الأغاني
المؤلفين الآخرين
مدقق لغوي ومترجم:
مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي
المجلدات : 25ج
لسان: العربية
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374
إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
1 - و من الرواة المتسعين الذين شاهدناهم أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، فإنه كان يحفظ من الشعر و الأغاني، و الأخبار، و الآثار، و الحديث المسند، و النسب، ما لم أر قط من يحفظ مثله. و كان شديد الاختصاص بهذه الأشياء و يحفظ دون ما يحفظ منها علوما أخر.
الخطيب البغدادي «تاريخ بغداد» (399/11) 2 - كتاب «الأغاني» وقع الاتفاق على أنه لم يعمل في بابه مثله، يقال إنه جمعه في خمسين سنة و حمله إلى سيف الدولة ابن حمدان فأعطاه ألف دينار و اعتذر إليه. و حكي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره و تنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملا من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه استغناء به عنها.
ابن خلكان «وفيات الأعيان» (307/3-308) 3 - قال أبو علي التنوخيّ: كان أبو الفرج يحفظ من الشعر و الأغاني و الأخبار و المسندات و الأنساب ما لم أر قطّ من يحفظ مثله، و يحفظ سوى ذلك من علوم أخر، منها اللغة و النحو و المغازي و السّير.
الحافظ شمس الدين الذهبي «تاريخ الإسلام» وفيات سنة (356 ه) الصفحة (144) 4 - و قد ألّف القاضي أبو الفرج الأصفهاني «كتابه في الأغاني» جمع فيه أخبار العرب و أشعارهم و أنسابهم و أيامهم و دولهم، و جعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتمّ استيعاب و أوفاه.
و لعمري إنه ديوان العرب، و جامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فنّ من فنون الشعر و التاريخ و الغناء و سائر الأحوال، و لا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، و هو الغاية التي يسمو إليها الأديب و يقف عندها، و أنّى له بها.
ابن خلدون «المقدمة» الصفحة (554) 5 - لعمري إن هذا الكتاب لجليل القدر، شائع الذّكر جمّ الفوائد، عظيم القلم، جامع بين الجدّ و البحت و الهزل و النّحت.
ياقوت الحموي «معجم الأدباء» (98/13)
ص: 5
نلفت انتباه الباحث الكريم أنّ الإحالات في الحاشية من هذه الطبعة هي الموافقة لأرقام أجزاء و صفحات طبعة دار الكتاب المصرية التي كانت أساسا لهذه الطبعة و الموجودة من جهة التحرير بين معكوفتين هكذا []. و يراجع فهرس الأعلام. فلينتبه لذلك و اللّه الموفق.
ص: 6
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *
كلمة دار إحياء التراث العربي مقدمة(1)
إن الحمد للّه، نحمده و نستعينه و نستغفره، و نعوذ باللّه من شرور أنفسنا، من يهد اللّه فلا مضلّ له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله.
(يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ وَ لاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران 102:3].
(يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا، وَ بَثَّ مِنْهُمٰا رِجٰالاً كَثِيراً وَ نِسٰاءً، وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي تَسٰائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحٰامَ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء 1:4].
(يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ، وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَ مَنْ يُطِعِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فٰازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب 70:33-71].
أما بعد، فيسر مؤسسة دار إحياء التراث العربي أن تقدم لأهل العلم و الأدب في العالم الإسلامي و العربي كتاب «الأغاني»(2) للعلامّة الأخباري، أبي الفرج، علي بن الحسين بن محمد القرشي، الأموي، الأصبهاني الكاتب (ت 356)، الذي يعدّ من أشهر كتب الأدب و التراجم و أجدرها بالثقة و قد اهتمّ به القدماء و لم يغفله المحدثون، ففيه ثروة أدبية و اجتماعية و تاريخية و فنيّة لا تقدر بثمن.
و قد وضع المؤلف كتابه بالأصل لذكر الغناء و الألحان، لكنه اتخذ ذلك ذريعة ليتوسع في ترجمة الشعراء و الأدباء و يأتي بالعجب العجاب حتى عدّ كتاب الأغاني بحقّ من أمهات كتب الأدب العربي، فقد ترجم لأكثر شعراء العرب: من جاهليين و مخضرمين، و محدثين، كما ترجم لكثير من المغنين في الدولتين الأموية و العباسية، و جمع فيه الأغاني العربية قديمها و حديثها.
فهو أوسع كتب التراجم إطلاقا، ترجم لعدد من الأدباء حتى نهاية القرن الثالث الهجري، و بلغ عدد تراجمه حوالي (500) شاعر و شاعرة عاشوا في الجاهلية و صدر الإسلام و العصر الأموي و أوائل العباسي، و جلّ هذه التراجم شديدة التفصيل، غزيرة المادة، مما يجعل هذا الكتاب سجلا للحضارة العربية و الإسلامية في كثير من مظاهرها.
ص: 7
بدأ بخبر أبي قطيفة و نسبه، و ذكر معبد و بعض أخباره، ثم عمر بن أبي ربيعة و نسبه و هكذا... حتى انتهى بأخبار المتلمس في آخر الكتاب.
و قد جعل المؤلف مبنى كتابه على مائة الصوت المختارة للرشيد، و بدأ فيه بذكر الأصوات الثلاثة المختارة من جميع الغناء، و نسب كل ما ذكره منها إلى قائل شعره و صانع لحنه و طريقته على شرح لذلك و تفسير للمشكل الغريب و بيان عروض الشعر و ضربه.
و أتى بكل فصل من ذلك بنتف تشاكله، و لمع تليق به، و فقر إذا تأمّلها قارئها لم يزل متنقّلا من فائدة إلى مثلها، و متصرّفا فيها بين جدّ و هزل، و آثار و أخبار، و سير و أشعار متصلة بأيام العرب المشهورة و أخبارها المأثورة، و قصص الملوك في الجاهلية و الخلفاء في الإسلام، تجمل بالمتأدبين معرفتها، و تحتاج الأحداث إلى دراستها، و لا يرتفع من فوقهم من الكهول عن الاقتباس منها، إذ كانت منتخلة من غرر الأخبار و منتقاة من عيونها، و مأخوذة من مظانها، و منقولة من أهل الخبرة بها.
فلا عجب أن يكون هذا الكتاب أكبر مرجع عربي في ذكر الغناء و تاريخه و قواعده و الآلات الموسيقية التي كانت على عصره، أو سابقة عليه، ليس هذا فحسب بل إن الناحية الأدبية فيه أوسع و أشمل، فإنه ما يكاد يذكر صوتا أي لحنا حتى ينطلق منه إلى المغني و أخباره و أشعاره و إن كان متصلا بخليفة أو ملك تحدّث عن هذا الملك أو ذاك الخليفة، و على صفحاته تنتشر أخبار العرب و أيامهم، و أنسابهم، و مفاخرهم، و وصف لحياتهم الاجتماعية، و يركز على مراكز الغناء و خاصة المدينة و مكة و بغداد. هذا فضلا عن مئات التراجم و عديد السير، بالإضافة إلى المجموعة الهائلة من الصور الأدبية من شعر، و كتابة، و خطابة، و قصص و نوادر.
هذا و قد امتدح الكتاب غير واحد من أوعية العلم و الأدب على ما ذكرناه في الصفحة (5) و صار مدار اهتمام و عناية العلماء فاختصره جماعة:
منهم ابن المغربي (ت 418 ه)، و الأمير عز الملك المسبّحي الكاتب (ت 420 ه)، و القاضي ابن واصل الحموي (ت 697 ه)، و ابن منظور صاحب لسان العرب (ت 711 ه) و غيرهم(1) مما هو مذكور في ترجمة أبي الفرج في الصفحات (14-24) من هذا الجزء.
لكن رغم مدح الكتاب فإن الإنصاف يدعونا إلى ذكر العلماء الذين قدحوا فيه و في صحة روايته:
فقد ذكره الخطيب البغدادي (ت 463 ه) في «تاريخ بغداد»(2) فقال:
«كان أبو الفرج الأصبهاني من أكذب الناس، كان يدخل سوق الورّاقين و هي عامرة و الدكاكين مملوءة بالكتب، فيشتري شيئا كثيرا من الصحف و يحملها إلى بيته ثم تكون رواياته كلها منها...».
و ذكره الإمام ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (ت 597 ه) في تاريخه المسمى «المنتظم في تاريخ الملوك و الأمم»(3) فقال: «إنه كان متشيعا، و مثله لا يوثق بروايته، فإنه يصرّح في كتبه بما يوجب عليه الفسق،
ص: 8
و يهوى شرب الخمر و ربما حكى ذلك عن نفسه، و من تأمّل كتاب «الأغاني» رأى كل قبيح و منكر».
و قال الحافظ شمس الدين الذهبي (ت 748 ه) في كتابه «تاريخ الإسلام»(1): «قلت: رأيت شيخنا ابن تيمية يضعّفه و يتهمه في نقله و يستهول ما يأتي به، و ما علمت فيه جرحا إلاّ قول ابن أبي الفوارس: خلّط قبل أن يموت».
كما بيّن الحافظ الذهبي نسبه فقال في كتابه «سير أعلام النبلاء»(2): «يذكر أنه من ذرّية الخليفة هشام بن عبد الملك، قاله محمد بن إسحاق النديم، بل الصواب أنه من ولد مروان الحمار».
ثم تابع الذهبي قائلا: و العجب أنه أمويّ شيعيّ، و كان وسخا زريّا، و كانوا يتقون هجاءه».
و أورده الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه) في كتابه «لسان الميزان»(3) فقال:
«صاحب كتاب الأغاني: شيعيّ و هذا نادر في أمويّ...».
و بين مادح و قادح، فإن الكتاب - كما لا يخفى على الناظر - يمثل على أي حال صورة حية للأدب و اللغة و الشعر، و الكتابة، و الخطابة و القصص و النوادر كما أنه بحق ديوان تراجم في عصره لا يستغني عنه الأديب.
و نظرا لأهميته، فقد رأت مؤسسة دار إحياء التراث العربي أن تعيد طبع الكتاب بحلّة قشيبة محقّقة على طبعاته السابقة، ملوّنة بعد ما رأت تآكل الحرف الحجري في نصوصه، و الفهارس الجزئية التي يصعب على الباحث الحصول على طلبه منها بسهولة و يسر خدمة للعلم و أهله إذ ستصدر لهذه الطبعة بإذن اللّه فهارس شاملة جامعة تكون معينا لمقتنيه.
و إتماما للفائدة، يجد الباحث في تصدير هذه الطبعة من مقدمة هذا الجزء فصلا في صناعة الغناء عن العلامة ابن خلدون في الصفحة (10) من هذا الجزء إضافة لترجمة المؤلف (في الصفحات 14-24)، و «مختصرات كتاب الأغاني» و نقده في الصفحة (26)، و كتب الأغاني المؤلفة قبل هذا الكتاب الصفحة (27)، و الكلمات الاصطلاحية الواردة في الكتاب الصفحة (28) مع وصف للنسخ الخطية المعتمدة في التحقيق الصفحة (30) و هي تسع، و طريقة تصحيح هذا الكتاب الصفحة (36)، إضافة إلى مقدمة أبي الفرج لكتابه و نهجه فيه و باعثه لتأليف كتابه و يجدها الباحث إنشاء اللّه في الصفحات (38-41).
كما نلفت انتباه القارئ الكريم أن هذه الطبعة حوت أرقام أجزاء و صفحات الطبعتين البولاقية و طبعة المؤسسة المصرية العامة للكتاب حتى تتم الفائدة، فالرقم الموجود بين معكوفتين هو رقم جزء و صفحة طبعة المؤسسة المصرية العامة للكتاب هكذا [] و الرقم الخالي من المعكوفتين هو رقم صفحة الطبعة البولاقية.
و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و أصحابه الأخيار الميامين.
مكتب التحقيق دار إحياء التراث العربي بيروت 20 رجب 1414 ه الموافق 1 كانون الثاني 1994 م
ص: 9
و قد رأينا أن ننقل عن العلامة ابن خلدون فصلا قيما كتبه في مقدّمته عن صناعة الغناء و تاريخها لما له من الصلة بموضوع الكتاب. قال:
«هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة، يوقع على كل صوت منها توقيعا(1) عند قطعه فتكون نغمة، ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة، فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب و ما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات. و ذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب فيكون صوت نصف صوت و ربع آخر و خمس آخر و جزءا من أحد عشر من آخر. و اختلاف هذه النسب عند تأديتها إلى السمع يخرجها من البساطة إلى التركيب. و ليس كل تركيب منها ملذوذا عند السماع، بل تراكيب خاصة هي التي حصرها أهل علم الموسيقى و تكلموا عليها، كما هو مذكور في موضعه. و قد يساوق(2) ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات إما بالقرع أو بالنفخ في الآلات تتخذ لذلك، فيزيدها لذة عند السماع.
فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف: منها ما يسمونه الشّبّابة(3)، و هي قصبة جوفاء بأبخاش(4) في جوانبها معدودة ينفخ فيها فتصوّت، و يخرج الصوت من جوفها على سدادة من تلك الأبخاش، و يقطّع الصوت بوضع الأصابع من اليدين جميعا على تلك الأبخاش وضعا متعارفا حتى تحدث النسب بين الأصوات فيه و تتصل كذلك متناسبة، فيلتذ السمع بإدراكها للتناسب الذي ذكرناه. و من جنس هذه الآلة المزمار الذي يسمى الزّلاميّ(5)، و هو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها من قطعتين منفردتين كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النفخ بواسطتها إليها، و تصوّت بنغمة حادّة و يجري فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشّبابة.
و من أحسن آلات الزمر لهذا العهد البوق، و هو بوق من النحاس أجوف في مقدار الذراع يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دون الكف في شكل بري القلم، و ينفخ بقصبة صغيرة تؤدّي الريح من الفم إليه، فيخرج الصوت ثخينا دويا، و فيه أبخاش أيضا معدودة، و تقطّع نغمه منها كذلك بالأصابع على التناسب فيكون ملذوذا.
و منها آلات الأوتار، و هي جوفاء كلها إمّا على شكل قطعة من الكرة مثل البربط(6) و الرباب، أو على شكل
ص: 10
مربع كالقانون، توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دساتين(1) جائلة ليأتي شدّ الأوتار و إرخاؤها عند الحاجة إليه بإدارتها، ثم تقرع الأوتار إما بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوس، يمرّ عليها بعد أن يطلى بالشمع و الكندر(2)، و يقطّع الصوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو بنقله من وتر إلى وتر. و اليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقع بأصابعها على أطراف الأوتار فيما يقرع أو يحكّ بالوتر، فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة.
و قد يكون القرع في الطسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض على توقيع متناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع.
...(3)............... و الحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة. و ذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس و الجهر و الرخاوة و الشدّة و القلقلة و الضغط و غير ذلك، و التناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن. فأوّلا: ألا يخرج من الصوت إلى ضدّه دفعة بل بتدريج ثم يرجع كذلك، و هكذا إلى المثل، بل لا بدّ من توسط المغاير بين الصوتين. و تأمّل هذا من افتتاح أهل اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج فإنه من بابه. و ثانيا: تناسبها في الأجزاء، كما مر أوّل الباب، فيخرج من الصوت إلى نصفه أو ثلثه أو جزء من كذا منه على حسب ما يكون التنقل مناسبا على ما حصره أهل صناعة الموسيقى. فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيات، كما ذكره أهل تلك الصناعة، كانت ملائمة ملذوذة.
و من هذا التناسب ما يكون بسيطا، و يكون الكثير من الناس مطبوعين عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم و لا صناعة، كما نجد المطبوعين على الموازين الشعرية و توقيع الرقص و أمثال ذلك. و تسمي العامة هذه القابلية بالمضمار. و كثير من القرّاء بهذه المثابة يقرءون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم، كأنها المزامير، فيطربون بحسن مساقهم و تناسب نغماتهم. و من هذا التناسب ما يحدث بالتركيب، و ليس كل الناس يستوي في معرفته، و لا كل الطباع توافق صاحبها في العمل به إذا علم.
و هذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى، كما نشرحه بعد عند ذكر العلوم...............
.................................
و إذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توافر و تجاوز حدّ الضروريّ إلى الحاجيّ ثم إلى الكماليّ، و تفننوا فيه، فتحدث هذه الصناعة؛ لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ عن جميع حاجاته الضرورية و المهمة من المعاش و المنزل و غيره، فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفننا في مذاهب الملذوذات.
و كان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم و مدنهم، و كان ملوكهم يتخذون ذلك و يولعون به؛ حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة، و لهم مكان في دولتهم، و كانوا يحضرون مشاهدهم و مجامعهم و يغنّون فيها. و هذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم و مملكة من ممالكهم.
و أما العرب فكان لهم أوّلا فنّ الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدّة حروفها
ص: 11
المتحرّكة و الساكنة، و يفصّلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلا يكون كل جزء منها مستقلا بالإفادة لا ينعطف على الآخر، و يسمونه البيت، فيلائم الطبع بالتجزئة أوّلا، ثم بتناسب الأجزاء في المقاطع و المبادئ، ثم بتأدية المعنى المقصود و تطبيق الكلام عليها، فلهجوا به، فامتاز من بين كلامهم بحظ من الشرف ليس لغيره، لأجل اختصاصه بهذا التناسب؛ و جعلوه ديوانا لأخبارهم و حكمهم و شرفهم، و محكّا لقرائحهم في إصابة المعاني و إجادة الأساليب، و استمرّوا على ذلك.
و هذا التناسب الذي من أجل الأجزاء و المتحرّك و الساكن من الحروف، قطرة من بحر من تناسب الأصوات، كما هو معروف في كتب الموسيقى؛ إلا أنهم لم يشعروا بما سواه؛ لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علما. و لا عرفوا صناعة، و كانت البداوة أغلب نحلهم. ثم تغنّى الحداة منهم في حداء إبلهم، و الفتيان في فضاء خلواتهم، فرجّعوا الأصوات و ترنّموا. و كانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء، و إذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغبيرا (بالغين المعجمة و الباء الموحدة). و عللها أبو إسحاق الزجاج بأنها تذكّر بالغابر، و هو الباقي، أي بأحوال الآخرة(1).
و ربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة، كما ذكره ابن رشيق آخر «كتاب العمدة» و غيره. و كانوا يسمونه «السناد»، و كان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه و يمشي بالدف و المزمار، فيطرب و يستخف الحلوم، و كانوا يسمون هذا «الهزج». و هذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها، و لا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم، شأن البسائط كلها من الصنائع. و لم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم و جاهليتهم.
فلما جاء الإسلام و استولوا على ممالك الدنيا و حازوا سلطان العجم و غلبوهم عليه، و كانوا من البداوة و الغضاضة على الحال التي عرفت لهم، مع غضارة الدين و شدّته في ترك أحوال الفراغ و ما ليس بنافع في دين و لا معاش، هجروا ذلك شيئا ما، و لم يكن الملذوذ عندهم إلا بترجيع القراءة و الترنم بالشعر الذي كان ديدنهم و مذهبهم. فلما جاءهم الترف و غلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش و رقّة الحاشية و استحلاء الفراغ، فافترق المغنّون من الفرس و الروم فوقعوا إلى الحجاز، و صاروا موالي للعرب، و غنّوا جميعا بالعيدان و الطنابير و المعازف(2) و المزامير، و سمع العرب تلحينهم للأصوات فلحّنوا عليها أشعارهم، و ظهر بالمدينة نشيط الفارسيّ و طويس و سائب خاثر مولى عبد اللّه بن جعفر، فسمعوا شعر العرب و لحنوه و أجادوا فيه، و طار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد و طبقته و ابن سريج و أنظاره.
و ما زالت صناعة الغناء تتدرّج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي و إبراهيم الموصليّ و ابنه إسحاق و ابنه حمّاد، و كان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث به و بمجالسه لهذا العهد. و أمعنوا في اللهو و اللعب، و اتخذت آلات الرقص في الملبس و القضبان و الأشعار التي يترنم بها عليه، و جعل صنفا وحده. و اتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرّج(3) و هي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلّقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان،
ص: 12
و يحاكين بها امتطاء الخيل - فيكرّون و يفرّون و يثاقفون(1)، و أمثال ذلك من اللّعب المعدّة للولائم و الأعراس و أيام الأعياد و مجالس الفراغ و اللهو. و كثر ذلك ببغداد و أمصار العراق، و انتشر منها إلى غيرها. و كان للموصليين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد، فصرفوه إلى المغرب غيرة منه، فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس، فبالغ في تكرمته و ركب للقائه و أسنى له الجوائز و الإقطاعات و الجرايات، و أحلّه من دولته و ندمائه بمكان، فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف، و طما منها بإشبيلية بحر زاخر، و تناقل منها بعد ذهاب غضارتها(2) إلى بلاد العدوة بإفريقية و المغرب، و انقسم على أمصارها. و بها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها و تناقص دولها.
و هذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع؛ لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ و الفرح. و هي أيضا أوّل ما ينقطع من العمران عند اختلاله و تراجعه، و اللّه أعلم».
ص: 13
ترجمة أبي الفرج الأصفهاني مؤلف كتاب الأغاني(1)
هو أبو الفرج عليّ بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد اللّه بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي الأمويّ الكاتب الأصبهانيّ صاحب «كتاب الأغاني». و منه ترى أن نسبه ينتهي إلى مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
ولد بأصبهان سنة 284 أربع و ثمانين و مائتين، في خلافة المعتضد باللّه أبي العباس أحمد بن الموفق، و هي السنة التي مات فيها البحتري الشاعر. و نشأ ببغداد و استوطن بها، و كانت داره ببغداد واقعة على دجلة في المكان المتوسط بين درب سليمان و درب دجلة و ملاصقة لدار أبي الفتح البريدي.
و محمد(1) بن جرير الطبري و أحمد(2) بن جعفر جحظة و محمد(3) بن خلف المرزبان و جعفر(4) بن قدامة و أبي(5) أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم و عمه الحسن(6) بن محمد و غيرهم، و روى عنه الدارقطنيّ(7)و غيره.
ذكره ياقوت في «معجمه» فقال: «العلامة النساب الإخباريّ الحفظة الجامع بين سعة الرواية و الحذق في الدراسة، لا أعلم لأحد أحسن من تصانيفه في فنها و حسن استيعاب ما يتصدّى لجمعه، و كان مع ذلك شاعرا جيدا».
و ذكره ابن خلكان في «الوفيات» فقال: «كان من أعيان أدبائها (بغداد) و أفراد مصنفيها. روى عن عالم كثير من العلماء يطول تعدادهم، و كان عالما بأيام الناس و الأنساب و السير. قال التنوخي: و من المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصبهاني كان يحفظ من الشعر و الأغاني و الأخبار و الآثار و الأحاديث المسندة و النسب ما لم أر
ص: 15
قطّ من يحفظ مثله، و يحفظ دون ذلك من علوم أخر: منها اللغة و النحو و الخرافات و المغازي و السير، و من آلة المنادمة شيئا كثيرا مثل علم الجوارح و البيطرة و نتف من الطب و النجوم و الأشربة و غير ذلك، و له شعر يجمع إتقان العلماء و إحسان ظرفاء الشعراء».
و ذكره أبو منصور الثعالبي في «يتيمة الدهر» فقال:
«و كان من أعيان أدبائها (بغداد) و أفراد مصنفيها. و له شعر يجمع إتقان العلماء و إحسان ظرفاء الشعراء».
و ذكره ابن النديم في «الفهرست» فقال:
«كان شاعرا مصنفا أديبا، و له رواية يسيرة، و أكثر تعويله كان في تصنيفه على الكتب المنسوبة الخطوط أو غيرها من الأصول الجياد». و يؤيد هذا أنه في كتابه «الأغاني» يروي كثيرا من الأخبار بقوله: «نسخت من كتاب فلان».
ذكره ابن الجوزي في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك و الأمم» فقال:
«إنه كان متشيعا و مثله لا يوثق بروايته فإنه يصرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، و يهوى شرب الخمر، و ربما حكى ذلك عن نفسه، و من تأمل كتاب «الأغاني» رأى كل قبيح و منكر».
و نقل ابن شاكر في كتابه «عيون التواريخ» أن الشيخ شمس الدين الذهبيّ قال:
«رأيت شيخنا تقيّ الدين بن تيمية يضعفه و يتهمه في نقله و يستهول ما يأتي به، و ما علمت فيه جرحا إلا قول ابن أبي الفوارس: خلط قبل ما يموت».
لم يكن لأبي الفرج الأصفهاني عناية بنظافة جسمه و ثيابه؛ فقد حدّث الرئيس أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ في الكتاب الذي ألفه في أخبار الوزير المهلبيّ قال: كان أبو الفرج الأصفهاني و سخا قذرا لم يغسل له ثوبا منذ فصّله إلى أن قطعه، و كان الناس على ذلك يحذرون لسانه و يتقون هجاءه و يصبرون في مجالسته و معاشرته و مؤاكلته و مشاربته على كل صعب من أمره؛ لأنه كان وسخا في نفسه ثم في ثوبه و فعله، حتى إنه لم يكن ينزع درّاعة يقطعها إلا بعد إبلائها و تقطيعها، و لا يعرف لشيء من ثيابه غسلا و لا يطلب منه في مدّة بقائه عوضا.
و حكى القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي في كتاب «نشوار»(1) المحاضرة «أن أبا الفرج كان أكولا نهما، و كان إذا ثقل الطعام في معدته تناول خمسة دراهم فلفلا مدقوقا و لا يؤذيه و لا تدمع منه عيناه، و هو مع ذلك لا يستطيع أن يأكل حمصة واحدة أو يصطبغ(2) بمرقة قدر فيها حمص، و إذا أكل شيئا يسيرا من ذلك شري(3) بدنه كله من ذلك، و بعد ساعة أو ساعتين يفصد و ربما فصد لذلك دفعتين». قال: و أسأله عن سببه فلا يكون عنده علم منه.
ص: 16
و يقال: إنه لم يدع طبيبا حاذقا على مرور السنين إلا سأله عن سببه فلا يجد عنده علما و لا دواء. فلما كان قبل فالجه(1) بسنوات ذهبت عنه العادة في الحمص فصار يأكله و لا يضرّه، و بقيت عليه عادة الفلفل.
كان أبو الفرج منقطعا إلى الوزير المهلبيّ - و هو الحسن بن محمد بن هارون من ولد المهلّب بن أبي صفرة و وزير معز الدولة بن بويه الديلمي - و من ندمائه الخصيصين به؛ و له فيه غرر و مدائح. و مع ما كان يصنعه الوزير بأبي الفرج لم يخل من هجوه، قال فيه:
أ بعين مفتقر إليك رأيتني *** بعد الغنى فرميت بي من حالق(2)
لست الملوم أنا الملوم لأنني *** أمّلت للإحسان غير الخالق(3)
و حدّث أبو الفرج عن نفسه قال: سكر الوزير المهلبيّ ليلة و لم يبق بحضرته من ندمائه غيري فقال لي: يا أبا الفرج، أنا أعلم أنك تهجوني سرّا، فاهجني الساعة جهرا، فقلت: اللّه اللّه أيها الوزير فيّ! إن كنت قد مللتني انقطعت، و إن كنت تؤثر قتلي، فبالسيف إذا شئت؛ قال: دع ذا، لا بدّ أن تهجوني، و كنت قد سكرت فقلت:
أير بغل بلولب
فقال في الحال مجيزا:
في حر امّ المهلّبي
هات مصراعا آخر؛ فقلت: الطلاق لازم للأصفهانيّ إن زاد على هذا و إن كان عنده زيادة.
قال الرئيس أبو الحسين المهلبيّ: و حدّثني جدّي، و سمعت هذا الخبر من غيره لأنه متفاوض متعاود، أن أبا الفرج كان جالسا في بعض الأيام على مائدة أبي محمد المهلبيّ فقدّمت سكباجة(4) وافقت من أبي الفرج سعلة فبدرت من فمه قطعة من بلغم فسقطت وسط الغضارة(5)، فتقدّم أبو محمد برفعها، و قال: هاتوا من هذا اللون في غير هذه الصحفة؛ و لم يبن في وجهه إنكار و لا استكراه، و لا داخل أبا الفرج في هذه الحال استحياء و لا انقباض.
هذا إلى ما يجري هذا المجرى على مضيّ الأيام. و كان أبو محمد عزوف(6) النفس بعيدا من الصبر على مثل هذه الأسباب، إلا أنه كان يتكلف احتمالها لورودها من أبي الفرج. و كان من ظرفه في فعله و نظافته في مأكله أنه كان إذا
ص: 17
أراد أكل شيء بملعقة كالأرز و اللبن و أمثاله، وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجا مجرودا(1)- و كان يستعمله كثيرا - فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة ثم يدفعها إلى غلام آخر قام من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى حتى ينال الكفاية، لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية. فلما كثر على المهلبيّ استمرار ما قدّمنا ذكره جعل له مائدتين: إحداهما كبيرة عامة، و أخرى لطيفة خاصة، و كان يؤاكله عليها من يدعوه إليها.
و كانت صحبته للمهلبيّ قبل الوزارة و بعدها إلى أن فرّق بينهما الموت.
كان أبو الفرج الأصبهانيّ، مع كونه من صميم بني أمية، على مذهب الشيعة. فقد قال التنوخيّ عنه: و من المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصفهاني. و قال ابن شاكر في «عيون التواريخ» عنه: إنه كان ظاهر التشيع.
و قال ابن الأثير في كتاب «الكامل»: و كان أبو الفرج شيعيا، و هذا من العجب.
كان أبو الفرج كاتبا لركن الدولة حظيا عنده محتشما لديه. و كان يتوقع من الرئيس أبي الفضل بن العميد أن يكرمه و يبجّله و يتوفّر عليه(2) في دخوله و خروجه، و عدم ذلك منه فقال:
مالك موفور فما باله *** أكسبك التّيه على المعدم
و لم إذا جئت نهضنا و إن *** جئنا تطاولت و لم تتمم
و إن خرجنا لم تقل مثل ما *** نقول «قدّم طرفه قدّم»
إن كنت ذا علم فمن ذا الذي *** مثل الذي تعلم لم يعلم
و لست في الغارب من دولة *** و نحن من دونك في المنسم(3)
و قد ولينا و عزلنا كما *** أنت فلم نصغر و لم نعظم
تكافأت أحوالنا كلّها *** فصل على الإنصاف أو فاصرم
و كتب أبو الفرج إلى المهلبيّ يشكو الفأر و يصف الهرّ:
يا لحدب الظهور قصع الرقاب *** لدقاق الأنياب و الأذناب
خلقت للفساد مذ خلق الخل *** ق و للعيث و الأذى و الخراب
ناقبات في الأرض و السقف و الحي *** طان نقبا أعيا على النقّاب
آكلات كلّ المآكل لا تأ *** منها شاربات كلّ الشراب
آلفات قرض الثياب و قد يع *** دل قرض القلوب قرض الثياب
ص: 18
زال(1)
همّي منهن أزرق ترك *** يّ السّبالين(2) أنمر(3) الجلباب
ليث غاب خلقا و خلقا فمن لا *** ح لعينيه خاله ليث غاب
ناصب طرفه إزاء الزوايا *** و إزاء السقوف و الأبواب
ينتضي الظفر حين يطفر للصي *** د و إلا فظفره في قراب
لا ترى أخبثيه عين و لا يع *** لم ما جنّتاه(4) غير التراب
قرّطوه(5) و شنّفوه(6) و حلّو *** ه أخيرا و أوّلا بالخضاب
فهو طورا يمشي بحلي عروس *** و هو طورا يخطو على عنّاب
حبذا ذاك صاحبا هو في الصح *** بة أوفى من أكثر الأصحاب
و قال من قصيدة المهلّب عيديّة:
إذا ما علا في الصدر للنهي و الأمر *** و بثّهما في النفع منه و في الضر
و أجرى ظبا(7) أقلامه و تدفّقت *** بديهته كالمستمدّ من البحر
رأيت نظام الدرّ في نظم قوله *** و منثوره الرقراق في ذلك النثر
و يقتضب المعنى الكثير بلفظة *** و يأتي بما تحوي الطوامير(8) في سطر
أيا غرّة الدهر ائتنف غرّة الشهر *** و قابل هلال الفطر في ليلة الفطر
بأيمن إقبال و أسعد طائر *** و أفضل ما ترجوه في أفسح العمر
مضى عنك شهر الصوم يشهد صادقا *** بطهرك فيه و اجتنابك للوزر
فأكرم بما خطّ الحفيظان منهما *** و أثنى به المثنى و أطرى به المطرى
و زكّتك أوراق المصاحف و انتهى *** إلى اللّه منها طول درسك و الذكر
و قبضك كفّ البطش عن كل مجرم *** و بسطكها بالعرف في الخير و البرّ
و له فيه:
و هذا الشتاء كما قد ترى *** عسوف(9) عليّ قبيح الأثر
ص: 19
يغادي بصرّ(1) من العاصفا *** ت أو دمق(2) مثل وخز الإبر
و سكّان دارك ممن أعو *** ل يلقين من برده كلّ شرّ
فهذي تحنّ و هذي تئنّ *** و أدمع هاتيك تجري درر(3)
إذا ما تململن تحت الظلام *** تعلّلن منك بحسن النظر
و لاحظن ربعك، كالممحلي *** ن شاموا البروق رجاء المطر
يؤمّلن عودي بما ينتظرن *** كما يرتجى آئب من سفر
فأنعم بإنجاز ما قد وعدت *** فما غيرك اليوم من ينتظر
و عش لي و بعدي فأنت الحيا *** ة و السمع من جسدي و البصر
و قال من قصيدة يهنئه بمولود من سرّية روميّة:
اسعد بمولود أتاك مباركا *** كالبدر أشرق جنح ليل مقمر
سعد لوقت سعادة جاءت به *** أمّ حصان(4) من بنات الأصفر
متبحبح(5) في ذروتي شرف العلا *** بين المهلّب منتماه و قيصر
شمس الضحى قرنت إلى بدر الدّجى *** حتى إذا اجتمعا أتت بالمشترى
و لما تولّى أبو عبد اللّه البريدي الوزارة هجاه أبو الفرج بقصيدة طويلة أوّلها:
يا سماء اسقطي و يا أرض ميدي *** قد تولّى الوزارة ابن البريدي
و منها:
يا لقومي لحرّ صدري و عولي *** و غليلي و قلبي المعمود(6)
حين سار الخميس(7) يوم خميس *** بالبريديّ في ثياب سود
قد حباه بها الإمام اصطفاء *** و اعتمادا منه لغير عميد
خلع تخلع العلا و لواء *** عقده حلّ عقدة المعقود
و قال أبو الفرج الأصبهانيّ: بلغ أبو الحسن جحظة أن مدرك بن محمد الشيباني الشاعر ذكره بسوء في مجلس كنت حاضره، فكتب إليّ:
ص: 20
أبا فرج أهجى لديك و يعتدى *** عليّ فلا تحمي لذاك و تغضب
فكتبت إليه:
لعمرك ما أنصفتني في مودّتي *** فكن معتبا إنّ الأكارم تعتب
عجبت لما بلّغت عنّي باطلا *** و ظنّك بي فيه لعمرك أعجب
ثكلت إذا نفسي و عرسي و أسرتي *** بفقدي و لا أدركت ما كنت أطلب
فكيف بمن لا حظّ لي في لقائه *** و سيّان عندي وصله و التجنّب
فثق بأخ أصفاك محض مودّة *** تشاكل منها ما بدا و المغيّب
و قال من قصيدة يرثي بها ديكا و هي من أجود ما قيل في مراثي الحيوان:
خطب طرقت به أمرّ طروق *** فظّ الحلول عليّ غير شفيق
فكأنما نوب الزمان محيطة *** بي راصدات(1) لي بكلّ طريق
حتى متى تنحي(2) عليّ صروفها *** و تغصّني فجعاتها بالريق
ذهبت بكل مصاحب و مناسب *** و موافق و مرافق و صديق
حتى بديك كنت آلف قربه *** حسن إليّ من الديوك رشيق
و منها:
لهفي عليك أبا النذير لو انّه *** دفع المنايا عنك لهف شفيق
و على شمائلك اللواتي ما نمت *** حتى ذوت من بعد حسن سموق(3)
لما بقعت(4) و صرت علق مضنّة(5) *** و نشأت نشء المقبل الموموق(6)
و تكاملت جمل الجمال بأسرها *** لك من جليل واضح و دقيق
و كسيت كالطاوس ريشا لا معا *** متلألئا ذا رونق و بريق
من حمرة في صفرة في خضرة *** تخييلها يغنى عن التحقيق
عرض يجلّ عن القياس و جوهر *** لطفت معانيه عن التدقيق
و خطرت ملتحفا ببرد حبّرت(7) *** منه بديع الوشي كفّ أنيق
ص: 21
كالجلّنارة(1) أو صفاء عقيقة *** أو لمع نار أو وميض بروق
أو قهوة(2) تختال في بلّورة *** بتألّق الترويق(3) و التصفيق(4)
و كأنّ سالفتيك(5) تبر سائل *** و على المفارق(6) منك تاج عقيق
و كأنّ مجرى الصوت منك إذا نبت *** و جفت عن الأسماع بحّ(7) حلوق،
ناي(8) دقيق ناعم قرنت به *** نغم مؤلّفة من الموسيقى
و منها:
أبكي إذا أبصرت ربعك موحشا *** بتحنّن و تأسّف و شهيق
و يزيدني جزعا لفقدك صادح(9) *** في منزل دان إليّ لصيق
قرع(10) الفؤاد و قد زقا فكأنّه *** نادى ببين أو نعيّ شقيق
فتأسّفي أبدا عليك مواصل *** بسواد ليل أو بياض شروق
و إذا أفاق ذوو المصائب سلوة *** و تصبّروا أمسيت غير مفيق
قال أبو الفرج: كنت انحدرت إلى البصرة، و لمّا وردتها أصعدت إلى سكّة قريش أطلب منزلا أسكنه؛ لأني كنت غريبا لا أعرف أحدا من أهلها إلا من كنت أسمع بذكره، فاستأجرت بيتا في خان، و أقمت في البصرة أياما ثم خرجت عنها طالبا حصن مهدي؛ و كتبت هذه الأبيات على حائط البيت الذي أسكنه:
الحمد للّه على ما أرى *** من صنعتي من بين هذا الورى
أصارني الدهر إلى حالة *** يعدم فيها الضيف عندي القرى
بدّلت من بعد الغنى حاجة *** إلى كلاب يلبسون الفرا(11)
أصبح أدم السّوق لي مأكلا *** و صار خبز البيت خبز الشّرا
و بعد ملكي منزلا مبهجا *** سكنت بيتا من بيوت الكرا
فكيف ألفى لاهيا ضاحكا *** و كيف أحظى بلذيذ الكرى
ص: 22
سبحان من يعلم ما خلفنا *** و بين أيدينا و تحت الثرى
و الحمد للّه على ما أرى *** و انقطع الخطب و زال المرا
و قال من قصيدة:
و إذا رأيت فتى بأعلى رتبة *** في شامخ من عزّه المترفّع
قالت لي النفس العزوف بفضلها *** ما كان أولاني بهذا الموضع
قال:
الدهر يلعب بالفتى فيهيضه *** طورا و يجبر عظمه فيراش(1)
و كذا رأينا الدهر في إعراضه *** ينحى و في إقباله ينتاش(2)
و مما قال في النسيب:
أدلّ(3) فيا حبّذا من مدلّ *** و من ظالم لدمي مستحلّ
إذا ما تعزّز قابلته *** بذلّ و ذلك جهد المقلّ
و قال من أبيات:
مرّت بنا تخطر في مشيها *** كأنما قامتها بانه
هبّت لنا ريح فمالت بها *** كما تثنّى غصن ريحانه
فتيّمت قلبي و هاجت له *** أحزانه قدما و أشجانه
قال ابن عبد الرحيم: حدّثني أبو نصر الزجاج قال: كنت جالسا مع أبي الفرج الأصبهاني في دكّان في سوق الورّاقين، و كان أبو الحسن علي بن يوسف بن البقّال الشاعر جالسا عند أبي الفتح بن الجزّار الورّاق و هو ينشد أبيات إبراهيم بن العبّاس الصّوليّ التي يقول فيها:
رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها *** فكانت قذى عينيه حتى تجلّت
فلما بلغ إليه استحسنه و كرره؛ و رآه أبو الفرج فقال لي: قم إليه فقل له: قد أسرفت في استحسان هذا البيت، و هو كذلك، فأين موضع الصنعة فيه؟ فقلت له ذاك؛ فقال: قوله «فكانت قذى عينيه» فعدت إليه و عرّفته، فقال: عد إليه فقل له: أخطأت، الصنعة في قوله «من حيث يخفى مكانها». قال ياقوت: و قد أصاب كل واحد منهما حافة من الغرض؛ فإن الموضعين معا غاية في الحسن و إن كان ما ذهب إليه أبو الفرج أحسن.
ص: 23
لأبي الفرج الأصفهاني مصنفات كثيرة عدا كتاب «الأغاني»، منها: كتاب «مجرّد(1) الأغاني»، و كتاب «أخبار القيان»، و كتاب «الإماء الشواعر»، و كتاب «المماليك الشعراء»، و كتاب «أدب الغرباء»، و كتاب «الديارات»، و كتاب «تفضيل ذي الحجة»، و كتاب «الأخبار و النوادر»، و كتاب «مقاتل الطالبيين(2)»، و كتاب «أدب السماع»، و كتاب «أخبار الطفيليين»، و كتاب «مجموع الأخبار و الآثار»، و كتاب «الخمّارين و الخمّارات»، و كتاب «الفرق و المعيار في الأوغاد و الأحرار(3)»، و هي رسالة عملها في هارون بن المنجم، و كتاب «دعوة التجار»، و كتاب «أخبار جحظة البرمكي»، و كتاب «نسب بني عبد شمس»، و كتاب «نسب بني شيبان»، و كتاب «نسب المهالبة»، و كتاب «نسب بني تغلب»، و كتاب «نسب بني كلاب»، و كتاب «الغلمان المغنّين»، و كتاب «مناجيب الخصيان» عمله للوزير المهلبي في خصيين مغنيين كانا له، و كتاب «الحانات»، و كتاب «التعديل و الانتصاف في أخبار القبائل و أنسابها»(4) و هو كتاب «جمهرة أنساب العرب»(5)، و كتاب «أيام العرب»: ألف و سبعمائة يوم، و كتاب «دعوة الأطباء»، و كتاب «تحف الوسائد في أخبار الولائد». و جمع «ديوان أبي تمام» و لم يرتبه على الحروف بل على الأنواع كما هو الآن في نسخة مصر، و جمع «ديوان أبي نواس»، و جمع «ديوان البحتري» و لم يرتبه على الحروف بل على الأنواع كما فعل «بديوان أبي تمام». و له أيضا «كتاب في النغم»(6)، «و رسالة في الأغاني»(7).
توفي أبو الفرج في 14 ذي الحجة سنة 356 ه في بغداد، و كان قد خلّط قبل أن يموت. و مات في هذه السنة عالمان كبيران، و ثلاثة ملوك كبار. فالعالمان: أبو الفرج، و أبو عليّ القالي. و الملوك: سيف الدولة بن حمدان، و معز الدولة بن بويه، و كافور الإخشيدي. هذا ما عليه الأكثر في تاريخ وفاته، و قال ابن خلكان: إنه الأصح. و قيل توفي سنة 357 ه. و في «الفهرست» لابن النديم أنه توفي سنة نيف و ستين و ثلاثمائة. و في «معجم الأدباء» طبع مصر، بعد ذكر تاريخ وفاته سنة 356، حديث يقتضي أن أبا الفرج عاش إلى ما بعد سنة 362؛ و قد وضع هذا الحديث بين قوسين و نصه: [وجدت على الهامش بخط المؤلف تجاه وفاته ما صورته: وفاته هذه فيها نظر و تفتقر إلى تأمّل؛ لأنه ذكر في كتاب «أدب الغرباء» من تأليفه: حدّثني صديق قال: قرأت على قصر معزّ الدولة بالشماسيّة «يقول فلان بن فلان الهروي: حضرت هذا الموضع في سماط معزّ الدولة و الدنيا عليه مقبلة و هيبة الملك عليه مشتملة، ثم عدت إليه في سنة 362 فرأيت ما يعتبر به اللبيب» يعني من الخراب. و ذكر في موضع آخر من كتابه هذا قصة له مع صبي كان يحبه ذكرتها بعد هذا، يذكر فيه موت معز الدولة و ولاية ابنه بختيار، و كان ذلك في سنة 356، و يزعم في تلك الحكاية أنه كان في عصر شبابه؛ فلا أدري ما هذا الاختلاف. آخر ما كان على الهامش].
ص: 24
قال أبو محمد المهلبي: سألت أبا الفرج في كم جمعت هذا الكتاب؟ فقال: في خمسين سنة، و إنه كتبه مرة واحدة في عمره، و هي النسخة التي أهداها إلى سيف الدولة بن حمدان فأعطاه ألف دينار. و بلغ ذلك الصاحب بن عبّاد فقال: «لقد قصّر سيف الدولة، و إنه ليستحق أضعافها؛ إذ كان مشحونا بالمحاسن المنتخبة و الفقر الغريبة، فهو للزاهد فكاهة، و للعالم مادّة و زيادة، و للكاتب و المتأدّب بضاعة و تجارة، و للبطل رجلة و شجاعة، و للمضطرب(1)رياضة و صناعة، و للملك طيبة و لذاذة. و لقد اشتملت خزانتي على مائة ألف و سبعة عشر ألف مجلد ما فيها سميري غيره. و لقد عنيت بامتحانه في أخبار العرب و غيرهم فوجدت جميع ما يعز(2) عن أسماع من قرفه(3) بذلك قد أورده العلماء في كتبهم، ففاز بالسبق في جمعه و حسن وضعه و تأليفه».
و ذكر ابن خلكان أن الصاحب بن عباد كان يستصحب في أسفاره حمل ثلاثين جملا من كتب الأدب، فلما وصل إليه هذا الكتاب لم يكن بعد ذلك يستصحب غيره لاستغنائه به عنها.
و قال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة: لم يكن «كتاب الأغاني» يفارق عضد الدولة في سفره و لا حضره، و إنه كان جليسه الذي يأنس إليه و خدينه الذي يرتاح نحوه.
و قال ياقوت: و لعمري إن هذا الكتاب جم الفوائد عظيم العلم، جامع بين الجدّ البحت، و الهزل النحت.
و قال أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد: اتّصل بي أن مسوّدة «كتاب الأغاني»، و هي أصل أبي الفرج، أخرجت إلى سوق الورّاقين ببغداد لتبتاع، فأنفذت إلى ابن قرابة، و سألته إنفاذ صاحبها لابتاعها منه لي، فجاءني و عرّفني أنها بيعت في النداء بأربعة آلاف درهم، و أن أكثرها في ظهور و بخط التعليق، و أنها اشتريت لأبي أحمد بن محمد بن حفص؛ فراسلت أبا أحمد، فأنكر أنه يعرف شيئا من هذا؛ فبحثت كل البحث فما قدرت عليها.
قال ياقوت: قرأت على ظهر جزء من نسخة «لكتاب الأغاني» لأبي الفرج: حدّث ابن عرس الموصلي، و كان المترسل بين عز الدولة و بين أبي تغلب بن ناصر الدولة و كان يخلف أبا تغلب بالحضرة، قال: قال كتب إليّ أبو تغلب يأمرني بابتياع «كتاب الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني، فابتعته له بعشرة آلاف درهم من صرف ثمانية عشر درهما بدينار، فلما حملته إليه و وقف عليه و رأى عظمة و جلالة ما حوى قال: لقد ظلم ورّاقه المسكين، و إنه ليساوي عندي عشرة آلاف دينار، و لو فقد لما قدرت عليه الملوك إلا بالرغائب، و أمر أن تكتب له نسخة أخرى و يخلد عليها اسمه، فابتدأ بذلك، فما أدري أتمت النسخة أم لا.
و روى صاحب «نفح الطيب»: أنّ الحكم المستنصر أحد خلفاء بني أمية بالأندلس بعث في «كتاب الأغاني» إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني، و كان نسبه في بني أمية، و أرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه نسخة منه قبل أن يخرجه بالعراق.
ص: 25
و قال ابن خلدون في «مقدّمته»: و قد ألّف القاضي أبو الفرج الأصبهاني، و هو ما هو، «كتابه في الأغاني»، جمع فيه أخبار العرب و أشعارهم و أنسابهم و أيامهم و دولهم، و جعل مبناه على الغناء في مائة الصوت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب و أوفاه. و لعمري إنه ديوان العرب، و جامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر و التاريخ و الغناء و سائر الأحوال، و لا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، و هو الغاية التي يسمو إليها الأديب و يقف عندها، و أنّى له بها.
قال ياقوت: و قد تأملت هذا الكتاب و عنيت به و طالعته مرارا و كتبت منه نسخة بخطي في عشر مجلدات، و نقلت منه إلى كتابي الموسوم «بأخبار الشعراء» فأكثرت، و جمعت تراجمه فوجدته يعد بشيء و لا يفي به في غير موضع منه؛ كقوله في أخبار أبي العتاهية: «و قد طالت أخباره هاهنا و سنذكر خبره مع عتب(1) في موضع آخر» و لم يفعل. و قال في موضع آخر: «أخبار أبي نواس مع جنان إذ كانت سائر أخباره قد تقدّمت(2)» و لم يتقدّم شيء، إلى أشباه لذلك. و الأصوات المائة هي تسعة و تسعون، و ما أظنّ إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء أو يكون النسيان غلب عليه، و اللّه أعلم.
اختصر «كتاب الأغاني» جماعة: منهم الوزير الحسين بن علي بن حسين أبو القاسم المعروف بابن المغربي المتوفى سنة 418 ه.
و منهم القاضي(3) جمال الدين محمد بن سالم المعروف بابن واصل الحموي المتوفى سنة 697 ه.
و منهم أبو القاسم عبد اللّه المعروف بابن باقيا الكاتب الحلبي المتوفى سنة 485 ه. قال عنه ابن خلكان:
و اختصر «الأغاني» في مجلد واحد.
و منهم الأمير عز الملك محمد بن عبد اللّه بن أحمد الحرّاني المسبّحي الكاتب المتوفى سنة 420 ه.
و منهم الإمام اللغوي جمال الدين محمد بن المكرم الأنصاري صاحب «لسان العرب» المتوفى سنة 711 ه «و مختاره» مرتب على حروف الهجاء سماه «مختار الأغاني في الأخبار و التهاني»(4)».
ص: 26
و منهم الرشيدي أبو الحسين أحمد بن الرشيد بن الزبير.
و قد اختصر أيضا «كتاب الأغاني» حضرة أستاذنا الفاضل محمد الخضري بك المفتش بوزارة المعارف و حذف منه الأسانيد و ما لم يستحسن ذكره من الفحش و المخل بالأدب، و روى الشعر كما قاله الشعراء لا كما غنى به المغنون فتمم بعض القصائد المنقوصة، و رتب بعض القطع المشوشة بعد الرجوع إلى أصولها، و جعله في قسمين:
في القسم الأوّل الشعراء، و في الثاني المغنون. و رتب الشعراء ثلاث طبقات: الأولى طبقة الشعراء الجاهليين، و الثانية طبقة الشعراء الإسلاميين، و الثالثة طبقة الشعراء المحدثين، و جعل المخضرمين بين كل طبقتين مع الأولى منهما، و نظم في سلك شعراء كل قبيلة في كل طبقة، فبدأ بشعراء قحطان ثم ثنّى بشعراء عدنان، و بدأ بالأوّلين بشعراء حمير و أثنى بشعراء كهلان، و بدأ الآخرين بشعراء ربيعة و أثنى بشعراء مضر. و قد طبع الكتاب في ثمانية أجزاء: الأوّل و الثاني في الطبقة الأولى من الشعراء الجاهليين و المخضرمين، و الثالث و الرابع في الطبقة الثانية من الشعراء الإسلاميين و مخضرمي الدولتين، و الخامس و السادس في الطبقة الثالثة من الشعراء المحدثين، و السابع في المغنين و فيه مقدّمة في الغناء العربي، و الثامن فيه الفهارس و الملحوظات.
ليس «كتاب الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني أوّل كتاب ألّف في هذا الفنّ؛ فقد ألّف قبله عدّة كتب في الغناء سميت باسمه. و نعرف من هذه الكتب:(1) «كتاب أغاني إسحاق» التي غنى بها.
(2) «كتاب الأغاني الكبير» - و قد اختلف في نسبة هذا الكتاب إلى إسحاق. قال ابن النديم في «الفهرست» ص 141:
«قرأت بخط أبي الحسن علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الكوفي الأسديّ، حدّثني فضل بن محمد اليزيديّ قال: كنت عند إسحاق بن إبراهيم الموصليّ فجاءه رجل فقال: يا أبا محمد، أعطني «كتاب الأغاني»؛ فقال: ما «كتاب الأغاني»: الذي صنفته أو الكتاب الذي صنّف لي؟ يعني بالذي صنفه كتاب أخبار المغنين واحدا واحدا، و بالكتاب الذي صنّف له أخبار «الأغاني الكبير» الذي في أيدي الناس.
ثم ذكر حكاية أخرى لتأييد ذلك و هي(1):
حدّثني أبو الفرج الأصفهاني قال حدّثني أبو بكر محمد بن خلف وكيع قال سمعت حماد بن إسحاق يقول:
ص: 27
ما ألّف أبي هذا الكتاب قط - يعني كتاب «الأغاني الكبير» - و لا رآه. و الدليل على ذلك أن أكثر أشعاره المنسوبة إنما جمعت لما ذكر معها من الأخبار و ما يجيء فيها إلى وقتنا هذا، و أن أكثر نسبه إلى المغنين خطأ. و الذي ألّفه أبي من دواوين غنائهم يدلّ على بطلان هذا الكتاب؛ و إنما وضعه ورّاق كان لأبي بعد وفاته سوى «الرخصة» التي هي أوّل الكتاب، فإنّ أبي ألفها؛ لأن أخباره كلها من روايتنا. و قال أبو الفرج: هذا ما سمعته من أبي بكر وكيع حكاية فحفظته و اللفظ يزيد و ينقص. و أخبرني جحظة أنه يعرف الورّاق الذي وضعه، و كان يسمى سندي بن علي، و حانوته في طاق الزبل، و كان يورّق لإسحاق، فاتفق هو و شريك له على وضعه. و هذا الكتاب يعرف في القديم «بكتاب الشركة»، و هو أحد عشر جزءا لكل جزء أوّل يعرف به؛ فالجزء الأوّل من الكتاب: الرخصة، و هو تأليف إسحاق لا شك فيه و لا خلف.
(3) «كتاب الأغاني» لحسن بن موسى النصيبي، و هو مرتب على حروف المعجم. قال ابن النديم في كتاب «الفهرست» ص 145: «ألفه للمتوكل، و ذكر في هذا الكتاب أشياء من الأغاني لم يذكرها إسحاق و لا عمرو بن بانة، و ذكر من أسماء المغنين و المغنيات في الجاهلية و الإسلام كل طريف و غريب».
(4) «كتاب الأغاني»، هو أيضا لحسن بن موسى المذكور آنفا. قال ابن النديم في «الفهرست» بعد أن عزا إليه الكتاب السالف: و له «كتاب الأغاني» على الحروف.
جاء في مقال نشر المجلد الخامس من مجلة المقتبس صفحة 208 تحت عنوان «مصطلحات آلات الطرب و أغاني العرب» بحث في اصطلاح الأصوات و أنواع الألحان الواردة في «كتب الأغاني». و هو مأخوذ من كتاب مخطوط اسمه «نيل السعود في ترجمة الوزير داود» كتب سنة 1232 ه كما ذكر في وصفه في المجلد الثاني من مجلة المقتبس ص 385. و عنوان البحث في هذا الكتاب: «العود و مصطلحاته».
و إذ كانت الأصوات الواردة أسماؤها في «كتاب الأغاني» غير معروفة على كثرة بحث العلماء عنها، رأينا نقل ما له تعلق ببيان اصطلاحها من هذا المقال إفادة للقرّاء. و هو.
قال صاحب الكتاب: «العود و مصطلحاته» في الصفحة 221 من المخطوط و ما يليها:
«كثيرا ما كنت أطالع في «كتاب الأغاني» ألفاظا في مصطلح الغناء و ما كنت أتوصل إلى فهمها، حتى ظفرت أخيرا برسالة لعبد القادر بن غيبي الحافظ المراغي المشهور بعلم الألحان، فأخذت عنه ما يتعلق بفتح مغلق الكلام الخاص بهذا العلم فأقول:
اعلم أن الألفاظ الواردة في «كتاب الأغاني» تتعلق كلها بالعود العربيّ، فإذا علمت تركيب هذه الآلة هان عليك فهم ما أشكل عليك من مصطلحها. فهذه الآلة طولها مثل عرضها مرّة و نصف مرة، و غورها كنصف عرضها، و عنقها كربع طولها في الراحة و ثخن الورقة من خشب خفيف. و وجهها أصلب، و تمدّ عليه أربعة أوتار أغلظها البمّ بحيث يكون غلظه مثل المثلث الذي يليه مرة و ثلثا، و المثلث إلى المثنى كذلك، و المثلث(1) مثل الزير كذلك. و قد ضبطوها بطاقات الحرير فقالوا:
ص: 28
يجب أن يكون البم أربعا و ستين طاقة، و المثلث ثمانيا و أربعين، و المثنى ستا و ثلاثين، و الزير سبعا و عشرين.
و تجعل رءوسها من جهة العنق في ملاو، و الأخرى كمشط فتتساوى أطوالها. ثم يقسم الوتر أربعة أقسام طولا و يشدّ على ثلاثة أرباعه مما يلي العنق، و هذا دستان الخنصر. ثم ينقسم الآخر تسعة و يشدّ على تسعه مما يلي العنق، و هذا دستان السبابة. ثم يقسم ما تحت دستان السبابة إلى المشط اتساعا متساوية و يشدّ على التسع مما يلي المشط، و يسمى دستان البنصر، فيقع فوق دستان الخنصر مما يلي دستان السبابة. ثم يقسم الوتر من دستان الخنصر مما يلي المشط ثمانية أقسام، و ضعّف إليها جزءا مثل أحدها مما بقي من الوتر و شدّه فهو دستان الوسطى، و يكون وقوعه بين السبابة و البنصر. فهذه الاصطلاحات هي المصححة للنسب. فإذا جذب وتر منها إلى غاية معلومة سمي الزير، فيجذب المثنى على نسبة تليه في الانحطاط، و هذا مع الجنس(1) بالخنصر و الضرب حتى يقع التساوي.
و تكلم بعد هذا على مناسبة أنواع الوتر للعناصر و الطباع. ثم قال: قوانين الغناء لا تخرج عن ثمانية:
ثقيل أوّل، و رسمه:
تنّ تنّ تنّ. تنّ تنّ تنّ.
و هو مركب من تسع نقرات هي ثلاث متواليات و واحدة كالسكون فخمس مطوية الأوّل.
و ثقيل ثان، و هذا رسمه:
تنّ تنّ تن. تنّ تنّ تن.
و هو مركب من إحدى عشرة و هي ثلاث متواليات فواحدة ساكنة فثقيلة فأربع مطوية الأوّل.
و خفيف الثقيل الثاني و يسمى الماخوري، و هذا رسمه:
تن تن تنّ تن تن تنّ.
و هو مركب من ست: ثلاث متواليات فسكون ثم ثلاث.
و رمل و يسمى ثقيل الرمل، و هذا رسمه:
تنّ تن تن. تنّ تن تن.
و هو مركب من سبع و هي ثقيلة أولى فمتواليتان فسكون و هكذا إلى آخره.
و خفيفه، و هذا رسمه:
تن تن. تن تن. تن تن. تن تن.
و هو مركب من ثلاث نقرات متوالية متحركة.
و خفيف الخفيف، و رسمه:
تن تن تن. تن تن تن.
و هو مركب من نقرتين بينهما سكون قدر واحدة.
و هزج، و رسمه:
تن تن تن تن. تن تن تن تن.
ص: 29
و هو مركب من نقرة كالسكون ثم سكون قدر نقرة ثم بين كل اثنتين سكون.
فهذه أصول التراكيب و إنما تكرر بحسب استيفاء الأدوار.
و تكلم بعد هذا على أنواع أخرى من الأغاني ثم قال:
و اعلم أن اللحن يسمى مطلقا إذا لم يكن مقيدا بلفظة تدل على وصفه كالثقيل و الخفيف و خفيف الخفيف.
و يذكر بعد اللحن موقع الأصبع الذي يبتدأ به ليهتدي إلى قراره، فيقال مثلا: ثاني ثقيل مطلق أو ثاني ثقيل بالوسطى أو بالخنصر في مجرى البنصر أو خفيف رمل بالبنصر أو خفيف ثقيل أوّل بالبنصر إلى غير ذلك، و هو المعروف عند أصحاب هذا الفن بمواقع الأصابع من الدساتين.
نسخ الأغاني الموجودة بدار الكتب و التي روجعت عليها هذه الطبعة هي:
و هي النسخة التيمورية المرموز إليها بالحرف «ت». و ليس لدينا منها سوى الجزء الأوّل استعرضناه من حضرة صاحب السعادة أحمد تيمور باشا عند ما بدأنا في تصحيح «كتاب الأغاني». و قد أخبرنا سعادته أن ليس لديه من هذه النسخة سوى هذا الجزء. و هو جزء مخطوط يقع في 246 ورقة تنتهي بآخر المجنون (قيس بن الملوّح).
و قد كتب على الصفحة الأولى منه عنوان الكتاب و اسم مؤلفه و فهرس لما فيه من التراجم، بخط واضح بيّن.
و في أعلى الصفحة جملة لم يبن منها سوى هذه الكلمات: «في ملك.. العلي... الحنبلي عفا اللّه عنه و عافاه».
و في وسط الصفحة كتب بخط كبير كلمات شطب عليها و لم نتبيّن منها بعد الشطب بمنتهى الصعوبة سوى: «شرى من دار السلام أحد و عشرون جزءا من كتب العبد الفقير إلى اللّه تعالى... بن يوسف بن عمر... بن رسول عفا اللّه عنه». و في جانبها الأيمن من الأسفل خط مشطوب لم نتبين منه بعد الجهد سوى هذه الكلمات: «حاز النسخة الشيخ العالم... من تركة... العبد الفقير إلى ربه الغنيّ الغفار سنة 937». و في الجانب الآخر كتب بحبر أحمر لم نتبينه كله و هو: «هذا خط ملك اليمن... الملك... رحمة اللّه عليهم أجمعين... و كل منهما ترجم عثمان و أنشد لشيخ الإسلام(1):
مذ مدّ مجد الدّين في أيامه *** من بعض أبحر علمه القاموسا
نسخت صحاح الجوهريّ كأنها *** سحر المدائن حين ألقى موسى
و يبلغ طول الصفحة منها 24 سنتيمترا و عرضها 16 سنتيمترا و طول ما رسم منها 19 سنتيمترا بعرض 11 سنتيمترا و في كل صفحة 15 سطرا.
و ليس بهوامشها سوى بعض كلمات أو جمل سقطت من الأصل فاستدركها الناسخ و يكتب في نهايتها كلمة «صح» إشارة إلى سقوطها من الأصل، أو روايات مختلفة عن نسخ أخرى، و يكتب فوقها الحرف «خ» إشارة إلى روايتها بهذا النص في نسخة أخرى.
ص: 30
أما خطها فهو الخط النسخيّ، و يرجع عهده إلى ما قبل القرن العاشر بدليل تملكها في هذا التاريخ كما كتب في أوّل صفحة منها، و إن كنا لم نستطع الحكم بالضبط عن سنة نسخها؛ لأنه لم يتبين فيها سنة نسخها بالضبط و لا الخزانة التي كتبت برسمها و لا موضع كتابتها و لا مقابلتها بنسخة أخرى و لا شيء من ذلك.
و النسخة مضبوط أكثر كلماتها بالحركات، و تغلب عليها الصحة. و قد وجدنا بها زيادة نحو سبع صفحات ليست في نسخة أخرى فأثبتناها في هذه الطبعة، و هي الموجودة بين قوسين مربعين من ابتداء السطر الثالث من صفحة 156 إلى السطر الخامس من صفحة 163.
لم نجد بها مناسبة لحرف من الأحرف و لذلك اصطلحنا على تسميتها بالحرف «أ»، و هي نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1318 أدب، تقع في أربعة عشر مجلدا، ينقص منها الجزء الرابع و الثامن و الحادي عشر و الثاني عشر مكتوبة بخطوط مختلفة.
و الجزء الأوّل منها يقع في 231 ورقة و ينتهي بآخر أخبار قيس بن الملوّح.
و ليس في الصفحة الأولى منها سوى اسم الكتاب. و كتب في أحد جوانبها جملة لا علاقة لها بشيء من ذلك، و هي «عورك اسمه الحسن بن عتبة اللهبيّ في ترجمة معبد».
و يبلغ طول الصفحة منها 26 سنتيمترا و عرضها 18 سنتيمترا و طول ما رسم من الكتابة في الصفحات 16 سنتيمترا بعرض 11 سنتيمترا و في كل صفحة 17 سطرا. و ليس على هوامشها سوى بعض تعليقات سقطت من الأصل فاستدركها الناسخ و يكتب في نهايتها غالبا لفظ «صح» إشارة سقوطها من الأصل، أو روايات مختلفة عن نسخ أخرى و يكتب فوقها الحرف «خ» إشارة إلى روايتها بهذا النص في نسخة أخرى.
و في أوّل هذا الجزء ورقتان مكتوبتان بخط مخالف لخط الكتاب، أما بقية الكتاب فمكتوب بخطين مختلفين:
أحدهما قديم كتب قبل سنة 693 ه إذ وجد في الجزءين الثاني و السابع عشر هذه العبارة في الورقة الأولى منهما و هي: «تملكه شرعا علي بن الأمير الدلقيدي» سنة 693 ه. و أما الخط الآخر فهو خط موسى الشعراني و قد كتب في سنة 1155 كما ورد في آخر الجزء المتم العشرين من الكتاب.
أما نوع الخط فهو في كلا الخطين الخط النسخي المعهود. و الخط القديم مضبوط أكثر كلماته بالحركات، غير أنّنا لم نعتمد عليه في ضبط نسختنا هذه؛ لأن فيه كثيرا من الكلمات لم يضبط على وجهه الصحيح.
أما الخط الحديث فعار عن الضبط إلا قليلا، و لم نعتمد أيضا في نسختنا هذه عليه.
و لم تتبين في النسخة الخزانة التي كتبت برسمها و لا موضع كتابتها و لا مقابلتها بنسخة أخرى. و إن في آخر الكتاب ما يفيد أن الشيخ حسنا العطار طالعها، و ناهيك بمقدار علمه و أدبه؛ فقد كان من أدباء عصره و له مؤلفات مشهورة.
لم نجد بها مناسبة لحرف من الأحرف فاصطلحنا على تسميتها بالحرف «ج». و هي نسخة في مجلدين كبيرين
ص: 31
بالمجلد الأوّل 636 ورقة و بالثاني 765 ورقة و هي كلها بخط موسى الشعراني، صرح بهذا في آخر الجزء الثاني و أنه تم نسخها في يوم الجمعة 20 شعبان سنة 1142 ه. و أما المجلد الأوّل فلم يذكر فيه اسم الناسخ و إنما ذكر أنه تم في يوم الخميس 18 محرّم الحرام سنة 1143 ه. و مكتوب بجانب هذا ما نصه: «تملكت هذه النسخة و طالعتها و صححتها بقدر استطاعتي و أنا الفقير عثمان المورويّ عفا اللّه عنه و عن والديه». و الصفحة الأولى من هذه النسخة ليس بها شيء خاص بعنوان الكتاب أو اسم مؤلفه، و ليس بها سوى هذه الجملة مكتوبة بخط واضح و هي:
«استصحبه العبد الفقير شفيق الحسين أصلح اللّه تعالى شأنه، و صانه عما شانه في سنة 234». و هذه الجملة مكتوبة بشكل مثلث على رأس روايته الحرف «م». و في الصفحة الثانية ختم «صالح نائلي». و يبلغ طول الصفحة منها 32 سنتيمترا تقريبا و عدد سطورها 45 سطرا. و بحواشيها بيان معاني بعض الكلمات اللغوية أو استدراك ما سقط من الأصل و يكتب في آخرها كلمة «صح» إشارة إلى ذلك، أو بيان بعض الروايات المختلفة عن نسخة أخرى و يكتب في آخرها الحرف «خ» و النسخة عارية عن الضبط إلا في الشعر فإنه مضبوط في كثير من كلماته.
و نوع الخط فيها هو الخط النسخيّ.
و لم نتبين في النسخة اسم الخزانة التي كتبت برسمها و لا موضع كتابتها و لا مقابلتها بنسخة أخرى.
و هي نسخة في ثلاثة مجلدات، تشتمل على أكثر الكتاب. و هي إحدى نسخ المكتبة القيمة التي أهداها المرحوم مصطفى فاضل باشا لدار الكتب. و قد استحسنا أن نسميها بالحرف «م» تنبيها إلى ذلك و لأن كتبه بدار الكتب تعطي الرقم الخاص بها ملحقا بها هذا الحرف.
و بالمجلّد الأوّل 270 ورقة و بالثاني 237 ورقة و بالثالث 333 ورقة.
و ليس في الصفحة الأولى و لا الأخيرة من هذه النسخة شيء خاص بعنوان الكتاب و لا اسم مؤلفه و لا من تملك هذه النسخة و لا الخزانة التي كتبت برسمها و لا سنة نسخها و لا اسم ناسخها و لا موضع كتابتها أو مقابلتها بنسخة أخرى. و طول صفحتها 33 سنتيمترا و عرضها 21 سنتيمترا. و طول ما رسم من الكتابة 26 سنتيمترا بعرض 16 سنتيمترا. و عدد الأسطر 25 سطرا. و ليس بحواشيها شيء من التعليقات. و هي عارية عن الضبط. و لا يوثق بصحتها كثيرا لكثرة ما فيها من التحريف.
و هي نسخة بها عشرة مجلدات، الثمانية الأولى بها من أول الجزء الأوّل إلى آخر الثامن و بالمجلدين التاسع و العاشر الجزءان الرابع عشر و الخامس عشر.
و لم نجد مناسبة لتسميتها بحرف من الحروف فسميناها بالحرف «د». و بالجزء الأوّل 176 ورقة كتبها حسن بن محمد الشماوي، صرح بهذا في الجزء الرابع منها. و ليس في هذه النسخة ما يدل على الخزانة التي كتبت برسمها و لا من تملكها و لا سنة نسخها و لا موضع كتابتها أو مقابلتها بنسخة أخرى.
و هذه النسخة تغلب عليها الجدّة. و هي عارية عن الضبط، و لا يوثق بها لكثرة ما فيها من التحريف.
ص: 32
و طول الصفحة منها 24 سنتيمترا و عرضها 17 سنتيمترا و طول ما رسم من الكتابة 18 سنتيمترا بعرض 10 سنتيمترات. و عدد سطورها 21 سطرا.
و هذه النسخة طبعت في أوربا (الجزء الأوّل) و لذلك سميناها بالحرف «ر»، و هي مطبوعة في مدينة جزيپيز فولد سنة 1840 م نقلها عن مخطوطات عربية و معها ترجمة لاتينية و ملاحظات «المسيو روز جارتن».
و ينتهي هذا الجزء قبل آخر أخبار ابن محرز و نسبه. و كل كلماتها مضبوطة بالحركات.
و قد اصطلحنا على تسميتها بالحرف «ب» و هي نسخة كاملة رقمها بالدار 144 أدب ش في 20 جزءا مطبوعة بمطبعة بولاق الأميرية سنة 1285 ه و هي نسخة العلامة المرحوم الشيخ محمد محمود بن التلاميذ التركزي الشنقيطي. و قد صحح بعض ما بها من تحريف تبينه أثناء مطالعة الكتاب، و كان أحيانا يكتب صواب الكلمة بالهامش و طورا يكشطها ثم يكتب صوابها بغاية الدقة في موضعها الأصليّ، أو يصلح الحرف المحرّف بالحرف الصحيح كالدال في موضع الراء، و مرة يكشط نقطة أو يضيف على الموجودة أخرى أو يعجم الحرف المهمل أو يهمل المعجم، و ذلك كله في نفس الكلمة المطبوعة و بطريقة لا تكاد تظهر إلا بإنعام النظر و كثرة التأمل.
و لا يغيب عن القارئ أن الأستاذ الشنقيطيّ لم يتعمد تصحيح «كتاب الأغاني»، و إنما كان يعنّ له أثناء مطالعته في نسخته الخاصة بعض تحريفات فيصححها، و إلا فالكتاب مملوء تحريفا أكثر بكثير مما أصلحه لنسخته، كما يتبين ذلك من مراجعة هذه الطبعة و مقارنتها بطبعتي بولاق و الساسي، و بعضه تحريف ظاهر. و عدم تنبه الأستاذ الشنقيطي لتصويبه في نسخته يدل على أنه لم يقرأه.
و هي نسخة الساسي، و قد اصطلحنا على تسميتها بالحرف «س»، و هي نسخة طبعها المرحوم الحاج محمد أفندي ساسي المغربي و أضاف إليها الجزء الحادي و العشرين.
و قد اصطلحنا على تسميتها بالحرف «ط» لأن كاتبها هو محمد بن أبي طالب البدري و ذلك في شهور سنة 614 ه. و لم نرمز لها بالحرف «م» من محمد أو «ب» من البدري، لأننا رمزنا بهذين الحرفين لنسختين أخريين.
أما هذه النسخة فالموجود منها بدار الكتب المصرية أربعة أجزاء في أربعة مجلدات و هي:
(1) الجزء الثاني، أوله في الصفحة الأولى ذكر عديّ بن زيد، ثم ما يلي هذه الصفحة مخروم، و الخرم يستغرق كل أخبار عدي ثم جزءا من أخبار الحطيئة و يبلغ مقداره نحو 28 صفحة و نصف صفحة من طبعة بولاق.
و تبتدئ الصحف الموجودة بهذا البيت:
ص: 33
باستك إذ خلفتني خلف شاعر *** من الناس لم أكفئ و لم أتنحل
و تنتهي بآخر أخبار بشار بن برد الشاعر و نسبه.
و رسم بوجه الصفحة الأولى صورة ملوّنة بالأحمر و الأخضر و الأسود و اللازوردي، و فيها بعض التذهيب، و هي تمثل مجلسا من مجالس الرقص و الغناء و قد ضم عددا من الجواري و القيان. و في هامش ظهر هذه الصفحة طبع خاتم لم يظهر منه إلا «أبو الحسن علي الشريف» و بدائرته «لا إله إلا اللّه وحده صدق وعده». و يقع هذا الجزء في 173 صفحة. و يبلغ طول الصفحة منه 32 سنتيمترا، و عرضها 23 سنتيمترا، و طول ما كتب منها 24 سنتيمترا بعرض 16 سنتيمترا، و في كل صفحة 15 سطرا.
و ليس بهوامشه سوى بعض كلمات أو جمل سقطت من الأصل فاستدركها الناسخ و كتب في نهايتها كلمة «صح» إشارة إلى سقوطها من الأصل، أو روايات مختلفة عن نسخ أخرى، و يكتب فوقها الحرف «خ» إشارة إلى روايتها بهذا النص في نسخة أخرى.
أما خط الجزء فهو النسخ المعهود. و هو واضح متقن، و أوله محلى بالذهب و تراجمه كذلك، و قد ضبطت ألفاظه بالحركات، و ورد بآخره هذه العبارة:
«الحمد للّه وحده. طالعه الفقير حسن بن محمد العطار الأزهري، غفر اللّه له». و هو عالم جليل و مؤلف معروف، تولى مشيخة الأزهر الشريف سنة 1246 ه.
كما ورد أيضا: «طالعه الفقير درويش سنة 1016».
(2) الجزء الرابع، و أوله أخبار طويس و نسبه، و ينتهي إلى آخر نسب إبراهيم الموصلي و أخباره. و في أول هذا الجزء ورقة مكتوبة بخط مخالف لخط الكتاب تشمل أسماء من ترجم لهم صاحب «الأغاني» في هذا الجزء كما كتبت فيها هذه العبارة بخط مخالف لهذا النمط أيضا و هي: «الحمد للّه وحده. قد دخل هذا الجزء الذي هو الرابع من «الأغاني» في نوبة عبد اللّه ابن الفقير إليه محمد بن محمود الجزائري الشهير بابن العتابي - كان اللّه له - بثمن قدره تسع ريالات صغيرة جزائرية و ربع واحدها، و ذلك بتاريخ أواخر شعبان سنة خمس عشرة و اثني (كذا) عشر (كذا) مائة أحسن اللّه عاقبتها بحمده إليه».
و قد رسم بوجه الصحيفة الأولى منه صورة بالألوان كالسابقة إلا أنها تخالفها في الوضع. و هي تمثل أميرا و حوله الغواني و القيان و في أيديهنّ العود و الدف و القيثارة.
و أوصافه من جهة الخط و المقياس تنطبق على أوصاف المجلد السابق لأنه مخطوط بخط الناسخ المتقدّم، و يقع في 205 صفحة، و به خروم في الوسط.
و قد كتب بآخره: «الحمد للّه. طالعه الفقير حسن بن محمد العطار الأزهري سامحه اللّه. طالعه محمد أحمد السروجي المالكي في ثاني ذي العقدة سنة سبع و سبعين و ثمانمائة غفر اللّه له و للمسلمين و صلّى اللّه على محمد و آله و سلّم».
(3) الجزء الحادي عشر، و أوله خبر أساقفة نجران مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ينتهي إلى أخبار سويد بن أبي كاهل و نسبه، و هو مخطوط بخط الناسخ المتقدّم أيضا و أوصافه كأوصاف سابقيه و يقع في 208 صفحة.
ص: 34
و قد كتب بآخره: «الحمد للّه. طالعه الفقير حسن بن محمد العطار الأزهري سامحه اللّه» و «الحمد للّه.
طالعه فقير [إلى] رحمة ربه الغني محمد أحمد السروجي المالكي في حادي عشر محرم الحرام سنة ثمان و سبعين و ثمانمائة... و صلّى اللّه على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلّم» و «الحمد للّه وحده. و صلّى اللّه على سيدنا محمد، طالع في هذا الكتاب المبارك الفقير سليمان جاويش الشهير بالأخرس و بابن أزدمر غفر اللّه له بمنه. و ذلك في أوائل شهر المحرم الحرام سنة ثلاثة (كذا) عشر بعد ألف» و «طالع في هذا الكتاب المفتقر إلى رحمة ربه و مغفرته و رضوانه الحقير رمضان آغا ابن المرحوم سليمان جاويش الخدم العالية غفر اللّه لهما و لوالديهما و لمن طالع فيه و أهدى ثواب لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه لهما مع الفاتحة في شهر ذي القعدة سنة 1015» و «الحمد للّه. تعلق به نظرا الفقير أحمد بن محمد بن محمد بن محمد الهواني».
(4) الجزء الثالث عشر و هو مخروم من الأول و الأثناء و الآخر، و أول ما فيه من أثناء أخبار عبد اللّه بن الزبير، و ينتهي إلى أثناء أخبار عمرو بن بانة، و هو مخطوط بخط الناسخ المتقدّم أيضا، و أوصافه كأوصاف الأجزاء السابقة. و الموجود منه 172 صفحة.
طبع «كتاب الأغاني» بالمطبعة الأميرية في عشرين جزءا تنتهي بأخبار عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية الخطفي، و بتمام هذه الترجمة تمام الجزء المتم العشرين و هو آخر «كتاب الأغاني». و قد نشر المستشرق رودلف برونو الأمريكي جزءا طبعه في مدينة ليدن سنة 1305 ه - 1888 م و قال عنه: إنه الجزء الحادي و العشرون من «الأغاني». و نحن نشك في أن هذا الجزء من الكتاب للأسباب الآتية:(1) أنه لم يصدّره بمقدمة يبين فيها أصل النسخة التي نشره عنها و لا في أيّ المكتبات عثر على هذه الزيادة.(2) أن أسلوبه ضعيف، لا يشبه أسلوب أبي الفرج في العشرين جزءا المتقدّمة.(3) أنه يشرح في كثير من الأحيان الألفاظ الغريبة التي ترد في أبيات الشعر و هي طريقة غير معهودة في الكتاب، فالجزء الأوّل مثلا على كثرة ما فيه من الألفاظ الغريبة لم يشرح إلا القليل النادر، و قد لا يعدو ما شرح في هذا الجزء من هذا القبيل أربع كلمات أو خمس كلمات(1).
(4) أنه في هذا الجزء يشرح أحيانا المعاني التركيبية لبعض الأبيات و لم نعهد مثل ذلك في الأجزاء الماضية(2).
(5) أنه يكتب كثيرا كلمة «صوت» على شعر لم يغنّ فيه. و طريقة الكتاب ألا تكتب هذه الكلمة إلا على الشعر الذي يتحدّث بعد أنه وقع فيه غناء(3). و لو لا خوف الإطالة لأتينا لك بجملة أمثلة تؤيد ما ذهبنا إليه.
ص: 35
روجعت هذه النسخة على هذه النسخ المبينة آنفا. و قد امتازت هذه الطبعة بهذه المميزات:
(1) ترقيم الكتاب - اتبعنا في ترتيب هذا الكتاب أن نضع كل ترجمة على حدتها، و قد قسمنا كل ترجمة منها إلى المسائل التي تكلم عليها أبو الفرج في هذه الترجمة، و عنونا لها بهامش الكتاب بعنوان حاولنا على قدر الجهد أن يكون وافيا للمعنون عنه في صلب الكتاب. و من ذلك يتكوّن الفهرس الذي سميناه فهرس الموضوعات. و قد جعلنا كل مسألة مبتدئة بسطر جديد.
و وضعنا الأسانيد مبتدئة بلفظ «أخبرني» أو «حدّثني» أو «حدّثنا» أو «نسخت من كتاب فلان» أو غير ذلك، مكتوبة بخط أكبر من خط الكتاب ليميز القارئ هذه الأسانيد و يمرّ عليها مرا إن كان في غنية عنها. و قد أردنا بادئ بدء أن نكتب هذه الأسانيد بخط أصغر من خط الكتاب لو لا أنه حال دون ذلك أن المطبعة لم يتوفر فيها الشكل اللازم لضبط الأعلام من هذا الحجم الصغير. و ضبط الأعلام لم نستطع الاستغناء عنه بحال، بل كان يأخذ منا مجهودا كبيرا. و يعلم اللّه كم قاسينا من العناء في ضبط الأعلام مستندين في ذلك إلى أوثق المصادر مع التنبيه على ذلك في الحاشية إن كان العلم غير مشهور أولا يتيسر لكثير من القرّاء الاهتداء إليه.
و بعد أن ينتهي ذكر السند نبتدئ الحكاية المروية من أوّل السطر حتى تنتهي، فاصلين جملها بعضها عن بعض بنقطة إن انتهت الجملة، أو بالعلامة (،) التي اصطلح على تسميتها بالشولة، في الجملة ذات المعاني الكثيرة المرتبط بعضها ببعض، أو بشولة تحتها نقطة بين الجملتين التي يكاد ينقطع المعنى بينهما و لم ينقطع تماما. و قد وضعنا الآيات القرآنية بين قوسين () كما وضعنا الأحاديث بين هاتين العلامتين "" و وضعنا الأمثال بين هاتين العلامتين «». و وضعنا الزيادات التي استحسنا وضعها عن إحدى نسخ الأغاني أو عن كتاب آخر بين قوسين مربعين هكذا [].
و في ظننا أن هذا الترتيب يسهل على القرّاء كثيرا فهم تراكيب في الكتاب قد لا يتيسر فهمها لكثير من القرّاء بدونها.
(2) ضبط الأعلام - ضبطنا الأعلام الواردة في الكتاب. و قد وصلنا إلى ضبط أكثر أعلامه اللهم إلا القليل النادر الذي لم نتوصل إلى ضبطه بعد البحث عنه في المظانّ الكثيرة. على أنا نعتقد أنه ببحث أطول من بحثنا قد يوفق القارئ لضبطه أو قد يراه أحد القرّاء مضبوطا في كتاب لم نصل إليه أو لم يخطر لنا أنه مضبوط فيه. و إنا نرجو كل من يصل إلى ضبط علم من الأعلام لم نهتد إليه أن يكتب لنا عنه و عن المصدر الذي ضبطه منه، لنصدر ملحقا بذلك للكتاب أو لنضبطه في الأجزاء الآتية حين وروده فيها.
(3) ضبط الغريب و الشعر - و قد ضبطنا أيضا ما ورد في الكتاب من الألفاظ الغريبة. و قد أردنا أن ينتفع بالكتاب طبقات كثيرة، فضبطنا كثيرا من ألفاظه، و تركنا الألفاظ الظاهرة التي لا تستعصى على كثير من الناس.
و كذلك ضبطنا الشعر ضبطا يكاد يكون كاملا بحيث لا يخطئ في قراءته من توافر له حظ قليل من العمل. و شرحنا الكلمات الغريبة في أسفل الصفحات ليكون القارئ مستغنيا عن الكشف في كتب اللغة أو الأدب أو غيرها و قد لا يصل إلى شرحها إلا بعد وقت غير قليل. و قد التزمنا كذلك شرح ما في الشعر من غريب و شرح معناه التركيبي إن ظننا أنه ليس في قدرة كثير من الناس فهمه أو إدراك كنهه.
ص: 36
(4) بيان الأماكن - و كذلك ضبطنا أسماء الأماكن و البلدان مع بيان مواقعها، مسترشدين في ذلك بالكتب المؤلفة في هذا الباب.
(5) بيان الألفاظ الاصطلاحية أو الدخيلة - و كذلك شرحنا ما ورد في الكتاب من أسماء مولدة أو معرّبة مما لا يوجد في كتب اللغة المقصورة على بيان ذكر الألفاظ العربية الفصيحة: كأسماء الأطعمة و غيرها من المعاني المحدثة في عهد الأمويين أو العباسيين فمن بعدهم.
(6) الروايات المختلفة في نسخ الأغاني - إذا اختلفت نسخ الأغاني الموصوفة آنفا ننظر إلى ما هو الصحيح أو الأنسب بالمقام فنضعه في الصلب، و ننبه على باقي النسخ في أسفل الصفحة.
و ربما وجدنا النسخ كلها متفقة على خطأ في بعض الكلمات و نجد صوابها في بعض كتب اللغة أو الأدب، فنضع الكلمة في الأصل على وجهها الصحيح و ننبه في أسفل الصحيفة على مأخذها، ثم نذكرها بالحال التي وردت عليها في نسخ الأغاني.
ص: 37
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *
/هذا كتاب ألّفه عليّ بن الحسين بن محمد القرشيّ الكاتب المعروف بالأصبهانيّ، و جمع فيه ما حضره و أمكنه جمعه من الأغاني(1) العربية قديمها و حديثها، و نسب كلّ ما ذكره منها إلى قائل شعره و صانع لحنه و طريقته من إيقاعه و إصبعه التي ينسب إليها من طريقته، و اشتراك إن كان بين المغنّين فيه، على شرح لذلك و تلخيص و تفسير للمشكل من غريبه و ما لا غنى عن علمه من علل إعرابه و أعاريض شعره التي توصّل إلى معرفة تجزئته و قسمة ألحانه.
و لم يستوعب كلّ ما غنّي به في هذا الكتاب و لا أتى بجميعه؛ إذ كان قد أفرد لذلك كتابا مجرّدا من الأخبار و محتويا على جميع الغناء المتقدّم و المتأخّر. و اعتمد في هذا [الباب](2) على ما وجد لشاعره أو مغنّيه أو السبب الذي من أجله قيل الشعر أو صنع اللحن خبرا يستفاد و يحسن بذكره ذكر الصوت معه، على أقصر ما أمكنه و أبعده من الحشو و التكثير بما تقلّ الفائدة فيه. و أتى في كل فصل من ذلك بنتف تشاكله، و لمع تليق به، و فقر إذا تأمّلها قارئها لم يزل متنقّلا بها من فائدة إلى مثلها، /و متصرّفا فيها(3) بين جدّ و هزل، و آثار و أخبار، و سير و أشعار، متصلة بأيام العرب المشهورة و أخبارها المأثورة، و قصص الملوك في الجاهلية و الخلفاء في الإسلام، تجمل بالمتأدّبين معرفتها، و تحتاج الأحداث إلى دراستها، و لا يرتفع من فوقهم من الكهول عن الاقتباس منها؛ إذ كانت منتخلة(4) من غرر الأخبار، و منتقاة من عيونها، و مأخوذة من مظانّها، و منقولة عن أهل الخبرة بها. فصدّر كتابه هذا و بدأ فيه بذكر المائة الصوت المختارة لأمير المؤمنين الرشيد/ - رحمه اللّه تعالى - و هي التي كان أمر إبراهيم الموصليّ و إسماعيل بن جامع و فليح بن العوراء باختيارها له من الغناء كلّه؛ ثم رفعت(5) إلى الواثق باللّه - رحمة اللّه عليه - فأمر إسحاق بن إبراهيم بأن يختار له منها ما رأى أنه أفضل مما كان اختير متقدّما، و يبدل ما لم يكن على هذه الصفة بما(6) هو أعلى منه و أولى بالاختيار؛ ففعل ذلك. و أتبع هذه القطعة بما اختاره غير هؤلاء من متقدّمي المغنّين و أهل العلم بهذه الصناعة من الأغاني، و بالأصوات التي تجمع النّغم العشر المشتملة على سائر نغم الأغاني
ص: 38
و الملاهي، و بالأرمال الثلاثة المختارة، و ما أشبه ذلك من الأصوات التي تتقدّم غيرها في الشهرة كمدن معبد و هي سبعة أصوات، و السبعة التي جعلت بإزائها من صنعة ابن سريج و خيّر بينهما فيها، و كأصوات معبد المعروفة بألقابها، و زيانب يونس الكاتب؛ فإن هذه الأصوات من صدور الغناء و أوائله و ما لا يحسن تقديم غيره أمامه. و أتبع ذلك بأغاني الخلفاء و أولادهم، ثم بسائر الغناء الذي عرف له قصة تستفاد و حديثا يستحسن؛ إذ ليس لكلّ الأغاني خبر [نعرفه](1)، و لا في كلّ ما له خبر فائدة، و لا لكلّ ما فيه بعض الفائدة رونق يروق الناظر و يلهي السامع.
/و وقّع على أوّل كلّ شعر فيه غناء صوتا(2) ليكون علامة و دلالة عليه يتبيّن بها ما فيه صنعة من غيره. و ربما أتى في خلال هذه الأصوات و أخبارها أشعار قيلت في تلك المعاني و غنّي بها و ليست من الأغاني المختارة و لا من هذه الأجناس المرتّبة، فلا يوجد من ذكرها معها بدّ؛ لأنها إذا أفردت عنها كانت إمّا منقطعة الأخبار غير مشاكلة لنظائرها أو معادة أخبارها؛ و في كلتا الحالتين خلاف لما يجيء به هذا الكتاب. و قد يأتي أيضا منها الشيء الذي تطول أخباره و تكثر قصص شاعره مع غيره من الأصوات و الأخبار، فلا يمكن شرحها جمعاء(3) في ذلك الموضع لئلاّ تنقطع الأخبار المذكورة بدخوله(4) بينها، فيؤخّر ذكره إلى مواضع يحسن فيها، و نظائر له يضاف إليها، غير قاطع اتّساق غيره منها و لا مفرد للقرائن بتوسّطه لها، و يكون ذكره على هذه الحال أشكل و أليق.
قال مؤلف هذا الكتاب: و لعلّ [بعض](5) من يتصفّح ذلك ينكر تركنا تصنيفه أبوابا على طرائق الغناء أو على طبقات المغنّين في أزمانهم و مراتبهم أو على ما غنّي به من شعر شاعر. و المانع من ذلك و الباعث على ما نحوناه علل:
منها: أنّا لمّا جعلنا ابتداءه الثلاثة الأصوات المختارة كان شعراؤها من المتأخرين(6)، و أوّلهم أبو قطيفة و ليس من الشعراء المعدودين و لا الفحول، ثم عمر بن أبي ربيعة، ثم نصيب. فلما جرى أوّل الكتاب هذا المجرى و لم يمكن ترتيب الشعراء فيه، ألحق آخره بأوّله و جعل على حسب(7) ما حضر ذكره. و كذلك سائر المائة الصوت المختارة، فإنها جارية على غير ترتيب الشعراء و المغنين. و ليس المغزى في الكتاب/ترتيب الطبقات، و إنما المغزى فيه، ما ضمّنه من ذكر الأغاني بأخبارها، و ليس هذا ممّا يضرّ فيها(8).
و منها: أن الأغاني قلّما يأتي منها شيء ليس فيه اشتراك بين المغنّين في طرائق مختلفة لا يمكن معها ترتيبها على الطرائق؛ إذ ليس بعض الطرائق و لا بعض المغنّين أولى بنسبة الصوت إليه من الآخر.
و منها: /أن ذلك لو لم يكن كما ذكرنا لم يخل فيها - إذا أتينا بغناء رجل [رجل](9) و أخباره و ما صنّف إسحاق
ص: 39
و غيره - من أن نأتي بكلّ ما أتى به المصنّفون و الرواة منها على كثرة حشوه و قلّة فائدته، و في هذا نقض ما شرطناه من إلغاء الحشو، أو أن(1) نأتي ببعض ذلك فينسب الكتاب إلى قصور عن مدى غيره. و كذلك تجري أخبار الشعراء. فلو أتينا بما غنّي به شعر شاعر منهم و لم نتجاوزه حتى نفرغ منه، لجرى هذا المجرى، و كانت للنفس عنه نبوة، و للقلب منه ملّة، و في طباع البشر محبة الانتقال من شيء إلى شيء، و الاستراحة من معهود إلى مستجدّ.
و كلّ منتقل إليه أشهى إلى النفس من المنتقل عنه، و المنتظر(2) أغلب على القلب من الموجود. و إذا كان هذا هكذا، فما رتّبناه أحلى و أحسن، ليكون القارئ له بانتقاله من خبر إلى غيره، و من قصة إلى سواها، و من أخبار قديمة إلى محدثة، و مليك إلى سوقة، و جدّ إلى هزل، أنشط لقراءته و أشهى لتصفّح فنونه، لا سيّما و الذي ضمّنّاه إيّاه أحسن جنسه، و صفو ما ألّف في بابه، و لباب ما جمع في معناه.
و كلّ ما ذكرنا فيه من نسب الأغاني إلى أجناسها فعلى مذهب إسحاق بن إبراهيم الموصليّ و إن كانت رواية النسبة عن غيره؛ إذ كان مذهبه هو المأخوذ به اليوم دون/ [مذهب](3) من خالفه، مثل إبراهيم بن المهديّ، و مخارق و علّوية و عمرو بن بانة و محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر(4) و من وافقهم؛ فإنهم يسمّون الثّقيل الأوّل و خفيفه الثقيل الثاني و خفيفه، و يسمّون الثقيل الثاني و خفيفه الثقيل الأوّل و خفيفه، و قد اطّرح ما قالوه الآن و ترك، و أخذ الناس بقول إسحاق.
قال مؤلف هذا الكتاب: و الذي بعثني على تأليفه أنّ رئيسا من رؤسائنا كلّفني جمعه له، و عرّفني أنه بلغه أن الكتاب(5) المنسوب إلى إسحاق مدفوع أن يكون من تأليفه، و هو مع ذلك قليل الفائدة، و أنه شاكّ في نسبته(6)؛ لأن أكثر أصحاب إسحاق ينكرونه، و لأن ابنه حمّادا أعظم الناس إنكارا لذلك. و قد لعمري صدق فيما ذكره، و أصاب فيما أنكره.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: سمعت حمّادا يقول: ما ألّف أبي هذا الكتاب قطّ و لا رآه. و الدليل على ذلك أنّ أكثر أشعاره المنسوبة التي جمعت فيه إلى ما ذكر معها من الأخبار ما غنّى فيه أحد قطّ، و أنّ أكثر نسبه إلى المغنّين خطأ؛ و الذي ألّفه أبي من دواوين الغناء(7) يدلّ على بطلان هذا الكتاب، و إنما وضعه ورّاق كان لأبي بعد وفاته، سوى الرّخصة(8) التي هي أوّل الكتاب؛ فإن أبي - رحمه اللّه - ألّفها؛ /لأن أخبارها كلّها من روايتنا. هذا ما سمعته من أبي بكر حكاية [فحفظته](9) و اللفظ يزيد و ينقص.
ص: 40
و أخبرني أحمد بن جعفر جحظة أنه يعرف الورّاق الذي وضعه، و كان يسمّى بسند(1) الورّاق، و حانوته في الشّرقية في خان الزّبل(2)، و كان يورّق لإسحاق بن إبراهيم، فاتفق هو و شريك له على وضعه. و ليست الأغاني التي فيه أيضا مذكورة الطّرائق، و لا هي بمقنعة من جملة ما في أيدي الناس من الأغاني، و لا فيها من الفوائد ما يبلغ الإرادة؛ فتكلّفت ذلك له على مشقّة احتملتها منه، و كراهة أن يؤثر عنّي في هذا المعنى ما يبقى على الأيام مخلّدا، و إليّ على تطاولها منسوبا، و إن كان مشوبا بفوائد جمّة و معان من الآداب شريفة. و نعوذ باللّه/مما أسخطه من قول أو عمل، و نستغفره من كلّ موبقة و خطيئة و قول لا يوافق رضاه، و هو وليّ العصمة و التوفيق، و عليه نتوكّل و إليه ننيب. و صلّى اللّه على محمد و آله عند مفتتح كل قول و خاتمته و سلّم تسليما. و حسبنا اللّه و نعم الوكيل كافيا و معينا.
ص: 41
أخبرنا أبو أحمد يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم قال حدّثني أبي قال:
حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ أنّ أباه أخبره أنّ الرشيد - رحمة اللّه عليه - أمر المغنّين، و هم يومئذ متوافرون، أن يختاروا له ثلاثة أصوات من جميع الغناء، فأجمعوا على ثلاثة أصوات أنا أذكرها بعد هذا إن شاء اللّه.
قال إسحاق: فجرى هذا الحديث يوما و أنا عند أمير المؤمنين الواثق باللّه، فأمرني باختيار أصوات من الغناء القديم، فاخترت له من غناء أهل كل عصر ما اجتمع علماؤهم على براعته و إحكام صنعته، و نسبته إلى من شدا به، ثم نظرت إلى ما أحدث الناس بعد ممّن شاهدناه في عصرنا و قبيل ذلك، فاجتبيت منه ما كان مشبها لما تقدّم أو سالكا طريقه، فذكرته و لم أبخسه ما يجب له و إن كان قريب العهد؛ لأن الناس قد يتنازعون الصوت في كلّ حين و زمان، و إن كان السّبق للقدماء إلى كل إحسان.
و أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني هارون بن الحسن(1) بن سهل و أبو العبيس(2) بن حمدون و ابن دقاق و هو محمد بن أحمد بن يحيى المعروف بابن دقاق بهذا الخبر، فزعم:
أن الرشيد أمر هؤلاء المغنّين أن يختاروا له مائة صوت فاختاروها، ثم أمرهم باختيار عشرة منها فاختاروها، ثم أمرهم أن يختاروا منها ثلاثة ففعلوا. و ذكر نحو ما ذكره يحيى بن عليّ، و وافقه في صوت من الثلاثة الأصوات، /و خالفه في صوتين. و ذكر يحيى بن عليّ بإسناده المذكور أنّ منها لحن معبد في شعر أبي قطيفة و هو من خفيف الثّقيل الأوّل:
القصر فالنّخل فالجمّاء بينهما *** أشهى إلى القلب(3) من أبواب جيرون
و لحن ابن سريج في شعر عمر بن أبي ربيعة، و لحنه من الثّقيل الثاني:
تشكّى الكميت الجري لمّا جهدته *** و بيّن لو يسطيع أن يتكلّما
و لحن ابن محرز في شعر نصيب، و هو من الثّقيل الثاني أيضا:
أهاج هواك المنزل المتقادم؟ *** نعم، و به ممّن شجاك(4) معالم
ص: 42
و ذكر جحظة عمن روى عنه أن من الثلاثة الأصوات لحن ابن محرز في شعر المجنون، و هو من الثقيل الثاني:
إذا ما طواك الدهر يا أمّ مالك *** فشأن المنايا القاضيات و شانيا
و لحن إبراهيم الموصليّ في شعر العرجيّ، و هو من خفيف الثقيل الثاني:
إلى جيداء قد بعثوا رسولا *** ليحزنها، فلا صحب الرسول
و لحن ابن محرز في شعر نصيب، و هو على ما ذكر هزج:
/أ هاج هواك المنزل المتقادم؟ *** نعم، و به ممن شجاك معالم
و حكى عن أصحابه أنّ هذه الثلاثة الأصوات على هذه الطرائق لا تبقى نغمة في الغناء إلاّ و هي فيها.
أخبرني الحسن بن عليّ الأدميّ(1) قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد(2)الورّاق قال حدّثني أبو توبة صالح بن محمد قال حدّثني محمد بن جبر(3) المغنّي قال حدّثني إبراهيم بن المهديّ:
/أنّ الرشيد أمر المغنّين أن يختاروا له أحسن صوت غنّي فيه، فاختاروا له لحن ابن محرز في شعر نصيب:
أهاج هواك المنزل المتقادم؟
قال: و فيه دور كثير، أي صنعة كثيرة. و الذي ذكره أبو أحمد يحيى بن عليّ أصحّ عندي. و يدلّ على ذلك تباين ما بين الأصوات التي ذكرها و الأصوات الأخر في جودة الصنعة و إتقانها و إحكام مباديها و مقاطعها و ما فيها من العمل، و أن الأخرى ليست مثلها و لا قريبة منها. و أخرى هي أن جحظة حكى عمن روى عنه أنّ فيها صوتا لإبراهيم الموصليّ، و هو أحد من كان اختار هذه الأصوات للرشيد، و كان معه في اختيارها إسماعيل بن جامع و فليح بن العوراء، و ليس أحد منهما دونه إن لم يفقه، فكيف يمكن أن يقال: إنهما ساعدا إبراهيم على اختيار لحن من صنعته في ثلاثة أصوات اختيرت من سائر الأغاني و فضّلت عليها! أ لم يكونا لو فعلا ذلك قد حكما لإبراهيم على أنفسهما بالتقدّم و الحذق و الرّئاسة و ليس هو كذلك عندهما؟ و لقد أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه:
أنه أتى أباه إبراهيم بن ميمون يوما مسلّما، فقال له أبوه: يا بنيّ، ما أعلم أحدا بلغ من برّ ولده ما بلغته من برّك، و إني لأستقلّ ذلك لك، فهل من حاجة أصير فيها إلى محبّتك؟ قلت: قد كان - جعلت فداك - كلّ ما ذكرت فأطال اللّه لي بقاءك، و لكنّي أسألك واحدة: يموت هذا الشيخ غدا أو بعد غد و لم أسمعه، فيقول الناس لي ما ذا و أنا أحلّ منك هذا المحلّ. قال لي: و من هو؟ قلت: ابن جامع. قال: صدقت يا بنيّ، أسرجوا(4) لنا. فجئنا
ص: 43
ابن جامع، فدخل عليه أبي و أنا معه، فقال: يا أبا القاسم، قد جئتك في حاجة، فإن شئت فاشتمني، و إن شئت فاقذفني، غير أنه لا بدّ لك من قضائها. هذا عبدك و ابن أخيك إسحاق قال لي كذا و كذا، فركبت معه أسألك أن /تسعفه فيما سأل. فقال: نعم، على شريطة: تقيمان عندي أطعمكما مشوشة(1) و قليّة(2) و أسقيكما من نبيذي التّمريّ و أغنّيكما، فإن جاءنا رسول الخليفة مضينا إليه و إلاّ أقمنا يومنا. فقال أبي: السمع و الطاعة، و أمر بالدوابّ فردّت. فجاءنا ابن جامع بالمشوشة و القليّة و نبيذه التمريّ فأكلنا و شربنا، ثم اندفع فغنّانا، فنظرت إلى أبي يقلّ في عيني و يعظم ابن جامع حتى صار أبي في عيني كلا شيء. فلما طربنا(3) غاية الطّرب جاء رسول الخليفة فركبا و ركبت معهما. فلما كنا في بعض الطريق قال لي أبي: كيف رأيت ابن جامع يا بنيّ؟ قلت له: أو تعفيني جعلت فداك! قال: لست أعفيك فقل. فقلت له: رأيتك و لا شيء أكبر عندي منك قد صغرت عندي في الغناء معه حتى صرت كلا شيء. ثم مضيا إلى الرشيد، و انصرفت إلى منزلي؛ و ذلك لأني لم أكن بعد وصلت إلى الرشيد. فلما أصبحت أرسل إليّ أبي فقال: يا بنيّ، هذا الشتاء قد هجم عليك و أنت تحتاج فيه إلى مئونة(4)، /و إذا مال عظيم بين يديه، فاصرف هذا المال في حوائجك. فقمت فقبّلت يده و رأسه و أمرت بحمل المال و اتّبعته، فصوّت بي:
يا إسحاق ارجع، فرجعت. فقال لي: أ تدري لم وهبت لك هذا المال؟ قلت: نعم، جعلت فداك! قال: لم؟ قلت:
لصدقي فيك و في ابن جامع. قال: صدقت يا بنيّ، امض راشدا. و لهما في هذا الجنس أخبار كثيرة تأتي في غير هذا الموضع متفرقة في أماكن تحسن فيها و [لا] يستغني بما ذكر هاهنا عنها. فإبراهيم يحلّ ابن جامع هذا المحلّ مع ما كان بينهما/من المنافسة و المفاخرة ثم يقدم على أن يختار فيما هو معه فيه صوتا لنفسه يكون مقدّما على سائر الغناء، و يطابقه هو و فليح عليه! هذا خطأ لا يتخيّل. و على ما به فإنّا نذكر الصوتين اللذين رويناهما عن جحظة المخالفين لرواية يحيى بن عليّ، بعد ذكرنا ما رواه يحيى، ثم نتبعهما باقي الاختيار(5). فأوّل ذلك من رواية أبي الحسن عليّ بن يحيى.
القصر فالنّخل فالجمّاء بينهما *** أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
إلى البلاط فما حازت قرائنه *** دور نزحن عن الفحشاء و الهون
قد يكتم الناس أسرارا فأعلمها *** و لا ينالون حتى الموت مكنوني
عروضه من أوّل البسيط. القصر الذي عناه هاهنا: قصر سعيد بن العاص بالعرصة. و النخل الذي عناه: نخل كان لسعيد هناك بين قصره و بين الجمّاء و هي أرض كانت له، فصار جميع ذلك لمعاوية بن أبي سفيان بعد وفاة سعيد،
ص: 44
ابتاعه من ابنه عمر و باحتمال دينه عنه؛ و لذلك خبر يذكر بعد. و أبواب جيرون بدمشق. و يروى: «حاذت قرائنه» من المحاذاة. و القرائن: دور كانت لبني سعيد بن العاص متلاصقة؛ سمّيت بذلك لاقترانها. و نزحن: بعدن، و النازح: البعيد؛ يقال: نزح نزوحا. و الهون: الهوان. قال الراجز:
لم يبتذل مثل كريم مكنون *** أبيض ماض كالسّنان المسنون
كان يوقّى نفسه من الهون
و المكنون: المستور الخفيّ، و هو مأخوذ من الكنّ. الشعر لأبي قطيفة المعيطيّ، و الغناء لمعبد، و له فيه لحنان:
أحدهما خفيف ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها من رواية إسحاق و هو اللحن المختار، و الآخر ثقيل أوّل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة.
هو عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط. و اسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب. هذا الذي عليه النسّابون.
و ذكر الهيثم بن عديّ في «كتاب المثالب» أنّ أبا عمرو بن أميّة كان عبدا لأمية اسمه ذكوان فاستلحقه. و ذكر أن دغفلا النّسّابة دخل على معاوية فقال له: من رأيت/من علية قريش؟ فقال: رأيت عبد المطلب بن هاشم و أمية بن عبد شمس. فقال: صفهما لي. فقال: كان عبد المطلب أبيض مديد القامة حسن الوجه، في جبينه نور النبوّة و عزّ الملك، يطيف به عشرة من بنيه كأنهم أسد غاب. قال: فصف أميّة. فقال: رأيته شيخا قصيرا نحيف الجسم ضريرا يقوده عبده ذكوان. فقال: مه، ذاك ابنه أبو عمرو. فقال: هذا شيء قلتموه بعد و أحدثتموه، و أمّا الذي عرفت فهو الذي أخبرتك به. ثم نعود إلى سياقة النّسب من لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة. و النضر عند أكثر النسّابين أصل قريش، فمن ولده النضر عدّ منهم، و من لم يلده فليس منهم. و قال بعض نسّابي قريش: بل فهر بن مالك [أصل](1) قريش، فمن لم يلده فليس من قريش. ثم نعود للنسب إلى النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. و ولد إلياس يقال لهم خندف، سمّوا بأمّهم خندف و هو لقبها(2)، و اسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، و هي أمّ مدركة و طابخة و قمعة بني إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن/عدنان بن أدّ بن أدد بن الهميسع بن يشجب - و قيل: أشجب - بن نبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم، هذا النسب الذي رواه نسّابو العرب و روي عن ابن شهاب الزّهريّ و هو من علماء قريش و فقهائها.
و قال قوم آخرون من النسّابين ممن أخذ - فيما يزعم - عن دغفل و غيره: معدّ بن عدنان بن أدد بن آمين(3) بن
ص: 45
شاجيب بن نبت بن ثعلبة بن عنز بن سرائج(1) بن ملحم(2) بن العوّام بن المحتمل بن رائمة بن العقيان بن علّة(3)ابن شحدود(4) بن الضرب(5) بن عيفر(6) بن إبراهيم بن إسماعيل بن رزين(7) بن أعوج بن المطعم بن الطمح بن القسور ابن عتود(8) بن دعدع بن محمود بن الرائد(9) بن بدوان بن أمامة(10) بن دوس بن حصين(11) بن النّزّال بن الغمير(12) بن محشر بن معذر بن صيفيّ بن نبت بن قيدار بن إسماعيل ذبيح اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه صلّى اللّه عليهما و على أنبيائه أجمعين و سلّم تسليما. ثم أجمعوا أن إبراهيم بن آزر و هو اسمه بالعربية كما ذكره اللّه تعالى في كتابه، و هو في التوراة بالعبرانية تارح بن ناحور، و قيل: النّاحر بن الشّارع(13) و هو شاروغ بن أرغو و هو الرامح بن فالغ(14)- و هو قاسم الأرض الذي قسمها بين أهلها - بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ و هو الرافد بن سام بن نوح صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ابن لامك و هو في لغة العرب ملكان ابن المتوشلخ و هو المنوف بن أخنخ و هو إدريس نبيّ اللّه عليه السّلام بن يارد(15) و هو الرائد/بن مهلايل بن قينان و هو قنان بن أنوش و هو الطاهر بن شيث و هو هبة اللّه. يقال له أيضا: شاث بن آدم أبي البشر صلى اللّه عليه و على سائر الأنبياء و على نبينا محمد خاصة و سلّم تسليما. هذا الذي في أيدي الناس من النّسب على اختلافهم فيه.
و قد روي عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم تكذيب للنسّابين و دفع لهم. و روي أيضا خلاف لأسماء بعض الآباء. و قد شرحت ذلك في «كتاب النسب» شرحا يستغنى به عن غيره.
و أبو قطيفة و أهله من العنابس من بني أمية. و كان لأمية من الولد أحد عشر ذكرا، كلّ واحد منهم يكنى باسم صاحبه، و هم العاص و أبو العاص، و العيص و أبو العيص، و عمرو و أبو عمرو، و حرب و أبو حرب، و سفيان و أبو سفيان، و العويص لا كنى له(16). فمنهم الأعياص فيما أخبرنا حرميّ بن أبي العلاء - و اسمه أحمد بن محمد بن إسحاق.، و الطّوسيّ - و اسمه أحمد بن سليمان - قالا: حدّثنا الزّبير بن بكّار عن محمد بن الضّحّاك الحزاميّ عن أبيه قال: الأعياص: العاص و أبو العاص و العيص و أبو العيص و العويص. و منهم العنابس و هم حرب
ص: 46
و أبو حرب و سفيان و أبو سفيان و أبو عمرو. و إنما سمّوا العنابس لأنهم ثبتوا مع أخيهم حرب بن أمية بعكاظ و عقلوا أنفسهم و قاتلوا قتالا شديدا فشبّهوا بالأسد، و الأسد يقال لها العنابس، واحدها عنبسة. و في الأعياص يقول عبد اللّه بن فضالة الأسديّ:
من الأعياص أو من آل حرب *** أغرّ(1) كغرة الفرس الجواد
و السبب في قوله هذا الشعر ما أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال: حدّثنا عمر بن شبّة، و حدّثنا محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز(2)، قال: حدّثنا المدائنيّ و ابن غزالة، قالوا:
أتى عبد اللّه بن فضالة بن شريك الوالبيّ ثم الأسديّ من بني أسد بن خزيمة عبد اللّه بن الزّبير، فقال له:
نفدت نفقتي و نقبت(3) راحلتي. قال: أحضرها، فأحضرها. فقال: أقبل بها، أدبر بها، ففعل. فقال: ارقعها بسبت(4) و اخصفها بهلب و أنجد بها يبرد خفّها و سر البردين تصحّ. فقال ابن فضالة: إني أتيتك مستحملا و لم آتك مستوصفا، فلعن اللّه ناقة حملتني إليك! قال ابن الزبير: إنّ و راكبها. فانصرف عنه ابن فضالة و قال(5):
/أقول لغلمتي شدّوا ركابي *** أجاوز بطن مكة في سواد
فما لي حين أقطع ذات عرق *** إلى ابن الكاهليّة من معاد(6)
ص: 47
سيبعد بيننا نصّ المطايا *** و تعليق الأداوى و المزاد(1)
و كلّ معبّد قد أعلمته *** مناسمهن طلاّع النّجاد(2)
أرى الحاجات عند أبي خبيب *** نكدن و لا أميّة بالبلاد(3)
من الأعياص أو من آل حرب *** أغرّ كغرّة الفرس الجواد
أبو خبيب: عبد اللّه بن الزّبير، كان يكنى أبا بكر. و خبيب: ابن له هو أكبر ولده، و لم يكن يكنيه به إلا من ذمّه، يجعله كاللقب له(4). قال: فقال ابن الزبير لمّا بلغه هذا الشعر: علم أنها شرّ أمّهاتي فعيّرني بها و هي خير عمّاته(5). قال اليزيديّ: «إنّ» هاهنا بمعنى نعم، كأنه إقرار بما قال. و مثله قول ابن قيس الرّقيّات:
و يقلن شيب قد علا *** ك و قد كبرت فقلت إنّه(6)
و أمّ أبي معيط آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، و لها يقول نابغة بني جعدة: /
و شاركنا قريشا في تقاها *** و في أنسابها(7) شرك العنان
بما ولدت نساء بني هلال *** و ما ولدت نساء بني أبان
و كانت آمنة هذه تحت أميّة بن عبد شمس، فولدت له العاص و أبا العاص و أبا العيص/و العويص و صفيّة و توبة و أروى بني أميّة. فلما مات أميّة تزوّجها بعده ابنه أبو عمرو - و كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، يتزوّج الرجل امرأة أبيه بعده - فولدت له أبا معيط، فكان بنو أميّة من آمنة إخوة أبي معيط و عمومته، أخبرني بذلك كلّه الطوسيّ عن الزّبير بن بكّار.
قال الزّبير: و حدّثني عمّي مصعب قال: زعموا أنّ ابنها أبا العاص زوّجها أخاه أبا عمرو، و كان هذا نكاحا تنكحه الجاهلية. فأنزل اللّه تعالى تحريمه، قال اللّه تعالى: (وَ لاٰ تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ إِلاّٰ مٰا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ سٰاءَ سَبِيلاً) ، فسمّي نكاح المقت.
ص: 48
و أسر عقبة بن أبي معيط في يوم بدر، فقتله رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم صبرا(1). حدّثنا بذلك محمد بن جرير الطّبريّ قال حدّثنا محمد بن حميد الرّازيّ قال حدّثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق في خبر ذكره طويل، و حدّثني به أحمد بن محمد بن الجعد قال حدّثنا محمد بن إسحاق المسيّبي قال حدّثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزّهريّ، قالوا جميعا.
قتله رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم صبرا. فقال له - و قد أمر بذلك فيه -: يا محمد، أ أنا خاصّة من قريش؟ قال نعم. قال:
فمن للصّبية بعدي؟ قال: النار. /فلذلك يسمّى بنو أبي معيط صبية النار. و اختلف في قاتله، فقيل: إنّ عليّ بن أبي طالب - صلوات اللّه عليه - تولّى قتله. و هذا من رواية بعض الكوفيين، حدّثني به أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة(2) قال: أخبرني المنذر بن محمد اللّخميّ قال حدّثنا سليمان بن عبّاد قال حدّثني عبد العزيز بن أبي ثابت المدنيّ(3) عن أبيه عن محمد بن عبد اللّه بن حسن بن حسن(4) عن أبيه عن جدّه عن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام:
أنّ النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم أمر عليّا يوم بدر فضرب عنق عقبة بن أبي معيط و النّضر بن الحارث. و روى(5) ابن إسحاق أن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح(6) الأنصاريّ قتله، و أنّ الذي قتله عليّ بن أبي طالب عليه السّلام النضر بن الحارث بن كلدة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني الحسن بن عثمان قال حدّثني ابن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق عن أصحابه، و حدّثنا محمد بن جرير قال حدّثنا [أحمد](7) بن حميد قال حدّثنا سلمة عن ابن إسحاق عن أصحابه، قالوا:
قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر عقبة بن أبي معيط صبرا: أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه، ثم أقبل من بدر حتى إذا كان ب «الصّفراء»(8) قتل النّضر بن/الحارث بن كلدة أحد بني عبد الدار، أمر عليّا عليه السّلام أن يضرب عنقه، قال عمر بن شبّة في حديثه ب «الأثيل»(9)، فقالت أخته(10) قتيلة بنت الحارث ترثيه:
يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة *** من صبح خامسة و أنت موفّق
ص: 49
أبلغ به ميتا بأنّ تحيّة *** ما إن تزال بها النجائب تخفق(1)
منّي إليك و عبرة مسفوحة *** جادت بدرّتها و أخرى تخنق(2)
هل يسمعنّ النضر إن ناديته *** إن كان يسمع هالك لا ينطق(3)
ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه *** للّه أرحام هناك تشقّق
/صبرا يقاد إلى المنيّة متعبا *** رسف المقيّد و هو عان موثق(4)
أ محمد و لأنت نسل نجيبة *** في قومها و الفحل فحل معرق(5)
ما كان ضرّك لو مننت و ربّما *** منّ الفتى و هو المغيظ المحنق
أو كنت(6) قابل فدية فليأتين *** بأعزّ ما يغلو لديك و ينفق
و النضر أقرب من أخذت بزلّة *** و أحقّهم إن كان عتق يعتق(7)
فبلغنا أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته». فيقال: إن شعرها أكرم شعر موتورة(8)و أعفّه و أكفّه و أحلمه. قال ابن إسحاق: و حدّثني أبو عبيدة بن محمد بن عمّار بن ياسر أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا كان بعرق /الظّبية(9) قتل عقبة بن أبي معيط. قال حين أمر به أن يقتل: فمن للصّبية يا محمد؟ قال: النار. فقلته عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أحد بني عمرو بن عوف.
حدّثني أحمد بن الجعد قال حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن إسحاق الأدميّ قال حدّثنا الوليد بن مسلم قال حدّثني الأوزاعيّ قال حدّثني يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم التّيميّ قال حدّثني عروة بن الزّبير قال:
سألت عبد اللّه بن عمرو فقلت: أخبرني بأشدّ شيء صنعه المشركون برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يصلّي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فخنقه به خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر - رحمة اللّه عليه - حتى أخذ بمنكبه فدفعه عن رسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: أ تقتلون رجلا أن يقول ربّي اللّه!
و كان الوليد بن عقبة أخا عثمان بن عفّان لأمّه، أمّهما أروى بنت عامر بن كريز، و أمّها أمّ حكيم البيضاء بنت
ص: 50
عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. و البيضاء و عبد اللّه أبو رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم توأمان. و كان عقبة بن أبي معيط تزوّج أروى بعد وفاة عفّان، فولدت له الوليد و خالدا و عمارة و أمّ كلثوم، كلّ هؤلاء إخوة عثمان لأمّه. و وليّ عثمان الوليد بن عقبة في خلافته الكوفة، فشرب الخمر و صلّى بالناس و هو سكران فزاد في الصلاة، و شهد عليه بذلك عند عثمان فجلده الحدّ. و سيأتي خبره بعد هذا في موضعه.
و أبو قطيفة عمرو بن الوليد يكنى أبا الوليد. و أبو قطيفة لقب لقّب به. و أمّه بنت الرّبيع بن ذي الخمار من بني أسد بن خزيمة.
و قال أبو قطيفة هذا الشعر حين نفاه ابن الزّبير مع بني أميّة عن المدينة، مع نظائر(1) له تشوّقا إليها. حدّثني بالسبب في ذلك أحمد بن محمد بن شبيب بن أبي شيبة البزّار(2)، قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز(3) عن المدائنيّ، و أخبرني ببعضه أحمد بن محمد بن الجعد قال حدّثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدّثني أبي قال حدّثني وهب بن جرير عن أبيه في كتابه المسمّى «كتاب الأزارقة»، و نسخت بعضه من كتاب منسوب إلى الهيثم بن عديّ. و اللفظ للمدائنيّ في الخبر ما اتّسق، فإذا انقطع أو اختلف نسبت الخلاف إلى راويه. قال الهيثم بن عديّ أخبرنا ابن عيّاش عن مجالد عن الشّعبيّ و عن ابن أبي الجهم(4) و محمد بن المنتشر:
أنّ الحسين بن عليّ بن أبي طالب - عليه و على أبيه السّلام - /لمّا سار إلى العراق، شمّر ابن الزبير للأمر الذي أراده و لبس المعافريّ(5) و شبر بطنه و قال: إنما بطني شبر، و ما عسى أن يسع الشبر(6)! و جعل يظهر عيب بني أميّة و يدعو إلى خلافهم. فأمهله يزيد سنة، ثم بعث إليه عشرة من أهل الشام عليهم النّعمان بن بشير. و كان أهل الشام يسمّون أولئك العشرة النّفر الرّكب، منهم عبد اللّه بن عضاه الأشعريّ، و روح بن زنباع الجذاميّ، و سعد بن حمزة الهمدانيّ، و مالك بن هبيرة السّكوني(7)، و أبو كبشة السّكسكي، و زمل بن عمرو العذريّ، و عبد اللّه بن مسعود، و قيل: ابن مسعدة الفزاريّ، و أخوه عبد الرحمن، و شريك بن عبد اللّه الكنانيّ، و عبد اللّه بن عامر الهمدانيّ، و جعل عليهم، النعمان بن بشير، فأقبلوا حتى قدموا مكة على عبد اللّه ابن الزّبير، و كان النعمان/يخلو به في الحجر كثيرا. فقال له عبد اللّه بن عضاة يوما: يا ابن الزّبير، إنّ هذا الأنصاريّ و اللّه ما أمر بشيء إلا و قد أمرنا بمثله إلا أنه قد أمّر علينا، إني و اللّه ما أدري ما بين المهاجرين و الأنصار. فقال ابن الزّبير: يا ابن عضاه، ما لي و لك! إنما أنا
ص: 51
بمنزلة حمامة من حمام مكة، أ فكنت قاتلا حماما من حمام مكة؟ قال: نعم، و ما حرمة حمام مكة! يا غلام، ائتني بقوسي و أسهمي، فأتاه بقوسه و أسهمه، فأخذ سهما فوضعه في كبد القوس ثم سدّده نحو حمامة من حمام المسجد و قال: يا حمامة، أ يشرب يزيد بن معاوية الخمر؟ قولي نعم، فو اللّه: لئن فعلت لأرمينّك. يا حمامة، أ تخلعين يزيد بن معاوية و تفارقين أمّة محمد صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و تقيمين في الحرم حتى يستحلّ بك؟ و اللّه لئن فعلت لأرمينّك. فقال ابن الزّبير: ويحك! أ و يتكلم الطائر؟ قال: لا! و لكنك يا ابن الزبير تتكلم. أقسم باللّه لتبايعنّ طائعا أو مكرها أو لتتعرّفنّ راية الأشعريّين في هذه البطحاء، ثم لا أعظّم من حقّها ما تعظّم(1). فقال ابن الزبير: أو تستحلّ(2)الحرم! قال: إنما يستحلّه من ألحد فيه. فحبسهم شهرا ثم ردّهم إلى يزيد بن معاوية و لم يجبه إلى شيء. و في رواية أحمد بن الجعد: و قال بعض الشعراء - و هو أبو العباس الأعمى، و اسمه السائب بن فرّوخ يذكر ذلك و شبر ابن الزبير بطنه -:
ما زال في سورة الأعراف يدرسها *** حتى بدا(3) لي مثل الخزّ في اللّين
لو كان بطنك شبرا قد شبعت و قد *** أفضلت فضلا كثيرا للمساكين(4)
قال الهيثم: ثم إنّ ابن الزّبير مضى إلى صفيّة بنت أبي عبيد(5) زوجة عبد اللّه بن عمر، فذكر لها أنّ خروجه كان غضبا للّه تعالى و رسوله - عليه السّلام - و المهاجرين/و الأنصار من أثرة معاوية و ابنه [و أهله](6) بالفيء(7)، و سألها مسألته أن يبايعه. فلما قدّمت له عشاءه ذكرت له أمر ابن الزبير و اجتهاده، و أثنت عليه و قالت: ما يدعو إلاّ إلى طاعة اللّه جلّ و عزّ، و أكثرت القول في ذلك. فقال لها: أ ما رأيت بغلات معاوية اللواتي كان يحجّ عليهنّ(8)الشّهب، فإنّ ابن الزبير ما يريد غيرهنّ! قال المدائنيّ في خبره: و أقام ابن الزبير على خلع يزيد و مالأه(9) على ذلك أكثر الناس. فدخل عليه عبد اللّه بن مطيع و عبد اللّه بن حنظلة و أهل المدينة المسجد و أتوا المنبر فخلعوا يزيد.
فقال عبد اللّه بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزوميّ: /خلعت يزيد كما خلعت عمامتي، و نزعها عن رأسه و قال: إني لأقول هذا و قد وصلني و أحسن جائزتي، و لكنّ عدوّ اللّه سكّير خمّير. و قال آخر: خلعته كما خلعت نعلي. و قال آخر: خلعته كما خلعت ثوبي. و قال آخر: قد خلعته كما خلعت خفّي، حتى كثرت العمائم و النّعال و الخفاف، و أظهروا البراءة منه و أجمعوا على ذلك، و امتنع منه عبد اللّه بن عمر و محمد بن عليّ بن أبي طالب - عليهما السّلام - و جرى بين محمد خاصّة و بين أصحاب ابن الزبير فيه قول كثير، حتى أرادوا إكراهه على ذلك،
ص: 52
فخرج إلى مكة، و كان هذا أوّل ما هاج الشرّ بينه و بين ابن الزبير.
قال المدائنيّ: و اجتمع أهل المدينة لإخراج بني أمية عنها، فأخذوا عليهم العهود ألاّ يعينوا عليهم الجيش، و أن يردّوهم عنهم، فإن لم يقدروا على ردّهم لا يرجعوا إلى المدينة معهم. فقال لهم عثمان بن محمد بن أبي سفيان: أنشدكم اللّه في دمائكم و طاعتكم! فإنّ الجنود تأتيكم و تطؤكم، و أعذر لكم ألاّ تخرجوا أميركم، /إنكم إن ظفرتم و أنا مقيم بين أظهركم فما أيسر شأني و أقدركم على إخراجي! و ما أقول هذا إلاّ نظرا لكم أريد به حقن دمائكم. فشتموه و شتموا يزيد، و قالوا: لا نبدأ إلاّ بك، ثم نخرجهم بعدك. فأتى مروان(1) عبد اللّه بن عمر فقال:
يا أبا عبد الرحمن، إنّ هؤلاء القوم قد ركبونا بما ترى، فضمّ عيالنا. فقال: لست من أمركم و أمر هؤلاء في شيء.
فقام مروان و هو يقول: قبح اللّه هذا أمرا و هذا دينا. ثم أتى عليّ بن الحسين - عليهما السّلام - فسأله أن يضمّ أهله و ثقله(2) ففعل، و وجّههم و امرأته أمّ أبان(3) بنت عثمان إلى الطائف و معها ابناه: عبد اللّه و محمد. فعرض حريث رقّاصة - و هو مولى لبني بهز(4) من سليم كان بعض عمّال المدينة قطع رجله فكان إذا مشى كأنه يرقص، فسمّي رقاّصة - لثقل مروان و فيه أمّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فضربته بعضا فكادت(5) تدقّ عنقه، فولّى و مضى. و مضوا إلى الطائف و أخرجوا بني أميّة. فحسّ(6) بهم سليمان بن أبي الجهم العدويّ و حريث رقّاصة، فأراد مروان أن يصلّي بمن معه فمنعوه، و قالوا: لا يصلّي(7) و اللّه بالناس أبدا، و لكن إن أراد أن يصلّي بأهله فليصلّ، فصلّى بهم و مضى. فمرّ مروان بعبد الرحمن بن أزهر الزّهريّ، فقال له: هلمّ إليّ يا أبا عبد الملك، فلا يصل إليك مكروه ما بقي رجل من بني زهرة. فقال له: وصلتك رحم، قومنا على أمر(8) فأكره أن أعرّضك لهم.
و قال ابن عمر بعد ذلك - لمّا أخرجوا و ندم على ما كان قاله لمروان -: لو وجدت/سبيلا الى نصر هؤلاء لفعلت، فقد ظلموا و بغي عليهم. فقال ابنه سالم: لو كلّمت هؤلاء القوم! فقال: يا بنيّ، لا ينزع هؤلاء القوم عمّا هم عليه، و هم بعين اللّه، إن أراد أن يغيّر غيّر. قال: فمضوا «إلى ذي خشب»(9)، و فيهم عثمان بن محمد بن أبي سفيان و الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، و اتّبعهم العبيد و الصّبيان و السّفلة يرمونهم. ثم رجع حريث رقّاصة و أصحابه إلى المدينة، و أقامت بنو أميّة ب «ذي خشب» عشرة أيام، و سرّحوا حبيب بن كرة(10) إلى يزيد بن معاوية يعلمونه،
ص: 53
و كتبوا اليه يسألونه(1) الغوث. و بلغ أهل المدينة أنهم وجّهوا رجلا إلى يزيد، فخرج محمد بن عمرو بن حزم و رجل من بني سليم من بهز(2) و حريث رقّاصة و خمسون راكبا فأزعجوا/بني أميّة منها، فنخس حريث بمروان(3) فكاد يسقط عن ناقته، فتأخّر عنها و زجرها و قال: اعلى و اسلمي. فلما كانوا «بالسّويداء»(4) عرض لهم مولى لمروان، فقال: جعلت فداك! لو نزلت فأرحت و تغدّيت! فالغداء حاضر كثير قد أدرك(5). فقال: لا يدعني رقّاصة و أشباهه، و عسى أن يمكّن اللّه منه فتقطع يده. و نظر مروان إلى ماله ب «ذي خشب» فقال: لا مال إلا ما أحرزته العياب(6).
فمضوا فنزلوا «حقيلا»(7) أو «وادي القرى»، و في ذلك يقول الأحوص:
/لا ترثينّ لحزميّ رأيت به *** ضرا و لو سقط الحزميّ في النار
الناخسين بمروان بذي خشب *** و المقحمين على عثمان في الدار
قال المدائنيّ: فدخل حبيب بن كرة على يزيد - و هو واضع رجله في طست لوجع كان يجده - بكتاب بني أميّة و أخبره الخبر. فقال: أ ما كان بنو أميّة و مواليهم ألف رجل؟ قال: بلى! و ثلاثة آلاف. قال: أ فعجزوا أن يقاتلوا ساعة من نهار؟ قال: كثرهم(8) الناس و لم تكن لهم بهم طاقة. فندب الناس و أمّر عليهم صخر بن أبي الجهم القينيّ، فمات قبل أن يخرج الجيش، فأمّر مسلم بن عقبة الذي يسمّى مسرفا. قال: و قال ليزيد: ما كنت مرسلا إلى المدينة أحدا إلا قصّر و ما صاحبهم غيري، إنّي رأيت في منامي شجرة غرقد(9) تصيح: على يدى مسلم، فأقبلت نحو الصوت فسمعت قائلا يقول: أدرك ثأرك(10) أهل المدينة قتلة عثمان فخرج مسلم و كان من قصّة الحرّة ما كان على يده، و ليس هذا موضعه. فقال أبو قطيفة في ذلك - لما أخرجوا عن المدينة -:
بكى أحد لما تحمّل أهله *** فكيف بذي وجد من القوم آلف
من اجل أبي بكر جلت عن بلادها *** أميّة، و الأيام ذات تصارف
ص: 54
عروضه من الطويل، و فيه ثقيل أوّل(1). و الغناء لسائب خاثر، خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، ذكر ذلك حمّاد عن أبيه، و ذكر أن فيه لحنا آخر لأهل المدينة لا يعرف صاحبه. قال الهيثم في خبره: و قال أبو العباس الأعمى في ذلك:
/
قد حلّ في دار البلاط(2) مجوّع *** و دار أبي العاص التّميميّ حنتف(3)
فلم أر مثل الحيّ حين تحمّلوا *** و لا مثلنا عن مثلهم يتنكّف(4)
و قال أبو قطيفة أيضا:
بكى أحد لمّا تحمّل أهله *** فسلع فدار المال أمست تصدّع
و بالشأم إخواني و جلّ عشيرتي *** فقد جعلت نفسي إليهم تطلّع
عروضه من الطويل. غنّى فيه دحمان، و لحنه ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر من رواية إسحاق.
و فيه لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى من رواية حبش. و ذكر إسحاق أن فيه لحنا في خفيف الثّقيل الأوّل بالخنصر في مجرى البنصر مجهول الصّانع. و قال أبو قطيفة أيضا:
ليت شعري: هل البلاط كعهدي *** و المصلّى إلى قصور العقيق؟
لا مني في هواك يا أمّ يحيى *** من(5) مبين بغشّه أو صديق
عروضه من الخفيف. غنّاه معبد و يقال دحمان، و لحنه ثقيل أوّل بالسّبّابة في مجرى الوسطى، و ذكر إسحاق أنه لا يعرف صاحبه.
/حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني محمد بن يونس بن الوليد قال: كان ابن الزّبير قد نفى أبا قطيفة مع من نفاه من بني أميّة عن المدينة إلى الشام، فلما طال مقامه بها قال:
ص: 55
ألا ليت شعري هل تغيّر بعدنا *** قباء و هل زال العقيق و حاضره؟
و هل برحت بطحاء قبر محمد *** أراهط غرّ من قريش تباكره
لهم منتهى حبّي و صفو مودّتي *** و محض الهوى منّي و للناس سائره
قال و قال أيضا:
ليت شعري و أين منّي ليت *** أعلى العهد يلبن فبرام؟
أم كعهدي العقيق أم غيّرته *** بعدي الحادثات و الأيام؟
و بأهلي بدّلت عكّا و لخما *** و جذاما، و أين منّي جذام(1)!
و تبدّلت من مساكن قومي *** و القصور التي بها الآطام
كلّ قصر مشيّد ذي أواس *** يتغنّى على ذراه الحمام
أقر منّي السّلام إن جئت قومي *** و قليل لهم لديّ السّلام
عروضه من الخفيف، غنّاه معبد، و لحنه ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى البنصر. و «يلبن» و «برام»:
موضعان(2). و الآطام: جمع أطم، و هي القصور و الحصون. و قال الأصمعيّ: الآطام: الدّور المسطّحة السّقوف.
و في رواية ابن عمار: «ذي أواش» بالشين معجمة، كأنه أراد به أنّ هذه القصور موشيّة أي منقوشة. و رواه إسحاق:
«أواس» بالسين غير معجمة، و قال: واحدها آسيّ، و هو الأصل. قال و يقال: فلان في آسيّه، أي في أصله. و الآسيّ و الأساس واحد. و ذرا كلّ شيء: أعاليه، و هو جمع، واحدته ذروة. و يروى:
أبلغنّ السّلام إن جئت قومي
/و روى الزّبير بن بكّار هذه الأبيات لأبي قطيفة، و زاد فيها:
أقطع الليل كلّه باكتئاب *** و زفير فما أكاد أنام
نحو قومي إذ فرّقت بيننا الدا *** ر و جادت(3) عن قصدها الأحلام
خشية أن يصيبهم عنت الدّه *** ر و حرب يشيب منها الغلام
فلقد حان أن يكون لهذا الدّهر عنّا تباعد و انصرام
رجع الخبر إلى سياقته من رواية ابن عمّار. و أخبرنا بمثله من هذا الموضع الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الحزاميّ، و هو إبراهيم بن المنذر، عن مطرّف بن عبد اللّه
ص: 56
/المدنيّ(1) قالا: إن ابن الزّبير لمّا بلغه شعر أبي قطيفة هذا قال: حنّ(2) و اللّه أبو قطيفة و عليه السّلام و رحمة اللّه، من لقيه فليخبره أنه آمن فليرجع. فأخبر بذلك فانكفأ إلى المدينة راجعا، فلم يصل إليها حتى مات. قال ابن عمّار:
فحدّثت عن المدائنيّ أنّ امرأة من أهل المدينة تزوّجها رجل من أهل الشام، فخرج بها إلى بلده على كره منها، فسمعت منشدا ينشد شعر أبي قطيفة هذا، فشهقت شهقة و خرّت على وجهها ميّتة، هكذا ذكر ابن عمّار في خبره.
و أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد: قرأت على أبي عن أيّوب بن عباية قال قال حدثني سعيد بن عائشة مولى آل المطّلب بن عبد مناف قال:
/خرجت امرأة من بني زهرة في خفّ(3)، فرآها رجل من بني عبد شمس من أهل الشام فأعجبته، فسأل عنها فنسبت له، فخطبها إلى أهلها فزوّجوه [إياها] بكره منها، فخرج بها إلى الشام. [و خرجت مخرجا](4)، فسمعت متمثّلا يقول:
ألا ليت شعري هل تغيّر بعدنا *** جبوب(5) المصلّى أم كعهدي القرائن؟
و هل أدؤر(6) حول البلاط عوامر *** من الحيّ أم هل بالمدينة ساكن؟
إذا برقت نحو الحجاز سحابة *** دعا الشوق منّي برقها المتيامن
فلم أتركنها رغبة عن بلادها *** و لكنّه ما قدّر اللّه كائن
- عروضه من الطويل، يقال: إن لمعبد فيه لحنا - قال: فتنفّست بين النساء فوقعت ميّتة. قال أيّوب(7):
فحدّثت بهذا الحديث عبد العزيز بن أبي ثابت الأعرج فقال: أتعرفها؟ قلت لا. قال: هي و اللّه عمّتي حميدة بنت عمر بن عبد الرحمن بن عوف.
أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال أخبرني ابن عائشة قال: لمّا أجلى ابن الزّبير بني أميّة عن الحجاز قال أيمن بن خريم الأسديّ:
كأنّ بني أميّة يوم راحوا *** و عرّي عن منازلهم صرار(8)
ص: 57
شماريخ الجبال إذا تردّت *** بزينتها و جادتها القطار(1)
/و أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا محمد بن سعد الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن العتبىّ(2) قال:
كتب أبو قطيفة عمرو بن الوليد بن عقبة إلى أبيه و هو متولّي الكوفة لعثمان بن عفّان:
من مبلغ عنّي الأمير بأنني *** أرق بلا داء سوى الإنعاظ
إن لم تغثني خفت إثمك أو أرى *** في الدار محدودا(3) بزرق لحاظ
يعني دار عثمان التي تقام فيها الحدود. فابتاع له جارية بالكوفة و بعث بها إليه. أخبرني عبد اللّه بن محمد الرّازي قال حدّثنا الخرّاز عن المدائنيّ قال:
كان أبو قطيفة من شعراء قريش، و كان ممن نفاه ابن الزبير مع بني أمية إلى الشام، فقال في ذلك:
و ما أخرجتنا رغبة عن بلادنا *** و لكنّه ما قدّر اللّه كائن
أحنّ إلى تلك الوجوه صبابة *** كأنّي أسير في السّلاسل راهن
/و كان يتحرّق(4) على المدينة، فأتى عبّاد بن زياد ذات يوم عبد الملك فقال له: إنّ خاله أخبره أن العراقين قد فتحا. فقال عبد الملك لأبي قطيفة لما يعلمه من حبّه المدينة: أ ما تسمع ما يقوله عبّاد عن خاله؟ قد طابت لك المدينة الآن. فقال أبو قطيفة:
إنّي لأحمق(5) من يمشي على قدم *** إن غرّني من حياتي خال عبّاد
أنشا يقول لنا المصران قد فتحا *** و دون ذلك يوم شرّه بادي
قال: و أذن له ابن الزّبير في الرجوع، فرجع فمات في طريقه.
و أمّا خبر القصر الذي تقدّم ذكره و بيعه من معاوية، فأخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال ذكر مصعب بن عمّار(6) بن مصعب بن عروة بن الزّبير:
/أنّ سعيد بن العاص لمّا حضرته الوفاة و هو في قصره هذا، قال له ابنه عمرو: لو نزلت الى المدينة! فقال:
يا بنيّ، إنّ قومي لن يضنّوا عليّ بأن يحملوني على رقابهم ساعة من نهار، و إذا أنا مت فآذنهم(7)، فإذا واريتني فانطلق الى معاوية فانعني له، و انظر في ديني، و اعلم أنه سيعرض عليك قضاءه فلا تفعل، و اعرض عليه قصري
ص: 58
هذا، فإنّي إنما اتخذته نزهة و ليس بمال. فلما مات آذن به الناس، فحملوه من قصره حتى دفن بالبقيع، و رواحل عمرو بن سعيد مناخة، فعزّاه الناس على قبره و ودّعوه، فكان هو أوّل من نعاه لمعاوية(1)، فتوجّع له و ترحّم عليه، ثم قال: هل ترك دينا؟ قال نعم. [قال: كم هو؟ قال](2) ثلاثمائة ألف [درهم](2). قال: هي عليّ. قال: قد ظنّ ذلك و أمرني ألاّ أقبله منك، و أن أعرض عليك بعض ماله فتبتاعه فيكون قضاء دينه منه. قال: فاعرض [عليّ](3).
قال: قصره بالعرصة. قال: قد أخذته بدينه. قال: هو لك على أن تحملها إلى المدينة و تجعلها بالوافية(4). قال:
نعم. فحملها له إلى المدينة و فرّقها في غرمائه، و كان أكثرها عدات(5). فأتاه شابّ من قريش بصكّ فيه عشرون ألف درهم بشهادة سعيد على نفسه و شهادة مولى له عليه. فأرسل إلى المولى فأقرأه الصّكّ، فلما قرأه بكى و قال:
نعم هذا خطّه و هذه شهادتي عليه. فقال له عمرو: من أين يكون لهذا الفتى عليه عشرون ألف درهم و إنما هو صعلوك من صعاليك قريش؟ قال: أخبرك عنه، مرّ سعيد بعد عزله، فاعترض له هذا الفتى و مشى معه حتى صار إلى منزله، فوقف له سعيد فقال: أ لك حاجة؟ قال: لا، إلاّ أنّي رأيتك تمشي وحدك فأحببت أن أصل جناحك. فقال لي: ائتني بصحيفة، فأتيته بهذه، فكتب له على نفسه هذا الدّين و قال: إنك لم(6) تصادف عندنا شيئا فخذ هذا، /فإذا جاءنا شيء فأتنا.
فقال عمرو: لا جرم و اللّه لا يأخذها إلا بالوافية، أعطيه إيّاها، فدفع إليه عشرين ألف درهم وافية.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا الصّلت بن مسعود قال حدّثنا سفيان بن عيينة قال حدّثنا هارون(7) المدائنيّ قال:
كان الرجل يأتي سعيد بن العاص يسأله فلا يكون عنده، فيقول: ما عندي، و لكن اكتب عليّ به، فيكتب عليه كتابا، فيقول: تروني(8) أخذت منه ثمن هذا؟ لا، و لكنه يجيء فيسألني فينزو(9) دم وجهه في وجهي فأكره ردّه.
فأتاه مولى لقريش بابن مولاه و هو غلام فقال: إنّ أبا هذا قد هلك و قد أردنا تزويجه. فقال: ما عندي، و لكن خذ ما شئت في أمانتي. فلما مات/سعيد بن العاص جاء الرجل إلى عمرو بن سعيد فقال: إنّي أتيت أباك بابن فلان، و أخبره بالقصّة. فقال له عمرو: فكم أخذت؟ قال: عشرة آلاف. فأقبل عمرو على القوم فقال: من رأى أعجز من هذا! يقول له سعيد: خذ ما شئت في أمانتي فيأخذ عشرة آلاف! لو أخذت مائة ألف لأدّيتها عنك.
أخبرني عمّي قال: حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن ابن الكلبيّ قال: قال أبو قطيفة - و كانت أمّه و أمّ
ص: 59
خالد بن الوليد بن عقبة عمّة أروى بنت أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتّب(1) -
/أنا ابن أبي معيط حين أنمى *** لأكرم ضئضئ(2) و أعزّ جيل
و أنمي للعقائل من قصيّ *** و مخزوم فما أنا بالضّئيل
و أروى من كريز قد نمتني *** و أروى الخير بنت أبي عقيل
كلا الحيّين من هذا و هذا *** لعمر أبيك في الشّرف الطويل
فعدّد مثلهن أبا ذباب *** ليعلم ما تقول ذوو العقول
فما الزّرقاء لي أمّا فأخزى *** و لا لي في الأزارق من سبيل
قال: يعني بأبي الذّباب عبد الملك. و الزّرقاء: إحدى أمهاته من كندة، و كان يعيّر بها.
أخبرني الحسن بن عليّ قال أخبرني محمد بن زكريا قال حدّثنا قعنب بن المحرز قال حدّثنا المدائنيّ قال:
بلغ أبا قطيفة أنّ عبد الملك بن مروان يتنقّصه، فقال:
نبّئت أنّ ابن العملّس(3) عابني *** و من ذا من الناس البريء المسلّم؟
من انتم من انتم خبّرونا من انتم(4) *** فقد جعلت أشياء تبدو و تكتم!
فبلغ ذلك عبد الملك فقال: ما ظننت أنّا نجهل، و اللّه لو لا رعايتي لحرمته لألحقته بما يعلم، و لقطّعت جلده بالسّياط.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن العتبيّ قال:
/طلّق أبو قطيفة امرأته، فتزوّجها رجل من أهل العراق، ثم ندم بعد أن رحل(5) بها الرجل و صارت له، فقال:
فيا أسفا لفرقة أمّ عمرو *** و رحلة أهلها نحو العراق
فليس إلى زيارتها سبيل *** و لا حتّى القيامة من تلاقي
و علّ اللّه يرجعها إلينا *** بموت من حليل أو طلاق
فأرجع شامتا و تقرّ عيني *** و يجمع شملنا بعد افتراق
ص: 60
أخبرني عمّي و محمد بن جعفر قالا حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثنا محمد بن عليّ بن أبي(1) حسّان عن هشام بن محمد(2) عن خالد بن سعيد عن أبيه قال:
استعمل معاوية سعيد بن عثمان على خراسان، فلمّا عزله قدم المدينة بمال و سلاح و ثلاثين عبدا من السّغد(3)، فأمرهم أن يبنوا له دارا. فبينا هو جالس فيها و معه ابن سيحان و ابن زينة و خالد بن عقبة و أبو قطيفة إذ تآمروا(4) بينهم فقتلوه، فقال أبو قطيفة يرثيه - و قيل إنها لخالد بن عقبة -:
يا عين جودي بدمع منك تهتانا *** و ابكي سعيد بن عثمان بن عفّانا
/إن ابن زينة لم تصدق مودّته *** و فرّ عنه ابن أرطاة بن سيحانا(5)
هو معبد بن وهب، و قيل ابن قطنيّ(6) مولى ابن قطر(7)، و قيل ابن قطن مولى العاص بن وابصة المخزوميّ، و قيل بل مولى معاوية بن أبي سفيان.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الزّهريّ قال:
معبد المغنّي ابن وهب مولى عبد الرحمن بن قطر.
و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال قال ابن الكلبيّ: معبد مولى ابن قطر، و القطريون موالي معاوية بن أبي سفيان.
و أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو غسّان قال: معبد بن وهب مولى ابن قطن و هم موالي آل وابصة من بني مخزوم، و كان أبوه أسود و كان هو خلاسيّا(8) مديد القامة أحول.
ص: 61
و ذكر ابن خرداذبه(1) أنه غنّى في أوّل دولة بني أمية، و أدرك دولة بني العباس، و قد أصابه الفالج و ارتعش و بطل، فكان إذا غنّى يضحك منه و يهزأ به. و ابن خرداذبه قليل التصحيح(2) لما يرويه و يضمّنه كتبه. و الصحيح أن معبدا مات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق و هو عنده. و قد قيل: إنه أصابه الفالج قبل موته و ارتعش و بطل صوته.
فأمّا إدراكه دولة بني العباس فلم يروه أحد سوى ابن خرداذبه و لا قاله و لا رواه عن أحد، و إنما جاء به مجازفة.
/أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أيّوب بن عمر أبو سلمة المدينيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن عمران بن أبي فروة قال حدّثني كردم بن معبد المغنّي مولى ابن قطن قال:
مات أبي و هو في عسكر الوليد بن يزيد و أنا معه، فنظرت حين أخرج نعشه إلى سلاّمة القسّ (جارية يزيد بن عبد الملك) و قد أضرب الناس عنه ينظرون إليها و هي آخذة بعمود السّرير، و هي تبكي(3) أبي و تقول:
قد لعمري بتّ ليلي *** كأخي الدّاء الوجيع
و نجيّ(4) الهمّ منّي *** بات أدنى من ضجيعي
كلّما أبصرت ربع *** خاليا فاضت دموعي
قد خلا من سيّد كا *** ن لنا غير مضيع
لا تلمنا إن خشعنا *** أو هممنا بخشوع
قال كردم: و كان يزيد أمر أبي أن يعلّمها هذا الصوت، فعلّمها إياه فندبته به يومئذ. قال: فلقد رأيت الوليد بن يزيد و الغمر أخاه متجرّدين في قميصين و رداءين يمشيان بين يدي سريره حتى أخرج من دار الوليد، لأنه تولّى أمره و أخرجه من داره إلى موضع قبره.
فأمّا نسبة هذا الصوت، فإنّ الشعر للأحوص، و الغناء لمعبد، ذكره يونس و لم يجنّسه. و ذكر الهشاميّ أنه ثاني ثقيل بالوسطى، قال: و فيه لحبابة(5) خفيف ثقيل، و لابن المكّيّ ثقيل أوّل نشيد. و فيه لسلاّمة القسّ عن إسحاق لحن من القدر الأوسط من الثّقيل الأوّل/بالوسطى في مجراها.
/أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال قال أبو عبيدة:
ذكر مولى لآل الزّبير - و كان منقطعا إلى جعفر و محمد ابني سليمان بن عليّ -: أنّ معبدا عاش حتى كبر و انقطع صوته، فدعاه رجل من ولد عثمان، فلمّا غنّى الشيخ لم يطرب القوم، و كان فيهم فتيان نزول(6) من ولد
ص: 62
أسيد بن أبي العيص بن أميّة، فضحكوا منه و هزءوا به، فأنشأ يغنّي(1):
فضحتم قريشا بالفرار و أنتم *** قمدّون(2) سودان(3) عظام المناكب
فأمّا القتال لا قتال لديكم *** و لكنّ سيرا في عراض المواكب
- و هذا شعر هجوا به قديما - فقاموا إليه ليتناولوه؛ فمنعهم العثمانيّ من ذلك و قال: ضحكتم منه حتى إذا أحفظتموه(4) أردتم أن تتناولوه، لا و اللّه لا يكون ذلك! قال إسحاق: فحدّثني ابن سلاّم قال أخبرني من رآه على هذه الحال فقال له: أصرت إلى ما أرى؟ فأشار إلى حلقه و قال: إنّما كان هذا؛ فلمّا ذهب ذهب كلّ شيء.
قال إسحاق: كان معبد من أحسن الناس غناء، و أجودهم صنعة، و أحسنهم حلقا(5)؛ و هو فحل المغنّين و إمام أهل المدينة في الغناء، و أخذ عن سائب خاثر، و نشيط مولى عبد اللّه بن جعفر، و عن جميلة مولاة بهز (بطن من سليم)، و كان زوجها مولى لبني الحارث بن الخزرج؛ فقيل لها مولاة الأنصار لذلك. و في معبد يقول الشعر:
أجاد طويس و السّريجي بعده *** و ما قصبات السّبق إلا لمعبد
/قال إسحاق قال ابن الكلبيّ عن أبيه: كان ابن أبي عتيق خرج إلى مكة فجاء معه ابن سريج إلى المدينة، فأسمعوه غناء معبد و هو غلام، و ذلك في أيام مسلم بن عقبة المرّيّ، و قالوا: ما تقول فيه؟ فقال: إن عاش كان مغنّي بلاده. و لمعبد صنعة لم يسبقه إليها من تقدّم، و لا زاد عليه فيها من تأخّر. و كانت صناعته التجارة في أكثر أيام رقّه، و ربّما رعى الغنم لمواليه، و هو مع ذلك يختلف إلى نشيط الفارسيّ و سائب خاثر مولى عبد اللّه بن جعفر، حتى اشتهر بالحذق و حسن الغناء و طيب الصّوت. و صنع الألحان فأجاد و اعترف له بالتقدّم على أهل عصره.
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد قرأت على أبي:
قال الجمحيّ: بلغني أن معبدا قال: و اللّه لقد صنعت ألحانا لا يقدر شبعان ممتلئ و لا سقّاء يحمل قربة على الترنّم بها و لقد صنعت ألحانا لا يقدر المتّكئ أن يترنّم بها حتى يقعد مستوفزا(6)، و لا القاعد حتى يقوم.
قال إسحاق: و بلغني أن معبدا أتى ابن سريج و ابن سريج لا يعرفه، فسمع منه ما شاء، ثم عرض نفسه عليه و غنّاه و قال له: كيف كنت تسمع جعلت فداءك؟ فقال له: لو شئت كنت قد كفيت بنفسك الطلب من غيرك. قال:
و سمعت من لا أحصي من أهل العلم بالغناء يقولون: لم يكن فيمن غنّى أحد أعلم بالغناء من معبد. قال: و حدّثني أيّوب بن عباية قال: دخلت على الحسن بن مسلم أبي العراقيب و عنده جاريته عاتكة، فتحدّث فذكر معبدا فقال:
ص: 63
أدركته يلبس ثوبين ممشّقين(1)، و كان إذا غنّى علا منخراه(2). فقالت عاتكة: يا سيّدي أ و أدركت معبدا؟ قال: إي و اللّه و أقدم من معبد. فقالت: استحييت لك من هذا الكبر(3).
أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حمّاد: قرأت على أبي أخبرني محمد بن سلاّم قال حدّثني جرير/قال: قال معبد: قدمت مكة فقيل لي: إنّ ابن صفوان قد سبّق(4) بين المغنّين جائزة، فأتيت بابه فطلبت الدخول، فقال لي آذنه: قد تقدّم إليّ ألاّ آذن لأحد عليه و لا أوذنه(5) به. قال فقلت: دعني أدنو(6) من الباب فأغنّي صوتا. قال: أمّا هذا فنعم. فدنوت من الباب، فغنّيت [صوتا](7)، فقالوا: معبد! و فتحوا لي، فأخذت الجائزة يومئذ.
أخبرني الحسين قال نسخت من كتاب حمّاد: قال أبي: و ذكر عورك - و هو الحسن بن عتبة اللّهبيّ - أن الوليد بن يزيد كان يقول: ما أقدر على الحجّ. فقيل له: و كيف ذاك؟ قال: يستقبلني أهل المدينة بصوتي معبد:
القصر فالنخل فالجمّاء بينهما
و «قتيلة»(8) يعني لحنه:
يوم تبدي لنا قتيلة عن جي *** د تليع(9) تزينه الأطواق
قال إسحاق: قيل لمعبد: كيف تصنع إذا أردت أن تصوغ الغناء؟ قال: أرتحل قعودي و أوقع بالقضيب على رحلي و أترنّم عليه بالشّعر حتى يستوي لي الصوت. فقيل له: ما أبين ذلك في غنائك! /قال إسحاق: و قال مصعب الزّبيريّ قال يحيى(10) بن عبّاد بن حمزة بن عبد اللّه بن الزّبير حدّثني أبي قال:
قال معبد: كنت غلاما مملوكا لآل قطن مولى(11) بني مخزوم، و كنت أتلقّى الغنم بظهر الحرّة، و كانوا تجارا أعالج لهم التجارة في ذلك، فآرتي صخرة بالحرّة ملقاة بالليل فأستند إليها(12)، فأسمع و أنا نائم صوتا يجري في مسامعي، فأقوم من النوم فأحكيه، فهذا كان مبدأ غنائي.
ص: 64
أخبرني الحسين بن يحيى قال: نسخت من كتاب حمّاد: قال أبي قال محمد بن سعيد الدّوسيّ عن أبيه و محمد بن يزيد عن سعيد الدوسيّ عن الرّبيع بن أبي الهيثم قال:
كنّا جلوسا مع عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، فقال إنسان لمالك: أنشدك اللّه، أنت أحسن غناء أم معبد؟ فقال مالك: و اللّه ما بلغت شراكه قطّ، و اللّه لو لم يغنّ معبد إلا قوله:
لعمر أبيها لا تقول حليلتي *** ألا فرّ عنّي مالك بن أبي كعب
و هم(1) يضربون الكبش تبرق بيضه *** ترى حوله الأبطال في حلق شهب
لكان حسبه!. قال: و كان مالك إذا غنّى غناء معبد يخفّف(2) منه، ثم يقول: أطال الشعر معبد و مطّطه، و حذفته أنا. و تمام هذا الصوت:
لعمر أبيها لا تقول حليلتي *** ألا فرّ عنّي مالك بن أبي كعب
و هم يضربون الكبش تبرق بيضه *** ترى حوله الأبطال في حلق شهب
إذا أنفدوا الزّقّ الرّويّ و صرّعوا *** نشاوى فلم أقطع بقولي لهم حسبي
بعثت إلى حانوتها فسبأتها *** بغير مكاس في السّوام و لا غصب(3)
عروضه من الطويل. و الشعر لمالك بن أبي كعب بن القين الخزرجيّ أحد بني سلمة. هكذا ذكر إسحاق، و غيره يذكر أنه من مراد. و لهذا الشعر خبر طويل يذكر بعد هذا. و الغناء في البيتين الأوّلين لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى، و من الناس من ينسبه إلى ابن سريج. و لمالك في الثالث و الرابع من الأبيات لحن من الثّقيل الأوّل بالسّبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، و من/الناس من ينسب هذا اللحن إلى معبد و يقول: إنّ مالكا أخذ لحنه فيه فحذف بعض نغمه و انتحله، و إن اللحن لمعبد في الأبيات الأربعة. و قد ذكر أنّ هذا الشعر لرجل من مراد، و روي له فيه حديث طويل. و قد أخرج خبره في ذلك و خبر مالك بن أبي كعب الخزرجيّ أبي(4) كعب بن مالك صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله في موضع آخر أفرد له، إذ كانت له أخبار كثيرة، و لأجله لا تصلح أن تذكر هاهنا.
رجع الخبر إلى معبد - أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو غسّان عن يونس الكاتب قال:
ص: 65
أقبلت من عند معبد، فلقيني ابن محرز ببطحان(1)، فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من عند أبي(2) عبّاد.
فقال: ما أخذت عنه؟ قلت: غنّى صوتا فأخذته. قال: و ما هو؟ قلت:
ما ذا تأمّل واقف جملا *** في ربع دار عابه قدمه
- الشعر لخالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد - فقال لي: ادخل معي دار ابن هرمة و ألقه عليّ، فدخلت معه، فما زلت أردّده عليه حتى غنّاه، ثم قال: ارجع معي إلى أبي عبّاد، فرجعنا فسمعه منه، ثم لم نفترق(3) حتى صنع فيه ابن محرز لحنا آخر.
ما ذا تأمّل واقف جملا *** في ربع دار عابه قدمه
أقوى و أقفر غير منتصب *** لبد الرّمادة ناصع حممه(4)
غنّاه معبد، و لحنه ثقيل أوّل بالسّبّابة في مجرى الوسطى. و فيه خفيف ثقيل أوّل بالوسطى ينسب إلى الغريض و إلى ابن محرز. و ذكر عمرو بن بانة أنّ الثقيل الأوّل للغريض. و ذكر حبش أن فيه لمالك ثاني ثقيل بالوسطى. و فيه رمل بالوسطى ينسب إلى سائب خاثر، و ذكر حبش أنه لإسحاق.
أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حمّاد: قال أبي قال ابن الكلبيّ:
قدم ابن سريج و الغريض المدينة يتعرّضان لمعروف أهلها، و يزوران من بها من صديقهما(5) من قريش و غيرهم. فلما شارفاها(6) تقدّما ثقلهما ليرتادا منزلا، حتى إذا كانا بالمغسلة(7) - و هي جبّانة على طرف المدينة يغسل فيها الثياب - إذا هما بغلام ملتحف بإزار و طرفه على رأسه، بيده حبالة يتصيّد بها الطير و هو يتغنّى و يقول:
القصر فالنخل فالجمّاء بينهما *** أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
و إذا الغلام معبد. قال: فلمّا سمع ابن سريج و الغريض معبدا مالا إليه و استعاداه الصوت فأعاده، فسمعا شيئا
ص: 66
لم يسمعا بمثله قطّ. فأقبل أحدهما على صاحبه فقال: هل سمعت كاليوم قطّ؟ قال: لا و اللّه! فما رأيك؟ قال ابن سريج: هذا غناء غلام يصيد الطير، فكيف بمن في الجوبة(1)! - يعني المدينة - قال: أمّا أنا فثكلته والدته إن لم أرجع. قال: فكرّا راجعين.
قال: و قال معبد: قدمت مكة، فذهب بي بعض القرشيّين إلى الغريض، فدخلنا عليه و هو متصبّح(2)، فانتبه من صبحته و قعد، فسلّم عليه القرشيّ، و سأله فقال له: هذا معبد قد أتيتك به، و أنا أحبّ/أن تسمع منه. قال: هات، فغنّيته أصواتا. فقال بمدرى(3) معه في رأسه، ثم قال: إنك يا معبد لمليح الغناء. قال: /فاحفظني ذلك، فجثوت على ركبتيّ، ثم غنّيته من صنعتي عشرين صوتا لم يسمع بمثلها قطّ، و هو مطرق واجم قد تغيّر لونه حسدا و خجلا.
قال إسحاق: و أخبرت عن حكم الواديّ قال: كنت أنا و جماعة من المغنّين نختلف إلى معبد نأخذ عنه و نتعلّم منه، فغنّانا يوما صوتا من صنعته و أعجب به، و هو:
القصر فالنخل فالجمّاء بينهما
فاستحسنّاه و عجبنا منه. و كنت في ذلك اليوم أوّل من أخذه عنه و استحسنه منّي فأعجبتني نفسي. فلما انصرفت من عند معبد عملت فيه لحنا آخر و بكّرت على معبد مع أصحابي و أنا معجب بلحني. فلما تغنّينا أصواتا قلت له: إنّي قد عملت بعدك في الشعر الذي غنّيتناه لحنا، و اندفعت فغنّيته صوتي، فوجم معبد ساعة يتعجّب منّي ثم قال: قد كنت أمس أرجى منّي لك اليوم، و أنت اليوم عندي أبعد من الفلاح. قال حكم: فأنسيت - يعلم اللّه - صوتي ذلك منذ تلك الساعة فما ذكرته إلى وقتي هذا.
قال إسحاق: و قال معبد: بعث إليّ بعض أمراء الحجاز - و قد كان جمع له الحرمان - أن اشخص إلى مكة، فشخصت. قال: فتقدّمت غلامي في بعض تلك الأيام، و اشتدّ عليّ الحرّ و العطش، فانتهيت إلى خباء فيه أسود و إذا حباب(4) ماء قد برّدت، فملت إليه فقلت: يا هذا، اسقني من هذا الماء. فقال لا. فقلت: فأذن لي في الكنّ(5)ساعة. قال لا. فأنخت ناقتي و لجأت إلى ظلّها فاستترت به، و قلت: لو أحدثت لهذا الأمير شيئا من الغناء أقدم به
ص: 67
عليه، و لعلّي إن حرّكت لساني أن يبلّ حلقي اريقي فيخفّف عنّي بعض ما أجده من العطش! فترنّمت بصوتي:
القصر فالنخل فالجمّاء بينهما
/فلما سمعني الأسود، ما شعرت به إلا و قد احتملني حتى أدخلني خباءه، ثم قال: أي، بأبي أنت و أمي! هل لك في سويق السّلت(1) بهذا الماء البارد؟ فقلت: قد منعتني أقلّ من ذلك، و شربة ماء تجزئني. قال: فسقاني حتى رويت، و جاء الغلام فأقمت عنده إلى وقت الرّواح. فلما أردت الرّحلة قال: أي، بأبي أنت و أمي! الحرّ شديد و لا آمن عليك مثل الذي أصابك، فأذن لي [في](2) أن أحمل معك قربة من ماء على عنقي و أسعى بها معك، فكلّما عطشت سقيتك صحنا و غنّيتني صوتا! قال: قلت ذاك لك. فو اللّه ما فارقني يسقيني و أغنّيه حتى بلغت المنزل.
نسخت من كتاب جعفر بن قدامة بخطّه: حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الزّبير(3) عن جرير قال:
كان معبد خارجا إلى مكة في بعض أسفاره، فسمع في طريقه غناء في «بطن مرّ»(4) فقصد الموضع، فإذا رجل جالس على حرف بركة فارق شعره حسن الوجه، عليه درّاعة(5) قد صبغها بزعفران، و إذا هو يتغنّى:
حنّ قلبي من بعد ما قد أنابا *** و دعا الهمّ شجوه فأجابا
ذاك من منزل لسلمى خلاء *** لابس من خلائه جلبابا
عجبت فيه و قلت للرّكب عوجوا(6) *** طمعا أن يردّ ربع جوابا
فاستثار المنسيّ من لوعة الحب و أبدى *** الهموم و الأوصابا
//فقرع معبد بعصاه و غنّى:
منع الحياة من الرجال و نفعها *** حدق تقلّبها النساء مراض
و كأنّ أفئدة الرجال إذا رأوا *** حدق النساء لنبلها أغراض
فقال له ابن سريج: باللّه أنت معبد؟ قال: نعم، و باللّه(7) أنت ابن سريج؟ قال: نعم، و و اللّه لو عرفتك ما غنّيت بين يديك.
ص: 68
حنّ قلبي من بعد ما قد أنابا *** و دعا الهمّ شجوه فأجابا
فاستثار المنسي من لوعة الحبّ *** و أبدى(1) الهموم و الأوصابا
ذاك من منزل لسلمى خلاء *** مكتس من عفائه جلبابا
عجت فيه و قلت للرّكب عوجوا *** طمعا أن يردّ ربع جوابا
ثانيا من زمام و جناء عنس *** قانيا لونها يخال خضابا(2)
جدّها الفالج الأشمّ من البخ *** ت و خالاتها انتخبن عرابا(3)
/الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج، و له فيه لحنان: رمل بالسّبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق، و خفيف ثقيل أوّل(4) بالبنصر عن عمرو.
منع الحياة من الرجال و نفعها *** حدق تقلّبها النساء مراض
و كأنّ أفئدة الرجال إذا رأوا *** حدق النساء لنبلها أغراض
الشعر للفرزدق، و الغناء لمعبد ثقيل أوّل عن الهشاميّ:
أخبرني محمد بن مزيد(5) بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن سياط قال حدّثني يونس الكاتب قال:
كان معبد قد علّم جارية من جواري الحجاز الغناء - تدعى «ظبية»(6) - و عني بتخريجها، فاشتراها رجل من أهل العراق فأخرجها إلى البصرة و باعها هناك، فاشتراها رجل من أهل الأهواز، فأعجب بها و ذهبت به كلّ مذهب
ص: 69
و غلبت عليه، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة(1) من الزمان و أخذ جواريه أكثر غنائها عنها، فكان لمحبّته إيّاها و أسفه عليها لا يزال يسأل عن أخبار معبد و أين مستقرّه، و يظهر التعصّب له و الميل إليه و التقديم لغنائه على سائر أغاني أهل عصره إلى أن عرف ذلك منه. و بلغ معبدا خبره، فخرج من مكة حتى أتى البصرة، فلمّا وردها صادف الرجل قد خرج عنها في ذلك اليوم إلى الأهواز فاكترى سفينة. و جاء معبد يلتمس سفينة ينحدر فيها إلى الأهواز، فلم يجد غير سفينة الرجل، و ليس يعرف أحد منهما صاحبه، فأمر الرجل الملاّح أن يجلسه معه في مؤخّر السفينة ففعل و انحدروا. فلما صاروا في فم نهر الأبلّة(2)/تغدّوا و شربوا، و أمر جواريه فغنّين، و معبد ساكت و هو في ثياب السّفر، و عليه فرو و خفّان غليظان و زيّ جاف من/زيّ أهل الحجاز، إلى أن غنّت إحدى الجواري:
بانت سعاد و أمسى حبلها انصرما *** و احتلّت الغور فالأجزاع من إضما(3)
إحدى بليّ و ما هام الفؤاد بها *** إلاّ السفاه و إلاّ ذكرة حلما(4)
- قال حمّاد: و الشعر للنابغة الذّبيانيّ. و الغناء لمعبد، خفيف ثقيل أوّل بالبنصر، و فيه لغيره ألحان قديمة و محدثة - فلم تجد أداءه، فصاح بها معبد: يا جارية، إنّ غناءك هذا ليس بمستقيم. قال: فقال له مولاها و قد غضب: و أنت ما يدريك الغناء ما هو؟ أ لا(5) تمسك و تلزم شأنك! فأمسك. ثم غنّت أصواتا من غناء غيره و هو ساكت لا يتكلّم، حتى غنّت:
بابنة الأزديّ قلبي كئيب *** مستهام عندها ما ينيب
و لقد لاموا فقلت دعوني *** إنّ من تنهون عنه حبيب
إنّما أبلى عظامي و جسمي *** حبّها و الحبّ شيء عجيب
ص: 70
أيّها العائب عندي هواها *** أنت تفدي من أراك تعيب
- و الشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر، و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالسّبّابة في مجرى البنصر - قال: فأخلّت ببعضه.
فقال لها معبد: يا جارية، لقد أخللت بهذا الصوت إخلالا شديدا. فغضب الرجل و قال له: ويلك! ما أنت و الغناء! أ لا تكفّ عن هذا الفضول! فأمسك. و غنّى الجواري مليّا، ثم غنّت إحداهنّ:
خليليّ عوجا فابكيا(1) ساعة معي *** على الرّبع نقضي حاجة و نودّع
و لا تعجلاني أن ألمّ بدمنة *** لعزّة لاحت لي ببيداء بلقع
و قولا لقلب قد سلا: راجع الهوى *** و للعين: أذري من دموعك أو دعي
فلا عيش إلا مثل عيش مضى لنا *** مصيفا أقمنا فيه من بعد مربع
- الشعر لكثيّر، و الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى، و فيه رمل للغريض - قال: فلم تصنع فيه شيئا. فقال لها معبد: يا هذه، أ ما تقوين(2) على أداء صوت واحد؟ فغضب الرجل و قال له: ما أراك تدع هذا الفضول بوجه و لا حيلة! و أقسم باللّه لئن عاودت لأخرجنّك من السفينة، فأمسك معبد، حتى إذا سكتت/الجواري سكتة اندفع يغنّي الصوت الأوّل حتى فرغ منه، فصاح الجواري: أحسنت و اللّه يا رجل! فأعده. فقال: لا و اللّه و لا كرامة. ثم اندفع يغنّي الثاني، فقلن لسيدهنّ: ويحك! هذا و اللّه أحسن الناس غناء، فسله أن يعيده علينا و لو مرّة واحدة لعلّنا نأخذه عنه، فإنه إن فاتنا لم نجد مثله أبدا. فقال: قد سمعتنّ سوء ردّه عليكنّ و أنا خائف مثله منه، و قد أسلفناه الإساءة، فاصبرن حتى نداريه. ثم غنّى الثالث، فزلزل عليهم الأرض. فوثب الرجل فخرج إليه و قبّل رأسه و قال: يا سيّدي/أخطأنا عليك و لم نعرف موضعك. فقال له: فهبك لم تعرف موضعي، قد كان ينبغي لك أن تتثبّت و لا تسرع إليّ بسوء العشرة و جفاء القول. فقال له: قد أخطأت و أنا أعتذر إليك مما جرى، و أسألك أن تنزل اليّ و تختلط بي. فقال: أمّا الآن فلا. فلم يزل يرفق به حتى نزل إليه. فقال(3) له الرجل: ممن أخذت هذا الغناء؟ قال: من بعض أهل الحجاز، فمن أين أخذه جواريك؟ فقال: أخذنه من جارية كانت لي ابتاعها رجل من أهل البصرة من مكة، و كانت قد أخذت عن أبي عبّاد معبد و عني بتخريجها، فكانت تحلّ منّي محلّ الروح من الجسد، ثم استأثر اللّه عزّ و جلّ بها، و بقي هؤلاء الجواري و هنّ من تعليمها، فأنا إلى الآن أتعصّب لمعبد و أفضّله على المغنّين جميعا و أفضّل صنعته على كل صنعة. فقال له معبد: أو إنك(4) لأنت هو! أ فتعرفني؟ قال لا. قال: فصكّ(5) معبد بيده صلعته ثم قال: فأنا و اللّه معبد، و إليك قدمت من الحجاز، و وافيت البصرة ساعة نزلت السفينة لأقصدك بالأهواز، و و اللّه لا قصّرت في جواريك هؤلاء، و لأجعلنّ لك في كلّ واحدة منهنّ خلفا من الماضية. فأكبّ الرجل و الجواري على يديه و رجليه يقبّلونها و يقولون: كتمتنا نفسك طول/هذا
ص: 71
[اليوم](1) حتى جفوناك في المخاطبة، و أسأنا عشرتك، و أنت سيّدنا و من نتمنّى على اللّه أن نلقاه. ثم غيّر الرجل زيّه و حاله و خلع عليه عدّة خلع، و أعطاه في وقته ثلاثمائة دينار و طيبا و هدايا بمثلها، و انحدر معه إلى الأهواز، فأقام عنده حتى رضي حذق جواريه و ما أخذنه عنه، ثم ودّعه و انصرف إلى الحجاز.
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف و عبد الباقي بن قانع قالا: حدّثنا محمد بن زكريّا الغلابيّ(2) قال حدّثني مهديّ بن سابق قال حدّثني سليمان بن غزوان مولى هشام قال حدّثني عمر القاري(3) بن عديّ قال:
قال الوليد بن يزيد يوما: لقد اشتقت إلى معبد، فوجّه البريد إلى المدينة فأتى بمعبد، و أمر الوليد ببركة قد هيّئت له فملئت بالخمر و الماء، و أتيّ بمعبد فأمر به فأجلس و البركة بينهما، و بينهما ستر قد أرخى، فقال له غنّني يا معبد:
لهفي على فتية ذلّ الزمان لهم *** فما أصابهم إلا بما شاءوا
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم *** حتى تفانوا و ريب الدهر عدّاء
أبكى فراقهم عيني و أرّقها *** إنّ التفرّق للأحباب بكّاء
- الغناء لمعبد خفيف ثقيل، و فيه ليحيى المكّيّ رمل، و لسليمان هزج، كلّها رواية الهشاميّ - قال: فغنّاه إيّاه، فرفع الوليد السّتر و نزع ملاءة مطيّبة كانت عليه/و قذف نفسه في تلك البركة، فنهل فيها نهلة، ثم أتى بأثواب غيرها و تلقّوه بالمجامر(4) و الطّيب، ثم قال غنّني:
عنه - قال: فغنّاه فدعا له بخمسة عشر ألف دينار فصبّها بين يديه، ثم قال: انصرف إلى أهلك و اكتم ما رأيت.
و أخبرني بهذا الخبر عمّي فجاء ببعض معانيه و زاد فيه و نقص، قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزّيات قال حدّثني سليمان بن سعد(1) الحلبيّ قال:
سمعت القاري بن عديّ يقول: اشتاق الوليد بن يزيد إلى معبد، فوجّه إليه إلى المدينة فأحضر. و بلغ الوليد قدومه، فأمر ببركة بين يدي مجلسه فملئت ماء ورد قد خلط بمسك و زعفران، ثم فرش للوليد في داخل البيت على حافة البركة، و بسط لمعبد مقابله على حافة البركة، ليس معهما ثالث، و جيء بمعبد فرأى سترا مرخى و مجلس رجل واحد. فقال له الحجّاب: يا معبد، سلّم على أمير المؤمنين و اجلس في هذا الموضع؛ فسلّم فردّ عليه الوليد السّلام من خلف السّتر، ثم قال له: حيّاك اللّه يا معبد! أ تدري لم وجّهت/إليك؟ قال: اللّه أعلم و أمير المؤمنين.
قال: ذكرتك فأحببت أن أسمع منك. قال معبد: أ أغنّي ما حضر أم ما يقترحه أمير المؤمنين؟ قال: بل غنّني:
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم *** حتى تفانوا و ريب الدهر عدّاء
فغنّاه، فما فرغ منه حتى رفع الجواري السّجف، ثم خرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج منها، فاستقبله الجواري بثياب غير الثياب الأولى، ثم شرب و سقى معبدا، ثم قال له: غنّني يا معبد:
يا ربع مالك لا تجيب متيّما *** قد عاج نحوك زائرا و مسلّما
جادتك كلّ سحابة هطّالة *** حتى ترى عن زهرة متبسّما
لو كنت تدري من دعاك أجبته *** و بكيت من حرق عليه إذا دما
قال: فغنّاه، و أقبل الجواري فرفعن السّتر، و خرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج، فلبس ثيابا غير تلك، ثم شرب و سقى معبدا، ثم قال له: غنّني. فقال: بما ذا يا أمير المؤمنين؟ قال غنّني:
عجبت لمّا رأتني *** أندب الربع المحيلا(2)
واقفا في الدار أبكي *** لا أرى إلا الطّلولا
كيف تبكي لأناس *** لا يملّون الذّميلا؟(3)
كلّما قلت اطمأنّت *** دارهم قالوا(4) الرّحيلا
قال: فلمّا غنّاه رمى نفسه في البركة ثم خرج، فردّوا عليه ثيابه، ثم شرب و سقى معبدا، ثم أقبل عليه الوليد فقال له: يا معبد، من أراد أن يزداد عند الملوك حظوة/فليكتم أسرارهم. فقلت: ذلك ما لا يحتاج أمير المؤمنين إلى إيصائي به. فقال: يا غلام، احمل إلى معبد عشرة آلاف دينار تحصّل(5) له في بلده و ألفي دينار لنفقة طريقه،
ص: 73
فحملت إليه كلّها، و حمل على البريد(1) من وقته إلى المدينة.
قال إسحاق: و قال معبد: أرسل إليّ الوليد بن يزيد فأشخصت إليه. فبينا أنا يوما في بعض حمّامات الشام إذ دخل عليّ رجل له هيبة و معه غلمان له، فاطّلى(2) و اشتغل به صاحب الحمّام عن سائر الناس. فقلت: و اللّه لئن لم أطلع هذا على بعض ما عندي لأكوننّ/بمزجر الكلب؛ فاستدبرته حيث يراني و يسمع منّي، ثم ترنّمت، فالتفت إليّ و قال للغلمان: قدّموا إليه [جميع](3) ما هاهنا، فصار جميع ما كان بين يديه عندي. قال: ثم سألني أن أسير معه إلى منزله فأجبته، فلم يدع من البرّ و الإكرام شيئا إلا فعله، ثم وضع النبيذ، فجعلت لا آتي بحسن إلاّ خرجت إلى ما هو أحسن منه و هو لا يرتاح و لا يحفل لما(4) يرى منّي. فلما طال عليه أمري قال: يا غلام، شيخنا شيخنا، فأتي بشيخ، فلما رآه هشّ إليه، فأخذ الشيخ العود ثم اندفع يغنّي.
سلّور في القدر و يلي علوه(5) *** جاء القطّ أكله و يلي علوه(5)
- /السّلّور: السّمك الجرّيّ(6) بلغة أهل الشام - قال: فجعل صاحب المنزل يصفّق و يضرب برجله طربا و سرورا. قال: ثم غنّاه:
و ترميني حبيبة بالدّراقن(7) *** و تحسبني حبيبة لا أراها
- الدّراقن: اسم الخوخ بلغة أهل الشام - قال: فكاد أن يخرج من جلده طربا. قال: و انسللت منهم فانصرفت و لم يعلم بي. فما رأيت مثل ذلك اليوم قطّ غناء أضيع، و لا شيخا أجهل!
ص: 74
قال إسحاق: و ذكر لي شيخ من أهل المدينة عن هارون بن سعد: أن ابن عائشة كان يلقي عليه و على ربيحة(1) الشّمّاسيّة، فدخل معبد فألقى عليهما صوتا، فاندفع ابن عائشة يغنّيه و قد أخذه منه؛ فغضب معبد و قال:
أحسنت يا ابن عاهرة(2) الدّار، تفاخرني! فقال: لا و اللّه - جعلني اللّه فداءك يا أبا عبّاد - و لكنّي أقتبس منك، /و ما أخذته إلاّ عنك، ثم قال: أنشدك(3) اللّه يا ابن شمّاس، هل قلت لك: قد جاء أبو عبّاد فاجمع بيني و بينه أقتبس منه؟ قال: اللّهم نعم.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه(4) قال:
قيل لابن عائشة، و قد غنّى صوتا أحسن فيه فقال: أصبحت أحسن الناس غناء، فقيل له: و كيف أصبحت أحسن الناس غناء؟ قال: و ما يمنعني من ذلك و قد أخذت من أبي عبّاد أحد عشر صوتا، و أبو عبّاد مغنّي أهل المدينة و المقدّم فيهم!(5)أخبرنا وكيع قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبي قال حدّثني أيّوب بن عباية عن رجل من هذيل قال:
قال معبد: غنّيت فأعجبني غنائي و أعجب الناس و ذهب لي به صيت(6) و ذكر، فقلت: لآتينّ مكّة فلأسمعنّ من المغنّين بها و لأغنّينّهم و لأتعرّفنّ إليهم، فابتعت حمارا فخرجت عليه إلى مكّة. فلمّا قدمتها بعت حماري و سألت عن المغنّين أين يجتمعون؟ فقيل: بقعيقعان(7) في بيت فلان، فجئت إلى منزله بالغلس(8) فقرعت الباب، فقال:
من هذا؟ فقلت: انظر عافاك اللّه! فدنا و هو يسبّح و يستعيد كأنه يخاف، ففتح فقال: من أنت عافاك اللّه؟ قلت:
رجل من أهل المدينة. قال: /فما حاجتك؟ قلت: أنا رجل أشتهي الغناء، و أزعم أني أعرف منه شيئا، و قد بلغني أنّ القوم(9) يجتمعون عندك، و قد أحببت أن تنزلني في جانب منزلك و تخلطني بهم، فإنه لا مئونة عليك و لا عليهم منّي(10). فلوى(11) شيئا ثم قال: انزل على بركة اللّه. قال: فنقلت متاعي فنزلت في جانب حجرته. ثم جاء القوم حين أصبحوا واحدا بعد واحد(12) حتى اجتمعوا، فأنكروني و قالوا: من هذا الرجل؟ قال: رجل من أهل المدينة
ص: 75
خفيف يشتهي الغناء و يطرب عليه، ليس عليكم منه عناء(1) و لا مكروه. فرحّبوا بي و كلّمتهم، ثم انبسطوا/و شربوا و غنّوا، فجعلت أعجب بغنائهم و أظهر ذلك لهم و يعجبهم مني، حتى أقمنا أيّاما، و أخذت من غنائهم و هم لا يدرون أصواتا و أصواتا و أصواتا. ثم قلت لابن سريج: أي(2) فديتك! أمسك عليّ صوتك:
قل لهند و تربها(3) *** قبل شحط(4) النّوى غدا
قال: أو تحسن شيئا؟ قلت: تنظّر(5)، و عسى أن أصنع شيئا، و اندفعت فيه فغنّيته، فصاح و صاحوا و قالوا: أحسنت قاتلك اللّه! قلت: فأمسك(6) عليّ صوت كذا فأمسكوه عليّ، فغنّيته، فازدادوا عجبا و صياحا.
فما تركت واحدا منهم إلا غنّيته من غنائه أصواتا قد تخيّرتها. قال: فصاحوا حتى علت أصواتهم و هرفوا(7) بي و قالوا: /لأنت أحسن بأداء غنائنا عنّا منّا. قال: قلت: فأمسكوا عليّ [و لا تضحكوا(8) بي حتى تسمعوا من غنائي(9)]، فأمسكوا عليّ؛ فغنّيت صوتا من غنائي فصاحوا بي، ثم غنّيتهم آخر و آخر فوثبوا إليّ و قالوا: نحلف باللّه إنّ لك لصيتا و اسما و ذكرا، و إنّ لك فيما هاهنا لسهما عظيما، فمن أنت؟ قلت: أنا معبد. فقبّلوا رأسي و قالوا: لفّقت(10) علينا و كنّا نتهاون بك و لا نعدّك شيئا و أنت أنت. فأقمت عندهم شهرا آخذ منهم و يأخذون منّي، ثم انصرفت إلى المدينة.
قل لهند و تربها *** قبل شحط النّوى غدا
إن تجوي فطالما *** بتّ ليلي مسهّدا
أنت في ودّ بيننا *** خير ما عندنا يدا
حين تدلي مضفّرا *** حالك اللّون أسودا
الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء لابن سريج عن حمّاد و لم يجنّسه. و فيه لمالك خفيف ثقيل أوّل بالبنصر في مجراها عن إسحاق. و قال الهشاميّ: فيه لابن محرز خفيف ثقيل بالوسطى.
ص: 76
تشكّى الكميت الجري لمّا جهدته *** و بيّن لو يسطيع أن يتكلّما
لذلك أدنى دون خيلي(1) مكانه *** و أوصي به ألاّ يهان و يكرما(2)
فقلت له: إن ألق للعين قرّة *** فهان علي أن تكلّ و تسأما
عدمت إذا و فري و فارقت مهجتي *** لئن لم أقل قرنا(3) إن اللّه سلّما
عروضه من الطويل. قوله: «لئن لم أقل قرنا»، يعني أنه يجدّ في سيره حتى يقيل بهذا الموضع، و هو قرن المنازل، و كثيرا ما يذكره في شعره.
الشعر لعمر بن أبي ربيعة المخزوميّ، و الغناء في هذا اللّحن المختار لابن سريج، ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى. و فيه لإسحاق أيضا ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة. و فيه ثقيل أوّل يقال إنه ليحيى المكّي. و فيه خفيف رمل يقال إنه لأحمد بن موسى المنجّم. و فيه للمعتضد ثاني ثقيل آخر في نهاية الجودة. و قد كان عمرو بن /بانة صنع فيه لحنا فسقط لسقوط صنعته.
أخبرني جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه الهشاميّ قال:
صنع عمرو بن بانة لحنا في «تشكّي الكميت الجري» فأخبرني بعض عجائزنا بذلك، قالت فأردنا أن نعرضه على متيّم لنعلم ما عندها فيه، فقلنا لبعض من أخذه عن عمرو: غنّ «تشكّى الكميت الجري» في اللحن الجديد، فقالت متيّم: أيش(4) هذا اللحن/الجديد و الكميت المحدث؟ قلنا: لحن صنعه عمرو بن بانة. فغنّته الجارية، فقالت متيّم لها: اقطعي اقطعي، حسبك حسبك هذا! و اللّه لحمار حنين المكسور أشبه منه بالكميت.
ص: 77
هو عمر بن عبد اللّه بن أبي ربيعة، و اسم أبي ربيعة: حذيفة بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر. و قد تقدّم باقي النسب في نسب أبي قطيفة. و يكنى عمر بن أبي ربيعة «أبا الخطّاب». و كان أبو ربيعة جدّه يسمّى «ذا الرّمحين»، سمّي بذلك لطوله، كان يقال: كأنه يمشي على رمحين.
أخبرني بذلك الحرميّ بن أبي العلاء قال حدثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي و محمد بن الضّحّاك عن أبيه الضّحّاك عن عثمان بن عبد الرحمن اليربوعيّ. و قيل: إنه قاتل يوم عكاظ برمحين فسمّي «ذا الرّمحين» لذلك.
و أخبرني بذلك أيضا عليّ بن صالح بن الهيثم قال حدّثني أبو هفّان عن إسحاق بن إبراهيم الموصليّ عن مصعب الزبيريّ و المدائنيّ و المسيّبيّ و محمد بن سلاّم(1)، قالوا: و فيه يقول عبد اللّه بن الزّبعرى:
/ألا للّه قوم و *** لدت أخت بني سهم
هشام و أبو عبد *** مناف مدرة(2) الخصم
و ذو الرّمحين أشباك(3) *** على القوّة و الحزم
فهذان يذودان *** و ذا من كثب يرمي
أسود تزدهي(4) الأقرا *** ن منّاعون للهضم
و هم يوم عكاظ م *** نعوا الناس من الهزم
و هم من ولدوا أشبوا(5) *** بسرّ الحسب الضّخم
فإن أحلف و بيت اللّ *** ه لا أحلف على إثم
ص: 78
لما من إخوة بين *** قصور الشام و الرّدم(1)
بأزكى من بني ريط *** ة أو أوزن في الحلم
أبو عبد مناف: الفاكه بن المغيرة. و ريطة هذه التي عناها هي أمّ بني المغيرة، و هي بنت سعيد بن سعد بن سهم، ولدت من المغيرة هشاما و هاشما ربيعة و الفاكه.
/و أخبرني أحمد بن سليمان بن داود الطّوسيّ و الحرميّ بن أبي العلاء قالا: حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا محمد بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي ثابت قال أخبرني محمد بن عبد العزيز عن(2) ابن أبي نهشل عن أبيه قال:
قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - و جئته أطلب/منه مغرما - يا خال، هذه أربعة آلاف درهم و أنشد هذه الأبيات الأربعة و قل: سمعت حسّان ينشدها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم. فقلت: أعوذ باللّه أن أفتري على اللّه و رسوله، و لكن إن شئت أن أقول: سمعت عائشة تنشدها فعلت. فقال: لا، إلاّ أن تقول: سمعت حسّان ينشدها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم جالس، فأبى عليّ و أبيت عليه، فأقمنا لذلك لا نتكلّم عدّة ليال. فأرسل إليّ فقال: قل أبياتا تمدح بها هشاما - يعني ابن المغيرة - و بني أميّة. فقلت: سمّهم لي، فسمّاهم و قال: اجعلها في عكاظ و اجعلها لأبيك. فقلت:
ألا للّه قوم و *** لدت أخت بني سهم
... الأبيات. قال: ثم جئت فقلت: هذه قالها أبي. فقال: لا، و لكن قل: قالها ابن الزّبعري. قال: فهي إلى الآن منسوبة في كتب الناس إلى ابن الزّبعري.
قال الزبير: و أخبرني محمد بن الحسن(3) المخزوميّ قال: أخبرني محمد بن طلحة أنّ عمر بن أبي ربيعة قائل هذه الأبيات:
ألا للّه قوم و *** لدت أخت بني سهم
/أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا: حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن يحيى قال حدّثني عبد العزيز بن عمران قال حدّثني محمد بن عبد العزيز عن ابن أبي نهشل عن أبيه بمثل ما رواه الزّبير عنه. و زاد فيه عمر بن شبّة: قال محمد بن يحيى: و «أخت بني سهم التي عناها ريطة بنت سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب، و هي أمّ بني المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم و هم:
هشام و هاشم و أبو ربيعة و الفاكه، و عدّة غيرهم لم يعقبوا(4)، و إيّاهم يعني أبو ذؤيب بقوله:
ص: 79
صخب الشّوارب لا يزال كأنه *** عبد لآل أبي ربيعة مسبع(1)
ضرب بعزّهم المثل. [قال](2): و كان اسم عبد اللّه بن أبي ربيعة في الجاهلية بحيرا(3)، فسمّاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم عبد اللّه، و كانت قريش تلقّبه «العدل»، لأنّ قريشا كانت تكسو الكعبة في الجاهلية بأجمعها من أموالها سنة، و يكسوها هو من ماله سنة، فأرادوا بذلك أنه وحده عدل لهم جميعا في ذلك.
و فيه يقول ابن الزّبعري:
بحير بن ذي الرّمحين قرّب مجلسي *** و راح عليّ خيره غير عاتم(4)
و قد قيل: إن العدل هو الوليد بن المغيرة.
و كان عبد اللّه بن أبي ربيعة تاجرا موسرا، و كان متجره إلى اليمن، و كان من أكثرهم مالا. و أمّه أسماء بنت مخرّبة(5)، و قيل: مخرّمة، و كانت عطّارة يأتيها/العطر من اليمن. و قد تزوّجها هشام بن المغيرة أيضا، فولدت له أبا جهل و الحارث ابني هشام، فهي أمّهما و أمّ عبد اللّه و عيّاش ابني أبي ربيعة.
أخبرني الحرميّ و الطّوسيّ قال: حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي عن الواقديّ قال:
كانت أسماء بنت مخرّبة تبيع العطر بالمدينة. فقالت الرّبيّع بنت معوّذ بن عفراء الأنصاريّة - و كان أبوها قتل أبا جهل بن هشام يوم بدر و احتزّ رأسه عبد اللّه بن مسعود - و قيل: بل عبد اللّه بن مسعود هو الذي قتله - فذكرت أنّ أسماء بنت مخرّبة دخلت عليها و هي تبيع عطرا لها في نسوة، قالت: /فسألت عنّا، فانتسبنا لها. فقالت: أ أنت ابنة قاتل سيّده؟ تعني أبا جهل. قلت: بل أنا بنت قاتل عبده. قالت: حرام عليّ أن أبيعك من عطري شيئا.
قلت: و حرام عليّ أن أشتري منه شيئا، فما وجدت لعطر نتنا غير عطرك، ثم قمت، و لا و اللّه ما رأيت عطرا أطيب من عطرها، و لكنّي أردت أن أعيبه لأغيظها.
و كان لعبد اللّه بن أبي ربيعة عبيد من الحبشة يتصرّفون في جميع المهن، و كان عددهم كثيرا، فروي عن سفيان بن عيينة أنه قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم حين خرج إلى حنين: هل لك في حبش بني المغيرة تستعين بهم؟ فقال: «لا خير في الحبش إن جاعوا سرقوا و إن شبعوا زنوا، و إنّ فيهم لخلّتين(6) حسنتين إطعام الطعام و البأس يوم البأس». و استعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم عبد اللّه بن أبي ربيعة على الجند و مخلفيها(7)، فلم يزل عاملا عليها حتى قتل
ص: 80
عمر بن الخطّاب/رضي اللّه عنه. هذا من رواية الزّبير عن عمّه. قال: و حدّثني ابن الماجشون(1). عن عمّه أنّ عثمان بن عفّان - رحمه اللّه - استعمله أيضا عليها.
و أمّ عمر بن أبي ربيعة أمّ ولد يقال لها «مجد»، سبيت من حضر موت، و يقال من حمير. قال أبو محلّم(2)و محمد بن سلاّم: هي من حمير، و من هناك أتاه الغزل، يقال: غزل يمان، و دلّ حجازيّ.
و قال عمر بن شبّة: أمّ عمر بن أبي ربيعة أمّ ولد سوداء من حبش يقال لهم: فرسان(3). و هذا غلط من أبي زيد(4)، تلك أمّ أخيه الحارث بن عبد اللّه الذي يقال له: «القباع»، و كانت نصرانيّة. و كان الحارث بن عبد اللّه شريفا كريما ديّنا و سيّدا من سادات قريش.
قال الزّبير بن بكّار: ذكره عبد الملك بن مروان يوما و قد ولاّه عبد اللّه بن الزّبير، فقال: أرسل عوفا و قعد(5)! «لا حرّ بوادي(6) عوف». فقال له يحيى/بن الحكم: و من الحارث ابن السّوداء! فقال له عبد الملك: ما ولدت و اللّه أمة خيرا مما ولدت أمّه!.
و أخبرني عليّ بن صالح عن أبي هفّان عن إسحاق بن إبراهيم عن الزّبير و المدائنيّ و المسيّبيّ: أن أمّه ماتت نصرانيّة و كانت تسرّ ذلك منه. فحضر الأشراف جنازتها، و ذلك في عهد عمر بن الخطّاب - رحمة اللّه عليه - فسمع الحارث من النساء لغطا(7)، فسأل عن الخبر، فعرّف أنها ماتت نصرانيّة و أنه وجد الصليب في عنقها، و كانت تكتمه ذلك. فخرج إلى الناس فقال: انصرفوا رحمكم اللّه، فإنّ لها أهل دين هم أولى بها منّا و منكم فاستحسن ذلك منه و عجب الناس من فعله.
ص: 81
ألا للّه قوم و *** لدت أخت بني سهم
هشام و أبو عبد *** مناف مدرة الخصم
و ذو الرّمحين أشباك *** على القوّة و الحزم
فهذان يذودان *** و ذا من كثب يرمي
عروضه من مكفوف الهزج(1). الغناء لمعبد خفيف رمل من رواية حمّاد.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال إسماعيل بن مجمّع أخبرنا المدائنيّ عن رستم ابن صالح قال:
/قال يزيد بن/عبد الملك يوما لمعبد: يا أبا عبّاد، أني أريد أن أخبرك عن نفسي و عنك، فإن قلت فيه خلاف ما تعلم فلا تتحاش أن تردّه عليّ، فقد أذنت لك. قال: يا أمير المؤمنين، لقد وضعك ربّك بموضع لا يعصيك إلا ضالّ، و لا يردّ عليك إلا مخطئ. قال: إن الذي أجده في غنائك لا أجده في غناء ابن سريج: أجد في غنائك متانة، و في غنائه انحناثا(2) ولينا. قال معبد: و الذي أكرم أمير المؤمنين بخلافته، و ارتضاه لعباده، و جعله أمينا على أمّة نبيّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، ما عدا(3) صفتي و صفة ابن سريج، و كذا يقول ابن سريج و أقول، و لكن أن رأى أمير المؤمنين أن يعلمني هل وضعني(4) ذاك عنده فعل(5). قال: لا و اللّه، و لكنّي أوثر الطّرب على كلّ شيء.
قال: يا سيدي فإذا كان ابن سريج يذهب إلى الخفيف من الغناء و أذهب أنا إلى الكامل التامّ، فأغرّب أنا و يشرّق هو، فمتى نلتقي؟ قال: أ فتقدر أن تحكي رقيق بن سريج؟ قال نعم، فصنع من وقته لحنا من الخفيف في:
ألا للّه قوم و *** لدت أخت بني سهم
الأربعة الأبيات. فغنّاه، فصاح يزيد: أحسنت و اللّه يا مولاي! أعد فداك أبي و أمّي، فأعاد، فردّ عليه مثل قوله الأوّل، فأعاد. ثم قال: أعد فداك أبي و أمّي، فأعاد فاستخفّه الطّرب حتى وثب و قال لجواريه: افعلن كما أفعل، و جعل يدور في الدار و يدرن معه و هو يقول:
ص: 82
يا دار دوّريني *** يا قرقر امسكيني
/آليت منذ حين *** حقا لتصرميني
و لا تواصليني *** باللّه فارحميني
لم تذكري يميني!
قال: فلم يزل يدور كما يدور الصّبيان و يدرن معه، حتى خرّ مغشيا عليه و وقعن فوقه ما يعقل و لا يعقلن، فابتدره الخدم [فأقاموه(1)] و أقاموا من كان على ظهره من جواريه، و حملوه و قد جاءت نفسه أو كادت.
رجع الخبر إلى ذكر عمر بن أبي ربيعة و كان لعمر بن أبي ربيعة بن [صالح(2)] يقال له «جوان»، و فيه يقول العرجيّ:
شهيدي جوان على حبّها *** أ ليس بعدل عليها جوان
فأخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني يحيى بن محمد بن عبد اللّه بن ثوبان قال:
جاء جوان بن عمر بن أبي ربيعة إلى زياد بن عبد اللّه الحارثيّ و هو إذ ذاك أمير على الحجاز، فشهد عنده بشهادة، فتمثّل:
شهيدي جوان على حبها *** أ ليس بعدل عليها جوان
- و هذا الشعر للعرجيّ - ثم قال: قد أجزنا شهادتك، و قبله. و قال غير الزّبير: إنه جاء إلى العرجيّ فقال له: يا هذا! ما لي و ما لك تشهّرني(3) في شعرك! متى أشهدتني على صاحبتك هذه! و متى كنت أنا أشهد في مثل هذا! قال: و كان امرأ صالحا.
/و أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني بكّار بن عبد اللّه قال: استعمل بعض ولاة مكة جوان بن عمر على تبالة(4)، فحمل على/خثعم في صدقات أموالهم حملا شديدا، فجعلت خثعم سنة جوان تاريخا، فقال ضبارة بن الطّفيل:
أ تلبسنا ليلى على شعث بنا *** من العام أو يرمى بنا الرّجوان(5).
ص: 83
رأتني كأشلاء(1) اللّجام و راقها *** أخو غزل ذو لمّة و دهان
و لو شهدتني في ليال مضين لي *** لعامين مرّا قبل عام جوان
رأتنا كريمي معشر حمّ(2) بيننا *** هوى فحفظناه بحسن صيان
نذود النفوس الحائمات(3) عن الصّبا *** و هنّ بأعناق إليه ثواني
ذكر حبش أنّ الغناء في هذه الأبيات للغريض ثاني ثقيل بالبنصر، و ذكر الهشاميّ أنه لقراريط.
قالوا: و كان لعمر أيضا بنت يقال لها: «أمه الواحد» و كانت مسترضعة في هذيل، و فيها يقول عمر بن أبي ربيعة - و قد خرج يطلبها فضلّ الطريق -:
/لم تدر و ليغفر لها ربّها *** ما جشّمتنا أمة الواحد
جشّمت الهول براذيننا(4) *** نسأل عن بيت أبي خالد
نسأل عن شيخ بني كاهل(5) *** أعيا خفاء نشدة الناشد
أخبرني بذلك محمد بن خلف بن المرزبان عن أبي بكر العامريّ أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا: حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني يعقوب بن القاسم(6) قال حدّثنا أسامة بن زيد بن الحكم بن عوانة عن عوانة بن الحكم - قال: أراه عن الحسن(7) - قال:
ولد عمر بن أبي ربيعة ليلة قتل عمر بن الخطّاب - رحمة اللّه عليه - فأيّ حقّ رفع، و أيّ باطل وضع!. قال عوانة: و مات و قد قارب السّبعين أو جاوزها.
أخبرني الجوهري و المهلّبيّ قالا: حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني يعقوب بن القاسم قال حدّثني عبد اللّه بن الحارث عن ابن جريج عن عطاء قال: كان عمر بن أبي ربيعة أكبر منّي كأنّه ولد في أوّل الإسلام.
أخبرني الجوهريّ و المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني هارون بن عبد اللّه
ص: 84
الزّهريّ(1) قال: حدّثنا ابن أبي ثابت، و حدّثني به عليّ(2) بن صالح بن الهيثم عن أبي هفّان عن إسحاق عن المسيّبيّ و الزّبيريّ و المدائنيّ و محمد بن سلاّم، قالوا: قال أيّوب/بن سيّار، و أخبرني به الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن الحسن المخزوميّ عن عبد العزيز بن عمران عن أيّوب بن سيّار عن عمر الركاء(3) قال: بينا ابن عبّاس في المسجد الحرام و عنده نافع بن الأزرق و ناس من الخوارج يسألونه، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين مورّدين أو ممصّرين(4) حتى دخل و جلس، فأقبل عليه ابن عباس فقال أنشدنا فأنشده:
أ من آل نعم أنت غاد فمبكر *** غداة غد(5) أم رائح فمهجّر
حتى أتى على آخرها. فأقبل عليه نافع بن الأزرق فقال: اللّه يا ابن عبّاس! إنّا نضرب إليك أكباد الإبل(6) من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال و الحرام فتتثاقل عنّا، و يأتيك غلام(7) مترف من مترفي قريش فينشدك:
/رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت *** فيخزى و أمّا بالعشىّ فيخسر
فقال: ليس هكذا قال. قال: فكيف قال؟ فقال: قال:
رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت *** فيضحى و أمّا بالعشىّ فيخصر(8)
فقال: ما أراك إلا و قد(9) حفظت البيت! قال: أجل! و إن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتك إيّاها. قال فإنّي أشاء، فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها. و في غير رواية عمر بن شبّة: أنّ ابن عباس أنشدها من أوّلها إلى آخرها، /ثم أنشدها من آخرها إلى أوّلها مقلوبة، و ما سمعها قطّ إلا تلك المرّة صفحا(10). قال: و هذا غاية الذكاء. فقال له بعضهم: ما رأيت أذكى منك قطّ. فقال: لكنّي ما رأيت قطّ أذكى من عليّ بن أبي طالب - عليه السّلام -. و كان ابن عباس يقول: ما سمعت شيئا قط إلا رويته، و إني لأسمع صوت النائحة فأسدّ أذنيّ كراهة أن أحفظ ما تقول. قال: و لامه بعض أصحابه في حفظ هذه القصيدة: «أ من آل نعم...» فقال: إنّا نستجيدها(11).
و قال الزّبير في خبره عن عمّه: فكان ابن عباس بعد ذلك كثيرا ما يقول: هل أحدث هذا المغيريّ شيئا بعدنا؟.
قال: و حدّثني عبد اللّه بن نافع بن ثابت قال:
ص: 85
كان عبد اللّه بن الزّبير إذا سمع قول عمر بن أبي ربيعة:
فيضحى و أمّا بالعشيّ فيحضر
قال: لا، بل:
فيخزى و أمّا بالعشيّ فيخسر
قال عمر بن شبّة و أبو هفّان و الزّبير في حديثهم: ثم أقبل على ابن أبي ربيعة فقال: أنشد، فأنشده:
تشطّ غدا دار جيراننا
و سكت، فقال ابن عباس:
و للدّار بعد غد أبعد
فقال له عمر: كذلك قلت - أصلحك اللّه - أ فسمعته؟ قال: لا، و لكن كذلك ينبغي.
أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني يعقوب بن إسحاق قال:
كانت العرب تقرّ لقريش بالتقدّم في كلّ شيء عليها إلا في الشعر، فإنها كانت لا تقرّ لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرّت لها الشعراء بالشعر أيضا و لم تنازعها شيئا.
قال الزّبير: و سمعت عمّي مصعبا يحدّث عن جدّي أنه قال مثل هذا القول. قال: و حدّثني عدّة من أهل العلم أن النّصيب قال: لعمر بن أبي ربيعة أوصفنا لربّات الحجال.
قال المدائنيّ قال سليمان بن عبد الملك لعمر بن أبي ربيعة: ما يمنعك من مدحنا؟ قال: إني لا أمدح الرجال، إنما أمدح النساء. قال: و كان ابن جريج يقول: ما دخل على العواتق(1) في حجالهنّ شيء أضرّ عليهنّ من شعر عمر بن أبي ربيعة.
قال الزّبير و حدّثني عمّي عن جدّي - و ذكره أيضا إسحاق فيما رويناه عن أبي هفّان عنه عن المدائنيّ - قال قال هشام بن عروة: لا تروّوا(2) فتياتكم(3) شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورّطن في الزّنا تورّطا، و أنشد:
لقد أرسلت جاريتي *** و قلت لها خذي حذرك
و قولي في ملاطفة *** لزينب: نوّلي عمرك
/أخبرنا عليّ بن صالح قال حدّثني أبو هفّان عن إسحاق عن الزّبيريّ(4) قال حدّثني أبي عن سمرة الدّومانيّ(5) من حمير قال:
ص: 86
إنّي لأطوف بالبيت فإذا أنا بشيخ في الطّواف، فقيل لي: هذا عمر بن/أبي ربيعة. فقبضت على يده و قلت له:
يا ابن أبي ربيعة. فقال: ما تشاء؟ قلت: أ كلّ ما قلته في شعرك فعلته؟ قال: إليك عنّي. قلت: أسألك باللّه! قال:
نعم و أستغفر اللّه.
قال إسحاق و حدّثني الهيثم بن عديّ عن حمّاد الرّاوية: أنه سئل عن شعر عمر بن أبي ربيعة فقال: ذاك الفستق(1) المقشّر.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير عن عمّه قال:
سمع الفرزدق شيئا من نسيب(2) عمر فقال: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته و بكت الديار، و وقع هذا عليه. قال: و كان بالكوفة رجل من الفقهاء تجتمع إليه الناس فيتذاكرون العلم، فذكر يوما شعر عمر بن أبي ربيعة فهجّنه. فقالوا له: بمن ترضى؟ و مرّ بهم حمّاد الراوية فقال: قد رضيت بهذا. فقالوا له: /ما تقول فيمن يزعم أنّ عمر بن أبي ربيعة لم يحسن شيئا؟ فقال: أين هذا؟ اذهبوا بنا إليه. قالوا: نصنع به ما ذا؟ قال: ننزو على أمّه لعلّها تأتي بمن هو أمثل من عمر.
قال إسحاق: و قال أبو المقوّم الأنصاريّ: ما عصى اللّه بشيء كما عصي بشعر عمر بن أبي ربيعة.
قال إسحاق: و حدّثني قيس بن داود(3) قال حدّثني أبي قال: سمعت عمر بن أبي ربيعة يقول: لقد كنت و أنا شابّ أعشق و لا أعشق، فاليوم صرت إلى مداراة الحسان إلى الممات. و لقد لقيتني فتاتان مرّة فقالت لي إحداهما:
أدن منّي يا ابن أبي ربيعة أسرّ إليك شيئا. فدنوت منها و دنت الأخرى فجعلت تعضّني، فما شعرت بعضّ هذه من لذّة سرار هذه.
قال إسحاق: و ذكر عبد الصّمد بن المفضّل(4) الرّقاشيّ عن محمد بن فلان الزّهريّ - سقط اسمه - عن إسحاق عن عبد اللّه بن مسلمة(5) بن أسلم قال: لقيت جريرا فقلت له: يا أبا حزرة، إنّ شعرك رفع إلى المدينة و أنا أحبّ أن تسمعني منه شيئا. فقال: إنكم يأهل المدينة يعجبكم النّسيب، و إنّ أنسب الناس المخزوميّ. يعني ابن أبي ربيعة.
قال إسحاق: و ذكر محمد بن إسماعيل الجعفريّ عن أبيه عن خاله عبد العزيز(6) بن عبد اللّه بن عيّاش بن أبي ربيعة قال: أشرف عمر بن أبي ربيعة على أبي قبيس، و بنو أخيه معه و هم محرمون، فقال لبعضهم: خذ بيدي فأخذ بيده، و قال/: و ربّ هذه البنيّة(7) ما قلت لامرأة قطّ شيئا لم تقله لي، و ما كشفت ثوبا عن حرام قطّ. قال:
ص: 87
و لمّا مرض عمر مرضه الذي مات فيه جزع أخوه الحارث جزعا شديدا. فقال له عمر: أحسبك إنما تجزع لما تظنّه بي، و اللّه ما أعلم أنّي ركبت فاحشة قطّ! فقال: ما كنت أشفق عليك إلاّ من ذلك، و قد سلّيت عنّي.
قال إسحاق: حدّثني مصعب الزّبيريّ قال قال مصعب بن عروة بن الزّبير: خرجت أنا و أخي عثمان إلى مكة معتمرين أو حاجّين، فلما طفنا بالبيت مضينا إلى الحجر نصلّي فيه، فإذا شيخ قد فرج بيني و بين أخي فأوسعنا له.
فلما قضى صلاته أقبل علينا فقال: من أنتما؟ فأخبرناه. فرحّب بنا و قال: يا ابني أخي، إني موكّل بالجمال أتبعه، و إني رأيتكما فراقني حسنكما و جمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه، ثم قام، فسألنا عنه فإذا هو عمر بن أبي ربيعة.
أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن الضّحّاك قال:
عاش عمر أبي ربيعة ثمانين سنة، فتك منها أربعين سنة، و نسك أربعين سنة.
قال الزّبير و حدّثني إبراهيم بن حمزة و محمد بن ثابت عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال:
حججت/مع أبي و أنا غلام و عليّ جمّة(1). فلما قدمت مكة جئت عمر بن أبي ربيعة، فسلّمت عليه و جلست معه، فجعل يمدّ الخصلة من شعري ثم يرسلها فترجع على ما كانت عليه، و يقول: وا شباباه! حتى فعل ذلك مرارا.
ثم قال لي: يا ابن أخي، قد سمعتني أقول في شعري: قالت لي و قلت لها، و كلّ مملوك لي حرّ إن كنت كشفت/عن فرج حرام قطّ! فقمت و أنا متشكّك في يمينه، فسألت عن رقيقه فقيل لي: أمّا في الحوك(2) فله سبعون عبدا سوى غيرهم.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثتني ظبية(3) مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب قالت:
مررت بجدّك عبد اللّه بن مصعب و أنا داخلة منزله و هو بفنائه و معي دفتر، فقال: ما هذا معك؟ و دعاني.
فجئته و قلت: شعر عمر بن أبي ربيعة. فقال: ويحك! تدخلين على النساء بشعر عمر بن أبي ربيعة! إنّ لشعره لموقعا من القلوب و مدخلا لطيفا، لو كان شعر يسحر لكان هو، فارجعي به. قالت: ففعلت.
[قال إسحاق](4): و أخبرني الهيثم بن عديّ قال:
قدمت امرأة مكة و كانت من أجمل النساء. فبينا عمر بن أبي ربيعة يطوف إذ نظر إليها فوقعت في قلبه، فدنا منها فكلّمها، فلم تلتفت إليه. فلما كان في الليلة الثانية جعل يطلبها حتى أصابها. فقالت له: إليك عنّي يا هذا، فإنك في حرم اللّه و في أيام عظيمة الحرمة. فألحّ عليها يكلّمها، حتى خافت أن يشهّرها. فلما كان في الليلة الأخرى قالت لأخيها: اخرج معي يا أخي فأرني المناسك، فإنّي لست أعرفها، فأقبلت و هو معها. فلما رآها عمر أراد أن يعرض لها، فنظر إلى أخيها معها فعدل عنها، فتمثّلت المرأة بقول النابغة(5):
ص: 88
تعدو الذئاب على من لا كلاب له *** و تتّقي صولة المستأسد الحامي(1)
قال إسحاق: فحدّثني السّنديّ(2) مولى أمير المؤمنين أن المنصور قال - و قد حدّث بهذا الخبر -: وددت أنه لم تبق فتاة من قريش في خدرها إلاّ سمعت بهذا الحديث.
قال إسحاق: قال لي الأصمعيّ: عمر حجّة في العربية، و لم يؤخذ عليه إلا قوله:
ثم قالوا تحبّها قلت بهرا(3) *** عدد الرّمل(4) و الحصى و التّراب
و له في ذلك مخرج، إذ قد أتى به على سبيل الإخبار(5). قال: و من الناس من يزعم أنه إنما قال:
قيل لي هل تحبّها قلت بهرا
منها ما يغنّى فيه من قوله:
رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت *** فيضحى و أمّا بالعشيّ فيخصر
/أخا سفر جوّاب أرض تقاذفت *** به فلوات فهو أشعث أغبر
و ليلة ذي دوران(1) جشّمتني السّرى(2) *** و قد يجشم الهول المحبّ المغرّر
فقلت: أباديهم(3) فإمّا أفوتهم *** و إمّا ينال السيف ثأرا فيثأر
هذه الأبيات جمعت على غير توال؛ لأنه إنما ذكر منها ما فيه صنعة. غنّى في الأوّل و الثاني من الأبيات ابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن أحمد بن المكيّ و ذكر حبش أن فيهما لمعبد لحنا من الثّقيل الأوّل بالبنصر.
و غنّى ابن سريج في الثالث و الرابع أيضا خفيف ثقيل بالوسطى، و ذكر حبش أن فيهما لحنا من الهزج بالوسطى لحكم(4). و غنّى ابن سريج في الخامس و السادس لحنا من الرّمل بالوسطى عن عمرو بن بانه. و ذكر يونس أن في السّابع و الثامن لابن سريج لحنا و لم يذكر طريقته، و ذكر حبش أن فيهما لمالك لحنا من الثقيل الثاني بالبنصر.
/أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان(5) قال أخبرني محمد بن إسحاق قال أخبرني محمد بن حبيب(6) عن هشام بن الكلبيّ:
أنّ عمر بن أبي ربيعة أتى عبد اللّه بن عباس و هو في المسجد الحرام فقال: متّعني اللّه بك! إنّ نفسي قد تاقت إلى قول الشّعر و نازعتني إليه، و قد قلت منه شيئا أحببت أن تسمعه و تستره عليّ. فقال: أنشدني، فأنشده:
أ من آل نعم أنت غاد فمبكر
فقال له: أنت شاعر يا ابن أخي، فقل ما شئت. قال: و أنشد عمر هذه القصيدة طلحة بن عبد اللّه بن عوف الزّهريّ و هو راكب، فوقف و ما زال شانقا(7) ناقته حتى كتبت له.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني الحسين بن إسماعيل قال حدّثنا ابن عائشة عن أبيه قال:
ص: 90
كان جرير إذا أنشد شعر عمر بن أبي ربيعة قال: هذا شعر تهاميّ إذا أنجد(1) وجد البرد، حتى أنشد قوله:
/رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت *** فيضحى و أمّا بالعشيّ فيخصر
قليلا على ظهر المطيّة ظلّه *** سوى ما نفى عنه الرداء المحبّر(2)
و أعجبها من عيشها ظلّ غرفة *** و ريّان ملتفّ الحدائق أخضر
و وال كفاها كلّ شيء يهمّها *** فليست لشيء آخر الليل تسهر
فقال جرير: ما زال هذا القرشيّ يهذي حتى قال الشعر.
أخبرني محمد بن خلف قال أخبرني أبو عبد اللّه اليماميّ قال حدّثني الأصمعيّ قال:
قال لي الرشيد: أنشدني أحسن ما قيل في رجل قد لوّحه(3) السّفر، فأنشدته قول عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت *** فيضحى و أمّا بالعشيّ فيخصر
أخا سفر جوّاب أرض تقاذفت *** به فلوات فهو أشعث أغبر
... الأبيات كلّها. قال: فقال لي الرشيد: أنا و اللّه ذلك الرجل. قال: و هذا بعقب قدومه من بلاد الرّوم.
أخبرني الفضل بن الحباب الجمحيّ أبو خليفة في كتابه إليّ: قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال أخبرني شعيب بن صخر قال:
كان بين عائشة بنت طلحة و بين زوجها عمر بن عبيد اللّه بن معمر كلام، فسهرت ليلة فقالت: إن ابن أبي ربيعة لجاهل بليلتي هذه حيث/يقول:
و وال كفاها كلّ شيء يهمّها *** فليست لشيء آخر الليل تسهر
أخبرني عليّ بن صالح قال حدّثنا أبو هفّان قال حدّثني إسحاق عن المدائنيّ قال:
/عرض يزيد بن معاوية جيش أهل الحرّة، فمرّ به رجل من أهل الشام معه ترس(4) خلق سمج، فنظر إليه يزيد و ضحك و قال له: ويحك! ترس عمر بن أبي ربيعة كان أحسن من ترسك. يريد قول عمر:
فكان مجني دون من كنت اتّقي *** ثلاث شخوص كاعبان و معصر(5)
أخبرنا جعفر بن قدامة قال حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ قال: سمع أبو الحارث جمّيز(6) مغنّية تغنّي:
ص: 91
أشارت
بمدراها و قالت لأختها *** أ هذا المغيريّ الذي كان يذكر؟
فقال جمّيز: امرأته طالق إن كانت أشارت إليه بمدراها إلا لتفقأ بها عينه، هلاّ أشارت إليه بنقانق(1) مطرف بالخردل(2)، أو سنبوسجة(3) مغموسة في الخلّ، أو لوزينجة(4) شرقة(5) بالدّهن! فإن ذلك أنفع له، و أطيب لنفسه، و أدلّ على مودّة صاحبته.
/أخبرني الحرميّ قال: حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد العزيز بن أبي أويس عن عطّاف بن خالد الوابصيّ(6) عن عبد الرحمن بن حرملة قال:
أنشد سعيد بن المسيّب قول عمر بن أبي ربيعة:
و غاب قمير كنت أرجو(7) غيوبه *** و روّح رعيان و نوّم(8) سمّر
فقال: ما له قاتله اللّه! لقد صغّر ما عظّم اللّه! يقول اللّه عز و جلّ: (وَ الْقَمَرَ قَدَّرْنٰاهُ مَنٰازِلَ حَتّٰى عٰادَ كَالْعُرْجُونِ(9) الْقَدِيمِ) .
عراقيّة، و تهامي الهوى *** يغور بمكة أو ينجد(1)
و حثّ الحداة بها عيرها(2) *** سراعا إذا ما ونت تطرد(3)
/هنالك إمّا تعزّي الفؤاد *** و إمّا على إثرها تكمد
و ليست ببدع(4) إذا(5) دارها *** نأت و العزاء إذا أجلد
صرمت و واصلت حتّى علم *** ت أين المصادر و المورد
و جرّبت من ذاك حتّى عرف *** ت ما أتوقّى و ما أحمد
فلما دنونا لجرس(6) النّبا *** ح و الضوء، و الحيّ لم يرقدوا(7)
[نأينا(8) عن الحيّ حتّى إذا *** تودّع(9) من نارها الموقد]
بعثنا لها باغيا ناشدا(10) *** و في الحيّ بغية من ينشد
أتتنا تهادى(11) على رقبة(12) *** من الخوف أحشاؤها ترعد
تقول و تظهر وجدا(13) بنا *** و وجدي و إن أظهرت أوجد
لممّا شقائي تعلّقتكم *** و قد كان لي عندكم(14) مقعد
و كفّت سوابق من عبرة *** على الخدّ يجري(15) بها الإثمد
ص: 93
//
فإنّ الّتي شيّعتنا الغداة *** مع الفجر قلبي بها مقصد(1)
[كأنّ أقاحيّ مولية(2)*** تحدّر من ماء مزن ندي](3)
غنّى معبد في الأوّل و الثاني و الثالث من الأبيات خفيف ثقيل من أصوات قليلات الأشباه عن إسحاق. و غنّى فيها أشعب [المعروف(4) بالطامع] ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ. و للغريض في الأبيات الأربعة الأول ثاني ثقيل(5) بالوسطى عن عمرو. و لابن سريج في الرابع عشر و هو:
و كفّت سوابق من عبرة
ثم الأوّل و التاسع رمل بالوسطى عن ابن المكيّ. و لمالك - و يقال إنه لمعبد - خفيف ثقيل في الرابع عشر و الثالث عشر و الأوّل عن الهشاميّ. و في السابع و الثامن و الأوّل لابن جامع ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ. و في الأوّل و الحادي عشر لابن سريج رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق، و فيهما(6) ثاني ثقيل بالسّبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق و لم ينسبه إلى أحد، و ذكر أحمد بن المكّيّ أنه لأبيه. و في الرابع و الخامس رمل لمعبد عن ابن المكيّ، و قيل: إنه من منحول أبيه إلى معبد. و في الثالث عشر و السادس ليونس خفيف رمل عن الهشاميّ. و في الأوّل و الثاني عشر ثاني ثقيل تشترك فيه الأصابع عن ابن المكيّ، و قال أيضا: فيه للأبجر لحن آخر من الثّقيل الثاني. و لمعبد في الرابع و السادس ثاني ثقيل آخر عنه، و فيهما/أيضا رمل لابن سريج عنه و عن حبش. و لإسحاق في الأوّل و الثاني رمل من كتابه. و لعليّة بنت المهديّ في الثالث عشر و الأوّل ثقيل أوّل. و لابن مسجح(7) في الثاني عشر و الأوّل رمل، و يقال إنه للرّطّاب، و ذكر حبش أنه لابن سريج. و في الخمسة الأبيات الأولى متوالية خفيف رمل بالوسطى ينسب إلى معبد و إلى يحيى المكيّ، و زعم حبش أنّ فيها رملا بالوسطى لابن محرز. و الذي ذكره يونس في كتابه أنّ في:
تشطّ غدا دار جيراننا
خمسة ألحان: اثنان لمعبد، و اثنان لمالك، و واحد ليونس. و ذكر أحمد بن عبيد أنّ الذي عرف صحته من الغناء فيه سبعة ألحان: ثقيل أوّل، و ثاني ثقيل، و خفيف ثقيل، و رمل، و خفيفه(8).
أخبرني بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه بن المرزبان أنّ الذي أحصي فيه إلى وقته ستة عشر لحنا. و الذي
ص: 94
وجدته فيه مما جمعته هاهنا - سوى ما لم يذكر يونس طريقته - تسعة عشر لحنا: منها في الثقيل الأوّل لحنان، و في خفيف الثقيل لحنان، و في الثّقيل الثاني ستة، و في الرّمل سبعة، و في خفيف الرّمل لحنان.
و هذا الشعر يقوله عمر بن أبي ربيعة في امرأة من ولد الأشعث بن قيس حجّت فهويها و راسلها، فواصلته و دخل إليها و تحدّث معها و خطبها، فقالت: أمّا هاهنا فلا سبيل إلى ذلك، و لكن إن قدمت إلى بلدي خاطبا تزوّجتك، فلم يفعل.
أخبرني بهذا الخبر الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا محمد بن الحسن المخزوميّ عن محرز بن جعفر مولى أبي هريرة عن أبيه قال: /سمعت بديحا يقول: حجّت بنت محمد بن الأشعث الكنديّة، فراسلها عمر بن أبي ربيعة و وعدها أن يتلقّاها مساء الغد، و جعل الآية بينه و بينها أن تسمع ناشدا ينشد - إن لم يمكنه أن يرسل رسولا - يعلمها بمصيره إلى المكان الذي وعدها. قال بديح: فلم أشعر به/إلا متلثّما، فقال لي: يا بديح، ائت بنت محمد بن الأشعث فأخبرها أنّي قد جئت لموعدها، فأبيت أن أذهب و قلت: مثلي لا يعين على مثل هذا.
فغيّب بغلته عنّي ثم جاءني فقال لي: قد أضللت بغلتي فانشدها لي في زقاق(1) الحاجّ. فذهبت فنشدتها، فخرجت عليّ بنت محمد بن الأشعث و قد فهمت الآية، فأتته لموعده، و ذلك قوله:
و آية ذلك أن تسمعي *** إذا جئتكم ناشدا ينشد
قال بديح: فلمّا رأيتها مقبلة عرفت أنه قد خدعني بنشدي البغلة، فقلت له: يا عمر، لقد صدقت الّتي قالت لك:
فهذا سحرك النّسوا *** ن، قد خبّرنني خبرك(2)
قد سحرتني و أنا رجل! فكيف برقّة قلوب النساء و ضعف رأيهنّ! و ما آمنك بعدها، و لو دخلت الطّواف ظننت أنك دخلته لبليّة. قال: و حدّثها بحديثي، فما زالا ليلتهما يفصلان حديثهما بالضحك منّي.
قال الزّبير: فحدّثني أبو الهندام(3) مولى الرّبعيّين عن أبي الحارث بن عبد اللّه الرّبعيّ قال: /لقي ابن أبي عتيق بديحا فقال له: يا بديح، أخدعك(4) ابن أبي ربيعة أنه قرشيّ؟ فقال بديح: نعم! و قد أخطأه ذلك عند القسريّ(5) و صواحبه. فقال ابن أبي عتيق: ويحك يا بديح! أنّ من تغابى لك ليغبى عنك، فقد ضمّت عليه قبضتك إن كان لك ذهن، أ ما رأيت لمن كانت العاقبة؟ و اللّه ما بالى ابن أبي ربيعة أوقع عليهنّ أم وقعن عليه!.
ص: 95
أخبرني عمّي قال حدّثنا محمد بن سعد الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن كعب بن بكر(1) المحاربيّ: أنّ فاطمة بنت محمد بن الأشعث حجّت، فراسلها عمر بن أبي ربيعة فواعدته أن تزوره، فأعطى الرسول الذي بشّره بزيارتها مائة دينار.
أخبرني عليّ بن صالح عن أبي هفّان عن إسحاق عن رجاله المذكورين، قالوا: حجّت بنت لمحمد بن الأشعث [- هكذا قال إسحاق و هو عندي الصحيح -](2) و كانت معها أمّها و قد سمعت بعمر بن أبي ربيعة فأرسلت إليه، فجاءها فاستنشدته، فأنشدها:
تشطّ غدا دار جيراننا *** و للدّار بعد غد أبعد
و ذكر القصة(3) بطولها. قال: و قد كانت لمّا جاءها أرسلت بينها و بينه سترا رقيقا تراه من ورائه و لا يراها، فجعل يحدثها حتى استنشدته، فأنشدها هذه القصيدة، /فاستخفّها الشعر فرفعت السّجف، فرأى وجها حسنا في جسم ناحل، فخطبها و أرسل إلى أمّها بخمسمائة دينار، فأبت و حجبته و قالت للرسول: تعود(4) إلينا. فكأن الفتاة غمّها ذلك، فقالت لها أمّها: قد قتلك الوجد به فتزوّجيه. قالت: لا و اللّه لا يتحدّث أهل العراق عنّي(5) أنّي جئت ابن أبي ربيعة أخطبه، و لكن إن أتاني إلى العراق تزوّجته. قال: و يقال: إنها راسلته و واعدته أن تزوره، فأجمر(6) بيته و أعطى المبشّر مائة دينار، فأتته و واعدته إذا صدر(7) الناس أن يشيّعها، و جعلت علامة ما بينهما أن يأتيها رسوله ينشدها ناقة له(8). فلما صدر الناس فعل ذلك عمر. و فيه يقول و قد شيّعها:
/
عجبا لموقفنا و موقفها *** و بسمع تربيها(1) تراجعنا!
و مقالها سر ليلة معنا *** نعهد(2) فإنّ البين فاجعنا(3)!
قلت العيون كثيرة معكم *** و أظنّ أنّ السّير مانعنا
لا بل نزوركم بأرضكم *** فيطاع قائلكم و شافعنا
قالت أ شيء أنت فاعله *** هذا لعمرك أم تخادعنا؟
باللّه حدّث ما تؤمّله *** و اصدق فإنّ الصّدق واسعنا
اضرب لنا أجلا نعدّ(4) له *** إخلاف موعده تقاطعنا(5)
الغناء لابن سريج ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، و ذكر عمرو أنه للغريض بالوسطى. و فيه لابن سريج خفيف رمل عن الهشاميّ، و ذكر حبش أنه لموسى شهوات.
و منها ممّا لم ينسب أيضا
لقد أرسلت جاريتي *** و قلت لها: خذي حذرك
و قولي في ملاطفة *** لزينب: نوّلي عمرك
فهزّت رأسها عجبا *** و قالت: من بذا أمرك
أ هذا سحرك(6) النّسوا *** ن، قد خبّرنني خبرك
/غنّى فيها(7) ابن سريج خفيف رمل(8) بالبنصر عن عمرو، و قال قوم: إنه للغريض. و فيها لمالك خفيف ثقيل عن ابن المكّيّ. و في هذا الشعر ألحان كثيرة، و الشعر فيها على غير هذه القافية، لأنّ هذه الأبيات لعمر من قصيدة رائيّة موصولة(9) الرّاءات بألف، إلاّ أنّ المغنّين غيّروا هذه الأبيات في هذين اللّحنين،
ص: 97
فجعلوا مكان الألف كافا، و أنّما هي:
لقد أرسلت جاريتي *** و قلت لها: خذي حذرا
و أوّل القصيدة:
تصابى القلب و ادّكرا *** صباه و لم يكن ظهرا
لزينب إذ تجدّلنا *** صفاء لم يكن كدرا
أ ليست بالتي قالت *** لمولاة لها ظهرا
أشيري بالسّلام له *** إذا هو نحونا خطرا(1)
/ [لقد أرسلت جاريتي *** و قلت لها: خذي حذرا(2)]
و قولي في ملاطفة *** لزينب: نوّلي عمرا(2)
فهزّت رأسها عجبا *** و قالت: من بذا أمرا!
أ هذا سحرك النسوا *** ن، قد خبّرنني الخبرا
غنّى ابن سريج في الثالث و الرابع و الخامس(3) و الأوّل خفيف ثقيل أوّل بإطلاق الوتر/في مجرى البنصر من رواية إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة في نسخته الأولى أنه لابن سريج، و أبو إسحاق ينسبه في نسخته الثانية إلى دحمان. و للغريض في الأوّل من الأبيات لحن من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالوسطى في مجراها، و أضاف إليه بيتين ليسا من هذه القصيدة و هما:
طربت و ردّ من تهوى *** جمال الحيّ فابتكروا
فقل للمالكيّة(4) لا *** تلومي القلب إن جهرا(5)
و ذكر يونس أنّ لمعبد في هذا الشعر الذي أوّله:
تصابى القلب و ادّكرا
ص: 98
لحنين لم يذكر جنسيهما، و ذكر الهشاميّ: أنّ أحدهما خفيف ثقيل(1) و الآخر رمل. و في الأبيات التي غنّى فيها الغريض رمل لدحمان عن الهشاميّ، قال: و يقال إنه لابنة الزّبير. و زينب التي ذكرها عمر بن أبي ربيعة هاهنا، يقال لها: زينب بنت موسى أخت قدامة بن موسى الجمحيّ.
/أخبرني بذلك محمد بن خلف بن المرزبان عن أبي بكر العامريّ. و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد العزيز الزّهريّ قال حدّثني عمّي عمران(2) بن عبد العزيز قال:
شبّب عمر بن أبي ربيعة بزينب بنت موسى الجمحيّة في قصيدته التي يقول فيها:
يا خليليّ من ملام(3) دعاني *** و ألمّا الغداة بالأظعان
لا تلوما في آل زينب إنّ ال *** قلب رهن بآل زينب عاني
ما أرى ما بقيت(4) أن أذكر المو *** قف منها بالخيف(5) إلا شجاني
- غنّى في هذه الأبيات الغريض خفيف رمل بالبنصر عن عمرو -
لم تدع للنساء عندي حظّا(6)*** غير ما قلت(7) مازحا بلساني
هي أهل الصّفاء و الودّ منّي *** و إليها الهوى فلا تعدلاني
حين قالت(8) لأختها(9) و لأخرى *** من قطين(10) مولّد: حدّثاني
كيف لي اليوم أن أرى عمر المر *** سل سرّا في القول أن يلقاني(11)؟
/قالتا: نبتغي رسولا إليه *** و نميت الحديث بالكتمان
إنّ قلبي بعد الذي نلت منها *** كالمعمّى عن سائر النّسوان(12)
ص: 99
قال: و كان سبب ذكره لها أنّ ابن أبي عتيق ذكرها عنده يوما فأطراها، و وصف من عقلها و أدبها و جمالها ما شغل قلب عمر و أماله إليها، فقال فيها الشعر و شبّب بها، فبلغ ذلك ابن أبي عتيق، فلامه فيه و قال له: أ تنطق الشعر في ابنة عمّي؟ فقال عمر:
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي *** إنّ بي يا عتيق ما قد كفاني
لا تلمني و أنت زيّنتها لي *** أنت مثل الشيطان للإنسان
إنّ بي داخلا من الحبّ قد أب *** لى عظامي مكنونه و براني
/لو بعينيك يا عتيق نظرنا *** ليلة السّفح قرّت العينان
إذ بدا الكشح و الوشاح من الدّ *** رّ و فصل فيه من المرجان(1)
قد قلى قلبي النساء سواها *** غير ما قلت مازحا بلساني(2)
/و أوّل هذه القصيدة:
إنّني(3) اليوم عاد لي أحزاني *** و تذكّرت ما مضى من زماني
و تذكّرت ظبية أمّ رئم(4) *** هاج لي(5) الشوق ذكرها فشجاني
غنّى أبو العبيس(6) بن حمدون في «لا تلمني عتيق...» لحنا من الثقيل الأوّل المطلق. و فيه رمل طنبوريّ مجهول.
ص: 100
/أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال أخبرني عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون قال:
أنشد عمر بن أبي ربيعة قوله:
يا خليليّ من ملام دعاني *** و ألمّا الغداة بالأظعان
لا تلوما في آل زينب إنّ ال *** قلب رهن بآل زينب عاني
القصيدة. قال: فبلغ ذلك أبا وداعة السّهميّ فأنكره و غضب. و بلغ ذلك ابن أبي عتيق و قيل له: إنّ أبا وداعة قد اعترض لابن أبي ربيعة من دون زينب بنت موسى، و قال: لا أقرّ لابن أبي ربيعة أن يذكر امرأة من بني هصيص في شعره. فقال ابن أبي عتيق: لا تلوموا أبا وداعة أن ينعظ من سمرقند على أهل عدن! /قال الزّبير: و حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد العزيز الزّهريّ قال حدّثني عمّي عمران بن عبد العزيز قال: شبّب عمر بن أبي ربيعة بزينب بنت موسى في أبياته التي يقول فيها:
لا تلوما في آل زينب إنّ ال *** قلب رهن بآل زينب عاني
فقال له ابن أبي عتيق: أمّا قلبك فقد غيّب عنّا، و أمّا لسانك فشاهد عليك.
قال عبد الرحمن بن عبد اللّه قال عمران بن عبد العزيز: عذل ابن أبي عتيق عمر في ذكره زينب في شعره، فقال عمر:
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي *** إنّ بي يا عتيق ما قد كفاني
لا تلمني و أنت زيّنتها لي قال: فبدره ابن أبي عتيق، فقال:
أنت مثل الشيطان للإنسان
ص: 101
فقال ابن أبي ربيعة: هكذا و ربّ البيت قلته. فقال ابن أبي عتيق: إنّ شيطانك و ربّ القبر(1) ربّما ألمّ بي، فيجد عندي من عصيانه خلاف ما يجد عندك من طاعته، فيصيب منّي و أصيب منه.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز قال حدّثني قدامة بن موسى قال:
خرجت بأختي زينب إلى العمرة، فلما كنت(2) بسرف(3) لقيني عمر بن أبي ربيعة على فرس فسلّم عليّ.
فقلت له: إلى أين أراك متوجّها يا أبا الخطّاب؟ فقال: /ذكرت لي امرأة من قومي برزة الجمال، فأردت الحديث معها. فقلت: هل علمت أنها أختي؟ فقال: لا! و استحيا و ثنى عنق فرسه راجعا إلى مكة.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أحمد بن الهيثم قال حدّثنا العمريّ عن لقيط بن بكر(4)المحاربيّ/قال:
أنشدني ابن أبي عتيق قول عمر:
من(5) لسقيم يكتم الناس ما به *** لزينب نجوى صدره و الوساوس
أقول لمن يبغي الشّفاء متى تجيء *** بزينب تدرك بعض ما أنت لامس
فإنّك(6) إن لم تشف من سقمي بها *** فإنّي من طبّ الأطبّاء آيس
و لست بناس ليلة الدار مجلسا *** لزينب حتى يعلو الرأس رامس(7)
خلاء(8) بدت قمراؤه و تكشّفت *** دجنّته و غاب من هو حارس
و ما نلت منها محرما غير أنّنا *** كلانا من الثوب المورّد(9) لابس
ص: 102
نجيّين نقضي اللهو في غير مأثم *** و إن رغمت م الكاشحين المعاطس
/قال: فقال ابن أبي عتيق: أمنّا(1) يسخر ابن أبي ربيعة! فأيّ محرم بقي! ثم أتى عمر فقال له: يا عمر، أ لم تخبرني أنّك ما أتيت حراما قطّ؟ قال بلى! قال: فأخبرني عن قولك:
كلانا من الثّوب المورّد لابس
ما معناه؟ قال: و اللّه لأخبرنّك! خرجت أريد المسجد و خرجت زينب تريده، فالتقينا فاتّعدنا(2) لبعض الشّعاب، فلما توسّطنا الشّعب أخذتنا السماء، فكرهت أن يرى بثيابها بلل المطر، فيقال لها: أ لا استترت بسقائف المسجد أن كنت فيه، فأمرت غلماني فسترونا بكساء خزّ كان عليّ؛ فذلك حين أقول:
كلانا من الثوب(3) المطارف لابس
فقال له ابن أبي عتيق: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة! الغناء في هذه الأبيات التي أوّلها:
من(4) لسقيم يكتم النّاس ما به
لرذاذ ثقيل أوّل، و كان بعض المحدثين ممن شاهدناه يدّعي أنه له، و لم يصدّق.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون قال:
قال عمر بن أبي ربيعة في زينب بنت موسى:
طال من آل زينب الإعراض *** للتعدّي و ما بها الإبغاض(5)
و وليدين كان علّقها القل *** ب إلى أن علا الرءوس بياض
حبلها عندنا متين و حبلي *** عندها واهن القوى أنقاض(6)
الغناء في هذه الأبيات لابن محرز خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. و قال الهشاميّ: فيه لابن جامع خفيف رمل آخر.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال قال عبد الرحمن بن عبد اللّه و حدّثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز عن أبيه قال:
لمّا قال عمر بن أبي ربيعة في زينب:
ص: 103
لم تدع للنساء عندي نصيبا *** غير ما قلت مازحا بلساني
قال له ابن أبي عتيق: رضيت لها بالمودّة، و للنساء بالدّهفشة(1). قال: و الدّهفشة: التّجميش(2) و الخديعة بالشيء اليسير. [و قال(3) غير الزّبير في هذا الخبر: الدهقشة(4)، مكان الدهفشة].
/و مما قاله عمر في زينب و غنّي فيه قوله:
أيّها الكاشح المعيّر(5) بالصّر *** م تزحزح فما لها الهجران(6)
لا مطاع في آل زينب فارجع *** أو تكلّم حتّى يملّ(7) اللّسان
نجعل الليل موعدا حين نمسي *** ثم يخفي حديثنا الكتمان
كيف صبري عن بعض نفسي و هل يص *** بر عن بعض نفسه الإنسان!
و لقد أشهد المحدّث عند ال *** قصر فيه تعفّف و بيان(8)
في زمان من المعيشة لدن(9) *** قد مضى عصره(10) و هذا زمان
الغناء في هذه الأبيات لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو و دنانير. و ذكر يونس أنّ فيه لحنا لابن محرز و لحنا لابن عباد الكاتب، أوّل لحن ابن عبّاد الكاتب:
لا مطاع في آل زينب......
و أوّل لحن ابن محرز:
و لقد أشهد المحدّث......
ص: 104
و مما غنّي فيه لابن محرز من أشعار عمر بن أبي ربيعة في زينب بنت موسى قوله:
يا من لقلب متيّم كلف *** يهذي بخود(1) مريضة النّظر
تمشي الهوينى إذا مشت فضلا(2) *** و هي كمثل العسلوج(3) في الشّجر
- للغريض في هذين البيتين خفيف رمل بالوسطى، و لابن سريج رمل بالبنصر عن الهشاميّ و حبش -
ما زال طرفي يحار إذ برزت(4)*** حتى رأيت النقصان في بصري
أبصرتها ليلة و نسوتها *** يمشين بين المقام و الحجر
ما إن طمعنا بها و لا طمعت *** حتّى التقينا ليلا على قدر(5)
بيضا حسانا خرائدا قطفا(6)*** يمشين هونا كمشية البقر
قد فزن بالحسن و الجمال معا *** و فزن رسلا(7) بالدّلّ و الخفر
ينصتن يوما لها إذا نطقت *** كيما يشرّفنها على البشر
قالت لترب لها تحدّثها *** لنفسدنّ الطّواف في عمر
قومي تصدّي له ليعرفنا *** ثم اغمزيه يا أخت في خفر
/قالت لها قد غمزته فأبى *** ثم اسبطرّت(8) تسعى على أثري
من يسق بعد المنام ريقتها(9)*** يسق بمسك و بارد خصر(10)
[غنّى في هذا الشعر الغريض خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و غنّ فيه ابن سريج رملا بالبنصر عن الهشاميّ و حبش](11).
[و منها](12):
ص: 105
ألا يا بكر قد طرقا *** خيال هاج لي الأرقا
لزينب(1) إنها همّي *** فكيف بحبلها خلقا
خدلجّة(2) إذا انصرفت *** رأيت وشاحها قلقا(3)
و ساقا تملأ الخلخا *** ل فيه تراه مختنقا
/إذا ما زينب ذكرت *** سكبت الدمع متّسقا
كأنّ سحابة تهمي *** بماء حمّلت غدقا(4)
الغناء لحنين رمل عن الهشاميّ. و فيه لابن عبّاد(5) خفيف ثقيل، و يقال: إنه ليونس. و مما قاله [فيها(6)] أيضا و غنّي فيه:
ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا(7) *** قلّ الثّواء لئن كان الرّحيل غدا
قد حلفت ليلة الصّورين(8) جاهدة *** و ما على المرء إلا الحلف(9) مجتهدا
لأختها و لأخرى من مناصفها(10) *** لقد وجدت به فوق الذي وجدا
لو جمّع الناس ثم اختير صفوهم *** شخصا من الناس لم أعدل به أحدا
الغناء لابن سريج رمل بالسّبّابة و البنصر في الأوّل و الثاني عن يحيى المكّيّ، و له فيه أيضا خفيف رمل بالوسطى في الثاني و الثالث و الرابع عن عمرو. و لمعبد ثقيل أوّل في الأوّل و الثاني عن الهشاميّ(11). و فيه خفيف ثقيل ينسب إلى الغريض و مالك.
أخبرني عليّ بن صالح قال حدّثنا أبو هفّان عن إسحاق عن مصعب الزّبيريّ قال:
اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة و شعره و ظرفه و مجلسه و حديثه، فتشوّقن إليه و تمنّينه. فقالت سكينة:
ص: 106
أنا لكنّ به، فبعثت إليه رسولا أن يوافي الصّورين ليلة سمّتها، فوافاهنّ على رواحله، فحدّثهنّ حتى طلع الفجر و حان انصرافهنّ. فقال لهنّ: و اللّه إني لمحتاج إلى زيارة قبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الصلاة في مسجده، و لكنّي لا أخلط بزيارتكنّ شيئا(1). ثم انصرف إلى مكة و قال في ذلك:
ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا
و ذكر الأبيات المتقدّمة.
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن لقيط قال: أنشد جرير قول عمر بن أبي ربيعة:
سائلا الربع بالبليّ(2) و قولا *** هجت شوقا لي(3) الغداة طويلا
أين حيّ حلّوك إذ أنت محفو *** ف بهم آهل أراك جميلا؟
قال ساروا فأمعنوا و استقلّوا(4) *** و برغمي لو استطعت سبيلا
سئمونا و ما سئمنا مقاما *** و أحبّوا دماثة و سهولا
فقال جرير: إنّ هذا الذي كنّا ندور(5) عليه فأخطأناه و أصابه هذا القرشيّ. و في هذه الأبيات رملان: أحدهما لابن سريج بالسّبّابة في مجرى الوسطى، و الآخر لإسحاق مطلق في مجرى البنصر جميعا من روايته. و ذكر عمرو:
أن فيها رملا ثالثا بالوسطى، لابن جامع. و قال الهشاميّ: فيها(6) ثلاثة أرمال لابن سريج، و ابن جامع، و إبراهيم.
و لأبي العبيس(7) بن حمدون فيها ثاني ثقيل. و فيها هزج لإبراهيم الموصليّ من جامع أغانيه.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال: وجدت كتابا بخطّ محمد بن الحسن ذكر فيه أنّ فليح بن إسماعيل حدّثه عن معاذ(8) صاحب الهرويّ أن النصيب(9) قال:
عمر بن أبي ربيعة أوصفنا لربّات الحجال.
/أخبرني الطّوسيّ: قال حدّثنا الزّبير قال حدّثتني ظمياء مولاة فاطمة بنت عمر(10) بن/مصعب قالت: سمعت جدّك يقول - و قد أنشد قول عمر بن أبي ربيعة:
ص: 107
يا ليتني قد أجزت الحبل نحوكم *** حبل المعرّف أو جاوزت ذا عشر(1)
إنّ الثّواء بأرض لا أراك بها *** فاستيقنيه ثواء حقّ ذي كدر
و ما مللت و لكن زاد حبّكم *** و ما ذكرتك إلا ظلت كالسّدر(2)
و لا جذلت بشيء كان بعدكم *** و لا منحت سواك الحبّ من بشر
الغناء في هذه الأربعة الأبيات لسلاّم بن الغسّانيّ رمل بالسّبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لابن جامع وقفا(3) النجار لحنان من كتاب إبراهيم و لم يجنّسهما. و تمام الأبيات:
أذري الدموع كذى سقم يخامره *** و ما يخامرني سقم سوى الذّكر
كم قد ذكرتك لو أجدى(4) تذكّركم *** يا أشبه الناس كلّ الناس بالقمر
- قالت: فقال جدّك: إن لشعر عمر بن أبي ربيعة لموقعا في القلب، و مخالطة للنفس ليسا لغيره، و لو كان شعر يسحر لكان شعره سحرا.
/أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمامة بن عمر(5) قال: رأيت عامر بن صالح بن عبد اللّه بن عروة بن الزّبير يسأل المسور بن عبد الملك عن شعر عمر بن أبي ربيعة، فجعل يذكر له شيئا لا يعرفه، فيسأله أن يكتبه(6) إيّاه فيفعل، فرأيته يكتب و يده ترعد من الفرح.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون عن عمّه يوسف قال:
ذكر شعر الحارث بن خالد و شعر عمر بن أبي ربيعة عند ابن أبي عتيق في مجلس رجل من ولد خالد بن العاصي(7) بن هشام، فقال: صاحبنا - يعني الحارث بن خالد - أشعرهما. فقال له ابن أبي عتيق: بعض قولك
ص: 108
يا ابن أخي، لشعر عمر بن ربيعة نوطة(1) في القلب، و علوق بالنفس، و درك للحاجة ليست لشعر، و ما عصي اللّه جلّ و عزّ بشعر أكثر ممّا عصي بشعر ابن أبي ربيعة، فخذ عنّي/ما أصف لك: أشعر قريش من دقّ معناه، و لطف مدخله، و سهل مخرجه، و متن حشوه، و تعطّفت حواشيه، و أنارت معانيه، و أعرب عن حاجته. فقال المفضّل للحارث: أ ليس صاحبنا الذي يقول:
إنّي و ما نحروا غداة منّى *** عند الجمار يؤدها(2) العقل
لو بدّلت أعلى مساكنها *** سفلا و أصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها(3) الخبير بها *** فيردّه الإقواء و المحل(4)
لعرفت مغناها بما احتملت *** منّي الضلوع لأهلها قبل
فقال له ابن أبي عتيق: يا ابن أخي، استر على نفسك، و اكتم على صاحبك، و لا تشاهد المحافل بمثل هذا، أما تطيّر الحارث عليها حين قلب ربعها فجعل عاليه سافله! ما بقي إلا أن يسأل اللّه تبارك و تعالى لها حجارة من سجّيل(5). ابن أبي ربيعة كان أحسن صحبة للربع من صاحبك، و أجمل مخاطبة حيث يقول:
سائلا الربع بالبليّ و قولا *** هجت شوقا لي الغداة طويلا
/و ذكر الأبيات الماضية. قال: فانصرف الرجل خجلا مذعنا.
أخبرني عليّ بن صالح قال حدّثني أبو هفّان عن إسحاق عن رجاله المسمّين، و أخبرني به الحرميّ عن الزّبير عن عمّه عن جدّه، قالوا: /كان الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة أخو عمر بن أبي ربيعة رجلا صالحا ديّنا من سروات قريش، و أنما لقّب القباع لأن عبد اللّه بن الزّبير كان ولاّه البصرة، فرأى مكيالا. لهم فقال: إنّ مكيالكم هذا لقباع - قال: و هو الشيء الذي له قعر - فلقّب بالقباع.
و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني عبد اللّه بن محمد الطائيّ قال حدّثنا خالد بن سعيد قال:
استعمل ابن الزّبير الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة على البصرة، فأتوه بمكيال لهم، فقال لهم: إنّ مكيالكم هذا لقباع، فغلب عليه. و قال أبو الأسود الدّؤليّ - و قد عتب عليه - يهجوه و يخاطب ابن الزّبير:
ص: 109
أمير المؤمنين جزيت خيرا *** أرحنا من قباع بني المغيرة
بلوناه و لمناه فأعيا *** علينا ما يمرّ(1) لنا مريرة
على أنّ الفتى نكح أكول *** و ولاّج مذاهبه كثيرة
قالوا: و كان الحارث ينهى أخاه عن قول الشعر فيأبى أن يقبل منه، فأعطاه ألف دينار على ألاّ يقول شعرا، فأخذ المال و خرج إلى أخواله بلحج(2) و أبين مخافة أن يهيجه مقامه بمكة على قول الشعر، فطرب يوما فقال:
هيهات من أمة الوهّاب منزلنا *** إذا حللنا بسيف(3) البحر من عدن
و احتلّ أهلك أجيادا(4) و ليس لنا *** إلا التذكّر أو حظّ من الحزن
لو أنها أبصرت بالجزع عبرته *** من أن يغرّد قمريّ على فنن(5)
إذا رأت غير ما ظنّت بصاحبها *** و أيقنت أنّ لحجا ليس من وطني
ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها(6) *** و موقفي و كلانا ثمّ ذو شجن
و قولها للثّريّا و هي باكية(7) *** و الدمع منها على الخدّين ذو سنن(8)
باللّه قولي له في غير معتبة *** ما ذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت(9) بها *** فما أخذت بترك الحج من ثمن
قال: فسارت القصيدة حتى سمعها أخوه الحارث، فقال: هذا و اللّه شعر عمر، قد فتك و غدر. قال: و قال ابن جريج: ما ظننت أنّ اللّه عزّ و جلّ ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى سمعت و أنا باليمن منشدا ينشد قوله:
ص: 110
/
باللّه قولي له في غير معتبة *** ما ذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها *** فما أخذت بترك الحج من ثمن
فحرّكني ذلك على الرجوع إلى مكة، فخرجت مع الحاجّ و حججت.
غنّى في أبيات عمر هذه ابن سريج، و لحنه رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق. و فيها للغريض ثقيل أوّل بالوسطى/عن عمرو.
أخبرني عليّ بن صالح قال حدّثنا أبو هفّان قال حدّثني إسحاق عن السّعديّ(1) قال: قدم الوليد بن عبد الملك مكة، فأراد أن يأتي الطائف فقال: هل [لي](2) في رجل علم بأموال(3) الطائف فيخبرني عنها؟ فقالوا: عمر بن أبي ربيعة. قال: لا حاجة لي به. ثم عاد فسأل فذكروه له فردّه. ثم عاد فسأل فذكروه [له ثم ردّه. ثم عاد فسأل فذكروه له(4)]، فقال: هاتوه. فركب معه يحدّثه، ثم حرّك عمر رداءه ليصلحه على كتفه، فرأى على منكبه أثرا.
فقال: ما هذا الأثر؟ فقال: كنت عند جارية إذ جاءتني جارية برسالة من عند جارية أخرى، فجعلت تسارّني، فغارت التي كنت أحدّثها فعضّت منكبي، فما وجدت ألم عضّها من لذّة ما كانت تلك تنفث في أذني، حتى بلغت ما ترى، و الوليد يضحك. فلما رجع عمر قيل له: ما الذي كنت تضحك أمير المؤمنين به(5)؟ فقال: ما زلنا في حديث الزّنا حتى رجعنا.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن عبد اللّه(6) البكريّ و غيره عن عبد الجبّار بن سعيد المساحقيّ عن أبيه قال: دخلت مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم مع نوفل بن مساحق، فإنه لمعتمد على يدي، إذ مررنا بسعيد بن المسيّب في مجلسه و حوله جلساؤه، فسلّمنا عليه فردّ علينا، ثم قال لنوفل: يا أبا سعيد، من أشعر: صاحبنا أم صاحبكم؟ يريد: عبد اللّه بن قيس، أو عمر بن أبي ربيعة(7). فقال نوفل: حين يقولان ما ذا يا أبا محمد؟ قال: حين يقول صاحبنا:
خليليّ ما بال المطايا كأنّما *** نراها على الأدبار بالقوم تنكص(8)
و قد قطعت أعناقهن صبابة *** فأنفسنا مما يلاقين شخّص
ص: 111
و قد أتعب الحادي سراهنّ و انتحى *** بهنّ فما يألو عجول مقلّص(1)
يزدن بنا قربا فيزداد شوقنا *** إذا زاد طول العهد و البعد ينقص
و يقول صاحبك ما شئت. فقال له نوفل: صاحبكم أشعر في الغزل، و صاحبنا أكثر أفانين شعر. فقال سعيد: صدقت. فلما انقضى ما بينهما من ذكر الشعر، جعل سعيد يستغفر اللّه و يعقد(2) بيده حتى وفّى مائة.
فقال البكريّ في حديثه عن عبد الجبّار: قال مسلم: فلما انصرفنا قلت لنوفل: أ تراه استغفر اللّه من إنشاد الشعر /في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم؟ فقال: كلا! هو كثير الإنشاد و الاستنشاد للشعر فيه، و لكن أحسب ذلك للفخر بصاحبه.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال قال أبو عبيدة حدّثنا عوانة بن الحكم و أبو يعقوب الثّقفيّ: أنّ الوليد بن يزيد بن عبد الملك قال لأصحابه ذات ليلة: أيّ بيت قالته العرب أغزل؟ فقال بعضهم: قول جميل:
يموت الهوى منّي إذا ما لقيتها *** و يحيا إذا فارقتها فيعود
و قال آخر: قول عمر بن أبي ربيعة:
كأنّني حين أمسي لا تكلّمني *** ذو بغية يبتغي ما ليس موجودا
فقال الوليد: حسبك و اللّه بهذا! أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الحميد(3) عن شيخ من أهله عن أبي الحارث مولى هشام/بن الوليد بن المغيرة - قال: و هو الذي يقول فيه عمر بن أبي ربيعة:
يا أبا الحارث قلبي طائر *** فأتمر أمر رشيد مؤتمن(4) -
قال: شهدت عمر بن أبي ربيعة، و جميل بن عبد اللّه بن معمر العذريّ، و قد اجتمعا بالأبطح، فأنشد جميل قصيدته التي يقول فيها:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي *** بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
يقولون مهلا يا جميل و إنّني *** لأقسم مالي عن بثينة من مهل
/حتى أتى على آخرها، ثم قال لعمر: يا أبا الخطّاب، هل قلت في هذا الرّويّ شيئا؟ قال نعم.
ص: 112
قال: فأنشدنيه، فأنشده قوله:
جرى ناصح بالودّ بيني و بينها *** فقرّبني يوم الحصاب(1) إلى قتلي
فطارت بحدّ من فؤادي(2) و قارنت(3) *** قرينتها حبل الصّفاء إلى حبلي
فلمّا تواقفنا عرفت الذي بها *** كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
فقلن(4) لها هذا عشاء و أهلنا *** قريب أ لمّا تسأمي مركب البغل
فقالت فما شئتنّ قلن لها انزلي *** فللأرض خير من وقوف على رحل(5)
نجوم دراريّ(6) تكنّفن صورة *** من البدر وافت غير هوج(7) و لا عجل
فسلّمت و استأنست خيفة أن يرى *** عدوّ مقامي أو يرى كاشح فعلي
فقالت و أرخت جانب السّتر إنّما *** معي فتكلّم غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها ما بي لهم من ترقّب *** و لكنّ سرّي ليس يحمله مثلي
فلمّا اقتصرنا دونهنّ حديثنا *** و هنّ(8) طبيبات بحاجة ذي الشّكل
عرفن الذي تهوى(9) فقلن ائذني لنا *** نطف ساعة في برد ليل و في سهل
/فقالت فلا تلبثن قلن تحدّثي *** أتيناك، و انسبن انسياب مها الرّمل
و قمن(10) و قد أفهمن ذا اللّبّ أنّما *** أتين(11) الذي يأتين من ذاك من أجلي
فقال جميل: هيهات يا أبا الخطّاب! لا أقول و اللّه مثل هذا سجيس الليالي(12)، و اللّه ما يخاطب النساء مخاطبتك أحد. و قام مشمّرا.
قال أبو عبد اللّه الزّبير قال عمّي مصعب: كان عمر يعارض جميلا، فإذا قال هذا قصيدة قال هذا مثلها.
ص: 113
فيقال: إنه في الرائيّة و العينيّة أشعر من جميل، و إنّ جميلا أشعر منه في اللاّميّة، و كلاهما قد قال بيتا نادرا ظريفا، قال جميل:
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما *** قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
و قال عمر:
فقالت و أرخت جانب السّتر إنّما *** معي فتكلّم غير ذي رقبة أهلي
أخبرني عليّ بن صالح قال حدّثنا أبو هفّان عن إسحاق عن المدائنيّ قال: سمع الفرزدق عمر بن أبي ربيعة ينشد قوله:
جرى ناصح بالودّ بيني و بينها *** فقرّ بني يوم الحصاب إلى قتلي
و لمّا بلغ قوله:
فقمن و قد أفهمن ذا اللبّ أنما *** أتين الذي يأتين من ذاك من أجلي
/صاح الفرزدق: هذا و اللّه الذي أرادته الشعراء فأخطأته، و بكت على الديار.
منها في قصيدة جميل التي أنشدها عمر، و استنشده ما له في وزنها:
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما *** قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
أبيت مع الهلاّك(1) ضيفا لأهلها *** و أهلي قريب موسعون ذو و فضل
أفق أيها القلب اللّجوج عن الجهل *** و دع عنك «جملا» لا سبيل إلى جمل
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها *** و لكن طلابيها(2) لما فات من عقلي
الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو في الأوّل و الثاني من الأبيات.
و ذكر الهشاميّ الأبيات كلّها و وصف أنّ الثّقيل الثاني الذي يغنّى به فيها لمعبد. و ذكر يحيى المكّيّ: أن لابن محرز في الثالث و ما بعده من الأبيات ثاني ثقيل بالخنصر و البنصر. و في هذه الأبيات التي أوّلها الثالث هزج بالبنصر يمان عن عمرو. و في الرابع و الخامس لابن طنبورة خفيف رمل عن الهشاميّ. و فيها لإسحاق ثقيل أوّل عن
ص: 114
الهشاميّ أيضا. و ذكر حمّاد عن أبيه: أن لنافع الخير مولى عبد اللّه بن جعفر في هذه الأبيات لحنا، و لم يجنّسه.
و ذكر حبش أنّ الثقيل الأوّل لابن طنبورة. و منها في شعر جميل أيضا:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي *** بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها *** و لكن طلابيها لما فات من عقلي
الغناء لابن مسجح ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ.
/و منها في شعر عمر بن أبي ربيعة المذكور في أوّل الخبر:
فقالت و أرخت جانب السّتر إنّما *** معي فتحدّث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها ما بي لهم من ترقّب *** و لكنّ سرّي ليس يحمله مثلي
جرى ناصح بالودّ بيني و بينها *** فقرّ بني يوم الحصاب إلى قتلي
غنّى في هذه الأبيات ابن سريج، و لحنه رمل مطلق(1) في مجرى البنصر عن إسحاق و عمرو(2). و ذكر يونس(3): أنّ فيه لحنا لمالك لم يجنّسه، و ذكر الهشاميّ: أنّ لحن مالك خفيف ثقيل. و ذكر حبش(4): أنّ لمعبد فيه لحنا من الثّقيل الأوّل بالبنصر، و لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى. [و ليس حبش ممن يعتمد في هذا على روايته(5)].
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:
أدركت مشيخة(6) من قريش لا يزنون بعمر بن أبي ربيعة شاعرا من أهل دهره في النّسيب، و يستحسنون منه ما كانوا يستقبحونه من غيره من مدح نفسه، و التّحلّي/بمودّته، و الابتيار في شعره و الابتيار: أن يفعل الإنسان الشيء فيذكره و يفخر به. و الابتهار: أن يقول ما لم يفعل.
الحزاميّ(1) عن عبد العزيز بن عمران قال: قال ابن أبي عتيق لعمر و قد أنشده قوله:
بينما ينعتنني أبصرنني *** دون قيد(2) الميل يعدو بي الأغر
قالت الكبرى أ تعرفن الفتى *** قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى و قد تيّمتها(3) *** قد عرفناه و هل يخفى القمر
- الغناء في هذه الأبيات لابن سريج خفيف رمل بالبنصر - فقال له ابن أبي عتيق: - و قد أنشدها - أنت لم تنسب بها، و إنما نسبت بنفسك، كان ينبغي أن تقول: قلت لها فقالت لي، فوضعت خدّي فوطئت عليه.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:
لم يذهب على أحد من الرّواة أنّ عمر كان عفيفا يصف و لا يقف(4)، و يحوم و لا يرد.
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا أحمد بن منصور عن ابن الأعرابيّ، و حدّثني عليّ بن صالح قال حدّثنا أبو هفّان عن إسحاق الموصليّ عن رجاله، قالوا: كان ابن أبي ربيعة قد حجّ في سنة من السنين. فلما انصرف من الحج ألفى الوليد بن عبد الملك و قد فرش له في ظهر الكعبة و جلس، فجاءه عمر فسلّم عليه و جلس إليه. فقال له: أنشدني شيئا من شعرك. فقال: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير و قد تركت الشعر، و لي غلامان هما عندي بمنزلة الولد، و هما يرويان كلّ ما قلت و هما لك. قال: ائتني بهما ففعل، فأنشداه قوله:
أ من آل نعم أنت غاد فمبكر
فطرب الوليد و اهتزّ لذلك، فلم يزالا ينشدانه حتى قام، فأجزل صلته و ردّ الغلامين إليه.
حدّثني عليّ بن صالح بن الهيثم الأنباريّ الكاتب الملقّب «كيلجة»(5) قال حدّثني أبو هفّان قال حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الموصليّ عن مصعب بن عبد اللّه الزّبيري، و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار عن عمه مصعب أنه قال: راق عمر بن أبي ربيعة الناس وفاق نظراءه و برعهم بسهولة الشعر و شدّة الأسر، و حسن الوصف، و دقّة المعنى و صواب المصدر، و القصد للحاجة، و استنطاق الربع، و إنطاق القلب، و حسن العزاء، و مخاطبة النساء، و عفّة المقال، و قلّة الانتقال، و إثبات الحجّة، و ترجيح الشكّ في موضع اليقين، و طلاوة
ص: 116
الاعتذار، و فتح الغزل، و نهج العلل، و عطف المساءة(1) على العذّال، و أحسن التفجّع، و بخّل المنازل، و اختصر الخبر، و صدق الصّفاء، إن قدح أورى، و إن اعتذر أبرا، و إن تشكّى أشجى، و أقدم عن خبرة و لم يعتذر بغرّة، و أسر النوم، و غمّ الطّير، و أغدّ السّير، و حيّر ماء الشباب، و سهّل و قوّل، و قاس الهوى فأربى، و عصى و أخلى، و حالف بسمعه و طرفه، و أبرم(2) نعت الرسل و حذّر، و أعلن الحبّ و أسرّ، و بطن به و أظهر، و ألحّ و أسفّ، و أنكح النوم، و جنى الحديث، و ضرب ظهره لبطنه، و أذلّ صعبه، و قنع بالرّجاء من الوفاء، و أعلى قاتله، و استبكى عاذله، و نفّض النوم، و أغلق رهن منّي و أهدر قتلاه، و كان بعد هذا/كلّه فصيحا.
/فمن سهولة شعره و شدّة أسره(3) قوله:
الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالسّبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. قال إسحاق بن إبراهيم: يعني أنه لم يؤهل فيعدوه تقادم العهد. و قال الزبير: قال بعض المدنيّين: يحيّيه بأن يؤهل، أي يدعو له بذلك.
أيّها المنكح الثّريّا سهيلا(1) *** عمرك اللّه كيف يلتقيان
هي شاميّة إذا ما استقلّت *** و سهيل إذا استقلّ يماني
و يروى: «هي غوريّة»(2). الغناء للغريض خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو و ابن المكيّ.
سائلا الرّبع بالبليّ و قولا *** هجت شوقا لي الغداة طويلا
أين حيّ حلّوك إذ أنت محفو(3) *** ف بهم آهل(4) أراك جميلا
قال ساروا فأمعنوا(5) و استقلّوا *** و برغمي لو قد وجدت(6) سبيلا
و يروى:
و بكرهي لو استطعت سبيلا
سئمونا و ما سئمنا جوارا(7)
و أحبّوا دماثة(8) و سهولا
فيه رملان: أحدهما لابن سريج بالسّبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، و الآخر لإسحاق مطلق في مجرى البنصر، و فيه لأبي العبيس(9) بن حمدون ثاني ثقيل. و قد/شرحت نسبته مع خبره في موضع آخر(10). قال إسحاق: أنشد جرير هذه الأبيات فقال: إنّ هذا الذي كنّا ندور عليه فأخطأناه.
ص: 118
قال لي فيها عتيق مقالا *** فجرت مما يقول الدموع
قال لي ودّع سليمى و دعها *** فأجاب القلب: لا أستطيع
الغناء للهذليّ ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ. قال: و فيه ليحيى المكيّ ثقيل أوّل نسب إلى معبد و هو من منحوله.
صوت(1)
أ الحقّ إن(2) دار الرّباب تباعدت *** أو انبتّ حبل أنّ قلبك طائر
أفق قد أفاق العاشقون و فارقوا ال *** هوى و استمرّت بالرّجال(3) المرائر
زع(4) النفس و استبق الحياء فإنّما *** تباعد أو تدني الرّباب المقادر
أمت حبّها و اجعل قديم وصالها *** و عشرتها كمثل من لا تعاشر
و هبها كشيء لم يكن أو كنازح *** به الدار أو من غيّبته المقابر
و كالناس(5) علّقت الرّباب فلا تكن *** أحاديث من يبدو و من هو حاضر(6)
الغناء في بعض هذه الأبيات و أوّله «زغ النفس» لابن سريج ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو. و فيه لعمر الواديّ رمل بالبنصر عن ابن المكّيّ. و فيه ل «قدار»(7) لحن من/كتاب إبراهيم غير مجنّس. و هذه الأبيات يرويها بعض أهل الحجاز لكثيّر، و يرويها الكوفيون للكميت بن معروف الأسديّ، و ذكر بعضها الزّبير بن بكّار عن أبي عبيدة لكثيّر في أخباره(8).
- قال مصعب الزّبيريّ: و قد أجمع أهل بلدنا ممن له علم بالشعر أنّ هذه الأبيات أغزل ما سمعوا - قوله:
ص: 119
تقول غداة التقينا الرّباب *** أيا ذا أفلت أفول السّماك
و كفّت سوابق من عبرة *** كما ارفضّ(1) نظم ضعيف السّلاك
فقلت لها من يطع في الصّدي *** ق أعداءه يجتنبه(2) كذاك
أغرّك أنّي عصيت الملا *** م فيك و أنّ هوانا هواك
و ألاّ أرى لذّة في الحياة *** تقرّ بها العين حتى أراك
فكان من الذلنب لي عندكم *** مكارمتي و اتّباعي رضاك
فليت الذي لام في حبّكم *** و في أن تزاري(3) بقرن(4) وقاك
هموم الحياة و أسقامها *** و إن كان حتف جهيز(5) فداك
الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى. و ذكر إبراهيم أنّ فيه لحنا لحكم. و قيل: إن فيه لحنا آخر لابن جامع.
طال ليلي و اعتادني اليوم سقم *** و أصابت مقاتل القلب نعم
حرّة الوجه و الشمائل و الجو *** هر تكليمها لمن نال غنم
و حديث بمثله تنزل العص(6) *** م رخيم يشوب ذلك حلم
هكذا وصف ما بدا لي منها *** ليس لي بالذي تغيّب علم
إن تجودي أو تبخلي فبحمد *** لست يا نعم فيهما من يذمّ(7)
الغناء لابن سريج رمل عن الهشاميّ.
أيها القائل غير الصواب *** أمسك النّصح و أقلل عتابي
ص: 120
/
و اجتنبني و اعلمن أن ستعصى *** و لخير لك طول اجتنابي
إن تقل نصحا فعن ظهر غشّ *** دائم الغمر(1) بعيد الذّهاب
ليس بي عيّ بما قلت إنّي *** عالم أفقه(2) رجع الجواب
إنّما قرّة عيني هواها *** فدع اللّوم وكلني لما بي
/لا تلمني في الرّباب و أمست *** عدلت(3) للنفس برد الشّراب
هي و اللّه الذي هو ربّي *** صادقا أحلف غير الكذاب
أكرم الأحياء طرّا علينا *** عند قرب منهم و اجتناب(4)
خاطبتني ساعة و هي تبكي *** ثم عزّت(5) خلّتي في الخطاب
و كفى(6) بي مدرها لخصوم *** لسواها عند حدّ تبابي(7)
الغناء لكردم ثقيل أوّل بالسّبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق في الأوّل و الخامس ثم الثاني و الثالث. و فيه لمعبد خفيف ثقيل بالبنصر عن يحيى المكيّ.
خليليّ بعض اللوم لا ترحلا(8) به *** رفيقكما حتّى تقولا على علم
خليليّ من يكلف بآخر كالذي *** كلفت به يدمل(9) فؤادا على سقم
خليليّ ما كانت تصاب مقاتلي *** و لا غرّتي حتى وقعت(10) على نعم
خليليّ حتى لفّ حبلي(11) بخادع *** موقّى إذا يرمى صيود إذا يرمي
/خليليّ لو يرقى خليل من الهوى *** رقيت بما يدني النّوار(12) منه العصم
ص: 121
خليليّ إن باعدت لانت و إن ألن *** تباعد فلم أنبل بحرب و لا سلّم(1)
نظرت إليها بالمحصّب من منى *** و لي نظر لو لا التّحرّج عارم(2)
فقلت: أشمس أم مصابيح بيعة *** بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم
بعيدة(3) مهوى القرط إمّا لنوفل *** أبوها و إمّا عبد شمس و هاشم
و مدّ عليها السّجف يوم لقيتها *** على عجل تبّاعها و الخوادم
فلم أستطعها غير أن قد بدا لنا *** عشيّة راحت وجهها و المعاصم
معاصم لم تضرب على البهم(4) بالضّحى *** عصاها و وجه لم تلحه السّمائم
نضار(5) ترى فيه أساريع(6) مائه *** صبيح تغاديه الأكفّ النّواعم
إذا ما دعت أترابها فاكتنفنها *** تمايلن أو مالت بهنّ المآكم(7)
طلبن الصّبا حتى إذا ما أصبنه *** نزعن و هنّ المسلمات الظّوالم
الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى(8) البنصر عن إسحاق و ابن المكيّ. و فيها لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق أيضا. و فيها للغريض [خفيف(9)] ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ.
عاود القلب بعض ما قد شجاه *** من حبيب أمسى هوانا هواه
يا لقومي فكيف أصبر عمّن *** لا ترى النفس طيب عيش سواه
أرسلت إذ رأت بعادي ألاّ *** يقبلن بي محرّشا(10) إن أتاه
ص: 122
دون أن
يسمع المقالة منّا *** و ليطعني فإنّ عندي رضاه
لا تطع بي فدتك نفسي عدوّا *** لحديث على هواه افتراه
لا تطع بي من لو رآني(1) و إيّا *** ك أسيري ضرورة ما عناه
ما ضراري نفسي بهجري(2) من لي *** س مسيئا و لا بعيدا ثراه(3)
و اجتنابي بيت الحبيب و ما الخل *** د بأشهى إليّ من أن أراه
الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالخنصر(4) في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. و قال عمرو، فيه خفيف ثقيل بالوسطى للهذليّ. و فيه لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو، و ابتداؤه نشيد أوّله: «ما ضراري نفسي». و قال الهشاميّ: و فيه لعليّة بنت المهديّ و سعيد بن جابر لحنان من الثقيل الثاني
و آية ذلك أن تسمعي *** إذا جئتكم ناشدا ينشد(5)
فرحنا سراعا و راح الهوى *** دليلا إليها بنا يقصد
فلمّا دنونا لجرس النّبا *** ح و الصوت، و الحيّ لم يرقدوا
بعثنا لها باغيا ناشدا *** و في الحيّ بغية من ينشد
و قد نسبت هذه الأبيات إلى من غنّى فيها مع:
تشطّ غدا دار جيراننا
إذا أنت لم تعشق و لم تدر ما الهوى *** فكنّ حجرا من يابس الصّخر جلمدا(6)
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي *** إنّ بي يا عتيق ما قد كفاني
ص: 123
لا تلمني و أنت زيّنتها لي *** أنت مثل الشيطان للإنسان
الغناء لأبي العبيس(1) بن حمدون ثقيل أوّل مطلق من مجموع أغانيه. و فيه رمل طنبريّ محدث، و فيه هزج لأبي عيسى بن المتوكّل.
هجرت الحبيب اليوم من غير ما اجترم *** و قطّعت من ذي ودّك الحبل فانصرم
أطعت الوشاة الكاشحين و من يطع *** مقالة واش يقرع السّنّ من ندم
أتاني رسول(2) كنت أحسب أنه *** شفيق علينا ناصح كالذي زعم(3)
فلما تباثثنا(4) الحديث و صرّحت *** سرائره عن بعض ما كان قد كتم
/تبيّن لي أنّ المحرّش(5) كاذب *** فعندي لك العتبى على رغم من رغم
فملآن(6) لمت(7) النفس بعد الذي مضى *** و بعد الذي آلت و آليت من قسم
ظلمت و لم تعتب و كان رسولها *** إليك سريعا بالرّضا لك إذ ظلم
/الغناء لابن سريج رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و قال يونس: فيه لابن سريج لحنان، و ذكر الهشاميّ أنّ لحنه الآخر ثقيل أوّل، و أن لعلّويه فيه رملا آخر.
ص: 124
عرفت مصيف الحيّ و المتربّعا(1) *** ببطن حليّات(2) دوارس بلقعا
إلى السّرح(3) من وادي المغمّس(4) بدّلت *** معالمها و بلا و نكباء(5) زعزعا(6)
فيبخلن أو يخبرن بالعلم بعد ما *** نكأن(7) فؤادا كان قدما مفجّعا
الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى.
أ من آل نعم أنت غاد فمبكر *** غداة غد أم رائح فمهجّر
بحاجة نفس لم تقل في جوابها *** فتبلغ عذرا و المقالة تعذر
أشارت بمدراها و قالت لتربها(8) *** أ هذا المغيريّ الذي كان يذكر
لئن كان إيّاه لقد حال بعدنا *** عن العهد و الإنسان قد يتغيّر
الغناء لابن سريج رمل بالسبّابة في مجرى البنصر، و له في بيتين آخرين من هذه القصيدة، و هما:
و ليلة ذي دوران جشّمتني السّرى *** و قد يجشم الهول المحبّ المغرّر(9)
فقلت أباديهم(10) فإمّا أفوقهم *** و إمّا ينال السّيف ثأرا فيثأر
رمل آخر بالوسطى عن عمرو. قال الزّبير حدّثني إسحاق الموصلي قال: قلت لأعرابيّ ما معنى قول ابن أبي ربيعة:
ص: 125
بحاجة نفس لم تقل في جوابها *** فتبلغ عذرا و المقالة تعذر
فقال: قام كما جلس.
كلّ وصل أمسى لديك لأنثى *** غيرها وصلها إليها أداء
كلّ أنثى و إن دنت لوصال *** أو نأت فهى للرّباب الفداء
/و قوله:
أحبّ لحبّك من لم يكن *** صفيّا لنفسي و لا صاحبا
و أبذل ما لي لمرضاتكم *** و أعتب من جاءكم(1) عاتبا
و أرغب في ودّ من لم أكن *** إلى ودّه قبلكم راغبا
و لو سلك الناس في جانب *** من الأرض و اعتزلت جانبا
ليمّمت طيّتها(2) إنّني *** أرى قربها العجب العاجبا
الغناء لابن القفّاص رمل عن الهشاميّ و يحيى المكّيّ، و فيه للرّبعيّ لحن من كتاب إبراهيم/غير مجنّس.
طال ليلي و تعنّاني(3) الطّرب(4) *** و اعتراني طول همّ و وصب
أرسلت أسماء في معتبة *** عتبتها و هي أحلى من عتب
أن أتى منها رسول موهنا(5) *** وجد الحيّ نياما فانقلب
ضرب الباب فلم يشعر به *** أحد يفتح بابا إذ ضرب(6)
قال: أيقاظ و لكن حاجة *** عرضت تكتم منّا فاحتجب
/و لعمدا ردّني، فاجتهدت *** بيمين حلفة عند الغضب
ص: 126
يشهد(1)
الرحمن لا يجمعنا *** سقف بيت رجبا بعد رجب
قلت حلا فاقبلي معذرتي *** ما كذا يجري محبّ من أحبّ
إنّ كفّيّ لك رهن بالرّضا *** فاقبلي يا هند، قالت قد وجب
الغناء لمالك خفيف ثقيل بالسّبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لدحمان ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو. و فيه لمعبد لحن من كتاب يونس لم يجنّسه، و ذكر الهشاميّ أنه خفيف ثقيل. و فيه لابن سريج رمل عن الهشاميّ.
قال من حكينا عنه في صدر أخبار عمر روايته التي رواها عليّ بن صالح عن أبي هفّان عن إسحاق عن رجاله و الحرميّ عن الزّبير عن عمّه:
كان عمر بن أبي ربيعة يهوى امرأة يقال لها «أسماء»، فكان الرسول يختلف(2) بينهما زمانا و هو لا يقدر عليها. ثم وعدته أن تزوره، فتأهّب لذلك و انتظرها، فأبطأت عنه حتى غلبته عينه فنام، و كانت عنده جارية له تخدمه، فلم تلبث أن جاءت و معها جارية لها، فوقفت حجرة(3) و أمرت الجارية أن تضرب الباب، فضربته فلم يستيقظ. فقالت لها: تطلّعي فانظري ما الخبر؟ فقالت لها: هو مضطجع و إلى جنبه امرأة، فحلفت لا تزوره حولا، فقال في ذلك:
طال ليلي و تعنّاني الطّرب
قال أبو هفّان في حديثه: و بعث إليها امرأة كانت تختلف بينه و بين معارفه، و كانت جزلة(4) من النساء، فصدقتها عن قصّته و حلفت لها أنه لم يكن عنده إلا جاريته، فرضيت. و إيّاها يعني عمر بقوله:
/
فأتتها طبّة(5) عالمة *** تخلط الجدّ مرارا باللّعب
تغلظ القول إذا لانت لها *** و تراخي عند سورات الغضب
لم تزل تصرفها عن رأيها *** و تأنّاها(6) برفق و أدب
قال إسحاق في خبره: و حدّثني ابن كناسة(7) قال أخبرني حمّاد الرواية قال: استنشدني الوليد بن يزيد، فأنشدته نحوا من ألف قصيدة، فما استعادني إلا قصيدة عمر بن أبي ربيعة:
طال ليلي و تعنّاني الطرب
ص: 127
فلما أنشدته قوله:
فأتتها طبّة عالمة *** تخلط الجدّ مرارا باللّعب
إلى قوله:
إنّ كفّي لك رهن بالرّضا *** فاقبلي يا هند قالت قد وجب
فقال الوليد: ويحك يا حمّاد! اطلب لي مثل هذه أرسلها إلى سلمى. يعني امرأته سلمى بنت/سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، و كان طلّقها ليتزوج أختها ثم تتبّعتها نفسه.
قال إسحاق و حدّثني جماعة منهم الحرميّ و الزّبيريّ(1) و غيرهما: أنّ عمر أنشد ابن أبي عتيق هذه القصيدة، فقال له ابن أبي عتيق: الناس يطلبون خليفة [مذ قتل عثمان(2)] في صفة قوّادتك هذه يدبّر أمورهم فما يجدونه!.
/رجع(3) إلى خبر عمر الطويل
فالتقينا فرحّبت حين سلّم *** ت و كفّت دمعا من العين مارا(4)
ثم قالت عند العتاب رأينا *** منك عنّا تجلّدا و ازورارا(5)
قلت كلاّ لاه(6) ابن عمّك بل خف *** نا أمورا كنّا بها أغمارا(7)
فجعلنا الصّدود لمّا خشينا *** قالة الناس للهوى أستارا
ليس كالعهد إذ عهدت(8) و لكن *** أو قد الناس بالنميمة نارا
فلذاك الإعراض عنك و ما آ *** ثر قلبي عليك أخرى اختيارا
ما أبالي إذا النّوى قرّبتكم *** فدنوتم من حلّ أو من سارا
فاللّيالي إذا نأيت طوال *** و أراها إذا قربت قصارا
ص: 128
لعمرك ما جاورت غمدان(1) طائعا *** و قصر شعوب أن أكون به صبّا
/و لكنّ حمى أضرعتني(2) ثلاثة *** مجرّمة(3) ثم استمرّت بنا غبّا(4)
و حتّى لو أن الخلد تعرض إن مشت *** إلى الباب رجلي ما نقلت لها إربا(5)
فإنّك لو أبصرت يوم سويقة(6) *** مناخي و حبسي العيس دامية جدبا(7)
و مصرع إخوان(8) كأنّ أنينهم *** أنين المكاكي(9) صادفت بلدا خصبا
إذا لاقشعرّ الرّأس(10) منك صبابة(11) *** و لاستفرغت عيناك من سكبة غربا(12)
غنّى في الأوّل و الثاني من هذه الأبيات معبد و لحنه خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و فيهما لمالك ثقيل أوّل عن الهشاميّ، و نسبه يونس إلى مالك و لم يجنّسه.
و من إقدامه عن(13) خبرة و لم يعتذر بغرّة قوله:
صرمت و واصلت حتّى عرف *** ت أين المصادر و المورد
و جرّبت من ذاك حتّى عرف *** ت ما أتوقّى و ما أعمد
نام صحبي و بات نومي أسيرا *** أرقب النّجم موهنا أن يغورا
ص: 129
فرحنا و قلنا للغلام اقض حاجة *** لنا ثم أدركنا و لا تتغبّر
/
سراعا نغمّ(1) الطير إن سنحت لنا *** و إن تلقنا الرّكبان لا نتخبّر(2)
تتغبر، من قولهم: غبر فلان أي لبث.
و من إغذاذه(3) السير قوله:
قلت سيرا و لا تقيما ببصرى(4) *** و حفير(5) فما أحبّ حفيرا
و إذا ما مررتما بمعان(6) *** فأقلاّ به الثّواء و سيرا
إنّما قصرنا(7) إذا حسّر(8) السي *** ر بعيرا أن نستجدّ بعيرا
أبرزوها مثل المهاة تهادى *** بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبّها قلت بهرا(9) *** عدد القطر و الحصى و التراب
و هي مكنونة تحيّر منها *** في أديم الخدّين ماء الشباب
الغناء لمحمد بن عائشة خفيف ثقيل بالبنصر. و فيه لمالك خفيف ثقيل آخر عن الهشاميّ، و قيل: بل هو هذا.
و هل لي اليوم من أخت مواخية *** منكنّ أشكو إليها بعض ما فعلا
فراجعتها حصان(1) غير فاحشة *** برجع قول و لبّ لم(2) يكن خطلا
لا تذكري حبّه حتى أراجعه *** إنّي سأكفيكه إن لم أمت عجلا
فاقني(3) حياءك في ستر و في كرم *** فلست أوّل أنثى علّقت رجلا
و قرّبن أسباب الهوى لمتيّم *** يقيس ذراعا كلّما قسن إصبعا
و أنصّ المطيّ يتبعن بالرّك *** ب سراعا نواعم الاظعان(4)
فنصيد الغرير(5) من بقر الوح *** ش و نلهو بلذّة الفتيان
/في زمان لو كنت فيه ضجيعي *** غير شكّ عرفت لي عصياني
و تقلّبت في الفراش و لا تد *** رين إلا الظّنون أين مكاني
سمعي و طرفي حليفاها على جسدي *** فكيف أصبر عن سمعي و عن بصري
لو طاوعاني على ألاّ أكلّمها *** إذا لقضّيت من أوطارها و طري
و قولي في ملاطفة *** لزينب نوّلي عمرك
فإن داويت ذا سقم *** فأخزى اللّه من كفرك
فهزّت رأسها عجبا *** و قالت من بذا أمرك
أ هذا سحرك النّسوا *** ن، قد خبّرنني خبرك
و قلن إذا قضى و طرا *** و أدرك حاجة هجرك
/غنّى ابن سريج في هذه الأبيات، و لحنه خفيف ثقيل. و لابن المكّيّ فيها هزج بالوسطى. و فيها رمل ذكر ذكاء وجه(1) الرّزّة عن أحمد بن أبي العلاء عن مخارق أنه لابن جامع، و ذكر قمريّ أنه له و أنّ ذكاء(2) أبطل في هذه الحكاية. قال الزّبير(3): حدّثني عمّي قال حدّثني أبي قال: قال شيخ من قريش: لا تروّوا نساءكم شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورّطن في الزّنا تورّطا، و أنشد:
لقد أرسلت جاريتي *** و قلت لها خذي حذرك
... الأبيات.
شكوت إليها الحبّ أعلن بعضه *** و أخفيت منه في الفؤاد غليلا
و مما بطن به(4) و أظهر قوله:
حبّكم يا آل ليلى قاتلي *** ظهر الحبّ بجسمي و بطن
ليس حبّ فوق ما أحببتكم *** غير أن أقتل نفسي أو أجنّ
ليت حظّي كطرفة العين منها *** و كثير منها القليل المهنّا
أو حديث على خلاء يسلّي *** ما يجنّ الفؤاد منها و منّا
كبرت ربّ نعمة منك يوما *** أن أراها قبل الممات و منّا
ص: 132
حتّى إذا ما الليل جنّ ظلامه *** و نظرت غفلة كاشح(1) أن يعقلا(2)
و استنكح النوم الذين نخافهم *** و سقى الكرى بوّابهم فاستثقلا(3)
خرجت تأطر في الثياب كأنّها *** أيم يسيب على كثيب أهيلا(4)
الغناء لمعبد خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه ألحان لغيره و قد نسبت في غير هذا الموضع مع قوله(5):
ودّع لبابة(6) قبل أن تترحّلا
فلما أفضنا في الهوى نستبينه *** و عاد لنا صعب الحديث ذلولا
شكوت إليها الحبّ أظهر بعضه *** و أخفيت منه في الفؤاد غليلا
فعدي نائلا و إن لم تنيلي *** إنه ينفع(1) المحبّ الرجاء
قال الزّبير: هذا أحسن من قول كثيّر:
و لست براض من خليل بنائل *** قليل و لا أرضى له بقليل
فبعثت جاريتي و قلت لها اذهبي *** فاشكي إليها ما علمت و سلّمي
قولي يقول تحرّجي(2) في عاشق *** كلف بكم حتّى الممات متيّم
/و يقول إنّك قد علمت بأنّكم *** أصبحتم يا بشر أوجه(3) ذي دم
فكّي رهينته فإن لم تفعلي *** فاعلي(4) على قتل ابن عمّك و اسلمي
فتضاحكت عجبا و قالت حقّه *** ألاّ يعلّمنا بما لم نعلم
علمي به - و اللّه يغفر ذنبه - *** فيما بدا لي، ذو(5) هوى متقسّم
طرف(6) ينازعه إلى الأدنى(7) الهوى *** و يبتّ خلّة ذي الوصال الأقدم
فكم من قتيل ما يباء(1) به دم *** و من غلق(2) رهنا إذا لفّه(3) منى
/و من مالئ عينيه من شيء(4) غيره *** إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى(5)
و كان بعد هذا كلّه فصيحا شاعرا مقولا(6).
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير قال حدّثني عمّي، و أخبرنا به عليّ بن صالح عن أبي هفّان عن إسحاق عن رجاله:
أنّ عمر بن أبي ربيعة نظر إلى رجل يكلّم امرأة في الطّواف، فعاب ذلك عليه و أنكره. فقال له: إنها/ابنة عمّي. قال: ذاك أشنع لأمرك. فقال: إنّي خطبتها إلى عمّي، فأبى عليّ إلا بصداق أربعمائة دينار، و أنا غير مطيق ذلك، و شكا إليه من حبّها و كلفه بها أمرا عظيما، و تحمّل(7) به على عمّه. فسار معه إليه فكلّمه. فقال له: هو مملق، و ليس عندي ما أصلح به أمره. فقال له عمر: و كم الذي تريده منه؟ قال: أربعمائة دينار. فقال له: هي عليّ فزوّجه، ففعل ذلك.
و قد كان عمر حين أسنّ حلف ألاّ يقول بيت شعر ألاّ أعتق رقبة. فانصرف عمر إلى منزله يحدّث نفسه، فجعلت جارية له تكلّمه فلا يردّ عليها جوابا. فقالت له: إنّ لك لأمرا، و أراك تريد أن تقول شعرا، فقال:
فقصّ عليّ ما يلقى بهند *** فذكّر بعض ما كنّا نسينا(1)
و ذو الشّوق القديم و إن تعزّى(2) *** مشوق حين يلقى العاشقينا
و كم من خلّة(3) أعرضت عنها *** لغير قلى(4) و كنت بها ضنينا
أردت بعادها فصددت عنها(5) *** و لو جنّ الفؤاد بها جنونا
ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم لكلّ بيت واحد(6). الغناء لابن سريج رمل بالبنصر عن عمرو و الهشاميّ.
و فيه ثقيل أوّل يقال: إنه للغريض. و ذكر عبد اللّه بن موسى أنّ فيه لدحمان خفيف رمل.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة(7) قال:
ذكر ابن الكلبيّ أنّ عمر بن أبي ربيعة كان يساير عروة بن الزّبير و يحادثه، فقال له: و أين زين المواكب؟ يعني ابنه محمد بن عروة، و كان يسمّى بذلك لجماله.
/فقال له عروة: هو أمامك، فركض يطلبه. فقال له عروة: يا أبا الخطّاب، أ و لسنا أكفاء كراما لمحادثتك و مسايرتك؟ فقال: بلى بأبي أنت و أمي! و لكنّي مغرى بهذا الجمال أتبعه حيث كان. ثم التفت إليه و قال:
إنّي امرؤ مولع(8) بالحسن أتبعه *** لا حظّ لي فيه إلا لذّة النّظر
ثم مضى حتى لحقه فسار معه، و جعل عروة يضحك من كلامه تعجّبا منه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا مصعب ابن عبد اللّه قال:
رأى عمر بن أبي ربيعة رجلا يطوف بالبيت قد بهر الناس بجماله و تمامه، فسأل عنه فقيل له: هذا مالك بن أسماء بن خارجة. فجاءه فسلّم عليه و قال له: يا ابن أخي ما زلت أتشوّقك منذ بلغني قولك:
إنّ لي عند كلّ نفحة بستا *** ن من الورد أو من الياسمينا(9)
نظرة و التفاتة أتمنّى *** أن تكوني حللت فيما يلينا
و يروى:
«... أترجّى *** أن تكوني حللت...»
ص: 136
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا عبد اللّه/بن محمد قال حدّثنا العباس بن هشام عن أبيه قال أخبرني مولى لزياد قال:
حجّ أبو الأسود الدّؤليّ(1) و معه امرأته و كانت جميلة. فبينا هي تطوف بالبيت إذ عرض لها عمر بن أبي ربيعة، فأتت أبا الأسود فأخبرته، فأتاه أبو الأسود/فعاتبه. فقال له عمر: ما فعلت شيئا. فلما عادت إلى المسجد عاد فكلّمها، فأخبرت أبا الأسود، فأتاه في المسجد و هو مع قوم جالس فقال له:
و إنّي ليثنيني عن الجهل و الخنا *** و عن شتم أقوام خلائق أربع
حياء و إسلام و بقيا(2) و أنّني *** كريم و مثلي قد يضرّ و ينفع
فشتّان ما بيني و بينك إنّني *** على كل حال أستقيم و تظلع(3)
فقال له عمر: لست أعود يا عمّ لكلامها بعد هذا اليوم. ثم عاود(4) فكلّمها، فأتت أبا الأسود فأخبرته، فجاء إليه فقال له:
أنت الفتى و ابن الفتى و أخو الفتى *** و سيّدنا لو لا خلائق أربع
نكول عن الجلّى و قرب من الخنا *** و بخل عن الجدوى و أنك تبّع(5)
ثم خرجت و خرج معها أبو الأسود مشتملا على سيف. فلما رآهما عمر أعرض عنها، فتمثّل أبو الأسود:
تعدو الذّئاب على من لا كلاب له *** و تتّقي صولة المستأسد الحامي(6)
/قدم الفرزدق المدينة و بها رجلان يقال لأحدهما صريم(1)، و للآخر ابن أسماء، وصفا له فقصدهما، و كان عندهما قيان(2)، فسلّم عليهما و قال لهما: من أنتما؟ فقال أحدهما: أنا فرعون، و قال الآخر: أنا هامان.
قال: فأين منزلكما في النار حتى أقصدكما؟ فقالا: نحن جيران الفرزدق الشاعر! فضحك و نزل، فسلّم عليهما و سلّما عليه و تعاشروا مدّة. ثم سألهما أن يجمعا بينه و بين عمر بن أبي ربيعة ففعلا، و اجتمعا و تحادثا و تناشدا إلى أن أنشد عمر قصيدته التي يقول فيها:
فلمّا(3)
التقينا و اطمأنت بنا النّوى *** و غيّب عنّا من نخاف و نشفق
حتى انتهى إلى قوله:
فقمن لكي يخليننا(4) فترقرقت *** مدامع عينيها و ظلّت تدفّق
و قالت أ ما ترحمنني! لا تدعنني *** لدى غزل جمّ الصّبابة يخرق(5)
فقلن اسكتي عنّا فلست مطاعة *** و خلّك منّا - فاعلمي - بك أرفق(6)
فصاح الفرزدق: أنت و اللّه يا أبا الخطّاب أغزل الناس! لا يحسن و اللّه الشعراء أن يقولوا مثل هذا النّسيب و لا أن يرقوا مثل هذه الرّقية! و ودّعه و انصرف.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الجبّار بن سعيد(7) المساحقيّ عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه:
أنه حجّ مع أبيه(8) الحارث بن عبد اللّه بن عيّاش بن أبي ربيعة، فأتى عمر بن أبي ربيعة و قد أسنّ و شاخ، فسلّم عليه و ساء له ثم قال له: أيّ شيء أحدثت بعدي يا أبا الخطّاب؟ فأنشده:
يقولون(9): إنّي لست أصدقك الهوى *** و إنّي لا أرعاك حين أغيب
/فما بال طرفي(10) عفّ عما تساقطت *** له أعين من معشر و قلوب
ص: 138
عشيّة لا يستنكف القوم أن يروا *** سفاه امرئ ممن(1) يقال لبيب
و لا فتنة من ناسك أومضت(2) له *** بعين الصّبا كسلى القيام لعوب
تروّح يرجو أن تحطّ ذنوبه *** فآب و قد زيدت عليه ذنوب
و ما النّسك أسلاني و لكنّ(3) للهوى *** على العين منّي و الفؤاد رقيب
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل عن القحذميّ قال: واعد عمر بن أبي ربيعة نسوة من قريش إلى العقيق ليتحدّثن معه، فخرج إليهنّ و معه الغريض، فتحدّثوا مليّا و مطروا، فقال عمر و الغريض و جاريتان للنسوة فأظلّوا/عليهنّ بمطرفه و بردين له حتى استترن من المطر إلى أن سكن، ثم انصرفن. فقال له الغريض: قل في هذا شعرا حتى أغنّي فيه، فقال عمر:
أ لم تسأل المنزل المقفرا *** بيانا فيكتم أو يخبرا
ذكرت به بعض ما قد شجاك(4) *** و حقّ لذي الشّجو أن يذكرا
مقام المحبّين(5) قد ظاهرا(6) *** كساء و بردين أن يمطرا
و ممشى الثلاث به موهنا *** خرجن إلى زائر زوّرا
إلى مجلس من وراء القبا *** ب سهل الرّبا طيّب أعفرا(7)
غفلن عن اللّيل حتّى بدت *** تباشير من واضح أسفرا(8)
فقمن يعفّين آثارنا *** بأكسية الخزّ أن تقفرا(9)
مهاتان شيّعتا جؤذرا(10) *** أسيلا مقلّده(11) أحورا(12)
ص: 139
و
قمن و قلن لو انّ النها *** ر مدّ له اللّيل فاستأخرا
قضينا به بعض أشجاننا(1)*** و كان الحديث به أجدرا
/ذكر ابن المكيّ أنّ الغناء في الخمسة الأبيات الأولى لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر، و ذكر الهشاميّ أنّ هذا اللحن للغريض، و أنّ لحن ابن سريج رمل بالوسطى. قال: و لدحمان فيه أيضا ثاني ثقيل آخر بالوسطى. و فيها لابن الهربذ خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى. و قال حبش: فيها لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى.
أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أبو العبّاس المدينيّ(2) قال أخبرنا ابن عائشة قال:
حضر ابن أبي عتيق عمر بن أبي ربيعة و هو ينشد قوله:
و من كان محزونا بإهراق عبرة *** و هي غربها(3) فليأتنا نبكه غدا
نعنه على الإثكال إن كان ثاكلا *** و إن كان(4) محروبا و إن كان مقصدا(5)
قال: فلمّا أصبح ابن أبي عتيق أخذ معه خالدا الخرّيت و قال له: قم بنا إلى عمر. فمضيا(6) إليه، فقال له ابن أبي عتيق: قد جئناك لموعدك. قال: و أيّ موعد بيننا؟ قال: قولك: «فليأتنا نبكه غدا». قد جئناك، و اللّه لا نبرح أو تبكي إن كنت صادقا في قولك، أو ننصرف على أنك غير/صادق. ثم مضى و تركه. قال ابن عائشة: خالد الخرّيت هو خالد بن عبد اللّه القسري.
لقيت عمر بن أبي ربيعة فقلت له: يا أبا الخطّاب، أ كلّ ما قلته في شعرك فعلته؟ قال: نعم، و أستغفر اللّه.
أخبرني عليّ بن صالح عن أبي هفّان عن إسحاق عن عبد اللّه بن مصعب قال:
قدم عمر بن أبي ربيعة الكوفة، فنزل على عبد اللّه بن هلال الذي كان يقال له صاحب إبليس، و كان له قينتان حاذقتان، و كان عمر يأتيهما فيسمع منهما، فقال في ذلك:
يأهل بابل ما نفست(1) عليكم *** من عيشكم إلاّ ثلاث خلال
ماء الفرات و طيب ليل بارد *** و غناء مسمعتين لابن هلال
أخبرني عليّ بن صالح عن أبي هفّان عن إسحاق عن رجاله:
أن عمر بن أبي ربيعة و الحارث بن خالد و أبا ربيعة المصطلقيّ و رجلا من بني مخزوم و ابن أخت الحارث بن خالد، خرجوا يشيّعون بعض خلفاء بني أمية. فلمّا انصرفوا نزلوا «بسرف» فلاح لهم برق؛ فقال الحارث: كلّنا شاعر، فهلمّوا نصف البرق. فقال أبو ربيعة:
أرقت لبرق آخر الليل(2) لامع *** جرى من سناه ذو الرّبا فينابع(3)
فقال الحارث:
أرقت له ليل التّمام(4) و دونه *** مهامه موماة و أرض بلاقع(5)
فقال المخزوميّ:
يضيء عضاه(6) الشّوك حتّى كأنّه *** مصابيح أو فجر من الصّبح ساطع
فقال عمر:
أيا ربّ لا آلو المودّة جاهدا *** لأسماء فاصنع بي الذي أنت صانع
ثم قال: ما لي و للبرق و الشوك!
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال:
ص: 141
كان عمر بن أبي ربيعة و خالد القسريّ معه - و هو خالد الخرّيت - ذات يوم يمشيان، فإذا هما بهند و أسماء اللتين كان يشبّب بهما عمر بن أبي ربيعة تتماشيان، /فقصداهما و جلسا معهما مليّا، فأخذتهم السماء و مطروا. ثم ذكر مثل خبر تقدّم، و رويته آنفا عن هاشم بن محمد الخزاعيّ، و ذكر الأبيات الماضية، و لم يذكر فيها خبر الغريض. و حكى أنه قال في ذلك:
أ في(1) رسم دار دمعك المترقرق(2) *** سفاها! و ما استنطاق ما ليس ينطق!
بحيث التقى «جمع» و مفضى «محسّر» *** مغاني قد كادت على العهد تخلق(3)
ذكرت به ما قد مضى من زماننا *** و ذكرك رسم الدار ممّا يشوّق(4)
مقاما لنا عند(5) العشاء و مجلسا *** به لم يكدّره علينا معوّق(6)
و ممشى فتاة بالكساء تكنّنا(7) *** به تحت عين برقها يتألّق
يبلّ أعالي الثوب قطر و تحته *** شعاع بدا يعشي العيون و يشرق
فأحسن شيء بدء أوّل ليلنا(8) *** و آخره حزن إذا نتفرّق
//ذكر يحيى بن المكيّ أنّ الغناء في ستة أبيات متوالية من هذا الشعر لمعبد خفيف ثقيل بالسبابة و الوسطى، و ذكر الهشاميّ أنه من منحول يحيى.
لقي عمر بن أبي ربيعة ليلى بنت الحارث بن عمرو البكريّة و هي تسير على بغلة لها، و قد كان نسب بها، فقال: جعلني اللّه فداك! عرّجي هاهنا أسمعك بعض ما قلته فيك. قالت: أو قد فعلت؟ قال نعم! فوقفت و قالت:
هات. فأنشدها:
ألا يا ليل إنّ شفاء نفسي *** نوالك إن بخلت فنوّلينا
و قد حضر الرّحيل و حان منّا *** فراقك فانظري ما تأمرينا(1)
فقالت: آمرك بتقوى اللّه و إيثار طاعته و ترك ما أنت عليه. ثم صاحت ببغلتها و مضت.
و في هذين البيتين لابن سريج خفيق ثقيل بالوسطى عن يحيى المكيّ، و ذكر الهشاميّ أنه من منحوله إلى ابن سريج. و فيهما رمل طنبوري لأحمد بن صدقة.
/أخبرني بذلك جحظة عنه. و أخبرني بهذا الخبر عبد اللّه بن محمد الرّازيّ قال: حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن ابن الأعرابيّ: أنّ ليلى هذه كانت جالسة في المسجد الحرام، فرأت عمر بن أبي ربيعة، فوجّهت إليه مولى لها فجاءها به. فقالت له: يا ابن أبي ربيعة، حتّى متى لا تزال سادرا(2) في حرم اللّه تشبّب بالنساء و تشيد بذكرهنّ! أ ما تخاف اللّه! قال: دعيني من ذاك و اسمعي ما قلت. قالت: و ما قلت؟ فأنشدها الأبيات المذكورة.
فقالت له القول الذي تقدّم أنها أجابته به. قال: و قال لها: اسمعي أيضا ما قلت فيك، ثم أنشدها قوله:
أمن الرّسم و أطلال الدّمن *** عاد لي وجدي و عاودت الحزن(3)
إنّ حبّي آل ليلى قاتلي(4) *** ظهر الحبّ بجسمي(5) و بطن
يا أبا الحارث قلبي طائر(6) *** فأتمر أمر رشيد مؤتمن
التمس للقلب وصلا عندها(7) *** إنّ خير الوصل ما ليس يمنّ(8)
ص: 143
علق القلب، و قد كان صحا، *** من بني بكر غزالا قد شدن(1)
أحور المقلة كالبدر، إذا *** قلّد الدّرّ فقلبي ممتحن(2)
/ليس حبّ فوق ما أحببتكم *** غير أن أقتل نفسي أو أجنّ
خلقت للقلب منّي فتنة *** هكذا يخلق معروض الفتن
قال: و فيها يقول:
إنّ ليلى و قد بلغت المشيبا *** لم تدع للنساء عندي نصيبا
هاجر بيتها لأنفي عنها *** قول ذي العيب إن أراد عيوبا
الغناء في الأبيات الأولى النونية لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيها لابن عائشة ثقيل أوّل، يقال: إنه أوّل ثقيل غنّاه، كان يغنّي الخفيف، فعيب بذلك فصنع هذا اللحن. و فيه لعبد اللّه بن يونس الأبلّي رمل عن الهشاميّ.
و الغناء في:
إنّ ليلى و قد بلغت المشيبا
لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لكردم ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو أيضا. و ذكر إبراهيم أنّ فيه لحنا لعطرّد، و لم يجنّسه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني محمد بن منصور الأزديّ قال حدثني أبي عن الهيثم بن عديّ قال:
بينما عمر بن أبي ربيعة منصرف من المزدلفة يريد منى إذ بصر بامرأة في رحالة(3) ففتن، و سمع عجوزا معها تناديها: يا نوار استتري لا يفضحك ابن أبي ربيعة. فاتّبعها عمر و قد شغلت قلبه حتى نزلت بمنى في مضرب(4) قد ضرب لها، فنزل إلى/جنب المضرب، و لم يزل يتلطّف حتى جلس معها و حادثها، و إذا أحسن الناس وجها و أحلاه(5) منطقا، فزاد ذلك في إعجاب عمر بها. ثم أراد معاودتها فتعذّر ذلك عليه، و كان آخر عهده، فقال فيها:
ص: 144
علق النّوار فؤاده جهلا *** و صبا فلم تترك له عقلا
و تعرّضت لي في المسير فما *** أمسى الفؤاد يرى لها مثلا(1)
ما نعجة(2) من وحش ذي بقر(3) *** تغذو بسقط صريمة طفلا(4)
بألذّ منها إذ تقول لنا *** و أردت كشف قناعها: مهلا
دعنا فإنك لا مكارمة *** تجزي و لست بواصل حبلا
و عليك من تبل الفؤاد و إن(5) *** أمسى لقلبك ذكره شغلا
فأجبتها إنّ المحب مكلّف(6) *** فدعي العتاب و أحدثي بذلا
/الغناء لابن محرز خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه ثاني ثقيل بالبنصر ينسب إلى ابن عائشة.
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثني أبو عبد اللّه السّدوسي عن عيسى بن إسماعيل العتكيّ عن هشام بن الكلبيّ عن أبيه قال:
حجّت امرأة من بني أمية يقال لها أمّ الحكم، فقدمت قبل أوان الحج معتمرة. فبينا هي تطوف على بغلة لها إذ مرّت على عمر بن أبي ربيعة في نفر من بني مخزوم و هم جلوس يتحدثون و قد فرعهم(7) طولا و جهرهم(8) جمالا و بهرهم شارة و عارضة(9) و بيانا، فمالت إليهم و نزلت عندهم، فتحدّثت معهم طويلا ثم انصرفت. و لم يزل عمر
ص: 145
يتردّد إليها إلى أن انقضت أيّام الحج، فرحلت إلى الشام. و فيها يقول عمر:
تأوّب ليلى بنصب(1) و همّ *** و عاودت ذكرى لأمّ الحكم
فبتّ أراقب ليل التّما *** م، من نام من عاشق لم أنم
فإما ترينني على ما عزا *** ضعيف القيام شديد السّقم
كثير القلب قوق الفرا *** ش ما إن تقلّ قيامي قدم(2)
بالمديحة طيّب نشرها *** هضيم الحشا(3) عذبة المبتسم
في أول الأبيات الثلاثة غناء. و قبلها و هو أوّل الصوت:
و فتيان صدق صباح الوجو *** ه لا يجدون لشيء ألم
من آل المغيرة لا يشهدو *** ن عند المجازر لحسم الوضم(4)
الغناء في هذه الأبيات لمالك خفيف ثقيل الثاني بالبنصر و هو الذي يقال له الماخوريّ، عن عمرو. و فيه ثاني ثقيل ينسب إلى ابن سريج و العريض و دحمان. و فيه لابن المكيّ خفيف رمل.
أخبرني عليّ بن صالح قال حدّثنا أبو هفّان عن إسحاق عن أبي عبد اللّه الزّبيريّ قال:
اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة و شعره و ظرفه و حسن حديثه، فتشوّقن إليه و تمنّينه، فقالت سكينة بنت الحسين عليهما السّلام: أنا لكنّ به. فأرسلت إليه رسولا و واعدته الصّورين، و سمّت له الليلة و الوقت، و واعدت صواحباتها، فوافاهنّ عمر على راحلته، فحدّثهنّ حتى أضاء الفجر و حان انصرافهنّ. فقال لهنّ: و اللّه إني لمحتاج إلى زيارة قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الصلاة في مسجده، و لكن لا أخلط بزيارتكنّ شيئا. ثم انصرف إلى مكة و قال:
ليت المغيريّ الذي لم أجزه *** فيما أطال تصيّدي و طلابي
كانت تردّ لنا المنى أيّامنا *** إذ لا نلام على هوى و تصابي
خبّرت ما قالت فبتّ كأنّما *** ترمي(1) الحشا بنوافذ النّشّاب(2)
أ سكين(3) ما ماء الفرات و طيبه *** منّي على ظمأ و فقد شراب(4)
بألذّ منك و إن نأيت و قلّما *** ترعى النساء أمانة الغيّاب
الغناء للهذليّ رمل بالوسطى عن الهشاميّ. و فيه للغريض خفيف ثقيل بالوسطى عن حبش. قال و قال فيها:
أحبّ لحبّك من لم يكن *** صفيّا لنفسي و لا صاحبا
و أبذل نفسي(5) لمرضاتكم *** و أعتب من جاءكم عاتبا
و أرغب في ودّ من لم أكن *** إلى ودّه قبلكم راغبا
و لو سلك الناس في جانب *** من الأرض و اعتزلت جانبا
ليمّمت طيّتها، إنّني *** أرى قربها العجب العاجبا
/فما نعجة(6) من ظباء الأرا *** ك تقرو(7) دميث(8) الرّبا عاشبا
بأحسن منها غداة الغميم(9) *** و قد(10) أبدت الخدّ و الحاجبا
غداة تقول على(11) رقبة *** لخادمها:(12) يا احبسي الراكبا
فقالت لها: فيم هذا الكلام *** و أبدت لها عابسا قاطبا(13)
ص: 147
فقالت كريم أتى زائرا *** يمرّ بكم هكذا جانبا
شريف أتى ربعنا زائرا *** فأكره رجعته خائبا(1)
] غنّى في الأوّل و الثاني و الرابع و الخامس(2) من هذه الأبيات ابن القفّاص(3) المكيّ، و لحنه رمل من رواية الهشاميّ.
و حدّثني(4) وكيع و ابن المرزبان و عمّي قالوا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا إبراهيم بن المنذر الحزاميّ قال حدّثنا محمد بن معن الغفاريّ قال حدّثني سفيان بن عيينة قال:
/بينا أنا و مسعر بن كدام مع إسماعيل بن أميّة بفناء الكعبة إذا(5) بعجوز قد صلعت علينا عوراء متكئة على عصا يصفّق أحد لحييها على الآخر، فوقفت على إسماعيل فسلّمت عليه، فردّ عليها السّلام، و ساءلها فأحفى(6)المسألة، ثم انصرفت. فقال إسماعيل: لا إله إلا اللّه! ما ذا تفعل الدنيا بأهلها! ثم أقبل علينا فقال: أ تعرفان هذه؟ قلنا: لا و اللّه، و من هي؟ قال: هذه «بغوم»(7) ابن أبي ربيعة التي يقول فيها:
حبّذا أنت يا بغوم و أسما *** ء و عيص(8) يكنّنا و خلاء
انظرا(9) كيف صارت، و ما كان بمكة امرأة أجمل منها. قال: فقال له مسعر: لا و ربّ هذه البنيّة، ما أرى أنه كان عند هذه خير قطّ. و في هذه الأبيات يقول عمر:
صرمت حبلك البغوم و صدّت *** عنك في غير ريبة أسماء
و الغواني إذا رأينك كهلا *** كان فيهنّ عن هواك التواء
حبّذا أنت يا بغوم و أسما *** ء و عيص يكنّنا و خلاء
و لقد قلت ليلة الجزل لمّا *** أخضلت ريطتي عليّ السماء(10)
ص: 148
/ليت شعري -
و هل يردّنّ ليت - *** هل لهذا عند الرّباب جزاء
كلّ وصل أمسى لديّ لأنثى *** غيرها وصلها إليها أداء
كل خلق و إن دنا لوصال *** أو نأى فهو للرّباب الفداء
فعدي نائلا و إن لم تنيلي *** إنّما(1) ينفع(2) المحب الرجاء
لمعبد في: «و لقد قلت ليلة الجزل...» و الذي بعده خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن يونس و إسحاق و دنانير، [و هو من مشهور غنائه(3)].
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني ظبية(4) مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب عن ذهيبة(5) مولاة محمد بن مصعب بن الزّبير قالت:
كنت عند أمة الواحد أو أمة المجيد(6) بنت عمر بن أبي ربيعة في الجنبذ(7) الذي في بيت سكينة بنت خالد بن مصعب أنا و أبوها عمر و جاريتان له تغنّيان، يقال لإحداهما البغوم، و الأخرى أسماء. و كانت أمة المجيد بنت عمر تحت محمد بن مصعب بن الزبير.
/قالت: فقال عمر بن أبي ربيعة و هو معهم في الجنبذ(8) هذه الأبيات. فلما انتهى إلى قوله:
و لقد قلت ليلة الجزل لمّا *** أخضلت ريطتي عليّ السماء
/خرجت البغوم ثم رجعت إليه فقالت: ما رأيت أكذب منك يا عمر! تزعم أنك بالجزل و أنت في جنبذ(8)محمد بن مصعب، و تزعم أنّ السماء أخضلت ريطتك و ليس في السماء قزعة(9)! قال: هكذا يستقيم هذا الشأن.
و أخبرني عليّ بن صالح عم أبي هفّان عن إسحاق عن المسيّبيّ و محمد بن سلاّم. أنّ عمر أنشد ابن أبي عتيق قوله:
ص: 149
حبّذا أنت يا بغوم و أسما *** ء و عيص يكنّنا و خلاء
فقال له: ما أبقيت شيئا يتمنّى يا أبا الخطّاب إلا مرجلا يسخّن لكم فيه الماء للغسل.
أخبرني ابن المرزبان قال حدّثني إسماعيل بن جعفر عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال:
حجّت أمّ محمد بنت مروان بن الحكم، فلمّا قضت نسكها أتت عمر بن أبي ربيعة و قد أخفت نفسها(1) في نسوة، فحدّثها مليّا. فلما انصرفت أتبعها عمر رسولا عرف موضعها و سأل عنها حتى أثبتها(2)، فعادت إليه بعد ذلك فأخبرها بمعرفته إيّاها.
/فقالت: نشدتك(3) اللّه أن تشهّرني بشعرك! و بعثت إليه بألف دينار، فقبلها و ابتاع بها حللا و طيبا فأهداه إليها، فردّته. فقال لها: و اللّه لئن لم تقبليه لأنهبنّه(4)، فيكون مشهورا، فقبلته و رحلت. فقال فيها:
أيّها الراكب(5) المجدّ ابتكارا *** قد قضى من تهامة الأوطارا
من يكن قلبه صحيحا سليما *** ففؤادي بالخيف أمسى معارا
ليت ذا الدهر كان حتما علينا *** كلّ يومين حجّة و اعتمارا
الغناء لابن محرز و لحنه من القدر الأوسط من الثّقيل الأوّل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق، و فيه أيضا له خفيف ثقيل بالوسطى عن ابن المكّيّ. و فيه لذكاء وجه الرّزّة(6) المعتمديّ ثقيل أوّل من جيّد الغناء و فاخر الصّنعة ليس لأحد من/طبقته و أهل صنعته مثله. و أنشد ابن أبي عتيق قول عمر هذا، فقال: اللّه أرحم بعباده أن يجعل عليهم ما سألته ليتمّ لك فسقك.
ص: 150
أخبرني ابن المرزبان قال أخبرني أحمد بن يحيى القرشيّ عن أبي الحسن الأزديّ عن جماعة من الرّواة:
أنّ عمر كان يهوى حميدة جارية ابن تفّاحة(1)، و فيها يقول:
حمّل القلب من حميدة ثقلا *** إنّ في ذاك للفؤاد لشغلا
إن فعلت الذي سألت فقولي *** حمد خيرا و أتبعي(2) القول فعلا
و صليني فأشهد(3) اللّه أنّي *** لست أصفي سواك ما عشت وصلا
الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى عن يحيى المكيّ و الهشاميّ. و فيها يقول:
يا قلب هل لك عن حميدة زاجر *** أم أنت مدّكر الحياء فصابر
فالقلب من ذكرى حميدة موجع *** و الدّمع منحدر و عظمي(4) فاتر
قد كنت أحسب أنّني قبل الذي *** فعلت على ما عند حمدة قادر
حتّى بدا لي من حميدة خلّتي(5) *** بين و كنت من الفراق أحاذر
/ [الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق(6)].
/أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف(7) قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبو مسلم المستملي(8) عن ابن أخي زرقان(9) عن أبيه قال:
أدركت مولى لعمر بن أبي ربيعة شيخا كبيرا، فقلت له: حدّثني عن عمر بحديث غريب، فقال: نعم! كنت معه ذات يوم، فاجتاز به نسوة من جواري بني أمية قد حججن، فتعرّض لهنّ و حادثهنّ و ناشدهنّ مدّة أيام حجّهنّ، ثم قالت له إحداهنّ: يا أبا الخطّاب، إنّا خارجات في غد فابعث مولاك هذا إلى منزلنا ندفع إليه تذكرة تكون عندك تذكرنا بها. فسرّ بذلك و وجّه بي إليهنّ في السّحر، فوجدتهنّ يركبن، فقلن لعجوز معهن: يا فلانة، ادفعي إلى مولى
ص: 151
أبي الخطّاب التّذكرة التي أتحفناه بها. فأخرجت إليّ صندوقا لطيفا مقفلا مختوما، فقلن: ادفعه إليه و ارتحلن.
فجئته به و أنا أظنّ أنه قد أودع طيبا أو جوهرا. ففتحه عمر فإذا هو مملوء من المضارب (و هي الكير نجات(1)، و إذا على كلّ واحد منها اسم رجل من مجّان مكّة، و فيها اثنان كبيران عظيمان، على أحدهما الحارث بن خالد و هو يومئذ أمير مكة. و على الآخر عمر بن أبي ربيعة. فضحك و قال: تماجنّ عليّ و نفذ(2) لهنّ. ثم أصلح مأدبة.
/و دعا كلّ واحد ممن له اسم في تلك المضارب. فلما أكلوا و اطمأنوا للجلوس قال: هات يا غلام تلك الوديعة، فجئته بالصندوق، ففتحه و دفع إلى الحارث الكيرنج الذي عليه اسمه. فلما أخذه و كشف عنه غطاءه فزع و قال: ما هذا أخزاك اللّه! فقال له: رويدا، اصبر حتّى ترى. ثم أخرج واحدا واحدا فدفعه إلى من عليه اسمه حتّى فرّقها فيهم ثم أخرج الذي باسمه و قال: هذا لي. فقالوا له: ويحك! ما هذا؟ فحدّثهم بالخبر فعجبوا منه، و ما زالوا يتمازحون بذلك دهرا طويلا و يضحكون منه.
قال و حدّثني هذا المولى قال: كنت مع عمر و قد أسنّ و ضعف، فخرج يوما يمشي متوكئا على يدي حتّى مرّ بعجوز جالسة، فقال لي: هذه فلانة و كانت إلفا لي، و عدل(3) إليها فسلّم عليها و جلس عندها و جعل يحادثها، ثم قال: هذه التي أقول فيها:
أبصرتها ليلة و نسوتها *** يمشين بين المقام و الحجر
بيضا حسانا نواعما(4) قطفا *** يمشين هونا كمشية البقر
قالت لترب لها تلاطفها *** لنفسدنّ الطّواف في عمر
قومي تصدّي له ليعرفنا *** ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها قد غمزته فأبى *** ثم اسبطرّت(5) تشتدّ في أثري
بل يا خليليّ عادني ذكري *** بل اعترتني الهموم بالسّهر(6)
/ - الغناء لابن سريج في السادس و الأوّل و الثاني خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيها لسنان الكاتب رمل بالوسطى عنه و عن يونس. و فيها للأبجر خفيف رمل بالوسطى عنه. و في:
ص: 152
قالت لترب لها تلاطفها
لعبد اللّه بن العباس خفيف رمل بالبنصر عن الهشاميّ، و فيه للدّلال خفيف ثقيل عنه أيضا. و لأبي سعيد مولى فائد(1) في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل/عن الهشاميّ أيضا، و من الناس من ينسب لحنه إلى سنان الكاتب و ينسب لحن سنان إليه - قال: و جلس معها يحادثها، فأطلعت رأسها إلى البيت و قالت: يا بناتي، هذا أبو الخطّاب عمر بن أبي ربيعة عندي، فإن كنتنّ تشتهين أن ترينه فتعالين. فجئن إلى مضرب(2) قد حجزن(3) به دون بابها فجعلن يثقبنه و يضعن أعينهن عليه يبصرن. فاستسقاها عمر، فقالت له: أيّ الشراب أحبّ إليك؟ قال: الماء. فأتي بإناء فيه ماء، فشرب منه، ثم ملأ فمه فمجّه عليهنّ. في(4) وجوههنّ من وراء الحاجز، فصاح الجواري و تهاربن و جعلن يضحكن. فقالت له العجوز: ويلك! لا تدع مجونك و سفهك مع هذه السنّ! فقال: لا تلوميني، فما ملكت نفسي لمّا سمعت من حركاتهن أن فعلت ما رأيت.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أحمد بن منصور بن أبي العلاء(5) الهمدانيّ(6) قال حدّثني عليّ بن طريف(7) الأسديّ قال:
/سمعت أبي يقول: بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت إذ رأى امرأة من أهل العراق فأعجبه جمالها، فمشى معها حتّى عرف موضعها، ثم أتاها فحادثها و ناشدها و ناشدته(8) و خطبها. فقالت: إنّ هذا لا يصلح هاهنا، و لكن إن جئتني إلى بلدي و خطبتني إلى أهلي تزوّجتك. فلما ارتحلوا جاء إلى صديق له من بني سهم و قال له: إنّ لي إليك حاجة أريد أن تساعدني عليها، فقال له نعم. فأخذ بيده و لم يذكر له ما هي، ثم أتى منزله فركب نجيبا له و أركبه نجيبا [آخر(9)]، و أخذ معه ما يصلحه، و سارا لا يشكّ السّهميّ في أنه يريد سفر يوم أو يومين، فما زال يحفد(10) حتّى لحق بالرّفقة، ثم سار بسيرهم يحادث المرأة طول طريقه و يسايرها و ينزل عندها إذا نزلت حتّى ورد العراق. فأقام أيّاما، ثم راسلها يتنجّزها وعدها، فأعلمته أنها كانت متزوجة ابن عمّ(11) لها و ولدت منه أولادها ثم
ص: 153
مات و أوصى بهم و بماله إليها ما لم تتزوج، و أنها تخاف فرقة أولادها و زوال النعمة، و بعثت إليه بخمسة آلاف درهم و اعتذرت، فردّها عليها و رحل إلى مكة، و قال في ذلك قصيدته التي أوّلها:
نام صحبي و لم أنم *** من خيال بنا ألمّ
/طاف بالركب موهنا *** بين خاخ(1) إلى إضم(2)
ثم نبّهت صاحبا *** طيّب الخيم(3) و الشّيم
أريحيّا مساعدا *** غير نكس و لا برم(4)
قلت يا عمرو شفّني *** لا عج الحبّ و الألم
ايت هندا فقل لها *** ليلة الخيف ذي السّلم(5)
الغناء لمالك خفيف رمل بالسّبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق و يونس. و فيه لعبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ خفيف رمل من رواية عمرو بن بانة، و ذكر حبش أنّ لحن عبد اللّه بن العباس رمل آخر عن الهشاميّ.
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثنا الحسين بن إسماعيل عن ابن عائشة عن أبيه قال:
كان جرير إذا أنشد شعر عمر بن أبي ربيعة قال: شعر تهاميّ/إذا أنجد وجد البرد، حتّى أنشد قوله:
رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت *** فيضحى و أمّا بالعشيّ فيخصر
... الأبيات. فقال: ما زال هذا يهذي حتى قال الشعر.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي عن عثمان بن إبراهيم الخاطبيّ،
ص: 154
و أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان(1) قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم عن محمد بن أبان قال أخبرني العتبيّ عن أبي زيد الزّبيريّ عن عثمان بن إبراهيم الخاطبيّ قال:
أتيت عمر بن أبي ربيعة بعد أن نسك بسنين و هو في مجلس قومه من بني مخزوم، فانتظرت حتى تفرّق القوم، ثم دنوت منه و معي صاحب لي ظريف و كان قد قال لي: تعال حتى نهيجه على ذكر الغزل، فننظر هل بقي في نفسه منه شيء. فقال له صاحبي: يا أبا الخطّاب، أكرمك اللّه! لقد أحسن العذريّ و أجاد فيما قال. فنظر عمر إليه ثم قال له: و ما ذا قال؟ قال: حيث يقول:
لو جدّ بالسّيف رأسي في مودّتها *** لمرّ يهوي سريعا نحوها راسي(2)
/قال: فارتاح عمر إلى قوله و قال: هاه! لقد أجاد و أحسن! فقلت: و للّه درّ جنادة العذريّ! فقال عمر حيث يقول ما ذا ويحك؟ فقلت: حيث يقول:
سرت لعينك سلمى بعد مغفاها *** فبتّ مستنبها(3) من بعد مسراها
و قلت أهلا و سهلا من هداك لنا *** إن كنت تمثالها أو كنت إيّاها
من حبّها أتمنّى أن يلاقيني *** من نحو بلدتها ناع فينعاها
كيما أقول فراق لا لقاء له *** و تضمر النفس يأسا ثم تسلاها
و لو تموت لراعتني و قلت ألا *** يا بؤس للموت ليت الموت أبقاها
قال: فضحك عمر ثم قال: و أبيك لقد أحسن و أجاد و ما أبقى(4)! و لقد هيّجتما عليّ ساكنا، و ذكّرتماني ما كان عنّي غائبا، و لأحدّثنّكما حديثا حلوا:
ص: 155
بينا أنا منذ أعوام جالس، إذ أتاني خالد الخرّيت، فقال لي: يا أبا الخطّاب، مرّت بي أربع نسوة قبيل(1)العشاء يردن موضع كذا و كذا لم أر مثلهن في بدو و لا حضر، فيهنّ هند بنت الحارث المرّيّة، فهل لك أن تأتيهنّ متنكّرا فتسمع من حديثهنّ و تتمتّع بالنظر إليهنّ و لا يعلمن من أنت؟ فقلت له: ويحك! و كيف لي أن أخفي نفسي؟ قال: تلبس لبسة أعرابيّ ثم تجلس على قعود [ثم ائتهنّ فسلّم عليهنّ(2)]، فلا يشعرن إلاّ بك قد هجمت(3)عليهنّ. ففعلت ما قال، و جلست على قعود، ثم أتيتهنّ فسلّمت عليهنّ ثم وقفت بقربهنّ. فسألنني أن أنشدهنّ و أحدّثهنّ، فأنشدتهنّ لكثيّر و جميل و الأحوص و نصيب و غيرهم. فقلن لي: ويحك يا أعرابيّ! ما أملحك و أظرفك! لو نزلت فتحدّثت معنا/يومنا هذا! فإذا أمسيت انصرفت في حفظ اللّه. قال: فأنخت بعيري ثم تحدّثت معهنّ و أنشدتهنّ، فسررن بي و جذلن بقربي و أعجبهنّ حديثي. قال: ثم أنهنّ تغامزن و جعل بعضهنّ يقول لبعض: كأنّا نعرف هذا الأعرابيّ! ما أشبهه بعمر بن أبي ربيعة! فقالت إحداهنّ: فهو(4) و اللّه عمر! فمدّت هند يدها فانتزعت عمامتي فألقتها عن رأسي ثم قالت لي: هيه(5) يا عمر! أتراك خدعتنا منذ اليوم! /بل نحن و اللّه خدعناك و احتلنا عليك بخالد، فأرسلناه إليك لتأتينا في أسوأ هيئة و نحن كما ترى. قال عمر: ثم أخذنا في الحديث، فقالت هند: ويحك يا عمر! اسمع منّي، لو رأيتني منذ أيام و أصبحت عند أهلي، فأدخلت رأسي في جيبي، فنظرت إلى حري فإذا هو ملء الكفّ و منية المتمنّي، فناديت يا عمراه يا عمراه! قال عمر: فصحت يا لبّيكاه يا لبّيكاه! ثلاثا و مددت في الثالثة صوتي، فضحكت. و حادثتهنّ ساعة، ثم ودّعتهنّ و انصرفت.
فذلك قولي:
عرفت مصيف الحيّ و المتربّعا(6) *** ببطن حليّات دوارس بلقعا
إلى السّفح(7) من وادي المغمّس بدّلت *** معالمه و بلا و نكباء زعزعا
لهند و أتراب لهند إذ الهوى *** جميع و إذ لم نخش أن يتصدّعا
و إذ نحن مثل الماء كان مزاجه *** كما(8) صفّق(9) الساقي الرحيق المشعشعا
و إذا لا نطيع الكاشحين(10) و لا نرى *** لواش لدينا يطلب الصّرم موضعا(11)
ص: 156
/الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ و من نسخة عمرو الثانية(1). و فيه لابن جامع و ابن عبّاد لحنان من كتاب إبراهيم. و فيها يقول - و فيه غناء -:
فلمّا تواقفنا و سلّمت أشرقت *** وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا
تبالهن بالعرفان لمّا رأينني(2) *** و قلن امرؤ باغ أكلّ و أوضعا(3)
و قرّبن أسباب الهوى لمتيّم *** يقيس ذراعا كلّما قسن إصبعا
الغناء لابن عبّاد رمل عن الهشاميّ. و فيه لابن جامع لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس. [هذه الأبيات مقرونة بالأولى، و الصنعة في جميعها مختلفة، يغنّي المغنّون بعض هذه و بعض تلك و يخلطونها، و الصنعة لمن قدّمت ذكره](4). و هي قصيدة طويلة، ذكرت منها ما فيه صنعة.
و مما قاله في هند هذه و غنّي فيه قوله:
أ لم تسأل الأطلال و المنزل الخلق *** ببرقة ذي ضال(5) فيخبر إن نطق؟
ذكرت به(6) هندا فظلت كأنّني *** أخو نشوة لاقى الحوانيت(7) فاغتبق(8)
/الغناء لعطرّد و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأوّل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لمعبد ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ. و ذكر حبش أنّ فيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى. و منها:
و أجدّ(1) الشوق وهنا *** أن رأى برقا(2) وميضا(3)
ثم بات الرّكب نوّا *** ما و لم أطعم غموضا
ذاك من هند قديما *** تركها(4) القلب مهيضا
و تبدّت ثم أبدت *** واضح اللّون نحيضا(5)
/و عذاب(6) الطّعم غرّا *** كأقاحي(7) الرّمل بيضا
الغناء لابن محرز خفيف ثقيل بالسبّابة في مجرى البنصر. و فيه لحكم هزج بالوسطى عن عمرو، و قيل: إنه يمان. و من الناس من ينسب لحن ابن محرز إلى ابن مسجح. و منها:
أربت(8) إلى هند و تربين مرّة *** لها إذ تواقفنا بفرع(9) المقطّع
[لتعريج(10) يوم أو لتعريس(11) ليلة *** علينا بجمع الشّمل قبل التّصدّع
فقلن لها لو لا ارتقاب صحابة *** لنا خلفنا عجنا و لم نتورّع]
و قالت(12) فتاة كنت أحسب أنّها *** مغفّلة(13) في مئزر لم تدرّع(14)
لهنّ - و ما شاورنها - ليس ما أرى *** بحسن جزاء للحبيب المودّع
ص: 158
فقلن لها لا شبّ(1) قرنك فافتحي *** لنا باب(2) ما يخفى من الأمر نسمع
/و هي أبيات. الغناء للغريض و لحنه من القدر الأوسط من الثّقيل الأوّل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق، و ذكر ابن المكّيّ أنه لابن سريج. و منها:
الغناء لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه ليونس خفيف ثقيل. و فيه لأبي(1) فارة هزج بالبنصر. و أوّل هذه القصيدة التي فيها ذكر هند قوله:
يا صاحبيّ قفا نستخبر الدارا *** أقوت و هاجت لنا بالنّعف(2) تذكارا
و قد أرى مرّة سربا بها حسنا *** مثل الجآذر لم يمسسن أبكارا(3)
فيهنّ هند و هند لا شبيه لها *** فيمن أقام من الأحياء أو سارا
تقول ليت أبا الخطّاب وافقنا(4) *** كي نلهو اليوم أو ننشد(5) أشعارا
فلم يرعهنّ إلاّ(6) العيس طالعة *** بالقوم(7) يحملن ركبانا و أكوارا(8)
/و فارس يحمل البازي فقلن لها *** ها هم أولاء و ما أكثرن إكثارا(9)
لما وقفنا و عنّنّا(10) ركائبنا *** بدّلن بالعرف بعد الرّجع(11) إنكارا
و منها:
ص: 160
أ لم تربع(1) على الطّلل *** و مغنى الحيّ كالخلل(2)
لهند إنّ هندا حبّ *** ها قد كان من شغلي
[فلمّا(3) أن عرفت الدا *** ر عجت لرسمها جملي
و قلت لصحبتي عوجوا *** فعاجوا هزّة الإبل]
و قالوا قف و لا تعجل *** و إن كنّا على عجل
قليل في هواك اليو *** م ما نلقى من العمل
/الغناء لابن سريج ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، و فيه [له](4) أيضا رمل عن الهشاميّ و حبش. و منها:
/
أرسلت تستحثّني *** و تفدّي و تعذل
أيّنا بات ليله(1)*** بين غصنين يوبل(2)
تحت عين، يكنّنا *** برد عصب مهلهل(3)
في هذه الأبيات خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر، ذكر إسحاق أنه لمالك، و ذكر عمرو أنه لابن محرز.
و ذكر يونس أنّ فيها لحنا لابن محرز و لحنا لمالك. و قال عمرو في نسخته الثانية: إنه لابن زرزر(4) الطّائفيّ خفيف ثقيل بالوسطى، و روت مثل ذلك دنانير عن فليح(5). و فيها لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن /إسحاق. و فيها لعبد اللّه بن موسى الهادي ثاني ثقيل من مجموعه و رواية الهشاميّ(6) و فيه(7) لحكم هزج
ص: 162
بالخنصر و البنصر عن ابن المكّيّ. و فيه للحجبيّ رمل عن الهشاميّ(1) و فيه ثقيل أوّل نسبه ابن المكّي إلى ابن محرز، و ذكر الهشاميّ أنه منحول. و فيه خفيف رمل ذكر الهشاميّ أنه لحن ابن محرز. و منها:
يا صاح هل تدري و قد جمدت(2) *** عيني بما ألقى(3) من الوجد
لمّا رأيت ديارها درست *** و تبدّلت أعلامها بعدي(4)
و ذكرت مجلسها و مجلسنا(5) *** ذات العشاء بمهبط(6) النّجد
و رسالة منها تعاتبني *** فرددت(7) معتبة على هند
الغناء ليحيى المكّيّ رمل(8) بالوسطى. و فيه لغيره ألحان أخر. و منها:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد *** و شفت أنفسنا مما تجد
و استبدّت مرّة واحدة *** إنّما العاجز من لا يستبدّ
و لقد قالت لجارات لها *** ذات يوم و تعرّت تبترد(9)
- و يروى:
زعموها سألت جاراتها -
أ كما ينعتني تبصرنني
عمر كنّ اللّه أم لا يقتصد
فتضاحكن(10) و قد قلن لها
حسن في كلّ عين من تودّ
حسدا حمّلنه من أجلها
و قديما كان في الناس الحسد
الغناء لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لحن لمالك من كتاب يونس غير
ص: 163
مجنّس. و فيه لابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن عمرو، و ذكره إسحاق في خفيف الثقيل بالخنصر في مجرى البنصر و لم ينسبه إلى أحد. و فيه ثاني ثقيل يقال/إنه لحن لمالك، و يقال إنه لمتيّم(1). و منها:
قالت ألا إنّك ذو ملّة *** يصرفك الأدنى عن الأقدم(1)
قلت لها بل أنت معتلّة *** في الوصل يا هند لكي تصرمي
الغناء لابن سريج رمل بالسّبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه لبديح(2) لحن قديم. و قيل: إن فيه رملا آخر لعمّارة مولاة عبد اللّه بن جعفر. و منها:
تصابى و ما بعض(3) التّصابي بطائل *** و عاود من هند جوى غير زائل
عشيّة قالت صدّعت غربة النّوى(4) *** فما من تلاق قد أرى دون قابل(5)
و ما أنس م الأشياء لا أنس مجلسا(6) *** لنا مرّة منها بقرن المنازل(7)
بنخلة بين النّخلتين(8) يكنّنا *** من العين عند العين(9) برد المراجل
/الغناء للغريض ثقيل(10) أوّل بالبنصر عن عمرو. و فيه للعمانيّ(11) خفيف ثقيل عن دنانير و الهشاميّ. و منها:
ص: 165
لجّ قلبي في التّصابي *** و ازدهى عنّي(1) شبابي
و دعاني لهوى هن *** د فؤاد غير نابي
/قلت لمّا فاضت العي *** نان دمعا ذا انسكاب
إن جفتني اليوم هند *** بعد ودّ و اقتراب
فسبيل الناس طرّا *** لفناء و ذهاب
الغناء لأهل مكة(2) رمل بالوسطى.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أبو عليّ الأسديّ - و هو بشر ابن موسى بن صالح - قال حدّثني أبي موسى بن صالح عن أبي بكر القرشيّ قال:
كان عمر بن أبي ربيعة جالسا بمنى في فناء مضربه و غلمانه حوله، إذ أقبلت امرأة برزة(3) عليها أثر النّعمة فسلّمت، فرد عليها عمر السّلام، فقالت له:؛ أنت عمر بن أبي ربيعة؟ /فقال لها: أنا هو، فما حاجتك؟ قالت له: حيّاك اللّه و قرّبك! هل لك في محادثة أحسن الناس وجها، و أتمّهم خلقا، و أكملهم أدبا، و أشرفهم حسبا؟ قال: ما أحبّ إليّ ذلك! قالت: على شرط. قال: قولي. قالت: تمكنني من عينيك حتى أشدّهما(4) و أقودك، حتى إذا توسّطت الموضع الذي أريد حللت الشّدّ، ثم أفعل ذلك بك عند إخراجك حتى أنتهى بك إلى مضربك.
قال: شأنك، ففعلت ذلك به. قال عمر: فلمّا انتهت بي إلى المضرب الذي أرادت كشفت عن وجهي، فإذا أنا بامرأة على كرسيّ لم أر مثلها قطّ جمالا و كمالا، فسلّمت و جلست. فقالت: أ أنت عمر بن أبي ربيعة؟ قلت: أنا عمر. قالت: أنت الفاضح للحرائر؟ قلت: و ما ذاك جعلني اللّه فداءك؟ قالت: أ لست القائل:
فخرجت خوف(1)
يمينها فتبسّمت *** فعلمت أنّ يمينها لم تحرج(2)
فتناولت رأسي لتعرف مسّه *** بمخضّب الأطراف غير مشنّج(3)
فلثمت(4) فاها آخذا بقرونها *** شرب(5) النّزيف(6) ببرد ماء الحشرج
/ - الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالبنصر عن يونس و عمرو -.
ثم قالت: قم فاخرج عنّي، ثم قامت من مجلسها. و جاءت المرأة فشدّت عينيّ، ثم أخرجتني حتى انتهت بي إلى مضربي، و انصرفت و تركتني. فحللت عينيّ و قد دخلني من الكآبة و الحزن ما اللّه به أعلم. و بتّ ليلتي، فلما أصبحت إذا أنا بها، فقالت: هل لك في العود؟ فقلت: شأنك، ففعلت بي مثل فعلها بالأمس، حتى انتهت بي إلى الموضع. فلما دخلت إذا بتلك الفتاة على كرسيّ. فقالت(7): إيه يا فضّاح الحرائر! قلت: بما ذا جعلني اللّه فداءك؟ قالت: بقولك:
لي: لو لا و شك الرّحيل، و خوف الفوت، و محبّتي لمناجاتك و الاستكثار من محادثتك، لأقصيتك، هات الآن كلّمني و حدّثني و أنشدني.
/فكلّمت آدب الناس و أعلمهم بكلّ شيء. ثم نهضت و أبطأت العجوز و خلا لي البيت، فأخذت انظر، فإذا أنا بتور(1) فيه خلوق(2)، فأدخلت يدي فيه ثم خبأتها في ردني(3). و جاءت تلك العجوز فشدّت عينيّ و نهضت بي تقودني، حتى إذا صرت على باب المضرب أخرجت يدي فضربت بها على المضرب، ثم صرت إلى مضربي، فدعوت غلماني فقلت: أيّكم يقفني على باب مضرب عليه خلوق كأنه أثر كفّ فهو حرّ و له خمسمائة درهم(4).
فلم ألبث أن جاء بعضهم فقال: قم. فنهضت معه، /فإذا أنا بالكفّ طريّة، و إذا المضرب مضرب فاطمة بنت عبد الملك بن مروان. فأخذت في أهبة الرّحيل، فلمّا نفرت نفرت معها، فبصرت في طريقها بقباب و مضرب و هيئة جميلة، فسألت عن ذلك، فقيل لها: هذا عمر بن أبي ربيعة، فساءها أمره و قالت للعجوز التي كانت ترسلها إليه: قولي له نشدتك اللّه و الرّحم أن تصحبني(5)، ويحك! ما شأنك و ما الذي تريد؟ انصرف و لا تفضحني و تشيط(6) بدمك(7). فسارت العجوز إليه فأدّت إليه ما قالت لها فاطمة. فقال: لست بمنصرف أو توجّه إليّ بقميصها الذي يلي/جلدها، فأخبرتها ففعلت وجّهت إليه بقميص من ثيابها، فزاده ذلك شغفا. و لم يزل يتبعهم لا يخالطهم(8)، حتى إذا صاروا على أميال من دمشق انصرف و قال في ذلك:
ضاق الغداة بحاجتي صدري *** و يئست بعد تقارب الأمر
و ذكرت فاطمة التي علّقتها(9) *** عرضا(10) فيا لحوادث(11) الدّهر
و في هذه القصيدة مما يغنّى فيه قوله:
ص: 168
ممكورة(1) ردع(2) العبير بها *** جمّ(3) العظام لطيفة الخصر
و كأنّ فاها عند رقدتها(4) *** تجري عليه سلافة الخمر
الغناء لإبراهيم بن المهديّ ثاني ثقيل من جامعه. و فيه لمتيّم رمل من جامعها أيضا. و تمام الأبيات و ليست فيه صنعة:
[فسبت(5) فؤادي إذ عرضت لها *** يوم الرّحيل بساحة القصر
بمزيّن ودع العبير به *** حسن التّرائب(6) واضح النّحر]
/و بجيد(7) آدم(8) شادن(9) خرق(10) *** يرعى الرّياض ببلدة قفر
لمّا رأيت مطيّها حزقا(11) *** خفق الفؤاد و كنت ذا صبر
و تبادرت(12) عيناي بعدهم *** و انهلّ دمعهما على الصّدر
و لقد عصيت ذوي القرابة(13) فيكم *** طرّا و أهل الودّ و الصّهر
حتى لقد قالوا و ما كذبوا *** أ جننت أم بك داخل السّحر
أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني إسحاق عن(14) محمد بن أبان قال حدّثني الوليد بن هشام القحذميّ عن أبي معاذ القرشيّ قال:
ص: 169
لمّا قدمت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان مكة جعل عمر بن أبي ربيعة يدور حولها و يقول فيها الشعر و لا يذكرها باسمها فرقا من عبد الملك بن مروان و من الحجّاج، لأنه كان كتب إليه يتوعّده إن ذكرها أو عرّض باسمها. فلما قضت حجّها و ارتحلت أنشأ يقول:
كدت يوم الرّحيل أقضي حياتي *** ليتني متّ قبل يوم الرّحيل
لا أطيق الكلام من شدّة الخو *** ف و دمعي يسيل كلّ مسيل
/ذرفت عينها و فاضت دموعي *** و كلانا يلقى(1) بلبّ أصيل
/لو خلت خلّتي أصبت نوالا *** أو حديثا يشفي من التّنويل(2)
و لظلّ الخلخال فوق الحشايا *** مثل أثناء(3) حيّة مقتول
فلقد قالت الحبيبة لو لا *** كثرة الناس جدت بالتّقبيل
غنّى فيه ابن محرز و لحنه ثقيل أوّل من أصوات قليلة الأشباه عن إسحاق و فيه لعبادل خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو، و يقال إنه للهذليّ(4). و فيه لعبيد اللّه بن أبي غسّان ثاني ثقيل عن الهشاميّ.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني أبو عليّ الحسن(5) بن الصّبّاح عن محمد بن حبيب أنه أخبره: أن عمر بن أبي ربيعة قال في فاطمة بنت عبد الملك بن مروان:
و طرقت الحيّ مكتتما(1) *** و معي عضب(2) به أثر(3)
و أخ لم أخش نبوته *** بنواحي(4) أمرهم خبر(5)
فإذا ريم على فرش *** في حجال(6) الخزّ مختدر(7)
حوله الأحراس ترقبه *** نوّم من طول ما سهروا
شبه(8) القتلى و ما قتلوا *** ذاك إلاّ أنهم سمروا
فدعت بالويل، ثم دعت *** حرّة من شأنها الخفر(9)
ثم قالت للّتي معها *** ويح نفسي قد أتى عمر
ما له قد جاء يطرقنا *** و يرى الأعداء قد حضروا
لشقائي كان علّقنا *** و لحيني ساقه القدر
/قلت عرضي(10) دون عرضكم *** و لمن ناواكم الحجر(11)
هذا البيت الأخير مما فيه غناء مع:
و طرقت الحيّ مكتتما
للغريض و في(12): يا خليلي شفّني الذّكر و في: قلت عرضي دون عرضكم و في: ثمّ قالت للتي معها
ص: 171
و في: ماله قد جاء يطرقنا [ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو(1)] و في: ضربوا حمر القباب لها و ما بعده أربعة متوالية خفيف رمل بالوسطى للهذليّ و في: «و طرقت» و بعده: «فإذا ريم» و بعده: «حوله الأحراس» و البيتين اللذين بعده لابن سريج خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيها بعينها ثقيل أوّل يقال إنه للأبجر، و ينسب إلى غيره عن الهشاميّ.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال أخبرني عبد الملك بن عبد العزيز عن رجل من قريش قال:
/بينا عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت، إذ رأى عائشة بنت طلحة بن عبيد اللّه، و كانت من أجمل أهل دهرها، و هي تريد الرّكن تستلمه، فبهت لمّا رآها و رأته، و علمت أنها قد وقعت في نفسه، فبعثت إليه بجارية لها و قالت: قولي له اتّق اللّه/و لا تقل هجرا، فإنّ هذا مقام لا بدّ فيه مما رأيت. فقال للجارية: أقرئيها السّلام و قولي لها: ابن عمّك لا يقول إلا خيرا(2). و قال فيها:
لعائشة ابنة التّيميّ عندي *** حمى في القلب ما يرعى حماها(3)
يذكّرني ابنة التّيميّ ظبي *** يرود بروضة سهل رباها
فقلت له - و كاد يراع قلبي - *** فلم أر قطّ كاليوم اشتباها
سوى حمش(4) بساقك مستبين *** و أن شواك(5) لم يشبه شواها
و أنّك عاطل عار و ليست *** بعارية و لا عطل يداها(6)
و أنّك غير أفرغ(7) و هي تدلي *** على المتنين أسحم(8) قد كساها
و لو قعدت و لم تكلف بودّ *** سوى ما قد كلفت به كفاها
أظلّ إذا أكلّمها كأنّي *** أكلّم حية غلبت رقاها
ص: 172
تبيت إليّ بعد النوم تسري *** و قد أمسيت لا أخشى سراها
/الغناء في البيتين الأوّلين من هذه الأبيات لأبي فارة(1) ثقيل أوّل. و فيهما(2) لعبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ(3) خفيف ثقيل جميعا عن الهشاميّ. و ذكر إسحاق أنّ هذا الصوت مما ينسب إلى معبد، و هو يشبه غناءه إلا أنه لم يروه عن ثبت(4) و لم يذكر طريقته. قال: و قال فيها أشعارا كثيرة، فبلغ ذلك فتيان بني تيم، أبلغهم إيّاه فتى منهم و قال لهم: يا بني تيم بن مرّة، هاللّه ليقذفنّ بنو مخزوم بناتنا بالعظائم و تغفلون! فمشى ولد أبي بكر و ولد طلحة بن عبيد اللّه إلى عمر بن أبي ربيعة فأعلموه بذلك و أخبروه بما بلغهم. فقال لهم: و اللّه لا أذكرها في شعر أبدا. ثم قال بعد ذلك فيها - و كنى عن اسمها - قصيدته التي أوّلها:
يا أمّ طلحة إنّ البين قد أفدا(5) *** قلّ الثّواء لئن كان الرّحيل غدا
أمسى العراقيّ لا يدري إذا برزت *** من ذا تطوّف بالأركان أو سجدا
- الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو و يونس - قال و لم يزل عمر ينسب بعائشة أيّام الحج و يطوف حولها و يتعرض لها و هي تكره أن يرى وجهها، حتى وافقها و هي ترمي الجمار سافرة، فنظر إليها فقالت: أما و اللّه لقد كنت لهذا منك كارهة يا فاسق! فقال:
إنّي و أوّل ما كلفت بذكرها(6) *** عجب و هل في الحبّ(7) من متعجّب
نعت النساء فقلت لست بمبصر *** شبها لها أبدا و لا بمقرّب
فمكثن حينا ثم قلن توجّهت *** للحجّ، موعدها لقاء الأخشب(8)
أقبلت انظر ما زعمن و قلن لي *** و القلب بين مصدّق و مكذّب
فلقيتها تمشي تهادى موهنا(9) *** ترمي الجمار عشيّة في موكب
ص: 173
/
غرّاء يعشي الناظرين بياضها *** حوراء في غلواء(1) عيش معجب
إنّ الّتي من أرضها و سمائها *** جلبت لحينك ليتها لم تجلب
الغناء لمعبد في الأوّل و الثاني و الرابع و السابع ثقيل أوّل بالوسطى(2) عن عمرو. و فيها للغريض خفيف ثقيل(3) عن الهشاميّ، يبدأ فيه بالثالث.
أخبرني عليّ بن صالح قال حدّثنا أبو هفّان عن إسحاق قال أخبرني مصعب الزّبيريّ: أن عمر بن أبي ربيعة لقي عائشة بنت طلحة بمكة و هي تسير على بغلة لها، فقال لها: قفي حتى أسمعك ما قلت فيك. قالت: أو قد قلت(4) يا فاسق؟ قال: نعم! فوقفت فأنشدها:
يا ربّة البغلة الشّهباء هل لك في *** أن تنشري ميّتا لا ترهقي(5) حرجا
- [و يروى هل لكم *** في عاشق دنف(6)] -
قالت بدائك مت أو عش تعالجه *** فما نرى لك فيما عندنا فرجا
قد كنت حمّلتنا غيظا نعالجه *** فإن تقدنا(7) فقد عنّيتنا حججا
حتّى لو اسطيع مما قد فعلت بنا *** أكلت لحمك من غيظ و ما نضجا
- الغناء لابن سريج ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لابن سريج ثلاثة ألحان ذكرها إسحاق و لم يجنّس منها إلا واحدا، و ذكر الهشاميّ أنّ أحدها خفيف رمل بالوسطى، [و ذكر عمرو(8) أنّ الثالث هزج بالوسطى]. و لإسحاق فيها هزج من مجموع صنعته - فقالت: لا و ربّ هذه البنيّة! ما عنّيتنا طرفة عين قطّ. ثم قالت لبغلتها: عدس(9)، و سارت. و تمام هذه الأبيات:
ص: 174
/
فقلت لا و الذي حجّ الحجيج له *** ما محّ حبّك من قلبي و لا نهجا(1)
و لا رأى القلب من شيء يسرّ به *** مذبان منزلكم(2) منّا و لا ثلجا
ضنّت بنائلها عنه فقد تركت *** في غير ذنب أبا الخطّاب مختلجا(3)
قال: فلم تزل عائشة تداريه و ترفق به خوفا من أن يتعرّض لها حتى قضت حجّها و انصرفت إلى المدينة. فقال في ذلك:
إنّ من تهوى مع الفجر ظعن *** للهوى و القلب متباع الوطن
بانت الشمس و كانت كلّما *** ذكرت للقلب عاودت الدّدن(4)
يا أبا الحارث(5) قلبي طائر(6) *** فأتمر أمر رشيد مؤتمن
نظرت عيني إليها نظرة *** تركت قلبي لديها مرتهن
ليس حبّ فوق ما أحببتها *** غير أن أقتل نفسي أو أجنّ
فيها ثاني ثقيل بالوسطى نسبه عمرو بن بانة إلى ابن سريج، و نسبه ابن المكّي إلى الغريض. و فيها رمل لأهل مكة.
و مما يغنّي فيه من أشعاره في عائشة بنت طلحة قوله في قصيدته التي أوّلها:
الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق.
أخبرني الحسن بن علىّ الخفّاف و محمد بن خلف قالا حدّثنا محمد بن زكريّا الغلابيّ قال حدّثني محمد بن عبد الرحمن التّيميّ عن هشام بن سليمان بن(1) عكرمة بن خالد المخزوميّ قال:
كان عمر بن أبي ربيعة يهوى كلثم بنت سعد(2) المخزوميّة، فأرسل إليها رسولا(3) فضربتها و حلقتها(4)و أحلفتها ألاّ تعاود، ثم أعادها ثانية ففعلت بها مثل ذلك، فتحاماها رسله. فابتاع أمة سوداء لطيفة رقيقة و أتى بها منزله، فأحسن إليها و كساها و آنسها و عرّفها خبره و قال لها: إن أوصلت لي رقعة إلى كلثم فقرأتها فأنت حرّة و لك معيشتك ما بقيت. فقالت اكتب لي مكاتبة(5) و اكتب حاجتك في آخرها، ففعل ذلك. فأخذتها و مضت بها إلى باب كلثم فاستأذنت، فخرجت إليها أمة لها فسألتها عن أمرها؛ فقالت: مكاتبة لبعض أهل مولاتك جئت أستعينها في مكاتبتي، و حادثتها/و ناشدتها حتى ملأت قلبها؛ فدخلت إلى كلثم و قالت: إنّ بالباب مكاتبة لم أر قطّ أجمل منها و لا أكمل و لا آدب. فقالت: ائذني لها، فدخلت. فقالت: من كاتبك؟ قالت: عمر بن أبي ربيعة الفاسق! فاقرئي مكاتبتي. فمدّت يدها لتأخذها. فقالت لها: لي عليك عهد اللّه أن تقرئيها؛ فإن كان منك إليّ شيء مما أحبّه و إلاّ لم يلحقني منك مكروه؛ فعاهدتها(6) و فطنت. و أعطتها الكتاب، فإذا أوّله:
من عاشق صبّ يسرّ الهوى *** قد شفّه الوجد إلى كلثم
رأتك عيني فدعاني الهوى *** إليك للحين و لم أعلم
قتلتنا، يا حبّذا أنتم، *** في غير ما جرم و لا مأثم
و اللّه قد أنزل في وحيه *** مبيّنا في آية المحكم
من يقتل النفس كذا ظالما *** و لم يقدها نفسه يظلم
و أنت ثأري فتلافى دمي *** ثم اجعليه نعمة تنعمي
و حكّمي عدلا يكن بيننا *** أو أنت فيما بيننا فاحكمي
و جالسيني مجلسا واحدا *** من غير ما عار و لا محرم(7)
و خبّريني ما الذي عندكم *** باللّه في قتل امرئ مسلم
قال: فلمّا قرأت الشعر قالت لها: إنّه خدّاع ملق، و ليس لما شكاه أصل. قالت: يا مولاتي! فما عليك من
ص: 176
امتحانه؟ قالت: قد أذنت له، و ما زال حتى ظفر ببغيته؛ فقولي له: إذا كان المساء فليجلس في موضع كذا و كذا حتى يأتيه رسولي. فانصرفت الجارية فأخبرته؛ /فتأهّب لها. فلمّا جاءه رسولها مضى معه حتّى/دخل إليها و قد تهيّأت أجمل هيئة، و زيّنت نفسها و مجلسها و جلست له من وراء ستر، فسلّم و جلس. فتركته حتى سكن، ثم قالت له: أخبرني عنك يا فاسق! أ لست القائل:
هلاّ استحيت(1) فترحمي صبّا *** صديان(2) لم تدعي له قلبا
جشم الزيارة في مودّتكم *** و أراد ألاّ ترهقي ذنبا(3)
و رجا مصالحة فكان لكم(4) *** سلما و كنت ترينه حربا
يا أيّها المعطي(5) مودّته *** من لا يراك مساميا خطبا(6)
لا تجعلن أحدا عليك إذا *** أحببته و هويته ربّا
وصل الحبيب إذا شغفت(7) به *** و اطو الزيارة دونه غبّا
فلذاك أحسن(8) من مواظبة *** ليست تزيدك عنده قربا
لا بل يملّك عند دعوته *** فيقول هاه(9) و طالما لبّى
ص: 177
/فقال لها: جعلت فداك! إنّ القلب إذا هوي نطق اللسان بما يهوى. فمكث عندها شهرا لا يدري أهله أين هو. ثم استأذنها في الخروج. فقالت له: بعد أن فضحتني! لا و اللّه لا تخرج إلا بعد أن تتزوّجني. ففعل و تزوّجها؛ فولدت منه ابنين أحدهما جوان؛ و ماتت عنده.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد الجبّار بن سعيد(1) قال حدّثني إبراهيم بن يعقوب بن أبي عبد اللّه عن أبيه عن جدّه:
أنّ عمر رأى لبابة بنت عبد اللّه بن العباس امرأة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان تطوف بالبيت، فرأى أحسن خلق اللّه، فكاد عقله يذهب، فسأل عنها فأخبر بنسبها؛ فنسب بها و قال فيها:
ودّع لبابة قبل أن تترحّلا *** و اسأل فإنّ قلاله(2) أن تسألا
البث بعمرك ساعة و تأنّها *** فلعلّ ما بخلت به أن يبذلا
قال ائتمر(3) ما شئت غير مخالف *** فيما هويت فإنّنا لن نعجلا
لسنا نبالي حين تقضي(4) حاجة *** ما بات أو ظلّ المطيّ معقّلا
حتى إذا ما اللّيل جنّ ظلامه *** و رقبت غفلة كاشح أن يمحلا(5)
/خرجت تأطّر(6) في الثياب كأنّها *** أيم(7) يسيب على كثيب أهيلا
رحّبت حين رأيتها فتبسّمت(8) *** لتحيّتي لمّا رأتني مقبلا
وجلا القناع سحابة مشهورة *** غرّاء تعشي الطّرف أن يتأمّلا
فلبثت أرقيها بما لو عاقل(9) *** يرقى به ما استطاع ألاّ ينزلا
ص: 178
غنّى في هذه الأبيات معبد خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، ابتداؤه نشيد. و فيها لابن سريج ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها عن إسحاق أيضا. و فيها لابن سريج في الأوّل و الرابع من الأبيات رمل عن ابن المكيّ، و لأبي دلف(1) القاسم بن عيسى في هذين/البيتين خفيف ثقيل بالسبابة و البنصر، و ابتداؤه نشيد من رواية ابن المكيّ. و فيه لمحمد بن الحسن بن مصعب هزج.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: لمّا حجّ الغمر بن يزيد بن عبد الملك دخل إليه معبد فغنّاه:
ودّع لبابة قبل أن تترحّلا
فلم يزل يردّده عليه، ثم أخرجه معه لمّا رحل عن المدينة، فغنّاه في المنزل به حتى أراد الرّحيل، فحمله على بغلة له و ذهب غلام له يتبعه؛ فقال: إلى أين؟ فقال: أمضي/معه حتى أجيء بالبغلة. فقال: هيهات! ارجع يا بنيّ، ذهبت و اللّه لبابة ببغلة مولاك. و قد روي هذا الخبر لغير الغمر بن يزيد.
و هذه الأبيات التي فيها الغناء المختار و هو:
تشكّى الكميت الجري لمّا جهدته
يقولها عمر بن أبي ربيعة في الثّريّا بنت عليّ بن عبد اللّه بن الحارث بن أميّة الأصغر بن عبد شمس بن عبد مناف، و هم الذين يقال لهم العبلات؛ سمّوا بذلك لجدّة لهم يقال لها عبلة بنت عبيد بن خالد بن خازل(2) بن قيس بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، و هي من بطن من تميم يقال لهم البراجم، غير براجم بني أسد.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّه قال:
كانت عبلة بنت عبيد بن خالد بن خازل بن قيس بن حنظلة، عند رجل من بني جشم بن معاوية، فبعثها بأنحاء(3) سمن تبيعها له بعكاظ، فباعت السمن و راحلتين كان عليهما، و شربت بثمنها الخمر. فلما نفذ ثمنها(4)رهنت ابن أخيه و هربت، فطلّقها. و قالت في شربها الخمر:
شربت براحلتي محجن *** فيا ويلتي، محجن قاتلي
و بابن أخيه على لذّة *** و لم أحتفل عذل(5) العاذل
ص: 179
/قال: فتزوّجها عبد شمس بن عبد مناف؛ فولدت له أميّة الأصغر و عبد أميّة(1) و نوفلا، و هم العبلات.
و قد ذكر الزّبير بن بكّار عن عمّه: أنّ الثّريّا بنت عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه بن الحارث بن أمية الأصغر، و أنها أخت محمد بن عبد اللّه المعروف بأبي جراب العبليّ الذي قتله داود بن عليّ؛ و هو الذي يقول فيه ابن زياد المكّيّ:
ثلاث حوائج(2) و لهنّ جئنا *** فقم فيهنّ يا بن أبي جراب
فإنّك ماجد في بيت مجد *** بقيّة معشر تحت التراب
قال: و له يقول ابن زياد المكّي أيضا:
إذا متّ لم توصل بعرف قرابة *** و لم يبق في الدنيا رجاء لسائل
قال الزبير: و هذا أشبه من أن تكون بنت عبد اللّه بن الحارث، و عبد اللّه إنما أدرك سلطان معاوية و هو شيخ كبير، و ورث بقعدده(3) في النّسب دار عبد شمس/بن عبد مناف، و حجّ معاوية في خلافته، فجعل(4) ينظر إلى الدار، فخرج إليه عبد اللّه بن الحارث بمحجن(5) ليضربه به و قال: لا أشبع اللّه بطنك! أ ما تكفيك الخلافة حتى تطلب هذه الدار! فخرج معاوية يضحك.
قال مؤلّف هذا الكتاب: و هذا غلط من الزّبير عندي، و الثّريّا أن تكون بنت عبد اللّه بن الحارث أشبه من أن تكون أخت الذي قتله داود بن عليّ؛ لأنها ربّت الغريض/المغنّي و علّمته النّوح بالمراثي على من قتله يزيد بن معاوية من أهلها يوم الحرّة. و إذا كانت قد ربّت الغريض حتى كبر و تعلّم النّوح على قتلى الحرّة [و هو رجل](6)- و هي وقعة كانت بعقب موت معاوية - فقد كانت في حياة معاوية امرأة كبيرة، و بين ذلك و بين من قتله داود بن عليّ من بني أميّة نحو ثمانين سنة، و قد شبّب بها عمر بن أبي ربيعة في حياة معاوية، و أنشد عبد اللّه بن عباس شعره فيها، فكيف تكون أخت الذي قتله داود بن عليّ و قد أدركت عبد اللّه بن عباس و هي امرأة كبيرة! و قد اعترف الزّبير أيضا في خبره بأن عبد اللّه بن الحارث أدرك خلافة معاوية و هو شيخ كبير؛ فقول من قال: إنها بنته، أصوب من
ص: 180
قول من قرنها بمن قتله داود بن عليّ. و هذا القول الذي قلته قول ابن الكلبيّ و أبي اليقظان، أخبرني به الحسن بن عليّ عن أحمد بن الحارث عن المدائنيّ عن أبي اليقظان، قال و حدّثني به جماعة من أهل العلم بنسب قريش.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني مسلمة بن إبراهيم بن هشام المخزوميّ عن أيّوب بن مسلمة، أنه أخبره أنّ عمر بن أبي ربيعة/كان مسهبا(1) بالثّريّا بنت عليّ بن عبد اللّه بن الحارث بن أميّة الأصغر، و كانت عرضة(2) ذلك جمالا و تماما، و كانت تصيف(3) بالطّائف، و كان عمر يغدو عليها كلّ غداة إذا كانت بالطائف على فرسه، فيسأل(4) الرّكبان الذين يحملون الفاكهة من الطائف عن الأخبار قبلهم. فلقي يوما بعضهم فسأله عن أخبارهم؛ فقال: ما استطرفنا(5) خبرا؛ إلا أنّني سمعت عند رحيلنا صوتا و صياحا عاليا على امرأة من قريش اسمها اسم نجم في السماء و قد سقط(6) عني اسمه. فقال عمر: الثّريّا؟ قال نعم. و قد كان بلغ عمر قبل ذلك أنها عليلة، فوجّه فرسه على وجهه إلى الطائف يركضه ملء(7) فروجه و سلك طريق كداء(8) - و هي أخشن(9)الطّرق و أقربها - حتى انتهى إلى الثّريّا و قد توقّعته و هي تتشوّف له و تشرف، فوجدها سليمة عميمة(10) و معها أختاها رضيّا(11) و أمّ عثمان(12)، فأخبرها الخبر؛ فضحكت و قالت: أنا و اللّه أمرتهم لأختبر مالي عندك. فقال عمر في ذلك هذا الشعر:
/
تشكّى الكميت الجري لمّا جهدته *** و بيّن لو يسطيع أن يتكلّما
فقلت له إن ألق للعين قرّة *** فهان عليّ(13) أن تكلّ و تسأما
لذلك أدنى دون خيلي رباطه *** و أوصي به ألاّ يهان و يكرما
عدمت إذا و فري و فارقت مهجتي *** لئن لم أقل قرنا(14) إن اللّه سلّما
قال مسلمة بن إبراهيم: قلت لأيّوب بن مسلمة: أ كانت الثريّا كما يصف عمر بن أبي ربيعة؟ فقال: و فوق
ص: 181
الصّفة، كانت و اللّه كما قال عبد اللّه بن قيس:
حبّذا الحجّ و الثّريّا و من بال *** خيف من أجلها و ملقى الرّحال
يا سليمان إن تلاق الثريّا *** تلق عيش الخلود قبل الهلال(1)
درّة من عقائل(2) البحر بكر *** لم تشنها(3) مثاقب اللألّ(4)
/تعقد المئزر السّخام(5) من الخ(6) *** زّ على حقو بادن(7) مكسال
/قال إسحاق في خبره عمّن أسند إليه أخبار عمر بن أبي ربيعة، و ذكر مثله الزّبير بن بكّار فيما حدّثنا عنه الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني مؤمن(8) بن عمر بن أفلح مولى فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم قال حدّثني بلال مولى ابن أبي عتيق:
أنّ الحارث بن عبد اللّه بن عيّاش بن أبي ربيعة قدم للحج، فأتاه ابن أبي عتيق فسلّم(9) عليه و أنا معه.
فلمّا قضى سلامه و مساءلته عن حجّه و سفره، قال له: كيف تركت أبا الخطّاب عمر بن أبي ربيعة؟ قال: تركته في بلهنية(10) من العيش. قال: و أنّى ذلك؟ قال. حجّت رملة بنت عبد اللّه بن خلف الخزاعيّة فقال فيها:
ص: 182
أصبح القلب في الحبال(1) رهينا *** مقصدا يوم فارق الظّاعنينا
/قلت من أنتم فصدّت و قالت *** أ مبدّ(2) سؤالك العالمينا(3)
نحن من ساكني العراق و كنّا *** قبله قاطنين مكة حينا(4)
قد صدقناك إذ سألت فمن أن *** ت عسى أن يجرّ شأن شئونا
و نرى أننا عرفناك بالنّع *** ت بظنّ و ما قتلنا يقينا
بسواد الثّنيّتين و نعت *** قد نراه(5) لناظر مستبينا
- غنّى معبد في البيتين الأوّلين خفيف ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها عن إسحاق. و غنّى في الثاني و ما بعده ابن سريج خفيف ثقيل أوّل بالسّبّابة في مجرى البنصر عنه أيضا. و ذكر حبش أن فيه للغريض أيضا لحنا من الثقيل الأوّل بالبنصر - قال: فبلغ ذلك الثّريّا، بلّغتها إيّاه أمّ نوفل، و كانت غضبى عليه، و قد كان انتشر خبره عن الثّريا حتى بلغها من جهة أمّ نوفل و أنشدتها قوله:
/
أصبح القلب في الحبال رهينا *** مقصدا يوم فارق الظاعنينا
فقالت: إنه لوقاح(6) صنع(7) بلسانه، و لئن سلمت له لأردّنّ من شأوه(8)، و لأثنينّ من عنانه، و لأعرّفنّه نفسه. فلمّا بلغت إلى قوله:
قلت من أنتم فصدّت و قالت *** أ مبدّ سؤالك العالمينا
ص: 183
فقالت: إنه لسأّل ملحّ(1)، [قبحا(2) له!] و لقد أجابته إن وفت. فلمّا بلغت إلى قوله:
نحن من ساكني العراق و كنّا *** قبله قاطنين مكة حينا
قالت: غمزته(3) الجهمة(4). فلمّا بلغت إلى قوله:
قد صدقناك إذ سألت فمن أن *** ت عسى أن يجرّ شأن شئونا
قالت: رمته الورهاء(5) بآخر ما عندها في مقام واحد. و هجرت عمر.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب: أنّ رملة بنت عبد اللّه بن خلف حجّت، فتعرض لها عمر بن أبي ربيعة فقال فيها:
أصبح القلب في الحبال رهينا *** مقصدا يوم فارق الظاعنينا
/و قال في هذه القصيدة:
/
فرأت حرصي الفتاة فقالت *** خبّريه، من أجل من تكتمينا(6)؟
نحن من ساكني العراق و كنّا *** قبله قاطنين مكة حينا
قد صدقناك إذ سألت فمن أن *** ت عسى أن يجرّ شأن شئونا
قال الزّبير: و رملة هذه أمّ طلحة بن عمر بن عبيد اللّه بن معمر التّيميّ، و هي أخت طلحة الطّلحات بن عبد اللّه بن خلف الخزاعيّ.
قم تأمّل فأنت أبصر منّي *** هل ترى بالغميم(1) من أجمال
قاضيات لبانة من مناخ *** و طواف و موقف بالجبال(2)
/قلن عسفان(3) ثم رحن سراعا *** هابطات عشيّة من غزال(4)
واردات الكديد(5) مجترعات(6) *** جزن وادي الحجون(7) بالأثقال
قصد لفت(8) و هنّ متّسقات(9) *** كالعدوليّ(10) لاحقات(11) التّوالي
طالعات الغميس(12) من عبّود(13) *** سالكات الخويّ(14) من أملال
فسقى اللّه منتوى(15) أمّ عمرو *** حيث أمّت(16) بها صدور الرّحال
حبّذا هنّ من لبانة قلبي *** و جديد الشّباب من سربالي
ربّ يوم أتيتهنّ(17) جميعا *** عند بيضاء رخصة(18) مكسال
غير أنّي امرؤ تعمّمت حلما *** يكره الجهل(19) و الصّبا(20) أمثالي
/غنّى ابن سريج في الثلاثة الأبيات الأول خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو و يونس. و ذكر الهشاميّ أنّ فيها
ص: 185
للحجبيّ رملا بالبنصر.
قالوا: فلمّا هجرت الثّريّا عمر قال في ذلك:
من رسولي إلى الثّريّا فإنّي(1) *** ضقت ذرعا(2) بهجرها و الكتاب(3)
فبلغ ابن أبي عتيق قوله، فمضى حتى أصلح بينهما. و هذه الأبيات تذكر مع ما فيها من الغناء و مع خبر إصلاح ابن أبي عتيق بينهما بعد انقضاء خبر رملة التي ذكرها عمر في شعره.
قال مصعب بن عبد اللّه في خبره: و كانت رملة جهمة(4) الوجه، عظيمة الأنف، حسنة الجسم، و تزوّجها عمر بن عبيد اللّه بن معمر، و تزوّج عائشة بنت طلحة بن عبيد اللّه و جمع بينهما، فقال يوما لعائشة: فعلت في محاربة الخوارج مع أبي فديك(5) كذا، و صنعت كذا، يذكر لها شجاعته و إقدامه. فقالت له عائشة: أنا أعلم أنّك /أشجع الناس، و أعرف لك يوما هو أعظم من هذا اليوم الذي ذكرته. قال: و ما هو؟ قالت: يوم اجتليت(6) رملة و أقدمت على وجهها و أنفها.
قال مصعب و حدّثني يعقوب بن إسحاق قال: لمّا بلغ الثّريا قول عمر بن أبي ربيعة [في رملة(7)]:
/
وجلا بردها و قد حسرته *** نور بدر يضيء للناظرينا
قالت: أفّ له ما أكذبه! أ و ترتفع(8) حسناء بصفته لها بعد رملة! و ذكر ابن أبي حسّان عن الرّياشيّ عن العبّاس بن بكّار عن ابن دأب: أن هذا الشعر قاله عمر في امرأة من بني جمح كان أبوها من أهل مكة، فولدت له جارية لم يولد مثلها بالحجاز حسنا. فقال أبوها: كأنّي بها و قد
ص: 186
كبرت، فشبّب بها عمر بن أبي ربيعة و فضحها و نوّه باسمها كما فعل بنساء قريش، و اللّه لا أقمت بمكة. فباع ضيعة له بالطائف و مكة و رحل بابنته إلى البصرة، فأقام بها و ابتاع هناك ضيعة، و نشأت ابنته من أجمل نساء زمانها(1).
و مات أبوها فلم تر أحدا من بني جمح حضر جنازته، و لا وجدت لها مسعدا(2) و لا عليها داخلا. فقالت لداية(3)لها سوداء: من/نحن؟ و من أيّ البلاد نحن؟ فخبّرتها. فقالت: لا جرم و اللّه لا أقمت في هذا البلد الذي أنا فيه غريبة! فباعت الضيعة و الدار، و خرجت في أيام الحج. و كان عمر يقدم فيعتمر(4) في ذي القعدة و يحلّ(5)، و يلبس تلك الحلل و الوشي، و يركب النّجائب المخضوبة بالحنّاء عليها القطوع(6) و الدّيباج، و يسبل لمّته، و يلقّى العراقيّات فيما بينه و بين ذات عرق محرمات، و يتلقّى المدنيّات إلى مرّ، و يتلقّى الشاميات إلى الكديد. فخرج يوما للعراقيّات فإذا قبّة مكشوفة فيها جارية كأنها القمر، تعادلها(7) جارية سوداء كالسّبجة(8).
فقال للسوداء: من أنت؟ و من أين أنت يا خالة؟ فقالت: لقد أطال اللّه تعبك، إن كنت تسأل هذا العالم من هم و من أين هم. قال: فأخبريني عسى أن يكون لذلك شأن. قالت: نحن من أهل العراق، فأمّا الأصل و المنشأ(9)فمكة، و قد رجعنا إلى الأصل و رحلنا(10) إلى بلدنا، فضحك. فلما نظرت إلى سواد ثنيّتيه قالت: قد عرفناك.
قال: و من أنا؟ قالت: عمر بن أبي ربيعة. قال: و بم عرفتني؟ قالت: بسواد ثنيتيك و بهيئتك التي ليست إلاّ لقريش، فأنشأ يقول:
قلت من أنتم فصدّت و قالت *** أ مبدّ سؤالك العالمينا
و ذكر الأبيات:
فلما يزل عمر بها حتى تزوّجها و ولدت له.
قال: فلما صرمت الثريّا عمر قال فيها:
ص: 187
من رسولي إلى الثريا فإنّي(1) *** ضقت ذرعا بهجرها و الكتاب
سلبتني مجّاجة(2) المسك عقلي *** فسلوها ما ذا أحلّ اغتصابي
و هي مكنونة تحيّر منها *** في أديم الخدّين ماء الشباب
أبرزوها مثل المهاة تهادى(3) *** بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبّها قلت بهرا *** عدد القطر و الحصى و التراب
الغناء لابن(4) عائشة خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو، و ذكر حبش أنه لمالك.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني مؤمن بن عمر بن أفلح مولى فاطمة بنت الوليد قال أخبرني بلال مولى ابن أبي عتيق قال: أنشد ابن أبي عتيق قول عمر:
من رسولي إلى الثريّا فإني *** ضقت ذرعا بهجرها و الكتاب
/فقال ابن أبي عتيق: إيّاي أراد و بي نوّه! لا جرم و اللّه لا أذوق أكلا(5) حتى أشخص(6) فأصلح بينهما، و نهض و نهضت معه، فجاء إلى قوم من بني الدّيل بن بكر لم تكن تفارقهم نجائب لهم فره(7) يكرونها(8)، فاكترى منهم راحلتين و أغلى(9) لهم. فقلت له: /استوضعهم أو دعني أماكسهم، فقد اشتطّوا(10) عليك.
فقال: ويحك! أ ما علمت أنّ المكاس ليس من أخلاق الكرام! ثم ركب أحدهما و ركبت الأخرى، فسار سيرا شديدا، فقلت: أبق على نفسك، فإنّ ما تريد ليس يفوتك. فقال: ويحك!
أبادر حبل الودّ أن يتقضّبا(11)
و ما حلاوة الدنيا إن تمّ الصّدع(12) بين عمر و الثريّا! فقدمنا ليلا غير محرمين، فدقّ على عمر بابه، فخرج إليه و سلّم عليه و لم ينزل عن راحلته، فقال له: اركب أصلح بينك و بين الثريّا، فأنا رسولك الذي سألت عنه. فركب معنا و قدمنا الطائف، و قد كان عمر أرضى أمّ نوفل فكانت تطلب له الحيل لإصلاحها فلا يمكنها. فقال ابن أبي عتيق
ص: 188
للثريّا: هذا عمر قد جشّمني السفر من المدينة إليك، فجئتك به معترفا لك بذنب لم يجنه، معتذرا إليك من إساءته إليك، فدعيني من التّعداد و التّرداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، فصالحته أحسن صلح و أتمّه و أجمله، و كررنا إلى مكة، فلم ينزلها ابن أبي عتيق حتى رحل. و زاد عمر في أبياته:
أزهقت أمّ نوفل إذ دعتها *** مهجتي(1)، ما لقاتلي من متاب
حين قالت لها أجيبي فقالت *** من دعاني؟ قالت أبو الخطّاب
فاستجابت عند الدعاء كما لبّى رجال يرجون حسن الثواب /قال الزّبير: و ما دعتها أمّ نوفل إلا لابن أبي عتيق، و لو دعتها لعمر ما أجابت. قال: و سألت عمّي عن أمّ نوفل، فقال: هي أمّ ولد عبد اللّه بن الحارث أبي(2) الثريّا. و سألته عن قوله:
................. كما لبّى *** رجال يرجون حسن الثواب
فقال: كرّرت في التلبية كما يفعل المحرم، فقالت: لبّيك لبيك.
و أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا الزّبير بن بكّار عن عمّه أنّ(3) بعض المكّيّين قال: كانت الثريّا تصبّ عليها جرّة ماء و هي قائمة فلا يصيب ظاهر فخذيها منه شيء من عظم عجيزتها.
و أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو غسّان محمد بن يحيى بخبر الثريّا هذا مع عمر، فذكر نحوا مما ذكره الزّبير، و قال فيه: لمّا أناخ ابن أبي عتيق بباب الثريّا أرسلت إليه: ما حاجتك؟ قال: أنا رسول عمر بن أبي ربيعة و أنشدها الشعر. فقالت: ابن أبي ربيعة فارغ(4) و نحن في شغل، و قد تعبت فانزل بنا.
فقال: ما أنا إذا برسول. ثم كرّ راجعا إلى ابن أبي ربيعة بمكة فأخبره الخبر فأصلح بينهما.
حدّثني أحمد بن عبيد(5) اللّه بن عمار قال حدّثني يعقوب بن نعيم قال حدّثني إبراهيم بن إسحاق العنزيّ(6)قال حدّثني عبد اللّه بن إبراهيم الجمحيّ، و أخبرني به الحسين(7)/بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أيّوب بن عباية، و أخبرني به الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير عن مؤمن بن عمر بن أفلح عن(8) عبد العزيز بن عمران، قالوا: قدم عمر بن أبي ربيعة المدينة، فنزل على ابن أبي عتيق - و هو عبد اللّه [بن محمد(9)] بن عبد الرحمن بن أبي بكر - فلمّا استلقى قال: أوّه!.
ص: 189
/
من رسولي إلى الثريّا فإنّي *** ضقت ذرعا بهجرها و الكتاب
فقال ابن أبي عتيق: كلّ مملوك لي حرّ إن بلّغها ذاك غيري. فخرج، حتى إذا كان بالمصلّى مرّ بنصيب و هو واقف فقال: يا أبا محجن. قال لبّيك! قال: أ تودع إلى سلمى(1) شيئا؟ قال: نعم. قال: و ما ذاك؟ قال: تقول لها يا ابن الصّدّيق: إنك مررت بي فقلت لي أ تودع إليها شيئا، فقلت:
أ تصبر عن سلمى و أنت صبور *** و أنت بحسن العزم منك جدير
و كدت و لم أخلق من الطير إن بدا *** سنى بارق نحو الحجاز أطير
قال: فمرّ بسلمى و هي في قرية يقال لها «القسريّة(2)»، فأبلغها الرّسالة، فزفرت زفرة كادت أن تفرّق(3)أضلاعها. فقال ابن أبي عتيق: كلّ مملوك لي حرّ إن لم يكن جوابك أحسن من رسالته، و لو سمعك الآن لنعق و صار غرابا. ثم مضى إلى الثريّا فأبلغ الكتاب. فقالت له: أ ما وجد رسولا أصغر منك! انزل فأرح(4). فقال: لست /إذا برسول! و سألها أن ترضى عنه، ففعلت. و قال الزّبير في خبره: فقال لها: أنا رسول ابن أبي ربيعة إليك، و أنشدها الأبيات، و قال لها: خشيت أن تضيع هذه الرسالة. قالت: أدّى اللّه عنك(5) أمانتك. قال: فما جواب ما تجشّمته إليك؟ قالت: تنشده قوله في رملة:
و جلا بردها و قد حسرته(6) *** ضوء بدر أضاء للناظرينا
فقال: أعيذك باللّه يا ابنة أخي أن تغلبيني بالمثل السائر. قالت: و ما هو؟ قال: «حريص لا يرى عمله(7)».
قالت: فما تشاء؟ قال: تكتبين إليه بالرضا عنه كتابا يصل على يدي، ففعلت. فأخذ الكتاب و رجع من فوره حتى قدم مكة، فأتى عمر. فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من حيث أرسلتني. قال: و أنّى ذلك؟ قال: من عند الثريّا،
ص: 190
أفرخ(1) روعك! هذا كتابها بالرضا عنك إليك.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أيّوب بن عباية قال:
اجتمع ابن عائشة و يونس و مالك(2) عند حسن بن حسن بن عليّ - عليهم السّلام - فقال الحسن لابن عائشة:
غنّني «من رسولي إلى الثريا...»؛ فسكت عنه فلم يجبه. فقال له جليس له: أ يقول لك غنّني فلا تجيبه! فسكت.
فقال له الحسن: مالك؟ ويحك! أ بك خبال(3)! كان و اللّه ابن أبي عتيق أجود منك بما عنده؛ فإنّه لمّا سمع هذا الشعر قال لابن أبي ربيعة: أنا رسولك إليها، فمضى نحو الثريّا حتى أدّى رسالته، و أنت معنا في المجلس تبخل أن تغنّيه(4) لنا! فقال له: لم أذهب حيث ظننت، إنما كنت أتخيّر لك أيّ الصوتين أغنّي: أقوله:
من رسولي إلى الثريّا فإنّي *** ضافني الهمّ و اعترتني الهموم
يعلم اللّه أنّني مستهام *** بهواكم و أنّني مرحوم
/أم قوله:
من رسولي إلى الثريّا فإنّي *** ضقت ذرعا بهجرها و الكتاب
فقال له الحسن: أسأنا بك الظّنّ أبا جعفر، غنّ بهما جميعا، فغنّاهما. فقال له الحسن: لو لا أنّك تغضب إذا قلنا لك: أحسنت، لقلت لك: أحسنت و اللّه! قال: و لم يزل يردّدهما بقيّة يومه.
/أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني يعقوب بن إسحاق الرّبعيّ عن أبيه قال:
أنشد عمر بن أبي ربيعة ابن أبي عتيق قوله:
ص: 191
لم تر العين للثريّا شبيها *** بمسيل التّلاع(1) يوم التقينا
فلما بلغ إلى قوله:
ثم قالت لأختها قد ظلمنا *** إن رددناه(2) خائبا و اعتدينا
قال: أحسنت و الهدايا(3) و أجادت. ثم أنشده ابن أبي عتيق متمثّلا قول الشاعر:
أريني(4) جوادا مات هزلا لعلّني *** أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا
فلمّا بلغ عمر إلى قوله في الشعر:
في خلاء من الأنيس و أمن
/قال ابن أبي عتيق: أمكنت للشّارب(5) الغدر «من عال بعدها فلا انجبر»(6).
فلمّا بلغ إلى قوله:
فمكثنا كذاك عشرا تباعا *** في قضاء لديننا و اقتضينا(7)
قال: أما و اللّه ما قضيتها ذهبا و لا فضة و لا اقتضيتها إيّاه، فلا عرّفكما اللّه قبيحا! فلمّا بلغ إلى قوله:
كان ذا في مسيرنا إذ حججنا *** علم اللّه فيه ما قد نوينا
ص: 192
قال: إنّ ظاهر أمرك ليدلّ على باطنه، فأرود(1) التفسير، و لئن متّ لأموتنّ معك، أفّ للدنيا بعدك يا أبا الخطّاب! فقال له عمر: بل عليها بعدك العفاء يا أبا محمد! /قال: فلقي الحارث بن خالد ابن أبي عتيق فقال: قد بلغني ما دار بينك و بين ابن أبي ربيعة، فكيف لم تتحلّلا منّي(2)؟ فقال له ابن أبي عتيق: يغفر اللّه لك يا أبا عمرو، إن ابن أبي ربيعة يبرئ القرح(3)، و يضع الهناء مواضع النّقب(4)، و أنت جميل الخفض(5). فضحك الحارث بن خالد و قال: «حبّك الشيء يعمي و يصمّ»(6). فقال: هيهات أنا بالحسن عالم نظّار!
و أمّا خبر السّواد في ثنيّتي عمر فإن الزبير بن بكّار ذكره عن عمّه مصعب في خبره: أنّ امرأة غارت عليه فاعترضته بمسواك كان في يدها فضربت به ثنيّتيه فاسودّتا.
و ذكر إسحاق الموصليّ عن أبي عبد اللّه(7) المسيّبيّ و أبي الحسن المدائنيّ: أنه أتى الثريّا يوما و معه صديق له كان يصاحبه و يتوصّل بذكره في الشعر، فلمّا كشفت الثريّا السّتر و أرادت الخروج إليه، رأت صاحبه فرجعت. فقال لها: إنه ليس ممّن أحتشمه(8) و لا أخفي عنه شيئا؛ و استلقى فضحك - و كان النساء إذ ذاك يتختّمن في أصابعهنّ العشر - فخرجت إليه فضربته بظاهر كفّها، فأصابت الخواتيم ثنيّتيه/العليين فنغضتا(9) و كادتا تسقطان، فقدم البصرة فعولجتا له، فثبتتا و اسودّتا. فقال الحزين الكنانيّ يعيّره(10) بذلك - و كان عدوّه و قد بلغه خبره -:
ما بال سنّيك أم ما بال كسرهما(11) *** أ هكذا كسرا في غير ما باس
ص: 193
أم نفحة(1) من فتاة(2) كنت تألفها *** أم نالها(3) وسط شرب(4) صدمة الكاس
قال: و لقيه الحزين الكنانيّ يوما فأنشده هذين البيتين؛ فقال له عمر: اذهب(5) اذهب، ويلك! فإنك لا تحسن أن تقول:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد *** و شفت أنفسنا مما تجد
و استبدّت مرة واحدة *** إنّما العاجز من لا يستبدّ
/لابن سريج في هذا الشعر(6) رمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق، و خفيف رمل [أيضا](7) في هذه الإصبع و هذا المجرى عن ابن المكيّ. و لمالك [فيه](8) ثقيل أوّل عن الهشاميّ. و لمتيم ثاني ثقيل عن ابن المعتزّ. و ذكر أحمد(9) بن أبي العلاء عن مخارق أنّ خفيف الرّمل ليحيى المكيّ صنعه و حكى فيه لحن [هذا الصوت](10):
اسلمي يا دار من هند(11)
حدّثني عليّ بن صالح قال حدّثني أبو هفّان عن إسحاق الموصليّ عن رجاله المذكورين:
أنّ الثّريّا واعدت عمر بن أبي ربيعة أن تزوره، فجاءت في الوقت الذي ذكرته، فصادفت أخاه الحارث قد
ص: 194
طرقه(1) و أقام عنده، و وجّه به في حاجة له و نام مكانه و غطّى وجهه بثوبه، فلم يشعر إلا بالثريّا قد ألقت نفسها عليه تقبّله، فانتبه و جعل يقول: اعزبي(2) عنّي فلست بالفاسق، أخزاكما اللّه! فلمّا علمت بالقصّة انصرفت. و رجع عمر فأخبره الحارث بخبرها؛ فاغتمّ لما فاته منها، و قال: أما و اللّه لا تمسّك النار أبدا و قد ألقت نفسها عليك. فقال له الحارث: عليك و عليها لعنة اللّه.
/و أخبرني بهذه القصّة الحرميّ بن أبي العلاء عن الزبير بن بكّار عن يعقوب بن إسحاق الربعيّ عن الثقة عنده عن ابن جريج عن عثمان بن حفص الثّقفيّ:
أنّ الحارث بن عبد اللّه زار أخاه، ثم ذكر نحوا من الذي ذكره إسحاق، و قال فيه: فبلغ عمر خبرها، فجاء إلى أخيه الحارث و قال له: جعلت فداءك! مالك و لأمة الوهّاب [ابنتك](3)؟ أتتك مسلّمة عليك فلعنتها و زجرتها(4) و تهدّدتها، و ها هي تيك(5) باكية. فقال: و إنها لهي! قال: و من تراها تكون؟ قال: فانكسر(6) الحارث عنه و عن لومه.
أخبرني عليّ بن صالح قال حدّثني أبو هفّان عن إسحاق بن إبراهيم عن جعفر بن سعيد عن أبي سعيد مولى فائد(7) هكذا قال إسحاق، و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني جعفر بن سعيد عن أبي عبيدة بن محمد بن عمّار(8). و رواه أيضا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن جعفر بن سعيد(9) فقال فيه: عن أبي عبيدة العمّاريّ(10)، و لم يذكر أبا سعيد مولى فائد، قالوا(11):
تزوّج سهيل بن عبد العزيز بن مروان الثريّا - و قال الزبير: بل تزوّجها أبو الأبيض سهيل بن عبد الرحمن بن عوف - فحملت إليه و هو بمصر. و الصواب(12)/قول من قال: سهيل بن عبد العزيز؛ لأنه كان هناك منزله، و لم يكن لسهيل بن عبد الرحمن هناك موضع. فقال عمر:
ص: 195
أيّها المنكح الثريّا سهيلا *** عمرك اللّه(1) كيف يلتقيان
هي شاميّة إذا ما استقلّت(2) *** و سهيل إذا استقلّ يماني(3)
الغناء للغريض خفيف ثقيل بالبنصر. و فيه لعبد اللّه بن العباس ثاني ثقيل بالبنصر. و أوّل هذه القصيدة:
//
أيّها الطارق الذي قد عناني(4)*** بعد ما نام سامر(5) الرّكبان
زار من نازح(6) بغير دليل *** يتخطّى إليّ حتى أتاني
و ذكر الرّياشيّ عن ابن(7) زكريّا الغلابيّ عن محمد بن عبد الرحمن التّيميّ عن أبيه عن هشام بن سليمان بن(8) عكرمة بن خالد المخزوميّ قال:
كان عمر بن أبي ربيعة قد ألحّ على الثريّا بالهوى، فشقّ ذلك على أهلها، ثم إنّ مسعدة بن عمرو أخرج عمر إلى اليمن في أمر عرض(9) له، و تزوّجت الثريّا و هو غائب، فبلغه تزويجها و خروجها إلى مصر، فقال:
أيّها المنكح الثريّا سهيلا *** عمرك اللّه كيف يلتقيان
و ذكر الأبيات. و قال في خبره: ثم حمله الشوق على أن سار إلى المدينة فكتب إليها:
ص: 196
كتبت إليك من بلدي *** كتاب مولّه كمد
كئيب واكف(1) العيني *** ن بالحسرات منفرد
يؤرّقه لهيب الشّو *** ق بين السّحر(2) و الكبد
فيمسك قلبه بيد *** و يمسح عينه بيد
/و كتبه في قوهيّة(3) و شنفه(4) و حسّنه و بعث به إليها. فلمّا قرأته بكت بكاء شديدا، ثم تمثّلت:
بنفسي من لا يستقلّ بنفسه *** و من هو إن لم يحفظ(5) اللّه ضائع
و كتبت إليه تقول:
أتاني كتاب لم ير الناس مثله *** أمدّ(6) بكافور و مسك و عنبر
و قرطاسه قوهيّة و رباطه *** بعقد من الياقوت صاف و جوهر
و في صدره: منّي إليك تحيّة *** لقد طال تهيامي بكم و تذكّري
و عنوانه من مستهام فؤاده *** إلى هائم صبّ من الحزن مسعر
قال مؤلف هذا الكتاب: و هذا الخبر عندي مصنوع، و شعره مضعّف يدلّ على ذلك، و لكنّي ذكرته كما وقع إليّ(7).
قال أبو سعيد مولى فائد و من ذكر خبره مع الثّريّا: فمات عنها سهيل أو طلّقها، فخرجت إلى الوليد بن عبد الملك و هو خليفة بدمشق في دين عليها، فبينا هي عند/أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان، إذ دخل عليها الوليد فقال: من هذه؟ فقالت: الثريّا جاءتني، تطلب(8) إليك في قضاء دين عليها و حوائج لها. فأقبل عليها الوليد فقال: أ تروين من شعر عمر بن أبي ربيعة شيئا؟ قالت: نعم، أما إنه يرحمه اللّه كان عفيفا عفيف الشّعر، أروي قوله:
ص: 197
ما على الرّسم بالبليّين لو ب *** يّن رجع السّلام(1) أو أجابا
فإلى قصر ذي العشيرة(2) فالصّا *** ئف(3) أمسى من الأنيس يبابا(4)
و بما قد أرى به حيّ صدق(5) *** ظاهري(6) العيش نعمة و شبابا
/إذ فؤادي يهوى الرّباب و أنّي ال *** دّهر(7) حتّى الممات أنسى الرّبابا
و حسانا جواريا خفرات *** حافظات عند الهوى الأحسابا
/لا يكثّرن في الحديث و لا يت *** بعن ينعقن(8) بالبهام(9) الظّرابا(10)
ص: 198
/فقضى حوائجها و انصرفت بما أرادت منه. فلمّا خلا الوليد بأمّ البنين قال لها: للّه درّ الثريّا! أ تدرين ما أرادت بإنشادها ما أنشدتني من شعر عمر؟ قالت: لا.
قال: إني لمّا عرّضت لها به عرّضت لي بأن أمّي أعرابيّة(1). و أمّ الوليد و سليمان ولاّدة بنت العبّاس بن جزيّ(2) بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسيّ.
الغناء في الأبيات التي أنشدتها الثريّا الوليد بن عبد الملك لمالك بن أبي السّمح خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. و فيها لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر. و فيها لإبراهيم خفيف ثقيل بالسّبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر حبش أيضا أنّ فيها لابن مسجح خفيف رمل بالوسطى. و ذكر عمرو بن بانة أن لابن محرز فيها خفيف ثقيل بالوسطى.
و مما يغنّى فيه من أشعار عمر بن أبي ربيعة التي قالها في الثريّا من القصيدة التي أوّلها «من رسولي»(3):
الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. و منها:
اقتليني قتلا سريعا مريحا *** لا تكوني عليّ سوط عذاب(1)
شفّ عنها محقّق(2) جنديّ(3) *** فهي كالشمس من خلال السّحاب
الغناء للغريض ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. و منها:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي *** أ تحبّ البتول أخت الرّباب(4)
قلت وجدي بها كوجدك بالما *** ء إذا منعت برد الشّراب
الغناء لمالك رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق. و منها:
أذكرتني من بهجة الشمس لمّا *** برزت من دجنّة و سحاب
أزهقت أمّ نوفل إذ دعتها *** مهجتي، ما لقاتلي من متاب
حين قالت لها أجيبي فقالت *** من دعاني؟ قالت أبو الخطّاب
الغناء للغريض خفيف رمل عن الهشاميّ و حمّاد بن إسحاق.
و منها:
للثّريّا قولي له أنت همّي *** و منى النّفس خاليا و خليلي(1)
الغناء لابن محرز ثقيل(2) مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لابن سريج خفيف/رمل بالوسطى عن عمرو.
/و منها:
/الغناء لمالك رمل ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و فيه لابن سريج خفيف ثقيل عن الهشاميّ، و كذا روته دنانير عن فليح، و قد نسب قوم لحن مالك إلى الغريض. و منها:
يا خليليّ سائلا الأطلالا *** و محلاّ بالرّوضتين(1) أحالا
- و يروى:
بالبليّين إن أحرن(2) سؤالا
و سفاه لو لا الصّبابة حبسي *** في رسوم الدّيار ركبا عجالا
بعد ما أقفرت من آل الثريّا *** و أجدّت فيها النّعاج ظلالا
الغناء لابن سريج هزج خفيف مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لحكم الواديّ ثقيل أوّل من جامع أغانيه. و ذكر ابن دينار(3) أنّ فيه لابن عائشة لحنا لم يذكر طريقته. و ذكر إبراهيم أنّ فيه لدحمان لحنا و لم يجنّسه.
و قال حبش: فيه لإسحاق ثقيل أوّل بالوسطى.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا أبو عبد اللّه التّميميّ [يعني أبا العيناء(4)] عن القحذميّ عن أبي صالح السّعديّ قال:
لمّا تزوّج سهيل بن عبد العزيز الثّريّا و نقلها إلى الشام، بلغ عمر بن أبي ربيعة الخبر، فأتى المنزل الذي كانت الثريّا تنزله، فوجدها قد رحلت منه يومئذ، فخرج في أثرها فلحقها على مرحلتين، و كانت قبل ذلك مهاجرته لأمر أنكرته عليه. فلما أدركهم نزل عن فرسه و دفعه إلى غلامه و مشى متنكّرا حتى مرّ بالخيمة، فعرفته الثريّا و أثبتت(5)حركته و مشيته، فقالت لحاضنتها(6): كلّميه، فسلّمت عليه و سألته عن حاله و عاتبته على ما بلغ الثريّا عنه، فاعتذر و بكى، فبكت الثريّا، فقالت: ليس هذا وقت العتاب مع وشك الرّحيل. فحادثها إلى وقت طلوع الفجر ثم ودّعها
ص: 202
و بكيا طويلا، و قام فركب فرسه و وقف ينظر إليهم و هم يرحلون(1)، ثم أتبعهم بصره حتى غابوا، و أنشأ يقول:
يا صاحبيّ قفا نستخبر الطّللا *** عن حال(2) من حلّه بالأمس ما فعلا
فقال لي الرّبع لمّا أن وقفت به *** إنّ الخليط أجدّ(3) البين فاحتملا(4)
و خادعتك النّوى(5) حتى(6) رأيتهم *** في الفجر يحتثّ(7) حادي عيسهم(8) زجلا(9)
//لمّا وقفنا نحيّيهم و قد صرخت *** هواتف البين و استولت بهم أصلا(10)
صدّت بعادا و قالت للّتي معها *** باللّه لوميه في بعض الذي فعلا
و حدّثيه بما حدّثت و استمعي *** ما ذا يقول و لا تعيي به(11) جدلا
حتى يرى أنّ ما قال الوشاة له *** فينا لديه إلينا كلّه نقلا(12)
و عرّفيه به كالهزل و احتفظي *** في بعض(13) معتبة أن تغضبي(14) الرجلا
فإنّ عهدي به و اللّه يحفظه *** و إن أتى الذنب ممن يكره العذلا
لو عندنا اغتيب أو نيلت نقيصته *** ما آب مغتابه من عندنا جذلا
قلت اسمعي فلقد أبلغت في لطف *** و ليس يخفى على ذي اللّبّ من هزلا
ص: 203
هذا أرادت به بخلا لأعذرها *** و قد أرى أنها لن تعدم العللا
ما سمّي القلب إلاّ من تقلّبه *** و لا الفؤاد فؤادا غير أن عقلا(1)
/أمّا الحديث الذي قالت أتيت به *** فما عبأت(2) به إذ جاءني حولا(3)
ما إن أطعت(4) بها بالغيب قد علمت *** مقالة الكاشح الواشي إذا محلا(5)
إني لأرجعه فيها بسخطته *** و قد يرى أنّه قد غرّني زللا(6)
و هي قصيدة طويلة مذكورة في شعره.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر و محمد بن خلف بن المرزبان قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال أخبرنا محمد بن يحيى قال زعم(7) عبيد بن يعلى قال حدّثني كثير(8) بن كثير السّهميّ قال:
لمّا ماتت الثّريّا أتاني الغريض فقال لي: قل أبيات شعر أنح بها على الثّريّا فقلت:
ألا يا عين مالك تدمعينا *** أ من رمد بكيت فتكحلينا
أم انت حزينة تبكين شجوا *** فشجوك مثله أبكى العيونا
غنّى الغريض في هذين البيتين لحنا من خفيف الثّقيل الأوّل بالوسطى عن عمرو و يحيى المكيّ و الهشاميّ و غيرهم.
/أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد الجبّار بن سعيد المساحقيّ قال
ص: 204
حدّثني إبراهيم بن يعقوب بن أبي عبد اللّه عن أبيه عن جدّه عن ثعلبة بن عبد اللّه بن صعير(1):
أنّ عمر بن أبي ربيعة نظر في الطّواف إلى امرأة شريفة، فرأى أحسن خلق اللّه صورة، فذهب عقله عليها، و كلّمها فلم تجبه، فقال فيها:
الرّيح تسحب أذيالا و تنشرها *** يا ليتني كنت ممّن تسحب الريح
كيما تجرّبنا(2) ذيلا فتطرحنا *** على الّتي دونها مغبرّة(3) سوح(4)
أنّى بقربكم أم كيف لي بكم *** هيهات ذلك ما أمست لنا روح
فليت ضعف الذي ألقى يكون بها *** بل ليت ضعف الذي ألقى تباريح(5)
إحدى بنيّات عمّي دون منزلها *** أرض بقيعانها القيصوم(6) و الشّيح
//فبلغها شعره فجزعت منه. فقيل لها: اذكريه لزوجك، فإنه سينكر عليه قوله. فقالت: كلاّ و اللّه لا أشكوه إلا إلى اللّه. ثم قالت: اللّهم إن كان نوّه باسمي ظالما فاجعله طعاما للريح. فضرب الدهر من ضربه(7)، ثم إنه غدا يوما على فرس فهبّت ريح فنزل فاستتر بسلمة(8)، فعصفت الريح فخدشه غصن منها فدمي و ورم به و مات من ذلك.
ص: 205
هو عبيد(1) بن سريج، و يكنّى أبا يحيى، مولى بني نوفل بن عبد مناف. و ذكر ابن الكلبيّ عن أبيه و أبي مسكين أنه مولى لبني الحارث بن عبد المطّلب.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن يحيى أبو غسّان قال: ابن سريج مولى لبني ليث، و منزله(2) مكة.
و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: سألت الحسن بن عتبة اللّهبيّ عن ابن سريج فقال: هو مولى لبني عائذ بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم. و في بني عائذ يقول الشاعر:
فإن تصلح فإنّك عائذيّ *** و صلح العائذيّ إلى فساد
/قال إسحاق: و قال سلمة بن نوفل بن عمارة: ابن سريج مولى عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث بن نوفل، أو ابن عامر بن الحارث بن نوفل بن عبد مناف.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن أبي أيّوب المدينيّ(3) قال: ذكر إبراهيم بن زياد بن عنبسة بن سعيد بن العاص:
أنّ ابن سريج كان آدم أحمر ظاهر الدّم سناطا(4) في عينيه قبل(5)، بلغ خمسا و ثمانين سنة، و صلع فكان يلبس جمّة(6) مركّبة، و كان أكثر ما يرى مقنّعا(7)، و كان منقطعا إلى عبد اللّه بن جعفر.
و قال ابن الكلبيّ عن أبيه قال: كان ابن سريج مخنّثا أحول أعمش يلقّب «وجه الباب»، و صلع فكان يلبس جمّة، و كان لا يغنّي إلا مقنّعا يسبل القناع على وجهه.
و قال ابن الكلبيّ عن أبيه و أبي مسكين: كان ابن سريج أحسن الناس غناء، و كان يغنّي مرتجلا و يوقع بقضيب، و غنّى في زمن عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه، و مات في خلافة هشام بن عبد الملك.
ص: 206
قال إسحاق: و كان الحسن بن عتبة اللّهبيّ يروي مثل ذلك فيه. و ذكر أنّ قبره بنخلة(1) قريبا من بستان ابن عامر(2).
/قال إسحاق و حدّثني الهيثم بن عديّ عن صالح بن حسّان قال: كان عبيد بن سريج من أهل مكة و كان أحسن الناس غناء. قال إسحاق قال عمارة بن أبي طرفة الهذليّ: سمعت ابن جريج يقول: عبيد بن سريج من أهل مكة مولى آل خالد بن أسيد.
قال إسحاق و حدّثني إبراهيم بن زياد عن أيّوب بن سلمة المخزوميّ قال: كان في عين ابن سريج قبل حلو لا يبلغ أن يكون حولا، و غنّى في خلافة عثمان رضي اللّه عنه، و مات بعد قتل الوليد بن يزيد، و كان له صلع في جبهته، و كان يلبس جمّة مركّبة فيكون فيها أحسن شيء، و كان يلقّب «وجه الباب» و لا يغضب من ذلك، و كان أبوه تركيّا.
و قال أبو أيّوب المدينيّ: كان ابن سريج، فيما روينا عن جماعة من المكّيّين، مولى بني جندع بن ليث بن بكر، و كان إذا غنّى سدل قناعه على وجهه حتى لا يرى حوله(3)، و كان/يوقع بقضيب و قيل: إنه كان يضرب بالعود، و كانت علّته التي مات منها الجذام.
قال إسحاق و حدّثني أبي(4) قال: أخبرني من رأى عود ابن سريج و كان على صنعة عيدان الفرس، و كان ابن سريج أوّل من ضرب به على الغناء العربيّ بمكة. و ذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم ابن الزّبير لبناء الكعبة، فأعجب أهل مكة غناؤهم. فقال ابن سريج: أنا أضرب به على غنائي، فضرب به فكان أحذق الناس.
قال إسحاق و ذكر الزّبيريّ: أنّ أمّ ابن سريج مولاة لآل المطلّب يقال لها «رائقة»، و قيل: بل أمّه هند أخت رائقة، فمن ثمّ قيل: إنه مولى بني المطلّب بن/حنطب. و كان ابن سريج بعد وفاة عبد اللّه بن جعفر قد انقطع إلى الحكم بن المطّلب بن عبد اللّه بن المطلّب بن حنطب أحد بني مخزوم، و كان من سادة قريش و وجوهها. و أخذ ابن سريج الغناء عن ابن مسجح.
قال إسحاق: و أصل الغناء أربعة نفر: مكّيّان و مدنيّان، فالمكّيان: ابن سريج و ابن محرز، و المدنيان: معبد و مالك.
قال إسحاق: و قال سلمة بن نوفل بن عمارة: أخبرني بذلك من شئت من مشيختنا: أنّ يوما شهر فيه ابن
ص: 207
سريج بالغناء في ختان ابن مولاه عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي حسين(1). قال لأمّ الغلام: خفّضي عليك بعض الغرم و الكلفة، فو اللّه لألهينّ نساءك حتى لا يدرين ما جئت به و لا ما عزمت عليه.
قال إسحاق: و سألت هشام بن المرّيّة، و كان قد عمّر، و كان عالما بالغناء فلا يبارى فيه، فقلت له: من أحذق الناس بالغناء؟ فقال لي: أ تحبّ الإطالة أم الاختصار؟ فقلت: أحبّ الاختصار الذي يأتي على سؤالي. قال: ما خلق اللّه تعالى بعد داود النبيّ عليه الصلاة و السّلام أحسن صوتا من ابن سريج، و لا صاغ اللّه عزّ و جلّ أحدا أحذق منه بالغناء، و يدلّك على ذلك أن معبدا كان إذا أعجبه غناؤه قال: أنا اليوم سريجيّ.
قال و أخبرني إبراهيم - يعنى أباه - قال: أدركت يونس بن محمد الكاتب فحدّثني عن الأربعة: ابن سريج و ابن محرز و الغريض و معبد. فقلت له: من أحسن الناس غناء؟ فقال: أبو يحيى. قلت: عبيد بن سريج؟ قال نعم. قلت: و كيف ذاك؟ قال: إن شئت فسّرت لك، و إن شئت أجملت. قلت: أجمل. قال: كأنه خلق من كلّ قلب، فهو يغنّي لكل إنسان ما يشتهي.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال قال حمّاد بن إسحاق: أخبرني أبي عن الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك قال: سألت إبراهيم الموصليّ ليلة و قد أخذ منه النبيذ: من أحسن الناس غناء؟ فقال لي: من الرجال أم من النساء؟ فقلت: من الرجال. فقال: ابن محرز. قلت: و من النساء؟ قال: ابن سريج. ثم قال لي: إن(2) كان ابن سريج إلاّ كأنّه خلق من كلّ قلب فهو يغنّي له ما يشتهي!
أخبرني جحظة قال حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم قال: أرسلني محمد بن الحسين(3) بن مصعب إلى إسحاق أسأله عن لحنه و لحن ابن سريج في:
تشكّى الكميت الجري لمّا جهدته أيّهما أحسن؟ فصرت إليه فسألته عن ذلك، فقال لي: يا أبا الحسن، و اللّه لقد أخذت بخطام راحلته فزعزعتها(4) و أنختها و قمت بها فما بلغته. فرجعت إلى محمد ابن الحسين فأخبرته؛ فقال: و اللّه إنه ليعلم أنّ لحنه /أحسن من لحن ابن سريج، و لقد تحامل لابن سريج على نفسه، و لكن لا يدع تعصّبه للقدماء. و قد أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى هذا الخبر عن أبيه، فذكر نحو ما ذكره جحظة في خبره و لم يقل: أرسلني محمد بن الحسين إلى إسحاق. و قال جحظة في خبره: قال عليّ بن يحيى: و قد صدق محمد بن الحسين؛ لأنه قلّما غنّي في صوت
ص: 208
واحد لحنان فسقط خيرهما، و الذي في أيدي الناس الآن من اللحنين لحن إسحاق، و قد ترك لحن ابن سريج، فقلّ من يسمعه إلا من العجائز المتقدّمات و مشايخ المغنّين. هذا أو نحوه(1).
و أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن إبراهيم بن عليّ بن هشام قال: يقولون: إنّ ابتداء غناء إسحاق الذي في(2):
تشكّى الكميت الجري لمّا جهدته
أنّما أخذه من صوت الأبجر:
يقولون ما أبكاك(3) و المال غامر(4)
يقولون ما أبكاك و المال غامر *** عليك و ضاحي(5) الجلد منك كنين(6)
فقلت لهم لا تسألوني و انظروا *** إلى الطّرب النّزاع(7) كيف يكون
غنّاه الأبجر ثقيلا أوّل بالبنصر، عن عمرو و دنانير. و ذكر الهشاميّ أنّ فيه لعزّة المرزوقيّة(8) ثاني ثقيل بالوسطى.
أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم قال حدّثني إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني إسماعيل بن جامع عن سياط قال:
/كان ابن سريج أوّل من غنّى الغناء المتقن بالحجاز بعد طويس، و كان مولده في خلافة عمر بن الخطّاب، و أدرك يزيد بن عبد الملك و ناح عليه، و مات في خلافة هشام. قال: و كان قبل أن يغنّي نائحا و لم يكن مذكورا، حتى ورد الخبر مكة بما فعله مسرف(9) بن عقبة بالمدينة، فعلا على أبي قبيس و ناح بشعر هو اليوم داخل في أغانيه، و هو:
ص: 209
يا عين
جودي بالدّموع السّفاح(1)*** و ابكي على قتلى قريش البطاح(2)
/فاستحسن الناس ذلك منه، و كان أوّل ما ندب(3) به.
قال ابن جامع: و حدّثني جماعة من شيوخ أهل مكة أنهم حدّثوا: أنّ سكينة بنت الحسين عليهما السّلام بعثت إلى ابن سريج بشعر أمرته أن يصوغ فيه لحنا يناح به، فصاغ فيه، و هو الآن داخل في غنائه. و الشعر:
يا أرض ويحك أكرمي أمواتي *** فلقد ظفرت بسادتي و حماتي
فقدّمه ذلك عند أهل الحرمين على جميع ناحة مكة و المدينة و الطائف.
قال و حدّثني ابن جامع و ابن أبي الكنّات(4) جميعا: أن سكينة(5) بعثت إليه بمملوك لها يقال له عبد الملك، و أمرته أن يعلّمه النّياحة، فلم يزل يعلّمه مدّة طويلة، ثم توفّي عمّها أبو القاسم محمد بن الحنفيّة عليه السّلام، و كان ابن سريج عليلا علّة صعبة فلم يقدر على النّياحة. فقال لها عبدها عبد الملك: أنا أنوح لك نوحا أنسيك به نوح ابن سريج. قالت: أو تحسن ذاك؟ قال نعم. فأمرته/فناح؛ فكان نوحه في الغاية من الجودة، و قال النساء: هذا نوح غريض؛ فلقّب عبد الملك الغريض. و أفاق ابن سريج من علّته بعد أيام و عرف خبر وفاة ابن الحنفيّة، فقال لهم:
فمن/ناح عليه؟ قالوا: عبد الملك غلام سكينة. قال: فهل جوّز(6) الناس نوحه؟ قالوا: نعم و قدّمه بعضهم عليك. فحلف ابن سريج ألاّ ينوح بعد ذلك اليوم، و ترك النوح و عدل إلى الغناء، فلم ينح حتى ماتت حبابة(7)،
ص: 210
و كانت قد أخذت عنه و أحسنت إليه فناح عليها، ثم ناح بعدها على يزيد بن عبد الملك، ثم لم ينح بعده حتى هلك.
قال: و لمّا عدل ابن سريج عن النّوح إلى الغناء عدل معه الغريض إليه، فكان لا يغنّي صوتا إلا عارضه فيه.
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلانيّ قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم قال:
حدّث(1) إسحاق بن إبراهيم الموصليّ أبا إسحاق إبراهيم بن المهديّ و أنا حاضر أنّ يحيى المكّيّ حدّثه أن عطاء بن أبي رباح لقي ابن سريج بذي طوىّ(2)، و عليه ثياب مصبّغة و في يده جرادة مشدودة الرّجل بخيط يطيّرها و يجذبها به كلّما تخلّفت(3)؛ فقال له عطاء: يا فتّان، أ لا تكفّ عما أنت عليه! كفى اللّه الناس مئونتك. فقال ابن سريج: و ما على الناس من تلويني ثيابي و لعبي بجرادتي؟ فقال له: تفتنهم أغانيك/الخبيثة. فقال له ابن سريج:
سألتك بحقّ من تبعته من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بحقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليك، إلاّ ما سمعت منّي بيتا من الشعر، فإن سمعت منكرا أمرتني بالإمساك عما أنا عليه. و أنا أقسم باللّه و بحقّ هذه البنيّة لئن أمرتني بعد استماعك منّي بالإمساك عما أنا عليه لأفعلنّ ذلك. فأطمع ذلك عطاء في ابن سريج، و قال: قل. فاندفع يغنّي بشعر جرير:
إنّ الذين غدوا بلبّك غادروا *** و شلا(4) بعينك لا يزال معينا(5)
غيّضن(6) من عبراتهنّ و قلن لي *** ما ذا لقيت من الهوى و لقينا
- لحن ابن سريج هذا(7) ثقيل أوّل بالوسطى عن ابن المكّيّ و الهشاميّ، و له أيضا فيه رمل. و لإسحاق فيه رمل آخر بالوسطى. و فيه هزج بالوسطى ينسب إلى ابن سريج و الغريض - قال: فلمّا سمعه عطاء اضطرب اضطرابا شديدا و دخلته أريحيّة، فحلف ألاّ يكلّم أحدا بقية يومه إلا بهذا الشّعر، و صار إلى مكانه من المسجد الحرام؛ فكان كلّ من يأتيه سائلا عن حلال أو حرام أو خبر من الأخبار، لا يجيبه إلا بأن يضرب إحدى يديه على الأخرى و ينشد
ص: 211
هذا الشّعر(1) حتى صلّى المغرب، و لم يعاود ابن سريج بعد هذا و لا تعرّض له.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه، و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني الفضل بن محمد اليزيديّ قال حدّثني إسحاق عن ابن جامع عن سياط عن يونس الكاتب قال:
لمّا قال عمر بن أبي ربيعة:
نظرت إليها بالمحصّب من منى *** و لي نظر لو لا التّحرّج عارم
غنّى فيه ابن سريج.
قال: و حجّ يزيد بن عبد الملك في تلك السنة بالناس، و خرج عمر بن أبي/ربيعة و معه ابن سريج على نجيبين رحالتاهما(2) ملبستان بالدّيباج، و قد خضبا النجيبين و لبسا حلّتين، فجعلا يتلقّيان الحاجّ و يتعرّضان للنساء إلى أن أظلم الليل، فعدلا إلى كثيب مشرف و القمر طالع يضيء، فجلسا على الكثيب، و قال عمر لابن سريج: غنّني صوتك الجديد؛ فاندفع يغنّيه، فلم يستتمّه إلا و قد طلع عليه رجل راكب على فرس عتيق، فسلّم ثم قال: أ يمكنك - أعزّك اللّه - أن تردّ هذا الصوت؟ قال: نعم و نعمة عين(3)، على أن تنزل و تجلس معنا. قال: أنا أعجل من ذلك، فإن أجملت و أنعمت أعدته! و ليس عليك من وقوفي شيء و لا مئونة، فأعاده. فقال له: باللّه أنت ابن سريج؟ قال نعم. قال: حيّاك اللّه! و هذا عمر بن أبي ربيعة؟ قال نعم. قال: حيّاك اللّه يا أبا الخطّاب! فقال له: و أنت فحيّاك اللّه! قد عرفتنا فعرّفنا نفسك. قال: لا يمكنني ذلك. فغضب ابن سريج و قال: و اللّه لو كنت يزيد بن عبد الملك لما زاد. فقال له: أنا يزيد بن عبد الملك. فوثب إليه عمر فأعظمه، /و نزل ابن سريج إليه فقبّل ركابه؛ فنزع حلّته و خاتمه فدفعهما إليه، و مضى يركض حتى لحق ثقله. فجاء بهما ابن سريج إلى عمر فأعطاه إياهما، و قال له: إنّ هذين بك أشبه منهما بي. فأعطاه عمر ثلاثمائة دينار و غدا فيهما إلى المسجد، فعرفهما الناس و جعلوا يتعجّبون و يقولون: كأنهما و اللّه حلّة يزيد بن عبد الملك و خاتمه، ثم يسألون عمر عنهما فيخبرهم أنّ يزيد بن عبد الملك كساه ذلك.
و أخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة أيضا قال و حدّثني ابن عبد اللّه بن أبي سعيد قال حدّثني عليّ بن الصّبّاح عن ابن الكلبيّ قال:
حجّ عمر بن أبي ربيعة في عام من الأعوام على نجيب له مخضوب بالحنّاء مشهّر الرّحل بقراب(4)
ص: 212
مذهب(1)، و معه عبيد بن سريج على بغلة له شقراء، و معه غلامه جنّاد يقود فرسا له أدهم(2) أغرّ محجّلا، و كان عمر بن أبي ربيعة يسمّيه «الكوكب»، في عنقه طوق ذهب - و جنّاد هذا هو الذي يقول فيه:
فقلت لجنّاد خذ السيف و اشتمل *** عليه برفق و ارقب الشمس تغرب
و أسرج لي الدّهماء و اعجل بممطري(3) *** و لا تعلمن خلقا من الناس مذهبي
الغناء لزرزر(4) غلام المارقيّ خفيف ثقيل و هو أجود صوت صنعه - قال: و مع عمر جماعة من حشمه و غلمانه و مواليه و عليه حلّة موشيّة يمانية، و على ابن سريج/ثوبان هرويّان(5) مرتفعان، فلم يمرّوا بأحد إلاّ عجب من حسن هيئتهم، و كان عمر من أعطر الناس و أحسنهم هيئة(6)، فخرجوا من مكة يوم التّروية بعد العصر يريدون منّى، فمرّوا بمنزل رجل من بني عبد مناف بمنى قد ضربت عليه فساطيطه و خيمه، و وافى الموضع عمر فأبصر بنتا للرجل قد خرجت من قبّتها، و ستر جواريها دون القبّة لئلا يراها من مرّ. فأشرق عمر على النّجيب فنظر إليها، و كانت من أحسن النساء و أجملهنّ. فقال لها جواريها: هذا عمر بن أبي ربيعة. فرفعت رأسها فنظرت إليه، ثم سترتها الجواري و ولائدها عنه و بطّن دونها بسجف القبّة حتى دخلت. و مضى عمر إلى منزله و فساطيطه بمنى، و قد نظر من/الجارية إلى ما تيّمه و من جمالها إلى ما حيّره، فقال فيها:
نظرت إليها بالمحصّب من منى *** و لي نظر لو لا التّحرّج عارم
فقلت أشمس أم مصابيح بيعة *** بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم
بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل *** أبوها و إمّا عبد شمس و هاشم
و مدّ عليها السّجف يوم لقيتها *** على عجل تبّاعها و الخوادم
فلم أستطعها غير أن قد بدا لنا *** على الرّغم منها كفّها و المعاصم
معاصم لم تضرب على البهم بالضّحى *** عصاها و وجه لم تلحه السّمائم
نضير ترى فيه أساريع مائه *** صبيح تغاديه الأكفّ النّواعم
إذا ما دعت أترابها فاكتنفنها *** تمايلن أو مالت بهنّ المآكم
طلبن الصّبا حتى إذا ما أصبنه *** نزعن و هنّ المسلمات الظّوالم
ص: 213
/ثم قال عمر لابن سريج: يا أبا يحيى، إني تفكّرت في رجوعنا مع العشيّة إلى مكة مع كثرة الزّحام و الغبار و جلبة الحاجّ فثقل عليّ، فهل لك أن نروح رواحا طيّبا معتزلا، فنرى فيه من راح صادرا إلى المدينة من أهلها، و نرى أهل العراق و أهل الشّأم و نتعلّل(1) في عشيّتنا و ليلتنا و نستريح؟ قال: و أنّى ذلك يا أبا الخطّاب؟ قال: على كثيب أبي شحوة(2) المشرف على بطن يأجج(3) بين منى و سرف، فنبصر مرور الحاجّ بنا و نراهم و لا يرونا. قال ابن سريج: طيّب و اللّه يا سيّدي. فدعا بعض خدمه فقال: اذهبوا إلى الدار بمكّة، فاعملوا لنا سفرة(4) و احملوها مع شراب إلى الكثيب، حتّى إذا أبردنا(5) و رمينا الجمرة(6) صرنا إليكم - قال: و الكثيب على خمسة أميال من مكّة مشرف على طريق المدينة و طريق الشّأم و طريق العراق، و هو كثيب شامخ/مستدق(7) أعلاه منفرد عن الكثبان - فصارا إليه فأكلا و شربا. فلمّا انتشيا أخذ ابن سريج الدّفّ(8) فنقره و جعل يغنّي و هم ينظرون إلى الحاجّ. فلمّا أمسيا رفع ابن سريج صوته يغنّي في الشّعر الذي قاله عمر، فسمعه الرّكبان فجعلوا يصيحون به: يا صاحب الصّوت أ ما تتّقي اللّه! قد حبست الناس عن مناسكهم! فيسكت قليلا، حتى إذا مضوا رفع صوته و قد أخذ فيه الشّراب فيقف آخرون، إلى أن مرّت(9) قطعة من الليل، فوقف عليه في الليل رجل على فرس عتيق(10) عربيّ مرح مستنّ(11) فهو كأنه ثمل، حتى وقف بأصل الكثيب و ثنى رجله على قربوس(12) سرجه، ثم نادى: يا صاحب الصوت، أ يسهل عليك أن تردّ شيئا مما سمعته؟ قال: نعم و نعمة عين، فأيّها تريد؟ قال: تعيد عليّ:
ألا يا غراب البين مالك كلّما *** نعبت(13) بفقدان عليّ تحوم
أ بالبين من عفراء أنت مخبّري *** عدمتك من طير فأنت مشوم
- قال: و الغناء لابن سريج - فأعاده، ثم قال له ابن سريج: ازدد إن شئت. فقال: غنّني:
ص: 214
/
أ مسلم(1) إنّي يا بن كلّ خليفة *** و يا فارس الهيجا و يا قمر(2) الأرض
شكرتك إنّ الشكر حبل(3) من التّقى *** و ما كلّ من أقرضته نعمة يقضي
/و نوّهت لي باسمي و ما كان خاملا *** و لكنّ بعض الذكر أنبه من بعض
فغنّاه، فقال له: الثالث و لا أستزيدك. فقال: قل ما شئت. فقال: تغنّيني
يا دار أقوت بالجزع(4) فالكثب(5)*** بين مسيل العذيب(6) فالرّحب(7)
لم تتقنّع(8) بفضل مئزرها *** دعد و لم تسق دعد في(9) العلب
/فغنّاه. فقال له ابن سريج: أبقيت لك حاجة؟ قال: نعم، تنزل إليّ لأخاطبك شفاها بما أريد. فقال له عمر: انزل إليه، فنزل. فقال له: لو لا أنّي أريد وداع الكعبة و قد تقدّمني ثقلي و غلماني لأطلت المقام معك و لنزلت عندكم، و لكنّي أخاف أن يفضحني الصبح، و لو كان ثقلي معي لما رضيت لك بالهوينى، و لكن خذ حلّتي هذه و خاتمي و لا تخدع عنهما، فإن شراءهما ألف و خمسمائة دينار. و ذكر باقي الخبر مثل ما ذكره حماد بن إسحاق.
ص: 215
نظرت إليها بالمحصّب من منى *** و لي نظر لو لا التّحرّج عارم
فقلت أشمس أم مصابيح بيعة *** بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم
بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل *** أبوها و إمّا عبد شمس و هاشم
الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالسّبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عنه. و قد نسب في مواضع من هذا الكتاب.
ألا يا غراب البين مالك كلّما *** نعبت بفقدان عليّ تحوم
أبا لبين من عفراء أنت مخبّري *** عدمتك من طير فأنت مشوم
الشعر لقيس بن ذريح، و قيل: إنه لغيره. و الغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن الهشاميّ.
أ مسلم إني يا بن كلّ خليفة *** و يا فارس الهيجا و يا قمر الأرض
شكرتك إنّ الشكر حبل من التّقى *** و ما كلّ من أوليته نعمة يقضي
و نوهت لي باسمي و ما كان خاملا *** و لكنّ بعض الذكر أنبه من بعض
الشعر لأبي نخيلة(1) الحمّانيّ(2). و الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى، و قد أخرج هذا الصوت مع سائر أخبار أبي نخيلة في موضع آخر.
حدّثني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار حدّثني محمد بن سلاّم الجمحيّ قال حدّثني عمر(3)بن أبي خليفة قال:
كان أبي نازلا في علو، فكان المغنّون يأتونه. قال فقلت: فأيّهم كان أحسن غناء؟ قال: لا أدري، إلاّ أنّي كنت أراهم إذا جاء ابن سريج سكتوا.
ص: 216
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال حدّثني الزّبيريّ - يعني عبد اللّه بن مصعب - عن عمرو(1) بن الحارث، قال إسحاق: و حدّثنيه المدائنيّ و محمد/بن سلاّم عن المحرز بن جعفر عن عمر(2) بن سعد مولى الحارث بن هشام قال:
/خرج ابن الزّبير ليلة إلى أبي قبيس فسمع غناء، فلما انصرف رآه أصحابه و قد حال لونه، فقالوا: إنّ بك لشرّا. قال: إنه ذاك. قالوا: ما هو؟ قال: لقد سمعت صوتا إن كان من الجنّ(3) إنه لعجب، و إن كان من الإنس فما انتهى منتهاه شيء! قال: فنظروا فإذا هو ابن سريج يتغنّى:
أ من رسم دار بوادي غدر(4) *** لجارية من جواري مضر
خدلّجة(5) السّاق ممكورة(6) *** سلوس(7) الوشاح كمثل القمر
تزين(8) النساء إذا ما بدت *** و يبهت(9) في وجهها من نظر
الشعر ليزيد بن معاوية. الغناء لابن سريج رمل بالبنصر عن يونس و حبش.
قال إسحاق: و ذكر المدائنيّ في خبره أنّ عمر بن عبد العزيز مرّ أيضا فسمع صوت ابن سريج و هو يتغنّى:
بتّ الخليط قوى الحبل الذي قطعوا
فقال عمر: للّه درّ هذا الصوت لو كان بالقرآن! قال المدائنيّ: و بلغني من وجه آخر أنه سمعه يغنّي:
/
قرّب جيراننا جمالهم *** ليلا فأضحوا معا قد ارتفعوا
ما كنت أدري بوشك بينهم *** حتى رأيت الحداة قد طلعوا
فقال هذه المقالة.
ص: 217
بتّ الخليط قوى(1) الحبل الذي قطعوا *** إذ ودّعوك فولّوا ثم ما رجعوا(2)
و آذنوك(3) ببين من وصالهم *** فما سلوت و لا يسليك ما صنعوا
يا بن الطّويل و كم آثرت من حسن *** فينا و أنت بما حمّلت مضطلع(4)
نحظى و نبقى بخير ما بقيت لنا *** فإن هلكت فما في ملجأ طمع
الشعر للأحوص. و الغناء لابن سريج(5) رمل بالسّبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق و ذكر حبش أنّ فيه رملا بالوسطى عن الهشاميّ.
قرّب جيراننا جمالهم *** ليلا فأضحوا معا قد ارتفعوا
ما كنت أدري بوشك بينهم *** حتى رأيت الحداة قد طلعوا
/على مصكّين(6) من جمالهم *** و عنتريسين(7) فيهما خضع(8)
يا قلب صبرا فإنه سفه *** بالحرّ أن يستفزّه الجزع
الغناء لابن سريج ثقيل أوّل من أصوات قليلة الأشباه عن إسحاق. و فيه رمل بالسّبابة/في مجرى الوسطى ذكره إسحاق و لم ينسبه إلى أحد، و ذكر أيضا فيه خفيف رمل بالسّبابة في مجرى الوسطى و لم ينسبه. و ذكر الهشاميّ أنّ الرمل للغريض و خفيف الرّمل لابن المكّيّ و ذكرت دنانير و الهشاميّ أنّ فيه لمعبد ثاني ثقيل. و ذكر عمرو بن بانة
ص: 218
أنّ الثقيل الأوّل للغريض. و ذكر عبد اللّه بن موسى أن لحن ابن - سريج خفيف ثقيل.
أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ قال حدّثني يوسف بن إبراهيم قال:
حضرت أبا إسحاق إبراهيم بن المهديّ و عنده إسحاق الموصليّ، فقال إسحاق: غنّى ابن سريج ثمانية و ستّين صوتا. فقال له أبو إسحاق: ما تجاوز قطّ ثلاثة و ستّين صوتا. فقال بلى. ثم جعلا ينشدان أشعار الصّحيح منها حتى بلغا ثلاثة و ستين صوتا و هما يتّفقان على ذلك، ثم أنشد إسحاق بعد ذلك أشعار خمسة أصوات أيضا.
فقال أبو إسحاق: صدقت، هذا من غنائه، و لكنّ لحن هذا الصوت نقله من/لحنه في الشعر الفلانيّ، و لحن الثاني من لحنه الفلانيّ، حتى عدّ له الخمسة الأصوات. فقال له إسحاق: صدقت. ثم قال له إبراهيم: إن ابن سريج كان رجلا عاقلا أديبا، و كان يغنّي(1) الناس بما يشتهون، فلا يغنّيهم صوتا مدح به أعداؤهم و لا صوتا عليهم فيه عار أو غضاضة، و لكنّه يعدل بتلك الألحان إلى أشعار في أوزانها، فالصّوتان واحد لا ينبغي أن نعدّهما(2) اثنين عند التحصيل منّا لغنائه، فصدّقه إسحاق. فقال له إبراهيم: فأيّها أولى عندك بالتّقدمة(3)؟ فقال:
و إذا ما عثرت في مرطها(4) *** نهضت باسمي و قالت يا عمر
فقال له إبراهيم: أحسبك(5) يا أبا محمد - متّعت بك - ما أردت إلاّ مساعدتي(6). فقال: لا، و اللّه ما إلى هذا قصدت، و إن كنت أهوى كلّ ما قرّبني من محبّتك.
فقال له: هذا أحبّ أغانيه إليّ، و ما أحسبه في مكان أحسن منه عندي، و لا كان ابن سريج يتغنّاه أحسن مما يتغنّاه جواريّ، و لئن كان كذلك فما هو عندي في حسن التّجزئة و القسمة و صحّتهما مثل لحنه في:
حيّيا أمّ يعمرا(7) *** قبل شحط من النّوى
أجمع الحيّ رحلة *** ففؤادي كذى الأسى
قلت لا تعجلوا الرّوا *** ح فقالوا ألا بلى
/ - الغناء لابن سريج من القدر الأوسط من الثّقيل الأوّل مطلق في مجرى الوسطى. و فيه للهذليّ خفيف ثقيل بالبنصر عن ابن المكّيّ. و فيه لمالك ثقيل أوّل البنصر عن عمرو. و فيه لحنان من الثقيل الثاني: أحدهما لإسحاق و الآخر لأبيه(8)، و نسبه قوم إلى ابن محرز، و لم يصحّ ذلك - قال: فاجتمعا معا على أنه أوّل أغانيه و أحقّها
ص: 219
بالتقديم. و أمرني أبو إسحاق بتدوين ما يجري بينهما و يتّفقان عليه، فكتبت هذا الشعر. ثم اتّفقا على أن الذي يليه:
و إذا ما عثرت في مرطها *** نهضت(1) باسمي و قالت يا عمر
فأثبتّه أيضا. ثم تناظرا في الثالث فاجتمعا على أنّه:
/فتركته جزر(2) السّباع ينشنه(3) *** ما بين قلّة(4) رأسه و المعصم(5)
فقال إسحاق: لو قدّمناه على الأغاني التي تقدّمته كلّها لكان يستحقّ ذلك. فقال أبو إسحاق: ما سمعته منذ عرفته إلا أبكاني، لأنّي إذا سمعته أو ترنّمت به وجدت غمرا على فؤادي(6) لا يسكن حتى أبكي. فقال إسحاق: إنّ مذهبه فيه ليوجب ذلك، فدوّنته ثالثا. ثم اتّفقا على الرابع و أنه:
فلم أر كالتّجمير(7) منظر ناظر *** و لا كليالي الحجّ أفتنّ ذا هوى
و تحدّثا بأحاديث لهذا الصوت مشهورة. ثم تناظرا في الخامس، فاتّفقا على أنه:
عوجي علينا ربّة الهودج *** إنّك إلاّ تفعلي تحرجي(8)
فأثبتّه. ثم تناظرا في السادس و اتّفقا على أنه:
ألا هل هاجك الأظعا *** ن إذ جاوزن مطلحا(9)
فأثبتّه. ثم تناظرا في السابع فاتّفقا على أنه:
غيّضن من عبراتهنّ و قلن لي *** ما ذا لقيت من الهوى و لقينا
فأثبتّه. و تناظرا في الثامن فاتّفقا على أنه:
تنكر الإثمد لا تعرفه *** غير أن تسمع منه بخبر
فأثبتّه. و تناظرا في التاسع فاتّفقا على أنه:
ص: 220
و من أجل ذات الخال أعملت ناقتي *** أكلّفها سير الكلال مع الظّلع(1)
منها:
و إذا ما عثرت في مرطها *** نهضت باسمي و قالت يا عمر
الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن الهشاميّ.
و منها:
فتركته جزر السّباع ينشنه *** ما بين قلّة رأسه و المعصم
الشعر لعنترة بن شدّاد العبسيّ. و الغناء لابن سريج ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو(2).
/و منها:
فلم أر كالتّجمير منظر ناظر *** و لا كليالي الحجّ أفتنّ ذا هوى
الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو(3).
و منها:
عوجي علينا ربّة الهودج *** إنّك إلاّ تفعلي تحرجي
الشعر للعرجيّ. و الغناء لابن سريج ثقيل بالوسطى عن عمرو.
و منها:
ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها عن إسحاق، و خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه لمعبد ثقيل أوّل ثالث بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
و منها:
غيّضن من عبراتهنّ و قلن لي *** ما ذا لقيت من الهوى و لقينا
الشعر لجرير. و الغناء لابن سريج رمل بالبنصر. و فيه لإسحاق رمل بالوسطى. و فيه للهذليّ ثاني ثقيل(1)بالوسطى عن الهشامي.
و منها:
تنكر الإثمد لا تعرفه *** غير أن تسمع منه بخبر
الشعر لعبد الرحمن بن حسّان. و الغناء لابن سريج رمل بالوسطى.
و منها:
و من أجل ذات الخال أعملت ناقتي *** أكلّفها سير الكلال مع الظّلع
الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج رمل بالبنصر. و فيه لإسحاق رمل بالوسطى(2).
أخبرني رضوان بن أحمد قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم قال حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ قال حدّثني الزّبير بن دحمان أنّ أباه حدّثه:
أنّ معبدا تغنّى:
آب ليلي بهموم و فكر(3) *** من حبيب هاج حزني و السّهر
يوم أبصرت غرابا واقعا *** شرّ ما طار على شرّ الشّجر
فعارضه مالك فغنّى في أبيات من هذا الشعر، و هي:
و جرت(4) لي ظبية يتبعها *** ليّن الأظلاف(5) من حور(6) البقر
ص: 222
كلّما كفكفت(1) منّي عبرة *** فاضت العين بمنهلّ درر(2)
/قال: فتلاحيا جميعا فيما صنعاه من هذين الصّوتين، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه: أنا أجود صنعة منك.
فتنافرا(3) إلى ابن سريج فمضيا إليه بمكة. فلمّا قدماها سألا عنه، فأخبرا أنه خرج يتطرّف(4) بالحنّاء في بعض بساتينها. فاقتفيا أثره، حتى وقفا عليه و في يده الحنّاء، فقالا له: إنّا خرجنا إليك من المدينة لتحكم بيننا في صوتين صنعناهما. فقال لهما: ليغنّ كلّ واحد منكما صوته. فابتدأ معبد يغنّي لحنه. فقال له: أحسنت و اللّه على سوء اختيارك للشّعر! يا ويحك! ما حملك على أن ضيّعت هذه الصّنعة الجيّدة في حزن و سهر و هموم و فكر! أربعة ألوان من الحزن في بيت واحد، و في البيت الثاني شرّان في مصراع واحد، و هو قولك:
شرّ ما طار على شرّ الشّجر
ثم قال لمالك: هات ما عندك، فغنّاه مالك. فقال له: أحسنت و اللّه ما شئت! فقال له مالك: هذا و إنّما هو ابن شهره، فكيف تراه يا أبا يحيى يكون إذا حال عليه الحول! قال دحمان: فحدّثني معبد أنّ ابن سريج غضب عند ذلك غضبا/شديدا، ثم رمى بالحنّاء من يديه و أصابعه و قال له: يا مالك، أ لي تقول ابن شهره! اسمع منّي ابن ساعته، ثم قال: يا أبا عبّاد أنشدني القصيدة التي تغنّيتما فيها. فأنشدته القصيدة حتى انتهيت إلى قوله:
تنكر الإثمد لا تعرفه *** غير أن تسمع منه بخبر
فصاح بأعلى صوته: هذا خليلي و هذا صاحبي، ثم تغنّى فيه، فانصرفنا مفلولين مفضوحين من غير أن نقيم بمكة ساعة واحدة.
الشّعر لعبد الرحمن بن حسّان بن ثابت يقوله في رملة بنت معاوية بن أبي سفيان، و له معها و مع أبيها و أخيها في تشبيبه بها أخبار كثيرة ستذكر في موضعها إن شاء اللّه. و من الناس من ينسب هذا الشعر إلى عمر بن أبي ربيعة، و هو غلط. و قد بيّن ذلك مع أخبار عبد الرحمن في موضعه.
و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن يحيى المكّيّ، و ذكر عمرو بن بانة أنه للغريض، و له لحن آخر في هذه الطريقة.
و جرت لي ظبية يتبعها *** ليّن الأظلاف(1) من حور البقر
خلفها أطلس(2) عسّال(3) الضّحى *** صادفته يوم طلّ و حصر(4)
/الغناء لمالك خفيف ثقيل بالبنصر في مجراها عن إسحاق.
إنّ عينيها لعينا جؤذر *** أهدب الأشفار من حور البقر
تنكر الإثمد لا تعرفه *** غير أن تسمع منه بخبر
الغناء لابن سريج رمل بالسّبّابة(5)، عن عمرو و يحيى المكّيّ.
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد قال أبي قال محمد بن سعيد:
لمّا ضادّ ابن سريج الغريض و ناوأه، جعل ابن سريج لا يغنّي صوتا إلا عارضه فيه الغريض فغنّى فيه لحنا غيره، و كانت ببعض أطراف مكة دار يأتيانها في كل جمعة و يجتمع لهما ناس كثير، فيوضع لكل واحد منهما كرسيّ يجلس عليه ثم يتناقضان(6) الغناء و يترادّانه. قال: فلمّا رأى ابن سريج موقع الغريض و غنائه من الناس لقربه من النّوح و شبهه به، مال إلى الأرمال و الأهزاج فاستخفّها الناس. فقال له الغريض: يا أبا يحيى، قصرت الغناء و حذفته و أفسدته. فقال له: نعم يا مخنّث، جعلت تنوح على أبيك و أمّك، أ لى تقول هذا! و اللّه لأغنّينّ غناء ما غنّى أحد أثقل منه و لا أجود. ثم تغنّى:
تشكّى الكميت الجري لمّا جهدته
ص: 224
قال حمّاد: و قرأت على أبي عن/هشام بن المرّيّة قال: كان ابن عتيق يسوق في كلّ عام عن ابن سريج بدنة و ينحرها عنه، و يقول: هذا أقلّ حقّه علينا.
قال حمّاد: قال أبي و قال مخلد بن خداش المهلّبيّ: كنّا بالمدينة في مجلس لنا و معنا معبد، فقدم من مكة إلى المدينة فدخل علينا ليلا، فجلس معبد يسائله عن/الأخبار و هو يخبره و لا نسمع ما يقول. فالتفت إلينا معبد فقال: أصبحت أحسن الناس غناء. فقيل له: أ و لم تكن كذلك؟ قال: لا(1) حيث كان ابن سريج حيّا، إنّ هذا أخبرني أنّ ابن سريج قد مات. ثم كان بعد ذلك إذا غنّى صوتا فأعجبه غناؤه قال: أصبحت اليوم سريجيّا.
قال حمّاد: حدّثني أبي قال حدّثني أبو الحسن المدائنيّ قال: قال معبد: أتيت أبا السّائب - المخزومي و كان يصلّي في كل يوم و ليلة ألف ركعة - فلمّا رآني تجوّز(2) و قال: ما معك من مبكيات ابن سريج؟ قلت قوله:
و لهنّ بالبيت العتيق لبانة *** و البيت يعرفهنّ لو يتكلّم
لو كان حيّا قبلهن ظعائنا *** حيّا الحطيم وجوههنّ و زمزم
لبثوا ثلاث منى(3) بمنزل غبطة *** و هم على سفر لعمرك ما هم
متجاورين بغير دار إقامة *** لو قد أجدّ(4) تفرّق لم يندموا
فقال لي: غنّه، فغنّيته. ثم قام يصلّي فأطال، ثم تجوّز إليّ فقال: ما معك من مطرباته و مشجياته؟ فقلت: قوله:
لسنا نبالي حين ندرك حاجة *** ما بات أو ظلّ المطيّ معقّلا
فقال لي: غنّه، فغنّيته. ثم صلّى و تجوّز إليّ و قال: ما معك من مرقصاته؟ فقلت:
فلم أر كالتّجمير منظر ناظر *** و لا كليالي الحجّ أفتنّ ذا هوى
فقال: كما أنت حتى أتحرّم لهذا بركعتين.
قال حمّاد: و أخبرني أبي عن إبراهيم بن المنذر الحزاميّ، و ذكر أبو أيّوب المدينيّ عن الحزاميّ قال حدّثني عبد الرحمن بن إبراهيم المخزوميّ قال:
ص: 225
أرسلتني أمّي و أنا غلام أسأل عطاء بن أبي رباح عن مسألة، فوجدته في دار يقال لها دار المعلّى - و قال أبو أيّوب في خبره: دار المقلّ(1) - و عليه ملحفة معصفرة، و هو جالس على منبر و قد ختن ابنه و الطعام يوضع بين يديه و هو يأمر به أن يفرّق في الخلق(2)، فلهوت مع الصّبيان ألعب بالجوز حتى أكل القوم و تفرّقوا و بقي مع عطاء خاصّته، فقالوا: يا أبا محمد لو أذنت لنا فأرسلنا إلى الغريض و ابن سريج! فقال: ما شئتم، فأرسلوا إليهما. فلمّا أتيا قاموا معهما و ثبت عطاء في مجلسه فلم يدخل، فدخلوا بهما بيتا في الدار، فتغنّيا و أنا أسمع. فبدأ ابن سريج فنقر بالدفّ و تغنّى بشعر كثيّر:
بليلى(3) و جارات لليلى كأنّها *** نعاج الملا(4) تحدى بهن الأباعر
أ منقطع يا عزّ ما كان بيننا *** و شاجرني يا عزّ فيك الشّواجر(5)
إذا قيل هذا بيت عزّة قادني *** إليه الهوى و استعجلتني البوادر(6)
أصدّ و بي مثل الجنون لكي يرى *** رواة الخنا أنّي لبيتك هاجر
فكأن القوم قد نزل عليهم السّبات(7)، و أدركهم الغشي فكانوا كالأموات(8)، ثم أصغوا/إليه بآذانهم و شخصت إليه أعينهم(9) و طالت أعناقهم. ثم غنّى الغريض بصوت أنسيته/بلحن آخر. ثم غنّى ابن سريج و أوقع بالقضيب، و أخذ الغريض الدّفّ فغنّى بشعر الأخطل:
فقلت اصبحونا(10) لا أبا لأبيكم *** و ما وضعوا الأثقال إلا ليفعلوا
و قلت اقتلوها عنكم بمزاجها *** فأكرم بها مقتولة حين تقتل
أناخوا فجرّوا شاصيات(11) كأنها *** رجال من السّودان لم يتسربلوا
فو اللّه ما رأيتهم تحرّكوا و لا نطقوا إلا مستمعين لما يقول. ثم غنّى الغريض بشعر آخر و هو:
هل تعرف الرّسم و الأطلال و الدّمنا *** زدن الفؤاد على ما عنده(12) حزنا
دار لصفراء(13) إذ كانت تحلّ بها *** و إذ ترى الوصل فيما بيننا حسنا
ص: 226
إذ تستبيك بمصقول عوارضه(1) *** و مقلتي جؤذر لم يعد أن شدنا
ثم غنّيا جميعا بلحن واحد، فلقد خيّل لي أن الأرض تميد، و تبيّنت ذلك في عطاء أيضا. و غنّى الغريض في شعر عمر بن أبي ربيعة، و هو قوله:
كفى حزنا تجمع الدار شملنا *** و أمسي قريبا لا أزورك كلثما
دعي القلب لا يزدد خبالا مع الذي *** به منك أو داوى جواه المكتّما
/و من كان لا يعدو هواه لسانه *** فقد حلّ في قلبي هواك و خيّما
و ليس بتزويق(2) اللسان و صوغه *** و لكنّه قد خالط اللحم و الدّما
و غنّى ابن سريج أيضا:
خليليّ عوجا نسأل اليوم منزلا *** أبى بالبراق(3) العفر(4) أن يتحوّلا
ففرع النّبيت(5) فالشّرى(6) خفّ أهله *** و بدّل أرواحا جنوبا و شمالا
أرادت فلم تسطع كلاما فأومأت *** إلينا و لم تأمن رسولا فترسلا
بأن بت عسى أن يستر الليل مجلسا *** لنا أو تنام العين عنّا فتقبلا(7)
و غنّى الغريض أيضا:
يا صاحبيّ قفا نقضّ لبانة *** و على(8) الظّعائن قبل بينكما اعرضا
ص: 227
/
لا تعجلاني أن أقول بحاجة(1)*** رفقا(2) فقد زوّدت زادا مجرضا(3)
و مقالها بالنّعف نعف محسّر(4)*** لفتاتها هل تعرفين المعرضا(5)
هذا الذي أعطى مواثق عهده *** حتى رضيت و قلت لي لن ينقضا
و أغانيّ أنسيتها، و عطاء يسمع على منبره(6) و مكانه، و ربما رأيت رأسه قد مال و شفتيه تتحرّكان حتّى بلغته الشمس، فقام يريد منزله. فما سمع السامعون شيئا أحسن منهما و قد رفعا أصواتهما و تغنّيا بهذا. و لمّا بلغت(7)الشمس عطاء قام و هم على طريقة واحدة في الغناء، فاطّلع في كوّة البيت. فلما رأوه قالوا: يا أبا محمد، أيّهما أحسن غناء؟ قال: الرّقيق الصوت. يعني ابن سريج.
و لهنّ بالبيت العتيق لبانة *** و البيت يعرفهنّ لو يتكلّم
لو كان حيّا قبلهنّ ظعائنا *** حيّا الحطيم وجوههنّ و زمزم
و كأنهنّ و قد حسرن(8) لواغبا(9) *** بيض بأكناف الحطيم مركّم
/لبثوا ثلاث منى بمنزل غبطة *** و هم على سفر لعمرك ما هم
متجاورين بغير دار إقامة *** لو قد أجدّ رحيلهم لم يندموا
عروضه من الكامل. الشعر لابن أذينة. و الغناء لابن سريج ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.
و أخبار ابن أذينة تأتي بعد هذا في موضعها إن شاء اللّه.
و منها الصوت الذي أوّله في الخبر:
لسنا نبالي حين ندرك حاجة
ص: 228
ودّع لبابة قبل أن تترحّلا *** و اسأل فإن قليله أن تسألا
و انظر بعينك ليلة و تأنّها *** فلعلّ ما بخلت به أن يبذلا
لسنا نبالي حين ندرك حاجة *** ما راح أو ظلّ المطيّ معقّلا
حتّى إذا ما الليل جنّ ظلامه *** و رجوت غفلة حارس أن يعقلا
خرجت تأطّر في الثياب كأنّها *** أيم يسيب على كثيب أهيلا(1)
الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج ثقيل أوّل بالوسطى في مجراها. و فيه لمعبد لحن من خفيف الثّقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى، و هو من مختار أغانيه و نادرها و صدور صنعته و ما يقدّم على كثير منها.
أخبرني أحمد بن محمد بن إسحاق الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الزّهريّ عن عبد اللّه بن عمران بن أبي فروة قال:
كنت أسير مع الغمر بن يزيد، فاستنشدني فأنشدته لعمر بن أبي ربيعة:
ودّع لبابة أن تترحّلا *** و اسأل فإنّ قليله أن تسألا
/قال ائتمر ما شئت غير مخالف *** فيما هويت فإنّنا لن نعجلا
نجري أيادي كنت تبذلها لنا *** حق علينا واجب أن نفعلا
حتّى إذا ما الليل جنّ ظلامه *** و رجوت غفلة حارس أن يعقلا
خرجت تأطّر في الثياب كأنّها *** أيم يسيب على كثيب أهيلا
رحّبت لمّا أقبلت فتعلّلت(2) *** لتحيّتي لمّا رأتني مقبلا
فجلا القناع سحابة مشهورة *** غرّاء تعشي الطّرف أن يتأمّلا
فظللت أرقيها بما لو عاقل *** يرقى به ما اسطاع ألاّ ينزلا
تدنو فأطمع ثم تمنع بذلها *** نفس أبت للجود أن تتبخّلا
قال: فأمر غلامه فحملني على بغلته التي كانت تحته. فلمّا أراد الانصراف طلب الغلام منّي/البغلة، فقلت: لا أعطيكها، هو أكرم و أشرف من أن يحملني عليها ثم ينتزعها منّي. فقال للغلام: دعه يا بنيّ، ذهبت و اللّه لبابة ببغلة مولاك.
ص: 229
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه، و أخبرنيه الحسن بن عليّ عن هارون بن الزّيّات عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني عثمان بن حفص الثّقفيّ عن إبراهيم بن عبد السّلام بن أبي الحارث عن ابن تيزن(1) المغنّى قال/قال أبو نافع الأسود - و كان آخر من بقي من غلمان ابن سريج -: إذا أعجزك أن تطرب القرشيّ فغنّه غناء ابن سريج في شعر عمر بن أبي ربيعة فإنك ترقصه. قال: و أبو نافع هذا أحذق(2) غلمان ابن سريج و من أخذ عنه، و كان أحسن رواته موتا(3).
و منها:
بليلى و جارات لليلى كأنّها *** نعاج الملا تحدى بهنّ الأباعر
أ منقطع يا عزّ ما كان بيننا *** و شاجرني يا عزّ فيك الشّواجر
إذا قيل هذا بيت عزّة قادني *** إليه الهوى و استعجلتني البوادر
أصدّ و بي مثل الجنون لكي يرى *** رواة الخنا أنيّ لبيتك هاجر
ألا ليت حظّي منك يا عزّ أنّني *** إذا بنت باع الصبر لي عنك تاجر
عروضه من الطويل. الشعر لكثيّر. و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو. و فيه لابن سريج لحن أوّله: «أصدّ و بي مثل الجنون» خفيف رمل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
و منها:
أناخوا فجرّوا شاصيات كأنّها *** رجال من السّودان لم يتسربلوا
فقلت اصبحوني لا أبا لأبيكم *** و ما وضعوا الأثقال إلا ليفعلوا
تمرّ بها الأيدي سنيجا و بارحا(4) *** و ترفع باللّهمّ حيّ و تنزل
ص: 230
/قال: عروضه من الطويل. الشاصيات: الشّائلات قوائمها من امتلائها، يعني الزّقاق، يقال: شصا يشصو و شصا ببصره إذا رفعه كالشاخص، و أنشد:
و ربرب خماص *** يطعن بالصّياصي(1)
ينظر من خصاص(2) *** بأعين شواصي
كفلق الرّصاص *** تسمو إلى القنّاص
الشعر للأخطل، و ذكره يأتي في غير هذا الموضع، من قصيدة يمدح بها خالد بن عبد اللّه بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة. و الغناء لمالك و له فيه لحنان: أحدهما في الأوّل و الثاني رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق، و الآخر في الثالث و الأوّل و الثاني خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لابن محرز خفيف ثقيل أوّل بالبنصر في مجراها. و فيه رمل آخر لإبراهيم عن عمرو أيضا.
و منها:
/هل تعرف الرسم و الأطلال و الدّمنا
و ذكر الأبيات الثلاثة و قد تقدّمت. عروضه من البسيط. الشعر لذي الإصبع العدوانيّ. و الغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر.
و منها:
كفى حزنا أن تجمع الدار شملنا
دعي القلب لا يزدد خبالا مع الذي *** به منك أو داوي جواه المكتّما
و من كان لا يعدو هواه لسانه *** فقد حلّ في قلبي هواك و خيّما
و ليس بتزويق اللسان و صوغه *** و لكنّه قد خالط اللّحم و الدّما
- عروضه من الطّويل. الشعر للأحوص، و قيل: إنه لسعيد بن عبد الرحمن بن حسّان. و الغناء لمعبد ثقيل أوّل
ص: 231
بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. و ذكر يونس أنّ لمالك لحنا فيه -
أ كلثم فكّي عانيا بك مغرما *** و شدّي قوى حبل لنا قد تصرّما
فإن تسعفيه مرّة بنوالكم *** فقد طالما لم ينج منك مسلّما
كفى حزنا أن تجمع الدار شملنا *** و أمسي قريبا لا أزورك كلثما
و بعده هذه الأبيات التي مضت.
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد و ذكر الثّقفيّ عن دحمان قال: تذاكرنا و نحن في المسجد أنا و الرّبيع بن أبي الهيثم الغناء أيّه أحسن، فجعل يقول و أقول فلا نجتمع على شيء. فقلت: اذهب بنا إلى مالك بن أبي السّمح.
فذهبنا إليه فوجدناه في المسجد، فقال: ما جاء بكما؟ فأخبرناه. فقال: قد جرى هذا بيني و بين معبد و قال و قلت، فجاءني معبد يوما و أنا في المسجد و قال: قد جئتك بشيء لا تردّه. فقلت: و ما هو؟ قال: لحن ابن سريج:
و ليس بتزويق اللسان و صوغه *** و لكنّه قد خالط اللحم و الدّما
/ثم قال لي معبد: أسمعكه؟ قلت: نعم، و أريته أنّي لم أسمعه قبل، فقال: اسمعه منّي؛ فغنّى فيه و نحن في المسجد، فما سمعت شيئا قطّ أحسن منه، فافترقنا و قد اجتمعنا عليه.
و قرأت في فصل لإبراهيم بن المهديّ إلى إسحاق الموصليّ. «و كتبت رقعتي هذه و أنا في غمرة(1) من الحمّى تصدف(2) عن المفترضات. و لو لا خوفي من تشنيعك و تجنّيك لم يكن فيّ للإجابة فضل، غير أنّي قد تكلّفت الجواب على ما اللّه به عالم من صعوبة علّتي و ما أقاسيه من الحرارة الحادثة بي.
و ليس بتزويق اللّسان و صوغه *** و لكنّه قد خالط اللّحم و الدّما»
و قال إسحاق حدّثني شيخ من موالي المنصور قال: قدم علينا فتيان من بني أميّة(3) يريدون مكّة، فسمعوا معبدا و مالكا فأعجبوا بهما، ثم قدموا مكّة فسألوا عن ابن سريج فوجدوه مريضا، فأتوا صديقا(4) له فسألوه أن يسمعهم غناءه، فخرج معهم حتى دخلوا عليه. فقالوا: نحن فتيان من قريش، أتيناك مسلّمين عليك، و أحببنا أن نسمع منك. فقال: أنا/مريض كما ترون. فقالوا: إنّ الذي نكتفي منك به يسير - و كان ابن سريج أديبا طاهر الخلق عارفا بأقدار الناس - فقال: يا جارية، هاتي جلبابي(5) و عودي، فأتته خادمه بخامة(6) فسدلها على وجهه
ص: 232
- و كان يفعل ذلك إذا/تغنّى لقبح وجهه - ثم أخذ العود فغنّاهم، فأرخى ثوبه على عينيه و هو يغنّي، حتى إذا اكتفوا ألقى عوده و قال: معذرة. فقالوا: نعم، قد قبل اللّه عذرك فأحسن اللّه إليك، و مسح(1) ما بك، و انصرفوا يتعجّبون مما سمعوا. فمرّوا بالمدينة منصرفين، فسمعوا من معبد و مالك، فجعلوا لا يطربون لهما و لا يعجبون بهما كما كانوا يطربون. فقال أهل المدينة: نحلف باللّه لقد سمعتم بعدنا ابن سريج! قالوا: أجل! لقد سمعناه فسمعنا ما لم نسمع مثله قطّ، و لقد نغّص(2) علينا ما بعده.
منازل هند إذ تواصلني بها *** ليالي تسبيني(1) بمستطرف(2) الودّ
ينير ظلام الليل من حسن وجهها *** و تهدي بطيب الرّيح من جاء من نجد
- الغناء لابن سريج رمل بالبنصر عن الهشاميّ - فزففت(3) خلفها زفيف النّعامة، فما انجلت غشاوتي إلا و أنا بالمشاش(4) حسير(5)، فأودعتها قلبي و خلّفته لديها، و أقبلت أهوي كالرّخمة(6) بغير قلب. فقال لي قنديل:
ما دفع أحد من المزدلفة أسعد منك، سمعت شعر ابن عمارة في غناء ابن سريج من رقطاء الحبطيّة؛ لقد أوتيت /جزءا من النبوّة. قال: و كانت رقطاء هذه من أضرب الناس؛ فدخل رجل من أهل المدينة منزلها فغنّته صوتا.
فقال له بعض من حضر: هل رأيت قطّ أو ترى أفصح من وتر هذه؟ فطرب المدنيّ و قال: عليّ العهد إن لم يكن و ترها من معي بشكست(7) النّحويّ، فكيف لا يكون فصيحا! و بشكست هذا كان نحويّا بالمدينة، و قتل مع الشّراة(8) الخارجين مع أبي حمزة صاحب عبد اللّه بن يحيى الكنديّ الشّاري المعروف بطالب الحقّ.
قال محمد بن الحسن و حدّث(9) عن إسحاق عن أبيه أنه كان يقول:
غناء كلّ مغنّ مخلوق من قلب رجل واحد، و غناء ابن سريج مخلوق من قلوب الناس جميعا. و كان يقول:
الغناء على ثلاثة أضرب، فضرب مله(10) مطرب يحرّك و يستخفّ، و ضرب ثان له شجا و رقّة، و ضرب ثالث حكمة و إتقان صنعة.
قال: و كل هذا مجموع في غناء ابن سريج.
بك؟ فقال له الأخضر: لقد كنت إلى/ذلك مشتاقا، /قال: فقعدا يتحدّثان، فمرّ بهما أبو السائب، فقال:
يا مطربي الحجاز، أ لشيء كان اجتماعكما؟ فقالا: لغير موعد كان ذلك، أ فتؤنسنا؟ قال: فقعدوا يتحدّثون. فلما مضى بعض الليل قال الأخضر لابن سلمة: يا أبا الأزهر، قد ابهارّ الليل(1) و ساعدك القمر، فأوقع بقهقهة(2)ابن سريج و أصب معناك(3). فاندفع يغنّي:
تجنّت بلا جرم و صدّت تغضّبا *** و قالت لتربيها مقالة عاتب
سيعلم هذا أنّني بنت حرّة *** سأمنع نفسي من ظنون كواذب
فقولي له عنّا تنحّ فإنّنا *** أبيات فحش طاهرات المناسب
- الغناء لابن سريج و لم يذكر طريقته - قال: فجعل أبو السّائب يزفن(4) و يقول: أبشر حبيبي؛ فلأنت أفضل من شهداء قزوين(5). قال: ثم قال ابن سلمة للأخضر: نعم المساعد على همّ الليل أنت! فأوقع بنوح ابن سريج و لا تعد معناك(6). فاندفع يغنّي:
فلمّا التقينا بالحجون(7) تنفست *** تنفّس محزون الفؤاد سقيم
و قالت و ما يرقا(8) من الخوف دمعها *** أ قاطنها أم أنت غير مقيم
/فإنّا غدا تحدى بنا العيس بالضّحى *** و أنت بما نلقاه غير عليم
فقطّع قلبي قولها ثم أسبلت *** محاجز(9) عيني دمعها بسجوم(10)
قال: فجعل أبو السّائب يتأفّف و يقول: أعتق ما أملك إن لم تكن فردوسيّة الطّينة، و إنّها بعلمها لأفضل من آسية امرأة فرعون.
ص: 235
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال:
بلغني أنّ أبا دهبل الجمحيّ قال: كنت أنا و أبو السّائب المخزوميّ عند مغنّية بالمدينة يقال لها «الذّلفاء»، فغنّتنا بشعر جميل بن معمر العذريّ، و اللحن لابن سريج:
لهنّ الوجى(1) لم كنّ عونا على النّوى *** و لا زال منها ظالع و كسير(2)
كأنّي سقيت السّمّ يوم تحمّلوا *** و جدّ بهم حاد و حان مسير
فقال أبو السائب: يا أبا دهبل، نحن و اللّه على خطر من هذا الغناء، فنسأل اللّه السّلامة و أن يكفينا كلّ محذور، فما آمن أن يهجم بي على أمر يهتكني(3). قال: و جعل يبكي.
أخبرني محمد بن خلف وكيع(4) قال حدّثنا الزّبير بن بكّار عن بكّار بن رباح(5) عن إسحاق بن مقمّة(6) عن أمّه قالت: سمعت ابن سريج على أخشب(7) منى غداة النّفر(8) و هو يغنّي:
جدّدي الوصل يا قريب(9) وجودي *** لمحبّ فراقه قد ألمّا(10)
ليس بين الحياة(11) و الموت إلاّ *** أن يردّوا(12) جمالهم فترمّا(13)
- و نسبة هذا الصوت تأتي بعد هذه الأخبار - قالت: فما تشاء أن تسمع من خباء و لا مضرب/حنينا و لا أنينا إلاّ سمعته.
ص: 236
و ذكر يوسف بن إبراهيم أنه حضر إسحاق بن إبراهيم الموصليّ ليلة و هو يذاكر(1) إبراهيم بن المهديّ، إلى أن قال إسحاق في بعض مخاطبته إيّاه: هذا صوت قد تمعبد فيه ابن سريج. فقال له إبراهيم: ما ظننت أنّك يا أبا محمد مع علمك و تقدّمك تقول مثل هذا في ابن سريج، فكيف يجوز أن تقول: تمعبد ابن سريج، و إنما معبد إذا أحسن قال: أصحبت سريجيّا! قد أغنى اللّه ابن سريج عن هذا و رفع/قدره عن مثله، و أعيذك باللّه أن تستشعر مثله في ابن سريج. قال: فما رأيت إسحاق دفع ذلك و لا أباه، و لا زاد على أن قال: هي كلمة يقولها الناس، لم أقلها اعتقادا لها فيه، و إنما تكلّمت بها على العادة.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا محمد بن إسماعيل قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال: قال لي شعيب بن صخر: كان معبد إذا غنّى فأجاد قال: أنا اليوم سريجيّ.
حدّثني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن سلاّم قال حدّثنا شعيب بن صخر قال: كان نعمان المغنّي عندي نازلا، و كان يغنّي، و كنت أراه يأتيه قوم. قال أبو عبد اللّه: فقلت له: فأيّهم كان أحذق؟ قال: لا أدري، إلاّ أنّهم كانوا إذا جاء ابن سريج سكتوا.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني الهيثم(2) بن عيّاش قال حدّثني عبد الرحمن بن عيينة(3) قال: بينما نحن بمنى و نحن نريد الغدوّ إلى عرفات، إذ أتانا الأحوص فقال: أبيت بكم الليلة؟ قلنا:
بالرّحب و السّعة. فلما جنّه الليل لم يلبث أن غاب عنّا ثم عاد و رأسه يقطر ماء. قلت: مالك؟ قال:
تعرّض سلماك لمّا حرم *** ت(4) ضلّ ضلالك(5) من محرم!
تريد به البرّ يا ليته *** كفافا من البرّ و المأثم(6)
/ - الغناء لابن سريج و لم يجنّسه - قال قلت: زنيت و ربّ الكعبة! قال: قل ما بدا لك. ثم لقي ابن سريج فقال: إنّي قد قلت بيتين حسنين أحبّ أن تغنّيني بهما. قال: ما هما؟ فأنشده إيّاهما؛ فغنّى بهما من ساعته، ففتن من حضر ممّن سمع صوته.
ص: 237
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني إسحاق بن يحيى بن طلحة قال:
قدم جرير بن الخطفى المدينة و نحن يومئذ شباب نطلب الشّعر، فاحتشدنا له و معنا أشعب. فبينا نحن عنده إذ قام لحاجة و أقمنا لم نبرح. و جاء الأحوص بن محمد الشاعر من قباء على حمار فقال: أين هذا؟ فقلنا: قام لحاجة، فما حاجتك إليه؟ قال: أريد و اللّه أنّ أعلمه أنّ الفرزدق أشعر منه و أشرف. قلنا: ويحك! لا تعرض له و انصرف، فانصرف و خرج. فجاء جرير فلم يكن بأسرع من أن أقبل الأحوص الشاعر فأقبل عليه، فقال: السّلام عليك يا جرير. قال جرير: و عليك السّلام. فقال الأحوص: يا بن الخطفى، الفرزدق أشرف منك و أشعر. قال جرير: من هذا أخزاه اللّه! قلنا: الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. فقال: نعم! هذا الخبيث ابن الطيب، أ أنت القائل:
يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها *** و أحسن شيء ما به العين قرّت
/قال نعم. قال: فإنه يقرّ بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر، أ فيقرّ ذلك بعينك؟! قال: و كان الأحوص يرمى بالحلاق(1) فانصرف، فبعث إليهم بتمر و فاكهة. و أقبلنا على جرير نسائله، و أشعب عند الباب و جرير في مؤخّر البيت، فألحّ عليه أشعب/يسأل. فقال: و اللّه إنّي لأراك أقبحهم(2) وجها و أراك ألأمهم حسبا؛ فقد أبرمتني(3)منذ اليوم. قال: إنّي و اللّه أنفعهم و خيرهم لك. فانتبه جرير و قال: ويحك! كيف ذاك؟ قال: إني أملّح شعرك و أجيد مقاطعه و مبادئه. فقال: قل، ويحك! فاندفع أشعب فنادى بلحن ابن سريج:
يا أخت(4) ناجية السّلام عليكم *** قبل الرّحيل و قبل عدل(5) العذّل
لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم *** يوم الرّحيل(6) فعلت ما لم أفعل
فطرب جرير و جعل يزحف نحوه حتى ألصق بركبته ركبته، و قال: لعمري لقد صدقت، إنك لأنفعهم لي و قد حسّنته و أجدته و زيّنته، أحسنت و اللّه، ثم وصله و كساه. فلمّا رأينا إعجاب جرير بذلك الصوت، قال له بعض أهل المجلس: فكيف لو سمعت واضع هذا الغناء؟ قال: أو إن له لواضعا غير هذا؟ فقلنا نعم. قال: فأين هو؟ قلنا:
بمكّة قال: فلست بمفارق حجازكم حتى أبلغه. فمضى و مضى معه جماعة ممن يرغب في طلب الشعر في صحابته و كنت فيهم، فأتيناه جميعا، فإذا هو في فتية من قريش كأنّهم المها مع ظرف كثير، فأدنوا و رحّبوا و سألوا عن الحاجة، فأخبرناهم الخبر، فرحّبوا بجرير و أدنوه و سرّوا بمكانه، و أعظم عبيد بن سريج موضع جرير و قال: سل ما تريد جعلت فداءك! قال: أريد أن تغنّيني لحنا سمعته بالمدينة أزعجني إليك. قال: و ما هو؟ قال:
ص: 238
يا أخت
ناجية السّلام عليكم *** قبل الرّحيل و قبل عذل العذّل
فغنّاه ابن سريج و بيده قضيب يوقع به و ينكت، فو اللّه ما سمعت شيئا قطّ أحسن/من ذلك. فقال جرير: [للّه درّكم](1) يا أهل مكّة، ما أعطيتم! و اللّه لو أنّ نازعا نزع(2) إليكم ليقيم بين أظهركم فيسمع هذا صباح مساء لكان أعظم الناس حظّا و نصيبا، فكيف و مع هذا بيت اللّه الحرام، و وجوهكم الحسان، و رقّة ألسنتكم، و حسن شارتكم(3)، و كثرة فوائدكم! أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن جدّه إبراهيم(4) قال:
كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامل مكة أن أشخص إليّ ابن سريج، فأشخصه. فلمّا قدم مكث أيّاما لا يدعو به و لا يلتفت إليه. قال: ثم إنه ذكره، فقال: ويلكم! أين ابن سريج؟ قالوا: هو حاضر. قال: عليّ به. فقالوا:
أجب أمير المؤمنين. فتهيّأ و لبس و أقبل حتى دخل عليه فسلّم. فأشار إليه أن اجلس، فجلس [بعيدا(4)]. فاستدناه [فدنا(5)] حتى كان منه قريبا، و قال: ويحك يا عبيد! لقد بلغني عنك ما حملني على الوفادة بك من كثرة أدبك و جودة اختيارك مع ظرف لسانك و حلاوة مجلسك. فقال: جعلت فداءك يا أمير المؤمنين! «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه». قال الوليد: إني لأرجو ألاّ تكون أنت ذاك، ثم قال: هات ما عندك. فاندفع ابن سريج فغنّى بشعر الأحوص:
أ منزلتي سلمى على القدم اسلما *** فقد هجتما للشوق قلبا متيّما
و ذكّرتما عصر الشّباب الذي مضى *** و جدّة وصل حبله قد تجذّما(6)
//و إني إذا حلّت ببيش(7) مقيمة *** و حلّ بوج(8) جالسا(9) أو تتهما(10)
يمانية شطّت فأصبح نفعها *** رجاء و ظنّا بالمغيب مرجّما
أحبّ دنوّ الدار منها و قد أبى *** بها صدع شعب(11) الدار إلاّ تثلّما
ص: 239
بكاها و ما يدري سوى الظّنّ من بكى *** أحيا يبكى(1) أم ترابا و أعظما
فدعها و أخلف للخليفة مدحة *** تزل عنك بؤس أو تفيدك(2) أنعما
فإنّ بكفّيه مفاتيح رحمة *** و غيث حيا يحيا به الناس مرهما(3)
إمام أتاه الملك عفوا و لم يثب *** على ملكه مالا حراما و لا دما
تخيّره ربّ العباد لخلقه *** وليّا و كان اللّه بالناس أعلما
فلمّا قضاه(4) اللّه لم يدع مسلما *** لبيعته إلاّ أجاب و سلّما
ينال الغنى و العزّ من نال ودّه *** و يرهب موتا عاجلا من تشأّما(5)
فقال الوليد: أحسنت و اللّه و أحسن الأحوص! عليّ بالأحوص. ثم قال: يا عبيد هيه! فغنّاه بشعر عديّ بن الرّقاع العامليّ يمدح الوليد:
طار الكرى و ألمّ(6) الهمّ فاكتنعا(7) *** و حيل بيني و بين النّوم فامتنعا
كان الشّباب قناعا أستكنّ به *** و أستظلّ زمانا ثمّت انقشعا
فاستبدل الرأس شيبا بعد داجية *** فينانة(8) ما ترى في صدغها نزعا(9)
فإن تكن ميعة(10) من باطل ذهبت *** و أعقب اللّه بعد الصّبوة الورعا
فقد أبيت أراعي الخود(11) راقدة *** على الوسائد مسرورا بها ولعا
برّاقة الثّغر تشفي القلب لذّتها *** إذا مقبّلها في ريقها كرعا(12)
كالأقحوان بضاحي الرّوض صبّحه *** غيث أرشّ بتنضاح(13) و ما نقعا(14)
ص: 240
صلّى الذي الصّلوات الطّيّبات له *** و المؤمنون إذا ما جمّعوا الجمعا
على الذي سبق الأقوام ضاحية *** بالأجر و الحمد حتى صاحباه معا
هو الذي جمع الرحمن أمّته *** على يديه و كانوا قبله شيعا(1)
عذنا بذي العرش أن نحيا و نفقده *** و أن نكون لراع بعده تبعا
إنّ الوليد أمير المؤمنين له *** ملك عليه أعان اللّه فارتفعا
لا يمنع الناس ما أعطى الذين هم *** له عباد و لا يعطون ما منعا
فقال له الوليد: صدقت يا عبيد! أنّى لك هذا؟ قال: هو من عند اللّه. قال الوليد: لو غير هذا قلت لأحسنت أدبك. قال ابن سريج: ذلك فضل اللّه يؤتيه/من يشاء. قال الوليد: يزيد في الخلق ما يشاء. قال ابن سريج: هذا من فضل ربّي ليبلوني أ أشكر أم أكفر. قال الوليد: لعلمك و اللّه أكبر و أعجب إليّ من غنائك! غنّني. فغنّاه بشعر عديّ بن الرّقاع/العامليّ يمدح الوليد:
عرف الدّيار توهّما فاعتادها(2) *** من بعد ما شمل البلى أبلادها(3)
و لربّ واضحة العوارض(4) طفلة(5) *** كالرّيم قد ضربت بها أوتادها
إنّي إذا ما لم تصلني خلّتي(6) *** و تباعدت منّي اغتفرت بعادها
صلّى الإله على امرئ ودّعته *** و أتمّ نعمته عليه و زادها
و إذا الرّبيع تتابعت أنواؤه(7) *** فسقى خناصرة(8) الأحصّ فجادها
نزل الوليد بها فكان لأهلها *** غيثا أغاث أنيسها و بلادها
أو لا ترى أنّ البريّة كلّها *** ألقت خزائمها إليه فقادها
و لقد أراد اللّه إذ ولاّكها *** من أمّة إصلاحها و رشادها
ص: 241
/
أعمرت أرض المسلمين فأقبلت *** و كففت عنها من يروم فسادها
و أصبت في أرض العدوّ مصيبة *** عمّت أقاصي غورها و نجادها
ظفرا و نصرا ما تناول مثله *** أحد من الخلفاء كان أرادها
فإذا نشرت له الثناء وجدته *** جمع المكارم طرفها و تلادها
فأشار الوليد إلى بعض الخدم، فغطّوه بالخلع و وضعوا بين يديه كيسا من الدّنانير و بدرا من الدّراهم، ثم قال الوليد بن عبد الملك: يا مولى بني نوفل بن الحارث، لقد أوتيت أمرا جليلا. فقال ابن سريج: يا أمير المؤمنين! لقد آتاك اللّه ملكا عظيما و شرفا عاليا، و عزّا بسط يدك فيه فلم يقبضه عنك و لا يفعل إن شاء اللّه. فأدام اللّه لك ما ولاّك، و حفظك فيما استرعاك، فإنك أهل لما أعطاك، و لا نزعه منك إذ رآك له موضعا. قال: يا نوفليّ، و خطيب أيضا! قال ابن سريج: عنك نطقت، و بلسانك تكلّمت، و بعزّك بيّنت(1). و قد كان أمر بإحضار الأحوص بن محمد الأنصاريّ و عديّ بن الرّقاع العامليّ. فلمّا قدما عليه أمر بإنزالهما حيث ابن سريج، فأنزلا منزلا إلى جنب ابن سريج. فقالا: و اللّه لقرب أمير المؤمنين كان أحبّ إلينا من قربك يا مولى بني نوفل، و إنّ في قربك لما يلذّنا(2) و يشغلنا عن كثير مما نريد. فقال لهما ابن سريج: أو قلّة شكر! فقال له عديّ: كأنّك يا بن اللّخناء تمنّ علينا! عليّ و عليّ إن جمعنا و إيّاك سقف بيت أو صحن دار [إلا(3)] عند أمير المؤمنين. و أمّا الأحوص فقال: أو لا تحتمل(4) لأبي يحيى الزّلّة و الهفوة! و كفّارة(5) يمين خير من عدم المحبّة، و إعطاء النّفس سؤلها خير/من لجاج(6) في غير منفعة! فتحوّل عديّ، و بقي عنده الأحوص. و بلغ الوليد ما جرى بينهم، فدعا ابن سريج و أدخله بيتا و أرخى دونه سترا، ثم أمره إذا فرغ الأحوص و عديّ من كلمتيهما أن يغنّى. فلما دخلا و أنشداه مدائح فيه، رفع ابن سريج صوته من حيث لا يرونه و ضرب بعوده. فقال عديّ: يا أمير المؤمنين، أ تأذن لي أن أتكلّم؟ فقال: قل يا عامليّ. قال: أمثل هذا عند أمير المؤمنين، و يبعث إلى ابن سريج يتخطّى به رقاب قريش و العرب من تهامة إلى الشام، ترفعه أرض و تخفضه أخرى فيقال: من هذا؟ فيقال: عبيد بن سريج/مولى بني نوفل بعث أمير المؤمنين إليه، ليسمع غناءه! فقال: ويحك يا عديّ! أ و لا تعرف هذا الصوت(7)؟ قال: لا، و اللّه ما سمعته قطّ و لا سمعت مثله حسنا، و لو لا أنه(8) في مجلس أمير المؤمنين لقلت: طائفة من الجنّ يتغنّون. فقال: اخرج عليهم، فخرج فإذا ابن سريج. فقال عديّ: حقّ لهذا أن يحمل! حقّ لهذا أن يحمل! - ثلاثا - ثم أمر لهما بمثل ما أمر لهما بمثل ما أمر به لابن سريج، و ارتحل القوم. و كان الذي غنّاه ابن سريج من شعر عمر بن أبي ربيعة:
باللّه يا ظبي بني الحارث *** هل من وفى بالعهد كالنّاكث
ص: 242
لا تخدعنّي بالمنى باطلا *** و أنت بي تلعب كالعابث
حتّى متى أنت لنا هكذا(1) *** نفسي فداء لك يا حارثي
يا منتهى همّي و يا منيتي *** و يا هوى نفسي و يا وارثي
قال: و بلغني أنّ رجلا من الأشراف(2) من قريش من موالي ابن سريج عاتبه يوما على الغناء و أنكره عليه، و قال له: لو أقبلت على غيره من الآداب لكان أزين بمواليك و بك! فقال: جعلت فداك! امرأته طالق إن أنت لم تدخل الدار. فقال الشّيخ: ويحك! ما حملك على هذا؟ قال: جعلت فداك قد فعلت. فالتفت النوفليّ إلى بعض من كان معه متعجّبا مما فعل. فقال له القوم: قد طلقت امرأته إن أنت لم تدخل الدار. فدخل و دخل القوم معه.
فلمّا توسّطوا الدار قال: امرأته طالق إن أنت لم تسمع غنائي. قال: اعزب عنّى يا لكع! ثم بدر الشيخ ليخرج. فقال له أصحابه: أ تطلّق امرأته و تحمل وزر ذلك؟! قال: فوزر الغناء أشدّ. قالوا: كلاّ! ما سوّى اللّه عزّ و جلّ بينهما.
فأقام الشيخ مكانه. ثم اندفع ابن سريج يغنّي في شعر عمر بن أبي ربيعة في زينب:
أ ليست بالّتي قالت *** لمولاة لها ظهرا(3)
أشيري بالسّلام له *** إذا هو نحونا خطرا
و قولي في ملاطفة *** لزينب نوّلي عمرا
أ هذا سحرك النّسوا *** ن قد خبّرنني الخبرا
فقال للجماعة: هذا و اللّه حسن! ما بالحجاز مثله و لا في غيره. و انصرفوا.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الأصمعيّ قال: قال عبد اللّه بن عمير(4) اللّيثيّ لابن سريج: لو تركت الغناء! و عاتبه على ذلك. فقال: جعلت فداك! لو سمعته ما تركته. ثم قال: امرأته طالق ثلاثا إن لم تدخل الدار حتّى تسمع غنائي. فالتفت عبد اللّه إلى رفيق له كان معه فقال: ما تنتظر؟ ادخل بنا و إلاّ طلقت امرأة الرجل. فدخلا مع ابن سريج، فغنّى بشعر الأحوص:
لقد شاقك الحيّ إذ ودّعوا *** فعينك في إثرهم تدمع
و ناداك للبين غربانه(5) *** فظلت كأنّك لا تسمع
ثم قال: امرأته طالق إن أنت لم تستحسنه لأتركنّه. فتبسّم عبد اللّه و خرج.
ص: 243
منها: الصوت الذي أوّله في الخبر:
جدّدي الوصل يا قريب وجودي
أوّله:
إنّ طيف الخيال حين ألمّا *** هاج لي ذكرة و أحدث همّا(1)
جدّدي الوصل يا قريب(2) وجودي *** لمحبّ فراقه قد ألمّا
ليس بين الحياة و الموت ألاّ *** أن يردّوا(3) جمالهم فتزمّا
و لقد قلت مخفيا لغريض *** هل ترى ذلك الغزال الأحمّا(4)
هل ترى مثله من الناس شخصا *** أكمل الناس(5) صورة و أتمّا
/عروضه من الخفيف. الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء لابن سريج ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ. و فيه للغريض أيضا ثقيل أوّل بالسّبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق(6).
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن سعيد الدّمشقيّ قال حدّثنا الزّبير قال:
أنشد جعفر بن محمد بن زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السّلام قول عمر:
ليس بين الحياة و الموت إلاّ *** أن يردّوا جمالهم فتزمّا
فطرب و ارتاح و جعل يقول: لقد عجّلوا البين، أ فلا يوكون(7) قربة! أ فلا يودّعون صديقا! أ فلا يشدّون رحلا! حتى جرت دموعه.
و حدّثنا الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير فذكر مثله.
و منها:
يا أخت ناجية السّلام عليكم *** قبل الرّحيل و قبل عذل العذّل
ص: 244
لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم *** يوم الرّحيل فعلت ما لم أفعل
عروضه من الكامل. الشعر لجرير. و الغناء لابن سريج ثقيل أوّل بالسّبّابة في مجرى الوسطى عن ابن المكّيّ، و ذكره إسحاق في هذه الطريقة و لم ينسبه إلى أحد. و فيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن ابن المكيّ أيضا.
و مما يشكّ فيه/أنه لمعبد أو لكردم ابنه في البيت الثاني و الأوّل ثاني ثقيل. و لعريب(1) في هذين البيتين لحن من رواية ابن المعتزّ غير مجنّس.
و منها:
أ منزلتي سلمى على القدم اسلما *** فقد هجتما للشوق قلبا متيّما
و ذكّرتما عصر الشّباب الذي مضى *** و جدّة وصل حبله قد تجذّما
عروضه من الطّويل. و الشعر للأحوص. و الغناء لكردم ثاني ثقيل بالوسطى، و قيل: إنّ هذا الثقيل الثاني لمحمد الرّفّ(2)، و إنّ فيه لحنا من الثقيل الأوّل لكردم.
و منها:
عرف الديار توهّما فاعتادها *** من بعد ما شمل البلى أبلادها
إلاّ رواكد(3) كلّهن قد اصطلى *** حمراء أكثر(4) أهلها إيقادها
/عروضه من الكامل. الشعر لعديّ بن الرّقاع العامليّ. و الغناء لابن محرز ثقيل أوّل/مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لمالك ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو. و فيه لحن لإبراهيم، و في هذه الأخبار أنه لابن سريج، و ذكر حمّاد في كتاب ابن محرز أنه مما ينسب إلى ابن مسجح [أو إلى ابن محرز(5)].
و منها:
ص: 245
باللّه يا ظبي بني الحارث *** هل من وفى بالعهد كالنّاكث
لا تخدعنّي بالمنى باطلا *** و أنت بي تلعب كالعابث
عروضه من السّريع. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج و لحنه خفيف ثقيل أوّل بالوسطى، و ذكر عمرو بن بانة أنه لسياط. و ذكر الهشاميّ و بذل أنّ فيه لإبراهيم الموصليّ لحنا آخر. و فيه خفيف رمل بالبنصر ذكر حبش أنه لإبراهيم بن المهديّ، و غيره ينسبه إلى إسحاق.
و منها:
- و هو الذي أوّله في الخبر:
أ ليست بالتي قالت *** لمولاة لها ظهرا
تصابى القلب فادّكرا *** هواه و لم يكن ظهرا
لزينب إذ تجدّ لنا *** صفاء لم يكن كدرا
أ ليست بالتي قالت *** لمولاة لها ظهرا
أشيري بالسّلام له *** إذا هو نحونا نظرا(1)
و قولي في ملاطفة *** لزينب نوّلي عمرا
/فهزّت رأسها عجبا *** و قالت من بذا أمرا
أ هذا سحرك النّسوا *** ن قد خبّرنني الخبرا
طربت و ردّ من تهوى *** جمال الحيّ فابتكرا(2)
فقل للبربريّة لا *** تلومي القلب إن جهرا
بطرت و هكذا الإنسا *** ن ذو بطر إذا ظفرا
فأين العهد و الميثا *** ق لا تخبر(3) بنا بشرا
عروضه من الوافر(4). الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج في الثالث و الرابع و الخامس و الأوّل
ص: 246
خفيف ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و للغريض في السابع و الثامن و الأوّل لحن من القدر الأوسط من الثّقيل الأوّل بالوسطى في مجراها عن إسحاق. و لمعبد في هذا الأبيات كلّها لحن عن يونس و دنانير و لم يجنّساه، و ذكر الهشاميّ أنه خفيف ثقيل. و في السابع و الثامن و التاسع رمل لدحمان، و يقال إنه للزّبير ابنه.
و لمالك لحن أوّله:
لقد أرسلت جاريتي *** و قلت لها خذي حذرك
و قولي في ملاطفة *** لزينب نوّلي عمرك
/فهزّت رأسها عجبا *** و قالت من بذا أمرك
أ هذا سحرك النسوا *** ن قد خبّرنني خبرك
/و لحن مالك هذا خفيف ثقيل بالوسطى من رواية ابن المكّيّ. و هذا يروي الشعر و يجعل قوافيه كلّها على الكاف. و في هذا الأبيات بعينها على هذا القافية خفيف رمل ينسب إلى ابن سريج و إلى الغريض. و ذكر حبش أنّ فيه لمعبد لحنا من الرّمل أوّله الثالث من الأبيات الأول المذكورة.
أخبرنا يحيى(1) بن عليّ و وكيع و جحظة قالوا: حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: قال لي الفضل بن يحيى: سألت أباك ليلة و قد أخذ منه الشراب عن أحسن النّاس غناء، فقال لي؛ من النّساء أم من الرجال؟ قلت: من الرجال. قال: ابن محرز. فقلت: فمن النّساء؟ قال: ابن سريج، قال إسحاق لي: و يقال أحسن الرجال غناء من تشبّه بالنساء، و أحسن النساء غناء من تشبّه بالرجال. قال يحيى بن عليّ خاصّة: ثم كان ابن سريج كأنه خلق من قلب كلّ واحد، فهو يغنّي له بما يشتهي.
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد: قرأت على أبي عن الهيثم بن عديّ قال: قال ابن سريج: مررت ببعض أندية مكة و فيه جماعة، فحصرت(2) فقلت: كيف أجوزهم مع تعبي و ما أنا فيه! فسمعتهم يقولون: قد جاء ابن سريج، فقال بعضهم ممّن لم يعرفني: و من ابن سريج؟ فقال: الذي يغني:
ألا هل هاجك الأظعا *** ن إذ جاوزن مطلحا
ص: 247
/قال ابن سريج: فلمّا سمعت ذلك قويت نفسي و اشتدّت منّتي(1)، و مررت بهم أخطر في مصبّغاتي. فلمّا حاذيتهم قاموا بأجمعهم فسلّموا عليّ، ثم قالوا لأحداثهم: امشوا مع أبي يحيى.
و قد حدّثني عمّي بهذا الخبر فقال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ قال حدّثني محمد بن سلاّم عن جرير قال:
قال لي ابن سريج: دعاني فتية من بني مروان، فدخلت إليهم و أنا في ثياب الحجاز الغلاظ الجافية، و هم في القوهيّ(2) و الوشي يرفلون كأنهم الدّنانير الهرقليّة(3)، فغنّيتهم و أنا محتقر لنفسي عندهم لحنا لي، و هو:
أبا لفرع لم تظعن مع الحيّ زينب *** بنفسي عن النّأي الحبيب المغيّب
بوجهك عن مسّ التّراب مضنّة(4) *** فلا تبعدي إذ كلّ حيّ سيعطب
- و لحن ابن سريج هذا رمل بالخنصر في مجرى البنصر - قال: فتضاءلوا في عيني حتى ساويتهم في نفسي لما رأيتهم عليه من الإعظام لي. ثم غنّيتهم:
ودّع لبابة قبل أن تترحّلا *** و اسأل فإن قلاله أن تسألا
فطربوا و عظّموني و تواضعوا لي، حتى صرت في نفسي بمنزلتهم لما رأيتهم عليه، و صاروا/في عيني(5)بمنزلتي. ثم غنّيتهم:
ألا هل هاجك الأظعا *** ن إذ جاوزن مطلحا
/فطربوا و مثلوا بين يديّ و رموا بحللهم كلّها عليّ حتى غطّوني بها، فمثّلت لي نفسي أنها نفس الخليفة و أنهم لي خول(6)، فما رفعت طرفي إليهم بعد ذلك تيها. و قد مضت نسبة «ودّع لبابة» في أخبار عمر بن أبي ربيعة و غيره. و أمّا:
ألا هل هاجك الأظعا *** ن.......
فنذكر نسبته.:
ألا هل هاجك الأظعا *** ن إذ جاوزن مطلحا
ص: 248
نعم و لو شك بينهم *** جرى لك طائر سنحا(1)
أجزن الماء من ركك(2) *** و ضوء الفجر قد وضحا
/فقلن مقيلنا قرن(3) *** نباكر ماءه صبحا(4)
تبعتهم بطرف العي *** ن حتّى قيل لي افتضحا
يودّع بعضنا بعضا *** و كلّ بالهوى جرحا
فمن يفرح ببينهم *** فغيري إذ غدوا فرحا
عروضه من الوافر(5). الشّعر لأبي دهبل(6) الجمحيّ. و الغناء لمالك و له فيه لحنان: ثقيل أوّل بالبنصر عن إسحاق، و خفيف ثقيل بالوسطى [عن عمرو(7). و لمعبد فيه ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى]. و لابن سريج في الخامس و ما بعده ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش(8).
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال: قدم جرير المدينة أو مكة فجلس مع قوم، فجعلوا يعرضون عليه غناء رجل رجل من المغنّين، حتى غنّوه لابن سريج، فطرب و قال: هذا أحسن ما أسمعتموني من الغناء كلّه.
ص: 249
قالوا: و كيف قلت ذاك يا أبا حزرة؟ قال: مخرج كلّ ما أسمعتموني من الغناء من الرأس، و مخرج هذا من الصّدر.
أخبرني الحسن(1) بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني أبي قال حدّثني إبراهيم بن محمد الشافعيّ قال:
/جاء سندة(2) الخيّاط المغنّي إلى الأفلح(3) المخزوميّ - و كان يوصف بعقل و فضل - فقال له: من أين أقبلت؟ و إلى أين تمضي؟ فقال: إليك قصدت من مجلس لبعض القرشيّين أقبلت محاكما إليك. قال: في ما ذا؟ قال:
كنت عند هذا الرجل و حضرت مجلسه رقطاء الحبطيّين،(4) و صفراء العلقميّين، فتناولتا بينهما رمل ابن سريج:
ليت شعري كيف أبقى ساعة *** مع ما ألقى إذا الليل حضر
من يذق نوما و يهدأ ليله *** فلقد بدّلت بالنوم السّهر
قلت مهلا إنها جنّيّة *** إن نخالطها تفز منها بشرّ
/فغنّتاه جميعا، و اختلفنا في تفضيلهما، ففضّل كلّ فريق منّا إحداهما، فرضينا جميعا بحكمك، فاحكم بيننا و بينهما. قال: فوجم ساعة - و أهل الحجاز إذا أرادوا أن يحكموا تأمّلوا ساعة ثم حكموا، فاذا حكم المحكّم مضى حكمه كائنا ما كان، ففضّل من فضّله و أسقط من أسقطه، إذا تراضى الخصمان به - فكره الأفلح أن يرضي قوما و يسخط آخرين، فقال لسندة(2): صفهما أنت لي كيف كانتا إذ غنّتاه و اشرح لي مذهبهما فيه كما سمعت، و أنا أحكم بعد ذلك. فقال: سندة(2) أمّا جارية الحبطيين(4)، فإنها كانت تلوك لحنه كما يلوك الفرس العتيق لجامه، ثم تلقيه في هامة لدنة ثم تخرجه من منخر أغنّ(5)، و اللّه ما ابتدأته فتوسّطته و أنا أعقل، و لا فرغت منه فأفقت إلا و أنا أظنّ أنّي رأيته في نومي. و أما صفراء العلقميّين، فإنها أحسنهما حلقا، و أصحّهما صوتا، و ألينهما تثنّيا، و اللّه ما سمعها أحد قطّ فانتفع بنفسه و لا دينه. /هذا ما عندي، فاحكم أنت يا أخا بني مخزوم. فقال: قد حكمت بأنهما بمنزلة العينين في الرأس، فبأيّهما نظرت أبصرت، و لو كان في الدنيا من عبيد بن سريج خلف لكانتا. قال: فانصرفوا جميعا راضين بحكمه.
أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه عن محمد بن سلاّم قال:
سألت جريرا المدينيّ(6) عن ابن سريج، فقال: أتذكره ويحك باسمه، و لا تقول: سيّد من غنّى و واحد من ترنّم!
ص: 250
قال حمّاد و حدّثني أبي عن هارون بن مسلم(1) عن محمد بن زهير السّعديّ الكوفيّ عن أبي بكر بن عيّاش عن الحسن بن عمرو الفقيميّ قال:
دخلت على الشّعبيّ، فبينا أنا عنده في غرفته، إذ سمعت صوت غناء، فقلت: أ هذا في جوارك؟ فأشرف بي على منزله، فإذا بغلام كأنه فلقة قمر و هو يتغنّى - قال إسحاق: و هذا الغناء لابن سريج -:
و قمير بدا ابن خمس و عشري *** ن له قالت الفتاتان قوما(2)
قال: فقال لي الشّعبيّ: أ تعرف هذا؟ قلت لا. فقال: هذا الذي أوتي الحكم صبيّا، هذا ابن سريج.
و أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثني أبو أيّوب المدينيّ قال: حدّثني الهشاميّ الربعيّ عن إسحاق الموصليّ قال:
تغنّى ابن سريج في شعر لعمر بن أبي ربيعة و هو:
خانك من تهوى فلا تخنه *** و كن وفيّا إن سلوت عنه
و اسلك سبيل وصله و صنه *** إن كان غدّارا فلا تكنه
عسى تباريح(3) تجيء منه *** فيرجع الوصل و لم تشنه
قال المكّيّون: قال ابن سريج: ما تغنّيت بهذا الشعر قطّ إلا طننت أنّي أحلّ محلّ الخليفة.
قال مؤلف هذا الكتاب أبو الفرج الأصفهانيّ: وجدت في هذا الشعر لحنين - أحدهما ثقيل أوّل و الآخر رمل - مجهولين جميعا، فلا أدري أيّهما لحنه.
و نسخت من كتاب العتّابيّ: أخبرني عون بن محمد قال حدّثني عبد اللّه بن العباس بن الفضل بن الرّبيع عن جدّه الفضل عن ابن جامع عن سياط عن يونس الكاتب عن مالك بن أبي السّمح قال:
سألت ابن سريج عن قول الناس: فلان يصيب و فلان يخطئ، و فلان يحسن و فلان/يسيء؛ فقال: المصيب المحسن من المغنّين هو الذي يشبع الألحان، و يملأ الأنفاس، و يعدّل الأوزان، و يفخّم الألفاظ، و يعرف الصواب،
ص: 251
و يقيم الإعراب، و يستوفي النّغم الطّوال، و يحسّن مقاطيع النّغم القصار، و يصيب أجناس الإيقاع، و يختلس مواقع النّبرات، و يستوفي ما يشاكلها في الضرب من النّقرات. فعرضت ما قال على معبد، فقال: لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا.
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثني أحمد بن سعيد الدّمشقيّ قال حدّثني الزّبير بن بكّار عن ظبية(1):
/أنّ يزيد بن عبد الملك قال لحبابة يوما: أ تعرفين أحدا هو أطرب منّي؟ قالت: نعم، مولاي الذي باعني.
فأمر بإشخاصه فأشخص إليه مقيّدا(2)، و أعلم بحاله فأذن في إدخاله، فمثل بين يديه و حبابة و سلاّمة تغنّيان؛ فغنّته سلاّمة لحن الغريض في:
تشطّ غدا دار جيراننا
فطرب و تحرّك في أقياده. ثم غنّته حبابة لحن ابن سريج المجرّد في هذا الشعر، فوثب و جعل يحجل(3) في قيده و يقول: هذا و أبيكما ما لا تعذلاني فيه، حتى دنا من الشّمعة فوضع لحيته عليها فاحترقت، و جعل يصيح:
الحريق الحريق يا أولاد الزّنا. فضحك يزيد و قال: هذا و اللّه أطرب الناس حقّا، و وصله و سرّحه إلى بلده.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا فضل اليزيديّ عن إسحاق:
أنّ ابن سريج كان جالسا، فمرّ به عطاء و ابن جريح، فحلف عليهما بالطّلاق أن يغنّيهما، على أنهما إن نهياه عن الغناء بعد أن يسمعا منه تركه. فوقفا له و غنّاهما:
إخوتي لا تبعدوا أبدا *** و ابلى(4) و اللّه قد بعدوا
فغشي على ابن جريج، و قام عطاء فرقص. و نسبة هذا الصوت و خبره يذكر في موضع آخر.
أخبرني الحسن قال حدّثنا الفضل عن إسحاق:
أنّ ابن سريج كان عند بستان ابن عامر يغنّي:
/
لمن نار بأعلى الخي *** ف(5) دون البئر ما تخبو
ص: 252
أرقت لذكر موقعها *** فحنّ لذكرها القلب
إذا ما أخمدت ألقي *** عليها المندل(1) الرّطب
فجعل الحاجّ يركب بعضهم بعضا، حتى جاء إنسان من آخر القطرات(2) فقال: يا هذا! قد قطعت على الحاجّ و حبستهم، و الوقت قد ضاق، فاتّق اللّه و قم عنهم! فقام و سار الناس.
أخبرني الحسن قال حدّثني محمد بن زكريّا قال حدّثني يزيد بن محمد عن إسحاق الموصليّ:
أنّ سليمان بن عبد الملك لمّا حجّ سبّق(3) بين المغنّين بدرة(4). فجاء ابن سريج و قد أغلق الباب، فلم يأذن له الحاجب، فأمسك حتى سكتوا و غنّى:
سرى همّي و همّ المرء يسري فأمر سليمان بدفع البدرة إليه.
سرى همّي و همّ المرء يسري *** و غاب النّجم إلا قيس(5) فتر
/أراقب في المجرّة(6) كلّ نجم *** تعرّض للمجرّة كيف يجري
لهمّ لا أزال له مديما *** كأنّ القلب أسعر حرّ جمر
على بكر أخي ولّى حميدا *** و أيّ العيش يصفو بعد بكر
الشعر لعروة بن أذينة، و الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى. و فيه لأبي عبّاد(7) رمل بالوسطى، و ذكر الهشاميّ أنّ هذا اللحن لصاحب الحرون(8).
ص: 253
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:
قال ابن مقمّة: دخلت على ابن سريج في مرضه الذي مات فيه، فقلت: كيف أصبحت يا أبا يحيى؟ فقال:
أصبحت و اللّه كما قال الشاعر:
/كأنّي من تذكّر ما ألاقي *** إذا ما أظلم الليل البهيم
سقيم ملّ منه أقربوه(1) *** و أسلمه المداوي و الحميم
ثم مات.
قال إسحاق: قال ابن مقمّة: لمّا احتضر ابن سريج نظر إلى ابنته تبكي فبكى، و قال: إنّ من أكبر همّي أنت، و أخشى أن تضيعي بعدي. فقالت: لا تخف؛ فما غنّيت شيئا إلا و أنا أغنّيه. فقال: هاتي. فاندفعت تغنّي أصواتا و هو مصغ إليها، فقال: قد أصبت ما في نفسي، و هوّنت عليّ أمرك. ثم دعا سعيد بن مسعود الهذليّ فزوّجه إيّاها؛ فأخذ عنها أكثر غناء أبيها و انتحله؛ فهو الآن ينسب إليه. قال إسحاق: فقال كثير بن كثير(2) السّهمي يرثيه:
ما اللهو بعد عبيد حين يخبره *** من كان يلهو به منه بمطّلب
للّه قبر عبيد ما تضمّن من *** لذاذة العيش و الإحسان و الطرب
لو لا الغريض ففيه من شمائله(3) *** مشابه(4) لم أكن فيها بذي أرب
قال إسحاق: و حدّثني هشام بن المريّة أنّ قادما قدم المدينة فسارّ معبدا بشيء، فقال معبد: أصبحت أحسن الناس غناء. فقلنا: أ و لم تكن كذلك؟ فقال: أ لا تدرون ما أخبرني به هذا؟ قالوا لا. قال: أعلمني أن عبيد بن سريج مات، و لم أكن أحسن الناس غناء و هو حيّ. و في ابن سريج يقول عمر بن أبي ربيعة:
قالت و عيناها تجودانها *** صوحبت و اللّه لك الرّاعي
يا ابن سريج لا تذع سرّنا *** قد كنت عندي غير مذياع
غنّى فيه ابن سريج من راوية يونس.
ص: 254
قال أبو أيّوب المديني: توفّي ابن سريج بالعلّة التي أصابته من الجذام بمكة، في خلافة سليمان بن عبد الملك أو في آخر خلافة الوليد، بمكة و دفن في موضع بها يقال له دسم(1).
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال أخبرني هارون(2) بن أبي بكر قال حدّثني إسحاق بن يعقوب العثمانيّ مولى آل عثمان عن أبيه قال:
إنّا لبفناء دار عمرو(3) بن عثمان بالأبطح في صبح خامسة من الثّمان - يعني/أيام الحجّ - قال: كنت جالسا أيام الحجّ، فما إن دريت إلا برجل على راحلة على رحل جميل و أداة حسنة، معه صاحب له على راحلة قد جنب إليها فرسا و بغلا، فوقفا عليّ و سألاني، فانتسبت لهما عثمانيّا. فنزلا و قالا: رجلان من أهلك لهما حاجة و نحبّ أن تقضيها قبل أن نشده(4) بأمر الحجّ. فقلت ما حاجتكما؟ قالا؟ نريد إنسانا يقفنا(5) على قبر عبيد بن سريج. قال:
فنهضت معهما حتى بلغت بهما محلّة بني أبي قارة(6) من خزاعة بمكة، و هم موالي عبيد بن سريج، فالتمست لهما إنسانا يصحبهما حتّى/يقفهما على قبره بدسم، فوجدت ابن أبي دباكل(7) فأنهضته معهما. فأخبرني بعد: أنه لمّا وقفهما(8) على قبره نزل أحدهما عن راحلته فحسر عمامته عن وجهه، فإذا هو عبد اللّه بن سعيد بن عبد الملك بن مروان، فعقر ناقته و اندفع يندبه بصوت شجيّ كليل حسن و يقول:
وقفنا على قبر بدسم فهاجنا *** و ذكّرنا بالعيش إذ هو مصحب(9)
فجالت بأرجاء الجفون سوافح *** من الدّمع تستتلي الذي يتعقّب
إذا أبطأت عن ساحة الخدّ ساقها *** دم بعد دمع إثره يتصبّب
فإن تسعدا نندب عبيدا بعولة(10) *** و قلّ له منّا البكا و التّحوّب(11)
ثم نزل صاحبه فعقر ناقته، و قال له القرشيّ: خد في صوت أبي يحيى؛ فاندفع يتغنّى(12):
ص: 255
أسعداني بعبرة أسراب(1) *** من دموع كثيرة التّسكاب
إنّ أهل الحصاب قد تركوني *** مولها مولعا بأهل الحصاب
أهل بيت تتابعوا(2) للمنايا *** ما على الموت بعدهم من عتاب
فارقوني و قد علمت يقينا *** ما لمن ذاق ميتة من إياب
/كم بذاك الحجون(3) من أهل(4) صدق *** كهول أعفّة و شباب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مو *** سى إلى النّخل من صفيّ السّباب(5)
فلي الويل بعدهم و عليهم *** صرت فردا و ملّني أصحابي
قال ابن أبي دباكل: فو اللّه ما تمّم صاحبه منها ثلاثا(6) حتى غشي على صاحبه، و أقبل يصلح السّرج على بغلته و هو غير معرّج عليه. فسألته من هو؟ فقال: رجل من جذام. قلت: بمن تعرف؟ قال: بعبد اللّه بن المنتشر.
قال: و لم يزل القرشيّ على حاله ساعة ثم أفاق، ثم جعل الجذاميّ ينضح الماء على وجهه و يقول كالمعاتب له:
أنت أبدا مصبوب(7) على نفسك! و من كلّفك ما ترى! ثم قرّب إليه الفرس، فلمّا علاه استخرج الجذاميّ من خرج على بغل قدحا و إداوة ماء، فجعل في القدح ترابا من تراب قبر ابن سريج و صبّ عليه ماء من الإداوة، ثم قال: هاك فاشرب هذه السّلوة(8) فشرب، ثم فعل هو مثل ذلك، و ركب على البغل و أردفني. فخرجا و اللّه ما يعرّضان بذكر شيء مما كنا فيه، و لا أرى في وجوههما شيئا مما كنت أرى قبل/ذلك. فلمّا اشتمل علينا أبطح مكة قالا: انزل يا خزاعيّ فنزلت. و أومأ الفتى إلى الجذاميّ بكلام، فمدّ يده إليّ و فيها شيء فأخذته، فإذا هو عشرون دينارا، و مضيا. فانصرفت إلى قبره/ببعيرين، فاحتملت عليهما أداة الراحلتين اللتين عقراهما فبعتها(9) بثلاثين دينارا.
ص: 256
و هو الثالث من الثلاثة المختارة.
أهاج هواك المنزل المتقادم *** نعم و به ممّن شجاك معالم
مضارب أوتاد و أشعث(1) داثر *** مقيم و سفع(2) في المحلّ جواثم
عروضه من الطّويل. الشعر لنصيب. و الغناء في اللّحن المختار لابن محرز ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، و له فيه أيضا هزج بالسّبّابة في مجرى البنصر، و ذكر جحظة عن أصحابه أنه هو المختار. و حكى عن أصحابه أنه ليس في الغناء كلّه نغمة إلا و هي في الثلاثة الأصوات المختارة التي ذكرها.
و من قصيدة نصيب هذا مما يغنّى فيه قوله:
لقد راعني للبين نوح حمامة *** على غصن بان جاوبتها حمائم
هواتف أمّا من بكين فعهده *** قديم و أمّا شجوهنّ فدائم
الغناء لابن سريج ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن يونس و يحيى المكّيّ و إسحاق، و أظنّه مع البيتين الأوّلين و أن الجميع لحن واحد، و لكنه تفرّق لصعوبة اللّحن و كثرة ما فيه من العمل. فجعلا صوتين.
ص: 257
هو نصيب بن رباح(1)، مولى عبد العزيز بن مروان، و كان لبعض العرب من بني كنانة السّكّان بودّان(2)، فاشتراه عبد العزيز منهم، و قيل: بل كانوا أعتقوه، فاشترى عبد العزيز ولاءه منهم، و قيل: بل كاتب مواليه، فأدّى عنه مكاتبته.
و قال ابن دأب: كان نصيب من قضاعة ثم من بليّ. و كانت أمّه سوداء فوقع عليها سيّدها فحبلت بنصيب، فوثب عليه عمّه بعد وفاة أبيه فباعه من عبد العزيز.
و قال أبو اليقظان: كان أبوه من كنانة من بني ضمرة. و كان شاعرا فحلا فصيحا مقدّما في النّسيب و المديح، و لم يكن له حظّ في الهجاء، و كان عفيفا، و كان يقال: أنه لم ينسب قطّ إلا بامرأته.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال؛ كتب إليّ عبد اللّه(3) بن عبد العزيز بن محجن بن نصيب بن رباح يذكر عن عمّته غرضة(4) بنت النّصيب:
أنّ النّصيب كان ابن نوبيّين سبيّين كانا لخزاعة، ثم اشترت سلامة(5) أمّ نصيب امرأة من خزاعة ضمريّة حاملا بالنّصيب، فأعتقت ما في بطنها.
/أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن محمد بن كناسة قال:
كان نصيب من أهل ودّان عبدا لرجل من كنانة هو و أهل بيته. و كان أهل البادية يدعونه النّصيب تفخيما له، و يروون شعره. و كان عفيفا كبير النّفس مقدّما عند الملوك، يجيد مديحهم و مراثيهم.
أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه عن ابن الكلبيّ قال:
كان نصيب من/بليّ بن عمرو(6) بن الحاف بن قضاعة. و كانت أمّه أمة سوداء، وقع عليها أبوه فحملت ثم
ص: 258
مات، فباعه عمّه أخو أبيه من عبد العزيز بن مروان.
قال حمّاد و أخبرني أبي عن أيّوب بن عبابة، و أخبرنا الحرميّ عن الزّبير عن عمّه و عن إسحاق بن إبراهيم جميعا عن أيّوب بن عبابة قال حدّثني رجل من خزاعة من أهل(1) كليّة - و هي قرية كان فيها النّصيب و كثيّر - قال:
بلغني أنّ النّصيب قال: قلت الشّعر و أنا شابّ فأعجبني قولي، فجعلت آتي مشيخة من بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة - و هم موالي النّصيب - و مشيخة من خزاعة، فأنشدهم القصيدة من شعري، ثم أنسبها إلى بعض شعرائهم الماضين، فيقولون: أحسن و اللّه! هكذا يكون الكلام! و هكذا يكون الشّعر! فلمّا سمعت ذلك منهم علمت أني محسن، فأزمعوا و أزمعت(2) الخروج إلى عبد العزيز بن مروان، و هو يومئذ بمصر، فقلت لأختي أمامة و كانت عاقلة جلدة: أي أخيّة، إنّي قد قلت شعرا، و أنا أريد عبد العزيز بن مروان، و أرجو أن يعتقك اللّه عزّ و جلّ به و أمّك، /و من كان مرقوقا من أهل قرابتي. قالت: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون! يا بن أمّ، أ تجتمع عليك الخصلتان: السّواد، و أن تكون ضحكة(3) للناس! قال: قلت فاسمعي، فأنشدتها فسمعت، فقالت: بأبي أنت! أحسنت و اللّه! في هذا و اللّه رجاء عظيم، فاخرج على بركة اللّه. فخرجت على قعود لي حتى قدمت المدينة، فوجدت بها الفرزدق في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فعرّجت إليه فقلت: أنشده و استنشده و أعرض عليه شعري.
فأنشدته، فقال لي: ويلك! أ هذا شعرك الذي تطلب به الملوك؟ قلت: نعم. قال: فلست في شيء. إن استطعت أن تكتم هذا على نفسك فافعل. فانفضخت عرقا(4)، فحصبني(5) رجل من قريش كان قريبا من الفرزدق، و قد سمع إنشادي و سمع ما قال لي الفرزدق، فأومأ إليّ فقمت إليه. فقال: ويحك! أ هذا شعرك الذي أنشدته الفرزدق؟ قلت: نعم. فقال: قد و اللّه أصبت، و اللّه لئن كان هذا الفرزدق شاعرا لقد حسدك، فإنّا لنعرف محاسن الشعر، فامض لوجهك و لا يكسرنّك. قال: فسرّني قوله، و علمت أنه قد صدقني فيما قال، فاعتزمت على المضيّ.
قال: فمضيت فقدمت مصر، و بها عبد العزيز بن مروان، فحضرت بابه مع الناس، فنحّيت عن مجلس الوجوه، فكنت وراءهم، و رأيت رجلا جاء على بغلة حسن الشّارة سهل المدخل، يؤذن له إذا جاء. فلمّا انصرف إلى منزله انصرفت معه أماشي بغلته. فلما رآني قال: أ لك حاجة؟ قلت: نعم، أنا رجل من أهل الحجاز شاعر، و قد مدحت الأمير و خرجت إليه راجيا معروفه. و قد ازدريت فطردت من الباب و نحّيت عن الوجوه. قال: فأنشدني، فأنشدته.
فأعجبه شعري، فقال: ويحك! أ هذا شعرك؟ فإيّاك أن تنتحل، فإنّ الأمير/رواية عالم بالشّعر و عنده رواة، فلا تفضحني و نفسك. فقلت: و اللّه ما هو إلا شعري. فقال: ويحك! فقل أبياتا تذكر فيها حوف(6) مصر و فضلها على غيرها، و القني بها غدا. فغدوت عليه من غد فأنشدته قولي:
ص: 259
سرى الهمّ تثنيني إليك طلائعه *** بمصر و بالحوف اعترتني روائعه
/و بات و سادي ساعد قلّ لحمه *** عن العظم حتى كاد تبدو أشاجعه(1)
قال: و ذكرت فيها الغيث فقلت:
و كم دون ذاك العارض البارق الذي *** له اشتقت من وجه أسيل مدامعه
تمشّى(2) به أفناء(3) بكر و مذحج *** و أفناء عمرو و هو خصب مرابعه(4)
فكلّ مسيل من تهامة طيّب *** دميث الرّبا تسقي البحار(5) دوافعه(6)
أعنّي على برق أريك وميضه *** تضىء دجنّات الظّلام لوامعه
إذا اكتحلت عينا محبّ بضوئه *** تجافت به حتّى الصّباح مضاجعه
هنيئا لأمّ البختريّ(7) الرّوي(8) به *** و إن أنهج الحبل الذي أنا قاطعه
/و ما زلت حتّى قلت إنّي لخالع *** ولائي من مولى نمتني قوارعه(9)
و مانح قوم أنت منهم مودّتي *** و متّخذ مولاك مولى فتابعه
فقال: أنت و اللّه شاعر! احضر بالباب حتّى أذكرك للأمير. قال: فجلست على الباب و دخل، فما ظننت أنه أمكنه أن يذكرني حتّى دعي بي. فدخلت فسلّمت على عبد العزيز، فصعّد فيّ بصره و صوّب، ثم قال: أنت شاعر؟ ويلك!.
قلت: نعم، أيّها الأمير. قال: فأنشدني. فأنشدته، فأعجبه شعري. و جاء الحاجب فقال: أيّها الأمير، هذا أيمن بن خريم(10) الأسديّ بالباب. قال: ائذن له، فدخل فاطمأنّ. فقال له الأمير: يا أيمن بن خريم، كم ترى ثمن هذا العبد؟ فنظر إليّ فقال: و اللّه لنعم الغادي في أثر المخاض(11)، هذا أيها الأمير أرى ثمنه مائة دينار. قال: فإنّ له
ص: 260
شعرا و فصاحة. فقال لي أيمن: أ تقول الشّعر؟ قلت: نعم. قال: قيمته ثلاثون دينارا. قال: يا أيمن، أرفعه و تخفضه أنت! قال: لكونه أحمق أيّها الأمير! ما لهذا و للشّعر! أمثل هذا يقول الشّعر! أو يحسن شعرا! فقال: أنشده يا نصيب، فأنشدته. فقال له عبد العزيز: كيف تسمع يا أيمن؟ قال: شعر أسود، هو أشعر أهل جلدته. قال: هو و اللّه أشعر منك. قال: أ منّي أيّها الأمير؟ قال: إي و اللّه منك. قال: و اللّه أيّها الأمير، إنك لملول طرف. قال: كذبت و اللّه ما أنا كذلك! و لو كنت كذلك ما صبرت عليك! تنازعني التّحيّة و تؤاكلني الطّعام/و تتّكئ على وسائدي و فرشي و بك ما بك! - يعني وضحا كان بأيمن - قال: ائذن لي [أن] أخرج إلى بشر بالعراق. و احملني على البريد.
قال: قد أذنت لك، و أمر به فحمل على البريد إلى بشر. فقال: أيمن بن خريم:
ركبت من المقطّم في جمادى *** إلى بشر بن مروان البريدا
و لو أعطاك بشر ألف ألف *** رأى حقّا عليه أن يزيدا
أمير المؤمنين أقم ببشر *** عمود الحق إنّ له عمودا
و دع بشرا يقوّمهم و يحدث *** لأهل الزّيغ إسلاما جديدا
كأنّ التاج تاج بني هرقل *** جلوه لأعظم الأيّام عيدا
على ديباج خدّي وجه بشر *** إذا الألوان خالفت الخدودا
قال أيّوب يعني بقوله:
إذا الألوان خالفت الخدودا
أنّه عرّض بكلف كان في/وجه عبد العزيز -.
و أعقب مدحتي سرجا مليحا(1) *** و أبيض جوزجانيّا(2) عقودا(3)
/و إنّا قد وجدنا أمّ بشر *** كأمّ الأسد مذكارا ولودا(4)
ص: 261
قال: فأعطاه بشر مائة ألف درهم.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الزّهريّ عن(1) عبد اللّه بن عمران بن أبي فروة قال:
أوّل من نوّه باسم نصيب و قدم به على عبد العزيز بن مروان عبد اللّه بن أبي فروة، قدم به عليه و هو وصيف(2) حين بلغ و أوّل ما قال الشّعر. قال: أصلح اللّه الأمير! جئتك بوصيف نوبيّ يقول الشعر - و كان نصيب ابن نوبيّين - فأدخله عليه، فأعجبه شعره، و كان معه أيمن بن خريم الأسديّ. فقال عبد العزيز: إذا دعوت بالغداء فأدخلوه عليّ في جبّة صوف محتزما بعقال، فإذا قلت قوّموه فقوّموه و أخرجوه و ردّوه عليّ في جبّة وشي و رداء وشي. فلما جلس للغداء و معه أيمن بن خريم أدخل نصيب في جبّة صوف محتزما بعقال، فقال: قوّموا هذا الغلام. فقالوا: عشرة، عشرون، ثلاثون دينارا. فقال: ردّوه، فأخرجوه ثم ردّوه في جبّة وشي و رداء وشي. فقال: أنشدنا، فأنشدهم. فقال: قوّموه، قالوا: ألف دينار. فقال أيمن: و اللّه ما كان قطّ أقلّ في عيني منه الآن، و إنه لنعم راعي المخاض. فقال له: فكيف شعره؟ قال: هو أشعر أهل جلدته. فقال له عبد العزيز: /هو و اللّه أشعر منك. قال: أ منّي أيّها الأمير؟ قال أيمن: إنك لملول طرف. فقال له: و اللّه ما أنا بملول و أنا أنازعك الطعام منذ كذا و كذا، تضع يدك حيث أضعها و تلتقي يدك مع يدي على مائدة، كلّ ذلك أحتملك! - و كان بأيمن بياض - فقال له أيمن: ائذن لي أخرج إلى بشر. فأذن له فخرج، و قال أبياته التي أوّلها:
ركبت من المقطّم في جمادى
و قد مضت الأبيات. قال: فلما جاز بعبد الملك بن مروان، قال: أين تريد؟ قال أريد أخاك بشرا.
قال: أ تجوزني؟! قال: إي و اللّه أجوزك إلى من قدم إلىّ و طلبني. قال: فلم فارقت صاحبك؟ قال: رأيتكم يا بني مروان(3)، تتّخذون للفتى من فتيانكم مؤدّبا، و شيخكم و اللّه محتاج إلى خمسة مؤدّبين. فسرّ ذلك عبد الملك، و كان عازما على أن يخلعه و يعقد لابنه الوليد.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال:
يقال: إن نصيبا أضلّ إبلا فخرج في بغائها(4) فلم يصبها، و خاف مواليه أن يرجع إليهم، فأتى عبد العزيز بن مروان فمدحه و ذكر له قصته، فأخلف عليه ما ضلّ لمواليه و ابتاعه و أعتقه.
أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا عبد اللّه بن إبراهيم الهلاليّ ثم الدّوسيّ(5) قال:
ص: 262
/أراد النّصيب الخروج إلى عبد العزيز بن مروان، و هو عبد لبني محرز الضّمريّ، فقالت أمّه له: إنّك سترقد و يأخذك ابن محرز يذهب بك، فذهب و لم يبال بقولها. حتى إذا كان بمكان ماء يعرف بالدّوّ(1)، فبينا هو راقد إذ هجم عليه ابن محرز، فقال حين رآه:
إنّي لأخشى من قلاص ابن محرز *** إذا وخدت بالدّوّ وخد(2) النّعائم
/يرعن بطين(3) القوم أيّة روعة *** ضحيّا إذا استقبلنه غير نائم
فأطلقوه، فرجع فأتى أمّه. فقالت: أخبرتك يا بنيّ أنّه ليس عندك أن تعجز القوم. فإن كنت يا بنيّ قد غلبتني أنّك ذاهب فخذ بنت الفلانة(4)، فإنّي رأيتها وطئت أفحوص(5) بيضات قطاة فلم تفلقهنّ فركبها، فهي التي بلّغته ابن مروان.
قال أبو عبد اللّه بن الزّبير: عندنا أنّ الّتي أعتقته امرأة من بني ضمرة ثم من بني حنبل(6).
حدّثنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا الخليل بن أسد قال حدّثنا عبد اللّه بن صالح بن مسلم قال حدّثنا كليب بن إسماعيل مولى بني أميّة و كان حدثا(7) (أي حسن الحديث) قال:
/بلغني أن نصيبا كان حبشيّا يرعى إبلا لمواليه، فأضلّ منها بعيرا، فخرج في طلبه حتى أتى الفسطاط، و به إذ ذاك عبد العزيز بن مروان، و هو وليّ [عهد(8)] عبد الملك بن مروان، فقال نصيب: ما بعد عبد العزيز واحد أعتمده لحاجتي. فأتى الحاجب فقال: استأذن لي على الأمير، فإني قد هيّأت له مديحا. فدخل الحاجب فقال: أصلح اللّه الأمير! بالباب رجل أسود يستأذن عليك بمديح قد هيّأه لك. فظنّ عبد العزيز أنه ممن يهزأ به و يضحكهم، فقال: مره بالحضور ليوم حاجتنا إليه. فغدا نصيب و راح إلى باب عبد العزيز أربعة أشهر، و أتاه آت من عبد الملك فسرّه، فأمر بالسّرير فأبرز للناس، و قال: عليّ بالأسود، و هو يريد أن يضحك منه الناس. فدخل، فلما كان حيث يسمع كلامه، قال:
لعبد العزيز على قومه *** و غيرهم نعم غامره
فبابك ألين(9) أبوابهم *** و دارك مأهولة عامره
و كلبك آنس بالمعتفين *** من الأمّ بالابنة الزائره
و كفّك حين ترى السائلي *** ن أندى من اللّيلة الماطرة
ص: 263
فمنك العطاء و منّي الثّناء *** بكلّ محبّرة سائره
فقال: أعطوه أعطوه. فقال: إنّي مملوك. فدعا الحاجب فقال: اخرج فابلغ في قيمته، فدعا المقوّمين فقال: قوّموا غلاما أسود ليس به عيب. قالوا: مائة دينار. قال: إنه راع للإبل يبصرها و يحسن القيام عليها.
قالوا: حينئذ مائتا دينار. قال: إنه يبري القسيّ و يثقّفها و يرمي النّبل و يريشها. قالوا: أربعمائة دينار. قال: إنه رواية للشّعر بصير به. قالوا: ستّمائة دينار. قال: إنه/شاعر لا يلحق حذقا(1). قالوا: ألف دينار. قال عبد العزيز: ادفعوها إليه. قال: أصلح اللّه الأمير! ثمن بعيري الذي أضللت. قال: و كم ثمنه؟ قال: خمسة و عشرون دينارا. قال: ادفعوها إليه. قال: أصلح اللّه الأمير! جائزتي لنفسي عن مديحي إيّاك. قال: اشتر نفسك ثم عد إلينا. فأتى الكوفة و بها بشر بن مروان، فاستأذن عليه فاستصعب الدخول إليه. و خرج بشر بن مروان متنزّها فعارضه، فلما ناكبه (أي صار حذاء منكبه) ناداه:
يا بشر يا بن الجعفريّة ما *** خلق الإله يديك للبخل
جاءت به عجز(2) مقابلة(3) *** ما هنّ من جرم(4) و لا عكل
/قال: فأمر له بشر بعشرة آلاف درهم. الجعفريّة التي عناها نصيب: أمّ بشر بن مروان، و هي قطيّة(5) بنت بشر بن عامر ملاعب الأسنّة بن مالك بن جعفر بن كلاب.
ثم تقول:
عامان ترقيق(1) و عام تمّما(2) *** لم يترك(3) لحما و لم يترك دما
و لم يدع في رأس عظم ملدما(4) *** إلا رذايا(5) و رجالا رزّما(6)
فخطبها مروان فتزوّجها، فولدت له بشر بن مروان.
/أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أحمد بن معاوية عن إسحاق بن أيّوب عن خليل(7) بن عجلان في خبر النّصيب مثل ما ذكره الزّبير و إسحاق سواء.
أخبرني عمي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن العتبيّ قال:
دعا النّصيب مواليه أن يستلحقوه(8) فأبى، و قال: و اللّه لأن أكون مولى لائقا(9) أحبّ إلىّ من أن أكون دعيّا لاحقا. و قد علمت أنكم تريدون بذلك مالي، و و اللّه لا أكسب شيئا أبدا إلا كنت أنا و أنتم فيه سواء كأحدكم، لا أستأثر عليكم منه بشيء أبدا. قال: و كان كذلك معهم حتى مات، إذا أصاب شيئا قسمه فيهم، فكان فيه كأحدهم.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا [الزّبيري، و حدّثنا محمد بن العبّاس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدّثنا الزّبير](10) قال حدّثنا محمد بن إسماعيل الجعفريّ قال:
دخل النّصيب على سليمان بن عبد الملك و عنده الفرزدق، فاستنشد الفرزدق و هو يرى أنه سينشده مديحا له، فأنشده قوله يفتخر:
ص: 265
و ركب كأنّ الريح تطلب عندهم *** لها ترة من جذبها(1) بالعصائب(2)
/سروا يركبون الريح(3) و هي تلفّهم *** على(4) شعب الأكوار من كلّ جانب(5)
إذا استوضحوا نارا يقولون ليتها *** و قد خصرت أيديهم نار غالب
قال: و عمامته على رأسه مثل المنسف(6)؛ فغاظ سليمان و كلح(7) في وجهه، و قال لنصيب: قم فأنشد مولاك ويلك! فقام نصيب فأنشده قوله:
أقول لركب صادرين لقيتهم *** قفا(8) ذات أوشال و مولاك قارب(9)
قفوا خبّروني عن سليمان إنّني *** لمعروفه من أهل ودّان طالب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله *** و لو سكتوا أثنت عليك الحقائب
و قالوا عهدناه و كلّ عشيّة *** بأبوابه من طالب العرف راكب
هو البدر و الناس الكواكب حوله *** و لا تشبه البدر المضيء الكواكب
/فقال له سليمان: أحسنت و اللّه يا نصيب! و أمر له بجائزة و لم يصنع ذلك بالفرزدق. فقال الفرزدق و قد خرج من عنده:
و خير الشّعر أكرمه رجالا *** و شرّ الشعر ما قال العبيد
/أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه
ص: 266
الزّهريّ(1) عن عمّه موسى بن عبد العزيز قال:
حمل عبد العزيز بن مروان النّصيب بالمقطّم (مقطّم مصر) على بختيّ قد رحله بغبيط(2) فوقه، و ألبسه مقطّعات(3) وشي، ثم أمره أن ينشد؛ فاجتمع حوله السّودان و فرحوا به، فقال لهم: أ سررتكم؟ قالوا: إي و اللّه.
قال: و اللّه لما يسوؤكم من أهل جلدتكم أكثر.
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلاّم قال حدّثني أبو العرّاف قال:
مرّ جرير بنصيب و هو ينشد، فقال له: اذهب فأنت أشعر أهل جلدتك. قال: و جلدتك يا أبا حزرة.
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني أيّوب بن عباية قال:
بلغني أنّ النّصيب كان إذا قدم على هشام بن عبد الملك أخلى له مجلسه و استنشده مراثي بني أميّة، فإذا أنشده بكى و بكى معه. فأنشده يوما قصيدة له مدحه بها، يقول فيها:
/
إذا استبق الناس العلا سبقتهم *** يمينك عفوا ثم صلّت(4) شمالها
فقال له هشام: يا أسود، بلغت غاية المدح فسلني. فقال: يدك بالعطيّة أجود و أبسط من لساني بمسألتك.
فقال: هذا و اللّه أحسن من الشعر، و حباه و كساه و أحسن جائزته.
أخبرني الحسين بن يحيى قال أخبرنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه أيّوب بن عباية قال:
أصاب نصيب من عبد العزيز بن مروان معروفا، فكتمه و رجع إلى المدينة في هيئة بذّة(5)، فقالوا: لم يصب بمدحه شيئا. فمكث مدّة، ثم ساوم بأمّه فابتاعها و أعتقها، ثم ابتاع أمّ أمّه(6) بضعف ما ابتاع به أمّه فأعتقها. و جاءه ابن خالة له اسمه سحيم فسأله أن يعتقه، فقال له: ما معي و اللّه شيء، و لكنّي إذا خرجت أخرجتك معي، لعل اللّه أن يعتقك. فلمّا أراد الخروج دفع غلاما له إلى مولى سحيم يرعى إبله و أخرجه معه، فسأل في ثمنه فأعطاه و أعتقه.
فمرّ به يوما و هو يزفن(7) و يزمر مع السّودان، فأنكر ذلك عليه و زجره. فقال له: إن كنت أعتقتني لأكون كما تريد فهذا و اللّه ما لا يكون أبدا، و إن كنت أعتقتني لتصل رحمي و تقضي حقّي فهذا و اللّه الذي أفعله هو الذي أريده،
ص: 267
أزفن و أزمر و أصنع ما شئت. فانصرف النّصيب و هو يقول:
إنّي أراني لسحيم قائلا *** إنّ سحيما لم يثبني طائلا
نسيت إعمالي لك الرّواحلا *** و ضربي الأبواب فيك سائلا!
/عند الملوك أستثيب النائلا *** حتى إذا آنست عتقا عاجلا(1)
ولّيتني منك القفا و الكاهلا *** أخلقا شكسا و لونا حائلا
قال إسحاق: و أبطأت جائزة النّصيب عند عبد العزيز، فقال:
و إنّ وراء ظهري يا بن ليلى *** أناسا ينظرون متى أءوب
أمامة منهم و لمأقييها(2) *** غداة البين في أثري غروب(3)
تركت بلادها و نأيت عنها *** فأشبه ما رأيت بها السّلوب(4)
فأتبع بعضنا بعضا فلسنا *** نثيبك لكن اللّه المثيب
/فعجّل جائزته و سرّحه. قال إسحاق: فحدّثني ابن كناسة قال: ليلى أمّ عبد العزيز كلبيّة. و بلغني عنه أنه قال: لا أعطي شاعرا شيئا حتى يذكرها في مدحي لشرفها(5)؛ فكان الشعراء يذكرونها باسمها في أشعارهم.
أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه عن ابن عباية قال:
وقفت سوداء بالمدينة على نصيب و هو ينشد الناس، فقالت: بأبي أنت يا بن عمّ و أمّي! ما أنت و اللّه عليّ بخزي. فضحك و قال: و اللّه لمن يخزيك من بني عمّك أكثر ممّن يزينك.
قال إسحاق و حدّثني ابن عبابة و غيره أنّ ابنا لنصيب خطب بعد وفاة سيّده الذي أعتقه بنتا له من أخيه، فأجابه إلى ذلك، و عرّف أباه. فقال له: اجمع وجوه الحيّ/لهذا(6) الحال فجمعهم. فلمّا حضروا أقبل نصيب على أخي سيّده فقال: أ زوّجت ابني هذا من ابنة أخيك؟ قال نعم. فقال لعبيد له سود: خذوا برجل ابني هذا فجرّوه فاضربوه ضربا مبرّحا، ففعلوا و ضربوه ضربا مبرّحا. و قال لأخي سيّده: لو لا أنّي أكره أذاك لألحقتك به. ثم نظر إلى شابّ من أشراف الحيّ، فقال: زوّج هذا ابنة أخيك و عليّ ما يصلحهما في مالي، ففعل.
ص: 268
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ قال:
دخل نصيب على عبد الملك فتغدّى معه، ثم قال: هل لك فيما نتنادم عليه؟ فقال: تؤمّنني(1) ففعل.
فقال: لوني حائل، و شعري مفلفل، و خلقتي مشوّهة، و لم أبلغ ما بلغت من إكرامك إيّاي بشرف أب أو أمّ أو عشيرة، و إنما بلغته بعقلي و لساني. فأنشدك اللّه يا أمير المؤمنين أن(2) تحول بيني و بين ما بلغت به هذه المنزلة منك فأعفاه.
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثني محمد بن صالح بن النّطّاح قال بلغني عن خلاّد بن مرّة عن أبي بكر بن مزيد قال:
لقيت النّصيب يوما بباب هشام، فقلت له: يا أبا محجن، لم سمّيت نصيبا، أ لقولك في شعرك عاينها(3)النّصيب؟ فقال: لا، و لكني ولدت عند أهل بيت من ودّان، فقال سيّدي: ائتونا بمولودنا هذا لننظر إليه. فلمّا رآني قال: إنه لمنصب(4) الخلق؛ فسمّيت النّصيب، ثم اشتراني عبد العزيز بن مروان فأعتقني.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن محمد بن كناسة أبي يحيى الأسديّ قال:
قال أبو عبد اللّه بن أبي إسحاق البصريّ: لئن وليت العراق لأستكتبنّ نصيبا لفصاحته و تخلّصه إلى جيّد الكلام.
أخبرني الأسديّ قال حدّثني محمد بن صالح عن أبيه عن محمد بن عبد العزيز الزّهريّ(5) قال: حدّثني نصيب قال:
دخلت على عبد العزيز بن مروان، فقال: أنشدني قولك:
إذا لم يكن بين الخليلين ردّة(6) *** سوى ذكر شيء قد مضى درس الذّكر
فقلت: ليس هذا لي، هذا لأبي صخر الهذليّ، و لكنّي الذي أقول:
وقفت بذي دوران(7) أنشد ناقتي *** و ما إن بها لي من قلوص و لا بكر
ص: 269
فقال لي عبد العزيز: لك جائزة على صدق حديثك، و جائزة على شعرك؛ فأعطاني على صدق حديثي ألف دينار، و على شعري ألف دينار.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن عثمان بن حفص عن أبيه قال: رأيت النّصيب و كان أسود خفيف العارضين ناتئ الحنجرة.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير قال حدّثني إبراهيم بن يزيد(1)/السّعديّ عن جدّته جمال بنت عون بن مسلم عن أبيها عن جدّها قال:
/رأيت رجلا أسود مع امرأة بيضاء، فجعلت أعجب من سوداه و بياضها، فدنوت منه و قلت: من أنت؟ قال:
أنا الذي أقول:
ألا ليت شعري ما الذي تحدثين بي *** غدا غربة النأي المفرّق و البعد
لدى(2) أمّ بكر حين تقترب النّوى *** بنا(3) ثم يخلو الكاشحون بها بعدي
أ تصرمني عند الألى هم لنا العدا(4) *** فتشمتهم بي أم تدوم على العهد
قال: فصاحت: بل و اللّه تدوم على العهد. فسألت عنهما فقيل: هذا نصيب، و هذه أمّ بكر.
أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا محمد بن صالح بن النّطّاح قال حدّثني أبو اليقظان عن جويرية بن أسماء قال:
أتى النّصيب عبد اللّه بن جعفر فحمله و أعطاه و كساه. فقال له قائل: يا أبا جعفر، أعطيت هذا العبد الأسود هذه العطايا! فقال: و اللّه لئن كان أسود إنّ ثناءه لأبيض، و إنّ شعره لعربيّ، و لقد استحقّ بما قال أكثر مما نال.
و ما ذاك! إنما هي رواحل تنضى(5)، و ثياب تبلى، و دراهم تفنى، و ثناء يبقى، و مدائح تروى! أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن المدائني قال قال أبو الأسود: امتدح نصيب عبد اللّه بن جعفر و ذكر مثله.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا الخرّاز عن المدائنيّ قال:
ص: 270
/قيل لنصيب: إنّ هاهنا نسوة يردن أن ينظرن إليك و يسمعن منك شعرك. قال: و ما يصنعن بي! يرين جلدة سوداء و شعرا أبيض، و لكن ليسمعن شعري من وراء ستر(1).
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن عثمان بن حفص عن رجل ذكره قال:
أتاني منقذ الهلاليّ ليلا، فضرب عليّ الباب. فقلت: من هذا؟ فقال: منقذ الهلاليّ. فخرجت إليه فزعا.
فقال: البشرى. فقلت: و أيّ بشرى أتتني بك في هذا الليل؟ فقال: خير، أتاني أهلي بدجاجة مشويّة بين رغيفين فتعشّيت بها، ثم أتوني بقنّينة من نبيذ قد التقى طرفاها صفاء و رقّة، فجعلت أشرب و أترنّم بقول نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يظعن الرّكب
ففكّرت في إنسان يفهم حسنه و يعرف فضله، فلم أجد غيرك، فأتيتك مخبرا بذلك. فقلت: ما جاء بك إلا هذا؟! فقال: أولا يكفي! ثم انصرف.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:
قال مسلمة لنصيب: أنت لا تحسن الهجاء. فقال: بلى و اللّه، أ تراني لا أحسن أن أجعل مكان عافاك اللّه أخزاك اللّه؟! قال: فإنّ فلانا قد مدحته فحرمك فاهجه، قال: لا و اللّه ما ينبغي أن أهجوه، و إنما ينبغي أن أهجو نفسي حين مدحته. فقال مسلمة: هذا و اللّه أشدّ من الهجاء.
أخبرني الحسين قال قال حمّاد: قرأت على أبي عن ابن عباية عن الضّحّاك الحزاميّ(2) قال:
دخل نصيب مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه يومئذ أمير المدينة، و هو جالس بين قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و منبره، فقال: أيّها الأمير، ائذن لي أن أنشدك من مراثي عبد العزيز. فقال: لا تفعل فتحزنني، و لكن أنشدني قولك. «قفا أخويّ»؛ فإنّ شيطانك كان لك فيها ناصحا حين(3) لقّنك إيّاها. فأنشده:
قفا أخويّ إن الدار ليست *** كما كانت بعهد كما تكون
ليالي تعلمان و آل ليلى *** قطين الدار فاحتمل القطين(4)
فعوجا فانظرا أ تبين عمّا *** سألناها به أم لا تبين
ص: 271
فظلاّ واقفين و ظلّ دمعي *** على خدّي تجود به الجفون(1)
فلو لا إذ(2) رأيت اليأس منها *** بدا أن كدت ترشقك(3) العيون،
برحت(4) فلم يلمك الناس فيها *** و لم تغلق كما غلق الرّهين
/في البيتين الأوّلين من هذه الأبيات و الأخيرين لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه للغريض خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو و يونس.
أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه عن أيّوب بن عباية قال:
كان نصيب ينزل على عجوز بالجحفة إذا قدم من الشام، و كان لها بنيّة صفراء و كان يستحليها، فإذا قدم وهب لها دراهم و ثيابا غير ذلك. فقدم عليهما قدمة و بات بهما، فلم يشعر إلا بفتى قد جاءها ليلا فركضها برجله، فقامت معه فأبطأت ثم عادت، و عاد إليها بعد ساعة فركضها برجله فقالت معه فأبطأت ثم عادت. فلمّا أصبح نصيب رأى أثر معتركهما و مغتسلهما. فلما أراد أن يرتحل قالت له العجوز و بنتها: بأبي أنت! عادتك. فقال لها:
أراك طموح العين ميّالة الهوى *** لهذا و هذا منك ودّ ملاطف
فإن تحملي ردفين لا أك منهما *** فحبّي فرد(5) لست ممن يرادف
و لم يعطها شيئا و رحل.
قال أيّوب: و كانت بملل امرأة ينزل بها الناس، فنزل بها أبو عبيدة بن عبد اللّه(6) بن زمعة و عمران بن عبد اللّه بن مطيع و نصيب فلمّا رحلوا وهب لها القرشيّان و لم يكن مع نصيب شيء، فقال لها: اختاري إن شئت أن أضمن لك مثل ما أعطياك إذا قدمت، و إن شئت قلت فيك أبياتا تنفعك. قالت: بل الشّعر أحبّ إليّ. فقال:
/ألا حيّ قبل البين أمّ حبيب *** و إن لم تكن منّا غدا بقريب
لئن لم يكن حبّيك حبّا صدقته *** فما أحد عندي إذا بحبيب
تهام(7) أصابت قلبه ملليّة *** غريب الهوى يا ويح كلّ غريب
ص: 272
فشهرها بذلك، فأصابت بقوله ذلك فيها خيرا.
قال أيّوب: و دخل النّصيب على عمر بن عبد العزيز - رحمة اللّه عليه - بعد ما ولي الخلافة. فقال له: إيه يا أسود! أنت الذي تشهّر النساء بنسيبك! فقال: إنّي قد تركت ذلك يا أمير المؤمنين، و عاهدت اللّه عزّ و جلّ الاّ أقول نسيبا، و شهد له بذلك من حضر و أثنوا عليه خيرا. فقال: أمّا إذ كان الأمر هكذا فسل حاجتك. فقال: بنيّات لي نفضت عليهنّ سوادي فكسدن، أرغب بهنّ عن السّودان و يرغب عنهنّ البيضان. قال: فتريد ما ذا؟ قال: تفرض لهنّ، ففعل. قال: و نفقة لطريقي. قال: فأعطاه حلية سيفه و كساه ثوبيه، و كانا يساويان ثلاثين درهما.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا/عمر بن شبّة عن إسحاق الموصليّ عن ابن كناسة قال: /اجتمع النّصيب و الكميت و ذو الرّمّة، فأنشدهما الكميت قوله:
هل أنت عن طلب الأيفاع(1) منقلب
حتى بلغ إلى قوله فيها:
أم هل ضغائن بالعلياء(2) نافعة *** و إن تكامل فيها الأنس و الشّنب(3)
فعقد نصيب واحدة. فقال له الكميت: ما ذا تحصي؟ قال: خطأك، باعدت في القول، ما الأنس من الشّنب، أ لا قلت كما قال ذو الرّمّة:
لمياء(4) في شفتيها حوّة(5) لعس(6) *** و في اللّثات و في أنيابها شنب
ص: 273
ثم أنشدهما قوله:
أبت هذه النفس إلاّ ادّكارا
/حتى بلغ إلى قوله:
إذا ما الهجارس(1) غنّينها *** تجاوبن بالفلوات الوبارا(2)
فقال له النّصيب: و الوبار لا تسكن الفلوات. ثم أنشد حتى بلغ منها:
كأنّ الغطامط(3) من غليها *** أراجيز أسلم تهجو غفارا(4)
فقال النّصيب: ما هجت أسلم غفارا قطّ(5)، فانكسر الكميت و أمسك.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبيّ:
أنّ نصيبا مدح عبد الرحمن بن الضّحّاك بن قيس الفهريّ، فأمر له بعشر قلائص(6)، و كتب بها إلى رجلين من الأنصار، و اعتذر إليه و قال له: و اللّه ما أملك إلاّ رزقي، و إني لأكره أن أبسط يدي في أموال هؤلاء القوم.
فخرج حتّى أتى/الأنصاريّين فأعطاهما الكتاب مختوما. فقرآه و قالا: قد أمر لك بثمان قلائص، و دفعا ذلك إليه.
ثم عزل و ولّي مكانه رجل من بني نصر بن هوازن، فأمر بأن يتتبّع ما أعطى ابن الضّحّاك و يرتجع، فوجد باسم نصيب عشر قلائص، فأمر بمطالبته بها. فقال: و اللّه ما دفع إليّ إلا ثماني قلائص فقال: و اللّه ما تخرج من الدّار حتى تؤدّي عشر قلائص أو أثمانها، فلم يخرج حتى قبض ذلك منه. فلمّا قدم على هشام سمر عنده ليلة و تذاكروا النّصريّ، فأنشده قوله فيه:
أ في قلائص جرب(7) كنّ من(8) عمل *** أردى و تنزع من أحشائي الكبد
ص: 274
ثمانيا كنّ في أهلي و عندهم *** عشر فأيّ كتاب بعدنا وجدوا
أخانني أخوا الأنصار فانتقصا *** منها فعندهما الفقد(1) الذي فقدوا
و إنّ عاملك النّصريّ كلّفني *** في غير نائرة(2) دينا له صعد(3)
أذنب غيري و لم أذنب يكلّفني *** أم كيف أقتل لا عقل و لا قود
قال: فقال هشام: لا جرم و اللّه، لا يعمل لي النّصريّ عملا أبدا، فكتب بعزله عن المدينة.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرنا الزّبير بن بكّار إجازة عن هارون بن عبد اللّه الزّبيريّ عن شيخ من الجفر(4) قال:
/قدم علينا النّصيب فجلس في هذا المجلس و أومأ إلى مجلس حذاءه، فاستنشدناه، فأنشدنا قوله:
ألا يا عقاب الوكر وكر ضريّة(5) *** سقتك(6) الغوادي من عقاب و من وكر
/تمرّ الليالي ما مررن و لا أرى *** مرور الليالي منسياتي ابنة النّضر
وقفت بذي دوران(7) أنشد ناقتي *** و ما لي لديها من قلوص و لا بكر
و ما أنشد الرّعيان إلا تعلّة *** بواضحة الأنياب طيّبة النّشر
أما و الذي نادى من الطّور عبده *** و علّم أيّام المناسك و النّحر
لقد زادني للجفر حبّا و أهله *** ليال أقامتهنّ ليلى على الجفر
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال أخبرني عمر بن إبراهيم السّعديّ عن يوسف بن يعقوب بن العلاء بن سليمان عن(8) سلمة بن عبد اللّه بن أبي مسروح قال:
قال عبد الملك بن مروان لنصيب أنشدني، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
و مضمر الكشح يطويه الضّجيع به *** طيّ الحمائل لا جاف و لا فقر(9)
ص: 275
و ذي روادف لا يلغي الإزار بها *** يلوى و لو كان سبعا حين يأتزر
فقال له عبد الملك: يا نصيب، من هذه؟ قال: بنت عمّ لي نوبيّة، لو رأيتها ما شربت من يدها الماء. فقال له: لو غير هذا قلت لضربت الذي فيه عيناك.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثنا الحارث بن محمد بن أبي أسامة قال حدّثنا المدائنيّ قال:
/كان عبد العزيز بن مروان اشترى نصيبا و أهله و ولده فأعتقهم، و كان نصيب يرحل إليه في كلّ عام مستميحا(1) فيجيزه و يحسن صلته. فقال فيه نصيب:
يقول فيحسن القول ابن ليلى *** و يفعل فوق أحسن ما يقول
فتى لا يرزأ(2) الخلاّن إلاّ *** مودّتهم و يرزؤه الخليل
فبشّر أهل مصر فقد أتاهم *** مع النّيل الذي في مصر نيل
أخبرني هاشم بن محمد بن هارون بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ أبو دلف قال حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه قال:
كان نصيب يكنى أبا الحجناء، فهجاه شاعر من أهل الحجاز فقال:
رأيت أبا الحجناء في الناس حائرا *** و لون أبي الحجناء لون البهائم
تراه على ما لاحه من سواده *** و إن كان مظلوما له وجه ظالم
فقيل لنصيب: أ لا تجيبه! فقال: لا، و لو كنت هاجيا لأحد لأجبته و لكن اللّه أوصلني بهذا الشعر إلى خير، فجعلت على نفسي ألاّ أقوله في شرّ(3)، و ما وصفني إلا بالسواد و قد صدق. أ فلا أنشدكم ما وصفت به نفسي؟ قالوا بلى. فأنشدهم قوله:
ليس السواد بناقصي ما دام لي *** هذا اللسان إلى فؤاد ثابت
من كان ترفعه منابت أصله *** فبيوت أشعاري جعلن منابتي
كم بين أسود ناطق ببيانه *** ماضي الجنان و بين أبيض صامت
إنى ليحسدني الرفيع بناؤه *** من فضل ذاك و ليس بي من شامت
و يروى مكان «من فضل ذاك»، «فضل البيان» و هو أجود.
/أخبرني عمّي و محمد بن خلف/قالا حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني سعيد بن يحيى الأمويّ قال
ص: 276
حدّثني عمّي عن محمد بن سعد قال:
قال قائل للنّصيب: أيّها العبد، مالك و للشّعر؟! فقال: أمّا قولك عبد فما ولدت إلا و أنا حرّ، و لكن أهلي ظلموني فباعوني. و أمّا السواد فأنا الذي أقول:
و إن أك حالكا لوني فإنّي *** لعقل غير ذي سقط وعاء
و ما نزلت بي الحاجات إلاّ *** و في(1) عرضي من الطّمع الحياء
أخبرني محمد بن مزيد(2) قال حدّثنا حمّاد عن أبيه قال حدّثت عن السّدوسيّ قال: وقف نصيب على أبيات فاستسقى ماء، فخرجت إليه جارية بلبن أو ماء فسقته، و قالت: شبّب بي. فقال: و ما اسمك؟ فقالت: هند. و نظر إلى جبل و قال: ما اسم هذا العلم؟ قالت: قنا. فأنشأ يقول:
أحبّ قنا(3) من حبّ هند و لم أكن *** أبالي أقربا زاده اللّه أم بعدا
ألا إنّ بالقيعان من بطن ذي قنا *** لنا حاجة مالت إليه بنا عمدا
أروني قنا انظر إليه فإنّني *** أحبّ قنا إنّي رأيت به هندا
قال: فشاعت هذا الأبيات، و خطبت هذه الجارية من أجلها، و أصابت بقول نصيب فيها خيرا كثيرا.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا عيسى بن إسماعيل بن نبيه قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال:
/دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك، فقال له: حدّثني يا نصيب ببعض ما مرّ عليك. فقال: نعم، يا أمير المؤمنين! علّقت جارية حمراء، فمكثت(4) زمانا تمنّيني بالأباطيل، فلمّا ألححت عليها قالت: إليك عنّي، فو اللّه لكأنّك من طوارق(5) الليل. فقلت لها: و أنت و اللّه لكأنّك من طوارق النهار. فقالت: ما أظرفك يا أسود! فغاظني قولها، فقلت لها: هل تدرين ما الظّرف؟ إنما الظّرف العقل. ثم قالت لي: انصرف حتّى انظر في أمرك. فأرسلت إليها هذه الأبيات:
فإن أك حالكا فالمسك أحوى *** و ما لسواد جلدي من دواء
و لي كرم عن الفحشاء ناء(6) *** كبعد الأرض من جوّ السّماء
و مثلي في رجالكم قليل *** و مثلك ليس يعدم في النّساء
ص: 277
فإن ترضي فردّي قول راض *** و إن تأبي فنحن على السّواء
قال: فلمّا قرأت الشّعر قالت: المال و الشعر(1) يأتيان على غيرهما، فتزوّجتني.
أخبرنا هاشم بن محمد قال حدّثنا الرّياشيّ قال:
أنشدنا الأصمعيّ لنصيب و كان يستجيد هذه الأبيات و يقول إذا أنشدها: قاتل اللّه نصيبا ما أشعره!.
فإن يك من لوني السّواد فإنّني *** لكالمسك لا يروى من المسك ذائقه
و ما ضرّ أثوابي سوادي و تحتها *** لباس من العلياء بيض بنائقه(2)
إذا المرء لم يبذل من الودّ مثل ما *** بذلت له فاعلم بأنّي مفارقه
أخبرني الفضل بن الحباب أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم عن خلف: أنّ نصيبا أنشد جريرا شيئا من شعره، فقال له: كيف ترى يا أبا حرزة؟ فقال له: أنت أشعر أهل جلدتك.
/أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران بن محمد(3) عن المسور بن عبد الملك قال:
قال نصيب لعبد الرحمن بن أزهر: أنشدت الوليد بن عبد الملك(4)، فقال لي: أنت أشعر أهل جلدتك، و اللّه ما زاد عليها! فقال لي عبد الرحمن: يا أبا محجن، أ فرضيت منه أن جعلك أشعر السّودان فقط؟ فقال له: وردت و اللّه يا بن أخي أنه أعطاني أكثر من هذا، و لكنّه لم يفعل و لست بكاذبك.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد(5) قال حدّثنا أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة قال:
قال لي محمد بن عبد ربّه: دخلت مسجد الكوفة، فرأيت رجلا لم أر قطّ مثله و لا أشدّ سوادا منه، و لا أنقى ثيابا منه، و لا أحسن زيّا. فسألت عنه، فقيل: هذا نصيب. فدنوت منه فحدّثته، ثم قلت له: أخبرني عنك و عن أصحابك. فقال: جميل إمامنا، و عمر بن أبي ربيعة أوصفنا لربّات الحجال، و كثيّر أبكانا على الدّمن و أمدحنا
ص: 278
للملوك، و أمّا أنا فقد قلت ما سمعت. فقلت له: إنّ الناس يزعمون أنك لا تحسن أن تهجو. فضحك ثم قال: أ فتراهم يقولون: إنّي لا(1) أحسن أن أمدح؟ فقلت لا. فقال: أ فما تراني أحسن أن أجعل مكان عافاك اللّه /أخزاك اللّه؟ قال قلت بلى. قال: فإنّي رأيت الناس رجلين: إمّا رجل(2) لم أسأله شيئا فلا ينبغي أن أهجوه فأظلمه، و إمّا رجل سألته فمنعني فنفسي كانت أحقّ بالهجاء، إذ سوّلت لي أن سأله و أن أطلب ما لديه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني عبد اللّه بن إسماعيل بن أبي عبيد(3) اللّه كاتب المهديّ قال: وجدت في كتاب أبي بخطّه: حدّثني أبو يوسف التّجيبيّ(4) قال حدّثني إسماعيل بن المختار مولى آل طلحة و كان شيخا كبيرا قال:
حدّثني النّصيب أبو محجن أنه خرج هو و كثيّر و الأحوص غبّ يوم أمطرت فيه السماء، فقال: هل لكم في أن نركب جميعا فنسير حتّى نأتي العقيق فنمتّع فيه أبصارنا؟ فقالوا نعم. فركبوا أفضل ما يقدرون عليه من الدّوابّ، و لبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب، و تنكّروا ثم ساروا حتّى أتوا العقيق، فجعلوا يتصفّحون(5)و يرون بعض ما يشتهون، حتّى رفع لهم سواد عظيم فأمّوه حتى أتوه، فإذا وصائف و رجال من الموالي و نساء بارزات، فسألنهم أن ينزلوا، فاستحيوا أن يجيبوهنّ من أوّل وهلة، فقالوا: لا نستطيع أو نمضي في حاجة لنا.
فحلّفنهم أن يرجعوا إليهنّ، ففعلوا و أتوهّن، فسألنهم النزول فنزلوا. و دخلت امرأة من النساء/فاستأذنت لهم، فلم تلبث أن جاءت المرأة فقالت: ادخلوا. فدخلنا على امرأة جميلة برزة على فرش لها، فرحّبت و حيّت، و إذا كراسيّ موضوعة، فجلسنا جميعا في صفّ واحد كلّ إنسان على كرسيّ. فقالت: إن أحببتم أن ندعو بصبيّ لنا فنصيّحه و نعرك(6) أذنه فعلنا، و إن شئتم بدأنا بالغداء(7). فقلنا: بل تدعين بالصبيّ و لن يفوتنا الغداء. فأومأت بيدها إلى بعض الخدم، فلم يكن إلا كلا و لا(8) حتّى جاءت جارية جميلة قد
ص: 279
سترت(1) بمطرف، فأمسكوه عليها حتى ذهب بهرها(2)، ثم كشف عنها و إذا جارية ذات جمال قريبة من جمال مولاتها، فرحّبت بهم و حيّتهم، فقالت لها مولاتها: خذي - ويحك - من قول النّصيب عافى اللّه أبا محجن(3):
/
ألا هل من البين المفرّق من بدّ *** و هل مثل أيّام بمنقطع السّعد(4)
تمنّيت أيّامي أولئك، و المنى *** على عهد عاد ما تعيد و لا تبدي(5)
/فغنّته، فجاءت به كأحسن ما سمعته قطّ بأحلى لفظ و أشجى صوت. ثم قالت لها: خذي أيضا من قول أبي محجن عافى اللّه أبا محجن:
أرق المحبّ و عاده سهده *** لطوارق الهمّ التي ترده
و ذكرت من رقّت له كبدي *** و أبى فليس ترقّ لي كبده
لا قومه قومي و لا بلدي *** - فنكون حينا جيرة - بلده
و وجدت وجدا لم يكن أحد *** قبلي من اجل صبابة يجده(6)
إلاّ ابن عجلان(7) الذي تبلت(8) *** هند ففات(9). بنفسه كمده
قال: فجاءت به أحسن من الأوّل، فكدت أطير سرورا. ثم قالت لها: ويحك! خذي من قول أبي محجن عافى اللّه أبا محجن:
فيا لك من ليل تمتّعت طوله *** و هل طائف من نائم متمتّع(10)
نعم إنّ ذا شجو متى يلق شجوه *** و لو نائما مستعتب(11) أو مودّع
ص: 280
له حاجة قد طالما قد أسرّها *** من الناس في صدر بها يتصدّع
/تحمّلها طول الزمان لعلّها *** يكون لها يوما من الدهر منزع
و قد قرعت في أمّ عمرو لي(1) العصا *** قديما كما كانت لذي الحلم تقرع(2)
قال: فجاءت(3) و اللّه بشيء حيّرني و أذهلني طربا لحسن الغناء و سرورا باختيارها الغناء في شعري، و ما سمعت فيه من حسن الصّنعة و جودتها و إحكامها. ثم قالت لها: خذي أيضا من قول أبي محجن، عافى اللّه أبا محجن:
يا أيّها الرّكب إنّي غير تابعكم *** حتى تلمّوا و أنتم بي ملمّونا
فما أرى مثلكم ركبا كشكلكم *** يدعوهم ذو هوى إلاّ يعوجونا
أم خبّروني عن دائي(4) بعلمكم *** و أعلم النّاس بالداء الأطبّونا(5)
قال نصيب: فو اللّه لقد زهيت(6) بما سمعت زهوا خيّل إليّ أنيّ من قريش، و أنّ الخلافة لي. ثم قالت:
حسبك يا بنيّة! هات الطعام يا غلام! فوثب الأحوص و كثيّر و قالا: و اللّه لا نطعم لك طعاما و لا نجلس لك في مجلس؛ فقد أسأت عشرتنا و استخففت بنا، و قدّمت شعر هذا على أشعارنا، و استمعت(7) الغناء فيه، و إن في أشعارنا لما يفضل شعره، و فيها من الغناء ما هو أحسن من هذا. فقالت: على معرفة كلّ ما كان منّي، فأيّ شعركما أفضل من شعره؟ أقولك يا أحوص:
(يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها *** و أحسن شيء ما به العين قرّت
أو قولك يا كثيّر في عزّة:
و ما حسبت ضمريّة جدويّة(8) *** سوى التّيس ذي القرنين أنّ لها بعلا
أم قولك فيها:
إذا ضمريّة عطست فنكها *** فإن عطاسها طرف السّفاد
/قال: فخرجا مغضبين و احتبستني، فتغدّيت عندها، و أمرت لي بثلاثمائة دينار و حلّتين و طيب، ثم دفعت إليّ مائتي دينار و قالت: ادفعها إلى صاحبيك؛ فإن قبلاها و إلا فهي لك. فأتيتهما منازلهما فأخبرتهما القصّة. فأمّا
ص: 281
الأحوص فقبلها، و أمّا كثيّر فلم يقبلها، و قال: لعن اللّه صاحبتك و جائزتها و لعنك معها! فأخذتها و انصرفت.
فسألت النّصيب: ممن المرأة؟ فقال: من بني أميّة و لا أذكر اسمها ما حييت لأحد.
أخبرني عيسى بن يحيى الورّاق عن أحمد بن الحارث الخرّاز قال حدّثنا المدائنيّ قال:
وقع الطّاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان إيّاها، فخرج هاربا منه فنزل بقرية من الصعيد يقال لها «سكر»(1). فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك، فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ فقال: طالب بن مدرك.
فقال: أوّه، ما أراني راجعا إلى الفسطاط أبدا! و مات في تلك القرية. فقال نصيب يرثيه:
أصبت يوم الصعيد من سكر *** مصيبة ليس لي بها قبل
تاللّه أنسى(2) مصيبتي أبدا *** ما أسمعتني حنينها الإبل
/و لا التّبكّي عليه أعوله(3) *** كلّ المصيبات بعده جلل
لم يعلم النّعش ما عليه من ال *** عرف و لا الحاملون ما حملوا
حتى أجنّوه في ضريحهم *** حين انتهى من خليلك(4) الأمل
غنّى في هذه الأبيات ابن سريج، و لحنه رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، و ذكر الهشاميّ أنّ له فيه لحنا من الهزج، و ذكر ابن بانة أن الرّمل لابن الهربذ(5).
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن مصعب الزّبيري عن مشيخة من أهل الحجاز:
أنّ نصيبا دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: أنشدني بعض ما رثيت به أخي؛ فأنشده قوله:
عرفت و جرّبت الأمور فما أرى *** كماض تلاه الغابر(6) المتأخّر
و لكنّ أهل الفضل من أهل نعمتي *** يمرّون أسلافا أمامي و أغبر
فإن أبكه(7) أعذر و إن أغلب الأسى *** بصبر فمثلي عند ما اشتدّ يصبر
ص: 282
و كانت ركابي كلّما شئت تنتحي *** إليك فتقضي نحبها و هي ضمّر(1)
ترى الورد يسرا(2) و الثّواء غنيمة *** لديك و تثنى بالرّضا حين تصدر
فقد عريت بعد ابن ليلى فإنّما *** ذراها لمن لاقت من الناس منظر
/و لو كان حيّا لم يزل بدفوفها(3) *** مراد لغربان الطريق و منقر
فإن كنّ قد نلن ابن ليلى فإنّه *** هو المصطفى من أهله المتخيّر
فلمّا سمع عبد الملك قوله:
فإن أبكه أعذر و إن أغلب الأسى *** بصبر فمثلي عند ما اشتدّ يصبر
قال له: ويلك! أنا كنت أحقّ بهذه الصفة في أخي منك! فهلاّ وصفتني بها! و جعل يبكي.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أبي يحيى(4) محمد بن كناسة/قال:
قال لي عبد اللّه بن إسحاق البصريّ(5): لو وليت العراق لاستكتبت نصيبا. قلت: لما ذا؟ قال لفصاحته و حسن تخلصه إلى جيّد الكلام، أ لم تسمع قوله:
فلا النفس ملّتها و لا العين تنتهي *** إليها سوام(6) الطّرف عنها فترجع
رأتها فما ترتدّ عنها سآمة *** ترى(7) بدلا منها به النّفس تقنع
أخبرني الحرميّ عن الزّبير عن محمد بن الحسن قال:
دخل نصيب على إبراهيم بن هشام فأنشده مديحا له. فقال إبراهيم: ما هذا بشيء! أين هذا من قول أبي دهبل لصاحبنا ابن الأزرق حيث يقول:
ص: 283
إن تغد من منقلي(1) نخلان(2) مرتحلا *** يرحل من اليمن المعروف و الجود
/قال: فغضب نصيب و نزع عمامته و برك عليها، و قال: لئن تأتونا برجال مثل ابن الأزرق نأتكم بمثل مديح أبي دهبل أو أحسن؛ إن المديح و اللّه إنما يكون على قدر الرجال. قال: فأطرق ابن هشام، و عجبوا من إقدام نصيب عليه، و من حلم ابن هشام و هو غير حليم(3).
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الزّهريّ: أنّ نصيبا كان ربما قدم من الشام فيطرح في حجر أمّ بكر الخزاعيّة أربعمائة دينار، و أنّ عبد الملك بن مروان ظهر على تعلّقه بها و نسيبه فيها، فنهاه عن ذلك حتى كفّ.
أخبرني محمد بن يزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن عثمان بن حفص الثّقفيّ عن أبيه قال:
رأيت النّصيب بالطائف، فجاءنا و جلس في مجلسنا و عليه قميص قوهيّ و رداء و حبرة(4)، فجعل ينشدنا مديحا لابن هشام، ثم قال: إنّ الوادي مسبعة، فمن أهل المجلس؟ قالوا: ثقيف؛ فعرف أنّا نبغض ابن هشام و يبغضنا، فقال: إنّا للّه! أبعد ابن ليلى أمتدح ابن جيداء!(5) فقال له أهل المجلس: يا أبا محجن، أ تطلب القريض /أحيانا فيعسر عليك؟ فقال: إي و الله لربّما فعلت، فآمر براحلتي فيشدّ بها رحلي، ثم أسير في الشّعاب الخالية، و أقف في الرّباع المقوية، فيطربني ذلك و يفتح لي الشعر. و اللّه إني على ذلك ما قلت بيتا قطّ تستحي الفتاة الحييّة من إنشاده في ستر أبيها. قال إسحاق قال عثمان بن حفص فوصفه أبي و قال: كأنّي أراه صدعا(6) خفيف العارضين ناتئ الحنجرة.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه عن محمد بن كناسة قال: أنشد نصيب قوله:
و كدت و لم أخلق من الطير إن بدا *** لها بارق نحو الحجاز(7) أطير
ص: 284
/فسمعه ابن أبي عتيق، فقال: يا ابن أمّ، قل غاق فإنك تطير. يعني أنه غراب أسود.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال أخبرني أحمد بن محمد الأسديّ أسد قريش قال:
قال ابن أبي عتيق لنصيب: إنّي خارج، أ فترسل إلى سعدى بشيء؟ قال: نعم، بيتي شعر. قال: قل؛ فقال:
أتصبر عن سعدى و أنت صبور *** و أنت بحسن الصبر منك جدير
و كدت و لم أخلق من الطير إن بدا *** سنى(1) بارق نحو الحجاز أطير
/قال: فأنشد ابن أبي عتيق سعدى البيتين، فتنفّست تنفّسة شديدة. فقال ابن أبي عتيق: أوّه! أجبته(2) و اللّه بأجود من شعره، و لو سمعك خليلك لنعق و طار إليك.
أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم الكاتب قال حدّثني أبو هفّان(3) عن إسحاق الموصليّ عن المسيّبيّ قال:
قال أبو النّجم: أتيت الحكم بن المطّلب فمدحته، و خرج إلى السّعاية(4) فخرجنا معه و معه عدّة من الشعراء.
فبينا هو مع أصحابه(5) يوما واقف(6)، إذا(7) براكب يوضع(8) في السّراب(9) و إذا هو نصيب، فتقدّم إليه فمدحه فأمر بإنزاله، فمكث أياما حتى أتاه فقال: إنّي قد خلّفت صبية صغارا و عيالا ضعافا. فقال له: ادخل الحظيرة(10)فخذ منها سبعين فريضة(11). فقال له: جعلني اللّه فداك قد أحسنت! و معي ابن لي أخاف أن يثلمها(12) عليّ. قال:
فادخل فخذ له سبعين فريضة أخرى؛ فانصرف بمائة و أربعين فريضة.
/أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير عن محمد بن الضّحّاك عن عثمان عن أبيه قال:
قيل لنصيب: هرم شعرك. قال: لا! و اللّه ما هرم، و لكن العطاء هرم، و من يعطيني مثل ما أعطاني الحكم بن المطّلب! خرجت إليه و هو ساع على بعض صدقات المدينة، فلمّا رأيته قلت:
أبا مروان لست بخارجيّ(13) *** و ليس قديم مجدك بانتحال
ص: 285
أغرّ إذا الرّواق(1) انجاب(2) عنه *** بدا مثل الهلال على المثال(3)
تراءاه العيون كما تراءى *** عشيّة فطرها وضح الهلال
قال: فأعطاني أربعمائة ضائنة و مائة لقحة(4)، و قال: ارفع فراشي؛ فرفعته فأخذت من تحته مائتي دينار.
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني أسعد(5) بن عبد اللّه المريّ عن إبراهيم بن سعيد بن بشر بن عبد اللّه بن عقيل(6) الخارجيّ عن أبيه قال:
/و اللّه إنّي لمع أبي عبيدة بن عبد اللّه بن زمعة في حواء(7) له، إذ جاءه كثيّر فحيّاه، فاحتفى به، و دعا بالغداء فشرعنا فيه و شرع معنا كثيّر؛ و جاء رجل فسلّم فرددنا عليه السّلام و استدنيناه، فإذا نصيب في بزّة جميلة قد وافى الحجّ قادما من الشام، فأكبّ على أبي عبيدة فعانقه و سأله ثم دعاه إلى الغداء، فأكل مع القوم، فرفع كثيّر يده و أقلع عن الطعام، و أقبل عليه أبو عبيدة و القوم جميعا يسألونه أن يأكل، فأبى فتركوه. و أقبل كثيّر على نصيب فقال:
و اللّه يا أبا محجن، إنّ أثر أهل الشام عليك لجميل، لقد رجعت هذه الكرّة ظاهر الكبر قليل الحياء. فقال له نصيب: لكنّ أثر الحجاز عليك يا أبا صخر غير جميل. [لقد رجعت](8) و إنك لزائد النقص، كثير الحماقة. فقال كثيّر: أنا و اللّه أشعر العرب حيث أقول لمولاتك:
/إذا أمسيت بطن مجاح(9) دوني *** و عمق(10) دون عزّة فالبقيع
ص: 286
فليس بلائمي أحد يصلّي *** إذا أخذت مجاريها الدموع
/فقال له نصيب: أنا و اللّه أشعر منك حيث أقول لابنة عمّك:
خليليّ إن حلّت كليّة(1) فالرّبا(2) *** فذا أمج(3) فالشّعب(4) ذا الماء(5) و الحمض
فأصبح من حوران(6) رحلي بمنزل *** يبعّده من دونها نازح الأرض
و أيأستما أن يجمع الدهر بيننا *** فخوضا لي(7) السمّ المصرّح بالمحض(8)
ففي ذاك من بعض الأمور سلامة *** و للموت خير من حياة على غمض
قال: فاقتحم(9) إليه كثيّر، و ثبت له النّصيب. فلما نالته رجلاه رمحه(10) نصيب بساقه رمحة طاح منها بعيدا عنه، فما زال راقدا حتى أيقظناه عشيّا لرمي الجمار.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير عن محمد بن موسى بن طلحة(11) عن عبد اللّه بن عمر بن عثمان النّحويّ عن أنيس(12) بن ربيعة الأسلميّ أنه قال:
/غدوت يوما إلى أبي عبيدة بن عبد اللّه بن زمعة و هو محتلّ(13) بالرّحبة(14)، فألفيت عنده جماعة منا و من غيرنا، فأتاه آت فقال له: ذاك النّصيب منذ ثلاث بالفرش(15) من ملل(16) متلدّد(17) كأنّه واله في أثر قوم ظاعنين. فنهض أبو عبيدة
ص: 287
و نهضنا معه، فإذا نصيب على المنحر(1) من صفر(2). فلمّا عايننا و عرف أبا عبيدة هبط؛ فسأله عن أمره، فأخبره أنه تبع قوما سائرين و أنه وجد آثارهم و محلّهم بالفرش فاستولهه ذلك. فضحك به أبو عبيدة و القوم، و قالوا له:
إنما يهتر(3) إذا عشق من انتسب عذريّا، فأمّا أنت فما لك و لهذا؟! فاستحيا و سكن. و سأله أبو عبيدة: هل قلت في مقامك شعرا؟ قال: نعم! و أنشد:
لعمري لئن أمسيت بالفرش مقصدا *** ثويّاك(4) عبّود(5) و عدنة(6) أو صفر
/ففرّع(7) صبّا أو تيمّم مصعدا *** لربع قديم العهد ينتكف(8) الأثر
دعا أهله بالشأم برق فأوجفوا *** و لم أر متبوعا أضرّ من المطر
لتستبدلن قلبا عينا سواهما *** و إلا أتى قصدا حشاشتك(9) القدر
خليليّ فيما عشتما أو رأيتما *** هل اشتاق مضرور إلى من به أضرّ
نعم ربّما كان الشّقاء متيّحا(10) *** يغطّي على سمع ابن آدم و البصر
قال: فانصرف به [أبو عبيدة](11) إلى منزله، و أطعمه و كساه و حمله(12)، و انصرف و هو يقول:
أصاب دواء علّتك الطبيب *** و خاض(13) لك السّلوّ ابن الرّبيب(14)
ص: 288
و أبصر من رقاك منفّثات(1) *** و داؤك كان أعرف بالطّبيب
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال:
دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك ذات يوم، فأنشده قصيدة امتدحه بها، فطرب لها يزيد و استحسنها، فقال له: أحسنت يا نصيب! سلني ما شئت. فقال:
/يدك يا أمير المؤمنين بالعطاء أبسط من لساني بالمسألة! فأمر به فملئ فمه جوهرا، فلم يزل به غيّا حتى مات.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا أبو غزيّة(2) عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد قال:
دخل نصيب على إبراهيم بن هشام و هو وال على المدينة، فأنشده قوله:
/يا ابن الهشامين(3) لا بيت كبيتهما(4) *** إذا تسامت إلى أحسابها مضر
فقال له إبراهيم: قم يا أبا محجن إلى تلك الراحلة المرحولة فخذها برحلها. فقام إليها نصيب متباطئا و الناس يقولون: ما رأينا عطيّة أهنأ من هذه و لا أكرم و لا أعجل و لا أجزل. فسمعهم نصيب فأقبل عليهم و قال: و اللّه إنكم قلّما صاحبتم الكرام! و ما راحلة و رحل حتى ترفعوهما فوق قدرهما!
أخبرني الحرميّ و عيسى بن الحسين قالا حدّثنا الزّبير عن عبد اللّه بن محمد بن [عبد اللّه(5) بن] عمرو بن عثمان بن عفّان عن أبيه قال:
استبطأ هشام بن عبد الملك حين ولي الخلافة نصيبا ألاّ يكون جاءه وافدا عليه مدحا له و وجد عليه. و كان نصيب مريضا، فبلغه ذلك حين برأ، فقدم عليه و عليه أثر المرض و على راحلته أثر النّصب، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
/حلفت بمن حجّت قريش لبيته(6) *** و أهدت له بدنا(7) عليها القلائد
ص: 289
لئن كنت طالت غيبتي عنك إنّني *** بمبلغ حولي في رضاك لجاهد
و لكنّني قد طال سقمي و أكثرت *** عليّ العهاد(1) المشفقات العوائد
صريع فراش لا يزلن يقلن لي *** بنصح و إشفاق متى أنت قاعد
فلمّا زجرت العيس أسرت بحاجتي *** إليك و ذلّت للّسان القصائد
و إنّي فلا تستبطني(2) بمودّتي *** و نصحي و إشفاقي إليك لعامد(3)
فلا تقصني حتى أكون بصرعة(4) *** فييأس ذو قربي و يشمت حاسد
أنلني و قرّبني فإنّي بالغ *** رضاك بعفو من نداك و زائد(5)
أبت نائما أمّا فؤادي فهمّه *** قليل و أمّا مسّ جلدي فبارد
و قد كان لي منكم إذا ما لقيتكم *** ليان(6) و معروف و للخير قائد
إليك رحلت العيس حتّى كأنّها *** قسيّ السّرى ذبلا(7) برتها الطّرائد(8)
/و حتى هواديها(9) دقاق و شكوها(10) *** صريف و باقي النّقي(11) منها شرائد(12)
و حتّى ونت ذات المراح(13) فأذعنت *** إليك و كلّ الرّاسمات(14) الحوافد
قال: فرقّ له هشام و بكى، قال له: ويحك يا نصيب! لقد أضررنا بك و برواحلك. و وصله و أحسن صلته و احتفل به.
أخبرنا الحرميّ عن الزّبير عن عمّه عن أيّوب بن عبابة قال:
قدم نصيب على عبد الواحد النصريّ و هو أمير المدينة بفرض من أمير المؤمنين يضعه في قومه من بني ضمرة، فأدخلهم عليه ليفرض لهم و فيهم أربعة غلمة لم يحتلموا، فردّهم النصريّ. فكلّمه نصيب كلاما غليظا إدلالا
ص: 290
بمنزلته عند الخليفة، فأشار إليه إبراهيم بن عبد اللّه بن مطيع أن اسكت و كفّ و اخرج، فإنّي كافيك. فلمّا خرج إبراهيم لقيه نصيب، فقال له: أشرت إليّ فكرهت أن أغضبك، فما كرهت لي من مراجعته و الصّلابة له و من ورائي المستعتب من أمير المؤمنين؟ فقال إبراهيم: هو رجل عربيّ حديد غلق(1)، و خشيت إن جاذبته شيئا ألاّ يرجع عنه و أن يمضي عليه و يلجّ(2) فيه، و هو مالك للأمر و له فيه(3) سلطان، /فأردت أن تخرج قبل أن يلجّ و يظهر منه ما لا يرجع عنه فيمضي عليه و يلجّ فيه، فتنتظر لتصادف منه طيب نفس فتكلّمه و نرفدك(4) عنده. فقال نصيب:
/يومان يوم لرزيق(5) فسل *** و يومه الآخر سمح فضل
أنا - جعلت فداءك - فاعل ذلك، فإذا رأيت القول فأشر إليّ حتى أكلّمه.
قال: و دخل إليه نصيب عشيّات، كلّ ذلك يشير إليه ابن مطيع ألاّ يكلّمه، حتى صادف عشيّة من العشيّات منه طيب نفس، فأشار إليه أن كلّمه. فكلّمه نصيب فأصاب مختله(6) بكلامه، ثم قال: إنّي قد قلت شعرا فاسمعه أيّها الأمير و أجزه، ثم قال:
أهاج البكا ربع بأسفل ذي السّدر(7) *** (8) عفاه اختلاف العصر بعدك و القطر
نعم فثناني الوجد فاشتقت للّذي *** ذكرت و ليس الشوق إلا مع الذّكر
حلفت بربّ الموضعين(9) لربّهم *** و حرمة ما بين المقام إلى الحجر
لئن حاجتي يوما قضيت و رشتني(10) *** بنفحة عرف من يديك أبا بشر(11)
لتعترفنّ(12) الدّهر منّي مودّة *** و نصحا على نصح و شكرا على شكر
سقى اللّه صوب المزن أرضا عمرتها(13) *** بريّ و أسقاها(14) بلاد بني نصر
ص: 291
بوجهك فاستعملت ما دمت خائفا *** لربّك تقضي راشدا آخر الدّهر
/لتنقذ أصحابي و تستر عورة *** بدت لك من صحبي فإنك ذو ستر
فما بأمير المؤمنين إلى الّتي *** سألت فأعطاني لقومي من فقر
و قد خرجت منه إليك فلا تكن *** بموضع بيضات الأنوق(1) من الوكر
قال: فقال عثمان بن حيّان المرّيّ و هو عنده - و كان قد جاءه بالقود من ابن حزم -: قد احتلم الآن القوم أيّها الأمير، و استوجبوا الفرض. و رفده(2) ابن مطيع فأحسن، و اشتدّ عليه أن شركه ابن حيّان في رفده و تشييعه و قال النّصريّ لابن مطيع و ابن حيّان: صدقتما قد احتلموا و استوجبوا الفرض، افرض لهم يا فلان - لكاتب من كتّابه - ففرض لهم.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني جعفر بن عليّ اليشكريّ قال حدّثني الرّياشيّ عن العتبيّ قال:
دخل نصيب على عبد العزيز بن مروان، فقال له عبد العزيز و قد طال الحديث بينهما: هل عشقت قطّ؟ قال: نعم، أمة لبني مدلج. قال: فكنت تصنع ما ذا؟ قال: كانوا يحرسونها منّي، فكنت أقنع أن أراها في الطّريق و أشير إليها بعيني أو حاجبي، و فيها أقول:
وقفت لها كيما تمرّ لعلّني *** أخالسها التّسليم إن لم تسلّم
و لمّا رأتني و الوشاة تحدّرت *** مدامعها خوفا و لم تتكلّم
مساكين أهل العشق ما كنت أشتري *** جميع حياة العاشقين بدرهم
/فقال عبد العزيز: ويحك! فما فعلت؟ قال: بيعت فأولدها سيّدها. قال: فهل في نفسك منها شيء؟ قال: نعم، عقابيل(3) أحزان.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني بهلول بن سليمان بن قرضاب البلويّ:
أنّ إبلا لنصيب أجدبت و حالت(4)، و كان لرجل من أسلم عليه ثمانية/آلاف درهم قال: فأخبرني أبي و عمّي أنه وفد على عبد العزيز بن مروان، فقال له: جعلني اللّه فداءك! إنّي حملت دينا في إبل ابتعتها مجدبات حيال(5)، و قد قلت فيها شعرا.
قال: انشده، فأنشده:
ص: 292
فلمّا حملت الدّين فيها و أصبحت *** حيالا مسنّات(1) الهوى كدت أندم
على حين أن راث(2) الرّبيع و لم يكن *** لها بصعيد من تهامة مقضم
ثمانية للأسلميّ و ما دنا *** لفحش و لا تدنو إلى الفحش أسلم
فقال له عبد العزيز: فما دينك؟ ويحك! قال: ثمانية آلاف، فأمر له بثمانية آلاف درهم. فلمّا رجع أنشد الأسلميّ الشعر فترك ماله عليه، قال: الثمانية الآلاف لك.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني الموصليّ عن ابن أبي عبيدة قال:
/أتى نصيب مكة فأتى المسجد الحرام ليلا. فبينما هو كذلك إذ طلع ثلاث نسوة فجلسن قريبا منه و جعلن يتحدّثن و يتذاكرن الشعر و الشعراء، و إذا هنّ من أفصح النساء و آدابهنّ. فقالت إحداهنّ: قاتل اللّه جميلا حيث يقول:
و بين الصّفا و المروتين ذكرتكم *** بمختلف ما بين ساع و موجف
و عند طوافي قد ذكرتك ذكرة *** هي الموت بل كادت على(3) الموت تضعف
فقالت الأخرى: بل قاتل اللّه كثيّر عزّة حيث يقول:
طلعن علينا بين مروة و الصّفا *** يمرن(4) على البطحاء مور السحائب
فكدن لعمر اللّه يحدثن فتنة *** لمختشع من خشية اللّه تائب
فقالت الأخرى: قاتل اللّه ابن الزّانية نصيبا حيث يقول:
ألام على ليلى و لو أستطيعها *** و حرمة ما بين البنيّة و السّتر
لملت على ليلى بنفسي ميلة *** و لو كان في يوم التّحالق و النّحر
فقام نصيب إليهنّ فسلّم عليهنّ، فرددن عليه السّلام. فقال لهنّ: إنّي رأيتكنّ تتحادثن شيئا عندي منه علم.
فقلن: و من أنت؟ فقال: اسمعن أوّلا. فقلن: هات. فأنشدهنّ قصيدته التي أوّلها:
و يوم ذي سلّم شاقتك نائحة *** ورقاء في فنن و الريح تضطرب
فقلن له: نسألك باللّه و بحقّ هذه البنيّة، من أنت؟ فقال: أنا ابن المظلومة المقذوفة بغير جرم «نصيب».
فقمن إليه فسلّمن عليه و رحّبن به، و اعتذرت إليه القائلة، و قالت: و اللّه ما أردت سوءا، و إنّما حملني الاستحسان لقولك على ما سمعت. فضحك و جلس إليهنّ، فحادثهنّ إلى أن انصرفن.
ص: 293
هو مسلم بن محرز. فيما روى ابن المكّيّ، و يكنّى أبا الخطّاب، مولى بني عبد الدّار ابن(1) قصيّ. و قال ابن الكلبيّ: اسمه سلّم. قال و يقال: اسمه عبد اللّه. و كان أبوه من سدنة(2) الكعبة، أصله من الفرس، و كان أصفر أحنى(3) طويلا.
و أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني/أخي هارون عن عبد الملك بن الماجشون قال:
اسم ابن محرز سلّم، و هو مولى بني مخزوم. و ذكر إسحاق أنه كان يسكن المدينة مرّة و مكّة مرّة، فإذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر يتعلّم الضّرب من عزّة الميلاء، ثم يرجع إلى مكّة فيقيم بها ثلاثة أشهر. ثم شخص(4)إلى فارس فتعلّم ألحان الفرس و أخذ غناءهم، ثم صار إلى الشام فتعلّم ألحان الرّوم و أخذ غناءهم، فأسقط من ذلك ما لا يستحسن من نغم الفريقين، و أخذ محاسنها فمزج بعضها ببعض و ألّف منها الأغاني التي صنعها في أشعار العرب، فأتى بما لم يسمع مثله. و كان يقال له صنّاج(5) العرب.
أخبرني عمّي قال حدّثني أبو أيّوب المديني عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: قال أبي: أوّل من غنّى الرّمل ابن محرز و ما غنّي قبله. فقلت له: و لا بالفارسية؟ قال: و لا بالفارسية، و أوّل(6) من غنّى رملا بالفارسية سلمك(7) في أيّام الرشيد، استحسن لحنا من ألحان ابن محرز، فنقل لحنه إلى الفارسية و غنّى فيه.
ص: 294
قال أبو أيّوب و قال إسحاق: كان ابن محرز قليل الملابسة للناس، فأحمل ذلك ذكره فما يذكر منه إلاّ غناؤه، و أخذت أكثر غنائه جارية كانت لصديق له من أهل مكة كانت تألفه، فأخذه الناس عنها. و مات بداء كان به. و سقط إلى فارس فأخذ غناء الفرس، و إلى الشام فأخذ غناء الروم، فتخيّر من نغمهم ما تغنّى به غناءه. و كان يقدم بما يصيبه فيدفعه إلى صديقه ذاك فينفقه كيف شاء، لا يسأله عن شيء منه، حتّى إذا كاد أن(1) ينفد جهّزه و أصلح من أمره، و قال له: إذا شئت فارحل، فيرحل ثم يعود. فلم يزل كذلك حتى مات.
[قال(2)]: و هو أوّل من غنّى بزوج من الشّعر، و عمل ذلك بعده المغنّون اقتداء به. و كان يقول: الأفراد لا تتمّ بها الألحان. و ذكر أنه أوّل ما أخذ الغناء أخذه عن ابن مسجح. قال إسحاق: و كانت العلّة التي مات بها الجذام، فلم يعاشر الخلفاء و لا خالط الناس لأجل ذلك.
قال أبو أيّوب قال إسحاق: قدم ابن محرز يريد(3) العراق، فلمّا نزل القادسيّة(4) لقيه حنين، فقال له: كم منّتك نفسك من العراق؟ قال: ألف دينار. قال: فهذه خمسمائة دينار فخذها و انصرف و احلف ألاّ تعود.
و قال إسحاق: و قلت ليونس: من أحسن الناس غناء؟ قال: ابن محرز. قلت: و كيف قلت(5) ذاك؟ قال: إن شئت فسّرت، و إن شئت أجملت. قلت: أجمل. قال: كأنه خلق من كلّ قلب، فهو يغنّي لكل إنسان بما يشتهي.
و هذه الحكاية بعينها قد حكيت في ابن سريج، و لا أدري أيّهما الحقّ.
قال إسحاق: و أخبرني الفضل بن يحيى بن خالد أنه سأل بعض من يبصر الغناء: من أحسن الناس غناء؟ فقال: أ من الرجال أم من النساء؟ فقلت: من الرجال. فقال: ابن محرز. فقلت: فمن النساء؟ فقال: ابن سريج.
قال: و كان إسحاق يقول: الفحول ابن سريج، ثم ابن محرز، ثم معبد ثم الغريض، ثم مالك.
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد: قرأت على أبي حدّثنا بعض أهل المدينة، و أخبرني بهذا الخبر الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني أخي هارون عن عبد الملك بن الماجشون قال:
كان ابن محرز أحسن الناس غناء، فمرّ بهند بنت كنانة بن عبد الرحمن بن نضلة بن صفوان بن أمية بن محرّث(6) الكنانيّ حليف/قريش، فسألته أن يجلس لها و لصواحب لها، ففعل و قال: أغنّيكنّ صوتا أمرني
ص: 295
الحارث بن خالد بن العاص بن هشام أن أغنّيه عائشة بنت طلحة بن عبيد اللّه في شعر له قاله فيها و هو يومئذ أمير مكة؟ قلن نعم. فغنّاهنّ:
فوددت إذ شحطوا و شطّت دارهم *** وعدتهم عنّا عواد تشغل
أنّا نطاع و أن تنقّل أرضنا *** أو أنّ أرضهم إلينا تنقل
لتردّ من كثب إليك رسائلي *** بجوابها و يعود ذاك المرسل(1)
عروضه من الكامل. الغناء في هذه الأبيات خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر، ذكر عمرو بن بانة أنه لابن محرز، و ذكر إسحاق أنه لابن سريج.
و قال أبو أيّوب المدينيّ في خبره: بلغني أنّ ابن محرز لمّا شخص يريد العراق لقيه حنين فقال له: غنّني صوتا من غنائك. فغنّاه:
و حسن(2) الزّبرجد في نظمه *** على واضح اللّيت(3) زان العقودا
يفصّل ياقوته درّه *** و كالجمر أبصرت فيه الفريدا(4)
عروضه من المتقارب. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالسّبّابة في مجرى البنصر - قال: فقال له حنين حينئذ: كم أمّلت من العراق؟ قال: ألف دينار. فقال له: هذه خمسمائة دينار فخذها و انصرف. و لمّا شاع ما فعل لامه أصحابه عليه؛ فقال: و اللّه لو دخل العراق لما كان لي معه فيه خبز آكله، و لاطّرحت و سقطت إلى آخر الدهر. و هذا الصوت أعنى:
و حسن الزبرجد في نظمه
/من صدور أغاني ابن محرز و أوائلها و ما لا يتعلّق بمذهبه فيه و لا يتشبّه به أحد. و مما يغنّى فيه من قصيدة نصيب التي أوّلها:
أهاج هواك المنزل المتقادم
لقد راعني للبين نوح حمامة *** على غصن بان جاوبتها حمائم
ص: 296
هواتف أمّا من بكين فعهده *** قديم و أمّا شجوهنّ فدائم
الغناء لابن سريج من رواية يونس و عمرو و ابن المكيّ، و هو ثاني ثقيل بالبنصر، و هو من جيّد الألحان و حسن الأغاني، و هو مما عارض ابن سريج فيه ابن محرز و انتصف منه.
إلى جيداء قد بعثوا رسولا *** ليحزنها فلا صحب الرّسول
كأنّ العام ليس بعام حجّ *** تغيّرت المواسم و الشكول(1)
/الشعر للعرجيّ، و الغناء لإبراهيم الموصليّ، و لحنه المختار ماخوريّ بالوسطى. و هو من خفيف الثّقيل الثاني على مذهب إسحاق. و فيه لابن سريج ثاني ثقيل بالسّبّابة. في مجرى البنصر، و ذكر عمرو بن بانة أنّ الماخوريّ لابن سريج.
ص: 297
هو عبد اللّه بن عمر(1) بن عمرو بن عثمان بن عفّان بن أبي العاصي بن أميّة بن عبد شمس. و قد شرح هذا النسب في نسب أبي قطيفة. و أمّ عفّان و جميع بني أبي العاصي آمنة بنت عبد العزّى بن حرثان(2) بن عوف بن عبيد بن عويج بن عديّ بن كعب. و أمّ عثمان أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس. و أمّها البيضاء أمّ حكيم بنت عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، و هي أخت عبد اللّه بن عبد المطّلب أبى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، لأمّه [و أبيه](3) ولدا في بطن واحد. و أمّ عمرو بن عثمان أمّ أبان بنت جندب الدّوسيّة.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء و الطّوسيّ قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عليّ بن صالح عن يعقوب بن محمد عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال حدّثني محرز بن جعفر عن أبيه عن جدّه قال:
قدم جندب بن عمرو بن حممة الدّوسيّ المدينة مهاجرا في خلافة عمر بن الخطاب، ثم مضى إلى الشام و خلّف ابنته أمّ أبان عند عمر، و قال له: يا أمير المؤمنين، /إن وجدت لها كفؤا فزوّجه بها و لو بشراك نعله(4)، و إلا فأمسكها حتى تلحقها بدار قومها بالسّراة(5). فكانت عند عمر، و استشهد أبوها، فكانت تدعوا عمر أباها و يدعوها ابنته. قال: فإنّ عمر على المنبر يوما يكلّم الناس في بعض الأمر(6) إذ خطر على قلبه ذكرها، فقال: من له في الجميلة الحسيبة بنت جندب بن عمرو بن حممة، و ليعلم امرؤ من هو! فقام عثمان فقال: إنا يا أمير المؤمنين. فقال أنت لعمر اللّه! كم سقت إليها؟ قال: كذا و كذا. قال: قد زوّجتكها، فعجّله؛ فإنها معدّة. قال: و نزل عن المنبر.
فجاء عثمان رضي اللّه عنه بمهرها، فأخذه عمر في ردنه(7) فدخل به عليها، فقال: يا بنيّة، مدّي حجرك، ففتحت حجرها، فألقى فيه المال، ثم قال: يا بنيّة، قولي اللّهمّ بارك لي فيه. فقالت: اللهم بارك لي فيه، و ما هذا يا أبتاه؟
ص: 298
قال: مهرك. فنفحت به(1) و قالت: وا سوأتاه! فقال: احتبسي منه لنفسك و وسّعي منه لأهلك، و قال لحفصة:
يا بنتاه، أصلحي من شأنها و غيّري بدنها(2) و اصبغي ثوبها، ففعلت. ثم أرسل بها مع نسوة إلى عثمان. فقال عمر لمّا فارقته: إنها أمانة في عنقي أخشى/أن تضيع بيني و بين عثمان، فلحقهنّ فضرب على عثمان بابه، ثم قال: خذ أهلك بارك اللّه لك فيهم. فدخلت على عثمان، فأقام عندها مقاما طويلا لا يخرج إلى حاجة. فدخل عليه سعيد بن العاص فقال له: يا أبا عبد اللّه، لقد أقمت عند هذه الدّوسيّة مقاما ما كنت تقيمه عند النساء. فقال: أما إنه ما بقيت خصلة كنت أحبّ أن تكون في امرأة إلا صادفتها فيها ما خلا خصلة واحدة. قال: و ما هي؟ قال: إنّي رجل قد دخلت في السّنّ، و حاجتي في النساء الولد، و أحسبها حديثة لا ولد فيها/اليوم. قال: فتبسّمت. فلمّا خرج سعيد من عنده قال لها عثمان: ما أضحكك؟ قالت: قد سمعت قولك في الولد، و إني لمن نسوة ما دخلت امرأة منهنّ على سيّد قطّ فرأت حمراء(3) حتى تلد سيّد من هو منه. قال: فما رأت حمراء حتى ولدت عمرو بن عثمان. و أمّ عمر بن عمرو بن عثمان و أمّ ولد. و أمّ العرجيّ آمنة بنت عمر بن عثمان؛ و قال إسحاق: بنت سعيد بن عثمان، و هي لأمّ ولد.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي:
أنه إنما لقّب العرجيّ لأنه كان يسكن عرج(4) الطائف. و قيل: بل سمّي بذلك لماء كان له و مال عليه بالعرج.
و كان من شعراء قريش، و من شهر بالغزل منها، و نحا نحو عمر بن أبي ربيعة في ذلك و تشبّه به فأجاد. و كان مشغوفا باللّهو و الصّيد حريصا عليهما قليل المحاشاة(5) لأحد فيهما. و لم يكن له نباهة في أهله، و كان أشقر أزرق جميل الوجه. و جيداء التي شبّب بها هي أمّ محمد بن هشام بن إسماعيل/المخزوميّ، و كان ينسب بها ليفضح ابنها لا لمحبّة كانت بينهما؛ فكان ذلك سبب حبس محمد إيّاه و ضربه له، حتى مات في السّجن.
و أخبرني محمد بن مزيد إجازة عن حمّاد بن إسحاق فذكر أن حمادا حدّثه عن إسحاق عن أبيه عن بعض شيوخه:
أنّ العرجيّ كان أزرق كوسجا(6) ناتئ الحنجرة، و كان صاحب غزل و فتوّة(7)، و كان يسكن بمال له في الطائف يسمّى العرج؛ فقيل له العرجيّ و نسب إلى ماله. و كان من الفرسان المعدودين مع مسلمة بن عبد الملك بأرض الروم، و كان له معه بلاء حسن و نفقة كثيرة.
ص: 299
قال إسحاق: قد ذكر عتبة بن إبراهيم اللّهبيّ(1): أنّ العرجيّ فيما بلغه باع أموالا عظاما كانت له و أطعم ثمنها في سبيل اللّه حتى نفد ذلك كلّه. و كان قد اتّخذ غلامين، فإذا كان الليل نصب قدره(2) و قام الغلامان يوقدان، فإذا نام واحد قام الآخر، فلا يزالان كذلك حتى يصبحا، يقول: لعلّ طارقا يطرق.
أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدّثني مصعب، و أخبرنا الحرميّ عن الزّبير عن عمّه مصعب، و عن محمد بن الضّحّاك بن عثمان عن أبيه قال، دخل حديث بعضهم في بعض، و أخبرني محمد بن مزيد عن حمّاد عن أبيه عن مصعب قال:
كانت حبشيّة من مولّدات مكة ظريفة صارت إلى المدينة، فلمّا أتاهم موت عمر بن أبي ربيعة اشتدّ جزعها و جعلت تبكي و تقول: من لمكة و شعابها و أباطحها و نزهها و وصف نسائها و حسنهنّ و جمالهنّ و وصف ما فيها! فقيل لها: خفّضي عليك؛ فقد نشأ فتى من ولد عثمان رضي اللّه عنه يأخذ مأخذه و يسلك مسلكه. فقالت: أنشدوني من شعره، فأنشدوها؛ فمسحت عينها و ضحكت و قالت: الحمد للّه الذي لم يضيّع حرمه.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب، و أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن عورك(3) اللّهبيّ:
أنّ مولاة لثقيف يقال لها كلابة(4) كانت عند عبد اللّه بن القاسم الأمويّ العبليّ(5)، و كان يبلغها تشبيب العرجيّ بالنساء و ذكره لهنّ في شعره، و كانت كلابة تكثر أن تقول: لشدّ ما اجترأ العرجيّ على نساء قريش حين(6)يذكرهنّ في شعره! و لعمري/ما لقي أحدا فيه خير، /و لئن لقيته لأسوّدنّ وجهه! فبلغه ذلك عنها. قال إسحاق في خبره: و كان العبليّ نازلا على ماء لبني نصر بن معاوية يقال له الفتق(7) على ثلاثة أميال من مكّة على طريق من جاء
ص: 300
من نجران أنو تبالة إلى مكّة، و العرج أعلاها قليلا ممّا يلي الطائف. فبلغ العرجيّ أنه خرج إلى مكّة، فأتى قصره فأطاف(1) به، فخرجت إليه كلابة و كان خلّفها في أهله، فصاحت به: إليك، ويلك! و جعلت ترميه بالحجارة و تمنعه أن يدنو من القصر. فاستسقاها ماء فأبت أن تسقيه، و قالت: لا يوجد و اللّه أثرك عندي أبدا فيلصق بي منك شرّ. فانصرف و قال: ستعلمين! و قال:
حور بعثن رسولا في ملاطفة *** ثقفا(2) إذا غفل(3) النّسّاءة(4) الوهم(5)
إليّ أن ائتنا هدأ(6) إذا غفلت *** أحراسنا و افتضحنا إن هم علموا
فجئت أمشي على هول أجشمه *** تجشّم المرء هولا في الهوى كرم
إذا تخوّفت من شيء أقول له *** قد جفّ فامض بشيء قدّر القلم
أمشي كما حرّكت ريح يمانية *** غصنا من البان رطبا طلّه(7) الدّيم
/في حلّة من طراز السّوس(8) مشربة(9) *** تعفو(10) بهدّابها ما أثّرت قدم
خلّت سبيلي كما خلّيت ذا عذر(11) *** إذا رأته عتاق الخيل ينتجم(12)
و هنّ في مجلس خال و ليس له *** عين عليهنّ أخشاها و لا ندم(13)
حتى جلست إزاء الباب مكتتما *** و طالب الحاج تحت الليل مكتتم
أبدين لي أعينا نجلا كما نظرت *** أدم هجان أتاها مصعب(14) قطم
ص: 301
قالت كلابة من هذا؟ فقلت لها *** أنا الذي أنت من أعدائه زعموا
أنا امرؤ جدّ بي حبّ فأحرضني(1) *** حتى بليت و حتى شفّني السّقم
لا تكليني إلى قوم لو انّهم *** من بغضنا أطعموا الحمى إذا طعموا
و أنعمي نعمة تجزي بأحسنها *** فطالما مسّني من أهلك النّعم
ستر المحبّين في الدنيا لعلّهم *** أن يحدثوا توبة فيها إذا(2) أثموا
هذي يميني رهن بالوفاء لكم *** فارضي بها و لأنف الكاشح الرّغم(3)
/قالت رضيت و لكن جئت في قمر *** هلاّ(4) تلبّثت حتى تدخل الظّلم
فبتّ أسقي بأكواس(5) أعلّ بها *** من بارد طاب منها الطّعم و النّسم(6)
حتّى بدا ساطع للفجر نحسبه *** سنى حريق بليل حين يضطرم
كغرّة الفرس المنسوب(7) قد حسرت(8) *** عنه الجلال(9) تلالا و هو يلتجم(10)
ودّعتهنّ و لا شيء يراجعني *** إلا البنان و إلا الأعين السّجم(11)
إذا أردن كلامي عنده اعترضت *** من دونه عبرات فانثنى الكلم
تكاد إذ رمن نهضا للقيام معي *** أعجازهنّ من الأنصاف تنقصم
قال: فسمع ابن القاسم العبليّ بالشّعر يغنّى به، و كان العرجيّ قد أعطاه جماعة من المغنّين/و سألهم أن يغنّوا فيه، فصنعوا في أبيات منه عدّة ألحان، و قال: و اللّه لا أجد لهذه الأمة شيئا أبلغ من إيقاعها تحت التّهمة عند ابن القاسم ليقطع مأكلتها من ماله. قال: فلمّا سمع العبليّ بالشعر يغنّى به أخرج كلابة و اتّهمها، ثم أرسل بها بعد زمان على بعير بين غرارتي بعر، فأحلفها بمكّة بين الرّكن و المقام إنّ العرجيّ كذب فيما قاله. فحلفت سبعين يمينا، فرضي عنها و ردّها. فكان بعد ذلك إذا سمع قول العرجيّ:
فطالما مسّني من أهلك النّعم
/قال: كذب و اللّه ما مسّه ذلك قطّ. و قال إسحاق: و قد قيل: إنّ صاحب هذه القصيدة [و القصة](12) أبو
ص: 302
حراب(1) العبليّ، و إنّ كلابة كانت أمة لسعدة بنت عبد اللّه بن عمرو(2) بن عثمان، و كان العرجيّ قد خطبها و سمّيت(3) به، ثم خطبها يزيد بن عبد الملك أو الوليد بن(4) يزيد فزوّجته(5)، فقال العرجيّ هذا الشعر فيها. غنّى في قوله:
أمشي كما حرّكت ريح يمانية
عليّ بن هشام هزجا مطلقا بالبنصر، و فيه للمسدود(6) هزج آخر طنبوريّ، ذكر ذلك جحظة. و في:
لا تكليني إلى قوم لو انهم
رمل لابن سريج عن ابن المكّيّ و إسحاق(7) بالسّبّابة في مجرى الوسطى. و في «قالت كلابة» و الذي بعده لعبيد(8) اللّه بن أبي غسّان لحن من خفيف الرّمل. و لنبيه(9) في «أنا امرؤ جدّ بي» و ما بعده، هزج بالوسطى.
و لدحمان في «حور بعثن» و ما بعده، هزج بالوسطى، و روى عنه الهشاميّ فيه ثقيلا أوّل(10). و لأبي عيسى بن المتوكّل في «و أنعمي نعمة» و بيتين بعده، ثقيل أوّل.
/و أخبرني بخبر العرجيّ و كلابة هذه الحرميّ بن أبي العلاء عن الزّبير بن بكّار عن عمّه مصعب، و أخبرني به وكيع عن أبي أيّوب المدينيّ عن مصعب و ذكر نحوا مما ذكره إسحاق؛ و زعما أن كلابة كانت قيّمة لأبي حراب العبليّ و هو محمد بن عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه بن الحارث بن أميّة الأصغر بن عبد شمس.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال أخبرني مسلمة بن إبراهيم بن هشام قال:
كنت عند أيّوب بن مسلمة و معنا أشعب، فذكر قول العرجيّ:
أين ما قلت متّ قبلك أينا *** أين تصديق ما وعدت(11) إلينا
فلقد خفت منك أن تصرمي الحب *** ل و أن تجمعي مع الصّرم بينا
ص: 303
ما تقولين في فتى هام إذ ها *** م بمن لا ينال جهلا و حينا
فاجعلي بيننا و بينك عدلا *** لا تحيفي و لا يحيف علينا
و اعلمي أنّ في القضاء شهودا *** أو يمينا فأحضري شاهدينا
خلّتي لو قدرت منك على ما *** قلت لي في الخلاء حين التقينا
ما تحرّجت من دمي علم اللّ *** ه و لو كنت قد شهدت حنينا
قال فقال أيّوب لأشعب: ما تظنّ أنّها وعدته(1)؟ قال: أخبرك يقينا لا ظنّا أنّها وعدته أن تأتيه في شعب من شعاب العرج يوم الجمعة إذا نزل الرجال إلى الطائف للصّلاة، فعرض لها عارض(2) شغل فقطعها عن موعده. قال: فمن كان الشاهدان؟ /قال: كسير و عوير، و كلّ غير خير(3): فند(4) أبو زيد مولى عائشة بنت سعد، و زور(5) الفرق مولى الأنصار. قال: فمن العدل الحكم؟ قال: /حصين بن غرير(6) الحميريّ. قال: فما حكم به؟ قال: أدّت إليه حقّه و سقطت المئونة عنه. قال: يا أشعب، لقد أحكمت صناعتك! قال: سل علاّمة عن علمه.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن عورك(7) اللّهبيّ قال:
قال العرجيّ في امرأة من بني حبيب (بطن من بني نصر بن معاوية) يقال لها عاتكة، و كانت زوجة طريح بن إسماعيل الثّقفيّ:
يا دار عاتكة التي بالأزهر *** أو فوقه بقفا الكثيب الأحمر(8)
لم ألق أهلك بعد عام لقيتهم *** يا ليت أنّ لقاءهم لم يقدر
ص: 304
/بفناء بيتك و ابن مشعب حاضر *** في سامر(1) عطر و ليل مقمر
مستشعرين(2) ملاحفا(3) هرويّة *** بالزّعفران صباغها و العصفر
فتلازما عند الفراق صبابة *** أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
الأزهر: على ثلاثة أميال من الطّائف(4). و ابن مشعب الذي غناه مغنّ من أهل مكّة كان في زمن ابن سريج. و الغناء في هذه الأبيات له رمل بالوسطى. قال إسحاق: كان ابن مشعب من أحسن الناس وجها و غناء(5)، و مات في تلك الأيام، فأدخل الناس غناءه في غناء ابن سريج و الغريض. قال: و هذا الصوت ينسبه من لا يعلم إلى ابن محرز، يعني:
بفناء بيتك و ابن مشعب حاضر
قال: و هو الذي غنّى:
أقفر ممّن يحلّه السّند(6) *** فالمنحنى(7) فالعقيق فالجمد(8)
ويحي(9) غدا إن غدا عليّ بما *** أحذر من فرقة الحبيب غد
و الناس ينسبونه إلى ابن سريج.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير قال حدّثنا محمد بن ثابت بن إبراهيم الأنصاريّ قال حدّثني ابن مخارق قال:
واعد العرجيّ هوى(10) له شعبا من شعاب عرج الطائف إذا نزل رجالها يوم الجمعة إلى مسجد الطائف.
فجاءت على أتان لها معها جارية لها، و جاء العرجيّ على حمار معه غلام له، فواقع المرأة، و واقع الغلام الجارية، و نزا الحمار على الأتان. فقال العرجيّ: هذا يوم قد غاب عذّاله:
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا النّضر بن عمرو عن ابن داحة قال:
ص: 305
كان العرجيّ يستقي على إبله في شملتين(1)، ثم يغتسل و يلبس حلّتين بخمسمائة دينار، ثم يقول:
يوما لأصحابي و يوما للمال *** مدرعة(2) يوما و يوما سربال(3)
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن بعض رجاله: أنّ العرجيّ كان غازيا فأصابت الناس مجاعة، فقال للتجار: أعطوا الناس و عليّ ما تعطون، فلم يزل يعطيهم و يطعم الناس حتى أخصبوا(4)، فبلغ ذلك عشرين ألف دينار، فألزمها(5) العرجيّ نفسه. و بلغ الخبر عمر بن عبد العزيز فقال: بيت المال أحقّ بهذا، فقضى التّجّار ذلك المال من بيت المال.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير عن عمّه، و أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الزبيري(6) و غيره:
أنّ العرجيّ خرج إلى جنبات(7)/الطائف متنزّها(8)، فمرّ ببطن النّقيع(9) فنظر إلى أمّ الأوقص، و هو محمد بن عبد الرحمن المخزوميّ القاضي، و كان يتعرّض لها، فإذا رآها رمت بنفسها و تستّرت منه، و هي امرأة من بني تميم، فبصر بها في نسوة جالسة و هنّ يتحدّثن، فعرفها و أحبّ أن يتأمّلها من قرب، فعدل عنها و لقي أعرابيّا من بني نصر على بكر له و معه وطبا(10) لبن، فدفع إليه دابّته و ثيابه و أخذ قعوده و لبنه و لبس ثيابه، ثم أقبل على النسوة فصحن به: يا أعرابيّ، أ معك لبن؟ قال: نعم، و مال إليهنّ و جلس يتأمّل أمّ الأوقص، و تواثب من معها إلى الوطبين، و جعل العرجيّ يلحظها و ينظر أحيانا إلى الأرض كأنه يطلب شيئا و هنّ يشربن من اللّبن. فقالت له امرأة منهنّ: أيّ شيء تطلب يا أعرابيّ في الأرض؟ أضاع منك شيء؟ قال: نعم قلبي. فلمّا سمعت التّميميّة كلامه نظرت
ص: 306
إليه و كان أزرق فعرفته، فقالت: العرجيّ بن عمر و ربّ الكعبة! و وثبت و سترها نساؤها و قلن: انصرف عنّا لا حاجة بنا إلى لبنك. فمضى منصرفا، و قال في ذلك:
أقول لصاحبيّ و مثل ما بي *** شكاه المرء ذو الوجد الأليم
ش
/إلى الأخوين مثلهما إذا ما *** تأوّبه مؤرّقه الهموم
لحيني و البلاء لقيت ظهرا *** بأعلى النّقع(1) أخت بني تميم
فلمّا أن رأت عيناي منها *** أسيل الخدّ في خلق عميم(2)
و عيني جؤذر خرق(3) و ثغرا *** كلون الأقحوان و جيد ريم
حنا أترابها دوني عليها *** حنوّ العائدات على السّقيم
قال إسحاق في خبره: فقال رجل من بني جمع يقال له ابن عامر للأوقص و قضى عليه بقضيّة فتظلّم منه:(4)
و اللّه لو كنت أنا عبد اللّه بن عمر العرجيّ لكنت قد أسرفت عليّ. فضربه الأوقص سبعين سوطا.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثنا مصعب بن عبد اللّه عن أبيه قال:
أتاني أبو السّائب المخزوميّ ليلة بعد ما رقد السّامر فأشرفت عليه. فقال: سهرت و ذكرت أخا لي أستمتع به، فلم أجد سواك. فلو مضينا إلى العقيق فتناشدنا و تحدّثنا! فمضينا، فأنشدته في بعض ذلك بيتين للعرجي:
باتا بأنعم ليلة حتّى بدا *** صبح تلوّح كالأغرّ الأشقر
فتلازما عند الفراق صبابة *** أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فقال: أعده عليّ، فأعدته. فقال: أحسن و اللّه! امرأته طالق إن نطق بحرف غيره حتّى يرجع إلى بيته.
قال: فلقينا عبد اللّه بن حسن بن حسن، فلمّا صرنا إليه وقف(5) بنا و هو منصرف من ماله يريد المدينة، فسلّم ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال:
/فتلازما عند الفراق صبابة *** أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
فالتفت إليّ فقال: متى أنكرت صاحبك؟ فقلت: منذ الليلة. فقال: إنّا للّه! و أيّ كهل أصيبت منه قريش! ثم مضينا، فلقينا محمد بن عمران التّيميّ قاضي المدينة يريد مالا له على بغلة له و معه غلام على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فسلّم ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال:
/فتلازما عند الفراق صبابة *** أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
ص: 307
فالتفت إليّ فقال: متى أنكرت صاحبك؟ قلت: آنفا. فلمّا أراد المضيّ قلت: أ فتدعه هكذا؟ و للّه ما آمن أن يتهوّر(1) في بعض آبار العقيق! قال: صدقت، يا غلام قيد البغلة، فأخذ القيد فوضعه في رجله و هو ينشد البيت و يشير بيده إليه يري أنه(2) يفهم عنه قصّته. ثم نزل الشيخ و قال لغلامه: يا غلام، احمله على بغلتي و ألحقه بأهله.
فلمّا كان بحيث علمت أنه فاته أخبرته بخبره، فقال: قبّحك اللّه ماجنا! فضحت شيخا من قريش و غررتني.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عروة بن عبد اللّه بن عروة بن الزبير عن عروة بن أذينة(3) قال:
/أنشد ابن جندب الهذليّ ابن أبي عتيق قول العرجيّ:
و ما أنس م الأشياء لا أنس قولها *** لخادمها قومي اسألي لي عن الوتر
فقالت يقول الناس في ستّ عشرة *** فلا تعجلي منه فإنّك في أجر
فما ليلة عندي و إن قيل جمعة *** و لا ليلة الأضحى و لا ليلة الفطر
بعادلة الاثنين عندي و بالحرى *** يكون سواء منهما ليلة القدر
فقال ابن أبي عتيق: أشهدكم أنّها حرّة من مالي إن أجاز ذلك أهلها، هذه و اللّه أفقه من ابن شهاب.
أخبرني حبيب بن نصر قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الموصليّ قال:
تزوّج العرجيّ أمّ عثمان بنت بكير بن عمرو بن عثمان بن عفّان، و أمّها سكينة بنت مصعب بن الزّبير، فقال فيها:
إنّ عثمان و الزّبير أحلاّ *** دارها باليفاع(4) إذ ولداها
إنّها بنت كلّ أبيض قرم(5) *** نال في المجد من قصيّ ذراها
ص: 308
سكن الناس بالظّواهر منها *** و تبوّا لنفسه بطحاها(1)
قال إسحاق: و لمّا تزوّج الرشيد زوجته العثمانيّة أعجب بها، فكان كثيرا ما يتمثّل بهذه الأبيات.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
/حدّثت أنّ أبا عديّ العبليّ خرج يريد واديا نحو الطائف يقال له جلدان(2)، فمرّ بعبد اللّه بن عمر العرجيّ و هو نازل هناك بواد يقال له العرج، فأرسل إليه غلاما له فأعلمه بمكانه، فأتاه الغلام فقال له: هذا أبو عديّ، فأمر أن ينزله في مسجد الخيف(3)، فأنزله و أبطأ عليه في الخروج. فقال للغلام: ويحك! ما يحبس مولاك؟ قال: عنده ابن وردان مولى معاوية، و هما يأكلان القسب(4) و الجلجلان(5). ثم بعث إليه بخبز و لبن، و بعث لرواحله بحمض(6) و قدّم إلى رواحل ابن وردان القتّ(7) و الشّعير. فكتب إليه أبو عديّ:
أبا عمر لم تنزل الركب إذ أتوا *** منازلهم و الرّكب يحفون(8) بالرّكب
رفعت لئام الناس فوق كرامهم *** و آثرتهم بالجلجلان و القسب
فأمّا بعيرانا فبالحمض غذّيا(9) *** و أوثر عبّاد بن وردان بالقضب(10)
فكتب إليه العرجيّ:
أتانا فلم نشعر به غير أنّه *** له لحية طالت على حمق القلب
/كراية بيطار(11) بأعلى حديدة(12) *** إذا نصبت لم تكسب الحمد بالنّصب
أتانا على سغب(13) يعرّض بالقرى *** و هل فوق قرض من قرى صاحب السّغب
قال: فارتحل أبو عديّ مغضبا و قال: مزحت معه فهجاني، و أنشأ يقول في العرجيّ:
ص: 309
سرت ناقتي حتّى إذا ملّت السّرى *** و عارضها عرج الجبانة(1) و الخصب
طواها الكرى بعد السّرى بمعرّس *** جديب(2) و شيخ بئس مستعرض الرّكب
و همّت بتعريس فحلّت قيودها *** إلى رجل بالعرج ألأم من كلب
تمطّى(3) قليلا ثم جاء بصربة(4) *** و قرص شعير مثل كركرة السّقب(5)
فقلت له أردد قراك مذمّما *** فلست إليه بالفقير و لا صحبي
جزى اللّه خيرا خيرنا عند بيته *** و أنحرنا للكوم في اليوم ذي السّغب
لقد علمت فهر بأنّك شرّها *** و آكل فهر للخبيث من الكسب
و تلبس للجارات إتبا(6) و مئزرا *** و مرطا(7) فبئس الشيخ يرفل في الإتب
/يدخّنّ بالعود اليلنجوج(8) مرّة *** و بالضّرو(9) و السّوداء(10) و المائع(11) الرّطب
فإن قلت عثمان بن عفّان والدي *** فقد كان عثمان بريئا من الوشب(12)
و قدما يجيء الحيّ بالنّسل ميّتا *** و يأتي كريم الناس بالوكل(13) الثّلب(14)
له لحية قد مزّقت فكأنّها *** مقمّة(15) حشّاش محالفة العشب(16)
فلمّا بلغ ذلك العرجيّ أتى عمّه عليّ(17) بن عبد اللّه بن عليّ العبليّ فشقّ قميصه بين يديه و شكاه إليه. فبعث
ص: 310
إلى أبي عديّ فنهاه عنه و قال: لئن عدت لا كلّمتك أبدا، فكفّ عنه.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن سليمان بن عثمان بن يسار: رجل من أهل مكة و كان هيّبا(1) أديبا قال:
كان للعرجيّ حائط يقال له العرج في وسط بلاد بني نصر بن معاوية، فكانت إبلهم و غنمهم تدخل فيه فيعقر كلّ ما دخل منها، فكانت تضرّ به و يضرّ/بأهلها و يشكونه و يشكوهم. و كان من أفرس الناس و أرماهم و أبراهم لسهم، فكان ربّما برى مائة سهم من الرّمّان، ثم يقول: و اللّه لا أنقلب حتى أقتل بها مائة خلفة(2) من إبل بني نصر، فيفعل ذلك.
قال إسحاق: فحدّثني ابن غرير(3) قال: لمّا حبس العرجيّ و ضرب و أقيم على البلس(4) قال:
معي ابن غرير واقفا في عباءة *** لعمري لقد قرّت عيون بني نصر
فقال فتى من بني نصر يجيبه - و كان حاضرا لضربه و إقامته -:
أجل قد أقرّ اللّه فيك عيوننا *** فبئس الفتى و الجار في سالف الدّهر
و قال إسحاق في خبره: قال رجل للعرجيّ: جئتك أخطب إليك مودّتك. قال: بل خذها زنا، فإنها أحلى و ألذّ!
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا إسماعيل بن مجمّع عن المدائنيّ عن عبد اللّه بن سلّم(5) قال:
قال عبد اللّه بن عمر العمريّ: خرجت حاجا، فرأيت امراة جميلة تتكلّم بكلام أرفثت(6) فيه، فأدنيت ناقتي منها، ثم قلت لها: يا أمة اللّه، أ لست حاجّة! أ ما تخافين اللّه! فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا، ثم قالت: تأمّل يا عمّ! فإنّني ممّن غنا العرجيّ بقوله:
أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها *** و أدنت على الخدّين(7) بردا مهلهلا
من اللاّء لم يحججن يبغين حسبة *** و لكن ليقتلن البريء المغفّلا
ص: 311
قال فقلت لها: فإنّي أسأل اللّه ألاّ يعذّب هذا الوجه بالنّار. قال: و بلغ ذلك سعيد بن المسيّب فقال: أما و اللّه لو كان من بعض بغضاء(1) العراق لقال لها: اعزبي قبّحك اللّه! و لكنّه ظرف عبّاد أهل الحجاز. و قد رويت هذه الحكاية عن أبي حازم الأعرج و هو سلمة بن دينار، و قد روى أبو حازم عن أبي هريرة و سهل بن سعد و غيرهما، و روى عنه مالك و ابن أبي أيّوب. و الحكاية عنه في هذا أصحّ منها عن عبد اللّه العمري، حدّثنا بهذا وكيع. و الغناء في هذه الأبيات لعرار المكّيّ ثاني ثقيل. و فيه خفيف ثقيل لمعبد، و فيها لعبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ ثقيل أوّل، و يقال إنّ خفيف الثقيل لابن سريج، و يقال للغريض.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أبو ثوبة قال: قال عبد اللّه(2) بن العبّاس: دعاني المتوكّل، فلمّا جلست مجلس المنادمة قال لي: يا عبد اللّه، تغنّ، فغنّيته في شعر مدحته به، فقال: أين هذا من غنائك في:
أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها
/و من صنعتك في:
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ صنعتي حينئذ كانت و أنا شابّ عاشق، فإن استطعت ردّ شبابي و عشقي صنعت مثل تلك الصنعة. فقال هيهات! و قد لعمري(5) صدقت، و وصلني. و الأبيات التي فيها الغناء المذكور من شعر العرجيّ يقوله في جيداء أمّ محمد بن هشام بن إسماعيل المخزوميّ، و كان يهجوه و يشبّب بأمه و بامرأته، و كان محمد تيّاها شديد الكبر جبّارا، فلم يزل يتطلّب عليه العلل حتى حبسه و قيّده بعد أن ضربه بالسّوط و أقامه على البلس للناس. و اختلف الرّواة في السبب الذي اعتلّ به عليه، و قد ذكرت ذلك في رواياتهم:
أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب و محمد بن الضّحاك الحزاميّ(6) عن الضّحاك بن عثمان، و ذكره حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أيّوب بن عباية،
ص: 312
و نسخته أيضا من رواية محمد بن حبيب قالوا:
كان محمد بن هشام خال هشام بن عبد الملك، فلمّا ولي الخلافة ولاّه مكة، و كتب إليه يحجّ بالناس، فهجاه العرجيّ بأشعار كثيرة.
/منها قوله فيه:
كأنّ العام ليس بعام حجّ *** تغيّرت المواسم و الشّكول
إلى جيداء قد بعثوا رسولا *** ليخبرها فلا صحب الرّسول
و يروى: «ليحزنها» و هكذا يغنّي.
و منها قوله:
ألا قل لمن أمسى بمكة قاطنا *** و من جاء من عمق(1) و نقب المشلّل(2)
دعوا الحجّ لا تستهلكوا نفقاتكم *** فما حجّ هذا العام بالمتقبّل
و كيف يزكّي حجّ من لم يكن له *** إمام لدى تجميره غير دلدل(3)
يظلّ يرائي بالصّيام نهاره *** و يلبس في الظّلماء سمطى(4) قرنفل
فلم يزل محمد يطلب عليه العلل حتى وجدها فحبسه.
قال الزّبير في خبره عن عمّه و محمد الضّحّاك، و قال إسحاق في خبره عن أيّوب بن عباية: كان العرجيّ يشبّب بأمّ محمد بن هشام، و هي من بني الحارث بن كعب، و يقال لها جيداء:
صوت(5)
عوجي علينا ربّة الهودج *** إنّك إن لا تفعلي تحرجي
إنّي أتيحت لي يمانية *** إحدى بني الحارث من مذحج
/نلبث حولا كاملا كلّه *** ما نلتقي إلا على منهج
في الحجّ إن حجّت و ما ذا منى *** و أهله إن هي لم تحجج
أيسر ما نال محبّ لدى *** بين حبيب قوله عرّج
ص: 313
نقض إليكم حاجة أو نقل *** هل لي ممّا بي من مخرج
قال إسحاق في خبره: فحدّثني حمزة بن عتبة اللّهبيّ قال: أنشد عطاء بن أبي رباح قول العرجيّ.
في الحجّ إن حجّت و ما ذا مني *** و أهله إن هي لم تحجج
فقال: الخير و اللّه كلّه بمنى و أهله حجّت أو(1) لم تحجّ. قال: و لقي ابن سريج عطاء و هو راكب [بمنى](2) على بغلته، فقال له: سألتك باللّه إلاّ وقفت لي حتى أسمعك شيئا. قال: ويحك! دعني(3) فإنّي عجل. قال: امرأته طالق لئن لم تقف مختارا للوقوف لأمسكنّ بلجام بغلتك ثم لا أفارقها و لو قطعت يدي حتى أغنّيك و أرفع صوتي لا أسرّه. قال: هات و عجّل؛ فغنّاه:
في الحجّ إن حجّت و ما ذا منى *** و أهله إن هي لم تحجج
قال: الخير كلّه و اللّه بمنى، لا سيّما و قد غيّبها اللّه عن(4) مشاعره! خلّ سبيل البغلة.
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا إبراهيم بن المنذر قال حدّثني حمزة بن عتبة اللّهبيّ عن عبد الوهاب(5) بن مجاهد أو غيره قال:
/كنت مع عطاء بن أبي رباح فجاءه رجل فأنشده قول العرجيّ:
إنّي أتيحت لي يمانية *** إحدى بني الحارث من مذحج
نلبث حولا كاملا كلّه *** لا نلتقي إلا على منهج
في الحجّ إن حجّت و ما ذا منى *** و أهله إن هي لم تحجج
فقال عطاء: خير كثير بمنى إذ غيّبها اللّه عن مشاعره.
قال: و قال في زوجته جبرة المخزوميّة (يعني زوجة محمد بن هشام):
عوجي عليّ فسلّمي جبر *** فيم الصدود(6) و أنتم سفر
ما نلتقي إلا ثلاث منى *** حتى يفرّق بيننا النّفر
ص: 314
الحول بعد الحول يتبعه(1) *** ما الدهر إلا الحول و الشهر
قال حمّاد بن إسحاق في خبره: حدّثني ابن(2) أبي الحويرث الثّقفيّ عن ابن عمّ لعمارة ابن حمزة قال حدّثنا سليمان الخشّاب(3) عن داود المكّيّ(4) قال: كنّا في حلقة ابن جريج و هو يحدّثنا و عنده جماعة فيهم عبد اللّه بن المبارك و عدّة من العراقيّين، إذ مرّ به ابن تيزن(5) المغنّي و قد ائتزر بمئزر على صدره، و هي إزرة الشّطّار(6) عندنا، فدعاه ابن جريج/فقال له: أحبّ أن تسمعني. قال: إنّي(7) مستعجل، فألحّ عليه؛ فقال: امرأته طالق إن غنّاك أكثر من ثلاثة أصوات. فقال له: ويحك! ما أعجلك إلى اليمين! غنّني الصوت الذي غنّاه ابن سريج في اليوم الثاني من أيام منى على جمرة العقبة(8) فقطع طريق الذاهب و الجائي حتى تكسّرت المحامل. فغنّاه:
عوجي عليّ فسلّمي جبر
فقال له ابن جريج: أحسنت و اللّه! (ثلاث مرات)، ويحك! أعده. قال: من الثلاثة فإني قد حلفت. قال:
أعده، فأعاده. فقال: أحسنت! فأعده من الثلاثة، فأعاده و قام و مضى، و قال: لو لا مكان هؤلاء الثّقلاء عندك لأطلت معك حتى تقضي و طرك. فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال: لعلّكم أنكرتم ما فعلت! فقالوا: إنا لننكره عندنا بالعراق و نكرهه. قال: فما تقولون في الرّجر؟ (يعني الحداء). قالوا: لا بأس به عندنا: قال: فما الفرق بينه و بين الغناء؟!
قال إسحاق في خبره: بلغني أنّ محمد بن هشام كان يقول لأمّه جيداء [بنت عفيف](9): أنت غضضت منّي بأنك أمّي، و أهلكتني و قتلتني. فتقول له: ويحك! و كيف ذاك؟ قال: لو كانت أمّي من قريش ما ولي الخلافة غيري. قالوا: فلم يزل محمد بن هشام مضطغنا على العرجيّ من(10) هذه الأشعار التي يقولها فيه و متطلّبا(11) سبيلا عليه حتى وجده فيه، فأخذه و قيّده و ضربه و أقامه للناس، ثم حبسه و أقسم: لا يخرج من الحبس ما دام لي(12)
ص: 315
سلطان. فمكث في حبسه نحوا من تسع سنين حتى مات فيه.
و ذكر إسحاق في خبره عن أيّوب بن عباية و وافقه عمر بن شبّة و محمد بن حبيب: أن السبب في ذلك أنّ العرجيّ لاحى(1) مولى كان لأبيه فأمضّه(2) العرجيّ، فأجابه المولى بمثل ما قاله له. فأمهله حتى إذا كان الليل أتاه مع جماعة من مواليه و عبيده فهجم عليه في منزله و أخذه و أوثقه كتافا(3)، ثم أمر عبيده أن ينكحوا امرأته بين يديه ففعلوا، ثم قتله و أحرقه بالنار. فاستعدت امرأته على العرجيّ محمد بن هشام فحبسه.
و ذكر الزبير في خبره عن الضّحّاك بن عثمان: أنّ العرجيّ كان و كلّ بحرمه(4) مولى له يقوم بأمورهنّ، فبلغه أنه يخالف إليهنّ، فلم يزل يرصده حتى وجده يحدّث بعضهنّ، فقتله و أحرقه بالنار. فاستعدت عليه امرأة المولى محمد بن هشام المخزوميّ و كان واليا على مكة في خلافة هشام، و كان العرجيّ قد هجاه قبل ذلك هجاء كثيرا لمّا ولاّه هشام الحجّ فأحفظه. فلمّا وجد عليه سبيلا ضربه و أقامه على البلس للناس(5)، و سجنه حتى مات في سجنه.
و ذكر الزّبير أيضا في خبره عن عمّه و غيره أنّ أشعب كان حاضرا للعرجيّ و هو يشتم مولاه هذا، و أنه طال شتمه إيّاه. فلما أكثر ردّ المولى عليه، فاختلط من(6) ذلك، فقال لأشعب: اشهد على ما سمعت. قال أشعب:
و علام أشهد، قد شتمته ألفا و شتمك واحدة. و اللّه لو أنّ أمّك أمّ الكتاب، و أمّة حمّالة الحطب ما زاد على هذا!
قال الزّبير و حدّثني حمزة بن عتبة اللّهبيّ قال:
/لمّا أخذ محمد بن هشام المخزوميّ العرجيّ أخذه و أخذه معه الحصين بن غرير(7) الحميريّ، فجلدهما، و صبّ على رءوسهما الزيت، و أقامهما في الشمس على البلس(8) في الحنّاطين بمكة؛ فجعل العرجيّ ينشد:
سينصرني الخليفة بعد ربّي *** و يغضب حين يخبر عن مساقي
عليّ عباءة بلقاء(9) ليست *** مع البلوى تغيّب نصف ساقي
و تغضب لي بأجمعها قصيّ *** قطين البيت و الدّمث(10) الرّقاق
ص: 316
ثم يصيح: يا غرير أجياد(1)، يا غرير أجياد! فيقول له الحميريّ المجلود معه: أ لا تدعنا! أ لا ترى ما نحن فيه من البلاء! يعني بقوله: يا غرير، الحصين بن غرير الحميريّ المجلود معه، و كان صديقا للعرجيّ و خليطا. و ذكر إسحاق تمام هذه الأبيات و أوّلها:
و كم من كاعب حوراء بكر *** ألوف السّتر واضحة التّراقي(2)
بكت جزعا و قد سمرت(3) كبول(4) *** و جامعة(5) يشدّ بها خناقي
/على دهماء مشرفة سموق(6) *** ثناها(7) القمح مزلقة(8) التّراقي
عليّ عباءة بلقاء ليست *** مع البلوى تغيّب نصف ساقي
كأنّ على الخدود و هنّ شعث *** سجال(9) الماء يبعث في السّواقي
فقلت تجلّدا و حلفت صبرا *** أبالي اليوم(10) ما دفعت(11) مآقي(12)
سينصرني الخليفة بعد ربّي *** و يغضب حين يخبر عن مساقي
و تغضب لي بأجمعها قصيّ *** قطين البيت و الدّمث الرّقاق
بمجتمع السّيول إذ تنحّى *** لئام الناس في الشّعب العماق
قال: فكان إذا أنشد هذا البيت التفت إلى ابن غرير فصاح به: يا غرير أجياد، يا غرير أجياد! يعني بني مخزوم، و كانت منازلهم في أجياد، فعيّرهم بأنهم ليسوا من أهل الأبطح.
و قال الزّبير في خبره و وافقه إسحاق فذكر أنّ رجلا مرّ بالعرجيّ و هو واقف على البلس و معه ابن غرير و قد جلدا و حلقا و صبّ الزيت على رءوسهما و ألبسا عباءتين و اجتمع الناس ينظرون إليهما. قال: و كان الرجل صديقا
ص: 317
للعرجيّ، و كان/فأفاء، فوقف عليه فأراد أن يتوجّع لما ناله و يدعو له، فلجلج لما كان في لسانه كما يفعل الفأفاء(1). فقال له ابن غرير: عنّي، لا خرجت من فيك أبدا! فقال له الرجل: فمكانك(2) إذا لا برحت منه أبدا.
قال: و مرّ به صبيان يلقطون النّوى، فوقفوا ينظرون إليه، فالتفت إلى ابن غرير و قال له: ما أعرف في الدنيا سخلين أشأم منّي و منك! إنّ هؤلاء الصّبيان لأهلهم عليهم في كلّ يوم على كلّ واحد منهم مدّ نوى، فقد تركوا لقطهم للنّوى، و قد وقفوا ينظرون إليّ و إليك و ينصرفون بغير شيء فيضربون، فيكون شؤمنا قد لحقهم.
قال: و قال العرجيّ في حبسه:
أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا *** ليوم كريهة و سداد(3) ثغر
و صبر(4) عند معترك المنايا *** و قد شرعت أسنّتها بنحري
أجرّر في الجوامع(5) كلّ يوم *** فيا للّه مظلمتي(6) و صبري(7)
كأنّي لم أكن فيهم وسيطا(8) *** و لم تك نسبتي في آل عمرو(9)
أخبرني محمد بن زكريّا الصّحّاف(10) قال حدّثنا قعنب بن المحرز الباهليّ عن الأصمعيّ قال:
/كان لأبي حنيفة جار بالكوفة يغنّي، فكان إذا انصرف و قد سكر يغنّي في غرفته، و يسمع أبو حنيفة غناءه فيعجبه. و كان كثيرا ما يغنّي:
أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا *** ليوم كريهة و سداد ثغر
فلقيه العسس ليلة(11) فأخذوه و حبس. ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة، فسأل عنه من غد فأخبر، فدعا بسواده(12)
ص: 318
و طويلته(1) فلبسهما، و ركب إلى عيسى بن موسى فقال له: إنّ لي جارا أخذه عسسك البارحة فحبس، و ما علمت منه إلا خيرا. فقال عيسى: سلّموا إلى أبي حنيفة كلّ من أخذه العسس البارحة، فأطلقوا جميعا. فلمّا خرج الفتى دعا به أبو حنيفة و قال له سرّا: أ لست كنت تغنّي يا فتى كلّ ليلة:
أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا
فهل أضعناك؟ قال: لا و اللّه أيّها القاضي، و لكن أحسنت و تكرّمت، أحسن اللّه جزاءك. قال: فعد إلى ما كنت تغنّيه، فإنّي كنت آنس به، و لم أر به بأسا. قال: أفعل.
و قال إسحاق في خبره: لمّا حبس المنصور عبد اللّه بن عليّ، كان يكثر التّمثّل بقول العرجيّ:
أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا *** ليوم كريهة و سداد ثغر
/فبلغ ذلك المنصور، فقال: هو أضاع نفسه بسوء فعله، فكانت أنفسنا عندنا آثر من نفسه.
قال إسحاق: و قال الأصمعيّ: مررت بكنّاس بالبصرة يكنس كنيفا و يغنّي:
أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا *** ليوم كريهة و سداد ثغر
فقلت له: أمّا سداد الكنيف فأنت مليء به(2). و أما الثغر فلا علم لي بك كيف أنت فيه - و كنت حديث السنّ فأردت العبث به - فأعرض عنّي مليا، ثم أقبل عليّ فأنشد متمثّلا:
و أكرم نفسي إنّني إن أهنتها *** و حقّك لم تكرم على أحد بعدي
قال فقلت له: و اللّه ما يكون من الهوان شيء أكثر مما بذلتها له، فبأيّ شيء أكرمتها؟ فقال: بلى! و اللّه إنّ من الهوان لشرّا مما أنا فيه. فقلت: و ما هو؟. فقال: الحاجة إليك و إلى أمثالك من الناس. فانصرفت عنه أخزى الناس. قال محمد بن مزيد: فحدّثني حمّاد قال قال لي أبي: اختصر الأصمعي - فيما أرى - الجواب، و ستر أقبحه على نفسه، و إلا فكنّاس كنيف قائم يكنسه و يعبث به هذا العبث، فيرضى بهذا الجواب الذي لا يجيب بمثله الأحنف بن قيس لو كانت المخاطبة له!.
و قال إسحاق في خبره: كان الوليد بن يزيد مضطغنا على محمد بن هشام لأشياء(3) كانت تبلغه عنه في حياة هشام، فلمّا ولي الخلافة قبض عليه و على أخيه إبراهيم بن هشام و أشخصا إليه إلى الشام، ثم دعا بالسّياط. فقال له
ص: 319
محمد: أسألك بالقرابة. قال: و أيّ قرابة بيني و بينك! و هل أنت إلا من أشجع! قال: فأسألك بصهر عبد الملك.
قال: لم تحفظه. فقال له: يا أمير المؤمنين، قد نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يضرب قرشيّ بالسّياط إلا في حدّ. قال: ففي حدّ أضربك و قود، أنت/أوّل من سنّ ذلك على العرجيّ، و هو ابن عمّي و ابن أمير المؤمنين عثمان، فما رعيت حقّ جدّه و لا نسبه بهشام، و لا ذكرت حينئذ هذا الخبر، و أنا وليّ ثأره، اضرب يا غلام، فضربهما ضربا مبرّحا، و أثقلا بالحديد، و وجّه بهما إلى يوسف بن عمر بالكوفة، و أمره باستصفائهما(1) و تعذيبهما حتى يتلفا، و كتب إليه: احبسهما مع ابن النّصرانيّة - يعني خالدا القسريّ - و نفسك نفسك إن عاش أحد منهم.
فعذّبهم عذابا شديدا، و أخذ منهم مالا عظيما حتى لم يبق فيهم موضع للضّرب. فكان محمد بن هشام مطروحا، فإذا أرادوا أن يقيموه أخذوا بلحيته فجذبوه بها. و لمّا اشتدّت عليهما الحال، تحامل(2) إبراهيم لينظر في وجه محمد، فوقع عليه فماتا جميعا، و مات خالد القسريّ معهما في يوم واحد. فقال الوليد بن يزيد لمّا حملهما إلى يوسف بن عمر:
قد راح نحو العراق مشخلبه(3) *** قصاره السّجن بعده الخشبه(4)
يركبها صاغرا بلا قتب *** و لا خطام و حوله جلبه
فقل لدعجاء إن مررت بها *** لن يعجز اللّه هارب طلبه
قد جعل اللّه بعد غلبتكم *** لنا عليكم يا دلدل الغلبه
لست إلى هاشم و لا أسد *** و لا إلى نوفل و لا الحجبه(5)
لكنّما أشجع أبوك سل ال *** كلبيّ(6) لا ما يزوّق الكذبة
قال إسحاق في خبره: غنيت الرشيد يوما في عرض الغناء:
أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا *** ليوم كريهة و سداد ثغر
فقال لي: ما كان سبب هذا الشعر حتى قاله العرجيّ؟ فأخبرته بخبره من أوّله إلى أن مات، فرأيته يتغيظ كلّما مرّ منه شيء. فأتبعته بحديث مقتل ابني هشام، فجعل وجهه يسفر و غيظه يسكن. فلمّا انقضى الحديث، قال لي: يا إسحاق! و اللّه لو لا ما حدّثتني به من فعل الوليد لما تركت أحدا من أماثل بني مخزوم إلا قتلته بالعرجيّ.
ص: 320
و الصوت الآخر من رواية جحظة عن أصحابه:
إذا ما طواك الدّهر يا أمّ مالك *** فشأن المنايا القاضيات و شانيا
تمرّ الليالي و الشهور و تنقضي *** و حبّك ما يزداد إلا تماديا
خليليّ إن دارت على أمّ مالك *** صروف الليالي فابغيا لي ناعيا
و لا تتركاني لا لخير معجّل *** و لا لبقاء تنظران بقائيا
الشعر للمجنون، و من الناس من يروي البيت الأوّل منها لقيس بن الحداديّة(1) و هو جاهليّ. و الغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى. و ذكر حبش و ابن المكيّ أنّ فيه لإسحاق لحنا آخر من الثقيل الثاني بالخنصر و البنصر.
إلى هنا انتهى الجزء الأوّل من كتاب «الأغاني»، و يليه الجزء الثاني منه، و أوّله (أخبار مجنون بني عامر و نسبه).
ص: 321
ص: 322
الموضوع الصفحة
- كلمة دار إحياء التراث العربي 7
- فصل في صناعة الغناء عن العلامة ابن خلدون في «مقدمته» 10
- ترجمة المؤلف 14
- كتاب الأغاني و ثناء أهل العلم و الأدب عليه و نقده و مختصراته 25
- كتب الأغاني المؤلفة قبل هذا الكتاب و المسماة باسمه 27
- الكلمات الاصطلاحية الواردة في كتاب الأغاني 28
- وصف النسخ الخطية للكتاب 30
- طريقة تصحيح الكتاب 36
- مقدمة المؤلف 38
- ذكر المائة الصوت المختارة 42
التراجم
1 - خبر أبي قطيفة و نسبه 45
2 - ذكر معبد و بعض أخباره 61
3 - ذكر خبر عمر بن أبي ربيعة و نسبه 78
4 - أخبار ابن سريح و نسبه 206
5 - ذكر نصيب و أخباره 258
6 - أخبار ابن محرز و نسبه 294
7 - أخبار العرجي و نسبه 298-321
ص: 323
الأغاني
سایر نویسندگان
مصحح و مترجم:
مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربی
المجلدات : 25ج
زبان: عربی
ناشر: دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سال نشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
کد کنگره: PJA 3892 / الف 6 1374
تنظیم متن دیجیتال میثم حیدری
ص: 324
ص: 325
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *
(أ) روجع هذا الجزء على النسخ التي روجع عليها الجزء الأوّل ما عدا النسخة الأوروبية التي اصطلحنا على تسميتها بالحرف (ر) لأن طابعها اقتصر على طبع بعض الجزء الأوّل و انتهى، كما قلنا فيما كتبناه عنها في تصدير الجزء الأوّل، قبل آخر أخبار ابن محرز و نسبه، و ما عدا النسخة التيمورية التي اصطلحنا على تسميتها بالحرف (ت) و قد قلنا فيما كتبناه عنها هناك إنه لا يوجد منها سوى الجزء الأوّل، كما روجع هذا الجزء على نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم 579 أدب تبتدئ من الجزء الثاني، و إليك وصفها:
و قد اصطلحنا على تسميتها بالحرف «ط» لأن كاتبها هو محمد بن أبي طالب البدري و ذلك في شهور سنة 614 ه. و لم نرمز لها بالحرف «م» من محمد أو «ب» من البدري، لأننا رمزنا بهذين الحرفين لنسختين أخريين.
أما هذه النسخة فالموجود منها بدار الكتب المصرية أربعة أجزاء في أربعة مجلدات و هي:
(1) الجزء الثاني، أوله في الصفحة الأولى ذكر عديّ بن زيد، ثم ما يلي هذه الصفحة مخروم، و الخرم يستغرق كل أخبار عدي ثم جزءا من أخبار الحطيئة و يبلغ مقداره نحو 28 صفحة و نصف صفحة من طبعة بولاق.
و تبتدئ الصحف الموجودة بهذا البيت:
باستك إذ خلفتني خلف شاعر *** من الناس لم أكفئ و لم أتنحل
و تنتهي بآخر أخبار بشار بن برد الشاعر و نسبه.
و رسم بوجه الصفحة الأولى صورة ملوّنة بالأحمر و الأخضر و الأسود و اللازوردي، و فيها بعض التذهيب، و هي تمثل مجلسا من مجالس الرقص و الغناء و قد ضم عددا من الجواري و القيان. و في هامش ظهر هذه الصفحة طبع خاتم لم يظهر منه إلا «أبو الحسن علي الشريف» و بدائرته «لا إله إلا اللّه وحده صدق وعده». و يقع هذا الجزء في 173 صفحة. و يبلغ طول الصفحة منه 32 سنتيمترا، و عرضها 23 سنتيمترا، و طول ما كتب منها 24 سنتيمترا بعرض 16 سنتيمترا، و في كل صفحة 15 سطرا.
و ليس بهوامشه سوى بعض كلمات أو جمل سقطت من الأصل فاستدركها الناسخ و كتب في نهايتها كلمة «صح» إشارة إلى سقوطها من الأصل، أو روايات مختلفة عن نسخ أخرى، و يكتب فوقها الحرف «خ» إشارة إلى روايتها بهذا النص في نسخة أخرى.
أما خط الجزء فهو النسخ المعهود. و هو واضح متقن، و أوله محلى بالذهب و تراجمه كذلك، و قد ضبطت ألفاظه بالحركات، و ورد بآخره هذه العبارة:
«الحمد للّه وحده. طالعه الفقير حسن بن محمد العطار الأزهري، غفر اللّه له». و هو عالم جليل و مؤلف معروف، تولى مشيخة الأزهر الشريف سنة 1246 ه.
كما ورد أيضا: «طالعه الفقير درويش سنة 1016».
ص: 326
(2) الجزء الرابع، و أوله أخبار طويس و نسبه، و ينتهي إلى آخر نسب إبراهيم الموصلي و أخباره. و في أول هذا الجزء ورقة مكتوبة بخط مخالف لخط الكتاب تشمل أسماء من ترجم لهم صاحب الأغاني في هذا الجزء كما كتبت فيها هذه العبارة بخط مخالف لهذا الخط أيضا و هي: «الحمد للّه وحده. قد دخل هذا الجزء الذي هو الرابع من الأغاني في نوبة عبد اللّه ابن الفقير إليه محمد بن محمود الجزائري الشهير بابن العتابي - كان اللّه له - بثمن قدره تسع ريالات صغيرة جزائرية و ربع واحدها، و ذلك بتاريخ أواخر شعبان سنة خمس عشرة و اثني (كذا) عشر (كذا) مائة أحسن اللّه عاقبتها بحمده إليه».
و قد رسم بوجه الصحيفة الأولى منه صورة بالألوان كالسابقة إلا أنها تخالفها في الوضع. و هي تمثل أميرا و حوله الغواني و القيان و في أيديهنّ العود و الدف و القيثارة.
و أوصافه من جهة الخط و المقياس تنطبق على أوصاف المجلد السابق لأنه مخطوط بخط الناسخ المتقدّم، و يقع في 205 صفحة، و به خروم في الوسط.
و قد كتب بآخره: «الحمد للّه. طالعه الفقير حسن بن محمد العطار الأزهري سامحه اللّه «و الحمد للّه طالعه محمد أحمد السروجي المالكي في ثاني ذي القعدة سنة سبع و سبعين و ثمانمائة غفر اللّه له و للمسلمين و صلى اللّه على محمد و آله و سلّم».
(3) الجزء الحادي عشر، و أوله خبر أساقفة نجران مع النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و ينتهي إلى أوّل أخبار سويد بن أبي كاهل و نسبه، و هو مخطوط بخط الناسخ المتقدّم أيضا و أوصافه كأوصاف سابقيه و يقع في 208 صفحة.
و قد كتب بآخره: «الحمد للّه. طالعه الفقير حسن بن محمد العطار الأزهري سامحه اللّه» و «الحمد للّه.
طالعه فقير [إلى] رحمة ربه الغني محمد أحمد السروجي المالكي في حادي عشر محرم الحرام سنة ثمان و سبعين و ثمانمائة... و صلى اللّه على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم» و «الحمد للّه وحده. و صلى اللّه على سيدنا محمد، طالع في هذا الكتاب المبارك الفقير سليمان جاويش الشهير بالأخرس و بابن أزدمر غفر اللّه له بمنه.
و ذلك في أوائل شهر المحرم الحرام سنة ثلاثة (كذا) عشر بعد ألف» و «طالع في هذا الكتاب المفتقر إلى رحمة ربه و مغفرته و رضوانه الحقير رمضان آغا ابن المرحوم سليمان جاويش الخدم العالية غفر اللّه لهما و لوالديهما و لمن طالع فيه و أهدى ثواب لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه لهما مع الفاتحة في شهر ذي القعدة سنة 1015» و «الحمد للّه. تعلق به نظر الفقير أحمد بن محمد بن محمد بن محمد الهواني».
(4) الجزء الثالث عشر و هو مخروم من الأول و الأثناء و الآخر، و أول ما فيه من أثناء أخبار عبد اللّه بن الزبير، و ينتهي إلى أثناء أخبار عمرو بن بانة، و هو مخطوط بخط الناسخ المتقدّم أيضا، و أوصافه كأوصاف الأجزاء السابقة. و الموجود منه 172 صفحة.
(ب) لم نراع في فهرس هذا الجزء وضع الحرف (ت) بجانب الرقم ليدلّ على عدد السطر في التعليقات المكتوبة أسفل الصحف، بل رأينا لسهولة المراجعة الاقتصار على رقم الصفحة و عدد السطر فقط سواء كان في صلب الكتاب أو حواشيه.
(ح) نبهنا حضرة الباحث المحقق الأب أنطون صالحاني اليسوعي إلى أن نضع في هامش كل صفحة إزاء السطر الخامس و العاشر و الخامس عشر إلخ الأعداد 5 و 10 و 15 و هكذا ليقف المطالع بسرعة و بدون عناء على
ص: 327
السطر المطلوب الذي عينه الفهرس دون أن يلتجئ إلى عدّ الأسطر لتعيين السطر المطلوب و في ذلك شيء من الإعنات للقراء لا نود لهم أن يتورطوا فيه، كما نبهنا أيضا إلى أن نضع أرقام صحف النسخة المطبوعة ببولاق و هي المنتشرة غالبا في أيدي الناس كما أنها النسخة التي يشير إليها الباحثون و المستشرقون في مؤلفاتهم حين ينقلون عن كتاب الأغاني، لكي يسهل على من يريد الرجوع إلى عبارة منبه عليها بصفحتها في هذه الطبعة (طبعة بولاق) الرجوع إليها بلمحة بصر في طبعتنا هذه، و قد ابتدأنا ذلك من الصفحة 113 من هذا الجزء و وضعنا رقم الصفحة و تحته مفصولا عنه بشرطة أفقية رقم الجزء فمثلا 125/2 يدل على الصفحة 125 من الجزء الثاني و هكذا.
و سنراعي ذلك في جميع أجزاء الكتاب إن شاء اللّه مع تقديم جزيل الشكر له على هذه الملاحظات القيمة.
ص: 328
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ * <الجزء الثاني من كتاب الأغاني>
هو - على ما يقوله من صحّح نسبه و حديثه - قيس، و قيل: مهديّ ، و الصحيح [أنه](1) قيس بن الملوّح(2) بن مزاحم بن عدس(3) بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. و من الدليل على أنّ اسمه قيس قول ليلى صاحبته فيه:
ألا ليت شعري و الخطوب كثيرة *** متى رحل قيس مستقلّ فراجع
/و أخبرني الحسن(4) بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن زهير قال: سمعت من لا أحصي يقول: اسم المجنون قيس بن الملوّح.
و أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ ، و أخبرني الجوهريّ عن عمر بن شبّة أنهما سمعا الأصمعيّ يقول - و قد سئل عنه -: لم يكن مجنونا و لكن كانت به لوثة(5) كلوثة أبي(6) حيّة النّميريّ .
و أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ عن(7) ابن شبّة عن الحزاميّ قال حدّثني أيّوب بن عباية قال: سألت بني عامر بطنا بطنا عن مجنون بني عامر فما وجدت أحدا يعرفه.
ص: 329
و أخبرني عمّي قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن المدائنيّ عن ابن دأب(1) قال: قلت لرجل من بني عامر:
أ تعرف المجنون و تروي من شعره شيئا؟ قال: أو قد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين! إنهم لكثير! فقلت: ليس هؤلاء أعني، إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق، فقال: هيهات! بنو عامر أغلظ /أكبادا من ذاك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضّعاف قلوبها، السّخيفة عقولها، الصّعلة(2) رءوسها، فأما نزار فلا.
أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا الرّياشيّ قال سمعت الأصمعيّ يقول: رجلان ما عرفا في الدنيا قطّ إلا بالاسم(3): مجنون بني عامر، و ابن القرّيّة(4)، و إنما(5) وضعهما الرّواة.
و أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد عن الحزاميّ قال: و لم أسمعه من الحزاميّ فكتبته عن ابن أبي سعد قال أحمد: و حدّثنا به ابن أبي سعد عن الحزاميّ قال حدّثنا عبد الجبّار بن سعيد بن سليمان بن نوفل بن مساحق عن أبيه عن جدّه قال: سعيت(6) على بني عامر فرأيت المجنون و أتيت به و أنشدني.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا أبو سعيد السّكّريّ قال حدّثنا إسماعيل بن مجمّع عن المدائنيّ (7)قال: المجنون المشهور بالشعر عند الناس صاحب ليلى قيس بن معاذ من بني عامر، ثم من بني عقيل(8)، أحد بني نمير بن عامر بن عقيل، /قال: و منهم رجل آخر يقال له: مهديّ بن الملوّح من بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
و أخبرني عمّي عن الكرانيّ قال حدّثنا ابن أبي سعد عن عليّ بن الصّبّاح عن ابن الكلبيّ قال: حدّثت أن حديث المجنون و شعره وضعه فتى من بني أميّة كان يهوى ابنة عمّ له، و كان يكره أن يظهر ما بينه و بينها، فوضع حديث المجنون و قال الأشعار التي يرويها الناس للمجنون و نسبها إليه.
أخبرني الحسين بن يحيى و أبو الحسن الأسديّ قالا: حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: اسم المجنون
ص: 330
قيس بن معاذ أحد بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
و أخبرني أبو سعد الحسن بن عليّ بن زكريّا العدويّ قال حدّثنا حمّاد(1) بن طالوت بن عبّاد: أنه سأل الأصمعيّ عنه، فقال: لم يكن مجنونا، بل كانت به لوثة أحدثها العشق فيه، كان يهوى امرأة من قومه يقال لها ليلى، و اسمه قيس بن معاذ.
و ذكر عمرو بن أبي عمرو الشّيبانيّ عن أبيه أن اسمه قيس بن معاذ.
و ذكر شعيب بن السّكن عن يونس النّحويّ أن اسمه قيس بن الملوّح، قال أبو عمرو الشّيبانيّ : و حدّثني رجل من أهل اليمن أنه رآه و لقيه و سأله عن اسمه و نسبه، فذكر(2) أنه قيس بن الملوّح.
/و ذكر هشام بن محمد الكلبيّ أنه قيس بن الملوّح، و حدّث أن أباه مات قبل اختلاطه(3)، فعقر على قبره ناقته و قال في ذلك.
عقرت على قبر الملوّح ناقتي *** بذي السّرح(4) لما أن جفاه الأقارب
و قلت لها كوني عقيرا(5) فإنني *** غدا راجل أمشي و بالأمس راكب
فلا يبعدنك اللّه يا بن مزاحم *** فكلّ بكأس الموت لا شكّ شارب(6)
و ذكر إبراهيم بن المنذر الحزاميّ و أبو عبيدة معمر بن المثنّى أنّ اسمه البحتريّ بن الجعد.
و ذكر مصعب الزّبيريّ و الرّياشيّ و أبو العالية أن اسمه الأقرع بن معاذ. و قال خالد بن كلثوم: اسمه مهديّ ابن الملوّح.
و أخبرني الأخفش عن السّكّريّ عن أبي زياد(7) الكلابيّ ، قال: ليلى صاحبة المجنون هي ليلى بنت سعد بن مهديّ بن ربيعة بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
/أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال حدّثنا أبو قلابة الرّقاشيّ (8)، قال حدّثني عبد الصّمد بن المعذّل، قال:
سمعت الأصمعيّ و قد تذاكرنا مجنون بني عامر يقول: لم يكن مجنونا و إنما كانت به لوثة، و هو القائل:
ص: 331
أخذت محاسن كلّ ما *** ضنّت محاسنه بحسنه
كاد الغزال يكونها *** لو لا الشّوى(1) و نشوز قرنه
و أخبرني عمر بن عبد اللّه بن جميل العتكيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا الأصمعيّ قال:
سألت أعرابيا من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العامريّ فقال: عن أيّهم تسألني ؟ فقد كان فينا جماعة رموا بالجنون، فعن أيّهم تسأل ؟ فقلت: عن الذي كان يشبّب بليلى، فقال: كلّهم كان يشبّب بليلى، قلت: فأنشدني لبعضهم، فأنشدني لمزاحم بن الحارث المجنون:
ألا أيّها القلب الذي لجّ هائما *** بليلى(2) وليدا لم تقطّع تمائمه
أفق قد أفاق العاشقون و قد أنى(3) *** لك اليوم أن تلقى طبيبا تلائمه
أجدّك(4) لا تنسيك ليلى ملمّة *** تلمّ و لا عهد يطول تقادمه
/قلت: فأنشدني لغيره منهم، فأنشدني لمعاذ بن كليب(5) المجنون:
ألا طالما لاعبت ليلى و قادني *** إلى اللّهو قلب للحسان تبوع
و طال امتراء(6) الشّوق عيني(7) كلّما *** نزفت دموعا تستجدّ دموع
فقد طال إمساكي على الكبد التي(8) *** بها من هوى ليلى الغداة صدوع
قلت: فأنشدني لغير هذين ممن ذكرت، فأنشدني لمهديّ بن الملوّح:
لو أنّ لك الدنيا و ما عدلت به *** سواها و ليلى بائن عنك بينها(9)
لكنت إلى ليلى فقيرا و إنما *** يقود إليها ودّ نفسك حينها
قلت له: فأنشدني لمن بقي من هؤلاء، فقال: حسبك! فو اللّه إنّ في واحد من هؤلاء لمن يوزن بعقلائكم اليوم.
ص: 332
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز قال قال ابن الأعرابيّ : كان معاذ بن كليب(1) مجنونا، و كان يحبّ ليلى، و شركه في حبها مزاحم بن الحارث العقيليّ ، فقال مزاحم يوما للمجنون:
كلانا يا معاذ يحبّ ليلى *** بفيّ و فيك من ليلى التّراب
شركتك في هوى من كان حظّي *** و حظّك من مودّتها العذاب
لقد خبلت فؤادك ثم ثنّت *** بقلبي(2) فهو مخبول مصاب
قال فيقال: إنه لما سمع هذه الأبيات التبس و خولط في عقله.
/و ذكر أبو عمرو الشّيبانيّ : أنه سمع في الليل هاتفا يهتف بهذه الأبيات، فكانت سبب جنونه.
و ذكر إبراهيم بن المنذر الحزاميّ عن أيّوب بن عباية: أن فتى من بني مروان كان يهوى امرأة منهم فيقول فيها الشعر و ينسبه إلى المجنون، و أنه عمل له أخبارا و أضاف إليها ذلك الشعر، فحمله الناس و زادوا فيه.
و أخبرني عمّي عن الكرانيّ عن العمريّ عن العتبيّ عن عوانة أنه قال: المجنون اسم مستعار لا حقيقة له، و ليس له في بني عامر أصل و لا نسب، فسئل من قال هذه الأشعار؟ فقال: فتى من بني أمية.
و قال الجاحظ: ما ترك الناس شعرا مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون(3)، و لا شعرا هذه سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح.
و أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني أبو أيّوب المديني(4)قال حدّثني الحكم بن صالح قال: قيل لرجل من بني عامر: هل تعرفون فيكم المجنون الذي قتله العشق ؟ فقال:
هذا باطل، إنما يقتل العشق هذه اليمانية الضّعاف القلوب.
/أخبرنا أحمد بن عمر بن موسى قال حدّثنا إبراهيم بن المنذر الحزاميّ قال حدّثني أيّوب بن عبابة قال حدّثني من سأل بني عامر بطنا بطنا عن المجنون فما وجد فيهم أحدا يعرفه.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا أحمد بن الحارث عن ابن الأعرابي أنه ذكر عن جماعة من بني عامر أنهم سئلوا عن المجنون فلم يعرفوه، و ذكروا أنّ هذا الشعر كلّه مولّد(5) عليه.
ص: 333
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه(1) بن عمّار قال حدّثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه عن محمد ابن الحكم عن عوانة قال: ثلاثة لم يكونوا قطّ و لا عرفوا: ابن أبي العقب صاحب قصيدة الملاحم(2)، و ابن القرّيّة(3)، و مجنون بني عامر.
/أخبرني أبو الحسن الأسديّ قال حدّثنا الرّياشيّ قال سمعت الأصمعيّ يقول: الذي ألقي على المجنون من الشعر و أضيف إليه أكثر مما قاله هو.
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال: أنشدت أيّوب بن عباية هذين البيتين
و خبّرتماني أنّ تيماء(4) منزل *** لليلى إذا ما الصّيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصّيف عنّا قد انقضت *** فما للنّوى ترمي بليلى المراميا
و سألته عن قائلهما، فقال: جميل، فقلت له: إنّ الناس يروونهما للمجنون، فقال: و من هو المجنون(5)؟ فأخبرته، فقال: ما لهذا حقيقة و لا سمعت به.
و أخبرني عمّي عن عبد اللّه بن شبيب عن هارون بن موسى الفرويّ (6) قال:
سألت أبا بكر العدويّ عن هذين البيتين فقال: هما لجميل، و لم يعرف المجنون، فقلت: فهل معهما غيرهما؟ قال: نعم، و أنشدني:
و إنّي لأخشى أن أموت فجاءة *** و في النفس حاجات إليك كما هيا
و إنّي لينسيني لقاؤك كلّما *** لقيتك يوما أن أبثّك ما بيا
و قالوا به داء عياء أصابه *** و قد علمت نفسي مكان دوائيا
ص: 334
/و أنا أذكر(1) مما وقع إليّ من أخباره جملا مستحسنة، متبرّئا من العهدة فيها، فإن أكثر أشعاره المذكورة في أخباره ينسبها بعض الرّواة إلى غيره و ينسبها من حكيت عنه إليه، و إذا قدّمت هذه الشريطة برئت من عيب طاعن و متتبّع(2) للعيوب.
أخبرني بخبره في شغفه بليلى جماعة من الرّواة، و نسخت ما لم أسمعه من الروايات و جمعت ذلك في سياقة خبره ما اتّسق و لم يختلف، فإذا اختلف نسبت كلّ رواية إلى راويها.
فممن أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ ، قالا: حدّثنا عمر بن شبّة عن رجاله و إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، و نسخت أخباره من رواية خالد بن كلثوم و أبي عمرو الشّيباني و ابن دأب و هشام بن محمد الكلبيّ و إسحاق بن الحصّاص و غيرهم من الرّواة.
قال أبو عمرو الشّيبانيّ و أبو عبيدة: كان المجنون يهوى ليلى بنت مهديّ بن سعد بن مهديّ بن ربيعة ابن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة و تكنى أمّ مالك، و هما حينئذ صبيان، فعلق كلّ واحد منهما صاحبه و هما يرعيان مواشي أهلهما، فلم يزالا كذلك حتى كبرا فحجبت(3) عنه، قال: و يدل على ذلك قوله:
تعلّقت ليلى و هي ذات ذؤابة(4) *** و لم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا *** إلى اليوم لم نكبر و لم تكبر البهم
/في هذين البيتين للأخضر الجدّيّ لحن من الثّقيل الثاني بالوسطى، ذكره هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات و الهشاميّ .
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أيّوب بن عباية و نسخت هذا الخبر بعينه من خطّ هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات قال: حدّثنا عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد قال حدّثنا الحسن بن عليّ قال حدّثني أبو عتّاب(5) البصريّ عن إبراهيم بن محمد الشافعيّ قال:
بينا ابن مليكة يؤذّن إذ سمع الأخضر الجدّيّ يغنّي من(6) دار العاص بن وائل:
و علّقتها غرّاء ذات ذوائب *** و لم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم(7) يا ليت أننا *** إلى اليوم لم نكبر و لم تكبر البهم
ص: 335
قال فأراد أن يقول: حيّ على الصلاة فقال: حيّ على البهم، حتى سمعه أهل مكة فغدا يعتذر إليهم.
و قال ابن الكلبيّ : حدّثني معروف المكيّ و المعلّى بن هلال(1) و إسحاق بن الجصّاص قالوا:
كان سبب عشق المجنون ليلى، أنه أقبل ذات يوم على ناقة له كريمة و عليه حلّتان من حلل الملوك، فمرّ بامرأة من قومه يقال لها: كريمة، و عندها جماعة نسوة يتحدّثن فيهنّ ليلى، فأعجبهنّ جماله و كماله، فدعونه إلى النزول و الحديث(2)، فنزل و جعل يحدّثهنّ و أمر عبدا له كان معه فعقر لهنّ ناقته، و ظلّ (3) يحدّثهنّ بقية/يومه، فبينا هو كذلك، إذ طلع عليهم فتى عليه بردة(4) من برد(5) الأعراب يقال له: «منازل(6) يسوق معزى له، فلما رأينه أقبلن عليه و تركن المجنون، فغضب و خرج من عندهنّ و أنشأ يقول:
أ أعقر من جرّا(7) كريمة ناقتي *** و وصلي مفروش(8) لوصل منازل
إذا جاء قعقعن الحليّ و لم أكن *** إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخل
متى ما انتضلنا(9) بالسّهام نضلته *** و إن نرم رشقا(10) عندها فهو ناضلي
قال: فلما أصبح لبس حلّته و ركب ناقة له أخرى و مضى متعرّضا لهنّ ، فألفى ليلى قاعدة بفناء بيتها و قد علق حبّه بقلبها و هويته، و عندها جويريات يتحدّثن معها، فوقف بهنّ و سلّم، فدعونه إلى النزول و قلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل و لا غيره ؟ فقال: إي لعمري(11)، فنزل و فعل مثل ما فعله بالأمس، فأرادت أن تعلم، هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تعرض عن/حديثه ساعة بعد ساعة و تحدّث غيره، و قد كان علق بقلبه مثل حبها إياه و شغفته و استملحها، فبينا هي تحدّثه، إذ أقبل فتى من الحيّ فدعته و سارّته سرارا طويلا، ثم قالت له: انصرف، و نظرت إلى وجه المجنون قد تغيّر و انتقع(12) لونه و شقّ عليه فعلها، فأنشأت تقول:
كلانا مظهر للناس بغضا *** و كلّ عند صاحبه مكين
تبلّغنا العيون بما أردنا *** و في القلبين ثمّ هوى دفين
ص: 336
فلما سمع البيتين شهق شهقة شديدة و أغمي عليه، فمكث على ذلك ساعة، و نضحوا الماء على وجهه [حتى أفاق](1) و تمكّن حبّ كل واحد منهما في قلب صاحبه حتى بلغ منه كلّ مبلغ.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدّثني عبد الرحمن بن إبراهيم عن هشام بن محمد بن موسى المكيّ عن محمد بن سعيد المخزوميّ عن أبي الهيثم العقيليّ قال:
لما شهر أمر المجنون و ليلى و تناشد الناس شعره فيها، خطبها و بذل لها خمسين ناقة حمراء، و خطبها ورد بن محمد العقيليّ و بذل لها عشرا من الإبل و راعيها، فقال أهلها: نحن مخيّروها بينكما، فمن اختارت تزوّجته، و دخلوا إليها فقالوا: و اللّه لئن لم تختاري وردا لنمثّلنّ بك، فقال المجنون:
ألا يا ليل إن ملّكت فينا *** خيارك فانظري لمن الخيار
و لا تستبدلي منّي دنيّا *** و لا برما(2) إذا حبّ (3) القتار(4)
يهرول في الصغير إذا رآه *** و تعجزه ملمّات كبار
فمثل تأيّم منه نكاح *** و مثل تموّل منه افتقار
فاختارت وردا فتزوّجته على كره منها.
و أخبرني أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر قالا: حدثنا عمر بن شبّة قال ذكر الهيثم بن عديّ عن عثمان بن عمارة بن حريم(5) المرّي قال:
خرجت إلى أرض بني عامر لألقى المجنون، فدللت عليه و على محلّته، فلقيت أباه شيخا كبيرا و حوله إخوة للمجنون مع أبيهم رجالا؛ فسألتهم عنه فبكوه(6)، و قال الشيخ: أما و اللّه لهو كان آثر عندي من هؤلاء جميعا، و إنه عشق امرأة من قومه و اللّه ما كانت تطمع في مثله، فلما فشا أمره و أمرها كره أبوها أن يزوّجه إياها بعد ما ظهر من أمرهما، فزوّجها غيره، و كان أوّل ما كلف بها يجلس إليها في نفر من قومها فيتحدّثون كما يتحدّث الفتيان(7)، و كان أجملهم و أظرفهم و أرواهم لأشعار العرب، فيفيضون في الحديث فيكون أحسنهم فيه إفاضة، فتعرض عنه و تقبل على غيره، و قد وقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه، فظنّت به ما هو عليه من حبها، فأقبلت عليه يوما و قد خلت فقالت:
ص: 337
كلانا مظهر للناس بغضا *** و كلّ عند صاحبه مكين
و أسرار الملاحظ ليس تخفي *** إذا نطقت بما تخفي العيون(1)
غنّت في الأوّل عريب خفيف رمل، و قيل: إنّ هذا الغناء لشارية(2)، و البيت الأخير ليس من شعره(3) - قال:
فخرّ مغشيّا عليه ثم أفاق فاقدا عقله، فكان لا يلبس ثوبا إلا خرّقه و لا يمشي إلا عاريا و يلعب بالتراب و يجمع العظام حوله، فإذا ذكرت له ليلى أنشأ يحدّث عنها عاقلا و لا يخطئ حرفا، و ترك الصلاة، فإذا قيل له: مالك لا تصلّي! لم يردّ حرفا، و كنا نحبسه و نقيّده، فيعضّ لسانه و شفته، حتى خشينا عليه فخلّينا سبيله فهو يهيم.
قال الهيثم؛ فولّى مروان بن الحكم عمر بن عبد الرحمن بن عوف صدقات بني كعب و قشير و جعدة، و الحريش و حبيب و عبد اللّه، فنظر إلى المجنون قبل أن يستحكم جنونه(4) فكلّمه و أنشده فأعجب به، فسأله أن يخرج معه، فأجابه إلى ذلك، فلما أراد الرّواح جاءه قومه فأخبروه خبره و خبر ليلى، و أنّ أهلها استعدوا السلطان عليه، فأهدر دمه إن أتاهم، فأضرب عما وعده(5) و أمر له بقلائص، فلما علم بذلك و أتى بالقلائص ردّها عليه و انصرف.
/و ذكر أبو نصر أحمد بن حاتم عن جماعة من الرّواة: أنّ المجنون هو الذي سأل عمر بن عبد الرحمن أن يخرج(6) به، قال له: أكون معك في هذا الجمع الذي تجمعه غدا، فأرى(7) في أصحابك، و أتجمل في عشيرتي(8) بك، و أفخر بقربك، فجاءه رهط من رهط ليلى(9) و أخبروه بقصّته، و أنه لا يريد التجمّل به، و إنما يريد أن يدخل عليهم بيوتهم و يفضحهم في امرأة منهم يهواها، و أنهم قد شكوه إلى السلطان فأهدر دمه إن دخل عليهم، فأعرض عما أجابه إليه من أخذه معه و أمر له بقلائص، فردّها و قال [في ذلك](10):
رددت قلائص القرشيّ لمّا *** بدا لي النقض منه للعهود
ص: 338
و راحوا مقصرين و خلّفوني *** إلى حزن أعالجه شديد
قال: و رجع آيسا فعاد إلى حاله الأولى، قال: فلم تزل تلك حاله، إلا أنه غير مستوحش، إنما يكون في جنبات الحيّ منفردا عاريا لا يلبس ثوبا إلا خرّقه، و يهذي و يخطّط في الأرض و يلعب بالتراب و الحجارة، و لا يجيب أحدا سأله عن شيء، فإذا أحبّوا أن يتكلّم أو يثوب عقله ذكروا له ليلى، فيقول: بأبي هي و أمّي، ثم يرجع إليه عقله فيخاطبونه و يجيبهم، و يأتيه أحداث الحيّ فيحدّثونه عنها و ينشدونه الشعر الغزل، فيجيبهم جوابا صحيحا و ينشدهم أشعارا قالها، حتى سعى(1) عليهم في السنة الثانية(2) بعد عمر بن عبد الرحمن نوفل بن مساحق، فنزل مجمعا من تلك/المجامع فرآه يلعب بالتراب و هو عريان، فقال لغلام له: يا غلام، هات ثوبا، فأتاه به، فقال لبعضهم: خذ هذا الثوب فألقه على ذلك الرجل، فقال له: أتعرفه جعلت فداك ؟ قال: لا، قال: هذا ابن سيّد الحيّ ، لا و اللّه ما يلبس الثياب و لا يزيد على ما تراه يفعله الآن، و إذا طرح عليه شيء خرّقه، و لو كان يلبس ثوبا لكان في مال أبيه ما يكفيه، و حدّثه عن أمره، فدعا به و كلّمه، فجعل لا يعقل شيئا يكلّمه به، فقال له قومه: إن أردت أن يجيبك جوابا صحيحا فاذكر له ليلى، فذكرها له و سأله عن حبّه إياها، فأقبل عليه يحدّثه بحديثها و يشكو إليه حبّه إياها و ينشده شعره فيها، فقال له نوفل: الحبّ صيّرك إلىّ ما أرى ؟ قال نعم، و سينتهي بي إلى ما هو أشدّ مما ترى، فعجب منه و قال له: أ تحبّ أن أزوّجكها؟ قال: نعم، و هل إلى ذلك من سبيل ؟ قال: انطلق معي حتى أقدم على أهلها بك و أخطبها عليك و أرغّبهم في المهر لها، قال: أ تراك فاعلا؟ قال: نعم، قال: انظر ما تقول! قال: لك عليّ أن أفعل بك ذلك، و دعا له بثياب فألبسه إياها، و راح معه المجنون كأصحّ أصحابه(3) يحدّثه و ينشده، فبلغ ذلك رهطها فتلقّوه في السلاح(4)، و قالوا له: يا ابن مساحق لا و اللّه لا يدخل المجنون منازلنا أبدا أو يموت، فقد أهدر لنا السلطان دمه، فأقبل(5) بهم و أدبر، فأبوا، فلما رأى ذلك قال للمجنون: انصرف، فقال له المجنون: و اللّه ما وفيت لي بالعهد، قال له: انصرافك بعد أن آيسني القوم من إجابتك أصلح من سفك الدماء، فقال المجنون:
الغناء(1) للحسين بن محرز ثقيل أوّل بالوسطى من جامع أغانيه:
إذا ذكرت ليلى عقلت و راجعت *** روائع(2) عقلي من هوى متشعّب
و قالوا صحيح ما به طيف جنّة(3) *** و لا الهمّ إلا بافتراء التكذّب(4)
و شاهد و جدي دمع عيني و حبّها *** برى اللحم عن أحناء(5) عظمي و منكبي
تجنّبت ليلى أن يلجّ بك الهوى *** و هيهات كان الحبّ قبل التجنّب
ألا إنّما غادرت يا أمّ مالك *** صدى(6) أينما تذهب به الريح يذهب
/الغناء لإسحاق خفيف ثقيل(7) أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر(8)، و فيه لابن جامع هزج من رواية الهشاميّ و هي قصيدة طويلة.
و مما يغنّى فيه منها قوله:
فلم أر ليلى بعد موقف ساعة *** بخيف منى ترمي جمار المحصّب
و يبدي الحصى منها إذا قذفت به *** من البرد أطراف البنان المخضّب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر *** مع الصبح في أعقاب نجم مغرّب
ألا إنما غادرت يا أمّ مالك *** صدى أينما تذهب به الريح يذهب
فيه ثقيل أوّل مطلق باستهلال، ذكر ابن المكيّ أنه لأبيه يحيى، و ذكر الهشاميّ أنه للواثق، و ذكر حبش أنه
ص: 340
لابن محرز، و هو في جامع أغاني سليمان منسوب إليه.
أنشدني الأخفش عن أبي سعيد السّكّريّ عن محمد بن حبيب للمجنون
فو اللّه ثم اللّه إنّي لدائب *** أفكّر ما ذنبي إليها و أعجب
و و اللّه ما أدري علام قتلتني *** و أيّ أموري فيك يا ليل أركب
أ أقطع حبل الوصل فالموت دونه *** أم اشرب رنقا(1) منكم ليس يشرب
أم اهرب حتى لا أرى لي مجاورا *** أم اصنع ما ذا أم أبوح فأغلب
فأيّهما يا ليل ما ترتضينه *** فإنّي لمظلوم و إنّى لمعتب
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا: حدّثنا عمر بن شبّة قال: ذكر هشام بن الكلبيّ و وافقه في روايته أبو نصر أحمد بن حاتم و أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا ابن أبي سعد قال حدّثني عليّ ابن الصّبّاح عن هشام ابن الكلبيّ عن أبيه:
أن أبا المجنون و أمّه و رجال عشيرته اجتمعوا إلى ليلى فوعظوه و ناشدوه اللّه و الرحم، و قالوا له: إنّ هذا الرجل لهالك، و قبل ذلك ففي أقبح من الهلاك بذهاب عقله، و إنك فاجع به أباه و أهله، فنشدناك اللّه و الرحم أن تفعل ذلك، فو اللّه ما هي أشرف منه، و لا لك مثل مال أبيه، و قد حكّمك في المهر، و إن شئت أن يخلع نفسه إليك من ماله فعل، فأبى و حلف باللّه و بطلاق أمّها(2) إنه لا يزوّجه إيّاها أبدا، و قال: أفضح نفسي و عشيرتي و آتي ما لم يأته أحد من العرب، و اسم ابنتي بميسم فضيحة فانصرفوا عنه، و خالفهم لوقته فزوّجها رجلا من قومها و أدخلها(3)إليه، فما أمسى إلا و قد بنى بها، و بلغه الخبر فأيس منها حينئذ و زال عقله جملة، فقال الحيّ لأبيه: أحجج به إلى مكة و ادع اللّه عزّ و جلّ له، و مره أن يتعلّق بأستار الكعبة، فيسأل اللّه يعافيه مما به و يبغّضها إليه، فلعل اللّه أن يخلّصه من هذا البلاء، فحجّ به أبوه، فلما صاروا بمنى سمع صائحا في الليل يصيح: يا ليلى، فصرخ صرخة ظنّوا أنّ نفسه قد تلفت و سقط مغشيّا عليه، فلم يزل كذلك حتى أصبح ثم أفاق حائل(4) اللون ذاهلا، فأنشأ يقول:
عرضت على قلبي العزاء فقال لي *** من الآن فاياس لا أعزّك من صبر
إذا بان من تهوى و أصبح نائيا *** فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى *** فهيّج أطراب(5) الفؤاد و ما يدري
ص: 341
دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما *** أطار بليلى طائرا كان في صدري
دعا باسم ليلى ظلّل اللّه سعيه *** و ليلى بأرض عنه نازحة قفر
الغناء لعريب خفيف ثقيل - ثم قال له أبوه: تعلّق بأستار الكعبة و اسأل اللّه أن يعافيك من حبّ ليلى، فتعلّق بأستار الكعبة و قال: اللهم زدني لليلى حبّا و بها كلفا و لا تنسني ذكرها أبدا، فهام(1) حينئذ و اختلط فلم يضبط.
قالوا: فكان يهيم في البرّيّة مع الوحش و لا يأكل إلا ما ينبت في البرّيّة من بقل و لا يشرب إلا مع الظباء إذا وردت مناهلها، و طال شعر جسده و رأسه و الفته الظباء و الوحوش فكانت لا تنفر منه، و جعل يهيم حتى يبلغ حدود الشام، فإذا ثاب إليه عقله سأل من يمرّ به من أحياء العرب عن نجد، فيقال له: و أين(2) أنت من نجد! قد شارفت الشام! أنت في موضع كذا، فيقول: فأروني وجهة الطريق، فيرحمونه و يعرضون عليه أن يحملوه أن يكسوه فيأبى، فيدلّونه على طريق نجد فيتوجّه نحوه.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ و أخبرنا حبيب بن نصر المهلّبيّ و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال ذكر الهيثم بن عديّ عن أبي مسكين قال:
/خرج منّا فتى حتى إذا كان ببئر ميمون(3) إذا جماعة فوق بعض تلك الجبال، و إذا(4) معهم فتى أبيض طوال(5) جعد(6) كأحسن من رأيت من الرجال على هزال منه و صفرة، و إذا هم متعلّقون به، فسألت عنه، فقيل لي: هذا قيس المجنون خرج به أبوه يستجير له بالبيت، و هو على أن يأتي به قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم ليدعو له هناك لعلّه يكشف ما به، فإنه يصنع بنفسه صنيعا يرحمه منه عدوّه، يقول: أخرجوني لعلّني أتنسّم صبا نجد، فيخرجونه فيتوجهون به نحو نجد، و نحن مع ذلك نخاف أن يلقي نفسه من الجبل، فإن شئت الأجر(7) دنوت منه فأخبرته أنك أقبلت من نجد، فدنوت منه و أقبلوا عليه فقالوا له: يا أبا المهديّ ، هذا الفتى أقبل من نجد، فتنفّس تنفّسة(8) ظننت أن كبده قد انصدعت، ثم جعل يسألني(9) عن واد واد و موضع موضع، و أنا أخبره و هو يبكي أحرّ بكاء و أوجعه للقلب، ثم أنشأ يقول:
ألا ليت شعري عن عوارضتي قنا(10) *** لطول الليالي هل تغيّرتا بعدي
ص: 342
و هل جارتانا بالبتيل(1) إلى الحمى *** على عهدنا أم لم تدوما على العهد
و عن علويّات(2) الرياح إذا جرت *** بريح الخزامى هل تهبّ على نجد
و عن أقحوان الرمل ما هو فاعل *** إذا هو أسرى ليلة بثرى جعد(3)
و هل أنفضنّ الدهر أفنان لمّتى *** على لاحق المتنين مندلق الوخد(4)
و هل أسمعنّ الدهر أصوات هجمة(5) *** تحدّر من نشز(6) خصيب إلى وهد
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم بن عديّ و العتبيّ قالا:
مر المجنون(7) بزوج ليلى و هو جالس يضطلي في يوم شات، و قد أتى ابن عمّ له في حيّ المجنون لحاجة، فوقف عليه ثم أنشأ يقول:
بربّك(8) هل ضممت إليك ليلى *** قبيل الصبح أو قبّلت فاها(9)
و هل رفّت(10) عليك قرون ليلى *** رفيف الأقحوانة في نداها
/فقال: اللهم إذ حلّفتني فنعم، قال: فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر، فما فارقهما حتى سقط مغشيّا عليه، و سقط الجمر مع لحم راحتيه، و عضّ على شفته فقطعها، فقام زوج ليلى مغموما بفعله متعجّبا منه فمضى.
غنى في البيتين المذكورين في هذا الخبر الحسين بن محرز، و لحنه رمل(11) بالوسطى عن الهشاميّ .
ص: 343
مروره بجبلي نعمان و مكثه فيهما إلى هبوب الصبا و ما قاله في ذلك من الشعر أخبرني أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا: حدّثنا عمر بن شبّة قال قال محمد بن الحكم عن عوانة: إنه حدّثه و وافقه ابن نصر و ابن حبيب قالوا:
إنّ أهل المجنون خرجوا به معهم إلى وادي القرى(1) قبل توحشه ليمتاروا(2) خوفا عليه [من](3) أن يضيع أو يهلك، فمرّوا في طريقهم بجبلي نعمان(4)، فقال له بعض فتيان الحيّ : هذان جبلا نعمان، و قد كانت ليلى تنزل بهما، قال: فأيّ الرياح يأتي من ناحيتهما؟ قالوا: الصّبا، قال: فو اللّه لا أريم(5) هذا الموضع حتى تهبّ الصبا، فأقام و مضوا فامتاروا لأنفسهم، ثم أتوا عليه فأقاموا معه ثلاثة أيام حتى هبّت الصّبا، ثم انطلق معهم فانشأ يقول:
أيا جبلي نعمان باللّه خلّيا *** سبيل(6) الصّبا يخلص إلي نسيمها
أجد بردها أو تشف منّي حرارة *** على كبد لم يبق إلا صميمها(7)
فإنّ الصّبا ريح إذا ما تنسّمت *** على نفس محزون(8) تجلّت همومها
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني محمد بن الحسين(9) بن الحرون قال حدّثني الكسرويّ (10) عن جماعة من الرواة(11) قال:
لما منع أبو ليلى المجنون و عشيرته من تزويجه بها، كان لا يزال يغشى بيوتهم و يهجم عليهم، فشكوه إلى السلطان فأهدر دمه لهم، فأخبروه بذلك فلم يرعه و قال: الموت أروح لي(12) فليتهم قتلوني، فلمّا علموا بذلك و عرفوا أنه لا يزال يطلب غرّة(13) منهم حتى إذا تفرّقوا دخل دورهم، فارتحلوا عنها و أبعدوا، و جاء المجنون عشية فأشرف
ص: 344
على دورهم فإذا هي منهم بلاقع(1)، فقصد منزل ليلى الذي كان بيتها فيه، فألصق صدره به و جعل يمرّغ خدّيه على ترابه [و يبكي](2)، ثم أنشأ يقول، - و ذكر هذه الأبيات ابن حبيب و أبو نصر له [بغير(3) خبر] -:
أيا حرجات(4) الحيّ حيث(5) تحمّلوا *** بذي سلم(6) لا جادكنّ ربيع
و خيماتك اللاتي بمنعرج اللّوى *** بلين بلّى لم تبلّنّ ربوع
ندمت على ما كان منّي ندامة *** كما يندم المغبون حين يبيع
فقدتك من نفس شعاع(7) فإنّني *** نهيتك عن هذا و أنت جميع(8)
فقرّبت لي غير القريب و أشرفت(9) *** إليك ثنايا(10) ما لهنّ طلوع(11)
و ذكر خالد بن جميل(12) و خالد بن كلثوم في أخبارهما التي صنعاها أن ليلى وعدته قبل أن يختلط أن تستزيره(13) ليلة إذا وجدت فرصة لذلك، فمكث مدّة يراسلها في الوفاء و هي تعده و تسوّفه(14)، فأتى أهلها ذات يوم و الحيّ خلوف(15)، فجلس إلى نسوة من أهلها حجرة(16) منها بحيث تسمع كلامه، فحادثهنّ طويلا ثم قال:
أ لا أنشدكنّ أبياتا أحدثها في هذه الأيام ؟ قلن: بلى، فأنشدهنّ :
من عاذري من غريم غير ذي عسر(1) *** يأبى(2) فيمطلني ديني و يلويني
لا يبعد النقد من حقّي فينكره *** و لا يحدّثني أن سوف يقضيني
و ما كشكرى شكر لو يوافقني *** و لا مناي سواه لو يوافيني(3)
أطعته و عصيت الناس كلّهم *** في أمره و هواه و هو يعصيني
قال(4): فقلن له: ما أنصفك هذا الغريم الذي ذكرته! و جعلن يتضاحكن و هو يبكي، فاستحيت ليلى منهنّ و رقّت له حتى بكت، و قامت فدخلت بيتها و انصرف هو.
- في الثلاثة الأبيات الأولى من هذه الأبيات هزج طنبوريّ للمسدود - قالا في خبرهما هذا: و كان للمجنون ابنا عمّ يأتيانه فيحدّثانه و يسلّيانه و يؤانسانه، فوقف عليهما يوما و هما جالسان، فقالا له: يا أبا المهديّ أ لا تجلس ؟ قال: لا، بل أمضي إلى منزل ليلى فاترسّمه و أرى آثارها فيه، فأشفي بعض ما في صدري بها، فقالا له: فنحن معك، فقال: إذا فعلتما أكرمتما و أحسنتما، فقاما معه حتى أتى دار ليلى، فوقف بها طويلا يتتبّع آثارها و يبكي و يقف في موضع موضع منها و يبكي ثم قال:
يا صاحبيّ ألمّا بي بمنزلة *** قد مرّ حين عليها أيّما حين
إني أرى رجعات الحبّ تقتلني(5) *** و كان في بدئها ما كان يكفيني
لا خير في الحبّ ليست فيه قارعة *** كأنّ صاحبها في نزع موتون(6)
إن قال عذّاله مهلا فلان لهم *** قال الهوى غير هذا القول يعنيني(7)
ألقى من اليأس(8) تارات فتقتلني *** و للرجاء بشاشات فتحييني
الغناء لإبراهيم(9) خفيف ثقيل من جامع غنائه و قال هشام بن الكلبيّ عن أبي(10) مسكين: إن جماعة من بني عامر حدّثوه قالوا: كان رجل من بني عامر
ص: 346
ابن عقيل يقال له: قيس بن معاذ، و كان يدعى المجنون، و كان صاحب غزل و مجالسة للنساء، فخرج على ناقة له يسير، فمرّ بامرأة من بني عقيل يقال لها: كريمة، و كانت جميلة عاقلة، معها نسوة فعرفنه و دعونه إلى النزول و الحديث، و عليه حلّتان له فاخرتان و طيلسان و قلنسوة، فنزل فظلّ يحدّثهنّ و ينشدهنّ و هنّ أعجب شيء به فيما يرى، فلمّا أعجبه ذلك منهنّ عقر لهنّ ناقته، /و قمن إليها فجعلن يشوين(1) و يأكلن إلى أن أمسى، فأقبل غلام شابّ حسن الوجه من حيّهن فجلس إليهنّ ، فأقبلن عليه بوجوههنّ يقلن له: كيف ظللت(2) يا منازل اليوم ؟ فلما رأى ذلك من فعلهنّ غضب، فقام و تركهنّ و هو يقول:
أ أعقر من جرّا كريمة ناقتي *** و وصلي مفروش لوصل منازل
إذا جاء قعقعن الحليّ و لم أكن *** إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخل(3)
قال: فقال له الفتى: هلمّ نتصارع أو نتناضل، فقال له: إن شئت ذلك فقم إلى حيث لا تراهنّ و لا يرينك، ثم ما شئت فافعل، و قال:
إذا ما انتضلنا في الخلاء نضلته *** و إن يرم رشقا عندها فهو ناضلي(4)
و قال ابن الكلبيّ في هذا الخبر: فلما أصبح لبس حلّته و ركب ناقته و مضى متعرّضا لهنّ ، فألفى ليلى جالسة بفناء بيتها، و كانت معهنّ يومئذ جالسة، و قد علق بقلبها و هويته، و عندها جويريات يحدّثنها، فوقف بهنّ و سلّم، فدعونه إلى النزول و قلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل و لا غيره ؟ قال: إي لعمري، فنزل و فعل فعلته بالأمس، فأرادت أن تعلم هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت/تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة و تحدّث غيره، و قد كان علق حبّها بقلبه و شغفه(5) و استملحها، فبينا هي تحدّثه إذ أقبل فتى من الحيّ فدعته فسارّته سرارا طويلا ثم قالت له انصرف، فانصرف، و نظرت إلى وجه المجنون قد تغيّر و امتقع(6) و شقّ عليه ما فعلت، فأنشأت تقول:
كلانا مظهر للناس بغضا *** و كل عند صاحبه مكين
تبلّغنا العيون مقالتينا *** و في القلبين ثمّ هوى دفين
ص: 347
[قد نسبت هذا الشعر متقدّما(1)] فلما سمع هذين البيتين شهق شهقة عظيمة و أغمي عليه فمكث [كذلك](1) ساعة، و نضحوا الماء على وجهه حتى أفاق، و تمكّن حبّ كلّ واحد منهما في قلب صاحبه و بلغ منه كل مبلغ.
حدثني عمّي عن عبد اللّه بن أبي سعد عن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل القرشي قال حدثنا أبو العالية عن أبي ثمامة الجعدي قال:
لا يعرف فينا مجنون إلا قيس بن الملوّح.
قال: و حدّثني بعض العشيرة قال: قلت لقيس بن الملوّح قبل أن يخالط: ما أعجب شيء أصابك في وجدك بليلى ؟ قال: طرقنا(2) ذات ليلة أضياف و لم يكن عندنا لهم أدم، فبعثني أبي منزل أبي ليلى و قال لي: اطلب [لنا](1)منه أدما، فأتيته فوقفت على خبائه فصحت به، فقال: ما تشاء؟ /فقلت: طرقنا ضيفان و لا أدم عندنا لهم فأرسلني أبي نطلب(3) منك أدما، فقال: يا ليلى، أخرجي إليه ذلك النّحي(4)، فاملئي له إناءه من السمن، فأخرجته و معي قعب(5)، فجعلت تصبّ السمن فيه و نتحدّث، فألهانا(6) الحديث و هي تصبّ السمن و قد امتلأ القعب و لا نعلم جميعا، و هو يسيل استنقعت أرجلنا في السمن، قال: فأتيتهم ليلة ثانية أطلب نارا، و أنا متلفّع ببرد لي، فأخرجت لي نارا في عطبة(7) فأعطتنيها و وقفنا نتحدّث، فلمّا احترقت العطبة خرقت من بردي خرقة و جعلت النار فيها، فكلما(8) احترقت خرقت أخرى و أذكيت بها النار حتى لم يبق عليّ من البرد إلا ما وارى عورتي، و ما أعقل ما أصنع، و أنشدني:
أ مستقبلي نفح الصّبا ثم شائقي *** ببرد ثنايا أمّ حسّان شائق
كأنّ على أنيابها الخمر شجّها(9) *** بماء الندى من آخر الليل عاتق(10)
و ما شمته(11) إلا بعيني تفرّسا *** كما شيم في أعلى السّحابة بارق
ص: 348
و من الناس من يروي هذه الأبيات لنصيب، و لكن هكذا روي في [هذا](1) الخبر.
أخبرنا محمد بن خلف وكيع عن عبد الملك بن محمد الرّقاشيّ (2) عن عبد الصّمد بن المعذّل قال:
سمعت الأصمعيّ يقول - و [قد](3) تذاكرنا مجنون بني عامر - قال: هو قيس ابن معاذ العقيليّ ، ثم قال: لم يكن مجنونا إنما كانت به لوثة، و هو القائل:
أخذت محاسن كلّ ما *** ضنّت محاسنه بحسنه
كاد الغزال يكونها *** لو لا الشّوى و نشوز قرنه
قال: و هو القائل:
(2)
و لم أر ليلى بعد موقف ساعة *** بخيف منى ترمي جمار المحصّب
و يبدي الحصى منها إذا قذفت به *** من البرد أطراف البنان المخصّب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر *** مع الصبح في أعقاب نجم مغرّب
ألا إنّما غادرت يا أمّ مالك *** صدى أينما تذهب به الريح يذهب
في هذه الأبيات لحن من الثقيل الأوّل، ابتداؤه نشيد من صنعة الواثق و هو المشهور. و ذكره ابن المكيّ لأبيه يحيى. و هو في جامع غناء سليم(4) بن سلام له. و ذكره حبش في موضعين من كتابه فنسبه في طريقه الثقيل الأوّل في أحدهما إلى ابن محرز، و الآخر إلى يحيى المكيّ . و زعم الهشاميّ أن فيه لسليم(4) بن سلام لحنا آخر من الثقيل الأوّل.
/أخبرنا الحسن(5) بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن عبد الجبّار الصّوفيّ قال حدّثني إبراهيم بن سعد الزّهريّ قال:
أتاني رجل من عذرة لحاجة، فجرى ذكر العشق و العشّاق، فقلت له: أنتم أرقّ قلوبا أم بنو عامر؟ قال: إنّا لأرقّ الناس قلوبا، و لكن غلبتنا بنو عامر بمجنونها.
أخبرني أحمد بن عمر بن موسى بن زكويه(6) القطّان إجازة قال حدّثنا إبراهيم بن المنذر الحراميّ قال أخبرني عبد الجبار بن سليمان بن نوفل بن مساحق عن أبيه عن جدّه قال: أنا رأيت مجنون بني عامر، و كان جميل الوجه أبيض
ص: 349
اللون قد علاه شحوب(1)، و استنشدته فأنشدني قصيدته التي يقول فيها:
تذكّرت ليلى و السّنين الخواليا *** و أيام لا أعدي(2) على اللّهو(3) عاديا
أخبرني محمد بن الحسن الكندي خطيب مسجد القادسية قال حدّثنا الرّياشيّ قال: سمعت أبا عثمان المازنيّ يقول: سمعت معاذا و بشر بن المفضّل جميعا ينشدان هذين البيتين و ينسبانهما لمجنون بني عامر:
طمعت بليلى أن تريع(4) و إنّما *** تقطّع(5) أعناق الرجال المطامع
و داينت ليلى في خلاء و لم يكن *** شهود على ليلى عدول مقانع(6)
/و حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا أبو خليفة [الفضل بن الحباب](7) عن ابن سلاّم قال: قضى عبيد(8) اللّه الحسن بن الحصين بن أبي الحرّ(9) العنبريّ على رجل من قومه قضيّة أوجبها الحكم عليه، و ظنّ العنبريّ أنه تحامل عليه و انصرف مغضبا، ثم لقيه في طريق، فأخذ بلجام بغلته و كان شديدا أيّدا(10)، ثم قال له: إيه يا عبيد اللّه(11)!
طمعت بليلى أن تريع و إنّما *** تقطّع أعناق الرجل المطامع
فقال عبيد اللّه(8):
و بايعت ليلى في خلاء و لم يكن *** شهود عدول عند ليلى مقانع
خلّ عن البغلة. قال الصّوليّ في خبره هذا: و البيتان للبعيث(12) هكذا، قال: فلا أدري أ من قوله هو أم حكاية عن أبي خليفة!.
أخبرنا محمد بن القاسم الأنباريّ عن عبد اللّه بن خلف الدلاّل قال حدّثنا زكريا بن موسى عن شعيب بن السّكن عن يونس النحويّ قال:
ص: 350
لما اختلط عقل قيس بن الملوّح و ترك الطعام و الشراب، مضت أمّه إلى ليلى فقالت لها: إنّ قيسا قد ذهب حبّك بعقله، و ترك الطعام و الشراب، فلو جئته وقتا لرجوت أن يثوب إليه [بعض](1) عقله، فقالت ليلى: أمّا نهارا فلا [لأنّني لا](1) /آمن قومي على نفسي و لكن ليلا، فأتته ليلا فقالت له: يا قيس، إنّ أمّك تزعم أنك جننت من أجلي و تركت المطعم و المشرب، فاتق اللّه و أبق على نفسك، فبكى و أنشأ يقول:
قالت جننت على أيش(2) فقلت لها *** الحبّ أعظم ممّا بالمجانين
الحبّ ليس يفيق الدهر صاحبه *** و إنما يصرع المجنون في الحين
قال: فبكت معه، و تحدّثا حتى كاد الصبح أن يسفر، ثم ودعته و انصرفت، فكان آخر عهده بها.
أخبرنا ابن المرزبان قال قال القحذميّ : لمّا قال المجنون:
قضاها لغيري و ابتلاني بحبّها *** فهلاّ بشيء غير ليلى ابتلانيا
سلب عقله. الغناء لحكم ثقيل أوّل، و قيل إنه لابن الهربذ(3). و فيه لمتيّم خفيف ثقيل أوّل من جامع أغانيها(4). و حدّثني جحظة بهذا الخبر عن ميمون بن هارون أنه بلغه أنه لما قال هذا البيت برص.
أخبرني الحسن بن عليّ [قال حدّثنا محمد بن طاهر](5) القرشيّ عن ابن عائشة قال: إنما سمي المجنون بقوله:
ما بال قلبك يا مجنون قد خلعا *** في حبّ من لا ترى في نيله طمعا
الحبّ و الودّ نيطا بالفؤاد لها *** فأصبحا في فؤادي ثابتين معا
حدّثنا وكيع عن ابن(6) يونس قال قال الأصمعيّ : لم يكن المجنون، إنما جنّنه العشق، و أنشد له:
ص: 351
يسمّونني
المجنون حين يرونني *** نعم بي من ليلى الغداة جنون
ليالي يزهى بي(1) شباب و شرّة(2)*** و إذ بي من خفض المعيشة لين
أخبرني محمد بن المرزبان عن إسحاق بن محمد بن أبان قال حدّثني عليّ بن سهل عن المدائنيّ : أنه ذكر عنده مجنون بني عامر فقال: لم يكن مجنونا، و إنما قيل له المجنون بقوله:
و إنّي لمجنون بليلى موكّل *** و لست عزوفا(3) عن هواها و لا جلدا
إذا ذكرت ليلى بكيت صبابة *** لتذكارها حتى يبلّ البكا الخدّا
أخبرني عمر بن جميل العتكيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا عون بن عبد اللّه العامريّ أنه قال: ما كان و اللّه المجنون الذي تعزونه إلينا مجنونا، إنما كانت به لوثة و سهو أحدثهما(4) به حبّ ليلى، و أنشد له:
/و بي من هوى ليلى الذي لو أبثّه *** جماعة أعدائي بكت لي عيونها
أرى النفس عن ليلى أبت أن تطيعني *** فقد جنّ من وجدي(5) بليلى جنونها
أخبرني ابن المرزبان قال قال العتبيّ : إنما سمي المجنون بقوله:
يقول أناس علّ مجنون عامر *** يروم سلوّا قلت أنّى لما بيا
و قد لا مني في حبّ ليلى أقاربي(6) *** أخي و ابن عمّي و ابن خالي و خاليا
يقولون ليلى أهل بيت عداوة *** بنفسي ليلى من عدوّ و ماليا
و لو كان في ليلى شذا(7) من خصومة *** للوّيت أعناق المطيّ (8) الملاويا(9)
أخبرني هاشم [بن محمد](10) الخزاعيّ عن عيسى بن إسماعيل قال قال ابن سلاّم: لو حلفت أن مجنون بني عامر لم يكن مجنونا لصدقت، و لكن تولّه(11) لما زوّجت ليلى و أيقن اليأس منها، أ لم تسمع إلى قوله:
ص: 352
/أيا ويح من
أمسى تخلّس عقله *** فأصبح مذهوبا به كلّ مذهب
خليعا(1) من الخلاّن إلا مجاملا(2)*** يساعدني من كان يهوى تجنّبي
إذا ذكرت ليلى عقلت و راجعت *** عوازب قلبي من هوى متشعّب
[أخبرني به الحسن بن علي عن دينار بن عامر التغلبيّ عن مسعود بن سعد عن ابن سلاّم و نحوه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أنشدني صالح بن سعيد قال أنشدني يعقوب بن السّكّيت للمجنون.
يسمونني المجنون حين يرونني *** نعم بي من ليلى الغداة جنون](3)
قال: و أنشدنا له أيضا:
و شغلت عن فهم الحديث سوى *** ما كان فيك فإنه(4) شغلي
و أديم لحظ محدّثي ليرى *** أن قد فهمت و عندكم عقلي
أخبرني ابن المرزبان عن محمد بن الحسن دينار الأحول عن عليّ بن المغيرة الأثرم عن أبي عبيدة:
/أنّ صاحبة مجنون بني عامر التي كلف بها ليلى بنت مهديّ بن سعد بن مهديّ [بن ربيعة](5) بن الحريش، و كنيتها أمّ مالك، و قد ذكر هذه الكنية المجنون في شعره فقال:
تكاد بلاد اللّه يا أمّ مالك *** بما رحبت يوما عليّ تضيق
و قال أيضا:
فإنّ الذي أمّلت من أمّ مالك *** أشاب قذالي(6) و استهام فؤاديا
خليليّ إن دارت على أمّ مالك *** صروف اللّيالي فابغيا لي ناعيا(7)
و قال أبو عمرو الشيبانيّ : علق المجنون ليلى بنت مهديّ بن سعد من بني الحريش، و كنيتها أمّ مالك، فشهر بها و عرف خبره فحجبت عنه، فشقّ ذلك عليه فخطبها إلى أبيها فردّه و أبى أن يزوّجه إياها، فاشتدّ به الأمر حتى جنّ
ص: 353
و قيل له: «مجنون بني عامر»، فكان على حاله(1) يجلس في نادي قومه فلا يفهم ما يحدّث به و لا يعقله(2) إلا إذا ذكرت ليلى. و أنشد له أبو عمرو:
الرائية
ألا ما لليلى لا ترى عند مضجعي *** بليل و لا يجري بذلك طائر
بلى إنّ عجم الطير تجري إذا جرت *** بليلى و لكن ليس للطير زاجر
أزالت عن العهد الذي كان بيننا *** بذي الأثل(3) أم قد غيّرتها المقادر
/فو اللّه ما في القرب لي منك راحة *** و لا البعد يسليني و لا أنا صابر
و و اللّه ما أدري بأيّة حيلة *** و أيّ مرام أو خطار(4) أخاطر
و تا للّه إنّ الدهر في ذات بيننا *** عليّ لها في كلّ حال لجائر
فلو كنت إذ أزمعت هجري تركتني *** جميع(5) القوى و العقل منّي وافر
و لكنّ أيامي بحقل(6) عنيزة *** و بالرّضم أيام جناها التّجاور
و قد أصبح الودّ الذي كان بيننا *** أمانيّ نفس و المؤمّل حائر
لعمري لقد رنّقت(7) يا أمّ مالك *** حياتي و ساقتني إليك المقادر
قال أبو عمرو: و أخبرني بعض الشاميين قال: دخلت أرض بني عامر، فسألت عن المجنون الذي قتله الحبّ ، فخبّروني عنه أنه كان عاشقا لجارية منهم يقال لها ليلى، ربا معها ثم حجبت عنه، فاشتدّ ذلك عليه و ذهب عقله، فأتاه إخوان من إخوانه يلومونه على ما يصنع(8) بنفسه، فقال:
يا صاحبيّ ألمّا بي بمنزلة *** قد مرّ حين عليها أيّما حين
في كل منزلة ديوان معرفة *** لم يبق باقية ذكر الدواوين
ص: 354
إني أرى رجعات الحبّ تقتلني *** و كان في بدئها ما كان يكفيني
الغناء لا بن جامع خفيف ثقيل.
أخبرني هاشم الخزاعيّ عن [العباس(1) بن الفرج] الرّياشيّ قال:
ذكر العتبيّ عن أبيه قال: كان المجنون في بدء أمره يرى ليلى و يألفها و يأنس بها ثم غيّبت عن ناظره، فكان أهله يعزّونه عنها و يقولون: نزوّجك أنفس جارية في عشيرتك، فيأبى إلا ليلى و يهذي بها(2) و يذكرها [فكان ربّما استراح إلى أمانيّهم و ركن إلى قولهم](3)، و كان ربما هاج عليه الحزن و الهمّ فلا يملك(4) ممّا هو فيه أن يهيم على وجهه، و ذلك قبل أن يتوحّش مع البهائم في القفار، فكان قومه يلومونه و يعذلونه، فأكثروا عليه في الملامة و العذل يوما فقال:
يا للرّجال لهمّ بت يعروني *** مستطرف و قديم(5) كان يعنيني
على غريم(6) مليء غير ذي عدم(7) *** يأبى فيمطلني ديني و يلويني(8)
لا يذكر البعض من ديني فينكره(9) *** و لا يحدّثني أن سوف يقضيني
و ما كشكري شكر لو يوافقني(10) *** و لا منى كمناه إذ يمنّيني
أطعته و عصيت الناس كلّهم *** في أمره ثم يأبى فهو يعصيني
خيري لمن يبتغي خيري و يأمله *** من دون شرّي و شرّي غير مأمون
و ما أشارك في رأيي أخا ضعف(11) *** و لا أقول أخي من لا يواتيني(12)
ص: 355
في هذه الأبيات هزج طنبوريّ للمسدود من جامعه.
و قال أبو عمرو الشّيبانيّ : حدّثني رباح(1) العامريّ قال: كان المجنون أوّل ما علق(2) ليلى كثير الذّكر لها و الإتيان بالليل إليها، و العرب ترى ذلك غير منكر أن يتحدّث الفتيان إلى الفتيات، فلما علم أهلها بعشقه لها منعوه من إتيانها و تقدّموا إليه(3)، فذهب لذلك عقله و يئس(4) منه قومه و اعتنوا(5) بأمره، و اجتمعوا إليه و لاموه و عذلوه على ما يصنع بنفسه، و قالوا: و اللّه ما هي لك بهذه الحال، فلو تناسيتها رجونا أن تسلو قليلا، فقال لمّا سمع مقالتهم و قد غلب عليه البكاء:
فوا كبدا(6) من حب من لا يحبّني *** و من زفرات ما لهنّ فناء
أريتك(7) إن لم أعطك الحبّ عن يد(8) *** و لم يك عندي إذ أبيت إباء
أ تاركتي للموت أنت فميّت *** و ما للنفوس الخائفات بقاء
ثم أقبل على القوم فقال: إنّ الذي بي ليس بهيّن، فأقلّوا من ملامكم فلست بسامع فيها و لا مطيع لقول قائل.
أخبرني عمّي و محمد بن حبيب(9) و ابن المرزبان عن عبد اللّه بن أبي سعد عن عبد العزيز صالح عن أبيه عن ابن دأب عن رباح(10) بن حبيب العامريّ :
أنه سأله عن حال المجنون و ليلى، فقال: كانت ليلى من بني الحريش و هي بنت مهديّ بن سعيد(11) بن مهديّ بن ربيعة بن الحريش، و كانت من أجمل النساء و أظرفهنّ و أحسنهنّ جسما و عقلا و أفضلهنّ أدبا و أملحهن شكلا، و كان المجنون كلفا بمحادثة النساء صبّا بهنّ ، فبلغه خبرها و نعتت له، فصبا إليها و عزم على زيارتها، فتأهب لذلك و لبس أفضل ثيابه و رجّل جمّته و مسّ طيبا كان عنده، و ارتحل ناقة له كريمة برحل حسن و تقلّد سيفه و أتاها،
ص: 356
فسلّم فردّت عليه السّلام و تحفّت في المسألة(1)، و جلس إليها فحادثته و حادثها فأكثرا، و كلّ واحد منهما مقبل على /صاحبه معجب به، فلم يزالا كذلك حتى أمسيا، فانصرف إلى أهله فبات بأطول ليلة شوقا إليها، حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى، ثم انصرف إلى أهله فبات بأطول من ليلته الأولى و اجتهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك، فانشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا *** لي الليل هزّتني إليك المضاجع
أقضّي نهاري بالحديث و بالمنى *** و يجمعني و الهمّ بالليل جامع
لقد ثبتت في القلب منك محبّة *** كما ثبتت في الراحتين الأصابع(2)
- عروضه من الطويل، و الغناء لإبراهيم الموصليّ رمل بالوسطى عن عمرو - قال: و أدام زيارتها و ترك من يأتيه فيتحدّث إليه غيرها، و كان يأتيها في كلّ يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع حتى إذا أمسى انصرف، فخرج ذات يوم يريد زيارتها فلما قرب من منزلها لقيته جارية عسراء(3) فتطير منها، و أنشأ يقول:
و كيف يرجّى وصل ليلى و قد جرى *** بجدّ(4) القوى و الوصل أعسر حاسر(5)
صديع(6) العصا صعب المرام إذا انتحى(7) *** لوصل امرئ جدّت عليه الأواصر(8)
/ثم سار إليها في غد فحدّثها بقصته و طيرته ممن لقيه، و أنه يخاف تغيّر عهدها و انتكاثه و بكى، فقالت:
لا ترع(9)، حاش للّه من تغيّر عهدي، لا يكون و اللّه ذلك أبدا إن شاء اللّه، فلم يزل عندها يحادثها(10) بقية يومه، و وقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه، فجاءها يوما كما كان يجيء، و أقبل يحدّثها فأعرضت عنه، و أقبلت على غيره بحديثها، تريد بذلك محنته و أن تعلم ما في قلبه، فلما رأى ذلك جزع جزعا شديدا حتى بان في وجهه و عرف فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمسرّة إليه فقالت:
كلانا مظهر للناس بغضا *** و كلّ عند صاحبه مكين
فسرّي(11) عنه و علم ما في قلبها، فقالت له: إنما أردت أن أمتحنك و الذي لك عندي أكثر من الذي لي
ص: 357
عندك، و أعطي اللّه عهدا إن جالست بعد يومي هذا رجلا سواك حتى أذوق الموت إلا أن أكره على ذلك، قال:
فانصرفت(1) عنه و هو من أشدّ الناس سرورا و أقرّهم عينا، و قال:
أظنّ هواها تاركي بمضلّة(2) *** من الأرض لا مال لديّ و لا أهل
و لا أحد أفضي(3) إليه وصيّتي *** و لا صاحب إلا المطيّة و الرّحل
محا حبّها حبّ الألى كنّ قبلها *** و حلّت مكانا لم يكن حلّ من قبل
أخبرني جعفر(4) بن قدامة عن أبي العيناء عن العتبيّ قال:
/لما حجبت ليلى عن المجنون خطبها جماعة فلم يرضهم أهلها، و خطبها رجل من ثقيف(5) موسر فزوّجوه و أخفوا ذلك عن المجنون ثم نمي إليه طرف منه لم يتحقّقه، فقال:
دعوت إلهي دعوة ما جهلتها *** و ربّي بما تخفي الصدور بصير(6)
لئن كنت تهدي(7) برد أنيابها العلا *** لأفقر منّي إنّني لفقير
فقد شاعت الأخبار أن قد تزوّجت *** فهل يأتينّي بالطلاق بشير
و قال أيضا:
ألا تلك ليلى العامريّة أصبحت *** تقطّع إلا من ثقيف حبالها
هم حبسوها محبس البدن و ابتغى *** بها المال أقوام ألا قلّ مالها
إذا التفتت(8) و العيس صعر(9) من البرى *** بنخلة جلّت عبرة العين حالها
قال: و جعل يمرّ بيتها فلا يسأل عنها و لا يلتفت إليه(10)، و يقول إذا جاوزه:
ص: 358
ألا أيّها البيت الذي لا أزوره *** و إن حلّه شخص إليّ حبيب
هجرتك إشفاقا و زرتك خائفا *** و فيك عليّ الدهر منك رقيب
سأستعتب الأيام فيك لعلّها *** بيوم سرور في الزمان تئوب
الغناء لعريب ثاني ثقيل بالوسطى. قال: و بلغه أن أهلها يريدون نقلها إلى الثّقفيّ فقال:
كأنّ القلب ليلة قيل يغدى *** بليلى العامريّة أو يراح
قطاة عزّها(1) شرك فباتت *** تجاذبه و قد علق الجناح
- عروضه من الوافر. الغناء لابن المكيّ خفيف ثقيل [أوّل](2) بالوسطى في مجراها عن إسحاق، و فيه خفيف ثقيل آخر لسليمان مطلق في مجرى البنصر، و فيه لإبراهيم رمل بالوسطى في مجراها عن الهشاميّ - قال: فلما نقلت [ليلى](2) إلى الثّقفيّ قال.
طربت و شاقتك الحمول(3) الدّوافع *** غداة دعا بالبين أسفع(4) نازع
شحا(5) فاه نعبا(6) بالفراق كأنه *** حريب(7) سليب نازح الدار جازع
/فقلت ألا قد بيّن(8) الأمر فانصرف *** فقد راعنا بالبين قبلك رائع
سقيت سموما(9) من غراب فإنّني *** تبيّنت ما خبّرت مذ أنت واقع(10)
أ لم تر أنّي لا محبّ ألومه *** و لا ببديل بعدهم أنا قانع
[أ لم تر دار الحيّ في رونق الضحى *** بحيث انحنت للهضبتين الأجارع](11)
ص: 359
و قد
يتناءى الإلف من بعد ألفة *** و يصدع ما بين الخليطين صادع
و كم من هوى(1) أو جيرة قد ألفتهم *** زمانا فلم يمنعهم البين مانع(2)
كأنّي غداة البين ميّت جوبة(3)*** أخو ظمإ سدّت عليه المشارع
تخلّس(4) من أوشال(5) ماء صبابة *** فلا الشّرب مبذول و لا هو ناقع(6)
و بيض تطلّى بالعبير كأنها *** نعاج الملا(7) جيبت(8) عليها البراقع
تحملنّ من وادي(9) الأراك فأومضت(10)*** لهنّ بأطراف العيون المدامع
/فما رمن(11) ربع الدار حتى تشابهت *** هجائنها(12) و الجون منها الخواضع(13)
و حتى حلمن الحور(14) من كلّ جانب *** و خاضت سدول(15) الرّقم منها الأكارع(16)
فلما استوت تحت الخدور و قد جرى *** عبير و مسك بالعرانين رادع(17)
أشرن بأن حثّوا الجمال فقد بدا *** من الصيف يوم لافح الحرّ ماتع(18)
ص: 360
فلمّا لحقنا بالحمول تباشرت *** بنا مقصرات(1) غاب عنها المطامع(2)
يعرّضن(3) بالدّلّ المليح و إن يرد *** جناهنّ مشغوف فهنّ موانع
/فقلت لأصحابي و دمعي مسبل *** و قد صدع الشمل المشتّت صادع
أ ليلى بأبواب الخدور تعرّضت *** لعيني أم قرن من الشمس طالع
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا الهيثم بن فراس قال حدّثني العمريّ عن الهيثم بن عديّ :
أنّ أبا المجنون حجّ به ليدعو اللّه عزّ و جلّ في الموقف أن يعافيه، فسار و معه(4) ابن عمه زياد بن كعب بن مزاحم، فمرّ بحمامة تدعو(5) على أيكة فوقف يبكي، فقال له زياد: أيّ شيء هذا؟ ما يبكيك أيضا؟ سر بنا نلحق الرّفقة، فقال:
أ أن هتفت يوما بواد حمامة *** بكيت و لم يعذرك بالجهل عاذر
دعت ساق حرّ(6) بعد ما علت الضّحى *** فهاج لك الأحزان أن ناح طائر
تغنّي(7) الضّحى و الصّبح في مرجحنة(8) *** كثاف الأعالي تحتها الماء حائر(9)
كأن لم يكن بالغيل(10) أو بطن أيكة(11) *** أو الجزع(12) من تول(13) الأشاءة حاضر
/يقول زياد إذ(14) رأى الحيّ هجّروا(15) *** أرى الحيّ قد ساروا فهل أنت سائر
ص: 361
و إنّي و إن غال(1) التقادم حاجتي *** ملم على أوطان ليلى فناظر(2)
أخبرني [محمد بن مزيد](3) بن أبي الأزهر عن الزّبير عن محمد بن عبد اللّه البكري عن موسى بن جعفر بن أبي كثير و أخبرني عمي عن [عبد اللّه](3) بن شبيب عن [هارون بن موسى](3) الفرويّ (4) عن موسى بن جعفر بن أبي كثير و أخبرني ابن المرزبان عن ابن الهيثم عن العمريّ عن العتبيّ قالوا جميعا:
كان المجنون و ليلى و هما صبيّان يرعيان غنما لأهلها عند جبل في بلادهما يقال له التّوباد(5)، فلما ذهب عقله و توحّش، كان يجيء إلى ذلك الجبل فيقيم به، فإذا تذكر أيام كان يطيف هو و ليلى به جزع جزعا شديدا و استوحش فهام على وجهه حتى يأتى نواحي الشام، فإذا ثاب إليه عقله رأى بلدا لا يعرفه فيقول للناس الذين يلقاهم: بأبي أنتم، أين التّوباد من أرض بني عامر؟ فيقال له: و أين أنت من أرض بني عامر! أنت بالشأم عليك بنجم كذا فأمّه، فيمضي على وجهه نحو ذلك النجم حى يقع بأرض اليمن، فيرى بلادا ينكرها و قوما لا يعرفهم فيسألهم عن التّوباد/و أرض بني عامر، فيقولون:
و أين أنت من أرض بني عامر! عليك بنجم كذا و كذا، فلا يزال كذلك حتى يقع على التّوباد، فإذا رآه قال في ذلك:
و إني لأبكي اليوم من حذري غدا *** فراقك و الحيّان مجتمعان(1)
سجالا و تهتانا(2) و وبلا و ديمة *** و سحّا و تسجاما(3) إلى هملان(4)
أخبرني(5) عمّي عن [عبد اللّه](6) بن شبيب عن هارون بن موسى الفرويّ عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: لما قال المجنون:
خليليّ لا و اللّه لا أملك الذي *** قضى اللّه في ليلى و لا ما قضى ليا
قضاها لغيري و ابتلاني بحبّها *** فهلاّ بشيء غير ليلى ابتلانيا
سلب عقله.
و حدّثني جحظة عن ميمون بن هارون عن إسحاق الموصليّ أنه لما قالهما برص.
قال موسى بن جعفر في خبره المذكور: و كان المجنون يسير مع أصحابه فسمع صائحا يصيح: يا ليلى في ليلة ظلماء أو توهّم ذلك، فقال لبعض من معه: أ ما تسمع هذا الصوت ؟ فقال: ما سمعت شيئا، قال: بلى، و اللّه هاتف يهتف بليلى، ثم أنشأ يقول:
أقول لأدنى صاحبيّ كليمة *** أسرّت من الأقصى أجب ذا المناديا
إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتني *** أصانع رحلي(7) أن يميل حياليا
يمينا إذا كانت يمينا و إن تكن *** شمالا ينازعني الهوى عن شماليا
و قال ابن شبيب و حدّثني هارون بن موسى قال: قلت لغرير(8) بن طلحة المخزوميّ : من أشعر الناس ممن
ص: 363
قال شعرا في منى و مكة و عرفات ؟ فقال: أصحابنا القرشيّون، و لقد أحسن المجنون حيث يقول:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى *** فهيّج أحزان(1) الفؤاد و ما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما *** أطار بليلى طائرا كان في صدري
فقلت له: هل تروي للمجنون غير هذا؟ قال: نعم، و أنشدني له:
أما و الذي أرسى ثبيرا مكانه *** عليه السّحاب فوقه يتنصّب(2)
و ما سلك الموماة(3) من كلّ جسرة(4) *** طليح(5) كجفن السّيف تهوي فتركب
لقد عشت من ليلى زمانا أحبّها *** أخا الموت إذ بعض المحبين يكذب
/أخبرني محمد بن مزيد عن حماد [بن إسحاق](6) عن أبيه قال: كانت كنية ليلى أمّ عمرو، و أنشد للمجنون:
أبى القلب إلا حبّه عامريّة *** لها كنية عمرو و ليس لها عمرو
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها *** و ينبت في أطرافها الورق الخضر
الغناء لعريب ثقيل أوّل، و قال حبش: فيه لإسحاق خفيف ثقيل.
فقد حبسوها محبس البدن و ابتغى *** بها الريح أقوام تساحت(1) مالها
خليليّ هل من حيلة تعلمانها *** يدنّي لنا تكليم ليلى احتيالها
فإن أنتما لم تعلماها فلستما *** بأول باغ حاجة لا ينالها
كأنّ مع الركب الذين اغتدوا بها *** غمامة صيف زعزعتها شمالها
/نظرت بمفضى سيل جوشن(2) إذ غدوا(3) *** تخبّ بأطراف المخارم(4) آلها
بشافية(5) الأحزان هيّج شوقها *** مجامعة الألاّف ثم زيالها
إذا التفتت من خلفها و هي تعتلي *** بها العيس جلّى عبرة العين حالها
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي نصر أحمد بن حاتم قال:
و أنشدناه المبرّد للمجنون فقال:
و أحبس عنك النفس و النفس صبّة *** بذكراك و الممشى إليك قريب
مخافة أن تسعى الوشاة بظنّة *** و أحرسكم أن يستريب مريب
فقد جعلت نفسي - و أنت اجترمته *** و كنت أعزّ الناس - عنك تطيب
فلو شئت لم أغضب عليك و لم يزل *** لك الدهر منّي ما حييت نصيب
أما و الذي يبلو(6) السرائر كلّها *** و يعلم ما تبدي به و تغيب
لقد كنت ممن تصطفي النفس(7) خلّة *** لها دون خلاّن الصّفاء حجوب
/ذكر يحيى المكّيّ أنه لابن سريح ثقيل أوّل، و قال الهشاميّ : إنه من منحول يحيى إليه.
ص: 365
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني الحسن(1) بن محمد بن طالب الدّيناري قال حدّثني إسحاق الموصليّ ، و أخبرني به محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني سعيد بن سليمان عن أبي الحسن الببّغاء قال:
بينا أنا و صديق لي من قريش نمشي بالبلاط(2) ليلا، إذا بظلّ نسوة في القمر، فسمعت إحداهنّ تقول: أ هو هو؟ فقالت لها أخرى(3) معها: أي و اللّه إنه لهو هو! فدنت منّي ثم قالت: يا كهل، قل لهذا الذي معك:
ليست لياليك في خاخ(4) بعائدة *** كما عهدت و لا أيام ذي سلم
فقلت: أجب فقد سمعت، فقال: قد و اللّه قطع بي و أرتج عليّ فأجب عنّي، فقلت(5):
فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة *** إذا وطّنت يوما لها النفس ذلّت
ثم مضينا حتى إذا كنا بمفرق طريقين مضى الفتى إلى منزله و مضيت إلى منزلي، فإذا أنا بجويرية تجذب ردائي فالتفتّ ، فقالت لي: المرأة التي كلمتها تدعوك، فمضيت معها حتى دخلت دارا واسعة ثم صرت إلى بيت فيه حصير، و قد ثنت لي وسادة فجلست عليها، ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها، ثم جاءت المرأة فجلست حصير، و قد ثنت لي وسادة فجلست عليها، ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها، ثم جاءت المرأة فجلست عليها، فقالت لي: أنت المجيب ؟ قلت: نعم، قالت: ما كان أفظّ لجوابك/و أغلظه! فقلت لها: ما حضرني غيره، فسكتت، ثم قالت: لا، و اللّه ما خلق اللّه خلقا أحبّ إليّ من إنسان كان معك! فقلت لها: أنا الضامن لك عنه ما تحبّين، فقالت: هيهات أن يقع بذلك وفاء، فقلت: أنا الضامن و عليّ أن آتيك به في الليلة القابلة فانصرفت، فإذا الفتى ببابي، فقلت: ما جاء بك ؟ قال: ظننت أنها سترسل إليك و سألت عنك فلم أعرف لك خبرا، فظننت أنك عندها، فجلست أنتظرك، فقلت له: و قد كان الذي ظننت، و قد وعدتها أن آتيك فأمضي بك إليها في الليلة المقبلة، فلما أصبحنا تهيأنا و انتظرنا المساء، فلما جاء الليل رحلنا إليها، فإذا الجارية منتظرة لنا، فمضت أمامنا حين رأتنا حتى دخلت تلك الدار و دخلنا معها، فإذا رائحة طيبة و مجلس قد أعدّ و نضّد، فجلسنا على وسائد قد ثنيت [لنا](6)، و جلست مليا ثم أقبلت عليه فعاتبته مليّا ثم قالت:
و أنت الذي أخلفتني ما وعدتني *** و أشمت بي من كان فيك يلوم
و أبرزتني للناس ثم تركتني *** لهم غرضا أرمى و أنت سليم
ص: 366
فلو كان قول يكلم الجلد قد بدا *** بجلدي من قول الوشاة كلوم
هذه الأبيات لأميمة(1) امرأة ابن الدّمينة، و فيها غناء لإبراهيم الموصليّ ذكره إسحاق و لم يجنّسه. و قال الهشاميّ : هو خفيف رمل. و فيه لعريب خفيف ثقيل أوّل ينسب إلى حكم الوادي و إلى يعقوب. قال: ثم سكتت و سكت الفتى هنيهة ثم قال:
غدرت و لم أغدر و خنت و لم أخن *** و في بعض هذا للمحبّ عزاء
جزيتك ضعف الودّ ثم صرمتني *** فحبّك من قلبي إليك أداء
/فالتفتت إليّ فقالت: أ لا تسمع ما يقول! قد خبرتك، فغمزته أن كفّ فكفّ ، ثم أقبلت عليه و قالت:
تجاهلت وصلي حين جدّت(2) عمايتي *** فهلا صرمت الحبل إذ أنا أبصر
و لي من قوى الحبل الذي قد قطعته *** نصيب و إذ رأيي جميع موفّر
و لكنما آذنت بالصّرم بغتة *** و لست على مثل الذي جئت أقدر
- الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو - فقال:
لقد جعلت نفسي - و أنت اجترمته *** و كنت أعزّ الناس - عنك تطيب
قال: فبكت، ثم قالت: أو قد طابت نفسك! لا، و اللّه ما فيك بعدها خير، ثم التفتت إليّ و قالت: قد علمت أنك لا تفي بضمانك و لا يفي به عنك. و هذا البيت الأخير للمجنون، و إنما ذكر هذا الخبر هنا و ليس من أخبار المجنون لذكره فيه.
و بالجزع(1) من أعلى الجنيبة(2) منزل *** شجا حزن صدري به متضايق
كأني إذا لم ألق ليلى معلّق *** بسبّين(3) أهفوا(4) بين سهل و حالق(5)
على أنني لو شئت هاجت صبابتي *** عليّ رسوم عيّ فيها التّناطق
لعمرك إن الحبّ يا أمّ مالك *** بقلبي براني اللّه منه للاصق
يضمّ عليّ الليل أطراف حبّكم *** كما ضمّ أطراف القميص البنائق
و ما ذا عسى الواشون أن يتحدّثوا *** سوى أن يقولوا إنني لك عاشق
نعم صدق الواشون أنت حبيبة *** إليّ و إن لم تصف منك الخلائق
الغناء لمتيّم ثقيل أوّل من جامعها. و فيه لدعامة رمل عن حبش.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني أحمد بن الطّيّب قال قال ابن الكلبيّ : دخلت ليلى على جارة لها من عقيل و في يدها مسواك تستاك به، فتنفّست ثم قالت: سقى اللّه من أهدى لي هذا/المسواك؛ فقالت لها جارتها:
من هو(6)؟ قالت: قيس بن الملوّح، و بكت ثم نزعت ثيابها تغتسل؛ فقالت: ويحه! لقد/علق منّى ما أهلكه من غير أن أستحقّ ذلك، فنشدتك اللّه، أصدق في صفتي أم كذب ؟ فقالت: لا و اللّه، بل صدق؛ قال: و بلغ المجنون قولها فبكى ثم أنشأ يقول:
نبئت ليلى و قد كنّا نبخّلها *** قالت سقى المزن(7) غيثا منزلا خربا
و حبّذا راكب كنّا نهشّ به *** يهدي لنا من أراك الموسم القضبا
قالت لجارتها يوما تسائلها *** لمّا استحمّت و ألقت عندها السّلبا(8)
يا عمرك اللّه ألاّ(9) قلت صادقة *** أصدقت صفة المجنون أم كذبا
و يروى: «نشدتك اللّه» و يروى: «أ صادقا وصف المجنون أم كذبا».
ص: 368
و قال أبو نصر في أخباره: لما زوّجت ليلى بالرجل الثقفيّ سمع المجنون رجلا من قومها يقول لآخر: أنت ممن يشيّع ليلى ؟ قال: و متى تخرج ؟ قال: غدا، ضحوة أو الليلة، فبكى [المجنون](1) ثم قال:
كأنّ القلب ليلة قيل يغدى *** بليلى العامريّة أو يراح
قطاة عزّها شرك فباتت *** تجاذبه و قد علق الجناح
الغناء ليحيى المكيّ خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو، و فيه رمل ينسب إلى إبراهيم و إلى أحمد بن يحيى المكيّ ؛ و قال حبش: فيه خفيف ثقيل [بالوسطى](1) لسليم.
و قال الهيثم بن عديّ في خبره. حدّثني عبد اللّه بن عيّاش الهمدانيّ (2) قال حدّثني رجل من بني عامر قال:
مطرنا مطرا شديدا في ربيع ارتبعناه، و دام المطر ثلاثا ثم أصبحنا في اليوم الرابع على صحو و خرج الناس يمشون على الوادي، فرأيت رجلا جالسا حجرة(3) وحده فقصدته، فإذا هو المجنون جالس وحده يبكي فوعظته و كلّمته طويلا و هو ساكت لم يرفع رأسه إليّ ، ثم أنشدني بصوت حزين لا أنساه أبدا و حرقته.
جرى السّيل(4) فاستبكاني السيل إذ جرى *** و فاضت له من مقلتيّ غروب(5)
و ما ذاك إلا حين أيقنت أنه *** يكون بواد أنت فيه(6) قريب
يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى *** إليكم تلقّى طيبكم فيطيب
أظلّ غريب الدار في أرض عامر *** ألا كلّ مهجور هناك غريب
و إن الكثيب الفرد من أيمن الحمى *** إليّ و إن لم آته لحبيب
فلا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر *** حبيبا و لم يطرب إليك حبيب
و أوّل هذه القصيدة - و فيه أيضا غناء -:
ص: 369
ألا أيّها البيت الذي لا أزوره *** و هجرانه منّى إليه ذنوب
هجرتك مشتاقا و زرتك خائفا *** و فيك عليّ الدهر منك(1) رقيب
/سأستعطف الأيام فيك لعلّها *** بيوم سرور في هواك تثيب
/هذه الأبيات في شعر محمد بن أميّة مروية(2)، و رويت هاهنا للمجنون [في هذه القصيدة](3). و فيها لعريب ثقيل أوّل. و لعبد اللّه بن العباس ثاني ثقيل. و لأحمد بن المكيّ خفيف ثقيل:
و أفردت إفراد الطريد و باعدت *** إلى النفس حاجات و هنّ قريب
لئن حال يأس(4) دون ليلى لربّما *** أتى اليأس دون الأمر فهو عصيب(5)
و منّيتني حتى إذا ما رأيتني *** على شرف للناظرين يريب
صددت و أشمت العدوّ بصرمنا *** أثابك يا ليلى الجزاء مثيب
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا محمد بن زكريا الغلاّبيّ قال حدّثنا مهديّ بن سابق قال حدّثنا بعض مشايخ بني عامر أن المجنون مرّ في توحّشه فصادف حيّ ليلى راحلا و لقيها فجأة فعرفها و عرفته فصعق و خرّ مغشيّا على وجهه، و أقبل فتيان من حيّ ليلى فأخذوه و مسحوا التراب عن وجهه، و أسندوه إلى صدورهم و سألوا ليلى أن تقف له وقفة، فرقّت لما رأته به، و قالت: أمّا هذا فلا يجوز أن أفتضح به، و لكن يا فلانة - لأمة لها - اذهبي إلى قيس فقولي له: ليلى تقرأ عليك السلام، و تقول لك: أعزز عليّ بما أنت فيه، و لو وجدت سبيلا إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي منه، فمضت الوليدة إليه و أخبرته بقولها، فأفاق و جلس و قال: أبلغيها/السلام و قولي لها هيهات! إنّ دائي و دوائي أنت، و إنّ حياتي و وفاتي لفي يديك، و لقد وكّلت بي شقاء لازما و بلاء طويلا. ثم بكى و أنشأ يقول:
أقول لأصحابي هي الشمس ضوأها *** قريب و لكن في تناولها بعد
لقد عارضتنا(6) الريح منها بنفحة *** على كبدي من طيب أرواحها برد
فما زلت مغشيّا عليّ و قد مضت *** أناة(7) و ما عندي جواب و لا ردّ
ص: 370
أقلّب بالأيدي و أهلي بعولة(1) *** يفدّونني لو يستطيعون أن يفدوا
و لم يبق إلا الجلد و العظم عاريا *** و لا عظم لي إن دام ما بي و لا جلد
أ دنياي ما لي في انقطاعي و غربتي(2) *** إليك ثواب منك دين و لا نقد
عديني - بنفسي أنت - وعدا فربّما *** جلا كربة المكروب عن قلبه الوعد
و قد يبتلى قوم و لا كبليّتي *** و لا مثل جدّي(3) في الشقاء بكم جدّ
غزتني جنود الحبّ من كلّ جانب *** إذا حان من جند قفول(4) أتى جند
و قال أبو نصر أحمد بن حاتم: كان أبو عمرو المدنيّ (5) يقول قال نوفل بن مساحق: أخبرت عن المجنون أن سبب توحّشه أنه كان يوما بضريّة جالسا وحده إذ ناداه مناد من الجبل:
كلانا يا أخيّ يحبّ ليلى *** بفيّ و فيك من ليلى التراب
/لقد خبلت فؤادك ثم ثنّت *** بقلبي فهو مهموم مصاب
شركتك في هوى من ليس تبدي *** لنا الأيام منه سوى اجتناب(6)
قال: فتنفّس الصّعداء و غشي عليه، و كان هذا سبب توحّشه فلم ير له أثر حتى وجده نوفل/بن مساحق.
قال نوفل: قدمت البادية فسألت عنه، فقيل لي: توحّش و ما لنا به عهد و لا ندري إلى أين صار، فخرجت يوما أ تصيّد الأروى(7)، و معي جماعة من أصحابي، حتى إذا كنت بناحية الحمى إذا نحن بأراكة(8) عظيمة قد بدا منها قطيع من الظباء، فيها شخص إنسان يرى من خلل تلك الأراكة، فعجب أصحابي من ذلك، فعرفته و أتيته و عرفت أنه المجنون الذي أخبرت عنه، فنزلت عن دابتي و تخفّفت من(9) ثيابي و خرجت أمشي رويدا حتى أتيت الأراكة فارتقيت حتى صرت على أعلاها و أشرفت عليه و على الظباء؛ فإذا به و قد تدلّى الشعر على وجهه، فلم أكد أعرفه إلا بتأمّل(10) شديد، و هو يرتعي في ثمر تلك الأراكة، فرفع رأسه فتمثّلت ببيت من شعره:
ص: 371
أ تبكي على ليلى(1) و نفسك باعدت *** مزارك من ليلى و شعباكما معا
قال: فنفرت الظباء، و اندفع في باقي القصيدة ينشدها، فما أنسى حسن نغمته و حسن صوته و هو يقول:
فما حسن أن تأتي الأمر طائعا *** و تجزع أن داعي الصبابة أسمعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها *** عن الجهل بعد الحلم اسبلتا معا
و أذكر أيام الحمى ثم أنثني *** على كبدي من خشية أن تصدّعا
فليست عشيّات الحمى برواجع *** عليك(2) و لكن خلّ عينيك تدمعا(3)
معي كلّ غرّ قد عصى عاذلاته *** بوصل الغواني من لدن أن ترعرعا
إذا راح يمشي في الردائين أسرعت *** إليه العيون الناظرات التطلّعا
قال: ثم سقط مغشيا عليه، فتمثّلت بقوله:
يا دار ليلى بسقط(4) الحيّ قد درست *** إلا الثّمام(5) و إلا موقد النّار
ما تفتأ الدهر من ليلى تموت كذا *** في موقف وقفته أو على دار
أبلى عظامك بعد اللحم ذكركها *** كما ينحّت(6) قدح(7) الشّوحط الباري
فرفع رأسه إليّ و قال: من أنت حيّاك اللّه ؟ فقلت: أنا نوفل بن مساحق، فحيّاني فقلت له: ما أحدثت بعدي في يأسك منها؟ فأنشدني يقول:
ألا حجبت ليلى و آلى أميرها *** عليّ يمينا جاهدا لا أزورها
و أوعدني فيها رجال أبوهم *** أبي و أبوها خشّنت لي صدورها
على غير جرم غير أني أحبّها *** و أنّ فؤادي رهنها و أسيرها
قال: ثم سنحت له ظباء فقام يعدو في أثرها حتى لحقها فمضى معها.
حدّثني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني علي بن الصّبّاح عن ابن الكلبيّ
ص: 372
قال: لما قال مجنون بني عامر:
قضاها لغيري و ابتلاني بحبّها *** فهلاّ بشيء غير ليلى ابتلانيا
نودي في الليل: أنت المتسخّط لقضاء اللّه و المعترض في أحكامه! و اختلس عقله فتوحّش/منذ تلك الليلة و ذهب مع الوحش على وجهه. و هذه القصيدة التي قال فيها هذا البيت من أشهر أشعاره، و الصوت المذكور بذكره أخبار المجنون هاهنا منها. و فيها أيضا عدّة أبيات يغنّى فيها، فمن ذلك:
أعدّ الليالي ليلة بعد ليلة *** و قد عشت دهرا لا أعدّ اللّياليا
أراني إذا صلّيت يمّمت نحوها *** بوجهي و إن كان المصلّى ورائيا
و ما بي إشراك و لكنّ حبّها *** كعود(1) الشجا أعيا الطبيب المداويا
أحبّ من الأسماء ما وافق اسمها *** و أشبهه أو كان منه مدانيا
في هذه الأبيات هزج خفيف لمعان(2) معزفي:
و خبّرتماني أنّ تيماء منزل *** لليلى إذا ما الصيف القى المراسيا
فهذي شهور الصّيف عنّي(3) قد انقضت *** فما للنّوى ترمي بليلى المراميا
في هذين البيتين لحن من الرمل صنعته عجوز عمير الباذغيسي(4) على لحن إسحاق:
أ ماويّ إنّ المال غاد و رائح
و له حديث قد ذكر في أخبار إسحاق. و هذا اللحن إلى الآن يغنّى، لأنه أشهر في أيدي الناس، و إنما هو لحن إسحاق أخذ فجعل على هذه الأبيات و كيد بذلك:
و ما ذا لهم - لا أحسن اللّه حالهم(1) - من الحظّ تصريم ليلى حباليا
فأنت التي(2) إن شئت أشقيت عيشتي *** و إن شئت بعد اللّه أنعمت باليا
و أنت التي ما من صديق و لا عدا *** يرى نضو(3) ما أبقيت إلا رثى ليا
/أ مضروبة ليلى على أن أزورها *** و متّخذ ذنبا لها أن ترانيا
إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتني *** أصانع رحلي(4) أن يميل حياليا
يمينا إذا كانت يمينا و إن تكن *** شمالا ينازعني الهوى عن شماليا
أحبّ من الأسماء ما وافق اسمها *** و أشبهه أو كان منه مدانيا
هي السحر إلا أنّ للسحر رقية *** و إنّي لا ألفي لها الدهر راقيا
و أنشد أبو نصر للمجنون و فيه غناء:
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها *** و ينبت في أطرافها الورق الخضر
أبى القلب إلا حبّها(5) عامريّة *** لها كنية عمرو و ليس لها عمرو
الغناء لعريب ثقيل أوّل، و ذكر الهشاميّ أن فيه لإسحاق خفيف ثقيل.
أخبرني محمد/بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عديّ قال:
أنشدني جماعة من بني عقيل للمجنون يرثي أباه، و مات قبل اختلاطه و توحّشه، فعقر على قبره و رثاه بهذه الأبيات:
عقرت على قبر الملوّح ناقتي *** بذي السّرح لمّا أن جفته(6) أقاربه
و قلت لها كوني عقيرا فإنّني *** غداة غد ماش بالأمس راكبه
/فلا يبعدنك اللّه يا بن مزاحم *** و كلّ امرئ للموت(7) لا بدّ شاربه
ص: 374
فقد كنت طلاّع(1) النّجاد و معطى ال *** جياد و سيفا لا تفلّ مضاربه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن شبيب عن الحزاميّ عن محمد بن معن قال: بلغني أنّ رجلا من بني جعدة بن كعب كان أخا و خلا للمجنون، مرّ به يوما و هو جالس يخطّ في الأرض و يعبث بالحصى، فسلّم عليه و جلس عنده فأقبل يخاطبه و يعظه و يسلّيه، و هو ينظر إليه و يلعب(2) بيده كما كان و هو مفكّر قد غمره ما هو فيه، فلما طال خطابه إياه قال: يا أخي، أ ما لكلامي جواب ؟ فقال له: و اللّه يا أخي ما علمت أنك تكلّمني فاعذرني، فإني كما ترى مذهوب العقل(3) مشترك اللّبّ و بكى، ثم أنشأ يقول:
و شغلت عن فهم الحديث سوى *** ما كان منك فإنه شغلي
و أديم لحظ محدّثي ليرى *** أن قد فهمت و عندكم عقلي
الغناء لعلّويه. و قال الهيثم: مرّ المجنون بواد في أيام الربيع و حمامه يتجاوب فأنشأ يقول:
قال خالد بن حمل(1): حدّثني رجال من بني عامر أنّ زوج ليلى و أباها خرجا في أمر طرق الحيّ إلى مكة، فأرسلت ليلى بأمة لها إلى المجنون فدعته فأقام عندها ليلة فأخرجته في السّحر، و قالت له: سر(2) إليّ في كلّ ليلة ما دام القوم سفرا(3)، فكان يختلف إليها حتى قدموا. و قال فيها في آخر ليلة لقيها و ودّعته:
تمتّع بليلى إنما أنت هامة(4) *** من الهام يدنو كلّ يوم حمامها
تمتّع إلى أن يرجع الركب إنهم *** متى يرجعوا يحرم عليك كلامها
و قال الهيثم: مرض المجنون قبل أن يختلط فعاده قومه و نساؤهم و لم تعده ليلى فيمن عاده، فقال:
ألا ما لليلى لا ترى عند مضجعي *** بليل و لا يجري بها لي طائر
/بلى إنّ عجم الطير تجري إذا جرت *** بليلى و لكن ليس للطير زاجر
أحالت عن العهد الذي كان بيننا *** بذي الرّمث(5) أم قد غيّبتها المقابر
الغناء لسليم ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ .
فو اللّه ما في القرب لي منك راحة *** و لا البعد يسليني و لا أنا صابر
و و اللّه ما أدري بأيّة حيلة *** و أيّ مرام أو خطار أخاطر
و و اللّه إنّ الدهر في ذات بيننا *** عليّ لها في كل أمر لجائر
فلو كنت إذ أزمعت(6) هجري تركتني *** جميع(7) القوى و العقل منّي وافر
و لكنّ أيامي بحفل(8) عنيزة *** و ذي الرّمث أيام جناها التجاور
فقد أصبح الودّ الذي كان بيننا *** أمانيّ نفس إن تخبّر خابر
ص: 376
لعمري لقد أرهقت يا أمّ مالك *** حياتي و ساقتني إليك المقادر
أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن عبد اللّه الأصبهانيّ المعروف بالحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيبانيّ عن أبيه قال: حدّثني بعض بني عقيل قال: قيل للمجنون/أيّ شيء رأيته أحبّ إليك ؟ قال: ليلى، قيل: دع ليلى فقد عرفنا ما(1) لها عندك و لكن سواها، قال: و اللّه ما أعجبني شيء قطّ فذكرت ليلى إلا سقط من عيني و أذهب ذكرها بشاشته عندي، غير أني رأيت ظبيا مرّة فتأملته و ذكرت ليلى فجعل يزداد في عيني حسنا، ثم إنه عارضه ذئب و هرب منه فتبعته حتى خفيا عنّي فوجدت الذئب قد صرعه و أكل بعضه، فرميته بسهم فما أخطأت مقتله، و بقرت بطنه فأخرجت ما أكل منه، ثم جمعته إلى بقية شلوه(2)، و دفنته و أحرقت الذئب، و قلت في ذلك:
أبى اللّه أن تبقى لحيّ بشاشة *** فصبرا على ما شاء اللّه لي صبرا
رأيت غزالا يرتعي وسط روضة *** فقلت أرى ليلى تراءت لنا ظهرا
فيا ظبي كل رغدا هنيئا و لا تخف *** فإنك لي جار و لا ترهب الدهرا
و عندي لكم حصن حصين و صارم *** حسام إذا أعملته أحسن الهبرا(3)
فما راعني إلا و ذئب قد انتحى(4) *** فأعلق في أحشائه الناب و الظّفرا
ففوّقت(5) سهمي في كتوم(6) غمزتها *** فخالط سهمي مهجة الذئب و النّحرا(7)
فأذهب غيظي قتله و شفى جوى *** بقلبي إن الحرّ قد يدرك الوترا
قال أبو نصر: بلغ المجنون قبل توحّشه أنّ زوج ليلى ذكره و عضهه(8) و سبّه و قال: أو بلغ من قدر قيس ابن الملوّح أن يدّعي محبة ليلى و ينوّه باسمها! فقال ليغيظه بذلك:
فإن كان فيكم بعل ليلى فإنّني *** و ذي العرش قد قبّلت فاها ثمانيا
و أشهد عند اللّه أنّي رأيتها *** و عشرون منها إصبعا من ورائيا
أ ليس من البلوى التي لا شوى لها(9) *** بأن زوّجت كلبا و ما بذلت ليا
ص: 377
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد قال حدّثنا عليّ بن الصباح/عن ابن الكلبيّ قال: خرج المجنون في عدّة من قومه يريدون سفرا لهم، فمرّوا في طريق يتشعّب وجهتين: إحداهما ينزلها رهط ليلى و فيها زيادة مرحلة فسألهم أن يعدلوا معه إلى تلك الوجهة فأبوا، فمضى وحده و قال:
أ أترك ليلى ليس بيني و بينها *** سوى ليلة إني إذا لصبور
هبوني امرأ منكم أضلّ بعيره *** له ذمّة إنّ الذّمام كبير
و للصاحب المتروك أعظم حرمة *** على صاحب من أن يضلّ بعير
عفا اللّه عن ليلى الغداة فإنها *** إذا وليت حكما عليّ تجور
/الغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن [عمرو و فيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن(1)] حبش، و فيه لابن المارقيّ خفيف ثقيل عن الهشاميّ ، و فيه لعلّويه رمل بالبنصر.
و ذكر عمرو بن أبي عمرو الشيبانيّ عن أبيه: أن المجنون كان ذات ليلة جالسا مع أصحاب له من بني عمّه و هو وله يتلظّى و يتململ يعظونه و يحادثونه، حتى هتفت حمامة من سرحة(2) كانت بإزائهم، فوثب قائما و قال:
البيتين لعبد اللّه بن ذحمان ثقيل أوّل مطلق في مجرى الوسطى.
و ذكر أبو نصر عن أصحابه أن رجلا مرّ بالمجنون و هو برمل يبرين(1) يخطّط فيه، فوقف عليه متعجبا منه و كان لا يعرفه، فقال له: ما بك يا أخي ؟ فرفع رأسه إليه و أنشأ يقول:
بي اليأس و الداء الهيام(2) أصابني *** فإياك عنّي لا يكن بك ما بيا
كأنّ جفون العين تهمي(3) دموعها *** غداة رأت أظعان(4) ليلى غواديا
غروب أمرّتها نواضح بزّل *** على عجل عجم يروّين صاديا(5)
قال خالد بن جمل(6): ذكر حماد الرواية أن نفرا من أهل اليمن مرّوا بالمجنون، فوقفوا ينظرون إليه فأنشأ يقول:
ألا أيها الركب اليمانون عرّجوا *** علينا فقد أمسى هوانا يمانيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا *** و حبّ إلينا بطن نعمان واديا
/يقول في هذا القصيدة:
ألا يا خليلي حبّ ليلى مجشّمي *** حياض المنايا أو مقيدي(1) الأعاديا
و يا أيها القمريّتان تجاوبا *** بلحنيكما ثم اسجعا علّلانيا
فإن أنتما استطربتما(2) و أردتما *** لحاقا بأطراف(3) الغضى فاتبعانيا
قال أبو نصر: و ذكر خالد بن كلثوم أنّ زوج ليلى لما أراد الرّحيل بها إلى بلده بلغ المجنون أنه غاد بها فقال:
أ مزمعة للبين ليلى و لم تمت *** كأنك عما قد أظلّك غافل
ستعلم إن شطّت بهم غربة(4) النوى *** و زالوا بليلى أنّ لبك زائل
/الغناء للزّبير بن دحمان ثقيل أوّل بالوسطى:
قال أبو نصر قال خالد: و حدّثني جماعة من بني قشير أنّ المجنون سقم سقاما(5) شديدا قبل اختلاطه حتّى أشفى على الهلاك، فدخل إليه أبوه يعلّله(6) فوجده ينشد هذه الأبيات و يبكي أحرّ بكاء و ينشج(7) أحرّ نشيج:
ألا أيّها القلب الذي لجّ هائما *** بليلى وليدا لم تقطّع تمائمه
أفق قد أفاق العاشقون و قد أنى(8) *** لحالك(9) أن تلقى طبيبا تلائمه
فما لك مسلوب العزاء كأنّما *** ترى نأى ليلى مغرما أنت غارمه
أجدّك(10) لا تنسيك ليلى ملمّة *** تلمّ و لا ينسيك عهدا تقادمه
قال: وقف مستترا ينظر إلى أظعان ليلى و قد رحل بها زوجها و قومها، فلما رآهم يرتحلون بكى و جزع، فقال له أبوه: ويحك! إنما جئنا بك متخفيا ليتروّح بعض ما بك بالنظر إليهم، فإذا فعلت ما أرى عرفت، و قد أهدر السلطان دمك إن مررت بهم، فأمسك أو فانصرف، فقال: ما لي سبيل إلى النّظر إليهم يرتحلون و أنا ساكن غير جازع و لا باك فانصرف بنا، فانصرف و هو يقول:
ص: 380
ذد الدّمع حتى يظعن الحيّ إنّما *** دموعك إن فاضت عليك دليل
كأنّ دموع العين يوم تحمّلوا(1) *** جمان على جيب(2) القميص يسيل
/أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أنشدني إسحاق بن محمد عن بعض أصحابه عن ابن الأعرابيّ للمجنون:
ألا ليت ليلى أطفأت حرّ زفرة *** أعالجها لا أستطيع لها ردّا
إذا الرّيح من نحو الحمى نسمت لنا *** وجدت لمسراها و منسمها(3) بردا
على كبد قد كاد(4) يبدي بها الهوى *** ندوبا(5) و بعض القوم يحسبني جلدا
هذا البيت الثالث خاصّة يروى لابن هرمة في بعض قصائده، و هو من المائة المختارة التي/رواها إسحاق، أوّله:
أ فاطم إنّ النّأي يسلي من الهوى(6)
و قد أخرج في موضع آخر. غنّى في هذين البيتين عبد آل(7) الهذليّ ، و لحنه المختار على ما ذكره جحظة ثاني ثقيل، و هما(8) في هذه القصيدة:
و إنّي يمانيّ الهوى منجد النّوى *** سبيلان ألقى من خلافهما جهدا
سقى اللّه نجدا من ربيع(9) و صيّف(10) *** و ما ذا يرجى من ربيع سقى نجدا
/بلى إنّه قد كان للعيش قرة *** و للصّحب و الرّكبان منزلة حمدا(11)
أبى القلب أن ينفكّ من ذكر نسوة *** رقاق و لم يخلقن شؤما(12) و لا نكدا
ص: 381
إذا رحن يسحبن الذّيول عشيّة *** و يقتلن بالألحاظ أنفسنا عمدا
مشى عيطلات(1) رجّح بخصورها *** روادف(2) وعثات(3) تردّ الخطا ردّا
و تهتزّ ليلى العامريّة فوقها *** و لاثت(4) بسبّ (5) القزّذا غدر(6) جعدا
إذا حرّك المدرى(7) ضفائرها العلا *** مججن ندى الريحان و العنبر الوردا
و أخبار الهذليّين(8) تذكر في غير هذا الموضع إن شاء اللّه لئلا تنقطع أخبار المجنون، و لهما في المائة الصوت المختارة أغان تذكر أخبارها معا إن شاء اللّه.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني ميمون بن هارون قال ذكر الهيثم بن عديّ ، و أخبرني محمد ابن خلف [بن المرزبان](9) عن أحمد بن الهيثم عن العمريّ عن الهيثم بن عديّ قال: مرّ المجنون برجلين قد صادا ظبية فربطاها بحبل و ذهبا بها، فلما نظر إليها و هي تركض في حبالهما دمعت عيناه، و قال لهما: حلاّها و خذا مكانها /شاة من غنمي - و قال ميمون في خبره: و خذا مكانها قلوصا من إبلي - فأعطاهما و حلاّها فولّت تعدو هاربة. و قال المجنون للرجلين حين رآها في حبالهما:
يا صاحبيّ اللّذين اليوم قد أخذا *** في الحبل شبها لليلى ثم غلاّها
إني أرى اليوم في أعطاف شاتكما *** مشابها أشبهت ليلى فحلاّها
قال: و قال فيها و قد نظر إليها [و هي](10) تعدو أشدّ عدو هاربة مذعورة:
أيا شبه ليلى لا تراعي فإنّني *** لك اليوم من وحشيّة لصديق
و يا شبه ليلى لو تلبثت ساعة *** لعلّ فؤادي من جواه يفيق
تفرّ و قد أطلقتها من وثاقها *** فأنت لليلى لو علمت طليق
ص: 382
و ذكر أبو نصر عن جماعة من الرواة و ذكر أبو مسلم و محمد بن الحسن الأحول أن ابن الأعرابيّ أخبرهما أنّ نسوة جلسن إلى المجنون فقلن له: ما الذي دعاك إلى أن أحللت بنفسك ما ترى(1) في هوى ليلى، و إنما هي امرأة من النساء، هل لك في أن تصرف هواك عنها إلى إحدانا فنساعفك و نجزيك بهواك و يرجع إليك ما عزب من عقلك و جسمك ؟ فقال لهنّ : لو قدرت على صرف الهوى عنها إليكنّ لصرفته عنها و عن كلّ أحد بعدها و عشت في الناس سويّا مستريحا؛ فقلن له: ما أعجبك منها(2)؟ فقال: كلّ شيء رأيته و شاهدته و سمعته/منها أعجبني، و اللّه ما رأيت شيئا منها قطّ إلا كان في عيني حسنا و بقلبي علقا، و لقد جهدت أن يقبح منها عندي شيء أو يسمج أو يعاب لأسلو عنها فلم أجده؛ فقلن له: فصفها لنا، فأنشأ يقول:
بيضاء خالصة البياض كأنها *** قمر توسّط جنح ليل مبرد
موسومة بالحسن ذات حواسد *** إنّ الجمال مظنة للحسّد
و ترى مدامعها ترقرق مقلة *** سوداء ترغب عن سواد الإثمد
خوّد(3) إذا كثر الكلام تعوذت *** بحمى الحياء و إن تكلّم تقصد(4)
قال: ثم قال ابن الأعرابيّ : هذا و اللّه من حسن الكلام و منقح(5) الشّعر.
و أنشد أبو نصر للمجنون أيضا، و فيه غناء، قال:
كأنّ فؤادي في مخالب طائر *** إذا ذكرت ليلى يشدّ بها(6) قبضا
كأنّ فجاج الأرض حلقة خاتم *** عليّ ، فما تزداد طولا و لا عرضا
أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا أبو مسلم عن القحذميّ قال: قال رجل من عشيرة المجنون له: إني أريد الإلمام بحيّ ليلى فهل تودعني إليها شيئا؟ فقال: نعم! قف بحيث تسمعك ثم قل:
منيّتك النفس حتى قد أضرّ بها *** و استيقنت خلفا ممّا أمنّيها
و ساعة منك ألهوها و إن قصرت *** أشهى إليّ من الدنيا و ما فيها
/قال: فمضى الرجل، و لم يزل يرقب خلوة حتى وجدها، فوقف عليها ثم قال لها: يا ليلى لقد أحسن الذي يقول:
اللّه يعلم أنّ النفس هالكة *** باليأس منك و لكنّي أعنّيها
و أنشد الأبيات؛ فبكت بكاء طويلا ثم قالت: أبلغه السلام و قل له:
نفسي فداؤك، لو نفسي ملكت إذا *** ما كان غيرك يجزيها و يرضيها
صبرا على ما قضاه اللّه فيك على *** مرارة في اصطباري عنك أخفيها
قال: فأبلغه الفتى البيتين و أخبره بحالها؛ فبكى حتى سقط على وجهه مغشيّا عليه، ثم أفاق و هو يقول:
عجبت لعروة العذريّ أضحى *** أحاديثا لقوم بعد قوم
و عروة مات موتا مستريحا *** و ها أنا ميّت في كلّ يوم
أخبرنا محمد بن يحيى الصّوليّ قال أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي نصر للمجنون:
أيا زينة الدنيا التي لا ينالها *** مناي و لا يبدو لقلبي صريمها
بعيني قذاة من هواك لو انّها *** تداوى بمن تهوى(1) لصحّ سقيمها
/و ما صبرت عن ذكرك النفس ساعة *** و إن كنت أحيانا كثيرا ألومها
أخبرني الحسن بن علي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا عليّ بن الصّبّاح عن ابن الكلبيّ قال: سأل الملوّح أبو المجنون رجلا قدم من الطائف/أن يمرّ بالمجنون فيجلس إليه فيخبره أنه لقي ليلى و جلس إليها، و وصف(2) له صفات منها و من كلامها يعرفها المجنون، و قال له: حدّثه بها، فإذا رأيته قد اشرأب(3) لحديثك و اشتهاه فعرّفه أنك ذكرته لها و وصفت ما به فشتمته و سبّته، و قالت: إنه يكذب عليها و يشهّرها بفعله، و إنها ما اجتمعت معه قط كما يصف؛ ففعل الرجل ذلك، و جاء إليه فأخبره بلقائه إياها؛ فأقبل عليه و جعل يسائله عنها(4)، فيخبره بما أمره به الملوّح، فيزداد نشاطا و يثوب إليه عقله، إلى أن أخبره بسبّها إياه و شتمها له؛ و قال و هو غير مكترث لما حكاه عنها:
ص: 384
تمرّ الصّبا صفحا بساكن ذي الغضى *** و يصدع قلبي أن يهبّ هبوبها
إذا هبّت الريح الشّمال فإنّما *** جواي بما تهدى إليّ جنوبها
قريبة عهد بالحبيب و إنما *** هوى كلّ نفس حيث كان حبيبها
و حسب الليالي أن طرحنك مطرحا *** بدار قلى تمسي و أنت غريبها
حلال لليلى شتمنا و انتقاصنا(1) *** هنيئا و مغفور لليلى ذنوبها
ذكر أبو أيوب المدينيّ (2) أن الغناء في هذا الشعر لابن سريج و لم يذكر طريقته. و فيه لمتيم غناء ينسب. و ذكر الهيثم بن عديّ أن المجنون قال - و فيه غناء -:
بغية له، فإذا هو بخيمة قد رفعت له و قد أصابه المطر فعدل إليها و تنحنح، فإذا امرأة قد كلّمته فقالت: انزل، فنزل.
[قال](1) /و راحت إبلهم و غنمهم فإذا أمر عظيم، فقالت: سلوا هذا الرجل من أين أقبل؛ فقلت: من ناحية تهامة و نجد؛ فقالت: ادخل أيها الرجل، فدخلت إلى ناحية من الخمية، فأرخت بيني و بينها سترا ثم قالت لي:
يا عبد اللّه، أيّ بلاد نجد وطئت ؟ فقلت: كلّها؛ قالت: فبمن نزلت هناك ؟ قلت: ببني عامر؛ فتنفّست الصّعداء ثم قالت: فبأيّ بني عامر نزلت ؟ فقلت: ببني الحريش؛ فاستعبرت ثم قالت: فهل سمعت بذكر فتى منهم يقال له:
قيس بن الملوّح و يلقّب بالمجنون ؟ قلت: بلى و اللّه! و على أبيه نزلت، و أتيته فنظرت إليه يهيم في تلك الفيافي، و يكون مع الوحش لا يعقل [و لا يفهم](2) إلا أن تذكر له امرأة يقال لها ليلى، فيبكي و ينشد أشعارا قالها فيها. قال:
فرفعت الستر بيني و بينها، فإذا فلقة قمر/لم تر عيني مثلها، فبكت حتى ظننت - و اللّه - أن قلبها قد انصدع، فقلت:
أيّتها المرأة، اتّقي اللّه فما قلت بأسا، فمكثت طويلا على تلك الحال من البكاء و النحيب ثم قالت:
ألا ليت شعري و الخطوب كثيرة *** متى رحل قيس مستقلّ فراجع
بنفسي من لا يستقلّ برحله *** و من هو إن لم يحفظ اللّه ضائع
ثم بكت حتى سقطت مغشيّا عليها، فقلت لها: من أنت يا أمة اللّه ؟ و ما قصّتك ؟ قالت: أنا ليلى [صاحبته](2)المشئومة [و اللّه](2) عليه غير المؤنسة(3) له؛ فما رأيت مثل حزنها و وجدها عليه [قطّ](2).
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ ، و حبيب بن نصر المهلبيّ قالا: حدّثنا عمر بن شبّة قال ذكر الهيثم ابن عديّ عن عثمان بن عمارة، و أخبرني(4) عثمان عن الكرانيّ عن العمريّ عن لقيط، و حدّثنا إبراهيم بن أيوب عن عبد اللّه بن مسلم قال ذكر الهيثم/بن عديّ عن عثمان بن عمارة، و ذكر أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعيّ و أبو مسلم المستملي عن ابن الأعرابيّ - يزيد بعضهم على بعض - أن عثمان بن عمارة المرّي أخبرهم أنّ شيخا منهم من بني مرّة حدّثه أنه خرج إلى أرض بني عامر ليلقى المجنون، قال: فدللت على محلّته فأتيتها، فإذا أبوه شيخ كبير و إخوة له رجال، و إذا نعم كثير(5) و خير ظاهر، فسألتهم عنه فاستعبروا جميعا، و قال الشيخ: و اللّه لهو كان آثر في نفسي من هؤلاء و أحبّهم إليّ ! و إنه هوي امرأة من قومه، و اللّه ما كانت تطمع في مثله، فلمّا أن فشا أمره و أمرها كره أبوها أن يزوجها منه بعد ظهور الخبر فزوّجها من غيره، فذهب عقل ابني و لحقه خبل و هام في الفيافي وجدا عليها، فحبسناه و قيّدناه، فجعل(6) يعضّ لسانه و شفتيه حتى خفنا [عليه](7) أن يقطعها(8) فخلّينا سبيله، فهو يهيم في [هذه](7) الفيافي مع الوحوش يذهب إليه كلّ
ص: 386
يوم بطعامه فيوضع له حيث يراه، فإذا تنحّوا عنه جاء فأكل منه. قال: فسألتهم أن يدلّوني عليه، فدلّوني على فتى من الحيّ صديقا له و قالوا: إنه لا يأنس إلا به و لا يأخذ أشعاره عنه غيره، فأتيته فسألته أن يدلّني عليه؛ فقال: إن كنت تريد شعره فكلّ شعر قاله إلى أمس عندي، و أنا ذاهب إليه غدا فإن كان قال شيئا أتيتك به؛ فقلت: بل [أريد(1)أن] تدلّني عليه لآتيه؛ فقال لي: إنه إن نفر منك نفر منّي فيذهب شعره، فأبيت إلا أن يدلّني عليه؛ فقال اطلبه في هذه الصحاري [فإذا رأيته](1) فادن [منه](1) مستأنسا و لا تره أنك تهابه، فإنه يتهدّدك و يتوعّدك/أن يرميك بشيء، فلا يروعنّك و اجلس صارفا بصرك عنه و الحظة أحيانا، فإذا رأيته قد سكن من نفاره فأنشده شعرا غزلا، و إن كنت تروي من شعر قيس بن ذريح شيئا فأنشده إياه فإنه معجب به؛ فخرجت فطلبته يومي إلى العصر فوجدته جالسا على رمل قد خطّ فيه بإصبعه خطوطا، فدنوت منه غير منقبض، فنفر منّي نفور الوحش من الإنس، و إلى جانبه أحجار فتناول حجرا فأعرضت عنه، فمكث ساعة كأنه نافر يريد القيام، فلمّا طال جلوسي سكن و أقبل يخطّ بإصبعه، فأقبلت عليه و قلت: أحسن و اللّه قيس بن ذريح حيث يقول:
ألا يا غراب البين ويحك نبّني *** بعلمك في لبنى و أنت(2) خبير
فإن أنت لم تخبر بشيء علمته *** فلا طرت(3) إلا و الجناح كسير
/و درت بأعداء حبيبك فيهم *** كما قد تراني بالحبيب أدور
فأقبل عليّ و هو يبكي فقال: أحسن و اللّه، و أنا أحسن منه قولا حيث أقول:
كأنّ القلب ليلة قيل يغدى *** بليلى العامريّة أو يراح
قطاة عزّها شرك فباتت *** تجاذبه و قد علق الجناح
فأمسكت عنه هنيهة، ثم أقبلت عليه فقلت: و أحسن و اللّه قيس بن ذريح حيث يقول:
و إني لمفن دمع عينيّ بالبكا *** حذارا لما قد كان أو هو كائن
و قالوا غدا أو بعد ذاك بليلة *** فراق حبيب لم يبن و هو بائن
و ما كنت أخشى أن تكون منيّتي *** بكفّيك إلا أن من(4) حان حائن
/قال: فبكى - و اللّه - حتى ظننت أنّ نفسه قد فاضت، و قد رأيت دموعه قد بلّت الرمل الذي بين يديه، ثم قال: أحسن لعمر اللّه، و أنا و اللّه أشعر منه حيث أقول:
تناءيت عنّي حين لا لي حيلة *** و خلّفت ما خلّفت بين الجوانح(1)
- و يروى: «و غادرت ما غادرت(2)...» - ثم سنحت له ظبية فوثب يعدو خلفها حتى غاب عنّي و انصرفت، و عدت من غد فطلبته فلم أجده، و جاءت امرأة كانت تصنع له طعامه(3) إلى الطعام فوجدته بحاله، فلما كان في اليوم الثالث غدوت و جاء أهله معي فطلبناه يومنا فلم نجده، و غدونا في اليوم الرابع نستقري أثره حتى وجدناه في واد كثير الحجارة خشن، و هو ميّت بين تلك الحجارة، فاحتمله أهله فغسّلوه و كفنوه و دفنوه.
قال الهيثم: فحدّثني جماعة من بني عامر: أنه لم تبق فتاة من بني جعدة و لا بني الحريش إلا خرجت حاسرة صارخة عليه تندبه؛ و اجتمع فتيان الحيّ يبكون عليه أحرّ بكاء، و ينشجون عليه أشدّ نشيج، و حضرهم حيّ ليلى معزّين و أبوها معهم فكان أشدّ القوم جزعا و بكاء عليه، و جعل يقول: ما علمنا أن الأمر يبلغ كلّ هذا، و لكنّي كنت امرأ عربيّا أخاف من العار و قبح الأحدوثة ما يخافه مثلي، فزوّجتها/و خرجت عن يدي، و لو علمت أن أمره يجري على هذا ما أخرجتها عن يده و لا احتملت ما كان عليّ في ذلك. قال: فما رئي يوم(4) كان أكثر باكية و باكيا على ميّت من يومئذ.
و هجت قذى عين بلبنى مريضة *** إذا ذكرت فاضت مدامعها تجري
و قلت(1) كذاك الدهر ما زال فاجعا *** صدقت و هل شيء بباق على الدهر
/الشعر لقيس بن ذريح، و الغناء لابن جامع، ثقيل أوّل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لبحر ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و فيه لدحمان ثاني ثقيل عن الهشاميّ و عبد اللّه بن موسى.
و منها الصوت الذي أوّله.
كأنّ القلب ليلة قيل يغدى *** بليلي العامريّة أو يراح
و منها الصوت الذي أوّله:
و أدنيتني حتى إذا ما سبيتني *** بقول يحلّ العصم سهل الأباطح
الغناء لإبراهيم، خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ
أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبيّ قال حدّثنا الفضل الرّبعيّ عن محمد بن حبيب قال:
لما مات مجنون بني عامر وجد أرض خشنة بين حجارة سود، فحضر أهله و حضر [معهم](2) أبو ليلى - المرأة التي كان يهواها - و هو متذمّم(3) من أهله، فلما رآه ميتا بكى و استرجع و علم أنه قد شرك في هلاكه، فبينما هم يقلّبونه إذ وجدوا خرقة فيها مكتوب:
ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى *** شقيت و لا هنّيت من عيشك الغضّا(4)
شقيت كما أشقيتني و تركتني *** أهيم مع الهلاّك لا أطعم الغمضا(5)
كأنّ فؤادي في مخالب طائر *** إذا ذكرت ليلى يشدّ بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم *** عليّ فما تزداد طولا و لا عرضا
في هذين البيتين رمل ينسب إلى سليم و إلى ابن محرز، و ذكر حبش و الهشاميّ أنه لإسحاق.
أخبرني محمد بن خلف قال حدّثني أبو سعيد السّكّريّ عن محمد بن حبيب قال حدّثني بعض
ص: 389
القشيريّين(1) عن أبيه قال:
مررت بالمجنون و هو مشرف على واد في أيام الربيع، و ذاك قبل أن يختلط، و هو يتغنّى بشعر لم أفهمه، فصحت به: يا قيس، أ ما تشغلك ليلى عن الغناء و الطرب! فتنفّس تنفّسا ظننت أنّ حيازيمه(2) قد انقدّت، ثم قال:
و ما أشرف الأيفاع(3) إلا صبابة *** و لا أنشد الأشعار إلا تداويا
و قد يجمع اللّه الشتيتين بعد ما *** يظنّان جهد(4) الظنّ أن لا تلاقيا
لحي(5) اللّه أقواما يقولون إنّني *** وجدت(6) طوال الدّهر للحبّ شافيا
/أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: اجتاز قيس بن ذريح بالمجنون و هو جالس وحده في نادي قومه، و كان/كلّ واحد منهما مشتاقا إلى لقاء الآخر، و كان المجنون قبل توحّشه لا يجلس إلا منفردا و لا يحدّث أحدا و لا يردّ على متكلّم جوابا و لا على مسلّم سلاما، فسلّم عليه قيس بن ذريح فلم يردّ عليه السّلام؛ فقال له: يا أخي أنا قيس بن ذريح فوثب إليه فعانقه و قال: مرحبا بك يا أخي، أنا و اللّه مذهوب [بي](7) مشترك اللّب فلا تلمني، فتحدّثا ساعة و تشاكيا و بكيا، ثم قال له المجنون: يا أخي، إنّ حيّ ليلى منا قريب، فهل لك أن تمضي إليها فتبلّغها عني السلام ؟ فقال له: أفعل. فمضى قيس بن ذريح حتى أتى ليلى فسلّم و انتسب؛ فقالت له: حيّاك اللّه، أ لك حاجة ؟ قال: نعم، ابن عمّك أرسلني إليك بالسلام؛ فأطرقت ثم قالت:
ما كنت أهلا للتحيّة لو علمت أنك رسوله، قل له عنّي: أ رأيت قولك:
أبت ليلة بالغيل(8) يا أمّ مالك *** لكم غير حب صادق ليس يكذب
ألا إنما أبقيت يا أمّ مالك *** صدى(9) أينما تذهب به الريح يذهب(10)
أخبرني عن ليلة الغيل، أيّ ليلة هي ؟ و هل خلوت معك في الغيل أو غيره ليلا أو نهارا؟ فقال لها قيس: يا ابنة عمّ ، إن الناس تأوّلوا كلامه على غير ما أراد، فلا تكوني مثلهم، إنما أخبر أنه رآك ليلة الغيل فذهبت بقلبه، لا أنه عناك بسوء؛ قال: فأطرقت طويلا و دموعها تجري و هي تكفكفها، ثم انتحبت حتى قلت تقطّعت حيازيمها، ثم قال: اقرأ
ص: 390
على ابن عمّي السلام، و قل له: بنفسي أنت! و اللّه إنّ وجدي بك لفوق ما تجد، و لكن لا حيلة لي فيك؛ فانصرف قيس إليه ليخبره فلم يجده.
أخبرني الحسن بن علي قال حدّثني محمد(1) بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عمّي عن ابن الصّباح عن ابن الكلبيّ عن أبيه قال: مرّ المجنون بعد اختلاطه بليلى [و هي](2) تمشي في ظاهر البيوت بعد فقد لها طويل، فلما رآها بكى حتى سقط على وجهه مغشيا عليه، فانصرفت(3) خوفا من أهلها أن يلقوها عنده، فمكث كذلك مليّا ثم أفاق و أنشأ يقول:
بكى فرحا بليلى إذ رآها *** محبّ لا يرى حسنا سواها
لقد ظفرت يداه و نال(4) و نال ملكا *** لئن كانت تراه كما يراها
الغناء لابن المكيّ رمل بالبنصر. و فيه لعريب ثقيل أوّل عن الهشاميّ . و فيه خفيف رمل ليزيد حوراء(5). و قد نسب لحنه إلى ابن المكيّ و لحن ابن المكيّ إليه.
ربّ ركب قد أناخوا عندنا *** يشربون الخمر بالماء الزّلال
عصف(6) الدهر بهم فانقرضوا *** و كذاك الدهر حالا بعد حال
الشعر لعديّ بن زيد العباديّ ، و الغناء لابن محرز و لحنه المختار خفيف [رمل(7) بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه خفيف رمل] آخر بالبنصر ابتداؤه/نشيد ذكر عمرو بن بانة أنه لابن طنبورة، و ذكر أحمد بن المكيّ أنه لأبيه. و هذه/الأبيات قالها عديّ بن زيد العباديّ على سبيل الموعظة للنّعمان بن المنذر، فيقال:
إنها كانت سبب دخوله في النصرانية.
حدّثني بذلك أحمد(8) بن عمران المؤدّب قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثنا عبد اللّه بن عمرو
ص: 391
قال حدّثني عليّ بن الصّبّاح عن ابن الكلبيّ قال: خرج النعمان بن المنذر إلى الصيد و معه عديّ بن زيد فمروا بشجرة، فقال له عديّ بن زيد: أيّها الملك، أ تدري ما تقول هذه الشجرة ؟ قال: لا، قال تقول:
ربّ ركب قد أناخوا عندنا *** يشربون الخمر بالماء الزّلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا *** و كذاك الدهر حالا بعد حال
قال: ثم جاوز الشجرة فمرّ بمقبرة، فقال له عديّ : أيّها الملك، أ تدري ما تقول هذه المقبرة ؟ قال: لا، قال تقول:
أيها الركب المخبّو *** ن على الأرض المجدّون
فكما أنتم كنّا *** و كما نحن تكونون
فقال له النعمان: إنّ الشجرة و المقبرة لا يتكلّمان(1)، و قد علمت أنك إنما أردت عظتي، فما السبيل التي تدرك بها النجاة ؟ قال: تدع عبادة الأوثان و تعبد اللّه و تدين بدين المسيح عيسى ابن مريم؛ قال: أوفي(2) هذا النجاة ؟ قال: نعم، فتنصر يومئذ. و قد قيل: إنّ هذه القصة كانت لعديّ مع النعمان الأكبر بن المنذر، و إنّ النعمان الذي قتله هو ابن المنذر بن النعمان الأكبر الذي تنصر. و خبر هذا [يأتي](3) مع أحاديث عديّ .
ص: 392
هو عديّ بن زيد بن حمّاد(1) بن أيّوب بن محروف(2) بن عامر بن عصيّة بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار.
و كان أيوب هذا فيما زعم ابن الأعرابيّ أوّل من سمّي من العرب أيوب، شاعر فصيح(3) من شعراء الجاهلية، و كان نصرانيا و كذلك كان أبوه و أمه و أهله، و ليس ممن يعد في الفحول، و هو قرويّ . و كانوا قد أخذوا عليه(4)أشياء عيب فيها. و كان الأصمعيّ و أبو عبيدة يقولان: عديّ بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم يعارضها و لا يجري معها مجراها. و كذلك عندهم أمية بن أبي الصّلت، و مثلهما كان عندهم من الإسلاميين الكميت و الطّرمّاح. قال العجّاج: كانا يسألاني عن الغريب فأخبرهما به، ثم أراه في شعرهما و قد وضعاه في غير مواضعه؛ فقيل له: و لم ذاك ؟ قال: لأنهما قرويّان يصفان ما لم يريا فيضعانه في غير موضعه، و أنا بدويّ أصف ما رأيت فأضعه في مواضعه. و كذلك عندهم عديّ و أمية.
قال ابن الأعرابيّ فيما أخبرني به عليّ بن سليمان الأخفش عن السّكّريّ عن محمد بن حبيب عنه و عن هشام بن الكلبيّ عن أبيه قال(5): سبب نزول آل عديّ بن زيد/الحيرة أن جدّه أيوب بن محروف كان منزله اليمامة في بني امرئ القيس بن زيد مناة، فأصاب دما في قومه فهرب فلحق بأوس بن قلاّم(6) أحد بني الحارث بن كعب بالحيرة. و كان بين أيّوب بن محروف و بين أوس بن قلاّم هذا نسب/من قبل النساء، فلما قدم عليه أيّوب بن محروف
ص: 393
أكرمه و أنزله في داره، فمكث معه ما شاء اللّه أن يمكث، ثم إن أوسا قال له: يا ابن خال، أ تريد المقام عندي و في داري ؟ فقال له أيّوب: نعم، فقد علمت أني إن أتيت قومي و قد أصبت فيهم دما لم أسلم، و ما لي دار إلا دارك آخر الدهر؛ قال أوس: إني قد كبرت و أنا خائف أن أموت فلا يعرف ولدي لك من الحقّ مثل ما أعرف، و أخشى أن يقع بينك و بينهم أمر يقطعون فيه الرّحم، فانظر أحبّ مكان في الحيرة إليك فأعلمني به لأقطعكه أو ابتاعه لك؛ قال:
و كان لأيوب صديق في الجانب الشرقيّ من الحيرة، و كان منزل أوس في الجانب الغربيّ ، فقال له: قد أحببت أن يكون المنزل الذي تسكننيه عند منزل عصام بن عبدة أحد بني الحارث بن كعب؛ فابتاع له موضع داره بثلاثمائة أوقية من ذهب و أنفق عليها مائتي أوقية ذهبا. و أعطاه مائتين من الإبل برعائها و فرسا و قينة؛ فمكث في منزل أوس حتى هلك، ثم تحوّل إلى داره التي في شرقيّ الحيرة فهلك بها. و قد كان أيوب اتصل قبل مهلكه بالملوك الذين كانوا بالحيرة و عرفوا حقّه و حقّ ابنه زيد بن أيوب، و ثبت أيوب فلم يكن منهم ملك يملك إلا و لولد أيوب منه جوائز و حملان(1).
ثم إنّ زيد بن أيوب نكح امرأة من آل قلاّم فولدت له حمّادا، فخرج زيد بن أيوب/يوما من الأيام يريد الصيد في ناس من أهل الحيرة و هم منتدون(2) بحفير - المكان الذي يذكره عديّ بن زيد في شعره - فانفرد في الصيد و تباعد من أصحابه، فلقيه رجل من بني امرئ القيس الذين كان لهم الثأر قبل أبيه، فقال له - و قد عرف فيه شبه أيوب -: ممّن الرجل ؟ قال: من بني تميم، قال: من أيّهم ؟ قال: مرئيّ (3)؛ قال له الأعرابيّ : و أين منزلك ؟ قال: الحيرة؛ قال أ من بني أيوب أنت ؟ قال: نعم، و من أين تعرف بني أيوب ؟ و استوحش من الأعرابيّ و ذكر الثأر الذي هرب أبوه منه؛ فقال له: سمعت بهم، و لم يعلمه أنه قد عرفه؛ فقال له زيد بن أيوب: فمن أيّ العرب أنت ؟ قال: أنا امرؤ من طيء؛ فأمنه زيد و سكت عنه، ثم إن الأعرابيّ اغتفل(4) زيد بن أيوب فرماه بسهم فوضعه بين كتفيه ففلق قلبه، فلم يرم(5) حافر دابته حتى مات؛ فلبث أصحاب زيد حتى إذا كان الليل طلبوه و قد افتقدوه و ظنّوا أنه قد أمعن في طلب الصيد، فباتوا يطلبونه حتى يئسوا منه، ثم غدوا في طلبه فاقتفوا أثره حتى وقفوا عليه و رأوا معه أثر راكب يسايره فاتبعوا الأثر حتى وجدوه قتيلا، فعرفوا أن صاحب الراحلة قتله، فاتبعوه و أغدّوا السير فأدركوه مساء الليلة الثانية، فصاحوا به و كان من أرمى الناس فامتنع منهم بالنّبل حتى حال الليل بينهم و بينه و قد أصاب رجلا منهم في مرجع(6) كتفيه بسهم فلما أجنّه الليل مات و أفلت الرامي، فرجعوا و قد قتل زيد بن أيوب و رجلا(7) آخر معه من بني الحارث بن كعب.
ص: 394
فمكث حماد/في أخواله حتى أيفع(1) و لحق بالوصفاء؛ فخرج يوما من الأيام يلعب مع غلمان بني لحيان، فلطم اللّحيانيّ عين حماد فشجّه حمّاد، فخرج أبو اللّحيانيّ فضرب حمادا، فأتى حماد أمّه يبكي، فقالت له: ما شأنك ؟ فقال: ضربني فلان لأن ابنه لطمني فشججته، فجزعت من ذلك و حوّلته إلى دار زيد بن أيوب و علّمته الكتابة في دار أبيه، فكان حماد/أوّل من كتب من بني أيّوب، فخرج من أكتب الناس و طلب حتى صار كاتب الملك(2) النّعمان الأكبر، فلبث كاتبا له حتى ولد له ابن من امرأة تزوّجها من طيء فسماه زيدا باسم أبيه.
و كان لحمّاد صديق من الدّهاقين(3) العظماء يقال له فرّوخ ماهان، و كان محسنا إلى حماد، فلما حضرت حمادا الوفاة أوصى بابنه زيد إلى الدّهقان، و كان من المرازبة،(4) فأخذه الدّهقان إليه فكان عنده مع ولده، و كان زيد قد حذق الكتابة و العربية قبل أن يأخذه الدّهقان، فعلّمه لمّا أخذه الفارسيّة فلقنها(5)، و كان لبيبا فأشار الدّهقان على كسرى أن يجعله على البريد في حوائجه، و لم يكن كسرى يفعل ذلك إلا بأولاد المرازبة، فمكث يتولّى ذلك لكسرى زمانا.
ثم إنّ النّعمان النّصري اللّخميّ هلك، فاختلف أهل الحيرة فيمن يملّكونه إلى أن يعقد كسرى الأمر لرجل ينصبّه، فأشار عليهم المرزبان بزيد بن حمّاد، فكان على الحيرة إلى أن ملّك كسرى المنذر بن ماء السماء/و نكح زيد بن حمّاد نعمة بنت ثعلبة العدويّة فولدت له عديّا، و ملك المنذر و كان لا يعصيه في شيء، و ولد للمرزبان ابن فسمّاه «شاهان مرد».
فلما تحرّك عديّ بن زيد و أيفع طرحه أبوه في الكتّاب(6)، حتى إذا حذق أرسله المرزبان مع ابنه «شاهان مرد» إلى كتّاب الفارسية، فكان يختلف مع ابنه و يتعلّم الكتابة و الكلام بالفارسيّة حتى خرج من أفهم الناس بها و أفصحهم بالعربية و قال الشعر، و تعلّم الرمي بالنّشّاب فخرج من الأساورة(7) الرّماة، و تعلّم
ص: 395
لعب العجم على الخيل بالصّوالجة(1) و غيرها.
ثم إنّ المرزبان وفد على كسرى و معه ابنه «شاهان مرد» فبينما هما واقفان بين يديه إذ سقط طائران على السّور فتطاعما كما يتطاعم الذكر و الأنثى فجعل كلّ واحد منقاره في منقار الآخر، فغضب كسرى من ذلك(2) و لحقته غيرة، فقال للمرزبان و ابنه: ليرم كلّ واحد منكما واحدا من هذين الطائرين، فإن قتلتماهما أدخلتكما بيت المال و ملأت أفواهكما بالجوهر، و من أخطأ منكما عاقبته؛ فاعتمد كلّ واحد منهما طائرا منهما و رميا فقتلاهما جميعا، فبعثهما إلى بيت المال فملئت أفواههما جوهرا، و أثبت «شاهان مرد» و سائر أولاد المرزبان في صحابته؛ فقال فرّوخ ماهان عند ذلك للملك: إنّ عندي غلاما من العرب مات أبوه و خلّفه في حجري(3) فربّيته، فهو أفصح الناس و أكتبهم بالعربيّة/و الفارسيّة، و الملك محتاج إلى مثله، فإن رأى أن يثبته في ولدي فعل؛ فقال: ادعه، فأرسل إلى عديّ بن زيد، و كان جميل الوجه فائق الحسن و كانت الفرس تتبرّك بالجميل الوجه، فلما كلّمه وجده أظرف الناس و أحضرهم جوابا، فرغب فيه و أثبته مع ولد المرزبان.
فكان عديّ أوّل من كتب بالعربية في ديوان كسرى، فرغب أهل الحيرة إلى عديّ و رهبوه، فلم يزل بالمدائن في ديوان كسرى يؤذن له عليه في الخاصّة و هو معجب به قريب منه، و أبوه زيد بن حماد يومئذ حيّ إلا أنّ ذكر عديّ قد ارتفع و خمل ذكر أبيه، فكان عديّ إذا دخل على المنذر قام جميع من عنده حتى يقعد عديّ ، فعلا له بذاك صيت(4)عظيم، فكان إذا أراد المقام بالحيرة في منزله و مع أبيه و أهله استأذن كسرى فأقام فيهم الشهر و الشهرين و أكثر و أقلّ .
/ثم إنّ كسرى أرسل عديّ بن زيد إلى ملك الروم بهديّة من طرف ما عنده، فلما أتاه عديّ بها أكرمه و حمله إلى عمّاله على البريد ليريه سعة أرضه و عظيم(5) ملكه - و كذلك كانوا يصنعون - فمن ثمّ وقع عديّ بدمشق، و قال فيها الشعر. فكان مما قاله بالشأم و هي(6) أوّل شعر قاله فيما ذكر:
ربّ دار بأسفل الجزع من دو *** مة(7) أشهى إليّ من جيرون(8)
ص: 396
/و
ندامى لا يفرحون بما نا *** لوا و لا يرهبون(1) صرف المنون
قد سقيت الشّمول في دار بشر *** قهوة مرّة(2) بماء سخين
ثم كان أوّل ما قاله بعدها قوله:
لمن الدار تعفّت بخيم(3) *** أصبحت غيّرها طول القدم
ما تبين العين من آياتها *** غير نؤي مثل خطّ بالقلم
صالحا قد لفّها فاستوسقت(4) *** لفّ بازيّ حماما في سلم(5)
قال: و فسد أمر الحيرة و عديّ بدمشق حتى أصلح أبوه بينهم، لأن أهل الحيرة حين كان عليهم المنذر أرادوا قتله لأنه كان لا يعدل فيهم، و كان يأخذ من أموالهم ما يعجبه، فلما تيقّن أن أهل الحيرة قد أجمعوا على قتله بعث إلى زيد بن حماد بن زيد بن أيوب، و كان قبله على الحيرة، فقال له: يا زيد أنت خليفة أبي، و قد بلغني ما أجمع عليه أهل الحيرة فلا حاجة لي في ملككم، دونكموه ملّكوه من شئتم؛ فقال له زيد: إنّ الأمر ليس إليّ ، و لكنّي أسبر(6) لك هذا الأمر و لا آلوك نصحا، فلما أصبح غدا إليه الناس فحيّوه تحيّة الملك، و قالوا له: أ لا تبعث إلى عبدك الظالم - يعنون المنذر - فتريح منه رعيّتك ؟ فقال لهم: أ و لا خير من ذلك! قالوا: أشر علينا؛ قال: تدعونه على حاله فإنه من أهل بيت ملك، و أنا آتيه فأخبره أنّ أهل الحيرة قد اختاروا رجلا يكون أمر الحيرة إليه إلا أن يكون غزو أو قتال، /فلك اسم الملك و ليس إليك سوى ذلك من الأمور؛ قالوا: رأيك أفضل. فأتى المنذر فأخبره بما قالوا؛ فقبل ذلك و فرح، و قال: إنّ لك يا زيد عليّ نعمة لا أكفرها ما عرفت حقّ سبد(7) - و سبد صنم كان لأهل الحيرة - فولّى أهل الحيرة زيدا على كل شيء سوى اسم الملك فإنهم أقرّوه للمنذر. و في ذلك يقول عديّ :
نحن كنّا قد علمتم قبلكم *** عمد البيت و أوتاد الإصار(8)
ص: 397
قال: ثم هلك زيد و ابنه عديّ يومئذ بالشأم. و كانت لزيد ألف ناقة للحمالات(1) كان أهل الحيرة أعطوه إياها حين ولّوه ما ولّوه، فلما هلك أرادوا أخذها؛ فبلغ ذلك المنذر، فقال: لا، و اللاّت و العزّى لا يؤخذ مما كان في يد زيد ثفروق(2) و أنا أسمع الصّوت.
ففي ذلك يقول عديّ بن زيد لابنه النّعمان بن المنذر:
و أبوك المرء لم يشنأ(3) به *** يوم سيم الخسف منّا ذو الخسار
قال: ثم إنّ عديا قدم المدائن على كسرى بهديّة قيصر، فصادف أباه و المرزبان الذي ربّاه قد هلكا جميعا، فاستأذن كسرى في الإلمام بالحيرة فأذن له فتوجّه إليها، و بلغ المنذر خبره/فخرج فتلقّاه في الناس و رجع معه.
و عديّ أنبل أهل الحيرة في أنفسهم، و لو أراد أن يملّكوه لملّكوه، و لكنه كان يؤثر الصيد و اللّهو و اللعب على الملك، فمكث/سنين يبدو(4) في فصلي السنّة فيقيم في جفير(5) و يشتو بالحيرة، و يأتي المدائن في خلال ذلك فيخدم كسرى، فمكث كذلك سنين، و كان لا يؤثر على بلاد بني يربوع مبدى من مبادي العرب و لا ينزل في حيّ من أحياء بني تميم غيرهم، و كان أخلاّؤه من العرب كلّهم بني جعفر، و كانت إبله في بلاد بني ضبّة و بلاد بني سعد، و كذلك كان أبوه يفعل: لا يجاوز هذين الحيّين بإبله.
و لم يزل على حاله تلك حتى تزوّج هند(6) بنت النعمان بن المنذر، و هي يومئذ جارية حين بلغت أو كادت.
و خبره يذكر في تزويجها بعد هذا.
قال ابن حبيب و ذكر هشام بن الكلبيّ عن إسحاق بن الجصّاص و حمّاد الرواية و أبي محمد بن السائب قال:
كان لعديّ بن زيد أخوان: أحدهما اسمه عمّار و لقبه أبيّ ، و الآخر اسمه عمرو و لقبه سمي، و كان لهم أخ من أمهم يقال له عديّ بن حنظلة من طيء، و كان أبيّ يكون عند كسرى، و كانوا أهل بيت نصارى يكونون مع الأكاسرة، و لهم معهم أكل(7) و ناحية، يقطعونهم القطائع و يجزلون صلاتهم.
و كان المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان بن المنذر في حجر عديّ بن زيد، فهم الذين أرضعوه و ربّوه، و كان
ص: 398
للمنذر ابن آخر يقال له «الأسود» أمّه مارية بنت الحارث بن جلهم من تيم الرّباب، /فأرضعه و ربّاه قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا(1) ينتسبون إلى لخم و كانوا أشرافا. و كان للمنذر سوى هذين من الولد عشرة، و كان ولده يقال لهم «الأشاهب»(2) من جمالهم، فذلك قول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
و بنو المنذر الأشاهب في الحي *** رة يمشون غدوة كالسيوف
و كان النعمان من بينهم أحمر أبرش(3) قصيرا، و أمّه سلمى بنت وائل بن عطيّة الصائغ من أهل فدك(4)، فلما احتضر المنذر و خلّف أولاده العشرة، و قيل: بل كانوا ثلاثة عشر، أوصى بهم إلى إياس بن قبيصة الطّائيّ ، و ملّكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى رأيه، فمكث عليها أشهرا و كسرى في طلب رجل يملّكه عليهم، و هو كسرى بن هرمز، فلم يجد أحدا يرضاه فضجر فقال: لأبعثنّ إلى الحيرة اثني عشر ألفا من الأساورة، و لأملّكنّ عليهم رجلا من الفرس، و لآمرنّهم أن ينزلوا على العرب في دورهم و يملكوا عليهم أموالهم و نساءهم، و كان عديّ بن زيد واقفا بين يديه، فأقبل عليه و قال: ويحك يا عديّ : من بقي من آل المنذر؟ و هل فيهم أحد فيه خير؟ فقال: نعم أيها الملك السعيد، إنّ في ولد المنذر لبقية و فيهم كلّهم خير، فقال: ابعث إليهم فأحضرهم، فبعث عديّ إليهم فأحضرهم و أنزلهم جميعا عنده، و يقال: بل شخص/عديّ بن زيد إلى الحيرة حتى خاطبهم بما أراد(5) و أوصاهم، ثم قدم بهم على كسرى. قال: فلما نزلوا على عديّ بن زيد أرسل إلى النّعمان: لست أملّك غيرك فلا يوحشنّك ما أفضّل به إخوتك عليك من الكرامة فإني إنما أغترّهم بذلك، ثم كان يفضّل إخوته جميعا عليه في النّزل و الإكرام و الملازمة و يريهم تنقّصا للنّعمان و أنه غير طامع/في تمام أمر على يده، و جعل يخلو بهم رجلا رجلا فيقول: إذا أدخلتكم على الملك فالبسوا أفخر ثيابكم و أجملها، و إذا دعا لكم بالطعام لتأكلوا فتباطئوا في الأكل و صغّروا اللّقم و نزّروا ما تأكلون، فإذا قال لكم: أ تكفونني العرب ؟ فقولوا: نعم، فإذا قال لكم: فإن شذّ أحدكم عن الطاعة و أفسد، أ تكفوننيه ؟ فقولوا: لا، إنّ بعضنا لا يقدر على بعض، ليهابكم و لا يطمع في تفرّقكم و يعلم أن للعرب منعة و بأسا فقبلوا منه، و خلا بالنعمان فقال له: البس ثياب السفر و ادخل متقلّدا بسيفك، و إذا جلست للأكل فعظّم اللّقم و أسرع المضغ و البلع و زد في الأكل و تجوّع قبل ذلك، فإن كسرى يعجبه كثرة الأكل من العرب خاصّة، و يرى أنه لا خير في العربيّ إذا لم يكن أكولا شرها، و لا سيّما إذا رأى غير طعامه و ما لا عهد له بمثله، و إذا سألك هل تكفيني العرب ؟ فقل: نعم، فإذا قال لك: فمن لي بإخوتك ؟ فقل له: إن عجزت عنهم فإني عن غيرهم لأعجز. قال: و خلا ابن مرينا بالأسود فسأله عما أوصاه به عديّ فأخبره، فقال: غشّك و الصليب و المعموديّة و ما نصحك، لئن أطعتني
ص: 399
لتخالفنّ كلّ ما أمرك به و لتملّكنّ ، و لئن عصيتني ليملّكنّ النعمان و لا يغرّنك ما أراكه من الإكرام و التفضيل على النعمان، فإن ذلك دهاء فيه و مكر، و إن هذه المعدّيّة لا تخلو من مكر و حيلة، فقال له: إن عديا لم يألني نصحا و هو أعلم بكسرى منك، و إن خالفته أوحشته و أفسد عليّ /و هو جاء بنا و وصفنا و إلى قوله يرجع كسرى، فلمّا أيس ابن مرينا من قبوله منه قال: ستعلم. و دعا بهم كسرى، فلما دخلوا عليه أعجبه جمالهم و كمالهم و رأى رجالا قلّما رأى مثلهم، فدعا لهم بالطعام ففعلوا ما أمرهم به عديّ ، فجعل ينظر إلى النعمان من بينهم و يتأمّل أكله، فقال لعديّ بالفارسية: إن يكن في أحد منهم خير ففي هذا، فلما غسلوا أيديهم جعل يدعو بهم رجلا رجلا فيقول له: أ تكفيني العرب ؟ فيقول: نعم أكفيكها كلّها إلا إخوتي، حتى انتهى النعمان آخرهم فقال له: أ تكفيني العرب ؟ قال: نعم قال: كلّها؟ قال: نعم، قال: فكيف لي بإخوتك ؟ قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز، فملّكه و خلع عليه و ألبسه تاجا قيمته ستون ألف درهم فيه اللؤلؤ و الذهب.
فلما خرج و قد ملّك قال ابن مرينا للأسود: دونك عقبى خلافك لي!. ثم أن عديا صنع طعاما في بيعة و أرسل إلى ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت فإنّ لي حاجة فأتى في ناس فتغدّوا في البيعة، فقال عديّ بن زيد لابن مرينا: يا عديّ ، إنّ أحقّ من عرف الحقّ ثم لم يلم عليه من كان مثلك، و إني قد عرفت أنّ صاحبك الأسود بن المنذر كان أحبّ إليك أن يملّك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، و أنا أحبّ ألاّ تحقد عليّ شيئا لو قدرت عليه ركبته، و أنا أحبّ أن تعطيني من نفسك ما أعطيك من نفسي، فإنّ نصيبي في هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك، و قام إلى البيعة فحلف ألاّ يهجوه أبدا و لا يبغيه غائلة و لا يزوي عنه خيرا أبدا. فلما فرغ عديّ بن زيد، قام عديّ بن مرينا فحلف مثل يمينه ألاّ يزال يهجوه أبدا و يبغيه الغوائل ما بقي. و خرج النعمان حتى نزل منزل أبيه بالحيرة، فقال/عديّ بن مرينا لعديّ بن زيد:
/ألا أبلغ عديّا عن عديّ *** فلا تجزع و إن رثّت(1) قواكا
هياكلنا تبرّ لغير فقر(2) *** لتحمد(3) أو يتمّ به غناكا(4)
فإن تظفر فلم تظفر حميدا *** و إن تعطب فلا يبعد سواكا
ندمت ندامة الكسعيّ (5) لمّا *** رأت عيناك ما صنعت يداكا
قال: ثم قال عديّ بن مرينا للأسود: أما إذا لم تظفر فلا تعجزنّ أن تطلب بثأرك من هذا المعدّيّ الذي فعل
ص: 400
بك ما فعل، فقد كنت أخبرك أن معدّا لا ينام كيدها و مكرها و أمرتك أن تعصيه فخالفتني، قال: فما تريد؟ قال: أريد ألاّ تأتيك فائدة من مالك و أرضك إلا عرضتها عليّ ففعل. و كان ابن مرينا كثير المال و الضّيعة، فلم يكن في الدهر يوم يأتي إلا على باب النعمان هدية من ابن مرينا، فصار من أكرم الناس عليه حتى كان لا يقضي في ملكه شيئا إلا بأمر ابن مرينا، و كان إذا ذكر عديّ بن زيد عند النعمان أحسن الثناء عليه و شيّع(1) ذلك بأن يقول: إن عديّ بن زيد فيه مكر و خديعة، و المعدّيّ لا يصلح إلا هكذا. فلما رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده لزموه و تابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه: إذا رأيتموني أذكر عديّا عند الملك بخير فقولوا: إنه لكذلك، و لكنه لا يسلم عليه/أحد و إنه ليقول: إنّ الملك - يعني النعمان - عامله، و إنه هو ولاّه ما ولاّه، فلم يزالوا بذلك حتى أضغنوه عليه، فكتبوا كتابا على لسانه إلى قهرمان(2) له ثم دسّوا إليه حتى أخذوا الكتاب منه و أتوا به النعمان فقرأه فاشتدّ غضبه، فأرسل إلى عديّ بن زيد:
عزمت عليك إلاّ زرتني فإنّي قد اشتقت إلى رؤيتك، و عديّ يومئذ عند كسرى، فاستأذن كسرى فأذن له. فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد، فجعل عديّ يقول الشعر و هو في الحبس، فكان أوّل ما قاله و هو محبوس من الشعر:
ليت شعري عن الهمام و يأتي *** ك بخبر الأنباء عطف السّؤال
أين عنّا إخطارنا(3) المال و الأنف *** س إذ ناهدوا(4) ليوم المحال(5)
و نضالي في جنبك الناس يرمو *** ن و أرمي و كلّنا غير آلي(6)
فأصيب الذي تريد بلا غشّ *** و أربي عليهم و أوالي
ليت أنّي أخذت حتفي بكفّيّ *** و لم ألق ميتة الأقتال(7)
محلوا(8) محلهم لصرعتنا العا *** م فقد أوقعوا الرحا بالثّفال(9)
/و هي قصيدة طويلة. قالوا و قال أيضا و هو محبوس:
أرقت لمكفهرّ بات فيه *** بوارق يرتقين رءوس بشيب
ص: 401
تلوح المشرفيّة ذراه *** و يجلو صفح دخدار قشيب
و يروي: تخال المشرفيّة. و الدخدار: فارسية معرّبة و هو الثوب المصون. يقول فيها:
سعى الأعداء لا يألون شرّا *** عليّ (1) و ربّ مكة و الصليب
/أرادوا كي تمهّل عن عديّ *** ليسجن أو يدهده(2) في القليب
و كنت لزاز(3) خصمك لم أعرّد(4) *** و قد سلكوك(5) في يوم عصيب
أعالنهم و أبطن كلّ سرّ *** كما بين اللّحاء(6) إلى العسيب
ففزت عليهم لمّا التقينا *** بتاجك فوزة القدح الأريب(7)
و ما دهري(8) بأن كدّرت فضلا *** و لكن ما لقيت من العجيب
/ألا من مبلغ النعمان عنّي *** و قد تهدى(9) النّصيحة بالمغيب
أ حظّي كان سلسلة و قيدا *** و غلاّ و البيان لدى الطبيب
أتاك بأنّني قد طال حبسي *** و لم تسأم بمسجون حريب(10)
و بيتي مقفر إلا نساء(11) *** أرامل قد هلكن من النّحيب
يبادرن الدموع على عديّ *** كشنّ (12) خانه خرز الرّبيب
يحاذرن الوشاة على عديّ *** و ما اقترفوا عليه من الذّنوب
فإن أخطأت أو أوهمت أمرا *** فقد يهم المصافي بالحبيب
و إن أظلم فقد عاقبتموني *** و إن أظلم فذلك من نصيبي
ص: 402
و إن أهلك تجد فقدي و تخذل *** إذا التقت العوالي في الحروب
فهل لك أن تدارك ما لدينا *** و لا تغلب على الرأي المصيب
فإني قد وكلت اليوم أمري *** إلى ربّ قريب(1) مستجيب
قالوا: و قال فيه أيضا:
طال ذا الليل علينا و اعتكر *** و كأني ناذر الصبح سمر
من نجيّ الهمّ عندي ثاويا *** فوق ما أعلن منه و أسر
و كأن اللّيل فيه مثله *** و لقد ما ظنّ بالليل القصر
/لم أغمّض طوله حتى انقضى *** أتمنّى لو أرى الصّبح جشر(2)
غير ما عشق و لكن طارق *** خلس النوم و أجداني(3) السّهر
و فيها يقول:
أبلغ النّعمان عنّي مألكا(4) *** قول من قد خاف ظنّا فاعتذر
أنّني و اللّه، فاقبل حلفي *** لأبيل(5) كلّما صلّى جأر
مرعد أحشاؤه في هيكل *** حسن لمته وافي الشّعر
ما حملت الغلّ من أعدائكم *** و لدى اللّه من العلم المسر
لا تكوننّ كآسي(6) عظمه *** بأسا حتى إذا العظم جبر
عاد بعد الجبر يبغي(7) وهنه *** ينحونّ المشي منه فانكسر
و اذكر النّعمى التي لم أنسها *** لك في السّعي إذا العبد كفر
/و قال له أيضا - و هي قصيدة طويلة -:
/أبلغ النّعمان عنّي مألكا *** أنه(8) قد طال حبسي و انتظاري
ص: 403
لو بغير الماء حلقي شرق *** كنت كالغصّان بالماء اعتصاري(1)
ليت شعري عن دخيل يفتري *** حيثما أدرك ليلي و نهاري
قاعدا يكرب(2) نفسي بثّها *** و حراما كان سجني و احتصاري(3)
أجل(4) نعمى ربّها(5) أوّلكم *** و دنوّي كان منكم و اصطهاري(6)
/في قصائد كثيرة كان يقولها فيه، و يكتب بها إليه فلا تغني عنده شيئا. (هذه(7) رواية الكلبيّ ).
و أما المفضّل الضّبّيّ فإنه ذكر أن عديّ بن زيد لما قدم على النعمان صادفه لا مال و لا أثاث و لا ما يصلح لملك، و كان آدم إخوته منظرا و كلّهم أكثر مالا منه، فقال له عديّ : كيف أصنع بك و لا مال عندك! فقال له النعمان: ما أعرف لك حيلة إلا ما تعرفه أنت، فقال له: قم بنا نمض إلى ابن قردس(8) - رجل من أهل الحيرة من دومة - فأتياه ليقترضا منه مالا، فأبى أن يقرضهما و قال: ما عندي شيء، فأتيا جابر بن شمعون و هو الأسقفّ أحد بني الأوس بن قلاّم بن بطين بن جمهير(9) بن لحيان من بني الحارث بن كعب فاستقرضا منه مالا، فأنزلهما عنده ثلاثة أيام يذبح لهم و يسقيهم الخمر، فلما كان في اليوم الرابع قال لهما: ما تريدان ؟ فقال له عديّ : تقرضنا أربعين ألف درهم يستعين بها النعمان على أمره عند كسرى، فقال: لكما عندي ثمانون ألفا، ثم أعطاهما إياها، فقال النعمان لجابر: لا جرم(10) لا جرى لي درهم إلاّ على يديك إن أنا ملكت. قال: و جابر هو صاحب القصر الأبيض
ص: 404
بالحيرة، ثم ذكر من قصة النعمان و إخوته و عديّ و ابن مرينا مثل ما ذكره ابن الكلبيّ . و قال المفضّل خاصّة: إن سبب حبس النعمان عديّ بن زيد، أنّ عديا صنع ذات يوم طعاما للنعمان، و سأله أن يركب إليه و يتغدّى عنده هو و أصحابه، فركب النعمان إليه فاعترضه عديّ بن مرينا فاحتبسه حتى تغدّى عنده هو و أصحابه و شربوا حتى ثملوا، /ثم ركب إلى عديّ و لا فضل فيه، فأحفظه(1) ذلك، و رأى في وجه عديّ الكراهة فقام فركب و رجع إلى منزله، فقال عديّ بن زيد في ذلك من فعل النعمان:
أحسبت مجلسنا و حس *** ن حديثنا يودي بمالك
فالمال و الأهلون مص *** رعة لأمرك أو نكالك
ما تأمرن(2) فينا فأم *** رك في يمينك أو شمالك
قال: و أرسل النعمان ذات يوم إلى عديّ بن زيد فأبى أن يأتيه ثم أعاد رسوله فأبى أن يأتيه، و قد كان النعمان شرب فغضب و أمر به فسحب من منزله حتى انتهى به إليه، فحبسه في الصّنّين(3) و لجّ في حبسه و عديّ يرسل إليه بالشعر، فمما قاله له:
ليس شيء على المنون بباق *** غير وجه المسبّح الخلاّق
إن نكن آمنين فاجأنا شرّ مصيب ذا الودّ و الإشفاق فبرئ صدري من الظلم للرّبّ و حنث بمعقد(4) الميثاق
و لقد ساءني زيارة ذي قر *** بى حبيب لودّنا مشتاق
ساءه ما بنا تبيّن في الأي *** دي(5) و إشناقها(6) إلى الأعناق
فاذهبي يا أميم غير بعيد *** لا يؤاتي العناق من في الوثاق(7)
/و اذهبي يا أميم إن يشأ اللّه *** ينفّس من أزم(8) هذا الخناق
أو تكن وجهة فتلك سبيل النا *** س لا تمنع الحتوف الرّواقي(9)
ص: 405
و يقول فيها:
و تقول العداة أودى عديّ *** و بنوه قد أيقنوا بغلاق(1)
يا أبا مسهر فأبلغ رسولا *** إخوتي إن أتيت صحن العراق
أبلغا(2) عامرا و أبلغ أخاه *** أنّني موثق شديد وثاقي(3)
في حديد القسطاس(4) يرقبني الحا *** رس و المرء كلّ شيء يلاقي
في حديد مضاعف و غلول *** و ثياب منضّحات(5) خلاق
فاركبوا في الحرام فكّوا أخاكم *** إنّ عيرا(6) قد جهّزت لانطلاق
يعني الشهر الحرام. قالوا جميعا: و خرج النعمان إلى البحرين، فأقبل رجل من غسّان فأصاب في الحيرة ما أحب، و يقال: إنه جفنة(7) بن النعمان الجفنيّ ، فقال عديّ بن زيد في ذلك:
سما صقر فأشعل جانبيها *** و ألهاك المروّح و العزيب
المروّح: الإبل المروّحة إلى أعطانها. و العزيب: ما ترك في مراعيه.
و ثبن لدى الثّويّة(8) ملجمات *** و صبّحن العباد(9) و هنّ شيب
ألا تلك الغنيمة لا إفال(10) *** ترجّيها مسوّمة و نيب(11)
ص: 406
ترجّيها و قد صابت بقرّ(1) *** كما ترجو أصاغرها عتيب(2)
و قالوا جميعا: فلما طال سجن عديّ بن زيد كتب إلى أخيه أبيّ و هو مع كسرى بهذا الشعر:
أبلغ أبيّا على نأيه *** و هل ينفع المرء ما قد علم
بأنّ أخاك شقيق الفؤا *** د كنت به واثقا(3) ما سلم
لدى ملك موثق في الحديد إمّا بحقّ و إمّا ظلم
فلا أعرفنك كذات(4) الغلام *** ما لم تجد عارما(5) تعترم(6)
فأرضك أرضك إن تأتينا *** ننم نومة(7) ليس فيها حلم
قال: فكتب إليه أخوه أبيّ :
إن يكن خانك الزمان فلا عا *** جز باع(8) و لا ألّف(9) ضعيف
و يمين الإله لو أنّ جأوا *** ء(10) طحونا تضيء فيها السيوف
ذات رزّ(11) مجتابة غمرة المو *** ت صحيح سربالها مكفوف(12)
ص: 407
كنت في حميها لجئتك أسعى *** فاعلمن لو سمعت إذ تستضيف(1)
أو بمال سألت(2) دونك لم يم *** نع تلاد لحاجة أو طريف
/أو بأرض أسطيع آتيك فيها *** لم يهلني بعد بها(3) أو مخوف
/إن تفتني و اللّه إلفا فجوعا *** لا يعقّبك ما يصوب الخريف(4)
في الأعادي و أنت منّي بعيد *** عزّ(5) هذا الزمان و التعنيف
و لعمري لئن جزعت عليه *** لجزوع على الصديق أسوف
و لعمري لئن ملكت عزائي *** لقليل شرواك(6) فيما أطوف
قالوا جميعا: فلما قرأ أبيّ كتاب عديّ قام إلى كسرى فكلمه في أمره و عرّفه خبره، فكتب إلى النعمان يأمره بإطلاقه، و بعث معه رجلا، و كتب خليفة النعمان إليه: إنه كتب إليك في أمره، فأتى النعمان أعداء عديّ من بني بقيلة(7)و هم من غسّان، فقالوا له: اقتله الساعة فأبى عليهم، و جاء الرسول، و قد كان أخو عديّ تقدّم إليه و رشاه و أمره أن يبدأ بعديّ فيدخل إليه محبوس بالصّنّين، فقال له: ادخل عليه فانظر ما يأمرك به فامتثله، فدخل الرسول على عديّ ، فقال له: إنّي قد جئت بإرسالك، فما عندك ؟ قال: عندي الذي تحبّ و وعده بعدة سنيّة، و قال له: لا تخرجنّ من عندي و أعطني الكتاب حتى أرسله إليه، فإنك و اللّه إن خرجت من عندي لأقتلنّ ، فقال: لا أستطيع إلا أن آتي الملك بالكتاب فأوصّله إليه، فانطلق بعض من كان هناك من أعدائه فأخبر النعمان أن رسول كسرى دخل على عديّ و هو /ذاهب به، و إن فعل و اللّه لم يستبق منّا أحدا أنت و لا غيرك، فبعث إليه النعمان أعداءه فغمّوه(8) حتى مات ثم دفنوه. و دخل الرسول إلى النعمان فأوصل الكتاب إليه، فقال: نعم و كرامة، و أمر له بأربعة آلاف مثقال ذهبا و جارية حسناء، و قال له: إذا أصبحت فادخل أنت بنفسك فأخرجه، فلما أصبح ركب فدخل السجن، فأعلمه الحرس أنه قد مات منذ أيام و لم نجترئ على إخبار الملك خوفا منه، و قد عرفنا كراهته لموته. فرجع إلى النعمان، و قال له: إنّي كنت أمس دخلت على عديّ . و هو حيّ ، و جئت اليوم فجحدني(9) السّجّان و بهتني(10)، و ذكر أنه قد مات منذ أيام.
فقال له النعمان: أ يبعث بك الملك إليّ فتدخل إليه قبلي! كذبت، و لكنك أردت الرشوة و الخبث، فتهدّده ثم زاده
ص: 408
جائزة و أكرمه، و توثّق منه ألاّ يخبر كسرى إلا أنه قد مات قبل أن يقدم عليه. فرجع الرسول إلى كسرى، و قال: إنّي وجدت عديّا قد مات قبل أن أدخل عليه. و ندم النعمان على قتل عديّ و عرف أنه احتيل عليه في أمره، و اجترأ عليه و هابهم هيبة شديدة.
ثم إنه خرج إلى صيده ذات يوم فلقي ابنا لعديّ يقال له زيد، فلما رآه عرف شبهه، فقال له: من أنت ؟ فقال: أنا زيد بن عديّ بن زيد، فكلّمه فإذا غلام ظريف، ففرح به فرحا شديدا و قرّبه و أعطاه و وصله و اعتذر إليه من أمر أبيه و جهّزه(1)، ثم كتب إلى كسرى: إنّ عديّا كان ممن أعين به الملك في نصحه و لبّه، فأصابه ما لا بدّ منه و انقطعت مدّته و انقضى أجله، و لم يصب به أحد أشدّ من مصيبتي، و أما الملك فلم يكن ليفقد رجلا إلا جعل اللّه له منه خلفا لما عظّم اللّه من ملكه و شأنه، و قد بلغ ابن له ليس بدونه، رأيته يصلح لخدمة الملك فسرّحته إليه، فإن رأى الملك أن يجعله مكان أبيه فليفعل و ليصرف عمّه عن ذلك إلى عمل أخر. و كان هو/الذي يلي/المكاتبة عن الملك إلى ملوك العرب في أمورها و في خواصّ أمور الملك. و كانت له من العرب وظيفة موظّفة في كل سنة: مهران أشقران يجعلان له هلاما(2)، و الكمأة الرّطبة في حينها و اليابسة و الأقط و الأدم و سائر تجارات العرب، فكان زيد بن عديّ يلي ذلك له و كان هذا عمل عديّ . فلما وقع زيد بن عديّ عند الملك هذا الموقع سأله كسرى عن النعمان، فأحسن الثناء عليه. و مكث على ذلك سنوات على الأمر الذي كان أبوه عليه. و أعجب به كسرى، فكان يكثر الدخول عليه و الخدمة له.
و كانت لملوك العجم صفة من النساء مكتوبة عندهم، فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة، فإذا وجدت حملت إلى الملك، غير أنهم لم يكونوا يطلبونها في أرض العرب و لا يظنونها عندهم. ثم إنه بدا للملك في طلب تلك الصفة، و أمر فكتب بها إلى النواحي، و دخل إليه زيد بن عديّ و هو في ذلك القول، فخاطبه فيما دخل إليه فيه، ثم قال: إني رأيت الملك قد كتب في نسوة يطلبن له و قرأت الصفة و قد كنت بآل المنذر عارفا، و عند عبدك النعمان من بناته و أخواته و بنات عمه و أهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة، قال: فاكتب فيهنّ ، قال: أيها الملك، إنّ شرّ شيء في العرب و في النعمان خاصّة أنهم يتكرّمون - زعموا في أنفسهم - عن العجم، فأنا أكره أن يغيبهنّ عمن تبعث إليه أو يعرض عليه غيرهنّ ، و إن قدمت أنا عليه لم يقدر على ذلك، فابعثني و ابعث معي رجلا من ثقاتك يفهم العربية حتى أبلغ ما تحبّه، فبعث معه رجلا جلدا فهما، فخرج به زيد، فجعل يكرم الرجل و يلطفه حتى بلغ الحيرة، فلما دخل عليه أعظم الملك و قال: إنه قد احتاج إلى نساء لنفسه و ولده و أهل بيته، و أراد كرامتك بصهره فبعث إليك، فقال: ما هؤلاء النّسوة ؟ /فقال: هذه صفتهنّ قد جئنا بها. و كانت الصفة أن المنذر الأكبر أهدى إلى أنوشروان جارية كان أصابها إذ أغار على الحارث الأكبر بن أبي شمر الغسّانيّ ، فكتب إلى أنوشروان بصفتها، و قال: إني قد وجّهت إلى الملك جارية معتدلة الخلق، نقيّة اللون و الثغر، بيضاء قمراء
ص: 409
و طفاء(1) كحلاء دعجاء(2) حوراء عيناء قنواء(3) شمّاء(4) برجاء(5) زجّاء(6) أسيلة الخدّ، شهيّة المقبّل، جثلة(7) الشّعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء(8)، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاش المنكب و العضد، حسنة المعصم، لطيفة الكفّ ، سبطة البنان، ضامرة البطن، خميصة الخصر، غرثى(9) الوشاح، رداح(10) الإقبال، رابية الكفل، لفّاء(11) الفخذين، ريّا الروادف، ضخمة المأكمتين(12)، مفعمة(13) الساق، مشبعة(14) الخلخال، لطيفة الكعب و القدم، قطوف(15) المشي، مكسال(16) الضّحى، بضّة(17) المتجرّد، سموعا للسيّد، ليست بخنساء(18) و لا سفعاء(19)، رقيقة الأنف، /عزيزة(20) النفس، لم تغذّ في بؤس، حييّة رزينة، حليمة ركينة، كريمة الخال، تقتصر على نسب أبيها دون فصيلتها، و تستغني بفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، و عملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفّين، قطيعة(21) اللسان و رهو(22)الصوت ساكنته، تزين الوليّ ، و تشين العدوّ، إن أردتها اشتهت، و إن تركتها انتهت، تحملق(23) عيناها، و تحرّ وجنتاها، و تذبذب شفتاها، و تبادرك/الوثبة إذا قمت، و لا تجلس إلا بأمرك إذا جلست. قال: فقبلها أنوشروان و أمر بإثبات هذه الصفة في دواوينه، فلم يزالوا يتوارثونها حتى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز. فقرأ زيد هذه الصفة على النعمان، فشقت عليه؛ و قال لزيد و الرسول يسمع: أ ما في مها السّواد و عين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته! فقال
ص: 410
الرسول لزيد بالفارسية: ما المها و العين ؟ فقال له بالفارسية: كاوان أي البقر؛ فأمسك الرسول. و قال زيد للنعمان:
إنما أراد الملك كرامتك، و لو علم أنّ هذا يشقّ عليك لم يكتب إليك به. فأنزلهما يومين عنده، ثم كتب إلى كسرى:
إن الذي طلب الملك ليس عندي، و قال لزيد: اعذرني عند الملك. فلما رجعا إلى كسرى؛ قال زيد للرسول الذي قدم معه: اصدق الملك عما سمعت، فإني سأحدّثه بمثل حديثك و لا أخالفك فيه. فلما دخلا على كسرى، قال زيد: هذا كتابه إليك، فقرأه عليه. فقال له كسرى: و أين الذي كنت خبّرتني به ؟ قال: قد كنت خبّرتك بضنّتهم بنسائهم على غيرهم، و إنّ ذلك من شقائهم و اختيارهم الجوع و العري على الشّبع/و الرّياش، و إيثارهم السّموم و الرياح على طيب أرضك هذه، حتى إنهم ليسمّونها السّجن، فسل هذا الرسول الذي كان معي عمّا قال، فإني أكرم الملك عن مشافهته بما قال و أجاب به. قال للرسول: و ما يقال! أيها الملك، إنه قال: أ ما كان في بقر السواد و فارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا، فعرف الغضب في وجهه، و وقع في قلبه منه ما وقع، لكنّه لم يزد على أن قال: ربّ عبد قد أراد ما هو أشدّ من هذا ثم صار أمره إلى التّباب. و شاع هذا الكلام حتى بلغ النعمان، و سكت كسرى أشهرا على ذلك.
و جعل النعمان يستعدّ و يتوقّع حتى أتاه كتابه: أن أقبل فإن للملك حاجة إليك، فانطلق حين أتاه كتابه فحمل سلاحه و ما قوي عليه، ثم لحق بجبلي طيء و كانت فرعة(1) بنت سعد بن حارثة بن لأم عنده، و قد ولدت له رجلا و امرأة، و كانت أيضا عنده زينب بنت أوس بن حارثة، فأراد النعمان طيّئا على أن يدخلوه الجبلين و يمنعوه فأبوا ذلك عليه، و قالوا له: لو لا صهرك لقتلناك، فإنه لا حاجة بنا إلى معاداة كسرى، و لا طاقة لنا به. و أقبل يطوف على قبائل العرب ليس أحد منهم يقبله، غير أنّ بني رواحة بن قطيعة بن عبس قالوا: إن شئت قاتلنا معك، لمنّة كانت له عندهم في أمر مروان(2) القرظ، قال: ما أحبّ أن أهلككم، فإنه لا طاقة لكم بكسرى. فأقبل حتى نزل بذي(3) قار في بني شيبان سرا، فلقي هانئ بن قبيصة، و قيل بل هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل/بن شيبان، و كان سيدا منيعا، و البيت يومئذ من ربيعة في آل ذي الجدين لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد(4) ذي الجدّين، و كان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلّة(5)، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك، و علم أن هانئا يمنعه مما يمنع منه نفسه.
و قال حمّاد الرواية في خبره: إنه إنما استجار بهانئ كما استجار بغيره فأجاره، و قال له: قد لزمني ذمامك و أنا مانعك مما أمنع نفسي و أهلي و ولدي منه ما بقي من عشيرتي الأدنين رجل، و إنّ ذلك غير نافعك لأنه مهلكي
ص: 411
و مهلكك، و عندي رأي لك، لست أشير به عليك لأدفعك عما تريده من مجاورتي و لكنه الصواب؛ فقال: /هاته؛ فقال: إن كلّ أمر يجمل بالرجل أن يكون عليه إلا أن يكون بعد الملك سوقة، و الموت نازل بكل أحد، و لأن تموت كريما خير من أن تتجرّع الذلّ أو تبقى سوقة بعد الملك، هذا إن بقيت، فأمض إلى صاحبك و ارسل إليه هدايا و مالا و ألق نفسك بين يديه، فإما أن صفح عنك فعدت ملكا عزيزا، و إما أن أصابك فالموت خير من أن يتلعّب بك صعاليك العرب و يتخطّفك ذئابها و تأكل مالك و تعيش فقيرا مجاورا أو تقتل مقهورا؛ فقال: كيف بحرمي ؟ قال: هنّ في ذمتي، لا يخلص إليهنّ حتى يخلص إلى بناتي؛ فقال: هذا و أبيك الرأي الصحيح، و لن أجاوزه. ثم اختار خيلا و حللا من عصب(1) اليمن و جوهرا و طرقا كانت عنده، و وجّه بها إلى كسرى و كتب إليه يعتذر و يعلمه أنه صائر إليه، و وجّه بها مع رسوله، فقبلها كسرى/و أمره بالقدوم؛ فعاد إليه الرسول فأخبره بذلك و أنه لم ير له عند كسرى سوءا. فمضى إليه حتى إذا وصل إلى المدائن(2) لقيه «زيد بن عديّ على قنطرة ساباط(3)، فقال له: انج نعيم، إن استطعت النّجاء؛ فقال له: أ فعلتها يا زيد! أما و اللّه، لئن عشت لك لأقتلنّك قتلة لم يقتلها عربيّ قط و لألحقنّك بأبيك! فقال له زيد: امض لشأنك نعيم، فقد و اللّه أخّيت لك أخيّة(4) لا يقطعها المهر الأرن(5).
فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه، فقيّده و بعث به إلى سجن كان له بخانقين(6)، فلم يزل فيه حتى وقع الطاعون هناك فمات فيه.
و قال حمّاد الرواية و الكوفيون: بل مات بساباط في حبسه. و قال ابن الكلبيّ : ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته حتى مات، و احتجّوا بقول الأعشى:
فذاك(7) و ما أنجى من الموت ربّه *** بساباط حتى مات و هو محزرق(8)
/قال: المحزرق: المضيّق عليه. و أنكر هذا من زعم أنه مات بخانقين، و قالوا: لم يزل محبوسا مدّة طويلة، و إنه إنما مات بعد ذلك بحين قبيل الإسلام، و غضبت له العرب حينئذ، و كان قتله سبب وقعة ذي قار.
ص: 412
أخبرني عمّي قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثنا عليّ بن الصّبّاح و أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال قال عليّ بن الصبّاح حدّثني هشام بن الكلبيّ عن أبيه قال:
كان عديّ بن زيد بن حمّاد بن زيد بن أيوب الشاعر العباديّ يهوى هند بنت النعمان بن المنذر بن المنذر(1) بن امرئ القيس بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم و هو مالك بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و لها يقول:
علق الأحشاء من هند علق(2) *** مستسرّ فيه نصب(3) و أرق
و هي قصيدة طويلة. و فيها أيضا يقول:
من لقلب دنف أو معتمد(4) *** قد عصى كلّ نصوح و مفد(5)
و هي طويلة. و فيها أيضا يقول:
يا خليليّ يسّرا التعسيرا *** ثم روحا فهجّرا تهجيرا
/عرّجا بي على ديار لهند *** ليس أن عجتما المطيّ كبيرا
قال ابن الكلبيّ : و قد تزوّجها عديّ . و قال ابن أبي سعد، و ذكر ذلك خالد ابن كلثوم أيضا قالا: كان سبب عشقه إياها أن هندا كانت من أجمل نساء أهلها و زمانها، و أمّها مارية الكندية؛ فخرجت في خميس الفصح(6)، و هو بعد السّعانين بثلاثة أيام، تتقرّب في البيعة، و لها حينئذ إحدى عشرة سنة، و ذلك في ملك المنذر؛ و قد قدم عديّ حينئذ بهديّة من كسرى إلى المنذر، و النعمان يومئذ فتى شابّ ، فاتفق دخولها البيعة و قد دخلها عديّ ليتقرّب، و كانت مديدة القامة عبلة(7) الجسم، فرآها عديّ و هي غافلة فلم تنتبه له حتى تأمّلها، و قد كان جواريها رأين عديّا و هو مقبل فلم يقلن لها ذلك، كي يراها عديّ ، و إنما فعلن هذا من أجل أمة لهند يقال لها مارية، و قد كانت أحبّت عديا فلم تدر كيف تأتي له. فلما رأت هند عديا ينظر إليها شقّ ذلك عليها، و سبّت جواريها و نالت بعضهنّ بضرب؛
ص: 413
فوقعت هند في نفس عديّ ، فلبث حولا لا يخبر بذلك أحدا. فلما كان بعد حول و ظنّت مارية أنّ هندا قد أضربت عمّا جرى وصفت لها بيعة دومة - و قال خالد بن كلثوم: بيعة توما(1) و هو الصحيح - و وصفت لها من فيها من الرواهب، و من يأتيها من جواري الحيرة، و حسن بنائها و سرجها؛ و قالت لها: سلي أمّك الإذن لك في إتيانها، فسألتها ذلك فأذنت لها، و بادرت مارية إلى عديّ فأخبرته الخبر فبادر فلبس يلمقا(2) كان «فرخان شاه مرد» قد كساه إياه، و كان/مذهبا لم ير مثله حسنا، و كان عديّ حسن الوجه، مديد القامة، حلو العينين، حسن المبسم، نقيّ الثّغر. و أخذ معه جماعة من فتيان الحيرة، فدخل البيعة؛ فلما رأته مارية قالت لهند: انظري إلى هذا الفتى! فهو و اللّه أحسن من كلّ ما ترين من السرج و غيرها! قالت: و من هو؟ قالت: عديّ بن زيد؛ قالت: أ تخافين أن يعرفني إن دنوت منه لأراه من قريب ؟ قالت: و من أين يعرفك و ما رآك قطّ من حيث يعرفك! فدنت منه و هو يمازح الفتيان الذين معه و قد برع عليهم بجماله، و حسن كلامه و فصاحته، و ما عليه من الثياب، فذهلت لمّا رأته و بهتت(3) تنظر إليه. و عرفت مارية ما بها و تبيّنته في وجهها، فقالت لها: كلّميه، فكلّمته، و انصرفت و قد تبعته نفسها و هويته، و انصرف بمثل حالها. فلما كان الغد تعرّضت له مارية، فلما رآها هشّ لها، و كان قبل ذلك لا يكلّمها، و قال لها:
ما غدا بك ؟ قالت: حاجة إليك، قال: اذكريها، فو اللّه لا تسأليني شيئا إلا أعطيتك إياه، فعرّفته أنها تهواه، و أن حاجتها الخلوة به على أن تحتال له في هند، و عاهدته على ذلك؛ فأدخلها حانوت خمّار في الحيرة و وقع عليها، ثم خرجت فأتت هندا، فقالت: أ ما تشتهين أن تري عديا؟ قالت: و كيف لي به ؟ قالت: أعده مكان كذا و كذا في ظهر القصر و تشرفين عليه؛ قالت: افعلي، فواعدته إلى ذلك المكان، فأتاه و أشرفت هند عليه، فكادت تموت(4)، و قالت: إن لم تدخليه إليّ هلكت. فبادرت الأمة إلى النعمان فأخبرته خبرها و صدقته، و ذكرت أنها قد شغفت به، و أن سبب ذلك رؤيتها إياه في يوم الفصح، و أنه إن لم يزوّجها به افتضحت في أمره أو ماتت؛ فقال لها: ويلك! و كيف أبدؤه/بذلك! فقالت: هو أرغب في ذلك من أن تبدأه أنت، /و أنا أحتال في ذلك من حيث لا يعلم أنك عرفت أمره. و أتت عديّا فأخبرته الخبر، و قالت: ادعه، فإذا أخذ الشراب منه فاخطب إليه فإنه غير رادّك؛ قال: أخشى أن يغضبه ذلك فيكون سبب العداوة بيننا؛ قالت: ما قلت لك هذا حتى فرغت منه معه؛ فصنع عديّ طعاما و احتفل فيه، ثم أتى النعمان بعد الفصح بثلاثة أيام، و ذلك في يوم الاثنين، فسأله أن يتغدّى عنده هو و أصحابه، ففعل. فلما أخذ منه الشراب خطبها إلى النعمان، فأجابه و زوّجه و ضمّها إليه بعد ثلاثة أيام.
ماتت، و كانت وفاتها بعد الإسلام بزمان طويل في ولاية المغيرة بن شعبة الكوفة، و خطبها المغيرة فردّته.
أخبرني عمي قال حدّثني ابن أبي سعد قال حدّثنا عليّ بن الصّبّاح عن هشام بن محمد بن(1) الكلبيّ عن أبيه و الشّرقيّ بن القطاميّ قالا:
مرّ المغيرة بن شعبة لما ولاه معاوية الكوفة بدير هند، فنزله و دخل على هند بنت النعمان بعد أن استأذن عليها، فأذنت له و بسطت له مسحا(2) فجلس عليه، ثم قالت له: ما جاء بك ؟ قال: جئتك خاطبا؛ قالت:
و الصليب لو علمت أن فيّ خصلة/من جمال أو شباب رغّبتك فيّ لأجبتك، و لكنّك أردت أن تقول في المواسم:
ملكت مملكة النعمان بن المنذر و نكحت ابنته، فبحقّ معبودك أ هذا أردت ؟ قال: إي و اللّه؛ قال: فلا سبيل إليه؛ فقام المغيرة و انصرف و قال فيها:
أدركت ما منّيت نفسي خاليا *** للّه درّك يا ابنة النعمان
فلقد رددت على المغيرة ذهنه *** إنّ الملوك نقيّة الأذهان
و في رواية أخرى:
إنّ الملوك بطيّة الإذعان
يا هند حسبك قد صدقت فأمسكي
فالصّدق خير مقالة الإنسان
و قد روى عن ابن الكلبيّ غير عليّ بن الصّبّاح في هند أنها كانت تهوى زرقاء اليمامة، و أنها أوّل امرأة أحبّت امرأة في العرب، فإنّ الزرقاء كانت ترى الجيش من مسيرة ثلاثين ميلا؛ فغزا قوم من العرب اليمامة، فلما قربوا من مسافة نظرها قالوا: كيف لكم بالوصول، مع الزرقاء! فاجتمع رأيهم على أن يقتلعوا شجرا تستر كلّ شجرة منها الفارس إذا حملها؛ فقطع كلّ واحد منهم بمقدار طاقته و ساروا بها؛ فأشرفت، كما كانت تفعل، فقال لها قومها: ما ترين يا زرقاء؟ و ذلك في آخر النهار؛ قالت: أرى شجرا يسير؛ فقالوا: كذبت أو كذبتك عينك، و استهانوا بقولها؛ فلما أصبحوا صبحهم(3) القوم، فاكتسحوا(4) أموالهم و قتلوا منهم مقتلة عظيمة و أخذوا الزرقاء فقلعوا عينها فوجدوا فيها عروقا سوداء، فسئلت عنها فقالت: إني كنت أديم الاكتحال بالإثمد فلعلّ هذا منه، و ماتت بعد ذلك بأيام؛ و بلغ هندا(5)خبرها/فترهّبت و لبست المسوح و بنت ديرا يعرف بدير هند إلى الآن، فأقامت فيه حتى ماتت.
ص: 415
و روى ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ : أنّ النعمان لما حبس عديّا أكرهه في أمرها على/طلاقها و لم يزل به حتى طلّقها. قال ابن حبيب: و ذكر عديّ بن زيد صهره هذا للنعمان في قصائده و كان زوج أخته - هكذا ذكر العلماء من أهل الحيرة. و قالت رواة العرب: إنه كان زوج ابنته هند - فمن ذلك قوله في قصيدته التي أوّلها:
أبصرت عيني عشاء ضوء نار
فقال فيها:
أجل نعمى ربّها أوّلكم *** و دنوّي كان منكم و اصطهاري
نحن كنّا قد علمتم قبلها(1) *** عمد البيت و أوتاد الإصار
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثنا إبراهيم بن فهد قال حدّثنا خليفة بن خيّاط شباب(2) العصفريّ قال حدّثنا هشام بن محمد قال حدّثني يحيى بن أيوب البجليّ قال حدّثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد اللّه البجليّ قال: سمعت جدّي جرير بن عبد اللّه يقول، و أخبرني به عمّي قال حدّثنا أحمد بن عبيد اللّه قال أخبرنا محمد بن يزيد بن زياد الكلبيّ أبو عبد اللّه قال حدّثني معروف بن خرّبوذ(3) عن يحيى بن أيوب/عن أبي زرعة بن عمرو قال: سمعت جدّي جرير بن عبد اللّه - و لفظ هذا الخبر لأحمد ابن عبيد اللّه و روايته أتم - قال:
كان سبب تنصّر النعمان - و كان يعبد الأوثان قبل ذلك، و قال أحمد بن عبيد اللّه في خبره: النعمان بن المنذر الأكبر - أنه كان قد خرج يتنزه بظهر الحيرة و معه عديّ بن زيد، فمرّ على المقابر من ظهر الحيرة و نهرها؛ فقال له عديّ بن زيد: أبيت اللّعن، أ تدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا، و قال أحمد بن عبيد اللّه في خبره: فقال له تقول:
أيّها الركب المخبّو *** ن على الأرض المجدّون
كما أنتم كنّا(4) *** و كما نحن تكونون
ص: 416
و قال الصّوليّ في خبره: فقال له تقول:
كنّا كما كنتم حينا فغيّرنا *** دهر فسوف كما صرنا تصيرونا
قال: فانصرف و قد دخلته رقّة، فمكث بعد ذلك يسيرا؛ ثم خرج خرجة أخرى فمرّ على تلك المقابر و معه عديّ ، فقال له: أبيت اللّعن، أ تدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا؛ قال: فإنها تقول:
من رآنا فليحدّث نفسه *** أنه موف على قرن(1) زوال
و صروف الدّهر لا يبقى لها *** و لما تأتي به صمّ الجبال
ربّ ركب قد أناخوا عندنا(2) *** يشربون الخمر بالماء الزّلال
/و الأباريق(3) عليها فدم(4) *** و جياد الخيل تردي(5) في الجلال
عمروا دهرا بعيش حسن *** آمني(6) دهرهم غير عجال
ثم أضحوا عصف الدّهر بهم *** و كذاك الدهر يودي بالرّجال(7)
و كذاك الدهر يرمي بالفتى *** في طلاب العيش حالا بعد حال
قال الصّوليّ في خبره و هو الصحيح: فرجع النعمان فتنصّر؛ و قال أحمد بن عبيد اللّه في خبره عن الزياديّ الكلبيّ :
فرجع النعمان من وجهه و قال لعديّ : ائتني الليلة إذا هدأت الرّجل لتعلم حالي، فأتاه فوجده قد لبس المسوح و تنصّر و ترهّب و خرج سائحا/على وجهه فلا يدرى ما كانت حاله، فتنصر ولده بعده، و بنوا البيع و الصوامع، و بنت هند بنت النعمان بن المنذر [بن النعمان بن المنذر](8) الدير الذي بظهر الكوفة و يقال له: «دير هند» فلما حبس كسرى النعمان الأصغر أباها و مات في حبسه ترهّبت هند و لبست المسوح و أقامت في ديرها مترهّبة حتى ماتت فدفنت فيه.
قال مؤلف هذا الكتاب: إنما ذكرت الخبر الذي رواه الزياديّ على ما فيه من التخليط لأني إذا أتيت بالقصّة ذكرت [كلّ ](9) ما يروى في معناها. و هو خبر مختلط، /لأن عديّ بن زيد إنما كان صاحب النعمان بن المنذر
ص: 417
و هو المحبوس و النعمان الأكبر لا يعرفه عديّ و لا رآه و لا هو جدّ النعمان الذي صحبه عديّ كما ذكر ابن زياد، و قد ذكرت نسب النعمان آنفا، و لعل هذا النعمان الذي ذكره عمّ النعمان بن المنذر الأصغر بن المنذر الأكبر، و المتنصّر السائح على وجهه ليس عديّ بن زيد أدخله في النصرانية، و كيف يكون هو المدخل له في النصرانية و قد ضربه مثلا للنعمان في شعره لمّا حبسه مع من ضربه مثلا له من الملوك السالفة!.
حدّثنا بخبر ذلك الملك جعفر بن محمد الفريابيّ و أحمد بن عبد العزيز بن الجعد الوشّاء قالا: حدّثنا إسحاق بن البهلول الأنباريّ قال حدّثني أبي البهلول بن حسّان التّنوخيّ قال حدّثني إسحاق بن زياد من بني سامة بن لؤيّ عن شبيب بن شيبة عن خالد بن صفوان بن الأهتم قال:
أوفدني يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك في وفد أهل العراق قال: فقدمت عليه و قد خرج بقرابته و حشمه و غاشيته(1) و جلسائه، فنزل في أرض قاع صحصح(2) منيف أفيح(3)، في عام قد بكّر وسميّه(4) و تتابع وليّه، و أخذت الأرض [فيه](5) زينتها على اختلاف ألوان نبتها من نور ربيع مونق فهو في أحسن منظر، و أحسن مختبر، و أحسن مستمطر، بصعيد كأنّ ترابه قطع الكافور؛ قال: و قد ضرب له سرادق من حبرة(6) كان يوسف بن عمر صنعه له باليمن، فيه فسطاط فيه أربعة أفرشة من خزّ أحمر مثلها مرافقها، و عليه درّاعة من خزّ أحمر مثلها عمامتها، و قد أخذ/الناس مجالسهم؛ قال: فأخرجت رأسي من ناحية السّماط(7) فنظر إليّ شبه المستنطق لي فقلت: أتمّ اللّه عليك يا أمير المؤمنين نعمة، و جعل ما قلّدك من هذا الأمر رشدا، و عاقبة ما يؤول إليه حمدا، و أخلصه لك بالتّقى، و كثّره لك بالنماء، و لا كدّر عليك منه ما صفا، و لا خالط سروره بالرّدى، فلقد أصبحت للمؤمنين ثقة و مستراحا، إليك يقصدون في مظالمهم، و يفزعون في أمورهم، و ما أجد شيئا يا أمير المؤمنين هو أبلغ في قضاء حقك، و توقير مجلسك، و ما منّ اللّه جلّ و عز عليّ به من مجالستك من أن أذكّرك نعم اللّه عليك، و أنبّهك لشكرها، و ما أجد في ذلك شيئا هو أبلغ من حديث من سلف قبلك من الملوك، فإن أذن أمير المؤمنين أخبرته به؛ قال: فاستوى جالسا و كان متّكئا ثم قال: هات يا ابن الأهتم، قال: قلت يا أمير المؤمنين إنّ ملكا من الملوك قبلك خرج في عام مثل عامك هذا إلى الخورنق و السّدير(8) في عام قد بكّر وسميّه، و تتابع وليّه، و أخذت الأرض [فيه](9) زينتها على اختلاف ألوان نبتها في ربيع مونق، فهو في أحسن منظر، و أحسن مختبر، بصعيد كأن
ص: 418
ترابه/قطع الكافور، و قد كان أعطي فتاء السنّ مع الكثرة و الغلبة و القهر، فنظر فأبعد النظر ثم قال لجلسائه: لمن مثل هذا، هل رأيتم مثل ما أنا فيه! و هل أعطي أحد مثل ما أعطيت! قال: و عنده رجل من بقايا حملة الحجّة، و المضيّ على أدب الحقّ و منهاجه، قال: و لم تخل الأرض من قائم للّه بحجّة في عباده؛ فقال: أيها الملك إنك سألت عن أمر، أ فتأذن في الجواب عنه ؟ قال: نعم؛ قال: أ رأيت هذا الذي أنت فيه، أ شيء لم تزل فيه، أم شيء/صار إليك ميراثا و هو زائل عنك و صائر إلى غيرك كما صار إليك ؟ قال: كذلك هو؛ قال: فلا أراك إلا عجبت(1) بشيء يسير تكون فيه قليلا و تغيب عنه طويلا، و تكون غدا بحسابه مرتهنا؛ قال: ويحك! فأين المهرب و أين المطلب ؟ قال: إما أن تقيم في ملكك فتعمل فيه بطاعة اللّه ربّك على ما ساءك و سرّك، و أمضّك(2) و أرمضك(3)، و إما أن تضع تاجك، و تخلع(4) أطمارك، و تلبس أمساحك، و تعبد ربك حتى يأتيك أجلك؛ قال: فإذا كان السّحر فاقرع عليّ بابي فإني مختار أحد الرأيين، و ربما قال إحدى المنزلتين، فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيرا لا يعصى، و إن اخترت فلوات الأرض و قفر البلاد كنت رفيقا لا يخالف؛ قال: فقرع عليه عند السّحر بابه فإذا هو قد وضع تاجه، و خلع(5)أطماره، و لبس أمساحه، و تهيأ للسياحة، فلزما و اللّه الجبل حتى أتاهما أجلهما، و هو حيث يقول عديّ بن زيد أخو بني تميم:
أيّها الشّامت المعيّر بالدّهر أ أنت المبرّأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الأيّام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلّدن(6) أم من *** ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر(7)*** وان أم أين قبله سابور(8)
و بنو الأصفر الكرام ملوك الر *** وم لم يبق منهم مذكور
و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجلة تجبى إليه و الخابور(9)شاده مرمرا و جلّله كلسا(10) فللطير في ذراه و كور
ص: 419
لم يهبه ريب المنون فباد الملك عنه فبابه مهجور و تذكّر(1) ربّ الخورنق إذ أشرف يوما و للهدى تفكير سرّه ماله(2) و كثرة ما يملك و البحر معرضا(3) و السدير فارعوى قلبه فقال و ما غبطة حيّ إلى الممات يصير ثم بعد الفلاح و الملك و الإمّة(4) وارتهم هناك القبور ثم صاروا(5) كأنهم ورق جفّ فألوت(6) به الصّبا و الدّبور /قال: فبكى و اللّه هشام حتى أخضل(7) لحيته، و بلّ عمامته، و أمر بنزع أبنيته، و بنقلان(8) قرابته و أهله و حشمه و غاشيته من جلسائه، و لزم قصره، فأقبلت الموالي و الحشم على خالد بن صفوان فقالوا: ما أردت إلى أمير المؤمنين! أفسدت عليه لذّته، و نغّصت عليه مأدبته، فقال: إليكم عنّي فإني عاهدت اللّه عزّ و جلّ ألاّ أخلو بملك إلا ذكّرته اللّه عزّ و جلّ .
فأما خبر/الحضر و صاحبه، و الخورنق و صاحبه، فإني أذكر خبرهما هاهنا لأنه مما يحسن ذكره بعقب هذه الأخبار و لا يستغنى عنه، و الشيء يتبع الشيء.
أخبرني بخبره إبراهيم بن السّريّ عن أبيه عن شعيب عن سيف، و أخبرني به الحسن بن علي قال حدّثنا الحارث بن محمد قال حدّثنا محمد بن سعد عن الواقديّ ، و أخبرني به عليّ بن سليمان الأخفش في كتاب المغتالين عن السّكّريّ عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل بن سلمة الضّبّيّ ، و هشام بن الكلبيّ عن أبيه، و إسحاق بن الجصّاص عن الكوفيّين:
أن الحضر كان قصرا بحيال تكريت بين دجلة و الفرات، و أن أخا الحضر الذي ذكره عديّ بن زيد هو الضيزن بن معاوية بن العبيد بن الأجرام بن عمرو بن النّخع بن سليح من بني تزيد(9) بن حلوان بن عمران بن
ص: 420
الحاف بن قضاعة، و أمه جبهلة(1) امرأة/من بني تزيد بن حلوان أخي سليح بن حلوان، و كان لا يعرف إلا بأمه هذه، و كان ملك تلك الناحية و سائر أرض الجزيرة، و كان معه من بني الأجرام [ثم من بني العبيد(2) ابن الأجرام] و سائر قبائل قضاعة ما لا يحصى، و كان ملكه قد بلغ الشام. فأغار الضيزن فأصاب أختا لسابور ذي الأكتاف(3)و فتح مدينة نهر شير(4) و فتك فيهم، فقال في ذلك عمرو بن السّليح بن(5) حديّ بن الدّها بن غنم بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة:
لقيناهم بجمع من علاف(6) *** و بالخيل الصّلادمة الذكور
فلاقت فارس منّا نكالا *** و قتّلنا هرابذ شهر زور(7)
دلفنا(8) للأعاجم من بعيد *** بجمع م الجزيرة كالسّعير
قالوا: ثم إن سابور ذا الأكتاف جمع لهم و سار إليهم، فأقام على الحضر أربع سنين لا يستغلّ منهم شيئا. ثم إن النّضيرة بنت(9) الضّيزن عركت - أي حاضت - فأخرجت/إلى الرّبض(10)، و كانت من أجمل أهل دهرها، و كذلك كانوا يفعلون بنسائهم إذا حضن، و كان سابور من أجمل أهل زمانه، فرآها و رأته، و عشقها و عشقته، فأرسلت إليه: ما تجعل لي أن دللتك على ما تهدم به هذه المدينة و تقتل أبي ؟ قال: أحكّمك و أرفعك على نسائي، و أخصّك بنفسي دونهنّ ؛ قالت: عليك بحمامة مطوّقة ورقاء، فاكتب في رجلها بحيض جارية بكر تكون زرقاء، ثم أرسلها فإنها تقع على حائط المدينة فتتداعى المدينة، و كان ذلك طلّسمها(11) لا يهدمها إلا هو، ففعل و تأهّب لهم،
ص: 421
و قالت له: أنا أسقي الحرس الخمر، فإذا صرعوا فاقتلهم و ادخل المدينة، ففعل فتداعت المدينة، و فتحها سابور عنوة، فقتل الضيزن يومئذ، و أباد بني العبيد، و أفنى قضاعة الذين كانوا مع الضّيزن فلم يبق منهم باق يعرف إلى اليوم، و أصيبت قبائل حلوان و انقرضوا و درجوا، فقال في ذلك عمرو بن آلة(1) و كان مع الضّيزن:
أ لم يحزنك و الأنباء تنمي(2) *** بما(3) لاقت سراة بني العبيد
و مصرع ضيزن و بني أبيه *** و أحلاس(4) الكتائب من تزيد
/أتاهم بالفيول مجلّلات *** و بالأبطال سابور الجنود
فهدّم من أواسي(5) الحضر صخرا *** كأنّ ثقاله زبر الحديد
/قال: فأخرب(6) سابور المدينة و احتمل النّضيرة بنت الضّيزن فأعرس بها بعين(7) التمر، فلم تزل ليلتها تتضوّر(8) من خشانة في فرشها و هي من حرير محشو بالقزّ، فالتمس ما كان يؤذيها فإذا هي ورقة آس ملتصقة بعكنة من عكنها قد أثّرت فيها. قال: و كان ينظر إلى مخّها من لين بشرتها. فقال لها سابور: ويحك! بأيّ شيء كان أبوك يغذّيك ؟ قالت: بالزّبد و المخّ (9) و شهد الأبكار من النحل و صفوة الخمر فقال: و أبيك لأنا أحدث عهدا بمعرفتك، و آثر(10) لك من أبيك الذي غذّاك بما تذكرين! ثم أمر رجلا فركب فرسا جموحا و ضفر غدائرها بذنبه، ثم استركضه فقطّعها قطعا، فذلك قول الشاعر:
أقفرا الحضر من نضيرة فالمر *** باع منها فجانب الثّرثار(11)
ص: 422
قالوا: و كان الضّيزن صاحب الحضر يلقّب السّاطرون، و قال غيرهم: بل السّاطرون صاحب الحضر كان رجلا من أهل باجرمى(1) و اللّه أعلم أيّ ذلك كان. هذا خبر صاحب الحضر الذي ذكره عديّ .
و أما صاحب الخورنق فهو النعمان بن الشّقيقة، و هو الذي ساح على وجهه فلم يعرف له خبر، و الشقيقة أمه بنت أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان. و هو النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن الضّخم اللّخميّ ، و هو صاحب الخورنق، فذكر ابن الكلبيّ في خبره الذي قدّمنا ذكره و رواية عليّ بن الصبّاح إياه عنه: أنه كان سبب بنائه الخورنق أنّ يزدجرد بن سابور كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل مريء صحيح من الأدواء و الأسقام، فدلّ على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور بن يزدجرد إلى النعمان بن الشقيقة، و كان عامله على أرض العرب، و أمره بأن يبني الخورنق مسكنا له و لابنه و ينزله إياه معه، و أمره بإخراجه إلى بوادي العرب، و كان الذي بنى الخورنق رجلا يقال له «سنمّار» فلما فرغ من بنائه عجبوا من حسنه و إتقان عمله، فقال: لو علمت أنكن توفوني أجرتي و تصنعون بي ما أستحقّه، لبنيته بناء يدور مع الشمس حيثما دارت، فقالوا: و إنك لتبني ما هو أفضل منه و لم تبنه! أمر به فطرح من أعلى الجوسق(2). و قال: في بعض الروايات أنه قال له: إني لأعرف في هذا القصر موضع عيب إذا هدم تداعى القصر أجمع، فقال/له: أما و اللّه لا تدلّ عليه أحدا أبدا، ثم رمي به من أعلى القصر، فقالت الشعراء في ذلك أشعارا كثيرة منها قول أبي الطّمحان القينيّ :
جزاء سنمّار جزوها(3) و ربّها *** و باللّات و العزّى جزاء المكفّر
و منها قول سليط بن سعد(4):
جزى بنوه أبا الغيلان(5) عن كبر *** و حسن فعل كما يجزى سنمّار
و قال عبد العزّى بن امرئ القيس الكلبيّ - و كان أهدى إلى الحارث بن مارية الغسّانيّ أفراسا، و وفد إليه فأعجب به و اختصّه، و كان للملك ابن مسترضع في بني عبد ودّ من كلب فنهشته حيّة، فظنّ الملك أنهم اغتالوه، فقال لعبد العزّى: جئني بهؤلاء القوم، فقال: هم قوم أحرار ليس لي عليهم فضل في نسب و لا فعل(6)، فقال:
لتأتينّى بهم أو لأفعلنّ و أفعلنّ ، فقال له: /رجونا من حبائك امرا حال دونه عقابك و دعا ابنيه شراحيل و عبد الحارث - فكتب معهما إلى قومه:
جزاني جزاه اللّه شرّ جزائه *** جزاء سنمّار و ما كان ذا ذنب
سوى رصّه البنيان عشرين حجة *** يعلّى عليه بالقراميد(7) و السّكب
ص: 423
/و هي أبيات، قال: فقتله النعمان، و كان أمره قد عظم و جعل معه كسرى كتيبتين: إحداهما يقال لها:
«دوسر»(1) و هي لتنوخ، و الأخرى: «الشّهباء» و هي للفرس، و كانتا أيضا تسمّيان القبيلتين، و كان يغزو بهما بلاد الشام، و كلّ من لم يدن له من العرب. فجلس يوما يشرف من الخورنق فأعجبه ما رأى من ملكه. ثم ذكر باقي خبره مثل ما ذكره خالد بن صفوان لهشام من مخاطبة الواعظ و جوابه و ما كان من اختياره السياحة و تركه ملكه.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني عبد اللّه بن عمرو قال ذكر ابن حمزة عن مشايخه:
أن النعمان بن المنذر لما نعي إلى النابغة الذّبيانيّ و حدّث بما صنع به كسرى قال: طلبه من الدهر طالب الملوك ثم تمثّل:
من يطلب الدهر تدركه مخالبه *** و الدّهر(2) بالوتر ناج غير مطلوب
ما من أناس ذوى مجد و مكرمة *** إلا يشدّ شدّة الذّئب
حتى يبيد على عمد سراتهم *** بالنافذات من النّبل المصائيب
إني وجدت سهام الموت معرضة(3) *** بكلّ حتف من الآجال مكتوب
و في سائر قصائد عديّ بن زيد التي كتب بها إلى النعمان يستعطفه و يعتذر إليه أغان.
/منها:
لم أر مثل الفتيان في غبن ال *** أيام ينسون ما عواقبها
ينسون إخوانهم و مصرعهم *** و كيف تعتاقهم مخالبها
ما ذا ترجّى النفوس من طلب الخير و حبّ الحياة كاربها تظنّ أن لن يصيبها عنت الدهر و ريب المنون صائبها و يروى عقب(4) الدهر - يقول: الأيام تغبن الناس فتخدعهم و تختلهم مثل الغبن في البيع. و تعتاقهم:
تحبسهم، يقال: اعتاقه و اعتقاه(5). و كاربها هاهنا: غامّها، و هو في موضع آخر القريب منها، يقال كربه الأمر
ص: 424
و كرثه(1) و بهضه و غنظه(2) إذا غمّ - الغناء في هذه الأبيات لابن محرز خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة.
و فيها رمل بالنصر، نسبه حبش و دنانير إلى حنين، و نسبه الهشاميّ و ابن المكيّ إلى الهذليّ .
و منها:
يا لبينى أوقدي النّارا *** إنّ من تهوين قد حارا
ربّ نار بتّ أرمقها *** تقضم الهنديّ و الغارا
عندها ظبي يؤرّثها *** عاقد في الجيد تقصارا
/عروضه من المديد - حار يحير هنا: ضلّ ، و حار في موضع آخر: رجع. و الغار: شجر طيّب الريح، و الغار أيضا: شجر السوس، و الغار: الغيرة. و يؤرّثها: يوقدها و يكثر حطبها. و التقصار: المخنقة - الغناء لحنين خفيف ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيه خفيف رمل يقال إنه لعريب.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق، و أخبرنا به يحيى بن عليّ عن داود بن محمد عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن ابن عائشة عن يونس النحويّ قال:
مات رجل من جند أهل الشام عظيم القدر، له فيهم عزّ [و عدد](3)؛ فحضر الحجّاج جنازته و صلّى عليه و جلس على قبره و قال: لينزل إليه بعض إخوانه، فنزل نفر منهم، فقال أحدهم و هو يسوّي عليه: رحمك اللّه أبا قنان(4)، إن كنت ما علمت لتجيد الغناء، و تسرع ردّ الكأس، و لقد وقعت في موضع سوء لا تخرج منه و اللّه إلى يوم القيامة(5). قال: فما تمالك الحجّاج أن ضحك، و كان لا يكثر الضحك في جدّ و لا هزل. فقال له: أ هذا موضع هذا لا أمّ لك! فقال: أصلح اللّه الأمير، فرسه حبيس في سبيل اللّه لو سمعه الأمير و هو يغنّي:
يا لبينى أوقدي النارا *** إن من تهوين قد حارا
لانتشر الأمير على سعنة(6)، و كان الميت يلقب بسعنة، فقال: إنّا للّه أخرجوه من القبر! ما أبين حجّة أهل العراق في جهلكم يا أهل الشام! قال: و كان سعنة هذا الميت/من أوحش خلق اللّه كلّهم صورة، و أذمّهم قامة.
فلم يبق أحد حضر القبر إلا استفرغ ضحكا.
ص: 425
و منها من قصيدته التي أوّلها:
لمن الدار تعفّت بخيم(1)
و ثلاث كالحمامات بها *** بين مجثاهنّ توشيم الحمم(2)
أسأل الدار و قد أنكرتها *** عن حبيبي فإذا فيها صمم
- و يروى: توشيم العجم. و التوشيم أراد به آثار الوقود قد صار فيها كالوشم. و الثلاث يعنى الأثافيّ التي تنصب عليها القدر - الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر عن عمرو و ابن المكيّ . و فيه لحكم لحن من كتاب إبراهيم غير مجنّس. و هذه القصيدة التي أوّلها:
لمن الدار تعفّت بخيم *** أصبحت غيّرها طول القدم
ما تبين العين من آياتها *** غير نؤي(3) مثل خطّ بالقلم
و بعده.
و ثلاث كالحمامات بها *** بين مجثاهنّ توشيم الحمم
و على هذا خفض قوله: و ثلاث كالحمامات.
و منها قوله:
كفى غير الأيام للمرء وازعا
بنات كرام لم يربن(4) بضرّة *** دمى شرقات(5) بالعبير روادعا(6)
يسارقن م الأستار طرفا مفتّرا *** و يبرزن من فتق الخدور الأصابعا
بنات كرام موضعه نصب و هو يتبع ما قبله و ينصب به و هو قوله:
و أصبى ظباء في الدّمقس(7) خواضعا
بنات كرام هكذا في القصيدة على تواليها، و قد يجوز/رفعه على الابتداء. و يروى: بضرّة و بضرّة جمعا بالضم
ص: 426
و الفتح. و الدّمى: الصّور، واحدتها دميّة. الغناء في هذين البيتين لابن قندح(1) ثقيل أوّل بالنبصر عن عمرو، و ذكر الهشاميّ أنه لمحمد بن إسحاق بن عمرو بن بزيع، و ذكر حبش أنه لإبراهيم.
و منها:
أرقت لمكفهرّ بات فيه *** بوارق يرتقين رءوس شيب
تروح المشرفيّة في ذراه *** و يجلو صفحة الذّيل القشيب
و المكرهفّ و المرهفّ : السحاب المتوالي المتراكب(2). و الشّيب: السحائب التي فيها فيها سواد و بياض شبّهها بالرءوس الشيب، و قال قوم: بل شيب: جبل معروف. شبّه البرق في السحاب بلمعان السّيوف. و رواه ابن الأعرابيّ :
و يجلو صفح دخدار قشيب
/و قال: الدّخدار: الثوب المصون، و هو أعجميّ معرّب أصله تخت دار. و القشيب: الجديد. الغناء لعريب ثقيل أوّل بالبنصر.
و منها من قصيدته التي أوّلها:
ألا يا طال ليلي و النهار
ألا من مبلغ النعمان عنّي *** علانية فقد ذهب السّرار
بأنّ المرء لم يخلق حديدا *** و لا هضبا توقّاه(3) الوبار
و لكن كالشّهاب فثمّ يخبو *** و حادي الموت عنه ما يحار
فهل من خالد إما هلكنا *** و هل بالموت يا للنّاس عار
الهضب: الجبل. و الوبار: جمع وبر(4). و الشّهاب: السراج. و يخبو: يطفأ. الغناء لبابويه(5) ثقيل أوّل بالبنصر عن حبش و الهشاميّ .
و منها:
ص: 427
ألا من مبلغ النعمان عنّي *** فبينا المرء أغرب(1) إذ أراحا(2)
أطعت بني بقيلة في وثاقي *** و كنا في حلوقهم ذباحا(3)
/منحتهم الفرات و جانبيه(4) *** و تسقينا الأواجن(5) و الملاحا
الغناء لحنين خفيف ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق.
و منها:
من لقلب دنف أو معتمد *** قد عصى كلّ نصيح و مفدّ
لست إن سلمى نأتني دارها *** سامعا فيها إلى قول أحد
المعتمد: الذي عمده الوجع يعمده عمدا(6). غنّاه ابن محرز و لحنه خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه لمالك خفيف ثقيل آخر بالوسطى عن عمرو. و ذكر يونس أن فيه لمالك لحنا، و لسنان الكاتب لحنا، و هو ثقيل أوّل بالوسطى عن حبش.
و منها:
أرواح مودّع أم بكور *** لك فاعمد لأيّ حال تصير
و يقول العداة أودى عديّ *** و عديّ بسخط ربّ أسير
/أيّها الشامت المعيّر الدهر أ أنت المبرّأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الأيام بل أنت جاهل مغرور يريد: أرواح نودّعك فيه أم بكور؟ أيّهما تريد؟ فاعمد للذي تصير إليه من أمر آخرتك. و الموفور: الذي لم تصبه نوائب الدهر. الغناء لحنين من كتاب يونس/و لم يذكر طريقته، و ذكر حمّاد بن إسحاق عن أبيه أن حنينا غنّاه خالدا القسريّ أيام حرّم الغناء، فرقّ له و قال: غنّ و لا تعاشر سفيها و لا معربدا. و الخبر [في ذلك](7) يذكر في أخبار حنين.
ص: 428
و مما يغنّى فيه أيضا من شعر عديّ
ألا يا ربّما عزّ *** خليلي فتهاونت
و لو شئت على مقد *** رة منّي لعاقبت
و لكن سرّني(1) أن يعلموا قدري فأقلعت ألا لا فاسألوا الفتية ما قالوا و قد قمت الغناء لسياط رمل عن الهشاميّ . و فيه ليحيى المكيّ خفيف ثقيل نسبه إلى مالك و ليس له. و لعريب في البيتين الأوّلين ثقيل أوّل. و بعدهما بيت ليس من العشر و هو:
و لكنّ حبيبي *** جلّ (2) عندي فتغافلت
و مما يغنّى فيه من شعره:
تعرف أمس من لميس الطّلل *** مثل الكتاب الدارس الأحول
الذي قد درس فلا يقرأ.
أنعم صباحا علقم بن عديّ أثويت اليوم أم ترحل
قد رحّل الفتيان عيرهم *** و اللحم بالغيطان(3) لم ينشل(4)
/إذ هي تسبى الناظرين و تجلو واضحا كالأقحوان رتل(5)الرّتل: المستوي البنية(6).
عذبا كما ذقت الجنيّ من التفاح مسقيّا ببرد، الطّل هكذا يغنّى. و الذي قاله عديّ : يسقيه برد الطّلّ . الغناء لحنين رمل بالوسطى عن عمرو.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن ابن الكلبيّ أن عمرو بن امرئ القيس المكنّى بأبي سريح(7)و علقمة بن عديّ - و قيل علقم بن عديّ بن كعب - و عمرو بن هند خرجوا إلى الصيد فأتوا قصر(8) ابن مقاتل فمكثوا
ص: 429
فيه يتصيّدون، فزعموا أن علقمة بن عديّ تبع حمارا فصرعه و الشمس لم تطلع، ثم لحق آخر فطعنه فانقصف الرمح فيه و مرّ به فرسه يركض، فجال به العير فضربه فأصاب صدره فقتله، و قيل: إن الرمح المنقصف دخل في صدره فقتله، و ذلك في أيام الربيع، و كان عديّ بن زيد معهم و إليه قصدوا، و كان نازلا في قصر ابن(1) مقاتل، فقال عديّ هذه القصيدة يرثيه بها(2).
عفا من سليمى مسحلان فحامره *** تمشّى به ظلمانه و جآذره
بمستأسد القريان عاف(3) نباته *** فنوّاره ميل(4) إلى الشمس زاهرة
رأت عارضا جونا فقامت غريرة *** بمسحاتها قبل الظلام تبادره
فما برحت حتى أتى الماء دونها *** و سدّت نواحيه و رفّع دابره
عروضه من الطويل. عفا: درس. مسحلان: موضع. و حامرة: موضع أضافه إلى مسحلان(5). و الظّلمان:
ذكور النعام واحدها ظليم. و الجآذر: أولاد البقر واحدها جؤذر و جؤذر بضم الذال و فتحها. و تمشّى: تكثر المشي.
و القريان: مجاري الماء إلى الرّياض واحدها قريّ . و المستأسد: ما التفّ منها و طال. و النّوّار يقال: إنه يكون أبدا حيال الشمس يستقبلها بوجهه، فيقول: إن نوّار هذه الروضة يميل زاهرة حيال الشمس. و العارض: السحاب.
و الجون: الأسود. و الغريرة: الناعمة التي/لم تجرّب الأمور، يقول: لما رأت هذه المرأة السحابة السوداء قامت بمسحاتها تصلح النؤي حوالي بيتها و هو الحاجز بينه و بين الأرض المستوية. و قوله: رفّع دابره أي مؤخره الذي يلي الماء من النؤي. الشعر للحطيئة يهجو الزّبرقان بن بدر. و الغناء لابن عائشة و لحنه المختار خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق و ذكر حبش أن له فيه لحنا آخر من الثقيل الثاني.
ص: 430
الحطيئة لقب لقّب به، و اسمه جرول بن أوس بن مالك بن جؤيّة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الرّيث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار. و هو من فحول الشعراء و متقدّميهم و فصحائهم، متصرّف في جميع فنون الشعر من المديح و الهجاء و الفخر و النّسيب، مجيد في ذلك أجمع، و كان ذا شرّ و سفه، و نسبه متدافع بين قبائل العرب، و كان ينتمي إلى كل واحدة منها إذا غضب على الآخرين و هو مخضرم أدرك الجاهلية و الإسلام فأسلم ثم ارتد و قال في ذلك.
أطعنا رسول اللّه إذ كان بيننا *** فيا أحباء اللّه ما لأبي بكر
أ يورثها(1) بكرا إذا مات بعده *** و تلك لعمر اللّه قاصمة الظهر(2)
و يكنى الحطيئة أبا مليكة، و قيل: إن الحطيئة غلب عليه و لقّب به لقصره و قربه من الأرض و قال حماد الرواية قال أبو نصر الأعرابيّ : سمّي الحطيئة لأنه ضرط ضرطة بين قوم، فقيل له: ما هذا؟ فقال: إنما هو حطيئة(3)، فسمّي الحطيئة. و قال المدائنيّ قال أبو اليقظان: كان الحطيئة يدّعي أنه ابن عمرو بن علقمة أحد بني الحارث ابن سدوس، قال: و سمي الحطيئة لقربه من الأرض.
أخبرني الفضل بن الحباب الجمحيّ أبو خليفة في كتابه إليّ بإجازته لي يذكر عن محمد بن سلاّم: أنّ الحطيئة كان ينتمي إلى بني ذهل بن ثعلبة فقال:
إنّ اليمامة خير ساكنها *** أهل القريّة من بني ذهل
قال: و القريّة: منازلهم، و لم ينبت الحطيئة في هؤلاء.
و أخبرني محمد بن الحسن بن دريد/قال حدّثني عمّي عن ابن الكلبيّ قال: سمعت خراش بن إسماعيل
ص: 431
و خالد بن سعيد يقولان: كان الحطيئة إذا غضب على بني عبس يقول: أنا من بني ذهل، و إذا غضب على بني ذهل قال: أنا من بني عبس.
أخبرني الحسين بن يحيى المرداسيّ قال قال حمّاد بن إسحاق قال أبي قال ابن الكلبيّ : كان الحطيئة مغموز النسب(1)، و كان من أولاد الزنا الذين شرفوا. قال إسحاق و قال الأصمعيّ : كان الحطيئة يضرب بنسبه إلى بكر بن وائل فقال في ذلك.
قومي بنو عوف(2) بن عمرو إن أراد العلم عالم
قوم إذا ذهبت خضا(3)*** رم منهم خلفت خضارم
لا يفشلون و لا تبيت على أنوفهم المخاطم(4)قال الأصمعيّ و قدم الحطيئة الكوفة فنزل في بني عوف بن عامر بن ذهل يسألهم و كان يزعم أنه منهم و قال في ذلك:
سيري أمام فإنّ المال يجمعه *** سيب الإله و إقبالي و إدباري
إلى معاشر منهم يا أمام أبي *** من آل عوف بدوء(5) غير أشرار(6)
نمشي على ضوء أحساب أ ضأن لنا(7) *** ما ضوّأت ليلة القمراء للسّاري
و قال ابن دريد في خبره عن عمه عن ابن الكلبيّ عن أبيه، و حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبيّ عن أبيه قال: كان أوس بن مالك بن جؤيّة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس تزوّج بنت رياح بن عمرو(8) بن عوف بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، و كان له أمة يقال لها الضّرّاء فأعلقها بالحطيئة و رحل عنها. و كان لبنت رياح اخ يقال له: الأفقم، و كان طويلا أفقم(9)، صغير العينين، مضغوط اللّحيين، فولدت الضّراء الحطيئة فجاءت به شبيها بالأفقم، فقالت لها مولاتها: من أين هذا الصبيّ؟ فقالت لها: من أخيك، و هابت أن تقول لها من زوجك، فشبّهته بأخيها؛ فقالت لها: صدقت. ثم مات أوس و ترك(10) ابنين من الحرّة، و تزوّج الضّرّاء
ص: 432
رجل من بني عبس فولدت له رجلين فكانا أخوي الحطيئة من أمه. فأعتقت بنت رياح الحطيئة و ربّته فكان كأنه أحدهما. و ترك الأفقم نخلا باليمامة. فأتى الحطيئة أخويه من أوس بن مالك و قد كانت أمه لما أعتقتها بنت رياح /اعترفت أنها اعتلقت من أوس بن مالك، فقال لهم: أفردوا إليّ من مالكم قطعة فقالا: لا، و لكن أقم معنا فنحن نواسيك فقال:
أ أمرتماني أن أقيم عليكما *** كلاّ لعمر أبيكما الحبّاق
عبدان خيرهما يشلّ بضبعه *** شلّ الأجير قلائص الورّاق(1)
قال: و سأل الحطيئة أمّه: من أبوه فخلطت عليه فقال:
تقول لي الضرّاء لست لواحد *** و لا اثنين فانظر كيف شرك أولئكا
و أنت امرؤ تبغي أبا قد ضللته *** هبلت(2) أ لمّا تستفق من ضلالكا
قال: و غضب عليها فلحق بإخوته بني الأفقم فقال:
سيري أمام فإن المال يجمعه *** سيب الإله و إقبالي و إدباري
قال: فلم يدفعوه و لم يقبلوه فقال:
إنّ اليمامة خير ساكنها *** أهل القريّة من بني ذهل
و سألهم ميراثه من الأفقم فأعطوه نخلات من نخل أبيهم تدعى نخلات أمّ مليكة، و أمّ مليكة: امرأة الحطيئة، فقال:
ليهني(3) تراثي لامرئ غير ذلّة *** صنابير أحدان لهن حفيف(4)
ص: 433
قال: ثم لم تقنعه النّخيلات، و قد أقام فيهم زمانا فسألهم ميراثه كاملا من الأفقم فلم يعطوه شيئا و ضربوه، فغضب عليهم و قال:
تمنّيت بكرا أن يكونوا عمارتي(1) *** و قومي و بكر شرّ تلك القبائل
إذا قلت بكريّ نبوتم(2) بحاجتي *** فيا ليتني من غير بكر بن وائل
فعاد إلى بني عبس و انتسب إلى أوس بن مالك. و قال الأصمعيّ في خبره: لما أتى أهل القريّة، و هم بنو ذهل، يطلب ميراثه من الأفقم مدحهم فقال:
إنّ اليمامة خير ساكنها *** أهل القريّة من بني ذهل
الضامنون لمال جارهم *** حتى يتمّ نواهض(3) البقل
قوم إذا انتسبوا ففرعهم *** فرعي و أثبت أصلهم أصلي
قال: فلم يعطوه شيئا، فقال يهجوهم:
إنّ اليمامة شرّ ساكنها *** أهل القريّة من بني ذهل
و قال أبو اليقظان في خبره: كان الرجل الذي تزوّج أمّ الحطيئة أيضا ولد زنا اسمه الكلب بن كنيس(4) بن جابر بن قطن بن نهشل، و كان كنيس(4) زنى بأمة لزرارة يقال لها رشيّة، فولدت له الكلب و يربوعا، فطلبهم من زرارة فمنعه(5) منهم، فلما مات طلبهم من أبيه لقيط فمنعه؛ و قال لقيط في ذلك:
أ في نصف شهر ما صبرتم لحقّنا *** و نحن صبرنا قبل ذاك سنينا
و هي أبيات. فتزوّج الكلب الضّرّاء أمّ الحطيئة؛ فهجاه الحطيئة و هجا أمّه فقال:
و لقد رأيتك في النساء فسؤتني *** و أبا بنيك فساءني في المجلس
إنّ الذليل لمن تزور ركابه *** رهط ابن جحش في الخطوب الحوّس(6)
قبح الاله قبيلة لم يمنعوا *** يوم المجيمر(7) جارهم من فقعس(8)
ص: 434
أبلغ بني جحش(1) بأنّ نجارهم(2) *** لؤم و أنّ أباهم كالهجرس(3)
و قال الحطيئة يهجو أمه:
جزاك اللّه شرّا من عجوز *** و لقّاك العقوق من البنين
فقد ملّكت(4) أمر بنيك حتى *** تركتهم أدقّ من الطّحين
/فإن تخلى و أمرك لا تصولي *** بمشتدّ قواه و لا متين
لسانك مبرد لا(5) خير فيه *** و درّك درّ جاذبة(6) دهين
/و قال يهجو أمه أيضا:
تنحّي فاجلسي منّي بعيدا *** أراح اللّه منك العالمينا
أغر(7) بالا إذا استودعت سرّا *** و كانونا(8) على المتحدّثينا
حياتك ما علمت حياة سوء *** و موتك قد يسرّ الصالحينا
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمه قال:
كان الحطيئة جشعا سئولا ملحفا، دنىء النفس، كثير الشرّ، قليل الخير، بخيلا، قبيح المنظر، رثّ الهيئة، مغموز النسب، فاسد الدّين، و ما تشاء أن تقول في شعر شاعر من عيب إلاّ وجدته، و قلّما تجد ذلك في شعره.
أخبرني ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: بخلاء العرب أربعة: الحطيئة، و حميد الأرقط، و أبو الأسود الدّوليّ ، و خالد بن صفوان.
أخبرنا ابن دريد قال حدّثنا أبو حاتم قال قال أبو عبيدة: كان الحطيئة بذيّا هجّاء، فالتمس ذات يوم إنسانا يهجوه فلم يجده، و ضاق عليه ذلك فأنشأ يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلّما *** بشرّ فما أدري لمن أنا قائله
ص: 435
/و جعل يدهور هذا البيت في أشداقه و لا يرى إنسانا، إذ اطّلع في ركيّ (1) أو حوض فرأى وجهه فقال:
أرى لي وجها شوّه اللّه خلقه *** فقبّح من وجه و قبّح حامله
نسخت من كتاب الحرميّ بن أبي العلاء: حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي قال:
قدم الحطيئة المدينة فأرصدت(2) قريش له العطايا خوفا من شرّه، فقام في المسجد فصاح: من يحملني على بغلين.
أخبرني أبو خليفة قال حدّثنا محمد بن سلاّم و أخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال قال أبو عبيدة و المدائنيّ و مصعب:
كان الحطيئة سئولا جشعا، فقدم المدينة و قد أرصدت له قريش العطايا، و الناس في سنة مجدبة و سخطة من خليفة، فمشى أشراف أهل المدينة بعضهم إلى بعض، فقالوا: قد قدم علينا هذا الرجل و هو شاعر، و الشاعر يظنّ فيحقّق، و هو يأتي الرجل من أشرافكم يسأله، فإن أعطاه جهد نفسه بهرها(3)، و إن حرمه هجاه، فأجمع رأيهم على أن يجعلوا له شيئا معدّا يجمعونه بينهم له، فكان أهل البيت من قريش و الأنصار يجمعون له العشرة و العشرين و الثلاثين دينارا(4) حتى جمعوا له أربعمائة دينار، و ظنوا أنهم قد أغنوه، فأتوه فقالوا له: هذه صلة آل فلان و هذه صلة آل فلان و هذه صلة آل فلان، فأخذها؛ فظنوا أنهم قد كفّوه عن المسألة، فإذا هو يوم الجمعة قد استقبل الإمام ماثلا(5) ينادي: من يحملني على بغلين وقاه اللّه كبّة(6)جهنّم.
و وصف أبو عبيدة و محمد بن سلاّم شعر الحطيئة فجمعت متفرّق ما وصفاه به في هذا الخبر، أخبرنا به أبو خليفة عن محمد بن سلاّم و ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قالا:
كان الحطيئة متين الشعر، شرود(7) القافية، و كان دنىء النفس، و ما تشاء أن تطعن في شعر شاعر إلا وجدت فيه مطعنا، و ما أقلّ ما تجد ذلك في شعره. قالا: فبلغ من دناءة نفسه أنه أتى كعب بن زهير - و كان الحطيئة راوية زهير/و آل زهير - فقال له: قد علمت روايتي لكم أهل البيت و انقطاعي إليكم، و قد ذهب الفحول غيري و غيرك، فلو
ص: 436
قلت شعرا تذكر فيه نفسك و تضعني موضعا بعدك! - و قال أبو عبيدة: تبدأ بنفسك فيه ثم تثنّي بي - فإنّ الناس لأشعاركم أروى و إليها أسرع! فقال كعب:
فمن للقوافي شانها(1) من يحوكها *** إذا ما ثوى كعب و فوّر جرول
كفيتك لا تلقى من الناس واحدا *** تنخّل(2) منها مثل ما نتنخّل
نقول فلا نعيا بشيء نقوله *** و من قائليها من يسيء و يجمل
نثقّفها(3) حتى تلين متونها *** فيقصر عنها كلّ ما يتمثّل(4)
/قال: فاعترضه مزرّد بن ضرار، و اسمه يزيد و هو أخو الشّمّاخ، و كان عرّيضا أي شديد(5) العارضة كثيرها، فقال:
باستك(6) إذ(7) خلفتني خلف شاعر *** من الناس لم أكفئ(8) و لم أتنخّل
فإن تخشبا(9) أخشب و إن تتنخّلا *** و إن كنت أفتى منكما أتنخّل
فلست كحسّان الحسام ابن ثابت *** و لست كشمّاخ و لا كالمخبّل
يزيل القتاد جذبها بأصوله *** إذا أصبحت مقورّة(1) خرصات(2)
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ عن التّوّزيّ عن أبي عبيدة قال: بينا سعيد بن العاص يعشّي الناس بالمدينة و الناس يخرجون أوّلا أوّلا، إذ نظر على بساطه إلى رجل قبيح المنظر، رثّ الهيئة، جالس(3) مع أصحاب سمرة، فذهب الشّرط يقيمونه فأبى أن يقوم، و حانت من سعيد التفاتة فقال: دعوا الرجل، فتركوه؛ و خاضوا في أحاديث العرب و أشعاره مليّا؛ فقال لهم الحطيئة: و اللّه ما أصبتم جيّد الشعر و لا شاعر العرب؛ فقال له سعيد: أ تعرف من ذلك شيئا؟ قال: نعم؛ قال: فمن أشعر العرب ؟ قال: الذي يقول:
لا أعدّ الإقتار عدما و لكن *** فقد من قد رزئته الإعدام
و أنشدها حتى أتى عليها؛ فقال له: من يقولها؟ قال: أبو داود الإياديّ ؛ قال: ثم من ؟ قال: الذي يقول:
أفلح(4) بما شئت فقد يدرك بال *** جهل(5) و قد يخدّع الأريب
ثم أنشدها حتى فرغ منها؛ قال: و من يقولها؟ قال عبيد بن الأبرص؛ قال: ثم من ؟ قال: و اللّه لحسبك بي عند رغبة أو رهبة إذا رفعت إحدى رجليّ على الأخرى ثم عويت في أثر القوافي عواء الفصيل الصّادي؛ قال: و من أنت ؟ قال: الحطيئة؛ قال: فرحّب به سعيد، ثم قال: أسأت بكتماننا نفسك منذ الليلة؛ و وصله و كساه.
و مضى لوجهه إلى عتيبة بن النّهّاس العجليّ فسأله؛ فقال له: ما أنا على عمل فأعطيك/من عدده، و لا في مالي فضل عن قومي؛ قال له: /فلا عليك، و انصرف. فقال له بعض قومه: لقد عرّضتنا و نفسك للشر! قال: و كيف! قالوا: هذا الحطيئة و هو هاجينا أخبث هجاء؛ فقال ردّوه: فردّوه إليه، فقال له: لم كتمتنا(6) نفسك كأنك كنت تطلب العلل علينا! اجلس فلك عندنا ما يسرّك؛ فجلس فقال له: من أشعر الناس ؟ قال: الذي يقول:
و من يجعل المعروف من دون عرضه *** يفرّه(7) و من لا يتّق الشّتم يشتم
ص: 438
فقال له عتيبة: إنّ هذا من مقدّمات أفاعيك؛ ثم قال لوكيله: اذهب معه إلى السّوق فلا يطلب شيئا إلا اشتريته له؛ فجعل يعرض عليه الخزّ و رقيق الثياب فلا يريدها و يومئ إلى الكرابيس(1) و الأكسية الغلاظ فيشتريها له حتى قضى أربه ثم مضى؛ فلما جلس عتيبة في نادي قومه أقبل الحطيئة، فلما رآه عتيبة قال: هذا مقام العائذ بك يا أبا مليكة من خيرك و شرّك؛ قال: كنت قلت بيتين فاستمعهما ثم أنشأ يقول:
سئلت فلم تبخل و لم تعط طائلا *** فسيّان لا ذمّ عليك و لا حمد
و أنت امرؤ لا الجود منك سجيّة *** فتعطى و لا(2) يعدي على النائل الوجد(3)
ثم ركض فرسه فذهب.
أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن مزيد البوشنجي(4) قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني محمد بن عمرو الجرجرائيّ (5) عن أبي صفوان الأحوزيّ (6) قال:
ما من أحد إلا لو أشاء أن أجد في شعره مطعنا لوجدته إلا الحطيئة.
و فتيان صدق من عديّ عليهم *** صفائح بصرى علّقت بالعواتق
إذا ما دعوا لم يسألوا من دعاهم *** و لم يمسكوا فوق القلوب الخوافق
و طاروا إلى الجرد العتاق فألجموا *** و شدّوا على أوساطهم بالمناطق
أولئك آباء الغريب و غاثة الصّ *** ريخ و مأوى المرملين الدّرادق(7)
أحلّوا حياض الموت(8) فوق جباههم *** مكان النّواصي من وجوه السّوابق
و يروى:
ص: 439
«إذا استلحموا»(1)......... و إذا ركبوا لم ينظروا عن شمالهم و يروى: أولئك أبناء العزيف(2) - ثم قال: أما إني ما أزعم أن أحدا بعد زهير أشعر من الحطيئة.
أخبرني الحسين بن يحيى حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: بلغني أنه لما قال ابن ميّادة:
تمشّي به ظلمانه و جآذره
قيل له: قد سبقك الحطيئة إلى هذا، فقال: و اللّه ما علمت أنّ الحطيئة قال هذا قطّ، و الآن علمت و اللّه أني شاعر حين واطأت الحطيئة.
قال حمّاد: قال أبي: و قال لي الأصمعيّ و قد أنشدني شيئا من شعر الحطيئة: أفسد مثل هذا الشعر الحسن بهجاء الناس و كثرة الطمع.
قال حمّاد: قال أبي: و بلغني عن عبد الرحمن بن أبي بكرة(3) أنه قال: لقيت الحطيئة بذات(4) عرق فقلت له: يا أبا مليكة، من أشعر الناس ؟ فأخرج لسانه كأنه لسان الحية ثم قال: هذا إذا طمع.
و نسخت من كتاب أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني يحيى بن محمد بن طلحة و كان قد قارب ثمانين سنة قال:
أخبرني بعض أشياخنا أن أعرابيا وقف على حسّان بن ثابت/و هو ينشد، فقال له حسّان: كيف تسمع(5)يا أعرابيّ؟ قال: ما أسمع بأسا؛ قال حسّان: أ ما تسمعون إلى الأعرابيّ ! ما كنيتك أيها الرجل ؟ قال: أبو مليكة، قال: ما كنت قطّ أهون عليّ منك حين اكتنيت بامرأة، فما اسمك ؟ قال: الحطيئة، فأطرق حسّان ثم قال له: أمض بسلام.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن المدائنيّ قال:
مرّ ابن الحمامة بالحطيئة و هو جالس بفناء بيته، فقال: السلام عليكم؛ فقال: قلت ما لا ينكر؛ قال: إني
ص: 440
خرجت من] عند(1) أهلي بغير زاد؛ فقال: ما ضمنت لأهلك قراك؛ قال: أ فتأذن لي أن آتي ظلّ بيتك فأتفيّأ به ؟ قال: دونك الجبل يفيء عليك؛ قال: أنا ابن الحمامة؛ قال: انصرف و كن ابن أيّ طائر شئت.
و أخبرنا بهذا الخبر اليزيديّ عن الخزّاز(2) عن المدائني فحكى ما ذكرناه من قول الحطيئة عن أبي الأسود الدّؤليّ .
و أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه عن أبي عبيدة و المدائني قالا:
أتى رجل الحطيئة و هو في غنم له فقال له: يا صاحب الغنم، فرفع الحطيئة العصا و قال: إنها عجراء(3)من سلم؛ فقال الرجل: إني ضيف؛ فقال: للضّيفان أعددتها، فانصرف عنه. قال إسحاق: و قال غيرهما: إن الرجل قال له: السلام عليكم؛ فقال له: عجراء من سلم؛ فقال: السلام عليكم؛ فقال: أعددتها للطّرّاق؛ فأعاد السلام فقال له: إن شئت قمت بها إليك؛ فانصرف الرجل عنه.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثنا محمد بن يزيد قال: زعم الجاحظ أن الحطيئة كان يقول: إنما أنا حسب موضوع؛ فسمع عمرو بن عبيد رجلا يحكي ذلك عنه يقال له عبد الرحمن بن صدّيقة، فقال عمرو: كذب ترّحه(4) اللّه إنما ذلك التقوى.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال الأصمعيّ : لم ينزل ضيف قطّ بالحطيئة إلا هجاه، فنزل به رجل من بني أسد لم يسمّه الأصمعيّ ، و ذكر أبو عبيدة أنه صخر بن أعيا الأسدي أحد بني أعيا ابن طريف بن عمرو بن قعين، فسقاه شربة من لبن، فلما شربها قال:
لما رأيت أن من يبتغي القرى *** و أن ابن أعيا لا محالة فاضحي
شددت حيازيم ابن أعيا بشربة *** على ظمإ(5) سدّت أصول الجوانح(6)
و روى الأصمعيّ شدّت بالشين المعجمة.
و لم أك مثل الكاهليّ و عرسه *** بغى الودّ من مطروفة العين طامح(7)
ص: 441
غدا باغيا يبغي رضاها و ودّها *** و غابت له غيب امرئ غير ناصح
دعت ربّها ألاّ يزال بفاقة *** و لا يغتدي إلا على(1) حدّ(2) بارح(3)
قال فأجابه صخر بن أعيا فقال:
ألا قبّح الحطيئة إنه *** على كلّ ضيف ضافه هو سالح(4)
/دفعت إليه و هو يخنق كلبه *** ألا كلّ كلب لا أبا لك نابح
بكيت على مذق(5) خبيث قريته *** ألا كلّ عبسيّ على الزاد شائح(6)
قال أبو عبيدة و هجا الحطيئة أيضا رجلا من أضيافه فقال:
و سلّم مرّتين فقلت مهلا *** كفتك المرّة الأولى السّلاما
/و نقنق(7) بطنه و دعا رؤاسا(8) *** لما قد نال من شبع و ناما
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلاّم عن يونس أن الحطيئة خرج في سفر له و معه امرأته أمامة و ابنته مليكة، فنزل منزلا و سرح ذودا له ثلاثا، فلما قام للرّواح فقد إحداها فقال:
أ ذئب القفر أم ذئب أنيس *** أصاب البكر(9) أم حدث الليالي
و نحن ثلاثة و ثلاث ذود(10) *** لقد جار الزمان على عيالي
أخبرني محمد بن خلف وكيع و الحسين بن يحيى قالا حدّثنا حمّاد عن أبيه قال قال أبو عمرو بن العلاء: لم تقل العرب بيتا قطّ أصدق من بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه(11) *** لا يذهب العرف بين اللّه و النّاس
ص: 442
/فقيل له: فقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** و يأتيك بالأخبار من لم تزوّد
فقال: من يأتيك بها ممن زوّدت أكثر، و ليس بيت مما قالته الشعراء إلا و فيه مطعن إلا قول الحطيئة:
لا يذهب العرف بين اللّه و الناس
قال إسحاق قال المدائنيّ قال سلم بن قتيبة: ما أعلم قافية تستغني عن صدرها و تدلّ عليه و إن لم ينشد مثل قول الحطيئة:
لا يذهب العرف بين اللّه و الناس
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثنا الرّياشيّ قال سمعت الأصمعيّ يقول: كتبت للحطيئة في ليلة أربعين قصيدة.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أبي عبيدة قال:
بلغني أن هذا البيت في التوراة، ذكره غير واحد عن أبيّ بن كعب. يعني قول الحطيئة:
لا يذهب العرف بين اللّه و الناس
قال إسحاق و ذكر عبد اللّه بن مروان عن أيّوب بن عثمان الدّمشقيّ عن عثمان بن أبي عائشة قال: سمع كعب(1) الحبر رجلا ينشد بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين اللّه و الناس
/فقال: و الذي نفسي بيده إنّ هذا البيت لمكتوب في التوراة. قال إسحاق قال العمريّ : و الذي صح عندنا في التوراة «لا يذهب العرف بين اللّه و العباد».
أخبرني(2) الحسين عن حمّاد عن أبيه قال قال أبو عدنان: لما حضرت عبيد اللّه(3) ابن شدّاد الوفاة دعا ابنه محمدا فأوصاه و قال له: يا بنيّ أرى داعي الموت لا يقلع، و بحقّ (4) أنّ من مضى لا يرجع، و من بقي فإليه ينزع. يا بنيّ ، ليكن أولى الأمور بك تقوى اللّه في السرّ و العلانية، و الشكر للّه، و صدق الحديث و النيّة، فإنّ للشكر مزيدا، و التقوى خير زاد، كما قال الحطيئة:
و لست أرى السعادة جمع مال *** و لكنّ التقيّ هو السعيد
ص: 443
و تقوى اللّه خير الزاد ذخرا *** و عند اللّه للأتقى مزيد
و ما لا بدّ أن يأتي قريب *** و لكنّ الذي يمضي بعيد
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال: قدم حمّاد الراوية البصرة على بلال بن أبي بردة و هو عليها؛ فقال له: ما أطرفتني شيئا يا حمّاد؛ قال: بلى، /ثم عاد إليه فأنشده للحطيئة في أبي موسى الأشعريّ يمدحه:
جمعت من عامر فيه(1) و من جشم *** و من تميم و من حاء(2) و من حام(3)
/مستحقبات(4) رواياها(5) جحافلها(6) *** يسمو بها أشعريّ طرفه سامي
فقال له بلال: ويحك! أ يمدح الحطيئة أبا موسى الأشعريّ و أنا أروي شعر الحطيئة كلّه فلا أعرفها! و لكن أشعها تذهب في الناس.
و ذكر المدائني أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى، و أنها صحيحة. قالها فيه و قد جمع جيشا للغزو فأنشده:
جمعت من عامر فيه(7) و من أسد(8)
و ذكر البيتين و بينهما هذا البيت و هو:
فما رضيتهم حتى رفدتهم *** بوائل رهط ذي الجدّين بسطام(9)
ص: 444
فوصله أبو موسى؛ فكتب إليه عمر رضي اللّه عنه يلومه على ذلك؛ فكتب إليه: إني اشتريت عرضي منه بها؛ فكتب إليه عمر: إن كان هذا هكذا و إنما فديت عرضك من لسانه و لم تعطه للمدح(1) و الفخر فقد أحسنت. و لما ولى بلال بن أبي بردة أنشده إياها حمّاد الرواية فوصله أيضا.
و نسخت من كتاب لحمّاد بن إسحاق حدّثني به أبي و أخبرني به عمّي عن الكرانيّ عن الرّياشيّ قال حدّثني محمد بن الطّفيل عن أبي بكر بن عيّاش عن الحارث بن عبد الرحمن عن مكحول قال:
سبق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على فرس له فجثا على ركبتيه و قال: «إنه لبحر»(2)؛ قال عمر:
كذب الحطيئة حيث يقول:
و إنّ جياد الخيل لا تستفزّنا *** و لا جاعلات الرّيط(3) فوق المعاصم
لو ترك هذا أحد لتركه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أبي عبيدة أن الحطيئة أراد سفرا فأتته امرأته و قد قدّمت راحلته ليركب، فقالت:
اذكر تحنّننا إليك و شوقنا *** و اذكر بناتك إنهنّ صغار
فقال: حطّوا، لا رحلت لسفر أبدا.
أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ و محمد بن الحسن بن دريد قالا حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمه عن أبيه قال:
قال رجل: ضفت(4) قوما في سفر و قد ضللت(5) الطريق، فجاءوني بطعام أجد طعمه في فمي و ثقله(6) في بطني، ثم قال شيخ منهم لشابّ : أنشد عمّك؛ فأنشدني:
عفا من سليمى مسحلان فحامره *** تمشّى به ظلمانه و جآذره
ص: 445
فقلت له: أ ليس هذا للحطيئة ؟ فقال: بلى، و أنا صاحبه من الجن.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:
قال ابن عيينة: سمعت ابن شبرمة يقول: أنا و اللّه أعلم بجيّد الشعر، لقد أحسن الحطيئة حيث يقول:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى *** و إن عاهدوا أوفوا و إن عقدوا شدّوا
و إن كانت النّعماء فيهم جزوا بها *** و إن أنعموا لا كدّروها و لا كدّوا
و إن قال مولاهم على جلّ حادث *** من الدهر ردّوا فضل أحلامكم ردّوا
قال: و قال الأصمعيّ و قد سأله أبو عدنان عن هذا البيت: ما واحد البنى، قال: بنية؛ فقال له: /أ تجمع فعلة على فعل ؟ قال: نعم مثل رشوة و رشى و حبوة و حبى(1).
حدّثنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني محمد بن أحمد بن صدقة الأنباريّ قال حدّثنا ابن الأعرابيّ عن المفضّل:
أن الحطيئة أقحمته السنة(2)، فنزل ببني مقلّد بن يربوع، فمشى بعضهم إلى بعض و قالوا: إن هذا الرجل لا يسلم أحد من لسانه، فتعالوا حتى نسأله عما يحبّ فنفعله(3) و عما يكره فنجتنبه؛ فأتوه فقالوا له: يا أبا مليكة، إنك اخترتنا على سائر العرب/و وجب حقّك علينا، فمرنا بما تحبّ أن نفعله و بما تحب أن ننتهي عنه؛ فقال:
لا تكثروا زيارتي فتملّوني، و لا تقطعوها فتوحشوني، و لا تجعلوا فناء بيتي مجلسا لكم، و لا تسمعوا بناتي غناء شبّانكم، فإن الغناء رقية الزنا. قال: فأقام عندهم. و جمع كلّ رجل منهم ولده و قال: أمّكم الطلاق، لئن تغنّى أحد منكم و الحطيئة مقيم بين أظهرنا لأضربنّه ضربة بسيفي أخذت منه ما أخذت. فلم يزل مقيما فيما يرضى حتى انجلت عنه السّنة، فارتحل و هو يقول:
جاورت آل مقلّد فحمدتهم *** إذ ليس كلّ (4) أخي جوار يحمد
أيام(5) من يرد الصنيعة يصطنع *** فينا و من يرد الزّهادة يزهد(6)
ص: 446
فأما خبره مع الزّبرقان بن بدر و السبب في هجائه إياه، فأخبرني به أبو خليفة عن محمد بن سلاّم و لم يتجاوزه به، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن محمد بن سلاّم عن يونس، و أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة، و أخبرني اليزيديّ عن عمّه عبيد اللّه عن أبي حبيب(1) عن ابن الأعرابيّ و قد جمعت رواياتهم و ضممت بعضها إلى بعض:
أن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان ولّى الزّبرقان بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم عملا، و ذكر/مثل ذلك الأصمعيّ ، و قال: الزّبرقان: القمر، و الزبرقان: الرجل الخفيف اللحية. قال:
و أقرّه أبو بكر رضي اللّه عنه بعد النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم على عمله، ثم قدم على عمر في سنة مجدبة ليؤدّي صدقات قومه، فلقيه الحطيئة بقرقرى(2) و معه ابناه أوس و سوادة و بناته و امرأته؛ فقال له الزّبرقان و قد عرفه و لم يعرفه الحطيئة: أين تريد؟ قال: العراق، فقد حطمتنا هذه السنة؛ قال: و تصنع ما ذا؟ قال وددت أن أصادف بها رجلا يكفيني مئونة عيالي و أصفيه(3) مدحي أبدا؛ فقال له الزبرقان: قد أصبته، فهل لك فيه يوسعك لبنا و تمرا و يجاورك أحسن جوار و أكرمه ؟ فقال له الحطيئة: هذا و أبيك العيش، و ما كنت أرجو هذا كلّه؛ قال: فقد أصبته؛ قال: عند من ؟ قال:
عندي؛ قال: و من أنت ؟ قال: الزّبرقان بن بدر؛ قال و أين محلّك ؟ قال: اركب هذه الإبل، و استقبل مطلع الشمس، و سل عن القمر حتى تأتي منزلي. قال يونس: و كان اسم الزّبرقان الحصين بن بدر، و إنما سمّي الزّبرقان لحسنه، شبّه بالقمر. و قيل: بل لبس عمامة مزبرقة(4) بالزّعفران فسمّي الزّبرقان لذلك. و قال أبو عبيدة في خبره: فقال له:
سر إلى أم شذرة و هي أم الزّبرقان و هي أيضا عمة الفرزدق، و كتب إليها أن أحسني إليه، و أكثري له من التمر و اللبن. و قال آخرون: بل وكله إلى زوجته. فلحق الحطيئة(5) بزوجته على رواية ابن سلاّم، /و هي بنت صعصعة بن ناجية المجاشعيّة، و اسمها هنيدة، و على رواية أبي عبيدة: أنها أمّه، و ذلك في عام صعب مجدب، فأكرمته المرأة و أحسنت إليه؛ فبلغ ذلك بغيض بن عامر بن شمّاس بن لأي بن جعفر و هو أنف الناقة بن قريع بن عوف(6) [بن كعب](7) بن سعد بن زيد مناة بن تميم، /و بلغ إخوته و بني عمه فاغتنموها. و في خبر اليزيديّ عن عمه قال ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ : و كانوا يغضبون من أنف الناقة، و إنما سمّي جعفر أنف الناقة لأن أباه قريعا نحر ناقة فقسمها بين نسائه، فبعثت جعفرا هذا أمّه، و هي الشّموس من وائل ثم من سعد هذيم، فأتى أباه و لم يبق من الناقة إلا رأسها و عنقها، فقال: شأنك بهذا؛ فأدخل يده في أنفها و جرّ ما أعطاه؛ فسمّي أنف الناقة. و كان ذلك كاللّقب لهم حتى مدحهم الحطيئة، فقال:
ص: 447
قوم هم الأنف و الأذناب غيرهم *** و من يسوّي بأنف الناقة الذنبا
فصار بعد ذلك فخرا لهم و مدحا، و كانوا ينازعون الزّبرقان الشرف - يعني بغيضا و إخوته و أهله - و كانوا أشرف من الزّبرقان، إلا أنه قد كان استعلاهم بنفسه. و قال أبو عبيدة في خبره: كان الحطيئة دميما سيّئ(1) الخلق، لا تأخذه العين، و معه عيال كذلك. فلما رأت أمّ شذرة حاله هان عليها و قصّرت(2) به، و نظر بغيض و بنو أنف الناقة إلى ما تصنع به أمّ شذرة، فأرسلوا إليه: أن ائتنا، فأبى عليهم و قال: إن من شأن النساء التقصير و الغفلة، و لست بالذي أحمل على صاحبها ذنبها. فلما ألحّ عليه بنو أنف الناقة، و كان رسولهم إليه شمّاس بن لأي و علقمة بن هوذة و بغيض بن شمّاس و المخبّل الشاعر، قال لهم: لست بحامل على الرجل ذنب غيره، فإن تركت و جفيت تحوّلت إليكم؛ فأطمعوه و وعدوه وعدا عظيما. و قال ابن سلاّم في خبره: فلما لم يجبهم دسّوا إلى هنيدة زوجة الزّبرقان أنّ الزبرقان إنما يريد أن يتزوّج ابنته مليكة؛ و كانت جميلة كاملة، فظهرت من المرأة للحطيئة جفوة و هي في ذاك تداريه. /ثم أرادوا النّجعة(3)، قال أبو عبيدة: فقالت له أمّ شذرة - و قال ابن سلاّم: فقالت له هنيدة -: قد حضرت النّجعة فاركب أنت و أهلك هذا الظّهر إلى مكان كذا و كذا، ثم اردده إلينا حتى نلحقك فإنه لا يسعنا جميعا؛ فأرسل إليها: بل تقدّمي أنت فأنت أحقّ بذلك؛ ففعلت و تثاقلت عن ردّها(4) إليه و تركته يومين أو ثلاثة، و ألحّ بنو أنف الناقة عليه و قالوا له: قد تركت بمضيعة. و كان أشدّهم في ذلك قولا بغيض بن شمّاس و علقمة بن هوذة، و كان الزّبرقان قد قال في علقمة:
لي ابن عمّ لا يزا *** ل يعيبني و يعين(5) عائب
و أعينه في النائبا *** ت و لا يعين على النوائب
تسري عقاربه إل *** ى و لا تدبّ له عقارب
لاه(6) ابن عمّك لا يخا *** ف المحزنات من العواقب
قال: فكان علقمة ممتلئا غيظا عليه. فلما ألحّوا على الحطيئة أجابهم و قال(7): أما الآن فنعم، أنا صائر معكم. فتحمّل معهم، فضربوا له قبّة، و ربطوا بكلّ طنب من أطنابها جلّة(8) هجريّة،
ص: 448
/و أراحوا(1) عليه إبلهم، و أكثروا له من التمر و اللبن، و أعطوه/لقاحا(2) و كسوة. قال: فلمّا قدم الزّبرقان سأل عنه فأخبر بقصّته، فنادى في بني بهدلة بن عرف، و هم لأمّ دون قريع، أمّهم السّفعاء بنت غنم بن قتيبة من باهلة. فركب الزبرقان فرسه، و أخذ رمحه، و سار حتى وقف على نادي بني شمّاس القريعيّين، فقال: ردّوا عليّ جاري؛ فقالوا:
ما هو لك بجار و قد اطّرحته و ضيّعته؛ فألمّ (3) أن يكون بين الحيّين حرب، فحضرهم(4) أهل الحجا من قومهم، فلاموا بغيضا و قالوا: اردد على الرجل جاره؛ فقال: لست مخرجه و قد آويته، و هو رجل حرّ مالك لأمره، فخيّروه فإن اختارني لم أخرجه، و إن اختاره لم أكرهه. فخيّروا الحطيئة فاختار بغيضا و رهطه؛ فجاء الزبرقان و وقف عليه و قال له: أبا ملكية، أ فارقت جواري عن سخط و ذمّ؟ قال: لا؛ فانصرف و تركه. هذه رواية ابن سلاّم، و أما أبو عبيدة فإنه ذكر أنه كان بين الزّبرقان و من معه من القريعيّين تلاح(5) و تشاحّ . و زعم غيرهما أن الزبرقان استعدى عمر بن الخطّاب على بغيض، فحكم عمر بأن يخرج الحطيئة حتى يقام في موضع خال بين الحيّين وحده و يخلّى سبيله، و يكون جار أيّهما اختار؛ ففعل ذلك به، فاختار القريعيّين. قال: و جعل الحطيئة يمدحهم من غير أن يهجو الزّبرقان، و هم يحضّونه على ذلك و يحرّضونه فيأبى و يقول: لا ذنب للرجل عندي؛ حتى أرسل الزبرقان إلى رجل من النّمر بن قاسط يقال له دثار بن شيبان، فهجا بغيضا فقال:
أرى إبلي بجوف الماء حلّت *** و أعوزها به الماء الرّواء
و قد وردت مياه بني قريع *** فما وصلوا القرابة مذ أساءوا
/تحلأ(6) يوم ورد الناس إبلي *** و تصدر و هي محنقة(7) ظماء
أ لم أك جار شمّاس بن لأي *** فأسلمني و قد نزل البلاء
فقلت تحوّلي يا أمّ بكر *** إلى حيث المكارم و العلاء
وجدنا بيت بهدلة بن عوف *** تعالى سمكه و دجا(8) الفناء(9)
و ما أضحى لشمّاس بن لأي *** قديم في الفعال(10) و لا رباء(11)
سوى أن الحطيئة قال قولا *** فهذا من مقالته جزاء
ص: 449
فحينئذ قال الحطيئة يهجو الزّبرقان و يناضل عن بغيض قصيدته التي يقول فيها:
و اللّه ما معشر لاموا امرأ جنبا *** في آل لأي بن شمّاس بأكياس
ما كان ذنب بغيض لا أبا لكم *** في بائس جاء يحدو آخر الناس
لقد مريتكم(1) لو أن درّتكم(2) *** يوما يجيء بها مسحي و إبساسي
و قد مدحتكم عمدا لأرشدكم *** كيما يكون لكم متحي و إمراسي
لما بدا لي منكم غيب(3) أنفسكم *** و لم يكن لجراحي فيكم آسي
أزمعت يأسا مبينا(4) من نوالكم *** و لن يرى(5) طاردا للحرّ كالياس
/جار لقوم أطالوا هون منزله *** و غادروه مقيما بين أرماس
/ملّوا قراه و هرّته كلابهم *** و جرّحوه بأنياب و أضراس
دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** و اقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين اللّه و الناس
ما كان ذنبي أن فلّت معاولكم *** من آل لأي صفاة أصلها راسي
قد ناضلوك فسلّوا من كنائنهم *** مجدا تليدا و نبلا غير أنكاس(6)
- الجنب: الغريب. و الإبساس: أن يسكّنها عند الحلب. و الماتح: المستقي الذي يجذب الدلو من فوق.
و الإمراس: أن يقع الحبل في جانب البكرة فيخرجه -.
فاستعدى عليه الزبرقان عمر بن الخطاب، فرفعه عمر إليه و استنشده فأنشده؛ فقال عمر لحسّان: أ تراه هجاه ؟ قال: نعم و سلح عليه، فحبسه عمر:
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أحمد بن معاوية عن أبي عبد الرحمن الطائيّ عن عبد اللّه بن عيّاش عن الشّعبيّ قال:
شهدت زيادا و أتاه عامر بن مسعود بأبي علاثة التّيميّ ، فقال: إنه هجاني؛ قال: و ما قال لك ؟ قال قال:
ص: 450
و كيف أرجّي ثروها و نماءها *** و قد سار فيها خصية الكلب عامر
فقال أبو علاثة: ليس هكذا قلت؛ قال: فكيف قلت ؟ قال قلت:
و إني لأرجو ثروها و نماءها *** و قد سار فيها ناجذ الحقّ عامر
/قال زياد: قاتل اللّه الشاعر، ينقل لسانه كيف شاء، و اللّه لو لا أن تكون سنّة لقطعت لسانك! فقام قيس بن فهد الأنصاريّ فقال: أصلح اللّه الأمير، ما أدري من الرجل، فإن شئت حدثتك عن عمر بما سمعت منه - قال:
و كان زياد يعجبه الحديث(1) عن عمر رضي اللّه عنه - قال: هاته، قال شهدته و أتاه الزّبرقان بن بدر بالحطيئة فقال:
إنه هجاني؛ قال و ما قال لك ؟ قال قال لي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** و اقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر: ما أسمع هجاء و لكنّها معاتبة؛ فقال الزبرقان: أ و ما تبلغ مروءتي إلاّ أن آكل و ألبس! فقال عمر:
عليّ بحسان، فجيء به فسأله؛ فقال: لم يهجه و لكن سلح عليه - قال و يقال: إنه سأل لبيدا عن ذلك فقال:
ما يسرّني أنه لحقني من هذا الشعر ما لحقه و أن لي حمر النّعم - فأمر به عمر فجعل في نقير(2) في بئر ثم ألقي عليه شيء، فقال:
ما ذا تقول لأفراخ بذي مرخ(3) *** زغب(4) الحواصل(5) لا ماء و لا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة *** فاغفر عليك سلام اللّه يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه *** ألقى إليك مقاليد النّهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدّموك لها *** لكن لأنفسهم كانت بك الأثر(6)
/فأخرجه و قال له: إيّاك و هجاء الناس؛ قال: إذا يموت عيالي جوعا، هذا مكسبي و منه معاشي؛ قال: فإياك و المقذع من القول؛ قال: و ما المقذع ؟ قال: أن تخاير بين الناس فتقول: فلان خير من فلان، و آل فلان خير من آل فلان؛ قال: فأنت و اللّه أهجى منّي. ثم قال: و اللّه لو لا أن/تكون سنّة لقطعت لسانك، و لكن اذهب فأنت له، خذه يا زبرقان؛ فألقى الزبرقان في عنقه عمامة فاقتاده بها؛ و عارضته غطفان فقالوا له: يا أبا شذرة، إخوتك و بنو عمّك، هبه لنا؛ فوهبه لهم. فقال زياد لعامر بن مسعود: قد سمعت ما روي عن عمر، و إنما هي السّنن، فاذهب به فهو لك؛ فألقى في عنقه حبلا أو عمامة، و عارضته بكر بن وائل فقالوا له: أخوالك(7) و جيرانك؛ فوهبه لهم.
ص: 451
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة: أن الحطيئة لما حبسه عمر قال و هو أوّل ما قاله:
أعوذ بجدّك إنّي امرؤ *** سقتني الأعادي إليك السّجالا
فإنك خير من الزبرقان *** أشدّ نكالا و أرجى نوالا
تحنّن عليّ هداك المليك *** فإنّ لكلّ مقام مقالا
و لا تأخذنّي بقول الوشاة *** فإن لكلّ زمان رجالا
فإن كان ما زعموا صادقا *** فسيقت إليك نسائي رجالا(1)
حواسر لا يشتكين الوجا(2) *** يخفّضن آلا و يرفعن آلا
فلم يلتفت عمر إليه حتى قال أبياته التي أوّلها:
ما ذا تقول لأفراخ بذي مرخ(3)
/أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء و محمد بن العبّاس اليزيديّ و عمر بن عبد العزيز بن أحمد و طاهر بن عبد اللّه الهشاميّ (4) قالوا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن الضحّاك بن عثمان الحزاميّ قال حدّثني عبد اللّه بن مصعب عن ربيعة بن عثمان عن زيد(5) بن أسلم عن أبيه قال:
أرسل عمر إلى الحطيئة و أنا جالس عنده و قد كلمه فيه عمرو بن العاص و غيره فأخرجه من السجن فأنشده قوله:
ما ذا تقول لأفراخ بذي مرخ(6) *** زغب الحواصل لا ماء و لا شجر
ألقيت(7) كاسبهم في قعر مظلمة *** فاغفر عليك(8) سلام اللّه يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه *** ألقي إليك مقاليد النّهي البشر
لم يؤثروك بها إذ قدّموك لها *** لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فامنن على صبية بالرمل مسكنهم *** بين الأباطح تغشاهم بها القرر(9)
ص: 452
أهلي فداؤك كم بيني و بينهم *** من عرض داوية(1) تعمى بها الخبر
- قال فبكى حين قال:
ما ذا تقول لأفراخ بذي مرخ
فقال عمرو بن العاص: ما أظلّت الخضراء و لا أقلّت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة - فقال عمر: عليّ بالكرسيّ ، فأتي به، فجلس عليه ثم قال: أشيروا/عليّ في الشاعر، فإنه يقول الهجر(2) و ينسب بالحرم و يمدح الناس و يذمّهم بغير ما فيهم، ما أراني إلاّ قاطعا لسانه، ثم قال: عليّ بالطّست(3)، فأتي بها، ثم قال: عليّ بالمخصف(4)، عليّ بالسّكّين، لا بل عليّ بالموسى، فهو أوحى(5)؛ فقالوا لا يعود يا أمير المؤمنين، فأشاروا(6) إليه أن قل لا أعود؛ فقال: لا أعود يا أمير المؤمنين؛ فقال له: النّجاء. قال: فلما ولّى قال له عمر:
يا حطيئة، كأني بك عند فتى من قريش، قد بسط لك نمرقة(7) و كسر له/أخرى و قال: غنّنا يا حطيئة فطفقت تغنّيه بأعراض الناس. قال ابن أسلم: فما انقضت الدنيا حتى رأيت الحطيئة عند عبيد اللّه بن عمر قد بسط له نمرقة و كسر له أخرى و قال: غنّنا يا حطيئة، فجعل يغنّيه، فقلت له: يا حطيئة، أ تذكر قول عمر؟ ففزع و قال:
يرحم اللّه ذلك المرء، أما إنه لو كان حيّا ما فعلت. قال: و قلت لعبيد اللّه: سمعت أباك يقول كذا و كذا فكنت أنت ذلك الرجل.
و روي عن عبد اللّه بن المبارك أنّ عمر رضي اللّه عنه لما أطلق الحطيئة أراد أن يؤكد عليه الحجة فاشترى منه أعراض المسلمين جميعا بثلاثة آلاف درهم؛ فقال الحطيئة في ذلك:
و أخذت أطراف الكلام فلم تدع *** شتما يضرّ و لا مديحا ينفع
و حميتني عرض اللئيم فلم يخف *** دمي و أصبح آمنا لا يفزع
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمه عن نافع بن أبي نعيم:
/أن عبد الرحمن بن عوف هو الذي استرضى عمر بن الخطاب و كلّمه في أمر الحطيئة حتى أخرجه من السجن. قال حمّاد و أخبرني أبي عن أبي عبيدة أن عمر رضي اللّه عنه لما أطلقه قال الشاعر النّمريّ الذي كان الزبرقان حمله على هجاء بغيض:
ص: 453
دعاني الأثبجان(1) ابنا بغيض *** و أهلي بالعلاة(2) فمنّياني
و قالوا سر بأهلك فأتينا *** إلى حبّ و أنعام سمان
فسرت إليهم عشرين شهرا *** و أربعة فذلك حجّتان
فلما أن أتيت ابني بغيض *** و أسلمني بدائي(3) الداعيان
يبيت الذئب و العثواء(4) ضيفا(5) *** لنا بالليل بئس الضائفان
أمارس منهما(6) ليلا طويلا *** أهجهج(7) عن بنيّ و يعروان
تقول حليلتي لما اشتكينا *** سيدركنا بنو القرم الهجان(8)
سيدركنا بنو القمر بن بدر *** سراج الليل للشمس الحصان
فقلت ادعي و أدعو إن أندى(9) *** لصوت أن ينادي داعيان
/فمن يك سائلا عنّي فإنّي *** أنا النّمريّ جار الزّبرقان
طريد عشيرة و طريد حرب *** بما اجترمت يدي و جنى لساني
كأنّي إذ نزلت به طريدا *** نزلت على الممنّع من أبان(10)
أتيت الزّبرقان فلم يضعني *** و ضيّعني بتريم(11) من دعاني
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة قال:
ص: 454
لم يزل الحطيئة في بني قريع يمدحهم حتى إذا أحيوا(1) قال لبغيض: ف لي بما كنت تضمّنت؛ فأتى بغيض علقمة بن هوذة فقال له: قد جاء اللّه بالحيا، فف لي بما قلت - و كان قد ضمن له مائة بعير - و أبرئني مما تضمّنته عهدتي؛ فقال: نعم، سل في بني قريع فمهما فضل بعد عطائهم أن يتمّ مائة أتممته، ففعل فجمعوا له أربعين أو خمسين بعيرا، كان الرجل يعطيه على قدر ماله البعير/و البعيرين؛ قال: فأتمّها علقمة له مائة و راعيين فدفعت إليه.
فلم يزل يمدحهم و هو مقيم بينهم حتى قال كلمته السينيّة و استعدى الزبرقان عليه عمر رضي اللّه عنه. فلما رحل عنهم قال:
لا يبعد اللّه إذ ودّعت أرضهم *** أخي بغيضا و لكن غيره بعدا
لا يبعد اللّه من يعطي الجزيل و من *** يحبو الجليل و ما أكدي و لا نكدا
و من تلاقيه(2) بالمعروف مبتهجا *** إذا اجرهدّ(3) صفا المذموم أو صلدا
لاقيته ثلجا(4) تندى أنامله *** أن يعطك اليوم لا يمنعك ذاك غدا
إنّي لرافده ودّي و منصرتي *** و حافظ غيبه إن غاب أو شهدا
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن موسى قال حدّثنا أحمد(5) بن الحارث عن المدائنيّ عن ابن دأب عن عبد اللّه بن عيّاش المنتوف قال:
بينا ابن عباس جالس في مجلس(6) رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ما كفّ بصره و حوله ناس من قريش، إذا أقبل أعرابيّ يخطر و عليه مطرف و جبّة و عمامة خزّ، حتى سلّم على القوم فردّوا عليه السّلام، فقال: يا بن عمّ رسول اللّه، أفتني؛ قال: في ما ذا؟ قال أ تخاف عليّ جناحا إن ظلمني رجل فظلمته و شتمني فشتمته و قصّر بي فقصّرت به ؟ فقال:
العفو خير، و من انتصر فلا جناح عليه؛ فقال: يا بن عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أ رأيت امرأ أتاني فوعدني و غرّني و منّاني ثم أخلفني و استخفّ بحرمتي، أ يسعني أن أهجوه ؟ قال: لا يصلح الهجاء، لأنه لا بدّ لك من أن تهجو غيره من عشيرته فتظلم من لم يظلمك، و تشتم من لم يشتمك، و تبغي على من لم يبغ عليك، و البغي مرتع و خيم، و في العفو ما قد علمت من الفضل؛ قال: صدقت و بررت؛ فلم ينشب أن أقبل عبد الرحمن بن سيحان المحاربيّ حليف قريش، فلما رأى الأعرابيّ أجلّه و أعظمه و ألطف في مسألته، و قال: قرّب اللّه دارك يا أبا مليكة، فقال ابن عباس:
أ جرول ؟ قال: جرول؛ فإذا هو الحطيئة، فقال ابن عباس: للّه أنت! أيّ مردي(7) قذاف، و ذائد عن عشيرة(8)،
ص: 455
و مثن بعارفة تؤتاها أنت يا أبا ملكية! و اللّه لو كنت عركت(1) بجنبك بعض ما كرهت من أمر الزّبرقان كان خيرا لك، /و لقد ظلمت من قومه من لم يظلمك، و شتمت من لم يشتمك؛ قال: إنّي و اللّه بهم يا أبا العباس(2) لعالم؛ قال ما أنت بأعلم بهم من غيرك؛ قال: بلى و اللّه! يرحمك اللّه! ثم أنشأ يقول:
أنا ابن بجدتهم(3) علما و تجربة *** فسل بسعد تجدني أعلم الناس
سعد بن زيد كثير إن عددتهم *** و رأس سعد بن زيد آل شمّاس
و الزبرقان ذناباهم(4) و شرّهم *** ليس الذّنابى أبا العباس كالراس
فقال ابن عباس: أقسمت عليك ألاّ تقول(5) إلاّ خيرا، قال: أفعل. ثم قال ابن عباس: يا أبا مليكة، من أشعر الناس ؟ قال: أ من الماضين أم من الباقين ؟ قال: من الماضين؛ قال: الذي يقول:
و من يجعل المعروف من دون عرضه *** يفره و من لا يتّق الشتم يشتم
و ما بدونه الذي يقول:
و لست بمستبق أخا لا تلمّه *** على شعث، أيّ الرجال المهذّب
/و لكنّ الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولا - يعني نفسه - و اللّه يا ابن عمّ رسول اللّه لو لا الطمع و الجشع لكنت أشعر(6) الماضين، فأما الباقون فلا تشكّ أنّي أشعرهم و أصردهم(7) سهما إذا رميت.
/
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: روي لنا عن أبي عبيدة و الهيثم بن عديّ و غيرهما:
أنّ عبد اللّه بن أبي ربيعة لما قدم من البحرين نزل على الزّبرقان بن بدر بمائه فحلّأه و هو الماء الذي يقال له بنيان(8)، فنزل على بني أنف الناقة بمائهم و هو الذي يقال له وشيع، فأكرموه و ذبحوا له شاة و قالوا: لو كانت إبلنا منّا قريبة لنحرنا لك؛ فراح من عندهم يتغنّى فيهم بقوله:
و ما الزبرقان يوم يمنع ماءه *** بمحتسب التّقوى و لا متوكّل
مقيم على بنيان يمنع ماءه *** و ماء و شيع ماء ظمآن مرمل
ص: 456
قال: فركب الزّبرقان إلى عمر رضي اللّه عنه فاستعداه على عبد اللّه و قال: إنه هجاني يا أمير المؤمنين؛ فسأل عمر عن ذلك عبد اللّه؛ فقال له: يا أمير المؤمنين، إني نزلت على مائه فحلّأني عنه؛ فقال عمر رضوان اللّه عليه:
يا زبرقان، أ تمنع ماءك من ابن السبيل! قال: يا أمير المؤمنين أ لا أمنع ماء حفر آبائي مجاريه و مستقره و حفرته أنا بيدي! فقال عمر: و الذي نفسي بيده، لئن بلغني أنك منعت ماءك من أبناء السبيل لا ساكنتني بنجد أبدا! فقال بعض بني أنف الناقة يعيّر الزّبرقان ما فعله:
أ تدري من منعت و رود حوض *** سليل خضارم منعوا البطاحا
أزاد الركب(1) تمنع أم هشاما *** و ذا الرّمحين(2) أمنعهم سلاحا
/هم منعوا الأباطح دون فهر *** و من بالخيف و البدن اللّقاحا
بضرب دون بيضتهم(3) طلخف(4) *** إذ الملهوف لاذ بهم و صاحا
و ما تدري بأيّهم تلاقي *** صدور المشرفيّة و الرّماحا
و للحطيئة وصية ظريفة يأتي كلّ فريق من الرواة ببعضها، و قد جمعت ما وقع إليّ منها في موضع واحد و صدّرت بأسانيدها.
أخبرني بها محمد بن العباس اليزيديّ قال حدّثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدّثنا عيينة(5) بن المنهال عن الأصمعيّ ، و أخبرني بها أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرني إبراهيم بن أيّوب عن ابن قتيبة، و نسختها من كتاب محمد بن الليث عن محمد بن عبد اللّه العبديّ عن الهيثم بن عديّ عن عبد اللّه بن عبد الرحمن [ابن أبي عمرة](6) عن أبيه، و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة، و أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ عن أبي عبيدة قالوا:
لما حضرت الحطيئة الوفاة اجتمع إليه قومه فقالوا: يا أبا ملكية: أوص فقال: ويل للشّعر من راوية السوء؛ قالوا: أوص رحمك اللّه يا حطىء؛ قال: من الذي يقول:
إذا أنبض(7) الرامون عنها ترنّمت *** ترنّم ثكلى أو جعتها الجنائز؟
/قالوا: الشّمّاخ؛ قال: أبلغوا غطفان أنه أشعر العرب؛ قالوا: ويحك! أ هذه وصيّة! أوص بما/ينفعك! قال:
ص: 457
أبلغوا أهل ضابئ(1) أنه شاعر حيث يقول:
لكلّ جديد لذّة غير أنّني *** رأيت جديد الموت غير لذيذ
قالوا: أوص ويحك بما ينفعك! قال: أبلغوا أهل امرئ القيس أنه أشعر العرب حيث يقول:
فيا لك من ليل كأنّ نجومه *** بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل(2)
قالوا: اتّق اللّه ودع عنك هذا؛ قال: أبلغوا الأنصار أنّ صاحبهم أشعر العرب حيث يقول:
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم *** لا يسألون عن السّواد المقبل
قالوا: هذا لا يغنّي عنك شيئا، فقل غير ما أنت فيه؛ فقال:
الشّعر صعب و طويل سلّمه *** إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلّت به إلى الحضيض قدمه *** يريد أن يعربه فيعجمه(3)
قالوا: هذا مثل الذي كنت فيه؛ فقال:
قد كنت أحيانا شديد المعتمد *** و كنت ذا غرب(4) على الخصم ألدّ
فوردت(5) نفسي و ما كادت(6) ترد
/قالوا: يا أبا ملكية، أ لك حاجة ؟ قال: لا و اللّه، و لكن أجزع على المديح الجيّد يمدح به من ليس له أهلا.
قالوا: فمن أشعر الناس ؟ فأومأ بيده إلى فيه و قال: هذا الحجير إذا طمع في خير (يعني فمه) و استعبر باكيا؛ فقالوا له: قل لا إله إلا اللّه؛ فقال:
قالت و فيها حيدة(7) و ذعر *** عوذ بربّي منكم و حجر(8)
فقالوا له: ما تقول في عبيدك و إمائك ؟ فقال: هم عبيد قنّ ما عاقب الليل النهار؛ قالوا: فأوص للفقراء بشيء؛ قال: أوصيهم بالإلحاح في المسألة فإنها تجارة لا تبور، و است(9) المسئول أضيق.
قالوا: فما تقول في مالك ؟ قال: للأنثى من ولدي مثل(10) حظّ الذكر؛ قالوا: ليس هكذا قضى اللّه جلّ و عزّ لهنّ ؛ قال: لكنّي هكذا قضيت.
ص: 458
قالوا: فما توصي لليتامى ؟ قال: كلوا أموالهم و نيكوا(1) أمّهاتهم؛ قالوا: فهل شيء تعهد فيه غير هذا؟ قال:
نعم، تحملونني على أتان و تتركونني راكبها حتى أموت فإنّ الكريم لا يموت على فراشه، و الأتان مركب لم يمت عليه كريم قطّ؛ فحملوه على أتان و جعلوا يذهبون به و يجيئون عليها حتى مات و هو يقول:
لا أحد ألأم من حطيّه *** هجا بنيه و هجا المريّة
من لؤمه مات على فريّه
و الفريّة: الأتان(2).
منها:
ألا طرقتنا بعد ما هجعوا هند *** و قد جزن(3) غورا و استبان لنا نجد
و إنّ التي نكّبتها(4) عن معاشر *** عليّ غضاب أن صددت كما صدّوا
الغناء لعلّويه ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو، و هذه القصيدة التي يقول فيها:
أتت آل شمّاس بن لأي و إنما *** أتاهم بها الأحلام و الحسب العدّ(5)
فإنّ الشقيّ من تعادي صدورهم *** و ذو الجدّ من لانوا إليه و من ودّوا
يسوسون أحلاما بعيدا أناتها *** فإن غضبوا جاء الحفيظة و الجدّ
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم *** من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى *** و إن عاهدوا أوفوا و إن عقدوا شدّوا(6)
و إن كانت النّعمى عليهم جزوا بها *** و إن أنعموا لا كدّروها و لا كدّوا
ص: 459
و إن قال مولاهم على جلّ (1) حادث *** من الدهر ردّوا فضل أحلامكم ردّوا
مطاعين في الهيجا مكاشيف للدّجى *** بنى لهم آباؤهم و بنى الجدّ
/و منها:
و أدماء حرجوج(2) تعاللت(3) موهنا *** بسوطي فارمدّت نجاء الخفيدد
إذا آنست وقعا من السّوط عارضت *** به الجور حتى يستقيم ضحى الغد(4)
و تشرب بالقعب(5) الصغير و إن تقد *** بمشفرها يوما إلى الحوض تنقد
الموهن: وقت من الليل بعد مضيّ صدر منه. و ارمدّت: نجت، و الارمداد: النّجاء(6). و الخفيدد:
الظّليم(7).
الغناء لابن محرز خفيف رمل بالسبّابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر الهشاميّ : أنّ فيه لإبراهيم خفيف رمل آخر، و هو في جامع إبراهيم غير مجنّس. و فيه خفيف ثقيل مجهول، و ذكر حبش: أنه لمعبد؛ و يشبه أن يكون ليحيى المكيّ .
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني إبراهيم بن المنذر عن ابن عباية عن محمد بن مسلم الجوسق عن رجل من كعب قال:
ص: 460
جئت سوق الظّهر(1) فإذا بكثيّر، و إذا الناس متقصّفون(2) عليه، فتخلّصت حتى دنوت منه فقلت: أبا صخر؛ قال: ما تشاء؟ قلت: من أشعر الناس ؟ قال: الذي يقول:
و آثرت إدلاجي على ليل حرّة *** هضيم الحشا حسّانة المتجرّد(3)
تفرّق بالمدرى أثيثا(4) نباته(5) *** على واضح الذّفرى(6) أسيل المقلّد
قال: قلت: هذا الحطيئة ؟ قال: هو ذاك.
أخبرني الحسن بن عليّ قال حدّثنا محمد بن موسى قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخزّاز عن المدائنيّ عن عليّ ابن مجاهد عن هشام بن عروة:
أنّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنشد قول الحطيئة:
متى تأته تعشو(7) إلى ضوء ناره *** تجد نار عندها خير موقد
فقال عمر: كذب، بل تلك نار موسى نبيّ اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم.
/أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الرواية:
أنّ رجلا دخل على الحطيئة، و هو مضطجع على فراشه و إلى جانبه سوداء قد أخرجت رجلها من تحت الكساء، فقال له: ويحك! أ في رجلك خفّ؟ قال: لا و اللّه و لكنها رجل سوداء، أ تدري من هي ؟ قال: لا؛ قال:
هي و اللّه التي أقول فيها:
و آثرت إدلاجي على ليل حرّة
- و ذكر البيتين - و اللّه لو رأيتها/يا ابن أخي لما شربت الماء من يدها؛ قال: فجعلت تسبّه أقبح سبّ و هو يضحك.
و منها:
طافت أمامة بالرّكبان آونة *** يا حسنها من خيال زار منتقبا
إذ تستبيك بمصقول عوارضه(1) *** حمش(2) اللّثات ترى في مائه شنبا
قد أخلقت عهدها من بعد جدّته *** و كذّبت حبّ ملهوف و ما كذبا
الغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة.
/و منها:
جزى اللّه خيرا - و الجزاء بكفّه - *** بأحسن ما يجزي الرجال بغيضا
فلو شاء إذ جئناه صدّ فلم يلم *** و صادف منأى(3) في البلاد عريضا
الغناء للهذليّ ثقيل أوّل بالبنصر عن الهشاميّ .
ص: 462
محمد بن عائشة و يكنى أبا جعفر، و لم يكن يعرف له أب فكان ينسب إلى أمّه، و يلقبه من عاداه أو أراد سبّه «ابن عاهة الدار». و كان هو يزعم أنّ اسم أبيه جعفر؛ و ليس يعرف ذلك. و عائشة أمّه مولاة لكثير بن الصّلت الكنديّ حليف قريش. و قيل: إنها مولاة لآل المطّلب بن أبي وداعة السّهميّ ، ذكر ذلك إسحاق عن محمد بن سلاّم. و حكى ابن الكلبيّ القول الأوّل، و قال إسحاق: هو الصحيح، يعني قول ابن الكلبيّ . و قال إسحاق فيما رواه لنا الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه: إنّ محمد بن معن الغفاريّ ذكر له عن أبي السائب المخزوميّ أن ابن عائشة مولى المطّلب بن أبي وداعة السّهميّ و إنّه كان لغير رشدة(1)، فأدركت المشيخة و هم إذا سمعوا له صوتا حسنا قالوا:
أحسن ابن المرأة. قال إسحاق و قال عمران بن هند الأرقميّ : بل كان مولى لكثير بن الصّلت.
قال إسحاق: قال عبيد اللّه بن محمد بن عائشة: قال الوليد بن يزيد لابن عائشة: يا محمد، أ لغيّة أنت ؟ قال:
كانت أمّي يا أمير المؤمنين ماشطة، و كنت غلاما، فكانت إذا دخلت إلى موضع قالوا: ارفعوا هذا لابن عائشة؛ فغلبت على نسبي.
قال إسحاق: و كان ابن عائشة يفتن كلّ من سمعه، و كان فتيان من المدينة قد فسدوا في زمانه بمحادثته و مجالسته. و قد أخذ عن معبد و مالك و لم يموتا حتّى ساواهما على تقديمه لهما و اعترافه بفضلهما.
و قد قيل: إنه كان ضاربا و لم يكن بالجيّد الضرب؛ و قيل: بل كان مرتجلا لم يضرب قطّ.
و ابتداؤه بالغناء كان يضرب به المثل، فيقال للابتداء الحسن كائنا ما كان من قراءة قرآن، أو إنشاد شعر، أو غناء يبدأ به فيستحسن: كأنه ابتداء ابن عائشة. قال إسحاق: و سمعت علماءنا قديما و حديثا يقولون: ابن عائشة أحسن الناس ابتداء، و أنا أقول: إنه أحسن الناس ابتداء و توسّطا و قطعا بعد أبي عبّاد معبد، و قد سمعت من يقول:
إنّ ابن عائشة مثله؛ و أمّا أنا فلا أجسر على أن أقول ذلك.
و كان ابن عائشة غير/جيّد اليدين فكان أكثر ما يغنّي مرتجلا. و كان أطيب الناس صوتا.
قال إسحاق و حدّثني محمد بن سلاّم قال قال لي جرير: لا تخدعنّ عن أبي جعفر محمد بن عائشة، فلو لا
ص: 463
صلف كان فيه لما كان بعد أبي عبّاد مثله.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدّثني محمد بن أحمد بن يحيى المكيّ عن أبيه عن جدّه قال: ثلاثة من المغنّين كانوا أحسن الناس حلوقا: ابن عائشة و ابن تيزن(1) و ابن أبي الكنّات.
حدّثني عمي قال حدّثنا محمد بن داود بن الجرّاح قال حدّثنا أحمد بن زهير قال حدّثني مصعب الزّبيريّ عن أبيه قال:
رأى ابن أبي عتيق حلق ابن عائشة مخدّشا فقال: من فعل هذا بك ؟ قال: فلان، فمضى فنزع ثيابه و جلس للرجل على بابه، فلمّا خرج أخذ بتلبيبه(2) و جعل/يضربه ضربا شديدا و الرجل يقول له: مالك تضربني! أيّ شيء صنعت! و هو لا يجيبه حتى بلغ منه؛ ثم خلاّه و أقبل على من حضر فقال: هذا أراد أن يكسر مزامير داود: شدّ(3)على ابن عائشة فخنقه و خدش حلقه.
قال إسحاق في خبره: و حدّثني أبي عن سياط عن يونس الكاتب قال: ما عرفنا بالمدينة أحسن ابتداء من ابن عائشة إذا غنّى، و لو كان آخر غنائه مثل أوّله لقدّمته على ابن سريج. قال إبراهيم: هو كذاك عندي، و قال إسحاق مثل قولهما. قال: و قال يونس: كان ابن عائشة يضرب بالعود و لم يكن مجيدا، و كان غناؤه أحسن من ضربه، فكان لا يكاد يمسّ العود إلاّ أن تجتمع جماعة من الضّرّاب فيضربون عليه و يضرب هو و يغنّي، فناهيك به حسنا!.
أخبرني الحسين عن حمّاد عن أبيه عن الهيثم بن عديّ عن صالح بن حسّان أنه ذكر يوما المغنّين بالمدينة، فقال: لم يكن بها أحد بعد طويس أعلم من ابن عائشة و لا أظرف مجلسا و لا أكثر طيبا؛ و كان يصلح أن يكون نديم خليفة أو سمير ملك. قال إسحاق: فأذكرني هذا القول قول جميلة له: و أنت يا أبا جعفر فمع الخلفاء تصلح أن تكون.
قال إسحاق و حدّثني المدائنيّ قال حدّثني جرير قال: كان ابن عائشة تائها سيّئ الخلق، فإن قال له إنسان:
تغنّ ، قال: أ لمثلي يقال هذا! و إن قال له إنسان و قد ابتدأ هو بغناء: أحسنت، قال: أ لمثلي يقال أحسنت! ثم يسكت، فكان قليلا ما ينتفع به. فسال العقيق مرّة فدخل عرصة سعيد بن العاصي الماء حتى ملأها، فخرج الناس إليها و خرج ابن عائشة فيمن خرج، فجلس على قرن البئر، فبينا هم/كذلك إذ طلع(4) الحسن بن الحسن بن
ص: 464
عليّ بن أبي طالب، عليهم السلام، على بغلة و خلفه غلامان أسودان كأنهما من الشياطين، فقال لهما: امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذي عليه ابن عائشة، فخرجا حتى فعلا ذلك. ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يا بن عائشة ؟ قال: بخير، فداك أبي و أمي، قال: انظر من إلى جنبك، فنظر فإذا العبدان، فقال له: أ تعرفهما؟ قال: نعم، قال:
فهما حرّان لئن لم تغنّني مائة صوت لآمرنّهما بطرحك في البئر، و هما حرّان لئن لم يفعلا لأقطعنّ أيديهما، فاندفع ابن عائشة فكان أوّل ما ابتدأ به صوتا له و هو:
ألا للّه درّك من *** فتى قوم إذا رهبوا
ثم لم يسكت حتى غنّى مائة صوت، فيقال إن الناس لم يسمعوا من ابن عائشة أكثر مما/سمعوا في ذلك اليوم، و كان آخر ما غنّى:
قل للمنازل بالظّهران(1) قد حانا *** أن تنطقي فتبيني القول تبيانا
قال جرير: فما رئي يوم أحسن منه، و لقد سمع الناس شيئا لم يسمعوا مثله، و ما بلغني أن أحدا تشاغل عن استماع غنائه بشيء، و لا انصرف أحد لقضاء حاجة و لا لغير ذلك حتى فرغ. و لقد تبادر الناس من المدينة و ما حولها حيث بلغهم الخبر لاستماع غنائه، فيقال: إنه ما رئي جمع في ذلك الموضع مثل ذلك الجمع، و لقد رفع الناس أصواتهم يقولون له: أحسنت و اللّه، أحسنت و اللّه، ثم انصرفوا حوله يزفّونه إلى المدينة زفّا.
الشعر لأبي العيال الهذليّ . و الغناء لمعبد، و له فيه لحنان، أحدهما ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق يبدأ فيه بقوله:
ذكرت أخي فعاودني *** رداع السقم و الوصب
و الآخر خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة. و فيه لابن عائشة خفيف رمل آخر، و قيل: بل هو لحن معبد. و ذكر حمّاد بن إسحاق أن خفيف الرّمل لمالك. البوّ: جلد يحشى تبنا و يجفّف لكيلا تخبث رائحته، و يدنى إلى الناقة التي قد نحر فصيلها أو مات لتشمّه فتدرّ عليه.
/و منها:
قل للمنازل بالظّهران قد حانا *** أن تنطقي فتبيني القول تبيانا
قالت و من أنت قل لي قلت ذو شغف *** هجت له من دواعي الحبّ (1) أحزانا
الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن عائشة خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن الهشاميّ و حبش.
و قال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات حدّثني عبد الرحمن بن سليمان عن عليّ بن الجهم الشاعر قال حدّثني رجل:
أن ابن عائشة واقفا بالموسم متحيّرا، فمرّ به بعض أصحابه فقال له: ما يقيمك هاهنا؟ فقال: إني أعرف رجلا لو تكلّم لحبس الناس هاهنا فلم يذهب أحد و لم يجيء؛ فقال له الرجل: و من ذاك ؟ قال أنا، ثم اندفع يغنّي:
جرت سنحا فقلت لها أجيزي *** نوى مشمولة فمتى اللقاء
قال: فحبس الناس، و اضطربت المحامل، و مدّت الإبل أعناقها، و كادت الفتنة أن تقع. فأتي به هشام بن عبد الملك، فقال له: يا عدوّ اللّه، أردت أن تفتن الناس! قال: فأمسك عنه و كان تيّاها، فقال له هشام: ارفق بتيهك، فقال: حقّ لمن كانت هذه مقدرته على القلوب أن يكون تيّاها، فضحك منه و خلّى سبيله.
جرت سنحا فقلت لها أجيزي *** نوى مشمولة فمتى اللقاء
ص: 466
بنفسي من تذكّره سقام *** أعانيه و مطلبه عناء
السانح: ما أقبل من شمالك يريد يمينك، و البارح ضدّه. و قال أبو عبيدة: سمعت يونس بن حبيب يسأل رؤبة عن السانح و البارح، فقال: السانح: ما ولاّك ميامنه، و البارح: ما ولاّك مشائمه. و قوله: أجيزي أي انفذي. قال الأصمعيّ : يقال: أجزت الوادي إذا قطعته و خلّفته، و جزته أي سرت فيه فتجاوزته، و جاوزته مثله. قال أوس بن مغراء:
و لا يريمون في التعريف موقفهم *** حتى يقال أجيزوا آل صوفانا(1)
و مشمولة: سريعة(2) الانكشاف. أخذه من السحابة المشمولة، و هي التي تصيبها الشّمال فتكشفها، و من شأن الشمال أن تقطع السحاب، و استعارها هاهنا في النّوى لسرعة انكشافهم فيها عن بلدهم، و أجرى ذلك مجرى الذمّ للسانح لأنه يتشاءم به. البيت الأوّل من الشعر لزهير بن أبي سلمى، و الثاني محدث ألحقه المغنّون به لا أعرف قائله. و الغناء لابن عائشة، و لحنه خفيف ثقيل أوّل بالبنصر.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا إسحاق و أخبرني به محمد(3) بن مزيد و الحسين بن يحيى قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عديّ عن حمّاد الرواية قال:
/كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر: أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فسرّح إليّ حمّادا الرواية على ما أحبّ من دوابّ البريد، و أعطه عشرة آلاف درهم يتهيّأ بها. قال: فأتاه الكتاب و أنا عنده فنبذه إليّ ، فقلت:
السمع و الطاعة، فقال: يا دكين، مر شجرة يعطيه عشرة آلاف درهم، فأخذتها. فلما كان اليوم الذي أردت الخروج فيه أتيت يوسف بن عمر، فقال: يا حمّاد، أنا بالموضع الذي قد عرفته من أمير المؤمنين، و لست مستغنيا عن ثنائك؛ فقلت: أصلح اللّه الأمير «إن العوان(4) لا تعلّم الخمرة» و سيبلغك قولي و ثنائي. فخرجت حتى انتهيت إلى الوليد و هو بالبخراء(5)، فاستأذنت عليه فأذن لي، فإذا هو على سرير ممهّد، و عليه ثوبان أصفران: إزار و رداء يقيئان الزّعفران قيئا، و إذا عنده معبد و مالك بن أبي السّمح و أبو كامل مولاه، فتركني حتى سكن جأشي، ثم قال أنشدني:
أ من المنون و ريبها تتوجّع
فأنشدته حتى أتيت على آخرها؛ فقال لساقيه: يا سبرة اسقه، فسقاني ثلاثة أكؤس خثّرن(6) ما بين الذّؤابة و النعل. ثم قال يا مالك، غنّني:
ص: 467
ألا هل هاجك الأظعا *** ن إذ جاوزن مطلحا
ففعل. ثم قال له: غنّي:
جلا أميّة عنّي كلّ مظلمة *** سهل الحجاب و أوفى بالذي وعدا
/ففعل. ثم قال له: غنّني
أ تنسى(1) إذ تودّعنا سليمى *** بفرع بشامة(2) سقي البشام
/ففعل. ثم قال(3): يا سبرة، أو يا أبا سبرة، اسقني بزبّ فرعون؛ فأتاه بقدح معوجّ فسقاه به عشرين، ثم أتاه الحاجب فقال: أصلح اللّه أمير المؤمنين، الرجل الذي طلبت بالباب؛ قال: أدخله، فدخل شابّ لم أر شابّا أحسن وجها منه، في رجله بعض الفدع(4)، فقال: يا سبرة اسقه، فسقاه كأسا؛ ثم قال له: غنّني:
و هي إذ ذاك عليها مئزر *** و لها بيت جوار من لعب
فغنّاه؛ فنبذ إليه الثوبين. ثم قال له: غنّني:
طاف الخيال فمرحبا *** ألفا برؤية زينبا
فغضب معبد و قال: يا أمير المؤمنين، إنا مقبلون عليك بأقدارنا و أسناننا، و إنك تركتنا بمزجر الكلب، و أقبلت على هذا الصبيّ ! فقال: و اللّه يا أبا عبّاد، ما جهلت قدرك و لا سنّك، و لكنّ هذا الغلام طرحني في مثل الطّناجير(5)من حرارة غنائه. قال حمّاد الرواية: فسألت عن الغلام فقيل لي هو ابن عائشة.
جلا أميّة عنّي كل مظلمة *** سهل الحجاب و أوفى بالذي وعدا
إذا حللت بأرض لا أراك بها *** ضاقت عليّ و لم أعرف بها أحدا
الغناء لابن عبّاد الكاتب خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر عمرو بن بانة أنه لعمر الواديّ . و ذكر حبش أن فيه لمالك لحنا من خفيف الثقيل الأوّل بالوسطى.
و منها:
ص: 468
أ تنسى إذ تودّعنا سليمى *** بفرع بشامة سقي البشام
متى كان الخيام بذي طلوح(1) *** سقيت الغيث أيتها الخيام
أ تمضون(2) الخيام و لم نسلّم(3) *** كلامكم عليّ إذا حرام
/بنفسي من تجنّبه عزيز *** عليّ و من زيارته لمام
و من أمسي و أصبح لا أراه *** و يطرقني إذا رقد(4) النّيام
الشعر لجرير. و الغناء لابن سريج، و له في هذه الأبيات ثلاثة ألحان: أحدها في الأوّل و الرابع ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. و الآخر في الثاني ثم الأوّل ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو، و الآخر في الثالث و ما بعده رمل بالبنصر عن الهشاميّ و حبش. و للدّلال في الثاني و الثالث ثاني ثقيل بالسّبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق و المكّيّ . و للغريض في الأوّل و الثاني و الثالث خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. و فيها لمالك ثقيل أوّل بالبنصر عن الهشاميّ . و لابن جامع في الأوّل و الثاني و الرابع و الخامس هزج عن الهشاميّ . و فيها لابن جندب خفيف ثقيل بالبنصر.
و منها الصوت الذي أوّله في الخبر:
و هي إذ ذاك عليها مئزر
و أوّله:
أتبع الولدان(1) أرخى مئزري *** ابن عشر ذا قريط من ذهب
و هي إذ ذاك عليها مئزر *** و لها بيت جوار من لعب
/الشعر لامرئ القيس، و يقال: إنه أوّل شعر شبّب فيه بالنساء. و الغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشاميّ و دنانير(2) و حمّاد بن إسحاق. و فيه خفيف ثقيل بالبنصر ذكر حمّاد في أخبار جميلة أنه لها، و ذكر حبش و الهشاميّ أنه لابن سريج، و قيل: إنه لغيرهما.
و منها:
ألا هل هاجك الأظعان إذ جاوزن مطلحا(3)
نعم و لو شك بينهم *** جرى لك طائر سنحا
أخذن(4) الماء من ركك *** و ضوء الفجر قد وضحا
يقلن(5) مقيلنا قرن *** نباكر ماءه صبحا
تبعتهم بطرف العين حتى قيل لي افتضحا
يودّع بعضنا بعضا *** و كلّ بالهوى جرحا
فمن يفرح ببينهم *** فغيري إذ غدوا فرحا
الشعر ترويه الرواة جميعا لعمر بن أبي ربيعة سوى الزّبير بن بكّار فإنه رواه عن عمه و أهله لجعفر بن الزّبير بن العوّام، و قد ذكر خبره في هذا(6) مع أخباره المذكورة في آخر الكتاب. و رواه الزّبير
إذ جاوزن من طلحا
و قال: ليس/على وجه الأرض موضع يقال له: مطلح. و الغناء لمالك و له فيه لحنان: ثقيل أوّل بالبنصر(7)عن إسحاق، و خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه لمعبد ثقيل أوّل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
و فيه لابن سريج في الخامس - و هو تبعتهم بطرف العين إلى آخر الأبيات - ثقيل أوّل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيها للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ ، قال: و هو الذي فيه استهلال. و ذكر ابن المكيّ أن الثقيل الثاني لمالك، و خفيف العقيل للغريض.
ص: 470
و منها:
طرق الخيال فمرحبا *** ألفا برؤية زينبا
أنّى اهتديت لفتية *** سلكوا السّليل(1) فعليبا(2)
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن محمد بن سلاّم قال حدّثني جرير قال:
أخذ بعض ولاة المدينة المغنّين و المخنّثين و السّفهاء بلزوم مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان في المسجد رجل ناسك يكنى أبا جعفر مولى لابن عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ يقرئ الناس القرآن، و كان ابن عائشة يلازمه، فخلا لابن عائشة يوما الموضع مع أبي جعفر فقرأ له فطرّب و رجّع، فسمع الشيخ صوتا/لم يسمع مثله قطّ، فقال له:
يا بن أخي، أفسدت نفسك و ضيّعتها، فلو أنك لزمت المسجد و تعلّمت القرآن لأقمت(3) للناس في مسجد /رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم في شهر رمضان، و لأصبت بذلك من الولاة خيرا، فو اللّه ما دخل أذني قطّ صوت أحسن من صوتك؛ فقال ابن عائشة: فكيف لو سمعت يا أبا جعفر صوتي في الأمر الذي صنع(4) له! قال و ما هو؟ قال: انطلق معي حتى أسمعكه، فخرج معه إلى ميضأة(5) ببقيع(6) الغرقد عند دار المغيرة بن شعبة، و كان أبو جعفر يتوضأ عندها كلّ يوم، فاندفع ابن عائشة يغنّي:
الآن أبصرت الهدى *** و علا المشيب مفارقي
فبلغ ذلك من الشيخ كل مبلغ، و قال: يا ابن أخي، هذا حسن و أنا أشتهي أن أسمعه، و لكن لا أطلبه و لا أمشي إليه؛ قال ابن عائشة: فعليّ أن أسمعكه؛ فكان يرصده، فإذا خرج أبو جعفر يتوضأ خرج ابن عائشة في أثره حتى يقف خلف جدا الميضأة بحيث غناءه، فيغنّيه أصواتا حتى يفرغ أبو جعفر من وضوئه. فلم يزل يفعل ذلك حتى أطلقوا من لزوم المسجد.
ص: 471
طرق الخيال المعتري *** و هنا فؤاد العاشق
طيف ألمّ فهاجني *** للبين أمّ مساحق
الآن أبصرت الهدى *** و علا المشيب مفارقي
/و تركت أمر غوايتي *** و سلكت قصد طرائقي
و لقد رضيت بعيشنا *** إذ نحن بين حدائق
و ركائب تهوي بنا *** بين الدّروب فدابق(1)
الشعر للوليد بن يزيد، و يقال: إنه لابن رهيمة. و الغناء لابن عائشة رمل بالبنصر عن عمرو، و ذكره يونس أيضا له في كتابه. و فيه لأبي زكّار الأعمى خفيف رمل بالوسطى عن عمرو و الهشاميّ . و ذكر ابن خرداذبه(2) أنه لأبي زكّار الأعمى و هو قديم، و أنه وجد ذلك في كتاب يونس. و فيه لحكم الوادي لحن في كتاب يونس غير مجنّس، و لا أدري أيّها هو. و في هذه الأبيات خفيف ثقيل متنازع فيه نسب إلى معبد و إلى مالك، و لم أجده لهما عن ثقة، و أظنّه لحن حكم.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي و الحسين(3) بن يحيى الأعور المرداسيّ قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلاّم عن أبيه قال:
كان الحسن بن الحسن مكرما لابن عائشة محبّا له، و كان ابن عائشة منقطعا إليه، و كان من أتيه خلق اللّه و أشدّه(4) ذهابا بنفسه، فسأله الحسن أن يخرج معه إلى البغيبغة(5)/فامتنع ابن عائشة من ذلك؛ فأقسم عليه فأبى؛ فدعا بغلمان له حبشان و قال: نفيت من أبي لئن لم تسر معي طائعا لتسيرنّ كارها، و نفيت من أبي لئن
ص: 472
لم ينفذوا أمري فيك لأقطعنّ أيديهم. فلما رأى ابن عائشة ما ظهر من الحسن علم أنه لا بد من الذهاب، فقال له:
بأبي أنت و أمّي، أنا أمضي معك طائعا لا كارها. فأمر الحسن بإصلاح ما يحتاج إليه و ركب، و أمر لابن عائشة ببغلة /فركبها و مضيا، حتى صارا إلى البغيبغة فنزلا الشّعب(1)، و جاءهم ما أعدّوا فأكلوا؛ ثم أمر الحسن بأمره و قال يا محمد؛ فقال له: لبّيك يا سيدي؛ قال: غنّني؛ فاندفع فغناه:
يدعو النبيّ بعمّه فيجيبه *** يا خير من يدعو النبيّ جلالا
ذهب الرجال فلا أحسّ رجالا *** و أرى الإقامة بالعراق ضلالا
و أرى المرجّى للعراق و أهله *** ظمآن هاجرة يؤمّل آلا(2)
و طربت إذ ذكر المدينة ذاكر *** يوم الخميس فهاج لي بلبالا(3)
فظللت انظر في السماء كأنني *** أبغي بناحية السماء هلالا
- الشعر لابن المولى من قصيدة طويلة قالها و قد قدم إلى العراق لبعض أمره فطال مقامه بها و اشتاق إلى بلده. و قد ذكر خبره في موضعه(4) من هذا الكتاب. و الغناء لابن عائشة ثقيل أوّل بالبنصر عن حمّاد و الهشاميّ و حبش. و قال الهشاميّ خاصة: فيه لحن لقراريط - فقال له الحسن: أحسنت و اللّه يا ابن عائشة(5)! فقال ابن عائشة: /و اللّه لا غنّيتك في يومي هذا شيئا؛ فقال الحسن: فو اللّه لا برحت البغيبغة ثلاثة أيام! فاغتمّ ابن عائشة ليمينه و ندم و علم أنّه لا حيلة له إلا المقام، فأقاموا. فلمّا كان اليوم الثاني قال له الحسن:
هات ما عندك فقد برّت يمينك، و كانوا جلوسا على شيء مرتفع، فنظروا إلى ناقة تقدم جماعة إبل، فاندفع ابن عائشة فغنّى:
تمرّ كجندلة المنجني *** ق يرمى بها السور يوم القتال
فما ذا تخطرف من قلّة *** و من حدب و إكام توالي
و من سيرها العنق المسبطرّ و العجرفيّة بعد الكلال فقال له الحسن: ويلك يا محمد! لقد أحسنت الصنعة؛ فسكت ابن عائشة؛ ثم قال له: غنني، فغنّاه:
إذا ما انتشيت طرحت اللّجا *** م في شدق منجرد(6) سلهب
ص: 473
يبذّ(1) الجياد بتقريبه(2) *** و يأوي إلى حضر ملهب(3)
كميت كأنّ على متنه *** سبائك من قطع المذهب(4)
كأنّ القرنفل و الزنجبيل *** يعلّ على ريقها الأطيب
فقال له الحسن: أحسنت يا محمد، فقال له ابن عائشة: لكنّك، بأبي أنت و أمّي، قد ألجمتني بحجر فما أطيق الكلام. فأقاموا باقي يومهم يتحدّثون؛ فلما كان اليوم الثالث قال الحسن: هذا آخر أيامك يا محمد؛ فقال ابن عائشة: عليه و عليه إن/غنّاك إلاّ صوتا واحدا حتّى تنصرف، و عليه و عليه إن حلفت ألاّ أبرّ قسمك و لو في ذهاب روحه! فقال له الحسن: فلك الأمان على محبّتك؛ فاندفع فغناه:
أنعم اللّه لي بذا الوجه عينا *** و به مرحبا و أهلا و سهلا
حين قالت لا تذكرنّ حديثي *** يا ابن عمّي أقسمت قلت أجل لا
لا أخون الصديق في السرّ حتّى *** ينقل البحر بالغرابيل نقلا
قال: ثم انصرف القوم، فما رأى الحسن بن الحسن ابن عائشة بعدها.
منها:
تمرّ كجندلة المنجنيق يرمى بها السور يوم القتال
فما ذا تخطرف من قلّة *** و من حدب و إكام توالي
و من سيرها العنق المسبطرّ و العجرفيّة بعد الكلال
ألا يا لقوم لطيف الخيا *** ل أرّق من نازح ذي دلال
يثنّي التحيّة بعد السلا *** م ثمّ يفدّي بعمّ و خال
خيال لسلمى فقد عاد لي *** بنكس من الحبّ بعد اندمال
أما الذي قاله الشاعر في هذا الشعر فإنّه قال: يمر بالياء لأنه وصف به حمارا و حشيّا، و لكنّ المغنّين جميعا
ص: 474
يغنّونه بالتاء على لفظ المؤنث، و قد وصف في هذه القصيدة الناقة و لم يذكر من صفتها إلاّ قوله:
و من سيرها العنق المسبطرّ
/و لكنّ المغنّين أخذوا من صفة العير شيئا و من صفة الناقة شيئا فخلطوها و غنّوا فيهما. و قوله:
فما ذا تخطرف من قلّة
يعني أنّه يمرّ بالموضع المرتفع فيطفره(1). و روى الأصمعيّ :
فما ذا تخطرف من حالق *** و من قلّة و حجاب و جال
فالحالق: ما أشرف. و الحجاب: ما حجب عنك ما بين يديك من الأرض.
و الجال: حرف(2) الشيء، يقال له: جال و جول. و العنق المسبطرّ: المسترسل السهل.
و العجرفيّة: التعسف و الإسراع. يقول: إذا كلّت و تعبت تعجرفت في السير من بقيّة نفسها و شدّتها. و روى الأصمعيّ فيها:
خيال لجعدة قد هاج لي *** نكاسا من الحبّ بعد اندمال
يقال: نكس و نكاس بمعنى واحد و هو عود المرض بعد الصحة. و الاندمال: الإفاقة من العلّة، و اندمال الجرح: برؤه. فأمّا الأبيات التي يصف فيها الناقة فقوله:
فسلّ الهموم بعيرانة(3) *** مواشكة(4) الرّجع بعد انتقال
/ذمول(5) تزفّ زفيف الظّلي *** م شمّر(6) بالنّعف وسط الرّئال(7)
و ترمدّ(8) هملجة(9) زعزعا(10) *** كما انخرط الحبل فوق المحال(11)
ص: 475
و من سيرها العنق المسبطرّ *** و العجرفيّة بعد الكلال
كأنّي و رحلي إذا رعتها(1) *** على جمزى(2) جازئ بالرمال
و أمّا صفة الحمار في هذه القصيدة فقوله فيه و في الأتن:
فظلّ يسوّف(3) أبوالها *** و يوفي(4) زيازي حدب التّلال(5)
فطاف بتعشيره(6) و انتحى *** جوائلها(7) و هو كالمستجال
/تهادى حوافرها جندلا(8) *** زواهق(9) ضرب قلات بقال(10)
رمى بالجراميز(11) عرض الوجي *** ن(12) و ارمدّ في الجريّ بعد انفتال(13)
بشأو(14) له كضريم الحري *** ق أو شقّة(15) البرق في عرض خال(16)
يمرّ كجندلة المنجني *** ق يرمى بها السور يوم القتال
فما ذا تخطرف من حالق *** و من حدب و حجاب و جال
الشعر لأمية بن أبي عائذ الهذليّ . و الغناء لابن عائشة. و لحن ابن عائشة مشكوك فيه: أيّ الألحان المصنوعة في هذا الشعر هو، فيقال: إنّه خفيف الرمل، و يقال: إنّه هو الثقيل(17) الأوّل، و يقال: إنه الرمل. فأمّا خفيف الرمل
ص: 476
فهو بالخنصر في مجرى الوسطى، و ذكره إسحاق في موضع فتوقّف عنه و لم ينسبه، و نسبه في موضع آخر إلى ابن أبي يزن المكيّ . و نسبه عمرو بن بانة إلى معبد و قال: فيه خفيف رمل آخر لمالك. و ذكره يونس في أغاني ابن أبي يزن المكيّ و نسبه و لم يجنّسه. و ذكر ابن خرداذبه(1) و الهشاميّ أنّ فيه لهشام بن المريّة لحنا من الثقيل الأوّل، و رأيت ذلك أيضا في بعض الكتب بخطّ عليّ بن يحيى المنجم كما ذكرا. و ذكر إسحاق أنّ الرمل مطلق في مجرى الوسطى و أنّه لابن عائشة. و ذكر أحمد بن المكيّ أنّه لأبيه، و ذكر غيره/أنّه غلط و أنّ لحن أبيه هو الثقيل الأوّل و الرمل لابن عائشة. و قال حبش: فيه لابن سريج هزج خفيف بالوسطى.
و منها، - و قد مضى تفسيره في الخبر و اقتصر(2) على البيت الأوّل منه -:
إذا انتشيت طرحت اللّجا *** م في شدق منجرد سلهب
الشعر للنّابغة الجعديّ . و الغناء لابن عائشة: خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ و حمّاد.
و منها الصوت الذي أوّله:
أنعم اللّه لي بذا الوجه عينا
و قد جمع مع سائر ما يغنّى فيه من القصيدة، و هو:
أثل(3) جودي على المتيّم أثلا *** لا تزيدي فؤاده أثل خبلا
أثل إنّي و الراقصات(4) بجمع(5) *** يتبارين في الأزمّة فتلا(6)
سابحات يقطعن من عرفات *** بين أيدي المطيّ حزنا و سهلا
و الأكفّ المطهّرات على الرّك *** ن لشعث(7) سعوا إلى البيت رجلا(8)
لا أخون الصديق في السرّ حتّى *** ينقل البحر بالغرابيل نقلا
أو تمور الجبال مور سحاب *** مرتق قد وعى من الماء ثقلا
/أنعم اللّه لي بذا الوجه عينا *** و به مرحبا و أهلا و سهلا
حين قالت لا تفشينّ حديثي *** يا ابن عمّي أقسمت قلت أجل لا
فاتقي اللّه و اقبلي العذر منّي *** و تجافي عن بعض ما كان زلاّ
ص: 477
إن(1)
أكن سؤتكم به فلك العت *** بى لدينا و حقّ ذاك و قلاّ
لم أرحّب بأن سخطت و لكن *** مرحبا أن رضيت عنّا و أهلا
إنّ شخصا رأيته ليلة البد *** ر عليه ابتنى الجمال و حلاّ
جعل اللّه كلّ أنثى فداء *** لك بل خدّها لرجليك نعلا
وجهك الوجه لو سألت به المز *** ن من الحسن و الجمال استهلاّ
الشعر للحارث بن خالد المخزوميّ . و الغناء لمعبد في الأربعة الأبيات الأول: خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو بن بانة. و لابن هوبر(2) في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل عن إسحاق. و لابن سريج في الأوّل و الثاني و الخامس ثقيل أوّل، و آخر بالبنصر أوّله استهلال. و للغريض في الخامس و ما بعده إلى التاسع خفيف ثقيل بالوسطى.
و لدحمان في التاسع و الثالث عشر و الرابع عشر خفيف ثقيل أوّل بالبنصر. و لمالك في التاسع إلى آخر الثاني عشر لحن من كتاب يونس و لم يقع إليّ من يجنّسه. و لابن سريج فيها بعينها رمل بالوسطى عن الهشاميّ . و فيها أيضا للغريض خفيف رمل بالبنصر. و لابن عائشة في السابع و الثامن لحن ذكره حمّاد عن أبيه و لم يجنّسه.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و إسماعيل بن يونس الشّيعيّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالوا حدثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن سلاّم، و أخبرني محمد بن/مزيد بن أبي الأزهر و الحسين بن يحيى قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلاّم عن أبيه عن شيخ من تنوخ، و لم يقل عمر بن شبّة في خبره: محمد بن سلاّم عن أبيه، و رواه عن محمد عن شيخ من تنوخ، قال:
كنت صاحب ستر الوليد بن يزيد، فرأيت ابن عائشة عنده و قد غنّاه:
إنّي رأيت صبيحة النّفر *** حورا نفين عزيمة الصبر
مثل الكواكب في مطالعها *** بعد العشاء أطفن بالبدر
و خرجت أبغي الأجر محتسبا *** فرجعت موفورا من الوزر
- قال إسحاق في خبره: و الشعر لرجل من قريش، و الغناء لمالك. هكذا في خبر إسحاق. و ما وجدته ذكره لمالك في جامع أغانيه. و وجدته في غناء ابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن الهشاميّ - قال: فطرب الوليد حتّى كفر و ألحد، و قال: يا غلام، اسقنا بالسماء الرابعة، و كان الغناء يعمل فيه عملا ضلّ عنه من بعده؛ ثم قال: أحسنت و اللّه يا أميري! أعد بحقّ عبد شمس، فأعاد؛ ثم قال: أحسنت و اللّه يا أميري! أعد بحقّ أميّة، فأعاد؛ ثم قال: أعد
ص: 478
بحق فلان، أعد بحق فلان، حتّى بلغ من الملوك نفسه، فقال: أعد بحياتي؛ فأعاده. قال: فقام إليه فأكبّ عليه فلم يبق عضو من أعضائه إلاّ قبّله و أهوى إلى هنه؛ فجعل ابن عائشة يضمّ فخذيه عليه؛ فقال: و اللّه العظيم لا تريم حتّى أقبّله، فأبداه له فقبّل رأسه، ثم نزع ثيابه فألقاها عليه، و بقي مجرّدا إلى أن أتوه بمثلها، و وهب له ألف دينار، و حمله على بغلة و قال: اركبها - بأبي أنت - و انصرف، فقد تركتني على مثل المقلى من حرارة غنائك؛ فركبها على بساطه و انصرف.
و أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن الحسن النّخعيّ قال/حدّثني محمد بن الحارث بن كليب بن زيد الرّبعي قال:
خرج ابن عائشة المدنيّ من عند الوليد بن يزيد و قد غنّاه:
أبعدك معقلا أرجو و حصنا *** قد اعيتني المعاقل و الحصون
- و هي أربعة أبيات، هكذا في الخبر، و لم يذكر غير هذا البيت منها - قال فأطربه فأمر له بثلاثين ألف درهم و بمثل كارة(1) القصّار كسوة. فبينا ابن عائشة يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادي القرى كان يشتهي الغناء و يشرب النبيذ، فدنا من غلامه و قال: من هذا الراكب ؟ قال: ابن عائشة المغني؛ فدنا منه و قال: جعلت فداءك، أنت ابن عائشة أمّ المؤمنين ؟ قال: لا، أنا مولى لقريش و عائشة أمّي و حسبك هذا فلا عليك أن تكثر؛ قال: و ما هذا الذي أراه بين يديك من المال و الكسوة ؟ قال: غنّيت أمير المؤمنين صوتا فأطربته فكفر و ترك الصلاة و أمر لي بهذا المال و هذه الكسوة؛ قال: جعلت فداءك، فهل تمنّ عليّ بأن تسمعني ما أسمعته إيّاه ؟ فقال له: ويلك! أمثلي يكلّم بمثل هذا في الطريق! قال فما أصنع ؟ قال: الحقني بالباب. و حرّك ابن عائشة بغلة شقراء كانت تحته لينقطع عنه؛ فعدا معه حتى وافيا الباب كفرسي رهان، و دخل ابن عائشة فمكث طويلا طمعا في أن يضجر فينصرف، فلم يفعل؛ فلمّا أعياه قال لغلامه: أخله؛ فلما دخل قال له: ويلك! من أين صبّك اللّه عليّ ! قال: أنا رجل من أهل وادي القرى أشتهي هذا الغناء؛ فقال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه ؟ قال: و ما ذاك ؟ قال: مائتا دينار و عشرة أثواب تتصرف بها إلى أهلك؛ فقال له: جعلت فداءك، و اللّه إنّ لي لبنيّة ما في أذنها - علم اللّه - /حلقة من الورق فضلا عن الذهب، و إنّ لي لزوجة ما عليها - يشهد اللّه - قميص. و لو أعطيتني جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على هذه الخلّة(2) و الفقر اللذين عرّفتكهما و أضعفت لي ذلك، لكان الصوت أعجب إليّ - و كان ابن عائشة تائها لا يغنّي إلاّ لخليفة أو لذي قدر جليل من إخوانه - فتعجّب ابن عائشة منه و رحمه، و دعا بالدّواة(3) و كان يغنّي مرتجلا، فغنّاه الصوت؛ فطرب له طربا شديدا، و جعل يحرّك رأسه حتى ظنّ أن عنقه سينقصف، ثمّ خرج من عنده و لم يرزأه شيئا، و بلغ الخبر الوليد بن يزيد فسأل ابن عائشة عنه، فجعل يغيب عن الحديث. ثم جدّ الوليد به فصدقه عنه، و أمر بطلب الرجل فطلب حتّى أحضر، و وصله صلة سنيّة، و جعله في ندمائه و وكّله بالسّقي، فلم يزل معه حتّى مات.
ص: 479
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدّثنا محمد بن سلاّم قال حدّثني عمر بن أبي خليفة قال:
كان الشّعبي مع أبي في أعلى الدار، فسمعنا تحتنا غناء حسنا، فقال له أبي: هل ترى شيئا؟ قال: لا، فنظرنا فإذا غلام حسن الوجه حديث السنّ يتغنّى:
قالت عبيد تجرّما(1) *** في القول فعل المازح
فما سمعت غناء كان أحسن منه، فإذا هو ابن عائشة، فجعل الشّعبيّ يتعجّب من غنائه، و يقول: يؤتي الحكمة من يشاء.
قالت عبيد تجرّما *** في القول فعل المازح
أنجز بعمرك وعدنا *** فأظنّ حبّك فاضحي
فأجبتها لو تعلم *** ين بما تجنّ جوانحي
فيما أرى لرحمتني *** من خمل حبّ فادح
ما في البرية لي هوى *** فاسمع مقالة ناصح
أشكو إليه جفاءكم *** إلاّ سلام مصافحي
زعم حبش أنّ الغناء لابن عائشة خفيف ثقيل بالبنصر.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني بعض أهل المدينة قال: حدّثني من رأى ابن عائشة حاجّا و قد دعاه فتية من بني هاشم فأجابهم، قال: و كنت فيهم، فلمّا دخلنا جعلوا صدر المجلس لابن عائشة فجلس فتحدّثوا حتّى حضر الطعام؛ فلما طعموا دعا بشراب فشربوا، و كان ابن عائشة إذا سئل أن يغنّي أبى ذلك و غضب، فإذا تحدّث القوم بحديث و مضى فيه شعر قد غنّى فيه ابتدأ هو فغنّاه، فكان من فطن له يفعل ذلك به، فقال رجل منهم: حدّثني اليوم رجل من الأعراب ممّن كان يصاحب جميلا بحديث عجيب؛ فقال القوم: و ما هو؟ فقال:
حدّثني أن جميلا بينما هو يحدّثه كما كان يحدّثه إذ أنكره و رأى منه غير ما كان يرى، فثار نافرا، مقشعرّ الشعر، متغيّر اللّون، إلى ناقة له مجتمعة(2) قريبة من الأرض، موثّقة(3) الخلق، فشدّ عليها رحله ثم أتاها بمحلب فيه لبن
ص: 480
فشربته، ثم ثنّى فشربت حتّى/رويت، ثم قال: اشدد أداة رحلك و اشرب و اسق جملك، فإني ذاهب بك إلى بعض مذاهبي، ففعلت، فجال(1) في ظهر ناقته و ركبت ناقتي، فسرنا بياض يومنا و سواد ليلتنا، ثم أصبحنا فسرنا يومنا لا و اللّه ما نزلنا إلا للصلاة؛ فلما كان اليوم الثالث دفعنا إلى نسوة فمال إليهنّ فوجدنا الرجال خلوفا(2)، و إذا قدر لبأ(3) و قد جهدت جوعا و عطشا، فلما رأيت القدر اقتحمت(4) عن بعيري و تركتهم جانبا، ثم أدخلت رأسي في القدر ما يثنيني حرّها حتى رويت، فذهبت أخرج رأسي من القدر فضاقت عليّ و إذا هي على رأسي قلنسوة، فضحكن منّي و غسلن ما أصابني. و أتى جميل بقرى فو اللّه ما التفتّ إليه؛ فبينا هو يحدّثهنّ إذا رواعي الإبل، و قد كان السلطان أحلّ لهم دمه إن وجدوه في بلادهم، و جاء الناس فقلن(5): ويحك! أنج و تقدّم، فو اللّه ما أكبرهم ذلك الإكبار، فإذا بهم يرمونه، و يطردونه، فإذا غشوه قاتلهم و رمى فيهم، و قام بي جملي، فقال لي:
يسّر لنفسك مركبا خلفي، فأردفني خلفه، لا و اللّه ما انكسر و لا انحلّ عن فرصته(6) حتى رجع إلى أهله، و قد سار ستّ ليال و ستة أيام و ما التفت إلى طعام و قال في ذلك:
إنّ المنازل هيجت أطرابي *** و استعجمت آياتها بجوابي
و هي قصيدة طويلة. و قال أيضا:
و أحسن أيامي و أبهج عيشتي *** إذا هيج بي يوما و هنّ قعود
قال فقال ابن عائشة: أ فلا أغنّي لكم ذلك ؟ فقلنا: بلى و اللّه، فاندفع فغنّاه، فما سمع السامعون شيئا أحسن من ذلك(7)، و بقي أصحابنا يتعجبون من الحديث/و حسنه و الغناء و طيبه؛ فقال له أصحابنا: يا أبا جعفر، إنّا مستأذنوك، فإن أذنت لنا سألناك، و إن كرهت تركناك؛ فقال: سلوا، فقالوا: نحبّ أن تغنّينا في مجلسنا هذا ما نشطت هذا الصوت فقط؛ فقال لهم: نعم و نعمة عين و كرامة، فما زلنا في غاية السرور حتى انقضى المجلس.
إنّ المنازل هيّجت أطرابي *** و استعجمت آياتها بجوابي
ص: 481
قفر تلوح بذي اللّجين(1) كأنها *** أنضاء(2) وشم(3) أو سطور كثاب
لمّا وقفت بها القلوص تبادرت *** منّي الدموع لفرقة الأحباب
و ذكرت عصرا يا بثينة شاقني *** إذ فاتني و ذكرت شرخ شبابي(4)
الشعر لجميل. و الغناء للهذلي ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.
أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني أحمد بن يحيى المكيّ عن أبيه قال حدّثني عمرو(5) بن أبي الكنّات الحكميّ قال حدثني يونس الكاتب قال:
/كنّا يوما متنزّهين بالعقيق أنا و جماعة من قريش، فبينا نحن على حالنا إذ أقبل ابن عائشة يمشي و معه غلام من بني ليث و هو متوكّئ على يده، فلما رأى جماعتنا و سمعني أغنّي جاءنا فسلّم و جلس إلينا و تحدّث معنا، و كانت الجماعة تعرف سوء خلقه و غضبه إذا سئل أن يغنّي، فأقبل بعضهم على بعض يتحدّثون بأحاديث كثيّر و جميل و غيرهما من الشعراء، يستجرّون بذلك أن يطرب فيغنّي، فلم يجدوا عنده ما أرادوا، فقلت لهم أنا: لقد حدّثني اليوم بعض الأعراب حديثا يأكل الأحاديث، فإن شئتم حدّثتكم إياه؛ قالوا: هات؛ قلت: حدّثني هذا الرجل أنه مرّ بناحية الرّبذة(6) فإذا صبيان يتغاطسون(7) في غدير، و إذا شابّ جميل منهوك الجسم عليه أثر العلّة، و النحول في جسمه بيّن، و هو جالس ينظر إليهم، فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام و قال: من أين وضح(8) الراكب ؟ قلت: من الحمى؛ قال: و متى عهدك به ؟ قلت: رائحا؛ قال: و أين كان مبيتك ؟ قلت: ببني فلان؛ فقال: أوّه! و ألقى بنفسه على ظهره و تنفّس الصّعداء تنفّسا قلت إنه قد خرّق حجاب قلبه؛ ثم أنشأ يقول:
و إن لم
أكن من قاطنيه فإنّه *** يحلّ به شخص عليّ كريم
ألاّ حبّذا من ليس يعدل قربه *** لديّ و إن شطّ المزار نعيم
و من لامني فيه حميم و صاحب *** فردّ بغيظ صاحب و حميم
/ثم سكن كالمغشيّ عليه، فصحت بالصّبية(1)، فأتوا بماء فصببته على وجهه، فأفاق و أنشأ يقول:
إذا الصّبّ الغريب رأى خشوعي *** و أنفاسي تزيّن بالخشوع
و لي عين أضرّ بها التفاتي *** إلى الأجزاع(2) مطلقة الدموع
إلى الخلوات يأنس فيك قلبي *** كما أنس الغريب إلى الجميع
فقلت له: ألا أنزل فأساعدك، أو أكرّ عودي على بدئي إلى الحمى في حاجة إن كانت لك حاجة أو رسالة ؟ فقال: جزيت و صحبتك السلامة! امض لطيّتك(3)، فلو أني علمت أنك تغني عنّي شيئا لكنت موضعا للرغبة و حقيقا بإسعاف المسألة، و لكنّك أدركتني في صبابة من حياتي يسيرة؛ فانصرفت و أنا لا أراه يمسي ليلته إلاّ ميّتا، فقال القوم: ما أعجب هذا الحديث! و اندفع ابن عائشة فتغنّى في الشعرين جميعا و طرب و شرب بقيّة يومه، و لم يزل يغنّينا إلى أن انصرفنا.
فأما نسبة هذين الصوتين فإنّ في الأوّل منهما لحنا من خفيف الرّمل الثقيل المطلق في مجرى الوسطى، نسبه يحيى المكّيّ إلى معبد، و ذكر الهشاميّ أنه منحول. و في هذا الخبر: أنّ ابن عائشة غنّاه، و هو يغنّي في البيت الأوّل و الثاني من الأبيات. و فيه للضّيزنيّ (4) الملقب بنبيكة لحن جيّد من الثقيل(5) الأوّل. و كان نبيكة هذا من حذّاق المغنّين و كبارهم، و قد خدم المعتمد ثم شخص إلى مصر فخدم خمارويه بن أحمد، ثم قدم بغداد في أيام المقتدر، و رأيناه و شاهدناه، و كانت في يده صبابة قويّة من إفضال ابن طولون و استغنى بها حتى مات، و له صنعة جيّدة قد ذكرت ما وقع/إليّ منها في «المجرّد»(6). و ذكرت ممّا وقع إليّ له في هذا الكتاب لحنا جيّدا في شعر سعد ذلفاء(7)، و هو:
و لمّا وقفنا دون سرحة مالك
في موضعه من أخباره(8).
و أمّا الشعر الثاني الذي ذكرت في هذا الخبر الماضي: أنّ ابن عائشة غنّاه فما رأيت له نسبة في كتاب و لا سمعت فيه صنعة من أحد، و لعله ممّا انطوى عنّي أو لم يشتهر فسقط عن الناس.
ص: 483
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه، و أخبرني به الحسن بن عليّ عن هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات عن حمّاد عن أبيه عن يعقوب بن طلحة اللّيثيّ عن بعض مشايخه من أهل المدينة قال:
أقبل ابن عائشة من الشام حتى نزل قصر ذي خشب(1) و معه مال و طيب و كسا(2) فشرب فيه، ثم تطرّقوا(3)إلى ظهر القصر فصعدوا، ثم نظر فإذا بنسوة يتمشّين في ناحية الوادي، فقال لأصحابه: هل لكم فيهنّ؟ قالوا:
و كيف لنا بهنّ؟ فنهض فلبس ملاءة(4) مدلوكة، ثم قام على شرفة(5) من شرفات القصر فتغنّى:
و قد قالت لأتراب *** لها زهر تلاقينا
تعالين فقد طاب *** لنا العيش تعالينا
فأقبلن إليه فطرب و استدار حتى سقط من السطح؛ و هذا الخبر يذكر على شرحه في خبر وفاته.
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد: قرأت على أبي عن محمد بن سلاّم عن جرير أبي الحصين قال:
كان ابن عائشة إذا غنّى في(6) صوت له من شعر الحطيئة و هو:
عفا من سليمى مسحلان فحامره
نظر إلى أعطافه في كلّ رنّة، فسئل يوما - و قد دبّ فيه/الشراب - عن ذلك، فقال: أنا عاشق لهذا الصوت، و عاشق لحديثه، و عاشق لغريبه، و عاشق لقول الحطيئة، إنّ الغناء رقية من رقى النّيك، و يعجبني فهم الحطيئة بالغناء و ليس هو من أهله و لا بصاحب غناء، و كيف لا أعجب به و محلّه منّي هذا المحلّ ! و كان لا يسأله أحد إيّاه إلاّ غنّاه، فمن فطن له أكثر سؤاله إيّاه. و كان جرير يقول: إنه أحسن صوت له و أرقّه و أجوده.
و توفّي ابن عائشة فيما قيل في أيّام هشام بن عبد الملك، و قيل في أيّام الوليد. و ما أظنّ الصحيح إلاّ أنه توفّي في أيام الوليد، لأنه أقدمه إليه. و ذكر من زعم أنّه توفّي في خلافة هشام: أنّه إنّما وفد على الوليد و هو وليّ عهد.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:
ص: 484
ذكر عمران بن هند: أنّ الغمر بن يزيد خرج إلى الشام، فلما نزل قصر ذي خشب شرب على سطحه، فغنى ابن عائشة صوتا طرب له الغمر، فقال: اردده، فأبي، و كان/لا يردّ(1) صوتا لسوء خلقه، فأمر به، فطرح من أعلى السّطح فمات. و يقال: بل قام من الليل و هو سكران ليبول فسقط من السطح فمات.
قال إسحاق فحدثني المدائنيّ قال حدّثني بعض أهل المدينة قال: أقبل ابن عائشة من عند الوليد بن يزيد و قد أجازه و أحسن إليه فجاء بما لم يأت به أحد من عنده، فلمّا قرب من المدينة نزل بذي خشب على أربعة فراسخ من المدينة، و كان و اليها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزوميّ ، ولاّه هشام و هو خاله، و كان في قصر هناك، فقيل له: أصلح اللّه الأمير، هذا ابن عائشة قد أقبل من عند الوليد بن يزيد، فلو سألته أن يقيم عندنا اليوم فيطربنا و ينصرف من غد! فدعا به فسأله المقام عنده فأجابه إلى ذلك، فلمّا أخذوا في شربهم أخرج المخزوميّ جواريه، فنظر إلى ابن عائشة و هو يغمز جارية منهنّ ، فقال لخادمه: إذا خرج ابن عائشة يريد حاجته فارم به، و كانوا يشربون فوق سطح ليس له إفريز و لا شرفات، و هو يشرف على بستان، فلمّا قام ليبول رمى به الخادم من فوق السطح فمات، فقبره معروف هناك.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه و أخبرني به الحسن بن عليّ عن هارون بن محمد بن عبد الملك بن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن يعقوب بن طلحة الليثيّ عن بعض مشايخه من أهل المدينة قال:
أقبل ابن عائشة من الشام حتى نزل بقصر ذي خشب و معه مال و طيب و كسا، فشرب فيه، ثم تطرّقوا(2)إلى ظهر القصر فصعدوا، ثم نظر فإذا بنسوة يتمشّين في ناحية/الوادي، فقال لأصحابه: هل لكم فيهن ؟ قالوا: و كيف لنا بهنّ؟ فنهض فلبس ملاءة مدلوكة، ثم قام على شرفة من شرف القصر فتغنّى في شعر ابن أذينة:
و قد قالت لأتراب *** لها زهر تلاقينا
تعالين فقد طاب *** لنا العيش تعالينا
فأقبلن إليه؛ و طرب فاستدار فسقط فمات. قال: و قال قوم: بل قدم المدينة فمات بها.
قال: و لما مات قال أشعب: قد قلت لكم، و لكنّه لا يغني حذر من قدر: زوّجوا ابن عائشة ربيحة الشّمّاسية تخرج لكم بينهما مزامير داود فلم تفعلوا، و جعل يبكي و الناس/يضحكون منه.
ص: 485
صوت(1)
سليمى أزمعت بينا *** فأين تقولها(2) أينا
و قد قالت لأتراب *** لها زهر تلاقينا
تعالين فقد طاب *** لنا العيش تعالينا
و غاب البرم(3) الليل *** ة و العين فلا عينا
فأقبلن إليها مس *** رعات يتهادينا
إلى مثل مهاة الرم *** ل تكسو المجلس الزّينا
إلى خود منعّمة *** حففن بها و فدّينا
تمنّين مناهن *** فكنّا ما تمنّينا
/الشعر لعروة بن أذنية. و الغناء لابن عائشة لحنان أحدهما رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، و الآخر ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش.
أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن مزيد قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
سمعت إبراهيم بن سعد يحلف للرشيد و قد سأله عمّن بالمدينة يكره الغناء، فقال: من قنّعه(4) اللّه بخزيه مالك بن أنس، ثم حلف له إنه سمع مالكا يغنّي:
سليمى أزمعت بينا *** فأين تقولها أينا
في عرس رجل من أهل المدينة يكنى أبا حنظلة.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز و إسماعيل بن يونس قالا حدّثنا عمر بن شبة قال حدّثني أبو غسّان محمد بن يحيى عن بعض أصحابه قال:
مرّ ابن عائشة بابن أذنية فقال له: قل أبياتا هزجا أغن فيها؛ فقال له: اجلس فجلس؛ فقال:
سليمى أزمعت بينا
الأبيات. قال أبو غسّان: فحدّثت أن ابن عائشة رواها، ثم ضحك لما سمع قوله:
ص: 486
تمنّين مناهنّ *** فكنّا ما تمنّينا
ثم قال له: يا أبا عامر، تمنّينك لمّا أقبل بخرك، و أدبر ذفرك(1)، و ذبل ذكرك! فجعل يشتمه. هذا لفظ إسماعيل بن يونس.
/أخبرني الجوهريّ و إسماعيل بن يونس قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان قال فحدّثني حمّاد الخشبيّ (2) قال:
ذكر ابن أذينة عند عمر بن عبد العزيز، فقال: نعم الرجل أبو عامر، على [أنه](3) الذي يقول:
و قد قالت لأتراب *** لها زهر تلاقينا
أخبرني محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى قالا(4) حدّثنا حمّاد عن أبيه عن المدائنيّ عن إسحاق بن أيّوب القرشيّ قال:
كان هشام بن عبد الملك مكرما للوليد بن يزيد، و كان عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدّبا للوليد، و كان، فيما يقال، زنديقا، فحمل الوليد على الشراب و الاستخفاف بدينه، فاتخذ ندماء و شرب و تهتّك، فأراد هشام قطعهم عنه، فولاّه الموسم في سنة عشر و مائة، فرأى الناس منه تهاونا و استخفافا بدينه، و أمر مولاه عيسى فصلّى بالناس، و بعث إلى المغنّين فغنّوه و فيهم ابن عائشة فغناه:
سليمى أجمعت(5) بينا
فنعر(6) الوليد نعرة أذن(7) لها أهل مكة. و أمر لابن عائشة بألف دينار، و خلع عليه عدّة خلع، و حمله(8).
فخرج ابن عائشة من عنده بأمر أنكره الناس، /و أمر للمغنّين بدون ذلك، فتكلم أهل الحجاز و قالوا: أ هذا وليّ عهد المسلمين! و بلغ ذلك هشاما فطمع في خلعه، و أراده على ذلك فأبى؛ و تنكّر هشام للوليد، و تمادى(9) الوليد في الشرب/و اللذات فأفرط، و تعبث(10) هشام بالوليد و خاصّته و مواليه، فنزل بالأزرق بين أرض بلقين(11) و فزارة على
ص: 487
ماء يقال له الأغدق(1)، حتى مات هشام. [أنقضت أخباره](2).
من رواية عليّ بن يحيى:
حنّت إلى برق فقلت لها قري *** بعض الحنين فإن شجوك شائقي
بأبي الوليد و أمّ نفسي كلّما *** بدت النجوم و ذرّ قرن الشارق
أثوى فأكرم في الثّواء و قضّيت *** حاجاتنا من عند أروع باسق
لا تبعدنّ إداوة مطروحة *** كانت حديثا(3) للشّراب العاتق
/و يروي: بالشراب العاتق. عروضه من الكامل. حنّت، يعني ناقته. و هذا البيت يتبع بيتا قبله و هو:
فإلى الوليد اليوم(4) حنّت ناقتي *** تهوي بمغبرّ المتون سمالق(5)
و بعده «حنت إلى برق...». و قوله: «قري» من الوقار، كأنها لما حنّت أسرعت و نازعت إلى الوطن أو المقصد، فقال يخاطبها: قري. و ذرّ قرن الشارق: طلع قرن الشمس؛ يريد: بأبي الوليد و أمي في كل ليل و نهار أبدا. و أثوى: أنزل.
و الثّواء: الإقامة؛ قال الأعشى:
لقد كان في حول ثواء ثويته *** تقضّى لبانات و يسأم سائم
و الباسق: الطويل؛ قال اللّه عز و جل: (وَ النَّخْلَ بٰاسِقٰاتٍ ) * أي طوالا(6). و يروي:
ص: 488
لا تبعدنّ إداوة مطروحة(1)
الشعر لعبد الرحمن بن أرطاة المحاربيّ . و الغناء لابن عائشة. و لحنه المختار ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. و فيه للهذليّ لحن آخر من الثقيل الأوّل عن الهشاميّ و ابن المكيّ . فأوّل لحن الهذليّ استهلال في:
حنت إلى برق فقلت لها قري
و أوّل لحن ابن عائشة:
بأبي الوليد و أمّ نفسي كلّما *** بدت النجوم و ذرّ قرن الشارق
ص: 489
هو عبد الرحمن بن أرطاة، و قيل: عبد الرحمن بن سيحان بن أرطاة بن سيحان بن عمرو بن نجيد بن سعد(1) بن لاحب بن ربيعة بن شكم(2) بن عبد اللّه بن عوف بن زيد بن بكر بن عمير بن علي بن جسر بن محارب بن خصفة بن قيس بن غيلان بن مضر بن نزار. و أمّ جسر بن محارب كأس بنت لكيز بن أفصى بن عبد القيس، و أم عليّ بن جسر ماويّة بنت عليّ بن بكر بن وائل، هذه رواية أبي عمرو الشيبانيّ أخبرني بها عمّي و الصّوليّ عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه، قال و شكم بن عبد اللّه أوّل محاربيّ ساد قومه و أبذّهم(3) رأسا بنفسه، و كانوا جيرانا في هوازن؛ و آل سيحان حلفاء حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد/مناف، و بمنزلة بعضهم عندهم خاصّة و عند سائر بني أميّة عامّة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن يحيى عن عبد العزيز بن عمران قال:
بنو سيحان من بني جسر بن محارب، و بنو مناف تقوّي حلفهم، و هم عندي أعزّاؤهم و ليسوا بأحلافهم.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار و أحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن يحيى أبو غسّان قال:
/لما قتل هشام بن الوليد أبا أزيهر، بعثت قريش أرطاة بن سيحان حليف حرب بن أمية إلى الشّراة(4) يحذّر من بها من تجّار قريش، و خرج حاجز الأزديّ ليخبر قومه، فسبقه أرطاة، و قال في ذلك و قد حذّرهم فنجوا:
مثل الحليف يشدّ عروته *** يثني العناج(5) لها مع الكرب(6)
ص: 490
زلم(1) إذا يسروا(2) به يسر *** و مناضل يحمي عن الحسب
هل تشكرن فهر و تاجرها *** دأب السّرى بالليل و الخبب
حتى جلوت لهم يقينهم *** ببيان لا ألس(3) و لا كذب
و كان عبد الرحمن شاعرا مقلاّ إسلاميّا ليس من الفحول المشهورين و لكنّه كان يقول في الشراب و الغزل و الفخر و مدح أحلافه من بني أمية، و هو أحد المعاقرين للشراب و المحدودين فيه، و كان بني أميّة كواحد منهم إلا أنّ اختصاصه/بآل أبي سفيان و آل عثمان خاصّة كان أكثر، و خصوصه بالوليد بن عثمان و مؤانسته إيّاه أزيد من خصوصه بسائرهم، لأنهما كانا يتنادمان على الشّراب.
و هذه الأبيات التي فيها الغناء يقولها في الوليد بن عثمان، و قيل: بل في الوليد بن عتبة. و خبره في ذلك يذكر بعد هذا.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال عتبة(4) بن المنهال المهلّبيّ حدّثني غير واحد من أهل الحجاز قالوا:
كان ابن سيحان حليفا لقريش ينزل بالمدينة، و كان نديما للوليد بن عثمان، فأصابه ذات يوم خمار(5)، فذهب لسانه و سكنت أطرافه و صرخ أهله عليه، فأقبل الوليد إليه فزعا، فلما رآه قال: أخي مخمور و ربّ الكعبة، ثم أمر غلاما له فأتاه بشراب من منزله في إداوة فأمر به فأسخن ثم سقاه إيّاه و قيّأه، و صنع له حساء(6) و جعل على رأسه دهنا و جعل رجليه في ماء سخن، فما لبث أن انطلق(7) و ذهب ما كان به. و مات الوليد بعد ذلك. فبينا ابن سيحان يوما جالس و بعض متاعه ينقل من بيت إلى بيت، إذ مرت الخادم بإداوة الوليد التي كان داواه بما فيها من الشراب و قد يبست و تقبّضت، فانتحب و قال:
لا تبعدنّ إداوة مطروحة *** كانت حديثا(8) للشراب العاتق
و ذكر باقي الأبيات.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدثنا عمر بن شبّة قال حدثنا أحمد بن معاوية عن الواقديّ قال حدثنا عبد اللّه بن أبي عبيدة عن أبيه قال:
ص: 491
/كان الوليد بن عثمان بن عفّان يشرب مع الوليد بن عتبة بن أبي سفيان و ابن سيحان و كان يخمر(1) فأصابه من ذلك شيء شديد حتى خيف عليه و شقّ النساء عليه الجيوب، فدعي له ابن سيحان، فلما رآه قال: اخرجن عنّي و عن أخي، فخرجن، فقال له: الصّبوح أبا/عبد اللّه، فجلس مفيقا؛ فذلك حيث يقول ابن سيحان:
بأبي الوليد و أمّ نفسي كلّما *** بدت النجوم و ذرّ قرن الشارق
أثوى فأكرم في الثّواء و قضّيت *** حاجاتنا من عند أروع باسق
كم عنده من نائل و سماحة *** و فضائل معدودة و خلائق
و سماحة للمعتفين(2) إذا اعتفوا *** في ماله حقّا و قول صادق
لا تبعدنّ إداوة مطروحة *** كانت حديثا(3) للشراب العاتق
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال:
كان الوليد بن عثمان يكنى أبا الجهم، و كان لابن سيحان صديقا و نديما، و كان صاحب شراب، فمرض فعاده الوليد و قال: ما تشتهي ؟ قال: شرابا، فبعث فجاءه بشراب في إداوة. ثم ذكر باقي الخبر نحو الذي قبله.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن أيّوب بن عباية قال:
كان الوليد بن عثمان ذا غلّة في الحجاز يخرج إليها في زمان التّمر بنفر من قومه، يجنون له و يعاونونه، فكان إذا حضر خروجهم دفع إليهم نفقات لأهليهم إلى رجعتهم، فخرج بهم مرّة كما كان يخرج و فيهم ابن سيحان، فأتى ابن سيحان كتاب من أهله يسألونه القدوم لحاجة لا بدّ منها، فاستأذنه فأذن له، فقال له ابن سيحان: /زوّدوني من شرابكم هذا، فزوّدوه إداوة ملأها له من شرابهم، فكان يشربها في طريقه حتّى قدم على أهله، فألقاها في جانب بيته فارغة، فمكث زمانا لا يذكرها، ثم كنسوا البيت فرآها ملقاة في الكناسة فقال:
لا تبعدنّ إداوة مطروحة *** كانت حديثا(4) للشراب العاتق
إن تصبحي لا شيء فيك فربّما *** أترعت من كأس تلذّ لذائق
بأبي الوليد و أمّ نفسي كلّما *** بدت النجوم و ذرّ قرن الشارق
كم عنده من نائل و سماحة *** و شمائل ميمونة و خلائق
و كرامة للمعتفين إذا اعتفوا *** في ماله حقّا و قول صادق
أثوى فأكرم في الثّواء و قضّيت *** حاجاتنا من عند أروع باسق
ص: 492
لمّا أتيناه أتينا ماجد ال *** أخلاق سبّاقا لقرم(1) سابق
قال الوليد يدي لكم رهن ربما *** حاولتم من صامت أو ناطق
فإلى الوليد اليوم(2) حنّت ناقتي *** تهوي بمغبر المتون سمالق
حنّت إلى برق فقلت لها قري *** بعض الحنين فإنّ شجوك شائقي
أخبرني عمّي قال حدّثني محمد بن عبد اللّه التّميمي الأصبهانيّ المعروف بالحزنبل قال حدّثني عمرو ابن أبي عمرو الشّيباني عن أبيه و أخبرني الحسين بن يحيى المرداسيّ (3) قال قال حماد بن إسحاق: قرأت على أبي، قالا جميعا:
كان عبد الرحمن بن سيحان قد غاظ مروان بن الحكم أيّام كان معاوية يعاقب بينه و بين سعيد بن العاص في ولاية الحرمين، و أنكر عليه أشياء بلغته فغاظته: من مدحه سعيدا و انقطاعه إليه و سروره بولايته، فرصده حتى/وجده خارجا من دار الوليد بن عثمان/و هو سكران فضربه الحدّ ثمانين سوطا. و قدم البريد من المدينة على معاوية فسأله عن أخبار الناس فجعل يخبره بها، حتى انتهى به الحديث إلى ابن سيحان فأخبره أن مروان ضربه الحدّ ثمانين؛ فغضب معاوية و قال: و اللّه لو كان حليف أبي العاص لما ضربه و لكنّه ضربه لأنه حليف حرب، أ ليس هو الذي يقول:
و إني امرؤ حلف(4) إلى أفضل الورى *** عديدا إذا ارفضّت(5) عصا(6) المتحلّف(7)
كذب و اللّه مروان، لا يضربه في نبيذ أهل المدينة و شكّهم و حمقهم؛ ثم قال لكاتبه: أكتب إلى مروان:
فليبطل الحدّ عن ابن سيحان، و ليخطب بذلك على المنبر، و ليقل إنه كان ضربه على شبهة ثم بان له أنه لم يشرب مسكرا، و ليعطه ألفي درهم. فلما ورد الكتاب على مروان عظم ذلك عليه، و دعا بابنه عبد الملك فقرأه عليه و شاوره فيه؛ فقال له عبد الملك: راجعه و لا تكذّب نفسك، و لا تبطل حكمك؛ فقال مروان: أنا أعلم بمعاوية إذا عزم على شيء أو أراده، لا و اللّه لا أراجعه. فلما كان يوم الجمعة و فرغ من الخطبة قال: و ابن سيحان فإنا كشفنا أمره فإذا هو لم يشرب مسكرا، و إذا نحن قد عجّلنا عليه، و قد أبطلت عنه الحدّ. ثم نزل فأرسل إليه بألفي درهم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أحمد بن معاوية عن الواقديّ قال حدّثني عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن أبيه قال:
ص: 493
كان عبد الرحمن بن سيحان المحاربيّ شاعرا، و كان حلو الأحاديث، عنده أحاديث حسنة غريبة من أخبار العرب و أيامها و أشعارها، و كان على ذلك يصيب من الشراب، فكان كلّ من قدم من ولاة بني أميّة و أحداثهم ممّن يصيب الشراب يدعوه و ينادمه، فلمّا ولي الوليد بن عتبة بن أبي سفيان و عزل مروان وجد مروان/في نفسه و كان قد سبعه(1)، فحقد عليه مروان و اضطغنه، و كان الوليد يصيب من الشراب و يبعث إلى ابن سيحان فيشرب معه، و ابن سيحان لا يظنّ أنّ مروان يفعل به الذي فعله، و قد كان مدحه ابن سيحان و وصله مروان، و لكنّ مروان أراد فضيحة الوليد، فرصده ليلة في المسجد، و كان ابن سيحان يخرج في السّحر من عند الوليد ثملا فيمرّ في المقصورة من المسجد حتّى يخرج في زقاق عاصم، و كان محمد بن عمرو يبيت في المسجد يصلّي، و كذلك عبد اللّه بن حنظلة و غيرهما من القرّاء يبيتون في المسجد يتهجّدون، فلمّا خرج ابن سيحان ثملا من دار الوليد أخذه مروان و أعوانه، ثمّ دعا له محمد بن عمرو و عبد اللّه بن حنظلة فأشهدهما على سكره و قد سأله أن يقرأ أمّ القرآن فلم يقرأها، فدفعه إلى صاحب شرطته(2) فحبسه؛ فلمّا أصبح الوليد بلغه الخبر و شاع في المدينة و علم أنّ مروان إنّما أراد أن يفضحه، و أنّه لو لقي ابن سيحان ثملا خارجا من عند غيره لم يعرض له، فقال الوليد: لا يبرّئني من هذا عند أهل المدينة إلاّ ضرب ابن سيحان، فأمر صاحب شرطته(2) فضربه الحدّ ثم أرسله.
فجلس ابن سيحان في بيته لا يخرج حياء من الناس، فجاءه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام في ولده و كان له جليسا فقال له: ما يجلسك في بيتك ؟ قال: الاستحياء من الناس؛ قال: اخرج أيها/الرجل، و كان عبد الرحمن قد حمل له معه كسوة، فقال له: البسها و رح معنا إلى المسجد فهذا أحرى أن يكذّب به مكذّب، ثم ترحل إلى أمير المؤمنين فتخبره بما صنع بك الوليد فإنّه يصلك و يبطل هذا الحدّ عنك؛ فراح مع عبد الرحمن في جماعة ولده متوسّطا لهم حتى دخل المسجد فصلّى ركعتين، ثم تساند مع عبد الرحمن إلى الأسطوانة؛ فقائل يقول: لم يضرب، و قائل/يقول:
أنا رأيته يضرب، و قائل يقول: عزّر أسواطا. فمكث أياما ثم رحل إلى معاوية فدخل إلى يزيد فشرب معه، و كلّم يزيد أباه معاوية في أمره فدعا به فأخبره بقصّته و ما صنعه به مروان، فقال: قبّح اللّه الوليد ما أضعف عقله! أما استحيا من ضربك فيما شرب! و أمّا مروان فإنّي كنت لا أحسبه يبلغ هذا منك مع رأيك فيه و مودّتك له، و لكنّه أراد أن يضع الوليد عندي و لم يصب، و قد صيّر نفسه في حدّ كنّا ننزّهه عنه، صار شرطيا! ثم قال لكاتبه: اكتب: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد اللّه معاوية أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة. أمّا بعد، فالعجب لضربك ابن سيحان فيما تشرب منه، ما زدت على أن عرّفت أهل المدينة ما كنت تشربه مما حرّم عليك، فإذا جاءك كتابي هذا فأبطل الحدّ عن ابن سيحان، و طف به في حلق المسجد و أخبرهم أنّ صاحب شرطك تعدّى عليه و ظلمه، و أنّ أمير المؤمنين قد
ص: 494
أبطل ذلك عنه، أ ليس ابن سيحان الذي يقول:
و إنّي امرؤ أنمى(1) إلى أفضل الورى *** عديدا إذا ارفضّت عصا المتحلّف
إلى نضد(2) من عبد شمس كأنّهم *** هضاب أجا(3) أركانها لم تقصّف
ميامين يرضون الكفاية إن كفوا *** و يكفون ما ولّوا بغير تكلّف
غطارفة(4) ساسوا البلاد فأحسنوا *** سياستها حتّى أقرّت لمردف(5)
/فمن يك منهم موسرا يفش فضله *** و من يك منهم معسرا يتعفّف
و إن تبسط النّعمى لهم يبسطوا بها *** أكفّا سباطا(6) نفعها غير مقرف(7)
و إن تزو عنهم لا يضجّوا و تلفهم *** قليلي التشكّي عندها و التكلّف
إذا انصرفوا للحقّ يوما تصرّفوا *** إذا الجاهل الحيران لم يتصرّف
سموا فعلوا فوق البرية كلّها *** ببنيان عال من منيف و مشرف
قال: و كتب له بأن يعطى أربعمائة شاة و ثلاثين لقحة مما يوطن السّيالة(8) و أعطاه هو خمسمائة دينار، و أعطاه يزيد مائتي دينار. ثمّ قدم بكتاب معاوية إلى الوليد، فطاف به في المسجد، و أبطل ذلك الحدّ عنه، و أعطاه ما كتب به له معاوية. و كتب معاوية إلى مروان يلومه فيما يفعله بابن سيحان، و ما أراده بذلك. و دعا الوليد عبد الرحمن بن سيحان إلى أن يعود للشرب معه؛ فقال: و اللّه لا ذقت معك شرابا أبدا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو مسلم الغفاريّ قال حدّثني موسى بن عبد العزيز قال:
أخذ ابن سيحان الجسريّ - هكذا قال و هو غلط - في شراب في إمارة مروان، و كان حليفا لأبي سفيان ابن حرب، فضربه مروان ثمانين سوطا على رءوس الناس، فكتب إلى معاوية يشكوه، فكتب إليه/معاوية: أمّا بعد فإنّك أخذت حليف حرب فضربته ثمانين على رءوس الناس، و اللّه لتبطلنّها عنه، /أو لأقيدنّه منك؛ فقال مروان
ص: 495
لابنه عبد الملك: ما ترى ؟ قال: أرى و اللّه ألاّ تفعل؛ قال: ويحك! أنا أعلم بعزمات معاوية منك، فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس، إنا كنا ضربنا ابن سيحان بشهادة رجل من الحرس و وجدناه غير عدل و لا رضا، فاشهدوا أني قد أبطلت ذلك الحدّ عنه.
أخبرني أحمد قال حدّثنا عمر قال حدّثني محمد بن يحيى قال حدّثني عبد العزيز بن عمران قال:
ضرب مروان عبد الرحمن بن سيحان في الخمر ثمانين سوطا، فكتب إليه معاوية: أمّا بعد، فإنّك ضربت عبد الرحمن في نبيذ أهل الشام الذي يستعملونه و ليس بحرام، و إنّما ضربته حيث كان حلفه إلى أبي سفيان بن حرب، و ايم اللّه لو كان حليفا للحكم ما ضربته، فأبطل عنه الحدّ قبل أن أضرب من أخذ معه: أخاك عبد الرحمن بن الحكم؛ فأبطل مروان عنه الحدّ؛ فقال ابن سيحان في ذلك يذكر حلفه:
إنّي امرؤ عقدي(1) إلى أفضل الورى *** عديدا إذا ارفضّت عصا المتحلّف
و قال الطّوسيّ : كان عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان يشرب مع ابن سيحان، فلمّا ضربه مروان الحدّ كتب إليه معاوية: و اللّه لتبطلنّه عنه أو لأبعثنّ إلى أخيك من يضرب ظهره بالسّوط في السّوق، أ ليس ابن سيحان الذي يقول:
سموت بحلفي للطّوال من الرّبى *** و لم تلقني قنّا لدى مبرك الجرب
إذا ما حليف الذّل أقمأ(2) شخصه *** و دبّ كما دبّ الحسير(3) على نقب(4)
/وهصت(5) الحصى لا أخنس(6) الأنف قابعا(7) *** إذا أنا راخى لي خناقي بنو حرب
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء و أحمد بن سليمان الطّوسيّ قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب و غيره قالوا:
قدم سعيد بن عثمان المدينة فقتله غلمان جاء بهم من الصّغد(8)، و كان معه عبد الرحمن بن أرطاة بن سيحان حليف بني حرب بن أمية، فهرب عنه لما قتلوه، فقال خالد بن عقبة بن أبي معيط يرثي سعيد بن عثمان - و عثمان أخوه لأمه -:
يا عين جودي بدمع منك تهتانا *** و ابكى سعيد بن عثمان بن عفّانا
ص: 496
إنّ ابن زينة لم تصدق مودّته(1) *** و فرّ عنه ابن أرطاة بن سيحانا(2)
فقال ابن سيحان يعتذر من ذلك:
يقول رجال قد دعاك فلم تجب *** و ذلك من تلقاء مثلك(3) رائع
فإن كان نادى دعوة فسمعتها *** فشلّت يدي و استكّ (4) منّي المسامع
و إلا فكانت بالذي قال باطلا *** و دارت عليه الدائرات القوارع
يلومونني أن كنت في الدار حاسرا *** و قد فرّ عنه خالد هو دارع(5)
/فقال بعض الشعراء يجيبه:
فإنك لم تسمع و لكن رأيته *** بعينيك إذ مجراك في الدار واسع
و أسلمته للصّغد تدمي كلومه *** و فارقته و الصوت في الدار شائع
/و ما كان فيها خالد بمعذّر(6) *** سواء عليه صمّ أو هو سامع
فلا زلتما في غلّ سوء بعبرة *** و دارت عليكم بالشّمات القوارع
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمري عن العتبيّ قال:
لما قتل سعيد بن عثمان بن عفّان قالت أمّه: أشتهي أن يرثيه شاعر كما في نفسي حتى أعطيه ما يحتكم؛ فقال ابن سيحان:
إن كنت باكية فتى *** فابكي هبلت(7) على سعيد:
فارقت أهلك بغتة *** و جلبت حتفك من بعيد
أذري دموعك و الدّما *** ء على الشّهيد ابن الشهيد
فقالت: هكذا كنت أشتهي أن يقال فيه، و وصلت ابن سيحان. و كانت تندبه بهذا الشعر.
و قال أبو عمرو في روايته التي ذكرتها عن عمّي عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال:
جلس ابن سيحان و خالد بن عقبة بعد مقتل سعيد بن عثمان يتحدّثان، فجرى ذكره فبكيا جميعا عليه، فقال ابن سيحان يرثيه:
ص: 497
ألا إنّ خير الناس إن كنت سائلا *** سعيد بن عثمان القتيل بلا ذحل(1)
تداعت عليه عصبة فارسية *** فأضحى سعيد لا يمرّ و لا يحلي
و قال خالد بن عقبة:
ألا إنّ خير الناس نفسا و والدا *** سعيد بن عثمان قتيل الأعاجم
بكت عين من لم يبكه وسط يثرب *** مدى الدهر(2) منه بالدموع السّواجم
فإن تكن الأيام أردت صروفها *** سعيدا، فمن هذا عليها بسالم(3)
قال الحزنبل: أنشدني عمرو بن أبي عمرو عن أبيه لابن سيحان قال عمّي و أنشدني السّكّريّ عن ابن حبيب و الطّوسيّ له:
رحم اللّه صاحبيّ ابني الحا *** رث إذا ينهيانني أن أبوحا
بالتي تيمت فؤادي و أن أذ *** ري دموعي على ردائي سفوحا(4)
في مغاني منازل من حبيب *** باشرت بعده قطارا(5) و ريحا
و لقد قلت للفؤاد و لكن *** كان قدما إلى هواه جموحا
قلت أقصر عن بعض حبّك أروى *** إن بعض الحباب(6) كان فضوحا
فعصاني، فليس يسمع قولا *** من حمام على الأراك، جنوحا
أمّ يحيى تقبّل اللّه يحيى *** بقبول كما تقبّل نوحا
أمّ يحيى لو لا طلابك قد سحت مع الوحش أو لبست المسوحا(7)
و لقد قلت لا أحدّث سرّا *** سرّ أخرى ما دمت أمشي صحيحا
/الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالسّبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق و يونس. و فيه للغريض ثقيل أوّل عن الهشاميّ . و فيه لزريق رمل.
قال أبو عمرو: و ابن سيحان الذي يقول:
ص: 498
ألا هل هاجك الأظعا *** ن إذ جاوزن مطلحا
/و الناس يروونه لعمر بن أبي ربيعة لغلبته على أهل الحجاز جميعا. و قال أبو عمرو في خبره: كان ابن سيحان يحدّث قال: كنت آلف(1) من قريش أهل بيتين سوى من كنت منقطعا إليه من بني أمية: بني عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، و بني مطيع، فلما ضربني مروان الحدّ جئت فجلست إلى بني مطيع كما كنت أجلس، فلما رأوني عرفت الكراهة في وجوههم، و اللّه ما أقبلوا بوجوههم عليّ بحديثهم و لا وسّعوا لي، فانصرفت و رحت إلى بني عبد الرحمن، فلما رأوني أقبلوا بوجوههم عليّ و حيّوا و رحّبوا و سهّلوا و وسّعوا، و رفعوني إلى حيث لم أكن أجلس، و أقبلوا عليّ بوجوههم، يحدّثونني، و قالوا: لعلك خشعت للذي لحقك، أما و اللّه لقد علم الناس أنك مظلوم، و ظلّموا(2) مروان في فعله، و رأوا أنه قد أساء و أخطأ في شأنك، و قالوا: ما ضرّك ذلك و لا نقصك و لا زادك إلا خيرا، و لم يزالوا حتى بسطوني، فقلت أمدحهم و أذمّ بني مطيع:
لقد حرّمت ودّ بني مطيع *** حرام الدّهن للرجل الحرام(3)
و إن جنف(4) الزمان مددت حبلا *** متينا من حبال بني هشام
رطيب عودهم أبدا و ريق *** إذا ما اغبرّ عيدان اللئام
و قال أبو عمرو في خبره: كان عبد الرحمن بن سيحان ينادم الوليد بن عثمان على الشّراب فيبيت عنده خوفا من أن يظهر و هو سكران فيحدّ، فقالت له امرأته: قد صرت لا تبيت في منزلك و أظنّك قد تزوجت، و إلاّ فما مبيتك عن أهلك! فقال لها:
لا تعدميني نديما ماجدا أنفا *** لا قائلا قاذفا خلقا ببهتان(5)
أغرّ راووقه(6) ملآن(7) صافية *** تنفي القذى عن جبين غير خزيان
سبيئة(8) من قرى بيروت صافية *** عذراء أو سبئت من أرض بيسان(9)
ص: 499
إنّا لنشربها حتى تميل بنا *** كما تمايل وسنان بوسنان(1)
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال:
كان ابن سيحان صاحب شراب، فدخل على ابن عم له يقال له الحارث بن سريع فوجده يشرب نبيذ زبيب، فجعل يعظه و يأمره بشرب الخمر، و قال له: يا ابن سريع، إن كنت تشربه على أن نبيذ الزبيب حلال فإنك أحمق، و إن كنت تشربه على أنه حرام تستغفر اللّه منه و تنوي التوبة فاشرب أجوده فإن الوزر واحد، ثم قال:
دع ابن سريع شرب ما مات مرة *** و خذها سلافا حية مزّة الطّعم
تدعك على ملك ابن ساسان قادرا *** إذا حرّمت قرّاؤنا حلب الكرم
فشتّان بين الحيّ و الميت فاعتزم *** على مزّة صفراء راووقها يهمي(2)
فإنّ سريعا كان أوصى بحبّها *** بنيه و عمّي جاوز اللّه عن عمّي
و يا ربّ يوم قد شهدت بني أبي *** عليها إلى أن غاب تالية(3) النّجم
حسوها صلاة العصر و الشمس حيّة *** تدار عليهم بالصغير و بالضّخم
/فماتوا و عاشوا و المدامة بينهم *** مشعشعة(4) كالنجم توصف بالوهم
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال:
كان ابن سيحان حليف حرب بن أمية ينادم الوليد(5) بن عقبة بن أبي معيط، و يشرب معه الخمر، و هو القائل:
اصبح(6) نديمك من صهباء صافية *** حتى يروح كريما ناعم البال
و اشرب هديت أبا وهب مجاهرة *** و اختل فإنك من قوم أولى خال(7)
أنت الجواد أبا وهب إذا جمدت *** أيدي الرجال بما تحويه من مال
لو لا رجاؤك قد شمّرت مرتحلا *** عنسا(8) تعاقب تخويدا(9) بإرقال(10)
ص: 500
لما تواصوا بقتلي قمت معتزما *** حتى حميت من الأعداء أوصالي
عمّ الوليد بمعروف عشيرته *** و الأبعدون حظوا منه بإفضال
قال: و كان ابن سيحان قد ضرب رجلا من أخواله بالسيف فقطع يده و لم تقم عليه بيّنة، فتآمر به القوم و منع منه ابن خال له منهم(1)؛ و خاف الوليد بن عقبة أن يرجع إلى المدينة هاربا منهم و خوفا من جنايته عليهم فيفارقه و ينقطع عنه، فدعاهم و أرضاهم و أعطاهم دية صاحبهم. فلم يزل عند الوليد حتى عزل و هو نديمه و صفيّه. و هو القائل في الوليد - و فيه غناء -:
بات الوليد يعاطيني مشعشعة *** حتى هويت صريعا بين أصحابي
في الغناء: بات الكريم يعاطيني.
لا أستطيع نهوضا إن هممت به *** و ما أنهنه(2) من(3) حسو و تشراب
حتى إذا الصبح لاحت لي جوانبه *** ولّيت أسحب نحو الفوم أثوابي
كأنني من حميّا كأسه جمل *** صحّت قوائمه من بعد أوصاب
و يروى:
كأنني من حميّا كأسه ظلع
الغناء ليحيى المكّيّ - و روي: ضلع(4) - خفيف ثقيل بالبنصر عن الهشاميّ و بذل: قالت(5) بذل: و فيه لحن آخر ليحيى، و لم تذكر طريقته.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني أبو فهيرة(6) قال:
دخل عبد الرحمن بن أرطاة على سعيد بن العاص و هو أمير المدينة؛ فقال له: أ لست القائل:
إنّا لنشربها حتى تميل بنا *** كما تمايل وسنان بوسنان
فقال له عبد الرحمن: معاذ اللّه أن أشربها و أنعتها، و لكنّي الذي أقول:
سموت بحلفي للطّوال من الذّرى *** و لم تلقني كالنّسر في ملتقى جدب
ص: 501
إذا ما حليف القوم أقعى مكانه *** و دبّ كما يمشي الحسير(1) من النّقب
وهصت(2) الحصى لا أرهب الضيم قائما(3) *** إذا أنا راخى لي خناقي بنو حرب
و قام يجرّ مطرفه(4) بين الصّفين حتى خرج. فأقبل عمرو بن سعيد على أبيه فقال: لو أمرت بهذا الكلب فضرب مائتي سوط كان خيرا له؛ فقال: يا بنيّ ، أضربه و هو حليف حرب بن أميّة و معاوية خليفة بالشام! إذا لا يرضى! فلما حجّ معاوية لقيه بمنى، فقال: إيه يا سعيد! /أمرك أحمقك بأن تضرب حليفي مائتي سوط! أما و اللّه لو جلدته سوطا لجلدتك سوطين! فقال له سعيد: و لم ذاك ؟ أ و لم تجلد أنت حليفك عمر بن جبلة! فقال له معاوية: هو لحمي آكله و لا أوكله. قال: و كان ابن سيحان قد قال:
/لا يعدمنّي نديمي(5) ماجدا أنفا *** لا قائلا خالطا زورا ببهتان
أمسي أعاطيه كأسا لذّ مشربها *** كالمسك حفّت بنسرين و ريحان
سبيئة من قرى بيروت صافية *** أو التي سبئت من أرض بيسان
إنا لنشربها حتى تميل بنا *** كما تمايل وسنان بوسنان
انقضت أخباره.
يا خليليّ هجّرا كي تروحا *** هجتما للرّواح قلبا قريحا
إن تريغا(6) لتعلما سرّ سعدى *** تجداني بسرّ سعدى شحيحا
إنّ سعدى لمنية المتمنّي *** جمعت عفّة و وجها صبيحا
كلّمتني و ذاك ما نلت منها *** إنّ سعدى ترى الكلام ربيحا(7)
الشعر لابن ميّادة. و الغناء لحنين، و لحنه المختار من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.
و ذكر عمرو بن بانة أن فيه لدحمان لحنا من الثقيل الأوّل بالبنصر، و أظنه هذا، و أنّ عمرا غلط في نسبته إلى دحمان.
ص: 502
اسمه الرّمّاح بن أبرد بن ثوبان(1) بن سراقة بن حرملة، هكذا قال الزبير بن بكّار في نسبه. و قال ابن الكلبيّ : ثوبان(1) بن سراقة بن سلمى بن ظالم و يقال سراقة بن قيس بن سلمى بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيظ بن مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر.
و أمه ميّادة أم ولد بربريّة، و روي أنها كانت صقلبيّة(2). و يكنى أبا شرحبيل، و قيل بل يكنى أبا شراحيل.
و كان ابن ميّادة يزعم أن أمّه فارسيّة، و ذكر ذلك في شعره فقال:
أنا ابن سلمى و جدّي ظالم *** و أمّي حصان أخلصتها(3) الأعاجم
أ ليس غلام بين كسرى و ظالم *** بأكرم من نيطت عليه التمائم
أخبرني بذلك الحرميّ بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكّار قال حدثني أبو مسلمة مرهوب(4) بن سيد(5)و أخبرني الحرميّ [قال حدثنا الزبير](6) قال حدثني موسى بن زهير الفزاريّ قال أخبرني موسى بن سيّار بن نجيح المزنيّ (7) قال: أنشدني ابن ميّادة أبياته التي يقول فيها:
أ ليس غلام بين كسرى و ظالم *** بأكرم من نيطت عليه التمائم
فقلت له: لقد أشحطت بدار العجوز و أبعدت بها النّجعة، فهلاّ غرّبت (يريد أنها صقلبيّة/و محلها بناحية
ص: 503
المغرب) فقال: إي بأبي أنت، إنه من جاع انتجع، فدعها تسر في الناس فإنه «من يسمع(1) يخل». قال الزبير قال ابن مسلمة(2): و لمّا قال ابن ميّادة هذه الأبيات قال الحكم الخضريّ يردّ عليه:
و مالك فيهم من أب ذي دسيعة(3) *** و لا ولدتك المحصنات الكرائم
و ما أنت إلاّ عبدهم إن تربهم *** من الدهر يوما تستربك المقاسم
رمى نهبل في فرج أمّك رمية *** بحوقاء تسقيها العروق الثّواجم(4)
قال أبو مسلمة: و نهبل عبد لبني مرّة كانت ميّادة تزوّجته بعد سيّدها، و كانت صقلبيّة. و ابن ميّادة شاعر فصيح مقدّم مخضرم من شعراء الدولتين. و جعله ابن سلاّم(5) في الطبقة السابعة، و قرن به عمر(6) بن لجأ و العجيف(7)العقيلي و العجير(8) السّلوليّ .
/
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدثنا الحسن بن الحسين السّكّري قال حدّثنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابيّ قال: كان ابن ميّادة عرّيضا للشرّ، طالبا مهاجاة الشعراء و مسابّة الناس. و كان يضرب بيده على جنب أمه و يقول:
اعرنزمي(9) ميّاد للقوافي
أي إني سأهجو الناس فيهجونك.
و أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبي هفّان بهذه الحكاية مثله، و زاد فيها:
اعرنزمي ميّاد للقوافي *** و استسمعيهنّ (10) و لا تخافي
ص: 504
ستجدين ابنك ذا قذاف(1)
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا داود بن علّفة الأسديّ قال: جاورت امرأة من الخضر: (رهط الحكم الخضريّ ) أبيات ابن ميّادة، فجاءت ذات يوم تطلب رحى و ثفالا(2) لتطحن، فأعاروها إيّاهما فقال لها ابن ميّادة: يا أخت الخضر، أ تروين شيئا مما قاله الحكم الخضريّ لنا، يريد بذلك أن تسمع أمّه، فجعلت تأبى، فلم يزل حتى أنشدته:
أ ميّاد قد أفسدت سيف ابن ظالم *** ببظرك حتى عاد أثلم باليا
قال: و ميّادة جالسة تسمع. فضحك الرّماح، و ثارت ميّادة إليها بالعمود تضربها به و تقول: أي زانية! هيا زانية! أ إيّاي تعنين! و قام ابن ميّادة يخلّصها، فبعد لأي(3) ما أنقذها، و قد انتزعت منها الرّحى و الثّفال.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني أبو حرملة منظور بن أبي عديّ الفزاريّ قال حدّثني شماطيط - و هو الذي يقول:
أنا شماطيط الذي حدّثت به *** متى أنبّه للغداء أنتبه(4)
- قال: كنت جالسا مع ابن ميّادة فوردت عليه أبيات للحكم الخضريّ يقول فيها:
أ أنت ابن أشبانيّة أدلجت به *** إلى اللؤم مقلات(7) لئيم جنينها
- أشبانية: صقلبيّة - قال: و أمه ميّادة تسمع فضرب جنبها و قال:
اعرنزمي ميّاد للقوافي
فقالت: هذه جنايتك يا ابن من خبث و شرّ، و أهوت إلى عصا تريد ضربه بها؛ ففرّ منها و هو يقول:
يا صدقها و لم تكن صدوقا
فصحت به: أيّهما المعنيّ؟ فقال: أضرعهما خدّين و ألأمهما جدّين؛ فضربت جنبها الآخر و قلت: فهي إذا
ص: 505
ميّادة، و خرجت أعدو في أثر الرّمّاح، و تبعتنا ترمينا بالحجارة و تفتري علينا حتى فتناها.
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى/قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبو داود الفزاريّ : أنّ ميّادة كانت أمة لرجل من كلب زوجة لعبد له يقال له نهبل، /فاشتراها بنو ثوبان(1) بن سراقة فأقبلوا بها من الشام، فلما قدموا و صبّحوا(2) بها المليحة (و هي مائة لبني سلمى و رحل بن(3) ظالم بن جذيمة) نظر رجل من بني سلمى إليها و هي ناعسة تمايل على بعيرها، فقال: ما هذه ؟ قالوا: اشتراها بنو ثوبان(1)؛ فقال: و أبيكم إنّها لميادة تميد و تميل على بعيرها، فغلب عليها «ميّادة». و كان أبرد ضلّة من الضلل(4) و رثّة(5) من الرّثث جلفا لا تخلص إحدى يديه من الأخرى، يرعى على(6) إخوته و أهله، و كانت إخوته كلهم ظرفاء غيره. فأرسلوا ميّادة ترعى الإبل معه فوقع عليها، فلم يشعروا بها إلاّ قد أقعسها(7) بطنها، فقالوا لها: لمن ما في بطنك ؟ قالت: لأبرد، و سألوه فجعل يسكت و لا يجيبهم، حتّى رمت بالرّمّاح فرأوا غلاما فدغما(8) نجيبا، فأقرّ به أبرد. و قالت بنو سلمى: ويلكم يا بني ثوبان(1)! ابتطنوه(9) فلعله ينجب؛ فقالوا: و اللّه ما له غير ميّادة، فبنوا لها بيتا و أقعدوها فيه، فجاءت بعد الرمّاح بثوبان(1) و خليل و بشير بني أبرد، و كانت أوّل نسائه و آخرهنّ ، و كانت امرأة صدق، ما رميت بشيء و لا سبّت إلا بنهبل. قال عبد الرحمن بن جهيم الأسديّ في هجائه ابن ميّادة:
لعمري لئن شابت حليلة نهبل *** لبئس شباب المرء كان(10) شبابها
و لم تدر حمراء العجان(11) انهبل *** أبوه أم المرّيّ تبّ تبابها
قال أبو داود: و كان ابن ميّادة هجا بني مازن و فزارة بن ذبيان، و ذلك أنهم ظلموا بني الصارد - و الصارد من مرّة - فأخذوا مالهم و غلبوهم عليه حتّى الساعة؛ فقال ابن ميّادة:
ص: 506
فلأوردنّ على جماعة مازن *** خيلا مقلّصة الحصى و رجالا
ظلّوا بذي أرك(1) كأنّ رءوسهم *** شجر تخطّاه الربيع فحالا
فقال رجل من بني مازن يردّ عليه:
يا بن الخبيثة يا ابن طلّة(2) نهبل *** هلاّ جمعت كما زعمت رجالا
أ ببظر(3) ميدة أم بخصيي نهبل *** أم بالفساة تنازل الأبطالا
و لئن وردت على جماعة مازن *** تبغي القتال لتلقينّ قتالا
قال: و بنو مرّة يسمّون الفساة لكثرة امتيارهم التمر، و كانت منازلهم بين فدك و خيبر فلقبوا بذلك لأكلهم التمر. و قال يحيى بن عليّ في خبره - و لم يذكره عن أحد -: و قال ابن ميّادة يفتخر بأمّه:
أنا ابن ميّادة تهوي نجبي *** صلت(4) الجبين حسن مركّبي(5)
ترفعني أمي و ينميني(6) أبي *** فوق السحاب و دوين الكوكب
قال يحيى بن عليّ في خبره عن حمّاد عن أبيه عن أبي داود الفزاريّ : إنّ ابن ميّادة قال يفخر بنسب أبيه في العرب و نسب أمّه في العجم:
أ ليس غلام بين كسرى و ظالم *** بأكرم من نيطت عليه التمائم(7)
لو انّ جميع الناس كانوا بتعلة(8) *** و جئت بجدّي ظالم و ابن ظالم
/لظلّت رقاب الناس خاضعة لنا *** سجودا على أقدامنا بالجماجم
فأخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا أبو غسّان دماذ(9) عن أبي عبيدة قال: كان ابن ميّادة واقفا في الموسم ينشد:
لو انّ جميع الناس كانوا بتلعة
و ذكر تمام البيت و الذي بعده. قال: و الفرزدق واقف عليه في جماعة و هو متلثّم، فلما سمع هذين البيتين
ص: 507
أقبل عليه ثم قال: أنت يا ابن أبرد صاحب هذه الصفة! كذبت و اللّه و كذب من سمع ذلك منك فلم يكذّبك؛ فأقبل عليه فقال: فمه يا أبا فراس؛ فقال: أنا و اللّه أولى بهما منك، ثم أقبل على راويته فقال: اضممهما إليك:
لو انّ جميع الناس كانوا بتلعة *** و جئت بجدّي دارم و ابن دارم
لظلّت رقاب الناس خاضعة لنا *** سجودا على أقدامنا بالجماجم
قال: فأطرق ابن ميّادة فما أجابه بحرف، و مضى الفرزدق فانتحلهما.
أمّ بني ثوبان(1) - و هو أبرد أبو ابن ميّادة و العوثبان(2) و قريض(3) و ناعضة، و كان العوثبان و قريض شاعرين - أمّهم جميعا سلمى بنت كعب بن زهير بن أبي سلمى(4).
و يقال: إن الشعر أتى ابن ميادة عن أعمامه من قبل جدّهم زهير. قال إسحاق في خبره هذا: و حدّثني حميد بن الحارث أن عقبة بن كعب بن زهير نزل المليحة(5) على بني سلمى بن ظالم فأكلوا له بعيرا، و بلغ ابن ميّادة أن عقبة قال في ذلك شعرا، فقال ابن ميّادة يردّ عليه:
و لقد حلفت بربّ مكة صادقا *** لو لا قرابة نسوة بالحاجر(6)
لكسوت عقبة كسوة مشهورة *** ترد المناهل من كلام عائر(7)
و هي قصيدة؛ فقال له عقبة:
ألوما(8) أنني أصبحت خالا *** و ذكر الخال ينقص أو يزيد
لقد قلّدت من سلمى رجالا *** عليهم مسحة و هم العبيد
فقال ابن ميّادة:
أن تك خالنا فقبحت(9) خالا *** فأنت الخال تنقص لا تزيد
فيوما في مزينة أنت حرّ *** و يوما أنت محتدك العبيد
ص: 508
أحقّ الناس أن يلقى هوانا *** و يؤكل ماله العبد الطّريد
قال إسحاق فحدّثني عجرمة(1) قال: كان ابن ميّادة أحمر سبطا(2) عظيم الخلق(3) طويل اللّحية، و كان لباسا عطرا، ما دنوت من رجل كان أطيب عرفا منه.
قال إسحاق: و حدّثني أبو داود قال: سمعت شيخا عالما من غطفان يقول: كان الرّمّاح أشعر غطفان في الجاهلية و الإسلام، و كان خيرا لقومه من النابغة، لم يمدح غير قريش و قيس، و كان النابغة إنما يهذي باليمن مضلّلا حتى مات.
قال إسحاق: و حدّثني أبو داود أن بني ذبيان تزعم أن الرّمّاح بن ميّادة كان آخر الشعراء. قال إسحاق:
و حدّثني أبو صالح الفزاريّ أن القاسم بن جندب الفزاريّ ، و كان عالما، قال لابن ميّادة: و اللّه لو أصلحت شعرك لذكرت به، فإنّي لأراه/كثير السّقط(4)؛ فقال له ابن ميادة: يا ابن جندب، إنما الشعر كنبل في جفيرك(5) ترمى به الغرض، فطالع و واقع و عاصد(6) و قاصد.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال: كان ابن ميّادة حديث العهد لم يدرك زمان قتيبة بن مسلم، و لا دخل فيمن عناه حين قال: «أشعر قيس الملقّبون من بني عامر و المنسوبون إلى أمهاتهم من غطفان»، و لكنه شاعر مجيد كان في أيام هشام بن عبد الملك و بقي إلى زمن المنصور.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال: كان ابن ميّادة فصيحا يحتجّ بشعره، و قد مدح بني أمية و بني هاشم: مدح من بني أمية الوليد بن يزيد و عبد الواحد بن سليمان، و مدح من بني هاشم المنصور و جعفر بن سليمان.
ص: 509
و أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال حدّثنا الرّياشيّ عن الأصمعيّ قال أخبرني طمّاح ابن أخي الرّمّاح ابن ميّادة قال:
قال لي عمّي الرّمّاح: ما علمت أنّي شاعر حتى واطأت(1) الحطيئة، فإنه قال:
عفا مسحلان من سليمى فحامره *** تمشّى به ظلمانه و جآذره
/فو اللّه ما سمعته و لا رويته فواطأته بطبعي فقلت:
فذو العشّ (2) و الممدور(3) أصبح قاويا(4) *** تمشّى به ظلمانه و جآذره
فلما أنشدتها قيل لي: قد قال الحطيئة:
تمشّى به ظلمانه و جآذره
فعلمت أني شاعر حينئذ.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير بن بكّار قال حدّثني موسى بن زهير بن مضرّس قال: كان الرّمّاح بن أبرد المعروف بابن ميّادة ينسب بأمّ جحدر بنت حسّان المرّيّة إحدى نساء بني جذيمة، فحلف أبوها ليخرجنّها إلى رجل من غير عشيرته و لا يزوّجها بنجد؛ فقدم عليه رجل من الشام فزوّجه إياها؛ فلقي عليها ابن ميّادة شدّة، فرأيته و ما لقي عليها، فأتاها نساؤها ينظرن إليها عند خروج الشاميّ بها. قال: فو اللّه ما ذكرن منها جمالا بارعا و لا حسنا مشهورا، و لكنّها كانت أكسب الناس لعجب. فلمّا خرج بها زوجها إلى بلاده اندفع ابن ميّادة يقول:
ألا ليت شعري هل إلى أمّ جحدر *** سبيل فأما الصبر عنها فلا صبرا(5)
إذا نزلت بصرى تراخى مزارها *** و أغلق بوّابان من دونها قصرا
/فهل تأتينّي الريح تدرج موهنا *** بريّاك تعروري(6) بها جرعا عفرا
ص: 510
قال الزبير: و زادني عمّي مصعب فيها:
فلو كان نذر مدنيا أمّ جحدر *** إليّ لقد أوجبت في عنقي نذرا
ألا لا تلطّي(1) السّتر يا أمّ جحدر *** كفى بذرا الأعلام من دوننا سترا
لعمري لئن أمسيت يا أمّ جحدر *** نأيت لقد أبليت في طلب عذرا
فبهرا لقومي إذ يبيعون مهجتي *** بغانية(2) بهرا لهم بعدها بهرا
قال الزبير: بهرا هاهنا: يدعو عليهم أن ينزل بهم من الأمور ما يبهرهم، كما تقول: جدعا و عقرا. و في أوّل هذه القصيدة - على ما رواه يحيى بن عليّ عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن حميد بن/الحارث - يقول:
ألا لا تعدلي لوعة مثل لوعتي *** عليك بأدمى و الهوى يرجع الذّكرا
عشيّة ألوي بالرّداء على الحشا *** كأنّ ردائي مشعل دونه جمرا
قال حميد بن الحارث: و أمّ جحدر امرأة من بني رحل بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيظ بن مرّة.
/أخبرني يحيى بن عليّ قال حدّثنا حماد بن إسحاق عن أبيه و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء عن الزبير عن موهوب(3) بن رشيد عن جبر(4) بن رباط النّعاميّ : أن أمّ جحدر كانت امرأة من بني مرّة ثم من بني رحل، و أنّ أباها بلغه مصير ابن ميّادة إليها، فحلف ليزوّجنّها رجلا من غير ذلك البلد، فزوّجها رجلا من أهل الشام فاهتداها(5)و خرج بها إلى الشام، فتبعها ابن ميّادة، حتى أدركه أهل بيته فردّوه مصمتا(6) لا يتكلم من الوجد بها؛ فقال قصيدة أوّلها:
خليليّ من أبناء(7) عذرة بلّغا *** رسائل منّا لا تزيدكما وقرا(8)
ألمّا على تيماء نسأل يهودها *** فإنّ لدى تيماء من ركبها خبرا(9)
و بالغمر قد جازت و جاز مطيّها *** عليه فسل عن ذاك نيّان(10) فالغمرا
و يا ليت شعري هل يحلّنّ أهلها *** و أهلك روضات ببطن اللّوى خضرا
ص: 511
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثني أبو سعيد (يعني عبد اللّه بن شبيب) قال حدّثني أبو العالية الحسن بن مالك و أخبرني به الأخفش عن ثعلب عن عبد اللّه بن شبيب عن أبي العالية الحسن بن مالك الرّياحيّ العذريّ قال حدّثني عمر بن وهب العبسيّ قال حدّثني زياد بن عثمان الغطفانيّ من بني عبد اللّه بن غطفان قال: كنّا بباب بعض ولاة المدينة فغرضنا(1) من طول الثّواء، فإذا أعرابيّ يقول: /يا معشر العرب، أ ما منكم رجل يأتيني أعلّله إذ غرضنا من هذا المكان فأخبره عن أمّ جحدر و عنّي ؟ فجئت إليه فقلت: من أنت ؟ فقال: أنا الرّمّاح بن أبرد، قلت: فأخبرني ببدء أمركما؛ قال: كانت أمّ جحدر من عشيرتي فأعجبتني، و كانت بيني و بينها خلّة، ثم إني عتبت عليها في شيء بلغني عنها، فأتيتها فقلت: يا أمّ جحدر إنّ الوصل عليك مردود؛ فقالت: ما قضى اللّه فهو خير.
فلبثت على تلك الحال سنة، و ذهبت بهم نجعة فتباعدوا، و اشتقت إليها شوقا شديدا، فقلت لامرأة أخ لي: و اللّه لئن دنت دارنا من أمّ جحدر لآتينّها و لاطلبنّ إليها أن تردّ الوصل بيني و بينها، و لئن ردّته لا نقضته أبدا، و لم يكن يومان حتى رجعوا، فلمّا أصبحت غدوت عليهم فإذا أنا ببيتين نازلين إلى سند(2) أبرق طويل، و إذا امرأتان جالستان في كساء واحد بين البيتين، فجئت فسلّمت، فردّت إحداهما و لم تردّ الأخرى، فقالت: ما جاء بك يا رمّاح إلينا؟ ما كنّا حسبنا إلاّ أنه قد انقطع ما بيننا و بينك؛ فقلت: إني جعلت عليّ نذرا لئن دنت بأمّ جحدر دار لآتينّها و لأطلبنّ منها أن تردّ الوصل بيني و بينها، و لئن هي فعلت لا نقضته أبدا، و إذا التي تكلّمني امرأة أخيها و إذا الساكتة أمّ جحدر؛ فقالت امرأة أخيها: فادخل مقدّم البيت فدخلت، و جاءت فدخلت من مؤخّره فدنت قليلا، ثم إذا هي قد برزت، فساعة برزت جاء غراب فنعب على رأس/الأبرق فنظرت إليه و شهقت و تغيّر وجهها؛ فقلت: ما شأنك ؟ قالت: لا شيء، قلت: باللّه إلاّ أخبرتني؛ قالت: أرى هذا الغراب يخبرني أنّا لا نجتمع بعد هذا اليوم إلاّ ببلد غير هذا البلد، فتقبّضت نفسي، ثم قلت: جارية و اللّه ما هي/في بيت عيافة(3) و لا قيافة(4)، فأقمت عندها، ثم تروّحت(5) إلى أهلي فمكنت عندهم يومين، ثم أصبحت غاديا إليها، فقالت لي امرأة أخيها: ويحك يا رمّاح! أين تذهب ؟ فقلت: إليكم؛ فقالت: و ما تريد؟ قد(6) و اللّه زوّجت أمّ جحدر البارحة، فقلت: بمن ويحك ؟ قالت:
برجل من أهل الشام من أهل بيتها، جاءهم من الشام فخطبها فزوّجها و قد حملت إليه، فمضيت إليهم فإذا هو قد ضرب سرادقات، فجلست إليه فأنشدته و حدّثته و عدت إليه أياما، ثم إنه احتملها فذهب بها فقلت:
أجارتنا إنّ الخطوب تنوب *** علينا و بعض الآمنين تصيب
ص: 512
أجارتنا لست الغداة ببارح *** و لكن مقيم ما أقام عسيب(1)
فإن تسأليني هل صبرت فإنني *** صبور على ريب الزمان صليب
قال عليّ بن الحسين: هذه الأبيات الثلاثة أغار عليها ابن ميّادة فأخذها بأعيانها، أما البيتان الأوّلان فهما لامرئ القيس قالهما لمّا احتضر بأنقرة في بيت واحد و هو:
أ جارتنا إن الخطوب تنوب *** و إنّي مقيم ما أقام عسيب
و البيت الثالث لشاعر من شعراء الجاهلية، و تمثل به أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في رسالة كتب بها إلى أخيه عقيل بن أبي طالب، فنقله ابن ميّادة نقلا. و نرجع إلى باقي شعر ابن ميّادة:
جرى بانبتات الحبل من أمّ جحدر *** ظباء و طير بالفراق نعوب
نظرت فلم أعتف و عافت فبيّنت *** لها الطير قبلي و اللبيب لبيب
/فقالت حرام أن نرى بعد هذه *** جميعين إلا أن يلمّ غريب
أجارتنا صبرا فيا ربّ هالك *** تقطّع من وجد عليه قلوب
قال: ثم انحدرت في طلبها، و طمعت في كلمتها: «إلاّ أن نجتمع في بلد غير هذا البلد». قال: فجئت فدرت الشام زمانا فتلقّاني زوجها فقال: مالك لا تغسل ثيابك هذه! أرسل بها إلى الدار تغسل، فأرسلت بها؛ ثم إنّي وقفت أنتظر خروج الجارية بالثياب، فقالت أمّ جحدر لجاريتها: إذا جاء فأعلميني؛ فلما جئت إذا أمّ جحدر وراء الباب فقالت: ويحك يا رمّاح! قد كنت أحسب أن لك عقلا! أما ترى أمرا قد حيل دونه و طابت أنفسنا عنه ؟ انصرف إلى عشيرتك فإنّي أستحيي لك من هذا المقام؛ فانصرفت و أنا أقول:
عسى إن حججنا أن نرى أمّ جحدر *** و يجمعنا من نخلتين(2) طريق
و تصطكّ أعضاد المطيّ و بيننا *** حديث مسرّ دون كلّ رفيق(3)
في هذين البيتين لحن من الثقيل الثاني ذكر الهشاميّ أنه للحجبيّ (4).
ص: 513
و قال حين خرج إلى/الشام - هذه رواية ابن شبيب(1) -:
ألا حيّيا رسما بذي العشّ (2) مقفرا *** و ربعا بذي الممدور(2) مستعجما قفرا
فأعجب دار دارها غير أنني *** إذا ما أتيت الدار ترجعني صفرا(3)
عشية أثني بالرّداء على الحشى *** كأنّ الحشى من دونه أسعرت جمرا(4)
يميل بنا شحط النّوى ثم نلتقي *** عداد الثّريّا(5) صادفت ليلة بدرا
و بالغمر قد جازت و جاز مطيّها *** فأسقى الغوادي بطن نيّان فالغمرا
خليليّ (6) من غيظ بن مرّة بلّغا *** رسائل منّي لا تزيد كما و قرا
ألا ليت شعري هل إلى أمّ جحدر *** سبيل(7)، فأما الصبر عنها فلا صبرا
فإن يك نذر راجعا أمّ جحدر *** عليّ لقد أوذمت(8) في عنقي نذرا
و إني لأستنشي(9) الحديث من اجلها *** لأسمع منها(10) و هي نازحة ذكرا
و إني لأستحيى من اللّه أن أرى *** إذا غدر الخلاّن أنوي لها غدرا
/أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حمّاد عن أبيه قال أنشدني أبو داود لابن ميّادة و هو يضحك منذ أنشدني إلى أن سكت:
أ لم تر أن الصارديّة(11) جاورت *** ليالي بالممدور غير كثير
ص: 514
ثلاثا فلمّا أن أصابت فؤاده *** بسهمين من كحل دعت بهجير
بأصهب(1) يرمي للزّمام برأسه *** كأنّ على ذفراه(2) نضخ(3) عبير
جلت إذ جلت عن أهل نجد حميدة *** جلاء غنى لا جلاء فقير
و قالت و ما زادت على أن تبسمت *** عذيرك(4) من ذي شيبة و عذيري
عدمت الهوى ما يبرح الدهر مقصدا(5) *** لقلبي بسهم في اليدين طرير(6)
و قد كان قلبي مات للوجد موتة *** فقد همّ قلبي بعدها بنشور
قال: فقلت: ما أضحكك ؟ فقال: كذب ابن ميّادة، و اللّه ما جلت إلاّ على حمار و هو يذكر بعيرا و يصفه و أنها جلت جلاء غنى لا جلاء فقير، فأنطقه الشيطان بهذا كلّه كما سمعت.
/أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني موسى بن زهير قال: مكثت أمّ جحدر عند زوجها زمانا ثم مات زوجها [عنها](7) و مات ولدها منه، [فقدمت نجدا على إخوتها و قد مات أبوها(8)].
أخبرني سيّار بن نجيح(9) المزنيّ قال: لقيت ابن ميّادة و هو يبكي فقلت له: ويحك! مالك ؟ قال: أخرجتني أمّ جحدر و آلت يمينا ألاّ تكلّمني، فانطلق فاشفع لي عندها؛ فخرجت حتى غشيت رواق بيتها فوجدتها و هي تدمك(10)جريرا لها بين الصّلاية(11) و المدقّ تريد أن تخطم به بعيرا تحجّ عليه؛ فقالت: إن كنت جئت شفيعا لابن ميّادة فبيتي حرام عليك أن تلقي فيه قدمك. قال: فحجّت، و لا و اللّه ما كلّمته و لا رآها و لا رأته. قال موسى قال سيّار: فقلت له: اذكر لي يوما ما رأيته منها؛ فقال لي: أما و اللّه لأخبرنّك يا سيّار بذلك: بعثت إليها عجوزا منهم فقلت: هل ترين من رجال ؟ فقالت: لا و اللّه، ما رأيت من رجل؛ فألقيت رحلي على ناقتي ثم أرسلتها حتى أنختها بين أطناب بيتهم؛ ثم/جعلت أقيّد الناقة، فما كان إلا ذاك حتى دخلت و قد ألقت لي فراشا مرقوما(12)
ص: 515
مطموما(1)، و طرحت لي وسادتين على عجز الفراش و أخريين على مقدّمه؛ قال: ثم تحدّثنا ساعة و كأنما تلعقني بحديثها الرّبّ (2) من حلاوته، ثم إذا هي تصبّ في عسّ (3) مخضوب بالحنّاء و الزعفران من ألبان اللّقاح، فأخذت منها ذلك/العسّ و كأنه قناة فراوحته بين يديّ ، ما ألقمته فمي و لا دريت أنه معي حتى قالت لي عجوز: أ لا تصلّي يا ابن ميادة لا صلّى اللّه عليك فقد أظلّك صدر النهار(4)! و لا أحسب إلا أنّني في أوّل البكرة؛ قال: فكان ذلك اليوم آخر يوم كلّمتها فيه حتّى زوّجها أبوها، و هو أظرف(5) ما كان بيني و بينها.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني حكم(6) بن طلحة الفزاريّ ثم المنظوريّ قال:
قال ابن ميّادة: إنّي لأعلم أقصر يوم مرّ بي من الدهر، قيل له: و أيّ يوم هو يا أبا الشّرحبيل ؟ قال: يوم جئت فيه أمّ جحدر باكرا فجلست بفناء بيتها فدعت لي بعسّ (7) من لبن فأتيت به و هي تحدّثني، فوضعته على يدي و كرهت أن أقطع حديثها إن شربت، فما زال القدح على راحتي و أنا انظر إليها حتى فاتتني صلاة الظهر(8) و ما شربت.
قال الزبير: و حدّثني أبو مسلمة(9) موهوب بن رشيد بمثل هذا، و زاد في خبره: و قال ابن ميّادة فيها أيضا:
أ لم تر أن الصارديّة جاورت *** ليالي بالممدور غير كثير
ثلاثا فلما أن أصابت فؤاده *** بسهمين من كحل(10) دعت بهجير
بأحمر(11) ذيّال العسيب مفرّج(12) *** كأنّ على ذفراه نضخ عبير
حلفت بربّ الراقصات إلى منى *** زفيف القطا يقطعن بطن هبير(13)
لقد كان حبّ الصارديّة بعد ما *** علا في سواد الرأس نبذ قتير(14)
ص: 516
يكون سفاها أو يكون ضمانة(1) *** على ما مضى من نعمة و عصور
عدمت الهوى لا يبرح الدهر مقصدا *** لقلبي بسهم في الفؤاد طرير
و قد كان قلبي مات للحبّ موتة *** فقد همّ قلبي بعدها بنشور
جلت إذ جلت عن أهل نجد حميدة *** جلاء غنّى لا جلاء فقير
و مما يغنّى فيه من أشعار ابن ميّادة في النّسيب بأمّ جحدر [قوله(2)]:
ألا يا لقومي للهوى و التذكّر *** و عين قذى إنسانها أمّ جحدر(3)
فلم تر عيني مثل قلبي لم يطر *** و لا كضلوع فوقه لم تكسّر
الغناء لإسحاق ثقيل أوّل بالوسطى.
أخبرنا الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثنا حكيم(4) بن طلحة الفزاري عن رجل من كلب قال:
/جنيت جناية فغرمت فيها، فنهضت إلى أخوالي بني مرّة فاستعنتهم فأعانوني، فأتيت سيّار بن نجيح أحد بني سلمى بن ظالم فأعانني، ثم قال: انهض بنا إلى الرمّاح بن أبرد - يعني ابن ميّادة - حتى يعينك، فدفعنا(5) إلى بيتين له، فسألنا عنه فقيل: ذهب أمس؛ فقال سيّار: ذهب إلى أمة(6) لبني سهيل، فخرجنا في طلبه/فوقعنا(7) عليه في قرارة(8) بيضاء بين حرّتين، و في القرارة غنم من الضأن سود و بيض، و إذا حمار مقيّد مع الغنم و إذا به معها، فجلسنا فإذا شابّة حلوة صفراء في درّاعة مورّسة(9)، فسلّمنا و جلسنا؛ فقال: أنشديهم مما قلت فيك شيئا؛ فأنشدتنا:
يمنّونني منك اللقاء و إنني *** لأعلم لا ألقاك من دون قابل
ص: 517
إلى ذاك ما حارت أمورك و انجلت *** غياية(1) حبّيك انجلاء المخايل(2)
إذا حلّ أهلي بالجناب(3) و أهلها *** بحيث التقى الغلاّن(4) من ذي أرائل(5)
أقل خلّة بانت و أدبر وصلها *** تقطّع منها باقيات الحبائل
و حالت شهور الصيف بين و بينها *** و رفع الأعادي كلّ حقّ و باطل
/أقول لعذّاليّ لما تقابلا *** عليّ بلوم مثل طعن المعابل(6)
لا تكثرا(7) عنها السؤال فإنها *** مصلصلة(8) من بعض تلك الصّلاصل(9)
من الصّفر لا ورهاء(10) سمج(11) دلالها *** و ليست من السّود القصار الحوائل(12)
و لكنّها ريحانة طاب نشرها *** وردت عليها بالضّحى و الأصائل
ثم قال لها: قومي فاطرحي [عنك](13) درّاعتك، فقالت: لا حتى يقول لي سيّار بن نجيح ذلك، فأبى سيّار؛ فقال له ابن ميادة: لئن لم تفعل لا قضيت حاجتكما، فقال لها فقامت فطرحتها، فما رأيت أحلى منها. فقال له [سيّار](14): فمالك يا أبا الشّرحبيل لا تشتريها؟ فقال: إذا يفسد حبّها.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثتني مغيرة بنت أبي عديّ بن عبد الجبّار بن منظور بن زبّان(15)ابن سيّار الفزاريّة قالت أخبرني أبي قال:
ص: 518
جمعني و ابن ميّادة و صخر بن الجعد الخضريّ ، مجلس، فأنشدنا ابن ميّادة قوله:
يمنّونني منك اللقاء و إنني *** لأعلم لا ألقاك من دون قابل
/فأقبل عليه صخر فقال له: المحبّ المكبّ يرجو الفائت و يغمّ (1) الطير، و أراك حسن العزاء يا أبا الشّرحبيل؛ فأعرض عنه ابن ميّادة. قال أبو عديّ فقلت:
صادف درء(2) السّيل سيلا يردعه *** بهضبة تردّه و تدفعه
- و يروي: درء(3) السيل سيل - فقال(4) لي: يا أبا عديّ ، و اللّه لا أتلطّخ بالخضر مرّتين و قد قال أخو عذرة:
هو العبد أقصى همّه أن تسبّه *** و كان سباب الحرّ أقصى مدى العبد
قال الزبير: قوله يغمّ (1) الطير يقول: إذا رأى طيرا لم يزجرها مخافة أن يقع ما يكره.
قال: فلم يحر إليه صخر بن الجعد جوابا. يعني بقوله: «لا أتلطّخ بالخضر مرّتين» مهاجاته الحكم الخضريّ ، و كانا تهاجيا زمانا ثم كفّ ابن ميّادة و سأله الصلح فصالحه الحكم.
أخبرني الحرميّ (5) بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدثني أبو مسلمة موهوب(6) بن رشيد عن عبد الرحمن بن الأحول التغلبيّ ثم الخولانيّ قال:
كان أوّل ما بدأ الهجاء بين ابن ميّادة و حكم بن معمر الخضريّ أن ابن ميّادة مرّ بالحكم بن معمر و هو ينشد في مصلّى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم في جماعة من الناس قوله:
لمن الديار كأنّها لم تعمر *** بين الكناس(7) و بين برق(8) محجّر(9)
ص: 519
حتى انتهى إلى قوله:
يا صاحبيّ أ لم تشيما بارقا *** نضح الصّراد(1) به فهضب المنحر(2)
قد بتّ أرقبه و بات مصعّدا *** نهض المقيّد في الدّهاس(3) الموقر(4)
/فقال [له](5) ابن ميّادة: ارفع إليّ رأسك أيها المنشد، فرفع حكم إليه رأسه؛ فقال له: من أنت ؟ قال: أنا حكم بن معمر الخضريّ ؛ قال: فو اللّه ما أنت في بيت حسب، و لا في أرومة شعر؛ فقال له حكم: و ما ذا عبت من شعري ؟ قال: عبت أنك أدهست و أوقرت؛ قال له حكم: و من أنت ؟ قال أنا ابن ميّادة؛ قال: ويحك! فلم رغبت عن أبيك و انتسبت إلى أمك ؟ قبّح اللّه و الدين خيرهما ميّادة، أما و اللّه لو وجدت في أبيك خيرا ما انتسبت إلى أمك راعية الضأن. و أما إدهاسي و إيقاري فإني لم آت خيبر إلاّ ممتارا لا متحاملا(6)، و ما عدوت أن حكيت حالك و حال قومك، فلو [كنت](7) سكتّ عن هذا لكان خيرا لك و أبقى عليك. فلم يفترقا إلا عن هجاء.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا عبد اللّه بن إبراهيم الجمحيّ قال حدّثني عمير(8) بن ضمرة الخضريّ قال:
أوّل ما هاج الهجاء بين ابن ميّادة و بين حكم بن معمر بن قنبر بن جحاش بن سلمة بن ثعلبة بن مالك بن طريف بن محارب - قال: و الخضر ولد مالك بن طريف، سمّوا بذلك لأن مالكا كان شديد الأدمة، و كذلك خرج ولده فسمّوا الخضر - أن حكما نزل بسمير(9) بن سلمة بن عوسجة بن أنس بن يزيد بن معاوية بن ساعدة بن عمرو و هو خصيلة بن مرّة. فأقبل ابن ميّادة إلى حكم ليعرض عليه شعره و ليسمع(10) من شعره، و كان حكم أسنّهما، فأنشدا جميعا جماعة القوم، ثم قال ابن ميّادة: و اللّه لقد أعجبني بيتان قلتهما يا حكم؛ قال: أ و ما أعجبك من شعري إلا بيتان! فقال:
ص: 520
/و اللّه لقد أعجباني، يردّد ذلك مرارا لا يزيده عليه؛ فقال له حكم: فأيّ بيتين هما؟ قال: حين تساهم بين ثوبيها و تقول:
فو اللّه ما أدري أزيدت ملاحة *** و حسنا على النّسوان أم ليس لي عقل
تساهم(1) ثوباها ففي الدّرع(2) غادة(3) *** و في المرط لفّاوان(4) ردفهما عبل
فقال له حكم: أ و ما أعجبك غير هذين البيتين ؟ فقال له ابن ميّادة: قد أعجباني، فقال: أ و ما في شعري ما أعجبك غيرهما؟ فقال: لقد أعجباني؛ فقال له حكم: فإنّي سوف أعيب عليك قولك:
و لا برح الممدور ريّان مخصبا *** و جيد(5) أعالي شعبه و أسافله
فاستسقيت لأعلاه و أسفله و تركت وسطه و هو خير موضع فيه؛ فقال: و أيّ شيء تريد! تركته لا يزال ريّان مخصبا. و تهاترا فغضب حكم فارتحل ناقته و هدر(6) ثم قال:
فإنّه يوم قريض و رجز
فقال رجل من بني مرّة لابن ميّادة: اهدر كما هدر يا رمّاح، فقال: إنّما يغطّ(7) البكر. ثم قال الرّمّاح:
فإنّه يوم قريض و رجز *** من كان منكم ناكزا فقد نكز
و بيّن الطّرف النّجيب فبرز
/قال الزّبير: يريد بقوله ناكزا: غائضا قد نزف. قال الزّبير: و سمعت رجلا من أهل البادية/ينزع على أبل له كثيرة من قليب و يرتجز:
قد نكزت أن لم تكن خسيفا(8) *** أو يكن البحر لها حليفا
قال الزّبير قال الجمحيّ قال عمير بن ضمرة(9): فهذا أوّل ما هاج التهاجي بينهما. قال الزّبير قال الجمحيّ : و حدّثني عبد الرحمن بن ضبعان المحاربيّ قال: كان ابن ميّادة و حكم الخضريّ و عملّس بن عقيل بن علّفة(10) متجاورين متحالّين، و كانوا جميعا يتحدّثون إلى أمّ جحدر بنت حسّان المرّيّة، و كانت أمّها مولاة، ففضّلت
ص: 521
ابن ميّادة على الحكم و عملّس فغضبا. و كان ابن ميّادة قال في أم حجدر:
ألا ليت شعري هل إلى أمّ جحدر *** سبيل فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا
و يا ليت شعري هل يحلّنّ أهلها *** و أهلك روضات ببطن اللّوى خضرا
و قال فيها [أيضا(1)]:
إذا ركدت شمس النهار و وضّعت(2) *** طنافسها ولّينها الأعين الخزرا
الأبيات؛ فقال عملّس بن عقيل و حكم الخضريّ يهجوانها - و هي تنسب إلى حكم -:
لا عوفيت(3) في قبرها أمّ جحدر *** و لا لقيت إلاّ الكلاليب(4) و الجمرا
كما حادثت عبدا لئيما و خلته *** من الزاد إلاّ حشو ريطاته صفرا
/فيا ليت شعري هل رأت أمّ جحدر *** أكشّك(5) أو ذاقت مغابنك(6) القشرا(7)
و هل أبصرت أرساغ(8) أبرد أو رأت *** قفا أمّ رمّاح إذا ما استقت(9) دفرا(10)
و بالغمر قد صرّت(11) لقاحا و حادثت(12) *** عبيدا فسل عن ذاك نيّان(13) فالغمرا
و قال عملّس بن عقيل بن علّفة و يقال: بل قالها علّفة بن عقيل:
فلا تضعا عنها الطنافس إنّما *** يقصّر بالمرماة(14) من لم يكن صقرا
و زاد يحيى بن عليّ مع هذا البيت عن حمّاد عن أبيه عن جرير(15) بن ربّاط و أبي داود قال: يعرّض بقوله: «من لم يكن صقرا» بابن ميّادة أي إنّه هجين ليس من أبوين متشابهين كما الصقر. و بعده بيت آخر من رواية يحيى(16)و لم يروه الزّبير معه:
ص: 522
منعّمة لم تلق بؤسا و شفوة *** بنجد و لم يكشف هجين لها سترا
قالوا جميعا: فقال ابن ميّادة يهجو علّفة:
أعلّف إنّ الصقر ليس بمدلج *** و لكنّه بالليل متّخذ وكرا
و مفترش بين الجناحين سلحه *** إذا الليل ألقى فوق خرطومه كسرا(1)
/فإن يك صقرا بعد ليلة أمّه *** و ليلة جحّاف(2) فأفّ له صقرا
تشدّ بكفّيها على جذل أيره *** إذا هي خافت من مطيّها نفرا
يريد أنّ أمّ علّفة من بني أنمار، و كان أبوه عقيل بن علّفة ضربها، فأرسلت إلى رجل من بني أنمار يقال له جحّاف، فأتاها ليلا فاحتملها على جمل فذهب بها. و قال يحيى بن عليّ خاصّة في خبره عن حمّاد عن أبيه عن أبي داود: إنّ جحّاف بن إياد كان رجلا من بني قتال بن يربوع بن غيظ بن مرّة، و كان يتحدّث إلى امرأة عقيل بن علّفة - و هي أمّ ابنه علّفة بن عقيل - و يتّهم/بها، و هي امرأة من بني أنمار بن(3) بغيض بن ريث بن غطفان يقال لها سلافة، و كانت من أحسن الناس وجها، و كان عقيل من أغير الناس، فربطها بين أربعة أوتاد و دهنها بإهالة(4)، و جعلها في قرية(5) نمل، فمرّ بها جحّاف بن إياد [ليلا](6) فسمع أنينها، فأتاها فاحتملها حتى طرحها بفدك، فاستعدت و اليها على عقيل. و قال عقيل من جوف الليل فأوقد عشوة(7) و نظرها فلم يجدها و وجد أثر جحّاف فعرفه و تبعه حتّى صبّح القرية، و خنس جحّاف عنها؛ فأتى الوالي فقال: إنّ هذه رأتني قد كبرت [سنّي](8) و ذهب بصري فاجترأت عليّ ، و كان عقيل رجلا مهيبا فلم يعاقبه الوالي بما صنعه لموضعه من صهر بني مروان. قال: فعيّر ابن ميّادة علّفة بن عقيل بأمر جحّاف هذا في قوله:
فإن يك صقرا بعد ليلة أمّه *** و ليلة جحّاف فأفّ له صقرا
/قال: و لجّ (9) الهجاء بينهما. و قال فيه ابن ميّادة و في حكم الخضريّ و قد عاون علّفة:
لقد ركب الخضريّ منّي و تربه *** على مركب من نابيات المراكب
ص: 523
و قال لعلّفة:
يا ابن عقيل لا تكن كذوبا *** أ أن شربت الحزر(1) و الحليبا
من شول(2) زيد و شممت الطّيبا *** جهلا تجنّيت لي الذنوبا
قال: ثم لم يلبثه ابن ميّادة أن غلبه، و هاج التهاجي بينه و بين حكم الخضريّ ، و انقطع عنه علّفة مفضوحا.
قال: و ماتت أمّ جحدر التي كان ينسب(3) بها ابن ميّادة على تفيئة(4) ما كان بينه و بين علّفة من المهاجاة، و نعيت له فلم يصدّق حتّى أتاه رجل من بني رحل يقال له عمّار فنعاها له؛ فقال:
ما كنت أحسب أنّ القوم قد صدقوا *** حتّى نعاها لي الرّحليّ عمّار
و قال يرثيها:
خلت شعب الممدور لست بواجد *** به غير بال من عضاه(5) و حرمل
تمنّيت أن تلقي به أمّ جحدر *** و ما ذا تمنّى من صدى تحت جندل
فللموت خير من حياة ذميمة *** و للبخل خير من عناء مطوّل
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عبد اللّه بن إبراهيم عن ساعدة ابن مرمئ(6)، و ذكره إسحاق أيضا عن أصحابه:
/أن ابن ميّادة و حكما الخضريّ تواعدا المدينة ليتواقفا(7) بها، و جاء نفر من قريش - أمهاتهم من مرّة - إلى ابن ميّادة فمنعوه من مواقفة حكم، و قالوا: أ تتعرض له و لست بكفئه فيشتم أمهاتنا و أخوالنا و خالاتنا و هو رجل خبيث اللسان! - قال: و كان حكم يسجع سجعا كثيرا - فقال: و اللّه لئن واقفته لأسجعنّ به قبل المقارضة سجعا أفضحه به فلم يلقه. و ذكر الزّبير له سجعا طويلا غثّا لا فائدة فيه، لأنه ليس برجز منظوم و لا كلام فصيح و لا مسجّع سجعا مؤتلفا كائتلاف القوافي، إلا أن من أسلمه قوله: و اللّه لئن ساجعتني سجاعا، لتجدنّي شجاعا، للجار منّاعا، و لأجدنّك هيّاعا(8)، للحسب مضياعا، و لئن باطشتك بطاشا، لأدهشنّك إدهاشا، و لأدقّنّ منك مشاشا(9)، حتى يجيء بولك/رشاشا. و هذا من غثّ السّجع و رذله، و إنما ذكرته ليستدلّ به على ما هو دونه مما ألغيت ذكره. قال:
و رجز به فقال:
يا معدن اللؤم و أنت جبله *** و آخر اللؤم و أنت أوّله
ص: 524
جاريت سبّاقا بعيدا مهله *** كان إذا جارى أباك يفشله(1)
فكيف ترجوه و كيف تأمله *** و أنت شرّ رجل و أنذله
ألأمه في مأزق و أجهله *** أدخله بيت المخازي مدخله
فاللؤم سربال له يسربله *** ثوبا إذا أنهجه(2) يبدّله
/فأجابه حكم(3):
يا بن التي جيرانها كانت تضرّ(4) *** و تتبع الشّول و كانت تمتصر(5)
كيف إذا مارست حرّا تنتصر
و لهما أراجيز كثيرة طويلة جدّا أسقطتها لكثرتها و قلة فائدتها.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير عن عبد اللّه بن إبراهيم قال:
أخبرني بعض من لقيت من الخضر: أن حكما الخضريّ خرج يريد لقاء ابن ميّادة بالرّقم(6) من غير موعد فلم يلفه، إمّا لأنه تغيّب عنه و إمّا لأنه لم يصادفه، فقال حكم:
فرّ ابن ميّادة الرّقطاء من حكم *** بالصّغر(7) مثل الأعقد الدّهم(8)
أصبحت في أقر(9) تعلو أطاوله *** تفرّ منّي و قد أصبحت بالرّقم
و قال إسحاق في روايته عن أصحابه: قال ابن ميّادة يهجو حكما و ينسب بأمّ جحدر:
يمنّونني منك اللقاء و إنني *** لأعلم لا ألقاك من دون قابل
/و قد مضى أكثر هذه الأبيات متقدّما، فذكرت هاهنا منها ما لم يمض و هو قوله:
فيا ليت رثّ الوصل من أمّ جحدر *** لنا بجديد من أولاك البدائل
ص: 525
و لم يبق مما كان بيني و بينها *** من الودّ إلا مخفيات الرسائل
و إني إذا استنبهت من حلو رقدة *** رميت بحبّيها كرمي المناضل
فما أنس م الأشياء لا أنس قولها *** و أدمعها يذرين حشو المكاحل
تمتّع بذا اليوم القصير فإنه *** رهين بأيام الدهور الأطاول
الغناء في هذين البيتين لعليّ بن يحيى المنجّم، و لحنه من الثقيل الثاني.
و كنت امرأ أرمي الزوائل(1) مرّة *** فأصبحت قد ودّعت رمي الزوائل
و عطّلت قوس اللهو من سرعانها(2) *** و عادت سهامي بين رثّ و ناصل(3)
السّرعان: وتر يعمل من عقب(4) المتن، و هو أطول العقب.
إذا حلّ بيتي بين بدر و مازن *** و مرّة نلت الشمس كاهلي
يعني بدر بن عمرو بمن جؤيّة بن لوذان بن ثعلبة بن عديّ بن فزارة بن ذبيان، و مرّة بن عوف/بن سعد بن ذبيان، و مرّة بن فزارة، و مازن بن فزارة. و هي طويلة.
/قال أبو الفرج الأصبهانيّ : أخذ إسحاق الموصليّ معنى بيت ابن ميّادة في قوله: «نلت الشمس و اشتدّ كاهلي» فقال:
عطست بأنف شامخ و تناولت *** يداي الثريّا قاعدا غير قائم
و لعمري لئن كان استعار معناه لقد اضطلع به و زاد فأحسن و أجاد.
و في هذه القصيدة يقول:
فضلنا قريشا غير رهط محمد *** و غير بني مروان أهل الفضائل
قال يحيى بن عليّ و أخبرني عليّ بن سليمان بن أيوب عن مصعب، و أخبرني به الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن مصعب قال:
قال إبراهيم بن هشام بن إسماعيل لابن ميّادة: أنت فضلت قريشا! و جرّده فضربه أسواطا.
ص: 526
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال: لما قال ابن ميّادة:
فضلنا قريشا غير رهط محمد *** و غير بني مروان أهل الفضائل
قال له الوليد بن يزيد: قدّمت آل محمد قبلنا(1)، فقال: ما كنت يا أمير المؤمنين أظنّه يمكن غير ذلك. فلما أفضت الخلافة إلى بني هاشم وفد ابن ميّادة إلى المنصور و مدحه؛ فقال له أو جعفر لما دخل إليه: كيف قال لك الوليد؟ فأخبره بما قال، فجعل المنصور يتعجّب.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثني عبد اللّه بن إبراهيم الجمحيّ قال: حدّثني العباس بن سمرة بن عبّاد بن شمّاخ بن سمرة عن ريحان بن سويد الخضريّ ، و كان رواية حكم بن معمر الخضريّ ، قال:
/تواعد حكم و ابن ميّادة عريجاء - و هي مائة(2) - يتواقفان عليها، فخرج كلّ واحد منهما في نفر من قومه، و أقبل صخر بن الجعد الخضريّ يؤمّ حكما، و هو يومئذ عدوّ لحكم لما فرط بينهما من الهجاء في أركوب(3) من بني مازن بن مالك بن طريف بن خلف بن محارب؛ فلما لقيه قال له: يا حكم، أ هؤلاء(4) الذين عرّضت للموت! و هم وجوه قومك! فو اللّه ما دماؤهم على بني مرّة إلا كدماء جداية(5)، فعرف حكم أن قول صخر هو الحقّ فردّ قومه، و قال لصخر: قد وعدني ابن ميّادة أن يواقفني غدا بعريجاء لأن أناشده، فقال له صخر: أنا كثير الإبل - و كان حكم مقلاّ - فإذا وردت(6) إبلي فارتجز، فإن القوم لا يشجعون(7) عليك و أنت وحدك، فإن لقيت الرجل نحر و أطعم فانحر و أطعم و إن أتيت على مالي كلّه. قال ريحان راويته: فورد يومئذ عريجاء و أنا معه فظلّ على عريجاء و لم يلق رمّاحا و لم يواف لموعده، و ظلّ ينشد يومئذ حتّى أمسى، ثم صرف وجوه إبل صخر و ردّها. و بلغ الخبر ابن ميّادة و موافاة حكم لموعده، فأصبح على الماء و هو يرتجز و يقول:
أنا ابن ميّادة عقّار الجزر *** كلّ صفيّ (8) ذات ناب منفطر
/و ظلّ على الماء فنحر(9) و أطعم. فلما بلغ حكما ما صنع ابن ميّادة من نحره و إطعامه شقّ عليه مشقّة
ص: 527
شديدة. ثم إنهما بعد توافيا بحمى ضريّة. قال ريحان بن سويد(1): و كان ذلك العام عام جدب و سنة إلاّ بقية كلإ بضريّة. قال: فسبقنا ابن ميادة يومئذ فنزلنا على مولاة لعكّاشة/بن مصعب بن الزّبير ذات مال و منزلة من السلطان.
قال: و كان حكم كريما على الولاة هناك يتّقى لسانه. قال ريحان: فبينا نحن عند المولاة و قد حططنا براذع دوابّنا إذا راكبان قد أقبلا، و إذا نحن برمّاح و أخيه ثوبان(2) - و لم يكن لثوبان(2) ضريب في الشجاعة و الجمال - فأقبلا يتسايران، فلما رآهما حكم عرفهما، فقال: يا ريحان، هذان ابنا أبرد، فما رأيك ؟ أ تكفيني ثوبان(2) أم لا؟ قال: فأقبلا نحونا و رمّاح يتضاحك حتى قبض على يد(3) حكم و قال: مرحبا برجل سكتّ عنه و لم يسكت عنّي، و أصبحت الغداة أطلب سلمه يسوقني الذّئب(4) و السنة، و أرجو أن أرعى الحمى بجاهه و بركته، ثم جلس إلى جنب حكم و جاء ثوبان(2) فقعد إلى جنبي، فقال له حكم: أما و ربّ المرسلين يا رمّاح لو لا أبيات جعلت تعتصم بهنّ و ترجع إليهنّ - يعني أبيات ابن ظالم - لاستوسقت(5) كما استوسق من كان قبلك. قال ريحان: و أخذا في حديث أسمع بعضه و يخفى عليّ بعضه، فظللنا عند المرأة و ذبح لنا و هما في ذلك يتحادثان، مقبل كلّ واحد منهما على صاحبه لا ينظران شدّنا، حتى كان العشاء فشددنا/للرّواح نؤمّ أهلنا، فقال رمّاح لحكم: يا أبا منيع - و كانت كنية حكم -: قد قضيت حاجتك و حاجة من طلبت له من هذا العامل، و إن لنا إليه حاجة في أن يرعينا؛ فقال له حكم: قد و اللّه قضيت حاجتي منه و إني لأكره الرجوع إليه، و ما من حاجتك بدّ، ثم رجع معه إلى العامل، فقال له بعد الحديث معه: إن هذا الرجل من قد عرفت ما بيني و بينه، و قد سأل الصلح و أناب إليه، فأحببت أن يكون ذلك على يدك و بمحضرك. قال: فدعا به عامل ضريّة و قال: هل لك حاجة غير ذلك ؟ قال: لا و اللّه، و نسي حاجة رمّاح، فأذكرته إياها، فرجع فطلبها و اعتذر بالنسيان. فقال العامل لابن ميّادة: ما حاجتك ؟ فقال: ترعيني عريجاء لا يعرض لي فيها أحد، فأرعاه إيّاها. فأقبل رمّاح على حكم فقال: جزاك اللّه خيرا يا أبا منيع، فو اللّه لقد كان ورائي من قومي من يتمنّى أن يرعى عريجاء بنصف ماله. قال فلمّا عزما على الانصراف ودّع كلّ واحد منهما صاحبه و انصرفا راضيين.
و انصرف ابن ميّادة إلى قومه فوجد بعضهم قد ركب إلى ابن هشام فاستغضبه على حكم في قوله:
و ما ولدت مرّيّة ذات ليلة *** من الدهر إلا زاد لؤما جنينها
فأطرده(6) و أقسم لئن ظفر به ليسرجنّه و ليحملنّ عليه أحدهم. فقال رمّاح - و ساءه ما صنعوا -: عمدتم إلى رجل قد صلح ما بيني و بينه و أرعيت بوجهه فاستعديتم عليه و جئتم باطراده! و بلغ الحكم الخبر فطار إلى الشام فلم يبرحها حتى مات.
ص: 528
قال العباس بن سمرة: مات بالشام غرقا، و كان لا يحسن العوم فمات في بعض أنهارها. قال: و هو وجهه(1) الذي مدح فيه أسود بن بلال المحاربيّ ثم السّوائيّ في قصيدته التي يقول فيها:
/و استيقنت أن لا براح(2) من السّرى *** حتى تناخ بأسود بن بلال
قرم إذا نزل الوفود ببابه *** سمت العيون إلى أشمّ طوال
و لحكم الخضريّ و ابن ميّادة مناقضات كثيرة و أراجيز طوال طويت ذكر أكثرها/و ألغيته، و ذكرت منها لمعا من جيّد ما قالاه لئلا يخلو هذا الكتاب من ذكر بعض ما دار بينهما و لا يستوعب سائره فيطول. فما قاله حكم في ابن ميّادة قوله:
خليليّ عوجا حيّيا الدار بالجفر(3) *** و قولا لها سقيا لعصرك من عصر
و ما ذا تحيّي من رسوم تلاعبت *** بها حرجف(4) تذري بأذيالها الكدر
و من جيّد قوله فيها يفتخر:
إذا يبست عيدان قوم وجدتنا *** و عيداننا تغشى على الورق الخضر
إذا الناس جاءوا بالقروم(5) أتيتهم *** بقرم يساوي(6) رأسه غرّة البدر
لنا الغور و الأنجاد و الخيل و القنا *** عليكم و أيام المكارم و الفخر
و من جيّد هجائه قوله:
فيا مرّ قد أخزاك في كلّ موطن *** من اللؤم خلاّت يزدن على العشر
فمنهنّ أنّ العبد حامي ذماركم *** و بئس المحامي العبد عن حوزة الثّغر
و منهنّ أن لم تمسحوا وجه(7) سابق *** جواد(8) و لم تأتوا حصانا على طهر
و منهنّ أن الميت يدفن منكم *** فيفسو على دفّانه و هو في القبر
/و منهنّ أن الجار يسكن وسطكم *** بريئا فيلقى بالخيانة و الغدر
و منهنّ أن عدتم بأرقط كودن(9) *** و بئس المحامي أنت يا ضرطة(10) الجفر
ص: 529
و منهنّ أن الشيخ يوجد منكم *** يدبّ إلى الجارات محدودب الظهر
تبيت ضباب(1) الضّغن تخشى احتراشها(2) *** و إن هي أمست دونها ساحل البحر
فأجابه ابن ميّادة بقصيدة طويلة، منها قوله مجيبا له عن هذه الخصال التي سبّهم بها:
لقد سبقت بالمخزيات محارب *** و فازت بخلاّت على قومها عشر
فمنهنّ أن لم تعقروا ذات ذروة *** لحقّ إذا ما احتيج يوما إلى العقر
و منهنّ أن لم تمسحوا عربيّة *** من الخيل يوما تحت جلّ على مهر
و منهنّ أن لم تضربوا بسيوفكم *** جماجم إلا فيشل(3) القرّح الحمر
و منهنّ أن كانت شيوخ محارب *** كما قد علمتم لا تريش و لا تبري(4)
و منهنّ أخزى(5) سوأة لو ذكرتها *** لكنتم عبيدا تخدمون بني و بر(6)
و منهنّ أن الضأن كانت نساءكم *** إذا اخضرّ أطراف الثّمام من القطر
/و منهنّ أن كانت عجوز محارب *** تريغ(7) الصّبا تحت الصّفيح من القبر
و منهنّ أن لو كان في البحر بعضكم *** لخبّث ضاحي(8) جلده حومة(9) البجر
و مما قاله ابن ميّادة في حكم قوله من قصيدة أوّلها:
ألا حيّيا الأطلال طالت سنينها *** بحيث التقت ربد(10) الجناب(11) و عينها(12)
و يقول فيها:
فلمّا أتاني ما تقول محارب *** تغنّت شياطيني و جنّ جنونها
ص: 530
أ لم تر أنّ اللّه غشّى محاربا *** إذا اجتمع الأقوام لونا(1) يشينها
ترى بوجوه الخضر خضر محارب *** طوابع لؤم ليس ينفتّ (2) طينها
لقد ساهمتناكم(3) سليم و عامر *** فضمناهم إنّا كذلك ندينها
فصارت لنا أهل الضّئين(4) محارب *** و صارت لهم جسر(5) و ذاك ثمينها
إذا أخذت خضريّة قائم الرحى *** تحرّك قنباها(6) فطار طحينها
و ما حملت خضريّة ذات ليلة *** من الدهر إلاّ ازداد لؤما جنينها
/فقال حكم يجيبه عن هذه بقصيدته(7):
لأنت ابن أشبانيّة أدلجت به *** إلى اللّؤم مقلات لئيم جنينها
فجاءت بروّاث كأنّ جبينه *** إذا صغا في خرقتيها جبينها
فما حملت مرّيّة قطّ ليلة *** من الدهر إلاّ ازداد لؤما جنينها
و ما حملت إلا لألأم(8) من مشى *** و لا ذكرت إلاّ بأمر يشينها
تزوّج عثوان(9) الضّئين و تبتغي *** بها(10) الدّرّ لا درّت بخير لبونها(11)
أ ظنّت بنو عثوان أن لست شاتما *** بشتمي و بعض القوم حمقى ظنونها
مدانيس أبرام(12) كأنّ لحاهم *** لحى مستهبّات(13) طوال قرونها
قال الزبير: فحدّثني موهوب بن رشيد قال: فسمع هذه القصيدة أحد بني قتّال بن مرّة فقال: ما له أخزاه اللّه يهجو صبيتنا! قال: و هم أجفى قوم غضبا لصبيتهم و قد هجاهم بما هجاهم به.
قال: و بلغ إبراهيم بن هشام قوله في نساء بني مرّة إذ يقول:
و ما حملت إلا لألأم من مشى
ص: 531
فغضب ثم نذر(1) دمه فهرب من الحجاز إلى الشام فمات بها.
/أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزبير قال حدّثني عبد الرحمن بن ضبعان الخضريّ قال:
لقي ابن ميّادة صخر بن الجعد الخضريّ فقال له: يا صخر، أعنت عليّ ابن عمّك الحكم بن معمر! فقال له صخر: لا و اللّه يا أبا الشّرحبيل ما أعنته عليك، و لكن خيّل إليك ما كان يخيّل إليّ ، و لقد هاجيته فكنت أظنّ أنّ شجر الوادي يعينه عليّ .
و من جيّد قول ابن ميّادة في حكم قصيدته التي أوّلها:
لقد سبقتك اليوم عيناك سبقة *** و أبكاك من عهد الشباب ملاعبه
فو اللّه ما أدري أ يغلبني الهوى *** إذا جدّ جدّ البين أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب و إن يغلب الهوى *** فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
- في هذه الأبيات غناء ينسب - يقول فيها في هجاء حكم:
لقد طال حبس الوفد وفد محارب *** عن المجد لم يأذن لهم بعد حاجبه
و قال لهم كرّوا فلست بآذن *** لكم أبدا أو يحصي التّرب حاسبه
و هي قصيدة طويلة:
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني جلال(2) بن عبد العزيز المرّيّ ثم الصادريّ عن أبيه:
- قال جلال: و قد رأيت ابن ميّادة في بيت أبي، قال: قال لي ابن/ميّادة: وصلت أنا و الشعراء إلى الوليد بن يزيد و هو خليفة. و كان مولى من موالي خرشة/يقال له شقران يعيب ابن ميّادة و يحسده على مكانه من الوليد، فلما اجتمعت الشعراء قال الوليد بن يزيد لشقران: يا شقران، ما علمك في ابن ميّادة ؟ قال علمي فيه يا أمير المؤمنين أنّه:
لئيم يباري فيه أبرد نهبلا *** لئيم أتاه اللؤم من كلّ جانب
فقال الوليد: يا بن ميّادة، ما علمك في شقران ؟ قال: علمي يا أمير المؤمنين أنّه عبد لعجوز من خرشة كاتبته على أربعين درهما و وعدها - أو قال: وعدته - أن تجيزه بعشرين درهما فقبّضته(3) إيّاها، فأغنه عنّي يا أمير المؤمنين، فليس له أصل(4) فاحتفره و لا فرع فأهتصره، فقال له الوليد: اجتنبه يا شقران فقد أبلغ إليك في الشّتيمة،
ص: 532
فقصر شقران صاغرا، ثم أنشدته، فأقيمت الشعراء جميعا غيري، و أمر لي بمائة لقحة و فحلها و راعيها و جارية بكر و فرس عتيق(1) فاختلت ذلك اليوم و قلت:
أعطيتني مائة صفرا مدامعها(2) *** كالنخل زيّن أعلى نبته الشّرب(3)
و يروى:
كأنها النخل روّى نبتها الشّرب(4)
/يسوقها يافع جعد مفارقه
مثل الغراب غذاه الصّرّ و الحلب
و ذا سبيب(5) صهيبيّا له عرف
و هامة ذات فرق نابها(6) صخب
و لم يذكر الزّبير في خبره غير هذه الأبيات الثلاثة، و هي من قصيدة للرّماح طويلة يمدح فيها الوليد بن يزيد، و قد أجاد فيها و أحسن؛ و ذكرت من مختارها هاهنا طرفا، و أوّلها:
هل تعرف الدار بالعلياء غيّرها *** سافي الرّياح و مستنّ (7) له طنب
دار لبيضاء مسودّ مسائحها *** كأنّها ظبية ترعى و تنتصب
المسائح: ما بين الأذن إلى الحاجب من الشّعر: تقف إذا ارتاعت منتصبة تتوجّس(8).
تحنو لأكحل ألقته بمضيعة *** فقلبها شفقا من حوله يجب(9)
يقول فيها:
يا أطيب الناس ريقا بعد هجعتها *** و أملح الناس عينا حين تنتقب
ليست تجود بنيل حين أسألها *** و لست عند خلاء اللّهو أغتصب
في مرفقيها إذا ما عونقت جمم(10) *** على الضّجيع و في أنيابها شنب
و ليلة ذات أهوال كواكبها *** مثل القناديل فيها الزّيت و العطب(11)
ص: 533
قد جبتها جوب ذي المقراض(1) ممطرة(2) *** إذا استوى مغفلات(3) البيد و الحدب(4)
بعنتريس(5) كأن الدّبر(6) يلسعها *** إذا ترنّم حاد خلفها طرب
إلى الوليد أبي العبّاس(7) ما عجلت *** و دونه المعط(8) من لبنان(9) و الكثب
و بعد هذا البيت قوله:
أعطيتني مائة صفرا مدامعها
الخ.
لمّا أتيتك من نجد و ساكنه *** نفحت لي نفحة طارت بها العرب
إنّي امرؤ أعتفي(10) الحاجات أطلبها *** كما اعتفى سنق يلقى له العشب
/السّنق: الذي قد شبع حتّى بشم، يقول: أطلب الحاجة بغير حرص و لا كلب، كما يعتفي هذا البعير البشم من غير شره و لا شدّة طلب.
و لا ألحّ على الخلاّن أسألهم *** كما يلحّ بعظم الغارب القتب
و لا أخادع ندماني(11) لأخدعه *** عن ماله حين يسترخي به اللّبب(12)
/و أنت و ابناك لم يوجد لكم مثل *** ثلاثة كلّهم(13) بالتاج معتصب
الطّيبون إذا طابت نفوسهم *** شوس(14) الحواجب و الأبصار إن غضبوا
ص: 534
قسني إلى شعراء الناس كلّهم *** و ادع الرّواة إذا ما غبّ (1) ما اجتلبوا(2)
إنّي و إن قال أقوام مديحهم *** فأحسنوه و ما حابوا(3) و ما كذبوا
أجري أمامهم جري امرئ فلج(4) *** عنانه حين يجري ليس يضطرب
أخبرني يحيى بن عليّ قال أخبرنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال أخبرني أبو الحسن - أظنّه المدائنيّ - قال أخبرني أبو صالح الفزاريّ قال:
أقبل شقران مولى بني سلامان بن سعد هذيم أخي عذرة بن سعدا بن هذيم(5)، قال: و هذيم عبد حبشيّ كان حضن سعدا فغلب عليه، و هو ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة من اليمامة و معه تمر قد امتاره - فلقيه ابن ميّادة فقال له: ما هذا معك ؟ قال: تمر امترته لأهلي يقال له: زبّ ربّاح(6)، فقال له ابن ميّادة يمازحه:
كأنّك لم تقفل لأهلك(7) تمرة *** إذا أنت لم تقفل بزبّ رباح
/فقال له شقران:
فإن كان هذا زبّه فانطلق به *** إلى نسوة سود الوجوه قباح
فغضب ابن ميّادة و أمضّه(8) و أنحى عليه بالسوط فضربه ضربات و انصرف مغضبا؛ فكان ذلك سبب الهجاء بينهما.
قال حمّاد عن أبيه و حدّثني أبو عليّ الكلبيّ قال:
اجتمع ابن ميّادة و شقران مولى بني سلامان عند الوليد بن يزيد، فقال ابن ميّادة: يا أمير المؤمنين، أ تجمع بيني و بين هذا العبد و ليس بمثلي في حسبي و لا نسبي و لا لساني و لا منصبي! فقال شقران:
لعمري لئن كنت ابن شيخي عشيرتي *** هرقل و كسرى ما أراني مقصّرا
ص: 535
و ما أتمنّى أن أكون ابن نزوة(1) *** نزاها ابن(2) أرض لم تجد متمهّرا(3)
على(4) حائل تلوي الصّرار(5) بكفّها *** فجاءت بخوّار(6) إذا عضّ جرجرا(7)
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير بن بكّار و أخبرنا يحيى بن عليّ عن أبي أيّوب المدينيّ ، عن زبير(8) قال حدّثني جلال بن عبد العزيز و قال يحيى بن خلاّد عن أبي أيّوب ابن عبد العزيز قال:
/استأذن ابن ميّادة على الوليد بن يزيد و عنده شقران مولى قضاعة فأدخله في صندوق و أذن لابن ميّادة؛ فلمّا دخل أجلسه على الصّندوق و استنشده هجاء شقران فجعل ينشده، ثم أمر بفتح الصّندوق فخرج عليه شقران و جعل يهدر كما يهدر الفحل و يقول:
سأكعم(9) عن قضاعة كلب قيس *** على حجر فينصت للكعام
أسير أمام قيس كلّ يوم *** و ما قيس بسائرة أمامي
/و قال أيضا و هو يسمع:
إنّي إذا الشعراء لاقى بعضهم *** بعضا ببلقعة يريد نضالها
وقفوا لمرتجز الهدير(10) إذا دنت *** منه البكارة(11) قطّعت أبوالها
فتركتهم زمرا ترمّز(12) باللّحى *** منها عنافق(13) قد حلقت سبالها(14)
فقال له ابن ميّادة: يا أمير المؤمنين اكفف عنّي هذا الذي ليس له أصل فأحفره، و لا فرع فأهصره؛ فقال الوليد: أشهد أنّك قد جرجرت كما قال شقران:
ص: 536
فجاءت بخوّار إذا عضّ جرجرا
قال يحيى في خبره: و اجتمع ابن ميّادة و عقال بن هاشم بباب الوليد بن يزيد، و كان عقال شديد الرأي في اليمن، فغمز(1) عقال ابن ميّادة و اعتلاه؛ فقال ابن ميّادة:
فجرنا ينابيع الكلام و بحره *** فأصبح فيه ذو الرّواية يسبح
و ما الشّعر إلاّ شعر قيس و خندف *** و قول سواهم كلفة و تملّح(2)
فقال عقال يجيبه:
ألا أبلغ الرّمّاح نقض مقالة *** بها خطل الرّمّاح أو كان(3) يمزح
لئن كان في قيس و خندف ألسن *** طوال و شعر سائر ليس يقدح(4)
لقد خرق الحيّ اليمانون قبلهم *** بحور الكلام تستقى و هي تطفح(5)
و هم علّموا من بعدهم فتعلّموا *** و هم أعربوا هذا الكلام و أوضحوا
فللسابقين الفضل لا يجحدونه *** و ليس لمخلوق عليهم تبجّح(6)
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا جلال بن عبد العزيز عن أبيه قال حدّثني ابن ميّادة قال:
قلت و أنا عند الوليد بن يزيد بأباين - و هو موضع كان الوليد ينزله في الربيع -:
لعمرك إني نازل بأباين *** لصوأر(7) مشتاق و إن كنت مكرما
أبيت كأنّي أرمد العين ساهر *** إذا بات أصحابي من الليل نوّما
/قال: فقال لي الوليد: يا ابن ميّادة كأنّك غرضت(8) من قربنا، فقلت: ما مثلك يا أمير المؤمنين يغرض من قربه، و لكن:
ص: 537
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** بحرّة(1) ليلى حيث ربّتني(2) أهلي
و هل أسمعنّ الدهر أصوات هجمة(3) *** تطالع من هجل(4) خصيب إلى هجل
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي *** و قطّعن عنّي حين أدركني عقلي
فإن كنت عن تلك المواطن حابسي *** فأيسر عليّ الرزق و اجمع إذا شملي
فقال: كم الهجمة ؟ قلت: مائة ناقة؛ فقال: قد صدرت بها كلّها عشراء(5). قال ابن ميّادة: فذكرت ولدانا لي بنجد إذا استطعموا اللّه عزّ و جلّ أطعمهم و أنا، و إذا استسقوه سقاهم اللّه و أنا، و إذا استكسوه كساهم اللّه و أنا، فقال: يا ابن ميّادة، و كم ولدانك ؟ فقلت: سبعة عشر، منهم عشرة نفر و سبع نسوة، فذكرت ذلك منهم فأخذ بقلبي؛ فقال: يا ابن ميّادة، قد أطعمهم اللّه/و أمير المؤمنين، و سقاهم اللّه و أمير المؤمنين، و كساهم اللّه و أمير المؤمنين؛ أمّا النساء فأربع حلل مختلفات الألوان، و أمّا الرجال فثلاث حلل مختلفات الألوان، و أمّا السّقي فلا أرى مائة لقحة إلاّ سترويهم، فإن لم تروهم زدتهم عينين من الحجاز؛ قلت: يا أمير المؤمنين، لسنا/بأصحاب عيون يأكلنا بها البعوض، و تأخذنا بها الحمّيات؛ قال: فقد أخلفها اللّه عليك؛ كلّ عام لك فيه مثل ما أعطيتك العام: مائة لقحة و فحلها و جارية بكر و فرس عتيق.
و أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال حدّثني شدّاد بن عقبة عن عبد السلام ابن القتّال قال:
عارضني ابن ميّادة فقال: أنشدني يا ابن القتّال، فأنشدته:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** بصحراء ما بين التّنوفة(6) و الرّمل
و هل أزجرنّ العيس شاكية الوجى(7) *** كما عسل(8) السّرحان بالبلد المحل
و هل أسمعنّ الدهر صوت حمامة *** تغنّي حمامات على فنن(9) جثل
ص: 538
و هل أشربنّ الدهر مزن(1) سحابة *** على ثمد(2) الأفعاة(3) حاضره أهلي
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي *** و قطّعن عنّي حين أدركني عقلي
قال: فأتاني الرّواة بهذا البيت و قد اصطرفه(4) ابن ميّادة وحده.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال حدّثني رجل من كلب و أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى عن حمّاد(5) عن أبيه عن أبي عليّ الكلبيّ قال:
أمر الوليد بن يزيد لابن ميّادة بمائة من الإبل من صدقات بني كلب، فلمّا أتى الحول أرادوا أن يبتاعوها له من الطرائد، و هي الغرائب، و أن يمسكوا التّلاد(6)؛ فقال ابن ميّادة:
أ لم يبلغك أنّ الحيّ كلبا *** أرادوا في عطيّتك ارتدادا
و قالوا(7) إنّها صهب(8) و ورق(9) *** و قد أعطيتها دهما(10) جعادا(11)
فعلموا أنّ الشعر سيبلغ الوليد فيغضبه؛ فقالوا له: انطلق فخذها صفرا جعادا.
و قال يحيى بن عليّ في روايته: لما قتل الوليد بن يزيد قال ابن ميّادة يرثيه:
ص: 539
/
ألا يا لهفتيّ على وليد(1)*** غداة أصابه القدر المتاح(2)
أ لا أبكي الوليد فتى قريش *** و أسمحها إذا عدّ السّماح
و أجبرها لذي عظم مهيض(3)*** إذا ضنّت بدرّتها اللّقاح
لقد فعلت بنو مروان فعلا *** و أمرا ما يسوغ به القراح(4)
قال يحيى: و غنّى فيه عمر الوادي و لم يذكر طريقة غنائه.
أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا محمد بن زهير بن مضرّس(5) الفزاريّ عن أبيه قال:
أخصب جناب الحجاز الشاميّ فمالت لذلك الخصب بنو فزارة و بنو مرّة، فتحالّوا(6) جميعا به. قال: فبينا ذات يوم(7) أنا و ابن ميّادة جالسان على قارعة الطريق عشاء إذا راكبان يوجفان(8) راحلتين حتّى وقفا علينا، فإذا أحدهما بحر(9) الريح و هو عثمان بن عمرو بن عثمان بن عفان معه مولى له، فنسبنا(10) و انتسب لنا، و قد كان ابن ميّادة/يعلّلني(11)/بشعره، فلمّا انقضى كلامنا مع القرشيّ و مولاه/استعدت ابن ميّادة ما كنّا فيه، فأنشدني فخرا له يقول فيه:
و على المليحة(12) من جذيمة فتية *** يتمارضون(13) تمارض الأسد
و ترى الملوك الغر تحت قبابهم *** يمشون في الحلقات و القدّ(14)
قال: فقال له القرشيّ : كذبت؛ قال ابن ميّادة: أ في هذا وحده! أنا و اللّه في غيره أكذب؛ فقال له القرشيّ : إن
ص: 540
كنت تريد في مديحك قريشا فقد كفرت بربّك و دفعت قوله، ثم قرأ عليه: (لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ ) حتّى أتى على آخرها، و نهض هو و مولاه و ركبا راحلتيهما؛ فلمّا فاتا أبصارنا قال ابن ميّادة:
سمين قريش مانع منك نفسه *** و غثّ قريش حيث كان سمين
أخبرنا يحيى بن عليّ عن حمّاد عن أبيه عن أبي الحارث المرّي قال:
كان ابن ميّادة قد هاجى سنان بن جابر أحد بني حميس بن عامر بن جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم؛ فقال ابن ميّادة له فيما قال من هجائه:
لقد طالما علّلت حجرا و أهله *** بأعراض قيس يا سنان بن جابر
أ أهجو قريشا ثم تكره ريبتي *** و يسرقني عرضي حميس بن عامر
/قال: و قال فيهم أيضا:
قصار الخطى فرق(1) الخصى زمر اللّحى(2) *** كأنهم ظربى(3) اهترشن على لحم
ذكرت حمام القيظ لما رأيتهم *** يمشّون(4) حولي في ثيابهم الدّسم(5)
و تبدي الحميسيّات في كلّ زينة *** فروجا كآثار الصّغار من البهم
قال: ثم إنّ ابن ميّادة خرج يبغي إبلا له حتى ورد جبارا(6) - و هو ماء لحميس بن عامر - فأتى بيتا فوجد فيه عجوزا قد أسنّت، فنشدها إبله فذكرتها له و قالت: ممن أنت ؟ قال: رجل من سليم بن منصور؛ فأذنت له و قالت:
ادخل حتى نقريك و قد عرفته و هو لا يدري؛ فلمّا قرته قال ابن ميّادة: وجدت ريح الطّيب قد نفح عليّ من البيت، فإذا(7) بنت لها قد هتكت السّتر، ثم استقبلتني و عليها إزار أحمر و هي مؤتزرة به، فأطلقته و قالت: انظر يا ابن ميّادة الزانية! أ هذا كما نعتّ ! فلم أر امرأة أضخم قبلا منها؛ فقالت: أ هذا كما قلت!:
و تبدي الحميسيّات في كلّ زينة *** فروجا كآثار الصّغار من البهم
/قال: قلت: لا و اللّه يا سيّدتي، ما هكذا قلت و لكن قلت:
و تبدي الحميسيّات في كلّ زينة *** فروجا كآثار المقيسرة(8) الدّهم
ص: 541
و انصرف يتشبّب(1) بها، فذلك حين يقول:
نظرنا فهاجتنا على الشّوق و الهوى *** لزينب نار أوقدت بجبار
كأنّ سناها لاح لي من خصاصة *** على غير قصد و المطيّ سواري
حميسيّة بالرملتين محلّها *** تمدّ بحلف بيننا و جوار
قال أبو داود(2): و كانت بنو حميس حلفاء لبني سهم بن مرّة، ثم للحصين بن الحمام. و تمدّ و تمت واحد.
تجاور من سهم بن مرّة نسوة *** بمجتمع النقبين(3) غير عواري
نواعم أبكارا كأنّ عيونها *** عيون ظباء أو عيون صوار(4)
كأنّا نراها و هي منّا قريبة *** على متن عصماء(5) اليدين نوار(6)
تتبّع من حجر(7) ذرا متمنّع *** لها معقل في رأس كلّ طمار(8)
/يدور بها ذو أسهم لا ينالها *** و ذو كلبات كالقسيّ ضواري(9)
كأنّ على المتنين منها وديّة(10) *** سقتها السواقي من وديّ دوار(11)
يظلّ سحيق المسك(12) يقطر حولها *** إذا الماشطات احتفنه(13) بمداري
و ما روضة خضراء يضربها الندى *** بها قنّة من حنوة و عرار(14)
بأطيب من ريح القرنفل ساطعا *** بما التفّ من درع لها و خمار
ص: 542
و ما ظبية ساقت لها الريح نغمة(1) *** على غفلة فاستسمعت لخوار(2)
بأحسن منها يوم قامت فأتلعت(3) *** على شرك(4) من روعة و نفار
فليتك يا حسناء يا ابنة مالك *** يبيع لنا منك المودّة شاري(5)
و أخبرني بهذا الخبر الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني أبو حرملة منظور بن أبي عديّ الفزاري ثم المنظوريّ عن أبيه قال حدّثني رمّاح بن أبرد قال:
/خرجت قافلا من السّلع(6) إلى نجد حتى إذا كنت ببعض أهضام(7) الحرّة (هكذا(8) في نسختي، و أظنّه هضاب(9) الحرّة) رفع لي بيت كالطّراف(10) العظيم، و إذا بفنائه غنم لم تسرح، فقلت: بيت من بيوت بني مرّة و بي من العيمة(11) إلى اللبن ما ليس بأحد، فقلت: آتيهم فأسلّم عليهم و أشرب من لبنهم، فلما كنت غير بعيد سلّمت فردّت عليّ امرأة برزة(12) بفناء البيت، و حيّت و رحّبت و استنزلتني فنزلت، فدعت بلبن و لبأ و رسل(13) من رسل تلك الغنم، ثم قالت: هيا فلانة البسي شفّا(14) و اخرجي، فخرجت عليّ جارية(15) كأنّها شمعة ما رأيت في الخلق لها نظيرا قبل و لا بعد، فإذا شفّها ذاك ليس/يواري منها شيئا و قد نبا عن ركبها(16) ما وقع عليه من
ص: 543
الثوب(1) فكأنّه قعب(2) مكفأ، ثم قالت: يا ابن ميّادة الخبيثة، أ أنت القائل:
و تبدي الحميسيّات في كلّ زينة *** فروجا كآثار الصّغار من البهم ؟
فقلت: لا و اللّه جعلني اللّه فداك يا سيّدتي - ما قلت هذا قط، و إنمّا قلت:
و تبدي الحميسيّات في كلّ زينة *** فروجا كآثار المقيسرة الدهم
قال: و كان يقال للجارية الحميسيّة: زينب بنت مالك، و فيها قال ابن ميّادة قصيدته:
ألمّا فزورا اليوم خير مزار
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكار قال حدّثني موهوب ابن رشيد الكلابيّ قال:
أعطى الوليد بن يزيد ابن ميّادة جارية طبريّة(3) أعجميّة لا تفصح، حسناء جميلة كاملة لو لا العجمة، فعشقها و قال فيها:
جزاك اللّه خيرا من أمير *** فقد أعطيت مبرادا سخونا
/بأهلي ما ألذّك عند نفسي *** لو انّك بالكلام تعرّبينا
كأنّك ظبية مضغت أراكا *** بوادي الجزع حين تبغّمينا(4)
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني إسحاق بن شعيب بن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال:
/وردت على بني فزارة ساعيا(5)، فأتاني ابن ميّادة مسلّما عليّ ، و جاءتني بنو فزارة و معها رجل من بني جعفر بن كلاب كان لهم جارا و كان مخطّطا(6) موسوما بجمال، فلمّا رأيته أعجبني، فأقبلت على بني فزارة و قلت لهم: أي أخوالي هذا؟ فو اللّه إنّه ليسرّني أن أرى فيكم مثله؛ فقالوا: هذا - أمتع اللّه بك - رجل من بني جعفر بن كلاب و هو لنا جار. قال: فأصغى إليّ ابن ميّادة، و كان قريبا منّي، و قال: لا يغرنّك - بأبي أنت - ما ترى من جسمه فإنّه أجوف لا عقل له؛ فسمعه الجعفريّ فقال: أ فيّ تقع يا ابن ميّادة و أنت لا تقري ضيفك ؟ فقال له ابن ميّادة: إن لم أقره قراه ابن عمّي و أنت لا تقري و لا ابن عمّك. قال ابن عمران(7): فضحكت مما شهد(8) به ابن ميّادة على نفسه.
ص: 544
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن إسماعيل الجعفريّ عن المعلّى بن نوح(1) الفزاريّ قال حدّثني خال لي كان شريفا من سادات بني فزارة قال:
ضفت ابن ميّادة فأكرمني و تحفّى بي(2) و فرّغ لي بيتا فكنت فيه ليس معي أحد، ثم جاءني بقدح ضخم من لبن إبله فشربته ثم ولّى، فلم ينشب أن جاءني بآخر فتناولت منه شيئا يسيرا، فما لبثت حتّى عاد بآخر فقلت: حسبك يا رمّاح فلا حاجة لي بشيء؛ فقال: اشرب بأبي أنت، فو اللّه لربّما بات الضيف عندنا مدحورا(3).
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي مصعب عن جدّي عبد اللّه بن مصعب قال:
/أتينا ابن ميّادة نتلقّى منه الشعر؛ فقال لنا: هل لكم في فضل شنّة ؟(4) فظننّاها تمرا، فقلنا له: هات، لنبسطه(5) بذلك، فإذا شنّة فيها فضلة من خمر قد شرب بعضها و بقي بعض، فلمّا رأيناها قمنا و تركناه.
أخبرنا الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني إبراهيم بن عبد الرحمن الكثيريّ قال حدّثني نعمة(6) الغفاريّ قال:
قدم ابن ميّادة المدينة فدعي في وليمة فجاء فوجد على باب الدار التي فيها الوليمة حرسا يضربون الزّلالين(7)بالسّياط يمنعونهم من الدخول، فرجع و هو يقول:
و لمّا رأيت الأصبحيّة(8) قنّعت(9) *** مفارق شمط حيث تلوى العمائم
تركت دفاع الباب عمّا وراءه *** و قلت صحيح من نجا و هو سالم
أخبرني يحيى بن عليّ عن أبيه عن إسحاق قال:
قال الوليد بن يزيد لابن ميّادة في بعض وفاداته عليه: من تركت عند نسائك ؟ قال: رقيبين لا يخالفاني طرفة عين: الجوع و العري. و هذا القول و الجواب يروى(10) أنّ عمر بن عبد العزيز و عقيل بن علّفة تراجعاهما، و قد ذكرا في أخبار عقيل.
ص: 545
/
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب و أخبرني محمّد بن مزيد قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الزّبير و أخبرنا يحيى بن عليّ قال: حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ عن مصعب:
أنّ ابن ميّادة مدح أبا جعفر المنصور بقصيدته التي يقول فيها:
طلعت علينا العيس بالرّمّاح
ثم/خرج من عند أهله يريده، فمرّ على إبله فحلبت له ناقة من إبله، و راح عليه راعيه بلبنها فشربه ثم مسح على بطنه ثم قال: سبحان اللّه! إنّ هذا لهو الشّره! يكفيني لبن بكرة و أنا شيخ كبير، ثم أخرج(1) و أغترب في طلب المال! ثم رجع فلم يخرج. هذه القصيدة من جيّد شعر ابن ميّادة، أوّلها:
و كواعب(2) قد قلن يوم تواعد(3) *** قول المجدّ و هنّ كالمزّاح
يا ليتنا(4) في غير أمر فادح(5) *** طلعت علينا العيس بالرّمّاح
بينا كذاك رأينني متعصّبا *** بالخزّ فوق جلالة سرداح(6)
فيهنّ صفراء المعاصم طفلة(7) *** بيضاء مثل غريضة(8) التّفّاح
/فنظرن من خلل الحجال بأعين *** مرضى مخالطها السّقام صحاح
و ارتشن(9) حين أردن أن يرمينني *** تبلا بلا ريش و لا بقداح
يقول فيها في مدح المنصور و بني هاشم:
فلئن بقيت لألحقنّ بأبحر *** ينمين لا قطع(10) و لا أنزاح(11)
و لآتينّ بني عليّ (12) إنّهم *** من يأتهم يتلقّ بالإفلاح
قوم إذا جلب الثناء إليهم *** بيع الثناء هناك بالأرباح
ص: 546
و لأجلسنّ إلى الخليفة إنّه *** رحب الفناء بواسع بحباح
و هي قصيدة طويلة.
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثنا إسحاق بن أيّوب بن سلمة قال: اعتمرت في رجب سنة خمس و مائة، فصادفني ابن ميّادة بمكة و قدمها معتمرا، فأصابنا مطر شديد تهدّمت منه البيوت و توالت فيه الصواعق، فجلس إليّ ابن ميّادة الغد من ذلك اليوم(1)، فجعل يأتيني قوم من قومي و غيرهم فأستخبرهم عن ذلك الغيث فيقولون: صعق فلان و انهدم منزل فلان؛ فقال ابن ميّادة: هذا العيث(2) لا الغيث؛ فقلت: فما الغيث عندك ؟ فقال:
سحائب لا من صيّب(3) ذي صواعق *** و لا محرقات ماؤهنّ حميم
إذا ما هبطن الأرض قد مات(4) عودها *** يكين بها حتّى يعيش هشيم
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني موسى بن زهير عن أبيه قال: جلست أنا و عيسى بن عميلة و ابن ميّادة ذات يوم، فأنشدنا ابن ميّادة شعره مليّا، ثم أنشدنا قوله:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** بحرّة ليلى حيث ربّتني أهلي
بلاد بها نيطت عليّ تمائمي *** و قطّعن عنّي حين أدركني عقلي
و هل أسمعنّ الدهر أصوات هجمة *** تطالع من هجل خصيب إلى هجل
صهيبيّة صفراء تلقي رباعها *** بمنعرج الصّمّان(5) و الجرع(6) السهل
تلقى رباعها: تطرح أولادها. و واحد الرباع ربع.
و هل أجمعنّ الدهر كفّيّ جمعة *** بمهضومة الكشحين ذات شوى(7) عبل
/محلّلة لي لا حراما(8) أتيتها *** من الطيبات حين تركض في الحجل(9)
ص: 547
تميل إذا مال الضجيع بعطفها *** كما مال(1) دعص من ذرا عقد(2) الرمل
فقال له عيسى بن عميلة: فأين قولك يا أبا الشّرحبيل:
لقد حرّمت أمّي عليّ عدمتها *** كرائم قومي ثمّ قلّة ماليا
/فقلت له: فاعطف إذا إلى أمة بني سهيل فهي أعند و أنكد، و قد كنت أظنّ أن ميّادة قد ضربت جأشك(3)على اليأس من الحرائر، و أنا أداعبه و أضاحكه؛ فضحك و قال:
أ لم تر قوما ينكحون بمالهم *** و لو خطبت أنسابهم(4) لم تزوّج
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني عمّي مصعب و غيره:
أنّ حسينة اليساريّة كانت جميلة - و آل يسار من موالي عثمان رضوان اللّه عليه يسكنون تيماء، و لهم هناك عدد و جلد، و قد انتسبوا في كلب إلى يسار بن أبي هند فقبلهم(5) بنو كلب - قال: و كانت عند رجل من قومها يقال له: عيسى بن إبراهيم بن يسار، و كان ابن ميّادة يزورها؛ و فيها يقول:
ستأتينا حسينة حيث شئنا *** و إن رغمت أنوف بني يسار
قال: فدخل عليها زوجها يوما فوجد ابن ميّادة عندها، فهمّ به هو و أهلها؛ فقاتلهم و عاونته عليهم حسينة حتى أفلت ابن ميّادة؛ فقال في ذلك:
لقد ظلّت تعاونني عليهم *** صموت الحجل كاظمة السّوار(6)
و قد غادرت عيسى و هو كلب *** يقطّع سلحه خلف الجدار
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى قال حدّثني إبراهيم بن سعد(7) بن شاهين قال حدّثني عبد اللّه بن خالد بن دفيف التّغلبيّ عن عثمان بن عبد الرحمن بن نميرة العدويّ عن أبي العلاء بن وثّاب قال:
/
قدم ابن ميّادة المدينة زائرا لعبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك و هو أميرها و كان يسمر عنده في الليل، فقال عبد الواحد لأصحابه: إنّي أهمّ أن أتزوّج، فابغوني(8) أيّما؛ فقال له ابن ميّادة: أنا أدلّك، أصلحك اللّه أيها
ص: 548
الأمير؛ قال: على من يا أبا الشّرحبيل ؟ قال: قدمت عليك أيها الأمير فدخلت مسجدكم فإذا أشبه شيء به و بمن فيه الجنة و أهلها، فو الله لبينا أنا أمشي فيه إذ قادتني رائحة عطر رجل حتى وقفت بي عليه، فلمّا وقع بصري عليه استلهاني(1) حسنه فما أقلعت عنه حتّى تكلّم، فخلته لمّا تكلّم يتلو زبورا و يدرس إنجيلا أو يقرأ قرآنا حتّى سكت فلو لا معرفتي بالأمير لشككت أنّه هو، ثم خرج من مصلاّه إلى داره، فسألت: من هو؟ فأخبرت أنّه للحيّين و بين(2)الخليفتين، و أن قد نالته ولادة من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لها [نور](3) ساطع من غرّته و ذؤابته، فنعم المنكح و نعم حشو الرحل و ابن العشيرة، فإن اجتمعت أنت و هو على ولد ساد العباد و جاب ذكره البلاد. فلمّا قضى ابن ميّادة كلامه قال عبد الواحد و من حضره: ذاك محمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، و أمّه فاطمة بنت الحسين، فقال ابن ميّادة:
لهم نبوة(4) لم يعطها اللّه غيرهم *** و كلّ قضاء اللّه فهو(5) مقسّم
/قال يحيى بن عليّ : و ممّا مدح به عبد الواحد لمّا قدم عليه قوله:
من كان أخطأه الربيع فإنما *** نصر(6) الحجاز بغيث عبد الواحد
إنّ المدينة أصبحت معمورة *** بمتوّج حلو الشمائل ماجد
/و لقد بلغت بغير أمر تكلّف *** أعلى الحظوظ برغم أنف الحاسد
و ملكت ما بين العراق و يثرب *** ملكا أجار لمسلم و معاهد
ماليهما و دميهما من بعد ما *** غشّى الضعيف شعاع سيف المارد
أخبرني الحرميّ قال حدّثنا الزبير قال حدّثني سعيد بن زيد السّلمي قال:
إنّا لنزول أنا و أصحاب لي قبل الفطر بثلاث ليال على ماء لنا، فإذا راكب يسير على جمل ملتفّ بثوب و السماء تغسله حتى أناخ إلى أجم عرفته، فلمّا رأيناه لثقا(7) قمنا إليه فوضعنا رحله و قيّدنا جمله، فلمّا أقلعت السماء عنّا و هو معنا قاعد قام غلمة منّا يرتجزون(8) و الرّجل لم ينتسب لنا و لا عرفناه، فارتجز أحدهم فقال:
أنا ابن ميّادة لباس الحلل *** أمرّ من مرّ و أحلى من عسل
ص: 549
حتى قال له الرّجل: يا ابن أخي، أ تدري، من قال هذا الشعر؟ قال: نعم، ابن ميادة قال: فأنا [هو](1)ابن ميّادة الرّمّاح بن أبرد، و بات يعلّلنا من شعره، و يقطع عنّا الليل بنشيده، و سرينا راحلين فصبّحنا مكة فقضينا نسكنا، و لقيه رجلان من قومه من بني مرّة فعرفهما و عرفاه، و أفطرنا بمكة، فلما انصرفنا من المسجد يوم الفطر إذا نحن بفارسين مسودين و راجلين مع المرّيّين يقولون: أين ابن ميّادة ؟ فقلنا: ها هو و قد برزنا من خيمة كنّا فيها، فقلنا لابن ميّادة: ابرز؛ فلما نظر إلى المرّيّين قال:
إحدى عشيّاتك يا شميرج
/ - قال: و هذا رجز لبعض بني سليم يقوله لفرسه:
أقول و الرّكبة فوق المنسج(2) *** إحدى عشيّاتك يا شميرج
و يروى: مشمرج - فقالوا لابن ميّادة: أجب الأمير عبد الصمد بن عليّ ، و خذ معك من أصحابك من أحببت؛ فخرج و خرج معه منّا أربعة نفر أنا أحدهم حتى وقفنا على باب دار النّدوة(3)، فدخل أحد المسوّدين، ثم خرج فقال: ادخل يا أبا شجرة، فدخلت على عبد الصمد بن عليّ فوجدته جالسا متوشّحا بملحفة مورّدة(4)؛ فقال لي:
من أنت ؟ قلت: رجل من بني سليم؛ فقال: مالك تصاحب المرّيّ و قد قتلوا معاوية بن عمرو! و قالت الخنساء:
ألا ما لعيني ألا ما لها *** لقد أخضل الدمع سربالها
فآليت آسى(5) على هالك *** و أسأل نائحة ما لها
أبعد ابن عمرو من آل الشّري *** د حلّت(6) به الأرض أثقالها
فإن تك مرّة أودت به *** فقد كان يكثر تقتالها
/أ ترويها؟ قلت: نعم أصلح اللّه الأمير، و ما زال من المعركة حتى قتل به خفاف بن عمرو(7) المعروف
ص: 550
بابن ندبة كبش القوم مالك بن حمار(1) الفزاريّ ثم الشّمخيّ (2)، أ ما سمع الأمير قول خفاف بن ندبة في ذلك:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها *** فعمدا على عين(3) تيمّمت مالكا
تيمّمت كبش(4) القوم حين رأيته *** و جانبت شبّان الرّجال الصّعالكا
أقول له و الرمح يأطر(5) متنه *** تأمّل خفافا إنّني أنا ذلكا(6)
و قد توسّط معاوية بن عمرو خيلهم فأكثر فيهم القتل، و قتل كبش القوم الذي أصيب بأيديهم؛ فقال: للّه درّك! إذا ولدت النساء فليلدن مثلك! و أمر لي بألف درهم، فدفعت إليّ و خلع عليّ . و أدخل ابن ميّادة فسلّم عليه بالإمرة؛ فقال له: لا سلّم اللّه عليك يا ماصّ كذا من(7) أمه: فقال ابن ميّادة: ما أكثر الماصّين! فضحك عبد الصّمد، و دعا بدفتر فيه قصيدة ابن ميّادة التي يقول فيها:
لنا الملك إلاّ أنّ شيئا تعدّه *** قريش و لو شئنا لداخت(8) رقابها
ثم قال لابن ميّادة: أعتق ما أملك إن غادرت منها شيئا إن لم أبلغ غيظك، فقال ابن ميّادة: أعتق ما أملك إن أنكرت منها بيتا قلته أو أقررت ببيت لم أقله؛ فقرأها عبد الصّمد ثم قال له: أ أنت قلت هذا؟ قال نعم؛ قال: أ فكنت أمنت يا ابن ميّادة أن ينقضّ عليك باز(9) من قريش فيضرب رأسك! فقال: ما أكثر البازين! أ فكان ذلك البازي آمنا أن يلقاه باز(9) من قيس(10) و هو يسير فيرميه فتشول(11) رجلاه! فضحك عبد الصمد ثم دعا بكسوة فكساهم.
سبّ رجل من قريش في أيام بني أميّة بعض ولد الحسن(1) بن عليّ عليهما السلام، فأغلظ له و هو ساكت، و الناس يعجبون من صبره عليه، فلما أطال أقبل الحسنيّ (2) عليه متمثّلا بقول ابن ميّادة:
أ ظنّت سفاها من سفاهة رأيها *** أنّ اهجوها لمّا هجتني محارب
فلا و أبيها إنّني بعشيرتي *** و نفسي عن ذاك المقام لراغب
فقام القرشيّ خجلا و ما ردّ عليه جوابا.
/
أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلاّم قال:
مدح ابن ميّادة جعفر بن سليمان و هو على المدينة، فأخبرني مسمع بن عبد الملك أنه قام له بحاجته عند جعفر و أوصلها إليه. قال فقال [له](3): جزاك اللّه خيرا! ممّن أنت رحمك اللّه ؟ قلت: أحد بني مسمع؛ قال: ممّن ؟ قلت: من قيس بن ثعلبة؛ قال: ممّن ؟ عافاك اللّه! قلت: من بكر بن وائل؛ قال: و اللّه لو كنت سمعت ببكر بن وائل قط(4) أو عرفتهم(5) لمدحتك، و لكني ما سمعت ببكر قطّ و لا عرفتهم، ثم مدح جعفرا فقال:
لعمرك ما سيوف بني عليّ *** بنابية الظّباة(6) و لا كلال(7)
هم القوم الألى ورثوا أباهم *** تراث محمّد غير انتحال
و هم تركوا المقال لهم رفيعا *** و ما تركوا عليهم من مقال
حذوتم قومكم ما قد حذوتم(8) *** كما يحذى المثال على المثال
فردّوا في جراحكم أساكم(9) *** فقد أبلغتم مرّ النّكال
يشير عليه بالعفو عن بني أميّة و يذكّره بأرحامهم.
/أخبرنا بهذا الخبر يحيى بن عليّ عن سليمان المديني عن محمد بن سلاّم، قال يحيى قال أبو الحارث المرّيّ فيما ذكره إسحاق من/أخباره:
ص: 552
قال جعفر بن سليمان لابن ميّادة: أ تحبّ أن أعطيك مثل ما أعطاك ابن عمّك رياح(1) بن عثمان ؟ فقال: لا، أيّها الأمير، و لكن أعطني كما أعطاني ابن عمّك الوليد بن يزيد.
قال يحيى و أخبرنا حماد عن أبيه عن أبي الحارث قال قال جعفر بن سليمان لابن ميّادة: أ أنت الذي تقول:
بني أسد أن تغضوا ثمّ تغضبوا *** و تغضب قريش تحم قيسا غضابها
قال: لا و اللّه! ما هكذا قلت؛ قال: فكيف قلت ؟ قال: قلت:
بني أسد إن تغضبوا ثمّ تغضبوا *** و تعدل قريش تحم قيسا غضابها
قال: صدقت هكذا قلت. و هذه القصيدة يهجو بها ابن ميّادة بني أسد و بني تميم، و فيها يقول بعد هذا البيت الذي ذكره له جعفر بن سليمان:
و أحقر محقور تميم أخوكم *** و إن غضبت يربوعها(2) و ربابها(3)
/ألا ما أبالي أن تخندف(4) خندف *** و لست أبالي أن يطنّ (5) ذبابها
و لو أنّ قيسا قيس عيلان أقسمت *** على الشمس لم يطلع عليكم حجابها
و لو حاربتنا الجنّ لم نرفع القنا *** عن الجنّ حتى لا تهرّ كلابها
لنا الملك إلاّ أنّ شيئا تعدّه *** قريش و لو شئنا لذلّت رقابها
و إن غضبت من ذا قريش فقل لها *** معاذ الإله أن أكون أهابها
و إن لقوّال الجواب و إنني *** لمفتجر(6) أشياء يعيي(7) جوابها
إذا غضبت قيس عليك تقاصرت *** يداك و فات الرّجل منك ركابها
ص: 553
قال إسحاق في خبره فحدّثني جبر(1) بن رباط بن عامر بن نصر قال: فقال سماعة بن أشول(2) النعامي يعارض ابن ميّادة:
لعلّ ابن أشبانيّة عارضت(3) به *** رعاء الشّويّ (4) من مريح و عازب
يسامي فروعا من خزيمة أحرزت *** عليه ثنايا المجد من كل جانب
فقال ابن ميّادة: من هذا؟ لقد أغلق عليّ أغلق اللّه عليه! قالوا: سماعة بن أشول؛ فقال: سماعة يسمّع(5)بي، و أشول يشول(6) بي، و اللّه لا أهاجيه أبدا، و سكت عنه.
و قال عبد الرحمن بن جهيم الأسديّ أحد بني الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد يردّ على ابن ميّادة، و هي قصيدة طويلة ذكرت منها أبياتا:
لقد كذب العبد ابن ميادة الذي *** ربا و هي وسط الشّول تدمى كعابها
شرنبثة(7) الأطراف لم يقن(8) كفّها *** خضاب و لم تشرق بعطر ثيابها
أ رمّاح إن تغضب صناديد خندف *** يهج لك حربا قصبها(9) و اعتيابها
و يروى «اغتيابها» من الغيبة. و «اعتيابها» من العيب.
و لو أغضبت قيس قريشا لجدّعت *** مسامع قيس و هي خضع رقابها
لقد جرّ رمّاح ابن واهصة(10) الخصى *** على قومه حربا عظيما عذابها
و قد علم المملوح بالشؤم رأسه *** قتيبة أن لم تحم قيسا غضابها
و لم تحمها أيام قتل ابن حازم(11) *** و أيام قتلى كان خزيا مصابها
و لا يوم لا قينا نميرا فقتّلت *** نمير و فرّت كعبها و كلابها
ص: 554
و إن تدع قيسا لا تجبك و حولها *** خيول تميم سعدها و ربابها
و لو أنّ قيسا قيس عيلان أصحرت(1) *** لأنواء غنم غرّقتها شعابها
و لو أنّ قرن الشمس كان لمعشر *** لكان لنا إشراقها و احتجابها
و لكنّها للّه يملك أمرها *** بقدرته إصعادها و انصبابها
لعمري لئن شابت حليلة نهبل *** لبئس شباب المرء كان شبابها
/و لم تدر حمراء العجان(2) أ نهبل *** أبوه أم المرّيّ تبّ تبابها
فإن يك رمّاح بن ميّادة التي *** يصنّ (3) إذا باتت بأرض ترابها
جرى جري موهون القوى قصّرت به *** لئيمة أعراق إليه انتسابها
فلن تسبق المضمار(4) في كلّ موطن *** من الخيل عند الجدّ إلاّ عرابها
و و اللّه لو لا أنّ قيسا أذلّة *** لئام فلا يرضى لحرّ سبابها
لالحقتها بالزّنج(5) ثم رميتها *** بشنعاء يعيي القائلين جوابها
أخبرني يحيى بن علي عن حمّاد عن أبيه قال:
وجدت في كتاب أبي عمرو الشّيباني فعرضته على أبي داود فعرفه أو عامّته، قال:
إنّا لجلوس على الهجم(6) في ظلّ القصر عشيّة، إذ أقبل إلينا ثلاثة نفر يقودون ناقة حتى جلسوا إلى أبان بن سعيد بن عيينة بن حصن و هو في جماعة من بني عيينة، قال: فرأيت أجلّة ثلاثة ما رأيتهم قطّ، فقلنا: من القوم ؟ فقال أحدهم: أنا ابن ميّادة و هذان من عشيرتي؛ فقال أبان لأحد بنيه: اذهب بهذه الناقة فأطلق عنها عند بيت أمّك؛ فقال له ابن ميّادة: هذه يا أبا جعفر السّعلاة، أ فلا أنشدك ما قلت فيها؟ قال: بلى فهات؛ فقال:
قعدت على السّعلاة تنفض مسحها(7) *** و تجذب مثل الأيم في برة الصّفر
/تيمّم خير الناس ماء و حاضرا(8) و تحمل حاجات تضمّنها صدري
فإني على رغم الأعادي لقائل *** وجدت خيار الناس حيّ بني بدر
ص: 555
لهم حاضر بالهجم لم أر مثلهم *** من الناس حيّا أهل بدو و لا حضر
و خير معدّ مجلسا مجلس لهم *** يفيء عليه الظلّ من جانب القصر
أخصّ بها روقي عيينة إنه *** كذاك ضحاح(1) الماء يأوي إلى الغمر(2)
فأنتم أحقّ الناس أن تتخيّروا ال *** مياه و أن ترعوا ذرى البلد القفر
قال: فكان أوّل قائم من القوم ركضة بن عليّ بن عيينة، و هو ابن عمّ أبان و عبدة بنت أبان، و كانت إبله في العطن(3) و هي أكرم نعم بني عيينة و أكثره، فقال: ما سمعت كاليوم مديح قوم [قطّ](4)، حكمك ماض في هذه الإبل؛ ثم قام آخر فقال مثل ذلك، و قام آخر و آخر؛ فقال ابن ميّادة: /يا بني عيينة، إني لم آتكم لتتبارى لي شياطينكم في أموالكم، إنما كان عليّ دين فأردت أن تعطوني أبكرا أبيعها في ديني. فأقام عند أبان بن سعيد خمسة عشر يوما، ثم راح بتسع عشرة ناقة، فيها ناقة لابن أبان عشراء أو رباعية. قال يحيى في خبره: و قال يعقوب بن جعفر بن أبان بن سعيد بن عيينة:
إنّي على الهجم يوما إذا أقبل رجل فجعل يصرّف(5) راحلته في الحياض فيردّه الرجل بعد الرجل، فدعوته فقلت:
اشرع(6) في هذا الحوض؛ فلما شرع فسقى(7) قال: من هذا الفتى ؟ فقيل: هذا جعفر بن أبان بن سعيد بن عيينة؛ فقال:
بنو الصالحين الصالحون و من يكن *** لآباء سوء يلقهم حيث سيّرا(8)
فما العود إلا نابت في أرومه(9) *** أبي شجر العيدان أن يتغيّرا
قال إسحاق: سألت أبا داود عن قوله:
كذاك ضحاح(10) الماء يجري إلى الغمر
فقال: أراد أنّ الأمر كلّه و السؤدد يصير إليه، كما يصير الماء إلى الغمرة حيث كانت.
أخبرنا يحيى بن عليّ قال حدثنا أبو أيوب المدينيّ قال أخبرني مصعب بن الزبير قال:
ص: 556
ضاف ابن ميّادة أيّوب بن سلمة فلم يقره، و ابن ميّادة من أخوال أيوب بن سلمة، فقال فيه:
ظللنا وقوفا عند باب ابن أختنا *** و ظلّ عن المعروف و المجد في شغل
صفا صلد(1) عند الندى و نعامة *** إذا الحرب أبدت عن نواجذها العصل(2)
قال أبو أيوب و أخبرني مصعب قال:
قدم ابن ميّادة على رياح(3) بن عثمان، و قد ولي المدينة و هو جادّ في طلب محمد بن عبد اللّه بن حسن و إبراهيم أخيه، فقال له: اتخذ حرسا و جندا من غطفان و اترك هؤلاء العبيد الذين تعطيهم دراهمك، و حذار من قريش؛ فاستخفّ بقوله و لم يقبل رأيه؛ فلمّا قتل رياح قال ابن ميّادة:
/أمرتك يا رياح بأمر حزم *** فقلت هشيمة(4) من أهل نجد
و قلت له تحفّظ من قريش *** و رقّع كلّ حاشية و برد(5)
فوجدا ما وجدت على رياح *** و ما أغنيت شيئا غير وجدي
أخبرني عمّي قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال حدّثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل قال حدّثني أكثم بن صيفيّ (6) المرّيّ ثم الصارديّ عن أبيه قال:
كان ابن ميّادة رأى امرأة من بني جشم بن معاوية ثم من بني حرام يقال لها: أمّ الوليد، و كانوا ساروا عليه(7)، فأعجب بها و قال فيها:
ألا حبّذا أمّ الوليد و مربع(8) *** لنا و لها نشتو به(9) و نصيف
و يروي:
ص: 557
............... و مربع(1) *** لنا و لها بالمشتوى(2) و مصيف
حراميّة أمّا ملاث إزارها *** فوعث(3) و أمّا خصرها فلطيف
/كأنّ القرون السّود مقذّها(4) *** إذا زال عنها برقع و نصيف(5)
بها زرجونات(6) بقفر تنسّمت *** لها الريح حتى بينهنّ رفيف(7)
قال: فلما سمع زوجها هذه الأبيات أتاها فحلف بطلاقها: لئن وجد ابن ميّادة عندها ليدقنّ فخذها، ثم أعرض عنها و اغترّها(8)، حتى وجده يوما عند بيتها فدقّ فخذها، و احتمل/فرحل و رحل بها معه؛ فقال ابن ميّادة:
أتانا عام سار بنو كلاب *** حراميّون ليس لهم حرام
كأنّ بيوتهم شجر صغار *** بقيعان تقيل بها النّعام
حراميّون لا يقرون ضيفا *** و لا يدرون ما خلق الكرام(9)
قال: ثم سارت عليهم بعد ذلك بنو جعفر بن كلاب، فأعجب بامرأة منهم يقال لها أمّ البختريّ ، و كان يتحدّث إليها مدّة مقامهم، ثم ارتحلوا فقال فيها:
أرقت لبرق لا يفتّر لامعه *** بشهب الرّبى و الليل قد نام هاجعه
أرقت له من بعد ما نام صحبتي *** و أعجبني إيماضه و تتابعه
يضيء صبيرا(10) من سحاب كأنّه *** هجان أرنّت للحنين نوازعه
هنيئا لأمّ البختريّ الرّوي(11) به *** و إن أنهج الحبل الذي النأي قاطعه
لقد جعل المستبضع الغشّ بيننا *** ليصرم حبلينا تجوز بضائعه
فما سرحة تجري الجداول تحتها *** بمطّرد(12) القيعان عذب ينابعه
ص: 558
بأحسن منها يوم قالت بذي الغضا *** أ ترعى جديد الحبل أم أنت قاطعه
أخبرني عمّي قال حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال حدّثني أحمد بن إبراهيم قال:
و ذكر أبو الأشعث أنّ ابن ميّادة خطب امرأة من بني سلمى بن مالك بن جعفر ثم من بني البهثة - و هم بطن يقال لهم البهثاء - فأبوا أن يزوّجوه و قالوا: أنت هجين و نحن أشرف منك؛ فقال:
فلو طاوعتني آل سلمى بن مالك *** لأعطيت مهرا من مسرّة غاليا(1)
و سرب كسرب العين من آل جعفر *** يغادين بالكحل العيون السواجيا
إذا ما هبطن النّيل(2) أو كنّ دونه *** بسرو(3) الحمى ألقين ثمّ المراسيا
قال أحمد بن إبراهيم: مات ابن ميّادة في صدر من خلافة المنصور، و قد كان مدحه ثم لم يفد(4) إليه و لا مدحه، لما بلغه من قلّة رغبته في مدائح الشعراء و قلّة ثوابه لهم.
ص: 559
حنين بن بلوع(1) الحيريّ مختلف في نسبه، فقيل: إنه من العباديّين من تميم، و قيل: إنه من بني الحارث بن كعب، و قيل من قوم بقوا من جديس و طسم فنزلوا في بني الحارث بن كعب فعدّوا فيهم، و يكنى أبا كعب، و كان شاعرا مغنّيا فحلا من فحول المغنّين، و له صنعة فاضلة متقدّمة، و كان يسكن الحيرة و يكري الجمال إلى الشام و غيرها، و كان نصرانيّا. و هو القائل يصف الحيرة و منزله بها:
أنا حنين و منزلي النّجف(2) *** و ما نديمي إلاّ الفتى القصف(3)
أقرع بالكأس ثغر باطية(4) *** مترعة، تارة و أغترف
من قهوة باكر التّجار بها *** بيت يهود قرارها الخزف
و العيش غضّ و منزلي خصب *** لم تغذني شقوة و لا عنف
الغناء و الشعر لحنين، و لحنه خفيف رمل بالبنصر. و فيه لابن المكّيّ خفيف ثقيل قديم. و لعريب فيه خفيف ثقيل آخر عن الهشاميّ .
أخبرنا وكيع قال قال حماد حدّثني أبي عن أبي الخطّاب قال و حدّثني ابن كناسة عن سليمان بن داود: مولى ليحيى، و أخبرني بهذا الخبر الحسن بن عليّ عن(5) ابن مهرويه عن قعنب بن المحرز الباهليّ عن المدائنيّ قالوا جميعا:
/حجّ هشام بن عبد الملك و عديله(6) الأبرش الكلبيّ ، فوقف له حنين بظهر الكوفة و معه عوده و زامر له، و عليه قلنسية(7) طويلة، فلمّا مرّ هشام عرض له، فقال: من هذا؟ فقيل: حنين، فأمر به فحمل في محمل على
ص: 560
جمل و عديله زامره، و سير به أمامه و هو يتغنّى:
أ من سلمى بظهر الكو *** فة الآيات و الطّلل
يلوح كما تلوح على *** جفون الصّيقل(1) و الخلل(2)
- الصنعة في هذا الصوت لحنين ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. و فيه خفيف ثقيل ينسب إلى حنين أيضا و إلى غيره - قال: فأمر له هشام بمائتي دينار، و للزامر بمائة. و ذكر إسحاق في خبره عن أبي الخطّاب أنه غنّى هشاما:
صاح هل أبصرت بالخب *** تين من أسماء نارا
موهنا شبّت لعيني *** ك و لم توقد نهارا
كتلالي البرق في المز *** ن إذا البرق استطارا
أذكرتني الوصل من سع *** دى و أيّاما قصارا
/ - الشعر للأحوص، و الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالسّبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و نسبه ابن المكّيّ إلى الغريض. و قال يونس: فيه لحنان لمالك و لم يجنّسهما. و قال الهشاميّ : فيه لمالك خفيف رمل - قال: فلم يزل هشام يستعيده حتى نزل من النجف، فأمر له بمائتي دينار.
و قال إسحاق: قيل لحنين:
أنت تغنّي منذ خمسين سنة ما تركت لكريم مالا و لا دارا و لا عقارا إلاّ أتيت عليه! فقال: بأبي أنتم، إنّما هي أنفاسي أقسمها بين الناس، أ فتلومونني أن أغلي بها الثمن!.
أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن مزيد قالا حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه و مصعب بن الزّبير عن بعض المكيّين، و أخبرني به الحرميّ بن أبي العلاء و حبيب بن نصر قالا حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني عمّي مصعب قال حدّثني شيخ من المكّيّين يقال له شريس(3) قال:
إنّا لبالأبطح أيام الموسم نشتري و نبيع إذ أقبل شيخ أبيض الرأس و اللحية على بغلة شهباء ما ندري أ هو أشدّ
ص: 561
بياضا أم بغلته أم ثيابه؛ فقال: أين بيت أبي موسى ؟ فأشرنا له إلى الحائط؛ فمضى حتى انتهى إلى الظلّ من بيت أبي موسى، ثم استقبلنا ببغلته و وجهه ثم اندفع يغنّي:
أسعديني بدمعة أسراب(1) *** من دموع كثيرة التّسكاب
إنّ أهل الحصاب(2) قد تركوني *** مغرما مولعا بأهل الحصاب
فارقوني و قد علمت يقينا *** ما لمن ذاق ميتة من إياب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مو *** سى إلى النخل من صفيّ السّباب(3)
كم بذاك الحجون من حيّ صدق *** و كهول أعفّة و شباب
أهل بيت تتايعوا(4) للمنايا *** ما على الموت بعد هم من عتاب
فلي الويل بعدهم و عليهم *** صرت فردا و ملّني أصحابي
- الشعر لكثير بن كثير(5) بن المطّلب بن أبي وداعة السّهميّ . و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالسّبابة في مجرى الوسطى. و فيه لابن أبي دباكل(6) الخزاعيّ ثاني ثقيل بالوسطى عن ابن خرداذبه(7) - قال: ثم صرف الرجل بغلته و ذهب، فتبعناه حتى أدركناه، فسألناه من هو، فقال: أنا حنين بن بلوع و أنا رجل جمّال أكري الإبل ثم مضى.
/
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد على أبي عن المدائنيّ ، قال:
كان حنين غلاما يحمل الفاكهة بالحيرة، و كان لطيفا في عمل التحيّات(8)، فكان إذا حمل الرياحين إلى بيوت
ص: 562
الفتيان و مياسير أهل الكوفة و أصحاب القيان و المتطرّبين إلى الحيرة و رأوا رشاقته و حسن قدّه و حلاوته و خفّة روحه استحلوه، و أقام عندهم و خفّ لهم، فكان يسمع الغناء و يشتهيه و يصغي إليه و يستمعه و يطيل الإصغاء إليه، فلا يكاد ينتفع به في شيء إذا سمعه، حتى شدا منه أصواتا فأسمعها الناس - و كان مطبوعا حسن الصوت - و اشتهوا غناءه و الاستماع منه و عشرته، و شهر بالغناء و مهر فيه، و بلغ منه مبلغا كبيرا، ثم رحل إلى عمر بن داود الواديّ و إلى حكم الواديّ ، و أخذ منهما، و غنّى لنفسه في أشعار الناس، فأجاد الصّنعة و أحكمها، و لم يكن بالعراق غيره فاستولى(1) عليه في عصره. و قدم ابن محرز حينئذ إلى الكوفة فبلغ خبره حنينا، و قد كان يعرفه، فخشي أن يعرفه الناس فيستحلوه(2) و يستولي على البلد فيسقط هو، قال له: كم منّتك نفسك من العراق ؟ قال: ألف دينار، قال: فهذه خمسمائة دينار عاجلة فخذها و انصرف و احلف لي أنك لا تعود إلى العراق؛ فأخذها و انصرف.
أخبرني عمّي و عيسى بن الحسين قالا حدّثنا أبو أيوب المدائنيّ (3) عن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل قال:
/كان ابن محرز قدم الكوفة و بها بشر بن مروان، و قد بلغه أنه يشرب الشراب و يسمع الغناء، فصادفه و قد(4)خرج إلى البصرة؛ و بلغ خبره حنين بن بلوع فتلطّف له حتى دعاه؛ فغنّاه ابن محرز لحنه - قال أحمد بن إبراهيم و هو من الثقيل الثاني من جيّد الأغاني -:
و حرّ الزّبرجد في نظمه *** على واضح اللّيت(5) زان العقودا
يفصّل ياقوته درّه *** و كالجمر أبصرت فيه الفريدا(6)
/قال: فسمع شيئا هاله و حيّره، فقال له حنين: كم منّتك نفسك من العراق ؟ قال: ألف دينار، فقال: هذه خمسمائة دينار حاصلة عاجلة و نفقتك في عودتك و بدأتك ودع العراق لي و امض مصاحبا حيث شئت - قال: و كان ابن محرز صغير الهمّة لا يحبّ عشرة الملوك و لا يؤثر على الخلوة شيئا - فأخذها و انصرف.
و قال حمّاد في خبره قال أبي حدّثني بعض أهل العلم بالغناء عن حنين قال:
ص: 563
خرجت إلى حمص ألتمس الكسب بها و أرتاد من أستفيد منه شيئا، فسألت عن الفتيان(1) [بها](2) و أين يجتمعون، فقيل لي: عليك بالحمّامات فإنهم يجتمعون بها إذا أصبحوا/فجئت إلى أحدها فدخلته، فإذا فيه جماعة منهم، فأنست و انبسطت، و أخبرتهم أني غريب، ثم خرجوا و خرجت معهم، فذهبوا بي إلى منزل أحدهم، فلما قعدنا أتينا بالطّعام فأكلنا و أتينا بالشراب فشربنا، فقلت لهم: هل لكم في مغنّ يغنّيكم ؟ قالوا: و من لنا بذلك ؟ قلت: أنا لكم به، هاتوا عودا فأتيت به، فابتدأت في هنيّات(3) أبي عبّاد معبد، فكأنّما غنّيت للحيطان لا فكهوا لغنائي و لا سرّوا به، فقلت: ثقل عليهم غناء معبد لكثرة عمله و شدّته و صعوبة مذهبه، فأخذت في غناء الغريض فإذا هو عندهم كلا شيء، و غنّيت خفائف ابن سريج، و أهزاج حكم، و الأغاني التي لي، و اجتهدت في أن يفهموا، فلم يتحرّك من القوم أحد، و جعلوا يقولون: ليت أبا منبّه قد جاءنا، فقلت في نفسي: أرى أنّي سأفتضح اليوم بأبي منبّه فضيحة لم يفتضح أحد قطّ مثلها. فبينا نحن كذلك إذ جاء أبو منبّه، و إذا هو شيخ عليه خفّان أحمران كأنه جمّال، فوثبوا جميعا إليه و سلّموا عليه و قالوا: يا أبا منبّه أبطأت علينا، و قدّموا له الطّعام و سقوه أقداحا، و خنست(4) أنا حتى صرت كلا شيء خوفا منه، فأخذ العود ثم اندفع يغنّي:
طرب(5) البحر فاعبري يا سفينه *** لا تشقّي على رجال المدينة
فأقبل(6) القوم يصفّقون و يطربون و يشربون، ثم أخذ في نحو هذا من الغناء؛ فقلت في نفسي: أنتم هاهنا! لئن أصبحت سالما لا أمسيت في هذه البلدة. فلمّا أصبحت شددت رحلي على ناقتي و احتقبت(7) ركوة من شراب و رحلت متوجّها إلى الحيرة، و قلت:
ليت شعري متى تخبّ بي النا *** قة بين السّدير و الصّنّين(8)
محقبا ركوة(9) و خبز رقاق *** و بقولا و قطعة من نون(10)
ص: 564
لست أبغي زادا سواها من الشا *** م و حسبي علالة(1) تكفيني
فإذا أبت سالما قلت سحقا *** و بعادا لمعشر فارقوني
أخبرني محمد بن مزيد و الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه، و أخبرنا به وكيع في عقب أخبار رواها عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه فقال: و قال لي إسحاق، فلا أدري(2) أ أدرج الإسناد و هو سماعه أم ذكره مرسلا، قال إسحاق و ذكر ابن كناسة:
أن خالد بن عبد اللّه القسريّ حرّم الغناء بالعراق في أيامه، ثم أذن للناس يوما في الدخول عليه [عامّة](3)، فدخل إليه حنين و معه عود تحت ثيابه، فقال: أصلح اللّه الأمير، كانت لي صناعة أعود بها على عيالي فحرّمها الأمير فأضرّ ذلك بي و بهم، فقال: و ما صناعتك ؟ فكشف عن عوده و قال: هذا؛ /فقال له خالد: غنّ ، فحرّك أوتاره و غنّى:
أيها الشامت المعيّر بالده *** ر أ أنت المبرّأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيّ *** ام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلّدن أم من *** ذا عليه من أن يضام خفير
/قال: فبكى خالد و قال: قد أذنت لك و حدك خاصّة فلا تجالسنّ سفيها و لا معربدا. فكان إذا دعي قال: أ فيكم سفيه أو معربد؟ فإذا قيل له: لا، دخل.
شعر هذا الصوت المذكور لعديّ بن زيد، و الغناء لحنين رمل بالوسطى عن عمرو. و قوله: المبرأ، يعني المبرأ من المصائب. و الموفور: الذي لم يذهب من ماله و لا من حاله شيء، يقال: وفر الرجل يوفر. و لديك بمعنى عندك هاهنا.
أخبرني أبو صالح محمد بن عبد الواحد الصّحّاف الكوفيّ قال حدّثنا قعنب بن المحرز الباهليّ قال أخبرنا الهيثم بن عديّ عن عبد اللّه بن عيّاش و عن مجالد عن الشّعبيّ جميعا، و أخبرني محمد بن مزيد و حسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن الهيثم بن عديّ عن عبد اللّه بن عيّاش عن الشّعبيّ قال:
لما ولي بشر بن مروان الكوفة كنت على مظالمه، فأتيته عشيّة و حاجبه أعين (صاحب حمّام أعين) جالس، فقلت له: استأذن لي على الأمير! فقال لي: يا أبا عمرو، هو على حال ما أظنّك تصل إليه معها؛ فقلت: أعلمه - و خلاك ذمّ - فقد حدث أمر لا بدّ لي من إنهائه إليه - و كان لا يجلس بالعشيّ - فقال: لا، و لكن اكتب حاجتك في
ص: 565
رقعة حتى أوصلها إليه؛ فكتبت رقعة، فما لبث أن خرج التوقيع على ظهرها: ليس الشعبيّ ممن يحتشم منه فأذن له، فأذن لي فقال: ادخل، فدخلت فإذا بشر بن مروان عليه غلالة(1) رقيقة صفراء و ملاءة تقوم قياما من شدّة الصّقال، و على رأسه إكليل من ريحان، و على يمينه عكرمة بن ربعىّ ، و على يساره خالد(2) بن عتّاب بن ورقاء، و إذا بين يديه حنين بن بلوع معه عوده، فسلمت فردّ(3) عليّ السلام و رحّب/و قرّب، ثم قال: يا أبا عمرو، لو كان غيرك لم آذن له على هذه الحال، فقلت: أصلح اللّه الأمير، عندي لك الستر لكل ما أرى منك و الدخول معك فيما لا يجمل، و الشكر على ما توليني؛ فقال: كذلك الظنّ بك، ثم التفتّ إلى حنين و عوده في حجره و عليه قباء خشك(4) شوي - و قال إسحاق: خشكون(5) - و مستقة(6) حمراء و خفّان مكعّبان(7)، فسلم عليّ ؛ فقلت له: كيف أنت أبا كعب، فقال: بخير أبا عمرو؛ فقلت: احزق(8) الزّير(9) و أرخ البمّ (10) ففعل؛ و ضرب فأجاد؛ فقال بشر لأصحابه: تلومونني على أن آذن له في كل حال! ثم أقبل عليّ فقال: أبا عمرو، من أين وقع لك حزق الزير(11)؟ فقلت: ظننت أن الأمر هناك، فقال: فإن الأمر كما ظننت هناك كلّه. ثم قال: فمن أين تعرف حنينا؟ فقلت: هذا بطّة أعراسنا فكيف لا أعرفه! فضحك، و غنّى حنين فأجاد فطرب و أمر له بجائزة، ثم ودّعته و قمت بعد أن ذكرت له ما جئت فيه، فأمر لي بعشرة آلاف درهم و عشرة أثواب، فقمت مع الخادم حتى قبضت ذلك منه و انصرفت. و قد وجدت هذا الخبر بخط أبي سعيد السّكّريّ /يأثره(12) عن محمد بن/عثمان المخزوميّ عن أبيه عن جدّه: أنه كان عند بشر بن مروان يوم دخل عليه الشّعبيّ هذا المدخل و أن حنين بن بلوع غنّاه:
هم كتموني سيرهم حين أزمعوا(13) *** و قالوا اتّعدنا للرّواح و بكّروا
و هذا القول خطأ قبيح، لأن هذا الشعر للعبّاس بن الأحنف، و الغناء لعلّويه رمل بالوسطى، و غنّي للمأمون فيه فقال: سخروا من أبي الفضل أعزّه اللّه.
ص: 566
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حمّاد بن إسحاق: قرأت على أبي، و قال أبو عبيد اللّه الكاتب حدّثني سليمان بن بشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان قال:
و كان بعض ولاة الكوفة يذمّ الحيرة في أيام بني أميّة، فقال له رجل من أهلها - و كان عاقلا ظريفا -: أ تعيب بلدة يضرب بها المثل في الجاهليّة و الإسلام! قال: و بما ذا تمدح ؟ قال: بصحّة هوائها، و طيب مائها، و نزهة ظاهرها، تصلح للخفّ و الظّلف، سهل و جبل، و بادية و بستان، و برّ و بحر، محلّ الملوك و مزارهم(1)، و مسكنهم و مثواهم، و قد قدمتها - أصلحك اللّه - مخفّا فرجعت مثقلا و وردتها(2) مقلاّ فأصارتك مكثرا، قال: فكيف نعرف ما وصفتها به من الفضل ؟ قال: بأن تصير إليّ (3)، ثم ادع ما شئت من لذّات العيش، فو اللّه لا أجوز بك الحيرة فيه؛ قال: فاصنع لنا صنيعا و اخرج من قولك؛ قال: أفعل، فصنع لهم طعاما و أطعمهم من خبزها و سمكها و ما صيد من وحشها: من ظباء و نعام و أرانب و حبارى(4)، و سقاهم ماءها/في قلالها، و خمرها في آنيتها، و أجلسهم على رقمها(5) - و كان يتّخذ بها من الفرش أشياء ظريفة - و لم يستخدم لهم حرّا و لا عبدا إلاّ من مولّديها و مولّداتها من خدم و وصائف [و وصفاء](6) كأنهم اللؤلؤ، لغتهم لغة أهلها، ثم غنّاهم حنين و أصحابه في شعر عديّ بن زيد شاعرهم و أعشى همدان لم يتجاوزهما، و حيّاهم برياحينها، و نقّلهم(7) على خمرها، و قد شربوا بفواكهها؛ ثم قال له: هل رأيتني استعنت على شيء مما رأيت و أكلت و شربت و افترشت و شممت و سمعت بغير ما في الحيرة ؟ قال: لا و اللّه، لقد أحسنت صفة بلدك و نصرته فأحسنت نصرته و الخروج ممّا تضمّنته، فبارك اللّه لكم في بلدكم.
قال إسحاق: و لم يكن بالحيرة مذكور في الغناء سوى حنين إلاّ نفرا من السّدريّين يقال لهم: عباديس، و زيد بن الطّليس، و زيد بن كعب، و مالك بن حممة، و كانوا يغنّون غناء الحيرة بين الهزج و النّصب(8) و هو إلى النصب أقرب و لم يدوّن(9) منه شيء لسقوطه و أنه ليس من أغاني الفحول. و ما سمعنا نحن لأحد من هؤلاء خبرا إلا لمالك بن حممة، أخبرني به عمّي عن عبد اللّه بن أبي سعد.
ص: 567
و قال وكيع في خبره عن إسحاق حدّثني أبو بشر الفزاريّ قال حدّثني بشر بن الحسين بن سليمان بن سمرة بن جندب قال:
عاش حنين بن بلوع مائة سنة و سبع سنين، و كان يقال أنه من جديس؛ قال و قيل أيضا: إنه من لخم، و كان هو يزعم أنه عباديّ و أخواله من بني الحارث بن كعب.
أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم قال حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ قال:
كنت مع الرشيد في السنة التي نزل فيها على عون العباديّ ، فأتاني عون بابن ابن حنين بن بلوع، و هو شيخ، /فغنّاني عدّة أصوات لجدّه، فما استحسنتها، لأنّ الشيخ كان مشوّه(1) الخلق، طنّ الغناء(2)، قليل الحلاوة، إلا أنه كان لا يفارق عمود الصوت أبدا حتى يفرغ منه، فغنّاني صوت ابن سريج:
فتركته جزر(3) السّباع ينشنه(4) *** ما بين قلّة رأسه و المعصم
فما أذكر أني سمعته من أحد قطّ أحسن مما سمعته منه، فقلت له: لقد أحسنت في هذا الصوت، و ما هو من أغاني جدّك، و إني لأعجب من ذلك! فقال لي الشيخ: و الصليب و القربان ما صنع هذا الصوت إلا في منزلنا و في سرداب لجدّي، و لقد كاد أن يأتي على نفس عمتي؛ فسألته عن الخبر في ذلك فقال:
حدّثني أبي أن عبيد(5) بن سريج قدم الحيرة و معه ثلاثمائة دينار. فأتى بها منزلنا في ولاية بشر بن مروان الكوفة، و قال: أنا رجل من أهل الحجاز من أهل مكة، بلغني طيب الحيرة و جودة خمرها و حسن غنائك في هذا الشعر:
حنتني حانيات الدهر حتّى *** كأنّي خاتل يدنو(6) لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني *** و لست مقيّدا أنّي بقيد
/فخرجت بهذه الدنانير لأنفقها معك و عندك و نتعاشر حتى تنفد و أنصرف إلى منزلي. فسأله جدّي عن اسمه
ص: 568
و نسبه فغيّرهما و انتمى إلى بني مخزوم، فأخذ جدّي المال منه و قال: موفّر مالك عليك و لك عندنا كلّ ما يحتاج إليه مثلك ما نشطت للمقام عندنا، فإذا دعتك نفسك إلى بلدك جهّزناك إليه و رددنا عليك مالك و أخلفنا ما أنفقته عليك [إلى](1) أن جئتنا، و أسكنه دارا كان ينفرد فيها، فمكث عندنا شهرين لا يعلم جدّي و لا أحد من أهلنا أنه يغنّي، حتى انصرف جدّي من دار بشر بن مروان في يوم صائف مع قيام الظّهيرة، فصار إلى باب الدار التي كان أنزل ابن سريج فيها فوجده مغلقا فارتاب بذلك، و دقّ الباب فلم يفتح له و لم يجبه أحد، فصار إلى منازل الحرم فلم يجد فيها ابنته و لا جواريه(2)، و رأى ما بين الدار التي فيها الحرم و دار ابن سريج مفتوحا، فانتضى سيفه و دخل الدار ليقتل ابنته؛ فلمّا دخلها رأى ابنته و جواريه(2) وقوفا على باب السّرداب، و هنّ يومئن إليه بالسكوت و تخفيف الوطء، فلم يلتفت إلى إشارتهنّ لما تداخله، إلى أن سمع ترنّم ابن سريج بهذا الصوت، فألقى السيف من يده و صاح به - و قد عرفه من غير أن يكون رآه، و لكن بالنعت و الحذق -: أبا يحيى، جعلت فداءك، أتيتنا بثلاثمائة دينار سوى ما جئت به معك، ثم دخل إليه فعانقه و رحّب به و لقيه بخلاف ما كان يلقاه به، و سأله عن هذا الصوت، فأخبره أنه صاغه في ذلك الوقت. فصار معه إلى بشر بن مروان فوصله بعشرة آلاف درهم أوّل مرّة، ثم وصله بعد ذلك بمثلها؛ فلمّا أراد الخروج ردّ عليه جدّي ماله و جهّزه و وصله بمقدار نفقته التي أنفقها/من مكة إلى الحيرة، و رجع ابن سريج إلى أهله و قد أخذ جميع من كان في دارنا منه هذا الصوت.
أخبرني عمّي قال حدّثني عبد اللّه بن/أبي سعد قال حدّثني حسّان بن محمد الحارثيّ قال حدّثنا عبد اللّه قال حدّثنا عبيد بن حنين(3) الحيريّ قال:
كان المغنّون في عصر جدّي أربعة نفر ثلاثة بالحجاز و هو وحده بالعراق، و الذين بالحجاز: ابن سريج و الغريض و معبد، فكان يبلغهم أنّ جدّي حنينا قد غنّى في هذا الشعر:
هلاّ بكيت على الشباب الذاهب *** و كففت عن ذمّ المشيب الآئب
هذا و ربّ مسوّفين(4) سقيتهم *** من خمر بابل لذة للشارب
بكروا عليّ بسحرة فصبحتهم *** من ذات كوب(5) مثل قعب الحالب
بزجاجة ملء اليدين كأنّها *** قنديل فصح(6) في كنيسة راهب
قال: فاجتمعوا فتذاكروا أمر جدّي و قالوا: ما في الدنيا أهل صناعة شرّ منّا، لنا أخ بالعراق و نحن بالحجاز، لا نزوره و لا نستزيره. فكتبوا إليه و وجّهوا إليه نفقة و كتبوا يقولون: نحن ثلاثة و أنت وحدك فأنت أولى بزيارتنا،
ص: 569
فشخص إليهم، فلمّا كان على مرحلة من المدينة بلغهم خبره فخرجوا يتلقّونه، فلم ير يوم كان أكثر حشرا(1) و لا جمعا من يومئذ، و دخلوا، فلمّا صاروا في بعض الطريق قال لهم معبد: صيروا إليّ ؛ فقال له ابن سريج: إن كان لك من الشرف و المروءة مثل ما لمولاتي سكينة/بنت الحسين عطفنا إليك؛ فقال: ما لي من ذلك شيء، و عدلوا إلى منزل سكينة. فلمّا دخلوا إليها أذنت للناس إذنا فغصّت الدار بهم و صعدوا فوق السطح، و أمرت لهم بالأطعمة فأكلوا منها، ثم إنهم سألوا جدّي حنينا أن يغنّيهم صوته الذي أوّله:
هلاّ بكيت على الشباب الذاهب
فغنّاهم إيّاه بعد أن قال لهم: ابدءوا أنتم؛ فقالوا: ما كنّا لنتقدّمك و لا نغنّي قبلك حتى نسمع هذا الصوت؛ فغنّاهم إياه، و كان من أحسن الناس صوتا، فازدحم الناس على السطح و كثروا ليسمعوه، فسقط الرّواق على من تحته فسلموا جميعا و أخرجوا أصحّاء، و مات حنين تحت الهدم؛ فقالت سكينة عليها السلام: لقد كدّر علينا حنين سرورنا، انتظرناه مدّة طويلة كأنّا و اللّه كنّا نسوقه إلى منيّته.
و تركته جزر السّباع ينشنه *** ما بين قلّة رأسه و المعصم
إن تغدفي دوني القناع فإنّني *** طبّ بأخذ الفارس المستلئم(2)
الشعر لعنترة بن شدّاد العبسيّ ، و الغناء فيه لحنين ثاني ثقيل(3).
و منها:
حنتني حانيات الدهر حتّى *** كأنّي خاتل يدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني *** و لست مقيّدا أنّي بقيد
/الغناء لحنين الحيريّ ثقيل أوّل. و فيه لابراهيم الموصليّ ما خوريّ جميعا عن ابن المكّيّ ، /و وافقه عمرو بن بانة في لحن إبراهيم [الموصلي](4). و نسبة الشعر الذي غنّاه حنين في منزل سكينة - عليها السلام - يقال: إنه لعديّ بن زيد، و قيل: إنّ بعضه له و قد أضافه المغنّون إليه. و لحنه خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.
ص: 570
راع الفؤاد تفرّق الأحباب *** يوم الرحيل فهاج لي أطرابي(1)
فظللت مكتئبا أكفكف عبرة *** سحّا تفيض كواشل(2) الأسراب
لمّا تنادوا للرحيل و قرّبوا *** بزل الجمال لطيّة(3) و ذهاب
كاد الأسى يقضي عليك صبابة *** و الوجه منك لبين إلفك كابي
عروضه من الكامل. و الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء للغريض، و لحنه المختار من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. [و قال حبش: و فيه لأبي كامل ثاني ثقيل بالوسطى](4). و ذكر حبش: أنّ للغريض أيضا فيه خفيف ثقيل بالوسطى. و لمالك ثقيل أوّل بالوسطى. و هذه الأبيات قالها عمر بن أبي ربيعة في بنت لعبد الملك بن مروان كانت حجّت في خلافته.
أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم قال أخبرني أبو هفّان عن إسحاق بن إبراهيم عن الزّبيريّ و المدائنيّ و محمد بن سلاّم و المسيّبيّ :
/أنّ بنتا لعبد الملك بن مروان حجّت، فكتب الحجاج إلى عمر بن أبي ربيعة يتوعّده إن ذكرها في شعره بكلّ مكروه؛ و كانت تحبّ أن يقول فيها شيئا و تتعرّض لذلك، فلم يفعل خوفا من الحجّاج. فلمّا قضت حجّها خرجت فمرّ بها رجل فقالت له: من [أين](5) أنت ؟ قال: من أهل مكّة؛ قالت: عليك و على أهل بلدك لعنة اللّه! قال: و لم ذاك ؟ قالت: حججت فدخلت مكة و معي من الجواري ما لم تر الأعين مثلهنّ ، فلم يستطع الفاسق ابن أبي ربيعة أن يزوّدنا من شعره أبياتا نلهو بها في الطريق في سفرنا! قال: فإني لا أراه إلا قد فعل؛ قالت: فأتنا بشيء إن كان قاله و لك بكل بيت عشرة دنانير؛ فمضى إليه فأخبره؛ فقال: لقد فعلت، و لكن أحبّ أن تكتم عليّ ؛ قال: أفعل؛ فأنشده:
راع الفؤاد تفرّق الأحباب *** يوم الرحيل فهاج لي أطرابي
و هي طويلة. و أنشده:
هاج قلبي تذكّر الأحباب *** و اعترتني نوائب الأطراب(6)
و هي طويلة أيضا، يقول فيها:
ص: 571
اقتليني قتلا سريعا مريحا *** لا تكوني عليّ سوط عذاب
شفّ عنها محقّق(1) جنديّ *** فهي كالشمس من خلال سحاب
- ذكر حبش: أنّ في هذه الثلاثة الأبيات للهذليّ ثاني ثقيل بالبنصر - قال: فعاد إليها الرجل فأنشدها هاتين القصيدتين فدفعت إليه ما وعدته به.
ص: 572
/الغريض لقب لقّب به، لأنه كان طريّ الوجه نضرا غضّ الشباب حسن المنظر، فلقّب بذلك. و الغريض:
الطريّ من كل شيء. و قال ابن الكلبيّ : شبّه بالإغريض و هو الجمّار فسمّي به، و ثقل ذلك على الألسنة فحذفت الألف منه، فقيل له: الغريض. و اسمه: عبد الملك، و كنيته: أبو يزيد.
و أخبرنا إسماعيل بن يونس الشّيعيّ عن عمر بن شبّة عن أبي غسّان عن جماعة من المكّيين:
أنه كان يكنّى أبا مروان. و هو مولى العبلات، و كان مولّدا من مولّدي البربر. و ولاؤه و ولاء يحيى قيل(1)و سميّة للثريّا(2) (صاحبة عمر بن أبي ربيعة) و أخواتها: الرّضيّا و قريبة و أمّ عثمان بنات عليّ بن عبد اللّه بن الحارث بن أميّة الأصغر، و قد مضت أخبارهنّ في صدر الكتاب(3).
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني محمد بن نصر الضّبعيّ (4) قال حدّثني عبد الكريم بن أبي معاوية العلابيّ (5) عن هشام بن الكلبيّ عن أبيه و عن/أبي مسكين(6)، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدّثني عمر بن شبّة قال حدثني أبو غسّان محمد بن يحيى، و أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن أبي الأزهر حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن الزّبيريّ و المدائنيّ و محمد بن سلاّم، و قد جمعت رواياتهم في قصّة الغريض، قالوا:
كان الغريض يضرب بالعود و ينقر بالدفّ و يوقع بالقضيب، و كان جميلا وضيئا، و كان يصنّع(7) نفسه و يبرّقها(8). و كان قبل أن يغنّي خيّاطا. و أخذ الغناء في أوّل أمره عن ابن سريج، لأنه كان يخدمه. فلما رأى
ص: 573
ابن سريج طبعه و ظرفه و حلاوة منطقه خشي أن يأخذ غناءه فيغلبه عليه عند الناس و يفوقه بحسن وجهه و جسده؛ فاعتلّ عليه، و شكاه إلى مولياته، و هنّ كنّ دفعنه إليه ليعلّمه الغناء، و جعل يتجنّى عليه ثم طرده؛ فشكا ذلك إلى مولياته و عرّفهنّ غرض ابن سريج في تنحيته إيّاه عن نفسه، و أنه حسده على تقدّمه؛
فقلن له: هل لك في أن تسمع نوحنا على قتلانا فتأخذه و تغنّي عليه ؟ قال: نعم فافعلن، فأسمعنه المراثي فاحتذاها و خرّج غناء عليها كالمراثي، و كان ينوح مع ذلك فيدخل المآتم و تضرب دونه الحجب ثم ينوح فيفتن كلّ من سمعه. و لما كثر غناؤه اشتهاه الناس و عدلوا إليه لما كان فيه من الشّجا(1). فكان ابن سريج لا يغنّي صوتا إلا عارضه(2) الغريض فيه لحنا آخر. فلما رأى ابن سريج/موقع الغريض اشتدّ عليه و حسده، فغنّى الأرمال و الأهزاج فاشتهاها الناس؛ فقال له الغريض: يا أبا يحيى، قصّرت الغناء و حذفته؛ قال: نعم يا مخنّث حين جعلت تنوح على أمّك و أبيك.
قال إسحاق و حدّثني أبو عبيدة قال: لما غضب ابن سريج على الغريض فأقصاه و هجره لحق بحوراء و بغوم - جاريتين نائحتين كانتا في شعب ابن عامر بمكة، و لم يكن قبلهما و لا بعدهما مثلهما - فرأتاه يوما يعصر عينيه و يبكي؛ فقالتا له: ما لك تبكي ؟ فذكر لهما ما صنع به ابن سريج؛ فقالتا له: لا أرقأ اللّه دمعك! ألزز رأسك(3) بين ما أخذته عنه و بين ما تأخذه منّا، فإن ضعت بعدها فأبعدك اللّه.
قال إسحاق و حدّثني أبو عبد اللّه الزّبيريّ قال: رأيت جريرا في مجلس من مجالس قريش فسمعته يقول: كان المغنّون بمكة أربعة، فسيد مبرّز و تابع مسدّد؛ فسألناه/عن ذاك، فقال: كان السيّد/أبو يحيى بن سريج و التابع أبو يزيد الغريض(4). و كان هناك رجل عالم بالصناعة فقال: كان الغريض أحذق أهل زمانه بمكة بالغناء بعد ابن سريج،
و ما زال أصحابنا لا يفرقون بينهما لمقاربتهما في الغناء. قال الزّبيريّ و قال بعض أهلي: لو حكّمت بين أبي يحيى و أبي يزيد لما فرّقت بينهما، و إنما تفضيلي أبا يحيى بالسّبق، فأمّا غير ذلك فلا، لأنّ أبا يزيد عنه أخذ و من بحره اغترف و في ميدانه جرى، فكان كأنّه هو؛ و لذلك قالت سكينة لما غنّى الغريض و ابن سريج:
عوجي علينا ربّة الهودج
/و اللّه ما أفرّق بينكما، و ما مثلكما عندي إلا كمثل اللؤلؤ و الياقوت في أعناق الجواري الحسان لا يدرى أيّ ذلك أحسن.
ص: 574
قال إسحاق: و سمعت جماعة من البصراء عند أبي يتذاكرونهما، فأجمعوا على أن الغريض أشجى غناء، و أنّ ابن سريج أحكم صنعة.
قال إسحاق و حدّثني أبو عبد اللّه الزّبيريّ قال حدّثني بعض أهلي قال: حججنا فلمّا كنّا بجمع(1) سمعنا صوتا لم نسمع أحسن منه و لا أشجى، فأصغى الناس كلّهم إليه تعجّبا من حسنه، فسألت: من هذا الرجل ؟ فقيل لي:
الغريض، فتتابع جماعة من أهل مكّة فقالوا: ما نعرف اليوم أحسن غناء من الغريض، و يدلّك على ذلك أنه يعترض بصوته الحاجّ و هم في حجّهم فيصغون إليه. فسألوا الغريض عن ذلك، فقال: نعم، فسألوه أن يغنّيهم فأجابهم، و خرج فوقف حيث لا يرى و يسمع صوته فترنّم و رجّع صوته و غنّى في شعر عمر بن أبي ربيعة:
أيّها الرائح المجدّ ابتكارا *** قد قضى من تهامة الأوطارا
فما سمع السامعون شيئا كان أحسن من ذلك الصوت، و تكلّم الناس فقالوا: طائفة من الجنّ حجّاج.
أيّها الرائح المجدّ ابتكارا *** قد قضى من تهامة الأوطارا(2)
من يكن قلبه الغداة خليّا *** ففؤادي بالخيف أمسى معارا(3)
ليت ذا الحجّ كان حتما علينا *** كلّ شهرين حجّة(4) و اعتمارا
/عروضه من الخفيف. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن محرز، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الثاني بالخنصر في مجرى الوسطى. و فيه لحن للغريض من رواية حمّاد عن أبيه.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و إسماعيل بن يونس قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال:
بلغني أن معبدا و ابن سريج و الغريض اجتمعوا بمكّة ذات ليلة فقالوا: هلمّ نبك أهل مكّة، و وجدت هذا الخبر بغير إسناد مرويّا عن يونس الكاتب: أنّ أميرا من أمراء مكّة أمر بإخراج المغنّين من الحرم، فلمّا كان في الليلة التي عزم بهم على النّفي في غدها اجتمعوا على أبي قبيس - و كان معبد قد زارهم - فبدأ معبد فغنّى - كذا روي عن يونس و لم يذكره الباقون:
ص: 575
أ تربيّ من أعلى(1) معدّ هديتما *** أجدّا البكا إنّ التفرّق باكر
فما مكثنا دام الجميل عليكما *** بثهلان(2) إلاّ أن تزمّ الأباعر
- عروضه من الطويل. هكذا ذكره و لم ينسبه و لا جنّسه - قال: فتأوّه أهل مكّة و أنّوا و تمخّطوا(3). و اندفع الغريض يغنّي:
أيّها الرائح المجدّ ابتكارا *** قد قضى من تهامة الأوطارا
فارتفع البكاء و النحيب. و اندفع ابن سريج يغني:
جددي الوصل يا قريب وجودي *** لمحبّ فراقه قد ألمّا
ليس بين الحياة و الموت إلاّ *** أن يردّوا جمالهم فتزمّا
/فارتفع الصّراخ من الدّور بالويل و الحرب(4). قال يونس في خبره: و اجتمع الناس إلى الأمير فاستعفوه من نفيهم فأعفاهم. و ذكر الباقون أنّ الغريض ابتدأ بلحنه:
أيّها الراكب المجدّ ابتكارا
و تلاه ابن سريج في «جدّدي الوصل». قال: و ارتفع الصراخ فلم يسمع من معبد شيء و لم يقدر على أن يغنّي.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال أخبرني عبد الرحمن بن محمد السّعديّ قال:
حضرت شطباء المغنّية جارية عليّ بن جعفر ذات يوم تغنّي:
ليس بين الرّحيل و البين(5) إلاّ *** أن يردّوا جمالهم فتزمّا
فطرب عليّ بن جعفر و صاح(6): سبحان اللّه العظيم! أ لا يوكون(7) قربة! أ لا يشدّون محملا! أ لا يعلّقون سفرة(8)! أ لا يسلّمون على جار! هذه و اللّه العجلة.
ص: 576
لما ماتت الثريا ناح عليها الغريض أخبرني أحمد بن عبد العزيز و إسماعيل بن يونس قالا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا محمد بن يحيى قال زعم عبيد بن يعلى قال:
قال لي كثير بن كثير السّهميّ : لمّا ماتت الثّريّا أتاني الغريض فقال لي: قل لي شعرا أبك به عليها؛ فقلت:
ألا يا عين مالك تدمعينا *** أ من رمد بكيت فتكحلينا
أم انت مريضة(1) تبكين شجوا *** فشجوك مثله أبكى العيونا
فناح به عليها. قال: و أخبرني من رآه بين عمودي سريرها ينوح به. الغناء للغريض في هذين البيتين خفيف ثقيل بالوسطى عن ابن المكّيّ . و فيه ثقيل أوّل مجهول.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال حدّثني محمد بن سلاّم و أخبرنا وكيع قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل عن محمد بن سلاّم عن جرير، و رواه حمّاد عن أبيه عن ابن سلام عن جرير أيضا:
أنّ سكينة بنت الحسين عليه السلام حجّت فدخل إليها ابن سريج و الغريض و قد استعار ابن سريج حلّة لامرأة من قريش فلبسها؛ فقال لها ابن سريج: يا سيّدتي، إني كنت صنعت صوتا و حسّنته و تنوّقت(2) فيه، و خبأته لك في حريرة في درج مملوء مسكا فنازعنيه هذا الفاسق - يعني الغريض - فأردنا أن نتحاكم إليك فيه. فأيّنا قدّمته فيه تقدّم؛ قالت: هاته، فغنّاها:
عوجي علينا ربّة الهودج *** إنّك إلاّ تفعلي تحرجي(3)
/فقالت: هاته أنت يا غريض؛ فغنّاها إياه؛ فقالت لابن سريج: أعده، فأعاده، و قالت: يا غريض، أعده ، فأعاده؛ فقالت: ما أشبّهكما إلا بالجديين(4): /الحارّ و البارد لا يدرى أيّهما أطيب. و قال إسحاق في خبره:
ما أشبّهكما إلا باللؤلؤ و الياقوت في أعناق الجواري الحسان لا يدرى أيّهما أحسن.
ص: 577
عوجي علينا ربّة الهودج *** إنك إلاّ تفعلي تحرجي
إنّي أتيحت لي يمانيّة(1) *** إحدى بني الحارث من مذحج
نلبث حولا كاملا كلّه *** لا نلتقي إلا على منهج
في الحجّ إن حجّت و ما ذا منى *** و أهله إن هي لم تحجج
أيسر ما نال محبّ لدى *** بين حبيب قوله عرّج
عروضه من السريع. و الشعر للعرجيّ . و الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. و فيه للغريض ثقيل أوّل بالوسطى عن حبس. و لإسحاق في الأوّل و الثالث ثقيل أوّل بالبنصر عن عمرو. و للأبجر فيه ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن ابن المكيّ . و لعلّويه خفيف ثقيل عن الهشاميّ . و لحكم خفيف رمل عنه أيضا.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا عبد اللّه بن عمرو(2) بن بشر قال حدّثني إبراهيم بن المنذر قال حدّثني حمزة بن عتبة اللّهبيّ عن عبد الوهاب بن مجاهد أو غيره قال:
/كنت مع عطاء بن أبي رباح فجاءه رجل فأنشده قول العرجيّ :
إنّي أتيحت لي يمانية
و ذكر الأبيات و ختمها بقوله:
في الحجّ إن حجّت و ما ذا منى *** و أهله إن هي لم تحجج
قال فقال عطاء: بمنى و اللّه و أهله خير كثير إذ غيّبها اللّه و إيّاه عن مشاعره.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق قال:
ولي قضاء مكّة الأوقص المخزوميّ فما رأى الناس مثله في عفافه و نبله، فإنّه لنائم ليلة في جناح(3) له إذ مر به سكران يتغنّى:
عوجي علينا ربّة الهودج
ص: 578
فأشرف عليه فقال: يا هذا شربت حراما! و أيقظت نياما! و غنّيت خطأ! خذه عنّي! فأصلحه له و انصرف.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق عن حمزة بن عتبة اللهبيّ قال:
مرّ الأبجر بعطاء و هو سكران فعذله و قال: شهّرت نفسك بالغناء و اطّرحتها و أنت ذو مروءة، فقال: امرأته طالق ثلاثا إن برحت أو أغنّيك صوتا، فإن قلت لي: هو قبيح تركته؛ فقال له عطاء: هات ويحك! فقد أضررت بي، فغنّاه:
في الحجّ إن حجّت و ما ذا منى *** و أهله إن هي لم تحجج
فقال له عطاء: الخير و اللّه كلّه هناك حجّت أو لم تحج، فاذهب الآن راشدا فقد برّت يمينك.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدّثني المغيرة بن محمد قال حدّثني هارون بن موسى الفرويّ (1) قال حدّثني بعض المدنيّين قال:
خرج ابن/أبي عتيق على نجيب له من المدينة قد أوقره(2) من طرف المدينة المشارب(3) و غير ذلك، فلقي فتى من بني مخزوم مقبلا من بعض ضياعه، فقال: يا ابن أخي، أ تصحبني ؟ قال: نعم؛ قال المخزوميّ : فمضينا حتى إذا قربنا من مكّة جنبنا عنها حتّى جزناها فصرنا إلى قصر، فاستأذن ابن أبي عتيق فأذن له، فدخلنا فإذا رجل جالس كأنّه عجوز بربريّة مختضبة، لا أشكّ في ذلك، و إذا هو الغريض و قد كبر، فقال له ابن أبي عتيق: تشوّقنا إليك، و أهدى له ما كان معه، ثم قال له: نحبّ أن نسمع؛ قال: أدع فلانة - جارية له - فجاءت فغنّت، فقال: ما صنعت شيئا، ثم حل خضابه و غنّى:
عوجى علينا ربّة الهودج
فما سمعت أحسن منه قطّ، فأقمنا عنده أياما كثيرة و خبّازه و طعامه كثير.
ثم قال له ابن أبي عتيق: إني أريد الشّخوص، فلم يبق بمكّة تحفة عدنيّ و لا يمان و لا عود إلاّ أوقر به راحلته.
فلمّا ارتحلنا و برزنا صاح به الغريض: هيا هيا، فرجعنا إليه؛ فقال: أ لم ترووا عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «يحشر من بقيعنا هذا سبعون ألفا على صورة القمر ليلة البدر»! فقال له ابن أبي عتيق: بلى، /فقال: هذه سنّ لي انتزعت فأحبّ أن تدفنها بالبقيع، فخرجنا و اللّه أخسر اثنين لم نعتمر و لم ندخل مكّة، حاملين سنّ الغريض حتّى دفنّاها بالبقيع.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه عن بعض أهل المدينة قال: خرج الغريض مع قوم فغنّاهم هذا الصوت:
ص: 579
جرى ناصح بالودّ بيني و بينها *** فقرّ بني يوم الحصاب إلى قتلي
فاشتد سرور القوم، و كان معهم غلام أعجبه، فطلب إليهم أن يكلّموا الغلام في الخلوة معه ساعة ففعلوا، فانطلق مع الغلام حتّى توارى بصخرة، فلما قضى حاجته أقبل الغلام إلى القوم، و أقبل الغريض يتناول حجرا حجرا يقرع به الصخرة، ففعل ذلك مرارا، فقالوا له: ما هذا يا غريض ؟ قال: كأنّي بها قد جاءت(1) يوم القيامة رافعة ذيلها تشهد علينا بما كان منّا إلى جانبها، فأردت أن أجرّح شهادتها عليّ ذلك اليوم.
جرى ناصح بالودّ بيني و بينها *** فقرّبني يوم الحصاب إلى قتلي
فقالت و أرخت جانب السّتر إنما *** معي فتحدّث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها ما بي لهم منه ترقّب *** و لكنّ سرّي ليس يحمله مثلي
عروضه من الطويل. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج رمل بإطلاق الوتر مجرى البنصر عن إسحاق في الثلاثة الأبيات. و ذكر يونس أن فيه لحنا لمالك، و فيه للغريض خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن حبش و الهشاميّ و عليّ /بن يحيى و حمّاد بن إسحاق. و لمعبد فيه ثقيل أوّل بالبنصر عن حبش. و لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى عنه.
حدّثني عليّ بن صالح(2) بن الهيثم قال حدّثني أبو هفّان عن إسحاق بن إبراهيم عن المسيّبيّ و المدائنيّ و ابن سلاّم:
أنّ عمر بن أبي ربيعة كان يعارض جميلا، إذا قال هذا قصيدة قال هذا مثلها، فيقال: إنّ عمر في الرائيّة و العينيّة أشعر من جميل، و إنّ جميلا أشعر منه في اللاميّة. و قال/الزّبير فيما أخبرني به الحرميّ بن أبي العلاء عنه:
من الناس من يفضّل قصيدة جميل اللاميّة على قصيدة عمر، و أنا لا أقول هذا، لأنّ قصيدة جميل مختلفة غير مؤتلفة، فيها طوالع النّجد و خوالد المهد، و قصيدة عمر بن أبي ربيعة ملساء المتون، مستوية الأبيات، آخذ بعضها بأذناب(3) بعض، و لو أنّ جميلا خاطب في قصيدته مخاطبة عمر لأرتج(4) عليه و عثر كلامه به.
أخبرني الحرميّ (5) قال حدّثنا الزّبير قال حدّثني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال حدّثني شيخ من أهلي عن
ص: 580
أبي الحارث بن نابتة مولى هشام بن الوليد المخزوميّ و هو الذي يقول له عمر بن أبي ربيعة:
يا أبا الحارث قلبي طائر *** فاستمع(1) قول رشيد مؤتمن
/قال: شهدت عمر بن أبي ربيعة و جميلا بالأبطح، فأنشد جميل قصيدته التي يقول فيها:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي *** بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
ثم قال: يا أبا الخطّاب، هل قلت في هذا الوزن شيئا؟ قال: نعم؛ فأنشده قوله:
جرى ناصح بالودّ بيني و بينها
فقال جميل: هيهات يا أبا الخطاب، و اللّه لا أقول مثل هذا سجيس(2) الليالي، و اللّه ما خاطب النساء مخاطبتك أحد! و قام مشمّرا.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال حدّثنا الزّبير بن بكّار قال:
رأيت علماءنا جميعا لا يشكّون في أنّ أحسن ما يروى في تعظيم(3) السرّ قول عمر:
و لكنّ سرّي ليس يحمله مثلي
قال الزبير: و حدّثني محمد بن إسماعيل قال حدّثني ابن أبي الزّناد قال: إنما اجتمع عمر بن أبي ربيعة و جميل بالجناب(4).
أخبرني محمد بن أحمد الطّلاّس قال أخبرنا أحمد بن الحارث الخزّاز عن المدائنيّ :
أنّ الفرزدق سمع عمر بن أبي ربيعة ينشد هذه القصيدة، فلمّا بلغ إلى قوله:
فقمن و قد أفهمن ذا اللبّ أنما *** فعلن الذي يفعلن من ذاك من أجلي
صاح الفرزدق و قال: هذا و اللّه الشعر الذي أرادته الشعراء فأخطأته و بكت الديار.
فمن ذلك قصيدة عمر التي أوّلها:
جرى ناصح بالودّ بيني و بينها
ص: 581
قفي البغلة الشهباء باللّه سلّمي *** عزيزة(1) ذات الدّلّ و الخلق الجزل
فلمّا تواقفنا عرفت الذي بها *** كمثل الذي بي حذوك النّعل بالنّعل
فقلن لها هذا عشاء و أهلنا *** قريب أ لمّا تسأمي مركب البغل
عروضه من الطويل. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لمعبد في الأوّل و الثاني ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو بن بانة و عليّ بن يحيى، و قيل إنه لمالك. و لابن محرز في الثاني و الثالث خفيف ثقيل أوّل بالبنصر عن الهشاميّ .
و لابن سريج في الأوّل ثقيل و الثاني خفيف آخر بالوسطى(2) و هو الذي فيه استهلال. و لمالك في الثاني و الثالث ثاني ثقيل بالبنصر. و لإبراهيم فيهما(3) خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن ابن المكّيّ .
و منها:
يا أبا الحارث قلبي طائر *** فاستمع(4) قول رشيد مؤتمن
ليس حبّ فوق ما أحببتكم *** غير أن أقتل نفسي أو أجن
حسن الوجه نقيّ لونه *** طيب النّشر لذيذ المحتضن
/عروضه من الرّمل(5). الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو، و قيل: إنه لابن عائشة: و ذكر ابن المكّيّ أنه للغريض في الثاني و الثالث، و فيهما رمل يقال إنه لأهل مكة، و يقال: إنه لعبد اللّه بن يونس صاحب أيلة(6). و فيه ثقيل أوّل ذكر حبش أنه لابن سريج، و ذكر غيره(7) أنه لمحمد ابن السّنديّ المكّيّ ، و أنه غنّاه بحضرة إسحاق فأخذه عنه.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبّة قال حدّثنا أبو غسّان محمد بن يحيى قال:
كان ابن عائشة يغنّي الهزج و الخفيف؛ فقيل له: إنك لا تستطيع أن تغنّي غناء شجيّا ثقيلا؛ فغنّى:
يا أبا الحارث قلبي طائر
ص: 582
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أيّوب بن عباية عن مولى لآل الغريض قال:
حدّثني بعض مولياتي و قد ذكرن الغريض فترحّمن عليه و قلن: جاءنا يوما يحدّثنا بحديث أنكرناه عليه ثم عرفنا بعد ذلك حقيقته، و كان من أحسن الناس وجها/صغيرا و كبيرا، و كنّا نلقى من الناس عنتا بسببه، و كان ابن سريج في جوارنا فدفعناه إليه فلقن الغناء، و كان من أحسن الناس صوتا ففتن أهل مكة بحسن وجهه مع حسن صوته، فلمّا رأى ذلك ابن سريج نحّاه عنه، و كانت بعض مولياته تعلّمه النّياحة فبرّز فيها، فجاءني يوما فقال: نهتني الجنّ أن أنوح و أسمعتني صوتا عجيبا فقد ابتنيت عليه لحنا فاسمعيه منّي، و اندفع فغنّى بصوت عجيب في شعر المرّار الأسدي(1).
حلفت لها باللّه ما بين ذي الغضا *** و هضب القنان(2) من عيان و لا بكر(3)
أحبّ إلينا منك دلاّ و ما نرى *** به عند ليلى من ثواب و لا أجر
فكذّبناه و قلنا: شيء فكّر فيه و أخرجه على هذا اللحن(4)، فكان في كل يوم يأتينا فيقول: سمعت البارحة صوتا من الجنّ بترجيع و تقطيع قد بنيت عليه صوت كذا و كذا بشعر فلان، فلم يزل على ذلك و نحن ننكر عليه؛ فإنّا لكذلك ليلة و قد اجتمع/جماعة من نساء مكة في جمع لنا سهرنا(5) فيه ليلتنا و الغريض يغنّينا بشعر عمر بن أبي ربيعة:
أ من آل زينب جدّ البكور *** نعم فلأيّ هواها تصير
إذ سمعنا في بعض الليل عزيفا عجيبا و أصواتا مختلفة ذعرتنا و أفزعتنا، فقال لنا الغريض: إن في هذه الأصوات صوتا إذا نمت سمعته، و أصبح فأبني عليه غنائي، فأصغينا إليه فإذا نغمته نغمة الغريض بعينها فصدّقناه تلك الليلة.
ص: 583
حلفت لها.................. البيتان(1)عروضه من الطويل. غنّاه الغريض و لحنه من الثقيل الأوّل بالوسطى عن حبش. قال: و لعلّويه فيه ثقيل أوّل آخر بالبنصر و منها:
أ من آل زينب جدّ البكور *** نعم فلأيّ هواها تصير
أ بالغور(2) أم أنجدت دارها *** و كانت حديثا(3) بعهدي تغور
نظرت بخيف منى نظرة *** إليها فكاد فؤادي يطير
هي الشمس تسري بها بغلة(3) *** و ما خلت شمسا بليل تسير
أ لم تر أنك مستشرف *** و أنّ عدوّك حولي حضور(4)
/عروضه من المتقارب. الشعر للنّميريّ ، و قيل: إنه ليزيد بن معاوية. و الغناء لسياط خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو. و لابن سريج فيه خفيف ثقيل بالوسطى، أوّله:
هي الشمس تسري بها بغلة
و فيه للغريض ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشاميّ و حمّاد، و ذكر غيرهما أنه لابن جامع. و ذكر حبش أن(5) فيها لابن محرز ثقيلا أوّل بالبنصر.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال قال أبو عبد اللّه مصعب الزّبيريّ :
اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة و شعره و ظرفه و حسن مجلسه و حديثه و تشوّقن إليه و تمنّينه؛ فقالت سكينة: أنا لكنّ به، فبعثت إليه رسولا و وعدته الصّورين(6) لليلة سمّتها، فوافاها على رواحله و معه الغريض، فحدّثهنّ حتى وافى الفجر و حان انصرافهنّ ، فقال لهنّ : إني و اللّه لمشتاق إلى زيارة قبر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الصلاة في مسجده، و لكن لا أخلط بزيارتكنّ شيئا(7)، ثم انصرف إلى مكة و قال:
ص: 584
ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا(1) *** قلّ الثّواء لئن كان الرحيل غدا
قال: و انصرف عمر بالغريض معه، فلما كان بمكة قال عمر: يا غريض، إني أريد أن أخبرك بشيء يتعجّل لك نفعه و يبقى لك ذكره، فهل لك فيه ؟ قال: افعل من ذلك ما شئت و ما أنت أهله، قال: إني قد قلت في هذه الليلة التي كنّا فيها شعرا فامض به إلى النّسوة فأنشدهنّ ذلك و أخبرهنّ أني وجّهت بك فيه قاصدا(2)؛ /قال: نعم، فحمل الغريض الشعر و رجع إلى المدينة فقصد سكينة و قال لها: جعلت فداك يا سيّدتي و مولاتي، إن أبا الخطّاب - أبقاه اللّه - وجّهني إليك قاصدا، قالت: أ و ليس في خير و سرور تركته ؟ قال: نعم؛ قالت: و فيم وجّهك أبو الخطّاب حفظه اللّه ؟ قال: جعلت فداك، إن ابن أبي ربيعة حمّلني شعرا و أمرني أن أنشدك إياه؛ قالت: فهاته، قال فأنشدها:
ألمم بزينب إن البين قد أفدا *** قلّ الثّواء لئن كان الرحيل غدا
الشعر كلّه، قالت: فيا ويحه! فما كان عليه ألاّ يرحل في غده! فوجّهت إلى النّسوة فجمعتهنّ و أنشدتهنّ الشعر، و قالت للغريض: هل عملت فيه شيئا؟ قال: قد غنّيته ابن أبي ربيعة؛ قالت: /فهاته، فغنّاه الغريض؛ فقالت سكينة: أحسنت و اللّه و أحسن ابن أبي ربيعة، لو لا أنّك سبقت فغنّيته عمر قبلنا لأحسنّا جائزتك، يا بنانة، أعطيه بكلّ بيت ألف درهم، فأخرجت إليه بنانة أربعة آلاف درهم فدفعتها إليه و قالت سكينة: لو زادنا عمر لزدناك.
ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا *** قلّ الثّواء لئن كان الرّحيل غدا
قد حلفت ليلة الصّورين جاهدة *** و ما على الحرّ(3) إلا الصّبر مجتهدا
لأختها و لأخرى من مناصفها(4) *** لقد وجدت به فوق الذي وجدا
لعمرها ما أراني إن نوى(5) نزحت *** و هكذا الحبّ إلا ميّتا كمدا
/عروضه من البسيط. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج، و له فيه لحنان: أحدهما رمل بالسّبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، و الآخر خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه لحن للغريض خفيف ثقيل بالبنصر عن الهشاميّ و حمّاد، و ذكر عمرو: أنّه لمالك، أوّله الرابع ثم الأوّل، و من الناس من ينسب هذا إلى معبد، و أوّله:
يا أمّ طلحة إن البين قد أفدا
ص: 585
و ذلك خطأ، اللحن الذي عمله معبد غير هذا هو:
يا أمّ طلحة إنّ البين قد أفدا *** قلّ الثّواء لئن كان الرحيل غدا
أمسى العراقيّ لا يدري إذا برزت *** من ذا تطوّف بالأركان أو سجدا
عروضه من البسيط. الشعر للأحوص، و يقال: إنه لعمر أيضا. و الغناء لمعبد، و لحنه من الثقيل الأوّل بالبنصر عن عمرو و الهشاميّ .
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن محمد بن سلاّم قال:
حجّت عائشة بنت طلحة بن عبيد اللّه فجاءتها الثّريّا و أخواتها و نساء أهل مكّة القرشيّات و غيرهنّ ، و كان الغريض فيمن جاء، فدخل النّسوة عليها فأمرت لهنّ بكسوة و ألطاف(1) كانت قد أعدّتها لمن يجيئها، فجعلت تخرج كلّ واحدة و معها جاريتها و معها ما أمرت لها به عائشة و الغريض بالباب حتى خرج مولياته مع جواريهنّ الخلع و الألطاف؛ فقال الغريض: فأين نصيبي من عائشة ؟ فقلن له: أغفلناك/و ذهبت عن قلوبنا؛ فقال: ما أنا ببارح من بابها أو آخذ بحظّي منها فإنها كريمة بنت كرام، و اندفع يغنّي بشعر جميل:
تذكّرت ليلى فالفؤاد عميد *** و شطّت نواها فالمزار بعيد
فقالت: ويلكم! هذا مولى العبلات بالباب يذكّر بنفسه هاتوه، فدخل، فلما رأته ضحكت و قالت: لم أعلم بمكانك، ثم دعت له بأشياء أمرت له بها، ثم قالت له: إن أنت غنّيتني صوتا في نفسي فلك كذا و كذا (شيء(2)سمّته له ذهب عن ابن سلاّم) قال: فغنّاها في شعر كثيّر:
و ما زلت من ليلى لدن طرّ شارب(3) *** إلى اليوم أخفي حبّها و أداجن
/و أحمل في ليلى لقوم ضغينة *** و تحمل في ليلى عليّ الضغائن
فقالت له: ما عدوت ما في نفسي، و وصلته فأجزلت. قال إسحاق: فقلت لأبي عبد اللّه: و هل علمت حديث هذين البيتين ؟ و لم سألت الغريض ذلك ؟ قال: نعم.
حدّثني أبي قال قال الشّعبيّ : دخلت المسجد فإذا أنا بمصعب بن الزّبير على سرير جالس و الناس عنده، فسلّمت ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي: ادن، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه(4)، ثم قال: إذا قمت فاتّبعني، فجلس قليلا ثم نهض فتوجّه نحو دار موسى بن طلحة فتبعته، فلما طعن في الدار التفت إليّ فقال: ادخل، فدخلت
ص: 586
معه و مضى نحو حجرته و تبعته، فالتفت إليّ فقال: ادخل، فدخلت معه، /فإذا حجلة(1)، و إنها لأوّل حجلة رأيتها لأمير(2)، فقمت و دخل الحجلة فسمعت حركة، فكرهت الجلوس و لم يأمرني بالانصراف، فإذا جارية قد خرجت فقالت: يا شعبيّ ، إنّ الأمير يأمرك أن تجلس، فجلست على وسادة و رفع سجف الحجلة، فإذا أنا بمصعب بن الزّبير، و رفع السجف الآخر فإذا أنا بعائشة بنت طلحة، قال: فلم أر زوجا قطّ كان أجمل منهما: مصعب و عائشة، فقال مصعب: يا شعبيّ ، هل تعرف هذه ؟ فقلت: نعم أصلح اللّه الأمير، قال: و من هي ؟ قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة؛ قال: لا، و لكن هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر:
و ما زلت من ليلى لدن طرّ شاربي
و ذكر البيتين. ثم قال: إذا شئت فقم، فقمت. فلما كان العشيّ رحت و إذا هو جالس على سريره في المسجد فسلّمت، فلما رآني قال لي: ادن، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، فأصغى(3) إليّ فقال: هل رأيت مثل ذلك لإنسان(4) قطّ؟ قلت: لا و اللّه؛ قال: أ فتدري لم أدخلناك ؟ قلت: لا، قال: لتحدّث بما رأيت. ثم التفت إلى عبد اللّه بن أبي فروة فقال: أعطه عشرة آلاف درهم و ثلاثين ثوبا، فما انصرف يومئذ أحد بمثل ما انصرفت به، بعشرة آلاف درهم و بمثل كارة(5) القصّار ثيابا و بنظرة من عائشة بنت طلحة.
قال: و كانت عائشة عند عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي بكر و كان أبا عذرتها(6) ثم هلك، فتزوّجها مصعب فقتل عنها، ثم تزوّجها عمر/بن عبيد اللّه بن معمر فبنى بالحيرة، و مهّدت له يوم عرسه فرش لم ير مثلها: سبع أذرع في عرض أربع، فانصرف تلك الليلة عن سبع مرّات؛ فلقيته مولاة لها حين أصبح فقالت: يا أبا حفص، كملت في كل شيء حتى في هذا. فلما مات ناحت عليه و هي قائمة، و لم تنح على أحد منهم قائمة - و كانت العرب إذا ناحت المرأة قائمة على زوجها علم أنّها لا تريد أن تتزوّج بعده - فقيل لها: يا عائشة، ما صنعت هذا بأحد من أزواجك! قالت: إنّه كان فيه خلال(7) ثلاث لم تكن في أحد منهم: كان سيّد بني تيم، و كان أقرب القوم بي قرابة، و أردت ألاّ أتزوّج بعده!!.
و أخبرني بخبر مصعب و الشّعبيّ و عائشة أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثنا سليمان بن أبي شيخ قال أخبرنا محمد بن الحكم عن عوانة قال:
خرج مصعب بن الزّبير من دار الإمارة يريد دار موسى بن طلحة، فمرّ بالمسجد فأخذ بيد الشّعبيّ . ثم ذكر
ص: 587
باقي الحديث مثله، و لم يذكر شيئا من حديث المغنّين. قال ابن عمّار: و أخبرني به داود بن جميل بن(1) محمد بن جميل الكاتب عن ابن الأعرابيّ : قال ابن/عمّار و أخبرني به أحمد بن الحارث الخزاز عن المدائنيّ أنّ الشّعبيّ قال:
دخلت المسجد و فيه مصعب بن الزبير فاستدناني فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه(2)، فأصغى إليّ و قال: إذا قمت فاتّبعني. ثم ذكر باقي الحديث أيضا مثل الذي تقدّمه.
و ما زلت من(3) ليلى لدن طرّ شاربي *** إلى اليوم أخفي حبّها و أداجن
و أحمل في ليلى ضغائن معشر(4) *** و تحمل في ليلى عليّ الضغائن
عروضه من الطويل. و الشعر لكثيّر بن عبد الرحمن. و الغناء لمعبد ثقيل أوّل بالبنصر عن حبش. و فيه لحن للغريض.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال:
كان الغريض إذا غنّى بيتين لكثيّر قال: أنا السّريجيّ حقّا، و لم يكن يقول ذلك في شيء من غنائه و كان من جيّد غنائه.
و قدم يزيد بن عبد الملك مكّة فبعث إلى الغريض سرّا فأتاه فغناه بهذا اللحن [و هو فيهما](5):
و إنّي لأرعى قومها من جلالها *** و إن أظهروا غشا نصحت لهم جهدي
و لو حاربوا قومي لكنت لقومها *** صديقا و لم أحمل على قومها حقدي
فأشير إلى الغريض أن اسكت؛ و فطن يزيد فقال: دعوا أبا يزيد حتى يغنّيني بما يريد، فأعاد عليه الصوت مرارا، ثمّ قال: زدني ممّا عندك فغنّاه بشعر عمرو(6) بن شأس الأسديّ :
فوا ندمي على الشباب و وا ندم *** ندمت و بان اليوم منّي بغير ذم
ص: 588
أرادت عرارا(1)
بالهوان و من يرد *** عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم
/قال: فطرب يزيد و أمر له بجائزة سنيّة. قال إسحاق: فحدّثت أبا عبد اللّه هذا الحديث. و قد أخذنا في أحاديث الخلفاء و من كان منهم يسمع الغناء أيضا، فقال أبو عبد اللّه: كان قدوم يزيد مكّة و بعثته إلى الغريض سرّا قبل أن يستخلف، فقلت له: فلم أشير إلى الغريض أن يسكت حين غنّاه بشعر كثيّر:
و إني لأرعى قومها من جلالها
و ما السّبب في ذلك ؟ فقال أبو عبد اللّه: أنا أحدّثكه:
حدّثني أبيّ قال: كان عبد الملك بن مروان من أشدّ الناس حبّا لعاتكة امرأته، و هي ابنة يزيد بن معاوية و أمّها أمّ كلثوم بنت عبد اللّه بن عامر بن كريز، و هي أمّ يزيد بن عبد الملك، فغضبت مرّة على عبد الملك، و كان بينهما باب فحجبته و أغلقت ذلك الباب، فشقّ غضبها على عبد الملك و شكا إلى رجل من خاصّته يقال له: عمر بن بلال الأسديّ ، فقال له: ما لي عندك إن رضيت ؟ قال: حكمك. فأتى عمر بابها و جعل يتباكى، و أرسل إليها بالسلام، فخرجت إليه حاضنتها و مواليها و جواريها فقلن: مالك ؟ قال: فزعت إلى عاتكة و رجوتها، فقد علمت مكاني من أمير المؤمنين معاوية و من أبيها بعده، قلن: و مالك ؟ قال: ابناي لم يكن لي غيرهما فقتل أحدهما صاحبه، فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به، فقلت: أنا الوليّ و قد عفوت؛ قال: لا أعوّد الناس هذه العادة، فرجوت أن ينجي(2) اللّه ابني هذا على يدها؛ فدخلن عليها فذكرن ذلك لها؛ فقالت: و كيف أصنع مع(3) غضبي/عليه و ما أظهرت له ؟ قلن إذا و اللّه يقتل، فلم يزلن حتى دعت بثيابها فأجمرتها(4) ثم خرجت نحو الباب، فأقبل /حديج(5) الخصيّ قال أمير المؤمنين: هذه عاتكة قد أقبلت؛ قال: ويلك! ما تقول ؟ قال: قد و اللّه طلعت! فأقبلت و سلّمت فلم يردّ [عليها](6)، فقالت: أما و اللّه لو لا عمر ما جئت، إنّ أحد ابنيه تعدّى على الآخر فقتله فأردت قتل الآخر و هو الوليّ و قد عفا؛ قال: إني أكره أن أعوّد الناس هذه العادة؛ قالت: أنشدك اللّه يا أمير المؤمنين، فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين(7) معاوية و من أمير المؤمنين يزيد، و هو ببابي؛ فلم تزل به حتى أخذت برجله فقبّلتها؛ فقال: هو لك، و لم يبرحا حتى اصطلحا؛ ثم راح عمر بن بلال إلى عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، كيف رأيت ؟ قال: رأينا أثرك، فهات حاجتك؛ قال: مزرعة بعدّتها و ما فيها، و ألف دينار و فرائض لولدي و أهل بيتي و عيالي؛ قال: ذلك لك. ثم اندفع عبد الملك يتمثّل بشعر كثيّر:
و إني لأرعى قومها من جلالها
ص: 589
البيتين؛ فعلمت عاتكة ما أراد. فلما غنّي يزيد بهذا الشعر كرهته مواليه إذ كان عبد الملك تمثّل به في أمّه، و لم يكرهه يزيد و قال: لو قيل هذا الشعر فيها ثمّ غنّي به لما كان عيبا، فكيف و إنما هو مثل تمثّل به أمير المؤمنين في أجمل العالمين!
قال أبو عبد اللّه: و أما خبره لما غنّى بشعر عمرو بن شأس فإن ابن الأشعث لما قتل بعث الحجاج إلى عبد الملك برأسه مع عرار بن عمرو بن شأس، فلما ورد به و أوصل كتاب الحجّاج جعل عبد الملك يقرؤه، فكلما شكّ في شيء سأل عرارا عنه فأخبره، فعجب عبد الملك من بيانه و فصاحته من سواده، فقال متمثّلا:
و إنّ عرارا إن يكن غير واضح *** فإنّي أحبّ الجون ذا المنكب العمم(1)
/فضحك عرار من قوله ضحكا غاظ عبد الملك؛ فقال له: ممّ ضحكت ويلك(2)! قال: أ تعرف عرارا يا أمير المؤمنين الذي قيل فيه هذا الشعر؟ قال: لا؛ قال: فأنا و اللّه هو؛ فضحك عبد الملك و قال: حظّ وافق كلمة، ثم أحسن جائزته و سرّحه.
قال أبو عبد اللّه: و إنما أراد الغريض أن يغنّي يزيد بمتمثّلات عبد الملك في الأمور العظام، فلما تبيّن كراهة مواليه غناءه فيما تمثّل به في عاتكة أراد أن يعقبه ما تمثّل به في فتح عظيم كان لعبد الملك، فغنّاه بشعر عمرو بن شأس في عرار.
و إنّى لأرعى قومها من جلالها *** و إن أظهروا غشّا نصحت لهم جهدي
و لو حاربوا قومي لكنت لقومها *** صديقا و لم أحمل على قومها حقدي
عروضه من الطويل. الشعر لكثيّر. و الغناء للغريض ثاني ثقيل بالسّبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. و ذكر حبش أن فيه لقفا(3) النّجار ثاني ثقيل بالوسطى، و فيه لعلّويه ثقيل أوّل.
و أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال حدّثني إبراهيم عن يونس الكاتب قال حدّثني معبد قال:
خرجت إلى مكة في طلب لقاء الغريض و قد بلغني حسن غنائه في لحنه:
و ما أنس الأشياء لا أنس شادنا *** بمكّة مكحولا أسيلا مدامعه
/و قد كان بلغني أنه أوّل لحن صنعه و أن الجنّ نهته أن يغنّيه لأنه فتن طائفة منهم، فانتقلوا عن مكّة من أجل
ص: 590
حسنه، فلما قدمت مكّة سألت عنه فدللت على منزله، فأتيته فقرعت الباب فما كلّمني أحد، فسألت بعض الجيران فقلت: هل في الدار أحد؟ قالوا(1) لي: نعم، فيها الغريض، فقلت: إنّي قد أكثرت دقّ الباب، فما أجابني أحد! قالوا: إن الغريض هناك، فرجعت فدققت الباب فلم يجبني أحد، فقلت: إن نفعني غنائي يوما نفعني اليوم، فاندفعت فغنّيت لحني في شعر جميل:
علقت الهوى منها وليدا فلم يزل *** إلى اليوم ينمي و يزيد
فو اللّه ما سمعت حركة الباب، فقلت: بطل سحري(2) و ضاع سفري و جئت أطلب ما هو عسير عليّ ، و احتقرت نفسي و قلت: لم يتوهّمني(3) لضعف غنائي عنده، فما شعرت إلا بصائح يصيح: يا معبد المغنّي، افهم و تلق عني شعر جميل الذي تغنّي فيه يا شقيّ البخت، و غنّى:
و ما أنس من الأشياء لا أنس قولها *** و قد قرّبت نضوي(4) أ مصر تريد
و لا قولها لو لا العيون التي ترى *** أتيتك فاعذرني فدتك جدود
خليليّ ما أخفي من الوجد باطن(5) *** و دمعي بما قلت الغداة شهيد
/يقولون جاهد يا جميل بغزوة *** و أيّ جهاد غير هن أريد
لكلّ حديث عندهنّ (6) بشاشة *** و كلّ قتيل بينهنّ شهيد
عروضه من الطويل. قال: فلقد سمعت شيئا لم أسمع أحسن منه، و قصّر(7) إليّ نفسي و علمت فضيلته عليّ بما أحسّ من نفسه، و قلت: إنه لحريّ بالاستتار من الناس تنزيها لنفسه و تعظيما لقدره، و إنّ مثله لا يستحقّ الابتذال، و لا أن تتداوله الرجال، فأردت الانصراف إلى المدينة راجعا، فلما كنت غير بعيد إذا بصائح يصيح بي: يا معبد، انتظر(8) أكلّمك، فرجعت، فقال لي: إن الغريض يدعوك؛ فأسرعت فرحا فدنوت من الباب؛ فقال لي: أ تحبّ الدخول ؟ فقلت: و هل إلى ذلك من سبيل ؟ فقرع الباب ففتح، فقال لي: ادخل و لا تطل الجلوس؛ فدخلت فإذا شمس طالعة في بيت، فسلّمت فردّ السلام، ثم قال: اجلس فجلست، فإذا أنبل الناس و أحسنهم وجها و خلقا و خلقا، فقال: يا معبد، كيف طرأت(9) إلى مكّة ؟ فقلت: جعلت فداءك! و كيف عرفتني ؟ فقال: بصوتك؛
ص: 591
فقلت: و كيف و أنت لم تسمعه قط! قال: لمّا غنّيت عرفتك به و قلت: إن كان معبد في الدنيا فهذا؛ فقلت: جعلت فداءك، فكيف أجبتني بقولك:
و ما أنس م الأشياء لا أنس قولها *** و قد قرّبت نضوي أ مصر تريد
فقال: قد علمت أنك تريد أن أسمعك صوتي:
و ما أنس م الأشياء لا أنس شادنا *** بمكّة مكحولا أسيلا مدامعه
و لم يكن إلى ذلك سبيل لأنّه صوت قد نهيت أن أغنّيه فغنّيتك هذا الصوت جوابا لما/سألت و غنّيت، فقلت: و اللّه ما عدوت و ما أردت، فهل لك حاجة ؟ /فقال لي: يا أبا عبّاد، لو لا ملالة الحديث و ثقل إطالة الجلوس لاستكثرت منك، فاعذر؛ فخرجت من عنده، و إنّه لأجلّ الناس عندي، و رجعت إلى المدينة فتحدّثت بحديثه و عجبت من فطنته و قيافته، فما رأيت إنسانا إلاّ و هو أجلّ منه في عيني(1).
و ذكرت جميلا و بثينة فقلت: ليتني عرفت إنسانا يحدّثني بقصّة جميل و خبر الشعر فأكون قد أخذت بفضيلة الأمر كلّه في الغناء و الشعر. فسألت عن ذلك فإذا الحديث مشهور، و قيل لي: إن أردت أن تخبّر بمشاهدته فأت بني حنظلة، فإن فيهم شيخا منهم يقال له فلان يخبّرك الخبر؛ فأتيت الشيخ فسألته فقال: نعم، بينا أنا في إبلي في الربيع إذا أنا برجل منطو على رحله كأنّه جانّ فسلّم عليّ ثم قال: ممن أنت يا عبد اللّه ؟ فقلت: أحد بني حنظلة؛ قال: فانتسب(2)، فانتسبت حتى بلغت إلى فخذي الذي أنا منه؛ ثم سألني عن بني عذرة أين نزلوا؛ فقلت له: هل ترى ذلك السّفح ؟ فإنهم نزلوا من ورائه؛ قال: يا أخا بني حنظلة، هل لك في خير(3) تصطنعه إليّ؟ فو اللّه لو أعطيتني ما أصبحت تسوق من هذه الإبل ما كنت بأشكر منّي لك عليه؛ فقلت نعم، و من أنت أوّلا؟ قال: لا تسألني من أنا و لا أخبرك غير أني رجل بيني و بين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم، فإن رأيت أن تأتيهم فإنّك تجد القوم في مجلسهم فتنشدهم(4) بكرة أدماء تجرّ خفّيها غفلا(5) من السّمة، فإن ذكروا لك شيئا فذاك، و إلا استأذنتهم في البيوت و قلت: إن المرأة و الصبيّ قد يريان ما لا يرى الرجال، فتنشدهم و لا تدع أحدا تصيبه عينك و لا بيتا/من بيوتهم إلاّ نشدتها فيه؛ فأتيت القوم فإذا هم على جزور يقتسمونها، فسلّمت و انتسبت لهم و نشدتهم ضالّتي، فلم يذكروا لي شيئا؛ فاستأذنتهم في البيوت و قلت: إنّ الصبيّ و المرأة يريان ما لا ترى الرجال، فأذنوا؛ فأتيت أقصاها بيتا ثم استقريتها بيتا بيتا أنشدهم فلا يذكرون شيئا، حتى إذا انتصف النهار و آذاني حرّ الشمس و عطشت و فرغت من البيوت و ذهبت لأنصرف حانت منّي التفاتة فإذا بثلاثة أبيات، فقلت: ما عند هؤلاء إلا ما عند
ص: 592
غيرهم، ثم قلت لنفسي: سوأة! وثق بي رجل و زعم أن حاجته تعدل مالي ثم آتيه فأقول: عجزت عن ثلاثة أبيات! فانصرفت عامدا إلى أعظمها بيتا، فإذا هو قد أرخى مؤخّرة و مقدّمة، فسلّمت فردّ عليّ السلام، و ذكرت ضالّتي، فقالت جارية منهم: يا عبد اللّه، قد أصبت ضالّتك و ما أظنّك إلاّ قد اشتدّ عليك الحرّ و اشتهيت الشراب؛ قلت: أجل، قالت: ادخل، فدخلت فأتتني بصحفة فيها تمر من تمر هجر، و قدح فيه لبن، و الصّحفة مصريّة مفضّضة و القدح مفضّض لم أر إناء قطّ أحسن منه، فقالت: دونك، فتجمّعت(1) و شربت من اللبن حتى رويت، ثم قلت: يا أمة اللّه، و اللّه ما أتيت اليوم أكرم منك و لا أحقّ بالفضل، فهل ذكرت من ضالّتي شيئا؟ فقالت: هل ترى هذه الشجرة فوق الشّرف(2)؟ قلت: نعم؛ قالت: فإن الشمس غربت أمس و هي تطيف حولها ثم حال الليل بيني و بينها؛ فقمت و جزيتها الخير و قلت: و الله لقد تغذيت و رويت! فخرجت حتى أتيت الشجرة فأطفت بها فو اللّه ما رأيت من أثر، فأتيت صاحبي فإذا هو متّشح في الإبل/بكسائه و رافع عقيرته(3) يغنّي، قلت: السلام عليك؛ قال:
/و عليك السلام ما وراءك ؟ قلت؛ ما ورائي من شيء؛ قال: لا عليك! فأخبرني بما فعلت، فاقتصصت عليه القصّة حتى انتهيت إلى ذكر المرأة و أخبرته بالذي صنعت؛ فقال: قد أصبت طلبتك؛ فعجبت من قوله و أنا لم أجد شيئا، ثم سألني عن صفة الإناءين: الصّحفة و القدح فوصفتهما له، فتنفّس الصّعداء و قال: قد أصبت طلبتك ويحك! ثم ذكرت له الشجرة و أنّها [رأتها](4) تطيف بها؛ فقال: حسبك! فمكثت حتى إذا أوت إبلي إلى مباركها دعوته إلى العشاء فلم يدن منه، و جلس منّي بمزجر الكلب، فلما ظنّ أنّي قد نمت رمقته فقام إلى عيبة(5) له فاستخرج منها بردين فأتزر(6) بأحدهما و تردّى بالآخر، ثم انطلق عامدا نحو الشجرة. و استبطنت الوادي فجعلت أخفي نفسي حتّى إذا خفت أن يراني انبطحت، فلم أزل كذلك حتّى سبقته إلى شجرات قريب من تلك الشجرة بحيث أسمع كلامهما فاستترت بهنّ ، و إذا صاحبته عند الشجرة، فأقبل حتّى كان منها غير بعيد، فقالت: اجلس، فو اللّه لكأنّه لصق بالأرض، فسلّم عليها عن حالها أكرم سؤال سمعت به قطّ و أبعده من كل ريبة، و سألته مثل مسألته، ثم أمرت جارية معها فقربت إليه طعاما، فلمّا أكل و فرغ، قالت أنشدني ما قلت، فأنشدها:
علقت الهوى منها وليدا فلم يزل *** إلى اليوم ينمي حبّها و يزيد
فلم يزالا يتحدّثان، ما يقولان فحشا و لا هجرا، حتّى التفتت التفاتة(7) فنظرت إلى الصبح، فودّع كلّ واحد منهما صاحبه أحسن وداع ما سمعت به قطّ(8) ثم انصرفا، /فقمت فمضيت إلى إبلي فاضطجعت و كل واحد منهما يمشي خطوة ثمّ يلتفت إلى صاحبه، فجاء بعد ما أصبحنا فرفع برديه ثم قال: يا أخا بني تميم، حتّى متى تنام!
ص: 593
فقمت و توضّأت و صلّيت و حلبت إبلي و أعانني عليها و هو أظهر الناس سرورا، ثمّ دعوته إلى الغداء فتغدّى، ثم قام إلى عيبته فافتتحها فإذا فيها سلاح و بردان مما كسته الملوك، فأعطاني أحدهما و قال: أما و اللّه لو كان معي شيء ما ذخرته عنك، و حدّثني حديثه و انتسب لي، فإذا هو(1) جميل بن معمر و المرأة بثينة، و قال لي: إني قد قلت أبياتا في منصرفي(2) من عندها، فهل لك إن رأيتها أن تنشدها(3)؟ قلت: نعم! فأنشدني:
و ما أنس م الأشياء لا أنس قولها *** و قد قرّبت نضوي أ مصر تريد
الأبيات، ثم ودّعني و انصرف، فمكثت حتّى أخذت الإبل مراتعها(4)، ثم عمدت إلى دهن كان معي فدهنت به رأسي، ثم ارتديت بالبرد و أتيت المرأة فقلت: السلام عليكم، إنّي جئت أمس طالبا و اليوم زائرا، أ فتأذنون ؟ قالت: نعم، فسمعت جويرية تقول لها: يا بثينة، عليه و اللّه برد جميل؛ فجعلت أثني على ضيفي و أذكر فضله، و قلت: إنّه ذكرك فأحسن(5) الذكر، فهل أنت بارزة لي حتّى انظر إليك ؟ قالت: نعم، فلبست ثيابها ثم برزت و دعت لي بطرف(6) ثم قالت: يا أخا بني تميم، و اللّه ما ثوباك هذان بمشتبهين، و دعت بعيبتها فأخرجت لي ملحفة مرويّة(7) مشبعة/من العصفر، ثم قالت: أقسمت عليك لتقومنّ إلى كسر البيت و لتخلعنّ مدرعتك(8) ثم لتأتزرنّ (9) بهذه الملحفة فهي(10) أشبه ببردك؛ ففعلت ذلك و أخذت مدرعتي بيدي فجعلتها إلى جانبي، /و أنشدتها(11) الأبيات فدمعت عيناها، و تحدّثنا طويلا من النهار، ثم انصرفت إلى إبلي بملحفة بثينة و برد جميل و نظرة من بثينة. قال معبد: فجزيت الشيخ خيرا و انصرفت من عنده و أنا و اللّه أحسن الناس حالا بنظرة من الغريض و استماع لغنائه، و علم بحديث جميل و بثينة فيما غنّيت أنا به و فيما غنّى به الغريض على حقّ ذلك و صدقه، فما رأيت و لا سمعت بزوجين قطّ أحسن من جميل و بثينة، و من الغريض و منّي.
و هي كلها من قصيدة واحدة.
منها:
ص: 594
علقت الهوى منها وليدا فلم يزل *** إلى اليوم ينمي حبها و يزيد
و أفنيت عمري في انتظاري نوالها *** و أفنت بذاك الدهر و هو جديد
فلا أنا مردود بما جئت طالبا *** و لا حبّها فيما يبيد يبيد
و ما أنس م الأشياء لا أنس قولها *** و قد قرّبت نضوي أ مصر تريد
و لا قولها لو لا العيون التي ترى *** لزرتك فاعذرني فدتك جدود
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي *** من الحبّ قالت ثابت و يزيد
و إن قلت ردّي بعض عقلي أعش به *** تولّت(1) و قالت ذاك منك بعيد
/عروضه من الطويل. الشعر لجميل بن معمر. و الغناء لمعبد في الأوّل و الثاني و الثالث و السادس و السابع. و لحنه ثقيل أوّل بالسّبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق و عمرو بن بانة. و ذكر عمرو و الهشاميّ أنّ فيه ثقيلا أوّل آخر للهذليّ ، و أنّ فيه خفيف ثقيل ينسب إلى معبد و إلى الغريض و إلى إبراهيم، أوّله: «و ما أنس م الأشياء». و في الأربعة الأبيات الأول ثاني ثقيل بالبنصر لابن(2) أبي قباحة. و لإسحاق في الثالث و السادس ثاني ثقيل آخر بالوسطى عن الهشاميّ . و أوّل هذه القصيدة فيه غناء أيضا، و هو موصول بأبيات أخر:
ألا ليت ريعان(3) الشباب جديد *** و دهرا تولّى يا يا بثين يعود
فنغنى كما كنّا نكون و أنتم *** قريب و ما قد تبذلين زهيد
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** بوادي القرى(4) إنّي إذا لسعيد
و هل ألقين سعدى من الدهر ليلة *** و ما رثّ من حبل الصفاء جديد
فقد تلتقي الأهواء بعد تفاوت *** و قد تطلب الحاجات و هي بعيد
في البيتين الأوّلين خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر، ذكر حبش أنّه لإسحاق؛ و ليس يشبه أن يكون له.
و في الثالث و ما بعده لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر عن حبش أيضا.
أخبرني إسماعيل بن يونس إجازة قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان قال حدّثني الوليد بن هشام عن
ص: 595
محمد بن معن عن خالد بن سلمة(1) المخزوميّ قال:
خرجت مع أعمامي و أنا على نجيب و معنا شيخ، فلمّا أسحرنا(2) قال لي أعمامي: انزل عن نجيبك(3)و احمل عليه هذا/الشيخ و اركب جمله، ففعلت؛ فإذا الشيخ قد أخرج عودا له من غلاف(4)، ثمّ ضرب به و غنّى:
هاج الغريض الذّكر *** لمّا غدوا فانشمروا(5)
فقلت لبعض أصحابنا: من هذا؟ قال: الغريض.
هاج الغريض الذّكر *** لمّا غدوا فانشمروا
على بغال شحّج(6) *** قد ضمّهنّ السفر
فيهنّ هند ليتني *** ما عمّرت أعمّر(7)
حتى إذا ما جاءها *** حتف أتاني القدر
عروضه من الرجز. الذي قال عمر:
هاج القريض الذّكر
/بالقاف، فجعله الغريض لما غنّى فيه: «الغريض» يعني نفسه. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. و الغناء لابن سريج. ذكر يونس أنّ له فيه لحنين. و ذكر إسحاق أنّ أحدهما رمل مطلق في مجرى البنصر و لم يذكر الآخر، و ذكر الهشاميّ أنّ الآخر خفيف رمل. و فيه للغريض ثقيل أوّل بالبنصر، و قيل: إنه لحن ابن سريج، و إن خفيف الرمل للغريض. و أوّل هذا الصوت في كتاب يونس:
هاج فؤادي محضر(8) *** بذي عكاظ مقفر
حتّى إذا ما وازنوا ال *** مروة حين ائتمروا(9)
ص: 596
قيل انزلوا فعرّسوا *** من ليلكم و انشمروا
و قولها لأختها *** أ مطمئنّ عمر
أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه قال و ذكر السّعديّ (1):
أنّ الوليد بن عبد الملك قدم مكّة، فأراد أن يأتي الطائف، فقال: هل من رجل عالم يخبرني عنها؟ فقالوا: عمر بن أبي ربيعة؛ قال: لا حاجة لي به، ثم عاد فسأل، فذكروه فأباه، ثم عاد فذكروه فقال: هاتوه، و ركب معه فجعل يحدّثه، ثم حوّل عمر رداءه ليصلحه على نفسه، فرأى الوليد على ظهره أثرا، فقال: ما هذا الأثر؟ /قال: كنت عند جارية لي إذ جاءتني جارية برسالة من عند جارية أخرى و جعلت تسارّني بها، فغارت التي كنت عندها فعضّت منكبي، فما وجدت ألم عضّتها من لذّة ما كانت تلك تنفث في أذني حتى بلغت ما ترى، و الوليد يضحك. فلما رجع عمر قيل له: ما الذي كنت تضحك به أمير المؤمنين ؟ قال: ما زلنا في حديث الزّنا حتى رجع.
و كان قد حمل الغريض معه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّ عندي أجمل الناس وجها و أحسنهم حديثا، فهل لك أن تسمعه ؟ قال: هاته، فدعا به فقال: أسمع أمير المؤمنين أحسن شيء قلته، فاندفع يغنّي بشعر عمر - و من الناس من يرويه لجميل -:
إني لأحفظ سرّكم و يسرّني *** لو تعلمين بصالح أن تذكري
/و يكون يوم لا أرى لك مرسلا *** أو نلتقي(2) فيه عليّ كأشهر
يا ليتني ألقى المنيّة بغتة *** إن كان يوم لقائكم لم يقدر
ما كنت و الوعد الذي تعدينني *** إلاّ كبرق سحابة لم تمطر
تقضى الدّيون و ليس ينجز عاجلا *** هذا الغريم لنا و ليس بمعسر
- عروضه من الكامل. و ذكر حبش أنّ الغناء للغريض، و لحنه ثقيل أوّل بالبنصر - قال: فاشتدّ سرور الوليد بذلك و قال له: يا عمر، هذه رقيتك، و وصله و كساه و قضى حوائجه.
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال حدّثنا الحارث بن محمد عن المدائنيّ عن عوانة قال حدّثني رجل من أهل الكوفة قال:
ص: 597
/قدم نصيب الكوفة، فأرسلني أبي إليه، و كان له صديقا، فقال: أقرئه منّي السلام و قل له: إن رأيت أن تهدي لنا شيئا مما قلت! فأتيته في يوم جمعة و هو يصلّي، فلما فرغ أقرأته السلام و قلت له: فقال قد علم أبوك أنّي لا أنشد في يوم الجمعة و لكن تلقاني في غيره فأبلغ ما تحبّ ، فلمّا خرجت و انتهيت إلى الباب رددت إليه؛ فقال: أ تروي شيئا من الشعر؟ قلت نعم؛ قال: فأنشدني، فأنشدته قول جميل:
إني لأحفظ غيبكم و يسرّني *** لو تعلمين بصالح أن تذكري
الأبيات المتقدّمة، فقال نصيب: أمسك! أمسك! للّه درّه! ما قال أحد إلا دون ما قال، و لقد نحت(1) للناس مثالا يحتذون عليه. ثم قال: أمّا أصدقنا في شعره فجميل، و أمّا أوصفنا لربّات الحجال فكثيّر، و أمّا أكذبنا فعمر بن أبي ربيعة، و أمّا أنا فأقول ما أعرف.
و قال هارون بن محمد الزيّات حدّثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه:
أن الغريض سمع أصوات رهبان بالليل في دير لهم فاستحسنها، فقال له بعض من معه: يا أبا يزيد، صغ على مثل هذا الصوت لحنا؛ فصاغ مثله في لحنه:
يا أمّ بكر حبّك البادي *** لا تصرميني إنّني غادي
فما سمع بأحسن منه.
يا أمّ بكر حبك البادي *** لا تصرميني إنّني غادي
جدّ الرحيل و حثّني صحبي *** و أريد إمتاعا من الزّاد
/عروضه من مزاحف الكامل(2). الشعر لسعيد(3) بن عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت الأنصاريّ . و الغناء للغريض خفيف ثقيل أوّل بالوسطى. و فيه لابن المكّي ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش. و فيه لإبراهيم بن أبي الهيثم هزج.
و أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبة عن أيوب بن عباية عن عمرو بن عقبة - و كان يعرف بابن الماشطة - قال:
خرجت أنا و أصحاب لي فيهم إبراهيم بن أبي الهيثم إلى العقيق، و معنا رجل ناسك كنا نحتشم منه، و كان محموما نائما، و أحببنا أن نسمع من معنا من المغنّين و نحن نهابه و نحتشمه، فقلت له: إنّ فينا رجلا ينشد الشعر
ص: 598
فيحسن، و نحن نحبّ أن نسمعه، و لكنّا نهابك؛ قال: فما عليّ منكم! أنا محموم نائم، /فاصنعوا ما بدا لكم، فاندفع إبراهيم بن [أبي](1) الهيثم فغنّى:
يا أمّ بكر حبّك البادي *** لا تصرميني إنّني غادي
جدّ الرحيل و حثّني صحبي *** و أريد إمتاعا من الزاد
فأجاده و أحسنه. قال: فوثب الناسك فجعل يرقص و يصيح: أريد إمتاعا من الزاد، و اللّه أريد إمتاعا من الزاد، ثم كشف عن أيره و قال: أنا أنيك أمّ الحمّى! قال: يقول لي ابن الماشطة: أعتقت ما أملك إن كان ناك أمّ الحمّى أحد قبله.
أخبرني به الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن أيّوب فذكر(2) الخبر و لم يذكر فيه كشف الناسك عن سوأته و ما قاله بعد ذلك.
و كانت وفاة الغريض في أيام سليمان بن عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز لم يتجاوزها. و الأشبه أنّه مات في خلافة سليمان، لأن الوليد كان ولّى نافع بن علقمة مكة فهرب منه الغريض و أقام باليمن و استوطنها مدّة ثم مات بها. و أخبرني بخبره الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن المسيّبي قال أخبرني بعض المخزوميين أيضا بخبره.
و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني أبو غسّان: أن نافع بن علقمة لما ولّي مكّة خافه الغريض - و كان كثيرا ما يطلبه فلم يجئه(3) - فهرب منه و استخفى في بعض منازل إخوانه. قال: فحدّثني رجل من أهل مكّة كان يخدمه: أنّه دفع إليه يوما ربعة(4) له و قال له: صر بها إلى فلان العطّار يملؤها لي طيبا، قال: فصرت بها إليه، فلقيني نافع بن علقمة فقال: هذه ربعة الغريض و اللّه! فلم أقدر أن أكتمه، فقلت: نعم؛ قال: ما قصّته ؟ فأخبرته الخبر؛ فضحك و قال: سر معي إلى المنزل ففعلت، فملأها طيبا و أعطاني دنانير، و قال: أعطه و قل له يظهر فلا بأس عليه؛ فسرت إليه مسرورا فأخبرته بذلك فجزع و قال: الآن ينبغي أن أهرب، إنما هذه حيلة احتالها عليّ لأقع في يده، ثم خرج من وقته إلى اليمن فكان آخر العهد به.
قال إسحاق فحدّثني هذا المخزوميّ : أنّ الغريض لمّا صار إلى اليمن و أقام(5) به اجتزنا به بعض أسفارنا؛ قال: فلما رآني بكى؛ فقلت له: ما يبكيك ؟ قال: بأبي أنت و أمّي! و كيف يطيب لي أن أعيش بين قوم يرونني أحمل عودي فيقولون لي: يا هناه(6)، أ تبيع آخرة(7) الرّحل! فقلت له: فارجع إلى مكّة ففيها أهلك، فقال: يا بن أخي،
ص: 599
إنّما/كنت أستلذّ مكّة و أعيش بها مع أبيك و نحوه، و قد أوطنت(1) هذا المكان و لست تاركه ما عشت؛ قلنا له: فغنّنا بشيء من غنائك فتأبّى، ثم أقسمنا عليه فأجاب، و عمدنا إلى شاة فذبحناها و خرطنا من مصرانها أوتارا، فشدّها على عوده و اندفع فغنّى في شعر زهير:
جرى دمعي فهيّج لي شجونا *** فقلبي يستجنّ (2) به جنونا(3)
فما سمعنا شيئا أحسن منه؛ فقلنا(4) له: ارجع إلى مكّة، فكلّ من بها يشتاقك. و لم نزل نرغّبه في ذلك حتى أجاب إليه. و مضينا لحاجتنا ثم عدنا فوجدناه عليلا، فقلنا: ما قصّتك ؟ قال: جاءني منذ ليال قوم، و قد كنت أغنّي في الليل، فقالوا: غنّنا؛ فأنكرتهم و خفتهم، فجعلت أغنّيهم، فقال لي بعضهم غنّني:
لقد حثّوا الجمال ليه *** ربوا منّا فلم يئلوا(5)
ففعلت، فقام إليّ [هن](6) منهم أزبّ (7) فقال لي: أحسنت و اللّه! و دقّ رأسي، حتى سقطت لا أدري أين أنا، فأفقت بعد ثالثة و أنا عليل كما ترى، و لا أراني إلا سأموت. قال: فأقمنا عنده بقيّة يومنا و مات من غد فدفنّاه و انصرفنا.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة عن أبي غسّان قال:
زعم المكّيّون أنّ الغريض خرج إلى بلاد عكّ (8) فغنّى ليلا:
هم ركب لقوا ركبا *** كما قد تجمع السّبل
/فصاح به صائح: اكفف يا أبا مروان، فقد سفّهت حلماؤنا، و أصبيت(9) سفهاءنا، قال: فأصبح ميّتا.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني محمد بن الخطّاب قال حدّثنا رجل من آل أبي قبيل - يقال له محرز - عن أبي قبيل قال: رأيت الغريض، و قال إسحاق في خبره المذكور: حدّثني محمد بن سلاّم عن أبي قبيل - و هو مولى لآل الغريض - قال:
شهدت مجمعا لآل الغريض إما(10) عرسا أو ختانا، فقيل له: تغنّ ؛ فقال: هو ابن زانية إن فعل؛ فقال له بعض مواليه: فأنت و اللّه كذلك! قال: أ و كذلك أنا؟ قال: نعم، قال: أنت أعلم بي و اللّه! ثم أخذ الدّفّ فرمى به و تمشّى مشية لم أر أحسن منها، ثم تغنّى:
ص: 600
تشرّب لون الرّازقيّ (1) بياضه *** أو الزعفران خالط المسك رادعه
فجعل يغنّيه مقبلا و مدبرا حتى التوت عنقه و خرّ صريعا، و ما رفعناه إلاّ ميّتا، و ظننّا أنّ فالجا عاجله. قال إسحاق و حدّثني ابن الكلبيّ عن أبي مسكين قال: إنما نهته الجنّ أن يتغنّى بهذا الصوت، فلمّا أغضبه مواليه تغنّاه فقتلته الجنّ في ذلك.
منها:
جرى دمعي فهيّج لي شجونا *** فقلبي يستجنّ (2) به جنونا
أ أبكي للفراق و كلّ حيّ *** سيبكي حين يفتقد القرينا
فإن تصبح طليحة(3) فارقتني *** ببين فالرزيّة أن تبينا
فقد بانت بكرهي يوم بانت *** مفارقة و كنت بها ضنينا
الشعر لزهير، و الغناء للغريض عن حبش. و قيل: إنه لدحمان. و فيه لأبي الورد خفيف رمل بالوسطى [عن حبش و الهشاميّ ](4).
انقضت أخبار الغريض.
و منها:
/أسائل
عاصما في السّرّ(1)*** أين تراهم نزلوا
فقال هم قريب من *** ك لو نفعوك إذ رحلوا
الشعر للحكم بن عبدل الأسديّ . و الغناء في اللحن المختار للغريض، و لحنه خفيف ثقيل [أوّل](2) بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى في الأوّل و الثاني من الأبيات. و ذكر الهشاميّ أن فيهما لحنا لمعبد من الثقيل الأوّل. و في الثالث و ما بعده من الأبيات لابن سريج رمل بالسّبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. و فيها لإبراهيم ثقيل أوّل بالوسطى عن حبش. و ذكر أحمد بن عبيد أنّ الذي صحّ فيه أربعة ألحان: منها لحنان في خفيف الثقيل للغريض و مالك، و لحنان في الرمل لابن سريج و مخارق. و ذكر ابن الكلبيّ (3) أنّ فيها لعريب رملا ثالثا، و ذكر حبش أنّ فيها لابن سريج خفيف رمل بالبنصر، و لابن مسجح رملا بالبنصر، و لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر. هذه الألحان كلها في «لقد حثّوا» و الذي بعده.
ص: 602
هو الحكم بن عبدل بن جبلة بن عمرو بن ثعلبة بن عقال بن بلال بن سعد بن حبال(1) بن نصر بن غاضرة بن مالك بن ثعلبة بن دودان(2) بن أسد بن خزيمة، شاعر مجيد مقدّم في طبقته، هجّاء خبيث اللسان، من شعراء الدولة الأمويّة؛ و كان أعرج أحدب. و منزله و منشؤه الكوفة.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن(3) عمّار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قال حدّثنا محمد بن إدريس القيسيّ بواسط قال حدّثنا العتبيّ قال:
كان الحكم بن عبدل الأسديّ أعرج لا تفارقه العصا، فترك الوقوف بأبواب الملوك، و كان يكتب على عصاه حاجته و يبعث بها مع رسله(4)، فلا يحبس له رسول و لا تؤخّر له حاجة؛ فقال في ذلك يحيى بن نوفل:
عصا حكم في الدار أوّل داخل *** و نحن على الأبواب نقصى و نحجب
و كانت عصا موسى لفرعون آية *** و هذي لعمر اللّه أدهى و أعجب
تطاع فلا تعصى و يحذر سخطها *** و يرغب في المرضاة منها و ترهب(5)
/قال: فشاعت هذه الأبيات بالكوفة و ضحك الناس منها؛ فكان ابن عبدل بعد ذلك يقول ليحيى: يا ابن الزانية! ما أردت من عصاي حتى صيّرتها ضحكة(6)؟ و اجتنب أن يكتب عليها كما كان يفعل، و كاتب الناس بحوائجه في الرّقاع.
ص: 603
أخبرني عمّي قال حدّثنا الكرانيّ ، و أخبرني ابن عمّار قال حدّثني يعقوب بن نعيم قال حدّثنا أبو جعفر القرشيّ قال:
كان للحكم بن عبدل صديق أعمى يقال له أبو عليّة، و كان ابن عبدل قد أقعد(1)، فخرجا ليلة من منزلهما إلى منزل بعض إخوانهما، و الحكم يحمل و أبو عليّة يقاد، فلقيهما صاحب العسس بالكوفة فأخذهما فحبسهما، فلمّا استقرّا في الحبس نظر الحكم إلى عصا أبي عليّة موضوعة إلى جانب عصاه، فضحك و أنشأ يقول:
حبسي و حبس أبي عليّ *** ة من أعاجيب الزمان
أعمى يقاد و مقعد *** لا الرّجل منه و لا اليدان
/هذا بلا بصر هنا *** ك و بي يخبّ الحاملان
يا من رأى ضبّ الفلا *** ة قرين(2) حوت في مكان
طرفي و طرف أبي عليّ *** ة دهرنا متوافقان
من يفتخر بجواده *** فجيادنا(3) عكّازتان
طرفان لا علفا هما *** يشرى و لا يتصاولان
هبني و إيّاه الحري *** ق أ كان يسطع بالدّخان
/قال: و كان اسم أبي عليّة يحيى، فقال فيه الحكم أيضا:
أقول ليحيى ليلة الحبس سادرا(4) *** و نومي به نوم الأسير المقيّد
أعنّي على رعي النجوم و لحظها *** أعنك على تحبير شعر مقصّد(5)
ففي حالتينا عبرة و تفكّر *** و أعجب شيء حبس أعمى و مقعد
كلانا إذا العكّاز فارق كفّه *** ينيخ صريعا أو على الوجه يسجد(6)
فعكّازة تهدي(7) إلى السّبل أكمها *** و أخرى مقام الرّجل قامت مع اليد
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل قال حدّثني أحمد بن بكير الأسديّ قال حدّثني
ص: 604
محمد بن أنس السّلاميّ الأسديّ عن محمد بن سهل راوية الكميت قال:
ولي الشّرطة بالكوفة رجل أعرج، ثم ولي الإمارة آخر أعرج، و خرج ابن عبدل و كان أعرج، فلقي سائلا أعرج و قد تعرّض للأمير يسأله، فقال ابن عبدل للسائل:
ألق العصا و دع التخامع(1) و التمس *** عملا فهذي دولة العرجان
لأميرنا و أمير شرطتنا معا *** يا قومنا لكليهما رجلان
فإذا يكون أميرنا و وزيرنا *** و أنا فإنّ الرابع الشيطان(2)
/فبلغت أبياته ذلك الأمير فبعث إليه بمائتي درهم و سأله أن يكفّ عنه. و حدّثنيه الأخفش عن عبيد اللّه اليزيديّ عن سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم عن عوانة عن عمر بن عبد العزيز قال:
ولي عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب الكوفة و ضمّ إليه رجل من الأشعريّين يقال له سهل، و كانا جميعا أعرجين. ثم ذكر باقي الحديث مثل حديث يعقوب بن نعيم.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال حدّثني يعقوب بن إسرائيل عن قعنب بن المحرز الباهليّ عن الهيثم الأحمريّ قال:
كانت لابن عبدل الأسديّ حاجة إلى عبد الملك بن بشر بن مروان، فجعل يدخل عليه و لا يتهيأ له الكلام، حتى جاءه رجل فقال: إني رأيت لك رؤيا، فقال: هاتها، فقصّها عليه؛ فقال ابن عبدل: و أنا قد رأيت أيضا؛ قال:
هات ما رأيت؛ فقال:
أغفيت قبل الصبح نوم مسهّد *** في ساعة ما كنت قبل أنامها
فحبوتني فيما أرى بوليدة *** مغنوجة(3) حسن عليّ قيامها
و ببدرة حملت إليّ و بغلة *** شهباء ناجية(4) يصلّ (5) لجامها
ليت المنابر يا بن بشر أصبحت *** ترقى و أنت خطيبها و إمامها
فقال له ابن بشر: إذا رأيت هذا في اليقظة أتعرفه ؟ قال: نعم و إنما رأيته قبيل الصبح؛ قال: يا غلام، ادع فلانا، فجاء بوكيله، فقال: هات فلانة فجاءت، /فقال: أين هذه مما رأيت ؟ قال: هي هي؛ و إلاّ فعليه و عليه؛ ثم دعا له ببدرة، فقال: مثل ذلك، و ببغلة فركبها و خرج؛ فلقيه قهرمان(6) عبد الملك، قال: أ تبيعها؟ قال: نعم، قال: بكم ؟
ص: 605
قال: بستمائة، قال: هي لك؛ فأعطاه ستمائة، فقال له: أما و اللّه لو أبيت إلا ألفا لأعطيتك؛ قال: إيّاي تندم! لو أبيت إلاّ ستّة لبعتك.
أخبرني [عمّي](1) الحسن بن محمد قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن الهيثم عن ابن عيّاش عن لقيط قال:
تزوّج محمد بن حسّان بن سعد التّيميّ امرأة من ولد قيس بن عاصم و هي ابنة مقاتل بن طلبة(2) بن قيس، زوّجها إيّاه رجل منهم يقال له زياد، فقال ابن عبدل:
أباع زياد سوّد اللّه وجهه *** عقيلة قوم سادة بالدراهم
و ما كان حسّان بن سعد و لا ابنه *** أبو المسك من أكفاء قيس بن عاصم
و لكنّه ردّ الزمان على استه *** و ضيّع أمر المحصنات الكرائم
خذي دية منه تكن لك عدّة *** و جيئي إلى باب الأمير فخاصمي
فلو كنت في روح(3) لما قلت خاصمي *** و لكنّما ألقيت في سجن عارم(4)
/قال: فلمّا بلغ أهلها شعره أنفوا من ذلك، فاجتمعوا على محمد بن حسّان حتى فارقها. قال: و كان محمد بن حسّان عاملا على بعض كور السّواد، فسأله ابن عبدل حاجة فردّه عنها، فقال فيه هذا الشعر و غيره(5) و هجاه هجاء كثيرا.
أخبرني بهذا الخبر محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن(6) بن عليل العنزيّ قال حدّثنا أحمد بن بكير الأسديّ عن محمد بن بشر السّلاميّ عن محمد بن سهل راوية الكميت، فذكر نحوا مما ذكره عمّي و زاد فيه قال:
و كانت المرأة التي تزوّجها معاذة بنت مقاتل بن طلبة، فلما سمعت ما قال ابن عبدل فيها نشزت على زوجها و هربت إلى أهلها، فتوسّطوا ما بينهما و افتديت منه بمال و فارقها.
أخبرني عمّي قال حدّثني الكرانيّ عن العمريّ عن عطاء عن يحيى بن نصر(7) أبي زكريّا قال:
سمع ابن عبدل الأسديّ امرأة و هي تتمشّى بالبلاط تتمثل بقوله:
ص: 606
و أعسر أحيانا فتشتدّ عسرتي *** و أدرك ميسور الغنى و معي عرضي
فقال لها ابن عبدل - و كان قريبا منها -: يا أخيّا، أ تعرفين قائل هذا الشعر؟ قالت: نعم، ابن عبدل الأسديّ ، قال: أ فتثبتينه معرفة ؟ قالت: لا؛ قال: فأنا هو، و أنا الذي أقول:
و أنعظ أحيانا فينقّد جلده *** و أعذله(1) جهدي فلا ينفع العذل(2)
و أزداد نعظا حين أبصر جارتي *** فأوثقه كيما يثوب(3) له عقل
و ربّتما لم أدر ما حيلتي له *** إذا هو آذاني و غرّ به الجهل
فآويته في بطن جاري و جارتي *** مكابرة قدما(4) و إن رغم البعل
فقالت له المرأة: بئس و اللّه الجار للمغيبة(4) أنت، فقال: إي و اللّه، و للتي معها زوجها و أبوها/و ابنها و أخوها.
أخبرني محمد بن زكريّا الصّحّاف(5) قال حدّثنا قعنب بن المحرز الباهليّ قال حدّثنا الهيثم بن عديّ و أخبرني به حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال حدّثني عليّ بن الحسن قال حدّثني أبو خالد الخزاعيّ الأسلميّ عن الهيثم بن عديّ عن ابن عيّاش قال:
قدم الحكم بن عبدل الشاعر الكوفيّ واسطا(6) على ابن هبيرة و كان بخيلا، فأقبل حتى وقف بين يديه ثم قال:
أتيتك في أمر من امر عشيرتي *** و أعيا(7) الأمور المفظعات(8) جسيمها
فإن قلت لي في حاجتي أنا فاعل *** فقد ثلجت نفسي و ولّت همومها
قال: أنا فاعل إن اقتصدت، فما حاجتك ؟ قال: غرم لزمني في حمالة(9)؛ قال: و كم هي ؟ قال: أربعة آلاف، قال: نحن مناصفوكها، قال: أصلح اللّه الأمير، /أ تخاف عليّ التّخمة إن أتممتها؟ قال: أكره أن أعوّد الناس هذه العادة؛ قال: فأعطني جميعها سرّا و امنعني جميعها ظاهرا حتى تعوّد الناس المنع و إلاّ فالضرر عليك واقع إن عوّدتهم نصف ما يطلبون؛ فضحك ابن هبيرة و قال: ما عندنا غير ما بذلناه لك؛ فجثا بين يديه و قال: امرأته طالق
ص: 607
لا أخذت أقلّ من أربعة آلاف أو أنصرف و أنا غضبان؛ قال: أعطوه إيّاها قبّحه اللّه فإنه - ما علمت - حلاّف مهين(1)؛ فأخذها و انصرف.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني محمد بن معاوية الأسديّ قال حدّثني مشايخنا من بني أسد محمد بن أنس و غيره قالوا:
لمّا وقع الطاعون بالكوفة أفنى بني غاضرة و مات فيه بنو زرّ بن حبيش الغاضريّ صاحب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و كانوا ظرفاء، و بنو عمّ لهم، فقال الحكم بن عبدل الغاضريّ يرثيهم:
أبعد بني زرّ و بعد ابن جندل *** و عمرو أرجّي لذّة العيش في خفض
مضوا و بقينا نأمل العيش بعدهم *** ألا إن من يبقى على إثر من يمضي
فقد كان حولي من جياد و سالم *** كهول مساعير(2) و كلّ فتى بضّ (2)
يرى الشّحّ عارا و السماحة رفعة *** أغرّ كعود البانة الناعم الغضّ
قال أبو الفرج: و نسخت من كتاب أبي محلّم قال: سأل الحكم بن عبدل أخو بني نصر بن قعين محمد بن حسّان بن سعد حاجة لرجل سأله مسألته إيّاها؛ فردّه و لم يقضها؛ فقال فيه ابن عبدل:
رأيت محمدا شرها ظلوما *** و كنت أراه ذا ورع و قصد
يقول أماتني ربّي خداعا *** أمات اللّه حسّان بن سعد
فلو لا كسبه لوجدت فسلا(3) *** لئيم الكسب شأنك شأن عبد
ركبت إليه في رجل أتاني *** كريم يبتغي المعروف عندي
فقلت له و بعض القول نصح *** و منه ما أسرّ له و أبدي
توقّ دراهم(4) البكريّ إني *** أخاف عليك عاقبة التعدّي
أقرّب كلّ آصرة ليدنوا *** فما يزداد منّي غير بعد
فأقسم غير مستثن يمينا *** أبا بخر(5) لتتّخمنّ ردّي
/أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدّثني أحمد بن بكير الأسديّ قال حدّثني(6) محمد بن أنس السّلاميّ قال حدّثني محمد بن سهل الأسديّ راوية الكميت:
ص: 608
أنّ الحكم بن عبدل الأسديّ أتى محمد بن حسّان بن سعد التّميميّ و كان على خراج الكوفة، فكلّمه في رجل من العرب أن يضع عنه ثلاثين درهما من خراجه؛ فقال: أماتني اللّه إن كنت أقدر أن أضع من خراج أمير المؤمنين شيئا؛ فانصرف ابن عبدل و هو يقول:
دع الثلاثين لا تعرض لصاحبها *** لا بارك اللّه في تلك الثلاثينا
لمّا علا صوته في الدار مبتكرا *** كأشتفان(1) يرى قوما يدوسونا(2)
أحسن فإنّك قد أعطيت مملكة *** إمارة صرت فيها اليوم مفتونا
لا يعطك اللّه خيرا مثلها أبدا *** أقسمت باللّه إلاّ قلت آمينا
قال: فلم يضع له شيئا مما على الرجل؛ فقال فيه:
رأيت محمدا شرها ظلوما *** و كنت أراه ذا ورع و قصد
يقول أماتني ربّي خداعا *** أمات اللّه حسّان بن سعد
فما صادفت في قحطان مثلي *** و لا(3) صادفت مثلك في معدّ
أقلّ براعة و أشدّ بخلا *** و ألأم عند مسئلة و حمد
نحوت(4) محمدا و دخان فيه *** كريح الجعر(5) فوق عطين(6) جلد
فأقسم غير مستثن يمينا *** أبا بخر(7) لتتّخمنّ ردّي
فلو كنت المهذّب من تميم *** لخفت ملامتي و رجوت حمدي
نكهت عليّ نكهة أخدريّ *** شتيم أعصل الأنياب ورد(8)
/فما يدنو إلى فمه ذباب *** و لو طليت مشافره بقند(9)
فإن أهديت لي من فيك حتفا *** فإنّي كالذي أهديت مهدي
قال محمد بن سهل: و ما زال ابن عبدل يزيد في قصيدته هذه الداليّة حتى مات و هي طويلة جدّا. قال: و اشتهرت
ص: 609
حتى إن كان المكاري ليسوق بغله أو حماره فيقول: عد(1)
أمات اللّه حسّان بن سعد
فإذا سمع ذلك أبوه قال:
بل أمات اللّه ابني محمدا، فهو عرّضني لهذا البلاء في ثلاثين درهما.
أخبرني أحمد بن محمد زكريّا الصّحّاف قال حدّثنا قعنب بن محرز قال أخبرنا الهيثم بن عديّ قال:
دعا أبو المهاجر الحكم بن عبدل ليشرب عنده و له جارية تغنّي فغنّت؛ فقال ابن عبدل:
يا أبا المهاجر قد أردت كرامتي *** فأهنتني و ضررتني لو تعلم
عند التي لو مسّ جلدي جلدها *** يوما بقيت مخلّدا لا أهرم
أو كنت في أحمى جهنّم بقعة *** فرأيتها بردت عليّ جهنّم
قال: فجعل أبو المهاجر يضحك و يقول له: ويحك! و اللّه لو كان إليها سبيل لوهبتها لك، و لكن لها/منّي ولد.
أخبرنا الحسن بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخزّاز عن المدائنيّ قال: كان عمر بن يزيد الأسديّ مبخّلا، و وجده أبوه مع أمة له فكان يعيّر بذلك، و جاءه/الحكم بن عبدل الأسديّ و معه جماعة من قومه يسألونه حاجة، فدخلوا إليه و هو يأكل تمرا فلم يدعهم إليه، و ذكروا له حاجتهم فلم يقضها؛ فقال فيه ابن عبدل:
جئنا و بين يديه التمر في طبق *** فما دعانا أبو حفص و لا كادا
علا على جسمه ثوبان من دنس *** لؤم و جبن و لو لا أيره سادا
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا محمد بن الحسن الأحول عن أبي نصر عن الأصمعيّ قال:
كانت امرأة موسرة بالكوفة و كانت لها على الناس ديون بالسّواد، فاستعانت(2) بابن عبدل في دينها، و قالت:
إني امرأة ليس لي زوج، و جعلت تعرّض بأنها تزوّجه نفسها؛ فقام ابن عبدل في دينها حتى اقتضاه؛ فلما طالبها بالوفاء كتبت إليه:
سيخطئك الذي حاولت منّي *** فقطّع حبل وصلك من حبالي
كما أخطاك معروف ابن بشر *** و كنت تعدّ ذلك رأس مال
قال: و كان ابن عبدل أتى ابن بشر بالكوفة فسأله؛ فقال له: أ خمسمائة أحبّ إليك الآن عاجلة أم ألف في قابل ؟
ص: 610
قال: ألف في قابل. فلما أتاه قال له: ألف أحبّ إليك أم ألفان في قابل ؟ قال: ألفان؛ فلم يزل ذلك دأبه حتى مات ابن بشر و ما اعطاه شيئا.
أخبرني عمي قال حدّثنا الكرانيّ قال حدّثنا العمريّ عن لقيط قال:
دخل ابن عبدل على عبد الملك بن بشر(1)، فقال له: ما أحدثت بعدي ؟ قال: خطبت امرأة من قومي فردّت عليّ جواب رسالتي ببيتي شعر؛ قال: و ما هما؟ /قال: قالت:
سيخطئك الذي حاولت مني *** فقطّع حبل وصلك من حبالي
كما أخطاك معروف ابن بشر *** و كنت تعدّ ذلك رأس مال
فضحك عبد الملك، ثم قال: لجاد(2) ما أذكرت بنفسك! و أمر له بألفي درهم.
أخبرني أبو الحسن الأسديّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا حدّثنا الحسن بن عليل قال حدّثنا محمد بن معاوية الأسديّ قال حدّثني منجاب بن الحارث قال حدّثني عبد الملك بن عفّان قال:
كان الحكم بن عبدل الأسديّ ثم الغاضريّ صديقا لبشر بن مروان، فرأى منه جفاء لشغل عرض له، فغبر(3)عنه شهرا، ثم التقيا فقال: يا بن عبدل، مالك تركتنا و قد كنت لنا زوّارا؟ فقال ابن عبدل:
كنت أثني عليك خيرا فلمّا *** أضمر القلب من نوالك ياسا
كنت ذا منصب قنيت حيائي *** لم أقل غير أن هجرتك باسا
لم أطق ما أردت بي يا بن مروا *** ن ستلقى إذا أردت أناسا
يقبلون الخسيس منك و يثنو *** ن ثناء مدخمسا(4) دخماسا
فقال له: لا نسومك الخسيس و لا نريد منك ثناء مدخمسا، و وصله و حمله و كساه.
أخبرني/الأسديّ قال حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال و حدّثني محمد بن معاوية قال حدّثني منجاب بن الحارث عن عبد الملك بن عفّان قال:
ص: 611
أراد عمر بن هبيرة أن يغزي(1) الحكم بن عبدل الغاضريّ ، فاعتلّ بالزّمانة(2) فحمل و ألقي بين يديه فجرّده فإذا هو أعرج مفلوج، فوضع عنه الغزو و ضمّه إليه و شخص به معه إلى واسط؛ فقال الحكم بن عبدل:
لعمري لقد جرّدتني فوجدتني *** كثير العيوب سيّئ المتجرد(3)
فأعفيتني لمّا رأيت زمانتي *** و وفّقت منّي للقضاء المسدّد
فلما صار عمر إلى واسط شكا إليه الحكم بن عبدل الضّبعة(4)، فوهب له جارية من جواريه، فواثبها ليلة صارت إليه فنكحها تسعا أو عشرا طلقا(5)، فلما أصبحت قالت له: جعلت فداك من أيّ الناس أنت ؟ قال: امرؤ من أهل الشام؛ قالت: بهذا العمل نصرتم.
أخبرني بهذا الخبر محمد بن عمران الصّيرفيّ ، قال حدّثنا الحسن بن عليل قال حدّثنا أحمد بن بكير الأسديّ عن محمد بن أنس السّلاميّ عن محمد بن سهل رواية الكميت فقال فيه:
/ضرب الحجاج البعث(6) على المحتلمين و من أنبت(7) من الصّبيان، فكانت المرأة تجيء إلى ابنها و قد جرّد فتضمّه إليها و تقول له: «بأبي» جزعا عليه، فسمّي ذلك الجيش «جيش بأبي»، و أحضر ابن عبدل فجرّد فوجد أعرج فأعفي؛ فقال في ذلك:
لعمري لقد جرّدتني فوجدتني
البيتين، و زاد معهما ثالثا و هو:
و لست بذي شيخين يلتزمانه *** و لكن يتيم ساقط الرّجل و اليد
لعمري لقد غاليت بالمهر إنه *** كذاك يغالى بالنساء المواجد(1)
قال: فلما دخل بها كرهها فقال:
أ عاذلتيّ من لوم دعاني *** أقلاّ اللوم إن لم تعذراني
فإني قد دللت على عجوز *** مبرقعة مخضّبة البنان
تغضّن جلدها و اخضرّ إلا *** إذا ما ضرّجت بالزعفران
فلما أن دخلت و حادثتني *** أظلّتني بيوم أرونان(2)
تحدّثني عن الأزمان حتى *** سمعت نداء حرّ(3) بالأذان
فقالت قد نكحت اثنين شتّى *** فلما صاحباني(4) طلّقاني
و أربعة نكحتهم فماتوا *** فليت عريف حيّ (5) قد نعاني
و قالت ما تلادك قلت مالي *** حمار ظالع و مزادتان
و بوريّ (6) و أربعة(7) زيوف *** و ثوبا مفلس متخرّقان
و قطعة جلّة(8) لا تمر فيها *** و دنّا عومة(9) متقابلان
/فقالت قد رضيت فسمّ ألفا *** ليسمع ما تقول الشّاهدان
و ما لك عندنا ألف عتيد *** و لا تسع تعدّ و لا ثمان
و لا سبع و لا ستّ و لكن *** لكم عندي الطويل من الهوان
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثني عمّي عن أبيه ابن الكلبيّ قال:
كان الحكم بن عبدل الأسديّ منقطعا إلى بشر بن مروان، و كان يأنس به و يحبّه و يستطيبه، و أخرجه معه إلى البصرة لمّا وليها، فلما مات بشر جزع عليه الحكم و قال يرثيه:
ص: 613
أصبحت جمّ بلابل(1) الصّدر *** متعجّبا لتصرّف الدّهر
ما زلت أطلب في البلاد فتى *** ليكون لي ذخرا من الذّخر
و يكون يسعدني و أسعده *** في كلّ نائبة من الأمر
حتى إذا ظفرت يداي به *** جاء القضاء بحينه يجري
إنّي لفي هم يباكرني *** منه و همّ طارق يسري
فلأصبرنّ و ما(2) رأيت دوى(3) *** للهمّ غير(4) عزيمة الصبر
و اللّه ما استعظمت(5) فرقته *** حتى أحاط بفضله خبري
أخبرني ابن دريد قال حدّثني عمّي عن أبيه عن ابن الكلبيّ قال:
لما ظفر ابن الزّبير بالعراق و أخرج عنها عمّال بني أميّة خرج ابن عبدل معهم إلى الشام، و كان ممّن يدخل إلى عبد الملك و يسمر عنده، فقال لعبد الملك ليلة:
يا ليت شعري و ليت ربّما نفعت *** هل ابصرنّ بني العوّام قد شملوا
بالذّل و الأسر و التشريد إنهم *** على البريّة حتف حيثما نزلوا
أم هل أراك بأكناف العراق و قد *** ذلّت لعزّك أقوام(6) و قد نكلوا
فقال عبد الملك - و يروى أنه قائل هذا الشعر -:
إن يمكن اللّه من قيس و من جدس(7) *** و من جذام و يقتل صاحب الحرم
نضرب جماجم أقوام على حنق *** ضربا ينكّل عنّا سائر(8) الأمم
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال حدّثني هارون بن(9) عليّ بن يحيى المنجّم عن أبيه قال حدّثني
ص: 614
محمد بن عمر الجرجانيّ عن رجل من بني أسد قال:
خرج يزيد بن عمر بن هبيرة يسير بالكوفة فانتهى إلى مسجد بني غاضرة، و أقيمت الصلاة، فنزل يصلّي، و اجتمع الناس لمكانه في الطريق و أشرف النساء من السطوح، فلما قضى صلاته قال: لمن هذا المسجد؟ قالوا:
لبني غاضرة، فتمثل قول الشاعر:
ما إن تركن من الغواضر معصرا *** إلا فصمن(1) بساقها خلخالا
فقالت له امرأة من المشرفات:
و لقد عطفن على فزارة عطفة *** كرّ المنيح(2) و جلن ثمّ مجالا
فقال يزيد: من هذه ؟ فقالوا: بنت الحكم بن عبدل؛ فقال: هل تلد الحيّة إلا حيّة! و قام خجلا.
/أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدّثني أحمد بن الهيثم قال حدّثنا العمريّ عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال:
كان ابن عبدل الأسديّ أعرج أحدب، و كان من أطيب الناس و أملحهم، فلقيه صاحب العسس ليلة و هو سكران محمول في محفّة(3)؛ فقال له: من أنت ؟ فقال له: يا بغيض، أنت أعرف بي من أن تسألني من أنا، فاذهب إلى شغلك، فإنّك تعلم أن اللصوص لا يخرجون بالليل للسّرقة محمولين في محفّة؛ فضحك الرجل و انصرف عنه.
أخبرني هاشم بن محمّد قال حدّثنا العبّاس(4) بن ميمون طائع قال حدّثني أبو عدنان عن الهيثم بن عديّ عن ابن عيّاش قال:
رأيت ابن عبدل الأسديّ و قد دخل على ابن هبيرة، فقال له: أنشدني شيئا فقال: أنشدك مقولة أيها الأمير؟ قال: هات؛ فأنشده هذه الأبيات - و هي قديمة و قد تمثّل بها ابن الأشعث حين خرج، و يروى أنها لأعشى همدان -
نجمّ (5) و لا نعطى و تعطى جيوشهم *** و قد ملئوا من مالنا ذا الأكارع
و قد كلّفونا عدّة و روائعا *** فقد و أبي رعناكم بالرّوائع
و نحن جلبنا الخيل من ألف فرسخ *** إليكم بمجمر من الموت ناقع
قال: فغضب ابن هبيرة من تعريضه به، و قال به: و اللّه لو لا أنّي قد أمّنتك و استنشدتك لضربت عنقك.
ص: 615
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان أبو عبد(1) اللّه قال حدّثنا القاسم بن عبد الرحمن قال:
كانت للحكم بن عبدل جارية سوداء، و قد كان يميل إليها فولدت له ابنا أسود، فكان من أعرم(2) الصّبيان، فقال فيه:
يا ربّ خال لك مسودّ القفا *** لا يشتكي من رجله مسّ الحفا
كأنّ عينيه إذا تشوّفا *** عينا غراب فوق نيق(3) أشرفا
أخبرنا محمّد بن خلف بن المرزبان أبو عبد اللّه قال حدّثنا عبيد(4) اللّه بن محمد قال حدّثنا المدائنيّ قال:
كان عمر بن يزيد الأسديّ بخيلا على الطعام، فدخل عليه الحكم بن عبدل الشاعر و هو يأكل بطّيخا، فسلّم فلم يردّ عليه السّلام و لم يدعه إلى الطعام؛ فقال ابن عبدل يهجوه.
في عمر بن يزيد خلّتا دنس *** بخل و جبن و لو لا أيره سادا
جئناه يأكل بطّيخا على طبق *** فما دعانا أبو حفص و لا كادا
قال و كان عمر على شرطة الحجّاج و كان بخيلا جدا، فأصابه قولنج(5) فحقنه الطبيب بدهن كثير، فانحلّ ما في بطنه في الطّست، فقال للغلام: ما تصنع به ؟ قال: أصبّه؛ قال: لا! و لكن ميّز منه الدّهن و استصبح به.
أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال حدّثنا أبو هفّان قال:
كان لعبد الملك بن بشر بن مروان كاتب يقال له محمّد بن عمير و كان كلّما مدحه ابن عبدل بشيء و أمر له بجائزة دافعه بها و عارضه فيها، فدخل يوما إلى عبد الملك و كاتبه هذا يسارّه، فوقف و أنشأ يقول:
ألقيت نفسك في عروض(6) مشقّة *** و حصاد أنفك بالمناجل أهون
فبحقّ أمّك و هي غير حقيقة *** باللّين(7) و اللّطف الذي لا يخزن(8)
ص: 616
لا تدن فاك إلى الأمير و نحّه *** حتى يداوي نتنه لك أهون(1)
إن كان للظّربان(2) حجر منتن *** فلجحر أنفك يا محمد أنتن
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ قال حدّثنا العنزيّ قال حدّثني أحمد بن بكير الأسديّ عن محمد بن أنس السّلاميّ عن محمد بن سهل راوية الكميت قال:
خطب ابن عبدل امرأة من همدان(3) يقال لها: أمّ رياح(4) فلم تتزوّجه، فقال: أما و اللّه لأفضحنّك و لأعيّرنك(5) فقال:
فلا خير في الفتيان بعد ابن عبدل *** و لا في الزواني بعد أمّ رياح
فأيري بحمد اللّه ماض مجرّب *** و أمّ رياح عرضة لنكاحي
قال: فتحاماها الناس فما تزوّجت حتى أسنّت. و بهذا الإسناد عن محمد بن سهل قال: ولد للحكم بن عبدل ابن فسمّاه بشرا، و دخل على بشر بن مروان فأنشده:
سمّيت بشرا ببشر النّدى *** فلا تفضحنّي بتصداقها
إذا ما قريش البطا *** ح عند تجمّع آفاقها
تسامت قرومهم للنّدى *** تباري الرّياح بأوراقها(6)
فمالك أنفع أموالها *** و خلقك أكرم أخلاقها
فأمر له بألفي درهم، و قال: استعن بهذه على أمرك.
و بإسناده عن محمد بن سهل قال: اقترض ابن عبدل مالا من التّجار و حلف لهم بالطلاق ثلاثا أن يقضيهم المال عند طلوع الهلال، فلمّا بقي من الشهر يومان قال:
قد بات همّي قرنا أكابده *** كأنّما مضجعي على حجر
من رهبة أن يرى هلال غد *** فإن رأوه فحقّ لي حذري
ص: 617
من فقد(1) بيضاء غادة كملت *** كأنها صورة من الصّور
أصبحت من أهلي الغداة و من *** مالي على مثل ليلة الصّدر(2)
فبلغ خبره عبد الملك بن بشر فأعطاهم مالهم عليه و أضعفه له؛ فقال فيه:
لمّا أتاه الذي أصبت به *** و أنشدوه إيّاه في شعري
جاد بضعفي ما حلّ من غرمي *** عفوا فزالت حرارة الصّدر
لأشكرنّ الذي مننت به *** ما دمت حيّا و طال لي عمري
و قال محمد بن سهل بهذا الإسناد: اجتمع الشعراء إلى الحجّاج و فيهم ابن عبدل، فقالوا للحجاج: إنما شعر ابن عبدل كلّه هجاء و شعر سخيف؛ فقال له: قد سمعت قولهم فاستمع منّي؛ قال هات فأنشده قوله:
و إنّي لأستغني فما أبطر(3) الغنى *** و أعرض ميسوري لمن يبتغي قرضي
و أعسر أحيانا فتشتدّ عسرتي *** فأدرك ميسور الغنى و معي عرضي
حتى انتهى إلى قوله.
و لست بذي وجهين فيمن عرفته *** و لا البخل فاعلم من سمائي و لا أرضي
فقال له الحجاج: أحسنت! و فضّله في الجائزة عليهم بألفي(4) درهم.
بأحسن منها و لا مزنة *** دلوح تكشّف إدجانها
و عمرة من سروات النّسا *** ء تنفح بالمسك أردانها
أجدّ: استمرّ. و غنيانها: استغناؤها. أم شأننا شانها: يقول أم هي على ما نحبّ . و شطّت: بعدت، قال ابن الأعرابيّ : يقال: شطّت و شطنت و شسعت و تشسّعت و بعدت و نأت و تزحزحت و شطرت؛ قال الشاعر:
لا تتركنّي فيهم شطيرا(1)
و منه سمّي الشاطر(2). و باح: ظهر؛ و منه باحة الدار و أنشد:
أ تكتم حبّ سلمى(3) أم تبوح
و الرّوضة: موضع فيه نبت و ماء مستدير، و كذلك الحديقة. و قوله:
كأنّ المصابيح حوذانها
أراد كأنّ حوذانها المصابيح فقلب، و العرب تفعل ذلك؛ قال الأعشى:
...
كأنّ الجمر مثل ترابها
أراد كأنّ ترابها مثل الجمر. و المزنة: السحابة. و الدّلوح: الثقيلة، يقال: مرّ يدلح بحمله إذا مرّ به مثقلا.
و الدّجن: إلباس الغيم السحاب(4) برشّ و ندى، /يقال: أدجنت السماء؛ [و قوله: تكشّف إدجانها](5) إذا انكشف السواد عنها، و ذلك أحسن لها، و أراد مزنة بيضاء. و الأردان: ما يلي الذراعين جميعا و الإبطين من الكمّين.
الشعر لقيس بن الخطيم، و الغناء لطويس خفيف ثقيل أوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.
إلى هنا انتهى الجزء الثاني من كتاب الأغاني و يليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث منه، و أوّله:
ذكر قيس بن الخطيم و أخباره و نسبه
ص: 619
ص: 620
الموضوع الصفحة
1 - بيان 327
2 - أخبار مجنون بني عامر و نسبه 329
3 - ذكر عديّ بن زيد و نسبه و قصته و مقتله 393
4 - خبر الحطيئة و نسبه 431
5 - أخبار ابن عائشة و نسبه 463
6 - أخبار ابن أرطأة و نسبه 490
7 - أخبار ابن ميادة و نسبه 503
8 - أخبار حنين الحيريّ و نسبه 560
9 - ذكر الغريض و أخباره 573
10 - أخبار الحكم بن عبدل و نسبه 603-619
11 - فهرس الموضوعات 621
ص: 621