابه

ص: 120


1- نقبا: تخرقا.
2- عانته: حسدته.
3- سخنت عينك، نقيض قرّت.

زمع(1) و جزع، فضرب يكين و ضرط مع الضّربة فقال له أشعب: امرأته طالق إن لم أحسب لك الضّرطة بنقطة حتى يصير لك اليكّان دو و يك و تقمر(2). و سلّم له القمر بسبب الضّرطة.

أخبرني الحسن، قال: حدّثنا أحمد، قال: حدّثني أبو أيّوب، عن حمّاد، عن ابن إسحاق، عن أبيه، قال:

قال رجل لأشعب: كان أبوك ألحى و أنت أثطّ(3) فإلى من خرجت ؟ قال: إلى أمّي، فمرّ الرجل و هو يعجب من جوابه، و كان رجلا صالحا.

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدّثني الرّياشيّ ، قال:

سمعت أبا عاصم النّبيل يقول: رأيت أشعب و سأله رجل: ما بلغ من طمعك ؟ قال: ما زفّت عروس بالمدينة إلى زوجها قطّ إلا فتحت بابي، رجاء أن تهدي إليّ .

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، عن عمّه، قال:

تظلّمت/امرأة أشعب منه إلى أبي بكر محمد(4) بن عمرو بن حزم و قالت: /لا يدعني أهدأ من كثرة الجماع، فقال له أشعب: أ تراني أعلف و لا أركب، لتكفّ ضرسها لأكفّ أيري.

قال: و شكا خال لأشعب إليه امرأته و أنها تخونه في ماله، فقال له: فديتك لا تأمنن قحبة، و لو أنّها أمّك، فانصرف عنه و هو يشتمه.

أخبرني عمّي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني قعنب بن المحرز، عن الأصمعيّ ، عن جعفر بن سليمان، قال:

قدم علينا أشعب أيّام أبي جعفر، فأطاف به فتيان بني هاشم، و سألوه أن يغنّي فغنّاهم فإذا ألحانه مطربة(5)و حلقه على حاله، فسألوه: لمن هذا اللّحن:

لمن طلل بذات الج *** يش أمسى دارسا خلقا؟

فقال: للدلال، و أخذته عن معبد، و لقد كنت آخذ عنه الصوت، فإذا سئل عنه قال: عليكم بأشعب فإنه أحسن أداء له مني.

الحسن بن الحسن بن علي يعبث به
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: ذكر الزّبير بن بكّار، عن شعيب بن عبيدة بن أشعب، عن أبيه، قال:

كان الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام يعبث بأبي أشدّ عبث، و ربما أراه في عبثه أنه قد ثمل و أنه يعربد عليه، ثم يخرج إليه بسيف مسلول و يريه أنه يريد قتله، فيجري بينهما في ذلك كلّ مستمع، فهجره أبي مدّة طويلة، ثم لقيه يوما، فقال له: يا أشعب، هجرتني و قطعتني و نسيت عهدي، فقال له: بأبي أنت و أمّي، لو كنت تعربد بغير السّيف ما هجرتك، و لكن ليس مع السّيف لعب، فقال له: فأنا أعفيك من هذا فلا تراه منّي أبدا،

ص: 121


1- الزمع: الدهش و الخوف.
2- قمره قمرا: غلبه في لعب القمار.
3- الأثط: الّذي لا لحية له.
4- ب، س: «إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم».
5- ف: «فإذا ألحانه طريّة».

و هذه عشرة دنانير، و لك حماري الّذي/تحتي أحملك عليه، و صر إليّ و لك الشرط ألاّ ترى في داري سيفا، قال:

لا و اللّه أو تخرج كلّ سيف في دارك قبل أن نأكل قال: ذلك لك، قال: فجاءه أبي، و وفّى له بما قال من الهبة و إخراج السّيوف، و خلّف عنده سيفا في الدار، فلما توسّط الأمر قام إلى البيت فأخرج السيف مشهورا، ثم قال:

يا أشعب إنما أخرجت هذا السيف لخير أريده بك، قال: بأبي أنت و أمّي، و أيّ خير يكون مع السّيف ؟ أ لست تذكر الشرط بيننا؟ قال له: فاسمع ما أقول لك، لست أضربك به، و لا يلحقك منه شيء تكرهه، و إنما أريد أن أضجعك و أجلس على صدرك، ثم آخذ جلدة حلقك بإصبعي من غير أن أقبض على عصب و لا ودج و لا مقتل، فأحزّها بالسيف، ثم أقوم عن صدرك و أعطيك عشرين دينارا، فقال: نشدتك اللّه يا بن رسول اللّه ألاّ تفعل بي هذا! و جعل يصرخ و يبكي و يستغيث، و الحسن لا يزيده على الحلف له أنه لا يقتله، و لا يتجاوز به أن يحزّ جلده فقط، و يتوعّده مع ذلك بأنّه إن لم يفعله طائعا فعله كارها، حتى إذا طال الخطب بينهما، و اكتفى الحسن من المزح معه، أراه أنّه يتغافل عنه، و قال له: أنت لا تفعل هذا طائعا، و لكن أجيء بحبل فأكتفك به، و مضى كأنه يجيء بحبل، فهرب أشعب و تسوّر حائطا بينه و بين عبد اللّه بن حسن أخيه فسقط إلى داره، فانفكّت رجله و أغمي عليه، فخرج عبد اللّه فزعا، فسأله عن قصته، فأخبره، فضحك منه و أمر له بعشرين دينارا، و أقام في منزله/يعالجه و يعوله إلى أن صلحت حاله. قال: و ما رآه الحسن بن الحسن بعدها.

و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني عمّي، قال:

دعا حسن بن حسن بن عليّ عليهم السّلام أشعب، فأقام عنده، فقال لأشعب يوما: أنا أشتهي كبد هذه الشّاة - لشاة عنده عزيزة عليه فارهة - فقال له أشعب: /بأبي أنت و أمّي اعطنيها و أنا أذبح لك أسمن شاة بالمدينة، فقال:

أخبرك أني أشتهي كبد هذه و تقول لي: أسمن شاة بالمدينة، اذبح يا غلام، فذبحها و شوى له من كبدها و أطايبها، فأكل. ثم قال لأشعب من الغد: يا أشعب أنا أشتهي من كبد نجيبي هذا - لنجيب كان عنده ثمنه ألوف دراهم - فقال له أشعب: يا سيدي في ثمن هذا و اللّه غناي، فأعطنيه و أنا و اللّه أطعمك من كبد كلّ جزور بالمدينة، فقال: أخبرك أنّي أشتهي من كبد هذا و تطعمني من غيره! يا غلام انحر، فنحر النّجيب و شوى كبده فأكلا، فلما كان اليوم الثالث قال له: يا أشعب، أنا و اللّه أشتهي أن آكل من كبدك، فقال له: سبحان اللّه أ تأكل من أكباد النّاس! قال: قد أخبرتك، فوثب أشعب فرمى بنفسه من درجة عالية فانكسرت رجله، فقيل له: ويلك أ ظننت أنّه يذبحك ؟ فقال: و اللّه لو أنّ كبدي و جميع أكباد العالمين جميعا اشتهاها لأكلها. و إنّما فعل حسن بالشّاة و النّجيب ما فعل توطئة للعبث بأشعب.

تمت أخباره.

صوت

ألمّت خناس و إلمامها *** أحاديث نفس و أحلامها

يمانية من بني مالك *** تطاول في المجد أعمامها

الشعر لعويف القوافي الفزاريّ و الغناء للهذليّ رمل بالوسطى، عن عمرو، و ذكر حمّاد(1) بن إسحاق، عن أبيه أن فيه لحنا لجميلة و لم يذكر طريقته، و فيه لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى.

ص: 122


1- مد: «أحمد بن إسحاق».

9 - أخبار عويف و نسبه

نسبه

هو عويف بن معاوية بن عقبة بن حصن، و قيل: ابن عقبة بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤيّة بن لوذان بن ثعلبة بن عديّ بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.

و عويف القوافي شاعر مقلّ من شعراء الدّولة الأمويّة من ساكني الكوفة، و بيته أحد البيوت المقدّمة الفاخرة في العرب.

بيوتات العرب المشهورة بالشرف ثلاثة

قال أبو عبيدة: حدّثني أبو عمرو بن العلاء أنّ العرب كانت تعدّ البيوتات المشهورة بالكبر و الشّرف من القبائل بعد بيت هاشم بن عبد مناف في قريش ثلاثة بيوت، و منهم من يقول أربعة، أولها بيت آل حذيفة بن بدر الفزاريّ بيت قيس، و بيت آل زرارة بن عدس الدّارميّين بيت تميم، و بيت آل ذي الجدّين بن عبد اللّه بن همّام بيت شيبان، و بيت بني الدّيان من بني الحارث بن كعب بيت اليمن.

و أما كندة فلا يعدّون/من أهل البيوتات، إنما كانوا ملوكا.

كسرى يسأل النعمان عن شرف القبيلة

و قال ابن الكلبيّ : قال كسرى للنّعمان: هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة ؟ قال: نعم. قال: بأيّ شيء؟ قال: من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتّصل ذلك بكمال الرّابع، و البيت من قبيلته فيه، قال: فاطلب لي ذلك، فطلبه فلم يصبه إلا في آل حذيفة بن بدر بيت قيس بن عيلان، و آل حاجب بن زرارة بيت تميم، و آل ذي الجدّين بيت شيبان، و آل الأشعث بن قيس بيت كندة. قال: فجمع هؤلاء/الرّهط و من تبعهم من عشائرهم، فأقعد لهم الحكّام العدول، فأقبل من كلّ قوم منهم شاعرهم، و قال لهم: ليتكلّم كلّ رجل منكم بمآثر قومه و فعالهم، و ليقل شاعرهم فيصدق، فقام حذيفة بن بدر - و كان أسنّ القوم و أجرأهم مقدما - فقال: لقد علمت معدّ أنّ منا الشّرف الأقدم، و العزّ الأعظم، و مأثرة الصّنيع الأكرم، فقال من حوله: و لم ذاك يا أخا فزارة ؟ فقال: ألسنا الدّعائم الّتي لا ترام، و العزّ الّذي لا يضام! قيل له: صدقت، ثم قام شاعرهم فقال:

فزارة بيت العزّ و العزّ فيهم *** فزارة قيس حسب قيس نضالها

لها العزّة القعساء و الحسب الّذي *** بناه لقيس في القديم رجالها

فمن ذا إذا مدّ الأكفّ إلى العلا *** يمدّ بأخرى مثلها فينالها

فهيهات قد أعيا القرون مضت *** مآثر قيس مجدها و فعالها

ص: 123

و هل أحد إن مدّ يوما بكفّه *** إلى الشمس في مجرى النّجوم ينالها!

و إن يصلحوا يصلح لذاك جميعنا *** و إن يفسدوا يفسد على النّاس حالها(1)

ثم قام الأشعث بن قيس - و إنّما أذن له أن يقوم قبل ربيعة و تميم لقرابته بالنّعمان - فقال: لقد علمت العرب أنّا نقاتل عديدها الأكثر، و قديم زحفها الأكبر، و أنا غياث اللّزبات(2). فقالوا: لم يا أخا كندة ؟ قال: لأنّا ورثنا ملك كندة فاستظللنا بأفيائه، و تقلّدنا منكبه الأعظم، و توسّطنا بحبوحة الأكرم، ثم قام شاعرهم فقال:

/إذا قست أبيات الرّجال ببيتنا *** وجدت له فضلا على من يفاخر

فمن قال: كلاّ أو أتانا بخطّة *** ينافرنا يوما فنحن نخاطر

تعالوا فعدّوا يعلم النّاس أيّنا *** له الفضل فيما أورثته الأكابر

ثم قام بسطام بن قيس فقال: لقد علمت ربيعة أنّا بناة بيتها الّذي لا يزول، و مغرس عزّها الّذي لا ينقل، قالوا: و لم يا أخا شيبان ؟ قال: لأنّا أدركهم للثّأر، و أقتلهم للملك الجبّار، و أقولهم للحقّ ، و ألدّهم للخصم، ثم قام شاعرهم فقال:

لعمري لبسطام أحقّ بفضلها *** و أولى ببيت العزّ عزّ القبائل

فسائل - أبيت اللّعن - عن عزّ قومنا *** إذا جدّ يوم الفخر كلّ مناضل

أ لسنا أعزّ النّاس قوما و أسرة *** و أضربهم للكبش(3) بين القبائل

فيخبرك الأقوام عنها فإنها(4) *** وقائع ليست نهزة للقبائل

/وقائع عزّ كلّها ربعيّة *** تذلّ لهم فيها رقاب المحافل

إذا ذكرت لم ينكر النّاس فضلها *** و عاذ بها من شرّها كلّ قائل

و إنّا ملوك النّاس في كل بلدة *** إذا نزلت بالنّاس إحدى الزّلازل

ثم قام حاجب بن زرارة فقال: لقد علمت معدّ أنّا فرع دعامتها، و قادة زحفها، فقالوا له: بم ذاك يا أخا بني تميم ؟ قال: لأنّا أكثر الناس إذا نسبنا عددا(5)، و أنجبهم ولدا، و أنّا أعطاهم للجزيل، و أحملهم للثّقيل، ثم قام شاعرهم فقال:

لقد علمت أبناء(6) خندف أنّنا *** لنا العزّ قدما في الخطوب الأوائل

و أنّا هجان(7) أهل مجد و ثروة *** و عزّ قديم ليس بالمتضائل

/فكم فيهم من سيّد و ابن سيّد *** أغرّ نجيب ذي فعال و نائل

ص: 124


1- ف، المختار: فإن تصالحوا نصلح كذاك جميعنا و إن تفسدوا يفسد على الناس حلها
2- اللزبات جمع لزبة، و هي الشدة أو القحط.
3- الكبش هنا: سيد القوم و قائدهم، و قيل: المنظور إليهم فيهم.
4- ف: «فيخبرك الأقوام عنا بأنها».
5- مي، مد: «إذا شئنا عديدا».
6- مد: «آباء».
7- الهجان: أخيار و الخالص من كل شيء، يستوي فيه المذكر و المؤنث و المفرد و المثنى و الجمع.

فسائل - أبيت اللّعن - عنّا فإنّنا *** دعائم هذا النّاس عند الجلائل

ثم قام قيس بن عاصم فقال: لقد علم هؤلاء أنّا أرفعهم في المكرمات دعائم، و أثبتهم في النّائبات مقاوم، قالوا: و لم ذاك يا أخا بني سعد؟ قال: لأنّا أمنعهم للجار، و أدركهم للثأر، و أنّا لا ننكل(1) إذا حملنا، و لا نرام إذا حللنا، ثم قام شاعرهم فقال:

لقد علمت قيس و خندف كلّها *** و جلّ تميم و الجموع الّتي ترى(2)

بأنّا عماد في الأمور و أنّنا *** لنا الشّرف الضّخم المركّب في النّدى

و أنّا ليوث النّاس في كل مأزق *** إذا اجتزّ بالبيض الجماجم و الطّلى(3)

و أنّا إذا داع دعانا لنجدة *** أجبنا سراعا في العلا ثمّ من دعا

فمن ذا ليوم الفخر يعدل عاصما *** و قيسا إذا مدّ الأكفّ إلى العلا

فهيهات قد أعيا الجميع فعالهم *** و فاتوا بيوم الفخر مسعاة من سعى

فلما سمع كسرى ذلك منهم قال(4): ليس منهم إلا سيّد يصلح لموضعه، فأثنى حباءهم.

سبب تسميته عويف القوافي

و إنّما قيل لعويف: عويف القوافي لبيت قاله، نسخت خبره في ذلك من كتاب محمد بن الحسن بن دريد و لم أسمعه منه. قال: أخبرنا السّكن بن سعيد، عن محمد بن عبّاد، عن ابن الكلبيّ ، قال:

أقبل عويف القوافي - و هو عويف بن معاوية بن عقبة بن حصن بن حذيفة/الفزاريّ ، و إنّما قيل له عويف القوافي، كما حدّثني عمّار بن أبان بن سعيد بن عيينة، ببيت قاله:

سأكذب من قد كان يزعم أنّني *** إذا قلت قولا لا أجيد القوافيا

قال: فوقف على جرير بن عبد اللّه البجليّ و هو في مجلسه(5) فقال:

أصبّ على بجيلة من شقاها *** هجائي حين أدركني المشيب

فقال له جرير: أ لا أشتري منك أعراض بجيلة ؟ قال: بلى، قال: بكم ؟ قال: بألف درهم و برذون، فأمر له بما طلب فقال:

لو لا جرير هلكت بجيله *** نعم الفتى و بئست القبيله

فقال جرير: ما أراهم نجوا منك بعد.

نسخت من كتاب أبي سعيد السكريّ في كتاب/ «من قال بيتا فلقّب به» قال: أخبرني محمد بن حبيب قال:

و إنّما قيل لعويف: عويف القوافي لقوله، و قد كان بعض الشعراء عيّره بأنّه لا يجيد الشّعر، فقال أبياتا منها:

ص: 125


1- ف: «نتكل».
2- ف، مي، مد: «و الجموع الّذي ترى».
3- الطّلى: الرقاب. و في ف: «إذا اختل بالبيض الجماجم و الطلى».
4- في مد: «قال لقيس: ما منهم إلا سيد... الخ».
5- ب: «في مسجده».

سأكذب من قد كان يزعم أنّني *** إذا قلت شعرا(1) لا أجيد القوافيا

فسمّي عويف القوافي.

قصته مع عبد الملك بن مروان

أخبرنا محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثني أحمد(2) بن إسحاق، عن أبيه، قال: حدّثني عزيز بن طلحة بن عبد اللّه بن عثمان بن الأرقم المخزوميّ ، قال: حدّثني غير واحد من مشيخة قريش، قالوا:

لم يكن رجل من ولاة أولاد عبد الملك بن مروان كان أنفس على قومه، و لا أحسد/لهم من الوليد بن عبد الملك. فأذن يوما للنّاس فدخلوا عليه؛ و أذن للشّعراء، فكان أوّل من بدر بين يديه عويف القوافي الفزاريّ ، فاستأذنه في الإنشاد فقال: ما بقّيت لي بعد ما قلت لأخي بني زهرة! قال: و ما قلت له مع ما قلت لأمير المؤمنين ؟ قال: أ لست الّذي تقول:

يا طلح أنت أخو النّدى و حليفه *** إنّ النّدى من بعد طلحة ماتا

إنّ الفعال إليك أطلق رحله *** فبحيث بتّ من المنازل باتا

أ و لست الّذي تقول:

إذا ما جاء يومك يا بن عوف *** فلا مطرت على الأرض السّماء

و لا سار البشير(3) بغنم جيش *** و لا حملت على الطّهر النّساء

تساقى الناس بعدك يا بن عوف *** ذريع الموت ليس له شفاء

أ لم تقم علينا السّاعة يوم قامت عليه ؟ لا و اللّه لا أسمع منك شيئا، و لا أنفعك بنافعة أبدا، أخرجوه عنّي.

قصته مع طلحة أخي بني زهرة

فلما أخرج قال له القرشيّون و الشاميّون: و ما الّذي أعطاك طلحة حين استخرج هذا منك ؟ قال: أما و اللّه لقد أعطاني غيره أكثر من عطيّته، و لكن لا و اللّه ما أعطاني أحد قطّ أحلى في قلبي و لا أبقى شكرا و لا أجدر ألاّ أنساها ما عرفت الصّلات من عطيّته، قالوا: و ما أعطاك ؟ قال: قدمت المدينة و معي بضيعة(4) لي لا تبلغ عشرة دنانير، أريد أن أبتاع قعودا من قعدان الصّدقة، فإذا برجل في صحن السّوق على طنفسة(5) قد طرحت له، و إذا النّاس حوله، و إذا بين يديه إبل معلوفة(6) له، فظننت/أنه عامل السّوق، فسلّمت عليه، فأثبتني و جهلته، فقلت: أي رحمك اللّه، هل أنت معيني ببصرك على قعود من هذه القعدان تبتاعه لي ؟ فقال: نعم، أو معك ثمنه ؟ فقلت: نعم، فأهوى بيده إليّ فأعطيته بضيعتي، فرفع طنفسته و ألقاها تحتها، و مكث طويلا، ثم قمت إليه فقلت: أي رحمك اللّه، انظر في حاجتي فقال: ما منعني منك إلا النّسيان، أ معك حبل ؟ قلت: نعم، قال: هكذا أفرجوا، فأفرجوا عنه حتى استقبل

ص: 126


1- ف: «إذا قلت قولا».
2- ف: «حماد بن إسحاق».
3- ف، التجريد، مد: «العزيز».
4- بضيعة: تصغير بضاعة، و هي مقدار من المال، يعد للتجارة.
5- الطنفسة: البساط.
6- مي، المختار: «معقولة».

الإبل الّتي بين يديه، فقال: اقرن(1) هذه و هذه و هذه، فما برحت حتى أمر لي بثلاثين بكرة أدنى بكرة منها - و لا دنيّة فيها - خير من بضاعتي. ثم رفع طنفسته فقال: و شأنك ببضاعتك فاستعن بها على من ترجع إليه، فقلت: أي رحمك اللّه، أ تدري ما تقول! فما بقي عنده إلا من نهرني و شتمني، ثم بعث معي نفرا فأطردوها حتى أطلعوها من رأس/الثّنيّة، فو اللّه لا أنساه ما دمت حيّا أبدا.

و هذا الصّوت المذكور تمثّل به إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن بن حسن بن عليّ يوم مقتله.

حدّثني ابن عبيد اللّه(2) بن عمّار، قال: حدّثني ميسرة بن سيّار(3) أبو محمد، قال: حدّثني إبراهيم بن علي الرّافقيّ ، عن المفضّل الضّبّيّ ، و حدّثنا يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم، و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا:

حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني عبد الملك بن سليمان، عن عليّ بن الحسن، عن المفضّل الضّبّيّ ؛ و رواية ابن عمّار أتمّ من هذه الرّواية(4).

/و نسخت هذا الخبر أيضا من بعض الكتب عن أبي حاتم السّجستانيّ ، عن أبي عثمان اليقطريّ (5)، عن أبيه، عن المفضّل، و هو أتم الرّوايات، و أكثر اللفظ له قال:

قال المفضّل: خرجت مع إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن بن حسن، فلمّا صار بالمربد، وقف على رأس سليمان بن عليّ فأخرج إليه صبيان من ولده، فضمّهم(6) إليه و قال: هؤلاء و اللّه منّا و نحن منهم، إلا أنّ آباءهم فعلوا بنا و صنعوا، و ذكر كلاما يعتدّ عليهم فيه بالإساءة، ثم توجّه لوجهه و تمثّل:

مهلا بني عمّنا ظلامتنا *** إنّ بنا سورة من القلق

لمثلكم نحمل السيوف و لا *** تغمز أحسابنا من الدّقق(7)

إنّي لأنمي إذا انتميت إلى *** عزّ عزيز و معشر صدق

بيض سباط كأنّ أعينهم *** تكحل يوم الهياج بالعلق(8)

فقلت: ما أفحل هذه الأبيات، فلمن هي ؟ قال: لضرار بن الخطّاب الفهريّ ، قالها يوم الخندق، و تمثّل بها عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يوم صفّين، و الحسين بن عليّ يوم قتل، و زيد بن عليّ عليهم السّلام، و لحق القوم، ثم مضى إلى باخمرى(9)، فلما قرب منها أتاه نعي أخيه محمد، فتمثّل:

نبّئت أنّ بني ربيعة أجمعوا *** أمرا خلالهم لتقتل خالدا

إن يقتلوني لا تصب أرماحهم *** ثأري و يسعى القوم سعيا جاهدا

ص: 127


1- ف: «اقترن».
2- ف: «أحمد بن عبيد اللّه بن عمار».
3- ف، مي: «ميسرة بن حسان».
4- مي: «أتم الروايات».
5- ف: «القطيني».
6- ف: «صبيّان من ولده فضمهما إليه».
7- الدّقق: جمع داق و هم المظهرون عيوب الناس. و في ب: «من الرفق».
8- العلق جمع علوق، و هي المنية. و في ف، مي، مد: «بالزرق».
9- باخمري: موضع بين الكوفة و واسط، و هو إلى الكوفة أقرب؛ «معجم البلدان».

أرمي الطريق و إن صددت بضيقه *** و أنازل البطل الكميّ الجاحدا

/فقلت: لمن هذه الأبيات ؟ فقال: للأحوص بن جعفر بن كلاب، تمثّل بها يوم شعب جبلة، و هو اليوم الّذي لقيت فيه قيس تميما، قال: و أقبلت عساكر أبي جعفر، فقتل من أصحابه و قتل من القوم، و كاد أن يكون الظّفر له(1).

قال ابن عمّار في حديثه: قال المفضّل: فقال لي: حرّكني بشيء، فأنشدته هذه الأبيات:

ألا أيّها النّاهي فزارة بعد ما *** أجدّت بسير إنما أنت حالم

أبى كلّ حرّ أن يبيت بوتره *** و يمنع منه النوم إذا أنت نائم

أقول لفتيان العشيّ : تروّحوا *** على الجرد في أفواههنّ الشّكائم

قفوا وقفة من يحي لا يخز بعدها *** و من يخترم لا تتّبعه اللّوائم

و هل أنت إن باعدت نفسك منهم *** لتسلم فيما بعد ذلك سالم

فقال لي: أعد، فتنبّهت، و ندمت، فقلت: أو غير ذلك ؟ فقال: لا، أعدها، فأعدتها، فتمطّى في ركابيه حتى خلته قد قطعهما، ثم خمل فكان آخر العهد به.

هذه رواية ابن عمّار، و في الرواية الأخرى/: فحمل فطعن رجلا، و طعنه آخر، فقلت: أ تباشر الحرب بنفسك و العسكر منوط بك ؟ فقال: إليك يا أخا بني ضبّة، كأنّ عويفا أخا بني فزارة نظر في يومنا هذا حيث يقول:

ألمّت خناس و إلمامها *** أحاديث نفس و أحلامها(2)

يمانيّة من بني مالك *** تطاول في المجد أعمامها

/و إنّ لنا أصل جرثومة *** تردّ الحوادث أيّامها

تردّ الكتيبة مغلولة *** بها أفنها و بها آمها(3)

قال: و جاءه السّهم العائر(4) فشغله عني.

اعترض عمر بن عبد العزيز و أسمعه شعرا

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ ، قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ ، قال: حدّثني محمد بن معاوية الأسديّ ، قال: حدّثني أصحابنا الأسديّون، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ ، قال:

حضرت مع عمر بن عبد العزيز جنازة، فلما انصرف انصرفت معه، و عليه عمامة قد سدلها من خلفه، فما علمت به حتى اعترضه رجل على بعير فصاح به:

أجبني أبا حفص لقيت محمدا *** على حوضه مستبشرا و رآكا(5)

ص: 128


1- مي: «الغزو له».
2- ب: «و أسقامها».
3- ب: «و بها ذامها». و الأفن: ضعف الرأي، و الآم: العيب و النقص.
4- العائر من السهام: ما لا يدري راميه. و في ف: «العابر».
5- ف: «على حوضه يحظيك منه دراكا». و في المختار: «على حوضه يسقى به و يراكا». و في الخزانة 88:3: «على حوضه مستبشرا و أراكا».

فقال له عمر: لبّيك، و وقف و وقف النّاس معه، ثم قال له: فمه، فقال:

فأنت امرؤ كلتا يديك مفيدة *** شمالك خير من يمين سواكا

قال: ثم مه، فقال:

بلغت مدى المجرين قبلك إذ جروا *** و لم يبلغ المجرون بعد مداكا(1)

فجدّاك لا جدّين أكرم منهما *** هناك تناهي المجد ثم هناكا

فقال له عمر: أ لا أراك شاعرا! ما لك عندي من حقّ ، قال: لا، و لكني سائل/و ابن سبيل و ذو سهمة(2).

فالتفت عمر إلى قهرمانه فقال: أعطه فضل نفقتي، قال: و إذا هو عويف القوافي الفزاريّ .

هجا بني مرة

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدّثنا أبو غسّان دماذ، عن أبي عبيدة، قال:

لما كان يوم ابن جرح، و افتتلت(3) بنو مرّة و بنو حنّ بن عذرة، قال عويف القوافي لبني مرّة يهجوهم و يوبّخهم بتركهم نصرهم:

كنّا لكم يا مرّ أمّا حفيّة *** و كنتم لنا يا مرّ بوّا(4) مجلّدا

و كنتم لنا سيفا و كنّا وعاءه *** إذا نحن خفنا أن يكلّ فيغمدا

عقيل بن علفة يجيبه بقصيدة

فأجابه عقيل بن علّفة بقصيدته الّتي أوّلها:

أ ماويّ إنّ الركب مرتحل غدا *** و حقّ ثويّ نازل أن يزوّدا

يقول فيها يخاطب عويفا:

إذا قلت: قد سامحت سهما و مازنا(5) *** أبى النّسب الدّاني و كفرهم اليدا

و قد أسلموا أستاههم لقبيلة *** قضاعيّة يدعون حنّا(6) و أصيدا

فما كنت أمّا بل جعلتك لي أخا *** و قد كنت في النّاس الطّريد المشرّدا

عويف استها قد رمت ويلك مجدنا *** قديما فلم تعد الحمار المقيّدا

/و لو أنّني يوم ابن جرح لقيتهم *** لجرّدت في الأعداء عضبا مهنّدا

و أبيات عويف هذه يقولها يوم مرج راهط؛ و هي الحرب الّتي كانت بين قيس و كلب.

ص: 129


1- ف، المختار: «و لن يدرك المجرون بعد مداكا».
2- السّهمة: القرابة، و النصيب، و القسمة، و في المختار: «و ذو نهمة».
3- ف: «و أقبلت بنو مرة».
4- البو: جلد ولد الناقة يحشى تبنا بعد موته و يقرب من أمه لتدرّ عليه.
5- ف: «أيا قلب قد سامحت شمخا و مازنا».
6- حن: أبو حي من عذرة.
يوم مرج راهط

أخبرني بالسّبب فيه أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ ، قال: أخبرني سليمان بن أيّوب بن أعين أبو أيّوب المدينيّ (1)، قال: حدّثنا المدائنيّ ، قال:

كان بدء حرب قيس و كلب في فتنة ابن الزّبير ما كان من وقعة مرج راهط، و كان من قصّة المرج أنّ مروان بن الحكم بن أبي العاص قدم بعد هلاك يزيد بن معاوية و النّاس يموجون، و كان سعيد بن بحدل الكلبيّ على قنّسرين، فوثب عليه زفر بن الحارث فأخرجه منها و بايع لابن الزّبير، فلما قعد زفر على المنبر قال: الحمد للّه الّذي أقعدني مقعد الغادر الفاجر، و حصر، فضحك الناس من قوله، و كان النّعمان بن بشير على حمص، فبايع لابن الزّبير. و كان حسّان(2) بن بحدل على فلسطين و الأردنّ ، فاستعمل على فلسطين روح بن زنباع الجذاميّ ، و نزل هو الأردنّ فوثب نابل بن قيس الجذاميّ على روح بن زنباع، فأخرجه من فلسطين و بايع لابن الزّبير.

موقف الضحاك بن قيس الفهري

و كان الضّحّاك بن قيس الفهريّ عاملا ليزيد بن معاوية على دمشق حتى هلك، فجعل يقدّم رجلا و يؤخّر أخرى، إذا جاءته اليمانية و شيعة بني أميّة أخبرهم أنه أمويّ ، و إذا جاءته القيسيّة أخبرهم أنه يدعو إلى ابن الزّبير، فلما قدم مروان قال له الضّحّاك: هل لك أن تقدم على ابن الزّبير ببيعة أهل الشام ؟ قال: نعم، و خرج من عنده، فلقيه عمرو بن سعيد بن العاص، و مالك بن هبيرة، و حصين بن نمير الكنديّان، و عبيد اللّه بن زياد، فسألوه عمّا أخبره به الضّحّاك، فأخبرهم، فقالوا له: أنت شيخ بني أميّة، و أنت عمّ الخليفة، هلمّ نبايعك. فلما فشا ذلك أرسل الضّحّاك إلى بني أميّة/يعتذر إليهم، و يذكر حسن بلائهم عنده، و أنّه لم يرد شيئا يكرهونه، فاجتمع مروان بن الحكم، و عمرو بن سعيد بن العاص، و خالد و عبد اللّه ابنا يزيد بن معاوية و قال لهم: اكتبوا إلى حسّان بن بحدل فليسر من الأردنّ حتى ينزل الجابية، و نسير من هاهنا حتى نلقاه، فيستخلف رجلا ترضونه، فكتبوا إلى حسّان، فأقبل في أهل الأردنّ ، و سار الضّحّاك بن قيس و بنو أميّة في أهل دمشق، فلما استقلّت الرّايات من جهة دمشق، قالت القيسيّة للضّحّاك: دعوتنا لبيعة ابن الزّبير، و هو رجل هذه الأمّة، فلما تابعناك خرجت تابعا لهذا الأعرابيّ من كلب تبايع لابن أخته تابعا له، قال: فتقولون ما ذا؟ قالوا: نقول: أن تنصرف و تظهر بيعة ابن الزّبير و نظهرها معك، فأجابهم إلى ذلك، و سار حتى نزل مرج راهط، و أقبل حسّان حتى لقي مروان بن الحكم، فسار حتى دخل دمشق، فأتته اليمانية تشكر بلاء بني أميّة، فساروا مع مروان حتى نزلوا المرج على الضّحّاك، و هم نحو سبعة آلاف، و الضّحّاك في نحو من ثلاثين ألفا، فلقوا الضّحّاك، فقتل الضحّاك، و قتل معه أشراف من قيس، فأقبل زفر هاربا من وجهه ذاك حتى دخل قرقيسيا، و أقام عمير بن الحباب شيئا على طاعة بني مروان، ثم أقبل حتى دخل قرقيسيا على زفر فأقام معه، و ذلك بعد يوم خازر(3) حين قتل عبيد اللّه/بن زياد.

ص: 130


1- ب: «المدائنيّ ».
2- ف: «جساس».
3- خازر: نهر بين إربل و الموصل، يصب في دجلة عن (معجم البلدان).
ما قيل في يوم المرج

و أقبل زفر يبكي قتلى المرج و يقول:

لعمري لقد أبقت وقيعة راهط *** لمروان صدعا بيننا متنائيا

أ تذهب كلب لم تنلها رماحنا *** و يترك قتلى راهط هي ماهيا!

/فقد ينبت المرعى على دمن الثّرى *** و تبقى حزازات النّفوس كما هيا

أبعد ابن صقر و ابن عمرو تتابعا *** و مصرع همّام أمني الأمانيا(1)!

فقال ابن المخلاة الكلبيّ يجيبه:

لعمري لقد أبقت وقيعة راهط *** على زفر داء من الدّاء باقيا

تبكّي على قتلى سليم و عامر *** و ذبيان مغرورا(2) و تبكى البواكيا

و قال ابن المخلاة في يوم المرج:

و يوم ترى الرّايات فيه كأنّها *** حوائم طير مستدير و واقع

مضى أربع بعد اللّقاء و أربع *** و بالمرج باق من دم القوم(3) ناقع

طعنّا زيادا في استه و هو مدبر *** و ثور أصابته السّيوف القواطع

و نجّى حبيشا ملهب(4) ذو علالة *** و قد جذّ من يمنى يديه الأصابع

و قد شهد الصّفّين عمرو بن محرز *** فضاق عليه المرج و المرج واسع

و قال رجل من بني عذرة:

سائل بني مروان أهل العجّ (5) *** رهط النّبيّ و ولاة الحجّ

عنّا و عن قيس غداة المرج *** إذ يثقفون ثقفا بنجّ (6)

تسديس أطراف القنا المعوجّ *** إذ أخلف الضّحّاك ما يرجّي

مذ تركوا من بعد طول هرج(7) *** لحم ابن قيس للضّباع العرج

/و قال جوّاس بن القعطل(8) الكلابيّ في يوم المرج:

هم قتلوا براهط جدّ قيس(9) *** سليما و القبائل من كلاب

ص: 131


1- في معجم ياقوت 744:2 ط ليبزج: أبعد ابن عمرو و ابن معن تتابعا و مقتل همام أمني الأمانيا
2- مي: «معروفا».
3- ف: «من دم الجوف».
4- الملهب: الفرس الشديد الجري المثير للغبار. و جذّ: قطع.
5- مي، ف: «أهل الفج». و عج بالتلبية في الحج: رفع صوته.
6- مي، ف: «إذ يثقفون نقفا خرفج». و ثقفة بالرمح: طعنه. و النج: سيل الجرح بما فيه.
7- مي: «فتركوا من بين ضرب هرج». و في ف: «فتركوا من بعد...».
8- ب: «جواس بن قعطل». و في مد، ف: «جواس بن يعطل».
9- ف: «جلّ قيس».

و هم قتلوا بني بدر و عبسا *** و ألصق حرّ وجهك(1) بالتّراب

تذكّرت الذّحول(2) فلن تقضّى *** ذحولك(2) أو تساق إلى الحساب

إذا سارت قبائل من جناب *** و عوف أشحنوا(3) شمّ الهضاب

و قد حاربتنا فوجدت حربا *** تغصّك حين تشرب بالشّراب

فأقبل عمير يخطر، فخرج من قرقيسيا يتطرّف(4) بوادي كلب، فيغير عليها و على من أصاب من قضاعة و أهل اليمن، و يخصّ كلبا و معشر تغلب(5)، قبل أن تقع الحرب بين قيس و تغلب، فجعل أهل البادية ينتصفون من أهل القرار(6) كلّهم. فلما رأت كلب ما لقي أصحابهم، و أنهم لا يمتنعون من خيل الحاضرة، اجتمعوا إلى حميد بن حريث بن بحدل، فسار بهم حتى نزل تدمر، و به بنو نمير، و قد كان بين النّميريّين خاصة و بين الكلبيّين الذين بتدمر عقد مع ابن بحدل بن بعّاج الكلبيّ ، فأرسلت بنو نمير رسلا إلى حميد يناشدونه الحرمة، فوثب عليهم/ابن بعّاج الكلبيّ فذبحهم، و أرسلوا إليهم: إنّا قد قطعنا الّذي بينا و بينكم، فالحقوا بما يسعكم من/الأرض، فالتقوا فقتل ابن بعّاج و ظفر بالنّميريّين فقتلوا قتلا ذريعا و أسروا(7)، فقال راعي الإبل في قتل ابن بعّاج و لم يذكر غيره من الكلبيّين:

تجيء(8) ابن بعّاج نسور كأنّها *** مجالس تبغي بيعة عند تاجر

تطيف بكلبي عليه جديّة(9) *** طويل القرا(10) يقذفنه في الحناجر

يقول له من كان يعلم علمه *** كذاك انتقام اللّه من كلّ فاجر

و قد كان زفر بن الحارث لمّا أغار عمير بن الحباب على الكلبيّين قال يعيّرهم بقوله:

يا كلب قد كلب الزّمان عليكم *** و أصابكم منّي عذاب مرسل

إنّ السّماوة لا سماوة فالحقي *** بمنابت الزّيتون و ابني بحدل(11)

و بأرض عكّ و السّواحل إنّها *** أرض تذوّب باللّقاح و تهزل(12)

ص: 132


1- ف: «و ألصق خد قيس».
2- الذّحول: الثارات. و في ب، مي، مد: «الدخول... دخولك».
3- أشحنوا: ملئوا. و في مي: «أبحروا».
4- مي: «يتطوف».
5- ب، مي: «و يحض كلبا و معه تغلب».
6- القرار: الحضر. و في ب، مد، مي: «القرى».
7- ف: «فقتلوا قتلا شديدا و سيّروا».
8- مد، مي: «تجر».
9- الجدية: الدم.
10- القرا: الظهر.
11- في البيت إقواء. و السماوة: مائة لكلب بين الكوفة و الشام.
12- مي: «تذوب بها اللقاح».
حميد بن بحدل يغير على بوادي قيس

فجمع لهم حميد بن الحريث بن بحدل، ثم خرج يريد الغارة على بوادي قيس، فانتهى إلى ماء لبني تغلب، فإذا النّساء و الصّبيان يبكون، فقالت لهم النساء - و هن يحسبنهم قيسا -: ويحكم، ما ردّكم إلينا، فقد فعلتم بنا بالأمس ما فعلتم! فقالت لهم كلب: و ما لكم ؟ قالوا: أغار علينا بالأمس عمير بن الحباب، فقتل رجالنا، و استاق أموالنا، و لم يشككن أنّ الخيل خيل قيس و أنّ عميرا عاد إليهن، فقال بعض كلب لحميد: ما تريد من نسوة قد أغير عليهن و حربن، و صبية يتامى، و تدع عميرا. فاتّبعوه، فبينا هم يسيرون إذ أخذوا رجلا ربيئة للقوم. فسألوه فقال لهم: هذا الجيش/هاهنا و الأموال، و قد خرج عمير في فوارس يريد الغارة على أهل بيت من بني زهير بن جناب، أخبر عنهم مخبر، فأقام حميد حتى جنّ عليه اللّيل، ثم بيّت القوم بياتا. و قال حميد لأصحابه: شعاركم: نحن عباد اللّه حقّا. فأصابوا عامة ذلك العسكر، و نجا فيمن نجا رجل عريان قذف ثوبه و جلس على فرس عري، فلما انتهى إلى عمير، قال عمير: قد كنت أسمع بالنذير العريان(1) فلم أره، فهو هذا، ويلك ما لك! قال: لا أدري غير أنه لقينا قوم فقتلوا من قتلوا و أخذوا العسكر، فقال: أ فتعرفهم ؟ قال: لا، فقصد عمير القوم و قال لأصحابه: إن كانت الأعاريب فسيسارعون إلينا إذا رأونا، و إن كانت خيول أهل الشام فستقف. و أقبل عمير، فقال حميد لأصحابه: لا يتحرّكن منكم أحد، و انصبوا القنا، فحمل عمير حملة لم تحرّكهم، ثم حمل فلم يتحرّكوا، فنادى مرارا: ويحكم من أنتم ؟! فلم يتكلّموا، فنادى عمير أصحابه: ويلكم خيل بني بحدل و الأمانة، و انصرف على حاميته، فحمل عليه فوارس من كلب يطلبونه، و لحقه مولى لكلب يقال له شقرون، فاطّعنا، فجرح عمير و هرب حتى دخل قرقيسيا إلى زفر، و رجع حميد إلى من ظفر به من الأسرى و القتلى، فقطع سبالهم(2) و أنفسهم، فجعلها في خيط، ثم ذهب بها إلى الشّام، و قال قائل: بل بعث بها إلى عمير و قال: كيف ترى ؟ أ وقعي أم وقعك ؟ فقال في ذلك سنان بن جابر الجهنيّ :

لقد طار في الآفاق أنّ ابن بحدل *** حميدا شفى كلبا فقرّت عيونها

/و عرّف قيسا بالهوان(3) و لم تكن *** لتنزع إلاّ عند أمر يهينها

/فقلت له: قيس بن عيلان إنّه *** سريع - إذا ما عضّت الحرب - لينها

سما بالعتاق الجرد من مرج راهط *** و تدمر ينوي بذلها لا يصونها(4)

فكان لها عرض السّماوة ليلة *** سواء عليها سهلها و حزونها

فمن يحتمل في شأن كلب ضغينة *** علينا إذا ما حان في الحرب حينها

فإنّا و كلبا كاليدين متى تضع *** شمالك في شيء(5) تعنها يمينها

لقد تركت قتلي حميد بن بحدل *** كثيرا ضواحيها قليلا دفينها

و قيسيّة قد طلّقتها رماحنا *** تلفت كالصّيداء(6) أودى جنينها

ص: 133


1- ب: «كنت أسمع بالمدينة بلاء نذيره العريان».
2- السبال جمع سبلة؛ و هي الدائرة في وسط الشفة العليا، و قيل: ما على الشارب من الشعر. و في مي: «بنانهم».
3- ب: «بالقوافي».
4- ب: «و تدمر تنزى بزلها لا يصونها».
5- مي: «في أمر».
6- الصيداء: المائلة العنق.

و قال سنان أيضا في هذا الأمر بعد ما أوقع ببني فزارة:

يا أخت قيس سلي عنّا علانية *** كي تخبري من بيان العلم(1) تبيانا

إنّا ذوو حسب مال و مكرمة *** يوم الفخار و خير النّاس فرسانا

منّا ابن مرّة عمر و قد سمعت به *** غيث الأرامل لا يردين(2) ما كانا

و البحدليّ الّذي أردت فوارسه *** قيسا غداة اللّوى من رمل عدنانا

فغادرت حلبسا منها بمعترك *** و الجعد منعفرا لم يكس أكفانا

كائن تركنا غداة العاه(3) من جزر *** للطير منهم و من ثكلى و ثكلانا

و من غوان تبكّي لا حميم لها *** بالعاه(3) تدعو بني عمّ و إخوانا

فلما انتهى الخبر إلى عبد الملك بن مروان، و عبد اللّه و مصعب يومئذ حيّان، /و عند عبد الملك حسّان بن مالك بن بحدل و عبد اللّه بن مسعدة بن حكم الفزاريّ ، و جيء بالطّعام، فقال عبد الملك لابن مسعدة: ادن، فقال ابن مسعدة: لا و اللّه، لقد أوقع حميد بسليم و عامر وقعة لا ينفعني بعدها طعام حتى يكون لها غير، فقال له حسّان:

أ جزعت أن كان بيني و بينكم في الحاضرة على الطّاعة و المعصية، فأصبنا منكم يوم المرج، و أغار أهل قرقيسيا بالحاضرة على البادية بغير ذنب ؟ فلما رأى حميد ذلك طلب بثأر قومه، فأصاب بعض ما أصابهم، فجزعت من ذلك، و بلغ حميدا قول ابن مسعدة فقال: و اللّه لأشغلنّه بمن هو أقرب إليه من سليم و عامر.

ذكر في شعره إيقاع حميد ببني فزارة

فخرج حميد في نحو من مائتي فارس، و معه رجلان من كلب دليلان، حتى انتهى إلى بني فزارة أهل العمود لخمس عشرة مضت من شهر رمضان، فقال: بعثني عبد الملك بن مروان مصدّقا: فابعثوا إلى كل من يطيق أن يلقانا، ففعلوا، فقتلهم أو من استطاع منهم، و أخذ أموالهم، فبلغ قتلاهم نحوا من مائة و نيّف، فقال عويف القوافي:

منا اللّه(4) أن ألقى حميد بن بحدل *** بمنزلة فيها إلى النّصف معلما

لكيما نعاطيه و نبلو بيننا *** سريجيّة(5) يعجمن في الهام معجما

ألا ليت أنّي صادفتني منيّتي *** و لم أر قتلى العام يا أمّ أسلما

و لم أر قتلى لم تدع لي بعدها(6) *** يدين فما أرجو من العيش أجذما

/و أقسم ما ليث بخفّان(7) خادر *** بأشجع من جعد جنانا و مقدما

ص: 134


1- مي: «الأمر».
2- ف: «لا يؤذين ما كانا».
3- العاه: جبل بأرض فزارة (معجم البلدان). و في ب: «الفاه»، تصحيف.
4- منا اللّه كذا: قدره.
5- السريجية: السيوف المنسوبة إلى سريج، و هو قين كان يعملها:
6- مي: «و لم أر قتلى لم يدع لي قتلها».
7- خفان: موضع قرب الكوفة (معجم البلدان).

/يعني الجعد بن عمران بن عيينة و قتل يومئذ.

أسماء بن خارجة يشكو حميدا إلى عبد الملك
اشارة

فلما رجع عبد الملك من الكوفة و قتل مصعب، لحقه أسماء بن خارجة بالنّخيلة، فكلّمه فيما أتى حميد به إلى أهل العمود من فزارة، و قال: حدّثنا أنه مصدّقك و عاملك، فأجبناك و بك عذنا، فعليك و في ذمتك ما على الحرّ في ذمّته، فأقدنا من قضاعيّ سكّير، فأبى عبد الملك و قال: انظر في ذلك و أستشير(1) و حميد يجحد و ليست لهم بيّنة، فوداهم ألف و ألف و مائتي ألف، و قال: إني حاسبها في أعطيات قضاعة، فقال في ذلك عمرو بن مخلاة الكلبيّ .

صوت

خذوها يا بني ذبيان عقلا *** على الأجياد و اعتقدوا الخداما(2)

دراهم من بني مروان بيضا *** ينجّمها لكم عاما فعاما

و أيقن أنّه يوم طويل *** على قيس يذيقهم السّماما(3)

و مختبّ أمام القوم يسعى *** كسرحان التّنوفة حين ساما(4)

رأى شخصا على بلد بعيد *** فكبّر حين أبصره و قاما

و أقبل يسأل البشرى إلينا(5) *** فقال: رأيت إنسا أو نعاما

و قال لخيله سيري حميد *** فإنّ لكلّ ذي أجل حماما

/فما لاقيت من سجح(6) و بدر *** و مرّة فاتركي حطبا حطاما

بكل مقلّص عبل شواه *** يدقّ بوقع نابيه اللّجاما(7)

و كل طمرّة مرطى سبوح *** إذا ما شدّ فارسها الحزاما(8)

و قائلة على دهش و حزن *** و قد بلّت مدامعها اللّثاما

كأنّ بني فزارة لم يكونوا *** و لم يرعوا بأرضهم الثّماما(9)

و لم أر حاضرا منهم بشاء *** و لا من يملك النّعم الرّكاما(10)

ص: 135


1- ب: «انظر في ذلك و استشر».
2- في أنساب الأشراف: «على الأحياء و اعتقدوا الخزاما». و اعتقد الشيء: نقيض حله، و الخدام: جمع خدمة، و هي السير الغليظ المحكم مثل الحلقة تشد في رسغ البعير.
3- السمام جمع سم، و هو القاتل من الأدوية و نحوها.
4- المختب: المسرع. و السرحان: الذئب. و التنوفة: الأرض الواسعة أو الصحراء. و سام: ذهب في ابتغاء الشيء.
5- ف: «فأقبل يسأل اليسرى إلينا».
6- ف، مي: «شمخ».
7- ف: «يدق بهمز نابيه اللجاما».
8- الطمرة: الفرس الجواد الشديد العدو. المرطى: الخفيف شعر الجسد. و السبوح: الفرس يمد يديه في الجري.
9- الثمام: عشب من الفصيلة النخيلية.
10- النعم الركام: النعم الضخم.
فزارة تنتقم من قيس

قال: فلما أخذوا الدّية انطلقت فزارة فاشترت خيلا و سلاحا، ثم استتبعت سائر قبائل قيس، ثم أغارت على ماء يدعى بنات قين، يجمع بطونا من بطون كلب كثيرة و أكثر من عليه بنو عبد ودّ و بنو عليم بن جناب، و على قيس يومئذ سعيد بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، و حلحلة(1) بن قيس بن الأشيم بن يسار أحد بني العشراء(2)، فلما أغاروا نادوا بني عليم: إنا لا نطلبكم بشيء، و إنما نطلب بني عبد ودّ بما صنع الدّليلان اللّذان حملا حميدا، و هما المأمور و رجل آخر اسمه أبو أيّوب، فقتل من العبديّين تسعة عشر(3) رجلا، ثم مالوا على العليميّين فقتلوا منهم خمسين رجلا، و ساقوا أموالا.

موقف عبد الملك بن مروان و عرضه الدية

فبلغ الخبر عبد الملك، فأمهل حتى إذا ولي الحجّاج العراق كتب إليه يبعث إليه سعيد بن عيينة و حلحلة بن قيس و معهما نفر من الحرس، فلما قدم بهما عليه قذفهما في/السّجن و قال لكلب: و اللّه لئن قتلتم رجلا لأهريقنّ دماءكم، فقدم عليه من بني عبد ودّ عياض و معاوية ابنا ورد، و نعمان بن سويد، و كان سويد أبوه ابن مالك يومئذ أشرف من قتل يوم بنات قين، و كان شيخ بني عبد ودّ، فقال/له النّعمان: دماءنا يا أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك: إنما قتل منكم الصّبيّ الصّغير و الشيخ الفاني، فقال النّعمان: قتل منا و اللّه من لو كان أخا لأبيك لاختير عليك في الخلافة، فغضب عبد الملك غضبا شديدا، فقال له معاوية و عياض: يا أمير المؤمنين، شيخ كبير موتور.

فأعرض عنه عبد الملك و عرض الدّية، و جعل خالد بن يزيد بن معاوية و من ولدته كلب يقولون: القتل، و من كانت أمّه قيسيّة من بني أميّة يقولون: لا، بل الدّية كما فعل بالقوم، حتى ارتفع الكلام بينهم بالمقصورة، فأخرجهم عبد الملك و دفع حلحلة إلى بعض بني عبد ودّ، و دفع سعيد بن عيينة إلى بعض بني عليم، و أقبل عليهما عبد الملك فقال: أ لم تأتياني تستعدياني فأعديتكما و أعطيتكما الدّية، ثم انطلقتما فأخفرتما ذمّتي و صنعتما ما صنعتما، فكلّمه سعيد بكلام يستعطفه به و يرقّقه، فضرب حلحلة صدره و قال: أ ترى خضوعك لابن الزّرقاء نافعك عنده، فغضب عبد الملك و قال: اصبر حلحلة، فقال له: أصبر من عود بجنبيه جلّب(4) فقتلا و شقّ ذلك على قيس، و أعظمه أهل البادية منهم و الحاضرة، فقال في ذلك عليّ بن الغدير الغنويّ :

لحلحلة القتيل و لابن بدر *** و أهل دمشق أنجبة تبين

فبعد اليوم أيّام طوال *** و بعد خمود فتنتكم فتون

و كلّ صنيعة رصد ليوم *** تحلّ به لصاحبها الزّبون(5)

/خليفة أمّة قسرت عليه *** تخمّط(6) و استخفّ بمن يدين

ص: 136


1- ب: «طلحة بن قيس».
2- بنو العشراء: قوم من فزارة، و في ب: «بنو العسراء»، تصحيف.
3- ف: «فقتل من العبديين سبعة عشر رجلا».
4- جلب الرحل و جلبه (بالضم و الكسر) عيدانه.
5- ف: «تحل به لصاحبه الديون».
6- تخمط: تكبر.

فقد أتيا حميد ابن المنايا(1) *** و كلّ فتى ستشعبه المنون

و قال رجل من بني عبد ودّ:

نحن قتلنا سيّديهم بشيخنا *** سويد فما كانا وفاء به دما

و قال حلحلة و هو في السّجن:

لعمري لئن شيخا فزارة أسلما *** لقد خزيت قيس و ما ظفرت كلب

و قال أرطاة بن سهيّة يحرّض قيسا:

أ يقتل شيخنا و يرى حميد *** رخيّ البال منتشيا(2) خمورا

فإن دمنا بذاك و طال عمر *** بنا و بكم و لم نسمع نكيرا

فناكت أمّها قيس جهارا *** و عضّت بعدها مضر الأيورا

و قال عميرة بنت حسّان الكلبيّة تفخر بفعل حميد في قيس:

سمت كلب إلى قيس بجمع *** يهدّ مناكب الأكم الصّعاب

بذي لجب يدقّ الأرض حتى *** تضايق من دعا بهلا وهاب(3)

نفين إلى الجزيرة فلّ قيس *** إلى بقّ بها و إلى ذباب(4)

و ألفينا هجين بني سليم *** يفدّي المهر من حبّ الإياب

فلو لا عدوة المهر المفدّى *** لأبت و أنت منخرق الإهاب

/و نجّاه حثيث الرّكض منا *** أصيلانا و لون الوجه كابي

و آض كأنه يطلى بورس *** و دقّ هويّ كاسرة عقاب

حمدت اللّه إذ لقّى سليما *** على دهمان صقر بني جناب

تركن الرّوق(5) من فتيات قيس *** أيامى قد يئسن من الخضاب

فهنّ إذا ذكرن حميد كلب *** نعقن برنّة بعد انتحاب

متى تذكر فتى كلب حميدا *** تر القيسيّ يشرق بالشّراب

مدح عيينة بن أسماء رغم تطليقه أخته

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أخي الأصمعيّ ، عن عمه، قال:

أنشدني رجل من بني فزارة لعويف القوافي - و هو عويف بن معاوية بن عقبة بن حصن بن حذيفة الفزاري - و كانت أخته عند عيينة بن أسماء بن خارجة فطلّقها، فكان عويف مراغما لعيينة و قال: الحرة لا تطلّق بغير ما بأس،

ص: 137


1- ف: «فقد لقيا حميد ابن المنايا».
2- انتشى فلان: بدأ سكره.
3- هلا: زجر للخيل، وهاب: زجر للإبل عند السوق.
4- بق: مدينة على شاطئ الفرات، و ذباب: جبل بالمدينة.
5- الروق: الجميلات.

فلما حبس الحجّاج عيينة و قيّده قال عويف:

منع الرّقاد - فما يحسّ رقاد - *** خبر أتاك و نامت العوّاد(1)

خبر أتاني عن عيينة موجع *** و لمثله تتصدّع الأكباد

بلغ النفوس بلاؤها(2) فكأننا *** موتى و فينا الرّوح و الأجساد

ساء الأقارب يوم ذاك فأصبحوا *** بهجين قد سرّوا به الحسّاد(3)

/يرجون عثرة جدّنا و لو أنّهم *** لا يدفعون بنا المكاره بادوا

لمّا أتاني عن عيينة أنّه *** عان تظاهر فوقه الأقياد(4)

نخلت(5) له نفسي النّصيحة إنه *** عند الشّدائد تذهب الأحقاد

و ذكرت أيّ فتى يسدّ مكانه *** بالرّفد حين تقاصر الأرفاد

أم من يهين لنا كرائم ماله *** و لنا إذا عدنا إليه معاد

لو كان من حضن تضاءل ركنه *** أو من نضاد بكت عليه نضاد(6)

مدح عبد الرحمن ابن مروان و هو صغير السن

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ ، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: قال العتبيّ :

سأل عويف القوافي في حمالة، فمرّ به عبد الرّحمن بن محمد بن مروان و هو حديث السّنّ ، فقال له: لا تسأل أحدا و صر إليّ أكفك، فأتاه فاحتملها جمعاء له، فقال عويف يمدحه:

غلام رماه اللّه بالخير يافعا *** له سيمياء لا تشقّ على البصر

كأنّ الثّريّا علّقت في جبينه *** و في حدّه الشّعرى و في جيده القمر

و لمّا رأى المجد استعيرت ثيابه *** تردّى رداء واسع الذّيل و اتّزر

إذا قيلت العوراء أغضى(7) كأنّه *** ذليل بلا ذلّ و لو شاء لانتصر

رآني فآساني و لو صدّ لم ألم *** على حين لا باد يرجّى و لا حضر

/قال أبو زيد: هذه الأبيات لابن عنقاء الفزاريّ ، يقولها في ابن أخ له، كان قوم من العرب أغاروا على نعم ابن عنقاء، فاستاقوها، حتى لم يبق له منها شيء، فأتى ابن أخيه فقال له: يا بن أخي، إنه قد نزل بعمّك ما ترى،

ص: 138


1- في سمط اللآلي 813: «مما شجاك و حفت العواد». و في شرح ديوان الحماسة لأبي تمام 253:1 ط حجازي: «مما شجاك و نامت العواد».
2- مي، مد: «بلاؤنا». و في شرح ديوان الحماسة 253:1 و المختار: «بلاؤه».
3- هجين: موضع. «و قد سروا به الحساد» كذا في جميع النسخ بلغة أكلوني البراغيث و لعلها «قد سرت به الحساد».
4- في شرح ديوان الحماسة 254:1 ط حجازي: «أمسي عليه تظاهر الأقياد».
5- نخلت له نفسي النصيحة: أخلصتها.
6- حضن: جبل بأعلى نجد، و هو أول حدود نجد. و نضاد: جبل بالعالية، و بيني عند أهل الحجاز على الكسر و عند تميم ينزلونه منزلة ما لا ينصرف. و روى البيت في معجم البلدان 790:4: «لو كان من حضن قضاك منية»، و الأبيات في الخزانة 88:3 فيما عدا الأخير، و في شرح الحماسة 253:1 فيما عدا الرابع و الأخير.
7- ب: «ولّى».

فهل من حلوبة ؟ قال: نعم يا عمّ ، يروح المال و أبلغ مرادك، /فلما راح ماله قاسمه إيّاه و أعطاه شطره، فقال ابن عنقاء:

رآني على ما بي عميلة فاشتكى *** إلى ما له حالي أسرّ كما جهر

و ذكر بعد هذا البيت باقي الأبيات. قال أبو زيد: و إنّما تمثّلها(1) عويف.

رثى سليمان بن عبد الملك و مدح عمر بن عبد العزيز
اشارة

أخبرني محمد بن خلف وكيع، و الحسن بن عليّ قالا: حدّثنا الغلابيّ ، قالا: حدثنا محمد بن عبيد اللّه، عن عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان، قال:

لما مات سليمان بن عبد الملك و ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، وفد إليه عويف القوافي و قال شعرا رثى به سليمان و مدح عمر فيه، فلما دخل إليه أنشده:

لاح سحاب فرأينا برقه *** ثم تدانى فسمعنا صعقه

و راحت الرّيح تزجّي بلقه *** و دهمه ثم تزجّي ورقه

ذاك سقى قبرا فروّى ودقه *** قبر امرئ عظّم ربّي حقّه

قبر سليمان الّذي من عقّه *** و جحد الخير الّذي قد بقّه(2)

في المسلمين جلّه و دقّه *** فارق في الجحود منه صدقه(3)

قد ابتلى اللّه بخير خلقه *** ألقى إلى خير قريش و سقه

/يا عمر الخير الملقّى وفقه *** سمّيت بالفاروق فافرق فرقه

و ارزق عيال المسلمين رزقه *** و اقصد إلى الجود و لا توقّه

بحرك عذب الماء ما أعقّه *** ريّك فالمحروم من لم يسقه

فقال له عمر: لسنا من الشّعر في شيء، و مالك في بيت المال حقّ ، فألحّ عويف يسأله فقال: يا مزاحم، انظر فيما بقي من أرزاقنا فشاطره إيّاه، و لنصبر على الضّيق إلى وقت العطاء، فقال له عبد الرّحمن بن سليمان بن عبد الملك: بل توفّر يا أمير المؤمنين و عليّ رضا الرّجل، فقال: ما أولاك بذلك، فأخذ بيده و انصرف به إلى منزله، و أعطاه حتى رضى.

صوت

صفراء يطويها الضّجيع لصلبها *** طيّ الحمالة ليّن مثناها

نعم الضّجيع إذا النّجوم تغوّرت *** بالغور أولاها على أخراها

ص: 139


1- ف: «تمثل بها عويف».
2- بقه: وسعه.
3- مي: «فارق منه في الجحود صدقه».

عذب مقبّلها وثير ردفها *** عبل شواها طيّب مجناها

يا دار صهباء(1) الّتي لا أنتهي *** عن حبّها أبدا و لا أنساها

الشعر لعبد اللّه بن جحش الصعاليك، و الغناء فيه لعليّ بن هشام ثقيل أول بالوسطى من كتاب أحمد بن المكيّ .

ص: 140


1- ف: «يا دار صفراء».

10 - أخبار عبد اللّه بن جحش

طلاق صهباء من ابن عمها

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني محمد بن يحيى أبو غسّان، عن غسّان بن عبد الحميد قال:

كان بالمدينة امرأة يقال لها: صهباء من أحسن الناس وجها، و كانت من هذيل، فتزوّجها ابن عمّ لها، فمكث حينا معها لا يقدر عليها من/شدّة ارتتاقها، فأبغضته و طالبته بالطّلاق، فطلّقها. ثم أصاب الناس مطر شديد في الخريف، فسال العقيق سيلا عظيما، و خرج أهل المدينة، و خرجت صهباء معهم، فصادفت عبد اللّه بن جحش و أصحابه في نزهة، فرآها و افترقا.

يهيم بصهباء و يتقدم لخطبتها

ثم مضت إلى أقصى الوادي فاستنقعت في الماء و قد تفرّق النّاس و خفّوا، فاجتاز بها ابن جحش فرآها فتهالك عليها و هام بها، و كان بالمدينة امرأة تدلّ على النّساء يقال لها: قطنة، كانت تداخل القرشيّات و غيرهن، فلقيها ابن جحش فقال لها: اخطبي عليّ صهباء، فقالت: قد خطبها عيسى بن طلحة بن عبيد اللّه و أجابوه، و لا أراهم يختارونك عليه، فشتمها ابن جحش و قال لها: كلّ مملوك له فهو حرّ، لئن لم تحتالي فيها حتى أتزوّجها لأضربنّك ضربة بالسيف - و كان مقداما جسورا - ففرقت منه فدخلت على صهباء و أهلها، فتحدّثت معهم، ثم ذكرت ابن عمّها، فقالت لعمة صهباء: ما باله فارقها، فأخبرتها خبرها، و قالت: لم يقدر عليها و عجز عنها. فقالت لها:

و أسمعت صهباء -: إنّ هذا ليعتري كثيرا من الرجال فلا ينبغي أن تتقدّموا في أمرها إلا على من تختبرونه، و أما و اللّه لو كان ابن جحش لصهباء/لثقبها ثقب اللّؤلؤ و لو رتقت بحجر، ثم خرجت من عندهم.

زواجه بصهباء

فأرسلت إليها صهباء: مري ابن جحش فليخطبني، فلقيته قطنة فأخبرته الخبر، فمضى فخطبها، فأنعمت له(1)و أبى أهلها إلا عيسى بن طلحة، و أبت هي إلا ابن جحش، فتزوّجته و دخل بها و افتضّها، و أحبّ كلّ واحد منهما صاحبه فقال فيها:

نعم الضّجيع إذا النّجوم تغوّرت *** بالغور أولاها على أخراها

عذب مقبّلها وثير ردفها *** عبل شواها طيّب مجناها

صفراء يطويها الضجيع لجنبها *** طيّ الحمالة ليّن متناها(2)

ص: 141


1- أنعمت له: قالت: نعم.
2- ب: «لحينها» بدل «لجنبها». و في التجريد: «لحسنها». و في ف: «مثناها» بدل «متناها». (و انظر ص 211).

لو يستطيع ضجيعها لأجنّها *** في الجوف حبّ نسيمها و نشاها(1)

يا دار صهباء الّتي لا أنتهي *** عن ذكرها أبدا و لا أنساها

كان عبد الملك بن مروان معجبا بشعره

أخبرني حبيب(2) بن نصر المهلبي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني عبد الرّحيم(3) بن أحمد بن زيد بن الفرج، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه، قال:

كان عبد الملك بن مروان معجبا بشعر عبد اللّه بن جحش، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فورد كتابه و قد توفّي، فقال إخوانه لابنه:

ذهب ابنه إلى عبد الملك فطرده لتضييعه أدب أبيه
اشارة

لو شخصت إلى أمير المؤمنين عن إذنه لأبيك لعلّه كان ينفعك، ففعل، فبينا هو في طريقه إذ ضاع منه كتاب الإذن، فهمّ بالرّجوع، ثم مضى لوجهه، /فلما قدم على عبد الملك سأله عن أبيه فأخبره بوفاته، ثم سأله عن كتابه فأخبره بضياعه فقال له: أنشدني قول أبيك:

صوت

هل يبلغنها السّلام أربعة *** منّي و إن يفعلوا فقد نفعوا

على مصكّين من جمالهم *** و عنتريسين فيهما سطع(4)

قرّب جيراننا جمالهم *** صبحا فأضحوا بها قد انتجعوا

ما كنت أدري بوشك بينهم *** حتى رأيت الحداة قد طلعوا

/قد كاد(5) قلبي - و العين تبصرهم *** لما تولّى بالقوم - ينصدع

ساروا و خلّفت بعدهم دنفا *** أ ليس باللّه بئس ما صنعوا!

قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين ما أرويه، قال: لا عليك، فأنشدني قول أبيك:

صوت

أجدّ اليوم جيرتك الغيارا *** رواحا أم أرادوه ابتكارا

بعينك كان ذاك و إن يبينوا *** يزدك البين صدعا مستطارا(6)

بلى أبقت من الجيران عندي *** أناسا ما أوافقهم كثارا

ص: 142


1- مد: «في القلب» بدل «في الجوف». و في التجريد: «حب نسيمها و جناها». و في المختار: «شهوة ريحها و جناها». و النشا: نسيم الريح الطيبة (و انظر ص 215).
2- ف: «جعفر بن نصر المهلبي».
3- ف: «عبد الرحمن بن أحمد».
4- المصك: القوي. و العنتريس: الناقة القوية الغليظة. و السطع: طول العنق.
5- ف: «قد كان».
6- ف: «شعبا مستطارا».

و ما ذا كثرة الجيران تغنّي *** إذا ما بان من أهوى فسارا

/قال: لا و اللّه ما أرويه يا أمير المؤمنين، قال: و لا عليك، فأنشدني قول أبيك:

دار لصهباء الّتي لا ينثني *** عن ذكرها قلبي و لا أنساها

صفراء يطويها الضّجيع لصلبها *** طيّ الحمالة ليّن متناها

لو يستطيع ضجيعها لأجنّها *** في القلب شهوة ريحها و نشاها

قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين، ما أرويه، و إنّ صهباء هذه لأمّي، قال: و لا عليك، قد يبغض الرجل أن يشبّب بأمّه، و لكن إذا نسب بها غير أبيه، فأفّ لك! و رحم اللّه أباك، فقد ضيّعت أدبه و عققته؛ إذ لم ترو شعره. اخرج فلا شيء لك عندنا.

صوت

أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها *** و أدنت على الخدّين بردا مهلهلا

من اللاّء لم يحججن يبغين حسبة *** و لكن يقتّلن(1) البريء المغفّلا

رأتني خضيب الرّأس شمّرت مئزري *** و قد عهدتني أسود الرّأس مسبلا

خطوّا(2) إلى اللّذات أجررت مئزري *** كإجرارك الحبل الجواد المحجّلا

صريع الهوى لا يبرح الحبّ قائدي *** بشرّ(3) فلم أعدل عن الشّرّ معدلا

لدى الجمرة القصوى فريعت و هلّلت *** و من ريع في حجّ من الناس هلّلا

الشعر للعرجيّ ، و الغناء لعبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ ثقيل أول في الأول و الثاني و الخامس و السادس من هذه الأبيات، و هو من جيّد الغناء و فاخر الصنعة، و يقال: إنّه أول شعر(4) صنعه، و لعزار(5) المكّيّ في الثّالث و ما بعده ثاني ثقيل، عن يحيى المكّيّ و غيره، و فيه خفيف ثقيل ينسب إلى معبد و إلى ابن سريج و إلى الغريض، و فيه لإبراهيم لحن من كتابه غير مجنّس، و أنا ذاكر هاهنا أخبارا لهذا الشّعر من أخبار العرجيّ ؛ إذ كان أكثر أخباره قد مضى سوى هذه.

ص: 143


1- ف: «ليقنلن».
2- ف: «خطوطا».
3- ف: «لشرّ».
4- ف: «إنّه أول غناء صنعه».
5- ف: «و لغرار المكي».

11 - بعض أخبار للعرجي

امرأة تتمثل بشعره

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثنا إسماعيل بن مجمّع، عن المدائنيّ ، عن عبد اللّه بن سليم، قال:

قال عبيد اللّه بن عمر العمريّ :

خرجت حاجّا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت(1) فيه، فأدنيت ناقتي منها، ثم قلت لها: يا أمة اللّه، أ لست حاجّة! أ ما تخافين اللّه! فسفرت عن وجه يبهر الشّمس حسنا، ثم قالت: تأمّل يا عمّي، /فإنّي ممّن عنى العرجيّ بقوله:

من اللاء لم يحججن يبغين حسبة *** و لكن ليقتلن البريء المغفّلا

قال: فقلت لها: فإني أسأل اللّه ألاّ يعذّب هذا الوجه بالنّار. قال: و بلغ ذلك سعيد بن المسيّب فقال: أما و اللّه لو كان من بعض بغضاء أهل العراق لقال لها: اعزبي قبّحك اللّه، و لكنّه ظرف(2) عبّاد الحجاز.

و قد رويت هذه الحكاية عن أبي حازم بن دينار.

أخبرني به وكيع، قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثنا مصعب الزّبيريّ ، قال: حدّثني عبد الرّحمن بن أبي الحسن(3) و قد روى عنه ابن أبي ذئب، قال:

بينا أبو حازم يرمي الجمار إذ هو بامرأة متشعبذة - يعني حاسرة - فقال لها: أيّتها المرأة استتري، فقالت: إنّي و اللّه من اللّواتي قال فيهن الشّاعر قوله:

من اللاء لم يحججن يبغين حسبة *** و لكن ليقتلن البريء المغفّلا

و ترمي بعينيها القلوب و لا ترى *** لها رمية لم تصم منهن مقتلا

/فقال أبو حازم لأصحابه: ادعوا اللّه لهذه الصّورة الحسنة ألاّ يعذّبها بالنار.

و أبو حازم هذا هو أبو حازم بن دينار من وجوه التّابعين، قد روى عن سهل بن سعد و أبي هريرة، و روى عنه مالك و ابن أبي ذئب و نظراؤهما.

حدّثني عمّي، قال: حدّثني الكرانيّ ، قال: حدّثني العمريّ ، عن العتبيّ ، عن الحكم بن صخر، قال:

ص: 144


1- رفث في كلامه: أفحش.
2- ف، مي، مد: «و لكنه أظرف عباد الحجاز».
3- ف: «عبد اللّه بن أبي الحنبش».

انصرفت من منّي فسمعت زفنا(1) من بعض المحامل، ثم ترنّمت جارية فتغنّت:

من اللاّء لم يحججن يبغين حسبة *** و لكن ليقتلن البريء المغفّلا

فقلت لها: أ هذا مكان هذا يرحمك اللّه! فقالت: نعم و إيّاك أن تكونه.

ص: 145


1- زفن زفنا: رقص، و أصله الدفع الشديد و الضرب بالرجل كما يفعل الراقص.

12 - أخبار عبد اللّه بن العباس الربيعى

نسبه

عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع، و الرّبيع - على ما يدّعيه أهله - ابن يونس بن أبي فروة، و قيل: إنه ليس ابنه، و آل أبي فروة يدفعون ذلك و يزعمون أنه لقيط، وجد منبوذا، فكفله يونس بن أبي فروة و ربّاه، فلما خدم المنصور ادّعى إليه(1)، و أخباره مذكورة مع أخبار ابنه الفضل في شعر يغنّى به من شعر الفضل و هو:

كنت صبّا و قلبي اليوم سالي

و يكنى عبد اللّه بن العبّاس أبا العبّاس.

كان شاعرا مطبوعا و مغنيا جيد الصنعة

و كان شاعرا مطبوعا، و مغنّيا محسنا جيّد الصّنعة نادرها، حسن الرّواية، حلو الشعر ظريفه، ليس من الشّعر الجيّد الجزل و لا من المرذول، و لكنه شعر مطبوع ظريف مليح المذهب، من أشعار المترفين و أولاد النّعم.

حدّثني أبو القاسم الشّيربابكيّ (2) - و كان نديما لجدّي يحيى بن محمد - عن يحيى بن حازم، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، قال:

دخل محمد بن عبد الملك الزيات على الواثق و أنا بين يديه أغنّيه، و قد استعادني(3) صوتا فاستحسنه، فقال له محمد بن عبد الملك: هذا و اللّه يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه و استحسانك له و اصطناعك إيّاه، فقال:

أجل، هذا مولاي و ابن مولاي و ابن مواليّ لا يعرفون غير ذلك، فقال له: ليس كلّ مولى - يا أمير المؤمنين - /بوليّ /لمواليه، و لا كلّ مولّى متجمّل بولائه، يجمع ما جمع عبد اللّه من ظرف و أدب و صحّة عقل و جودة شعر، فقال الحسن له: صدقت يا محمد. فلما كان من الغد جئت محمد بن عبد الملك شاكرا لمحضره(4)، فقلت له في أضعاف كلامي: و أفرط الوزير - أعزه اللّه - في وصفي و تقريظي بكلّ شيء حتى وصفني بجودة الشّعر و ليس ذلك عندي، و إنما أعبث بالبيتين و الثّلاثة، و لو كان عندي أيضا شيء بعد ذلك لصغر عن أن يصفه الوزير، و محلّه في هذا الباب المحلّ الرفيع المشهور، فقال: و اللّه يا أخي، لو عرفت مقدار شعرك و قولك:

يا شادنا رام إذ مرّ *** في السّعانين قتلي

ص: 146


1- ادعى إليه: انتسب.
2- مي، مد: «السير بابكي». و في ب: «السشير بابكي».
3- ب: «و قد استغناني».
4- ف، مي: «شاكرا لحسن محضره».

يقول لي: كيف أصب *** حت كيف يصبح مثلي!

لما قلت هذا القول، و اللّه لو لم يكن لك شعر في عمرك كله إلا قولك: «كيف يصبح مثلي» لكنت شاعرا مجيدا.

حدّثني جحظة، قال: حدّثني أحمد بن الطّيّب، قال: حدّثني حمّاد بن إسحاق، قال:

سمعت عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ يقول: أنا أوّل من غنّى بالكنكلة(1) في الإسلام و وضعت هذا الصوت عليها:

أتاني يؤامرني في الصّبو *** ح ليلا فقلت له: غادها

سبب تعلمه الغناء

حدّثني جعفر بن قدامة، قال: حدّثنا عليّ بن يحيى المنجّم، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، قال:

كان سبب دخولي في الغناء و تعلّمي إياه أنّي كنت أهوى جارية لعمّتي رقيّة بنت الفضل بن الرّبيع، فكنت لا أقدر على ملازمتها و الجلوس معها خوفا من أن يظهر ما لها عندي فيكون ذلك سبب منعي منها، فأظهرت لعمّتي أنني أشتهي أن أتعلّم الغناء و يكون ذلك في ستر عن جدّي، و كان جدّي و عمّتي في حال من الرّقة عليّ و المحبّة لي لا نهاية وراءها، لأنّ أبي توفّي في حياة جدّي الفضل، فقالت: يا بنيّ ، و ما دعاك إلى ذلك ؟ فقلت: شهوة غلبت على قلبي إن منعت منها متّ غمّا، و كان لي في الغناء طبع قويّ ، فقالت لي: أنت أعلم و ما تختاره، و اللّه ما أحبّ منعك من شيء، و إني لكارهة أن تحذق ذلك و تشهر به فتسقط و يفتضح أبوك و جدّك، فقلت: لا تخافي ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به، و لازمت الجارية لمحبّتي إيّاها بعلّة الغناء، فكنت آخذ عنها و عن صواحباتها حتى تقدّمت الجماعة حذقا، و أقررن لي بذلك، و بلغت ما كنت أريد من أمر الجارية، و صرت ألازم مجلس جدّي فكان يسرّ بذلك و يظنّه تقرّبا مني إليه، و إنما كان وكدي فيه أخذ الغناء، فلم يكن يمرّ لإسحاق و لا لابن جامع و لا للزّبير بن دحمان و لا لغيرهم صوت إلا أخذته، فكنت سريع الأخذ، و إنما كنت أسمعه مرّتين أو ثلاثا، و قد صحّ لي و أحسست من نفسي قوّة في الصّناعة، فصنعت أول صوت صنعته في شعر العرجيّ :

أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها *** و أدنت على الخدّين بردا مهلهلا

ثم صنعت في:

أقفر من بعد خلّة سرف *** فالمنحنى فالعقيق فالجرف(2)

/و عرضتهما على الجارية الّتي كنت أهواها و سألتها عمّا عندها فيهما، فقالت: لا يجوز/أن يكون في الصّنعة شيء فوق هذا، و كان جواري الحارث بن بُسخُنَّر(3) و جواري ابنه محمد يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جواري

ص: 147


1- مي، مد: «بالكبكلة». و في المختار: «بالكلكلة». و جاء في مقال للأستاذ بهجت الأثري عضو المجمع اللغوي عنوانه «الألفاظ الحضارية و دلالتها التاريخية»؛ الكنكلة: آلة طرب هندية ذات وتر واحد يمر على قرعة فيقوم مقام أوتار العود «عن كتاب فخر السودان على البيضان للجاحظ»، أو لعلها نغمة من نغمات الموسيقى أو آلة من آلات الطرب عرفها العباسيون و استعملوها في أواخر القرن الثاني. و انظر «نهاية الأرب» للنويري 22:5.
2- سرف و المنحنى و العقيق و الجرف: مواضع. و في ب: «من بعد حلة».
3- ب: «بشخير».

عمّتي و جواري جدّي و يأخذن أيضا مني ما ليس عندهن من غناء دارنا، فسمعنني ألقي هذين الصّوتين على الجارية، فأخذنهما منّي و سألن الجارية عنهما، فأخبرتهن أنّهما من صنعتي، فسألنها أن تصحّحهما لهنّ ، ففعلت فأخذنهما عنها، ثم اشتهر حتى غنّي الرّشيد بهما يوما، فاستظرفهما و سأل إسحاق: هل تعرفهما؟ فقال: لا، و إنّهما لمن حسن الصّنعة و جيّدها و متقنها، ثم سأل الجارية عنهما فتوقّفت خوفا من عمّتي و حذرا أن يبلغ جدّي أنها ذكرتني، فانتهرها الرشيد، فأخبرته بالقصة.

جدّه ينفي معرفته بأنه يغني

فوجّه من وقته فدعا بجدّي، فلما أحضره قال له: يا فضل، يكون لك ابن يغنّي ثم يبلغ في الغناء المبلغ الّذي يمكنه معه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق و سائر المغنّين و يتداولهما جواري القيان و لا تعلمني بذلك ؟ كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن! فقال له جدّي: و حقّ ولائك يا أمير المؤمنين و نعمتك، و إلاّ فأنا نفيّ منهما بريء من بيعتك(1) و عليّ العهد و الميثاق و العتق و الطّلاق، إن كنت علمت بشيء من هذا قطّ إلا منك السّاعة، فمن هذا من ولدي ؟ قال: عبد اللّه بن العبّاس هو، فأحضرنيه السّاعة. فجاء جدّي و هو يكاد أن ينشقّ غيظا، فدعاني، فلمّا خرجت إليه شتمني و قال: يا كلب، بلغ من أمرك و مقدارك أن تجسر على أن تتعلّم الغناء بغير إذني، ثم زاد ذلك حتى صنعت، و لم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري، ثم تجاوزتهن إلى جواري الحارث بن بُسخُنَّر، فاشتهرت و بلغ أمرك أمير المؤمنين، فتنكّر لي و لا مني و فضحت آباءك/في قبورهم، و سقطت الأبد إلا من المغنّين و طبقة الخنياكرين(2). فبكيت غمّا بما جرى، و علمت أنه قد صدق، فرحمني و ضمّني إليه و قال: قد صارت الآن مصيبتي في أبيك مصيبتين: إحداهما به و قد مضى و فات، و الأخرى بك و هي موصولة بحياتي، و مصيبة باقية العار عليّ و على أهلي بعدي، و بكى و قال: عزّ عليّ يا بنيّ أن أراك أبدا ما بقيت على غير ما أحبّ ، و ليست لي في هذا الأمر حيلة، لأنّه أمر قد خرج عن يدي، ثم قال: جئني بعود حتى أسمعك و انظر كيف أنت، فإن كنت تصلح للخدمة في هذه الفضيحة، و إلا جئته بك منفردا و عرّفته خبرك و استعفيته لك، فأتيته بعود و غنّيته غناء قديما، فقال: لا، بل غنّي صوتيك اللذين صنعتهما، فغنّيته إيّاهما فاستحسنهما و بكى، ثم قال: بطلت و اللّه يا بنيّ و خاب أملي فيك، فوا حزني عليك و على أبيك! فقلت له: يا سيّدي، ليتني متّ من قبل ما أنكرته أو خرست، و ما لي حيلة و لكنّي و حياتك يا سيّدي، و إلا فعليّ عهد اللّه و ميثاقه و العتق و الطّلاق و كلّ يمين يحلف بها حالف لازمة لي، لا غنّيت أبدا إلا لخليفة أو وليّ عهد، فقال: قد أحسنت فيما نبّهت(3) عليه من هذا.

غنى أمام الرشيد فطرب و كافأه و كساه

ثم ركب و أمرني، فأحضرت فوقفت بين يدي الرّشيد و أنا أرعد فاستدناني حتى صرت أقرب الجماعة إليه و مازحني و أقبل عليّ و سكّن منّي، و أمر جدّي بالانصراف و أمر الجماعة فحدّثوني(4)، و سقيت أقداحا و غنى المغنّون جميعا، فأومأ إليّ إسحاق الموصليّ بعينه/أن ابدأ فغنّ إذا بلغت النّوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك، ليكون ذلك أصلح

ص: 148


1- ف: «بريء من تبعتك».
2- خنياگر: كلمة فارسية بمعنى المطرب و الموسيقيّ .
3- ف: «تنبهت عليه من هذا».
4- ف، المختار: «و أومأ إلى الجماعة فخدموني».

و أجود بك، فلما جاءت النّوبة إليّ أخذت عودا ممّن كان إلى جنبي و قمت قائما و استأذنت في الغناء، فضحك الرشيد و قال: غنّ جالسا، فجلست و غنّيت لحني الأوّل/فطرب و استعاده ثلاث مرّات، و شرب عليه ثلاثة أنصاف، ثم غنّيت الثاني، فكانت هذه حاله، و سكر، فدعا بمسرور فقال له: احمل السّاعة مع عبد اللّه عشرة آلاف دينار و ثلاثين ثوبا من فاخر ثيابي، و عيبة مملوءة طيبا، فحمل ذلك أجمع معي.

المعتصم يأمره بالتكفير عن يمينه و الغناء لأصحابه جميعا

قال عبد اللّه: و لم أزل كلّما أراد وليّ عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة الوالي أ هو أم غيره دعاني فأمرني بأن أغنّي، فأعرّفه بيميني، فيستأذن الخليفة في ذلك، فإن أذن لي في الغناء عنده عرف أنه وليّ عهد، و إلاّ عرف أنه غيره حتى كان آخرهم الواثق، فدعاني في أيّام المعتصم و سأله أن يأذن لي في الغناء، فأذن لي، ثم دعاني من الغد فقال: ما كان غناؤك إلا سببا لظهور سرّي و سرّ الخلفاء قبلي، و لقد هممت أن آمر بضرب رقبتك. لا يبلغني أنّك امتنعت من الغناء عند أحد، فو اللّه لئن بلغني لأقتلنّك، فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت، و طلق من كان يوجد عندك من الحرائر، و استبدل بهنّ و عليّ العوض من ذلك، و أرحنا من يمينك هذه المشئومة، فقمت و أنا لا أعقل خوفا منه، فأعتقت جميع من كان بقي عندي من مماليكي، الذين حلفت يومئذ و هم في ملكي، و تصدّقت بجملة، و استفتيت في يميني أبا يوسف القاضي حتى خرجت منها، و غنّيت بعد ذلك إخواني جميعا حتى اشتهر أمري، و بلغ المعتصم خبري، فتخلّصت منه، ثم غضب عليّ الواثق لشيء أنكره، و ولي الخلافة و هو ساخط عليّ فكتبت إليه:

اذكر أمير المؤمنين وسائلي(1) *** أيّام أرهب سطوة السّيف

أدعو إلهي أن أراك خليفة *** بين المقام و مسجد الخيف

فدعاني و رضي عنّي.

/حدّثني سليمان بن أبي شيخ قال:

دخلت على العبّاس بن الفضل بن الربيع ذات يوم و هو مختلط مغتاظ و ابنه عبد اللّه عنده، فقلت له: ما لك أمتع اللّه بك ؟ قال: لا يفلح و اللّه ابني عبد اللّه أبدا. فظننته قد جنى جناية، و جعلت أعتذر إليه له، فقال: ذنبه أعظم من ذلك و أشنع، فقلت: و ما ذنبه ؟ قال: جاءني بعض غلماني فحدّثني أنه رآه بقطربّل يشرب نبيذ الدّاذيّ (2) بغير غناء، فهل هذا فعل من يفلح ؟ فقلت له و أنا أضحك: سهّلت عليّ القصّة، قال: لا تقل ذاك فإنّ هذا من ضعة النّفس و سقوط الهمّة، فكنت إذا رأيت عبد اللّه بعد ذلك في جملة المغنّين، و شاهدت تبذّله في هذه الحال و انخفاضه عن مراتب أهله تذكّرت قول أبيه فيه.

صنع غناء في شعر لأبي العتاهية و غناه
اشارة

قال: و سمعته يوما يغني بصنعته في شعر أبي العتاهية:

ص: 149


1- المختار: «رسائلي».
2- الداذي: شراب الفساق. و في ف: «يشرب الداذيّ ».
صوت

أنا عبد لها مقرّ و ما *** يملك غيرها من النّاس رقّا

ناصح مشفق و إن كنت ما أر *** زق منها و الحمد للّه عتقا

ليتني متّ فاسترحت فإنّي *** أبدا ما حييت منها ملقّى

/لحن عبد اللّه بن العبّاس في هذا الشّعر رمل.

إسحاق الموصلي يصنع له لحنا من شعره

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني عليّ بن يحيى و أحمد بن حمدون، عن أبيه. و أخبرني جحظة، عن أبي عبد اللّه الهاشميّ ، أنّ إسحاق الموصليّ دخل يوما إلى الفضل/بن الرّبيع و ابن ابنه عبد اللّه بن العبّاس في حجره قد أخرج إليه و له نحو السّنتين، و أبوه العبّاس واقف بين يديه، فقال إسحاق للوقت:

مدّ لك اللّه الحياة مدّا *** حتى يكون ابنك هذا جدّا

مؤزّرا بمجده مردّى *** ثم يفدّى مثل ما تفدّى

أشبه منك سنّة(1) و خدّا *** و شيما محمودا و مجدا

كأنّه أنت إذا تبدّى

قال: فاستحسن الفضل الأبيات و صنع فيها إسحاق لحنه المشهور، و قال جحظة في خبره عن الهاشميّ ، و هو رمل ظريف من حسن الأرمال و مختارها، فأمر له الفضل بثلاثين ألف درهم.

أصبح العباس بن الفضل مهموما فنشطه الشعر و الشراب

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني عبد اللّه بن عمر، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك، قال:

حدّثني بعض ندماء الفضل بن الربيع قال: كنا عند الفضل بن الربيع في يوم دجن، و السماء ترشّ (2) و هو أحسن يوم و أطيبه، و كان العبّاس يومئذ قد أصبح مهموما، فجهدنا أن ينشط، فلم تكن لنا في ذلك حيلة، فبينا نحن كذلك إذ دخل عليه بعض الشعراء، إمّا الرّقاشيّ و إمّا غيره من طبقته، فسلّم و أخذ بعضادتي الباب ثم قال:

ألا أنعم صباحا يا أبا الفضل(3) و اربع *** على مربع القطربليّ المشعشع

و علّل نداماك العطاش بقهوة *** لها مصرع في القوم غير مروّع

فإنك لاق كلّما شئت ليلة *** و يوما يغصّان الجفون بأدمع

/قال: فبكى العبّاس و قال: صدقت و اللّه، إن الإنسان ليلقى ذلك متى يشاء، ثم دعا بالطّعام فأكل، ثم دعا بالشّراب فشرب و نشط، و مرّ لنا يوم حسن طيّب.

ص: 150


1- السنة: الوجه أو الجبهة.
2- ف: «تطش». و في مد: «تبغش». و في مي: «تبعثر».
3- ت: «أيها الفضل».
وسط أحمد بن المرزبان المنتصر

حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال:

جاءني عبد اللّه بن العبّاس في خلافة المنتصر و قد سألني عرض رقعة عليه، فأعلم أنّي نائم، و قد كنت شربت باللّيل شربا كثيرا، فصلّيت الغداة و نمت، فلما انتبهت إذا رقعة عند رأسي و فيها مكتوب:

أنا بالباب واقف منذ أصب *** حت على السّرج ممسك بعناني

و بعين البوّاب كلّ الّذي بي *** و يراني كأنّه لا يراني

فأمرت بإدخاله، فدخل، فعرّفته خبري و اعتذرت إليه و عرضت رقعته على المنتصر و كلّمته حتى قضى حاجته.

غناؤه مع إسحاق

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حمّاد بن إسحاق، قال:

دعا عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ يوما أبي، و سأله أن يبكر إليه(1) ففعل، فلما دخل بادر إليه عبد اللّه بن العبّاس ملتقيا و في يده العود و غنّاه:

قم نصطبح يفديك كلّ مبخّل *** عاب(2) الصّبوح لحبّه للمال

من قهوة صفراء صرف(3) مزّة *** قد عتّقت في الدّنّ مذ أحوال

/قال: و قدّم الطّعام فأكلنا و اصطبحنا، و اقترح أبي هذا الصّوت عليه بقيّة يومه.

يناشد الشعر مع إسحاق بعد أن غنى

قال: و أتيته في داره بالمطيرة(4) عائدا، فوجدته في عافية، فجلسنا نتحدّث فأنشدته لذي الرّمّة:

إذا ما امرؤ حاولن أن يقتتلنه *** بلا إحنة بين النّفوس و لا ذحل

تبسّمن عن نور الأقاحيّ في الثّرى *** و فتّرن عن أبصار مكحولة نجل

و كشفن عن أجياد غزلان رملة *** هجان فكان القتل أو شبهة(5) القتل

و إنّا لنرضى حين نشكو بخلوة *** إليهن حاجات النّفوس بلا بذل

و ما الفقر أزرى عندهنّ بوصلنا *** و لكن جرت أخلاقهنّ على البخل

قال: فأنشدني هو:

أنّى اهتدت لمناخنا(6) جمل *** و من الكرى لعيوننا كحل

ص: 151


1- ب: «يبكر عليه».
2- ب: «دأب الصبوح».
3- ب: «صفر مرة».
4- المطيرة: قرية من نواحي سامراء، كانت من متنزهات بغداد و سامراء.
5- ف: «أو شبه». و في مي، مد: «مشبه القتل».
6- المناخ: محل الإقامة.

طرقت أخا سفر و ناجية *** خرقاء عرّفني بها الرّحل(1)

في مهمه هجع الدّليل به *** و تعلّلت بصريفها البزل(2)

فكأنّ أحدث من ألمّ به *** درجت على آثاره النّمل

قال إسحاق: فقال لي عبد اللّه بن العبّاس: كلّ ما يملك في سبيل اللّه إن فارقتك و لم نصطبح على هذين الشّعرين، و أنشدك و تنشدني، ففعلنا ذلك و ما غنّينا و لا غنّينا.

اصطبح مع خادم صالح بن عجيف على زنا بنت الخس

أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

/لقيت عبد اللّه بن العبّاس يوما في الطّريق فقلت له: ما كان خبرك أمس ؟ فقال: اصطحبت، فقلت: على ما ذا و مع من ؟ فقال: مع خادم صالح بن عجيف، و أنت به عارف، و بخبري معه و محبّتي له عالم، فاصطبحنا على زنا بنت الخسّ (3) لمّا حملت من زنا، و قد سئلت: ممّن حملت ؟ فقالت:

أشمّ كغصن البان جعد مرجّل *** شغفت به لو كان شيئا مدانيا

ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه *** سلافا و لا عذبا من الماء صافيا(4)

و أقسم لو خيّرت بين فراقه *** و بين أبي لاخترت أن لا أباليا

فإن لم أوسّد ساعدي بعد هجعة(5) *** غلاما هلاليّا فشلّت بنانيا(6)

فقلت له: أقمت على لواط و شربت على زنا، و اللّه ما سبقك إلى هذا أحد.

طلب من فائز غلام محمد بن راشد الغناء و هم يشربون

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ ، قال: أخبرني ميمون بن هارون، قال:

كان محمد بن راشد الخنّاق عند عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع على القاطول في أيام المعتصم، و كان لمحمد بن راشد غلام يقال له: فائز، يغنّي غناء حسنا، فأظلّتهم سحابة و هم يشربون، فقال عبد اللّه بن العبّاس:

محمد قد جادت علينا بمائها *** سحابة مزن برقها يتهلّل

و نحن من القاطول في متربّع *** و منزلنا فيه المنابت مبقل(7)

فمر فائزا يشدو إذا ما سقيتني *** أ عن ظعن الحيّ الألى كنت تسأل

و لا تسقني إلا حلالا فإنّني *** أعاف من الأشياء ما لا يحلّل

ص: 152


1- ف، مد: «عرّق نيّها الرحل». و في مي: «عرق قتبها». و الناجية: الناقة السريعة.
2- المهمة: المفازة البعيدة، و الصريف: صرير ناب البعير، و البزل جمع بازل، و هو البعير الّذي انشق نابه بدخوله في السنة التاسعة.
3- ب: «الحسن». و في مي، مد: «الخنس».
4- ف: «سلافا و لا ماء من المزن صافيا».
5- ف: «بعد رقدة».
6- المختار: «فشلت يمينيا».
7- القاطول: اسم نهر كأنه مقطوع من دجلة، و كان في موضع سامراء قبل أن تعمر و كان الرشيد أول من حفر هذا النهر. (معجم البلدان). و في ب: «و منزلنا جم المذانب مبقل».

/قال: فأمر محمد بن راشد غلامه فائزا، فغنّاه بهذا الصوت، و شرب عليه حتى سكر.

قال: و كان أبو أحمد بن الرّشيد قد عشق فائزا، فاشتراه من محمد بن راشد بثلاثمائة ألف درهم، فبلغ ذلك المأمون، فأمر بأن يضرب محمد بن راشد ألف سوط، ثم سئل فيه فكفّ عنه، و ارتجع منه نصف المال، و طالبه بأكثر فوجده قد أنفقه و قضى دينه، ثم حجر على أبي أحمد بن الرّشيد، فلم يزل محجورا عليه طوال أيام المأمون؛ و كان أمر ماله مردودا إلى مخلد بن أبان.

شرب الخمر في ليلة من رمضان إلى الفجر

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرني ابن الجرجانيّ (1)، قال:

اتفق يوم النيروز في شهر رمضان، فشرب عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل في تلك اللّيلة إلى أن بدا الفجر أن يطلع، و قال في ذلك و غنّى فيه قوله:

اسقني صفراء صافية *** ليلة النّيروز و الأحد

حرّم الصّوم اصطباحكما *** فتزوّد شربها لغد

صنع لحنا للواثق و غناه في يوم نيروز فلم يستعد غيره

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني إبراهيم بن المدبّر، قال:

قال لي محمد بن الفضل الجرجانيّ : أنشدت عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ للمعلّى الطائيّ :

باكر صبوحك صبحة النّيروز *** و اشرب بكأس مترع و بكوز

ضحك الربيع إليك عن نوّاره *** آس و نسرين و مرماحوز

فاستعادنيهما فأعدتهما عليه، و سألني أن أمليهما، و صنع فيهما لحنا غنّى به الواثق في يوم نيروز، فلم يستعد غيره يومئذ، و أمر له بثلاثين ألف درهم.

تأثر من شعر لجميل إلى أن بكى
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني عليّ بن يحيى، قال:

أنشدني عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع لجميل، و أنشدنيه و هو يبكي و دموعه تنحدر على لحيته.

صوت

فما لك لما خبّر الناس أنّني *** غدرت بظهر الغيب لم تسليني(2)

فأحلف بتّا أو أجيء بشاهد *** من الناس عدل إنّهم ظلموني

قال: و له فيه صنعة من خفيف الثّقيل و خفيف الرمل.

ص: 153


1- ف: «ابن الجرجراني».
2- ب: «لم تسأليني»، و هو بذلك يختل وزنه.
كان مصطبحا دهره و يقول الشعر في الصبوح
اشارة

أخبرني عمّي، قال: حدّثني عبيد اللّه بن محمد بن عبد الملك الزّيات، قال: حدّثنا نافذ مولانا، قال:

كان عبد اللّه بن العبّاس صديقا لأبيك، و كان يعاشره كثيرا، و كان عبد اللّه بن العباس مصطبحا دهره لا يفوته ذلك إلاّ في يوم جمعة أو صوم شهر رمضان، و كان يكثر المدح للصّبوح و يقول الشّعر فيه، و يغنّي فيما يقوله، قال عبيد اللّه: فأنشدني نافذ مولانا و غيره من أصحابنا في ذلك، منهم حمّاد بن إسحاق:

صوت

و مستطيل على الصّهباء باكرها *** في فتية باصطباح الرّاح حذّاق

فكلّ شيء رآه خاله(1) قدحا *** و كلّ شخص رآه خاله(1) الساقي

قال: و لحنه فيه خفيف رمل ثقيل. قال حمّاد: و كان أبي يستجيد هذا الصّوت من صنعته/، و يستحسن شعره و يعجب من قوله:

/فكلّ شيء رآه خاله قدحا *** و كلّ شخص رآه خاله السّاقي

و يعجب من قوله:

و مستطيل على الصّهباء باكرها

و يقول: و أيّ شيء تحته من المعاني الظريفة!.

قال: و سمعه أبي يغنّيه فقال له: كأنّك و اللّه يا عبد اللّه خطيب يخطب على المنبر، قال عبد اللّه بن محمد:

فأنشدني حمّاد له في الصّبوح:

لا تعذلن في صبوحي *** فالعيش شرب الصّبوح

ما عاب مصطبحا ق *** طّ غير وغد شحيح

قال عمّي: قال عبيد اللّه: دخل يوما عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ على أبي مسلّما، فلما استقرّ به المجلس و تحادثا ساعة قال له: أنشدني شيئا من شعرك، فقال: إنما أعبث و لست ممّن يقدم عليك بإنشاد شعره، فقال:

أ تقول هذا و أنت القائل:

يا شادنا رام إذ مرّ *** في السّعانين قتلي

تقول لي: كيف أصبحت ؟ *** كيف يصبح مثلي!

أنت و اللّه أعزّك اللّه أغزل الناس و أرقّهم شعرا، و لو لم تقل غير هذا البيت الواحد لكفاك و لكنت شاعرا.

كتب شعرا في ليلة مقمرة و صنع فيه لحنا
اشارة

أخبرني عمّي و الحسين بن القاسم الكوكبيّ ، قالا: حدّثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: حدّثني أحمد بن الحسين الهشاميّ (2) أبو عبد اللّه، قال:

ص: 154


1- التجريد: «ظنه».
2- ف: «الهاشمي».

حدّثني عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع قال:

/كنت جالسا على دجلة في ليلة من اللّيالي، و أخذت دواة و قرطاسا و كتبت شعرا حضرني و قلته في ذلك الوقت:

صوت

أخلفك الدهر ما تنظره *** فاصبر فذا جلّ أمر ذا القدر(1)

لعلّنا أن نديل من زمن(2) *** فرّقنا و الزّمان ذو غير

قال: ثم أرتج عليّ فلم أدر ما أقول حتى يئست من أن يجيئني شيء، فالتفتّ فرأيت القمر و كانت ليلة تتمّته فقلت:

فانظر إلى البدر فهو يشبهه *** إن كان قد ضنّ عنك بالنّظر

ثم صنعت فيه لحنا من الثّقيل الثاني. قال أبو عبد اللّه الهشاميّ : و هو و اللّه صوت حسن.

وصف البرق و صنع فيه لحنا غناه للواثق

أخبرني جحظة عن ابن حمدون، و أخبرني به الكوكبيّ ، عن عليّ بن محمد بن نصر، عن خالد بن حمدون، قال:

كنّا عند الواثق في يوم دجن، فلاح برق و استطار، فقال: لو في هذا شيء(3)، فبدرهم عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع، فقال هذين البيتين:

أعنّي على لامع بارق *** خفيّ كلمحك بالحاجب

كأنّ تألّقه في السّماء *** يدا كاتب أو يدا حاسب

/و صنع فيه لحنا شرب فيه الواثق بقيّة يومه، و استحسن شعره و معناه و صنعته، و وصل عبد اللّه بصلة سنيّة.

صنع لحنا في شعر الحسين بن الضحاك و غناه

حدّثني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد/بن محمد بن مروان، قال: حدّثني الحسين بن الضّحّاك، قال:

كنت عند عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع، و هو مصطبح، و خادم له قائم يسقيه فقال لي: يا أبا عليّ ، قد استحسنت سقي هذا الخادم، فإن حضرك شيء في قصّتنا هذه فقل، فقلت:

أحيت صبوحي فكاهة اللاّهي *** و طاب يومي بقرب أشباهي

فاستثر اللهو من مكامنه *** من قبل يوم منغّص ناهي

بابنة كرم من كفّ منتطق *** مؤتزر بالمجون تيّاه

ص: 155


1- ف: «فاصبر فهذي جرائر القدر».
2- أدال اللّه بني فلان من عدوهم: جعل الكرة لهم عليه. و في ف: لعلنا أن ندال».
3- ف: «قولوا في هذا شيئا». و في مي، مد: «لو أن في هذا شيئا».

يسقيك من طرفه و من يده(1) *** سقي لطيف مجرّب داهي

طاسا و كاسا(2) كأنّ شاربها *** حيران بين الذّكور و السّاهي

فاستحسنه عبد اللّه، و غنّى فيه لحنا مليحا، و شربنا عليه بقيّة يومنا.

قصته مع جارية نصرانية أحبها

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا أبو عبد اللّه أحمد بن المرزبان بن الفيرزان(3)، قال: حدّثني شيبة بن هشام، قال:

كان عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع قد علق جارية نصرانيّة قد رآها في بعض أعياد النّصارى، فكان لا يفارق البيع في أعيادهم شغفا بها، فخرج في عيد ما سرجيس فظفر بها في بستان إلى جانب البيعة، و قد كان قبل ذلك يراسلها و يعرّفها حبّه لها، فلا تقدر على مواصلته و لا على لقائه إلا على الطّريق، فلما ظفر بها التوت عليه /و أبت بعض الإباء، ثم ظهرت له و جلست معه، و أكلوا و شربوا، و أقام معها و مع نسوة كنّ معها أسبوعا، ثم انصرفت في يوم خميس، فقال عبد اللّه بن العبّاس في ذلك و غنّى فيه:

ربّ صهباء من شراب المجوس *** قهوة بابليّة خندريس

قد تجلّيتها بناي و عود *** قبل ضرب الشّمّاس بالنّاقوس

و غزال مكحّل ذي دلال *** ساحر الطرف سامريّ عروس

قد خلونا بطيبه نجتليه *** يوم سبت إلى صباح الخميس

بين ورد و بين آس جنيّ *** وسط بستان دير ما سرجيس

يتثنّى بحسن جيد غزال *** و صليب مفضّض آبنوسي

كم لثمت الصّليب في الجيد منها *** كهلال مكلّل بشموس

تطير من الغراب و استبشر بالهدهد

أخبرني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، عن شيبة بن هشام، قال:

كان عبد اللّه بن العبّاس يوما جالسا ينتظر هذه النّصرانيّة الّتي كان يهواها، و قد وعدته بالزّيارة، فهو جالس ينتظرها و يتفقّدها إذ سقط غراب على برّادة(4) داره فنعب مرّة واحدة ثم طار، فتطيّر عبد اللّه من ذلك و لم يزل ينتظرها يومه فلم يرها، فأرسل رسوله عشاء(5) يسأل عنها، فعرّف أنها قد انحدرت مع أبيها(6) إلى بغداد، فتنغّص عليه يومه، و تفرّق من كان عنده، و مكث مدّة لا يعرف لها خبرا. فبينا هو جالس ذات يوم مع أصحابه، إذ سقط هدهد على برّادته، فصاح ثلاثة أصوات و طار، فقال عبد اللّه بن العبّاس: و أيّ شيء أبقى الغراب للهدهد علينا؟

ص: 156


1- ف: «يسقيك من عينه و من يده».
2- ف: «كأسا و كأسا».
3- ف: «المرزبان بن الفيروزان».
4- البرادة: شيء يتخذ فوق الدار. توضع عليه أواني الماء لتبرد.
5- ف: «فوجه برسوله عشيّا».
6- ف: «مع أخيها».

و هل ترك لنا أحدا يؤذينا بفراقه ؟ و تطيّر من ذلك، فما فرغ من كلامه حتى دخل رسولها يعلمه/أنها/قد قدمت منذ ثلاثة أيام، و أنها قد جاءته زائرة على إثر رسولها، فقال في ذلك من وقته:

سقاك اللّه يا هد *** هد و سميّا من القطر

كما بشّرت بالوصل *** و ما أنذرت بالهجر

فكم ذا لك من بشرى *** أتتني منك في ستر

كما جاءت سليمان *** فأوفت منه بالنّذر

و لا زال غراب الب *** ين في قفّاعة(1) الأسر

كما صرّح بالبين *** و ما كنت به أدري

و لحنه في هذا الشّعر هزج.

غنى للمتوكل لحنا لم يعجبه فذكره بألحان له سابقة

حدّثني عمّي، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن مصعب:

قال لي عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ : لمّا صنعت لحني في شعري:

ألا اصبحاني يوم السّعانين *** من قهوة عتّقت بكركين(2)

عند أناس قلبي بهم كلف *** و إن تولّوا دينا سوى ديني

قد زيّن الملك جعفر و حكى *** جود أبيه و بأس هارون

و أمّن(3) الخائف البريء كما *** أخاف أهل الإلحاد في الدّين

دعاني المتوكّل، فلما جلست في مجلس المنادمة غنّيت هذا الصّوت فقال لي: يا عبد اللّه، أين غناؤك في هذا الشعر في أيّامي هذه من غنائك في:

/أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها *** و أدنت على الخدّين بردا مهلهلا

و من غنائك في:

أقفر من بعد خلّة سرف *** فالمنحنى فالعقيق فالجرف

و من سائر صنعتك المتقدّمة الّتي استفرغت محاسنك فيها، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إنّي كنت أتغنّى في هذه الأصوات و لي شباب و طرب و عشق، و لو ردّ عليّ لغنّيت مثل ذلك الغناء، فأمر لي بجائزة و استحسن قولي.

غنى للمنتصر بشعر لم يطلبه منه فلم يصله بشيء

حدّثني عمّي، قال: حدّثنا أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني أبي، قال:

ذكر المنتصر يوما عبد اللّه بن العبّاس و هو في قراح(4) النّرجس مصطبح، فأحضره و قال له: يا عبد اللّه، اصنع

ص: 157


1- القفاعة: شيء يتخذ من جريد النخل، ثم يرسل به على الصيد فيصاد.
2- كركين: من قرى بغداد (معجم ياقوت). و في ب: «بكرين» و هو تحريف.
3- ف: «و آس الخائف».
4- القراح من كل شيء: الخالص.

لحنا في شعري الفلانيّ ، و غنّني به، و كان عبد اللّه حلف لا يغنّي في شعره، فأطرق مليّا، ثم غنّى في شعر قاله للوقت و هو:

يا طيب يومي في قراح النّرجس *** في مجلس ما مثله من مجلس!

تسقى مشعشعة كأنّ شعاعها *** نار تشبّ لبائس مستقبس

قال: فجهد أبي بالمنتصر يوما و احتال عليه بكلّ حيلة أن يصله بشيء فلم يفعل.

غنى للمتوكل فأطربه و أمر له بجائزة

حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني أبي، قال:

غضبت قبيحة على المتوكّل و هاجرته، فجلس و دخل الجلساء و المغنّون، و كان فيهم عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، و كان قد عرف الخبر، فقال هذا الشّعر و غنّى فيه:

لست منّي و لست منك فدعني *** و امض عنّي مصاحبا بسلام(1)

/لم تجد علّة تجنّى بها ال *** ذّنب فصارت تعتلّ بالأحلام

/فإذا ما شكوت ما بي قالت: *** قد رأينا خلاف ذا في المنام

قال: فطرب المتوكّل و أمر له بعشرين ألف درهم و قال له: إنّ في حياتك يا عبد اللّه لأنسا و جمالا و بقاء للمروءة و الظّرف.

غنى بشعر للسليك
اشارة

أخبرني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ ، قال:

كنت في بعض العساكر فأصابتنا السّماء حتى تأذّينا، فضربت لي قبّة تركيّة، و طرح لي فيها سريران، فخطر بقلبي قول السّليك:

صوت

قرّب النّحّام(2) و اعجل يا غلام *** و اطرح السّرج عليه و اللّجام

أبلغ(3) الفتيان أنّى خائض *** غمرة الضّرب فمن شاء أقام

فغنّيت فيه لحني المعروف، و غدونا فدخلت مدينة، فإذا أنا برجل يغنّي به و و اللّه ما سبقني إليه أحد و لا سمعه منّي أحد، فما أدري من الرّجل، و لا من أين كان له، و ما أرى إلا أنّ الجنّ أوقعته في لسانه!.

ص: 158


1- ف: «يا حبيبي مصاحبا بسلام».
2- النحام: اسم فرس.
3- ف: «أبلغ».
غنى لمحمد بن الجهم فاحتمل خراجه في سنة
اشارة

حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ ، قال:

كنت عند محمد بن الجهم البرمكيّ بالأهواز، و كانت ضيعتي في يده، فغنّيته في يوم مهرجان و قد دعانا للشّرب:

صوت

المهرجان و يوم الاثنين *** يوم سرور قد حفّ بالزّين(1)

ينقل من وغرة المصيف إلى(2) *** برد شتاء ما بين فصلين

محمد يا بن الجهم و من بنى *** للمجد بيتا من خير بيتين(3)

عش ألف نيروز و مهرج فرحا *** في طيب عيش و قرّة العين(4)

قال: فسرّ بذلك و احتمل خراجي في تلك السّنة، و كان مبلغه ثلاثين ألف درهم.

عشق جارية عند أبي عيسى بن الرشيد فوجه بها معه إلى منزله
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني ابن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة القطرانيّ ، عن محمد بن حسين(5)، قال:

كنّا عند أبي عيسى بن الرّشيد في زمن الرّبيع و معنا مخارق، و علّوية، و عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ ، و محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر(6)، و نحن مصطبحون في طارمة(7) مضروبة على بستانه، و قد تفتّح فيه ورد و ياسمين و شقائق، و السماء متغيّمة غيما مطبقا، و قد بدأت ترشّ رشّا ساكبا(8)، فنحن في أكمل نشاط و أحسن يوم إذ خرجت قيّمة دار أبي عيسى فقالت: يا سيّدي، قد جاءت عساليج، فقال: لتخرج إلينا، فليس بحضرتنا من تحتشمه، فخرجت إلينا جارية شكلة(9) حلوة، حسنة العقل و الهيئة/و الأدب، في يدها عود. فسلّمت، فأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست، و غنّى القوم حتى انتهى الدّور إليها، و ظنّنا أنها لا تصنع شيئا و خفنا أن تهابنا فتحصر، فغنّت غناء حسنا مطربا متقنا، و لم تدع أحدا ممّن حضر إلا غنّت صوتا من صنعته و أدّته على غاية الإحكام، فطربنا

ص: 159


1- ف: «يوم سرور طيب زين».
2- ف: «ينقل من حر مصيف إلى».
3- ف: «محمد بن الجهم يا من بنا ه المجد من أكرم بيتين»
4- ف، مي، مد: «عش ألف نيروز و مهرج بنا مغتبطا في قرة العين»
5- ف: «محمد بن جبر».
6- ب، مي، مد: «بن بشخير».
7- الطارمة: بيت من خشب كالقبة (معرب).
8- ف: «رشّا ساكنا».
9- شكلت المرأة شكلا: كانت ذات دلال و غزل، فهي شكلة.

و استحسنّا غناءها و خاطبناها بالاستحسان، و ألحّ عبد اللّه بن العبّاس من بيننا بالاقتراح عليها و المزاح معها و النّظر إليها، فقال له أبو عيسى: عشقتها و حياتي يا عبد اللّه، قال: لا و اللّه/يا سيّدي و حياتك ما عشقتها، و لكني استحسنت(1) كلّ ما شاهدت منها من منظر و شكل و عقل و عشرة و غناء، فقال له أبو عيسى: فهذا و اللّه هو العشق و سببه، و ربّ جدّ جرّه اللّعب. و شربنا، فلما غلب النّبيذ على عبد اللّه غنّى أهزاجا قديمة و حديثة، و غنّى فيما غنّى بينهما هزجا في شعر قاله فيها لوقته، فما فطن له إلا أبو عيسى و هو:

صوت

نطق السّكر بسرّي فبدا *** كم يرى المكتوم يخفى لا يضح

سحر عينيك إذا مارنتا *** لم يدع ذا صبوة أو يفتضح

ملكت قلبا(2) فأمسى غلقا *** عندها صبّا بها لم يسترح

بجمال و غناء حسن *** جلّ عن أن ينتقيه المقترح

أورث القلب هموما و لقد *** كنت مسرورا بمرآه فرح

و لكم مغتبق همّا و قد *** بكر(3) اللّهو بكور المصطبح

- الغناء لعبد اللّه بن العبّاس هزج - فقال له أبو عيسى: فعلتها و اللّه يا عبد اللّه، و طار/طربا(4)، و شرب على الصّوت و قال له: صحّ و اللّه قولي لك في عساليج، و أنت تكابرني حتّى فضحك السّكر. فجحد، و قال: هذا غناء كنت أرويه، فحلف أبو عيسى أنه ما قاله و لا غنّاه إلا في يومه، و قال له: احلف بحياتي أنّ الأمر ليس هو كذلك، فلم يفعل، فقال له أبو عيسى: و اللّه لو كانت لي لوهبتها لك، و لكنها لآل يحيى بن معاذ، و اللّه لئن باعوها لأملّكنّك إيّاها و لو بكلّ ما أملك، و و حياتي لتنصرفنّ قبلك إلى منزلك، ثم دعا بحافظتها و خادم(5) من خدمه، فوجّه بها معهما إلى منزله. و التوى عبد اللّه قليلا و تجلّد، و جاحدنا أمره ثم انصرف.

اشترت عمته عساليج ثم وهبتها له

و اتّصل الأمر بينهما بعد ذلك، فاشترتها عمّته رقيّة بنت الفضل بن الرّبيع من آل يحيى بن معاذ، و كانت عندهم حتى ماتت.

فحدّثني جعفر بن قدامة بن زياد عن بعض شيوخه - سقط عني اسمه - قال: قالت بذل الكبيرة لعبد اللّه بن العبّاس: قد بلغني أنك عشقت جارية يقال لها عساليج فاعرضها عليّ ، فإمّا أن عذرتك و إمّا أن عذلتك، فوجّه إليها فحضرت، و قال لبذل: هذه هي يا ستي فانظري و اسمعي، ثم مريني بما شئت أطعك، فأقبلت عليه عساليج و قالت:

يا عبد اللّه أ تشاور فيّ؟ فو اللّه ما شاورت لمّا صاحبتك، فنعرت(6) بذل و صاحت: إيه، أحسنت و اللّه يا صبيّة، و لو لم

ص: 160


1- ف: «استملحت».
2- مي، مد، التجريد: «قلبي». و في ف: «ملكت كفي».
3- ف: «و لكم مقترح هما و قد باكر...».
4- ف: «و نقر طربا».
5- ف: «ثم دعا حافظتها و خادما».
6- نعرت: صاحت و صوتت بخيشومها.

تحسني شيئا و لا كانت فيك خصلة تحمد لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة، أحسنت و اللّه، ثم قالت لعبد اللّه:

ما ضيّعت(1)، احتفظ بصاحبتك.

غنى الواثق في يوم نيروز فأمر له بجائزة
اشارة

حدّثني عمّي، قال: حدّثني محمد(2) بن المرزبان، عن أبيه، عن عبد اللّه بن العبّاس، قال:

/دعانا الواثق في يوم نوروز، فلما دخلت عليه غنّيته في شعر قلته و صنعت فيه لحنا و هو:

هيّ للنّيروز جاما *** و مداما و ندامى

يحمدون اللّه و الوا *** ثق هارون الإماما

ما رأى كسرى أنوشر *** وان مثل العام عاما

نرجسا غضّا و وردا *** و بهارا و خزامى

/قال: فطرب و استحسن الغناء، و شرب عليه حتى سكر، و أمر لي بثلاثين ألف درهم.

حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني شيبة بن هشام قال:

ألقت متيّم على جوارينا هذا اللحن و زعمت أنّها أخذته من عبد اللّه بن العبّاس و الصّنعة له:

صوت

اتّخذت عدوّة *** فسقى الإله عدوّتي

و فديتها بأقاربي *** و بأسرتي و بجيرتي

جدلت كجدل الخيزرا *** ن و ثنّيت فتثنّت

و استيقنت أنّ الفؤا *** د يحبّها فأدلّت

عشق مصابيح و قال فيها شعرا
اشارة

قال: ثم حدّثتنا متيّم أنّ عبد اللّه بن العبّاس كان يتعشّق مصابيح جارية الأحدب المقيّن(3)، و أنّه قال هذا الشعر فيها، و غنّى فيه هذا اللّحن بحضرتها، فأخذته عنه. /هكذا ذكر شيبة بن هشام من أمر مصابيح، و هي مشهورة من جواري آل يحيى بن معاذ، و لعلها كانت لهذا المقيّن قبل أن يملكها آل يحيى، و قبل أن تصل(4) إلى رقيّة بنت الفضل بن الرّبيع.

و حدّثنا أيضا عمّي، قال: حدّثنا أحمد بن المرزبان، عن شيبة ابن هشام، قال:

كان عبد اللّه بن العبّاس يتعشّق جارية الأحدب المقيّن - و لم يسمّها في هذا الخبر - فغاضبها في شيء بلغه عنها، ثم رام بعد ذلك أن يترضّاها فأبت، و كتب إليها رقعة يحلف لها على بطلان ما أنكرته، و يدعو اللّه على من

ص: 161


1- ب: ما صنعت «تصحيف».
2- ف: «أحمد بن المرزبان».
3- ب: «القين».
4- ف: «تصير».

ظلم، فلم تجبه عن شيء ممّا كتب به، و وقّعت تحت دعائه: آمين، و لم تجب عن شيء مما تضمّنته الرّقعة بغير ذلك، فكتب إليها:

أمّا سروري بالكتا *** ب فليس يقنى ما بقينا

و أتى الكتاب و فيه لي(1) *** آمين ربّ العالمينا

قال: و زارته في ليلة من ليالي شهر رمضان و أقامت عنده ساعة، ثم انصرفت و أبت أن تبيت و تقيم ليلتها عنده، فقال هذا الشّعر و غنّى فيه هزجا و هو مشهور من أغانيه و هو:

صوت

يا من لهمّ أمسى يؤرّقني *** حتى مضى شطر ليلة الجهني(2)

عنّي و لم أدر أنّها حضرت *** كذاك من كان حزنه حزني(3)

/إنّي سقيم(4) مولّه دنف *** أسقمني حسن وجهك الحسن

جودي له بالشفاء منيته *** لا تهجري هائما عليك ضني

قال: و ليلة الجهنيّ ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، قال رجل من جهينة: إنّه رأى فيها ليلة القدر فيما يرى النّائم فسمّيت ليلة الجهنيّ .

غنى في دار محمد بن حماد

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني شيبة بن هشام، قال:

دعانا محمد بن حمّاد بن دنقش(5) و كان له ستارة في نهاية الوصف، و حضر معنا عبد اللّه بن العباس، فقال عبد اللّه و غنّى فيه:

دع عنك لومي فإنّي غير منقاد *** إلى الملام و إن أحببت إرشادي

/فلست أعرف لي يوما سررت به *** كمثل يومي في دار ابن حمّاد

غنى الواثق بشعر ذكرت فيه أعياد النصارى فخشي أن ينتصر
اشارة

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى، قال: حدّثني أبو أيّوب المدينيّ ، قال: حدّثني ابن المكّيّ ، عن عبد اللّه بن العبّاس، قال: لمّا صنعت لحني في شعري:

ص: 162


1- ف: «وافي و قد وقّعت لي».
2- ف: «حتى مضى الشطر ليلة الجهني».
3- ف: «كذاك من كان حزنها حزني».
4- مد، مي: «إني شقيّ ».
5- غير واضحة في ف.
صوت

يا ليلة ليس لها صبح *** و موعدا ليس له نجح

من شادن مرّ على وعده المي *** لاد و السّلّاق و الذّبح

- هذه أعياد النّصارى - غنّيته الواثق فقال: ويلكم، أدركوا هذا لا يتنصّر، و تمام هذا الشّعر:

و في السّعانين لو أنّي به *** و كان أقصى الموعد الفصح

فاللّه استعدي على ظالم *** لم يغن عنه الجود و الشّحّ

/نسخت من كتاب أبي سعيد السّكّريّ : قال أبو العتاهية: و فيه لعبد اللّه بن العبّاس غناء حسن:

أنا عبد لها مقرّ و ما يم *** لك لي غيرها من الناس رقّا

ناصح مشفق و إن كنت ما أر *** زق منها و الحمد للّه عتقا

و من الحين و الشّقاء تعلّ *** قت مليكا مستكبرا حين يلقى

إن شكوت الّذي لقيت إليه *** صدّ عنّي و قال: بعدا و سحقا

حكى حاله في غناء بحضرة حمدون بن إسماعيل

أخبرني عمّي، قال: حدّثني عليّ بن محمد بن نصر، عن جدّه حمدون بن إسماعيل، قال:

دخلت يوما إلى عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، و خادم له يسقيه، و بيده عوده، و هو يغنّي هذا الصوت:

إذا اصطبحت ثلاثا *** و كان عودي نديمي

و الكأس تغرب(1) ضحكا *** من كفّ ظبي رخيم

فما عليّ طريق *** لطارقات الهموم

قال: فما رأيت أحسن ممّا حكى حاله في غنائه، و لا سمعت أحسن ممّا غنّى.

عشق غلام حزام خادم المعتصم

أخبرني الحسين(2) بن القاسم الكوكبيّ ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني دوسر(3) الخراسانيّ قال:

اشترى حزام(4) خادم المعتصم خادما نظيفا، كان عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل/بن الربيع يتعشّقه، فسأله هبته له أو بيعه منه فأبى، فقال عبد اللّه أبياتا و صنع فيها غناء، و هي قوله:

يوم سبت فصرّفا لي المداما *** و اسقياني لعلّني أن أناما

شرّد النوم حبّ ظبي غرير *** ما أراه يرى الحرام حراما

ص: 163


1- ف: «فضحك ضحكا».
2- ب: «الحسن بن القاسم».
3- ب: «دوس الخراساني».
4- ب: «حزم».

اشتراه يوما بعلفة يوم *** أصبحت عنده(1) الدواب صياما

فاتصلت الأبيات و خبرها بحزام، فخشي أن تشتهر و يسمعها المعتصم فيأتي عليه؛ فبعث بالغلام إلى عبد اللّه، و سأله أن يمسك عن الأبيات، ففعل.

إبراهيم الموصلي يغني أمام الرشيد لحنا من صنعته فيرسل إليه و يلازمه

حدّثني الصّوليّ ، قال: حدّثني الحسين بن يحيى، قال: قلت لعبد اللّه بن العبّاس: إنه بلغني لك خبر مع الرّشيد أول ما شهرت بالغناء، /فحدّثني به، قال: نعم أول صوت صنعته:

أتاني يؤامرني في الصّبو *** ح ليلا فقلت له: غادها

فلما تأتّى(2) لي و ضربت عليه بالكنكلة؛ عرضته على جارية لنا يقال لها راحة، فاستحسنته و أخذته عنّي، و كانت تختلف إلى إبراهيم الموصليّ ، فسمعها يوما تغنّيه و تناغي(3) به جارية من جواريه، فاستعادها إيّاه و أعادته عليه، فقال لها: لمن هذا؟ فقالت: صوت قديم، فقال لها: كذبت، لو كان قديما لعرفته، و ما زال يداريها و يتغاضب عليها حتى اعترفت له بأنّه من صنعتي، فعجب من ذلك، ثم غنّاه يوما بحضرة الرشيد، فقال له: لمن هذا اللّحن يا إبراهيم ؟ فأمسك عن الجواب و خشي أن يكذبه فينمي الخبر إليه من غيره، و خاف من جدّي أن يصدقه، فقال له: ما لك/لا تجيبني ؟ فقال: لا يمكنني يا أمير المؤمنين، فاستراب بالقصّة، ثم قال: و اللّه، و تربة المهديّ لئن لم تصدقني لأعاقبنّك عقوبة موجعة، و توهّم أنّه لعليّة أو لبعض حرمه فاستطير غضبا، فلما رأى إبراهيم الجدّ منه صدقه فيما بينه و بينه سرّا، فدعا لوقته الفضل بن الرّبيع ثم قال له: أ يصنع ولدك غناء و يرويه الناس و لا تعرّفني ؟ فجزع و حلف بحياته و بيعته أنه ما عرف ذلك قطّ، و لا سمع به إلا في وقته ذلك، فقال له: ابن(4) ابنك عبد اللّه بن العبّاس أحضرنيه السّاعة، فقال: أنا أمضي و أمتحنه، فإن كان يصلح للخدمة أحضرته، و إلاّ كان أمير المؤمنين أولى من ستر عورتنا، فقال: لا بدّ من إحضاره. فجاء جدّي فأحضرني و تغيّظ عليّ ، فاعتذرت و حلفت له أن هذا شيء ما تعمّدته، و إنما غنّيت لنفسي، و ما أدري من أين خرج، فأمر بإحضار عود فأحضر، و أمرني فغنّيته الصوت، فقال:

قد عظمت مصيبتي فيك يا بنيّ ، فحلفت له بالطلاق و العتاق ألاّ أقبل على الغناء رفدا أبدا، و لا أغنّي إلا خليفة أو وليّ عهد، و من لعلّه أن يكون حاضرا مجالسهم، فطابت نفسه. فأحضرني(5)، فغنّيت الرشيد الصوت فطرب و شرب عليه أقداحا، و أمرني بالملازمة مع الجلساء، و جعل لي نوبة، و أمر بحمل عشرة آلاف دينار إلى جدّي، و أمره أن يبتاع ضيعة لي بها، فابتاع لي ضيعتي بالأهواز، و لم أزل ملازما للرّشيد حتى خرج إلى خراسان، و تأخرت عنه و فرّق الموت بيننا.

ص: 164


1- ف: «أصبحت غبّه».
2- ف: «فلما دار لي».
3- ف: «و تعايي».
4- ف: «أين ابنك عبد اللّه بن العباس».
5- ف: «فأحضرت».
اقترض الواثق مالا ليعطيه له

قال ابن المرزبان: فكان عبد اللّه بن العبّاس سببا لمعرفة أولياء العهود برأي الخلفاء فيهم، فكان منهم الواثق، فإنه أحبّ أن يعرف: هل يولّيه المعتصم العهد بعده أم لا، فقال له عبد اللّه: أنا أدلّك على وجه تعرف به ذلك، فقال: و ما هو؟ فقال: تسأل أمير المؤمنين أن يأذن للجلساء و المغنّين أن يصيروا إليك، فإذا فعل ذلك فاخلع عليهم /و عليّ معهم، فإني لا أقبل خلعتك لليمين الّتي عليّ ؛ ألاّ أقبل رفدا إلا من خليفة أو وليّ عهد. فقعد الواثق ذات يوم و بعث إلى المعتصم و سأله الإذن إلى الجلساء(1)، فأذن لهم، فقال له عبد اللّه بن العبّاس: قد علم أمير المؤمنين يميني، فقال له: امض إليه فإنك لا تحنث، فمضى إليه و أخبره الخبر فلم يصدّقه، و ظنّ أنه يطيّب نفسه، فخلع عليه و على الجماعة، فلم يقبل عبد اللّه خلعته، و كتب إلى المعتصم يشكوه، فبعث إليه: اقبل الخلعة، /فإنه وليّ عهدي، و نمى إليه الخبر أنّ هذا كان حيلة من عبد اللّه، فنذر دمه، ثم عفا عنه.

و سرّ الواثق بما جرى، و أمر إبراهيم بن رياح، فاقترض له ثلاثمائة ألف درهم، ففرّقها على الجلساء، ثم عرف غضب المعتصم على عبد اللّه بن العباس و اطّراحه إيّاه، فاطّرحه هو أيضا. فلمّا ولي الخلافة استمرّ على جفائه، فقال عبد اللّه:

ما لي جفيت و كنت لا أجفى *** أيام أرهب سطوة السّيف

أدعو إلهي أن أراك خليفة *** بين المقام و مسجد الخيف

و دسّ من غنّاه الواثق، فلما سمعه سأل عنه، فعرف قائله، فتذمّم(2) و دعا عبد اللّه فبسطه و نادمه إلى أن مات.

و ذكر العتّابيّ عن ابن الكلبيّ أنّ الواثق كان يشتهي على عبد اللّه بن العباس:

أيّها العاذل جهلا تلوم *** قبل أن ينجاب عنه الصّريم(3)

و أنه غنّاه يوما فأمر بأن يخلع عليه خلعة، فلم يقبلها ليمينه، فشكاه إلى المعتصم، فكاتبه في الوقت، فكتب إليه مع مسرور سمّانة: اقبل خلع(4) هارون فإنك لا تحنث، فقبلها و عرف الواثق أنّه وليّ عهد.

خرج يوم الشعانين ليرى محبوبته النصرانية
اشارة

حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني شيبة بن هشام، قال:

كان عبد اللّه بن العبّاس يهوى جارية نصرانيّة لم يكن يصل إليها و لا يراها إلا إذا خرجت إلى البيعة، فخرجنا يوما معه إلى السّعانين، فوقف حتى إذا جاءت فرآها، ثم أنشدنا لنفسه، و غنّى فيه بعد ذلك:

ص: 165


1- ف: «و سأله الإذن للجلساء».
2- تذمم: استنكف و استحيا.
3- الصريم: القطعة من الليل.
4- ف: «خلعة».
صوت

إن كنت ذا طبّ فداويني(1) *** و لا تلم فاللّوم يغريني

يا نظرة أبقت جوى قائلا *** من شادن يوم السّعانين

و نظرة من ربرب(2) عين *** خرجن في أحسن تزيين

خرجن يمشين إلى نزهة *** عواتقا(3) بين البساتين

مزنّرات بهمايينها(4) *** و العيش ما تحت الهمايين

لحن عبد اللّه بن العبّاس في هذا الشعر هزج.

شرب ليلة الشك في رمضان في يوم نيروز

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثنا محمد بن عمر الجرجانيّ ، و محمد بن حمّاد كاتب راشد، قالا:

كتب عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ في يوم نيروز - و اتّفق في يوم الشّكّ بين شهري رمضان و شعبان - إلى محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر يقول:

اسقني صفراء صافية *** ليلة النّيروز و الأحد

/حرّم الصّوم(5) اصطباحكما *** فتزوّد شربها لغد

و ائتنا أو فادعنا عجلا *** نشترك في عيشة رغد

قال: فجاءه محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر فشربا ليلتهما.

صنع لحنا من شعره للواثق فأمر له بجائزة
اشارة

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى، قال: حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ ، قال: حدّثنا أحمد بن المكّيّ ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، /قال:

جمع الواثق يوما المغنّين ليصطبح، فقال: بحياتي إلاّ صنعت لي هزجا حتى أدخل و أخرج إليكم السّاعة، و دخل إلى جواريه، فقلت هذه الأبيات و غنّيت فيها هزجا قبل أن يخرج، و هي:

صوت

بأبي زور أتانى بالغلس *** قمت إجلالا له حتى جلس

فتعانقنا جميعا ساعة *** كادت الأرواح فيها تختلس

ص: 166


1- إثبات الياء هنا ضرورة شعرية.
2- الربرب: القطيع من الظباء، و من البقر الوحشيّ و الإنسيّ ، لا واحد له.
3- عواتق جمع عاتقة، و هي الشابة أول ما أدركت فخدرت في بيت أهلها و لم تبن إلى زوج.
4- مزنّرات: لابسات الزنار؛ و هو حزام يشده النصراني على وسطه، و الهمايين جمع هميان، و هو كيس تجعل فيه النفقة و يشد على الوسط.
5- ب: «النوم».

قلت: يا سؤلي و يا بدر الدّجى *** في ظلام اللّيل ما خفت العسس!

قال: قد خفت و لكنّ الهوى *** آخذ بالرّوح منّي و النّفس

زارني يخطر في مشيته *** حوله من نور خدّيه قبس

قال: فلمّا خرج من دار الحرم قال لي: يا عبد اللّه، ما صنعت ؟ فاندفعت فغنّيته، فشرب حتى سكر، و أمر لي بخمسة آلاف درهم، و أمرني بطرحه على الجواري، فطرحته عليهن.

صنع لحنا جميلا من شعر يوسف بن الصقيل
اشارة

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى، قال: حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ ، عن حمّاد، قال:

من مليح صنعة عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، و الشّعر ليوسف بن الصّيقل، و لحنه هزج:

صوت

أبعد المواثيق لي *** و بعد السؤال الحفي

و بعد اليمين الّتي *** حلفت على المصحف

تركت الهوى بيننا *** كضوء سراج طفي

فليتك إذ لم تفي *** بوعدك لم تخلفي

غنى للواثق لحنا من شعر الأحوص فأعطاه ألف دينار
اشارة

حدّثني الصّوليّ ، قال: حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ ، قال:

كان الواثق قد غضب على فريدة لكلام أخفته إيّاه فأغضبته، و عرفنا ذلك و جلس في تلك الأيّام للصّبوح، فغنّاه عبد اللّه بن العبّاس:

صوت

لا تأمني الصّرم منّي أن تري كلفي *** و إن مضى لصفاء الودّ أعصار

ما سمّي القلب إلا من تقلّبه *** و الرأي يصرف و الأهواء أطوار

كم من ذوي مقة(1) قبلي و قبلكم *** خانوا فأضحوا إلى الهجران قد صاروا

فاستعاده الواثق مرارا، و شرب عليه و أعجب به، و أمر لعبد اللّه بألف دينار و خلع عليه.

الشّعر للأحوص، و الغناء لعبد اللّه بن العبّاس هزج بالوسطى عن عمرو.

فضّله المتوكل على سائر المغنين

و أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الربيع، قال:

ص: 167


1- المقة: الحب، و في ف: «سمة».

/غنّيت المتوكّل ذات يوم:

أحبّ إلينا منك دلاّ و ما يرى *** له عند فعلي من ثواب و لا أجر

فطرب و قال: أحسنت و اللّه يا عبد اللّه، أما و اللّه لو رآك النّاس كلّهم كما أراك لما ذكروا مغنّيا سواك أبدا.

أشار بذكره ابن الزيات عند المعتصم

نسخت من كتاب لأبي العبّاس بن ثوابة بخطّه: حدّثني أحمد بن إسماعيل بن حاتم، قال: قال لي عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ :

دخلت على المعتصم أودّعه/و أنا أريد الحجّ ، فقبّلت يده و ودّعته، فقال: يا عبد اللّه إنّ فيك لخصالا تعجبني كثّر اللّه في مواليّ مثلك، فقبّلت رجله و الأرض بين يديه، و أحسن محمد بن عبد الملك الزّيّات محضري و قال له:

إنّ له يا أمير المؤمنين، أدبا حسنا و شعرا جيّدا، فلما خرجت قلت له: أيّها الوزير، ما شعري أنا في الشعر تستحسنه و تشيد بذكره بين يدي الخليفة! فقال: دعنا منك، تنتفي من الشّعر و أنت الّذي تقول:

يا شادنا مرّ إذ را *** م في السّعانين قتلي

يقول لي: كيف أصبح *** ت، كيف يصبح مثلي!

أحسنت و اللّه في هذا، و لو لم تقل غير هذا لكنت شاعرا.

طلب منه سوار بن عبد اللّه القاضي أن يصنع له لحنا في شعر قاله
اشارة

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا أحمد بن المرزبان، قال: قال أبي: قال عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ :

لقيني سوّار بن عبد اللّه القاضي - و هو سوّار الأصغر - فأصغى إليّ و قال: إنّ لي إليك حاجة فأتني في خفي، فجئته، فقال: لي إليك حاجة قد أنست بك فيها، لأنك لي/كالولد، فإن شرطت لي كتمانها أفضيت بها إليك، فقلت: ذلك للقاضي عليّ شرط واجب، فقال: إني قلت أبياتا في جارية لي أميل إليها و قد قلتني و هجرتني:

و أحببت أن تصنع فيها لحنا و تسمعنيه، و إن أظهرته و غنّيته بعد ألاّ يعلم أحد أنه شعري، فلست أبالي، أ تفعل ذلك ؟ قلت: نعم حبّا و كرامة، فأنشدني:

صوت

سلبت عظامي لحمها فتركتها *** عواري في أجلادها(1) تتكسّر

و أخليت منها مخّها فكأنّها *** أنابيب في أجوافها الرّيح تصفر

إذا سمعت باسم الفراق ترعّدت *** مفاصلها من هول ما تتحذّر

خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري *** بلى جسدي لكنّني أتستّر

و ليس الّذي يجري من العين ماؤها *** و لكنّها روح تذوب فتقطر

- اللحن الّذي صنعه عبد اللّه بن العبّاس في هذا الشّعر ثقيل أول - قال عبد اللّه: فصنعت فيه لحنا، ثم عرّفته

ص: 168


1- أجلاد الإنسان: تجاليده، و هي جماعة جسمه و بدنه.

خبره في رقعة كتبتها إليه، و سألته وعدا يعدني به للمصير إليه، فكتب إليّ : نظرت في القصّة فوجدت هذا لا يصلح و لا ينكتم عليّ حضورك و سماعي إيّاك، و أسأل اللّه أن يسرّك و يبقيك. فغنّيت الصوت و ظهر حتى تغنّى به الناس، فلقيني سوّار يوما فقال لي: يا بن أخي، قد شاع أمرك في ذلك الباب حتى سمعناه من بعد كأنّا لم نعرف القصّة فيه، و جعلنا جميعا نضحك.

صنع لحنا جيدا في شفاء بشر خادم بن عجيف
اشارة

كان بشر خادم صالح بن عجيف عليلا ثم برئ، فدخل إلى عبد اللّه بن/العبّاس، فلما رآه قام فتلقّاه و أجلسه إلى جانبه، و شرب سرورا بعافيته، و صنع لحنا من الثقيل الأول و هو من جيّد صنعته:

صوت

مولاي ليس لعيش لست حاضره *** قدر و لا قيمة عندي و لا ثمن

و لا فقدت من الدّنيا و لذّتها *** شيئا إذا كان عندي وجهك الحسن

غنى الواثق بعد شفائه لحنا في شعر قاله فأجازه
اشارة

/حدّثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، قال:

جمعنا الواثق يوما بعقب علّة غليظة كان فيها، فعوفي و صحّ جسمه، فدخلت إليه مع المغنّين و عودي في يدي، فلما وقعت عيني عليه من بعيد، و صرت بحيث يسمع صوتي، ضربت و غنّيت في شعر قلته في طريقي إليه، و صنعت فيه لحنا و هو:

صوت

اسلم و عمّرك الإله لأمّة *** بك أصبحت قهرت ذوي الإلحاد

لو تستطيع وقتك كلّ أذيّة *** بالنّفس و الأموال و الأولاد

فضحك و سرّ و قال: أحسنت يا عبد اللّه و سررتني، و تيمنت بابتدائك، ادن مني، فدنوت منه حتى كنت أقرب المغنّين إليه، ثم استعادني الصوت، فأعدته ثلاث مرّات، و شرب عليه ثلاثة أقداح، و أمر لي بعشرة آلاف درهم و خلعة من ثيابه.

فاجأته محبوبته النصرانية بالوداع فقال شعرا و غناه
اشارة

/حدّثني الصّوليّ ، قال: حدّثني عون بن محمد الكنديّ ، قال:

كان عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع يهوى جارية نصرانيّة، فجاءته يوما تودّعه، فأعلمته أن أباها يريد الانحدار إلى بغداد و المضيّ بها معه، فقال في ذلك و غنّى فيه:

ص: 169

صوت

أفدي الّتي قلت لها *** و البين منّا قد دنا:

فقدك قد أنحل جسم *** ي و أذاب البدنا

قالت: فما ذا حيلتي *** كذاك قد ذبت أنا!

باليأس بعدي فاقتنع *** قلت: إذا قلّ الغنا

طلب من علي بن عيسى الهاشمي تأجيل الصوم و مباشرة الشرب فأجابه

حدّثني الصّوليّ ، قال: حدّثني عون بن محمد، قال: حدّثني عليّ بن عيسى بن جعفر الهاشميّ ، قال:

دخل عليّ عبد اللّه بن العبّاس في يوم النّصف من شعبان، و هو يوم سبت، و قد عزمت على الصّوم، فأخذ بعضادتي باب مجلسي، ثم قال: يا أميري:

تصبح في السّبت غير نشوان *** و قد مضى عنك نصف شعبان!

فقلت: قد عزمت على الصوم، فقال: أ فعليك وزر إن أفطرت اليوم - لمكاني و سررتني بمساعدتك لي - و صمت غدا، و تصدّقت مكان إفطارك ؟ فقلت: أفعل، فدعوت بالطّعام فأكلت، و بالنبيذ فشربنا، و أصبح من غد عندي، فاصطبح و ساعدته، فلما كان اليوم الثالث انتبهت سحرا و قد قال هذا الشعر و غنّى فيه:

/شعبان لم يبق منه *** إلا ثلاث و عشر

فباكر الرّاح صرفا *** لا يسبقنّك فجر

فإن يفتك اصطباح *** فلا يفوتنك سكر

و لا تنادم فتى وقت *** شربه الدّهر عصر

قال: فأطربني و اصطبحت معه في اليوم الثّالث، فلمّا كان من آخر النّهار سكر و انصرف، /و ما شربنا يومنا كلّه إلا على هذا الصّوت.

دخل على المتوكل في آخر شعبان و طلب منه الشراب فأجابه

حدّثني عمّي، قال: حدّثني ابن دهقانة النّديم، قال:

دخل عبد اللّه بن العباس إلى المتوكّل في آخر شعبان فأنشده:

علّلاني نعمتما بمدام *** و اسقياني من قبل شهر الصّيام

حرّم اللّه في الصّيام التّصابي *** فتركناه طاعة للإمام

أظهر العدل فاستنار به الدّين و أحيا شرائع الإسلام فأمر المتوكّل بالطّعام فأحضر، و بالنّديم و بالجلساء فأتي بذلك، فاصطبح و غنّاه عبد اللّه في هذه الأبيات، فأمر له بعشرة آلاف درهم.

حرم المرابين من مائة ألف دينار

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ ، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس قال:

ص: 170

كنت مقيما بسرّمن رأى و قد ركبني دين ثقيل أكثره عينة(1) و ربا، فقلت في المتوكّل:

اسقياني سحرا بالكبّره(2) *** ما قضى اللّه ففيه الخيره

أكرم اللّه الإمام المرتضى *** و أطال اللّه فينا عمره

/إن أكن أقعدت عنه هكذا *** قدّر اللّه رضينا قدرا

سرّه اللّه و أبقاه لنا *** ألف عام و كفانا الفجره

و بعثت بالأبيات إليه، و كنت مستترا من الغرماء، فقال لعبيد اللّه بن يحيى: وقّع إليه: من هؤلاء الفجرة الذين استكفيت اللّه شرّهم ؟ فقلت: المعيّنون الذين قد ركبني لهم أكثر مما أخذت منهم من الدّين بالرّبا، فأمر عبيد اللّه أن يقضي ديني، و أن يحتسب لهم رءوس أموالهم، و يسقط الفضل، و ينادي بذلك في سرّ من رأى حتى لا يقضي أحد أحدا إلاّ رأس ماله، و سقط عنّي و عن النّاس من الأرباح زهاء مائة ألف دينار كانت أبياتي هذه سببها.

عتب على إخوانه لأنهم لم يعودوه في مرضه فجاءوه معتذرين

حدّثني الصّوليّ ، قال: حدّثني عون بن محمد الكنديّ ، قال: حدّثني أبي، قال:

مرض عبد اللّه بن العباس بسرّمن رأى في قدمة قدمها إليها، فتأخّر عنه من كان يثق به، فكتب إليهم:

ألا قل لمن بالجانبين بأنّني *** مريض عداني(3) عن زيارتهم ما بي

فلو بهم بعض الّذي لي لزرتهم *** و حاش لهم من طول سقمي و أوصابي

و إن أقشعت عني سحابة علّتي *** تطاول عتبي إن تأخّر إعتابي(4)

قال: فما بقي أحد من إخوانه إلا جاءه عائدا معتذرا.

غنى عند علوية بشعر في النصرانية التي كان يهواها
اشارة

أخبرني عمّي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن محمد بن موسى، قال:

سمعت عبد اللّه بن العبّاس يغنّي و نحن مجتمعون عند علّوية بشعر في النّصرانيّة الّتي كان يهواها و الصّنعة له:

صوت

إنّ في القلب من الظّبي كلوم *** فدع اللّوم فإن اللّوم لوم(5)

حبّذا يوم السّعانين و ما *** نلت فيه من نعيم لو يدوم

إن يكن أعظمت أن همت به *** فالذي تركب من عذلي عظيم

/لم أكن أوّل من سنّ الهوى *** فدع اللّوم فذا داء قديم

الغناء لعبد اللّه هزج بالوسطى.

ص: 171


1- العينة: أن يبيع الرجل متاعه إلى أجل، ثم يشتريه في المجلس بثمن حال ليسلم به من الربا.
2- الكبرة: مبالغة في الكبير.
3- عداني: صرفني و منعني.
4- أعتبني: أزال الشكوى و العتاب، الهمزة للسلب.
5- القافية مرفوعة في «ف».
علّم وصيفته هيلانة الغناء

حدّثني أبو بكر الرّبيعيّ ، قال: حدّثتني عمتي - و كانت ربّيت في دار عمّها عبد اللّه بن العباس - قالت: كان عبد اللّه لا يفارق الصّبوح أبدا إلا في يوم جمعة، أو شهر رمضان، و إذا حجّ . و كانت له وصيفة يقال لها: هيلانة قد ربّاها و علّمها الغناء، فأذكره يوما و قد اصطبح، و أنا في حجره جالسة و القدح في يده اليمنى، و هو يلقي على الصّبيّة صوتا أوله:

صدع البين الفؤادا *** إذ به الصائح نادى

فهو يردّده، و يومئ بجميع أعضائه إليها يفهمها نغمه، و يوقّع بيده على كتفي مرّة و على فخذي أخرى، و هو لا يدري حتى أوجعني، فبكيت و قلت: قد أوجعتني ممّا تضربني و هيلانة لا تأخذ الصّوت و تضربني أنا، فضحك حتى استلقى و استملح قولي، فوهب لي ثوب قصب أصفر، و ثلاثة دنانير جددا، فما أنسى فرحي بذلك و قيامي به إلى أمّي، و أنا أعدو إليها و أضحك فرحا به.

نسبة هذا الصوت
صوت

صدع البين الفؤادا *** إذ به الصائح نادى

بينما الأحباب مجمو *** عون إذ صاروا فرادى

فأتى بعض بلادا *** و أتى بعض بلادا

كلّما قلت: تناهى *** حدثان الدّهر عادا

الشعر و الغناء لعبد اللّه هزج بالوسطى عن عمرو.

صوت

حضر الرحيل و شدّت الأحداج(1) *** و غدا بهنّ مشمّر مزعاج

للشوق نيران قدحن بقلبه *** حتى استمرّ به الهوى الملجاج

أزعج هواك إلى الّذين تحبّهم *** إن المحبّ يسوقه الإزعاج

لن يدنينّك للحبيب و وصله *** إلاّ السّرى و البازل الهجهاج(2)

الشعر لسلم الخاسر، و الغناء لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى.

ص: 172


1- أحداج: جمع حدج؛ و هو مركب من مراكب النساء مثل الهودج.
2- البازل: الجمل حين يدخل في التاسعة؛ و الهجهاج: الشديد الهدير.

13 - أخبار سلم الخاسر و نسبه

اشارة

13 - أخبار سلم الخاسر و نسبه(1)

نسبه، و مقدرته الشعرية

سلم بن عمرو مولى بني تيم بن مرّة، ثم مولى أبي بكر الصديق، رضوان اللّه عليه، بصريّ ، شاعر مطبوع متصرّف في فنون الشّعر، من شعراء الدولة العباسية. و هو راوية بشار بن برد و تلميذه، و عنه أخذ، و من بحره اغترف، و على مذهبه و نمطه قال الشعر.

سبب تلقيبه سلم الخاسر

و لقّب سلم بالخاسر(2) - فيما يقال - لأنه ورث من أبيه مصحفا، فباعه و اشترى بثمنه طنبورا. و قيل: بل خلّف له أبوه مالا، فأنفقه على الأدب و الشعر، فقال له بعض أهله: إنك لخاسر الصفقة، فلقّب بذلك.

صداقته للموصلي و أبي العتاهية و انقطاعه للبرامكة

و كان صديقا لإبراهيم الموصليّ ، و لأبي العتاهية خاصة من الشعراء و المغنين، ثم فسد ما بينه و بين أبي العتاهية. و كان سلم منقطعا إلى البرامكة، و إلى الفضل بن يحيى خصوصا من بينهم. و فيه يقول أبو العتاهية:

إنما الفضل لسلم وحده *** ليس فيه لسوى سلم درك(3)

من قول أبي العتاهية له

و كان هذا أحد الأسباب في فساد ما بينه و بين أبي العتاهية. و لسلم يقول أبو العتاهية و قد حج مع عتبة(4):

/و اللّه و اللّه ما أبالي متى *** ما متّ يا سلم بعد ذا السفر

أ ليس قد طفت حيث طافت و قبّ *** لت الّذي قبلت من الحجر(5)

و له يقول أبو العتاهية و قد حبس إبراهيم الموصليّ :

سلم يا سلم ليس دونك سرّ *** حبس الموصليّ فالعيش مرّ

ما استطاب اللذات مذ سك *** ن المطبق(6) رأس اللذات و اللّه، حرّ

ص: 173


1- هذه الترجمة مما سقط من التراجم من طبعة بولاق، و موضعها هنا بحسب المخطوطات المعتمدة.
2- في ما، ف: و «لقب الخاسر». و كان القياس سلما الخاسر على أن الخاسر صفة، و لكن لشيوعها نزلت منزلة اللقب فصار يضاف إليها الاسم.
3- الدرك: الإدراك و اللحاق.
4- كذا في ف، ما، و في باقي النسخ: «حج معه عتبة».
5- كذا في ف، و في غيرها: «طفت» مكان «طافت». و هو تحريف.
6- المطبق، كمشفق: السجن تحت الأرض. و في ما، ف: المطبق «بفتح الباء».

ترك الموصليّ من خلق اللّ *** ه جميعا و عيشهم مقشعرّ

يرد مصحفا من ميراث أبيه و يأخذ مكانه دفاتر شعر

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن الحسن الواسطيّ ، قال: حدّثني أبو عمرو سعيد بن الحسن الباهليّ الشاعر، قال:

لما مات عمرو أبو سلم الخاسر اقتسموا ميراثه، فوقع في قسط سلم مصحف، فردّه و أخذ مكانه دفاتر شعر كانت عند أبيه، فلقّب الخاسر بذلك.

أجازه المهدي أو الرشيد بمائة ألف درهم ليكذب تلقيبه بالخاسر

أخبرني الحسن، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عمر الجرجاني، قال:

ورث سلم الخاسر أباه مائة(1) ألف درهم، فأنفقها على الأدب، و بقي لا شيء عنده، فلقبه الجيران و من يعرفه بسلم الخاسر، و قالوا: أنفق ماله على ما لا ينفعه. ثم مدح المهديّ ، أو الرشيد - و قد كان بلغه اللقب الّذي لقّب به - فأمر له بمائة ألف درهم، و قال له: كذّب بهذا المال جيرانك، فجاءهم بها، و قال لهم: هذه المائة الألف الّتي أنفقتها و ربحت الأدب، فأنا سلم الرّابح، لا سلم الخاسر.

ورث مصحفا فباعه و اشترى بثمنه طنبورا فلقب الخاسر
اشارة

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدّثني عليّ بن محمد النوفليّ ، عن أبيه، قال:

إنما لقّب الخاسر لأنه ورث عن أبيه مصحفا فباعه، و اشترى بثمنه طنبورا.

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ ، قال: حدّثني عمر(2) الفضل، قال:

قال لي الجمّاز: سلم الخاسر خالي لحّا(3)، فسألته: لم لقب الخاسر؟ فضحك، ثم قال: إنه قد كان نسك مدة يسيرة، ثم رجع إلى أقبح ما كان عليه، و باع مصحفا له ورثه عن أبيه - و كان لجدّه قبله - و اشترى بثمنه طنبورا.

فشاع خبره و افتضح، فكان يقال له: ويلك! هل فعل أحد ما فعلت ؟ فقال: لم أجد شيئا أتوسّل به إلى إبليس هو أقرّ لعينه من هذا.

أخبرني عمّي، قال: أنبأنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن صالح المؤدب، و أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى إجازة، قال: حدّثني أبي، عن أحمد بن صالح، قال: قال بشار بن برد:

صوت

لا خير في العيش إن دمنا كذا أبدا *** لا نلتقي و سبيل الملتقى نهج(4)

ص: 174


1- كذا في س، و الفعل (ورث) ينصب مفعولا واحدا فيما رجعنا إليه من معاجم، فكأن «مائة ألف» بدل اشتمال حذف معه ضمير المبدل منه.
2- ف، ما: «عمي بدل عمر».
3- لحا: لاصق النسب.
4- نهج، بسكون الهاء: واضح، و حركها للوزن.

قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم *** ما في التّلاقي و لا في غيره حرج

من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطيّبات الفاتك اللهج(1)

قال: فقال سلم الخاسر أبياتا، ثم أخذ معنى هذا البيت، فسلخه، و جعله في قوله:

من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللذة الجسور

سبب غضب بشار عليه ثم رضاه عنه

فبلغ بيته بشارا، فغضب و استشاط، و حلف ألا يدخل إليه، و لا يفيده و لا ينفعه ما دام حيّا. فاستشفع إليه بكلّ صديق له، و كلّ من يثقل عليه ردّه، فكلّموه فيه، فقال: أدخلوه إليّ ، فأدخلوه إليه فاستدناه، ثم قال: إيه يا سلم، من الّذي يقول:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطيّبات الفاتك اللهج

قال: أنت يا أبا معاذ، قد جعلني اللّه فداءك! قال: فمن الّذي يقول:

من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللذة الجسور؟

قال: تلميذك، و خرّيجك، و عبدك يا أبا معاذ، فاجتذبه إليه، و قنّعه(2) بمخصرة(3) كانت في يده ثلاثا، و هو يقول: لا أعود يا أبا معاذ إلى ما تنكره، و لا آتي شيئا تذمّه، إنما أنا عبدك، و تلميذك، و صنيعتك، و هو يقول له:

يا فاسق! أ تجيء إلى معنى قد سهرت له عيني، و تعب فيه فكري و سبقت الناس إليه، فتسرقه، ثم تختصره لفظا تقرّبه به، لتزري عليّ ، و تذهب بيتي ؟ و هو يحلف له ألا يعود، و الجماعة يسألونه. فبعد لأي و جهد ما(4) شفّعهم فيه، و كفّ عن ضربه، ثم رجع له، و رضي عنه.

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار(5)، قال: أخبرني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور، قال: حدّثني عبد الوهاب بن مرّار، قال: حدّثني أبو معاذ النّميريّ راوية بشار، قال:

قد كان بشار قال قصيدة فيها هذا البيت:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطيّبات الفاتك اللهج

/قال: فقلت له يا أبا معاذ! قد قال سلم الخاسر بيتا، هو أحسن و أخفّ على الألسن من بيتك هذا، قال:

و ما هو؟ فقلت:

من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللذة الجسور

فقال بشار: ذهب و اللّه بيتنا، أما و اللّه لوددت أنه ينتمي في غير ولاء أبي بكر - رضي اللّه عنه - و أني مغرم(6)

ص: 175


1- اللهج بالشيء: المولع به.
2- قنعه بالعصا و نحوها: غشاه بها.
3- المخصرة: أداة كالسوط.
4- ما شفعهم: «ما» زائدة.
5- ف: «محمد بن عبد اللّه بن عمار».
6- مغرم: ملزم.

ألف دينار محبة منّي لهتك عرضه و أعراض مواليه! قال: فقلت له: ما أخرج هذا القول منك إلا غمّ . قال: أجل، فو اللّه لا طعمت اليوم طعاما، و لا صمت.

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن إسحاق بن محمد النّخعيّ (1)، قال: قال أبو معاذ النميريّ : قال بشار قصيدة، و قال فيها:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطيّبات الفاتك اللهج

فعرّفته أن سلما قد قال:

من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللذة الجسور

فلما سمع بشار هذا البيت قال: سار و اللّه بيت سلم، و خمل بيتنا! قال: و كان كذلك، لهج الناس ببيت سلم، و لم ينشد بيت بشار أحد.

شعره في قصر صالح بن المنصور

أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ ، قال: حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ ، قال: حدّثني أبو مالك محمد بن موسى اليمانيّ ، قال:

لما بنى صالح بن المنصور قصره بدجلة قال فيه سلم الخاسر:

/يا صالح الجود الّذي مجده *** أفسد مجد الناس بالجود

بنيت قصرا مشرفا عاليا *** بطائري سعد و مسعود

كأنما يرفع بنيانه *** جنّ سليمان بن داود

لا زلت مسرورا به سالما *** على اختلاف البيض و السود

- يعني الأيام و الليالي -، فأمر له صالح بألف درهم.

ينشد عمر بن العلاء قصيدة لبشار فيه، ثم ينشده لنفسه
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني بعض آل ولد(2) حمدون بن إسماعيل - و كان ينادم المتوكل - عن أبيه، قال:

كان سلم الخاسر من غلمان بشار، فلما قال بشار قصيدته الميمية في عمر بن العلاء - و هي الّتي يقول فيها:

إذا نبّهتك صعاب الأمور(3) *** فنبّه لها عمرا ثم نم

فتى لا يبيت على دمنة(4) *** و لا يشرب الماء إلا بدم

بعث بها مع سلم الخاسر إلى عمر بن العلاء، فوافاه فأنشده إياها، فأمر لبشار بمائة ألف درهم. فقال له

ص: 176


1- ف: «إسحاق بن محمد النخعي».
2- مم، ف: بعض ولد «حمدون».
3- مم: «الخطوب».
4- الدمنة: الحقد القديم الثابت.

سلم: إنّ خادمك - يعني نفسه - قد قال في طريقه فيك قصيدة، قال: فإنك لهناك(1)؟ قال: تسمع، ثم تحكم، ثم قال: هات، فأنشده:

صوت

قد عزّني الداء فما لي دواء *** ممّا ألاقي من حسان النساء

قلب صحيح كنت أسطو به *** أصبح من سلمى بداء عياء(2)

/أنفاسها مسك و في طرفها *** سحر و ما لي غيرها من دواء

وعدتني وعدا فأوفي به *** هل تصلح الخمرة إلا بماء؟

و يقول فيها:

كم كربة قد مسّني ضرّها *** ناديت فيها عمر بن العلاء

قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت أول عطية سنية وصلت إليه.

صداقته لعاصم بن عتبة و مدحه إياه

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: وجدت في كتاب بخط الفضل بن مروان:

و كان عاصم بن عتبة الغساني جدّ أبي السمراء الّذي كان مع عبد اللّه بن طاهر صديقا لسلم الخاسر، كثير البرّ به، و الملاطفة له، و فيه يقول سلم:

الجود في قحطان *** ما بقيت غسان

اسلم و لا أبالي(3) *** ما فعل الإخوان

ما ضرّ مرتجيه *** ما فعل الزمان

من غاله مخوف *** فعاصم أمان

و كانت سبعين بيتا، فأعطاه عاصم سبعين ألف درهم، و كان مبلغ ما وصل إلى سلم من عاصم خمسمائة ألف درهم، فلما حضرته الوفاة دعا عاصما فقال له: إني ميّت، /و لا ورثة لي، و إن مالي مأخوذ، فأنت أحقّ به، فدفع إليه خمسمائة ألف درهم، و لم يكن لسلم وارث. قال: و كان عاصم هذا جوادا.

يزيد بن مزيد يحسد عاصم بن عتبة على شعره فيه

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن طهمان، قال:

أخبرني القاسم بن موسى بن مزيد.

أن يزيد بن مزيد قال: ما حسدت أحدا قطّ على شعر مدح به إلا عاصم بن عتبة الغسّانيّ ، فإني حسدته على قول سلم الخاسر فيه:

ص: 177


1- فإنك لهناك ؟: أ فأنت تطيق ذلك ؟.
2- مم: «للّه قلب كنت أسطو به».
3- في المختار: أسلم لا أبالي.

لعاصم سماء *** عارضها تهتان

أمطارها اللجين *** و الدر(1) و العقيان(2)

و ناره تنادي *** إذ خبت النّيران

الجود في قحطان *** ما بقيت غسان

اسلم و لا أبالي *** ما فعل الإخوان

صلت له المعالي *** و السيف و السنان

كان يقدم أبا العتاهية على بشار ثم فسد ما بينهما

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه(3) بن عمار، قال: حدثنا يعقوب بن نعيم، عن(4) محمد بن القاسم بن مهرويه، و أخبرني به الحسن بن علي، عن ابن مهرويه، عن الغريبي، عن محمد بن عمر الجرجاني، قال:

كان سلم تلميذ بشار، إلا أنه كان تباعد ما بينهما، فكان سلم يقدّم أبا العتاهية، و يقول: هو أشعر الجن و الإنس، إلى أن قال أبو العتاهية يخاطب سلما:

/تعالى اللّه يا سلم بن عمرو *** أذلّ الحرص أعناق الرجال

هب الدّنيا تصير إليك عفوا *** أ ليس مصير ذاك إلى زوال!

قال: و بلغ الرشيد هذا الشعر فاستحسنه، و قال: لعمري إن الحرص لمفسدة لأمر الدين و الدنيا، و ما فتّشت عن حريص قطّ مغيّبه(5) إلا انكشف لي عمّا أذمّه. و بلغ ذلك سلما، فغضب على أبي العتاهية، و قال: ويلي على الجرّار ابن الفاعلة الزّنديق! زعم أني حريص، و قد كنز البدور(6) و هو يطلب و أنا في ثوبيّ هذين، لا أملك غيرهما.

و انحرف عن أبي العتاهية بعد ذلك.

يرد على أبي العتاهية حين اتهمه بالحرص في شعر له

أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ ، قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: أخبرني محمد بن إسماعيل السّدوسي، قال: حدّثني جعفر العاصمي، و أخبرني عمي، عن أحمد بن أبي طاهر، عن القاسم بن الحسن، عن زكريا بن يحيى المدائني، عن علي بن المبارك القضاعيّ ، عن سلم الخاسر.

أن أبا العتاهية لما قال هذا الشعر فيه كتب إليه:

ما أقبح التزهيد من واعظ *** يزهّد الناس و لا يزهد

لو كان في تزهيده صادقا *** أضحى و أمسى بيته المسجد

و رفض الدنيا و لم يلقها *** و لم يكن يسعى و يسترفد

ص: 178


1- في المختار: الإبريز مكان (الدر)، و الإبريز من الذهب: خالصه.
2- العقيان: الذهب الخالص.
3- ف: «أخبرني عبيد اللّه بن عمار».
4- مم: «و محمد بن القاسم».
5- كذا في ف، و مغيبه بدل من حريص، و في س: «معيبة»، و هو تحريف. و في المختار: ما فتشت عن حريص قط إلا انكشف.
6- البدور، جمع البدرة، بفتح فسكون، و هي: قدر كبير من المال.

يخاف(1) أن تنفذ أرزاقه *** و الرزق عند اللّه لا ينفد

الرّزق مقسوم على من ترى *** يناله الأبيض و الأسود

كلّ يوفّى رزقه كاملا *** من كفّ عن جهد و من يجهد

ابن أخته ينتصر له من أبي العتاهية

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني أبو العسكر المسمعيّ ، و هو محمد بن سليمان، قال: حدّثني العبّاس بن عبد اللّه بن سنان بن عبد الملك بن مسمع، قال:

كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان، و هو يومئذ أمير البصرة، و عنده أبو العتاهية ينشده شعره في الزهد، فقال لي: قثم: يا عباس! اطلب لي الجمّاز الساعة حيث كان فجئني به، و لك سبق(2)، فطلبته؛ فوجدته جالسا ناحية عند ركن دار جعفر بن سليمان، فقلت: له أجب الأمير، فقام معي حتى أتى قثم فجلس في ناحية مجلسه و أبو العتاهية ينشده، ثم قام إليه الجمّاز فواجهه، و أنشد قول سلم الخاسر فيه:

ما أقبح التزهيد(3) من واعظ *** يزهّد الناس و لا يزهد

لو كان في تزهيده صادقا *** أضحى و أمسى بيته المسجد

و ذكر الأبيات كلها، فقال أبو العتاهية: من هذا أعز اللّه الأمير؟ قال: هذا الجماز، و هو ابن أخت سلم الخاسر، انتصر لخاله منك حيث قلت له:

تعالى اللّه يا سلم بن عمرو *** أذلّ الحرص أعناق الرجال

قال: فقال أبو العتاهية للجماز: يا بن أخي، إني لم أذهب في شعري الأول حيث ذهب خالك؛ و لا أردت أن أهتف به، و لا ذهبت أيضا في حضوري و إنشادي حيث ذهبت من الحرص على الرزق، و اللّه يغفر لكما! ثم قام فانصرف.

مبلغ ما وصل إليه من الرشيد و البرامكة

أخبرني عمّي، عن أحمد بن أبي طاهر، عن أبي هفّان، قال:

وصل إلى سلم الخاسر من آل برمك خاصة سوى ما وصل إليه من غيرهم عشرون ألف دينار، و وصل إليه من الرشيد مثلها.

يطلب إلى أبي محمد اليزيدي أن يهجوه فيفعل فيندم

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدّثني عمّاي عبيد اللّه و الفضل؛ عن أبيهما، عن أبي محمد اليزيديّ :

أنه حضر مجلس عيسى بن عمر، و حضر سلم الخاسر، فقال له: يا أبا محمد، اهجني على رويّ قصيدة امرئ القيس:

ص: 179


1- كذا في المختار، و في س: «فخاف»، و هو تحريف.
2- و السبق، بالتحريك: ما يتراهن عليه المتسابقون.
3- في س: «الزهيد»، و هو تحريف.

ربّ رام من بني ثعل *** مخرج كفيه في ستره(1)

قال: فقلت له: ما دعاك إلى هذا؟ قال: كذا أريد. فقلت له: يا هذا أنا و أنت أغنى الناس عما تستدعيه من الشر فلتسعك العافية، فقال: إنك لتحتجز منّي نهاية الاحتجاز، و أراد أن يوهم عيسى أني مفحم عييّ لا أقدر على ذلك، فقال لي عيسى: أسألك يا أبا محمد بحقّي عليك إلا فعلت. فقلت:

ربّ مغموم بعاقبة *** غمط النعمة من أشره

و امرئ طالت سلامته *** فرماه الدهر من غيره

بسهام غير مشوية *** نقضت منه قوى مرره(2)

و كذاك الدهر منقلب *** بالفتى حالين من عصره

يخلط العسر بميسرة *** و يسار المرء في عسره

عقّ سلم أمّه صغرا *** و أبا سلم على كبره

/كلّ يوم خلفه رجل *** رامح يسعى على أثره

يولج الغرمول(3) سبّته(4) *** كولوج الضّبّ في جحره

قال: فاغتم سلم و ندم، و قال: هكذا تكون عاقبة البغي و التعرض للشر، فضحك عيسى، و قال له: قد جهد الرجل أن تدعه، و صيانته و دينه فأبيت إلا أن يدخلك في حر أمك.

ترفهه و تخشن مروان بن أبي حفصة

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ ، قال: سمعت أبي يقول:

كان المهدي يعطي مروان و سلما الخاسر عطية واحدة، فكان سلم يأتي باب المهدي على البرذون الفاره، قيمته عشرة آلاف درهم، بسرج و لجام مفضّضين، و لباسه الخزّ و الوشي، و ما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان و رائحة المسك و الطّيب و الغالية تفوح منه، و يجيء مروان بن أبي حفصة عليه فرو(5) كبل و قميص كرابيس(6)و عمامة كرابيس و خفا كبل(7) و كساء غليظ، و هو منتن الرائحة. و كان لا يأكل اللحم حتى يقرم إليه بخلا، فإذا قرم أرسل غلامه، فاشترى له رأسا فأكله. فقال له قائل: أراك لا تأكل إلا الرأس! قال: نعم، أعرف سعره، فآمن خيانة

ص: 180


1- روى: «متلج» مكان «مخرج»، و «قتره» مكان «ستره». و متلج: أصله مولج، قلبت الواو تاء شذوذا. و الستر: جمع سترة، و هو الموضع الّذي يستتر الصائد فيه، و قيل: هو الكم. و القتر: جمع قترة، بضم فسكون. و هي حفيرة يكمن فيه الصائد. و ثعل: أبو قبيلة من طي كانت أرمى العرب. و أراد بالرامي هنا: عمرو بن المسح بن كعب بن طريف. ديوان الشاعر: 164، و شرح شواهد الشافية: 467.
2- أشوى السهم: لم يصب مقتلا. المرر، جمع مرة، بالكسر و من معانيها طاقة الحبل. و في س: «غير مبرية».
3- الغرمول: الذكر.
4- السبة: الاست.
5- فرو كبل، بالتحريك: قصير.
6- قميص كرابيس: الكرابيس، جمع كرباس. و هو ثوب من القطن الأبيض، وصف بجمعه.
7- الكبل: جلد شفة الدلو، و الكثير الصوف من الفراء.

الغلام، و لا اشترى لحما فيطبخه فيأكل منه. و الرأس آكل منه ألوانا: آكل منه عينيه لونا، و من غلصمته(1) لونا، و من دماغه لونا.

ابتلاؤه بالكيمياء ثم انصرافه عنها

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا يحيى بن الحسن الربيعيّ ، قال: أخبرني أبي، قال:

كان سلم الخاسر قد بلي بالكيمياء فكان يذهب بكلّ شيء له باطلا، فلما أراد اللّه - عز و جل - أن يصنع(2) له عرّف أنّ بباب الشام صاحب كيمياء عجيبا، و أنه لا يصل إليه أحد إلا ليلا، فسأل عنه فدلوه عليه.

قال: فدخلت إليه إلى موضع معور(3)، فدققت الباب فخرج إليّ ، فقال: من أنت عافاك اللّه ؟ فقلت: رجل معجب بهذا العلم. قال: فلا تشهرني، فإني رجل مستور، إنما أعمل للقوت. قال: قلت: لأني لا أشهرك، إنما أقتبس منك، قال: فاكتم ذلك. قال: و بين يديه كوز شبه(4) صغير. فقال لي: اقلع عروته، فقلعتها. فقال: اسبكها في البوطقة، فسبكتها، فأخرج شيئا من تحت مصلاّه، فقال: ذرّه عليه، ففعلت. فقال: أفرغه، فأفرغته. فقال:

دعه معك، فإذا أصبحت فأخرج، فبعه و عد إليّ ، فأخرجته إلى باب الشام، فبعت المثقال بأحد و عشرين درهما، و رجعت إليه فأخبرته. فقال: اطلب الآن ما شئت. قلت: تفيدني. قال: بخمسمائة درهم على أن لا تعلّمه أحدا، فأعطيته، و كتب لي صفة، فامتحنتها، فإذا هي باطلة. فعدت إليه، فقيل لي: قد تحوّل، و إذا عروة الكوز المشبّه(5)من ذهب مركبة عليه، و الكوز شبه. و لذلك كان يدخل إليه من يطلبه ليلا، ليخفى عليه، فانصرفت، و علمت أن اللّه - عز و جل - أراد بي خيرا، و أن هذا كله باطل.

يرثي البانوكة بنت المهدي

أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ ، قال: حدثنا العنزيّ ، قال: حدّثني أبو مالك اليماني، قال: حدّثني أبو كعب، قال:

لما ماتت البانوكة بنت المهدي رثاها سلم الخاسر بقوله:

أودى ببانوكة ريب الزمان *** مؤنسة المهديّ و الخيزران

لم تنطو الأرض على مثلها *** مولودة حنّ لها الوالدان

بانوك يا بنت إمام الهدى *** أصبحت من زينة أهل الجنان

بكت لك الأرض و سكّانها *** في كل أفق بين انس و جان

ص: 181


1- الغلصمة: اللحم بين العنق و الرأس، و تطلق على غير ذلك.
2- يصنع له: يريد الخير له.
3- معور: لا يؤمن الشر فيه، من أعور الفارس: إذا بدا فيه موضع خلل للضرب.
4- الشبه: النحاس الأصفر.
5- المشبه: الملبس الّذي لا تعرف حقيقته.
كان يهاجي والبة بن الحباب

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن الحسن الشيبانيّ ، قال: حدّثني أبو المستهلّ الأسديّ ، و هو عبد اللّه بن تميم بن حمزة، قال:

كان سلم الخاسر يهاجي والبة بن الحباب، فأرسلني إليه و قال: قل له:

يا والب بن الحباب يا حلقي(1) *** لست من أهل الزناء فانطلق

دخل فيه الغرمول تولجه *** مثل ولوج المفتاح في الغلق

قال: فأتيت والبة فقلت له ذلك، فقال لي: قل له: يا بن الزانية، سل عنك ريعان التميمي - يعني أنه ناكه - قال: و كان ريعان لوطيا آفة من الآفات، و كان علاّمة ظريفا.

قال: فحدّثني جعفر بن قدامة عن محمد العجلي، عن أحمد بن معاوية الباهليّ ، قال: سمعت ريعان يقول:

نكت الهيثم بن عديّ ، فمن ترونه يفلت مني بعده ؟.

يعتذر إلى المهدي من مدحه لبعض العلويين

و أخبرني أحمد بن العباس العسكري، قال: حدثنا العنزيّ ، قال: حدّثني أبو مالك/محمد بن موسى اليمانيّ ، قال:

كان سلم الخاسر مدح بعض العلويين، فبلغ ذلك المهديّ ، فتوعّده و همّ به، فقال سلم فيه:

إني أتتني على المهديّ معتبة *** تكاد من خوفها الأحشاء تضطرب

اسمع فداك بنو حواء كلّهم *** و قد يجور برأس الكاذب الكذب

فقد حلفت يمينا غير كاذبة *** يوم المغيبة لم يقطع لها سبب

ألاّ يحالف مدحي غيركم أبدا *** و لو تلاقى عليّ الغرض(2) و الحقب(3)

و لو ملكت عنان الريح أصرفها *** في كلّ ناحية ما فاتها الطلب

مولاك مولاك لا تشمت أعاديه *** فما وراءك لي ذكر و لا نسب

فعفا عنه.

كان لا يحسن المدح و يحسن الرثاء

و أخبرني أحمد بن العباس(4)، و أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قالا: حدثنا العنزيّ ، قال: حدّثني العباس بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان، قال: حدّثني موسى بن عبد اللّه بن شهاب المسمعيّ ، قال:

سمعت أبا عبيدة معمر بن المثنى يقول: كان سلم الخاسر لا يحسن أن يمدح، و لكنه كان يحسن أن يرثي و يسأل.

ص: 182


1- الحلقي، من قولهم: أتان حلقية؛ بالتحريك: إذا تداولها الحمر حتى أصابها داء في رحمها.
2- الغرض؛ هو للرحل كالحزام للسرج.
3- الحقب؛ محركة: الحزام يلي حقو البعير، و الحقو بفتح فسكون: الكشح. ابن منظور لسان العرب 189/4 مادة (حفا).
4- ف: «أحمد بن عبد العزيز».
بعد الرثاء في حياة من يعنيه رثاؤهم

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن الحسن الشّيبانيّ ، قال: حدّثني أبو المستهلّ ، قال:

/دخلت يوما على سلم الخاسر، و إذا بين يديه قراطيس فيها أشعار يرثي ببعضها أمّ جعفر، و ببعضها جارية غير مسمّاة، و ببعضها أقواما لم يموتوا، و أمّ جعفر يومئذ باقية. فقلت له: ويحك! ما هذا؟ فقال: تحدث الحوادث فيطالبوننا(1) بأن نقول فيها، و يستعجلوننا(1)، و لا يجمل بنا أن نقول غير الجيّد، فنعدّ لهم هذا قبل كونه، فمتى حدث حادث أظهرنا ما قلناه فيه قديما، على أنه قيل في الوقت.

إعجاب المأمون ببيت: تعالى اللّه يا سلم

أخبرني محمد بن مزيد و عيسى بن الحسين، قالا: حدثنا الزبير بن بكّار، قال: قال عبد اللّه بن الحسن الكاتب:

أنشد المأمون قول أبي العتاهية:

تعالى اللّه يا سلم بن عمرو *** أذلّ الحرص أعناق الرجال

فقال المأمون: صدق لعمر اللّه، إنّ الحرص لمفسدة للدّين و المروءة، و اللّه ما رأيت من رجل قط حرصا و لا شرها، فرأيت فيه مصطنعا. فبلغ ذلك سلما الخاسر، فقال: ويلي على ابن الفاعلة بياع الخزف، كنز البدور بمثل ذلك الشعر المفكّك الغثّ ، ثم تزهّد بعد أن استغني، و هو دائبا يهتف بي، و ينسبني إلى الحرص، و أنا لا أملك إلا ثوبيّ هذين.

يسكت أبا الشمقمق عن هجائه بخمسة دنانير

أخبرني عمّي و الحسن بن عليّ ، قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا زكريا بن مهران، قال:

طالب أبو الشمقمق سلما الخاسر بأن يهب له شيئا، و قد خرجت لسلم جائزة، فلم يفعل، فقال أبو الشمقمق يهجوه:

يا أمّ سلم هداك اللّه زورينا *** كيما ننيك فردا أو تنيكينا

/ما إن ذكرتك إلاّ هاج(2) لي شبق *** و مثل ذكراك أمّ السلم يشجينا

قال: فجاءه سلم فأعطاه خمسة دنانير، و قال: أحبّ أن تعفيني من استزارتك أمّي و تأخذ هذه الدنانير فتنفقها.

من شعره حين ولى يعقوب بن داود بعد أبي عبيد اللّه

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال:

حدّثني محمد بن القاسم بن الربيع عن أبيه، قال:

ص: 183


1- كذا في المختار، و في س: «يطالبونا و يستعجلونا»، و ما أثبتناه أكثر استعمالا.
2- في المختار: «هجت لي شبقا».

دخل الرّبيع على المهديّ و أبو عبيد اللّه جالس يعرض كتبا، فقال له أبو عبيد اللّه: مر هذا أن يتنحّى - يعني الربيع - فقال له المهدي: تنحّ ، فقال: لا أفعل. فقال: كأنك تراني بالعين الأولى! فقال: لا، بل أراك بالعين الّتي أنت بها. قال: فلم لا تتنحّى إذ أمرتك ؟ فقال له: أنت ركن الإسلام، و قد قتلت ابن هذا، فلا آمن أن يكون معه حديدة يغتالك بها، فقام المهديّ مذعورا، و أمر بتفتيشه، فوجدوا بين جوربه و خفّه سكّينا، فردّت الأمور كلّها إلى الربيع، و عزل أبو عبيد اللّه، و ولّي يعقوب بن داود، فقال سلم الخاسر فيه:

يعقوب ينظر في الأمو *** ر و أنت تنظر ناحيه

أدخلته فعلا عل *** يك كذاك شؤم الناصية

قال: و كان بلغ المهديّ من جهة الربيع أن ابن أبي عبيد اللّه زنديق، فقال له المهديّ : هذا حسد منك. فقال:

افحص عن هذا، فإن كنت مبطلا بلغت منّي الّذي يلزم من كذبك. فأتى بابن عبيد اللّه، فقرّره تقريرا خفيّا، فأقرّ بذلك، فاستتابه، فأبى أن يتوب، فقال لأبيه: اقتله، فقال: لا تطيب نفسي بذلك. فقتله و صلبه على باب أبي عبيد اللّه.

/قال: و كان ابن أبي عبيد اللّه هذا من أحمق الناس: وهب له المهديّ وصيفة، ثم سأله بعد ذلك عنها، فقال: ما وضعت بيني و بين الأرض حشيّة قطّ أوطأ منها حاشا سامع(1)، فقال المهديّ لأبيه: أ تراه يعنيني، أو يعنيك ؟ قال: بل يعني أمّه الزانية، لا يكنى.

شعره في الفضل بن الربيع حين أخذ البيعة للمهدي

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني يحيى بن الحسن، قال: حدّثني أبي، قال:

كنت أنا و الربيع نسير قريبا من محمل المنصور حين(2) قال للربيع: رأيت كأن الكعبة تصدّعت، و كأن رجلا جاء بحبل أسود فشدّدها، فقال له الربيع: من الرجل ؟ فلم يجبه، حتى إذا اعتلّ قال للربيع: أنت الرجل الّذي رأيته في نومي شدّد الكعبة! فأيّ شيء تعمل بعدي ؟ قال: ما كنت أعمل في حياتك، فكان من أمره في أخذ البيعة للمهديّ ما كان، فقال سلم الخاسر في الفضل بن الربيع:

يا بن(3)

الّذي جبر الإسلام يوم و هي *** و استنقذ الناس من عمياء صيخود(4)

قالت قريش غداة أنهاض ملكهم: *** أين(5) الربيع و أعطوا بالمقاليد

فقام بالأمر مئناس بوحدته *** ماضي العزيمة ضرّاب القماحيد(6)

إن الأمور إذا ضاقت مسالكها *** حلّت يد الفضل منها كلّ معقود

ص: 184


1- كذا في الأصول: و قد تكون: سامع هذا.
2- في س: «حتى»، و هو تحريف.
3- كذا في المختار، و في س: «و ابن»، و ما أثبتناه هو ما يقتضيه بدء الكلام.
4- الصيخود، هي في الأصل: الصخرة الشديدة، و يوم صيخود: شديد الحر. وصف بها الفتنة الشديدة العمياء الّتي كان يمكن أن يتعرض لها الناس لو لا صنيع الفضل.
5- كذا في س، ف. و في مم: «يا بن الربيع».
6- القماحيد، جمع القمحدوة، كالقلنسوة. و هي: الهنة الناشزة فوق القفا و أعلى القذال. و القذال: ما بين الأذنين من مؤخر الرأس. و جمع القحمدوة قماحد، فأشبع كسرة الحاء.

/إنّ الربيع و إن الفضل قد بنيا *** رواق مجد على العبّاس ممدود

قال: فوهب له الفضل خمسة آلاف دينار.

شعره حين عقدت البيعة للأمين

أخبرني عمّي، قال: حدثنا أبو هفّان، قال: حدّثني سعيد أبو هريم(1) و أبو دعامة، قالا: لما قال سلم الخاسر في الرشيد حين عقد البيعة لابنه محمد الأمين:

قد بايع الثّقلان في مهد الهدى *** لمحمد بن زبيدة ابنة جفر

ولّيته عهد الأنام و أمرهم *** فدمغت بالمعروف رأس المنكر

أعطته زبيدة مائة ألف درهم.

المهدي يأمر له بخمسمائة ألف درهم لقصيدته فيه

أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا عبد اللّه بن عمرو، قال:

حدّثني أحمد بن محمد بن عليّ الخراسانيّ (2)، عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، عن أبيه، قال:

قال سلم الخاسر في المهديّ قصيدته الّتي يقول فيها:

له شيمة عند بذل العطا *** ء لا يعرف الناس مقدارها

و مهديّ أمّتنا و الّذي *** حماها و أدرك أوتارها

فأمر له المهديّ بخمسمائة ألف درهم.

طلب إلى الرشيد أن يفضله في الجائزة على مروان بن أبي حفصة فأجابه

أخبرنا وكيع، قال: حدثنا عبد اللّه بن سليمان، قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، قال:

شهدت المهديّ و قد أمر لمروان بن أبي حفصة بأربعين ألف درهم، و فرض له على أهل بيته و جلسائه ثلاثين ألف درهم. و أمر الرشيد بعد ذلك لمّا ولى الخلافة لسلم الخاسر - /و قد مدحه - بسبعين ألف درهم، فقال له:

يا أمير المؤمنين، إنّ أكثر ما أعطى المهديّ مروان سبعون ألف درهم، فزدني و فضّلني عليه، ففعل ذلك، و أعطاه تتمة ثمانين ألف درهم، فقال سلم

فخره على مروان بجائزته و رد مروان عليه

ألا قل لمروان أتتك رسالة *** لها نبأ لا ينثني عن لقائكا

حباني أمير المؤمنين بنفحة *** مشهّرة قد طأطأت من حبائكا

ثمانين ألفا حزت من صلب ماله *** و لم يك قسما من أولى و أولئكا

فأجابه مروان فقال:

ص: 185


1- ف: «ابن مريم».
2- أحمد بن محمد بن عيسى».

أسلم بن عمرو قد تعاطيت غاية *** تقصّر عنها بعد طول عنائكا

فأقسم لو لا ابن الربيع و رفده *** لما ابتلّت الدّلو الّتي في رشائكا

و ما نلت مذ صوّرت إلا عطيّة *** تقوم بها مصرورة في ردائكا

مات عن غير وارث فوهب الرشيد تركته

حدّثني وسواسة بن الموصليّ ، و هو محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدّثني حماد، عن أبيه.

قال:

استوهب أبي من الرشيد تركة سلم الخاسر، و كان قد مات عن غير وارث، فوهبها له قبل أن يتسلّمها صاحب المواريث، فحصّل منها خمسين ألف دينار.

أخبرني عمي، قال: حدّثني أبو هفّان، عن سعيد بن هريم و أبي دعامة أنه رفع إلى الرشيد أن سلما الخاسر قد توفي، و خلّف ممّا أخذه منه خاصة و من زبيدة ألف ألف و خمسمائة ألف درهم سوى ما خلّفه من عقار و غيره مما اعتقده(1) قديما، فقبضه الرشيد. و تظلم إليه مواليه من آل أبي بكر الصديق، رضوان اللّه عليه، فقال: هذا/خادمي و نديمي، و الّذي خلّفه من مالي، فأنا أحقّ به، فلم يعطهم إلا شيئا يسيرا من قديم أملاكه.

رثاؤه معن بن زائدة و مالكا و شهابا ابني عبد الملك بن مسمع

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل، عن القحذميّ ، قال: كان مالك و شهاب ابنا عبد الملك بن مسمع و معن بن زائدة متواخين، لا يكادون يفترقون. و كان سلم الخاسر ينادمهم و يمدحهم، و يفضلون عليه و لا يحوجونه إلى غيرهم، فتوفّي مالك ثم أخوه ثم معن في مدة متقاربة، فقال سلم يرثيهم:

عين جودي بعبرة تهتان(2) *** و اندبي من أصاب ريب الزمان

و إذا ما بكيت قوما كراما *** فعلى مالك أبي غسّان

أين معن أبو الوليد و من كا(3) *** ن غياثا للهالك الحيران

طرقتك المنون لا واهي الحب *** ل و لا عاقدا بحلف يمان

و شهاب و أين مثل شهاب *** عند بذل النّدى و حرّ الطّعان

ربّ خرق(4) رزئته من بني قي *** س و خرق رزئت من شيبان

درّ(5) درّ الأيام ما ذا أجنّت(6) *** منهم في لفائف الكتان(7)!

ذاك معن ثوى ببست(8) رهينا *** و شهاب ثوى بأرض عمان

ص: 186


1- اعتقده: جمعه.
2- عبرة تهتان: منصبة، وصف بالمصدر.
3- ف: «و قد كان».
4- الخرق: السخي، أو الظريف في سخاوة.
5- در: كثر، و الدر: اللبن. و دردره: دعاء له بكثرة الخير؛ و المراد هنا التعجب.
6- أجنت: وارت.
7- مم: «الأكفان».
8- س: «يئست»، تحريف.

/و هما ما هما لبذل العطايا *** و للفّ الأقران بالأقران

يسبقان المنون طعنا و ضربا *** و يفكّان كلّ كبل(1) و عان(2)

أمر له الرشيد بمائة ألف درهم في قصيدة أنشده إياها

أخبرني وكيع، قال: حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ ، قال: حدّثني عبد الصمد بن المعذّل، قال:

لما أنشد سلم الخاسر الرشيد قصيدته فيه:

حضر الرّحيل و شدّت الأحداج

أمر له بمائة ألف درهم.

من شعره في الفضل بن يحيى و جائزته عليه

حدّثني جحظة قال: حدّثني ميمون بن هارون قال:

دخل سلم الخاسر على الفضل بن يحيى في يوم نيروز و الهدايا بين يديه، فأنشده:

أ من ربع تسائله *** و قد أقوت منازله

بقلبي من هوى الأطلا *** ل حبّ ما يزايله

رويدكم عن المشغو *** ف إنّ الحبّ قاتله

بلابل صدره تسري *** و قد نامت عواذله

أحقّ الناس بالتفض *** يل من ترجى فواضله

رأيت مكارم الأخلا *** ق ما ضمّت حمائله

فلست أرى فتى في النا *** س إلا الفضل فاضله

يقول لسانه خيرا *** فتفعله أنامله

/و مهما يرج(3) من خير *** فإن الفضل فاعله

و كان إبراهيم الموصليّ و ابنه إسحاق حاضرين، فقال لإبراهيم: كيف(4) ترى و تسمع ؟ قال: أحسن مرئيّ و مسموع، و فضل الأمير أكثر منه. فقال: خذوا جميع ما أهدي إليّ اليوم فاقتسموه بينكم أثلاثا(5) إلا ذلك التمثال، فإني أريد أن أهديه اليوم إلى دنانير، ثم قال: لا، و اللّه، ما هكذا تفعل الأحرار، يقوّم و ندفع إليهم ثمنه، ثم نهديه.

فقوّم بألفي دينار، فحملها إلى القوم من بيت ماله، و اقتسموا جميع الهدايا بينهم.

ص: 187


1- الكبل: القيد؛ أو أعظم ما يكون من القيود.
2- العاني: الأسير.
3- في التجريد: «ترج».
4- في التجريد: «كيف ما ترى». و سقط فيه: كلمة «تسمع».
5- كذا في المختار و في س: «ثلاثا»، و هو تحريف.
شعر له يعده معن بن زائدة أحسن ما مدح به

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدّثني عيسى بن إسماعيل تينة، قال: حدّثني القحذميّ ، قال:

قيل لمعن بن زائدة: ما أحسن ما مدحت به من الشعر عندك ؟ قال: قول سلم الخاسر:

أبلغ الفتيان مألكة(1) *** أنّ خير الودّ ما نفعا

أنّ قرما(2) من بني مطر *** أتلفت كفّاه ما جمعا

كلّما عدنا لنائله *** عاد في معروفه جذعا(3)

شعر له في الفضل بن يحيى و قد أشار برأي أخذ به

أخبرني عمي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة، و أخبرني الحسن بن عليّ ، قال:

حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، عن أبي توبة، قال:

حدث في أيام الرشيد أمر فاحتاج فيه(4) إلى الرأي، فأشكل، و كان الفضل بن/يحيى غائبا، فورد في ذلك الوقت، فأخبروه بالقصة، فأشار بالرأي في وقته، و أنفذ الأمر على مشورته، فحمد ما جرى فيه، فدخل عليه سلم الخاسر فأنشده:

بديهته و فكرته سواء *** إذا ما نابه الخطب الكبير

و أحزم ما يكون الدّهر رأيا *** إذا عيّ (5) المشاور و المشير(6)

فأمر له بعشرة آلاف درهم.

اشترى سكوت أبي الشمقمق عن هجائه

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني أبو العيناء، قال: حدّثني الجمّاز أنّ أبا الشمقمق جاء إلى سلم الخاسر يستميحه فمنعه، فقال له: اسمع إذا ما قلته، و أنشده:

حدّثوني أنّ سلما *** يشتكي جارة أيره

فهو لا يحسد شيئا *** غير أير في است غيره

و إذا سرّك يوما *** يا خليلي نيل خيره

قم فمر راهبك الأص *** لع يقرع باب ديره

فضحك سلم، و أعطاه خمسة دنانير، و قال له: أحب - جعلت فداءك - أن تصرف راهبك الأصلع عن باب ديرنا.

ص: 188


1- المألكة: الرسالة.
2- القرم: السيد.
3- الجذع: الشاب الحدث، و المراد: عاد أكثر ارتياحا للندى.
4- كذا في المختار، و في س: «إليه»، و هو تحريف. و في التجريد، ف، مم: «فاحتيج».
5- في التجريد: «أعيا».
6- زاد في المختار بعد هذا البيت: و صدر فيه للهم اتساع إذا ضاقت عن الهمّ الصدور
أنشد الرشيد فتطير و أمر بإخراجه

أخبرنا الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني أحمد بن أبي كامل، قال: حدّثني أبو دعامة، قال:

دخل سلم الخاسر على الرشيد، فأنشده:

/حيّ الأحبّة بالسلام

فقال الرشيد:

حياهم اللّه بالسلام

فقال:

على وداع أم مقام

فقال الرشيد: حيّاهم اللّه على أيّ ذلك كان، فأنشده:

لم يبق منك و منهم *** غير الجلود على العظام

فقال له الرشيد: بل منك، و أمر بإخراجه، و تطيّر منه، و من قوله، فلم يسمع منه باقي الشعر و لا أثابه بشيء.

شعره في الهادي حين بويع له

أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

أتت وفاة المهديّ إلى موسى الهادي، و هو بجرجان، فبويع له هناك، فدخل عليه سلم الخاسر مع المهنئين، فهنأه بخلافة اللّه، ثم أنشده:

لمّا أتت خير بني هاشم *** خلافة اللّه بجرجان

شمّر للحزم(1) سرابيله *** برأي لا غمر و لا وان

لم يدخل الشّورى على رأيه *** و الحزم لا يمضيه رأيان

يقر بأستاذية بشار له

أخبرني الحسن بن عليّ و عمي، قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني صالح بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال:

دخل سلم الخاسر على الرشيد، و عنده العباس بن محمد و جعفر بن يحيى، فأنشده قوله فيه:

/حضر الرّحيل و شدّت الأحداج(2)

ص: 189


1- في التجريد: «للحرب».
2- عجزه كما في التجريد: و غدا بهن مشمر مزعاج و الأحداج، جمع الحدج، بكسر فسكون، و هو مركب للنساء.

فلما انتهى إلى قوله:

إن المنايا في السيوف كوامن *** حتى يهيّجا فتى هيّاج

فقال الرشيد: كان ذلك معن بن زائدة، فقال: صدق أمير المؤمنين، ثم أنشد حتى انتهى إلى قوله:

و مدجّج يغشى المضيق بسيفه *** حتى يكون بسيفه الإفراج

فقال الرشيد: ذلك يزيد بن مزيد، فقال: صدق أمير المؤمنين، فاغتاظ جعفر بن يحيى، و كان يزيد بن مزيد عدوّا للبرامكة، مصافيا للفضل بن الربيع، فلما انتهى إلى قوله:

نزلت نجوم الليل فوق رءوسهم *** و لكلّ قوم كوكب وهّاج

قال له جعفر بن يحيى: من قلّة الشعر حتى(1) تمدح أمير المؤمنين بشعر قيل في غيره! هذا لبشّار في فلان التميميّ ، فقال الرشيد: ما تقول يا سلم ؟ قال: صدق يا سيدي، و هل أنا إلا جزء من محاسن بشار، و هل أنطلق إلا بفضل منطقه! و حياتك يا سيدي إني لأروي له تسعة آلاف بيت ما يعرف أحد غيري منها شيئا، فضحك الرشيد، و قال: ما أحسن الصدق! امض في شعرك، و أمر له بمائة ألف درهم، ثم قال للفضل بن الربيع: هل قال أحد غير سلم في طيّنا المنازل شيئا؟ - و كان الرشيد قد انصرف من الحج، /و طوى المنازل.

وصفه هو و النمري على الرشيد للمنازل

فوصف ذلك سلم - فقال الفضل: نعم يا أمير المؤمنين، النّمريّ ، فأمر سلما أن يثبت قائما حتى يفرغ النمريّ من إنشاده، فأنشده النّميريّ قوله:

تخرّق سربال الشباب مع البرد *** و حالت لنا أمّ الوليد عن العهد

فقال الرشيد للعباس بن محمد: أيّهما أشعر عندك يا عم ؟ قال: كلاهما شاعر، و لو كان كلام يستفحل(2)لجودته حتى يؤخذ منه نسل لاستفحلت كلام النّمريّ ، فأمر له بمائة ألف درهم أخرى.

رثاه أشجع السلمي
اشارة

أخبرني عمي، قال: أنشدني أحمد بن أبي طاهر لأشجع السّلميّ يرثي سلما الخاسر و مات سلم قبله:

يا سلم إن أصبحت في حفرة *** موسّدا تربا و أحجارا

فربّ بيت حسن قلته *** خلّفته في الناس تيّارا

قلّدته ربّا و سيّرته *** فكان فخرا منك أو عارا

لو نطق الشعر بكى بعده *** عليه إعلانا و إسرارا

صوت

يا ويح من لعب الهوى بحياته *** فأماته من قبل حين مماته

من ذا كذا كان الشقي بشادن *** هاروت بين لسانه و لهاته

ص: 190


1- في التجريد: «من قلة شعر يمدح».
2- في التجريد: «و لو كان الشعر يستفحل».

و حياة من أهوى فإنّي لم أكن *** يوما لأحلف كاذبا بحياته

لأخالفنّ عواذلي في لذّتي *** و لأسعدنّ أخي على لذّاته

الشعر لبعض شعراء الحجازيين و لم يقع إلينا اسمه، و الغناء لأبي صدقة رمل بالبنصر(1).

ص: 191


1- كذا في ف، مم، ما، مج. و جاء في ب، س مكان هذه الأبيات بعد كلمة صوت: أجدك ما تعفو كلوم مصيبة على صاحب إلا فجعت بصاحب تقطع أحشائي إذا ما ذكرتكم و تنهل عيني بالدموع السواكب عروضه من الطويل. الشعر لسلمة بن عياش، و الغناء لحكم، و له فيه لحنان بالبنصر و هزج بالوسطى. و ما أثبتناه أنسب للترجمة التالية.

14 - أخبار أبي صدقة

اشارة

14 - أخبار أبي صدقة (1)

اسمه و ولاؤه

اسمه مسكين بن صدقة من أهل المدينة، مولى لقريش. و كان مليح الغناء، طيّب الصوت، كثير الرواية، صالح الصنعة؛ من أكثر الناس نادرة، و أخفّهم روحا، و أشدّهم طمعا، و ألحّهم في مسألة. و كان له ابن يقال له:

صدقة يغنّي، و ليس من المعدودين، و ابن ابنه أحمد بن صدقة الطّنبوريّ - أحد المحسنين من الطّنبوريين، و له صنعة جيدة، و كان أشبه الناس بجدّه في المزح و النوادر. و أخباره تذكر بعد أخبار جدّه. و أبو صدقة من المغنين الذين أقدمهم هارون الرشيد من الحجاز في أيامه.

يذكر أسباب كثرة سؤاله

أخبرني عليّ بن عبد العزيز، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، قال:

قيل لأبي صدقة ما أكثر سؤالك، و أشدّ إلحاحك! فقال: و ما يمنعني من ذلك، و اسمي مسكين، و كنيتي أبو صدقة، و امرأتي فاقة، و ابني صدقة!.

يتغنى مع مغني الرشيد فيشتد طرب الرشيد لغنائه

أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلانيّ ، قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم، قال:

حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي أن الرشيد قال للحارث بن بُسخُنَّر: قد اشتهيت أن أرى ندمائي و من يحضر مجلسي من المغنين جميعا في مجلس واحد، يأكلون و يشربون، و يتبذّلون منبسطين على غير هيبة و لا احتشام، بل يفعلون ما يفعلون في منازلهم و عند نظرائهم، و هذا لا يتمّ إلا بأن أكون بحيث لا يرونني، عن غير علم منهم برؤيتي إياهم. فأعدّ لي مكانا أجلس فيه أنا و عمّي سليمان و إخوتي: إبراهيم بن المهديّ ، /و عيسى بن جعفر(2)، و جعفر بن يحيى. فإنا مغلّسون(3) عليك غداة غد، و استزر أنت محمد بن خالد بن برمك، و خالدا أخا مهرويه، و الخضر بن جبريل، و جميع المغنين، و أجلسهم بحيث نراهم و لا يروننا، و ابسط الجميع، و أظهر برّهم، و اخلع عليهم، و لا تدع من الإكرام شيئا إلا فعلته بهم. ففعل ذلك الحارث، و قدّم إليهم الطعام فأكلوا، و الرشيد ينظر إليهم، ثم دعا لهم بالنبيذ. فشربوا، و أحضرت الخلع، و كان ذلك اليوم يوما شديد البرد، فخلع على ابن جامع جبة خزّ طارونيّ (4) مبطنة بسمّور صينيّ ، و خلع على إبراهيم الموصلي جبّة وشي كوفي مرتفع مبطنة بفنك(5)، و خلع

ص: 192


1- هذه الترجمة مما سقط من طبعة بولاق.
2- ف: «إسماعيل بن جعفر».
3- مغلسون: قادمون بغلس، و هو ظلمة آخر الليل.
4- الطاروني: نوع من الخز.
5- الفنك، بالتحريك: دابة فروتها أطيب الفراء، و المراد بجلد فنك.

على أبي صدقة درّاعة(1) ملحم(2) خراسانيّ محشوّة بقز، ثم تغنى ابن جامع، و تغنى بهذه إبراهيم، و تلاهما أبو صدقة فغنّى لابن سريج:

و من أجل ذات الخال أعملت ناقتي *** أكلّفها سير الكلال مع الظّلع(3)

فأجاده، و استعاده الحارث ثلاثا و هو يعيده. فقال له الحارث: أحسنت و اللّه يا أبا صدقة! قال له: هذا غنائي و قد قرصني البرد، فكيف تراه(4) - فديتك - كان يكون(4) لو كان تحت درّاعتي هذه شعيرات ؟ يعني الوبر، و الرشيد يسمع ذلك/فضحك، فأمر بأن يخلع عليه دراعة ملحم مبطنة بفنك، ففعلوا، ثم تغنى الجماعة، و غنى أبو صدقة لمعبد:

بأن الخليط على بزل(5) مخيّسة(6) *** هدل المشافر أدنى سيرها الرّمل

ثم تغنى بعده لمعبد أيضا:

بأن الخليط و لو طووعت ما بانا *** و قطّعوا من حبال الوصل أقرانا(7)

فأقام فيهما جميعا القيامة، فطرب الرشيد حتى كاد أن يخرج إلى المجلس طربا فقال له الحارث: أحسنت و اللّه يا أبا صدقة - فديتك - و أجملت، فقال أبو صدقة: فكيف ترى - فديتك - الحال تكون لو كانت على هذه الدراعة نقيطات ؟ يعني الوشي، فضحك الرشيد حتى ظهر ضحكه، و علموا بموضعه، و عرف علمهم بذلك، فأمر بإدخالهم إليه، و أمر بأن يخلع على أبي صدقة دراعة أخرى مبطنة، فخلعت عليه.

صادره الحسن بن سليمان على جعل يأخذه و يكف عن السؤال فلم يف له

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

سأل الحسن(8) بن سليمان أخو عبيد اللّه بن سليمان الطفيليّ (9) الفضل و جعفرا ابني يحيى أن يقيما عنده يوما، فأجاباه(10)، فواعد عدة من المغنين، فيهم أبو صدقة المدني، فقال لأبي صدقة: إنك تبرم بكثرة السؤال:

فصادرني(11) على شيء أدفعه إليك/و لا تسأل شيئا غيره، فصادره على شيء أعطاه إياه. فلما جلسوا و غنّوا أعجبوا بغناء أبي صدقة، و اقترحوا عليه أصواتا من غناء ابن سريج و معبد و ابن محرز و غيرهم، فغنّاهم، ثم غنى - و الصنعة له رمل:

ص: 193


1- الدراعة: جبة مشقوقة المقدم.
2- الملحم: نوع من الثياب.
3- البيت لعمر بن أبي ربيعة، في ديوانه - 330، و الظلع: مصدر ظلع، كمنع: إذا غمز في مشيه.
4- في س: «فتكون»، و هو تحريف.
5- البزل: جمع البازل، و هو الجمل أو الناقة بزل نابها: أي انشق، و يكون ذلك في تاسع سنيه.
6- مخيسة: مروضة مذللة.
7- الأقران: جمع قرن، كسهل، و هو الحبل المفتول من لحاء الشجر، و الخصلة المفتولة من الصوف.
8- ف: «الحسين بن سليمان».
9- ف: «اللطفي».
10- في س: «فأجابه»، و هو تحريف.
11- صادرني على شيء: طالبني به.

يا ويح من لعب الهوى بحياته *** فأماته من قبل حين مماته

من ذا كذا كان الشقيّ بشادن(1) *** هاروت بين لسانه و لهاته(2)

و ذكر الأبيات الأربعة المتقدّم ذكرها، قال: فأجاد و أحسن ما شاء، و طرب جعفر، فقال له: أحسنت و حياتي، و كان عليه دوّاج(3) خزّ مبطن بسمّور جيد، فلما قال له ذلك شرهت نفسه و عاد إلى طبعه، فقال:

لو أحسنت ما كان هذا الدّوّاج عليك، و لتخلعنّه عليّ ، فألقاه عليه، ثم غنّى أصواتا من القديم و الحديث، و غنّى بعدها من صناعته في الرمل:

لم يطل العهد فتنساني *** و لم أغب عنك فتنعاني

بدّلت بي غيري و باهتّني(4) *** و لم تكن صاحب بهتان

لا وثقت نفسي بإنسان *** بعدك في سرّ و إعلان

أعطيتني ما شئت من موثق *** منك و من عهد و أيمان

فقال له الفضل: أحسنت و حياتي! فقال: لو أحسنت لخلعت عليّ جبّة تكون شكلا لهذا الدّوّاج، فنزع جبته و خلعها عليه، و سكروا و انصرفوا. فوثب الحسن بن سليمان، فقال له: قد وافقتك على ما أرضاك، و دفعته إليك على ألاّ تسأل أحدا شيئا، فلم تف، /و قد أخذت مالك! و اللّه لا تركت عليك شيئا مما أخذته، ثم انتزعه منه كرها و صرفه، فشكاه أبو صدقة إلى الفضل و جعفر، فضحكا منه، و أخلفا عليه ما ارتجعه الطفيلي(5) منه من خلعهما.

نسبة ما مضى في هذه الأخبار من الغناء
صوت

بان الخليط على بزل مخيّسة *** هدل المشافر أدنى سيرها الرمل

من كل أعيس(6) نضّاح القفا قطم(7) *** ينفي الزمام إذا ما حنّت الإبل

الغناء لابن عائشة، خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو الهشامي، و قال الهشامي خاصة: فيه لابن محرز هزج، و لإسحاق ثقيل أول، و وافقه ابن المكّيّ . و ما وجدت لمعبد فيه صنعة في شيء من الروايات، إلا في المذكور.

و أ ما:

بان الخليط و لو طووعت ما بانا

فقد مضى في المائة المختارة، و نسب هناك و ذكرت أخباره.

ص: 194


1- الشادن: ولد الظبية.
2- اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق.
3- الدواج: اللباس فوق سائر اللباس من دثار البرد و نحوه.
4- باهتني: حيرتني و أدهشتني بما تفتري عليّ من الكذب.
5- ف: «اللّطفى».
6- الأعيس: البعير الأبيض يخالط بياضه شقره.
7- القطم: الفحل يشتهي الضراب، و الفعل قطم، كفرح.
يذكر للرشيد أسباب إلحاحه في المسألة

أخبرني رضوان بن أحمد، قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ ، قال:

كان أبو صدقة أسأل خلق اللّه و ألحّهم، فقال له الرشيد: ويلك ما أكثر سؤالك! /فقال: و ما يمنعني من ذلك، و اسمي مسكين، و كنيتي أبو صدقة، و اسم ابني صدقة، و كانت أمي تلقّب فاقة، و اسم أبي صدقة، فمن أحق مني بهذا؟.

كثرة عبث الرشيد به

و كان الرشيد يعبث به عبثا شديدا، فقال ذات يوم لمسرور: قل لابن جامع و إبراهيم الموصلي و زبير بن دحمان و زلزل و برصوما و ابن أبي مريم المديني: إذا رأيتموني قد طابت نفسي، فليسألني كل واحد منهم حاجة، مقدارها مقدار صلته. و ذكر لكل واحد منهم مقدار(1) ذلك، و أمرهم أن يكتموا أمرهم عن أبي صدقة، فقال لهم مسرور ما أمره به، ثم أذن لأبي صدقة قبل إذنه لهم، فلما جلس قال له: يا أبا صدقة، قد أضجرتني بكثرة مسألتك، و أنا في هذا اليوم ضجر، و قد أحببت أن أتفرّج و أفرح، و لست آمن أن تنغّص عليّ مجلسي بمسألتك، فإمّا أن أعفيتني من أن تسألني اليوم حاجة و إلا فانصرف. فقال له: يا سيدي لست أسألك في هذا اليوم، و لا إلى شهر حاجة، فقال له الرشيد: أما إذا شرطت لي هذا على نفسك، فقد اشتريت منك حوائجك بخمسمائة دينار، و ها هي ذه فخذها هنيئة معجلة، فإن سألتني شيئا بعدها في هذا اليوم، فلا لوم عليّ إن لم أصلك سنة بشيء. فقال له: نعم، و سنتين. فقال له الرشيد: زدني في الوثيقة، فقال: قد جعلت أمر أمّ صدقة في يدك، فطلّقها متى شئت، إن شئت واحدة، و إن شئت ألفا إن سألتك في يومي هذا حاجة. و أشهد(2) اللّه و من حضر على ذلك، فدفع إليه المال، ثم أذن للجلساء و المغنين فحضروا، و شرب القوم.

فلما طابت نفس الرشيد قال له ابن جامع: يا أمير المؤمنين، قد نلت منك ما لم تبلغه أمنيّتي، و كثر إحسانك إليّ حتى كبتّ أعدائي و قتلتهم. و ليست لي بمكة دار تشبه/حالي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بمال أبني به دارا، و أفرشها بباقيه لأفقأ عيون أعدائي و أزهق نفوسهم - فعل، فقال: و كم قدّرت لذلك ؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأمر له بها. ثم قام إبراهيم الموصليّ فقال له: قد ظهرت نعمتك عليّ و على أكابر ولدي، و في أصاغرهم من قد بلغ، و أريد تزويجه، و من أصاغرهم من أحتاج إلى أن أطهره، و منهم صغار أحتاج إلى أن أتخذ لهم خدما، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتي على ذلك فعل، فأمر له بمثل ما أمر لابن جامع، و جعل كلّ (3) واحد منهم يقوم فيقول من الثناء ما يحضره، و يسأل حاجة على قدر جائزته، و أبو صدقة ينظر إليهم و إلى الأموال تفرّق يمينا و شمالا، فوثب على رجليه قائما، و قال للرشيد: يا سيدي، أقلني، أقال اللّه عثرتك! فقال له الرشيد: لا أفعل، فجعل يستحلفه و يضطرب(4) و يلحّ ، و الرشيد يضحك و يقول: ما إلى ذلك سبيل، الشرط أملك.

ص: 195


1- في التجريد: «مبلغ».
2- ف: «و أشهدت اللّه».
3- كذا في التجريد، و في س: «لكل»، و هو تحريف.
4- كذا في التجريد، و في س: «يضرب»، و هو تحريف.

فلما عيل صبره أخذ الدنانير فرمى بها بين يدي الرشيد، و قال له: هاكها قد رددتها عليك و زدتك فرج أمّ صدقة فطلّقها إن شئت واحدة، و إن شئت ألفا. و إن لم تلحقني بجوائز القوم فألحقني بجائزة هذا البارد ابن الباردة عمرو الغزّال(1)، و كانت صلته ألف دينار. فضحك الرشيد حتى استلقى، ثم ردّ عليه الخمسمائة الدينار، و أمر له بألف دينار معها. و كان ذلك أكثر ما أخذه منه مذ يوم خدمه إلى أن مات، فانصرف يومئذ بألف و خمسمائة دينار.

عبث جعفر بن يحيى و الرشيد به
اشارة

أخبرني رضوان بن أحمد، قال: حدّثني يوسف بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو إسحاق، قال:

/مطرنا و نحن مع الرشيد بالرّقة مطرا مع الفجر، و اتصل إلى غد ذلك اليوم، و عرفنا خبر الرشيد، و أنه مقيم عند أمّ ولده المسماة بسحر، فتشاغلنا في منازلنا. فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد، فحضرنا جميعا، و أقبل يسأل واحدا واحدا عن يومه الماضي: ما صنع فيه فيخبره، إلى أن انتهى إلى جعفر بن يحيى، فسأله عن خبره، فقال: كان عندي أبو زكّار الأعمى و أبو صدقة، فكان أبو زكار كلما غنّى صوتا لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة، فإذا انتهى الدور إليه أعاده، و حكى أبا زكار فيه و في شمائله و حركاته، و يفطن أبو زكار لذلك فيجن و يموت غيظا، و يشتم أبا صدقة كلّ شتم حتى يضجر، و هو لا يجيبه و لا يدع العبث به، و أنا أضحك من ذلك إلى أن توسطنا الشراب و سئمنا من العبث به، فقلت له: دع هذا و غنّ غناءك، فغنّى رملا ذكر أنه من صنعته، طربت له - و اللّه يا أمير المؤمنين - طربا ما أذكر أني طربت مثله منذ حين، و هو:

صوت

فتنتني بفاحم اللون جعد *** و بثغر كأنه نظم درّ

و بوجه كأنه طلعة البد *** ر و عين في طرفها نفث سحر

فقلت له: أحسنت و اللّه يا أبا صدقة، فلم أسكت عن هذه الكلمة حتى قال لي: إني قد بنيت دارا حتى أنفقت(2) عليها حريبتي(3)، و ما أعددت لها فرشا، فافرشها لي، نجّد(4) اللّه لك في الجنة ألف قصر. فتغافلت عنه، و عاود الغناء، فتعمدت أن قلت له: أحسنت، ليعاود مسألتي و أتغافل عنه، فسألني و تغافلت، فقال لي: يا سيدي هذا التغافل متى حدث لك ؟ /سألتك باللّه، و بحق أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي و لو بشتم! فأقبلت عليه و قلت له: أنت و اللّه بغيض، اسكت يا بغيض، و اكفف عن هذه المسألة الملحّة، فوثب من بين يديّ ، و ظننت أنه خرج لحاجة، و إذا هو قد نزع ثيابه و تجرد منها خوفا من أن تبتلّ ، و وقف تحت السماء، لا يواريه منها شيء و المطر يأخذه، و رفع رأسه و قال: يا ربّ أنت تعلم أني مله، و لست نائحا، و عبدك هذا الّذي رفعته و أحوجتني إلى خدمته يقول لي: أحسنت، لا يقول لي: أسأت، و أنا منذ جلست أقول له: بنيت، لم أقل: هدمت، فيحلف بك جرأة عليك أني بغيض، فاحكم بيني و بينه يا سيدي، فأنت خير الحاكمين.

ص: 196


1- ف: «عمرو بن الغزال».
2- ف: «دارا أنفقت».
3- حريبة الرجل: ماله الّذي سلبه.
4- نجّد: زين.

فغلبني الضحك، و أمرت به فتنحّى، و جهدت به أن يغني، فامتنع حتى حلفت له بحياتك يا أمير المؤمنين أنى أفرش له داره، و خدعته فلم أسمّ له ما أفرشها به، فقال الرشيد: طيّب و اللّه! الآن تمّ لنا به اللهو، و هو ذا أدعو به، فإذا رآك فسوف يقتضيك الفرش، لأنك حلفت له بحياتي، فهو يتنجّز ذلك بحضرتي ليكون أوثق له، فقل له: أنا أفرشها لك بالبواري(1)، و حاكمه إليّ . ثم دعا به فأحضر، فما استقرّ في مجلسه حتى قال لجعفر بن يحيى: الفرش الّذي حلفت لي بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به داري، تقدّم فيه، فقال له جعفر: اختر، إن شئت فرشتها لك بالبواري، و إن شئت بالبرديّ من الحصر، فضج و اضطرب.

فقال له الرشيد: و كيف كانت القصة ؟ فأخبره، فقال له: أخطأت يا أبا صدقة، إذ لم تسمّ النوع و لا حدّدت القيمة، فإذا فرشها لك بالبواري أو بالبرديّ أو بما دون ذلك فقد و في يمينه، و إنما خدعك، و لم تفطن له أنت، و لا توثقت، و ضيّعت حقك. فسكت، /و قال: نوفّر البرديّ و البواريّ عليه أيضا، أعزه اللّه. و غنى المغنون حتى انتهى إليه الدور، فأخذ يغني غناء الملاّحين و البنائين و السقائين و ما جرى مجراه من الغناء، فقال له الرشيد: أيش هذا الغناء ويلك! قال: من فرشت داره بالبواري و البردي فهذا الغناء كثير منه، و كثير أيضا لمن هذه صلته، فضحك الرشيد و اللّه و طرب و صفّق، ثم أمر له بألف دينار من ماله و قال له: افرش دارك من هذه، فقال: و حياتك لا آخذها يا سيدي أو تحكم لي على جعفر بما وعدني، و إلاّ متّ و اللّه أسفا لفوات ما حصل في طمعي و وعدت به، فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار، فقبلها جعفر، و أمر له بها.

قصة وصوله إلى السلطان
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كان سبب وصول أبي صدقة إلى السلطان أنّ أبي لما حجّ مرّ بالمدينة، فاحتاج إلى قطع ثياب، فالتمس خياطا حاذقا، فدلّ على أبي صدقة، و وصف به بالحذق في الخياطة و الحذق في الغناء و خفة الروح، فأحضره فقطع له ما أراد و خاطه، و سمع غناءه فأعجبه؛ و سأله عن حاله، فشكا إليه الفقر، فخلّف لعياله نفقة سابغة لسنة، ثم أخذه معه و خلطه بالسلطان.

قال(2) حماد: فقال أبو صدقة يوما لأبي: قد اقتصرت بي(3) على صنعة أبي إسحاق أبيك، رحمه اللّه عندي، و أنت لا، ربّ (4) ذلك بشيء، فقال له: هذه الصينيّة الفضة الّتي بين يديّ لك إذا انصرفت، فشكره و سرّ بذلك، و لم يزل يغنيه بقية يومه، فلما أخذ النبيذ فيه قام قومة ليبول، فدعا أبي بصينية رصاص فحول قنّينته و قدحه فيها، و رفع الصينية الفضة، فلما أراد أبو صدقة الانصراف شد أبي الصينية في منديل، و دفعها إلى غلامه، و قال له: بت الليلة عندي و اصطبح غدا، و اردد دابتك. فقال: إني إذا/لأحمق، أدفع إلى غلامي صينية فضة، فيأخذها و يطمع فيها أو يبيعها، و يركب الدابة و يهرب، و لكني أبيت عندك، فإذا انصرفت غدا أخذتها معي، و بات و أصبح عندنا مصطبحا، فلما كان وقت انصرافه أخذها و مضى، فلم يلبث من غد أن جاءنا و الصينية معه، فإذا هو قد وجّه بها لتباع، فعرّفوه أنها رصاص، فلما رآه أبي من بعيد ضحك، و عرف القصة، و تماسك، فقال له أبو صدقة: نعم الخلافة خلفت

ص: 197


1- البواري: جمع البارية، و هي الحصير المنسوج.
2- الفقرة الّتي أولها: قال حماد إلى آخر الترجمة زيادة في س على ما في ف.
3- في س: «به»، و هو تحريف.
4- رب ذلك: زدت.

أباك، و ما أحسن ما فعلت بي! قال: و أيّ شيء فعلت بك ؟ قال: أعطيتني صينية رصاص، فقال له أبي: سخنت عينك! سخرت امرأتك بك، و أنا من أين لي صينية رصاص ؟ فتشكك ساعة، ثم قال: أظن و اللّه أن ذلك كذلك، فقام. فقال له أبي: إلى أين ؟ قال: أضع و اللّه عليها السوط فأضربها به حتى تردّ الصينية، فلما رأى أبي الجدّ منه قال له: اجلس يا أبا صدقة، فإنما مزحت معك، و أمر له بوزنها دراهم.

صوت

إنّ من يملك رقّي *** مالك دقّ الرّقاب

لم يكن يا أحسن العا *** لم هذا في حسابي

الشعر لفضل الشاعرة، و الغناء لعريب خفيف ثقيل بالوسطى، عن ابن المعتز(1).

ص: 198


1- كذا في ف، ما: حم، حج، و جاء في س مكان هذين البيتين بعد كلمة «صوت»: لقد علمت و ما الإسراف من خلقي أن الّذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى له فيغنيني تطلبه و لو جلست أتاني لا يعنيني الشعر لعروة بن أذينة، و الغناء لمخارق، ثقيل أول بالبنصر، عن عمرو. و ما أثبناه أنسب للترجمة التالية.

15 - أخبار فضل الشاعرة

اشارة

15 - أخبار فضل الشاعرة(1)

نشأتها و صفاتها

كانت فضل جارية مولّدة من مولّدات البصرة، و كانت أمها من مولّدات اليمامة. بها ولدت، و نشأت في دار رجل من عبد القيس، و باعها بعد أن أدّبها و خرّجها، فاشتريت و أهديت إلى المتوكل. و كانت هي تزعم أن الّذي باعها أخوها، و أن أباها وطئ أمها فولدتها منه، فأدّبها و خرّجها معترفا بها، و أنّ بنيه من غير أمها تواطئوا على بيعها و جحدها، و لم تكن تعرف بعد أن أعتقت إلا بفضل العبدية. و كانت حسنة الوجه و الجسم و القوام، أديبة فصيحة سريعة البديهة، مطبوعة في قول الشعر. و لم يكن في نساء زمانها أشعر منها.

كانت تجلس للرجال و يجيبها الشعراء

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، قال: كانت فضل الشاعرة لرجل من النخّاسين بالكرخ يقال له: حسنويه، فاشتراها محمد بن الفرج أخو عمر بن الفرج الرّخّجيّ ، و أهداها إلى المتوكل، فكانت تجلس للرجال، و يأتيها الشعراء، فألقى عليها أبو دلف القاسم بن عيسى:

قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم *** أشهى المطيّ إليّ ما لم يركب

كم بين حبّة لؤلؤ مثقوبة *** نظمت و حبة لؤلؤ لم تثقب

فقالت فضل مجيبة له:

إن المطية لا يلذّ ركوبها *** ما لم تذلّل بالزّمام و تركب

و الدّرّ ليس بنافع أصحابه *** حتى يؤلّف للنّظام بمثقب(2)

شعرها في المتوكل حين دخلت عليه

حدّثني عمّي و محمد بن خلف، قالا: حدثنا أبو العيناء، قال: لما دخلت فضل الشاعرة على المتوكل يوم أهديت إليه قال لها: أشاعرة أنت ؟ قالت: كذا زعم من باعني و اشتراني، فضحك و قال: أنشدينا شيئا من شعرك فأنشدته:

استقبل الملك إمام الهدى *** عام ثلاث و ثلاثينا

- تعني سنة ثلاث و ثلاثين و مائتين من سني الهجرة -:

ص: 199


1- و هذه الترجمة أيضا مما سقط من طبعة بولاق.
2- في المختار: و الحبّ ليس بنافع أربابه ما لم يؤلف في النظام و يثقب.

خلافة أفضت إلى جعفر *** و هو ابن سبع بعد عشرينا

إنّا لنرجو يا إمام الهدى *** أن تملك الناس(1) ثمانينا

لا قدّس اللّه امرأ لم يقل *** عند دعائي لك: آمينا

فاستحسن الأبيات، و أمر لها بخمسة آلاف درهم، و أمر عريب(2) فغنّت فيها.

شعرها على لسان المعتمد في جارية

حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن حمدون، قال: عرضت على المعتمد جارية تباع في خلافة المتوكل، و هو يومئذ حديث السنّ ، فاشتطّ مولاها في السّوم، فلم يشترها، و خرج بها إلى ابن الأغلب، فبيعت هناك. فلما ولي المعتمد الخلافة سأل عن خبرها، و قد ذكرها فأعلم أنها بيعت و أولدها مولاها، فقال لفضل الشاعرة: قولي فيها شيئا، فقالت:

علم الجمال تركتني *** في الحبّ أشهر من علم

و نصبتني يا منيتي *** غرض المظنّة و التّهم

فارقتني بعد الدّنوّ *** فصرت عندي كالحلم

فلو أنّ نفسي(3) فارقت *** جسمي لفقدك لم تلم

/ما كان ضرّك لو وص *** لت فخف عن قلبي الألم

برسالة تهدينها *** أو زورة تحت الظّلم

أو لا فطيفي(4) في المنا *** م فلا أقلّ من اللّمم

صلة المحبّ حبيبه *** اللّه يعلمه كرم

شعر لها تجيب به عن شعر في الشوق إليها
اشارة

حدّثني محمد بن العباس اليزيديّ ، قال: كتب بعض أهلنا إلى فضل الشاعرة:

أصبحت فردا(5) هائم العقل *** إلى غزال حسن الشكل

أضنى فؤادي طول عهدي به *** و بعده منّي و من وصلي

منية نفسي في هوى فضل *** أن يجمع اللّه بها شملي

أهواك يا فضل هوى خالصا *** فما لقلبي عنك من شغل

قال: فأجابته:

ص: 200


1- ف: «الأرض»، و في ما: «الأمر».
2- في المختار، ف: «ما عربها»، و هو تحريف.
3- ف، ما: «روحي».
4- طيفي: أمر من طاف الخيال يطيف: إذا جاء في النوم، و في ف، مم: «أولا فطيف».
5- ف، ما: «صبا».
صوت

الصبر ينقص و السّقام(1) يزيد *** و الدار دانية و أنت بعيد

أشكوك أم أشكو إليك فإنه *** لا يستطيع سواهما المجهود

إني أعوذ بحرمتي بك في الهوى *** من أن يطاع لديك فيّ حسود(2)

في هذه الأبيات رمل طنبوري. و أظنه لجحظة.

شعر آخر تبادل فيه شوقا بشوق

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني الحسن بن عيسى الكوفيّ ، قال: حدثنا أبو دهمان، و أخبرني أيضا به عبد اللّه بن نصر المروزيّ ، قالا:

/كانت فضل الشاعرة من أحسن الناس وجها و خلقا و خلقا و أرقّهم شعرا، فكتب إليها بعض من كان يجمعه و إياها مجلس الخليفة، و لا تطلعه على حبها(3) له:

ألا ليت شعري فيك(4) هل تذكرينني *** فذكراك في الدنيا إليّ حبيب

و هل لي نصيب في فؤادك ثابت *** كما لك عندي في الفؤاد نصيب

و لست بموصول فأحيا بزورة *** و لا النفس عند اليأس عنك تطيب

قال: فكتبت إليه:

نعم(5) و إلهي إنني بك صبّة *** فهل أنت يا من لا عدمت مثيب ؟(6)

لمن أنت منه في الفؤاد مصوّر *** و في العين نصب العين حين تغيب

فثق بوداد أنت مظهر مثله *** على أنّ بي سقما و أنت طبيب

تجيز بيتا أنشده المتوكل

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم، قال: حدّثني الفضل بن العباس الهاشميّ ، قال: حدّثتني بنان الشاعرة، قالت(7):

اتكأ المتوكل على يدي و يد فضل الشاعرة، و جعل يمشي بيننا، ثم قال: أجيزا لي قول الشاعر:

تعلمت أسباب الرضا خوف عتبها(8) *** و علّمها حبّي لها كيف تغضب

ص: 201


1- في المختار: «الغرام».
2- في ما: «يا منيتي من أن يطاع حسود».
3- في المختار: «يطلعها على حبه لها».
4- في المختار: «فضل»، و هي أوضح و أشبه.
5- في المختار: «لعمر إلهي».
6- في المختار: «نصيب».
7- في س: «قال»، و هو تحريف.
8- في المختار: «سخطها».

فقال له فضل:

تصدّ و أدنو بالمودة جاهدا *** و تبعد عني بالوصال و أقرب

/فقلت أنا:

و عندي لها العتبي على كلّ حالة *** فما منه لي بدّ و لا عنه مذهب

تجيب ببيت عن بيت ألقي عليها

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، قال: ألقى بعض أصحابنا على فضل الشاعرة:

و مستفتح باب البلاء بنظرة *** تزوّد منها قلبه حسرة الدهر

فقالت:

فو اللّه ما يدري أ تدري بما جنت *** على قلبه أو أهلكته و ما تدري ؟

ارتجالها شعرا تجيز به بيتا

أخبرني محمد بن خلف(1)، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، قال:

ألقيت أنا على فضل الشاعرة:

علم الجمال تركتني *** بهواك(2) أشهر من علم

فقالت على البديهية:

و أبحتني يا سيّدي *** سقما يجلّ عن السقم

و تركتني غرضا - فدي *** تك - للعواذل و التّهم

صلة المحبّ حبيبه *** اللّه يعلمه كرم

أخبرني محمد بن خلف، قال: حدّثني محمد بن الوليد، قال:

سمعت عليّ بن الجهم يقول: كنت يوما عند فضل الشاعرة، فلحظتها لحظة استرابت بها، فقالت:

يا ربّ رام حسن تعرّضه *** يرمي و لا يشعر أني غرضه

/فقلت:

أيّ فتى لحظك ليس يمرضه *** و أيّ عقد محكم لا ينقضه!

فضحكت، و قالت: خذ في غير هذا الحديث.

تتشوق إلى حبيب

حدّثني عمّي، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني إبراهيم بن المدبّر، قال:

ص: 202


1- ف: «أخبرني على بن صالح».
2- ف، ما: في «الحب».

كتبت فضل الشاعرة إلى سعيد بن حميد أيام كانت بينهما محبة و تواصل:

و عيشك لو صرّحت باسمك في الهوى *** لأقصرت عن أشياء في الهزل و الجدّ

و لكنني أبدي لهذا مودّتي *** و ذاك، و أخلو فيك بالبثّ و الوجد

مخافة أن يغري بنا قول كاشح *** عدوّا(1) فيسعى بالوصال إلى الصدّ

فكتب إليها سعيد:

تنامين عن ليلى و أسهره وحدي *** و أنهى جفوني أن تبثّك ما عندي

فإن كنت لا تدرين ما قد فعلته *** بنا فانظري ما ذا على قاتل العمد؟

قال عمي: هكذا ذكر ابن مهرويه.

و حدّثني به عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى، فذكر أن بيتي سعيد كانا الابتداء، و أن أبيات فضل كانت الجواب. و ذكر لهما خبرا في عتاب عاتبها به، و لم أحفظه، و إنما سمعته يذكره، ثم أخرج إليّ كتابا بعد ذلك فيه أخبار عن عليّ بن الحسين، فوجدت هذا الخبر فيه، فقرأته عليه.

قال عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى:

/حضر سعيد بن حميد مجلسا حضرته فضل الشاعرة و بنان، و كان سعيد يهواها، و تظهر له هوى، و يتهمها مع ذلك ببنان، فرأى فيها إقبالا شديدا على بنان، فغضب و انصرف، فكتبت إليه فضل بالأبيات الأوّل، و أجابها بالبيتين الآخرين، فاتفقت رواية ابن مهرويه و عليّ بن الحسين في هذا الخبر.

تعتذر من حجب زائرين عنها دون علمها

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أبو يوسف بن الدقاق الضرير، قال:

صرت أنا و أبو منصور الباخرزيّ إلى منزل فضل الشاعرة فحجبنا عنها و انصرفنا، و ما علمت بنا، ثم بلغها مجيئنا و انصرافنا فكرهت ذلك و غمّها، فكتبت إلينا تعتذر:

و ما كنت أخشى أن تروا لي زلّة *** و لكنّ أمر اللّه ما عنه مذهب

أعوذ بحسن الصفح منكم و قبلنا *** بصفح و عفو ما تعوّذ مذنب

فكتب إليها أبو منصور الباخرزيّ :

لئن أهديت عتباك لي و لإخوتي *** فمثلك يا فضل الفضائل(2) يعتب

إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه *** و كلّ امرئ لا يقبل العذر مذنب

شعرها للمتوكل و قد يئست من إيقاظه لموعد بينهما

حدّثني عليّ بن هارون بن عليّ بن يحيى المنجّم، قال: حدّثني عمّي عن جدّي، قال:

قال لي المتوكل يوما - و فضل واقفة بين يديه: يا عليّ ، كان بيني و بين فضل موعد، فشربت شربا فيه فضل،

ص: 203


1- في س: «عدو»، بالرفع.
2- في مم: «الفواضل».

فسكرت و نمت، و جاءتني للموعد، فحركتني بكل ما ينتبه به النائم من قرص و تحريك و غمز و كلام، فلم أنتبه. فلما علمت أنه لا حيلة لها فيّ كتبت رقعة و وضعتها على مخدّتي، فانتبهت فقرأتها، فإذا فيها:

/قد بدا شبهك يا مو *** لاي يحدو بالظلام

قم بنا نقض لبانا *** ت التزام و التثام

قبل أن تفضحنا عو *** دة أرواح النّيام

تهاجي جارية هشام المكفوف

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، قال:

كانت فضل الشاعرة تهاجي خنساء جارية هشام المكفوف، و كانت شاعرة، و كان أبو شبل عاصم(1) بن وهب يعاون فضلا عليها، و يهجوها مع فضل. و كان القصيديّ و الحفصي(2) يعينان خنساء على فضل و أبي شبل، فقال أبو شبل على لسان فضل:

خنساء طيري بجناحين *** أصبحت معشوقة نذلين

من كان يهوى عاشقا واحدا *** فأنت تهوين عشيقين

هذا القصيديّ و هذا الفتى الح *** فصيّ قد زاراك فردين

نعمت من هذا و هذا كما *** ينعم خنزير بحشّين(3)

فقالت خنساء تجيبها:

ما ذا مقال لك يا فضل بل *** مقال خنزيرين فردين

يكنى أبا الشبل و لو أبصرت *** عيناه شبلا راث(4) كرّين(5)

و قالت فضل في خنساء:

/إنّ خنساء لا جعلت فداها *** اشتراها الكسّار من مولاها

و لها نكهة يقول محاذي *** ها أ هذا حديثها أم فساها!

و قالت خنساء في فضل و أبي شبل:

تقول له فضل إذا ما تخوّفت *** ركوب قبيح الذّلّ في طلب الوصل

حر امّ فتى لم يلق في الحب ذلة *** فقلت لها لا بل حر امّ أبي الشبل

و قالت خنساء تهجو أبا شبل:

ما ينقضي فكري و طول تعجّبي *** من نعجة تكنى أبا الشبل

ص: 204


1- ف، مم: «عصم بن وهب».
2- ف، ما: «الصلحي».
3- الحشان: مثنى حشّ ، و هو البستان، ثم نقل إلى موضع قضاء الحاجة؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين.
4- يقال: راث الفرس، كما يقال: تغوط الإنسان.
5- الكران: مثنى كر، بالضم. و هو مكيال، قيل: إنه أربعون إردبا.

لعب الفحول بسفلها و عجانها(1) *** فتمرّدت كتمرّد الفحل

لما اكتنيت بما اكتنيت به *** و تسمّت(2) النقصان بالفضل

كادت بنا الدنيا تميد ضحى *** و نرى السماء تذوب كالمهل(3)

قال: فغضب أبو شبل لذلك، و لم يجبها، و قال يهجو مولاها هشاما:

نعم مأوى العزّاب بيت هشام *** حين يرمي اللّثام باغي اللثام

من أراد السرور عند حبيب *** لينال السرور تحت الظلام

فهشام نهاره و دجى الل *** يل سواء نفسي فداء هشام

ذاك حرّ دواته ليس تخلو *** أبدا من تخرّق الأقلام

زارت سعيد بن حميد فأعجلها طلب الخليفة

حدّثني عمي، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال:

زارت فضل الشاعرة سعيد بن حميد ليلة على موعد سبق بينهما، فلما حصلت عنده/جاءتها جاريتها مبادرة تعلمها أن رسول الخليفة قد جاء يطلبها، فقامت مبادرة فمضت، فلما كان من غد كتب إليها سعيد:

ضنّ الزمان بها فلما نلتها *** ورد الفراق فكان أقبح وارد

و الدّمع ينطق للضمير مصدّقا *** قول المقرّ مكذّبا للجاحد

ترثي المنتصر و تبكيه

حدّثني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدّثني ميسرة بن محمد، قال: حدّثني عبيد بن محمد، قال:

قلت لفضل الشاعرة: ما ذا نزل بكم البارحة ؟ - قال: و ذلك في صبيحة قتل المنتصر المتوكل(4) - فقالت و هي تبكي:

إنّ الزمان بذحل(5) كان يطلبنا *** ما كان أغفلنا عنه و أسهانا!

ما لي و للدهر قد أصبحت همته *** ما لي و للدّهر لا كانا!

شعرها في حضرة المتوكل يوم نيروز
اشارة

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني محمد بن الفضل، قال: حدّثني أبو هفّان، قال: حدّثني أحمد بن أبي فنن، قال:

ص: 205


1- العجان: الاست.
2- تسمت، كأنه من السمت، و هو هيئة أهل الخير، و المراد تشبه أو تزين.
3- المهل، من معانيه: القطران الرقيق، و الغائب من الصفر و الحديد.
4- كذا في ف، و في ما: «في صبيحة قتل المنتصر المعتز»، و في س: «قتل المنتصر أو المعتز».
5- الذحل: الثأر.

خرجت قبيحة(1) إلى المتوكل يوم نيروز و بيدها كأس بلّور بشراب صاف، فقال لها: ما هذا فديتك ؟ قالت:

هديّتي لك في هذا اليوم، عرّفك اللّه بركته! فأخذه من يدها، و إذا على خدّها: جعفر، مكتوبا(2) بالمسك، فشرب الكأس و قبّل خدها، و كانت فضل الشاعرة واقفة على رأسه فقالت:

صوت

و كاتبة بالمسك في الخدّ جعفرا *** بنفسي سواد المسك من حيث أثّرا

لئن أثّرت بالمسك سطرا(3) بخدّها *** لقد أودعت قلبي من الحزن(4) أسطرا

فيا من مناها في السريرة جعفر *** سقى اللّه من سقيا ثناياك جعفرا

الغناء لعريب، خفيف رمل. قال: و أمر عريب فغنّت فيه. و قالت فضل في ذلك أيضا:

سلافة كالقمر الباهر *** في قدح كالكوكب الزاهر

يديرها خشف(5) كبدر الدجى *** فوق قضيب أهيف ناضر

على فتى أروع من هاشم *** مثل الحسام المرهف الباتر

و قد رويت الأبيات الأول لمحبوبة شاعرة المتوكل، و لها أخبار و أشعار كثيرة قد ذكرت بعضها في موضع آخر من هذا الكتاب.

تتشوق إلى سعيد بن حميد

أخبرني محمد بن خلف، قال: أخبرني أبو الفضل(6) المروروذيّ ، قال: كتبت فضل الشاعرة إلى سعيد بن حميد:

بثثت هواك في بدني و روحي *** فألّف فيهما طمعا بياس

فأجابها سعيد في رقعتها:

كفانا اللّه شرّ اليأس إني *** لبغض اليأس أبغض كل آسى

تميل إلى بنان و يفتر ما بينها و بين سعيد بن حميد

حدّثني عمّي، قال: حدّثني ابن أبي المدور الوراق، قال:

كنت عند سعيد بن حميد، و كان قد ابتدأ ما بينه و بين فضل الشاعرة يتشعّب، و قد بلغه ميلها إلى بنان و هو بين المصدق و المكذب بذلك، فأقبل على صديق له فقال: أصبحت و اللّه من أمر فضل في غرور، أخادع نفسي بتكذيب

ص: 206


1- قبيحة: اسم جارية.
2- ف: «و كان على خدها مكتوب جعفرا بنفسك».
3- كذا في المختار، و في س: «سكرا»، و هو تحريف.
4- ف، ما: «من الحب».
5- الخشف، مثلثة: ولد الظبي أول ما يولد، أو أول ما يمشي.
6- ف، ما: «الفضل».

العيان، و أمنّيها ما قد حيل دونه. و اللّه إنّ إرسالي إليها بعد ما قد لاح من تغيرها لذلّ ، و إنّ عدولي عنها و في أمرها شبهه لعجز، و إنّ تصبري عنها لمن دواعي التلف، و للّه درّ محمد بن أمية(1) حيث يقول:

يا ليت شعري ما يكون جوابي *** أمّا الرسول فقد مضى بكتابي

و تعجّلت نفسي الظنون و أشعرت *** طمع الحريص و خيفة المرتاب

و تروعني حركات كلّ محرّك *** و الباب يقرعه و ليس ببابي

كم نحو باب الدار لي من وثبة *** أرجو الرسول بمطمع كذّاب

و الويل لي من بعد هذا كلّه *** إن كان ما أخشاه ردّ جوابي

تعتذر إلى بنان و قد غضب عليها فلا يقبل عذرها

حدّثني جحظة، قال: حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم، قال:

غضب بنان على فضل الشاعرة في أمر أنكره عليها، فاعتذرت إليه، فلم يقبل معذرتها، فأنشدتني لنفسها في ذلك:

يا فضل صبرا إنها ميتة *** يجرعها الكاذب و الصادق

ظنّ بنان أنني خنته *** روحي إذا من بدني طالق

تجيز بيتا لعلي بن الجهم طلب إليها إجازته
اشارة

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أبو العباس المروزيّ ، قال:

قال المتوكل لعليّ بن الجهم: قل بيتا، و طالب فضل الشاعرة بأن تجيزه، فقال عليّ : أجيزي يا فضل:

/لاذ بها يشتكي إليها *** فلم يجد عندها ملاذا

قال: فأطرقت هنيهة ثم قالت:

فلم يزل ضارعا إليها *** تهطل أجفانه رذاذا

فعاتبوه فزاد عشقا *** فمات وجدا فكان ما ذا؟

فطرب المتوكل، و قال: أحسنت و حياتي يا فضل، و أمر لها بمائتي دينار، و أمر عريب فغنّت في الأبيات.

قال مؤلف هذا الكتاب(2): أعرف في هذه الأبيات هزجا لا أدري أ هو هذا اللحن، أم غيره ؟ و لم أره في أغاني عريب، و لعله شذّ عنها.

صوت

أمامة لا أراك اللّ *** ه ذل معيشة أبدا

أ لا تستصلحين فتى *** وقاك السوء قد فسدا

غلام كان أهلك مرّ *** ة يدعونه ولدا

ص: 207


1- ف: «محمد بن أبي أمية».
2- ف: «قال الأصفهاني».

الشعر لعبد اللّه بن محمد بن سالم الخياط، و الغناء للرّطّاب الجدي، ثاني ثقيل، بالوسطى عن عمرو، و فيه ليحيى المكي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق و أحمد بن المكي.

و ذكر عبد اللّه بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام عن قلم الصالحية أنها أخذت اللحن المنسوب إلى الرّطّاب عن تينة، و سألته عن صانعه فأخبرها أنه له.

تم الجزء التاسع عشر من كتاب الأغاني و يليه إن شاء اللّه تعالى الجزء العشرون و أوّله: نسب ابن الخياط و أخباره

ص: 208

فهرس موضوعات الجزء التاسع عشر

الموضوع الصفحة

ذكر أبي محجن و نسبه 5

أخبار زهير بن جناب و نسبه 14

نسب مسلم بن الوليد و أخباره 24

أخبار محمد بن وهيب 52

أخبار مزاحم و نسبه 68

أخبار بكر بن النطاح و نسبه 73

مقتل مصعب بن الزبير 84

ذكر أشعب و أخباره 93

أخبار عويف و نسبه 123

أخبار عبد اللّه بن جحش 141

بعض أخبار للعرجي 144

أخبار عبد اللّه بن العباس الربيعي 146

أخبار سلم الخاسر و نسبه 173

أخبار أبي صدقة 192

أخبار فضل الشاعرة 199

ص: 209

المجلد 20

هویة الکتاب

الأغاني

سایر نویسندگان

مصحح و مترجم:

مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربی

المجلدات : 25ج

زبان: عربی

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سال نشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

کد کنگره: PJA 3892 /الف 6 1374

تنظیم متن دیجیتال میثم حیدری

ص: 210

اشارة

ص: 211

ص: 212

تتمة التراجم

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

1 - نسب ابن الخياط و أخباره

نسبه و ولاؤه:

هو عبد اللّه بن محمد بن سالم بن يونس بن سالم. ذكر الزبير بن بكار أنه مولى لقريش، و ذكر غيره أنه مولى لهذيل.

أوصافه:

و هو شاعر ظريف، ماجن خليع، هجّاء خبيث، مخضرم من شعراء الدولة الأموية و العباسية. و كان منقطعا إلى آل الزبير بن العوام مدّاحا لهم، و قدم على المهديّ مع عبد اللّه بن مصعب فأوصله إليه، و توصل له إلى أن سمع شعره و أحسن صلته.

يمدح المهدي فيجيزه، ثم يمدحه فيضعف جائزته:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكّار قال: حدّثني يونس بن عبد اللّه بن سالم الخياط قال:

دخل أبي على المهدي فمدحه، فأمر له بخمسين ألف درهم، فقال يمدحه:

أخذت بكفّي كفّه أبتغي الغنى *** و لم أدر أن الجود من كفه يعدى

فلا أنا(1) منه ما أفاد ذوو الغنى *** أفدت و أعداني فأتلفت ما عندي

/قال: فبلغ المهديّ خبره، فأضعف جائزته، و أمر بحملها إليه إلى منزله.

قال الزبير بن بكّار: سرق ابن الخياط هذا المعنى من ابن هرمة.

كان من الهجائين:

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال: حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: حدّثني مصعب بن عبد اللّه قال:

سمعت أبي يقول:

لم يبرح هذه الثنيّة قطّ أحد يقذف أعراض الناس و يهجوهم، قلت: مثل من؟ قال: /الحزين الكنانيّ، و الحكم بن عكرمة الدّؤليّ، و عبد اللّه بن يونس الخياط، و ابنه يونس، و أبو الشدائد.

عقوق ابنه يونس له:

أخبرني محمد بن مزيد قال: حدّثنا الزبير بن بكّار قال:

كان يونس بن الخياط عاقّا لأبيه، فقال أبوه فيه:

ص: 213


1- كذا في جميع النسخ، و نرجح أنها «فما أنا منه» بدل «فلا أنا» لأن «لا» في مثل هذا الموطن يجب أن تتكرر.

يونس قلبي عليك يلتهف *** و العين عبرى دموعها تكف

تلحفني كسوة العقوق فلا *** برحت منها ما عشت تلتحف

أمرت بالخفض للجناح و بالر *** فق فأمسى يعوقك الأنف

و تلك و اللّه من زبانية *** إن سلّطوا في عذابهم عنفوا

فأجابه ابنه يونس، فقال:

أصبح شيخي يزري به الخرف *** ما إن له حرمة و لا نصف

صفاتنا في العقوق واحدة *** ما خلتنا في العقوق نختلف

لحفته سالفا(1) أباك فقد *** أصبحت مني كذاك تلتحف

يهجو رجلا شيد دارا و كان يعرفه بالضعة:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدّثني طلحة بن عبد اللّه قال: حدّثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال:

مرّ ابن الخياط بدار رجل كان يعرفه قبل ذلك بالضّعة و خساسة الحال، و قد شيّد بابها و طرمح(2) بناءها، فقال:

أطله فما طول البناء بنافع *** إذا كان فرع الوالدين قصيرا

يهجو موسى بن طلحة فلا يكترث لهجائه فيناشده أن يكتم عليه:

أخبرني وكيع قال: أخبرني إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن صالح قال: أخبرني العامريّ قال:

/هجا ابن الخياط موسى بن طلحة بن بلال التيميّ، فقال:

عجب الناس للعجيب المحال *** حاض موسى بن طلحة بن بلال

زعموه يحيض في كلّ شهر *** و يرى صفرة لكل هلال

قال: فلقيه موسى، فقال: يا هذا، و أيّ شيء عليك؟ نعم حضت، و حملت، و ولدت و أرضعت. فقال له ابن الخياط: أنشدك اللّه ألا يسمع هذا منك أحد فيجترئ على شعري الناس، فلا يكون شيئا، و لن يبلغك عني ما تكره بعد هذا، فتكافّا.

شعره و قد رأى أبو عمران القاضي رأيا قوبل بالاستحسان:

أخبرني الحرميّ قال: حدّثني الزبير قال: حدّثني مصعب بن عثمان قال:

ما رأيت بريق صلع الأشراف في سوق الرقيق أكثر منها يوم رحب القتيلة(3) جارية إبراهيم بن أبي قتيلة، و كان يعشقها، و بيعت في دين عليه، فبلغت خمسمائة دينار فقال المغيرة بن عبد اللّه لابن أبي قتيلة: ويحك! اعتقها فتقوّم

ص: 214


1- ف: «سالما».
2- طرمح: طول.
3- ف: «يوم أخرجت القتيلية».

عليك، فتتزوّجها، ففعل. فرفع ذلك إلى أبي عمران - و هو القاضي يومئذ - فقال: أخطأ الّذي أشار عليه في الحكومة. أما نحن في الحكومة فقد عرفنا أن قد بلغت خمسمائة دينار، /فاذهبوا فقوّموها، فإن بلغت القيمة أكثر من هذا ألزمناه، و إلاّ فخذوا منه خمسمائة دينار، فاستحسن هذا الرأي، و ليس عليه الناس قبلنا، فقال ابن الخياط يذكر ذلك من أمر ابن قتيلة و ما كان من أمر جاريته:

يا معشر العشّاق من لم يكن *** مثل القتيليّ فلا يعشق

لما رأى السّوام قد أحدقوا *** و صيح في المغرب و المشرق

و اجتمع الناس على درّة *** نظيرها في الخلق لم يخلق

و أبدت الأموال أعناقها *** و طاحت العسرة للمملق

/قلّب فيه الرأي في نفسه *** يدير ما يأتي و ما يتّقي

أعتقها و النفس في شدقها *** للمعتق المنّ على المعتق

و قال للحاكم في أمرها *** إن افترقنا فمتى نلتقي؟

و أخبرني بهذا الخبر وكيع قال: قال الزبير بن بكّار، و ذكر مثل ما ذكره الحرميّ، و زاد فيه:

فكان فيهم - يعني فيمن حضر - لابتياعها موسى بن جعفر بن محمد بن زيد بن عليّ، و القاسم بن إسحاق بن عبد اللّه بن جعفر، و غيرهم. قال: فرأيتهم قياما في الشمس يتزايدون فيها. و قال في خبره: ابن أبي قتيلة بالتاء.

يسأل سائل عنه ابنه يونس فيمضى به إليه فيستنشده شعره في العصبية:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكّار قال: حدّثني يونس بن عبد اللّه بن سالم الخياط قال:

كنت ذات عشية في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وقت العصر في(1) أيام الحاج، فإذا أنا برجل جميل عليه مقطّعات خزّ، و إذا معه جماعة. فوقف إلى جنبي فصلّى ركعتين، ثم أقبل عليّ - و كان ذلك من أسباب الرزق - فقال: يا فتى، أ تعرف عبد اللّه ابن سالم الخياط؟ فقلت: نعم. فلما صلينا قال: امض بنا إليه، فمضيت به(2)، فاستخرجت له أبي من منزله، فقال(3) الرجل: بلغني أنّك قلت شعرا في أمر العصبية، فقال له أبي: و من أنت بأبي أنت و أمي؟ فقال: أنا خزيم بن أبي الهيذام، فقال له أبي: نعم قد قلته، و أنشده:

اسقياني من صرف هذي المدام(4) *** و دعاني و آقصرا من(5) ملامي

و اشربا حيث شئتما إن قيسا *** قد علا عزّها فروع الأنام

/ليس و اللّه بالشام يمان *** فيه روح و لا بغير الشآم

يطعم النوم حين تكتحل الأعين بالنوم عند وقت المنام

ص: 215


1- كذا في ب، ج. و في س: «لي»، تحريف.
2- كذا في ب، س. و في ج: «معه».
3- كذا في ب، س. و في ج: «فقال له».
4- في س: «المداما»، تحريف.
5- في ج: «عن».

حذرا من سيوف ضرغامة عا *** د على الهول باسل مقدام

من بني مرة الأطايب يكنى *** عند دسر(1) الرماح(2) بالهيذام

ابنه يونس ينافسه ليحرمه جائزة:

قال: فأشرع الفتى يده إليه بشيء و جزّاه خيرا. قال يونس: فبادرت فأخذت بيد المرّي و قلت له: لا تعجل فإني قد قلت شعرا أجود من شعره. قال أبي: ويلك يا يونس يا عاضّ بظر أمه! تحرمني؟ فقلت: دع هذا عنك، فو اللّه لا تجوع امرأتي و تشبع امرأتك، فقلت ليونس: و من كانت امرأة أبيك يومئذ؟ فقال: أمي، و جمعت و اللّه عقوقهما(3). فقال لي المرّي/أنشد فأنشدته:

اسقياني يا صاحبيّ اسقياني *** و دعاني من الملام دعاني

اسقياني هديتما من كميت *** بننت عشر مشمولة اسقياني

فضّ عنها ختامها إذ سباها *** واضح الخد من بني عدنان

نتحايا(4) بالكأس أربعة في الدّ *** ور هذان ناعمان و ذان

ذا لهذا ريحانة مثل هذا *** ك لهذا من طيّب الريحان

فنهضنا لموعد كان منا *** إذ سمعنا تجاوب البكمان

فنعمنا حولين بهرا و عشنا *** بين دفّ و مسمع و دنان

ثم هجنا للحرب إذ شبّت الحر *** ب ففزنا فيها بسبق الرّهان

/إنّ قيسا في كلّ شرق و غرب *** خارج سهمها على السّهمان

منع اللّه ضيمنا بأبي الهي *** ذام حلّف السماح و الإحسان

و اليمانون يفخرون أ ما يد *** رون أن النبيّ غير يمان

قال: فقال الفتى لأبي: قد وجب علينا من حقه مثل ما وجب علينا من حقك يا شيخ؛ و استظرف ما جرى بيني و بين أبي، و قسم الدنانير بيننا، و كانت خمسين دينارا.

ابنه يعصر حلقه فيعترف لمنقذه بأن عق أباه من قبله:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدّثني الزبير قال:

مرّ رجل بيونس بن عبد اللّه بن الخياط - و هو يعصر حلق أبيه و كان عاقّا به - فقال له: ويلك أ تفعل هذا بأبيك؟ و خلّصه من يده، ثم أقبل على الأب يعزّيه و يسكّن منه، فقال له الأب: يا أخي لا تلمه، و اعلم أنه ابني حقّا. و اللّه لقد خنقت أبي في هذا الموضع الّذي خنقني فيه. فانصرف عنه الرجل و هو يضحك.

ص: 216


1- دسر: طعن.
2- كذا في ج: و في ب، س: «الرياح»، تحريف.
3- كذا في ب، س. و في ج: «عقوقهما معا».
4- في س، ب: «نتخايا»، تحريف.
يشكو حاله إلى محمد بن سعيد فيأمر له بمعونة فيمدحه:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني عليّ بن محمد بن سليمان النّوفليّ عن عمه عيسى قال:

شكا عبد اللّه بن يونس الخياط إلى محمد بن سعيد بن المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حاله و ضيقا قد ناله، فأمر له بدنانير و كسوة و تمر، فقال يمدحه:

يا بن سعيد يا عقيد الندى *** يا بارع الفضل على المفضل

حللت في الذّروة من هاشم *** و في يفاع من بني نوفل

فطاب في الفرعين هذا و ذا *** ما اعتمّ من منصبك الأطول

قد قلت للدهر و قد نالني *** بالناب و المخلب و الكلكل

/قد عذت من ضرّك مستعصما *** بهاشميّ ماجد نوفلي

فقال لي أهلا و سهلا معا *** فزت و لم يمنع و لم يبخل

الدهر شقّان فشقّ له *** لين و شقّ خشن المنزل

و أخشن الشقّين عنّي نفي *** و شقّه الألين ما عاش لي

فقل لهذا الدهر ما عاش لا *** تبق و لا ترع و لا تأتلي

يأخذه و الى الحجاز بالصلاة فيحاول أن يعفيه منها:

أخبرني محمد بن مزيد قال: حدثنا الزبير بن بكار قال:

أخذ أبي - لما ولي الحجاز/عبد اللّه بن يونس الخيّاط - بأن يصلي الصلوات الخمس مع الجماعة في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فجاءني هو و محمد بن الضحاك و جعفر بن الحسين اللّهبيّ، فوقف بين يديّ، ثم أنشدني:

قل للأمير يا كريم الجنس *** يا خير من بالغور أو بالجلس(1)

و عدّتي لولدي و نفسي *** شغلتني بالصلوات الخمس

فقلت له: ويلك! أ تريد أن أستعفيه لك من الصلاة؟ و اللّه ما يعفيك، و إن ذلك ليبعثه على اللّجاج في أمرك، ثم يضرك عنده. فمضى و قال: نصبر إذن حتى يفرج اللّه تعالى.

شعره في صديق كان يدعوه ليشرب معه:

أخبرني محمد قال حدثنا الزبير بن بكّار قال حدثنا يونس بن الخياط قال:

كان لأبي صديق، و كان يدعوه ليشرب معه، فإذا سكر خلع عليه قميصه، فإذا(2) صحا من غد بعث إليه فأخذه منه فقال أبي فيه:

ص: 217


1- الجلس: بلاد نجد، أو الغليظ من الأرض.
2- في ج: «و إذا».

/كأنّي قميصا مرتين إذا انتشى(1)*** و ينزعه مني إذا كان صاحيا

فلي فرحة في سكره بقميصه *** و روعاته(2) في الصحو حصّت(3) شواتيا(4)

فيا ليت حظي من سروري و روعتي *** تكون كفافا لا عليّ و لا ليّا

ابنه يعقه، و ابن ابنه يعق أباه:

أخبرنا وكيع قال حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود الزّرفيّ قال:

قال يونس بن عبد اللّه الخيّاط لأبيه، و كان عاقا به:

ما زال بي ما زال بي *** طعن أبي في النسب

حتى تريّبت و حت *** ى ساء ظني بأبي

قال: و نشأ ليونس ابن يقال له: دحيم، فكان أعق الناس به، فقال يونس فيه:

جلا دحيم عماية الرّيب *** و الشكّ مني و الطعن في النسب(5)

ما زال بي الظّنّ و التشكّك حت *** ى عقّني مثل ما عققت أبي

ابنه ينشد سعيد ابن عمرو نسيبا فيقر يعجزه عن مثله:

أخبرني الحرّمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكّار قال: حدّثني يونس بن الخيّاط قال:

أنشدت سعيد بن عمرو الزبيريّ:

لو فاح ريح حبيبة من حبّها *** فاحت رياح حبيبتي من ريحي

قال: فقال لي سعيد بن عمرو: و اللّه إني لأقول النسيب، فلا أقدر على مثل هذا/فقلت له: و من أين تقدر على مثل هذا يا أبا عثمان؟ لا تقدر(6) و اللّه على مثله حتى يسوء الثناء عليك.

يؤثر ابنه بالفريضة:

أخبرني الحرميّ قال: حدثنا الزّبير قال حدّثني يونس بن الخيّاط قال:

لما أعطى المهديّ المغيرة بن حبيب ألف فريضة يضعها حيث شاء جاءه أبي عبد اللّه ابن سالم، و قال له:

ألف تدور على يد لممدّح *** ما سوق مادحه لديه بكاسد(7)

الظنّ مني لو فرضت لواحد *** في الأعجمين خصصتني بالواحد(8)

ص: 218


1- في س: «انتسى»، تحريف.
2- كذا في أ، ب، س. و في ج: «روعته».
3- الحص: حلق الشعر.
4- الشواة: جلدة الرأس.
5- ب، س: «نسبي».
6- كذا في ب، س. و في ج: «و لا و اللّه ما تقدر».
7- ف: «بكاسده».
8- ف: «بواحده».

قال: فقال له المغيرة: أيهما أحب إليك: أ أفرض لك أم لابنك يونس؟ فقال له: أنا شيخ كبير، هامة اليوم أو غد، افرض لابني يونس، ففرض لي في خمسين دينارا، فلما خرجت الأعطية الثلاثة في زمن الرشيد على يدي بكار بن عبد اللّه قال لي خليفته و خليفة أيوب بن أبي سمير - و هما يعرضان أهل ديوان العطاء -: أنت من هذيل و نراك قد صرت من آل الزبير/فنردّك إلى فرائض هذيل خمسة دينارا. فقال لهما بكّار: إنما جعلتما لتتّبعا و لا تبتدعا، أمضياه، فأعطياني مائة و خمسين دينارا.

ابنه يهجو هشام بن عبد اللّه حين ولي القضاء ليغض منه:

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدّثني محمد بن الحسن بن مسعود الزّرقيّ قال: حدثنا ابن أبي قباحة الزهريّ قال:

لما عزل ابن عمران - و هو عبد اللّه بن محمد بن عمران التيميّ - عن القضاء، و استعمل هشام بن عبد اللّه بن عكرمة المخزوميّ، جزع ابن عمران من ذلك، فقال بعض أصحابه ليونس بن عبد اللّه الخياط: اهج هشاما بما يغضّ منه، فقال:

/كم تغنّى لي هشام *** ذلك الجلف الطويل

بعد وهن و هو في المج *** لس سكران يميل

هل إلى نار بسلع(1)*** آخر الدهر(2) سبيل

قلت للنّدمان لما *** دارت الراح الشمول

بأبي مال هشام *** فكما مال فميلوا

قال: و شهرها في الناس، و بلغ ذلك هشاما: لعنه اللّه؛ إن كان لكاذبا فقال ابن أبي قباحة: فقلت لابن الخياط:

كذبت، أما و اللّه إنه لأمرّ من ذلك.

ابنه يطعن في نسبه بحضرة أبيه و أصحاب له:

أخبرنا وكيع قال: حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود قال: قال يونس بن عبد اللّه بن الخياط:

جئت يوما إلى أبي و هو جالس و عنده أصحاب له؛ فوقفت عليهم لأغيظه، و قلت: أ لا أنشدكم شعرا قلته بالأمس؟ قالوا: بلى، فأنشدتهم:

يا سائلي من أنا أو من يناسبني(3) *** أنا الّذي ما له أصل و لا نسب

الكلب يختال فخرا حين يبصرني *** و الكلب أكرم مني حين ينتسب

لو قال لي الناس طرّا أنت الأمنا *** ما وهم الناس في ذاكم و لا كذبوا

قال: فوثب إليّ (4) ليضربني، و عدوت من بين يديه، فجعل يشتمني و أصحابه يضحكون.

ص: 219


1- سلع: اسم جبل بالمدينة، و آخر بهذيل.
2- س. و في ج: «الليل».
3- في ج: «أناسيه».
4- في ج: «أبي».
شعر ابنه و قد جلد في الشراب:

أخبرني وكيع قال: حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود:

أن مالك بن أنس جلد يونس بن عبد اللّه بن سالم الخيّاط حدّا في الشراب. قال: و ولي ابن سعيد القضاء بالمدينة، فقال يونس فيه:

بكتني النّاس لأن *** جلدت وسط الرحبه

و أنني أزني و قد *** غنّيت في المجتسبه

أعزف فيهم بعصا(1) *** مالك المقتضبة

فقلت لما أكثروا *** عليّ فيم الجلبه؟

ذا ابن سعيد قد قضى *** و حالنا مقتربه

لا بل له التفضيل في *** ما لم أنل و الغلبه

بحسن صوت مطرب *** و زوجة مغتصبه

ابن الخياط يستزير الزبير ابن بكار في مرض موته ليجدد له عهدا:

أخبرني الحرميّ ابن أبي العلاء و وكيع، قال الحرميّ قال الزبير، و قال وكيع قال الزبير بن بكار:

أرسل إليّ ابن الخيّاط يقول: إني عليل(2) منذ كذا و كذا، و منزلي على طريقك إذا/صدرت إلى الثّنية(3)، و أنا أحب أن أجدّد بك عهدا، قال: فجعلته على طريقي، فوجدته على فرش مضرّبة(4)، و حوله وسائد، و هو مسجّى، فكشف ابنه الثوب عن وجهه، و قال له: فديتك، هذا أبو عبد اللّه. فقال له: أجلسني، فأجلسه و أسنده إلى صدره، فجعل يقول بنفس منقطع: بأبي أنت و أمي! أموت منذ بضع عشرة ليلة ما دخل/على قرشيّ غيرك و غير الزبير بن هشام و إبراهيم بن المنذر و محمد بن عبد اللّه البكريّ، و لا و اللّه ما أعلم أحدا أحبّ قريشا كحبي. قال زبير: و ذكر رجلا كان بيني و بينه خلاف فقال: لو كنت شابّا لفعلت بأمّه كذا و كذا، لا يكنى. ثم قال:

و اللّه لو عادت بني مصعب *** حليلتي قلت لها: بيني

أو ولدي عن حبّهم قصّروا *** ضغطتهم بالرّغم و الهون

أو نظرت عيني خلافا لهم *** فقأتها عمدا بسكين

ثم أقبل على ابنه، فقال: يا بنيّ أقول لك في أبي عبد اللّه ما قال ابن هرمة لابنه في الحسن بن زيد:

اللّه جار عتيّ دعوة شفقا *** من الزمان و شرّ الأقرب الوالي

من كل أحيد عنه لا يقرّبه *** وسط النجيّ (5) و لا في المجلس الخالي

ص: 220


1- في ب، س: «بعصا ابن مالك»، و في ف: «أعرف»، بالراء.
2- في ج: «إني أموت من كذا و كذا».
3- في ج: «البنية»، و هي الكعبة.
4- مضربة: ذات طاقين بينهما قطن.
5- النجي: المتناجون.
يموت في غد اليوم الّذي زاره فيه الزبير:
اشارة

قال الزبير: حدّثني محمد بن عبد اللّه البكريّ:

أنه دخل إليه بعدي في اليوم الّذي مات فيه، قال: فقال لي: يا أبا عبد اللّه، أنا أجود بنفسي منذ كذا و كذا و لا تخرج، ما هكذا كانت نفس عبيد و لا لبيد و لا الحطيئة، ما هي إلاّ نفس كلب؛ قال: فخرجت فما أبعدت حتى سمعت الواعية(1) عليه.

صوت

بأبي مالك عنّي *** مائل الطرف كليلا!

و أرى برّك نزرا *** و تحفّيك قليلا

و تسمّيني عدوا *** و أسميك خليلا

أ تعلّمت سلوّا *** أم تبدلت بديلا؟

أحمد اللّه فما أغ *** نى الرّجا فيك فتيلا

الشعر لعلّي بن جبلة، و الغناء لزرزور غلام المارقي، خفيف رمل بالبنصر من روايتي الهشامي و عبد اللّه بن موسى. و فيه لعريب هزج، و فيه ثقيل أول من جيّد الغناء. ينسب إليها و إلى علّويه، و هو بغنائها أشبه منه بغناء علّويه.

ص: 221


1- الواعية: الصراخ و الصوت. و في ب، س: «الناعية».

2 - أخبار عليّ بن جبلة

نسبه و لقبه:

هو عليّ بن جبلة بن عبد اللّه الأبناويّ (1)، و يكنى أبا الحسن، و يلقب بالعكوّك، من أبناء الشيعة الخراسانية من أهل بغداد، و بها نشأ، و ولد بالحربيّة(2) من الجانب الغربيّ. و كان ضريرا، فذكر عطاء الملط أنه كان أكمه، و هو الّذي يولد ضريرا، و زعم أهله أنه عمي بعد أن نشأ.

استنفد شعره في مدح أبي دلف و حميد الطوسي:

و هو شاعر مطبوع، عذب اللفظ جزله، لطيف العاني، مدّاح حسن التصرف. و استنفد شعره في مدح أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي، و أبي غانم حميد بن عبد الحميد الطّوسيّ، و زاد في تفضيلهما و تفضيل أبي دلف خاصة حتى فضّل من أجله ربيعة على مضر، و جاوز/الحد في ذلك. فيقال: إن المأمون طلبه حتى ظفر به، فسلّ لسانه من قفاه، و يقال: بل هرب، و لم يزل متواريا منه حتى مات و لم يقدر عليه؛ و هذا هو الصحيح من القولين، و الآخر شاذ.

نشأته و تربيته:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار الثقفيّ قال: حدّثني الحسين بن عبد اللّه بن جبلة بن عليّ بن جبلة قال:

كان لجدّي أولاد، و كان عليّ أصغرهم، و كان الشيخ يرقّ عليه، فجدر، فذهبت إحدى عينه في الجدريّ، ثم نشأ فأسلم في الكتّاب، فحذق بعض ما يحذقه الصبيان، فحمل على دابّة و نثر عليه اللّوز، فوقعت على عينيه الصحيحة لوزة فذهبت، فقال الشيخ لولده: أنتم لكم أرزاق من السلطان، فإن أعنتموني على هذا الصبيّ، /و إلاّ صرفت بعض أرزاقكم إليه. فقلنا: و ما تريد؟ قال: تختلفون به إلى مجالس الأدب

يقصد أبا دلف: و يمدحه فيتهم بانتحال القصيدة فيطلب أن يمتحن:

قال: فكنا نأتي به مجالس العلم و نتشاغل نحن بما يلعب به الصبيان، فما أتى عليه الحول حتى برع، و حتى كان العالم إذا رآه قال لمن حوله: أوسعوا للبغويّ (3) و كان ذكيا مطبوعا، فقال الشعر، و بلغه أنّ الناس يقصدون أبا دلف لجوده و ما كان يعطي الشعراء، فقصده - و كان يسمّى العكوّك - فامتدحه بقصيدته الّتي أولها:

ذاد و رد الغيّ عن صدره *** و ارعوى و اللهو من وطره

يقول فيها في مدحه:

يا دواء الأرض أن فسدت *** و مديل اليسر من عسره

ص: 222


1- كذا في ف، و في ب، س: «الأنباريّ».
2- الحربية: محلة كبيرة ببغداد، تنسب إلى حرب بن عبد اللّه البلخي، أحد قواد المنصور.
3- لعلّ المراد به المنسوب إلى بغشور: بفتح فسكون فضم، بلدة بين هراة و مرو الروز، و النسبة إليها بغوي. و يقال لها أيضا: بغ.

كلّ من في الأرض من عرب *** بين باديه إلى حضره

مستعير منك مكرمة *** يكتسيها يوم مفتخره

إنما الدنيا أبو دلف *** بين مبداه و محتضره

فإذا ولّى أبو دلف *** ولّت الدنيا على أثره

فلما وصل إلى أبي دلف - و عنده من الشعراء و هم لا يعرفونه - استرابوه بها، فقال له قائدة: إنهم قد اتهموك، و ظنوا أن الشعر لغيرك، فقال: أيها الأمير، إنّ المحنة تزيل هذا، قال: صدقت فامتحنوه.

القصيدة الّتي امتحن بها في وصف فرس أبي دلف:

فقالوا له: صف فرس الأمير، و قد أجّلناك ثلاثا، قال: فاجعلوا معي رجلا تثقون به يكتب ما أقول، فجعلوا معه رجلا، فقال هذه القصيدة في ليلته، و هي:

ريعت لمنشور على مفرقه *** ذمّ لها عهد الصّبا حين انتسب

أهداب(1) شيب جدد في رأسه *** مكروهة الجدّة أنضاء العقب(2)

أشرقن في أسود أزرين به *** كان دجاه لهوى البيض سبب

و اعتقن أيام الغواني و الصّبا *** عن ميّت مطلبه حيّ (3) الأدب

لم يزدجر مرعويا حين ارعوى *** لكن يد لم تتصل بمطّلب

لم أر كالشيب وقارا يجتوى *** و كالشّباب الغضّ ظلاّ يستلب

فنازل لم يبتهج بقربه *** و ذاهب أبقى جوى حين ذهب

كان الشباب لمّة أزهى بها *** و صاحبا حرّا عزيز المطحب

/إذ أنا أجري سادرا في غيه *** لا أعتب الدهر إذا الدهر عتب

أبعد شأو اللهو في إجرائه *** و أقصد الخود وراء المحتجب

و أذعر الرّبرب عن أطفاله *** بأعوجيّ (4) دلفيّ المنتسب

تحسبه من مرح العزّ به *** مستنفرا بروعة أو ملتهب

مرتهج(5) يرتجّ من أقطاره *** كالماء جالت فيه ريح فاضطرب

تحسبه أقعد في استقباله *** حتى إذا استدبرته قلت أكبّ

ص: 223


1- كذا في أ. و في ب، ج، س، مد: «أهدام»، جمع هدم بكسر فسكون، و هو الثوب البالي، أو المرقع.
2- العقب: جمع عقبة، و هي النوبة.
3- ب، س: «حب»، تحريف.
4- أعوجي: منسوب إلى أعوج، فرس لبني هلال.
5- مرتهج: يثير الغبار.

/و هو على إرهاقه و طيّه *** يقصر(1) عنه المحزمان(2) و اللّبب(3)

تقول فيه حنب(4) إذا انثنى *** و هو كمتن القدح ما فيه حنب

يخطو على عوج تناهبن(5) الثرى *** لم يتواكل عن شظى(6) و لا عصب

تحسبها ناتئة إذا خطت *** كأنها واطئة على الرّكب

شتا و قاظ برهتية عندنا *** لم يؤت من برّ(7) به و لا حدب

يصان عصري حرّه و قرّة *** و تقصر الخور(8) عليه بالحلب(9)

حتى إذا تمّت له أعضاؤه *** لم تنحبس واحدة على عتب(10)

رمنا به الصيد فرادينا(11) به *** أوابد الوحش فأجدى و اكتسب

مجذّم(12) الجرى يبارى ظلّه *** و يعرق الأحقب(13) في شوط الخبب(14)

إذا تظنينا(15) به صدقنا *** و إن تظني فوته العير كذب

/لا يبلغ الجهد به راكبه *** و يبلغ الريح به حيث طلب

ثم انقضى ذاك كأن لم يعنه *** و كلّ بقيا فإلى يوم عطب

و خلف الدهر على أبنائه *** بالقدح(16) فيهم و ارتجاع ما وهب

فحمّل الدهر ابن عيسى قاسما *** ينهض به أبلج فرّاج الكرب

كرونق السيف انبلاجا بالندى *** و كغراريه على أهل الرّيب

ما وسنت عين رأت طلعته *** فاستيقظت بنوبة من النّوب

لو لا ابن عيسى القرم كنّا هملا *** لم يؤتثل مجد و لم يرع حسب

ص: 224


1- كذا في ب، س. و في أ، ج: «يقصر».
2- المحزم: الحزام.
3- اللبب: ما يشد في صدر الدابة ليمنع استئخار الرحل.
4- كذا في أ، ج، مد. و الحنب: احديداب في صلب الفرس. و في ب، س: «خبب»، تحريف.
5- في معظم النسخ: «تناهين»، تحريف.
6- الشظى: انشقاق العصب.
7- كذا بالأصول، و لعلها تحريف: تر، بفتح فتشديد، بمعنى سرعة الركض، أو امتلاء الجسم، أو اعتدال الأعضاء.
8- الخور: جمع خيرة، و هي الخيرة من الإبل.
9- الحلب: اللبن.
10- العتب: الظلع، و المشي على ثلاث قوائم من العقر.
11- رادينا: طلبنا مسابقين، و أصل الرديان أن يرجم الفرس الأرض بحوافره.
12- كذا في ب، س. و معناه مسرع. و في أ: «محتدم».
13- الأحقب: الحمار الوحش الّذي في بطنه أو خصره بياض.
14- الخبب: نوع من العدو، و السرعة.
15- تظنينا: أعملنا الظن.
16- بالقدح: بالإصابة ملجم. و أصل القدح: الصدع في العود، و الأكال في الشجر و الأسنان.

و لم يقم في يوم بأس و ندى *** و لا تلاقى سبب إلى سبب

تكاد تبدى الأرض ما تضمره *** إذا تداعت خيله هلا وهب(1)

و يستهلّ أملا و خيفة *** جانبها إذا استهلّ أو قطب

و هو و إن كان ابن فرعي وائل *** فبمساعيه يوافي(2) في الحسب

و بعلاه و علا آبائه *** تحوى غداة السبق أخطار القصب

يا زهرة الدنيا و يا باب الندى *** و يا مجير الرّعب من يوم الرّهب

لولاك ما كان سدى(3) و لا ندى *** و لا قريش عرفت و لا العرب

خذها إليك من مليء بالثنا *** لكنه غير مليء بالنّشب

/فاثو في الأرض أو استفزز بها *** أنت عليها الرأس و الناس الذنب

شهادة الشعراء بأنه صاحب مدح أبي دلف:

قال: فلما غدا عليه بالقصيدة و أنشده إياها استحسنها من حضر، و قالوا: نشهد أن قائل/هذه قائل تلك، فأعطاه ثلاثين ألف درهم. و قد قيل: إن أبا دلف أعطاه مائة ألف درهم، و لكن أراها في دفعات؛ لأنه قصده مرارا كثيرة، و مدحه بعدة قصائد.

المأمون يستنشد بعض جلسائه قصيدته في أبي دلف:

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال: حدّثني محمد بن موسى بن حماد قال: حدّثني أحمد بن أبي فنن قال:

قال عبد اللّه بن مالك:

قال المأمون يوما لبعض جلسائه: أقسم على من حضر ممن يحفظ قصيدة عليّ بن جبلة الأعمى في القاسم بن عيسى إلاّ أنشدنيها، فقال له بعض الجلساء: قد أقسم أمير المؤمنين، و لا بد من إبرار قسمه، و ما أحفظها، و لكنها مكتوبة عندي. قال: قم فجئني بها، فمضى و أتاه بها، فأنشده إياها و هي:

ذاد و رد الغيّ عن صدره *** و ارعوى و اللّهو من وطره

و أبت إلاّ البكاء له *** ضحكات الشيب في شعره

ندمي(4) أن الشباب مضى *** لم أبلّغه مدى أشره

و انقضت أيامه سلما *** لم أجد حولا على غيره

حسرت عني بشاشته *** و ذوي المحمود من ثمره

و دم أهدرت من رشإ *** لم يرد عقلا على هدره

ص: 225


1- هلا وهب: اسمان لزجر الخيل.
2- كذا في ج. و في ب، س: «تراقي»، تحريف.
3- س: «سرى».
4- في ج: «ندما».

فأتت(1) دون الصّبا هنة *** فليت فوقي(2) على وتره

جارتا ليس الشباب لمن *** راح محنيّا على كبره

/ذهبت أشياء كنت لها *** صارها(3) حلمي إلى صوره(4)

دع جدا قحطان أو مضر *** في يمانيه و في مضره

و امتدح من وائل رجلا *** عصر(5) الآفاق في عصره

المنايا في مناقبه *** و العطايا في ذرا حجره

ملك تندى أنامله *** كانبلاج النّوء من مطره

مستهلّ عن مواهبه *** كابتسام الروض عن زهره

جبل عزّت مناكبه *** أمنت عدنان في ثغره

إنما الدنيا أبو دلف *** بين مبداه(6) و محتضره

فإذا ولّى أبو دلف *** ولّت الدنيا على أثره

لست أدري ما أقول له *** غير أن الأرض في خفره

يا دواء الأرض إن فسدت *** و مديل اليسر من عسره

كلّ من في الأرض من عرب *** بين باديه إلى حضره

مستعير منك مكرمة *** يكتسيها يوم مفتخره

يقول فيها:

و زحوف في صواهله *** كصياح(7) الحشر في أثره

/قدته و الموت مكتمن *** في مذاكيه و مشتجره(8)

/فرمت جيلويه(9) منه يد *** طوت المنشور من نظره

زرته و الخيل عابسة *** تحمل البؤس على عقره(10)

خارجات تحت رايتها *** كخروج الطير من وكره

ص: 226


1- في أ: «فأتى». و في ب، س، م: «فأنت»، تحريف.
2- الفوق: موضع الوتر من السهم.
3- صار الشيء صورا: أماله.
4- الصور: الميل، و فعله كفرح.
5- العصر: المنجاة.
6- كذا في ب، س، ج. في أ، م: «باديه».
7- في أ، م: «كضياء الفجر في أمره»، الأمر هنا: السطوع و الانتشار، من أمر، بكسر الميم: أي كثر و نما.
8- في س، ب، ج: «مستجره كأنه بمعنى مشتعله».
9- جيلويه، رجل من ذوي الشوكة كان بين و بين آل أبي دلف وقائع.
10- العقر: جمع عقرة: كهمزة، و هو الراكب يعقر ركوبته من كثرة إتعابه لها.

و على النعمان عجت به *** عوجة ذادته عن صدره

غمط النعمان صفوتها *** فرددت الصفو في كدره

و لقرقور أدرت رحا *** لم تكن(1) ترتد في فكره

قد تأنيت البقاء له *** فأبى المحتوم من قدره

و طغى حتى رفعت له *** خطة شنعاء من ذكره

قال: فغضب المأمون و اغتاظ، و قال: لست لأبي إن لم أقطع لسانه أو أسفك دمه.

أنشد أبا دلف مدحته بعد أن قتل قرقورا:

قال ابن أبي فنن: و هذه القصيدة قالها عليّ بن جبلة و قصد بها أبا دلف بعد قتله الصّعلوك المعروف بقرقور، و كان من أشد الناس بأسا و أعظمهم. فكان يقطع هو و غلمانه على القوافل و على القرى، و أبو دلف يجتهد في أمره فلا يقدر عليه. فبينا أبو دلف خرج ذات يوم يتصيد و قد أمعن في طلب الصيد وحده إذا بقرقور قد طلع عليه و هو راكب فرسا يشق الأرض بجريه، فأيقن أبو دلف بالهلاك، و خاف أن يولّي عنه فيهلك، فحمل عليه و صاح: يا فتيان! يمنة يمنة - يوهمه أن معه خيلا قد كمنها له - فخافه قرقور و عطف على يساره هاربا، و لحقه أبو دلف فوضع رمحه بين كتفيه فأخرجه من صدره، و نزل فاحتزّ رأسه، و حمله على رمحه حتى أدخله الكرج.

/قال: فحدّثني من رأى رمح قرقور و قد أدخل بين يديه يحمله أربعة نفر. فلما أنشده عليّ بن جبله هذه القصيدة استحسنها و سرّ بها و أمر له بمائة ألف درهم.

اتساع شهرة قصيدته فيه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد الأزديّ قال: أخبرني إبراهيم بن خلف قال:

بينا أبو دلف يسير مع أخيه معقل - و هما إذا ذاك بالعراق - إذ مرّا بامرأتين تتماشيان، فقالت إحداهما لصاحبتها: هذا أبو دلف، قالت: و من أبو دلف؟ قالت: الّذي يقول فيه الشاعر:

إنما الدنيا أبو دلف *** بين باديه و محتضره

فإذا ولّى أبو دلف *** ولّت الدنيا على أثره

قال: فاستعبر أبو دلف حتى جرى دمعه. قال له معقل: مالك يا أخي تبكي؟ قال: لأني لم أقض حقّ عليّ بن جبلة.

قال: أ و لم تعطه مائة ألف درهم لهذه القصيدة؟ قال: و اللّه يا أخي ما في قلبي حسرة تقارب حسرتي على أني لم أكن أعطيته مائة ألف دينار. و اللّه لو فعلت ذلك لما كنت قاضيا حقه.

شدة إعجاب أبي تمام ببيت من بائيته:

حدّثني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني عبد اللّه ابن محمد بن جرير قال:

أنشدت أبا تمام قصيدة عليّ بن جبلة البائية، فلما بلغت إلى قوله:

ص: 227


1- كذا في ب، س. في ج: «تكد».

و ردّ البيض و البيض *** إلى الأغماد و الحجب(1)

اهتز أبو تمام من فرقه(2) إلى قدمه، ثم قال: أحسن، و اللّه لوددت أن لي هذا/البيت بثلاث/قصائد من شعري يتخيرها(3) و ينتخبها(4) مكانه.

طلب أن ينشد المأمون مدحا فيه ثم يختار الإقالة فرارا من شروط للمأمون:

أخبرني عمي قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال: حدّثني أبو نزار الضبيّ الشاعر قال:

قال لي عليّ بن جبلة قلت لحميد بن عبد الحميد الطّوسي: يا أبا غانم، إني قد مدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض، فاذكرني له. قال: فأنشدني، فأنشدته. قال: أشهد أنك صادق، ما يحسن أحد أن يقول هكذا. و أخذ المديح فأدخله إلى المأمون، فقال له: يا حميد، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفونا عنه و جعلنا ذلك ثوابا لمديحه، و إن شاء جمعنا بين شعره فيك و في أبي دلف و بين شعره فينا، فإن كان الّذي قاله فيكما أجود ضربنا ظهره، و أطلنا حبسه، و إن كان الّذي قاله أجود أعطيناه لكل بيت ألف درهم، و إن شاء أقلناه فقلت له: يا سيدي و من أنا و من أبو دلف حتى يمدحنا بأجود من مديحك! فقال: ليس هذا الكلام من الجواب في شيء، فاعرض ما قلت لك على الرجل. فقال: أفعل. قال عليّ بن جبلة: فقال لي حميد: ما ترى؟ فقلت: الإقالة أحبّ إلي، فأخبر المأمون بذلك. فقال: هو أعلم، ثم قال لي حميد: يا أبا الحسن أيّ شيء يعني من مدائحك لي و لأبي دلف؟ فقلت: قولي فيك:

لو لا حميد لم يكن *** حسب يعد و لا نسب

يا واحد العرب الّذي *** عزّت بعزّته العرب

و قولي في أبي دلف:

/إنما الدنيا أبو دلف *** بين باديه و محتضره

فإذا ولّى أبو دلف *** ولت الدنيا على أثره

قال: فأطرق حميد ثم قال: لقد انتقد عليك أمير المؤمنين فأجاد، و أمر لي بعشرة آلاف درهم و خلعة و فرس و خادم. و بلغ ذلك أبا دلف فأضعف لي العطية، و كان ذلك في ستر منهما، ما علم به أحد خوفا من المأمون حتى حدثتك به يا أبا نزار.

يمسك عن زيارة أبي دلف حياء لكثرة بره به:

أخبرني عليّ بن سليمان قال: حدّثني محمد بن يزيد، قال: حدّثني عليّ بن القاسم قال: قال لي عليّ بن جبلة:

ص: 228


1- يكنى عن انتصاره الحاسم برد السيوف إلى أغمادها، و السبايا إلى حجبها.
2- في أ، ج، م: «قرنه».
3- في س: «يتخيلها»، تحريف.
4- في أ، ج: «ينتحلها».

زرت أبا دلف، فكنت لا أدخل إليه إلاّ تلقاني ببرّه و أفرط، فلما أكثر قعدت عنه حياء منه، فبعث إليّ بمعقل أخيه، فأتاني فقال لي: يقول لك الأمير: لم هجرتنا؟ لعلك استبطأت بعض ما كان منّي، فإن كان الأمر كذلك فإني زائد فيما كنت أفعله حتى ترضى، فدعوت من كتب لي، و أمللت عليه هذه الأبيات، ثم دفعتها إلى معقل، و سألته أن يوصلها، و هي:

هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة *** و هل يرتجى نيل الزيادة بالكفر

و لكنني لما أتيتك زائرا *** فأفرطت في بري عجزت عن الشكر

فها أنا لا آتيك إلا مسلّما *** أزورك في الشهرين يوما و في الشهر

فإن زدتني برّا تزايدت(1) جفوة *** و لم تلقني طول الحياة إلى الحشر

قال: فلما سمعها معقل استحسنها جدا، و قال: جوّدت و اللّه، أما أن الأمير ليعجب/بمثل هذه الأبيات، فلما أوصلها إلى أبي دلف قال: للّه درّه! ما أشعره، و ما(2) أرقّ معانيه! ثم دعا بدواة، فكتب إليّ:

/ألا ربّ ضيف طارق قد بسطته *** و آنسته قبل الضيافة بالبشر

أتاني يرجّيني فما حال دونه *** و دون القرى من نائلي عنده ستري

وجدت له فضلا عليّ بقصده *** إليّ و برّا يستحق به شكري

فلم أعد أن أدنيته و ابتدأته *** ببشر و إكرام و برّ على برّ

و زوّدته مالا قليل(3) بقاؤه *** و زوّدني مدحا يدوم على الدهر

ثم وجّه بهذه الأبيات مع وصيف يحمل كيسا فيه ألف دينار، فذلك حيث قلت له:

إنما الدنيا أبو دلف *** بين باديه و محتضره

يقصد عبد اللّه بن طاهر ليمدحه، فيرده لغلوه في مدح أبي دلف:

أخبرني عمي قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال: حدّثني أحمد بن القاسم قال: حدّثني نادر مولانا:

أن عليّ بن جبلة خرج إلى عبد اللّه بن طاهر و إلى خراسان، و قد امتدحه، فلما وصل إليه قال له: أ لست القائل:

إنما الدنيا أبو دلف *** بين باديه و محتضره

فإذا ولّى أبو دلف *** ولّت الدنيا على أثره

قال: بلى، قال: فما الّذي جاء بك إلينا، و عدل بك عن الدنيا الّتي زعمت؟ /ارجع من حيث جئت، فارتحل، و مرّ بأبي دلف و أعلمه الخبر، فأعطاه حتى أرضاه. قال نادر: فرأيته عند مولاي القاسم بن يوسف، و قد سأله عن خبره فقال:

أبو دلف إن تلقه ماجدا *** جوادا كريما راجح الحلم سيدا

ص: 229


1- كذا في س. في أ، ب، ج: «تزيدت».
2- في ب، س ب: «ما أشعره و أرق». و في أ، ج: «ما أشعره و أدق».
3- ف، مم، مو: «قليلا» بالنصب، و كلاهما صحيح.

أبو دلف الخيرات أنداهم يدا *** و أبسط معروفا و أكرم محتدا

تراث أبيه عن أبيه و جدّه *** و كلّ امرئ يجري على ما تعودا

و لست بشاك غيره لنقيصة *** و لكنما الممدوح من كان أمجدا

يصف قصر حميد الطوسي و يمدحه:

قال مؤلف هذا الكتاب(1): و الأبيات الّتي فيها الغناء المذكورة بذكرها أخبار أبي الحسن عليّ بن جبلة من قصيدة له مدح بها حميدا الطوسيّ، و وصف قصره على دجلة و قال فيها بعد الأبيات الّتي فيها الغناء:

ليس لي ذنب سوى أنّ *** ي أسميك خليلا(2)

و أناديك عزيزا *** و تناديني ذليلا

أنا أهواك و حالي *** ك صروما و وصولا

ثق بودّ ليس يفنى *** و بعهد لن يحولا

جعل اللّه حميدا *** لبني الدنيا كفيلا

ملك لم يجعل اللّه *** له فيهم عديلا

فأقاموا في ذراه *** مطمئنين حلولا

لا ترى فيهم مقلاّ *** يسأل المثرى فضولا

جاد بالأموال حتى *** علّم الجود البخيلا

/و بني الفخر على الفخ *** ر بناء مستطيلا

صار للخائف أمنا *** و على الجود دليلا

يرثي حميدا الطوسي:

و لما مات حميد الطوسيّ رثاه بقصيدته العينية المشهورة، و هي من نادر الشعر و بديعه، و في أولها غناء من الثقيل الأول، يقال: إنه لأبي العبيس، و يقال: إنه للقاسم ابن زرزور:

أ للدهر تبكي أم على الدهر تجزع؟ *** و ما صاحب الأيام إلا مفجّع

و لو سهّلت عنك الأسا كان في الأسا *** عزاء معزّ للبيب و مقنع

تعزّ بما عزّيت غيرك إنها *** سهام المنايا حائمات و وقّع

أصبنا بيوم في حميد لو أنه *** أصاب عروش الدهر ظلت تضعضع

و أدّبنا ما أدب الناس قبلنا *** و لكنه لم يبق للصبر موضع

ص: 230


1- ف: «قال الأصبهاني».
2- كذا في ب، ح، س. في أ، م، ف: «جليلا».

أ لم تر للأيام كيف تصرّمت(1) *** به و به كانت تذاد و تدفع

و كيف التقى مثوى من الأرض ضيق *** على جبل كانت به الأرض تمنع

و لما انقضت أيامه انقضت العلا *** و أضحى به أنف الندى و هو أجدع

و راح عدوّ الدّين جذلان ينتحي *** أمانيّ كانت في حشاه تقطع(2)

و كان حميد معقلا ركعت به *** قواعد ما كانت على الضيم تركع

/و كنت أراه كالرزايا رزئتها *** و لم أدر أن الخلق يبكيه أجمع

حمام رماه من مواضع أمنه *** حمام كذاك الخطب بالخطب يقدع(3)

و ليس بغرو أن تصيب منية *** حمى أختها أو أن يذلّ الممنّع

لقد أدركت فينا المنايا بثارها *** و حلّت بخطب وهيه ليس يرقع

نعاء(4) حميد للسرايا إذا غدت *** تذاد بأطراف الرماح و توزع

و للمرهق المكروب ضاقت بأمره *** فلم يدر في حوماتها كيف يصنع؟

و للبيض خلّتها البعول و لم يدع *** لها غيره داعى الصباح المفزّع

كأن حميدا لم يقد جيش عسكر *** إلى عسكر أشياعه لا تروّع

و لم يبعث الخيل المغيرة بالضحا *** مراحا و لم يرجع بها و هي ظلّع

رواجع يحملن النّهاب و لم تكن *** كتائبه إلاّ على النهب ترجع

هوى جبل الدنيا المنيع و غيثها *** المريع و حاميها الكميّ المشيع(5)

و سيف أمير المؤمنين و رمحه *** و مفتاح باب الخطب و الخطب أفظع

فأقنعه من ملكه و رباعه *** و نائله قفر من الأرض بلقع

على أيّ شجو تشتكي النفس بعده *** إلى شجوه أو يذخر الدمع مدمع

أ لم تر أن الشمس(6) حال ضياؤها *** عليه و أضحى لونها و هو أسفع

و أوحشت الدنيا و أودى بهاؤها *** و أجدب مرعاها الّذي كان يمرع

و قد كانت الدنيا به مطمئنة *** فقد جعلت أوتادها تتقلع

/بكى فقده روح الحياة كما بكى *** نداه الندى و ابن السبيل المدفّع

ص: 231


1- ف، مو: «تصرفت».
2- ينتهي هنا ما روت نسخة! من هذه القصيدة. و فيها بعد هذا البيت: و هي قصيدة طويلة. قد اعتمد عليها الطائيان في مراثيهما، فسلخاها. و لو لا كراهة الإطالة لذكرت ذلك.
3- يقدع: يدفع.
4- نعاء حميدا: انعه، و أظهر خبر وفاته.
5- المشيع: الشجاع، كأنه يشيعه، أي يشجعه غيره، أو يشيعه قلبه
6- كذا في ب، ج، مد. و في س: «النفس»، تحريف.

/و فارقت البيض الخدور و أبرزت *** عواطل حسرى بعده لا تقنّع

و أيقظ أجفانا و كان لها الكرى *** و نامت عيون لم تكن قبل تهجع

و لكنه مقدار يوم ثوى به *** لكل امرئ منه نهال و مشرع

و قد رأب اللّه الملا(1) بمحمد *** و بالأصل ينمي فرعه المتفرع

أغرّ على أسيافه و رماحه *** تقسّم أنفال الخميس و تجمع

حوى عن أبيه بذل راحته الندى *** و طعن الكلى و الزاعبية(2) شرّع

و إنما ذكرت هذه القصيدة على طولها لجودتها و كثرة نادرتها، و قد أخذ البحتريّ أكثر معانيها فسلخه، و جعله في قصيدته اللتين رثى بهما أبا سعيد الثغري:

انظر إلى العلياء كيف تضام(3)

و:

بأي أسى تثنى الدموع الهوامل(4)

و قد أخذ الطائي أيضا بعض معانيها، و لو لا كراهة الإطالة لشرحت المواضع المأخوذة. و إذا تأمل ذلك منتقد بصير عرفه.

بلغ في مدح حميد الطوسي ما لم يبلغه في مدح غيره:

أخبرني عمي قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال: حدّثني أبو وائلة قال: قال رجل لعليّ بن جبلة:

ما بلغت في مديح أحد ما بلغته في مديحك حميدا الطوسيّ. فقال: و كيف لا أفعل و أدنى ما وصل إليّ منه أني أهديت له قصيدة في يوم نيروز فسرّ بها، و أمر أن يحمل إليّ كلّ ما أهدى له، فحمل إليّ ما قيمته مائتا ألف درهم، و أهديت له/قصيدة في يوم عيد فبعث إليّ بمثل ذلك.

يصف جيشا ركب فيه حميد الطوسي و يمدحه:

قال أبو وائلة. و قد كان حميد ركب يوم عيد في جيش عظيم لم ير مثله، فقال عليّ بن جبلة يصف ذلك:

غدا بأمير المؤمنين و يمنه *** أبو غانم غدو الندى(5) و السحائب

و ضاقت فجاج الأرض عن كل موكب *** أحاط به مستعليا للمواكب

كأن سموّ النّقع و البيض(6) فوقهم *** سماوة ليل قرّنت(7) بالكواكب

ص: 232


1- مم، مو: «الثأي»، و رأب الثأي: أصلح الفساد، و أصله من ثئي الخرز: إذا انخرم.
2- الزاعبية: هي الرماح الّتي إذا هزت كانت كأن كعوبها يجري بعضها في بعض، أو المنسوبة إلى زاعب: بلد، أو رجل.
3- ديوان البحتري 257، و عجزه و مآتم الأحساب كيف تقام
4- ديوانه 194، و عجزه و ترجى زيال من جوى لا يزايل
5- كذا في ب، س و في أ، ج: «الردى».
6- في ف: «و البيض» بالنصب، و كلاهما صحيح.
7- مو: «حليت بالكواكب».

فكان لأهل العيد عيد بنسكهم *** و كان حميد عيدهم بالمواهب

و لو لا حميد لم تبلّج عن الندى *** يمين و لم يدرك غنى كسب كاسب

و لو ملك الدنيا لما كان سائل *** و لا اعتام(1) فيها صاحب فضل صاحب

له ضحكة تستغرق المال بالندى *** على عبسة تشجى(2) القنا بالترائب

ذهبت بأيام العلا فاردا بها *** و صرّمت عن مسعاك شأو المطالب

و عدّلت ميل الأرض حتى تعدلت *** فلم ينأ منها جانب فوق جانب

بلغت بأدنى الحزم أبعد قطرها *** كأنك منها شاهد كلّ غائب

قصيدة أهداها إليه يوم نيروز:

قال: و الّتي أهداها له يوم النيروز قصيدته الّتي فيها:

حميد يا قاسم الدنيا بنائله *** و سيفه بين أهل النّكث و الدّين

أنت الزمان الّذي يجري تصرّفه *** على الأنام بتشديد و تليين

/لو لم تكن كانت الأيّام قد فنيت *** و المكرمات و مات المجد مذ حين

/صوّرك اللّه من مجد و من كرم *** و صوّر النّاس من ماء و من طين

نسخت من كتاب بخط محمد بن العباس اليزيديّ:

يدخل على أبي دلف فيستنشده:

قال أحمد بن إسماعيل الخصيب الكاتب: دخل عليّ بن جبلة يوما إلى أبي دلف فقال له: هات يا عليّ ما معك. فقال: إنه قليل. فقال هاته، فكم من قليل أجود من كثير فأنشده:

اللّه أجرى من الأرزاق أكثرها *** على يديك فشكرا يا أبا دلف

أعطى أبو دلف و الريح عاصفة *** حتى إذا وقفت أعطى و لم يقف

يستنشده أبو دلف فيتطير مما أنشده:

قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما كان بعد مدة دخل إليه، فقال له: هات ما معك فأنشده:

من ملك الموت إلى قاسم *** رسالة في بطن قرطاس

يا فارس الفرسان يوم الوغى *** مرني بمن شئت من الناس

قال: فأمر له بألفي درهم، و كان قد تطير من ابتدائه في هذا الشعر، فقال: ليست هذه من عطاياك أيها الأمير، فقال: بلغ بها هذا المقدار ارتياعنا من تحمّلك رسالة ملك الموت إلينا.

يهجو الهيثم بن عدي إجابة لطلب الخزيمي:

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا الحسن عليل العنزيّ قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه قال:

ص: 233


1- اعتام: أخذ العيمة بالكسر. و هي في الأصل: خيار المال.
2- أشجاه: أغصه.

حدّثني عليّ بن جبلة العكوّك المروزيّ قال:

جاءني أبو يعقوب الخزيميّ فقال لي: إن لي إليك حاجة. قلت: و ما هي؟ قال: تهجو لي الهيثم بن عديّ.

فقلت: و مالك أنت لا تهجوه و أنت شاعر؟ فقال: قد/فعلت، فما جاءني شيء كما أريد. فقلت له: فقلت له:

كيف أهجو رجلا لم يتقدم إليّ منه إساءة، و لا له إليّ جرم يحفظني؟ فقال: تقرضني، فإني مليّ بالقضاء، قلت:

نعم، فأمهلني اليوم فمضى، و غدوت عليه فأنشدته:

للهيثم بن عديّ نسبة جمعت *** آباءه فأراحتنا من العدد

أعدد عديّا فلو مدّ البقاء له *** ما عمّر الناس لم ينقص و لم يزد

نفسي نداء بني عبد المدان و قد *** تلوه(1) للوجه و استعلوه بالعمد

حتى أزالوه كرها عن كريمتهم *** و عرّفوه بدل أين أصل عدي؟

يا بن الخبيثة من أهجو فأفضحه *** إذا هجوت و ما تنمى إلى أحد؟

هجاؤه الهيثم بن عدي مزق بينه و بين زوجه:

قال: و كان الهيثم قد تزوج إلى بني الحارث بن كعب، فركب محمد بن زياد بن عبيد اللّه بن عبد المدان الحارثيّ، أخو يحيى بن زياد، و معه جماعة من أصحابه الحارثيّين إلى الرشيد، فسألوه أن يفرّق بينهما. فقال الرشيد: أ ليس هو الّذي يقول فيه الشاعر:

إذا نسبت عديا في بني ثعل *** فقدّم الدال قبل العين في النسب

قالوا: بلى يا أمير المؤمنين. قال فهذا الشعر من قاله؟ قالوا: هو لرجل من أهل الكوفة من بني شيبان يقال له:

ذهل بن ثعلبة فأمر الرشيد داود بن يزيد أن يفرّق بينهما، فأخذوه فأدخلوه دارا و ضربوه بالعصيّ حتى طلقها.

يشخص إلى عبد اللّه بن طاهر و يمدحه:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني محمد بن الحسن بن الخصيب قال:

شخص عليّ بن جبلة إلى عبد اللّه بن طاهر والي خراسان - و قد مدحه فأجزل/صلته - و استأذنه في الرجوع، فسأله أن يقيم عنده، و كان برّه يتصل عنده، فلما طال مقامه اشتاق إلى أهله، فدخل إليه فأنشده:

ينشد عبد اللّه بن طاهر شعرا يطلب به أن يأذن له في الرحيل:

راعه الشيب إذ نزل *** و كفاه من العذل

و انقضت مدة الصبا *** فانقضى اللهو و الغزل

قد لعمري دملته *** بخضاب فما اندمل

ص: 234


1- تله للوجه: كبه له.

فابك للشيب إذ بدا *** لا على الرّبع و الطلل

وصل اللّه للأمير *** عرا الملك فاتصل

ملك عزمه الزما *** ن و أفعاله الدول

كسرويّ بمجده *** يضرب الضارب المثل

و إلى ظلّ عزّه(1) *** يلجأ الخائف الوجل

كلّ خلق سوى الإما *** م لإنعامه خول

ليته حين جاد لي *** بالغنى جاد بالقفل

قال: فضحك و قال: أبيت إلاّ أن توحشنا. و أجزل صلته، و أذن له.

ينشد حميدا الطوسي شعرا في أول رمضان:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال: حدّثني أبو وائلة السدوسيّ قال:

دخل عليّ بن جبلة العكوّك على حميد الطوسيّ في أول يوم من شهر رمضان، فأنشده:

/جعل اللّه مدخل الصوم فوزا *** لحميد و متّعه في البقاء

فهو شهر الربيع للقرّاء *** و فراق النّدمان و الصهباء

و أنا الضامن المليّ (2) لمن عا *** قرها مفطرا بطول الظّماء

و كأني أرى النّدامى على الخسف *** يرجّون صبحهم بالمساء

قد طوى بعضهم زيارة بعض *** و استعاضوا مصاحفا بالغناء

يقول فيها:

بحميد و أين مثل حميد *** فخرت طيّ ء على الأحياء

جوده أظهر السماحة في الأر *** ض و أغنى المقوي عن الإقواء(3)

ملك يأمل العباد نداه *** مثل ما يأملون قطر السماء

صاغه اللّه مطعم الناس في الأر *** ض و صاغ السحاب للإسقاء

ينشد حميدا الطوسي شعرا ثاني شوال:

قال: فأمر له بخمسة آلاف درهم، و قال: استعن بهذه على نفقة صومك. ثم دخل إليه ثاني شوال، فأنشده:

علّلاني بصفو ما في الدّنن *** و اتركا ما بقوله العاذلان

و اسبقا فاجع المنيّة بالعيش فكلّ على الجديدين فإني

ص: 235


1- ف: «إلى عز ظله».
2- مو، مم: «الكفيل».
3- المقوي: الفقير.

علّلاني بشربة تذهب *** الهمّ و تنفي طوارق الأحزان

و انفثا(1) في مسامع سدّها الصو *** م رقى الموصليّ أو دحمان

قد أتانا شوال فاقتبل العي *** ش و أعدى(2) قسرا على رمضان

نعم عون الفتى على نوب الدهر *** سماع القيان و العيدان

/و كئوس تجري بماء كروم *** و مطيّ الكئوس أيدي القيان

من عقار تميت كلّ احتشام *** و تسرّ النّدمان بالنّدمان

و كأنّ المزاج يقدح منها *** شررا في سبائك العقيان

فاشرب الراح و اعص من لام فيها *** إنها نعم عدة الفتيان

و اصحب الدهر بارتحال و حلّ *** لا تخف ما يجرّه الحادثان

حسب مستظهر على الدهر ركنا *** بحميد ردءا من الحدثان

ملك يقتني المكارم كنزا *** و تراه من أكرم الفتيان

خلقت راحتاه للجود و ألبا *** س و أمواله لشكر اللسان

ملّكته على العباد معدّ *** و أقرّت له بنو قحطان

أريحيّ الندى جميل المحيّا *** يده و السماح(3) معتقدان(4)

وجهه مشرق إلى معتفيه *** و يداه بالغيث تنفجران

جعل الدهر بين يوميه قسم *** ين بعرف جزل و حرّ طعان

فإذا سار بالخميس لحرب *** كلّ عن نصّ جريه الخافقان

و إذا ما هززته لنوال *** ضاق عن رحب صدر الأفقان

غيث جدب إذا أقام ربيع *** يتغشى بالسّيب كلّ مكان

يا أبا غانم بقيت على الدهر *** و خلّدت ما جرى العصران

ما نبالي إذا عدت المنايا *** من أصابت بكلكل و جران

قد جعلنا إليك بعث المطايا *** هربا من زماننا الخوّان

/و حملنا الحاجات فوق عتاق *** ضامنات حوائج الرّكبان

ليس جود وراء جودك ينتا *** ب و لا يعتفي لغيرك عاني

فأمر له بعشرة آلاف درهم، و قال: تلك كانت للصوم، فخفّفت و خففنا، و هذه للفطر، فقد زدتنا و زدناك.

ص: 236


1- كذا في أ، ج. و في ب، س: «ألقيا»، تحريف.
2- أعدي: نصر و أعان.
3- كذا في أ، ج، مد. و في س: «السماء».
4- معتقدان: معقودان.
«احب» جارية و أحبته على قبح وجهه:

أخبرني عمي قال: حدثنا أحمد بن الطيب السّرخسيّ قال: حدثنا ابن أخي عليّ بن جبلة العكوّك - قال أحمد:

و كان عليّ جارنا بالربض(1) هو و أهله، و كان أعمى و به وضح. و كان يهوى جارية أديبة ظريفة شاعرة و كانت تحبّه هي أيضا على قبح وجهه و ما به من الوضح، حدّثني بذلك عمرو بن بحر الجاحظ.

قال عمرو: و حدّثني العكوّك أن هذه الجارية زارته يوما و أمكنته من نفسها حتى افتضّها. قال، و ذلك عنيت في قولي:

و دم أهدرت من رشإ *** لم يرد عقلا على هدره

و هي القصيدة الّتي مدح بها أبا دلف، يعني بالدم: دم البضع(2).

يستأذن على حميد الطوسي فيمتنع، ثم يأذن له فيمدحه:

قال: ثم قصدت حميدا بقصيدتي الّتي مدحته بها، فلما استؤذن لي عليه أبي أن يأذن لي، و قال: قولوا له: أيّ شيء أبقيت لي بعد قولك في أبي دلف:

إنما الدنيا أبو دلف *** بين مبداه و محتضره

/فإذا ولّى أبو دلف *** ولت الدنيا على أثره

فقلت للحاجب: قل للّه: الّذي قلت فيك أحسن من هذا، فإن وصّلتني سمعته، فأمر بإيصالي، فأنشدت قولي فيه:

/إنما الدنيا حميد *** و أياديه الجسام

فإذا ولّى حميد *** فعلى الدنيا السّلام

فأمر بمائتي دينار، فنثرتها في حجر عشيقتي، ثم جئته بقصيدتي الّتي أقول فيها:

دجلة تسقي و أبو غانم *** يطعم من تسقي من الناس

فأمر لي بمائتي دينار.

شعره حين غضبت عليه الجارية الّتي أحبها:

حدّثني عمي قال: حدّثني أحمد بن الطيب قال: حدّثني ابن أخي عليّ بن جبلة أيضا: أن عمه عليّا كان يهوى جارية، و هي هذه القينة، و كانت له مساعدة، ثم غضبت عليه، و أعرضت عنه، فقال فيها:

تسيء و لا تستنكر السوء إنها *** تدلّ بما تتلوه عندي و تعرف

فمن أين ما استعطفتها لم ترقّ لي *** و من أين ما جربت صبري يضعف

ينشد لنفسه أقبح ما قيل في ترك الضيافة:

أخبرني حبيب بن نصر قال: حدثنا عمر بن شبة قال:

تذاكرنا يوما أقبح ما هجي به الناس في ترك الضيافة و إضاعة الضيف، فأنشدنا عليّ بن جبلة لنفسه:

ص: 237


1- هو ربض حرب. و يعرف بالحربية، محلة ببغداد.
2- البضع: الفرج.

أقاموا الدّيدبان على يقاع *** و قالوا لا تنم للدّيدبان

فإن آنست شخصا من بعيد *** فصفّق بالبنان على البنان

تراهم خشية الأضياف خرسا *** و يأتون الصلاة بلا أذان

يمدح حميدا الطوسي فيعطيه ألف دينار كان أمر بالتصدّق بها:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أبي قال: حدّثني وهب بن سعيد المروزيّ، كاتب حميد الطوسيّ، قال:

جئت حميدا في أول يوم من شهر رمضان، فدفع إليّ كيسا فيه ألف دينار، /و قال: تصدّقوا بهذه. و جاءه ابنه أصرم فسلّم عليه و دعا له، ثم قال له: خادمك عليّ بن جبلة بالباب، فقال: و ما أصنع به؟ جئتني به يا بني تقابلني بوجهه في أول يوم من هذا الشهر. فقال: إنه يجيد فيك القول. قال: فأنشدني بيتا مما تستجيد له: فأنشده قوله:

حيدي حياد(1) فإنّ غزوة جيشه *** ضمنت لجائلة السباع عيالها

فقال: أحسن. ائذنوا له، فدخل فسلّم، ثم أنشده قوله:

إن أبا غانم حميدا *** غيث على المعتفين هامي

صوّره اللّه سيف حتف *** و باب رزق على الأنام

يا مانع الأرض بالعوالي *** و النّعم الجمة العظام

ليس من السّوء في معاذ *** من لم يكن منك في ذمام

و ما تعمّدت فيك وصفا *** إلا تقدّمته أمامي

فقد تناهت بك المعالي *** و انقطعت مدة الكلام

أجدّ شهرا و أبل شهرا *** و اسلم على الدهر ألف عام

/قال: فالتفت إليّ حميد، و قال: أعطه ذلك الألف الدينار حتى يخرج للصدقة غيره.

يستشفع بحميد الطوسي إلى أبي دلف و كان غضب عليه:

حدّثني عمي قال: حدّثني يعقوب بن إسرائيل قال: حدّثني أبو سهيل عن سالم مولى حميد الطّوسيّ قال:

جاء عليّ بن جبلة إلى حميد الطوسيّ مستشفعا به إلى أبي دلف - و قد كان غضب عليه و جفاه - فركب معه إلى أبي دلف شافعا، و سأله في أمره، فأجابه و اتصل الحديث/بينهما و عليّ بن جبلة محجوب، فأقبل على رجل إلى جانبه و قال: اكتب ما أقول لك، فكتب:

لا تتركنّي بباب الدار مطّرحا *** فالحر ليس عن الأحرار يحتجب

هبنا بلا شافع جئنا و لا سبب *** أ لست أنت إلى معروفك السبب؟

ص: 238


1- حيدي حياد: أمر بالحيدودة و الروغان، يقولونه في الحرب خطابا للخيل المغيرة، ألا تلزم جانبا واحدا، حتى لا يجد هارب مهربا، و لا متحصن ملجأ. و نظيره: فيحي فياح، أي انتشري و تفرّقي هنا و هناك.

قال: فأمر بإيصاله إليه، و رضي عنه و وصله.

يخشاه المخزومي أن ينشد شعرا في حضرته:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدّثني أحمد بن مروان قال: حدّثني أبو سعيد المخزوميّ قال:

دخلت على حميد الطوسيّ، فأنشدته قصيدة مدحته بها و بين يديه رجل ضرير، فجعل لا يمرّ ببيت إلا قال:

أحسن قاتله اللّه! أحسن ويحه! أحسن للّه أبوه! أحسن أيها الأمير. فأمر لي حميد ببدرة، فلما خرجت قام إليّ البوابون، فقلت: كم أنتم؟ عرّفوني أولا من هذا المكفوف الّذي رأيته بين يدي الأمير؟ فقالوا: عليّ بن جبلة العكوّك فارفضضت عرقا. و لو علمت أنه عليّ بن جبلة لما جسرت على الإنشاد بين يديه.

لا يأذن له المأمون في مدحه إلاّ بشرط، فيختار الإقالة:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال:

كلّم حميد الطوسيّ المأمون في أن يدخل عليه عليّ بن جبلة، فيسمع منه مديحا مدحه به، فقال: و أيّ شيء يقوله فيّ بعد قوله في أبي دلف:

إنما الدنيا أبو دلف *** بين مغزاه و محتضره

فإذا ولّى أبو دلف *** ولّت الدنيا على أثره

/و بعد قوله فيك:

يا واحد العرب الّذي *** عزّت بعزته العرب

أحسن أحواله أن يقول فيّ مثل ما قاله في أبي دلف، فيجعلني نظيرا له. هذا إن قدر على ذلك و لم يقصر عنه، فخيّروه بين أن أسمع منه، فإن كان مدحه إياي أفضل من مدحه أبا دلف وصلته، و إلا ضربت عنقه أو قطعت لسانه، و بين أن أقيله و أعفيه من هذا و ذا. فخيّروه بذلك، فاختار الإقالة.

يمدح حميد الطوسي بخير من مدحه أبا دلف:

ثم مدح حميدا الطوسيّ، فقال له:

و ما عساك أن تقول فيّ بعد ما قلته في أبي دلف، فقال: قد قلت فيك خيرا من ذلك. قال: هات، فأنشده:

دجلة تسقي و أبو غانم *** يطعم من تسقي من النّاس

النّاس جسم و إمام الهدى *** رأس و أنت العين في الراس

فقال له حميد: قد أجدت، و لكن ليس هذا مثل ذلك، و وصله.

يرثي حميدا الطوسي:

قال أحمد بن عبيد، ثم مات حميد الطوسي، فرثاه عليّ بن جبلة، فلقيته، فقلت له: أنشدني مرثيتك حميدا، فأنشدني:

ص: 239

نعاء(1) حميدا للسرايا إذا غدت *** تذاد بأطراف الرماح و توزع

حتى أتى على آخرها.

لا يبلغ شأو الخريمي في رثاه أبي الهيذام:

فقلت له: ما ذهب على النحو الّذي نحوته يا أبا الحسن، و قد قاربته و ما بلغته. فقال: و ما هو؟ فقلت: أردت قول الخريمي(2) في مرثيته أبا الهيذام:

/و أعددته ذخرا لكل ملمة *** و سهم المنايا بالذخائر مولع

/فقال: صدقت و اللّه، أما و اللّه لقد نحوته و أنا لا أطمع في اللّحاق به، لا و اللّه و لا امرؤ القيس لو طلبه و أراده ما كان يطمع أن يقاربه في هذه القصيدة.

هربه من المأمون و قد طلبه لتفضيله أبا دلف عليه و على آله:

أخبرني عمي قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال: حدّثني ابن أبي حرب الزعفرانيّ، قال:

لما بلغ المأمون قول عليّ بن جبلة لأبي دلف:

كلّ من في الأرض من عرب *** بين باديه إلى حضره

مستعير منك مكرمة *** يكتسيها يوم مفتخره

غضب من ذلك، و قال: اطلبوه حيث كان، فطلب فلم يقدر عليه، و ذلك أنه كان بالجبل، فلما اتصل به الخبر هرب إلى الجزيرة، و قد كانوا كتبوا إلى الآفاق في طلبه، فهرب من الجزيرة أيضا، و توسط الشام فظفروا به، فأخذوه، و حملوه إلى المأمون، فلما صار إليه قال له: يا بن اللّخناء(3)، أنت القائل للقاسم بن عيسى:

كلّ من في الأرض من عرب *** بين باديه إلى حضره

مستعير منك مكرمة *** يكتسيها يوم مفتخره

جعلتنا ممن يستعير المكارم منه! فقال له: يا أمير المؤمنين، أنتم أهل بيت لا يقاس بكم أحد، لأن اللّه جل و عزّ فضلكم على خلقه، و اختاركم لنفسه. و إنما عنيت بقولي في القاسم أشكال القاسم و أقرانه، فقال: و اللّه ما استثنيت أحدا عن الكلّ، سلّوا لسانه من قفاه.

أمر المأمون أن يسل لسانه لكفره في شعره:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن موسى قال: و حدّثني أحمد بن أبي فنن: أن المأمون لما أدخل عليه عليّ بن جبلة قال له: إني لست أستحلّ دمك لتفضيلك/أبا دلف على العرب كلّها و إدخالك في ذلك قريشا - و هم آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عترته - و لكني أستحلّه بقولك في شعرك و كفرك حيث تقول القول الّذي أشركت فيه:

أنت الّذي تنزل الأيام منزلها *** و تنقل الدهر من حال إلى حال

و ما مددت مدى طرف إلى أحد *** إلا قضيت بأرزاق و آجال

ص: 240


1- نعاء حميدا: انعه: و أظهر خبر موته.
2- في ب، س: «الخزيمي»، تحريف.
3- اللخناء: الّتي لم تختن.

كذبت يا ماصّ بظر أمه، ما يقدر على ذلك أحد إلا اللّه - عز و جل - الملك الواحد القهار. سلّوا لسانه من قفاه.

صوت

لا بد من سكرة على طرب *** لعل روحا يدال من كرب

- و يروى:

لعل روحا يديل من كرب

- و هو أصوب:

فعاطنيها صهباء صافية *** تضحك من لؤلؤ على ذهب

خليفة اللّه أنت منتخب *** لخير أمّ من هاشم و أب

أكرم بأصلين أنت فرعهما *** من الإمام المنصور في النسب

الشعر للتيميّ، و الغناء لسليم بن سلاّم، خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو، و فيها لنظم العمياء خفيف رمل بالبنصر عن الهشاميّ.

ص: 241

3 - أخبار التيميّ و نسبه

اسمه و ولاؤه و صفته:

هو عبد اللّه بن أيوب، و يكنى أبا محمد مولى بني تميم ثم مولى بني سليم. ذكر ذلك ابن النطاح، و كان له أخ يقال له أبو التّيحان، و كلاهما كان شاعرا، و هما من أهل الكوفة، و هما من شعراء الدولة العباسية. أحد الخلعاء المجّان الوصّافين للخمر، و كان صديقا لإبراهيم الموصليّ و ابنه إسحاق، و نديما لهما، ثم اتصل بالبرامكة و مدحهم، و اتصل بيزيد بن مزيد فلم يزل منقطعا إليه حتى مات يزيد.

أكثر شعره في وصف الخمر:

و استنفد شعره أو أكثره في وصفه الخمر، و هو الّذي يقول:

شربت من الخمر يوم الخميس *** بالكاس و الطاس و القنقل(1)

فما زالت الكأس تغتالنا *** و تذهب بالأول الأول

إلى أن توافت صلاة العشا(2) *** و نحن من السكر لم نعقل

فمن كان يعرف حق الخميس *** و حقّ المدام فلا يجهل

و ما إن جرت بيننا مزحة *** تهيج مراء على السلسل

و هو القائل:

و لن أنتهي عن طيّب الراح أو يرى *** بوادي عظامي في ضريحي لاحد

أضعت شبابي في الشراب تلذّذا *** و كنت امرأ غرّ الشباب أكابد(3)

رواية أخرى في ولائه:

أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ قال: حدّثني أبو العيناء عن محمد بن عمر، قال:

/أبو محمد التيميّ اسمه عبد اللّه بن أيوب مولى بني تميم.

يرثي ابنا له يقال له: حبان:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار عن محمد بن داود بن الجراح قال: قال دعبل:

كان للتيميّ أبي محمد ابن يقال له حبّان، و مات هو حديث السن، فجزع عليه، و قال يرثيه:

ص: 242


1- القنقل: المكيال الضخم.
2- ف، مو: «العشاء» بإثبات الهمزة، و كلاهما صحيح.
3- ف: «عند الشراب»، و في أ، م: «عمري الشراب».
صوت

أودى بجبّان ما لم يترك الناسا *** فامنح فؤادك من أحبابك(1) الياسا

لما رمته المنايا إذ قصدن له *** أصبن مني سواد القلب و الراسا

و إذ يقول لي العوّاد إذ حضروا *** لا تأس أبشر أبا حبان لا تاسى(2)

فبت أرعى نجوم الليل مكتئبا *** إخال سنّته(3) في الليل قرطاسا

غنى في الأول و الرابع من هذه الأبيات حكم الوادي، و لحنه رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و أول هذه القصيدة:

يا دير هند لقد أصبحت لي أنسا *** و ما عهدتك لي يا دير مئناسا

و هي مشهورة من شعره.

يجيز بيتا لإسحاق عجز عن إتمامه:
اشارة

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: قلت:

وصف الصدّ لمن أهوى فصدّ

/ثم أجبلت(4)، فمكثت عدة ليال لا يستوى لي تمامه. فدخل عليّ التيميّ فرآني مفكرا، فقال لي: ما قصتك؟ فأخبرته، فقال:

و بدا يمزح بالهجر فجدّ

ثم أتممتها. فقلت:

ما له يعدل عني وجهه *** و هو لا يعدله عندي أحد؟

و خرجت إلى مدح الفضل بن الربيع، فقلت:

/قد أرادوا غرّة الفضل و هل *** تطلب الغرّة في خيس الأسد

ملك ندفع ما نخشى به *** و به يصلح منّا ما فسد

يفعل الناس إذا ما وعدوا *** و إذا ما فعل الفضل وعد

- لإسحاق في هذا الشعر صنعة، و نسبتها:

صوت

وصف الصدّ لمن نهوى فصد *** و بدا يمزح بالهجر فجد

ص: 243


1- ف: في «أحبابك».
2- ف: «لا بأس أبشر أبا حيان لا باسا».
3- سنته: وجهه، أو جبهته.
4- كذا في ج، أي صعب على القول و في ب، س: «أحلت».

ما له يعدل عني وجهه *** و هو لا يعدله عندي أحد؟

الشعر و الغناء لإسحاق، خفيف رمل بالبنصر، و له فيه أيضا ثقيل أول، و فيه لزكريا بن يحيى بن معاذ هزج بالبنصر عن الهشامي و غيره. قال الهشاميّ: و قيل إن الهزج لإسحاق، و خفيف الرمل لزكريا.

اشترك هو و إسحاق في البيتين السابقين:

أخبرني جحظة عن علي بن يحيى المنجم عن إسحاق قال:

اشتركت أنا و أبو محمد التيميّ في هذا الشعر:

/وصف الصد لمن نهوى فصد

و ذكر البيتين.

يطلب الرشيد إنشاء مرثيته في يزيد بن مزيد:

أخبرني عمي قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن طهمان قال: حدّثني محمد الراوية الّذي يقال له البيذق و كان يقرأ شعر المحدثين على الرشيد - قال:

قال لي الرشيد يوما: أنشدني مرثية مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة التي يقول فيها:

كأن الشمس يوم أصيب معن *** من الإظلام ملبسة جلالا

هو الجبل الّذي كانت معدّ *** تهدّ من العدوّ به الجبالا

أقمنا باليمامة بعد معن *** مقاما لا نريد به زيالا

و قلنا أين نذهب بعد معن *** و قد ذهب النوال فلا نوالا

قال: فأنشدته إياها، ثم قال لي، أنشدني قصيدة أبي موسى التيميّ في مرثية يزيد ابن مزيد، فهي و اللّه أحب إليّ من هذه، فأنشدته:

أحقّ أنه أودى يزيد *** تبيّن أيها الناعي المشيد

أ تدري من نعيت و كيف فاهت *** به شفتاك، كان بك الصعيد

أحامي المجد و الإسلام أودى *** فما للأرض ويحك لا تميد!

تأمل هل ترى الإسلام مالت *** دعائمه و هل شاب الوليد!

و هل شيمت سيوف بني نزار *** و هل وضعت عن الخيل اللّبود!

و هل تسقي البلاد عشار(1) مزن *** بدرّتها و هل يخضرّ عود!

/أ ما هدت لمصرعه نزار *** بلى و تقوّض المجد المشيد

و حلّ ضريحه إذ حلّ فيه *** طريف المجد و الحسب التليد

أما و اللّه ما تنفك عيني *** عليك بدمعها أبدا تجود

ص: 244


1- العشار في الأصل: النوق الحديثات النتاج، جمع عشراء.

فإن تجمد دموع لئيم قوم *** فليس لدمع ذي حسب جمود

أبعد يزيد تختزن البواكي *** دموعا أو تصان لها خدود؟

/لتبكك قبة الإسلام لما *** وهت أطنابها و وهي العمود

و يبكك شاعر لم يبق دهر *** له نشبا و قد كسد القصيد

فمن يدعو الإمام لكل خطب *** ينوب و كلّ معضلة تئود؟

و من يحمي الخميس إذا تعايا *** بحيلة نفسه البطل النجيد؟

فإن يهلك يزيد فكلّ حيّ *** فريس للمنية أو طريد

أ لم تعجب له أن المنايا *** فتكن به و هنّ له جنود؟

قصدن له و هنّ يحدن عنه *** إذا ما الحرب شبّ لها وقود

لقد عزّى ربيعة أن يوما *** عليها مثل يومك لا يعود

قال: فبكى هارون الرشيد بكاء اتسع فيه حتى لو كانت بين يديه سكرّجة(1) لملأها من دموعه.

يجيز شعرا للأمين:

أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا محمد بن عمر قال:

خرج كوثر خادم محمد الأمين ليرى الحرب، فأصابته رجمة في وجهه، فجلس يبكي، فوجّه محمد من جاءه به، و جعل يمسح الدم عن وجهه، و قال:

ضربوا قرة عيني *** و من أجلي ضربوه

أخذ اللّه لقلبي *** من أناس أحرقوه

/قال: و أراد زيادة في الأبيات فلم يواته، فقال للفضل بن الربيع: من هاهنا من الشعراء، فقال:

الساعة رأيت عبد اللّه بن أيوب التيميّ، فقال: عليّ به. فلما أدخل أنشده محمد هذين البيتين، و قال: أجزهما، فقال:

ما لمن أهوى شبيه *** فبه الدنيا تتيه

وصله حلو و لكن *** هجره مرّ كريه

من رأى الناس له الفض *** ل عليهم حسدوه

مثل ما قد حسد القا *** ئم بالملك أخوه

فقال محمد: أحسنت، هذا و اللّه خير مما أردنا، بحياتي عليك يا عباسي(2) إلاّ نظرت، فإن جاء على الظّهر ملأت أحمال ظهره دراهم، و إن كان جاء في زورق ملأته. فأوقرت له ثلاثة أبغل دراهم.

ص: 245


1- السكرجة: الصحفة يوضع فيها الأكل.
2- ب، س: «يا عباس»، و المراد بالعباسيّ هنا الفضل بن الربيع
يلجأ إلى الفضل بن سهل ليوصله إلى المأمون، فيمدحه، و يعفو المأمون عنه:

قال محمد بن يحيى: فحدّثني الحسن بن عليل العنزيّ قال: حدّثني محمد بن إدريس قال:

لما قتل محمد الأمين خرج إلى أبو محمد التيميّ إلى المأمون و امتدحه، فلم يأذن له، فصار إلى الفضل بن سهل و لجأ إليه و امتدحه، فأوصله إلى المأمون. فلما سلّم عليه قال له المأمون: إيه يا تيميّ.

مثل ما قد حسد القا *** ئم بالملك أخوه

فقال التيميّ: بل أنا الّذي أقول يا أمير المؤمنين:

نصر المأمون عبد الل *** ه لما ظلموه

نقضوا العهد الّذي كا *** نوا قديما أكّدوه

لم يعامله أخوه *** بالذي أوصى أبوه

ثم أنشده قصيدة له امتدحه بها أولها:

//جزعت ابن تيم أن أتاك مشيب *** و بان الشباب(1) و الشباب حبيب

قال: فلما أنشده إياها و فرغ منها قال: قد وهبتك للّه - عز و جل - و لأخي العباسيّ - يعني الفضل بن سهل - و أمرت لك بعشرة آلاف درهم.

ينشد الأمين أبياتا فيأمر له بمائتي ألف درهم:

أخبرني محمد بن يحيى قال: حدّثني عون بن محمد الكنديّ قال: حدّثني عبّاد(2) ابن محمد الكاتب عن أبي محمد التيميّ الشاعر قال:

أنشدت الأمين محمدا أول ما ولى الخلافة قولي:

لا بدّ من سكرة على طرب *** لعل روحا يديل من كرب

الأبيات المذكورة في الغناء. قال، فأمر لي بمائتي ألف درهم، صالحوني منها على مائة ألف درهم.

يدخل على الأمين فيتمنى أن يكون له مثل مدح أنشده إياه، فيمدحه بقصيدة:

و أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدّثني محمد(3) بن يحيى المنجّم قال: و حدّثني حسين ابن الضحاك قال: قال لي أبو محمد التّيميّ:

دخلت على محمد الأمين أوّل ما ولي الخلافة، فقال: يا تيميّ، وددت أنه قيل فيّ مثل قول طريح بن إسماعيل في الوليد بن يزيد:

طوبى لفرعيك من هنا و هنا *** طوبى لأعراقك الّتي تشج(4)

ص: 246


1- ف، مو، مم: «و بان شباب».
2- ف مم،: «غسان بن محمد».
3- ف، مو: «على بن يحيى».
4- تشج: تمتد و تشتبك.

فإني و اللّه أحق بذلك منه، فقلت: أنا أقول ذلك يا أمير المؤمنين، ثم دخلت إليه من غد فأنشدته قصيدتي:

/لا بد من سكرة على طرب *** لعل روحا يديل من كرب

حتى انتهيت إلى قولي:

أكرم بفرعين يجريان به *** إلى الإمام المنصور في النسب

فتبسّم، ثم قال لي: يا تيمي قد أحسنت، و لكنه كما قيل: مرعى و لا كالسّعدان، ثم التفت إلى الفضل بن الربيع فقال: بحياتي أو قر له زورقه مالا. فقال: نعم يا سيدي. فلما خرجت طالبت الفضل بذلك، فقال: أنت مجنون؟ من أين لنا ما يملأ زورقك؟ ثم صالحني على مائة ألف درهم.

يمدح الفضل بن يحيى فيأمر له بخمسة آلاف درهم:

أخبرني وكيع قال: حدّثني ابن إسحاق قال: حدّثني أبي قال:

كنت على باب الفضل بن يحيى، فأتاني التيميّ الشاعر بقصيدة في قرطاس، و سألني أن أوصلها إلى الفضل، فنظرت فيها ثم خرقت القرطاس، فغضب أبو محمد و قال لي: أ ما كفاك أن استخففت بحاجتي؟ منعتني أن أدفعها إلى غيرك. فقلت له: أنا خير لك من القرطاس، ثم دخلت إلى الفضل، فلما تحدثنا قلت له: معي هدية و صاحبها بالباب؛ و أنشدته، فقال: كيف حفظتها؟ قلت: الساعة دفعها إليّ على الباب، فحفظتها. فقال: دع ذا الآن. فقلت له: فأدخله، فأدخل، فسأله عن القصة فأخبره. فقال: أنشدني شيئا من شعرك ففعل، و جعلت أردد أبياته، و جعلت أشيّعها بالاستحسان، ثم خرج التيميّ فقلت: خذ في حاجة الرجل، فقال: أمّا إذا عنيت به فقد أمرت له بخمسة آلاف درهم. فقلت له: أمّا إذ أقللتها فعجّلها، فأمر بها فأحضرت. فقلت له: أ ليس لإعناتك إياي ثمن؟ قال: نعم.

قلت فهاته. قال: لا أبلغ بك في الإعنات ما بلغت بالشاعر في المديح. فقلت: فهات ما شئت، فأمر بثلاثة آلاف درهم، فضممتها إلى الخمسة الآلاف، /و وجّهت بها إليه.

يسكر هو و أخوه و ابن عم له، و ينظم في ذلك شعرا بعد انصرافهم:
اشارة

و ذكر أحمد بن طاهر عن أبي هفّان عن إسحاق قال: كان التيمي و أخوه أبو التّيّحان و ابن عم له يقال له:

قبيصة يشرون في حانة حتى سكروا و انصرفوا من غد، فقال التيميّ يذكر ذلك و يتشوق مثله:

صوت

هل إلى سكرة بناحية الح *** يرة شنعاء يا قبيص سبيل

و أبو التّيحان في كفّه القر *** عة و الرأس فوقه إكليل

و عرار كأنه بيذق الشّطر *** نج يفتن فيه قال و قيل(1)

الشعر للتيمي و الغناء لمحمد بن الأشعث، رمل بالوسطى.

يشتري ضيعة بجائزة له من الأمين:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا أبو العيناء عن أبي العالية، قال:

ص: 247


1- ستأتي هذه الأبيات مخالفة في روايتها هنا بعض الخلاف.

أمر محمد الأمين لعبد اللّه بن أيوب بجائزة عشرة آلاف دينار ثوابا عن بعض مدائحه، فاشترى بها ضيعة بالبصرة، و قال بعد ابتياعه إياها:

إني اشتريت بما وهبت ليه *** أرضا أمون بها قرابتيه

فبحسن وجهك حين أسأل قل *** يا بن الربيع احمل إليه ميه

فغنّى بها الأمين، فقال للفضل: بحياتي يا عباسي، احمل إليه مائة ألف، فدعا به فأعطاه خمسين ألفا، و قال له: الخمسون الأخر لك عليّ إذا اتسعت أيدينا.

يعشق جارية، و يسأل ثمنها فيعطيه المأمون إياه فيشتريها:

أخبرني الحسن، قال: حدّثني أبو العيناء، عن أبي العالية قال:

عشق التيميّ جارية لبعض النخاسين، فشكا وجده بها إلى أبي عيسى بن الرشيد، فقال أبو عيسى للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن التيميّ يجد بجارية لبعض النخاسين، و قد كتب إليّ بيتين يسألني فيهما ثمنها، فقال: و ما هما؟ فقال:

/يا أبا عيسى إليك المشتكى *** و أخو الصبر إذا عيل شكا

ليس لي صبر على فقدانها *** و أعاف المشرب المشتركا

قال: فأمر له بثلاثين ألف درهم فاشتراها بها(1).

يمدح الفضل بن الربيع يوم عيد فيعطيه عشرة آلاف درهم:

أخبرني الحسن قال: حدّثني أبو العيناء عن أبي العالية قال: دخل التيميّ إلى الفضل بن الربيع في يوم عيد فأنشده:

ألا إنما آل الربيع ربيع *** و غيث حيا للمرملين مريع

إذا ما بدا آل الربيع رأيتهم *** لهم درج فوق العباد رفيع

فأمر له بعشرة آلاف درهم.

يمدح الفضل بن يحيى بثلاثة أبيات فيعطيه ثلاثة آلاف درهم:

أخبرني عيسى بن الحسن قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثنا الزبير بن بكار قال:

مدح أبو محمد التيميّ بن يحيى بثلاثة أبيات و دفعها إلى إسحاق الموصليّ، فعرضها على الفضل بن يحيى، فأمر له بثلاثة آلاف درهم، و الأبيات:

لعمرك ما الأشراف في كل بلدة *** و إن عظموا للفضل إلاّ صنائع

ترى عظماء الناس للفضل خشّعا *** إذا ما بدا و الفضل للّه خاشع

تواضع لمّا زاده اللّه رفعة *** و كلّ جليل عنده متواضع

ص: 248


1- هذا الخبر ساقط من ب، س و قد أثبتناه عن ف، مم، مو.
يسمع كتابا للحجاج إلى قتيبة بن مسلم فينظم شعرا يضمنه معناه:

أخبرني جحظة قال: حدّثني عليّ بن يحيى المنجم قال: حدّثني إسحاق الموصليّ عن محمد بن سلام قال:

كتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم: إني قد نظرت في سنّي، فإذا أنا ابن ثلاث و خمسين سنة، و أنا و أنت لدة عام. و إن امرأ قد سار إلى منهل خمسين سنة لقريب أن يرده، و السّلام.

/فسمع هذا أبو محمد التيمي منّي فقال:

إذا ذهب القرن الّذي أنت فيهم *** و خلّفت في قرن فأنت غريب

و إن امرأ قد سار خمسين حجة *** إلى منهل من ورده لقريب

يجيزه المأمون على مدح له في الأمين يذكر فيه الخمر:

حدّثني عمي قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، قال: حدّثني أبو دعامة عليّ بن يزيد قال: حدّثني التيميّ أبو محمد قال:

دخلت على الحسن بن سهل، فأنشدته مديحا في المأمون و مديحا فيه، و عنده طاهر بن الحسين، فقال له طاهر: هذا و اللّه أيها الأمير الّذي يقول في محمد المخلوع:

لا بدّ من سكرة على طرب *** لعل روحا يديل(1) من كرب

/خليفة اللّه خير منتخب *** لخير أم من هاشم و أب

خلافة اللّه قد توارثها *** آباؤه في سوالف الكتب

فهي له دونكم مورّثة *** عن خاتم الأنبياء في الحقب

يا بن الذّرا من ذوائب الشرف ال *** أقدم أنتم دعائم العرب

فقال الحسن: عرّض و اللّه ابن اللخناء بأمير المؤمنين، و اللّه لأعلمنّه. و قام إلى المأمون فأخبره، فقال المأمون: و ما عليه في ذلك، رجل أمّل رجلا فمدحه، و اللّه لقد أحسن بنا، و أساء إليه إذ لم يتقرب إليه إلاّ بشرب الخمر، ثم دعاني فخلع عليّ و حملني، و أمر لي بخمسة آلاف درهم.

ينشد أول شعر عرف به و وصل به إلى الخليفة:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أبو الشّبل البرجمي عن أبيه قال: قال لي أبو محمد التيميّ:

/أول شعر عرفت به فشاع فيه ذكرى و وصلت به إلى الخليفة قولي:

صوت

طاف طيف في المنام *** بمحبّ مستهام

زورة أبقت سقاما *** و شفت بعض السّقام

ص: 249


1- ف، مم، مو: «يدال».

لم يكن ما كان فيها *** من حرام بحرام

لم تكن إلا فواقا *** و هي في ليل التّمام

الغناء لإسحاق فقال: فصنع فيها إسحاق لحنا و غنى به الرشيد، فسأله عن قائل الشعر، فقال له: صديق لي شاعر ظريف، يعرف بالتيميّ، فطلبت و أمرت بالحضور، فسألت عن السبب الّذي دعيت له فعرفته، فأتممت الشعر و جعلته قصيدة مدحت بها هارون. و دخلت إليه فأنشدته إياها، فأمر له بثلاثين ألف درهم، و صرت في جملة من يدخل إليه بنوبة و أمر أن يدوّن شعري.

يجتاز بإسحاق الموصلي فيدعوه إلى طعام و شراب:

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدّثني عمي طيّاب بن إبراهيم الموصليّ قال: حدّثني أبو محمد التّيميّ الشاعر قال:

اجتزت يوما بأخيك إسحاق فقال: ادخل حتى أطعمك طعاما صرفا، و أسقيك شرابا صرفا و أغنيك غناء صرفا، فدخلت إليه، فأطعمني لحما مكبّبا، و شواء حارّا و باردا مبرّزا، و أسقاني شرابا عتيقا صرفا، و غنّاني وحده مرتجلا:

و لو أن أنفاسي أصابت بحرّها *** حديدا إذا كاد الحديد يذوب

و لو أن عيني أطلقت من وكائها(1) *** لما كان في عام الجدوب جدوب

/و لو أن سلمى تطلع الشمس دونها *** و أمسي وراء الشمس حين تغيب

لحدثت نفسي أن تريع(2) بها النوى *** و قلت لقلبي إنها لقريب

فلم تزل تلك حالي حتى حملت من بيته سكران(3).

يستأذن عمرو بن مسعدة في الإنشاد فيجعل الإذن لإسحاق الموصلي فيأذن:

أخبرني جحظة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال:

دخلت يوما على عمرو بن مسعدة، فإذا أبو محمد التّيميّ واقف بين يديه يستأذنه في الإنشاد، فقال: ذاك إلى أبي محمد - يعنيني - و كان على التّيمي عاتبا، فكره أن يمنعه لعلمه بما بيننا من المودة، فقلت له: أنشد إذ جعل الأمر إليّ، فأرجو أن يجعل أمر الجائزة أيضا إليّ. /فتبسم عمرو، و أنشده التيميّ:

يا أبا الفضل كيف تغفل(4) عني *** أم تخلّى عند الشدائد منّي؟

أنسيت الإخاء و العهد و الودّ *** حديثا ما كان ذلك ظني

أنا من قد بلوت في سالف ال *** دهر مضت شرّتي و لم تفن سني

ص: 250


1- الوكاء في الأصل: رباط القربة و غيرها.
2- تريع: ترجع.
3- في أ، ب، ج: «سكرا».
4- في ب، س: «تعقل»، تحريف.

فاصطنعني لما ينوب به الد *** هر فإني أجوز في كل فن

أنا ليث على عدوّك سلم لك *** في الحرب فابتذلني و صلني(1)

أنا سيف يوم الوغى و سنان *** و مجنّ إن لم تثق بمجن

أنا طبّ في الرأي في موضع الرأ *** ى معين على الخصيم المعنّ (2)

و أمين على الودائع و السرّ *** إذا ما هويت أن تأتمني

/قال: فأقبل عليّ عمرو و هو يضحك، و قال: أتعلّم هذا الغناء منك أم كان يعلمه(3) قديما؟ فقلت له: لم يكذب، أعزك اللّه. فقال: أ في هذا وحده أو في الجميع؟ فقلت: أما في هذا فأنا أحقّ كذبة، و اللّه أعلم بالباقي. ثم أنشده:

و إذا ما أردت حجّا فرحّا *** ل دليل إن نام كلّ ضفن(4)

فقال له: إذا عزمنا على الحج امتحناك في هذا، فإني أراك تصلح له، ثم أنشده:

و لبيب على مقال أبي العب *** اس إني أرى به مسّ جنّ

فقال: ما أراه أبعد، فقال:

و هو الناصح الشفيق و لكن *** خاف هيج الزمان(5) فازورّ عني

و ظريف عند المزاح خفيف *** في الملاهي و في الصبا متثن

كيف باعدت أو جفوت صديقا *** لا ملولا، لالا(6) و لا متجن

صرت بعد الإكرام و الأنس أرضى *** منك بالترّهات ما لم تهنّي

لم تخنّي و لم أخنك و لا و الل *** ه ربي لا خنت من لم يخنى

إن أكن تبت أو هجرت الملاهي *** و سلافا يجنها بطن دنّ

فحديثي كالدر فصّل باليا *** قوت يجري في جيد ظبي أغنّ

فأمر له بخمسة آلاف درهم، فقال له: هذا شيء تطوعت به، فأين موضع حكمي؟ فقال: مثلها، فانصرف بعشرة آلاف درهم.

يمر بخمار بالحيرة و قد أسن، فينشد شعرا في شربه عنده:
اشارة

أخبرني عمي قال: حدّثني محمد بن الحسن بن مسعود قال: حدّثني عليّ بن عمرو قال: /مرّ التيمي بالحيرة على خمّار كان يألفه، و قد أسن التيمي و أرعش، و ترك النبيذ. فقال له الخمار: ويحك! أبلغ بك الأمر إلى ما أرى؟

ص: 251


1- كذا في ب، س، ج. و في أ، مم، ف، مم: «و صني».
2- في هامش ف تعليق على هذا البيت نصه «يرمز لرجل يتدخل فيما لا يعنيه و يعرض نفسه في كل شيء».
3- كذا في ب، س. و في أ، ج: «تعلمه».
4- الضفن: الأحمق في عظم خلق.
5- ف، مم، مو: «المرار».
6- ف: «كلا» بدل «لالا».

فقال: نعم و اللّه، لو لا ذلك لأكثرت عندك. ثم أنشأ يقول:

صوت

هل إلى سكرة بناحية الح *** يرة يوما قبل الممات سبيل؟

و أبو التّيّحان في كفه القر *** عة و الرأس فوقه الإكليل

/و عرار كأنه يبذق الشّط *** رنج يفتن فيه قال و قيل(1)

في هذه الأبيات لمحمد بن الأشعث رمل بالوسطى عن الهشامي:

يهوى غلاما و يشغل الغلام عنه بهوى جارية فينظم في هذا شعرا:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل قال:

كان أبو محمد التيميّ يهوى غلاما، و كان الغلام يهوى جارية من جواري القيان، فكان بها مشغولا عنه، و كانت القينة تهوى الغلام أيضا فلا تفارقه، فقال التيميّ:

ويلي على أغيد ممكور(2) *** و ساحر ليس بمسحور

تؤثره الحور علينا كما *** نؤثره نحن على الحور

علّق من علّق فيه هوى(3) *** منتظم الألفة مغمور

و كل من تهواه في أمره *** مقلّب صفقة مقمور

يمدح الأمين فيأمر بملء زورقه دراهم:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا ابن أبي سعد قال: حدّثني أحمد بن محمد الفارسيّ قال: حدثنا غسان بن عبد اللّه عن أبي محمد التيميّ قال:

/لما أنشدت الأمين قولي فيه:

خليفة اللّه خير منتخب *** لخير أم من هاشم و أب

أكرم بعرقين يجريان به *** إلى الامام المنصور في النسب

طرب، ثم قال للفضل بن الربيع: بحياتي أوقر له زورقه دراهم، فقال: نعم يا سيدي: فلما خرجنا طالبته بذلك، فقال: أ مجنون أنت؟ من أين لنا ما يملأ زورقك؟ ثم صالحني على مائة ألف درهم، فقبضتها.

يقول شعرا ينهى فيه عن الخضوع لغير اللّه:
اشارة

أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه المدنيّ قال: حدّثني عبد اللّه بن أحمد التيميّ ابن أخت(4) أبي محمد التيميّ الشاعر، قال: أنشدني خالي(4) لنفسه قوله:

ص: 252


1- المثبت هنا رواية البيت كما وردت في الصفحة: 52 من هذا الجزء. و كانت روايته هنا. و عذار كأنه بيرق الشط مرنح يفتن فيه قال و قيل
2- الممكور: الحسن امتلاء الساقين.
3- ف، مو، مم: «علق من علقه في هوى».
4- ف، مم: «ابن أخي بدل «ابن أخت».،. و عمي بدل «خالي».

لا تخضعنّ (1)

لمخلوق على طمع *** فإن ذاك مضرّ منك بالدّين

و ارغب إلى اللّه مما في خزائنه *** فإنما هو بين الكاف و النون

أما ترى كلّ من ترجو و تأمله(2)*** من الخلائق مسكين ابن مسكين(3)

صوت

أ لم تر أنني أفنيت عمري *** بمطلبها و مطلبها عسير؟

فلما لم أجد سببا إليها *** يقرّبني و أعيتني الأمور

حججت و قلت قد حجّت جنان *** فيجمعني و إياها المسير

الشعر لأبي نواس، و الغناء للزّبير بن دحمان، رمل بالوسطى من رواية أحمد بن المكي و بذل، و غنّاني محمد بن إبراهيم قريض الجرحى - رحمه اللّه - فيه لحنا من خفيف الثقيل، فسألته عن صانعه فلم يعرف.

ص: 253


1- ف، مم، مو: «لا تضرعن».
2- ف: «تسأله».
3- ورد في ب، مو، بضع صفحات من أخبار رؤبة بن العجاج و هي مقحمة و تعتبر تكرارا لما ورد في الترجمة المستقلة لرؤبة.

4 - أخبار أبي نواس و جنان خاصة إذ كانت أخباره قد أفردت خاصة

صفات جنان و صدق أبي نواس في حبها:

كانت جنان هذه جارية آل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثّقفيّ المحدّث الّذي كان ابن مناذر يصحب ابنه عبد المجيد، و رثاه بعد وفاته، و قد مضت أخبارهما.

و كانت حلوة جميلة المنظر أديبة، و يقال: إن أبا نواس لم يصدق في حبّه امرأة غيرها.

حجت جنان فحج معها أبو نواس:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثني إسحاق بن محمد عن أبي هفّان عن أصحاب أبي نواس قالوا:

كانت جنان جارية حسناء أديبة عاقلة ظريفة، تعرف الأخبار، و تروي الأشعار قال اليؤيؤ: خاصة، و كانت لبعض الثقفيّين بالبصرة، فرآها أبو نواس فاستحلاها، و قال فيها أشعارا كثيرة، فقلت له يوما: إنّ جنان قد عزمت على الحج، فكان هذا سبب حجّة، و قال: أما و اللّه - لا يفوتني المسير معها و الحجّ عامي هذا إن أقامت على عزيمتها، فظننته عابثا مازحا، فسبقها و اللّه إلى الخروج بعد أن علم أنها خارجة، و ما كان نوى الحجّ، و لا أحدث عزمه له إلاّ خروجها، و قال و قد حج و عاد:

أ لم تر أنني أفنيت عمري *** بمطلبها و مطلبها عسير؟

فلما لم أجد سببا إليها *** يقرّبني و أعيتني الأمور

حججت و قلت قد حجّت جنان *** فيجمعني و إياها المسير

قال اليؤيؤ: فحدّثني من شهده لما حجّ مع جنان و قد أحرم، فلما جنه الليل جعل يلبي بشعر و يحدو و يطرّب، فغنّى به كل من سمعه، و هو قوله:

/إلهنا ما أعدلك! *** مليك كلّ من ملك

لبّيك قد لبّيت لك *** لبّيك إنّ الحمد لك

و الملك لا شريك لك *** و الليل لما أن حلك

و السابحات في الفلك *** على مجاري المنسلك

ما خاب عبد أمّلك *** أنت له حيث سلك

لولاك يا ربّ هلك *** كلّ نبيّ و ملك

و كلّ من أهلّ لك *** سبّح أو لبّى فلك

ص: 254

يا مخطئا ما أغفلك! *** عجّل و بادر أجلك

و اختم بخير عملك *** لبيك إن الملك لك

و الحمد و النعمة لك *** و العزّ لا شريك لك

«من شعرة فيها»

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا: حدّثنا عمر بن شبّة قال:

كانت جنان الّتي يذكرها أبو نواس جارية لآل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفيّ، و فيها يقول:

جفن عيني قد كاد ي *** سقط من طول ما اختلج

و فؤادي من حرّ حب *** ك و الهجر قد نضج

خبّريني فدتك نف *** سي و أهلي: متى الفرج؟

كان ميعادنا خرو *** ج زياد(1) فقد خرج

أنت من قتل عائذ *** بك في أضيق الحرج

تشهد عرسا فيراها فيرتجل فيها شعرا:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني إسحاق بن محمد النخعيّ قال: حدّثني الجمّاز قال ابن عمّار:

و حدّثني به قليب بن عيسى قال:

كانت جنان قد شهدت عرسا في جوار أبي نواس، فانصرفت منه و هو جالس معنا، فرآها فأنشدنا بديها قوله:

شهدت جلوة العروس جنان *** فاستمالت بحسنها النظارة

حسبوها العروس حين رأوها *** فإليها دون العروس الإشارة

قال أهل العروس حين رأوها *** ما دهانا بها سواك عمارة

قال: و عمارة زوج عبد الرحمن الثقفيّ، و هي مولاة جنان.

تغضب من كلام له فيرسل معتذرا فلا تحسن الرد فينظم شعرا:

أخبرني محمد بن يحيى بن الصّوليّ و محمد بن خلف قالا: حدثنا يزيد بن محمد المهلبيّ عن محمد بن عمر قال:

غضبت جنان من كلام كلمها به أبو نواس، فأرسل يعتذر إليها، فقالت للرسول: قل له: لا برح الهجران ربعك، و لا بلغت أملك من أحبّتك، فرجع إليه، فسأله عن جوابها، فلم يخبره فقال:

فديتك فيم عتبك من كلام *** نطقت به على وجه جميل؟

و قولك للرسول عليك غيري *** فليس إلى التواصل من سبيل

ص: 255


1- هو زياد بن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي (أخبار أبي نواس: 184).

فقد جاء الرسول له انكسار *** و حال ما عليها من قبول

و لو ردّت جنان مردّ خير *** تبين ذاك في وجه الرسول

يعاتبها حتى يستميلها:

/قال أبو خالد يزيد بن محمد: و كان أبو نواس صادقا في محبّة جنان من بين من كان ينسب به من النساء و يداعبه، و رأيت أصحابنا جميعا يصحّحون ذاك عنه، و كان/لها محبّا، و لم تكن تحبّه، فمما عاتبها به حتى استمالها بصحّة حبه لها فصارت تحبه بعد نبوّها عنه قوله:

جنان إن جدت يا مناي بما *** آمل لم تقطر السماء دما

و إن تمادي - و لا تماديت في *** منعك - أصبح بقفرة رمما(1)

علقت من لو أتى على أنفس الماضين و الغابرين ما ندما

لو نظرت عينه إلى حجر *** ولّد فيه فتورها سقما

يسأل امرأة عنها فتخبره أنها رحمته فيقول في ذلك شعرا:

أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد قال: حدّثني محمد بن القاسم عن أبي هفّان عن الجمّاز، و أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ قال: حدّثني عون بن محمد قال: حدّثني الجمّاز قال:

كنت عند أبي نواس جالسا إذ مرّت بنا امرأة ممن يداخل الثقفيين، فسألها عن جنان و ألحف(2) في المسألة و استقصى، فأخبرته خبرها و قالت(3): قد سمعتها تقول لصاحبة لها من غير أن تعلم أني أسمع: ويحك! قد آذاني هذا الفتى، و أبرمني، و أحرج صدري، و ضيّق عليّ الطرق بحدة نظره و تهتّكه؛ فقد لهج قلبي بذكره و الفكر فيه من كثرة فعله لذلك حتى رحمته، ثم التفت فأمسكت عن الكلام؛ فسرّ أبو نواس بذلك، فلما قامت المرأة أنشأ يقول:

يا ذا الّذي عن جنان ظلّ يخبرنا *** باللّه قل و أعد يا طيّب الخبر

قال اشتكتك و قالت ما ابتليت به *** أراه من حيثما أقبلت في أثري

/و يعمل الطرف نحوي إن مررت به *** حتى ليخجلني من حدّة النظر

و إن وقفت له كيما يكلّمني *** في الموضع الخلو لم ينطق من الحصر

ما زال يفعل بي هذا و يدمنه *** حتى لقد صار من همّي و من وطري

يمر به القاضي و هو يكلم امرأة فينصحه فيقول في ذلك شعرا:
اشارة

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ و أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قالا:

قال ابن عائشة: و أخبرني الحسن بن عليّ و ابن عمّار عن الغلابيّ عن ابن عائشة: قال ابن عمّار: و حدّثت به عن الجمّاز، و ذكره لي محمد بن داود الجرّاح عن إسحاق النخعيّ عن أحمد بن عمير:

ص: 256


1- الرمم: جمع رمة، و هي العظام البالية.
2- كذا في مد. و في س: «ألحقها»، تحريف.
3- في بعض النسخ: «قال»، و هو تحريف.

أنّ محمد بن حفص بن عمر التميميّ - و هو أبو ابن عائشة - انصرف من المسجد و هو يتولّى القضاء، فرأى أبا نواس قد خلا بامرأة يكلّمها. و قال أحمد بن عمير في خبره: و كانت المرأة قد جاءته برسالة جنان جارية عمارة امرأة عبد الوهاب بن عبد المجيد، فمرّ به عمر بن عثمان التيميّ و هو قاضي البصرة - هكذا ذكر أحمد بن عمير وحده - و ذكر الباقون جميعا أنه محمد بن حفص.

قال الجمّاز: و كانت عليه ثياب بياض، و على رأسه قلنسوة مضرّبة(1) فقال له: اتّق اللّه، قال: إنها حرمتي، قال: فصنها عن هذا الموضع. و انصرف عنه، فكتب إليه أبو نواس:

صوت

إنّ الّتي أبصرتها *** بكرا(2) أكلّمها رسول

/أدّت إليّ رسالة *** كادت لها نفسي تسيل

/من ساحر العينين *** يجذب خصره ردف ثقيل

متقلّد قوس(3) الصّبا *** يرمي و ليس له رسيل(4)

فلو أن أذنك بيننا *** حتى تسمّع(5) ما تقول

لرأيت ما استقبحت من *** أمري هو الأمر الجميل

في هذه الأبيات لجنان من الرمل و خفيفه، كلاهما لأبي العبيس بن حمدون.

قال بن عمير: ثم وجّه بها فألقيت في الرّقاع بين يدي القاضي فلما رآها ضحك و قال إن كانت رسولا فلا بأس.

قال ابن عائشة في خبره: فجاءني برقعة فيها هذه الأبيات، و قال لي: ادفعها إلى أبيك، فأوصلتها إليه، و وضعتها بين يديه، فلما قرأها ضحك، و قال: قل له: إني لا أتعرّض للشعراء.

من شعره يسأل عنها و هي في حكمان:

حدّثني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال:

كان أبو عثمان أخا مولى جنان، و كان مولاها أبو ميّة زوج عمارة و هي مولاتها، و كانت له بحكمان(6) ضيعة كان ينزلها هو و ابن عمّ له يقال له: أبو ميّة، فقال أبو نواس فيه قوله:

ص: 257


1- مضربة، من ضرب النجاد المضربة: أي خاطها.
2- بكرا، أي لأول مرة.
3- في م، أ: «سيف».
4- الرسيل: الموافق لك في النضال.
5- مد: «لتسمع» تحريف.
6- حكمان: ضيعة بالبصرة لبني عبد الوهاب الثقفيين موالى جنان، سميت بالحكم بن العاص الثقفي. و هذا اصطلاح لأهل البصرة، إذا سموا ضيعة باسم زادوا عليه ألفا و نونا، حتى سموا عبد اللان في قرية سميت بعبد اللّه. و حكمان بالتحريك فيما يقول ياقوت، و كسلمان فيما يقول صاحب «القاموس».

أسأل القادمين من حكمان *** كيف خلّفتما(1) أبا عثمان

/و أبا ميّة المهذّب و الما *** جد و المرتجى لريب الزمان؟

فيقولان لي: جنان كما سرّك *** في حالها فسل عن جنان

ما لهم لا يبارك اللّه فيهم *** كيف لم يغن عندهم كتماني؟

لم يكن يعشق و لا كانت جنان موضع عشق و لكنه العبث:

فأخبرني ابن عمار قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عبد الملك بن مروان الكاتب قالا:

كنت جالسا بسرّمن رأى في شارع أبي أحمد، فأنشدني قول أبي نواس:

أسأل المقبلين من حكمان *** كيف خلّفتما أبا عثمان؟

و إلى جانبي شيخ جالس فضحك، فقلت له: لقد ضحكت من أمر، فقال: أجل، أنا أبو عثمان الّذي قال أبو نواس فيه هذا الشعر، و أبو ميّة ابن عمي، و جنان جارية أخي، و لم تكن في موضع عشق، و لا كان مذهب أبي نواس النساء، و لكنه عبث خرج منه.

سبقه النابغة الجعدي إلى التكنية في شعره بغير اسم صاحبته:

أخبرني عليّ بن سليمان قال: قال لي أبو العباس محمد بن يزيد:

قال النابغة الجعديّ:

أكني بغير اسمها و قد *** علم اللّه خفيّات كلّ مكتتم

و هو سبق الناس إلى هذا المعنى، و أخذوه جميعا منه، و أحسن من أخذه أبو نواس حيث يقول:

أسأل المقبلين من حكمان *** كيف خلّفتما أبا عثمان؟

فيقولان لي جنان كما سرّ *** ك في حالها فسل عن جنان

ما لهم لا يبارك اللّه فيهم *** كيف لم يغن عندهم كتماني(2)!

شعره و قد حضرت مأتما في البصرة:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: أنشدني أحمد بن محمد بن صدقة الأنباريّ لأبي نواس يذكر مأتما بالبصرة، و حضرته جنان:

/يا منسي المأتم أشجانه *** لمّا أتاهم في المعزّينا

سرت(3) قناع الوشي عن صورة *** ألبسها اللّه التّحاسينا

ص: 258


1- في ب، س: «خفتما»، تحريف.
2- في ب، س: «كتمان»، تحريف.
3- سرت: ألقت، من سرى المتاع: ألقاه على ظهر دابته.

فاستفتنتهنّ بتمثالها *** فهنّ للتكليف يبكينا

حقّ لذاك الوجه أن يزدهي *** عن حزنه من كان محزونا

شعره و قد أشرف عليها فرآها تلطم في مأتم:

أخبرني عمّي قال: حدّثني إسحاق بن محمد النخعيّ، قال: حدّثنا عبد الملك بن عمر ابن أبان النخعيّ، و كان صديقا لأبي نواس:

أنّ أبا نواس أشرف من دار على منزل عبد الوهاب الثقفيّ، و قد مات بعض أهله و عندهم مأتم، و جنان واقفة مع النساء تلطم وجهها و في يدها خضاب، فقال:

يا قمرا أبرزه مأتم *** يندب شجوا بين أتراب

يبكي فيذري(1) الدّرّ من عينه *** و يلطم الورد بعناب

لا تبك ميتا حلّ في حفرة *** و ابك قتيلا لك بالباب

أبرزه المأتم لي كارها *** برغم دايات و حجّاب

لا زال موتا دأب أحبابه *** و لا تزل رؤيته دابي

استحسان ابن عيينة لشعره ذاك:

فحدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدّثني محمد بن القاسم، حدّثني محمد ابن عائشة قال:

قال لي سفيان بن عيينة: لقد أحسن بصريّكم هذا أبو نواس حيث يقول - و شدّد الواو و فتح النون:

/يا قمرا أبصرت في مأتم *** يندب شجوا بين أتراب

يبكي فيذري الدّرّ من عينه *** و يلطم الورد بعنّاب

قال: و جعل يعجب من قوله:

و يلطم الورد بعنّاب

.

ابن أبي عيينة ينشد بيتا من شعره ذاك و يكرر إعجابه ببراعته:

و أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني محمد بن محمد قال: حدّثني حسين ابن الضّحّاك قال:

أنشد ابن عيينة قول أبي نواس:

يبكي فيذري الدّرّ من طرفه *** و يلطم الورد بعنّاب

فعجبت منه، و قال: آمنت بالذي خلقه.

روي أن شعره ذاك كان في غير جنان:

و قد قيل: إنّ أبا نواس قال هذا الشعر في غير جنان.

ص: 259


1- فيذري: فينثر.

أخبرني بذلك الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني بعض الصيارف بالكرخ، و سماه، قال:

كان حارس درب عون(1) يقال له: المبارك، و كان يلبس ثيابا نظيفة سريّة، و يركب حمارا، فيطوف عليه السوق بالليل و يكريه بالنهار، فإذا رآه من لا يعرفه ظنّ أنه من بعض التجار، و كان يصل إليه في كل شهر من السّوق ما يسعه و يفضل عنه، و كانت له بنت من أجمل النساء، فمات مبارك و حضره الناس، فلما أخرجت جنازته خرجت بنته هذه حاسرة بين يديه، فقال أبو نواس فيها:

يا قمرا أبرزه مأتم *** يندب شجوا بين أتراب

و ذكر الأبيات كلّها.

طلبت قطع صلته بها أياما ففعل:

أخبرني محمد بن جعفر قال: حدّثني أحمد بن القاسم عن أبي هفّان عن الجمّاز و اليؤيؤ/و أصحاب أبي نواس أنّ جنان وجّهت إليه: قد شهرتني، فاقطع زيارتك عنّي أياما لينقطع بعض القالة، ففعل، و كتب إليها:

/إنّا اهتجرنا(2) للناس إذ فطنوا *** و بيننا حين نلتقي حسن

ندافع الأمر و هو مقتبل(3)*** فشبّ حتى عليه قد مرنوا

فليس يقذي عينا معاينة *** له و ما إن تمجّه أذن

ويح ثقيف ما ذا يضرّهم *** أن كان لي في ديارهم سكن(4)

أريب ما بيننا الحديث فإن *** زدنا فزيدوا و ما لذا ثمن

يكتب إليها من بغداد شعرا:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني ابن أبي سعد قال: بلغني أنّ أبا نواس كتب إلى جنان من بغداد:

كفى حزنا ألاّ أرى وجه حيلة *** أزور بها الأحباب في حكمان

و أقسم لو لا أن تنال معاشر *** جنانا بما لا أشتهي لجنان

لأصبحت منها داني الدار لاصقا *** و لكنّ ما أخشى - فديت - عداني

فوا حزنا حزنا يؤدّي إلى الردى *** فأصبح مأثورا بكلّ لسان

أراني انقضت أيام وصلي منكم *** و آذن فيكم بالوداع زماني

ص: 260


1- ب، س: «عول».
2- اهتجرنا: تقاطعنا.
3- مقتبل: في مبتدئه.
4- السكن: كل ما يسكن إليه.
شعره و قد شتمته و تنقصته حين ذكر عشقه لها:

أخبرني الحسن قال: حدّثنا ابن مهرويه عن يحيى بن محمد عن الخريميّ قال:

بلغ أبا نواس أنّ امرأة ذكرت لجنان عشقه لها، فشتمته جنان و تنقصته و ذكرته أقبح الذّكر، فقال:

/وا بأبي من إذا ذكرت له *** و طول وجدي به تنقّصني

لو سألوه عن وجه حجّته *** في سبّه لي لقال: يعشقني

نعم إلى الحشر و التّناد نعم *** أعشقه أو ألّف في كفني

أصيح(1) جهرا لا أستسرّ به *** عنّفني فيه من يعنفني:

يا معشر الناس فاسمعوه وعوا: *** أنّ جنانا صديقة الحسن

شعره إليها و قد رآها في المنام بعد أن هجرته:

فبلغها ذلك، فهجرته، و أطالت هجره، فرآها ليلة في منامه و أنها قد صالحته، فكتب إليها:

إذا التقى في النوم طيفانا *** عاد لنا الوصل كما كانا

يا قرّة العين فما بالنا *** نشقى و يلتذّ خيالانا

لو شئت إذ أحسنت لي في الكرى *** أتممت إحسانك يقظانا

يا عاشقين اصطلحا في الكرى *** و أصبحا: غضبى و غضبانا

كذلك الأحلام غدّارة *** و ربّما تصدق أحيانا

الغناء في هذه الأبيات لابن جامع، ثقيل أول بالوسطى عن عمرو.

يهجرها حين جبهته بما يكره، و يراها في المنام تصالحه، فينظم شعرا:

و قال الخريمي: و رآها يوما في ديار ثقيف فجبهته بما كره، فغضب و هجرها مدة، فأرسلت إليه رسولا تصالحه فرده، و لم يصالحها، و رآها في النوم تطلب صلحه، فقال:

دسّت له طيفها كيما تصالحه *** في النوم حين تابّى الصلح يقظانا

فلم يجد عند طيفي طيفها فرجا *** و لا رثى لتشكّيه و لا لانا

حسبت أنّ خيالي لا يكون لما *** أكون من أجله غضبان غضبانا

/جنان لا تسأليني الصلح سرعة ذا *** فلم يكن هيّنا منك الّذي كانا

من شعره فيها:

و أنشدني عليّ بن سليمان الأخفش لأبي نواس في جنان:

أ ما يفنى حديثك عن جنان *** و لا تبقي على هذا اللسان!

ص: 261


1- في س: «أصبح»، تحريف.

أ كلّ الدهر قلت لها و قالت *** فكم هذا أ ما هذا بفان!

جعلت الناس كلّهم سواء *** إذا حدّثت عنها في البيان

عدوّك كالصديق و ذا كهذا *** سواء، و الأباعد كالأداني

إذا حدّثت عن شأن توالت *** عجائبه أتيتهم بشان

فلو موّهت عنها باسم أخرى *** علمنا إذ كنيت من أنت عان؟

شعره و قد بيعت و سافر بها مولاها:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني يحيى بن محمد السّلميّ قال: حدّثني أبو عكرمة الضبيّ:

أنّ رجلا قدم البصرة فاشترى جنان من مواليها، و رحل بها، فقال أبو نواس في ذلك:

أمّا الديار فقلّما لبثوا بها *** بين استياق(1) العيس و الرّكبان

وضعوا سياط السّوق(2) في أعناقها *** حتى اطّلعن(3) بهم على الأوطان

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال: حدّثني محمد بن سعد الكرانيّ قال: حدّثني أبو عثمان الأشنانداني قال: كتب أبو نواس إلى جنان:

أكثري(4) المحو في كتابك و *** امحيه إذا ما محوته باللسان

/و أمرى(5) بالمحاء بين ثنايا *** ك العذاب المفلّجات الحسان

إنني كلما مررت بسطر *** فيه محو لطعته(6) بلساني

تلك تقبيلة لكم من بعيد *** أهديت لي و ما برحت مكاني

صوت

تجنّي علينا آل مكتوبة الذّنبا *** و كانوا لنا سلما فأضحوا لنا حربا

يقولون عزّ القلب بعد ذهابه *** فقلت ألا طوباي لو أن لي قلبا

عروضه من الطويل. الشعر لابن أبي عيينة، و الغناء لسليمان أخي جحظة، رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة.

ص: 262


1- في م، أ: «استباق».
2- في س، ب: «الشوق»، تحريف.
3- اطلعن: طلعن.
4- في س، ب: «أكثر»، تحريف.
5- و في ب، س: «و امررى»، و هو خطأ صرفي.
6- لطعته: لحسته.

5 - نسب ابن أبي عيينة و أخباره

اشارة

5 - نسب ابن أبي عيينة و أخباره(1)

اسمه و كنيته و نسبه:

أبو عيينة - فيما أخبرنا به عليّ بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد - اسمه و كنيته أبو المنهال، قال: و كل من يدعى أبا عيينة من آل المهلّب فأبو عيينة اسمه و كنيته أبو المنهال، و كلّ من يدعى أبا رهم من بني سدوس فكنيته أبو محمد.

و ابن أبي عيينة(2) هو محمد بن أبي عيينة بن المهلّب بن أبي صفرة. و قال أبو خالد الأسلميّ: هو أبو عيينة المنجاب بن أبي عيينة، و هو الّذي كان يهجو ابن عمه خالدا.

و اسم(3) أبي صفرة ظالم بن سرّاق، و قيل: غالب بن إسراق بن صبح بن كنديّ بن عمرو بن عديّ بن وائل بن الحارث بن العتيك بن الأسد بن عمران بن الوضّاح بن عمرو بن مزيقياء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة/البهلول بن مازن الرّاكب بن الأزد.(4) هذا النسب الّذي عليه آل المهلب، و ذكر غيرهم أن أصلهم من عجم عمان و أنّهم تولوا الأزد، فلما سار المهلّب و شرف و علا ذكره استلحقوه. و ممن ذكر ذلك الهيثم بن عديّ و أبو عبيدة و ابن مزروع و ابن الكلبيّ و سائر من جمع كتابا في المثالب و هجتهم به الشّعراء فأكثرت.

أبو صفرة ليس عربيا:

أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ قال: أخبرني الحسن بن عليل العنزيّ قال: حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن حميد بن سليمان العدويّ قال:

/أخبرني الهيثم بن عديّ، عن عبد اللّه بن عيّاش الهمدانيّ قال:

وفد ابن الجلندي في الأزد، أزد عمان و مواليهم و أحلافهم، فكان فيمن وفد منهم أبو صفرة، و كان يلقّب بذلك، لأنه كان يصفّر لحيته، فدخل على عمر مع ابن الجلندي و لحيته مخضوبة مصفرّة، فقال عمر لابن الجلندي:

أ كلّ من معك عربيّ؟ قال: لا، فينا العربيّ و فينا غير ذلك، فالتفت عمر - رحمه اللّه - إلى أبي صفرة، فقال له:

أ عربيّ أنت؟ قال: لا، أنا ممّن منّ اللّه عليه بالإسلام.

ص: 263


1- مو: نسب ابن عيينة و أخباره.
2- مد، مو: و أبو عيينة.
3- كذا في م، أ. و في س، ب: «أو اسم»، تحريف.
4- هذه التكملة من نسخة مي؛ و آخرها في ص 78.
أبو صفرة يختن و هو شيخ أشمط:

قال: و قدم الحكم بن أبي العاصي الثّقفيّ أخو عثمان بأعلاج من شهرك(1) في خلافة عمر قد أسلموا، فأمر عمر عثمان بن أبي العاصي أن يختنهم، و قد كان أبو صفرة حاضرا فقال: ما لهؤلاء يطهّرون ليصلوا! قال: إنّهم يختنون.

قال: إنا و اللّه هكذا مثلهم، قال: فسمع ذلك عثمان بن أبي العاصي، فأمر بأبي صفرة فأجلس على جفنة فختن و إنّه لشيخ أشمط فكان بها من قال: لسنا نشك في أنّ زوجته كذلك، فأخضرت و هي عجوز أدماء، فأمر بها القابلة فنظرت إليها و كشفتها، و إذا هي غير مختونة، و ذلك منها قد أحشف(2)، فأمر بها فخفضت.

و قال في ذلك زياد الأعجم، و قد غضب على المهلّب:

نحن قطعنا من أبي صفرة *** قلفته كي يدخل البصرة

/لما رأى عثمان غرموله *** أتنّ (3) على قلفته الشّفره

من عمل كتاب المثالب:

و ليس هذا من الأقوال المعوّل(4) عليها، لأن أصل المثالب زياد لعنه اللّه، فإنه لمّا ادّعى إلى أبي سفيان، و علم أن العرب لا تقرّ له بذلك مع علمها بنسبه و مع سوء آثاره(5) فيهم، عمل كتاب المثالب، فألصق بالعرب كلّها كلّ عيب و عار، و حقّ و باطل، ثم بني على الهيثم بن عديّ - و كان دعيّا - فأراد أن يعرّ(6) أهل البيوتات تشفّيا منهم، و فعل ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنّى، و كان أصله يهوديا، أسلم جدّه على يدي بعض آل أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، فانتمى إلى ولاء بني تيم فجدّد كتاب زياد و زاد فيه، ثم نشأ غيلان الشّعوبيّ لعنه اللّه، و كان زنديقا ثنويّا لا يشكّ فيه، عرف في حياته بعض مذهبه، و كان يورّي عنه في عوراته للإسلام بالتّشعّب و العصبية، ثم انكشف أمره بعد وفاته، فأبدع كتابا عمله لطاهر بن الحسين، و كان شديد التّشعّب و العصبيّة، خارجا عن الإسلام بأفاعيله، فبدأ فيه بمثالب بني هاشم و ذكر مناكحهم(7) و أمهاتهم و صنائعهم، و بدأ منهم بالطّيّب الطاهر، رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فغمصه(8)و ذكره، ثم والي بين أهل بيته الأذكياء النجباء عليهم السّلام، ثم ببطون قريش على الولاء، ثم بسائر العرب، فألصق بهم كلّ كذب و زور، و وضع عليهم كل خبر باطل، و أعطاه على ذلك مائتي ألف درهم فيما بلغني.

/و إنما جرّ هذا القول، ذكر المهلب و ما قيل فيه، و أنّي ذكرته فلم أجد بدّا من ذكر ما روي فيه؛ و فيما مرّ عن أهل النسب، ثم قلت ما عندي.

ص: 264


1- لعلها شهر كند الّتي أوردها ياقوت في «معجمه»، و هي مدينة في طرف تركستان قريبة من الجند بينها و بين مدينة خوارزم نحو عشرة أيام أو أقل.
2- أحشف: تقبض و صار كالشّنّ.
3- كذا في النسخ، و لا يستقيم معها الوزن، و لعلها تحريف آتي.
4- ف: «المعمول».
5- مي: «و مع سوء آثارها فيهم».
6- عرّ فلانا: ساءه.
7- مي: «و ذكر مناكحتهم».
8- غمصه: تهاون بحقه.
يقرأ كتاب المثالب على عبد الملك، فيأمر بإحراقه:

أخبرني حبيب بن نصر قال: أخبرني عمر بن شبّة قال: حدّثني محمد بن يحيى أبو عثمان عن أبيه قال:

دخل بعض النّاس على عبد الملك بن مروان فقال له: هل عندك كتاب زياد في المثالب؟ فتلكّأ، فقال له:

لا بأس عليك، و بحقّي إلاّ جئتني به. فمضى فجاء به، فقال له: اقرأ عليّ، فقرأه و جعل عبد الملك يتغيّظ و يعجب ممّا فيه من الأباطيل، ثم تمثّل قول الشاعر:

و أجرأ من رأيت يظهر غيب *** على عيّب الرّجال أولو العيوب

ثم أمر بالكتاب فأحرق(1).

رجع الخبر إلى سياقه أخبار ابن أبي عيينة
أنفد أكثر شعره في هجاء ابن عمه «خالد»:

و هو شاعر مطبوع ظريف غزل هجّاء. و أنفد أكثر أشعاره في هجاء ابن عمّه خالد. و أخبارهما تذكر على أثر هذا الكلام و ما يصلح(2) تصدير أخباره به. و كان من شعراء الدولة العباسية من ساكني البصرة.

حدّثني عمّي و الصوليّ قالا: حدثنا أحمد بن يزيد المهلبيّ قال: حدّثني أبي قال: أبو عيينة اسمه كنيته، و هو ابن محمد بن أبي عيينة بن المهلّب بن أبي صفرة.

كان أبوه يتولى الري للمنصور:

و أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال: حدّثني العنزي قال: حدّثني أبو خالد الأسلميّ قال:

أبو عيينة الشاعر هو أبو عيينة بن المنجاب بن أبي عيينة بن المهلّب، و كان محمد بن أبي عيينة أبو أبى عيينة الشاعر يتولى الرّيّ لأبي جعفر المنصور، ثم قبض عليه و حبسه و غرّمه.

حبس المنصور أباه:

و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ قال:

قال وهب بن جرير: رأيت في منامي كأن قائلا يقول لي:

ما يلقى(3) أبو حرب *** تعالى اللّه من كرب

فلم ألبث أن أخذ المنصور أما حرب محمّد بن أبي عيينة المهلبيّ فحبسه، و كان ولاه الرّي فأقام بها سنين.

كان يحب امرأة نبيلة و يكنى عنها خوف أهلها:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق و محمد بن يحيى الصوليّ و عمّي قالوا: حدثنا الحزنبل الأصبهانيّ قال:

حدّثني الفيض بن مخلّد مولى أبي عيينة بن المهلّب قال:

ص: 265


1- هنا تنهي التكملة الّتي بدأت في ص 75.
2- في م، أ: «يصلح منه».
3- كذا في النسخ.

كان أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة يهوى فاطمة بنت عمر بن حفص الملقّب هزار مرد، و كانت امرأة نبيلة شريفة، و كان يخاف أهلها أن يذكرها تصريحا، و يرهب زوجها عيسى بن سليمان، فكان يقول الشعر في جارية لها يقال لها: دنيا، و كانت قيّمة دارها، و والية أمورها كلّها. و أنشدنا لابن أبي عيينة فيها، و يكنى باسم دنيا هذه:

ما لقلبي أرقّ من كلّ قلب *** و لحبّي أشدّ من كل حبّ!

/و لدنيا على جنوني بدنيا *** أشتهي قربها و تكره قربي

نزلت بي بلية من هواها *** و البلايا تكون من كلّ ضرب

قل لدنيا إن لم تجبك لما بي *** رطبة من دموع عينى كتبي

فعلام انتهرت باللّه رسلي *** و تهددتهم بحبس و ضرب(1)

أيّ ذنب أذنبته ليت شعري *** كان هذا جزاءه أيّ ذنب؟

أخبرني عليّ بن سليمان قال حدّثني محمد بن يزيد قال:

كان أبو عيينة(2) من أطبع الناس و أقربهم مأخذا، من غير أدب موصوف و لا رواية كثيرة، و كان يقرّب البعيد، و يحذف الفضول، و يقلّ التكلف. و كان أصغر من أخيه عبد اللّه و مات قبله.

و قيل لعبد اللّه: أنت أشعر أم أخوك؟ فقال: لو كان له علمي لكان أشعر منّي، و كان يتعشق فاطمة بنت عمر بن حفص هزار مرد الّتي تزوّجها عليّ بن سليمان، و يسرّ عشقها، و يلقّبها دنيا كتمانا لأمرها(3). و كانت امرأة جليله(4)نبيلة سريه من النساء، و كان أبوها من أشدّ الفرسان و شجعانهم، فذكر عيسى بن جعفر أن عيسى بن موسى قال للمهلّب بن المغيرة بن المهلّب: أ كان يزيد بن خالد أشجع أم عمر بن حفص هزار مرد؟ فقال المهلّب: لم أشهد من يزيد/ما شهدته من عمر بن حفص، و ذلك أني رأيته يركض في طلب حمار وحشيّ حتى إذا حازاه جمع جراميزه(5)و قفز، /فصار على ظهره، فقمص الحمار، و جعل عمر بن حفص يحزّ(6) معرفته إما بسيف و إما بسكين معه حتى قتله.

كان جنديا، و لم يكن يهوى فاطمة بل جارية لها:
اشارة

قال محمد بن يزيد: و حدّثت عن محمد بن المهلّب أنه أنكر أن يكون أبو عيينة يهوى فاطمة، و قال: إنما كان جنديّا في عداد الشّطّار(7)، و كانت فاطمة من أنبل النساء و أسراهنّ، و إنما كان يتعشق جارية لها، و هذه الأبيات الّتي فيها الغناء من قصيدة له جيدة مشهورة من شعره، يقولها في فاطمة هذه أو جاريتها، و يكنى عنها بدنيا، فمما اختير منها قوله:

ص: 266


1- من م، مد، مو.
2- في م، أ، مو، مد: «ابن أبي عيينة».
3- في م، أ: «لأهلها».
4- في م، أ: «جميلة».
5- جراميزه: «أطرافه. و في س. ب: «جراميزة» تحريف.
6- في م، أ: «يجز».
7- الشطار: جمع شاطر، و هو من أعيا أهله خبثا.

و قالوا تجنّبنا فقلت أبعد ما *** غلبتم على قلبي بسلطانكم غصبا!

غضاب و قد ملّوا وقوفي ببابهم *** و لكنّ دنيا لا ملولا و لا غضبي

و قد أرسلت في السرّ أني بريّة *** و لم تر لي فيما ترى منهم ذنبا

و قالت لك العتبى و عندي لك الرضا *** و ما إن لهم عندي رضاء و لا عتبى(1)

و نبئتها تلهو إذا اشتد شوقها *** بشعري كما تلهي(2) المغنّية الشّربا

فأجبتها حبّا يقرّ بعينها *** و حبّي إذا أحببت لا يشبه الحبا

فيا حسرتا نغصت قرب ديارها *** فلا زلفة منها أرجّى و لا قربا

لقد شمت الأعداء أن حيل بينها *** و بيني ألا للشامتين بنا العقبى(3)

و مما قاله فيها و غنّي فيه:

صوت

ضيّعت عهد فتى لعهدك حافظ *** في حفظه عجب و في تضييعك

و نأيت عنه فما له من حيلة *** إلاّ الوقوف إلى أوان رجوعك

متخشّعا يذري عليك دموعه *** أسفا و يعجب من جمود دموعك

إن تقتليه و تذهب بفؤاده *** فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك

عروضه من الكامل، الغناء في هذه الأبيات من الثقيل الأول بالوسطى. ذكر عمرو بن بانة أنه له، و ذكر الهشاميّ أنه لمحمد بن الحارث بن بُسخُنَّر، و ذكر عبد اللّه بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام أنه لإبراهيم الموصليّ.

فذكر العتّابيّ و محمد بن الحسن جميعا، أنّ محمد بن أحمد بن يحيى المكيّ حدثهما قال: حدّثني عمرو بن بانة قال:

ركبت يوما إلى دار صالح بن الرشيد، فاجتزت بمحمد بن جعفر بن موسى الهادي - و كان معاقرا للصّبوح - فألفيته في ذلك اليوم خاليا منه، فسألته عن السبب في تعطيله إياه، فقال: نيران عليّ غضبي - يعني جارية لبعض النّخاسين ببغداد - و كانت إحدى المحسنات، و كانت بارعة الجمال ظريفة اللسان، و كان قد أفرط في حبّها حتى عرف به، فقلت له: فما تحبّ؟ قال: تجعل طريقك على مولاها فإنه يستخرجها إليك، فإذا فعل دفعت رقعتي هذه إليها - و دفع إليّ رقعة فيها:

ضيعت عهد فتى لعهدك حافظ *** في حفظه عجب و في تضييعك

/إن سمته أن تذهبي بفؤاده *** فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك

ص: 267


1- ف: «عندي رضا لا و لا عتبي».
2- في س، ب: «تلهو». تحريف.
3- في س، ب: «العبى»، تحريف و العقبى: جزاء الأمر.

فقلت له: نعم، أنا أتحمّل هذه الرسالة و كرامة، على ما فيها، حفظا لروحك عليك، /فإني لا آمن أن يتمادى بك هذا الأمر. فأخذت الرقعة و جعلت طريقي على منزل النخاس، فبعثت إلى الجارية: اخرجي، فخرجت، فدفعت إليها الرقعة، و أخبرتها بخبري فضحكت، و رجعت إلى الموضع الّذي أقبلت منه فجلست جلسة خفيفة، ثم إذا بها قد وافتني و معها رقعة، فيها:

صوت

و ما زلت تعصيني(1) و تغري بي الردى *** و تهجرني حتى مرنت على الهجر

و تقطع أسبابي و تنسى مودتي *** فكيف ترى يا مالكي في الهوى صبري!

فأصبحت لا أدري أ يأسا تصبّري *** على الهجر أم جدّ البصيرة لا أدري

غنّى في هذه الأبيات عمرو بن بانة، و لحنه ثقيل أول بالبنصر، و لمقاسة بن ناصح فيها ثقيل آخر بالوسطى.

لحن عمرو في الأول و الثالث بغير نشيد.

قال: فأخذت الرّقعة منها و أوصلتها إليه، و صرت إلى منزلي، فصنعت في بيتي محمد بن جعفر لحنا و في أبياتها لحنا، ثم صرت إلى الأمير صالح بن الرشيد، فعرّفته ما كان من خبري، و غنّيته الصوتين، فأمر بإسراج دوابه فأسرجت، و ركب فركبت معه إلى النخّاس مولى نيران، فما برحنا حتى اشتراها منه بثلاثة آلاف دينار، و حملها إلى دار محمد بن جعفر فوهبها له، فأقمنا يومنا عنده.

أخبرنا محمد بن يحيى الصوليّ قال: حدّثني يزيد بن محمد المهلبيّ قال:

دخلت على الواثق يوما و هو خليفة و رباب في حجره جالسة، و هي صبية، و هو يلقي عليها قوله:

/ضيّعت عهد فتى لعهدك حافظ *** في حفظه عجب و في تضييعك

و هي تغنّيه و يردده عليها، فما سمعت غناء قطّ أحسن من غنائهما جميعا، و ما زال يردّده عليها حتى حفظته.

ص: 268


1- في م، أ: «تقصيني».
رجع الخبر إلى حديث أبي عيينة
شعر لأخيه في فاطمة محبوبته:

أخبرني عليّ بن سليمان قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: قال عبد اللّه بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة في فاطمة - الّتي كان يشبّب بها أخوه - بنت عمر بن حفص لمّا تزوجها عيسى بن سليمان بن عليّ، و كان عيسى مبخّلا(1)، و كانت له محابس يحبس فيها البياح(2) و يبيعه، و كانت له ضيعة تعرف بدالية عيسى يبيع منها(3) البقول و الرياحين، و كان أول من جمع السّماد بالبصرة و باعه، فقال فيه أبو الشمقمق:

إذا رزق العباد فإنّ عيسى *** له رزق من استاه العباد

فلما تزوّج عيسى فاطمة بنت عمر بن حفص قال عبد اللّه بن محمد بن أبي عيينة في ذلك:

أ فاطم قد زوّجت عيسى فأبشري *** لديه بذلّ عاجل غير آجل

فإنك قد زوّجت عن غير خبرة *** فتى من بني العباس ليس بعاقل

فإن قلت من رهط النبيّ فإنّه *** و إن كان حرّ الأصل عبد الشمائل

/و قد قال فيه جعفر و محمد *** أقاويل حتى قالها كلّ قائل

و ما قلت ما قالا لأنك أختنا(4) *** و في البيت منّا و الذّرا و الكواهل

/لعمري لقد أثبّته في نصابه *** بأن صرت منه في محلّ الحلائل

إذا ما بنو العباس يوما تنازعوا *** عرا المجد و اختاروا كرام الخصائل

رأيت أبا العباس يسمو بنفسه *** إلى بيع بيّاحاته و المباقل

قال مؤلف هذا الكتاب: و كان عبد اللّه، أخو أبي عيينة شاعرا، و كان يقدّم على أخيه، فأخبرني جحظة قال:

حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال: قال إسحاق الموصليّ:

شعر عبد اللّه بن أبي عيينة أحبّ إليّ من شعر أبيه و أخيه. قال: و كان عبد اللّه صديقا لإسحاق.

يصرح أخوه بذكر فاطمة و أنه يعنيها:

قال محمد بن يزيد: و مما قاله في فاطمة و صرّح بذكر القرابة بينهما، و حقق على نفسه أنه يعنيها قوله:

دعوتك بالقرابة و الجوار *** دعاء مصرّح بادى السّرار

ص: 269


1- مبخّلا، أي يرمى بالبخل.
2- البياح، ككتاب، و كتان: ضرب من السمك.
3- في م، أ: «فيها».
4- في س: «أختا»، تحريف.

لأني عنك مشغول بنفسي *** و محترق عليك بغير نار

و أنت توقّرين و ليس عندي *** على نار الصّبابة من وقار

فأنت لأن ما بك دون ما بي *** تدارين العدوّ و لا أداري

و لو و اللّه تشتاقين شوقي *** جمحت إلى مخالعة العذار

ألا يا وهب فيم فضحت دنيا *** و بحت بسرّها بين الجواري

أما و الراقصات بكلّ واد *** غواد نحو مكة أو سواري

لقد فضلتك(1) دنيا في فؤادي *** كفضل يدي اليمين على اليسار

فقولي ما بدا لك أن تقولي *** فإني لا ألومك أن تضاري

من ظريف شعره فيها:
اشارة

قال و قال فيها، و هو من ظريف أشعاره:

رقّ قلبي لك يا نور عيني *** و أبي قلبك لي أن يرقّا

فأراك اللّه موتى فإنّي *** لست أرضى أن تموتي و أبقى

أنا من وجد بدنياي منها *** و من العذّال فيها ملقّى

صوت

زعموا أني صديق لدنيا *** ليت ذا الباطل قد صار حقّا

في هذا البيت ثمّ الّذي قبله، ثم الأول لإبراهيم لحن ماخوري بالوسطى عن الهشاميّ.

قال: و قال فيها أيضا في هذا الوزن، و فيه غناء محدث رمل طنبوريّ:

عيشها حلو و عيشك مرّ *** ليس مسرور كمن لا يسرّ

كمد(2) في الحبّ تسخن فيه *** عينه أكثر مما تقرّ

قلت(3) للاّئم فيها اله عنها *** لا يقع بيني و بينك شرّ

أ تراني مقصرا عن هواها *** كلّ مملوك إذا لي حرّ

و قال فيها أيضا، و أنشدناه الأخفش عن المبرّد، و أنشدناه محمد بن العباس اليزيديّ قال:

/أنشدني عمي عبيد اللّه لأبي عيينة:

حين(4) قالت دنيا علام نهارا *** زرت؟ هلا انتظرت وقت المساء!

ص: 270


1- و في س، ب: «فضلت»، تحريف.
2- في س، ب: «كمديم الحب»، تحريف.
3- في س: «قلت لذا اللائم»، تحريف.
4- في ب، س: «جئت».

/إن تكن معجبا(1) برأيك لا تف *** رق فاستحي يا قليل الحياء

ذاك إذ روحها و روحي مزاجا *** ن كأصفى خمر بأعذب ماء

معنى له يأخذه البحتري:
اشارة

قال محمد بن يزيد: و قد أخذ هذا المعنى غيره منه و لم يسمّه، و هو البحتريّ، فقال:

صوت

جعلت حبّك من قلبي بمنزلة *** هي المصافاة بين الماء و الراح

تهتزّ مثل اهتزاز الغصن حرّكه *** مرور غيث من الوسميّ سحّاح(2)

الغناء في هذين البيتين لرذاذ ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر.

من شعره الّذي يكنى فيه عن فاطمة:
اشارة

و مما قاله أبو عيينة في فاطمة هذه، و كنى فيه بدنيا قوله:

صوت

أ لم تنه قلبك أن يعشقا *** و مالك و العشق لو لا الشّقا

أ من بعد شربك كأس النّهى *** و شمّك ريحان أهل التّقى

عشقت فأصبحت في العالم *** ين أشهر من فرس أبلقا

أ دنياي من غمر بحر الهوى *** خذي بيدي قبل أن أغرقا

أنا ابن المهلّب ما مثله *** لو أنّ إلى الخلد لي مرتقى

/غنى فيه أبو العبيس بن حمدون، و لحنه ثاني ثقيل مطلق، و فيه لعريب ثقيل أول، رواه أبو العبيس عنها.

قصيدة يذكر فيها دنيا و يفخر بمآثر المهلب:

و هذه قصيدة طويلة يذكر فيها دنيا و يفخر بعقب النسيب بأبيه، و يذكر مآثر المهلّب بالعراق، و لكن مما قاله في دنيا منها قوله:

أ دنياي من غمر بحر الهوى *** خذي بيدي قبل أن أغرقا

أنا لك عبد فكوني كمن *** إذا سرّه عبده أعتقا

أ لم أخدع الناس عن وصلها *** و قد يخدع العاقل الأحمقا

ص: 271


1- في م، مد: «إن كنت معجبا»، و في ب، س: «كنت ذا معجبا» و كلاهما تحريف، و المثبت من مو.
2- الوسمي: مطر الربيع الأول، لأنه يسم الأرض بالنبات، نسب إلى الوسم، و البيتان من قصيدة في مدح الفتح بن خاقان، و روايتهما في «الديوان» 113:1: تهتز مثل اهتزاز الغصن أتعبه مرور غيث من الوسمي سحاح و يرجع الليل مبيضا إذا ابتسمت عن أبيض خصر السمطين لماح وجدت نفسك من نفسي بمنزلة، البيت.

بلى فسبقتهم إنني *** أحبّ إلى الخير أن أسبقا

و يوم الجنازة إذ أرسلت *** على رقعة(1) أن جز الخندقا

و عج ثمّ فانظر لنا مجلسا *** برفق و إياك أن تخرقا

فجئنا كغصنين من بانة *** قرينين خدنين قد أورقا

فقالت لأخت لها استنشد *** يه من شعره المحكم المنتقى

فقلت أمرت بكتمانه *** و حذّرت إن شاع أن يسرقا

فقالت بعيشك قولي له *** تمنّع لعلك أن تنفقا

من شعره في دنيا و قد أفحش فيه:

و من مشهور قوله في دنيا و هو مما تهتك فيه و صرّح و أفحش و هي من جيد قوله قصيدته الّتي يقول فيها:

أنا الفارغ المشغول و الشوق آفتي *** فلا تسألوني عن فارغي و عن شغلي

/عجبت لترك الحبّ دنيا خلية *** و إعراضه عنها و إقباله قبلي(2)

/و ما بالها لما كتبت تهاونت *** بكتبي و قد أرسلت فانتهرت رسلي

و قد جلفت ألاّ تخطّ بكفّها *** إلى قابل خطا إليّ و لا تملي

أ بخلا علينا كلّ ذا و قطيعة *** قضيت لدينا بالقطيعة و البخل

سلوا قلب دنيا كيف أطلقه الهوى *** فقد كان في غلّ وثيق و في كبل(3)

فإن جحدت فاذكر لها قصر معبد *** بمنصف(4) ما بين الأبلّة(5) و الحبل(6)

و ملعبنا في النهر و الماء زاخر *** قرينين كالغصنين فرعين في أصل

و من حولنا الرّيحان غضّا و فوقنا *** ظلال من الكرم المعرّش و النخل

إذا شئت مالت بي إليها كأنّني *** إلى غصن بان دعصين من رمل

ليالي ألقاني الهوى فاستضفتها *** فكانت ثناياها بلا حشمة نزلي

و كم لذّة لي في هواها و شهوة *** و ركضي إليها راكبا و على رجل

و في مأتم المهديّ زاحمت ركنها *** بركني و قد وطّنت نفسي على القتل

و بتنا على خوف أسكّن قلبها *** بيسراي و اليمنى على قائم النّصل

ص: 272


1- في م، أ: «رقبه»، أي رقابة.
2- إقباله قبلي: قصده نحوي.
3- الكبل: القيد.
4- منصف: منتصف.
5- الأبلة: بلدة على شاطئ دجلة في زاوية الخليج الّذي يدخل إلى مدينة البصرة. و هي أيضا نهر يضرب إلى البصرة حفره زياد.
6- الحبل: موضع بالبصرة على شاطئ نهر الفيض و ضبطه في «معجم البلدان» كزفر، و «القاموس» كسهل.

فيا طيب طعم العيش إذ هي جارة *** و إذ نفسها و إذ أهلها أهلي

و إذ هي لا تعتلّ عني برقبة *** و لا خوف عين من وشاة و لا بعل

فقد عفت الآثار بيني و بينها *** و قد أوحشت مني إلى دارها سبلي

و لما بلوت الحبّ بعد فراقها *** قضيت على أم المحبين بالثّكل

/و أصبحت معزولا و قد كنت واليا *** و شتان ما بين الولاية و العزل

من شعره فيها، و قد وصف فيه قصرا:
صوت

و مما قاله فيها و فيه غناء:

ألا في سبيل اللّه ما حلّ بي منك *** و صبرك عني حين لا صبر لي عنك

و تركك جسمي بعد أخذك مهجتي *** ضئيلا كان من قبل ذا تركي

فهل حاكم في الحب يحكم بيننا *** فيأخذ لي حقي و ينصفني منك

لسليم في هذه الأبيات هزج مطلق في مجرى الوسطى، و في هذه القصيدة يقول يصف قصرا كانوا فيه، و هي من عجيب شعره:

لقد كنت يوم القصر مما ظننت بي *** بريئا(1) كما أني بريء من الشّرك

يذكّرني الفردوس طورا فأرعوي *** و طورا يواتيني إلى القصف و الفتك

بغرس كأبكار الجواري و تربة *** كأن ثراها ماء ورد على مسك

و سرب من الغزلان يرتعن حوله *** كما استلّ منظوم من الدّر من سلك

و ورقاء تحكى الموصليّ إذا غدت *** بتغريدها أحبب بها و بمن تحكي

فيا طيب ذاك القصر قصرا و منزلا *** بأفيح سهل غير وعر و لا ضنك

كأن قصور القوم ينظرن حوله *** إلى ملك موف على منبر الملك

/يدلّ عليها مستطيلا(2) بظله *** فيضحك منها و هي مطرقة تبكي

يعده الفضل بن الربيع أشعر زمانه:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني عليّ بن عمرو الأنصاريّ، قال: سمعت الأصمعي يذكر أن الفضل بن الربيع قال لجلسائه:

/من أشعر أهل عصرنا؟ فقالوا فأكثروا، فقال الفضل بن الربيع: أشعر أهل زماننا الّذي يقول في قصر

ص: 273


1- في مد: «بريا».
2- كذا في م، أ. و في س، ب: «مستظلا بظلها».

عيسى بن جعفر بالخريبة(1) - يعني أبا عيينة:

زر وادي القصر نعم القصر و الوادي *** و حبّذا أهله من حاضر بادي

ترفا(2) قراقيره(3) و العيس واقفة *** و الضبّ و النون(4) و الملاّح و الحادي

يحذر سعيد بن عباد عاقبة زواج له:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن مجمع قال: تزوّج سعيد بن عباد بن حبيب بن المهلّب بنت سفيان بن معاوية بن المهلّب - و قد كان تزوجها قبله رجلان فدفنتهما، فكتب إليه أبو عيينة:

رأيت أثاثها فرغبت فيه *** و كم نصبت لغيرك بالأثاث

إلى دار المنون فجهّزتهم *** تحثّهم بأربعة حثاث

فصيّر أمرها بيدي أبيها *** و عيشك من حبالك بالثلاث

و إلاّ فالسلام عليك منّي *** سأبدأ من غد لك بالمراثي

يعاتب إسحاق لتأخره عن دعوة إلى مجلس:

أخبرني محمد بن مزيد الصوليّ قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، قال:

كان عليّ بن هشام قد دعاني و دعا أبا عيينة و تأخرت عنه حتى اصطبحنا شديدا، و تشاغلت برجل كان عندي من الأعراب، و كان فصيحا لأكتب عنه، و كان عنده/بعض من يعاديني - قال حماد: كأنه يومئ بهذا القول إلى إبراهيم بن المهديّ - فسأل أبا عيينة أن يعاتبني بشعر ينسبني فيه إلى الخلف فكتب إليّ:

يا مليئا بالوعد و الخلف و المط *** ل بطيئا عن دعوة الأصحاب

لهجا بالأعراب إنّ لدينا *** بعض من تشتهي من الأعراب

قد عرفنا الّذي شغلت به عنّا *** و إن كان غير ما في الكتاب

قال: فكتبت إلى الّذي حمل أبا عيينة على هذا - يعني إبراهيم بن المهدي:

قد فهمت الكتاب أصل *** حك اللّه و عندي إليك ردّ الجواب

و لعمري ما تنصفون و لا كا *** ن الّذي جاء منكم في حسابي

لست آتيك فاعلمنّ و لا لي *** فيك حظ من بعد هذا الكتاب

ص: 274


1- «الخريبة»: موضع بالبصرة، و يقال: إنه سمي بذلك لأن المرزبان كان ابتنى به مقرا و خرب بعد، فلما نزل المسلمون البصرة ابتنوا عنده و فيه أبنية، و سموها الخريبة. و في س: «الحزينة»، و في ب، الخريبة و في م، أ: «الحزبية». و كله تحريف.
2- رفأ السفينة كمنع: أدناها من الشط.
3- القراقير، جمع قرقور كعصفور: السفينة أو الطويلة، أو العظيمة و رواية «معجم البلدان»: يا وادي القصر نعم القصر و الوادي من منزل حاضر إن شئت أوبادي ترى قراقيره و العيس واقفة و الضب و النون و الملاح و الحادي
4- النون: الحوت.
ينسب إليه شعر وجد منقوشا على حجر:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاقيّ (1) قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني إبراهيم بن إسحاق العمريّ قال: حدثنا أبو هاشم الإسكندراني، عن ابن أبي لهيعة قال:

حفر حفر في بعض أفنية مكة، فوجد فيه حجر عليه منقوش:

ما لا يكون فلا يكون بحيلة *** أبدا و ما هو كائن فيكون

سيكون هو كائن في وقته *** و أخو الجهالة متعب محزون

/يسعى القويّ فلا ينال بسعيه *** حظّا و يحظى عاجز و مهين

قال ابن أبي سعد: هكذا في الحديث، و قد أنشدني هذه الأبيات جماعة لأبي عيينة.

هو عند الفضل بن الربيع أشعر من أبي نواس:

حدّثني عمّي قال، حدّثني عمر بن محمد بن عبد الملك، قال: حدّثني عليّ بن عمروس الأنصاريّ عن الأصمعيّ قال:

قال لي الفضل بن الرّبيع: يا أصمعيّ، من أشعر أهل زمانك؟ فقلت: أبو نواس قال: حيث يقول ما ذا؟ قلت:

حيث يقول:

أما ترى الشمس حلّت الحملا *** و قام وزن الزمان فاعتدلا

فقال: و اللّه إنه لذهن(2) فطن، و أشعر عندي منه أبو عيينة(3).

شعره في دنيا حين زوجت:

حدّثني عمي، قال: حدّثني فضل اليزيديّ: عن إسحاق أنه أنشده لأبي عيينة في دنيا الّتي كان يشبّب بها، و قد زوّجت و بلغه أنها تهدي إلى زوجها، و كان إسحاق يستحسن هذا الشعر و يستجيده:

أرى عهدها كالورد ليس بدائم *** و لا خير فيمن لا يدوم له عهد

و عهدي لها كالآس حسنا و بهجة *** له نضرة تبقى إذا ما انقضى الورد

فما وجد العذريّ (4) إذ(5) طال وجده *** بعفراء(6) حتى سلّ مهجته الوجد

كوجدي غداة البين عند التفاتها *** و قد شفّ عنها دون أترابها البرد

فقلت لأصحابي هي الشمس ضوأها *** قريب و لكن في تناولها بعد

ص: 275


1- م، مو: «الوراق».
2- كذا في ا، مد. و في س، ب: «لدهن»، تحريف.
3- م، أ: «ابن أبي عيينة».
4- العذري: المنسوب إلى عذرة، حي من قضاعة، ينسب إليهم العشق. و المراد به عروة بن حزام، أحد العشاق المضروب بهم المثل في شدة الوجد.
5- كذا في مد، في س: «إذا»، تحريف.
6- هي عفراء بنت مهاصر بن مالك، عم عروة.

و إنّي لمن تهدي إليه لحاسد *** جرى طائري نحسا و طائره سعد

أخوه يهجو عيسى بن سليمان و قد تزوج فاطمة محبوبته:

أخبرني عمي قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلبيّ قال:

سألت أبي عن دنيا الّتي ذكرها أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة في شعره، و قلت: إن قوما يقولون: إنها كانت أمة لبعض مغنّي البصرة، فقال: لا، يا بنيّ، هي فاطمة بنت عمر بن حفص هزار مرد بن عثمان بن قبيصة أخي المهلّب، و كان عيسى بن سليمان بن عليّ أخو جعفر و محمد ابني سليمان تزوّجها، و هجاه عبد اللّه بن محمد بن أبي عيينة، أخو أبي عيينة فقال:

أ فاطم قد زوّجت عيسى فأبشري *** لديه بذلّ عاجل غير آجل

فإنك قد زوّجت عن غير خبرة *** فتى من بني العباس ليس بعاقل

و ذكر باقي الأبيات، و قد مضت متقدما.

يصرح بنسبه الجامع له و لفاطمة:

قال أحمد بن يزيد: ثم أنشدني أبي لأبي عيينة يصرّح بنسبه الجامع له و لفاطمة من أبيات له:

و لأنت إن متّ المصابة بي *** فتجنّبي قتلي بلا وتر

فلئن هلكت لتلطمن جزعا *** خدّيك قائمة على قبري

من شعره الّذي يكنى فيه بدنيا:

قال أحمد: و أنشدني أبي أيضا في تصديق ذلك، و أنه كان يكنى بدنيا عن غيرها:

ما لدنيا تجفوك و الذنب منها *** إنّ هذا منها لخبّ و مكر

عرفت ذنبها إليّ فقالت *** ابدءوا القوم بالصياح يفرّوا

قد أمرت الفؤاد بالصبر عنها *** غير أن ليس لي مع الحبّ أمر

/و كتمت اسمها حذارا من النا *** س و من شرهم و في الناس شرّ

/و يقولون بح لنا باسم دنيا *** و اسم دنيا سرّ على الناس ذخر

ثم قالوا ليعلموا ذات نفسي *** أعوان دنياك أم(1) هي بكر

فتنفست ثم قلت أبكر *** شبّ يا إخوتي عن الطّوق عمرو(2)

شعر له ينصح فيه بترك الإلحاح:

أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدّثني أبو خالد الأسلميّ قال: كان ابن أبي عيينة المهلّبي صديقي، و هو أبو عيينة بن المنجاب بن أبي عيينة، فجاءه رجل من جيرانه كان

ص: 276


1- كذا في م، مد. و في س، ب: «أو».
2- هو عمرو بن عدي، و خاله جذيمة. و كبر عمرو عن الطوق: مثل يضرب لمن يلابس ما هو دون قدره.

يستثقله، فسأله حاجة فقضاها، ثم سأله أخرى فوعده بها، ثم سأله ثالثة فقال:

خفّف على إخوانك المؤنا *** إن شئت أن تبقى لهم سكنا

لا تلحفنّ إذا سألت ففي ال *** إلحاف إجحاف بهم و عنا

فقام الرجل و انصرف.

يطلب عزل أمير البصرة فلا يجاب و يمنح صلة عوضا:

أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد، قال: حدّثني المبرّد قال:

وفد ابن أبي عيينة إلى طاهر بن الحسين يسأله أن يعزل أمير البصرة، و كان من قبله فدافعه، و عرض عليه عوضا خطيرا من حاجته، و وعده أن يستصلح له ذلك الأمير و يزيله عما كرهه، فأبى عزله و أجزل صلته، فقال ابن أبي عيينة فيه:

يا ذا اليمينين(1) قد أوقرتني مننا *** تترى هي الغاية القصوى من المنن

و لست أستطيع من شكر أجيء به *** إلاّ استطاعة ذي روح و ذي بدن

/لو كنت أعرف فوق الكشر منزلة *** أوفى من الشكر عند اللّه في الثمن

أخلصتها لك من قلبي مهذّبة *** حذوا على مثل ما أوليت من حسن

أساء والي البصرة جواره فطلب عزله فأجيب إلى طلبه:

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ قال: حدّثني أبي عن أبي عكرمة عامر بن عمران، و أخبرني به عمي عن أحمد بن يزيد المهلّبيّ عن أبيه قال:

كان إسماعيل بن سليمان واليا على البصرة خليفة لطاهر بن الحسين، فأساء مجاورة ابن أبي عيينة حتى تباعد بينهما و قبح، و أظهر إسماعيل تنقصّه و عيبه، فخرج إلى طاهر ليشكو إسماعيل، و يسعى في عزله عن البصرة، فبعد ذلك عليه بعض البعد، و سافر طاهر بن الحسين إلى وجه أمر بالخروج إليه، فصحبه ابن أبي عيينة في سفره، فتذمّم من ذلك، و أمر بإيصاله إليه، فلما دخل ابن أبي عيينة إليه سأله عن حوائجه و أدناه، و أمره برفعها فأنشده:

من أوحشته البلاد لم يقم *** فيها و من آنسته لم يرم

و من يبت و الهموم قادحة *** في صدره بالزّناد لم ينم

و من ير النقص من مواطئه *** يزل عن النقص موطئ القدم

و القرب ممن ينأى بجانبه *** صدع على الشعب غير ملتئم(2)

و ربّ أمر يعيا اللبيب به *** يظلّ منه في حيرة الظّلم

صبر عليه كظم على مضض *** و تركه من مواقع الندم

ص: 277


1- لقب بذلك لأنه ضرب شخصا بيساره فقده نصفين، فلقبه به المأمون.
2- زيادة من م، مو، مد.

/يا ذا اليمينين لم أزرك و لم *** آتك من خلّة و من عدم

إني من اللّه في مراح غنى *** و مغتدى(1) واسع و في نعم

/زارتك بي همة منازعة *** إلى العلا من كرائم الهمم

و إنني للجميل محتمل *** في القدر من منصبي و من شيمي

و قد تعلّقت منك بالذمم الك *** برى الّتي لا تخيب في الذمم

فإن أنل بغيتي فأنت لها *** في الحق حقّ الرجاء و الرّحم

و إن يعق عائق فلست على *** جميل رأي عندي بمتّهم

في قدر اللّه ما أحمّله *** تعويق امرئ في اللّوح و القلم

لم يضق الصبر و الفجاج على *** حرّ كريم بالصبر معتصم

ماض كحدّ السنان في طرف الع *** امل(2) أو حدّ مصلت خذم(3)

إذا ابتلاه الزمان كشفه *** عن ثوب حرّية و عن كرم

ما ساء ظني إلا بواحدة *** في الصدر محصورة عن الكلم

ليهن قوم جزت المدى بهم *** و لم تقصّر فيهم و لم تلم(4)

و ليس كلّ الدّلاء راجعة *** بالنّصف من ملئها(5) إلى الوذم(6)

ترجع بالحمأة(7) القليلة أحي *** انا و رنق الصّبابة(8) الأمم(9)

ما تنبت الأرض كلّ زهرتها *** و لا تعمّ السماء بالدّيم

/ما فيّ نقص عن كلّ منزلة *** شريفة و الأمور بالقسم

فأجابه طاهر:

من تستضفه الهموم لم ينم *** إلاّ كنوم المريض ذي السّقم

و لا يزل قلبه يكابد ما *** تولد فيه الهموم من ألم

و قد سمعت الّذي هتفت به *** و ما بأذني عنك من صمم

ص: 278


1- كذا في م، أ. و في س، ب: «منتدى»، تحريف.
2- العامل: طرف الرمح مما يلي السنان.
3- خذم: قاطع.
4- زيادة من م، مو، مد.
5- في س، ب: «مائها».
6- الوذم: السيور بين آذان الدلو إلى العراقي، جمع عرقوة كترقوة، و هي من الدلو خشبتان تعرضان عليها كالصليب.
7- الحمأة: الطين الأسود.
8- الصبابة: البقية من الماء.
9- الأمم: اليسير.

و قد علمنا أن لست تصحبنا *** لفاقة فيك لا و لا عدم

إلا لحقّ و حرمة و على *** مثلك رعي الحقوق و الحرم

أنت امرؤ لا تزول عن كرم *** إلا إلى مثله من الكرم

و أنت من أسرة جحاجحة *** فازوا بحسن الفعال و الشّيم

فما ترم من جسيم منزلة *** فالحكم فيه إليك فاحتكم

إن كنت مستقيا سماحتنا *** منّا تجدك اليدان بالدّيم

أو ترم في بحرنا بدلوك لا *** نعدمك ملئا لها إلى الوذم

إنا أناس لنا صنائعنا *** في العرب معروفة و في العجم

مغتنمو كسب كلّ محمدة *** و الكسب للحمد غير مغتنم

فاحتكم عليه أبو عيينة في عزل إسماعيل بن جعفر عن البصرة، فعزله عنها و أمر له بمائة ألف/درهم.

شعره في والي البصرة بعد عزله:

فقال أبو عيينة في عزله(1) إسماعيل بن جعفر عن إمارة البصرة:

لا تعدم العزل يا أبا الحسن *** و لا هزالا في دولة السّمن

و لا انتقالا من دار عافية *** إلى ديار البلاء و المحن

/أنا الّذي إن كفرت نعمته *** أذاب ما في جنبيك من عكن(2)

يهجو نزارا، فيرد عليه ابن زعبل:

حدّثني عيسى بن الحسين قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه الحزنبل الأصبهانيّ قال:

كان ابن أبي عيينة قد هجا نزارا بقصيدة له مشهورة، و فضّل عليها قحطان، فقال ابن زعبل يهجوه و يرد عليه، و اسمه عمرو بن زعبل:

بنيّ أبي عيينة ما *** نطقت به من اللّغط؟

على ما أنت ملتحف *** من الأوجاع في الوسط

لما في الدّبر من نغل *** و ما في العرض من سقط

أتتنا الخمس و المائتا *** ن بالنّعماء و الغبط

أمير من هلال مس *** تطيل الباع منبسط

شريف ليس بالمدخو *** ل في عرض و لا رهط

أظنك من يديه وا *** قعا لا شك في ورط

ص: 279


1- م، أ: «أبو عيينة يذكر عزله».
2- العكن: جمع عكنة، و هي ما انطوى و تشنى من لحم البطن سمنا.

و والى الخرج فياض ال *** يدين بنائل سبط(1)

له نعم حباك بها *** فلم تحفظ و لم تحط

و قاض من أمير المؤ *** منين يقوم بالقسط

يسرّك أن من آ *** ل قحطان على شحط

و أنك إن ذكرت يقا *** ل شيخ فاسق الشمط(2)

/أعبد من عبيد عما *** ن عاب مناقب السّبط

و تهجو الغرّ من مضر *** كفى هذا من الشّطط

تيمّم في مقيّرة(3) *** مسيرا غير مغتبط(4)

مجوّفة مزيّنة *** بودع(5) لاح كالرّقط

بنوك تجرها بالقل *** س مؤتزرين بالفوط

متى غمسوا(6) مراديهم(7) *** لجدّ السير تحتلط(8)

و أنت بموضع السّكا *** ن يمسكه بلا غلط

عليك عباءة مشكو *** كة بالشّوك لم تخط

فطيّب ريح بلدتنا *** فرارك خيفة الشّرط

و أنك قد عرفت بكث *** رة التخليط و الغلط

ترى الخسران إن لم تز *** ن في يوم و لم تلط

طلبه المأمون لهجائه نزارا ففر إلى عمان:

قال: و كان ابن أبي عيينة لما هجا نزارا بلغ شعره المأمون، فنذر دمه، فهرب من البصرة/و ركب البحر إلى عمان، فلم يزل بها متواريا في نواحي الأزد حتى مات المأمون.

/أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدّثني ابن مهرويه عن أبيه بقصة ابن أبي عيينة مع ابن زعبل، فذكر نحو الخبر المتقدم.

ص: 280


1- سبط: ممتد.
2- الشمط: بياض الرأس يخالطه سواد.
3- مقيرة، المراد سفينة مطلية بالقار.
4- مغتبط: مغبوط.
5- الودع: خرز بيض تخرج من البحر تتفاوت في الصغر.
6- كذا في مد. س: «غمزوا»، تحريف.
7- كذا في م، أ. و في س، ب: «مداريهم» تحريف. و المرادي جمع مرادة، و هي خشبة تدفع بها السفينة.
8- كذا في م، أ، أي تسرع. و في س، ب: «تختلط».
يشبب بوهبة ثم يعدل إلى دنيا:

حدّثني عمي قال: حدّثني أحمد بن يزيد المهلبيّ؛ قال: حدّثني أبي قال:

كان ابن أبي عيينة يشبّب بوهبة جارية القروي، و هي الّتي يقول فيها فروج(1) الزنى قوله:

يا وهب لم يبق لي شيء أسر به *** إلا الجلوس فتسقيني و أسقيك

ثم عدل عن التشبيب بها إلى دنيا، و ذكرهما جميعا في شعره فقال:

أرسلت وهبة لما رأتني *** بعد سقم من هواها مفيقا:

أ تغيّرت كأن لم تكن لي *** قبل أن تعرف دنيا صديقا

قد لعمري كان ذاك و لكن *** قطعت دنيا عليك الطريقا

شعر له يدل على أنه كان يكنى بدنيا عن فاطمة:

أخبرني عمي قال: حدّثني أحمد بن يزيد عن أبيه قال:

لما ولي عمر بن حفص هزار(2) مرد البصرة - قال ابن أبي عيينة في ذلك و في دنيا يكنى بها عن فاطمة بنت عمر بن حفص صاحبته:

هنيئا لدنيا هنيئا لها *** قدوم أبيها على البصرة

على أنها أظهرت نخوة *** و قالت لي الملك و القدره

فيا نور عيني كذا عاجلا *** عليّ تطاولت بالإمره

قال: و هذا دليل على أنه كان يكنى عن فاطمة بدنيا، لا أنه كان يهوى جاريتها دنيا.

/قال أحمد بن يزيد: و فيها يقول أيضا:

يا حسنها يوم قالت لي مودّعة *** لا تنس ما قلت، من فيها إلى أذني

كأنني لم أصل دنيا علانية *** و لم أزر أهل دنيا زورة الختن

جسمي معي غير أن الرّوح عندكم *** فالرّوح في وطن و الجسم في وطن

فليعجب الناس مني أنّ لي جسدا *** لا روح فيه و لي(3) روح بلا بدن

و في هذه الأبيات هزج طنبوريّ محدث.

يرثي أخاه داود و قد مات في طريقه إليه:

أخبرني عمي قال: حدّثني أحمد بن يزيد عن أبيه قال:

ص: 281


1- ذكر في «الأغاني» (126:13) باسم فروخ الطالحي. و في «معجم الشعراء»: 504 باسم فروخ الطلحي المدني. قال: و يقال فرخ الزنى.
2- هزار مرد: كلمة فارسية معناها ألف رجل.
3- كذا في ب، م، أ، مد. و في س: «و لا روح» تحريف.

ورد على ابن أبي عيينة كتاب من بعض أهله بأن أخاه داود خرج إليه ببريد(1)، فمات بهمذان، فقال ابن أبي عيينة عند ذلك يرثيه:

أ نائحة الحمام قفي فنوحي *** على داود رهنا في ضريح

لدى الأجيال(2) من همذان راحت *** به الأيام للموت المريح

و لم يشهد جنازته البواكي *** فتبكيه بمنهلّ سفوح

و كوني مثله إذ كان حيا *** جوادا بالغبوق و بالصّبوح

أ نائحة الحمام فلا تشحّى *** عليه فليس بالرجل الشحيح

و لا بمثمّر مالا لدنيا *** و لا فيها بمغمار طموح

يبيع كثير ما فيها بباق *** ثمين من عواقبه ربيح

و من آل المهلّب في لباب *** لباب الخالص المحض الصريح

/همو أبناء آخرة و دنيا *** و أهداف المراثي و المديح

يقدم إلى الكوفة فيحب قينة فيها:

أخبرني عمي، قال: حدثنا أحمد بن يزيد عن أبيه قال:

قدم أبو عيينة إلى الكوفة في بعض حوائجه، فعاشره جماعة من وجوه أهلها، و أقام بها مدة، و ألف فيها قينة كان يعاشرها و أحبها حبّا شديدا، فقال فيها:

لعمري لقد أعطيت بالكوفة المنى *** و فوق المنى بالغانيات النّواعم

و نادمت أخت الشمس حسنا فوافقت *** هواي و مثلي مثلها فلينادم

و أنشدتها شعري بدنيا فعربدت *** و قالت: ملول عهده غير دائم

فقلت لها يا ظبية الكوفة اغفري *** فقد تبت مما قلت توبة نادم

فقالت قد استوجبت منا عقوبة *** و لكن سنرعى فيك روح ابن حاتم

شعره في بستان له و ضيعة:

قال أحمد بن يزيد، قال لي أبي:

كان لابن أبي عيينة بستان و ضيعة في بعض قطائع المهلّب بالبصرة، فأوطنها(3) و صيّرها منزله، و أقام بها، و فيها يقول:

ص: 282


1- كذا في س، ب. م، أ: «يريده».
2- كذا في م، أ. س، ب: «الأجباب»، جمع جب و هو البئر الّتي لم تطو، أو مما وجد لا مما حفره الناس.
3- أوطنها: اتخذها وطنا.

يا جنة فاقت الجنان فما *** تبلغها قيمة و لا ثمن

ألفتها فاتخذتها وطنا *** إنّ فؤادي لأهلها وطن

زوّج حيتانها الضّباب بها *** فهذه كنّة(1) و ذا ختن(2)

فانظر و فكّر فيما نطقت به *** إنّ الأريب المفكّر الفطن

من سفن كالنّعام مقبلة *** و من نعام كأنها سفن

ينشد الموصلي من شعره:
اشارة

أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدّثنا الزبير بن بكّار و قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، أن أبا عيينة أنشده لنفسه:

صوت

لا يكن منك ما بدا لي بعيني *** ك من اللحظ حيلة و اختداعا

إن يكن في الفؤاد شيء و إلاّ *** فدعيني لا تقتليني ضياعا

فلعلّي إذا قربت تباعد *** ت و أظهرت جفوة و امتناعا

حين نفسي لا تستطيع لما قد *** وقعت فيه من هواها ارتجاعا

في هذه الأبيات رمل مطلق محدث.

كان أخوه عبد اللّه شاعرا و له شعر في عتاب خالد البرمكي:

أخبرني عمي قال: حدّثني أحمد بن يزيد قال: حدّثني أبي قال:

كان عبد اللّه بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة شاعرا، و هو القائل يعاتب محمد بن يحيى بن خالد البرمكيّ بأبيات رائية أولها:

اسلم و إن كان فيك عنّي *** قبض لكفّيك و ازورار

تلحظني عابسا قطوبا *** كأنما بي إليك ثار

لو كان أمر عتبت فيه *** يجوز منه لي(3) اعتذار

أو كنت سآلة حريصا *** لحان منّي لك الفرار

أو كنت نذلا عديم عقل *** لا منصب لي و لا نجار

أو لم أكن حاملا بنفسي *** ما تحمل الأنفس الكبار

/و أنني من خيار قومي *** و كلّ أهلي فتى خيار

ص: 283


1- الكنة: امرأة الابن.
2- الختن: زوج الابنة.
3- س: «يجوز لي منه»، تحريف.

/عذرت إن نالني جفاء *** منك و إن نالني ضرار

لكنّ ذنبي إليك أني *** قحطان لي الجدّ لا نزار

عليك مني السّلام، هذا *** أوان ينأى بي المزار

ما كنت إلاّ كلحم ميت *** دعا إلى أكله اضطرار

راحت على الناس لابن يحيى *** محمد ديمة غزار(1)

و لم يكن ما أنلت(2) منه *** بقدر ما ينجلي الغبار

قد أصبح الناس في زمان *** أعلامه السّفلة الشّرار

يستأخر السابق المذكّى *** فيه و يستقدم الحمار

و ليس للمرء ما تمنى *** يوما و ما إن له اختيار

ما قدّر اللّه فهو آت *** و في مقاديره الخيار

يهجو قبيصة بن روح المهلبي، و يمدح داود بن عمه:

أخبرني عمي قال: حدثنا أبو هفّان، قال:

كان ابن أبي عيينة قد قصد ربيعة بن قبيصة بن روح بن حاتم المعلّبيّ و استماحه، فلم يجد عنده ما قدّر فيه، فانصرف مغاضبا، فوجه إليه داود بن مزيد بن حاتم بن قبيصة، فترضّاه، و بلغ ما أحبه و رضيه من برّه، و معونته، فقال يمدحه و يهجو قبيصة:

أ قبيص لست و إن جهدت بمدرك *** سعي ابن عمك ذي العلا داود

شتان بينك يا قبيص و بينه *** إن المذمّم ليس كالمحمود

/اختار داود بناء محامد *** و اخترت أكل شبارق(3) و ثريد

قد كان مجد أبيك لو أحببته *** روح أبي(4) خلف كمجد يزيد

لكن جرى داود جري مبرّز *** فحوى المدى و جريت جري بليد

داود محمود و أنت مذمّم *** عجبا لذاك و أنتما من عود

و لربّ عود قد يشقّ لمسجد *** نصفا و سائره لحشّ (5) يهود

فالحشّ أنت له و ذاك لمسجد *** كم بين موضع مسلح و سجود

هذا جزاؤك يا قبيص لأنه *** جادت يداه و أنت قفل حديد

ص: 284


1- كذا بالنسخ. كأنها على حد قولهم: أرض قفار، بكسر القاف، جمعوها على توهم أن كل موضع منها قفر.
2- كذا في م، أو في س، ب: «نلت»، تحريف.
3- الشبارق: جمع شبرق كزبرج، و من معانيه: النبات المنتن يرمى به البحر و في ف: «شرائح».
4- س، ب: «أبا» تحريف.
5- الحش: بيت الخلاء.
يدعوه حذيفة مولى جعفر بن سليمان إلى مجلس فيقول في ذلك شعرا:

حدّثني جعفر بن قدامة قال: حدّثنا حماد بن إسحاق قال: حدّثني أبي قال:

كانت لأبي حذيفة مولى جعفر بن سليمان جارية مغنّية يقال لها: بستان، فبلغه أن أبا عيينة بن محمد بن عيينة ذكر لبعض إخوانه محبته لها و لاستماع غنائها فدعاه، و سأله أن يطرح الحشمة بينه و بينه، فأجابه إلى ذلك، و قال لما سكر و انصرف من عنده في ذلك:

أ لم ترني على كسلي و فتري *** أجبت أبا حذيفة إذ دعاني

و كنت إذا دعيت إلى سماع *** أجبت و لم يكن منّي تواني

كأنّا من بشاشتنا ظللنا *** بيوم ليس من هذا الزمان

يهجو عيسى بن موسى لأنه لم يعطه سمادا لضيعته:

/أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني محمد بن عثمان قال:

/كانت لعيسى بن موسى ضيعة إلى جانب ضيعة ابن أبي عيينة بالبصرة، و كان له إلى جانب ضيعته سماد كثير، فسأله أن يعطيه بعضه ليعمر ابن أبي عيينة به ضيعته، فلم يفعل فقال فيه:

رأيت الناس همّهم المعالي *** و عيسى همّه جمع السّماد

و رزق العالمين بكف ربّي *** و عيسى رزقه في است العباد

هكذا ذكره ابن مهرويه، و هذا بيت فاسد، و إنما هو:

إذا رزق العباد فإنّ عيسى *** له رزق من استاه العباد

أخباره مع ابن عمه خالد و سبب هجائه إياه:

و لابن أبي عيينة مع ابن عمه خالد أخبار جمة أذكرها هاهنا و السبب الّذي حمله على هجائه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش ببعضها، عن محمد بن يزيد المبرّد، و ببعضها عن أحمد بن يزيد المهلّبيّ عن أبيه، و قد جمعت روايتهما(1) فيما اتفقا عليه، و نسبت كلّ ما انفرد به أحدهما أو خالف فيه إليه، و ذكرت في فصول ذلك و خلاله ما لم يأتيا به مما كتبته عن الرواة، قالا جميعا:

ولي خالد بن زيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب جرحان، فسأل يزيد بن حاتم أبا عيينة أن يصحبه و يخرج معه، و وعده الإحسان و الولاية، و أوسع له المواعيد. و كان أبو عيينة جنديّا، فجرد اسمه في جريدته، و أخرج رزقه معه، فلما حصل لجرجان أعطاه رزقه لشهر واحد، و اقتصر على ذلك، و تشاغل عنه و جفاه، فبلغه أنه قد هجاه و طعن عليه، و بسط لسانه فيه، و ذكره بكل قبيح عند أهل عمله و وجوه رعيّته، /فلم يقدر على معاقبته، لموضع أبيه و سنّه و محلّه في أهله، فدعا به، و قال له: إنه قد بلغني أنك تريد أن تهرب فإما أن أقمت لي كفيلا برزقك أو رددته، فأتاه بكفيل فأعنته، و لم يقبله، و لم يزل يردّده حتى ضجر، فجاءه بما قبض من الرزق فأخذه.

من هجائه لابن عمّه:

و لجّ أبو عيينة في هجائه و أكثر فيه حتى فضحه، فقال في هذا عن أحمد بن يزيد المهلّبيّ:

ص: 285


1- كذا في ب: م. و في أ: «روايتهما».

دنيا دعوتك مسرعا فأجيبي *** و بما اصطفيتك في الهوى فأثيبي

دومي أدم لك بالصفاء على النوى *** إني بعهدك واثق فثقي بي

و من الدليل على اشتياقي عبرتي *** و مشيب رأسي قبل حين مشيبي

أبكي إليك إذا الحمامة طرّبت *** يا حسن ذاك إليّ من تطريب

تبكي على فنن الغصون حزينة *** حزن الحبيبة من فراق حبيب

و أنا الغريب فلا ألام على البكا *** إن البكا حسن بكلّ غريب

أ فلا ينادي للقفول برحلة *** تشفى جوى من أنفس و قلوب

ما لي اصطفيت على التعسف خالدا *** و اللّه ما أنا بعدها بأريب

تبّا لصحبة خالد من صحبة *** و لخالد بن يزيد من مصحوب

يا خالد بن قبيصة هيّجت بي *** حربا فدونك فاصطبر لحروبي

لما رأيت ضمير غشك قد بدا *** و أبيت غير تجهّم(1) و قطوب

/و عرفت منك خلائقا جرّبتها *** ظهرت فضائحها على التجريب

خلّيت عنك مفارقا لك عن قلى *** و وهبت للشيطان منك نصيبي

فلئن نظرت إلى الرّصافة مرة *** نظرا يفرج كربة المكروب

/لأمزّقنّك قائما(2) أو قاعدا *** و لأروينّ عليك(3) كلّ عجيب

و لتأتينّ أباك فيك قصائد *** حبّرتها بتشكّر مقلوب

و لينشدنّ بها الإمام قصيدة *** و لتشتمنّ و أنت غير مهيب

و لأوذينّك مثلما آذيتني *** و لأشلين(4) على نعاجك ذيبي

يهجو ابن عمه و قد كتب إليه أخوه بسلامته و سلامة أهل بيته:

قال أحمد بن يزيد في خبره: حدّثني أبي قال:

أعرس داود بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة بالبصرة، و أخوه غائب يومئذ مع ابن عمه خالد بجرجان، فكتب داود إلى أخيه يخبره بسلامته و سلامة أهل بيته، و بخبر نقله أهله إليه، فقال أبو عيينة(5) في ذلك:

ألا ما لعينك معتلّه *** و منا لدموعك منهلّه

ص: 286


1- في ب: «تهجم»، تحريف.
2- في م، أ: «بك» تحريف.
3- يريد لأنشرن أعاجيب من عيوبك، فالعرب تستعمل على في مثل هذا المقام للشر. و مثله قول الفرزدق في عنبسة الفيل: لقد كان في معدان و الفيل زاجر لعنبسة الراوي عليّ القصائدا
4- المراد: لأغرين، من أشلى الدابة: أراها المخلاة لتأتيه و الناقة، دعاها للحلب.
5- في م، أ: «عرف ذلك».

و كيف بجرجان صبر امرئ *** وحيد بها غير ذي خلّه

و أطول بليلك أطول به *** إذا عسكر القوم بالأثله(1)

و راعك من خيله حاشر *** من القوم ليست له قبله

يسوقك نحوهم مكرها *** و داود بالمصر في غفله

عروس ينعّم من تحته *** سرير و من فوقه كلّه

و ما مدنف بين عوّاده *** ينادي و في سمعه ثقله

/بأوجع منّي إذا قيل لي: *** تأهب إلى الريّ بالرّحله

و ما لي و للرّيّ لو لا الشقا *** ء إن كنت عنها لفي عزله

أكلفّ أجبالها شاتيا *** على فرس أو على بغله

و أهون من ذاك لو سهّلوه *** ركوب القراقير(2) في دجله

تروح إلينا بها طربة(3) *** رواح الندامى إلى دلّه

أ خالد خذ من يدي لطمة *** تغيظ و من قدمي ركله

جمعت خصال الردى جملة *** و بعت خصال الندى جمله

فمالك في الخير من خلة *** و كم لك في الشر من خله

و لما تناضل أهل العلا *** نضلت فأذعنت للنّضله

فما لك في المجد يا خالد *** مقرطسة(4) لا و لا خصله

و أسرعت في هدم ما قد بنى *** أبوك و أشياخه قبله

و كانت من النّبع عيدانهم *** نضارا و عودك من أثله

فيا عجبا نبعة أنبتت *** خلافا(5) و ريحانة بقله

ثيابك للعبد مطوية *** و عرضك للشمّ و البذلة

/أجعت بنيك و أعريتهم *** و لم تؤت في ذاك من قلّة

إذا ما دعينا لقبض العطاء *** و هيأت كيسك للغلّه

/و جلّة(6) تمر تغادي بها *** فتأتي على آخر الجلّه

ص: 287


1- الأثلة: قرية بالجانب الغربي لبغداد.
2- القراقير: جمع قرقور كعصفور، و هو السفينة.
3- لعلها مخفف طربة بمعنى فرحة أو مشتاقة.
4- كذا في م، أ. و المقرطسة: الرمية تصيب الغرض. س: «مقرطسة»، تحريف.
5- الخلاف: شجر كالصفصاف و ليس به.
6- الجلة: القفة الكبيرة للتمر.

و تقصي بنيك و هم بالعرا *** ء نزلهم الملح و الملّة(1)

و لو كان خبز و تمر لديك *** لما طمعوا منك في فضله

و تصبح تقلس(2) عن تخمة *** كأنّ جشاءك عن فجله

إذا الحيّ راعهم رائع *** فأوهن(3) من غادة طفله

و ليث يصول على قرنه *** إذا ما دعيت إلى أكله

فلله درّك عند الخوا *** ن من فارس صادق الحمله

و إن جاءك الناس في حاجة *** تفكرت يومين في العله

و تلقاهم أبدا كالحا *** كأن قد عضضت على بصله

فهذا نصيبي من خالد *** لكم هنة بتّة بتله(4)

و إني لصحبته مبغض *** و لا خير في صحبة السّفله

ينشد مسلم بن الوليد من هجائه في ابن عمه:

حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار الثقفيّ قال: حدّثني أبو الحسن بن المنجّم قال:

رأيت مسلم بن الوليد الأنصاريّ يوما عند أبي، ثم خرج من عنده، فلقيه ابن أبي عيينة، فسلّم عليه و تحفّى به، ثم قال له: ما خبرك مع خالد؟ قال: الخبر الّذي تعرفه، ثم أنشده قوله فيه:

/يا حفص عاط أخاك عاطه *** كأسا تهيّج من نشاطه

قال: و مسلم يتبسم من هجائه إياه حتى مر فيها كلّها، ثم ختمها بقوله:

و إذا تطاولت الرء *** وس فغطّ رأسك ثم طأطه

فقال مسلم: مه، إنا للّه! هتكته و اللّه و أخزيته، و إنما كنت أظن أنك تمزح و تهزل إلى آخر قولك حتى ختمته بالجدّ القبيح، و أفرطت فيما خرجت به إليه، ثم مضى و هو يقول: فضحته و اللّه، هتكته و اللّه!

يستنشده دعبل من هجائه لابن عمه فينشده:

أخبرني عمي قال: حدّثني أحمد بن يزيد قال: حدّثني أبي قال:

لقي دعبل أبا عيينة فقال له:

أنشدني قولك في ابن عمك فأنشده:

يا حفص عاط أخاك عاطه *** كأسا تهيّج من نشاطه

ص: 288


1- الملة: الرماد الحار، و لعل المراد خبز الملة.
2- قلس، كضرب: خرج من بطنه طعام أو شراب إلى الفم، سواء ألقاه أم أعاده إلى بطنه إذا كان ملء الفم أو دونه. و في س، ب: «تفلس»، تحريف.
3- كذا في م، أ. مد. و في س، ب: «فأهن»، تحريف.
4- بتلة: بائنة مقتطعة.

صرفا يعود لوقعها *** كالظبي أطلق من رباطه

صبّا طوت عنه الهمو *** م نعيمه بعد انبساطه

فبكى و حق له البكا *** لشقائه بعد اغتباطه

جزع المخنّث خالد *** لمّا وقعت على قماطه

فانظر إلى نزواته *** من منطقي و إلى اختلاطه

دعني و إيّا خالد *** فلأقطعنّ عرى نياطه(1)

إني وجدت كلامه *** فيه مشابه من ضراطه

/رجل يعدّ لك الوعي *** د إذا وطئت على بساطه

/و إذا انتظرت غداءه *** فخف البوادر من سياطه

يا خال صدّ المجد عن *** ك فلن تجوز على صراطه

و عريت من حلل الندى *** عري اليتيم و من رياطه(2)

فإذا تطاولت الرءو *** س فغطّ رأسك ثم طأطه

فقال له دعبل: أغرقت و اللّه في النّزع و أسرفت، و هتكت ابن عمّك و قتلته و غضضت منه، و إنما استنشدتك و أنا أظن أنك قلت كما يقول الناس قولا متوسطا، و لو علمت أنك بلغت به هذا كله لما استنشدتك(3).

أخبرني بهذا الخبر الحسن بن عليّ و عمي قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني الحسين بن السريّ قال:

لقي دعبل أبا عيينة فقال له: أنشدني بعض ما قلت في ابن عمك، ثم ذكر الخبر مثل ما ذكره أحمد بن يزيد، و قال فيه: إنما ظننت أنك قلت فيه قولا أبقيت معه عليه بعض الإبقاء، و لو علمت أنك بلغت به هذا كلّه و أغرقت هذا الإغراق ما(4) استنشدتك، و جعل يعيد «فغطّ رأسك ثم طأطه»، و يقول: قتله و اللّه!

من مختار هجائه في خالد:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثني محمد بن يزيد قال:

و من مختار ما قاله في خالد قوله:

قل لدنيا باللّه لا تقطعينا *** و اذكرينا في بعض ما تذكرينا

لا تخوني بالغيب عهد صديق *** لم تخافيه ساعة أن يخونا

ص: 289


1- النياط: عرق غليظ نيط به القلب إلى الوتين، فإذا قطع مات صاحبه، و الجمع أنوطة. و إضافة إيّا إلى خالد من الشذوذ في البيت.
2- في س: «رباطه»، تحريف.
3- في أ، م: «لم أستنشدك».
4- في س، ب: «لما».

/و اذكري عيشنا و إذ نفض(1) الرّ *** يح علينا الخيريّ (2) و الياسمينا

إذ جعلنا الشاهسفرام(3) فراشا *** من أذى الأرض و الظلال غصونا

حفظ اللّه إخوتي حيث كانوا *** من بلاد سارين أم مدلجينا

فتية نازحون عن كلّ عيب *** و هم في المكارم الأولونا

و هم الأكثرون يعلم ذاك الن *** اس، و الأطيبون للأطيبينا

أزعجتني الأقدار عنهم و قد كن *** ت بقربي منهم شحيحا ضنينا

و تبدلت خالدا لعنة اللّ *** ه عليه و لعنة اللاعنينا

رجل يقهر اليتيم و لا يؤ *** تى زكاة و ينهر المسكينا

و يصون الثياب و العرض بال *** و يرائي و يمنع الماعونا

نزع اللّه منه صالح ما *** أعطاه آمين عاجلا آمنا

فلعمر المبادرين إلى مك *** ة وفدا غادين أو رائحينا

إن أضياف خالد و بنيه *** ليجوعون فوق ما يشبعونا

و تراهم من غير نسك يصومو *** ن و من غير علّة يحتمونا

يا بني خالد دعوه و فرّوا *** كم على الجوع ويحكم تصبرونا

من مشهور هجائه في خالد:

قال محمد بن يزيد: و من مشهور شعره فيه قصيدته الّتي أولها:

/ألا خبّروا إن كان عندكم خبر *** أ نقفل أن نثوي على الهمّ و الضّجر؟

نفى النوم عن عيني تعرّض رحلة *** بها الهمّ و استولى بها بعده السهر

/فإن أشك من ليلي بجرجان طوله *** لقد(4) كنت أشكو فيه بالبصرة القصر

فيا حبّذا بطن الخرير(5) و ظهره *** و يا حسن واديه إذا ماؤه زخر

و يا حبذا نهر الأبلّة منظرا *** إذا مدّ في إبانه النهر أو جزر

و فتيان صدق همّهم طلب العلا *** و سيماهم التحجيل في المجد و الغرر(6)

لعمري لقد فارقتهم غير طائع *** و لا طيّب نفسا بذاك و لا مقر

ص: 290


1- في أ، م: «تنفض».
2- الخيري: نبات ذو زهر أصفر ذكي الرائحة.
3- الشاهسفرام: الريحان.
4- كذا في النسخ و لعلها «فقد».
5- الخرير: المكان المطمئن بين الربوتين.
6- الغرر: البياض في الوجه.

و قائلة ما ذا نأى بك عنهم *** فقلت لها لا علم لي فسلي القدر

فيا سفرا أودي بلهوى و لذتي *** و نغّصني عيشي عدمتك من سفر

دعوني و إيّا خالد بعد ساعة *** سيحمله شعري على الأبلق الأغرّ

كأني بصدق القول لما لقيته *** و أعلمته ما فيه ألقمته الحجر

دنيء به عن كل خير بلادة *** لكلّ قبيح عن ذراعيه قد حسر

له منظر يعمي العيون سماجة *** و إن يختبر يوما فيا سوء مختبر

أبوك لنا غيث يعاش بوبله *** و أنت جراد ليس يبقي و لا يذر

له أثر في المكرمات يسرّنا *** و أنت تعفّي دائما ذلك الأثر

لقد قنّعت قحطان خزيا بخالد *** فهل لك فيه يخزك اللّه يا مضر(1)

قول الرشيد و قد أنشد بيتا في هجاء خالد:

أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدّثني الزبير بن بكّار قال: حدّثني عمي قال: أنشد الرشيد قول ابن أبي عيينة:

لقد قنّعت قحطان خزيا بخالد *** فهل لك فيه يخزك اللّه يا مضر

/فقال الرشيد: بل يوقّرون و يشكرون.

يجمع هجاء رجل و مدح أبيه في بيت:

أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ قال: قال لنا أبو العباس محمد بن يزيد: لم يجتمع لأحد من المحدثين في بيت واحد هجاء رجل و مديح أبيه كما اجتمع لابن أبي عيينة في قوله:

أبوك لنا غيث نعيش بوبله *** و أنت جراد ليس يبقى و لا يذر

من جيد هجائه في خالد أيضا:

و قال محمد بن يزيد: و من جيّد قوله أيضا يهجو خالدا هذا:

على إخوتي مني السّلام تحية *** تحيّة مثن بالأخوة حامد

و قل لهم بعد التحية أنتم *** بنفسي و مالي من طريف و تالد

و عزّ عليهم أن أقيم ببلدة *** أخا سقم فيها قليل العوائد

لئن ساءهم ما كان من فعل خالد *** لقد سرهم ما قد فعلت بخالد

و قد علموا أن ليس مني بمفلت *** و لا يومه المسكين مني بواحد

أ خالد لا زالت من اللّه لعنة *** عليك و إن كنت ابن عمي و قائدي

ص: 291


1- م، أ: «فهل لك فيه بعدها يا مضر».

أ خالد كانت صحبتيك ضلالة *** عصيت بها ربي و خالفت والدي

/و أرسل يبغي الصلح لما تكنّفت *** عوارض جنبيه سياط القصائد

فأرسلت بعد الشرّ أني مسالم *** إلى غير ما لا تشتهي غير عائد

هو أهجى المحدثين في عصره:

أخبرني عمي قال: حدثنا الكرانيّ قال: زعم القحذميّ أن الرشيد قال للفضل بن الربيع: من أهجى المحدثين عندك يا فضل في عصرنا هذا؟ قال: الّذي يقول في ابن عمه:

لو كان ينقص يزدا *** د إذا نال السماء

خالد لو لا أبوه *** كان و الكلب سواء

/أنا ما عشت عليه *** أسوأ الناس ثناء

إنّ من كان مسيئا *** لحقيق أن يساء

فقال الرشيد: هذا ابن أبي عيينة، و لعمري لقد صدقت.

يقرأ الهادي قصيدة أرسلها إليه فيرده من جيش خالد:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أبي قال:

كان ابن أبي عيينة مع ابن عمه خالد بجرجان، فأساء به و جفاه، و كان لابن أبي عيينة صديقان من جند خالد من أهل البصرة، أحدهما مهلّبي و الآخر مولي للأزد، و كلهم شاعر ظريف، فكانوا يمدحون السّراة من أهل جرجان فيصيبون منهم ما يقوتهم. و ولى موسى الهادي الخلافة فكتب ابن عيينة إلى من كان في خدمة الخلفاء من أهله بهذه القصيدة:

كيف صبري و منزلي جرجان *** و العراق البلاد و الأوطان؟

نحن فيها ثلاثة حلفاء *** و ندامي على الهوى إخوان

نتساقى الهوى و نطرب للذّ *** كر كما تطرب النشاوي القيان

و إذا ما بكى الحمام بكينا *** لبكاه كأننا صبيان

يا زماني الماضي ببغداد عدلي *** طالما قد سررتني يا زمان

يا زماني المسيء أحسن فقد ما *** كان عندي من فعلك الإحسان

ما يريد العذّال مني أ ما *** يترك أيضا بغمه الإنسان؟(1)

و يقولون أملك هواك و أقصر *** قلت ما لي على الهوى سلطان

أيها الكاتم الحديث و قد طا *** ل به الأمر و انتهى الكتمان

/قد لعمري عرّضت حينا فبيّن *** ليس بعد التعريض إلاّ البيان

و اتخذ خالدا عدوا مبينا *** ما تعادى الإنسان و الشيطان

ص: 292


1- في أ، م: «إنسان».

و اله عنه فما يضرّك منه *** عضّ كلب ليست له أسنان

و لعمري لو لا أبوه لنا *** لته بسوء منّي يد و لسان

قل لفتياننا المقيمين بالبا *** ب ثقوا النجاح يا فتيان

لا تخافوا الزمان قد قام موسى *** فلكم من ردى الزمان أمان

أ و لم تأته الخلافة طوعا *** طاعة ليس بعدها عصيان؟

فهي منقادة لموسى و فيها *** عن سواه تقاعس و حران

/قل لموسى يا مالك الملك طوعا *** بقياد و في يديك العنان

أنت بحر لنا و رأيك فينا *** خير رأي لنا سلطان

فاكفنا خالدا فقد سامنا الخسف *** رماه لحتفه(1) الرحمن

كم إلى كم يغضى على الذّل منه *** و إلى كم يكون هذا الهوان؟

قال: فلما قرأ هذه القصيدة موسى الهادي أمر له بصلة، و أعطاه ما فات من رزقه، و أقفله من جيش خالد إليه.

صوت

أين محلّ الحيّ يا وادي؟ *** خبّر سقاك الرائح الغادي

مستصحب للحرب خيفانة(2) *** مثل عقاب السّرحة(3) العادي

بين خدور الظّعن محجوبة *** حدا بقلبي معها الحادي

و أسمرا(4) في رأسه أزرق(5) *** مثل لسان الحية الصادي

الشعر لدعبل بن عليّ الخزاعيّ، و الغناء لأحمد بن يحيى المكّي، خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن أبي عبد اللّه الهشامي.

ص: 293


1- كذا في ب، س: و في أ، م: «بحتفه».
2- خيفانة: يريد فرسا أو ناقة خفيفة وثابة.
3- السرحة: الشجرة العظيمة.
4- كذا في م، ما. و في س، ب: «و أسمر».
5- المراد نصل أزرق، أي شديد الصفاء.

6 - أخبار دعبل بن عليّ و نسبه

نسبه و كنيته:

هو دعبل بن عليّ بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل بن خداش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزيمة بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن مزيقيا(1)، و يكنى أبا علي.

شاعريته:

شاعر متقدّم مطبوع هجاء خبيث اللسان، لم يسلم عليه أحد من الخلفاء و لا من وزرائهم و لا أولادهم و لا ذو نباهة، أحسن إليه أو لم يحسن، و لا أفلت منه كبير أحد.

يناقض «الكميت» في مذهبته فيناقضه المخزومي:

و كان شديد التعصب على النّزارية للقحطانيّة، و قال قصيدة يردّ فيها على الكميت بن زيد، و يناقضه في قصيدته المذهبة الّتي هجا بها قبائل اليمن.

ألا حيّيت عنا يا مرينا(2)

فرأى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في النوم، فنهاه عن ذكر الكميت بسوء.

و ناقضه أبو سعد المخزوميّ في قصيدته و هجاه، و تطاول الشرّ بينهما، فخافت بنو مخزوم لسان دعبل و أن يعمّهم بالهجاء، فنفوا أبا سعد عن نسبهم، و أشهدوا بذلك على أنفسهم.

تشيعه و مكافأة علي بن موسى الرضا له:

و كان دعبل من الشيعة المشهورين بالميل إلى علي صلوات اللّه عليه، و قصيدته.

مدارس آيات خلت من تلاوة

من أحسن الشعر و فاخر المدائح المقولة في أهل البيت، عليهم السّلام، و قصد بها أبا الحسن(3) عليّ بن موسى الرّضا، عليه السّلام، بخراسان، فأعطاه عشرة آلاف درهم/من الدراهم المضروبة باسمه، و خلع عليه خلعة من ثيابه، فأعطاه بها أهل قمّ (4) ثلاثين ألف درهم، لم يبعها، فقطعوا عليه الطريق فأخذوها، فقال لهم: إنها إنما تراد للّه عزّ و جل، و هي محرّمة عليكم، فدفعوا إليه ثلاثين ألف درهم، فحلف ألاّ يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه، فأعطوه فردكم، فكان في أكفانه.

ص: 294


1- في س، ب: «هو يكنى».
2- م، أ: «مدينا».
3- كذا في م، أ، مد. س، ب: «أبا علي».
4- قم: مدينة إسلامية مصرها طلحة بن الأحوص بينها و بين قاشان اثنا عشر فرسخا.

و كتب قصيدته: «مدارس آيات» فيما يقال على ثوب، و أحرم فيه، و أمر بأن يكون في أكفانه. و لم يزل مرهوب اللسان و خائفا من هجائه للخلفاء، فهو دهره كلّه هارب متوار.

حدّثني إبراهيم بن أيوب قال: حدثنا عبد اللّه بن/مسلم بن قتيبة قال:

رأيت دعبل بن عليّ و سمعته يقول: أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة، لست أجد أحدا يصلبني عليها.

إبراهيم بن المهدي يحرض المأمون عليه:

حدّثني عمي قال: حدثنا ميمون بن هارون قال: قال إبراهيم بن المهدي للمأمون قولا في دعبل يحرضه عليه، فضحك المأمون، و قال: إنما تحرضني عليه لقوله فيك:

يا معشر الأجناد لا تقنطوا *** و ارضوا بما كان و لا تسخطوا

فسوف تعطون حنينيّة(1) *** يلتذها الأمرد و الأشمط

و المعبديّات(2) لقوّادكم *** لا تدخل الكيس و لا تربط

و هكذا يرزق قوّاده *** خليفة مصحفه البربط(3)

فقال له إبراهيم: فقد و اللّه هجاك أنت يا أمير المؤمنين، فقال: دع هذا عنك فقد/عفوت عنه في هجائه إياي لقوله هذا، و ضحك. ثم دخل أبو عبّاد، فلما رآه المأمون من بعد قال لإبراهيم: دعبل يجسر على أبي عبّاد بالهجاء و يحجم عن أحد؟ فقال له: و كأنّ أبا عبّاد أبسط يدا منك يا أمير المؤمنين؟ قال لا، و لكنه حديد جاهل لا يؤمن، و أنا أحلم و أصفح. و اللّه ما رأيت أبا عبّاد مقبلا إلاّ أضحكني قول دعبل فيه:

أولى الأمور بضيعة و فساد *** أمر يدبّره أبو عبّاد

و كأنه من دير هزقل مفلت(4) *** حرد(5) يجرّ سلاسل الأقياد

ما قاله أبوه من الشعر:

أخبرني الحسن بن علي الخفّاف قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أبي قال: أخبرني دعبل بن عليّ قال: قال لي أبي عليّ بن رزين: ما قلت شيئا من الشعر قطّ إلاّ هذه الأبيات:

خليليّ ما ذا أرتجي من غد امرئ *** طوى الكشح عنّي اليوم و هو مكين

و إن امرأ قد ضنّ منه بمنطق *** يسدّ به فقر امرئ لضنين

و بيتين آخرين و هما:

ص: 295


1- حنينية: يريد أغاني منسوبة إلى حنين المغني.
2- المعبديات: يريد الأغاني المنسوبة إلى معبد.
3- البربط، كجعفر: العود.
4- دير هزقل: دير بداوردان، و هزقل هو حزقل كزبرج، أو حزقيل النبي، و في س، ب: «هرقل»، تحريف و داوردان: قرية شرقي واسط بينهما فرسخ. وقع فيها الطاعون فخرج أهلها هاربين فأماتهم اللّه ثم أحياهم ليعتبروا. و قيل مر عليهم حزقيل بعد زمان طويل و قد عريت عظامهم و تفرقت أوصالهم فلوى شدقه و أصابعه تعجبا مما رأى فأوحي إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن اللّه فنادى فنظر إليهم قياما.
5- حرد: غضبان.

أقول لمّا رأيت الموت يطلبني *** يا ليتني درهم في كيس ميّاح

فيا له درها طالت صيانته *** لا هالك ضيعة يوما و لا ضاح

اسمه و اشتقاق دعبل:

أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم الكاتب قال: حدّثني أبو هفّان قال: قال لي دعبل قال لي أبو زيد الأنصاريّ:

ممّ اشتق دعبل؟ قلت: لا أدري، قال: الدّعبل: الناقة الّتي معها ولدها.

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال: حدّثني العنزي قال: حدّثني محمد بن أيوب قال:

دعبل اسمه محمد و كنيته أو جعفر، و دعبل: لقب لقّب به.

و حدّثني بعض شيوخنا عن أبي عمرو الشيبانيّ قال: الدّعبل: البعير المسنّ.

أحد اثنين ختم بهما الشعر:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: سمعت حذيفة بن الطائيّ يقول:

الدّعبل: الشيء القديم. قال ابن مهرويه: سمعت أبي يقول: ختم الشعر بدعبل، قال: و قال أبي: كان أبو محلّم يقول: ختم الشعر بعمارة بن عقيل.

رده على الكميت وضع قدره:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا ابن مهرويه قال: سمعت أبي يقول: /لم يزل دعبل عند الناس جليل القدر حتى ردّ على الكميت بن زيد:

ألا حيّيت عنا يا مرينا

فكان ذلك مما وضعه. قال: و قال: فيه أبو سعد المخزوميّ:

و أعجب ما سمعنا أو رأينا *** هجاء قاله حيّ لميت

و هذا دعبل كلف معنى *** بتسطير الأهاجي في الكميت

و ما يهجو الكميت و قد طواه الر *** دى إلاّ ابن زانية بزيت(1)

من ظن أن كلمة دعبل شتم:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثني محمد بن زيد قال: حدّثني دعبل قال:

/كنت جالسا مع بعض أصحابنا ذات يوم، فلما قمت سأل رجل لم يعرفني - أصحابنا عنّي، فقالوا: هذا دعبل، فقال: قولوا في جليسكم خيرا، كأنه ظن اللقب شتما.

يصيح في أذن مصرع: دعبل، فيفق:

أخبرني عليّ بن سليمان قال: حدّثني محمد بن يزيد قال: حدّثني دعبل قال:

صرع مجنون مرة فصحت في أذنه: دعبل، ثلاث مرات، فأفاق.

ص: 296


1- زيادة من م، في، مد.

و أخبرني بهذين الخبرين الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن محمد بن يزيد عن دعبل - و زاد فيه: قال دعبل:

و صرع مرة مجنون بحضرتي فصحت به: دعبل، ثلاث مرات فأفاق من جنونه.

سبب خروجه من الكوفة:

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ أبو(1) أحمد قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدّثني عليّ بن عمرو بن شيبان قال: حدّثني أبو خالد الخزاعيّ الأسلميّ، قال العنزيّ: و قد كتبت عن أبي خالد أشياء كثيرة و لم أكتب عنه هذا الخبر، قال:

كان سبب خروج دعبل بن عليّ من الكوفة أنه كان يتشطّر و يصحب الشّطار، فخرج هو و رجل من أشجع فيما بين العشاء و العتمة، فجلسا على طريق رجل من الصيارفة، و كان يروح كلّ ليلة بكيسه(2) إلى منزله، فلما طلع مقبلا إليهما وثبا إليه فجرحاه، و أخذا ما في كمّه، فإذا هي ثلاث رمانات في خرقة، و لم يكن كيسه ليلتئذ معه، و مات الرجل مكانه، و استتر دعبل و صاحبه، و جدّ أولياء الرجل في طلبهما، و جدّ السلطان في ذلك، فطال على دعبل الاستتار، فاضطر إلى أن هرب من الكوفة. قال أبو خالد: فما دخلها حتى كتبت إليه(3) أعلمه أنه لم يبق من أولياء الرجل أحد.

يشرح أسباب هجائه الناس:

أخبرني محمد بن عمران قال: حدّثني أبو خالد الخزاعيّ الأسلميّ قال:

قلت لدعبل: ويحك! قد هجوت الخلفاء و الوزراء و القوّاد و وترت الناس جميعا، فأنت دهرك كلّه شريد طريد هارب خائف، فلو كففت عن هذا و صرفت هذا الشرّ عن نفسك! فقال: ويحك؟ إني تأملت ما تقول، فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلاّ على الرهبة، و لا يبالي بالشاعر و إن كان مجيدا إذا لم يخف شرّه، و لمن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه. و عيوب الناس أكثر من محاسنهم، و ليس كلّ من شرّفته شرف، و لا كلّ من وصفته بالجود و المجد و الشجاعة و لم يكن ذلك فيه انتفع بقولك، فإذا رآك قد أوجعت عرض غيره و فضحته - اتقاك على نفسه و خاف من مثل ما جرى على الآخر. ويحك، يا أبا خالد إن الهجاء المقذع(4) آخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع. فضحكت من قوله، و قلت: هذا و اللّه مقال من لا يموت حتف أنفه.

البيت الّذي عرف به:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه/قال: حدّثني الحمدويّ الشاعر قال:

سمعت دعبل بن عليّ يقول: أنا ابن قولي:

لا تعجبي يا سلم من رجل *** ضحك المشيب برأسه فبكى

و سمعت أبا تمام يقول: أنا ابن قولي:

ص: 297


1- زيادة في س، ب، مد.
2- كذا في م، أ. س، ب: «يكسبه»، تحريف.
3- في م، أ: «كتبت إليه و كتب إليه أهله».
4- كذا في م، أ، س، ب: «المفرع»، تحريف.

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحبّ إلاّ للحبيب الأول

/قال الحمدوي: و أنا ابن قولي في الطيلسان:

طال ترداده إلى الرّقو حتى *** لو بعثناه وحده لتهدّي

قال الحمدويّ: معنى قولنا: أنا ابن قولي، أي أني به عرفت.

يسرق بيتا و يتفوق فيه على صاحبه:

أخبرني عليّ بن صالح قال: حدّثني أبو هفّان قال: قال مسلم بن الوليد:

مستعير يبكي على دمنة *** و رأسه يضحك فيه المشيب

فسرقه دعبل، فقال:

لا تعجبي يا سلم من رجل *** ضحك المشيب برأسه فبكى

فجاء به أجود من قول مسلم، فصار أحقّ به منه.

قال أبو هفّان: فأنشدت يوما بعض البصريين الحمقى قول دعبل.

ضحك المشيب برأسه فبكى

فجاءني بعد أيام، فقال: قد قلت أحسن من البيت الّذي قاله دعبل، فقلت له: و أيّ شيء قلت؟ فتمنّع ساعة، ثم قال: قلت:

قهقه في رأسك القتير(1)

أخبرني بهذه الحكاية الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي هفّان، قال: ذكر نحوه، و زاد فيه ابن مهرويه و حدّثني الحمدوي قال: سمع رجل قول المأمون:

قبّلته من بعيد *** فاعتلّ من شفتيه

فقال:

رقّ حتى تورّمت شفتاه *** إذ توهمت أن أقبّل فاه

يرتاح الشعر له غنت جارية به:

أخبرني عليّ بن الحسن(2) قال: حدّثني ابن مهرويه قال: حدّثني أبو ناجية - و زعم أنه من ولد زهير بن أبي سلمى - قال:

كنت مع دعبل في شهرزور(3)، فدعاه رجل إلى منزله و عنده قينة محسنة فغنّت الجارية بشعر دعبل:

أين الشباب و أية سلكا؟ *** لا، أين يطلب؟ ضلّ، بل هلكا

قال: فارتاح دعبل لهذا الشعر قال: قد قلت هذا الشعر منذ سبعين سنة.

ص: 298


1- القتير: الشيب.
2- م، مي: «أخبرني الحسن بن علي».
3- شهرزور: كورة بين إربل و همذان، أحدثها زور بن الضحاك. و معنى شهر بالفارسية: المدينة.
نسبة هذا الصوت
صوت

أين الشباب و أية سلكا؟ *** لا، أين يطلب؟ ضل، بل هلكا

لا تعجبي يا سلم من رجل *** ضحك المشيب برأسه فبكى

يا ليت شعري كيف نومكما *** يا صاحبي إذا دمي سفكا(1)

لا تأخذوا بظلامتي أحدا *** قلبي و طرفي في دمي اشتركا

قال: و الغناء لأحمد بن المكيّ، ثقيل أول بالوسطى مطلق.

يسرق من شعر الحسين بن مطير:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا ابن مهرويه قال: حدّثني أبو المثنّى أحمد بن يعقوب بن أخت أبي بكر الأصمّ قال:

/كنا في مجلس الأصمعيّ، فأنشده رجل لدعبل قوله:

لا تعجبي يا سلم من رجل *** ضحك المشيب برأسه فبكى

/فاستحسناه، فقال الأصمعي: إنما سرقه من قول الحسين بن مطير الأسديّ:

أين أهل القباب بالدهناء؟ *** أين جيراننا على الأحساء(2)

فارقونا و الأرض ملبسة نو *** ر الأقاحي تجاد بالأنواء

كلّ يوم بأقحوان جديد *** تضحك الأرض من بكاء السماء

يهجو جماعة أكلوا ديكا له وقع لهم:

أخبرني أحمد بن العباس العسكريّ قال: حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ قال: حدّثني أحمد بن خالد قال:

كنا يوما بدار صالح بن عليّ من عبد القيس ببغداد، و معنا جماعة من أصحابنا، فسقط على كنينة(3) في سطحه - ديك طار من دار دعبل، فلما رأيناه قلنا هذا صيدنا، فأخذناه. فقال صالح: ما نصنع به؟ قلنا: نذبحه، فذبحناه، و شويناه. و خرج دعبل فسأل عن الديك فعرف أنه سقط في دار صالح، فطلبه منا، فجحدناه، و شربنا يومنا. فلما كان من الغد خرج دعبل فصلّى الغداة، ثم جلس على المسجد، و كان ذلك المسجد مجمع الناس، يجتمع فيه جماعة من العلماء، و ينتابهم الناس، فجلس دعبل على المسجد و قال:

ص: 299


1- زيادة من م، مي، مد.
2- الأحساء: جمع حسي كظبي، و هو سهل من الأرض يستنقع فيه الماء و قيل غلظ فوقه رمل يجمع ماء المطر.
3- الكنينة: تصغير الكنة، بالضم. و من معانيها: الظلة.

أسر المؤذّن صالح و ضيوفه *** أسر الكميّ هفا خلال الماقط(1)

بعثوا عليه بنيهم و بناتهم *** من بين ناتفة و آخر سامط

يتنازعون كأنهم قد أوثقوا *** خاقان(2) أو هزموا كتائب ناعط

نهشوه فانتزعت له أسنانهم *** و تهشمت أقفاؤهم بالحائط

/قال: فكتبها الناس عنه و مضوا، فقال لي أبي و قد رجع إلى البيت: ويحكم، ضاقت عليكم المآكل، فلم تجدوا شيئا تأكلونه سوى ديك دعبل؟ ثم أنشدنا الشعر، و قال لي: لا تدع ديكا و لا دجاجة تقدر عليه إلاّ اشتريته، و بعثت به إلى دعبل، و إلاّ وقعنا في لسانه، ففعلت ذلك. قال و ناعط قبيلة من همدان(3) و مجالد بن سعيد ناعطيّ قال: و أصله جبل نزلوا به، فنسبوا إليه.

يهجو غير معين، ثم يذكر فيه اسم من يغضب عليه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني ابن مهرويه قال: حدّثني أحمد بن أبي كامل قال:

كان دعبل ينشدني كثيرا هجاء قاله، فأقول له: فيمن هذا؟ فيقول ما استحقه أحد بعينه بعد، و ليس له صاحب، فإذا وجد على رجل جعل ذلك الشعر فيه، و ذكر اسمه في الشعر.

و قد أخبرني الحسن بن عليّ عن ابن مهرويه عن أحمد بن أبي كامل بهذا الخبر بعينه، و زاد فيه - فيما ذكر ابن أبي كامل - أنه كان عند صالح هذا في يوم أخذه ديك دعبل، قال: و هو صالح بن بشر بن صالح بن الجارود العبديّ.

يهجو أبا نضير الطوسي لأنه لم يرضه في مدحه:

أخبرني محمد بن عمران قال حدّثني العنزيّ قال حدّثني أحمد بن محمد بن أبي أيوب قال:

مدح دعبل أبا نضير(4) بن حميد الطّوسيّ، فقصّر في أمره و لم يرضه من نفسه، فقال عند ذلك دعبل فيه يهجوه:

أبا نضير تحلحل عن مجالسنا *** فإنّ فيك لمن جاراك منتقصا

أنت الحمار حرونا إن وقعت به *** و إن قصدت إلى معروفه قمصا

/إني هززتك لا آلوك مجتهدا *** لو كنت سيفا و لكني هززت عصا

أبو تمام يهجوه و يتوعده:

قال: فشكاه أبو نضير إلى أبي تمام الطائيّ، و استعان به عليه، فقال أبو تمام يجيب دعبلا عن قوله، و يهجوه و يتوعده:

ص: 300


1- الماقط: المضيق في الحرب.
2- الخاقان: اسم لكل ملك خقنه الترك، أي ملكوه عليهم.
3- كذا في م، أ. و في س، ب «همذان»، تحريف.
4- م، مي. «أبا نصر بن حميد» تحريف.

أ دعبل إن تطاولت الليالي *** عليك فإن شعري سمّ ساعه

و ما وفد الشيب عليك إلاّ *** بأخلاق الدناءة و الضّراعه(1)

و وجهك إن رضيت به نديما *** فأنت نسيج وحدك في الرّقاعه

و لو بدّلته وجها بوجه *** لما صلّيت يوما في جماعة

و لكن قد رزقت به(2) سلاحا *** لو استعصيت ما أعطيت(3) طاعه

مناسب طيّئ قسمت فدعها *** فليست مثل نسبتك المشاعه

و روّح منكبيك فقد أعيدا *** حطاما من زحامك في خزاعه

قال العنزيّ: يقول إنك تزاحم خزاعة، تدّعي أنك منهم و لا يقبلونك.

يهجو الخاركي لأنه هجاه:

أخبرني محمد بن عمران قال حدّثني العنزيّ قال: حدّثني محمد بن أحمد بن أيوب قال: تعرّض الخاركيّ (4)النصري - و هو رجل من الأزد - لدعبل بن عليّ فهجاه، و سبّه، فقال فيه دعبل:

و شاعر عرّض لي نفسه *** لخارك آباؤه تنمي

يشتم عرضي عند ذكري و ما *** أمسى و لا أصبح من همي

/فقلت لا بل حبذا أمّه *** خيّرة طاهرة علمي

أكذب و اللّه على أمه *** ككذبه كان(5) على أمي

يعده ابن المدبر أجسر الناس لهجائه المأمون:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني إبراهيم بن المدبّر قال:

لقيت دعبل بن عليّ، فقلت له: أنت أجسر الناس عندي و أقدمهم حيث تقول:

إني من القوم الذين سيوفهم *** قتلت أخاك و شرّفتك بمقعد(6)

رفعوا محلك بعد طول خموله *** و استنقذوك من الحضيض الأوهد

فقال: يا أبا إسحاق، أنا أحمل خشبتي منذ أربعين سنة، فلا أجد من يصلبني عليها.

يرثي ابن عم له:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال:

ص: 301


1- و في س، ب: «الرضاعة»، تحريف.
2- في س، ب: «له».
3- في «الديوان»: «ما أديت».
4- نسبة إلى خارك: جزيرة بالخليج الفارسي. ضبطها الباب بكسر الراء، و «القاموس» و «معجم البلدان» بفتحها.
5- في س، ب، مد: «أيضا».
6- يشير إلى ما فعله ظاهر بن الحسين من قتل الأمين، و عقد البيعة المأمون و توطيد الخلافة له. و كان طاهر خزاعيا بالولاء.

قال دعبل بن عليّ يرثي ابن عم له من خزاعة نعي إليه، قال محمد بن يزيد: و لقد أحسن فيها ما شاء:

كانت خزاعة ملء الأرض ما اتسعت *** فقصّ مرّ الليالي من حواشيها

هذا أبو القاسم الثاوي ببلقعة *** تسقي الرياح عليه من سواقيها

هبّت و قد علمت أن لا هيوب به *** و قد تكون حسيرا إذ يباريها

أضحى قرّى للمنايا إذ نزلن به *** و كان في سالف الأيام يقربها

حدّثني الحسن بن مهرويه عن أبيه، فذكر أن المنعيّ إلى دعبل أبو القاسم/المطّلب بن عبد اللّه بن مالك، و أنه نعي إلى دعبل، و كان هو بالجبل، فرثاه بهذه الأبيات.

يتوعده إسماعيل بن جعفر، فيعيره بالهرب من زيد بن موسى:

أخبرني الأخفش قال: حدّثنا محمد بن يزيد، قال:

بلغ إسماعيل بن جعفر بن سليمان أن/دعبلا هجاه، فتوعده بالمكروه و شتمه، و كان إسماعيل بن جعفر على الأهواز، فهرب من زيد بن موسى بن جعفر بن محمد لما ظهر و بيّض في أيام أبي السرايا، فقال دعبل بن علي يعيّر إسماعيل بذلك:

لقد خلّف الأهواز من خلف ظهره *** يريد(1) وراء الزاب(2) من أرض كسكر(3)

يهوّل إسماعيل بالبيض و القنا *** و قد فرّ من زيد بن موسى بن جعفر

و عاينته في يوم خلّى حريمه *** فيا قبحها منه و يا حسن منظر

كان يتشطر بالكوفة و هرب منها بعد ما قتل صيرفيا:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن مهرويه قال حدّثني ابن الأعرابيّ عن أبي خالد الأسلميّ قال:

كان دعبل بن عليّ الخزاعيّ بالكوفة يتشطر و هو شابّ، و كانت له شعرة(4) جعدة، و كان يدهنها و يرجّلها حتى تكاد تقطر دهنا، و كان يصلت(5) على الناس بالليل، فقتل رجلا صيرفيا، و ظن أن كيسه معه، فوجد في كمه رمّانا، فهرب من الكوفة، و كنت إذا رأيت دعبلا يمشي رأيت الشطارة في مشيته و تبختره.

يتطير من عمير الكاتب فيهجوه:

أخبرني الحسن قال: حدّثنا ابن مهرويه قال: حدّثني الحسن بن أبي السّريّ قال:

كان عمير الكاتب أقبح الناس وجها، فلقي دعبلا يوما بكرة و قد خرج لحاجة له، فلما رآه دعبل تطيّر من لقائه، فقال فيه:

خرجت مبكرا من سرمن رأى *** أبادر حاجة فإذا عمير

ص: 302


1- س، ب: «يزيد»، تحريف.
2- الزاب: اسم لعدة أنهر، منها نهر بين سوراء و واسط، و آخر بقربه.
3- كسكر: كورة تشمل البصرة و نواحيها.
4- الشعرة: واحدة الشعر، و قد يكنى بها عنه.
5- أصلت السيف: جرّده.

فلم أثن العنان و قلت أمضي *** فوجهك(1) يا عمير خزا و خير

يهدد عبد الرحمن بن خاقان لأنه بعث إليه برذونا يظلع:

أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال: حدّثني الحسن بن أبي السّرميّ قال حدّثني دعبل قال:

مدحت عبد الرحمن بن خاقان، و طلبت منه برذونا، فبعث إلى(2) ببرذون غامز، فكتبت إليه:

حملت على قارح(3) غامز(4) *** فلا للركوب و لا للثمن

حملت على زمن ظالع *** فسوف تكافا بشكر(5) زمن

فبعث إليّ ببرذون غيره فاره بسرجه و لجامه، و ألفي درهم.

قال ابن مهرويه و حدّثني إسحاق بن إبراهيم العكبريّ عن دعبل أنه مدح يحيى بن خاقان، فبعث إليه بهذا البرذون.

يهجو خريجه الفضل بن العباس لأنه عابه:

أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: قال الحسين بن دعبل: كان أبي يختلف إلى الفضل بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث، و هو خرّجه و فهمّه و أدّبه، فظهر له منه جفاء، و بلغه أنه يعيبه و يذكره، و ينال منه، فقال يهجوه:

/يا بؤس للفضل لو لم يأت ما عابه *** يستفرغ(6) السم من صماء(7) قرضابه(8)

ما إن يزال و فيه العيب يجمعه *** جهلا لأعراض أهل المجد(9) عيّابه

إن عابني لم يعب إلاّ مؤدّبه *** و نفسه عاب لما عاب أدّابه

فكان كالكلب ضرّاه مكلّبه *** لصيده فعدا فاصطاد كلاّبه

يهجو ابن أبي دواد لأنه كان يطعن عليه:

أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدّثني أبو جعفر العجليّ قال:

كان أحمد بن دواد يطعن على دعبل بحضرة المأمون و المعتصم، و يسبه تقربا إليهما لهجاء دعبل إياهما، و تزوج أبي ابن دواد امرأتين من بني عجل في سنة واحدة، فلما بلغ ذلك دعبلا قال/يهجوه:

ص: 303


1- ب. م، أ: «لأنك يا عمير».
2- م، أ: «فحمله إلى غامزا». س، ب: «غامزا»، تحريف.
3- القارح: الّذي شق نابه و طلع من ذي الحافر.
4- غامز: يغمز في مشيه. م، أ: «شاعرا».
5- في م، أ: «بشعر».
6- في م، أ: «يستغزر»، يعطي شيئا ليرد عليه أكثر مما أعطى.
7- الصماء: الداهية.
8- القرضابة: الّذي لا يدع شيئا إلاّ أكله.
9- في م، أ: «الأرض».

غصبت عجلا على فرجين في سنة *** أفسدتهم ثم ما أصلحت من نسبك

و لو خطبت إلى طوق و أسرته *** فزوجوك لما زادوك في حسبك

نك من هويت و نل ما شئت من نشب(1) *** أنت ابن زرياب(2) منسوبا إلى نشبك

إن كان قوم أراد اللّه خزيهم *** فزوجوك ارتغابا منك في ذهبك

فذاك يوجب أن النبع(3) تجمعه *** إلى خلافك(4) في العيدان أو غربك(5)

/و لو سكتّ و لم تخطب إلى عرب *** لما نبشت(6) الّذي تطويه من سببك

عدّ البيوت الّتي ترضى بخطبتها *** تجد فزارة العكليّ من عربك

قال: فلقيه فزارة العكليّ، فقال له: يا أبا عليّ، ما حملك على ذكرى حتى فضحتني، و أنا صديقك؟ قال: يا أخي و اللّه ما اعتمدتك بمكروه، و لكن كذا جاءني الشعر لبلاء صبه اللّه عزّ و جل عليك لم أعتمدك به.

يهجو جارية عبثت به في مجلس:

أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدّثني أبو خالد الأسلميّ الكوفيّ قال:

اجتمعت مع دعبل في منزل بعض أصحابنا، و كانت عنده جارية مغنّية صفراء مليحة حسنة الغناء، فوقع لها العبث بدعبل و العنت و الأذى له، و نهيناها عنه، فما انتهت، فأقبل علينا فقال: اسمعوا ما قلت في هذه الفاجرة، فقلنا: هات، فقد نهيناها عنك، فلم تنته، فقال:

تخضب كفّا قطعت من زندها *** فتخضب الحنّاء من مسودّها

كأنها و الكحل في مرودها *** تكحل عينيها ببعض جلدها

أشبه شيء استها بخدّها

قال: فجلست الجارية تبكي، و صارت فضيحة، و اشتهرت بالأبيات، فما انتفعت بنفسها بعد ذلك.

يحبسه العلاء بن منظور و يضربه في جناية بالكوفة فيخرج منها:

أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدّثني هارون قال: حدّثني أبي و خالد قالا:

كان دعبل قد جنى جناية بالكوفة و هو غلام، فأخذه العلاء بن منظور الأسديّ، و كان على شرطة الكوفة من قبل موسى بن عيسى، فحبسه، فكلمه في عمّه سليمان بن/رزين، فقال: أضربه أنا خير من أن يأخذه غريب فيقطع يده، فلعله أن يتأدب بضربي إياه، ثم ضربه ثلاثمائة سوط، فخرج من الكوفة، فلم يدخلها بعد ذلك إلاّ عزيزا.

ص: 304


1- كذا في م، أ. س، ب: «نسب، نسبك»، و كل تحريف.
2- لعله علي بن نافع المغني مولى المهدي. و كان أسود اللون فصيح اللسان.
3- النبع: شجر للقسي و السهام، ينبت في قلة الجبل.
4- الخلاف: شجر يشبه الصفصاف.
5- الغرب: نوع من الشجر.
6- س، ب: «نشبت»، تحريف.
كان يضرب في الأرض فلا يؤذيه الشراة و لا الصعاليك:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أحمد ابن أبي كامل قال:

كان دعبل يخرج فيغيب سنين، يدور الدنيا كلّها، و يرجع و قد أفاد و أثري. و كانت الشّراة و الصعاليك يلقونه فلا يؤذونه، و يؤاكلونه و يشاربونه و يبرونه، و كان إذ لقيهم وضع طعامه و شرابه، و دعاهم إليه، و دعا بغلاميه ثقيف و شعف، و كانا مغنيين، فأقعدهما يغنيان، و سقاهم و شرب معهم، و أنشدهم، فكانوا قد عرفوه، و ألفوه لكثرة أسفاره، و كانوا يواصلونه و يصلونه. و أنشدني دعبل بن علي لنفسه في بعض أسفاره:

حللت محلا يقصر البرق دونه *** و يعجز عنه الطيف أن يتجشما

يعده البحتري أشعر من مسلم بن الوليد:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال:

قال لي البحتريّ: /دعبل بن عليّ أشعر عندي من مسلم بن الوليد، فقلت له: و كيف ذلك؟ قال: لأن كلام دعبل أدخل(1) في كلام العرب من كلام مسلم، و مذهبه أشبه بمذاهبهم. و كان يتعصب له.

يهجو صاحب بيت دب إلى رجل بات عنده:

أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا الفضل بن الحسن بن موسى البصريّ قال:

بات دعبل ليلة عند صديق له من أهل الشام، و بات عندهم رجل من أهل بيت/لهياني(2) يقال له حويّ بن عمرو السّككيّ جميل الوجه، فدبّ إليه صاحب البيت، و كان شيخا كبيرا فانيا قد أتى عليه حين، فقال فيه دعبل:

لو لا حوى لبيت لهياني *** ما قام أير العزب(3) الفاني

له دواة في سراويله *** يليقها(4) النازح و الداني

قال: و شاع هذان البيتان، فهرب حويّ من ذلك البلد، و كان الشيخ إذا رأى دعبلا سبّه، و قال: فضحتني أخزاك اللّه.

يتمنى موت من تكون له منة عنده:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني ابن مهرويه قال: حدّثني محمد بن الأشعث قال: سمعت دعبلا يقول:

ما كانت لأحد قطّ عندي منّة إلاّ تمنيت موته.

يهجوه شاعر بالري و هو هناك فيرتحل:

أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا محمد بن عمر الجرجانيّ قال: دخل دعبل بن عليّ الرّيّ في

ص: 305


1- في م، أ: «آخذ».
2- س، ب: «لهيان» و في «معجم البلدان»: بيت لهيان، كذا يتلفظ به. و الصحيح الإلهة، و هي قرية مشهورة بغوطة دمشق، و النسبة إليها بتلهى».
3- في أ. س: «الغراب». ب: «الغرب». و كل تحريف.
4- لاق الدواة: أصلح مدادها، أو جعل لها ليقة.

أيام الربيع، فجاءهم ثلج لم يروا مثله في الشتاء، فجاء شاعر من شعرائهم فقال شعرا، و كتبه في رقعة هو:

جاءنا دعبل بثلج من الشع *** ر فجادت سماؤنا بالثلوج

نزل الرّيّ بعد ما سكن البر *** د و قد أينعت رياض المروج

فكسانا ببرده لا كساه اللّه ثو *** با من كرسف(1) محلوج

قال: فألقي الرقعة في دهليز دعبل، فلما قرأها ارتحل عن الرّيّ.

هجاؤه لصالح الأضجم لأنه قصّر عن حاجته:

أخبرني محمد بن عمران قال: حدثنا العنزيّ قال: حدّثنا أبو خالد الأسلميّ قال:

عرضت لدعبل حاجة إلى صالح بن عطية الأضجم، فقصّر عنها، و لم يبلغ ما أحبّه دعبل فيها، فقال يهجوه:

أحسن ما في صالح وجهه *** فقس على الغائب بالشاهد

تأملت عيني له خلقة *** تدعو إلى تزنية الوالد

فتحمل عليه صالح بي و بجماعة من إخوانه حتى كف عنه، و عرض عليه قضاء الحاجة، فأباها.

يهجو بني مكلم الذئب من خزاعة لأنهم فخروا عليه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبي قال:

فخر قوم من خزاعة على دعبل بن عليّ يقال لهم: بنو مكلّم الذئب، و كان جدّهم جاء إلى النبي - صلّى اللّه عليه و سلّم - فحدّثه أن الذئب أخذ من غنمه شاة فتبعه، فلما غشيه بالسيف قال له: ما لي و لك تمنعني رزق اللّه؟ قال فقلت: يا عجبا لذئب يتكلم! فقال: أعجب منه أن محمدا نبي قد بعث بين أظهركم و أنتم لا تتبعونه، فبنوه يفخرون بتكليم الذئب جدّهم، فقال دعبل بن عليّ يهجوهم:

تهتم علينا بأنّ الذئب كلمكم *** فقد لعمري أبوكم كلّم الذيبا

فكيف لو كلّم الليث الهصور إذا *** أفنيتم(2) الناس مأكولا و مشروبا

/هذا السّنيدي لا أصل و لا طرف(3) *** يكلّم الفيل تصعيدا و تصويبا

يهجو محمد بن عبد الملك الزيات لأنه مدحه فلم يرضه:

حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثني ابن مهرويه قال حدّثني أبي قال:

/كان دعبل قد مدح محمد بن عبد الملك الزيات، فأنشده ما قاله فيه، و في يده طومار(4) قد جعله على فمه كالمتكئ عليه و هو جالس، فلما فرغ أمر له بشيء لم يرضه، فقال: يهجوه:

يا من يقلّب طومارا و يلثمه *** ما ذا بقلبك من حبّ الطوامير

ص: 306


1- كرسف: قطن.
2- كذا في أ، م. مد. و في س، ب: «أفتيتم»، تحريف.
3- الطرف: جمع طرفة، و يراد بها المستحدث من الكرم. أو هي طرف بالتحريك بمعنى الرجل الكريم.
4- طومار: صحيفة.

فيه مشابه من شيء تسرّ به *** طولا بطول و تدويرا بتدوير

لو كنت تجمع أموالا كجمعكها *** إذا جمعت بيوتا من دنانير

ينزل بحمص فلم يبره رجلان من أهلها فيهجوهما:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدّثني أبي قال:

نزل دعبل بحمص على قوم من أهلها، فبرّوه و وصلوه سوى رجلين منهم يقال لأحدهما: أشعث و للآخر أبو الصّناع(1)، فارتحل من وقته من حمص و قال فيهما يهجوهما:

إذا نزل الغريب بأرض حمص *** رأيت عليه عزّ الامتناع

سموّ(2) المكرمات بآل عيسى *** أحلّهم على شرف التّلاع(3)

هناك الخزّ يلبسه المغالي *** و عيسى منهم سقط المتاع

فسدّد لاست أشعث أير بغل *** و آخر في حر أمّ أبي الصناع

فليس بصانع مجدا و لكن *** أضاع المجد فهو أبو الضياع

شعره في الفضل بن مروان:

أخبرني الحسن قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه عن الحسين بن دعبل قال:

/قال أبي في الفضل بن مروان:

نصحت فأخلصت النصيحة للفضل *** و قلت فسيّرت المقالة في الفضل

ألا إنّ في الفضل بن سهل لعبرة *** إن اعتبر الفضل بن مروان بالفضل

و للفضل في الفضل بن يحيى مواعظ *** إذا فكّر الفضل بن مروان في الفضل

فأبق جميلا من حديث تفز به *** و لا تدع الإحسان و الأخذ بالفضل

فإنك قد أصبحت للملك قيّما *** و صرت مكان الفضل و الفضل و الفضل

و لم أر أبياتا من الشّعر قبلها *** جميع قوافيها على الفضل و الفضل

و ليس لها عيب إذا هي أنشدت *** سوى أن نصحي الفضل كان من الفضل

فبعث إليه الفضل بن مروان بدنانير، و قال له: قد قبلت نصحك، فاكفني خيرك و شرّك.

ينقد شعر شاعر احتكم إليه في شعره:

حدّثني عمي قال: حدّثني ميمون بن هارون قال: حدّثني أبو الطيّب الحرّانيّ قال:

أنشد رجل دعبل بن عليّ شعرا له، فجعل يعيبه و ينبّهه على خطئه فيه بيتا بيتا، و يقول: أيّ شيء صنعت بنفسك! و لم تقول الشعر إذا لم تقدر إلاّ على مثل هذا منه؟ إلى أن مرّ له بيت جيد، فقال دعبل: أحسنت، أحسنت

ص: 307


1- كذا في مي: و في ب، س: «الصناع» سقط.
2- في ب: «سموا للمكرمات»، تحريف.
3- التلاع: المرتفعات من الأرض، جمع تلعة كجمرة.

ما شئت. فقال له يا أبا عليّ: أ تقول لي هذا بعد ما مضى؟ فقال له: يا حبيبي لو أنّ رجلا ضرط سبعين ضرطة ما كان بمنكر أن يكون فيها دستنبويه(1) واحدة.

لا يرى المأمون عجبا أن يهجوه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا ابن مهرويه قال حدّثني محمد بن حاتم المؤدّب/قال:

قيل للمأمون: إن دعبل بن عليّ قد هجاك، فقال: و أيّ عجب في ذاك؟ هو يهجو/أبا عبّاد و لا يهجوني أنا! و من أقدم على جنون أبي(2) عباد أقدم على حلمي، ثم قال للجلساء: من كان منكم يحفظ شعره في أبي عبّاد فلينشدنيه، فأنشده بعضهم:

أولى الأمور بضيعة و فساد *** أمر يدبّره أبو عبّاد

خرق على جلسائه فكأنهم *** حضروا لملحمة و يوم جلاد

يسطو(3) على كتابه بدواته *** فمضمّخ(4) بدم و نضح مداد

و كأنه من دير هزقل مفلت *** حرد يجر سلاسل الأقياد(5)

فاشدد أمير المؤمنين وثاقه *** فأصحّ منه بقيّة الحداد

قال: و كان بقية هذا مجنونا في المارستان، فضحك المأمون. و كان إذا نظر إلى أبي عبّاد يضحك، و يقول لمن يقرب منه: و اللّه ما كذب دعبل في قوله.

حدّثني جحظة عن ميمون بن هارون فذكر مثله أو قريبا منه.

يزعم أن رجلا من الجن استنشده قصيدة مدارس آيات خلت:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار و محمد بن أحمد الحكيم قالا: حدثنا أنس ابن عبد اللّه النبهانيّ قال: حدّثني عليّ بن المنذر قال: حدّثني عبد اللّه بن سعيد الأشقريّ قال: حدّثني دعبل بن عليّ قال:

لما هربت من الخليفة بتّ ليلة بنيسابور وحدي، و عزمت على أن أعمل قصيدة في عبد اللّه بن طاهر في تلك الليلة، فإني لفي ذلك إذ سمعت و الباب مردود عليّ: السّلام عليكم و رحمة اللّه، انج يرحمك اللّه، فاقشعرّ بدني من ذلك، و نالني أمر عظيم، /فقال لي: لا ترع عافاك اللّه؛ فإني رجل من إخوانك من الجن من ساكني اليمن طرأ إلينا طارئ من أهل العراق فأنشدنا قصيدتك:

مدارس آيات خلت من تلاوة *** و منزل وحي مقفر العرصات

فأحببت أن أسمعها منك، قال فأنشدته إياها، فبكى حتى خرّ، ثم قال: رحمك اللّه! أ لا أحدثك حديثا يزيد في نيّتك و يعينك على التمسك بمذهبك؟ قلت: بلى قال: مكثت حينا أسمع بذكر جعفر بن محمد عليه السّلام،

ص: 308


1- دستنبويه: نوع من البطيخ الأصفر.
2- في س: «أبا»، تحريف.
3- س: «بسطوا»، تحريف.
4- س: «فمضخ». تحريف.
5- راجع حواشي الصفحة 122 من طبعة دار الكتب.

فصرت إلى المدينة فسمعته يقول: حدّثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلّم - قال: عليّ و شيعته هم الفائزون، ثم ودّعني لينصرف، فقلت له: يرحمك اللّه، إن رأيت أن تخبرني باسمك فافعل، قال: أنا ظبيان بن عامر.

يدعو إليه أعرابيا من كلاب فينشده في كلابي هجاه له:

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال: حدّثني إسحاق بن محمد النخعيّ و أخبرني به الحليمي عن يعقوب بن إسرائيل عن إسحاق النخعيّ قال:

كنت جالسا مع دعبل بالبصرة و على رأسه غلامه ثقيف، فمرّ به أعرابي يرفل في ثياب خزّ، فقال لغلامه: ادع لي هذا الأعرابيّ، فأومأ الغلام إليه، فجاء، فقال له دعبل: ممن الرجل؟ قال: من بني كلاب. قال: من أيّ ولد كلاب أنت؟ قال: من ولد أبي بكر، فقال دعبل: أ تعرف القائل:

و نبئت كلبا من كلاب يسبني *** و محض كلاب يقطع الصلوات

فإن أنا لم أعلم كلابا بأنها *** كلاب و أني باسل النّقمات

فكان إذا من قيس عيلان والدي *** و كانت إذا أمي من الحبطات(1)

/قال: و هذا الشعر لدعبل يقوله في عمرو بن عاصم الكلابيّ، فقال الأعرابي: ممن أنت؟ فكره أن يقول له من خزاعة فيهجوهم، فقال: أنا أنتمي إلى القوم الذين يقول فيهم الشاعر:

أناس عليّ الخير منهم و جعفر *** و حمزة و السّجّاد ذو الثّفنات(2)

إذا فخروا يوما أتوا بمحمد *** و جبريل و الفرقان و السّورات

فوثب الأعرابي و هو يقول: ما لي إلى محمد و جبريل و الفرقان و السورات مرتقى.

يهجو بني بسام لأن رجلا منهم لم يقض حاجة له:

أخبرني الكوكبي قال حدّثني ابن عبدوس(3) قال:

سأل دعبل نصر بن منصور بسّام حاجة، فلم يقضها لشغل عرض له دونها، فقال يهجو بني بسام:

حواجب كالحبال سود *** إلى عثانين(4) كالمخالي

و أوجه جهمة غلاظ *** عطل من الحسن و الجمال

يهجو أحمد بن خالد حين ولّى الوزارة للمأمون:

أخبرني الكوكبيّ قال حدّثني ميمون بن هارون قال:

ص: 309


1- الحبطات: أولاد الحارث بن مالك بن عمرو بن تميم، و سمي بالحبط «كسبب» لأنه في بعض ما يروى أكل شيئا فورم بطنه، و أصابه منه مثل الحبط، و هو وجع ببطن البعير من كلأ يستوبله أو يكثر منه فينتفخ بطنه و لا يخرج منه شيء.
2- هو علي زين العابدين، و لقب بذي الثفنات لأن مساجده كانت كثفنة البعير، و هي ركبته و سائر ما يمس الأرض من أعضائه إذا استناخ.
3- م، مي: «عروس».
4- العثانين: جمع عثنون، و هي ما فضل من اللحية بعد العارضين أو ما نبت على الذقن و تحته سفلا.

لما ولّى أحمد بن أبي خالد الوزارة في أيام المأمون قال دعبل بن علي يهجوه:

و كان أبو خالد مرّة *** إذا بات متّخما عاقدا(1)

يضيق بأولاده بطنه *** فيخرؤهم واحدا واحدا

فقد ملأ الأرض من سلحه *** خنافس لا تشبه الوالدا

يهرب من المعتصم و يهجوه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو ناجية قال:

كان المعتصم يبغض دعبلا لطول لسانه، و بلغ دعبلا أنه يريد اغتياله و قتله، فهرب إلى الجبل، و قال يهجوه:

بكى لشتات الدّين مكتئب صبّ *** و فاض بفرط الدمع من عينه غرب(2)

و قام إمام لم يكن ذا هداية *** فليس له دين و ليس له لبّ

و ما كانت الآباء(3) تأتي بمثله *** يملّك يوما أو تدين له العرب

و لكن كما قال الذين تتابعوا *** من السلف الماضين إذ عظم الخطب:

ملوك بني العباس في الكتب سبعة *** و لم تأتنا عن(4) ثامن لهم كتب

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة *** خيار إذا عدّوا و ثامنهم كلب

و إني لأعلي كلبهم عنك رفعة *** لأنك ذو ذنب و ليس له ذنب

لقد ضاع ملك الناس إذ ساس ملكهم *** وصيف(5) و أشناس و قد عظم الكرب

و فضل بن مروان يثلّم(6) ثلمة *** يظل لها الإسلام ليس له شعب(7)

يعارض محمد بن عبد الملك الزيات في رثائه للمعتصم:

أخبرني عمي قال حدّثني ميمون بن هارون قال:

لما مات المعتصم قال محمد بن عبد الملك الزيات يرثيه:

قد قلت إذ غيّبوه و انصرفوا *** في خير قبر لخير مدفون

/لن يجبر اللّه أمة فقدت *** مثلك إلاّ بمثل هارون

فقال دعبل يعارضه:

ص: 310


1- و العاقد: الناقة الّتي أقرت باللقاح. و كان ابن أبي خالد معروفا بالشره. و في س: «قاعدا»، تحريف.
2- غرب: دلو عظيمة، و المراد هنا ماء كثير.
3- كذا في م، أ. س، ب: «الأنباء».
4- كذا في س، ب. م، أ: «في».
5- وصيف و أشناس من الموالي الأتراك الذين اختارهم المعتصم قوادا في جيشه و حكاما في ملكه، فأفسدوا أمور الدولة و كانوا من عوامل القضاء عليها.
6- كذا في أ، مد. و في س «يسلم»، و هو تحريف.
7- شعب: إصلاح.

/قد قلت إذ غيّبوه و انصرفوا *** في شرّ قبر لشر مدفون

اذهب إلى النار و العذاب فما *** خلتك إلاّ من الشياطين

ما زلت حتى عقدت بيعة من *** أضرّ بالمسلمين و الدين

يكتم نسبة رثاء محمد بن عبد الملك الزيات للمعتصم:

قال عمي حدثنا ابن مهرويه قال حدّثني محمد بن عمر الجرجانيّ قال: أنشد دعبل بن عليّ يوما قول بعض الشعراء:

قد قلت إذ غيّبوه و انصرفوا

و ذكر البيتين و الجواب و لم يسمّ قائل المرثيّة و لا نسبة إلى محمد بن عبد الملك الزيات و لا غيره.

ينكر نسبة شعر إليه فيه هجاء بني العباس:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد قال:

سألت دعبلا عن هذه الأبيات:

ملوك بني العباس في الكتب سبعة

فأنكر أن تكون له، فقلت له: فمن قالها؟ قال: من حشا اللّه قبره نارا، إبراهيم بن المهديّ، أراد أن يغري بي المعتصم فيقتلني لهجائي إياه.

يستعيد ابن المدبر أبياتا له في هجاء ابن أبي داود:

أخبرني عمي و الحسن بن عليّ جميعا قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أبي قال: كنت عند أحمد بن المدبّر ليلة من الليالي، فأنشدته لدعبل في أحمد بن أبي داود قوله:

إنّ هذا الّذي دواد أبوه *** و إياد قد أكثر الأنباء

ساحقت أمّه و لاط أبوه *** ليت شعري عنه فمن أين جاء!

/جاء من بين صخرتين صل *** ودين عقامين(1) ينبتان الهباء

لا سفاح و لا نكاح و لا ما *** يوجب الأمهات و الآباء

قال: فاستعادها أربع مرات، فظننت أنه يريد أن يحفظها، ثم قال لي: جئني بدعبل حتى أوصله إلى المتوكل، فقلت له: دعبل موسوم بهجاء الخلفاء و التشيع، و إنما غايته أن يخمل ذكره، فأمسك عني، ثم لقيت دعبلا فحدثته بالحديث، فقال: لو حضرت أنا أحمد بن المدبّر لما قدرت أن أقول أكثر مما قلت.

يروي له بيت في هجاء المتوكل:

أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني محمد بن جرير قال:

أنشدني عبيد اللّه بن يعقوب هذا البيت وحده لدعبل يهجو به المتوكل، و ما سمعت له غيره فيه:

ص: 311


1- العقام: من لا يولد له. و المراد: مجدبة.

و لست بقائل قذعا و لكن *** لأمر ما تعبّدك العبيد

قال: يرميه في هذا البيت بالأبنة

.

يهجو المعتصم و الواثق حين علم نعي المعتصم:

أخبرني الحسن قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال:

كنت مع دعبل بالصّيمرة(1) و قد جاء نعي المعتصم و قيام الواثق، فقال لي دعبل: أ معك شيء تكتب فيه؟ فقلت: نعم، و أخرجت قرطاسا، فأملي عليّ بديها:

الحمد للّه لا صبر و لا جلد *** و لا عزاء إذا أهل البلا رقدوا

خليفة مات لم يحزن له أحد *** و آخر قام لم يفرح به أحد

يمزق قصيدة أعدها في مدح الحسن بن وهب:

حدّثني عمي قال: حدّثنا أحمد بن عبيد اللّه بن ناصح قال:

/قلت لدعبل، و قد عرض عليّ قصيدة له يمدح بها الحسن بن وهب، أولها:

أ عاذلتي ليس الهوى من هوائيا

فقلت له(2): ويحك، أ تقول فيه هذا بعد قولك:

أين محلّ الحيّ يا حادي *** خبّر سقاك الرائح الغادي

/و بعد قولك:

قالت سلامة أين المال قلت لها *** المال ويحك لاقي الحمد فاصطحبا(3)

و بعد قولك:

فعلى أيماننا يجري النّدى *** و على أسيافنا تجري المهج

و اللّه إني أراك لو أنشدته إياها لأمر لك بصفع قفاك، فقال: صدقت و اللّه، و لقد نبّهتني و حذّرتني، ثم مزقها.

يغضب على خريج له فيهجو أباه:

أخبرني عمّي قال: حدّثني العنزيّ قال حدّثني الحسين بن أبي السّريّ قال:

غضب دعبل على أبي نصر بن جعفر بن محمد بن الأشعث - و كان دعبل مؤدبه قديما - لشيء بلغه عنه، فقال يهجو أباه:

ما جعفر بن محمد بن الأشعث *** عندي بخير أبوّة من عثعث

ص: 312


1- الصيمرة: بلد بين ديار الجبل و ديار خوزستان.
2- م، أ: «فقلت: يا أبا علي، أ تقول».
3- س، ب: «فاصطحبا»، تحريف.

عبثا تمارس(1) بي تمارس حية *** سوارة إن هجتها لم تلبث

لم يعلم المغرور ما ذا حاز من *** خزي لوالده إذا لم يعبث

قال: فلقيه عثعث، فقال له: عليك لعنة اللّه، أيّ شيء كان بيني و بينك حتى/ضربت بي المثل في خسة الآباء، فضحك، و قال: لا شيء و اللّه، اتفاق اسمك و اسم ابن الأشعث في القافية. أ و لا ترضى أن أجعل - أباك و هو أسود - خيرا من آباء الأشعث بن قيس!.

يصف العيش الّذي يرتضيه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني إبراهيم بن سهل القاري، و كان يلقب أرزة(2) قال: حدّثني دعبل بن عليّ الخزاعيّ قال:

كتبت إلى أبي نهشل بن حميد الطوسيّ قوله:

إنما العيش في منادمة الإخ *** وان لا في الجلوس عند الكعاب

و بصرف كأنها ألسن البر *** ق إذا استعرضت رقيق السحاب

إن تكونوا تركتم لذة الع *** يش حذار العقاب يوم العقاب

فدعوني و ما ألذّ و أهوى *** و ادفعوا بي في صدر يوم الحساب

ينشد علي بن موسى الرضا: مدارس آيات خلت:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا ابن مهرويه قال: حدّثني موسى بن عيسى المروزيّ - و كان منزله بالكوفة في رحبة طيّ ء - قال:

سمعت دعبل بن عليّ و أنا صبي يتحدث في مسجد المروزية قال: دخلت على عليّ بن موسى الرضا - عليهما السّلام - فقال لي: أنشدنى شيئا مما أحدثت، فأنشدته:

مدارس آيات خلت من تلاوة *** و منزل وحى مقفر العرصات

حتى انتهيت إلى قولي:

إذا وتروا مدّوا إلى واتريهم *** أكفّا عن الأوتار منقبضات

قال: فبكى حتى أغمى عليه، و أومأ إليّ خادم كان على رأسه: أن أسكت، فسكتّ/ساعة، ثم قال لي:

أعد، فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضا، فأصابه مثل الّذي أصابه في المرة الأولى، و أومأ الخادم إليّ: أن اسكت، فسكت، فمكث ساعة أخرى ثم قال لي: أعد، فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها، فقال لي: أحسنت، ثلاث مرات، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم مما ضرب باسمه، و لم تكن دفعت(3) إلى أحد بعد، و أمر لي من في منزله بحلي كثير أخرجه إليّ الخادم، فقدمت العراق، فبعت كل درهم منها بعشرة دراهم، اشتراها مني الشيعة، فحصل

ص: 313


1- م، أ: «تمرس بي فمارس حية».
2- ضبطه بالقلم في أ: بفتح الهمزة و ضم الراء.
3- س، ب: «وقعت».

لي/مائة ألف درهم، فكان أول مال اعتقدته(1).

يستوهب الرضا ثوبا لبسه ليجعله في أكفانه:

قال ابن مهرويه و حدّثني حذيفة بن محمد:

أن دعبلا قال له: إنه استوهب من الرّضا عليه السّلام ثوبا قد لبسه ليجعله في أكفانه فخلع جبّة كانت عليه، فأعطاه إياها و بلغ أهل قمّ (2) خبرها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم، فلم يفعل، فخرجوا عليه في طريقه، فأخذوها منه غصبا، و قالوا له: إن شئت أن تأخذ المال فافعل، و إلاّ فأنت أعلم. فقال لهم: إني و اللّه لا أعطيكم إياها طوعا، و لا تنفعكم غصبا، و أشكوكم إلى الرّضا عليه السّلام. فصالحوه على أن أعطوه الثلاثين الألف الدرهم و فردكم من بطانتها فرضي بذلك.

يهجو إبراهيم بن المهدي حين خرج ببغداد:

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال:

بويع إبراهيم بن المهدي ببغداد، و قد قلّ المال عنده، و كان قد لجأ إليه أعراب من أعراب السواد و غيرهم من أوغاد الناس، فاحتبس عنهم العطاء، فجعل إبراهيم يسوّفهم و لا يرون له حقيقة إلى أن خرج إليهم رسوله يوما و قد اجتمعوا و ضجّوا فصرّح/لهم بأنه لا مال عنده، فقال قوم من غوغاء أهل بغداد: أخرجوا إلينا خليفتنا ليغنّى لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، و لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، فتكون عطاء لهم، فأنشدني دعبل بعد ذلك بأيام قوله:

يا معشر الأجناد لا تقنطوا *** و ارضوا بما كان و لا تسخطوا

فسوف تعطون حنينية *** يلتذها الأمرد و الأشمط

و المعبديّات لقوّادكم *** لا تدخل الكيس و لا تربط

و هكذا يرزق قوّاده *** خليفة مصحفه البربط

و زادني فيها جعفر بن قدامة:

قد ختم الصك بأرزاقكم *** و صحّح العزم(3) فلا تسخطوا

بيعة إبراهيم مشئومة *** يقتل فيها الخلق أو يقحط

يقص قصة صديق له متخلف يقول شعرا:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدّثني أبو عليّ يحيى بن محمد بن ثوابة الكاتب قال:

حدّثني دعبل قال:

كان لي صديق متخلّف يقول شعرا فاسدا مرذولا و أنا(4) أنهاه عنه إذا أنشدني، فأنشدني يوما:

ص: 314


1- اعتقدته: جمعته.
2- راجع الحاشية 4 في الصفحة 121 من طبعة دار الكتب.
3- م: «العرض».
4- في م، أ: «مرذولا و أنهاه».

إنّ ذا الحبّ شديد *** ليس ينجيه الفرار

و نجا من كان لا يعشق *** من ذلّ المخازي

فقلت له: هذا لا يجوز، البيت الأول على الراء، و البيت الثاني على الزاي. فقال: لا تنقطه، فقلت له:

فالأول مرفوع، و الثاني مخفوض. فقال: أنا أقول له لا تنقطه و هو يشكله.

يستشهد لكلمة أنكرت عليه:

أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا محمد بن زكريا بن ميمون الفرغانيّ قال:

سمعت دعبل بن عليّ يقول في كلام جرى: ليسك، فأنكرته عليه. فقال: دخل زيد الخيل على النبي - صلّى اللّه عليه و سلّم - فقال له: يا زيد ما وصف لي رجل إلاّ رأيته دون وصفه ليسك - يريد غيرك.

يحسد شاعرا على معنى أعجبه:

أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا عليّ بن عبد اللّه بن سعد قال: قال لي دعبل، و قد أنشدته قصيدة بكر بن خارجة في عيسى بن البراء النصرانيّ الحربيّ:

/زنّاره في خصره معقود *** كأنه من كبدي مقدود

فقال: و اللّه ما أعلمني حسدت أحدا على شعر كما حسدت بكرا على قوله: كأنه من كبدي مقدود.

يقول شعرا كل يوم خلال ستين سنة:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: سمعت الجاحظ يقول: سمعت دعبل بن عليّ يقول: مكثت نحو ستين سنة ليس من يوم ذرّ شارقه إلاّ و أنا أقول فيه شعرا.

يعود مفلوجا و يعجب لخفة روحه و هو على تلك الحال:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أبي قال: سمعت دعبل بن عليّ يقول:

دخلت على أبي الحارث جمّيز(1) - و قد فلج - لأعوده، و كان صديقي، فقلت: ما هذا يا أبا الحرث؟ فقال:

أخذت من شعري و دخلت الحمام، فغلط بي الفالج، و ظن أني قد احتجمت. فقلت له: لو تركت خفة الرّوح و المجون(2) في موضع لتركتهما في هذا الموضع و على هذه الحال.

يسأل المأمون جلساءه أن ينشدوا من شعره:

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال: حدثنا أحمد بن صدقة قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمرو بن مسعدة قال:

حضرت أبا دلف عند المأمون، و قد قال له المأمون: أيّ شيء تروي لأخي خزاعة يا قاسم؟ فقال و أيّ أخي

ص: 315


1- س، ب: «جمين»، تحريف.
2- ف م، أ: «النوادر».

خزاعة يا أمير المؤمنين؟ قال: و من تعرف فيهم شاعرا؟ فقال: أما من أنفسهم فأبوا الشّيص و دعبل و ابن أبي الشّيص و أما من مواليهم فطاهر و ابنه عبد اللّه. فقال: و من عسى في هؤلاء أن يسأل عن شعره سوى دعبل! هات أيّ شيء عندك فيه. فقال و أيّ شيء أقول في رجل لم يسلم عليه أهل بيته حتى هجاهم، فقرن إحسانهم بالإساءة، و بذلهم بالمنع، و جودهم بالبخل، حتى جعل كل حسنة منهم بإزاء سيئة! قال: حين يقول ما ذا؟ قال حين يقول في المطّلب بن عبد اللّه بن مالك، و هو أصدق الناس له، و أقربهم منه، و قد وفد إليه إلى مصر فأعطاه(1) العطايا الجزيلة، و ولاه و لم يمنعه ذلك من أن قال فيه:

اضرب ندى طلحة الطّلحات متئدا *** بلوم مطّلب(2) فينا و كن حكما

تخرج خزاعة من لؤم و من كرم *** فلا تحسّ لها لؤما و لا كرما

قال: فقال المأمون: قاتله اللّه! ما أغوصه و ألطفه و أدهاه! و جعل يضحك، ثم دخل عبد اللّه بن طاهر، فقال له: أيّ شيء تحفظ يا عبد اللّه لدعبل؟ فقال: أحفظ أبياتا له في أهل بيت أمير المؤمنين، قال: هاتها ويحك، فأنشده عبد اللّه قول دعبل:

سقيا و رعيا لأيام الصبابات *** أيام أرفل في أثواب لذاتي

أيام غصني رطيب من ليانته *** أصبو إلى غير جارات و كنّات

/دع عنك ذكر زمان فات مطلبه *** و اقذف برجلك عن متن الجهالات

و اقصد بكل مديح أنت قائله *** نحو الهداة بني بيت الكرامات

وصفه لسفر طويل يعجب المأمون:

فقال المأمون: إنه قد وجد مقالا فقال، و نال ببعيد ذكرهم مالا يناله في وصف غيرهم، ثم قال المأمون: لقد أحسن في وصف سفر سافره، فطال ذلك السفر عليه، فقال فيه:

أ لم يأن للسّفر الذين تحملوا *** إلى وطن قبل الممات رجوع!

فقلت و لم أملك سوابق عبرة *** نطقن بما ضمت عليه ضلوع

/تبيّن فكم دار تفرّق شملها *** و شمل شتيت عاد و هو جميع

كذاك الليالي صرفهنّ كما ترى *** لكل أناس جدبة و ربيع

ثم قال: ما سافرت قطّ إلا كانت هذه الأبيات نصب عيني في سفري، و هجّيري(3) و مسلّيتي حتى أعود.

يقص قصة مكار أساء جوابه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثني المبرّد و محمد بن الحسن بن الحرون(4) قالا: قال دعبل:

ص: 316


1- زائدة في م، أ.
2- ب، س: «حطلب»، تحريف.
3- هجيري: دأبي، و عادتي. م. أ: «في سفري و مسليتي».
4- ساقطة في م، أ.

خرجت إلى الجبل هاربا من المعتصم، فكنت أسير في بعض طريقي و المكاري يسوق بي بغلا تحتي، و قد أتعبني تعبا شديدا، فتغنّى المكاري في قولي:

لا تعجبي يا سلم من رجل *** ضحك المشيب برأسه فبكى

فقلت له، و أنا أريد أن أتقرّب إليه و أكفّ ما يستعمله من الحثّ للبغل لئلاّ يتعبني: تعرف لمن هذا الشعر يا فتى؟ فقال: لمن ناك أمّه و غرم درهمين، فما أدري أيّ أموره أعجب: من هذا الجواب أم من قلة العرم على عظم الجناية!

تغنت بشعره جارية:

/حدّثني عمي قال: حدّثني أحمد بن الطيب السرخسيّ قال:

حضرت مجلس محمد بن عليّ بن طاهر و حضرته مغنّية يقال لها: شنين مشهورة، فغنّت:

لا تعجبي يا سلم من رجل *** ضحك المشيب برأسه فبكى

ثم غنّت بعده:

لقد عجبت سلمى و ذاك عجيب

فقلت لها: ما أكثر تعجب سلمى هذه! فعلمت أني أعبث بها لأسمع جوابها، فقالت متمثلة غير متوقفة و لا متفكرة:

فهلك الفتى ألا يراح(1) إلى ندى *** و ألا يرى شيئا عجيبا فيعجبا

فعجبت و اللّه من جوابها و حدّته و سرعته، و قلت لمن حضر: و اللّه لو أجاب الجاحظ هذا الجواب لكان كثيرا منه مستظرفا.

نسبة هذا الصوت
صوت

لقد عجبت سلمى و ذاك عجيب *** رأت بي شيبا عجّلته خطوب

و ما شيّبتني كبرة غير أنني *** بدهر به رأس الفطيم يشيب

الغناء ليحيى المكيّ، ثقيل أول بالوسطى من كتاب أبيه أحمد.

صديق له يصنع كل غناء بشعره:
اشارة

حدّثني جعفر بن قدامة قال: حدّثني محمد المرتجل بن أحمد بن يحيى المكيّ قال:

كان أبي صديقا لدعبل، كثير العشرة له، حافظا لغيبه، و كلّ شعر يغنّى فيه لدعبل/فهو من صنعة أبي، و غناني من صنعة أبيه في شعر دعبل، و الطريقة فيه خفيف ثقيل في مجرى البنصر:

ص: 317


1- يراح: يرتاح.
صوت

سرى طيف ليلى حين آن هبوب *** و قضّيت شوقا حين كاد يذوب

فلم أر مطروقا يحلّ برحله *** و لا طارقا يقرى المنى و يثيب(1)

و أنشدني عمي هذين البيتين عن أحمد بن يحيى بن أبي طاهر و ابن مهرويه جميعا لدعبل.

ينفي أنه صاحب أبيات في هجاء بني العباس:

حدّثني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال:

سألت دعبلا من الّذي يقول:

ملوك بني العباس في الكتب سبعة

فقال: من أضرم اللّه قبره نارا، إبراهيم بن المهديّ. قال ابن أبي سعد: و حدّثني عبد العزيز بن سهل أنه سأله عنها فاعترف بها.

يهجو طاهر بن الحسين:

/حدّثني عمي قال: أنشدني ابن أخي دعبل لعمه في طاهر بن الحسين، و كان قد نقم عليه أمرا أنكره منه:

و ذي يمينين و عين واحده *** نقصان عين و يمين زائده

نزر العطيات قليل الفائده *** أعضّه اللّه ببظر الوالده

يهجو أخوين لم يرض ما فعلا:

حدّثني جحظة قال: حدّثني ميمون بن هارون قال: كان دعبل قد(2) مدح دينار بن عبد اللّه و أخاه يحيى، فلم يرض ما فعلاه، فقال يهجوهما:

/ما زال عصياننا للّه يرذلنا *** حتى دفعنا إلى يحيى و دينار

و غدين علجين لم تقطع ثمارهما *** قد طال ما سجدا للشمس و النار

يهجو الأخوين و الحسن بن سهل معهما:

قال: و فيهما و في الحسن بن سهل يقول أيضا دعبل يهجوهم، و الحسن بن رجاء و أبيه أيضا:

ألا فاشتروا مني ملوك المخزم(3) *** أبع حسنا و ابنى رجاء بدرهم

و أعط رجاء فوق ذاك زيادة(4) *** و أسمح بدينار بغير تندّم

فإن ردّ من عيب عليّ جميعهم *** فليس يردّ العيب يحيى بن أكثم

ص: 318


1- س، ب: «يئيب»، تحريف.
2- م، أ: «كان دعبل مدح».
3- في م، أ: «المخرم» مد «المحرم».
4- س، ب: «فوف»، تحريف.
انحرافه عن الطاهرية و هجاؤه فيهم:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أبو الطيب الحرانيّ قال:

كان دعبل منحرفا عن الطاهرية(1) مع ميلهم إليه و أياديهم عنده، فأنشدني لنفسه فيهم:

و أبقى طاهر فينا ثلاثا *** عجائب تستخفّ لها الحلوم

ثلاثة أعبد لأب و أم *** تميّز عن ثلاثتهم أروم

فبعض في قريش منتماه *** و لا غير و مجهول قديم

و بعضهم يهشّ لآل كسرى *** و يزعم أنه علج لئيم

فقد كثرت(2) مناسبهم علينا *** و كلّهم على حال زنيم(3)

يهجو رجلا لقبح وجهه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدّثني أبي قال:

كان صالح بن عطية الأضجم من أبناء الدعوة، و كان من أقبح الناس وجها، و كان ينزل واسطا، فقال فيه دعبل:

أحسن ما في صالح وجهه *** فقس على الغائب بالشاهد

تأملت عيني له خلقة *** تدعو إلى تزنية الوالد

قال و قال فيه أيضا، و خاطب فيها المعتصم:

قل للإمام إمام آل محمد *** قول امرئ حدب عليك محام

أنكرت أن تفتّر عنك صنيعة *** في صالح بن عطية الحجّام

ليس الصنائع عنده بصنائع *** لكنهن طوائل الإسلام

اضرب به جيش العدوّ فوجهه *** جيش من الطاعون و البرسام(4)

يعرض شعره على مسلم بن الوليد أو يكتمه حتى أذن له في إظهاره.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: أخبرني إبراهيم بن محمد الوراق قال: حدّثني الحسين بن أبي السّريّ قال:

قال لي دعبل:

ما زلت أقول شعر و أعرضه على مسلم، فيقول لي: أكتم هذا حتى قلت:

/أين الشباب و أية سلكا *** لا، أين يطلب ضلّ؟ بل هلكا

فلما أنشدته هذه القصيدة قال: اذهب الآن فأظهر شعرك كيف شئت لمن شئت(5).

ص: 319


1- س، ب: «آل طاهرية»، تحريف.
2- س، ب: «كسرت» تحريف.
3- زنيم: مستحلق فيمن ينتمي إليهم و ليس منهم و لا حاجة بهم إليه.
4- البرسام: التهاب يعرض للحجاب الّذي بين الكبد و القلب، و علة يهذي فيها.
5- م، أ: «كيف شئت، قال».
ينسبه أبو تمام إلى قصيدة من شعره:

قال إبراهيم: و حدّثني الفتح غلام أبي تمام الطّائيّ، و كان أبو سعيد الثّغريّ اشتراه له بثلاثمائة دينار لينشد شعره، و كان غلاما أديبا فصيحا، و كان إنشاد أبي تمام/قبيحا، فكان ينشد شعره عنه، فقال: سألت مولاي أبا تمام عن نسب دعبل فقال: هو دعبل بن عليّ (1) الّذي يقول:

ضحك المشيب برأسه فبكى

يهجر مسلم بن الوليد حين وفد عليه فجفاه:

قال الفتح: و حدّثني مولاي أبو تمام قال: ما زال دعبل مائلا إلى مسلم بن الوليد مقرّا بأستاذيته حتى ورد عليه جرجان فجفاه مسلم، و كان فيه بخل، فهجره دعبل و كتب إليه:

أبا مخلد كنا عقيدي(2) مودة *** هوانا و قلبانا جميعا معا معا

أحوطك بالغيب الّذي أنت حائطي *** و أ يجع(3) إشفاقا لأن تتوجعا

فصيّرتني بعد انتكاسك(4) متهما *** لنفسي، عليها أرهب الخلق أجمعا

غششت الهوى حتى تداعت أصوله *** بنا و ابتذلت الوصل حتى تقطعا

و أنزلت من بين الجوانح و الحشا *** ذخيرة ود طالما تمنعا

فلا تعذلنّي ليس لي فيك مطمع *** تخرقت حتى لم أجد لك مرقعا

فهبك يميني استأكلت فقطعتها *** و جشّمت قلبي صبره متشجعا

و يروى: و حملت قلبي فقدها. قال ثم تهاجرا، فما التقيا بعد ذلك.

استمساك خزاعة بانتمائه إليهم:

أخبرني محمد بن خلف قال: حدّثني إبراهيم بن محمد قال: حدثنا الحسين بن عليّ قال: قلت لابن الكلبي:

إنّ دعبلا قطعيّ (5)، فلو أخبرت الناس أنه ليس من خزاعة، فقال لي: يا فاعل، /مثل دعبل تنفيه خزاعة! و اللّه لو كان من غيرها لرغبت فيه حتى تدّعيه. دعبل و اللّه يا أخي خزاعة كلها.

يقص خبر رحلته إلى مصر يقصد المطلب في ولايته:

أخبرني محمد بن المرزبان قال: حدّثني إبراهيم بن محمد الوراق عن الحسين بن أبي السريّ عن عبد اللّه بن أبي الشّيص قال: حدّثني دعبل قال:

حججت أنا و أخي رزين و أخذنا كتبا إلى المطّلب بن عبد اللّه بن مالك و هو بمصر يتولاها، فصرنا من مكة إلى

ص: 320


1- في م، أ: «دعبل ابن ضحك المشيب» إلخ.
2- العقيد: المعاقد و المعاهد.
3- كذا في م، أ. أي آلم و أشكو الوجع. س، ب: «أنجع»، تحريف.
4- س، ب: «انتحائك».
5- قطعي: منسوب إلى قطيعة، بطن من زبيد و من قيس عيلان: س، ب: «قد قطعنا»، تحريف.

مصر، فصحبنا رجل يعرف بأحمد بن فلان السراج، نسي عبد اللّه بن أبي الشّيص اسم أبيه، فما زال يحدثنا و يؤانسنا طول طريقنا، و يتولى خدمتنا كما يتولاها الرفقاء و الأتباع. و رأيناه حسن الأدب، و كان شاعرا، و لم نعلم، و كتمنا نفسه، و قد علم ما قصدنا له فعرضنا عليه أن يقول في المطّلب قصيدة، ننحله إياها. فقال: إن شئتم، و أرانا بذلك سرورا و تقبّلا له، فعملنا قصيدة، و قلنا له: تنشدها المطلب فإنك(1) تنتفع بها. فقال: نعم. و وردنا مصر به، فدخلنا إلى المطّلب، و أوصلنا إليه كتبا كانت معنا، و أنشدناه. فسرّ بموضعنا، و وصفنا له أحمد السراج هذا، و ذكرنا له أمره، فأذن له، فدخل عليه و نحن نظن أنه سينشد القصيدة الّتي نحلناه إياها، فلما مثل بين يديه عدل عنها(2)و أنشده:

لم آت مطّلبا إلاّ بمطّلب *** و همة بلغت بي غاية الرّتب

/أفردته برجاء أن تشاركه *** فيّ الوسائل أو ألقاه في الكتب

قال: و أشار إلى كتبي الّتي أوصلتها إليه و هي بين يديه، فكان ذلك أشدّ من كلّ شيء مر بي منه(3) عليّ، ثم أنشده:

/رحلت عنسى(4) إلى البيت الحرام على *** ما كان من وصب فيها و من نصب

ألقى بها و بوجهي كلّ هاجرة *** تكاد تقدح بين الجلد و العصب(5)

حتى إذا ما قضت نسكي ثنيت لها *** عطف الزّمام فأمّت سيد العرب

فيمّمتك و قد ذابت مفاصلها *** من طول ما تعب لاقت و من نقب(6)

إني استجرت بإستارين(7) مستلما *** ركنين: مطّلبا و البيت ذا الحجب

فذاك للآجل المأمول ألمسه *** و أنت للعاجل المرجوّ و الطلب

هذا ثنائي و هذي مصر سانحة *** و أنت أنت و قد ناديت من كثب

قال: فصاح مطّلب: لبيك لبيك: ثم قام إليه فأخذ بيده، و أجلسه معه، و قال: يا غلمان، البدر، فأحضرت، ثم قال: الخلع، فنشرت، ثم قال: الدواب، فقيدت، فأمر له من ذلك بما ملأ عينه و أعيننا و صدورنا و حسدناه عليه، و كان حسدنا له بما اتفق له من القبول و جودة الشعر، و غيظنا بكتمه إيانا نفسه و احتياله علينا أكثر و أعظم، فخرج بما أمر له به، و خرجنا صفرا.

يوليه المطلب أسوان:

فمكثنا أياما، ثم ولّي دعبل بن عليّ أسوان، و كان دعبل قد هجا المطلب غيظا منه، فقال:

ص: 321


1- س، ب: «و إنك».
2- كذا في مد. م، أ: «فلما مثل بين يديه أنشده». س، ب: «عدل عنه»، تحريف.
3- في م، أ: «فكان ذلك أشد شيء علي مر بي منه».
4- كذا في م، أ. و العنس: الناقة الصلبة. و في س، ب: «عيسى».
5- هذا البيت ساقط في م، أ.
6- نقب: حفا.
7- إستارين: مثنى إستار، و هو من العدد: أربعة.

تعلّق(1) مصر بك المخزيات *** و تبصق في وجهك الموصل

و عاديت قوما فما ضرّهم *** و شرّفت قوما فلم ينبلوا

شعارك عند الحروب النجاء(2) *** و صاحبك الأخور الأفشل

/فأنت إذا منا التقوا آخر *** و أنت إذا انهزموا أول

و قال فيه:

اضرب ندى طلحة الطلحات متّئدا *** بلؤم مطّلب فينا و كن حكما

تخرج خزاعة من لؤم و من كرم *** فلا تعدّ لها لؤما و لا كرما

من قصيدته في مدح المطلب:

قال: و كانت القصيدة الّتي مدح بها دعبل المطّلب قصيدته المشهورة الّتي يقول فيها:

أبعد مصر و بعد مطّلب *** ترجو الغنى إن ذا من العجب

إن كاثرونا جئنا بأسرته *** أو واحدونا جئنا بمطّلب

يعزله المطلب عن أسوان حين بلغه هجاؤه له:

قال و بلغ المطلب هجاؤه إياه بعد أن ولاه، فعزله عن أسوان، فأنفذ إليه كتاب العزل مع مولى له، و قال:

انتظره حتى يصعد المنبر يوم الجمعة، فإذا علاه فأوصل الكتاب إليه، و امنعه من الخطبة، و أنزله عن المنبر، و اصعد مكانه. فلما أن علا المنبر و تنحنح ليخطب ناوله الكتاب، فقال له دعبل: دعني أخطب، فإذا نزلت قرأته. قال: لا، قد أمرني أن أمنعك الخطبة حتى تقرأه، فقرأه و أنزله عن المنبر معزولا.

قال: فحدّثني عبد اللّه بن أبي الشّيص قال: قال لي دعبل قال لي المطلب: ما تفكرت في قولك قط:

إن كاثرونا جئنا بأسرته *** أو واحدونا جئنا بمطلب

/إلاّ كنت أحبّ الناس إليّ، و لا تفكرت و اللّه في قولك لي:

و عاديت قوما فما ضرهم *** و قدّمت قوما فلم ينبلوا

إلاّ كنت أبغض الناس إليّ.

معنى إستارين في شعره:

قال ابن المرزبان حدّثني من سأل الرّياشي عن قوله: إستارين، قال: يجوز على معنى إستار كذا، و إستار كذا. و أنشدنا الرياشي:

/سعى(3)

عقالا(4) فلم يترك لنا سبدا *** فكيف لو قد سعى عمرو عقالين

ص: 322


1- س: «تلعق»، تحريف.
2- س، ب: «النجا».
3- سعى: باشر عمل الصدقات.
4- العقال: زكاة عام من الإبل و الغنم، و نصب على الظرفية.

لأصبح القوم أوفاضا(1) فلم يجدوا *** يوم الترحل و الهيجا حمالين

هجاؤه المطلب:

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني عبد العزيز بن سهل قال:

لما قصد دعبل عبد المطلب بن عبد اللّه بن مالك إلى مصر و لم يرض ما كان منه إليه قال فيه:

أ مطلّب أنت مستعذب *** حميّا الأفاعي و مستقبل

فإن أشف منك تكن سبّة *** و إن أعف عنك فما تعقل

ستأتيك إما وردت العراق *** صحائف يأثرها دعبل

منمّقة بين أثنائها *** مخاز تحطّ فلا ترحل

وضعت رجالا فما ضرّهم *** و شرّفت قوما فلم ينبلوا

فأيّهم الزّين وسط الملا *** عطية أم صالح الأحول؟

أم الباذجانيّ أم عامر *** أمين الحمام الّتي تزجل

تنوّط مصر بك المخزيات *** و تبصق في وجهك الموصل

و يوم السّراة تحسّيتها *** يطيب لدى مثلها الحنظل

توليت ركضا و فتياننا *** صدور القنا فيهم تعمل(2)

/إذا الحرب كنت أميرا لها *** فحظهم منك أن يقتلوا

فمنك الرءوس غداة اللقاء *** و ممّن يحاربك المنصل

شعارك في الحرب يوم الوغى *** إذا انهزموا: عجّلوا عجّلوا

هزائمك الغرّ مشهورة *** يقرطس(3) فيهن من ينضل(4)

فأنت لأوّلهم آخر *** و أنت لآخرهم أول

و من هجائه المطلب:

أخبرني عمّي قال أنشدنا المبرّد لدعبل يهجو المطّلب بن عبد اللّه و يعيّره بغلامين: عليّ و عمرو، و كان يتهم بهما:

فأير عليّ له آلة *** و فقحة(5) عمرو له ربه(6)

ص: 323


1- الأوفاض: الفقراء، مفردها وفض كسهل، أو وفض كجمل. و في س، ب: «أوقاص»، تحريف.
2- ب، مد: «تعسل»
3- يقرطس: يصيب الغرض.
4- ينضل: يسبق في الرمي، و المراد هنا: يرمي.
5- الفقحة: حلقة الدبر الواسعة.
6- له ربة: له صاحبة، و تطلب الربة على كل صنم على صورة الأنثى.

فطورا تصادفه جعبة *** و طورا تصادفه حربه

و من مدحه إياه:
اشارة

و أنشدني ابن عمار عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ لدعبل(1) يمدح المطّلب بن عبد اللّه بن مالك، و فيه غناء.

صوت

زمني بمطّلب سقيت زمانا *** ما كنت إلا روضة و جنانا

/كلّ الندى إلاّ نداك تكلّف *** لم أرض بعدك كائنا من كانا

أصلحتني بالبرّ بل أفسدتني *** فتركتني أتسخّط الإحسانا

سبب سخطه على المطلب:

و قد أخبرني بخبره الأول الطويل مع المطلب الحسن بن عليّ عن أحمد بن(2) محمد حدّان عن أحمد بن يحيى العدوي أن سبب سخطه على المطلب أن رجلا من العلويّين كان قد تحرك بطنجة(3)، فكان يبث دعاته إلى مصر، و خافه المطلب، فوكّل بالأبواب من يمنع الغرباء دخولها.

فلما جاء دعبل منع فأغلظ للذي منعه، فقنّعه بالسوط و حبسه، فمضى رزين فأخبر المطلب، فأمر بإطلاقه، و دعا به فخلع عليه. فقال له: لا أرضى أو تقتل الموكّل بالباب فقال له: هذا لا يمكن لأنه قائد من قوّاد السلطان، فغضب ثم أنشده الرجل(4) الأبيات المذكورة، فأجازه، و حكى أن اسمه محمد بن الحجاج، لا أحمد بن السراج.

و سائر الخبر مثله.

سبب مناقضته أبا سعد المخزومي:

و كان سبب مناقضته أبا سعد المخزوميّ و ما خرج إليه الأمر بينهما قول دعبل قصيدته الّتي هجا فيها قبائل نزار، فحمي لذلك أبو سعد، فهجاهم، فأجابه أبو سعد، و لجّ الهجاء بينهما.

و روي أنه نزل بقوم من بني مخزوم، فلم يضيّفوه، فهجاهم، فأجابه أبو سعد و لجّ الهجاء بينهما.

أخبرني عمي و الحسن بن علي الخفّاف قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني محمد بن الأشعث قال: حدّثني دعبل أنه و رزينا العروضيّ نزلا بقوم من بني مخزوم، فلم يقروهما، و لا أحسنوا ضيافتهما فقال دعبل: فقلت فيهم:

/عصابة من بني مخزوم بتّ بهم *** بحيث لا تطمع المسحاة(5) في الطين

ثم قلت لرزين: أجز فقال:

ص: 324


1- زيادة في م، أ. مد.
2- م، أ: «أحمد بن حدان».
3- كذا في م، أ، مد. و هي بلد على ساحل بحر المغرب مقابل الجزيرة الخضراء و في س، ب: «ظجة»، تحريف.
4- يريد رفيق دعبل و أخيه في الرحلة (راجع الصفحة 159 من طبعة دار الكتب).
5- المسحاة: أداة من حديد كالمجرفة يسحى بها الطين أي يقشر.

في مضغ أعراضهم من خبزهم عوض *** بني(1) النفاق و أبناء الملاعين

قال ابن الأشعث: فكان هذا أول الأسباب في مهاجاته لأبي سعد.

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال: حدّثني العنزيّ قال: حدّثني عليّ بن عمرو الشيبانيّ أن الّذي هاج الهجاء بين أبي سعد و دعبل قصيدته القحطانية الّتي هجا فيها نزارا، فأجابه عنها أبو سعد، و لجّ الهجاء بينهما.

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن القاسم قال: حدّثني أحمد بن أبي كامل قال: كان سبب وقوع الهجاء بين دعبل و أبي سعد قول دعبل في قصيدة يفخر فيها بخزاعة، و يهجو نزارا، و هي الّتي يقول فيها:

أتانا طالبا وعرا *** فأعقبناه بالوعر

وترناه فلم يرض *** فأعقبناه بالوتر

فغضب أبو سعد، و قال قصيدته الّتي يقول فيها لدعبل، و هي مشهورة:

و بالكرخ هوى أبقى *** على الدهر من الدهر

هوى و الحمد للّه *** كفاني كلفة(2) العذر

قال: ثم التحم الهجاء بينهما بعد ذلك.

من هجاء أبي سعد المخزومي له:

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أحمد بن/هارون قال: دخلت على أبي سعد المخزوميّ يوما و هو يقول: /و أي شيء ينفعني؟ أجوّد الشعر فلا يروى، و يرذل فيروى، و يفضحني برديئه، و لا أفضحه بجيّدي، فقلت: من تعني يا أبا سعد؟ فقال: من تراني أعني إلاّ من عليه لعنة اللّه دعبلا! فقلت فيه:

ليس لبس الطيالس *** من لباس الفوارس

لا و لا حومة الوغى *** كصدور المجالس

ضرب أوتار نفنف(3) *** غير ضرب القوانس(4)

و ظهور الجياد غي *** ر ظهور الطنافس

ليس من ضارس(5) الحرو *** ب كمن لم يضارس

بأبي غرس فتية *** من كرام المغارس

فتية من بني المغ *** يرة شمّ المعاطس

ص: 325


1- م، أ: «بنو».
2- في م، أ: «طلب».
3- نفنف: اسم غلام لدعبل، و كان مغنيا له.
4- القوانس: جمع قونس، و هي أعلى بيضة الحديد (الخوذة).
5- ضارس: جرب.

يطعمون السديف(1) في *** كل شهباء(2) دامس

في جفان كأنها *** من جفان العرائس

ثم يمشون في السّنو(3) *** ر مشي العنابس(4)

و يخوضون باللوا *** ء دماء الأبالس

نحن خير الأنام ع *** ند قياس المقايس

/فو اللّه ما التفت إليها في مصرنا هذا إلاّ علماء الشعر: و قال هو فيّ:

يا أبا سعد قوصره(5) *** زانى الأخت و المره

لو تراه محنّبا(6) *** خلته عقد قنطره

أو ترى الأير في استه *** قلت ساق بمقطره(7)

قال: فو اللّه لقد رواه صبيان الكتاب و مارة الطريق و السّفل، فما أجتاز بموضع إلاّ سمعته من سفلة يهذرون به(8)، فمنهم من يعرفني فيعيبني به، و منهم من لا يعرفني، فأسمعه منه لسهولته على لسانه.

يذكر أن المخزومي دس في شعره ما لم يقله:

أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ و محمد بن يحيى الصوليّ و عمي قالوا: حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال: حدّثني عليّ بن أبي عمرو الشيبانيّ قال:

جاءني إسماعيل بن إبراهيم بن ضمرة الخزاعيّ، فقال لي: إني سألت دعبلا أن أقرأ عليه قصيدته الّتي يناقض بها الكميت:

أفيقي من ملامك يا ظعينا *** كفاك اللوم مرّ الأربعينا

فقال لي إسماعيل: قال لي دعبل: يا أبا الحسن فيها أخبار و غريب، فليكن معك رجل يقرؤها عليّ و أنت معه، فيكون أهون عليّ منك، فقلت له: لقد اخترت صديقا لي يقال له: علي، فقال: أ من العرب هو؟ قلت: نعم.

قال: من أيّ العرب؟ قلت: من بني شيبان. قال: شيبان كندة؟ فقلت: بل شيبان ربيعة. فقال لي: ويحك! أ تأتيني برجل أسمعه ما يكره في قومه؟ فقلت: له: إنه رجل يحتمل، و يحب أن يسمع ما له/و عليه. فقال: في مثل هذا رغبة(9)، فأتني به، فصرنا إليه، فلما لقيه قال: قد أخبرني عنك أبو الحسن بما سررت به؛ أن كنت رجلا من العرب

ص: 326


1- السديف: شحم السنام.
2- شهباء: سنة مجدبة لا خضرة فيها و لا مطر.
3- السنور: لبوس من قد كالدرع، و جملة السلاح.
4- العنابس: جمع عنبس كجعفر، و هو الأسد.
5- القوصرة: كناية عن المرأة، و تطلق على المنبوذ في لغة أهل البصرة.
6- محنبا: محنيا، و في بعض النسخ: «مجيبا»، و لا معنى لها هنا.
7- المقطرة: خشبة فيها خروق، سعة كل خرق على قدر الساق، يدخل فيها أرجل المحبوسين.
8- في م، أ: «يهذونه» أي يسرعون في قراءته.
9- كذا في أ، م. س، ب: «أريحية».

تحب أن تسمع ما لك و عليك لكيلا تغبن، فقرأنا عليه الشعر حتى انتهينا في القصيدة إلى قوله:

/من أي ثنيّة طلعت قريش *** و كانوا معشرا متنبّطينا

فقال دعبل: معاذ اللّه أن يكون هذا البيت لي، ثم قال: لعنه اللّه و انتقم منه - يعني أبا سعد المخزوميّ - دسّه و اللّه في هذا الشعر و ضرب بيده إلى سكين كانت معه(1) فجرد البيت بحدها ثم قال لنا: أحدثكم(2) عنه بحديث طريف:

يزوره المخزومي و يجالسه، و يرسل إليه حين انصرف هجاء فيه:

جاءني يوما ببغداد أشدّ ما كان بيني و بينه من الهجاء، و بين يديّ صحيفة و دواة، و أنا أهجوه فيها، إذ دخل عليّ غلام لي فقال: أبو سعد المخزومي بالباب. فقلت له: كذبت. فقال، و هو عارف بأبي سعد: بلى و اللّه يا مولاي، فأمرته برفع الدواة و الجلد الّذي كان بين يدي، و أذنت له في الدخول، و جعلت أحمد اللّه في نفسي، فأقول: الحمد للّه الّذي أصلح بيني و بينه من هتك الأعراض و ذكر القبيح، و كان الابتداء منه. فقمت إليه و سلمت عليه و هو ضاحك مسرور، فأبديت له مثل ذلك من السرور به، ثم قلت: أصبحت و اللّه حاسدا لك. قال: على ما ذا يا أبا علي؟ فقلت: بسبقك إياي إلى الفضل.

فقال لي: أنا اليوم في دعوى عندك، فقلت: قل ما أحببت. فقال: إن كان عندك ما نأكله، و إلا ففي منزلي شيء معدّ. فسألت الغلمان فقالوا عندنا: قدر أمسيّة(3). فقال: غاية و اتفاق جيّد. فهل عندك شيء نشربه، و إلاّ وجهت إلى منزلي/ففيه شراب معد؟ فقلت له: عندنا ما نشرب، فطرح ثيابه و ردّ دابته و قال: أحب ألا يكون معنا غيرنا، فتغدينا و شربنا، فلما أن أخذ الشراب منا قال: مر غلاميك يغنياني، فأمرت الغلامين فغنياه، فطرب و فرح، و استحسن الغناء حتى سرّني و أطربني معه، ثم قال: حاجتي إليك يا أبا علي أن تأمرهما بأن يغنياني في هجائك لي - و كان الغلامان لكثرة ما يسمعانه مني في هجائي قد حفظا منه أشياء و لحّناها - فقلت له: سبحان اللّه يا أبا سعد قد طفئت النائرة(4)، و ذهبت العداوة بيننا، و انقطع الشر. فما حاجتك إلى هذا؟ فقال لي: سألتك باللّه إلاّ فعلت، فليس يشق ذلك عليّ. و لو كرهته لما سألته. فقلت في نفسي: أ ترى أبا سعد يتماجن عليّ؟ يا غلمان، غنّوه بما يريد، فقال غنوه:

يا أبا سعد قوصره *** زاني الأخت(5) و المره

فغنّوه، و هو يحرك رأسه و كتفيه، و يطرب و يصفق، فما زلنا يومنا مسرورين. فلما ثمل ودّعني و قام فانصرف، و أمرت غلماني فخرجوا معه إلى الباب، فإذا غلام منهم قد انصرف إليّ بقطعة قرطاس، و قال: دفعها إليّ أبو سعد المخزوميّ، و أمرني أن أدفعها إليك. قال: فقرأتها، فإذا فيها:

لدعبل منّة يمنّ بها *** فلست حتى الممات أنساها

ص: 327


1- كذا في ب. و في أ، م: «معنا».
2- في أ، م: «أحدثكم بحديث طريف».
3- أمسية: مساء.
4- النائرة هي الشحناء: و في س، ب، مد: «الثائرة».
5- م، أ: «الأم».

أدخلنا بيته فأكرمنا(1) *** و دسّ بامراته(2) فنكناها

فقال: ويلي على ابن الفاعلة، هاتوا جلدا و دواة، قال فردّوهما عليّ، فعدت إلى هجائه، و لقيته بعد يومين أو ثلاثة، فما سلّم عليّ، و لا سلمت عليه.

/أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدّثنا عليّ بن عبد اللّه بن سعد، أنه سمع دعبلا يحدث بخبره هذا مع أبي سعد، فذكر نحو ما ذكره العنّزيّ.

يشد على المخزومي فيقنعه بسيفه:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن القاسم/قال: حدّثني أحمد بن أبي كامل قال: رأيت دعبلا قد لقي أبا سعد في الرّصافة، و عليهما السّواد و سيفاهما على أكتافهما، فشدّ دعبل على أبي سعد فقنّعه، فركض أبو سعد بين يديه هاربا، و ركض دعبل في أثره و هو يهرب منه حتى غاب.

يهجو المخزومي حين انتفى منه بنو مخزوم:

قال: و كنت أرى أبا سعد يجلس مع بني مخزوم في دار المأمون، فتظلموا منه إلى المأمون، و ذكروا أنهم لا يعرفون له فيهم نسبا، فأمرهم المأمون بنفيه، فانتفوا منه، و كتبوا بذلك كتابا. فقال دعبل فيه يذكر ذلك من قصيدة طويلة:

غير أن الصيد منهم *** قنّعوه(3) بخزايه

كتبوا الصّك عليه *** فهو بين الناس آيه

فإذا أقبل يوما *** قيل قد جاء النّفايه

و قال فيه أيضا:

هم كتبوا الصّك الّذي قد علمته *** عليك و شنّوا فوق هامتك القفدا(4)

قال: و كان إذا قيل له بعد ذلك شيء في نسبه قال: أنا عبد ابن عبد. قال: و نظر دعبل فرأى على أبي سعد قباء مرويّا(5) مصبوغا بسواد، فقال: هذا دعيّ على دعيّ.

يرى دفتر شعر المخزومي فيملي هجاء له على حامله:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أحمد بن مروان مولى الهادي قال:

/لقيني أبو سعد المخزوميّ على ظهر الطريق فقال لي: يا أحمد أنا أدرس شكايتك إلى أبيك، قال فقلت:

و لم أبقاك اللّه؟ قال: فما فعل دفتر البزاريات(6)؟ قلت: هو ذا أجيئك به، فلما صلّيت الظهر جئت بالدفتر أريده، فمررت بدعبل فدققت بابه، فسمعته يقول لجارية له: يا دراهم، انظري من بالباب. فقالت له: أحمد بن مروان.

ص: 328


1- م، أ: «فأطعمنا».
2- في س، ب: «امرأته»، تحريف.
3- س، ب: «فنفوه»، تحريف.
4- كذا في م، أ. و معناها الصفع. و في س، ب «القفرا»، تحريف.
5- مروي: منسوب إلى مرو، قاعدة خراسان.
6- كذا في النسخ، و لعلها المنسوبة إلى بزار، بلدة على فرسخين من نيسابور.

فقال: افتحي له، فلما دخلت قلت له: أيش هو دراهم من الأسماء؟ قال: سميتم جواريكم دنانير، فسمينا جوارينا بدراهم. ثم قال: ما هذا معك؟ قلت: دفتر فيه شعر أبي سعد في البزاريات، فأخذه فنظر فيه و ابنه عليّ بن دعبل بن عليّ معه، فلما بلغ من نظرة إلى شعره الّذي يقول فيه:

مالت إلى قلبك أحزانه *** فهو مجمّ اللهم خزّانه(1)

قال له ابنه علي: فما كان عليه يا أبت لو قال في شعره:

عادت إلى قلبك أحزانه؟

فقال دعبل: صدقت و اللّه يا بنيّ، أنت و اللّه أشعر منه، قال: ثم إنه أملى(2) عليّ دعبل إملاء:

ما كنت أحسب أنّ الدهر يمهلني *** حتى أرى أحدا يهجوه لا أحد

إني لأعجب ممن في حقيبته *** من المنيّ بحور كيف لا يلد؟

فإن سمعت به(3) بعت القنا عبثا *** فقد أراد قنا ليست له عقد

ثم صرت إلى أبي سعد، فلما رآني من بعيد قال: يا أحمد، من أين أقبلت؟ /قلت: من عند دعبل. قال:

ما دعبلت عنده؟ فأنشدته شعر دعبل فيه، و أخبرته بما قال ابنه في شعره، فقال: صدق و اللّه، في أي سن هو؟ قلت: قد بلغ. فدعا بدواة و قرطاس و قال: اكتب فكتبت:

لا و الّذي خلق الصهباء من ذهب *** و الماء من فضة لا ساد من بخلا

يقول لي دعبل في بطنه حبل *** و لو أصابت ثيابي دعبل حبلا

و دعبل رجل ما شئت من رجل *** لو كان أسفله من خلفه رجلا

/قال: ثم هجاني أبو سعد، فقال:

عدوّ راح في ثوبي صديق *** شريك في الصبوح و في الغبوق

له وجهان ظاهره ابن عمّ *** و باطنه ابن زانية عتيق

يسرّك معلنا و يسوء(4) سرّا *** كذاك يكون أبناء الطريق

يخاف بنو مخزوم هجاءه فينفون المخزومي عنهم:

أخبرني عمي و الحسن بن عليّ قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا أبو ناجية - شيخ من ولد زهير بن أبي سلمى - قال:

حضرت بني مخزوم و هم(5) ببغداد، و قد اجتمعوا على أبي سعد لمّا لجّ الهجاء بينه و بين دعبل، و قد خافوا لسان دعبل، و أن يقطعهم و يهجوهم هجاء يعمّهم جميعا، فكتبوا عليه كتابا، و أشهدوا أنه ليس منهم. فحدّثني غير

ص: 329


1- الشطر الثاني زيادة من مي.
2- م، أ: «أمل»، و هي بمعنى أملي.
3- مي: «سمعت له».
4- ب، س، م: «و يسوك» بالتخفيف.
5- أ، م: «مخزوم ببغداد».

واحد أنه أتى حينئذ بخاتمة النقاش، فنقش عليه: أبو سعد العبد ابن العبد بريء من بني مخزوم تهاونا بما فعلوه.

المخزومي يحرض المأمون عليه فلا يستجيب له:

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدّثني محمد بن يزيد قال:

كان أبو سعد المخزوميّ قد كان يستعلي على دعبل في أول أمره، و كان يدخل إلى/المأمون فينشده هجاء دعبل له(1) و للخلفاء، و يحرّضه عليه و ينشده جوابه(2)، فلم يجد عند المأمون ما أراده فيه.

يعترض ابن أبي الشيص بينهما، و يهجو المخزومي:

و كان يقول: الحقّ في يدك و الباطل في يد غيرك، و القول لك ممكن، فقل ما يكذبه(3)، فأما القتل فإني لست أستعمله فيمن عظم ذنبه، أ فأستعمله في شاعر(4)! فاعترض بينهما ابن أبي الشيص، فقال يهجو أبا سعد:

أنا بشّرت أبا سع *** د فأعطاني البشارة

بأب صيد له بال *** أمس في دار الإماره

فهو يوما من تميم *** و هو يوما من فزاره

كلّ يوم لأبي سع *** د على الأنساب غاره

خزمت مخزوم فاه *** فادعاها بالإشارة

قال: و قال فيه ابن أبي الشيص أيضا:

أبا سعد بحق الخم *** س و المفروض من صومك

أقلت الحق في النسبة *** أم تحلم في نومك؟

ابن لي أيّها المعرو(5) *** ر ممّن أنت في قومك؟

فولّى قائلا لو ش *** ئت قد أقصرت من لومك

و دعني أك من شئت *** إذا لم أك من قومك

من هجائه في المخزومي:

و قال فيه دعبل:

إن أبا سعد فتى شاعر *** يعرف بالكنية لا الوالد

ينشد في حيّ معدّ أبا *** ضلّ عن المنشود و الناشد

فرحمة اللّه على مسلم *** أرشد مفقودا إلى فاقد

ص: 330


1- أ، م: «لنزار».
2- زيادة من مي.
3- أ، م: «ما تكذبه».
4- في س، ب: «فاستعمله ساعة»، تحريف.
5- المعرور: الأجرب، و الملطخ بالشر. س، ب، مد: «المغرور».
يغري الصبيان أن يصيحوا بهجائه في المخزومي:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا ابن مهرويه قال: حدّثني أحمد بن عثمان الطبريّ قال:

سمعت دعبل بن عليّ يقول: لما هاجيت أبا سعد أخذت معي جوزا و دعوت الصبيان فأعطيتهم منه، و قلت لهم: صيحوا به قائلين:

/يا أبا سعد قوصره *** زاني الأخت و المره

فصاحوا به، فغلبته.

تحريض آخر للمأمون عليه:

أخبرني الحسن بن عليّ، قال حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثني أحمد بن مروان قال: حدّثني أبو سعد المخزوميّ و اسمه عيسى بن خالد(1) بن الوليد قال:

أنشدت المأمون قصيدتي الدالية الّتي رددت فيها على دعبل قوله:

و يسومني المأمون خطة عاجز *** أ و ما رأى بالأمس رأس محمد!

و أول قصيدتي:

أخذ المشيب من الشباب الأغيد *** و النائبات من الأنام(2) بمرصد

ثم قلت له: يا أمير المؤمنين، ائذن لي أن أجيئك برأسه. قال: لا، هذا رجل فخر علينا فافخر عليه كما فخر علينا، فأمّا قتله بلا(3) حجة فلا.

يذكر هجاء للمخزومي فيه و قد رأى وجهه في المرآة:

أخبرني عمّي و الحسن بن عليّ عن أحمد بن أبي طاهر قال: حدّثني أبو السّريّ عمرو الشيبانيّ قال:

نظر دعبل يوما في المرآة، فجعل يضحك، و كانت في عنفقته(4) سلعة(5)، فقلت له: من أيّ شيء تضحك؟ قال: نظرت إلى وجهي في المرآة، و رأيت هذه السّلعة الّتي في عنفقتي، فذكرت قول الفاجر أبي سعد:

و سلعة سوء به سلعة *** ظلمت أباه فلم ينتصر

ينشده منشد قصيدة للمخزومي فيه:

أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال: قال عبد اللّه بن الحسن بن أحمد مولى عمر بن عبد العزيز قال: حدّثنا محمد بن عليّ الطالبيّ قال:

لقيت دعبل بن عليّ، فحدّثني أن أبا عمرو الشيبانيّ سأله: ما هو دعبل؟ فقلت له: لا أدري، فقال: إنها الناقة

ص: 331


1- كذا في غير س. س: «عيسى بن الوليد»، و في «معجم الشعراء»: «عيسى بن خالد بن الوليد».
2- م، أ: «الرجال».
3- م، أ: «فلا حجة فيه».
4- العنفقة: شعيرات بين الشفة السفلى و الذقن.
5- السلعة: زيادة في البدن كالغدة تتحرك إذا حركت، و تكون من حمصة إلى بطيخة.

المسنّة. قال محمد بن عليّ الطالبيّ: ثم تحدّثنا ساعة، فقلت: أما ترى لأبي سعد يا أبا عليّ و انهماكه في هجائك؟ فقال دعبل: لكني لم أقل فيه إلا أبياتا سخيفة يلعب بها الصبيان و الإماء، و أنشدني قوله فيه:

يا أبا سعد قوصره *** زاني الأخت و المره

لو تراه محنّبا *** خلته عقد قنطره

أو ترى الأير في استه *** قلت ساق بمقطره

قال محمد، فقلت لدعبل: دع عنك ذا، فقد و اللّه أوجعك الرجل، فإن أجبته/بجواب مثله انتصفت، و إلا فإن هذا اللغو الّذي فخرت به يسقط و تفضح آخر الدهر، قال: ثم أنشدته قول أبي سعد فيه(1):

لم يبق لي لذّة(2) من طيّة(3) بدد(4) *** و لا المنازل من خيف(5) و لا سند(6)

أبعد خمسين عادت جاهليته *** يا ليت ما عاد منها اليوم لم يعد

و ما تريد عيون العين من رجل *** كرّ الجديدان في أيامه الجدد

أبدى سرائره وجدا(7) بغانية *** و لو أطاع مشيب الرأس لم يجد

و استمطرت عبرات العين منزلة *** لم يبق منها سوى الآريّ (8) و الوتد

و ما بكاؤك دارا لا أنيس بها *** إلاّ الخواضب(9) من خيطانها(10) الرّبد(11)

/لدعبل وطر في كل فاحشة *** لو باد لؤم بني قحطان لم يبد

و لي قواف إذا أنزلتها بلدا *** طارت بهن شياطيني إلى بلد

/لم ينج من خيرها أو شرّها أحد *** فاحذر شآبيبها(12) إن كنت من أحد

إنّ الطّرمّاح نالته صواعقها *** في ظلمة القبر بين الهام(13) و الصّرد(14)

و أنت أولى بها إذ كنت وارثه *** فابعد و جهدك أن تنجو على البعد

ص: 332


1- م، أ: «قول أبي سعد، و فيه غناء». «صوت».
2- م، أ: «جلد».
3- كذا في م، أ. و الطية: الحاجة و الوطر. س، ب: «طرية»، تحريف.
4- بدد: متباعدة.
5- الخيف: ما انحدر من غلظ الجبل و ارتفع عن مسيل الماء، و يضاف إلى أماكن متفرقة.
6- السند: ما قابلك من الجبل، و علا من السفح، و اسم ماء لبني سعد.
7- م، أ: «وجد».
8- الآري: عود في حائط، أو في حبل يدفن طرفاه في الأرض و يبرز طرف كالحلقة تشد فيها الدابة.
9- الخواضب: جمع خاضب، و هو الظليم، أي ذكر النعام أكل الربيع فاحمرّ ساقاه. م، أ: «ظلمانها».
10- الخيطان: جمع خيط كسيف، و هو الجماعة من النعام.
11- الربد: الغبر.
12- الشآبيب: جمع شؤبوب، و هو حد كل شيء و شدة دفعه.
13- الهام: من طيور الليل، جمع هامة.
14- الصرد: طائر ضخم الرأس يصطاد العصافير.

تهجو نزارا و ترعى في أرومتها(1) *** و تنتمي في أناس حاكة البرد

إني إذا رجل دبّت عقاربه *** سقيته سم حيّاتي فلم يعد

زدني أزدك هوانا أنت موضعه *** و من يزيد إذا ما نحن لم نزد؟

لو كنت متئدا فيما تلفقه *** لكان حظك منه حظ متئد

أو كنت معتمدا منه على ثقة *** من المكارم قلنا: طول(2) معتمد

لقد تقلدت أمرا لست نائله *** بلا وليّ و لا مولى و لا عضد

و قد رميت بياض الشمس تحسبه *** بياض بطنك من لؤم و من نكد

لا توعدنّي بقوم أنت ناصرهم *** و اقعد فإنك نومان(3) من القعد(4)

للّه معتصم باللّه، طاعته *** قضية من قضايا الواحد الصمد

قال، فلما أنشدتها دعبلا، قال: أنا أشتمه و هو يشتمني، فما إدخال المعتصم بيننا؟ و شق ذلك عليه و خافه، ثم قال نقيض هذه القصيدة:

/منازل الحيّ من غمدان(5) فالنّضد

و هي طويلة مشهورة في شعره، هكذا قال العنزيّ في الخبر، و لم يأت بها.

يمر بأبي سعيد على جسر بغداد فيشتمه:

حدّثنا محمد قال: حدّثنا العنزيّ قال: حدّثني عبد اللّه بن الحسين عن محمد بن عليّ الطالبيّ قال:

عبر دعبل الجسر ببغداد، و أبو سعد واقف على دابته عند الجسر، و عليه ثوب صوف مشبّه بالخز مصبوغ، فضرب دعبل بيده على فخذه، و قال: دعيّ على دعيّ.

حديث بين عبد اللّه بن طاهر و الضبي عن نسبه:

أخبرني محمد بن جعفر الصيدلانيّ صهر المبرّد قال: حدّثني محمد بن موسى الضبيّ راوية العتّابيّ، و كان نديما لعبد اللّه بن طاهر قال:

بينما هو ذات ليلة يذاكرنا بالأدب و أهله و شعراء الجاهلية و الإسلام إذ بلغ إلى ذكر المحدثين حتى انتهى إلى ذكر دعبل، فقال: ويحك يا ضبّيّ!، إني أريد أن أحدثك بشيء على أن تستره طول حياتي، فقلت له: أصلحك اللّه أنا عندك في موضع ظنة؟ قال: لا، و لكن أطيب لنفسي أن توثّق لي بالأيمان لأركن إليها، و يسكن قلبي عندها، فأحدّثك حينئذ.

ص: 333


1- م، أ: «إمارتها».
2- الطول: القدرة و السعة.
3- النومان: كثير النوم، و لا يستعمل إلاّ منادى.
4- القعد: هم الذين قعدوا عن نصرة علي و مقاتلته، جمع قاعد.
5- كذا في م، أ. و هو اسم قصر مشهور باليمن هدم في زمن عثمان. و في س، ب: «عمران» و هو تحريف. و بقية البيت كما في «معجم البلدان»: فمأرب فظفار الملك فالجند.

قال: قلت: إن كنت عند الأمير في هذه الحال فلا حاجة به إلى إفشاء سرّه إليّ، و استعفيته مرارا فلم يعفني، فاستحييت من مراجعته، و قلت: فلير الأمير رأيه. فقال لي: يا ضبّيّ، قل: و اللّه. قلت: و اللّه، فأمّرها عليّ غموسا مؤكّدة بالبيعة و الطلاق و كلّ ما يحلف به مسلم. ثم قال: أشعرت أنّ دعبلا مدخول النسب؟ و أمسك، فقلت: أعزّ اللّه الأمير، أ في هذا أخذت العهود و المواثيق و مغلّظ الأيمان؟ قال: إي و اللّه، فقلت: /و لم؟ قال: لأني رجل لي في نفسي حاجة، و دعبل رجل قد حمل نفسه على المهالك، و حمل جذعه على عنقه، فليس يجد من يصلبه عليه، و أخاف إن بلغه أن يقول فيّ/ما يبقى عليّ عاره على الدهر، و قصاراي إن ظفرت به و أسلمته اليمن - و ما أراها تفعل؛ لأنه اليوم لسانها و شاعرها و الذابّ عنها و المحامي لها و المرامي دونها - فأضربه(1) مائة سوط، و أثقله حديدا، و أصيّره في مطبق(2) باب الشام.

و ليس في ذلك عوض مما سار فيّ من الهجاء و في عقبي من بعدي. فقلت: ما أراه يفعل و يقدم عليك. فقال لي: يا عاجز، أهون عليه مما لم يكن. أ تراه أقدم على الرشيد و الأمين و المأمون و على أبي و لا يقدم عليّ؟ فقلت:

فإذا كان الأمر كذا فقد وفق الأمير فيما أخذه عليّ.

قال: و كان دعبل صديقا لي، فقلت: هذا شيء قد عرفته، فمن أين؟ قال الأمير: إنّه مدخول النسب و هو في البيت الرفيع من خزاعة، لا يتقدمهم غير بني أهبان مكلّم الذئب. فقال: أسمع أنه كان أيام ترعرع خاملا لا يؤبه له، و كان ينام هو و مسلم بن الوليد في إزار واحد، لا يملكان غيره. و مسلم أستاذه و هو غلام أمرد يخدمه، و دعبل حينئذ لا يقول شعرا يفكر فيه حتى قال:

لا تعجبي يا سلم من رجل *** ضحك المشيب برأسه فبكى

بداية اشتهاره و طلب الرشيد أن يلازمه:

و غنّى فيه بعض المغنين و شاع، فغنّي به بين يدي الرشيد، إما ابن جامع أو ابن المكي، فطرب الرشيد، و سأل عن قائل الشعر، فقيل له: دعبل بن عليّ، و هو غلام نشأ من خزاعة. فأمر بإحضار عشرة آلاف درهم و خلعة من ثيابه، فأحضر ذلك، فدفعه مع مركب من مراكبه إلى خادم من خاصته، و قال له: اذهب بهذا إلى خزاعة فاسأل عن دعبل بن عليّ، فإذا دللت عليه فأعطه هذا، و قل له: ليحضر إن شاء، و إن لم يجب/ذلك فدعه. و أمر للمغني بجائزة، فسار الغلام إلى دعبل، و أعطاه الجائزة، و أشار عليه بالمسير إليه.

فلما دخل عليه و سلّم أمره بالجلوس فجلس، و استنشده الشعر فأنشده إياه، فاستحسنه و أمره بملازمته و أجرى عليه رزقا سنيّا، فكان أول من حرضه على قول الشعر.

يبلغه موت الرشيد فيهجوه:

فو اللّه ما بلغه أن الرشيد مات حتى كافأه على ما فعله: من العطاء السنيّ، و الغنى بعد الفقر، و الرفعة بعد الخمول بأقبح مكافأة. و قال فيه من قصيدة مدح بها أهل البيت عليهم السّلام، و هجا الرشيد:

و ليس حيّ من الأحياء نعلمه *** من ذي يمان و من بكر و من مضر

ص: 334


1- كذا في النسخ و يبدو أنها: أن أضربه؛ لتستقيم العبارة.
2- المطبق: السجن تحت الأرض.

إلاّ و هم شركاء في دمائهم *** كما تشارك أيسار(1) على جزر

قتل و أسر و تحريق و منهبة *** فعل الغزاة بأرض الروم و الخزر

أرى أمية معذورين إن قتلوا *** و لا أرى لبني العباس من عذر

اربع بطوس(2) على القبر الزكي إذا *** ما كنت تربع من دين(3) على(4) وطر

قبران في طوس خير الناس كلّهم *** و قبر شرّهم هذا من العبر

ما ينفع الرّجس من قرب الزكيّ و لا *** على الزكيّ بقرب الرجس من ضرر

هيهات كلّ امرئ رهن بما كسبت *** له يداه فخذ ما شئت أو فذر

- يعني قبر الرشيد و قبر الرضا عليه السّلام، فهذه واحدة.

يدس إلى المأمون شعر له فيصفح عنه و يستقدمه:

و أما الثانية فإن المأمون لم يزل يطلبه و هو طائر على وجهه حتى دسّ إليه قوله:

/علم و تحكيم و شيب مفارق *** طمّسن ريعان الشباب الرائق

و إمارة في دولة ميمونة *** كانت على اللذات أشغب عائق

أنّى يكون و ليس ذاك بكائن(5)*** يرث الخلافة فاسق عنن فاسق

إن كان إبراهيم مضطلعا بها *** فلتصلحن من بعده لمخارق(6)

فلما قرأها المأمون ضحك، و قال: قد صفحت عن كلّ ما هجانا به إذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة، و ولاه عهده.

و كتب إلى أبي أن يكاتبه بالأمان، و يحمل إليه مالا. و إن شاء أن يقيم عنده أو يصير إلى حيث شاء فليفعل.

فكتب إليه أبي بذلك، و كان واثقا به، فصار إليه، فحمله و خلع عليه، و أجازه و أعطاه المال، و أشار عليه بقصد المأمون ففعل. فلما دخل و سلّم عليه تبسم في وجهه، ثم قال أنشدني:

مدارس آيات خلت من تلاوة *** و منزل وحي مقفر العرصات

فجزع، فقال له: لك الأمان فلا تخف، و قد رويتها و لكني أحبّ سماعها من فيك، فأنشده إياها إلى آخرها و المأمون يبكي حتى أخضل لحيته بدمعه، فو اللّه ما شعرنا به إلا و قد شاعت له أبيات يهجو بها المأمون بعد إحسانه إليه و أنسه به حتى كان أول داخل، و آخر خارج من عنده.

يستدعيه بعض بني هاشم ثم لا يرضيه فيهجوه:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثني أبو بكر العامريّ، قال:

ص: 335


1- أيسار: جمع يسر، بالتحريك، و هم المجتمعون على الميسر.
2- طوس: مدينة بخراسان بينها و بين نيسابور عشرة فراسخ.
3- و في س، ب: «دير» تحريف.
4- س، ب: «إلى».
5- مي، مد: «إني يكون و لا يكون و لم يكن».
6- مخارق: هو أبو المهنأ المخارق بن يحيى من موالي الرشيد، و كان مغنيا.

استدعى بعض بني هاشم دعبل و هو يتولى للمعتصم ناحية من نواحي الشام، فقصده إليها، فلم يقع منه بحيث(1) ظن و جفاه، فكتب إليه دعبل:

دلّيتني بغرور وعدك في *** متلاطم من حومة الغرق

/حتى إذا شمت العدوّ و قد *** شهر انتقاصك شهرة البلق

أنشأت تحلف أنّ ودّك لي *** صاف و حبلك غير منحذق(2)

و حسبتني فقعا(3) بقرقرة(4) *** فوطئتني وطئا على حنق

و نصبتني علما على غرض *** ترميني الأعداء بالحدق

و ظننت أرض اللّه ضيّقة *** عني و أرض اللّه لم تضق

من غير ما جرم سوى ثقة *** منّي بوعدك حين قلت: ثق

و مودة تحنو عليك بها *** نفسي بلا منّ و لا ملق

فمتى سألتك حاجة أبدا *** فاشدد بها قفلا على غلق(5)

وقف الإخاء على شفى جرف *** هار(6) فبعه بيعة الخلق

و أعدّ لي قفلا و جامعة(7) *** فاشدد يديّ بها إلى عنقي

أعفيك مما لا تحبّ بها *** و اسدد(8) عليّ مذاهب الأفق

ما أطول الدنيا و أعرضها *** و أدلّني بمسالك الطرق

يتهم بشتم صفية بنت عبد المطلب فيهرب و ينكر التهمة:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا ابن مهرويه قال: حدّثني أبي قال:

قدم دعبل الدّينور(9)، فجرى بينه و بين رجل من ولد الزّبير بن العوام كلام/و عربدة على النبيذ، فاستعدى عليه/عمرو بن حميد القاضي، و قال: شتم صفية بنت عبد المطلب، و اجتمع عليه الغوغاء، فهرب دعبل، و بعث القاضي إلى دار دعبل فوكّل بها و ختم بابه، فوجّه إليه برقعة فيها: ما رأيت قطّ أجهل منك إلاّ من ولاّك، فأنه أجهل، يقضي في العربدة على النبيذ، و يحكم على خصم غائب، و يقبل عقلك أني رافضيّ شتم صفية بنت

ص: 336


1- س، ب: «بحسن».
2- منحذق: منقطع.
3- الفقع: البيضاء الرخوة من الكمأة و جمعها فقعة كعنبة.
4- قرقرة: أرض مطمئنة لينة. و في المثل أذل من فقع بقرقرة، لأن الفقع لا يمتنع على من اجتناه، أو لأنه يوطأ بالأرجل.
5- الغلق: المغلاق، و هو ما يغلق به.
6- هار: منهار.
7- الجامعة: الغل.
8- س، ب: «اشدد».
9- الدينور: مدينة من أعمال الجبل قرب قرميسين.

عبد المطلب. سخنت عينك، أ فمن دين الرافضة شتم صفية! قال أبي: فسألني الزبيريّ القاضي عن هذا الحديث فحدثته، فقال: صدق و اللّه دعبل في قوله، لو كنت مكانه لوصلته و برزته.

يغري متنسكا فيعود إلى الندماء يسمع الغناء و لا يشرب النبيذ:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدّثني إبراهيم بن سهل القارئ قال حدّثني دعبل قال:

كتبت إلى أبي نهشل بن حميد، و قد كان نسك و ترك شرب النبيذ، و لزم دار الحرم:

إنما العيش في منادمة الإخ *** وان لا في الجلوس عند الكعاب

و بصرف كأنها ألسن البر *** ق إذا استعرضت رقيق السحاب

إن تكونوا تركتم لذة العي *** ش حذار العقاب يوم العقاب

فدعوني و ما ألذّ و أهوى *** و ادفعوا بي في نحر يوم الحساب

قال: فكان بعد ذلك يدعوني و سائر ندمائي، فنشرب بين يديه، و يستمع الغناء، و يقتصر على الأنس و الحديث.

يشترك في نظم قصيدة نصفها له و نصفها الآخر لإبراهيم بن العباس:

أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا إبراهيم بن المدبّر قال:

كنت أنا و إبراهيم بن العباس رفيقين نتكسّب بالشعر قال: و أنشدني قصيدة دعبل في المطّلب بن عبد اللّه:

/أ مطّلب أنت مستعذب *** سمام الأفاعي و مستقبل

قال، و قال لي دعبل: نصفها لإبراهيم بن العباس، كنت أقول مصراعا فيجيزه، و يقول هو مصراعا فأجيزه.

يهجو مالك بن طوق لأنه لم يرض ثوابه:

قال ابن مهرويه: و حدّثني إبراهيم بن المدبر أن دعبلا قصد مالك بن طوق و مدحه، فلم يرض ثوابه، فخرج عنه و قال فيه:

إنّ ابن طوق و بني تغلب *** لو قتلوا أو جرحوا قصره(1)

لم يأخذوا من دية درهما *** يوما و لا من أرشهم(2) بعره

دماؤهم ليس لها طالب *** مطلولة مثل دم العذره

وجوههم بيض و أحسابهم *** سود و في آذانهم صفرة

يمدح عبد اللّه بن طاهر فيجيزه:

حدثنا محمد بن عمران الصيرفيّ قال: حدّثني العنزيّ قال: حدثنا عبد اللّه بن الحسن قال: حدّثني عمر بن عبد اللّه أبو حفص النحويّ مؤدب آل طاهر قال:

ص: 337


1- قصرة: أراد أنهم يقصرون عن إدراك الثأر.
2- الأرش: دية الجراحات.

دخل دعبل بن عليّ على عبد اللّه بن طاهر، فأنشده و هو ببغداد:

جئت بلا حرمة و لا سبب *** إليك إلاّ بحرمة الأدب

فاقض ذمامي فإنني رجل *** غير ملحّ عليك في الطلب

قال فانتعل(1) عبد اللّه، و دخل إلى الحرم، و وجّه إليه بصرّة فيها ألف درهم، و كتب إليه:

أعجلتنا فأتاك عاجل برّنا *** و لو انتظرت كثيرة لم يقلل

فخذ القليل و كن كأنك لم تسلّ *** و نكون نحن كأننا لم نفعل

يهجو مالك بن طوق فيطلبه فيهرب إلى البصرة:

أخبرني أحمد بن عاصم الحلوانيّ قال: حدثنا أبو بكر المدائنيّ قال: حدثنا أبو طالب الجعفريّ و محمد بن أمية الشاعر جميعا قالا:

هجا دعبل بن عليّ مالك بن طوق قال:

سألت عنكم يا بني مالك *** في نازح الأرضين و الدّانية(2)

طرّا فلم تعرف لكن نسبة *** حتى إذا قلت بني الزانية

قالوا فدع دارا على يمنة *** و تلك ها دار هم ثانيه

لا حدّ أخشاه على *** من قال أمّك زانية

و قال أيضا فيه:

يا زاني ابن الزان اب *** ن الزان ابن الزانية

أنت المردّد في الزنا *** ء على السنين الخالية

و مردّد فيه على *** كرّ السنين الباقية

و بلغت الأبيات مالكا، فطلبه، فهرب فأتى البصرة و عليها إسحاق بن العباس بن عليّ بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، و كان بلغه هجاء دعبل و ابن أبي عيينة نزارا.

فأما ابن أبي عيينة فإنه هرب منه فلم يظهر بالبصرة طول أيامه.

يقبض عليه والي البصرة فيعفيه من القتل و يشهره:

و أما دعبل فإنه حين دخل البصرة بعث فقبض عليه، و دعا بالنّطع و السيف ليضرب عنقه، فجحد القصيدة و حلف بالطلاق على جحدها و بكلّ يمين تبرّئ من الدم أنه لم يقلها و أن عدوا له قالها، إما أبو سعد المخزومي أو غيره و نسبها إليه ليغري بدمه، و جعل يتضرع إليه و يقبّل الأرض و يبكي بين يديه، فرقّ له، فقال: أما إذا أعفيتك من القتل فلا بد من/أن أشهرك، ثم دعا بالعصا فضربه حتى سلح، و أمر به فألقي على قفاه، و فتح فمه فردّ سلحه فيه

ص: 338


1- كذا في م، أ. س، ب: «فانتقل».
2- في: «نازح الأرض و في الدانية».

و المقارع تأخذ رجليه، و هو يحلف ألا يكفّ عنه حتى يستوفيه و يبلعه أو يقتله. فما رفعت عنه حتى بلغ سلحه كله، ثم خلاّه، فهرب إلى الأهواز.

بعث مالك بن طوق رجلا فاغتاله بأرض السوس:

و بعث مالك بن طوق رجلا حصيفا مقداما، و أعطاه سمّا و أمره أن يغتاله كيف شاء، و أعطاه على ذلك عشرة آلاف درهم، لم يزل يطلبه حتى وجده في قرية من نواحي السّوس، فاغتاله في وقت من الأوقات بعد صلاة العتمة، فضرب ظهر قدمه بعكاز لها زجّ مسموم فمات من غد، و دفن بتلك القرية.

و قيل بل حمل إلى السوس، فدفن فيها.

طلب والي البصرة أن ينقض شاعر هجاءه هو و ابن أبي عيينة لنزار:
اشارة

و أمر إسحاق بن العباس شاعرا يقال له: الحسن بن زيد و يكنى أبا الذّلفاء، فنقض قصيدتي دعبل و ابن أبي عيينة بقصيدة أولها:

أ ما تنفك متبولا(1) حزينا *** تحبّ البيض تعصي العاذلينا

يهجو بها قبائل اليمن، و يذكر مثالبهم، و أمره بتفسير ما نظمه، و ذكر الأيام و الأحوال، ففعل ذلك و سماها الدامغة، و هي إلى اليوم موجودة.

صوت

أ تهجر من تحب بغير جرم *** أسأت إذا و أنت له ظلوم

تؤرقني الهموم و أنت خلو *** لعمرك ما تؤرقك الهموم

الشعر لجعيفران الموسوس، أنشدنيه عمي عن عبد اللّه عثمان الكاتب عن أبيه عن جده(2)، و أنشد(3) فيه جحظة عن خالد الكاتب له، و أنشدنيه ابن الوشّاء عن بعض شيوخه عن/سلمة النحويّ له. و وجدته في بعض الكتب منسوبا إلى أم الضحاك المحاربية، و القول الأول أصح. و الغناء لابن أبي قباحة، ثاني ثقيل بالوسطى في مجرى البنصر. و في أبيات أخر من شعر جعيفران غناء، فإن لم يصح هذا له فالغناء له في أشعاره الأخر صحيح، منها:

ما يفعل المرء فهو أهله *** كلّ امرئ يشبهه فعله

و لا ترى أعجز من عاجز *** سكتنا عن ذمّه بذله

الشعر لجعيفران، و الغناء لمتيم، و ممّا وجدته من الشعر المنسوب إليه في جامعة و فيه له غناء:

قلبي بصاحبة الشّنوف معلّق *** و تفرّ صاحبة الشنوف و ألحق

ص: 339


1- متبولا: سقيما.
2- ف: «عن أبيه له».
3- في طبعة بولاق: «و أنشدنيه».

7 - أخبار جعيفران و نسبه

نسبه و نشأته:

هو جعيفران بن عليّ بن أصفر بن السريّ بن عبد الرحمن الأبناويّ، من ساكني سرّ من رأى، و مولده و منشؤه ببغداد. و كان أبوه من أبناء الجند الخراسانية، و كان يتشيّع، و يكثر لقاء أبي الحسن عليّ بن موسى بن جعفر.

كان شاعرا مطبوعا ثم اختلط:

أخبرني بذلك أبو الحسن عليّ بن العباس بن أبي طلحة الكاتب عن أبيه و أهله.

و كان جعيفران أديبا شاعرا مطبوعا، و غلبت عليه المرّة السوداء، فاختلط و بطل في أكثر أوقاته و معظم أحواله، ثم كان إذا أفاق ثاب إليه عقله و طبعه، فقال الشعر الجيد. و كان أهله يزعمون أنه من العجم ولد أذين.

خالف أباه إلى جارية له فطرده:

فأخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال: حدّثني محمد بن مهرويه قال: حدّثني عليّ بن سليمان النّوفليّ قال:

حدّثني صالح بن عطية قال:

كان لجعيفران الموسوس قبل أن يختلط عقله أب يقال له: عليّ بن أصفر، و كان دهقان الكرخ ببغداد، و كان يتشيّع، فظهر على ابنه جعيفران أنه خالفه إلى جارية له سرّية، فطرده عن داره.

يشكوه أبوه إلى موسى بن جعفر فيأمره بإخراجه من ميراثه:

و حجّ فشكا ذلك إلى موسى بن جعفر، فقال له موسى: إن كنت صادقا عليه فليس يموت حتى يفقد عقله، و إن كنت قد تحققت ذلك عليه فلا تساكنه في منزلك، و لا تطعمه شيئا من مالك في حياتك، و أخرجه عن ميراثك بعد وفاتك.

فقدم فطرده، و أخرجه من منزله، و سأل الفقهاء عن حيلة يشهد بها في ماله حتى يخرجه عن ميراثه، فدلّوه على السبيل إلى ذلك، فأشهد به، و أوصى إلى رجل. فلما مات الرجل حاز ميراثه و منع منه جعيفران، فاستعدى عليه أبا يوسف القاضي، فأحضر الوصيّ، /و سأل جعيفران البينة على نسبه و تركة أبيه، فأقام على ذلك بينة عدة، و أحضر الوصيّ بيّنة عدولا على الوصية يشهدون على أبيه ما كان احتال به عليه.

فلم ير أبو يوسف ذلك شيئا، و عزم على أن يورّثه، فدفعه الوصيّ عن ذلك مرات بعلل. ثم عزم أبو يوسف على أن يسجّل لجعيفران بالمال، فقال له الوصيّ: أيها القاضي، أنا أدفع هذا بحجة واحدة بقيت عندي، فأبى أبو يوسف أن يقبل منه، و جعل جعيفران يحرّج عليه، و يقول له: قد ثبت عندك أمري، فبأي شيء تدافعني؟ و جعل الوصيّ يسأله أن يسمع منه منفردا، فيأبى، و يقول: لا أسمع منك إلاّ بحضرة خصمك. فقال له أجّلني إلى غد،

ص: 340

فأجّله إلى منزله و كتب رقعة خبّره فيها بحقيقة(1) ما أفتى به موسى بن جعفر، و دفعها إلى صديق لأبي/يوسف، فدفعها إليه، فلما قرأها دعا الوصيّ و استحلفه أنه قد صدق في ذلك. فحلف باليمين الغموس. فقال له: اغد عليّ غدا مع صاحبك، فحضر و حضر جعيفران معه، فحكم عليه أبو يوسف للوصي. فلما أمضى الحكم عليه وسوس جعيفران و اختلط منذ يومئذ.

و أخبرني بجمل أخباره المذكورة في هذا الكتاب عليّ بن العباس بن أبي طلحة الكاتب، عن شيوخ له أخذها عنهم و إجازات وجدتها في الكتب، و لم أر أخباره عند أحد أكثر مما وجدتها عنده إلاّ ما أذكره عن غيره فأنسبه إليه.

يقف بالرصافة على رجل و ينشده شعرا:

قال عليّ بن العباس: و ذكر عبد اللّه بن عثمان الكاتب أن أباه عثمان بن محمد حدّثه قال:

كنت يوما برصافة مدينة السّلام جالسا إذ جاءني جعيفران و هو مغضب، فوقف عليّ و قال:

استوجب العالم مني القتلا

/فقلت: و لم يا أبا الفضل؟ فنظر إليّ نظرة منكرة خفت منها، و قال:

لمّا شعرت فرأوني فحلا

ثم سكت هنيهة، و قال:

قالوا علىّ كذبا و بطلا *** إني مجنون فقدت العقلا

قالوا المحال كذبا و جهلا *** أقبح بهذا الفعل منهم فعلا

ثم ذهب لينصرف، فخفت أن يؤذيه الصبيان، فقلت: اصبر فديتك حتى أقوم معك؛ فإنك مغضب، و أكره أن تخرج على هذه الحال. فرجع إليّ، و قال: سبحان اللّه، أ تراني أنسبهم إلى الكذب و الجهل، و أستقبح فعلهم، و تتخوّف مني مكافأتهم! ثم إنه ولّى و هو يقول:

لست براض من جهول جهلا *** و لا مجازيه بفعل فعلا

لكن أرى الصفح لنفسي فضلا *** من يرد الخير يجده سهلا

ثم مضى.

رثي وحده يدور في دار طول ليلته و هو ينشده رجزا:

و قال عليّ بن العباس، و قال عثمان بن محمد(2): قال أبي:

كنت أشرف مرة من سطح لي على جعيفران و هو في دار وحده و قد اعتلّ، و تحركت عليه السوداء، فهو يدور في الدار طول ليلته، و يقول:

طاف به طيف من الوسواس *** نفّر عنه لذّة النّعاس

فما يرى يأنس بالأناس *** و لا يلذّ عشرة الجلاّس

ص: 341


1- كذا في أ، م، س، ب: «تحقيق»، تحريف.
2- م: «عبد اللّه بن عثمان بن محمد».

فهو غريب بين هذا(1) الناس

حتى أصبح و هو يرددها، ثم سقط كأنه بقلة ذابلة.

يستجيب لنظم بيت بنصف درهم:

قال علي: و حدّثني عليّ بن رستم النحوي، قال: حدّثني سلمة بن محارب قال:

/مررت ببغداد، فرأيت قوما مجتمعين على رجل، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: جعيفران المجنون، فقلت: قل بيتا بنصف درهم. قال: هاته، فأعطيته، فقال:

لجّ ذا الهمّ و اعتلج(2) *** كلّ همّ إلى فرج

ثم قال: زد إن شئت حتى أزيدك.

يصيح الصبيان خلفه و هو عريان، و ينشد شعرا في جناية الفقر عليه:

قال عليّ: و حدّثني عبد اللّه بن عثمان، عن أبيه قال:

غاب عنا جعيفران أياما ثم جاءنا و الصبيان يشدون خلفه و هو عريان و هم يصيحون به: يا جعيفران يا خرا في الدار. فلما بلغ إليّ وقف، و تفرّقوا عنه فقال: يا أبا عبد اللّه:

رأيت الناس يدعونني *** بمجنون على حالي

/و ما بي اليوم من جنّ *** و لا وسواس بلبال

و لكن قولهم هذا *** لإفلاسي و إقلالي

و لو كنت أخا وفر *** رخيّا ناعم البال

رأوني حسن العقل *** أحلّ المنزل العالي

و ما ذاك على خبر *** و لكن هيبة المال

يدخله سيد داره فيطعمه و يسقيه:

قال: فأدخلته منزلي، فأكل، و سقيته أقداحا، ثم قلت له: تقدر على أن تغيّر تلك القافية؟ فقال: نعم، ثم قال بديهة غير مفكر و لا متوقف:

رأيت الناس يرمون *** ي أحيانا بوسواس

و من يضبط يا صاح *** مقال الناس في الناس؟

فدع ما قاله الناس *** و نازع صفوة الكاس

فتى حرّا صحيح ال *** ودّ ذا برّ و إيناس

ص: 342


1- س، ب: «هذي».
2- اعتلج: كثر و التطم.

/فإن الخلق مغرور(1)*** بأمثالي و أجناسي

و لو كنت أخا مال *** أتوني بين جلاّسي

يحبوني و يحبوني *** على العينين و الراس

و يدعوني عزيزا غي *** ر أنّ الذل إفلاسي

يضيق به بعض مجالسيه و يفطن لذلك فيقول شعرا:

ثم قام يبول، فقال بعض من حضر: أيّ شيء معنى عشرتنا هذا المجنون العريان؟ و اللّه ما نأمنه و هو صاح، فكيف إذا سكر؟ و فطن جعيفران للمعنى، فخرج إلينا و هو يقول:

و ندامي أكلوني *** إذ تغيّبت قليلا

زعموا أني مجنو *** ن أرى العرى جميلا

كيف لا أعرى و ما أب *** صر في الناس مثيلا؟

إن يكن قد ساءكم قر *** بي فخلّوا لي سبيلا

و أتمّوا يومكم س *** رّكم اللّه طويلا

قال: فرققنا له، و اعتذرنا إليه، و قلنا له: و اللّه ما نلتذّ إلاّ بقربك، و أتيناه بثوب، فلبسه، و أتممنا يومنا ذلك معه.

يحتكم إلى القاضي فيدفعه عن دعواه فيدعو عليه:

أخبرني جحظة قال: حدّثني ميمون بن هارون قال:

تقدّم جعيفران إلى أبي يوسف الأعور القاضي بسرّمن رأى في حكومة في شيء كان في يده من وقف له، فدفعه عنه، و قضى عليه. فقال له: أراني اللّه أيها القاضي عينيك سواء، فأمسك عنه، و أمر بردّه إلى داره.

/فلما رجع أطعمه و وهب له دراهم، ثم دعا به فقال له: ما ذا أردت بدعائك؟ أردت أن يرد اللّه على بصري ما ذهب؟ فقال له: و اللّه لئن كنت وهبت لي هذه الدراهم لأسخر منك؛ لأنت المجنون لا أنا. أخبرني كم من أعور رأيته عمي؟ قال: كثيرا، قال: فهل رأيت أعور صحّ قطّ؟ قال: لا. قال: فكيف توهمت عليّ الغلط! فضحك و صرفه.

يمدح أبا دلف فيجزل له العطاء:

أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد قال: حدّثني أحمد بن القاسم البرتيّ قال: حدّثني علي بن يوسف قال:

/كنت عند أبي دلف القاسم بن عيسى العجليّ فاستأذن عليه حاجبه لجعيفران الموسوس، فقال له: أيّ شيء أصنع بموسوس! قد قضينا حقوق العقلاء، و بقي علينا حقوق المجانين! فقلت له: جعلت فداء الأمير موسوس أفضل من كثير من العقلاء، و إن له لسانا يتّقى و قولا مأثورا يبقى، فاللّه اللّه أن تحجبه، فليس عليك منه أذى و لا

ص: 343


1- كذا في النسخ، و لا معنى لها هنا، و لعلها مغرى، بمعنى مولع، و فعله غرى، كرضى.

ثقل، فأذن له، فلما مثل بين يديه قال:

يا أكرم العالم موجودا *** و يا أعزّ الناس(1) مفقودا

لما سألت الناس عن واحد *** أصبح في الأمة محمودا

قالوا جميعا إنه قاسم *** أشبه آباء له صيدا

لو عبدوا شيئا سوى ربهم *** أصبحت في الأمة معبودا(2)

لا زلت في نعمى و في غبطة *** مكرّما في الناس معدودا

قال، فأمر له بكسوة و بألف درهم، فلما جاء بالدراهم أخذ عنها عشرة، و قال: تأمر القهرمان أن يعطيني الباقي مفرّقا كلما جئت؛ لئلا يضيع مني، فقال للقهرمان: أعطه/المال، و كلما جاءك فأعطه ما شاء حتى يفرّق الموت بيننا، فبكى عند ذلك جعيفران، و تنفّس الصعداء، و قال:

يموت هذا الّذي أراه *** و كلّ شيء له نفاد

لو غير ذي العرش دام شيء *** لدام ذا المفضل الجواد

ثم خرج، فقال أبو دلف: أنت كنت أعلم به مني.

يسأل عن أبي دلف و يرتجل في مدحه شعرا:

قال: و غبر عني مدة، ثم لقيني و قال: يا أبا الحسن، ما فعل أميرنا و سيّدنا و كيف حاله؟ فقلت: بخير و على غاية الشّوق إليك. فقال: أنا و اللّه يا أخي أشوق، و لكني أعرف أهل العسكر و شرههم و إلحاحهم(3) و اللّه ما أراهم يتركونه من المسألة و لا يتركهم، و لا يتركه كرمه أن يخليهم من العطيّة حتى يخرج فقيرا. فقلت: دع هذا عنك(4)و زره، فإن كثرة السؤال لا تضرّ بماله، فقال: و كيف؟ أ هو أيسر من الخليفة؟ قلت: لا. قال: و اللّه لو تبذّل لهم الخليفة كما يبذل أبو دلف و أطمعهم في ماله كما يطعمهم لأفقروه في يومين، و لكن اسمع ما قلته في وقتي هذا، فقلت: هاته يا أبا الفضل فأنشأ يقول:

أبا حسن بلّغن قاسما *** بأنّي لم أجفه عن قلى

و لا عن ملال لإتيانه *** و لا عن صدود و لا عن غنى

و لكن تعفّفت عن ماله *** و أصفيته مدحتي و الثنا

أبو دلف سيّد ماجد *** سنيّ العطية رحب الفنا

كريم إذا انتابه المعتفو *** ن عمّهم بجزيل الحبا

يلقى أبا دلف فينشده ما حاله:

قال: فأبلغتها أبا دلف، و حدّثته بالحديث الّذي جرى، فقال لي: قد لقيته منذ أيام؛ فلما رأيته وقفت له،

ص: 344


1- م، أ: «الخلق».
2- زيادة من مي، م.
3- ف: «و إلحافهم».
4- س، ب: «عنا».

و سلّمت عليه، و تحفّيت به، فقال لي: سر أيها الأمير على بركة اللّه، ثم قال لي:

يا معدي الجود على الأموال *** و يا كريم النّفس في الفعال

قد صنتني عن ذلة السؤال *** بجودك الموفي على الآمال

صانك ذو العزة و الجلال *** من غير الأيام و الليالي

/قال: و لم يزل يختلف إلى أبي دلف و يبره حتى افترقا.

يرى وجهه في حب فيهجو نفسه:

سمعت عبد اللّه بن أحمد، عمّ أبي رحمه اللّه يحدّث فحفظت الخبر، و لا أدري أذكر له إسنادا فلم أحفظه أم ذكره بغير إسناد، قال:

كان جعيفران خبيث اللسان هجّاء، لا يسلم عليه أحد، فاطّلع يوما في الحب(1)، فرأى وجهه قد تغيّر، و عفا(2) شعره فقال:

ما جعفر لأبيه *** و لا له بشبيه

أضحى لقوم كثير *** فكلّهم يدعيه

هذا يقول بنيّ *** و ذا يخاصم فيه

و الأمّ تضحك منهم *** لعلمها بأبيه

يسأل طعاما فيجاب له:

حدّثني محمد بن الحسن الكنديّ خطيب القادسية قال: حدّثني رجل من كتّاب الكوفة قال:

اجتاز بي جعيفران مرة فقال: أنا جائع، فأيّ شيء عندك تطعمني؟ فقلت سلق/بخردل

يهجو جارية مضيفة لتأخرها في شراء بطيخ له:
اشارة

فقال: اشتر لي معه بطّيخا، فقلت: أفعل، فادخل، و بعثت بالجارية تجيئه به، و قدّمت إليه الخبز و الخردل و السّلق، فأكل منه حتى ضجر، و أبطأت الجارية، فأقبل عليّ و قد غضب فقال:

سلقتنا و خردلت(3) *** ثم ولّت فأدبرت

و أراها بواحد *** وافر الأير قد خلت

قال فخرجت - يشهد اللّه - أطلبها، فوجدتها خالية في الدّهليز بسائس لي على ما وصف.

ص: 345


1- الحب: الجرة أو الضخمة منها و في س: «الجب»، تحريف.
2- عفا: كثر و طال.
3- خردلت: يريد اشتدت في الإيذاء بالقول.
صوت

و لها مربع ببرقة(1) خاخ *** و مصيف بالقصر قصر قباء(2)

كفّنوني إن مت في درع أروى *** و اجعلوا لي من بئر عروة مائي(3)

سخنة في الشتاء باردة الصي *** ف سراج في الليلة الظلماء

الشعر للسّريّ بن عبد الرحمن، و الغناء لمعبد، ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي: قال: و فيهما - يعني الثالث و الأول - رمل مطلق في مجرى الوسطى.

ص: 346


1- برقة خاخ: موضع بين الحرمين، و يقال له: روضة خاخ.
2- مواضع قرب المدينة.
3- بئر عروة: بئر بعقيق المدينة، تنسب إلى عروة بن الزبير بن العوام. و في مي: «و استقوا لي» بدل «و اجعلوا لي».

8 - أخبار السري و نسبه

نسبه:

السريّ بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاريّ، و لجده عويم بن ساعدة صحبة بالنبي، صلّى اللّه عليه و سلّم.

شعره و شخصه:

و السريّ شاعر من شعراء أهل المدينة، و ليس بمكثر و لا فحل، إلاّ أنه كان أحد الغزلين و الفتيان و المنادمين على الشراب. كان هو و عتير بن سهل(1) بن عبد الرحمن بن عوف، و جبير بن أيمن، و خالد بن أبي أيوب الأنصاري يتنادمون. قال: و فيهم يقول:

إذا أنت نادمت العتير و ذا الندى *** جبيرا و نازعت(2) الزّجاجة خالدا

أمنت بإذن اللّه أن تقرع العصا *** و أن ينبهوا من نومة السّكر راقدا

غناه الغريض ثقيلا.

و كان السريّ هذا هجا الأحوص، و هجا نصيبا؛ فلم يجيباه.

يهجو النصيب فيهبه لقومه، و للّه و رسوله:

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثني الزبير بن بكّار قال: حدّثني عمي، و أخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبيّ قالا:

حبس النّصيب في/مسجد النبي - صلّى اللّه عليه و سلّم فأنشد، و كان إذا أنشد لوى حاجبيه، و أشار بيده، فرآه السريّ بن عبد الرحمن الأنصاريّ، فجاءه حتى وقف بإزائه ثم قال:

فقدت الشعر حين أتى نصيبا *** أ لم تستحي من مقت الكرام

إذا رفع ابن ثوبة حاجبيه *** حسبت الكلب يضرب في الكعام(3)

/قال: فقال نصيب: من هذا! فقالوا: هذا ابن عويم الأنصاريّ، قال: قد وهبته للّه عز و جل و لرسوله - صلّى اللّه عليه و سلّم - و لعويم بن ساعدة. قال: و كان لعويم صحبة و نصرة.

يحب امرأة يقال لها زينب و يشبب بها:
اشارة

أخبرني الحرميّ قال: حدثنا الزبير قال: حدّثني عمي عن عبد الرحمن بن عبد اللّه العمريّ قال: كان السريّ قصيرا دميما أزرق، و كان يهوى امرأة يقال لها زينب و يشبّب بها، فخرج إلى البادية، فرآها في نسوة، فصار إلى راع

ص: 347


1- ف: «سهيل».
2- مي، مج: «و عاطيت».
3- الكعام: الكمامة.

هناك و أعطاه ثيابه، و أخذ منه جبّته و عصاه، و أقبل يسوق الغنم حتى صار إلى النّسوة فلم يحفلن به، و ظنن أنه أعرابيّ، فأقبل يقلّب بعصاه الأرض و ينظر إليهم فقلن له: أذهب منك يا راعي الغنم شيء فأنت تطلبه؟ فقال: نعم.

قال: فضربت زينب بكمها على وجهها و قالت: السريّ و اللّه، أخزاه اللّه! فأنشأ يقل:

صوت

ما زال فينا سقيم يستطبّ له *** من ريح زينب فينا ليلة الأحد

حزت الجمال و نشرا طيّبا أرجى *** فما تسمّين إلاّ مسكة البلد

أمّا فؤادي فشيء قد ذهبت به *** فما يضرّك ألا تحربي(1) جسدي!

يستحسن المهدي شعرا له في الغزل:

أخبرني الحسين بن عليّ قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثنا مصعب الزّبيريّ قال، قال أبي: قال لي المهديّ:

أنشدني شعرا غزلا، فأنشدته قول السريّ بن عبد الرحمن:

ما زال فينا سقيم يستطبّ له *** من ريح زينب فينا ليلة الأحد

فأعجبته، و ما زال يستعيدها مرارا حتى حفظها.

كان و ندماءه تقبل شهادتهم مع شربهم النبيذ:
اشارة

أخبرني الحسن قال: حدّثني أحمد قال: حدّثني محمد بن سلاّم الجمحيّ قال:

كان السريّ بن عبد الرحمن ينادم عتير بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف و جبير بن أيمن بن أمّ أيمن مولى النبيّ - صلّى اللّه عليه و سلّم - و خالد بن أبي أيوب الأنصاريّ، و كانوا يشربون النبيذ، و كلّهم كان على ذلك مقبول الشهادة، جليل القدر مستورا، فقال السريّ:

إذا أنت نادمت العتير و ذا الندى *** جبيرا و نازعت الزجاجة خالدا

أمنت بإذن اللّه أن تقرع العصا *** و أن ينبهوا من نومة السّكر راقدا

فقالوا: قبحك اللّه! ما ذا أردت إلى التنبيه علينا و الإذاعة لسرنا؟ إنك لحقيق ألاّ ننادمك. قال: و اللّه ما أردت بكم سوءا، و لكنه شعر طفح فنفثته(2) عن صدري، قال: و خالد بن أبي أيوب الأنصاريّ الّذي يقول:

صوت

ألا سقّني كأسي ودع قول من لحى *** و روّ عظاما قصرهن(3) إلى بلى

فإن بطوء(4) الكأس موت و حبسها *** و إنّ دراك الكأس عندي هو الحيا

ص: 348


1- تحربي: تسلبي.
2- ب، س: «فقئته».
3- قصرهن: غايتهن.
4- في محيط المحيط: البطاء و البطوء: ضد السرعة.

/الغناء في هذين البيتين هو لعبد اللّه بن العباس الرّبيعي، خفيف رمل بالبنصر عن عمرو بن بانة.

التمثل بشعره في طلب الشراب:

أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال: حدّثني سليمان بن أبي شيخ قال: حدّثني مصعب بن عبد اللّه الزبيريّ قال:

حدّثني مصعب بن عثمان قال: حدّثني عبيد اللّه بن عروة بن الزّبير قال:

/خرجت و أنا غلام أدور في السكك بالمدينة فانتهيت إلى فناء مرشوش و شابّ جميل الوجه جالس، فلما رآني دعائي، ثم قال لي: من أنت يا غلام؟ فقلت عبيد اللّه بن عروة بن الزبير. فقال: اجلس، فجلست، فدعا بالغداء فتغدّينا جميعا، ثم قال: يا جارية؛ فأقبلت جارية تتهادى كأنها مهاة، و في يدها قنينيّة فيها شراب صاف و قلة ماء و كأس، فقال لها: اسقيني؛ فصبّت في الكأس و سكبت عليه ماء و ناولته، فشرب ثم قال: اسقيه، فصبّت في الكأس و سكبت عليه ماء و ناولته، فشرب ثم قال: اسقيه، فصبّت في الكأس و سكبت عليه ماء و ناولتني. فلما وجدت رائحته بكيت، فقال: ما يبكيك يا بن أخي؟ فقلت: إنّ أهلي إن وجدوا رائحة هذا مني ضربوني، فأقبل على الجارية بوجهه، و قال لها يخاطبها:

ألا سقّني كأسي ودع عنك من أبي *** و روّ عظاما قصرهن إلى بلى

فأخذته من يدي و أعطته؛ فشربه، و قمت فلما جاوزته سألت عنه فقيل لي: هذا خالد بن أبي أيوب الأنصاري الّذي يقول فيه الشاعر:

إذا أنت نادمت العتير و ذا النّدى *** جبيرا و نازعت الزجاجة خالدا

أمنت بإذن اللّه أن تقرع العصا *** و أن يوقظوا من سكرة النوم راقدا

و صرت بحمد اللّه في خير عصبة *** حسان النّدامى لا تخاف العرابدا(1)

يأبى ابن الماجشون دخول مجلس حتى يخرجه أصحابه فيخرجوه:

أخبرنا وكيع قال: حدثنا محمد بن عليّ بن حمزة قال: حدّثني أبو غسان عن محمد بن يحيى بن عبد الحميد قال:

كان السريّ بن عبد الرحمن يختلف إلى فتية، فجاء ابن الماجشون فقال: لا أدخل حتى يخرج السريّ؛ فأخرجته فقال السري:

/قبّح اللّه أهل بيت بسلع(2)*** أخرجوني و أدخلوا الماجشونا

أدخلوا هرة تلاعب قردا *** ما نراهم يرون ما يصنعونا

شعر له في أمة و بنتها:

أخبرني الحسن قال: حدثنا أحمد بن زهير قال حدّثني مصعب قال:

أنشدني أبي للسّريّ بن عبد الرحمن في أمة الحميد بنت عبد اللّه بن عباس و في ابنتها أمة الواحد:

ص: 349


1- العرابد: جمع عربد كزبرج، و هو من يؤذي نديمه في سكر.
2- سلع: موضع قرب المدينة، أو جبل بها.

أمة الحميد و بنتها *** ظبيان في ظلّ الأراك

يتتبّعان بريره(1) *** و ظلاله فهما كذاك

حذي الجمال عليهما *** حذو الشّراك على الشراك

يتمنى أن يكون مؤذنا ليرى من في السطوح:

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثني محمد بن الحسن بن مسعود الزّرقي قال: حدّثني يحيى بن عثمان بن أبي قباحة الزّهريّ قال: أنشدني أبو غسان صالح بن العباس بن محمد - و هو إذ ذاك على المدينة - للسريّ بن عبد الرحمن:

ليتني في المؤذّنين نهارا *** إنهم يبصرون من في السطوح

فيشيرون أو يشار إليهم *** حبّذا كل ذات جيد مليح

/قال: فأمر صالح بسدّ المنار، فلم يقدر أحد على أن يطلع رأسه حتى عزل صالح.

يعمره عمر بن عمرو بن عثمان أرضا بقباء:

أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ، قال: حدثنا عبد اللّه بن شبيب قال: حدّثني زبير بن بكار عن عمّه:

أن السريّ بن عبد الرحمن وقف على عمر بن عمرو بن عثمان، و هو جالس على بابه و الناس حوله، فأنشأ يقول:

/يا بن عثمان يا بن خير قريش *** أبغني ما يكفّني بقباء(2)

ربما بلّني نداك و جلّى *** عن جبيني(3) عجاجة الغرماء

فأعمره أرضا بقباء، و جعلها طعمة له أيام حياته، فلم تزل في يده حتى مات.

مثل من الولوع بالتغني بشعره:
اشارة

[أخبرني وسواسة بن الموصليّ، قال: حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه، عن عزيز بن طلحة، قال: قال معبد: خرجت من مكة أريد المدينة، فلما كنت قريبا من المنزل أريت بيتا فعدلت إليه، فإذا فيه أسود عنده حبّان من ماء و قد جهدني العطش، فسلّمت عليه و استسقيت، فقال: تأخر عافاك اللّه، فقلت: يا هذا، اسقني بسرعة من الماء فقد كدت أموت عطشا، فقال: و اللّه لا تذوق منه جرعة و لومت، فرجعت القهقري، و أنخت راحلتي و استظللت بظلها من الشمس، ثم اندفعت أغني ليبتلّ لساني:

كفّنوني إن مت في درع أروى *** و استقوا لي من بئر عروة مائي

فإذا أنا بالأسود قد خرج إليّ و معه قدح خيشاني(4) فيه سويق ملت(5) بماء بارد، فقال: هل لك في هذا أرب؟

ص: 350


1- بريره: ثمره.
2- قباء: موضع قرب المدينة.
3- كذا في أ. س، ب: «حبيبي»، تحريف.
4- خيشاني: لعله منسوب إلى خيشان، بلدة بخراسان.
5- كذا بالنسختين، و المعروف: ملتوت.

قلت: قد منعتني ما هو أقل منه: الماء. فقال: اشرب - عافاك اللّه - ودع عنك ما مضى، فشربت ثم قال: أعد - فديتك - الصوت، فأعدته، فقال: هل لك - بأبي و أمي - أن أحمل لك قربة من ماء، و أمشي بها معك إلى المنزل و تعيد على هذا الصوت حتى أتزود منه، و كلما عطشت سقيتك؟ قلت: افعل، ففعل و سار معي، فما زلت أغنيه إياه، و كلما عطشت استقيته حتى بلغت المنزل عشاء](1).

صوت

سلب الشباب رداءه *** عنّي و يتبعه إزاره

و لقد تحل عليّ حل *** ته و يعجبني افتخاره

سائل شبابي هل مسك *** ت بسوأة أو ذل جاره(2)

ما إن ملكت المال إلاّ *** كان لي و له خياره

و يروي: هل أسأت مساكه.

الشعر لمسكن الدارميّ، و الغناء لمقاسة بن ناصح، خفيف رمل بالبنصر عن عمرو.

ص: 351


1- ما بين المعكوفتين من مي، مج.
2- قافية الأبيات بغير هاء في س، ب، و ما أثبتناه رواية مي، مد، م.

9 - أخبار مسكين و نسبه

اسمه و نسبه:

مسكين لقب غلب عليه، و اسمه ربيعة بن عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن زيد بن عبد اللّه بن عدس(1) بن دارم بن مالك بن زيد مناة بن تميم. و قال أبو عمرو الشيبانيّ: مسكين بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد اللّه بن دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم.

لما ذا لقب مسكينا؟:

قال أبو عمرو: و إنما لقب مسكينا لقوله:

أنا مسكين لمن أنكرني *** و لمن يعرفني جدّ نطق(2)

لا أبيع الناس عرضي إنني *** لو أبيع الناس عرضي لنفق

و قال أيضا:

سمّيت مسكينا و كانت لجاجة *** و إني لمسكين إلى اللّه راغب

و قال أيضا:

إن أدع مسكينا فلست بمنكر *** و هل ينكرنّ الشمس ذرّ(3) شعاعها

لعمرك ما الأسماء إلاّ علامة *** منار و من خير المنار ارتفاعها

شاعر شريف من سادات قومه، هاجي الفرزدق ثم كافّه، فكان الفرزدق بعد ذلك في الشدائد الّتي أفلت منها.

مهاجاته الفرزدق لأنه نقض رثاءه لزياد:

حدّثني حبيب بن أوس بن نصر المهلبيّ قال: حدثنا عمر بن شبّة عن أبي عبيدة قال:

/كان زياد قد أرعى مسكينا الدارميّ حمى له بناحية العذيب(4) في عام قحط حتى أخصب الناس و أحيوا، ثم كتب له ببرّ و تمر و كساه، قال: فلما مات زياد رثاه مسكين، فقال:

رأيت زيادة الإسلام ولّت *** جهارا حين ودّعنا زياد

فعارضه الفرزدق، و كان منحرفا عن زياد لطلبه إياه و إخافته له، فقال:

أ مسكين أبكى اللّه عينك إنما *** جرى في ضلال دمعها فتحدّرا

ص: 352


1- جعله في «الاشتقاق» كزفر، و في «القاموس» و «جمهرة الأنساب» كعنق.
2- كذا بالنسخ، وصف بالمصدر على معنى ناطق و حرك الطاء اتباعا.
3- ذر: ظهر.
4- العذيب: ماء على أربعة أميال من القادسية.

بكيت على علج بميسان(1) كافر *** ككسرى على عدّانه(2) أو كقصيرا

أقول له لما أتاني نعيّه: به(3) *** لا بظبي بالصريمة(4) أعفرا(5)

/فقال مسكين يجيبه:

ألا أيها المرء الّذي لست قاعدا *** و لا قائما في القوم إلاّ انبرى ليا

فجئني بعمّ مثل عمي أو أب *** كمثل أبي أو خال صدق كخاليا

كعمرو بن عمرو أو زرارة ذي الندى *** أو البشر من كلّ فرعت الروابيا

قال: فأمسك الفرزدق عنه، فلم يجبه، و تكافأ.

أخبرني ببعض هذا الخبر أبو خليفة عن محمد بن سلاّم، فذكر نحوا مما ذكره/أبو عبيدة و زاد فيه، قال:

و البشر خال لمسكين من النّمر بن قاسط، و قد فخر به، فقال:

شريح فارس النعمان عمّي *** و خالي البشر بشر بني هلال

و قاتل خاله بأبيه منا *** سماعة لم يبع حسبا بمال

اتقى الفرزدق هجاءه و اتقى هو هجاء الفرزدق:

و أخبرني عمي قال: حدثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو، عن أبيه بمثل هذه الحكاية، و زاد فيها، قال:

فتكافّا و اتّقاه الفرزدق أن يعين عليه جريرا، و اتّقاه مسكين أن يعين عليه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت.

و دخل شيوخ بني عبد اللّه و بني مجاشع، فتكافا.

مهاجاته الفرزدق من المحن الّتي أفلت منها الفرزدق:

و أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة عن أبي عمرو قال: قال الفرزدق.

نجوت من ثلاثة أشياء لا أخاف بعدها شيئا: نجوت من زياد حين طلبني، و نجوت من ابني رميلة و قد نذرا دمي و ما فاتهما أحد طلباه قطّ، و نجوت من مهاجاة مسكين الدارميّ؛ لأنه لو هجاني اضطرني أن أهدم شطر حسبي و فخري، لأنه من بحبوحة نسبي و أشراف عشيرتي، فكان جرير حينئذ ينتصف مني بيدي و لساني.

شعره في الغيرة أشعر ما قيل فيها:

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدّثني محمود بن داود عن أبي عكرمة عامر بن عمران عن مسعود بن بشر عن أبي عبيدة أنه سمعه يقول:

ص: 353


1- ميسان: كورة بين البصرة و واسط. و رواية «اللسان» و «معجم البلدان»: «أ تتبكى امرأ من آل ميسان كافرا».
2- عدانه: زمانه و عهده.
3- به: الهلاك به لا بما يهمني، أو هو مثل يضرب عند الشماتة، معناه: جعل اللّه ما أصابه لا زماله مؤثرا فيه، و لا كان مثل الظبي في سلامته.
4- الصريمة: موضع.
5- أعقر: أبيض ليس بالشديد البياض، أو الّذي يعلو بياضه حمرة.

أشعر ما قيل في الغيرة قول مسكين الدارمي:

ألا أيها الغائر المستش *** يط فيم تغار إذا لم تغر؟

فما خير عرس إذا خفتها *** و ما خير عرس إذا لم تزر؟

/تغار على الناس أن ينظروا *** و هل يفتن الصالحات النظر؟

و إني سأخلي لها بيتها *** فتحفظ لي نفسها أو تذر

إذا اللّه لم يعطني حبّها *** فلن يعطي الحبّ سوط ممرّ(1)

يأبى معاوية أن يفرض له: ثم يعود فيجيبه إلى طلبه:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدّثني عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد قال: حدّثني عبد اللّه بن مالك الخزاعي قال: حدّثني عبد اللّه بن بشير قال: أخبرني أيوب بن أبي أيوب السعديّ قال:

لما قدم مسكين الدارميّ على معاوية فسأله أن يفرض له فأبى عليه، و كان لا يفرض إلاّ لليمن، فخرج من عنده مسكين و هو يقول:

أخاك أخاك إن من لا أخاله *** كساع إلى الهيجا بغير سلاح

و إن ابن عم المرء فأعلم جناحه *** و هل ينهض البازي بغير جناح؟

و ما طالب الحاجات إلاّ مغرّر(2) *** و ما نال شيئا طالب كنجاح(3)

/قال السعديّ: فلم يزل معاوية كذلك حتى غزت اليمن و كثرت، و ضعضعت عدنان، فبلغ معاوية أن رجلا من أهل اليمن قال يوما: لهممت(4) ألا أدع بالشأم أحدا من مضر، بل هممت ألاّ أحل حبوتي حتى أخرج كل نزاريّ بالشأم، فبلغت معاوية، ففرض من وقته لأربعة آلاف رجل من قيس سوى خندف، و قدم على تفئية(5) ذلك عطارد بن حاجب على معاوية، فقال له: ما فعل الفتى الدارميّ الصبيح الوجه الفصيح/اللسان؟ يعني مسكينا، فقال:

صالح: يا أمير المؤمنين، فقال: أعلمه أني قد فرضت له في شرف العطاء و هو في بلاده؛ فإن شاء أن يقيم بها أو عندنا فليفعل، فإنّ عطاءه سيأتيه، و بشّره أني قد فرضت لأربعة آلاف من قومه من خندف؛ قال: و كان معاوية بعد ذلك يغزي اليمن في البحر، و يغزي قيسا في البرّ، فقال شاعر اليمن:

ألا أيها القوم الذين تجمعوا *** بعكّا أناس أنتم أم أباعر؟

أ تترك قيس آمنين بدارهم *** و نركب ظهر البحر و البحر زاخر؟

فو اللّه ما أدري و إني لسائل *** أ همدان يحمى ضيمها أم يحابر؟

ص: 354


1- ممر: مفتول فتلا شديدا.
2- في «خزانة الأدب» 60:3: «معذب».
3- كذا في المصدر السابق. و في س، ب: «كجناح».
4- و في س: «لممت»، تحريف.
5- على تفيئة: على أثر.

أم الشرف الأعلى من أولاد حمير *** بنو مالك إذ تستمر(1) المرائر(2)

أ أوصى أبوهم بينهم أن تواصلوا *** و أوصى أبوكم بينكم أن تدابروا

قال، و يقال: إن النجاشي قال هذه الأبيات.

أخبرني بذلك عبد اللّه بن أحمد بن الحارث العدويّ عن محمد بن عائد عن الوليد بن مسلم عن إسماعيل بن عياش و غيره، قالوا:

فلما بلغت هذه الأبيات معاوية بعث إلى اليمن فاعتذر إليهم، و قال: ما أغزيتكم البحر إلاّ لأني أتيمن بكم، و أن في قيس نكدا و أخلاقا لا يحتملها الثغر، و أنا عارف بطاعتكم. و نصحكم. فأما إذ قد ظننتم غير ذلك فأنا أجمع فيه بينكم و بين قيس فتكونون جميعا فيه و أجعل الغزو فيه عقبا(3) بينكم، فرضوا فعل ذلك فيما بعد.

بشر بن مروان يتمثل بشعر له:

حدّثني الحسن بن عليّ قال: حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال: حدّثني مصعب بن عبد اللّه قال: و حدثنيه زبير عن عمه قال:

كان أصاغر ولد مروان في حجر ابنه عبد العزيز بن مروان، فكتب عبد العزيز إلى بشر كتابا، و هو يومئذ على العراق، فورد عليه و هو ثمل، و كان فيه كلام أحفظه، فأمر بشر كاتبه فأجاب عبد العزيز جوابا قبيحا، فلما ورد عليه علم أنه كتبه و هو سكران، فجفاه و قطع مكاتبته زمانا. و بلغ بشرا عتبه عليه، فكتب إليه: لو لا الهفوة لم أحتج إلى العذر، و لم يكن لك في قبوله مني الفضل. و لو احتمل الكتاب أكثر مما ضمّنته(4) لزدت فيه، و بقيّة(5) الأكابر على الأصاغر من شيم الأكارم. و لقد أحسن مسكين الدارميّ حين يقول:

أخاك أخاك إنّ من لا أخا له *** كساع إلى الهيجا بغير سلاح

و إن ابن عمّ (6) المرء فأعلم جناحه *** و هل ينهض البازي بغير جناح!

قال: فلما وصل كتابه إلى عبد العزيز دمعت عينه، و قال: إن أخي كان منتشيا و لو لا ذلك لما جرى منه ما جرى، فسلوا عمن شهد ذلك المجلس؛ فسئل عنهم، فأخبر بهم، فقبل عذره، و أقسم/عليه ألا يعاشر أحدا من ندمائه الذين حضروا ذلك المجلس، و أن يعزل كاتبه عن كتابته، ففعل.

مهاجاته الفرزدق من المحن الّتي نجا الفرزدق منها:

أخبرني محمد بن الحسين الكنديّ خطيب القادسية قال: حدثنا عمر بن شبّة عن أبي عبيدة عن أبي عمرو قال:

/كان الفرزدق يقول: نجوت من ثلاث أرجو ألاّ يصيبني بعدهن شر: نجوت من زياد حين طلبني و ما فاته

ص: 355


1- تستمر: تستحكم.
2- المرائر: العزائم، جمع مريرة.
3- عقب: جمع عقبة كغرقة، و هي النوبة و البدل.
4- م. س، ب: «ضممته»، تحريف.
5- بقية: إبقاء.
6- م، أ: «ابن أم».

مطلوب قطّ، و نجوت من ضربة رئاب بن رميلة أبي البذال فلم يقع(1) في رأسي، و نجوت من مهاجاة مسكين الدارمي. و لو هاجيته لحال بيني و بين بيت بني عمّي، و قطع لساني عن الشعراء.

يخطب فتاة فتأباه، و يمر بها و هي مع زوجها، فيقول في ذلك شعرا:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثنا أبو العيناء عن الأصمعيّ قال:

خطب مسكين الدراميّ فتاة من قومه فكرهته لسواد لونه و قلة ماله، و تزوجت بعده رجلا من قومه ذا يسار ليس له مثل نسب مسكين، فمرّ بهما مسكين ذات يوم، و تلك المرأة جالسة مع زوجها، فقال:

أنا مسكين لمن يعرفني *** لوني السّمرة ألوان العرب

من رأى ظبيا عليه لؤلؤ *** واضح الخدين مقرونا بضب(2)

أكسبته الورق البيض أبا *** و لقد كان و ما يدعى لأب

ربّ مهزول سمين بيته *** و سمين البيت مهزول النسب

أصبحت ترزق من شحم الذّرا(3) *** و تخال اللؤم درّا ينتهب

لا تلمها إنها من نسوة *** صخبات ملحها فوق الرّكب(4)

كشموس الخيل يبدو شغبها *** كلما قيل لها هال وهب(5)

يأمره يزيد أن يرشحه للخلافة في أبيات و ينشدها في مجلس أبيه:
اشارة

أخبرني محمد بن مزيد قال: حدّثني حماد بن إسحاق الموصليّ قال: حدّثني أبي عن الهيثم بن عديّ عن عبد اللّه بن عياش قال:

كان يزيد بن معاوية يؤثر مسكينا الدارميّ، و يصله و يقوم بحوائجه عند أبيه، فلما أراد معاوية البيعة ليزيد تهيّب ذلك و خاف ألا يمالئه عليه الناس، لحسن البقيّة فيهم، و كثرة من يرشّح للخلافة، و بلغه في ذلك ذرء(6) و كلام كرهه من سعيد بن العاص و مروان بن الحكم و عبد اللّه بن عامر، فأمر يزيد مسكينا أن يقول أبياتا و ينشدها معاوية في مجلسه إذا كان حافلا و حضره وجوه بني أمية، فلما اتفق ذلك دخل مسكين إليه، و هو جالس و ابنه يزيد عن يمينه و بنو أمية حواليه و أشراف الناس في مجلسه، فمثل بين يديه و أنشأ يقول:

إن أدع مسكينا فإني ابن معشر *** من الناس أحمي عنهم و أذود

إليك أمير المؤمنين رحلتها *** تثير القطا ليلا و هنّ هجود

و هاجرة ظلت كأن ظباءها *** إذا ما اتّقتها بالقرون سجود

ص: 356


1- في م، أ: «تقع».
2- م، أ: «واضح الخدين مقرون».
3- الذرا: أعلى السنام.
4- ملحها فوق الركب: كثيرة الخصام، كأن طول مجاثاتها و مصاكتها الركب قرح ركبتها، فهي تضع الملح عليهما تداويهما.
5- هال وهب: اسما زجر للخيل.
6- ذرء: شيء.
صوت

ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر *** و مروان أم ما ذا يقول سعيد؟

بني خلفاء اللّه مهلا فإنما *** يبوّئها الرحمن حيث يريد

إذا المنبر الغربيّ خلاّه ربه *** فإن أمير المؤمنين يزيد

/ - الغناء لمعبد ثقيل أول بالبنصر، عن عمرو بن بانة:

على الطائر الميون و الجدّ صاعد *** لكلّ أناس طائر و جدود

/فلا زلت أعلى الناس كعبا(1) و لا تزل *** وفود تساميها إليك وفود

و لا زال بيت الملك فوقك عاليا *** تشيّد أطناب له و عمود

قدور ابن حرب كالجوابي(2) و تحتها *** أثاف كأمثال الرئال(3) ركود

فقال له معاوية: ننظر في ما قلت يا مسكين، و نستخير اللّه. قال: و لم يتكلم أحد من بني أمية في ذلك إلاّ بالإقرار و الموافقة، و ذلك الّذي أراده يزيد ليعلم ما عندهم، ثم وصله يزيد و وصله معاوية فأجز لا صلته.

يغير مغن للرشيد شطر بيت له، فيعجب الرشيد تغييره:

أخبرني محمد بن خلف قال: حدثنا العنزيّ قال: حدثنا أبو معاوية بن سعيد بن سالم قال: قال لي عقيد:

غنيت الرشيد:

إذا المنبر الغربي خلاّه ربه

ثم فطنت لخطابي، و رأيت وجه الرشيد قد تغير، قال: فتداركتها و قلت:

فإن أمير المحسنين عقيد

فطرب، و قال: أحسنت و اللّه، بحياتي قل:

فإن أمير المؤمنين عقيد

فو اللّه لأنت أحق بها من يزيد بن معاوية، فتعاظمت ذلك، فحلف لا أغنيه إلاّ كما أمر، ففعلت، و شرب عليه ثلاثة أرطال، و وصلني صلة سنية.

تمر به امرأة له و هو ينشد من شعره، فتعقب عليه، فيضربها:
اشارة

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي قال: حدّثني عمي قال:

/كانت لمسكين الدراميّ امرأة من منقر، و كانت فاركا(4) كثيرة الخصومة و المماظّة(5)، فجازت به يوما و هو

ص: 357


1- يريد كعب الرمح، كناية عن الشرف.
2- الجوابي: جمع جابية، و هي الحوض يجبي فيه الماء للإبل.
3- الرئال: جمع رأل، و هو ولد النعام.
4- فاركا: مبغضة لزوجها.
5- المماظة: المنازعة و المشادة.

ينشد قوله في نادي قومه:

إن أدع(1) مسكينا فما قصرت(2) *** قدري بيوت الحي و الجدر

فوقفت عليه تسمع حتى إذا بلغ قوله:

ناري و نار الجار واحدة *** و إليه قبلي تنزل القدر

فقالت له: صدقت و اللّه، يجلس جارك فيطبخ قدره، فتصطلى بناره، ثم ينزلها فيجلس يأكل و أنت بحذائه كالكلب، فإذا شبع أطعمك، أجل و للّه، إن القدر لتنزل إليه قبلك، فأعرض عنها، و مرّ في قصيدته حتى بلغ قوله:

ما ضرّ جارا لي أجاوره *** ألا يكون لبيته ستر

فقلت له: أجل، إن كان له ستر هتكته، فوثب إليها يضربها، و جعل قومه يضحكون منهما(3) و هذه القصيدة من جيد شعره(3).

صوت

يا فرحتا إذ صرفنا أوجه الإبل *** نحو الأحبة بالإزعاج و العجل

نحثّهن و ما يؤتين من دأب *** لكنّ للشوق حثا ليس للإبل

الشعر لأبي محمد اليزيديّ، و الغناء لسليمان، ثقيل أول بالبنصر عن عمرو، و الهشامي.

ص: 358


1- كذا في «خزانة الأدب»: 63:3 و «أمالي المرتضى»: 120:3 و فيما سبق له في ص 212 من طبعة دار الكتب. و في النسخ: أك.
2- قصره، كضرب: جعله قصيرا، يريد أن قدري بارزة لا تحجبها السواتر و الحيطان. (3-3) زيادة من: مي، مج.

10 - أخبار أبي محمد و نسبه

نسبه:

أبو محمد يحيى بن المبارك، أحد بني عديّ بن عبد شمس بن زيد مناة بن تميم.

سمعت أبا عبد اللّه محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد اليزيديّ يذكر ذلك، و يقول: نحن من رهط ذي الرمة.

لم يقال له اليزيدي؟:

و قيل: إنهم موالي بني عدي، و قيل لأبي محمد: اليزيديّ لأنه كان فيمن خرج مع إبراهيم بن/عبد اللّه بن الحسن بالبصرة، ثم توارى زمانا حتى استتر أمره، ثم اتصل بعد ذلك بيزيد بن منصور خال المهدي، فوصله بالرشيد، فلم يزل معه. و أدّب المأمون خاصة من ولده، و لم يزل أبو محمد و أولاده منقطعين إليه و إلى ولده، و لهم فيهم مدائح كثيرة جياد.

مكانته العلمية و الأدبية و شيوخه:

و كان أبو محمد عالما باللغة و النحو، راوية للشعر، متصرفا في علوم العرب. أخذ عن أبي عمرو بن العلاء و يونس بن حبيب النحويّ و أكابر البصريين، و قرأ القرآن على أبي عمرو بن العلاء، و جوّد قراءته و رواها عن.، و هي المعوّل عليها في هذا الوقت. و كان بنوه جميعا في مثل منزلته من العلم و المعرفة باللغة، و حسن التصرف في علوم العرب. و لسائرهم علم جيد(1).

من له شعر يتغنى به من أولاده:

و نحن نذكر بعد انقضاء أخباره أخبار من كان له شعر و فيه غناء من ولده، إذ كنا قد شرطنا ذكر ما فيه صنعة دون غيره.

فمنهم محمد بن أبي محمد، و إبراهيم بن أبي محمد، و إسماعيل بن أبي محمد. كلّ هؤلاء ولده لصلبه، و لكلّهم شعر جيد.

و من ولد ولده أحمد بن محمد بن أبي محمد، و هو أكبرهم، و كان شاعرا راوية عالما.

/و منهم عبيد اللّه و الفضل ابنا محمد بن محمد، و قد رويا عن أكابر أهل اللغة، و حمل عنهما علم كثير. و آخر من كان بقي من علماء أهل هذا البيت أبو عبد اللّه محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد، و كان فاضلا عالما ثقة فيما يرويه، منقطع القرين في الصدق و شدة التوقي فيما ينقله.

و قد حملنا نحن عنه و كثير من طلبة العلم و رواته علما كثيرا، فسمعنا منه سماعا جمّا. فأما ما أذكر هاهنا من

ص: 359


1- مي: «شعر جيد».

أخبارهم فإني أخذته عن أبي عبد اللّه عن عمّيه عبيد اللّه و الفضل، و أضفت إليه أشياء أخر يسيرة أخذتها عن غيره، فذكرت ذلك في مواضعه، و رويته عن أهله.

يقول في المأمون شعرا و قد ضرب عنق أسيرين فأبان رأسيهما:

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثني عمي عبيد اللّه عن عمه إسماعيل بن أبي محمد قال: حدّثني أبي قال:

كان الرشيد جالسا في مجلسه فأتي بأسير من الروم، فقال لدفافة العبسيّ: قم فاضرب عنقه، فضربه فنبا سيفه، فقال لابن فليح لندنيّ: قم فاضرب عنقه، فضربه فنبا سيفه أيضا، فقال: أصلح اللّه أمير المؤمنين! تقدمتني ضربة عبسية، فقال الرشيد للمأمون، و هو يومئذ غلام: قم - فداك أبوك - فاضرب عنقه، فقام فضرب العلج، فأبان رأسه، ثم دعا بآخر فأمره بضرب عنقه، فضربه فأبان رأسه، و نظر إليّ المأمون نظر مستنطق، فقلت:

أبقي دفافة عارا بعد ضربته *** عند الإمام لعبس آخر الأبد

كذاك أسرته تنبو سيوفهم *** كسيف ورقاء(1) لم يقطع و لم يكد

ما بال سيفك قد خانتك ضربته *** و قد ضربت بسيف غير ذي أود

هلا كضربة عبد اللّه إذ وقعت *** ففرّقت(2) بين رأس العلج و الجسد

يحتكم في فضله اثنان فيفضله الحكم على الكسائي فيقول في ذلك شعرا:

قال إسماعيل بن أبي محمد في أخباره:

كان حموية ابن أخت الحسن الحاجب و سعيد و الجوهريّ واقفين، فذكرا أبا محمد - يعني أباه و الكسائي - ففضّل حموية الكسائي على أبي محمد، و فضل سعيد الجوهري أبا محمد على الكسائي.

و طال الكلام بينهما إلى أن تراضيا برجل يحكم بينهما، فتراهنا على أنّ من غلب أخذ برذون صاحبه، فجعلا الحكم بينهما/أبا صفوان الأحوزيّ، فلما دخل سألاه فقال لهما: لو ناصح الكسائيّ نفسه لصار إلى أبي محمد، و تعلم منه كلام العرب، فما رأيت أحدا أعلم منه به، فأخذ الجوهريّ دابة حموية. و بلغ أبا محمد اليزيديّ هذا الخبر فقال:

يا حموية اسمع ثنا(3) صادقا *** فيك و ما الصادق كالكاذب

يا جالب الخزي على نفسه *** بعدا و سحقا لك من جالب

إنّ فخر الناس بآبائهم *** آتيتهم بالعجب العاجب

قلت و أدغمت(4) أبا خاملا *** أنا ابن أخت الحسن الحاجب

ص: 360


1- هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، و كان ضرب خالد بن جعفر بن كلاب بسيفه فلم يصنع شيئا، لأنه قد ظاهر بين درعين (ابن الأثير: 413:1).
2- كذا في غير س. و في س «فرقت»، تحريف.
3- س، ب: «ثناء»، تحريف».
4- مي: «و ألغيت».
يهجو سلم الخاسر:

قال إسماعيل: و حدّثني أبي قال:

كنت ذات يوم جالسا أكتب كتابا، فنظر فيه سلم الخاسر طويلا، ثم قال:

أير يحيى أخط من كفّ يحيى *** إنّ يحيى بأيره لخطوط

فقال أبو محمد يحيى:

أمّ سلم بذاك أعلم شيء *** إنها تحت أيره لضروط

/و لها تارة إذا ما علاها *** أزمل(1) من وداقها(2) و أطيط(3)

أمّ سلم تعلّم الشّعر سلما *** حبّذا شعر أمك المنقوط

ليت شعري ما بال سلم بن عمرو *** كاسف البال حين يذكر لوط

لا يصلّي عليه فيمن يصلّي *** بل له عند ذكره تثبيط

فقال له سلم: ويحك ما لك خبثت؟ أي شيء دعاك إلى هذا كله؟ فقال أبو محمد: بدأت، فانتصرت، و البادي أظلم.

يطلب سلم الخاسر أن يهجوه على روي سماه، فيفعل، فيغضب سلم:

قال أبو عبد اللّه محمد بن العباس اليزيديّ حدّثني عبيد اللّه و عمي أبو القاسم عن أبي عليّ إسماعيل قال: قال لي أبي: قال سلم الخاسر يوما:

يا أبا محمد، قل أبياتا على قول امرئ القيس:

ربّ رام من بني ثعل

و لا أبالي أن تهجوني فيها، فقلت:

ربّ مغموم بعافية *** غمط النّعماء من أشره

مورد أمرا يسرّ به *** فرأى المكروه في صدره

و امرئ طالت سلامته *** فرماه الدهر من غيره

بسهام غير مشوية(4) *** نقضت منه عرا مرره

و كذاك الدهر مختلف *** بالفتى حالين من عصره

يخلط العسرى بميسرة *** و يسار المرء في عسره

/عقّ سلم أمّة سفها *** و أبا سلم على كبره

ص: 361


1- أزمل: صوت.
2- وداق ككتاب: شبق. و هو في الأصل: ميل ذات الحافر إلى الفحل.
3- أطيط: أنين.
4- غير مشوية: غير مخطئة.

كلّ يوم خلفه رجل *** رامح(1) يسعى على أثره

يولج الغرمول(2) سبته(3) *** كولوج الضّبّ في حجره

فانصرف سلم و هو يشتمه و يقول: ما يحلّ لأحد أن يكلمك.

يطلب شاعر أن ينظم على قافية معينة فيهجوه فيما نظم:

قال: و قال لي يوما أبو حنش الشاعر:

يا أبا محمد، قل أبياتا قافيتها على هاءين، فقلت له: على أن أهجوك فيها، فقال نعم، فقلت:

قلت و نفسي جمّ تأوّهها *** تصبو إلى إلفها و أندهها(4)

/سقيا لصنعاء لا أرى بلدا *** أوطنه(5) الموطنون يشبهها

حصنا و لا كبهجتها *** أعذى(6) بلاد عذّا و أنزهها

يعرف صنعاء من أقام بها *** أرغد أرض عيشا و أرفهها

أبلغ حضيرا عنّي أبا حنش *** عائرة(7) نجوه أوجّهها

تأتيه مثل السهام عامدة *** عليه مشهورة أدهدهها(8)

كنيته طرح نون كنيته *** إذا تهجيتها ستفقهها

/يريد إسقاط النون من أب حنش حتى يكون أبا حش(9)

يقول شعرا في يونس بن الربيع و كان وسيما:

قال أبو عبد اللّه: و حدّثني عمي قال: حدّثني الطّلحيّ - و كان له علم و أدب - قال:

اجتمعت مع أبي محمد عند يونس بن الربيع، و كان قد دعانا، فأقمنا عنده، فاتفق مجلسي إلى جنب مجلس أبي محمد، فقام يونس لحاجته، و كان جميلا وسيما، فالتفتّ إلى اليزيديّ فقال:

و فتى كالقناة في الطّرف منه *** إن تأملت طرفه استرخاء

فإذا الرامح المشيح(10) تلاه *** وضع الرمح منه حيث يشاء

يهجو قتيبة الخراساني لأنه كان يسأله كالمتعنت:

قال: و حدّثني عمي عن عمه إسماعيل عن أبي محمد قال:

ص: 362


1- الرامح في الأصل: ذو الرمح.
2- الغرمول: الذكر.
3- سبته: استه.
4- اندهها: أزجرها.
5- أوطنه: استوطنه.
6- أعذى: أطيب هواء. و الفعل عذا يعذو.
7- عائرة: سهاما لا يدري راميها. و المراد قصيدة.
8- أدهدهها: أرسلها، من دهده الحجر: دحرجه.
9- الحش: موضع قضاء الحاجة مثلثة.
10- المشيح: المقبل.

كان قتيبة الخراسانيّ عيسى بن عمر يأتيني، فيسألني عن مسائل كالمتعنّت، فإذا أجبته عنها انصرف منكسرا، و كان أفطس، فقلت له يوما:

أ مخبري أنت يا قتيبة عن *** أنفك أم أنت كاتم خبره؟

بأي جرم و أيّ ذنب ترى *** سوّت بخدّيك أنفك البقرة

فصيّرته كفيشة(1) نبتت *** في وجه قرد مفضوضة(2) الكمرة

قد كان في ذاك شاغل لك عن *** تفتيش باب العرفان و النكره

و قلت فيه أيضا:

إذا عافى مليك الناس عبدا *** فلا عافاك ربّك يا قتيبة

/طلبت النحو مذ أن كنت طفلا *** إلى أن جلّلتك قبحت شيبه

فما تزداد إلاّ النقص فيه *** و أنت لدى الإياب بشرّ أو به

و كنت كغائب قد غاب حينا *** فطال مقامه و أتى بخيبه

يلقن قتيبة غريبا فيه فحش، فيعابي به عيسى بن عمر:

قال أبو محمد:

كان عيسى بن عمر أعلم الناس بالغريب، فأتاني قتيبة الخراسانيّ هذا، فقال لي: أفدني شيئا من الغريب أعايي(3) به عيسى بن عمر، فقلت له: أجود المساويك عند العرب الأراك، و أجود الأراك عندهم ما كان متمئّرا(4)عجارما(5) جيدا، و قد قال الشاعر:

إذا استكت يوما بالأراك فلا يكن *** سواكك إلاّ المتمئرّ العجارما

يعني الأير. قال: فكتب قتيبة ما قلت له، و كتب البيت، ثم أتى عيسى بن عمر في مجلسه، قال: يا أبا عمر، ما أجود المساويك عند العرب؟ فقال: الأراك، يرحمك اللّه. فقال له قتيبة: أ فلا أهدي إليك منه شيئا متمئّرا عجارما؟ فقال:

أهده إلى نفسك. و غضب، و ضحك كل من كان في مجلسه، /و بقي قتيبة متحيرا، فعلم عيسى أنه قد وقع عليه بلاء، فقال له: ويلك! من فضحك و سخر منك بهذه المسألة؟ و من أهلكك و دمّر عليك؟ قال: أبو محمد اليزيديّ، فضحك عيسى حتى فحص برجله، و قال: هذه و اللّه من مزحاته و بلاياه. أراه عنك منحرفا، فقد فضحك. فقال قتيبة: لا أعاود مسألته عن شيء.

ص: 363


1- الفيشة: رأس الذكر.
2- مي: «مقطوعة».
3- كذا في م، أ. و معناه: أعجزه عن فهمه. س، ب: «أعاني» بمعنى أشاجر.
4- المتمئر: الذكر الصلب.
5- العجارم: الرجل الشديد، و يكنى به عن الذكر.
الخليل يحبه و يجله:

حدّثني عمي قال: حدّثني عبيد اللّه بن محمد اليزيديّ قال: حدّثني أخي أبو جعفر/قال: سمعت جدّي أبا محمد يقول: صرت يوما إلى الخليل بن أحمد، و المجلس غاص بأهله، فقال لي: هاهنا عندي، فقلت أضيّق عليك، فقال: إنّ الدنيا بحذافيرها تضيق عن متباغضين، و إنّ شبرا في شبر لا يضيق عن متحابّين. قال: و كان الخليل لأبي محمد صافي الودّ.

يجمع بين الخليل و ابن المقفع:

حدثنا اليزيديّ قال: حدّثني عمي عبيد اللّه قال: حدّثني أخي أحمد قال: سمعت جدي أبا محمد يقول:

كنت ألقي الخليل بن أحمد، فيقول لي: أحبّ أن يجمع بيني و بين عبد اللّه بن المقفّع، و ألقى ابن المقفّع فيقول: أحب أن يجمع بيني و بين الخليل بن أحمد. فجمعت بينهما، فمرّ لنا أحسن مجلس و أكثره علما، ثم افترقنا، فلقيت الخليل فقلت له: يا أبا عبد الرحمن، كيف رأيت صاحبك؟ قال: ما شئت من علم و أدب، إلاّ أني رأيت كلامه أكثر من علمه، ثم لقيت ابن المقفّع فقلت: كيف رأيت صاحبك؟ فقال: ما شئت من علم و أدب، إلاّ أنّ عقله أكثر من علمه(1).

يناظر الكسائي في مجلس المهدي فيغلبه:

حدثنا اليزيديّ قال حدّثني عمي عبيد اللّه قال: حدّثني أخي أحمد بن محمد قال: حدّثني أبي محمد بن أبي محمد قال: قال لي أبو محمد:

كنا مع المهدي ببلد في شهر رمضان قبل أن يستخلف بأربعة أشهر، و كان الكسائيّ معنا، فذكر المهديّ العربية و عنده شيبة بن الوليد العبسيّ عمّ دفافة، فقال المهديّ: نبعث إلى اليزيديّ و الكسائيّ، و أنا يومئذ مع يزيد بن المنصور خال المهديّ، و الكسائي مع الحسن الحاجب، فجاءنا الرسول، فجئت أنا، فإذا الكسائيّ على الباب قد سبقني. فقال: يا أبا محمد، أعوذ باللّه من شرّك، فقلت: و اللّه لا تؤتى من قبلي حتى أوتى من قبلك.

/فلما دخلنا عليه أقبل عليّ، و قال: كيف نسبوا إلى البحرين فقالوا: بحرانيّ، و نسبوا إلى الحصنين(2) فقالوا:

حصنّي و لم يقولوا حصنانيّ. كما قالوا بحراني؟ فقلت: أصلح اللّه الأمير! لو أنهم نسبوا إلى البحرين فقالوا: بحريّ لم يعرف أ إلى البحرين نسبوا أم إلى البحر؟ فلما جاءوا إلى الحصنين لم يكن موضع آخر يقال له: الحصن ينسب إليه غيرهما(3) فقالوا: حصني.

قال أبو محمد، سمعت الكسائي يقول لعمر بن بزيع - و كان حاضرا - لو سألني الأمير لأخبرته فيها بعلّة هي أحسن من هذه. قال أبو محمد: قلت: أصلح اللّه الأمير، إن هذا يزعم أنك لو سألته لأجاب بأحسن مما أجبت به.

قال: فقد سألته: فقال الكسائيّ: لما نسبوا إلى الحصنين كانت فيه نونان، فقالوا: حصني اجتزاء بإحدى النونين عن الأخرى، و لم يكن في البحرين إلاّ نون واحدة، فقالوا: بحراني. فقلت: أصلح اللّه الأمير! فكيف تنسب رجلا من

ص: 364


1- هد: «إلاّ أن عقله و علمه أكثر من كلامه».
2- الحصنين موضع، و قلعة بوادي له من نواحي الطائف.
3- ذكر ياقوت أن هناك مواضع كثيرة تسمى بهذا الاسم، و مما ذكر منها: ثنية بمكة في موضع يقال له: المفجر.

بني جنّان فإنه يلزمه على قياسه أن يقول: جنّي إن في جنّان نونين، فإن قال ذلك فقد سوّى بينه و بين المنسوب إلى الجنّ.

قال: فقال لي المهدي و له: تناظرا في غير هذا حتى نسمع، فتناظرنا في مسائل حفظ فيها قولي/و قوله إلى أن قلت له: كيف تقول: إن من خير القوم أو خيرهم نية زيد؟ قال: فأطال الفكر لا يجيب. فقلت: لأن تجيب فتخطئ فتتعلم أحسن من هذه الإطالة. فقال: إن من خير القوم أو خيرهم نية زيدا. قال: فقلت: أصلح اللّه الأمير، ما رضي أن يلحن حتى لحن و أحال. قال: و كيف؟ قلت: لرفعه قبل أن يأتي باسم إنّ، و نصبه بعد رفعه.

فقال شيبة بن الوليد: أراد بأو - بل، فرفع هذا معنى. فقال الكسائيّ: ما أردت/غير ذلك فقلت: فقد أخطأ جميعا أيها الأمير. لو أراد بأو - بل رفع زيدا؛ لأنه لا يكون بل خيرهم زيدا، فقال المهديّ: يا كسائيّ، لقد دخلت عليّ مع مسلمة النحويّ و غيره، فما رأيت كما أصابك اليوم. قال: ثم قال: هذان عالمان، و لا يقضي بينهما إلاّ أعرابيّ فصيح يلقى عليه المسائل الّتي اختلفا فيها فيجيب. قال: فبعث إلى فصيح من فصحاء الأعراب. قال أبو محمد، و أطرقت إلى أن يأتي الأعرابيّ، و كان المهديّ محبّا لأخواله، و منصور بن يزيد بن منصور حاضر، فقلت:

أصلح اللّه الأمير! كيف ينشد هذا البيت الّذي جاء في هذه الأبيات:

يا أيها السائلي لأخبره *** عمن بصنعاء من ذوي الحسب

حمير ساداتها تقر لها *** بالفضل طرّا جحاجح(1) العرب

و إنّ من خيرهم و أكرمهم *** أو خيرهم نية أبو كرب

قال: فقال لي المهديّ: كيف تنشده أنت؟ فقلت: أو خيرهم نية أبو كرب على إعادة إنّ، كأنه قال: أو إنّ خيرهم نية أبو كرب. فقال الكسائيّ: هو و اللّه قالها الساعة. قال، فتبسم المهديّ، و قال: إنك لتشهد له و ما تدري. قال:

ثم طلع الأعرابيّ الّذي بعث إليه فألقيت عليه المسائل، فأجاب فيها كلّها بقولي، فاستفزّني السرور حتى ضربت بقلنسيتي الأرض، و قلت: أنا أبو محمد. قال لي شيبة: أ تتكنّى باسم الأمير؟ فقال المهديّ: و اللّه ما أراد بذلك مكروها، و لكنه فعل ما فعل للظّفر، و قد - لعمري - ظفر. فقلت: إن اللّه - عزّ و جل - أنطقك أيها الأمير بما أنت أهله، و أنطق غيرك بما هو أهله.

يتهدده شيبة بن الوليد فيهجوه في رقاع دسها في الدواوين:

قال: فلما خرجنا قال لي شيبة: أ تخطّئني بين يدي الأمير؟ أما لتعلمنّ! قلت: قد سمعت ما قلت، و أرجو أن تجد غبّها، ثم لم أصبح حتى كتبت/رقاعا عدة، فلم أدع ديوانا إلاّ دسست إليه رقعة فيها أبيات قلتها فيه، فأصبح الناس يتناشدونها، و هي:

عش بجدّ و لا يضرّك نوك *** إنما عيش من ترى بالجدود

عش بجدّ و كن هبنّقة(2) القي *** سيّ نوكا أو شيبة بن الوليد

شيب يا شيب يا جديّ بني القع *** قاع ما أنت بالحليم الرشيد(3)

لا و لا فيك خلّة من خلال *** الخير أحرزتها لحزم وجود

ص: 365


1- جحاجح: سادة، جمع جحجح.
2- هو يزيد بن ثروان، و يكنى ذا الودعات، لأنه جعل في عنقه قلادة من ودع و عظام و خزف مع طول لحيته، فسئل فقال: لئلا أضل، فسرقها أخوه في ليلة و تقلدها، فأصبح هبنقة و رآها في عنقه، فقال: أخي، أنت أنا، فمن أنا؟ فضرب بحمقه المثل.
3- زيادة من مي، مل، هد، م.

غير ما أنك المجيد لتقطيع غناء و ضرب دفّ و عود

فعلى ذا و ذاك يحتمل الدهر *** مجيدا له و غير مجيد

يهجو خلفا الأحمر:

قال: و قال أبو محمد اليزيديّ يهجو خلفا الأحمر أستاذ(1) الكسائيّ، أنشدنيه عمي الفضل:

زعم الأحمر المقيت عليّ *** و الّذي أمّه تقرّ بمقته

/أنه علّم الكسائيّ نحوا *** فلئن كان ذا كذاك فباسته

يأمر له الرشيد بمال، و يستعين الغساني على تعجيله فلا يعينه:

و بهذا الإسناد عن أبي محمد قال:

أمر لي الرشيد بمال و حضر شخوصه إلى السّن(2)، فأتيت عاصما الغسانيّ - و كان/أثيرا عند يحيى بن خالد - فقلت له: إن أمير المؤمنين قد أمر لي بمال، و قد حضر من شخوصه ما قد علمت، فأحبّ أن تذكّر أبا علي يحيى بن خالد أمره ليعجّله إليّ. فقال: نعم، ثم عدت بعد ذلك بيومين، فقال لي يتفخّم في لفظه: ما أصبت بحاجتك موضعا. قال: قلت فاجعلها منك - أكرمك اللّه - ببال.

فلما خرجت لحقني بعض من كان في المجلس، فقال لي: يا أبا محمد، إني لأربأ بك أن تأتي هذا الكلب أو تسأله حاجة، قلت: و كيف؟ قال: سمعته يقول - و قد ولّيت - لو أن بيدي دجلة و الفرات ما سقيت هذا منهما شربة، فقيل له: و لم ذاك - أصلحك اللّه - فإن له قدرا و علما؟ قال: لأنه من مضر، ما رأيت مضربا قطّ يحب اليمانيّة.

قال: فأحببت ألا أعجل، فعدت إليه من غد فقلت: هل كان منك - أكرمك اللّه - في الحاجة شيء؟ فقال: و اللّه لكأنك تطلبنا بدين فتحقّق عندي ما بلغني عنه، فقلت له: لا قضى اللّه هذه الحاجة على يدك، و لا قضى لي حاجة أبدا إن سألتكها، و اللّه لا سلّمت عليك مبتدئا أبدا، و لا رددت عليك السّلام إن بدأتني به. و نفضت ثوبي و خرجت.

يستعين بجعفر بن يحيى على تعجيل المال فيعينه

فإني لأسير و أفكر في الحيلة لحاجتي إذا براكب يركض حتى لحقني، فقال: بعثني إليك أبو علي يحيى بن خالد لتقف حتى يلحقك، فرجعت مع رسوله إليه فلقيته، و كان قريبا، فسلّمت عليه ثم سايرته، فقال لي: إن أمير المؤمنين أمرني أن آمرك بطلب مؤدّب لابنه صالح، فإني أحدّثك حديثا حدّثني به أبي خالد بن برمك: أنّ الحجاج بن يوسف أراد مؤدّبا لولده، فقيل له: هاهنا رجل نصرانيّ عالم، و هاهنا مسلم ليس علمه كعلم النصرانيّ، قال: ادعوا لي المسلم.

/فلما أتاه قال: أ لا ترى يا هذا أنّا قد دللنا على نصرانيّ قد ذكروا أنه أعلم منك، غير أني كرهت أن أضمّ إلى ولدي من لا ينبّههم للصلاة عند وقتها، و لا يدلّهم على شرائع الإسلام و معالمه؟ و أنت - إن كان لك عقل - قادر على أن تتعلم في اليوم ما يعلمه أولادي في جمعه، و في الجمعة ما يعلّمهم في الشهر، و في الشهر ما يعلمهم في سنة.

ص: 366


1- كذا بالنسخ، و لم نعثر في المراجع الّتي رجعنا إليها على خبر يدل على أن الكسائي أخذ عن خلف الأحمر. فلعل المراد على بن الحسن، و يقال: ابن المبارك المعروف بالأحمر، و كان تلميذ الكسائي. و قد ذكر اليزيدي في البيت الأول أن اسمه علي. (بغية الوعاة، نزهة الألباء، مراتب النحويين).
2- السن: مدينة على دجلة فوق تكريت، يقال لها: سن بارما.

ثم قال لي يحيى: فينبغي يا أبا محمد أن نؤثر الدّين على ما سواه، فقلت له: قد أصبت من أرضاه، و ذكرت له الحسن بن المسوّر، فضمه إليه ثم سألني: من أين أقبلت؟ فأخبرته بخبر عاصم و ما كان منه، فقلت له: قد حضر هذا المسير، و لست أدري من أي وجه أتقاضاه؟ فضحك و قال: و لم لا تدري؟ الق صديقك جعفرا، يعني ابنه، حتى يكلم أمير المؤمنين أو يذكرني حاجتك، فقد تركته على المضي الساعة، فاثنيت إلى جعفر و قلت له في طريقي:

يا سائلي عما أخبّره *** عن جعفر كرما و عن شيمه

إن ابن يحيى جعفرا رجل *** سيط(1) السماح بلحمه و دمه

فعليه «لا» أبدا محرمة *** و كلامه وقف على نعمه

و ترى مسابقه ليدركه *** بمكان حذو النعل من قدمه

/فلما دخلت إليه أخبرته الخبر، و أنشدته الأبيات، و أعلمته ما أمرني به أبوه، فقال لي: قل بيتين تذكره فيهما إلى أن أجدّد طهرا و اكتبهما حتى يكونا معي، فأذكر بهما حاجتك، فقلت: نعم يا سيدي، و أخذت الدواة و كتبت:

أحقّ من أنجز موعوده *** خليفة اللّه على خلقه

و من له إرث نبيّ الهدى *** بالحق لا يدفع عن حقه

/ينسب في الهدي إلى هديه *** برّا و في الصدق إلى صدقه

و من له الطاعة مفروضة *** لائحة بالوحي في رقّه

و الراتق الفتق العظيم الّذي *** لا يقدر الناس على رتقه

يهجو الغساني لأنه لم يعنه على تعجيل المال:

قال: فأخذ الشعر، و مضى إلى الرشيد في حاجتي و أقرأه إياه، فصكّ إليّ بالمال عليه، و قبضته بعد ذلك بيوم، و أنشأت أقول في الغسّانيّ:

أ لا طرقت أسماء أم أنت حالم؟ *** فأهلا بطيف زار و الليل عاتم

إذا قيل أيّ الناس أعظم جفوة *** و ألأم قيل الجرمقانيّ (2) عاصم

دعيّ أجاءته إلى اللؤم دعوة *** و مغرس سوء لؤمه متقادم

شهيدي على أن ليس حرّا صليبة *** صفيحة وجه ابن استها(3) و اللهازم

صفيحة دقّاق أبوه شبيهه *** و جدّاه سمّاك لئيم و حاجم

أ عاصم خلّ المكرمات لأهلها *** و أغض على لؤم و وجهك سالم

فكيف تنال الدهر مجدا و سوددا *** و في كل يوم كوكب لك ناجم؟

ص: 367


1- سيط: خلط، و بابه قال:
2- الجرمقاني: واحد الجرامقة، و هم من قوم من العجم صاروا بالموصل في أوائل الإسلام.
3- تركيب يقال لمن يسب و يصغر من جهة أمة.

و أصلك مدخول و فسقك ظاهر *** و عجبك مهموز و عردك(1) عارم

تصانع غسانا لتلحق فيهم *** و ربّ دعيّ ألحقته الدراهم

فإن راب ريب أو أصابتك شدة *** رجعت إلى شلتي و أنفك راغم

- قال: و كان اسم ابنه شلثي، فصيره صلتا(2) -

إذا عاصما يوما أتيت لحاجة *** فلا تلقه إلاّ و أيرك قائم

/و عرّض له من قبل ذاك بأمرد *** وضيء وسيم أثقلته المآكم

و إلاّ فلا تسأله ما عشت حاجة *** و لا تبكه إن أعولته المآتم

يستعينه الغساني على رد ضيعة له قبضت فيعينه:

قال: فلما حدث ببني برمك ما حدث قبضت ضيعته في المقبوض من ضياع أسبابهم، فصار إليّ و كلّمني في «أمرها، و سألني كلام الجوهريّ في ذلك، فقمت له حتى ردت الضيعة عليه، فجاءني يشكرني، و يعتذر ممّا جرى من فعله المتقدم، فقلت له: تناس ما مضى، فلست ممن يكافئ على سوء أحدا.

يتهمه أبو عبيدة بذكر مساوئ الناس في المسجد فيهجوه:

قال أبو محمد: كان أبو عبيدة يجلس في مسجد البصرة إلى سارية، و كنت أنا و خلف الأحمر نجلس جميعا إلى أخرى، و كان أبو عبيدة من أعضه(3) الناس للناس و أذكرهم لمثالبهم، فقال لأصحابه: أ ترون الأحمر و اليزيديّ إنما يجتمعان على الوقيعة للناس و ذكر مساويهم؟ و بلغني ذلك و أنه قد رمانا بمذهبه، فقلت لخلف: دعه، فأنا أكفيكه. /فلما كان من الأذان جئت أنا و خلف إلى المسجد، فكتبت على الجصّ في الموضع الّذي كان يجلس فيه أبو عبيدة:

صلّى الإله على لوط و شيعته *** أبا عبيدة قل باللّه آمينا

قال: و أصبح الناس، و جاء أبو عبيدة، فجلس و هو لا يعلم ما فوق رأسه مكتوبا و أقبل الناس ينظرون إلى البيت و يضحكون، و رفع أبو عبيدة رأسه و نظر إليه، فخجل، و لم يزل منكّسا رأسه حتى انصرف الناس و أنا و خلف ناحية ننظر إلى ما به، ثم قمنا حتى وقفنا عليه، فقلنا له: ما قال صاحب هذا البيت إلاّ حقا، نعم فصلى اللّه على لوط، فأقبل عليّ و قال: قد علمت من أين أتيت، و لن أعاود التعرّض لتلك الجهة، و لم يعد لذكرنا بعد ذلك.

يجفوه يزيد بن منصور فيعاتبه فيعتبه:

و قال أبو محمد: اعتللت علّة من حمى ربع(4) طالت عليّ أشهرا، فجفاني يزيد بن منصور، و لم يمر بي في علتي، و لم يتفقدني كما ينبغي؛ فكتبت رقعة إليه ضمنتها هذه الأبيات:

ص: 368


1- العرد: الذكر الصلب.
2- الصلت: اللص.
3- أعضه: وصف من عضه: جاء بالإفك و البهتان.
4- حمى الربع: هي الحمى الّتي تأتي في اليوم الرابع، بأن يحم يوما، و يترك يومين لا يحم، و يحم في اليوم الرابع.

قل للأمير الّذي يرجو نوافله *** من جاء طالبا للخير منتابا(1)

إني صحبتك دهرا كلّ ذاك أرى *** من دون خيرك حجّابا و أبوابا

و كم ضريك(2) أجاءته شقاوته *** إليك إذا أنشبت ضراؤها نابا

فما فتحت له بابا لميسرة *** و لا سددت له من فاقة بابا

كغائب شاهد يخفى عليك كما *** من غاب عنك فوافى حظّه غابا

فلما قرأها قال: جفونا أبا محمد؛ و أحوجناه إلى استبطائنا. و اللّه المستعان، و بعث إليه بصلة.

يعبث به خلف الأحمر في قصيدة نسبه فيها إلى اللواط:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ أبو دلف قال: حدّثني محمد بن عبد الرحمن بن الفهم، و كان من أصحاب الأصمعيّ، قال:

كان خلف الأحمر يعبث بأبي محمد اليزيديّ عبثا شديدا، و ربما جدّ فيه و أخرجه مخرج المزح، فقال فيه ينسبه إلى اللّواط:

إني و من وسج(3) المطيّ له *** حدب الذرى أذقانها رجف(4)

/يطرحن بالبيد السّحال(5) إذا *** حثّ النجاء الركب و ازدهفوا(6)

و المحرمين لصوتهم زجل *** بفناء كعبته إذا هتفوا

و إذا قطعن مساف مهمهة *** قذف(7) تعرّض دونها شرف

وافت بهم خوص(8) محزّمة *** مثل القسيّ ضوامر شسف(9)

منّي إليه غير ذي كذب *** ما إن رأى قوم و لا عرفوا

في غابر الناس الذين بقوا *** و الفرّط(10) الماضين إذ سلفوا

أحدا كيحيى في الطعان إذا اف *** ترش(11) القنا و تضعضع الحجف(12)

ص: 369


1- منتابا: وصف من انتاب الرجل القوم انتيابا، إذا قصدهم و أتاهم مرة بعد مرة.
2- الضريك: الفقير السيئ الحال.
3- وسج: الوسج و الوسيج ضرب من سير الإبل سريع.
4- رجف: مضطربة.
5- السحال، ككتاب: اللجام.
6- ازدهف: خف و عجل، و ازدهفه: استعجله.
7- قذف: بعيدة.
8- خوص: غائرات العيون في الرءوس، واحده أخوص و خوصاء.
9- شسف: يابسة من الضمر و الهزال. شسف، كنصر و كرم.
10- الفرط: السابقون.
11- افترش القنا: وقع بعضها على بعض عند الطعان.
12- الجحف: التروس، و قيل من الجلود خاصة. و في مي، هد، مل: «و تقعقع الجحف».

في معرك يلقى الكميّ به *** للوجه منبطحا و ينحرف

و إذا أكبّ القرن ينبعه *** طعنا دوين صلاه(1) ينخسف

للّه درّك أيّ ذي نزل(2) *** في الحرب إذ همّوا و إذ وقفوا

لا تخطئ الوجعاء(3) ألّته(4) *** و لا تصدّ إذا هم زحفوا(5)

/و له جياد لا يفرّطها(6) ال *** إحلال و المضمار و العلف

جرد(7) يهان لها السّويق و أل *** بان اللّقاح(8) كأنها نزف(9)

مرد و أطفال تخالهم *** درّا تطابق فوقه الصّدف

فهم لديه يعكفون به *** و المرء منه اللّين و اللطف

و متى يشا يجنب(10) له جذع(11) *** نهد أسيل الخد مشترف(12)

يمشي العرضنة(13) تحت فارسه *** عبل(14) الشوى(15) في متنه قطف(16)

ربذ(17) إذا عرقت مغابنه(18) *** ذهب السكون و أقبل العنف

فأعدّ ذاك لسرجه و له *** في كل غادية لها عرف

في حقوه(19) عرد تقدّمه *** صلعاء في خرطومها قلف

ص: 370


1- . الصلا: وسط الظهر.
2- النزل: ما هيئ للضيف أن ينزل عليه. و المراد ما أعد لمن يقع عليهم.
3- الوجعاء: الدبر.
4- الألّة: الحربة العظيمة النصل.
5- كذا في جميع النسخ، و في التفعيلة الأولى من الشطر الثاني الوقص (حذف الثاني المتحرك)، و هو صالح في «الكامل».
6- لا يفرطها: لا يثيرها للسبق.
7- جرد: جمع أجرد، و هو الّذي لا شعر عليه.
8- اللقاح: الإبل الّتي نتجت، جمع لقوح.
9- نزف: جمع نزيف، للذي يخرج منه دم كثير.
10- جنب الدابة: قادها إلى جنبه.
11- الجذع: هو في الأصل ولد الشاة في الثانية، و ولد البقر في الثالثة.
12- مشترف: مشرف.
13- العرضنة: مشية فيما بغى من النشاط.
14- عبل: ضخم.
15- الشوى: اليدان، و الرجلان، و الرأس من الإنسان.
16- قطف: أثر.
17- ربذ: سريع. و في النسخ: «ربد»، تحريف.
18- المغابن: جمع مغبن، كمنزل، و هو الإبط، و أصل الفخذ.
19- حقوه: خصره.

/جرداء تشحذ بالبزاق(1) إذا *** دعيت نزال و هبّ مرتدف(2)

أوفى على قيد(3) الذراع شدي *** د الجلز(4) في يافوخه جوف(5)

خاظ(6) ممرّ متنه ضرم *** لا خانه خور و لا قضف(7)

عرد المجس بمتنه عجر(8)*** في جذره عن فخذه جنف

فلو أن فياضا تأمله *** نادى بجهد الويل يلتهف

و إذا تمسّحه لعادته *** و دنا الطعان فمدعس(9) ثقف

و إذا رأى نفقا ربا و نزا *** حتى يكاد لعابه يكف

لا ناشئا(10) يبقي و لا رجلا *** فندا(11) و هذا قلبه كلف

يا ليتني أدري أ منجيتي *** و جناء ناجية بها شدف(12)

من أن تعلقني حبائله *** أو أن يواري هامتي لجف(13)

و لقد أقول حذار سطوته *** إيها إليك توقّ يا خلف

/و لو ان بيتك في ذرا علم *** من دون قلة رأسه شعف(14)

زلق أعاليه و أسفله *** وعر التنائف(15) بيتها قذف(16)

لخشيت عردك(17) أن يبيّتني *** أن لم يكن لي عنه منصرف

أعرابي يعلق على بيت من هذه الفائية:

قال الأصمعيّ: فحدّثني شيخ من آل أبي سفيان بن العلاء أخي أبي عمرو بن العلاء قال:

ص: 371


1- البزاق: البصاق. و في النسخ: «بالبراق»، تحريف.
2- المرتدف: الّذي يركب خلف الراكب.
3- قيد: مقدار.
4- الجلز: الطي و اللي و المد و النزع.
5- جوف: اتساع.
6- خاظ: مكتنز.
7- قضف: نحافة.
8- عجر: جمع عجرة بضم فسكون، و هي العقدة.
9- مدعس: شديد الطعن.
10- كذا في أ. س، ب: «ماشيا»، تحريف.
11- فند: خرف.
12- الشدف: سرعة الوثب.
13- لجف جمع لجاف ككتاب، و هو ما أشرف على الغار من صخرة و غيرها، ناتئ في الجبل.
14- الشعف: جمع شعفة، و هي رأس الجبل.
15- التنائف: جمع تنوفة، و هي الأرض الواسعة البعيدة الأطراف.
16- القذف بضمتين و بفتحتين: الفلاة البعيدة.
17- كذا في غير س، و في س: «عرضك»، تحريف.

أنشدت قصيدة خلف الفائية هذه و أعرابي جالس يسمع، فلما سمع قوله:

فإذا أكب القرن أتبعه *** طعنا دوين صلاه ينخسف

قال الأعرابيّ: و أبيك لقد أحب أن يضعه في حاق(1) مقيل(2) ضرطته.

يشغب في مجلس ضم خلفا الأحمر، ليهجوه خلف فيغضب:

أخبرني هاشم بن محمد قال: حدّثني ابن الفهم قال: حدّثني الأصمعيّ قال:

كنت مع خلف جالسا، فجرى كلام في شيء من اللغة، و تكلم فيه أبو محمد اليزيدي و جعل يشغب، فقال لي خلف: دعني من هذا يا أبا محمد، و أخبرني من الّذي يقول:

/فإذا انتشأت(3) فإنني *** رب الحريبة و الرّميح

و إذا صحوت فإنني *** رب الدّويّة و اللويح

يعرّض به أنه معلم، و أنه يلوط، فغضب اليزيدي، و قام فانصرف.

يهجو مواليه بني عدي لقعودهم عنه و قد استنهضهم:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني طلحة الخزاعيّ قال: حدّثني أبو سعيد عثمان بن يوسف الحنفيّ قال:

غاضب أبو محمد اليزيديّ مواليه بني عدي رهط ذي الرمة من بني تميم لأمر استنهضهم فيه، فقعدوا عنه، فقال يهجوهم:

يا أيها السائل عن قومنا *** لمّا رأى بزّة أحبارهم(4)

و حسن سمت منهم ظاهرا *** إعلانهم ليس كإسرارهم

سائل بهم أحمر أو غيره *** ينبيك عن قومي و أخبارهم

[قوم كرام ما عدا أنهم *** صولتهم منهم على جيرانهم

أسد على الجيران أعداؤهم *** آمنة تخطر في دارهم

لو جاءهم مقتبسا جارهم *** ما قبسوه الدهر من نارهم

و قد وترناهم فلم نخش من *** ينهض في سيره أو ثارهم

أحسن قوم لمواليهم *** إن أيسروا يوما لأيسارهم

شهادة الزور لهم عادة *** حقا بها قيمة أخبارهم

و ما لهم مجد سوى مسجد *** به تعدّوا فوق أطوارهم

ص: 372


1- حاق: وسط.
2- مقيل: موضع.
3- كذا بالنسخ. و لعلها محرفة عن انتشيت، بدليل البيت الثاني.
4- الأحبار: جمع حبر، و هو العالم أو الصالح.

لو هدم المسجد لم يعرفوا *** يوما و لم يسمع بأخبارهم](1)

يهنئ الرشيد و يمدح المأمون لتوقفه في أول خطبة له:
اشارة

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: أخبرني عمي عبيد اللّه قال: حدّثني عمي إسماعيل و أخي أحمد قالا:

لما بلغ المأمون و صار في حدّ الرجال أمرنا الرشيد أن نعمل له خطبة يقوم بها يوم/الجمعة، فعملنا له خطبته المشهورة. و كان جهير الصوت حسن اللهجة، فلما خطب بها رقّت قلوب الناس، و أبكى من سمعه، فقال أبو محمد اليزيديّ:

لتهن أمير المؤمنين كرامة *** عليه بها شكر الإله وجوب

بأن وليّ العهد مأمون هاشم *** بدا فضله إذ قام و هو خطيب

و لما رماه الناس من كل جانب *** بأبصارهم و العود منه صليب

رماهم بقول أنصتوا عجبا له *** و في دونه للسامعين عجيب

و لما وعت آذانهم ما أتى به *** أنابت و رقّت عند ذاك قلوب

فأبكى عيون الناس أبلغ واعظ *** أغرّ بطاحيّ (2) النّجار نجيب

مهيب عليه للوقار سكينة *** جريء جنان لا أكعّ (3) هيوب

و لا واجب فوق المنابر قلبه *** إذا ما اعترى قلب النجيب و جيب

إذا ما علا المأمون أعواد منبر *** فليس له في العالمين ضريب

تصدّع عنه الناس و هو حديثهم *** تحدّث عنه نازح و قريب

شبيه أمير المؤمنين حزامة *** إذا وردت يوما عليه خطوب

إذا طاب أصل في عروق مشاجه(4) *** فأغصانه من طيبه ستطيب

فقل لأمير المؤمنين الّذي به *** يقدّم عبد اللّه فهو أديب

كأن لم تغب عن بلدة كان واليا *** عليها و لا التدبير منك يغيب

تتبع ما يرضيك في كل أمره *** فسيرته شخص إليك حبيب

/ورثتم بني العباس إرث محمد *** فليس لحيّ في التراث نصيب

و إني لأرجو يا بن عم محمد *** عطاياك و الراجيك ليس يخيب

أثبني على المأمون و ابني محمدا *** نوالا فإياه بذاك تثيب

/جناب أمير المؤمنين مبارك *** لنا و لكل المؤمنين خصيب

ص: 373


1- زيادة من مي، مل.
2- بطاحي: من قريش البطاح، و هم الذين ينزلون بين أخشبي مكة، و هما جبلاها: أبو قبيس و الأحمر.
3- أكع: جبان.
4- مشاجه: تكونه و حيث يلتقي آباؤه و أمهاته، جمع مشج كسبب. و في هد: «في مشاج عروقه».

لقد عمّهم جود الإمام فكلهم *** له في الّذي حازت يداه نصيب

صوت

فلما وصلت هذه الأبيات إلى الرشيد أمر لأبي محمد بخمسين ألف درهم، و لابنه محمد بن أبي محمد بمثله.

أخبرني عمي قال: حدثنا الفضل بن محمد اليزيديّ قال: حدّثني أخي أحمد عن أبيه قال:

أستأذن أبو محمد الرشيد و هو بالرّقّة في الحجّ، فأذن له، فلما عاد أنشدنا لنفسه:

يا فرحتا إذ صرفنا أوجه الإبل *** إلى الأحبة بالإزعاج و العجل

نحثهن و لا يؤتين(1) من دأب *** لكنّ للشوق حثا ليس للإبل

يا نائيا قربت منه وساوسه *** أمسى قرين الهوى و الشوق و الوجل

إن طال عهدك بالأحباب مغتربا *** فإن عهدك بالتسهيد لم يطل

أ ما اشتفى الدهر من حرّان مختبل *** صبّ الفؤاد إلى حران مختبل

عش بالرجاء و أمّل قرب دارهم *** لعل نفسك أن تبقى مع الأمل

ص: 374


1- كذا في م، أ. س، ب: «يولين»، من أرناه بمعنى أتعبه و فتره.

11 - أخبار من له شعر فيه صنعة من ولد أبي محمد اليزيدي و ولد ولده

شعر له غنى فيه:
اشارة

فمنهم محمد بن أبي محمد، و مما يغنّى فيه من شعره قوله:

صوت

أتيتك عائذا بك من *** ك لما ضاقت الحيل

و صيّرني هواك و بي *** لحيني يضرب المثل

فإن سلمت لكم نفسي *** فما لاقيته جلل

و إن قتل الهوى رجلا *** فإني ذلك الرجل

الشعر لمحمد بن أبي محمد اليزيديّ، يكنى أبا عبد اللّه، و الغناء لسليم بن سلام، ثقيل أول بالبنصر، و له أيضا فيه ماخوريّ.

يمدح سليم بن سلام المغني:
اشارة

و كان سليم صديق محمد بن أبي محمد اليزيديّ، كثير العشرة له، و ليس في شيء من شعره صنعة إلاّ له. و له يقول محمد بن أبي محمد اليزيديّ:

صوت

بأبي أنت يا سليم و أمي *** ضقت ذرعا بهجر من لا أسمّي

صدّ عنّي أقرّ من خلق ال *** لّه لعيني فاشتد غمي و همي

ما احتيالي إن كان في القدر السا *** بق للحين أن أموت بسقمي؟

الغناء لسليم، خفيف رمل بالوسطى عن عمرو.

ينظر إليه أبو ظبية العكلي فيعجب به:

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثني عمي عبيد اللّه عن أخيه أبي جعفر عن أبيه محمد بن أبي محمد قال:

قال لي أبي: نظر إليك أبو ظبية العكلي - و قد جاءني - فقال لي، و قد أقبلت:

يلد الرجال بنيهم أولادهم *** و ولدت أنت أبا من الأولاد

يجيب أبا ظبية شعرا و قد كتب إليه شعرا:

/قال أبو محمد: و كتب أبو ظبية يوما:

ص: 375

أ يحيى لقد زرناك نلتمس الجدا *** و أنت امرؤ يرجى جداه و نائله

و ما صنع المعروف في الناس صانع *** فيحمد إلاّ أنت بالخير فاضله

تخيرك الناس الخليفة لابنه *** و أحكمت منه كل أمر يحاوله

فما ظنّ ذو ظنّ من الناس علمه *** كعلمك إلاّ مخطئ الظن فائله(1)

إليك تناهت غاية الناس كلّهم *** إذا اشتبهت عند البصير مسائله

قال أبو محمد: فكتب إليه:

أبا ظبية اسمع ما أقول فخير ما *** يقال إذا ما قيل صدّق قائله

إذا شئت فانهد(2) بي إلى من أردته *** و أمّلت جدواه فإني منازله

فإن يك تقصير و لا يك عارفا *** بحقك فاعذله فتكثر(3) عواذله

يتمنى العباس بن الأحنف أن يكون سبقه إلى بيتين له:

حدّثني أبو عبد اللّه محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثني عمي عبيد اللّه قال: حدّثني أخي أحمد عن أبي قال:

صرت إلى العباس بن الأحنف، فقال لي ما حاجتك؟ قلت: أمرني أخوك و أبي/أن أصير إليك و أستفيد منك، فقال لي: أ تصير إليّ؟ وددت أني سبقتك إلى بيتين قلتهما و أني لم أقل من الشعر شيئا غيرهما، فدخلني من السرور ما اللّه به عليم، فقلت و ما هما؟ فقال: قولك:

يا بعيد الدار موصو *** لا بقلبي و لساني

ربما باعدك الده *** ر و أدنتك الأماني

لم يسرق من الشعر إلاّ معنيين لمسلم بن الوليد:

حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار قال: حدّثني محمد بن داود الجراح قال: حدّثني أبو القاسم عبيد اللّه بن محمد اليزيديّ قال: حدّثني أحمد بن محمد قال:

سمعت أبي يقول: ما سرقت من الشعر شيئا إلاّ معنيين: قال مسلم بن الوليد:

ذاك ظبي تحيّر الحسن في الأر *** كان منه و حلّ كل مكان

عرضت دونه الحجال فما يل *** قاك إلاّ في النوم أو في الأماني

فقلت:

يا بعيد الدار موصو *** لا بقلبي و لساني

ص: 376


1- م. س، ب: «قاتله»، تحريف.
2- نهد: نهض و مضى على كل حال.
3- لعل راء فتكثر سكنت تخفيفا، لتتابع الحركات.

ربما باعدك الده *** ر و أدنتك الأماني

و قال مسلم أيضا:

متى ما تسمعي بقتيل حبّ *** أصيب فإنني ذاك القتيل

فقلت أنا:

أتيتك عائذا بك من *** ك لما ضاقت الحيل

و صيّرني هواك و بي *** لحيني يضرب المثل

فإن سلمت لكم نفسي *** فما لاقيته جلل

/و إن قتل الهوى رجلا *** فإني ذلك الرجل

يعتب على صديق له فيجيبه:

أخبرني محمد بن العباس قال: حدّثني عمي عبيد اللّه عن أخيه أبي جعفر قال:

عتب أبي - /يعني محمد بن أبي محمد - على يونس بن الربيع. و كان صديقه فكتب إليه:

سأبكيك حيّا لا بكيتك ميّتا *** بأربعة تجري عليك همولا

و أعفيك من طول اللقاء و إنني *** أرى اليوم لا ألقاك فيه طويلا

فكيف بصبري عنك لا كيف بعد ما *** حللت محلا في الفؤاد جليلا!

قال، و كتب إليه يونس:

إلى كم قد بليت و ليس يبلى *** عتاب منك لي أبدا طويل؟

إذا كثر التجنّي من خليل *** و لم تذنب فقد ظلم(1) الخليل

يقول في قنفذ شعرا اقترح عليه:

أخبرني عمي قال: حدّثني الحسن بن الفهم قال: قال لي أبو سمير عبد اللّه بن أيوب مولى بني أمية:

بات عندي ليلة محمد بن أبي محمد اليزيديّ، فظهر لنا قنفذ، فقلت له: قل فيه شيئا، فأنشأ يقول:

و طارق ليل زارنا بعد هجعة *** من الليل إلاّ ما تحدث سامر

فقلت لعبد اللّه ما طارق أتى؟ *** فقال امرؤ سبقت إليه المقادر

قريناه صفو الزاد حين رأيته *** و قد جاء خفّاق الحشا و هو سادر

جميل المحيا و الرضا فإذا أبي *** حمته من الضيم الرماح الشّواجر

و لست تراه واضعا لسلاحه *** مدى الدهر موتورا و لا هو واتر

ص: 377


1- ف: «مل».
يحجب عن المأمون، فيرسل إليه شعرا، فيأذن له و يجيزه:

حدّثنا اليزيديّ قال: حدّثني عمي الفضل قال: حدّثني أبو صالح بن يزداد قال: حدّثني أبي قال:

جاء محمد بن أبي محمد اليزيديّ إلى باب المأمون و أنا حاضر، فاستأذن، فقال الحاجب: قد أخذ دواء و أمرني ألا آذن لأحد. قال: فأمرك ألا توصل إليه رقعة؟ قال: لا، فدفع إليه رقعة فيها(1):

هديّتي التحية للإمام *** إمام العدل و الملك الهمام

لأني لو بذلت له حياتي *** و ما أهوى(2) لقلاّ للإمام

أراك من الدواء اللّه نفعا *** و عافية تكون إلى تمام

و أعقبك السلامة منه ربّ *** يريك سلامة في كل عام

أ تأذن في السّلام(3) بلا كلام *** سوى تقبيل كفكّ و السّلام

قال: فأوصلها، و خرج فأذن له، فدخل و سلّم و حملت معه ألفا دينار.

يستحسن المعتصم شعرا اقترحه عليه:
اشارة

حدّثني عمي قال: حدّثني الفضل اليزيديّ قال: حدّثني أخي أحمد عن أبي:

قال: دخلت إلى المعتصم و هو ولي عهد و قد طلع القمر، فتنفس ثم قال: يا محمد، قل أبياتا في معنى طلوع القمر، فإنه غاب مدة كما غاب محبوب عن حبيبه ثم طلع، فإن كان كما أحب فلك بكل بيت مائة دينار، فقلت:

صوت

هذا شبيه الحبيب قد طلعا *** غاب كما غاب ثم قد لمعا(4)

و ما أرى غيره يشاكله *** فأسأله باللّه عنه ما صنعا؟

فرّق بيني و بينه قدر *** و هو الّذي كان بيننا جمعا

/فهل له عودة فأرقبها *** كما رأينا شبهه(5) رجعا

/فقال: أحسنت و حياتي، ثم قال لعلويه: عن هذه الأبيات - و كان حاضرا - فغنّى فيها، و شرب عليها ليلته، و أمر لي بأربعمائة دينار و لعلّويه بمثلها.

لحن علّويه في هذه الأبيات رمل.

المأمون يحكم له بثلاثة آلاف دينار من مال عبد اللّه بن طاهر:

حدّثني عمي قال: حدثنا الفضل بن محمد قال: حدّثني أخي عن أبي قال:

ص: 378


1- ف: «فدعا بدواة و قرطاس فكتب».
2- ف: «و ما أحومي».
3- هد، مي، مل: «في الدخول».
4- ف: «رجعا».
5- ف: «شبيها له».

شكوت إلى المأمون دينا عليّ، فقال: إن عبد اللّه بن طاهر اليوم عندي، و أريد الخلوة معه، فإذا علمت فاستدع أن يكون دخولك أو إخراجه إليك، فإني سأحكم لك عليه بمال، فلما علمت أنهم قد جلسوا للشرب صرت إلى الدار، و كتبت بهذين البيتين:

يا خير سادات و أصحاب *** هذا الطفيليّ على الباب

فصيّروا لي معكم مجلسا *** أو أخرجوا لي بعض أصحابي

و بعثت بهما إليه، فلما قرأهما قال: صدق اكتبوا إليه و سلوه أن يختار، فكتب إليّ: أمّا وصولك فلا سبيل إليه، و لكن من تختار لنخرجه إليك فتمضي معه. فكتبت: ما كنت لأختار على أبي العباس(1) أحدا. فقل له المأمون: قم إلى صديقك. فقال: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تعفيني من ذلك. أ تخرجني عما شرفتني به من منادمتك و تبدلني بها منادمة ابن اليزيدي! قال: لا بدّ من ذلك أو ترضيه. قال: فليحتكم. قال: أخاف أن يشتط أو تقصّر أنت، و لكني أحكم فأعدل. قال: قد رضيت. قال: تحمل إليه ثلاثة آلاف دينار معجّلة. قال: قد فعلت، فأمر صاحب بيت المال أن يحملها معي، و أمر عبد اللّه بردها إلى بيت المال.

يعشق جارية و يحرمها فيعوضه المأمون:

حدّثني الصوليّ قال: حدّثني عون بن محمد قال:

كان محمد بن أبي أحمد اليزيديّ يعشق جارية لسحاب يقال لها عليا(2)، و كانت/من أظرف النساء لسانا و أحسنهن وجها و غناء، فأعطي بها ثلاثة آلاف دينار فلم تبع، و اشتراها المعتصم بخمسة آلاف دينار، و ذلك في خلافة المأمون، و كان عليّ بن الهيثم جونقا(3) صديقا لمحمد بن أبي أحمد اليزيديّ، فبلغ المأمون الخبر، فدعا محمدا، و قال: ما قصتك مع عليا؟ قال: قد قلت في ذلك أبياتا، فإن أذن أمير المؤمنين أنشدتها قال: هاتها فأنشده.

أشكو إلى اللّه حبي للعليّينا *** و أنني فيهم ألقي الأمرينا(4)

حسبي عليّا أمير المؤمنين فقد *** أصبحت حقّا أرى حبيّ له دينا

و حبّ خلّي و خلصاني(5) أبي حسن *** أعني عليّا قريع التغلبيينا

و رقتي(6) لبنيّ لي أصبت به *** وجدي به فوق وجد الآدميينا

و رابع قد رمى قلبي بأسهمه *** فجزت في حبه حدّ المحبينا

و بعض من لا أسمّي قد تملّكه *** فرحت عنه بما أعيا المداوينا

أتاه بالدين(7) و الدنيا تمكّنه *** فلم يدع لي لا دنيا و لا دنيا

ص: 379


1- أبو العباس كنية عبد اللّه بن طاهر.
2- في م، أ، هد: «علا».
3- كذا في س، ب. و في أ، م: «حونقا».
4- لأمرينا: لعلها تثنية أمر، و كسرت الراء للضرورة.
5- خلصاني: صفيي للواحد و الجمع.
6- مل: «و رحمتي».
7- في س، ب: «أتاه و الدين بالدنيا».

قال: فقال المأمون: لو لا أنه أبو إسحاق لانتزعتها منه، و لكن هذا ألف دينار فخذه عوضا، و لقيني المعتصم في الدار فقال لي: يا محمد، قد علمت ما آل إليه أمر فلانة، فلا تذكرنّها. فقلت: /السمع و الطاعة لأمرك.

ينظم شعرا اقترحه المأمون عليه:
اشارة

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدثنا أبو العباس محمد بن الحسن بن دينار مولى بني هاشم قال:

حدّثني جعفر بن محمد اليزيديّ عن أبيه محمد بن أبي محمد قال:

/كنت عند المأمون فقال لي: يا محمد، قل شعرا في نحو هذين البيتين:

صحيح يودّ السّقم كيما تعوده *** و إن لم تعده عاد عنها رسولها

ليعلم هل ترتاع عند شكاته *** كما قد يروع المشفقات خليلها؟

قال فقلت:

صحيح ودّ لو أمسى عليلا *** لتكتب أو يرى منكم رسولا

رآك تسومه الهجران حتى *** إذا ما اعتلّ كنت له وصولا

فودّضنا الحياة بوصل يوم *** يكون على هواك له دليلا

هما موتان موت هوى و هجر *** و موت الهجر شرّهما سبيلا

قال: فأمر لي بعشرة آلاف درهم.

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعيّ قال: حدّثني أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيديّ. عن أبيه قال: دخلت على المأمون و هو يشرب، و عنده عريب و محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر يغنّيانه، فقال: أطعموا محمدا شيئا، فقلت: قد بدأت بذلك في دار أمير المؤمنين، فقال: أما ترى كيف عتق هذا الشراب حتى لم يبق إلاّ أقلّه، ما أحسن ما قيل في قديم الشراب؟ فقلت: قول الحكميّ:

عتقت حتى لو اتّصلت *** بلسان ناطق و فم

لاحتبت في القوم ماثلة *** ثم قصّت قصّة الأمم

فقال: هذا كان في نفسي، ثم قال: اسقوا محمدا رطلين، و أعطوه عشرين ألف درهم، ثم نكت في الأرض و رفع رأسه ثم قال: يا محمّد:

إنّي و أنت رضيعا قهوة لطفت *** عنى العيان و دقّت عن مدى الفهم

لم نرتضع غير كأس درّها ذهب *** و الكأس حرمتها أولى من الرّحم

/قال: و الشّعر له قاله في ذلك الوقت.

و ممّا فيه غناء من شعر محمد بن أبي محمد، أنشدناه محمّد بن العباس عن عمّه عبيد اللّه عن أخيه أحمد:

صوت

أنت امرؤ متجنّ *** و لست بالغضبان

ص: 380

أنت امرؤ لك شأن *** فيما أرى غير شاني

صرّح بما عنه أكني *** أكفّ عنك لساني

حسبي(1) أسأت فهلا *** مننت بالغفران

و منها:

صوت

يا أحسن الأمّة في *** عيني أمّا ترحمني!

أ ما تراني كامدا *** موكلا بالحزن

أما ترى فيك مدا *** راتي لأهل الظنن

أصرف طرفي عنك خو *** فا منه أن يفضحني

يراني اللّه و ما *** ألغى و إن لم ترني

و ممن له شعر فيه صنعة من ولد أبي محمد اليزيدي لصلبه إبراهيم:

صوت

لا تلحني إن منحت عشقا *** من كان للعشق مستحقا

و لم يقدّم عليّ خلقا *** و لم أقدّم عليه خلقا

يملك رقّي و لست أبغي *** من ملكه ما حييت عتقا

لم أر فيمن هويت خلقا *** أعطف منه و لا أرقّا

الشعر لإبراهيم بن محمد اليزيديّ، و الغناء لأبي العبيس بن حمدون، خفيف ثقيل مطلق. و فيه لعريب رمل مزموم.

ص: 381


1- كذا في الأصول، و لعلها: «هبني أسأت».

12 - أخبار إبراهيم

خبر له مع عريب و قد نظم شعرا اقترحته عليه:

أخبرني عمي قال: حدّثني الفضل بن محمد اليزيديّ قال: حدثنا أحمد عن عمه إبراهيم قال:

كنت مع المأمون في بلد الروم، فبينا أنا في ليلة مظلمة شاتية ذات غيم و ريح و إلى جانبي قبة، فبرقت برقة و إذا في القبّة عريب. قالت: إبراهيم بن اليزيديّ؟ فقلت: لبيك! فقالت: قل في هذا البرق أبياتا ملاحا لأغنّي فيها، فقلت:

ما ذا بقلبي من أليم الخفق *** إذا رأيت لمعان البرق

من قبل الأردنّ أو دمشق *** لأنّ من أهوى بذاك الأفق

فارقته و هو أعز الخلق *** عليّ و الزّور خلاف الحق

ذاك الّذي يملك مني رقي *** و لست أبغي ما حييت عتقي

قال: فتنفست نفسا ظننته قد قطع حيازيمها، فقلت: ويحك على من هذا؟ فضحكت ثم قالت: على الوطن.

فقلت: هيهات! ليس هذا كلّه للوطن، فقالت: ويلك! أ فتراك ظننت أنك/تستفزني؟ و اللّه لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس، فادعاها أكثر من ثلاثين رئيسا، و اللّه ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا اليوم(1).

يقيم أياما بسيحان مع صديق، و يقول هناك شعرا:

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثني الفضل بن محمد اليزيديّ قال: حدّثني أخي عن عمي إبراهيم بن أبي محمد:

أنه كان مع المعتصم لما خرج إلى الغزو، قال فكتب في رفقه(2) فيها فتى من أهل البصرة، ظريف أديب شاعر راوية، فكان لي فيه أنس، و كنا لا تفترق حتى غزونا/و عدنا، فعاد إلى البصرة، و كان له بستان حسن بسيحان، فكان أكثر مقامه به، و عزم لي على الشخوص إلى البصرة لحاجة عرضت لي، فكان أكثر نشاطي لها من أجله، فوردتها، و نظرت فيما وردت له، ثم سألت عنه، و مضيت إليه، فكاد أن يستطار بي فرحا، و أقمت بسيحان معه أياما، و قلت في بعضها و قد اصطبحنا في بستانه:

يا مسعديّ بسيحان فديتكما *** حثّا المدامة في أكناف سيحانا

نهر كريم من الفردوس مخرجه *** بذاك خبّرنا من كان أنبانا

ص: 382


1- ف: «الوقت».
2- س، ب: «رقعة»، تحريف.

لا تحسداني رواحا أو مباكرة *** طيب المسير على سيحان أحيانا

بشطّ سيحان إنسان كلفت به *** نفسي تقي ذلك الإنسان إنسانا

ريّاه ريحاننا و الكأس معملة(1) *** لا شيء أطيب من ريّاه ريحانا

حثا شرابكما حتى أرى بكما *** سكرا فإني قد أمسيت سكرانا

ريّا الحبيب و كأس من معتّقه *** يهيّجان لنفس الصّبّ أشجانا

سقيا لسيحان من نهر و من وطن *** و ساكنيه من السكان من كانا

هم الذين عقدنا الودّ بينهم *** و بيننا و هم في دير مرّانا(2)

يدعو ابن أخيه محمدا شعرا إلى مجلس شراب:

أخبرني محمد بن العباس قال: حدّثني عمي عبيد اللّه عن جماعة من أهلنا:

أن إبراهيم بن أبي محمد اليزيديّ كان يعاشر أبا غسان، مولى منيرة؛ و كانت له جارية مغنية؛ يقال لها جاني؛ فدعاه يوما أبو غسان و جلسنا للشرب، فقال له: لو دعوت ابن أخيك - يعني محمد بن أبي محمد - لنأنس به فكتب إليه إبراهيم.

/يا أكرم الناس طرّا *** و أكرم(3) الفتيان

بادر إلينا لكيما *** تسقى(4) سلاف الدّنان

على غناء غزال *** مهفهف فتّان

اشرب على وجه جان *** شرابك الخسرواني(5)

فما لجان نظير *** و ما لها من مدان

إلاّ الّذي هو فرد *** و ما له من ثان

أعني الهلال لستّ *** في شهره و ثمان

للناس بدر منير *** يرى بكل مكان

و ما لنا غير بدر *** لدى أبي غسان

ذكراه في كل وقت *** موصولة بلساني

/سبيته و سباني *** فحبّه قد براني

من ثم لست تراني *** أصبو إلى إنسان

ص: 383


1- هد: «معلمة».
2- كفر مشرف على كفر طاب قرب المعرة، و دير قرب دمشق على تلّ مشرف على مزارع و رياض حسنة.
3- هد، مي: «و أظرف».
4- و في أ، م: نسقى.
5- الخسرواني: نوع من الشراب.
يستصلحه بعض إخوانه بعد جفوة فيقول في ذلك شعرا:

أنشدنا أبو عبيد اللّه(1) اليزيديّ عن عمه الفضل لإبراهيم بن أبي محمد اليزيديّ في بعض إخوانه، و قد رأى منه جفوة، ثم عاد و استصلح، فكتب إليه:

من تاه واحدة فته عشرا *** كي لا يجوز بنفسه القدرا

و إذا زها أحد عليك فكن *** أزهى عليه و لا تكن غمرا(2)

أ رأيت من لم ترج منفعة *** منه و لم تحذر له ضرا

/لم يستذلّ (3) و تستذلّ له *** بل كن أشد إذا زها كبرا

يعربد في مجلس شراب مع المأمون، ثم يعتذر إليه:

حدّثني عمي و الحسن بن عليّ قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أبي عن جعفر بن المأمون قال:

دخل إبراهيم بن أبي محمد اليزيديّ على أبي و هو يشرب، فأمره بالجلوس فجلس، و أمر له بشراب فشرب.

و زاد في الشراب فسكر و عربد، فأخذ عليّ بن صالح صاحب المصلّى بيده، فأخرجه، فلما أصبح كتب إلى أبي:

أنا المذنب الخطّاء و العفو واسع *** و لو لم يكن ذنب لمّا عرف العفو

ثملت فأبدت منّي الكأس بعض ما *** كرهت و ما إن يستوي السكر و الصحو

و لو لا حميا الكأس كان احتمال ما *** بدهت به لا شك فيه هو السّرو(4)

و لا سيما إذ كنت عند خليفة *** و في مجلس ما إن يجرز به اللغو

تنصلت من ذنبي تنصّل ضارع *** إلى من لديه يغفر العمد و السهو

فإن تعف عني تلف خطوي واسعا *** و إلاّ يكن عفو فقد قصر الخطو

يحجب عن هارون بن المأمون، فينظم في ذلك شعرا:

حدّثني عمي قال: حدثنا الفضل بن محمد اليزيديّ قال: جاء إبراهيم إلى هارون بن المأمون، فصادفه قد خلا هو و جماعة من المعتزلة. فلم يصل إليه و حجب عنه، فكتب إليه:

غلبت عليكم هذه القدريّه(5) *** فعليكم مني السّلام تحيه

آتيكم شوقا فلا ألقاكم *** و هم لديكم بكرة و عشيه

هارون قائدهم و قد حفّت به *** أشياعه و كفى بتلك بليه

ص: 384


1- كذا في ب، س. و في سائر النسخ: «عبد اللّه».
2- الغمر: الجاهل الّذي لم يجرب الأمور.
3- كذا في ب، س. أ، م: «يسترك» بمعنى يستضعف، استركه: استضعفه.
4- السرو: المروءة في شرف.
5- القدرية: جاحدة القدر.

لكنّ قائدنا الإمام و رأينا *** ما قد رآه فنحن مأمونيه

يكتب شعرا إلى ابن له أحب غلاما و أحب الغلام غيره:

أخبرني عمي قال: حدّثني الفضل قال:

كان لعمي إبراهيم ابن يقال له: إسحاق، و كان يألف غلاما من أولاد الموالي. فلما خرج المعتصم إلى الشام خرج إبراهيم معه، و خرج الغلام الّذي يألفه في العسكر، و عرف إبراهيم أنه قد صحب فتى من فتيان العسكر غير ابنه، فكتب عمي إبراهيم إلى ابنه:

قل لأبي يعقوب إن الّذي *** يعرفه قد فعل الحوبا(1)

كان محبا لك فيما مضى *** فالآن قد صادف محبوبا

يركب هذا ذا و ذا ذا فما *** ينفك تصعيدا و تصويبا

فرأس إسحاق فديناه قد *** أظهر شيئا كان محجوبا

/أرى قرونا قد تجلّلنه *** منصوبة شعّبن تشعيبا

أظنه يعجز عن حملها *** إذ ركّبت في الرأس تركيبا

يا رحمتا لابني على ضعفه *** يحمل منهن أعاجيبا!

يسأله ابن أخ له مزيدا من العناية به فيجيبه شعرا:

حدّثني عمي قال: حدّثني فضل اليزيديّ قال:

كتبت إلى عمي إبراهيم أستعين به في حاجة لي، و أستزيده من عنايته بأموري، و أطالبه أن يتوفر نصيبي لديه و فيما أبتغيه منه، فكتب إليّ:

فديتك لو لم تكن لي قريبا *** و كنت امرأ أجنبيّا غريبا

مع البر منك و ما يستجر(2) *** به مستخفا إليك اللبيبا

لما إن جعلت لخلق سوا *** ك مثل نصيبك مني نصيبا

/و كنت المقدّم ممن أودّ *** و ازداد حقك عندي وجوبا

تلطّف لما قد تكلمت فيه *** فما زلت في الحاج شهما نجيبا

و راوض أبا حسن إن رأي *** ت و احتل برفقك حتى يجيبا

فإن هو صار إلى ما تريد *** و إلاّ استعنت عليه الحبيبا

و ما لا يخالف ما تشتهيه(3) *** لتلفيه غير شك مجيبا

ص: 385


1- الحوب: الإثم.
2- يستجر: من استجر له بمعنى انقاد، و في ف: «تستجد».
3- ف: «و من لا يخالف ما أشتهيه».

يودك خاقان ودّا عجيبا *** كذاك الأديب يحب(1) الأديبا

و أنت تكافيه بل قد تزيد(2) *** عليه و تجمع فيه ضروبا

تثيب أخاك على الود منه *** و ذو اللب يأنف ألا يثيبا

و لا سيما إذ براه الإله *** كالبدر يدعو إليه القلوبا

يرى المتمنّي له ردفه *** كثيبا و أعلاه يحكي القضيبا

و قد فاق في العلم و الفهم منه *** كما تم ملحا(3) و حسنا و طيبا

و يبلغ فيما يقولون ليس *** يعاف إذا ناولوه القضيبا

و لكنه وافق الزاهدين *** فخاب و قد ظن أن لن يخيبا

و إن ركب المرء فيه هوا *** ه عاث فتطهيره أن يثوبا

إذا زارت الشاة ذئبا طبيبا *** فلا تأمننّ على الشاة ذيبا

و عند الطبيب شفاء السقيم *** إذا اعتلّ يوما و جاء الطبيبا

و لست ترى فارسا في الأنا *** م إلاّ و ثوبا بجيد الركوبا

شعره و قد زامل المأمون في سفر يحيى بن أكثم و مخنثا:

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثني عمي عبيد اللّه قال: و حدّثني أخي أحمد قال:

زامل المأمون في بعض أسفاره بين يحيى بن أكثم و عبّادة المخنّث، فقال عمي إبراهيم في ذلك:

و حاكم زامل عبّاده *** و لم يزل تلك له عاده

لو جاز لي حكم لما جاز أن *** يحكم في قيمة لبّاده(4)

كم من غلام عزّ في أهله *** وافت قفاه منه سجاده

يرمي يحيى بن أكثم باللواط:

و قال في يحيى أيضا:

/و كنا نرجّي أن نرى العدل ظاهرا *** فأعقبنا بعد الرجاء قنوط

متى تصلح الدنيا و يصلح أهلها *** و قاضي قضاة المسلمين يلوط!

يتمثل المأمون ببيت من هجائه ليحيى بن أكثم:

و أخبرني عمي حدثنا أبو العيناء قال:

ص: 386


1- ف: «يود».
2- ف: «بل لا يزيد».
3- ملحا: ملاحة و حسنا.
4- لبادة كرمانة: ما يلبس من اللبود للمطر.

نظر المأمون إلى يحيى بن أكثم يلحظ خادما له، فقال للخادم: تعرض له إذا قمت؛ فإني سأقوم للوضوء - و أمره ألا يبرح - و عد إليّ بما يقول لك، و قام المأمون، و أمر يحيى بالجلوس. فلما غمزه الخادم بعينه، قال يحيى:

لَوْ لاٰ أَنْتُمْ لَكُنّٰا مُؤْمِنِينَ (1) فمضى الخادم إلى المأمون فأخبره، فقال له: عد إليه فقل له: أَ نَحْنُ صَدَدْنٰاكُمْ عَنِ الْهُدىٰ بَعْدَ إِذْ جٰاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (1) فخرج الخادم إليه، فقال له ما أمره به المأمون، فأطرق يحيى و كاد يموت جزعا، و خرج المأمون و هو يقول:

متى تصلح الدنيا و يصلح أهلها *** و قاضي قضاة المسلمين يلوط!

/قم و انصرف، و اتق اللّه و أصلح نيتك(1).

يرتجل في مجلس المأمون بيت و يزيد المأمون بيتا عليه:

حدثنا اليزيديّ قال: حدّثني ابن عمي إسحاق بن إبراهيم بن أبي محمد اليزيديّ عن أبيه إبراهيم قال:

كنت عند المأمون يوما و بحضرته عريب، فقالت لي على سبيل الولع بي: يا سلعوس، و كان جواري المأمون يلقبنني بذلك عبثا، فقلت لها:

قل لعريب لا تكوني مسلعسه *** و كوني كتزيف و كوني كمونسه

فقال المأمون:

فإن كثرت منك الأقاويل لم يكن *** هنالك شك أنّ ذا منك وسوسة

قال: فقلت: كذا و اللّه يا أمير المؤمنين أردت أن أقول، و عجبت من ذهن المأمون.

و ممن غنّي في شعره من ولد أبي محمد اليزيدي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد
اشارة

فمن ذلك:

صوت

شوقي إليك على الأيام يزداد *** و القلب مذ غبت للأحزان معتاد

يا لهف نفسي على دهر فجعت به *** كأنّ أيامه في الحسن أعياد

الشعر لأحمد بن محمد بن أبي محمد، و الغناء لبحر هزج، و فيه ثاني ثقيل مطلق. ذكر الهشامي أنه لإسحاق، و ما أراه أصاب، و لا هو في جامع إسحاق، و لا يشبه صنعته.

طرف من أخباره:

و كان أحمد راوية لعلم أهله، فاضلا أديبا، و كان أسنّ ولد محمد بن أبي محمد، و كان أخوته جميعا يأثرون(2)

ص: 387


1- ف: «سريرتك».
2- يأثرون: يروون.

علوم جدهم و عمومتهم عنه، و قد أدرك أبا محمد، و أظن أنه قد روى عنه أيضا، إلاّ أني لم أذكر شيئا من ذلك وقت ذكرى إياه فأحكيه عنه.

يبيت عند ابن المأمون فيكتب إليه عمه شعرا:

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا الفضل بن محمد اليزيديّ قال: حدّثني أخي أبو جعفر قال:

كنت عند جعفر بن المأمون مقيما، فلما أردت الانصراف منعني، فبتّ عنده، و زارته لما أصبحنا عريب في جواريها؛ و بتّ فاحتبسها من غد؛ فاستطبت المقام أيضا فأقمت، فكتب إليّ عمي إبراهيم بن محمد اليزيديّ:

شردت يا هذا شرود البعير *** و طالت الغيبة عند الأمير

أقمت يومين و ليليهما *** و ثالثا تحبى ببرّ كثير

/يوم عريب مع إحسانها *** إن طالت الأيام يوم قصير

لها أغان غير مملولة *** منها و لا تخلق عند الكرور

غير ملوم يا أبا جعفر *** أن تؤثر اللهو و يوم السرور

فاجعل لنا منك نصيبا فما *** إن كنت عن مجلسنا بالنّفور

و صر إلينا غير ما صاغر *** أصارك الرحمن خير المصير

إن لم يكن عندي غناء و لا *** عود فعندي القمر(1) بالنردشير(2)

و الذّكر بالعلم الّذي قد مضى *** بأهله حادث صرف الدهور

و هو جديد عندنا نهجه *** أعلامه تحويه منا الصدور

فالحمد للّه على كل ما *** أولى و أبلى و لربّي الشّكور

يقترح عليه المعتصم شعرا في غلام وسيم:

حدثنا محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثني عمي الفضل قال: سمعت أخي أبا جعفر أحمد بن محمد يقول:

دخلت إلى المعتصم يوما و بين يديه خادم وضيء جميل وسيم، فطلعت عليه الشمس، فما رأيت أحسن منها على وجهه، فقال لي: يا أحمد، قل في هذا الخادم شيئا، وصف طلوع الشمس عليه و حسنها، فقلت:

قد طلعت شمس على شمس *** و طاب لي الهوى مع الأنس

و كنت أقلي الشمس فيما مضى *** فصرت أشتاق إلى الشمس

من شعره في الرد على اعتذار:

حدّثني اليزيديّ قال: حدّثني عمي الفضل قال:

ص: 388


1- قمره: كنصره، غلبه في القمار.
2- هو النرد: و يقال له، النردشير باسم واضعه أردشير بن بابك.

كتب إلى أخي بعض إخوانه ممن كان يألفه و يديم زيارته، ثم انقطع عنه - يعتذر إليه من تأخره عنه، فكتب إليه:

/إني امرؤ أعذر إخواني *** في تركهم برّي و إتياني

لأنه لا لهو عندي و لا *** لي اليوم جاه عند سلطان

و أكثر الإخوان في دهرنا *** أصحاب تمييز و رجحان

فمن أتاني منعما مفضلا *** فشكره عندي شكران

و من جفاني لم يكن لومه *** عندي و لا تعنيفه شاني

أعفو عن السيّئ من فعلهم *** و أتبع الحسنى بإحسان

حسب صديقي أنه واثق *** مني بإسراري و إعلاني

ينشد المأمون شعرا و هو لا يزال غلاما:

حدّثني اليزيديّ قال: حدّثني أبي عن عمي من أبي جعفر أحمد بن محمد قال:

دخلت على المأمون و هو في مجلس غاصّ بأهله - و أنا يومئذ غلام - فاستأذنت في الإنشاد، فأذن، فأنشدته مديحا لي مدحته به، و كان يستمع للشاعر ما دام في تشبيب أو وصف ضرب من الضروب، حتى إذا بلغ إلى مديحه لم يسمع منه إلاّ بيتين أو ثلاثة، ثم يقول للمنشد: حسبك ترفعا، فأنشدته:

يا من شكوت إليه ما ألقاه *** و بذلت من وجدي له أقصاه

فأجابني بخلاف ما أمّلته *** و لربما منع الحريص مناه

أ ترى جميلا أن شكا ذو صبوة *** فهجرته و غضبت من شكواه

/يكفيك صمت أو جواب مؤيس *** إن كنت تكره وصله و هواه

موت المحب سعادة إن كان من *** يهواه يزعم أن ذاك رضاه

فلما صرت إلى المديح قلت:

أبقى لنا اللّه الإمام و زاده *** عزّا إلى العز الّذي أعطاه

فاللّه مكرمنا بأنا معشر *** عتقاء من نعم العباد سواه

/فسرّ بذلك و ضحك، و قال: جعلنا اللّه و إياكم ممن يشكر النعمة، و يحسن العمل.

ينشد المأمون شعرا و هو يريد الغزو:

أخبرنا محمد بن العباس قال: حدّثني أبي عن أخيه أبي جعفر قال:

دخلت يوما على المأمون بقارا(1)، و هو يريد الغزو فأنشدته شعرا مدحته فيه؛ أوله:

ص: 389


1- كذا بالنسخ، و لم أعثر على موضع بهذا الاسم.

يا قصر ذا النّخلات من بارا(1) *** إني حللت إليك من قارا

أبصرت أشجارا على نهر *** فذكرت أشجارا و أنهارا

للّه أيام نعمت بها *** بالقفص(2) أحيانا و في بارا

إذ لا أزال أزور غانية *** ألهو بها و أزور خمّارا

لا أستجيب لمن دعا لهدى *** و أجيب شطّارا و دعّارا

أعصي النصيح و كلّ عاذلة *** و أطيع أوتارا و مزمارا

قال: فغضب المأمون، و قال: أنا في وجه عدو، و أحض الناس على الغزو، و أنت تذكّرهم نزهة بغداد؟ فقلت: الشيء بتمامه، ثم قلت:

فصحوت بالمأمون عن سكري *** و رأيت خير الأمر ما اختارا

و رأيت طاعته مؤدية *** للفرض إعلانا و إسرارا

فخلعت ثوب الهزل عن عنقي *** و رضيت دار الجدّ لي دارا

و ظللت معتصما بطاعته *** و جواره و كفى به جارا

إن حلّ أرضا فهي لي وطن *** و أسير عنها حيثما سارا

/فقال له يحيى بن أكثم: ما أحسن ما قال يا أمير المؤمنين! أخبر أنه كان في سكر و خسار، فترك ذلك و ارعوى، و آثر طاعة خليفته، و علم أن الرشد فيها؛ فسكن و أمسك.

يجيز بيتا للمأمون في غلام المعتصم:

حدّثني الصوليّ قال: حدّثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن أبيه قال:

دعا المعتصم ذات يوم المأمون فجاءه، فأجلسه في بيت على سقفه جامات، فوقع ضوء الشمس من وراء تلك الجامات على وجه سيما التركي غلام المعتصم، و كان المعتصم أوجد الناس به، و لم يكن في عصره مثله، فصاح المأمون يا أحمد بن محمد اليزيديّ - و كان حاضرا - فقال: انظر إلى ضوء الشمس على وجه سيما التركي، أ رأيت أحسن من هذا قط؟ و قد قلت:

قد طلعت شمس على شمس *** و زالت الوحشة بالأنس

أجز يا أحمد، فقلت:

قد كنت أشنا الشمس فيما مضى *** فصرت أشتاق إلى الشمس

ص: 390


1- في «معجم البلدان»: باري بكسر الراء: قرية من أعمال كلواذ من نواحي بغداد، و كان بها بساتين و متنزهات، يقصدها أهل البطالة.
2- القفص، بالضم ثم بالسكون: قرية مشهورة بين بغداد و عكبرا، قريب من بغداد. و كانت من مواطن اللهو و معاهد النزه و مجالس الفرح، ينسب إليها الخمور الجيدة و الحانات الكثيرة.

/قال: و فطن المعتصم، فعضّ على شفته لأحمد(1)، فقال أحمد للمأمون: و اللّه لئن لم يعلم الحقيقة من أمير المؤمنين لأقعنّ معه فيما أكره، فدعاه المأمون فأخبره الخبر، فضحك المعتصم. فقال له المأمون: كثر اللّه في غلمانك(2) مثله، إنما استحسنت شيئا فجرى ما سمعت لا غيره.

يعدد المأمون الحقوق الّتي توجب عليه مراعاته له:
اشارة

حدّثني الصوليّ قال: حدّثني عون بن محمد قال: حدّثني أحمد بن محمد اليزيديّ قال:

كنا بين يدي المأمون، فأنشدته مدحا، فقال: لئن كانت حقوق أصحابي تجب عليّ لطاعتهم بأنفسهم فإن أحمد ممن تجب له المراعاة لنفسه و صحبته، و لأبيه و خدمته، و لجدّه/و قديم خدمته و حرمته، و إنه للعريق في خدمتنا، فقلت: قد علّمتني يا أمير المؤمنين كيف أقول، ثم تنحيت و رجعت إليه، فأنشدته:

لي بالخليفة أعظم السبب *** فبه أمنت بوائق العطب

ملك غذتني كفّه و أبي *** قبلي و جدّي كان قبل أبي

قد خصّني الرحمن منه بما *** أسمو به في العجم و العرب

فضحك، و قال: قد نظمت يا أحمد ما نثرناه.

هذا آخر أخبار اليزيديين و أشعارهم الّتي فيها صنعة.

صوت

صوت(3)

أ في كلّ يوم أنت من غبر الهوى *** إلى الشّمّ من أعلام ميلاء ناظر

بعمشاء من طول البكاء كأنما *** بها خزر أو طرفها متخازر

عروضه من الطويل، و الغبر: البقية من الشيء، يقال: فلان في غبر من علته. و أكثر ما يستعمل في هذا و نحوه، و الشمّ: الطوال، و الأعلام جمع علم و هو الجبل، قالت الخنساء:

و إن صخرا لتأتمّ الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار

و الخزر: ضيق العين و صغرها، و منه سمي الخزر بذلك لصغر أعينهم، قال الراجز:

إذا تخازرت و ما بي من خزر *** ثم كسرت الطرف من غير عور

و الشعر(4) لرجل من قيس يقال: كعب، و يلقب بالمخبل. و الغناء لإبراهيم، ثقيل أول بالوسطى. و من الناس من يروي الشعر لغير هذا الرجل و ينسبه إلى ذي الرمة، و يجعل فيه مية مكان ميلاء، و يقال: إن اللحن لابن المكيّ، و قد نسب إلى غيرهما، و الصحيح ما ذكرناه أولا.

ص: 391


1- ف: «على أحمد».
2- ف: «في غلمان غلمانك».
3- الصوت و ما وليه من نسختي هد، مل، و قد ورد جزء منه في م.
4- المراد بالشعر البيتان الواردان في الصوت.

13 - أخبار المخبل القيسي و نسبه

اشارة

13 - أخبار المخبل القيسي و نسبه(1)

حبة بنتي عم له:

قال عبد اللّه بن أبي سعد الوراق - فيما أخبرني به حبيب بن نصر المهلّبيّ، إجازة عنه -: حدّثني عليّ بن الصباح بن الفرات، قال: أخبرني عليّ بن الحسن بن أيوب النبيل، عن رباح بن قطيب بن زيد الأسديّ، قال:

كانت عند رجل من قيس يقال له: كعب - بنت عمّ له، و كانت أحبّ الناس إليه فخلا بها ذات يوم فنظر إليها و هي واضعة ثيابها، فقال: يا أم عمرو، هل ترين أن اللّه خلق أحسن منك؟ قالت: نعم، أختى ميلاء، هي أحسن مني.

ينكشف حبه فيرحل و لا يدري مكانه:

قال: فإني أحب أن انظر إليها، فقالت: إن علمت بك لم تخرج إليك، و لكن كن من وراء السّتر، ففعل، و أرسلت إليها فجاءتها، فلما نظر إليها عشقها و انتظرها حتى راحت إلى أهلها، فاعترضها فشكا إليها حبّها، فقالت:

و اللّه يا بن عمّ، ما وجدت من شيء إلاّ و قد وقع لك في قلبي أكثر منه. و واعدته مرة أخرى، فأتتهما أم عمرو و هما لا يعلمان، فرأتهما جالسين، فمضت إلى إخوتها - و كانوا سبعة - فقالت: إما أن تزوجوا ميلاء كعبا، و إما أن تكفوني أمرها. و بلغهما الخبر، و وقف إخوتها على ذلك، فرمى بنفسه نحو الشام حياء منهم، و كان منزله و منزل أهله الحجاز، فلم يدر أهله و لا بنو عمه أين ذهب، فقال كعب:

شعره في أرض الغربة:

أ في كلّ يوم أنت من لاعج الهوى *** إلى الشّمّ من أعلام ميلاء ناظر

بعمشاء من طول البكاء كأنما *** بها خزر أو طرفها متخازر

تمنّى المنى حتى إذا ملّت المنى *** جرى واكف من دمعها متبادر

كما ارفضّ عنها بعد ما ضمّ ضمة *** بخيط الفتيل اللؤلؤ التناثر

تدل رواية شعره على مكانه:

قال: فرواه عنه رجل من أهل الشام، ثم خرج بعد ذلك الشاميّ يريد مكة، فاجتاز بأم عمرو و أختها ميلاء، و قد ضل الطريق، فسلم عليهما ثم سألهما عن الطريق، فقالت أم عمرو: يا ميلاء(2)، صفي له الطريق، فذكر - لما نادت: يا ميلاء - شعر كعب هذا، فتمثل به، فعرفت أم عمرو الشعر، فقالت: يا عبد اللّه، من أين أنت؟ قال: رجل من أهل الشام. قالت: من أين رويت هذا الشعر؟ قال: رويته عن أعرابي بالشام، قالت: أو تدري ما اسمه؟ فقال: سمعت أنه كعب، فأقسمت عليه: لا تبرح حتى تعرّف إخوتنا بذلك فنحسن إليك نحن و هم، و قد أنعمت

ص: 392


1- هذه الترجمة لم ترد في طبعة بولاق، و وردت في ملحق برنو، و موضعها هنا حسب المخطوطات المعتمدة.
2- في س، ب: «ملاء»، و هو تحريف.

علينا. قال: أفعل، و إني لأروي له شعرا آخر، فما أدري أ تعرفانه أم لا؟ فقالت: نسألك باللّه أسمعتنا، قال: سمعته يقول:

شعر آخر له في أرض الغربة:

خليليّ قد قست الأمور و رمتها *** بنفسي و بالفتيان كلّ زمان

فلم أخف سوءا للصديق و لم أجد *** خليّا و لا ذا البث يستويان

من الناس إنسانان ديني عليهما *** مليئان(1) لو شاءا لقد قضياني

خليليّ أمّا أمّ عمرو فمنهما *** و أما عن الأخرى فلا تسلاني

بلينا بهجران و لم أر مثلنا *** من الناس إنسانين يهتجران

أشدّ مصافاة و أبعد من قلى *** و أعصى لواش حين يكتفيان

تحدّث طرفانا بما في صدورنا *** إذا استعجمت بالمنطق الشفتان

فو اللّه ما أدري أ كلّ ذوي الهوى *** على ما بنا أو نحن مبتليان؟

فلا تعجبا مما بي اليوم من هوى *** فبي كلّ يوم مثل ما تريان

خليليّ عن أيّ الّذي كان بيننا *** من الوصل أم ماضي الهوى تسلان؟

و كنا كريمي معشر حمّ بيننا *** هوى فحفظناه بحسن صيان

/سلاه بأم العمرو من هي إذ بدا *** به سقم جمّ و طول ضمان(2)

فما زادنا بعد المدى نقض مرّة(3) *** و لا رجعا من علمنا ببيان

خليليّ لا و اللّه ما لي بالذي *** تريدان من هجر الحبيب يدان

و لا لي بالبين اعتلاء إذا نأت *** كما أنتما بالبين معتليان

يعود به ابن عمه من الشام و يموت غما:

قال: و نزل الرجل و وضع رحلة حتى جاء إخوتهما، فأخبراهم الخبر، و كانوا مهتمين بكعب، و كان كعب أظرفهم و أشعرهم، فأكرموا الرجل و حملوه على راحلة و دلّوه على الطريق، و طلبوا كعبا فوجدوه بالشام، فأقبلوا به، حتى إذا كانوا في ناحية ماء أهلهم إذا الناس قد اجتمعوا عند البيوت، و كان كعب ترك بنيّا له صغيرا، فزحمه غلام منهم في ناحية الماء، فقال له كعب: ويحك يا غلام! من أبوك؟ فقال: رجل يقال له: كعب، قال: و على أيّ شيء قد اجتمع الناس؟ و أحسّ قلبه بالشرّ. قال: اجتمعوا على خالتي ميلاء. قال: و ما قصتها؟ قال: ماتت. فزفر زفرة مات منها مكانه، فدفن حذاء قبرها.

من شعره في الشام:

قال: و قال كعب و هو بالشام:

أ حقّا عباد اللّه أن لست ماشيا *** بمرحاب حتى يحشر الثقلان

ص: 393


1- المليئان: مثنى المليء، و هو الغني المقتدر، و الفعل: ملؤ.
2- ضمان: مرض ملازم، يشتد وقتا بعد وقت، ضمن، بفتح فكسر، فهو ضمن كفرح.
3- المرة، بكسر الميم و تشديد الراء: القتل، و هي أيضا القوة. أمر الحبل: شد فتله.

و لا لاهيا يوما إلى الليل كلّه *** ببيض لطيفات الخصور رواني(1)؟

يمنّيننا حتى تريع(2) قلوبنا *** و يخلطن مطلا ظاهرا بليان

فعينيّ يا عينيّ حتّام أنتما *** بهجران أمّ العمرو و تختلجان؟

أ ما أنتما إلاّ عليّ طليعة *** على قرب أعدائي كما تريان

/فلو أنّ أم العمرو أضحت مقيمة *** بمصر و جثماني بشحر(3) عمان

إذا لرجوت اللّه يجمع شملنا *** فإنّا على ما كان ملتقيان(4)

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
اختلاف الرواة في نسبة صوت من شعره:

من الناس إنسانان ديني عليهما *** مليئان لو شاءا لقد قضياني

خليليّ أما أمّ عمرو فمنهما *** و أما عن الأخرى فلا تسلاني

عروضه من الطويل، الشعر - على ما في هذا الخبر - لكعب المذكورة قصته، و روى المفضل بن سلمة و أبو طالب بن أبي طاهر هذين البيتين مع غيرهما لابن الدّمينة الخثعميّ. و الغناء لإبراهيم الموصلي، خفيف رمل بالوسطى، ذكره أبو العبيس عنه، و ذكر ابن المكي أنه لعلّويه. و الأبيات الّتي ذكرنا أن المفضل بن سلمة و ابن أبي طاهر روياها لابن الدّمينة مع البيتين اللذين فيهما الغناء هي:

من الناس إنسانان ديني عليهما *** مليئان لو شاءا لقد قضياني

خليليّ أمّا أمّ عمرو فمنهما *** و أما عن الأخرى فلا تسلاني

منوعان ظلاّمان ما ينصفانني *** بدليهما و الحسن قد خلباني

من البيض نجلاء العيون غذاهما *** نعيم و عيش ضارب بجران(5)

أ في كلّ يوم أنت رام بلادها *** بعينين إنسانا هما غرقان؟

/إذا اغرورقت عيناي قال صحابتي *** لقد أولعت عيناك بالهملان

و قد روي أيضا أن هذا البيت:

أ في كلّ يوم أنت رام بلادها

ص: 394


1- الرواني، جمع الرانية: الطروب اللاهية مع شغل قلب و غلبه هوى.
2- تريع: تفزع.
3- الشحر، بفتح أو كسر فسكون: صقع على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن. قال الأصمعي: هو بين عدن و عمان. (معجم ياقوت، و القاموس).
4- كذا في هد، و في ب، س: «ملتفتان».
5- الجران من البعير، بوزن كتاب: مقدم عنقه، و عيش ضارب بجران: مستقر ثابت.

لعروة بن حزام:

ألا فاحملاني بارك اللّه فيكما *** إلى حاضر الرّوحاء(1) ثم ذراني

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثني أبو سعيد القيسي، قال: حدّثني سليمان بن عبد العزيز، قال:

حدّثني خارجة المالي قال: حدّثني من رأى عروة بن حزام يطاف به حول البيت، قال: فقلت له: من أنت؟ قال: أنا الّذي أقول:

أ في كلّ يوم أنت رام بلادها *** بعينين إنسانا هما غرقان؟

ألا فاحملاني بارك اللّه فيكما *** إلى حاضر الرّوحاء ثم ذراني

فقلت: زدني، قال: لا، و لا حرف.

التغني بالصوت المنسوب إليه يهيج الواثق للإيقاع بشخصين:

و يقال: إن الّذي هاج الواثق على القبض على أحمد بن الخصيب و سليمان بن وهب أنه غنّى - هذا الصوت - أعني:

من الناس إنسانان ديني عليهما

فدعا خادما كان للمعتصم، ثم قال له: أصدقني و إلاّ ضربت عنقك. قال: سل يا أمير المؤمنين عما شئت، قال: سمعت أبي و قد نظر إليك يتمثّل بهذين البيتين، و يومئ إليك إيماء تعرفه، فمن اللذان عني؟ قال، قال لي:

إنه وقف على إقطاع أحمد بن الخصيب و سليمان بن وهب ألفي دينار، و أنه يريد الإيقاع بهما. فكان كلما رآني /يتمثل بهذين البيتين. قال: صدقني و اللّه، و اللّه لا سبقاني بهما(2) كما سبقاه، ثم أوقع بهما.

و أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال: نظر الواثق إلى أحمد بن الخصيب يمشي، فتمثّل:

من الناس إنسانان ديني عليهما

و ذكر البيتين، و أشار بقوله:

خليليّ أمّا أم عمرو فمنهما

إلى أحمد بن الخصيب. فلما بلغ هذا سليمان بن وهب، قال: إنا للّه! أحمد بن الخصيب و اللّه أمّ عمرو، و أنا الأخرى. قال: و نكبهما بعد أيام. و قد قيل: إن محمد بن عبد الملك الزيات كان السبب في نكبتهما.

رواية أخرى لسبب إيقاع الواثق بصاحبيه:
اشارة

أخبرنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عون بن محمد الكنديّ، قال: كانت الخلافة أيام الواثق تدور على إيتاخ، و على كاتبه سليمان بن وهب، و على أشناس و كاتبه أحمد بن الخصيب، فعمل الوزير محمد بن عبد الملك الزيات قصيدة، و أوصلها إلى الواثق على أنها لبعض أهل العسكر، و هي:

ص: 395


1- الروحاء: موضع بين الحرمين، على ثلاثين أو أربعين ميلا من المدينة.
2- في س: «بها»، و هو تحريف.

يا بن الخلائف و الأملاك إن نسبوا *** حزت الخلافة عن آبائك الأول

أجرت أم رقدت عيناك عن عجب *** فيه البريّة من خوف و من وهل

ولّيت أربعة أمر العباد معا *** و كلّهم خاطب في حبل محتبل(1)

هذا سليمان قد ملّكت راحته *** مشارق الأرض من سهل و من جبل

/ملّكته السند فالشّحرين من عدن *** إلى الجزيرة فالأطراف من ملل(2)

خلافة قد حواها وحده فمضت *** أحكامه في دماء القوم و النّفل(3)

و ابن الخصيب الّذي ملّكت راحته *** خلافة الشام و الغازين(4) و القفل(5)

فنيل مصر فبحر الشام قد جريا *** بما أراد من الأموال و الحلل

كأنهم في الّذي قسّمت بينهم *** بنو الرشيد زمان القسم للدّول

حوى سليمان ما كان الأمين حوى *** من الخلافة و التبليغ للأمل

و أحمد بن خصيب في إمارته *** كالقاسم بن الرشيد الجامع السبل

أصبحت لا ناصح يأتيك مستترا *** و لا علانية خوفا من الحيل

سل بيت مالك أين المال تعرفه *** و سل خراجك عن أموالك الجمل(6)

كم في حبوسك ممّن لا ذنوب لهم *** أسرى التكذّب في الأقياد(7) و الكبل(8)

سمّيت باسم الرشيد المرتضى فبه *** قس الأمور الّتي تنجي من الزلل

عث فيهم ما عاثت يداه معا *** على البرامك بالتهديم للقلل

فلما قرأ الواثق الشعر غاظه و بلغ منه، و نكب سليمان بن وهب و أحمد بن/الخصيب، و أخذ منهما و من أسبابهما ألف ألف دينار، فجعلها في بيت المال، فقال أحمد بن أبي فنن:

نزلت بالخائنين سنه(9) *** سنة للناس ممتحنه

سوّغت ذا النصح بغيته *** و أزالت دولة الخونه(10)

فترى أهل العفاف بها *** و هم في دولة حسنه

ص: 396


1- المحتبل: آخذ الصيد بالحبالة.
2- ملل: موضع في طريق مكة بين الحرمين.
3- النفل، بالتحريك: الغنيمة.
4- الغازين: لعل المراد بهما غاز الكنز، و هو موضع بجبل أبي قبيس، و غاز المعرة بأرض اليمامة، لبني جشم بن الحارث.
5- القفل: ثنية تطلع على قرن المنازل حيال الطائف.
6- الجمل: جمع جملة، و هي جماعة الشيء.
7- الأقياد: جمع القيد، لما يجعل في رجل الدابة و غيرها، فيمسكها.
8- الكبل، كسهل: القيد أعظم ما يكون، و حرك الباء اتباعا، و جمعه كبول و أكبل.
9- السنة: الجدب. و المراد هنا المحنة.
10- هذا البيت زيادة من هد.

و ترى من جار همّته *** أن يؤدّي كل ما احتجنه(1)

و قال إبراهيم بن العباس لابن الزيات:

إيها(2) أبا جعفر و للدهر كرّ *** رات و عما يريب متّسع

أرسلت ليثا على فرائسه *** و أنت منها فانظر متى تقع

لكنّه قوته و فيك له *** و قد تقضّت أقواته شبع

و هي أبيات، و قد كان أحمد بن أبي دواد(3) حمل الواثق على الإيقاع بابن الزيات و أمر علي بن الجهم فقال فيه:

لعائن(4) اللّه موفّرات *** مصبّحات و مهجّرات

على ابن عبد الملك الزّيات *** عرّض شمل الملك للشتات

يرمي الدواوين بتوقيعات *** معقّدات غير مفتوحات

أشبه شيء برقي الحيات *** كأنّها بالزيت مدهونات

/بعد ركوب الطوف(5) في الفرات *** و بعد بيع الزيت بالحبات

سبحان من جلّ عن الصفات *** هارون يا بن سيّد السادات

أما ترى الأمور مهملات(6) *** تشكو إليك عدم الكفاة(7)

و هي أبيات، فهمّ الواثق بالقبض على ابن الزيات، و قال: لقد صدق، قائل هذا الشعر، ما بقي لنا كاتب.

فطرح نفسه على إسحاق بن إبراهيم، و كانا مجتمعين على عداوة بن أبي دواد، فقال للواثق: أمثل ابن الزيات - مع خدمته و كفايته - يفعل به هذا، و ما جنى عليك و ما خانك، و إنما دلّك على خونة أخذت ما اختانوه، فهذا ذنبه!.

و بعد، فلا ينبغي لك أن تعزل أحدا أو تعد مكانه جماعة يقومون مقامه، فمن لك بمن يقوم مقامه؟ فمحا ما كان في نفسه عليه و رجع له.

و كان إيتاخ صديقا لابن أبي دواد، فكان يغشاه كثيرا، فقال له بعض كتابه: إن هذا بينه و بين الوزير ما تعلم، و هو يجيئك دائما، و لا تأمن أن يظن الوزير بك ممالأة عليه؛ فعرّفه ذلك، فلما دخل ابن أبي دواد إليه خاطبه في هذا المعنى، فقال: إني و اللّه ما أجيئك متعززا بك من ذلة، و لا متكثّرا من قلّة، و لكن أمير المؤمنين رتّبك رتبة أوجبت لقاءك، فإن لقيناك فله، و إن تأخرنا عنه فلنفسك، ثم خرج من عنده فلم يعد إليه.

ص: 397


1- احتجنه: احتواه و ضمه إلى نفسه.
2- إيها: كلمة استزادة و استنطاق.
3- في ب س: «داود»، و هو تحريف.
4- اللعائن: جمع اللعينة، و هي الشدة يلعنها كل أحد.
5- الطوف: قرب ينفخ فيها، و يشد بعضها إلى بعض كهيئة السطح، يركب عليها في الماء و يحمل عليها.
6- في س، ب: «مهمولات»، و هو تحريف.
7- الكفاة: جمع الكافي، و هو الّذي يكفي و يغني عن غيره.

و في هذه القصة أخبار كثيرة يطول ذكرها، ليس هذا موضعها، و إنما ذكرنا هاهنا هذا القدر منها كما يذكر الشيء بقرائنه.

صوت

عش فحبّيك سريعا قاتلي *** و الضّنى إن لم تصلني واصلي

ظفر الشوق بقلب دنف *** فيك و السّقم بجسم ناحل

فهما بين اكتئاب و ضنى *** تركاني كالقضيب الذابل

الشعر لخالد الكاتب، و الغناء للمسدود، رمل مطلق في مجرى الوسطى، و ذكر جحظة أن هذا الرمل أخذ عنه، و أنه أول صوت سمعه فكتبه.

ص: 398

14 - أخبار خالد الكاتب

اشارة

14 - أخبار خالد الكاتب(1)

وطنه و أصله و سبب إصابته بالوسواس:

هو خالد بن يزيد، و يكنى أبا الهيثم، من أهل بغداد، و أصله من خراسان، و كان أحد كتاب الجيش.

و وسوس في آخر عمره، قيل إن السّوداء غلبت عليه، و قال قوم: كان يهوى جارية لبعض الوجوه ببغداد فلم يقدر عليها، و ولاّه محمد بن عبد الملك الإعطاء في الثغور، فخرج فسمع في طريقه منشدا ينشد، و مغنّية تغنّي:

من كان ذا شجن بالشام يطلبه *** ففي سوى الشام أمسى الأهل و الشجن

فبكى حتى سقط على وجهه مغشيا عليه، ثم أفاق مختلطا. و اتصل ذلك حتى وسوس و بطل.

كيف اتصل بعلي بن هشام و إبراهيم بن المهدي؟:

و كان اتصل بعليّ بن هشام(2) و إبراهيم بن المهدي و كان سبب اتصاله بعليّ بن هشام(2) أنه صحبه في وقت خروجه إلى قمّ، في جملة كتّاب الإعطاء، فبلغه و هو في طريقه أن خالدا يقول الشعر، فأنس به و سرّ به، و أحضره(3) فأنشده قوله:

يا تارك الجسم بلا قلب *** إن كنت أهواك فما ذنبي؟

يا مفردا بالحسن أفردتني *** منك بطول الهجر و العتب

إن تك عيني أبصرت فتنة *** فهل على قلبي من عتب(4)

حسيبك اللّه لما بي كما *** أنك في فعلك بي حسبي

/للمسدود في هذه الأبيات رمل طنبوري مطلق من رواية الهشامي، قال: فجعله علي بن هشام في ندمائه إلى أن قتل.

كيف اتصل بالمعتصم؟:

ثم صحب الفضل بن مروان، فذكره للمعتصم و هو بالماحوزة(5) قبل أن يبني سرّ من رأى، فقال خالد:

عزم السرور على المقا *** م بسرّمن رأى للإمام

بلد المسرّة و الفتو *** ح المستنيرات العظام

و تراه أشبه منزل *** في الأرض بالبلد الحرام

فاللّه يعمره بمن *** أضحى به عزّ الأنام

ص: 399


1- هذه الترجمة لم ترد في بولاق، و توجد في ملحق برنو، و موضعها هنا على حسب المخطوطات المعتمدة.
2- - (2) زيادة من م: هد، يستقيم بها المعنى، و في «المختار» مكانها: «و ذلك».
3- في «المختار»: «فأحضره فاستنشده».
4- في «المختار»: «ذنب».
5- الماحوزة: موضع قرب سامرا.

فاستحسنها الفضل بن مروان و أوصلها إلى المعتصم قبل أن يقال في بناء سرّ من رأى شيء، فكانت أول ما أنشد في هذا المعنى من الشعر، فتبرّك بها و أمر لخالد بخمسة آلاف درهم.

و ذكر ذلك كلّه إسماعيل بن يحيى الكاتب، و ذكر اليوسفيّ صاحب الرسائل أن خالدا قال أيضا في ذلك:

بيّن صفو الزمان عن كدره *** في ضحكات الربيع عن زهره

يا سرّمن رأى بوركت من بلد *** بورك في نبته و في شجره

غرس جدود الإمام ينبته(1) *** بابك و المازيار من ثمره

فالفتح و النصر ينزلان به *** و الخصب في تربه و في شجره

فغنى مخارق في هذه الأبيات، فسأله المعتصم: لمن هذا الشعر؟ فقال: لخالد يا أمير المؤمنين، قال: الّذي يقول:

/كيف ترجى لذاذة الاغتماض *** لمريض من العيون المراض!

فقال محمد بن عبد الملك: نعم يا أمير المؤمنين، هو له، و لكن بضاعته لا تزيد على أربعة أبيات، فأمر له المعتصم بأربعة آلاف درهم، و بلغ خالدا الخبر، فقال لأحمد بن عبد الوهاب صاحب محمد بن عبد الملك - و قيل لأبي جعفر - أعزه اللّه: إذا بلغت المراد في أربعة أبيات فالزيادة فضل.

يداخل الشعراء في القصائد. و كان أول صاحب مقطعات:

قال اليوسفيّ: و لمّا قال خالد في صفة سرّ من رأى قصيدته الّتي يقول فيها:

اسقني في جرائر(2) و زقاق *** لتلاقي(3) السرور يوم التلاق

من سلاف كأنّ في الكأس منه *** عبرات من مقلتي مشتاق

في رياض بسرّمن رأى إلى الكر *** خ و دعني من سائر الآفاق

بادّكارات كل فتح عظيم *** لإمام الهدى أبي إسحاق

و هي قصيدة(4)، لقيه دعبل فقال: يا أبا الهيثم، كنت صاحب مقطعات فداخلت الشعراء في القصائد الطوال و أنت لا تدوم على ذلك، و بوشك أن تتعب بما ما تقول و تغلب عليه. فقال له خالد: لو عرفت النّصح منك لغيري لأطعتك في نفسي.

خلافة مع الحلبي الشاعر و هجاؤه إياه:

قال اليوسفيّ: و حدّثني أبو الحسن الشهرزانيّ: أن خالدا وقع بينه و بين الحلبي الشاعر الّذي يقول فيه البحتريّ:

سل الحلبيّ (5) عن حلب

ص: 400


1- كذا في ف، و في س، ب: نكبتها، و هو تحريف.
2- جرائر: جمع جرار، و جرار: جمع جرة.
3- كذا في ف، و في س: «لتلافي»، و هو تحريف.
4- ت، س: «قصيرة» تحريف.
5- كذا في «الديوان»، و في س، ب: «الحي»، و هو تحريف، و عجز البيت: و عن تركانه حلبا

/خلاف في معنى شعر، فقال له الحلبيّ: لا تعد طورك فأخرسك! فقال له خالد: لست هناك، و لا فيك موضع للهجاء، و لكن ستعلم أني أجعلك ضحكة سرّ من رأى. و كان الحلبيّ من أوسخ الناس، فجعل يهجو جبّته و ثيابه و طيلسانه، فمن ذلك قوله:

و شاعر ذي منطق رائق *** في جبّة كالعارض البارق

قطعاء شلاّء(1) رقاعيّة(2) *** دهريّة مرقوعة(3) العاتق

قدّمها العري على نفسه *** لفضلها في القدر السابق(4)

و قوله:

و شاعر مقدم له قوم *** ليس عليهم في نصره لوم

قد ساعدوه في الجوع كلّهم *** فقرى فكلّ غداؤه الصوم

يأتيك في جبّة مرقعة *** أطول أعمار مثلها يوم

و طيلسان كالآل يلبسه *** على قميص كأنه غيم

من حلب في صميم سفلتها *** غناه فقر و عزّه ضيم

قال: و قال فيه:

تاه على ربّه فأفقره *** حتى رآه الغنى فأنكره

فصار من طول حرفة(5) علما *** يقذفه الرزق حيث أبصره

يا حلبيّا قضى الإله له *** بالتّيه و الفقر حين صوّره

/لو خلطوه بالمسك(6) وسّخه *** أو طرحوه في البحر كدّره

يستنشده إبراهيم بن المهدي شعرا فيجيزه:
اشارة

حدّثني جحظة، قال: حدّثني خالد الكاتب، قال: دخلت على إبراهيم بن المهديّ فاستنشدني، فقلت: أيها الأمير، أنا غلام أقول في شجون نفسي، لا أكاد أمدح و لا أهجو، فقال: ذلك أشدّ لدواعي البلاء، فأنشدته:

صوت

عاتبت نفسي في هوا *** ك فلم أجدها تقبل

و أطعت داعيا إليك *** و لم أطع من يعذل

ص: 401


1- شلاء: وصف من الشلل، و هو أن يصيب الثوب سواد، و لا يذهب بغسله.
2- رقاعية: كثيرة الرقاع.
3- كذا في ف، هد. و في ب، س: «مفرقة».
4- ورد هذا البيت زيادة من هد.
5- الحرفة، بضم الحاء و كسرها: الحرمان، و سوء الحظ.
6- ب، س: «الملك» تحريف.

لا و الّذي جعل الوجو *** ه لحسن وجهك تمثل

لا قلت إن الصبر عن *** ك من التصابي أجمل

لجحظة في هذه الأبيات رمل مطلق بالوسطى.

قال: فبكى إبراهيم و صاح: واى(1) عليك بإبراهيم، ثم أنشدته أبياتي الّتي أقول فيها:

و بكى العاذل من رحمتي *** فبكائي لبكا العاذل

و قال إبراهيم: يا رشيق، كم معك من العين؟ قال: ستمائة و خمسون دينارا. قال: اقسمها بيني و بين الفتى، و اجعل الكسر له صحيحا، فأعطاني ثلاثمائة و خمسين دينارا، فاشتريت بها منزلي بساباط(2) الحسن و الحسين، فواراني إلى يومي هذا.

يستوهبه علي بن الجهم بيتا من شعره:

حدّثني جحظة، قال: حدّثني خالد الكاتب قال: قال لي عليّ بن الجهم: هب لي(3) بيتك الّذي تقول فيه:

ليت ما أصبح من رقّ *** ة خدّيك بقلبك

فقلت: يا جاهل، هل رأيت أحدا يهب ولده.

يتعاطي الهجاء:

و قال أحمد بن إسماعيل الكاتب: لقيت خالدا الكاتب ذات يوم فسألته عن صديق له، و كان قد باعده و لم أعلم، فأنشأ يقول:

ظعن الغريب لغيبة الأبد *** حتى المخافة نأتي البلد

حيران يؤنسه و يكلؤه *** يوم توعّده بشرّ غد

سنح الغراب له بأنكر ما *** تغدو النحوس به على أحد

و ابتاع أشأمه بأيمنه(4) *** الجدّ العثور له يدا بيد

حتى ينيخ بأرض مهلكة *** في حيث لم يولد و لم يلد

جزعت حليلته عليه فما *** تخلو من الزفرات و الكمد

نزل الزمان بها فأهلكها *** منه و أهدى اليتم للولد

ظفرت به الأيام فانحسرت *** عنه بناقرة(5) و لم تكد

ص: 402


1- كذا في ف: زاد ألفا بعد الواو، و رسم عليها سكونا، كأنه يصور مد الصوت بالكلمة حسين صاح بها إبراهيم. و في «المختار»: «وى»، و معناها في الموضعين: أعجب، و في س: «واثي»، و هو تحريف.
2- في «المختار»: «بساباط». و في «معجم البلدان»: ساباط كسرى بالمدائن: موضع معروف.
3- في «المختار»: «باللّه هب لي».
4- كذا في ف، و في ب، س: «أيمنه بأشأمه»، و هو تخليط.
5- الناقرة: الداهية.

فتركن منه بعد طيّته *** مثل الّذي أبقين من لبد(1)

قال، فقلت له: يا أبا الهيثم مذ كم دخلت في قول الهجاء؟ قال: مذ سالمت فحوربت، و صافيت فتوقفت.

شعره في غلام نافس أبا تمام في حبه:

و قال الرياشي: كان خالد مغرما بالغلمان المرد، ينفق عليهم كلّ ما يفيد، فهوي غلاما يقال له: عبد اللّه، و كان و تمام الطائي يهواه، فقال فيه خالد:

قضيب بان جناه ورد *** تحمله و جنة و خدّ

لم أثن طرفي إليه إلاّ *** مات عراء و عاش وجد

ملّك طوع النفوس حتّى(2) *** علّمه الزهو حين يبدو

و اجتمع الصدّ فيه حتّى *** ليس لخلق سواه صدّ

فبلغ أبا تمام ذلك فقال فيه أبياتا منها:

شعرك هذا كلّه مفرط(3) *** في برده يا خالد البارد

فعلمها(4) الصبيان، فلم يزالوا يصيحون به: يا خالد يا بارد حتى وسوس، قال: و من الناس من يزعم أن هذا السبب كان بينه و بين رجل غير أبي تمام، و ليس الأمر كذلك.

هجاؤه أبا تمام:

[و كان خالد](5) قد هجا أبا تمام في هذه القصّة فقال فيه:

يا معشر المرد إني ناصح لكم *** و المرء في القول بين الصدق و الكذب

لا ينكحنّ حبيبا منكم أحد *** فإنّ وجعاءه(6) أعدى من الجرب

لا تأمنوا أن تحولوا بعد ثالثة *** فتركبوا عمدا ليست من الخشب

يستنشده إبراهيم بن المهدي حين بويع و يستمع شعره:

حدّثني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدّثني الحسن بن إسحاق قال: حدّثني خالد الكاتب، قال: لما بويع إبراهيم بن المهدي بالخلافة طلبني - و قد كان يعرفني - و كنت/متّصلا ببعض أسبابه، فأدخلت إليه فقال: أنشدني يا خالد شيئا من شعرك، فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس شعري من الشعر الّذي قال فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنّ من الشّعر لحكما»، و إنما أمزح و أهزل، فقال: لا تقل هذا، فإنّ جدّ الأدب و هزله جدّ، هات أنشدني، فأنشدته:

عش فحبّيك سريعا قاتلي *** و الضّنى إن لم تصلني واصلي

ص: 403


1- لبد: آخر نسور لقمان. و كانت سبعة، كلما هلك نسر خلفه نسر حتى هلكت كلها.
2- في «المختار»: «كيف» تحريف.
3- في «المختار»: «مفرط كله».
4- في «المختار»، هد: «فعلقها».
5- ما بين العلامتين زيادة من المختار تصلح بها العبارة.
6- الوجعاء: الدبر.

ظفر الشوق بقلب دنف(1) *** فيك و السّقم بجسم ناحل

فهما بين اكتئاب و ضنى *** تركاني كالقضيب الذابل

قال: فاستملح ذلك و وصلني.

رثي راكبا قصبة و الصبيان يصيحون به:

حدّثني حمزة بن أبي سلالة الشاعر الكوفيّ، قال دخلت بغداد في بعض السنين فبينا أنا(2) مارّ بجنينة إذا أنا برجل عليه مبطنة نظيفة، و على رأسه قلنسية(3) سوداء، و هو راكب قصبة، و الصبيان خلفه يصيحون به: يا خالد يا بارد، فإذا آذوه حمل عليهم بالقصبة، فلم أزل أطردهم عنه حتى تفرقوا، و أدخلته بستانا هناك، فجلس و استراح، و اشتريت له رطبا فأكل، و استنشدته فأنشدني:

قد حاز قلبي فصار يملكه *** فكيف أسلو و كيف أتركه!

رطيب جسم كالماء تحسبه *** يخطر في القلب منه مسلكه

يكاد يجري من القميص من الن *** عمة لو لا القميص يمسكه

فاستزدته، فقال: لا، و لا حرف(4).

يخلع ثيابا أعطيها على غلام يحبه، و يقول فيه شعرا:

و ذكر عليّ بن الحسين بن أبي طلحة عن أبي الفضل الكاتب - أنه دعا خالدا ذات يوم فأقام عنده. و خلع عليه، فما استقر به المجلس حتى خرج، قال: فأتبعته رسولا ليعرف خبره، فإذا هو قد جاء إلى غلام(5) كان يحبه، فسأل(6) عنه فوجده في دار القمار، فمضى إليه حتى خلع عليه تلك الثياب و قبّله و عانقه و عاد إلينا، فلما جاء خالد أعطيت(7) الغلام الّذي وجّهنا(8) به دنانير و دعاه(9) فجاء به إلينا، و أخفيناه و سألنا خالدا عن خبره فكتمه و جمجم(10)، فغمزنا الرسول فأخرجه علينا، فلما رآه خالد بكى و دهش، فقلنا له: لا ترع، فإن من القصة كيت و كيت، و إنما أردنا أن نعرف خبرك لا أن نسوءك، فطابت نفسه و أجلسه إلى جنبه، و قال: قد بليت بحبّه و بالخوف عليه مما قد بلي به من القمار، ثم أنشد لنفسه فيه:

محبّ شفّه ألمه *** و خامر جسمه سقمه

و باح بما يجمجمه *** من الأسرار مكتتمه

ص: 404


1- الدنف: الّذي يلازمه المرض.
2- في «المختار»: «أنا مار إذا».
3- في «المختار»: قلنسوة، و هي بضم السين إذا فتحت القاف، و بكسر السين إذا ضمت القاف.
4- في «المختار»: «و لا حرفا».
5- في «المختار»: «غلام أمرد».
6- كذا في «المختار». و في ب، س: «فسئل عنه فوجده في دار القمار».
7- كذا في «المختار»، و في س: «فلما جاز خالد أعطاه الغلام»، و هو تحريف.
8- في «المختار»: «عرفنا خبره».
9- في «المختار»: «ليجيء بالغلام».
10- جمجم الكلام: لم يبينه.

أ ما ترثي لمكتئب *** يحبّك لحمه و دمه

يغار على قميصك *** حين تلبسه و يتّهمه

من شعره في الشوق:

و ذكر عليّ بن الحسين أيضا أن محمد بن السريّ حدّثه أنه أطال الغيبة عن بغداد و قد وسوس خالد، فمرّ به في الرّصافة و الصبيان يصيحون به: يا غلام الشريطيّ يا خالد البارد، و يرجع إليهم فيضربهم و يزيد و يرميهم، قال: فقلت له: كيف أنت يا أبا الهيثم؟ /قال: كما ترى! فقلت له: فمن تعاشر اليوم؟ قال: من أحذره، فعجبت من جوابه مع اختلاله، فقلت له: ما قلت بعدي من الشعر؟ قال: ما حفظه الناس و أنسيته، و على ذلك قولي:

كبد شفها غليل التصابي *** بين عتب و سخطة و عذاب(1)

كلّ يوم تدمي بجرح من الشو *** ق و نوع مجدّد من عذاب

يا سقيم الجفون أسقمت جسمي *** فاشفني كيف شئت، لا بك ما بي

إن أكن مذنبا فكن حسن العف *** و أو اجعل سوى الصّدود عقابي

ثم قال: يا أبا جعفر، جننت بعدك، فقلت: ما جعلك اللّه مجنونا؛ و هذا كلامك لي و نظمك.

حدّثني محمد بن الطلاس أبو الطيب، قال: حضرت جنازة بعض جيراني، فلقيت خالدا في المقبرة فقبضت عليه، و قلت: أنشدني، فذهب ليهرب مني، فغمزت على يده غمزة أوجعته، فقال: خلّ عني أنشدك، فأرخيت يدي عن يده، فأنشدني:

لم تر عين نظرت *** أحسن من منظره

النور و النّعمة و النّ *** عمة(2) في مخبره

لا تصل الألسن بال *** وصف إلى أكثره

كيف بمن تنتسب الش *** مس إلى جوهره!

ينشد شعرا لأبي تمام، ثم ينشد شعرا عارضه به:

حدّثني عمّي - رحمه اللّه - قال: مرّ بنا خالد الكاتب هاهنا و الصبيان خلفه يصيحون به، فجلس إليّ فقال:

فرّق هؤلاء عني، فقلت، و ألحّت عليه جارية تصيح: يا خالد يا بارد، فقال لها:

/مرّي يا منتنة الكسّ، و يا من كسها دس(3). فقلت له: يا أبا الهيثم، أيّ شيء معنى «دس» هاهنا؟ قال:

تشتهي الأير الصغير و الكبير و الوسط، و لا تكره منها شيئا و أقبل الصبيان يصيحون بتلك الجارية بمثل ما قال لها خالد، و هي ترميهم و تهرب منهم حتى غابوا معها عنا، فأقبل عليّ خالد متمثلا فقال:

ص: 405


1- في «المختار»، هد: «و عتاب».
2- النعمة بفتح النون: اسم من التنعم، و هو: الترفه.
3- في «المختار»: «رس»، و لم أعثر على التفسير الّذي ذكره خالد اللفظين فيما رجعت إليه من «المعاجم»، و العبارة مثبتة في النسخ على نظام الشعر، و ليست منه، و لا لها وزن من أوزانه المعروفة، و هي في «المختار» على هيئة النثر.

و ما أنا في أمري(1) و لا في خصومتي *** بمهتضم حقّي و لا قارع سنّي(2)

فاحتبسته عندي(3) يومي ذلك. فلما شرب و طابت نفسه، أنشده لأبي تمام:

أحبابه لم تفعلون بقلبه *** ما ليس يفعله به أعداؤه؟

مطر من العبرات خدّي أرضه *** حتى الصباح و مقلتاي سماؤه

نفسي فداء محمد و وقاؤه *** و كذبت، ما في العالمين فداؤه

أ زعمت أنّ البدر يحكي وجهه *** و الغصن حين يميد فيه ماؤه؟

أسكت(4) فأين بهاؤه(5) و كماله *** و جماله(6) و حياؤه و ضياؤه؟

لا تقر أسماء الملاحة باطلا *** فيمن سواه فإنها أسماؤه

/ثم قال: و قد عارضه أبو الهيثم - يعني خالدا نفسه - فقال:

فديت محمدا من كل سوء(7) *** يحاذر في رواح أو غدوّ

أيا قمر السماء سفلت حتى *** كأنك قد ضجرت من العلوّ

رأيتك من حبيبك(8) ذا بعاد *** و ممّن لا يحبك ذا دنوّ

و حسبك حسرة لك من حبيب *** رأيت زمامه بيدي(9) عدوّ

هكذا أخبرني عمي عن خالد، و هذه الأبيات أيضا تروي لأبي تمام.

يبعث بشعر إلى صديق له عليل:

و قال ابن أبي طلحة: حدّثني الهلاليّ، قال: مررت بخالد و حوله جماعة ينشدهم فقلت له: يا أبا الهيثم، سلوت عن صديقك(10)، قال: لا و اللّه. قلت: فإنه عليل و ما عدته، فسكت ساعة ثم رفع رأسه إليّ، و قال:

زعموا أنني صحوت(11) و كلاّ *** أشهد اللّه أنني لن أملاّ

كيف صبري يا من إذا ازدادنيها *** أبدا زدته خضوعا و ذلا؟

ثم قال: احفظه و أبلغه عني:

ص: 406


1- في «المختار»: «حقي».
2- هد، مل: «بمهتضم حقي و لا سالم خصمي».
3- في «المختار»: «يومه عندي».
4- في «المختار»: «أقصر».
5- في «المختار»: «جماله».
6- في «المختار»: «بهاؤه».
7- كذا في «المختار»، و في س: «سو»، و هو تحريف.
8- في «المختار»: «محبك».
9- في «المختار»: «بيد العدو».
10- في «المختار»، هد: «صديقك فلان».
11- في «المختار»: «مللت».

بجسمي لا بجسمك يا عليل *** و يكفيني من الألم القليل

تعدّاك السّقام إليّ إني *** على ما بي لعاديه(1) حمول

إذا ما كنت يا أملي صحيحا *** فحالفني(2) و سالمك النحول

/أ لست شقيق ما ضمّت ضلوعي *** على أني لعلّتك العليل

من شعره في غلام يحبه:

قال: و حدّثني العباس بن يحيى أنهم كانوا عند عليّ بن المعتصم، فغني في شعر لخالد، فأمر بإحضاره و طلب فلم يوجد، فوجّه إلى غلام كان يتعشقه فأحضر، و سأله عنه فدلّ عليه، و قال: كنّا نشرب إلى السحر، و قد مضى إلى حمام فلان، و هو يخرج و يجلس عند فلان الفقاعي، و دكانه مألف للغلمان المرد و المغنين، فبعث إليه فأحضر، فلما جلس أخرج عليّ بن المعتصم الغلام؛ و قال: هذا دلّنا عليك؛ و هو يزعم أنك تعشقه، فقال له الغلام:

نعم أيها الأمير، لو لم يكن من فضيحته(3) إياي إلاّ أنه إذا لم يوجد أحضرت و سئلت(4) عنه، فأقبل عليه خالد و قال:

يا تارك الجسم بلا قلب *** إن كنت أهواك فما ذنبي؟

يا مفردا بالحسن أفردتني *** منك بطول الشوق و الحبّ

إن تك عيني أبصرت فتنة *** فهل على قلبي من عتب؟

حسيبك اللّه لما بي كما *** أنك في فعلك بي حسبي

لجحظة فيه رمل، فاستحسن عليّ الشعر، و أمر له بخمسين دينارا.

يعتذر إلى غلام أعرض عنه:
اشارة

قال: حدّثني ابن أبي المدوّر أنه شهد خالدا عند عبد الرحيم بن الأزهر الكاتب، و أنه دخل عليهم غلام من أولاد الكتاب، فلما رأى خالدا أعرض عنه، فقلت له: لم أعرضت عن أبي الهيثم؟ فقال: و اللّه لو علمت أنّه هاهنا ما دخلت إليكم، ما يبالي إذا شرب هذين القدحين ما قال و لا من هتك، فقال لي خالد: أ لا تعينني على ظالمي؟ فقلت: بلى و اللّه أعينك، فأقبل على الفتى و قال:

صوت

هبني أسأت فكان ذن *** بي مثل ذنب أبي لهب

فأنا أتوب و كم أسأ *** ت و كم أسأت و لم تتب

فما زلنا مع ذلك الفتى نداريه و نستعطفه له حتى أقبل عليه و كلّمه و حادثه، فطابت نفسه، و سرّ بقية يومه.

ص: 407


1- كذا في «المختار»، و من معاني العادي: المعتدي. و في س: «لعادته»، و هو تحريف.
2- في س: «فخالفني»، و هو تحريف.
3- في س: في نصيحة، و هي بادية التحريف.
4- في س: «سألت»، و هو تحريف أيضا.

في هذين البيتين لأبي العبيس خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى، و لرذاذ خفيف رمل مطلق.

شعره في تفاحة معضوضة:

و حدّثني عبد اللّه بن صالح الطوسيّ أن عليّ بن المعتصم دعا خالدا يوما و هو يشرب، و قد أخرجت إليه وصيفة من وصفاء حظيّته تفّاحة معضوضة مغلّفة بعثت بها إليه ستّها، فقال:

تفاحة خرجت بالدّر من فيها *** أشهى إليّ من الدنيا و ما فيها

بيضاء في حمرة علّت بغالية *** كأنما قطفت من خدّ مهديها

جاءت بها قينة من عند غانية *** روحي من السوء و المكروه تفديها

لو كنت ميتا و نادتني بنغمتها *** إذا لأسرعت من لحدي ألبّيها

فاستحسن عليّ بن المعتصم الأبيات، و غنّي فيها، و أمر بتخت(1) ثياب و خمسين دينارا.

ص: 408


1- التخت: وعاء تصان فيه الثياب.

15 - أخبار المسدود

اشارة

15 - أخبار المسدود(1)

اسمه و كنيته و موطنه:

المسدود من أهل بغداد، و كان منزله في ناحية درب المفضّل، في الموضع المعروف بخراب المسدود، منسوب إليه.

و أخبرني جحظة أن اسمه الحسن، و كنيته أبو عليّ، و أن أباه كان قصّابا، و أنه كان مسدود فرد منخر و مفتوح الآخر، و كان يقول: لو كان منخري الآخر مفتوحا لأذهلت بغنائي أهل(2) الحلوم و ذوي الألباب، و شغلت من سمعه(3) عن أمر دينه و دنياه و معاشه و معاده.

أشجى الناس صوتا و أحضرهم بديهة:
اشارة

قال جحظة: و كان أشجى الناس صوتا و أحضرهم(4) نادرة، و لم يكتسب أحد من المعنّين بطنبور ما كسبه، و كان مع يساره و قلة نفقته يقرض بالعينة(5) و كانت له صنعة عجيبة، أكثرها الأهزاج. قال جحظة: قال لي مخارق غلامه: قال لي، و قد صنع هذين البيتين و هما جميعا هزج:

صوت

من رأى العيس عليها الرّحال *** إضم(6) قصد لها أم أثال(7)؟

لست أدري حيث حلّوا و لكن *** حيثما حلّوا فثمّ الجمال

و الآخر:

عج بنا نجن بطرف *** العين تفّاح الخدود

و نسلّ القلب عمّن *** حظّنا منه الكدود(8)

ص: 409


1- هذه الترجمة لم ترد في بولاق، و هي في ملحق برنو، و موضعها هنا على حسب المخطوطات المعتمدة.
2- في «المختار»: «ذوي الحلوم و الآداب»: و في هد: «لأذهلت بغنائي أهل الأرض و دوي الحلوم».
3- هد: «و شغلت من يسمعني».
4- ب: «و أحذره نادرة».
5- كذا في «المختار». و في س، ف: «بالعنية»، و هو تحريف. و في هامش س: «قوله: بالعنية، لعل الأصل: بالعينة، و هي ضرب من الربا. قال ابن الأثير: و سميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة، لأن العين هو المال الحاضر من النقد، و المشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه معجلة. و قال في «لسان العرب»: و العين و العينة: الربا غير الناجز، أخذ بالعينة و أعطى بها. و العينة: السلف».
6- إضم، كعنب: أسفل الوادي الّذي به مدينة الرسول، صلّى اللّه عليه و سلّم.
7- أثال، كغراب: اسم لبلدة، و لغيرهما من المسميات.
8- هد: «الصدود».

ثم قال: و اللّه لا تركت بعدي من يهزج. قال جحظة: و اللّه ما كذب!.

ينفيه الواثق إلى عمان:

أخبرني جحظة، قال: كان الواثق قد أذن لجلسائه ألا يردّ أحد نادرة عن أحد يلاعبه(1)، فغنى الواثق يوما:

نظرت كأنّي من وراء زجاجة *** إلى الدار من ماء الصبابة انظر

و قد كان النبيذ عمل فيه و في الجلساء فانبعث(2) إليه المسدود فقال: أنت تنظر أبدا من وراء زجاجة، إن كان في عينيك(3) ماء صبابة أو لم يكن، فغضب الواثق من ذلك و كان في عينيه بياض، ثم قال: خذوا برجل العاضّ بظر(4) أمه، فسحب من بين يديه. ثم قال: ينفى إلى عمان الساعة، فنفي من وقته و حدر/و معه الموكّلون(5). فلما سلّموه إلى صاحب البصرة، سأله أن يقيم عنده يوما و يغنّيه، ففعل.

يأبى الغناء لأمير البصرة فيرسله إلى عمان:

فلما جلسوا للشراب ابتدأ فقال: احذروني يا أهل البصرة على حرمكم، فقد دخلت إلى بلدكم و أنا أزنى خلق اللّه. قال: فقال له الجمّاز: أما يعني(6) أنه أزنى خلق اللّه أمّا، فغضب المسدود، و ضرب بطنبوره الأرض و حلف ألا يغنّي، فسأله الأمير أن يقيم عنده و أمر بإخراج الجماز و كلّ من حضر، فأبى و لجّ فأحدره إلى عمان.

يشتاقه الواثق فيكتب في إحضاره:

و مكث الواثق(7) لا يسأل عنه سنة، ثم اشتاقه فكتب في إحضاره، فلما جاءه الرسول و وصل إلى الواثق قبّل الأرض بين يديه، فاعتذر من هفوته و شكر التفضل عليه. فأمره بالجلوس ثم قال له: حدّثني بما رأيت بعدي.

فقال: لي حديث ليس في الأرض أظرف(8) منه، و أعاد عليه حديثه بالبصرة. فقال له الواثق: قبحك اللّه ما أجهلك! ويلك! فأنت سوقة و أنا ملك، و كنت صاحيا و كنت منتشيا و بدأت القوم فأجابوك، فبلغ بك الغضب ما ذكرته و ما بدأتك فتجيبني، و بدأتني - من المزح - بما لا يحتمله النظير لنظيره، ويلك! لا تعاود ممازحة خليفة و إن أذن لك في ذلك، فليس كل أحد يحضره حلمه كما حضرني فيك.

يهجو الواثق في رقعة و يقدمها إليه خطأ:

أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدّثني عون بن محمد، قال: سمعت حمدون بن إسماعيل يقول:

لم يكن في الخلفاء أحد أحلم من الواثق، و لا أصبر على أذى و خلاف. و كان/يعجبه غناء أبي حشيشة

ص: 410


1- في «المختار» و «التجريد»: «و لا عنه».
2- في «المختار» و «التجريد»: «فالتفت».
3- كذا في «المختار»، و في س: «عينك»، و هو تحريف.
4- البظر: ما بين شفري الفرج.
5- كذا في «المختار»، و في ب: «المؤكلون»، و هو تحريف.
6- في «المختار»: «إنه يعني أنه...» و في «التجريد»: «إنما يعني».
7- زيادة من «المختار» يتضح بها الكلام.
8- في «المختار»: «أطرف».

الطّنبوريّ، فوجد المسدود من ذلك، فكان يبلغه عنه ما يكره و يتجاوز عنه(1). و كان المسدود قد هجاه ببيتين، فكانا معه في رقعة، و في رقعة أخرى حاجة له(2) يريد أن يرفعها إليه، فغلط بين الرقعتين، فناوله رقعة الشّعر و هو يرى أنها رقعة الحاجة، فقرأها و فيها:

من المسدود في الأنف *** إلى المسدود في العين

أنا طبل له شقّ *** فيا طبلا بشقّين

فلما قرأ الرقعة علم أنها فيه، فقال للمسدود: خلطت(3) في الرقعتين، فهات الأخرى و خذ هذه و احترز(4) من مثل هذا، و اللّه ما زاده على هذا القول.

من أجوبته الموجعة:
اشارة

أخبرني جحظة، قال: تحدث المسدود في مجلس المنتصر بحديث، فقال له المنتصر: متى كان ذلك؟ قال:

ليلة لا ناه و لا زاجر، يعرّض له بليلة قتل فيها المتوكل(5)، فأغضى(6) المنتصر و احتمله.

قال: و قالت الذكورية يوما بين يدي المعتمد: غنّ يا مسدود، قال: نعم يا مفتوحة! و قالت له امرأة: كيف آخذ إلى شجرة بابك؟ قال: قدّامك، أطعمك(7) اللّه من ثمرها.

قال: و غنى بين يدي المتوكل، فسكّته و قال لبكران الشيري(8): تغنّ أنت، فقال المسدود: أنا(9) أحتاج إلى مستمع، فلم يفهم المتوكل ما قال.

/و قدّم إليه طبّاخ المتوكل طبقا و عليه رغيفان، ثم قال له: أيّ شيء تشتهي حتى أجيئك به؟ قال: خبزا، فبلغ ذلك المتوكل، فأمر بالطباخ فضرب مائتي مقرعة.

قال جحظة: و حدّثني بعض الجلساء أنه لما وضع الطباخ الرغيفين بين يديه قال له المسدود: هذا حرز فأين(10)النير؟ قال و دعاه بعض الرؤساء(11) فأهدى له برذونا أشهب(12)، فارتبطه ليلته، فلما كان من غد نفق، و بعث إليه يدعوه بعد ذلك، فكتب: أنا لا أمضي إلى من يعرف آجال الدواب، فيهب ما قرب أجله منها.

قال: و استوهب من بعض الرؤساء وبرا، فأعطاه سمّورا قد قرع بعضه، فردّه و قال: ليس هذا سمورا، هذا أشكر(13).

ص: 411


1- كذا في «المختار». و سقطت (عنه) في س. و في ف: «فيتجاوز».
2- في «المختار» و «التجريد» و ف: «لامرأة تريد أن ترفعها».
3- في «المختار» و «التجريد»: «غلطت».
4- في «المختار» و «التجريد» و ف و هد: «و احترس».
5- في «التجريد»: «المتوكل و أن ذلك كان بأمره».
6- هد: «فأحفظ».
7- في ف: «أطعمك من ثمرها».
8- في ف: «الشيزي». و في هد: «لشكران الشاري».
9- كذا في ف. و في ب: «لغناء أحتاج»، و هو تحريف.
10- الحرز: العوذة. و النير: هدب الثوب، و الخيوط إذا اجتمعت، و في ف: «هذا جور، فأين التين»، و لا معنى له.
11- كذا في ف. و في ب، س: «و دعاه بجار حداه أو غيره»، و هو تحريف.
12- الأشهب: الأبيض يتخلل بياضه سواد.
13- أشكر: لعله وصف من شكر النخل: إذا نبت الشكير حول أصوله، و هو فراخه، و الشكير أيضا: الصغير الشعر.
صوت

أجدّك ما تعفو كلوم مصيبة *** على صاحب إلاّ فجعت بصاحب

تقطّع أحشائي إذا ما ذكرتهم *** و تنهلّ عيني بالدموع السواكب

عروضه من الطويل، الشعر لسلمة بن عياش، و الغناء لحكم، و له فيه لحنان: رمل بالبنصر، و هزج بالوسطى(1).

ص: 412


1- كذا في هد، مل. و هو الموافق للترجمة التالية، و ورد في ب، س مكانه صوت في ثلاثة أبيات، هي: كلانا يرى الجوزاء يا جمل إذ بدت و نجم الثريا و المزار بعيد فكيف بكم يا جمل أهلا و دونكم بحور يقمصن السفين و بيد؟ إذا قلت قد حان القفول يصدنا سليمان عن أهوائنا و سعيد الشعر لمسعود بن خرشة المزني، و الغناء لبحر. خفيف، ثقيل بالوسطى، عن الهشامي.

16 - أخبار سلمة بن عياش

ولاؤه و عصره و من انقطع لمدحه:

سلمة بن عياش مولى بني حسل بن عامر بن لؤي. شاعر بصريّ من مخضرمي الدولتين، و كان يتديّن و يتصون(1)، و انقطع إلى جعفر و محمد ابني سليمان بن علي بن عبد اللّه بن عباس، و مدحهما فأكثر و أجاد.

من مدحه:
اشارة

و ممّا مدحهما به و فيه غناء قوله:

صوت

أرقت و طالت ليلتي بأبان(2) *** لبرق سرى بعد الهدوء يمان

يضيء بأعلام المدينة همّدا *** إلى أمج(3) فالطلح(4) طلح قنان

غنى في هذين البيتين دحمان، و لحنه ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، قال: و فيه لحن لعطرّد يقول فيها:

وردت خليجي جعفر و محمد *** و كلّ بديء(5) من نداه سقاني

و إني لأرجو جعفرا و محمدا *** لأفضل ما يرجى له ملكان

هما ابنا رسول اللّه و ابنا ابن عمّه *** فقد كرم الجدّان و الأبوان

شعر يعزى إليه:
اشارة

و منها ما ذكره محمد بن داود بن الجراح قوله:

صوت

أنار بدت وهنا(6) لعينك ترمض(7) *** ببغداد أم سار من البرق مومض؟

يضيء سناه مكفهرّا كأنه *** حناتم(8) سود أو عشار(9) تمخّض

ص: 413


1- في «المختار»: «يتصوف، و كان منقطعا إلى جعفر».
2- أبان: جبل عنده نخل و ماء.
3- أمج: موضع بعينه.
4- الطلح: موضع بين المدينة و بدر، و آخر بين اليمامة و مكة.
5- البديء: العجيب.
6- الوهن من الليل: نحو منتصفه.
7- ترمض: تشتعل، من أرمض الشيء: أي أحرقه.
8- الحناتم: جمع حنتم، و هي الجرة الخضراء.
9- العشار: جمع عشراء، بضم ففتح، و هي: الناقة الّتي مضى لحملها عشرة أشهر، أو ثمانية.

غنى فيهما عطرّد ثقيلا أول؛ بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق يقول فيها:

و لو لا انتظاري جعفرا و نواله *** لما كان في بغداد ما أتبرّض(1)

و قد وجدت هذا الشعر لابن المولى في جامع شعره من قصيدة له، و أظن ذلك الصحيح، لا ما ذكر محمد بن داود من أنها لسلمة بن عياش.

يرفد الفرزدق ببيت من الشعر حين أجبل في قصيدة:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثنا عمر بن شبة و غيره، قال: قال سلمة بن عياش - و ذكر محمد بن داود، عن عسل بن ذكوان، عن أبي حاتم، عن الأصمعيّ، عن سلمة بن عياش مولى بني عامر بن لؤيّ - قال: دخلت على الفرزدق السجن، و هو محبوس، و قد قال قصيدته:

إنّ الّذي سمك السماء بنى لنا *** بيتا دعائمه أعزّ و أطول

/و قد أفحم و أجبل(2)، فقلت له: أ لا أرفدك(3)؟ فقلت: و هل ذاك عندك؟ فقلت: نعم، ثم قلت:

بيت زرارة محتب بفنائه *** و مجاشع و أب الفوارس نهشل

فاستجاد البيت و غاظه قولي له، فقال لي: ممن أنت؟ فقلت: من قريش، فقال: كل أير حمار من قريش! فمن أيّها أنت؟ قلت: من بني عامر بن لؤي، قال: لئام و اللّه رضعة(4)، جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم(5)، فقلت: ألأم و اللّه منهم قومك و أرضع. جاء رسول مالك بن المنذر و أنت سيدهم و شاعرهم، فأخذ بأذنك يقودك حتى احتبسك فما اعترضه أحد، و لا نصرك، فقال: قاتلك اللّه ما أكرمك(6)! و أخذ البيت، فأدخله في قصيدته.

يتغزل في بربر المغنية، فتوهب له:

أخبرنا وكيع، قال: أخبرني محمد بن سعد الكرّانيّ، قال: حدثنا سهل بن محمد، قال: حدّثني العتبيّ، قال كان سلمة بن عياش و أبو سفيان بن العلاء عند محمد بن سليمان، و جارية تغنّيهم و تسقيهم يقال لها: بربر، فقال سلمة:

إلى اللّه أشكو ما ألاقي من القلى *** لأهلي و ما لاقيت من حبّ بربر

على حين ودّعت الصبابة و الصبا *** و فارقت أخداني و شمّرت مئزري

نأى جعفر عنّا و كان لمثلها *** و أنت لنا في النائبات كجعفر

قال: فقال محمد بن سليمان لسلمة: خذها، هي لك، فاستحيا و ارتدع، و قال: /لا أريدها فألحّ عليه في أخذها، فقال: أعتق ما أملك إن أخذتها، فقال له أبو سفيان: يا سخين العين، أعتق ما تملك و خذها، فهي خير من كلّ ما تملك، فلما مات أبو سفيان رثاه سلمة فقال:

ص: 414


1- أتبرص: أتبلغ بالقليل، و التبرض أيضا: أخذ الشيء قليلا قليلا.
2- أجبل الشاعر: صعب القول عليه.
3- أرفدك، رفده: أعطاه. و المراد: أ لا أعينك و أمدك؟.
4- رضعة: لئام، جمع راضع. و في «المختار»، «هد»: وضعة، بالواو.
5- ما أحمدتهم: ما صادفت منهم ما يحمدون به.
6- هد: «ما أمكرك».
يرثي صديقه أبا سفيان:

لعمرك لا(1) تعفو كلوم مصيبة *** على صاحب إلاّ فجعت بصاحب

تقطع أحشائي إذا ما ذكرتكم(2) *** و تنهلّ عيني بالدموع السواكب

و كنت امرأ جلدا على ما ينوبني *** و معترفا بالصبر عند المصائب(3)

فهدّ أبو سفيان ركني و لم أكن *** جزوعا و لا مستنكرا للنوائب(4)

غنينا معا بضعا و ستين حجّة *** خليلي صفاء ودّنا غير كاذب

فأصبحت لمّا حالت الأرض دونه *** على قربه منّي كمن لم أصاحب

و ذكر محمد بن داود عن عسل بن ذكوان أن محمد بن سليمان قال له: اختر ما شئت غيرها، لأن أبا أيوب قد وطئها.

يهزأ بأبي حية النميري فيخرسه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثني محمد بن يزيد النحويّ، قال: حدّثت من غير وجه عن سلمة بن عياش أنه قال: قلت لأبي حيّة النميري أهزأ به: ويحك يا أبا حية! أ تدري ما يقول الناس؟ قال: لا، قلت:

يزعمون أني أشعر منك، قال: إنا للّه! هلك و اللّه الناس.

من شعره في بربر:
اشارة

و في بربر هذه يقول سلمة بن عياش، و فيه غناء، و ذكر عمر بن شبة أنه لمطيع ابن إياس:

صوت

أظنّ الحبّ من وجدى *** سيقتلني على بربر

و بربر درّة الغوا *** ص من يملكها يحبر

فخافي اللّه يا بربر *** فقد أفتنت(5) ذا العسكر

بحسن الدّلّ و الشكل *** و ريح المسك و العنبر

و وجه يثبه البدر *** و عيني جؤذر(6) أحور

فيه لحكم ثلاثة ألحان: رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، و خفيف رمل عن هارون بن الزيات، و هزج عن أبي أيوب المدني.

ص: 415


1- في «المختار»: «ما تعفو».
2- في «المختار»: «ذكرتهم».
3- في «المختار»: «النوائب».
4- في «المختار»: «المصائب».
5- أفتنت: ولهت.
6- الجؤذر: ولد البقرة الوحشية.
شعر مطيع بن إياس في جارية لبربر بعد ما أعتقت:
اشارة

أخبرني إسماعيل بن يونس، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال بربر جارية آل سليمان أعتقت، و كان لها جوار مغنيات، فيهن جارية اسمها جوهر، و كان في البصرة فتى يعرف بالصحّاف، حسن الوجه، فبلغ مطيع بن إياس أنه بات مع جوهر جارية بربر، فغاظه ذلك، فقال:

ناك و اللّه جوهر الصحّاف *** و عليها قميصها الأفواف(1)

شام(2) فيها أيرا له ذا صلاع(3) *** لم يخنه نقص و لا إخطاف(4)

زعموها قالت و قد غاب فيها *** قائما في قيامه استحصاف(5)

/و هو في جارة استها يتلظّى *** و بها شهوة له و التهاف(6)

بعض هذا مهلا ترفق قليلا *** ما كذا يا فتى تناك الظّراف

قال: و قال فيها، و قد وجّهت بجواريها إلى عسكر المهدي:

خافي(7) اللّه يا بربر *** فقد أفسدت ذا العسكر

أفضت الفسق في الناس *** فصار الفسق لا ينكر

و من ذا يملك الناس *** إذا ما أقبلت بربر؟

و أعطاف جواريها *** كريح المسك و العنبر

و جوهر درّة الغوا *** ص من يملكها يحبر

ألا يا جوهر القلب *** لقد زدت على الجوهر

و قد أكملك اللّه *** بحسن الدلّ و المنظر

إذا غنّيت يا أحسن *** خلق اللّه بالمزهر(8)

فهذا حزنا يبكي *** و هذا طربا يكفر

و هذا يشرب الكأس *** و ذا من فرح ينعر

و لا و اللّه ما المهديّ *** أولى منك بالمنبر

فما عشت ففي كفيك *** خلع ابن أبي جعفر

ص: 416


1- ثوب أفواف: رقيق.
2- شام السيف: أغمده.
3- كذا في ف. و في ب: «أيرا له أضلاع»، و هو تحريف.
4- الإخطاف: مصدر أخطفه: أي أخطأه.
5- استحصاف: شدة و انتصاب، من استحصف الحبل: أي شد فتله.
6- زيادة من هد.
7- كذا في جميع النسخ، و فيه خرم، و هو قبيح في الهزج.
8- المزهر: العود الّذي يضرب عليه.

قال: فبلغ ذلك المهدي، فضحك و أمر لمطيع بصلة، و قال: أنفق هذا عليها، و سلها أ لا تخلعنا ما عاشت.

/قال: و في جوهر يقول مطيع:

جارية أحسن من حليها *** و فيه فضل الدّر و الجوهر

و جرمها أطيب من طيبها *** و الطّيب فيه المسك و العنبر

جاءت بها بربر ممكورة(1) *** يا حبذا ما جلبت بربر

قال: و قال فيها:

أنت يا جوهر عندي جوهره *** في بياض الدّرة المشتهرة

و إذا غنّت فنار أضرمت *** قدحت في كلّ قلب شرره

صوت

يا عمود الإسلام خير عمود *** و الّذي صيغ من حياء و جود

إن يوما أراك فيه ليوم *** طلعت شمسه بسعد السعود(2)

الشعر لأبي العتاهية يمدح محمد الأمين، و الغناء لإسحاق، ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة و إسحاق.

ص: 417


1- ممكورة: حسنة امتلاء الساقين.
2- كذا في هد، و مل. و هو الموافق للترجمة التالية لأم جعفر أم محمد الأمين، الّذي قيل الصوت في مدحه. و ورد في (ب) مكان هذا الصوت: فأما الشنفري فأنه رجل من الأزد، ثم من بني الأوس بن الحجر بن الهنو بن الأزد، و مما يغني فيه من شعره: أرى أم عمرو أزمعت فاستقلت و ما ودعت جيرانها إذ تولت فوا ندما بانت أمامة بعد ما طمعت فهجا نعمة قد تولت و قد أعجبني لا سقوطا خمارها إذا ما مشت، و لا بذات تلفت غنى في هذه الأبيات إبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة. و في (ب): «ألا»، مكان «أرى»، «و نعمة العيش زلت» مكان «نعمة قد تولت». و ما أثبتناه من رواية القصيدة في ترجمة الشاعر في «الأغاني»: 21؛ 90.

17 - أخبار لأم جعفر

اشارة

17 - أخبار لأم جعفر(1)

تستنشد أبا العتاهية مدحه للأمين:

أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ، قال: حدثنا العلائيّ، قال: حدّثني محمد بن أبي العتاهية، قال: لما جلس الأمين في الخلافة أنشده أبو العتاهية:

يا بن عمّ النبيّ خير البريّة *** إنّما أنت رحمة للرّعيّه

يا إمام الهدى الأمين المصفّى *** بلباب الخلافة الهاشمية

لك نفس أمّارة لك بالخي *** ر و كفّ بالمكرمات نديّه

إنّ نفسا تحملت منك ما حمّ *** لت للمسلمين نفس قوية

قال: ثم خرج إلى دار أم جعفر، فقالت له: أنشدني ما أنشدت أمير المؤمنين، فأنشدها.

فقالت: أين هذا من مدائحك في المهديّ و الرشيد؟ فغضب و قال: إنما أنشدت أمير المؤمنين ما يستملح، و أنا القائل فيه:

يا عمود الإسلام خير عمود *** و الّذي صيغ من حياء وجود

و الّذي فيه ما يسلّي ذوي الأح *** زان عن كلّ هالك مفقود

إنّ يوما أراك فيه ليوم *** طلعت شمسه بسعد السعود

فقالت له: الآن وفيت المديح حقه، و أمرت له بعشرة آلاف درهم.

يستنجز أبو العتاهية ما كانت تجريه عليه:

أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدّثني محمد بن موسى اليزيديّ، قال: حدّثني محمد بن الفضل، قال:

كان المأمون يوجّه إلى أمّ جعفر زبيدة في كل سنة بمائة ألف دينار جدد و ألف ألف درهم، فكانت تعطي أبا العتاهية منها مائة دينار و ألف درهم، فأغفلته سنة، فدفع إليّ رقعة و قال: ضعها بين يديها فوضعتها، و كان فيها:

/خبّروني أنّ في ضرب السّنه *** جددا بيضا و صفرا حسنه

سككا(2) قد أحدثت لم أرها *** مثل ما كنت أرى كلّ سنه

فقالت: إنا(3) للّه! أغفلناه. فوجّهت إليه بوظيفة على يدي.

ص: 418


1- هذه الترجمة، لم ترد في بولاق، و وردت في ملحق برنو، و موضعها هذا في المخطوطات المعتمدة.
2- السكك: جمع سكة، و هي حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم.
3- في س: «إنّ» و هو تحريف.
تطلب أن ينظم أبو العتاهية أبياتا تعطف عليها المأمون:
اشارة

حدّثني محمد بن موسى، قال، حدثنا جعفر بن الفضل الكاتب، قال: أحسّت زبيدة من المأمون بجفاء، فوجهت إلى أبي العتاهية تعلمه بذلك، و تأمره أن يعمل فيه أبياتا تعطفه عليها، فقال:

صوت

ألا إنّ ريب الدهر يدني و يبعد *** و يؤنس بالآلاف طورا و يفقد

أصابت لريب الدهر مني يدي يدي *** فسلّمت للأقدار و اللّه أحمد

و قلت لريب الدهر إن ذهبت يد *** فقد بقيت و الحمد للّه لي يد

إذا بقي المأمون فالرشيد لي *** و لي جعفر لم يفقدا و محمد

الغناء لعلّويه.

قال: فحسن موقع الأبيات منه، و عاد لها المأمون إلى أكثر مما كان لها عليه.

وجدت في كتاب محمد بن الحسن الكاتب.

حدّثني هارون بن مخارق، قال: حدّثني أبي، قال: ظهرت لأم جعفر جفوة من المأمون، فبعثت إليّ بأبيات و أمرتني أن أغني فيها المأمون إذا رأيته نشيطا و أسنت لي الجائزة، و كان كاتبها قال الأبيات، ففعلت، فسألني المأمون عن الخبر فعرّفته، فبكى و رقّ لها، و قام من وقته فدخل إليها فأكبّ عليها، و قبلت يديه، و قال لها: /يا أمّه، ما جفوتك تعمّدا، و لكن شغلت عنك بما لا يمكن إغفاله، فقالت: يا أمير المؤمنين، إذا حسن رأيك لم يوحشني شغلك، و أتمّ يومه عندها، و الأبيات:

ألا إن ريب الدهر يدني و يبعد *** و يؤنس بالآلاف طورا و يفقد

و ذكر باقي الأبيات مثل ما في الخبر الأول:

ينظم أبو العتاهية شعرا على لسانها للمأمون:
اشارة

أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحسن بن على الرازي، قال:

حدّثني أبو سهل الرازقي عن أبيه، قال: عمل أبو العتاهية شعرا على لسان زبيدة بأمرها لمّا قدم المأمون بغداد، أوله:

لخير إمام قام من خير عنصر *** و أفضل راق فوق أعواد منبر

فذكر محمد بن أحمد بن المرزبان عن بعض كتاب السلطان: أن المأمون لمّا قدم مدينة السّلام و استقرّت به الدار، و انتظمت له الأمور، أمرت أم جعفر كاتبا لها فقال هذه الأبيات، و بعثت بها إلى علّويه، و سألته أن يصنع فيها لحنا، و يغني فيه المأمون ففعل، و كان ذلك مما عطفه عليها، و أمرت لعلويه بعشرين ألف درهم. و قد روي أن الأبيات الّتي أولها:

يا عمود الإسلام خير عمود

ص: 419

لعيسى بن زينب المراكبي.

أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدّثني الحسين بن يحيى الكاتب، قال: حدثنا عليّ بن نجيح، قال: حدّثني صالح بن الرشيد، قال:

كنا عند المأمون يوما و عقيد المغني و عمرو بن بانة يغنيان، و عيسى بن زينب المراكبي حاضر، و كان مشهورا بالابنة، فتغنّى عقيد بشعر عيسى:

يا عمود الإسلام خير عمود *** و الّذي صيغ من حياء و جود

لك عندي في كل يوم جديد *** طرفة تستفاد يا بن الرشيد

/فقال المأمون لعقيد: أنشد باقي هذا الشعر، فقال: أصون سمع أمير المؤمنين عنه، فقال: هاته ويحك! فقال:

كنت في مجلس أنيق و ريحا *** ن و راح و مسمعات و عود

فتغنّى عمرو بن بانة إذا ذا *** ك و هو(1) ممسك بأير عقيد

يا عمود الإسلام خير عمود *** و الّذي صيغ من حياء و جود

فتنفست ثم قلت كذا كلّ *** محبّ صبّ الفؤاد عميد

فقال المأمون لعيسى بن زينب: و اللّه لا فارقتك حتى تخبرني عن تنفّسك عند قبض عمرو على أير عقيد: لأيّ شيء هو؟ لا بدّ من أن يكون ذلك إشفاقا عليه، أو على أن تكون مثله، لعن اللّه تنفسك هذا يا مريب! قال: و إنما سمّي المراكبيّ لتوليه(2) مراكب المنصور، و أمه زينب بنت بشر صاحب طاقات بشر بباب الشام.

صوت

لقيت من الغانيات العجابا *** لو ادرك مني العذارى الشبابا

غلام يكحّلن حور العيون *** و يحدثن بعد الخضاب الخضابا

و يبرقن(3) إلاّ لما تعلمون *** فلا تمنعنّ النساء الضرابا

الشعر لأيمن بن خزيم بن فاتك الأسدي، و الغناء لإبراهيم الموصليّ، و لحنه من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى من رواية الهشامي.

ص: 420


1- تسكين واو «هو» لغة قيس و أسد، و عليها يستقيم وزن البيت. انظر الهمع: 61.1.
2- ف: «لأنه ابن عبد اللّه بن إسماعيل صاحب مراكب المنصور.
3- أبرقت المرأة، و برقت: تزينت.

18 - أخبار أيمن بن خريم

اشارة

18 - أخبار أيمن بن خريم(1)

نسبه و تشيعه:

و أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي لأبيه صحبة برسول اللّه - صلّى اللّه عليه و سلّم - و رواية عنه، و ينسب إلى فاتك، و هو جد أبيه. و هو أيمن بن خريم بن الأخرم بن عمرو بن فاتك بن القليب بن عمرو بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. و كان أيمن يتشيع، و كان أبوه أحد من اعتزل حرب الجمل و صفّين و ما بعدهما من الأحداث، فلم يحضرها.

يصف قوته لعبد الملك بن مروان، فيحسده و يتغير عليه:

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني النوشجانيّ عن العمريّ عن الهيثم بن عديّ، عن عبد اللّه بن عياش، عن مجالد، قال كان عبد الملك شديد الشغف بالنساء، فلما أسنّ ضعف عن الجماع و ازداد غرامه بهنّ، فدخل إليه يوما أيمن بن خريم قال له: كيف أنت؟ فقال: بخير يا أمير المؤمنين. قال:

فكيف قوّتك؟ قال: كما أحب، و للّه الحمد، إنّي لآكل الجذعة(2) من الضأن بالصاع من البرّ، و أشرب العسّ (3)المملوء(4)، و أرتحل البعير الصعب و أنصبه(5)، و أركب المهر الأرن(6) فأذلّله، و أفترع العذراء، و لا يقعدني(7) عنها الكبر، و لا يمنعني منها الحصر(8)، و لا يرويني منها الغمر(9) و لا ينقضي(10) مني الوطر. فغاظ/عبد الملك قوله و حسده، فمنعه العطاء و حجبه، و قصده بما كره حتى أثّر ذلك في حاله، فقالت له امرأته: ويحك! أصدقني عن حالك؟ هل لك جرم؟ قال: لا و اللّه، قالت: فأيّ شيء دار بينك و بين أمير المؤمنين آخر ما لقيته؟ فأخبرها، فقالت:

إنا للّه! من هاهنا أتيت.

تحتال له امرأته فيعود عبد الملك إلى بره:

أنا أحتال لك في ذلك حتى أزيل ما جرى عليك، فقد حسدك الرجل على ما وصفت به نفسك، فتهيأت و لبست ثيابها و دخلت على عاتكة زوجته، فقالت: أسألك أن تستعدي لي أمير المؤمنين على زوجي، قالت:

ص: 421


1- هذه الترجمة لم ترد في بولاق، و ذكرها برنو في الملحق، و موضعها هنا حسب نسخة فيض اللّه.
2- الجذعة من الضأن: الصغيرة منه.
3- العس: القدح العظيم.
4- في «المختار» و «التجريد»: «المملوء أعبه عبا».
5- في «المختار» و «التجريد»: «فأنصبه».
6- الأرن: النشيط، و الفعل أرن، كفرح.
7- في «المختار» و «التجريد»: «لا يقعدني».
8- الحصر: عدم اشتهاء النساء، حصر كفرح. و في «المختار» و «التجريد»: «إلاّ السحر».
9- الغمر، بضم ففتح: القدح الصغير.
10- في ب، س: «ينقص»، و هو تحريف.

و ما له؟(1) قالت: و اللّه ما أدري أنا مع رجل أو حائط؟ و إنّ له لسنين(2) ما يعرف فراشي، فسليه أن يفرّق بيني و بينه، فخرجت عاتكة إلى عبد الملك فذكرت(3) ذلك له، و سألته في أمرها، فوجّه إلى أيمن بن خريم فحضر، فسأله عما شكت منه فاعترف به، فقال: أ و لم أسألك عاما أوّل(4) عن حالك فوصفت كيت و كيت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الرجل ليتجمّل عند سلطانه، و يتجلد عند(5) أعدائه بأكثر مما وصفت نفسي به، و أنا القائل:

لقيت من الغانيات العجابا *** لو أدرك مني الغواني الشبابا

و لكنّ جمع النساء الحسان *** عناء شديد إذا المرء شابا(6)

و لو كلت بالمدّ للغانيات *** و ضاعفت فوق الثياب الثيابا

/إذا لم تنلهنّ من ذاك ذاك *** جحدنك(7) عند الأمير الكتابا

يذدن بكل عصا ذائد *** و يصبحن كلّ غداة صعابا

إذا لم يخالطن كل الخلا *** ط أصبحن مخرنطمات غضابا(8)

علام يكحّلن حور العيون *** و يحدثن بعد الخضاب الخضابا

و يعركن بالمسك أجيادهنّ *** و يدنين عند الحجال العيابا(9)

و يبرقن إلاّ لما تعلمون *** فلا تحرموا الغانيات الضرابا

قال: فجعل عبد الملك يضحك من قوله، ثم قال: أولى(10) لك يا بن خريم! لقد لقيت منهن ترحا(11)، فما ترى أن نصنع فيما بينك و بين زوجتك؟ قال: تستأجلها إلى أجل العنّين، و أداريها لعلي أستطيع إمساكها، قال: أفعل ذلك، و ردّها إليه، و أمر له بما فات من عطائه، و عاد إلى برّه و تقريبه.

يعتزل عمرو بن سعيد و عبد العزيز بن مروان في منازعة بينهم و يقول في ذلك شعرا:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ أبو دلف، قال: حدثنا الرياشيّ، قال: ذكر العتبيّ أن منازعة وقعت بين عمرو بن سعيد و عبد العزيز بن مروان، فتعصّب لكل واحد منهما أخواله، و تداعوا بالسلاح و اقتتلوا، و كان أيمن بن

ص: 422


1- في «المختار»: «و ما شأنه؟».
2- في «المختار»: «سنتين».
3- في «المختار»: «فأخبرته».
4- في «المختار» و «التجريد»: «عام أول».
5- كذا في «المختار» و «التجريد»، و في ب، س: «على»، و هو تحريف.
6- رواية ف، و «المختار»: ترى الشيب جمع النساء الحسا ن عيبا شديدا إذا المرء شابا و في «التجريد»: «عتبا» مكان «عيبا»، و أراها تحريف «عتبا»، و بقية البيت كما في ف و «المختار».
7- في «المختار» و «التجريد»: «بغينك» و سيأتي البيت، و فيه «الكذابا» مكان «الكتابا»، و هي أشبه.
8- مخرنطمات: وصف من اخرنطم: إذا رفع أنفه و استكبر و غضب.
9- و في ف: «الحجاب».
10- أولى لك: دعاء عليه أن يناله مكروه، أولى: أفعل من الولي، بفتح فسكون، و هو القرب. و المراد بالعبارة التعجب.
11- الترح: الحزن، و في «المختار»: «برحا»، أي شدة و أذى.

خريم حاضرا للمنازعة فاعتزلهم هو و رجل من قومه، يقال له: ابن كوز، فعاتبه عبد العزيز و عمرو جميعا على ذلك، فقال:

/أ أقتل بين حجّاج بن عمرو *** و بين خصيمه عبد العزيز

أ نقتل(1) ضلّة في غير شيء *** و يبقى بعدنا أهل الكنوز

لعمر أبيك ما أتيت رشدي *** و لا وفّقت للحرز الحريز

فإني تارك لهما جميعا *** و معتزل كما اعتزل ابن كوز

يهجو يحيى بن الحكم:

أخبرني عمّي قال: حدّثني الكرانيّ، عن العمريّ عن الهيثم بن عديّ، قال: أصاب يحيى بن الحكم جارية في غزاة الصائفة(2)، بها وضح(3)، فقال: أعطوها أيمن بن خريم، و كان موضحا، فنصب و أنشأ يقول:

تركت بني مروان تندى أكفّهم *** و صاحبت يحيى ضلّة من ضلاليا

فإنك لو أشبهت مروان لم تقل *** لقومي هجرا أن أتوك و لا ليا

و انصرف عنه، فأتى عبد العزيز بن مروان، و كان يحيى محمقا.

يرى عبد الملك مدحه لبني هاشم مثلا يحتذى:

حدّثني محمد بن العباس اليزيديّ، قال: حدّثني عمي الفضل، قال: حدّثني مصعب الزبيريّ عن أشياخه أن عبد الملك بن مروان قال: يا معشر الشعراء تشبّهوننا مرة بالأسد الأبخر، و مرة بالجبل الأوعر، و مرة بالبحر الأجاج، أ لا قلتم فينا كما قال أيمن بن خريم في بني هاشم:

نهاركم مكابدة و صوم *** و ليلكم صلاة و اقتراء(4)

وليتم بالقرآن و بالتزكّي *** فأسرع فيكم ذاك البلاء

بكى نجد غداة غد عليكم *** و مكة و المدينة و الجواء(5)

/و حقّ لكل أرض فارقوها *** عليكم لا أبا لكم البكاء

أ أجعلكم و أقواما سواء *** و بينكم و بينهم الهواء

و هم أرض لأرجلكم و أنتم *** لأرؤسهم و أعينهم سماء

شعره و قد أدى عبد الملك عنه دية قتل خطأ:

أخبرني الحسن بن عليّ، عن أحمد بن زهير، عن أبي همام الوليد بن شجاع، قال: حدثنا عبد اللّه بن إدريس،

ص: 423


1- أ نقتل ضلة. أ نقتل عن ضلال و بغي.
2- غزاة الصائفة: غزاة الصيف.
3- الوضح: البرص، و الفعل: وضح، بكسر الضاد.
4- اقتراء: قراءة.
5- الجواء: اليمامة، و اسم لمواضع أخرى.

قال: أصاب أيمن بن خريم امرأة له خطأ - يعني قتلها - فوداها عبد الملك بن مروان: أعطى ورثتها ديتها، و كفّر عنه كفارة القتل، و أعطاه عدّة جوار، و وهب له مالا، فقال أيمن:

رأيت الغواني شيئا عجابا *** لو انس منّي الغواني الشبابا

و لكنّ جمع العذاري الحسان *** عناء شديد إذا المرء شابا

و لو كلت بالمدّ للغانيات *** و ضاعفت فوق الثياب ثيابا

إذا لم تنلهن من ذاك ذاك *** بغينك عند الأمير الكذابا

يذدن بكل عصا ذائد *** و يصبحن كل غداة صعابا

إذا لم يخالطن كلّ الخلاط *** تراهنّ مخرنطمات عضابا

علام يكحّلن حور العيون *** و يحدثن بعد الخضاب الخضابا

و يعركن بالمسك أجيادهنّ *** و يدنين عند الحجال العيابا

و يغمزن إلاّ لما تعلمون *** فلا تحرموا الغانيات الضّرابا

قال: فبلغني أن عبد الملك أنشد هذا الشعر، فقال: نعم الشفيع أيمن لهنّ.

يستجيد عبد الملك وصفه للنساء:
اشارة

و أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة و إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، قال: قال له عبد الملك لما أنشده هذا الشعر: ما وصف النساء أحد مثل صفتك، /و لا عرّفهنّ أحد معرفتك. قال: فقال له: لئن كنت صدقت في ذلك لقد صدق الّذي يقول:

صوت

فإن تسألوني بالنساء فإنني *** خير بأدواء النساء طبيب

إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله *** فليس له في ودّهنّ نصيب

يردن ثراء المال حيث علمنه *** و شرخ الشباب عندهن عجيب

فقال له عبد الملك: قد لعمري صدقتما و أحسنتما، الشعر لعلقمة بن عبدة، و الغناء لبسباسة، و لحنه خفيف ثقيل أول بالوسطى عن حبش. و هذه الأبيات يقولها علقمة بن عبدة يمدح بها الحارث و يسأله إطلاق ابنه شأس(1).

و خبره يذكر و خبر الحارث بعد انقضاء أخبار أيمن بن خريم.

رجع الحديث إلى أخبار أيمن
يفضل عبد العزيز بن مروان شعر نصيب على شعره، فيلحق ببشر بن مروان:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني المدائنيّ عن أبي بكر الهذليّ،

ص: 424


1- في هامش س: «قوله: و يسأله إطلاق ابنه شأس، قال في «القاموس»: إنه أخوه، و تابعه على ذلك شارحه. و قال في «لسان العرب»: إنه أخوه، و قال ذلك أيضا العيني في «شرح الشواهد». و قال ابن الأنباري في المفضليات: إنه أخوه، و قيل: «ابن أخيه».

قال: دخل نصيب يوما إلى(1) عبد العزيز بن مروان، فأنشده قصيدة له امتدحه بها فأعجبته، و أقبل على أيمن بن خريم فقال: كيف ترى شعر مولاي هذا؟ قال: هو أشعر أهل جلدته(2). فقال: هو أشعر و اللّه منك. قال أ منّي أيها الأمير؟.

/فقال: إي و اللّه، قال: لا و اللّه، و لكنك طرف(3) ملول، فقال له: لو كنت كذلك ما صبرت على مؤاكلتك منذ سنة و بك من البرص ما بك(4)، فقال: ائذن لي أيها الأمير في الانصراف، قال: ذلك إليك، فمضى لوجهه حتى لحق ببشر بن مروان، و قال فيه:

ركبت من المقطّم في جمادى *** إلى بشر بن مروان البريدا

و لو أعطاك بشر ألف ألف *** رأى حقا عليه أن يزيدا

أمير المؤمنين أقم ببشر *** عمود الدين إنّ له عمودا

ودع بشرا يقوّمهم و يحدث *** لأهل الزيغ إسلاما جديدا

و إنّا قد وجدنا أمّ بشر *** كأمّ الأسد مذكارا ولودا

كأنّ التاج تاج أبي هرقل *** جلوه لأعظم الأيام عيدا

يحالف لونه ديباج بشر *** إذا الألوان حالفت الخدودا

- يعرض بنمش كان بوجه عبد العزيز - فقبّله بشر بن مروان و وصله، و لم يزل أثيرا عنده.

من مدحه في بشر بن مروان:

أخبرني عمّي، قال: حدّثني الكرانيّ، و أبو العيناء عن العتبي، قال: لما أتى أيمن بن خريم بشر بن مروان نظر الناس(5) يدخلون عليه أفواجا، فقال من يؤذن(6) لنا الأمير أو يستأذن(7) لنا عليه؟ قيل له: ليس على الأمير حجاب و لا ستر، فدخل و هو يقول:

يرى بارزا للناس بشر كأنه *** إذا لاح في أثوابه قمر بدر

/و لو شاء بشر أغلق الباب دونه *** طماطم(8) سود أو صقالبة شقر

أبى ذا و لكن سهّل الإذن للتي *** يكون له في غبّها الحمد و الشكر

فضحك إليه بشر، و قال: إنا(9) قوم نحجب الحرم، و أما الأموال و الطعام فلا، و أمر له بعشرة آلاف درهم.

ص: 425


1- في «المختار»: «على».
2- في «المختار»: «جلدته فقط، بل هو و اللّه أشعر منك».
3- الطرف: الّذي لا يثبت على صحبة أحد لملله.
4- في «المختار» بعد كلمة «بك»: «و كان به وضح».
5- ف: «نظر إلى الناس».
6- في «المختار»: «يؤذن بنا».
7- في «المختار»: «و يستأذن».
8- الطماطم: جمع طمطم، و الرجل المطمطم: الّذي في لسانه عجمة.
9- في «المختار»: فضحك بشر إليه، و قال: يا قوم.
يعير أهل العراق بقلة غنائهم في حرب غزالة:
اشارة

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف، قال: حدّثني الرياشي، قال: حدثنا الأصمعي عن المعتمد بن سليمان، قال:

لما طالت الحرب بين غزالة و بين أهل العراق و هم لا يغنون شيئا - قال أيمن بن خريم:

أتينا بهم مائتي فارس *** من السافكين الحرام العبيطا(1)

و خمسون من مارقات النسا *** ء يسحبن للمنديات(2) المروطا(3)

و هم مائتا ألف ذي قونس(4) *** يئط(5) العراقان منهم أطيطا

رأيت غزالة إن طرّحت(6) *** بمكة هودجها و الغبيطا

سمت للعراقين في جمعها *** فلاقى العراقان منها بطيطا(7)

أ لا يستحي اللّه أهل العرا *** ق إن قلّدوا الغانيات السّموطا؟

و خيل غزالة تسبي النّساء *** و تحوي النّهاب(8) و تحوي النبيطا(9)

و لو أنّ لوطا أمير لكم *** لأسلمتم في الملمات لوطا

صوت

تصابيت أم هاجت لك الشوق زينب *** و كيف تصابي المرء و الرأس أشيب!

إذا قربت زادتك شوقا بقربها *** و إن جانبت لم يسل عنها التجنّب

فلا اليأس إن ألممت يبدو فترعوي *** و لا أنت مردود بما جئت تطلب

و في اليأس لو يبدو لك اليأس راحة *** و في الأرض عمّن لا يؤاتيك مذهب

الشعر لحجيّة بن المضرب الكنديّ، فيما ذكره إسحاق و الكوفيون. و ذكر الزبير بن بكّار أنه لإسماعيل بن يسار، و ذكر غيره أنه لأخيه أحمد بن يسار. و الغناء ليونس الكاتب، و لحنه من الثقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، و فيه ثقيل أول بالبنصر. ذكر حبش أنه لمالك، و ذكر غيره أنه لمعبد.

ص: 426


1- العبيط: الدم الخالص الطري و في س: «أتيتا بهم مائتي فارس».
2- المنديات: المخزيات يندى لها الجبين.
3- المروط: جمع مرط، بكسر فسكون، و هو كساء من صوف و نحوه يؤتزر به.
4- القونس في الأصل: أعلى بيضة الحديد، و المراد البيضة.
5- يئط: يصوت.
6- ف: «قد طرحت».
7- البطيط: شق الجرح.
8- النهاب: جمع نهب، و هو الغنيمة.
9- النبيط: النبط، و هم جيل ينزلون بالبطائح بين العراقين.

19 - أخبار حجية بن المضرب

اشارة

19 - أخبار حجية بن المضرب(1)

تجعله عائشة مثلا في بر صبية لأخيه مات عنهم:

حدّثني ابن عمار، قال: حدثنا سعيد بن يحيى الأمويّ، و أخبرنا به وكيع عن إسماعيل بن إسحاق، عن سعيد بن يحيى الأمويّ، قال: حدّثني المحبر بن قحذم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال:

لما قدم القاسم بن محمد بن أبي بكر و أخته من مصر - و أخبرني بهذا الخبر محمد بن أبي الأزهر، قال:

حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن الهيثم بن عديّ، عن عوانة، قال: كان القاسم بن محمد بن أبي بكر يحدث، قال:

لما قتل معاوية بن حديج الكنديّ و عمرو بن العاص أبي - يعني محمد بن أبي بكر بمصر - جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر فاحتملني و أختا لي من مصر. و قد جمعت الروايتين و اللفظ لابن أبي الأزهر، و خبره أتمّ قال.

فقدم بنا المدينة، فبعثت إلينا عائشة، فاحتملتنا من منزل عبد الرحمن إليها، فما رأيت والدة قط، و لا والدا أبرّ منها، فلم نزل في حجرها(2) حتى إذا كان ذات يوم و قد ترعرعنا ألبستنا ثيابا بيضاء، ثم أجلست كل واحد منا(2)على فخذها، ثم بعثت إلى عمّي عبد الرحمن، فلما دخل عليها تكلّمت فحمدت اللّه - عز و جلّ - و أثنت عليه. فما رأيت متكلّما و لا متكلمة قبلها و لا بعدها أبلغ منها، ثم قالت:

يا أخي إني لم أزل أراك معرضا عني منذ قبضت هذين الصبيّين منك، و و اللّه ما قبضتهما تطاولا عليك، و لا تهمة لك فيهما، و لا لشيء تكرهه، و لكنك كنت رجلا ذا نساء، و كانا صبيين لا يكفيان من أنفسهما شيئا، فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرن(3) به من قبيح أمر الصبيان فكنت ألطف لذلك و أحقّ بولايته، فقد قويا/على أنفسهما و شبا، و عرفا ما يأتيان، فها هما هذان فضمّهما إليك، و كن لهما كحجيّة بن المضرب أخي كندة، فإنه كان له أخ يقال له: معدان، فمات و ترك أصيبية(4) صغارا في حجر أخيه، فكان أبرّ الناس بهم و أعطفهم عليهم، و كان يؤثرهم على صبيانه، فمكث بذلك ما شاء اللّه. ثم إنه عرض له سفر لم يجد بدّا من الخروج فيه، فخرج و أوصى بهم امرأته، و كانت إحدى بنات عمه، و كان يقال لها: زينب، فقال: اصنعي ببني أخي ما كنت أصنع بهم، ثم مضى لوجهه أشهرا، ثم رجع و قد ساءت حال الصبيان و تغيّرت، فقال لامرأته: ويلك! ما لي أرى بني معدان مهازيل، و أرى بنيّ سمانا؟ قالت: قد كنت أواسي بينهم، و لكنّهم كانوا يعبثون و يلعبون، فخلا بالصبيان فقال: كيف كانت

ص: 427


1- لم ترد هذه الترجمة في طبعة بولاق، و جاءت في ملحق برنو و موضعها هنا في المخطوطات المعتمدة.
2- - (2) زيادة من «التجريد» يتم بها الكلام.
3- في ف: «يتقذرنه»، و في س: «يتقدرن»، و هو تحريف.
4- أصيبية: تصغير أصبية، جمع صبي. و في «التجريد»: «صبية».

زينب لكم؟ قالوا: سيّئة، ما كانت تعطينا من القوت إلاّ ملء هذا القدح من لبن - و أروه قدحا صغيرا - فغضب على امرأته غضبا شديدا و تركها، حتى إذا أراح(1) عليه راعيا إبله قال لهما: اذهبا، فأنتما و إبلكما لبني معدان. فغضبت من ذلك زينب و هجرته، و ضربت بينه و بينها حجابا، فقال: و اللّه لا تذوقين منها صبوحا و لا غبوقا أبدا، و قال في ذلك(2):

شعره في امرأته حين عرف سوء معاملتها لصغار أخيه:

لججنا و لجّت هذه في التغضّب *** و لطّ(3) الحجاب بيننا التجنّب

و خطت بفردي إثمد جفن عينها *** لتقتلني و شدّ ما حبّ زينب

تلوم على مال شفاني مكانه *** فلومي حياتي ما بدا لك و اغضبي

/رحمت بني معدان أن(4) قلّ مالهم *** و حق لهم مني و ربّ المحصّب(5)

و كان(6) اليتامى لا يسدّ اختلالهم(7) *** هدايا لهم في كل قعب مشعّب(8)

فقلت لعبدينا: أريحا عليهم *** سأجعل بيتي بيت آخر معزب(9)

و قلت خذوها و اعلموا أن عمّكم *** هو اليوم أولى منكم بالتكسب

عيالي(10) أحقّ أن ينالوا خصاصة *** و أن يشربوا رنقا إلى حين(11) مكسبي

أحابي بها من لو قصدت لماله *** حريبا(12) لآساني على كل موكب

أخي و الّذي إن أدعه لعظيمة *** يجبني و إن أغضب إلى السيف يغضب

إلى هاهنا رواية ابن عمار.

تركته زوجته إلى المدينة و أسلمت فراح يطلبها:

و في خبر إسحاق قال: فلما بلغ زينب هذا الشعر و ما وهب زوجها خرجت حتى أتت المدينة فأسلمت، و ذلك في ولاية عمر بن الخطاب، فقدم حجية المدينة فطلب زينب أن تردّ عليه، و كان نصرانيا، فنزل بالزبير بن العوام فأخبره بقصته، فقال له: إياك و أن يبلغ هذا عنك عمر فتلقى منه أذى.

ص: 428


1- أراح عليه إبله: ردها عليه رواحا.
2- الشعر في شرح «ديوان الحماسة» بشرح ص 1176.
3- اللط: الستر.
4- في «التجريد»: «إذ».
5- المحصب: موضع رمي الجمار.
6- في «الحماسة»: «رأيت».
7- في «الحماسة»: «فقورهم».
8- المشعب: المجبور في مواضع منه.
9- المعزب: الخالي من الإبل، من أعزبت الإبل: إذا بعدت عن أهلها في المرعى.
10- في «الحماسة»: «بنيّ».
11- في «الحماسة»: «لدى كل مشرب».
12- الحريب: المسلوب المال، حرب، بفتح الراء يحرب، بضمها.
يمدح الزبير بن العوام و يرحل كئيبا يائسا:
اشارة

و انتشر خبر حجية و فشا بالمدينة و علم فيم كان مقدمه، فبلغ ذلك عمر، فقال للزبير: قد بلغني قصة ضيفك، و لقد هممت به لو لا/تحرّمه(1) بالنزول عليك، فرجع الزبير إلى حجيّة فأعلمه قول عمر، قال حجية في ذلك.

إن الزبير بن عوّام تداركني *** منه بسيب كريم سيبه عصم(2)

نفسي فداؤك مأخوذا بحجزتها(3) *** إذ شاط(4) لحمي و إذ زلّت بي القدم

إذ لا يقوم بها إلاّ فتى أنف *** عاري الأشاجع(5) في عرنينه(6) شمم

ثم انصرف من عنده متوجها إلى بلده، آيسا من زينب كئيبا حزينا، فقال في ذلك:

تصابيت أم هاجت لك الشوق زينب

الأبيات المذكورة فيها الغناء.

صوت

خليلي هبّا نصطبح بسواد *** و نرو قلوبا هامهنّ صواد

و قولا لساقينا زياد يرقّها *** فقد هزّ بعض القوم سقي زياد

الشعر و الغناء لإسحاق، و لحنه من الثقيل الأول بالبنصر.

ص: 429


1- تحرمه: احتماؤه.
2- عصم: جمع عصمة، و هي المنع و الصيانة. و في ش، ب و «التجريد»: «عمم»، و هو الكثير المجتمع.
3- الحجزة: معقد الإزار، و موضع التكة من السراويل.
4- شاط لحمي: استبيح قتلى، من شاط دمه: إذا بطل و أهدر.
5- الأشاجع: أصول الأصابع الّتي تتصل بعصب ظاهر الكف. أو هي عروق ظاهر الكف.
6- العرنين: الأنف كله، أو ما صلب من عظمه.

20 - خبر إسحاق مع غلامه زياد

وصف زياد غلام إسحاق:
اشارة

هذا الشعر(1) يقوله إسحاق في غلام له مملوك خلاسيّ (2)، يقال له: زياد. كان مولّدا من مولّدي المدينة، فصيحا ظريفا، فجعله ساقيه، و ذكره هو و غيره في شعره. فممّن ذكره من الشعراء دعبل، و له يقول:

أخبرني بذلك عليّ بن سليمان الأخفش، عن أبي سعيد السّكريّ قال: كان زياد الّذي يذكره إسحاق في عدة مواضع، منها قوله:

و قولا لساقينا زياد يرقّها

- و كان نظيف السّقي لبقا، فقال فيه دعبل:

يقول زياد قف بصحبك مرة *** على الرّبع، ما لي و الوقوف على الربع!

صوت

أدرها على فقد الحبيب فربّما *** شربت على نأى الأحبة و الفجع

فما بلغتني الكأس إلاّ شربتها *** و إلاّ سقيت الأرض كأسا من الدمع

غنى في البيت الثاني و الثالث من هذه الأبيات محمد بن العباس بن عبد اللّه بن طاهر لحنا من خفيف الثقيل الأول بالبنصر.

نسبة الصوت إلى غير إسحاق:

قال أبو الحسن: و قد قيل: إن هذين البيتين - يعني:

خليليّ هبّا نصطبح بسواد

/ - للأخطل.

زياد يراجع إسحاق و هو يغني:

أخبرني عليّ بن سليمان، قال: حدّثني أبي، قال:

قال لي جعفر بن معروف الكاتب - و كان قد جاوز مائة سنة: لقد شهدت إسحاق يوما في مجلس أنس و هو يتغنّى هذا الصوت:

خليليّ هبّا نصطبح بسواد

ص: 430


1- هذا الخبر مما لم يرد في بولاق، و أوردها برنو في الملحق و موضعه هنا في المخطوطات المعتمدة.
2- الخلاسي: الولد من أبوين: أبيض و أسود.

و غلامه زياد جالس على مسورة(1) يسقي، و هو يومئذ غلام أمرد أصفر، رقيق البدن حلو الوجه. ثم أخذ يراجعه و لا(2) أحد يستطيع يقول له: زدني و لا انقصني.

يعتقه إسحاق و يزوجه:

أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم الأنباريّ، قال: حدّثني أحمد بن الهيثم، يعني جدّ أبي - رحمه اللّه - قال:

كنت ذات يوم جالسا في منزلي بسرّمن رأى و عندي إخوان لي، و كان طريق إسحاق في مضيّه إلى دار الخليفة و رجوعه منها على منزلي، فجاءني الغلام يوما و عندي أصدقاء لي فقال لي: إسحاق بن إبراهيم الموصلي بالباب، فقلت له: ويلك! يدخل، أوفى الخلق أحد يستأذن عليه لإسحاق!.

فذهب الغلام و بادرت أسعى في أثره حتى تلقيته، فدخل و جلس منبسطا آنسا، فعرضنا عليه ما عندنا، فأجاب إلى الشّرب، فأحضرناه نبيذا مشمّسا فشرب منه، ثم قال: أ تحبون أن أغنّيكم؟ قلنا: إي و اللّه أطال اللّه بقاءك، إنا نحب ذلك. قال: فلم لم تسألوني؟ قلنا: هبناك و اللّه، قال: فلا تفعلوا، ثم دعا بعود فأحضرناه، فاندفع فغنانا، فشربنا و طربنا. فلما فرغ قال: أحسنت أم لا؟ فقلنا: بلى و اللّه، جعلنا اللّه فداءك لقد أحسنت. قال: فما منعكم أن تقولوا لي: أحسنت!.

/قلنا: الهيبة و اللّه لك، قال: فلا تفعلوا هذا فيما تستأنفون، فإنّ المغنّي يحب أن يقال له: غنّ، و يحبّ أن يقال له إذا غنّى: أحسنت، ثم غنانا صوته:

خليليّ هبّا نصطبح بسواد

فقلنا له: يا أبا محمد، من هو زياد الّذي عنيته؟ قال: هو غلامي الواقف بالباب، ادعوه يا غلمان، فأدخل إلينا، فإذا غلام خلاسيّ، قيمته عشرون دينارا أو نحوها. فأمسكنا عنه، فقال: أ تسألوني عنه فأعرّفكم إياه و يخرج كما دخل، و قد سمعتم شعري فيه و غنائي؟ أشهدكم أنه حرّ لوجه اللّه، و أنّي زوّجته أمتي فلانة، فأعينوه على أمره.

قال: فلم يخرج حتى أوصلنا إليه عشرين ألف درهم، أخرجناها له من أموالنا.

إسحاق يرثيه:

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال: حدّثني أبي، قال: توفي زياد غلام إسحاق الّذي يقول فيه:

و قولا لساقينا زياد يرقها

فقال إسحاق يرثيه:

فقدنا زيادا بعد طول صحابة *** فلا زال يسقي الغيث قبر زياد

ستبكيك كأس لم تجد من يديرها *** و ظمآن يستبطئ الزجاجة صاد

يطلب الأمين إسحاق فيغنيه:
اشارة

أخبرني عمي، قال: حدّثني ابن المكي عن أبيه، قال:

ص: 431


1- المسورة: المتكأ من الجلد، و مثلها: المسور.
2- كذا في نسخة بيروت، و في ب، س: «و ما أحد»، و هو تحريف.

اصطبح محمد الأمين ذات يوم، و أمر بالتوجيه إلى إسحاق، فوجّه إليه عدّة رسل، كلهم لا يصادفه، حتى جاء أحدهم به، فدخل منتشيا و محمد مغضب. فقال له: أين كنت ويلك! قال: أصبحت يا أمير المؤمنين نشيطا، فركبت إلى بعض المتنزهات، فاستطبت الموضع و أقمت فيه و سقاني زياد، فذكرت أبياتا للأخطل و هو يسقيني، فدار لي فيها لحن حسن فصنعته فيها، و قد جئتك به. فتبسّم، ثم قال: هات، فما تزال تأتي بما يرضي عنك عند السخط، فغناه:

صوت

إذا ما زياد علني ثم علّني *** ثلاث زجاجات لهنّ هدير

خرجت أجرّ الذيل زهوا كأنني *** عليك أمير المؤمنين أمير

قال: بل على أبيك، قبح اللّه فعلك، فما يزال إحسانك في غنائك يمحو إساءتك في فعلك، و أمر له بألف دينار.

الشعر في هذين البيتين للأخطل، و الغناء لإسحاق، رمل بالبنصر. و رواية شعر الأخطل:

إذا ما نديمي علّني ثم علّني

و إنما غيّره إسحاق فقال: «إذا ما زياد».

أخبرني عليّ بن سليمان عن محمد بن يزيد النحويّ:

أن عبد الملك بن مروان قال للأخطل: ما يدعوك إلى الخمر؟ فو اللّه إن أولها لمرّ، و إنّ آخرها لسكر! قال:

أجل، و لكن بينهما حالة، ما ملكك عندها بشيء، و قد قلت في ذلك:

إذا ما نديمي علّني ثم علّني *** ثلاث زجاجات لهنّ هدير

خرجت أجرّ الذيل زهوا كأنني *** عليك أمير المؤمنين أمير

قال: فجعل عبد الملك يضحك.

صوت

أشارت بطرف العين خيفة أهلها *** إشارة مخزون و لم تتكلم

فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا *** و أهلا و سهلا بالحبيب المسلّم

هنيئا لكم حبّي و صفو مودّتي *** فقد سيط من لحمي هواك و من دمي(1)

الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر، و فيه لدحمان ثقيل أول بالبنصر. و يقال: إنه لابن سريج، و قيل: إن الثقيل الأول لابن عائشة، و الثقيل الثاني لابن سريج، و فيه خفيف ثقيل أول، ينسب إلى ابن سريج و إلى علي بن الجواريّ.

ص: 432


1- سيط: خلط.

21 - خبر لحبابة مع ابن عائشة

اشارة

21 - خبر لحبابة مع ابن عائشة(1)

تشتاق حبابة إلى ابن عائشة فتحتال لتسمع غناءه:
اشارة

أخبرني الحسن بن يحيى و ابن أبي الأزهر، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن المدائنيّ، قال:

كانت حبابة جارية يزيد بن عبد الملك معجبة بغناء ابن عائشة، و كان ابن عائشة حديث السن، فلما طال عهدها به اشتاقت إلى أن تسمع غناءه، فلم تدر كيف تصنع، فاختلفت هي و سلاّمة في صوت لمعبد، فأمر يزيد بإحضاره و وجّه في ذلك رسولا، فبعثت حبابة إلى الرسول سرّا فأمرته أن يأتي ابن عائشة و أمير المدينة في خفاء، و يبلغهما رسالتها بالخروج مع معبد سرّا، و قالت: قل لهما يستران ذلك عن أمير المؤمنين.

فلما قدم الرسول إلى عامل المدينة أبلغه ما قالت حبابة، فأمر ابن عائشة بالرحلة مع معبد، و قال لمعبد: انظر ما تأمرك به حبابة فانتبه إليه، فقال: نعم، فخرجا حتى قدما على يزيد، و بلغ الخبر حبابة فلم تدر كيف تصنع في أمر ابن عائشة. فلما حضر معبد حاكمت سلاّمة إليه، فحكم لها، فاندفعت فغنت صوتا لابن عائشة، و فيه لابن سريج لحن، و لحن ابن عائشة أشهرهما، و هو:

أشارت بطرف العين خيفة أهلها

فقال يزيد: يا حبيبتي؛ أنّي لك هذا و لم أسمعه منك، و هو على غاية الحسن؟ إنّ لهذا لشأنا، فقالت: يا أمير المؤمنين، هذا لحن كنت أخذته عن ابن عائشة، قال: ذلك الصبي! قالت: نعم، و هذا أستاذه - و أشارت بيدها إلى معبد - فقال لمعبد: أ هذا لحن ابن عائشة أو انتحله؟ فقال معبد: هذا - أصلح اللّه الأمير - له، فقال يزيد: لو كان حاضرا ما كرهنا أن نسمع منه، فقال معبد: هو و اللّه معي لا يفارقني، فقال يزيد: /ويلك يا معبد! احتملنا الساعة أمرك، فزدتنا ما كرهنا، ثم قال لحبابة: هذا و اللّه عملك، قالت: أجل يا سيدي، قال لها: هذه الشام، و لا تحتمل لنا ما تحتمله المدينة. قالت: يا سيدي أنا و اللّه أحب أن أسمع من ابن عائشة، فأحضر، فلما دخل قال له: هات صوتا غنته حبابة:

أشارت بطرف العين خيفة أهلها

فغنّاه، فقال: هو و اللّه يا حبابة منه أحسن منك، قالت: أجل يا سيدي، ثم قال يزيد: هات يا محمد ما عندك، فغنى:

صوت

قف بالمنازل قبل أن نتفرقا *** و استنطق الربع المحيل المخلقا

ص: 433


1- هذا الخبر ممّا لم يرد في بولاق، و ورد في ملحق برنو، و موضعه هنا.

عن علم ما فعل الخليط لعله *** بجواب رجع حديثهم أن ينطقا

فيبين من أخبارهم لمتيم *** أمسى و أصبح بالرسول معلّقا

كلفا بها أبدا تسحّ دموعه *** وسط الديار مسائلا مستنطقا

ذرفت له عين يرى إنسانها *** في لجّة من مائها مغرورقا

تقري محاجرها الدموع كأنّها *** درّ و هي من سلكه مستوسقا(1)

الغناء لابن عائشة، و لحنه من الثقيل الأول بالوسطى، و فيه لشاربة خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى، و يقال:

إن فيه لابن جندب و حنين لحنين، قال: فقال له يزيد: أهلا و سهلا بك يا بن عائشة، فأنت و اللّه الحسن الوجه، الحسن الغناء. و أحسن إليه و وصله.

ثم لم يره يزيد بعد هذا المجلس، و بعثت إليه حبابة ببرّ و ألطاف و اتّبعتها سلامة في ذلك.

صوت

صوت(2)

لما سمعت الديك صاح بسحرة *** و توسط النسران بطن العقرب

و بدا سهيل في السماء كأنه *** نور و عارضه هجان الرّبرب

نبّهت ندماني و قلت له اصطبح *** يا بن الكرام من الشراب الطيب

صفراء تبرق في الزجاج كأنها *** حدق الجرادة أو لعاب الجندب

الشعر لأبي الهنديّ، و الغناء لإبراهيم الموصليّ، ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو.

ص: 434


1- مستوسقا: مجتمعا.
2- الصوت من مج، مل.

22 - أخبار أبي الهندي و نسبه

اشارة

22 - أخبار أبي الهندي و نسبه(1)

اسمه و نسبه و شعره:

اسمه غالب بن عبد القدّوس، بن شبث بن ربعيّ. و كان شاعرا مطبوعا، و قد أدرك الدولتين: دولة بني أمية، و أول دولة ولد العباس. و كان جزل الشعر، حسن الألفاظ، لطيف المعاني. و إنما أخمله و أمات ذكره بعده من بلاد العرب، و مقامه بسجستان و بخراسان، و شغفه بالشراب و معاقرته إياه، و فسقه و ما كان يتهم به من فساد الدين.

هو أول من وصف الخمر من شعراء الإسلام:

و استفرغ شعره بصفة الخمر، و هو أول من وصفها من شعراء الإسلام، فجعل وصفها وكده و قصده، و من مشهور قوله فيها و مختاره:

سقيت أبا المطرّح(2) إذ أتاني *** و ذو الرّعثات(3) منتصب يصيح

شرابا يهرب الذّبّان منه *** و يلثغ حين يشربه الفصيح

أبو نواس يأخذ من معانيه في الخمر:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال حدّثني فضل اليزيدي أنه سمع إسحاق الموصلي يوما يقول، و أنشد شعرا لأبي الهنديّ في صفة الخمر، فاستحسنه و قرّظه، فذكر عنده أبو نواس، فقال: و من أين أخذ أبو نواس معانيه إلاّ من هذه الطبقة؟ و أنا أوجدكم سلخه هذه المعاني كلّها في شعره، فجعل ينشد بيتا من شعر أبي الهنديّ، ثم يستخرج المعنى و الموضع الّذي سرقه الحسن فيه حين أتى على الأبيات كلها و استخرجها من شعره.

شعر مأخوذ من شعره:

أخبرني الحسن بن عليّ؛ قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال:

/حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد. قال: حدّثني شيخ من أهل البصرة، قال:

كنا عند أبي عبيدة، فأنشد منشد شعرا في صفة الخمر - أنساه الشيخ - فضحك ثم قال: هذا أخذه من قول أبي الهنديّ:

سيغني أبا الهندي عن وطب(4) سالم *** أباريق لم يعلق بها وضر(5) الزّبد

ص: 435


1- هذه الترجمة لم ترد في بولاق، و وردت في ملحق برنو، و موضعها هنا حسب المخطوطات المعتمدة.
2- في ف و «التجريد»: «المطوح»، و في «المختار»: «المطوع».
3- ذو الرعثاث: الديك، و الرعثاث: جمع رعثة، و هي عثنون الديك، و العثنون في الأصل؛ اللحية. و يراد بها هنا اللحمة الّتي تحت رأس الديك.
4- الوطب: سقاء اللبن.
5- الوضر: وسخ الدسم.

مفدّمة(1) قزّ(2) كأن رقابها *** رقاب بنات الماء تفزع للرعد

جلتها الجوالي حين طاب مزاجها *** و طيّبتها بالمسك و العنبر و الورد

تمجّ سلافا في الأباريق خالصا *** و في كلّ كأس من مها حسن القدّ

تضمّنها زق أزبّ (3) كأنه *** صريع من السودان ذو شعر جعد

نسخت من كتاب ابن النّطاح.

ثلاثة أيام يسكر فيها كلما أفاق:

حدّثني بعض أصحابنا:

أن أبا الهنديّ اشتهى الصّبوح في الحانة ذات يوم، فأتى خمارا بسجستان في محلّة يقال لها: كوه زيان - و تفسيره: جبل الخسران - يباع فيها الخمر و الفاحشة، و يأوي إليها كل خارب(4) وزان و مغنّية(5)، فدخل إلى الخمار فقال له: اسقني، و أعطاه دينارا، فكال له، و جعل يشرب حتى سكر، و جاء قوم يسألون عنه فصادفوه على تلك الحال. فقالوا للخمّار: ألحقنا به؛ فسقاهم حتى سكروا، فانتبه فسأل عنهم، فعرّفه الخمّار خبرهم، /فقال له: هذا الآن وقت السكر، الآن طاب، ألحقني بهم، فجعل يشرب حتى سكر، و انتبهوا فقالوا للخمار: ويحك! هذا نائم بعد! فقال: لا، و لقد انتبه، فلما عرف خبركم شرب حتى سكر، فقالوا: ألحقنا به فسقاهم حتى سكروا، و انتبه فسأل عن خبرهم، فعرفه فقال: و اللّه لألحقنّ بهم، فشرب حتى سكر، و لم يزل ذلك دأبه و دأبهم ثلاثة أيام لم يلتقوا و هم في موضع واحد، ثم تركوا هم الشرب عمدا حتى أفاق، فلقوه.

و هذا الخبر بعينه يحكي لواليه بن الحباب مع أبي نواس، و قد ذكر في أخبار والبة، و الصحيح أنه لأبي الهنديّ، و في ذلك يقول:

ندامى بعد ثالثة تلاقوا *** يضمّهم بكوه زيان راح

و قد باكرتها فتركت منها *** قتيلا ما أصابتني جراح

و قالوا أيّها الخمار من ذا؟ *** فقال أخ تخوّنه اصطباح

فقالوا هات راحك ألحقنا *** به و تعلّلوا ثم استراحوا

فما إن لبّثتهم أن رمتهم *** بحدّ سلاحها و لها سلاح

و حان تنبّهي فسألت عنهم *** فقال أتاحهم قدر متاح

رأوك مجدّلا فاستخبروني *** فحرّكهم إلى الشرب ارتياح

فقلت بهم فألحقني فهبّوا *** فقالوا هل تنبّه حين راحوا؟

فقال نعم فقالوا ألحقنا *** به قد لاح للرائي صباح

ص: 436


1- مفدمة: وصف من فدم الإناء: إذا جعل عليه الفدام، و هو مصفاة صغيرة، أو خرقة تجعل على فم الإبريق ليصفى بها ما فيه
2- القز، بالضم: التباعد من الدنس، و كل ما يستقذر، يريد أنها فدمت صيانة لها، و محافظة على ما فيها.
3- أزب، هو في الأصل: كثير شعر الوجه و الأذنين، و المراد أنه ذو شعر.
4- الخارب: اللص.
5- كذا في ف، و في س، ب: «بغيّة»، و لا وجه لإلحاق التاء يبغي.

فما إن زال ذاك الدأب منّا *** ثلاثا يستغبّ (1) و يستباح

نبيت معا و ليس لنا لقاء *** ببيت ما لنا فيه براح(2)

يموت مختنقا:

أخبرني عمي الحسن بن أحمد، قال: حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ، قال: قال صدقة بن إبراهيم البكريّ:

كان أبو الهنديّ يشرب معنا بمرو، و كان إذا سكر يتقلب تقلّبا قبيحا في نومه، فكنا كثيرا ما نشدّ رجله لئلا يسقط من السطح، فسكر ليلة و شددنا رجله بحبل، و طولنا فيه ليقدر على القيام إلى البول و غير ذلك من حوائجه، فتقلّب و سقط من السطح، و أمسكه الحبل فبقي منكّسا و تخنّق بما في جوفه من الشراب، فأصبحنا فوجدناه ميتا.

قال صدقة: فمررت بقبره بعد ذلك فوجدت عليه مكتوبا:

اجعلوا إن متّ يوما كفني *** و رق الكرم و قبري(3) معصره

إنّني أرجو من اللّه غدا *** بعد شرب الراح حسن المغفرة

قال: فكان الفتيان بعد ذلك يجيئون إلى قبره، و يشربون و يصبّون القدح إذا انتهى إليه على قبره.

قال حماد بن إسحاق عن أبيه في وفاة أبي الهنديّ: إنه خرج و هو سكران في ليلة باردة من حانة خمّار و هو ريان، فأصابه(4) ثلج فقتله، فوجد من غد ميتا على الطريق.

شعره و قد كف عن الشراب مدة:

و روى حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: حج نصر بن سيار و أخرج معه أبا الهنديّ، فلما حضرت أيام الموسم قال له: يا أبا الهنديّ، إنّا بحيث ترى، وفد اللّه و زوّار بيته، فهب لي النبيذ في هذه الأيام و احتكم عليّ، فلو لا ما ترى، ما منعتك، فضمن له ذلك و غلّظ عليه الاحتكام، و وكّل به نصر بن سيار، فلما انقضى الأجل مضى في السحر قبل أن يلقي نصرا، فجلس في أكمة يشرف منها على فضاء واسع، فجلس عليها و وضع بين يديه إداوة، و أقبل يشرب و يبكي، و يقول:

/أديرا عليّ الكأس إنّي فقدتها *** كما فقد المفطوم درّ المراضع

حليف مدام فارق الراح روحه *** فظل عليها مستهلّ المدامع

قال: و عاتب قوم أبا الهنديّ على فسقه و معاقرته الشراب، فقال:

إذا صلّيت خمسا كلّ يوم *** فإنّ اللّه يغفر لي فسوقي

و لم أشرك بربّ الناس شيئا *** فقد أمسكت بالدّين(5) الوثيق

و جاهدت العدوّ و نلت مالا *** يبلّغني إلى البيت العتيق

ص: 437


1- كذا في الأصل، كأنه استفعال من الغب، و المراد التناوب. و في «المختار»: «يستهب»، و في «التجريد»: «يستحل».
2- هذا البيت زيادة من «المختار» و «التجريد».
3- في «المختار»: «و قشر المعصرة».
4- في «المختار»: «فأصابه الثلج».
5- في «المختار»: «الحبل».

فهذا الدين ليس به خفاء *** دعوني من بنيّات الطريق(1)

شعره و قد امتنع من أجر فسقه:

قال إسحاق: و شرب يوما أبو الهندي بكوه زيان عند خمارة هناك، و كان عندها نسوة عواهر، ففجر بهنّ و لم يعطهنّ شيئا، فجعلن يطالبنه بجعل فلم ينفعهن، فقال في ذلك:

آلي يمينا أبو الهنديّ كاذبة *** ليعطينّ زواني لست ماشينا(2)

و غرّهنّ فلمّا أن قضى وطرا *** قال ارتحلن فأخزى اللّه ذادينا

يخطب امرأة فيرد أهلها خطبته:

أخبرني عمي عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر، عن أبي محلم، قال:

خطب أبو الهنديّ غالب بن عبد القدوس بن شبث بن ربعيّ إلى رجل من بني تميم، فقال: لو كنت مثل أبيك لزوّجتك، فقال له غالب: لكنك لو كنت مثل أبيك ما خطبت إليك.

أمثلة من سرعة جوابه:
اشارة

قال أبو محلم: و مرّ نصر بن سيّار بأبي الهنديّ، و هو سكران يتمايل، فوقف عليه فعذله و سبّه، و قال: ضيّعت شرفك، و فضحت أسلافك. فلما طال عتابه التفت/إليه فقال: لو لا أني ضيّعت شرفي لم تكن أنت على خراسان، فانصرف نصر خجلا.

قال أبو محلم: و كان بسجستان رجل يقال له: برزين ناسكا، و كان أبوه صلب في خرابة(3) فجلس إليه أبو الهنديّ - فطفق و يعرّض له بالشراب. فقال له أبو الهنديّ: أحدكم يرى القذاة(4) في عين أخيه، و لا يرى الخشبة في است أبيه! فأخجله.

قال أبو محلم: و كان أسرع الناس جوابا.

صوت

لقد قلت حين قرّ *** بت العيس يا نوار

قفوا فاربعوا قليلا *** فلم يربعوا و ساروا

فنفسي لها حنين *** و قلبي له انكسار

و صدري به غليل *** و دمعي له انحدار(5)

الشعر لسعيد بن وهب، و الغناء لسليم رمل بالوسطى عن الهشاميّ، و من جامع سليم و نسخة عمرو الثانية.

ص: 438


1- بنيات الطريق: الطرق الصغيرة المتشعبة من الجادة.
2- لست: موضع بعينه.
3- الخرابة: سرقة الإبل.
4- القذاة: ما يقع في العين أو الشراب من تبنة و نحوها.
5- هذا الصوت و الترجمة بعده من مج، هد، مل، و لم يرد في بولاق.

23 - أخبار سعيد بن وهب

نسبه و منشؤه:

سعيد بن وهب أبو عثمان مولى بني سلمة بن لؤيّ بن نصر، مولده و منشؤه(1) بالبصرة، ثم سار إلى بغداد فأقام بها، و كانت الكتابة صناعته، فتصرّف مع البرامكة فاصطنعوه، و تقدم عندهم.

أكثر شعره في الغزل:

و كان شاعرا مطبوعا، و مات في أيام المأمون، و أكثر شعره في الغزل و التشبيب(2) بالمذكّر، و كان مشغوفا بالغلمان و الشراب.

ثم تنسك(3) و تاب، و حج راجلا على قدميه، و مات على توبة و إقلاع و مذهب(4) جميل.

أبو العتاهية يرثيه:

و مات و أبو العتاهية حيّ، و كان صديقه فرثاه.

فأخبرني عليّ بن سليمان الأخفش. عن محمد بن مزيد. قال:

حدّثت عن بعض أصحاب أبي العتاهية. قال: جاء رجل إلى أبي العتاهية - و نحن عنده - فسارّه في شيء فبكى أبو العتاهية، فقلنا له: ما قال لك هذا الرجل يا أبا إسحاق فأبكاك؟ فقال، و هو يحدثنا لا يريد أن يقول شعرا:

قال لي مات سعيد بن وهب *** رحم اللّه سعيد بن وهب

يا أبا عثمان أبكيت عيني *** يا أبا عثمان أوجعت قلبي

قال: فعجبنا من طبعه و أنّه تحدّث، فكان حديثه شعرا موزونا.

يتوب و يتزهد:

و أخبرني الحسن بن عليّ الخفاف. قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدّثني سيبويه أبو محمد، قال:

كان سعيد بن وهب الشاعر البصريّ مولى بني سامة قد تاب و تزهّد، و ترك قول الشعر. و كان له عشرة من البنين و عشر من البنات، فكان إذا وجد شيئا من شعره خرقه و أحرقه.

و كان امرأ صدق، كثير الصلاة، يزكّي في كل سنة عن جميع ما عنده حتى إنه ليزكّي عن فضة كانت على امرأته.

ص: 439


1- هذه الترجمة ممّا لم يرد في طبعة بولاق، و هو في ملحق برنو و موضعها هنا حسب المخطوطات المعتمدة.
2- في «المختار»: و «كان أكثر شعره في الغزل و الشراب و التشبيب...»، و في «التجريد»: «و كان أكثر شعره في الغزل و الشراب».
3- في «المختار» و «التجريد»: «نسك».
4- في «المختار»: «و مذهبه».
شعره و قد توعده غلام كان يعشقه:

أخبرني عمي، قال: حدّثني عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى، قال: حدّثني أبو عثمان الليثي، قال:

كان سعيد بن وهب يتعشق غلاما يتشطر(1)، يقال له: سعيد، فبلغه أنه توعده أن يجرحه، فقال فيه:

من عذيري من سميّي(2) *** من عذيري من سعيد؟

أنا باللحم أجاه *** و يجائي بالحديد(3)

شعره حين رأى كتابا في أحوال جميلة:

حدّثني جحظة، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال:

نظر سعيد بن وهب إلى قوم من كتّاب السلطان في أحوال جميلة، فأنشأ يقول:

من كان في الدنيا له شارة *** فنحن من نظّارة الدّنيا

نرمقها من كثب حسرة *** كأنّنا لفظ بلا معنى

يعلوا بها الناس و أيامنا *** تذهب في الأرذل و الأدنى

شعره في غلام وسيم حين رآه:

أخبرني عمي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه/بن يعقوب بن داود، قال:

حدّثني عبد اللّه بن أبي العلاء المغني، قال:

نظر إليّ سعيد بن وهب، و أنا على باب ميمون بن إسماعيل، حين اخضرّ شاربي، و معه إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، فسلّمت على إسحاق فأقبل عليه سعيد، و قال: من هذا الغلام؟ فتبسّم، و قال: هذا ابن صديق لي، فأقبل عليّ و قال:

لا تخرجنّ مع الغزيّ لمغنم(4) *** إن الغزيّ يراك أفضل مغنم

في مثل وجهك يستحلّ ذوو التقى *** و الدين و العلماء كل محرّم

ما أنت إلاّ غادة ممكورة *** لو لا شواربك المطلّة(5) بالفم

يستميل غلاما بالشعر:

أخبرني محمد بن خلف المرزبان، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، عن أبي دعامة، قال: مرّ سعيد بن وهب و الكسائيّ، فلقيا غلاما جميل الوجه، فاستحسنه الكسائيّ و أراد أن يستميله(6)، فأخذ يذاكره بالنحو و يتكلم به، فلم

ص: 440


1- يتشطر: يتعاطى أعمال الشطار، جمع شاطر، و هو الّذي أعيا أهله خبثا.
2- ف «سمي»، و هو تحريف.
3- أجاه أجؤه: أضربه بالسكين.
4- الغزي: الغزاة.
5- هد: «المطيفة بالفم» و الممكورة: ذات الساق الغليظة.
6- في «المختار»: يستميله بالنحو».

يمل إليه، و أخذ سعيد بن وهب في العشر ينشده، فمال إليه الغلام، فبعث به إلى منزله، و بعث معه بالكسائيّ، و قال له: حدّثه و آنسه إلى أن أجيء و تشاغل بحاجة له، فمضى به الكسائيّ، فما زال يداريه حتى قضى حاجته و أربه، ثم قال له: انصرف، و جاء سعيد فلم يره، فقال:

شعره و قد نال الكسائي من الغلام الّذي استماله:

أبو حسن لا يفي *** فمن ذا يفي بعده؟

أثرت له شادنا *** فصايده وجده

و أظهر لي غدرة *** و أخلفني وعده

سأطلب ما ساءه *** كما ساءني جهده

يرثي ابنا له:

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني حماد بن إسحاق، عن أبيه قال: كان سعيد بن وهب لي صديقا، و كان له ابن يكنى أبا الخطاب، من أكيس الصبيان و أحسنهم وجها و أدبا، فكان لا يكاد يفارقه في كل حال، لشدة شغفه به، و رقته عليه. فمات و له عشر سنين، فجزع عليه جزعا شديدا، و انقطع عن لذاته. فدخلت إليه يوما لأعاتبه على ذلك، و أستعطفه، فحين رأى ذلك في وجهي فاضت دموعه، ثم انتحب حتى رحمته، و أنشدني:

عين جودي على أبي الخطّاب *** إذ تولّى غضّا بماء الشباب

لم يقارف ذنبا و لم يبلغ الحن *** ث مرجّى(1) مطهّر الأثواب

فقدته عيني إذا ما سعى أت *** رابه من جماعة الأتراب

إن غدا موحشا لداري فقد أص *** بح أنس الثّرى و زين التّراب

أحمد اللّه يا حبيبي فأني *** بك راج منه عظيم الثواب

ثم ناشدني ألاّ أذكّره بشيء مما جئت إليه، فقمت و لم أخاطبه بحرف.

و قد رأيت هذه الأبيات بعينها بخط إسحاق في بعض دفاتره، يقول فيه: أنشدني سعيد بن وهب لنفسه يرثي ابنا له صغيرا، و هي على ما ذكره جعفر بن قدامة عن حماد سواء.

كان مألفة للغلمان و الظرفاء و القيان:

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق، قال: حدّثني أبو هفّان، قال:

حدّثني أبو دعامة، قال: كان سعيد بن وهب مألفة لكل غلام أمرد، و فتى ظريف، و قينة محسنة، فحدّثني رجل كان يعاشره، قال: دخل إليه يوما و أنا عنده غلامان أمردان، فقالا له: قد تحاكمنا إليك: أيّنا أجمل وجها، و أحسن جسما؟ و جعلنا لك/أجر حكمك أن تختار أيّنا حكمت له، فتقضي حاجتك منه. فحكم لأحدهما، و قام فقضى حاجته و احتبسهما(2) فشربا عنده نبيذا، ثم مال على الآخر أيضا، و قمت معه. فداخلتهما حتى فعلت كفعله،

ص: 441


1- في س: «مزجى»، و هو تحريف.
2- في «المختار»: «فحبيسهما عنده و شربا».

فقال لي سعيد: هذا يوم الغارات في الحارات(1)، ثم قال:

شعره في غلامين احتكما إليه أيهما أجمل:

رئمان جاءا فحكّماني *** لا حكم قاض و لا أمير

هذا كشمس الضحى جمالا *** و ذا كبدر الدّجى المنير

و فضل هذا كذا على ذا *** فضل خميس على عشير

قالا أشر بيننا برأي *** و نجعل الفضل للمشير

تباذلا ثم قمت حتى *** أخذت فضلي من الكبير

و كان عيبا بأن أراني *** أحرم حظّي من الصغير

فكان منّي و من قريني *** إليهما وثبة المغير

فمن رأى حاكما كحكمي *** أعظم جورا بلا نكير!

و قال: و شاعت الأبيات حتى بلغت الرشيد، فدعا به فاستنشده إياها، فتلكأ، فقال له: أنشد و لا بأس عليك، فأنشد، فقال له: ويلك! اخترت الكبير سنا أو قدرا؟ قال: بل الكبير قدرا. قال: لو قلت غير هذا سقطت عندي و استخففت بك. و وصله.

يمدح الفضل بن يحيى ببيتين فيطرب لهما:

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني أبو العيناء، قال:

دخل سعيد بن وهب على الفضل بن يحيى في يوم قد جلس فيه للشعراء، فجعلوا ينشدونه و يأمر لهم بالجوائز حتى لم يبق منهم أحد، فالتفت إلى سعيد بن وهب كالمستنطق، فقال له:

/أيها الوزير، إني ما كنت استعددت لهذه الحال، و لا تقدّمت لها، عندي مقدّمة فأعرفها، و لكن قد حضرني بيتان أرجو أن ينوبا عن قصيدة، فقال: هاتهما فربّ قليل أبلغ من الكثير، فقال سعيد:

مدح الفضل نفسه بالفعال(2) *** فعلا عن مديحنا بالمقال

أمروني بمدحه قلت كلا *** كبر الفضل عن مديح الرجال

قال: فطرب الفضل، و قال له: أحسنت و اللّه و أجدت! و لئن قلّ القول و نزر لقد اتسع المعنى و كثر.

ثم أمر له بمثل ما أعطاه(3) كلّ من أنشده مديحا يومئذ، و قال: لا خير فيما يجيء بعد بيتيك(4)؛ و قام من المجلس و خرج الناس يومئذ بالبيتين لا يتناشدون سواهما.

ص: 442


1- في النسخ: «الخسارات»، و أحسبها محرفة.
2- مل، مج: «بالمعالي».
3- في «المختار»: «أعطى».
4- في س: «بيتك»، و هو تحريف.
كان نديم الفضل بن يحيى و أنيسه:

حدّثني عمّي قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال: حدّثت عن الخريمي، قال:

كان الفضل بن يحيى ينافس أخاه جعفرا، و ينافسه جعفر، و كان أنس بن أبي شيخ خاصا بجعفر، ينادمه و يأنس به في خلواته، و كان سعيد بن وهب بهذه المنزلة للفضل.

فدخلت يوما إلى جعفر، و دخل إليه سعيد بن وهب، فحدّثه و أنشده و تنادر له، و حكي عن المتنادرين، و أتى بكل ما يسرّ و يطرب و يضحك، و جعفر ساكت ينظر إليه لا يزيد على ذلك.

فلما خرج سعيد من عنده تجاهلت عليه، و قلت له: من هذا الرجل الكثير الهذيان؟ قال: أ و ما تعرفه؟ قلت:

لا؛ قال: هذا سعيد بن وهب صديق أخي/أبي العباس و خلصانه و عشيقه، قلت: و أيّ شيء رأى فيه؟ قال: لا شيء و اللّه إلاّ القذر و البرد و الغثاثة.

ثم دخلت بعد ذلك إلى الفضل، و دخل أنس بن أبي شيخ فحدّث و ندّر و حكى عن المضحكين و أتى بكل طريفة، فكانت قصة الفضل معه قصة جعفر مع سعيد، فقلت له بعد أن خرج من حضرته: من هذا المبرّد؟ قال:

أ و لا تعرفه؟ قلت: لا. قال: هذا أنس بن أبي شيخ صديق أخي أبي الفضل و عشيقه و خاصته. قلت: و أيّ شيء أعجبه فيه؟ قال: لا أدري و اللّه، إلاّ القذر و البرد و سوء الاختيار.

قال: و أنا و اللّه أعرف بسعيد و أنس من الناس جميعا، و لكني تجاهلت عليهما و ساعدتهما على هواهما.

يفي للفضل بن الربيع في نكبته فيعظم قدره:

حدّثني عمّي، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال: قال إبراهيم بن العباس:

قال لي الفضل بن الربيع ذات يوم: عرّفتنا أيام النكبة(1) من كنا نجهله من الناس، و ذلك أنا احتجنا إلى أن نودع أموالنا، و كان(2) أمرها كثيرا مفرطا، فكنا نلقيها على الناس إلقاء، و نودعها الثقة و غير الثقة، فكان ممن أودعته سعيد بن وهب، و كان رجلا صعلوكا لا مال له، إنما صحبنا على البطالة(3): فظننت أن ما أودعته ذاهب، ثم طلبته منه بعد حين، فجاءني و اللّه بخواتيمه.

و أودعت عليّ بن الهيثم كاتبنا جملة عظيمة، و كان عندي أوثق من أودعته، /فلما أمنت طالبته بالوديعة، فجحدنيها و بهتني(4) و حلف على ذلك، فصار سعيد عندي في السماء، و بلغت به كل مبلغ، و سقط عليّ بن الهيثم، فما يصل إليّ و لا يلقاني.

يحاجي جارية رجل من البرامكة:
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني حماد بن إسحاق عن أبيه، حدّثني عمرو بن بانة. قال:

كان في جواري رجل من البرامكة، و كانت له جارية شاعرة ظريفة، يقال لها حسناء، يدخل إليها الشعراء

ص: 443


1- في «المختار»: «البلية».
2- في «المختار»: «و كانت كثيرة مفرطة».
3- في «المختار»: «البطالة و الضحك».
4- بهتني: افترى عليّ الكذب.

و يسألونها عن المعاني، فتأتي بكل مستحسن من الجواب، فدخل إليها سعيد بن وهب يوما، و جلس إليها فحادثها طويلا، ثم قال لها بعد ذلك:

حاجيتك(1) يا حسنا(2) *** ء في جنس من الشّعر

و فيما طوله شبر *** و قد يوفي على الشّبر

له في رأسه شق *** نطوف(3) بالنّدى يجري

إذا ما جفّ لم يجر *** لدى برّ و لا بحر

و إن بلّ أتى بالع *** جب العاجب و السّحر

أجيبي لم أرد فحشا *** و ربّ الشفع و الوتر

و لكن صغت أبياتا *** لها حظ من الزجر(4)

قال: فغضب مولاها و تغيّر لونه، و قال أ تفحش على جاريتي و تخاطبها بالخنا! فقالت له: خفّض(5) عليك، فما ذهب إلى ما ظننت، و إنما يعني القلم، فسرّي عنه، و ضحك سعيد و قال: هي أعلم منك بما سمعت.

صوت

داينت أروى و الديون تقضى *** فمطلت بعضا و أدّت بعضا

يا ليت أروى إذ لوتك القرضا *** جادت بقرض فشكرت القرضا

الشعر لرؤبة بن العجاج، و الغناء لعمرو بن بانة، رمل بالوسطى.

ص: 444


1- حاجيتك: ألقيت عليك أحجية و في البيت خرم.
2- سقطت الهمزة من أول عجز البيت في ش.
3- نطوف: سيال.
4- في «المختار» بعد الأبيات: «يريد القلم»، فقالت له: عند أمك من خبر هذا المسئول عنه عجائب، فاسألها عنه تخبرك».
5- خفض عليك: هون عليك.

24 - أخبار رؤبة و نسبه

اشارة

24 - أخبار رؤبة و نسبه(1)

نسبه و اسم أبيه:

هو رؤبة بن العجّاج، و اسم العجاج عبد اللّه بن رؤبة بن حنيفة، و هو أبو جذيم بن مالك بن قدامة بن أسامة بن الحارث بن عوف بن مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم.

عصره و الاحتجاج بشعره:

من رجّاز الإسلام و فصحائهم، و المذكورين المقدّمين منهم، [بدويّ](2) نزل البصرة، و هو من مخضرمي الدولتين.

مدح بني أمية و بني العباس، و مات في أيام المنصور، و قد أخذ عنه وجوه أهل اللغة، و كانوا يقتدون به، و يحتجون بشعره، و يجعلونه إماما؛ و يكنى أبا الجحّاف و أبا العجّاج.

يراه يونس بن حبيب أفصح من معد بن عدنان:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و أحمد بن عمار - و اللفظ له - قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا خلاد بن يزيد، قال: حدّثني يونس بن حبيب، قال:

كنت جالسا مع أبي عمرو بن العلاء إذ مرّ بنا شبيل بن عزرة الضّبعيّ - قال أبو يزيد: و كان علاّمة - فقال: يا أبا عمرو، أشعرت أنّي سألت رأبة عن اسمه فلم يدر ما هو و ما معناه؟ قال يونس: فقلت له: و اللّه لرؤبة أفصح من معدّ بن عدنان، و أنا غلام رؤبة، أ فتعرف أنت روبة و روبة و روبة و روبة و رؤبة؟ قال: فضرب بغلته و ذهب، فما تكلم بشيء: قال يونس: فقال لي أبو عمرو: ما يسرني أنك نقصتني(3) منها.

قال ابن عمار في خبره: و الروبة: اللبن الخاثر، و الروبة: ماء الفحل، و الروبة: /الساعة تمضي من الليل، و الروبة: الحاجة، و الرؤبة: شعب القدح، قال: و أنشدني بعد ذلك.

فأما تميم تميم بن مرّ *** فألفاهم القوم روبى(4) نياما

حدّثني ابن عمّار، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني يحيى بن محمد بن أعين المروزيّ، قال:

حدّثني أبو عبيدة؛ قال:

شهدت شبيلا الضّبعيّ و أبا عمرو، فذكر نحوه.

ص: 445


1- هذه الترجمة وردت في ملحق برنو: و موضعها هنا على حسب المخطوطات المعتمدة، و وردت بعض أخبار رؤبة في التراجم السابقة.
2- زيادة من «المختار» و «التجريد».
3- في «المختار»: «أنك تنضب منها».
4- الروبى: الذين أثخنهم السير، فاستثقلوا نعاسا، جمع رائب أو روبان.

أخبرني أبو خليفة في كتابه إليّ عن محمد بن سلاّم، قال: قلت ليونس: هل رأيت عربيا قط أفصح من رؤبة؟ قال: لا، ما كان معدّ بن عدنان أفصح منه.

قال يونس: قال لي رؤبة: حتى متى أزخرف لك كلام الشيطان؟ أما ترى الشيب قد بلغ في لحيتك!

يروي هو و أبوه الحديث:

و قد روى رؤبة بن العجاج الحديث المسند عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و رواه أبوه أيضا.

ينشد أبا هريرة فيشهد له بالإيمان:

أخبرني عبد اللّه بن أبي داود السجستانيّ، قال: حدثنا عبد اللّه بن محمد بن خلاّد، قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزّهري، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم، عن يونس بن حبيب، عن رؤبة بن العجاج، عن أبيه قال: أنشدت أبا هريرة:

الحمد للّه الّذي تعلّت(1) *** بأمره السماء و استقلّت

بإذنه الأرض و ما تغيّت(2) *** أرسى عليها بالجبال الثّبت

الباعث الناس ليوم الموقت

/قال أبو هريرة: أشهد أنك تؤمن بيوم الحساب.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، عن ابن شبّة، عن أبي حرب البابيّ - من آل الحجاج بن باب - قال:

حدثنا يونس بن حبيب، عن رؤبة بن العجاج، عن أبي الشعثاء، عن أبي هريرة، قال:

كنا مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في سفر و حاد يحدو:

طاف الخيالان فهاجا سقما *** خيال لبنى و خيال تكتما

قامت تريك خشية أن تصرما *** ساقا بخنداة(3) و كعبا أدرما(4)

و النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يسمع و لا ينكر.

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثنا عبد اللّه بن عمرو، عن محمد بن إسحاق السهميّ، عن أبي عبيدة الحداد، قال: حدثنا رؤبة بن العجاج عن أبيه، قال:

سمعت أبا عبيدة يقول: السّواك يذهب وضر(5) الطعام.

ينشد أبا مسلم الخراساني فيجيزه:

أخبرني عمّي، قال: حدثنا محمد بن سعد الكرّانيّ، قال: حدثنا أبو حاتم و الأشناندانيّ أبو عثمان، عن أبي عبيدة، عن رؤبة بن العجاج، قال:

ص: 446


1- تعلت: علت شيئا فشيئا.
2- في «الديوان» و «اللسان» «عنا تغنّت أي و ما عصت. و يقال غيّا الراية أي نصبها».
3- الساق البخنداة: الممتلئة، و البخنداة في الأصل: المرأة التامة القصب.
4- الأدرم: المستوى.
5- الوضر: وسخ الدسم.

بعث إليّ أبو مسلم لما أفضت الخلافة إلى بني هاشم، فلما دخلت عليه رأى منّي جزعا، فقال: اسكن فلا بأس عليك، ما هذا الجزع الّذي ظهر منك؟ قلت أخافك، قال: و لم؟ قلت: لأنه بلغني أنك تقتل الناس، قال: إنما أقتل من يقاتلني و يريد قتلي، أ فأنت منهم؟ قتل: لا، قال: فهل ترى بأسا؟ لا، فأقبل على جلسائه ضاحكا، ثم قال: أما ابن العجّاج فقد رخّص لنا، ثم قال: أنشدني قولك:

/و قاتم الأعماق(1) خاوي المخترق(2)

فقلت: أو أنشدك - أصلحك اللّه أحسن منه؟ قال: هات، فأنشدته:

قلت و قولي(3) مستجدّ حوكا *** لبّيك إذ دعوتني لبّيكا

أحمد ربّا ساقني إليكا

قال: هات كلمتك الأولى، قلت: أو أنشدك أحسن منها؟ قال: هات، فأنشدته:

ما زال بيني خندقا و يهدمه *** و يستجيش عسكرا و يهزمه

و مغنما يجمعه و يقسمه *** مروان لما أن تهاوت أنجمه

و خانه في حكمه منجّمه

قال: دع هذا و أنشدني: و قاتم الأعماق، قلت: أو أحسن منه؟ قال: هات، فأنشدته:

رفعت بيتا و خفضت بيتا *** و شدت ركن الدين إذ بنيتا

في الأكرمين من قريش بيتا

قال: هات ما سألتك عنه، فأنشدته:

ما زال يأتي الأمر من أقطاره *** على اليمين و على يساره

مشمّرا لا يصطلى بناره *** حتى أقرّ الملك في قراره

و فرّ مروان على حماره

قال: ويحك! هات ما دعوتك له و أمرت بإنشاده، و لا تنشد شيئا غيره، فأنشدته:

/و قاتم الأعماق خاوي المخترق

فلما صرت إلى قولي:

يرمي الجلاميد بجلمود مدق

قال: قاتلك اللّه! لشدّ ما استصلبت الحافر! ثم قال: حسبك، أنا ذلك الجلمود المدقّ.

قال: و جيء بمنديل فيه مال فوضع بين يديّ، فقال أبو مسلم: يا رؤبة، إنك أتيتنا و الأموال مشفوهة(4)، و إن

ص: 447


1- الأعماق: جمع عمق، و يراد به هنا البعيد من أطراف المفاوز، مستعار من عمق البئر.
2- المخترق: موضع الاختراق، و يراد هنا، موضع قطع المفاوز.
3- ف «و نسجي».
4- مشفوهة: اشتد طلبها حتى نفذت.

لك لعودة إلينا و علينا معوّلا، و الدهر أطرق(1) مستتبّ، فلا تجعل بجنبيك الأسدة(2).

قال رؤبة: فأخذت المنديل منه، و تاللّه ما رأيت أعجميّا أفصح منه، و ما ظننت أحدا يعرف هذا الكلام غيري، و غير أبي.

قال الكرّاني: قال أبو عثمان الأشناندانيّ خاصة: يقال: اشتفّ ما في الإناء، و شفه: إذا أتى عليه، و أنشد:

و كاد المال يشفهه عيالي *** و ما ذو عيلتي من لا أعول(3)

يأكل الفأر و يفضله على الدواجن:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثني: محمد بن يزيد، و أخبرني إبراهيم/بن أيوب، قال:

حدّثني ابن قتيبة، قال:

كان رؤبة يأكل الفأر، فقيل له في ذلك و عوتب، فقال: هو و اللّه أنظف من دواجنكم و دجاجكم اللواتي يأكلن القذر(4)، و هل يأكل الفأر إلا نقيّ البرّ و لباب الطعام؟

يرحل هو و أبوه ليلقيا الوليد بن عبد الملك:

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن رؤبة، قال: لما ولّي الوليد بن عبد الملك الخلافة بعث بي الحجاج مع أبي لنلقاه، فاستقبلنا الشّمال حتى صرنا بباب الفراديس(5).

قال: و كان خروجنا في عام مخصب، و كنت أصلّي الغداة، و أجتني من الكمأة(6) ما شئت، ثم لا أجاوز إلاّ قليلا حتى أرى خيرا منها، فأرمي بها و آخذ الأخر، حتى نزلنا بعض المياه، فأهدي لنا حمل مخرفج(7) و وطب(8) لبن غليظ و زبدة كأنها رأس نعجة حوشية(9)، فقطّعنا الحمل آرابا(10)، و كررنا عليه اللبن و الزبدة، حتى إذا بلغ إناه(11)انتشلنا اللحم بغير خبز.

ص: 448


1- في ف: «أطرق مستلت»، كأن (أطرق) وصف من طرق، بكسر الراء: إذا اعوج. و كأن مستتب تحريف مستلت، و مستلت وصف من استلت. يقال: استلت القصعة: إذا مسحها بإصبعه. فيكون المعنى أن الدهر لا يستقيم على حال، يعطي و يستلب. و في «المختار»: «الطريق مستتب»، و مستتب: واضح. و لا يبدو لها هنا وجه.
2- لا تجعل بجنبيك الإساءة: لا يضيقن صدرك، كأنما يوصيه بالاحتمال و حسن المحاولة. و في «المختار»، مج، مل: «فلا تجعل بيننا و بينك الأسدة» و في ف: «فلا تجعل بيننا و بينك الأسرة»، و الأسرة تحريف.
3- ف: «و صادف عيلي من لا أعول».
4- في «المختار»: «يأكلن العذرة».
5- باب الفراديس: أحد أبواب دمشق، أضيف إلى موضع قريب منها.
6- الكمأة: ضرب من النبات، واحده كمء.
7- حمل مخرفج: سمين.
8- الوطب: سقاء اللبن.
9- حوشية: منسوبة إلى الحوش: بلاد الجن في زعمهم، تنسب إليها الإبل و غيرها.
10- الآراب: جمع إرب، بكسر فسكون، و هو العضو.
11- إناه: الإني: مصدر أني الطعام، كرمى، أدرك. و بلغ إناه: حان إدراكه.

ثم شربت من مرقه شربة لم تزل لها ذفرياي(1) ترشحان؛ حتى رجعنا إلى حجر(2).

فكان أول من لقينا من الشعراء جريرا، فاستعهدنا ألا نعين عليه. فكان أول/من أذن له من الشعراء أبي ثم أنا، فأقبل الوليد على جرير فقال له: ويلك! أ لا تكون مثل هذين؟ عقدا الشّفاه عن أعراض الناس، فقال: إني أظلم فلا أصبر(3).

ثم لقينا بعد ذلك جرير فقال: يا بني أمّ العجّاج، و اللّه لئن وضعت كلكلي عليكما ما أغنت عنكما مقطّعاتكما، فقلنا: لا و اللّه ما بلغه عنا شيء، و لكنه حسدنا لما أذن لنا قبله، و استنشدنا قبله.

يتوعد جرير أباه فيعتذر إليه:

و قد أخبرني ببعض هذا الخبر الحسن بن عليّ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدّثني أحمد ابن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ، قال: قال روح بن فلان الكلبيّ:

كنت عند عبد الملك بن بشر بن مروان فدخل جرير، فلما رأى العجاج أقبل عليه ثم قال له: و اللّه لئن سهرت لك ليلة ليقلّن عنك نفع مقطعاتك هذه، فقال العجاج: يا أبا حزرة، و اللّه ما فعلت ما بلغك، و جعل يعتذر و يحلف و يخضع؛ فلما خرج قال له رجل: لشدّ ما اعتذرت إلى جرير، قال: و اللّه لو علمت أنه لا ينفعني إلاّ السّلاح لسلحت.

ليس في شعره و لا شعر أبيه حرف مدغم:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، عن أحمد بن معاوية عن الأصمعيّ، عن سليمان بن أخضر، عن ابن عون، قال: ما شبّهت لهجة الحسن البصريّ إلاّ بلهجة رؤبة، و لم يوجد له و لا لأبيه في شعرهما حرف مدغم قطّ.

هو و أبوه أشعر الناس عند يونس بن حبيب:

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أخي الأصمعيّ عن عمه، قال: قيل ليونس:

من أشعر الناس، قال: العجاج و رؤبة، فقيل له لم(4)/و لم نعن الرّجاز؟ فقال: هما(5) أشعر من أهل القصيد(6)، إنما الشعر كلام: فأجوده أشعره، قد قال العجاج:

قد جبر الدّين الإله فجبر

و هي نحو من مائتي بيت موقوفة القوافي و لو أطلقت قوافيها كانت كلها منصوبة، و كذلك عامة أراجيزهما.

يقعد اللغويون إليه يوم الجمعة:

أخبرني أبو خليفة في كتابه إليّ عن محمد بن سلاّم: عن أبي زيد الأنصاريّ و الحكم بن قنبر: قالا:

ص: 449


1- ذفرياي: مثنى ذفري، بكسر فسكون ففتح، و هو العظم الشاخص خلف الأذن.
2- حجر: اسم لغير بلدة و موضع.
3- ف: «إني أظلم فأنتصر و لا أصبر».
4- في «المختار»: فقيل له: «لم نعن الرجاز».
5- كذا في «المختار»، و في الأصل: «هم»، و هو تحريف.
6- في «المختار»: «القصيدة».

كنا نقعد إلى رؤبة يوم الجمعة في رحبة بني تميم: فاجتمعنا يوما فقطعنا الطريق، و مرّت بنا عجوز فلم تقدر على أن تجوز في طريقها، فقال رؤبة بن العجاج:

تنحّ للعجوز عن طريقها *** إذ أقبلت رائحة من سوقها

دعها فما النحويّ من صديقها

يعبث به الصبيان فيستعين الوالي عليهم:

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قالا: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري النحويّ، قال:

دخل رؤبة بن العجاج السوق و عليه برنكان(1) أخضر، فجعل الصبيان يعبثون به، و يغرزون شوك النخل في برنكانه و يصيحون به، يا مرذوم يا مرذوم! فجاء إلى الوالي فقال: أرسل معي الوزعة(2)، فإن الصبيان قد حالوا بيني و بين دخول السوق، فأرسل معه أعوانا فشدّ على الصبيان، و هو يقول:

/أنحى على أمّك بالمرذوم *** أعور جعد من بني تميم

شرّاب ألبان خلايا(3) الكوم(4)

ففروا من بين يديه فدخلوا دارا في الصيارفة، فقال له الشّرط: أين هم؟ قال: دخلوا دار الظالمين، فسمّيت دار الظالمين إلى الآن لقول رؤبة، و هي في صيارفة سوق البصرة.

بينه و بين راجز من أهل المدينة:

و ذكر أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ، قال: قدم البصرة راجز من أهل المدينة، فجلس إلى حلقة فيها الشعراء، فقال: أنا أرجز العرب، أنا الّذي أقول:

مروان يعطي و سعيد يمنع *** مروان نبع(5) و سعيد خروع

وددت أني راميت من أحبّ في الرجز يدا بيد، و اللّه لأنا أرجز من العجاج، فليت البصرة جمعت بيني و بينه، قال: و العجاج حاضر و ابنه رؤبة معه، فأقبل رؤبة على أبيه فقال: قد أنصفك الرجل، فأقبل عليه العجاج و قال:

ها أنا ذا العجاج، فهلم! و زحف إليه، فقال: و أيّ العجّاجين أنت؟ قال: ما خلتك تعني غيري، أنا عبد اللّه الطويل - و كان يكني بذلك - فقال له المدنيّ: ما عنيتك و لا أردتك، فقال: و كيف و قد هتفت بي؟ قال: و ما في الدنيا عجاج سواك؟ قال: ما علمت، قال: لكني أعلم، و إياه عنيت. قال: فهذا ابني رؤبة، فقال: اللهم غفرا، ما بيني و بينكما عمل: و إنما مرادي غيركما، فضحك أهل الحلقة منه، و كفّا عنه.

ص: 450


1- البرنكان، كزعفران: الكساء.
2- الوزعة: جمع الوازع، وصف من وزع: أي كف و منع.
3- الخلايا: جمع خلية، و هي من الإبل: المخلاة للحلب.
4- الكوم: جمع كوماء، و هي: الناقة العظيمة السنام، و الفعل كوم، كفرح.
5- النبع: شجر تتخذ منه القسي و السهام لصلابته، ينبت في قنة الجبل.
بينه و بين زائرين:

أخبرني أبو خليفة في كتابه، عن محمد بن سلاّم: عن يونس، قال: /غدوت يوما أنا و إبراهيم بن محمد العطارديّ على رؤبة: فخرج إلينا كأنه نسر، فقال له ابن نوح: أصبحت و اللّه كقولك:

كالكرز(1) المشدود بين الأوتاد *** ساقط عنه الريش كرّ الإبراد(2)

فقال له رؤبة: و اللّه يا بن نوح ما زلت لك ماقتا، فقلت: بل أصبحت يا أبا الجحّاف كما قال الآخر:

فأبقين منه و أبقى الطرا *** د بطنا خميصا و صلبا سمينا

فضحك: و قال: هات حاجتك.

من رجزه و قد استأذن فلم يؤذن له:

قال ابن سلاّم: و وقف رؤبة على باب سليمان بن عليّ يستأذن: فقيل له: قد أخذ الإذريطوس(3) فقال رؤبة:

يا منزل الوحي على إدريس *** و منزل اللعن على إبليس

و خالق الاثنين و الخميس *** بارك له في شرب إذريطوس

يخطئه سلم بن قتيبة:

أخبرني الحسن بن يحيى قال: قال حماد: أخبرني أبي عن الأصمعي قال: أنشد رؤبة سلم بن قتيبة في صفة خيل:

يهوين شتّى و يقعن وقّفا

فقال له: أخطأت يا أبا الجحّاف: جعلته مقيدا فقال: أدنني أيها الأمير ذنب البعير أصفه لك كما يجب.

من رجزه و قد قدم الطعام و هو يلعب بالنرد:

أخبرني أبو خليفة في كتابه إليّ، عن محمد بن سلاّم، عن عبد الرحمن بن محمد.

أخبرني أبو خليفة في كتابه إليّ، عن محمد بن سلاّم، عن عبد الرحمن بن محمد، /عن علقمة الضّبي، قال:

خرج شاهين بن عبد اللّه الثقفي برؤبة إلى أرضه، فقعدوا يلعبون بالنّرد فلما أتوا بالخوان قال رؤبة:

يا إخوتي جاء الخوان فارفعوا *** حنّانة كعابها تقعقع

لم أدر ما ثلاثها و الأربع

قال: فضحكنا و رفعناها، و قدّم الطعام.

يشيد الخليل بفضله و قد عاد من جنازته:
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، عن

ص: 451


1- الكرز، الصقر، و البازي أيضا.
2- أبرده: فتره.
3- الإذريطوس: دواء، و الكلمة رومية معربة، و في ف: «قد أخذ الأذريطوس»، و هو اسم دواء.

محمد بن عبد اللّه بن مالك عن أبيه عن يعقوب بن داود، قال:

لقيت الخليل بن أحمد يوما بالبصرة فقال لي: يا أبا عبد اللّه دفنّا الشعر و اللغة و الفصاحة اليوم، فقلت: و كيف ذاك؟ قال: هذا حين انصرفت من جنازة رؤبة.

صوت

لعمري لقد صاح الغراب ببينهم *** فأوجع قلبي بالحديث الّذي يبدي

فقلت له أفصحت لا طرت بعدها *** بريش فهل للبين ويحك من ردّ؟

الشعر لقيس بن ذريح، و قد تقدمت أخباره و الغناء لعمرو بن أبي الكنّات، ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.

ص: 452

25 - أخبار عمرو بن أبي الكنات

اسمه و ولاؤه و كنيته:
اشارة

/هو عمرو بن عثمان بن أبي الكنّات، مولى بني جمح، مكي مغن(1)، محسن موصوف بطيب الصوت من طبقة ابن جامع و أصحابه، و فيه يقول الشاعر:

أحسن الناس فاعلموه غناء *** رجل من بني أبي الكنّات

و له في هذا الشعر غناء مع أبيات قبله لحن ابتداؤه:

صوت

عفت الدار بالهضاب اللواتي *** بسوار(2)؛ فملتقى عرفات

فالحريان(3) أوحشا بعد أنس *** فديار بالرّبع ذي السّلمات(4)

إنّ بالبين(5) مربعا من سليمى *** فإلى محضرين(6)؛ فالنخلات

و بعده البيت الأول المذكور.

الغناء في هذا الشعر لعمرو بن أبي الكنات، و طريقته من الرمل بالوسطى.

و قيل: إنه لابن سريج، و قيل: بل لحن ابن سريج غير هذا اللحن، و ليس فيه البيت الرابع الّذي فيه ابن أبي الكنّات.

/و يكنى عمرو بن أبي الكنّات أبا عثمان، و ذكر بن خرداذبه أنه كان يكنى أبا معاذ؛ و كان له ابن يغني أيضا يقال له: درّاج؛ ليس بمشهور و لا كثير الغناء.

يؤثره الرشيد على جمع من المغنين:

فذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات في الخبر الّذي حكاه(7) عنه من أخباره أن محمد بن عبد اللّه المخزوميّ حدثه قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن فزوة قال:

ص: 453


1- كذا ف. و في س، ب: «يكنى بمعن»، تحريف.
2- سوار: من قرى البحرين لبني عبد القيس العامريين. و رواية «نهاية الأرب»، هد: عفت الدار فالهضاب اللواتي بين ثور فملتقى عرفات و ثور: جبل بمكة، به الغار الّذي اختفى الرسول فيه.
3- في ف: «الجريان».
4- السلمات: الحجارة، جمع سلمة بفتح فكسر.
5- البيت: اسم لعدة مواضع، منها موضع قرب نجران، و آخر قرب الحيرة.
6- في «معجم ياقوت»: محضر: قرية بأجإ لطيئ.
7- في ف: «رواه».

قلت لابن جامع(1) يوما: هل غلبك أحد من المغنين قط؛ قال: نعم؛ كنت ليلة ببغداد إذ جاءني رسول الرشيد(2)؛ يأمرني بالركوب؛ فركبت حتى إذا صرت إلى الدار، فإذا أنا بفضل بن الربيع معه زلزل العواد و برصوما: فسلمت و جلست قليلا، ثم طلع خادم فقال للفضل: هل جاء؟ فقال: لا، قال: فابعث إليه؛ و لم يزل المغنون يدخلون واحدا بعد واحد حتى كنا ستة أو سبعة.

ثم طلع الخادم فقال: هل جاء؟ فقال: لا، قال: قم(3)؛ فابعث في طلبه؛ فقام فغاب غير طويل؛ فإذا هو قد جاء بعمرو بن أبي الكنّات؛ فسلم؛ و جلس إلى جنبي فقال لي: من هؤلاء؟ قلت مغنون؛ و هذا زلزل، و هذا برصوما. فقال: و اللّه لأغنينك غناء يخرق هذا السقف و تجيبه الحيطان و لا يفهمون منه شيئا. قال: ثم طلع الخصيّ فدعا بكراسيّ؛ و خرجت الجواري. فلما جلسن قام الخادم للمغنين: شدوا، فشدّوا عيدانهم(4)، ثم قال: نعم يا بن جامع؛ فغنيت سبعة أو ثمانية أصوات. ثم قال: اسكت و ليغنّ إبراهيم الموصلي؛ فغنى مثل ذلك أو دونه. ثم سكت؛ فلم يزل يمرّ القوم واحدا واحدا حتى فرغوا.

/ثم قال: لابن أبي الكنّات: غنّ، فقال لزلزل: شد طبقتك(5)، فشد ثم أخذ العود من يده فحبّسه حتى وقف على الموضع الّذي يريده، ثم قال: على هذا و ابتدأ بصوت أوله: ألالا: فو اللّه لقد خيّل لي أن الحيطان تجاوبه. ثم رجع النغم فيه. فطلع الخصيّ فقال له: اسكت. لا تتم الصوت، فسكت.

ثم قال: يحبس عمرو بن أبي الكنّات، و ينصرف باقي المغنين، فقمنا بأكسف حال و أسوإ بال، لا و اللّه ما زال كل واحد منا يسأل صاحبه عن كل شعر يرويه من الغناء الّذي أوله: ألالا، طمعا في أن يعرفه أو يوافق غناءه. فما عرفه منا أحد و بات عمرو ليلته عند الرشيد، و انصرف/من عنده بجوائز و صلات و طرف سنيه.

يغني و قد دفع من عرفة فيزحم الناس الطريق:

قال هارون: و أخبرني محمد بن عبد اللّه عن موسى بن أبي المهاجر قال:

خرج ابن جامع و ابن أبي الكنّات حين(6) دفعا من عرفة حتى إذا كان بين المأزمين(7) جلس عمرو على طرف الجبل، ثم اندفع يغني، فوقف القطارات، و ركب الناس بعضهم بعضا حتى صاحوا و استغاثوا: يا هذا، اللّه اللّه.

اسكت عنا يجز الناس، فضبط إسماعيل بن جامع بيده على فيه حتى مضى الناس إلى مزدلفة.

يغني على جسر بغداد فتمتلئ الجسور بالناس:
اشارة

قال هارون: و حدّثني عبد الرحمن بن سليمان عن عليّ بن أبي الجهم قال: حدّثني من أثق به قال.

وافقت ابن أبي الكنّات المديني(8) على جسر بغداد أيام الرشيد. فحدثته بحديث اتصل بي عن ابن عائشة أنه

ص: 454


1- ف: «إسماعيل بن جامع».
2- في ف: «أمير المؤمنين».
3- كذا في ف. و في س، ب: «نعم»، تحريف.
4- هد، ف: «قال الخادم للمغنين: سووا، فسووا عيدانهم».
5- في ف: «طبقك».
6- في «نهاية الأرب»: «حين دفع الإمام من عرفة».
7- المأزمان: اسم لعدة مواضع، منها موضع بمكة بين المشعر الحرام و عرفه.
8- في ف، و «نهاية الأرب»: واقفت ابن أبي الكنات على جسر.

فعله أيام هشام، و هو أن بعض أصحابنا حدّثني قال: وقف/ابن عائشة في الموسم فمرّ به بعض أصحابه، فقال له:

ما تعمل؟ فقال: إني لأعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس، فلم يذهب أحد و لم يجيء. فقلت له: و من هذا الرجل؟ قال: أنا، ثم اندفع يغني:

صوت

جرت سنحا فقلت(1) لها أجيزي *** نوى مشمولة فمتى اللقاء

بنفسي من تذكّره سقام *** أعالجه و مطلبه عناء

قال: فحبس الناس، و اضطربت المحامل(2)، و مدّت الإبل أعناقها، و كادت الفتنة تقع، فأتي به هشام فقال:

يا عدو اللّه أردت أن تفتن الناس؟ فأمسك عنه و كان تياها، فقال له هشام: أرفق بتيهك(3). فقال ابن عائشة: حقّ لمن كانت هذه قدرته على القلوب أن يكون تيّاها، فضحك و أطلقه قال فبرق(4) ابن أبي الكنات، و كان معجبا بنفسه، و قال: أنا أفعل كما فعل، و قدرتي على القلوب أكثر من قدرته كانت، ثم اندفع فغنى في هذا الصوت و نحن على جسر بغداد.

و كان إذ ذاك على دجلة ثلاثة جسور معقودة، فانقطعت الطرق، و امتلأت الجسور بالناس، و ازدحموا عليها، و اضطربت حتى خيف عليها أن تتقطع لثقل من عليها من الناس. فأخذ فأتي به الرشيد، فقال: يا عدو اللّه أردت أن تفتن الناس؟ فقال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين، و لكنه بلغني أن ابن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام، فأحببت أن يكون في أيامك مثله فأعجب(5) من قوله ذلك، و أمر له بمال، و أمره/أن يغني، فسمع شيئا لم يسمع مثله فاحتبسه عنده شهرا(6) يستزيده في كل يوم استأذنه فيع في الانصراف - يوما آخر حتى تم له شهر(6) فقال هذا المخبر عنه:

و كان ابن أبي الكنّات كثير الغشيان لي: فلما أبطأ توهمته قد قتل فصار إليّ بعد شهر بأموال جسيمة، و حدّثني بما جرى بينه و بين الرشيد.

يسمع غناؤه على ثلاثة أميال:
اشارة

قال هارون: و أخبرني محمد بن عبد اللّه المخزوميّ عن عثمان بن موسى مولانا قال:

كنا يوما باللاحجة و معنا عمرو بن أبي الكنّات، و نحن على شرابنا إذ قال لنا قبل طلوع الشمس: من تحبون أن يجيئكم؟ قلنا: منصور الحجبيّ. فقال: أمهلوا حتى يكون الوقت الّذي ينحدر فيه إلى سوق البقر، فمكثنا ساعة ثم اندفع يغني:

أحسن الناس فاعلموه غناء *** رجل من بني أبي الكنّات

عفت الدار بالهضاب اللواتي *** بسوار فملتقى عرفات

ص: 455


1- سقطت هذه الكلمة من س.
2- المحامل: جمل محمل كمجلس، و هو شقان على البعير، يجمل فيهما العديلان.
3- في س: «بتهيك»، تحريف.
4- في هد، مل. نزق و في ب، س مرق، كفرح.
5- في ف، و «نهاية الأرب»: «فأعجبه ذلك».
6- - (6) زيادة من هد، ف.

/فلم نلبث أن رأينا منصورا من بعد قد أقبل يركض دابته نحونا، فلما جلس إلينا قلنا له: من أين علمت بنا؟ قال: سمعت صوت عمرو يغني كذا و كذا و أنا في سوق البقر، فخرجت أركض دابتي حتى صرت إليكم، قال:

و بيننا و بين ذلك الموضع ثلاثة أميال.

قال هارون، و أخبرني محمد بن عبد اللّه، قال: أخبرني يحيى بن يعلى بن سعيد قال:

بينا أنا ليلة في منزلي في الرمضة أسفل مكة إذ سمعت صوت عمرو بن أبي الكنّات كأنه معي، فأمرت الغلام فأسرج لي دابتي، و خرجت أريده، فلم أزل أتبع الصوت حتى وجدته جالسا على الكثيب العارض ببطن عرنة(1)يغني:

صوت

خذي العفو مني تستديمي مودّتي *** و لا تنطقي في سورتي حين أغضب

و لا تنقريني نقرة الدّفّ مرة *** فإنك لا تدرين كيف المغيّب

فإني وجدت الحب في الصدر و الأذى *** إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهب

عروضه من الطويل، و لحنه من الثقيل الثاني بالوسطى من رواية إسحاق. و الشعر لأسماء بن خارجة الفزاريّ، و قد قيل: إنه لأبي الأسود الدّؤلي، و ليس ذلك بصحيح. و الغناء لإبراهيم الموصلي، و فيه لحن قديم للغريض من رواية حماد عن أبيه.

ص: 456


1- بطن عرنة: واد بحذاء عرفات.

26 - أسماء بن خارجة و ابنته هند

وصيته لبنته ليلة زفافها:

أخبرني اليزيديّ عن أحمد بن زهير عن الزّبير بن بكار قال:

زوّج أسماء بن خارجة الفزاريّ بنته هندا من الحجاج بن يوسف، فلما كانت ليلة أراد البناء بها قال لها أسماء بن خارجة: يا بنيّة، إنّ الأمهات يؤدبن البنات، و إنّ أمّك هلكت و أنت صغيرة، فعليك بأطيب الطيب الماء، و أحسن الحسن الكحل. و إياك و كثرة المعاتبة، فإنها قطيعة للودّ، و إياك و الغيرة فإنها مفتاح الطلاق. و كوني لزوجك أمة يكن لك عبدا، و اعلمي أني القائل لأمّك:

خذي العفو مني تستديمي مودّتي

شعر لبعض الشعراء فيها:

قال: و كانت هند امرأة مجرّبة قد تزوجها جماعة من أمراء العراق، فقبلت من أبيها وصيته. و كان الحجاج يصفها في مجلسه بكلّ خير، و فيها يقول بعض الشعراء يخاطب أباها:

جزاك اللّه يا أسماء خيرا *** كما أرضيت فيشلة الأمير

بصدغ قد يفوح المسك منه *** عليه مثل كركرة(1) البعير

إذا أخذ الأمير بمشعبيها *** سمعت لها أزيزا كالصرير

إذا لقحت بأرواح تراها *** تجيد الرّهز من فوق السرير(2)

قال مؤلف هذا الكتاب: الشعر لعقيبة الأسديّ.

يعير معير بتزويج الحجاج فيحتال حتى يزوجه المعير أيضا:

أخبرني الجوهريّ و حبيب المهلبيّ عن ابن شبة قال:

/لما قدم الحجاج الكوفة أشار عليه محمد بن عمير بن عطارد أن يخطب إلى أسماء ابنته هند، فخطبها فزوجه أسماء ابنته، فأقبل عليه محمد متمثّلا يقول:

أ من حذر الهزال نكحت عبدا *** فصهر العبد أدنى للهزال!

فاحتملها عليه أسماء و سكت عن جوابه، ثم أقبل على الحجاج يوما و هند جالسة، فقال: ما يمنعك من الخطبة إلى محمد بن عمير ابنته فإنّ من(3) شأنها كيت و كيت. فقال: أ تقول/هذا و هند تسمع؟ فقال: موافقتك

ص: 457


1- الكركرة: جزء من زور البعير، ناتئ عن جسمه كالقرص، إذا برك أصاب الأرض.
2- الرهز: التحرك عند المباشرة، و في ف: «إذا لقحت بأزواج»، و في هد: «إذا لهجت بأرواح».
3- في ف: «فإن من أمرها و شأنها».

أحبّ إليّ من رضا هند، فخطبها إلى محمد بن عمير، فزوجه إيّاها، فقال أسماء لمحمد بن عمير، و ضرب بيده على منكبه:

دونك ما أسديته يا بن حاجب *** سواء كعين(1) الديك أو قذّة(2) النسر

بقولك للحجاج إن كنت ناكحا *** فلا تعد هندا من نساء بني بدر

فإن أباها لا يرى أنّ خاطبا *** كفاء له إلا المتوج من فهر

فزوجتها الحجاج لا متكارها *** و لا راغبا(3) عنه و نعم أخو الصهر

أردت ضراري فاعتمدت مسرتي *** و قد يحسن الإنسان من حيث لا يدري

فإن ترها عارا فقد جئت مثلها *** و إن ترها فخرا فهل لك من شكر؟

أحبت هند عبيد اللّه بن زياد حبّا شديدا:

قال المدائنيّ حدّثني الحرمازي عن الوليد بن هشام القحذمي و كان كاتب خالدا القسريّ و يوسف بن عمر(4) أن هندا بنت أسماء كانت تحت(5) عبيد اللّه بن زياد، و كان أبا عذرها، فلما قتل - و كانت معه - لبست قباء، و تقلّدت سيفا، و ركبت فرسا/لعبيد اللّه كان يقال لها: الكامل، و خرجت حتى دخلت الكوفة ليس معها دليل، ثم كانت بعد ذلك أشدّ خلق اللّه جزعا عليه، و لقد قالت يوما: إني لأشتاق إلى القيامة لأرى وجه عبيد اللّه بن زياد.

بشر بن مروان يتزوجها:

فلما قدم بشر بن مروان الكوفة دلّ عليها، فخطبها، فزوّجها، فولدت له عبد الملك بن بشر، و كان ينال من الشراب و يكتم ذلك، و كان إذا صلّى العصر خلا في ناحية من داره ليس معه أحد إلا أعين مولاه صاحب حمّام أعين بالكوفة، و أخذ في شأنه. فلم تزل هند تتجسّس خبره حتى عرفته، فبعثت مولى لها، فأحضرها أطيب شراب و أحدّه و أشده و أرقه و أصفاه، و أحضرت(6) له طعاما علمت أنه يشتهيه، و أرسلت إلى أخويها: مالك و عيينة، فأتياها و بعثت إلى بشر و اعتلّت عليه بعلة، فجاءها فوضعت بين يديه ما أعدّته، فأكل و شرب، و جعل مالك يسقيه، و عيينة يحدّثه، و هند تريه وجهها. فلم يزل في ذلك حتى أمسى، فقال: هل عندكم من هذا شيء نعود عليه غدا؟ فقالت: هذا دائم لك ما أردته، فلزمها و بقي أعين يتبع الديار بوجهه و لا يرى بشرا، إلا أن يبحث عن أمره فعرفه، و علم أنه ليس فيه حظ بعدها. قال و مات عنها بشر فلم تجزع عليه، فقال الفرزدق في ذلك:

فإن تك(7) لا هند بكته فقد بكت *** عليه الثريا في كواكبها الزّهر

ص: 458


1- يضرب المثل بعين الديك في الصفاء.
2- قذة النسر: ريشه، كأنها في مقابلة عين الديك كناية عن المشارة و المعاداة.
3- كذا في ف. و في س، ب: «باغيا»، تحريف.
4- كذا في ب، ف. س: «ابن عمران»، تحريف.
5- كذا في ف، و في س، ب: «ثحب».
6- في ف: «أصلحت».
7- في ف: «فإلا تكن».
الحجاج يخلف بشرا في تزوجها:

ثم خلف عليها الحجاج، و كان السبب في ذلك فيما ذكره المدائنيّ عن الحرمازيّ عن القحذميّ، و أخبرني به من هاهنا أحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة عن عثمان بن عبد الوهاب عن عبد الحميد الثقفيّ قالا:

كان السبب في ذلك أنه بعث أبا بردة بن أبي موسى الأشعري - و هو قاضيه - /إلى أسماء يقول له: إن قبيحا بي مع بلاء أمير المؤمنين عندي أن أقيم بموضع فيه ابنا أخيه بشر لا أضمهما إليّ، و أتولّى منهما مثل ما أتولى من ولدى. فاسأل هندا أن تطيب نفسا عنهما.

و قال عمر بن شبة في خبره: و أعلمها أنه لا بد من التفرقة بينها و بينهما حتى أؤدبهما، قال أبو بردة: فاستأذنت فأذن لي و هو يأكل و هند معه، فما رأيت وجها(1)/و لا كفا و لا ذراعا أحسن من وجهها و كفها و ذراعها، و جعلت تتحفني و تضع بين يديّ.

قال أبو زيد في خبره: فدعاني إلى الطعام، فلم أفعل، و جعلت تعبث بي و تضحك، فقلت: أما و اللّه لو علمت ما جئت له لبكيت، فأمسكت يدها عن الطعام فقال: أسماء: قد منعتها الأكل: فقل: ما جئت له. فلما بلّغت أسماء ما أرسلت به بكت، فلم أر و اللّه دموعا قطّ سائلة من محاجر أحسن من دموعها على(2) محاجرها. ثم قالت:

نعم أرسل بهما إليه، فلا أحد أحقّ بتأديبهما منه.

و قال أسماء: إنما عبد الملك ثمرة قلوبنا - يعني عبد الملك بن بشر - و قد أنسنا به، و لكن أمر الأمير طاعة، فأتيت الحجاج، فأعلمته جوابها و هيئتها. فقال: ارجع فاخطبها عليّ فرجعت و هما على حالهما. فلما دخلت قلت:

إني جئتك بغير الرسالة الأولى قال: اذكر ما أحببت. قلت: قد جئت خاطبا. قال: أعلى نفسك فما بنا عنك رغبة؟ قلت: لا، على من هو خير لها مني، و أعلمته ما أمرني به الحجاج، فقال: ها هي تسمع ما أدّيت، فسكتت، فقال أسماء: قد رضيت، و قد زوجتها إياه.

فقال أبو زيد في حديثه: فلما زوجها أبوها قامت مبادرة و عليها مطرف(3)، و لم تستقل قائمة من ثقل عجيزتها حتى انثنت و مالت لأحد شقيها من شحمها، فانصرفت بذلك إلى الحجاج، فبعث إليها بمائة ألف درهم و عشرين تختا من ثياب و قال: يا أبا بردة، /إني أحب أن تسلمها إليها، ففعلت ذلك، و أرسلت إليّ من المال بعشرين ألفا، و من الثياب تختين. فقلت: ما أقبل شيئا حتى أستطلع رأي الأمير. ثم انصرفت إليه فأعلمته، فأمرني بقبضة و وصلني بمثله(4).

و قال: أبو زيد في حديثه: فأرسل إليها بثلاثين غلاما مع كل غلام عشرة آلاف درهم، و ثلاثين جارية مع كل جارية تخت من ثياب، و أمر لي بثلاثين ألفا و ثيابا لم يذكر عددها. فلما وصل ذلك إلى هند أمرت بمثل ما أمر لي به الحجاج، فأبيت قبوله، و قلت: ليس الحجاج ممن يتعرّض له بمثل هذا. و أتيت الحجاج فأخبرته. فقال: قد أحسنت و أضعف اللّه لك ذلك، و أمر له بستين ألفا، و بضعف تلك الثياب، و كان أول ما أصبته مع الحجاج. و أرسل

ص: 459


1- ف: «فما وجدت وجها قط».
2- في ف: «من».
3- في ف: «مطرف خز أسود».
4- زيادة في ف.

إليها: إني أكره أن أبيت خلوا(1)، و لي زوجة. فقالت: و ما احتباس امرأة عن زوجها و قد ملكها و آتاها(2) كرامته و صداقها، فأصلحت من شأنها، و أتته ليلا.

قال: المدائني: فسمعت أن ابن كناسة ذكر أن رجلا من أهل العلم حدثه عن امرأة من أهله قالت: كنت فيمن زفّها. فدخلنا عليه و هو في بيت عظيم في أقصاره ستارة، و هو دون الستارة على فرشه، فلما أن دخلت سلّمت، فأومأ إليها بقضيب كان في يده. فجلست عند رجليه، و مكثت ساعة و هو لا يتكلم و نحن وقوف، فضربت بيدها على فخذه، ثم قالت: أ لم تبعد من سوء الخلق؟ قال: فتبسم، و أقبل عليها، و استوى جالسا. فدعونا له و خرجنا و أرخيت الستور.

سبب تطليق الحجاج لها:

قال: ثم قدم الحجاج البصرة، فحملها معه. فلما بني قصره الّذي دون المحدثة(3) الّذي يقال له: قصر الحجاج اليوم قال لها: هل رأيت قط أحسن من هذا القصر؟ قالت(4): ما أحسنه! قال: أصدقيني، قالت: أمّا إذ أبيت فو اللّه ما رأيت أحسن من القصر الأحمر. و كان فيه عبيد اللّه بن زياد، و كان دار الإمارة بالبصرة، و كان ابن زياد بناه بطين أحمر. فطلق هندا غضبا بما قالته، و بعث إلى القصر فهدمه، و بناه بلبن. ثم تعهده صالح بن عبد الرحمن في/خلافة سليمان بن عبد الملك، فبناه بالآجرّ، ثم هدم بعد ذلك فأدخل في المسجد الجامع.

حنين الحجاج إلى مراجعتها:

قال: القحذميّ عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي:

فخرجنا يوما نعود عبد الملك بن بشر، فسلّمنا عليه و عدناه معه. ثم خرجنا و تخلف الحجاج، فوقفنا ننتظره، فلما خرج التفتّ فرآني، فقال: يا محمد ويحك! رأيت هندا الساعة فما رأيتها(5)، قط أجمل و لا أشبّ منها حين رأيتها، و ما أنا بممس حتى أراجعها: فقلت: أصلح اللّه الأمير، امرأة طلقتها على عتب(6) يرى الناس أن نفسك تتبعها، و تكون لها الحجة عليك. قال: صدقت، الصبر أحجى.

قال: محمد: و اللّه ما كان منى ما كان نظرا و لا نصيحة، و لكني أنفت لرجل من قريش أن(7) تداس أمّه في كل وقت.

خبر طريف يروى عن أسماء:

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائني عن جويرية بن أسماء عن عمه قال:

حججت فإني لفي رفقة من قومي إذ نزلنا منزلا و معنا امرأة، فنامت و انتهبت(8) و حية مطوية عليها، قد جمعت

ص: 460


1- خلوا: لا زوجة معي.
2- كذا في ف. و في ب، س: «انتهى»، تحريف.
3- المحدثة: قرية بواسط.
4- س، ب: «قال لها: هل رأيت قط أحسن من هذا القصر؟ فقالت: هذا القصر».
5- ب، س: «فما رأيت»، و المثبت من ف.
6- كذا في ف و في ب، س: «على عنت».
7- كذا في ف؛ و في ب، س: «أنفت لرجل أن تراس أمه»، و فيها سقط و تحريف.
8- كذا في ف. ب، س: «و انتبهت و معها حية».

رأسها و ذنبها بين ثدييها. فهالنا ذلك و ارتحلنا(1).

فلم تزل منطوية عليها لا تضيرها حتى دخلنا الحرم فانسابت، فدخلنا مكة و قضينا نسكنا، فرآها الغريض فقال: أيّ شقيّة، ما فعلت حيتك؟ فقالت: في النار، قال: ستعلمين من أهل النار؟ و لم أفهم ما أراد، و ظننت أنه مازحها، و اشتقت إلى غنائه، و لم يكن بيني و بينه ما يوجب ذلك، فأتيت بعض أهله، فسألته ذلك، فقال نعم، فوجّه إليه أن اخرج بنا إلى موضع كذا، و قال لي: اركب بنا، فركبنا حتى سرنا قدر ميل، فإذا الغريض هناك، فنزلنا، فإذا طعام معدّ، و موضع حسن. فأكلنا و شربنا، ثم قال: يا أبا يزيد، هات بعض طرائفك فاندفع يغني، و يوقع بقضيب:

مرضت فلم تحفل عليّ جنوب *** و أدنفت و الممشى إليّ قريب

فلا يبعد اللّه الشباب و قولنا *** إذا ما صبونا صبوة سنتوب

فلقد سمعنا شيئا ظننت أن الجبال الّتي حولي تنطق معه: شجا صوت، و حسن غناء. و قال لي: أ تحب أن يزيدك(2)؟ فقلت: إي و اللّه. فقال: هذا ضيفك و ضيفنا، و قد رغب إليك و إلينا، فأسعفه بما يريد. فاندفع يغني بشعر مجنون بني عامر:

عفا اللّه عن ليلى الغداة فإنها *** إذا وليت حكما عليّ تجور

أ أترك ليلى ليس بيني و بينها *** سوى ليلة؟ إني إذا لصبور!

/فما عقلت لما غنى من حسنه إلا بقول صاحبي: نجور عليك يا أبا يزيد. فقلت:

و ما معناك في ذلك؟ فقال: إن أبا يزيد عرّض بأني لما وليت الحكم عليه جرت في سؤالي إياه أكثر من صوت واحد. فقلت له - بعد ساعة - سرّا: جعلت فداءك، إني أريد المضي و أصحابي يريدون الرحلة، و قد أبطأت عليهم، فإن رأيت أن تسأله - حاطه اللّه من السوء و المكروه - أن يزوّدني لحنا واحدا. فقال لي: يا أبا يزيد، أتعلم ما أنهى إلينا ضيفنا؟ قال: نعم، أرادك أن تكلمني في أن أغنيه قلت: هو و اللّه ذلك، فاندفع يغني:

خذي العفو مني تستديمي مودتي *** و لا تنطقي في سورتي حين أغضب

فإني رأيت الحب في الصدر و الأذى *** إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهب

/فقال: قد أخذنا العفو منك، و استدمنا مودتك، ثم أقبل علينا فقال: أ لا أحدثكم بحديث حسن؟ فقلنا:

بلى. قال: قال شيخ العلم و فقيه الناس و صاحب عليّ - صلوات اللّه عليه - و خليفة عبد اللّه بن العباس على البصرة أبو الأسود الدؤلي لابنته ليلة البناء(3): أي بنيّة، النساء(4) كنّ بوصيتك و تأديبك أحقّ مني، و لكن لا بد مما لا بد منه. يا بنيّة، إن أطيب الطيب الماء، و أحسن الحسن الدهن، و أحلى الحلاوة الكحل. يا بنية، لا تكثري مباشرة زوجك فيملّك، و لا تباعدي عنه فيجفوك و يعتلّ عليك، و كوني كما قلت لأمّك:

ص: 461


1- كذا في ب، س: «ارتحلنا»، تحريف.
2- في ف: «نزيدك».
3- ف: «ليلة بها».
4- ف: «إن النساء».

خذي العفو مني تستديمي مودتي *** و لا تنطقي في سورتي حين أغضب

/فقلت: له فدتك نفسي، ما أدري أيّهما أحسن: أ حديثك أم غناؤك؟ و السّلام عليكم. و نهضت فركبت و تخلّف الغريض و صاحبه في موضعهما، و أتيت أصحابي و قد أبطأت، فرحلنا منصرفين حتى إذا كنا في المكان الّذي رأيت فيه الحية منطوية على صدر المرأة و نحن ذاهبون - رأيت المرأة و الحية منطوية عليها، فلم ألبث أن صفرت الحية، فإذا الوادي يسيل علينا حيات فنهشنها حتى بقيت عظاما. فطال تعجبنا من ذلك، و رأينا ما لم نر مثله قط. فقلت لجارية كانت معها: ويحك أخبرينا عن هذه المرأة، قالت: نعم أثكلت(1) ثلاث مرات، كلّ مرّة تلد ولدا: فإذا وضعته سجرت التنور ثم ألقته: فذكرت قول الغريض حين سألها عن الحية، فقالت: في النار.(2) فقال:

ستعلمين من في النار(2).

نسبة ما في هذه الأصوات من الغناء
اشارة

فمنها:

صوت

مرضت فلم تحفل على جنوب *** و أدنفت و الممشى إليّ قريب

فلا يبعد اللّه الشباب و قولنا *** إذا ما صبونا صبوة سنتوب

عروضه من الطويل. الشعر لحميد بن ثور الهلاليّ، و الغناء للغريض من رواية حماد عن أبيه، و فيه لعلّويه ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة و منها:

صوت

عفا اللّه عن ليلى الغداة فإنها *** إذا وليت حكما عليّ تجور

أ أترك ليلى ليس بيني و بينها *** سوى ليلة إني إذا لصبور!

عروضه من الطويل، و الشعر - يقال - لأبي دهبل الجمحيّ، و يقال: إنه لمجنون بني عامر، و يقال: إنه لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج، خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو بن بانة، و فيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى، و في الثاني و الأول خفيف ثقيل أول بالبنصر مجهول.

أخبرني الحرميّ عن الزبير عن محمد بن الضحاك عن أبيه قال: قال أبو دهبل:

أ أترك ليلى ليس بيني و بينها *** سوى ليلة إني إذا لصبور

هبوني امرأ منكم أضلّ (2) بعيره *** له ذمة إن الذمام كبير

/و للصاحب المتروك أعظم حرمة *** على صاحب من أن يضلّ بعير

ص: 462


1- ف، هد: «بغت ثلاث مرات». (2-2) زيادة من ف، هد.
2- أضل بعيره: ذهب البعير عنه.

قال الزبير و قال عمي: هذه الأبيات لمجنون بني عامر.

قال أحمد بن الحارث الخزار عن المدائنيّ عن أبي محمد الشيباني قال: قال عبد الملك بن مروان لعمر بن أبي ربيعة: أنت القائل:

أ أترك ليلى ليس بيني و بينها *** سوى ليلة إني إذا لصبور!

قال: نعم. قال فبئس المحبّ أنت: تركتها و بينها و بينك غدوة. قال: يا أمير المؤمنين، إنها من غدوات سليمان، غدوّها شهر، و رواحها شهر.

أخبرني اليزيديّ عن أحمد بن يحيى و ابن زهير قال حدّثني عمر بن القاسم بن المعتمر الزهريّ قال: قلت لأبي السائب المخزوميّ: أما أحسن الّذي يقول:

/أ أترك ليلى ليس بيني و بينها *** سوى ليلة إني إذا لصبور!

هبوني أمرأ منكم أضل بعيره *** له ذمة إن الزمام كبير

و للصاحب المتروك أعظم حرمة *** على صاحب من أن يضلّ بعير؟

فقال: بأبي أنت، كنت و اللّه أجنّبك(1) و تثقل عليّ، فأنا الآن أحبك(2) و تخفّ عليّ، حيث تعرف هذا.

صوت

من الخفرات لم تفضح أخاها *** و لم ترفع لوالدها شنارا

كأنّ مجامع الأرداف منها *** نقا درجت(3) عليه الريح هارا

يعاف و صال ذات البذل قلبي *** و يتّبع الممنّعة النّوارا

(4) الخفرة: الحيية، و الخفر: الحياء. و الشنّار: العار. و النقا: الكثيب من الرمل. درجت عليه الريح: مرت.

هار: تهافت و تداعى. قال اللّه تبارك و تعالى: عَلىٰ شَفٰا جُرُفٍ هٰارٍ (4) و يعاف: يكره. و النوار: الصعبة الممتنعة الشديدة الإباء(4).

عروضه من الوافر. الشعر للسّليك بن السّلكة، و الغناء لابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لابن الهربذ لحن من رواية بذل، و لم يذكر طريقته و فيه لابن طنبورة لحن ذكره إبراهيم في كتابه و لم يجنّسه.

ص: 463


1- س، ب: «أحبك».
2- زيادة في ف.
3- كذا في ف. ب، س: «نقادر»، تحريف. (4-4) زيادة في ب.
4- سورة التوبة: 109.

27 - أخبار السليك بن السلكة و نسبه

نسبه:

هو السّليك بن عمرو، و قيل: بن عمير بن يثربيّ. أحد بني مقاعس، و هو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. و السّلكة: أمّة، و هي أمة سوداء.

من صعاليك العرب العدائين:

و هو أحد صعاليك العرب العدّائين الذين كانوا لا يلحقون، و لا تعلق بهم الخيل إذا عدوا. و هم: السّليك بن السّلكة، و الشّنفري، و تأبط شرا، و عمرو بن برّاق، و نفيل بن براقة. و أخبارهم تذكر على تواليها هاهنا إن شاء اللّه تعالى في أشعار لهم يغنّى فيها؛ لتتصل أحاديثهم.

فأمّا السّليك(1) فأخبرني بخبره الأخفش عن السكري عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي، قال: و قرئ لي خبره و شعره على محمد بن الحسن الأحول عن الأثرم عن أبي عبيدة. أخبرني ببعضه اليزيديّ عن عمه عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضّل، و قد جمعت رواياتهم، فإذا اختلفت نسبت كل مرويّ إلى راويه.

يستودع بيض النعام ماء في الشتاء ليشربه في الصيف:

قال أبو عبيدة: حدّثني المنتجع بن نبهان قال:

كان السّليك بن عمير السعديّ إذا كان الشتاء استودع ببيض النعام ماء السماء ثم دفنه، فإذا كان الصيف /و انقطعت إغارة الخيل و أغار. و كان أدلّ من قطاة - يجيء حتى يقف على البيضة. و كان لا يغير على مضر، و إنما بغير على اليمن، فإذا لم يمكنه ذلك أغار على ربيعة.

صفاته:

و قال المفضل في روايته:

و كان السليك من أشد رجال العرب و أنكرهم و أشعرهم. و كانت العرب تدعوه/سليك المقانب(2) و كان أدلّ الناس بالأرض، و أعلمهم بمسالكها، و أشدّهم عدوا على رجليه لا تعلق به الخيل. و كان يقول: اللهم إنك تهيئ ما شئت لما شئت إذا شئت. اللهم إني لو كنت ضعيفا كنت عبدا، و لو كنت امرأة كنت أمة. اللهم إني أعوذ بك من الخيبة، فأما الهيبة فلا هيبة.

من إنهاء غاراته:

فذكروا أنه أملق حتى لم يبق له شيء فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرّة من بعض من يمرّ به فيذهب

ص: 464


1- ب، س: «أخبرني».
2- المقانب، جمع مقنب و هو من الخيل من الثلاثين إلى الأربعين.

بإبله، حتى أمسى في ليلة من ليالي الشتاء باردة مقمرة فاشتمل الصماء ثم نام - و اشتمال الصماء: أن يرد فضلة ثوبه على عضده اليمنى، ثم ينام عليها - فبينا هو نائم إذ جثم رجل(1) فقعد على جنبه فقال: استأسر. فرفع السليك إليه رأسه، و قال: الليل طويل و أنت مقمر. فأرسلها مثلا، فجعل الرجل يلهزه(2) و يقول: يا خبيث استأسر. فلما آذاه بذلك أخرج السليك بعده، فضم الرجل إليه ضمة ضرط منها و هو فوقه، فقال السليك: أ ضرطا و أنت الأعلى؟ فأرسلها مثلا، ثم قال: من أنت؟ فقال. أنا رجل افتقرت، فقلت: لأخرجنّ فلا أرجع إلى أهلي حتى أستغني فآتيهم و أنا غنّي قال. انطلق معي. فانطلقا، فوجدا رجلا قصته مثل قصتهما. فاصطحبوا جميعا حتى أتوا الجوف: جوف مراد.

فلما أشرفوا عليه إذا فيه نعم قد ملأ كل شيء من كثرته. فهابوا أن يغيروا فيطردوا بعضها، فيلحقهم الطلب.

فقال لهما سليك. كونا قريبا مني حتى آتي الرّعاء فأعلم لكما علم الحي، أ قريب أم بعيد. فإن كانوا قريبا رجعت إليكما، و إن كانوا بعيدا قلت لكما قولا أومئ(3) إليكما به فأغيرا. فأنطلق حتى أتى الرّعاء، فلم يزن/يستنطقهم حتى أخبروه بمكان الحي، فإذا هم بعيد. إن طلبوا لم يدركوا. فقال السّليك للرّعاء: أ لا أغنيكم؟ فقالوا: بلى غنّنا، فرفع صوته و غنّى:

يا صاحبيّ ألا لاحي بالوادي *** سوى عبيد و آم(4) بين أذواد

أ تنظران قريبا ريث غفلتهم *** أم تغدوان فإن الريح(5) للغادي؟

فلما سمعا ذلك أتيا السليك، فأطردوا الإبل فذهبوا بها و لم يبلغ الصّريخ الحي حتى فاتوهم بالإبل.

نبأ آخر من أنباء المراتع:

قال المفضل: و زعموا أن سليكا خرج و معه رجلان من بني الحارث بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم يقال لهما: عمرو و عاصم و هو يريد الغارة، فمر على حي بني شيبان في ربيع و الناس مخصبون في عشية فيها ضباب و مطر، فإذا هو ببيت قد انفرد من البيوت و قد أمسى. فقال لأصحابه: كونوا بمكان كذا حتى آتي أهل هذا البيت، فلعلي(6) أن أصيب لكم خيرا، أو آتيكم بطعام قالوا: افعل، فانطلق و قد أمسى و جن عليه الليل، فإذا البيت بيت رويم، و هو جد حوشب بن يزيد بن رويم، و إذا الشيخ و امرأته بفناء البيت.

فأتى السليك البيت من مؤخره فدخله، فلم يلبث أن راح ابنه بإبله. فلما أراحها غضب الشيخ، و فقال لابنه:

هلاّ عشيّتها ساعة من الليل. فقال له ابنه: إنها أبت العشاء فقال: /العاشية(7) تهيج الآبية، فأرسلها مثلا. ثم غضب الشيخ، و نفض ثوبه في وجهها، فرجعت إلى مراتعها و معها الشيخ حتى مالت بأدنى روضة. فرتعت. و حبس الشيخ عندها لتتعشى، و غطى وجهه بثوبه من البرد، و تبعه سليك.

ص: 465


1- ف، هد: م: «جثم عليه رجل».
2- يلهزه: يضربه بجمع يده في صدره أو رقبته.
3- أومئ. أوحي إليكما به.
4- الأمم: جمع أمة.
5- الريح: الغلبة و الظفر.
6- ب، س: «فعلي».
7- العاشية: الراعية ليلا من الإبل.

/فلما وجد الشيخ مغترا(1) ختله(2) من ورائه، فضربه فأطار رأسه، و صاح بالإبل فطردها، فلم يشعر صاحباه - و قد ساء ظنهما و تخوفا عليه - حتى إذا هما بالسليك يطردها فطرداها معه، و قال سليك في ذلك:

و عاشية راحت بطانا ذعرتها *** بسوط(3) قتيل وسطها يتسيف(4)

كأنّ عليه لون برد محبّر(5) *** إذا ما أتاه صارخ(6) يتلهف

فبات لها(7) أهل خلاء فناؤهم *** و مرّت بهم طير فلم يتعيفوا(8)

و باتوا يظنون الظنون و صحبتي *** إذا ما علوا نشزا(9) أهلّوا و أوجفوا(10)

و ما نلتها حتى تصعلكت حقبة *** و كدت لأسباب المنية أعرف(11)

و حتى رأيت الجوع بالصيف ضرّني *** إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف(12)

من حيله للغارة:

و قال الأثرم في روايته عن أبي عبيدة:

خرج سليك في الشهر الحرام حتى أتى عكاظ، فلما اجتمع الناس ألقى ثيابه، /ثم خرج متفضّلا مترجلا، فجعل يطوف الناس و يقول: من يصف لي منازل قومه، و أصف له منازل قومي؟ فلقيه قيس بن مكشوح المراديّ، فقال: أنا أصف لم منازل قومي، وصف لي منازل قومك، فتواقفا، و تعاهدا ألا يتكاذبا.

فقال قيس بن المكشوح: خذ بين مهبّ الجنوب و الصّبا، ثم سر حتى لا تدري أين ظل الشجرة؟ فإذا انقطعت المياه فسر أربعا حتى تبدو لك رملة و قفّ بينها(13) الطريق، فإنك ترد على قومي مراد و خثعم.

فقال السّليك: خذ بين مطلع سهيل و يد الجوزاء اليسرى العاقد لها من أفق السماء، فثمّ منازل قومي بني سعد بن زيد مناة.

فانطلق قيس إلى قومه فأخبرهم الخبر، فقال أبوه المكشوح: ثكلتك أمك. هل تدري من لقيت؟ قال: لقيت رجلا فضلا(14) كأنما خرج من أهله، فقال: هو و اللّه سليك بن سعد.

ص: 466


1- كذا في ف، أي غافلا. و في ب، س: «مفترا»، أي ساكنا مستقرا، من فتر الشيء تفتيرا سكنه.
2- كذا في ف، و في ب، س: «استله من ردائه».
3- في «مجمع الأمثال» للميداني: «بصوت».
4- كذا في أ، ب، ج، أي يضرب بالسيف. و في ف: «يتشرف» مبينا للمعلوم، من تشرف عليه بمعنى أشرف. و في س: «و يتسيف»، تحريف.
5- محبر: موشى، يريد أن الدم بدت له عليه طرائق.
6- كذا في أ، ف، أي باك متحزن. و في ب، س: «صارم» تحريف.
7- كذا في ف. و في ب، س: «له».
8- لم يتعيفوا: لم يزجروها.
9- نشزا: مرتفعا من الأرض.
10- أوجفوا: حملوها على الوجيف، و هو ضرب من السير.
11- أعرف: أصبر.
12- أسدف: أظلمت عيناه من الجوع. و خص الصيف بالذكر، لكثرة اللبن فيه.
13- في ف: «رملة وقف بينهما الطريق». و القف: ما ارتفع من الأرض.
14- فضل: في ثواب واحد.

فاستعلق و استعوى(1) السليك قومه فخرج أحماس(2) من بني سعد و بني عبد شمس - و كان في الربيع يعمد إلى بيض النعام فيملؤه من الماء و يدفنه في طريق اليمن في المفاوز. قال: فإذا غزا في الصيف مرّ به فاستثاره(3) - فمرّ بأصحابه حتى إذا انقطعت عنهم المياه قالوا: يا سليك أهلكتنا ويحك! قال: قد بلغتم الماء، ما أقربكم منه! حتى إذا انتهى إلى قريب من المكان الّذي خبأ الماء فيه طلبه فلم يجده، و جعل يتردد في طلبه. فقال بعض أصحابه لبعض:

أين يقودكم هذا العبد؟ قد و اللّه هلكتم، و سمع ذلك. ثم أصاب الماء(4) بعد ما ساء ظنهم، فهمّ السليك بقتل بعضهم، ثمّ أمسك.

/فانصرفت عنه بنو عبد شمس في طوائف من بني سعد. قال: و مضى السليك في بني مقاعس و معه رجل من بني حرام يقال له: صرد. فلمّا رأى أصحابه قد انصرفوا بكى و مضى به السّليك، حتى إذا دنوا من بلاد خثعم ضلّت ناقة صرد في جوف الليل، فخرج في طلبها، فأصابه أناس حين أصبح، فإذا هم مراد و خثعم، فأسروه، و لحقه(5) السليك فاقتتلوا قتالا شديدا.

و كان أول من/لقيه قيس بن مكشوح، فأسره السليك بعد أن ضربه ضربة أشرفت على نفسه، و أصاب من نعمهم ما عجز عنه هو و أصحابه، و أصاب أمّ الحارث(6) بنت عوف بن يربوع الخثعمية يومئذ، و استنقذ صرد من أيدي خثعم، ثم انصرف مسرعا، فلحق بأصحابه الذين انصرفوا عنه قبل أن يصلوا إلى الحي، و هم أكثر من الذين شهدوا معه، فقسمها بينهم على سهام الذين شهدوا. و قال السليك في ذلك:

بكى صرد لما رأى الحيّ أعرضت *** مهامه رمل دونهم و سهوب

و خوّفه ريب الزمان و فقره *** بلاد عدوّ حاضر و جدوب

و نأي بعيد عن بلاد مقاعس *** و أن مخاريق الأمور تريب

فقلت له لا تبك عينك إنها *** قضية ما يقضى لها فتثوب(7)

سيكفيك فقد(8) الحي لحم مغرّض(9) *** و ماء قدور في الجفان مشوب

أ لم تر أن الدهر لونان لونه *** و طوران(10) بشر مرة و كذوب

/فما خير(11) من لا يرتجى خير أوبة *** و يخشى عليه مرية(12) و حروب

ص: 467


1- ساقطة من ب، س.
2- أحماس: شجعان و في هد، م: «فخرج في أخماس من بني سعد و بني عبد شمس».
3- ب، س: «استأثره»، تحريف.
4- زيادة في ف.
5- كذا في ف. و في ب، س: «لحقوا».
6- في س: «حرف».
7- في أ: «يقضي لنا فنئوب».
8- الفقد: شراب من زبيب، أو عسل، أو كشوث بضمتين أو فتح و ضم، و هو نبت يعلق بالأغصان و لا عرق له في الأرض. و في م: «بسر».
9- مغرض: أخذ طريا.
10- في ب، س: «طوان»، تحريف و في ف: «و قاران بشر تارة». و التار: التارة.
11- في ب، س: «فيا خير»، تحريف.
12- في ف: «سرية». و هي كغرفة: جماعة الخيل ما بين العشرين إلى الثلاثين.

رددت عليه نفسه فكأنما *** تلاقى عليه منسر(1) و سروب

فما ذرّ قرن الشمس حتى أريته(2) *** قصار(3) المنايا و الغبار يثوب(4)

و ضاربت عنه القوم حتى كأنما *** يصعّد في آثارهم و يصوب(5)

و قلت له خذ هجمة(6) حميريّة(7) *** و أهلا و لا يبعد عليك شروب(8)

و ليلة جابان(9) كررت عليهم *** على ساعة(10) فيها الإياب حبيب

عشية كرّت(11) بالحراميّ ناقة *** بحيّ هلا تدعى به فتجيب

فضاربت أولي الخيل حتى كأنما *** أميل عليها أيدع و صبيب

الأيدع: دم الأخوين، و الصبيب: الحناء.

من أنباء قدرته على الاحتمال:

قال أبو عبيدة: و بلغني أن السّليك بن السّلكة رأته طلائع جيش لبكر بن وائل، و كانوا جازوا منحدرين ليغيروا على بني تميم و لا يعلم بهم أحد، فقالوا: /إن علم السّليك بنا أنذر قومه، فبعثوا إليه فارسين على جوادين، فلمّا هايجاه خرج يمحص(12) كأنه ظبي، و طارداه سحابة يومه، ثم قالا: إذا كان الليل أعيا، ثم سقط أو قصر عن العدو، فنأخذه.

فلما أصبحا وجدا(13) أثره قد عثر بأصل شجرة فنزعها(13)، فندرت قوسه فانحطمت، فوجدا(13) قصدة(14)منها قد ارتزّت(15) بالأرض، فقالا: ما له، أخزاه اللّه؟ ما أشدّه! و همّا بالرجوع، ثم قالا: لعل هذا كان من أول الليل ثم فتر، فتبعاه، فإذا أثره متفاج(16) قد بال(18) فرغا في الأرض و خدّها(18) فقالا: ما له قاتله اللّه؟ ما أشدّ متنه!

ص: 468


1- المنسر: قطعة من الجيش تمر قدام الجيش الكبير و السروب: جماعات الخيل.
2- كذا في ف. و في ب، س: «رأيته».
3- كذا في ف. و القصار: الغاية. و في ب، س: «مضاد»، و قد يكون محرفا عن مصاد كسحاب. و يراد به الغاية أيضا، و هو في الأصل: أعلى الجبل.
4- في ف: «و الفؤاد يذوب».
5- يصوب: ينحدر.
6- الهجمة: جماعة من الإبل أولها أربعون.
7- كذا في أ، ف، م. و في ب، س: «جبرية»، تحريف.
8- شروب: شراب.
9- جابان: مخلاف باليمن.
10- كذا في أ، ف، م. و في ب، س: «ساحة».
11- كذا في أ، م. و في ب، س: «كدت».
12- يمحص: يعدو. (13-13) زيادة في ف على ما في س، ب.
13- وردت هذه الكلمة محرفة في جميع النسخ.
14- القصدة: القطعة مما يكسر.
15- كذا في ج، ف. و معناها: ثبتت. و في ب، س: «ارتزنت»، تحريف.
16- متفاج: متباعد ما بين رجليه و في ج، «مفج»، من أفج بمعنى تفاج، الّذي منه متفاج. (18-18) زيادة في ج، ف. و في ب، س: «قد بال في الأرض وجد، فقالا»، سقط و تحريف.

و اللّه لا نتبعه أبدا، فانصرفا. و نمى(1) إلى قومه و أنذرهم، فكذبوه لبعد الغاية، فأنشأ يقول:

يكذّبني العمران عمرو بن جندب *** و عمرو بن سعد و المكذّب أكذب

لعمرك ما ساعيت من سعى عاجز *** و لا أنا بالواني ففيم أكذّب(2)؟

ثكلتكما(3) إن لم أكن قد رأيتها *** كراديس(4) يهديها إلى الحي موكب

/كراديس فيها الحوفزان و قومه *** فوارس همّام متى يدع يركبوا(5)

- يعني الحوفزان بن شريك الشيباني -.(6) تفاقدتم هل أنكرنّ مغيرة *** مع الصبح يهديهن أشقر مغرب(7)؟

تفاقدتم: يدعو عليهم بالتفاقد(6).

قال، و جاء الجيش فأغاروا على جمعهم.

كان يقال له: سليك المقانب:

قال: و كان يقال/للسّليك سليك المقانب، و قد قال في ذلك فرار الأسديّ - و كان قد وجد قوما يتحدثون إلى امرأته من بني عمها فعقرها بالسيف، فطلبه بنو عمها فهرب و لم يقدروا عليه - فقال في ذلك:

لزوار ليلى منكم آل برثن *** على الهول أمضي من سليك المقانب

يزورونها و لا أزور نساءهم *** أ لهفى لأولاد الإماء الحواطب

يلجأ إلى امرأة فتنقذه فيقول فيها شعرا:

و قال أبو عبيدة: أغار السليك على بني عوار(8) بطن من بني مالك بن ضبيعة، فلم يظفر منهم بفائدة، و أرادوا مساورته.

فقال شيخ منهم: إنه إذا عدا لم يتعلق به، فدعوه حتى يرد الماء، فإذا شرب و ثقل لم يستطع العدو، و ظفرتم به. فأمهلوه حتى ورد الماء و شرب، ثم بادروه، فلما علم أنه مأخوذ خاتلهم(9) و قصد لأدنى بيوتهم حتى ولج على امرأة منهم يقال لها: فكيهة، فاستجار بها، فمنعته، و جعلته تحت درعها، و اخترطت السيف، و قامت دونه، فكاثروها فكشفت خمارها عن شعرها، و صاحت بإخوتها فجاءوها، و دفعوا عنه حتى نجا من القتل، فقال السّليك في ذلك:

ص: 469


1- كذا في ف، أي حدث قومه بما كان. و في ب، س: «تم»، تحريف.
2- هذا البيت زيادة من ف، هد.
3- كذا في أ، ب. و في ف: «ثكلتهما». و في س: «ثكتمان»، تحريف.
4- كراديس: جمع كردوسة، و هي القطعة العظيمة من الخيل.
5- كذا في أ، ف، م. و في ب، ج، س: «يركب» تحريف.
6- - 6) زيادة في أ.
7- المغرب: الّذي يأتي الغرب، و الّذي يجري فرسه إلى أن يموت.
8- ف: «عوارة».
9- كذا في أ، ف. و في ب، س: «جاملهم».

/لعمر أبيك و الأنباء تنمى *** لنعم الجار أخت بني عوارا(1)

من الخفرات لم تفضح أباها(2)*** و لم ترفع لإخوتها شنارا

كأن مجامع الأرداف منها *** نقا درجت عليه الريح هارا

يعاف وصال ذات البذل قلبي *** و يتّبع الممنّعة النّوارا

و ما عجزت فكيهة يوم قامت *** بنصل السيف و استلبوا الخمارا

يأخذ رجلا من كنانة ثم يطلقه فيجزلون له العطاء:

أخبرني الأخفش عن السكّريّ عن أبي حاتم عن الأصمعيّ أن السليك أخذ رجلا من بني كنانة بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب يقال له: النعمان بن عقفان، ثم أطلقه و قال:

سمعت بجمعهم فرضخت(3) فيهم *** بنعمان بن عقفان بن عمرو

فإن تكفر فإني لا أبالي *** و إن تشكر فإني لست أدري

قال: ثم قدم بعد ذلك على بني كنانة و هو شيخ كبير، و هم بماء لهم يقال له: قباقب، خلف البشر، فأتاه نعمان بابنيه الحكم و عثمان - و هما سيدا بني كنانة - و نائلة ابنته، فقال: هذان و هذه لك، و ما أملك غيرهم، فقالوا:

صدق، فقال: قد شكرت لك و قد رددتهم عليك.

يسبق في العدو جمعا من الشباب و هو شيخ:

فجمعت له بنو كنانة إبلا عظيمة فدفعوها إليه، ثم قالوا له: إن رأيت أن ترينا بعض ما بقي من إحضارك(4).

قال: نعم، و أبغوني أربعين شابا، و أبغوني درعا ثقيلة، فأتوه بذلك، فلبس الدرع، و قال للشبان: الحقوا بي إن شئتم. و عد، فلاث العدو/لوثا، و عدوا جنبته(5) فلم يلحقوه إلا قليلا، ثم غاب عنهم و كرّ حتى عاد إلى الحي هو وحده يحضر و الدرع في عنقه تضرب(6) كأنها خرقة من شدة إحضاره.

أخبر(7) به هاشم بن محمد الخزاعي عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه فذكر فيه نحو ما تقدم(7).

خبر مقتله:

و قال السكريّ في خبر مقتله: إنه لقي رجلا من خثعم في أرض يقال لها: فخة، بين أرض عقيل و سعد تميم، و كان يقال للرجل: مالك بن عمير بن أبي ذراع بن جشم بن عوف، فأخذه و معه امرأة له من خفاجة يقال لها:

ص: 470


1- كذا بالنسخ، و البيت في «الاشتقاق» (357) و فيه: «العوار».
2- في ف: أخاها.
3- كذا في ب، ج، س. و أصل الرضخ: إعطاء ما ليس بكثير. و المراد أنه أطلقه لهم، و من به عليهم. و في أ، م: «فصرخت».
4- الإحضار: العدو.
5- و في ف، م: «في جنبتيه».
6- م، هد: «تضطرب». (7-7) زيادة من هد، ف.

النّوار، فقال له الخثعمي: أنا أفدي نفسي منك، فقال له: السليك: ذلك لك، على ألاّ تخيس بي، و لا تطلع عليّ أحدا من خثعم، فحالفه على ذلك، و رجع إلى قومه، و خلّف امرأته رهينة معه، فنكحها السليك، و جعلت تقول:

احذر خثعم؛ فإنّي أخافهم عليك، فأنشأ يقول:

تحذّرني كي أحذر العام خثعما *** و قد علمت أني امرؤ غير مسلم

و ما خثعم إلاّ لئام أذلّة *** إلى الذّل و الإسحاق(1) تنمي و تنتمي

قال: و بلغ ذلك شبل بن قلادة بن عمر بن سعد، و أنس بن مدرك الخثعميّين، فخالفا إلى السليك، فلم يشعر إلاّ و قد طرقاه في الخيل، فأنشأ يقول:

من مبلغ جذمي بابني مقتول؟

يا رب نهب قد حويت عثكول(2)

و ربّ قرن قد تركت مجدول

/و ربّ زوج قد نكحت عطبول(3)

و ربّ عان قد فككت مكبول

و رب واد قد قطعت مسبول

قال أنس للشبل: إن شئت كفيتك القوم و اكفني الرجل، و إن شئت أكفني القوم أكفك الرجل. قال: بل أكفيك القوم، فشد أنس على السليك فقتله، و قتل شبل و أصحابه من كان معه.

و كاد الشرّ يتفاقم بين أنس و بين عبد الملك(4)، لأنه كان أجاره حتى وداه أنس لمّا خاف أن يخرج الأمر من يده، و قال:

كم من أخ لي كريم قد فجعت به *** ثم بقيت كأني بعده حجر

لا أستكين على ريب الزمان و لا *** أغضي على الأمر يأتي دونه القدر

مردى حروب أدير الأمر حابله *** إذ بعضهم لأمور تعتري جزر

قد أطعن الطعنة النجلاء اتّبعها *** طرفا شديدا إذا ما يشخص البصر

و يوم حمضة مطلوب دلفت له *** بذات ودقين لما يعفها المطر

و ذكر باقي الأبيات الّتي تتلو هذه:

إني و قتلى سليكا ثم أعقله

كما ذكره من روينا عنه ذلك.

أخبرني هاشم بن محمد عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعيّ عن عمه فذكر ما تقدم.

ص: 471


1- الإسحاق: الإبعاد، و أسحقهم اللّه سحقا: باعدهم من رحمته.
2- أصل العثكول: العذق. و المراد نهب متنوع ذو شعب.
3- عطبول: فتية جميلة ممتلئة طويلة العنق.
4- هو عبد الملك بن مويلك الخثعمي، و سيأتي في الخبر التالي.
يجعل لعبد الملك بن مويلك إتاوة ليجيره:

قال أبو عبيدة و حدّثني المنتجع بن نبهان قال: كان السّليك يعطي عبد الملك بن مويلك الخثعميّ إتاوة من غنائمه على أن يجيره فيتجاوز بلاد خثعم إلى من وراءهم من أهل/اليمن، فيغير عليهم. فمرّ قافلا من غزوة فإذا بيت من خثعم أهله خلوف(1) و فيه امرأة شابة بضّة، فسألها عن الحي فأخبرته، فتسنمها، أي علاها، ثم جلس حجرة(2)، ثم التقم المحجّة،(3) فبادرت إلى الماء فأخبرت القوم، فركب أنس(4) بن مدرك الخثعمي في طلبه فلحقه، فقتله. فقال عبد الملك: و اللّه لأقتلنّ قاتله أو ليدينه، فقال أنس: و اللّه لا أدبه و لا كرامة، و لو طلب في ديته عقالا لما أعطيته. و قال في ذلك:

إني و قتلي سليكا ثم أعقله *** كالثور يخضرب لما عافت البقر

غضبت للمرء إذ نيكت حليلته *** و إذ يشد على وجعائها(5) الثّفر(6)

إني لتارك هامات بمجزرة *** لا يزدهيني(7) سواد الليل و القمر

أغشى الحروب و سربالي مضاعفة *** نغشى البنان و سيفي صارم ذكر

الغناء بشعره أفسد مجلس لهو:
اشارة

أخبرني ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن فليح بن أبي العوراء قال:

كان لي صديق بمكة، و كنا لا نفترق و لا يكتم أحد صاحبه سرّا، فقال لي ذات يوم: يا فليح، إني أهوى ابنة عم لي و لم أقدر عليها قط، و قد زارتني اليوم فأحبّ أن تسرّني بنفسك، فإني لا أحتشمك. فقلت: أفعل، و صرت إليهما، و أحضر/الطعام فأكلنا، و وضع النبيذ فشربنا أقداحنا، فسألني أن أغنيهما، فكأن اللّه - عزّ و جل - أنساني الغناء كلّه إلاّ هذا الصوت:

من الخفرات لم تفصح أباها *** و لم تلحق(8) بإخوتها شنارا

فلما سمعته الجارية قالت أحسنت يا أخي، أعد، فأعدته. فوثبت و قالت: أنا إلى اللّه تائبة، و اللّه ما كنت لأفضح أبي و لا لأرفع لإخوتي شنارا. فجهد الفتى في رجوعها فأبت و خرجت، فقال لي: ويحك ما حملك على ما صنعت؟ فقلت: و اللّه ما هو شيء اعتمدته، و لكنه ألقي على لساني لأمر أريد بك و بها. هكذا في الخبر المذكور.

و قد رواه غير من ذكرته عن فليح بن أبي العوراء، فأخبرني اليزيديّ عن عمه عبيد اللّه قال: كان إبراهيم بن سعدان يؤدب ولد عليّ بن هشام، و كان يغنّي بالعود تأدبا و لعبا، قال: فوجّه إليّ يوما عليّ بن هشام يدعوني،

ص: 472


1- خلوف: ذهبوا من الحي.
2- زيادة في ف: و معناها: جلس ناحية.
3- التقم المحجّة: استقبلها، و راح يطويها كأنه يلتقمها.
4- كذا في ا، ف. م. و في ب، س: «أسد».
5- الوجعاء: الدبر.
6- الثفر: السير في مؤخر السراج، و كني بذلك عن اعتلائه إياها.
7- لا يزدهيني: لا يستخفني.
8- ف، هد: «و لم ترقع».

فدخلت فإذا بين يديه امرأة مكشوفة الرأس تلاعبه بالنّرد، فرجعت عجلا، فصاح بي: ادخل، فدخلت، فإذا بين أيديهما نبيذ يشربان منه، فقال: خذ عودا و غنّ لنا، ففعلت، ثم غنيت في وسط غنائي:

من الخفرات لم تفضح أباها *** و لم ترفع لإخوتها شنارا

فوثبت من بين يديه، و غطّت رأسها، و قالت: إني أشهد اللّه أني تائبة إليه، و لا أفضح أبي و لا أرفع لإخوتي شنارا.

ففتر عليّ بن هشام و لم ينطق و خرجت من حضرته، فقال لي: ويلك، من أين صبّك اللّه عليّ؟ هذه مغنية بغداد، و أنا في طلبها منذ سنة لم أقدر عليها إلاّ اليوم، فجئتني بهذا الصوت حتى هربت. فقلت: و اللّه ما اعتمدت مساءتك، و لكنه شيء خطر على غير تعمد.

صوت

أ مسلم إني يا بن كلّ خليفة *** و يا جبل الدنيا و يا ملك الأرض

/شكرتك إن الشكر حظ من التقى *** و ما كلّ من أوليته نعمة يقضي

الشعر لأبي نخيلة الحماني، و الغناء لابن سريج، ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي.

ص: 473

28 - أخبار أبي نخيلة و نسبه

اسمه و كنيته و نسبه:

أبو نخيلة اسمه لا كنيته، و يكنى أبا الجنيد، ذكر الأصمعي ذلك و أبو عمرو الشيباني و ابن حبيب، لا يعرف له اسم(1) غيره، و له كنيتان: أبو الجنيد و أبو العرماس، و هو ابن حزن(2) بن زائدة بن لقيط بن هرم بن يثربيّ، و قيل: بن أثربي بن ظالم بن مجاسر بن حمّاد بن عبد العزى بن كعب بن لؤي بن سعد بن زيد مناة بن تميم.

نفاه أبوه عن نفسه لعقوقه:

و كان عاقا بأبيه، فنفاه أبوه عن نفسه، فخرج إلى الشام و أقام هناك إلى أن مات أبوه، ثم عاد و يبقي مشكوكا في نسبه، مطعونا عليه. و كان الأغلب عليه الرجز، و له قصيد ليس بالكبير(3).

مسلمة بن عبد الملك يصطنعه:

و لما خرج إلى الشام اتصل بمسلمة بن عبد الملك، فاصطنعه و أحسن إليه و أوصله إلى الخلفاء واحدا بعد واحد، و استماحهم له فأغنوه، و كان بعد ذلك قليل الوفاء لهم. انقطع إلى بني هاشم، و لقّب نفسه شاعر بني هاشم، فمدح الخلفاء من بني العباس، و هجا بني أمية فأكثر.

يغري المنصور بعيسى بن موسى فيبعث من يقتله:

و كان طمعه(4)، فحمله ذلك على أن قال في المنصور أرجوزة يغريه فيها بخلع عيسى بن موسى و بعقد العهد لابنه محمد المهدي، فوصله المنصور بألفي درهم، و أمره أن ينشدها بحضرة عيسى بن موسى ففعل. فطلبه عيسى فهرب منه؛ و بعث في طلبه مولى له، فأدركه في طريق خراسان، فذبحه و سلخ جلده(5).

سأل فمطل فهجا ثم أجيب فمدح:

أخبرني هاشم الخزاعي عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمه قال:

رأي أبو نخيلة على شبيب حلة(6) فأعجبته، فسأله إياها، فوعده و مطله، فقال فيه:

يا قوم لا تسوّدوا شبيبا *** الخائن(7) ابن الخائن الكذوبا

هل تلد الذّئبة إلا الذيبا؟

ص: 474


1- في الشعراء: اسمه يعمر.
2- ب، س: «عدن».
3- في أ، م: «بالكثير».
4- في أ، ج، ف، م: «طامعا نطفا»، أي مريبا ملطخا بعيب.
5- في هد، ف: «و سلخ وجهه».
6- كذا في ب، س. و في أ، ف، م: «جبة».
7- في أ، ج، ف، م: «الملذان الخائن الكذوبا». و الملذان، بالتحريك: المتصنع الّذي لا تصح مودته.

قال: فبلغه ذلك، فبعث إليه بها فقال:

إذا غدت سعد على شبيبها *** على فتاها و على خطيبها

من مطلع الشمس إلى مغيبها *** عجبت من كثرتها و طيبها

لا يهجو خالد بن صفوان خشية لسانه:

حدّثني حبيب بن نصر المهلّبيّ عن عمر بن شبّة، قال: حدّثني الرّعل بن الخطاب قال:

بني أبو نخيلة داره، فمرّ به خالد بن صفوان(1) و كان بينهما مداعبة قديمة، و مودة وكيدة، فوقف عليه(1).

فقال أبو نخيلة: يا بن صفوان، كيف ترى داري؟ قال: رأيتك سألت فيها إلحافا، و أنفقت ما جمعت إسرافا.

جعلت إحدى يديك سطحا، و ملأت الأخرى سلحا، فقلت: من وضع في سطحي و إلا ملأته بسلحي، ثم ولّى و تركه.

فقيل له: أ لا تهجوه؟ فقال: إذن و اللّه يركب بغلته، و يطوف في مجالس البصرة، و يصف أبنيتي(2) بما يعيبها.

و ما عسى أن يضرّ الإنسان صفة أبنيته بما يعيبها سنة ثم لا يعيد فيها كلمة.

تأديب في البادية حتى شعر:

أخبرني الحسن بن علي الخفّاف عن ابن مهرويه عن أبي مسلم المستملي عن الحرمازي عن يحيى بن نجيم قال:

لما انتفى أبو نخيلة من أبيه خرج يطلب الرزق لنفسه، فتأدب/بالبادية حتى شعر(3) و قال رجزا كثيرا و قصيدا صالحا و شهر بهما، و سار شعره في البدو و الحضر، و رواه الناس.

مدح مسلمة بن عبد الملك:

ثم وفد إلى مسلمة بن عبد الملك(4) فرفع منه، و أعطاه، و شفع له، و أوصله إلى الوليد بن عبد الملك(4)، فمدحه، و لم يزل به حتى أغناه، قال يحيى بن نجيم: فحدّثني أبو نخيلة قال: وردت على مسلمة بن عبد الملك فمدحته، و قلت له:

أ مسلم إني يا بن كلّ خليفة *** و يا فارس الهيجا و يا جبل الأرض

شكرتك إنّ الشكر حبل من التقى *** و ما كل من أوليته(4) نعمة يقضي

و ألقيت لما أن أتيتك زائرا *** عليّ لحافا سابغ الطول و العرض(5)

و أحييت لي ذكرى و ما كان خاملا *** و لكنّ بعض الذكر أنبه من بعض

يستنشده مسلمة فينتحل أرجوزة لرؤبة:

قال: فقال لي مسلمة: ممن أنت؟ فقلت: من بني سعد. فقال: ما لكم يا بني سعد و القصيد و إنما حظكم في

ص: 475


1- - 1) زيادة في ف.
2- هد، م: «أرنبتي».
3- في أ، م: «استوى». (4-4) زيادة في أ، ف، م.
4- في أ: أقرضته.
5- زيادة من ف، هد.

الرجز؟ قال: فقلت له: أنا و اللّه أرجز العرب، قال: فأنشدني من رجزك، فكأني و اللّه لما قال ذلك لم أقل رجزا قط، أنسانيه اللّه كلّه، فما ذكرت منه و لا من غيره شيئا إلا أرجوزة لرؤبة كان قالها في تلك السنة، فظننت أنها لم تبلغ مسلمة، فأنشده إياها، فنكس رأسه و تتعتعت، فرفع رأسه إليّ و قال: لا تتعب نفسك، فأنا أروى لها منك، قال: فانصرفت و أنا أكذب الناس عنده و أخزاهم عند/نفسي حتى تلطفت(1) بعد ذلك و مدحته برجز كثير، فعرفني و قرّبني. و ما رأيت ذلك أثر فيه، يرحمه اللّه و لا قرّ عني به حتى افترقنا.

من مدحه لمسلمة:

و حدّثني أبو نخيلة قال: لما انصرف مسلمة من حرب يزيد بن المهلب تلقيته، فلما عاينته صحت به:

مسلم يا مسلمة الحروب *** أنت المصفّى من أذى العيوب

مصاصة من كرم و طيب *** لو لا ثقاف(2) ليس بالتدبيب(3)

تفري به عن حجب القلوب *** لأمست الأمّة شاء الذيب

فضحك و ضمّني إليه، و أجزل صلتي.

يسأل رجلا من عشيرته أن يوصله إلى الخليفة هشام فيفعل:

حدّثني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه، و أخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدّثني عليّ بن محمد النّوفلي عن أبيه - و قد جمعت روايتهما و أكثر اللفظ للأصمعي، قال: قال أبو نخيلة:

وفدت على هشام بن عبد الملك فصادفت مسلمة قد مات، و كنت بأخلاق هشام غرّا و أنا غريب، فسألت عن أخص الناس به، فذكر لي رجلان: أحدهما من قيس، و الآخر من اليمن، فعدلت إلى القيسي بالتؤدة(4) فقلت: هو أقربهما إليّ، و أجدرهما بما أحب، فجلست إليه، ثم وضعت يدي على ذراعه و قلت له: إني مسستك(5) لتمسّني رحمك(6).

/أنا رجل غريب شاعر من عشيرتك، و أنا غير عارف بأخلاق هذا الخليفة، و أحببت أن ترشدني إلى ما أعمل فينفعني عنده، و على أن تشفع لي و توصلني إليه، فقال: ذلك كلّه لك عليّ. و في الرجل شدة، ليس كمن عهدت من أهله، و إذا سئل و خلط مدحه بطلب حرم الطالب، فأخلص له المدح، فإنه(7) أجدر أن ينفعك، و اغد إليه غدا فإني منتظرك بالباب حتى أوصلك، و اللّه يعينك. فصرت من غد إلى باب هشام، فإذا بالرجل منتظر لي، فأدخلني معه، /و إذا بأبي النجم قد سبقني فبدأ فأنشده قوله:

ص: 476


1- في ب، س: «استضلعت».
2- الثقاف: ما تسوى به الرماح.
3- أ، التذنيب.
4- في ج: «بالنوارية». و في أ، م: «بالمزارية»، و لم أعثر على موضع بهذه الألفاظ في المظان الّتي رجعت إليها.
5- كذا في أ، م. و في ب، س: «مستثنيك»، تحريف.
6- في ف: «لتمسني رحمك، رحمك اللّه».
7- كذا في أ، ف، م. و في ب، س: «فإذا» تحريف.

إلى هشام و إلى مروان *** بيتان ما مثلهما بيتان

كفّاك بالجود تباريان *** كما تبارى فرسا رهان

مال عليّ حدث(1) الزمان *** و بيع ما يغلو من الغلمان

بالثمن الوكس من الأثمان *** و المهر بعد المهر و الحصان

يمدح هشاما فيجيزه:

قال: فأطال فيها و أكثر المسألة حتى ضجر هشام، و تبينت الكراهة في وجهه، ثم استأذنت فأذن لي، فأنشدته:

لما أتتني بغية كالشّهد *** و العسل الممزوج بعد الرقد(2)

يا بردها لمشتف بالبرد *** رفعت(3) من أطمار مستعدّ

و قلت للعيس اعتلي وجدي *** فهي تخدّي(4) أبرح(5) التخدي

/كم قد تعسّفت(6) بها من نجد *** و مجرهد(7) بعد مجرهد

قد ادّرعن في مسير سمد(8) *** ليلا كلون الطيلسان الجرد(9)

إلى أمير المؤمنين المجدي *** ربّ معدّ و سوى معدّ

ممن دعا من أصيد و عبد(10) *** ذي المجد و التشريف بعد المجد

في وجهه بدر بدا بالسّعد *** أنت الهمام القرم(11) عند(12) الجد

طوّقتها مجتمع الأشد *** فانهلّ لما قمت صوب الرعد

قال: حتى أتيت عليها و هممت أن اسأله، ثم عزفت نفسي و قلت: قد استنصحت رجلا، و أخشى أن أخالفه فأخطئ، و حانت مني التفاتة فرأيت وجه هشام منطلقا. فلما فرغت أقبل على جلسائه فقال: الغلام السّعديّ أشعر من الشيخ العجلي، و خرجت. فلما كان بعد أيام أتتنى جائزته، ثم دخلت عليه بعد ذلك، و قد مدحته بقصيدة فأنشدته إياها فألقى عليّ جبّة خز من جبابه مبطنة بسمّور، ثم دخلت عليه يوما آخر، فكساني

ص: 477


1- كذا في أ، م. و في ب، س: «حدب»، تحريف.
2- الرقد: الرقاد.
3- في ب، س: «رعت من الجمال مسمغد» تحريف، و المسمغد: الممتلئ غضبا.
4- تخدى: تسرع، و تزج بقوائمها.
5- كذا في ب، س، و في ف و «خزانة الأدب»: «أحسن».
6- في ف: «تعسفن بنا».
7- مجرهد: مكان لا نبات فيه.
8- سمد: مستمر في السير.
9- الجرد: الخلق.
10- كذا في أ، ف، م. و في ب، س: «نجد»، و النجد: صاحب النجدة.
11- القرم: السيد، و أصله الفحل المكرم لا يركب و لا يرحل.
12- في ب، س: «عقد» تحريف.

دوّاجا(1) كان عليه من خز أحمر مبطن بسمّور، ثم دخلت عليه يوما ثالثا فلم يأمر لي بشيء، فحملتني نفسي على أن قلت له:

/كسوتنيها فهي كالتّجفاف(2)*** من خزك المصونة الكثاف

كأنني فيها و في اللّحاف *** من عبد شمس أو بني مناف

و الخزّ مشتاق إلى الأفواف(3)

قال، فضحك - و كانت عليه جبة أفواف - و أدخل يده فيها و نزعها و رمى بها إليّ، و قال: خذها، فلا بارك اللّه لك فيها.

يغير داليته و يجعلها في السفاح:

قال محمد بن هشام في خبره خاصة: فلما أفضت الخلافة إلى السفاح نقلها إليه و غيّرها و جعلها فيه - يعني الأرجوزة الدالية - فهي الآن تنسب في شعره إلى السفاح.

يشفع للفرزدق عند ابن هبيرة:

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدّثني أبو عمر الخصاف عن العتبي قال:

لما حبس عمر بن هبيرة الفرزدق و هو أمير العراق أبي أن يشفّع فيه أحدا، فدخل عليه أبو نخيلة في يوم فطر، فوقف بين يديه و أنشأ يقول:

/أطلقت بالأمس أسير بكر *** فهل، فداك نفري و وفري

من سبب أو حجة أو عذر *** ينجي التميميّ القليل الشكر

من حلق القيد الثّقال السّمر *** ما زال مجنونا على است(4) الدهر

/ذا حسب ينمو(5) و عقل يحري(6)*** هبه لأخوالك يوم الفطر

يعود الفرزدق إلى السجن حين علم أن شفيعه أبو نخيلة:

قال: فأمر بإطلاقه، و كان قد أطلق قبله رجلا من عجل جيء به من عين التمر(7) قد أفسد، فشفعت فيه بكر بن وائل فأطلقه. و إياه عني أبو نخيلة. فلما أخرج الفرزدق سأل عمن شفع له فأخبر، فرجع إلى الحبس و قال: لا أريمه و لو مت. انطلق(8) قبلي بكري و أخرجت(9) بشفاعة دعيّ، و اللّه لا أخرج هكذا و لو من النار. فأخبر ابن هبيرة

ص: 478


1- الدواج: و يخفف: الثوب الواسع الّذي يغطي الجسد كله، و هو في س، ب: «دراج»، تحريف.
2- التجفاف: آلة تلبس في الحرب للوقاية.
3- الأفواف: البرود اليمنية و الثياب الرقيقة، جمع فوف.
4- في أ، ج: «مجنوبا ممر الدهر». و المجنوب: المقود إلى جنب غيره.
5- و في أ، ف، م: «يعلي».
6- كذا في س. و يحري: ينقص. و في سائر النسخ: «يزري».
7- عين التمر: بلدة قريبة من الأنبار غربي الكوفة.
8- كذا في ب، س. ف. و في أ، م: «أ يطلق قبلي».
9- و في ف: «و أطلق».

بذلك فضحك و دعا به فأطلقه، و قال: وهبتك لنفسك. و كان هجاه فحبسه لذلك، فلما عزل ابن هبيرة و حبس مدحه الفرزدق، فقال: ما رأيت أكرم منه، هجاني أميرا و مدحني أسيرا.

رواية أخرى لخبر هذه الشفاعة:

وجدت هذا الخبر بخط القاسم بن يوسف، فذكر أن أبا القاسم الحضرميّ حدّثه أن هذه القصة كانت لأبي نخيلة مع يزيد بن عمر بن هبيرة، و أنه أتى بأسيرين من الشّراة أخذا بعين التمر: أحدهما أبو القاسم بن بسطام بن ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة، و الآخر رجل من بكر بن وائل. فتكلم في البكري قومه فأطلقه، و لم يتكلم في التميميّ أحد، فدخل عليه أبو نخيلة فقال:

الحمد للّه وليّ الأمر *** هو الّذي أخرج كلّ غمر(1)

و كلّ عوّار(2) و كلّ وغر(3) *** من كلّ ذي قلب نقيّ الصدر

/لما أتت من نحو عين التمر *** ستّ أثاف، لا أثافي القدر

فظلّت القضبان فيهم تجري *** هبرا(4) هو الهبر و فوق الهبر

إني لمهد للإمام الغمر(5) *** شعري و نصح الحب(6) بعد الشعر

ثم ذكر باقي الأبيات كما ذكرت في الخبر المتقدم.

عند ما نزل به ضيف هجاه:

أخبرني أبو الحسن الأسديّ أحمد بن محمد قال: حدّثني محمد بن صالح بن النّطاح قال:

ذكر عن العتبي أن أبا نخيلة حج و معه جريب من سويق قد حلاه بقند(7)، فنزل منزلا في طريقه، فأتاه أعرابي من بني تميم و هو يقلب ذلك السويق، و استحيا منه فعرض عليه، فتناول ما أعطاه فأتى عليه، ثم قال: زدني يا بن أخ، فقال أبو نخيلة:

لما نزلنا منزلا ممقوتا *** نريد أن نرحل أو نبيتا

جئت و لم ندر من أين جيتا *** إذا سقيت المزبد السّحتيتا(8)

قلت ألا زدني و قد رويتا

فقام الأعرابيّ و هو يسبّه.

و حدّثني بهذا الخبر هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعيّ قال: حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال:

ص: 479


1- غمر: حقد.
2- العوار في الأصل: اللحم ينزع من العين. و المراد الفساد و الشر.
3- وغر: ضغينة.
4- الضرب الهبر: الّذي يقطع من اللحم.
5- الغمر: الكريم الخلق.
6- في أ، ف، م: «الجيب».
7- القند: على قصب السكر إذا جمد، معرب.
8- السحيت: السويق القليل الدسم.

/كان أبو نخيلة إذا نزل به ضيف هجاه، فنزل به يوما رجل من عشيرته، فسقاه سويقا قد حلاه، فقال له:

زدني، فزاده. فلما رحل هجاه و ذكر/الأبيات بعينها، و قال في الخبر قال أبو عبيدة: السّحتيت: السويق الدّقاق.

يعتذر إلى السفاح من مدحه بني مروان:

أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابيّ قال: حدّثني ابن عائشة قال:

دخل أبو نخيلة على أبي العباس السفاح فسلّم، و استأذن في الإنشاد، فقال له أبو العباس: لا حاجة لنا في شعرك، إنما تنشدنا فضلات بني مروان، فقال: يا أمير المؤمنين:

كنا أناسا نرهب الأملاكا *** إذ ركبوا الأعناق و الأوراكا

قد ارتجينا زمنا أباكا *** ثم ارتجينا بعده أخاكا

ثم ارتجينا بعده إياكا(1) *** و كان ما قلت لمن سواكا

زورا فقد كفّر هذا ذاكا

فضحك أبو العباس، و أجازه جائزة سنية، و قال: أجل، إن التوبة لتكفر ما قبلها، و قد كفّر هذا ذاك.

و أخبرنا أبو الفياض سوّار بن أبي شراعة قال: حدّثني أبي عن عبد الصمد بن المعذّل عن أبيه قال:

دخل أبو نخيلة على أبي العباس، قال و كان لا يجترئ(2) عليه مع ما يعرفه به من اصطناع مسلمة إياه، و كثرة مديحه لبني مروان حتى علم أنه قد عفا عمّن هو أكبر(3) محلاّ/من القوم و أعظم جرما منه، فلما وقف بين يديه سلّم عليه، و دعا له و أثنى، ثم استأذنه في الإنشاد، فقال له: و من أنت؟ قال: عبدك يا أمير المؤمنين أبو نخيلة الحمّاني. فقال: لا حيّاك اللّه، و لا قرّب دارك يا نضو السوء. أ لست القائل في مسلمة بن عبد الملك بالأمس:

أ مسلم يا من ساد كلّ خليفة(4) *** و يا فارس الهيجا و يا قمر الأرض؟

و اللّه لو لا أني قد أمّنت نظراءك لما ارتدّ إليك طرفك حتى أخضبك بدمك. فقال أبو نخيلة:

كنّا أناسا نرهب الأملاكا

يعفو السفاح عنه و يخوله اختيار جارية فلا يحمدها:

و ذكر الأبيات المتقدمة كلّها مثل ما مضى من ذكرها، فتبسم أبو العباس، ثم قال له: أنت شاعر و طالب خير(5). و ما زال الناس يمدحون الملوك في دولهم، و التوبة تكفر(6) الخطيئة، و الظّفر يزيل الحقد. و قد عفونا عنك، و استأنفنا الصنيعة لك. و أنت الآن شاعرنا فاتّسم بذلك فيزول عنك ميسم بني مروان، فقد كفّر هذا ذاك. كما قلت. ثم التفت إلى أبي الخصيب فقال: يا مرزوق، أدخله دار الرقيق فخيّره جارية يأخذها لنفسه، ففعل و اختار

ص: 480


1- في هد، ف: «ثم ارتجيناك لها إياكا».
2- ف: «و كاد لا يجترئ».
3- كذا في ب، و في سائر النسخ: «أكثر».
4- ف، هد مم: «أ مسلم إني يا بن كل خليفة».
5- في ف: «خبز».
6- في ف: «تمحو».

جارية و طفاء(1) كثيرة اللحم فلم يحمدها، فلما كان من غد دخل على أبي العباس و على رأسه وصيفة حسناء(2) تذبّ عنه، فقال له: قد عرفت خبر الجارية الّتي أخذتها بالأمس و هي كذناذكونة فاحتفظ بها، فأنشأ يقول:

/إني وجدت الكذناذنوّكا(3)*** غير منيك فابغني منيّكا

حتى إذا حركته تحرّكا(4)

فضحك أبو العباس، و قال: خذ هذه الوصيفة، فإنك إذا خلوت بها تحرّك من غير أن تحركه.

رجزه و قد هرب من دين طولب به:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال:

أدّان أبو نخيلة من بقّال له يقال له: ماعز الكلابيّ باليمامة، و كان يأخذ منه أولا أولا(5) حتى كثر ما عليه و ثقل، فطالبه ماعز فمطله، ثم بلغه أنه قد استعدى عليه عامل اليمامة، فارتحل يريد الموصل، /و خرج عن اليمامة ليلا، فلم يعلم به ماعز إلاّ بعد ثلاث. و قد نجا أبو نخيلة و قال في ذلك:

يا ماعز الكرّاث قد خزيتا(6) *** لقد خدعت(7) و لقد هجيتا

كدت(8) تخصينا فقد خصيتا *** و كنت ذا حظ فقد محيتا

ويحك لم تعلم بمن صليتا *** و لا بأيّ حجر رميتا

إذا رأيت المزبد الهبوتا(9) *** يركب شدقا شدقما(10) هريتا(11)

/طر بجناحيك فقد أتيتا *** حرّان(12) حرّان فهيتا(13) هيتا

و الموصل الموصل أو تكريتا(14) *** حيث تبيع النبط البيوتا

و يأكلون العدس المريتا(15)

و قال أيضا لماعز هذا:

ص: 481


1- كذا في ف. و الوطفاء: الكثيرة شعر الحاجبين و العينين. و في سائر النسخ: «و طباء»، تحريف.
2- زيادة في أ، ف، م.
3- كذا في ف: «الكذناذنوكا» و في ب. س: «الأنذبان الكوذكا»، اسم الجارية.
4- في أ، م. «تحريكا» تحريف.
5- زيادة في أ، ف، م.
6- كذا في ف. و في سائر الأصول: «خريتا».
7- كذا في أ، ف، م. و في ب، س: «خربت».
8- كذا في الأصول، و في وزنه شذوذ عروضي.
9- كذا في ف، م. و الهبوت: القاهر من هبته بمعنى ضربه، و طأطأه و حطه. و في ب، س، أ؛ «المبهوتا»، تحريف.
10- كذا في أ، ف، م. و معناه الواسع العظيم و في ب، س: «شدقا» بفتح فكسر.
11- هريتا: واسعا.
12- حران: قصبة ديار مضربين الرها و الرقة، و اسم لمواضع أخرى.
13- هيت: بلد بالعراق على الفرات.
14- تكريت: من بلاد الجزيرة على دجلة.
15- المريت: المجروش.

يا ماعز القمل و بيت الذّلّ *** بتناوبات البغل في الإصطبل

و بات شيطان القوافي يملي *** على امرئ فحل و غير فحل

لا خير في علمي و لا في جهلي *** لو كان أودى ماعز بنخلي(1)

ما زال يقليني و عيمي(2) يغلي *** حتى إذا العيم رمى بالجفل(3)

طبّقت تطبيق الجراز النصل

نسخت من كتاب اليوسفيّ.

يقرن مدح الممدوح بمدح سائسه:

حدّثني المنمق بن جمّاع عن أبيه قال:

كان أبو نخيلة نذلا يرضيه القليل، و يسخطه، و كان الربيع ينزله عنده، و يأمر سائسا يتفقد فرسه، فمدح الربيع بأرجوزة، و مدح فيها معه سائسه فقال:

لو لا أبو الفضل و لو لا فضله *** ما اسطيع باب لا يسنّي(4) قفله

/و من صلاح راشد إصطبله *** نعم الفتى و خير فعل فعله

يسمن منه طرفه و بغله(5)

فضحك الربيع، و قال: يا أبا نخيلة أ ترضى أن تقرن بي(6) السائس في مديح! كأنك لو لم تمدحه معي كان يضيع فرسك.

يمدح خبار مضيفه:

قال: و نزل أبو نخيلة بسليمان بن صعصعة، فأمر غلامه بتعهده، و كان يغاديه و يراوحه في كل يوم بالخبز و اللحم، فقال أبو نخيلة يمدح خبّاز سليمان بن صعصعة:

بارك ربّي فيك من خباز *** ما زلت إذ كنت على أوفاز(7)

تنصبّ باللحم انصباب الباز

شعره و قد رأى اجتهاد العمال في أرض له:

أخبرني هاشم بن محمّد الخزاعيّ قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال: حدثنا أحمد بن المعذّل عن عليّ بن أبي نخيلة الحمانيّ قال:

ص: 482


1- كذا في غير ف. و في ف: «لو كان يدري ماعز محلي».
2- كذا بالأصول. و معناه العطش، و شهوة اللبن. و لعله محرف عن الغيم، و هو الغليظ.
3- أصل الجفل: الجرف و القشر. و جفل الفيل: راث، و روثه الجفل أيضا. و رمى بالجفل، يريد أن الغضب جعله و يقذف بالمخزيات من المقابح.
4- يسني: يفتح.
5- الطرف: الكريم من الخيل.
6- كذا في ب، س، ف. و في أ، م: و تقرن بيني و بين السائس».
7- على أوفاز: معجل، جمع وفز بفتح فكسر. و الوفز أيضا: المكان المرتفع.

دخلت مع أبي إلى أرض له و قد قدم من مكة، فرآها و قد أضرّ بها جفاء القيّم عليها و تهاونه بها، و كلما رآه الذين يسقونها زادوا في العمل و العمارة حتى سمعت نقيض الليف، فقلت: الساعة يقول في هذا شعرا، فلم ألبث أن التفت إليّ و قال:

شاهد مالا ربّ مال فساسه *** سياسة شهم حازم و ابن حازم

/أقام بها العصرين حينا(1) و لم يكن *** كمن ضنّ عن عمرانها بالدراهم

كأنّ نقيض الليف عن سعفاته *** نقيض رحال الميس(2) فوق العياهم(3)

/و أضحت تغالي(4) بالنبات كأنها *** على متن شيخ من شيوخ الأعاجم

و ما الأصل ما رويت مضرب(5) عرقه *** من الماء عن إصلاح فرع بنائم

أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد عن أبي الأزهر البوشنجيّ قال: حدثنا حماد بن إسحاق الموصليّ عن النضر بن حديد عن أبي محضة عن الأزرق بن الخميس بن أرطاة - و هو ابن أخت أبي نخيلة - فذكر قريبا مما ذكر في الخبر الّذي قبله.

يسأل فلا يعطى فيهجو ثم يعطى فيمدح:

و أخبرني عيسى بن الحسن الورّاق المروزيّ قال: حدثنا عليّ بن محمد النّوفليّ قال: حدّثني أبي قال:

ابتاع أبو نخيلة دارا في بني حمّان ليصحح بها نسبه، و سأل في بنائها، فأعطاه الناس اتقاء للسانه و شرّه، فسأل شبيب بن شيبة(6) فلم يعطه شيئا و اعتذر إليه، فقال:

يا قوم لا تسوّدوا شبيبا *** الملذان(7) الخائن الكذوبا

هل تلد الذّئبة إلا الذيبا

فقال شبيب: ما كنت لأعطيه على هذا القول شيئا، فإنه قد جعل إحدى يديه سطحا، و ملأ الأخرى سلحا، و قال: من وضع شيئا في سطحي و إلا ملأته بسلحي، من أجل دار يريد أن يصحح نسبه بها، فسفر بينهما مشايخ الحيّ يعطيه، فأبى شبيب أن يعطيه شيئا، و حلف أبو نخيلة ألا يكفّ عن عرضه أو يأخذ منه شيئا يستعين به. فلما رأى شبيب ذلك خافه، فبعث إليه بما سأل، و غدا أبو نخيلة عليه و هو جالس في مجلسه مع قومه، فوقف عليهم، ثم أنشأ يقول:

/إذا غدت سعد على شبيبها *** على فتاها و على خطيبها

من مطلع الشمس إلى مغيبها *** عجبت من كثرتها و طيبها

ص: 483


1- كذا في ف، و في باقي الأصول: «أقام به العمران جير».
2- نقيض الرحال: صوتها، و الميس: التبختر.
3- العياهم: جمع عيهم، و هو الشديد، و الناقة السريعة.
4- و هو من غالي بالسهم إذا رفع به يديه لأقصى الغاية. و في ف: تعالي.
5- كذا في أ، م. و في ب، س: «مضروب». و في ف: «ضرب عروقه».
6- في معظم الأصول «شبة»، تحريف.
7- الملذان: المتصنع الّذي لا تصح مودته.
ينتحل أرجوزة لرؤبة و ينشدها فيفجؤه رؤبة من مرقده فيعتذر:

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال:

دخل أبو نخيلة على عمر بن هبيرة، و عنده رؤبة قد قام من مجلسه فاضطجع خلف ستر، فأنشد أبو نخيلة مديحه له، ثم قال ابن هبيرة: يا أبا نخيلة، أيّ شيء أحدثت بعدنا؟ فاندفع ينشده أرجوزة لرؤبة، فلما توسطها كشف رؤبة الستر، و أخرج رأسه من تحته، فقال له: كيف أنت يا أبا نخيلة؟ فقطع إنشاده و قال: بخير أبا العجاج، فمعذرة إليك ما علمت بمكانك، فقال له رؤبة: أ لم ننهك أن تعرض لشعري إذا كنت حاضرا، فإذا ما غبت فشأنك به! فضحك أبو نخيلة، و قال: هل أنا إلا حسنة من حسناتك، و تابع لك، و حامل عنك؟ فعاد رؤبة إلى موضعه فاضطجع، و لم يراجعه حرفا. و اللّه أعلم.

يمدح ثم لا يرضى الجائزة فيهجو، ثم يزاد فيمدح:

أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة:

أن أبا نخيلة قدم على المهاجر بن عبد اللّه الكلابي - و كان أبو نخيلة أشبه خلق اللّه به وجها و جسما و قامة، لا يكاد الناظر إلى أحدهما أن يفرق بينه و بين الآخر - فدخل عليه فأنشده قوله فيه:

يا دار أمّ مالك ألا اسلمي *** على التنائي من مقام و انعمي

/كيف أنا إن أنت لم تكلّمي *** بالوحي أو كيف بأن تجمجمي(1)

تقول لي بنتي ملام اللّوّم *** يا أبتا إنك يوما مؤتمي(2)

فقلت كلاّ فاعلمي ثم اعلمي *** أني لميقات كتاب محكم

لو كنت في ظلمة شعب مظلم *** أو في السماء أرتقي بسلّم

/لا نصبّ مقداري إلى مجرنثمي(3) *** إني و ربّ الراقصات(4) الرّسم

و ربّ حوض زمزم و زمزم *** لأستبين(5) الخير عند مقدمي

و عند ترحالي عن(6) مخيّمي *** على ابن عبد اللّه قرم الأقرم

فإنني بالعلم ذو ترسّم *** لم أدر ما مهاجر التكرم

حتى تبينت(7) قضايا الغشّم(8) *** مهاجر يا ذا النوال الخضرم(9)

ص: 484


1- الجمجمة: ألا يبين الكلام. و في ب، س: «بأن تحمحمي»، تحريف.
2- مؤتمي: جاعلي يتيمة.
3- كذا في ف، و معناه: مستقري، من اجرنثم، أي سقط من علو إلى أسفل. و في سائر الأصول: «مجرثمي»، تحريف.
4- الراقصات هنا: الإبل.
5- كذا في ف، م. و في سائر الأصول: «لأوثنين»، تحريف.
6- في أ، م: «من».
7- في ب، س: «تبثثت».
8- في أ، م: «القسم».
9- الخضرم: الكثير.

أنت إذا انتجعت خير مغنم *** مشترك النائل جمّ الأنعم

و لتميم منك خير(1) مقسم *** إذا التقوا شتى(2) معا كالهيّم

قد علم الشام و كلّ موسم *** أنك تحلو لي كحلو(3) المعجم

طورا و طورا أنت مثل العلقم

قال: فأمر له المهاجر بناقة، فتركها و مضى مغضبا، و قال يهجوه:

إن الكلابيّ اللئيم الأثر ما *** أعطى على المدحة نابا عرزما(4)

ما جبر العظم و لكن تمّما

/فبلغ ذلك المهاجر، فبعث فترضّاه، و قام في أمره بما يحب، و وصله، فقال له أبو نخيلة: هذه صلة المديح، فأين صلة الشّبه؟ فإن التشابه في الناس نسب، فوصله حتى أرضاه، فلم يزل يمدحه بعد ذلك حتى مات، و رثاه بعد وفاته فقال:

خليليّ ما لي باليمامة مقعد *** و لا قرّة للعين بعد المهاجر

مضى ما مضى من صالح العيش فاربعا *** على ابن سبيل مزمع البين عابر

فإن تك في ملحودة يا بن وائل *** فقد كنت زين الوفد زين المنابر

و قد كنت لو لا سلّك السيف لم ينم *** مقيم و لم تأمن سبيل المسافر

لعزّ(5) على الحيّين قيس و خندف *** تبكّي(6) عليّ و الوليد(7) و جابر

هوى قمر من بينهم فكأنما *** هوى البدر من بين النجوم الزواهر

يهجو أخته لأنها خاصمته في مال لها:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:

تزوّجت أخت أبي نخيلة برجل يقال له ميار(8)، و كان أبو نخيلة يقوم بمالها مع ماله، و يرعى سوامها مع سوامه، و يستبدّ عليها بأكثر منافعها، فخاصمته يوما من وراء خدرها في ذلك، فأنشأ يقول:

أظلّ أرعى وترا هزينا(9) *** ململما(10) ترى له غضونا

ص: 485


1- كذا في أ، ف. و في سائر الأصول: «غير».
2- كذا في ف. و في سائر الأصول: «ستا» تحريف.
3- في ب، س: «لحلو».
4- ناب عرزم: هزلها الكبر، و أصل العرزم: الحية القديمة.
5- في أ، ف. م: «يعز».
6- ب، س: «بمبكى»، تحريف.
7- في ف: «و الحسين».
8- في ف: «سيار».
9- كذا في ب، س. و في أ، ف، م: «هرينا»، و لم أعثر لها في الروايتين و لا فيما يقاربها من الكلمات على معنى مناسب.
10- ململما: مجتمعا مدورا مضمونا.

/ذا ابن(1) مقوما(2) عثنونا *** يطعن طعنا يقضب(3) الوتينا(4)

و يهتك الأعفاج(5) و الرّبينا(6)*** يذهب ميّار و تقعدينا

/و تفسدين أو تبذّرينا *** و تمنحين استك آخرينا

أير الحمار في است هذا دينا

يطلق امرأته لأنها ولدت بنتا، ثم يراجعها و يرق للبنت:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:

تزوّج أبو نخيلة امرأة من عشيرته، فولدت له بنتا، فغمه ذلك، فطلقها تطليقة ثم ندم، و عاتبه قومه(7)فراجعها. فبينما هو في بيته يوما إذ سمع صوت ابنته و أمّها تلاعبها، فحرّكه ذلك ورق لها، فقام إليها فأخذها، و جعل ينزيها و يقول:

يا بنت من لم يك يهوى بنتا *** ما كنت إلا خمسة أو ستا

حتى حللت(8) في الحشي و حتى *** فتتّ (9) قلبي من جوى فانفتّا

لأنت خير من غلام أنتا(10) *** يصبح مخمورا و يمسي سبتا(11)

يسأل المهدي زائرا أي النساء أحب إليه فيفضل الّتي وصفها أبو نخيلة:

أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثنا أبو هفان قال:

حدّثني أصحابنا الأهتميون قالوا:

دخل عقال بن شبة المجاشعيّ على المهديّ فقال له: أيا أبا الشّيظم، ما بقي من حبك بنات آدم؟ و ما يعجبك منهن(12)؟ الّتي عصبت(13) عصب الجانّ (14)، و جدلت جدل العنان، و اهتزت اهتزاز البان، أم الّتي بدنت فعظمت و كملت(15) فتمت؟ فقال: يا أمير المؤمنين أحبّهما إليّ الّتي وصفها أبو نخيلة، فإنه كانت له جارية صغيرة وهبها له

ص: 486


1- الأبن: العقد في العود، جمع ابنة كغرقة.
2- في ف: «مفدما»، من فدم الإبريق: جعل عليه مصفاة.
3- في ف: «يقصف».
4- الوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه.
5- الأعفاج: جمع عفج بالتحريك، و هو ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة.
6- الربين: جمع ربة، و هي الجوف.
7- و عاتبه قومه: زيادة في أ، ف، م.
8- في ب، س: «هلكت»، تحريف.
9- كذا في م. و في سائر الأصول: «فتت في القلب جوى».
10- لعله مخفف أنتأ بمعنى منتفخ كبرا و تعاليا.
11- السبت: الكثير النوم، و الغلام العارم الجريء.
12- كذا في ف. و في سائر الأصول: «ما بقي من حبك؟ قال: بنات آدم. قال: و ما يعجبك» إلخ.
13- المراد: اكتنزت، و أصل العصب: الشد و ضم المتفرق.
14- الجان: ضرب من الحيات لا يؤذي.
15- في ف: و «عبلت».

عمّك أبو العباس السفاح، فكان إذا غشيها صغرت عنه، و قلت تحته، فقال:

إني وجدت الكذناذنوكا(1) *** غير منيك فابغني منيّكا

شيئا إذا حرّكته تحركا

قال، فوهب له المهديّ جارية كاملة فائقة متأدبة ربعة(2)، فلما أصبح عقال غدا على المهديّ متشكرا، فخرج المهديّ و في يده مشط يسرّح به لحيته و هو يضحك، فدعا له عقال و قال له: يا أمير المؤمنين ممّ تضحك؟ أدام اللّه سرورك. قال: يا أبا الشيظم، إني اغتسلت آنفا من شيء إذا حركته تحرك، و ذكرت قولك الآن لما رأيتك، فضحكت.

يرثي ممدوحا له كان يكثر بره:

أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد قال: حدّثني أحمد بن القاسم/العجلي البرتيّ قال: حدّثني أبو هفان قال: حدّثتني رقية بنت حمل عن أبيها قال:

كان أبو نخيلة مدّاحا للجنيد بن عبد الرحمن المريّ، و كان الجنيد له محبّا، يكثر رفده و يقرّب مجلسه، و يحسن(3)، إليه فلما مات الجنيد قال أبو نخيلة يرثيه:

لعمري لئن ركب الجنيد تحملوا(4) *** إلى الشام من مرّ و راحت(5) ركائبه(6)

لقد غادر الركب الشآمون خلفهم *** فتى غطفانيا يعلل جانبه(7)

فتى كان يسرى للعدو كأنما *** سروب(8) القطا في كلّ يوم كتائبه

و كان كأن البدر تحت لوائه *** إذا راح في جيش و راحت عصائبه

تلومه امرأة له على شدة حبه لابنه فيمدحها فتسكت عنه:

أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثني أحمد بن القاسم قال: حدّثني أبو هفان عن عبد اللّه بن داود عن عليّ بن أبي نخيلة(9)، قال:

كان أبي شديد الرقة عليّ معجبا بي، فكان إذا أكل(10)/خصني بأطيب الطعام، و إذا نام أضجعني إلى جنبه، فغاظ ذلك امرأته أمّ حماد الحنفية، فجعلت تعذله و تؤنبه، و تقول: قد أقمت في منزلك، و عكفت على هذا الصبيّ، و تركت الطلب لولدك و عيالك. فقال أبي في ذلك:

ص: 487


1- راجع الصفحة 401 من هذا الجزء: الحاشية الأولى.
2- في ف: «بارعة». و في ب، س: «بديعة».
3- كذا في ف. و في سائر الأصول: «بحن»، تحريف.
4- في ب، س: «تحملت».
5- في ف: «و سارت».
6- في غير ب، س. «كتائبه».
7- كذا في أ، م. و في باقي الأصول: «تعلل جادبه».
8- في ب، س: «عجاج».
9- في ب، س: «عن علي عن أبي نخيلة».
10- كذا في غير أ، م. و فيهما: «إذا أكل شيئا».

/و لو لا شهوتي شفتي عليّ *** ربعت على الصحابة و الركاب(1)

و لكنّ الوسائل من عليّ (2)*** خلصن إلى الفؤاد من الحجاب

قال، فازدادت غضبا، فقال لها:

و ليس كأمّ حمّاد خليل *** إذا ما الأمر جلّ عن الخطاب

منعمة أرى فتقرّ عيني *** و تكفيني خلائقها(3) عتابي

فرضيت و أمسكت عنا.

يمدح ببيت على مثال بيت تمناه الممدوح:

حدّثني عمي قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني سهل بن زكريا قال: حدّثني عبد اللّه بن أحمد الباهليّ قال:

قال أبان بن عبد اللّه النميريّ يوما لجلسائه - و فيهم أبو نخيلة -: و اللّه لوددت أنه قيل فيّ ما قيل في جرير بن عبد اللّه:

لو لا جرير هلكت بجيله *** نعم(4) الفتى و بئست القبيله

و أنني أثبت على ذلك مالي كله، فقال له أبو نخيلة: هلم الثواب، فقد حضرني من ذلك ما تريد، فأمر له بدراهم، فقال: اسمع يا طالب ما يجزيه:

لو لا أبان هلكت نمير *** نعم الفتى و ليس فيهم خير

يستأذن على أبي جعفر فلا يصل، و يقول في ذلك شعرا:

أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال: حدثنا سلمة بن خالد المازنيّ عن أبي عبيدة قال:

/وقف أبو نخيلة على باب أبي جعفر و استأذن، فلم يصل، و جعلت الخراسانية تدخل و تخرج، فتهزأ به، فيرون شيخا أعرابيّا جلفا فيعبثون به، فقال له رجل عرفه: كيف أنت أبا نخيلة؟ فأنشأ يقول:

أصبحت لا يملك بعضي بعضا *** أشكو العروق الآبضات(5) أبضا

كما تشكي الأرحبيّ (6) الغرضا(7) *** كأنما كان شبابي قرضا

فقال له الرجل: و كيف ترى ما أنت فيه في هذه الدولة؟ فقال:

ص: 488


1- في أ، م: «و ما أمتاح منها من رضاب».
2- في أ، م: «و أخلاق ملاح معجبات».
3- كذا في أ، ف، م. و في ب، س: «خلابتها».
4- هذا الشطر زيادة في أ، م.
5- الآبضات: المتقبضة.
6- كذا في أ، ف، م. و معناه: النجيب، نسبة إلى أرحب: قبيلة، أو فحل. و في ب، س: «الأزجي»، تحريف.
7- كذا في أ، ف، م. و هو حزام الرحل. و في ب، س: «الفرض»، تحريف.

أكثر خلق اللّه من لا يدرى *** من أيّ خلق اللّه حين يلقى(1)

و حلة تنشر ثم تطوى *** و طيلسان يشترى فيغلى

لعبد عبد أو لمولى مولى(2) *** يا ويح بيت المال ما ذا يلقى!

يسأل عن ممدوح له فيعدد هباته له:

و بهذا الإسناد عن أبي عبيدة أن أبا نخيلة قدم على أبان بن الوليد فامتدحه، فكساه و وهب له جارية جميلة، فخرج يوما من عنده، فلقى رجل من قومه، فقيل له: كيف وجدت أبان بن الوليد يا أبا نخيلة؟ فقال:

أكثر و اللّه أبان ميري *** و من أبان الخير كلّ خيري

ثوب لجلدي و حر لأيري

نسخت من كتاب اليوسفيّ.

يصاب بتخمة:

حدّثني خالد بن حميد عن أبي عمرو الشيبانيّ قال:

/أقحمت السنة أبا نخيلة فأتى القعقاع بن ضرار - و هو يومئذ على شرطة الكوفة - فمدحه، و أنزله /القعقاع بن ضرار و ابنيه و عبديه و ركابهم في دار، و أقام لهم الأنزال، و لركابهم العلوفة.

و كان طباخ القعقاع يجيئهم في كلّ يوم بأربع قصاع، فيها ألوان مطبوخة من لحوم الغنم، و يأتيهم بتمر و زبد، فقال له يوما القعقاع: كيف منزلك أبا نخيلة؟ فقال:

ما زال عنّا قصعات أربع *** شهرين دأبا ذوّد و رجع(3)

عبداي و ابناي و شيخ يرفع(4) *** كما يقوم الجمل المطبّع(5)

قال: و كان أبو نخيلة يكثر الأكل فأصابته تخمة، فدخل على القعقاع فسأله: كيف أصبحت أبا نخيلة؟ فقال:

أصبحت و اللّه بشما أمرت خبازك فأتاني بهذا الرّقاق الّذي كأنه الثياب المبلولة، قد غمسه في الشحم غمسا، و أتبعه بزبد(6)، كرأس النعجة الخرسية(7)، و تمر كأنه عنز رابضة. إذا أخذت التمرة من موضعها تبعها من الرّبّ كالسلوك الممدودة، فأمعنت في ذلك، و أعجبني حتى بشمت، فهل من أقداح جياد؟ و بين يدي القعقاع حجّام واقف و سفرة(8) موضوعة فيها المواسي، فإذا أتى بشرّاب النبيذ حلق رءوسهم و لحاهم. فقال له القعقاع: أ تطلب مني النّبيذ و أنت ترى ما أصنع بشرّابه؟ عليك بالعسل و الماء البارد، فوثب ثم قال:

قد علم المظلّ و المبيت *** أني من القعقاع فيما شيت

ص: 489


1- كذا في ب، س: و في أ، م: «يكفى». و في ف: «يلغى».
2- كذا في غير ف. و في ف: «لعبد عبد اللّه أو لمولى».
3- في أ، م: «شهرين داما فبواد رجع». و في ف: «شهرين دأبا فبواد رجع».
4- كذا في أ، م. و في غيرهما: «يركع».
5- المطبع: المثقل بالحمل.
6- في أ، م: «ثريدة».
7- كذا في ب، س. و معناه: المنسوبة إلى خراسان. و في أ، م: «الخراسانية» و في ف «العدسية» بضم العين: ضرب من الغنم.
8- في ب،: «صفرة»، تحريف.

/إذا أتت مائدة أتيت *** ببدع لست بها غذيت

ولّيت فاستشفعت و استعديت *** كأنني كنت الّذي ولّيت

و لو تمنّيت الّذي أعطيت *** ما ازددت شيئا فوق ما لقيت

أيا بن بيت دونه البيوت *** أقصر فقد فوق القرى قريت

ما بين(1) شرابي عسل منعوت *** و لا فرات صرد(2) بيّوت(3)

لكنّي في النوم(4) قد أريت *** رطل نبيذ مخفس(5) سقيت

صلبا(6) إذا جاذبته رويت

فغمزه على إسماعيل ابن أخيه، و أومأ إلى إسماعيل، فأخذ بيده و مضى به إلى منزله، فسقاه حتى صلح.

يمدح السفاح و يغضب في مدحه بعض أهل المجلس فيحرض عليه السفاح:

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدثنا قعنب بن المحرز و أبو عمرو الباهليّ قالا: حدثنا الأصمعي قال:

دخل أبو نخيلة على أبي العباس السفاح، و عنده أبو صفوان إسحاق بن مسلم العقيليّ، فأنشده قوله:

صادتك يوم الرملتين شعفر(7) *** و قد يصيد القانص المزعفر

يا صورة حسّنها المصوّر *** للرّيم منها جيدها و المحجر

/يقول فيها في مدح أبي العباس:

حتى إذا ما الأوصياء عسكروا *** و قام من تبر(8) النبيّ الجوهر

و من بني العباس نبع أصفر(9) *** ينميه فرع طيّب و عنصر

أقبل بالناس الهوى المستبهر(10) *** و صاح في الليل نهار أنور

أنا الّذي لو قيل إني أشعر *** جلّي الضباب الرجز المخبّر(11)

لمّا مضت لي أشهر و أشهر *** قلت لنفس تزدهى فتصبر

ص: 490


1- في ب، س: «عن»، تحريف.
2- صرد: خالص.
3- بيوت: بارد.
4- في ب، س: «القوم»، تحريف.
5- مخفس: سريع الإسكار.
6- في أ، م: «صلب».
7- شعفر: اسم امرأة.
8- في أ، م: «آل».
9- في ب، س: «أصغر».
10- في ب، س: «المشهير» تحريف.
11- في أ، م: «المحبر».

/لا يستخفنّك ركب يصدر *** لا منجد يمضي و لا مغوّر

و خالفي الأنباء فهي المحشر *** أو يسمع الخليفة المطهّر

منّي فإني كلّ جنح أحضر *** و إن بالأنبار غيثا يهمر

و الغيث يرجى و الديار تنضر *** ما كان إلاّ أن أتاها العسكر

حتى زهاها مسجد و منبر *** لم يبق من مروان عين تنظر

لا غائب و لا أناس حضر *** هيهات أودى المنعم(1) المعقّر

و أمست الأنبار دارا تعمر *** و خربت من الشآم أدور

حمص و باب التّبن(2) و الموقّر(3)*** و دمّرت بعد امتناع(4) تدمر

/و واسط لم يبق إلاّ القرقر(5)*** منها و إلاّ الدير بان(6) الأخضر

(و منها) أين(7) أبو الورد و أين الكوثر أبو الورد بن هذيل بن زفر، و كوثر بن الأسود صاحب شرطة مروان(7).

و أين مروان و أين الأشقر *** و أين فلّ لم يفت(7) محيّر(8)

و أين عادّيكم المجمهر(9) *** و عامر و عامر و أعصر؟

- قال: يعني عامر بن صعصعة، و عامر بن ربيعة، و أعصر باهلة و غنىّ - قال: فغضب إسحاق بن مسلم، و قال:

هؤلاء كلهم في حر أمك أبا نخيلة، فأنكر الخليفة عليه ذلك، فقال: إني و اللّه يا أمير المؤمنين قد سمعت منه فيكم شرّا من هذا في مجالس بني مروان. و ما له عهد، و ما هو بوفيّ و لا كريم. فبان ذلك في وجه أبي العباس، و قال له قولا ضعيفا: إن التوبة تغسل الحوبة، و الحسنات يذهبن السيئات، و هذا شاعر بني هاشم. و قام فدخل، و انصرف الناس، و لم يعط أبا نخيلة شيئا.

ص: 491


1- في ف: «النعم المعفر».
2- باب التبن: كبيرة كانت ببغداد، و في الأصول: «التين»، تحريف.
3- الموقر: موضع بنواحي البلقاء من نواحي دمشق، كان يزيد بن عبد الملك ينزله.
4- كذا في ب، س، ف. و في أ، م: «اتساع».
5- القرقر، في «معجم البلدان»: جانب من القرية، و أظن القرية بين الفلج و نجران و القرية، مشددة الراء و الياء.
6- الديربان: لعله دير أبان، من قرى غوطة دمشق، منسوب إلى أبان بن عثمان بن حرب بن عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية. (7-7) ما بين الرقمين زيادة في أ، ف، م. إلاّ أن تورد الكلام عن البيت بعد جملة الأبيات.
7- كذا في ب، س و في أ، ف، م: «لم يقف».
8- كذا في ف و في أ، ب، س، م: «محبر».
9- المجمهر: المجموع.
يدعو في رجز له إلى تولية المهدي العهد فيجيزه المنصور:

و أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار الثقفيّ حدثنا عليّ بن محمد بن سليمان النوفليّ قال: حدّثني أبي عن عبد اللّه بن أبي سليم مولى عبد اللّه بن الحارث قال:

بينا أنا أسير مع أبي الفضل يعني - سليمان بن عبد اللّه - وحدي بين الحيرة و الكوفة - /و هو يريد المنصور، و قد همّ بتولية المهدي العهد و خلع عيسى بن موسى، و هو يروض ذلك - إذا هو يأبى نخيلة الشاعر، و معه ابنان له و عبد، و هم يحملون متاعه. فقال له: يا أبا نخيلة، ما هذا الّذي أرى؟ قال: كنت نازلا على القعقاع بن معبد أحد ولد معبد بن زرارة، فقلت شعرا فيما عزم عليه أمير المؤمنين من تولية المهديّ العهد و نزع عيسى بن موسى، فسألني التحول عنه، لئلا يناله مكروه من عيسى إذ كان صنيعته، فقال سليمان: يا عبد اللّه، اذهب بأب نخيلة فأنزله منزلا(1) و أحسن نزله و برّه(2)، ففعلت. و دخل سليمان إلى المنصور فأخبره الخبر، فلما كان يوم البيعة جاء بأبي نخيلة فأدخله على المنصور، فقام فأنشد الشعر على رءوس الناس، و هي قصيدته الّتي يقول فيها:

بل يا أمين الواحد الموحّد *** إنّ الّذي ولاك ربّ المسجد(3)

ليس وليّ عهدنا(4) بالأسعد *** عيسى فزحلفها(5) إلى محمد

من عند(6) عيسى معهدا عن(7) معهد *** حتى تؤدّى من يد إلى يد

قال: فأعطاه المنصور عشرة آلاف درهم، قال: و بايع لمحمد بالعهد، فانصرف عيسى بن موسى/إلى منزله، قال: فحدّثني داود بن عيسى بن موسى قال: جمعنا أبي فقال: يا بنيّ، قد رأيتم ما جرى، فأيّما أحبّ إليكم: أن يقال لكم: ابني المخلوع، أو يقال لكم: يا بني المفقود؟ فقلنا: لا، بل بابني المخلوع. فقال: وفّقتم بنيّ. و أول هذه الأرجوزة الّتي هذه الأبيات منها:

/لم ينسني يا ابنة آل معبد *** ذكراك تكرار الليالي العوّد

و لا ذوات العصب(8) المورّد *** و لو طلبن الودّ بالتودّد

و رحن في الدّر و في الزبرجد *** هيهات منهن و إن لم تعهدي

نجدية ذات معان(9) منجد *** كأنّ ريّاها بعيد المرقد

ريّا الخزامى في ثرى جعد(10) ندى *** كيف التصابي فعل من لم يهتد

ص: 492


1- في أ، م: «منزلنا».
2- في ب، س، ف: «ورده».
3- هذا البيت، زيادة في أ، م.
4- كذا في ب، س، ف. و في أ، م: «عهدها».
5- كذا في ب، س و معناه: قدمها، أو ادفعها. و في ف: «زحلقها». و في أ، م: «فرحلها».
6- في ف: «من عهد».
7- في أ، م: «من».
8- العصب: نوع من البرود.
9- معان: منزل و مباءة.
10- الجعد: الندى. و في ب، س: ثرى «جعندد».

و قد علتني درة(1) بادي(2) بدي *** و رثية(3) تنهض في تشددي(4)

بعد انتهاضي(5) في الشباب الأملد

يقول فيها:

إلى أمير المؤمنين فاعمد *** إلى الّذي يندى(6) و لا يندى ندي

سيري إلى بحر البحار المزبد *** إلى الّذي إن نفدت لم ينفد

أو ثمدت(7) أشراعها(8) لم يثمد

/و يقول في ذكر البيعة لمحمد بعد الأبيات الّتي مضت في صدر الخبر:

فقد رضينا بالغلام الأمرد *** و قد فرغنا غير أن لم نشهد

و غير أنّ العقد(9) لم يؤكد *** فلو سمعنا قولك امدد امدد

كانت لنا كزعقة(10) الورد(11) الصدى *** فناد للبيعة جمعا نحشد

في يومنا الحاضر هذا أوغد *** و اصنع كما شئت و ردّ يردد(12)

و ردّه منك رداء يرتد *** فهو رداء الساق المقلّد

و كان يروي أنها كأن قد *** عادت و لو قد نقلت(13) لم تردد

أقول في كرى(14) أحاديث الغد *** للّه دري من أخ و منشد

لو نلت حظّ الحبشيّ الأسود(15)

ص: 493


1- كذا في أ، ف، م. و المراد بالدرة هنا: الشيب. و هي في الأصل: سيلان اللبن. و في ب، س: «ذرأة»، تحريف و يرويه الشنتمري: «و قد علتني ذرأة بادي بدي»: و رثية إلخ. (سيبويه: 2: حاشية الصفحة: 54) و الذرأة: الشيب أول ابتدائه. و الرثية: وجع المفاصل و اليدين و الرجلين، و الضعف.
2- بادي بدي: أولا.
3- في ب، س: «رثينة»، تحريف.
4- في أ، ف، م: «تجلدي».
5- ف: انتهاض.
6- أندى: كثر عطاؤه.
7- كذا في أ، ف، م. و معناه: نزفت. و في ب، س: «إذ أثمدت»، تحريف.
8- أشراعها: مواردها.
9- في ف: «العهد».
10- في ف: «ككرعة». و في ب، س: «كدعكة»، تحريف.
11- الورد: القوم يردون الماء.
12- في ف: «و زده يزدد».
13- في ف: «فعلت».
14- في ف: «ذكري».
15- الأبيات التالية لبيت: كانت لنا كزعقة الورد الصدى - تروي في أ، م: هكذا: و فيها يذكر مقتل أبي مسلم: لما استثار اللّه العبد الردى خر على الخدين لم يوسد فاصنع كما شئت و زده تزدد أقول في ردى أحاديث الغد للّه دري من أخ و منشد لو نلت حظ الحبشي الأسود فبادر البيعة جمعا و أنشد في يومنا الحاضر هذا أو غد و رده منك رداء يرتد

/ - يعني أبا دلامة.

خبر آخر من أرجوزة العهد للمهدي:

فأخبرني عبد اللّه بن محمد الرازيّ قال: حدثنا أحمد بن الحارث قال:

حدثنا المدائنيّ - أن أبا نخيلة أظهر هذه القصيدة التي رواها الخدم و الخاصة، و تناشدتها العامة، فبلغت المنصور فدعا به، و عيسى بن موسى عنده جالس عن يمينه، فأنشده إياها، و أنصت له حتى سمعها إلى آخرها. قال أبو نخيلة: فجعلت أرى فيه السرور، ثم قال لعيسى بن موسى: و لئن كان هذا عن رأيك لقد سررت عمك(1)، و بلغت من مرضاته أقصى ما يبلغه الولد البار السارّ. فقال عيسى: لقد ضللت إذا و ما أنا من المهتدين. قال: أبو نخيلة: فلما خرجت لحقني عقال بن شبة فقال: أمّا أنت فقد سررت أمير المؤمنين، و لئن تم الأمر فلعمري لتصبينّ خيرا، و لئن لم يتم فابتغ نفقا في الأرض، أو سلّما في السماء. فقلت له:

علقت معالقها و صرّ الجندب(2)

خبر ثالث عن هذه الأرجوزة:

قال المدائني: و حدّثني بعض موالي المنصور قال:

لما/أراد المنصور أن يعقد للمهديّ أحبّ أن تقول الشعراء في ذلك، فحدّثني عبد الجبار بن عبيد اللّه الحمانيّ قال:

حدّثني أبو نخيلة قال: قدمت على أبي جعفر، فأقمت ببابه شهرا لا أصل إليه، فقال لي عبد اللّه بن الربيع الحارثي: يا أبا نخيلة، إن أمير المؤمنين يريد أن يقدّم المهديّ بين يديّ عيسى بن موسى، فلو قلت شيئا على ما يريد. فقلت:

/ما ذا على شحط النوى عناكا(3)*** أم ما مرى(4) دمعك من ذكراكا؟

و قد تبكّيت فما أبكاكا

و ذكر أرجوزة طويلة يقول فيها:

ص: 494


1- كذا في ف. و في ب، س: «لئن كان هذا عن رأيك فلقد».
2- مثل معناه: قد وجب الأمر و نشب، فجزع الضعيف من القوم. و أصله أن رجلا انتهى إلى بئر و علق رشاء برشائها، ثم صار إلى صاحب البئر فادعى جواره. فقال له: و ما سبب ذلك؟ فقال: علقت رشائي برشائك، فأبى صاحب البئر و أمره بالرحيل. فقال: علقت معالقها إلخ. و الضمير في علقت للدلو أو الأرشية و المعالق جمع معلق، و هو موضع العلوق. صر: صوت. و الجندب: ضرب من الجراد.
3- كذا في ف، و في ب، س: «غشاكا»، تحريف.
4- كذا في ف، و معناه أسال و في ب، س: «جرى»، تحريف.

خليفة اللّه و أنا ذاكا *** أسند إلى محمد عصاكا

فأحفظ الناس لها أدناكا *** و ابنك ما استكفيته كفاكا

و كلّنا منتظر لذاكا *** لو قلت هاتوا قلت هاك هاكا

المنصور يحذره عيسى بن موسى و عيسى يوكل به من يقتله:

قال: فأنشدته إياها، فوصلني بألفي درهم، و قال لي: احذر عيسى بن موسى، فإني أخافه عليك أن يغتالك.

قال المدائنيّ: و خلع أبو جعفر عيسى بن موسى، فبعث عيسى في طلب أبي نخيلة، فهرب منه، و خرج يريد خراسان، فبلغ عيسى خبره، فجرّد خلفه مولى له يقال له: قطريّ، معه عدّة من مواليه، و قال له: نفسك نفسك أن يفوتك أبو نخيلة، فخرج في طلبه مغذّا للسير، فلحقه في طريقه إلى خراسان، فقتله و سلخ وجهه.

و نسخت من كتاب القاسم بن يوسف عن خالد بن حمل أنّ عليّ بن أبي نخيلة حدّثه أنّ المنصور أمر أبا نخيلة أن يهرب إلى خراسان، فأخذه قطريّ و كتفه فأضجعه، فلما وضع السكين على أوداجه قال: إيه يا بن اللخناء، أ لست القائل:

علقت معالقها و صر الجندب

الآن صرّ جندبك. فقال: لعن اللّه ذاك جندبا، ما كان أشأم ذكره! ثم ذبحه، /قطري، و سلخ وجهه، و ألقى جسمه إلى النّسور، و أقسم لا يريم مكانه حتى تمزّق السباع و الطيور لحمه، فأقام حتى لم يبق منه إلا عظامه، ثم انصرف.

أبو الأبرش يشمت به لمهاجات كانت بينهما:
اشارة

أخبرنا جعفر بن قدامة قال: حدثنا أبو حاتم السجستانيّ قال: حدّثني الأصمعي عن سعيد بن سلم عن أبيه قال:

قلت لأبي الأبرش: مات أبو نخيلة، قال: حتف أنفه؟ قلت: لا، بل لا، اغتيل فقتل. فقال: الحمد للّه الّذي قطع قلبه، و قبض روحه، و سفك دمه، و أراخى منه، و أحياني بعده.

و كان أبو نخيلة يهاجي الأبرش، فغلبه أبو نخيلة.

صوت

و لقد دخلت على الفتا *** ة الخدر في اليوم المطير

فدفعنها فتدافعت *** مشي القطاة على الغدير

فلثمتها فتنفست *** كتنفس الظبي البهير(1)

الشعر للمنخّل اليشكري، و الغناء لإبراهيم، ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو و أحمد المكيّ.

تم الجزء العشرون من كتاب الأغاني و يليه إن شاء اللّه تعالى الجزء الحادي و العشرون و أوله: أخبار المنخّل و نسبه

ص: 495


1- البهير: المنقطع النفس.

ص: 496

فهرس موضوعات الجزء العشرون من الأغاني

الموضوع الصفحة

نسب ابن الخياط و أخباره 213

أخبار علي بن جبلة 222

أخبار التيميّ و نسبه 242

أخبار أبي نواس و جنان خاصة 254

نسب ابن أبي عيينة و أخباره 263

أخبار دعبل بن علي و نسبه 294

أخبار جعيفران و نسبه 340

أخبار السري و نسبه 347

أخبار مسكين و نسبه 352

أخبار أبي محمد و نسبه 359

أخبار من له شعر فيه صنعة من ولد أبي محمد اليزيدي و ولد ولده، فمنهم محمد بن أبي محمد 375

أخبار إبراهيم 382

و ممن غني في شعرة من ولد أبي محمد اليزيدي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد 387

أخبار المخبل القيسي و نسبه 392

أخبار خالد الكاتب 399

أخبار المسدود 409

أخبار سلمة بن عياش 413

أخبار لأم جعفر 418

أخبار أيمن بن خريم 421

أخبار حجية بن المضرب 427

أخبار إسحاق مع غلامه زياد 430

خبر لحبابة مع ابن عائشة 433

أخبار أبي الهندي و نسبه 435

أخبار سعيد بن وهب 439

ص: 497

الموضوع الصفحة

أخبار رؤبة و نسبه 445

أخبار عمرو بن أبي الكنات 453

أسماء بن خارجة و ابنته هند 457

أخبار السليك بن السلكة و نسبه 464

أخبار أبي نخيلة و نسبه 474

فهرس الموضوعات 497

ص: 498

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.