الأغاني
المؤلفين الآخرين
مدقق لغوي ومترجم:
مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي
المجلدات : 25ج
لسان: العربية
ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان
سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی
رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374
إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *
1 - ذكر أبي محجن و نسبه(1)
أبو محجن عبد اللّه(2) بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن عنزة بن عوف بن قسيّ و هو ثقيف، و قد مضى نسبه في عدّة مواضع.
و أبو محجن من المخضرمين الّذين أدركوا الجاهلية و الإسلام، و هو شاعر فارس شجاع معدود في أولي البأس و النّجدة، و كان من المعاقرين للخمر المحدودين في شربها.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن الحسن الأحول، عن ابن الأعرابيّ ، عن المفضّل، قال:
لمّا كثر شرب أبي محجن الخمر، و أقام عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه عليه الحدّ مرارا و هو لا ينتهي، نفاه إلى جزيرة في البحر يقال لها حضوضى(3)، و بعث معه حرسيّا(4) يقال له ابن جهراء، فهرب منه على ساحل البحر، و لحق بسعد بن أبي وقّاص، و قال في ذلك يذكر هربه من ابن جهراء:
الحمد للّه نجّاني و خلّصني *** من ابن جهراء و البوصيّ (5) قد حبسا
من يجشم البحر و البوصيّ مركبه *** إلى حضوضى فبئس المركب التمسا
/أبلغ لديك أبا حفص مغلغلة *** عبد الإله إذا ما غار أو جلسا
أنّي أكرّ على الأولى إذا فزعوا *** يوما و أحبس تحت الرّاية الفرسا
أغشى الهياج و تغشاني مضاعفة *** من الحديد إذا ما بعضهم خنسا(6)
ص: 5
هذه رواية ابن الأعرابيّ عن المفضّل، قال ابن الأعرابيّ : و حدّثني ابن دأب بسبب نفي عمر إيّاه، فذكر أنّ أبا محجن هوي امرأة من الأنصار يقال لها شموس، فحاول النّظر إليها بكلّ حيلة، فلم يقدر عليها، فآجر نفسه من عامل يعمل في حائط(1) إلى جانب منزلها، فأشرف من كوّة(2) في البستان، فرآها فأنشأ يقول:
و لقد نظرت إلى الشّموس و دونها *** حرج من الرّحمن غير قليل
قد كنت أحسبني كأغنى واحد *** ورد المدينة عن زراعة فول
فاستعدى زوجها عليه عمر بن الخطّاب، فنفاه إلى حضوضى، و بعث معه رجلا يقال له ابن جهراء قد كان أبو بكر رضي اللّه عنه يستعين به، قال له عمر: لا تدع أبا محجن يخرج معه سيفا، فعمد أبو محجن إلى سيفه فجعل نصله في غرارة و جعل جفنة في غرارة أخرى، فيهما دقيق له.
فلما انتهى به إلى السّاحل و قرب البوصيّ اشترى أبو محجن شاة و قال لابن جهراء: هلمّ نتغدّ و وثب إلى الغرارة كأنّه يخرج منها فأخذ السيف، فلما رآه ابن جهراء و السيف في يده خرج يعدو حتى ركب بعيره راجعا إلى عمر، فأخبره الخبر.
و أقبل أبو محجن إلى سعد بن أبي وقّاص و هو يقاتل العجم يوم القادسيّة، و بلغ عمر خبره، فكتب إلى سعد بحبسه، فحبسه، فلما كان يوم أرماث(3)؛ و التحم القتال سأل أبو محجن امرأة سعد أن تعطيه فرس سعد و تحلّ قيده ليقاتل المشركين، فإن استشهد فلا تبعة عليه، و إن سلم عاد حتى يضع رجله في القيد، فأعطته الفرس، و خلّت سبيله، و عاهدها على الوفاء، فقاتل فأبلى بلاء حسنا إلى الليل، ثم عاد إلى حبسه.
حدّثني بهذا الحديث عمّي عن الخرّاز، عن المدائنيّ ، عن إبراهيم بن حكيم، عن عاصم بن عروة:
أنّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه غرّب رجلا من ثقيف و هو أبو محجن، و كان يدمن الخمر و أمر ابن جهراء النّصريّ و رجلا آخر أن يحملاه في البحر، و ذكر الخبر مثل الّذي قبله، و زاد فيه: و قال أبو محجن أيضا:
ص: 6
صاحبا سوء صحبتهما *** صاحباني يوم أرتحل
و يقولان: ارتحل معنا *** فأنادي(1): إنّني ثمل
إنّني باكرت مترعة *** مزّة راووقها خضل(2)
/الغناء في البيتين الأخيرين لنشو خفيف رمل و أوله:
و يقولان اصطبح معنا
قال الأصبهانيّ : و هذه القصة كانت لأبي محجن في يوم من أيّام حرب القادسية يقال له: يوم أرماث، و كانت أيّامها المشهورة يوم أغواث و يوم أرماث و يوم الكتائب و خبرها يطول جدّا؛ و ليس في كلّها كان لأبي محجن خبر، و إنما ذكرنا هاهنا خبره، فذكرنا منها ما كان اتّصاله بخبر أبي محجن.
حدّثنا بذلك محمد بن جرير الطّبريّ ، قال: كتب إليّ السّريّ بن يحيى؛ يذكر عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن طلحة و زياد و ابن مخراق، عن رجل من طيئ قال:
لمّا كان يوم الكتائب اقتتل المسلمون و الفرس منذ أصبحوا إلى أن انتصف النّهار، فلما غابت(3) الشّمس تزاحف الناس فاقتتلوا حتى انتصف اللّيل؛ و هذه اللّيلة الّتي كان في صبيحتها يوم أرماث، و قد كان المسلمون يوم أغواث أشرفوا على الظّفر و قتلوا عامّة أعلام الفرس، و جالت خيلهم في القلب، فلو لا أنّ رجلهم(4) ثبتوا حتى كرّت الخيل لكان رئيسهم قد أخذ؛ لأنه كان ينزل عن فرسه؛ و يجلس على سريره، و يأمر النّاس بالقتال؛ قالوا: فلمّا انتصف اللّيل تحاجز الناس، و بات المسلمون ينتمون منذ لدن أمسوا.
و سمع ذلك سعد فاستلقى لينام، و قال لبعض من عنده: إن تمّ الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء على عدوّهم؛ و إن سكتوا و سكت العدو فلا تنبّهني فإنهم على السواء؛ و إن سمعت العدوّ ينتمون و هؤلاء سكوت فأنبهني فإن انتماء العدوّ من السّوء.
/قالوا: و لما اشتدّ القتال في تلك الليلة، و كان أبو محجن قد حبسه سعد بكتاب عمر، و قيّده فهو في القصر، صعد أبو محجن إلى سعد يستعفيه و يستقيله، فزبره(5) و ردّه، فنزل فأتى سلمى بنت أبي حفصة فقال:
يا بنت آل أبي حفصة، هل لك إليّ خير؟ قالت: و ما ذاك ؟ قال: تخلّين عنّي و تعيرينني البلقاء، فللّه عليّ إن سلّمني اللّه أن أرجع إلى حضرتك حتى تضعي رجليّ في قيدي. فقالت: و ما أنا و ذاك ؟ فرجع يرسف في قيوده و يقول:
كفى حزنا أن تردي(6) الخيل بالقنا *** و أترك مشدودا عليّ وثاقيا
ص: 7
إذا قمت عنّاني الحديد و غلّقت *** مصاريع من دوني تصمّ المناديا
و قد كنت ذا مال كثير و إخوة *** فقد تركوني واحدا لا أخاليا
و قد شفّ جسمي أنّني كلّ شارق *** أعالج كبلا مصمتا قد برانيا(1)
فللّه درّي يوم أترك موثقا *** و تذهل عنّي أسرتي و رجاليا
حبيسا عن الحرب العوان و قد بدت *** و إعمال غيري يوم ذاك العواليا
و للّه عهد لا أخيس بعهده *** لئن فرجت ألاّ أزور الحوانيا(2)
فقالت له سلمى: إني قد استخرت اللّه و رضيت بعهدك، فأطلقته و قالت: أمّا الفرس فلا أعيرها، و رجعت إلى بيتها، فاقتادها أبو محجن و أخرجها من باب القصر الّذي يلي الخندق، فركبها ثم دبّ عليها، حتى إذا كان بحيال الميمنة، و أضاء النّهار، و تصافّ النّاس، كبّر، ثم حمل على ميسرة القوم فلعب برمحه و سلاحه/بين الصّفّين، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبدر(3) أمام الناس، فحمل على القوم فلعب بين الصّفّين برمحه و سلاحه، و كان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا؛ فعجب الناس منه و هم لا يعرفونه و لم يروه بالأمس، فقال بعض القوم: هذا من أوائل أصحاب هشام بن عتبة أو هشام بنفسه. و قال قوم: إن كان الخضر يشهد الحروب فهو صاحب البلقاء. و قال آخرون: لو لا أنّ الملائكة لا تباشر القتال ظاهرا لقلنا هذا ملاك بيننا؛ و جعل سعد يقول - و هو مشرف ينظر إليه -: الطّعن طعن أبي محجن، و الضّبر ضبر البلقاء(4). و لو لا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن و هذه البلقاء، فلم يزل يقاتل حتى انتصف الليل، فتحاجز أهل العسكرين و أقبل أبو محجن حتى دخل القصر، و وضع عن نفسه و دابّته، و أعاد رجليه في القيد، و أنشأ يقول:
لقد علمت ثقيف غير فخر *** بأنّا نحن أكرمهم سيوفا
و أكثرهم دروعا سابغات *** و أصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
و أنّا رفدهم في كلّ يوم *** فإن جحدوا فسل بهم عريفا(5)
و ليلة قادس لم يشعروا بي *** و لم أكره بمخرجي الزّحوفا
فإن أحبس فقد عرفوا بلائي *** و إن أطلق أجرّعهم حتوفا(6)
فقالت له سلمى: يا أبا محجن؛ في أيّ شيء حبسك هذا الرّجل ؟ فقال: أما و اللّه ما حبسني بحرام أكلته و لا
ص: 8
شربته، و لكني كنت صاحب شراب في الجاهلية و أنا/امرؤ شاعر يدبّ الشّعر على لساني فينفثه(1) أحيانا، فحبسني لأني قلت:
إذا متّ فادفنّي إلى أصل كرمة *** تروّي عظامي بعد موتي عروقها
و لا تدفننّي في الفلاة فإنني *** أخاف إذا ما متّ ألاّ أذوقها(2)
ليروى بخمر الحصّ (3) لحمي فإنّني *** أسير لها من بعد ما قد أسوقها
قال: و كانت سلمى قد رأت في المسلمين جولة، و سعد بن أبي وقّاص في القصر لعلّة كانت به، لم يقدر معها على حضور الحرب، و كانت قبله عند المثنّى بن حارثة الشّيبانيّ ! فلما قتل خلف عليها سعد، فلما رأت شدّة البأس صاحت: وا مثنّياه و لا مثنّى لي اليوم، فلطمها سعد، فقالت: أفّ لك، أجبنا و غيرة ؟ و كانت مغاضبة لسعد عشيّة أرماث و ليلة الهدأة و ليلة السّواد، حتى إذا أصبحت أتته و صالحته، و أخبرته خبر أبي محجن، فدعا به و أطلقه و قال: اذهب فلست مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم، و اللّه إني لا أجبت لساني إلى صفة قبيح أبدا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ ، و حبيب بن نصر المهلبيّ ، قالا: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثنا محمد بن حاتم، قال: حدّثنا محمد بن حازم، قال: حدّثنا عمرو بن المهاجر، عن إبراهيم بن محمد بن سعد، عن أبيه، و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن دينار مولى بني هاشم، عن ابن الأعرابيّ عن المفضّل، و روايته أتمّ ، قالوا:
كان أبو محجن الثّقفيّ فيمن خرج مع سعد بن أبي وقّاص لحرب الأعاجم/فكان سعد يؤتى به شاربا فيتهدّده فيقول له: لست تاركها إلا للّه عزّ و جلّ ؛ فأمّا لقولك فلا. قالوا: فأتي به يوم القادسيّة و قد شرب الخمر؛ فأمر به إلى القيد، و كانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى النّاس؛ فاستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فلما التقى الناس قال أبو محجن:
كفى حزنا أن تردي الخيل بالقنا *** و أترك مشدودا عليّ وثاقيا
و ذكر الأبيات و سائر خبره مثل ما ذكره محمد بن جرير، و زاد فيه: فجاءت زبراء امرأة سعد - هكذا قال:
و الصّحيح أنها سلمى - فأخبرت سعدا بخبره؛ فقال سعد: أما و اللّه لا أضرب اليوم رجلا أبلى اللّه المسلمين على يده
ص: 9
ما أبلاهم، فخلّى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ كان الحدّ يقام عليّ و أطهّر منها، فأما إذ بهرجتني(1)فلا و اللّه لا أشربها أبدا. و قال ابن الأعرابيّ في خبره: و قال أبو محجن في ذلك:
إن كانت الخمر قد عزّت و قد منعت *** و حال من دونها الإسلام و الحرج
فقد أباكرها صرفا و أمزجها *** ريّا و أطرب أحيانا و أمتزج
و قد تقوم على رأسي منعمة *** خود إذا رفعت في صوتها غنج(2)
ترفّع الصّوت أحيانا و تخفضه *** كما يطنّ ذباب الرّوضة الهزج
أخبرني الجوهريّ و المهلّبيّ قالا: حدّثنا عمر بن شبّة و قال:
لمّا انصرف أبو محجن ليعود إلى محبسه رأته امرأة فظنّته منهزما؛ فأنشأت تعيّره بفراره:
/من فارس كره الطّعان يعيرني *** رمحا إذا نزلوا بمن الصّفّر
فقال لها أبو محجن:
إن الكرام على الجياد مبيتهم *** فدعي الرّماح لأهلها و تعطّري
و ذكر السّريّ ، عن شعيب، عن سيف في خبره، و وافقته رواية ابن الأعرابي عن المفضّل:
أنّ النّاس لمّا التقوا مع العجم يوم قس النّاطف، كان مع الأعجام فيل يكرّ عليهم، فلا تقوم له الخيل؛ فقال أبو عبيد بن مسعود: هل له مقتل ؟ فقيل له: نعم؛ خرطومه إلا أنّه لا يفلت منه من ضربه؛ قال: فأنا أهب نفسي للّه، و كمن له حتى إذا أقبل وثب إليه فضرب خرطومه بالسّيف؛ فرمى به، ثم شدّ عليه الفيل فقتله، ثم استدار فطحن الأعاجم و انهزموا، فقال أبو محجن الثّقفيّ يرثي أبا عبيد:
أنّى تسدّت(3) نحونا أمّ يوسف *** و من دون مسراها فياف مجاهل
إلى فتية بالطّفّ نيلت(4) سراتهم *** و غودر أفراس لهم و رواحل
و أضحى أبو جبر خلاء بيوته *** و قد كان يغشاها الضّعاف الأرامل
و أضحى بنو عمرو لدى الجسر منهم *** إلى جانب الأبيات جود و نائل
و ما لمت نفسي فيهم غير أنّها *** لها أجل لم يأتها و هو عاجل
و ما رمت حتى خرّقوا بسلاحهم *** إهابي و جادت بالدّماء الأباجل(5)
ص: 10
/و حتى رأيت مهرتي مزوئرة *** من النّبل(1) يدمى نحرها و الشّواكل
و ما رحت حتى كنت آخر رائح(2)*** و صرّع حولي الصّالحون الأماثل
مررت على الأنصار وسط رحالهم *** فقلت: ألا هل منكم اليوم قافل ؟
و قرّبت روّاحا و كورا و نمرقا *** و غودر في ألّيس(3) بكر و وائل
ألا لعن اللّه الذين يسرّهم *** رداي و ما يدرون ما اللّه فاعل
قال الأخفش في روايته، عن الأحول، عن ابن الأعرابيّ ، عن المفضّل: قال أبو محجن في تركه الخمر:
رأيت الخمر صالحة و فيها *** مناقب تهلك الرّجل الحليما
فلا و اللّه أشربها حياتي *** و لا أسقي بها أبدا نديما
أخبرني عمّي قال: حدّثنا محمد بن سعد الكرانيّ قال: حدّثنا العمريّ ، عن لقيط، عن الهيثم بن عديّ .
و أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ عن عمّه، و أخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قالوا:
دخل ابن أبي محجن على معاوية، فقال له: أ ليس أبوك الّذي يقول:
إذا متّ فادفنّي إلى أصل كرمة(4) *** تروّي عظامي بعد موتي عروقها
و لا تدفننّي بالفلاة فإنّني *** أخاف إذا ما متّ ألاّ أذوقها
/فقال ابن أبي محجن: لو شئت لذكرت ما هو أحسن من هذا من شعره؛ قال: و ما ذاك ؟ قال: قوله:
لا تسألي الناس عن مالي و كثرته *** و سائلي الناس ما فعلي و ما خلقي(5)
أعطي السّنان غداة الرّوع حصّته *** و عامل الرّمح أرويه من العلق(6)
و أطعن الطعنة النّجلاء عن عرض *** و أحفظ السرّ فيه ضربة العنق
عفّ المطالب عمّا لست نائله *** - و إن ظلمت - شديد الحقد و الحنق
ص: 11
و قد أجود و ما لي بذي فنع *** و قد أكرّ وراء المحجر البرق(1)
و القوم أعلم أني من سراتهم *** إذا سما بصر الرّعديدة الشّفق(2)
قد يعسر المرء حينا و هو ذو كرم *** و قد يثوب(3) سوام العاجز الحمق
سيكثر المال يوما بعد قلّته *** و يكتسي العود بعد اليبس بالورق
فقال معاوية: لئن كنا أسأنا لك القول لنحسننّ لك الصّفد(4)، ثم أجزل جائزته و قال: إذا ولدت النّساء فلتلد مثلك!.
أخبرني الحسن بن عليّ و عيسى بن الحسين الورّاق، قالا: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني صالح بن عبد الرّحمن الهاشميّ ، عن العمريّ ، عن العتبيّ ، قال: أتى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بجماعة فيهم أبو محجن الثقفيّ و قد شربوا الخمر، فقال: أ شربتم الخمر بعد أن حرّمها اللّه و رسوله، فقالوا: ما حرّمها اللّه و لا رسوله؛ إن اللّه تعالى يقول: /لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ جُنٰاحٌ فِيمٰا طَعِمُوا إِذٰا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ (5)؛ فقال عمر لأصحابه: ما ترون فيهم ؟ فاختلفوا فيهم فبعث إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فشاوره؛ فقال عليّ : إن كانت هذه الآية كما يقولون فينبغي أن يستحلّوا الميتة و الدّم و لحم الخنزير؛ فسكتوا، فقال عمر لعليّ : ما ترى فيهم ؟ قال: أرى إن كانوا شربوها مستحلّين لها أن يقتلوا، و إن كانوا شربوها و هم يؤمنون أنها حرام أن يحدّوا، فسألهم؛ فقالوا: و اللّه ما شككنا في أنها حرام، و لكنا قدّرنا أن لنا نجاة فيما قلناه، فجعل يحدّهم رجلا رجلا، و هم يخرجون حتى انتهى إلى أبي محجن، فلما جلده أنشأ يقول:
أ لم تر أنّ الدهر يعثر بالفتى *** و لا يستطيع المرء صرف المقادر
صبرت(6) فلم أجزع و لم أك كائعا *** لحادث دهر في الحكومة جائر
و إني لذو صبر و قد مات إخوتي *** و لست عن الصهباء يوما بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها *** فخلاّنها يبكون حول المعاصر
فلما سمع عمر قوله:
و لست عن الصّهباء يوما بصابر
قال: قد أبديت ما في نفسك و لأزيدنّك عقوبة لإصرارك على شرب الخمر؛ فقال له عليّ عليه السّلام:
ما ذلك لك، و ما يجوز أن تعاقب رجلا قال: لأفعلنّ و هو لم يفعل، و قد قال اللّه في سورة الشعراء: وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ (7)
ص: 12
، فقال عمر: قد استثنى اللّه منهم قوما فقال: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ (1). فقال عليّ عليه السّلام: أ فهؤلاء عندك منهم و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا يشرب العبد الخمر حين يشربها و هو مؤمن».
أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثنا أحمد بن الهيثم بن فراس، قال: حدّثنا العمريّ ، عن الهيثم بن عديّ ، قال:
أخبرني من مرّ بقبر أبي محجن الثقفيّ في نواحي أذربيجان - أو قال في نواحي جرجان - فرأيت قبره و قد نبتت عليه ثلاثة أصول كرم قد طالت و أثمرت و هي معروشة، و على قبره مكتوب: هذا قبر أبي محجن الثقفيّ ، فوقفت طويلا أتعجّب مما اتّفق له حتى صار كأمنيّة بلغها حيث يقول:
إذا متّ فادفنّي إلى أصل كرمة *** تروّي عظامي بعد موتي عروقها
ألا يا لقومي لا أرى النّجم طالعا *** و لا الشّمس إلاّ حاجبي بيميني
معزّبتي خلف القفا بعمودها *** فجلّ نكيري أن أقول ذريني
أمين على أسرارهنّ و قد أرى *** أكون على الأسرار غير أمين
فللموت خير من حداج موطّأ *** مع الظّعن لا يأتي المحلّ لحين
عروضه من الطّويل؛ و المعزّية: امرأة تكون مع الشّيخ الخرف تكلؤه. و قوله:
أمين على أسرارهنّ ...
أي أنّ النّساء صرن يتحدّثن بين يديّ بأسرارهنّ ، و يفعلن ما كنّ قبل ذلك يرهبنني فيه؛ لأني لا أضرّهن.
و الحداج و الحدج: مركب من مراكب النّساء.
الشّعر لزهير بن جناب الكلبيّ ، و الغناء لأهل مكة، و لحنه من خفيف الثّقيل الأول بالوسطى عن الهشاميّ و حبش، و فيه لحنين ثاني ثقيل بالوسطى.
ص: 13
2 - أخبار زهير بن جناب و نسبه(1)
زهير بن جناب بن هبل بن عبد اللّه بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللاّت بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب(2) بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
شاعر جاهليّ ، و هو أحد المعمّرين، و كان سيّد بني كلب و قائدهم في حروبهم؛ و كان شجاعا مظفّرا ميمون النّقيبة في غزواته، و هو أحد من ملّ عمره فشرب الخمر صرفا حتى قتلته.
و لم يوجد شاعر في الجاهليّة و الإسلام ولد من الشّعراء أكثر ممّن ولد زهير، و سأذكر أسماءهم و شيئا من شعرهم بعقب ذكر خبره إن شاء اللّه تعالى.
قال ابن الأعرابيّ : كان سبب غزوة زهير بن جناب غطفان أنّ بني بغيض حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم، فتعرّضت لهم صداء و هي قبيلة من مذحج؛ فقاتلوهم و بنو بغيض سائرون بأهليهم و نسائهم و أموالهم، فقاتلوا عن حريمهم فظهروا على صداء فأوجعوا فيهم و نكئوا(3)؛ و عزّت بنو بغيض بذلك و أثرت و أصابت غنائم؛ فلمّا رأوا ذلك قالوا: أما و اللّه لنتّخذنّ حرما مثل حرم مكة لا يقتل صيده، و لا يعضد شجره، و لا يهاج عائذه(4)، فوليت ذلك بنو مرّة بن عوف.
ثمّ كان القائم على أمر الحرم و بناء حائطه رياح بن ظالم، ففعلوا ذلك و هم/على ماء لهم يقال له بسّ (5).
و بلغ فعلهم و ما أجمعوا عليه زهير بن جناب و هو يومئذ سيّد بني كلب؛ فقال: و اللّه لا يكون ذلك أبدا و أنا حيّ ، و لا أخلّي غطفان تتّخذ حرما أبدا.
فنادى في قومه فاجتمعوا إليه فقام فيهم، فذكر حال غطفان و ما بلغه عنها؛ و أنّ أكرم مأثرة يعتقدها هو و قومه أن يمنعوهم من ذلك و يحولوا بينهم و بينه، فأجابوه، و استمدّ بني القين من جشم(6) فأبوا أن يغزوا معه، فسار في
ص: 14
قومه حتى غزا غطفان؛ فقاتلهم فظفر بهم زهير و أصاب حاجته فيهم، و أخذ فارسا منهم أسيرا في حرمهم الّذي بنوه، فقال لبعض أصحابه: اضرب رقبته، فقال: إنّه بسل(1)، فقال زهير: و أبيك ما بسل عليّ بحرام.
ثم قام إليه فضرب عنقه و عطّل ذلك الحرم؛ ثم منّ على غطفان و ردّ النّساء و استاق الأموال؛ و قال زهير في ذلك:
و لم تصبر لنا غطفان لمّا *** تلاقينا و أحرزت النّساء
فلو لا الفضل منّا ما رجعتم *** إلى عذراء شيمتها الحياء
و كم غادرتم بطلا كميّا(2) *** لدى الهيجاء كان له غناء
فدونكم ديونا فاطلبوها *** و أوتارا و دونكم اللّقاء
فإنّا حيث لا نخفي عليكم *** ليوث حين يحتضر اللّواء(3)
فخلّى بعدها غطفان بسّا *** و ما غطفان و الأرض الفضاء!
/فقد أضحى لحيّ بني جناب *** فضاء الأرض و الماء الرّواء(4)
و يصدق طعننا في كلّ يوم *** و عند الطّعن يختبر اللّقاء
نفينا نخوة الأعداء عنّا *** بأرماح أسنّتها ظماء
و لو لا صبرنا يوم التقينا *** لقينا مثل ما لقيت صداء
غداة تعرّضوا لبني بغيض *** و صدق الطّعن للنّوكى(5) شفاء
و قد هربت حذار الموت قين *** على آثار من ذهب العفاء
و قد كنّا رجونا أن يمدّوا *** فأخلفنا من إخوتنا الرّجاء
و ألهى القين عن نصر الموالي *** حلاب النّيب و المرعى الضّراء(6)
و قال أبو عمرو الشّيباني: كان أبرهة حين طلع نجدا أتاه زهير بن جناب، فأكرمه أبرهة و فضّله على من أتاه من العرب، ثم أمّره على ابني وائل: تغلب و بكر، فوليهم حتى(7) أصابتهم سنة شديدة، فاشتدّ عليهم ما يطلب منهم زهير، فأقام بهم زهير في الجدب، و منعهم من النّجعة حتى يؤدّوا ما عليهم، فكادت مواشيهم تهلك. فلما رأى ذلك ابن زيّابة - أحد بني تيم اللّه بن ثعلبة، و كان رجلا فاتكا - بيّت زهيرا(8) و كان نائما في قبّة له من أدم، فدخل فألفى زهيرا نائما، و كان رجلا عظيم البطن، فاعتمد التّيميّ بالسّيف على بطن زهير حتى أخرجه من ظهره مارقا بين
ص: 15
الصّفاق، و سلمت أعفاج بطنه(1)، و ظنّ التّيميّ أنّه/قد قتله، و علم زهير أنه قد سلم، فتخوّف أن يتحرّك فيجهز عليه، فسكت. و انصرف ابن زيّابة إلى قومه، فقال لهم: قد - و اللّه - قتلت زهيرا و كفيتكموه، فسرّهم ذلك. و لمّا علم زهير أنه لم يقدم عليه إلا عن ملأ من قومه بكر و تغلب - و إنما مع زهير نفر من قومه بمنزلة الشّرط - أمر زهير قومه فغيّبوه بين عمودين في ثياب ثم أتوا القوم فقالوا لهم: إنكم قد فعلتم بصاحبنا ما فعلتم، فأذنوا لنا في دفنه، ففعلوا.
فحملوا زهيرا ملفوفا في عمودين و الثّياب عليه، حتى إذا بعدوا عن القوم أخرجوه فلفّفوه في ثيابه، ثم حفروا حفيرة و عمّقوا، و دفنوا فيها العمودين، ثم ساروا و معهم زهير، فلمّا بلغ زهير أرض قومه جمع لبكر و تغلب الجموع، و بلغهم أنّ زهيرا حيّ ، فقال ابن زيّابة:
طعنة ما طعنت في غبش(2) اللّي *** ل زهيرا و قد توافى الخصوم
حين تجبي له المواسم بكر *** أين بكر، و أين منها الحلوم!
خانني السيف إذ طعنت زهيرا *** و هو سيف مضلّل مشئوم(3)
قال: و جمع زهير بني كلب و من تجمّع له من شذّاذ العرب و القبائل(4)، و من أطاعه من أهل اليمن، فغزا بكرا و تغلب ابني وائل، و هم على ماء يقال له الحبيّ (5)، و قد كانوا نذروا(6) به، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم انهزمت بكر و أسلمت بني تغلب، فقاتلت شيئا من قتال ثم انهزمت، و أسر كليب و مهلهل/ابنا ربيعة، و استيقت الأموال، و قتلت كلب في تغلب قتلى كثيرة، و أسروا جماعة من فرسانهم و وجوههم، و قال زهير بن جناب في ذلك:
تبّا لتغلب أن تساق نساؤهم *** سوق الإماء إلى المواسم عطّلا(7)
لحقت أوائل خيلنا سرعانهم(8) *** حتى أسرن على الحبيّ مهلهلا
إنّا - مهلهل - ما تطيش رماحنا *** أيام تنقف(9) في يديك الحنظلا
ولّت حماتك هاربين من الوغى *** و بقيت في حلق الحديد مكبّلا
فلئن قهرت لقد أسرتك عنوة *** و لئن قتلت لقد تكون مؤمّلا(10)
ص: 16
و قال أيضا يعيّر بني تغلب بهذه الواقعة في قصيدة أوّلها:
حيّ دارا تغيّرت بالجناب *** أقفرت من كواعب أتراب
يقول فيها:
أين أين الفرار من حذر المو *** ت و إذ يتّقون بالأسلاب!
إذ أسرنا مهلهلا و أخاه *** و ابن عمرو في القدّ و ابن شهاب
و سبينا من تغلب كلّ بيضا *** ء رقود الضّحى برود الرّضاب
يوم يدعو مهلهل بالبكر *** ها أهذي حفيظة الأحساب(1)!
ويحكم ويحكم أبيح حماكم *** يا بني تغلب أ ما من ضراب!
و هم هاربون في كلّ فجّ *** كشريد النّعام فوق الرّوابي
/و استدارت رحى المنايا عليهم *** بليوث من عامر و جناب
طحنتهم أرحاؤها(2) بطحون *** ذات ظفر حديدة الأنياب
فهم بين هارب ليس يألو *** و قتيل معفّر في التّراب
فضل العزّ عزّنا حين نسمو *** مثل فضل السّماء فوق السّحاب
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثنا عمّي، عن ابن الكلبيّ ، عن أبيه، قال:
وفد زهير بن جناب و أخوه حارثة على بعض ملوك غسّان، فلما دخلا عليه(3) حدّثاه و أنشداه، فأعجب بهما و نادمهما، فقال يوما لهما: إن أمّي عليلة شديدة العلّة، و قد أعياني دواؤها، فهل تعرفان لها دواء؟ فقال حارثة:
كميرة حارّة - و كانت فيه لوثة - فقال الملك: أيّ شيء قلت ؟ فقال له زهير: كميئة حارّة تطعمها، فوثب الملك - و قد فهم الأولى و الآخرة - يريهما أنه يأمر بإصلاح الكمأة لها، و حلم عن مقالة حارثة. و قال حارثة لزهير: يا زهير اقلب ما شئت ينقلب، فأرسلها مثلا.
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن الغيث الباهليّ عن أبيه، قال:
كان من حديث زهير بن جناب الكلبيّ أنّه كان قد بلغ عمرا طويلا حتى ذهب عقله، و كان يخرج تائها لا يدري أين يذهب، فتلحقه المرأة من أهله و الصّبيّ ، فتردّه و تقول له: إني أخاف عليك الذّئب أن يأكلك، فأين تذهب ؟ فذهب يوما من أيّامه، و لحقته ابنة له فردّته، فرجع معها و هو يهدج كأنه رأل(4)، و راحت عليهم سماء في الصيف /فعلتهم منها بغشة(5) ثم أردفها غيث، فنظر و سمع له الشّيخ زجلا منكرا. فقال: ما هذا يا بنيّة ؟ فقالت: عارض
ص: 17
هائل إن أصابنا دون أهلنا هلكنا، فقال: انعتيه لي، فقالت: أراه منبطحا مسلنطحا(1)، قد ضاق ذرعا و ركب ردعا(2)، ذا هيدب(3) يطير، و هماهم(4) و زفير، ينهض نهض الطير الكسير، عليه مثل شباريق(5) السّاج، في ظلمة اللّيل الدّاج، يتضاحك مثل شعل النيران، تهرب منه الطير، و توائل(6) منه الحشرة. قال: أي بنية، وائلي منه إلى عصر(7) قبل أن لا عين و لا أثر.
أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني أحمد بن عبيد، عن ابن الكلبيّ ، عن أبيه، عن مشيخة من الكلبيّين قالوا:
عاش زهير بن جناب بن هبل بن عبد اللّه خمسين و مائتي سنة أوقع فيها مائتي وقعة في العرب، و لم تجتمع قضاعة إلا عليه و على حنّ بن زيد العذريّ ، و لم يكن في اليمن أشجع و لا أخطب و لا أوجه عند الملوك من زهير.
و كان يدعى الكاهن، لصحّة رأيه.
قال هشام: ذكر حمّاد الرّاوية أنّ زهيرا عاش أربعمائة و خمسين سنة، قال: /و قال الشّرقيّ بن القطاميّ :
عاش زهير أربعمائة سنة، فرأته ابنة له فقالت لابن ابنها: خذ بيد جدّك، فقال له: من أنت ؟ فقال: فلان بن فلان بن فلانة، فأنشأ يقول:
أ بنيّ إن أهلك فقد *** أورثتكم مجدا بنيّة
و تركتكم أبناء سا *** دات زنادكم و ريّه(8)
و لكلّ ما نال الفتى *** قد نلته إلا التّحيّة(9)
و الموت خير للفتى *** فليهلكن و به بقيّه
من أن يرى الشّيخ البجا *** ل و قد تهادى بالعشيّه(10)
و لقد شهدت النّار للأس *** لاف توقد في طميّه(11)
ص: 18
و لقد رحلت البازل ال *** كوماء ليس لها وليّه(1)
و خطبت خطبة ماجد(2) *** غير الضّعيف و لا العييّه
و لقد غدوت بمشرف ال *** قطرين لم يغمز شظيّه(3)
فأصبت من بقر الجنا *** ب ضحى و من حمر القفيّه(4)
/قال ابن الكلبيّ : و قال زهير في كبره أيضا:
ألا يا لقومي لا أرى النّجم طالعا *** و لا الشّمس إلا حاجبي بيميني
معزّبتي عند القفا بعمودها *** فأقصى نكيري أن أقول ذريني(5)
أمين على أسرارهنّ و قد أرى(6) *** أكون على الأسرار غير أمين
فللموت خير من حداج موطّأ *** على الظّعن لا يأتي المحلّ لحين
قال: و قال زهير أيضا في كبره:
إن تنسني الأيام إلا جلالة *** أمت حين لا تأسى عليّ العوائد
فيأذى بي الأدنى و يشمت بي العدا *** و يأمن كيدي الكاشحون الأباعد
قال: و قال زهير أيضا:
لقد عمّرت حتى لا أبالي *** أ حتفي في صباحي أم مسائي
و حقّ لمن أتت مائتان عاما *** عليه أن يملّ من الثّواء
شهدت الموقدين على خزازى *** و بالسّلاّن جمعا ذا زهاء(7)
و نادمت الملوك من آل عمرو *** و بعدهم بني ماء السماء
قال ابن الكلبيّ : و كان زهير إذا قال: ألا إن الحيّ ظاعن، ظعنت قضاعة؛ و إذا قال: ألا إن الحيّ مقيم، نزلوا و أقاموا. فلمّا أن أسنّ نصب ابن أخيه عبد اللّه بن عليم للرّئاسة في كلب، و طمع أن يكون كعمّه و تجتمع قضاعة كلّها عليه، فقال/زهير يوما: ألا إنّ الحيّ ظاعن، فقال عبد اللّه: ألا إنّ الحيّ مقيم، فقال زهير: ألا إنّ الحيّ مقيم، فقال عبد اللّه: ألا إنّ الحيّ ظاعن، فقال زهير: من هذا المخالف عليّ منذ اليوم ؟ فقالوا: ابن أخيك عبد اللّه بن عليم، فقال: أعدى الناس للمرء ابن أخيه إلاّ أنّه لا يدع قاتل عمّه أو يقتله. ثم أنشأ يقول:
ص: 19
و كيف بمن لا أستطيع فراقه *** و من هو إن لم تجمع الدّار آلف!
أمير شقاق إن أقم لا يقم معي *** و يرحل، و إن أرحل يقم و يخالف(1)
ثم شرب الخمر صرفا حتّى مات.
قال: و ممّن شرب الخمر صرفا حتى مات عمرو بن كلثوم التّغلبيّ ، و أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنّة.
قال هشام(2): عاش هبل بن عبد اللّه جدّ زهير بن جناب ستّمائة سنة و سبعين، و هو القائل:
يا ربّ يوم قد غني فيه هبل *** له نوال و درور و جذل(3)
كأنّه في العزّ عوف أو حجل
قال: عوف و حجل: قبيلتان من كلب.
و قال أبو عمرو الشّيباني: كان الجلاح بن عوف السّحميّ قد وطّأ لزهير بن جناب و أنزله معه، فلم يزل في جناحه حتى كثر ماله و ولده، و كانت أخت زهير متزوّجة في بني القين بن جسر، فجاء رسولها إلى زهير و معه برد فيه صرار رمل و شوكة قتاد، /فقال زهير لأصحابه: أتتكم شوكة شديدة، و عدد كثير فاحتملوا، فقال له الجلاح:
أ نحتمل لقول امرأة! و اللّه لا نفعل، فقال زهير:
أما الجلاح فإنّني فارقته *** لا عن قلّى و لقد تشطّ بنا النّوى
فلئن ظعنت لأصبحنّ مخيّما(4) *** و لئن أقمت لأظعننّ على هوى
قال: فأقام الجلاح، و ظعن زهير، و صبّحهم الجيش فقتل عامّة قوم الجلاح و ذهبوا بماله.
قال: و اسم الجلاح عامر بن عوف بن بكر بن عوف بن عامر بن عوف بن عذرة.
و مضى زهير لوجهه حتى اجتمع مع عشيرته من بني جناب، و بلغ الجيش خبره فقصدوه، فحاربهم و ثبت لهم فهزمهم و قتل رئيسا منهم، فانصرفوا عنه خائبين، فقال زهير:
أ من آل سلمى ذا الخيال المؤرّق *** و قد يمق(5) الطيف الغريب المشوّق
و أنّي اهتدت سلمى لوجه محلّنا *** و ما دونها من مهمه الأرض يخفق
فلم تر إلا هاجعا عند حرّة *** على ظهرها كور عتيق و نمرق(6)
و لمّا رأتني و الطّليح تبسّمت *** كما انهلّ أعلى عارض يتألّق
فحيّيت عنّا زوّدينا تحيّة *** لعلّ بها العاني من الكبل يطلق
ص: 20
فردّت سلاما ثم ولت بحاجة *** و نحن لعمري يا ابنة الخير أشوق(1)
/فيا طيب ما ريّا(2) و يا حسن منظر *** لهوت به لو أنّ رؤياك تصدق
و يوم أثالى قد عرفت رسومها *** فعجنا إليها و الدّموع ترقرق
و كادت تبين القول لمّا سألتها *** و تخبرني لو كانت الدار تنطق
فيا دار سلمى هجت للعين عبرة *** فماء الهوى يرفضّ أو يترقرق(3)
و قال زهير في هذه القصيدة يذكر خلاف الجلاح عليه:
أيا قومنا إن تقبلوا الحقّ فانتهوا *** و إلا فأنياب من الحرب تحرق(4)
فجاءوا إلى رجراجة مكفهرّة *** يكاد المدير نحوها الطّرف يصعق(5)
سيوف و أرماح بأيدي أعزّة *** و موضونة ممّا أفاد محرّق(6)
فما برحوا حتى تركنا رئيسهم *** و قد مار فيه المضرحيّ المذلّق(7)
و كائن ترى من ماجد و ابن ماجد *** له طعنة نجلاء للوجه يشهق
و قال زهير في ذلك أيضا:
سائل أميمة عنّي هل وفيت لها *** أم هل منعت من المخزاة جيرانا
لا يمنع الضّيف إلا ماجد بطل *** إنّ الكريم كريم أينما كانا(8)
لمّا أبى جيرتي إلا مصمّمة *** تكسو الوجوه من المخزاة ألوانا
/ملنا عليهم بورد لا كفاء له *** يفلقن بالبيض تحت النّقع أبدانا
إذا ارجحنّوا علونا هامهم قدما *** كأنّما نختلي بالهام خطبانا(9)
كم من كريم هوى للوجه منعفرا *** قد اكتسى ثوبه في النّقع ألوانا
و من عميد تناهى بعد عثرته *** تبدو ندامته للقوم خزيانا
و أمّا الشعراء من ولد زهير:
فمنهم مصاد بن أسعد بن جنادة بن صهبان بن امرئ القيس بن زهير بن جناب، و هو القائل:
ص: 21
تمنّيت أن تلقى لقاح ابن محرز *** و قبلك شامتها العيون النّواظر
ممنّحة في الأقربين مناخة *** و للضّيف فيها و الصّديق معاقر(1)
فهلاّ بني عيناء عاينت جمعهم *** بحالة(2) إذا سدّت عليك المصادر
- و منهم حريث بن عامر بن الحارث بن امرئ القيس بن زهير بن جناب، و هو القائل:
أرى قومي بني قطن أرادوا *** بألاّ يتركوا بيديّ مالا
فإن لم أجزهم غيظا بغيظ *** و أوردهم على عجل شلالا(3)
فليت التّغلبيّة لم تلدني *** و لا أغنت بما ولدت قبالا(4)
- و منهم الحزنبل بن سلامة بن زهير بن أسعد بن صهبان بن امرئ القيس بن زهير بن جناب، و هو القائل:
/عبثت بمنخرق القميص كأنّه *** وضح الهلال على الخمور معذل
يا سلم ويحك و الخليل معاتب *** أزمعت أن تصلي سواي و تبخلي
لمّا رأيت بعارضيّ و لمّتي *** غير المشيب على الشباب المبدل(5)
صرّمت حبل فتى يهشّ إلى النّدى *** لو تطلبين نداه لم يتعلّل
إنا لنصبر عند معترك الوغى *** و نبذ مكرمة الكريم المفضل(6)
- و منهم غرير بن أبي جابر بن زهير بن جناب، و هو القائل:
أبلغ أبا عمرو و أن *** ت عليّ ذو النّعم الجزيله
أنّا منعنا أن تذلّ *** بلادكم و بنو جديله
و طرقتهم ليلا أخ *** برهم بهم و معي وصيله(7)
فصدقتهم خبري فطا *** روا في بلادهم الطّويله
- و منهم عرفجة بن جنادة بن أبيّ بن النّعمان(8) بن زهير بن جناب، و هو القائل:
عفا أبرق العزّاف من أمّ جابر *** فمنعرج الوادي عفا فحفير
فروض ثوير عن يمين رويّة *** كأن لم تربّعه أوانس حور(9)
رقاق الثّنايا و الوجوه، كأنها *** ظباء الفلا(10) في لحظهن فتور
ص: 22
- و منهم المسيّب بن رفل(1) بن حارثة بن جناب بن قيس بن امرئ القيس بن أبي جابر بن زهير بن جناب، و هو القائل:
/قتلنا يزيد بن المهلّب بعد ما *** تمنّيتم أن يغلب الحقّ باطله
و ما كان منكم في العراق منافق *** عن الدّين إلا من قضاعة قاتله
تجلّله قحل بأبيض صارم *** حسام جلا عن شفرتيه صياقله(2)
يعني بالفحل ابن عيّاش بن شمر بن أبي شراحيل بن غرير بن أبي جابر بن زهير بن جناب، و هو الّذي قتل يزيد بن المهلّب.
و من بني زهير شعراء كثير، ذكرت منهم الفحول دون غيرهم.
تدّعى الشوق إن نأت *** و تجنّى إذا دنت
سرّني لو صبرت عن *** ها فتجزى بما جنت
إنّ سلمى لو اتّقت *** ربّها فيّ أنجزت
زرعت في الحشا الهوى *** و سقته حتى نبت(3)
الشّعر لمسلم بن الوليد، و الغناء لعريب خفيف ثقيل. و قيل: إنه لأبي العبيس بن حمدون. و ذكر الهشاميّ أن لإسحاق في: إنّ سلمى... و ما بعده لحنا من الثّقيل الأول بالبنصر.
ص: 23
3 - نسب مسلم بن الوليد و أخباره(1)
و هو مسلم بن الوليد، أبوه الوليد مولى الأنصار ثم مولى أبي أمامة أسعد بن زرارة الخزرجيّ .
يلقّب صريع الغواني، شاعر متقدم من شعراء الدّولة العبّاسيّة، منشؤه و مولده الكوفة.
و هو - فيما زعموا - أوّل من قال الشّعر المعروف بالبديع، هو لقّب هذا الجنس البديع و اللّطيف(2). و تبعه فيه جماعة، و أشهرهم فيه أبو تمّام الطائيّ فإنه جعل شعره كلّه مذهبا واحدا فيه. و مسلم كان متقنّنا متصرّفا في شعره.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: قال أبو العباس محمد بن يزيد:
كان مسلم شاعرا حسن النّمط، جيّد القول في الشراب(3)، و كثير من الرّواة يقرنه بأبي نواس في هذا المعنى.
و هو أوّل من عقد هذه المعاني الظّريفة و استخرجها.
حدّثنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: سمعت أبي، يقول: أول من أفسد الشّعر مسلم بن الوليد، جاء بهذا الّذي سمّاه النّاس البديع، ثم جاء الطّائيّ بعده فتفنّن فيه(4).
أخبرني إبراهيم بن أيّوب عن عبد اللّه بن مسلم الدّينوريّ ، قال:
كان مسلم بن الوليد و أخوه سليمان منقطعين إلى يزيد بن مزيد و محمد بن منصور بن زياد، ثم الفضل بن سهل بعد ذلك. و قلّد الفضل مسلما المظالم بجرجان فمات بها.
/أخبرني عليّ بن سليمان، قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال:
كان السبب في قول مسلم:
تدّعي الشوق إن نأت *** و تجنّي إذا دنت
ص: 24
أنّه علق جارية ذات ذكر و شرف(1)، و كان منزلها في مهبّ الشّمال من منزله، و في ذلك يقول:
أحبّ الرّيح ما هبّت شمالا *** و أحسدها إذا هبت جنوبا
أهابك أن أبوح بذات نفسي *** و أفرق إن سألتك أن أخيبا
و أهجر صاحبي حبّ التّجنّي *** عليه إذا تجنّيت الذّنوبا(2)
كأني حين أغضي عن سواكم *** أخاف لكم على عيني رقيبا
غنّى عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعي في هذه الأبيات هزجا بالبنصر عن الهشاميّ .
قال: و كانت له جارية يرسلها إليها و يبثّها سرّه، و تعود إليه بأخبارها و رسائلها؛ فطال ذلك بينهما؛ حتى أحبّتها الجارية الّتي علقها مسلم و مالت إليها، و كلتاهما في نهاية الحسن و الكمال.
و كان مسلم يحبّ جاريته هذه محبّة شديدة، و لم يكن يهوى تلك، إنما كان يريد الغزل و المجون و المراسلة، و أن يشيع له حديث(3) بهواها، و كان يرى ذلك من/الملاحة و الظّرف و الأدب، فلما رأى مودّة تلك لجاريته هجر جاريته مظهرا لذلك، و قطعها عن الذّهاب إلى تلك، و ذلك قوله:
و أهجر صاحبي حبّ التّجنّي *** عليه إذا تجنّيت الذّنوبا
و راسلها مع غير جاريته الأولى، و ذلك قوله:
تدّعى الشوق إن نأت *** و تجنّى إذا دنت
واعدتنا و أخلفت *** ثم ساءت فأحسنت(4)
سرّني لو صبرت عن *** ها فتجزى بما جنت
(5) إنّ سلمى لو اتّقت *** ربّها فيّ أنجزت
زرعت في الحشا الهوى *** و سقته حتى نبت(5)
أخبرني الحسين بن يحيى و محمد بن يزيد، قالا: حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه، قال:
لقي مسلم بن الوليد أبا نواس فقال له: ما أعرف لك بيتا إلا فيه سقط، قال: فما تحفظ من ذلك ؟ قال: قل أنت ما شئت حتى أريك سقطه فيه، فأنشده:
ص: 25
ذكر الصّبوح سحيرة(1) فارتاحا *** و أملّه ديك الصّباح صياحا
فقال له مسلم: فلم أملّه و هو الّذي أذكره و به ارتاح ؟ فقال أبو نواس: فأنشدني شيئا من شعرك ليس فيه خلل، فأنشده مسلم:
/عاصى الشّباب فراح غير مفنّد(2)*** و أقام بين عزيمة و تجلّد
فقال له أبو نواس: قد جعلته رائحا مقيما في حال واحدة و بيت واحد. فتشاغبا و تسابّا ساعة، و كلا البيتين صحيح المعنى.
أخبرني جعفر بن قدامة قال: قال لي محمد بن عبد اللّه بن مسلم: حدّثني أبي، قال:
اجتمع أصحاب المأمون عنده يوما، فأفاضوا في ذكر الشّعر و الشّعراء، فقال له بعضهم: أين أنت يا أمير المؤمنين عن مسلم بن الوليد؟ قال: حيث يقول ما ذا؟ قال: حيث يقول و قد رثى رجلا:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه *** فطيب تراب القبر دلّ على القبر
و حيث مدح رجلا بالشّجاعة فقال:
يجود بالنّفس إذ ضنّ (3) الجواد بها *** و الجود بالنّفس أقصى غاية الجود
و هجا رجلا بقبح الوجه و الأخلاق فقال:
قبحت مناظره فحين خبرته *** حسنت مناظره لقبح المخبر
و تغازل فقال:
هوّى يجدّ و حبيب يلعب *** أنت لقى بينهما معذّب
فقال المأمون: هذا أشعر من خضتم اليوم في ذكره.
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ و الحسن بن عليّ الخفّاف، قالا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ ، قال:
حدّثني قعنب بن المحرز، و ابن النّطّاح، عن القحذميّ ، قال:
/قال يزيد بن مزيد: أرسل إليّ الرّشيد يوما في وقت لا يرسل فيه إلى مثلي فأتيته لابسا سلاحي، مستعدّا لأمر إن أراده، فلما رآني ضحك إليّ ثم قال: يا يزيد خبّرني من الّذي يقول فيك:
تراه في الأمن في درع مضاعفة *** لا يأمن الدّهر أن يدعى على عجل(4)
صافي العيان طموح العين همّته *** فكّ العناة و أسر الفاتك الخطل
ص: 26
للّه من هاشم في أرضه جبل *** و أنت و ابنك ركنا(1) ذلك الجبل
فقلت: لا أعرفه يا أمير المؤمنين. قال: سوأة لك من سيّد قوم يمدح بمثل هذا الشّعر و لا تعرف قائله، و قد بلغ أمير المؤمنين فرواه و وصل قائله، و هو مسلم بن الوليد. فانصرفت فدعوت به و وصلته و ولّيته.
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ ، و الحسن بن عليّ الخفّاف، قالا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ ، قال:
حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن سليمان الحنفيّ ذو الهدمين، قال: حدّثني أبي، قال:
دخل يزيد بن مزيد على الرّشيد فقال له: يا يزيد، من الّذي يقول فيك:
لا يعبق الطّيب خدّيه و مفرقه *** و لا يمسّح عينيه من الكحل
قد عوّد الطّير عادات وثقن بها *** فهنّ يتبعنه(2) في كلّ مرتحل
فقال: لا أعرف قائله يا أمير المؤمنين. فقال له هارون: أ يقال فيك مثل هذا/الشّعر و لا تعرف قائله! فخرج من عنده خجلا، فلما صار إلى منزله دعا حاجبه فقال له: من بالباب من الشّعراء؟ قال: مسلم بن الوليد، فقال:
و كيف حجبته عنّي فلم تعلمني بمكانه ؟ قال: أخبرته أنّك مضيق(3)، و أنّه ليس في يديك شيء تعطيه إياه، و سألته الإمساك و المقام أياما إلى أن تتّسع. قال: فأنكر ذلك عليه و قال: أدخله إليّ . فأدخله إليه، فأنشده قوله:
أجررت حبل خليع في الصّبا غزل *** و شمّرت همم العذّال في عذلي(4)
ردّ البكاء على العين الطّموح هوّى *** مفرّق بين توديع و مرتحل(5)
أ ما كفى البين أن أرمى بأسهمه *** حتى رماني بلحظ الأعين النّجل!
مما جنت لي - و إن كانت منّى صدقت - *** صبابة خلس التّسليم بالمقل(6)
فقال له: قد أمرنا لك بخمسين ألف درهم، فاقبضها و اعذر. فخرج الحاجب فقال لمسلم: قد أمرني أن أرهن ضيعة من ضياعه على مائة ألف درهم، خمسون ألفا لك و خمسون ألفا لنفقته. و أعطاه إيّاها، و كتب صاحب الخبر بذلك إلى الرّشيد، فأمر ليزيد بمائتي ألف درهم و قال: اقض الخمسين الّتي أخذها الشّاعر و زده مثلها. و خذ مائة ألف لنفقتك. فافتكّ ضيعته، و أعطى مسلما خمسين ألفا أخرى.
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن عبيد الكوفيّ ، و عليّ بن الحسن كلاهما، قال: أخبرني عليّ بن عمرو، قال:
/حدّثني مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغوائي قال: كنت يوما جالسا في دكان خيّاط بإزاء منزلي، إذ
ص: 27
رأيت طارقا ببابي، فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل الكوفة قد قدم من قمّ ، فسررت به، و كأنّ إنسانا لطم وجهي، لأنّه لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه، فقمت فسلّمت عليه، و أدخلته منزلي، و أخذت خفّين كانا لي أتجمّل بهما، فدفعتهما إلى جاريتي، و كتبت معهما رقعة إلى بعض معارفي في السّوق، أسأله أن يبيع الخفّين و يشتري لي لحما و خبزا بشيء سمّيته. فمضت الجارية و عادت إليّ و قد اشترى لها ما قد حدّدته له، و قد باع الخفّين(1) بتسعة دراهم، فكأنّها إنما جاءت بخفّين جديدين. فقعدت أنا و ضيفي نطبخ، و سألت جارا لي أن يسقينا قارورة نبيذ، فوجّه بها إليّ ، و أمرت الجارية بأن تغلق باب الدّار مخافة طارق يجيء فيشركنا فيما نحن فيه، ليبقى لي و له ما نأكله إلى أن ينصرف.
فإنّا لجالسان نطبخ حتى طرق الباب طارق، فقلت لجاريتي: انظري من هذا. فنظرت من شقّ الباب فإذا رجل عليه سواد و شاشيّة و منطقة و معه شاكريّ ، فخبّرتني بموضعه فأنكرت أمره(2)، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: لست بصاحب دعارة، و لا للسّلطان عليّ سبيل. ففتحت الباب و خرجت إليه، فنزل عن دابّته و قال: أ أنت مسلم بن الوليد؟ قلت: نعم. فقال: كيف لي بمعرفتك ؟ قلت: الّذي دلّك على منزلي يصحّح لك معرفتي. فقال لغلامه:
امض إلى الخيّاط فسله عنه. فمضى فسأله عنّي فقال: نعم هو مسلم بن الوليد. فأخرج إليّ كتابا من خفّه، و قال:
هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إليّ ، يأمرني ألاّ أفضّه إلا عند لقائك، فإذا فيه: إذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع إليه /هذه العشرة آلاف درهم، الّتي أنفذتها تكون له في منزله، و ادفع ثلاثة آلاف درهم نفقة ليتحمّل بها إلينا. فأخذت الثّلاثة و العشرة، و دخلت إلى منزلي و الرّجل معي، فأكلنا ذلك الطعام، و ازددت فيه و في الشّراب، و اشتريت فاكهة، و اتّسعت و وهبت لضيفي من الدّراهم ما يهدي به هديّة لعياله.
و أخذت في الجهاز، ثم ما زلت معه حتى صرنا إلى الرّقّة إلى باب يزيد، فدخل الرّجل و إذا هو أحد حجّابه، فوجده في الحمّام، فخرج إليّ فجلس معي قليلا، ثم خبّر الحاجب بأنّه قد خرج من الحمّام، فأدخلني إليه، و إذا هو على كرسيّ جالس، و على رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة، و بيده هو مرآة، و مشط يسرّح لحيته، فقال لي:
يا مسلم، ما الّذي بطّأ بك عنّا؟ فقلت: أيّها الأمير، قلّة ذات اليد. قال: فأنشدني. فأنشدته قصيدتي الّتي مدحته فيها:
أجررت حبل خليع في الصّبا غزل *** و شمّرت همم العذّال في عذلي
فلما صرت إلى قولي:
لا يعبق الطّيب خدّيه و مفرقه *** و لا يمسّح عينيه من الكحل(3)
ص: 28
وضع المرآة في غلافها، و قال للجارية: انصرفي، فقد حرّم علينا مسلم الطّيب. فلما فرغت من القصيدة قال لي: يا مسلم، أ تدري ما الّذي حداني إلى أن وجهت إليك ؟ فقلت: لا و اللّه ما أدري. قال: كنت عند الرّشيد منذ ليال أغمّز(1) رجليه، إذ قال لي: يا يزيد، من القائل فيك:
/سلّ الخليفة سيفا من بني مطر *** يمضي فيخترم الأجساد و الهاما(2)
كالدّهر لا ينثني عمّا(3) يهمّ به *** قد أوسع الناس إنعاما و إرغاما
فقلت: لا و اللّه ما أدري. فقال لي الرّشيد: يا سبحان اللّه! أنت مقيم على أعرابيّتك، يقال فيك مثل هذا الشّعر و لا تدري من قائله! فسألت عن قائله، فأخبرت أنّك أنت هو، فقم حتى أدخلك على أمير المؤمنين.
ثم قام فدخل على الرّشيد، فما علمت حتى خرج عليّ الإذن فأذن لي، فدخلت على الرّشيد، فأنشدته ما لي فيه من الشّعر، فأمر لي بمائتي ألف درهم، فلما انصرفت إلى يزيد أمر لي بمائة و تسعين ألفا، و قال: لا يجوز لي أن أعطيك مثل ما أعطاك أمير المؤمنين. و أقطعني إقطاعات تبلغ غلّتها مائتي ألف درهم.
قال مسلم: ثم أفضت بي الأمور بعد ذلك إلى أن أغضبني فهجوته، فشكاني إلى الرّشيد، فدعاني و قال:
أ تبيعني عرض يزيد؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال لي: بكم ؟ فقلت: برغيف خبز. فغضب حتى خفته على نفسي، و قال: قد كنت على أن أشتريه منك بمال جسيم، و لست أفعل و لا كرامة، فقد علمت إحسانه إليك، و أنا نفيّ من أبي، و و اللّه ثمّ و اللّه لئن بلغني أنّك هجوته لأنزعنّ لسانك من بين فكّيك، فأمسكت عنه بعد ذلك، و ما ذكرته بخير و لا شرّ.
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه اليعقوبيّ ، قال:
/حدّثني البيدق(4) الرّاوية - و كان من أهل نصيبين - قال: دخلت دار يزيد بن مزيد يوما و فيها الخلق، و إذا فتى شابّ جالس في أفناء النّاس، و لم يكن يزيد عرفه بعد، و إذا هو مسلم بن الوليد، فقال لي: ما في نفسي أن أقول شعرا أبدا، فقلت: و لم ؟ قال: لأنّي قد مدحت هذا الرّجل بشعر ما مدح بمثله قطّ، و لست أجد من يوصّله، فقلت له: أنشدني بعضه، فأنشدني منه:
موف على مهج في يوم ذي رهج *** كأنّه أجل يسعى إلى أمل
ص: 29
يقري السّيوف نفوس النّاكثين به *** و يجعل الرّوس تيجان القنا الذّبل
لا يعبق الطّيب خدّيه و مفرقه *** و لا يمسّح عينيه من الكحل
إذا انتضى سيفه كانت مسالكه *** مسالك الموت في الأجسام و القلل(1)
و إن خلت بحديث النّفس فكرته *** عاش الرّجاء و مات الخوف من وجل(2)
كاللّيث إن هجته فالموت راحته *** لا يستريح إلى الأيّام و الدّول
للّه من هاشم في أرضه جبل *** و أنت و ابنك ركنا ذلك الجبل
صدّقت ظنّي و صدّقت الظّنون به *** و حطّ جودك عقد الرّحل عن جملي(3)
قال: فأخذت منها بيتين، ثم قلت له: أنشدني أيضا ما لك فيه، فأنشدني قصيدة أخرى ابتداؤها:
/طيف الخيال حمدنا منك إلماما *** داويت سقما و قد هيّجت أسقاما
يقول فيها:
كالدّهر لا ينثني عمّا يهمّ به *** قد أوسع النّاس إنعاما و إرغاما
قال: فأنشدت هذه الأبيات يزيد بن مزيد، فأمر له بخمسمائة درهم. ثم ذكرته بالرّقّة فقلت له: هذا الشّاعر الّذي قد مدحك فأحسن، تقتصر به على خمسمائة درهم! فبعث إليه بخمسمائة درهم أخرى، قال: فقال لي مسلم:
جاءتني و قد رهنت طيلساني على رءوس الإخوان(4)، فوقعت منّي أحسن موقع.
أخبرني محمد بن عمران، قال: حدّثنا العنزيّ ، عن محمد بن بدر العجليّ ، عن إبراهيم بن سالم، عن أبي فرعون مولى يزيد بن مزيد قال:
ركب يزيد يوما إلى الرّشيد فتغلّف بغالية(5)، ثم لم يلبث أن عاد فدعا بطست فغسل الغالية، و قال: كرهت أن أكذّب قول مسلم بن الوليد:
لا يعبق الطّيب خدّيه و مفرقه *** و لا يمسّح عينيه من الكحل
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة، قال:
كان مسلم بن الوليد جالسا بين يدي يزيد بن مزيد فأتاه كتاب فيه مهمّ له، فقرأه سرّا و وضعه، ثم أعاد قراءته و وضعه، ثم أراد القيام، فقال له مسلم بن الوليد:
ص: 30
الحزم تحريقه إن كنت ذا حذر(1) *** و إنّما الحزم سوء الظّنّ بالنّاس
لقد أتاك و قد أدّى أمانته *** فاجعل صيانته في بطن أرماس
/قال: فضحك يزيد و قال: صدقت لعمري. و خرّق الكتاب، و أمر بإحراقه.
حدّثني عمّي و جحظة، قالا: حدّثنا عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى، قال: حدّثني أبو محلّم، و حدّثني عمّي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة، قال:
كان مسلم بن الوليد صديقا ليزيد بن مزيد و مدّاحا له، فلما مات انقطع إلى ابنه محمد بن يزيد، و مدحه كما مدح أباه، فلم يصنع إليه خيرا، و لم يرضه ما فعله به، فهجره و انقطع عنه، فكتب إليه يستحفيه(2) و يلومه على انقطاعه عنه، و يذكّره حقوق أبيه عليه، فكتب إليه مسلم:
لبست عزاء عن لقاء محمد *** و أعرضت عنه منصفا و ودودا
و قلت لنفس قادها الشّوق نحوه *** فعوّضها حبّ اللّقاء صدودا
هبيه امرأ قد كان أصفاك ودّه *** فمات و إلاّ فاحسبيه يزيدا
لعمري لقد ولّى فلم ألق بعده *** وفاء لذي عهد يعدّ حميدا
أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني أحمد بن محمد بن أبي سعد، قال:
أهديت إلى يزيد بن مزيد جارية و هو يأكل، فلما رفع الطّعام من بين يديه وطئها فلم ينزل عنها، إلا ميّتا، و هو ببرذعة(3)، فدفن في مقابر برذعة، و كان مسلم معه في صحابته فقال يرثيه:
/قبر ببرذعة استسرّ ضريحه *** خطرا تقاصر دونه الأخطار
أبقى الزّمان على ربيعة بعده *** حزنا كعمر الدّهر ليس يعار
سلكت بك العرب السّبيل إلى العلا *** حتى إذا بلغوا المدى بك حاروا
و يروى:
حتى إذا سبق الرّدى بك حاروا(4)
- هكذا أنشده الأخفش -:
نفضت بك الأحلاس نفض إقامة *** و استرجعت روّادها الأمصار
فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة *** أثنى عليها السّهل و الأوعار
ص: 31
نسخت من كتاب جدّي يحيى بن محمد بن ثوابة: حدّثني الحسن بن سعيد، عن أبيه، قال:
كان داود بن يزيد بن حاتم المهلّبيّ يجلس للشّعراء في السّنة مجلسا واحدا فيقصدونه لذلك اليوم و ينشدونه، فوجّه إليه مسلم بن الوليد راويته بشعره الّذي يقول فيه:
جعلته حيث ترتاب الرّياح به *** و تحسد الطّير فيه أضبع البيد(1)
فقدم عليه يوم جلوسه للشّعراء، و لحقه بعقب خروجهم عنه، فتقدّم إلى الحاجب و حسر لثامه عن وجهه ثم قال له: استأذن لي على الأمير. قال: و من أنت ؟ قال: شاعر. قال: قد انصرم وقتك، و انصرف الشّعراء، و هو على القيام. فقال له: ويحك/قد وفدت على الأمير بشعر ما قالت العرب مثله. قال: و كان مع الحاجب أدب يفهم به ما يسمع، فقال: هات حتى أسمع، فإن كان الأمر كما ذكرت أوصلتك إليه. فأنشده بعض القصيدة، فسمع شيئا يقصر الوصف عنه، فدخل على داود فقال له: قد قدم على الأمير شاعر بشعر ما قيل فيه مثله، فقال: أدخل قائله.
فأدخله، فلمّا مثل بين يديه سلّم و قال: قدمت على الأمير - أعزّه اللّه - بمدح يسمعه فيعلم به تقدّمي على غيري ممّن امتدحه. فقال: هات. فلما افتتح القصيدة و قال:
لا تدع بي الشّوق إني غير معمود *** نهى النّهى عن هوى البيض الرّعاديد(2)
استوى جالسا و أطرق، حتى أتى الرّجل على آخر الشّعر، ثم رفع رأسه إليه ثم قال: أ هذا شعرك ؟ قال: نعم أعزّ اللّه الأمير، قال: في كم قلته يا فتى ؟ قال: في أربعة أشهر، أبقاك اللّه، قال: لو قلته في ثمانية أشهر لكنت محسنا، و قد اتّهمتك لجودة شعرك و خمول ذكرك، فإن كنت قائل هذا الشّعر فقد أنظرتك أربعة أشهر في مثله، و أمرت بالإجراء عليك، فإن جئتنا بمثل هذا الشّعر وهبت لك مائة ألف درهم و إلا حرمتك. فقال: أو الإقالة، أعزّ اللّه الأمير. قال: أقلتك، قال: الشّعر لمسلم بن الوليد، و أنا راويته و الوافد عليك بشعره. فقال:(3) أنا ابن حاتم(3)، إنّك لمّا افتتحت شعره فقلت:
لا تدع بي الشّوق إنّي غير معمود
سمعت كلام مسلم يناديني فأجبت نداءه و استويت جالسا. ثم قال: يا غلام، أعطه عشرة آلاف درهم، و احمل السّاعة إلى مسلم مائة ألف درهم.
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني مسعود بن عيسى العبديّ ، قال: أخبرني موسى بن عبد اللّه التّميميّ ، قال:
دخل مسلم بن الوليد الأنصاريّ على الفضل بن سهل لينشده شعرا، فقال له: أيّها الكهل، إنّي أجلّك عن الشّعر فسل حاجتك، قال: بل تستتمّ اليد عندي بأن تسمع، فأنشده:
ص: 32
دموعها من حذار البين تنسكب *** و قلبها مغرم من حرّها يجب
جدّ الرّحيل به عنها ففارقها *** لبينه اللّهو و اللّذّات و الطّرب
يهوى المسير إلى مرو و يحزنه *** فراقها فهو ذو نفسين يرتقب
فقال له الفضل: إني لأجلّك عن الشعر، قال: فأغنني بما أحببت من عملك؛ فولاّه البريد بجرجان.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني الحسين بن أبي السّريّ .
و أخبرني بهذه الأخبار محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني إبراهيم بن محمد الورّاق، عن الحسين بن أبي السّريّ قال: قيل لمسلم بن الوليد: أيّ شعرك أحبّ إليك ؟ قال: إن في شعري لبيتا أخذت معناه من التّوراة، و هو قولي:
دلّت على عيبها الدّنيا و صدّقها *** ما استرجع الدّهر ممّا كان أعطاني
قال الحسين: و حدّثني جماعة من أهل جرجان أنّ راوية مسلم جاء إليه بعد أن تاب ليعرض عليه شعره، فتغافله مسلم، ثم أخذ منه الدّفتر الّذي في يده، فقذف به في البحر، فلهذا قلّ شعره، فليس في أيدي النّاس منه إلا ما كان بالعراق، و ما كان في أيدي الممدوحين من مدائحهم.
قال الحسين: و حدّثني الحسين بن دعبل، قال: قال أبي لمسلم: ما معنى ذلك:
لا تدع بي الشّوق إنّي غير معمود
قال: لا تدعني صريع الغواني فلست كذلك؛ و كان يلقّب هذا اللّقب و كان له كارها.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال: عتب عيسى بن داود(1)على مسلم بن الوليد فهجره، و كان إليه محسنا، فكتب إليه مسلم:
شكرتك للنّعمى فلمّا رميتني *** بصدّك تأديبا شكرتك في الهجر
فعندي للتّأديب شكر و للنّدى *** و إن شئت كان العفو أدعى(2) إلى الشّكر
إذا ما اتّقاك(3) المستليم بعذره *** فعفوك خير من ملام على عذر
قال: فرضي عنه و عاد له إلى حاله.
ص: 33
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن الأشعث، قال: حدّثني دعبل بن عليّ ، قال:
كان مسلم بن الوليد من أبخل الناس، فرأيته يوما و قد استقبل الرّضا عن غلام له بعد موجدة، فقال له: قد رضيت عنك و أمرت لك بدرهم.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عمرو بن سعيد قال:
خرج دعبل إلى خراسان لمّا بلغه حظوة مسلم بن الوليد عند الفضل بن سهل. فصار إلى مرو، و كتب إلى الفضل بن سهل:
لا تعبأن بابن الوليد فإنه *** يرميك بعد ثلاثة بملال
إنّ الملول و إن تقادم عهده *** كانت مودّته كفيء ظلال
قال: فدفع الفضل إلى مسلم الرّقعة و قال له: انظر يا أبا الوليد إلى رقعة دعبل فيك، فلمّا قرأها قال له: هل عرفت لقب دعبل و هو غلام أمرد و هو يفسق به ؟ قال: لا، قال: كان يلقّب بميّاس، ثم كتب إليه:
ميّاس قل لي: أين أنت من الورى *** لا أنت معلوم(1) و لا مجهول!
أمّا الهجاء فدقّ عرضك دونه *** و المدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنّه *** عرض عززت به و أنت ذليل
أخبرني محمد بن الحسين الكنديّ الكوفيّ مؤدّبي، قال: حدّثني أزهر بن محمد، قال:
حدّثني الحسين بن دعبل، قال: سمعت أبي يقول: بينا أنا جالس بباب الكرخ إذ مرّت بي جارية لم أر أحسن منها وجها و لا قدّا تتثنّى في مشيها و تنظر في أعطافها، فقلت متعرّضا لها:
دموع عيني بها انبساط *** و نوم عيني به انقباض
/فأجابتني بسرعة فقالت:
و ذا قليل لمن دهته *** بلحظها الأعين المراض
فأدهشتني و عجبت منها فقلت:
فهل لمولاي عطف قلب *** و للّذي في الحشا انقراض
فأجابتني غير متوقّفة فقالت:
إن كنت تهوى الوداد منا *** فالودّ في ديننا قراض
ص: 34
قال: فما دخل أذني كلام قطّ أحلى من كلامها، و لا رأيت أنضر وجها منها، فعدلت بها عن ذلك الشعر(1)و قلت:
أ ترى الزّمان يسرّنا بتلاق *** و يضمّ مشتاقا إلى مشتاق
فأجابتني بسرعة فقالت:
ما للزّمان و للتّحكّم بيننا *** أنت الزّمان فسرّنا بتلاق
قال: فمضيت أمامها أؤمّ بها دار مسلم بن الوليد و هي تتبعني، فصرت إلى منزله، فصادفته على عسرة، فدفع إليّ منديلا و قال: اذهب فبعه، و خذ لنا ما نحتاج إليه و عد؛ فمضيت مسرعا. فلما رجعت وجدت مسلما قد خلا بها في سرداب، فلما أحسّ بي وثب إليّ و قال: عرّفك اللّه يا أبا عليّ جميل ما فعلت، و لقّاك ثوابه، و جعله أحسن حسنة لك، فغاظني قوله و طنزه(2)، و جعلت أفكّر أيّ شيء أعمل به، فقال: بحياتي يا أبا عليّ أخبرني من الّذي يقول:
بتّ في درعها و بات رفيقي *** جنب القلب طاهر الأطراف
/فقلت:
من له في حر امّه ألف قرن *** قد أنافت على علوّ مناف!
و جعلت أشتمه و أثب(3) عليه، فقال لي: يا أحمق، منزلي دخلت، و منديلي بعت، و دراهمي أنفقت، على من تحرد أنت ؟ و أيّ شيء سبب حردك يا قوّاد؟ فقلت له: مهما كذبت عليّ فيه من شيء فما كذبت في الحمق و القيادة.
هجاؤه ثلاثة كانوا يصلونه أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه و العنزيّ ، عن محمد بن عبد اللّه العبديّ ، قال:
هجا مسلم بن الوليد سعيد بن سلم و يزيد بن مزيد و خزيمة بن خازم فقال:
ديونك لا يقضى الزّمان غريمها *** و بخلك بخل الباهليّ سعيد
سعيد بن سلم أبخل(4) النّاس كلّهم *** و ما قومه من بخله ببعيد
يزيد له فضل و لكنّ مزيدا *** تدارك فينا بخله بيزيد(5)
خزيمة لا عيب له(6) غير أنه *** لمطبخه قفل و باب حديد
هجاؤه سعيد بن سلم أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة، قال: حدّثنا الأصمعيّ ، قال:
قال لي سعيد بن سلم: قدمت عليّ امرأة من باهلة من اليمامة، فمدحتني بأبيات، ما تمّ سروي بها حتى
ص: 35
نغّصنيها مسلم بن الوليد بهجاء بلغني أنّه هجاني به، فقلت: ما الأبيات الّتي مدحت بها؟ فأنشدني:
/قتيبة قيس ساد قيسا و سلمها *** فلما تولّى ساد قيسا سعيدها
و سيّد قيس سيّد النّاس كلّها *** و إن مات من رغم و ذلّ حسودها
هم رفعوا كفّيك بالمجد و العلا *** و من يرفع الأبناء إلا جدودها
إذا مدّ للعليا سعيد يمينه *** ثنت كفّه عنها أكفّا تريدها
قال الأصمعيّ : فقلت له: فبأيّ شيء نغّصها عليك مسلم ؟ فضحك و قال: كلّفتني شططا، ثم أنشد:
و أحببت من حبّها(1) الباخلين *** حتى و مقت ابن سلم سعيدا
إذا سيل عرفا كسا وجهه *** ثيابا من النّقع صفرا و سودا(2)
يغار(3) على المال فعل الجوا *** د و تأبى خلائقه أن يجودا
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا الكرانيّ ، قال: حدّثني النّوشجانيّ الخليل بن أسد، قال: حدّثني عليّ بن عمرو، قال:
وقف بعض الكتّاب على مسلم بن الوليد و هو ينشد شعرا له في محفل، فأطال ثم انصرف، و قال لرجل كان معه: ما أدري أيّ شيء أعجب الخليفة و الخاصّة من شعر هذا؟ فو اللّه ما سمعت منه طائلا، فقال مسلم: ردّوا عليّ الرّجل، فردّ إليه، فأقبل عليه ثم قال:
أمّا الهجاء فدقّ عرضك دونه *** و المدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنه *** عرض عززت به و أنت ذليل
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني إبراهيم بن محمد الورّاق، قال: حدّثني الحسين بن أبي السّريّ ، قال:
كان مسلم بن الوليد أستاذ دعبل و عنه أخذ، و من بحره استقى. و حدّثني دعبل أنّه كان لا يزال يقول الشّعر فيعرضه على مسلم، فيقول له: إيّاك أن يكون أوّل ما يظهر لك ساقطا فتعرف به، ثم لو قلت كلّ شيء جيّدا كان الأوّل أشهر عنك، و كنت أبدا لا تزال تعيّر به، حتّى قلت:
أين الشّباب و أيّة سلكا
فلما سمع هذه قال لي: أظهر الآن شعرك كيف شئت.
قال الحسن: و حدّثني أبو تمّام الطّائيّ قال:
ص: 36
ما زال دعبل متعصّبا لمسلم، مائلا إليه، معترفا بأستاذيّته حتى ورد عليه جرجان، فجفاه مسلم، و هجره دعبل، فكتب إليه:
أبا مخلد كنّا عقيدي مودّة *** هوانا و قلبانا جميعا معا معا
أحوطك بالغيب الّذي أنت حائطي *** و أجزع إشفاقا بأن تتوجّعا(1)
فصيّرتني بعد انتكاثك(2) متهما *** لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا
غششت الهوى حتى تداعت أصوله *** بنا و ابتذلت الوصل حتى تقطّعا
و أنزلت من بين الجوانح و الحشا *** ذخيرة ودّ طال ما قد تمنّعا
فلا تلحينّي ليس لي فيك مطمع *** تخرّقت حتى لم أجد لك مرقعا
فهبك يميني استأكلت فقطعتها *** و جشّمت قلبي صبره فتشجّعا(3)
/قال: ثم تهاجرا بعد ذلك، فما التقيا حتى ماتا.
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: أخبرني أحمد بن أبي أميّة، قال: لقي أخي محمد بن أبي أميّة مسلم بن الوليد و هو يتثنّى(4)، و رواته مع بعض أصحابه(5)، فسلّم عليه، ثم قال له: قد حضرني شيء.
فقال: هاته، قال: على أنه مزاح و لا تغضب، قال: هاته و لو كان شتما، فأنشدته:
من رأى فيما خلا رجلا *** تيهه أربى على جدته
يتمشّى راجلا و له *** شاكريّ في قلنسيته
فسكت عنه مسلم و لم يجبه، و ضحك ابن أبي أميّة و افترقا.
و كنت لا تنزل عن ظهره *** و لو من الحشّ (1) إلى البيت
ما مات من سقم و لكنّه(2) *** مات من الشّوق إلى الموت
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثني أحمد بن سعيد الحريريّ أنّ أبا تمّام حلف ألاّ يصلّي حتى يحفظ شعر مسلم و أبي نواس، فمكث/شهرين كذلك حتى حفظ شعرهما. قال: و دخلت عليه فرأيت شعرهما بين يديه، فقلت له: ما هذا؟ فقال: اللاّت و العزّى و أنا أعبدهما من دون اللّه.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني سمعان بن عبد الصّمد، قال: حدّثني دعبل بن عليّ ، قال:
كان أبو نواس يسألني أن أجمع بينه و بين مسلم بن الوليد؛ و كان مسلم يسألني أن أجمع بينه و بين أبي نواس، و كان أبو نواس إذا حضر تخلّف مسلم، و إذا حضر مسلم تخلّف أبو نواس، إلى أن اجتمعا، فأنشده أبو نواس:
أ جارة بيتينا أبوك غيور *** و ميسور ما يرجى لديك عسير
و أنشده مسلم:
للّه من هاشم في أرضه جبل *** و أنت و ابنك ركنا ذلك الجبل
فقلت لأبي نواس: كيف رأيت مسلما؟ فقال: هو أشعر النّاس بعدي. و سألت مسلما و قلت: كيف رأيت أبا نواس ؟ فقال: هو أشعر الناس و أنا بعده.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني إبراهيم بن عبد الخالق الأنصاريّ من ولد النّعمان بن بشير، قال: حدّثني مسلم بن الوليد، قال:
وجّه إليّ ذو الرّئاستين، فحملت إليه، فقال: أنشدني قولك:
بالغمر من زينب أطلال *** مرّت بها بعدك أحوال
فأنشدته إيّاها حتّى انتهيت إلى قولي:
و قائل ليست له همّة *** كلاّ و لكن ليس لي مال
و همّة المقتر أمنيّة *** همّ مع الدّهر(3) و أشغال
/لا جدة أنهض عزمي بها(4) *** و الناس سؤّال و بخّال
ص: 38
فاقعد مع الدّهر إلى دولة *** ترفع فيها حالك الحال(1)
قال: فلمّا أنشدته هذا البيت قال: هذه و اللّه الدّولة الّتي ترفع حالك(2). و أمر لي بمال عظيم و قلّدني - أو قال قبّلني - جوز جرجان(3).
حدّثني جحظة، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال:
كان مسلم بن الوليد قد انحرف عن معن بن زائدة بعد مدحه إياه، لشيء أوحشه منه، فسأله يزيد بن مزيد أن يهبه له، فوعده و لم يفعل، فتركه يزيد خوفا منه، فهجاه هجاء كثيرا، حتى حلف له الرشيد إن عاود هجاءه قطع لسانه، فمن ذلك قوله فيه:
يا معن إنّك لم تزل في خزية *** حتى لففت أباك في الأكفان
فاشكر بلاء الموت عندك إنّه *** أودى بلؤم الحيّ من شيبان
قال: و هجا أيضا يزيد بن مزيد بعد مدحه إياه فقال:
أ يزيد يا مغرور ألأم من مشى *** ترجو الفلاح و أنت نطفة(4) مزيد
إن كنت تنكر منطقي فاصرخ به *** يوم العروبة(5) عند باب المسجد
في من يزيد فإن أصبت بمزيد *** فلسا فهاك على مخاطرة يدي
/هكذا روى جحظة في هذا الخبر، و الشّعران جميعا في يزيد بن مزيد، فالأوّل منهما أوّله:
أ يزيد إنّك لم تزل في خزية
و هكذا هو في شعر مسلم. و لم يلق مسلم معن بن زائدة، و لا له فيه مدح و لا هجاء.
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن جشم، قال:
كان يزيد بن مزيد قد سأل مسلم بن الوليد عما يكفيه و يكفي عياله، فأخبره فجعله جراية له، ثم قال: ليس هذا مما تحاسب به بدلا من جائزة أو ثواب مديح. فكان يبعث به إليه في كلّ سنة، فلمّا مات يزيد رثاه مسلم فقال:
أ حقّا أنّه أودى يزيد *** تبيّن أيّها النّاعي المشيد!
أ تدري من نعيت و كيف دارت *** به شفتاك دار بها الصّعيد(6)
ص: 39
أحامي المجد و الإسلام أودى *** فما للأرض ويحك لا تميد!
تأمّل هل ترى الإسلام مالت *** دعائمه و هل شاب الوليد
و هل شيمت سيوف بني نزار *** و هل وضعت عن الخيل اللّبود
و هل تسقي البلاد عشار(1) مزن *** بدرّتها و هل يخضرّ عود
أ ما هدّت لمصرعه نزار *** بلى و تقوّض المجد المشيد
و حلّ ضريحه إذ حلّ فيه *** طريف المجد و الحسب التّليد
/أما و اللّه ما تنفكّ عيني *** عليك بدمعها أبدا تجود
و إن تجمد دموع لئيم قوم *** فليس لدمع ذي حسب جمود
أبعد يزيد تختزن البواكي *** دموعا أو تصان لها خدود
لتبكك قبّة الإسلام لمّا *** وهت أطنابها و وهى العمود
و يبكك شاعر لم يبق دهر *** له نشبا و قد كسد القصيد
فإن يهلك يزيد فكلّ حيّ *** فريس للمنيّة أو طريد
هكذا في الخبر، و القصيدة للتّيميّ .
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ ، قال: حدّثنا الهشاميّ ، قال: حدّثني عبد اللّه بن عمرو، قال: حدّثني موسى بن عبد اللّه التّميميّ ، قال: دخل مسلم بن الوليد على الفضل بن سهل، فأنشده قوله فيه:
لو نطق الناس أو أنبوا بعلمهم *** و نبّهت عن معالي دهرك الكتب(2)
لم يبلغوا منك أدنى ما تمت به *** إذا تفاخرت الأملاك و انتسبوا
فأمر له عن كلّ بيت من هذه القصيدة بألف درهم.
ثم قتل الفضل فقال يرثيه:
ذهلت فلم أنقع غليلا بعبرة *** و أكبرت أن ألقى بيومك ناعيا
فلمّا بدا لي أنّه لاعج الأسى *** و أن ليس إلا الدّمع للحزن شافيا
أقمت لك الأنواح ترتدّ بينها *** مآتم تندبن(3) النّدى و المعاليا
و ما كان منعى الفضل منعاة واحد(4) *** و لكنّ منعى الفضل كان مناعيا
/أ للبأس أم للجود أم لمقاوم *** من الملك يزحمن الجبال الرّواسيا!
ص: 40
عفت بعدك الأيّام لا بل تبدّلت *** و كنّ كأعياد فعدن مباكيا
فلم أر إلاّ قبل يومك ضاحكا *** و لم أر إلا بعد يومك باكيا
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ ، قال: حدّثنا محمد بن عجلان، قال: حدّثنا يعقوب بن السّكّيت، قال:
أخبرني محمد بن المهنّأ، قال:
كان العبّاس بن الأحنف مع إخوان له على شراب، فذكروا مسلم بن الوليد، فقال بعضهم: صريع الغواني، فقال العبّاس: ذاك ينبغي أن يسمّى صريع الغيلان لا صريع الغواني، و بلغ ذلك مسلما فقال يهجوه:
بنو حنيفة لا يرضى الدّعيّ بهم *** فاترك حنيفة و اطلب غيرها نسبا
فاذهب فأنت طليق الحلم(1) مرتهن *** بسورة الجهل ما لم أملك الغضبا
اذهب إلى عرب ترضى بنسبتهم *** إني أرى لك خلقا يشبه العربا
منّيت منّي و قد جدّ الجراء(2) بنا *** بغاية منعتك الفوت و الطّلبا
أخبرني محمد بن يزيد، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، عن جدّه، قال: قلت لمسلم بن الوليد:
ويحك! أما استحييت من النّاس حين تهجو خزيمة بن خازم، و لا استحييت منا و نحن إخوانك، و قد علمت أنّا نتولاّه و هو من تعرف فضلا و جودا؟ فضحك، و قال لي: يا أبا إسحاق، لغيرك الجهل، أ ما تعلم أنّ الهجاء آخذ بضبع الشّاعر و أجدّى عليه من المديح المضرع ؟ و ما ظلمت مع ذلك منهم أحدا، /ما مضى فلا سبيل إلى ردّه، و لكن قد وهبت لك عرض خزيمة بعد هذا. قال: ثم أنشدني قوله في سعيد بن سلم:
ديونك لا يقضى الزّمان غريمها *** و بخلك بخل الباهليّ سعيد
سعيد بن سلم أبخل الناس كلّهم *** و ما قومه من بخله ببعيد
فقلت له: و سعيد بن سلم صديقي أيضا، فهبه لي، فقال: إن أقبلت على ما يعنيك، و إلا رجعت فيما وهبت لك من خزيمة، فأمسكت عنه راضيا بالكفاف.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني عبد اللّه بن محمد بن موسى بن عمر بن حمزة بن بزيع، قال: حدّثني عبد اللّه بن الحسن اللّهبيّ ، قال:
كان مسلم بن الوليد مدّاحا ليزيد بن مزيد، و كان يؤثره و يقدّمه و يجزل صلته، فلما مات وفد على ابنه محمد، فمدحه و عزّاه عن أبيه، و أقام ببابه أيّاما فلم ير منه ما يحبّ ، فانصرف عنه و قال فيه:
لبست عزاء عن لقاء محمد *** و أعرضت عنه منصفا و ودودا
ص: 41
و قلت لنفس قادها الشّوق نحوه *** فعوّضها منه اللّقاء صدودا(1)
هبيه امرأ قد كان أصفاك ودّه *** و مات و إلا فاحسبيه يزيدا
لعمري لقد ولّى فلم ألق بعده *** وفاء لذي عهد يعدّ حميدا
أخبرني حبيب بن نصر، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود، قال:
/دخل مسلم بن الوليد يوما على الفضل بن يحيى، و قد كان أتاه خبر مسيره، فجلس للشّعراء فمدحوه و أثابهم، و نظر في حوائج النّاس فقضاها، و تفرّق النّاس عنه، و جلس للشّرب، و مسلم غير حاضر لذلك، و إنّما بلغه حين انقضى المجلس، فجاءه فأدخل إليه فاستأذن في الإنشاد، فأذن له، فأنشده قوله فيه:
أتتك المطايا تهتدي بمطيّة *** عليها فتى كالنّصل مؤنسه النّصل
يقول فيها:
وردت(2) رواق الفضل آمل فضله *** فحطّ الثّناء الجزل نائله الجزل
فتى ترتعي الآمال مزنة جوده(3) *** إذا كان مرعاها الأمانيّ و المطل
تساقط يمناه النّدى و شماله *** الرّدى و عيون القول منطقه الفصل
ألحّ على الأيام يفري خطوبها *** على منهج ألفى أباه به قبل
أناف به العلياء يحيى و خالد *** فليس له مثل و لا لهما مثل
فروع أصابت مغرسا متمكّنا *** و أصلا فطابت حيث وجّهها الأصل(4)
بكفّ أبي العبّاس يستمطر الغنى *** و تستنزل النّعمى و يسترعف النّصل
قال: فطرب الفضل طربا شديدا، و أمر بأن تعدّ الأبيات، فعدّت فكانت ثمانين بيتا فأمر له بثمانين ألف درهم، و قال: لو لا أنّها أكثر ما وصل به الشّعراء لزدتك، و لكنّه شأو لا يمكنني أن أتجاوزه - يعني أنّ الرشيد رسمه لمروان بن أبي/حفصة - و أمره بالجلوس معه و المقام عنده لمنادمته، فأقام عنده، و شرب معه، و كان على رأس الفضل وصيفة تسقيه كأنها لؤلؤة، فلمح الفضل مسلما ينظر إليها، فقال: قد - و حياتي يا أبا الوليد - أعجبتك، فقل فيها أبياتا حتى أهبها لك، فقال:
إن كنت تسقين غير الرّاح فاسقيني *** كأسا ألذّ بها من فيك تشفيني
عيناك راحي، و ريحاني حديثك لي، *** و لون خدّيك لون الورد يكفيني
إذا نهاني عن شرب الطّلا حرج *** فخمر عينيك يغنيني و يجزيني
ص: 42
لو لا علامات شيب لو أتت وعظت *** لقد صحوت و لكن سوف تأتيني
أرضي الشّباب فإن أهلك فعن قدر *** و إن بقيت فإن الشّيب يشقيني(1)
فقال له: خذها بورك لك فيها. و أمر بتوجيهها مع بعض خدمها إليه.
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن إبراهيم، قال:
كانت لمسلم بن الوليد زوجة من أهله، كانت تكفيه أمره و تسرّه فيما تليه له(2) منه، فماتت فجزع عليها جزعا شديدا، و تنسّك مدّة طويلة، و عزم على ملازمة ذلك، فأقسم عليه بعض إخوانه ذات يوم أن يزوره ففعل، فأكلوا و قدّموا الشّراب، فامتنع منه مسلم و أباه، و أنشأ يقول:
بكاء و كأس، كيف يتّفقان ؟(3) *** سبيلاهما في القلب مختلفان
دعاني و إفراط البكاء فإنّني *** أرى اليوم فيه غير ما تريان
غدت و الثّرى أولى بها من وليّها *** إلى منزل ناء لعينك دان
/فلا حزن حتى تذرف العين ماءها *** و تعترف الأحشاء للخفقان
و كيف بدفع اليأس للوجد بعدها *** و سهماهما(4) في القلب يعتلجان!
أخبرني حبيب بن نصر، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني عليّ بن الصّبّاح، قال: حدّثني مالك بن إبراهيم، قال:
كان مسلم بن الوليد يهاجي الحكم بن قنبر المازنيّ ، فغلب عليه ابن قنبر مدة و أخرسه، ثم أثاب مسلم بعد أن انخزل و أفحم، فهتك ابن قنبر حتى كفّ عن مناقضته، فكان يهرب منه، فإذا لقيه مسلم قبض عليه و هجاه و أنشده ما قاله فيه فيمسك عن إجابته؛ ثم جاءه ابن قنبر إلى منزله و اعتذر إليه ممّا سلف، و تحمّل عليه بأهله و سأله الإمساك، فوعده بذلك، فقال فيه:
حلم ابن قنبر حين أقصر جهله *** هل كان يحلم شاعر عن شاعر؟
ما أنت بالحكم الّذي سمّيته *** غالتك حلمك هفوة من قاهر
لو لا اعتذارك لارتمى بك زاخر *** مرح العباب يفوت طرف النّاظر
لا ترتعن لحمى لسانك بعدها *** إنّي أخاف عليك شفرة جازر
و استغنم العفو الّذي أوتيته *** لا تأمننّ عقوبة من قادر
ص: 43
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه أبو بكر العبديّ ، قال:
رأيت مسلم بن الوليد و ابن قنبر في مسجد الرّصافة في يوم جمعة، و كل واحد منهما بإزاء صاحبه، و كانا يتهاجيان، فبدأ مسلم فقال:
أنا النّار في أحجارها مستكنّة *** فإن كنت ممن يقدح النّار فاقدح
/فأجابه ابن قنبر فقال:
قد كنت تهوي و ما قوسي بموترة *** فكيف ظنّك بي و القوس في الوتر
قال: فوثب إليه مسلم و تواخزا(1) و تواثبا، و حجز الناس بينهما فتفرّقا.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن عبيد الكوفيّ ، قال: حدّثني عليّ بن عمروس الأنصاريّ ، قال:
جاء رجل من الأنصار ثم من الخزرج إلى مسلم بن الوليد فقال له: ويلك ما لنا و لك، قد فضحتنا و أخزيتنا، تعرّضت لابن قنبر فهاجيته، حتى إذا أمكنته من أعراضنا انخزلت عنه و أرعيته لحومنا، فلا أنت سكتّ و وسعك ما وسع غيرك، و لا أنت لمّا انتصرت انتصفت. فقال له مسلم: فما أصنع ؟ فأنا أصبر عليه، فإن كفّ و إلا تحمّلت عليه بإخوانه، فإن كفّ و إلا وكلته إلى بغيه، و لنا شيخ يصوم الدهر و يقوم الليل، فإن أقام على ما هو عليه سألته أن يسهر له ليلة يدعو اللّه عليه فيها فإنها تهلكه، فقال له الأنصاريّ : سخنت عينك! أ و بهذا تنتصف ممن هجاك ؟ ثم قال له:
قد لاذ من خوف ابن قنبر مسلم *** بدعاء والده مع الأسحار
و رأيت شرّ وعيده أن يشتكي *** ما قد عراه إلى أخ أو جار
ثكلتك أمّك قد هتكت حريمنا *** و فضحت أسرتنا بني النجار
عمّمت خزرجنا و معشر أوسنا *** خزيا جنيت به على الأنصار
فعليك من مولّى و ناصر أسرة *** و عشيرة غضب الإله الباري
قال: فكاد مسلم أن يموت غمّا و بكاء و قال له: أنت شرّ عليّ من ابن قنبر. ثم أثاب و حمي، فهتك ابن قنبر و مزّقه حتى تركه، و تحمّل عليه بابنه و أهله حتى أعفاه من المهاجاة.
و نسخت هذا الخبر من كتاب جدّي يحيى بن محمد بن ثوابة بخطه، قال:
حدّثني الحسن بن سعيد، قال: حدّثني منصور بن جمهور قال:
ص: 44
لما هجا ابن قنبر مسلم بن الوليد أمسك عنه مسلم بعد أن أشلى(1) عليه لسانه قال: فجاءه عمّ له فقال له:
يا هذا الرجل، إنك عند الناس فوق ابن قنبر في عمود الشعر، و قد بعث(2) عليك لسانه ثم أمسكت عنه، فإما أن قارعته أو سالمته. فقال له مسلم: إن لنا شيخا و له مسجد يتهجّد فيه، و له بين ذلك دعوات يدعو بهنّ ، و نحن نسأله أن يجعله من بعض دعواته، فإنا نكفاه، فأطرق الرجل ساعة ثم قال:
غلب ابن قنبر و اللئيم مغلّب *** لما اتّقيت هجاءه بدعاء
ما زال يقذف بالهجاء و لذعه *** حتى اتّقوه بدعوة الآباء!
قال: فقال له مسلم: و اللّه ما كان ابن قنبر يبلغ مني هذا كلّه، فأمسك لسانك عني، و تعرّف خبره بعد هذا.
قال: فبعث - و اللّه - عليه من لسان مسلم ما أسكته. هكذا جاء في الأخبار.
و قد حدّثني بخبر مناقضته ابن قنبر جماعة ذكروا قصائدهما جميعا، فوجدت في الشعر الفضل لابن قنبر عليه، لأن له عدة قصائد لا نقائض لها، يذكر فيها تعريده(3) عن الجواب، و قصائد يذكر فيها أنّ مسلما فخر على قريش و على النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و رماه بأشياء تبيح دمه، فكفّ مسلم عن مناقضته خوفا منها، و جحد أشياء كان قالها فيه.
فمن أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال:
حدّثني عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن الوليد مولى الأنصار، و كان عالما بشعر مسلم بن الوليد و أخباره، قال:
كان سبب المهاجاة بين مسلم بن الوليد و الحكم بن قنبر أنّ الطّرمّاح بن حكيم قد كان هجا بني تميم بقصيدته الّتي يقول فيها:
لا عزّ نصر امرئ أضحى له فرس *** على تميم يريد النصر من أحد
إذا دعا بشعار الأزد نفّرهم *** كما ينفّر صوت الليث بالنّقد
لو حان ورد تميم ثم قيل لهم: *** حوض الرسول عليه الأزد، لم ترد
أو أنزل اللّه وحيا أن يعذّبها *** إن لم تعد لقتال الأزد، لم تعد
و هي قصيدة طويلة، و كان الفرزدق أجاب الطّرماح عنها، ثم إن ابن قنبر المازنيّ قال بعد خبر طويل يرد على الطّرمّاح:
يا عاويا هاج ليثا بالعواء له *** شئن البراثن ورد اللون ذا لبد(4)
أيّ الموارد هابت جمّ غمرته *** بنو تميم على حال فلم ترد
أ لم ترد يوم قندابيل معلمة *** بالخيل تضبر نحو الأزد كالأسد(5)
ص: 45
بفتية لم تنازعها فتطبعها(1) *** بلؤمها طيّئ ثديا و لم تلد
خاضت إلى الأزد بحرا ذا غوارب من *** سمر طوال و بحرا من قنا قصد(2)
فأوردتها مناياها بمرهفة *** ملس المضارب لم تفلل و لم تكد
و هي قصيدة طويلة. و قد كان الطّرمّاح قال أيضا:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا *** و لو سلكت طرق المكارم ضلّت
أرى الليل يجلوه النهار و لا أرى *** عظام المخازي عن تميم تجلّت
/و قد كان الفرزدق أيضا أجابه عنها، و قال ابن قنبر(3) ينقضها:
لعمرك ما ضلّت تميم و لا جرت *** على إثر أشياخ عن المجد ضلّت
و لا جبنت بل أقدمت يوم كسّرت *** لها الأزد أغماد السّيوف و سلّت
بغائط قندابيل و الموت خائض *** عليها بآجال لها قد أظلّت(4)
فما برحت تسقى كئوس حمامها *** إذا نهلت كرّوا عليها فعلّت
إلى أن أبادتهم تميم و أكذبت *** أمانيّ للشّيطان عنها اضمحلّت
و حان فراق منهم كلّ خدلة *** مفارقة بعلا به قد تملّت
و هي أيضا طويلة قال: فبلغ مسلم بن الوليد هجاء ابن قنبر للأزد و طيّى و ردّه على الطّرمّاح بعد موته.
فغضب من ذلك. و قال: ما المعنى في مناقضة رجل ميّت و إثارة الشّرّ بذكر القبائل، لا سيّما و قد أجابه الفرزدق عن قوله ؟ فأبى ابن قنبر إلا تماديا في مناقضته، فقال مسلم قصيدته الّتي أولها:
آيات أطلال برامة درّس *** هجن الصّبابة إذ ذكرت(5) معرّسي
أوحت إلى درر الدّموع فأسبلت *** و استفهمتها غير أن لم تنبس
يقول فيها يصف الخمر:
صفراء من حلب الكروم كسوتها *** بيضاء من حلب الغيوم البجّس(6)
طارت(7) و لاوذها الحباب فحاكها *** فكأن حليتها جنيّ النّرجس
/و يقول فيها يصف السّيوف:
و تفارق الأغماد تبدو تارة *** حمرا و تخفى تارة في الأرؤس
حرب يكون وقودها أبناءها *** لقحت على عقر و لمّا تنفس
ص: 46
من هارب ركب النّجاء و مقعص *** جثمت منيّته على المتنفّس
غصبته أطراف الأسنّة نفسه *** فثوى فريسة ولّغ أو نهّس
إن كنت نازلة اليفاع فنكّبي *** دار الرّباب و خزرجي أو أوسي
و تجنّبي الجعراء(1) إنّ سيوفهم *** حدث و إن قناتهم لم تضرس
هل طيّئ الأجبال شاكرة امرئ *** ذاد القوافي عن حماها مردس(2)
أحمي - أبا نفر - عظام حفيرة *** درست و باقي غرسها لم يدرس
كافأت نعمتها بضعف بلائها *** ثم انفردت بمنصب لم يدنس(3)
و إذا افتخرت عددت سعي مآثر *** قصرت على الإغضاء طرف الأشوس
رفعت بنو النّجّار حلفي فيهم(4) *** ثم انفردت فأفسحوا عن مجلسي
فاعقل لسانك عن شتائم قومنا(5) *** لا يعلقنّك خادر من مأنس
أخلفت فخرك(6) من أبيك و جئتني *** بأب جديد بعد طول تلمّس
أخذت عليه المحكمات طريقها *** فغدا يهاجي أعظما في مرمس(7)
/قال: فلم يجبه ابن قنبر عن هذه بشيء، ثم التقيا فتعاتبا، و اعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال مسلم يهجوه:
حلم ابن قنبر حين قصّر شعره *** هل كان يحلم شاعر عن شاعر
و قد مضت هذه الأبيات متقدّما. قال: و مكث ابن قنبر حينا لا يجيبه عن هذا و لا عن غيره بشيء طلبا للكفاف، ثم هجا مسلم قريشا و فخر بالأنصار فقال:
قل لمن تاه إذ بنا عزّ جهلا *** ليس بالتّيه يفخر الأحرار
فتناهوا و أقصروا فلقد جا *** رت عن القصد فيكم الأنصار(8)
أيّكم حاط ذا جوار بعزّ *** قبل أن تحتويه منّا الدّار
أو رجا أن يفوت قوما بوتر *** لم تزل تمتطيهم الأوتار
لم يكن ذاك فيكم فدعوا الفخر *** بما لا يسوغ فيه افتخار
و نزارا ففاخروا تفضلوهم *** و دعوا من له عبيدا نزار
ص: 47
فبنا عزّ منكم الذّلّ و الدّ *** هر عليكم بريبة كرّار
حاذروا دولة الزّمان عليكم *** إنّه بين أهله أطوار
فتردّوا و نحن للحالة الأو *** لي و للأوحد(1) الأذلّ الصّغار
فاخرتنا لمّا بسطنا لها الف *** خر قريش و فخرها مستعار
ذكرت عزّها و ما كان فيها *** قبل أن يستجيرنا مستجار
إنّما كان عزّها في جبال *** ترتقيها كما ترقّى الوبار(2)
/أيّها الفاخرون بالعزّ، و ال *** عزّ لقوم سواهم و الفخار
أخبرونا من الأعزّ أ المن *** صور حتى اعتلى أم الأنصار؟
فلنا العزّ قبل عزّ قريش *** و قريش تلك الدّهور تجار
قال: فانبرى له ابن قنبر يجيبه فقال:
ألا أمثل أمير المؤمنين بمسلم *** و أفلق به الأحشاء من كل مجرم
و لا ترجعن عن قتله باستتابة *** فما هو عن شتم النّبي بمحرم(3)
و لا عن مساواة له و لقومه *** قريش بأصداء لعاد و جرهم
و يفخر بالأنصار جهلا على الّذي *** بنصرته فازوا بحظّ و مغنم
و سمّوا به الأنصار لا عزّ قائل *** أراد قريشا بالمقال المذمّم
و منهم رسول اللّه أزكى من انتمى *** إلى نسب زاك و مجد مقدّم
و ما كانت الأنصار قبل اعتصامها *** بنصر قريش في المحلّ المعظّم
و لا بالألى يعلون أقدار قومهم *** صداء و خولان و لخم و سلهم
و لكنّهم باللّه عاذوا و نصرهم *** قريشا و من يستعصم اللّه يعصم
فعزّوا و قد كانوا و فطيون(4) فيهم *** من الذلّ في باب من العز مبهم
يسومهم الفطيون ما لا يسامه *** كريم و من لا ينكر الظّلم يظلم
و إنّ قريشا بالمآثر فضّلت *** على الخلق طرّا من فصيح و أعجم
فما بال هذا العلج ضلّ ضلاله *** يمدّ إليهم كفّ أجذم أعسم(5)
يسامي قريشا مسلم و هم هم *** بمولى يمانيّ و بيت مهدّم
/إذا قام فيه غيرهم لم يكن له *** مقام به من لؤم مبنى و مدعم
ص: 48
جعاسيس(1) أشباه القرود لو أنّهم *** يباعون ما ابتيعوا جميعا بدرهم
و ما مسلم من هؤلاء و لا ألى *** و لكنّه من نسل علج ملكّم
تولّى زمانا غيرهم ثمّت ادّعى *** إليهم فلم يكرم و لم يتكرّم(2)
فإن يك منهم فالنّضير و لفّهم(3) *** مواليه لا من يدّعي بالتّزعّم
و إن تدعه الأنصار مولى أسمهم *** بقافية تستكره الجلد بالدّم
عقابا لهم في إفكهم و ادّعائهم *** لأقلف منقوش الذراع موشّم
فلا تدّعوه و انتفوا(4) منه تسلموا *** بنفيكموه من مقام و مأثم
و إلا فغضّوا الطّرف و انتظروا الرّدى *** إذا اختلفت فيكم صوارد أسهمي
و لم تجدوا منها مجنّا يجنّكم *** إذا ذلعت من كلّ فجّ و معلم
و أنتم بنو أذناب من أنتم له *** و لستم بأبناء السّنام المقدّم
و لا ببني الرأس الرفيع محلّه *** فيسمو بكم مولّى مسام و ينتمي
فكيف رضيتم أن يسامى نبيّكم *** ببيتكم الرّثّ القصير المهدّم
سأحطم من سامى النبيّ تطاولا *** عليه و أكوي منتماه بميسم
أ يعدل بيت يثربيّ بكعبة(5) *** ثوتها قريش في المكان المحرّم
/قريش خيار اللّه و اللّه خصّهم *** بذلك فاقعس أيّها العلج و ارغم
و من يدّعي منه الولاء مؤخّر *** إذا قيل للجاري إلى المجد أقدم
قال: و كان مسلم قال هذه القصيدة في قريش و كتمها، فوقعت إلى ابن قنبر، و أجابه عنها، و استعلى عليه و هتكه، و أغرى به السّلطان، فلم يكن عند مسلم في هذا جواب أكثر من الانتفاء منها، و نسبتها إلى ابن قنبر، و الادّعاء عليه أنّه ألصقها به و نسبها إليه، ليعرّضه للسّلطان، و خافه فقال ينتفي من هذه القصيدة و يهجو تميما:
دعوت أمير المؤمنين و لم تكن *** هناك، و لكن من يخف يتجسّم
و إنّك إذ تدعو الخليفة ناصرا *** لكالمترقّي في السماء بسلّم
كذاك الصّدى تدعو من حيث لا ترى *** و إن تتوهّمه تمت في التّوهّم
هجوت قريشا عامدا و نحلتني *** رويدك يظهر ما تقول فيعلم
إذا كان مثلي في قبيلي فإنّه *** على ابني لؤيّ قصرة غير متهم
ص: 49
سيكشفك التّعديل عمّا قرفتني *** به فتأخّر عارفا أو تقدّم(1)
فإنّ قريشا لا تغيّر ودّها(2) *** و لا يستمال عهدها بالتّزعّم
مضى سلف منهم و صلّى بعقبهم *** لنا سلف في الأوّل المتقدّم
جروا فجرينا سابقين بسبقهم *** كما اتّبعت كفّ نواشر معصم
و إنّ الّذي يسعى ليقطع بيننا *** كملتمس اليربوع في جحر أرقم
أضلّك قدع الآبدات طريقها *** فأصبحت من عميائها في تهيّم(3)
/و خانتك عند الجري - لمّا اتّبعتها - *** تميم فحاولت العلا بالتقحّم
فأصبحت ترميني بسهمي و تتّقى *** يدي بيدي، أصليت نارك فاضرم
قال: ثم هجاه ابن قنبر بقصيدة أوّلها:
قل لعبد النّضير مسلم الوغد ال *** دّنيّ اللئيم شيخ(4) النّصاب
اخس يا كلب إذ نبحت فإنّي *** لست ممن يجيب نبح الكلاب
أ فأرضى و منصبي منصب العزّ *** و بيتي في ذروة الأحساب
أن أحطّ الرّفيع من سمك بيتي *** بمهاجاة أوشب الأوشاب
من إذا سيل: من أبوه ؟ بدا منه *** حياء يحميه رجع(5) الجواب
و إذا قيل حين يقبل: من *** أنت و من تعتزيه في الأنساب
قلت: هاجي ابن قنبر، فتسر *** بلت بذكري فخرا لدى النّسّاب
و هي قصيدة طويلة، فلم يجبه مسلم عنها بشيء، فقال فيه ابن قنبر أيضا:
لست أنفيك إن سواي نفاكا *** عن أبيك الّذي له منتماكا
و لما ذا أنفيك يا بن وليد *** من أب إن ذكرته أخزاكا
و لو أنّي طلبت ألأم منه *** لم أجده إن لم تكن أنت ذاكا
لو سواه أباك كان جعلنا *** ه إن(6) الناس طاوعونا أباكا
حاك دهرا بغير حذق(7) لبرد *** و تحوك الأشعار أنت كذاكا
ص: 50
/و هي طويلة، فلم يجبه مسلم عنها بشيء، فقال ابن قنبر أيضا يهجوه:
فخر العبد عبد قنّ (1) اليهود *** بضعيف من فخره مردود
فاخر الغرّ من قريش بإخوا *** ن خنازير [من] يثرب و القرود
يتولّى بني النّضير و يدعو *** بهم الفخر من مكان بعيد
و بني الأوس و الخزرج أهل الذّ *** لّ في سالف الزّمان التّليد
إذ رضوا بافتضاض(2) فطيون منهم *** كلّ بكر ريّا الرّوادف رود
و بنو عمّها شهود لما يف *** عل فطيون قبّحوا من شهود
خلف باب الفطيون و البغل منهم(3) *** لا بذي غيرة و لا بنجيد
فإذا ما قضى اليهوديّ منها *** نحبه(4) قنّعوا بخزي جديد
قال: فلما أفحش في هذه القصيدة و في عدّة قصائد قالها، و مسلم لا يجيبه، مشى إليه قوم من مشيخة الأنصار، و استعانوا بمشيخة من قرّاء تميم و ذوي العلم و الفضل منهم، فمشوا معهم إليه فقالوا له: أ لا تستحي من أن تهجو من لا يجيبك ؟ أنت بدأت الرّجل فأجابك، ثم عدت فكفّ ، و تجاوزت ذلك إلى ذكر أعراض الأنصار الّتي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يحميها و يذبّ عنها و يصونها، لغير حال أحلّت لك ذلك منهم، فما زالوا يعظونه و يقولون له كل قول حتى أمسك عن المناقضة لمسلم، فانقطعت.
ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتهم *** شمس الضحى و أبو إسحاق و القمر
يحكي أفاعيله(5) في كلّ نائبة *** الغيث و الليث و الصّمصامة الذّكر
الشّعر لمحمد بن وهيب، و الغناء لعلّويه ثقيل أول بالوسطى، و فيه لإبراهيم بن المهديّ ثقيل أول آخر عن الهشاميّ .
ص: 51
4 - أخبار محمد بن وهيب(1)
محمد بن وهيب الحميريّ صليبة شاعر من أهل بغداد من شعراء الدولة العباسية، و أصله من البصرة(2)، و له أشعار كثيرة يذكرها فيها و يتشوّقها، و يصف إيطانه إياها و منشأه بها.
(3) و كان يستمنح الناس بشعره، و يتكسّب بالمديح، ثم توسّل إلى الحسن بن سهل بالحسن بن رجاء بن أبي الضّحاك و مدحه، فأوصله إليه و سمع شعره فأعجب به و اقتطعه إليه، و أوصله إلى المأمون حتى مدحه و شفع له فأسنى جائزته، ثم لم يزل منقطعا إليه حتى مات. و كان يتشيّع، و له مراث في أهل البيت.
هو متوسط من شعراء طبقته، و في شعره أشياء نادرة فاضلة، و أشياء متكلفة(3).
أخبرنا محمد بن خلف وكيع، قال: زعم أبو محلّم، و أخبرني عمّي، عن عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى، عن أبي محلّم، قال:
اجتمع الشعراء على باب المعتصم فبعث إليهم محمد بن عبد الملك الزّيات أنّ أمير المؤمنين يقول لكم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل/قول النمريّ في الرشيد:
خليفة اللّه إن الجود أودية *** أحلّك اللّه منها حيث تجتمع
من لم يكن بأمين اللّه معتصما *** فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن أخلف القطر لم تخلف مخايله(3) *** أو ضاق أمر ذكرناه فيتّسع
/فليدخل و إلا فلينصرف، فقام محمد بن وهيب فقال: فينا من يقول مثله، قال: و أيّ شيء قلت ؟ فقال:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم *** شمس الضّحى و أبو إسحاق و القمر
ص: 52
تحكي(1) أفاعيله في كل نائبة *** الغيث و الليث و الصّمصامة الذّكر
فأمر بإدخاله و أحسن جائزته.
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن محمد بن مروان بن موسى قال:
حدّثني محمد بن وهيب الشاعر قال:
لما تولّى الحسن بن رجاء بن أبي الضّحاك الجبل قلت فيه شعرا و أنشدته أصحابنا دعبل بن عليّ و أبا سعد المخزوميّ ، و أبا تمام الطائيّ ، فاستحسنوا الشعر و قالوا: هذا لعمري من الأشعار الّتي تلقى بها الملوك، فخرجت إلى الجبل فلما صرت إلى همذان أخبره الحاجب بمكاني فأذن لي فأنشدته الشعر فاستحسن منه قولي:
أجارتنا إنّ التّعفّف بالياس *** و صبرا على استدرار دنيا بإبساس(2)
حريّان ألاّ يقذفا بمذلة *** كريما و ألاّ يحوجاه إلى الناس
أجارتنا إنّ القداح كواذب *** و أكثر أسباب النّجاح مع الياس
فأمر حاجبه بإضافتي فأقمت بحضرته كلما دخلت إليه لم أنصرف إلا بحملان أو خلعة أو جائزة حتى انصرم الصّيف فقال لي: يا محمد إن الشتاء عندنا علج(3) فأعدّ يوما للوداع. فقلت: خدمة الأمير أحبّ إليّ ، فلما كاد الشتاء أن يشتدّ قال لي: هذا أوان(4) الوداع، فأنشدني الثلاثة الأبيات فقد فهمت الشعر كله، فلما أنشدته:
/أجارتنا إن القداح كواذب *** و أكثر أسباب النّجاح مع الياس
قال: صدقت، ثم قال: عدّوا أبيات القصيدة فأعطوه لكل بيت ألف درهم، فعدّت فكانت اثنين و سبعين بيتا، فأمر لي باثنين و سبعين ألف درهم، و كان فيما أنشدته في مقامي و استحسنه قولي:
(1) في هذه الأبيات هزج طنبوريّ سمعته من جحظة فذكر أنه يراه للمسدود و لم يحقّق صانعه.
قال الأصبهانيّ : و هذه الأبيات له في المطّلب بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ .
قال محمد بن وهيب: و أهدي إلى الحسن بن رجاء غلام فأعجب به فكتبت إليه:
ليهنك الزائر الجديد *** جرى به الطائر السعيد
جاء مشوق إلى مشوق *** فذا ودود و ذا ودود
يوم نعيم و يوم لهو *** خصصت فيه بما تريد
إلف مشوق أتاه ألف *** فمستفاد و مستفيد(1)
/حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار بهذا الحديث، عن يعقوب بن إسرائيل قرقارة، عن محمد بن محمد بن مروان(1) بن موسى، عن محمد بن وهيب، فذكر مثل الّذي قبله و زاد فيه، فلم يزل يستعيدني:
/أجارتنا إن القداح كواذب *** و أكثر أسباب النّجاح مع الياس
و أنا أعيده عليه، فانصرفت من عنده بأكثر مما كنت أؤمل.
حدّثني عليّ بن صالح بن الهيثم الأنباريّ الكاتب، قال: حدّثني أبو هفّان، قال: حدّثني خالي، قال:
كنت عند أبي دلف القاسم بن عيسى، فدخل عليه محمد بن وهيب الشاعر فأعظمه جدّا، فلما انصرف قال له أخوه معقل: يا أخي، قد فعلت بهذا ما لم يستحقّه، ما هو في بيت من الشّرف، و لا في كمال من الأدب، و لا بموضع من السلطان، فقال: بلى يا أخي، إنه لحقيق بذلك، أو لا يستحقه و هو القائل:
يدلّ على أنني عاشق *** من الدمع مستشهد ناطق
ولي مالك أنا عبد له *** مقرّ بأني له وامق
إذا ما سموت إلى وصله *** تعرّض لي دونه عائق
و حاربني فيه ريب الزّمان *** كأنّ الزّمان له عاشق
في هذه الأبيات رمل طنبوريّ أظنّه لجحظة.
حدّثني عمّي، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك، قال:
/لما قدم المطّلب بن عبد اللّه بن مالك من الحج لقيه محمد بن وهيب مستقبلا مع من تلقّاه، و دخل إليه مهنئا بالسّلامة بعد استقراره، و عاد إليه في الثالثة(2) فأنشده قصيدة طويلة مدحه بها، يقول فيها:
ص: 54
و ما زلت أسترعي(1) لك اللّه غائبا *** و أظهر إشفاقا عليك و أكتم
و أعلم أنّ الجود ما غبت غائب *** و أنّ النّدى في حيث كنت مخيّم(2)
إلى أن زجرت الطير سعدا سوانحا *** و حمّ لقاء بالسّعود و مقدم
و ظلّ يناجيني بمدحك خاطر(3) *** و ليلي ممدود الرّواقين أدهم
و قال: طواه الحجّ فاخشع لفقده *** و لا عيش حتى يستهلّ المحرّم
سيفخر ما ضمّ الحطيم و زمزم *** بمطّلب لو أنه يتكلّم
و ما خلقت إلا من الجود كفّه *** على أنها و البأس خدنان توأم
أعدت إلى أكناف مكة بهجة *** خزاعيّة كانت تجلّ و تعظم
ليالي سمّار الحجون إلى الصّفا *** خزاعة إذ خلّت لها البيت جرهم
و لو نطقت بطحاؤها و حجونها *** و خيف منّى و المأزمان(4) و زمزم
إذا لدعت(5) أجزاء جسمك كلها *** تنافس في أقسامه لو تحكّم
و لو ردّ مخلوق إلى بدء خلقه *** إذا كنت جسما بينهن تقسّم
/سما بك منها كل خيف فأبطح *** نما بك(6) منه الجوهر المتقدّم
و حنّ إليك الركن حتى كأنّه *** و قد جئته خلّ عليك مسلّم
قال: فوصله صلة سنية و أهدى له هدية حسنة من طرف ما قدم به و حمله، و اللّه أعلم.
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني الحسن بن الحسن بن رجاء، عن أبيه و أهله، /قالوا:
كان محمد بن وهيب الحميريّ لمّا قدم المأمون من خراسان مضاعا مطّرحا، إنما يتصدى للعامة و أوساط الكتّاب(7) و القوّاد بالمديح و يسترفدهم فيحظى باليسير، فلما هدأت الأمور و استقرّت و استوسقت جلس أبو محمد الحسن بن سهل يوما منفردا بأهله و خاصّته و ذوي مودّته و من يقرب من أنسه، فتوسل إليه محمد بن وهيب بأبي حتى أوصله مع الشعراء، فلما انتهى إليه القول استأذن في الإنشاد فأذن له، فأنشده قصيدته الّتي أولها:
ودائع أسرار طوتها السرائر *** و باحت بمكتوماتهنّ النّواظر
ملكت بها(8) طيّ الضمير و تحته *** شبا لوعة عضب الغرارين باتر
ص: 55
فأعجم عنها ناطق و هو معرب *** و أعربت العجم الجفون العواطر(1)
أ لم تغذني السّرّاء في ريّق الهوى(2) *** غريرا بما تجني عليّ الدّوائر
تسالمني الأيّام في عنفوانه *** و يكلؤني طرف من الدهر ناظر
حتى انتهى إلى قوله:
/إلى الحسن الباني العلا يمّمت بنا(3)*** عوالي المنى حيث الحيا المتظاهر
إلى الأمل المبسوط و الأجل الّذي *** بأعدائه تكبوا الجدود العواثر
و من أنبعت عين المكارم كفّه *** يقوم مقام القطر و الروض دائر
تعصّب تاج الملك في عنفوانه *** و أطّت به عصر الشّباب المنابر(4)
تعظّمه(5) الأوهام قبل عيانه *** و يصدر عنه الطّرف و الطّرف حاسر
به تجتدى النّعمى و تستدرك المنى *** و تستكمل الحسنى و ترعى الأواصر
أصات بنا داعي نوالك مؤذنا *** بجودك إلا أنه لا يحاور(6)
قسمت صروف الدهر بأسا و نائلا *** فمالك موتور و سيفك واتر
و لمّا رأى اللّه الخلافة قد وهت *** دعائمها و اللّه بالأمر خابر
بنى بك أركانا عليك محيطة *** فأنت لها دون الحوادث ساتر(7)
و أرعن فيه للسوابغ جنّة *** و سقف سماء أنشأته الحوافر(8)
يعني أنّ على الدروع من الغبار ما قد غشيها فصار كالجنة لها.
لها فلك فيه الأسنّة أنجم *** و نقع المنايا مستطير و ثائر
أجزت قضاء الموت في مهج العدا *** ضحى فاستباحتها المنايا الغوادر
/لك اللّحظات الكالئات قواصدا *** بنعمى و بالبأساء و هي شوازر(9)
و لم لم تكن إلا بنفسك فاخرا *** لما انتسبت إلاّ إليك المفاخر
قال: فطرب أبو محمد حتى نزل عن سريره إلى الأرض و قال: أحسنت و اللّه و أجملت، و لو لم تقل قط
ص: 56
و لا تقول في باقي دهرك غير هذا لما احتجت إلى القول، و أمر له بخمسة آلاف دينار فأحضرت و اقتطعه إلى نفسه، فلم يزل في جنبته(1) أيّام ولايته و بعد ذلك إلى أن مات ما تصدّى لغيره.
حدّثني أحمد بن جعفر جحظة، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال:
كان/محمد بن وهيب الحميريّ الشاعر قد مدح عليّ بن هشام و تردّد إليه و إلى بابه دفعات، فحجبه و لقيه يوما، فعرض له في طريقه و سلّم عليه، فلم يرفع إليه طرفه، و كان فيه تيه شديد، فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها، فلما وصلت إليه خرّقها و قال: أيّ شيء يريد هذا الثقيل السّيّئ الأدب ؟ فقيل له ذلك فانصرف مغضبا و قال: و اللّه ما أردت ماله و إنما أردت التوسّل بجاهه سيغني اللّه جل و عز عنه، أما و اللّه ليذمّنّ مغبّة فعله. و قال يهجوه:
أزرت بجود عليّ خيفة العدم(2) *** فصدّ منهزما عن شأو ذي الهمم
لو كان من فارس في بيت مكرمة *** أو كان من ولد الأملاك في العجم
أو كان أوله أهل البطاح أو الرّ *** كب الملبّنون إهلالا إلى الحرم
أيام تتّخذ الأصنام آلهة *** فلا ترى عاكفا إلا على صنم
لشجّعته على فعل الملوك لهم *** طبائع لم ترعها خيفة العدم
/لم تند كفّاك(3) من بذل النّوال كما *** لم يند سيفك مذ قلّدته بدم
كنت امرأ رفعته فتنة فعلا *** أيامها غادرا بالعهد و الذّمم
حتى إذا انكشفت عنّا عمايتها(4) *** و رتّب النّاس بالأحساب و القدم
مات التّخلّق و ارتدّتك مرتجعا *** طبيعة نذلة الأخلاق و الشّيم
كذاك من كان لا رأسا و لا ذنبا *** كزّ(5) اليدين حديث العهد بالنّعم
هيهات ليس بحمّال الدّيات و لا *** معطي الجزيل و لا المرهوب ذي النّقم
قال: فحدّثني بعض بني هاشم أنّ هذه الأبيات لمّا بلغت عليّ بن هشام ندم على ما كان منه، و جزع لها و قال: لعن اللّه اللّجاج فإنه شرّ خلق تخلّقه الناس، ثم أقبل على أخيه الخليل بن هشام فقال: اللّه يعلم أني لا أدخل على الخليفة و عليّ السيف إلا و أنا مستح منه، أذكر قول ابن وهيب فيّ :
لم تند كفّاك من بذل النّوال كما *** لم يند سيفك مذ قلّدته بدم
حدثني محمد بن يحيى الصّوليّ ، قال: حدثني ميمون(6) بن هارون، قال: من سمع ابن الأعرابيّ ، يقول:
ص: 57
أهجى بيت قاله المحدثون قول محمد بن وهيب:
لم تند كفّاك من بذل النوال كما *** لم يند سيفك مذ قلّدته بدم
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني محمد بن مرزوق البصريّ ، قال:
/حدثني محمد بن وهيب قال: جلست بالبصرة إلى عطّار فإذا أعرابية سوداء قد جاءت فاشترت من العطّار خلوقا فقلت له: تجدها اشترته لابنتها و ما ابنتها و ما ابنتها إلا خنفساء، فالتفتت إليّ متضاحكة، ثم قالت: لا و اللّه، لكن مهاة جيداء(1)، إن قامت فقناة، و إن قعدت فحصاة، و إن مشت فقطاه، أسفلها كثيب، و أعلاها قضيب، لا كفتياتكم اللواتي تسمّنونهن بالفتوت(2)، ثم انصرفت و هي تقول:
إن الفتوت للفتاة مضرطه *** يكربها في البطن حتى تثلطه(3)
//فلا أعلمني ذكرتها إلا أضحكني ذكرها.
حدثني عيسى بن الحسين الورّاق، قال: حدثنا أبو هفّان، قال:
كان محمد بن وهيب يتردد إلى مجلس يزيد بن هارون، فلزمه عدّة مجالس يملي فيها كلها فضائل أبي بكر و عمر و عثمان رضي اللّه عنهم، لا يذكر شيئا من فضائل عليّ عليه السّلام، فقال فيه ابن وهيب:
آتي يزيد بن هارون أدالجه(4) *** في كل يوم و ما لي و ابن هارون
فليت لي بيزيد حين أشهده *** راحا و قصفا و ندمانا يسلّيني
أغدو إلى عصبة صمّت مسامعهم *** عن الهدى بين زنديق و مأفون
لا يذكرون عليّا في مشاهدهم *** و لا بنيه بني البيض الميامين
/اللّه(5) يعلم أني لا أحبّهم *** كما هم بيقين لا يحبّوني
و يستطيعون عن ذكرى(6) أبا حسن *** و فضله قطّعوني بالسّكاكين
و لست أترك تفضيلي له أبدا *** حتى الممات على رغم الملاعين(7)
ص: 58
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني إسحاق بن محمد الكوفيّ ، قال: حدثني محمد بن القاسم بن يوسف. و أخبرني به الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا أحمد بن القاسم، قال: حدثني إسحاق، عن محمد بن القاسم بن يوسف قال:
كان محمد بن وهيب يأتي أبي فقال له أبي يوما: إنك تأتينا و قد عرفت مذاهبنا فنحبّ أن تعرّفنا مذهبك فنوافقك أو نخالفك، فقال له: في غد أبيّن لك أمري و مذهبي. فلما كان من غد كتب إليه:
أيّها السّائل قد بيّ *** نت إن كنت ذكيّا
أحمد اللّه كثيرا *** بأياديه عليّا
شاهدا(1) أن لا إله *** غيره ما دمت حيّا
و على أحمد بالصّد *** ق رسولا و نبيّا
و منحت الودّ قربا *** ه و واليت الوصيّا
و أتاني خبر مطّرح *** لم يك شيّا
أن على غير اجتماع *** عقدوا الأمر بديّا
فوقفت القوم تيما *** و عديّا و أميّا
غير شتّام و لكنّي *** تولّيت عليّا
حدثني جحظة، قال: حدثني عليّ بن يحيى المنجم، قال:
بلغ محمد بن وهيب أنّ دعبل بن عليّ قال: أنا ابن قولي(2):
لا تعجبي يا سلم من رجل *** ضحك المشيب برأسه فبكى
و أنّ أبا تمام قال: أنا ابن قولي(2):
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل
فقال محمد بن وهيب: و أنا ابن قولي(2):
ما لمن تمّت محاسنه *** أن يعادي طرف من رمقا
/لك أن تبدي لنا حسنا *** و لنا أن نعمل الحدقا
قال أبو الفرج الأصبهانيّ (3): و هذا من جيّد شعره و نادره، و أول هذه الأبيات قوله:
نم فقد وكّلت بي الأرقا *** لاهيا تغري بمن عشقا(4)
ص: 59
إنّما أبقيت من جسدي *** شبحا غير الّذي خلقا
كنت كالنّقصان في قمر *** ماحقا(1) منه الّذي اتّسقا
و فتى ناداك من كثب *** أسعرت أحشاؤه حرقا(2)
غرقت في الدّمع مقلته *** فدعا إنسانها الغرقا
إنّما عاقبت ناظره *** أن أعاد اللّحظ(3) مسترقا
ما لمن تمّت محاسنه *** أن يعادي طرف من رمقا
/لك أن تبدي لنا حسنا *** و لنا أن نعمل الحدقا
قدحت كفّاك زند هوى *** في سواد القلب فاحترقا
حدثني عمّي، قال: حدثني أبو عبد اللّه الهشاميّ ، عن أبيه، قال:
دخل محمد بن وهيب على أحمد بن هشام يوما و قد مدحه، فرأى بين يديه غلمانا روقة مردا و خدما بيضا فرّها(4) في نهاية الحسن و الكمال و النظافة، فدهش لما رأى و بقي متبلّدا لا ينطق حرفا، فضحك أحمد منه و قال له:
ما لك ؟ ويحك! تكلّم بما تريد، فقال:
قد كانت الأصنام و هي قديمة *** كسرت و جدّعهنّ إبراهيم
و لديك أصنام سلمن من الأذى *** وصفت لهنّ غضارة(5) و نعيم
و بنا إلى صنم نلوذ بركنه *** فقر و أنت إذا هززت كريم
فقال له: اختر من شئت، فاختار واحدا منهم، فأعطاه إياه، فقال يمدحه:
فضلت مكارمه على الأقوام *** و علا فحاز(6) مكارم الأيّام
و علته أبّهة الجلال كأنّه *** قمر بدا لك من خلال غمام
إنّ الأمير على البريّة كلّها *** بعد الخليفة أحمد بن هشام
و أخبرني جعفر بن قدامة في خبره الّذي ذكرته آنفا عنه، عن الحسن بن الحسن بن رجاء، عن أبيه، قال:
لمّا قدم المأمون، لقيه أبو محمد الحسن بن سهل، فدخلا جميعا، فعارضهما ابن وهيب و قال:
/اليوم جدّدت النّعماء و المنن *** فالحمد للّه حلّ العقدة الزّمن
ص: 60
اليوم أظهرت الدّنيا محاسنها *** للنّاس لما التقى المأمون و الحسن
قال: فلما جلسا سأله المأمون عنه فقال: هذا رجل من حمير، شاعر مطبوع، اتصل بي متوسلا إلى أمير المؤمنين و طالبا الوصول مع نظرائه، فأمر المأمون بإيصاله مع الشعراء، فلما وقف بين يديه، و أذن له في الإنشاد، أنشده قوله:
طلان طال عليهما الأمد *** دثرا فلا علم و لا نضد
/لبسا البلى فكأنّما وجدا *** بعد الأحبّة مثل ما أجد
حيّيتما طللين، حالهما *** بعد الأحبّة غير ما عهدوا
إمّا طواك(1) سلوّ غانية *** فهواك لا ملل و لا فند
إن كنت صادقة الهوى فردي *** في الحبّ منهلي(2) الّذي أرد
أدمي هرقت و أنت آمنة *** أم ليس لي عقل و لا قود(3)؟
إن كنت فتّ و خانني سبب *** فلربّما يخطئ(4) مجتهد
حتى انتهى إلى قوله في مدح المأمون:
يا خير منتسب لمكرمة *** في المجد حيث تبحبح(5) العدد
في كل أنملة لراحته *** نوء يسحّ و عارض حشد(6)
/و إذا القنا رعفت أسنّته *** علقا و صمّ كعوبها قصد(7)
فكأنّ ضوء جبينه قمر *** و كأنّه في صولة أسد
و كأنّه روح تدبّرنا *** حركاته و كأنّنا جسد
فاستحسنها المأمون و قال لأبي محمد: احتكم له، فقال: أمير المؤمنين أولى بالحكم، و لكن إن أذن لي في المسألة سألت له، فأما الحكم فلا، فقال: سل، فقال: يلحقه بجوائز مروان بن أبي حفصة، فقال: ذلك و اللّه أردت، و أمر بأن تعدّ أبيات قصيدته و يعطى لكل بيت ألف درهم، فعدّت فكانت خمسين، فأعطي خمسين ألف درهم.
قال الأصبهانيّ : و له في المأمون و الحسن بن سهل خاصة مدائح شريفة نادرة، من عيونها قوله في المأمون في قصيدة أولها:
ص: 61
العذر إن أنصفت متّضح *** و شهيد حبّك(1) أدمع سفح
فضحت ضميرك عن ودائعه *** إنّ الجفون نواطق فصح(2)
و إذا تكلّمت العيون(3) على *** إعجامها فالسّر مفتضح
ربما أبيت معانقي قمر *** للحسن فيه مخايل تضح(4)
نشر الجمال على محاسنه *** بدعا و أذهب همّه الفرح
يختال في حلل الشّباب به *** مرح و داؤك أنه مرح
ما زال يلثمني مراشفه *** و يعلّني الإبريق و القدح
/حتى استردّ اللّيل خلعته *** و نشا خلال سواده وضح
و بدا الصّباح كأن غرّته *** وجه الخليفة حين يمتدح
يقول فيها:
نشرت بك الدّنيا محاسنها *** و تزيّنت بصفاتك المدح
و كأنّ ما قد غاب عنك له *** بإزاء طرفك عارضا شبح(5)
و إذا سلمت فكلّ حادثة *** جلل فلا بؤس و لا ترح
/أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدثني أهلنا:
أنّ محمد بن وهيب قصد المطّلب بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ - عمّ أبي - و قد ولي الموصل و كان له صديقا حفيّا، و كان كثير الرّفد له و الثّواب على مدائحه، فأنشده قوله فيه:
و قالوا عزاؤك بعد الفراق *** إذا حمّ مكروهه أجمل
أقيدي دما سفكته العيون *** بإيماض كحلاء لا تكحل
فكلّ سهامك لي مقصد(1) *** و كلّ مواقعها مقتل
سلام على المنزل المستحيل *** و إن ضنّ بالمنطق المنزل
و عضب(2) الضّريبة يلقى الخطوب *** بجدّ عن الدّهر لا ينكل
تغلغل شرقا إلى مغرب *** فلمّا تبدّت له الموصل
ثوى حيث لا يستمال الأريب *** و لا يؤلف اللّقن الحوّل
لدى ملك قابلته السّعود *** و جانبه الأنجم الأفّل
لأيّامه سطوات الزّمان *** و إنعامه حين لا موئل
سما مالك بك للباهرات *** و أوحدك المربأ الأطول
و ليس بعيدا بأن تحتذي(3) *** مذاهب آسادها الأشبل
قال: فوصله و أحسن جائزته و أقام عنده مدة، ثم استأذنه في الانصراف فلم يأذن له، و زاد في ضيافته(4)و جراياته و جدّد له صلة، فأقام عنده برهة أخرى، ثم دخل عليه فأنشده:
ألا هل إلى ظلّ العقيق و أهله(5) *** إلى قصر أوس فالحزير معاد؟
و هل لي بأكناف المصلّى فسفحه *** إلى السّور مغدى ناعم و مراد؟
فلم تنسني نهر الأبلّة نيّة *** و لا عرصات المربدين بعاد(6)
/هنالك لا تبني الكواعب خيمة *** و لا تتهادى كلثم و سعاد
أجدّي(7) لا ألقى النّوى مطمئنّة *** و لا يزدهيني مضجع و مهاد
فقال له: أبيت إلا الوطن و النّزاع إليه! ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، و أوقر له زورقا من طرف الموصل و أذن له.
المأمون يتمثل من شعره(8) حدثني محمد بن يحيى الصّولي، قال: حدثني أبو عبد اللّه الماقطانيّ ، عن عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى، عن سعيد بن وهيب، قال:
كان المأمون كثيرا ما يتمثّل إذا كربه الأمر:
ص: 63
ألا ربّما ضاق الفضاء بأهله *** و أمكن من بين الأسنّة مخرج
قال الأصبهانيّ : و هذا الشعر لمحمد بن وهيب يقوله في ابن عبّاد وزير المأمون، و كان له صديقا، فلما ولي الوزارة اطّرحه لانقطاعه إلى الحسن بن سهل فقال فيه قصيدة أوّلها:
تكلّم بالوحي البنان المخضّب *** و للّه شكوى معجم كيف يعرب ؟
أ إيماء أطراف البنان و وجهها *** أباتا له كيف الضّمير المغيّب ؟
و قد كان حسن الظّنّ أنجب مرّة *** فأحمد عقبى أمره المتعقّب
فلما تدبّرت الظّنون(1) مراقبا *** تقلّب حاليها إذا هي تكذب
بدأت بإحسان فلما شكرته *** تنكّرت لي حتى كأنّي مذنب
و كلّ فتى يلقي الخطوب بعزمه *** له مذهب عمّن له عنه مذهب
/و هل يصرع الحبّ الكريم و قلبه *** عليم بما يأتي و ما يتجنّب
تأنّيت حتى أوضح العلم أنّني *** مع الدهر يوما مصعد و مصوّب
و ألحقت أعجاز الأمور صدورها *** و قوّمها غمز القداح المقلّب
و أيقنت أن اليأس للعرض صائن *** و أن سوف أغضي للقذي حين أرغب
أ غادرتني بين الظّنون مميّزا *** شواكل أمر بينهن مجرّب
يقرّبني من كنت أصفيك دونه *** بودّي و تنأى بي فلا أتقرّب
فللّه حظّي منك كيف أضاعه *** سلوّك عنّي و الأمور تقلب
أبعدك أستسقي بوارق مزنة *** و إن جاد هطّل من المزن هيدب(2)
إذا ما رأيت البرق أغضيت دونه *** و قلت إذا ما لاح: ذا البرق خلّب
و إن سنحت لي فرصة لم أسامها *** و أعرضت عنها خوف ما أترقّب
تأدّبت عن حسن الرّجاء فلن أرى *** أعود له إن الزّمان(3) مؤدّب
و قال له أيضا:
هل الهمّ إلا كربة تتفرّج *** لها معقب تحدى إليه و تزعج(4)
و ما الدّهر إلا عائد مثل سالف *** و ما العيش إلا جدّة ثم تنهج(5)
و كيف أشيم البرق و البرق خلّب *** و يطمعني ريعانه المتبلّج(6)
/و كيف أديم الصبر لابي ضراعة *** و لا الرّزق محظور و لا أنا محرج ؟
ص: 64
ألا ربّما كان التّصبّر ذلّة *** و أدنى إلى الحال الّتي هي أسمج
و هل يحمل الهمّ الفتى و هو ضامن *** سرى الليل رحّال العشيّات مدلج
و لا صبر ما أعدى على الدّهر مطلب *** و أمكن إدلاج و أصحر منهج(1)
ألا ربّما ضاق الفضاء بأهله *** و أمكن من بين الأسنّة مخرج
و قد يركب الخطب الّذي هو قاتل *** إذا لم يكن إلا عليه معرّج
حدثني بعض أصحابنا عن أحمد بن أبي كامل قال:
كان محمد بن وهيب تيّاها شديد الذّهاب بنفسه، فلمّا قدم الأفشين - و قد قتل بابك - مدحه بقصيدته الّتي أوّلها:
طلول و مغانيها *** تناجيها و تبكيها
يقول فيها:
بعثت الخيل، و الخير *** عقيد في نواصيها
و هي من جيّد شعره، فأنشدناها ثم قال: ما لها عيب سوى أنها لا أخت لها.
قال: و أمر المعتصم للشعراء الذين مدحوا الأفشين بثلاثمائة ألف درهم جرت تفرقتها على يد ابن أبي دواد، فأعطى منها محمد بن وهيب ثلاثين ألفا، و أعطى أبا تمّام عشرة آلاف درهم. قال ابن أبي كامل: فقلت لعليّ بن يحيى المنجّم: أ لا تعجب من هذا الحظّ؟ يعطى أبو تمام عشرة آلاف و ابن وهيب ثلاثين ألفا، و بينهما كما بين السماء و الأرض. /فقال: لذلك علّة لا تعرفها؛ كان ابن وهيب مؤدّب الفتح بن خاقان، فلذلك وصل إلى هذه الحال.
أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ . قال: حدثني أبو زكوان، قال:
حدثني من دخل إلى محمد بن وهيب يعوده و هو عليل قال: فسألته عن خبره فتشكّى ما به ثم قال:
نفوس المنايا بالنّفوس تشعّب *** و كلّ له من مذهب الموت مذهب
نراع لذكر الموت ساعة ذكره *** و تعترض الدّنيا فنلهو و نلعب
و آجالنا في كلّ يوم و ليلة *** إلينا على غرّاتنا تتقرّب
أ أيقن أنّ الشيب ينعى حياته *** مدرّ لأخلاف الخطيئة مذنب
يقين كأنّ الشّكّ أغلب أمره *** عليه و عرفان إلى الجهل ينسب
و قد ذمّت الدّنيا إليّ نعيمها *** و خاطبني إعجامها و هو معرب
ص: 65
و
لكنّني منها خلقت لغيرها *** و ما كنت منه فهو عندي(1) محبّب
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني أحمد بن أبي كامل، قال:
كنّا في مجلس و معنا أبو يوسف الكنديّ و أحمد بن أبي فنن، فتذاكرنا شعر محمد بن وهيب فطعن عليه ابن أبي فنن و قال: هو متكلّف حسود، إذا أنشد شعرا لنفسه قرظه و وصفه في نصف يوم و شكا أنّه مظلوم منحوس الحظّ و أنّه لا تقصّر به عن مراتب القدماء حال، فإذا أنشد شعر غيره حسده، و إن كان على نبيذ عربد عليه، و إن كان صاحيا عاداه و اعتقد فيه كلّ مكروه. فقلت له: كلاكما لي صديق، و ما أمتنع من/وصفكما جميعا بالتّقدّم و حسن الشعر، فأخبرني عمّا أسألك عنه إخبار منصف، أو يعدّ متكلّفا من يقول:
أبي لي إغضاء الجفون على القذى *** يقيني أن لا عسر إلاّ مفرّج
ألا ربّما ضاق الفضاء بأهله *** و أمكن من بين الأسنّة مخرج ؟
أو يعدّ متكلّفا من يقول:
رأت وضحا من مفرق الرأس راعها *** شريحين مبيضّ به و بهيم ؟
فأمسك ابن أبي فنن، و اندفع الكنديّ فقال: كان ابن وهيب ثنويّا. فقلت له: من أين علمت ذاك ؟ أكلّمك على مذهب الثّنويّة قطّ؟ قال: لا، و لكني استدللت من شعره على مذهبه، فقلت: حيث يقول ما ذا؟ فقال: حيث يقول:
طللان طال عليهما الأمد
و حيث يقول:
تفترّ عن سمطين من ذهب
إلى غير ذلك مما يستعمله في شعره من ذكر الاثنين.
فشغلني و اللّه الضّحك عن جوابه. و قلت له: يا أبا يوسف، مثلك لا ينبغي أن يتكلّم فيما لم ينفذ فيه علمه.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدّثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ، عن أبيه، قال:
سأل محمد بن وهيب محمد بن محمد بن عبد الملك الزّيّات حاجة فأبطأ فيها، فوقف عليه ثم قال له:
/طبع الكريم على وفائه *** و على التّفضّل في إخائه
تغني عنايته الصّديق *** عن التّعرّض لاقتضائه
حسب الكريم حياؤه(2)*** فكل الكريم إلى حيائه(2)
فقال له: حسبك فقد بلغت إلى ما أحببت(3)، و الحاجة تسبقك إلى منزلك. و وفى له بذلك.
ص: 66
وددت على ما كان من سرف الهوى *** و غيّ الأماني أنّ ما شئت يفعل
/فترجع أيّام تقضّت و لذّة *** تولّت، و هل يثنى من الدّهر(1) أوّل!
الشعر لمزاحم العقيليّ ، و الغناء لمقاسة بن ناصح، خفيف رمل بالبنصر عن الهشاميّ . قال الهشاميّ . قال الهشاميّ : و فيه لأحمد بن يحيى المكّيّ رمل.
ص: 67
هو مزاحم بن عمرو(1) بن الحارث بن مصرّف بن الأعلم بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن.
و قيل: مزاحم بن عمرو بن مرّة بن الحارث بن مصرّف بن الأعلم، و هذا القول عندي أقرب إلى الصواب.
بدويّ شاعر فصيح إسلاميّ ، صاحب قصيد و رجز، كان في زمن جرير و الفرزدق. و كان جرير يصفه و يقرّظه و يقدّمه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيديّ ، عن إسحاق الموصليّ ، قال:
قال لي عمارة بن عقيل: كان جرير يقول: ما من بيتين كنت أحبّ أن أكون سبقت إليهما غير بيتين من قول مزاحم العقيليّ :
وددت على ما كان من سرف الهوى *** و غيّ الأماني أنّ ما شئت يفعل
فترجع أيّام مضين و لذّة *** تولّت و هل يثنى من العيش أوّل!
قال المفضّل: قال إسحاق: سرف الهوى: خطؤه، و مثله قول جرير:
أعطوا هنيدة(2) تحدوها ثمانية *** ما في عطائهم منّ و لا سرف
/أراد أنهم يحفظون(3) مواضع الصنائع، لا أنه وصفهم بالاقتصاد و التوسّط في الجود.
قال إسحاق: و واعدني زياد الأعرابيّ موضعا من المسجد، فطلبته فيه فلم أجده، فقلت له بعد ذلك: طلبتك لموعدك(4) فلم أجدك. فقال: أين طلبتني ؟ فقلت: في موضع كذا و كذا، فقال: هناك و اللّه سرفتك، أي أخطأتك.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال:
ص: 68
أنشدني حماد عن أبيه لمزاحم العقيليّ قال - و كان يستجيدها و يستحسنها -:
لصفراء في قلبي من الحبّ شعبة *** حمى لم تبحه الغانيات صميم(1)
بها حلّ بيت الحبّ ثم ابتنى بها *** فبانت بيوت الحيّ و هو مقيم
بكت دارهم من نأيهم فتهلّلت *** دموعي فأيّ الجازعين ألوم!
أ مستعبرا يبكي من الحزن و الجوى *** أم آخر يبكي شجوه فيهيم ؟
تضمّنه من حبّ صفراء بعد ما *** سلا هيضات الحب فهو كليم(2)
و من يتهيّض(3) حبّهن فؤاده *** يمت أو يعش ما عاش و هو سقيم
كحرّان صاد ذيد عن برد مشرب *** و عن بللات الرّيق(4) فهو يحوم
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا أبو سعيد السّكّري، قال: أخبرنا محمد بن حبيب، عن ابن أبي الدّنيا العقيليّ - قال ابن حبيب: و هو صاحب الكسائيّ و أصحابنا - قال:
كان مزاحم العقيليّ خطب ابنة عم له دنية(5) فمنعه أهلها لإملاقه و قلة ماله، و انتظروا/بها/رجلا موسرا في قومها كان يذكرها و لم يحقق، و هو يومئذ غائب. فبلغ ذلك مزاحما من فعلهم، فقال لعمّه: يا عمّ ، أ تقطع رحمي و تختار عليّ غيري لفضل أباعر تحوزها و طفيف من الحظ تحظى به! و قد علمت أني أقرب إليك من خاطبها الّذي تريده، و أفصح منه لسانا، و أجود كفّا، و أمنع جانبا، و أغنى عن العشيرة! فقال له: لا عليك فإنها إليك صائرة، و إنما أعلّل أمّها بهذا، ثم يكون أمرها لك، فوثق به.
و أقاموا مدة، ثم ارتحلوا و مزاحم غائب، و عاد الرجل الخاطب لها فذاكروه(6) أمرها، فرغب فيها، فأنكحوه إياها، فبلغ ذلك مزاحما فأنشأ يقول:
نزلت بمفضى سيل حرسين و الضّحى *** يسيل بأطراف المخارم آلها(7)
بمسقيّة الأجفان أنفد دمعها *** مقاربة الألاّف ثمّ زيالها(8)
فلما نهاها اليأس أن تؤنس الحمى *** حمى البئر جلّى عبرة العين جالها(9)
ص: 69
أ يا ليل إن تشحط بك الدار غربة *** سوانا و يعيي النّفس فيك احتيالها
فكم ثم كم من عبرة قد رددتها *** سريع على جيب القميص انهلالها(1)
خليليّ هل من حيلة تعلمانها *** يقرّب من ليلى إلينا احتيالها
فإنّ بأعلى الأخشبين أراكة *** عدتني عنها الحرب دان ظلالها
و في فرعها لو تستطاع جنابها *** جنى يجتنيه المجتني لو ينالها
هنيئا لليلى مهجة ظفرت بها *** و تزويج ليلى حين حان ارتحالها
/فقد حبسوها محبس البدن و ابتغى *** بها الرّبح أقوام تساخف مالها(2)
فإنّ مع الرّكب الذين تحمّلوا *** غمامة صيف زعزعتها شمالها
و قال محمد بن حبيب في خبره، قال ابن الأعرابيّ :
وقع بين مزاحم العقيلي و بين رجل من بني جعدة لحاء في ماء فتشاتما و تضاربا بعصيّهما، فشجّه مزاحم شجّة أمّته(3)، فاستعدت بنو جعدة على مزاحم فحبس حبسا طويلا، ثم هرب من السّجن، فمكث في قومه مدة، و عزل ذلك الوالي و ولى غيره، فسأله ابن عمّ لمزاحم يقال له مغلّس أن يكتب أمانا لمزاحم، فكتبه له، و جاء مغلّس و الأمان معه، فنفر مزاحم منه و ظنّها خيلة من السّلطان، فهرب و قال في ذلك:
أتاني بقرطاس الأمير مغلّس *** فأفزع قرطاس الأمير فؤاديا
فقلت له: لا مرحبا بك مرسلا *** إليّ و لا لي من أميرك داعيا(4)
أ ليست جبال القهر قعسا مكانها *** و عروى و أجبال الوحاف كما هيا؟(5)
أخاف ذنوبي أن تعدّ ببابه *** و ما قد أزلّ الكاشحون أماميا
و لا أستريم عقبة الأمر بعد ما *** تورّط في بهماء كعبي و ساقيا(6)
أخبرني محمد بن مزيد، و أحمد بن جعفر جحظة، قالا: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:
كان مزاحم العقيليّ يهوى امرأة من قومه يقال لها ميّة، فتزوّجت رجلا كان/أقرب إليها من مزاحم، فمر عليها بعد أن دخل بها زوجها، فوقف عليها ثم قال:
/أيا شفتي ميّ أ ما من شريعة *** من الموت إلا أنتما توردانيا!
و يا شفتي ميّ أمالي إليكما *** سبيل و هذا الموت قد حلّ دانيا!
ص: 70
و يا شفتي ميّ أ ما تبذلان لي *** بشيء و إن أعطيت أهلي و ماليا!
فقالت: أعزز عليّ يا بن عمّ بأن تسأل ما لا سبيل إليه، و هذا أمر قد حيل دونه، فاله عنه. فانصرف.
أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد النّحويّ ، قال:
حدّثني عمارة بن عقيل قال: قال لي أبي: قال عبد الملك بن مروان لجرير: يا أبا حرزة، هل تحب أن يكون لك بشيء من شعرك شيء من شعر غيرك ؟ قال: لا، ما أحبّ ذلك، إلا أنّ غلاما ينزل الرّوضات من بلاد بني عقيل يقال له مزاحم العقيليّ ، يقول حسنا من الشعر(1) لا يقدر أحد من أن يقول مثله، كنت أحبّ أن يكون لي بعض شعره مقايضة ببعض شعري.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثني عمّي، عن العبّاس بن هشام، عن أبيه، قال:
كان مزاحم العقيليّ يهوى امرأة من قومه يقال لها ليلى، فغاب غيبة عن بلاده، ثم عاد و قد زوّجت، فقال في ذلك:
أتاني بظهر الغيب أن قد تزوّجت *** فظلّت بي الأرض الفضاء تدور
و زايلني لبّي و قد كان حاضرا *** و كاد جناني عند ذاك يطير
فقلت و قد أيقنت أن ليس بيننا *** تلاق و عيني بالدموع(2) تمور
/أ يا سرعة الأخبار حين تزوّجت *** فهل يأتينّي بالطّلاق بشير
و لست بمحص حبّ ليلى لسائل *** من النّاس إلا أن أقول كثير
لها في سواد القلب تسعة أسهم *** و للناس طرّا من هواي عشير(3)
قال ابن الكلبيّ : و من الناس من يزعم أنّ ليلى هذه التي يهواها مزاحم العقيليّ هي التي كان يهواها المجنون، و أنهما اجتمعا هو و مزاحم في حبّها.
قال الأصبهانيّ : و قد أخبرني بشرح هذا الخبر الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، عن عليّ بن الصّباح، عن ابن الكلبيّ ، قال:
كان مزاحم بن مرّة العقيلي يهوي امرأة(4) من قشير يقال لها ليلى بنت موازر، و يتحدّث إليها مدة حتى شاع أمرهما، و تحدّثت جواري الحيّ به، فنهاه أهلها عنها، و كانوا متجاورين، و شكوه إلى الأشياخ من قومه فنهوه
ص: 71
و اشتدّوا عليه، فكان يتفلّت إليها في أوقات الغفلات، فيتحدّثان و يتشاكيان، ثم انتجعت بنو قشير في ربيع لهم ناحية غير تلك قد نضّرها غيث و أخصبها، فبعد عليه خبرها و اشناقها، فكان يسأل عنها كلّ وارد، و يرسل إليها بالسلام مع كل صادر، حتى ورد عليه يوما راكب من قومها، فسأله عنها فأخبره أنها خطبت فزوّجت، فوجم طويلا ثم أجهش باكيا و قال:
أتاني بظهر الغيب أن قد تزوّجت *** فظلّت بي الأرض الفضاء تدور
و ذكر الأبيات الماضية.
/و قد أنشدني هذه القصيدة لمزاحم ابن أبي الأزهر، عن حمّاد/عن أبيه، فأتى بهذه الأبيات و زاد فيها:
و تنشر نفسي بعد موتي بذكرها *** مرارا فموت مرّة و نشور
عججت لربي عجّة(1) ما ملكتها *** و ربّي بذي الشّوق الحزين بصير
ليرحم ما ألقى و يعلم أنّني *** له بالذي يسدي إليّ شكور
لئن كان يهدى برد أنيابها العلا *** لأحوج منّي إنّني لفقير
حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبو أيوب المدينيّ ، قال: قال أبو عدنان:
أخبرنا تميم بن رافع قال: حدّثت أنّ الفرزدق دخل على عبد الملك بن مروان - أو بعض بنيه - فقال له:
يا فرزدق، أ تعرف أحدا أشعر منك ؟ قال: لا، إلا غلاما من بني عقيل، يركب أعجاز الإبل و ينعت الفلوات فيجيد، ثم جاءه جرير فسأله عن مثل ما سأل عنه الفرزدق فأجابه بجوابه، فلم يلبث أن جاءه ذو الرّمة فقال له: أنت أشعر النّاس ؟ قال: لا، و لكن غلام من بني عقيل يقال له مزاحم يسكن الرّوضات ؟ يقول وحشيّا من الشعر لا يقدر على مثله، فقال: فأنشدني بعض ما تحفظ من ذلك، فأنشده قوله:
خليليّ عوجا بي على الدار نسأل *** متى عهدها بالظّاعن المترحّل(2)
فعجت و عاجوا فوق بيداء موّرت(3) *** بها الريح جولان التراب المنخّل
حتى أتى على آخرها ثم قال: ما أعرف أحدا يقول قولا يواصل هذا.
أكذّب طرفي عنك في كلّ ما أرى *** و أسمع أذني منك ما ليس تسمع
فلا كبدي تبلى و لا لك رحمة *** و لا عنك إقصار و لا فيك مطمع
لقيت أمورا فيك لم ألق مثلها *** و أعظم منها فيك ما أتوقع
فلا تسأليني في هواك زيادة *** فأيسره يجزي و أدناه يقنع
الشعر لبكر بن النّطّاح، و الغناء لحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى عن الهشاميّ .
ص: 72
بكر بن النطّاح الحنفيّ (1). يكنى أبا وائل، هكذا أخبرنا وكيع عن عبد اللّه بن شبيب، و ذكر غيره أنه عجليّ من بني سعد بن عجل، و احتجّ من ذكر أنه عجليّ بقوله:
فإن يك جدّ القوم فهر بن مالك *** فجدّي عجل قرم بكر بن وائل
و أنكر ذلك من زعم أنه حنفيّ و قال: بل قال:
فجدّي لجيم قرم بكر بن وائل
و عجل بن لجيم و حنيفة بن لجيم أخوان.
و كان بكر بن النطّاح صعلوكا يصيب الطّريق، ثم أقصر عن ذلك، فجعله أبو دلف من الجند، و جعل له رزقا سلطانيّا، و كان شجاعا بطلا فارسا شاعرا حسن الشّعر و التصرّف فيه، كثير الوصف لنفسه بالشجاعة و الإقدام.
/فأخبرني الحسن بن عليّ (2)، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني أبي، قال:
قال بكر بن النّطّاح الحنفيّ قصيدته التي يقول فيها:
هنيئا لإخواني ببغداد عيدهم *** و عيدي بحلوان قراع الكتائب
و أنشدها أبا دلف فقال له: إنك لتكثر الوصف لنفسك بالشّجاعة، و ما رأيت لذلك عندك أثرا قطّ، و لا فيك، فقال له: أيّها الأمير و أيّ غناء يكون عند الرجل الحاسر الأعزل ؟ فقال: أعطوه فرسا و سيفا و ترسا و درعا و رمحا، فأعطوه ذلك أجمع، فأخذه و ركب الفرس و خرج على وجهه، فلقيه مال لأبي دلف يحمل من بعض ضياعه، فأخذه /و خرج جماعة من غلمانه فمانعوه عنه، فجرحهم جميعا و قطعهم و انهزموا. و سار بالمال، فلم ينزل إلا على عشرين فرسخا، فلما اتصل خبره بأبي دلف قال: نحن جنينا على أنفسنا، و قد كنّا أغنياء عن إهاجة أبي وائل، ثم كتب إليه بالأمان، و سوّغه المال، و كتب إليه: صر إلينا فلا ذنب لك، لأنا نحن كنا سبب فعلك بتحريكنا إياك و تحريضنا؛ فرجع و لم يزل معه يمتدحه، حتى مات.
ص: 73
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني محمد بن موسى، قال: حدّثني الحسن بن إسماعيل، عن ابن الحفصيّ ، قال: قال يزيد بن مزيد:
وجّه إليّ الرشيد في وقت يرتاب فيه البريء، فلمّا مثلت بين يديه قال: يا يزيد، من الّذي يقول:
و من يفتقر منّا يعش بحسامه *** و من يفتقر من سائر النّاس يسأل
فقلت له: و الّذي شرّفك و أكرمك بالخلافة ما أعرفه، قال: فمن الّذي يقول:
و إن يك جدّ القوم فهر بن مالك *** فجدّي لجيم قرم بكر بن وائل
قلت: لا و الّذي أكرمك و شرّفك يا أمير المؤمنين ما أعرفه، قال: و الّذي كرّمني و شرّفني إنك لتعرفه، أ تظن يا يزيد أني إذا أوطأتك بساطي و شرّفتك بصنيعتي أني أحتملك على هذا؟ أو تظن أني لا أراعي أمورك و أتقصّاها، و تحسب أنه يخفى عليّ شيء منها؟ و اللّه إن عيوني لعليك في خلواتك و مشاهدك، هذا جلف من أجلاف ربيعة عدا طوره و ألحق قريشا بربيعة فأتني به. فانصرفت و سألت عن قائل الشعر، فقيل لي: هو بكر بن النطاح، و كان أحد أصحابي، فدعوته و أعلمته ما كان من الرشيد، فأمرت له بألفي درهم، و أسقطت اسمه من الديوان، و أمرته ألا يظهر ما دام الرّشيد حيّا، فما ظهر حتى مات الرشيد، فلما مات ظهر، فألحقت اسمه و زدت في عطائه(1).
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثني محمد بن حمزة العلويّ ، قال: حدّثني أبو غسّان دماذ، قال:
حضرت بكر بن النّطّاح الحنفيّ في منزل بعض الحنفيّين، و كانت للحنفيّ جارية يقال لها رامشنة، فقال فيها بكر بن النطاح:
حيّتك بالرّامشن رامشنة *** أحسن من رامشنة الآس
جارية لم يقتسم بضعها *** و لم تبت(2) في بيت نخّاس
أفسدت إنسانا على أهله *** يا مفسد النّاس على النّاس
/و قال فيها:
أكذّب طرفي عنك و الطّرف صادق *** و أسمع أذني منك ما ليس تسمع
و لم أسكن الأرض التي تسكنينها *** لكي لا يقولوا صابر ليس يجزع
فلا كبدي تبلى و لا لك رحمة *** و لا عنك إقصار و لا فيك مطمع
لقيت أمورا فيك لم ألق مثلها *** و أعظم منها منك ما أتوقّع
فلا تسأليني في هواك زيادة *** فأيسره يجزي و أدناه يقنع
ص: 74
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، عن عليّ بن الصّباح - و أظنه مرسلا و أن بينه و بينه ابن أبي سعد أو غيره، لأنه لم يسمع من عليّ بن الصبّاح - قال: حدّثني أبو الحسين الراوية، قال لي المأمون:
أنشدني أشجع بيت و أعفّه و أكرمه من شعر المحدثين، فأنشدته:
و من يفتقر منّا يعش بحسامه *** و من يفتقر من سائر النّاس يسأل
و إنّا لنلهو بالسّيوف كما لهت *** عروس بعقد أو سخاب(1) قرنفل
/فقال: ويحك! من يقول هذا؟ فقلت: بكر بن النطّاح، فقال: أحسن و اللّه، و لكنه قد كذب في قوله، فما باله يسأل أبا دلف و يمتدحه و ينتجعه! هلاّ أكل خبزه بسيفه كما قال!.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني أبو الحسن الكسكريّ (2)، قال:
بلغني أن أبا دلف لحق أكرادا قطعوا الطّريق في عمله، و قد أردف منهم فارس رفيقا له خلفه، فطعنهما جميعا فأنفذهما، فتحدّث الناس بأنه نظم(3) بطعنة واحدة فارسين على فرس، فلما قدم من وجهه دخل إليه بكر بن النّطّاح فأنشده:
قالوا: و ينظم فارسين بطعنة *** يوم اللّقاء و لا يراه جليلا
لا تعجبوا فلو أنّ طول قناته *** ميل إذا نظم الفوارس ميلا(4)
قال: فأمر له أبو دلف بعشرة آلاف درهم، فقال بكر فيه:
له راحة لو أنّ معشار جودها *** على البرّ كان البرّ أندى من البحر
و لو أنّ خلق اللّه في جسم فارس *** و بارزه كان الخليّ من العمر
أبا دلف بوركت في كل بلدة *** كما بوركت في شهرها ليلة القدر
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، و عيسى بن الحسين، قالا: حدّثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدّثني أبو زائدة، قال:
/كان بكر بن النّطّاح الحنفيّ يتعشّق غلاما نصرانيّا و يجنّ به، و فيه يقول:
ص: 75
يا من إذا درس الإنجيل كان له *** قلب التّقيّ عن القرآن منصرفا
إنّي رأيتك في نومي تعانقني *** كما تعانق لام الكاتب الألفا
أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ ، قال: حدّثني الحسن بن عبد الرحمن/الرّبعيّ (1)، قال:
كان بكر بن النّطّاح يأتي أبا دلف في كل سنة، فيقول له: إلى جنب أرضي أرض تباع و ليس يحضرني ثمنها، فيأمر له بخمسة آلاف درهم و يعطيه ألفا لنفقته(2)، فجاءه في بعض السنين فقال له مثل ذلك، فقال له أبو دلف:
ما تفنى هذه الأرضون الّتي إليها جانب ضيعتك(3)! فغضب و انصرف عنه، و قال:
يا نفس لا تجزعي من التّلف *** فإن في اللّه أعظم الخلف
إن تقنعي باليسير تغتبطي *** و يغنك اللّه عن أبي دلف
قال: و كان بكر بن النّطّاح يأتي قرّة بن محرز الحنفيّ بكرمان فيعطيه عشرة آلاف درهم، و يجري عليه في كل شهر يقيم عنده ألف درهم، فاجتاز به قرّة يوما و هو ملازم في السّوق و غرماؤه يطالبونه بدين، فقال له: ويحك! أ ما يكفيك ما أعطيك حتى تستدين و تلازم في السّوق! فغضب عليه و انصرف عنه و أنشأ يقول:
ألا يا قرّ لا تك سامريّا(4) *** فتترك من يزورك في جهاد
أتعجب أن رأيت عليّ دينا *** و قد أودى الطّريف مع التّلاد
ملأت يدي من الدّنيا مرارا *** فما طمع العواذل في اقتصادي
و لا وجبت عليّ زكاة مال *** و هل تجب الزّكاة على جواد!
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:
كنت يوما عند عليّ بن هشام، و عنده جماعة فيهم عمارة بن عقيل، فحدّثته أنّ بكر بن النطّاح دخل إلى أبي دلف و أنا عنده، فقال لي أبو دلف: يا أبا محمد أنشدني مديحا فاخرا تستطرفه، فبدر إليه بكر و قال: أنا أنشدك أيها الأمير بيتين قلتهما فيك في طريقي هذا إليك و أحكّمك، فقال: هات، فإن شهد لك أبو محمد رضينا، فأنشده:
إذا كان الشّتاء فأنت شمس *** و إن حضر المصيف(5) فأنت ظلّ
و ما تدري إذا أعطيت مالا *** أ تكثر في سماحك أم تقل
ص: 76
فقلت له: أحسن و اللّه ما شاء و وجبت مكافأته، فقال: أما إذ رضيت فأعطوه عشرة آلاف درهم، فحملت إليه، و انصرفت إلى منزلي، فإذا أنا بعشرين ألفا قد سبقت إليّ ، وجّه بها أبو دلف، قال: فقال عمارة لعليّ بن هشام: فقد قلت أنا في قريب من هذه القصّة:
و لا عيب فيهم غير أنّ أكفّهم *** لأموالهم مثل السّنين الحواطم(1)
و أنهم لا يورثون بذيهم *** - و إن ورثوا خيرا - كنوز الدّراهم
أخبرني عمّي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة، قال:
كان معقل بن عيسى صديقا لبكر بن النطّاح، و كان بكر فاتكا صعلوكا، فكان لا يزال قد أحدث حادثة في عمل أبي دلف، أو جنى جناية، فيهمّ به فيقوم دونه معقل حتى يتخلّصه، فمات معقل فقال بكر بن النطاح يرثيه بقوله:
/و حدّث عنه بعض من قال إنّه *** رأت عينه فيما ترى عين حالم(2)
/كأنّ الّذي يبكي على قبر معقل(3)*** و لم يره يبكي على قبر حاتم
و لا قبر كعب إذ يجود بنفسه *** و لا قبر حلف الجود قيس بن عاصم
فأيقنت أنّ اللّه فضّل معقلا *** على كل مذكور بفضل المكارم
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا الكرانيّ ، قال: حدّثني العمريّ ، قال:
كان بكر بن النّطاح الحنفيّ أبو وائل بخيلا، فدخل عليه عبّاد بن الممزّق يوما، فقدّم إليه خبزا يابسا قليلا بلا أدم، و رفعه من بين يديه قبل أن يشبع، فقال عبّاد يهجوه:
من يشتري مني أبا وائل *** بكر بن نطّاح بفلسين ؟
كأنما الآكل من خبزه *** يأكله من شحمة العين
قال: و كان عبّاد هذا هجّاء ملعونا، و هو القائل:
أنا الممزّق أعراض اللّئام كما *** كان الممزّق أعراض اللّئام أبي
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا أبو هفّان، قال:
كان بكر بن النّطّاح قصد مالك بن طوق فمدحه، فلم يرض ثوابه، فخرج من عنده و قال يهجوه:
فليت جدا مالك كلّه *** و ما يرتجى منه من مطلب
أصبت بأضعاف أضعافه *** و لم أنتجعه و لم أرغب
ص: 77
أسأت اختياري منك الثّواب(1) *** لي الذّنب جهلا و لم تذنب
/و كتبها في رقعة و بعث بها إليه، فلما قرأها وجّه جماعة من أصحابه في طلبه، و قال لهم: الويل لكم إن فاتكم بكر بن النّطّاح.
و لا بد أن تنكفئوا على أثره(2) و لو صار إلى الجبل، فلحقوه فردّوه إليه، فلما دخل داره و نظر إليه قام فتلقاه و قال: يا أخي، عجلت علينا و ما كنّا نقتصر بك على ما سلف و إنما بعثنا إليك بنفقة، و عوّلنا بك على ما يتلوها، و اعتذر كلّ واحد منهما إلى صاحبه، ثم أعطاه حتى أرضاه، فقال بكر بن النّطّاح يمدحه:
أقول لمرتاد ندى غير مالك *** كفى بذل هذا الخلق بعض عداته
فتى جاد بالأموال في كلّ جانب *** و أنهبها(3) في عوده و بداته
فلو خذلت أمواله بذل(4) كفّه *** لقاسم من يرجوه شطر حياته
و لو لم يجد في العمر قسمة ماله(5) *** و جاز له الإعطاء من حسناته
لجاد بها من غير كفر بربّه *** و شاركهم في صومه و صلاته
فوصله صلة ثانية لهذه الأبيات، و انصرف عنه راضيا.
هكذا ذكر أبو هفّان في خبره و أحسبه غلطا، لأن أكثر مدائح بكر بن النّطّاح في مالك بن عليّ الخزاعيّ - و كان يتولّى طريق خراسان - و صار إليه بكر بن النّطاح بعد وفاة أبي دلف و مدحه، فأحسن تقبّله و جعله في جنده، و أسنى له الرّزق، فكان معه، إلى أن قتله الشّراة بحلوان، فرثاه بكر بعدّة قصائد هي من غرر شعره و عيونه.
فحدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، عن أبي وائلة السّدوسيّ ، قال:
عاثت الشّراة بالجبل عيثا شديدا، و قتلوا الرجال و النساء و الصّبيان، /فخرج إليهم مالك بن عليّ الخزاعيّ و قد وردوا حلوان، فقاتلهم قتالا شديدا فهزمهم عنها، و ما زال يتبعهم حتى بلغ بهم قرية يقال لها: حدّان(6)، فقاتلوه عندها قتالا شديدا، و ثبت الفريقان إلى الليل حتى حجز بينهم، و أصابت مالكا ضربة على رأسه أثبتته(7)، و علم أنه ميّت، فأمر بردّه إلى حلوان، فما بلغها حتى مات، فدفن على باب حلوان، و بنيت لقبره قبّة على قارعة الطريق، و كان معه بكر بن النّطّاح يومئذ، فأبلى بلاء حسنا، و قال بكر يرثيه:
ص: 78
يا عين جودي بالدّموع السّجام *** على الأمير اليمنيّ الهمام
على فتى الدّنيا و صنديدها *** و فارس الدّين و سيف الإمام
لا تدخري الدمع على هالك *** أيتم إذ أودى جميع الأنام
طاب ثرى حلوان إذ ضمّنت *** عظامه، سقيا لها من عظام
أغلقت الخيرات أبوابها *** و امتنعت بعدك يا بن الكرام
و أصبحت خيلك بعد الوجا *** و الغزو تشكو منك طول الجمام
ارحل بنا نقرب إلى مالك *** كيما نحيّي قبره بالسّلام
كان لأهل الأرض في كفّه *** غنى عن البحر و صوب الغمام
و كان في الصّبح كشمس الضّحى *** و كان في الليل كبدر الظّلام(1)
وسائل يعجب من موته *** و قد رآه و هو صعب المرام
/قلت له عهدي به معلما *** يضربهم عند ارتفاع القتام
و الحرب من طاولها(2) لم يكد *** يفلت من وقع صقيل حسام
لم ينظر الدّهر لنا إذ عدا *** على ربيع النّاس في كل عام
لن يستقيلوا أبدا فقده *** ما هيّج الشّجو دعاء الحمام
قال: و قال أيضا يرثيه:
أيّ امرئ خضب الخوارج ثوبه(3) *** بدم عشيّة راح من حلوان
يا حفرة ضمّت محاسن مالك *** ما فيك من كرم و من إحسان
لهفي على البطل المعرّض خدّه *** و جبينه لأسنة الفرسان
خرق الكتيبة معلما متكنّبا (9) *** و المرهفات عليه كالنّيران
ذهبت بشاشة كلّ شيء بعده *** فالأرض موحشة بلا عمران
هدم الشّراة غداة مصرع مالك *** شرف العلا و مكارم البنيان
قتلوا فتى العرب الّذي كانت به *** تقوى على اللّزبات(4) في الأزمان
حرموا معدّا ما لديه و أوقعوا *** عصبيّة في قلب كلّ يماني
تركوه في رهج العجاج كأنه(5) *** أسد يصول بساعد و بنان
هوت الجدود عن السّعود لفقده *** و تمسّكت بالنّحس و الدّبران
/لا يبعدنّ أخو خزاعة إذ ثوى *** مستشهدا في طاعة الرّحمن
/عزّ الغواة به و ذلّت أمة *** محبوّة بحقائق الإيمان
ص: 79
و بكاه مصحفه و صدر قناته(1) *** و المسلمون و دولة السّلطان
و غدت تعقّر خيله و تقسّمت *** أدراعه و سوابغ الأبدان
أ فتحمد الدّنيا و قد ذهبت *** بمن كان المجير لنا من الحدثان!
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: أنشدني أبو غسّان دماذ لبكر بن النّطّاح يتشوّق بغداد و هو بالجبل يومئذ:
نسيم المدام و برد السّحر *** هما هيّجا الشّوق حتى ظهر
تقول: اجتنب دارنا بالنّهار *** و زرنا إذا غاب ضوء القمر
فإنّ لنا حرسا إن رأوك *** ندمت و أعطوا عليك الظّفر
و كم صنع اللّه من مرّة *** عليهم و قد أمروا بالحذر
سقى اللّه بغداد من بلدة *** و ساكن بغداد صوب المطر
و نبّئت أنّ جواري القصو *** ر صيّرن ذكري حديث السّمر
ألا ربّ سائلة بالعرا *** ق عنّي و أخرى تطيل الذّكر(2)
تقول: عهدنا أبا وائل *** كظبي الفلاة المليح الحور
ليالي كنت أزور القيان *** كأنّ ثيابي بهار الشّجر(3)
حدّثني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال:
كان بكر بن النّطّاح يهوى جارية من جواري القيان و تهواه، و كانت لبعض الهاشميّين، يقال لها درّة، و هو يذكرها في شعره كثيرا، و كان يجتمع معها في منزل/رجل من الجند من أصحاب أبي دلف يقال له: الفرز، فسعى به إلى مولاها، و أعلمه أنه قد أفسدها و واطأها على أن تهرب معه إلى الجبل، فمنعه من لقائها و حجبه عنها، إلى أن خرج إلى الكرج مع أبي دلف، فقال بكر بن النّطّاح في ذلك:
أهل دار بين الرّصافة و الجس *** ر أطالوا غيظي بطول الصّدود
عذّبوني ببعدهم و ابتلوا قلب *** ي بحزنين(4): طارف و تليد
ما تهبّ الشّمال إلا تنفّ *** ست و قال الفؤاد للعين: جودي
قلّ عنهم صبري و لم يرحموني *** فتحيّرت كالطّريد الشّريد
وكلتني الأيام فيك إلى نفس *** ي فأعييت و انتهى مجهود
و قال فيها أيضا و فيه غناء من الرمل الطنبوريّ :
ص: 80
العين تبدي الحبّ و البغضا *** و تظهر الإبرام و النّقضا
درّة ما أنصفتني في الهوى *** و لا رحمت الجسد المنضى(1)
مرّت بنا في قرطق(2) أخضر *** يعشق منها بعضها بعضا
غضبي و لا و اللّه يا أهلها *** لا أشرب البارد أو ترضى
/كيف أطاعتكم بهجري و قد *** جعلت خدّيّ لها أرضا!
و قال فيها أيضا و فيه رمل طنبوري:
صدّرت فأمسى لقاؤها حلما(3) *** و استبدل الطرف بالدّموع دما
و سلّطت حبّها على كبدي *** فأبدلتني بصحّة سقما
/و صرت فردا أبكي لفرقتها *** و أقرع السّنّ بعدها ندما
شقّ عليها قول الوشاة لها: *** أصبحت في أمر ذا الفتى علما
لو لا شقائي و ما بليت به *** من هجرها ما استثرت ما اكتتما(4)
كم حاجة في الكتاب بحت بها *** أبكيت منها القرطاس و القلما
و قال فيها أيضا، و فيه رمل لأبي الحسن أحمد بن جعفر جحظة:
بعدت عني فتغيّرت لي *** و ليس عندي لك تغيير
فجدّدي ما رثّ من وصلنا *** و كلّ ذنب لك مغفور
أطيّب النّفس بكتمان ما *** سارت به من غدرك العير
وعدك يا سيّدتي غرّني *** منك و من يعشق مغرور
يحزنني علمي بنفسي إذا *** قال خليلي أنت مهجور
يا ليت من زيّن هذا لها *** جارت لنا فيه المقادير
ساقي النّدامى سقّها صاحبي(5) *** فإنني ويحك معذور
أ أشرب الخمر على هجرها *** إني إذا بالهجر مسرور!
و فيها يقول و قد خرج مع أبي دلف إلى أصبهان:
يا ظبية السّيب التي أحببتها *** و منحتها لطفي و لين جناحي
عيناي باكيتان بعدك للّذي *** أودعت قلبي من ندوب جراح
سقيا لأحمد من أخ و لقاسم *** فقدا غدوّي لاهيا و رواحي
ص: 81
/و تردّدي من بيت فرز آمنا *** من قرب كلّ مخالف و ملاحي
أيام تغبطني الملوك و لا أرى *** أحدا له كتدلّلي و مراحي
تصف القيان إذا خلون مجانتي *** و يصفن للشّرب الكرام سماحي
و مما يغنّى فيه من شعر بكر بن النّطّاح في هذه الجارية قوله:
هل يبتلى أحد بمثل بليّتي *** أم ليس لي في العالمين ضريب ؟
قالت عنان و أبصرتني شاحبا: *** يا بكر مالك قد علاك شحوب ؟
فأجبتها: يا أخت لم يلق الّذي *** لاقيت إلا المبتلى أيّوب
قد كنت أسمع بالهوى فأظنّه *** شيئا يلذّ لأهله و يطيب
حتى ابتليت بحلوه و بمرّه *** فالحلو منه للقلوب مذيب
و المرّ يعجز منطقي عن وصفه *** للمرّ وصف يا عنان عجيب
/فأنا الشّقيّ بحلوه و بمرّه *** و أنا المعنّى الهائم المكروب
يا درّ حالفك الجمال فما له *** في وجه إنسان سواك نصيب
كلّ الوجوه تشابهت و بهرتها *** حسنا فوجهك في الوجوه غريب
و الشمس يغرب في الحجاب ضياؤها *** عنّا و يشرق وجهك المحجوب
و مما يغنّى فيه من شعره فيها أيضا:
غضب الحبيب عليّ في حبّي له *** نفسي الفداء لمذنب غضبان
ما لي بما ذكر الرّسول يدان بل *** إن تمّ رأيك ذا خلعت عناني
/يا من يتوق إلى حبيب مذنب *** طاوعته فجزاك بالعصيان
هلاّ انتحرت فكنت أول هالك *** إن لم يكن لك بالصّدود يدان
كنّا و كنتم كالبنان و كفّها *** فالكفّ مفردة بغير بنان
خلق السّرور لمعشر خلقوا له *** و خلقت للعبرات و الأحزان
جلب الخيل من تهامة حتّى *** بلغت خيله(1) قصور زرنج
حيث لم تأت قبله خيل ذي الأكتاف يوجفن(2) بين قفّ و مرج عروضه من الخفيف. الشعر لعبيد اللّه بن قيس الرّقيّات، و الغناء ليونس الكاتب ماخوري بالبنصر، و فيه لمالك ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق.
ص: 83
و هذا الشعر يقوله عبيد اللّه بن قيس لمصعب بن الزّبير لما حشد للخروج عن الكوفة لمحاربة عبد الملك بن مروان.
و كان السبب في ذلك، فيما أجاز لنا الحرميّ بن أبي العلاء روايته عنه، عن الزّبير بن بكار، عن المدائنيّ ، قال:
لما كانت سنة اثنتين و سبعين، استشار عبد الملك بن مروان عبد الرحمن بن الحكم في المسير إلى العراق و مناجزة مصعب، فقال: يا أمير المؤمنين، قد واليت بين عامين تغزو فيهما و قد خسرت خيلك و رجالك، و عامك هذا عام حارد فأرح نفسك و رجلك(1) ثم ترى رأيك. فقال: إني أبادر ثلاثة أشياء، و هي أنّ الشام أرض بها المال قليل فأخاف أن ينفد ما عندي، و أشراف أهل العراق قد كاتبوني يدعونني إلى أنفسهم، و ثلاثة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قد كبروا و نفدت أعمارهم، و أنا أبادر بهم الموت أحبّ أن يحضروا معي.
ثم دعا يحيى بن الحكم - و كان يقول: من أراد أمرا فليشاور يحيى بن الحكم فإذا أشار عليه بأمر فليعمل بخلافه. فقال: ما ترى في المسير إلى العراق ؟ قال: أرى أن ترضى بالشام و تقيم بها و تدع مصعبا/بالعراق، فلعن اللّه العراق! فضحك عبد الملك.
و دعا عبد اللّه بن خالد بن أسيد فشاوره، فقال: يا أمير المؤمنين قد غزوت مرة فنصرك اللّه، ثم غزوت ثانية فزادك اللّه بها عزّا، فأقام عامك هذا.
فقال لمحمد بن مروان: ما ترى ؟ قال: أرجو أن ينصرك اللّه أقمت أم غزوت، فشمّر فإن اللّه ناصرك. فأمر الناس فاستعدوا للمسير، فلما أجمع عليه قالت عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجته: يا أمير المؤمنين، وجّه الجنود و أقم، فليس الرأي أن يباشر/الخليفة الحرب بنفسه، فقال: لو وجّهت أهل الشام كلّهم فعلم مصعب أنّي لست معهم لهلك الجيش كله، ثم تمثل:
و مستخبر عنّا يريد بنا الرّدى *** و مستخبرات و العيون سواكب
ثم قدّم محمد بن مروان و معه عبد اللّه بن خالد بن أسيد و بشر بن مروان، و نادى مناديه: إن أمير المؤمنين قد استعمل عليكم سيّد الناس محمد بن مروان. و بلغ مصعب بن الزبير مسير عبد الملك، فأراد الخروج فأبى عليه أهل
ص: 84
البصرة و قالوا: عدوّنا مطلّ علينا - يعنون الخوارج - فأرسل إليهم بالمهلّب و هو بالموصل، و كان عامله عليها، فولاّه قتال الخوارج، و خرج مصعب فقال بعض الشعراء:
أ كلّ عام لك باجميرا *** تغزو بنا و لا تفيد خيرا(1)
قال: و كان مصعب كثيرا ما يخرج إلى باجميرا يريد الشام ثم يرجع، فأقبل عبد الملك حتى نزل الأخنونيّة(2)و نزل مصعب بمسكن إلى جنب أوانا(3) و خندق خندقا ثم تحوّل و نزل دير الجاثليق و هو بمسكن، و بين العسكرين ثلاثة فراسخ - و يقال فرسخان - فقدّم عبد الملك محمدا و بشرا أخويه و كلّ واحد منهما على جيش و الأمير محمد، و قدّم مصعب إبراهيم بن الأشتر، ثم كتب عبد الملك إلى أشراف أهل الكوفة و البصرة، يدعوهم إلى نفسه و يمينهم، فأجابوه و شرطوا عليه شروطا، و سألوه ولايات، و سأله ولاية أصبهان أربعون رجلا منهم، فقال عبد الملك لمن حضره: ويحكم! ما أصبهان هذه! تعجّبا ممن يطلبها(4)، و كتب إلى إبراهيم بن الأشتر: لك ولاية ما سقى الفرات إن تبعتني، فجاء إبراهيم بالكتاب إلى مصعب فقال: هذا كتاب عبد الملك، و لم يخصصني بهذا دون غيري من نظرائي، ثم قال: فأطعني فيهم، قال: أصنع ما ذا؟ قال: تدعوهم/فتضرب أعناقهم. قال: أقتلهم على ظن ظننته! قال: فأوقرهم حديدا و ابعث بهم إلى أرض المدائن(5) حتى تنقضي الحرب، قال: إذا تفسد قلوب عشائرهم، و يقول الناس: عبث مصعب بأصحابه. قال: فإن لم تفعل فلا تمدّني بهم فإنهم كالمومسة تريد كل يوم خليلا، و هم يريدون كل يوم أميرا.
أرسل عبد الملك إلى مصعب رجلا يدعوه إلى أن يجعل الأمر شورى في الخلافة، فأبى مصعب، فقدّم عبد الملك أخاه محمدا ثم قال: اللهم انصر محمدا - ثلاثا - ثم قال: اللهم انصر أصلحنا و خيرنا لهذه الأمة. قال:
و قدّم مصعب إبراهيم بن الأشتر، فالتقت المقدمتان و بين عسكر مصعب و عسكر ابن الأشتر فرسخ، و دنا عبد الملك حتى قرب من عسكر محمد، فتناوشوا، فقتل رجل على مقدمة محمد/يقال له فراس، و قتل صاحب لواء بشر و كان يقال له أسيد، فأرسل محمد إلى عبد الملك أنّ بشرا قد ضيّع لواءه. فصرف(6) عبد الملك الأمر كله إلى محمد، و كفّ الناس و تواقفوا، و جعل أصحاب ابن الأشتر يهمّون بالحرب و محمد بن مروان يكف أصحابه، فأرسل عبد الملك إلى محمد: ناجزهم، فأبى، فأوفد(7) إليه رسولا آخر و شتمه، فأمر محمد رجلا فقال له: قف خلفي في ناس من أصحابك فلا تدعنّ أحدا يأتيني من قبل عبد الملك، و كان قد دبّر تدبيرا سديدا في تأخير المناجزة إلى وقت رآه، فكره أن يفسد عبد الملك تدبيره عليه، فوجّه إليه عبد الملك عبد اللّه بن خالد بن أسيد، فلما رأوه أرسلوه إلى محمد بن مروان: هذا عبد اللّه بن خالد بن أسيد، فقال: ردّوه بأشد ممّا رددتم من جاء قبله، فلما قرب المساء أمر
ص: 85
محمد بن مروان أصحابه بالحرب، و قال: حرّكوهم قليلا، فتهايج الناس، و وجه مصعب عتّاب(1) بن ورقاء الرّياحيّ يعجّز إبراهيم، فقال له: قد قلت له: لا تمدّني بأحد من أهل العراق فلم يقبل، و اقتتلوا، و أرسل/إبراهيم بن الأشتر إلى أصحابه - بحضرة الرسول ليرى خلاف أهل العراق عليه في رأيه - ألا تنصرفوا عن الحرب حتى ينصرف أهل الشام عنكم، فقالوا: و لم لا ننصرف ؟ فانصرفوا و انهزم الناس حتى أتوا مصعبا. و صبر إبراهيم بن الأشتر فقاتل حتى قتل، فلما أصبحوا أمر محمد بن مروان رجلا فقال: انطلق إلى عسكر مصعب فانظر كيف تراهم بعد قتل ابن الأشتر، قال: لا أعرف موضع عسكرهم، فقال له إبراهيم بن عديّ الكنانيّ : انطلق فإذا رأيت النخل فاجعله منك موضع سيفك، فمضى الرجل حتى أتى عسكر مصعب، ثم رجع إلى محمد فقال: رأيتهم منكسرين. و أصبح معصب فدنا منه، و دنا محمد بن مروان حتى التقوا، فترك قوم من أصحاب مصعب مصعبا و أتوا محمد بن مروان، فدنا إلى مصعب ثم ناداه: فداك أبي و أمي، إن القوم خاذلوك و لك الأمان، فأبى قبول ذلك، فدعا محمد بن مروان ابنه عيسى بن مصعب، فقال له أبوه: انظر ما يريد محمد، فدنا منه فقال له: إني لكم ناصح؛ إن القوم خاذلوكم و لك و لأبيك الأمان، و ناشده. فرجع إلى أبيه فأخبره، فقال: إني أظن القوم سيفون، فإن أحببت أن تأتيهم فأتهم، فقال: و اللّه لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك و رغبت بنفسي عنك، قال: فتقدم حتى أحتسبك، فتقدم و تقدم ناس معه فقتل و قتلوا، و ترك أهل العراق مصعبا حتى بقي في سبعة. و جاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى، فشد عليه مصعب فقتله، ثم شد على الناس فانفرجوا، ثم رجع فقعد على مرفقة ديباج، ثم جعل يقوم عنها و يحمل على أهل الشام فيفرجون عنه، ثم يرجع فيقعد على المرفقة، حتى فعل ذلك مرارا، و أتاه عبيد اللّه بن زياد بن ظبيان فدعاه إلى المبارزة، فقال له: اعزب يا كلب، و شد عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها و جرحه، فرجع عبيد اللّه فعصّب رأسه، و جاء ابن أبي فروة كاتب مصعب فقال له: جعلت فداك، قد تركك القوم و عندي خيل مضمّرة فاركبها و انج بنفسك، فدفع في صدره و قال: ليس أخوك بالعبد.
و رجع ابن ظبيان إلى مصعب، فحمل عليه، و زرق(2)/زائدة بن قدامة مصعبا و نادى: /يا لثارات المختار! فصرعه، و قال عبيد اللّه لغلام له(3): احتزّ رأسه، فنزل فاحتز رأسه، فحمله إلى عبد الملك، فيقال: إنه لما وضعه بين يديه سجد. قال ابن ظبيان: فهمت و اللّه أن أقتله فأكون أفتك العرب، قتلت ملكين من قريش في يوم واحد، ثم وجدت نفس تنازعني إلى الحياة فأمسكت.
قال: و قال يزيد بن الرّقاع العامليّ أخو عديّ بن الرقاع و كان شاعر أهل الشام:
نحن قتلنا ابن الحواريّ مصعبا *** أخا أسد و المذحجيّ اليمانيا
يعني ابن الأشتر، قال:
و مرّت عقاب الموت منا بمسلم *** فأهوت له ظفرا(4) فأصبح ثاويا
ص: 86
قال الزبير: و يروى هذا الشعر للبعيث اليشكريّ ، و مسلم الّذي عناه هو مسلم بن عمرو الباهلي.
حدثنا محمد بن العباس اليزيديّ ، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا محمد بن الحكم، عن عوانة، قال:
كان مسلم بن عمرو الباهليّ على ميسرة إبراهيم بن الأشتر، فطعن و سقط فارتثّ (1)، فلما قتل مصعب أرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية أن يطلب له الأمان من عبد الملك، فأرسل إليه: ما تصنع بالأمان و أنت بالموت ؟ قال:
ليسلم لي مالي و يأمن ولدي. قال: فحمل على سرير فأدخل على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك لأهل الشام: هذا أكفر الناس لمعروف، ويحك أ كفرت معروف يزيد بن معاوية عندك ؟ فقال له خالد: تؤمّنه يا أمير المؤمنين، فأمّنه، ثم حمل فلم يبرح الصّحن حتى مات، فقال الشاعر:
نحن قتلنا ابن الحواريّ مصعبا *** أخا أسد و المذحجيّ اليمانيا
/حدثنا محمد بن العباس، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائنيّ ، قال:
قال رجل لعبيد اللّه بن زياد بن ظبيان: بما ذا تحتجّ عند اللّه عز و جل من قتلك لمصعب ؟ قال: إن تركت أحتجّ رجوت أن أكون أخطب من صعصعة بن صوحان.
و قال مصعب الزبيريّ في خبره: قال الماجشون:
فلما كان يوم قتل مصعب دخل إلى سكينة بنت الحسين عليهما السّلام فنزع عنه ثيابه، و لبس غلالة(2) و توشح بثوب، و أخذ سيفه، فعلمت سكينة أنه لا يريد أن يرجع فصاحت من خلفه: وا حزناه(3) عليك يا مصعب، فالتفت إليها و قد كانت تخفى ما في قلبها منه، أو كلّ هذا لي في قلبك! فقالت: إي و اللّه، و ما كنت أخفي أكثر، فقال:
لو كنت أعلم أن هذا كله لي عندك لكانت لي و لك حال، ثم خرج و لم يرجع.
قال مصعب: و حدثني مصعب بن عثمان: أن مصعب بن الزبير لما قدمت عليه سكينة أعطى أخاها عليّ بن الحسين عليهم السّلام - و هو كان حملها إليه - أربعين ألف دينار.
قال مصعب: و حدثني معاوية بن بكر الباهليّ قال:
قالت سكينة: دخلت على مصعب و أنا أحسن من النار الموقدة. قال: و كانت قد ولدت منه بنتا، فقال لها:
سميها زبراء، فقالت: بل أسميها باسم بعض أمهاتي، فسمتها الرّباب.
قال: فحدثني محمد بن سلام، عن شعيب بن صخر، عن أمه سعدة بنت عبد اللّه بن سالم، قالت:
لقيت سكينة بنت الحسين بين مكة و منّى فقالت: قفي يا بنت عبد اللّه، ثم كشفت عن ابنتها فإذا هي قد أثقلتها
ص: 87
باللؤلؤ. فقالت: و اللّه ما ألبستها/إياه إلا لتفضحه، قال: فلما/قتل مصعب ولي أمر ماله عروة بن الزبير، فزوّج(1)ابنه عثمان بن عروة ابنة أخيه من سكينة و هي صغيرة فماتت قبل أن تبلغ، فورث عثمان بن عروة منها عشرة آلاف دينار.
قال: و لما دخلت سكينة الكوفة بعد قتل مصعب خطبها عبد الملك فقالت: و اللّه لا يتزوجني بعده قاتله أبدا.
و تزوجت عبد اللّه بن عثمان بن عبد اللّه بن حكيم بن حزام، و دخلت بينها و بينه رملة بنت الزبير أخت مصعب حتى تزوجها خوفا من أن تصير إلى عبد الملك، فولدت منه ابنا فسمته عثمان - و هو الّذي يلقّب بقرين - و ربيحة ابني عبد اللّه بن عثمان، فتزوج ربيحة العباس بن الوليد بن عبد الملك.
ثم مات عبد اللّه بن عثمان عنها فتزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، فقال عبيد اللّه بن قيس الرقيات يرثي مصعبا:
إن الرّزيّة يوم مس *** كن(2) و المصيبة و الفجيعة
يا ابن الحواريّ الّذي *** لم يعده يوم الوقيعه
غدرت به مضر العرا *** ق و أمكنت منه ربيعة(3)
تاللّه(4) لو كانت له *** بالدّير يوم الدير شيعه
لوجدتموه حين يد *** لج لا يعرّس(5) بالمضيعه
غنّاه يونس الكاتب من كتابه، و لحنه خفيف رمل بالوسطى، و فيه لموسى/شهوات خفيف رمل بالبنصر عن حبش، و قيل: بل هو هذا اللحن، و غلط من نسبه إلى موسى.
و قال عديّ بن الرّقاع العامليّ يذكر مقتله:
لعمري لقد أصحرت(6) خيلنا *** بأكناف دجلة للمصعب
يهزّون كلّ طويل القنا *** ة معتدل النّصل و الثّعلب(7)
فداؤك أمّي و أبناؤها *** و إن شئت زدت عليهم(8) أبي
ص: 88
و ما قلتها رهبة إنما *** يحلّ العقاب على المذنب
إذا شئت دافعت مستقتلا(1) *** أزاحم كالجمل الأجرب
فمن يك منّا يبت آمنا *** و من يك من غيرنا يهرب
غنّاه معبد من رواية إسحاق ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.
و قال ابن قيس يرثي مصعبا:
لقد أورث المصرين خزيا و ذلّة *** قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما قاتلت في اللّه بكر بن وائل *** و لا صبرت عند اللّقاء تميم
و لكنه رام القيام و لم يكن *** لها مضريّ يوم ذاك كريم
قال الزبير: و كان مصعب لمّا قدم الكوفة يسأل عن الحسين بن عليّ عليهما السّلام و عن قتله، فجعل عروة بن المغيرة يحدّثه عن ذلك، فقال متمثّلا بقول سليمان بن قتّة:
فإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم *** تأسّوا فسنّوا للكرام التّأسّيا
/قال عروة: فعلمت أن مصعبا لا يفرّ أبدا.
قال الزبير: و قال أبو الحكم بن خلاد بن قرّة السّدوسيّ : حدثني أبي، قال:
لما كان يوم السّبخة حين عسكر الحجاج بإزاء شبيب الشاريّ قال له الناس: لو تنحّيت أيها الأمير عن هذه السّبخة ؟ فقال لهم: ما تنحّوني - و اللّه - إليه أنتن، و هل ترك مصعب لكريم مفرّا؟ ثم تمثّل قول الكلحبة:
إذا المرء لم يغش المكاره أوشكت *** حبال الهوينى بالفتى أن تقطّعا
قال الزبير: و حدّثني المدائنيّ ، عن عوانة و الشّرقيّ بن القطاميّ ، عن أبي جناب، قال: حدّثني شيخ من أهل مكة، قال:
لما أتى عبد اللّه بن الزبير قتل مصعب أضرب عن ذكره أياما حتى تحدثت به إماء مكة في الطريق، ثم صعد المنبر فجلس عليه مليّا لا يتكلم، فنظرت إليه و الكآبة على وجهه، و جبينه يرشح عرقا، فقلت لآخر إلى جنبي: ما له لا يتكلم ؟ أ تراه يهاب المنطق ؟ فو اللّه إنه لخطيب، فما تراه يهاب ؟ قال: أراه يريد أن يذكر قتل مصعب سيّد العرب فهو يفظع لذكره، و غير ملوم(2) فقال: الحمد للّه الّذي له الخلق و الأمر و مالك الدنيا و الآخرة، يعزّ من يشاء و يذلّ
ص: 89
من يشاء، ألا إنه لم يذلّ و اللّه من كان الحق معه و إن كان مفردا ضعيفا، و لم يعزّ من كان الباطل معه، و إن كان في العدّة و العدد و الكثرة، ثم قال: إنه قد أتانا خبر من العراق بلد الغدر و الشقاق فساءنا و سرّنا، أتانا أن مصعبا قتل رحمة اللّه عليه و مغفرته، فأما الّذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعد ذو الرأي و الدين إلى جميل الصبر. و أما الّذي سرّنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة له و أن اللّه عز و جل جاعل لنا و له ذلك خيرة إن شاء اللّه تعالى. إن أهل العراق أسلموه و باعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه و أخسره، أسلموه إسلام/النّعم المخطّم(1) فقتل، و لئن قتل لقد قتل أبوه و عمّه و أخوه و كانوا الخيار الصالحين، إنا و اللّه ما نموت حتف أنوفنا، ما نموت إلا قتلا، قعصا بين قصد(2) الرّماح و تحت ظلال السّيوف و ليس كما يموت بنو مروان، و اللّه ما قتل رجل منهم في جاهلية و لا إسلام قط، و إنما الدنيا عارية من الملك القهار، الّذي لا يزول سلطانه، و لا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا عليّ لا آخذها أخذ الأشر البطر، و إن تدبر عني لا أبك عليها بكاء الخرف المهتر. ثم نزل.
و قال رجل من بني أسد بن عبد العزّى يرثي مصعبا:
لعمرك إنّ الموت منا لمولع *** بكلّ فتى رحب الذّراع أريب
فإن يك أمسى مصعب نال حتفه *** لقد كان صلب العود غير هيوب(3)
جميل المحيّا يوهن القرن غربه *** و إن عضّه دهر فغير رهوب
أتاه حمام الموت وسط جنوده *** فطاروا شلالا(4) و استقى بذنوب
و لو صبروا نالوا حبا(5) و كرامة *** و لكنّهم ولّوا بغير قلوب
قال: و قال عبد الملك يوما لجلسائه: من أشجع الناس ؟ فأكثروا في هذا المعنى، فقال: أشجع الناس مصعب بن الزبير، جمع بين عائشة بنت طلحة و سكينة بنت الحسين و أمة(6) الحميد بنت عبد اللّه بن عاصم، و ولي العراقين، ثم زحف إلى الحرب، فبذلت له الأمان/و الحباء و الولاية و العفو عمّا خلص في يده، فأبى قبول ذلك، و اطّرح كل/ما كان مشغوفا(7) به من ماله و أهله وراء ظهره، و أقبل بسيفه قرما(8) يقاتل و ما بقي معه إلا سبعة نفر حتى قتل كريما.
ص: 90
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال:
لمّا ولي مصعب بن الزبير العراق أقرّ عبد العزيز بن عبد اللّه بن عامر على سجستان و أمدّه بخيل، فقال ابن قيس الرّقيّات:
ليت شعري أ أوّل الهرج هذا *** أم زمان من فتنة غير هرج ؟
إن يعش مصعب فنحن بخير *** قد أتانا من عيشنا ما نرجّي
أعطي النّصر و المهابة في *** الأعداء حتى أتوه من كل فجّ
حيث لم تأت قبله خيل ذي *** الأكتاف يوجفن بين قفّ و مرج
ملك يطعم الطّعام و يسقى *** لبن البخت في عساس الخلنج
قال الزبير: حدّثني عمّي مصعب: أن عبيد اللّه بن قيس كان عند عبد الملك، فأقبل غلمان له معهم عساس خلنج فيها لبن البخت، فقال عبد الملك: يا بن قيس، أين هذا من عساس مصعب التي تقول فيها:
ملك يطعم الطعام و يسقي *** لبن البخت في عساس الخلنج ؟
فقال: لا أين يا أمير المؤمنين، لو طرحت عساسك هذه في عسّ من عساس مصعب لوسعها و تغلغلت في جوفه، فضحك عبد الملك ثم قال: قاتلك اللّه يا بن قيس، فإنك تأبى إلا كرما و وفاء.
حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن الطيب، قال: قال لي أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود:
خرج يونس الكاتب من المدينة يريد الشام بتجارة، فبلغ الوليد بن يزيد مكانه فأتته رسله و هو في الخان، و ذلك في خلافة هشام، و الوليد يومئذ أمير، فقالوا له: أجب الأمير، قال: فذهبت معهم، فأدخلوني عليه و لا أدري من هو إلا أنه حسن الوجه نبيل، فسلمت عليه، فأمرني بالجلوس فجلست، و دعا بالشراب و الجواري، فكنّا يومنا و ليلتنا في أمر عجيب، و غنيته فأعجبه غنائي، و كان ممّا أعجبه:
ليت شعري أ أوّل الهرج هذا *** أم زمان من فتنة غير هرج ؟
فلم يزل يستعيده إلى الصبح، ثم اصطبح عليه ثلاثة أيام، فقلت: أيها الأمير، أنا رجل تاجر قدمت هذا البلد في تجارة لي، و قد ضاعت، فقال: تخرج غدا غدوة و قد ربحت أكثر من تجارتك. و تمّم شربه، فلما أردت الانصراف لحقني غلام من غلمانه بثلاثة آلاف دينار، فأخذتها و مضيت، فلما أفضت الخلافة إليه أتيته، فلم أزل مقيما عنده حتى قتل.
قال أحمد بن الطيب - و ذكر مصعب الزّبيريّ - أنّ يونس قال:
كنت أشرب مع أصحاب لي فأردت أن أبول، فقمت و جلست أبول على كثيب رمل، فخطر ببالي قول ابن قيس:
ليت شعري أ أوّل الهرج هذا
ص: 91
فغنيت فيه لحنا استحسنته و جاء عجبا من العجب، فألقيته على جاريتي عاتكة، و ردّدته حتى أخذته، و شاع لي في الناس(1)، فكان أول صوت شاع لي و ارتفع به قدري و قرنت بالفحول من المغنّين، و عاشرت الخلفاء من أجله، و أكسبني مالا جليلا.
هو أشعب بن جبير، و اسمه شعيب، و كنيته أبو العلاء، كان يقال لأمه: أم الخلندج، و قيل: بل أم جميل، و هي مولاة أسماء بنت أبي بكر و اسمها حميدة(1). و كان أبوه خرج مع المختار بن أبي عبيدة(2)، و أسره مصعب فضرب عنقه صبرا، و قال: تخرج عليّ و أنت مولاي ؟ و نشأ أشعب بالمدينة في دور(3) آل أبي طالب، و تولّت تربيته و كفلته عائشة بنت عثمان بن عفان.
و حكي عنه أنه حكى عن أمه أنها كانت تغري بين أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و أنها زنت فحلقت و طيف بها، و كانت تنادي على نفسها: من رآني فلا يزنين(4)، فقالت لها امرأة كانت تطّلع عليها: يا فاعلة، نهانا اللّه عز و جل عنه فعصيناه، أو نطيعك و أنت مجلودة محلوقة راكبة على جمل!.
و ذكر رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ فيما أجاز لي روايته عنه، عن يوسف بن الداية، عن إبراهيم بن المهدي:
أن عبيدة بن أشعب أخبره - و قد سأله عن أوّلهم و أصلهم - أن أباه و جدّه كانا موليي عثمان، و أن أمه كانت مولاة لأبي سفيان بن حرب، و أن ميمونة أم المؤمنين أخذتها معها لمّا تزوجها النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فكانت تدخل إلى أزواج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فيستظرفنها، ثم إنها فارقت ذلك و صارت تنقل أحاديث بعضهن إلى بعض و تغري بينهن، فدعا النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عليها فماتت.
/و ذكروا أنه كان مع عثمان - رضي اللّه عنه - في الدار، فلما حصر جرّد مماليكه السيوف ليقاتلوا، فقال لهم عثمان: من أغمد سيفه فهو حرّ، قال أشعب: فلما وقعت و اللّه في أذني كنت أول من أغمد سيفه، فأعتقت.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني إسحاق الموصليّ ، قال:
حدّثني الفضل بن الرّبيع، قال:
ص: 93
كان أشعب عند أبي سنة أربع و خمسين و مائة، ثم خرج إلى المدينة فلم يلبث أن جاء نعيه. و هو أشعب بن جبير، و كان أبوه مولى لآل الزّبير، فخرج مع المختار، فقتله مصعب صبرا مع من قتل.
أخبرني الجوهريّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل اليزيديّ ، قال: حدّثني التّوزيّ ، عن الأصمعيّ ، قال:
قال أشعب: نشأت أنا و أبو الزّناد في حجر عائشة بنت عثمان، فلم يزل يعلو و أسفل حتى بلغنا هذه المنزلة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال:
حدثنا عبيد اللّه(1) بن الحسن والي المأمون على المدينة، قال:
حدّثني محمد بن عثمان بن عفان قال: قلت لأشعب: لي إليك حاجة، فحلف بالطلاق لابنة وردان(2):
لا سألته حاجة إلا قضاها، فقلت له: أخبرني عن سنّك، فاشتد ذلك عليه حتى ظننت أنه سيطلّق، فقلت له: على رسلك، و حلفت له إني لا أذكر سنّه ما دام حيّا، فقال لي: أمّا إذ فعلت فقد هوّنت عليّ ، أنا و اللّه حيث حصر جدّك عثمان بن عفان، أسعى في الدار ألتقط السهام. قال الزبير/: و أدركه أبي.
أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه اليعقوبيّ ، عن الهيثم بن عديّ ، قال:
/قال أشعب: كنت ألتقط السهام من دار عثمان يوم حوصر، و كنت في شبيبتي ألحق الحمر الوحشية عدوا.
أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الجهم أبو مسلم و أحمد بن إسماعيل، قالا: أخبرنا المدائنيّ ، قال:
كان أشعب الطامع(3) - و اسمه شعيب - مولى لآل الزبير من قبل أبيه، و كانت أمه مولاة لعائشة بنت عثمان بن عفان؛ و كانت بغت(4) فضربت و حلقت و طيف بها و هي تنادي: من رآني فلا يزنين، فأشرفت عليها امرأة فقالت:
يا فاعلة، نهانا اللّه عز و جل عن الزنا فعصيناه، و لسنا ندعه لقولك و أنت محلوقة مضروبة يطاف بك.
أخبرني أحمد، قال: حدثنا أحمد بن مهرويه، قال: كتب إليّ ابن أبي خيثمة يخبرني أن مصعب بن عبد اللّه أخبره، قال:
اسم أشعب شعيب، و يكنى أبا العلاء، و لكنّ الناس قالوا أشعب فبقيت عليه، و هو شعيب بن جبير مولى آل الزبير، و هم يزعمون اليوم أنهم من العرب، فزعم أشعب أن أمه كانت تغري بين أزواج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و رحمهم، و امرأة أشعب بنت وردان، و وردان الّذي بني قبر النبي صلّى اللّه عليه و سلّم حين بني عمر بن العزيز المسجد.
ص: 94
أخبرني أحمد قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: و كتب إليّ ابن أبي خيثمة يخبرني أنّ مصعب بن عبد اللّه أخبره، قال:
كان أشعب من القرّاء للقرآن، و كان قد نسك و غزا، و كان حسن الصوت بالقرآن، و ربما صلّى بهم القيام.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال:
/كان أشعب مع ملاحته و نوادره يغني أصواتا فيجيدها، و فيه يقول عبد اللّه بن مصعب الزّبيريّ :
إذا تمزّزت صراحيّة(1) *** كمثل ريح المسك أو أطيب
ثم تغنّى لي بأهزاجه *** زيد أخو الأنصار أو أشعب
حسبت أنّي ملك جالس *** حفّت به الأملاك و الموكب
و ما أبالي و إله الورى *** أ شرّق العالم أم غرّبوا
غنّى في هذه الأبيات زيد الأنصاريّ خفيف رمل بالبنصر.
و قد روى أشعب الحديث عن جماعة من الصحابة:
أخبرني عمي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد أن الربيع بن ثعلب حدثهم، قال: حدّثني أبو البحتري:
حدّثني أشعب، عن عبد اللّه بن جعفر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لو دعيت إلى ذراع لأجبت، و لو أهدي إليّ كراع لقبلت».
قال ابن أبي سعد، و روي عن محمد بن عباد بن موسى، عن عتّاب بن إبراهيم(2)، عن أشعب الطامع - قال عتاب: و إنما حملت هذا الحديث عنه لأنه عليه - قال: دخلت إلى سالم بن عبد اللّه بستانا له(3) فأشرف عليّ و قال:
يا أشعب، ويلك لا تسأل، فإني سمعت أبي يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «ليأتينّ أقوام يوم القيامة ما في وجوههم/مزعة لحم(4)، قد أخلقوها بالمسألة».
و يروى عن يزيد بن موهب الرمليّ (5)، عن عثمان بن محمد، عن أشعب، عن/عبد اللّه بن جعفر: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم تختّم في يمينه.
ص: 95
أخبرني أحمد، قال: حدّثني عمر بن شبّة، قال: حدّثني الأصمعيّ ، عن أشعب، قال: استنشدني ابن لسالم بن عبد اللّه بن عمر غناء الرّكبان بحضرة أبيه سالم فأنشدته، و رأس أبيه سالم في بتّ (1) فلم ينكر ذلك.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني أبو مسلم، عن عبد الرحمن بن الحكم(2)، عن المدائني، قال: دفعت عائشة بنت عثمان أشعب في البزّازين فقالت له بعد حول:
أ توجّهت لشيء؟ قال: نعم، تعلمت نصف العمل و بقي نصفه، قالت: و ما تعلمت ؟ قال: تعلمت النشر و بقي الطيّ .
قال المدائنيّ : و قال أشعب: تعلقت بأستار الكعبة فقلت: اللهم أذهب عني الحرص و الطلب إلى الناس، فمررت بالقرشيّين و غيرهم فلم يعطني أحد شيئا، فجئت إلى أمي فقالت: ما لك قد جئت خائبا؟ فأخبرتها، فقالت:
لا و اللّه لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربّك، فرجعت فقلت: يا رب أقلني، ثم رجعت، فلم أمرّ بمجلس لقريش و غيرهم إلا أعطوني و وهب لي غلام، فجئت إلى أمي بحمار موقر من كل شيء، فقالت: ما هذا الغلام ؟ فخفت أن أخبرها بالقصة فتموت فرحا، فقلت: وهبوا لي، قالت: أي شيء؟ قلت: غين، قالت: أيّ شيء غين ؟ قلت: لام، قالت: و أيّ شيء لام ؟ قلت: ألف، قالت: و أيّ شيء ألف ؟ قلت: ميم، قال: و أيّ شيء ميم ؟ قلت: غلام. فغشي عليها. و لو لم أقطّع الحروف لماتت الفاسقة فرحا.
أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني العباس بن ميمون، قال: سمعت الأصمعيّ ، يقول:
سمعت أشعب يقول: سمعت الناس يموجون في أمر عثمان. قال الأصمعيّ : ثم أدرك المهديّ .
أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق بن سعيد الرّبيعيّ (3)، قال: حدّثني هند بن حمدان(4) الأرقميّ المخزوميّ ، قال: أخبرني أبي، قال: كان أشعب أزرق أحول أكشف أقرع(5).
قال: و سمعت الأرقميّ يقول: كان أشعب يقول: كنت أسقي الماء في فتنة عثمان بن عفان. و اللّه أعلم.
أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا عيسى بن موسى، قال: حدّثنا الأصمعيّ ، قال:
أصاب أشعب دينارا بالمدينة، فاشترى به قطيفة، ثم خرج إلى قباء يعرّفها، ثم أقبل عليّ فيما أحسب - شك أبو يحيى - فقال: أ تراها تعرّف.
ص: 96
قال أحمد: و حدثناه أبو محمد بن سعد، قال: حدّثني أحمد بن معاوية بن بكر، قال: حدّثني الواقديّ ، قال:
كنت مع أشعب نريد المصلّى، فوجد دينارا، فقال لي: يا بن واقد، قلت: ما تشاء؟ قال: وجدت دينارا فما أصنع به ؟ قال: قلت: عرّفه، قال: أم العلاء إذا طالق، قال: قلت: فما تصنع به إذا؟ قال: أشتري به قطيفة أعرّفها.
قال: و حدّثني محمد بن القاسم، قال: و حدّثنيه محمد بن عثمان(1) الكريزيّ ، عن الأصمعيّ : أن أشعب وجد دينارا فتخرّج من أخذه دون أن يعرّفه، فاشترى به قطيفة، ثم قام على باب المسجد الجامع فقال: من يتعرف الوبدة(2)؟.
أخبرني أحمد الجوهريّ ، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: سألت العنزيّ ، فقال: الوبد/من كل شيء:
الخلق؛ وبد الثوب و ومد إذا أخلق.
أخبرنا أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا عيسى بن موسى، قال: حدثنا الأصمعيّ ، قال:
رأيت أشعب يغنّي و كأن صوته صوت بلبل.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن عبد اللّه في رفقة فيها ألف محمل، و كان ثمّ قاصّ يقصّ عليهم، فجئت فأخذت في أغنية من الرقيق، فتركوه و أقبلوا إليّ ، فجاء يشكوني إلى سالم فقال: إن هذا صرف وجوه الناس عني، قال: و أتيت سالما - و أحسبه قال - و القاسم، فسألتهما بوجه اللّه العظيم، فأعطياني، و كانا يبغضانني أو أجدهما يبغضني في اللّه، قال: قلنا: لا تجعل هذا في الحديث، قال: بلى.
حدّثنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: و حدّثناه قعنب بن محرز الباهليّ ، قال: أخبرنا الأصمعيّ ، عن أشعب، قال:
قدم علينا قاصّ كوفيّ يقصّ في رفقته، و فيها ألف بعير، فخرجنا و أحرمنا من الشّجرة بالتّلبية، فأقبل الناس إليّ و تركوه. قال: ابن أمّ حميد، فجاء إليّ عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان، فقال: إنّ مولاك هذا قد ضيّق عليّ معيشتي.
أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم عبد الرحمن بن الجهم، عن المدائنيّ ، قال:
تغدّى أشعب مع زياد بن عبد اللّه الحارثيّ ، فجاءوا بمضيرة(3)، فقال أشعب لخبّاز: ضعها بين يديّ ، فوضعها بين يديه، فقال زياد: من يصلّي بأهل السّجن ؟ قال: ليس لهم إمام، قال: أدخلوا أشعب يصلّي بهم، قال أشعب:
أو غير ذلك أصلح اللّه الأمير؟ قال: و ما هو؟ قال: أحلف ألاّ آكل مضيرة أبدا.
أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثني قعنب بن المحرز، قال: حدّثنا الأصمعيّ ، قال:
ص: 97
/ولّى المنصور زياد بن عبد اللّه الحارثيّ مكة و المدينة، قال أشعب: فلقيته بالجحفة(1) فسلّمت عليه، قال:
فحضر الغداء، و أهدي إليه جدّي فطبخه مضيرة، و حشيت القبة(2) قال: فأكلت أكلا أتملّح به، و أنا أعرف صاحبي، ثم أتى بالقبّة، فشققتها، فصاح الطبّاخ: إنا للّه! شقّ القبة، قال: فانقطعت، فلما فرغت قال: يا أشعب! هذا رمضان قد حضر، و لا بدّ أن تصلي بأهل السجن، قلت: و اللّه ما أحفظ من كتاب اللّه إلا ما أقيم به صلاتي، قال: لا بدّ منه، قال: قلت: أ و لا آكل جديا مضيرة ؟ قال: و ما أصنع به و هو في بطنك ؟ قال: قلت: الطّريق بعيد أريد أن أرجع إلى المدينة، قال: يا غلام، هات ريشة ذنب ديك - قال أشعب: و الجحفة أطول بلاد اللّه ريشة ذنب ديك - قال:
فأدخلت في حلقي فتقيّأت ما أكلت، ثم قال لي: ما رأيك ؟ قال: قلت: لا أقيم ببلدة يصاح فيها: شقّ القبة، قال:
لك وظيفة على السلطان و أكره أن أكسرها عليك، فقل و لا تشطط قال: قلت: نصف درهم كراء حمار يبلّغني المدينة، قال: أنصفت و أعطانيه.
أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرني أبو مسلم، عن المدائنيّ ، قال:
أتى أشعب بفالوذجة عند بعض الولادة، فأكل منها، فقيل له: كيف تراها يا أشعب ؟ قال: امرأته طالق إن لم تكن عملت قبل أن يوحي اللّه عز و جل إلى النحل.
أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثنا عبد اللّه بن شعيب الزّبيريّ (3)، عن عمّه. قال أبو بكر: و حدّثني ابن أبي سعد، قال: حدّثني عبد اللّه بن شعيب(3) و هو أتمّ من هذا و أكثر كلاما، قال:
/جاء/أشعب إلى أبي بكر بن يحيى من آل الزبير، فشكا إليه، فأمر له بصاع من تمر، و كانت حال أشعب رثّة، فقال له أبو بكر بن يحيى: ويحك يا أشعب! أنت في سنّك و شهرتك تجيء في هذه الحال فتضع نفسك فتعطي مثل هذا؟ اذهب فادخل الحمام فاخضب لحيتك، قال أشعب: ففعلت، ثم جئته فألبسني ثياب صوف له و قال: اذهب الآن فاطلب، قال: فذهبت إلى هشام بن الوليد صاحب البغلة من آل أبي ربيعة، و كان رجلا شريفا موسرا، فشكا إليه فأمر له بعشرين دينارا، فقبضها أشعب و خرج إلى المسجد، و طفق كلما جلس في حلقة يقول:
أبو بكر بن يحيى، جزاه اللّه عني خيرا، أعرف الناس بمسألة، فعل بي و فعل، فيقص قصته، فبلغ ذلك أبا بكر فقال: يا عدوّ نفسه! فضحتني في الناس، أ فكان هذا جزائي!.
أخبرنا أحمد، قال: قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرني محمد بن الحسين بن عبد الحميد، قال:
حدّثني شيخ أنه نظر إلى أشعب بموضع يقال له الفرع(4) يبكي و قد خضب بالحناء، فقالوا: يا شيخ ما يبكيك ؟ قال: لغربة هذا الجناح، و كان على دار واحدة ليس بالفرع غيره.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرني محمد بن الحسين، قال: حدّثني أبي، قال:
ص: 98
نظرت إلى أشعب يسلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: و هو يدعو و يتضرّع، قال: فأدمت نظري إليه، فكلما أدمت النظر إليه كلّح و بثّ أصابعه في يده بحذائي حتى هربت فسألت عنه فقالوا: هذا أشعب.
أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني محمد بن الحسين، قال: حدّثني إسحاق بن إبراهيم بن عجلان الفهريّ ، قال:
/إن أشعب مرّ برشّ قد رشّ من الليل في بعض نواحي المدينة فقال: كأن هذا الرش كساء برنكانيّ (1) فلما توسطه قال: أظنني و اللّه قد صدقت، و جلس يلمس الأرض.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا بعض المدنيين، قال:
كان لأشعب خرق في بابه، فينام و يخرج يده من الخرق و يطمع أن يجيء إنسان فيطرح في يده شيئا؛ من الطمع.
أخبرني أحمد، قال: حدثني محمد بن القاسم، قال: حدّثنا الزبير، قال: حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه الزهريّ ، قال:
صلّى أشعب يوما إلى جانب مروان بن أبان بن عثمان، و كان مروان عظيم الخلق و العجيزة، فأفلتت منه ريح عند نهوضه، لها صوت، فانصرف أشعب من الصلاة، فوهم الناس أنه هو الّذي خرجت منه الريح، فلما انصرف مروان إلى منزله جاءه أشعب فقال له: الدّية، فقال: دية ما ذا؟ فقال: دية الضرطة الّتي تحمّلتها عنك، و اللّه و إلا شهّرتك، فلم يدعه حتى أخذ منه شيئا صالحا.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثني إبراهيم بن الجنيد، قال: حدّثني سوّار بن عبد اللّه(2)، قال: حدّثني مهديّ (3) بن سليمان المنقريّ مولى لهم، عن أشعب، قال:
دخلت على القاسم بن محمد و كان يبغضني في اللّه و أحبّه فيه، فقال: ما أدخلك عليّ؟ اخرج عني، فقلت:
أسألك باللّه لما جددت(4) عذقا، قال: يا غلام، جدّ له عذقا، فإنه سأل بمسألة لا يفلح من ردّها أبدا.
/أخبرنا أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا الرّياشيّ ، قال: حدّثني أبو سلمة أيوب بن عمر، عن المحرزيّ ، و هو أيوب بن عباية أبو سليمان، قال:
كان/لأشعب عليّ في كل سنة دينار، قال: فأتاني يوما ببطحان(5) فقال: عجّل لي ذلك الدينار، ثم قال: لقد رأيتني أخرج من بيتي فلا أرجع شهرا مما آخذ من هذا و هذا و هذا.
ص: 99
أخبرنا أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني عليّ بن محمد النوفليّ ، قال: سمعت أبي يحكي عن بعض المدنيين، قال:
كبر أشعب فملّه الناس و برد عندهم، و نشأ ابنه فتغنّى و بكى و أندر(1)، فاشتهى الناس ذلك، فأخصب و أجدب أبوه، فدعاه يوما و جلس هو و عجوزه، و جاء ابنه و امرأته فقال له: بلغني أنك قد تغنّيت و أندرت و حظيت(2)، و أن الناس قد مالوا إليك فهلم حتى أخايرك(3)، قال: نعم، فتغنّى أشعب فإذا هو قد انقطع و أرعد، و تغنّى ابنه فإذا هو حسن الصوت مطرب، و انكسر أشعب ثم أندر فكان الأمر كذلك، ثم خطبا فكان الأمر كذلك، فاحترق أشعب فقام فألقى ثيابه، ثم قال: نعم، فمن أين لك مثل خلقي ؟ من لك بمثل حديثي ؟ قال: و انكسر الفتى، فنعرت(4) العجوز و من معها عليه.
أخبرني أحمد، قال: حدّثني عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدّثني عليّ بن الحسين(5) بن هارون، قال: حدّثني محمد بن عباد بن موسى، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن سليمان و كان جارنا هنا، قال:
حدّثني محمد بن حرب الهلاليّ - و كان على شرطة محمد بن سليمان - قال:
دخلت على جعفر بن سليمان و عنده أشعب يحدّثه قال:
/كانت بنت حسين بن عليّ عند عائشة بنت عثمان تربّيها حتى صارت امرأة، و حج الخليفة فلم يبق في المدينة خلق من قريش إلا وافى الخليفة إلا من لا يصلح لشيء، فماتت بنت حسين بن عليّ ، فأرسلت عائشة إلى محمد بن عمرو بن حزم و هو والي المدينة، و كان عفيفا حديدا(6) عظيم اللّحية، له جارية موكّلة بلحيته إذا ائتزر لا يأتزر عليها، و كان إذا جلس للناس جمعها ثم أدخلها تحت فخذه. فأرسلت عائشة: يا أخي قد ترى ما دخل عليّ من المصيبة بابنتي، و غيبة(7) أهلي و أهلها، و أنت الوالي، فأمّا ما يكفي النساء من النساء فأنا أكفيكه بيدي و عيني، و أما ما يكفي الرجال من الرجال فاكفنيه، مر بالأسواق أن ترفع، و أمر بتجويد عمل نعشها، و لا يحملها إلا الفقهاء الألبّاء من قريش بالوقار و السكينة، و قم على قبرها و لا يدخله إلا قرابتها من ذوي الحجا و الفضل، فأتى ابن حزم رسولها حين تغدّى و دخل ليقيل، فدخل عليه فأبلغه رسالتها، فقال ابن حزم لرسولها: أقرئ ابنة المظلوم السّلام و أخبرها أني قد سمعت الواعية(8) و أردت الركوب إليها فأمسكت عن الركوب حتى أبرد، ثم أصلّي، ثم أنفّذ كلّ ما أمرت به. و أمر حاجبه و صاحب شرطته برفع الأسواق، و دعا الحرس و قال: خذوا السّياط حتى تحولوا بين
ص: 100
الناس و بين النعش إلا ذوي قرابتها بالسكينة و الوقار، ثم نام و انتبه و أسرج له، و اجتمع كلّ من كان بالمدينة، و أتى باب عائشة حين أخرج النعش، فلما رأى الناس النعش التقفوه، فلم يملك ابن حزم و لا الحرس منه شيئا، و جعل ابن حزم يركض خلف النعش و يصيح بالناس من السّفلة و الغوغاء: اربعوا أي ارفقوا فلم يسمعوا، حتى بلغ بالنعش القبر، فصلى عليها، ثم وقف على القبر فنادى: من هاهنا من قريش ؟ فلم يحضره إلا مروان بن أبان بن عثمان، /و كان رجلا عظيم البطن بادنا(1) لا يستطيع أن ينثني من بطنه، سخيف(2) العقل، فطلع و عليه سبعة قمص، /كأنها درج، بعضها أقصر من بعض و رداء عدنيّ يثمن ألفي درهم، فسلّم و قال له ابن حزم: أنت لعمري قريبها، و لكنّ القبر ضيّق لا يسعك، فقال: أصلح اللّه الأمير إنما تضيق الأخلاق. قال ابن حزم: إنا للّه، ما ظننت أن هذا هكذا كما أرى، فأمر أربعة فأخذوا بضبعه(3) حتى أدخلوه في القبر، ثم أتى خراء الزّنج، و هو عثمان بن عمرو بن عثمان فقال: السّلام عليك أيها الأمير و رحمة اللّه، ثم قال: وا سيدتاه وا بنت أختاه! فقال ابن حزم: تاللّه لقد كان يبلغني عن هذا أنه مخنّث، فلم أكن أرى أنه بلغ هذا كله، دلّوه فإنه عورة هو و اللّه أحق بالدفن منها، فلما أدخلا قال مروان لخراء الزنج: تنحّ إليك شيئا فقال له خراء الزنج: الحمد للّه رب العالمين، جاء الكلب الإنسيّ يطرد الكلب الوحشيّ ، فقال لهما ابن حزم: اسكتا قبّحكما اللّه و عليكما لعنته، أيكما الإنسيّ من الوحشيّ ، و اللّه لئن لم تسكتا لآمرنّ بكما تدفنان، ثم جاء خال للجارية من الحاطبيّين و هو ناقة من مرض لو أخذ بعوضة لم يضبطها فقال:(4) أنا خالها و أمي سودة و أمها حفصة، ثم رمى بنفسه في القبر، فأصاب ترقوة خراء الزنج فصاح: أوه(4) ألح اللّه الأمير دقّ و اللّه عرقوبي، فقال ابن حزم: دق اللّه عرقوبك، و ترقوتك اسكت ويلك، ثم أقبل على أصحابه فقال: ويحكم إني خبّرت أن الجارية بادن، و مروان لا يقدر أن ينثني من بطنه، و خراء الزنج مخنّث لا يعقل سنّة و لا دفنا، و هذا الحاطبيّ لو أخذ عصفورا لم يضبطه لضعفه، فمن يدفن هذه الجارية ؟ و اللّه ما أمرتني بهذا بنت المظلوم، فقال له جلساؤه: لا و اللّه ما بالمدينة خلق من قريش، و لو كان في هؤلاء خير لما بقوا، فقال: من هاهنا من مواليهم ؟ فإذا أبو هانئ الأعمى و هو ظئر(4) لها، فقال ابن حزم: من أنت رحمك اللّه ؟ قال: أنا أبو هانئ ظئر عبد اللّه بن عمرو بن عثمان و أنا أدفن أحياءهم و أمواتهم، فقال: أنا في طلبك، ادخل رحمك اللّه، فادفن/هؤلاء الأحياء، حتى يدلّى عليك(5) الموتى(7) ثم أقبل على أصحابه فقال: إنا للّه - و هذا أيضا أعمى لا يبصر، فنادوا: من هاهنا من مواليهم(7) فإذا برجل يزيديّ يقال له أبو موسى قد جاء، فقال له ابن حزم: من أنت أيضا؟ قال: أنا أبو موسى صالمين، و أنا ابن السميط سميطين(6) و السعيد سعيدين، و الحمد للّه رب العالمين، فقال ابن حزم: و اللّه العظيم لتكونن لهم خامسا، رحمك اللّه يا بنت رسول اللّه، فما اجتمع على جيفة خنزير و لا كلب ما اجتمع على جثتك، فإنا للّه و إنا إليه راجعون،(9) و أظنه سقط رجل آخر(9).
ص: 101
أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني اليعقوبيّ محمد بن عبد اللّه، قال: حدّثني أبو بكر الزلال الزبيريّ ، قال:(1) حدّثني من رأى أشعب و قد علّق رأس كلبه و هو يضربه و يقول له: تنبح الهدية و تبصبص للضيف.
أخبرنا أحمد، قال: حدّثني عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن محمد الزّبيري أبو الطّاهر، قال:(1) حدّثني يحيى بن محمد بن أبي قتيلة، قال:
غذا أشعب جديا بلبن زوجته و غيرها حتى بلغ الغاية قال: و من مبالغته في ذلك أن قال لزوجته: أي ابنة وردان، إني أحب أن ترضعيه بلبنك. قال: ففعلت، قال: ثم جاء به إلى إسماعيل بن جعفر بن محمد فقال: باللّه إنه لابني، قد رضع بلبن زوجتي و قد حبوتك به، و لم أر أحدا يستأهله سواك، قال: فنظر إسماعيل إلى فتنة من الفتن فأمر به فذبح و سمط، فأقبل عليه أشعب، فقال: المكافأة، فقال: ما عندي و اللّه اليوم شيء، و نحن من تعرف، و ذلك غير فائت لك، فلما يئس منه قام من عنده فدخل على أبيه جعفر بن محمد، ثم اندفع يشهق/حتى التقت أضلاعه، ثم قال: أخلني، قال: ما معنا أحد يسمع و لا عين عليك، قال: وثب ابنك إسماعيل على ابني فذبحه و أنا انظر إليه، قال: فارتاع/جعفر و صاح: ويلك! و فيم ؟ و تريد ما ذا؟ قال: أمّا ما أريد فو اللّه ما لي في إسماعيل حيلة و لا يسمع هذا سامع أبدا بعدك. فجزاه خيرا و أدخله منزله، و أخرج إليه مائتي دينار و قال له: خذ هذه و لك عندنا ما تحبّ ، قال: و خرج إلى إسماعيل لا يبصر ما يطأ عليه، فإذا به مترسّل في مجلسه، فلما رأى وجه أبيه نكره، و قام إليه، فقال: يا إسماعيل أو فعلتها بأشعب ؟ قتلت ولده، قال: فاستضحك و قال: جاءني بجدي من صفته كذا، و خبّره الخبر، فأخبره أبوه ما كان منه و صار إليه. قال: فكان جعفر يقول لأشعب: رعبتني رعبك اللّه(1) فيقول:
روعة ابنك و اللّه إيّاي في الجدي أكبر من روعتك أنت في المائتي الدّينار.
أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا عبد اللّه بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن إسحاق المسيّبيّ (2)، قال:
حدّثني عمير بن عبد اللّه بن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة - قال: و عمير لقب و اسمه عبد الرحمن - عن أشعب، قال:
أتيت خالد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان ليلة أسأله، فقال لي: أنت على طريقة لا أعطي على مثلها، قلت: بلى جعلت فداءك، فقال: قم فإن قدر شيء فسيكون، قال: فقمت، فإني لفي بعض سكك المدينة، إذ لقيني رجل فقال: يا أشعب إن كان اللّه قد ساق إليك رزقا فما أنت صانع ؟ قلت: أشكر اللّه و أشكر من فعله، قال: كم عيالك ؟ فأخبرته قال: قد أمرت أن أجري عليك و على عيالك ما كنت(3) حيّا، قال: من أمرك ؟ قال:
ص: 102
لا أخبرك ما كانت هذه فوق هذه، يريد السماء، و أشار إليها قال: قلت: إن هذا معروف يشكر، قال: الّذي أمرني لم يرد شكرك، و هو يتمنى(1) ألاّ يصل مثلك. قال: فمكثت آخذ ذلك إلى أن توفّي خالد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان، قال: فشهدته قريش و حفل له الناس قال: فشهدته فلقيني ذلك الرجل فقال: يا أشعب/انتف رأسك و لحيتك، هذا و اللّه صاحبك الّذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك، و كان و اللّه يتمنّى مباعدة مثلك، قال: فحمله و اللّه الكرم إذ سألته أن فعل بك ما فعل، قال عمير: قال أشعب: فعملت بنفسي و اللّه حينئذ ما حلّ و حرم.
أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال:
كان أشعب يوما في المسجد يدعو و قد قبّض وجهه فصيّره كالصّبرة(2) المجموعة، فرآه عامر بن عبد اللّه بن الزبير فحصبه(3) و ناداه: يا أشعب، إذا تناجى ربك فناجه بوجه طلق، قال: فأرخى لحيه(4) حتى وقع على زوره، قال: فأعرض عنه عامر و قال: و لا كلّ هذا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدّثني الزّبير، قال: حدّثني مصعب، قال:
جزّ أشعب لحيته فبعث إليه نافع بن ثابت بن عبد اللّه بن الزّبير: أ لم أقل لك إن البطّال(5) أملح ما يكون إذا طالت لحيته فلا تجزز لحيتك.
أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا أبو الحسن المدائنيّ ، قال:
وقف أشعب على امرأة تعمل طبق خوص فقال: لتكبّريه فقالت: لم ؟ أ تريد أن تشتريه ؟ قال: لا، و لكن عسى أن يشتريه إنسان فيهدي إليّ فيه/، فيكون كبيرا خير من أن يكون صغيرا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى/قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال: قالت صديقة أشعب لأشعب: هب لي خاتمك أذكرك به، قال: اذكريني أنّي منعتك إياه؛ فهو أحبّ إليّ .
أخبرني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:
ص: 103
قال أشعب مرة للصبيان: هذا عمرو بن عثمان يقسّم مالا، فمضوا، فلما أبطئوا عنه اتّبعهم؛ يحسب أنّ الأمر قد صار حقّا كما قال.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:
دعا زياد بن عبد اللّه أشعب فتغدّى معه، فضرب بيده إلى جدي بين يديه، و كان زياد أحد(1) البخلاء بالطعام، فغاظه ذلك، فقال لخدمه: أخبروني عن أهل السجن ألهم إمام يصلّي بهم ؟ و كان أشعب من القرّاء لكتاب اللّه تعالى، قالوا: لا، قال: فأدخلوا أشعب فصيّروه إماما لهم، قال أشعب: أو غير ذلك ؟ قال: و ما هو؟ قال:
أحلف لك - أصلحك اللّه - ألاّ أذوق جديا أبدا، فخلاّه.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:
رأيت أشعب بالمدينة يقلّب مالا كثيرا فقلت له: ويحك ما هذا الحرص! و لعلك أن تكون أيسر ممّن تطلب منه(2)، قال: إني قد مهرت في هذه(3) المسألة، فأنا أكره أن أدعها فتنفلت منّي.
/أخبرنا أحمد، قال: حدّثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:
قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك ؟ قال: ما رأيت اثنين يتسارّان قطّ إلا كنت أراهما يأمران لي بشيء.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدثنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:
قال أشعب لأمه: رأيتك في النوم مطليّة بعسل و أنا مطليّ بعذرة، فقالت: يا فاسق هذا عملك الخبيث كساكه(4) اللّه عز و جل، قال: إن في الرؤيا شيئا آخر، قالت: ما هو؟ قال: رأيتني ألطعك و أنت تلطعيني(5)، قالت:
لعنك اللّه يا فاسق.
أخبرنا أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:
كان أشعب يتحدّث إلى امرأة بالمدينة حتى عرف ذلك، فقالت لها جاراتها يوما: لو سألته شيئا فإنه موسر، فلما جاء قالت: إن جاراتي ليقلن لي: ما يصلك بشيء، فخرج نافرا من منزلها، فلم يقربها شهرين، ثم إنه جاء ذات يوم فجلس على الباب، فأخرجت إليه قدحا ملآن ماء، فقالت: اشرب هذا من الفزع، فقال: اشربيه أنت من الطمع.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم و أحمد بن يحيى - و اللّفظ لأحمد - قال: أخبرنا المدائنيّ عن جهم بن خلف، قال:
حدّثني رجل قال: قلت لأشعب: لو تحدّثت عندي العشيّة ؟ فقال: أكره أن يجيء ثقيل، قال: قلت: ليس غيرك و غيري، قال: فإذا صلّيت الظهر فأنا عندك، /فصلّى و جاء، فلما وضعت الجارية الطعام إذا بصديق لي يدقّ الباب، فقال: أ لا ترى قد صرت إلى ما أكره ؟ قال: قلت: إن عندي فيه عشر خصال، قال: فما هي ؟ قال: أولها أنه
ص: 104
لا يأكل و لا يشرب، قال: التّسع الخصال لك، أدخله. قال أبو مسلم/: إن كرهت واحدة منها لم أدخله.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:
دخل أشعب يوما على الحسين بن عليّ و عنده أعرابيّ قبيح المنظر مختلف الخلقة، فسبّح أشعب حين رآه، و قال للحسين عليه السّلام: بأبي أنت و أمي، أ تأذن لي أن أسلح عليه ؟ فقال الأعرابيّ : ما شئت، و مع الأعرابيّ قوس و كنانة، ففوّق له سهما و قال: و اللّه لئن فعلت لتكوننّ آخر سلحة سلحتها، قال أشعب للحسين: جعلت فداءك، قد أخذني القولنج(1).
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:
ذكر أشعب بالمدينة رجلا قبيح الاسم، فقيل له: يا أبا العلاء، أ تعرف فلانا؟ قال: ليس هذا من الأسماء الّتي عرضت على آدم.
وجدت في بعض الكتب، عن أحمد بن الحارث الخراز(2)، عن المدائنيّ ، قال:
توضّأ أشعب فغسل رجله اليسرى و ترك اليمنى فقيل له: لم تركت غسل اليمنى ؟ قال: لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال:
«أمّتي غرّ محجّلون من آثار الوضوء، و أنا أحبّ أن أكون أغرّ محلا مطلق اليمنى»(3).
/و أخبرت بهذا الإسناد قال:
سمع أشعب حبّي المدينيّة تقول: اللهم لا تمتني حتى تغفر لي ذنوبي، فقال لها: يا فاسقة أنت لم تسألي اللّه المغفرة إنما سألته عمر الأبد، يريد أنه لا يغفر لها أبدا.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ ، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، عن فليح بن سليمان، قال:
ساوم أشعب رجلا بقوس عربيّة فقال الرجل: لا أنقصها عن دينار، قال أشعب: أعتق ما أملك لو أنها إذا رمي بها طائر في جوّ السماء وقع مشويّا بين رغيفين ما أخذتها بدينار.
أخبرنا أحمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا مسلم، قال: أخبرنا المدائني، قال:
أهدى رجل من بني عامر بن لؤيّ إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر بن محمد فالوذجة، و أشعب حاضر، قال:
كل يا أشعب، فلما أكل منها قال: كيف تجدها يا أشعب ؟ قال: أنا بريء من اللّه و رسوله إن لم تكن عملت قبل أن يوحي اللّه عزّ و جلّ إلى النّحل، أي ليس فيها من الحلاوة شيء.
أخبرنا أحمد قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرنا المدائنيّ ، قال:
سأل سالم بن عبد اللّه أشعب عن طمعه، قال: قلت لصبياني مرّة: هذا سالم قد فتح باب صدقة عمر(4)،
ص: 105
فانطلقوا يعطكم تمرا، فمضوا، فلما أبطئوا ظننت أنّ الأمر كما قلت فاتّبعتهم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: أخبرني المدائنيّ ، قال:
/بينا أشعب يوما يتغدّى إذ دخلت جارة(1) له، و مع أشهب امرأته تأكل، فدعاها لتتغدّى، فجاءت الجارة(1)فأخذت العرقوب بما عليه - قال: و أهل المدينة يسمونه عرقوب ربّ البيت - قال: فقام أشعب فخرج ثم عاد فدقّ الباب، فقالت له امرأته: يا سخين العين ما لك! قال: أدخل ؟ قالت: أ تستأذن أنت، و أنت ربّ البيت ؟ قال: لو كنت ربّ البيت ما كانت العرقوب بين يدي هذه.
أخبرني بعض أصحابنا، قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدّمشقيّ ، قال: حدثنا الزبير، قال: حدّثني مصعب، قال: قال لي ابن كليب:
حدّثت مرّة أشعب بملحة فبكى، فقلت: ما يبكيك ؟ قال: أنا بمنزلة شجرة/الموز إذا نشأت ابنتها قطعت، و قد نشأت أنت في مواليّ و أنا الآن أموت، فإنما أبكي على نفسي.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال:
كان أشعب الطّمع يغنّي و له أصوات قد حكيت عنه، و كان ابنه عبيدة يغنّيها، فمن أصواته هذه:
أروني من يقوم لكم مقامي *** إذا ما الأمر جلّ عن الخطاب
إلى من تفزعون إذا حثوتم *** بأيديكم عليّ من التراب
أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدّمشقيّ ، قال: حدثنا الزبير بن بكّار، قال:
حدثنا شعيب بن عبيدة بن أشعب، عن أبيه، عن جدّه، قال:
كانت سكينة بنت الحسين بن عليّ عليهم السّلام عند زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان/قال: و قد كانت أحلفته ألاّ يمنعها سفرا و لا مدخلا و لا مخرجا فقالت: اخرج بنا إلى حمران(2) من ناحية عسفان، فخرج بها فأقامت، ثم قالت له: اذهب بنا نعتمر، فدخل بها مكة، فأتاني آت، فقال: تقول لك ديباجة الحرم - و هي امرأة من ولد عتّاب بن أسيد -: لك عشرون دينارا إن جئتني يزيد بن عمرو الليلة في الأبطح،(3) قال أشعب: و أنا أعرف سكينة و أعلم ما هي، ثم غلب عليّ طباع السوء و الشره، فقلت لزيد فيما بيني و بينه: إن ديباجة الحرم أرسلت إليّ بكيت و كيت، فقال: عدها الليلة بالأبطح(3)، فأرسلت إليها فواعدتها الأبطح و إذا الديباجة قد افترشت بساطا في الأبطح و طرحت النمارق، و وضعت حشايا و عليها أنماط، فجلست عليها، فلما طلع زيد قامت إليه، فتلقّته و سلّمت
ص: 106
عليه، ثم رجعت إلى مجلسها، فلم ننشب أن سمعنا شحيج بغلة سكينة، فلما استبانها زيد قام فأخذ بركابها، و اختبأت ناحية، فقامت الديباجة إلى سكينة فتلقّتها و قبّلت بين عينيها، و أجلستها على الفراش، و جلست هي على بعض النمارق، فقالت سكينة: أشعب و اللّه صاحب هذا الأمر، و لست لأبي إن لم يأت يصيح صياح الهرة(1) لن يقوم لي بشيء أبدا، فطلعت على أربع أصيح صياح الهرة(1)، ثم دعت جارية معه مجمر كبير فحفنت منه و أكثرت، و صبّت في حجر الديباجة،(2) و حفنت لمن معها فصبّته في حجورهن(2) و ركبت و ركب زيد و أنا معهم، فلما صارت إلى منزلها قالت لي: يا أشعب أ فعلتها؟ قلت: جعلت فداءك، إنما جعلت لي عشرين دينارا، و قد عرفت طمعي و شرهي، و اللّه لو جعلت لي العشرين دينارا على قتل أبويّ لقتلتهما، قال: فأمرت بالرحيل إلى الطائف، فأقامت بالطائف و حوّطت(1) من ورائها بحيطان و منعت زيدا أن يدخل عليها. قال: ثم قالت لي يوما: قد أثمنا في زيد و فعلنا(2) ما لا يحل لنا، ثم أمرت بالرحيل إلى المدينة، و أذنت لزيد فجاءها.
/قال الزّبير: و حدّثني عبد اللّه بن محمد بن أبي سلمة قال:
جاء أشعب إلى مجلس أصحابنا فجلس فيه، فمرّت جارية لأحدهم بحزمة عراجين من صدقة عمر، فقال له أشعب: فديتك، أنا محتاج إلى حطب فمر لي بهذه الحزمة، قال: لا، و لكن أعطيك نصفها على أن تحدّثني بحديث ديباجة الحرم، فكشف أشعب ثوبه عن استه و استوفز و جعل يخنس(3) و يقول: إن لهذا زمانا(4)، و جعلت خصيتاه تخطّان الأرض، ثم قال: أعطاني و اللّه فلان في حديث ديباجة الحرم عشرين دينارا، و أعطاني فلان كذا، و أعطاني فلان كذا، حتى عدّ أموالا، و أنت الآن تطلبها مني بنصف حزمة عراجين! ثم قام فانصرف.
و في ديباجة الحرم يقول عمر بن أبي ربيعة:
ذهبت و لم تلمم بديباجة الحرم *** و قد كنت منها في عناء و في سقم
جننت بها لمّا سمعت بذكرها *** و قد كنت مجنونا بجاراتها القدم
إذا أنت لم تعشق و لم تدر ما لهوي *** فكن حجرا بالحزن من حرّة أصمّ (5)
غناه مالك بن أبي السّمح من رواية يونس عن حبيش(6).
قال الزبير: و حدّثني شعيب بن عبيدة، عن أبيه، قال:
دخل رجل من قريش على سكينة بنت الحسين عليهما السّلام، قال: فإذا أنا بأشعب متفحّج(7) جالس تحت
ص: 107
السرير، فلما رآني جعل يقرقر مثل الدجاجة فجعلت انظر إليه و أعجب، فقالت: ما لك تنظر إلى هذا؟ قلت: إنه لعجب، قالت: إنه لخبيث، قد أفسد علينا أمورنا بغباوته، فحضنته بيض دجاج، ثم أقسمت أنه لا يقوم عنه حتى ينفق(1). /و هذا الخبر عندنا غير مشروح، و لكن هذا ما سمعناه، و نسخته على الشرح من أخبار إبراهيم بن المهديّ الّتي رواها عنه يوسف بن إبراهيم، و قد ذكر في أخبار سكينة.
و روى عن أحمد بن الحسن البزّاز: وجدت بخط ابن الوشّاء، عن أبي الوشاء، عن الكديمي، عن أبي عاصم قال: قيل لأشعب الطامع: أ رأيت أحدا قط أطمع منك، قال: نعم كلبا يتبعني أربعة أميال على مضغ العلك(2).
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، و عمي عبد العزيز بن أحمد(3)، و حبيب بن نصر المهلّبيّ ، قالوا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدّثني مصعب، عن عثمان بن المنذر، عن عبد اللّه بن أبي بشر بن عثمان بن المغيرة، قال:
سمعت جلبة شديدة مقبلة من البلاط، و أسرعت فإذا جماعة مقبلة، و إذا امرأة قد فرعتهم طولا، و إذا أشعب بين أيديهم بكفّه دفّ و هو يغنّي به و يرقص و يحرف استه و يحركها و يقول:
ألا حيّ الّتي خرجت *** قبيل الصّبح فاختمرت
يقال بعينها رمد *** و لا و اللّه ما رمدت
فإذا تجاوز في الرقص الجماعة رجع إليهم حتى يخالطهم و يستقبل المرأة فيغنّي في وجهها و هي تبسم و تقول:
حسبك الآن، فسألت عنها، فقالوا: هذه جارية صريم المغنية استلحقها صريم عند موته، و اعترف بأنها بنته، فحاكمت ورثته(4) إلى السلطان، فقامت لها البينة فألحقها به و أعطاها الميراث منه، و كانت أحسن خلق اللّه غناء، كان يضرب بها المثل في الحجاز فيقال: أحسن من غناء الصّريميّة.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا الدمشقيّ ، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال: و حدّثني أبي، قال:
/اجتازت جنازة الصّريميّة بأشعب و هو جالس في قوم من قريش فبكى عليها ثم قال: ذهب اليوم الغناء كله، و على أنها الزانية كانت - لا رحمها اللّه - شرّ خلق اللّه، فقيل: يا أشعب ليس بين بكائك عليها و لعنك إيّاها فصل في كلامك، قال: نعم، كنّا نجيئها الفاجرة بكبش، فيطبخ لنا في دارها ثم لا تعشّينا - يشهد اللّه - إلا بسلق.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا مصعب:
بلغ أشعب أن الغاضريّ (5) قد أخذ في مثل مذهبه و نوادره، و أن جماعة قد استطابوه، فرقبه حتى علم أنه في مجلس/من مجالس قريش يحادثهم و يضحكهم فصار إليه، ثم قال له: قد بلغني أنك قد نحوت نحوي و شغلت عنّي من كان يألفني فإن كنت مثلي فافعل كما أفعل، ثم غضّن(6) وجهه و عرّضه و شنّجه حتى صار عرضه أكثر من طوله،
ص: 108
و صار في هيئة لم يعرفه أحد بها، ثم أرسل وجهه و قال له: افعل هكذا و طوّل وجهه حتى كاد ذقنه يجوز صدره، و صار كأنه وجه الناظر في سيفه، ثم نزع ثيابه و تحادب فصار في ظهره حدبة كسنام البعير، و صار طوله مقدار شبر أو أكثر، ثم نزع سراويله و جعل يمد جلد خصييه حتى حكّ بهما الأرض، ثم خلاّهما من يده و مشى و جعل يخنس(1) و هما يخطّان الأرض، ثم قام فتطاول و تمدّد و تمطّى حتى صار أطول ما يكون من الرجال، فضحك و اللّه القوم حتى أغمي عليهم و قطع الغاضريّ فما تكلم بنادرة، و لا زاد على أن يقول: يا أبا العلاء لا أعاود ما تكره، إنما أنا تلميذك و خرّيجك، ثم انصرف أشعب و تركه.
أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ ، قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم، عن إبراهيم بن المهديّ ، عن عبيدة بن أشعب، عن أبيه: أنه كان مولده في سنة تسع من الهجرة، و أن أباه كان من مماليك عثمان، و أنّ أمّه كانت تنقل كلام أزواج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بعضهن إلى بعض، فتلقي بينهن الشّرّ، فتأذّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بذلك، /فدعا اللّه عز و جل عليها فأماتها، و عمّر ابنها أشعب حتى هلك في أيام المهديّ .
و كان في أشعب خلال، منها أنه كان أطيب أهل زمانه عشرة و أكثرهم نادرة، و منها: أنه كان أحسن الناس أداء لغناء سمعه، و منها: أنه أقوم أهل دهره بحجج المعتزلة و كان امرأ منهم.
قال إبراهيم بن المهديّ فحدّثني عبيدة بن أشعب، عن أبيه، قال: بلغني أن عبد اللّه بن عمر كان في مال له(2)يتصدق بثمرته، فركبت ناضحا(3) و وافيته في ماله، فقلت: يا بن أمير المؤمنين و يا بن الفاروق أوقر لي بعيري هذا تمرا، فقال لي: أ من المهاجرين أنت ؟ قلت: اللهمّ لا، قال: فمن الأنصار أنت ؟ فقلت: اللهم لا، قال: أ فمن التابعين بإحسان ؟ فقلت: أرجو، فقال: إلى أن يحقّق رجاؤك، قال: أ فمن أبناء السبيل أنت ؟ قلت: لا، قال: فعلام أوقر لك بعيرك تمرا؟ قلت: لأني سائل، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن أتاك سائل على فرس فلا تردّه»، فقال: لو شئنا أن نقول لك: إنه قال: لو أتاك على فرس، و لم يقل أتاك على ناضح بعير(4) لقلنا، و لكنّي أمسك عن ذلك لاستغنائي عنه؛ لأني قلت لأبي عمر بن الخطاب: إذا أتاني سائل على فرس يسألني أعطيته ؟ فقال: إني سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عما سألتني عنه، فقال لي: نعم إذا لم تصب راجلا و نحن أيها الرّجل نصيب رجّالة فعلام أعطيك و أنت على بعير؟ فقلت له: بحق أبيك الفاروق، و بحق اللّه عز و جل، و بحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لما أوقرته لي تمرا، فقال لي عبد اللّه: أنا موقره لك تمرا، و و حق اللّه و و حق رسوله لئن عاودت استحلافي لا أبررت لك قسمك، و لو أنك اقتصرت على استحلافي بحق أبي عليّ في تمرة أعطيكها لما أنفدت قسمك، لأني سمعت أبي يقول: إن
ص: 109
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: لا تشدّ الرّحال إلى مسجد لرجاء الثواب إلا إلى المسجد الحرام و مسجدي/بيثرب، /و لا يبرّ امرؤ قسم مستحلفه إلا أن يستحلفه بحق اللّه و حق رسوله، ثم قال للسودان في تلك الحال(1): أوقروا له بعيره تمرا، قال: و لما أخذ السودان في حشو الغرائر قلت: إن السودان أهل طرب، و إن أطربتهم أجادوا حشو غرائري، فقلت:
يا بن الفاروق، أ تأذن لي في الغناء فأغنّيك ؟ فقال لي: أنت و ذلك(2)، فاندفعت في النّصب(3)، فقال لي: هذا الغناء الّذي لم نزل نعرفه. ثم غنيته صوتا آخر لطويس المغنّي و هو:
خليليّ ما أخفي من الحب ناطق *** و دمعي بما قلت الغداة شهيد(4)
فقال لي عبد اللّه: يا هناه، لقد حدث في هذا المعنى ما لم نكن نعرفه، قال: ثم غنّيته لابن سريج:
يا عين جودي بالدموع السّفاح *** و ابكي على قتلى قريش البطاح
فقال: يا أشعب، ويحك، هذا يحيق الفؤاد - أراد: يحرق الفؤاد، لأنه كان ألثغ لا يبين بالراء و لا باللام. قال أشعب: و كان بعد ذلك لا يرائي إلا استعادني هذا الصوت.
أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني عمي، قال:
لقي أشعب صديق لأبيه فقال له: ويحك يا أشعب، كان أبوك ألحى و أنت أنطّ(5) فإلى من خرجت ؟ قال: إلى أمّي.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: أخبرنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: حدثنا مصعب بن عبد اللّه، عن مصعب بن عثمان، قال:
لقي أشعب سالم بن عبد اللّه بن عمر فقال: يا أشعب، هل لك في هريس قد أعدّ لنا؟ قال: نعم، بأبي أنت و أمي. قال: فصر إليّ ، فمضى إلى منزله، فقالت له امرأته: قد/وجّه إليك عبد اللّه بن عمرو بن عثمان يدعوك.
قال: ويحك، إن لسالم بن عبد اللّه هريسة قد دعاني إليها، و عبد اللّه بن عمرو في يدي متى شئت، و سالم إنما دعوته للناس فلتة، و ليس لي بدّ من المضيّ إليه. قالت: إذا يغضب عبد اللّه، قال: آكل عنده، ثم أصير إلى عبد اللّه. فجاء إلى سالم و جعل يأكل أكل متعالل فقال له: كل يا أشعب و ابعث ما فضل عنك إلى منزلك، قال: ذاك أردت بأبي أنت و أمّي، فقال: يا غلام، احمل هذا إلى منزله، فحمله و مضى معه فجاء به امرأته فقالت له: ثكلتك أمّك، قد حلف عبد اللّه أن لا يكلّمك شهرا، قال: دعيني و إياه، هاتي شيئا من زعفران، فأعطته و دخل الحمّام يمسح على وجهه و يديه(6) و جلس في الحمام حتى صفّره، ثم خرج متكئا على عصا يرعد، حتى أتى دار عبد اللّه بن عمرو،
ص: 110
فلما رآه حاجبه قال: ويحك، بلغت بك العلّة ما أرى ؟ و دخل و أعلم صاحبه فأذن له، فلما دخل عليه إذا سالم بن عبد اللّه عنده، فجعل يزيد في الرّعدة و يقارب الخطو، فجلس و ما يقدر أن يستقلّ ، فقال عبد اللّه: ظلمناك يا أشعب في غضبنا عليك، فقال له سالم: ما لك ويلك! أ لم تكن عندي آنفا و أكلت هريسة ؟ فقال له: و أيّ أكل ترى بي ؟ قال: ويلك! أ لم أقل لك كيت و كيت و تقل لي كيت و كيت ؟ قال له: شبّه لك، قال: لا حول و لا قوة إلا باللّه، و اللّه إني لأظنّ الشيطان يتشبّه بك. ويلك! أ جادّ أنت ؟ قال: عليّ و عليّ إن كنت خرجت منذ شهر(1). فقال له عبد اللّه:
اعزب ويحك أ تبهته، لا أمّ لك! قال: ما قلت إلا حقّا، قال: بحياتي اصدقني و أنت آمن من غضبي، قال:
لا و حياتك لقد صدق. ثم حدّثه بالقصة فضحك حتى استلقى على قفاه.
ابنه يذكر بعض طرائف أبيه(2)
أخبرني رضوان بن أحمد بن يوسف بن إبراهيم، عن إبراهيم بن المهديّ :
أنّ الرشيد لمّا ولاّه دمشق بعث إليه عبد اللّه بن أشعب، و كان يقدم عليه من الحجاز إذا أراد أن يطرب.
/قال إبراهيم: و كان يحدّثني من حديث أبيه بالطرائف:
عادلته(3) يوما و أنا خارج من دمشق في قبّة على بغل لألهو بحديثه، فأصابنا في الطريق برد شديد فدعوت بدوّاج سمّور(4) لألبسه، فأتيت به فلما لبسته أقبلت على ابن أشعب فقلت: حدّثني بشيء من طمع أبيك. فقال لي:
ما لك و لأبي، ها أنا إذا دعوت بالدّوّاج فما شككت و اللّه في أنك إنما جئت به لي، فضحكت من قوله، و دعوت بغيره فلبسته و أعطيته إياه، ثم قلت له:
أ لأبيك ولد غيرك ؟ فقال: كثير، فقلت: عشرة ؟ قال: أكثر، قلت: فخمسون ؟ قال: أكثر كثير، قلت: مائة ؟ قال: دع المئين و خذ الألوف، فقلت: ويلك! أيّ شيء تقوله ؟ أشعب أبوك ليس بينك و بينه أب، فكيف يكون له ألوف من الولد؟ فضحك ثم قال: لي في هذا خبر ظريف، فقلت له: حدّثني به، فقال:
كان أبي منقطعا إلى سكينة بنت الحسين، و كانت متزوجة بزيد بن عمرو بن عثمان بن عفان و كانت محبّة له، فكان لا يستقر معها، تقول له: أريد الحج فيخرج معها، فإذا أفضوا إلى مكة تقول: أريد الرجوع إلى المدينة، فإذا عاد إلى المدينة، قالت: أريد العمرة، فهو معها في سفر لا ينقضي. قال عبد اللّه: فحدّثني أبي قال:
كانت قد حلّفته بما لا كفّارة له ألا يتزوج عليها و لا يتسرّى و لا يلمّ بنسائه و جواريه إلا بإذنها، و حجّ الخليفة في سنة من السنين فقال لها: قد حج الخليفة و لا بدّ لي من لقائه، قالت: فاحلف بأنك لا تدخل الطائف، و لا تلمّ بجواريك على وجه و لا سبب، فحلف لها بما رضيت به من الأيمان على ذلك، ثم قالت له: احلف بالطلاق، فقال: لا أفعل، و لكن ابعثي معي بثقتك، فدعتني و أعطتني ثلاثين دينارا و قالت لي: اخرج معه، و حلّفتني/بطلاق بنت وردان زوجتي ألا أطلق له الخروج إلى الطائف بوجه و لا سبب، فحلفت لها بما أثلج صدرها، فأذنت له فخرج و خرجت معه. فلما حاذينا الطائف قال لي: يا أشعب، أنت تعرفني و تعرف صنائعي عندك، و هذه ثلاثمائة دينار،
ص: 111
خذها بارك اللّه لك فيها و أذن لي ألمّ بجواريّ ، فلما سمعتها ذهب عقلي ثم قلت: يا سيدي، هي سكينة، فاللّه اللّه فيّ . فقال: أو تعلم سكينة الغيب! فلم يزل بي حتى أخذتها و أذنت له، فمضى و بات عند جواريه. فلما أصبحنا رأيت أبيات قوم من العرب قريبة منا، فلبست حلّة وشي كانت لزيد قيمتها ألف دينار، و ركبت فرسه و جئت إلى النساء فسلّمت فرددن، و نسبنني فانتسبت نسب زيد، فحادثنني و أنسن بي. و أقبل رجال الحيّ ، و كلما جاء رجل سأل عن نسبي فخبّر به هابني و سلّم عليّ و عظّمني و انصرف، إلى أن أقبل شيخ كبير منكر مبطون، فلما خبّر بي و بنسبي شال حاجبيه عن عينه، ثم نظر إليّ و قال: و أبي ما هذه خلقة قرشيّ و لا شمائله، و ما هو إلا عبد لهم نادّ، و علمت أنه يريد شرّا، فركبت الفرس ثم مضيت، و لحقني فرماني بسهم فما أخطأ قربوس السرج، و ما شككت أنه يلحقني بآخر يقتلني فسلحت - يعلم اللّه - في ثيابي فلوّثها و نفذ إلى الحلّة فصيّرها شهرة(1)، و أتيت رحل زيد بن عمرو فجلست أغسل الحلّة و أجففها، و أقبل زيد بن عمرو، فرأى ما لحق الحلّة و السرج، فقال لي: ما القصة ؟ ويلك! فقلت: يا سيدي الصدق أنجى، و حدثته الحديث فاغتاظ ثم قال لي: أ لم يكفك أن تلبس حلتي و تصنع بها ما صنعت، و تركب فرسي و تجلس إلى النساء حتى انتسبت بنسبي و فضحتني، و جعلتني عند العرب ولاّجا جمّاشا(2)، و جرى عليك ذلّ نسب إليّ ، أنا نفيّ من أبي و منسوب إلى أبيك إن لم أسؤك و أبلغ في ذلك.
ثم لقي الخليفة و عاد و دخلنا إلى سكينة، فسألته عن خبره كله فخبرها حتى انتهى إلى ذكر/جواريه، فقالت:
إيه و ما كان من خبرك في طريقك ؟ هل مضيت إلى جواريك بالطائف ؟ فقال لها: لا أدري، سلي ثقتك. فدعتني فسألتني، و بدأت فحلفت لها بكل يمين محرجة أنه ما مرّ بالطائف و لا دخلها و لا فارقني، فقال لها: اليمين الّتي حلف بها لازمة لي إن لم أكن دخلت الطائف و بتّ عند جواريّ و غسّلتهن(3) جميعا، و أخذ مني ثلاثمائة دينار، و فعل كذا و كذا، و حدّثها الحديث كله و أراها الحلّة و السرج، فقالت لي: أ فعلتها يا أشعب! أنا نفيّة من أبي إن أنفقتها إلا فيما يسوؤك، ثم أمرت بكبس(4) منزلي و إحضارها الدنانير فأحضرت، فاشترت بها خشبا و بيضا و سرجينا، و عملت من الخشب بيتا فحبستني فيه و حلفت ألا أخرج منه و لا أفارقه حتى أحضن البيض كلّه إلى أن ينقب، فمكثت أربعين يوما أحضن لها البيض حتى نقب، و خرج منه فراريج كثيرة فربّتهن و تناسلن فكنّ بالمدينة يسمّين بنات أشعب و نسل أشعب، فهؤلاء إلى الآن بالمدينة نسل يزيد على الألوف، كلهن أهلي و أقاربي.
قال إبراهيم: فضحكت و اللّه من قوله ضحكا ما أذكر أنّي ضحكت مثله قط و وصلته، و لم يزل عندي زمانا حتى خرج إلى المدينة و بلغني أنه مات هناك(5).
أخبرني أحمد، قال: حدّثنا مصعب بن عبد اللّه بن عثمان، قال:
قال رجل/لأشعب: إنّ سالم بن عبد اللّه قد مضى إلى بستان فلان و معه طعام كثير، فبادر حتى لحقه فأغلق
ص: 112
الغلام الباب دونه، فتسوّر عليه، فصاح به سالم: بناتي ويلك بناتي، فناداه أشعب: لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا لَنٰا فِي بَنٰاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مٰا نُرِيدُ (1)، فأمر بالطعام فأخرج إليه منه ما كفاه.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني عمّي، قال:
/بعثت سكينة إلى أبي الزّناد فجاءها تستفتيه في شيء، فاطّلع أشعب عليه من بيت و جعل يقوقئ مثل ما تقوقئ الدجاجة، قال: فسبّح أبو الزّناد و قال: ما هذا؟ فضحكت و قالت: إن هذا الخبيث أفسد علينا بعض أمرنا، فحلفت أن يحضن بيضا في هذا البيت و لا يفارقه حتى ينقب، فجعل أبو الزّناد يعجب من فعلها.
و قد أخبرني محمد بن جعفر النحويّ بخبر سكينة الطويل على غير هذه الرواية، و هو قريب منها، و قد ذكرته في أخبار سكينة بنت الحسين مفردا عن أخبار أشعب هذه في أخبارها مع زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: حدثنا مصعب، قال: حدّثني بعض المدنيين، قال:
كان لأشعب حرق في بابه، فكان ينام ثم يخرج يده من الخرق يطمع في أن يجيء إنسان يطرح في يده شيئا من شدة الطمع، فبعث إليه بعض من كان يعبث به من مجّان آل الزبير بعبد له فسلح في يده، فلم يعد بعدها إلى أن يخرج يده.
و أخبرني به الجوهريّ ، عن ابن مهرويه، عن محمد بن الحسن، عن مصعب، عن بعض المدنيين فذكر نحوه و لم يذكر ما فعل به الماجن.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ ، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن محمد الزّبيريّ أبو طاهر، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن أبي قتيلة، قال: حدّثني إسماعيل بن جعفر بن محمد الأعرج أنّ أشعب حدّثه، قال:
جاءني فتية من قريش فقالوا: إنا نحب أن تسمع سالم بن عبد اللّه بن عمر صوتا من الغناء و تعلمنا ما يقول لك، و جعلوا لي على ذلك جعلا فتنني(2)، فدخلت على سالم فقلت: /يا أبا عمر، إنّ لي مجالسة و حرمة و مودة و سنّا، و أنا مولع بالتّرنم، قال: و ما التّرنّم ؟ قلت: الغناء، قال: في أي وقت ؟ قلت: في الخلوة و مع الإخوان في المنزه، فأحب أن أسمعك، فإن كرهته أمسكت عنه، و غنّيته فقال: ما أرى بأسا، فخرجت فأعلمتهم، قالوا: و أي شيء غنيته ؟ قلت: غنيته:
قرّبا مربط النّعامة منّي *** لقحت حرب وائل عن حيالي(3)
ص: 113
فقالوا: هذا بارد و لا حركة فيه، و لسنا نرضى، فلما رأيت دفعهم إياي و خفت ذهاب ما جعلوه لي رجعت فقلت: يا أبا عمر، آخر، فقال: ما لي و لك ؟ فلم أملّكه كلامه حتى غنيت، فقال: ما أرى بأسا، فخرجت إليهم فأعلمتهم فقالوا: و أي شيء غنيته ؟ فقلت: غنّيته قوله:
لم يطيقوا أن ينزلوا و نزلنا *** و أخو الحرب من أطاق النّزالا
فقالوا: ليس هذا بشيء، فرجعت إليه فقال: مه، قلت: و آخر، فلم أملّكه أمره حتى غنيت:
غيّضن من عبراتهنّ و قلن لي: *** ما ذا لقيت من الهوى و لقينا(1)
/فقال: نهلا نهلا(2)، فقلت: لا و اللّه إلا بذاك السّداك، و فيه تمر عجوة من صدقة عمر فقال: هو لك، فخرجت به عليهم و أنا أخطر فقالوا: مه، فقلت: غنّيت الشيخ:
غيّضن من عبراتهنّ و قلن لي *** .....................
فطرب و فرض لي فأعطاني هذا، و كذبتهم، و اللّه ما أعطانيه إلا استكفافا حتى صمت.
/قال ابن أبي سعد: السّداك: الزّبيل الكبير. و فرض لي أي نقّطني، يعني ما يهبه الناس للمغنّين و يسمّونه النّقط.
حدّثني الجوهريّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثني قعنب بن المحرز، عن الأصمعيّ ، قال:
حدّثني جعفر بن سليمان، قال:
قدم أشعب أيام أبي جعفر، فأطاف به فتيان بني هاشم و سألوه أن يغنّيهم فغنّى فإذا ألحانه مطربة(3) و حلقه على حاله، فقال له جعفر بن المنصور: لمن هذا الشعر و الغناء:
لمن طلل بذات الجي *** ش أمسى دارسا خلقا؟
فقال له: أخذت الغناء عن معبد، و هو للدّلال، و لقد كنت آخذ اللحن عن معبد فإذا سئل عنه قال: عليكم بأشعب فإنه أحسن تأدية له مني.
أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، عن عبد اللّه بن مصعب، قال:
قدم جرير المدينة، فاجتمع إليه الناس يستنشدونه و يسألونه عن شعره، فينشدهم و يأخذون عنه و ينصرفون، و لزمه أشعب من بينهم فلم يفارقه، فقال له جرير: أراك أطولهم جلوسا و أكثرهم سؤالا، و إني لأظنّك ألأمهم حسبا، فقال له: يا أبا حزرة، أنا و اللّه أنفعهم لك، قال: و كيف ذلك ؟ قال: أنا آخذ شعرك فأحسّنه و أجوّده، قال:
ص: 114
كيف تحسّنه و تجوّده ؟ قال: فاندفع فغناه في شعره و الغناء لابن سريج:
يا أخت ناجية السّلام عليكم *** قبل الرحيل و قبل لوم العذّل(1)
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم *** يوم الرّحيل فعلت ما لم أفعل
/قال: فطرب جرير حتى بكى و جعل يزحف إليه حتى لصقت ركبته بركبته و قال: أشهد أنك تحسّنه و تجوّده، فأعطاه من شعره ما أراد، و وصله بدنانير و كسوة.
حدّثني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدّثني أبي، قال: قال الهيثم بن عديّ :
لقيت أشعب فقلت له: كيف ترى أهل زمانك هذا؟ قال: يسألون عن أحاديث الملوك و يعطون إعطاء العبيد.
حدّثني أحمد، قال: حدّثني محمد بن القاسم، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا مصعب، قال:
حجّت أم عمر بنت مروان فاستحجبت(2) أشعب و قالت له: أنت أعرف الناس بأهل المدينة، فأذن لهم على مراتبهم، و جلست لهم مليّا، ثم قامت فدخلت القائلة، فجاء طويس فقال لأشعب: استأذن لي على أم عمر، فقال:
ما زالت جالسة و قد دخلت، فقال له: يا أشعب ملكت يومين فلم تفتّ بعرتين و لم تقطع شعرتين، فدقّ أشعب الباب و دخل إليها، فقال لها: أنشدك اللّه يا ابنة مروان، هذا طويس بالباب فلا تتعرّضي للسانه و لا تعرّضيني، فأذنت له، فلما دخل إليها قال لها: و اللّه لئن كان بابك غلقا لقد كان باب/أبيك فلقا(3)، ثم أخرج دفّه و نقر به و غنّى:
ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه *** في النوم غير مصرّد محسوب
كان المنى بلقائها فلقيتها *** فلهوت من لهو امرئ مكذوب
قالت: أيهما أحبّ إليك العاجل أم الآجل ؟ فقال: عاجل و آجل، فأمرت له بكسوة.
/أخبرني الجوهريّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، عن أبي مسلم، عن المدائنيّ ، قال:
حدّث رجل من أهل المدينة أشعب بحديث أعجبه فقال له: في حديثك هذا شيء، قال: و ما هو؟ قال: تقليبه على الرأس.
أخبرني الجوهريّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: أخبرنا أبو مسلم، قال: حدثنا المدائنيّ ، قال:
بعث الوليد بن يزيد إلى أشعب بعد ما طلّق امرأته سعدة فقال له: يا أشعب، لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلّغ رسالتي سعدة، فقال له: أحضر المال حتى انظر إليه، فأحضر الوليد بدرة فوضعها أشعب على عنقه، ثم قال: هات رسالتك يا أمير المؤمنين، قال: قل لها: يقول لك:
ص: 115
أ سعدة هل إليك لنا سبيل *** و هل حتى القيامة من تلاقي ؟!
بلى، و لعلّ دهرا أن يواتي *** بموت من حليلك أو طلاق
فأصبح شامتا و تقرّ عيني *** و يجمع شملنا بعد افتراق
قال: فأتى أشعب الباب، فأخبرت بمكانه، فأمرت ففرشت لها فرش و جلست فأذنت له، فدخل فأنشدها ما أمره، فقالت لخدمها: خذوا الفاسق، فقال: يا سيدتي إنها بعشرة آلاف درهم، قالت: و اللّه لأقتلنّك أو تبلّغه كما بلغتني، قال: و ما تهبين لي ؟ قالت: بساطي الّذي تحتي، قال: قومي عنه، فقالت فطواه ثم قال: هاتي رسالتك جعلت فداءك، قالت: قل له:
أ تبكي على لبنى و أنت تركتها *** فقد ذهبت لبنى فما أنت صانع ؟!
فأقبل أشعب فدخل على الوليد فأنشده البيت، فقال: أوّه! قتلتني و اللّه، ما تراني صانعا بك يا بن الزانية ؟ اختر إمّا أن أدلّيك منكّسا في بئر، أو أرمي بك من فوق القصر/منكّسا، أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربة، فقال:
ما كنت فاعلا بي شيئا من ذلك، قال: و لم ؟ قال: لأنّك لم تكن لتعذّب رأسا فيه عينان قد نظرتا إلى سعدة فقال:
صدقت يا بن الزّانية، اخرج عنّي.
و قد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد، عن حمّاد، عن أبيه، عن الهيثم بن عديّ ، أنّ سعدة لمّا أنشدها أشعب قوله:
أ سعدة هل إليك لنا سبيل *** و هل حتّى القيامة من تلاقي ؟!
قالت: لا و اللّه لا يكون ذلك أبدا، فلما أنشدها:
بلى و لعلّ دهرا أن يواتي *** بموت من حليلك أو طلاق
قالت: كلاّ إن شاء اللّه، بل يفعل اللّه ذلك به، فلمّا أنشدها:
فأصبح شامتا و تقرّ عيني *** و يجمع شملنا بعد افتراق
قالت: بل تكون الشّماتة به، و ذكر باقي الخبر مثل حديث الجوهريّ ، عن ابن مهرويه.
/أخبرني عمّي، قال: حدّثنا محمد بن سعد الكرانيّ ، قال: حدّثنا العمريّ ، عن الهيثم بن عديّ ، قال:
كتب الوليد بن يزيد في إشخاص أشعب من الحجاز إليه و جمله على البريد، فحمل إليه، فلما دخل أمر بأن يلبس تبّانا(1) و يجعل فيه ذنب قرد، و يشدّ في رجليه أجراس، و في عنقه جلاجل، ففعل به ذلك، فدخل و هو عجب من العجب، فلما رآه ضحك منه و كشف عن أيره، قال أشعب: فنظرت إليه كأنّه ناي مدهون، فقال لي: /اسجد للأصمّ ويلك، يعني أيره، فسجدت، ثم رفعت رأسي و سجدت أخرى، فقال: ما هذا؟ فقلت: الأولى للأصمّ ، و الثانية لخصيتيك، فضحك و أمر بنزع ما كان ألبسنيه و وصلني، و لم أزل من ندمائه حتى قتل.
أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:
قال رجل لأشعب إنه أهدي إلى زياد بن عبد اللّه الحارثيّ قبّة أدم قيمتها عشرة آلاف درهم فقال: امرأته الطّلاق
ص: 116
لو أنّها قبّة الإسلام ما ساوت ألف درهم. فقيل له: إن معها جبّة وشي حشوها قزّ قيمتها عشرون ألف دينار، فقال:
أمّه زانية لو أنّ حشوها زغب أجنحة الملائكة ما ساوت عشرين دينارا.
أخبرني عمّي، قال: حدّثني أبو أيوب المدائنيّ ، قال: حدّثني مصعب بن عبد اللّه الزّبيري، عن أبيه، قال:
حدّثني أشعب، قال:
ولي المدينة رجل من ولد عامر بن لؤيّ ، و كان أبخل النّاس و أنكدهم(1)، و أغراه اللّه بي يطلبني في ليله و نهاره، فإن هربت منه هجم على منزلي بالشّرط، و إن كنت في موضع بعث إلى من أكون معه أو عنده يطلبني منه، فيطالبني بأن أحدّثه و أضحكه، ثم لا أسكت و لا ينام(2)، و لا يطعمني و لا يعطيني شيئا، فلقيت منه جهدا عظيما و بلاء شديدا. و حضر الحجّ ، فقال لي: يا أشعب، كن معي، فقلت: بأبي أنت و أمي، أنا عليل، و ليست لي نية في الحج. فقال: عليه و عليه، و قال: إن الكعبة بيت النّار، لئن لم تخرج معي لأودعنّك الحبس حتى أقدم، فخرجت معه مكرها، فلما نزلنا المنزل أظهر أنّه صائم و نام حتى تشاغلت، ثم أكل ما في سفرته، و أمر غلامه أن يطعمني رغيفين بملح، فجئت و عندي أنّه صائم، و لم أزل أنتظر المغرب/أتوقّع إفطاره، فلما صلّيت المغرب قلت لغلامه:
ما ينتظر بالأكل ؟ قال: قد أكل منذ زمان، قلت: أ و لم يكن صائما؟ قال: لا، قلت: أ فأطوي أنا؟ قال: قد أعدّ لك ما تأكله فكل، و أخرج إليّ الرّغيفين و الملح فأكلتهما و بتّ ميّتا جوعا، و أصبحت فسرنا حتى نزلنا المنزل، فقال لغلامه: ابتع لنا لحما بدرهم، فابتاعه، فقال: كبّب لي قطعا، ففعل، فأكله و نصب القدر، فلما اغبرّت قال: اغرف لي منها قطعا، ففعل، فأكلها، ثم قال: اطرح فيها دقّة و أطعمني منها، ففعل، ثم قال: ألق توابلها و أطعمني منها، ففعل؛ و أنا جالس انظر إليه لا يدعوني، فلما استوفى اللّحم كلّه قال: يا غلام، أطعم أشعب، و رمى إليّ برغيفين، فجئت إلى القدر و إذا ليس فيها إلا مرق و عظام، فأكلت الرّغيفين، و أخرج له جرابا فيه فاكهة يابسة، فأخذ منها حفنة فأكلها، و بقي في كفّه كفّ لوز بقشره، و لم يكن له فيه حيلة، فرمى به إليّ و قال: كل هذا يا أشعب، فذهبت أكسر واحدة منها فإذا بضرسي قد انكسرت منه قطعة فسقطت/بين يديّ ، و تباعدت أطلب حجرا أكسره به، فوجدته، فضربت له لوزة فطفرت - يعلم اللّه - مقدار رمية حجر، و عدوت في طلبها، فبينما أنا في ذلك إذ أقبل بنو مصعب - يعني ابن ثابت و إخوته - يلبّون بتلك الحلوق الجهوريّة، فصحت بهم: الغوث الغوث العياذ باللّه و بكم يا آل الزّبير، الحقوني أدركوني، فركضوا إليّ ، فلما رأوني قالوا: أشعب، ما لك ويلك! قلت: خذوني معكم تخلّصوني من الموت، فحملوني معهم، فجعلت أرفرف بيدي كما يفعل الفرخ إذا طلب الزّقّ من أبويه، فقالوا: ما لك ويلك! قلت: ليس هذا وقت الحديث، زقّوني مما معكم، فقد متّ ضرّا و جوعا منذ ثلاث، قال: فأطعموني حتى تراجعت نفسي، و حملوني معهم في محمل، ثم قالوا: أخبرنا بقصّتك، فحدّثتهم و أريتهم ضرسي المكسورة، فجعلوا يضحكون/و يصفّقون و قالوا: ويلك! من أين وقعت على هذا؟ هذا من أبخل خلق اللّه و أدنئهم نفسا، فحلفت بالطّلاق أني لا أدخل المدينة ما دام له بها سلطان، فلم أدخلها حتى عزل.
ص: 117
أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ ، قال: حدّثنا يوسف بن إبراهيم، قال: حدّثنا إبراهيم بن المهديّ ، قال:
حدّثني عبيدة بن أشعب، قال:
كان الغاضريّ مندر(1) أهل المدينة و مضحكهم قبل أبي، فأسقطه أبي و اطّرح، و كان الغاضريّ حسن الوجه مادّ القامة عبلا فخما، و كان أبي قصيرا دميما قليل اللّحم؛ إلاّ أنّه كان يتضرّم و يتوقّد ذكاء و حدّة و خفّة روح، و كان الغاضريّ يحسده إلا أنهما متساويان، و كان الغاضريّ لقيطا منبوذا لا يعرف له أب، فمرّ يوما - و معه فتية من قريش - بأبي في المسجد و قد تأذّي بثيابه فنزعها، و تجرّد و جلس عريانا، فقال لهم الغاضريّ : أنشدتكم اللّه هل رأيتم أعجب من هذه الخلقة! يريد خلقة أبي، فقال له أبي: إنّ خلقتي لعجيبة، و أعجب منها أنه زقّني(2) اثنان فصرت نضوا(3)، و زقّك واحد فصرت بختيّا(4)، قال: و أهل المدينة يسمون المهلوس(5) من الفراخ النّضو و المسرول(6) البختيّ ، فغضب الغاضريّ عند ذلك و شتمه، فسقط و استبرد، و ترك النوادر بعد ذلك، و غلب أبي على أهل المدينة و استطابوه، و كان هذا سببه.
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:
/كان زياد بن عبد اللّه الحارثيّ أبخل خلق اللّه، فأولم وليمة لطهر بعض أولاده، و كان النّاس يحضرون و يقدّم الطّعام فلا يأكلون منه إلا تعلّلا و تشعّثا(7) لعلمهم به، فقدّم فيما قدّم جدي مشويّ فلم يعرض له أحد، و جعل يردّده على المائدة ثلاثة أيّام و الناس يجتنبونه إلى أن انقضت الوليمة، فأصغى أشعب إلى بعض من كان هناك فقال: امرأته الطّلاق إن لم يكن هذا الجدي بعد أن ذبح و شوي أطول عمرا و أمدّ حياة منه قبل أن يذبح، فضحك الرّجل، و سمعها زياد فتغافل.
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك، عن إسحاق، قال: حدّثني إبراهيم بن المهديّ ، عن عبيدة بن أشعب، قال:
غضبت سكينة على أبي في شيء خالفها فيه فحلفت لتحلقنّ لحيته، و دعت بالحجّام فقالت له: احلق لحيته، فقال له الحجّام: انفخ شدقيك حتى أتمكّن منك، فقال له: يا بن البظراء، أمرتك أن تحلق لحيتي أو تعلّمني الزّمر! خبّرني عن امرأتك إذا أردت أن تحلق/حرها تنفخ أشداقه! فغضب الحجّام و حلف ألاّ يحلق لحيته و انصرف، و بلغ سكينة الخبر و ما جرى بينهما فضحكت و عفت عنه.
ص: 118
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أبو العيناء، عن الأصمعيّ ، قال:
أهدى كاتب لزياد بن عبد اللّه الحارثيّ إليه طعاما، فأتي به و قد تغدّى فغضب و قال: ما أصنع به و قد أكلت ؟ ادعوا أهل الصّفة(1) يأكلونه، فبعث إليهم و سأل/كاتبه: فيم دعا أهل الصّفّة ؟ فعرّف، فقال الكاتب: عرّفوه أنّ في السّلال أخبصة(2) و حلواء و دجاجا و فراخا، فأخبر بذلك، فأمر بكشفها، فلما رآها أمر برفعها فرفعت، و جاء أهل الصّفّة فأعلم، فقال: اضربوهم عشرين عشرين درّة، و احبسوهم فإنهم يفسون في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و يؤذون المصلّين، فكلّم فيهم، فقال: حلّفوهم ألاّ يعاودوا و أطلقوهم.
أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا ابن زبالة، قال: حدثنا ابن زبنّج راوية ابن هرمة، عن أبيه، قال:
كان أبان بن عثمان من أهزل النّاس و أعبثهم(3)، و بلغ من عبثه أنه كان يجيء باللّيل إلى منزل رجل في أعلى المدينة له لقب يغضب منه فيقول له: أنا فلان بن فلان، ثم يهتف بلقبه، فيشتمه أقبح شتم و أبان يضحك. فبينما نحن ذات يوم عنده و عنده أشعب إذ أقبل أعرابيّ و معه جمل له، و الأعرابيّ أشقر أزرق أزعر(4) غضوب يتلظّى كأنه أفعى، و يتبيّن الشّرّ في وجهه ما يدنو منه أحد إلا شتمه و نهره، فقال أشعب لأبان: هذا و اللّه من البادية(5) ادعوه، فدعي و قيل له: إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك، فأتاه فسلّم عليه، فسأله أبان عن نسبه فانتسب له، فقال: حيّاك اللّه يا خالي، حبيب ازداد حبّا، فجلس، فقال له: إنّي في طلب جمل مثل جملك هذا منذ زمان فلم أجده كما أشتهي بهذه الصّفة، و هذه القامة، و اللون، و الصدر، و الورك، و الأخفاف، /فالحمد للّه الّذي جعل ظفري به من عند من أحبّه، أ تبيعه ؟ فقال: نعم أيها الأمير، فقال: فإنّي قد بذلت لك به مائة دينار - و كان الجمل يساوي عشرة دنانير - فطمع الأعرابيّ و سرّ و انتفخ، و بان السّرور و الطّمع في وجهه، فأقبل أبان على أشعب ثم قال له: ويلك يا أشعب! إنّ خالي هذا من أهلك و أقاربك - يعني في الطمع - فأوسع له ممّا عندك. فقال له: نعم بأبي أنت و زيادة، فقال له أبان: يا خالي، إنما زدتك في الثمن على بصيرة و إنما الجمل يساوي ستّين دينارا، و لكن بذلت لك مائة لقلّة النّفد عندنا، و إني أعطيك به عروضا(6) تساوي مائة، فزاد طمع الأعرابيّ و قال: قد قبلت ذلك أيّها الأمير، فأسرّ إلى أشعب، فأخرج شيئا مغطّى فقال له: أخرج ما جئت به، فأخرج جرد عمامة خزّ خلق تساوي أربعة دراهم، فقال له:
قوّمها يا أشعب، فقال له: عمامة الأمير تعرف به، و يشهد فيها الأعياد و الجمع و يلقى فيها الخلفاء؛ خمسون دينارا.
ص: 119
فقال: ضعها بين يديه. و قال لابن زبنج، أثبت قيمتها. فكتب ذلك، و وضعت العمامة بين يدي الأعرابيّ ، فكاد يدخل بعضه في بعض غيظا، و لم يقدر على الكلام، ثم قال: هات قلنسوتي، فأخرج قلنسوة طويلة خلقة قد علاها الوسخ و الدّهن و تخرّقت، تساوي نصف درهم، فقال: قوّم، فقال: قلنسوة الأمر تعلو هامته/و يصلّي فيها الصّلوات الخمس، و يجلس للحكم؛ ثلاثون دينارا. قال: أثبت، فأثبت ذلك، و وضعت القلنسوة بين يدي الأعرابيّ ، فتربّد وجهه و جحظت عيناه و همّ بالوثوب، ثم تماسك و هو متقلقل.
ثم قال لأشعب: هات ما عندك، فأخرج خفّين خلقين قد نقبا(1) و تقشّرا و تفتّقا، فقال له: قوّم، فقال: خفّا الأمير يطأ بهما الرّوضة، و يعلو بهما منبر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم؛ /أربعون دينارا. فقال: ضعهما بين يديه فوضعهما. ثم قال للأعرابيّ : اضمم إليك متاعك، و قال لبعض الأعوان: اذهب فخذ الجمل، و قال لآخر: امض مع الأعرابيّ فاقبض منه ما بقي لنا عليه من ثمن المتاع و هو عشرون دينارا، فوثب الأعرابيّ فأخذ القماش فضرب به وجوه القوم لا يألو في شدّة الرّمي به، ثم قال له: أ تدري أصلحك اللّه من أي شيء أموت ؟ قال: لا، قال: لم أدرك أباك عثمان فأشترك و اللّه في دمه إذ ولد مثلك، ثم نهض مثل المجنون حتى أخذ برأس بعيره، و ضحك أبان حتى سقط و ضحك كلّ من كان معه. و كان الأعرابيّ بعد ذلك إذا لقي أشعب يقول له: هلمّ إليّ يا بن الخبيثة حتى أكافئك على تقويمك المتاع يوم قوّم، فيهرب أشعب منه.
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائنيّ ، قال: حدّثني شيخ من أهل المدينة، قال:
كانت بالمدينة عجوز شديدة العين، لا تنظر إلى شيء تستحسنه إلا عانته(2)، فدخلت على أشعب و هو في الموت، و هو يقول لبنته: يا بنيّة، إذا متّ فلا تندبيني، و الناس يسمعونك، فتقولين: وا أبتاه أندبك للصّوم و الصّلوات، وا أبتاه أندبك للفقه و القراءة، فيكذّبك النّاس و يلعنوني. و التفت أشعب فرأى المرأة، فغطّى وجهه بكمّه و قال لها: يا فلانة باللّه إن كنت استحسنت شيئا ممّا أنا فيه فصلّي على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لا تهلكيني. فغضبت المرأة و قالت: سخنت عينك(3)، في أيّ شيء أنت مما يستحسن! أنت في آخر رمق! قال: قد علمت و لكن قلت لئلا تكوني/قد استحسنت خفّة الموت عليّ و سهولة النّزع، فيشتدّ ما أنا فيه. و خرجت من عنده و هي تشتمه، و ضحك كلّ من كان حوله من كلامه، ثم مات.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: حدّثنا أبو أيوب المدينيّ ، عن مصعب، قال:
لاعب أشعب رجلا بالنّرد، فأشرف على أن يقمره إلا بضرب دويكين، و وقع الفصّان في يد ملاعبه، فأصابه
ص: 120
زمع(1) و جزع، فضرب يكين و ضرط مع الضّربة فقال له أشعب: امرأته طالق إن لم أحسب لك الضّرطة بنقطة حتى يصير لك اليكّان دو و يك و تقمر(2). و سلّم له القمر بسبب الضّرطة.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا أحمد، قال: حدّثني أبو أيّوب، عن حمّاد، عن ابن إسحاق، عن أبيه، قال:
قال رجل لأشعب: كان أبوك ألحى و أنت أثطّ(3) فإلى من خرجت ؟ قال: إلى أمّي، فمرّ الرجل و هو يعجب من جوابه، و كان رجلا صالحا.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدّثني الرّياشيّ ، قال:
سمعت أبا عاصم النّبيل يقول: رأيت أشعب و سأله رجل: ما بلغ من طمعك ؟ قال: ما زفّت عروس بالمدينة إلى زوجها قطّ إلا فتحت بابي، رجاء أن تهدي إليّ .
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، عن عمّه، قال:
تظلّمت/امرأة أشعب منه إلى أبي بكر محمد(4) بن عمرو بن حزم و قالت: /لا يدعني أهدأ من كثرة الجماع، فقال له أشعب: أ تراني أعلف و لا أركب، لتكفّ ضرسها لأكفّ أيري.
قال: و شكا خال لأشعب إليه امرأته و أنها تخونه في ماله، فقال له: فديتك لا تأمنن قحبة، و لو أنّها أمّك، فانصرف عنه و هو يشتمه.
أخبرني عمّي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني قعنب بن المحرز، عن الأصمعيّ ، عن جعفر بن سليمان، قال:
قدم علينا أشعب أيّام أبي جعفر، فأطاف به فتيان بني هاشم، و سألوه أن يغنّي فغنّاهم فإذا ألحانه مطربة(5)و حلقه على حاله، فسألوه: لمن هذا اللّحن:
لمن طلل بذات الج *** يش أمسى دارسا خلقا؟
فقال: للدلال، و أخذته عن معبد، و لقد كنت آخذ عنه الصوت، فإذا سئل عنه قال: عليكم بأشعب فإنه أحسن أداء له مني.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: ذكر الزّبير بن بكّار، عن شعيب بن عبيدة بن أشعب، عن أبيه، قال:
كان الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام يعبث بأبي أشدّ عبث، و ربما أراه في عبثه أنه قد ثمل و أنه يعربد عليه، ثم يخرج إليه بسيف مسلول و يريه أنه يريد قتله، فيجري بينهما في ذلك كلّ مستمع، فهجره أبي مدّة طويلة، ثم لقيه يوما، فقال له: يا أشعب، هجرتني و قطعتني و نسيت عهدي، فقال له: بأبي أنت و أمّي، لو كنت تعربد بغير السّيف ما هجرتك، و لكن ليس مع السّيف لعب، فقال له: فأنا أعفيك من هذا فلا تراه منّي أبدا،
ص: 121
و هذه عشرة دنانير، و لك حماري الّذي/تحتي أحملك عليه، و صر إليّ و لك الشرط ألاّ ترى في داري سيفا، قال:
لا و اللّه أو تخرج كلّ سيف في دارك قبل أن نأكل قال: ذلك لك، قال: فجاءه أبي، و وفّى له بما قال من الهبة و إخراج السّيوف، و خلّف عنده سيفا في الدار، فلما توسّط الأمر قام إلى البيت فأخرج السيف مشهورا، ثم قال:
يا أشعب إنما أخرجت هذا السيف لخير أريده بك، قال: بأبي أنت و أمّي، و أيّ خير يكون مع السّيف ؟ أ لست تذكر الشرط بيننا؟ قال له: فاسمع ما أقول لك، لست أضربك به، و لا يلحقك منه شيء تكرهه، و إنما أريد أن أضجعك و أجلس على صدرك، ثم آخذ جلدة حلقك بإصبعي من غير أن أقبض على عصب و لا ودج و لا مقتل، فأحزّها بالسيف، ثم أقوم عن صدرك و أعطيك عشرين دينارا، فقال: نشدتك اللّه يا بن رسول اللّه ألاّ تفعل بي هذا! و جعل يصرخ و يبكي و يستغيث، و الحسن لا يزيده على الحلف له أنه لا يقتله، و لا يتجاوز به أن يحزّ جلده فقط، و يتوعّده مع ذلك بأنّه إن لم يفعله طائعا فعله كارها، حتى إذا طال الخطب بينهما، و اكتفى الحسن من المزح معه، أراه أنّه يتغافل عنه، و قال له: أنت لا تفعل هذا طائعا، و لكن أجيء بحبل فأكتفك به، و مضى كأنه يجيء بحبل، فهرب أشعب و تسوّر حائطا بينه و بين عبد اللّه بن حسن أخيه فسقط إلى داره، فانفكّت رجله و أغمي عليه، فخرج عبد اللّه فزعا، فسأله عن قصته، فأخبره، فضحك منه و أمر له بعشرين دينارا، و أقام في منزله/يعالجه و يعوله إلى أن صلحت حاله. قال: و ما رآه الحسن بن الحسن بعدها.
و أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني عمّي، قال:
دعا حسن بن حسن بن عليّ عليهم السّلام أشعب، فأقام عنده، فقال لأشعب يوما: أنا أشتهي كبد هذه الشّاة - لشاة عنده عزيزة عليه فارهة - فقال له أشعب: /بأبي أنت و أمّي اعطنيها و أنا أذبح لك أسمن شاة بالمدينة، فقال:
أخبرك أني أشتهي كبد هذه و تقول لي: أسمن شاة بالمدينة، اذبح يا غلام، فذبحها و شوى له من كبدها و أطايبها، فأكل. ثم قال لأشعب من الغد: يا أشعب أنا أشتهي من كبد نجيبي هذا - لنجيب كان عنده ثمنه ألوف دراهم - فقال له أشعب: يا سيدي في ثمن هذا و اللّه غناي، فأعطنيه و أنا و اللّه أطعمك من كبد كلّ جزور بالمدينة، فقال: أخبرك أنّي أشتهي من كبد هذا و تطعمني من غيره! يا غلام انحر، فنحر النّجيب و شوى كبده فأكلا، فلما كان اليوم الثالث قال له: يا أشعب، أنا و اللّه أشتهي أن آكل من كبدك، فقال له: سبحان اللّه أ تأكل من أكباد النّاس! قال: قد أخبرتك، فوثب أشعب فرمى بنفسه من درجة عالية فانكسرت رجله، فقيل له: ويلك أ ظننت أنّه يذبحك ؟ فقال: و اللّه لو أنّ كبدي و جميع أكباد العالمين جميعا اشتهاها لأكلها. و إنّما فعل حسن بالشّاة و النّجيب ما فعل توطئة للعبث بأشعب.
تمت أخباره.
ألمّت خناس و إلمامها *** أحاديث نفس و أحلامها
يمانية من بني مالك *** تطاول في المجد أعمامها
الشعر لعويف القوافي الفزاريّ و الغناء للهذليّ رمل بالوسطى، عن عمرو، و ذكر حمّاد(1) بن إسحاق، عن أبيه أن فيه لحنا لجميلة و لم يذكر طريقته، و فيه لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى.
ص: 122
هو عويف بن معاوية بن عقبة بن حصن، و قيل: ابن عقبة بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤيّة بن لوذان بن ثعلبة بن عديّ بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.
و عويف القوافي شاعر مقلّ من شعراء الدّولة الأمويّة من ساكني الكوفة، و بيته أحد البيوت المقدّمة الفاخرة في العرب.
قال أبو عبيدة: حدّثني أبو عمرو بن العلاء أنّ العرب كانت تعدّ البيوتات المشهورة بالكبر و الشّرف من القبائل بعد بيت هاشم بن عبد مناف في قريش ثلاثة بيوت، و منهم من يقول أربعة، أولها بيت آل حذيفة بن بدر الفزاريّ بيت قيس، و بيت آل زرارة بن عدس الدّارميّين بيت تميم، و بيت آل ذي الجدّين بن عبد اللّه بن همّام بيت شيبان، و بيت بني الدّيان من بني الحارث بن كعب بيت اليمن.
و أما كندة فلا يعدّون/من أهل البيوتات، إنما كانوا ملوكا.
و قال ابن الكلبيّ : قال كسرى للنّعمان: هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة ؟ قال: نعم. قال: بأيّ شيء؟ قال: من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء، ثم اتّصل ذلك بكمال الرّابع، و البيت من قبيلته فيه، قال: فاطلب لي ذلك، فطلبه فلم يصبه إلا في آل حذيفة بن بدر بيت قيس بن عيلان، و آل حاجب بن زرارة بيت تميم، و آل ذي الجدّين بيت شيبان، و آل الأشعث بن قيس بيت كندة. قال: فجمع هؤلاء/الرّهط و من تبعهم من عشائرهم، فأقعد لهم الحكّام العدول، فأقبل من كلّ قوم منهم شاعرهم، و قال لهم: ليتكلّم كلّ رجل منكم بمآثر قومه و فعالهم، و ليقل شاعرهم فيصدق، فقام حذيفة بن بدر - و كان أسنّ القوم و أجرأهم مقدما - فقال: لقد علمت معدّ أنّ منا الشّرف الأقدم، و العزّ الأعظم، و مأثرة الصّنيع الأكرم، فقال من حوله: و لم ذاك يا أخا فزارة ؟ فقال: ألسنا الدّعائم الّتي لا ترام، و العزّ الّذي لا يضام! قيل له: صدقت، ثم قام شاعرهم فقال:
فزارة بيت العزّ و العزّ فيهم *** فزارة قيس حسب قيس نضالها
لها العزّة القعساء و الحسب الّذي *** بناه لقيس في القديم رجالها
فمن ذا إذا مدّ الأكفّ إلى العلا *** يمدّ بأخرى مثلها فينالها
فهيهات قد أعيا القرون مضت *** مآثر قيس مجدها و فعالها
ص: 123
و هل أحد إن مدّ يوما بكفّه *** إلى الشمس في مجرى النّجوم ينالها!
و إن يصلحوا يصلح لذاك جميعنا *** و إن يفسدوا يفسد على النّاس حالها(1)
ثم قام الأشعث بن قيس - و إنّما أذن له أن يقوم قبل ربيعة و تميم لقرابته بالنّعمان - فقال: لقد علمت العرب أنّا نقاتل عديدها الأكثر، و قديم زحفها الأكبر، و أنا غياث اللّزبات(2). فقالوا: لم يا أخا كندة ؟ قال: لأنّا ورثنا ملك كندة فاستظللنا بأفيائه، و تقلّدنا منكبه الأعظم، و توسّطنا بحبوحة الأكرم، ثم قام شاعرهم فقال:
/إذا قست أبيات الرّجال ببيتنا *** وجدت له فضلا على من يفاخر
فمن قال: كلاّ أو أتانا بخطّة *** ينافرنا يوما فنحن نخاطر
تعالوا فعدّوا يعلم النّاس أيّنا *** له الفضل فيما أورثته الأكابر
ثم قام بسطام بن قيس فقال: لقد علمت ربيعة أنّا بناة بيتها الّذي لا يزول، و مغرس عزّها الّذي لا ينقل، قالوا: و لم يا أخا شيبان ؟ قال: لأنّا أدركهم للثّأر، و أقتلهم للملك الجبّار، و أقولهم للحقّ ، و ألدّهم للخصم، ثم قام شاعرهم فقال:
لعمري لبسطام أحقّ بفضلها *** و أولى ببيت العزّ عزّ القبائل
فسائل - أبيت اللّعن - عن عزّ قومنا *** إذا جدّ يوم الفخر كلّ مناضل
أ لسنا أعزّ النّاس قوما و أسرة *** و أضربهم للكبش(3) بين القبائل
فيخبرك الأقوام عنها فإنها(4) *** وقائع ليست نهزة للقبائل
/وقائع عزّ كلّها ربعيّة *** تذلّ لهم فيها رقاب المحافل
إذا ذكرت لم ينكر النّاس فضلها *** و عاذ بها من شرّها كلّ قائل
و إنّا ملوك النّاس في كل بلدة *** إذا نزلت بالنّاس إحدى الزّلازل
ثم قام حاجب بن زرارة فقال: لقد علمت معدّ أنّا فرع دعامتها، و قادة زحفها، فقالوا له: بم ذاك يا أخا بني تميم ؟ قال: لأنّا أكثر الناس إذا نسبنا عددا(5)، و أنجبهم ولدا، و أنّا أعطاهم للجزيل، و أحملهم للثّقيل، ثم قام شاعرهم فقال:
لقد علمت أبناء(6) خندف أنّنا *** لنا العزّ قدما في الخطوب الأوائل
و أنّا هجان(7) أهل مجد و ثروة *** و عزّ قديم ليس بالمتضائل
/فكم فيهم من سيّد و ابن سيّد *** أغرّ نجيب ذي فعال و نائل
ص: 124
فسائل - أبيت اللّعن - عنّا فإنّنا *** دعائم هذا النّاس عند الجلائل
ثم قام قيس بن عاصم فقال: لقد علم هؤلاء أنّا أرفعهم في المكرمات دعائم، و أثبتهم في النّائبات مقاوم، قالوا: و لم ذاك يا أخا بني سعد؟ قال: لأنّا أمنعهم للجار، و أدركهم للثأر، و أنّا لا ننكل(1) إذا حملنا، و لا نرام إذا حللنا، ثم قام شاعرهم فقال:
لقد علمت قيس و خندف كلّها *** و جلّ تميم و الجموع الّتي ترى(2)
بأنّا عماد في الأمور و أنّنا *** لنا الشّرف الضّخم المركّب في النّدى
و أنّا ليوث النّاس في كل مأزق *** إذا اجتزّ بالبيض الجماجم و الطّلى(3)
و أنّا إذا داع دعانا لنجدة *** أجبنا سراعا في العلا ثمّ من دعا
فمن ذا ليوم الفخر يعدل عاصما *** و قيسا إذا مدّ الأكفّ إلى العلا
فهيهات قد أعيا الجميع فعالهم *** و فاتوا بيوم الفخر مسعاة من سعى
فلما سمع كسرى ذلك منهم قال(4): ليس منهم إلا سيّد يصلح لموضعه، فأثنى حباءهم.
و إنّما قيل لعويف: عويف القوافي لبيت قاله، نسخت خبره في ذلك من كتاب محمد بن الحسن بن دريد و لم أسمعه منه. قال: أخبرنا السّكن بن سعيد، عن محمد بن عبّاد، عن ابن الكلبيّ ، قال:
أقبل عويف القوافي - و هو عويف بن معاوية بن عقبة بن حصن بن حذيفة/الفزاريّ ، و إنّما قيل له عويف القوافي، كما حدّثني عمّار بن أبان بن سعيد بن عيينة، ببيت قاله:
سأكذب من قد كان يزعم أنّني *** إذا قلت قولا لا أجيد القوافيا
قال: فوقف على جرير بن عبد اللّه البجليّ و هو في مجلسه(5) فقال:
أصبّ على بجيلة من شقاها *** هجائي حين أدركني المشيب
فقال له جرير: أ لا أشتري منك أعراض بجيلة ؟ قال: بلى، قال: بكم ؟ قال: بألف درهم و برذون، فأمر له بما طلب فقال:
لو لا جرير هلكت بجيله *** نعم الفتى و بئست القبيله
فقال جرير: ما أراهم نجوا منك بعد.
نسخت من كتاب أبي سعيد السكريّ في كتاب/ «من قال بيتا فلقّب به» قال: أخبرني محمد بن حبيب قال:
و إنّما قيل لعويف: عويف القوافي لقوله، و قد كان بعض الشعراء عيّره بأنّه لا يجيد الشّعر، فقال أبياتا منها:
ص: 125
سأكذب من قد كان يزعم أنّني *** إذا قلت شعرا(1) لا أجيد القوافيا
فسمّي عويف القوافي.
أخبرنا محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثني أحمد(2) بن إسحاق، عن أبيه، قال: حدّثني عزيز بن طلحة بن عبد اللّه بن عثمان بن الأرقم المخزوميّ ، قال: حدّثني غير واحد من مشيخة قريش، قالوا:
لم يكن رجل من ولاة أولاد عبد الملك بن مروان كان أنفس على قومه، و لا أحسد/لهم من الوليد بن عبد الملك. فأذن يوما للنّاس فدخلوا عليه؛ و أذن للشّعراء، فكان أوّل من بدر بين يديه عويف القوافي الفزاريّ ، فاستأذنه في الإنشاد فقال: ما بقّيت لي بعد ما قلت لأخي بني زهرة! قال: و ما قلت له مع ما قلت لأمير المؤمنين ؟ قال: أ لست الّذي تقول:
يا طلح أنت أخو النّدى و حليفه *** إنّ النّدى من بعد طلحة ماتا
إنّ الفعال إليك أطلق رحله *** فبحيث بتّ من المنازل باتا
أ و لست الّذي تقول:
إذا ما جاء يومك يا بن عوف *** فلا مطرت على الأرض السّماء
و لا سار البشير(3) بغنم جيش *** و لا حملت على الطّهر النّساء
تساقى الناس بعدك يا بن عوف *** ذريع الموت ليس له شفاء
أ لم تقم علينا السّاعة يوم قامت عليه ؟ لا و اللّه لا أسمع منك شيئا، و لا أنفعك بنافعة أبدا، أخرجوه عنّي.
فلما أخرج قال له القرشيّون و الشاميّون: و ما الّذي أعطاك طلحة حين استخرج هذا منك ؟ قال: أما و اللّه لقد أعطاني غيره أكثر من عطيّته، و لكن لا و اللّه ما أعطاني أحد قطّ أحلى في قلبي و لا أبقى شكرا و لا أجدر ألاّ أنساها ما عرفت الصّلات من عطيّته، قالوا: و ما أعطاك ؟ قال: قدمت المدينة و معي بضيعة(4) لي لا تبلغ عشرة دنانير، أريد أن أبتاع قعودا من قعدان الصّدقة، فإذا برجل في صحن السّوق على طنفسة(5) قد طرحت له، و إذا النّاس حوله، و إذا بين يديه إبل معلوفة(6) له، فظننت/أنه عامل السّوق، فسلّمت عليه، فأثبتني و جهلته، فقلت: أي رحمك اللّه، هل أنت معيني ببصرك على قعود من هذه القعدان تبتاعه لي ؟ فقال: نعم، أو معك ثمنه ؟ فقلت: نعم، فأهوى بيده إليّ فأعطيته بضيعتي، فرفع طنفسته و ألقاها تحتها، و مكث طويلا، ثم قمت إليه فقلت: أي رحمك اللّه، انظر في حاجتي فقال: ما منعني منك إلا النّسيان، أ معك حبل ؟ قلت: نعم، قال: هكذا أفرجوا، فأفرجوا عنه حتى استقبل
ص: 126
الإبل الّتي بين يديه، فقال: اقرن(1) هذه و هذه و هذه، فما برحت حتى أمر لي بثلاثين بكرة أدنى بكرة منها - و لا دنيّة فيها - خير من بضاعتي. ثم رفع طنفسته فقال: و شأنك ببضاعتك فاستعن بها على من ترجع إليه، فقلت: أي رحمك اللّه، أ تدري ما تقول! فما بقي عنده إلا من نهرني و شتمني، ثم بعث معي نفرا فأطردوها حتى أطلعوها من رأس/الثّنيّة، فو اللّه لا أنساه ما دمت حيّا أبدا.
و هذا الصّوت المذكور تمثّل به إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن بن حسن بن عليّ يوم مقتله.
حدّثني ابن عبيد اللّه(2) بن عمّار، قال: حدّثني ميسرة بن سيّار(3) أبو محمد، قال: حدّثني إبراهيم بن علي الرّافقيّ ، عن المفضّل الضّبّيّ ، و حدّثنا يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم، و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قالا:
حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني عبد الملك بن سليمان، عن عليّ بن الحسن، عن المفضّل الضّبّيّ ؛ و رواية ابن عمّار أتمّ من هذه الرّواية(4).
/و نسخت هذا الخبر أيضا من بعض الكتب عن أبي حاتم السّجستانيّ ، عن أبي عثمان اليقطريّ (5)، عن أبيه، عن المفضّل، و هو أتم الرّوايات، و أكثر اللفظ له قال:
قال المفضّل: خرجت مع إبراهيم بن عبد اللّه بن حسن بن حسن، فلمّا صار بالمربد، وقف على رأس سليمان بن عليّ فأخرج إليه صبيان من ولده، فضمّهم(6) إليه و قال: هؤلاء و اللّه منّا و نحن منهم، إلا أنّ آباءهم فعلوا بنا و صنعوا، و ذكر كلاما يعتدّ عليهم فيه بالإساءة، ثم توجّه لوجهه و تمثّل:
مهلا بني عمّنا ظلامتنا *** إنّ بنا سورة من القلق
لمثلكم نحمل السيوف و لا *** تغمز أحسابنا من الدّقق(7)
إنّي لأنمي إذا انتميت إلى *** عزّ عزيز و معشر صدق
بيض سباط كأنّ أعينهم *** تكحل يوم الهياج بالعلق(8)
فقلت: ما أفحل هذه الأبيات، فلمن هي ؟ قال: لضرار بن الخطّاب الفهريّ ، قالها يوم الخندق، و تمثّل بها عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يوم صفّين، و الحسين بن عليّ يوم قتل، و زيد بن عليّ عليهم السّلام، و لحق القوم، ثم مضى إلى باخمرى(9)، فلما قرب منها أتاه نعي أخيه محمد، فتمثّل:
نبّئت أنّ بني ربيعة أجمعوا *** أمرا خلالهم لتقتل خالدا
إن يقتلوني لا تصب أرماحهم *** ثأري و يسعى القوم سعيا جاهدا
ص: 127
أرمي الطريق و إن صددت بضيقه *** و أنازل البطل الكميّ الجاحدا
/فقلت: لمن هذه الأبيات ؟ فقال: للأحوص بن جعفر بن كلاب، تمثّل بها يوم شعب جبلة، و هو اليوم الّذي لقيت فيه قيس تميما، قال: و أقبلت عساكر أبي جعفر، فقتل من أصحابه و قتل من القوم، و كاد أن يكون الظّفر له(1).
قال ابن عمّار في حديثه: قال المفضّل: فقال لي: حرّكني بشيء، فأنشدته هذه الأبيات:
ألا أيّها النّاهي فزارة بعد ما *** أجدّت بسير إنما أنت حالم
أبى كلّ حرّ أن يبيت بوتره *** و يمنع منه النوم إذا أنت نائم
أقول لفتيان العشيّ : تروّحوا *** على الجرد في أفواههنّ الشّكائم
قفوا وقفة من يحي لا يخز بعدها *** و من يخترم لا تتّبعه اللّوائم
و هل أنت إن باعدت نفسك منهم *** لتسلم فيما بعد ذلك سالم
فقال لي: أعد، فتنبّهت، و ندمت، فقلت: أو غير ذلك ؟ فقال: لا، أعدها، فأعدتها، فتمطّى في ركابيه حتى خلته قد قطعهما، ثم خمل فكان آخر العهد به.
هذه رواية ابن عمّار، و في الرواية الأخرى/: فحمل فطعن رجلا، و طعنه آخر، فقلت: أ تباشر الحرب بنفسك و العسكر منوط بك ؟ فقال: إليك يا أخا بني ضبّة، كأنّ عويفا أخا بني فزارة نظر في يومنا هذا حيث يقول:
ألمّت خناس و إلمامها *** أحاديث نفس و أحلامها(2)
يمانيّة من بني مالك *** تطاول في المجد أعمامها
/و إنّ لنا أصل جرثومة *** تردّ الحوادث أيّامها
تردّ الكتيبة مغلولة *** بها أفنها و بها آمها(3)
قال: و جاءه السّهم العائر(4) فشغله عني.
أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ ، قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ ، قال: حدّثني محمد بن معاوية الأسديّ ، قال: حدّثني أصحابنا الأسديّون، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ ، قال:
حضرت مع عمر بن عبد العزيز جنازة، فلما انصرف انصرفت معه، و عليه عمامة قد سدلها من خلفه، فما علمت به حتى اعترضه رجل على بعير فصاح به:
أجبني أبا حفص لقيت محمدا *** على حوضه مستبشرا و رآكا(5)
ص: 128
فقال له عمر: لبّيك، و وقف و وقف النّاس معه، ثم قال له: فمه، فقال:
فأنت امرؤ كلتا يديك مفيدة *** شمالك خير من يمين سواكا
قال: ثم مه، فقال:
بلغت مدى المجرين قبلك إذ جروا *** و لم يبلغ المجرون بعد مداكا(1)
فجدّاك لا جدّين أكرم منهما *** هناك تناهي المجد ثم هناكا
فقال له عمر: أ لا أراك شاعرا! ما لك عندي من حقّ ، قال: لا، و لكني سائل/و ابن سبيل و ذو سهمة(2).
فالتفت عمر إلى قهرمانه فقال: أعطه فضل نفقتي، قال: و إذا هو عويف القوافي الفزاريّ .
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدّثنا أبو غسّان دماذ، عن أبي عبيدة، قال:
لما كان يوم ابن جرح، و افتتلت(3) بنو مرّة و بنو حنّ بن عذرة، قال عويف القوافي لبني مرّة يهجوهم و يوبّخهم بتركهم نصرهم:
كنّا لكم يا مرّ أمّا حفيّة *** و كنتم لنا يا مرّ بوّا(4) مجلّدا
و كنتم لنا سيفا و كنّا وعاءه *** إذا نحن خفنا أن يكلّ فيغمدا
فأجابه عقيل بن علّفة بقصيدته الّتي أوّلها:
أ ماويّ إنّ الركب مرتحل غدا *** و حقّ ثويّ نازل أن يزوّدا
يقول فيها يخاطب عويفا:
إذا قلت: قد سامحت سهما و مازنا(5) *** أبى النّسب الدّاني و كفرهم اليدا
و قد أسلموا أستاههم لقبيلة *** قضاعيّة يدعون حنّا(6) و أصيدا
فما كنت أمّا بل جعلتك لي أخا *** و قد كنت في النّاس الطّريد المشرّدا
عويف استها قد رمت ويلك مجدنا *** قديما فلم تعد الحمار المقيّدا
/و لو أنّني يوم ابن جرح لقيتهم *** لجرّدت في الأعداء عضبا مهنّدا
و أبيات عويف هذه يقولها يوم مرج راهط؛ و هي الحرب الّتي كانت بين قيس و كلب.
ص: 129
أخبرني بالسّبب فيه أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ ، قال: أخبرني سليمان بن أيّوب بن أعين أبو أيّوب المدينيّ (1)، قال: حدّثنا المدائنيّ ، قال:
كان بدء حرب قيس و كلب في فتنة ابن الزّبير ما كان من وقعة مرج راهط، و كان من قصّة المرج أنّ مروان بن الحكم بن أبي العاص قدم بعد هلاك يزيد بن معاوية و النّاس يموجون، و كان سعيد بن بحدل الكلبيّ على قنّسرين، فوثب عليه زفر بن الحارث فأخرجه منها و بايع لابن الزّبير، فلما قعد زفر على المنبر قال: الحمد للّه الّذي أقعدني مقعد الغادر الفاجر، و حصر، فضحك الناس من قوله، و كان النّعمان بن بشير على حمص، فبايع لابن الزّبير. و كان حسّان(2) بن بحدل على فلسطين و الأردنّ ، فاستعمل على فلسطين روح بن زنباع الجذاميّ ، و نزل هو الأردنّ فوثب نابل بن قيس الجذاميّ على روح بن زنباع، فأخرجه من فلسطين و بايع لابن الزّبير.
و كان الضّحّاك بن قيس الفهريّ عاملا ليزيد بن معاوية على دمشق حتى هلك، فجعل يقدّم رجلا و يؤخّر أخرى، إذا جاءته اليمانية و شيعة بني أميّة أخبرهم أنه أمويّ ، و إذا جاءته القيسيّة أخبرهم أنه يدعو إلى ابن الزّبير، فلما قدم مروان قال له الضّحّاك: هل لك أن تقدم على ابن الزّبير ببيعة أهل الشام ؟ قال: نعم، و خرج من عنده، فلقيه عمرو بن سعيد بن العاص، و مالك بن هبيرة، و حصين بن نمير الكنديّان، و عبيد اللّه بن زياد، فسألوه عمّا أخبره به الضّحّاك، فأخبرهم، فقالوا له: أنت شيخ بني أميّة، و أنت عمّ الخليفة، هلمّ نبايعك. فلما فشا ذلك أرسل الضّحّاك إلى بني أميّة/يعتذر إليهم، و يذكر حسن بلائهم عنده، و أنّه لم يرد شيئا يكرهونه، فاجتمع مروان بن الحكم، و عمرو بن سعيد بن العاص، و خالد و عبد اللّه ابنا يزيد بن معاوية و قال لهم: اكتبوا إلى حسّان بن بحدل فليسر من الأردنّ حتى ينزل الجابية، و نسير من هاهنا حتى نلقاه، فيستخلف رجلا ترضونه، فكتبوا إلى حسّان، فأقبل في أهل الأردنّ ، و سار الضّحّاك بن قيس و بنو أميّة في أهل دمشق، فلما استقلّت الرّايات من جهة دمشق، قالت القيسيّة للضّحّاك: دعوتنا لبيعة ابن الزّبير، و هو رجل هذه الأمّة، فلما تابعناك خرجت تابعا لهذا الأعرابيّ من كلب تبايع لابن أخته تابعا له، قال: فتقولون ما ذا؟ قالوا: نقول: أن تنصرف و تظهر بيعة ابن الزّبير و نظهرها معك، فأجابهم إلى ذلك، و سار حتى نزل مرج راهط، و أقبل حسّان حتى لقي مروان بن الحكم، فسار حتى دخل دمشق، فأتته اليمانية تشكر بلاء بني أميّة، فساروا مع مروان حتى نزلوا المرج على الضّحّاك، و هم نحو سبعة آلاف، و الضّحّاك في نحو من ثلاثين ألفا، فلقوا الضّحّاك، فقتل الضحّاك، و قتل معه أشراف من قيس، فأقبل زفر هاربا من وجهه ذاك حتى دخل قرقيسيا، و أقام عمير بن الحباب شيئا على طاعة بني مروان، ثم أقبل حتى دخل قرقيسيا على زفر فأقام معه، و ذلك بعد يوم خازر(3) حين قتل عبيد اللّه/بن زياد.
ص: 130
و أقبل زفر يبكي قتلى المرج و يقول:
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط *** لمروان صدعا بيننا متنائيا
أ تذهب كلب لم تنلها رماحنا *** و يترك قتلى راهط هي ماهيا!
/فقد ينبت المرعى على دمن الثّرى *** و تبقى حزازات النّفوس كما هيا
أبعد ابن صقر و ابن عمرو تتابعا *** و مصرع همّام أمني الأمانيا(1)!
فقال ابن المخلاة الكلبيّ يجيبه:
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط *** على زفر داء من الدّاء باقيا
تبكّي على قتلى سليم و عامر *** و ذبيان مغرورا(2) و تبكى البواكيا
و قال ابن المخلاة في يوم المرج:
و يوم ترى الرّايات فيه كأنّها *** حوائم طير مستدير و واقع
مضى أربع بعد اللّقاء و أربع *** و بالمرج باق من دم القوم(3) ناقع
طعنّا زيادا في استه و هو مدبر *** و ثور أصابته السّيوف القواطع
و نجّى حبيشا ملهب(4) ذو علالة *** و قد جذّ من يمنى يديه الأصابع
و قد شهد الصّفّين عمرو بن محرز *** فضاق عليه المرج و المرج واسع
و قال رجل من بني عذرة:
سائل بني مروان أهل العجّ (5) *** رهط النّبيّ و ولاة الحجّ
عنّا و عن قيس غداة المرج *** إذ يثقفون ثقفا بنجّ (6)
تسديس أطراف القنا المعوجّ *** إذ أخلف الضّحّاك ما يرجّي
مذ تركوا من بعد طول هرج(7) *** لحم ابن قيس للضّباع العرج
/و قال جوّاس بن القعطل(8) الكلابيّ في يوم المرج:
هم قتلوا براهط جدّ قيس(9) *** سليما و القبائل من كلاب
ص: 131
و هم قتلوا بني بدر و عبسا *** و ألصق حرّ وجهك(1) بالتّراب
تذكّرت الذّحول(2) فلن تقضّى *** ذحولك(2) أو تساق إلى الحساب
إذا سارت قبائل من جناب *** و عوف أشحنوا(3) شمّ الهضاب
و قد حاربتنا فوجدت حربا *** تغصّك حين تشرب بالشّراب
فأقبل عمير يخطر، فخرج من قرقيسيا يتطرّف(4) بوادي كلب، فيغير عليها و على من أصاب من قضاعة و أهل اليمن، و يخصّ كلبا و معشر تغلب(5)، قبل أن تقع الحرب بين قيس و تغلب، فجعل أهل البادية ينتصفون من أهل القرار(6) كلّهم. فلما رأت كلب ما لقي أصحابهم، و أنهم لا يمتنعون من خيل الحاضرة، اجتمعوا إلى حميد بن حريث بن بحدل، فسار بهم حتى نزل تدمر، و به بنو نمير، و قد كان بين النّميريّين خاصة و بين الكلبيّين الذين بتدمر عقد مع ابن بحدل بن بعّاج الكلبيّ ، فأرسلت بنو نمير رسلا إلى حميد يناشدونه الحرمة، فوثب عليهم/ابن بعّاج الكلبيّ فذبحهم، و أرسلوا إليهم: إنّا قد قطعنا الّذي بينا و بينكم، فالحقوا بما يسعكم من/الأرض، فالتقوا فقتل ابن بعّاج و ظفر بالنّميريّين فقتلوا قتلا ذريعا و أسروا(7)، فقال راعي الإبل في قتل ابن بعّاج و لم يذكر غيره من الكلبيّين:
تجيء(8) ابن بعّاج نسور كأنّها *** مجالس تبغي بيعة عند تاجر
تطيف بكلبي عليه جديّة(9) *** طويل القرا(10) يقذفنه في الحناجر
يقول له من كان يعلم علمه *** كذاك انتقام اللّه من كلّ فاجر
و قد كان زفر بن الحارث لمّا أغار عمير بن الحباب على الكلبيّين قال يعيّرهم بقوله:
يا كلب قد كلب الزّمان عليكم *** و أصابكم منّي عذاب مرسل
إنّ السّماوة لا سماوة فالحقي *** بمنابت الزّيتون و ابني بحدل(11)
و بأرض عكّ و السّواحل إنّها *** أرض تذوّب باللّقاح و تهزل(12)
ص: 132
فجمع لهم حميد بن الحريث بن بحدل، ثم خرج يريد الغارة على بوادي قيس، فانتهى إلى ماء لبني تغلب، فإذا النّساء و الصّبيان يبكون، فقالت لهم النساء - و هن يحسبنهم قيسا -: ويحكم، ما ردّكم إلينا، فقد فعلتم بنا بالأمس ما فعلتم! فقالت لهم كلب: و ما لكم ؟ قالوا: أغار علينا بالأمس عمير بن الحباب، فقتل رجالنا، و استاق أموالنا، و لم يشككن أنّ الخيل خيل قيس و أنّ عميرا عاد إليهن، فقال بعض كلب لحميد: ما تريد من نسوة قد أغير عليهن و حربن، و صبية يتامى، و تدع عميرا. فاتّبعوه، فبينا هم يسيرون إذ أخذوا رجلا ربيئة للقوم. فسألوه فقال لهم: هذا الجيش/هاهنا و الأموال، و قد خرج عمير في فوارس يريد الغارة على أهل بيت من بني زهير بن جناب، أخبر عنهم مخبر، فأقام حميد حتى جنّ عليه اللّيل، ثم بيّت القوم بياتا. و قال حميد لأصحابه: شعاركم: نحن عباد اللّه حقّا. فأصابوا عامة ذلك العسكر، و نجا فيمن نجا رجل عريان قذف ثوبه و جلس على فرس عري، فلما انتهى إلى عمير، قال عمير: قد كنت أسمع بالنذير العريان(1) فلم أره، فهو هذا، ويلك ما لك! قال: لا أدري غير أنه لقينا قوم فقتلوا من قتلوا و أخذوا العسكر، فقال: أ فتعرفهم ؟ قال: لا، فقصد عمير القوم و قال لأصحابه: إن كانت الأعاريب فسيسارعون إلينا إذا رأونا، و إن كانت خيول أهل الشام فستقف. و أقبل عمير، فقال حميد لأصحابه: لا يتحرّكن منكم أحد، و انصبوا القنا، فحمل عمير حملة لم تحرّكهم، ثم حمل فلم يتحرّكوا، فنادى مرارا: ويحكم من أنتم ؟! فلم يتكلّموا، فنادى عمير أصحابه: ويلكم خيل بني بحدل و الأمانة، و انصرف على حاميته، فحمل عليه فوارس من كلب يطلبونه، و لحقه مولى لكلب يقال له شقرون، فاطّعنا، فجرح عمير و هرب حتى دخل قرقيسيا إلى زفر، و رجع حميد إلى من ظفر به من الأسرى و القتلى، فقطع سبالهم(2) و أنفسهم، فجعلها في خيط، ثم ذهب بها إلى الشّام، و قال قائل: بل بعث بها إلى عمير و قال: كيف ترى ؟ أ وقعي أم وقعك ؟ فقال في ذلك سنان بن جابر الجهنيّ :
لقد طار في الآفاق أنّ ابن بحدل *** حميدا شفى كلبا فقرّت عيونها
/و عرّف قيسا بالهوان(3) و لم تكن *** لتنزع إلاّ عند أمر يهينها
/فقلت له: قيس بن عيلان إنّه *** سريع - إذا ما عضّت الحرب - لينها
سما بالعتاق الجرد من مرج راهط *** و تدمر ينوي بذلها لا يصونها(4)
فكان لها عرض السّماوة ليلة *** سواء عليها سهلها و حزونها
فمن يحتمل في شأن كلب ضغينة *** علينا إذا ما حان في الحرب حينها
فإنّا و كلبا كاليدين متى تضع *** شمالك في شيء(5) تعنها يمينها
لقد تركت قتلي حميد بن بحدل *** كثيرا ضواحيها قليلا دفينها
و قيسيّة قد طلّقتها رماحنا *** تلفت كالصّيداء(6) أودى جنينها
ص: 133
و قال سنان أيضا في هذا الأمر بعد ما أوقع ببني فزارة:
يا أخت قيس سلي عنّا علانية *** كي تخبري من بيان العلم(1) تبيانا
إنّا ذوو حسب مال و مكرمة *** يوم الفخار و خير النّاس فرسانا
منّا ابن مرّة عمر و قد سمعت به *** غيث الأرامل لا يردين(2) ما كانا
و البحدليّ الّذي أردت فوارسه *** قيسا غداة اللّوى من رمل عدنانا
فغادرت حلبسا منها بمعترك *** و الجعد منعفرا لم يكس أكفانا
كائن تركنا غداة العاه(3) من جزر *** للطير منهم و من ثكلى و ثكلانا
و من غوان تبكّي لا حميم لها *** بالعاه(3) تدعو بني عمّ و إخوانا
فلما انتهى الخبر إلى عبد الملك بن مروان، و عبد اللّه و مصعب يومئذ حيّان، /و عند عبد الملك حسّان بن مالك بن بحدل و عبد اللّه بن مسعدة بن حكم الفزاريّ ، و جيء بالطّعام، فقال عبد الملك لابن مسعدة: ادن، فقال ابن مسعدة: لا و اللّه، لقد أوقع حميد بسليم و عامر وقعة لا ينفعني بعدها طعام حتى يكون لها غير، فقال له حسّان:
أ جزعت أن كان بيني و بينكم في الحاضرة على الطّاعة و المعصية، فأصبنا منكم يوم المرج، و أغار أهل قرقيسيا بالحاضرة على البادية بغير ذنب ؟ فلما رأى حميد ذلك طلب بثأر قومه، فأصاب بعض ما أصابهم، فجزعت من ذلك، و بلغ حميدا قول ابن مسعدة فقال: و اللّه لأشغلنّه بمن هو أقرب إليه من سليم و عامر.
فخرج حميد في نحو من مائتي فارس، و معه رجلان من كلب دليلان، حتى انتهى إلى بني فزارة أهل العمود لخمس عشرة مضت من شهر رمضان، فقال: بعثني عبد الملك بن مروان مصدّقا: فابعثوا إلى كل من يطيق أن يلقانا، ففعلوا، فقتلهم أو من استطاع منهم، و أخذ أموالهم، فبلغ قتلاهم نحوا من مائة و نيّف، فقال عويف القوافي:
منا اللّه(4) أن ألقى حميد بن بحدل *** بمنزلة فيها إلى النّصف معلما
لكيما نعاطيه و نبلو بيننا *** سريجيّة(5) يعجمن في الهام معجما
ألا ليت أنّي صادفتني منيّتي *** و لم أر قتلى العام يا أمّ أسلما
و لم أر قتلى لم تدع لي بعدها(6) *** يدين فما أرجو من العيش أجذما
/و أقسم ما ليث بخفّان(7) خادر *** بأشجع من جعد جنانا و مقدما
ص: 134
/يعني الجعد بن عمران بن عيينة و قتل يومئذ.
فلما رجع عبد الملك من الكوفة و قتل مصعب، لحقه أسماء بن خارجة بالنّخيلة، فكلّمه فيما أتى حميد به إلى أهل العمود من فزارة، و قال: حدّثنا أنه مصدّقك و عاملك، فأجبناك و بك عذنا، فعليك و في ذمتك ما على الحرّ في ذمّته، فأقدنا من قضاعيّ سكّير، فأبى عبد الملك و قال: انظر في ذلك و أستشير(1) و حميد يجحد و ليست لهم بيّنة، فوداهم ألف و ألف و مائتي ألف، و قال: إني حاسبها في أعطيات قضاعة، فقال في ذلك عمرو بن مخلاة الكلبيّ .
خذوها يا بني ذبيان عقلا *** على الأجياد و اعتقدوا الخداما(2)
دراهم من بني مروان بيضا *** ينجّمها لكم عاما فعاما
و أيقن أنّه يوم طويل *** على قيس يذيقهم السّماما(3)
و مختبّ أمام القوم يسعى *** كسرحان التّنوفة حين ساما(4)
رأى شخصا على بلد بعيد *** فكبّر حين أبصره و قاما
و أقبل يسأل البشرى إلينا(5) *** فقال: رأيت إنسا أو نعاما
و قال لخيله سيري حميد *** فإنّ لكلّ ذي أجل حماما
/فما لاقيت من سجح(6) و بدر *** و مرّة فاتركي حطبا حطاما
بكل مقلّص عبل شواه *** يدقّ بوقع نابيه اللّجاما(7)
و كل طمرّة مرطى سبوح *** إذا ما شدّ فارسها الحزاما(8)
و قائلة على دهش و حزن *** و قد بلّت مدامعها اللّثاما
كأنّ بني فزارة لم يكونوا *** و لم يرعوا بأرضهم الثّماما(9)
و لم أر حاضرا منهم بشاء *** و لا من يملك النّعم الرّكاما(10)
ص: 135
قال: فلما أخذوا الدّية انطلقت فزارة فاشترت خيلا و سلاحا، ثم استتبعت سائر قبائل قيس، ثم أغارت على ماء يدعى بنات قين، يجمع بطونا من بطون كلب كثيرة و أكثر من عليه بنو عبد ودّ و بنو عليم بن جناب، و على قيس يومئذ سعيد بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، و حلحلة(1) بن قيس بن الأشيم بن يسار أحد بني العشراء(2)، فلما أغاروا نادوا بني عليم: إنا لا نطلبكم بشيء، و إنما نطلب بني عبد ودّ بما صنع الدّليلان اللّذان حملا حميدا، و هما المأمور و رجل آخر اسمه أبو أيّوب، فقتل من العبديّين تسعة عشر(3) رجلا، ثم مالوا على العليميّين فقتلوا منهم خمسين رجلا، و ساقوا أموالا.
فبلغ الخبر عبد الملك، فأمهل حتى إذا ولي الحجّاج العراق كتب إليه يبعث إليه سعيد بن عيينة و حلحلة بن قيس و معهما نفر من الحرس، فلما قدم بهما عليه قذفهما في/السّجن و قال لكلب: و اللّه لئن قتلتم رجلا لأهريقنّ دماءكم، فقدم عليه من بني عبد ودّ عياض و معاوية ابنا ورد، و نعمان بن سويد، و كان سويد أبوه ابن مالك يومئذ أشرف من قتل يوم بنات قين، و كان شيخ بني عبد ودّ، فقال/له النّعمان: دماءنا يا أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك: إنما قتل منكم الصّبيّ الصّغير و الشيخ الفاني، فقال النّعمان: قتل منا و اللّه من لو كان أخا لأبيك لاختير عليك في الخلافة، فغضب عبد الملك غضبا شديدا، فقال له معاوية و عياض: يا أمير المؤمنين، شيخ كبير موتور.
فأعرض عنه عبد الملك و عرض الدّية، و جعل خالد بن يزيد بن معاوية و من ولدته كلب يقولون: القتل، و من كانت أمّه قيسيّة من بني أميّة يقولون: لا، بل الدّية كما فعل بالقوم، حتى ارتفع الكلام بينهم بالمقصورة، فأخرجهم عبد الملك و دفع حلحلة إلى بعض بني عبد ودّ، و دفع سعيد بن عيينة إلى بعض بني عليم، و أقبل عليهما عبد الملك فقال: أ لم تأتياني تستعدياني فأعديتكما و أعطيتكما الدّية، ثم انطلقتما فأخفرتما ذمّتي و صنعتما ما صنعتما، فكلّمه سعيد بكلام يستعطفه به و يرقّقه، فضرب حلحلة صدره و قال: أ ترى خضوعك لابن الزّرقاء نافعك عنده، فغضب عبد الملك و قال: اصبر حلحلة، فقال له: أصبر من عود بجنبيه جلّب(4) فقتلا و شقّ ذلك على قيس، و أعظمه أهل البادية منهم و الحاضرة، فقال في ذلك عليّ بن الغدير الغنويّ :
لحلحلة القتيل و لابن بدر *** و أهل دمشق أنجبة تبين
فبعد اليوم أيّام طوال *** و بعد خمود فتنتكم فتون
و كلّ صنيعة رصد ليوم *** تحلّ به لصاحبها الزّبون(5)
/خليفة أمّة قسرت عليه *** تخمّط(6) و استخفّ بمن يدين
ص: 136
فقد أتيا حميد ابن المنايا(1) *** و كلّ فتى ستشعبه المنون
و قال رجل من بني عبد ودّ:
نحن قتلنا سيّديهم بشيخنا *** سويد فما كانا وفاء به دما
لعمري لئن شيخا فزارة أسلما *** لقد خزيت قيس و ما ظفرت كلب
و قال أرطاة بن سهيّة يحرّض قيسا:
أ يقتل شيخنا و يرى حميد *** رخيّ البال منتشيا(2) خمورا
فإن دمنا بذاك و طال عمر *** بنا و بكم و لم نسمع نكيرا
فناكت أمّها قيس جهارا *** و عضّت بعدها مضر الأيورا
و قال عميرة بنت حسّان الكلبيّة تفخر بفعل حميد في قيس:
سمت كلب إلى قيس بجمع *** يهدّ مناكب الأكم الصّعاب
بذي لجب يدقّ الأرض حتى *** تضايق من دعا بهلا وهاب(3)
نفين إلى الجزيرة فلّ قيس *** إلى بقّ بها و إلى ذباب(4)
و ألفينا هجين بني سليم *** يفدّي المهر من حبّ الإياب
فلو لا عدوة المهر المفدّى *** لأبت و أنت منخرق الإهاب
/و نجّاه حثيث الرّكض منا *** أصيلانا و لون الوجه كابي
و آض كأنه يطلى بورس *** و دقّ هويّ كاسرة عقاب
حمدت اللّه إذ لقّى سليما *** على دهمان صقر بني جناب
تركن الرّوق(5) من فتيات قيس *** أيامى قد يئسن من الخضاب
فهنّ إذا ذكرن حميد كلب *** نعقن برنّة بعد انتحاب
متى تذكر فتى كلب حميدا *** تر القيسيّ يشرق بالشّراب
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أخي الأصمعيّ ، عن عمه، قال:
أنشدني رجل من بني فزارة لعويف القوافي - و هو عويف بن معاوية بن عقبة بن حصن بن حذيفة الفزاري - و كانت أخته عند عيينة بن أسماء بن خارجة فطلّقها، فكان عويف مراغما لعيينة و قال: الحرة لا تطلّق بغير ما بأس،
ص: 137
فلما حبس الحجّاج عيينة و قيّده قال عويف:
منع الرّقاد - فما يحسّ رقاد - *** خبر أتاك و نامت العوّاد(1)
خبر أتاني عن عيينة موجع *** و لمثله تتصدّع الأكباد
بلغ النفوس بلاؤها(2) فكأننا *** موتى و فينا الرّوح و الأجساد
ساء الأقارب يوم ذاك فأصبحوا *** بهجين قد سرّوا به الحسّاد(3)
/يرجون عثرة جدّنا و لو أنّهم *** لا يدفعون بنا المكاره بادوا
لمّا أتاني عن عيينة أنّه *** عان تظاهر فوقه الأقياد(4)
نخلت(5) له نفسي النّصيحة إنه *** عند الشّدائد تذهب الأحقاد
و ذكرت أيّ فتى يسدّ مكانه *** بالرّفد حين تقاصر الأرفاد
أم من يهين لنا كرائم ماله *** و لنا إذا عدنا إليه معاد
لو كان من حضن تضاءل ركنه *** أو من نضاد بكت عليه نضاد(6)
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ ، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: قال العتبيّ :
سأل عويف القوافي في حمالة، فمرّ به عبد الرّحمن بن محمد بن مروان و هو حديث السّنّ ، فقال له: لا تسأل أحدا و صر إليّ أكفك، فأتاه فاحتملها جمعاء له، فقال عويف يمدحه:
غلام رماه اللّه بالخير يافعا *** له سيمياء لا تشقّ على البصر
كأنّ الثّريّا علّقت في جبينه *** و في حدّه الشّعرى و في جيده القمر
و لمّا رأى المجد استعيرت ثيابه *** تردّى رداء واسع الذّيل و اتّزر
إذا قيلت العوراء أغضى(7) كأنّه *** ذليل بلا ذلّ و لو شاء لانتصر
رآني فآساني و لو صدّ لم ألم *** على حين لا باد يرجّى و لا حضر
/قال أبو زيد: هذه الأبيات لابن عنقاء الفزاريّ ، يقولها في ابن أخ له، كان قوم من العرب أغاروا على نعم ابن عنقاء، فاستاقوها، حتى لم يبق له منها شيء، فأتى ابن أخيه فقال له: يا بن أخي، إنه قد نزل بعمّك ما ترى،
ص: 138
فهل من حلوبة ؟ قال: نعم يا عمّ ، يروح المال و أبلغ مرادك، /فلما راح ماله قاسمه إيّاه و أعطاه شطره، فقال ابن عنقاء:
رآني على ما بي عميلة فاشتكى *** إلى ما له حالي أسرّ كما جهر
و ذكر بعد هذا البيت باقي الأبيات. قال أبو زيد: و إنّما تمثّلها(1) عويف.
أخبرني محمد بن خلف وكيع، و الحسن بن عليّ قالا: حدّثنا الغلابيّ ، قالا: حدثنا محمد بن عبيد اللّه، عن عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان، قال:
لما مات سليمان بن عبد الملك و ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، وفد إليه عويف القوافي و قال شعرا رثى به سليمان و مدح عمر فيه، فلما دخل إليه أنشده:
لاح سحاب فرأينا برقه *** ثم تدانى فسمعنا صعقه
و راحت الرّيح تزجّي بلقه *** و دهمه ثم تزجّي ورقه
ذاك سقى قبرا فروّى ودقه *** قبر امرئ عظّم ربّي حقّه
قبر سليمان الّذي من عقّه *** و جحد الخير الّذي قد بقّه(2)
في المسلمين جلّه و دقّه *** فارق في الجحود منه صدقه(3)
قد ابتلى اللّه بخير خلقه *** ألقى إلى خير قريش و سقه
/يا عمر الخير الملقّى وفقه *** سمّيت بالفاروق فافرق فرقه
و ارزق عيال المسلمين رزقه *** و اقصد إلى الجود و لا توقّه
بحرك عذب الماء ما أعقّه *** ريّك فالمحروم من لم يسقه
فقال له عمر: لسنا من الشّعر في شيء، و مالك في بيت المال حقّ ، فألحّ عويف يسأله فقال: يا مزاحم، انظر فيما بقي من أرزاقنا فشاطره إيّاه، و لنصبر على الضّيق إلى وقت العطاء، فقال له عبد الرّحمن بن سليمان بن عبد الملك: بل توفّر يا أمير المؤمنين و عليّ رضا الرّجل، فقال: ما أولاك بذلك، فأخذ بيده و انصرف به إلى منزله، و أعطاه حتى رضى.
صفراء يطويها الضّجيع لصلبها *** طيّ الحمالة ليّن مثناها
نعم الضّجيع إذا النّجوم تغوّرت *** بالغور أولاها على أخراها
ص: 139
عذب مقبّلها وثير ردفها *** عبل شواها طيّب مجناها
يا دار صهباء(1) الّتي لا أنتهي *** عن حبّها أبدا و لا أنساها
الشعر لعبد اللّه بن جحش الصعاليك، و الغناء فيه لعليّ بن هشام ثقيل أول بالوسطى من كتاب أحمد بن المكيّ .
ص: 140
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني محمد بن يحيى أبو غسّان، عن غسّان بن عبد الحميد قال:
كان بالمدينة امرأة يقال لها: صهباء من أحسن الناس وجها، و كانت من هذيل، فتزوّجها ابن عمّ لها، فمكث حينا معها لا يقدر عليها من/شدّة ارتتاقها، فأبغضته و طالبته بالطّلاق، فطلّقها. ثم أصاب الناس مطر شديد في الخريف، فسال العقيق سيلا عظيما، و خرج أهل المدينة، و خرجت صهباء معهم، فصادفت عبد اللّه بن جحش و أصحابه في نزهة، فرآها و افترقا.
ثم مضت إلى أقصى الوادي فاستنقعت في الماء و قد تفرّق النّاس و خفّوا، فاجتاز بها ابن جحش فرآها فتهالك عليها و هام بها، و كان بالمدينة امرأة تدلّ على النّساء يقال لها: قطنة، كانت تداخل القرشيّات و غيرهن، فلقيها ابن جحش فقال لها: اخطبي عليّ صهباء، فقالت: قد خطبها عيسى بن طلحة بن عبيد اللّه و أجابوه، و لا أراهم يختارونك عليه، فشتمها ابن جحش و قال لها: كلّ مملوك له فهو حرّ، لئن لم تحتالي فيها حتى أتزوّجها لأضربنّك ضربة بالسيف - و كان مقداما جسورا - ففرقت منه فدخلت على صهباء و أهلها، فتحدّثت معهم، ثم ذكرت ابن عمّها، فقالت لعمة صهباء: ما باله فارقها، فأخبرتها خبرها، و قالت: لم يقدر عليها و عجز عنها. فقالت لها:
و أسمعت صهباء -: إنّ هذا ليعتري كثيرا من الرجال فلا ينبغي أن تتقدّموا في أمرها إلا على من تختبرونه، و أما و اللّه لو كان ابن جحش لصهباء/لثقبها ثقب اللّؤلؤ و لو رتقت بحجر، ثم خرجت من عندهم.
فأرسلت إليها صهباء: مري ابن جحش فليخطبني، فلقيته قطنة فأخبرته الخبر، فمضى فخطبها، فأنعمت له(1)و أبى أهلها إلا عيسى بن طلحة، و أبت هي إلا ابن جحش، فتزوّجته و دخل بها و افتضّها، و أحبّ كلّ واحد منهما صاحبه فقال فيها:
نعم الضّجيع إذا النّجوم تغوّرت *** بالغور أولاها على أخراها
عذب مقبّلها وثير ردفها *** عبل شواها طيّب مجناها
صفراء يطويها الضجيع لجنبها *** طيّ الحمالة ليّن متناها(2)
ص: 141
لو يستطيع ضجيعها لأجنّها *** في الجوف حبّ نسيمها و نشاها(1)
يا دار صهباء الّتي لا أنتهي *** عن ذكرها أبدا و لا أنساها
أخبرني حبيب(2) بن نصر المهلبي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني عبد الرّحيم(3) بن أحمد بن زيد بن الفرج، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه، قال:
كان عبد الملك بن مروان معجبا بشعر عبد اللّه بن جحش، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فورد كتابه و قد توفّي، فقال إخوانه لابنه:
لو شخصت إلى أمير المؤمنين عن إذنه لأبيك لعلّه كان ينفعك، ففعل، فبينا هو في طريقه إذ ضاع منه كتاب الإذن، فهمّ بالرّجوع، ثم مضى لوجهه، /فلما قدم على عبد الملك سأله عن أبيه فأخبره بوفاته، ثم سأله عن كتابه فأخبره بضياعه فقال له: أنشدني قول أبيك:
هل يبلغنها السّلام أربعة *** منّي و إن يفعلوا فقد نفعوا
على مصكّين من جمالهم *** و عنتريسين فيهما سطع(4)
قرّب جيراننا جمالهم *** صبحا فأضحوا بها قد انتجعوا
ما كنت أدري بوشك بينهم *** حتى رأيت الحداة قد طلعوا
/قد كاد(5) قلبي - و العين تبصرهم *** لما تولّى بالقوم - ينصدع
ساروا و خلّفت بعدهم دنفا *** أ ليس باللّه بئس ما صنعوا!
قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين ما أرويه، قال: لا عليك، فأنشدني قول أبيك:
أجدّ اليوم جيرتك الغيارا *** رواحا أم أرادوه ابتكارا
بعينك كان ذاك و إن يبينوا *** يزدك البين صدعا مستطارا(6)
بلى أبقت من الجيران عندي *** أناسا ما أوافقهم كثارا
ص: 142
و ما ذا كثرة الجيران تغنّي *** إذا ما بان من أهوى فسارا
/قال: لا و اللّه ما أرويه يا أمير المؤمنين، قال: و لا عليك، فأنشدني قول أبيك:
دار لصهباء الّتي لا ينثني *** عن ذكرها قلبي و لا أنساها
صفراء يطويها الضّجيع لصلبها *** طيّ الحمالة ليّن متناها
لو يستطيع ضجيعها لأجنّها *** في القلب شهوة ريحها و نشاها
قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين، ما أرويه، و إنّ صهباء هذه لأمّي، قال: و لا عليك، قد يبغض الرجل أن يشبّب بأمّه، و لكن إذا نسب بها غير أبيه، فأفّ لك! و رحم اللّه أباك، فقد ضيّعت أدبه و عققته؛ إذ لم ترو شعره. اخرج فلا شيء لك عندنا.
أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها *** و أدنت على الخدّين بردا مهلهلا
من اللاّء لم يحججن يبغين حسبة *** و لكن يقتّلن(1) البريء المغفّلا
رأتني خضيب الرّأس شمّرت مئزري *** و قد عهدتني أسود الرّأس مسبلا
خطوّا(2) إلى اللّذات أجررت مئزري *** كإجرارك الحبل الجواد المحجّلا
صريع الهوى لا يبرح الحبّ قائدي *** بشرّ(3) فلم أعدل عن الشّرّ معدلا
لدى الجمرة القصوى فريعت و هلّلت *** و من ريع في حجّ من الناس هلّلا
الشعر للعرجيّ ، و الغناء لعبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ ثقيل أول في الأول و الثاني و الخامس و السادس من هذه الأبيات، و هو من جيّد الغناء و فاخر الصنعة، و يقال: إنّه أول شعر(4) صنعه، و لعزار(5) المكّيّ في الثّالث و ما بعده ثاني ثقيل، عن يحيى المكّيّ و غيره، و فيه خفيف ثقيل ينسب إلى معبد و إلى ابن سريج و إلى الغريض، و فيه لإبراهيم لحن من كتابه غير مجنّس، و أنا ذاكر هاهنا أخبارا لهذا الشّعر من أخبار العرجيّ ؛ إذ كان أكثر أخباره قد مضى سوى هذه.
ص: 143
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثنا إسماعيل بن مجمّع، عن المدائنيّ ، عن عبد اللّه بن سليم، قال:
قال عبيد اللّه بن عمر العمريّ :
خرجت حاجّا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت(1) فيه، فأدنيت ناقتي منها، ثم قلت لها: يا أمة اللّه، أ لست حاجّة! أ ما تخافين اللّه! فسفرت عن وجه يبهر الشّمس حسنا، ثم قالت: تأمّل يا عمّي، /فإنّي ممّن عنى العرجيّ بقوله:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة *** و لكن ليقتلن البريء المغفّلا
قال: فقلت لها: فإني أسأل اللّه ألاّ يعذّب هذا الوجه بالنّار. قال: و بلغ ذلك سعيد بن المسيّب فقال: أما و اللّه لو كان من بعض بغضاء أهل العراق لقال لها: اعزبي قبّحك اللّه، و لكنّه ظرف(2) عبّاد الحجاز.
و قد رويت هذه الحكاية عن أبي حازم بن دينار.
أخبرني به وكيع، قال: حدّثنا أحمد بن زهير، قال: حدّثنا مصعب الزّبيريّ ، قال: حدّثني عبد الرّحمن بن أبي الحسن(3) و قد روى عنه ابن أبي ذئب، قال:
بينا أبو حازم يرمي الجمار إذ هو بامرأة متشعبذة - يعني حاسرة - فقال لها: أيّتها المرأة استتري، فقالت: إنّي و اللّه من اللّواتي قال فيهن الشّاعر قوله:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة *** و لكن ليقتلن البريء المغفّلا
و ترمي بعينيها القلوب و لا ترى *** لها رمية لم تصم منهن مقتلا
/فقال أبو حازم لأصحابه: ادعوا اللّه لهذه الصّورة الحسنة ألاّ يعذّبها بالنار.
و أبو حازم هذا هو أبو حازم بن دينار من وجوه التّابعين، قد روى عن سهل بن سعد و أبي هريرة، و روى عنه مالك و ابن أبي ذئب و نظراؤهما.
حدّثني عمّي، قال: حدّثني الكرانيّ ، قال: حدّثني العمريّ ، عن العتبيّ ، عن الحكم بن صخر، قال:
ص: 144
انصرفت من منّي فسمعت زفنا(1) من بعض المحامل، ثم ترنّمت جارية فتغنّت:
من اللاّء لم يحججن يبغين حسبة *** و لكن ليقتلن البريء المغفّلا
فقلت لها: أ هذا مكان هذا يرحمك اللّه! فقالت: نعم و إيّاك أن تكونه.
ص: 145
عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع، و الرّبيع - على ما يدّعيه أهله - ابن يونس بن أبي فروة، و قيل: إنه ليس ابنه، و آل أبي فروة يدفعون ذلك و يزعمون أنه لقيط، وجد منبوذا، فكفله يونس بن أبي فروة و ربّاه، فلما خدم المنصور ادّعى إليه(1)، و أخباره مذكورة مع أخبار ابنه الفضل في شعر يغنّى به من شعر الفضل و هو:
كنت صبّا و قلبي اليوم سالي
و يكنى عبد اللّه بن العبّاس أبا العبّاس.
و كان شاعرا مطبوعا، و مغنّيا محسنا جيّد الصّنعة نادرها، حسن الرّواية، حلو الشعر ظريفه، ليس من الشّعر الجيّد الجزل و لا من المرذول، و لكنه شعر مطبوع ظريف مليح المذهب، من أشعار المترفين و أولاد النّعم.
حدّثني أبو القاسم الشّيربابكيّ (2) - و كان نديما لجدّي يحيى بن محمد - عن يحيى بن حازم، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، قال:
دخل محمد بن عبد الملك الزيات على الواثق و أنا بين يديه أغنّيه، و قد استعادني(3) صوتا فاستحسنه، فقال له محمد بن عبد الملك: هذا و اللّه يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه و استحسانك له و اصطناعك إيّاه، فقال:
أجل، هذا مولاي و ابن مولاي و ابن مواليّ لا يعرفون غير ذلك، فقال له: ليس كلّ مولى - يا أمير المؤمنين - /بوليّ /لمواليه، و لا كلّ مولّى متجمّل بولائه، يجمع ما جمع عبد اللّه من ظرف و أدب و صحّة عقل و جودة شعر، فقال الحسن له: صدقت يا محمد. فلما كان من الغد جئت محمد بن عبد الملك شاكرا لمحضره(4)، فقلت له في أضعاف كلامي: و أفرط الوزير - أعزه اللّه - في وصفي و تقريظي بكلّ شيء حتى وصفني بجودة الشّعر و ليس ذلك عندي، و إنما أعبث بالبيتين و الثّلاثة، و لو كان عندي أيضا شيء بعد ذلك لصغر عن أن يصفه الوزير، و محلّه في هذا الباب المحلّ الرفيع المشهور، فقال: و اللّه يا أخي، لو عرفت مقدار شعرك و قولك:
يا شادنا رام إذ مرّ *** في السّعانين قتلي
ص: 146
يقول لي: كيف أصب *** حت كيف يصبح مثلي!
لما قلت هذا القول، و اللّه لو لم يكن لك شعر في عمرك كله إلا قولك: «كيف يصبح مثلي» لكنت شاعرا مجيدا.
حدّثني جحظة، قال: حدّثني أحمد بن الطّيّب، قال: حدّثني حمّاد بن إسحاق، قال:
سمعت عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ يقول: أنا أوّل من غنّى بالكنكلة(1) في الإسلام و وضعت هذا الصوت عليها:
أتاني يؤامرني في الصّبو *** ح ليلا فقلت له: غادها
حدّثني جعفر بن قدامة، قال: حدّثنا عليّ بن يحيى المنجّم، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، قال:
كان سبب دخولي في الغناء و تعلّمي إياه أنّي كنت أهوى جارية لعمّتي رقيّة بنت الفضل بن الرّبيع، فكنت لا أقدر على ملازمتها و الجلوس معها خوفا من أن يظهر ما لها عندي فيكون ذلك سبب منعي منها، فأظهرت لعمّتي أنني أشتهي أن أتعلّم الغناء و يكون ذلك في ستر عن جدّي، و كان جدّي و عمّتي في حال من الرّقة عليّ و المحبّة لي لا نهاية وراءها، لأنّ أبي توفّي في حياة جدّي الفضل، فقالت: يا بنيّ ، و ما دعاك إلى ذلك ؟ فقلت: شهوة غلبت على قلبي إن منعت منها متّ غمّا، و كان لي في الغناء طبع قويّ ، فقالت لي: أنت أعلم و ما تختاره، و اللّه ما أحبّ منعك من شيء، و إني لكارهة أن تحذق ذلك و تشهر به فتسقط و يفتضح أبوك و جدّك، فقلت: لا تخافي ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به، و لازمت الجارية لمحبّتي إيّاها بعلّة الغناء، فكنت آخذ عنها و عن صواحباتها حتى تقدّمت الجماعة حذقا، و أقررن لي بذلك، و بلغت ما كنت أريد من أمر الجارية، و صرت ألازم مجلس جدّي فكان يسرّ بذلك و يظنّه تقرّبا مني إليه، و إنما كان وكدي فيه أخذ الغناء، فلم يكن يمرّ لإسحاق و لا لابن جامع و لا للزّبير بن دحمان و لا لغيرهم صوت إلا أخذته، فكنت سريع الأخذ، و إنما كنت أسمعه مرّتين أو ثلاثا، و قد صحّ لي و أحسست من نفسي قوّة في الصّناعة، فصنعت أول صوت صنعته في شعر العرجيّ :
أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها *** و أدنت على الخدّين بردا مهلهلا
ثم صنعت في:
أقفر من بعد خلّة سرف *** فالمنحنى فالعقيق فالجرف(2)
/و عرضتهما على الجارية الّتي كنت أهواها و سألتها عمّا عندها فيهما، فقالت: لا يجوز/أن يكون في الصّنعة شيء فوق هذا، و كان جواري الحارث بن بُسخُنَّر(3) و جواري ابنه محمد يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جواري
ص: 147
عمّتي و جواري جدّي و يأخذن أيضا مني ما ليس عندهن من غناء دارنا، فسمعنني ألقي هذين الصّوتين على الجارية، فأخذنهما منّي و سألن الجارية عنهما، فأخبرتهن أنّهما من صنعتي، فسألنها أن تصحّحهما لهنّ ، ففعلت فأخذنهما عنها، ثم اشتهر حتى غنّي الرّشيد بهما يوما، فاستظرفهما و سأل إسحاق: هل تعرفهما؟ فقال: لا، و إنّهما لمن حسن الصّنعة و جيّدها و متقنها، ثم سأل الجارية عنهما فتوقّفت خوفا من عمّتي و حذرا أن يبلغ جدّي أنها ذكرتني، فانتهرها الرشيد، فأخبرته بالقصة.
فوجّه من وقته فدعا بجدّي، فلما أحضره قال له: يا فضل، يكون لك ابن يغنّي ثم يبلغ في الغناء المبلغ الّذي يمكنه معه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق و سائر المغنّين و يتداولهما جواري القيان و لا تعلمني بذلك ؟ كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن! فقال له جدّي: و حقّ ولائك يا أمير المؤمنين و نعمتك، و إلاّ فأنا نفيّ منهما بريء من بيعتك(1) و عليّ العهد و الميثاق و العتق و الطّلاق، إن كنت علمت بشيء من هذا قطّ إلا منك السّاعة، فمن هذا من ولدي ؟ قال: عبد اللّه بن العبّاس هو، فأحضرنيه السّاعة. فجاء جدّي و هو يكاد أن ينشقّ غيظا، فدعاني، فلمّا خرجت إليه شتمني و قال: يا كلب، بلغ من أمرك و مقدارك أن تجسر على أن تتعلّم الغناء بغير إذني، ثم زاد ذلك حتى صنعت، و لم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري، ثم تجاوزتهن إلى جواري الحارث بن بُسخُنَّر، فاشتهرت و بلغ أمرك أمير المؤمنين، فتنكّر لي و لا مني و فضحت آباءك/في قبورهم، و سقطت الأبد إلا من المغنّين و طبقة الخنياكرين(2). فبكيت غمّا بما جرى، و علمت أنه قد صدق، فرحمني و ضمّني إليه و قال: قد صارت الآن مصيبتي في أبيك مصيبتين: إحداهما به و قد مضى و فات، و الأخرى بك و هي موصولة بحياتي، و مصيبة باقية العار عليّ و على أهلي بعدي، و بكى و قال: عزّ عليّ يا بنيّ أن أراك أبدا ما بقيت على غير ما أحبّ ، و ليست لي في هذا الأمر حيلة، لأنّه أمر قد خرج عن يدي، ثم قال: جئني بعود حتى أسمعك و انظر كيف أنت، فإن كنت تصلح للخدمة في هذه الفضيحة، و إلا جئته بك منفردا و عرّفته خبرك و استعفيته لك، فأتيته بعود و غنّيته غناء قديما، فقال: لا، بل غنّي صوتيك اللذين صنعتهما، فغنّيته إيّاهما فاستحسنهما و بكى، ثم قال: بطلت و اللّه يا بنيّ و خاب أملي فيك، فوا حزني عليك و على أبيك! فقلت له: يا سيّدي، ليتني متّ من قبل ما أنكرته أو خرست، و ما لي حيلة و لكنّي و حياتك يا سيّدي، و إلا فعليّ عهد اللّه و ميثاقه و العتق و الطّلاق و كلّ يمين يحلف بها حالف لازمة لي، لا غنّيت أبدا إلا لخليفة أو وليّ عهد، فقال: قد أحسنت فيما نبّهت(3) عليه من هذا.
ثم ركب و أمرني، فأحضرت فوقفت بين يدي الرّشيد و أنا أرعد فاستدناني حتى صرت أقرب الجماعة إليه و مازحني و أقبل عليّ و سكّن منّي، و أمر جدّي بالانصراف و أمر الجماعة فحدّثوني(4)، و سقيت أقداحا و غنى المغنّون جميعا، فأومأ إليّ إسحاق الموصليّ بعينه/أن ابدأ فغنّ إذا بلغت النّوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك، ليكون ذلك أصلح
ص: 148
و أجود بك، فلما جاءت النّوبة إليّ أخذت عودا ممّن كان إلى جنبي و قمت قائما و استأذنت في الغناء، فضحك الرشيد و قال: غنّ جالسا، فجلست و غنّيت لحني الأوّل/فطرب و استعاده ثلاث مرّات، و شرب عليه ثلاثة أنصاف، ثم غنّيت الثاني، فكانت هذه حاله، و سكر، فدعا بمسرور فقال له: احمل السّاعة مع عبد اللّه عشرة آلاف دينار و ثلاثين ثوبا من فاخر ثيابي، و عيبة مملوءة طيبا، فحمل ذلك أجمع معي.
قال عبد اللّه: و لم أزل كلّما أراد وليّ عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة الوالي أ هو أم غيره دعاني فأمرني بأن أغنّي، فأعرّفه بيميني، فيستأذن الخليفة في ذلك، فإن أذن لي في الغناء عنده عرف أنه وليّ عهد، و إلاّ عرف أنه غيره حتى كان آخرهم الواثق، فدعاني في أيّام المعتصم و سأله أن يأذن لي في الغناء، فأذن لي، ثم دعاني من الغد فقال: ما كان غناؤك إلا سببا لظهور سرّي و سرّ الخلفاء قبلي، و لقد هممت أن آمر بضرب رقبتك. لا يبلغني أنّك امتنعت من الغناء عند أحد، فو اللّه لئن بلغني لأقتلنّك، فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت، و طلق من كان يوجد عندك من الحرائر، و استبدل بهنّ و عليّ العوض من ذلك، و أرحنا من يمينك هذه المشئومة، فقمت و أنا لا أعقل خوفا منه، فأعتقت جميع من كان بقي عندي من مماليكي، الذين حلفت يومئذ و هم في ملكي، و تصدّقت بجملة، و استفتيت في يميني أبا يوسف القاضي حتى خرجت منها، و غنّيت بعد ذلك إخواني جميعا حتى اشتهر أمري، و بلغ المعتصم خبري، فتخلّصت منه، ثم غضب عليّ الواثق لشيء أنكره، و ولي الخلافة و هو ساخط عليّ فكتبت إليه:
اذكر أمير المؤمنين وسائلي(1) *** أيّام أرهب سطوة السّيف
أدعو إلهي أن أراك خليفة *** بين المقام و مسجد الخيف
فدعاني و رضي عنّي.
/حدّثني سليمان بن أبي شيخ قال:
دخلت على العبّاس بن الفضل بن الربيع ذات يوم و هو مختلط مغتاظ و ابنه عبد اللّه عنده، فقلت له: ما لك أمتع اللّه بك ؟ قال: لا يفلح و اللّه ابني عبد اللّه أبدا. فظننته قد جنى جناية، و جعلت أعتذر إليه له، فقال: ذنبه أعظم من ذلك و أشنع، فقلت: و ما ذنبه ؟ قال: جاءني بعض غلماني فحدّثني أنه رآه بقطربّل يشرب نبيذ الدّاذيّ (2) بغير غناء، فهل هذا فعل من يفلح ؟ فقلت له و أنا أضحك: سهّلت عليّ القصّة، قال: لا تقل ذاك فإنّ هذا من ضعة النّفس و سقوط الهمّة، فكنت إذا رأيت عبد اللّه بعد ذلك في جملة المغنّين، و شاهدت تبذّله في هذه الحال و انخفاضه عن مراتب أهله تذكّرت قول أبيه فيه.
قال: و سمعته يوما يغني بصنعته في شعر أبي العتاهية:
ص: 149
أنا عبد لها مقرّ و ما *** يملك غيرها من النّاس رقّا
ناصح مشفق و إن كنت ما أر *** زق منها و الحمد للّه عتقا
ليتني متّ فاسترحت فإنّي *** أبدا ما حييت منها ملقّى
/لحن عبد اللّه بن العبّاس في هذا الشّعر رمل.
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني عليّ بن يحيى و أحمد بن حمدون، عن أبيه. و أخبرني جحظة، عن أبي عبد اللّه الهاشميّ ، أنّ إسحاق الموصليّ دخل يوما إلى الفضل/بن الرّبيع و ابن ابنه عبد اللّه بن العبّاس في حجره قد أخرج إليه و له نحو السّنتين، و أبوه العبّاس واقف بين يديه، فقال إسحاق للوقت:
مدّ لك اللّه الحياة مدّا *** حتى يكون ابنك هذا جدّا
مؤزّرا بمجده مردّى *** ثم يفدّى مثل ما تفدّى
أشبه منك سنّة(1) و خدّا *** و شيما محمودا و مجدا
كأنّه أنت إذا تبدّى
قال: فاستحسن الفضل الأبيات و صنع فيها إسحاق لحنه المشهور، و قال جحظة في خبره عن الهاشميّ ، و هو رمل ظريف من حسن الأرمال و مختارها، فأمر له الفضل بثلاثين ألف درهم.
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني عبد اللّه بن عمر، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك، قال:
حدّثني بعض ندماء الفضل بن الربيع قال: كنا عند الفضل بن الربيع في يوم دجن، و السماء ترشّ (2) و هو أحسن يوم و أطيبه، و كان العبّاس يومئذ قد أصبح مهموما، فجهدنا أن ينشط، فلم تكن لنا في ذلك حيلة، فبينا نحن كذلك إذ دخل عليه بعض الشعراء، إمّا الرّقاشيّ و إمّا غيره من طبقته، فسلّم و أخذ بعضادتي الباب ثم قال:
ألا أنعم صباحا يا أبا الفضل(3) و اربع *** على مربع القطربليّ المشعشع
و علّل نداماك العطاش بقهوة *** لها مصرع في القوم غير مروّع
فإنك لاق كلّما شئت ليلة *** و يوما يغصّان الجفون بأدمع
/قال: فبكى العبّاس و قال: صدقت و اللّه، إن الإنسان ليلقى ذلك متى يشاء، ثم دعا بالطّعام فأكل، ثم دعا بالشّراب فشرب و نشط، و مرّ لنا يوم حسن طيّب.
ص: 150
حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال:
جاءني عبد اللّه بن العبّاس في خلافة المنتصر و قد سألني عرض رقعة عليه، فأعلم أنّي نائم، و قد كنت شربت باللّيل شربا كثيرا، فصلّيت الغداة و نمت، فلما انتبهت إذا رقعة عند رأسي و فيها مكتوب:
أنا بالباب واقف منذ أصب *** حت على السّرج ممسك بعناني
و بعين البوّاب كلّ الّذي بي *** و يراني كأنّه لا يراني
فأمرت بإدخاله، فدخل، فعرّفته خبري و اعتذرت إليه و عرضت رقعته على المنتصر و كلّمته حتى قضى حاجته.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حمّاد بن إسحاق، قال:
دعا عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ يوما أبي، و سأله أن يبكر إليه(1) ففعل، فلما دخل بادر إليه عبد اللّه بن العبّاس ملتقيا و في يده العود و غنّاه:
قم نصطبح يفديك كلّ مبخّل *** عاب(2) الصّبوح لحبّه للمال
من قهوة صفراء صرف(3) مزّة *** قد عتّقت في الدّنّ مذ أحوال
/قال: و قدّم الطّعام فأكلنا و اصطبحنا، و اقترح أبي هذا الصّوت عليه بقيّة يومه.
قال: و أتيته في داره بالمطيرة(4) عائدا، فوجدته في عافية، فجلسنا نتحدّث فأنشدته لذي الرّمّة:
إذا ما امرؤ حاولن أن يقتتلنه *** بلا إحنة بين النّفوس و لا ذحل
تبسّمن عن نور الأقاحيّ في الثّرى *** و فتّرن عن أبصار مكحولة نجل
و كشفن عن أجياد غزلان رملة *** هجان فكان القتل أو شبهة(5) القتل
و إنّا لنرضى حين نشكو بخلوة *** إليهن حاجات النّفوس بلا بذل
و ما الفقر أزرى عندهنّ بوصلنا *** و لكن جرت أخلاقهنّ على البخل
قال: فأنشدني هو:
أنّى اهتدت لمناخنا(6) جمل *** و من الكرى لعيوننا كحل
ص: 151
طرقت أخا سفر و ناجية *** خرقاء عرّفني بها الرّحل(1)
في مهمه هجع الدّليل به *** و تعلّلت بصريفها البزل(2)
فكأنّ أحدث من ألمّ به *** درجت على آثاره النّمل
قال إسحاق: فقال لي عبد اللّه بن العبّاس: كلّ ما يملك في سبيل اللّه إن فارقتك و لم نصطبح على هذين الشّعرين، و أنشدك و تنشدني، ففعلنا ذلك و ما غنّينا و لا غنّينا.
أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:
/لقيت عبد اللّه بن العبّاس يوما في الطّريق فقلت له: ما كان خبرك أمس ؟ فقال: اصطحبت، فقلت: على ما ذا و مع من ؟ فقال: مع خادم صالح بن عجيف، و أنت به عارف، و بخبري معه و محبّتي له عالم، فاصطبحنا على زنا بنت الخسّ (3) لمّا حملت من زنا، و قد سئلت: ممّن حملت ؟ فقالت:
أشمّ كغصن البان جعد مرجّل *** شغفت به لو كان شيئا مدانيا
ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه *** سلافا و لا عذبا من الماء صافيا(4)
و أقسم لو خيّرت بين فراقه *** و بين أبي لاخترت أن لا أباليا
فإن لم أوسّد ساعدي بعد هجعة(5) *** غلاما هلاليّا فشلّت بنانيا(6)
فقلت له: أقمت على لواط و شربت على زنا، و اللّه ما سبقك إلى هذا أحد.
أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ ، قال: أخبرني ميمون بن هارون، قال:
كان محمد بن راشد الخنّاق عند عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع على القاطول في أيام المعتصم، و كان لمحمد بن راشد غلام يقال له: فائز، يغنّي غناء حسنا، فأظلّتهم سحابة و هم يشربون، فقال عبد اللّه بن العبّاس:
محمد قد جادت علينا بمائها *** سحابة مزن برقها يتهلّل
و نحن من القاطول في متربّع *** و منزلنا فيه المنابت مبقل(7)
فمر فائزا يشدو إذا ما سقيتني *** أ عن ظعن الحيّ الألى كنت تسأل
و لا تسقني إلا حلالا فإنّني *** أعاف من الأشياء ما لا يحلّل
ص: 152
/قال: فأمر محمد بن راشد غلامه فائزا، فغنّاه بهذا الصوت، و شرب عليه حتى سكر.
قال: و كان أبو أحمد بن الرّشيد قد عشق فائزا، فاشتراه من محمد بن راشد بثلاثمائة ألف درهم، فبلغ ذلك المأمون، فأمر بأن يضرب محمد بن راشد ألف سوط، ثم سئل فيه فكفّ عنه، و ارتجع منه نصف المال، و طالبه بأكثر فوجده قد أنفقه و قضى دينه، ثم حجر على أبي أحمد بن الرّشيد، فلم يزل محجورا عليه طوال أيام المأمون؛ و كان أمر ماله مردودا إلى مخلد بن أبان.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرني ابن الجرجانيّ (1)، قال:
اتفق يوم النيروز في شهر رمضان، فشرب عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل في تلك اللّيلة إلى أن بدا الفجر أن يطلع، و قال في ذلك و غنّى فيه قوله:
اسقني صفراء صافية *** ليلة النّيروز و الأحد
حرّم الصّوم اصطباحكما *** فتزوّد شربها لغد
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني إبراهيم بن المدبّر، قال:
قال لي محمد بن الفضل الجرجانيّ : أنشدت عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ للمعلّى الطائيّ :
باكر صبوحك صبحة النّيروز *** و اشرب بكأس مترع و بكوز
ضحك الربيع إليك عن نوّاره *** آس و نسرين و مرماحوز
فاستعادنيهما فأعدتهما عليه، و سألني أن أمليهما، و صنع فيهما لحنا غنّى به الواثق في يوم نيروز، فلم يستعد غيره يومئذ، و أمر له بثلاثين ألف درهم.
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني عليّ بن يحيى، قال:
أنشدني عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع لجميل، و أنشدنيه و هو يبكي و دموعه تنحدر على لحيته.
فما لك لما خبّر الناس أنّني *** غدرت بظهر الغيب لم تسليني(2)
فأحلف بتّا أو أجيء بشاهد *** من الناس عدل إنّهم ظلموني
قال: و له فيه صنعة من خفيف الثّقيل و خفيف الرمل.
ص: 153
أخبرني عمّي، قال: حدّثني عبيد اللّه بن محمد بن عبد الملك الزّيات، قال: حدّثنا نافذ مولانا، قال:
كان عبد اللّه بن العبّاس صديقا لأبيك، و كان يعاشره كثيرا، و كان عبد اللّه بن العباس مصطبحا دهره لا يفوته ذلك إلاّ في يوم جمعة أو صوم شهر رمضان، و كان يكثر المدح للصّبوح و يقول الشّعر فيه، و يغنّي فيما يقوله، قال عبيد اللّه: فأنشدني نافذ مولانا و غيره من أصحابنا في ذلك، منهم حمّاد بن إسحاق:
و مستطيل على الصّهباء باكرها *** في فتية باصطباح الرّاح حذّاق
فكلّ شيء رآه خاله(1) قدحا *** و كلّ شخص رآه خاله(1) الساقي
قال: و لحنه فيه خفيف رمل ثقيل. قال حمّاد: و كان أبي يستجيد هذا الصّوت من صنعته/، و يستحسن شعره و يعجب من قوله:
/فكلّ شيء رآه خاله قدحا *** و كلّ شخص رآه خاله السّاقي
و يعجب من قوله:
و مستطيل على الصّهباء باكرها
و يقول: و أيّ شيء تحته من المعاني الظريفة!.
قال: و سمعه أبي يغنّيه فقال له: كأنّك و اللّه يا عبد اللّه خطيب يخطب على المنبر، قال عبد اللّه بن محمد:
فأنشدني حمّاد له في الصّبوح:
لا تعذلن في صبوحي *** فالعيش شرب الصّبوح
ما عاب مصطبحا ق *** طّ غير وغد شحيح
قال عمّي: قال عبيد اللّه: دخل يوما عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ على أبي مسلّما، فلما استقرّ به المجلس و تحادثا ساعة قال له: أنشدني شيئا من شعرك، فقال: إنما أعبث و لست ممّن يقدم عليك بإنشاد شعره، فقال:
أ تقول هذا و أنت القائل:
يا شادنا رام إذ مرّ *** في السّعانين قتلي
تقول لي: كيف أصبحت ؟ *** كيف يصبح مثلي!
أنت و اللّه أعزّك اللّه أغزل الناس و أرقّهم شعرا، و لو لم تقل غير هذا البيت الواحد لكفاك و لكنت شاعرا.
أخبرني عمّي و الحسين بن القاسم الكوكبيّ ، قالا: حدّثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: حدّثني أحمد بن الحسين الهشاميّ (2) أبو عبد اللّه، قال:
ص: 154
حدّثني عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع قال:
/كنت جالسا على دجلة في ليلة من اللّيالي، و أخذت دواة و قرطاسا و كتبت شعرا حضرني و قلته في ذلك الوقت:
أخلفك الدهر ما تنظره *** فاصبر فذا جلّ أمر ذا القدر(1)
لعلّنا أن نديل من زمن(2) *** فرّقنا و الزّمان ذو غير
قال: ثم أرتج عليّ فلم أدر ما أقول حتى يئست من أن يجيئني شيء، فالتفتّ فرأيت القمر و كانت ليلة تتمّته فقلت:
فانظر إلى البدر فهو يشبهه *** إن كان قد ضنّ عنك بالنّظر
ثم صنعت فيه لحنا من الثّقيل الثاني. قال أبو عبد اللّه الهشاميّ : و هو و اللّه صوت حسن.
أخبرني جحظة عن ابن حمدون، و أخبرني به الكوكبيّ ، عن عليّ بن محمد بن نصر، عن خالد بن حمدون، قال:
كنّا عند الواثق في يوم دجن، فلاح برق و استطار، فقال: لو في هذا شيء(3)، فبدرهم عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع، فقال هذين البيتين:
أعنّي على لامع بارق *** خفيّ كلمحك بالحاجب
كأنّ تألّقه في السّماء *** يدا كاتب أو يدا حاسب
/و صنع فيه لحنا شرب فيه الواثق بقيّة يومه، و استحسن شعره و معناه و صنعته، و وصل عبد اللّه بصلة سنيّة.
حدّثني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد/بن محمد بن مروان، قال: حدّثني الحسين بن الضّحّاك، قال:
كنت عند عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع، و هو مصطبح، و خادم له قائم يسقيه فقال لي: يا أبا عليّ ، قد استحسنت سقي هذا الخادم، فإن حضرك شيء في قصّتنا هذه فقل، فقلت:
أحيت صبوحي فكاهة اللاّهي *** و طاب يومي بقرب أشباهي
فاستثر اللهو من مكامنه *** من قبل يوم منغّص ناهي
بابنة كرم من كفّ منتطق *** مؤتزر بالمجون تيّاه
ص: 155
يسقيك من طرفه و من يده(1) *** سقي لطيف مجرّب داهي
طاسا و كاسا(2) كأنّ شاربها *** حيران بين الذّكور و السّاهي
فاستحسنه عبد اللّه، و غنّى فيه لحنا مليحا، و شربنا عليه بقيّة يومنا.
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا أبو عبد اللّه أحمد بن المرزبان بن الفيرزان(3)، قال: حدّثني شيبة بن هشام، قال:
كان عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع قد علق جارية نصرانيّة قد رآها في بعض أعياد النّصارى، فكان لا يفارق البيع في أعيادهم شغفا بها، فخرج في عيد ما سرجيس فظفر بها في بستان إلى جانب البيعة، و قد كان قبل ذلك يراسلها و يعرّفها حبّه لها، فلا تقدر على مواصلته و لا على لقائه إلا على الطّريق، فلما ظفر بها التوت عليه /و أبت بعض الإباء، ثم ظهرت له و جلست معه، و أكلوا و شربوا، و أقام معها و مع نسوة كنّ معها أسبوعا، ثم انصرفت في يوم خميس، فقال عبد اللّه بن العبّاس في ذلك و غنّى فيه:
ربّ صهباء من شراب المجوس *** قهوة بابليّة خندريس
قد تجلّيتها بناي و عود *** قبل ضرب الشّمّاس بالنّاقوس
و غزال مكحّل ذي دلال *** ساحر الطرف سامريّ عروس
قد خلونا بطيبه نجتليه *** يوم سبت إلى صباح الخميس
بين ورد و بين آس جنيّ *** وسط بستان دير ما سرجيس
يتثنّى بحسن جيد غزال *** و صليب مفضّض آبنوسي
كم لثمت الصّليب في الجيد منها *** كهلال مكلّل بشموس
أخبرني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، عن شيبة بن هشام، قال:
كان عبد اللّه بن العبّاس يوما جالسا ينتظر هذه النّصرانيّة الّتي كان يهواها، و قد وعدته بالزّيارة، فهو جالس ينتظرها و يتفقّدها إذ سقط غراب على برّادة(4) داره فنعب مرّة واحدة ثم طار، فتطيّر عبد اللّه من ذلك و لم يزل ينتظرها يومه فلم يرها، فأرسل رسوله عشاء(5) يسأل عنها، فعرّف أنها قد انحدرت مع أبيها(6) إلى بغداد، فتنغّص عليه يومه، و تفرّق من كان عنده، و مكث مدّة لا يعرف لها خبرا. فبينا هو جالس ذات يوم مع أصحابه، إذ سقط هدهد على برّادته، فصاح ثلاثة أصوات و طار، فقال عبد اللّه بن العبّاس: و أيّ شيء أبقى الغراب للهدهد علينا؟
ص: 156
و هل ترك لنا أحدا يؤذينا بفراقه ؟ و تطيّر من ذلك، فما فرغ من كلامه حتى دخل رسولها يعلمه/أنها/قد قدمت منذ ثلاثة أيام، و أنها قد جاءته زائرة على إثر رسولها، فقال في ذلك من وقته:
سقاك اللّه يا هد *** هد و سميّا من القطر
كما بشّرت بالوصل *** و ما أنذرت بالهجر
فكم ذا لك من بشرى *** أتتني منك في ستر
كما جاءت سليمان *** فأوفت منه بالنّذر
و لا زال غراب الب *** ين في قفّاعة(1) الأسر
كما صرّح بالبين *** و ما كنت به أدري
و لحنه في هذا الشّعر هزج.
حدّثني عمّي، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن مصعب:
قال لي عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ : لمّا صنعت لحني في شعري:
ألا اصبحاني يوم السّعانين *** من قهوة عتّقت بكركين(2)
عند أناس قلبي بهم كلف *** و إن تولّوا دينا سوى ديني
قد زيّن الملك جعفر و حكى *** جود أبيه و بأس هارون
و أمّن(3) الخائف البريء كما *** أخاف أهل الإلحاد في الدّين
دعاني المتوكّل، فلما جلست في مجلس المنادمة غنّيت هذا الصّوت فقال لي: يا عبد اللّه، أين غناؤك في هذا الشعر في أيّامي هذه من غنائك في:
/أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها *** و أدنت على الخدّين بردا مهلهلا
و من غنائك في:
أقفر من بعد خلّة سرف *** فالمنحنى فالعقيق فالجرف
و من سائر صنعتك المتقدّمة الّتي استفرغت محاسنك فيها، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إنّي كنت أتغنّى في هذه الأصوات و لي شباب و طرب و عشق، و لو ردّ عليّ لغنّيت مثل ذلك الغناء، فأمر لي بجائزة و استحسن قولي.
حدّثني عمّي، قال: حدّثنا أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني أبي، قال:
ذكر المنتصر يوما عبد اللّه بن العبّاس و هو في قراح(4) النّرجس مصطبح، فأحضره و قال له: يا عبد اللّه، اصنع
ص: 157
لحنا في شعري الفلانيّ ، و غنّني به، و كان عبد اللّه حلف لا يغنّي في شعره، فأطرق مليّا، ثم غنّى في شعر قاله للوقت و هو:
يا طيب يومي في قراح النّرجس *** في مجلس ما مثله من مجلس!
تسقى مشعشعة كأنّ شعاعها *** نار تشبّ لبائس مستقبس
قال: فجهد أبي بالمنتصر يوما و احتال عليه بكلّ حيلة أن يصله بشيء فلم يفعل.
حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني أبي، قال:
غضبت قبيحة على المتوكّل و هاجرته، فجلس و دخل الجلساء و المغنّون، و كان فيهم عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، و كان قد عرف الخبر، فقال هذا الشّعر و غنّى فيه:
لست منّي و لست منك فدعني *** و امض عنّي مصاحبا بسلام(1)
/لم تجد علّة تجنّى بها ال *** ذّنب فصارت تعتلّ بالأحلام
/فإذا ما شكوت ما بي قالت: *** قد رأينا خلاف ذا في المنام
قال: فطرب المتوكّل و أمر له بعشرين ألف درهم و قال له: إنّ في حياتك يا عبد اللّه لأنسا و جمالا و بقاء للمروءة و الظّرف.
أخبرني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ ، قال:
كنت في بعض العساكر فأصابتنا السّماء حتى تأذّينا، فضربت لي قبّة تركيّة، و طرح لي فيها سريران، فخطر بقلبي قول السّليك:
قرّب النّحّام(2) و اعجل يا غلام *** و اطرح السّرج عليه و اللّجام
أبلغ(3) الفتيان أنّى خائض *** غمرة الضّرب فمن شاء أقام
فغنّيت فيه لحني المعروف، و غدونا فدخلت مدينة، فإذا أنا برجل يغنّي به و و اللّه ما سبقني إليه أحد و لا سمعه منّي أحد، فما أدري من الرّجل، و لا من أين كان له، و ما أرى إلا أنّ الجنّ أوقعته في لسانه!.
ص: 158
حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ ، قال:
كنت عند محمد بن الجهم البرمكيّ بالأهواز، و كانت ضيعتي في يده، فغنّيته في يوم مهرجان و قد دعانا للشّرب:
المهرجان و يوم الاثنين *** يوم سرور قد حفّ بالزّين(1)
ينقل من وغرة المصيف إلى(2) *** برد شتاء ما بين فصلين
محمد يا بن الجهم و من بنى *** للمجد بيتا من خير بيتين(3)
عش ألف نيروز و مهرج فرحا *** في طيب عيش و قرّة العين(4)
قال: فسرّ بذلك و احتمل خراجي في تلك السّنة، و كان مبلغه ثلاثين ألف درهم.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني ابن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة القطرانيّ ، عن محمد بن حسين(5)، قال:
كنّا عند أبي عيسى بن الرّشيد في زمن الرّبيع و معنا مخارق، و علّوية، و عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ ، و محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر(6)، و نحن مصطبحون في طارمة(7) مضروبة على بستانه، و قد تفتّح فيه ورد و ياسمين و شقائق، و السماء متغيّمة غيما مطبقا، و قد بدأت ترشّ رشّا ساكبا(8)، فنحن في أكمل نشاط و أحسن يوم إذ خرجت قيّمة دار أبي عيسى فقالت: يا سيّدي، قد جاءت عساليج، فقال: لتخرج إلينا، فليس بحضرتنا من تحتشمه، فخرجت إلينا جارية شكلة(9) حلوة، حسنة العقل و الهيئة/و الأدب، في يدها عود. فسلّمت، فأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست، و غنّى القوم حتى انتهى الدّور إليها، و ظنّنا أنها لا تصنع شيئا و خفنا أن تهابنا فتحصر، فغنّت غناء حسنا مطربا متقنا، و لم تدع أحدا ممّن حضر إلا غنّت صوتا من صنعته و أدّته على غاية الإحكام، فطربنا
ص: 159
و استحسنّا غناءها و خاطبناها بالاستحسان، و ألحّ عبد اللّه بن العبّاس من بيننا بالاقتراح عليها و المزاح معها و النّظر إليها، فقال له أبو عيسى: عشقتها و حياتي يا عبد اللّه، قال: لا و اللّه/يا سيّدي و حياتك ما عشقتها، و لكني استحسنت(1) كلّ ما شاهدت منها من منظر و شكل و عقل و عشرة و غناء، فقال له أبو عيسى: فهذا و اللّه هو العشق و سببه، و ربّ جدّ جرّه اللّعب. و شربنا، فلما غلب النّبيذ على عبد اللّه غنّى أهزاجا قديمة و حديثة، و غنّى فيما غنّى بينهما هزجا في شعر قاله فيها لوقته، فما فطن له إلا أبو عيسى و هو:
نطق السّكر بسرّي فبدا *** كم يرى المكتوم يخفى لا يضح
سحر عينيك إذا مارنتا *** لم يدع ذا صبوة أو يفتضح
ملكت قلبا(2) فأمسى غلقا *** عندها صبّا بها لم يسترح
بجمال و غناء حسن *** جلّ عن أن ينتقيه المقترح
أورث القلب هموما و لقد *** كنت مسرورا بمرآه فرح
و لكم مغتبق همّا و قد *** بكر(3) اللّهو بكور المصطبح
- الغناء لعبد اللّه بن العبّاس هزج - فقال له أبو عيسى: فعلتها و اللّه يا عبد اللّه، و طار/طربا(4)، و شرب على الصّوت و قال له: صحّ و اللّه قولي لك في عساليج، و أنت تكابرني حتّى فضحك السّكر. فجحد، و قال: هذا غناء كنت أرويه، فحلف أبو عيسى أنه ما قاله و لا غنّاه إلا في يومه، و قال له: احلف بحياتي أنّ الأمر ليس هو كذلك، فلم يفعل، فقال له أبو عيسى: و اللّه لو كانت لي لوهبتها لك، و لكنها لآل يحيى بن معاذ، و اللّه لئن باعوها لأملّكنّك إيّاها و لو بكلّ ما أملك، و و حياتي لتنصرفنّ قبلك إلى منزلك، ثم دعا بحافظتها و خادم(5) من خدمه، فوجّه بها معهما إلى منزله. و التوى عبد اللّه قليلا و تجلّد، و جاحدنا أمره ثم انصرف.
و اتّصل الأمر بينهما بعد ذلك، فاشترتها عمّته رقيّة بنت الفضل بن الرّبيع من آل يحيى بن معاذ، و كانت عندهم حتى ماتت.
فحدّثني جعفر بن قدامة بن زياد عن بعض شيوخه - سقط عني اسمه - قال: قالت بذل الكبيرة لعبد اللّه بن العبّاس: قد بلغني أنك عشقت جارية يقال لها عساليج فاعرضها عليّ ، فإمّا أن عذرتك و إمّا أن عذلتك، فوجّه إليها فحضرت، و قال لبذل: هذه هي يا ستي فانظري و اسمعي، ثم مريني بما شئت أطعك، فأقبلت عليه عساليج و قالت:
يا عبد اللّه أ تشاور فيّ؟ فو اللّه ما شاورت لمّا صاحبتك، فنعرت(6) بذل و صاحت: إيه، أحسنت و اللّه يا صبيّة، و لو لم
ص: 160
تحسني شيئا و لا كانت فيك خصلة تحمد لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة، أحسنت و اللّه، ثم قالت لعبد اللّه:
ما ضيّعت(1)، احتفظ بصاحبتك.
حدّثني عمّي، قال: حدّثني محمد(2) بن المرزبان، عن أبيه، عن عبد اللّه بن العبّاس، قال:
/دعانا الواثق في يوم نوروز، فلما دخلت عليه غنّيته في شعر قلته و صنعت فيه لحنا و هو:
هيّ للنّيروز جاما *** و مداما و ندامى
يحمدون اللّه و الوا *** ثق هارون الإماما
ما رأى كسرى أنوشر *** وان مثل العام عاما
نرجسا غضّا و وردا *** و بهارا و خزامى
/قال: فطرب و استحسن الغناء، و شرب عليه حتى سكر، و أمر لي بثلاثين ألف درهم.
حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني شيبة بن هشام قال:
ألقت متيّم على جوارينا هذا اللحن و زعمت أنّها أخذته من عبد اللّه بن العبّاس و الصّنعة له:
اتّخذت عدوّة *** فسقى الإله عدوّتي
و فديتها بأقاربي *** و بأسرتي و بجيرتي
جدلت كجدل الخيزرا *** ن و ثنّيت فتثنّت
و استيقنت أنّ الفؤا *** د يحبّها فأدلّت
قال: ثم حدّثتنا متيّم أنّ عبد اللّه بن العبّاس كان يتعشّق مصابيح جارية الأحدب المقيّن(3)، و أنّه قال هذا الشعر فيها، و غنّى فيه هذا اللّحن بحضرتها، فأخذته عنه. /هكذا ذكر شيبة بن هشام من أمر مصابيح، و هي مشهورة من جواري آل يحيى بن معاذ، و لعلها كانت لهذا المقيّن قبل أن يملكها آل يحيى، و قبل أن تصل(4) إلى رقيّة بنت الفضل بن الرّبيع.
و حدّثنا أيضا عمّي، قال: حدّثنا أحمد بن المرزبان، عن شيبة ابن هشام، قال:
كان عبد اللّه بن العبّاس يتعشّق جارية الأحدب المقيّن - و لم يسمّها في هذا الخبر - فغاضبها في شيء بلغه عنها، ثم رام بعد ذلك أن يترضّاها فأبت، و كتب إليها رقعة يحلف لها على بطلان ما أنكرته، و يدعو اللّه على من
ص: 161
ظلم، فلم تجبه عن شيء ممّا كتب به، و وقّعت تحت دعائه: آمين، و لم تجب عن شيء مما تضمّنته الرّقعة بغير ذلك، فكتب إليها:
أمّا سروري بالكتا *** ب فليس يقنى ما بقينا
و أتى الكتاب و فيه لي(1) *** آمين ربّ العالمينا
قال: و زارته في ليلة من ليالي شهر رمضان و أقامت عنده ساعة، ثم انصرفت و أبت أن تبيت و تقيم ليلتها عنده، فقال هذا الشّعر و غنّى فيه هزجا و هو مشهور من أغانيه و هو:
يا من لهمّ أمسى يؤرّقني *** حتى مضى شطر ليلة الجهني(2)
عنّي و لم أدر أنّها حضرت *** كذاك من كان حزنه حزني(3)
/إنّي سقيم(4) مولّه دنف *** أسقمني حسن وجهك الحسن
جودي له بالشفاء منيته *** لا تهجري هائما عليك ضني
قال: و ليلة الجهنيّ ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، قال رجل من جهينة: إنّه رأى فيها ليلة القدر فيما يرى النّائم فسمّيت ليلة الجهنيّ .
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني شيبة بن هشام، قال:
دعانا محمد بن حمّاد بن دنقش(5) و كان له ستارة في نهاية الوصف، و حضر معنا عبد اللّه بن العباس، فقال عبد اللّه و غنّى فيه:
دع عنك لومي فإنّي غير منقاد *** إلى الملام و إن أحببت إرشادي
/فلست أعرف لي يوما سررت به *** كمثل يومي في دار ابن حمّاد
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى، قال: حدّثني أبو أيّوب المدينيّ ، قال: حدّثني ابن المكّيّ ، عن عبد اللّه بن العبّاس، قال: لمّا صنعت لحني في شعري:
ص: 162
يا ليلة ليس لها صبح *** و موعدا ليس له نجح
من شادن مرّ على وعده المي *** لاد و السّلّاق و الذّبح
- هذه أعياد النّصارى - غنّيته الواثق فقال: ويلكم، أدركوا هذا لا يتنصّر، و تمام هذا الشّعر:
و في السّعانين لو أنّي به *** و كان أقصى الموعد الفصح
فاللّه استعدي على ظالم *** لم يغن عنه الجود و الشّحّ
/نسخت من كتاب أبي سعيد السّكّريّ : قال أبو العتاهية: و فيه لعبد اللّه بن العبّاس غناء حسن:
أنا عبد لها مقرّ و ما يم *** لك لي غيرها من الناس رقّا
ناصح مشفق و إن كنت ما أر *** زق منها و الحمد للّه عتقا
و من الحين و الشّقاء تعلّ *** قت مليكا مستكبرا حين يلقى
إن شكوت الّذي لقيت إليه *** صدّ عنّي و قال: بعدا و سحقا
أخبرني عمّي، قال: حدّثني عليّ بن محمد بن نصر، عن جدّه حمدون بن إسماعيل، قال:
دخلت يوما إلى عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، و خادم له يسقيه، و بيده عوده، و هو يغنّي هذا الصوت:
إذا اصطبحت ثلاثا *** و كان عودي نديمي
و الكأس تغرب(1) ضحكا *** من كفّ ظبي رخيم
فما عليّ طريق *** لطارقات الهموم
قال: فما رأيت أحسن ممّا حكى حاله في غنائه، و لا سمعت أحسن ممّا غنّى.
أخبرني الحسين(2) بن القاسم الكوكبيّ ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني دوسر(3) الخراسانيّ قال:
اشترى حزام(4) خادم المعتصم خادما نظيفا، كان عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل/بن الربيع يتعشّقه، فسأله هبته له أو بيعه منه فأبى، فقال عبد اللّه أبياتا و صنع فيها غناء، و هي قوله:
يوم سبت فصرّفا لي المداما *** و اسقياني لعلّني أن أناما
شرّد النوم حبّ ظبي غرير *** ما أراه يرى الحرام حراما
ص: 163
اشتراه يوما بعلفة يوم *** أصبحت عنده(1) الدواب صياما
فاتصلت الأبيات و خبرها بحزام، فخشي أن تشتهر و يسمعها المعتصم فيأتي عليه؛ فبعث بالغلام إلى عبد اللّه، و سأله أن يمسك عن الأبيات، ففعل.
حدّثني الصّوليّ ، قال: حدّثني الحسين بن يحيى، قال: قلت لعبد اللّه بن العبّاس: إنه بلغني لك خبر مع الرّشيد أول ما شهرت بالغناء، /فحدّثني به، قال: نعم أول صوت صنعته:
أتاني يؤامرني في الصّبو *** ح ليلا فقلت له: غادها
فلما تأتّى(2) لي و ضربت عليه بالكنكلة؛ عرضته على جارية لنا يقال لها راحة، فاستحسنته و أخذته عنّي، و كانت تختلف إلى إبراهيم الموصليّ ، فسمعها يوما تغنّيه و تناغي(3) به جارية من جواريه، فاستعادها إيّاه و أعادته عليه، فقال لها: لمن هذا؟ فقالت: صوت قديم، فقال لها: كذبت، لو كان قديما لعرفته، و ما زال يداريها و يتغاضب عليها حتى اعترفت له بأنّه من صنعتي، فعجب من ذلك، ثم غنّاه يوما بحضرة الرشيد، فقال له: لمن هذا اللّحن يا إبراهيم ؟ فأمسك عن الجواب و خشي أن يكذبه فينمي الخبر إليه من غيره، و خاف من جدّي أن يصدقه، فقال له: ما لك/لا تجيبني ؟ فقال: لا يمكنني يا أمير المؤمنين، فاستراب بالقصّة، ثم قال: و اللّه، و تربة المهديّ لئن لم تصدقني لأعاقبنّك عقوبة موجعة، و توهّم أنّه لعليّة أو لبعض حرمه فاستطير غضبا، فلما رأى إبراهيم الجدّ منه صدقه فيما بينه و بينه سرّا، فدعا لوقته الفضل بن الرّبيع ثم قال له: أ يصنع ولدك غناء و يرويه الناس و لا تعرّفني ؟ فجزع و حلف بحياته و بيعته أنه ما عرف ذلك قطّ، و لا سمع به إلا في وقته ذلك، فقال له: ابن(4) ابنك عبد اللّه بن العبّاس أحضرنيه السّاعة، فقال: أنا أمضي و أمتحنه، فإن كان يصلح للخدمة أحضرته، و إلاّ كان أمير المؤمنين أولى من ستر عورتنا، فقال: لا بدّ من إحضاره. فجاء جدّي فأحضرني و تغيّظ عليّ ، فاعتذرت و حلفت له أن هذا شيء ما تعمّدته، و إنما غنّيت لنفسي، و ما أدري من أين خرج، فأمر بإحضار عود فأحضر، و أمرني فغنّيته الصوت، فقال:
قد عظمت مصيبتي فيك يا بنيّ ، فحلفت له بالطلاق و العتاق ألاّ أقبل على الغناء رفدا أبدا، و لا أغنّي إلا خليفة أو وليّ عهد، و من لعلّه أن يكون حاضرا مجالسهم، فطابت نفسه. فأحضرني(5)، فغنّيت الرشيد الصوت فطرب و شرب عليه أقداحا، و أمرني بالملازمة مع الجلساء، و جعل لي نوبة، و أمر بحمل عشرة آلاف دينار إلى جدّي، و أمره أن يبتاع ضيعة لي بها، فابتاع لي ضيعتي بالأهواز، و لم أزل ملازما للرّشيد حتى خرج إلى خراسان، و تأخرت عنه و فرّق الموت بيننا.
ص: 164
قال ابن المرزبان: فكان عبد اللّه بن العبّاس سببا لمعرفة أولياء العهود برأي الخلفاء فيهم، فكان منهم الواثق، فإنه أحبّ أن يعرف: هل يولّيه المعتصم العهد بعده أم لا، فقال له عبد اللّه: أنا أدلّك على وجه تعرف به ذلك، فقال: و ما هو؟ فقال: تسأل أمير المؤمنين أن يأذن للجلساء و المغنّين أن يصيروا إليك، فإذا فعل ذلك فاخلع عليهم /و عليّ معهم، فإني لا أقبل خلعتك لليمين الّتي عليّ ؛ ألاّ أقبل رفدا إلا من خليفة أو وليّ عهد. فقعد الواثق ذات يوم و بعث إلى المعتصم و سأله الإذن إلى الجلساء(1)، فأذن لهم، فقال له عبد اللّه بن العبّاس: قد علم أمير المؤمنين يميني، فقال له: امض إليه فإنك لا تحنث، فمضى إليه و أخبره الخبر فلم يصدّقه، و ظنّ أنه يطيّب نفسه، فخلع عليه و على الجماعة، فلم يقبل عبد اللّه خلعته، و كتب إلى المعتصم يشكوه، فبعث إليه: اقبل الخلعة، /فإنه وليّ عهدي، و نمى إليه الخبر أنّ هذا كان حيلة من عبد اللّه، فنذر دمه، ثم عفا عنه.
و سرّ الواثق بما جرى، و أمر إبراهيم بن رياح، فاقترض له ثلاثمائة ألف درهم، ففرّقها على الجلساء، ثم عرف غضب المعتصم على عبد اللّه بن العباس و اطّراحه إيّاه، فاطّرحه هو أيضا. فلمّا ولي الخلافة استمرّ على جفائه، فقال عبد اللّه:
ما لي جفيت و كنت لا أجفى *** أيام أرهب سطوة السّيف
أدعو إلهي أن أراك خليفة *** بين المقام و مسجد الخيف
و دسّ من غنّاه الواثق، فلما سمعه سأل عنه، فعرف قائله، فتذمّم(2) و دعا عبد اللّه فبسطه و نادمه إلى أن مات.
و ذكر العتّابيّ عن ابن الكلبيّ أنّ الواثق كان يشتهي على عبد اللّه بن العباس:
أيّها العاذل جهلا تلوم *** قبل أن ينجاب عنه الصّريم(3)
و أنه غنّاه يوما فأمر بأن يخلع عليه خلعة، فلم يقبلها ليمينه، فشكاه إلى المعتصم، فكاتبه في الوقت، فكتب إليه مع مسرور سمّانة: اقبل خلع(4) هارون فإنك لا تحنث، فقبلها و عرف الواثق أنّه وليّ عهد.
حدّثني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني شيبة بن هشام، قال:
كان عبد اللّه بن العبّاس يهوى جارية نصرانيّة لم يكن يصل إليها و لا يراها إلا إذا خرجت إلى البيعة، فخرجنا يوما معه إلى السّعانين، فوقف حتى إذا جاءت فرآها، ثم أنشدنا لنفسه، و غنّى فيه بعد ذلك:
ص: 165
إن كنت ذا طبّ فداويني(1) *** و لا تلم فاللّوم يغريني
يا نظرة أبقت جوى قائلا *** من شادن يوم السّعانين
و نظرة من ربرب(2) عين *** خرجن في أحسن تزيين
خرجن يمشين إلى نزهة *** عواتقا(3) بين البساتين
مزنّرات بهمايينها(4) *** و العيش ما تحت الهمايين
لحن عبد اللّه بن العبّاس في هذا الشعر هزج.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثنا محمد بن عمر الجرجانيّ ، و محمد بن حمّاد كاتب راشد، قالا:
كتب عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ في يوم نيروز - و اتّفق في يوم الشّكّ بين شهري رمضان و شعبان - إلى محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر يقول:
اسقني صفراء صافية *** ليلة النّيروز و الأحد
/حرّم الصّوم(5) اصطباحكما *** فتزوّد شربها لغد
و ائتنا أو فادعنا عجلا *** نشترك في عيشة رغد
قال: فجاءه محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر فشربا ليلتهما.
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى، قال: حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ ، قال: حدّثنا أحمد بن المكّيّ ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، /قال:
جمع الواثق يوما المغنّين ليصطبح، فقال: بحياتي إلاّ صنعت لي هزجا حتى أدخل و أخرج إليكم السّاعة، و دخل إلى جواريه، فقلت هذه الأبيات و غنّيت فيها هزجا قبل أن يخرج، و هي:
بأبي زور أتانى بالغلس *** قمت إجلالا له حتى جلس
فتعانقنا جميعا ساعة *** كادت الأرواح فيها تختلس
ص: 166
قلت: يا سؤلي و يا بدر الدّجى *** في ظلام اللّيل ما خفت العسس!
قال: قد خفت و لكنّ الهوى *** آخذ بالرّوح منّي و النّفس
زارني يخطر في مشيته *** حوله من نور خدّيه قبس
قال: فلمّا خرج من دار الحرم قال لي: يا عبد اللّه، ما صنعت ؟ فاندفعت فغنّيته، فشرب حتى سكر، و أمر لي بخمسة آلاف درهم، و أمرني بطرحه على الجواري، فطرحته عليهن.
أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى، قال: حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ ، عن حمّاد، قال:
من مليح صنعة عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، و الشّعر ليوسف بن الصّيقل، و لحنه هزج:
أبعد المواثيق لي *** و بعد السؤال الحفي
و بعد اليمين الّتي *** حلفت على المصحف
تركت الهوى بيننا *** كضوء سراج طفي
فليتك إذ لم تفي *** بوعدك لم تخلفي
حدّثني الصّوليّ ، قال: حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ ، قال:
كان الواثق قد غضب على فريدة لكلام أخفته إيّاه فأغضبته، و عرفنا ذلك و جلس في تلك الأيّام للصّبوح، فغنّاه عبد اللّه بن العبّاس:
لا تأمني الصّرم منّي أن تري كلفي *** و إن مضى لصفاء الودّ أعصار
ما سمّي القلب إلا من تقلّبه *** و الرأي يصرف و الأهواء أطوار
كم من ذوي مقة(1) قبلي و قبلكم *** خانوا فأضحوا إلى الهجران قد صاروا
فاستعاده الواثق مرارا، و شرب عليه و أعجب به، و أمر لعبد اللّه بألف دينار و خلع عليه.
الشّعر للأحوص، و الغناء لعبد اللّه بن العبّاس هزج بالوسطى عن عمرو.
و أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الربيع، قال:
ص: 167
/غنّيت المتوكّل ذات يوم:
أحبّ إلينا منك دلاّ و ما يرى *** له عند فعلي من ثواب و لا أجر
فطرب و قال: أحسنت و اللّه يا عبد اللّه، أما و اللّه لو رآك النّاس كلّهم كما أراك لما ذكروا مغنّيا سواك أبدا.
نسخت من كتاب لأبي العبّاس بن ثوابة بخطّه: حدّثني أحمد بن إسماعيل بن حاتم، قال: قال لي عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ :
دخلت على المعتصم أودّعه/و أنا أريد الحجّ ، فقبّلت يده و ودّعته، فقال: يا عبد اللّه إنّ فيك لخصالا تعجبني كثّر اللّه في مواليّ مثلك، فقبّلت رجله و الأرض بين يديه، و أحسن محمد بن عبد الملك الزّيّات محضري و قال له:
إنّ له يا أمير المؤمنين، أدبا حسنا و شعرا جيّدا، فلما خرجت قلت له: أيّها الوزير، ما شعري أنا في الشعر تستحسنه و تشيد بذكره بين يدي الخليفة! فقال: دعنا منك، تنتفي من الشّعر و أنت الّذي تقول:
يا شادنا مرّ إذ را *** م في السّعانين قتلي
يقول لي: كيف أصبح *** ت، كيف يصبح مثلي!
أحسنت و اللّه في هذا، و لو لم تقل غير هذا لكنت شاعرا.
أخبرني عمّي، قال: حدّثنا أحمد بن المرزبان، قال: قال أبي: قال عبد اللّه بن العبّاس الرّبيعيّ :
لقيني سوّار بن عبد اللّه القاضي - و هو سوّار الأصغر - فأصغى إليّ و قال: إنّ لي إليك حاجة فأتني في خفي، فجئته، فقال: لي إليك حاجة قد أنست بك فيها، لأنك لي/كالولد، فإن شرطت لي كتمانها أفضيت بها إليك، فقلت: ذلك للقاضي عليّ شرط واجب، فقال: إني قلت أبياتا في جارية لي أميل إليها و قد قلتني و هجرتني:
و أحببت أن تصنع فيها لحنا و تسمعنيه، و إن أظهرته و غنّيته بعد ألاّ يعلم أحد أنه شعري، فلست أبالي، أ تفعل ذلك ؟ قلت: نعم حبّا و كرامة، فأنشدني:
سلبت عظامي لحمها فتركتها *** عواري في أجلادها(1) تتكسّر
و أخليت منها مخّها فكأنّها *** أنابيب في أجوافها الرّيح تصفر
إذا سمعت باسم الفراق ترعّدت *** مفاصلها من هول ما تتحذّر
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري *** بلى جسدي لكنّني أتستّر
و ليس الّذي يجري من العين ماؤها *** و لكنّها روح تذوب فتقطر
- اللحن الّذي صنعه عبد اللّه بن العبّاس في هذا الشّعر ثقيل أول - قال عبد اللّه: فصنعت فيه لحنا، ثم عرّفته
ص: 168
خبره في رقعة كتبتها إليه، و سألته وعدا يعدني به للمصير إليه، فكتب إليّ : نظرت في القصّة فوجدت هذا لا يصلح و لا ينكتم عليّ حضورك و سماعي إيّاك، و أسأل اللّه أن يسرّك و يبقيك. فغنّيت الصوت و ظهر حتى تغنّى به الناس، فلقيني سوّار يوما فقال لي: يا بن أخي، قد شاع أمرك في ذلك الباب حتى سمعناه من بعد كأنّا لم نعرف القصّة فيه، و جعلنا جميعا نضحك.
كان بشر خادم صالح بن عجيف عليلا ثم برئ، فدخل إلى عبد اللّه بن/العبّاس، فلما رآه قام فتلقّاه و أجلسه إلى جانبه، و شرب سرورا بعافيته، و صنع لحنا من الثقيل الأول و هو من جيّد صنعته:
مولاي ليس لعيش لست حاضره *** قدر و لا قيمة عندي و لا ثمن
و لا فقدت من الدّنيا و لذّتها *** شيئا إذا كان عندي وجهك الحسن
/حدّثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن العبّاس الربيعيّ ، قال:
جمعنا الواثق يوما بعقب علّة غليظة كان فيها، فعوفي و صحّ جسمه، فدخلت إليه مع المغنّين و عودي في يدي، فلما وقعت عيني عليه من بعيد، و صرت بحيث يسمع صوتي، ضربت و غنّيت في شعر قلته في طريقي إليه، و صنعت فيه لحنا و هو:
اسلم و عمّرك الإله لأمّة *** بك أصبحت قهرت ذوي الإلحاد
لو تستطيع وقتك كلّ أذيّة *** بالنّفس و الأموال و الأولاد
فضحك و سرّ و قال: أحسنت يا عبد اللّه و سررتني، و تيمنت بابتدائك، ادن مني، فدنوت منه حتى كنت أقرب المغنّين إليه، ثم استعادني الصوت، فأعدته ثلاث مرّات، و شرب عليه ثلاثة أقداح، و أمر لي بعشرة آلاف درهم و خلعة من ثيابه.
/حدّثني الصّوليّ ، قال: حدّثني عون بن محمد الكنديّ ، قال:
كان عبد اللّه بن العبّاس بن الفضل بن الرّبيع يهوى جارية نصرانيّة، فجاءته يوما تودّعه، فأعلمته أن أباها يريد الانحدار إلى بغداد و المضيّ بها معه، فقال في ذلك و غنّى فيه:
ص: 169
أفدي الّتي قلت لها *** و البين منّا قد دنا:
فقدك قد أنحل جسم *** ي و أذاب البدنا
قالت: فما ذا حيلتي *** كذاك قد ذبت أنا!
باليأس بعدي فاقتنع *** قلت: إذا قلّ الغنا
حدّثني الصّوليّ ، قال: حدّثني عون بن محمد، قال: حدّثني عليّ بن عيسى بن جعفر الهاشميّ ، قال:
دخل عليّ عبد اللّه بن العبّاس في يوم النّصف من شعبان، و هو يوم سبت، و قد عزمت على الصّوم، فأخذ بعضادتي باب مجلسي، ثم قال: يا أميري:
تصبح في السّبت غير نشوان *** و قد مضى عنك نصف شعبان!
فقلت: قد عزمت على الصوم، فقال: أ فعليك وزر إن أفطرت اليوم - لمكاني و سررتني بمساعدتك لي - و صمت غدا، و تصدّقت مكان إفطارك ؟ فقلت: أفعل، فدعوت بالطّعام فأكلت، و بالنبيذ فشربنا، و أصبح من غد عندي، فاصطبح و ساعدته، فلما كان اليوم الثالث انتبهت سحرا و قد قال هذا الشعر و غنّى فيه:
/شعبان لم يبق منه *** إلا ثلاث و عشر
فباكر الرّاح صرفا *** لا يسبقنّك فجر
فإن يفتك اصطباح *** فلا يفوتنك سكر
و لا تنادم فتى وقت *** شربه الدّهر عصر
قال: فأطربني و اصطبحت معه في اليوم الثّالث، فلمّا كان من آخر النّهار سكر و انصرف، /و ما شربنا يومنا كلّه إلا على هذا الصّوت.
حدّثني عمّي، قال: حدّثني ابن دهقانة النّديم، قال:
دخل عبد اللّه بن العباس إلى المتوكّل في آخر شعبان فأنشده:
علّلاني نعمتما بمدام *** و اسقياني من قبل شهر الصّيام
حرّم اللّه في الصّيام التّصابي *** فتركناه طاعة للإمام
أظهر العدل فاستنار به الدّين و أحيا شرائع الإسلام فأمر المتوكّل بالطّعام فأحضر، و بالنّديم و بالجلساء فأتي بذلك، فاصطبح و غنّاه عبد اللّه في هذه الأبيات، فأمر له بعشرة آلاف درهم.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثنا يزيد بن محمد المهلّبيّ ، قال: حدّثني عبد اللّه بن العبّاس قال:
ص: 170
كنت مقيما بسرّمن رأى و قد ركبني دين ثقيل أكثره عينة(1) و ربا، فقلت في المتوكّل:
اسقياني سحرا بالكبّره(2) *** ما قضى اللّه ففيه الخيره
أكرم اللّه الإمام المرتضى *** و أطال اللّه فينا عمره
/إن أكن أقعدت عنه هكذا *** قدّر اللّه رضينا قدرا
سرّه اللّه و أبقاه لنا *** ألف عام و كفانا الفجره
و بعثت بالأبيات إليه، و كنت مستترا من الغرماء، فقال لعبيد اللّه بن يحيى: وقّع إليه: من هؤلاء الفجرة الذين استكفيت اللّه شرّهم ؟ فقلت: المعيّنون الذين قد ركبني لهم أكثر مما أخذت منهم من الدّين بالرّبا، فأمر عبيد اللّه أن يقضي ديني، و أن يحتسب لهم رءوس أموالهم، و يسقط الفضل، و ينادي بذلك في سرّ من رأى حتى لا يقضي أحد أحدا إلاّ رأس ماله، و سقط عنّي و عن النّاس من الأرباح زهاء مائة ألف دينار كانت أبياتي هذه سببها.
حدّثني الصّوليّ ، قال: حدّثني عون بن محمد الكنديّ ، قال: حدّثني أبي، قال:
مرض عبد اللّه بن العباس بسرّمن رأى في قدمة قدمها إليها، فتأخّر عنه من كان يثق به، فكتب إليهم:
ألا قل لمن بالجانبين بأنّني *** مريض عداني(3) عن زيارتهم ما بي
فلو بهم بعض الّذي لي لزرتهم *** و حاش لهم من طول سقمي و أوصابي
و إن أقشعت عني سحابة علّتي *** تطاول عتبي إن تأخّر إعتابي(4)
قال: فما بقي أحد من إخوانه إلا جاءه عائدا معتذرا.
أخبرني عمّي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن محمد بن موسى، قال:
سمعت عبد اللّه بن العبّاس يغنّي و نحن مجتمعون عند علّوية بشعر في النّصرانيّة الّتي كان يهواها و الصّنعة له:
إنّ في القلب من الظّبي كلوم *** فدع اللّوم فإن اللّوم لوم(5)
حبّذا يوم السّعانين و ما *** نلت فيه من نعيم لو يدوم
إن يكن أعظمت أن همت به *** فالذي تركب من عذلي عظيم
/لم أكن أوّل من سنّ الهوى *** فدع اللّوم فذا داء قديم
الغناء لعبد اللّه هزج بالوسطى.
ص: 171
حدّثني أبو بكر الرّبيعيّ ، قال: حدّثتني عمتي - و كانت ربّيت في دار عمّها عبد اللّه بن العباس - قالت: كان عبد اللّه لا يفارق الصّبوح أبدا إلا في يوم جمعة، أو شهر رمضان، و إذا حجّ . و كانت له وصيفة يقال لها: هيلانة قد ربّاها و علّمها الغناء، فأذكره يوما و قد اصطبح، و أنا في حجره جالسة و القدح في يده اليمنى، و هو يلقي على الصّبيّة صوتا أوله:
صدع البين الفؤادا *** إذ به الصائح نادى
فهو يردّده، و يومئ بجميع أعضائه إليها يفهمها نغمه، و يوقّع بيده على كتفي مرّة و على فخذي أخرى، و هو لا يدري حتى أوجعني، فبكيت و قلت: قد أوجعتني ممّا تضربني و هيلانة لا تأخذ الصّوت و تضربني أنا، فضحك حتى استلقى و استملح قولي، فوهب لي ثوب قصب أصفر، و ثلاثة دنانير جددا، فما أنسى فرحي بذلك و قيامي به إلى أمّي، و أنا أعدو إليها و أضحك فرحا به.
صدع البين الفؤادا *** إذ به الصائح نادى
بينما الأحباب مجمو *** عون إذ صاروا فرادى
فأتى بعض بلادا *** و أتى بعض بلادا
كلّما قلت: تناهى *** حدثان الدّهر عادا
الشعر و الغناء لعبد اللّه هزج بالوسطى عن عمرو.
حضر الرحيل و شدّت الأحداج(1) *** و غدا بهنّ مشمّر مزعاج
للشوق نيران قدحن بقلبه *** حتى استمرّ به الهوى الملجاج
أزعج هواك إلى الّذين تحبّهم *** إن المحبّ يسوقه الإزعاج
لن يدنينّك للحبيب و وصله *** إلاّ السّرى و البازل الهجهاج(2)
الشعر لسلم الخاسر، و الغناء لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى.
ص: 172
13 - أخبار سلم الخاسر و نسبه(1)
سلم بن عمرو مولى بني تيم بن مرّة، ثم مولى أبي بكر الصديق، رضوان اللّه عليه، بصريّ ، شاعر مطبوع متصرّف في فنون الشّعر، من شعراء الدولة العباسية. و هو راوية بشار بن برد و تلميذه، و عنه أخذ، و من بحره اغترف، و على مذهبه و نمطه قال الشعر.
و لقّب سلم بالخاسر(2) - فيما يقال - لأنه ورث من أبيه مصحفا، فباعه و اشترى بثمنه طنبورا. و قيل: بل خلّف له أبوه مالا، فأنفقه على الأدب و الشعر، فقال له بعض أهله: إنك لخاسر الصفقة، فلقّب بذلك.
و كان صديقا لإبراهيم الموصليّ ، و لأبي العتاهية خاصة من الشعراء و المغنين، ثم فسد ما بينه و بين أبي العتاهية. و كان سلم منقطعا إلى البرامكة، و إلى الفضل بن يحيى خصوصا من بينهم. و فيه يقول أبو العتاهية:
إنما الفضل لسلم وحده *** ليس فيه لسوى سلم درك(3)
و كان هذا أحد الأسباب في فساد ما بينه و بين أبي العتاهية. و لسلم يقول أبو العتاهية و قد حج مع عتبة(4):
/و اللّه و اللّه ما أبالي متى *** ما متّ يا سلم بعد ذا السفر
أ ليس قد طفت حيث طافت و قبّ *** لت الّذي قبلت من الحجر(5)
و له يقول أبو العتاهية و قد حبس إبراهيم الموصليّ :
سلم يا سلم ليس دونك سرّ *** حبس الموصليّ فالعيش مرّ
ما استطاب اللذات مذ سك *** ن المطبق(6) رأس اللذات و اللّه، حرّ
ص: 173
ترك الموصليّ من خلق اللّ *** ه جميعا و عيشهم مقشعرّ
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن الحسن الواسطيّ ، قال: حدّثني أبو عمرو سعيد بن الحسن الباهليّ الشاعر، قال:
لما مات عمرو أبو سلم الخاسر اقتسموا ميراثه، فوقع في قسط سلم مصحف، فردّه و أخذ مكانه دفاتر شعر كانت عند أبيه، فلقّب الخاسر بذلك.
أخبرني الحسن، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عمر الجرجاني، قال:
ورث سلم الخاسر أباه مائة(1) ألف درهم، فأنفقها على الأدب، و بقي لا شيء عنده، فلقبه الجيران و من يعرفه بسلم الخاسر، و قالوا: أنفق ماله على ما لا ينفعه. ثم مدح المهديّ ، أو الرشيد - و قد كان بلغه اللقب الّذي لقّب به - فأمر له بمائة ألف درهم، و قال له: كذّب بهذا المال جيرانك، فجاءهم بها، و قال لهم: هذه المائة الألف الّتي أنفقتها و ربحت الأدب، فأنا سلم الرّابح، لا سلم الخاسر.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدّثني عليّ بن محمد النوفليّ ، عن أبيه، قال:
إنما لقّب الخاسر لأنه ورث عن أبيه مصحفا فباعه، و اشترى بثمنه طنبورا.
أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ ، قال: حدّثني عمر(2) الفضل، قال:
قال لي الجمّاز: سلم الخاسر خالي لحّا(3)، فسألته: لم لقب الخاسر؟ فضحك، ثم قال: إنه قد كان نسك مدة يسيرة، ثم رجع إلى أقبح ما كان عليه، و باع مصحفا له ورثه عن أبيه - و كان لجدّه قبله - و اشترى بثمنه طنبورا.
فشاع خبره و افتضح، فكان يقال له: ويلك! هل فعل أحد ما فعلت ؟ فقال: لم أجد شيئا أتوسّل به إلى إبليس هو أقرّ لعينه من هذا.
أخبرني عمّي، قال: أنبأنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن صالح المؤدب، و أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى إجازة، قال: حدّثني أبي، عن أحمد بن صالح، قال: قال بشار بن برد:
قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم *** ما في التّلاقي و لا في غيره حرج
من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطيّبات الفاتك اللهج(1)
قال: فقال سلم الخاسر أبياتا، ثم أخذ معنى هذا البيت، فسلخه، و جعله في قوله:
من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللذة الجسور
فبلغ بيته بشارا، فغضب و استشاط، و حلف ألا يدخل إليه، و لا يفيده و لا ينفعه ما دام حيّا. فاستشفع إليه بكلّ صديق له، و كلّ من يثقل عليه ردّه، فكلّموه فيه، فقال: أدخلوه إليّ ، فأدخلوه إليه فاستدناه، ثم قال: إيه يا سلم، من الّذي يقول:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطيّبات الفاتك اللهج
قال: أنت يا أبا معاذ، قد جعلني اللّه فداءك! قال: فمن الّذي يقول:
من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللذة الجسور؟
قال: تلميذك، و خرّيجك، و عبدك يا أبا معاذ، فاجتذبه إليه، و قنّعه(2) بمخصرة(3) كانت في يده ثلاثا، و هو يقول: لا أعود يا أبا معاذ إلى ما تنكره، و لا آتي شيئا تذمّه، إنما أنا عبدك، و تلميذك، و صنيعتك، و هو يقول له:
يا فاسق! أ تجيء إلى معنى قد سهرت له عيني، و تعب فيه فكري و سبقت الناس إليه، فتسرقه، ثم تختصره لفظا تقرّبه به، لتزري عليّ ، و تذهب بيتي ؟ و هو يحلف له ألا يعود، و الجماعة يسألونه. فبعد لأي و جهد ما(4) شفّعهم فيه، و كفّ عن ضربه، ثم رجع له، و رضي عنه.
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار(5)، قال: أخبرني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور، قال: حدّثني عبد الوهاب بن مرّار، قال: حدّثني أبو معاذ النّميريّ راوية بشار، قال:
قد كان بشار قال قصيدة فيها هذا البيت:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطيّبات الفاتك اللهج
/قال: فقلت له يا أبا معاذ! قد قال سلم الخاسر بيتا، هو أحسن و أخفّ على الألسن من بيتك هذا، قال:
و ما هو؟ فقلت:
من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللذة الجسور
فقال بشار: ذهب و اللّه بيتنا، أما و اللّه لوددت أنه ينتمي في غير ولاء أبي بكر - رضي اللّه عنه - و أني مغرم(6)
ص: 175
ألف دينار محبة منّي لهتك عرضه و أعراض مواليه! قال: فقلت له: ما أخرج هذا القول منك إلا غمّ . قال: أجل، فو اللّه لا طعمت اليوم طعاما، و لا صمت.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن إسحاق بن محمد النّخعيّ (1)، قال: قال أبو معاذ النميريّ : قال بشار قصيدة، و قال فيها:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته *** و فاز بالطيّبات الفاتك اللهج
فعرّفته أن سلما قد قال:
من راقب الناس مات غمّا *** و فاز باللذة الجسور
فلما سمع بشار هذا البيت قال: سار و اللّه بيت سلم، و خمل بيتنا! قال: و كان كذلك، لهج الناس ببيت سلم، و لم ينشد بيت بشار أحد.
أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ ، قال: حدّثني الحسن بن عليل العنزيّ ، قال: حدّثني أبو مالك محمد بن موسى اليمانيّ ، قال:
لما بنى صالح بن المنصور قصره بدجلة قال فيه سلم الخاسر:
/يا صالح الجود الّذي مجده *** أفسد مجد الناس بالجود
بنيت قصرا مشرفا عاليا *** بطائري سعد و مسعود
كأنما يرفع بنيانه *** جنّ سليمان بن داود
لا زلت مسرورا به سالما *** على اختلاف البيض و السود
- يعني الأيام و الليالي -، فأمر له صالح بألف درهم.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني بعض آل ولد(2) حمدون بن إسماعيل - و كان ينادم المتوكل - عن أبيه، قال:
كان سلم الخاسر من غلمان بشار، فلما قال بشار قصيدته الميمية في عمر بن العلاء - و هي الّتي يقول فيها:
إذا نبّهتك صعاب الأمور(3) *** فنبّه لها عمرا ثم نم
فتى لا يبيت على دمنة(4) *** و لا يشرب الماء إلا بدم
بعث بها مع سلم الخاسر إلى عمر بن العلاء، فوافاه فأنشده إياها، فأمر لبشار بمائة ألف درهم. فقال له
ص: 176
سلم: إنّ خادمك - يعني نفسه - قد قال في طريقه فيك قصيدة، قال: فإنك لهناك(1)؟ قال: تسمع، ثم تحكم، ثم قال: هات، فأنشده:
قد عزّني الداء فما لي دواء *** ممّا ألاقي من حسان النساء
قلب صحيح كنت أسطو به *** أصبح من سلمى بداء عياء(2)
/أنفاسها مسك و في طرفها *** سحر و ما لي غيرها من دواء
وعدتني وعدا فأوفي به *** هل تصلح الخمرة إلا بماء؟
و يقول فيها:
كم كربة قد مسّني ضرّها *** ناديت فيها عمر بن العلاء
قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت أول عطية سنية وصلت إليه.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: وجدت في كتاب بخط الفضل بن مروان:
و كان عاصم بن عتبة الغساني جدّ أبي السمراء الّذي كان مع عبد اللّه بن طاهر صديقا لسلم الخاسر، كثير البرّ به، و الملاطفة له، و فيه يقول سلم:
الجود في قحطان *** ما بقيت غسان
اسلم و لا أبالي(3) *** ما فعل الإخوان
ما ضرّ مرتجيه *** ما فعل الزمان
من غاله مخوف *** فعاصم أمان
و كانت سبعين بيتا، فأعطاه عاصم سبعين ألف درهم، و كان مبلغ ما وصل إلى سلم من عاصم خمسمائة ألف درهم، فلما حضرته الوفاة دعا عاصما فقال له: إني ميّت، /و لا ورثة لي، و إن مالي مأخوذ، فأنت أحقّ به، فدفع إليه خمسمائة ألف درهم، و لم يكن لسلم وارث. قال: و كان عاصم هذا جوادا.
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن طهمان، قال:
أخبرني القاسم بن موسى بن مزيد.
أن يزيد بن مزيد قال: ما حسدت أحدا قطّ على شعر مدح به إلا عاصم بن عتبة الغسّانيّ ، فإني حسدته على قول سلم الخاسر فيه:
ص: 177
لعاصم سماء *** عارضها تهتان
أمطارها اللجين *** و الدر(1) و العقيان(2)
و ناره تنادي *** إذ خبت النّيران
الجود في قحطان *** ما بقيت غسان
اسلم و لا أبالي *** ما فعل الإخوان
صلت له المعالي *** و السيف و السنان
أخبرني أحمد بن عبيد اللّه(3) بن عمار، قال: حدثنا يعقوب بن نعيم، عن(4) محمد بن القاسم بن مهرويه، و أخبرني به الحسن بن علي، عن ابن مهرويه، عن الغريبي، عن محمد بن عمر الجرجاني، قال:
كان سلم تلميذ بشار، إلا أنه كان تباعد ما بينهما، فكان سلم يقدّم أبا العتاهية، و يقول: هو أشعر الجن و الإنس، إلى أن قال أبو العتاهية يخاطب سلما:
/تعالى اللّه يا سلم بن عمرو *** أذلّ الحرص أعناق الرجال
هب الدّنيا تصير إليك عفوا *** أ ليس مصير ذاك إلى زوال!
قال: و بلغ الرشيد هذا الشعر فاستحسنه، و قال: لعمري إن الحرص لمفسدة لأمر الدين و الدنيا، و ما فتّشت عن حريص قطّ مغيّبه(5) إلا انكشف لي عمّا أذمّه. و بلغ ذلك سلما، فغضب على أبي العتاهية، و قال: ويلي على الجرّار ابن الفاعلة الزّنديق! زعم أني حريص، و قد كنز البدور(6) و هو يطلب و أنا في ثوبيّ هذين، لا أملك غيرهما.
و انحرف عن أبي العتاهية بعد ذلك.
أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ ، قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: أخبرني محمد بن إسماعيل السّدوسي، قال: حدّثني جعفر العاصمي، و أخبرني عمي، عن أحمد بن أبي طاهر، عن القاسم بن الحسن، عن زكريا بن يحيى المدائني، عن علي بن المبارك القضاعيّ ، عن سلم الخاسر.
أن أبا العتاهية لما قال هذا الشعر فيه كتب إليه:
ما أقبح التزهيد من واعظ *** يزهّد الناس و لا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا *** أضحى و أمسى بيته المسجد
و رفض الدنيا و لم يلقها *** و لم يكن يسعى و يسترفد
ص: 178
يخاف(1) أن تنفذ أرزاقه *** و الرزق عند اللّه لا ينفد
الرّزق مقسوم على من ترى *** يناله الأبيض و الأسود
كلّ يوفّى رزقه كاملا *** من كفّ عن جهد و من يجهد
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني أبو العسكر المسمعيّ ، و هو محمد بن سليمان، قال: حدّثني العبّاس بن عبد اللّه بن سنان بن عبد الملك بن مسمع، قال:
كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان، و هو يومئذ أمير البصرة، و عنده أبو العتاهية ينشده شعره في الزهد، فقال لي: قثم: يا عباس! اطلب لي الجمّاز الساعة حيث كان فجئني به، و لك سبق(2)، فطلبته؛ فوجدته جالسا ناحية عند ركن دار جعفر بن سليمان، فقلت: له أجب الأمير، فقام معي حتى أتى قثم فجلس في ناحية مجلسه و أبو العتاهية ينشده، ثم قام إليه الجمّاز فواجهه، و أنشد قول سلم الخاسر فيه:
ما أقبح التزهيد(3) من واعظ *** يزهّد الناس و لا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا *** أضحى و أمسى بيته المسجد
و ذكر الأبيات كلها، فقال أبو العتاهية: من هذا أعز اللّه الأمير؟ قال: هذا الجماز، و هو ابن أخت سلم الخاسر، انتصر لخاله منك حيث قلت له:
تعالى اللّه يا سلم بن عمرو *** أذلّ الحرص أعناق الرجال
قال: فقال أبو العتاهية للجماز: يا بن أخي، إني لم أذهب في شعري الأول حيث ذهب خالك؛ و لا أردت أن أهتف به، و لا ذهبت أيضا في حضوري و إنشادي حيث ذهبت من الحرص على الرزق، و اللّه يغفر لكما! ثم قام فانصرف.
أخبرني عمّي، عن أحمد بن أبي طاهر، عن أبي هفّان، قال:
وصل إلى سلم الخاسر من آل برمك خاصة سوى ما وصل إليه من غيرهم عشرون ألف دينار، و وصل إليه من الرشيد مثلها.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدّثني عمّاي عبيد اللّه و الفضل؛ عن أبيهما، عن أبي محمد اليزيديّ :
أنه حضر مجلس عيسى بن عمر، و حضر سلم الخاسر، فقال له: يا أبا محمد، اهجني على رويّ قصيدة امرئ القيس:
ص: 179
ربّ رام من بني ثعل *** مخرج كفيه في ستره(1)
قال: فقلت له: ما دعاك إلى هذا؟ قال: كذا أريد. فقلت له: يا هذا أنا و أنت أغنى الناس عما تستدعيه من الشر فلتسعك العافية، فقال: إنك لتحتجز منّي نهاية الاحتجاز، و أراد أن يوهم عيسى أني مفحم عييّ لا أقدر على ذلك، فقال لي عيسى: أسألك يا أبا محمد بحقّي عليك إلا فعلت. فقلت:
ربّ مغموم بعاقبة *** غمط النعمة من أشره
و امرئ طالت سلامته *** فرماه الدهر من غيره
بسهام غير مشوية *** نقضت منه قوى مرره(2)
و كذاك الدهر منقلب *** بالفتى حالين من عصره
يخلط العسر بميسرة *** و يسار المرء في عسره
عقّ سلم أمّه صغرا *** و أبا سلم على كبره
/كلّ يوم خلفه رجل *** رامح يسعى على أثره
يولج الغرمول(3) سبّته(4) *** كولوج الضّبّ في جحره
قال: فاغتم سلم و ندم، و قال: هكذا تكون عاقبة البغي و التعرض للشر، فضحك عيسى، و قال له: قد جهد الرجل أن تدعه، و صيانته و دينه فأبيت إلا أن يدخلك في حر أمك.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن محمد النّوفليّ ، قال: سمعت أبي يقول:
كان المهدي يعطي مروان و سلما الخاسر عطية واحدة، فكان سلم يأتي باب المهدي على البرذون الفاره، قيمته عشرة آلاف درهم، بسرج و لجام مفضّضين، و لباسه الخزّ و الوشي، و ما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان و رائحة المسك و الطّيب و الغالية تفوح منه، و يجيء مروان بن أبي حفصة عليه فرو(5) كبل و قميص كرابيس(6)و عمامة كرابيس و خفا كبل(7) و كساء غليظ، و هو منتن الرائحة. و كان لا يأكل اللحم حتى يقرم إليه بخلا، فإذا قرم أرسل غلامه، فاشترى له رأسا فأكله. فقال له قائل: أراك لا تأكل إلا الرأس! قال: نعم، أعرف سعره، فآمن خيانة
ص: 180
الغلام، و لا اشترى لحما فيطبخه فيأكل منه. و الرأس آكل منه ألوانا: آكل منه عينيه لونا، و من غلصمته(1) لونا، و من دماغه لونا.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا يحيى بن الحسن الربيعيّ ، قال: أخبرني أبي، قال:
كان سلم الخاسر قد بلي بالكيمياء فكان يذهب بكلّ شيء له باطلا، فلما أراد اللّه - عز و جل - أن يصنع(2) له عرّف أنّ بباب الشام صاحب كيمياء عجيبا، و أنه لا يصل إليه أحد إلا ليلا، فسأل عنه فدلوه عليه.
قال: فدخلت إليه إلى موضع معور(3)، فدققت الباب فخرج إليّ ، فقال: من أنت عافاك اللّه ؟ فقلت: رجل معجب بهذا العلم. قال: فلا تشهرني، فإني رجل مستور، إنما أعمل للقوت. قال: قلت: لأني لا أشهرك، إنما أقتبس منك، قال: فاكتم ذلك. قال: و بين يديه كوز شبه(4) صغير. فقال لي: اقلع عروته، فقلعتها. فقال: اسبكها في البوطقة، فسبكتها، فأخرج شيئا من تحت مصلاّه، فقال: ذرّه عليه، ففعلت. فقال: أفرغه، فأفرغته. فقال:
دعه معك، فإذا أصبحت فأخرج، فبعه و عد إليّ ، فأخرجته إلى باب الشام، فبعت المثقال بأحد و عشرين درهما، و رجعت إليه فأخبرته. فقال: اطلب الآن ما شئت. قلت: تفيدني. قال: بخمسمائة درهم على أن لا تعلّمه أحدا، فأعطيته، و كتب لي صفة، فامتحنتها، فإذا هي باطلة. فعدت إليه، فقيل لي: قد تحوّل، و إذا عروة الكوز المشبّه(5)من ذهب مركبة عليه، و الكوز شبه. و لذلك كان يدخل إليه من يطلبه ليلا، ليخفى عليه، فانصرفت، و علمت أن اللّه - عز و جل - أراد بي خيرا، و أن هذا كله باطل.
أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ ، قال: حدثنا العنزيّ ، قال: حدّثني أبو مالك اليماني، قال: حدّثني أبو كعب، قال:
لما ماتت البانوكة بنت المهدي رثاها سلم الخاسر بقوله:
أودى ببانوكة ريب الزمان *** مؤنسة المهديّ و الخيزران
لم تنطو الأرض على مثلها *** مولودة حنّ لها الوالدان
بانوك يا بنت إمام الهدى *** أصبحت من زينة أهل الجنان
بكت لك الأرض و سكّانها *** في كل أفق بين انس و جان
ص: 181
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن الحسن الشيبانيّ ، قال: حدّثني أبو المستهلّ الأسديّ ، و هو عبد اللّه بن تميم بن حمزة، قال:
كان سلم الخاسر يهاجي والبة بن الحباب، فأرسلني إليه و قال: قل له:
يا والب بن الحباب يا حلقي(1) *** لست من أهل الزناء فانطلق
دخل فيه الغرمول تولجه *** مثل ولوج المفتاح في الغلق
قال: فأتيت والبة فقلت له ذلك، فقال لي: قل له: يا بن الزانية، سل عنك ريعان التميمي - يعني أنه ناكه - قال: و كان ريعان لوطيا آفة من الآفات، و كان علاّمة ظريفا.
قال: فحدّثني جعفر بن قدامة عن محمد العجلي، عن أحمد بن معاوية الباهليّ ، قال: سمعت ريعان يقول:
نكت الهيثم بن عديّ ، فمن ترونه يفلت مني بعده ؟.
و أخبرني أحمد بن العباس العسكري، قال: حدثنا العنزيّ ، قال: حدّثني أبو مالك/محمد بن موسى اليمانيّ ، قال:
كان سلم الخاسر مدح بعض العلويين، فبلغ ذلك المهديّ ، فتوعّده و همّ به، فقال سلم فيه:
إني أتتني على المهديّ معتبة *** تكاد من خوفها الأحشاء تضطرب
اسمع فداك بنو حواء كلّهم *** و قد يجور برأس الكاذب الكذب
فقد حلفت يمينا غير كاذبة *** يوم المغيبة لم يقطع لها سبب
ألاّ يحالف مدحي غيركم أبدا *** و لو تلاقى عليّ الغرض(2) و الحقب(3)
و لو ملكت عنان الريح أصرفها *** في كلّ ناحية ما فاتها الطلب
مولاك مولاك لا تشمت أعاديه *** فما وراءك لي ذكر و لا نسب
فعفا عنه.
و أخبرني أحمد بن العباس(4)، و أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قالا: حدثنا العنزيّ ، قال: حدّثني العباس بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان، قال: حدّثني موسى بن عبد اللّه بن شهاب المسمعيّ ، قال:
سمعت أبا عبيدة معمر بن المثنى يقول: كان سلم الخاسر لا يحسن أن يمدح، و لكنه كان يحسن أن يرثي و يسأل.
ص: 182
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني عليّ بن الحسن الشّيبانيّ ، قال: حدّثني أبو المستهلّ ، قال:
/دخلت يوما على سلم الخاسر، و إذا بين يديه قراطيس فيها أشعار يرثي ببعضها أمّ جعفر، و ببعضها جارية غير مسمّاة، و ببعضها أقواما لم يموتوا، و أمّ جعفر يومئذ باقية. فقلت له: ويحك! ما هذا؟ فقال: تحدث الحوادث فيطالبوننا(1) بأن نقول فيها، و يستعجلوننا(1)، و لا يجمل بنا أن نقول غير الجيّد، فنعدّ لهم هذا قبل كونه، فمتى حدث حادث أظهرنا ما قلناه فيه قديما، على أنه قيل في الوقت.
أخبرني محمد بن مزيد و عيسى بن الحسين، قالا: حدثنا الزبير بن بكّار، قال: قال عبد اللّه بن الحسن الكاتب:
أنشد المأمون قول أبي العتاهية:
تعالى اللّه يا سلم بن عمرو *** أذلّ الحرص أعناق الرجال
فقال المأمون: صدق لعمر اللّه، إنّ الحرص لمفسدة للدّين و المروءة، و اللّه ما رأيت من رجل قط حرصا و لا شرها، فرأيت فيه مصطنعا. فبلغ ذلك سلما الخاسر، فقال: ويلي على ابن الفاعلة بياع الخزف، كنز البدور بمثل ذلك الشعر المفكّك الغثّ ، ثم تزهّد بعد أن استغني، و هو دائبا يهتف بي، و ينسبني إلى الحرص، و أنا لا أملك إلا ثوبيّ هذين.
أخبرني عمّي و الحسن بن عليّ ، قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا زكريا بن مهران، قال:
طالب أبو الشمقمق سلما الخاسر بأن يهب له شيئا، و قد خرجت لسلم جائزة، فلم يفعل، فقال أبو الشمقمق يهجوه:
يا أمّ سلم هداك اللّه زورينا *** كيما ننيك فردا أو تنيكينا
/ما إن ذكرتك إلاّ هاج(2) لي شبق *** و مثل ذكراك أمّ السلم يشجينا
قال: فجاءه سلم فأعطاه خمسة دنانير، و قال: أحبّ أن تعفيني من استزارتك أمّي و تأخذ هذه الدنانير فتنفقها.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال:
حدّثني محمد بن القاسم بن الربيع عن أبيه، قال:
ص: 183
دخل الرّبيع على المهديّ و أبو عبيد اللّه جالس يعرض كتبا، فقال له أبو عبيد اللّه: مر هذا أن يتنحّى - يعني الربيع - فقال له المهدي: تنحّ ، فقال: لا أفعل. فقال: كأنك تراني بالعين الأولى! فقال: لا، بل أراك بالعين الّتي أنت بها. قال: فلم لا تتنحّى إذ أمرتك ؟ فقال له: أنت ركن الإسلام، و قد قتلت ابن هذا، فلا آمن أن يكون معه حديدة يغتالك بها، فقام المهديّ مذعورا، و أمر بتفتيشه، فوجدوا بين جوربه و خفّه سكّينا، فردّت الأمور كلّها إلى الربيع، و عزل أبو عبيد اللّه، و ولّي يعقوب بن داود، فقال سلم الخاسر فيه:
يعقوب ينظر في الأمو *** ر و أنت تنظر ناحيه
أدخلته فعلا عل *** يك كذاك شؤم الناصية
قال: و كان بلغ المهديّ من جهة الربيع أن ابن أبي عبيد اللّه زنديق، فقال له المهديّ : هذا حسد منك. فقال:
افحص عن هذا، فإن كنت مبطلا بلغت منّي الّذي يلزم من كذبك. فأتى بابن عبيد اللّه، فقرّره تقريرا خفيّا، فأقرّ بذلك، فاستتابه، فأبى أن يتوب، فقال لأبيه: اقتله، فقال: لا تطيب نفسي بذلك. فقتله و صلبه على باب أبي عبيد اللّه.
/قال: و كان ابن أبي عبيد اللّه هذا من أحمق الناس: وهب له المهديّ وصيفة، ثم سأله بعد ذلك عنها، فقال: ما وضعت بيني و بين الأرض حشيّة قطّ أوطأ منها حاشا سامع(1)، فقال المهديّ لأبيه: أ تراه يعنيني، أو يعنيك ؟ قال: بل يعني أمّه الزانية، لا يكنى.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني يحيى بن الحسن، قال: حدّثني أبي، قال:
كنت أنا و الربيع نسير قريبا من محمل المنصور حين(2) قال للربيع: رأيت كأن الكعبة تصدّعت، و كأن رجلا جاء بحبل أسود فشدّدها، فقال له الربيع: من الرجل ؟ فلم يجبه، حتى إذا اعتلّ قال للربيع: أنت الرجل الّذي رأيته في نومي شدّد الكعبة! فأيّ شيء تعمل بعدي ؟ قال: ما كنت أعمل في حياتك، فكان من أمره في أخذ البيعة للمهديّ ما كان، فقال سلم الخاسر في الفضل بن الربيع:
يا بن(3)
الّذي جبر الإسلام يوم و هي *** و استنقذ الناس من عمياء صيخود(4)
قالت قريش غداة أنهاض ملكهم: *** أين(5) الربيع و أعطوا بالمقاليد
فقام بالأمر مئناس بوحدته *** ماضي العزيمة ضرّاب القماحيد(6)
إن الأمور إذا ضاقت مسالكها *** حلّت يد الفضل منها كلّ معقود
ص: 184
/إنّ الربيع و إن الفضل قد بنيا *** رواق مجد على العبّاس ممدود
قال: فوهب له الفضل خمسة آلاف دينار.
أخبرني عمّي، قال: حدثنا أبو هفّان، قال: حدّثني سعيد أبو هريم(1) و أبو دعامة، قالا: لما قال سلم الخاسر في الرشيد حين عقد البيعة لابنه محمد الأمين:
قد بايع الثّقلان في مهد الهدى *** لمحمد بن زبيدة ابنة جفر
ولّيته عهد الأنام و أمرهم *** فدمغت بالمعروف رأس المنكر
أعطته زبيدة مائة ألف درهم.
أخبرني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا عبد اللّه بن عمرو، قال:
حدّثني أحمد بن محمد بن عليّ الخراسانيّ (2)، عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، عن أبيه، قال:
قال سلم الخاسر في المهديّ قصيدته الّتي يقول فيها:
له شيمة عند بذل العطا *** ء لا يعرف الناس مقدارها
و مهديّ أمّتنا و الّذي *** حماها و أدرك أوتارها
فأمر له المهديّ بخمسمائة ألف درهم.
أخبرنا وكيع، قال: حدثنا عبد اللّه بن سليمان، قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، قال:
شهدت المهديّ و قد أمر لمروان بن أبي حفصة بأربعين ألف درهم، و فرض له على أهل بيته و جلسائه ثلاثين ألف درهم. و أمر الرشيد بعد ذلك لمّا ولى الخلافة لسلم الخاسر - /و قد مدحه - بسبعين ألف درهم، فقال له:
يا أمير المؤمنين، إنّ أكثر ما أعطى المهديّ مروان سبعون ألف درهم، فزدني و فضّلني عليه، ففعل ذلك، و أعطاه تتمة ثمانين ألف درهم، فقال سلم
ألا قل لمروان أتتك رسالة *** لها نبأ لا ينثني عن لقائكا
حباني أمير المؤمنين بنفحة *** مشهّرة قد طأطأت من حبائكا
ثمانين ألفا حزت من صلب ماله *** و لم يك قسما من أولى و أولئكا
فأجابه مروان فقال:
ص: 185
أسلم بن عمرو قد تعاطيت غاية *** تقصّر عنها بعد طول عنائكا
فأقسم لو لا ابن الربيع و رفده *** لما ابتلّت الدّلو الّتي في رشائكا
و ما نلت مذ صوّرت إلا عطيّة *** تقوم بها مصرورة في ردائكا
حدّثني وسواسة بن الموصليّ ، و هو محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدّثني حماد، عن أبيه.
قال:
استوهب أبي من الرشيد تركة سلم الخاسر، و كان قد مات عن غير وارث، فوهبها له قبل أن يتسلّمها صاحب المواريث، فحصّل منها خمسين ألف دينار.
أخبرني عمي، قال: حدّثني أبو هفّان، عن سعيد بن هريم و أبي دعامة أنه رفع إلى الرشيد أن سلما الخاسر قد توفي، و خلّف ممّا أخذه منه خاصة و من زبيدة ألف ألف و خمسمائة ألف درهم سوى ما خلّفه من عقار و غيره مما اعتقده(1) قديما، فقبضه الرشيد. و تظلم إليه مواليه من آل أبي بكر الصديق، رضوان اللّه عليه، فقال: هذا/خادمي و نديمي، و الّذي خلّفه من مالي، فأنا أحقّ به، فلم يعطهم إلا شيئا يسيرا من قديم أملاكه.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل، عن القحذميّ ، قال: كان مالك و شهاب ابنا عبد الملك بن مسمع و معن بن زائدة متواخين، لا يكادون يفترقون. و كان سلم الخاسر ينادمهم و يمدحهم، و يفضلون عليه و لا يحوجونه إلى غيرهم، فتوفّي مالك ثم أخوه ثم معن في مدة متقاربة، فقال سلم يرثيهم:
عين جودي بعبرة تهتان(2) *** و اندبي من أصاب ريب الزمان
و إذا ما بكيت قوما كراما *** فعلى مالك أبي غسّان
أين معن أبو الوليد و من كا(3) *** ن غياثا للهالك الحيران
طرقتك المنون لا واهي الحب *** ل و لا عاقدا بحلف يمان
و شهاب و أين مثل شهاب *** عند بذل النّدى و حرّ الطّعان
ربّ خرق(4) رزئته من بني قي *** س و خرق رزئت من شيبان
درّ(5) درّ الأيام ما ذا أجنّت(6) *** منهم في لفائف الكتان(7)!
ذاك معن ثوى ببست(8) رهينا *** و شهاب ثوى بأرض عمان
ص: 186
/و هما ما هما لبذل العطايا *** و للفّ الأقران بالأقران
يسبقان المنون طعنا و ضربا *** و يفكّان كلّ كبل(1) و عان(2)
أخبرني وكيع، قال: حدّثني يزيد بن محمد المهلّبيّ ، قال: حدّثني عبد الصمد بن المعذّل، قال:
لما أنشد سلم الخاسر الرشيد قصيدته فيه:
حضر الرّحيل و شدّت الأحداج
أمر له بمائة ألف درهم.
حدّثني جحظة قال: حدّثني ميمون بن هارون قال:
دخل سلم الخاسر على الفضل بن يحيى في يوم نيروز و الهدايا بين يديه، فأنشده:
أ من ربع تسائله *** و قد أقوت منازله
بقلبي من هوى الأطلا *** ل حبّ ما يزايله
رويدكم عن المشغو *** ف إنّ الحبّ قاتله
بلابل صدره تسري *** و قد نامت عواذله
أحقّ الناس بالتفض *** يل من ترجى فواضله
رأيت مكارم الأخلا *** ق ما ضمّت حمائله
فلست أرى فتى في النا *** س إلا الفضل فاضله
يقول لسانه خيرا *** فتفعله أنامله
/و مهما يرج(3) من خير *** فإن الفضل فاعله
و كان إبراهيم الموصليّ و ابنه إسحاق حاضرين، فقال لإبراهيم: كيف(4) ترى و تسمع ؟ قال: أحسن مرئيّ و مسموع، و فضل الأمير أكثر منه. فقال: خذوا جميع ما أهدي إليّ اليوم فاقتسموه بينكم أثلاثا(5) إلا ذلك التمثال، فإني أريد أن أهديه اليوم إلى دنانير، ثم قال: لا، و اللّه، ما هكذا تفعل الأحرار، يقوّم و ندفع إليهم ثمنه، ثم نهديه.
فقوّم بألفي دينار، فحملها إلى القوم من بيت ماله، و اقتسموا جميع الهدايا بينهم.
ص: 187
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ ، قال: حدّثني عيسى بن إسماعيل تينة، قال: حدّثني القحذميّ ، قال:
قيل لمعن بن زائدة: ما أحسن ما مدحت به من الشعر عندك ؟ قال: قول سلم الخاسر:
أبلغ الفتيان مألكة(1) *** أنّ خير الودّ ما نفعا
أنّ قرما(2) من بني مطر *** أتلفت كفّاه ما جمعا
كلّما عدنا لنائله *** عاد في معروفه جذعا(3)
أخبرني عمي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة، و أخبرني الحسن بن عليّ ، قال:
حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، عن أبي توبة، قال:
حدث في أيام الرشيد أمر فاحتاج فيه(4) إلى الرأي، فأشكل، و كان الفضل بن/يحيى غائبا، فورد في ذلك الوقت، فأخبروه بالقصة، فأشار بالرأي في وقته، و أنفذ الأمر على مشورته، فحمد ما جرى فيه، فدخل عليه سلم الخاسر فأنشده:
بديهته و فكرته سواء *** إذا ما نابه الخطب الكبير
و أحزم ما يكون الدّهر رأيا *** إذا عيّ (5) المشاور و المشير(6)
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني أبو العيناء، قال: حدّثني الجمّاز أنّ أبا الشمقمق جاء إلى سلم الخاسر يستميحه فمنعه، فقال له: اسمع إذا ما قلته، و أنشده:
حدّثوني أنّ سلما *** يشتكي جارة أيره
فهو لا يحسد شيئا *** غير أير في است غيره
و إذا سرّك يوما *** يا خليلي نيل خيره
قم فمر راهبك الأص *** لع يقرع باب ديره
فضحك سلم، و أعطاه خمسة دنانير، و قال له: أحب - جعلت فداءك - أن تصرف راهبك الأصلع عن باب ديرنا.
ص: 188
أخبرنا الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني أحمد بن أبي كامل، قال: حدّثني أبو دعامة، قال:
دخل سلم الخاسر على الرشيد، فأنشده:
/حيّ الأحبّة بالسلام
فقال الرشيد:
حياهم اللّه بالسلام
فقال:
على وداع أم مقام
فقال الرشيد: حيّاهم اللّه على أيّ ذلك كان، فأنشده:
لم يبق منك و منهم *** غير الجلود على العظام
فقال له الرشيد: بل منك، و أمر بإخراجه، و تطيّر منه، و من قوله، فلم يسمع منه باقي الشعر و لا أثابه بشيء.
أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:
أتت وفاة المهديّ إلى موسى الهادي، و هو بجرجان، فبويع له هناك، فدخل عليه سلم الخاسر مع المهنئين، فهنأه بخلافة اللّه، ثم أنشده:
لمّا أتت خير بني هاشم *** خلافة اللّه بجرجان
شمّر للحزم(1) سرابيله *** برأي لا غمر و لا وان
لم يدخل الشّورى على رأيه *** و الحزم لا يمضيه رأيان
أخبرني الحسن بن عليّ و عمي، قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني صالح بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال:
دخل سلم الخاسر على الرشيد، و عنده العباس بن محمد و جعفر بن يحيى، فأنشده قوله فيه:
/حضر الرّحيل و شدّت الأحداج(2)
ص: 189
فلما انتهى إلى قوله:
إن المنايا في السيوف كوامن *** حتى يهيّجا فتى هيّاج
فقال الرشيد: كان ذلك معن بن زائدة، فقال: صدق أمير المؤمنين، ثم أنشد حتى انتهى إلى قوله:
و مدجّج يغشى المضيق بسيفه *** حتى يكون بسيفه الإفراج
فقال الرشيد: ذلك يزيد بن مزيد، فقال: صدق أمير المؤمنين، فاغتاظ جعفر بن يحيى، و كان يزيد بن مزيد عدوّا للبرامكة، مصافيا للفضل بن الربيع، فلما انتهى إلى قوله:
نزلت نجوم الليل فوق رءوسهم *** و لكلّ قوم كوكب وهّاج
قال له جعفر بن يحيى: من قلّة الشعر حتى(1) تمدح أمير المؤمنين بشعر قيل في غيره! هذا لبشّار في فلان التميميّ ، فقال الرشيد: ما تقول يا سلم ؟ قال: صدق يا سيدي، و هل أنا إلا جزء من محاسن بشار، و هل أنطلق إلا بفضل منطقه! و حياتك يا سيدي إني لأروي له تسعة آلاف بيت ما يعرف أحد غيري منها شيئا، فضحك الرشيد، و قال: ما أحسن الصدق! امض في شعرك، و أمر له بمائة ألف درهم، ثم قال للفضل بن الربيع: هل قال أحد غير سلم في طيّنا المنازل شيئا؟ - و كان الرشيد قد انصرف من الحج، /و طوى المنازل.
فوصف ذلك سلم - فقال الفضل: نعم يا أمير المؤمنين، النّمريّ ، فأمر سلما أن يثبت قائما حتى يفرغ النمريّ من إنشاده، فأنشده النّميريّ قوله:
تخرّق سربال الشباب مع البرد *** و حالت لنا أمّ الوليد عن العهد
فقال الرشيد للعباس بن محمد: أيّهما أشعر عندك يا عم ؟ قال: كلاهما شاعر، و لو كان كلام يستفحل(2)لجودته حتى يؤخذ منه نسل لاستفحلت كلام النّمريّ ، فأمر له بمائة ألف درهم أخرى.
أخبرني عمي، قال: أنشدني أحمد بن أبي طاهر لأشجع السّلميّ يرثي سلما الخاسر و مات سلم قبله:
يا سلم إن أصبحت في حفرة *** موسّدا تربا و أحجارا
فربّ بيت حسن قلته *** خلّفته في الناس تيّارا
قلّدته ربّا و سيّرته *** فكان فخرا منك أو عارا
لو نطق الشعر بكى بعده *** عليه إعلانا و إسرارا
يا ويح من لعب الهوى بحياته *** فأماته من قبل حين مماته
من ذا كذا كان الشقي بشادن *** هاروت بين لسانه و لهاته
ص: 190
و حياة من أهوى فإنّي لم أكن *** يوما لأحلف كاذبا بحياته
لأخالفنّ عواذلي في لذّتي *** و لأسعدنّ أخي على لذّاته
الشعر لبعض شعراء الحجازيين و لم يقع إلينا اسمه، و الغناء لأبي صدقة رمل بالبنصر(1).
ص: 191
14 - أخبار أبي صدقة (1)
اسمه مسكين بن صدقة من أهل المدينة، مولى لقريش. و كان مليح الغناء، طيّب الصوت، كثير الرواية، صالح الصنعة؛ من أكثر الناس نادرة، و أخفّهم روحا، و أشدّهم طمعا، و ألحّهم في مسألة. و كان له ابن يقال له:
صدقة يغنّي، و ليس من المعدودين، و ابن ابنه أحمد بن صدقة الطّنبوريّ - أحد المحسنين من الطّنبوريين، و له صنعة جيدة، و كان أشبه الناس بجدّه في المزح و النوادر. و أخباره تذكر بعد أخبار جدّه. و أبو صدقة من المغنين الذين أقدمهم هارون الرشيد من الحجاز في أيامه.
أخبرني عليّ بن عبد العزيز، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، قال:
قيل لأبي صدقة ما أكثر سؤالك، و أشدّ إلحاحك! فقال: و ما يمنعني من ذلك، و اسمي مسكين، و كنيتي أبو صدقة، و امرأتي فاقة، و ابني صدقة!.
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلانيّ ، قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم، قال:
حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي أن الرشيد قال للحارث بن بُسخُنَّر: قد اشتهيت أن أرى ندمائي و من يحضر مجلسي من المغنين جميعا في مجلس واحد، يأكلون و يشربون، و يتبذّلون منبسطين على غير هيبة و لا احتشام، بل يفعلون ما يفعلون في منازلهم و عند نظرائهم، و هذا لا يتمّ إلا بأن أكون بحيث لا يرونني، عن غير علم منهم برؤيتي إياهم. فأعدّ لي مكانا أجلس فيه أنا و عمّي سليمان و إخوتي: إبراهيم بن المهديّ ، /و عيسى بن جعفر(2)، و جعفر بن يحيى. فإنا مغلّسون(3) عليك غداة غد، و استزر أنت محمد بن خالد بن برمك، و خالدا أخا مهرويه، و الخضر بن جبريل، و جميع المغنين، و أجلسهم بحيث نراهم و لا يروننا، و ابسط الجميع، و أظهر برّهم، و اخلع عليهم، و لا تدع من الإكرام شيئا إلا فعلته بهم. ففعل ذلك الحارث، و قدّم إليهم الطعام فأكلوا، و الرشيد ينظر إليهم، ثم دعا لهم بالنبيذ. فشربوا، و أحضرت الخلع، و كان ذلك اليوم يوما شديد البرد، فخلع على ابن جامع جبة خزّ طارونيّ (4) مبطنة بسمّور صينيّ ، و خلع على إبراهيم الموصلي جبّة وشي كوفي مرتفع مبطنة بفنك(5)، و خلع
ص: 192
على أبي صدقة درّاعة(1) ملحم(2) خراسانيّ محشوّة بقز، ثم تغنى ابن جامع، و تغنى بهذه إبراهيم، و تلاهما أبو صدقة فغنّى لابن سريج:
و من أجل ذات الخال أعملت ناقتي *** أكلّفها سير الكلال مع الظّلع(3)
فأجاده، و استعاده الحارث ثلاثا و هو يعيده. فقال له الحارث: أحسنت و اللّه يا أبا صدقة! قال له: هذا غنائي و قد قرصني البرد، فكيف تراه(4) - فديتك - كان يكون(4) لو كان تحت درّاعتي هذه شعيرات ؟ يعني الوبر، و الرشيد يسمع ذلك/فضحك، فأمر بأن يخلع عليه دراعة ملحم مبطنة بفنك، ففعلوا، ثم تغنى الجماعة، و غنى أبو صدقة لمعبد:
بأن الخليط على بزل(5) مخيّسة(6) *** هدل المشافر أدنى سيرها الرّمل
ثم تغنى بعده لمعبد أيضا:
بأن الخليط و لو طووعت ما بانا *** و قطّعوا من حبال الوصل أقرانا(7)
فأقام فيهما جميعا القيامة، فطرب الرشيد حتى كاد أن يخرج إلى المجلس طربا فقال له الحارث: أحسنت و اللّه يا أبا صدقة - فديتك - و أجملت، فقال أبو صدقة: فكيف ترى - فديتك - الحال تكون لو كانت على هذه الدراعة نقيطات ؟ يعني الوشي، فضحك الرشيد حتى ظهر ضحكه، و علموا بموضعه، و عرف علمهم بذلك، فأمر بإدخالهم إليه، و أمر بأن يخلع على أبي صدقة دراعة أخرى مبطنة، فخلعت عليه.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال:
سأل الحسن(8) بن سليمان أخو عبيد اللّه بن سليمان الطفيليّ (9) الفضل و جعفرا ابني يحيى أن يقيما عنده يوما، فأجاباه(10)، فواعد عدة من المغنين، فيهم أبو صدقة المدني، فقال لأبي صدقة: إنك تبرم بكثرة السؤال:
فصادرني(11) على شيء أدفعه إليك/و لا تسأل شيئا غيره، فصادره على شيء أعطاه إياه. فلما جلسوا و غنّوا أعجبوا بغناء أبي صدقة، و اقترحوا عليه أصواتا من غناء ابن سريج و معبد و ابن محرز و غيرهم، فغنّاهم، ثم غنى - و الصنعة له رمل:
ص: 193
يا ويح من لعب الهوى بحياته *** فأماته من قبل حين مماته
من ذا كذا كان الشقيّ بشادن(1) *** هاروت بين لسانه و لهاته(2)
و ذكر الأبيات الأربعة المتقدّم ذكرها، قال: فأجاد و أحسن ما شاء، و طرب جعفر، فقال له: أحسنت و حياتي، و كان عليه دوّاج(3) خزّ مبطن بسمّور جيد، فلما قال له ذلك شرهت نفسه و عاد إلى طبعه، فقال:
لو أحسنت ما كان هذا الدّوّاج عليك، و لتخلعنّه عليّ ، فألقاه عليه، ثم غنّى أصواتا من القديم و الحديث، و غنّى بعدها من صناعته في الرمل:
لم يطل العهد فتنساني *** و لم أغب عنك فتنعاني
بدّلت بي غيري و باهتّني(4) *** و لم تكن صاحب بهتان
لا وثقت نفسي بإنسان *** بعدك في سرّ و إعلان
أعطيتني ما شئت من موثق *** منك و من عهد و أيمان
فقال له الفضل: أحسنت و حياتي! فقال: لو أحسنت لخلعت عليّ جبّة تكون شكلا لهذا الدّوّاج، فنزع جبته و خلعها عليه، و سكروا و انصرفوا. فوثب الحسن بن سليمان، فقال له: قد وافقتك على ما أرضاك، و دفعته إليك على ألاّ تسأل أحدا شيئا، فلم تف، /و قد أخذت مالك! و اللّه لا تركت عليك شيئا مما أخذته، ثم انتزعه منه كرها و صرفه، فشكاه أبو صدقة إلى الفضل و جعفر، فضحكا منه، و أخلفا عليه ما ارتجعه الطفيلي(5) منه من خلعهما.
بان الخليط على بزل مخيّسة *** هدل المشافر أدنى سيرها الرمل
من كل أعيس(6) نضّاح القفا قطم(7) *** ينفي الزمام إذا ما حنّت الإبل
الغناء لابن عائشة، خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو الهشامي، و قال الهشامي خاصة: فيه لابن محرز هزج، و لإسحاق ثقيل أول، و وافقه ابن المكّيّ . و ما وجدت لمعبد فيه صنعة في شيء من الروايات، إلا في المذكور.
و أ ما:
بان الخليط و لو طووعت ما بانا
فقد مضى في المائة المختارة، و نسب هناك و ذكرت أخباره.
ص: 194
أخبرني رضوان بن أحمد، قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ ، قال:
كان أبو صدقة أسأل خلق اللّه و ألحّهم، فقال له الرشيد: ويلك ما أكثر سؤالك! /فقال: و ما يمنعني من ذلك، و اسمي مسكين، و كنيتي أبو صدقة، و اسم ابني صدقة، و كانت أمي تلقّب فاقة، و اسم أبي صدقة، فمن أحق مني بهذا؟.
و كان الرشيد يعبث به عبثا شديدا، فقال ذات يوم لمسرور: قل لابن جامع و إبراهيم الموصلي و زبير بن دحمان و زلزل و برصوما و ابن أبي مريم المديني: إذا رأيتموني قد طابت نفسي، فليسألني كل واحد منهم حاجة، مقدارها مقدار صلته. و ذكر لكل واحد منهم مقدار(1) ذلك، و أمرهم أن يكتموا أمرهم عن أبي صدقة، فقال لهم مسرور ما أمره به، ثم أذن لأبي صدقة قبل إذنه لهم، فلما جلس قال له: يا أبا صدقة، قد أضجرتني بكثرة مسألتك، و أنا في هذا اليوم ضجر، و قد أحببت أن أتفرّج و أفرح، و لست آمن أن تنغّص عليّ مجلسي بمسألتك، فإمّا أن أعفيتني من أن تسألني اليوم حاجة و إلا فانصرف. فقال له: يا سيدي لست أسألك في هذا اليوم، و لا إلى شهر حاجة، فقال له الرشيد: أما إذا شرطت لي هذا على نفسك، فقد اشتريت منك حوائجك بخمسمائة دينار، و ها هي ذه فخذها هنيئة معجلة، فإن سألتني شيئا بعدها في هذا اليوم، فلا لوم عليّ إن لم أصلك سنة بشيء. فقال له: نعم، و سنتين. فقال له الرشيد: زدني في الوثيقة، فقال: قد جعلت أمر أمّ صدقة في يدك، فطلّقها متى شئت، إن شئت واحدة، و إن شئت ألفا إن سألتك في يومي هذا حاجة. و أشهد(2) اللّه و من حضر على ذلك، فدفع إليه المال، ثم أذن للجلساء و المغنين فحضروا، و شرب القوم.
فلما طابت نفس الرشيد قال له ابن جامع: يا أمير المؤمنين، قد نلت منك ما لم تبلغه أمنيّتي، و كثر إحسانك إليّ حتى كبتّ أعدائي و قتلتهم. و ليست لي بمكة دار تشبه/حالي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بمال أبني به دارا، و أفرشها بباقيه لأفقأ عيون أعدائي و أزهق نفوسهم - فعل، فقال: و كم قدّرت لذلك ؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأمر له بها. ثم قام إبراهيم الموصليّ فقال له: قد ظهرت نعمتك عليّ و على أكابر ولدي، و في أصاغرهم من قد بلغ، و أريد تزويجه، و من أصاغرهم من أحتاج إلى أن أطهره، و منهم صغار أحتاج إلى أن أتخذ لهم خدما، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتي على ذلك فعل، فأمر له بمثل ما أمر لابن جامع، و جعل كلّ (3) واحد منهم يقوم فيقول من الثناء ما يحضره، و يسأل حاجة على قدر جائزته، و أبو صدقة ينظر إليهم و إلى الأموال تفرّق يمينا و شمالا، فوثب على رجليه قائما، و قال للرشيد: يا سيدي، أقلني، أقال اللّه عثرتك! فقال له الرشيد: لا أفعل، فجعل يستحلفه و يضطرب(4) و يلحّ ، و الرشيد يضحك و يقول: ما إلى ذلك سبيل، الشرط أملك.
ص: 195
فلما عيل صبره أخذ الدنانير فرمى بها بين يدي الرشيد، و قال له: هاكها قد رددتها عليك و زدتك فرج أمّ صدقة فطلّقها إن شئت واحدة، و إن شئت ألفا. و إن لم تلحقني بجوائز القوم فألحقني بجائزة هذا البارد ابن الباردة عمرو الغزّال(1)، و كانت صلته ألف دينار. فضحك الرشيد حتى استلقى، ثم ردّ عليه الخمسمائة الدينار، و أمر له بألف دينار معها. و كان ذلك أكثر ما أخذه منه مذ يوم خدمه إلى أن مات، فانصرف يومئذ بألف و خمسمائة دينار.
أخبرني رضوان بن أحمد، قال: حدّثني يوسف بن إبراهيم، قال: حدّثني أبو إسحاق، قال:
/مطرنا و نحن مع الرشيد بالرّقة مطرا مع الفجر، و اتصل إلى غد ذلك اليوم، و عرفنا خبر الرشيد، و أنه مقيم عند أمّ ولده المسماة بسحر، فتشاغلنا في منازلنا. فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد، فحضرنا جميعا، و أقبل يسأل واحدا واحدا عن يومه الماضي: ما صنع فيه فيخبره، إلى أن انتهى إلى جعفر بن يحيى، فسأله عن خبره، فقال: كان عندي أبو زكّار الأعمى و أبو صدقة، فكان أبو زكار كلما غنّى صوتا لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة، فإذا انتهى الدور إليه أعاده، و حكى أبا زكار فيه و في شمائله و حركاته، و يفطن أبو زكار لذلك فيجن و يموت غيظا، و يشتم أبا صدقة كلّ شتم حتى يضجر، و هو لا يجيبه و لا يدع العبث به، و أنا أضحك من ذلك إلى أن توسطنا الشراب و سئمنا من العبث به، فقلت له: دع هذا و غنّ غناءك، فغنّى رملا ذكر أنه من صنعته، طربت له - و اللّه يا أمير المؤمنين - طربا ما أذكر أني طربت مثله منذ حين، و هو:
فتنتني بفاحم اللون جعد *** و بثغر كأنه نظم درّ
و بوجه كأنه طلعة البد *** ر و عين في طرفها نفث سحر
فقلت له: أحسنت و اللّه يا أبا صدقة، فلم أسكت عن هذه الكلمة حتى قال لي: إني قد بنيت دارا حتى أنفقت(2) عليها حريبتي(3)، و ما أعددت لها فرشا، فافرشها لي، نجّد(4) اللّه لك في الجنة ألف قصر. فتغافلت عنه، و عاود الغناء، فتعمدت أن قلت له: أحسنت، ليعاود مسألتي و أتغافل عنه، فسألني و تغافلت، فقال لي: يا سيدي هذا التغافل متى حدث لك ؟ /سألتك باللّه، و بحق أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي و لو بشتم! فأقبلت عليه و قلت له: أنت و اللّه بغيض، اسكت يا بغيض، و اكفف عن هذه المسألة الملحّة، فوثب من بين يديّ ، و ظننت أنه خرج لحاجة، و إذا هو قد نزع ثيابه و تجرد منها خوفا من أن تبتلّ ، و وقف تحت السماء، لا يواريه منها شيء و المطر يأخذه، و رفع رأسه و قال: يا ربّ أنت تعلم أني مله، و لست نائحا، و عبدك هذا الّذي رفعته و أحوجتني إلى خدمته يقول لي: أحسنت، لا يقول لي: أسأت، و أنا منذ جلست أقول له: بنيت، لم أقل: هدمت، فيحلف بك جرأة عليك أني بغيض، فاحكم بيني و بينه يا سيدي، فأنت خير الحاكمين.
ص: 196
فغلبني الضحك، و أمرت به فتنحّى، و جهدت به أن يغني، فامتنع حتى حلفت له بحياتك يا أمير المؤمنين أنى أفرش له داره، و خدعته فلم أسمّ له ما أفرشها به، فقال الرشيد: طيّب و اللّه! الآن تمّ لنا به اللهو، و هو ذا أدعو به، فإذا رآك فسوف يقتضيك الفرش، لأنك حلفت له بحياتي، فهو يتنجّز ذلك بحضرتي ليكون أوثق له، فقل له: أنا أفرشها لك بالبواري(1)، و حاكمه إليّ . ثم دعا به فأحضر، فما استقرّ في مجلسه حتى قال لجعفر بن يحيى: الفرش الّذي حلفت لي بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به داري، تقدّم فيه، فقال له جعفر: اختر، إن شئت فرشتها لك بالبواري، و إن شئت بالبرديّ من الحصر، فضج و اضطرب.
فقال له الرشيد: و كيف كانت القصة ؟ فأخبره، فقال له: أخطأت يا أبا صدقة، إذ لم تسمّ النوع و لا حدّدت القيمة، فإذا فرشها لك بالبواري أو بالبرديّ أو بما دون ذلك فقد و في يمينه، و إنما خدعك، و لم تفطن له أنت، و لا توثقت، و ضيّعت حقك. فسكت، /و قال: نوفّر البرديّ و البواريّ عليه أيضا، أعزه اللّه. و غنى المغنون حتى انتهى إليه الدور، فأخذ يغني غناء الملاّحين و البنائين و السقائين و ما جرى مجراه من الغناء، فقال له الرشيد: أيش هذا الغناء ويلك! قال: من فرشت داره بالبواري و البردي فهذا الغناء كثير منه، و كثير أيضا لمن هذه صلته، فضحك الرشيد و اللّه و طرب و صفّق، ثم أمر له بألف دينار من ماله و قال له: افرش دارك من هذه، فقال: و حياتك لا آخذها يا سيدي أو تحكم لي على جعفر بما وعدني، و إلاّ متّ و اللّه أسفا لفوات ما حصل في طمعي و وعدت به، فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار، فقبلها جعفر، و أمر له بها.
أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كان سبب وصول أبي صدقة إلى السلطان أنّ أبي لما حجّ مرّ بالمدينة، فاحتاج إلى قطع ثياب، فالتمس خياطا حاذقا، فدلّ على أبي صدقة، و وصف به بالحذق في الخياطة و الحذق في الغناء و خفة الروح، فأحضره فقطع له ما أراد و خاطه، و سمع غناءه فأعجبه؛ و سأله عن حاله، فشكا إليه الفقر، فخلّف لعياله نفقة سابغة لسنة، ثم أخذه معه و خلطه بالسلطان.
قال(2) حماد: فقال أبو صدقة يوما لأبي: قد اقتصرت بي(3) على صنعة أبي إسحاق أبيك، رحمه اللّه عندي، و أنت لا، ربّ (4) ذلك بشيء، فقال له: هذه الصينيّة الفضة الّتي بين يديّ لك إذا انصرفت، فشكره و سرّ بذلك، و لم يزل يغنيه بقية يومه، فلما أخذ النبيذ فيه قام قومة ليبول، فدعا أبي بصينية رصاص فحول قنّينته و قدحه فيها، و رفع الصينية الفضة، فلما أراد أبو صدقة الانصراف شد أبي الصينية في منديل، و دفعها إلى غلامه، و قال له: بت الليلة عندي و اصطبح غدا، و اردد دابتك. فقال: إني إذا/لأحمق، أدفع إلى غلامي صينية فضة، فيأخذها و يطمع فيها أو يبيعها، و يركب الدابة و يهرب، و لكني أبيت عندك، فإذا انصرفت غدا أخذتها معي، و بات و أصبح عندنا مصطبحا، فلما كان وقت انصرافه أخذها و مضى، فلم يلبث من غد أن جاءنا و الصينية معه، فإذا هو قد وجّه بها لتباع، فعرّفوه أنها رصاص، فلما رآه أبي من بعيد ضحك، و عرف القصة، و تماسك، فقال له أبو صدقة: نعم الخلافة خلفت
ص: 197
أباك، و ما أحسن ما فعلت بي! قال: و أيّ شيء فعلت بك ؟ قال: أعطيتني صينية رصاص، فقال له أبي: سخنت عينك! سخرت امرأتك بك، و أنا من أين لي صينية رصاص ؟ فتشكك ساعة، ثم قال: أظن و اللّه أن ذلك كذلك، فقام. فقال له أبي: إلى أين ؟ قال: أضع و اللّه عليها السوط فأضربها به حتى تردّ الصينية، فلما رأى أبي الجدّ منه قال له: اجلس يا أبا صدقة، فإنما مزحت معك، و أمر له بوزنها دراهم.
إنّ من يملك رقّي *** مالك دقّ الرّقاب
لم يكن يا أحسن العا *** لم هذا في حسابي
الشعر لفضل الشاعرة، و الغناء لعريب خفيف ثقيل بالوسطى، عن ابن المعتز(1).
ص: 198
15 - أخبار فضل الشاعرة(1)
كانت فضل جارية مولّدة من مولّدات البصرة، و كانت أمها من مولّدات اليمامة. بها ولدت، و نشأت في دار رجل من عبد القيس، و باعها بعد أن أدّبها و خرّجها، فاشتريت و أهديت إلى المتوكل. و كانت هي تزعم أن الّذي باعها أخوها، و أن أباها وطئ أمها فولدتها منه، فأدّبها و خرّجها معترفا بها، و أنّ بنيه من غير أمها تواطئوا على بيعها و جحدها، و لم تكن تعرف بعد أن أعتقت إلا بفضل العبدية. و كانت حسنة الوجه و الجسم و القوام، أديبة فصيحة سريعة البديهة، مطبوعة في قول الشعر. و لم يكن في نساء زمانها أشعر منها.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، قال: كانت فضل الشاعرة لرجل من النخّاسين بالكرخ يقال له: حسنويه، فاشتراها محمد بن الفرج أخو عمر بن الفرج الرّخّجيّ ، و أهداها إلى المتوكل، فكانت تجلس للرجال، و يأتيها الشعراء، فألقى عليها أبو دلف القاسم بن عيسى:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم *** أشهى المطيّ إليّ ما لم يركب
كم بين حبّة لؤلؤ مثقوبة *** نظمت و حبة لؤلؤ لم تثقب
فقالت فضل مجيبة له:
إن المطية لا يلذّ ركوبها *** ما لم تذلّل بالزّمام و تركب
و الدّرّ ليس بنافع أصحابه *** حتى يؤلّف للنّظام بمثقب(2)
حدّثني عمّي و محمد بن خلف، قالا: حدثنا أبو العيناء، قال: لما دخلت فضل الشاعرة على المتوكل يوم أهديت إليه قال لها: أشاعرة أنت ؟ قالت: كذا زعم من باعني و اشتراني، فضحك و قال: أنشدينا شيئا من شعرك فأنشدته:
استقبل الملك إمام الهدى *** عام ثلاث و ثلاثينا
- تعني سنة ثلاث و ثلاثين و مائتين من سني الهجرة -:
ص: 199
خلافة أفضت إلى جعفر *** و هو ابن سبع بعد عشرينا
إنّا لنرجو يا إمام الهدى *** أن تملك الناس(1) ثمانينا
لا قدّس اللّه امرأ لم يقل *** عند دعائي لك: آمينا
فاستحسن الأبيات، و أمر لها بخمسة آلاف درهم، و أمر عريب(2) فغنّت فيها.
حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن حمدون، قال: عرضت على المعتمد جارية تباع في خلافة المتوكل، و هو يومئذ حديث السنّ ، فاشتطّ مولاها في السّوم، فلم يشترها، و خرج بها إلى ابن الأغلب، فبيعت هناك. فلما ولي المعتمد الخلافة سأل عن خبرها، و قد ذكرها فأعلم أنها بيعت و أولدها مولاها، فقال لفضل الشاعرة: قولي فيها شيئا، فقالت:
علم الجمال تركتني *** في الحبّ أشهر من علم
و نصبتني يا منيتي *** غرض المظنّة و التّهم
فارقتني بعد الدّنوّ *** فصرت عندي كالحلم
فلو أنّ نفسي(3) فارقت *** جسمي لفقدك لم تلم
/ما كان ضرّك لو وص *** لت فخف عن قلبي الألم
برسالة تهدينها *** أو زورة تحت الظّلم
أو لا فطيفي(4) في المنا *** م فلا أقلّ من اللّمم
صلة المحبّ حبيبه *** اللّه يعلمه كرم
حدّثني محمد بن العباس اليزيديّ ، قال: كتب بعض أهلنا إلى فضل الشاعرة:
أصبحت فردا(5) هائم العقل *** إلى غزال حسن الشكل
أضنى فؤادي طول عهدي به *** و بعده منّي و من وصلي
منية نفسي في هوى فضل *** أن يجمع اللّه بها شملي
أهواك يا فضل هوى خالصا *** فما لقلبي عنك من شغل
قال: فأجابته:
ص: 200
الصبر ينقص و السّقام(1) يزيد *** و الدار دانية و أنت بعيد
أشكوك أم أشكو إليك فإنه *** لا يستطيع سواهما المجهود
إني أعوذ بحرمتي بك في الهوى *** من أن يطاع لديك فيّ حسود(2)
في هذه الأبيات رمل طنبوري. و أظنه لجحظة.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني الحسن بن عيسى الكوفيّ ، قال: حدثنا أبو دهمان، و أخبرني أيضا به عبد اللّه بن نصر المروزيّ ، قالا:
/كانت فضل الشاعرة من أحسن الناس وجها و خلقا و خلقا و أرقّهم شعرا، فكتب إليها بعض من كان يجمعه و إياها مجلس الخليفة، و لا تطلعه على حبها(3) له:
ألا ليت شعري فيك(4) هل تذكرينني *** فذكراك في الدنيا إليّ حبيب
و هل لي نصيب في فؤادك ثابت *** كما لك عندي في الفؤاد نصيب
و لست بموصول فأحيا بزورة *** و لا النفس عند اليأس عنك تطيب
قال: فكتبت إليه:
نعم(5) و إلهي إنني بك صبّة *** فهل أنت يا من لا عدمت مثيب ؟(6)
لمن أنت منه في الفؤاد مصوّر *** و في العين نصب العين حين تغيب
فثق بوداد أنت مظهر مثله *** على أنّ بي سقما و أنت طبيب
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم، قال: حدّثني الفضل بن العباس الهاشميّ ، قال: حدّثتني بنان الشاعرة، قالت(7):
اتكأ المتوكل على يدي و يد فضل الشاعرة، و جعل يمشي بيننا، ثم قال: أجيزا لي قول الشاعر:
تعلمت أسباب الرضا خوف عتبها(8) *** و علّمها حبّي لها كيف تغضب
ص: 201
فقال له فضل:
تصدّ و أدنو بالمودة جاهدا *** و تبعد عني بالوصال و أقرب
/فقلت أنا:
و عندي لها العتبي على كلّ حالة *** فما منه لي بدّ و لا عنه مذهب
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، قال: ألقى بعض أصحابنا على فضل الشاعرة:
و مستفتح باب البلاء بنظرة *** تزوّد منها قلبه حسرة الدهر
فقالت:
فو اللّه ما يدري أ تدري بما جنت *** على قلبه أو أهلكته و ما تدري ؟
أخبرني محمد بن خلف(1)، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، قال:
ألقيت أنا على فضل الشاعرة:
علم الجمال تركتني *** بهواك(2) أشهر من علم
فقالت على البديهية:
و أبحتني يا سيّدي *** سقما يجلّ عن السقم
و تركتني غرضا - فدي *** تك - للعواذل و التّهم
صلة المحبّ حبيبه *** اللّه يعلمه كرم
أخبرني محمد بن خلف، قال: حدّثني محمد بن الوليد، قال:
سمعت عليّ بن الجهم يقول: كنت يوما عند فضل الشاعرة، فلحظتها لحظة استرابت بها، فقالت:
يا ربّ رام حسن تعرّضه *** يرمي و لا يشعر أني غرضه
/فقلت:
أيّ فتى لحظك ليس يمرضه *** و أيّ عقد محكم لا ينقضه!
فضحكت، و قالت: خذ في غير هذا الحديث.
حدّثني عمّي، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني إبراهيم بن المدبّر، قال:
ص: 202
كتبت فضل الشاعرة إلى سعيد بن حميد أيام كانت بينهما محبة و تواصل:
و عيشك لو صرّحت باسمك في الهوى *** لأقصرت عن أشياء في الهزل و الجدّ
و لكنني أبدي لهذا مودّتي *** و ذاك، و أخلو فيك بالبثّ و الوجد
مخافة أن يغري بنا قول كاشح *** عدوّا(1) فيسعى بالوصال إلى الصدّ
فكتب إليها سعيد:
تنامين عن ليلى و أسهره وحدي *** و أنهى جفوني أن تبثّك ما عندي
فإن كنت لا تدرين ما قد فعلته *** بنا فانظري ما ذا على قاتل العمد؟
قال عمي: هكذا ذكر ابن مهرويه.
و حدّثني به عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى، فذكر أن بيتي سعيد كانا الابتداء، و أن أبيات فضل كانت الجواب. و ذكر لهما خبرا في عتاب عاتبها به، و لم أحفظه، و إنما سمعته يذكره، ثم أخرج إليّ كتابا بعد ذلك فيه أخبار عن عليّ بن الحسين، فوجدت هذا الخبر فيه، فقرأته عليه.
قال عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى:
/حضر سعيد بن حميد مجلسا حضرته فضل الشاعرة و بنان، و كان سعيد يهواها، و تظهر له هوى، و يتهمها مع ذلك ببنان، فرأى فيها إقبالا شديدا على بنان، فغضب و انصرف، فكتبت إليه فضل بالأبيات الأوّل، و أجابها بالبيتين الآخرين، فاتفقت رواية ابن مهرويه و عليّ بن الحسين في هذا الخبر.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أبو يوسف بن الدقاق الضرير، قال:
صرت أنا و أبو منصور الباخرزيّ إلى منزل فضل الشاعرة فحجبنا عنها و انصرفنا، و ما علمت بنا، ثم بلغها مجيئنا و انصرافنا فكرهت ذلك و غمّها، فكتبت إلينا تعتذر:
و ما كنت أخشى أن تروا لي زلّة *** و لكنّ أمر اللّه ما عنه مذهب
أعوذ بحسن الصفح منكم و قبلنا *** بصفح و عفو ما تعوّذ مذنب
فكتب إليها أبو منصور الباخرزيّ :
لئن أهديت عتباك لي و لإخوتي *** فمثلك يا فضل الفضائل(2) يعتب
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه *** و كلّ امرئ لا يقبل العذر مذنب
حدّثني عليّ بن هارون بن عليّ بن يحيى المنجّم، قال: حدّثني عمّي عن جدّي، قال:
قال لي المتوكل يوما - و فضل واقفة بين يديه: يا عليّ ، كان بيني و بين فضل موعد، فشربت شربا فيه فضل،
ص: 203
فسكرت و نمت، و جاءتني للموعد، فحركتني بكل ما ينتبه به النائم من قرص و تحريك و غمز و كلام، فلم أنتبه. فلما علمت أنه لا حيلة لها فيّ كتبت رقعة و وضعتها على مخدّتي، فانتبهت فقرأتها، فإذا فيها:
/قد بدا شبهك يا مو *** لاي يحدو بالظلام
قم بنا نقض لبانا *** ت التزام و التثام
قبل أن تفضحنا عو *** دة أرواح النّيام
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر، قال:
كانت فضل الشاعرة تهاجي خنساء جارية هشام المكفوف، و كانت شاعرة، و كان أبو شبل عاصم(1) بن وهب يعاون فضلا عليها، و يهجوها مع فضل. و كان القصيديّ و الحفصي(2) يعينان خنساء على فضل و أبي شبل، فقال أبو شبل على لسان فضل:
خنساء طيري بجناحين *** أصبحت معشوقة نذلين
من كان يهوى عاشقا واحدا *** فأنت تهوين عشيقين
هذا القصيديّ و هذا الفتى الح *** فصيّ قد زاراك فردين
نعمت من هذا و هذا كما *** ينعم خنزير بحشّين(3)
فقالت خنساء تجيبها:
ما ذا مقال لك يا فضل بل *** مقال خنزيرين فردين
يكنى أبا الشبل و لو أبصرت *** عيناه شبلا راث(4) كرّين(5)
و قالت فضل في خنساء:
/إنّ خنساء لا جعلت فداها *** اشتراها الكسّار من مولاها
و لها نكهة يقول محاذي *** ها أ هذا حديثها أم فساها!
و قالت خنساء في فضل و أبي شبل:
تقول له فضل إذا ما تخوّفت *** ركوب قبيح الذّلّ في طلب الوصل
حر امّ فتى لم يلق في الحب ذلة *** فقلت لها لا بل حر امّ أبي الشبل
و قالت خنساء تهجو أبا شبل:
ما ينقضي فكري و طول تعجّبي *** من نعجة تكنى أبا الشبل
ص: 204
لعب الفحول بسفلها و عجانها(1) *** فتمرّدت كتمرّد الفحل
لما اكتنيت بما اكتنيت به *** و تسمّت(2) النقصان بالفضل
كادت بنا الدنيا تميد ضحى *** و نرى السماء تذوب كالمهل(3)
قال: فغضب أبو شبل لذلك، و لم يجبها، و قال يهجو مولاها هشاما:
نعم مأوى العزّاب بيت هشام *** حين يرمي اللّثام باغي اللثام
من أراد السرور عند حبيب *** لينال السرور تحت الظلام
فهشام نهاره و دجى الل *** يل سواء نفسي فداء هشام
ذاك حرّ دواته ليس تخلو *** أبدا من تخرّق الأقلام
حدّثني عمي، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال:
زارت فضل الشاعرة سعيد بن حميد ليلة على موعد سبق بينهما، فلما حصلت عنده/جاءتها جاريتها مبادرة تعلمها أن رسول الخليفة قد جاء يطلبها، فقامت مبادرة فمضت، فلما كان من غد كتب إليها سعيد:
ضنّ الزمان بها فلما نلتها *** ورد الفراق فكان أقبح وارد
و الدّمع ينطق للضمير مصدّقا *** قول المقرّ مكذّبا للجاحد
حدّثني الحسن بن عليّ ، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدّثني ميسرة بن محمد، قال: حدّثني عبيد بن محمد، قال:
قلت لفضل الشاعرة: ما ذا نزل بكم البارحة ؟ - قال: و ذلك في صبيحة قتل المنتصر المتوكل(4) - فقالت و هي تبكي:
إنّ الزمان بذحل(5) كان يطلبنا *** ما كان أغفلنا عنه و أسهانا!
ما لي و للدهر قد أصبحت همته *** ما لي و للدّهر لا كانا!
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني محمد بن الفضل، قال: حدّثني أبو هفّان، قال: حدّثني أحمد بن أبي فنن، قال:
ص: 205
خرجت قبيحة(1) إلى المتوكل يوم نيروز و بيدها كأس بلّور بشراب صاف، فقال لها: ما هذا فديتك ؟ قالت:
هديّتي لك في هذا اليوم، عرّفك اللّه بركته! فأخذه من يدها، و إذا على خدّها: جعفر، مكتوبا(2) بالمسك، فشرب الكأس و قبّل خدها، و كانت فضل الشاعرة واقفة على رأسه فقالت:
و كاتبة بالمسك في الخدّ جعفرا *** بنفسي سواد المسك من حيث أثّرا
لئن أثّرت بالمسك سطرا(3) بخدّها *** لقد أودعت قلبي من الحزن(4) أسطرا
فيا من مناها في السريرة جعفر *** سقى اللّه من سقيا ثناياك جعفرا
الغناء لعريب، خفيف رمل. قال: و أمر عريب فغنّت فيه. و قالت فضل في ذلك أيضا:
سلافة كالقمر الباهر *** في قدح كالكوكب الزاهر
يديرها خشف(5) كبدر الدجى *** فوق قضيب أهيف ناضر
على فتى أروع من هاشم *** مثل الحسام المرهف الباتر
و قد رويت الأبيات الأول لمحبوبة شاعرة المتوكل، و لها أخبار و أشعار كثيرة قد ذكرت بعضها في موضع آخر من هذا الكتاب.
أخبرني محمد بن خلف، قال: أخبرني أبو الفضل(6) المروروذيّ ، قال: كتبت فضل الشاعرة إلى سعيد بن حميد:
بثثت هواك في بدني و روحي *** فألّف فيهما طمعا بياس
فأجابها سعيد في رقعتها:
كفانا اللّه شرّ اليأس إني *** لبغض اليأس أبغض كل آسى
حدّثني عمّي، قال: حدّثني ابن أبي المدور الوراق، قال:
كنت عند سعيد بن حميد، و كان قد ابتدأ ما بينه و بين فضل الشاعرة يتشعّب، و قد بلغه ميلها إلى بنان و هو بين المصدق و المكذب بذلك، فأقبل على صديق له فقال: أصبحت و اللّه من أمر فضل في غرور، أخادع نفسي بتكذيب
ص: 206
العيان، و أمنّيها ما قد حيل دونه. و اللّه إنّ إرسالي إليها بعد ما قد لاح من تغيرها لذلّ ، و إنّ عدولي عنها و في أمرها شبهه لعجز، و إنّ تصبري عنها لمن دواعي التلف، و للّه درّ محمد بن أمية(1) حيث يقول:
يا ليت شعري ما يكون جوابي *** أمّا الرسول فقد مضى بكتابي
و تعجّلت نفسي الظنون و أشعرت *** طمع الحريص و خيفة المرتاب
و تروعني حركات كلّ محرّك *** و الباب يقرعه و ليس ببابي
كم نحو باب الدار لي من وثبة *** أرجو الرسول بمطمع كذّاب
و الويل لي من بعد هذا كلّه *** إن كان ما أخشاه ردّ جوابي
حدّثني جحظة، قال: حدّثني عليّ بن يحيى المنجّم، قال:
غضب بنان على فضل الشاعرة في أمر أنكره عليها، فاعتذرت إليه، فلم يقبل معذرتها، فأنشدتني لنفسها في ذلك:
يا فضل صبرا إنها ميتة *** يجرعها الكاذب و الصادق
ظنّ بنان أنني خنته *** روحي إذا من بدني طالق
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أبو العباس المروزيّ ، قال:
قال المتوكل لعليّ بن الجهم: قل بيتا، و طالب فضل الشاعرة بأن تجيزه، فقال عليّ : أجيزي يا فضل:
/لاذ بها يشتكي إليها *** فلم يجد عندها ملاذا
قال: فأطرقت هنيهة ثم قالت:
فلم يزل ضارعا إليها *** تهطل أجفانه رذاذا
فعاتبوه فزاد عشقا *** فمات وجدا فكان ما ذا؟
فطرب المتوكل، و قال: أحسنت و حياتي يا فضل، و أمر لها بمائتي دينار، و أمر عريب فغنّت في الأبيات.
قال مؤلف هذا الكتاب(2): أعرف في هذه الأبيات هزجا لا أدري أ هو هذا اللحن، أم غيره ؟ و لم أره في أغاني عريب، و لعله شذّ عنها.
أمامة لا أراك اللّ *** ه ذل معيشة أبدا
أ لا تستصلحين فتى *** وقاك السوء قد فسدا
غلام كان أهلك مرّ *** ة يدعونه ولدا
ص: 207
الشعر لعبد اللّه بن محمد بن سالم الخياط، و الغناء للرّطّاب الجدي، ثاني ثقيل، بالوسطى عن عمرو، و فيه ليحيى المكي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق و أحمد بن المكي.
و ذكر عبد اللّه بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام عن قلم الصالحية أنها أخذت اللحن المنسوب إلى الرّطّاب عن تينة، و سألته عن صانعه فأخبرها أنه له.
تم الجزء التاسع عشر من كتاب الأغاني و يليه إن شاء اللّه تعالى الجزء العشرون و أوّله: نسب ابن الخياط و أخباره
ص: 208
الموضوع الصفحة
ذكر أبي محجن و نسبه 5
أخبار زهير بن جناب و نسبه 14
نسب مسلم بن الوليد و أخباره 24
أخبار محمد بن وهيب 52
أخبار مزاحم و نسبه 68
أخبار بكر بن النطاح و نسبه 73
مقتل مصعب بن الزبير 84
ذكر أشعب و أخباره 93
أخبار عويف و نسبه 123
أخبار عبد اللّه بن جحش 141
بعض أخبار للعرجي 144
أخبار عبد اللّه بن العباس الربيعي 146
أخبار سلم الخاسر و نسبه 173
أخبار أبي صدقة 192
أخبار فضل الشاعرة 199
ص: 209