الأغاني المجلد 17-18

هویة الکتاب

الأغاني

المؤلفين الآخرين

مدقق لغوي ومترجم:

مکتبة تحقیق دار احیاء التراث العربي

المجلدات : 25ج

لسان: العربية

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سنة النشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

رمز الكونغرس: PJA 3892 /الف 6 1374

إعداد النص الرقمي : میثم الحیدري

ص: 1

المجلد 17

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة التراجم

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

1 - ذكر الكميت و نسبه و خبره

نسبه

هو الكميت(1) بن زيد بن خنيس(2) بن مجالد بن وهيب بن عمرو بن سبيع. و قيل: الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد بن ذؤيبة بن قيس بن عمرو بن سبيع بن مالك بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. شاعر مقدّم، عالم بلغات العرب، خبير بأيامها، من شعراء مضر و ألسنتها، و المتعصّبين على القحطانية، المقارنين المقارعين لشعرائهم، العلماء بالمثالب و الأيام، المفاخرين بها. و كان في أيام بني أميّة، و لم يدرك الدولة العبّاسيّة، و مات قبلها.

تشيعه لبني هاشم

و كان معروفا بالتشيّع لبني هاشم، مشهورا بذلك، و قصائده الهاشميّات من جيّد شعره و مختاره.

مناقضة دعبل و ابن أبي عيينة لقصيدته المذهبة

و لم تزل عصبيّته للعدنانية و مهاجاته شعراء اليمن متّصلة، و المناقضة بينه و بينهم شائعة في حياته و بعد وفاته، حتى ناقض دعبل و ابن أبي عيينة قصيدته المذهبة(3) بعد وفاته، و أجابهما أبو البلقاء(4) البصريّ مولى بني هاشم عنها، و ذلك يذكر في موضع آخر يصلح له من هذا الكتاب إن شاء اللّه(5).

كان معلم صبيان

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم، عن الأصمعيّ، عن خلف الأحمر: أنه رأى الكميت يعلّم الصبيان في مسجد بالكوفة.

ص: 5


1- من يقال له الكميت ثلاثة من بني أسد بن خزيمة؛ هم: الكميت الأكبر بن ثعلبة بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن جحوان بن فقعس. و الكميت بن معروف بن الكميت الأكبر. و الكميت بن زيد هذا. (المؤتلف و المختلف للآمدي 257).
2- و كذا في تاريخ الإسلام للذهبي 127:5، و في المؤتلف و المختلف، و اللآلئ، و الخزانة: الأخنس، و في تجريد الأغاني: حبيش، بالحاء المهملة، تصحيف.
3- المذهبات التي في جمهرة أشعار العرب ليس من بينها قصيدة الكميت.
4- في هب: «أبو الذلفاء»، و في ب، س، و «المختار»: «أبو الزلفاء».
5- هذا الموضع هو ترجمة دعبل في الجزء الثامن عشر ص 29 (بولاق).
مودته للطرماح مع اختلاف المذهب و العصبية

قال ابن قتيبة في خبره خاصة: و كانت بينه و بين الطّرمّاح خلطة و مودّة و صفاء لم يكن بين اثنين(1)، قال(2):

فحدّثني بعض أصحابه عن محمد بن سهل راوية الكميت، قال: أنشدت الكميت قول الطّرمّاح:

إذا قبضت نفس الطّرمّاح أخلقت *** عرا المجد و استرخى عنان القصائد

قال: إي و اللّه و عنان الخطابة و الرواية. قال: و هذه الأحوال بينهما على تفاوت المذاهب و العصبيّة و الدّيانة؛ كان الكميت شيعيّا عصبيّا عدنانيا من شعراء مضر، متعصّبا لأهل الكوفة، و الطرمّاح خارجيّ صفريّ قحطانيّ عصبيّ لقحطان، من شعراء اليمن، متعصب لأهل الشام، فقيل لهما: ففيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء(3)؟ قال: اتفقنا على بغض العامة.

علمه بأيام العرب و أشعارها

أخبرني عمي قال: حدثني محمد بن سعد الكرانيّ، قال: حدّثنا أبو عمر العمريّ، عن لقيط، قال:

اجتمع الكميت بن زيد و حمّاد الراوية في مسجد الكوفة، فتذاكرا أشعار العرب و أيّامها، فخالفه حماد في شيء و نازعه، فقال له الكميت: أ تظنّ أنّك أعلم منّي بأيام العرب و أشعارها؟ قال: و ما هو إلا الظنّ! هذا و اللّه هو اليقين. فغضب الكميت ثم قال له: لكم شاعر بصير، يقال له عمرو ابن فلان، تروي؟ و لكم شاعر أعور أو أعمى(4)اسمه فلان ابن عمرو، تروي؟ فقال حماد قولا لما يحفظه: فجعل الكميت يذكر رجلا رجلا من صنف صنف، /و يسأل حمّادا: هل يعرفه؟ فإذا قال: لا، أنشده من شعره جزءا منه حتى ضجرنا.

مساءلته حمادا عن شيء من الشعر و تفسيره

ثم قال له الكميت: فإني سائلك عن شيء من الشّعر، فسأله عن قول الشاعر(5):

طرحوا أصحابهم في ورطة *** فذفك المقلة شطر المعترك(6)

فلم يعلم حمّاد تفسيره، فسأله عن قول الآخر:

تدرّيننا بالقول حتى كأنما *** تدرّين ولدانا تصيد الرّهادنا

فأفحم حمّاد، فقال له: قد أجّلتك إلى الجمعة الأخرى، فجاء حماد و لم يأت بتفسيرهما، و سأل الكميت أن يفسّرهما له، فقال: المقلة: حصاة أو نواة من نوى المقل يحملها القوم معهم إذا سافروا، و توضع في الإناء و يصبّ عليها الماء حتى يغمرها، فيكون ذلك علامة يقتسمون بها الماء. و الشّطر: النّصيب. و المعترك: الموضع الذي يختصمون فيه في الماء، فيلقونها هناك عند الشّرّ. و قوله: «تدرّيننا»، يعني النساء، أي ختلننا فرميننا. و الرهادن:

طير بمكة كالعصافير.

ص: 6


1- الخبر في الشعر و الشعراء 562.
2- الخبر في الشعر و الشعراء 567.
3- في أ: «مع سائر اختلاف».
4- في المختار: «لكم شاعر أعمى يقال له فلان ابن عمر».
5- هو يزيد بن طعمة الخطمي. اللسان «مقل»، مجالس العلماء 216.
6- في أ: «وسط المعترك».
سبب حفيظة خالد القسري عليه

و كان خالد بن عبد اللّه القسريّ - فيما حدّثني به عيسى بن الحسين الورّاق، قال: أخبرنا أحمد بن الحارث الفزاريّ عن ابن الأعرابيّ، و ذكره محمد بن أنس السّلاميّ عن المستهلّ بن الكميت، و ذكره ابن كناسة عن جماعة من بني أسد - [قد بلغه] أنّ الكميت أنشد قصيدته التي يهجو فيها اليمن، و هي:

ألا حيّيت عنّا يا مدينا(1)

احتيال خالد لإثارة هشام عليه

فأحفظته عليه، فروّى جارية حسناء قصائده الهاشميات، و أعدّها ليهديها إلى هشام، و كتب إليه بأخبار الكميت و هجائه بني أميّة، و أنفذ إليه قصيدته التي يقول فيها:

فيا ربّ هل إلاّ بك النّصر يبتغى *** و يا ربّ هل إلاّ عليك المعوّل!(2)

حبسه و كتاب أبان بن الوليد إليه بطريقة هروبه

و هي طويلة يرثي فيها(3) زيد بن عليّ، و ابنه الحسين بن زيد، و يمدح بني هاشم. فلما قرأها أكبرها و عظمت عليه، و استنكرها، و كتب إلى خالد يقسم عليه أن يقطع الكميت و يده. فلم يشعر الكميت إلاّ و الخيل محدقة بداره، فأخذ و حبس في المخيّس(4)، و كان أبان بن الوليد عاملا على واسط، و كان الكميت صديقه، فبعث إليه بغلام على بغل، و قال له: أنت حرّ إن لحقته، و البغل لك. و كتب إليه: قد بلغني ما صرت إليه، و هو القتل، إلا أن يدفع اللّه عزّ و جلّ، و أرى لك أن تبعث إلى حبّي - يعني زوجة الكميت و هي بنت نكيف بن عبد الواحد، و هي ممّن يتشيّع أيضا - فإذا دخلت إليك تنقّبت نقابها، و لبست ثيابها و خرجت، فإني أرجو إلاّ يؤبه لك.

فأرسل الكميت إلى أبي وضّاح حبيب بن بديل، و إلى فتيان من بني عمّه من مالك بن سعيد، فدخل عليه حبيب فأخبره الخبر، و شاوره فيه، فسدّد رأيه، ثم بعث إلى حبّي امرأته، فقصّ عليها القصة، و قال لها: أي ابنة عمّ، إن الوالي لا يقدم عليك، و لا يسلمك قومك، و لو خفته عليك لما عرّضتك له. /فألبسته ثيابها و إزارها و خمّرته(5)، و قالت له: أقبل و أدبر؛ ففعل، فقالت: ما أنكر منك شيئا إلاّ يبسا في كتفك، فاخرج على اسم اللّه.

امرأته حبّى مكانه في السجن

/و أخرجت معه جارية لها، فخرج و على باب السجن أبو وضّاح، و معه فتيان من أسد، فلم يؤبه له، و مشى

ص: 7


1- عجزة: و هل بأس بقول مسلّمينا الخزانة 86:1، و قوله: «يا مدينا» أراد: «يا مدينة» فرخم.
2- الهاشميات 70.
3- في هامش أ: «هذا غلط من وجهين: أحدهما إيفاد خالد إلى بمرثية زيد، و زيد إنما قتل في إمارة يوسف بن عمر بعد خالد. و الثاني في جعله الحسين بن زيد مرثيا أيضا و الحسين لم يقتل، و كان ممن يرى الخروج».
4- المخيس، كمعظم و محدّث: السجن.
5- خمرته: ألبسته خمارها.

و الفتيان بين يديه إلى سكّة شبيب بناحية الكناسة(1)، فمرّ بمجلس من مجالس بني تميم، فقال بعضهم: رجل و ربّ الكعبة. و أمر غلامه فاتّبعه، فصاح به أبو الوضّاح: يا كذا و كذا، لا أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم. و أومأ إليه بنعله، فولّى العبد مدبرا، و أدخله أبو الوضّاح منزله.

كشف أمره

و لمّا طال على السجّان الأمر نادى الكميت فلم يجبه، فدخل ليعرف خبره، فصاحت به المرأة: وراءك، لا أمّ لك! فشقّ ثوبه، و مضى صارخا إلى بابا خالد، فأخبره الخبر، فأحضر حبّي فقال لها: يا عدوّة اللّه، احتلت على أمير المؤمنين، و أخرجت عدوّه، لأمثّلنّ بك و لأصنعنّ و لأفعلنّ. فاجتمعت بنو أسد إليه. و قالوا: ما سبيلك على امرأة منّا خدعت. فخافهم فخلّى سبيلها.

خبرته بزجر الطير

قال: و سقط غراب على الحائط فنعب، فقال الكميت لأبي وضّاح: إني لمأخوذ، و إنّ حائطك لساقط. فقال:

سبحان اللّه! هذا ما لا يكون إن شاء اللّه. فقال له: لا بدّ من أن تحوّلني. فخرج به إلى بني علقمة - و كانوا يتشيّعون - فأقام فيهم و لم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب.

خروجه إلى الشام

قال ابن الأعرابيّ: قال المستهلّ: و أقام الكميت مدة متواريا، حتى إذا أيقن أنّ الطلب قد خفّ عنه خرج ليلا في جماعة من بني أسد، على خوف و وجل، و فيمن معه صاعد غلامه، قال: و أخذ الطريق على القطقطانة(2)- و كان عالما بالنجوم مهتديا بها - فلما صار سحير(3) صاح بنا: هوّموا(4) يا فتيان، فهوّمنا، و قام يصلّي.

أطعم ذئبا فهداه الطريق

قال المستهلّ: فرأيت شخصا فتضعضعت له، فقال: ما لك؟ قلت: أرى شيئا مقبلا، فنظر إليه فقال: هذا ذئب قد جاء يستطعمكم، فجاء الذئب فربض ناحية، فأطعمناه يد جزور، فتعرّقها، ثم أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه، و ارتحلنا، فجعل الذئب يعوي، فقال الكميت: ما له ويله! أ لم نطعمه و نسقه! و ما أعرفني بما يريد! هو يعلمنا أنّا لسنا على الطريق؛ تيامنوا يا فتيان، فتيامنّا فسكن عواؤه.

تواريه و سعي رجالات قريش في خلاصه

فلم نزل نسير حتى جئنا الشام، فتوارى في بني أسد و بني تميم، و أرسل إلى أشراف قريش - و كان سيّدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص - فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض، و أتوا عنبسة، فقالوا: يا أبا خالد، هذه مكرمة قد أتاك اللّه بها، هذا الكميت بن زيد لسان مضر، و كان أمير المؤمنين كتب في قتله، فنجا حتى تخلّص إليك

ص: 8


1- في ب و المختار: «الكناس»، و الكناسة: محلة بالكوفة، و كناس: موضع في بلا غني. (ياقوت).
2- القطقطانة: موضع بالكوفة، كان به سجن للنعمان بن المنذر.
3- صار هنا تامة.
4- هوّموا: ناموا نوما خفيفا؛ يريد: استريحوا، و أغفوا إغفاءة.

و إلينا. قال: فمروه أن يعوذ بقبر معاوية بن هشام بدير(1) حنيناء. فمضى الكميت، فضرب فسطاطه عند قبره، و مضى عنبسة فأتى مسلمة بن هشام، فقال له: يا أبا شاكر، مكرمة أتيتك بها تبلغ الثّريّا إن اعتقدتها، فإن اعتقدتها، فإن علمت أنك تفي بها و إلاّ كتمتها. قال: و ما هي؟ فأخبره الخبر، /و قال: إنه قد مدحكم عامّة، و إياك خاصة بما لم يسمع بمثله. فقال: عليّ خلاصه.

مسلمة بن هشام يطلب الأمان له

فدخل على أبيه هشام و هو عند أمّه في غير وقت دخول، فقال هشام: أ جئت لحاجة؟ قال: نعم، قال: هي مقضيّة إلاّ أن يكون الكميت. فقال: ما أحبّ أن تستثني عليّ في حاجتي، و ما أنا و الكميت! فقالت أمّه: و اللّه لتقضينّ حاجته كائنة ما كانت. قال: قد قضيتها و لو أحاطت بما بين قطريها. قال: هي الكميت يا أمير المؤمنين، و هو آمن بأمان اللّه عزّ و جل و أماني، و هو شاعر مضر، /و قد قال فينا قولا لم يقل مثله، قال: قد أمّنته، و أجزت أمانك له، فاجلس له مجلسا ينشدك فيه ما قال فينا.

هشام يعقد له مجلسا يسمع فيه مدائحه في بني أمية

فعقد له، و عنده الأبرش الكلبيّ، فتكلّم بخطبة ارتجلها ما سمع بمثلها قطّ، و امتدحه بقصيدته الرّائية، و يقال:

إنه قالها ارتجالا، و هي قوله:

قف بالديار وقوف زائر(2)

فمضى فيها حتى انتهى إلى قوله:

ما ذا عليك من الوقو *** ف بها و أنك غير صاغر

درجت عليها الغاديا *** ت الرّائحات من الأعاصر

و فيها يقول:

فالآن صرت إلى أميّة *** و الأمور إلى المصاير

و جعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده، فيقول: اسمع، اسمع.

/ثم استأذنه في مرثيّة ابنه معاوية، فأذن له، فأنشده قوله(3):

سأبكيك للدّنيا و للدّين إنني *** رأيت يد المعروف بعدك شلّت

فدامت عليك بالسلام تحية *** ملائكة اللّه الكرام و صلّت

فبكى هشام بكاء شديدا، فوثب الحاجب فسكّته.

ثم جاء الكميت إلى منزله آمنا، فحشدت له المضريّة بالهدايا، و أمر له مسلمة بعشرين ألف درهم، و أمر له

ص: 9


1- دير حنيناء: من أعمال دمشق. (ياقوت).
2- صدر بيت، و عجزة: و تأيّ إنّك غير صاغر و تأي: تلبث و أمكث.
3- الهاشميات 93.

هشام بأربعين ألف درهم. و كتب إلى خالد بأمانه و أمان أهل بيته، و أنه لا سلطان له عليهم.

قال: و جمعت له بنو أميّة بينها مالا كثيرا. قال: و لم يجمع من قصيدته تلك يومئذ إلاّ ما حفظه الناس منها فألف. و سئل عنها، فقال: ما أحفظ منها شيئا؛ إنما هو كلام ارتجلته.

فقال: و ودّع هشاما، و أنشده قوله فيه:

ذكر القلب إلفه المذكورا

سبقه الشعراء إلى معنى في صفة الفرس

قال محمد بن كناسة: و كان الكميت يقول: سبقت الناس في هذه القصيدة من أهل الجاهلية و الإسلام إلى معنى ما سبقت إليه في صفة الفرس حين أقول:

يبحث التّرب عن كواسر في المش *** رب لا يجشم السّقاة الصّفيرا

هذه رواية ابن عمار. و قد روى فيه غير هذا.

رواية أخرى في سبب المنافرة بينه و بين خالد

و قيل في سبب المنافرة بين خالد و الكميت غير هذا، نسخته من كتاب محمد بن يحيى الخرّاز، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الحاسب، قال: حدثني عبد الرحمن بن داود بن أبي أميّة البلخيّ، قال:

/كان حكيم بن عيّاش(1) الأعور الكلبيّ ولعا بهجاء مضر، فكانت شعراء مضر تهجوه و يجيبهم، و كان الكميت يقول: هو و اللّه أشعر منكم. قالوا: فأجب الرجل. قال: إنّ خالد بن عبد اللّه القسريّ محسن إليّ فلا أقدر أن أردّ عليه، قالوا: فاسمع بأذنك ما يقول في بنات عمّك و بنات خالك من الهجاء، و أنشدوه ذلك؛ فحمي الكميت لعشيرته، فقال المذهبة(2).

ألا حيّيت عنّا يا مدينا

فأحسن فيها، و بلغ خالدا خبرها. فقال: لا أبالي ما لم يجر لعشيرتي ذكر، فأنشدوه قوله:

و من عجب عليّ لعمر أمّ *** غذتك و غير هاتيا يمينا(3)

تجاوزت المياه بلا دليل *** و لا علم تعسّف مخطئينا

فإنك و التحوّل من معدّ *** كهيلة قبلنا و الحالبينا(4)

تخطّت خيرهم حلبا و نسئا(5) *** إلى المولى المغادر هاربينا(6)

/كعنز السّوء تنطح عالفيها *** و ترميها عصيّ الذابحينا(7)

ص: 10


1- في أ: «حكيم بن عباس».
2- المذهبة: لقب هذه القصيدة، و انظر حاشية 3 ص 3.
3- في ما: «تيّامنينا»، و في أ: «تتأيمينا».
4- في أ، ب: «و الجالبينا».
5- النسء: اللبن الرقيق الكثير الماء، و في ب: «و مسنّا».
6- في ما: «إلى الوالي»، و المثبت في أ، ب.
7- في أ: «و ترضيا» تحريف.

فبلغ ذلك خالدا، فقال: فعلها! و اللّه لأقتلنّه. ثم اشترى ثلاثين جارية بأغلى ثمن، و تخيّرهنّ نهاية في حسن الوجوه و الكمال و الأدب، فروّاهنّ/الهاشميّات، و دسّهنّ مع نخّاس إلى هشام بن عبد الملك، فاشتراهنّ جميعا، فلما أنس بهنّ استنطقهنّ، فرأى فصاحة و أدبا، فاستقرأهنّ القرآن، فقرأن، و استنشدهنّ الشعر، فأنشدنه قصائد الكميت الهاشميّات. فقال: ويلكنّ! من قائل هذا الشعر؟ قلن: الكميت بن زيد الأسديّ. قال: و في أيّ بلد هو؟ قلن: في العراق، ثم بالكوفة. فكتب إلى خالد و هو عامله على العراق: ابعث إليّ برأس الكميت بن زيد، فبعث خالد إلى الكميت في الليل، فأخذه و أودعه السّجن. و لما كان من الغد أقرأ من حضره من مضر كتاب هشام، و اعتذر إليهم من قتله، و آذنهم في إنفاذ الأمر فيه في غد، فقال لأبان بن الوليد البجليّ - و كان صديقا للكميت -:

انظر ما ورد في صديقك. فقال: عزّ عليّ و اللّه [ما] به، ثم قام أبان، فبعث إلى الكميت فأنذره، فوجّه إلى امرأته.

مسلمة بن هشام يجيره و يحتال في خلاصه

ثم ذكر الخبر في خروجه و مقامها مكانه، كما ذكر من تقدّمه. و قال فيه: فأتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به، فقال: إني أخشى ألاّ ينفعك جواري عنده، و لكن استجر بابنه مسلمة بن هشام. فقال: كن أنت السفير بيني و بينه في ذلك، ففعل مسلمة، و قال لابن أخيه: قد أتيتك بشرف الدّهر، و اعتقاد الصّنيعة في مضر، و أخبره الخبر؛ فأجاره مسلمة بن هشام. و بلغ ذلك هشاما فدعا به، ثم قال: أ تجير على أمير المؤمنين بغير أمره؟! فقال: كلاّ، و لكني انتظرت سكون غضبه. قال: أحضرنيه الساعة، فإنه لا جوار لك. فقال مسلمة للكميت: يا أبا المستهلّ، إنّ أمير المؤمنين أمرني بإحضارك. قال: أ تسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلاّ، و لكني أحتال لك، ثم قال له: إنّ معاوية بن هشام مات قريبا، و قد جزع عليه جزعا شديدا، فإذا كان/من الليل فاضرب رواقك على قبره، و أنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرّواق، فإذا دعا بك تقدّمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك، و يقولوا: هذا استجار بقبر أبينا، و نحن أحقّ من أجاره.

فأصبح هشام على عادته متطلّعا من قصره إلى القبر، فقال: من هذا؟ فقالوا: لعلّه مستجير بالقبر! فقال:

يجار من كان إلاّ الكميت؛ فإنه لا جوار له. فقيل: فإنه الكميت، قال: يحضر أعنف إحضار. فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه. فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه و استعبر، و هم يقولون: يا أمير المؤمنين، استجار بقبر أبينا، و قد مات، و مات حظّه من الدنيا، فاجعله هبة له و لنا، لا تفضحنا فيمن استجار به. فبكى هشام حتى انتحب، ثم أقبل على الكميت فقال له: يا كميت، أنت القائل:

و إلاّ تقولوا غيرها تتعرّفوا *** نواصيها تردي بنا و هي شزّب(1)

خطبته بين يدي هشام و إنشاده بعض مدائحه في بني أمية

فقال: لا، و اللّه، و لا أتان من أتن الحجاز وحشيّة، فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على نبيّه، ثم قال: أمّا بعد فإنّي كنت أتدهدى(2) في غمرة، و أعوم في بحر غواية، أخنى عليّ خطلها، و استفزّني وهلها(3)؛ فتحيّرت في

ص: 11


1- ردى يردى، إذا رجم الأرض رجما بين العدو و المشي الشديد. و الشازب: الذي فيه ضمور، و جمعه شزّب.
2- أتدهدى: أتقلّب و أتلوى.
3- الوهل: الفزع.

الضّلالة، و تسكّعت في الجهالة، مهرعا(1) عن الحقّ، جائرا عن القصد، /أقول الباطل ضلالا، و أفوه بالبهتان وبالا، و هذا مقام العائذ مبصر الهدى، و رافض العمى(2) فاغسل عنّي يا أمير المؤمنين الحوبة(3) بالتّوبة، و اصفح عن الزّلة، و اعف عن الجرمة(4)، ثم قال(5):

كم قال قائلكم: لعا *** لك، عند عثرته لعاثر(6)

و غفرتم لذوي الذنو *** ب من الأكابر و الأصاغر

أ بني أمية إنكم *** أهل الوسائل و الأوامر

ثقتي لكلّ ملمّة *** و عشيرتي دون العشائر

أنتم معادن للخلا *** فة كابرا من بعد كابر

بالتّسعة المتتابعي *** ن خلائفا و بخير عاشر(7)

و إلى القيامة لا تزا *** ل لشافع منكم و واتر

ثم قطع(8) الإنشاد و عاد إلى خطبته، فقال: إغضاء أمير المؤمنين و سماحته و صباحته، و مناط المنتجعين بحبله، من لا تحلّ حبوته لإساءة المذنبين، فضلا عن استشاطة غضبه بجهل الجاهلين.

محاورة بينه و بين هشام في شعر قاله في بني أمية

فقال له: ويلك يا كميت! من زيّن لك الغواية، و دلاّك في العماية؟ قال: الذي أخرج أبانا من الجنّة، و أنساه العهد، فلم يجد له عزما. فقال: إيه! أنت القائل:

فيا موقدا نارا لغيرك ضوأها *** و يا حاطبا في غير حبلك تحطب

فقال: بل أنا القائل(9):

/إلى آل بيت أبي مالك *** مناخ هو الأرحب الأسهل

نمّت بأرحامنا الدّاخلا *** ت من حيث لا ينكر المدخل

ببرّة و النّضر و المالكي(10)*** ن رهط هم الأنبل الأنبل

ص: 12


1- مهرعا: منصرفا.
2- في أ: «العماية».
3- الحوبة: الخطيئة و الإثم.
4- الجرمة: مثل كلمة: الذنب.
5- الهاشميات 92.
6- يقال للعائر: لعا لك، دعا له بالإقالة و الابتعاد.
7- لم يرد في الهاشميات.
8- في أ: «و قطع».
9- الهاشميات 93.
10- في أ و المختار: «بمرة»، و المثبت من ج، قال في هامشه: برة بنت مرّ، أخت تميم، كانت عند خزيمة، فولدت له أسدا ثم مات، فخلف عليها ابنه كنانة، فولدت له النضر، و هو قريش، أبو مالك. فبنو أسد ينتمون إلى قريش لهذا السبب. و البيت ليس في الهاشميات.

و يا بني خزيمة بدر السما(1) *** ء و الشمس مفتاح ما نأمل

وجدنا قريشا قريش البطاح *** على ما بنى الأوّل الأوّل

بهم صلح الناس بعد الفساد *** و حيص من الفتق ما رعبلوا(2)

قال له: و أنت القائل(3):

لا كعبد المليك أو كوليد *** أو سليمان بعد أو كهشام

من يمت لا يمت فقيدا و من(4) يح *** ي فلا ذو إلّ(5) و لا ذو ذمام

ويلك يا كميت! جعلتنا ممّن لا يرقب في مؤمن إلاّ و لا ذمّة، فقال: بل أنا القائل يا أمير المؤمنين(6):

فالآن صرت إلى أميّ *** ة و الأمور إلى المصاير

و الآن صرت بها المصي *** ب كمهتد بالأمس حائر

/يا بن العقائل للعقا *** ئل و الجحاجحة الأخاير(7)

من عبد شمس و الأكا *** بر من أميّة فالأكابر

إنّ الخلافة و الإلا *** ف برغم ذي حسد و واغر(8)

دلفا من الشّرف التّلي *** د إليك بالرّفد الموافر

فحللت معتلج البطا *** ح و حلّ غيرك بالظواهر(9)

/قال له: إيه، فأنت القائل(10):

فقل لبني أميّة حيث حلّوا *** و إن خفت المهنّد و القطيعا(11)

أجاع اللّه من أشبعتموه *** و أشبع من بجوركم أجيعا

بمرضيّ السياسة هاشميّ *** يكون حيا لأمّته ربيعا

فقال: لا تثريب(12) يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تمحو عنّي قولي الكاذب. قال: بما ذا؟ قال: بقولي الصادق(13):

ص: 13


1- في س: «و باري»، و في المختار: «و بابني خزيمة و بل السماء». و البيت ساقط من أ، ب، و لم يرد في الهاشميات أيضا.
2- حيص: رتق و أصلح. و رعبل الثوب: قطعه و مزقه، أي حفظ من الفتق ما مزقوا.
3- الهاشميات 26، 27.
4- الهاشميات: «و إن».
5- الإلّ: للعهد و الحلف. و الذمام، بكسر الذال: الحق و الحرمة. و في ب: «آل».
6- الهاشميات 91.
7- الجحاجحة: جمع جحجاح؛ و هو السيد العظيم.
8- الواغر: الحاقد.
9- البطاح: جمع بطحاء و أبطح، و هو المسيل الواسع فيه دقاق الحصى.
10- الهاشميات 82.
11- حاشية أ: «القطيع»: السوط.
12- التثريب: اللوم.
13- الهاشميات 93.

أورثته الحصان أمّ هشام *** حسبا ثاقبا و وجها نضيرا

و تعاطى به ابن عائشة البد *** ر فأمسى له رقيبا نظيرا

و كساه أبو الخلائف مروا *** ن سنيّ المكارم المأثورا

لم تجهّم له البطاح و لكن *** وجدتها له مغارا(1) و دورا

إعجاب هشام بشعره و رضاؤه عنه

و كان هشام متّكئا فاستوى جالسا، و قال: هكذا فليكن الشعر - يقولها لسالم بن عبد اللّه بن عمر، و كان إلى جانبه - ثم قال: قد رضيت عنك يا كميت؛ فقبّل يده، و قال: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تزيد في تشريفي، و لا تجعل لخالد عليّ إمارة! قال: قد فعلت. و كتب له بذلك، و أمر له بأربعين ألف درهم و ثلاثين ثوبا هشاميّة.

و كتب إلى خالد أن يخلّي سبيل امرأته و يعطيها عشرين ألفا و ثلاثين ثوبا. ففعل ذلك.

خالد يضربه مائة سوط

و له مع خالد أخبار بعد قدومه الكوفة بالعهد الذي كتب له، منها أنه مرّ به خالد يوما، و قد تحدّث الناس بعزله عن العراق، فلما جاز تمثّل الكميت:

أراها - و إن كانت تحبّ - كأنها *** سحابة صيف عن قليل تقشّع

فسمعه خالد، فرجع و قال: أما و اللّه لا تنقشع حتى يغشاك(2) منها شؤبوب برد. ثم أمر به فجرّد، فضربه مائة سوط، ثم خلّى عنه و مضى. هذه رواية ابن حبيب.

ينذر هشاما بخالد

و قد أخبرني أحمد بن عبد اللّه بن عمّار قال: حدثنا النّوفليّ عليّ بن محمد بن سليمان أبو الحسن، قال:

حدثني أبي، قال:

كان هشام بن عبد الملك قد اتّهم خالد بن عبد اللّه - و كان يقال - إنه يريد خلعك - فوجد بباب هشام يوما رقعة فيها شعر، فدخل بها على هشام فقرئت عليه، و هي(3):

تألّق برق عندنا و تقابلت *** أثاف لقدر الحرب أخشى اقتبالها

فدونك قدر الحرب و هي مقرّة *** لكفّيك و اجعل دون قدر جعالها(4)

/و لن تنتهي أو يبلغ الأمر حدّه *** فنلها برسل قبل ألاّ تنالها(5)

فتجشم منها ما جشمت من التي *** بسوراء هرّت نحو حالك حالها(6)

تلاف أمور الناس قبل تفاقم *** بعقدة حزم لا تخاف انحلالها

ص: 14


1- في س و الهاشميات: «معانا».
2- في أ: «يتغشاك».
3- الهاشميات 89.
4- الجعالة: خرقة تنزل بها القدر.
5- الرسل، بكسر الراء: الرفق و التؤدة.
6- في س: «بسوراء أهدت»، و المثبت من أ، ب، و هرت: صوتت. و سوراء: موضع؛ يقال: هو إلى جنب بغداد. و البيت لم يرد في الهاشميات.

فما أبرم(1) الأقوام يوما لحيلة *** من الأمر إلاّ قلّدوك احتيالها(2)

و قد تخبر الحرب العوان بسرّها *** - و إن لم تبح - من لا يريد سؤالها

فأمر هشام أن يجمع له من بحضرته من الرّواة، فجمعوا. فأمر بالأبيات فقرئت عليهم، فقال: شعر من تشبه هذه الأبيات؟ فأجمعوا جميعا من ساعتهم أنه كلام الكميت بن زيد/الأسديّ، فقال هشام: نعم، هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد اللّه. ثم كتب إلى خالد بخبره، و كتب إليه بالأبيات، و خالد يومئذ بواسط.

هاشميته اللامية

فكتب خالد إلى واليه بالكوفة يأمره بأخذ الكميت و حبسه، و قال لأصحابه: إنه بلغني أنّ هذا يمدح بني هاشم و يهجو بني أمية، فأتوني من شعره هذا بشيء. فأتي بقصيدته اللامية التي أوّلها(3):

ألا هل عم في رأيه متأمّل *** و هل مدبر بعد الإساءة مقبل!

فكتبها و أدرجها في كتاب إلى هشام، يقول: هذا شعر الكميت؛ فإن كان قد صدق في هذا فقد صدق في ذاك.

/فلما قرئت على هشام اغتاظ، فلما قال(4):

فيا ساسة هاتوا لنا من جوابكم(5) *** ففيكم لعمري ذو أفانين مقول

اشتدّ غيظه. فكتب إلى خالد يأمره أن يقطع يدي الكميت و رجليه، و يضرب عنقه و يهدم داره، و يصلبه على ترابها.

ابن عنبسة ينذره ليتخلص من الحبس

فلما قرأ خالد الكتاب كره أن يستفسد عشيرته، و أعلن الأمر رجاء أن يتخلّص الكميت، فقال: لقد كتب إليّ أمير المؤمنين، و إني لأكره أن أستفسد عشيرته، و سمّاه، فعرف عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ما أراد، فأخرج غلاما له مولّدا ظريفا، فأعطاه بغلة له شقراء فارهة من بغال الخليفة، و قال: إن أنت وردت الكوفة، فأنذرت الكميت لعله أن يتخلّص من الحبس، فأنت حرّ لوجه اللّه، و البغلة لك، و لك عليّ بعد ذلك إكرامك و الإحسان إليك.

فركب البغلة و سار بقيّة يومه و ليلته من واسط إلى الكوفة فصبّحها، فدخل الحبس متنكّرا، فخبّر الكميت بالقصة، فأرسل إلى امرأته و هي ابنة عمّه يأمرها أن تجيئه و معها ثياب من لباسها و خفّان، ففعلت، فقال: ألبسيني لبسة النساء، ففعلت، ثم قالت له: أقبل، فأقبل، و أدبر، فأدبر. فقالت: ما أرى إلاّ يبسا في منكبيك، اذهب في حفظ اللّه.

ص: 15


1- في أ، ب: «فما برم»، و المثبت يوافق ما في الهاشميات.
2- في ب: «احتبالها».
3- الهاشميات 66.
4- الهاشميات 68.
5- في الهاشميات: «من حديثكم».

فخرج فمرّ بالسجّان، فظنّ أنه المرأة، فلم يعرض له فنجا، و أنشأ يقول(1).

/خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل *** على الرّغم من تلك النوابح و المشلي(2)

عليّ ثياب الغانيات و تحتها *** عزيمة أمر أشبهت سلّة النّصل

و ورد كتاب خالد على والي الكوفة يأمره فيه بما كتب به إليه هشام، فأرسل إلى الكميت ليؤتى به من الحبس فينفذ فيه أمر خالد، فدنا من باب البيت فكلّمتهم المرأة، و خبّرتهم أنها في البيت(3)، و أنّ الكميت قد خرج؛ فكتب بذلك إلى خالد فأجابه: حرّة كريمة آست ابن عمها بنفسها، و أمر بتخليتها، فبلغ الخبر الأعور الكلبيّ بالشام، فقال قصيدته التي يرمي فيها امرأة الكميت بأهل الحبس، و يقول: أسودين و أحمرينا(4).

هجاؤه أحياء اليمن

فهاج الكميت ذلك حتى قال:

ألا حيّيت عنّا يا مدينا(5)

.

و هي ثلاثمائة بيت لم يترك فيها حيّا من أحياء اليمن إلاّ هجاهم. و توارى، و طلب، فمضى إلى الشام، فقال شعره الذي يقول فيه:

قف بالدّيار وقوف زائر

/في مسلمة بن عبد الملك، و يقول:

يا مسلم ابن أبي(6) الوليد لميّت إن شئت ناشر /اليوم صرت إلى أميّة و الأمور إلى المصاير قال أبو الحسن: قال أبي: إنما أراد اليوم صرت إلى أميّة و الأمور إلى مصايرها؛ أي بني هاشم. و بذلك احتجّ ابنه المستهلّ على أبي العباس حين عيّره بقول أبيه هذا الشعر.

فأذن له ليلا، فسأله أن يجيره على هشام، فقال: إني قد أجرت على أمير المؤمنين فأخفر جواري، و قبيح برجل مثلي أن يخفر في كلّ يوم، و لكنّي أدلّك، فاستجر بمسلمة بن هشام و بأمّه أمّ الحكم(7) بنت يحيى بن الحكم؛ فإن أمير المؤمنين قد رشّحه لولاية العهد.

ص: 16


1- الهاشميات 17.
2- يضرب المثل بقدح ابن مقبل؛ لأنه وصفه بقوله: خروج من الغمّى إذا صكّ صكة بدا و العيون المستكفّة نلمح
3- كذا في الأصول، و المراد بالبيت هنا حجرة السجن و هو مراد الكميت هنا، و مراد عبد الملك فيما كتب به إلى الحجاج.
4- البيت كما في الخزانة 86/1: فما وجدت بنات بني نزار حلائل أسودين و أحمرينا
5- هامش أ: «مدينا»، أراد به «مدينة»، و العرب تقول لابن الأمة: «ابن مدينة»، قال الأخطل: ربت و ربا في كومها ابن مدينة يظل على مسحاته يتركّل («للسان» - مدن).
6- في س: «و بابن أبي الوليد»، و البيت ليس في الهاشميات.
7- حاشية أ: «حكيم» و عليها علامة الصحة.

فقال الكميت: بئس الرّأي! أضيع دمي بين صبيّ و امرأة! فهل غير هذا؟ قال: نعم، مات معاوية ابن أمير المؤمنين و كان يحبّه، و قد جعل أمير المؤمنين على نفسه أن يزور قبره في كل أسبوع يوما - و سمّى يوما بعينه - و هو يزوره في ذلك اليوم، فامض فاضرب بناءك عند قبره، و استجر به، فإني سأحضر معه و أكلّمه بأكثر من الجوار.

استجارته بقبر معاوية بن هشام

ففعل ذلك الكميت في اليوم الذي يأتيه فيه أبوه، فجاء هشام و معه مسلمة، فنظر إلى البناء، فقال لبعض أعوانه: انظر ما هذا، فرجع فقال: الكميت بن زيد مستجير بقبر معاوية ابن أمير المؤمنين. فأمر بقتله، فكلّمه مسلمة و قال: يا أمير المؤمنين، إنّ إخفار الأموات عار على الأحياء، فلم يزل يعظّم عليه الأمر حتى أجاره.

خروج الجعفرية على خالد و هو يخطب و تحريفهم

فحدثنا محمد بن العباس اليزيديّ، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا حجر بن عبد الجبّار، قال:

خرجت الجعفرية على خالد بن عبد اللّه القسريّ و هو يخطب على المنبر و هو لا يعلم بهم، فخرجوا في التبابين(1)، ينادون: لبّيك جعفر، لبّيك جعفر! و عرف خالد خبرهم، و هو يخطب على المنبر، فدهش فلم يعلم ما يقول فزعا، فقال: أطعموني ماء، ثم خرج الناس إليهم فأخذوا، فجعل يجيء بهم إلى المسجد و يؤخذ طنّ(2)قصب فيطلى بالنّفط، و يقال للرجل احتضنه، و يضرب حتى يفعل، ثم يحرق، فحرّقهم جميعا.

تعريضه بخالد

فلما قدم يوسف بن عمر دخل عليه الكميت و قد مدحه بعد قتله زيد بن عليّ، فأنشده قوله فيه:

خرجت لهم تمشي البراح و لم تكن *** كمن حصنه فيه الرّتاج المضبّب(3)

و ما خالد يستطعم الماء فاغرا *** بعدلك و الدّاعي إلى الموت ينعب

الجند يقتلونه تعصبا لخالد

قال: و الجند قيام على رأس يوسف بن عمر، و هم يمانية، فتعصّبوا لخالد، فوضعوا ذباب سيوفهم في بطن الكميت، فوجئوه(4) بها، أ تنشد الأمير و لم تستأمره! فلم يزل الدّم حتى مات.

اعتذاره لهشام من ذنبه

و أخبرني عمّي، قال: حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد اللّه الطلحيّ عن محمد بن سلمة بن أرتبيل، قال:

/لما دخل الكميت بن زيد على هشام، سلّم ثم قال: يا أمير المؤمنين، غائب آب، و مذنب تاب، محا

ص: 17


1- التبابين: جمع تبان، و هو سراويل صغير يكون للملاحين و المصارعين، و تشبه أن تكون البيانيين و هم أتباع بيان فقد ورد في «الطبري» حوادث سنة 119 خروجهم على خالد و تحريقه لهم.
2- طن القصب، بضم الطاء: الحزمة منه.
3- الرتاج: الباب العظيم؛ و المضبب: المغلق.
4- وجئوه: ضربوه.

بالإنابة ذنبه، و بالصّدق كذبه، و التوبة تذهب الحوبة، و مثلك حلم عن ذي الجريمة، و صفح عن ذي الرّيبة.

فقال له هشام: ما الّذي نجّاك من القسريّ؟ قال: صدق النّية في التوبة. قال و من سنّ لك الغيّ و أورطك فيه؟ قال: الذي أغوى آدم فنسي و لم يجد له عزما، فإن رأيت يا أمير المؤمنين - فدتك نفسي - أن تأذن لي بمحو الباطل بالحقّ، بالاستماع لما قلته! فأنشده(1):

/ذكر القلب إلفه المذكورا(2)*** و تلافى من الشباب أخيرا

حدثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدثني أحمد بن بكير الأسديّ، قال: [حدثني محمد بن أنس، قال(3)]: حدثني محمد بن سهل الأسديّ، قال:

ابنه المستهل و عبد الصمد بن علي

دخل المستهلّ بن الكميت على عبد الصمد بن عليّ، فقال له: من أنت؟ فأخبره؛ فقال: لا حيّاك اللّه و لا حيّا أباك، هو الذي يقول:

فالآن صرت إلى أميّة و الأمور إلى المصاير قال: فأطرقت استحياء مما قال، و عرفت البيت. قال: ثم قال لي: ارفع رأسك يا بنيّ، فلئن كان قال هذا، فلقد قال:

بخاتمكم كرها تجوز أمورهم *** فلم أر غصبا مثله حين يغصب(4)

قال: فسلّى بعض ما كان بي، و حادثني ساعة، ثم قال: ما يعجبك من النساء يا مستهلّ؟ قلت:

/غرّاء تسحب من قيام فرعها *** جثلا يزيّنه سواد أسحم(5)

فكأنها فيه نهار مشرق *** و كأنّه ليل عليها مظلم

قال: يا بنيّ؛ هذه لا تصاب إلاّ في الفردوس، و أمر له بجائزة.

شعره يصلح بين هشام و جاريته صدوف

أخبرني عمّي قال: حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدثني إبراهيم بن عبد اللّه الخصّاف الطلحيّ، عن محمد بن أنس السّلاميّ، قال:

كان هشام بن عبد الملك مشغوفا بجارية له يقال لها صدوف مدنيّة(6) اشتريت له بمال جزيل، فعتب عليها ذات يوم في شيء و هجرها، و حلف ألاّ يبدأها بكلام، فدخل عليه الكميت و هو مغموم بذلك، فقال: ما لي أراك

ص: 18


1- الهاشميات 18.
2- في الهاشميات: «إلفه المهجورا».
3- زيادة تقتضيها صحة السند، و انظر ص 29.
4- الهاشميات 40، و في س: «لخاتمكم».
5- الشعر لبكر بن النطاح. الحماسة 70:2 (طبعة الرافعي).
6- كذا في س، و هو الوجه في النسبة إلى مدينة الرسول تفرقة بينها و بين مدينة المنصور، فالنسبة إليها مدينيّ، و في أ: «مدينية».

مغموما يا أمير المؤمنين، لا غمّك اللّه! فأخبره هشام بالقصة، فأطرق الكميت ساعة ثم أنشأ يقول(1):

أعتبت أم عتبت عليك صدوف *** و عتاب مثلك مثلها تشريف

لا تقعدنّ تلوم نفسك دائبا *** فيها و أنت بحبّها مشغوف

إنّ الصريمة لا يقوم بثقلها(2) *** إلاّ القويّ بها، و أنت ضعيف

فقال هشام: صدقت و اللّه، و نهض من مجلسه، فدخل إليها، و نهضت إليه فاعتنقته. و انصرف الكميت، فبعث إليه هشام بألف دينار، و بعثت إليه بمثلها.

وفوده على زيد بن عبد الملك

قال الطلحيّ: أخبرني حبيش بن الكميت أخو المستهلّ بن الكميت بن زيد، قال:

وفد الكميت بن زيد على يزيد بن عبد الملك، فدخل عليه يوما و قد اشتريت له سلاّمة القسّ، فأدخلها إليه و الكميت حاضر فقال له: يا أبا المستهلّ؛ هذه جارية تباع، أ فترى أن نبتاعها؟ قال: إي و اللّه يا أمير المؤمنين؛ و ما أرى أنّ لها مثلا في الدنيا فلا تفوتنّك، قال: فصفها في شعر حتى أقبل رأيك؛ فقال الكميت(3):

شعره في سلامة القس

هي شمس النهار في الحسن إلاّ *** أنها فضّلت بقتل الظّراف

غضّة بضّة رخيم لعوب *** و عثة المتن شختة الأطراف(4)

زانها دلّها و ثغر نقيّ *** و حديث مرتّل غير جافي

/خلقت فوق منية المتمنّي *** فاقبل النّصح يا بن عبد مناف

فضحك يزيد، و قال: قد قبلنا نصحك يا أبا المستهلّ، و أمر له بجائزة سنّية.

لقاؤه بالفرزدق و هو صبي

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ، قال: أخبرني إبراهيم بن أيوب، عن ابن قتيبة، قال:

مرّ الفرزدق بالكميت و هو ينشد - و الكميت يومئذ صبيّ - فقال له الفرزدق: يا غلام، أ يسرّك أني أبوك؟ فقال:

لا، و لكن يسرّني أن تكون أمّي! فحصر(5) الفرزدق، فأقبل على جلسائه و قال: ما مرّ بي مثل هذا قط.

إنشاده أبا عبد اللّه جعفر بن محمد

أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمدانيّ بن عقدة، قال: أخبرنا عليّ بن محمد/الحسينيّ، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عيسى الحمّال، قال: حدثنا مصبّح بن الهلقام، قال: حدثنا محمد بن سهل صاحب الكميت:

قال:

ص: 19


1- الهاشميات 94.
2- في ب: «بمثلها» و المثبت ما في الهاشميات.
3- الهاشميات 94.
4- المتن: الظهر. و وعثة: سمينة. شختة الأطراف: ضامرتها لا هزالا.
5- الحصر، بالتحريك: العي في المنطق.

دخلت مع الكميت على أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عليهما السّلام، فقال له: جعلت فداك! أ لا أنشدك؟ قال:

إنها أيام عظام، قال: إنها فيكم، قال: هات - و بعث أبو عبد اللّه إلى بعض أهله فقرب - فأنشده، فكثر البكاء حتى أتى على هذا البيت(1):

يصيب به الرّامون عن قوس غيرهم *** فيا آخرا سدّى له الغيّ أوّل(2)

فرفع أبو عبد اللّه - عليه السّلام - يديه فقال: اللهم اغفر للكميت ما قدّم و ما أخّر، و ما أسرّ و ما أعلن، و أعطه حتى يرضى.

إنشاده أبا جعفر محمد بن علي

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة قال: قال محمد بن كناسة: حدثني صاعد مولى الكميت، قال:

دخلنا على أبي جعفر محمد بن عليّ - عليهما السّلام - فأنشده الكميت قصيدته التي أولها:

من لقلب متيّم مستهام؟

فقال: اللهم اغفر للكميت، اللهم اغفر للكميت.

قبوله كسوة أبي جعفر و رده المال

قال: و دخلنا يوما على أبي جعفر محمد بن عليّ، فأعطانا ألف دينار و كسوة، فقال له الكميت: و اللّه ما أحببتكم للدنيا، و لو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، و لكني أحببتكم للآخرة؛ فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها، و أمّا المال فلا أقبله، فردّه و قبل الثياب.

فاطمة بنت الحسين تحتفي به

قال: و دخلنا على فاطمة بنت الحسين - عليهما السّلام - فقالت: هذا شاعرنا أهل البيت، و جاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها و سقت الكميت، فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينارا و مركب، فهملت عيناه، و قال: لا و اللّه لا أقبلها؛ إني لم أحبّكم للدنيا.

احتجاج بني أسد على المستهل بن الكميت ببيت لأبيه

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ، قال: أخبرني عمّي، عن عبيد اللّه بن محمد بن حبيب، عن ابن كناسة، قال:

لما جاءت المسوّدة سخروا(3) بالمستهلّ بن الكميت، و حملوا عليه حملا ثقيلا، و ضربوه، فمرّ ببني أسد، فقال: أ ترضون أن يفعل بي هذا الفعل؟ قالوا له: هؤلاء الذين يقول أبوك فيهم(4):

ص: 20


1- الهاشميات 71.
2- في الهاشميات: أسدى.
3- أ: «سجروا» تحريف.
4- الهاشميات 22.

و المصيبون باب ما أخطأ النّا *** س و مرسو قواعد الإسلام(1)

قد أصابوا فيك، فلا نكذب أباك.

المستهل و أبو مسلم

قال: و دخل المستهلّ على أبي مسلم، فقال له: أبوك الذي كفر بعد إسلامه، فقال: كيف و هو الذي يقول:

بخاتمكم كرها تجوز أمورهم(2) *** فلم أر غصبا مثله حين يغصب

فأطرق أبو مسلم مستحييا منه.

المستهل يشكو إلى أبي جعفر

أخبرني عمّي، قال: حدثنا محمد بن سعد الكرانيّ، قال: حدثنا الحسن بن بشر السّعديّ، قال:

/أخذ العسس المستهلّ بن الكميت في أيام جعفر، و كان/الأمر صعبا، فحبس، فكتب إلى أبي جعفر يشكو حاله، و كتب في آخر الرّقعة:

لئن نحن خفنا في زمان عدوّكم *** و خفناكم إنّ البلاء لراكد

فلما قرأها أبو جعفر قال: صدق المستهلّ، و أمر بتخليته.

خبر لدعبل في رؤياه النسبي

حدثني عليّ بن محمد بن عليّ إمام مسجد الكوفة، قال: أخبرنا إسماعيل بن عليّ الخزاعيّ - ابن أخي دعبل - قال: حدثني عمّي دعبل بن عليّ قال:

رأيت النبيّ، صلّى اللّه عليه و سلم، في النوم، فقال لي: ما لك و للكميت بن زيد؟ فقلت: يا رسول اللّه، ما بيني و بينه إلاّ كما بين الشعراء، فقال: لا تفعل، أ ليس هو القائل:

فلا زلت فيهم حيث يتّهمونني *** و لا زلت في أشياعهم أتقلّب

فإنّ اللّه قد غفر له بهذا البيت. قال: فانتهيت عن الكميت بعدها.

خبر لسعد الأسدي في رؤياه النبي

حدثني عليّ بن محمد، قال: حدثني إسماعيل بن عليّ، قال: حدثني إبراهيم بن سعد الأسديّ، قال:

سمعت أبي يقول: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في المنام، فقال: من أيّ الناس أنت؟ قلت: من العرب، قال:

أعلم، فمن أيّ العرب؟ قلت: من بني أسد، قال: من أسد بن خزيمة؟ قلت: نعم، قال لي: أ هلاليّ أنت؟ قلت:

نعم، قال: أ تعرف الكميت بن زيد؟ قلت: يا رسول اللّه، عمّي و من قبيلتي، قال: أ تحفظ من شعره شيئا؟ قلت:

نعم، قال: أنشدني(3):

طربت و ما شوقا إلى البيض أطرب

ص: 21


1- في الهاشميات: «و المصيبين... و مرسي».
2- في ط: «لخاتمكم»، و المثبت من أ، ب و الهاشميات.
3- الهاشميات 36، و بقية البيت: و لا لعبا مني و ذو الشّوق يلعب

/قال: فأنشدته حتى بلغت إلى قوله(1):

فما لي إلاّ آل أحمد شيعة *** و ما لي إلاّ مشعب الحقّ مشعب

فقال لي: إذا أصبحت فاقرأ عليه السلام، و قل له: قد غفر اللّه لك بهذه القصيدة.

نصر بن مزاحم يراه في نومه ينشد بين يدي النبي

وجدت في كتاب بخط المرهبيّ الكوفيّ: حدّثني سليمان بن الربيع بن هشام النهديّ(2) الخراز، قال:

حدثني نصر بن مزاحم المنقريّ، أنّه رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في النوم و بين يديه رجل ينشده:

من لقلب متيّم مستهام؟(3)

قال: فسألت عنه، فقيل لي: هذا الكميت بن زيد الأسديّ، قال: فجعل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم يقول له: جزاك اللّه خيرا! و أثنى عليه.

نقد الفرزدق شعره

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدثني أحمد بن بكير الأسديّ، قال: حدثني محمد بن أنس السّلاميّ، قال: حدثني محمد بن سهل راوية الكميت، قال:

جاء الكميت إلى الفرزدق لما قدم الكوفة، فقال له: إني قد قلت شيئا فأسمعه مني يا أبا فراس. قال: هاته، فأنشده قوله(4).

/طربت و ما شوقا إلى البيض أطرب *** و لا لعبا مني و ذو الشيب يلعب(5)

و لكن إلى أهل الفضائل و النّهى *** و خير بني حوّاء و الخير يطلب

فقال له: قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فما نطرب، و لا طرب من كان قبلنا إلاّ إلى ما تركت أنت الطرب إليه.

يعرض شعره على الفرزدق قبل إذاعته

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثنا محمد بن عليّ النّوفليّ، قال: سمعت أبي يقول:

لما قال الكميت بن زيد الشعر كان أول ما قال الهاشميّات، فسترها، ثم أتى الفرزدق بن غالب، فقال له:

يا أبا فراس، إنك شيخ مضر و شاعرها، و أنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسديّ. قال له: صدقت، أنت ابن أخي، فما/حاجتك؟ قال: نفث على لساني(6) فقلت شعرا، فأحببت أن أعرضه عليك؛ فإن كان حسنا أمرتني بإذاعته، و إن

ص: 22


1- الهاشميات 39.
2- في ب: «السمري».
3- في أ: مشتاق، و بقيته: غير ما صبوة و لا أحلام
4- الهاشميات 36.
5- حاشية أ: «و ذو الشوق»، و عليها علامة الصحة، و هي رواية لهاشميات.
6- نفث على لساني: أوحى إليّ بالشعر.

كان قبيحا أمرتني بستره، و كنت أولى من ستره عليّ. فقال له الفرزدق: أمّا عقلك فحسن، و إني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني ما قلت، فأنشدته:

طربت و ما شوقا إلى البيض أطرب(1)

قال: فقال لي: فيم تطرب يا بن أخي؟ فقال:

و لا لعبا مني و ذو الشيب يلعب

فقال: بلى يا بن أخي، فالعب، فإنك في أوان اللعب، فقال:

و لم يلهني دار و لا رسم منزل *** و لم يتطرّبني بنان مخضّب

/فقال: ما يطربك يا بن أخي؟ فقال:

و لا السانحات البارحات عشية *** أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضب؟

فقال: أجل، لا تتطيّر، فقال:

و لكن إلى أهل الفضائل و النّهى *** و خير بني حوّاء و الخير يطلب

فقال: و من هؤلاء؟ ويحك! فقال:

إلى النّفر البيض الّذين بحبّهم *** إلى اللّه فيما نابني أتقرّب

قال: أرحني ويحك! من هؤلاء؟ قال:

بني هاشم رهط النبيّ فإنني *** بهم و لهم أرضى مرارا و أغضب

خفضت لهم منّي جناحي مودّة *** إلى كنف عطفاه؛ أهل و مرحب

و كنت لهم من هؤلاء و هؤلا *** محبّا(2)، على أنّي أذمّ و أقصب(3)

و أرمى و أرمي بالعداوة أهلها *** و إني لأوذى فيهم و أؤنّب

فقال له الفرزدق: بابن أخي، أذع ثم أذع؛ فأنت و اللّه أشعر من مضى، و أشعر من بقى.

معارضته قصيدة لذي الرمة

أخبرني الحسن، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدثني أحمد بن بكير، قال: حدثني محمد بن أنس، قال: حدثني محمد بن سهل راوية الكميت عن الكميت، قال:

لم قدم ذو الرّمة أتيته فقلت له: إني قد قلت قصيدة عارضت بها قصيدتك:

/ما بال عينك منها الماء ينسكب(4)

فقال لي: و أيّ شيء قلت؟ قال: قلت:

ص: 23


1- الهاشميات 36.
2- الهاشميات: «مجنّا».
3- في س: «و أعضب». و قصبه، أي عابه و شتمه، و المثبت ما في الهاشميات.
4- ديوانه أ، و تمامه: كأنه من كلى مفريّة سرب

هل أنت عن طلب الأيفاع(1) منقلب *** أم كيف يحسن من ذي الشّيبة اللّعب؟!

حتى أنشدته إياها، فقال لي: ويحك! إنك لتقول قولا ما يقدر إنسان أن يقول لك أصبت و لا أخطأت، و ذلك أنك تصف الشيء فلا تجيء به، و لا تقع بعيد منه، بل تقع قريبا. قلت له: أو تدري لم ذلك؟ قال: لا، قلت:

لأنك تصف شيئا رأيته بعينك، و أنا أصف شيئا وصف لي، و ليست المعاينة كالوصف. قال: فسكت(2).

علمه بالبادية عن وصف جدتيه

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدثني إسماعيل بن عبد اللّه الطلحيّ، عن محمد بن سلمة بن أرتبيل، عن حمّاد الراوية، قال:

كانت للكميت جدّتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية و أمورها و تخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شكّ في شعر أو خبر عرضه عليهما فيخبرانه عنه، فمن هناك كان علمه.

أخبرني الحسن بن القاسم البجليّ/الكوفيّ، قال: حدثنا عليّ بن إبراهيم بن المعلّى، قال: حدثنا محمد بن فضيل - يعني الصّيرفيّ - عن أبي بكر الحضرميّ، قال:

/استأذنت للكميت على أبي جعفر محمد بن عليّ - عليهما السلام - في أيام التّشريق بمنى، فأذن له، فقال له الكميت: جعلت فداك! إنّي قلت فيكم شعرا أحبّ أن أنشدكه. فقال: يا كميت، اذكر اللّه في هذه الأيام المعلومات، و في هذه الأيام المعدودات، فأعاد عليه الميت القول، فرقّ له أبو جعفر - عليه السّلام - فقال:

هات، فأنشده قصيدته حتى بلغ(3):

يصيب به الرّامون عن قوس غيرهم *** فيا آخرا سدّى له الغيّ أوّل(4)

فرفع أبو جعفر يديه إلى السماء و قال: اللهم اغفر للكميت.

استئذانه أبا جعفر في مدح بني أمية

أخبرني جعفر بن محمد بن مروان الغزّال الكوفيّ، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أرطاة بن حبيب، عن فضيل الرّسّان، عن ورد بن زيد أخي الكميت، قال:

أرسلني الكميت إلى أبي جعفر، فقلت له: إن الكميت أرسلني إليك، و قد صنع بنفسه ما صنع، فتأذن له أن يمدح بني أمية؟ قال: نعم، هو في حلّ فليقل ما شاء.

أخبرني محمد بن العباس، قال: أخبرني عمّي عن عبيد اللّه بن محمد بن حبيب، عن ابن كناسة، قال:

مات ورد أخو الكميت، فقيل للكميت: أ لا ترثي أخاك؟ فقال: مرثيته و مرزيته عندي سواء، و إني لا أطيق أن أرثيه جزعا عليه.

ص: 24


1- الأيفاع: يريد بالأيفاع الكواعب التي شارفت البلوغ.
2- الموشح 307، و الأغاني 348:1.
3- الهاشميات 71.
4- انظر الحاشية رقم 2 ص 24.
روايته للحديث

و قد روى الكميت بن زيد الحديث، و روي عنه.

أخبرني جعفر بن محمد بن عبيد بن عتبة في كتابه إليّ، قال: حدثني/الحسين بن محمد بن عليّ الأزديّ، قال: حدثني الوليد بن صالح، قال: حدثني محمد بن سعيد بن عمير الصّيداويّ، عن أبيه، عن الكميت بن زيد، قال:

حدثني عكرمة أنّ عبد اللّه بن عبّاس بعثه مع الحسين بن عليّ - عليهما السّلام - فجعل يهلّ(1) حتى رمى جمرة العقبة، أو حين رمى جمرة العقبة، فسألته عن ذلك، فأخبرني أنّ أباه فعله، فحدّثت به ابن عباس، فقال لي: لا أمّ لك! أ تسألني عن شيء أخبرك به الحسين بن علي عن أبيه! و اللّه إنها لسنّة.

أخبرنا أبو الحسن بن سراج الجاحظ، قال: حدثنا مسروق بن عبد الرحمن أبو صالح، عن الحسن بن محمد بن أعين، عن حفص بن محمد الأسدي، قال: حدثنا الكميت بن زيد عن مذكور مولى زينب، عن زينب، قالت:

دخل عليّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و أنا فضل(2)، قالت: فقلت بيدي هكذا - و استترت - قالت: فقال لي: إنّ اللّه عزّ و جلّ زوّجنيك.

روايته للتفسير

حدثني أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، قال: حدثني أحمد بن سراج، قال: حدثني الحسن بن أيوب الخثعميّ، قال: حدثنا فرات بن حبيب الأسديّ قال: حدثني أبي حبيب بن أبي سليمان، قال:

حدثني الكميت بن زيد، قال: سألت أبا جعفر عن قول اللّه عزّ و جلّ: /إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرٰادُّكَ إِلىٰ مَعٰادٍ (3). قال: دخلت أنا و أبي إلى أبي سعيد الخدريّ، فسأله أبي عنها، فقال: معاد آخرته: الموت.

يعتذر إلى أبي جعفر محمد بن علي

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني إسحاق بن محمد بن أبان، قال: حدثني محمد بن عبد اللّه بن مهران، قال: حدثني ربعيّ بن عبد اللّه بن الجارود بن أبي سبرة، عن أبيه، قال:

دخل الكميت بن زيد الأسديّ على أبي جعفر محمد بن عليّ، عليهما السلام، فقال له: يا كميت! أنت القائل:

/فالآن صرت إلى أميّة *** و الأمور إلى المصاير

قال: نعم، قد قلت، و لا و اللّه ما أردت به إلاّ الدنيا، و لقد عرفت فضلكم، قال: أما أن قلت ذلك فإنّ التقيّة لتحلّ.

ص: 25


1- يهل: يرفع صوته.
2- فضل، أي في ثوب واحد؛ و في أ: «أصلي».
3- سورة القصص 85.
رأي معاذ الهراء في شعره

أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الرّبعيّ، قال:

حدثنا أحمد بن بكير الأسديّ قال: حدثنا محمد بن أنس السّلامي الأسديّ قال:

سئل معاذ الهرّاء: من أشعر الناس؟ قال: أ من الجاهليين أم من الإسلاميين؟ قالوا: بل من الجاهليين. قال:

امرؤ القيس، و زهير، و عبيد بن الأبرص. قالوا: فمن الإسلاميين؟ قال: الفرزدق، و جرير، و الأخطل، و الرّاعي.

قال: فقيل له: يا أبا محمد، ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت. قال: ذاك أشعر الأوّلين و الآخرين.

لم يخرج مع زيد بن علي

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلاّبيّ، قال: حدثنا العباس بن بكّار، قال: حدثنا أبو بكر الهذليّ، قال:

/لمّا خرج زيد بن عليّ كتب إلى الكميت: اخرج معنا يا أعيمش، أ لست القائل(1):

ما أبالي - إذا حفظت أبا القا *** سم - فيكم ملامة اللوّام

فكتب إليه الكميت:

تجود لكم نفسي بما دون وثبة *** تظلّ لها الغربان حولي تحجل

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ، قال: حدثني عمّي عن عبيد اللّه بن محمد بن حبيب، عن محمد بن كناسة، قال:

لما أنشد هشام بن عبد الملك قول الكميت(2):

فبهم صرت للبعيد ابن عمّ *** و اتّهمت القريب أيّ اتّهام

مبدئا صفحتي على الموقف المعلم، باللّه قوّتي و اعتصامي(3)قال: استقتل المرائي.

مدحه خالد القسري

قال: و دخل الكميت على خالد القسريّ، فأنشده قوله فيه(4):

لو قيل للجود: من حليفك؟ ما *** إن كان إلاّ إليك ينتسب

أنت أخوه و أنت صورته *** و الرأس منه، و غيرك الذّنب

أحرزت فضل النّضال في مهل *** فكلّ يوم بكفّك القصب

لو أنّ كعبا و حاتما نشرا *** كانا جميعا من بعض ما تهب

ص: 26


1- الهاشميات 33.
2- الهاشميات 33.
3- الهاشميات: «عزتي».
4- الهاشميات 90.

/لا تخلف الوعد إن وعدت و لا *** أنت عن المعتفين تحتجب

ما دونك اليوم من نوال، و لا *** خلفك للراغبين منقلب(1)

فأمر له بمائة ألف درهم.

المستهل و عيسى بن موسى

قال: و حضر المستهلّ بن الكميت باب عيسى بن موسى - و كان يكرمه - فبلغه أنه قد غلب عليه الشراب، فاستخفّ به، و كان آخر من يدخل إلى عيسى بن موسى قوم يقال لهم الرّاشدون يؤذن لهم في القعود، فأدخل المستهلّ معهم، فقال:

أ لم تر أنّي لما حضرت *** دعيت فكنت مع الرّاشدينا

ففزت بأحسن أسمائهم *** و أقبح منزلة الدّاخلينا

إنشاده مخلد بن يزيد بن المهلب

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال:

دخل الكميت على مخلد بن/يزيد بن المهلب، فأنشده(2):

قاد الجيوش لخمس عشرة حجّة *** و لداته عن ذاك في أشغال(3)

قعدت بهم همّاتهم و سمت به *** همم الملوك و سورة الأبطال

قال: و قدّام مخلد دراهم يقال لها الرّويجة، فقال: خذ وقرك(4) منها. فقال له: البغلة بالباب، و هي أجلد منّي، فقال: خذ وقرها، فأخذ أربعة و عشرين ألف درهم، فقيل لأبيه في ذلك، فقال: لا أردّ مكرمة فعلها ابني.

إذا قال أحب أن يحسن

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني أبو بكر الأمويّ، قال: حدثنا ابن فضيل، قال:

/سمعت ابن شبرمة، قال: قلت للكميت: إنك قلت في بني هاشم فأحسنت، و قلت في بني أمية أفضل، قال: إني إذا قلت أحببت أن أحسن.

طويل أصم لا يجيد الإنشاد

أخبرني الحسن بن عليّ و محمد بن عمراه الصيرفيّ، قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدثنا محمد بن معاوية، عن ابن كناسة، قال:

كان الكميت بن زيد طويلا أصمّ، و لم يكن حسن الصوت و لا جيّد الإنشاد، فكان إذا استنشد أمر ابنه المستهلّ فأنشد، و كان فصيحا حسن الإنشاد(5).

ص: 27


1- في أ: «مطّلب».
2- الهاشميات 88.
3- لداته: أنداده.
4- الوقر، بالكسر: الحمل الثّقيل.
5- انظر الأغاني 321:10، و المختار 287:6.
سبب هجائه أهل اليمن
اشارة

أخبرني عمي و ابن عمار، قالا: حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد اللّه الطلحيّ، عن محمد بن سلمة بن أرتبيل:

أنّ سبب هجاء الكميت أهل اليمن، أنّ شاعرا من أهل الشام يقال له حكيم بن عيّاش الكلبيّ كان يهجو عليّ بن أبي طالب - عليه السّلام - و بني هاشم جميعا، و كان منقطعا إلى بني أمية، فانتدب له الكميت فهجاه و سبّه، فأجابه و لجّ الهجاء بينهما، و كان الكميت يخاف أن يفتضح في شعره عن عليّ - عليه السّلام - لما وقع بينه و بين هشام، و كان يظهر أنّ هجاءه إياه في العصبية التي بين عدنان و قحطان، فكان ولد إسماعيل بن الصبّاح بن الأشعث ابن قيس و ولد علقمة بن وائل الحضرميّ يروون(1) شعر الكلبيّ، فهجا أهل اليمن جميعا إلاّ هذين، فإنه قال في آل علقمة:

و لو لا آل علقمة اجتدعنا *** بقايا من أنوف مصلّمينا(2)

/و قال في إسماعيل:

فإنّ لإسماعيل حقّا، و إننا *** له شاعبو الصّدع المقارب للشّعب

و كانت لآل علقمة عنده يد؛ لأنّ علقمة آواه ليلة خرج إلى الشّام، و أمّ إسماعيل من بني أسد، فكفّ عنهما لذلك.

قال الطلحيّ: قال أبو سلمة: حدثني محمد بن سهل، قال: قال الكلبيّ:

ما سرّني أنّ أمّي من بني أسد *** و أنّ ربّي نجّاني من النار

و أنهم زوّجوني من بناتهم *** و أنّ لي كل يوم ألف دينار

فأجابه الكميت:

يا كلب مالك أمّ من بني أسد *** معروفة فاحترق يا كلب بالنار

لكنّ أمّك من قوم شنئت بهم *** قد قنّعوك قناع الخزي و العار

قال: فقال له الكلبي:

/لن يبرح اللّؤم هذا الحيّ من أسد *** حتى يفرّق بين السّبت و الأحد(3)

قال محمد بن أنس: حدثني المستهلّ بن الكميت، قال: قلت لأبي: يا أبت، إنك هجوت الكلبيّ، فقلت:

ألا يا سلم يا تربي(4) *** أ في أسماء من ترب؟

و غمزت عليه فيها، ففخرت ببني أمية، و أنت تشهد عليها بالكفر، فألا فخرت بعليّ و بني هاشم الذين

ص: 28


1- في أ: «يردّون».
2- الشعر و الشعراء 509، 510.
3- في أ: «حتى أفرق».
4- انظر «م».

تتولاّهم! فقال: يا بنيّ، أنت تعلم انقطاع الكلبيّ إلى بني أمية، و هم أعداء عليّ عليه السّلام، فلو ذكرت عليّا لترك /ذكري، و أقبل على هجائه، فأكون قد عرّضت عليّا له، و لا أجد له ناصرا من بني ففخرت عليه ببني أمية، و قلت: إن نقضها عليّ قتلوه، و إن أمسك عن ذكرهم قتلته غمّا و غلبته؛ فكان كما قال، أمسك الكلبيّ عن جوابه، فغلب عليه، و أفحم الكلبيّ.

و في أول هذه القصيدة غناء نسبته.

صوت

ألا يا سلم يا تربي(1) *** أ في أسماء من ترب؟

ألا يا سلم حيّيت *** سلي عنّي و عن صحبي

ألا يا سلم غنّينا *** و إن هيّجتما حبّي

على حادثة الأيا *** م لي نصبا من النّصب(2)

الغناء لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن عمرو.

يحاول إطلاق سراح أبان بن الوليد البجلي

أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: أخبرني أبو سعيد السّكّريّ، عن محمد بن حبيب، عن إبراهيم بن عبد اللّه الطلحيّ، قال: قال محمد بن سلمة:

كان الكميت مدّاحا لأبان بن الوليد البجليّ، و كان أبان له محبّا و إليه محسنا، فمدح الكميت الحكم بن الصّلت، و هو يومئذ يخلف يوسف بن عمر، بقصيدته التي أولها:

طربت و هاجك الشوق الحثيث

فلما أنشده إياها و فرغ، دعا الحكم بخازنه ليعطيه الجائزة، ثم دعا بأبان بن الوليد، فأدخل إليه و هو مكبّل بالحديد، فطالبه بالمال، فالتفت الكميت/فرآه، فدمعت عيناه، و أقبل على الحكم، فقال: أصلح اللّه الأمير! اجعل جائزتي لأبان، و احتسب بها له من هذا النّجم. فقال له الحكم: قد فعلت، ردّوه إلى السجن. فقال له أبان:

يا أبا المستهلّ، ما حلّ له عليّ شيء بعد. فقال الكميت للحكم: أبي تسخر أصلح اللّه الأمير! فقال الحكم: كذب، قد حلّ عليه المال، و لو لم يحلّ لاحتسبنا له مما يحلّ.

تعريضه بحوشب بن يزيد الشيباني

فقال له حوشب بن يزيد الشيباني - و كان خليفة الحكم -: أصلح اللّه الأمير، أ تشفّع حمار بني أسد في عبد بجيلة؟ فقال له الكميت: لئن قلت ذاك فو اللّه ما فررنا عن آبائنا حتى قتلوا، و لا نكحنا حلائل آبائنا بعد أن ماتوا - و كان يقال إنّ حوشبا فرّ عن أبيه في بعض الحروب، فقتل أبوه و نجا هو، و يقال: إنه وطئ جارية لأبيه بعد وفاته - فسكت حوشب مفحما خجلا، فقال له الحكم: ما كان تعرّضك للسان الكميت!.

ص: 29


1- انظر «م».
2- غناء يشبه الحداء إلا أنه أرق منه.

قال: و في حوشب يقول الشاعر:

نجّى حشاشته و أسلم شيخه *** لمّا رأى وقع الأسنّة حوشب

ابنته ريا و فاطمة بنت أبان بن الوليد

/قال الطّلحيّ في هذه الخبر: و حدثني إبراهيم بن علي الأسديّ قال:

التقت ريّا بنت الكميت بن زيد، و فاطمة بنت أبان بن الوليد بمكة، و هما حاجّتان، فتساءلتا حتى تعارفتا، فدفعت بنت أبان إلى بنت الكميت خلخالي ذهب كانا عليها، فقالت لها بنت الكميت: جزاكم اللّه خيرا يا آل أبان، فما تتركون برّكم بنا قديما و لا حديثا! فقالت لها بنت أبان: بل أنتم، فجزاكم اللّه خيرا؛ فإنّا أعطيناكم ما يبيد و يفنى، و أعطيتمونا من المجد و الشرف ما يبقى أبدا و لا يبيد، يتناشده الناس في المحافل فيحيي ميّت الذكر، و يرفع بقية العقب.

مولده و موته و مبلغ شعره

أخبرني عمي و ابن عمّار، قالا: حدثنا يعقوب بن نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن زيد الخصّاف الطلحيّ، قال: قال محمد بن سلمة بن أرتبيل:

ولد الكميت أيام مقتل الحسين بن عليّ سنة ستين، و مات في سنة ستّ و عشرين و مائة، في خلافة مروان بن محمد، و كان مبلغ شعره حين مات خمسة آلاف و مائتين و تسعة و ثمانين بيتا.

و قال يعقوب بن إسرائيل في رواية عمّي خاصة عنه: حدّثت عن المستهلّ بن الكميت أنه قال: حضرت أبي عند الموت و هو يجود بنفسه، ثم أفاق ففتح عينيه، ثم قال: اللهمّ آل محمد، اللهم آل محمد، اللهم آل محمد - ثلاثا - قال لي: يا بنيّ؛ وددت أني لم أكن هجوت نساء بني كلب بهذا البيت:

مع العضروط و العسفاء ألقوا *** برادعهنّ غير محصّنينا(1)

وصيته لابنه في دفنه
اشارة

فعممتهنّ قذفا بالفجور، و اللّه ما خرجت بليل قطّ إلاّ خشيت أن أرمى بنجوم السماء لذلك. ثم قال: يا بنيّ؛ إنه بلغني في الروايات أنه يحفر بظهر الكوفة خندق يخرج فيه الموتى من قبورهم و ينبشون منها، فيحوّلون إلى قبور غير قبورهم، فلا تدفنّي في الظهر، و لكن إذا متّ فامض بي إلى موضع يقال له مكران، فادفنّي فيه. فدفن في ذلك الموضع و كان أول من دفن فيه، هي مقبرة بني أسد إلى الساعة.

قال المستهلّ: و مات أبي في خلافة مروان بن محمد سنة ستّ و عشرين و مائة.

صوت
شعر لعمر بن أبي ربيعة:

أستعين الذي بكفّيه نفعي *** و رجائي على الّتي قتلتني

و لقد كنت قد عرفت و أبصر *** ت أمورا لو أنّها نفعتني

ص: 30


1- العضروط: لخادم على طعام بطنه، و العسيف: الأجير أو العبد المستعان به، و جمعه عسفاء، و في أ: «براذعهن». و هما بمعنى.

قلت: إني أهوى شفا ما ألاقي *** من خطوب تتابعت فدحتني

عروضه من السريع(1)، يقال: إن الشعر العمر، و الغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى، عن حمّاد عن أبيه، و فيه لحن للهذليّ. و قيل: بل لحن ابن سريج للهذليّ، ذكر ذلك حبش. و قيل: بل هو مما نسب من غناء ابن سريج إلى الهذليّ.

ص: 31


1- كذا في أصول الأغاني، و البيت عروضه من البحر الخفيف.

2 - خبر ابن سريج مع سكينة بنت الحسين عليهما السّلام

اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن مصعب الزّبيريّ، قال: حدثني شيخ من المكيّين، و وجدت هذا الخبر أيضا في بعض الكتب مرويّا عن محمد بن سعد كاتب الواقدي، عن مصعب، عن شيخ من المكيّين، و الرواية عنهما متّفقة، قال:

امتناعه من الغناء و قدومه المدينة للاستشفاء

كان ابن سريج قد أصابته/الريح الخبيثة، و آلى يمينا ألاّ يغنّي، و نسك و لزم المسجد الحرام حتى عوفي. ثم خرج و فيه بقيّة من العلّة، فأتى قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و موضع مصلاّه.

فلما قدم المدينة نزل على بعض إخوانه من أهل النّسك و القراءة، فكان أهل الغناء يأتونه مسلّمين عليه، فلا يأذن لهم في الجلوس و المحادثة، فأقام بالمدينة حولا حتى لم يحسّ من علّته بشيء، و أراد الشخوص إلى مكة.

سكينة ترغب في الاستماع منه

و بلغ ذلك سكينة بنت الحسين، فاغتمّت اغتماما شديدا، و ضاق به ذرعها، و كان أشعب يخدمها، و كانت تأنس بمضاحكته و نوادره، و قالت لأشعب: ويلك! إنّ ابن سريج شخص، و قد دخل المدينة منذ حول، و لم أسمع من غنائه قليلا و لا كثيرا، و يعزّ ذلك عليّ، فكيف الحيلة في الاستماع منه، و لو صوتا واحدا؟ فقال لها أشعب:

جعلت فداك! و أنّى لك بذلك و الرجل اليوم زاهد و لا حيلة فيه؟ فارفعي طمعك، و الحسي تورك(1) تنفعك حلاوة فمك.

/فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت أن تخرج أمعاؤه، و خنقنه حتى كادت نفسه أن تتلف، ثم أمرت به فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجا عنيفا. فخرج على أسوإ الحالات، و اغتمّ أشعب غمّا شديدا، و ندم على ممازحتها في وقت لم ينبغ له ذلك؛ فأتى منزل ابن سريج ليلا فطرقه، فقيل: من هذا؟ فقال:

أشعب، ففتحوا له، فرأى على وجهه و لحيته التراب، و الدّم سائلا من أنفه و جبهته على لحيته، و ثيابه ممزّقة، و بطنه و صدره و حلقه قد عصرها الدّوس و الخنق، و مات الدم فيها، فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله و راعه، فقال له:

ما هذا ويحك؟ فقصّ عليه القصة.

امتناعه من الذهاب إليها

فقال ابن سريج: إنا للّه و إنا إليه راجعون! ما ذا نزل بك؟ و الحمد للّه الذي سلّم نفسك، لا تعودنّ إلى هذه

ص: 32


1- في بعض النسخ: و امسحي بوزك. و المثبت في (ج) و التّور بالفتح: إناء يشرب فيه.

أبدا. قال أشعب: فديتك هي مولاتي و لا بدّ لي منها، و لكن هل لك حيلة في أن تصير إليها و تغنّيها؛ فيكون ذلك سببا لرضاها عني؟ قال ابن سريج: كلاّ و اللّه لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته.

قال أشعب: قد قطعت أملي و رفعت رزقي، و تركتني حيران بالمدينة، لا يقبلني أحد و هي ساخطة عليّ، فاللّه اللّه فيّ، و أنا أنشدك إلاّ تحمّلت هذا الإثم فيّ، فأبى عليه.

حيلة أشعب لإرغامه

فلما رأى أشعب أنّ عزم ابن سريج قد تمّ على الامتناع قال في نفسه: لا حيلة لي، و هذا خارج، و إن خرج هلكت، فصرخ صرخة آذن أهل المدينة لها، و نبّه الجيران من رقادهم، و أقام الناس من فرشهم، ثم سكت، فلم يدر الناس ما القصّة عند خفوت الصّوت بعد أن قد راعهم.

فقال له ابن سريج: ويلك! ما هذا؟ قال: لئن لم تصر معي إليها/لأصرخنّ أخرى لا يبقى بالمدينة أحد إلاّ صار بالباب، ثم لأفتحنّه و لأرينّهم ما بي، و لأعلمنّهم أنك أردت تفعل كذا و كذا بفلان - يعني غلاما كان ابن سريج مشهورا به - فمنعتك، و خلّصت الغلام من يدك حتى فتح الباب و مضى؛ ففعلت بي هذا غيظا و تأسّفا، و أنك إنما أظهرت النّسك و القراءة لتظفر بحاجتك منه، و كان أهل مكة و المدينة يعلمون حاله معه. فقال ابن سريج:

اغرب، أخزاك اللّه. قال أشعب: و اللّه الذي لا إله إلا هو، و إلا فما أملك صدقة(1)، و امرأته طالق(2) ثلاثا، و هو نحير(3) في مقام إبراهيم، و الكعبة، و بيت النار، و القبر قبر أبي رغال(4) إن أنت/لم تنهض معي في ليلتي هذه لأفعلنّ.

قبوله الذهاب إلى منزل سكينة

فلما رأى ابن سريج الجدّ منه قال لصاحبه: ويحك! أما ترى ما وقعنا فيه؟! و كان صاحبه الذي نزل عنده ناسكا؛ فقال: لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث. و تذمّم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل فقال لأشعب: اخرج من منزل الرجل. فقال: رجلي مع رجلك، فخرجا.

/فلما صارا في بعض الطريق قال ابن سريج لأشعب: امض عنّي. قال: و اللّه لئن لم تفعل ما قلت لأصيحنّ الساعة حتى يجتمع الناس، و لأقولنّ: إنك أخذت مني سوارا من ذهب لسكينة على أن تجيئها فتغنّيها سرّا، و إنك كابرتني عليه و جحدتني، و فعلت بي هذا الفعل.

فوقع ابن سريج فيما لا حيلة له فيه. فقال: أمضي، لا بارك اللّه فيك. فمضى معه.

ص: 33


1- في أ: «أصدقه».
2- في أ: «و امرأته الطلاق ثلاثا».
3- نحير، أي مذبوح؛ و الكلمة محرفة في الأصول.
4- في القاموس: رغال، ككتاب و في سنن أبي داود، و دلائل النبوة و غيرهما عن ابن عمر، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حين خرجنا إلى الطائف، فمررنا بقبر، فقال: هذا قبر أبي رغال، و هو من ثقيف، و كان من ثمود، و كان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه. و قول الجوهري: «كان دليلا للحبشة حين توجهوا إلى مكة فمات في الطريق، غير جيد. و كذا قول ابن سيده: «كان عبدا لشعيب، و كان عشارا جائرا». (رغل).
استعفاؤه و إباء سكينة

فلمّا صار إلى باب سكينة قرع الباب، فقيل: من هذا؟ فقال: أشعب قد جاء بابن سريج، ففتح الباب لهما، و دخلا إلى حجرة خارجة عن دار سكينة، فجلسا ساعة، ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة، فقالت: يا عبيد، ما هذا الجفاء؟ قال: قد علمت بأبي أنت ما كان مني. قالت: أجل، فتحدّثا ساعة، و قصّ عليها ما صنع به أشعب، فضحكت، و قالت: لقد أذهب ما كان في قلبي عليه، و أمرت لأشعب بعشرين دينارا و كسوة. ثم قال لها ابن سريج:

أ تأذنين بأبي أنت؟ قالت: و أين؟ قال: المنزل، قالت: برئت من جدّي إن برحت داري ثلاثا، و برئت من جدّي إن أنت لم تغنّ إن خرجت من داري شهرا، و برئت من جدّي إن أقمت في داري شهرا إن لم أضربك لكل يوم تقيم فيه عشرا، و برئت من جدّي إن حنثت في يميني أو شفّعت فيك أحدا.

فقال عبيد: وا سخنة عيناه! وا ذهاب دنياه! وا فضيحتاه! ثم اندفع يغنّي:

أستعين الذي بكفّيه نفعي *** و رجائي على التي قتلتني

دملج سكينة في يده

الصوت المذكور آنفا. فقالت له سكينة: فهل عندك يا عبيد من صبر؟ ثم أخرجت دملجا(1) من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالا، فرمت/به إليه، ثم قالت: أقسمت عليك لما أدخلته في يدك، ففعل ذلك.

استدعاء عزة الميلاء

ثم قالت لأشعب: اذهب إلى عزّة(2) فاقرئها مني السلام، و أعلمها أنّ عبيدا عندنا، فلتأتنا متفضّلة بالزيارة.

فأتاها أشعب فأعلمها، فأسرعت المجيء، فتحدّثوا باقي ليلتهم. ثم أمرت عبيدا و أشعب فخرجا فناما في حجرة مواليها.

مجلس غناء

فلما أصبحت هيّئ لهم غداؤهم، و أذنت لابن سريج فدخل فتغدّى قريبا منها مع أشعب و مواليها، و قعدت هي مع عزّة و خاصّة جواريها، فلما فرغوا من الغداء قالت: يا عزّ، إن رأيت أن تغنّينا فافعلي. قالت: إي و عيشك.

فتغنّت لحنها في شعر عنترة العبسيّ(3):

حيّيت من طلل تقادم عهده *** أقوى و أقفر بعد أمّ الهيثم

إن كنت أزمعت الفراق فإنما *** زمّت(4) ركابكم بليل مظلم

فقال ابن سريج: أحسنت و اللّه يا عزّة! و أخرجت سكينة الدّملج الآخر من يدها فرمته إلى عزّة، و قالت:

صيّري هذا في يدك، ففعلت. ثم قالت لعبيد: هات غنّنا. فقال: حسبك ما سمعت البارحة. فقالت: لا بدّ أن تغنينا في كلّ يوم لحنا. فلما رأى ابن سريج أنه لا يقدر على/الامتناع مما تسأله غنّى:

ص: 34


1- الدملج: السوار يلبس في العضد.
2- هي عزّة الميلاء.
3- ديوانه: 129.
4- زمت، زممت البعير: خطمته و علقت عليه الزمام.

قالت: من أنت؟ - على ذكر - فقلت لها: *** أنا الذي ساقه للحين مقدار(1)

قد حان منك - فلا تبعد بك الدار - *** بين و في البين للمتبول إضرار

/ثم قالت لعزّة في اليوم الثاني: غنّي، فغنّت لحنها في شعر الحارث بن خالد - و لابن محرز فيه لحن -، و لحن عزّة أحسنهما:

و قرّت بها عيني، و قد كنت قبلها *** كثير البكاء مشتفقا من صدودها

و بشرة خود مثل تمثال بيعة *** تظلّ النصارى حوله يوم عيدها

قال ابن سريج: و اللّه ما سمعت مثل هذا قطّ حسنا و لا طيبا.

ثم قالت لابن سريج: هات، فاندفع يغنّي:

أرقت فلم أنم طربا *** و بتّ مسهّدا نصبا

لطيف أحبّ خلق اللّه *** إنسانا و إن غضبا

فلم أردد مقالتها *** و لم أك عاتبها عتبا(2)

و لكن صرّمت تحبلي *** فأمسى الحبل منقضبا(3)

فقالت سكينة: قد علمت ما أردت بهذا، و قد شفّعناك، و لم نردّك. و إنما كانت يميني على ثلاثة أيام، فاذهب في حفظ اللّه و كلاءته.

ثم قالت لعزّة: إذا شئت. و دعت لها بحلّة، و لابن سريج بمثلها. فانصرفت عزّة، و أقام ابن سريج حتى انقضت ليلته، و انصرف، فمضى من وجهه إلى مكة راجعا.

أشعار و أصواتها.
نسبة الأصوات التي في هذا الخبر
اشارة

منها:

صوت

حيّيت من طلل تقادم عهده *** أقوى و أقفر بعد أمّ الهيثم

/الشّعر لعنترة بن شدّاد العبسيّ. و الغناء لعزّة الميلاء، و قد كتب ذلك في أول هذه القصيدة و سائر ما يغنيّ فيها.

و منها:

ص: 35


1- المقدار هنا: القدر، بفتحتين.
2- العتب، بالتحريك: الكريهة و الأمر الشديد.
3- بعد هذا البيت في أ: «و ذكر باقي الأبيات الأربعة» و لم يكتب هذه الأبيات».
صوت

أرقت فلم أنم طربا *** و بتّ مسهّدا نصبا

لطيف احبّ خلق اللّه *** إنسانا و إن غضبا

إلى نفسي، و أوجههم *** و إن أمسى قد احتجبا

و صرّم حبلنا ظلما *** لبلغة كاشح كذبا(1)

عروضه من الوافر. الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء لابن سريج، ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر.

و منها قوله:

صوت

قد حان منك - فلا تبعد بك الدار - *** بين و في البين للمتبول إضرار

قالت: من أنت؟ - على ذكر - فقلت لها: *** أنا الذي ساقني للحين مقدار

/الشعر لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء لابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى الوسطى.

و منها الصوت الذي أوّله:

و قرّت بها عيني و قد كنت قبلها

أوله قوله:

صوت

لبشرة أسرى الطّيف و الخبت دونها(2) *** و ما بيننا من حزن أرض و بيدها

و قرّت بها عيني و قد كنت قبلها *** كثيرا بكائي مشفقا من صدودها

و بشرة خود مثل تمثال بيعة *** تظلّ النصارى حولها يوم عيدها

الشعر للحارث بن خالد المخزوميّ، و الغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى.

و ذكر إسحاق هذه الطريقة في هذا الصّوت و لم ينسبها إلى أحد، و لابن محرز في هذه الأبيات ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى، و فيها لعزّة الميلاء خفيف رمل.

الحارث بن خالد المخزومي و بشرة
اشارة

و بشرة هذه - التي ذكرها الحارث بن خالد - أمة كانت لعائشة بنت طلحة، و كان الحارث يكنى عن ذكر عائشة بها، و له فيها أشعار كثيرة.

منها مما يغنّي فيه قوله:

ص: 36


1- في «بيروت»: لقوله، و المثبت يتفق مع «الديوان.» و المبلغة يراد بها التبليغ.
2- الخبت: المتسع من بطون الأرض.
صوت

يا ربع بشرة بالجناب تكلّم *** و ابن لنا خبرا و لا تستعجم

ما لي رأيتك بعد أهلك موحشا *** خلقا كحوض الباقر(1) المتهدّم

/تسقي الضجيع إذا النجوم تغوّرت *** طوع الضجيع و غاية المتوسّم

قبّ البطون أوانس شبه الدّمى *** يخلطن ذاك بعفّة و تكرّم

عروضه من الكامل، و الشعر للحارث بن خالد، و الغناء لمعبد، و لحنه من خفيف الرمل بالسبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق.

و فيه أيضا ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق في رواية عمرو، و منها:

صوت

يا ربع بشرة إن أضرّ بك البلى *** فلقد عهدتك آهلا معمورا

عقب الرّذاذ خلافه فكأنما *** بسط الشّواطب بينهنّ حصيرا(2)

غنّاه ابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى الوسطى، عن إسحاق، و فيه لحن لمالك، و قيل: بل هو لابن محرز. و عروضه من الكامل.

و قوله: «عقب الرّذاذ خلافه» يقول: جاء الرذاذ بعده، و منه يقال: عقب لفلان غنى بعد فقر. و عقب الرجل أباه، إذا قام بعده مقامه. و عواقب الأمور مأخوذة منه، واحدتها عاقبة. و الرذاذ: صغار المطر. و قوله خلافه: أي بعده. قال متمم بن نويرة:

و فقدي بني أمّ تداعوا فلم أكن *** خلافهم أن أستكين(3) و أضرعا

أي بعدهم. و الشّواطب: النساء اللواتي يشطبن لحاء السّعف يعملن منه الحصر، و منه السيف المشطّب.

و الشّطيبة: الشّعبة من الشيء، و يقال: بعثنا إلى فلان شطيبة من خيلنا، أي قطعة.

مغنية و بيت شعر للحارث المخزومي
اشارة

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، قال: كانت مغنّية تختلف إلى صديق لها، فأتته يوما، فوجدته مريضا لا حراك به، فدعت بالعود و غنّت:

/يا ربع بشرة إن أضر بك البلى *** فلقد عهدتك آهلا معمورا

و مما يغنّي به فيه من هذه الأبيات الرائية:

ص: 37


1- الباقر: اسم جمع للبقر.
2- «اللسان» «خلف» بنسبته إلى الحارث بن خالد المخزومي.
3- في النسخ: «لأستكين فأضرعا». و المثبت من «اللسان».
صوت

أعرفت أطلال الرّسوم تنكّرت *** بعدي و غيّر آيهنّ دثورا

و تبدّلت بعد الأنيس بأهلها *** عفر البواقر(1) يرتعين وعورا

من كل مصبية الحديث ترى لها *** كفلا كرابية الكثيب وثيرا

الأطلال: ما شخص من آثار الدّيار. الرسوم: البقايا من الديار، و هي دون الأطلال و أخفى منها. و تنكّرت:

تغيّرت. و الدّاثر: الدارس. و العفر: الظباء، واحدها أعفر. و الوعور: المواضع التي لا أنيس فيها. و الرّبية: الأرض المشرفة، و هي دون الجبل. و الكثيب: القطعة العالية المرتفعة من الرّمل، جمعها كثب. و الوثير: التامّ المرتفع، يقال: فراش وثير إذا كان مرتفعا عن الأرض.

لإسحاق الموصليّ في البيتين الأوّلين ثاني ثقيل بالبنصر، و لإبراهيم فيها خفيف ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى، و لطويس فيهما خفيف ثقيل. و قيل: إنه ليس له. و لابن سريج في الثالث ثم الأول خفيف رمل، و قيل:

/بل هو لخليدة المكّيّة. و في البيت الأول و الثاني لمالك رمل بالوسطى، و قيل: الرمل لطويس، و خفيف الثقيل لمالك. و لمعبد في هذا الصوت لحنان: أحدهما ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى، و الآخر خفيف ثقيل أول.

و منها:

صوت

يا دار حسّرها البلى تحسيرا *** و سفت عليها الريح بعدك مورا

دقّ التراب بخيلها(2) فمخيّم *** بعراصها و مسيّر تسييرا

غنّى في هذين البيتين ابن مسجح خفيف ثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى. و للغريض في: «أعرفت أطلال الرسوم» و ما بعده ثقيل أول بالبنصر، و للغريض أيضا ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى.

حسّرها: أذهب معالمها، و منه حسر الرجل عن ذراعه و عن رأسه إذا كشفهما. و حسر الصلع شعر الرأس، إذا حصّه(3). و المور: التراب، و المخيّم: المقيم.

و منها صوت، أوله:

من كلّ مصيبة الحديث ترى لها(4) *** كفلا كرابية الكثيب وثيرا

يفتن - لا يألون - كلّ مغفّل *** يملأنه بحديثهنّ سرورا

/و منها:

ص: 38


1- في أ: «عفر اليعافر» و اليعافر: جمع يعفور، و هو الغزال.
2- المثبت من «ج».
3- الحصّ: حلق الشعر.
4- المصيبة: التي يشوق حديثها و يستهوي السامع.
صوت

دع ذا و لكن هل رأيت ظعائنا *** قرّبن أجمالا لهنّ قحورا؟!

قرّبن كلّ مخيّس متحمّل *** بزلا تشبّه هامهنّ قبورا

القحور: واحدها قحر، و هو المسنّ. و المخيّس: المحبوس للرحلة. و المتحمّل: معتاد الحمل.

و في هذه الأربعة الأبيات للغريض اللّحن الذي ذكرناه. و لابن جامع في:

دع ذا و لكن هل رأيت ظعائنا

و الذي بعده ثاني ثقيل بالوسطى.

/و منها:

صوت

إن يمس حبلك بعد طول تواصل *** خلقا و يصبح بيتكم مهجورا

فلقد أراني - و الجديد إلى بلى - *** زمنا بوصلك راضيا مسرورا

جذلا بمالي عندكم لا أبتغي *** للنفس بعدك خلّة و عشيرا

كنت الهوى و أعزّ من وطئ الحصا *** عندي، و كنت بذاك منك جديرا

لإبراهيم الموصليّ، و يحيى المكّيّ في هذه الأبيات لحنان، كلاهما من الثقيل الثاني؛ فلحن إبراهيم بالوسطى، و لحن يحيى بالبنصر، و لإسحاق فيهما رمل. و قيل: إنّ لابن سريج فيهما أيضا لحنا آخر.

مغنية تعبر عن حالها ببيتين من شعر الحارث

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، قال:

حدثني رجل من أهل البصرة، قال: اشتريت جارية مغنيّة، عندي زمنا و هويتني، و كرهت أن يراها أهلي، فعرضتها للبيع، فجزعت، و قالت: لقد اشتريتني و أنا لك كارهة، و إنك لتبيعني و أنا لذلك كارهة. فقال أخ لي: أرنيها، فقلت: هي عند فلانة، فانظر إليها، فأتاها فنظر إليها و أنا حاضر، فلما اعترضها و فرغ من ذلك غنّت:

إن يمس حبلك بعد طول تواصل *** خلقا و يصبح بيتكم مهجورا

فلقد أراني - و الجديد إلى بلى - *** زمنا بوصلك راضيا مسرورا

ثم بكت، و ضربت بالعود الأرض فكسرته، فخيّرتها بين أنّ أعتقها أو أبيعها ممن شاءت، فاختارت البيع، و طلبت موضعا ترضاه حتى أصابته، فصيّرتها إليه.

أخبرني يحيى بن عليّ، قال: حدثني أبو أيوب المدائني، قال: حدثني إبراهيم بن علي بن هشام، قال:

حدثتني جارية يقال لها طباع - جارية محمد بن سهل بن فرخنّد - قالت: غنيت إسحاق في لحنه:

أعرفت أطلال الرسوم تنكرت *** بعدي.....................

ص: 39

إسحاق ينكر على مخارق في أداء لحن له
اشارة

فأنكر عليّ في مقاطعة شيئا، و قال: ممن أخذته؟ فقلت: من مخارق، فقال لي: تعثّر الجواد(1) بل هو كما أقول لك، و ردّه عليّ، فهو يقال كما يقول مخارق، و كما غيّره إسحاق.

صوت

أخشى على أربد الحتوف و لا *** أرهب نوء السّماك و الأسد(2)

فجّعني الرّعد و الصّواعق بال *** فارس يوم الكريهة النّجد

يا عين هلاّ بكيت أربد إذ *** قمنا و قام الخصوم في كبد

إن يشغبوا لا يبال شغبهم *** أو يقصدوا في الخصام يقتصد(3)

عروضه من المنسرح.

النّجد: البطل ذو النّجدة. و قال الأصمعيّ في النّجد مثل ذلك. و قال: النّجد - بكسر الجيم -: الذي قد عرق جدّا. و الكبد: الثبات و القيام.

الشعر للبيد بن ربيعة، و الغناء للأبجر، رمل بالبنصر عن عمرو بن بانة. و لإبراهيم فيها رمل آخر بالوسطى في مجراها عن إسحاق، أوّله الثالث و الرابع ثم الأول و الثاني، و ذكرت بذل أنّ في الثالث و الرابع لحنا لحنين بن محرز.

ص: 40


1- في س: «فقال لي: ليس كما تحدث الخزاز»، و المثبت من أ.
2- ديوان لبيد 158، 159، و أربد، أخو لبيد لأمه.
3- في الديوان: «في الحكوم»، و الحكوم: القضاء عند التحكيم. يقتصد: يأخذ القصد.

3 - خبر لبيد في مرثية أخيه

نسب أربد

و قد تقدم(1) من خبر لبيد و نسبه ما فيه كفاية. يرثي أخاه لأمه أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب، و كانت أصابته صاعقة فأحرقته.

أخبرنا بالسبب في ذلك محمد بن جرير الطبريّ، قال: حدثنا(2) محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن عاصم، عن عمرو بن قتادة، قال:

وفد بني عامر بن صعصعة

قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم وفد بني عامر بن صعصعة، فيهم عامر بن الطّفيل و أربد بن قيس و جبّار(3) بن سلمى بن مالك بن جعفر بن كلاب، و كان هؤلاء الثلاثة رءوس القوم و شياطينهم، فهمّ عامر بن الطّفيل بالغدر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قد قال له قومه: يا عامر؛ إنّ الناس قد أسلموا فأسلم، فقال: و اللّه لقد كنت آليت ألاّ أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأتبع أنا عقب هذا الفتى من قريش!.

تآمر عمر و أربد على قتل رسول اللّه

ثم قال لأربد: إذا أقبلنا على الرّجل فإني شاغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله أنت بالسيف.

محادة عامر لرسول اللّه

فلما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال له عامر: يا محمد، خالّني(4) قال: لا و اللّه، حتى تؤمن باللّه وحده. قال:

يا محمد، خالّني، و جعل/يكلّمه و ينتظر من أربد ما كان أمره، فجعل أربد لا يحير شيئا. فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال: يا محمّد، خالّني، قال: لا، و اللّه، حتى تؤمن باللّه وحده لا تشرك به. فلما أبى عليه رسول اللّه قال:

أما(5) و اللّه لأملأنّها عليك خيلا حمرا، و رجالا سمرا.

دعاء الرسول عليه

فلما ولّى قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: اللهم اكفني عامر بن الطّفيل. فلما خرجوا من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال عامر لأربد: ويلك يا أربد! أين ما كنت أوصيتك به! و اللّه ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي

ص: 41


1- الأغاني، الجزء الرابع عشر.
2- الجزء الثالث ص 144 من «تاريخ الطبري».
3- في ديوان لبيد: «جارا»، و المثبت ما في أ، و تاريخ الطبري.
4- خالّ الرجل مخالّة و خلالا: وادّه و صادقه و آخاه.
5- في أ: «أم و اللّه».

منك، و ايم اللّه لا أخافك بعد اليوم أبدا. قال: لا تعجل عليّ لا أبا لك! و اللّه ما هممت بالذي أمرتني به من مرّة إلا دخلت بيني و بين الرجل ما أرى غيرك! أ فأضربك بالسيف! فقال عامر:

بعث الرسول بما ترى فكأنما *** عمدا أشدّ على المقانب غارا(1)

و لقد وردن بنا المدينة شزّبا *** و لقد قتلن بجوّها الأنصارا(2)

إصابة عامر بالطاعون و موته قبل عودته

و خرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث اللّه على عامر الطاعون في عنقه، فقتله اللّه، و إنه لفي بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر، أ غدّة كغدّة البكر(3)، و موت في بيت امرأة من بني سلول! فمات.

صاعقة تحرق أربد

ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بني عامر، فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ فقال: لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنّه عندي الآن فأرميه بنبلي هذه حتى أقتله. فخرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه، فأرسل اللّه عليه و على جمله صاعقة فأحرقتهما.

و كان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمّه.

وفود لبيد إلى الرسول

نسخت من كتاب يحيى بن حازم، قال: حدثنا عليّ بن صالح صاحب المصلّى، قال: حدّثنا ابن دأب، قال:

كان أبو براء عامر بن مالك قد أصابته دبيلة(4)، فبعث لبيد بن ربيعة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، أهدى له رواحل، فقدم بها لبيد، و أمره أن يستشفيه من وجعه، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: /لو قبلت من مشرك لقبلت منه، و تناول من الأرض مدرة(5) فتفل عليها، ثم أعطاها لبيدا، و قال: دفها(6) له بماء ثم اسقه إياه.

يقرأ القرآن و يكتب سورة الرحمن

و أقام عندهم لبيد يقرأ القرآن و كتب منهم: اَلرَّحْمٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ (7) فخرج بها، و لقيه أخوه أربد على ليلة من الحيّ، فقال له: انزل فنزل، فقال: يا أخي، أخبرني عن هذا الرجل؛ فإنه لم يأته رجل أوثق عندي فيه قولا منك. فقال: يا أخي، ما رأيت مثله - و جعل يذكر صدقه و برّه و حسن حديثه. فقال له: هل معك من قوله شيء؟ قال: نعم، فأخرجها له فقرأها/عليه، فلما فرغ منها قال له أربد: لوددت أني ألقى الرحمن بتلك البرقة(8)، فإن لم أضربه بسيفي فعليّ و عليّ...

ص: 42


1- المقانب: جمع مقنب، كمنبر، و هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين. و في أ: «المعايب» تصحيف.
2- شزّبا: ضمرا.
3- في المختار: كعدة البعير.
4- الدبيلة، كجهينة: داء في الجوف.
5- المدر: قطع الطين اليابس، واحدتها بهاء.
6- دفها: أخلطها.
7- سورة الرحمن: 1، 2.
8- البرقة: أرض غليظة بحجارة و رمل. و في أ: «البرقة»، بفتح الباء.

قال: و نشأت سحابة و قد خلّيا عن بعيريهما، فخرج أربد يريد البعيرين، حتى إذا كان عند تلك البرقة غشيته صاعقة فمات.

و قد لبيد على أبي براء فأخبره خبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و أمره، قال: فما فعل فيما استشفيته؟ قال: تاللّه ما رأيت منه شيئا كان أضعف عندي من ذلك، و أخبره بالخبر. قال: فأين هي؟ قال: ها هي ذه معي. قال: هاتها، فأخرجها له فدافها، ثم شربها فبرأ.

رواية أخرى في وفوده على الرسول

قال ابن دأب: فحدّثني حنظلة بن قطرب بن إياد، أحد بني أبي بكر بن كلاب، قال:

لما أصاب عامر بن الطفيل ما أصابه، بعث بنو عامر لبيدا، و قالوا له: اقدم لنا على هذا الرجل فاعلم لنا علمه. فقدم عليه، فأسلم، و أصابه و جمع هناك شديد من حمى، فرجع إلى قومه بفضل تلك الحمّى، و جاءهم بذكر البعث و الجنة و النار، فقال سراقة بن عوف بن الأحوص:

لعمر لبيد إنه لابن أمّه *** و لكن أبوه مسّه قدم العهد

دفعناك في أرض الحجاز كأنما *** دفعناك فحلا فوقه قزع اللّبد(1)

فعالجت حمّاه و داء ضلوعه *** و ترنيق عيش مسّه طرف الجهد

و جئت بدين الصابئين تشوبه *** بألواح نجد بعد عهدك من عهد!

و إنّ لنا دارا - زعمت - و مرجعا *** و ثمّ إياب القارظين و ذي البرد

/قال: فكان عمر يقول: و ايم اللّه، إياب القارظين(2) و ذي البرد.

وفود عامر بن الطفيل على رسول اللّه

أخبرني عبد العزيز بن أحمد عمّ أبي، و حبيب بن نصر المهلّبي، و غيرهما، قالوا: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال:

حدّثتني ظمياء بنت عبد العزيز بن مولة، قالت(3):

حدثني أبي، عن جدّي مولة بن كثيف، أنّ عامر بن الطفيل أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فوسّده وسادة، ثم قال: أسلم يا عامر. قال: على أنّ لي الوبر و لك المدر، فأبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقام عامر مغضبا فولّى، و قال: لأملأنّها عليك خيلا جردا، و رجالا مردا، و لأربطنّ بكل نخلة فرسا. فسألته عائشة: من هذا؟ فقال: هذا عامر بن الطفيل، و الذي نفسي بيده لو أسلم فأسلمت بنو عامر معه لزاحموا قريشا على منابرهم. قال: ثم دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و قال: يا قوم، إذا دعوت فأمّنوا، فقال: اللهم اهد بني عامر، و اشغل عنّي عامر بن الطفيل بما شئت، و كيف شئت، و أنّى شئت.

موت عامر بن الطفيل

فخرج فأخذته غدّة مثل غدّة البكر، فجعل يثب و ينزو في السماء و يقول: يا موت ابرز لي، و يقول: غدّة مثل غدّة البكر، و موت في بيت سلوليّة؟! و مات.

ص: 43


1- اللبد: ما يجعل على ظهر الفرس. و القزع: بقايا الشعر.
2- القارظان: رجلان خرجا في طلب القرظ، يجنيانه، فلم يرجعا، فضرب بهما المثل في انقطاع الغيبة.
3- في أ: قال «و حدّثني».

/أخبرني محمد بن الحسن بن دريد إجازة، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، قال: أخبرني أسعد بن عمرو الجعفيّ، قال: أخبرني خالد بن قطن الحارثيّ، قال:

لما مات عامر بن الطفيل خرجت امرأة من بني سلول كأنها نخلة حاسرا، و هي تقول:(1)

أنعى عامر بن الطفيل و أبقى *** و هل يموت عامر من حقا؟

و ما أرى عامرا مات حقّا!

/قال: فما رثي يوم أكثر باكيا و باكية، و خمش وجوه، و شقّ جيوب من ذلك اليوم.

بنو عامر تحمي قبر عامر بالأنصاب

و قال أبو عبيدة عن الحرمازيّ، قال:

لما مات عامر بن الطفيل بعد منصرفه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم، نصبت عليه بنو عامر أنصابا ميلا في ميل، حمى على قبره لا تنشر فيه ماشية، و لا يرعى، و لا يسلكه راكب و لا ماش. و كان جبّار(2) بن سلمى بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب غائبا، فلما قدم قال: ما هذه الأنصاب؟ قالوا: نصبناها حمى لقبر عامر بن الطّفيل، فقال: ضيّقتم على أبي عليّ، إنّ أبا عليّ بان من الناس بثلاث: كان لا يعطش حتى يعطش الجمل، و كان لا يضلّ حتى يضلّ النّجم، و كان لا يجبن حتى يجبن السيل.

ثلاث خلال فضل عامر بهن الناس

قال أبو عبيدة: و قدم عامر على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و هو ابن بضع و ثمانين سنة.

مراثي لبيد لأخيه

و مما رثى به لبيد أخاه أربد قوله(3):

ألا ذهب المحافظ و المحامي *** و دافع(4) ضيمنا يوم الخصام

و أيقنت التّفرّق يوم قالوا: *** تقسّم(5) مال أربد بالسّهام

و أربد فارس الهيجا إذا ما *** تقعّرت المشاجر بالفئام(6)

/و هي طويلة يقول فيها:

فودّع بالسلام أبا حزيز(7) *** و قلّ وداع أربد بالسّلام

ص: 44


1- كذا في الأصول.
2- في س: «حيان».
3- ديوانه: 201.
4- الديوان: «و رافع ضيمنا».
5- مختار الأغاني: «نقسم»، و المثبت يوافق ما في الديوان أيضا.
6- تقعرت: تقوضت من أصلها. و قال ابن قتيبة: المشاجر: مراكب للنساء أكبر من الهودج الواحد مشجر. و الفئام: وطاء يكون للهودج، أو هو الهودج الذي وسع في أسفله بشيء زيد فيه.
7- في أ: «أبا حدار»، تصحيف «أبا حزاز» و في حاشية أ: «أربد أبو حزاز» بالتشديد و التخفيف. و المثبت كما في الديوان مصغّر (حزاز).

قال: و كانت كنية أربد أبا حزاز، فصغّره ضرورة.

و قال فيه أيضا(1):

ما إن تعدّى(2) المنون من أحد *** لا والد مشفق و لا ولد

أخشى على أربد الحتوف و لا *** أرهب نوء السّماك و الأسد

فجّعني الرّعد و الصّواعق بال *** فارس يوم الكريهة النّجد

الحارب الجابر الحريب إذا *** جاء نكيبا و إن يعد يعيد(3)

يعفو على الجهد و السّؤال كما *** أنزل صوب الربيع ذي الرّصد(4)

لم تبلغ(5) العين كلّ نهمتها *** ليلة تمسي الجياد كالقدد(6)

كلّ بني حرّد مصيرهم *** قلّ، و أن أكثرت من العدد

إن يغبطوا يهبطوا(7) و إن أمروا *** يوما يصيروا للهلك و النّفد(8)

يا عين هلاّ بكيت أربد إذ *** قمنا و قام الخصوم في كبد(9)

/يا عين هلاّ بكيت أربد إذ *** ألوت رياح الشتاء بالعضد(10)

و أصبحت لاقحا مصرّمة *** حين تقضّت غوابر المدد

إن يشغبوا لا يبال شغبهم *** أو يقصدوا في الخصام يقتصد(11)

/حلو كريم، و في حلاوته *** مرّ، لطيف الأحشاء و الكبد

أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه ينشد شعرا له في رثاء أخيه أربد
اشارة

نسخت من كتاب ابن النطاح، عن المدائني، عن عليّ بن مجاهد، قال:

أنشد أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه قول لبيد في أخيه أربد(12):

لعمري لئن كان المخبّر صادقا *** لقد رزئت في حادث الدّهر جعفر

ص: 45


1- ديوانه: 158.
2- في الديوان: «ما إن تعرى» قال في «شرحه»: تعرّى: تترك.
3- الحارب: من يحرب الأموال. الجابر: الذي يجبر من قد حرم ماله. نكيبا: مصابا. و إن يعد لسؤاله، يعد لعطيته. و في «بيروت»: و جاء «بكيئا».
4- يعفو: يكثر. و الصّوب: المطر يكون في أول الزمان. و صوب الربيع: مطره. و الرصد: نبات يكمن تحت الثرى، و ذلك في أول المطر.
5- في أ: «لا تبلغ».
6- القدد: السيور.
7- يهبطوا: يموتوا.
8- الديوان: «النكد».
9- كذا في ب، س و مختار الأغاني و الديوان، و في أ: «و قال الخصوم». و الكبد: الأمر الشديد.
10- هامش أ: العضد: الشجر المقطوع. و في شرح الديوان: العضد: الشجر اليابس. و ألوت: ذهبت به و طارت.
11- الشغب: الجور عن الطريق و القصد. يقتصدوا: يأخذوا الفصد.
12- ديوانه 167.

أخ لي، أمّا(1) كلّ شيء سألته *** فيعطي، و أما كلّ ذنب فيغفر

فقال أبو بكر رضوان اللّه عليه: ذلك رسول اللّه، لا أربد بن قيس.

و قد رثاه بعد ذلك بقصائد يطول الخبر بذكرها.

و مما رثاه به، و فيه غناء، قوله(2):

صوت

بلينا و ما تبلى النجوم الطّوالع *** و تبقى الجبال بعدنا و المصانع

و قد كنت في أكناف دار مضنّة *** ففارقني جار بأربد نافع

فلا جزع إن فرّق الدّهر بيننا *** فكلّ فتى يوما به الدّهر فاجع

و ما المرء إلاّ كالشّهاب و ضوئه *** يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

/أ ليس ورائي إن تراخت منيّتي *** لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

أخبّر أخبار القرون التي مضت *** أدبّ كأنّي كلما قمت راكع

فأصبحت مثل السيف أخلق جفنه *** تقادم عهد القين و النّصل قاطع

فلا تبعدن إنّ المنية موعد *** علينا فدان للطّلوع و طالع

أعاذل ما يدريك، إلاّ تظنّيا *** إذا رحل السّفّار(3) من هو راجع؟

أ تجزع مما أحدث الدهر للفتى *** و أيّ كريم لم تصبه القوارع!

غنّى في الأول و الخامس و السادس و السابع حنين الحيريّ خفيف ثقيل أول بالبنصر، عن الهشاميّ و ابن المكيّ و حماد، و فيها ثقيل أول بالوسطى، يقال إنه لحنين أيضا، و يقال إنّه لأحمد النّصبيّ(4)، و يقال: إنه منحول.

و مما رثاه به قوله، و هي من مختار مراثيه(5):

طرب الفؤاد و ليته لم يطرب *** و عناد ذكرى خلّة لم تصقب(6)

سفها، و لو أني أطعت عواذلي *** فيما يشرن به بسفح المذنب

لزجرت قلبا لا يريع لزاجر *** إنّ الغويّ إذا نهي لم يعتب(7)

فتعزّ عن هذا، و قل في غيره *** و اذكر شمائل من أخيك المنجب

يا أربد الخير الكريم جدوده *** أفردتني أمشي بقرن أعضب(8)

ص: 46


1- في الديوان: «فتى كان أما».
2- ديوانه 168.
3- في الديوان: «إذا ارتحل الفتيان».
4- في ب، س، ج: النصيبي.
5- ديوانه 156.
6- تصقب: تجاور و تقترب.
7- لا يريع: لا يرجع و لا يتعظ، لم يعتب: لم يرجع إلى ما يرضى عاتبه.
8- أعضب: مكسور أو مقطوع.

إنّ الرزيّة لا رزيّة مثلها *** فقدان كلّ أخ كضوء الكوكب

/ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** و بقيت في خلف كجلد الأجرب

يتأكّلون مغالة(1) و خيانة *** و يغاب قائلهم و إن لم يشغب

و لقد أراني تارة من جعفر *** في مثل غيث الوابل المتحلّب(2)

من كل كهل كالسّنان و سيّد *** صعب المقادة كالفنيق المصعب(3)

/من معشر سنّت لهم آباؤهم *** و العزّ قد يأتي بغير تطلّب

فبرى عظامي بعد لحمي فقدهم *** و الدّهر إن عاتبت ليس بمعتب

حدثنا محمد بن جرير الطبريّ، قال: حدثنا أبو السائب سالم بن جنادة، قال: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها كانت تنشد بيت لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** و بقيت في خلف كجلد الأجرب

ثم تقول: رحم اللّه لبيدا، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم!.

قال عروة: رحم اللّه عائشة، فكيف بها لو أدركت من نحن بين ظهرانيهم!.

قال هشام: رحم اللّه أبي، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم! و قال وكيع: رحم اللّه هشاما، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم! قال أبو السائب: رحم اللّه وكيعا، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم! قال أبو جعفر: رحم اللّه أبا السائب، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم!.

قال أبو الفرج الأصبهاني: و نحن نقول: اللّه المستعان، فالقصّة أعظم من أن توصف!.

صوت

فإن كان حقّا ما زعمت أتيته *** إليك فقام النائحات على قبري

و إن كان ما بلّغته كان باطلا *** فلا متّ حتى تسهري الليل من ذكري

عروضه من الطويل. و الشعر للعباس بن الأحنف يقوله في فوز، و خبرهما يأتي هاهنا، و الغناء لبذل، خفيف رمل بالبنصر، و فيه لبنان بن عمرو ثاني ثقيل بالبنصر، و فيه لحن لابن جامع من كتاب إبراهيم. و زعم أبو العباس أنّ لمعبد اليقطينيّ فيه خفيف رمل، و ذكر حبش أنّ لإبراهيم خفيف الرمل بالوسطى. و ذكر عليّ بن يحيى المنجم أنه لعليّة. و قيل: إن خفيف الرمل بالبنصر للقاسم بن ز نقطة. و الصحيح أنه لبذل.

ص: 47


1- مغالة، أي اغتيالا.
2- جعفر، يعني قومه بني جعفر. في مثل غيث الوابل، أي كثرة عدد.
3- الفنيق: الفحل المقرم لا يركب لكرامته على أهله. المصعب: غير الذلول.

4 - ذكر خبر العباس و فوز

كانت جارية لمحمد بن منصور

أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن إسحاق الخراسانيّ، قال: حدثنا محمد بن النضر، قال:

كانت فوز جارية لمحمد بن منصور، و كان يلقّب فتى العسكر، ثم اشتراها بعض شباب البرامكة فدبّرها(1)و حجّ بها. فلما قدمت قال العباس(2):

ألا قد قدمت فوز *** فقرّت عين عبّاس

لمن بشّرني البشرى *** على العينين و الرّأس

أيا ديباجة الحسن *** و يا رامشنة الآس(3)

يلوموني على الحبّ *** و ما بالحبّ من باس!

تشبهه في شعره بأبى العتاهية

أخبرني محمد، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن جعفر الأنباريّ - و هو أبو عاصم بن محمد الكاتب - قال:

حدثني علي بن محمد النّوفليّ قال:

كانت فوز لرجل جليل من أسباب السلطان، و كان العبّاس يتشبّه في أشعاره و ذكر فوز بما قاله أبو العتاهية في عتبة، فحجّ بها مولاها، فقال العباس(4):

/يا ربّ ردّ علينا *** من كان أنسا و زينا

من لا نسرّ بعيش *** حتى يكون لدينا

/يا من أتاح لقلبي *** هواه شؤما و حينا

ما زلت مذ غبت عنّي *** من أسخن الناس عينا

ما كان حجّك عندي(5)*** إلاّ بلاء علينا

فلما قدمت قال:

ألا قد قدمت فوز *** فقرّت عين عبّاس

ص: 48


1- دبرها: أعتقها عن دبر، أي بعد موته.
2- ديوانه 165.
3- قال الشهاب في «شفاء الغليل»: «رامشنة»، قال الصولي: هي ورقة الآس، لها رأسان و في ديوانه: و يا رائحة الآس.
4- ديوانه 265.
5- في ديوانه: «ما كان حجك هذا».

و ذكر الأبيات المتقدمة.

معابه بينه و بين الأصمعي

أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ، قال:

حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه، أنه دخل على الفضل بن الربيع يوما، و العباس بن الأحنف بين يديه، فقال العباس للفضل: دعني أعابث الأصمعيّ. قال: لا تفعل، فليس المزاح من شأنه. قال: إن رأى الأمير أن يفعل. قال: ذاك إليك. قال: فلما دخلت قال لي العبّاس: يا أبا سعيد من الذي يقول(1):

إذا أحببت(2) أن تص *** نع شيئا يعجب النّاسا

فصوّر هاهنا فوزا *** و صوّر ثمّ عبّاسا

فإن لم يدنوا حتى *** ترى خلقيهما خلقا

فكذّبها بما لاقت *** و كذّبه بما قاسى

فقال لي ابن أبي السّعلاء الشاعر: إنه أراد العبث بك، و هو نبطيّ، /فأجبه على هذا. قال: فقلت له:

لا أعرف هذا، و لكني أعرف الذي يقول:

إذا أحببت أن تبص *** ر شيئا يعجب الخلقا

فصوّر هاهنا زورا *** و صوّر هاهنا فلقا

فإن لم يدنوا حتى *** ترى خلقيهما خلقا

فكذّبها بما لاقت *** و كذّبه بما يلقى

فعرّض بالعباس أنه نبطيّ، فضحك الفضل، فوجم العباس، فقال له [الفضل]: قد كنت نهيتك عنه، فلم تقبل.

فوز تجد صداعا

أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثني محمد بن الفضل الهاشميّ، قال: حدثني أبو توبة الحنفيّ، قال:

وجّه العباس بن الأحنف رسولا إلى فوز، فعاد فأخبره أنها تجد صداعا، و أنه رآها معصوبة الرّأس؛ فقال العباس:

عصبت رأسها فليت صداعا *** قد شكته إليّ كان براسي(3)

ثم لا تشتكي، و كان لها الأج *** ر، و كنت السّقام عنها أقاسي

ذاك حتى يقول لي من رآني: *** هكذا يفعل المحبّ المواسي

قال: فبرئت ثم نكست، فقال(4):

ص: 49


1- الأبيات في الأغاني 355:8، و هي في ديوانه 164.
2- في الديوان: «إذا ما شئت».
3- ديوانه 162.
4- ديوانه 160.

إنّ التي هامت بها النّفس *** عاودها من عارض نكس(1)

كانت إذا ما جاءها المبتلى *** أبرأه من كفّها اللّمس(2)

/وا بأبي الوجه المليح الّذي *** قد عشقته الجنّ و الإنس

إن تكن الحمّى أضرّت به *** فربما تنكسف الشمس

فوز ساهرة ذاكرة له

أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثني أبو العباس الخلنجيّ، قال: حدثني أبو عبد كان الكاتب(3)، قال:

حدثني أبو توبة الحنفيّ، قال:

لمّا قال العباس بن الأحنف(4):

أما و الذي أبلى المحبّ و زادني *** بلاء، لقد أسرفت في الظلم و الهجر

فإن كان حقّا ما زعمت أتيته *** إليك، فقام النائحات على قبري

و إن كان عدوانا عليّ و باطلا *** فلا متّ حتى تسهري الليل من ذكري

بعثت إليه فوز: أظنّنا ظلمناك يا أبا الفضل، فاستجيب لك فينا! ما زلت البارحة ساهرة ذاكرة لك.

في خلقه شدة

أخبرني جحظة البرمكيّ، قال: حدثني أبو عبد اللّه بن حمدون، عن أحمد بن إبراهيم، قال: حدثني محمد بن سلاّم، قال:

كان في خلق العباس بن الأحنف شدّة، فضرب غلاما له، و حلف أنه يبيعه، فمضى الغلام إلى فوز فاستشفع بها عليه، فكتبت إليه فيه؛ فقال(5):

يا من أتانا بالشفاعات *** من عند من فيه لجاجاتي(6)

إن كنت مولاك فإنّ التي *** قد شفعت فيك لمولاتي(7)

إرسالها فيك إلينا لنا *** كرامة فوق الكرامات

/و رضي عنه و وصله، و أعتقه.

اكتئابه من قولة فوز له: يا شيخ!

أخبرني جحظة، قال: حدثنا أبو عبد اللّه بن حمدون، عن أبيه حمدون بن إسماعيل، عن أخيه إبراهيم بن إسماعيل، قال:

ص: 50


1- في الديوان: «من سقمها».
2- في الديوان: «من واحتها».
3- في س: «أبو عبدان»، و المثبت من أ.
4- ديوانه 153.
5- ديوانه 69.
6- في الديوان: «يا من أتاني... من عند من أبغيه حاجاتي».
7- في الديوان: «قد كتبت فيك».

جاءنا العباس بن الأحنف يوما و هو كئيب، فنشّطناه فأبى أن ينشط، فقلنا: ما دهاك؟ فقال: لقيتني فوز اليوم، فقالت لي: يا شيخ! و ما قالت ذلك إلاّ من حادث ملال. فقلنا له: هوّن عليك؛ فإنها امرأة لا تثبت على حال، و ما أرادت إلا العبث بك و المزاح معك. فقال: إني و اللّه قد قلت أقبح مما قالت، ثم أنشدنا(1):

هزئت إذ رأت كئيبا معنى(2) *** أ قصدته الخطوب فهو حزين

هزئت بي و نلت ما شئت منها *** يا لقومي فأيّنا المغبون!

فقلت له: قد انتصفت و زدت.

يمن جارية فوز تزعم أنه راودها

أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثنا علي بن الصبّاح، قال: حدثنا أبو ذكوان، قال:

كانت لفوز جارية يقال لها يمن، و كانت تجيء إلى العباس برسالتها، فمضت إلى فوز، و قد طلبت من العباس شيئا فمنعها إيّاه، و زعمت أنه أرادها و دعاها إلى نفسه، فغضبت فوز من ذلك، فكتب إليها(3):

لقد زعمت يمن بأني أردتها *** على نفسها، تبّا لذلك من فعل

سلوا عن قميصي مثل شاهد يوسف *** فإنّ قميصي لم يكن قد من قبل(4)

معاتبة فوز له في جفائه و رده عليها

أخبرني محمد، قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل، قال: حدثني سعيد بن حميد، قال:

كانت فوز قد مالت إلى بعض أولاد الجند، و بلغ ذلك العباس، فتركها و لم ترض هي البديل بعد ذلك، فعادت إلى العباس، و كتبت إليه تعاتبه في جفائه؛ فكتب إليها:

كتبت تلوم و تستريب زيارتي *** و تقول لست لنا كعهد العاهد(5)

/فأجبتها و دموع عيني جمّة *** تجري على الخدّين غير جوامد!

يا فوز لم أهجركم لملالة *** منّي و لا لمقال واش حاسد

لكنّني جرّبتكم فوجدتكم *** لا تصبرون على طعام واحد

سرقته شعر أبي نواس
اشارة

و قد أنشدني عليّ بن سليمان الأخفش هذه الأبيات، و قال: سرقها من أبي نواس حيث يقول:

صوت

و مظهرة لخلق اللّه ودّا *** و تلقى بالتحيّة و السلام

أتيت فؤادها أشكو إليه *** فلم أخلص إليه من الزّحام

ص: 51


1- الديوان 260.
2- في أ: «كبيرا»، و في الديوان: «أن رأت غلاما».
3- ديوانه 213.
4- إشارة إلى ما جاء في سورة يوسف 26: إِنْ كٰانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكٰاذِبِينَ.
5- ديوانه 106، و فيه: «و تستريث زيارتي».

فيما من ليس يكفيه محبّ *** و لا ألفا محبّ كلّ عام

أظنّك من بقية قوم موسى *** فهم لا يصبرون على طعام

غنّت فيه عريب لحنا ذكره ابن المعتزّ، و لم يذكر طريقته.

و مما يغنّى فيه من شعر العباس في فوز قوله:

صوت

يا فوز ما ضرّ من يمسي و أنت له *** ألاّ يفوز بدنيا آل عبّاس(1)

أبصرت شيبا بمولاها فوا عجبا *** منه يراها و يبدو الشّيب في الرّاس!

غنّاه سليم، رمل مطلق في مجرى الوسطى عن ابن المكّيّ.

و أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا محمد بن الفضل بن الأسود، قال:

قرأت على أحمد بن أبي فنن شعر العباس بن الأحنف، و كان مشغوفا به، فسمعته يقول: وددت أن أبياته التي يقول فيها:

يا فوز ما ضرّ من يمسي و أنت له

لي بكلّ شعري.

/و في بذل يقول عبد اللّه بن العباس الربيعيّ يخاطب عمرا في بذل بقوله:

صوت

تسمّع بحقّ اللّه يا عمرو من بذل *** فقد أحسنت و اللّه و اعتمدت قتلي

كأني أرى حبّيك يرجح كلّما *** تغنّت لإعجابي و أفقد من عقلي

غنّاه عبد اللّه بن العباس الربيعيّ، ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو، و غنّى فيه عمرو بن بانة خفيف رمل بالبنصر عن حبش.

ص: 52


1- ديوانه 159.

5 - ذكر بذل و أخبارها

من مولدات المدينة و لها كتاب أغان

كانت بذل صفراء مولّدة من مولّدات المدينة، و ربّيت بالبصرة، و هي إحدى المحسنات المتقدّمات، الموصوفات بكثرة الرّواية، يقال: إنها كانت تغنّي ثلاثين ألف صوت. و لها كتاب في الأغاني منسوب الأصوات غير مجنّس، يشتمل على اثني عشر ألف صوت، يقال: إنها عملته لعليّ بن هشام. و كانت حلوة الوجه ظريفة، ضاربة متقدّمة، و ابتاعها جعفر بن موسى الهادي، فأخذها منه محمد الأمين، و أعطاه مالا جزيلا، فولدهما جميعا يدّعون ولاءها. فأخذت بذل عن أبي سعيد مولى فائد و دحمان و فليح و ابن جامع و إبراهيم، و طبقتهم.

أروى خلق اللّه للغناء

و قرأت على جحظة، عن أبي حشيشة في كتابه الذي جمعه من أخباره و ما شاهده، /قال:

كانت بذل من أحسن الناس غناء في دهرها، و كانت أستاذة كلّ محسن و محسنة، و كانت صفراء مدنية، و كانت أروى خلق اللّه تعالى للغناء، و لم يكن لها معرفة.

احتيال الأمين في أخذها

و كانت لجعفر بن موسى الهادي، فوصفت لمحمد بن زبيدة، فبعث إلى جعفر يسأله أن يريه إيّاها، فأبى، فزاره محمد إلى منزله، فسمع شيئا لم يسمع مثله، فقال لجعفر: يا أخي، بعني هذه الجارية. فقال: يا سيّدي، مثلي لا يبيع جارية، قال: فهبها لي، قال: هي مدبّرة(1). فاحتال عليه محمد حتى أسكره، و أمر ببذل فحملت معه إلى الحرّاقة، و انصرف بها.

/فلما انتبه سأل عنها فأخبر بخبرها، فسكت، فبعث إليه محمد من الغد، فجاءه و بذل جالسة فلم يقل شيئا.

فلما أراد جعفر أن ينصرف قال: أوقروا حرّاقة ابن عمّي دراهم، فأوقرت.

قال: فحدثني عبد اللّه بن الحنينى - و كان أبوه على بيت مال جعفر بن موسى - أنّ مبلغ ذلك المال كان عشرين ألف ألف درهم.

قال: و بقيت بذل في دار محمد إلى أن قتل، ثم خرجت، فكان ولد جعفر و ولد محمد يدّعون ولاءها. فلما ماتت ورثها ولد عبد اللّه بن محمّد بن زبيدة.

ص: 53


1- المدبرة: المعتقة بعد الموت. و في هامش أ: «المدبر من الرقيق: الذي يقول له سيده بعد الموت: أنت حر بعد دبر مني»، أي بعد وفاتي.
وهب لها الأمين من الجوهر ما لم يملك مثله أحد

و قد روى محمد بن الحسن الكاتب هذا الخبر، عن ابن المكّيّ، عن أبيه، و قال فيه: إن محمدا وهب لها من الجوهر شيئا لم يملك أحد مثله، فسلّم لها، فكانت تخرج منه الشيء بعد الشيء فتبيعه بالمال العظيم، فكان ذلك معتمدها مع ما يصل إليها من الخلفاء إلى أن ماتت و عندها منه بقيّة عظيمة.

إباؤها الزواج حتى موتها

قال: و رغب إليها وجوه القوّاد و الكتّاب و الهاشميّين في التزويج، فأبت و أقامت على حالها حتى ماتت.

علي بن هشام في موكبه إليها

قال أبو حشيشة في خبره: و كنت عند بذل يوما و أنا غلام، و ذلك في أيام المأمون ببغداد، و هي في طارمة(1)لها تمتشط، ثم خرجت إلى الباب، فرأيت الموكب، فظننت أنّ الخليفة يمرّ في ذلك الموضع، فرجعت إليها فقلت: يا ستّي(2)؛ الخليفة يمرّ على بابك؟ فقالت: انظروا أيّ شيء هذا؟ إذ دخل بوّابها فقال: علي بن هشام بالباب. فقالت: و ما أصنع به! فقامت إليها وشيكة(3) جاريتها - و كانت ترسلها إلى الخليفة و غيره في حوائجها - /فأكبّت على رجلها، و قالت: اللّه، اللّه! أ تحجبين عليّ بن هشام! فدعت بمنديل فطرحته على رأسها و لم تقم إليه، فقال: إني جئتك بأمر سيدي أمير المؤمنين، و ذلك أنه سألني عنك، فقلت: لم أرها منذ أيام. فقال: هي عليك غضبى، فبحياتي لا تدخل منزلك حتى تذهب إليها فسترضيها.

تكتب اثني عشر ألف صوت

فقالت: إن كنت جئت بأمر الخليفة فأنا أقوم. فقامت فقبّلت رأسه و يديه(4) و قعد ساعة و انصرف، فساعة خرج قالت: يا وشيكة، هاتي دواة و قرطاسا، فجعلت تكتب فيه(5) يومها و ليلتها حتى كتبت اثني عشر ألف صوت - و في بعض النسخ: «رءوس سبعة آلاف صوت» - ثم كتبت إليه: يا عليّ بن هشام، تقول: قد استغنيت عن بذل بأربعة آلاف صوت أخذناها منها، و قد كتبت هذا و أنا ضجرة، فكيف لو فرّغت لك قلبي كلّه! و ختمت الكتاب، و قالت لها: امضي به إليه.

فما كان أسرع من أن جاء رسوله - خادم أسود يقال له مخارق - بالجواب يقول فيه: يا ستّي، لا و اللّه ما قلت الذي بلغك، و لقد كذب عليّ عندك؛ إنما قلت: لا ينبغي أن يكون في الدنيا غناء أكثر من أربعة آلاف صوت، و قد بعثت إليّ بديوان لا أؤدّي شكرك عليه أبدا. /و بعث إليها عشرة آلاف درهم، و تخوتا(6) فيها خزّ و وشي و ملح، و تختا مطبقا فيه ألوان الطّيب.

علي بن هشام يعاتبها في جفوة نالته منها

أنشدني عليّ بن سليمان الأخفش لعليّ بن هشام يعاتب بذلا في جفوة نالته منها:

ص: 54


1- الطارمة: بيت من الخشب، كالقبة.
2- ستّي: كلمة مولّدة، و في نهاية الأرب: يا «سيدتي».
3- في مختار الأغاني: «وشيك»، بغير تاء.
4- في ب، س: «فقبلت رأسه و رجليه».
5- في أ: «به».
6- التخوت: جمع تخت؛ و هو وعاء تصان فيه الثياب.

/تغيّرت بعدي و الزمان مغيّر *** و خست بعهدي و الملوك تخيس

و أظهرت لي هجرا و أخفيت بغضة *** و قرّبت وعدا و اللسان عبوس

و ممّا شجاني أنني يوم زرتكم *** حجبت و أعدائي لديك جلوس

و في دون ذا ما يستدلّ به الفتى *** على الغدر من أحبابه و يقيس

كفرت بدين الحبّ إن طرت بابكم(1)*** و تلك يمين - ما علمت - غموس

فإن ذهبت نفسي عليكم تشوّقا *** فقد ذهبت للعاشقين نفوس

و لو كان نجمي في السّعود وصلتم *** و لكن نجوم العاشقين نحوس

و أخبرني أبو العباس الهشامي المشك، عن أهله: أنّ عليّ بن هشام كان يهوى بذلا و يكتم ذلك، و أنها هجرته مدّة، فكتب إليها بهذه الأبيات.

تروي ثلاثين ألف صوت

و ذكر محمد بن الحسن أنّ أبا حارثة حدّثه عن أخيه أنّ معاوية قال: قالت لي بذل: كنت أروي ثلاثين ألف صوت، فلما تركت الدّرس أنسيت نصفها، فذكرت قولها لزرزر الكبير، فقال: كذبت الزّانية!.

تغني مائة صوت لم يعرفها إبراهيم بن المهدي

قال: و حدثني أحمد بن محمد الفيزران(2)، عن بعض أصحابه - أنّ إبراهيم بن المهدي كان يعظّمها و يتوافى لها، ثم تغيّر بعد ذلك استغناء عند نفسه عنها(3)، فصارت إليه، فدعا بعود فغنّت - في طريقة واحدة و إيقاع واحد و إصبع واحدة - مائة صوت، لم يعرف إبراهيم منها صوتا/واحدا، و وضعت العود و انصرفت، فلم تدخل داره حتى طال طلبه لها و تضرّعه إليها في الرجوع إليه.

تخجل إسحاق بن إبراهيم الموصلي لجهله أصوات أبيه

و قال محمد بن الحسن، و ذكر أحمد بن سعيد المالكيّ أنّ إسحاق بن إبراهيم الموصلي خالف بذلا في نسبة صوت غنّته بحضرة المأمون، فأمسكت عنه ساعة، ثم غنّت ثلاثة أصوات في الثقيل الثاني واحدا بعد واحد، و سألت إسحاق عن صانعها فلم يعرفه، فقالت للمأمون: يا أمير المؤمنين، هي و اللّه لأبيه، أخذتها من فيه، فإذا كان هذا لا يعرف غناء أبيه فكيف يعرف غناء غيره! فاشتدّت ذلك على إسحاق حتى رئي ذلك فيه.

أخبرني أبو الحسن الأسديّ، قال: حدثني حمّاد بن إسحاق قال: غنّت بذل يوما بين يدي أبي:

إن تريني ناحل البدن *** فلطول الهمّ و الحزن

كان ما أخشى بواحدتي(4) *** ليته و اللّه لم يكن

ص: 55


1- طرت بابكم: حمت حوله شغفا.
2- في ب، س: «العيزران».
3- في المختار: «بنفسه عنها».
4- في هامش أ: «شيبني الحب و أنحلني».
إسحاق يطرب و يشرب على غنائها

فطرب أبي و اللّه طربا شديدا، و شرب رطلا، و قال لها: أحسنت يا بنتي، و اللّه لا تغنّين صوتا إلاّ شربت عليه رطلا.

قال أبو الفرج: و الغناء في هذا الشعر لبذل خفيف رمل بالوسطى.

في مجلس شراب المأمون

و ذكر أحمد بن أبي طاهر أنّ محمّد بن علي بن طاهر بن الحسين حدّثه أنّ المأمون كان يوما قاعدا يشرب و بيده قدح إذ غنّت بذل:

ألا لا أرى شيئا ألذّ من الوعد

فجعلته:

ألا لا أرى شيئا ألذ من السّحق

/فوضع المأمون القدح من يده و التفت إليها، و قال: بلى يا بذل، النّيك ألذّ من السّحق(1)، فتشوّرت(2)و خافت غضبه، فأخذ قدحه، ثم قال: أتمّي صوتك و زيدي فيه:

/و من غفلة الواشي إذا ما أتيتها *** و من زورتي أبياتها خاليا وحدي

و من صيحة(3) في الملتقى ثم سكتة *** و كلتاهما عندي ألذّ من الخلد

نسبة هذا الصوت
اشارة

ألا لا أرى شيئا ألذّ من الوعد *** و من أملي فيه و إن كان لا يجدي

الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر في رواية عمرو بن بانة.

صوت

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول *** متيّم عندها لم يجز مكبول(4)

و ما سعاد غداة البين إذ رحلوا *** إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول

الشعر لكعب(5) بن زهير بن أبي سلمى المزنيّ، و الغناء لابن محرز، ثاني ثقيل بالبنصر، عن عمرو بن بانة و الهشاميّ.

ص: 56


1- في هامش أ: «يبعد أن يكون هذا صدر عن المأمون».
2- تشورت: خجلت.
3- في المختار: «ضجة».
4- الديوان: «متيم إثرها».
5- ديوانه 6.

6 - أخبار كعب بن زهير

نسب أم كعب

كعب بن زهير بن أبي سلمى المزنيّ، و قد تقدم خبر أبيه(1) و نسبه. و أمّ كعب امرأة من بني عبد اللّه بن غطفان يقال لها كبشة بنت عمّار بن عدىّ بن سحيم، و هي أمّ سائر أولاد زهير.

و هو من المخضرمين، و من فحول الشّعراء.

و سأله الحطيئة أن يقول شعرا يقدّم فيه نفسه، ثم يثنّي به بعده، ففعل.

الحطيئة راوية زهير يسأله أن يذكره في شعره

أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلاّم، و أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، قالا:

أتى الحطيئة كعب بن زهير - و كان الحطيئة راوية زهير و آل زهير - فقال له: يا كعب، قد علمت روايتي لكم أهل البيت و انقطاعي إليكم، و قد ذهب الفحول غيري و غيرك، فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك و تضعني موضعا بعدك! و قال أبو عبيدة في خبره: تبدأ بنفسك فيه و تثنّي بي؛ فإنّ الناس لأشعاركم أروى، و إليها أسرع، فقال كعب(2):

فمن للقوافي شانها من يحوكها *** إذا ما ثوى كعب و فوّز جزول(3)

يقول فلا تعيا بشيء يقوله *** و من قائليها من يسيء و يعمل(4)

/كفيتك لا تلقى من الناس واحدا *** تنخّل منها مثل ما يتنخّل(5)

يثقّفها حتى تلين متونها *** فيقصر عنها كلّ ما يتمثّل(6)

يجيز نصف بيت عجز عنه النابغة

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ، قالا: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي بن الصباح، عن هشام، عن إسحاق بن الجصّاص، قال:

قال زهير بيتا و نصفا ثم أكدى(7)، فمرّ به النّابغة، فقال له: أبا أمامة، أجز، فقال: و ما قلت؟ قال: قلت(8):

ص: 57


1- في الجزء التاسع صفحة 139 و ما بعدها.
2- سبقت هذه الأبيات في الأغاني 165:2، و هي في ديوان كعب 529.
3- فوّز الرجل: إذا قضى نحبه. شانها: جاء بها شائنة معينة. و جرول، هو الحطيئة.
4- في س: «و يعجل»، و المثبت ما في أ و الديوان. و يعمل، أي يتصنع و يتكلف.
5- في الديوان: «مثل ما أتنخل». و تنخل: اصطفى و اختار.
6- تمثل هذا البيت، و تمثل به: ضربه مثلا.
7- أكدى، يريد: امتنع عليه القول فلم يستطع إتمام البيتين.
8- «الموشح» 57.

تزيد الأرض إمّا متّ خفّا(1) *** و تحيا إن حييت بها ثقيلا

نزلت بمستقرّ العرض(2) منها.

أجز، قال: فأكدى و اللّه النابغة، و أقبل كعب بن زهير، و إنه لغلام، فقال أبوه: أجز يا بنيّ، فقال: و ما أجيز؟ فأنشده، فأجاز النصف بيت، فقال:

و تمنع جانبيها أن يزولا(3)

فضمّه زهير إليه، و قال: أشهد أنك ابني.

زهير ينهاه عن الشعر قبل أن يستحكم

و قال ابن الأعرابيّ: قال حماد الراوية:

تحرّك كعب بن زهير و هو يتكلّم/بالشعر، فكان زهير ينهاه مخافة أن يكون لم يستحكم شعره، فيروى له ما لا خير فيه، فكان يضربه في ذلك، /فكلما ضربه يزيد فيه فغلبه، فطال عليه ذلك، فأخذه فحبسه، فقال: و الذي أحلف به لا تتكلم ببيت شعر إلاّ ضربتك ضربا ينكّلك(4) عن ذلك. فمكث محبوسا عدّة أيام، ثم أخبر أنه يتكلّم به، فدعاه فضربه ضربا شديدا، ثم أطلقه و سرّحه في بهمة(5) و هو غليّم صغير، فانطلق فرعى ثم راح عشيّة، و هو يرتجز:

كأنما أحدو ببهمي عيرا *** من القرى موقرة شعيرا

زهير يثيره ليعلم تمكنه من الشعر

فخرج إليه زهير و هو غضبان، فدعا بناقته فكفلها بكسائه، ثم قعد عليها حتى انتهى إلى ابنه كعب، فأخذ بيده فأردفه خلفه، ثم خرج فضرب ناقته و هو يريد أن يبعث ابنه كعبا و يعلم ما عنده من الشعر، فقال زهير حين برز إلى الحيّ:

إني لتعديني على الحيّ(6) جسرة *** تخبّ بوصّال صروم و تعنق

ثم ضرب كعبا، و قال له: أجز يا لكع، فقال كعب:

كبنيانة القرئيّ موضع رحلها *** و آثار نسغيها من الدّفّ أبلق(7)

فقال زهير:

ص: 58


1- خفا، أي خفة.
2- في الموشح: «بمستقر العز».
3- في بيروت: أن يميلا.
4- ينكلك: يصرفك.
5- البهم: الصغار من ولد الضأن.
6- بيروت: «على الهم».
7- في ب، س: «القرّى»، و في حاشية أ: «كقنطرة الرومي». و الدف: المشي، النسع: سير مضفور يجعل زماما للبعير و غيره، و النسعان هنا البطان و الحقب و النسع: المفصل بين الكف و الساعد.

على لاحب مثل المجرّة خلته *** إذا ما علا نشزا من الأرض مهرق(1)

أجز يا لكع، فقال كعب:

منير هداه ليله كنهاره *** جميع، إذا يعلو الحزونة أفرق

زهير يتعسفه ليعلم ما عنده

قال: فتبدّى(2) زهير في نعت النعام، و ترك الإبل، يتعسّفه(3) عمدا ليعلم ما عنده، قال:

و ظلّ بوعساء الكثيب كأنّه *** خباء على صقبي بوان مروّق

صقبى عمودي، بوان: عمود من أعمدة البيت، فقال كعب:

تراخى به حبّ الضّحاء و قد رأى *** سماوة قشراء الوظيفين عوهق(4)

فقال زهير:

تحنّ إلى مثل الحابير جثّم *** لدى منتج من قيضها(5) المتفلّق

الحبابير: جمع حبارى(6)، و تجمع أيضا حباريات، فقال كعب:

تحطّم عنها قيضها عن خراطم *** و عن حدق كالنّبخ لم يتفتّق

الخراطم هاهنا: المناقير، و النّبخ: الجدري، شبّه أعين ولد النعامة به.

إذنه له في قول الشعر

قال: فأخذ زهير بيد ابنه كعب، ثم قال له: قد أذنت لك في الشّعر يا بنيّ.

فلما نزل كعب و انتهى إلى أهله - و هو صغير يومئذ - قال(7):

أبيت فلا أهجو الصديق و من يبع *** بعرض أبيه في المعاشر ينفق

/قال: و هي أوّل قصيدة قالها.

خروجه و بجير إلى رسول اللّه

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثني إبراهيم بن المنذر الحزاميّ، قال: حدثني الحجاج بن ذي الرّقيبة بن عبد الرحمن بن مضرّب بن كعب بن زهير بن أبي سلمى، عن أبيه، عن جدّه/قال:

ص: 59


1- اللاحب: الطريق الواضح. مهرق: أملس.
2- الديوان: «ثم بدأ زهير».
3- الديوان: يعتسف به عمدا».
4- تراخى: تطاول. و الضحاء للإبل، مثل الغداء للناس. سماوة: شخص. قشراء الوظيفين، يعني الساقين. و عوهق: طويلة العنق.
5- القبض: القشرة العليا للبيضة.
6- الحبارى: طائر معروف. و في الديوان: «لدي سكن».
7- من قصيدة في ديوان زهير 245، مطلعها: و يوم تلافيت الصّبا أن يفوتني برحب الفروج ذي محل موثّق يقول أبو عمرو: «إن زهيرا و كعبا اشتركا فيها».

خرج كعب و بجير ابنا زهير بن أبي سلمى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم حتى بلغا أبرق العزّاف(1)، فقال كعب لبجير:

الحق الرجل، و أنا مقيم هاهنا، فانظر ما يقول لك.

إسلام بجير

فقدم بجير على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فسمع منه و أسلم، و بلغ ذلك كعبا، فقال(2):

ألا أبلغا عني بجيرا رسالة *** على أيّ شيء عويب غيرك دلّكا(3)

على خلق لم تلف أمّا و لا أبا *** عليه و لم تدرك عليه أخا لكا

سقاك أبو بكر بكأس رويّة *** فأنهلك المأمون منها و علّكا(4)

إهدار الرسول دمه

و يروى «المأمور». قال: فبلغت أبياته هذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فأهدر دمه، و قال: من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله.

بجير ينذره و يحثه على الإسلام

فكتب إليه أخوه بجير بخبره، و قال له: انجه(5) و ما أراك بمفلت. و كتب إليه بعد ذلك يأمره أن يسلم و يقبل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و يقول له: إنّ من شهد أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمدا رسوله قبل صلّى اللّه عليه و سلم منه، و أسقط ما كان قبل ذلك. فأسلم كعب، و قال القصيدة التي اعتذر فيها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم(6):

بانت سعاد فقلبي اليوم مقبول *** متيّم عندها لم يجز مكبول(7)

إسلامه

قال: ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و كان مجلسه من أصحابه مكان المائدة من القوم حلقة ثم حلقة ثم حلقة، و هو وسطهم، فيقبل على هؤلاء يحدّثهم، ثم على هؤلاء، ثم على هؤلاء، فأقبل كعب حتى دخل المسجد فتخطّى حتى جلس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فقال: يا رسول اللّه، الأمان. قال: و من أنت؟ قال:

كعب بن زهير. قال: أنت الذي يقول... كيف قال يا أبا بكر؟ فأنشده حتى بلغ إلى قوله:

ص: 60


1- أبرق العزاف: ماء لبني أسد.
2- ديوانه 3.
3- في الديوان: فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا؟ و جعل الشطر الثاني من هذا البيت عجز بيت آخر، هو: و خالفت أسباب الهوى و تبعته و ويب مثل ويح و ويس.
4- صدر هذا البيت في الديوان: شربت مع المأمون كأسا رويّة
5- انجه، أي انج، زيدت هاء السكت في آخره.
6- ديوانه 6.
7- انظر ص 81، هامش (1).

سقاك أبو بكر بكأس رويّة *** و أنهلك المأمون منها و علّكا

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: مأمون و اللّه. ثم أنشده - يعني كعبا -:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

قال عمر بن شبّة: فحدثني الحزاميّ، قال: حدثني محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، و أخبرني بمثل ذلك أحمد بن الجعد، قال: حدثنا محمد بن/إسحاق المسيبيّ، قال: حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، قال: أنشدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في مسجده، فلما بلغ إلى قوله(1):

إنّ الرّسول لسيف يستضاء به *** مهنّد من سيوف اللّه مسلول

في فتية من قريش قال قائلهم *** ببطن مكة لمّا أسلموا: زولوا

زالوا فما زال أنكاس و لا كشف *** عند اللقاء و لا خور معازيل(2)

أشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى الحلق أن يسمعوا شعر كعب بن زهير.

قال الحزاميّ: قال عليّ بن المديني: لم أسمع قطّ في خبر كعب بن زهير حديثا قطّ أتمّ و لا أحسن من هذا، و لا أبالي ألاّ أسمع من خبره غير هذا.

رواية أخرى في إسلام بجير و كعب

قال أبو زيد عمر بن شبّة: و مما يروى من خبره أنّ زهيرا كان نظّارا متوقّيا، و أنه رأى في منامه آتيا أتاه، فحمله إلى المساء حتى/كاد يمسّها بيده، ثم تركه فهوى إلى الأرض، فلما احتضر قصّ رؤياه على ولده، و قال:

إني لا أشكّ أنه كائن من خبر السّماء بعدي شيء، فإن كان فتمسّكوا به و سارعوا إليه.

فلما بعث النبيّ عليه السّلام خرج إليه بجير بن زهير فأسلم، ثم رجع إلى بلاد قومه، فلما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أتاه بجير بالمدينة - و كان من خيار المسلمين - و شهد يوم الفتح مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و يوم خيبر و يوم حنين و قال في ذلك(3):

/صبحناهم بألف من سليم *** و ألف من بني عثمان واف

فرحنا و الجياد تجول فيهم *** بأرماح مثقّفة خفاف

و في أكتافهم طعن و ضرب *** و رشق بالمريّشة(4) اللّطاف

ثم ذكر خبره و خبر أخيه كعب مثل ما ذكر الحزاميّ، و زاد في الأبيات التي كتب بها كعب إليه:

فخالفت أسباب الهدى و تبعته *** فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا؟

ثم قال في خبره أيضا: إن كعبا نزل برجل من جهينة، فلما أصبح أتى النبيّ عليه السّلام، فقال: يا رسول اللّه،

ص: 61


1- ديوانه 23.
2- في الديوان: «و لا ميل»، و الكشف: الذين ينهزمون و لا يثبتون. و الميل: جمع أميل، و هو الذي لا يثبت على السرج. و النكس: الضعيف.
3- ديوانه 245.
4- المريشة: السهام ذات الريش.

أ رأيت إن أتيتك بكعب بن زهير مسلما أ تؤمّنه؟ قال: نعم، قال: فأنا كعب بن زهير، فتواثبت الأنصار تقول:

يا رسول اللّه، ائذن لنا فيه. فقال: و كيف، و قد أتاني مسلما! و كفّ عنه المهاجرون و لم يقولوا شيئا، فأنشد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قصيدته:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

حتى انتهى إلى قوله(1):

لا يقع الطّعن إلاّ في نحورهم *** و ما بهم عن حياض الموت تهليل(2)

هكذا في رواية عمر بن شبة، و رواية غيره: «تعليل».

فعند ذلك أومأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى الحلق(3) حوله أن تسمع منه. قال: و عرّض بالأنصار في قصيدته في عدّة مواضع، منها قوله:

كانت مواعيد عرقوب لها مثلا *** و ما مواعيدها إلاّ الأباطيل

/و عرقوب: رجل من الأوس(4).

مدحه الأنصار

فلما سمع المهاجرون بذلك قالوا: ما مدحنا من هجا الأنصار، فأنكروا قوله، و عوتب على ذلك فقال(5):

من سرّه كرم الحياة فلا يزل *** في مقنب من صالحي الأنصار(6)

الباذلين نفوسهم لنبيّهم *** عند الهياج و سطوة الجبّار(7)

و الناظرين بأعين محمرة *** كالجمر غير كليلة الإبصار

و الضّاربين الناس عن أديانهم(8) *** بالمشرفيّ و بالقنا الخطّار

يتطهّرون يرونه نسكا لهم *** بدماء من علقوا من الكفّار(9)

صدموا الكتيبة يوم بدر صدمة *** ذلّت لوقعتها رقاب نزار(10)

ص: 62


1- ديوانه 25.
2- في الديوان: «ما إن بهم»، و تهليل: نكوص و فرار.
3- في س: «الخلق»، و المثبت من أ.
4- في هامش أ: «ليس عرقوب من الأوس، و إنما هو من العماليق، و لم يقل إنه من الأوس قائل، و إنما قيل: إنه من بني سعد». و في شرح ديوان كعب 8: «عرقوب بن نصر من العمالقة، نزل بالمدينة قبل أن ينزلها اليهود بعد عيسى».
5- ديوانه 25.
6- المقنب: الجماعة من الفوارس، نحو الثلاثين أو أقل. و قيل: ألف، و قيل: أقل.
7- في الديوان: «يوم الهياج و قبة».
8- في الديوان: «و الذائدين الناس».
9- في الديوان: «يتطهرون كأنه نسك لهم». و النسك: كل شيء ذبح في الحرم.
10- في الديوان: صدموا عليّا يوم بدر صدمة دانت عليّ بعدها لنزار و قال في شرحه: هو علي بن بكر بن وائل، أبو قبيلة. و يقال: على أخو عبد مناة بن كنانة.
عرقوب المضروب به المثل
اشارة

قال أبو زيد: الذي(1) عناه كعب رجل من الأوس كان وعد رجلا ثمر نخلة، فلما أطلعت أتاه فقال: دعها حتى تلقح(2)، فلما لقحت قال: دعها حتى تزهي(3)، فلما أزهت أتاه فقال: دعها حتى ترطب، /ثم أتاه/فقال:

دعها حتى تتمر، فلما أتمرت عدا عليها ليلا فجدّها، فضرب به في الخلف المثل، و ذلك قول الشماخ(4):

و واعدني ما لا أحاول نفعه *** مواعيد عرقوب أخاه بيترب

و قال المتلمّس لعمرو بن هند:

من كان خلف الوعد شيمته *** و الغدر عرقوب له مثل

و ما قالته الشعراء في ذكر عرقوب يكثر.

قال إبراهيم بن المنذر: حدّثني معن بن عيسى، قال: حدثني الأوقص محمد بن عبد الرحمن المخزوميّ، قال:

حدثني عليّ بن زيد أنّ كعب بن زهير أنشد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم هذه القصيدة في المسجد الحرام، لا في مسجد المدينة.

قال إبراهيم: حدثني محمد بن الضّحّاك بن عثمان عن أبيه، قال:

عنى كعب بن زهير بقوله:

في فتية من قريش قال قائلهم

عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.

صوت

أبيني أ في يمنى يديك جعلتني *** فأفرح(5) أم صيّرتني في شمالك

أبيت كأنّي بين شقّين من عصا *** حذار الرّدى أو خيفة من زيالك(6)

تعاللت كي أشجى و ما بك علّة *** تريدين قتلي، قد ظفرت بذلك

عروضه من الطويل، الشعر لابن الدّمينة بعضه، و بعضه ألحقه المغنّون به، و هو لغيره. و الغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى، و فيه لإبراهيم ثقيل أول بالبنصر.

ص: 63


1- يريد الذي عناه بقوله: «مواعيد عرقوب».
2- في هامش أ: «تبلج... أبلج».
3- تزهى: تظهر الحمرة و الصفرة في الثمر.
4- في «اللسان»: «ت ر ب» منسوب إلى الأشجعي، و كذلك في «البلدان». و في هامش أ: «يترب من أرض اليمامة. و رواه القاسم بن سلام بالثاء، يريد المدينة».
5- أ: «فأطمع».
6- زيالك: فراقك.

7 - أخبار ابن الدّمينة و نسبه

نسبه

الدّمينة أمّه، و هي الدّمينة بنت حذيفة السّلولية، و اسم ابن الدّمينة عبد اللّه بن عبيد اللّه، أحد بني عامر بن تيم اللّه بن مبشّر بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف(1) بن أفتل و هو خثعم بن أنمار بن إراش(2) بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك.

و قيل: إنّ أكلب هو ابن ربيعة بن نزار ليس ابن ربيعة بن عفرس، و إنهم حالفوا خثعم و نزلوا فيها فنسبوا إليهم.

و يكنى ابن الدّمينة أبا السّريّ.

و كان بلغه أن رجلا من أخواله من سلول يأتي امرأته ليلا فرصده حتى أتاها فقتله، ثم قتلها بعده، ثم اغتالته سلول بعد ذلك فقتلته.

أخبرني بخبره عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا أبو سعيد السّكّريّ، عن محمد بن حبيب، عن أبي عبيدة و ابن الأعرابيّ، و أضفت إلى ذلك ما رواه الزّبير بن بكّار عن أصحابه، و ما اتّفقت الروايتان فيه، فإذا اختلفتا نسبت كل خبر إلى راويه.

سلولي يرمي بامرأته

قال الزّبير: حدثني موهوب بن رشيد الكلابيّ، و إبراهيم بن سعد السّلميّ، و عمر بن إبراهيم السّعدي، عن ميناس بن عبد الصمد، عن مصعب بن عمرو السّلوليّ، أخي مزاحم بن عمرو، قالوا جميعا:

/إنّ رجلا من سلول يقال له مزاحم بن عمرو كان يرمى بامرأة ابن الدّمينة، و كان اسمها حمّاء، قال السكريّ: كان اسمها حمّادة، فكان يأتيها و يتحدّث إليها حتى اشتهر ذلك، فمنعه ابن الدّمينة من إتيانها، و اشتدّ عليها.

مزاحم يشهر به

فقال مزاحم يذكر ذلك - و هذا من رواية ابن حبيب، و هي أتمّ و أصحّ(3) -:

يا بن الدّمينة و الأخبار يرفعها *** وخد النّجائب و المحقور يخفيها

ص: 64


1- كذا ضبط في أ، و في الحاشية من نسخة: «خلف» و في جمهرة أنساب العرب 390 «حلف»، و قيده بالحاء المهملة غير المنقوطة مضمومة و لام ساكنة، ثم قال: و في الناس من يقول: «حلف»، بالحاء مفتوحة غير منقوطة و لام مكسورة.
2- في س و المختار: «إياس».
3- معاهد التنصيص 160/1 و في ديوان ابن الدمينة تروي بعض هذه الأبيات لمزاحم.

/يا بن الدّمينة إن تغضب لما فعلت *** فطال خزيك(1) أو تغضب مواليها

أو تبغضوني فكم من طعنة نفذ *** يغذو خلال اختلاج الجوف غاذيها(2)

جاهدت فيها لكم إني لكم أبدا *** أبغي معايبكم عمدا فآتيها

فذاك عندي لكم حتّى تغيّبني *** غبراء مظلمة هار نواحيها

أغشى نساء بني تيم إذا هجعت *** عنّي العيون و لا أبغي مقاريها(3)

كم كاعب من بني تيم قعدت لها *** و عانس حين ذاق النوم حاميها

كقعدة الأعسر العلفوف(4) منتحيا *** متينة من متون النّبل ينحيها(5)

و شهقة عند حسّ(6) الماء تشهقها *** و قول ركبتها: قض(7)، حين تثنيها

/علامة كيّة ما بين عانتها *** و بين سبّتها(8) لا شلّ كاويها

و تعدل الأير إن زاغت فتبعثه *** حتى يقيم برفق صدره فيها

بين الصّفوقين في مستهدف و مد(9)*** ذي حرّة ذاق طعم الموت صاليها

ما ذا ترى ابن عبيد اللّه في امرأة *** ليست بمحصنة عذراء حاويها

أيّام أنت طريد لا تقاربها *** و صادف القوس في الغرّات باريها

ترى عجوز بني تيم ملفّعة(10)*** شمطا عوارضها ربدا دواهيها(11)

إذ تجعل الدّفنس الورهاء عذرتها *** قشارة من أديم ثم تفريها(12)

حتى يظلّ هدان القوم يحسبها(13)*** بكرا و قبل هوى في الدار هاويها

يستدرج مزاحما و يقتله

قال الزّبير عن رجاله، و ابن حبيب عن ابن الأعرابيّ:

لما بلغ ابن الدّمينة شعر مزاحم أتى امرأته فقال لها: قد قال فيك هذا الرجل ما قال، و قد بلغك! قالت: و اللّه ما رأى ذلك منّي قط. قال: فمن أين له العلامات؟ قالت: وصفهنّ له النساء. قال: هيهات و اللّه أن يكون ذلك

ص: 65


1- في أ: «حزنك».
2- في هامش أ: غذا، إذا سال، و في المختار: «يعدو... عاديها».
3- مقاريها: محالّ قراها للضيوف.
4- في هامش أ: «العلفوف: الرجل الضخم»، و في «اللسان»: رجل علفوف: جاف كثير اللحم و الشعر.
5- في س و «المعاهد»: «من متين النبل يرميها». و المثبت من أ.
6- في المختار: «حبس الماء».
7- في «اللسان» قض: حكاية صوت الركبة إذا صاتت، يقال: قالت ركبته: قض، و أنشد الشطر الثاني.
8- السبة: الاست.
9- و مد: شديد الحر.
10- في أ: «معلقة».
11- عوارضها: جمع عارضة؛ و هي صفحة الحد. و الربد: الغبر، جمع ربداء.
12- في هامش أ: «الدفنس: الهمة المسنة». و في «اللسان»: الدفنس: الحمقاء. و الورهاء الكثيرة الشحم، و عذرتها: بكارتها.
13- هدان القوم، الهدان: الأحمق الثقيل.

كذلك. ثم أمسك مدّة و صبر حتى ظنّ أن مزاحما قد نسي القصّة، ثم أعاد عليها القول، و أعادت الحلف أنّ ذلك مما وصفه له النساء. فقال لها: و اللّه لئن لم تمكّنين منه لأقتلنّك. فعلمت أنه سيفعل ذلك، فبعثت إليه و واعدته ليلا، و قعد/له ابن الدّمينة و صاحب له، فجاءها للموعد، فجعل يكلّمها و هي مكانها فلم تكلمه، فقال لها:

يا حمّاء، ما هذا الجفاء الليلة؟ قال: فتقول له هي بصوت ضعيف: ادخل، فدخل فأهوى بيده ليضعها عليها، فوضعها على ابن الدّمينة، فوثب عليه هو و صاحبه، و قد جعل له حصى في ثوب، فضرب بها كبده حتى قتله، و أخرجه فطرحه ميّتا، فجاء أهله فاحتملوه، و لم يجدوا به أثر السلاح، فعلموا أنّ ابن الدّمينة قتله.

يهجو سلولا

قال الزّبير في حديثه: و قد قال ابن الدّمينة في تحقيق ذلك(1):

قالوا: هجتك سلول اللّؤم مخفية *** فاليوم أهجو سلولا لا أخافيها

قالوا: هجاك سلوليّ، فقلت لهم: *** قد أنصف الصّخرة الصّماء راميها

رجالهم شرّ من يمشي و نسوتهم *** شرّ البريّة واست ذلّ حاميها

يحككن بالصّخر أستاها بها نقب *** كما يحكّ نقاب الجرب طاليها

/قال: و قال أيضا يذكر دخول مزاحم و وضعه يده عليه:

لك الخير إن واعدت حمّاء فالقها *** نهارا، و لا تدلج إذا الليل أظلما

فإنك لا تدري أ بيضاء طفلة *** تعانق أم ليثا من القوم قشعما(2)

فلما سرى عن ساعديّ و لحيتي *** و أيقن أني لست حمّاء جمجما

يقتل امرأته و صغيرة له منها

قالوا جميعا: ثم أتى ابن الدّمينة امرأته، فطرح على وجهها قطيفة، ثم جلس عليها حتى قتلها، فلما ماتت قال(3):

إذا قعدت على عرنين جارية *** فوق القطيفة فادعوا لي بحفّار

/فبكت بنيّة له منها، فضرب بها الأرض فقتلها، و قال متمثلا: «لا تتخذنّ(4) من كلب سوء جروا(5)».

أخو المقتول يستعدي الوالي

قال الزّبير في خبره، عن عمّه مصعب، عن حميد بن أنيف، قال:

فخرج جناح أخو المقتول إلى أحمد بن إسماعيل فاستعداه على ابن الدّمينة، فبعث إليه فحبسه.

ص: 66


1- ديوانه 8، معاهد التنصيص 167.
2- في المختار: «ضيغما».
3- ديوانه 182، معاهد التنصيص 167.
4- في أ، و المعاهد: «لا تغذوا» و في المستقصى: «لا تقتن».
5- المستقصى 258/2 رقم 892.
أم المقتول تحضض أخويه على الثأر

و قالوا جميعا: قالت أمّ أبان والدة مزاحم بن عمرو المقتول، و هي من خثعم، ترثي ابنها، و تحضّض مصعبا و جناحا أخويه(1):

بأهلي و مالي، بل بحلّ عشيرتي *** قتيل بني تيم بغير سلاح

فهلاّ قتلتم بالسّلاح ابن أختكم *** فتظهر فيه للشهود جراح

فلا تطمعوا في الصلح ما دمت حيّة *** و ما دام حيّا مصعب و جناح

أ لم تعلموا أنّ الدّوائر بيننا *** تدور، و أنّ الطالبين شحاح

اشتداد الشربين خثعم و بني سلول

قالوا: فلما طال حبسه، و لم يجد عليه أحمد بن إسماعيل سبيلا و لا حجّة خلاّه، و قتلت بنو سلول رجلا من خثعم مكان المقتول، و قتلت خثعم بعد ذلك نفرا من سلول. و لهم في ذلك قصص و أشعار كثيرة.

مقتله

قالوا: و أقبل ابن الدّمينة حاجّا بعد مدّة طويلة، فنزل بتبالة(2)، فعدا عليه مصعب أخو المقتول لمّا رآه، و قد كانت أمّه حرّضته عليه، و قالت: اقتل ابن الدّمينة، فإنه قتل أخاك، و هجا قومك، و ذمّ أختك، /و قد كنت أعذرك قبل هذا، لأنك كنت صغيرا، و قد كبرت الآن. فلما أكثرت عليه خرج من عندها، و بصر بابن الدّمينة واقفا ينشد الناس، فغدا إلى جزّار فأخذ شفرته، و عدا على ابن الدّمينة، فجرحه جراحتين، فقيل: إنه مات لوقته. و قيل: بل سلم تلك الدّفعة، و مرّ به مصعب بعد ذلك و هو في سوق العبلاء ينشد، فعلاه بسيفه حتى قتله، و عدا و تبعه الناس حتّى اقتحم دارا و أغلقها على نفسه، فجاءه رجل من قومه فصاح به: يا مصعب، إن لم تضع يدك في يد السلطان قتلتك العامّة فاخرج، فلما عرفه قال له: أنا في ذمّتك حتى تسلّمني إلى السلطان؟ قال: نعم، فخرج إليه و وضع يده في يده، فسلّمه إلى السلطان، فقذفه في سجن تبالة.

يحرض قومه و يوبخهم

قال السّكّريّ في خبره: و مكث ابن الدّمينة جريحا ليلته، و مات في غد، فقال في تلك الليلة يحرّض قومه(3)و يوبخهم:

هتفت بأكلب و دعوت قيسا *** فلا خذلا دعوت و لا قليلا

ثأرت مزاحما و سررت قيسا *** و كنت لما هممت به فعولا

/فلا تشلل يداك و لا تزالا *** تفيدان الغنائم و الجزيلا

فلو كان(4) ابن عبد اللّه حيّا *** لصبّح في منازلها سلولا

ص: 67


1- «ديوان»: 8، و «المعاهد»: 168/1.
2- بلد باليمن.
3- ديوان 10 - «معاهد التنصيص»: 169/1.
4- ابن عبد اللّه، هو رزق بن عبد اللّه الخثعمي ابن الدمينة.
مصعب السلولي يحرض قومه لإنقاذه

قال: و بلغ مصعبا أنّ قوم ابن الدّمينة يريدون أن يقتحموا عليه سجن تبالة فيقتلوه به غيلة؛ فقال يحرّض قومه:

لقيت أبا السّريّ و قد تكالا *** له حقّ العداوة في فؤادي(1)

فكاد الغيظ يفرطني إليه *** بطعن دونه طعن السّداد

/إذا نبحت كلاب السجن حولي *** طمعت هشاشة و هفا فؤادي

طماعة أن يدقّ السجن قومي *** و خوفا أن يبيّتني الأعادي

فما ظنّي بقومي شرّ ظنّ *** و لا أن يسلموني في البلاد

و قد جدّلت(2) قاتلهم فأمسى *** يمجّ دم الوتين على الوساد

هروب مصعب السلولي إلى صنعاء

فجاءت بنو عقيل إليه ليلا، فكسروا السجن، و أخرجوه منه.

قال مصعب: فلما أفلت من السجن هرب إلى صنعاء، فقدم علينا و أبى(3) بها يومئذ وال، فنزل على كاتب لأبي كان مولى لهم، فرأيته حينئذ و لم يكن جلدا من الرجال.

مما يغني به من شعره
اشارة

و مما يغنّى به من شعر ابن الدّمينة قوله من قصيدة أولها(4):

أقمت على زمّان(5) يوما و ليلة *** لأنظر ما واشي أميمة صانع

فقصرك(6) مني كلّ عام قصيدة *** تخبّ بها خوص المطيّ النّزائع

و هذه القصيدة ذكر أحمد بن يحيى ثعلب أنّ عبد اللّه بن شبيب أنشده إياها، عن محمد بن عبد اللّه الكرانيّ لابن الدّمينة. و الذي يغنّى به منها قوله(7):

صوت

أقضّي نهاري بالحديث و بالمنى *** و يجمعني و الهمّ بالليل جامع

ص: 68


1- ديوانه 21، معاهد التنصيص: 169/1. تكالا: أصله تكالأ بمعنى كمن و استتر.
2- جدلت: صرعته على الجدالة؛ الجدالة: الأرض. و في المختار: و قد «جندلت».
3- في ب، س: «و إني» و المثبت في أ.
4- ديوانه 87.
5- زمّان، بكسر أوله و تشديد ثانيه و آخره نون: محلة بني مازن بالبصرة. و في أ: «زمان» بفتح أوله. و في ديوانه «رمان» بالراء المهملة، و رمان بفتح الراء: جبل في بلاد طيئ.
6- س: «فقصدك»، و يقال: قصرك أن تفعل كذا؛ أي حسبك و كفايتك و غايتك، و كذلك قصارك و قصاراك.
7- هذه الأبيات الثلاثة، نسبها صاحب الآمالي 314:2، لقيس بن ذريح، و هي من قصيدة طويلة يخلطها الناس كثيرا بقصيدة لمجنون ليلى، توافقها في الوزن و القافية. و انظر ديوانه 170:1.

نهاري نهار الناس حتى إذا بدا *** لي الليل شاقتني(1) إليك المضاجع

لقد ثبتت في القلب منك محبّة *** كما ثبتت في الراحتين الأصابع

غنّاه إبراهيم رملا بالوسطى، عن عمرو بن بانة.

يحب أميمة و يتزوجها
اشارة

نسخت من كتاب أبي سعد، قال: حدثنا ابن أبي السّريّ، عن هشام، قال:

هوي ابن الدّمينة امرأة من قومه يقال لها أميمة، فهام بها مدّة، فلما وصلته تجنّى عليها، و جعل ينقطع عنها، ثم زارها ذات يوم فتعاتبا طويلا، ثم أقبلت عليه فقالت(2):

صوت

و أنت الذي أخلفتني ما وعدتني *** و أشمت بي من كان فيك يلوم

و أبرزتني للناس ثم تركتني *** لهم غرضا أرمى و أنت سليم

فلو أنّ قولا يكلم الجسم قد بدا *** بجسمي من قول الوشاة كلوم

الشعر لأميمة: امرأة ابن الدّمينة، و الغناء لإبراهيم الموصليّ خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو و الهشامي.

و ذكر حبش أنّ لإبراهيم أيضا فيه/لحنا من الثقيل الأول بالوسطى، و ذكر/حكم الوادي أنّ هذا اللحن ليعقوب الوادي، و فيه لعريب خفيف ثقيل.

قال: فأجابها ابن الدّمينة، فقال(3):

و أنت التي قطّعت قلبي حزازة *** و مزّقت قرح(4) القلب فهو كليم

و أنت التي كلفتني دلج السّرى *** و جون القطا بالجلهتين(5) جثوم

و أنت التي أحفظت قومي فكلّهم *** بعيد الرّضا داني الصدود كظيم(6)

قال: ثم تزوّجها بعد ذلك، و قتل و هي عنده.

قصة عاشقين
اشارة

فأخبرني الحسين بن يحيى، قال: قال حمّاد بن إسحاق: حدثني أبي، قال: حدثنا سعيد بن سلم، عن أبي الحسن الينبعيّ، قال:

بينا أنا و صديق لي من قريش نمشي بالبلاط(7) ليلا إذا بظلّ نسوة في القمر، فالتفتنا فإذا بجماعة نسوة،

ص: 69


1- في هامش أ من نسخة: «هزتني» و هي أيضا رواية الديوان: 88.
2- و كذا في ديوان ابن الدمينة: 42 البيتان الأول و الثاني، أما الثالث فمنسوب فيه إلى ابن الدمينة، و انظر «معاهد التنصيص»: 162/1 و ديوان الحماسة: 318/3، و فيه نسبت الأبيات إلى أمامة لا أميمة.
3- ديوان الحماسة 318:3، ديوانه 42.
4- في هامش أ من نسخة: «جرح».
5- الجلهتان: موضع.
6- نسب هذا البيت في رواية ديوانه 42 إلى صاحبته.
7- البلاط: موضع بنى مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و سوق المدينة.

فسمعت واحدة منهنّ و هي تقول: أ هو هو؟ فقالت الأخرى: نعم، و اللّه إنه لهو هو. فدنت مني ثم قالت: يا كهل، قل لهذا الذي معك:

ليست لياليك في خاخ(1) بعائدة *** كما عهدت و لا أيّام ذي سلم

فقلت له: أجب، فقد سمعت. فقال: قد و اللّه قطع بي، و أرتج عليّ، فأجب عنّي، فالتفتّ إليها ثم قلت:

فقلت لها: يا عزّ كلّ مصيبة *** إذا وطّنت يوما لها النفس ذلّت

/فقالت المرأة: أوه! ثم مضت و مضينا، حتى إذا كنّا بمفرض طريقين مضى الفتى إلى منزله، و مضيت أنا إلى منزلي؛ فإذا أنا بجويرية تجذب ردائي، فالتفتّ إليها، فقالت: المرأة التي كلّمتك تدعوك. فمضيت معها حتى دخلت دارا، ثم صرت إلى بيت فيه حصير، و ثنيت لي وسادة فجلست عليها، ثم جاءت جارية بوسادة مثنيّة فطرحتها، و جاءت المرأة فجلست عليها، و قالت: أنت المجيب؟ قلت: نعم. قالت: ما كان أفظّ جوابك و أغلظه! قلت: و اللّه ما حضرني غيره. فبكت، ثم قالت لي: و اللّه ما خلق اللّه خلقا أحبّ إليّ من إنسان كان معك. قلت: أنا الضامن لك عنه ما تحبّين. قالت: أو تفعل؟ قلت: نعم. فوعدتها أن آتيها به في الليلة القابلة. و انصرفت، فإذا الفتى ببابي، فقلت: ما جاء بك؟ قال: علمت أنها سترسل إليك، و سألت عنك فلم أجدك فعلمت أنك عندها، فجلست أنتظرك. فقلت: فقد كان كلّ ما ظننت، و وعدتها أن آتيها بك في الليلة القابلة. فمضى ثم أصبحنا فتهيّأنا، و رحنا فإذا الجارية تنتظرنا، فمضت أمامنا، حتى دخلنا الدار، فإذا برائحة الطّيب، و جاءت فجلست مليّا، ثم أقبلت عليه فعاتبته طويلا، ثم قالت:

صوت

و أنت الذي أخلفتني ما وعدتني *** و أشمت بي من كان فيك يلوم(2)

و أبرزتني للناس ثم تركتني *** لهم غرضا أرمي و أنت سليم

فلو أنّ قولا يكلم الجسم قد بدا *** بجسمي من قول الوشاة كلوم

/ثم سكتت، فسكت الفتى هنيهة، ثم قال:

غدرت و لم أغدر(3) و خنت و لم أخن *** و في دون هذا للمحبّ عزاء

/جزيتك ضعف الودّ ثم صرمتني *** فحبّك في قلبي إليك أداء

فالتفتت إليّ و قالت: أ لا تسمع ما يقول؟ قد أخبرتك! قال: فغمزته فكفّ، ثم قالت(4):

فالتفتت إليّ و قالت: أ لا تسمع ما يقول؟ قد أخبرتك! قال: فغمزته فكفّ، ثم قالت(4):

صوت

تجاهلت وصلي حين لجّت عمايتي *** و هلاّ صرمت الحبل إذ أنا مبصر!

و لي من قوى الحبل الذي قطعته *** نصيب و إذ رأيي جميع موفّر

ص: 70


1- خاخ: موضع بين مكة و المدينة.
2- راجع هامش 2 من صفحة 100.
3- كذا ضبط في أ، و الفعل كضرب و نصر و سمع، و البيتان في «المعاهد»: 164/1.
4- و المعاهد: 164/1.

و لكنّما آذنت بالصّرم(1) بغتة *** و لست على مثل الذي جئت أقدر

غنّى في هذه الأبيات إبراهيم الموصليّ ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، و ذكر حبش أن فيها ثاني ثقيل بالبنصر.

قال: فقال الفتى مجيبا لها(2):

لقد جعلت نفسي - و أنت اجترمته *** و كنت أحبّ الناس - عنك تطيب

فبكت، ثم قالت: أو قد طابت نفسك! لا(3) و اللّه ما فيك خير بعدها، فعليك السلام. ثم قامت و التفتت إليّ، و قالت: قد علمت أنك لا تفي بضمانك عنه، و انصرفنا.

العباس بن الأحنف ينشد شعرا له
اشارة

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال:

حدثني أبي، قال: كان العباس بن الأحنف إذا سمع شيئا يستحسنه أطرفني به، و أفعل مثل ذلك، فجاءني يوما، فوقف بين البابين، و أنشد لابن الدّمينة(4):

صوت

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد *** فقد زادني مسراك وجدا على وجد

أ إن هتفت ورقاء في رونق الضحى *** على فنن غضّ النبات من الرّند(5)

بكيت كما يبكي الحزين صبابة *** و ذبت من الشّوق المبرّح و الصّدّ

بكيت كما يبكي الوليد، و لم تكن *** جزوعا، و أبديت الذي لم تكن تبدي(6)

و قد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا *** يملّ و أنّ النأي يشفى من الوجد

بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا *** على أنّ قرب الدار خير من البعد

و زيد على ذلك بيت، و هو:

و لكنّ قرب الدّار ليس بنافع *** إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ(7)

ثم ترنّح ساعة، و ترجّح(8) أخرى، ثم قال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا! فقلت: لا، ارفق بنفسك.

/الغناء في هذه الأبيات لإبراهيم له فيه لحنان: أحدهما ما خوريّ بالبنصر أوله البيت الثاني، و الآخر خفيف ثقيل بالوسطى أوله البيت الأول.

ص: 71


1- في المعاهد: «بالصهر».
2- معاهد التنصيص: / 164.
3- كذا في أ و هو الوجه.
4- ديوانه 85 باختلاف في الترتيب. الحماسة بشرح التبريزي 145/3 و معاهد التنصيص 160/1.
5- في شرح الديوان: الهتاف: رفع الصوت، و الورقاء: الحماسة التي لونها إلى السواد، و منه قيل للرماد: أورق. و الرّونق: البياض. و الرند: الأسل.
6- في الديوان: «جليدا»، و هو الوجه.
7- في المختار و المعاهد: «على أن قرب الدار».
8- في س. ف: «و دبخ». و دبخ الرجل: قبب ظهره و طأطأ رأسه. و في المعاهد: «ثم ترنح ساعة ترنح النشوان».
ابن هرمة و صديق له
اشارة

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني عبد اللّه بن إبراهيم الجمحيّ، قال:

حدثني أحمد بن سعيد عن ابن زبنّج راوية ابن هرمة، قال:

لقي ابن هرمة بعض أصدقائه بالبلاط، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من المسجد، قال: فأيّ شيء صنعت هناك؟ قال: كنت جالسا مع إبراهيم بن الوليد المخزوميّ، قال: فأيّ شيء قال لك؟ قال: أمرني أن أطلّق امرأتي.

قال: فأيّ شيء قلت له؟ قال: ما قلت له شيئا. قال: فو اللّه ما قال لك ذلك إلاّ لأمر أظهرته عليه و كتمتنيه، أ فرأيت إن أمرته بطلاق امرأته، أ يطلّقها؟ قال: لا، و اللّه، قال: فابن الدّمينة كان أنصف منك، كان يهوى امرأة من قومه، فأرسلت إليه: إنّ أهلي قد نهوني عن لقائك/و مراسلتك، فأرسل إليها(1):

صوت

أطعت(2) الآمريك بقطع(3) حبلي *** مريهم في أحبّتهم بذاك

فإن هم طاوعوك فطاوعيهم *** و إن عاصوك فاعصي من عصاك

أما و الرّاقصات بكلّ فجّ(4) *** و من صلّى بنعمان الأراك

لقد أضمرت حبّك في فؤادي *** و ما أضمرت حبّا من سواك

/في هذه الأبيات لإسحاق رمل، و فيها لشارية خفيف رمل بالوسطى، و لعريب خفيف ثقيل، ابتداؤه ينشد في الثالث و الرابع ثم الثاني و الأول، و فيه لمتيّم خفيف رمل آخر.

رد عاشق على صاحبته ببيتين له
اشارة

و حدّثني بعض أصدقائنا، عن أبي بكر بن دريد - و لم أسمعه منه - قال: حدّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ، عن عمّه، و وجدته أيضا في بعض الكتب بغير هذا الإسناد عن الأصمعي، فجمعت الحكايتين، قال:

مررت بالكوفة، و إذا أنا بجارية تطلّع من جدار إلى الطريق، و فتى واقف و ظهره إليّ، و هو يقول لها: أسهر فيك و تنامين عني، و تضحكين مني و أبكي، و تستريحين و أتعب، و أمحضك المودّة و تمذقينها(5) لي، و أصدقك و تنافقيني، و يأمرك عدوّي بهجري فتطيعينه، و يأمرني نصيحي بذلك فأعصيه! ثم تنفّس و أجهش باكيا. فقالت له: إنّ أهلي يمنعونني منك، و ينهونني عنك؛ فكيف أصنع؟ فقال لها:

أطعت الآمريك بصرم حبلي *** مريهم في أحبّتهم بذاك(6)

ص: 72


1- معاهد التنصيص 160/1. و في شرح الحماسة للتبريزي 175/3 نسبت لخليد مولى العباس بن محمد المعروف بابن العميثل، و كذا في معجم البلدان (نعمان).
2- في أ: «أريت الأيك»، و في الهامش من نسخة: «أطعت».
3- في المختار: «ببتّ حبلي».
4- في المختار: «بذات عرق».
5- أمحضك المودة: أخلصها. و تمذقينها، من مذق اللبن، إذا خلطه بالماء، أي لا تخلصين المودة.
6- في أ: «أريت» و في هامشها من نسخة: «أطعت».

فإن هم طاوعوك فطاوعيهم *** و إن عاصوك فاعصي من عصاك

ثم التفت فرآني، فقال يا فتى؛ ما تقول أنت فيما قلت؟ فقلت له: و اللّه لو عاش ابن أبي ليلى ما حكم إلاّ بمثل حكمك.

تمّت أخبار ابن الدّمينة

صوت

و إنّ الذي بيني و بين بني أبي *** و بين بني عمّي لمختلف جدّا(1)

فما أحمل الحقد القديم عليهم *** و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

و ليسوا إلى نصري سراعا و إن هم *** دعوني إلى نصر أتيتهم شدّا

إذا أكلوا لحمي و فرت لحومهم *** و إن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

يعاتبني في الدّين قومي و إنما *** تديّنت في أشياء تكسبهم حمدا

عروضه من الطويل. الشعر للمقنّع الكنديّ، و الغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو. و فيه من روايته أيضا لمالك خفيف رمل بالوسطى. و ذكر علي بن يحيى أنّ لحن ابن سريج خفيف ثقيل. و ذكر إبراهيم أنّ فيه لقفا النّجار لم يذكر طريقته، و أظنّه من خفيف الثقيل.

ص: 73


1- الأبيات في معجم الشعراء 333، و اللآلى 615 مع اختلاف في الرواية. و في اللآلي: «و أنشد يعقوب بن السكيت هذا الشعر لحاتم».

8 - نسب المقنّع الكندي و أخباره

سبب تلقيبه بالمقنع

المقنّع لقب غلب عليه؛ لأنه كان أجمل الناس وجها، و كان إذا سفر اللّثام عن وجهه/أصابته العين.

قال الهيثم: كان المقنّع أحسن الناس وجها، و أمدّهم قامة، و أكملهم خلقا، فكان إذا سفر لقع - أي أصابته أعين الناس - فيمرض، و يلحقه عنت(1)؛ فكان لا يمشي إلاّ مقنّعا.

نسبه

و اسمه محمد بن ظفر بن عمير(2) بن أبي شمر بن فرعان بن قيس بن الأسود بن عبد اللّه بن الحارث الولاّدة - سمّي بذلك لكثرة ولده - بن عمرو بن معاوية(3) بن كندة بن عفير بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

شاعر أموي مقل

شاعر مقلّ من شعراء الدولة الأموية، و كان له محلّ كبير، و شرف و مروءة و سؤدد في عشيرته.

قال الهيثم بن عديّ: كان عمير جدّه سيّد كندة، و كان عمّه عمرو بن أبي شمر ينازع أباه الرّئاسة و يساجله فيها، فيقصّر عنه.

أتلف ماله في عطاياه

و نشأ محمد بن عمير المقنّع، فكان متخرّقا في عطاياه، سمح اليد بماله، لا يردّ سائلا عن شيء حتى أتلف كلّ ما خلفه أبوه من مال، فاستعلاه(4)/بنو عمّه عمرو بن أبي شمر بأموالهم و جاههم.

بنو عمه لم يزوجوه أختهم لفقره و دينه

و هوي بنت عمّه عمرو فخطبها إلى إخوتها، فردّوه و عيّروه بتخرّقه و فقره و ما عليه من الدّين؛ فقال هذه الأبيات المذكورة.

ص: 74


1- عنت، أي مشقة، و في أ: «و يلحقه عيب».
2- في أ: «عميرة»، و المثبت يوافق ما في الشعر و الشعراء أيضا 715، و في اللآلي: «هو محمد بن عميرة» و يقال: «ابن عمير».
3- في المختار: «بن معاوية بن ثور بن مربع بن معاوية بن كندة».
4- في أ: «فاستعداه».
شاعر يفضل شعرا له تعريضا ببخل خليفة
اشارة

و أخبرني محمد بن يحيى الصوليّ، قال: حدثني محمد بن زكريا الغلابيّ، عن العتبيّ، قال: حدثني أبو خالد من ولد أميّة بن خلف، قال:

قال عبد الملك بن مروان - و كان أول خليفة ظهر منه بخل -: أيّ الشعراء أفضل؟ فقال له: كثير بن هراسة، يعرّض ببخل عبد الملك: أفضلهم المقنّع الكنديّ حيث يقول:

إني أحرّض أهل البخل كلّهم *** لو كان ينفع أهل البخل تحريضي

ما قلّ مالي إلاّ زادني كرما *** حتى يكون برزق اللّه تعويضي

و المال يرفع من لو لا دراهمه *** أمسى يقلّب فينا طرف مخفوض

لن تخرج البيض عفوا من أكفهم *** إلاّ على وجع(1) منهم و تمريض

كأنّها من جلود الباخلين بها *** عند النوائب تحذى بالمقاريض(2)

فقال عبد الملك - و عرف ما أراد -: اللّه أصدق من المقنّع حيث يقول: وَ الَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا (3).

صوت

يا بن هشام يا عليّ النّدى *** فدتك نفسي و وقتك الرّدى

نسيت عهدي أو تناسيتني *** لمّا عداني عنك صرف النّوى

الشعر و الغناء لإسحاق الموصليّ رمل بالبنصر.

ص: 75


1- في أ: «على وجل».
2- تحذى: تقطع.
3- سورة الفرقان 67.

9 - خبر لإسحاق و ابن هشام

اشارة

و هذا الشعر يقوله في عليّ بن هشام أيام كان إسحاق بالبصرة، و له إليه رسالة حسنة، هذا موضع ذكرها، أخبرنا بها عليّ بن يحيى المنجّم، عن أبيه، و وقعت إلينا من عدّة وجوه:

رسالته إلى علي بن هشام

أن إسحاق كتب إلى عليّ بن هشام: «جعلت فداك! بعث إليّ أبو نصر مولاك بكتاب منك إليّ يرتفع عن قدري، و يقصر عنه شكري، فلو لا ما أعرف من معانيه لظننت أنّ الرسول غلط بي فيه، فما لنا و لك يا عبد اللّه، تدعنا حتى إذا أنسينا الدنيا و أبغضناها، و رجونا السلامة من شرّها، أفسدت قلوبنا و علّقت أنفسنا، فلا أنت تريدنا، و لا أنت تتركنا؛ فبأيّ شيء تستحلّ هذا! فأما ما ذكرته من شوقك/إليّ فلولا أنك حلفت عليه لقلت:

يا من شكا عبثا إلينا شوقه *** شكوى المحبّ و ليس بالمشتاق

لو كنت مشتاقا إليّ تريدني *** ما طبت نفسا ساعة بفراقي

و حفظتني حفظ الخليل خليله *** و وفيت لي بالعهد و الميثاق

هيهات قد حدثت أمور بعدنا *** و شغلت باللذّات عن إسحاق

و قد تركت - جعلت فداك - ما كرهت من العتاب في الشعر و غيره، و قلت أبياتا لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد، و أستقبل الشّمال، و أتنسّم أرواحكم فيها، ثم يكون ما اللّه أعلم به، و إن كنت تكرهها تركتها إن شاء اللّه:

ألا قد أرى أنّ الثّواء قليل *** و أن ليس يبقى للخليل خليل

و إني و إن مكّنت(1) في العيش حقبة *** كذي سفر قد حان منه رحيل

/فهل لي إليّ أن تنظر العين مرّة *** إلى ابن هشام في الحياة سبيل؟!

فقد خفت أن ألقى المنايا بحسرة *** و في النفس منه حاجة و غليل

و أمّا بعد، فإني أعلم أنك - و إن لم تسل عن حالي - تحبّ أن تعلمها و أن تأتيك عنّي سلامة؛ فأنا يوم كتبت إليك سالم البدن، مريض القلب.

يطلب رأي ابن هشام في كتاب سيصنعه

و بعد: فأنا - جعلت فداك - في صنعة كتاب مليح ظريف، فيه تسمية القوم و نسبهم و بلادهم، و أسبابهم و أزمنتهم، و ما اختلفوا فيه من غنائهم، و بعض أحاديثهم، و أحاديث قيان الحجاز و الكوفة و البصرة المعروفات و المذكورات، و ما قيل فيهنّ من الأشعار، و لمن كنّ، و إلى من صرن، و من كان يغشاهنّ، و من كان يرخّص في

ص: 76


1- في هامش أ من نسخة: «و إن مليت».

السماع من الفقهاء و الأشراف، فأعلمني رأيك فيما تشتهي لأعمل على قدر ذلك، إن شاء اللّه.

و قد بعثت إليك بأنموذج، فإن كان كما قال القائل: «قبح اللّه كلّ دنّ أوّله درديّ»(1)، لم نتجشّم إتمامه، و ربحنا العناء(2) فيه، و إن كان كما قال العربيّ: «إن الجواد عينه فراره»(3) أعلمتنا؛ فأتممناه مسرورين بحسن رأيك فيه، «إن شاء اللّه».

و هذا مما يدلّ على أنّ «كتاب الأغاني» المنسوب إلى إسحاق ليس له؛ و إنما ألف ما رواه حماد ابنه عنه من دواوين القدماء، غير مختلط بعضها ببعض.

وحشة بعد ألفة

و كان إسحاق يألف عليّا و أحمد ابني هشام و سائر أهلهما إلفا شديدا، /ثم وقعت بينهم نبوة و وحشة في أمر لم يقع إلينا إلاّ لمعا غير مشروحة، فهجاهم هجاء كثيرا، و انفرجت الحال بينه و بينهم.

شعره في مصعب و صباح

فأخبرني محمد بن خلف وكيع و يحيى بن عليّ بن يحيى و غيرهما، عن أبي أيوب سليمان المدينيّ، عن مصعب، قال:

قال لي أحمد بن هشام: أ ما تستحي أنت و صباح بن خاقان، و أنتما شيخان من مشايخ المروءة و العلم و الأدب أن شبّب بذكركما إسحاق في الشعر، و هو مغنّ مذكور، فيقول:

قد نهانا مصعب و صباح *** فعصينا مصعبا و صباحا

عذلا ما عذلا أم ملاما *** فاسترحنا منهما فاستراحا

و يروى:

علما في العذل أم قد ألاما

و يروى:

عذلا عذلهما ثم أناما

/فقلت: إن كان فعل فما قال إلاّ خيرا، إنما ذكر أنّا نهيناه عن خمر شربها، و امرأة عشقها، و قد أشاد باسمك في الشعر بأشدّ من هذا، قال: و ما هو؟ قلت: قوله:

شعره في عيّ أحمد بن هشام

و صافية تغشى(4) العيون رقيقة *** رهينة عام في الدّنان و عام

ص: 77


1- دردى الزيت و غيره: ما يبقى في أسفله، و أصل معناه ما يركد في أسفل كل مائع كالأشربة و الأدهان.
2- في أ: «الغناء».
3- في «اللسان»: من أمثالهم: إن الجواد عينه فراره، أي يغنيك شخصه و منظرة عن أن تختبره و أن تفر أسنانه. و في «اللسان - فرر»: رواه الجوهري بالفتح، و عن أبي سعيد السيرافي أنه كان يكسر الفاء و يقول: قد لج في ضم الفاء من لا يعتد به. و انظر المستقصى 315/1.
4- في أ: «تعشى العيون».

أدرنا بها الكأس الرّويّة موهنا *** من الليل حتى انجاب كلّ ظلام

فما ذرّ قرن الشّمس حتى كأننا *** من العيّ نحكي أحمد بن هشام

/قال: أو قد فعل العاضّ بظر أمّه! قلت(1): إي و اللّه لقد فعل.

إلى هاهنا رواية مصعب.

أحمد بن هشام يتوعده

و وجدت هذا الخبر في غير روايته، و فيه زيادة قد ذكرتها، قال: فآلى أحمد بن هشام أن يبلغ فيه كلّ مبلغ يقدر عليه، و أن يجتهد في اغتياله.

علي بن هشام يصلح بينه و بين أخيه أحمد

قال إسحاق: حضرت بدار الخليفة، و حضر عليّ بن هشام، فقال لي: أ تهجو أخي و تذكره بما لغني من القبيح؟ فقلت: أو يتعرّض أخوك لي و يتوعّدني! فو اللّه ما أبالي بما يكون منه؛ لأني أعلم أنه لا يقدر لي على ضرّ، و النفع فلا أريده منه، و أنا شاعر مغنّ، و اللّه لأهجونّه بما أفرى به جلده، و أهتك مروءته، ثم لأغنينّ في أقبح ما أقوله فيه غناء تسري به الرّكبان. فقال لي: أو تهب لي عرضه، و أصلح بينكما؟ فقلت: ذاك إليك. و إن فعلته فلك لا له. ففعل ذلك، و فعلته به.

ابن عائشة يهجو مصعبا و صباحا

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدثني محمد بن يزيد النحويّ، قال:

كان صباح بن خاقان المنقريّ نديما لمصعب الزّبيري، فقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن بن عائشة - و كان خليعا من أهل البصرة -:

من يكن إبطه كآباط ذا الخل *** ق فإبطاي في عداد الفقاح(2)

لي إبطان يرميان جليسي *** بشبيه السّلاح بل بالسّلاح

فكأنّي من نتن هذا و هذا *** جالس بين مصعب و صباح

ينشد الفضل بن الربيع
اشارة

أخبرني عليّ بن يحيى المنجم، قال: حدثني أبي، قال: حدثني إسحاق، /قال: دخلت على الفضل بن الربيع يوما، فقال: ما عندك؟ قلت: بيتان أرجو أن يكونا فيما يستطرف، و أنشدته:

سنغضي عن المكروه من كلّ ظالم *** و نصبر حتى يصنع اللّه بالفضل

فتنتصر الأحرار ممّن يصيمها *** و تدرك أقصى ما تطالب من ذحل(3)

قال: فدمعت عينه، و قال: من آذاك لعنه اللّه؟ فقلت: بنو هاشم، و أخبرته الخبر.

ص: 78


1- في الأصل: قال.
2- الفقحة: الدبر، و الجمع فقاح.
3- الذحل: الثأر.

قال يحيى بن علي: و لم يذكر بأي شيء أخبره.

صوت

قد حصّت البيضة رأسي(1) فما *** أطعم نوما غير تهجاع

أسعى على جلّ بني مالك *** كلّ امرئ في شأنه ساع

من يذق الحرب يجد طعمها *** مرّا، و تتركه بجعجاع(2)

لا نألم القتل و نجزي به الأع *** داء كيل الصّاع بالصّاع(3)

الشعر لأبي قيس بن الأسلت، و الغناء لإبراهيم، خفيف ثقيل أول. و قيل: بل هو لمعبد.

ص: 79


1- حصت: أذهبت الشعر من رأسه. و البيضة هنا: الخوذة.
2- الجعجاع: الأرض التي لا أحد بها، و استشهد الجوهري بهذا البيت على الأرض الغليظة.
3- الأبيات في الجمهرة 653، 654، و ابن الأثير 414:1.

10 - نسب أبي قيس بن الأسلت و أخباره

نسبه

/أبو قيس لم يقع إليّ اسمه غير ابن الأسلت(1)، و الأسلت لقب أبيه(2)، و اسمه عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عمارة بن مرّة بن مالك بن الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر.

من شعراء الجاهلية

و هو شاعر من شعراء الجاهلية، و كانت الأوس قد أسندت إليه حربها، و جعلته رئيسا عليها، فكفى و ساد.

و أسلم ابنه عقبة بن أبي قيس، و استشهد يوم القادسيّة.

و كان يزيد بن مرداس السّلميّ أخو عباس بن مرداس الشاعر قتل قيس بن أبي قيس بن الأسلت في بعض حروبهم، فطلبه بثأره هارون بن النعمان بن الأسلت، حتى تمكّن من يزيد بن مرداس، فقتله بقيس بن أبي قيس، و هو ابن عمه.

و لقيس يقول أبوه أبو قيس بن الأسلت:

أ قيس إن هلكت و أنت حيّ *** فلا تعدم مواصلة الفقير

و هذا الشّعر الذي فيه الغناء يقوله أبو قيس في خرب بعاث(3).

رأي الأوس في حربها

قال هشام بن الكلبي: كانت الأوس قد أسندوا أمرهم في يوم بعاث/إلى أبي قيس بن الأسلت الوائليّ، فقام في حربهم و آثرها على كلّ أمر حتى شحب و تغيّر، و لبث أشهرا لا يقرب امرأة. ثم إنه جاء ليلة فدقّ على امرأته، و هي كبشة بنت ضمرة بن مالك بن عديّ بن عمرو بن عوف، ففتحت له؛ فأهوى إليها بيده فدفعته، و أنكرته، فقال:

أنا أبو قيس! فقالت: و اللّه ما عرفتك حتى تكلّمت. فقال في ذلك أبو قيس هذه القصيدة، و أولها(4):

قالت و لم تقصد لقيل الخنا(5): *** مهلا فقد أبلغت أسماعي

استنكرت لونا له شاحبا(6) *** و الحرب غول ذات أوجاع

ص: 80


1- في هامش أ: «اسمه صيفي، و هو أشهر من ألا يقع لأحد». و قال ابن حجر في الإصابة: و قيل عبد اللّه، و قيل غير ذلك.
2- في ج: «لقب عليه»، و في م: «و الأسلت و اسمه صيفي، و هذا أشهر من ألا يقع لأحد».
3- بعاث، بالضمّ: موضع من المدينة على ليلتين. و في ياقوت: «و حكاه صاحب العين بالغين المعجمة، و لم يسمع من غيره».
4- من قصيدة مفضلية برقم 75 (ص 283).
5- لم تقصد: لم تأت القصد، و هو الوسط في الأمور، و هو العدل. و الخنا: الكلام الرديء.
6- رواية المفضليات: «أنكرته حين توسمته».

من يذق الحرب يجد طعمها *** مرّا و تتركه بجعجاع(1)

يوم بعاث
يوم بعاث و سببه

فأما السبب في هذا اليوم - و هو يوم بعاث - فيما أخبرني به محمد بن جرير الطبريّ، قال: حدثنا(2) محمد بن حميد الرازيّ، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، و أضفت إليه ما ذكره ابن الكلبيّ عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي عبيدة، عن محمد بن عمّار بن ياسر، و عن عبد الرحمن بن سليمان بن عبد اللّه بن حنظلة الغسيل ابن أبي عامر الراهب:

الأوس تطلب عون بني قريظة و النضير

أنّ الأوس كانت استعانت ببني قريظة و النّضير في حروبهم التي كانت بينهم و بين الخزرج، و بلغ ذلك الخزرج، فبعثت إليهم: إنّ الأوس فيما بلغنا/قد استعانت بكم علينا، و لن يعجزنا أن نستعين بأعدادكم و أكثر منكم من العرب، فإن ظفرنا بكم فذاك ما تكرهون، و إن ظفرتم لم ننم عن الطّلب أبدا، فتصيروا إلى ما تكرهون، و يشغلكم من شأننا ما أنتم الآن منه خالون، و أسلم لكم من ذلك أن تدعونا و تخلّوا بيننا و بين إخواننا.

الخزرج تحتفظ برهائن من قريظة و النضير

فلما سمعوا ذلك علموا أنه الحقّ؛ فأرسلوا إلى الخزرج: إنه قد كان الذي بلغكم، و التمست الأوس نصرنا، و ما كنا لننصرهم عليكم أبدا. فقالت لهم الخزرج: فإن كان ذلك كذلك فابعثوا إلينا برهائن تكون في أيدينا. فبعثوا إليهم أربعين غلاما منهم، ففرّقهم الخزرج في دورهم فمكثوا بذلك مدة.

عمرو بن النعمان يرغب قومه في منازل بني قريظة و النضير

ثم إنّ عمرو بن النعمان البياضيّ قال لقومه بياضة: إنّ عامرا أنزلكم منزل سوء بين سبخة و مفازة، و إنه و اللّه لا يمسّ رأسي غسل حتى أنزلكم منازل بني قريظة و النّضير على عذب الماء و كريم النّخل. ثم راسلهم: إمّا أن تخلوا /بيننا و بين دياركم نسكنها، و إمّا أن نقتل رهنكم، فهمّوا أن يخرجوا من ديارهم، فقال لهم كعب بن أسد القرظيّ:

يا قوم، امنعوا دياركم، و خلّوه يقتل الرّهن، و اللّه ما هي إلاّ ليلة يصيب فيها أحدكم امرأته حتّى يولد له غلام مثل أحد الرّهن.

غدر عمرو بن النعمان بالرهن

فاجتمع رأيهم على ذلك، فأرسلوا إلى عمرو بألاّ نسلّم لكم دورنا، و انظروا الذي عاهدتمونا عليه في رهننا، فقوموا لنا به، فعدا عمرو بن النّعمان على رهنهم هو و من أطاعه من الخزرج، فقتلوهم و أبى عبد اللّه بن أبيّ - و كان سيّدا حليما - و قال: هذا عقوق و مأثم و بغي؛ فلست معينا عليه، و لا أحد من قومي أطاعني. و كان عنده في الرّهن

ص: 81


1- المفضليات: «و تحبسه بجعجاع» و انظر رقم 2 من هامش ص 116.
2- تاريخ الطبري 357:2.

سليم(1) بن أسد القرظيّ - /و هو جدّ محمد بن كعب القرظيّ - فخلّى عنه، و أطلق ناس من الخزرج نفرا فلحقوا بأهليهم، فناوشت الأوس الخزرج يوم قتل الرهن شيئا من قتال غير كبير.

اجتماع قريظة و النضير على معاونة الأوس على الخزرج

و اجتمعت قريظة و النّضير إلى كعب بن أسد، أخي بني عمرو بن قريظة، ثم توامروا أن يعينوا الأوس على الخزرج؛ فبعث إلى الأوس بذلك.

بنو قريظة و النضير يؤوون النبيت في دورهم

ثمّ أجمعوا عليه، على أن ينزل كلّ أهل بيت من النّبيت(2) على بيت من قريظة و النضير، فنزلوا معهم في دورهم، و أرسلوا إلى النّبيت يأمرونهم بإتيانهم، و تعاهدوا ألاّ يسلموهم أبدا، و أن يقاتلوا معهم حتى لا يبقى منهم أحد. فجاءتهم النّبيت فنزلوا مع(3) قريظة و النّضير في بيوتهم، ثم أرسلوا إلى سائر الأوس في الحرب و القيام معهم على الخزرج، فأجابوهم إلى ذلك. فاجتمع الملأ منهم، و استحكم أمرهم، و جدّوا في حربهم، و دخلت معهم قبائل من أهل المدينة، منهم بنو ثعلبة - و هم من غسان - و بنو زعوراء، و هم من غسّان.

مشاورة الخزرج عبد اللّه بن أبيّ في حرب الأوس

فلما سمعت بذلك الخزرج اجتمعوا، ثم خرجوا، و فيهم عمرو بن النعمان البياضيّ، و عمرو بن الجموح السّلميّ، حتى جاءوا عبد اللّه بن أبيّ، و قالوا له: قد كان الذي بلغك من أمر الأوس و أمر قريظة و النّضير و اجتماعهم على حربنا، و إنّا نرى أن نقاتلهم، فإن هزمناهم لم يحرز أحد منهم معقله و لا ملجأه حتى لا يبقى منهم أحد.

فلما فرغوا من مقالتهم قال عبد اللّه بن أبيّ خطيبا و قال: إنّ هذا بغي/منكم على قومكم و عقوق، و و اللّه ما أحبّ أنّ رجلا(4) من جراد لقيناهم.

تحذير عبد اللّه بن أبيّ عاقبة الغدر

و قد بلغني أنهم يقولون: هؤلاء قومنا منعونا الحياة أ فيمنعوننا الموت! و اللّه إني أرى قوما لا ينتهون أو يهلكوا عامّتكم، و إني لأخاف إن قاتلوكم أن ينصروا عليكم لبغيكم عليهم، فقاتلوا قومكم كما تقاتلونهم، فإذا ولّوا فخلّوا عنهم، فإذا هزموكم فدخلتم أدنى البيوت خلّوا عنكم. فقال له عمرو بن النعمان: انتفخ و اللّه سحرك(5)يا أبا الحارث حين بلغك حلف الأوس قريظة و النضير! فقال عبد اللّه: و اللّه لا حضرتكم أبدا، و لا أحد أطاعني أبدا، و لكأني انظر إليك قتيلا تحملك أربعة في عباءة(6).

ص: 82


1- كذا في المختار، و هو يوافق ما في الإصابة، و في الأصول: «سليمان».
2- النبيت: أبو حي باليمن، و اسمه عمرو بن مالك. القاموس: «نبت»، و في جمهرة أنساب العرب 319: النبيت بنو عمرو بن مالك بن الأوس.
3- كذا في (ج) و المختار. و في ب. م: فنزلوا معهم.
4- الرجل من الجراد: القطعة العظيمة منه.
5- أصل السحر، بفتح فسكون: «الرئة». و انتفخ سحرك: جاوزت قدرك».
6- العباءة: كساء معروف. «القاموس».
تولية الخزرج عمرو بن النعمان أمر حربهم

و تابع عبد اللّه بن أبيّ رجال من الخزرج، منهم عمرو بن الجموح الحراميّ. و اجتمع كلام الخزرج على أن رأسوا عليهم عمرو بن النعمان البيّاضيّ، و ولّوه أمر حربهم، و لبثت الأوس و الخزرج أربعين ليلة يتصنّعون للحرب، و يجمع بعضهم لبعض، و يرسلون إلى خلفائهم من قبائل العرب.

حضير الكتائب يحرض الأوس على القتال

فأرسلت الخزرج إلى جهينة و أشجع، فكان الذي ذهب إلى أشجع ثابت بن قيس بن شمّاس، فأجابوه، /و أقبلوا إليهم، و أقبلت جهينة إليهم أيضا. و أرسلت الأوس إلى مزينة، و ذهب حضير الكتائب الأشهليّ إلى أبي قيس بن الأسلت، فأمره أن يجمع له أوس اللّه، فجمعهم له أبو قيس، فقام حضير، فاعتمد على قوسه، و عليه نمرة(1) تشفّ عن عورته، فحرّضهم/و أمرهم بالجدّ في حربهم، و ذكر ما صنعت بهم الخزرج من إخراج النّبيت و إذلال من تخلّف من سائر الأوس، في كلام كثير.

استجابة الأوس لما أراده حضير

فجعل كلّما ذكر ما صنعت بهم الخزرج و ما ركبوه منهم يستشيط و يحمى، و تقلص(2) خصيتاه، حتى تغيبا، فإذا كلّموه بما يحبّ تدلّتا حتى ترجعا إلى حالهما. فأجابته أوس اللّه بالذي يحبّ من النّصرة و الموازرة و الجدّ في الحرب.

قال هشام: فحدثني عبد المجيد بن أبي عيسى، عن خير(3)، عن أشياخ من قومه: أن الأوس اجتمعت يومئذ إلى حضير بموضع يقال له الجباة(4)، فأجالوا الرّأي، فقالت الأوس: إن ظفرنا بالخزرج لم نبق منهم أحدا و لم نقاتلهم كما كنا نقاتلهم. فقال حضير: يا معشر الأوس؛ ما سمّيتم الأوس إلاّ لأنكم تئوسون(5) الأمور الواسعة. ثم قال:

يا قوم قد أصبحتم دوارا(6) *** لمعشر قد قتلوا الخيارا

يوشك أن يستأصلوا الدّيارا

قال: و لما اجتمعت بالجباة طرحوا بين أيديهم تمرا، و جعلوا يأكلون/و حضير الكتائب جالس، و عليه بردة له قد اشتمل بها الصمّاء(7)، و ما يأكل معهم، و لا يدنو إلى التمر غضبا و حنقا.

ص: 83


1- النمرة: بردة من صوت يلبسها الأعراب.
2- تقلص: تنقبض.
3- في أ: «عن حبر».
4- كذا في المختار. و الجباة: ما حول البئر، أو أنه مخفف الجبأة، بمعنى الأكمة.
5- في «اللسان» «أوس»: و أوس قبيلة من اليمن، و اشتقاقه من آس يئوس أوسا، و الاسم الإياس، و هو من العوض.
6- أصل الدوار صنم كانت العرب تنصبه و يجعلون موضعا حوله يدورون به، و اسم ذلك الصنم و الموضع الدوار، و هو بالضم، و قد يفتح. قال في «اللسان»: و الأشهر في اسم الصنم دوار بالفتح. و منه قول امرئ القيس في معلقته: عذارى دوار في طلاء مذبّل
7- في «اللسان»: «اشتمال الصماء: أن تجلل جسدك بثوبك، نحو شملة الأعراب بأكسيتهم؛ و هو أن يردّ الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى و عاتقه الأيسر، ثم يردّه ثانية من خلفه على يده اليمنى و عاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا».
عقد الرئاسة له

فقال: يا قوم، اعقدوا لأبي قيس بن الأسلت. فقال لهم أبو قيس: لا أقبل ذلك؛ فإني لم أرأس على قوم في حرب قطّ إلاّ هزموا و تشاءموا برياستي. و جعلوا ينظرون إلى حضير و اعتزاله أكلهم و اشتغاله بما هم فيه من أمر الحرب، و قد بدت خصيتاه من تحت البرد، فإذا رأى منهم ما يكره من الفتور و التخاذل تقلّصتا غيظا و غضبا، و إذا رأى منهم ما يحبّ من الجدّ و التشمير في الحرب عادتا لحالهما.

و أجابت إلى ذلك أوس مناة، و جدّوا في الموازرة و المظاهرة. و قدمت مزينة على الأوس، فانطلق حضير و أبو عامر الراهب بن صيفيّ إلى أبي قيس بن الأسلت، فقالا: قد جاءتنا مزينة، و اجتمع إلينا من أهل يثرب ما لا قبل للخزرج به، فما الرّاي إن نحن ظهرنا عليهم: الإنجاز أم البقيّة؟ فقال أبو قيس: بل البقيّة، فقال أبو عامر:

و اللّه لوددت أنّ مكانهم ثعلبا ضبّاحا(1). فقال أبو قيس: اقتلوهم حتى يقولوا: بزا بزا(2) - كلمة كانوا يقولونها إذا غلبوا - فتشاجروا في ذلك، و أقسم حضير ألاّ يشرب الخمر أو يظهر و يهدم مزاحما أطم عبد اللّه بن أبيّ.

حضير الكتائب يقسم على هدم مزاحم أطم عبد اللّه بن أبيّ

فلبثوا شهرين يعدّون و يستعدّون، ثم التقوا ببعاث، و تخلّف عن الأوس بنو حارثة بن الحارث، فبعثوا إلى الخزرج: إنّا و اللّه ما نريد قتالكم. /فبعثوا إليهم أن ابعثوا إلينا برهن منكم يكونون في أيدينا، فبعثوا إليهم اثني عشر رجلا، منهم خديج، أبو رافع بن خديج.

و بعاث: من أموال بني قريظة، فيها مزرعة يقال لها قورى؛ فلذلك تدعى بعاث الحرب(3).

حشد القوات

و حشد الحيّان فلم يتخلف عنهم إلاّ من لا ذكر له. و لم يكونوا حشدوا قبل ذلك في يوم التقوا فيه، فلما رأت الأوس الخزرج أعظموهم، و قالوا لحضير: يا أبا أسيد، لو حاجزت/القوم، و بعثت إلى من تخلّف من حلفائك من مزينة! فطرح قوسا كانت في يده، ثم قال: أنتظر مزينة، و قد نظر إليّ القوم و نظرت إليهم! الموت قبل ذلك.

فرار الأوس من المعركة

ثم حمل و حملوا، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت الأوس حين وجدوا مسّ السلاح، فولّوا مصعدين في حرّة قورى نحو العريض(4)، و ذلك وجه طريق نجد.

الخزرج يعيرون الأوس

فنزل حضير، و صاحب بهم الخزرج: أين الفرار؟ ألا إنّ نجدا سنة - أي مجدب - يعيّرونهم.

ص: 84


1- ضباحا، أي يخرج من فمه صوتا ليس بصهيل و لا حمحمة. و في المختار: «صياحا».
2- في المختار: «نزا نزا».
3- في المختار: «بعاث الخزرج».
4- قوري: موضع بظاهر المدينة، و قد ضبطت في أ بضم القاف. و العريض: واد بالمدينة.
حضير يعقر نفسه ليثبت قومه

فلما سمع حضير طعن بسنان رمحه فخذه، و نزل و صاح: وا عقراه! و اللّه لا أريم(1) حتى أقتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا.

فتعطّفت عليه الأوس، و قام على رأسه غلامان من بني عبد الأشهل، /يقال لهما: محمود و لبيد - ابنا خليفة بن ثعلبة - و هما يومئذ معرسان(2) ذوا يطش، فجعلا يرتجزان و يقولان:

أيّ غلامي ملك ترانا *** في الحرب إذ دارت بنا رحانا

و عدّد الناس لنا مكانا

مقتل عمرو بن النعمان

فقاتلا حتى قتلا، و أقبل سهم حتى أصاب عمرو بن النعمان رأس الخزرج فقتله، لا يدرى من رمى به، إلاّ أنّ بني قريظة تزعم أنه سهم رجل يقال له أبو لبابة، فقتله.

فبينا عبد اللّه بن أبيّ يتردّد على بغلة له قريبا من بعاث، يتحسّس أخبار القوم، إذ طلع عليه بعمرو بن النّعمان ميّتا في عباءة، يحمله أربعة إلى داره. فلما رآه عبد اللّه بن أبيّ قال: من هذا؟ قالوا: عمرو بن النعمان. قال: ذق وبال العقوق.

انهزام الخزرج

و انهزمت الخزرج، و وضعت الأوس فيهم السّلاح، و صاح صائح: يا معشر الأوس، أسجحوا(3) و لا تهلكوا إخوتكم فجوارهم خير من جوار الثّعالب.

قريظة و النضير تسلبان الخزرج

فتناهت الأوس، و كفّت عن سلبهم بعد إثخان فيهم، و سلبتهم قريظة و النّضير، و حملت الأوس حضيرا من الجراح التي به، و هم يرتجزون حوله و يقولون:

كتيبة زيّنها مولاها *** لا كهلها هدّ و لا فتاها(4)

تحريق الأوس نخل الخزرج و دورهم

و جعلت الأوس تحرّق على الخزرج نخلها و دورها؛ فخرج سعد بن معاذ الأشهليّ حتى وقف على باب بني سلمة، و أجارهم و أموالهم جزاء لهم بيوم الرّعل(5)، و كان للخزرج على الأوس يوم يقال له يوم مغلّس(6)

ص: 85


1- لا أريم: لا أزول و لا أفارق موضعي.
2- المعرس، بكسر الميم: السائق الحاذق بالسياق؛ أي هما مع حذقهما ذوا بطش.
3- أسجحوا: أحسنوا العفو.
4- الهد بالكسر: الضعيف كأنه مهدود، و بالفتح الجواد كأنه يهد ماله، أي يهضمه. و في هذه المسألة خلاف بين الأصمعي و ابن الأعرابي. هامش أ.
5- الرعل: موضع قبل و اقم، و فيه قتلت بنو حارثة سماكا أبا حضير الكتائب، و أجلوا حضيرا و قومه عن ديارهم. البكري 661.
6- ديوان قيس بن الخطيم 119: «و كان من أيام العرب يوم مغرس و مقبس، و هما حائطان كانا لدجبية إلى آكام بني عدي بن النجار». و الحائط: البستان.

و مضرّس. و كان(1) سعد بن معاذ حمل يومئذ جريحا إلى عمرو بن الجموح الحراميّ، فمنّ عليه و أجاره و أخاه يوم رعل، و هو على الأوس، من القطع و الحرق، فكافأه سعد بمثل ذلك في يوم بعاث.

و أقسم كعب بن أسد القرظيّ ليذلّنّ عبد اللّه بن أبيّ، و ليحلقنّ رأسه تحت مزاحم؛ فناداه كعب: انزل يا عدوّ اللّه. فقال له عبد اللّه: أنشدك اللّه و ما خذّلت عنكم. فسأل عما قال، فوجده حقّا، فرجع عنه.

العدول عن هدم أطم عبد اللّه بن أبيّ

و أجمعت الأوس على أن تهدم مزاحما أطم عبد اللّه بن أبيّ، و حلف حضير ليهدمنّه، فكلّم فيه، فأمرهم أن يريثوا(2) فيه، فحفروا فيه كوّة. و أفلت يومئذ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شمّاس أخا بني الحارث بن الخزرج، و هي النعمة التي كافأه بها ثابت في الإسلام يوم بني قريظة.

أبو قيس بن الأسلت لا يوافق على هدم دور الخزرج

و خرج حضير الكتائب و أبو عامر الراهب حتى أتيا قيس بن الأسلب بعد الهزيمة، فقال له حضير: يا أبا قيس؛ إن رأيت أن تأتي الخزرج قصرا قصرا و دارا دارا، نقتل و نهدم، حتى لا يبقى منهم أحد! /فقال/أبو قيس: و اللّه لا نفعل ذلك؛ فغضب حضير، و قال: ما سمّيتم الأوس(3) إلا لأنكم تئوسون الأمر أوسا. و لو ظفرت منّا الخزرج بمثلها ما أقالوناها. ثم انصرف إلى الأوس، فأمرهم بالرجوع إلى ديارهم.

موت حضير من جروحه

و كان حضير جرح يومئذ جراحة شديدة، فذهب به كليب(4) بن صيفيّ بن عبد الأشهل إلى منزله في بني أميّة بن زيد، فلبث عنده أيّاما ثم مات من الجراحة التي كانت به، فقبره اليوم في بني أمية بن زيد.

يهودي أعمى يتتبع سير القتال

و كان يهوديّ أعمى من بني قريظة يومئذ في أطم من آطامهم، فقال لابنة له: أشرفي على الأطم، فانظري ما فعل القوم، فأشرفت، فقالت: أسمع الصوت قد ارتفع في أعلى قورى، و أسمع قائلا يقول: اضربوا يا آل الخزرج. فقال: الدولة إذا على الأوس، لا خير في البقاء. ثم قال: ما ذا تسمعين؟ قالت: أسمع رجالا يقولون:

يا آل الأوس، و رجالا يقولون: يا آل الخزرج. قال: الآن حمي القتال. ثم لبث ساعة، ثم قال: أشرفي فاسمعي، فأشرفت، فقالت: أسمع قوما يقولون:

نحن بنو صخرة أصحاب الرّعل

قال: تلك بنو عبد الأشهل، فظفرت و اللّه الأوس - و صخرة أمّهم بنت مرّة بن ظفر أمّ بني عبد الأشهل - ثم وثب فرحا نحو باب الأطم فضرب رأسه بحلق بابه(5)، و كان من حجارة فسقط فمات.

ص: 86


1- في أ: «و هو أن سعد بن معاذ».
2- الريث: الإبطاء، و في المختار: «يؤثروا».
3- في أ: «ما سميتم الأوس أوسا».
4- في المختار: «طلبة بن صيفي».
5- في هامش أ: «حاق بابه: عضادة الباب»، و في المختار: «بحاف بابه».

و كان أبو عامر قد حلف ليركزن رمحه في أصل مزاحم أطم عبد اللّه بن أبيّ، فخرجت جماعة من الأوس حتى أحاطوا به، و كانت تحت أبي عامر/جميلة بنت عبد اللّه بن أبيّ، و هي أمّ حنظلة الغسيل بن أبي عامر، فأشرف عليهم عبد اللّه، فقال: إني و اللّه ما رضيت هذا الأمر، و لا كان عن رأيي، و قد عرفتم كراهتي له، فانصرفوا عني، فقال أبو عامر: لا و اللّه، لا أنصرف حتّى أركز لوائي في أصل أطمك.

فلمّا رأى حنظلة أنه لا ينصرف، قال لهم: إنّ أبي شديد الوجد بي، فأشرفوا بي عليه، ثم قولوا: و اللّه لئن لم تنصرف عنّا لنرمينّ برأسه إليك. فقالوا ذلك له، فركز رمحه في أصل الأطم ليمينه(1) ثم انصرف، فذلك قول قيس بن الخطيم(2):

صبحنا به الآطام حول مزاحم *** قوانس أولى بيضنا كالكواكب(3)

أبو قيس بن الأسلت يأسر مخلد بن الصامت ثم يخلي سبيله

و أسر أبو قيس بن الأسلت يومئذ مخلد بن الصامت الساعديّ أبا مسلمة بن مخلّد، اجتمع إليه ناس من قومه من مزينة و من يهود، فقالوا: اقتله، فأبى، و خلّى سبيله، و أنشأ يقول:

أسرت مخلّدا فعفوت عنه(4) *** و عند اللّه صالح ما أتيت

مزينة عنده و يهود قورى *** و قومي كلّ ذلكم كفيت(5)

خفاف بن ندبة يرثي حضير الكتائب

و قال خفاف بن ندبة، يرثي حضير الكتائب - و كان نديمه و صديقه -:

لو أنّ المنايا حدن عن ذي مهابة *** لهبن حضيرا يوم أغلق واقما(6)

أطاف به حتى إذا الليل جنّة *** تبوّأ منه منزلا متناعما

/و قال أيضا يرثيه:

أتاني حديث فكذّبته *** و قيل: خليلك في المرمس

فيا عين بكّي حضير النّدى *** حضير الكتائب و المجلس

/و يوم شديد أوار الحديد *** تقطّع منه عرى الأنفس

صليت به و عليك الحدي *** د ما بين سلع إلى الأعرس

فأودى بنفسك يوم الوغى *** و نقّى ثيابك لم تدنس

ص: 87


1- أي لينفذ يمينه.
2- ديوانه 40.
3- القوانس: جمع القونس: أعلى بيضة الحديد أو معدنها.
4- في أ: «أسرنا».
5- في أ: «لقيت».
6- و اقم: أطم بالمدينة، و في معجم البلدان: فلو كان حي ناجيا من حمامه لكان حضير يوم أغلق واقما

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، قال: حدثني داود بن محمد بن جميل، عن ابن الأعرابيّ، قال: قال لي الهيثم بن عدي: كنّا جلوسا عند صالح بن حسان، فقال لنا:

و أخبرني عمّي عن الكرانيّ، عن النوشجاني، عن العمريّ، عن الهيثم بن عديّ، قال: قال لنا صالح بن حسّان، و أخبرني به الأخفش عن المبرّد، قال: قال لي صالح بن حسّان:

بيت خفر في امرأة خفرة شريفة

أنشدوني بيتا خفرا في امرأة خفرة شريفة، فقلنا: قول حاتم:

يضيء لنا البيت الظليل خصاصه *** إذا هي يوما حاولت أن تبسّما(1)

فقال: هذه من الأصنام، أريد أحسن من هذا. قلنا: قول الأعشى(2):

كأنّ مشيتها من بيت جارتها *** مرّ السحابة لا ريث و لا عجل

فقال: هذه خرّاجة ولاّجة كثيرة الاختلاف. قلنا: بيت ذي الرّمّة(3):

تنوء بأخراها فلأيا قيامها(4) *** و تمشي الهوينا من قريب فتبهر

/فقال: هذا ليس ما أردت، إنما وصف هذه بالسمن، و ثقل البدن. فقلنا: ما عندنا شيء. فقال: قول أبي قيس بن الأسلت(5):

و يكرمها جاراتها فيزرنها *** و تعتلّ عن إتيانهنّ فتعذر

و ليس لها أن تستهين بجارة(6) *** و لكنها منهنّ تحيا و تخفر

أحسن بيت وصفت به الثريا

ثم قال: أنشدوني أحسن بيت وصفت به الثريّا. قلنا: بيت ابن الزّبير الأسديّ:

و قد لاح في القور الثّريّا كأنما(7) *** به راية بيضاء تخفق للطّعن

قال: أريد أحسن من هذا، قلنا: بيت امرئ القيس:

إذا ما الثريّا في السماء تعرّضت *** تعرض أثناء الوشاح المفصّل(8)

قال: أريد أحسن من هذا. قلنا: بيت ابن الطّثريّة:

إذا ما الثريّا في السماء كأنها *** جمان و هى من سلكه فتسرّعا(9)

ص: 88


1- «ديوانه» 21، و فيه: «خصاصة».
2- ديوانه 55.
3- ديوانه 227.
4- في أ: «تبوء»، و المثبت يوافق ما في الديوان.
5- معاهد التنصيص 27:2.
6- في أ: «تستعين».
7- في أ و المعاهد: الغور».
8- ديوانه 14.
9- معاهد التنصيص 26:2.

قال: أريد أحسن من هذا. قلنا: ما عندنا شيء. قال: قول أبي قيس بن الأسلت:

و قد لاح في الصّبح الثريّا لمن رأى *** كعنقود ملاّحيّة حين نوّرا(1)

أبو قيس يحكم له بالتقدم في المعنيين السابقين

قال: فحكم له عليهم في هذين المعنيين بالتقدم.

استشهاد عبد الملك بشعره في خطبته بعد مقتل مصعب بن الزبير
اشارة

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدثنا الحسين بن أحمد بن طالب/الديناريّ، قال: حدثني أبو عدنان، قال: حدثني الهيثم بن عديّ، قال: حدثني الضحاك بن زميل السّكسكيّ، قال:

لما قتل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزّبير خطب الناس بالنّخيلة، فقال في خطبته: أيّها الناس، دعوا الأهواء المضلّة، و الآراء المشتّتة، و لا تكلّفونا أعمال المهاجرين و أنتم لا تعملون بها؛ فقد جاريتمونا إلى السيف، فرأيتم كيف صنع اللّه بكم، و لا أعرفنكم بعد الموعظة تزدادون جراءة؛ فإني لا أزداد بعدها/إلاّ عقوبة، و ما مثلي و مثلكم إلا كما قال أبو قيس بن الأسلت:

من يصل ناري بلا ذنب و لا ترة *** يصل بنار كريم غير غدّار

أنا النذير لكم منّي مجاهرة *** كي لا ألام على نهي و إعذار

فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا *** أن سوف تلقون خزيا ظاهر العار(2)

لتتركنّ أحاديثا ملعّنة(3) *** عند المقيم و عند المدلج السّاري

و صاحب الوتر ليس الدهر مدركه *** عندي و إني لطلاّب لأوتار

أقيم عوجته إن كان ذا عوج *** كما يقوّم قدح النّبعة الباري

صوت

ترفّع أيها القمر المنير *** لعلّك أن ترى حجرا يسير

يسير إلى معاوية بن حرب *** ليقتله كما زعم الأمير

ألا يا حجر حجر بني عديّ *** تلقّتك السلامة و السرور

تنعّمت الجبابر بعد حجر(4) *** و طاب لها الخورنق و السّدير

الشعر لامرأة(5) من كندة ترثي حجر بن عديّ صاحب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه.

و الغناء لحكم الوادي رمل بالوسطى، و فيه لحنين هزج خفيف بالوسطى عن ابن المكي و الهشاميّ.

ص: 89


1- الملاحية: من شجر الزهر.
2- اللسان 69:3.
3- كذا في ج، و في م، أ، س، ب: «و ملعبة» تصحيف.
4- في أو الطبري: «تجبرت».
5- هي هند بنت زيد بن مخرمة الأنصاري، كما في الطبري 28:5.

11 - خبر مقتل حجر بن عديّ

اشارة

حدثني(1) أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا محمد بن الحكم، قال: حدثنا أبو مخنف، قال: حدثنا خالد بن قطن، عن المجالد بن سعيد الهمدانيّ، و الصقعب بن زهير، و فضيل بن خديج(2)، و الحسن(3) بن عقبة المرادي، و قد اختصرت جملا من ذلك يسيرة؛ تحرّزا من الإطالة:

استنكاره ذم علي بن أبي طالب و لعنه

أنّ المغيرة بن شعبة لما ولي الكوفة كان يقوم على المنبر فيذمّ عليّ بن أبي طالب و شيعته، و ينال منهم، و يلعن قتلة عثمان، و يستغفر لعثمان و يزكّيه، فيقوم حجر بن عديّ فيقول: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ (4)، و إنّي أشهد أنّ من تذمّون أحقّ بالفضل ممن تطرون، و منّ تزكّون أحقّ بالذمّ ممن تعيبون.

المغيرة بن شعبة يحذره

فيقول له المغيرة: يا حجر، ويحك! اكفف من هذا، و اتّق غضبة السلطان و سطوته؛ فإنها كثيرا ما تقتل مثلك. ثم يكفّ عنه.

صرخة ثائرة منه

فلم يزل كذلك حتى كان المغيرة يوما في آخر أيامه يخطب على المنبر، فنال من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: و لعنه، و لعن شيعته، فوثب حجّر فنعر(5) نعرة أسمعت كلّ من كان في المسجد و خارجه. فقال له:

إنك لا تدري أيها الإنسان بمن تولع، أو هرمت! مر لنا بأعطياتنا و أرزاقنا؛ فإنك قد حبستها عنّا، و لم يكن ذلك لك و لا لمن كان قبلك، و قد أصبحت مولعا بذمّ أمير المؤمنين و تقريظ المجرمين.

استجابة لصرخة الثائر

فقام معه أكثر من ثلاثين رجلا يقولون: صدق و اللّه حجر! مر لنا بأعطياتنا؛ فإنا لا ننتفع بقولك هذا، و لا يجدي علينا، و أكثروا في ذلك.

ص: 90


1- خبر مقتل حجر في الطبري 251:5 و ما بعد ما.
2- في م: حديج، بالحاء المهملة.
3- في الطبري: «و الحسين».
4- سورة النساء 134.
5- نعر: صاح صيحة شديدة.
قوم المغيرة يلومونه في احتماله إياه

فنزل المغيرة و دخل القصر، فاستأذن عليه قومه، و دخلوا و لاموه/في احتماله حجرا، فقال لهم: إني قد قتلته. قالوا: و كيف ذلك!؟ قال: إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه، فيأخذه عند أوّل وهلة فيقتله شرّ قتلة. إنه قد اقترب أجلي، و ضعف عملي، و ما أحبّ أن أبتدئ أهل هذا المصر بقتل خيارهم و سفك دمائهم، فيسعدوا بذلك و أشقى، و يعزّ معاوية في الدنيا و يذلّ المغيرة في الآخرة، سيذكرونني لو قد حرّبوا العمّال.

قال الحسن بن عقبة: فسمعت شيخا من الحيّ يقول: قد و اللّه جرّبناهم فوجدناه خيرهم.

زياد يذكره بصداقته و يحذره ما كان يفعل مع المغيرة

قال: ثم هلك المغيرة سنة خمسين، فجمعت الكوفة و البصرة لزياد، فدخلها، و وجّه إلى حجر فجاءه، و كان له قبل ذلك صديقا، فقال له: قد بلغني ما كنت تفعله بالمغيرة فيحتمله منك؛ و إني و اللّه لا أحتملك(1) على مثل ذلك أبدا، أ رأيت ما كنت تعرفني به من حبّ عليّ و ودّه، فإنّ اللّه قد سلخه من صدري فصيّره بغضا و عداوة، و ما كنت تعرفني به من بغض معاوية و عداوته فإنّ اللّه قد سلخه من صدري و حوّله حبّا و مودّة/و إني أخوك الذي تعهد، إذا أتيتني و أنا جالس للناس فاجلس معي على مجلسي، و إذا أتيت و لم أجلس للناس فاجلس حتى أخرج إليك، و لك عندي في كل يوم حاجتان: حاجة غدوة، و حاجة عشيّة، إنك إن تستقم تسلم لك دنياك و دينك، و إن تأخذ يمينا و شمالا تهلك نفسك و تشط(2) عندي دمك، إني لا أحبّ التنكيل قبل التقدمة، و لا آخذ بغير حجّة، اللهم أشهد. فقال حجر: لن يرى الأمير منّي إلاّ ما يحبّ، و قد نصح، و أنا قابل نصيحته.

ثم خرج من عنده، فكان يتّقيه و يهابه، و كان زياد يدنيه و يكرمه و يفضّله، و الشيعة تختلف إلى حجر و تسمع منه.

زياد ينذره قبل خروجه إلى البصرة

و كان زياد يشتو بالبصرة، و يصيف بالكوفة، و يستخلف على البصرة سمرة بن جندب، و على الكوفة عمرو بن حريث، فقال له عمارة بن عقبة: إنّ الشيعة تختلف إلى حجر، و تسمع منه، و لا أراه عند خروجك إلاّ ثائرا، فدعاه زياد فحذّره و وعظه. و خرج إلى البصرة، و استعمل عمرو بن حريث، فجعلت الشيعة تختلف إلى حجر، و يجيء حتى يجلس في المسجد فتجتمع إليه الشيعة، حتى يأخذوا ثلث المسجد أو نصفه، و تطيف بهم النظّارة، ثم يمتلئ المسجد، ثم كثروا، و كثر لغطهم، و ارتفعت أصواتهم بذمّ معاوية و شتمه و نقص(3) زياد. و بلغ ذلك عمرو بن حريث، فصعد المنبر، و اجتمع إليه أشراف أهل المصر فحثّهم على الطاعة و الجماعة. و حذّرهم الخلاف؛ فوثب إليه عنق(4) من أصحاب حجر يكبّرون و يشتمون، حتى دنوا/منه، فحصبوه و شتموه حتى نزل و دخل القصر، و أغلق عليه بابه، و كتب إلى زياد بالخبر، فلما أتاه أنشد يتمثّل بقول كعب بن مالك:

ص: 91


1- في م: «احتمله».
2- أشاط دمه: عرضه للقتل.
3- في م: «و قصف زياد»، و القصف معناه الكسر، يريد الانتقاص.
4- العنق: الجماعة من الناس.

فلما غدوا بالعرض(1) قال سراتنا: *** علام إذا لم نمنع العرض نزرع(2)

ما أنا بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر، و أدعه نكالا لمن بعده، ويل أمك حجر! لقد سقط بك العشاء على سرحان(3).

عودة زياد إلى الكوفة

ثم أقبل حتى أتى الكوفة، فدخل القصر، ثم خرج و عليه قباء سندس، و مطرف خزّ أخضر، و حجر جالس في المسجد، و حوله أصحابه ما كانوا. فصعد المنبر فخطب و حذّر الناس، ثم قال لشدّاد بن الهيثم الهلاليّ أمير الشّرط: اذهب فائتني بحجر، فذهب إليه فدعاه، فقال أصحابه: لا يأتيه و لا كرامة. فسبّوا الشّرط، فرجعوا/إلى زياد فأخبروه، فقال: يا أشراف أهل الكوفة! أ تشجّون بيد و تأسون بأخرى(4)؟ أبدانكم عندي، و أهواؤكم مع هذه الهجاجة(5) المذبوب(6). أنتم معي و إخوتكم و أبناؤكم و عشيرتكم مع حجر.

استعداء زياد أشراف الكوفة عليه

فوثبوا إلى زياد فقالوا: معاذ اللّه أن يكون لنا فيما هاهنا رأي إلاّ طاعتك و طاعة أمير المؤمنين، و كلّ ما ظننت أن يكون فيه رضاك فمرنا به. قال: ليقم كلّ امرئ منكم إلى هذه الجماعة التي حول حجر، فليدع/الرجل أخاه و ابنه و ذا قرابته و من يطيعه من عشيرته، حتى تقيموا عنه كلّ من استطعتم. ففعلوا، و جعلوا يقيمون عنه أصحابه حتى تفرّق أكثرهم و بقي أقلّهم.

أمر زياد بإحضاره

فلما رأى زياد خفّة أصحابه قال لصاحب شرطته: اذهب فائتني بحجر، فإن تبعك و إلا فمر من معك أن ينتزعوا غمد السيوف(7)، ثم يشدّوا عليه حتى يأتوا به، و يضربوا من حال دونه.

أصحابه يمنعونه من الذهاب إلى زياد

فلما أتاه شدّاد قال له: أجب الأمير، فقال أصحاب حجر: لا و اللّه و لا نعمة عين، لا يجيبه. فقال لأصحابه:

عليّ بعمد السيوف(8)، فاشتدّوا إليها، فأقبلوا بها، فقال عمير بن زيد(9) الكلبيّ أبو العمرّطة(10): إنه ليس معك رجل

ص: 92


1- ضبطت العين في أ بالفتحة و الكسرة. و العرض، بالكسرة: الوادي، و كل واد فيه شجر فهو عروض.
2- في أ: «يزرع» و في معجم البلدان: و لمّا هبطنا العرض قال سراتنا علام إذا لم نحفظ العرض نزرع
3- حاشية أ: «ذكر القاسم بن سلام و الفضل أن السرحان هنا الذئب، و ليس كذلك، و هو سرحان القريعي، و كان أحد شياطين العرب، فضرب به المثل». و في «اللسان»: السرحان: الذئب أو الأسد. و هو مثل يضرب في طلب الحاجة تؤدي إلى تلف صاحبها.
4- تشجون: تجرحون، و تأسون: تعالجون.
5- الهجاجة: الأحمق، و في المختار «الجهجاه»، و جهجه بالسبع: صاح ليكفّ.
6- المذبوب: المبعد المطرود.
7- في م: الستور، و في المختار: «أن يشرعوا عمد السيوف». و في الطبري: «فلينتزعوا عمد السيوف».
8- في أ: «عليّ بالعمد».
9- في الطبري و المختار: «بن يزيد».
10- في أ: «ابن العمرطة».

معه سيف غيري، فما يغني سيفي! قال: فما ترى؟ قال: قم من هذا المكان، فالحق بأهلك يمنعك قومك.

موت عمرو بن الحمق من ضربة عمود

فقام و زياد ينظر على المنبر إليهم فغشوا حجرا بالعمد، فضرب(1) رجل من الحمراء يقال له: بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع.

توارى حجر في منازل الأزد

و أتاه أبو سفيان بن العويمر و العجلان بن ربيعة - و هما رجلان من الأزد - فحملاه، فأتيا به دار رجل من الأزد يقال له عبيد اللّه بن موعد(2)، فلم يزل بها متواريا حتى خرج منها.

الثأر من ضارب عمرو بن الحمق

قال أبو مخنف: فحدثني يوسف بن زياد، عن عبيد اللّه بن عوف(3)، قال:

لما انصرفنا عن عروة باجميرى(4) قبل قتل عبد الملك مصعبا بعام، فإذا أنا بالأحمريّ الذي ضرب عمرو بن الحمق يسايرني؛ و لا و اللّه ما رأيته منذ ذلك اليوم، و ما كنت أرى لو رأيته أن أعرفه، فلما رأيته ظننته هو هو، و ذلك حين نظرنا إلى أبيات الكوفة، فكرهت أن أسأله: أنت ضارب عمرو بن الحمق، فيكابرني، فقلت له: ما رأيتك منذ اليوم الذي ضربت فيه رأس عمرو بن الحمق بالعمود في المسجد فصرعته حتى يومي، و لقد عرفتك الآن حين رأيتك.

فقال لي: لا تعدم بصرك، ما أثبت نظرك! كان ذلك أمر السلطان(5) أما و اللّه لقد بلغني أنه قد كان امرأ صالحا، و لقد ندمت على تلك الضّربة، فأستغفر اللّه.

فقلت له: الآن ترى، لا و اللّه لا أفترق أنا و أنت حتى أضربك في رأسك مثل الضّربة التي ضربتها عمرو بن الحمق و أموت أو تموت.

قال: فناشدني و سألني باللّه. فأبيت عليه، و دعوت غلاما يدعى رشيدا(6) من سبي أصبهان معه قناة له صلبة، فأخذتها منه ثم أحمل عليه(7)، فنزل عن دابّته، فألحقه حين استوت قدماه على الأرض، فأصفق(8)/بها هامته، فخرّ لوجهه، و تركته و مضيت، فبرأ بعد ذلك، فلقيته مرّتين من دهري، كلّ ذلك يقول لي: اللّه بيني و بينك. فأقول له: اللّه بينك و بين عمرو بن الحمق.

ص: 93


1- في أ: «فيضرب».
2- في أ: «مرعل». و في المختار: «مزعل»، و في الطبري: «بن مالك».
3- في ب، س و المختار: عون، و المثبت ما في أ و م و الطبري.
4- باجميري: موضع بأرض الموصل.
5- في ب، س و الطبري: «الشيطان»، و المثبت ما في أ و المختار.
6- في س: «بشيرا» و المثبت و الضبط ما في أ.
7- في المختار: «ثم حملت»، و في الطبري: «ثم أحمل عليه بها».
8- في الطبري: «فأصفع بها هامته». و أصفق هامته: أضربها ضربة يسمع لها صوت.
رجع الحديث إلى سياقه الأول
أمر زياد بعض القبائل أن يأتوه به

قال: فقال زياد - و هو على المنبر - لتقم همدان و تميم و هوازن و أبناء بغيض و مذحج و أسد و غطفان فليأتوا جبّانة كندة، و ليمضوا من ثمّ إلى حجر، فليأتوني به. ثم كره أن تسير مضر مع/اليمن، فيقع شغب و اختلاف، أو تنشب الحميّة فيما بينهم. فقال: لنقم تميم و هوازن و أبناء بغيض و أسد و غطفان، و لتمض مذحج و همدان إلى جبّانة كندة، ثم ليمضوا إلى حجر فليأتوني به، و ليسر أهل اليمن حتى ينزلوا جبّانة الصيداويين(1)، و ليمضوا إلى صاحبهم فليأتوني به.

فخرجت الأزد و بجيلة و خثعم و الأنصار و قضاعة و خزاعة، فنزلوا جبّانة الصيداويين، و لم تخرج حضرموت مع اليمن لمكانهم من كندة.

عبد الرحمن بن مخنف يشير على أهل اليمن برأي

قال أبو مخنف: فحدثني سعيد(2) بن يحيى بن مخنف، عن محمد بن مخنف، قال: فإني لمع أهل اليمن و هم يتشاورون في أمر حجر، فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف: أنا مشير عليكم برأي، فإن قبلتموه رجوت أن تسلموا من اللائمة و الإثم: أن تلبّثوا قليلا حتى تكفيكم عجلة في شباب مذحج و همدان ما تكرهون أن يكون(3) من مساءة قومكم في صاحبكم.

/فأجمع رأيهم على ذلك، فلا و اللّه ما كان إلاّ كلا و لا(4) حتى أتينا فقيل لنا: إنّ شباب مذحج و همدان قد دخلوا، فأخذوا كلّ ما وجدوا في بني بجيلة.

حجر يشير على أصحابه أن ينصرفوا عنه

قال: فمرّ أهل اليمن على نواحي دور كندة معذّرين، فبلغ ذلك زيادا، فأثنى على مذحج و همدان، و ذمّ أهل اليمن. فلما انتهى حجر إلى داره و رأى قلّة من معه قال لأصحابه: انصرفوا، فو اللّه ما لكم طاقة بمن اجتمع عليكم من قومكم، و ما أحبّ أن أعرّضكم للهلاك. فذهبوا لينصرفوا، فلحقتهم أوائل خيل مذحج و همدان، فعطف عليهم عمير بن يزيد، و قيس بن يزيد، و عبيدة بن عمرو، و جماعة، فتقاتلوا معهم، فقاتلوا عنه ساعة فجرحوا، و أسر قيس بن يزيد، و أفلت سائر القوم، فقال لهم حجر: لا أبا لكم! تفرّقوا لا تقتلوا؛ فإنّي آخذ في بعض هذه الطرق.

يدخل دار سليمان بن يزيد ثم يخرج منها إلى دور بني العنبر

ثم أخذ نحو طريق بني حرب(5) من كندة، حتى أتى دار رجل منهم يقال له سليمان(6) بن يزيد، فدخل داره،

ص: 94


1- بنو الصيداء: حي من أسد. و في أ: «الصائدين»، و كذلك في الطبري.
2- الطبري: «يحيى بن سعيد».
3- في المختار: «تلوه»، و في الطبري: «أرى لكم أن تلبثوا قليلا، فإن سرعان شباب همدان و مذحج يكفونكم ما تكرهون أن تلوا من مساءة...».
4- كلا و لا، أي مدة قليلة كز من النطق بهذين الحرفين.
5- أ: «حوت»، و في المختار: «طريق بني كعب»، و المثبت يوافق ما في الطبري أيضا.
6- الطبري: «سليم بن زيد»، و المثبت يوافق ما في المختار أيضا.

و جاء القوم في طلبه، ثم انتهوا إلى تلك الدار، فأخذ سليمان بن يزيد سيفه، ثم ذهب ليخرج إليهم، فبكت بناته، فقال له حجر: ما تريد؟ لا أبا لك! فقال [له]: أريد و اللّه أن ينصرفوا عنك؛ فإن فعلوا و إلاّ ضاربتهم بسيفي هذا ما ثبت قائمه في يدي دونك. فقال له حجر: بئس و اللّه إذن ما دخلت به على بناتك! أ ما في دارك هذه حائط أقتحمه أو خوخة(1) أخرج منها، عسى اللّه أن يسلّمني/منهم و يسلّمك؛ فإنّ القوم إن لم يقدروا عليّ في دارك لم يضرّك(2)أمرهم. قال: بلى، هذه خوخة تخرجك إلى دور بني العنبر من كندة، فخرج معه فتية من الحيّ يقصّون له الطريق، و يسلكون به الأزقّة، حتى أفضى إلى النخع، فقال عند ذلك: انصرفوا، رحمكم اللّه.

يدخل دار عبد اللّه بن الحارث ثم يخرج منها إلى دار ربيعة بن ناجذ

فانصرفوا عنه، و أقبل إلى دار عبد اللّه بن الحارث أخي الأشتر، فدخلها، فإنه لكذلك قد ألقى له عبد اللّه الفرش، و بسط له البسط، و تلقّاه ببسط الوجه و حسن البشر إذ أتى فقيل له: إن الشّرط تسأل عنك في النخع و ذلك أنّ أمة سوداء يقال لها أدماء لقيتهم فقالت لهم: من تطلبون؟ قالوا: نطلب حجرا، فقالت: هو ذا قد رأيته في النخع، فانصرفوا نحو النخع؛ فخرج متنكّرا، و ركب معه عبد اللّه ليلا حتى أتى دار ربيعة بن ناجذ(3) الأزديّ، فنزل بها، فمكث يوما و ليلة.

زياد يأمر محمد بن الأشعث أن يأتيه بحجر

فلما أعجزهم أن يقدروا عليه دعا زياد محمد بن الأشعث فقال: أما و اللّه لتأتيني بحجر أو لا أدع لك نخلة إلاّ قطعتها، و لا دارا إلاّ هدمتها، /ثم لا تسلم منّي بذلك حتى أقطّعك إربا إربا. فقال له: أمهلني أطلبه. قال: قد أمهلتك ثلاثا، فإن جئت به و إلاّ فاعدد نفسك من الهلكى. و أخرج محمد نحو السجن و هو منتقع اللون يتلّ تلاّ عنيفا(4). فقال حجر بن يزيد الكنديّ من بني مرّة لزياد: ضمّنيه و خلّ سبيله ليطلب صاحبه، فإنه مخلى سربه(5)/أحرى أن يقدر عليه منه إذا كان محبوسا. قال: أ تضمنه لي؟ قال: نعم. قال: أما و اللّه لئن حاص(6) عنك لأوردنّك(7) شعوب، و إن كنت الآن عليّ كريما. قال: إنه لا يفعل. فخلّى سبيله.

ثم إنّ حجر بن يزيد كلّمه في قيس بن يزيد، و قد أتى به أسيرا، فقال: ما عليه من بأس، قد عرفنا رأيه في عثمان رضي اللّه عنه، و بلاءه مع أمير المؤمنين بصفّين، ثم أرسل إليه فأتي به، فقال: قد علمت أنك لم تقاتل مع حجر أنّك ترى رأيه، و لكن قاتلت معه حميّة، و قد غفرنا لك لما نعلمه من حسن رأيك، و لكن لا أدعك حتى تأتيني بأخيك عمير. قال: آتيك به إن شاء اللّه. قال: هات من يضمنه معك. قال: هذا حجر بن يزيد. قال حجر: نعم، على أن تؤمّنه على ماله و دمه. قال: ذلك لك.

فانطلقا فأتيا به، فأمر به فأوقر حديدا، ثم أخذته الرجال ترفعه، حتى إذا بلغ سررها ألقوه، فوقع على

ص: 95


1- الخوخة: باب صغير في باب كبير، أو مخرج خلف الدار.
2- أ: «لم يضروك».
3- الطبرى: «ناجد».
4- تله: صرعه، أو ألقاه على عنقه و خدّه.
5- المختار: «سبيله»، و المثبت يوافق ما في الطبري أيضا.
6- حاص: عدل.
7- في المختار: «لأزبرن بك شعوبا»، و في الطبري: «لأزيرنك شعوب». و شعوب: اسم للمنية.

الأرض، ثم رفعوه فألقوه، ففعل به ذلك مرارا، فقام إليه حجر بن يزيد، فقال: أ و لم تؤمّنه؟ قال: بلى، لست أهريق له دما، و لا آخذ له مالا. فقالا: هذا يشفي به على الموت.

و قام كلّ من كان عنده من أهل اليمن، فكلّموه فيه، فقال: أ تضمنونه لي بنفسه متى(1) أحدث حدثا أتيتموني به؟ قالوا: نعم. فخلّى سبيله.

يطلب من ابن الأشعث أن يسأل زيادا الأمان له حتى يأتي معاوية

و مكث حجر في منزل ربيعة بن ناجذ(2) يوما و ليلة، ثم بعث إلى/ابن الأشعث غلاما يدعى رشيدا من سبي أصبهان، فقال له: إنه قد بلغني ما استقبلك به هذا الجبّار العنيد، فلا يهولنّك شيء من أمره؛ فإني خارج إليك، فاجمع نفرا من قومك، و ادخل عليه، و اسأله أن يؤمنني حتى يبعثني إلى معاوية، فيرى فيّ رأيه.

زياد يأمر بحبسه

فخرج محمد إلى حجر بن يزيد، و جرير بن عبد اللّه، و عبد اللّه أخي الأشتر، فدخلوا إلى زياد فطلبوا إليه فيما سأله حجر، فأجاب، فبعثوا إليه رسولا يعلمونه بذلك. فأقبل حتى دخل على زياد، فقال له: مرحبا يا أبا عبد الرحمن، حرب في أيام الحرب، و حرب و قد سالم الناس! «على نفسها تجني براقش»(3)، فقال له: ما خلعت يدا عن طاعة، و لا فارقت جماعة، و إني لعلى بيعتي. فقال: هيهات يا حجر، أ تشج بيد و تأسو بأخرى، و تريد إذا أمكننا اللّه منك أن ترضى! هيهات و اللّه! فقال(4): أ لم تؤمنني حتى آتي معاوية، فيرى فيّ رأيه. قال: بلى، انطلقوا به إلى السجن.

زياد يطلب رءوس أصحاب حجر

فلما مضي به قال: أما و اللّه لو لا أمانه ما برح حتى يلقط عصبه(5). فأخرج و عليه برنس في غداة باردة، فحبس عشر ليال، و زياد ماله عمل غير الطلب لرءوس أصحاب حجر.

عمرو بن الحمق و رفاعة بن شداد يكمنان في جبل بالموصل

فخرج عمرو بن الحمق، و رفاعة بن شدّاد حتى نزلا المدائن، ثم ارتحلا حتى أتيا الموصل، فأتيا جبلا فكمنا فيه، و بلغ عامل ذلك الرّستاق(6) - و هو رجل من همدان يقال له عبيد اللّه(7) بن أبي بلتعة - خبرهما، /فسار إليهما في الخيل، و معه أهل البلد، فلما انتهى إليهما خرجا، فأمّا عمرو فكان بطنه قد استسقى(8)، فلم يكن عنده امتناع.

ص: 96


1- الطبري: «فمتى أحدث».
2- انظر ص 141 حاشية 2.
3- هامش أ: براقش: اسم كلب دل بنباحه قوما على أربابه فهلكوا. و في «اللسان» (برقش) أقوال أخرى في مضرب المثل.
4- أ: «قال».
5- أي حتى يقتل.
6- الرستاق: الناحية في طرف الإقليم و القرى.
7- ح، و الطبري: عبد اللّه.
8- استسقى: أصابه السقي، بفتح السين و كسرها، و هو ماء يقع في البطن.
عمرو بن الحمق يقع أسيرا و رفاعة ينجو ينفسه

و أما رفاعة فكان شابّا قويا فوثب على فرس له جواد، و قال لعمرو: أقاتل عنك. قال: و ما ينفعني أن تقتل؟ انج بنفسك، فحمل عليهم، فأخرجوا له حتى/أخرجه فرسه، و خرجت الخيل في طلبه، و كان راميا فلم يلحقه فارس إلاّ رماه، فجرحه أو عقره، فانصرفوا عنه؛ فأخذ(1) عمرو بن الحمق، فسألوه: من أنت؟ فقال: من إن تركتموه كان أسلم لكم، و إن قتلتموه كان أضرّ عليكم، فسألوه فأبى أن يخبرهم، فبعثوا به إلى عبد الرحمن بن عثمان، و هو ابن أمّ الحكم، الثقفيّ، فلما رأى عمرا عرفه.

معاوية يأمر بقتل عمرو بن الحمق

فكتب إلى معاوية بخبره. فكتب إليه معاوية: إنه زعم أنه طعن عثمان تسع طعنات، و إنه لا يتعدى(2) عليه، فأطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان.

رأس ابن الحمق يحمل إلى معاوية

فأخرج فطعن تسع طعنات، فمات في الأولى منهن أو في الثانية، و بعث برأسه إلى معاوية؛ فكان رأسه أوّل رأس حمل في الإسلام.

زياد يطلب من صيفي بن فسيل أن يعلن عليا فيأبى

و جدّ زياد في طلب أصحاب حجر و هم يهربون منه، و يأخذ من قدر عليه منهم، فجاء قيس بن عبّاد الشيباني إلى زياد، فقال له: إن امرأ منّا يقال له صيفيّ بن فسيل(3)، من رءوس أصحاب حجر، و هو أشدّ الناس عليك؛ فبعث إليه فأتي به، فقال له زياد: يا عدوّ اللّه، ما تقول في أبي تراب؟ /فقال: ما أعرف أبا تراب، قال: ما أعرفك به! أ ما تعرف عليّ بن أبي طالب! قال: بلى، قال: فذاك أبو تراب، قال: كلاّ، فذاك أبو الحسن و الحسين. فقال له صاحب الشرطة: أ يقول لك الأمير هو أبو تراب و تقول أنت: لا! قال: أ فإن كذب الأمير أردت أن أكذب و أشهد له بالباطل كما شهد! قال له زياد: و هذا أيضا مع ذنبك، عليّ بالعصيّ فأتي بها، فقال: ما قولك في عليّ! قال: أحسن قول أنا قائله في عبد من عبيد اللّه أقوله في أمير المؤمنين. قال: اضربوا عاتقه بالعصيّ حتى يلصق بالأرض، فضرب سى لصق بالأرض. ثم قال: أقلعوا عنه، ما قولك فيه؟ قال: و اللّه لو شرّحتني بالمدي و المواسي ما زلت(4) عمّا سمعت. قال: لتلعننّه أو لأضربنّ عنقك. قال: إذا و اللّه تضربها قبل ذلك، فأسعد و تشقى إن شاء اللّه، قال: أوقروه حديدا و اطرحوه في السجن.

زياد يأمر رءوس الأرباع أن يشهدوا على حجر و أصحابه

و جمع زياد من أصحاب حجر بن عديّ اثني عشر رجلا في السجن، و بعث إلى رءوس الأرباع فأشخصهم، فحضروا، و قال: اشهدوا على حجر بما رأيتموه، و هم عمرو بن حريث، و خالد بن عرفطة، و قيس بن الوليد بن

ص: 97


1- المختار: «فأخذوا».
2- الطبري: و إنا لا نريد أن نعتدي عليه». و في المختار: «و إنا لا نتعدى عليه».
3- المختار: «قسيل»، و المثبت يوافق ما في الطبري أيضا. و في المختار: 317:3، «قشيل» قال محققه: و في تاريخ الإسلام للذهبي: 293/2: «قشيل - بالقاف - أو فشيل الربعي، كوفي من شيعة علي، قتل صبرا مع حجر».
4- الطبري: ما قلت إلا ما سمعت.

عبد شمس بن المغيرة، و أبو بردة بن أبي موسى، فشهدوا أنّ حجرا جمع إليه الجموع، و أظهر شتم الخليفة، و عيب زياد، و أظهر عذر أبي تراب و الترحّم عليه، و البراءة من عدوّه، و أهل حربه، و أن هؤلاء الذين معه رءوس أصحابه، و على مثل رأيه.

فنظر زياد في الشهادة فقال: ما أظنّ هذه شهادة قاطعة، و أحبّ أن يكون الشهود أكثر من أربعة.

فكتب أبو بردة بن أبي موسى:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى/للّه ربّ العالمين، شهد أنّ حجر بن عديّ خلع الطاعة، و فارق الجماعة، و لعن و دعا إلى الحرب و الفتنة، و جمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة، و خلع أمير المؤمنين معاوية، و كفر باللّه كفرة صلعاء».

فقال زياد: على مثل هذه الشهادة فاشهدوا، و اللّه لأجهدنّ في قطع عنق الخائن الأحمق، فشهد رءوس الأرباع الثلاثة الآخرون على مثل ذلك، ثم دعا الناس، فقال: اشهدوا على مثل ما شهد عليه رءوس الأرباع.

فقام عثمان بن شرحبيل التيميّ أوّل الناس، فقال: /اكتبوا اسمي. فقال زياد: ابدءوا بقريش، ثم اكتبوا اسم من نعرفه و يعرفه أمير المؤمنين بالصحة و الاستقامة. فشهد إسحاق و موسى و إسماعيل بنو طلحة بن عبيد اللّه، و المنذر بن الزبير، و عمارة بن عقبة، و عبد الرحمن بن هبّار، و عمر بن سعد بن أبي وقاص، و شهد عنان(1)، و وائل بن حجر الحضرميّ، و ضرار بن هبيرة، و شدّاد بن المنذر أخو الحضين بن المنذر، و كان يدعى ابن بزيعة.

فكتب شداد بن بزيعة، فقال: أ ما لهذا أب ينسب إليه، ألغوا هذا من الشهود. فقيل له: إنه أخو الحضين بن المنذر، فقال: انسبوه إلى أبيه، فنسب، فبلغ ذلك شدّادا، فقال: وا لهفاه على ابن الزّانية؟ أ و ليست أمّه أعرف من أبيه؛ فو اللّه ما ينسب إلاّ إلى أمّه سميّة.

و شهد حجّار بن أبجر العجلي، و عمرو بن الحجاج، و لبيد بن عطارد، و محمد بن عمير بن عطارد، و أسماء بن خارجة، و شمر بن ذي الجوشن، و زحر بن قيس الجعفيّ، و شبث بن ربعيّ، و سماك بن مخرمة الأسديّ صاحب مسجد سماك، و دعا المختار بن أبي عبيد(2)، و عروة بن المغيرة بن شعبة/إلى الشهادة فراغا، و شهد سبعون رجلا.

وائل بن حجر و كثير بن شهاب يذهبان إلى معاوية بكتاب زياد و معهما جماعة من أصحاب حجر

و دفع ذلك إلى وائل بن حجر، و كثير بن شهاب، و بعثهما عليهما و أ هما(3) أن يخرجوهم.

و كتب في الشهود شريح بن الحارث، و شريح بن هانئ. فأما شريح بن الحارث فقال: سألني عنه فقلت: أما إنه كان صوّاما قوّاما. و أما شرح بن هانئ فقال: بلغني أنّ شهادتي كتبت فأكذبته، و لمته.

و جاء وائل بن حجر و كثير بن شهاب فأخرجا القوم عشيّة، و سار معهم أصحاب الشّرط حتى أخرجوهم، فلما

ص: 98


1- أ: «عفان»، و في الطبري: «عنان بن شرحبيل».
2- المختار: «ابن عبيدة»، و المثبت يوافق ما في الطبري أيضا.
3- أ: «و أمرهم».

انتهوا إلى جبّانة عرزم(1) نظر قبيصة بن ضبيعة العبسيّ إلى داره في جبّانة عرزم، فإذا بناته مشرفات، فقال لوائل و كثير: أدنياني أوص أهلي، فأدنياه. فلما دنا منهن بكين، فسكت عنهن ساعة، ثم قال: اسكتن، فسكتن، فقال:

اتّقين اللّه و اصبرن، فإني أرجو من ربي في وجهي هذا خيرا: إحدى الحسنيين؛ إما الشهادة فنعم سعادة، و إما الانصراف إليكنّ في عافية؛ فإنّ الذي كان يرزقكنّ و يكفيني مئونتكن هو اللّه تبارك و تعالى و هو حيّ لا يموت، و أرجو ألاّ يضيعكنّ، و أنّ يحفظني فيكنّ. ثم انصرف، فجعل قومه يدعون له بالعافية.

و جاء شريح بن هانئ بكتاب، فقال: بلّغوا هذا عني أمير المؤمنين، فتحمّله وائل بن حجر.

و مضوا بهم حتى انتهوا(2) إلى مرج عذراء(3)، فحبسوا به و هم على أميال من دمشق، و هم: حجر بن عديّ الكنديّ، و الأرقم بن عبد اللّه الكنديّ، /و شريك بن شدّاد الحضرميّ، و صيفيّ بن فسيل(4) الشيبانيّ، و قبيصة بن ضبيعة العبسيّ، و كريم بن عفيف الخثعميّ، و عاصم بن عوف البجليّ، و ورقاء بن سمي البجليّ(5)، و كدام بن حيّان، و عبد الرحمن بن حسّان العنزيان، و محرز بن شهاب المنقريّ، و عبد اللّه بن جؤيّة التميميّ، و أتبعهم زياد برجلين، و هما عتبة بن الأخنس السعديّ، و سعيد بن نمران الهمدانيّ الناعطيّ، فكانوا أربعة عشر.

كتاب زياد إلى معاوية

فبعث معاوية إلى وائل بن حجر و كثير، فأدخلهما، و فضّ كتابهما، و قرأه على أهل الشام:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم. لعبد اللّه معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين، من زياد بن أبي سفيان.

أمّا بعد، فإنّ اللّه قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء فأداله(6) من عدوّه، و كفاه مئونة من بغى عليه، إنّ /طواغيت(7) الترابيّة السابّة رأسهم حجر بن عديّ، خلعوا أمير المؤمنين، و فارقوا جماعة المسلمين، و نصبوا لنا حربا فأطفأها اللّه عليهم، و أمكننا منهم، و قد دعوت خيار أهل المصر و أشرافهم و ذوي النّهى و الدّين، فشهدوا عليهم بما رأوا و علموا، و قد بعثت إلى أمير المؤمنين، و كتبت شهادة صلحاء أهل المصر و خيارهم في أسفل كتابي هذا».

/فلما قرأ الكتاب قال: ما ترون في هؤلاء؟ فقال(8) يزيد بن أسد البجليّ: أرى أن تفرّقهم في قرى الشام، فتكفيكهم طواغيتها(9).

كتاب شريح بن هانئ إلى معاوية و دفع وائل كتاب شريح إليه، فقرأه و هو:

ص: 99


1- هي بالكوا.
2- أ: «مضوا حتى انتهى بهم».
3- مرج عذراء بغوطة دمشق (/).
4- انظر حاشية 4 ص 144.
5- الطبري: «ثم الناعطي».
6- أ: «فأدركه»، و في المختار: «أذل له الأعداء».
7- الطواغيت: جمع طاغوت، و هو الكثير الطغيان.
8- في أ: «قال».
9- ج، م، المختار: طواعينها.

«بسم اللّه الرحمن الرحيم.

لعبد اللّه معاوية أمير المؤمنين، من شريح بن هانئ.

أما بعد؛ فقد بلغني أنّ زيادا كتب إليك بشهادتي على حجر، و إن شهادتي على حجر أنه ممّن يقيم الصلاة، و يؤتي الزكاة، و يأمر بالمعروف، و ينهى عن المنكر، حرام المال و الدم، فإن شئت فاقتله، و إن شئت فدعه».

معاوية يكتب إلى زياد بحيرته في أمر حجر و أصحابه، و زياد يرد عليه يطلب عقابهم

فقرأ كتابه على وائل، و قال: ما أرى هذا إلاّ قد أخرج نفسه من شهادتكم. فحبس القوم بعد هذا، و كتب إلى زياد:

«فهمت ما اقتصصت من أمر حجر و أصحابه و الشهادة عليهم، فأحيانا أرى أنّ قتلهم أفضل، و أحيانا أرى أن العفو أفضل من قتلهم».

فكتب زياد إليه مع يزيد بن حجيّة التيميّ: «قد عجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم مع شهادة أهل مصرهم عليهم، و هم أعلم بهم؛ فإن كانت لك حاجة في هذا المصر فلا تردّنّ حجرا و أصحابه إليه.

حجر يطلب إبلاغ معاوية تمسكه ببيعته

فمرّ يزيد بحجر و أصحابه فأخبرهم بما كتب به زياد، فقال له حجر: أبلغ أمير المؤمنين أنّا على بيعته لا نقيلها و لا نستقيلها، و إنما شهد علينا الأعداء و الأظنّاء(1).

/فقدم يزيد بن حجيّة على معاوية بالكتاب، و أخبره بقول حجر. فقال معاوية: زياد أصدق عندنا من حجر.

و كتب جرير بن عبد اللّه في أمر الرجلين اللّذين من بجيلة، فوهبهما له و ليزيد بن أسد، و طلب وائل بن حجر في الأرقم الكنديّ، فتركه، و طلب أبو الأعور في عتبة بن الأخنس فوهبه له، و طلب حمزة بن مالك الهمدانيّ في سعيد بن نمران فوهبه له، و طلب(2) حبيب بن مسلمة في عبد اللّه بن جؤيّة التميميّ فخلّى سبيله.

فقام مالك بن هبيرة، فسأله في حجر فلم يشفّعه؛ فغضب و جلس في بيته. و بعث معاوية هدبة(3) بن فيّاض القضاعيّ و الحصين بن عبد اللّه الكلابيّ، و آخر معهما يقال له أبو صريف البدريّ، فأتوهم عند المساء، فقال الخثعميّ حين رأى الأعور: يقتل نصفنا و ينجو نصفنا. فقال سعيد بن نمران: اللهم اجعلني ممن ينجو، و أنت عني راض. فقال عبد الرحمن بن حسّان العنزيّ: اللهم اجعلني ممن يكرم بهوانهم و أنت عنّي راض، فطالما عرّضت نفسي للقتل، فأبى اللّه إلاّ ما أراد.

رسول معاوية يطلب من أصحاب حجر لعن علي فيأبون

فجاء رسول معاوية إليهم فإنه لمعهم إذ جاء رسول بتخلية ستّة منهم و بقي ثمانية. فقال لهم رسول(4) معاوية:

ص: 100


1- الأظناء: المتهمون.
2- المختار: «و تكلم».
3- بيروت: «هدية»، بالياء المشددة، و الهاء المفتوحة.
4- كذا في ح، و الطبري، و في أ، م، ب، س: «رسل».

إنّا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليّ و اللّعن له، فإن فعلتم هذا تركناكم، و إن أبيتم قتلناكم، و أمير المؤمنين يزعم أنّ دماءكم قد حلّت بشهادة أهل مصركم عليكم، غير أنه قد عفا عن ذلك فابرءوا من هذا الرجل يخل سبيلكم. قالوا: لسنا فاعلين؛ فأمر(1)/بقيودهم(2) فحلّت، و أتى بأكفانهم فقاموا الليل كلّه يصلّون. فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية: يا هؤلاء، قد رأيناكم البارحة أطلتم الصلاة، /و أحسنتم الدعاء، فأخبرونا ما قولكم في عثمان، قالوا: هو أوّل من جار في الحكم، و عمل بغير الحق. فقالوا: أمير المؤمنين كان أعرف بكم. ثم قاموا إليهم و قالوا: تبرءون من هذا الرجل؟ قالوا: بل نتولاّه.

فأخذ كلّ رجل منهم رجلا يقتله، فوقع قبيصة في يدي أبي صريف البدريّ، فقال له قبيصة: إنّ الشرّ بين قومي و قومك أمين(3)، أي آمن فليقتلني غيرك، فقال: برّتك رحم. فأخذ الحضرميّ فقتله.

و قتل القضاعيّ صاحبه، ثم قال لهم حجر: دعوني أصلّي ركعتين، فإني و اللّه ما توضّأت قطّ إلاّ صلّيت، فقالوا له: صلّ، فصلّى ثم انصرف، فقال: و اللّه ما صليت صلاة قطّ أقصر منها، و لو لا أن يروا أنّ ما بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها، ثم قال: اللهم إنّا نستعديك على أمّتنا، فإنّ أهل الكوفة قد شهدوا علينا، و إن أهل الشام يقتلوننا، أما و اللّه لئن قتلتمونا فإني أوّل فارس من المسلمين سلك(4) في واديها، و أوّل رجل من المسلمين نبحته كلابها، فمشى إليه هدبة بن الفيّاض الأعور بالسيف، فأرعدت خصائله(5)، فقال: كلاّ، زعمت أنك لا تجزع من الموت، فإنا ندعك، فابرأ من صاحبك. فقال: ما لي لا أجزع، و أنا أرى قبرا محفورا، و كفنا منشورا، و سيفا مشهورا، و إني و اللّه إن جزعت لا أقول ما يسخط الربّ، فقتله.

أمر عبد الرحمن بن حسان و كريم بن عفيف مع معاوية

و أقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستّة نفر، فقال عبد الرحمن بن حسان و كريم بن عفيف(6): ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين، فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته. فبعثوا إلى معاوية فأخبروه، فبعث: ائتوني بهما. فالتفتا إلى حجر، فقال له العنزيّ: لا تبعد يا حجر، و لا يبعد مثواك؛ فنعم أخو الإسلام كنت، و قال الخثعميّ نحو ذلك.

ثم مضى بهما، فالتفت العنزيّ، فقال متمثلا:

كفى بشفاة القبر(7) بعد لهالك *** و بالموت قطّاعا لحبل القرائن

فلما دخل عليه الخثعميّ قال له: اللّه اللّه يا معاوية! إنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، و مسئول عما أردت بقتلنا، و فيما سفكت دماءنا. فقال: ما تقول في علي؟ قال: أقول فيه قولك، أ تبرأ من دين عليّ الذي كان يدين اللّه به! و قام شمر بن عبد اللّه الخثعميّ فاستوهبه، فقال: هو لك، غير أني حابسه شهرا، فحبسه، ثم

ص: 101


1- في أ، م، ب، س: «فأمروا» و المثبت من المختار و الطبري.
2- الطبري: «فأمر بقبورهم فحفرت».
3- س: «أمن»، و كذلك في الطبري.
4- أ و الطبري: «هلك».
5- الخصيلة: القطعة من اللحم، أو لحم الفخذين و العضدين و الذراعين، أو كل عصبة فيها لحم غليظ، و الجمع خصائل. و في «بيروت»: «فصائله».
6- أ: «عقيف».
7- شفاة القبر: حرفه و مدخله.

أطلقه على ألاّ يدخل الكوفة ما دام له سلطان. فنزل الموصل، فكان ينتظر موت معاوية ليعود إلى الكوفة، فمات قبل معاوية بشهر.

و أقبل على عبد الرحمن بن حسان، فقال له: يا أخا ربيعة، ما تقول في عليّ؟ قال: أشهد أنه من الذاكرين اللّه كثيرا و الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر، و العافين عن الناس. قال: فما تقول في عثمان؟ قال: هو أول من فتح أبواب الظلم، و أرتج أبواب الحقّ. قال: قتلت نفسك. قال: /بل إيّاك قتلت، لا ربيعة بالوادي؛ يعني أنه ليس ثمّ أحد من قومه فيتكلم فيه.

فبعث به معاوية إلى زياد، و كتب إليه: إنّ هذا شرّ من بعثت به، فعاقبه بالعقوبة التي هو أهلها و اقتله شرّ قتلة.

فلما قدم به على زياد بعث به إلى قسّ الناطف(1)، فدفنه حيّا.

قال أبو مخنف، عن رجاله: فكان من قتل منهم سبعة نفر: حجر بن عديّ، و شريك بن شدّاد الحضرميّ، و صيفيّ بن فسيل(2) الشيبانيّ، و قبيصة بن ضبيعة العبسيّ، /و محرز بن شهاب المنقريّ(3)، و كدام بن حيّان العنزيّ و عبد الرحمن بن حسان العنزيّ. و نجا منهم سبعة: كريم بن عفيف الخثعميّ، و عبد اللّه بن جؤيّة(4) التميميّ، و عاصم بن عوف البجليّ، و ورقاء بن سمي البجليّ، و أرقم بن عبد اللّه الكنديّ، و عتبة بن الأخنس السّعديّ من هوازن، و سعيد بن نمران الهمدانيّ.

و بعث معاوية إلى مالك بن هبيرة لما غضب بسبب حجر مائة ألف درهم، فرضي.

قال أبو مخنف: فحدثني ابن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، قال: أدركت الناس يقولون: أول ذلّ دخل الكوفة قتل حجر، و دعوة زياد، و قتل الحسين.

/قال: و جعل معاوية يقول عند موته: أيّ يوم لي من ابن الأدبر(5) طويل!.

عائشة تبعث عبد الرحمن بن الحارث إلى معاوية في أمر حجر و أصحابه

قال أبو مخنف: و حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق من بني عامر بن لؤيّ أنّ عائشة بعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر و أصحابه، فقدم عليه و قد قتلهم، فقال له: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ فقال: حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، و حمّلني ابن سميّة فاحتملت.

قال: و كانت عائشة رضي اللّه عنها تقول: لو لا أنّا لم نغيّر شيئا قطّ إلاّ آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنّا فيه لغيّرنا قتل حجر، أما(6) و اللّه إن كان لمسلما ما علمته حاجّا معتمرا.

ص: 102


1- أ و المختار: «قيس الناطف». و قس الناطف: موضع قرب الكوفة (ياقوت).
2- انظر ما سبق ص 144 حاشية 4.
3- الطبري: «السعدي».
4- الطبري: «حوبة».
5- ابن الأدبر: لقب حجر بن عدي. «القاموس».
6- كذا في الطبري و المختار، و في باقي الأصول: «أم».
رثاء حجر
اشارة

و قالت امرأة من كندة ترثي حجرا(1):

ترفّع أيّها القمر المنير *** لعلّك أن ترى حجرا يسير(2)

يسير إلى معاوية بن حرب *** ليقتله كما زعم الأمير

ألا يا ليت حجرا مات موتا *** و لم ينحر كما نحر البعير

ترفّعت الجبابر بعد حجر *** و طاب لها الخورنق و السّدير(3)

و أصبحت البلاد له محولا *** كأن لم يحيها مزن(4) مطير

/ألا يا حجر حجر بني عديّ *** تلقّتك السلامة و السرور

أخاف عليك سطوة آل حرب(5) *** و شيخا في دمشق له زئير

يرى قتل الخيار عليه حقّا *** له من شرّ أمّته وزير

فإن تهلك فكلّ زعيم قوم *** إلى هلك(6) من الدنيا يصير

صوت

أحنّ إذا رأيت جمال سعدى *** و أبكي إن رأيت لها قرينا(7)

و قد أفد الرّحيل(8) فقل لسعدى: *** لعمرك خبّري ما تأمرينا

الشعر لعمر بن أبي ربيعة، يقوله في سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف. و الغناء لابن سريج، رمل بالوسطى، عن حبش. و قد قيل: إن عمر قال هذا البيت مع بيت آخر في ليلى بنت الحارث بن عوف المرّيّ. و فيه أيضا غناء، و هو:

صوت

ألا يا ليل إنّ شفاء نفسي *** نوالك إن بخلت فزوّدينا(9)

و قد أفد الرحيل و حان منّا *** فراقك فانظري ما تأمرينا

/غنّى به الغريض ثقيلا أوّل بالبنصر، عن عمرو و حبش، و فيه خفيف ثقيل يقال إنه أيضا للغريض.

الناس من ينسبه إلى ابن سريج.

ص: 103


1- هي هند بنت زيد الأنصارية؛ و انظر ما سبق ص 132.
2- و كذا في المختار. و في الطبري: «تبصر هل ترى حجرا يسير».
3- س: «تربعت»، و في الطبري: «تجبرت». و الخورنق: قصر كان بظهر الحيرة. و السدير: قصر كان قريبا منه.
4- أ: «زمن».
5- الطبري: «أخاف عليك ما أردى عديا»، و المثبت في المختار أيضا.
6- الطبري: «من الدنيا إلى ملك يصير».
7- ديوانه 502.
8- أفد الرحيل: دنا و أزف.
9- ديوانه 502.

12 - أخبار لعمر بن أبي ربيعة

سعدى بنت عبد الرحمن تبعث إلى عمر بن أبي ربيعة تعظه

أخبرني حرميّ، عن الزّبير، عن طارق بن عبد الواحد، قال: قال عبد الرحمن المخزوميّ:

كانت سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف جالسة في المسجد، فرأت عمر بن أبي ربيعة في الطواف، فأرسلت إليه: إذا قضيت طوافك فائتنا، فلما قضى طوافه أتاها فحادثها، و أنشدها، فقالت: ويحك يا بن أبي ربيعة. ما تزال سادرا في حرم اللّه منتهكا، تتناول بلسانك ربّات الحجال من قريش؟! فقال: دعي هذا عنك، أ ما سمعت ما قلت فيك؟ قالت: و ما قلت فيّ؟ فأنشدها:

أحنّ إذا رأيت جمال سعدى *** و أبكي إن رأيت لها قرينا(1)

أ سعدى إنّ أهلك قد أجدّوا *** رحيلا فانظري ما تأمرينا

فقالت: آمرك بتقوى اللّه، و ترك ما أنت عليه.

ابن أبي عتيق ينشد سعدى قول عمر

قال الزبير: و حدثني عبد اللّه بن مسلم، قال: أنشد عمر بن أبي ربيعة بن أبي عتيق قوله:

أحنّ إذا رأيت جمال سعدى

قال: فركب ابن أبي عتيق فأتى سعدى بالجناب من أرض بني فزارة. فأنشدها قول عمر، و قال لها:

ما تأمرين؟ فقالت: آمره بتقوى اللّه يا بن الصّدّيق.

يستوقف ليلى بنت الحارث بن عوف و ينشدها

قال الزّبير: و حدّثني طارق بن عبد الواحد، عن أبي عبيدة، عن عبد الرحمن المخزوميّ، قال:

لقي عمر بن أبي ربيعة ليلى بنت الحارث بن عوف المرّيّ، و هو يسير على بغلة، فقال لها: قفي أسمعك بعض ما قلت فيك؟ فوقفت، فقال:

ألا يا ليل إنّ شقاء نفسي *** نوالك إن بخلت فنوّلينا

قال: فما بلغنا أنها ردّت عليه شيئا، و مضت.

و قد روى هذا الخبر إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن معن، فذكر أنّ ابن أبي عتيق إنما مضى إلى ليلى بنت الحارث بن عوف، فأنشدها هذا البيت، و هو الصحيح؛ لأنّ حلولها بالجنات من أرض فزارة أشبه بها منه بسعدى بنت عبد الرحمن بن عوف. و رواية الزّبير فيما أروى وهم لاختلاط الشعرين في سعدى و ليلى.

ص: 104


1- ديوانه 502.
خبر آخر لسعدى بنت عبد الرحمن معه
اشارة

أخبرني حرميّ، عن الزبير، عن محمّد بن سلاّم، قال:

كانت سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف جالسة في المسجد الحرام، فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت، فأرسلت إليه: إذا فرغت من طوافك، فائتنا، فأتاها، فقالت: أ لا أراك يا بن أبي ربيعة إلاّ سادرا في حرم اللّه! أ ما تخاف اللّه! ويحك إلى متى هذا السّفه! قال: أي هذه، دعي عنك هذا من القول. أ ما سمعت ما قلت فيك؟ قالت:

لا، فما قلت؟ فأنشدها قوله(1):

صوت

قالت سعيدة(2) و الدموع ذوارف *** منها على الخدّين و الجلباب

ليت المغيريّ الذي لم أجزه *** فيما أطال تصيّدي(3) و طلابي

كانت تردّ لنا المنى أيامنا *** إذ لا نلام على هوى و تصابي

أ سعيد(4) ما ماء الفرات و طيبه *** منّي على ظمأ و حبّ شراب

/بألذّ منك و إن نأيت و قلّما *** يرعى النساء أمانة الغيّاب

عروضه من الكامل، غنّاه الهذليّ رملا بالوسطى، عن الهشاميّ، و غنّاه الغريض خفيف ثقيل بالوسطى، عن عمرو.

فقالت: أخزاك اللّه يا فاسق، ما علم اللّه أنّى قلت مما قلت حرفا، و لكنك إنسان بهوت(5).

و هذا الشعر تغنّي فيه:

قالت سكينة و الدموع ذوارف

و في موضع:

أ سعيد ما ماء الفرات و برده

أ سكين. و إنما غيّره المغنّون: و لفظ عمر ما ذكر فيه في الخبر.

إسحاق يغني الرشيد شعر عمر في سكينة
اشارة

و قد أخبرني إسماعيل بن يونس، عن ابن شبّة، عن إسحاق، قال: غنّيت الرشيد يوما بقوله:

/قالت سكينة و الدموع ذوارف *** منها على الخدّين و الجلباب

فوضع القدح من يده و غضب غضبا شديدا، و قال: لعنه اللّه الفاسق، و لعنك معه. فسقط في يدي، و عرف

ص: 105


1- ديوانه 119.
2- الديوان: «سكينة».
3- س: «تصعدي».
4- الديوان: «أ سكين».
5- بهته، كمنعه: قال عليه ما لم يقل. و البهوت: المباهت.

ما بي، فسكن، ثم قال: ويحك! أ تغنّيني بأحاديث الفاسق ابن أبي ربيعة في بنت عمّي، و بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم! ألا تتحفّظ في غنائك و تدري ما يخرج من رأسك! عد إلى غنائك الآن، و انظر بين يديك. فتركت هذا الصوت حتى أنسيته، فما سمعه منّي أحد بعده. و اللّه أعلم.

صوت

فلا زال قبر تبنى و جاسم *** عليه من الوسميّ جود و وابل(1)

فينبت حوذانا و عوفا منوّرا *** سأتبعه من خير ما قال قائل(2)

عروضه من الطويل، و الشعر لحسّان(3) بن ثابت الأنصاري. و هذا القبر الذي ذكره حسّان فيما يقال قبر الأيهم بن جبلة بن الأيهم الغسّانيّ. و قيل: إنه قبر الحارث بن مارية الجفني، و هو(4) منهم أيضا. و الغناء لعزّة الميلاء، خفيف ثقيل، أول بالوسطى، مما لا يشكّ فيه من غنائها. و قد نسبه قوم إلى ابن عائشة، و ذلك خطأ.

ص: 106


1- تبنى: بلدة بحوران من أعمال دمشق. الوسمي: أول المطر. الجرد: الغزير.
2- «البلدان»: «سأهدى له». الحوذان و العوف: نبتان طيبا الرائحة.
3- البيتان نسبهما ياقوت 364:2 إلى النابغة، و قد وردا في ديوانه 84 مع اختلاف في الرواية.
4- «بيروت»: «و هم».

13 - أخبار عزة الميلاء

اشارة

كانت عزّة مولاة للأنصار، و مسكنها المدينة، و هي أقدم من غنّى الغناء الموقّع من النساء بالحجاز، و ماتت قبل جميلة، و كانت من أجمل النساء وجها، و أحسنهنّ جسما، و سمّيت الميلاء؛ لتمايلها في مشيها.

سبب تسميتها الميلاء

و قيل: بل كانت تلبس الملاء، و تشبّه بالرجال، فسمّيت بذلك. و قيل: بل كانت مغرمة بالشراب، و كانت تقول: خذ ملئا(1) و اردد فارغا - ذكر ذلك حمّاد بن إسحاق، عن أبيه.

و الصحيح أنها سمّيت الميلاء لميلها في مشيتها.

مكانتها في الموسيقى و الغناء

قال إسحاق: ذكر لي ابن جامع، عن يونس الكاتب، عن معبد، قال: كانت عزّة الميلاء ممّن أحسنّ ضربا بعود، و كانت مطبوعة على الغناء، لا يعيبها أداؤه و لا صنعته و لا تأليفه، و كانت تغنّي أغاني القيان من القدائم، مثل سيرين(2)، و زرنب، و خولة، و الرباب، و سلمى، و رائقة، و كانت رائقة أستاذتها. فلما قدم نشيط و سائب خاثر المدينة غنّيا أغاني بالفارسية، فلقنت عزّة عنهما نغما، و ألّفت عليها ألحانا عجيبة، فهي أوّل من فتن أهل المدينة بالغناء، و حرّض نساءهم و رجالهم عليه.

رأي مشايخ أهل المدينة فيها

قال إسحاق: و قال الزّبير: إنه وجد مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزّة قالوا: للّه درّها! ما كان أحسن /غناءها، و مدّ(3) صوتها، و أندى حلقها، و أحسن ضربها بالمزاهر و المعازف و سائر الملاهي، و أجمل وجهها، /و أظرف لسانها، و أقرب مجلسها، و أكرم خلقها، و أسخى نفسها، و أحسن مساعدتها.

قال إسحاق: و حدّثني أبي، عن سياط، عن معبد، عن جميلة، بمثل ذلك من القول فيها.

أخذ عنها ابن سريج و ابن محرز

قال إسحاق: و حدثني أبي، عن يونس، قال:

كان ابن سريج في حداثة سنّه يأتي المدينة، فيسمع من عزّة و يتعلّم غناءها، و يأخذ عنها، و كان بها معجبا،

ص: 107


1- الملء، بالكسر: اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلأ. و في «المختار»: «ملاء».
2- «بيروت»: «شيرين».
3- المختار: «و أحل صوتها».

و كان إذا سئل: من أحسن الناس غناء؟ قال: مولاة الأنصار المفضّلة على كلّ من غنّى و ضرب بالمعازف و العيدان من الرجال و النّساء.

قال: و حدثني هشام بن المرّيّة أنّ ابن محرز كان يقيم بمكة ثلاثة أشهر، و يأتي المدينة فيقيم بها ثلاثة أشهر من أجل عزّة، و كان يأخذ عنها.

رأي طويس فيها

قال إسحاق: و حدثني الجمحيّ، عن جرير(1) المغنّي المديني، أنّ طويسا كان أكثر ما يأوي إلى منزل عزّة الميلاء، و كان في جوارها، و كان إذا ذكرها يقول: هي سيّدة من غنّى من النساء، مع جمال بارع، و خلق فاضل و إسلام لا يشوبه دنس؛ تأمر بالخير و هي من أهله، و تنهى عن السوء و هي مجانبة(2) له، فناهيك ما كان أنبلها، و أنبل مجلسها!.

ثم قال: كانت إذا جلست جلوسا عامّا فكأنّ الطير على رءوس أهل مجلسها، من تكلّم أو تحرك نقر رأسه.

قال ابن سلاّم: فما ظنّك بمن يقول: فيه طويس هذا القول! و من ذلك الذي سلم من طويس!.

سمعها معبد و قد أسنت فأعجب بها

قال إسحاق: و حدثني أبو عبد اللّه الأسلميّ، عن معبد:

أنه أتى عزّة يوما و هي عند جميلة و قد أسنّت، و هي تغنّي على معزفة في شعر ابن الإطنابة، قال:

علّلاني و علّلا صاحبيّا *** و اسقياني من المروّق ريّا

قال: فما سمع السامعون قطّ بشيء أحسن من ذلك. قال معبد: هذا غناؤها، و قد أسنّت، فكيف بها و هي شابّة!.

عمر بن أبي ربيعة يغشى عليه حين سمعها تغني شعره

قال إسحاق: و ذكر لي عن صالح بن حسّان الأنصاريّ، قال: كانت عزّة مولاة لنا، و كانت عفيفة جميلة، و كان عبد اللّه بن جعفر، و ابن أبي عتيق، و عمر بن أبي ربيعة يغشونها في منزلها فتغنّيهم. و غنّت يوما عمر بن أبي ربيعة لحنا لها في شيء من شعره، فشقّ ثيابه، و صاح صيحة عظيمة صعق معها، فلما أفاق قال له القوم: لغيرك الجهل يا أبا الخطاب! قال: إني سمعت و اللّه ما لم أملك معه نفسي و لا عقلي.

و قال إسحاق: و حدثني أبو عبد اللّه الأسلميّ المدنيّ، قال:

كان حسّان بن ثابت معجبا بعزّة الميلاء، و كان يقدّمها على سائر قيان المدينة.

غنت شعرا لحسان بن ثابت فبكى

أخبرني حرميّ، عن الزبير، عن محمد بن الحسن المخزوميّ، عن محرز بن جعفر، قال:

ص: 108


1- كذا ضبط بالتصغير في أو الإكمال: 131 أ.
2- في المختار: «و هي مجانبته».

ختن زيد بن ثابت الأنصاري بنته، فأولم؛ فاجتمع إليه المهاجرون و الأنصار و عامّة أهل المدينة، و حضر حسّان بن ثابت و قد كفّ بصره يومئذ، و ثقل سمعه، و كان يقول إذا دعي: أعرس أم عذار(1)؟ فحضر و وضع بين يديه خوان ليس عليه إلاّ عبد الرحمن ابنه، فكان/يسأله: أ طعام يد أم يدين؟ فلم يزل يأكل حتى جاءوا بالشّواء، فقال: طعام يدين؛ فأمسك يده حتى إذا فرغ من الطعام ثنيت وسادة، و أقبلت الميلاء، و هي يومئذ شابّة، فوضع في حجرها مزهر، فضربت به، ثم تغنّت، فكان أوّل ما ابتدأت به شعر حسّان، قال:

/فلا زال قبر بين بصرى و جلّق *** عليه من الوسميّ جود و وابل

فطرب حسّان، و جعلت عيناه تنضحان، و هو مصغ لها.

أخبرني ابن عبد العزيز الجوهريّ، عن ابن شبّة، عن الأصمعيّ، عن أبي الزناد، قال:

قلت لخارجة بن زيد: أ كان يكون هذا الغناء عندكم؟ قال: كان يكون في العرسات(2) و لم يكن يشهد بما يشهد به اليوم من السّعة.

و كان في إخواننا بني نبيط مأدبة، فدعينا، و ثمّ قينة أو قينتان تنشدان شعر حسّان بن ثابت، قال(3):

انظر خليلي بباب جلّق هل *** تبصر دون البلقاء من أحد؟(4)؟

قال: و حسّان يبكي، و ابنه يومئ إليهما أن زيدا؛ فإذا زادتا بكى حسّان، فأعجبني ما يعجبه من أن تبكيا أباه، و قد كفّ بصر حسّان بن ثابت يومئذ.

أخبرنا وكيع، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن الواقديّ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال:

سمعت خارجة بن زيد يقول: دعينا إلى مأدبة في آل نبيط، قال خارجة: فحضرتها، و حسّان بن ثابت قد حضرها، فجلسنا/جميعا على مائدة واحدة، و هو يومئذ قد ذهب بصره، و معه ابنه عبد الرحمن، فكان إذا أتى طعام سأل ابنه: أ طعام يد أم يدين؟ يعني باليد الثّريد و باليدين الشّواء؛ لأنه ينهش نهشا، فإذا قال: طعام يدين أمسك يده. فلما فرغوا من الطعام أتوا بجاريتين: إحداهما رائقة و الأخرى عزّة، فجلستا و أخذتا مزهريهما، و ضربتا ضربا عجيبا، و غنّتا بقول حسّان:

انظر خليلي بباب جلّق هل *** تبصر دون البلقاء من أحد

فأسمع حسّانا يقول:

قد أراني بها(5) سميعا بصيرا

و عيناه تدمعان، فإذا سكتتا سكت عنه البكاء، و إذا غنّتا بكى، فكنت أرى ابنه عبد الرحمن إذا سكتتا يشير إليهما أن تغنّيا، فيبكي أبوه، فأقول: ما حاجته إلى إبكاء أبيه!.

ص: 109


1- العرس: طعام الوليمة، و العذار: طعام البناء و الختان.
2- س، ب: «العرسان». و العرسات: جمع عرس: طعام الوليمة، و يجمع على أعراس أيضا.
3- ديوانه 110.
4- جلق: اسم لكورة الغوطة، أو هي دمشق نفسها أو قرية من قراها. و البلقاء من أعمال دمشق.
5- المختار: «هناك».

قال الواقديّ: فحدّثت بهذا الحديث يعقوب بن محمد الظفريّ، فقال: سمعت سعيد بن عبد الرحمن بن حسّان يقول: لما انقلب حسّان من مأدبة بني نبيط إلى منزله استلقى على فراشه، و وضع إحدى رجليه على الأخرى، و قال: لقد أذكرتني رائقة و صاحبتها أمرا ما سمعته أذناي بعيد ليالي جاهليتنا مع جبلة بن الأيهم! فقلت:

يا أبا الوليد! أ كان القيان يكن عند جبلة؟، فتبسّم ثم جلس، فقال: لقد رأيت عشر قيان: خمس روميّات يغنّين بالروميّة بالبرابط، و خمس يغنّين غناء أهل الحيرة، و أهداهنّ إليه إياس بن قبيصة، و كان يفد إليه من يغنّيه من العرب من مكّة و غيرها، و كان إذا جلس للشرب فرش تحته الآس و الياسمين و أصناف الرياحين، و ضرب له العنبر و المسك في صحاف الفضة و الذهب، و أتى بالمسك الصحيح في صحاف الفضة، و أوقد له العود المندّى(1) إن كان/شاتيا، و إن كان صائفا بطّن بالثّلج، و أتى هو و أصحابه بكسا صيفيّة يتفضّل هو و أصحابه بها في الصيف، و في الشتاء الفراء الفنك(2)، و ما أشبهه، و لا و اللّه ما جلست معه يوما قطّ إلاّ خلع عليّ ثيابه التي عليه في ذلك اليوم، و على غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمّن جهل، و ضحك و بذل من غير مسألة، مع حسن وجه و حسن حديث، ما رأيت منه خنى قطّ و لا عربدة، و نحن يومئذ على الشّرك، فجاء اللّه بالإسلام فمحا به كلّ كفر، و تركنا الخمر و ما كره، و أنتم اليوم مسلمون تشربون هذا النبيذ/من التّمر، و الفضيخ(3) من الزّهر و الرّطب، فلا يشرب أحدكم ثلاثة أقداح حتى يصاحب صاحبته و يفارقها، و تضربون فيه كما تضرب غرائب الإبل فلا تنتهون!.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، عن أبي أيوب المدينيّ، عن مصعب الزبيريّ، عن الضحّاك، عن عثمان بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد مثله، و زاد فيه:

فلما فرغنا من الطعام ثقل علينا جلوس حسّان، فأومأ ابنه إلى عزّة الميلاء فغنّت:

انظر خليلي بباب جلّق هل *** تبصر دون البلقاء من أحد

فبكى حسّان حتى سدر(4)، ثم قال: هذا عمل الفاسق، أما لقد كرهتم مجالستي، فقبّح اللّه مجلسكم سائر اليوم، و قام فانصرف.

أخبرني حرميّ، عن الزبير، عن عمه مصعب، قال:

ذكر هشام بن عروة، عن أبيه: أنه دعي إلى مأدبة في زمن عثمان، و دعي/حسّان و معه ابنه عبد الرحمن، ثم ذكر نحو ما ذكره عمر بن شبّة عن الأصمعيّ في الحديث الأول، قال(5):

ص: 110


1- في «بيروت»: «الهندي».
2- المختار: «بفراء الفنك»، و الفنك: جنس من الثعالب أصغر من الثعلب المعروف و فروته من أحسن الفراء.
3- الفضيخ: عصير العنب، و شراب يتخذ من بسر مفضوخ و إن غلبه الماء. «القاموس».
4- سدر: أصابه شبه دوار و تحير.
5- ديوانه 110.
نسبة هذا الصوت

انظر خليلي بباب جلّق هل *** تؤنس دون البلقاء من أحد

أجمال شعثا إن هبطن من ال *** محبس بين الكثبان فالسّند(1)

يملن حورا(2) حور المدامع في *** الرّيط و بيض الوجوه كالبرد

من دون بصرى و دونها جبل *** الثلج عليه السّحاب كالقرد(3)

إنّي و أيدي المخيّسات و ما *** يقطعن من كلّ سربخ جدد(4)

أهوى حديث النّدمان في *** فلق الصّبح و صوت المسامر الغرد

تقول شعثا بعد ما هبطت *** بصور حسنى من احتدى بلدي(5)

لا أخدش الخدش بالحبيب و لا *** يخشى نديمي(6) إذا انتشيت يدي

الشعر لحسّان بن ثابت، و الغناء لعزّة الميلاء، رمل بالبنصر، و فيه خفيف ثقيل ينسب إلى ابن محرز، و إلى عزّة الميلاء. و إلى الهذليّ في:

تقول شعثاء بعد ما هبطت

/و ما بعده من الأبيات، ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، و فيها لعبد الرحيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو.

نسب شعثاء التي شبب بها حسان بن ثابت

و شعثاء هذه التي شبّب بها حسّان - فيما ذكر الواقديّ و مصعب الزبيريّ - امرأة من أسلم، تزوّجها حسّان، و ولدت منه بنتا يقال لها أمّ فراس تزوّجها عبد الرحمن بن أم الحكم. و ذكر أبو عمرو الشيبانيّ مثل ما ذكره في نسبها، و وصف أنه خطبها إلى قومها من أسلم فردّوه، فقال يهجوهم(7):

لقد أتى عن بني الجرباء قولهم *** و دونهم قفّ جمدان فموضوع(8)

قد علمت أسلم الأرذال أنّ لها *** جارا سيقتله في داره الجوع

ص: 111


1- الديوان: «أجمال شعثاء قد هبطن». الكثبان، في «بيروت»: الطبثان.
2- الديوان: «يحملن حوّاء»، و حوّاء، يريد نساء حوّاء، و الحوة: سمرة الشفة، و شفة حواء: تضرب إلى السواد. و حور المدامع، يعني حور العيون.
3- القرد، بالتحريك: نفاية الصوف خاصة، ثم استعمل فيما سواه من الوبر و الشعر و الكتان. «اللسان» (قرد). و في الديوان و «بيروت»: «كالقدد».
4- الديوان: «إني و رب». و المخيسات: الإبل المذللة. و السربخ: الأرض البعيدة. و قيل: هي المضلة التي لا يهتدى فيها لطريق.
5- في «بيروت»: قعور حسنى من آخذ بيدي و رواية الديوان: ستقول شعثاء لو نفيق من ال كأس لألفيت مثرى العدد
6- الديوان: «... بالنديم... و لا يخشى جليسي».
7- ديوانه 267.
8- الديوان: «و دونهم دف جمدان»، و جمدان موضوع: مكانان، و في س و بيروت: «حمدان».

و أن سيمنعهم مما نووا حسب *** - لن يبلغ المجد و العلياء - مقطوع

و قد علوا - زعموا - عنّى بأختهم *** و في الذّرا حسبي(1) و المجد مرفوع

ويل أمّ شعثاء شيئا تستغيث به *** إذا تجلّلها النّعظ الأفاقيع(2)

كأنه في صلاها(3) و هي باركة *** ذراع بكر من النّياط منزوع(4)

/أخبرني حرميّ، عن الزبير، عن إبراهيم بن المنذر، عن أبي القاسم بن أبي الزناد، عن أخيه عبد الرحمن، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، قال: /شعثاء هذه بنت عمرو، من بني ماسكة من يهود، و كانت مساكن بني ماسكة بناحية القفّ، و كان أبو شعثاء قد رأس اليهود التي تلي بيت الدّراسة للتوراة، و كان ذا قدر فيهم، فقال حسّان يذكر ذلك:

من شعر حسان في شعثاء

هل في تصابي الكريم من فند *** أم هل لمدى الأيام من نفد(5)

تقول شعثاء: لو أفقت(6) عن الكا *** س لألفيت مثري العدد

يأبى لي السيف و اللسان و قو *** م لم يضاموا كبدة الأسد

و ذكر باقي الأبيات التي فيها الغناء.

و مما قاله حسّان بن ثابت في شعثاء، و غنّي به قوله(7):

ما هاج حسّان رسوم المقام *** و مظعن الحيّ و مبنى الخيام

و النّؤي قد هدّم أعضاده *** تقادم العهد بوادي تهام

قد أدرك الواشون ما حاولوا *** و الحبل من شعثاء رثّ رمام(8)

جنّيّة أرّقني طيفها *** يذهب صبحا و يرى(9) في المنام

هل هي إلاّ ظبية مطفل *** مألفها السّدر بنعفي برام(10)

ترعى(11) غزالا فاترا طرفه *** مقارب الخطو ضعيف البغام

ص: 112


1- الديوان: «قد رغبوا زعموا... و في الذرى نسبي»....
2- النعظ: قيام الذكر و انتشاره، و المراد به الذكر نفسه. و الأفاقيع: الذي يتفقع و تسمع له صوتا.
3- الصلا: وسط الظهر.
4- في الديوان: ذراع آدم من نطاء منزوع من نطاء، أي من عقبة نطاء. و العقبة: الجبل الطويل يعرض للطريق فيأخذ فيه. و نطاء: بعيدة.
5- نفد، كسمع، نفادا و نفدا: فني. و هذا البيت لم يرد في ديوانه.
6- الديوان: «لو تفيق...».
7- ديوانه 380.
8- في الديوان: «رث الزمام».
9- في الديوان:... تذهب... و ترى.
10- برام: جبل من حرة سليم قرب المدينة. و نعفاه: جانباه. و في أ و س: «بنعف رام».
11- في «الديوان»: «تزجى».

/كأنّ فاها ثغب بارد *** في رصف تحت ظلال الغمام(1)

شجّ بصهباء لها سورة(2)*** من بنت كرم(3) عتّقت في الخيام

تدبّ في الكأس دبيبا كما(4)*** دبّ دبى وسط رفاق هيام(5)

من خمر بيسان تخيّرتها *** درياقة توشك فتر العظام(6)

يسعى بها أحمر ذو برنس *** محتلق الذّفرى شديد الحزام(7)

يقول فيها(8):

قومي بنو النّجّار إذ أقبلت *** شهباء ترمي أهلها بالقتام

لا تخذل الجار و لا تسلم المولى و لا تخصم يوم الخصام الشعر لحسّان، و الغناء لمعبد، خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى في البيت الأول من الأبيات، و الرابع و التاسع و الحادي عشر. و ذكر الهشاميّ أنّ فيه لحنا لابن سريج من الرمل بالوسطى.

و هذه الأبيات يقولها حسّان في حرب كانت بينهم(9) و بين الأوس، تعرف بحرب مزاحم، و هو حصن من حصونهم.

شعر لحسان في حرب بين الأوس و الخزرج

أخبرني بخبره حرميّ عن الزّبير، عن عمه مصعب، قال:

/جمعت الأوس و حشدت بأحلافها، و رأّسوا عليهم أبا قيس بن الأسلت يومئذ، فسار بهم حتى كان قريبا من مزاحم. و بلغ ذلك الخزرج، فخرجوا يومئذ و عليهم سعد بن عبادة؛ و ذلك أنّ عبد اللّه بن أبيّ كان مريضا أو متمارضا، فاقتتلوا قتالا شديدا، و قتلت بينهم قتلى كثيرة، و كان الطّول(10) يومئذ للأوس؛ فقال حسّان في ذلك:

ما هاج حسّان رسوم المقام *** و مظعن الحيّ و مبنى الخيام

و ذكر الأبيات كلها.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، عن عمر بن القاسم بن الحسن، عن محمد/بن سعد، عن الواقديّ، عن عثمان بن إبراهيم الحاطبيّ، قال:

ص: 113


1- الثغب: الغدير في ظل جبل لا تصيبه الشمس فيبرد ماؤه. و الرصف: الحجارة المتراصفة الدانية.
2- الديوان: «شجت»، و شجت: مزجت.
3- الديوان: «من بيت رأس». و بيت رأس: قرية بالأردن.
4- في الديوان: «تدب في الجسم».
5- الدبى: أصغر النمل.
6- الديوان: «ترياقة تسرع».
7- الديوان: «مختلق الذفرى»، أي فيهما الخلوق. الذفرى: العظم الشاخص خلف الأذن.
8- ديوانه 382.
9- أي بين الخزرج الذين هم قوم حسان و بين الأوس.
10- الطول هنا: الفوز و الغلبة.

قال رجل من أهل المدينة: ما ذكر بيت حسّان بن ثابت(1):

أهوى حديث النّدمان في فلق الصّبح و صوت المسامر الغرد إلاّ عدت في الفتوّة كما كنت. قال: و هذا البيت من قصيدته التي يقول فيها:

انظر خليلي بباب جلّق هل *** تؤنس دون البلقاء من أحد

و قد روي أيضا في هذا الخبر غير الروايتين اللتين ذكرتهما.

عبد الرحمن بن حسان يحتال لإبعاد أبيه عن مجلس أصحابه
اشارة

أخبرني بذلك حرميّ، عن الزبير، عن وهب بن جرير، عن جويرية بن أسماء، عن عبد الوهاب بن يحيى، عن عباد بن عبد اللّه بن الزبير، عن شيخ من قريش، قال:

إني و فتية من قريش عند قينة من قيان المدينة، و معنا عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت إذ استأذن حسّان، فكرهنا دخوله، و شقّ ذلك علينا؛ /فقال لنا عبد الرحمن: أ يسركم ألاّ يجلس؟ قلنا: نعم. قال: فمروها إذا نظرت إليه أن ترفع عقيرتها و تغنّي:

أولاد جفنة عند قبر أبيهم *** قبر ابن مارية الكريم المفضل

يغشون حتى ما تهرّ كلابهم *** لا يسألون عن السّواد المقبل

قال: فو اللّه لقد بكى حتى ظننا أنه سقطت نفسه، ثم قال: أ فيكم الفاسق! لعمرى لقد كرهتم مجلسي سائر اليوم، و قام فانصرف، و اللّه تعالى أعلم.

نسبة هذا الصوت و سائر ما يغنّى فيه من القصيدة(2) التي هو منها.

صوت

أولاد جفنة عند قبر أبيهم *** قبر ابن مارية الجواد المفضل

يسقون من ورد البريص عليهم *** كأسا تصفّق بالرحيق السّلسل(3)

البريص: موضع بدمشق.

بيض الوجوه كريمة أحسابهم *** شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل

يغشون حتى ما تهرّ كلابهم *** لا يسألون عن السّواد المقبل

ذكر حبش أن فيه لسيرين(4) قينة حسّان بن ثابت لحنا ثقيلا أول ابتداؤه نشيد(5)، و فيه لعريب ثقيل أول لا يشكّ فيه.

ص: 114


1- ديوانه 112.
2- ديوانه 309.
3- البريص: نهر في دمشق. و البيت في «اللسان» (برص).
4- أ: «لشيرين».
5- أ: «ينشد».

و مما يغنى فيه من هذه القصيدة قوله(1):

صوت

كلتاهما حلب العصير فعاطني *** بزجاجة أرخاهما للمفصل(2)

بزجاجة رقصت بما في قعرها *** رقص القلوص براكب مستعجل

غنّاه إبراهيم الموصليّ رملا مطلقا في مجرى الوسطى، عن إسحاق و عمرو و غيرهما، و يروى: «كلتاهما حلب العصير»، بجعل الفعل للعصير. و يروى للمفصل، بكسر الميم و فتح الصاد، و للمفصل، بفتح الميم و كسر الصاد، و هو اللسان.

أخبرنا بذلك عليّ بن سليمان الأخفش، عن المبرد، حكاية عن أصحابه، عن الأصمعيّ.

رجع الحديث إلى أخبار عزّة الميلاء
عبد اللّه بن جعفر و ناسك بالمدينة

قال إسحاق: حدثني مصعب الزبيريّ، عن محمد بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن أبي مليكة، عن أبيه، /عن جدّه، قال:

كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم و الفقه، و كان يغشى عبد اللّه بن جعفر، فسمع جارية مغنّية لبعض النخّاسين تغني:

بانت سعاد و أمسى حبلها انقطعا(3)

فاستهتر(4) بها و هام، و ترك ما كان عليه، حتى مشى إليه عطاء(5) و طاوس فلاماه؛ فكان جوابه لهما أن تمثّل بقول الشاعر:

/يلومني فيك أقوام أجالسهم *** فما أبالي أطار اللّوم أم(6) وقعا

و بلغ عبد اللّه بن جعفر خبره، فبعث إلى النخّاس، فاعترض(7) الجارية، و سمع غناءها بهذا الصوت، و قال لها: ممّن أخذته؟ قالت: من عزّة الميلاء. فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره، فأعلمه إياه و صدقه عنه، فقال له: أ تحبّ أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية؟ قال: نعم، فدعا بعزّة و قال

ص: 115


1- ديوانه 312.
2- حاشية أ: «و قبله»: إن التي ناولتني فرددتها قتلت قتلت فهاتها لم تقتل و كلتاهما، أي التي قتلت - أي مزجت - و التي لم تقتل، أي لم تمزج.
3- ديوان الأعشى 101 و البلدان (فرع). و تمامه: و احتلت الغور فالجدين فالفرعا
4- استهتر بها: شغف و أولع بها.
5- عطاء و طاوس: كلاهما من أعلام التابعين. و انظر ترجمتهما في ابن خلكان.
6- أ: «أو».
7- اعترض الجارية: طلب أن تمرّ أمامه ليراها عن قرب.

لها: غنّيه إياه، فغنّته؛ فصعق الرجل، و خرّ مغشيّا عليه. فقال ابن جعفر: أثمنا فيه، الماء، الماء! فنضح على وجهه، فلما أفاق قال له: أ كلّ هذا بلغ بك عشقها؟ قال: و ما خفي عنك أكثر. قال: أ فتحبّ أن تسمعه منها؟ قال: قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها، و أنا لا أحبّها، فكيف يكون حالي إن سمعته منها، و أنا لا أقدر على ملكها! قال: أ فتعرفها إن رأيتها؟ قال: أو أعرف غيرها! فأمر بها فأخرجت، و قال: خذها فهي لك، و اللّه ما نظرت إليها إلا عن عرض. فقبّل الرجل يديه و رجليه، و قال: أنمت عيني، و أحييت نفسي، و تركتني أعيش بين قومي، و رددت إليّ عقلي، و دعا له دعاء كثيرا. فقال: ما أرضى أن أعطيكها هكذا، يا غلام احمل معها مثل ثمنها لكيلا تهتمّ به و يهتمّ بها.

نسبة هذا الصوت
صوت

بانت سعاد و أمسى حبلها انقطعا *** و احتلّت الغور فالجدّين فالفرعا(1)

و أنكرتني و ما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلاّ الشّيب و الصّلعا

عروضه من البسيط، و الشعر للأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة.

الأصمعي ينحل الأعشى بيتا من الشعر

و زعم الأصمعيّ أن البيت الثاني هو صنعه و نحله الأعشى.

أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ، عن عمه، عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعيّ، عن عمه، قال:

ما نحلت أحدا من الشعراء شيئا قطّ لم يقله إلاّ بيتا واحدا نحلته الأعشى، و هو:

و أنكرتني و ما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلا الشّيب و الصّلعا

الغناء لعزّة الميلاء، خفيف ثقيل أول بالوسطى؛ و ذكر عمرو بن بانة أنه لمعبد، و أنكر إسحاق ذلك و دفعه، و فيه للغريض ثقيل أول بالبنصر، و قيل: إنه لجميلة.

عبد اللّه بن جعفر يطلب من أمير المدينة ألا يمنع عزة من الغناء
اشارة

قال إسحاق: و حدثني ابن سلاّم، عن ابن جعدبة، قال:

كان ابن أبي عتيق معجبا بعزّة الميلاء، فأتى يوما عند عبد اللّه بن جعفر، فقال له: بأبي أنت و أمي! هل لك في عزّة، فقد اشتقت إليها! قال: لا، أنا اليوم مشغول. فقال: بأبي أنت و أمي! إنها لا تنشط إلاّ بحضورك، فأقسمت عليك إلاّ ساعدتني و تركت شغلك، ففعل، فأتياها و رسول الأمير على/بابها يقول لها: دعي الغناء، فقد ضجّ أهل /المدينة منك، و ذكروا أنك قد فتنت رجالهم و نساءهم. فقال له ابن جعفر: ارجع إلى صاحبك فقل له عنّي: أقسم عليك إلاّ ناديت في المدينة: أيّما رجل فسد أو امرأة فتنت بسبب عزّة إلاّ كشف نفسه بذلك لنعرفه، و يظهر لنا و لك أمره. فنادى الرسول بذلك، فما أظهر أحد نفسه. و دخل ابن جعفر إليها و ابن أبي عتيق معه، فقال لها: لا يهولنّك ما سمعت، و هاتي فغنّينا، فغنّته بشعر القطاميّ(2):

ص: 116


1- ديوان الأعشى 101.
2- الجمهرة 802.

إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل *** و إن بليت، و إن طالت بك الطّيل

فاهتزّ ابن أبي عتيق طربا، فقال عبد اللّه بن جعفر: ما أراني أدرك ركابك بعد أن سمعت هذا الصوت من عزّة.

و قد مضت نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني في مواضع أخر.

صوت

من كان مسرورا بمقتل مالك *** فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسرا يندبنه *** قد قمن قبل تبلّج الأسحار

عروضه من الكامل. قوله:

قد قمن قبل تبلّج الأسحار

يعني أنّهن يندبنه في ذلك الوقت؛ و إنما خصّه بالندبة لأنه وقت الغارة. يقول: فهنّ يذكرنه حينئذ؛ لأنه كان من الأوقات التي ينهض فيها للحرب و الغارات. قال اللّه تبارك و تعالى: فَالْمُغِيرٰاتِ صُبْحاً (1). و أما قول الخنساء(2):

يذكّرني طلوع الشمس صخرا *** و أذكره لكلّ غروب شمس

فإنما ذكرته عند طلوع الشمس للغارة، و عند غروبها للضيف.

الشعر للربيع بن زياد العبسيّ، و الغناء لابن سريج، رمل بالخنصر في مجرى البنصر، عن إسحاق، و اللّه أعلم.

ص: 117


1- الآية 3 من سورة العاديات.
2- ديوانها 50.

14 - ذكر نسب الربيع بن زياد و بعض أخباره، و قصة هذا الشعر، و السبب الذي قتل من أجله

نسبه

هو الربيع بن زياد بن عبد اللّه بن سفيان بن ناشب بن هدم بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.

و أمّه فاطمة بنت الخرشب، و اسم الخرشب عمرو بن النضر بن حارثة بن طريف بن أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان، و هي إحدى المنجبات، كان يقال لبنيها الكملة، و هم: الرّبيع، و عمارة، و أنس.

أمه إحدى المنجبات

و لما سأل معاوية علماء العرب عن البيوتات و المنجبات، و حظر عليهم أن يتجاوزوا في البيوتات ثلاثة، و في المنجبات ثلاثا، عدّوا فاطمة بنت الخرشب فيمن عدّوا، و قبلها حييّة(1) بنت رياح الغنويّة أم الأحوص و خالد و مالك و ربيعة بني جعفر بن كلاب، و ماويّة بنت عبد مناة بن مالك بن زيد بن عبد اللّه بن دارم بن عمرو بن تميم، و هي أمّ لقيط و حاجب و علقمة بني زرارة بن عدس بن زيد بن عبد اللّه بن دارم.

أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرد، قال: حدثني محمد بن موسى اليزيديّ، قال: حدثني محمد بن صالح بن النطّاح، و اللفظ له، و خبره أتمّ، و أخبرني به أبو الحسن الأسديّ، قال: حدّثنا محمد بن صالح بن النطاح، قال:

ولدت فاطمة بنت الخرشب من زياد بن عبد اللّه العبسيّ سبعة؛ فعدّت العرب/المنجبين منهم ثلاثة، و هم خيارهم.

/قال محمد بن موسى: قال محمد بن صالح: و حدثني موسى بن طلحة، و الوليد بن هشام القحذميّ بمثل ذلك، قال:

فمنهم: الربيع و يقال له الكامل، و عمارة و هو الوهّاب، و أنس و هو أنس الفوارس و هو الواقعة، و قيس و هو البرد، و الحارث و هو الحرون، و مالك و هو لاحق، و عمرو و هو الدرّاك.

سئلت أمه عن بنيها فلم تدر أيهم أفضل

قال محمد بن موسى: قال ابن النطاح: و حدثني أبو عثمان العمريّ(2):

ص: 118


1- في المختار: «جنة».
2- أ: «اليقطري».

أنّ عبد اللّه بن جدعان لقي فاطمة بنت الخرشب و هي تطوف بالكعبة فقال لها: نشدتك بربّ هذه البنيّة، أيّ بنيك أفضل؟ قالت: الربيع، لا بل عمارة، لا بل أنس، ثكلتهم إن كنت أدري أيّهم أفضل.

قال ابن النطاح: و حدثني أبو اليقظان سحيم بن حفص العجيفيّ، قال: حدثني أبو الخنساء، قال:

سئلت فاطمة عن بنيها أيّهم أفضل؟ فقالت: الربيع، لا بل عمارة، لا بل أنس، لا بل قيس، و عيشي ما أدري، أما و اللّه ما حملت واحدا منهم تضعا، و لا ولدته يتنا، و لا أرضعته غيلا، و لا منعته قيلا، و لا أبتّه على ماقة(1).

قال أبو اليقظان:

أما قولها ما حملت واحدا منهم تضعا، فتقول: لم أحمله في دبر الطّهر و قبل الحيض. و قولها: و لا ولدته يتنا، و هو أن تخرج رجلاه قبل رأسه. و لا أرضعته/غيلا، أي ما أرضعته قبل أن أحلب ثديي. و لا منعته قيلا، أي لم أمنعه اللبن عند القائلة. و لا أبتّه على ماقة، أي و هو يبكي.

أمه تصفه و تصف إخوته

قال ابن النطاح: و حدثني أبو اليقظان، قال: حدثني أبو صالح الأسديّ قال:

سئلت فاطمة بنت الخرشب عن بنيها، فوصفتهم، و قالت في عمارة: لا ينام ليلة يخاف، و لا يشبع ليلة يضاف. و قالت في الربيع: لا تعدّ مآثره و لا تخشى في الجهل بوادره. و قالت في أنس: إذا عزم أمضى، و إذا سئل أرضى، و إذا قدر أغضى. و قالت في الآخرين أشياء لم يحفظها أبو اليقظان.

حكمته و بعد نظره

و قال ابن النطاح: و حدثني القحذميّ، قال: حدثني أبي، قال: حدثني ابن عيّاش(2)، عن رجل من بني عبس، قال:

ضاف فاطمة ضيف، فطرحت عليه شملة من خزّ و هي مسك كما هي، (فلما وجد رائحتها و أعتم دنا منها، فصاحت به، فكفّ عنها، ثم إنه تحرك أيضا فأرادها عن نفسها)(3)، فصاحت، فكفّ، ثم إنه لم يصبر فواثبها فبطشت به، فإذا هي من أشدّ الناس، فقبضت عليه ثم صاحت: يا قيس، فأتاها، فقالت: إنّ هذا أرادني عن نفسي، فما ترى فيه؟ فقال: أخي أكبر مني، فعليك به، فنادت: يا أنس، فأتاها، فقالت: إنّ هذا أرادني عن نفسي فما ترى فيه؟ فقال لها: أخي أكبر مني فسليه، فنادت: يا عمارة، فأتاها فذكرت ذلك له، فقال لها: السيف، و أراد قتله، فقالت له: يا بنيّ، لو دعونا أخاك فهو أكبر منك، فدعت الربيع، فذكرت ذلك له، فقال: أ فتطيعونني يا بني زياد؟ قالوا: نعم، قال: فلا تزنّوا أمّكم، و لا تقتلوا ضيفكم، و خلّوه يذهب، فذهب.

شعر قيل في مدحه و مدح إخوته

قال ابن النطّاح: و قال بعض الشعراء يمدح بني زياد من فاطمة، يقال: إنه قيس بن زهير، و يقال: حاتم طيّئ(4):

ص: 119


1- هامش أ: «هذا الخبر روى عن أم تأبط شرا، ذكره ابن السكيت». و انظر اللسان (وضع) و (يتن).
2- أ: «ابن عباس».
3- ما بين القوسين ليس في أ، و بدله: «فلما أعتم دنا منها».
4- الأبيات في ديوان حاتم ص 17 مع اختلاف يسير.

بنو جنّيّة ولدت سيوفا *** قواطع كلّهم ذكر صنيع

و جارتهم حصان لم تزنّى *** و طاعمة الشتاء فما تجوع

شرى ودّي(1) و مكرمتي جميعا *** طوال زمانه مني الربيع

/و قال سلمة بن الخرشب خالهم فيهم يخاطب قوما منهم أرادوا حربه:

أتيتم إلينا ترجفون(2) جماعة *** فأين أبو قيس و أين ربيع!

و ذاك ابن أخت زانه ثوب خاله *** و أعمامه الأعمام و هو نزيع(3)

رفيق بداء الحرب طبّ بصعبها(4) *** إذا شتّ رأي القوم فهو جميع

عطوف على المولى ثقيل على العدا *** أصمّ عن العوراء و هو سميع

و قال رجل من طيئ، و يقال له الربيع بن عمارة:

فإن تكن الحوادث أفظعتني(5) *** فلم أمر هالكا كابني زياد

هما رمحان خطّيّان كانا *** من السّمر المثقّفة الجياد

تهاب الأرض أن يطأ عليها *** بمثلهما تسالم أو تعادي

أمه تقتل نفسها خوفا من العار

و قال الأثرم: حدثني أبو عمرو الشيبانيّ، قال:

أغار حمل بن بدر أخو حذيفة بن بدر الفزاريّ على بني عبس، فظفر/بفاطمة بنت الخرشب أمّ الربيع بن زياد و إخوته راكبة على جمل لها، فقادها بجملها، فقالت له: أي رجل(6)، ضلّ حلمك! و اللّه لئن أخذتني فصارت هذه الأكمة بي و بك التي أمامنا وراءنا(7) لا يكون بينك و بين بني زياد صلح أبدا؛ لأن الناس يقولون في هذه الحال ما شاءوه، و حسبك من شرّ سماعه. قال: فإني أذهب بك حتى ترعي عليّ إبلي. فلما أيقنت أنه ذاهب بها رمت بنفسها على رأسها من البعير، فماتت خوفا من أن يلحق بنيها عار فيها.

لبيد يحاول الإيقاع بينه و بين النعمان

و حدثني محمد بن العباس اليزيديّ، قال: حدثني عمّي عبد اللّه بن محمد، قال: أخبرنا محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابيّ، قال:

وفد أبو براء ملاعب الأسنّة - و هو عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب - و إخوته طفيل و معاوية و عبيدة، و معهم لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر، و هو غلام، على النعمان بن المنذر، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسيّ،

ص: 120


1- أ: «سرى ودى». و المثبت من ج.
2- ترجفون: متهيئين للحرب. و في أ: «تزحفون».
3- في ب، س، أ: «بزيغ» و هو: الظريف. و ما أثبتاه عن ج و يقتضيه المقام.
4- أ: «بصقعها».
5- المختار: قطعتني.
6- أ، م: «أي حمل».
7- أ: «و صارت وراءنا».

و كان(1) الربيع ينادم النعمان مع رجل من أهل الشام تاجر، يقال له: سرجون(2) بن نوفل، و كان حريفا للنعمان - يعني سرجون - يبايعه، و كان أديبا حسن الحديث و المنادمة، فاستخفّه النعمان، و كان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه و إلى النطاسيّ - متطبّب كان له - و إلى الربيع بن زياد، و كان يدعى الكامل.

فلما قدم الجعفريّون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فإذا خلا الربيع بالنعمان طعن فيهم، و ذكر معايبهم، ففعل ذلك بهم مرارا، و كانت بنو جعفر له أعداء، فصدّه عنهم، فدخلوا عليه يوما فرأوا منه تغيّرا و جفاء، و قد كان /يكرمهم قبل ذلك و يقرّب مجلسهم، فخرجوا من عنده غضابا، و لبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم، و يغدو بإبلهم كلّ صباح، فيرعاها، فإذا أمسى انصرف بإبلهم، فأتاهم ذات ليلة فألفاهم يتذاكرون أمر الربيع، و ما يلقون منه؛ فسألهم فكتموه، فقال لهم: و اللّه لا أحفظ لكم متاعا، و لا أسرّح لكم بعيرا أو تخبروني.

و كانت أمّ لبيد امرأة من بني عبس، و كانت يتيمة في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك، و صدّ عنّا وجهه، فقال لهم لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بينه و بيني فأزجره عنكم بقول ممضّ، ثم لا يلتفت/النعمان إليه بعده أبدا. فقالوا: و هل عندك من ذلك شيء؟ قال: نعم، قالوا: فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة - لبقلة قدّامهم دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة فروعها بالأرض، تدعى التّربة(3) - فقال: هذه التّربة التي لا تذكى نارا، و لا تؤهل دارا، و لا تسرّ جارا، عودها ضئيل، و فرعها كليل، و خيرها قليل، بلدها شاسع، و نبتها خاشع، و آكلها جائع، و المقيم عليها ضائع، أقصر البقول فرعا، و أخبثها مرعى، و أشدّها قلعا، فتعسا لها و جدعا، القوا بي أخا بني عبس، أرجعه عنكم بتعس و نكس، و أتركه من أمره في لبس.

فقالوا: نصبح فنرى فيك رأينا. فقال لهم عامر: انظروا غلامكم؛ فإن رأيتموه نائما فليس أمره بشيء، و إنما يتكلّم بما جاء على لسانه، و يهذي بما يهجس في خاطره، و إذا رأيتموه ساهرا فهو صاحبكم. فرمقوه بأبصارهم، فوجدوه قد ركب رحلا، فهو يكدم بأوسطه حتى أصبح.

فلما أصبحوا قالوا: أنت و اللّه صاحبنا، فحلقوا رأسه، و تركوا/ذؤابتين، و ألبسوه حلّة، ثم غدوا به معهم على النعمان، فوجدوه يتغدّى و معه الرّبيع و هما يأكلان، ليس معه غيره، و الدار و المجالس مملوءة من الوفود.

فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، و قد كان تقارب أمرهم، فذكروا للنعمان الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع في كلامهم، فقام لبيد يرتجز، و يقول(4):

يا ربّ هيجا هي خير من دعه *** أ كلّ يوم هامتي مقزّعة(5)

ص: 121


1- في أ، م بدلا من الأخبار التي تبدأ بقوله: و كان الربيع إلى قوله في صفحة 187: «و أما الشعر الذي فيه الغناء» قوله: قال أبو الفرج: قد ذكرت هذا القول مستقصى في «أخبار لبيد» فلا فائدة في ذكره هاهنا.
2- ب، س: سرحون: بالحاء المهملة. و ما أثبتناه من ح. و في أخبار لبيد ج 363/15 من «الأغاني» طبع دار الكتب: «زرجون بن توفيق».
3- التربة: نبت سهلي مفرّض الورق، و قيل: هي شجرة شاكة، و ثمرتها كأنها بسرة معلقة، منبتها السبل و الحزن و تهامة. «اللسان» (ترب).
4- ديوان لبيد 340، و الخزانة 8:4.
5- القزع: تساقط الشعر و الصوف و بقاء بعضه.

نحن بنو أمّ البنين الأربعة(1) *** و من خيار عامر بن صعصعه(2)

المطعمون الجفنة المدعدعة *** و الضاربون الهام تحت الخيضعه(3)

يا واهب الخير الكثير من سعه *** إليك جاوزنا بلادا مسبعه

يخبر(4) عن هذا خبير فاسمعه *** مهلا - أبيت اللّعن - لا تأكل معه

إنّ استه من برص ملمّعه *** و إنه يدخل فيها إصبعه(5)

يدخلها حتى يواري أشجعه *** كأنما يطلب شيئا أطمعه(6)

فلما فرغ من إنشاده التفت النعمان إلى الربيع شزرا يرمقه، فقال: /أ كذا أنت؟ قال: لا، و اللّه، لقد كذب عليّ ابن الحمق اللئيم. فقال النعمان: أفّ لهذا الغلام، لقد خبّث عليّ طعامي. فقال: أبيت اللعن، أما إني لقد فعلت بأمّه. فقال لبيد: أنت لهذا الكلام أهل، و هي من نساء غير فعل(7)، و أنت المرء فعل هذا بيتيمة في حجره.

فأمر النعمان ببني جعفر فأخرجوا. و قام الرّبيع فانصرف إلى منزله، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به، و أمره بالانصراف إلى أهله.

و كتب إليه الربيع: إني قد تخوّفت أن يكون قد وقر في صدرك ما قاله لبيد، و لست برائم حتى تبعث من يجرّدني فيعلم من حضرك من الناس أنّي لست كما قال. فأرسل إليه: إنك لست صانعا بانتفائك ممّا قال لبيد شيئا، و لا قادرا على ما زلّت به الألسن، فالحق بأهلك. فقال الربيع(8):

لئن رحلت جمالي إنّ لي(9) سعة *** ما مثلها سعة عرضا و لا طولا

/بحيث لو وزنت لخم بأجمعها *** لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا(10)

ترعى الرّوائم أحرار البقول بها *** لا مثل رعيكم ملحا و غسويلا(11)

فابرق بأرضك يا نعمان متّكئا *** مع النطاسيّ يوما و ابن توفيلا

فكتب إليه النعمان(12):

شرّد برحلك عني حيث شئت و لا *** تكثر عليّ ودع عنك الأباطيلا

ص: 122


1- أم البنين؛ هي ليلى بنت عامر. قال المرتضى: هي بنت عمرو بن عامر بن ربيعة، و كانت تحت مالك بن جعفر، فولدت له عامر بن مالك، و طفيل بن مالك، و ربيعة بن مالك، و معاوية بن مالك.
2- في الديوان: و نحن خير عامر بن صعصعة.
3- المدعدعة: المملوءة. الخيضعة: البيضة التي تلبس على الرأس. و الخيضعة أيضا: اختلاط الأصوات في الحرب.
4- في الديوان: يخبرك.
5- الملمع: الذي يكون في جسده بقع تخالف سائر لونه.
6- في الديوان: «شيئا ضيعه». و الأشجع: واحد الأشاجع و هي أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف.
7- أي غير فاعلات المنكر.
8- الأبيات الثلاثة الأول في «اللسان» (سمل)، و هي أيضا في الخزانة 79:2.
9- «اللسان»: «لا إلى سعة».
10- س و الخزانة: «سمويلا» بالسين. و سمويل: طائر، و قيل: بلدة كثيرة الطير. و في «بيروت»: شمويلا، بالشين المعجمة.
11- الغسويل: نبت ينبت في السباخ.
12- الأبيات في الخزانة 7:4، و الكتاب 131:1.

/فقد ذكرت به و الركب حامله *** وردا يعلّل أهل الشام و النّيلا(1)

فما انتفاؤك منه بعد ما جزعت *** هوج المطيّ به إبراق شمليلا(2)

قد قيل ذلك إن حقّا و إن كذبا *** فما اعتذارك من شيء إذا قيلا

فالحق بحيث رأيت الأرض واسعة *** و انشر بها الطّرف إن عرضا و إن طولا

داحس و الغبراء

و أما الشعر الذي فيه الغناء فإنّ الربيع بن زياد يقوله(3) في مقتل مالك بن زهير. و كان قتله في بعض تلك الوقائع التي يعرف مبدؤها بداحس و الغبراء.

حرب داحس و الغبراء
اشارة

و كان السبب في ذلك، فيما أخبرني به عليّ بن سليمان الأخفش، و محمد بن العباس اليزيديّ، قالا: حدثنا أبو سعيد السكريّ، عن محمد بن حبيب و أبي غسان دماذ، عن أبي عبيدة، و إبراهيم بن سعدان، عن أبيه، قال:

كان من حديث داحس أنّ أمّه فرس كانت لقرواش بن عوف بن عاصم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع يقال لها:

جلوى، و كان أبوه يسمى ذا العقّال، و كان لحوط بن أبي جابر بن أوس بن حميريّ بن رياح؛ و إنما سمّي داحسا لأنّ بني يربوع احتملوا ذات يوم سائرين في نجعة، و كان ذو العقّال مع ابنتي حوط بن أبي جابر بن أوس تجنبانه، فمرّتا به على جلوى فرس قرواش وديقا(4)؛ فلما رآها الفرس ودى و صهل، فضحك شبّان من الحي رأوه، /فاستحيت الفتاتان فأرسلتاه فنزا على جلوى، فوافق قبولها فأقصّت(5)، ثم أخذه لهما بعض الحيّ، فلحق بهما حوط، و كان رجلا شريرا سيّئ الخلق، فلما نظر إلى عين الفرس قال: و اللّه لقد نزا فرسي؛ فأخبراني ما شأنه، فأخبرتاه الخبر، فقال: يا آل رياح، لا و اللّه لا أرضى أبدا حتى أخرج ماء فرسي، فقال له بنو ثعلبة: و اللّه ما استكرهنا فرسك؛ إنما كان منفلتا، فلم يزل الشرّ بينهما حتى عظم.

فلما رأى ذلك بنو ثعلبة قالوا: دونكم ماء فرسكم؛ فسطا عليها و أدخل يده في ماء و تراب، ثم أدخلها في رحمها حتى ظنّ أنه قد أخرج الماء، و اشتملت الرحم على ما كان فيها، فنتجها قرواش مهرا، فسماه داحسا لذلك، و خرج كأنه أبوه ذو العقّال. و فيه يقول جرير(6):

إنّ الجياد يبتن حول خبائنا *** من آل أعوج أو لذي العقّال

ص: 123


1- في الخزانة: فقد رميت بداء لست غاسله ما جاور السيل أهل الشام و النيلا ثم روى الشطر الأول كما رواه الأغاني.
2- البيت في البكري 809، و قال: شمليل: بلد، و أنشد البيت، و في أ: «خرعت»، و فيه: «عوج المطي»، و في الخزانة: «بعد ما قطعت... أكنافها شمليلا».
3- ب، س، ج: «و هذا الشعر يقوله الربيع بن زياد في مقتل مالك» و المثبت من أ، م.
4- الوديق: التي تطلب الفحل. و جلوى: اسم فرس. انظر «اللسان».
5- أقصت: حملت و استبان حملها. و في المختار: «فأقصت له»، أي أمكنته من المباشرة.
6- ديوانه 486، و النقائض 303، و فيهما: «حول قبابنا».

و أعوج: فرس لبني هلال.

فلما تحرك المهر سام(1) مع أمّه و هو فلو يتبعها، و بنو ثعلبة سائرون، فرآه حوط فأخذه، فقالت بنو ثعلبة:

يا بني رياح، أ لم تفعلوا فيه أوّل مرة ما فعلتم ثم هذا الآن! فقالوا: هو فرسنا، و لن نترككم أو نقاتلكم عنه أو تدفعوه إلينا.

فلما رأى ذلك بنو ثعلبة قالوا: إذا لا نقاتلكم عنه، أنتم أعزّ علينا، هو فداؤكم، و دفعوه إليهم.

/فلما رأى ذلك بنو رياح قالوا: و اللّه لقد ظلمنا إخوتنا مرّتين، و لقد حلموا و كرموا، فأرسلوا به إليهم مع لقوحين.

/فمكث عند قرواش ما شاء اللّه، و خرج أجود خيول العرب.

ثم إن قيس بن زهير بن جذيمة العبسيّ أغار على بني يربوع، فلم يصب أحدا غير ابنتي قرواش بن عوف و مائة من الإبل لقرواش، و أصاب الحيّ و هم خلوف، و لم يشهد من رجالهم غير غلامين من بني أزنم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع، فجالا في متن الفرس مرتدفيه(2) و هو مقيّد بقيد من حديد فأعجلهما القوم عن حلّ قيده، و اتّبعهما القوم، فضبر(3) بالغلامين ضبرا حتى نجوا به، و نادتهما إحدى الجاريتين: إنّ مفتاح القيد مدفون في مذود الفرس بمكان كذا و كذا، أي بجنب مذود، و هو مكان، أي لا تنزلا عنه إلاّ في ذلك المكان، فسبقا إليه حتى أطلقاه ثم كرّا راجعين.

فلما رأى ذلك قيس بن زهير رغب في الفرس، فقال لهما: لكما حكمكما، و ادفعا إليّ الفرس، فقالا:

أو فاعل أنت؟ قال: نعم، فاستوثقا منه، على أن يردّ ما أصاب من قليل و كثير، ثم يرجع عوده على بدئه(4)، و يطلق الفتاتين، و يخلّي عن الإبل، و ينصرف عنهم راجعا. ففعل ذلك قيس، فدفعا إليه الفرس.

فلما رأى ذلك أصحاب قيس قالوا: لا نصالحك(5) أبدا، أصبنا مائة من الإبل و امرأتين(6)، فعمدت إلى غنيمتنا فجعلتها في فرس/لك تذهب به دوننا؛ فعظم في ذلك الشرّ حتى اشترى منهم غنيمتهم بمائة من الإبل.

فلما جاء قرواش قال للغلامين الأزنميّين: أين فرسي؟ فأخبراه، فأبى أن يرضى إلاّ أن يدفع إليه فرسه، فعظم في ذلك الشرّ حتى تنافروا فيه، فقضي بينهم أن تردّ الفتاتان و الإبل إلى قيس بن زهير، و يردّ عليه الفرس. فلما رأى ذلك قرواش رضي بعد شرّ، و انصرف قيس بن زهير، و معه داحس، فمكث ما شاء اللّه.

و زعم بعضهم أنّ الرهان إنما هاجه بين قيس بن زهير و حذيفة بن بدر بن عمرو بن جويّة بن لوذان بن عديّ بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار - أن قيسا دخل على بعض الملوك و عنده قينة لحذيفة بن بدر تغنّيه بقول امرئ القيس:

ص: 124


1- سام، أي رعى.
2- مرتدفيه: راكب أحدهما خلف صاحبه.
3- ضبر الفرس: جمع قوائمه و وثب.
4- أي مسرعا.
5- في المختار: «لا نصاحبك»، و المثبت في «النقائض» أيضا ص 85.
6- في أ: «أصابنا... و امرأتان»، و المثبت في النقائض و المختار.

دار لهند و الرّباب و فرتنى *** و لميس قبل حوادث الأيام(1)

و هنّ - فيما يذكر - نسوة من بني عبس، فغضب قيس بن زهير، و شقّ رداءها، و شتمها؛ فغضب حذيفة، فبلغ ذلك قيسا، فأتاه يسترضيه، فوقف عليه، فجعل يكلّمه و هو لا يعرفه من الغضب، و عنده أفراس له، فعابها، و قال:

ما يرتبط مثلك مثل هذه يا أبا مسهر! فقال حذيفة: أ تعيبها؟ قال: نعم، فتجاريا حتى تراهنا.

و قال بعض الرواة: إنّ الذي هاج الرّهان أنّ رجلا من بني عبد اللّه بن غطفان ثم أحد بني جوشن - و هم أهل بيت شؤم، أتى حذيفة زائرا - (و يقال إن الذي أتاه الورد العبسي أبو عروة بن الورد)(2) - قال: فعرض عليه حذيفة /خيله، فقال: ما أرى فيها جوادا مبرّا، و المبرّ؛ الغالب، قال ذو الرمة(3):

أبرّ على الخصوم فليس خصم *** و لا خصمان يغلبه جدالا

فقال له حذيفة: فعند من الجواد المبرّ؟ فقال: عند قيس بن زهير فقال له: هل لك أن تراهنني عنه؟ قال:

نعم، قد فعلت، فراهنه على ذكر من خيله و أنثى.

ثم إن العبديّ(4) أتى قيس بن زهير، /و قال: إني قد راهنت عنك(5) على فرسين من خيلك ذكر و أنثى و أوجبت الرّهان.

فقال قيس: ما أبالي من راهنت غير حذيفة، فقال: ما راهنت غيره، فقال له قيس: إنك ما علمت لأنكد.

ثم ركب قيس حتى أتى حذيفة، فوقف عليه، فقال له: ما غدا بك! قال: غدوت لأواضعك الرهان، قال: بل غدوت لتغلقه، قال: ما أردت ذلك. فأبى حذيفة إلا الرّهان، فقال قيس: أخيّرك ثلاث خلال، فإن بدأت فاخترت قبلي فلي خلّتان، و لك الأولى، و إن بدأت فاخترت قبلك فلك خلّتان و لي الأولى.

قال حذيفة: فابدأ، قال قيس: الغاية من مائة غلوة - و الغلوة: الرمية بالنّشّابة - قال حذيفة: فالمضمار أربعون ليلة، و المجرى: من ذات الإصاد(6).

ففعلا و وضعا السّبق(7) على يدي غلاّق أو ابن غلاّق، أحد بني ثعلبة بن سعد بن ثعلبة.

/فأما بنو عبس فزعموا أنه أجرى الخطّار و الحنفاء. و زعمت بنو فزارة أنه أجرى قرزلا و الحنفاء، و أجرى قيس داحسا و الغبراء.

و يزعم بعضهم أن الذي هاج الرهان أنّ رجلا من بني المعتمر(8) بن قطيعة بن عبس يقال له سراقة راهن شابّا من بني بدر - و قيس غائب - على أربع جزائر(9) من خمسين غلوة، فلما جاء قيس كره ذلك، و قال له: لم ينته رهان

ص: 125


1- ديوانه 114، و في النقائض: «دار لهر».
2- من المختار. و عبارة النسخ: «و هم أهل بيت شؤم أتاه الورد أبو عروة أتى حذيفة زائرا» و هي غير مستقيمة.
3- ديوانه 445.
4- ب، س: «العبسي» و المثبت في «المختار».
5- كذا في أ، و هي ساقطة من النقائض.
6- أ: «ذات الإصال»، و هي ردهة بين الجبال أو موضع.
7- السبق: ما يوضع بين أهل السباق من رهان فمن سبق أخذه.
8- في النقائض: المعتم.
9- جزائر: جمع جزور و هي الناقة.

قطّ إلاّ إلى شرّ. ثم أتى بني بدر، فسألهم المواضعة، فقالوا: لا، حتى نعرف سبقنا؛ فإن أخذنا فحقّنا، و إن تركنا فحقّنا.

فغضب قيس و محك(1)، و قال: أما إذ فعلتم فأعظموا الخطر، و أبعدوا الغاية، قالوا: فذلك لك. فجعلوا الغاية من واردات إلى ذات الإصاد، و ذلك مائة غلوة، و الثّنيّة فيما بينهما، و جعلوا القصبة في يدي رجل من بني ثعلبة بن سعد، يقال له حصين، و يقال: رجل من بني العشراء من بني فزارة، و هو ابن أخت لبني عبس، و ملئوا البركة ماء، و جعلوا السابق أوّل الخيل يكرع فيها.

ثم إن حذيفة بن بدر و قيس بن زهير أتيا المدى الذي أرسلن منه ينظران إلى الخيل كيف خروجها منه. فلما أرسلت عارضاها(2)، فقال حذيفة: خدعتك يا قيس، قال: ترك الخداع من أجرى من مائة؛ فأرسلها مثلا.

ثم ركضا ساعة فجعلت خيل حذيفة تبرّ و خيل قيس(3) تقصّر، فقال/حذيفة: سبقتك يا قيس، فقال: جري المذكّيات غلاب(4)، فأرسلها مثلا. ثم ركضا ساعة، فقال حذيفة: إنك لا تركض مركضا، فأرسلها مثلا. و قال:

سبقت خيلك يا قيس، فقال قيس: رويدا يعلون الجدد، فأرسلها مثلا.

قال: و قد جعل بنو فزارة كمينا بالثنيّة، فاستقبلوا داحسا فعرفوه فأمسكوه و هو السابق، و لم يعرفوا الغبراء و هي خلفه مصلّية، حتى مضت الخيل و استهلّت من الثنيّة، ثم أرسلوه فتمطّر(5) في آثارها؛ أي أسرع، فجعل يبدرها فرسا فرسا حتى سبقها إلى الغاية مصلّيا، و قد طرح الخيل غير الغبراء، و لو تباعدت الغاية لسبقها؛ فاستقبلها بنو فزارة فلطموها، ثم حلّئوها(6) عن البركة، ثم لطموا داحسا و قد جاءا متواليين. و كان الذي لطمه عمير بن نضلة، فجسأت(7) يده؛ فسمّي جاسئا.

فجاء قيس و حذيفة في آخر الناس، و قد دفعتهم بنو فزارة عن سبقهم، و لطموا أفراسهم، و لم تطقهم(8)بنو عبس يقاتلونهم، و إنما كان من شهد ذلك من بني عبس أبياتا غير كثيرة، فقال قيس بن زهير: يا قوم، إنه لا يأتي قوم إلى قومهم شرّا من الظلم، فأعطونا حقّنا، فأبت بنو فزارة/أن يعطوهم شيئا - و كان الخطر(9) عشرين من الإبل - فقالت بنو عبس: أعطونا/بعض سبقنا، فأبوا، فقالوا: أعطونا جزورا ننحرها نطعمها أهل الماء؛ فإنا نكره القالة في العرب. فقال رجل من بني فزارة: مائة جزور و جزور واحد سواء، و اللّه ما كنّا لنقرّ لكم بالسبق علينا، و لم نسبق.

فقام رجل من بني مازن بن فزارة فقال: يا قوم، إنّ قيسا كان كارها لأوّل هذا الرهان، و قد أحسن في آخره،

ص: 126


1- محك: لجّ.
2- أ: «عارضها».
3- كذا في المختار و النقائض، و في أ: «خيل زهير».
4- هامش أ: «و يروى: غلاء، من المعالاة»، و في «القاموس»: كل مرماة غلوة و جمعها غلوات و غلاء، و في المثل: جرى المذكيات غلاء.
5- في «القاموس»: تمطرت الخيل: جاء يسبق بعضها بعضا. و تمطرت الطير: أسرعت.
6- حلئوها: منعوها.
7- جسأت يده: صلبت، و في المختار و النقائض: «فجفت».
8- في المختار و النقائض: «و لو يطيقهم بنو عبس لقاتلوهم».
9- الخطر: السبق.

و إنّ الظلم لا ينتهي إلاّ إلى الشر؛ فأعطوه جزورا من نعمكم، فأبوا، فقام إلى جزور من إبله فعقلها ليعطيها قيسا و يرضيه، فقام ابنه فقال: إنك لكثير الخطأ؛ أ تريد أن تخالف قومك و تلحق بهم خزاية بما ليس عليهم؟ فأطلق الغلام عقالها، فلحقت بالنّعم. فلما رأى ذلك قيس بن زهير احتمل عنهم هو و من معه من بني عبس، فأتى على ذلك ما شاء اللّه.

قيس بن زهير قتل عوف بن بدر و الربيع يحمل ديته

ثم إنّ قيسا أغار عليهم، فلقي عوف بن بدر فقتله و أخذ إبله، فبلغ ذلك بني فزارة، فهمّوا بالقتال، و غضبوا، فحمل الربيع بن زياد أحد بني عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس دية عوف بن بدر مائة عشراء متلية.

(العشراء: التي أتى عليها من حملها عشرة أشهر من ملقحها. و المتالي: التي نتج بعضها و الباقي يتلوها في النتاج).

و أمّ عوف و أم حذيفة ابنة نضلة بن جويّة بن لوذان بن ثعلبة بن عديّ بن فزارة.

و اصطلح الناس، فمكثوا ما شاء اللّه.

حذيفة بن بدر يدس فرسانا يقتلون مالك بن زهير

ثم إن مالك بن زهير أتى امرأة يقال لها: مليكة بنت حارثة من بني عوذ(1) بن فزارة، فابتنى بها باللّقاطة(2)قريبا من الحاجر، فبلغ ذلك حذيفة بن بدر، فدسّ له فرسانا على أفراس من مسانّ خيله، و قال: لا تنظروا(3) مالكا إن وجدتموه أن تقتلوه، و الربيع(4) بن زياد بن عبد اللّه بن سفيان بن ناشب(5) العبسيّ مجاور حذيفة بن بدر، و كانت تحت الربيع بن زياد معاذة ابنة بدر، فانطلق القوم، فلقوا مالكا فقتلوه، ثم انصرفوا عنه، فجاءوا عشية و قد جهدوا أفراسهم، فوقفوا على حذيفة و معه الرّبيع بن زياد، فقال حذيفة: أ قدرتم على حماركم! قالوا: نعم، و عقرناه.

فقال الربيع: ما رأيت كاليوم قطّ، أهلكت أفراسك من أجل حمار! فقال حذيفة لمّا أكثر عليه من الملامة، و هو يحسب أنّ الذي أصابوا(6) حمارا: إنا لم نقتل حمارا، و لكنا قتلنا مالك بن زهير بعوف بن بدر. فقال الربيع:

بئس لعمر اللّه القتيل قتلت(7)، أما و اللّه إني لأظنّه سيبلغ ما نكره(8).

الربيع يغضب لقتل مالك

فتراجعا شيئا من كلام ثم تفرقا، فقام الربيع يطأ الأرض وطأ شديدا، و أخذ يومئذ حمل بن بدر ذا النّون، سيف مالك بن زهير.

ص: 127


1- في النقائض: «من بني غراب بن فزارة»، و في المختار: «من بني عوذة».
2- س: اللفاظة»، و المثبت من النقائض و المختار.
3- ب، س: «لا تنتظروا»، و المثبت في المختار و النقائض.
4- في المختار: «و كان الربيع... مجاورا حذيفة».
5- في النقائض: «قارب».
6- في المختار: «أصابوه».
7- في بيروت: «ما فعلت»، و ما هنا موافق للمختار و النقائض.
8- في المختار: «ما يكره» بالمبني للمجهول.

/قال أبو عبيدة: فزعموا أنّ حذيفة لما قام الرّبيع بن زياد أرسل إليه بمولّدة له(1) فقال لها: اذهبي إلى معاذة بنت بدر امرأة الربيع فانظري ما ترين الربيع يصنع. فانطلقت الجارية حتى دخلت البيت، فاندسّت بين الكفاء و النّضد - و الكفاء: شقّة في آخر البيت، و النّضد: متاع يجعل على حمار من خشب - فجاء الربيع فنفذ البيت حتى أتى فرسه فقبض بمعرفته، ثم مسح متنه حتى قبض بعكوة ذنبه - العكوة: أصل الذنب - ثم رجع إلى البيت و رمحه مركوز بفنائه، فهزّه هزّا شديدا، ثم ركزه كما كان، ثم قال لامرأته: اطرحي لي شيئا، فطرحت له شيئا، فاضطجع عليه، و كانت قد طهرت تلك الليلة، فدنت منه، فقال: إليك! قد حدث أمر، /ثم تغنّى، و قال(2)

الربيع يرثي مالكا

نام الخليّ و ما أغمّض حار(3) *** من سيّئ النّبأ الجليل السّاري

من مثله تمسي النساء حواسرا *** و تقوم معولة مع الأسحار(4)

من كان مسرورا بمقتل مالك *** فليأت نسوتنا بوجه نهار(5)

يجد النساء حواسرا يندبنه *** يبكين قبل تبلّج الأسحار

قد كنّ يخبأن الوجوه تستّرا *** فاليوم حين بدون للنّظّار(6)

يخمشن حرّات الوجوه على امرئ(7) *** سهل الخليقة طيّب الأخبار

أ فبعد مقتل مالك بن زهير(8) *** ترجو النساء عواقب الأطهار

/ما إن أرى في قتله لذوي الحجا *** إلاّ المطيّ تشدّ بالأكوار

و مجنّبات ما يذقن عذوفة *** يقذفن بالمهرات و الأمهار

العذوف و العدوف واحد، و هو ما أكلته.

و مساعرا صدأ الحديد عليهم *** فكأنما طلي الوجوه بقار(9)

يا ربّ مسرور بمقتل مالك *** و لسوف نصرفه بشرّ محار(10)

فرجعت المرأة(11) فأخبرت حذيفة الخبر، فقال: هذا حين اجتمع أمر إخوتكم، و وقعت الحرب.

حذيفة بن بدر يدس فرسانا وراء الربيع

و قال الربيع لحذيفة و هو يومئذ جاره: سيّرني، فإني جاركم، فسيّره ثلاث ليال، و مع الربيع فضلة من خمر،

ص: 128


1- أ، و النقائض: «أرسل إليه أمة مولدة».
2- الأبيات في النقائض 89 و حماسة أبي تمام 298:1.
3- حار، مرخم: «حارث».
4- في المختار: «يوقمن معولة».
5- النقائض: «بنصف نهار».
6- و المختار: «برزن للنظار».
7- هامش أ من نسخة: «حر وجوههن»، و في المختار: «حر وجوههن على فتى».
8- في هذا الشطر عيب يسمى القطع.
9- المساعر: جمع مسعر، و هو موقد نار الحرب.
10- المحار: المرجع، و في أ: «نضربه»، و في المختار: «بشر مصار».
11- في المختار و النقائض: «الأمة».

فلما سار الربيع دسّ حذيفة في أثره فوارس، فقال: اتبعوه، فإذا مضت(1) ثلاث ليال فإنّ معه فضلة من خمر، فإن وجدتموه قد أهراقها(2) فهو جادّ و قد مضى، فانصرفوا، و إن لم تجدوه قد أراقها فاتبعوه؛ فإنكم تجدونه قد مال لأدنى منزل، فرتع و شرب فاقتلوه، فتبعوه فوجدوه قد شقّ الزّقّ و مضى، فانصرفوا.

فلما أتى الربيع قومه، و قد كان بينه و بين قيس بن زهير شحناء؛ و ذلك أنّ الربيع ساوم قيس بن زهير في درع كانت عنده، فلما نظر إليها و هو راكب وضعها بين يديه، ثم ركض بها فلم يردّها على قيس، فعرض/قيس لفاطمة ابنة الخرشب الأنمارية - من أنمار بن بغيض، و هي إحدى منجبات قيس، و هي أمّ الربيع - و هي تسير في ظعائن من عبس، فاقتاد جملها، يريد أن يرتهنها بالدّرع حتى يردّ عليه، فقالت: ما رأيت كاليوم فعل رجل! أي قيس، ضلّ حلمك! أ ترجو أن تصطلح أنت و بنو زياد و قد أخذت أمّهم! فذهبت بها يمينا و شمالا! فقال الناس في ذلك ما شاءوا! و حسبك من شرّ سماعه، فأرسلتها مثلا. فعرف قيس بن زهير ما قالت له، فخلّى سبيلها، و أطرد إبلا لبني زياد، فقدم بها مكّة، فباعها من عبد اللّه بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة القرشيّ، و قال في ذلك قيس بن زهير(3):

أ لم يبلغك و الأنباء تنمي *** بما لاقت لبون بني زياد

و محبسها على القرشيّ تشرى *** بأدراع و أسياف حداد

كما لاقيت من حمل بن بدر *** و إخوته على ذات الإصاد

/هم فخروا عليّ بغير فخر *** و ذادوا دون غايته جوادي

و كنت إذا منيت بخصم سوء *** دلفت له بداهية نآد(4)

بداهية تدقّ الصّلب منه *** فتقصم أو تجوب عن الفؤاد(5)

و كنت إذا أتاني الدّهر ربق *** بداهية شددت لها نجادي

الربق: ما يتقلّده.

/أ لم تعلم بنو الميقاب أنّى *** كريم غير منغلث الزّناد(6)

الوقب: الأحمق، و الميقاب: التي تلد الحمقى، و المنغلث: الذي ليس بمنتقى.

أطوّف ما أطوّف ثم آوي *** إلى جار كجار أبي دواد

جاره: يعني ربيعة الخير بن قرط بن سلمة بن قشير، و جار أبي دواد يقال له: الحارث بن همّام بن مرّة بن ذهل بن شيبان، و كان أبو دواد في جواره، فخرج صبيان الحيّ يلعبون في غدير، فغمس الصّبيان ابن أبي دواد فيه

ص: 129


1- في س: «فإذا مضوا» و المثبت من أ و النقائض.
2- أهراقها: أسالها.
3- النقائض 90.
4- نآد: شديدة.
5- س: «تجوب على الفؤاد»، و جاب الشيء جوبا: خرقه، و المثبت ما في أ و النقائض و المختار.
6- أ: «كريه يوم ملحمة جلادي». و في هامشه من نسخة: «غير منفلت»، و في المختار و النقائض: «غير مغتلث»، و يروى: «معتلث»، و في «اللسان»: اعتلثت الزند: انتخبته من شجرة لا يدري: أ يورى أم لا! و اعتلث السهم، بالعين المهملة: أخذه من عرض الشجر.

فقتلوه، فخرج الحارث فقال: لا يبقى صبيّ في الحيّ إلاّ غرّق في الغدير أو يرضى أبو دواد، فودي ابن أبي دواد عشر ديات فرضي، و هو قول أبي دواد:

إبلي الإبل لا يحوزها الرا *** عون و مجّ النّدى عليها المدام

قال أبو سعيد: حفظي: لا يحوزها الراعي و مجّ الندى.

إليك ربيعة الخير بن قرط *** و هوبا للطّريف و للتّلاد

كفاني ما أخاف أبو هلال *** ربيعة فانتهت عنّي الأعادي

تظلّ جياده يحدين(1) حولي *** بذات الرّمث كالحدإ الغوادي

كأني إذ أنخت إلى ابن قرط *** عقلت إلى يلملم أو نضاد(2)

و قال أيضا قيس بن زهير:

/إن تك حرب فلم أجنها *** جنتها خيارهم أو هم(3)

حذار الرّدى إذ رأوا خيلنا *** مقدّمها سابح أدهم

عليه كميّ و سرباله *** مضاعفة نسجها محكم

فإن شمّرت لك عن ساقها *** فويها ربيع و لم يسأموا

نهيت ربيعا فلم يزدجر *** كما انزجر الحارث الأضجم(4)

قال أبو عبد اللّه: الحارث الأضجم: رجل من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، و هو صاحب المرباع.

قال: فكانت تلك الشّحناء بين بني زياد و بين بني زهير، فكان قيس يخاف خذلانهم إياه، فزعموا أنّ قيسا دسّ غلاما له مولّدا، فقال: انطلق كأنك تطلب إبلا؛ فإنهم سيسألونك، فاذكر مقتل مالك، ثم احفظ ما يقولون. فأتاهم العبد، فسمع الربيع يتغنّى بقوله:

أ فبعد مقتل مالك بن زهير *** ترجو النساء عواقب الأطهار(5)

فلما رجع العبد إلى قيس فأخبره بما سمع من الربيع بن زياد، عرف قيس أن قد غضب، فاجتمعت بنو عبس على قتال بني فزارة، فأرسلوا إليهم أن ردّوا علينا إبلنا التي ودينا بها(6)/عوفا أخا حذيفة بن بدر لأمّه، فقال:

لا أعطيكم دية ابن أمي، و إنما قتل صاحبكم حمل بن بدر، و هو ابن الأسدية، و أنتم و هو أعلم.

/فزعم بعض الناس أنهم كانوا ودوا عوف بن بدر بمائة من الإبل متلية؛ أي قد دنا نتاجها، و أنه أتى على تلك الإبل أربع سنين، و أنّ حذيفة بن بدر أراد أن يردّها بأعيانها، فقال له سنان بن خارجة المرّيّ: أ تريد أن تلحق بنا

ص: 130


1- في النقائض: «يجمزن»، و في أ: «يجرين».
2- يلملم و نضاد: جبلان.
3- في النقائض: «صبارتهم أوهم».
4- في المختار: «الأضخم»، و هو يوافق ما في النقائض. قال: و روى ابن الأعرابي: «الحارث الأجذم».
5- النقائض: 93.
6- النقائض و المختار: «وديناها».

خزاية فنعطيهم أكثر مما أعطونا، فتسبّنا العرب بذلك؟ فأمسكها حذيفة، و أبى بنو عبس أن يقبلوا إلاّ إبلهم بعينها فمكث القوم ما شاء اللّه أن يمكثوا.

جندب يقتل مالك بن بدر

ثم إن مالك بن بدر خرج يطلب إبلا له، فمرّ على بني رواحة، فرماه جندب(1) - أحد بني رواحة - بسهم فقتله، فقالت ابنة مالك بن بدر في ذلك(2):

للّه عينا من رأى مثل مالك *** عقيرة قوم أن جرى فرسان

فليتهما لم يشربا قطّ قطرة(3) *** وليتهما لم يرسلا لرهان

أحلّ به من جندب أمس نذره(4) *** فأيّ قتيل كان في غطفان

إذا سجعت بالرّقمتين حمامة *** أو الرّسّ تبكي فارس الكتفان

فرس له كانت تسمّى الكتفان.

الأسلع بن عبد اللّه بن ناشب يمشي في الصلح بين عبس و ذبيان

ثم إنّ الأسلع بن عبد اللّه بن ناشب بن زيد بن هدم بن أدّ بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس مشى في الصّلح، و رهن بني ذبيان ثلاثة/من بنيه و أربعة من بني أخيه حتى يصطلحوا، جعلهم على يدي سبيع بن عمرو من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان. فمات سبيع و هم عنده.

سبيع بن عمرو يوصي مالكا ابنه

فلما حضرته الوفاة قال لابنه مالك بن سبيع: إنّ عندك مكرمة لا تبيد إن أنت احتفظت بهؤلاء الأغيلمة، و كأني بك لو قد متّ قد أتاك حذيفة خالك - و كانت أمّ مالك هذا ابنة بدر - فعصر عينيه، و قال: هلك سيّدنا، ثم خدعك عنهم حتى تدفعهم إليه فيقتلهم، فلا شرف بعدها فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم.

فلما ثقل جعل حذيفة يبكي و يقول: هلك سيّدنا، فوقع ذلك له في قلب مالك.

مالك دفع الرهن إلى حذيفة

فلما هلك سبيع أطاف بابنه مالك فأعظمه، ثم قال له: يا مالك، إنّي خالك، و إنّي أسنّ منك، فادفع إليّ هؤلاء الصبيان ليكونوا عندي إلى أن ننظر في أمرنا. و لم يزل به حتى دفعهم إلى حذيفة باليعمريّة، و اليعمريّة: ماء بواد من بطن نخل من الشّربّة لبني ثعلبة.

فلما دفع مالك إلى حذيفة الرّهن جعل كل يوم يبرز غلاما فينصبه غرضا و يرمي بالنّبل، ثم يقول: ناد أباك، فينادي أباه حتى يمزّقه النبل، و يقول لواقد بن جنيدب: ناد أباك فجعل ينادي: يا عمّاه، خلافا عليهم، و يكره أن

ص: 131


1- النقائض: «جنيدب».
2- النقائض 92.
3- النقائض: «شربة».
4- كذا في أ و المختار، و في «بيروت»: «أحل به أمس الجنيدب نذره».

يأبس أباه بذلك - و الأبس: القهر و الحمل على المكروه - و قال لابن جنيدب بن عمرو بن عبد الأسلع: ناد جنيبة - و كان جنيبة لقب/أبيه - فجعل ينادي: يا عمراه(1)، باسم أبيه حتى قتل. و قتل عتبة بن قيس بن زهير.

ثم إنّ بني فزارة اجتمعوا هم و بنو ثعلبة و بنو مرّة، فالتقوا هم و بنو عبس، فقتلوا منهم مالك بن سبيع بن عمرو الثعلبيّ(2) - قتله مروان(3) بن زنباع العبسيّ - و عبد العزّى بن حذار الثعلبيّ، و الحارث بن بدر الفزاريّ، و هرم بن ضمضم المرّيّ - قتله ورد بن حابس العبسيّ، و لم يشهد ذلك اليوم حذيفة بن بدر، فقالت ناجية أخت هرم بن ضمضم المريّ(4):

يا لهف نفسي لهفة المفجوع *** ألاّ أرى هرما على مودوع

/من أجل سيّدنا و مصرع جنبه *** علق الفؤاد بحنظل مجدوع(5)

مودوع: فرسه.

بين ذبيان و عبس
اشارة

ثم إنّ حذيفة بن بدر جمع و تأهّب(6)، و اجتمع معه بنو ذبيان بن بغيض فبلغ بني عبس أنهم قد ساروا إليهم، فقال قيس: أطيعوني، فو اللّه لئن لم تفعلوا لأتّكئنّ على سيفي حتى يخرج من ظهري، قالوا: فإنّا نطيعك، فأمرهم فسرّحوا السّوام و الضّعاف بليل و هم يريدون أن يظعنوا من منزلهم ذلك، ثم ارتحلوا في الصّبح، و أصبحوا على ظهر العقبة، و قد مضى سوامهم و ضعفاؤهم. فلما أصبحوا طلعت عليهم الخيل من الثنايا، فقال قيس: خذوا غير طريق المال؛ فإنه لا حاجة للقوم أن يقعوا في شوكتكم، و لا يريدون بكم في أنفسكم شرّا من ذهاب أموالكم، فأخذوا غير طريق المال.

/فلما أدرك حذيفة الأثر و رآه(7) قال: أبعدهم اللّه! و ما خيرهم بعد ذهاب أموالهم! فاتّبع المال.

و سارت ظعن بني عبس و المقاتلة من ورائهم، و تبع حذيفة و بنو ذبيان المال. فلما أدركوه ردّوه(8) أوّله على آخره، و لم يفلت منهم شيء، و جعل الرجل يطرد ما قدر عليه من الإبل، فيذهب بها. و تفرّقوا، و اشتدّ الحر، فقال قيس بن زهير: يا قوم، إن القوم قد فرّق بينهم المغنم، فاعطفوا الخيل في آثارهم، فلم تشعر بنو ذبيان إلا و الخيل دوائس(9)، فلم يقاتلهم كبير أحد، و جعل بنو ذبيان إنما همّة الرجل في غنيمته أن يحوزها، و يمضي بها.

فوضعت بنو عبس فيهم السلاح حتى ناشدتهم بنو ذبيان البقيّة، و لم يكن لهم همّ غير حذيفة، فأرسلوا خيلهم مجتهدين في أثره، و أرسلوا خيلا تقصّ(10) الناس و يسألونهم، حتى سقط خبر حذيفة من الجانب الأيسر على

ص: 132


1- أ: «يا عماه».
2- أ: «التغلبي»، تحريف.
3- في النقائض: الحكم بن مروان.
4- النقائض 94.
5- أ، النقائض، المختار، بيروت: «مصدوع».
6- أ، و المختار و النقائض: «و تهيأ».
7- و كذا في النقائض. و في المختار: «وراءهم».
8- أ و المختار و النقائض: «ردوا».
9- ب، س: دواس، و المثبت في المختار و النقائض و بيروت. و دوائس: يتبع بعضها بعضا.
10- و كذا في المختار، و في النقائض: «تنفض» و المراد تتعرفهم.

شدّاد بن معاوية العبسيّ، و عمرو بن ذهل بن مرة بن مخزوم بن مالك بن غالب(1) بن قطيعة العبسيّ، و عمرو بن الأسلع، و الحارث بن زهير، و قرواش بن هنيّ بن أسيّد بن جذيمة، و جنيدب.

و كان حذيفة قد استرخى حزام فرسه، فنزل عنه فوضع رجله على حجر مخافة أن يقتصّ أثره، ثم شد الحزام فوقع صدر قدمه على الأرض فعرفوه، و عرفوا حنف فرسه - و الحنف: أن تقبل إحدى اليدين على الأخرى، و في الناس أن تقبل إحدى الرجلين على الأخرى، و أن يطأ/الرجل وحشيّهما(2)، و جمع الأحنف حنف - فاتبعوه، و مضى حتى استغاث بجفر الهباءة و قد اشتد الحرّ، فرمى بنفسه، و معه حمل بن بدر، و حنش بن عمرو، و ورقاء بن بلال و أخوه - و هما(3) من بني عديّ بن فزارة - و قد نزعوا سروجهم، و طرحوا سلاحهم، و وقعوا في الماء، و تمعّكت(4) دوابّهم، و قد بعثوا ربيئة فجعل يطّلع فينظر، فإذا لم ير شيئا رجع، فنظر نظرة فقال: إني قد رأيت شخصا كالنّعامة أو كالطائر فوق القتادة من قبل مجيئنا. فقال حذيفة: هنّا و هنّا، هذا شدّاد على جروة، و جروة:

فرس شدّاد، و المعنى دع ذكر شداد عن يمينك و عن شمالك، و اذكر غيره لما كان يخاف من شدّاد.

فبينا هم يتكلّمون إذا هم بشدّاد بن معاوية واقفا عليهم، فحال بينهم و بين الخيل، ثم جاء عمرو بن الأسلع، ثم جاء قرواش حتى تتامّوا خمسة، فحمل جنيدب على خيلهم فاطّردها، و حمل عمرو بن الأسلع، فاقتحم هو و شدّاد عليهم في الجفر، فقال حذيفة: يا بني عبس! فأين العقول و الأحلام! فضربه أخوه(5)/حمل بن بدر بين كتفيه، و قال: اتّق مأثور القول(6) بعد اليوم، فأرسلها مثلا.

و قتل قرواش بن هنيّ حذيفة، و قتل الحارث بن زهير حمل بن بدر و أخذ منه ذا النون سيف مالك بن زهير، و كان حمل أخذه من مالك بن زهير يوم قتله، فقال الحارث بن زهير في ذلك(7):

/تركت على الهباءة غير فخر *** حذيفة حوله قصد العوالي(8)

سيخبر عنهم حنش بن عمرو *** إذا لاقاهم و ابنا بلال

و يخبرهم مكان النّون مني *** و ما أعطيته عرق الخلال

العرق: المكافأة، و الخلال: المودة، يقول: لم يعطوني السّيف عن مكافأة و مودّة، و لكني قتلت و أخذت.

فأجابه حنش بن عمرو أخو بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان(9):

سيخبرك الحديث به خبير *** يجاهرك العداوة غيرى آلي

بداءتها لقرواش و عمرو *** و أنت تجول جوبك في الشمال

ص: 133


1- في النقائض: «شداد بن معاوية بن ذهل بن مخزوم بن غالب».
2- الوحشي: الجانب الأيمن من كل شيء. و الوحشي في الرجل: ظهرها، ضد الإنسي.
3- في المختار: «و همام بن عدي»، و المثبت في النقائض أيضا.
4- تمعكت دوابهم: تمرغت في التراب.
5- أ: «فضربه حمل بن بدر».
6- و كذا في النقائض. و في المختار: «الكلام».
7- النقائض 96.
8- قصد: جمع قصدة. و هي القطعة مما يكسر. و العوالي: الرماح.
9- النقائض 96.

الجوب: التّرس، يقول: بداءة الأمر لقرواش و عمرو بن الأسلع، و هما اقتحما الجفر و قتلا من قتلا، و أنت ترسك في يدك يجول لم تغن شيئا. و يقال: لك البداءة و لفلان العودة.

و قال قيس بن زهير(1):

تعلم أنّ خير الناس ميت *** على جفر الهباءة ما يريم

و لو لا ظلمه ما زلت أبكي *** عليه الدهر ما طلع النجوم

و لكنّ الفتى حمل بن بدر *** بغى، و البغي مرتعه وخيم

أظنّ الحلم دلّ عليّ قومي *** و قد يستجهل الرجل الحليم

فلا تغش المظالم لن تراه *** يمتّع بالغنى الرجل الظّلوم

/و لا تعجل بأمرك و استدمه *** فما صلّى عصاك كمستديم(2)

ألاقي من رجال منكرات *** فأنكرها و ما أنا بالغشوم

و لا يعييك عرقوب بلأي *** إذا لم يعطك النّصف الخصيم(3)

و مارست الرجال و مارسوني *** فمعوجّ عليّ و مستقيم

قوله: فما صلّى عصاك كمستديم، يقول: عليك بالتأنّي و الرفق، و إياك و العجلة؛ فإنّ العجول لا يبرم أمرا أبدا، كما أنّ الذي يثقف العود إذا لم يجد تصليته على النار لم يستقم له.

و قال في ذلك شدّاد بن معاوية العبسيّ(4):

من يك سائلا عنّي فإنّي *** و جروة لا نرود و لا نعار(5)

مقرّبة النّساء(6) و لا تراها *** أمام الحيّ يتبعها المهار

لها في الصيف آصرة و جلّ *** و ستّ من كرائمها غزار(7)

آصرة: حشيش، و ست: أي ست أينق تسقى لبنها.

ألا أبلغ بني العشراء عنّي *** علانية و ما يغني السّرار

قتلت سراتكم و حسلت منكم *** حسيلا مثل ما حسل الوبار(8)

ص: 134


1- النقائض 96.
2- البيت في «اللسان» (صلا)، و روايته: «فما صلى عصاه كمستديم» و في هذا البيت و الذي بعده إقواء.
3- النصف، بالكسر: النصفة. و في النقائض بعد هذا البيت شرح له هذا نصه: قوله: عرقوب، يقول: إذا لم ينصفك خصمك، فأدخل عليه عرقوبا يفسخ حجته.
4- النقائض 97، و نسبت هذه الأبيات إلى عنترة في ديوانه 65.
5- البيت في «اللسان» (جرا). و فيه و في النقائض و المختار: «لا ترود و لا تعار».
6- في النقائض: «مقربة الشتاء» و في أ: «مقربة السناء».
7- في النقائض و المختار: «بالصيف»، و في «اللسان»: «كلاّ آصر: حابس لمن فيه، أو ينتهي إليه من كثرته». و البيت في «اللسان» (أصر)، و روايته: «لها بالصيف... غزار».
8- البيت في «اللسان» (حسل)، و فيه: «قال ابن الأعرابي: «حسلت: أبقيت منكم بقية». و الوبار: جمع وبر، دويبة على قدر السنور من دواب الصحراء.

/حسالة الناس و حفالتهم و رعاعهم و خمّانهم و شرطهم و حثالتهم و خشارتهم و غثاؤهم واحد؛ و هم السّفلة.

يقول: قتلت سراتكم و جعلتكم بعدهم حسالة، كما خلقت الوبار حسالة.

و كان ذلك اليوم يوم ذي حسا، و يزعم بعض بني فزارة أنّ حذيفة كان أصاب يومئذ فيمن أصاب من بني عبس تماضر ابنة الشريد السّلميّة أم قيس فقتلها، و كانت في المال، و قال:

و لم أقتلكم سرّا و لكن *** علانية و قد سطع الغبار

صوت

جاء البريد بقرطاس يخبّ به *** فأوجس القلب من قرطاسه فزعا

قلنا: لك الويل، ما ذا في صحيفتكم؟ *** قال: الخليفة أمسى مثبتا وجعا(1)

عروضه من الكامل(2). الشعر ليزيد بن معاوية، و الغناء لابن محرز، هزج بالوسطى عن عمرو.

و هذا الشعر يقوله يزيد في علة أبيه التي مات فيها، و كان يزيد يومئذ غازيا غزاة الصائفة.

ص: 135


1- المثبت، كمكرم: من لا حراك به من المرض.
2- كذا في الأصول، و الصواب أن البيت من البحر البسيط.

15 - خبر ليزيد بن معاوية

جيش معاوية يغزو الصائفة

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدثني السكريّ و المبرّد، عن دماذ أبي غسان - و اسمه رفيع بن سلمة - عن أبي عبيدة:

أن معاوية وجّه جيشا إلى بلد الروم ليغزو الصائفة، فأصابهم جدريّ فمات أكثر المسلمين، و كان ابنه يزيد مصطبحا بدير مرّان مع زوجته أم كلثوم، فبلغه خبرهم، فقال(1):

إذا ارتفقت على الأنماط مصطبحا *** بدير مرّان عندي أمّ كلثوم

فما أبالي بما لاقت جنودهم *** بالغذقذونة من حمى و من موم

فبلغ شعره أباه، فقال: أجل، و اللّه ليلحقنّ بهم فليصيبنّه ما أصابهم.

يزيد يضرب باب القسطنطينية

فخرج حتى لحق بهم، و غزا حتى بلغ القسطنطينية، فنظر إلى قبّتين مبنيّتين عليهما ثياب الديباج، فإذا كانت الحملة للمسلمين ارتفع من إحداهما أصوات الدّفوف و الطبول و المزامير، و إذا كانت الحملة للروم ارتفع من الأخرى، فسأل يزيد عنهما فقيل له: هذه بنت ملك الروم، و تلك بنت جبلة بن الأيهم، و كلّ واحدة منهما تظهر السرور بما تفعله عشيرتها، فقال: أما و اللّه لأسرّنّها، ثمّ صفّ العسكر، و حمل حتى هزم الرّوم، فأحجرهم في المدينة، و ضرب باب القسطنطينية بعمود حديد كان في يده، فهشمه حتى انخرق، فضرب عليه لوح من ذهب، فهو عليه إلى اليوم.

/نسخت من كتاب محمد بن موسى اليزيديّ: حدثني العباس بن ميمون طابع(2)، قال: حدثني ابن عائشة، عن أبيه، و حدثني القحذميّ:

أنّ ميسون بنت بحدل الكلبيّة كانت تزيّن يزيد بن معاوية، و ترجّل جمّته، قال: فإذا نظر إليه معاوية قال:

فإن مات لم تفلح مزينة بعده *** فنوطي عليه يا مزين التّمائما(3)

ص: 136


1- البيتان في البلدان (غذقذونة) و في (دير مران). و في ب، س: «بالفرقدونة»، تحريف. و أم كلثوم هي بنت عبد اللّه بن عامر بن كريز.
2- في «بيروت»: «طائع».
3- نوطي: علقي.
يزيد و عنبسة في حضرة معاوية و هو يحتضر

فلما احتضر معاوية حضره يزيد بن معاوية، و عنبسة بن أبي سفيان، فبكى يزيد إلى عنبسة، و قال:

لو فات شيء يرى لفات أبو *** حيّان(1) لا عاجز و لا وكل

الحوّل القلّب الأريب و لن *** يدفع زوء المنية الحيل(2)

/فسمعهما معاوية بعد أن ردّدهما مرارا، فقال: يا بنيّ، إنّ أخوف ما أخاف على نفسي شيء صنعته قبل ذلك، إني كنت أوضّئ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فكساني قميصا، و أخذت شعرا من شعره، فإذا أنا متّ فكفّنّي في قميصه، و اجعل الشّعر في منخري و أذني و فمي، و خلّ بيني و بين ربّي، لعل ذلك ينفعني شيئا.

قال العباس بن ميمون: فقلت للقحذميّ: هذا غلط، و الدليل على ذلك أنّ أبا عدنان حدثني - و ها هو حيّ فاسأله - عن الهيثم بن عديّ، عن ابن عياش، عن الشعبيّ:

/أنّ معاوية مات و يزيد بالصائفة، فأتاه البريد بنعيه، فأنشأ يقول:

جاء البريد بقرطاس يخبّ به *** فأوجس القلب من قرطاسه فزعا

قلنا: لك الويل، ما ذا في صحيفتكم؟ *** قال: الخليفة أمسى مثبتا وجعا

مادت بنا الأرض أو كادت تميد بنا *** كأنّ ما عزّ من أركانها انقلعا

من لم تزل نفسه توفي على وجل(3) *** توشك مقادير تلك النفس أن تقعا

لما وردت و باب القصر منطبق *** لصوت رملة هدّ القلب فانصدعا

الضحاك بن قيس يتولى غسل معاوية و دفنه

و كان الذي تولّى غسله و دفنه الضحاك بن قيس، فخطب الناس، فقال: إنّ ابن هند قد توفّي، و هذه أكفانه على المنبر، و نحن مدرجوه فيها، و مخلّون بينه و بين ربّه، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة. و لو كان يزيد حاضرا لم يكن للضحاك و لا غيره أن يفعل من هذا شيئا.

قال العباس: فسكت القحذميّ، و ما ردّ عليّ شيئا.

عبد اللّه بن الزبير يرثي معاوية

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدثني الزّبير بن بكّار، قال: حدثني عمّي، عن جدّي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال:

صلّى بنا عبد اللّه بن الزّبير يوما، ثم انفتل من الصلاة، فنشج(4)، و كان قد نعي له معاوية، ثم قال: رحم اللّه

ص: 137


1- أ: «حبان»، و المثبت من ج، م، ب، س.
2- في «اللسان» (زوأ): زوء المنية: ما يحدث من المنية. و في هامش أ: «زوء المنية: قدرها».
3- أ: فوقها «شرف»، و عليها علامة الصحة.
4- نشج الباكي: غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.

معاوية إن كنا لنخدعه فيتخادع لنا، و ما ابن أنثى بأكرم منه، و إن كنا لنعرفه يتفارق لنا، و ما الليث المحرب بأجرأ منه؛ كان و اللّه كما قال بطحاء(1) العذريّ:

/ركوب المنابر وثّابها *** معنّ بخطبته يجهر(2)

تريع إليه عيون الكلام *** إذا حصر الهذر المهمر(3)

كان و اللّه كما قالت رقيقة، أو قال: بنت رقيقة:

أ لا ابكيه أ لا ابكيه *** ألا كلّ الفتى فيه

و اللّه لودّي أنه بقي بقاء أبي قبيس، لا يتخوّن له عقل، و لا تنقص له قوة.

قال: فعرفنا أنّ الرجل قد استوجس(4).

ابن عباس يرثي معاوية أيضا
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: قال محمد بن إسحاق المسيبيّ: حدثني جماعة من أصحابنا: أنّ ابن عباس(5) أتاه نعي معاوية و ولاية يزيد، و هو يعشّى أصحابه و يأكل معهم، و قد رفع إلى فيه لقمة، فألقاها و أطرق هنيهة ثم قال: جبل تدكدك، ثم مال بجميعه في البحر، و اشتملت عليه الأبحر، للّه درّ ابن هند! ما كان أجمل وجهه، و أكرم خلقه، و أعظم حلمه.

فقطع عليه الكلام رجل من أصحابه، و قال: أ تقول هذا فيه؟ فقال: ويحك! إنك لا تدري من مضى عنك، و من بقي عليك، و ستعلم. ثم قطع الكلام.

صوت

/إذا زينب زارها أهلها *** حشدت و أكرمت زوّارها

و إن هي زارتهم زرتهم *** و إن لم أجد لي هوى دارها

فسلمي لمن سالمت زينب *** و حربي لمن أشعلت نارها

و ما زلت أرعى لما عهدها *** و لم أتّبع ساعة عارها

عروضه من المتقارب. الشعر لشريح القاضي في زوجته زينب بنت حدير التميمية، و الغناء لعمرو بن بانة، ثاني ثقيل بالبنصر، عنه على مذهب إسحاق. و ذكر إسحاق في كتاب «الأغاني» المنسوب إليه أنه لابن محرز.

ص: 138


1- كذا في أ، م، ج، و في ب، س: «بطحان» بالنون.
2- معن: متكلّم يعرض في كل شيء.
3- تريع: ترجع، و الفعل من بابي نصر و ضرب. المهمر: الكثير الكلام المهذار.
4- ج، ما: «استوحش».
5- أ، م: «ابن عياش»، تصحيف.

16 - ذكر شريح و نسبه و خبره

اشارة

هو فيما أخبرني به الحسن بن علي الخفّاف، قال: حدثنا الحارث(1) بن أبي أسامة، قال: حدثنا أبو سعيد، عن هشام بن السائب. و أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني عليّ بن عبد اللّه بن معاوية بن ميسرة بن شريح، كلاهما اتفق في الرواية لنسبه:

نسبه

أنه شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع الكنديّ. قال هشام في خبره خاصة: و ليس بالكوفة من بني الرائش غيرهم، و سائرهم من هجر و حضر موت.

و قد اختلف الرواة بعد هذا في نسبه؛ فقال بعضهم: شريح بن هانئ - و هذا غلط - ذاك شريح بن هانئ الحارثيّ، و اعتلّ من قال هذا بخبر روي عن مجالد، عن الشّعبيّ، أنه قرأ كتابا من عمر إلى شريح:

من عبد اللّه عمر أمير المؤمنين إلى شريح بن هانئ. و قد يجوز أن يكون كتب عمر رضي اللّه عنه هذا الكتاب إلى شريح بن هانئ الحارثيّ، و قرأه الشعبيّ، و كلا هذين الرجلين معروف، و الفرق بينهما النسب و القضاء؛ فإن شريح بن هانئ لم يقض، و شريح بن الحارث قد قضى لعمر بن الخطاب و عليّ بن أبي طالب عليه السلام. و قيل:

شريح بن عبد اللّه، و شريح بن شراحيل، و الصحيح ابن الحارث. و ابنه أعلم به.

و قد أخبرنا وكيع، قال: حدثنا أحمد بن عمر بن بكير، قال: حدثني أبي عن الهيثم بن عديّ، عن أبي ليلى:

أن خاتم شريح كان نقشه شريح بن الحارث. و قيل: إنه من أولاد الفرس الذين قدموا اليمن مع سيف بن ذي يزن، و عداده في كندة، و قد روى عنه شبيه بذلك.

/أخبرنا وكيع، قال: حدثنا عبد اللّه بن محمد الحنفيّ، قال: حدثنا عبدان، قال: حدثنا عبد اللّه بن المبارك، قال: حدثنا سفيان الثوريّ، عن ابن أبي السّفر، عن الشعبيّ، قال:

جاء أعرابيّ إلى شريح، فقال: ممّن أنت؟ قال: أنا من الذين أنعم اللّه عليهم، و عدادي في كندة.

قال وكيع: و قال أبو حسان، عن أيوب بن جابر، عن أبي حصين، قال:

كان شريح إذا قيل له ممن أنت؟ قال: ممّن أنعم اللّه عليه بالإسلام، عديد كندة.

قال وكيع: و قيل: إنما خرج إلى المدينة ثم إلى العراق؛ لأنّ أمّه تزوّجت بعد أبيه فاستحيا.

سنه

و قد اختلف أيضا في سنّه؛ فقيل: مائة و عشرون سنة، و قيل: مائة و عشر، و قيل: أقل من ذلك و أكثر.

ص: 139


1- ج: «الحسن».

فممن ذكر أنه عمّر مائة و عشرين سنة أشعث بن سوّار، روى ذلك يحيى بن معين، عن المحاربيّ، عن أشعث، و أبو سعيد الجعفيّ، روى ذلك عنه أبو/إبراهيم الزهريّ. و ممن قال أقل من ذلك أبو نعيم.

أخبرنا الحسن بن عليّ، عن الحارث، عن ابن(1) سعد، عن أبي نعيم، قال: بلغ شريح مائة و ثمانين سنة.

سنة وفاته

قال الحارث: و أخبرني ابن(1) سعد، عن الواقديّ، عن أبي سبرة، عن عيسى، عن الشعبيّ، قال: توفي شريح في سنة ثمانين، أو تسع و سبعين.

/قال أبو سعيد(2): و قال إبراهيم: في سنة ست و سبعين. و قال أبو إبراهيم الزّهريّ، عن أبي سعيد الجعفيّ:

إنّ شريحا مات في زمن عبد الملك بن مروان.

أخبرني وكيع، قال: حدثنا الكرانيّ، عن سهل، عن الأصمعيّ، قال: ولد لشريح و هو ابن مائة سنة.

و روى إسماعيل بن أبان الورّاق، عن عليّ بن صالح، قال: قيل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت ابن ستّ و مائة، قضيت(3) منها ستين سنة.

عمر يستقضيه

و أخبرني وكيع بخبر عمر حين استقضاه، قال: حدثنا عبد اللّه بن محمد بن أيوب، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت سيّارا قال: سمعت الشعبيّ يقول:

إنّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أخذ من رجل فرسا على سوم، فحمل عليه رجلا، فعطب الفرس، فقال عمر: اجعل بيني و بينك رجلا، فقال له الرجل: اجعل بيني و بينك شريحا العراقيّ. فقال: يا أمير المؤمنين! أخذته صحيحا سليما على سوم، فعليك أن تردّه كما أخذته. قال: فأعجبه ما قال، و بعث به قاضيا، ثم قال: «ما وجدته في كتاب اللّه فلا تسأل عنه أحدا، و ما لم تستبن في كتاب اللّه فالزم السنّة، فإن لم يكن في السنّة، فاجتهد رأيك».

أخبرني وكيع، قال: أخبرني عبد اللّه بن الحسن، عن النّميريّ، عن حاتم بن قبيصة المهلبيّ، عن شيخ من كنانة، قال:

قال عمر لشريح، حين استقضاه: «لا تشارّ و لا تضارّ، و لا تشتر و لا تبع». فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين:

/إن القضاة إن أرادوا عدلا *** و فصلوا بين الخصوم فصلا(4)

و زحزحوا بالحكم منهم جهلا *** كانوا كمثل الغيث صاب محلا(5)

ص: 140


1- كذا في «بيروت»، و في ج: «أبو سعد»، و في أ، م: «أبو سعيد».
2- في «بيروت»: ابن سعد.
3- قضيت منها ستين سنة، أي عملت بالقضاء ستين سنة منها.
4- أ: «و رفعوا فوق الخصوم فضلا».
5- ج، م، و هامش أ من نسخة: «كانوا كغيث قد أصاب محلا». و صاب و أصاب بمعنى.

و له أخبار في قضايا كثيرة يطول ذكرها، و فيها ما لا يستغنى عن ذكره، منها محاكمة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام إليه في الدّرع.

يقضي بين علي و بين يهودي أخذ درعه

حدثني به عبد اللّه بن محمد بن إسحاق بن أخت داهر بن نوح بالأهواز، قال: حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجليّ، قال: حدثني حكيم بن حزام، عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، قال:

عرف عليّ صلوات اللّه عليه درعا مع يهوديّ، فقال: يا يهوديّ، درعي سقطت منّي يوم كذا و كذا، فقال اليهوديّ: ما أدري ما تقول! درعي و في يدي، بيني و بينك قاضي المسلمين.

فانطلقا إلى شريح، فلما رآه شريح قام له عن مجلسه، فقال له عليّ: اجلس. فجلس شريح، ثم قال: إنّ خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك، و لكني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: لا تساووهم في المجلس، و لا تعودوا مرضاهم، و لا تشيّعوا جنائزهم، و اضطرّوهم إلى أضيق الطرق، و إن سبّوكم فاضربوهم، و إن ضربوكم فاقتلوهم. ثم قال: درعي عرفتها مع هذا اليهوديّ.

فقال شريح لليهوديّ: ما تقول؟ قال: درعي و في يدي.

قال شريح: صدقت و اللّه يا أمير المؤمنين، إنها لدرعك كما قلت، و لكن لا بدّ من شاهد؛ فدعا قنبرا فشهد له، و دعا الحسن بن عليّ، فشهد/له، /فقال: أمّا شهادة مولاك فقد قبلتها، و أما شهادة ابنك لك فلا. فقال عليّ: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول إنّ الحسن و الحسين سيّدا شباب أهل الجنة.

قال: اللهم نعم، قال: أ فلا تجيز شهادة أحد سيّدي شباب أهل الجنة! و اللّه لتخرجنّ إلى بانقيا فلتقضينّ بين أهلها أربعين يوما. ثم سلّم الدّرع إلى اليهودي.

فقال اليهوديّ: أمير المؤمنين مشى معي إلى قاضيه، فقضى عليه، فرضي به، صدقت إنها لدرعك، سقطت منك يوم كذا و كذا عن جمل أورق فالتقطتها، و أنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه. فقال عليّ عليه السلام: هذه الدّرع لك، و هذه الفرس لك، و فرض له في تسعمائة، فلم يزل معه حتى قتل يوم صفّين.

ص: 141

17 - خبر زينب بنت حدير و تزويج شريح إياها

شريح يصح الشعبي بأن يتزوج من نساء بني تميم

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدثنا أحمد بن زهير بن حرب(1)، قال: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، و أبو محمد رجل ثقة، قال: حدثنا مجالد، عن الشعبيّ، قال:

قال لي شريح: يا شعبيّ، عليكم بنساء بني تميم فإنهنّ النساء، قال: قلت: و كيف ذاك؟ قال: انصرفت من جنازة ذات يوم مظهرا(2)، فمررت بدور بني تميم، فإذا امرأة جالسة في سقيفة على وسادة و تجاهها جارية رؤد - يعني التي قد بلغت - و لها ذؤابة على ظهرها جالسة على وسادة، فاستسقيت، فقالت لي: أيّ الشراب أعجب إليك: النبيذ، أم اللبن، أم الماء؟ قلت: أي ذلك يتيسّر عليكم، قالت: اسقوا الرجل لبنا؛ فإني إخاله غريبا.

يرى زينب بنت حدير، فيخطبها و يتزوجها

فلما شربت نظرت إلى الجارية فأعجبتني، فقلت: من هذه؟ قالت: ابنتي، قالت: و ممّن؟ قالت: زينب بنت حدير، إحدى نساء بني تميم، ثم إحدى نساء بني حنظلة، ثم إحدى نساء بني طهيّة، قلت: أ فارغة أم مشغولة؟ قالت: بل فارغة، قلت: أ تزوّجينيها؟ قالت: نعم إن كنت كفيّا، و لها عمّ فاقصده.

فانصرفت فامتنعت من القائلة، فأرسلت إلى إخواني القرّاء الأشراف: مسروق بن الأجدع، و المسيّب بن نجبة، و سليمان بن صرد الخزاعيّ، و خالد/بن عرفطة العذريّ، و عروة بن المغيرة بن شعبة، و أبي بردة بن أبي موسى، فوافيت معهم صلاة العصر، فإذا عمّها جالس، فقال: أبا أمية، حاجتك؟ قلت: إليك، قال: و ما هي؟ قلت: ذكرت لي بنت أخيك زينب بنت حدير، قال: ما بها عنك رغبة، و لا بك عنها مقصر، و إنك لنهزة.

فتكلمت فحمدت اللّه جلّ ذكره، و صلّيت على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و ذكرت حاجتي، فردّ الرجل عليّ و زوّجني، و بارك القوم لي، ثم نهضنا.

فما بلغت منزلي حتى ندمت، فقلت: تزوجت إلى أغلظ العرب و أجفاها فهممت بطلاقها، ثم قلت: أجمعها إليّ، فإن رأيت ما أحبّ و إلا طلّقتها.

فأقمت أياما، ثم أقبل نساؤها يهادينها، فلما أجلست في البيت أخذت بناصيتها فبركت، و أخلى لي البيت، فقلت: يا هذه، إنّ من السنة إذا دخلت المرأة على الرجل أن يصلّي ركعتين و تصلّي ركعتين، و يسألا اللّه خير

ص: 142


1- ب، س: «حرم»، تحريف.
2- مظهرا: سائرا أو داخلا في الظهيرة.

ليلتهما، و يتعوّذا باللّه من شرها. فقمت أصلّي ثم التفتّ، فإذا هي خلفي فصليت، ثم التفتّ فإذا هي على فراشها، فمددت يدي، فقالت لي: على رسلك، فقلت: إحدى/الدواهي منيت بها، فقالت: إن الحمد للّه أحمده و أستعينه إني امرأة غريبة، و لا و اللّه ما سرت مسيرا قط أشد عليّ منه، و أنت رجل غريب لا أعرف أخلاقك، فحدّثني بما تحبّ فآتيه، و ما تكره فأنزجر عنه. فقلت: الحمد للّه و صلّى اللّه على محمد، قدمت خير مقدم، قدمت على أهل دار زوجك سيّد رجالهم، و أنت سيدة نسائهم، أحبّ كذا و أكره كذا.

/قالت: أخبرني عن أختانك(1) أ تحبّ أن يزوروك؟ فقلت: إني رجل قاض، و ما أحبّ أن تملّوني.

أم زينب تسأله عن ابنتها فيثني عليها

قال: فبتّ بأنعم ليلة، و أقمت عندها ثلاثا، ثم خرجت إلى مجلس القضاء، فكنت لا أرى يوما إلا هو أفضل من الذي قبله، حتى إذا كان عند رأس الحول دخلت منزلي، فإذا عجوز تأمر و تنهى، قلت: يا زينب، من هذه؟ فقالت: أمّي فلانة. قلت: حيّاك اللّه بالسلام، قالت: أبا أمية كيف أنت و حالك؟ قلت: بخير أحمد اللّه، قالت:

أبا أمية؛ كيف زوجك؟ قلت: كخير امرأة، قالت: إنّ المرأة لا ترى في حال أسوأ خلقا منها في حالين: إذا حظيت عند زوجها، و إذا ولدت غلاما؛ فإن رابك منها ريب فالسّوط؛ فإنّ الرجال و اللّه ما حازت إلى بيوتها شرّا من الورهاء(2) المتدلّلة.

قلت: أشهد أنها ابنتك، قد كفيتنا الرياضة، و أحسنت الأدب.

قال: فكانت في كل حول تأتينا فتذكر هذا، ثم تنصرف.

يعالج زينب من لسعة عقرب

قال شريح: فما غضبت عليها قطّ إلا مرّة كنت لها ظالما فيها؛ و ذاك أني كنت أمام قومي فسمعت الإقامة، و قد ركعت ركعتي الفجر، فأبصرت عقربا، فعجلت عن قتلها، فأكفأت عليها الإناء، فلما كنت عند الباب قلت:

يا زينب لا تحرّكي الإناء حتى أجيء، فعجلت فحرّكت الإناء فضربتها العقرب، فجئت فإذا هي تلوّى. فقلت:

ما لك؟ قالت: لسعتني العقرب. فلو رأيتني يا شعبيّ و أنا أعرك إصبعها بالماء و الملح، و أقرأ عليها المعوّذتين و فاتحة الكتاب.

كان له جار يضرب امرأته فقال في ذلك شعرا
اشارة

و كان لي يا شعبيّ جار يقال له ميسرة بن عرير من الحيّ، فكان لا يزال يضرب امرأته، فقلت:

رأيت رجالا يضربون نساءهم *** فشلّت يميني يوم أضرب زينبا

يا شعبيّ، فوددت أني قاسمتها عيشي.

و مما يغنّى فيه من الأشعار التي قالها شريح في امرأته زينب:

ص: 143


1- أختان: جمع ختن: الصهر من قبل الزوجة.
2- الورهاء: الحمقاء.
صوت

رأيت رجالا يضربون نساءهم *** فشلّت يميني يوم أضرب زينبا

أ أضربها في غير جرم أتت به *** إليّ، فما عذري إذا كنت مذنبا!

فتاة تزين الحلي إن هي حلّيت *** كأن بفيها المسك خالط محلبا(1)

و الغناء ليونس الكاتب من كتابه غير مجنّس.

صوت

أ من رسم دار مربع و مصيف *** لعينك من ماء الشئون و كيف

تذكرت فيها الجهل حتى تبادرت *** دموعي و أصحابي عليّ وقوف

عروضه من مصرّع الطويل. الشعر للحطيئة من قصيدة يمدح بها سعيد بن العاص لما/ولى الكوفة لعثمان.

و الغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو.

ص: 144


1- المحلب، كمقعد: العسل.

18 - أخبار الحطيئة مع سعيد بن العاص

اشارة

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا عبد اللّه بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد، عن أبيه، قال: لقيني إياس بن الحطيئة، فقال لي: يا أبا عثمان، مات أبي، و في كسر بيته عشرون ألفا أعطاه إياها أبوك، و قال فيه خمس قصائد، فذهب و اللّه ما أعطيتمونا و بقي ما أعطيناكم، فقلت: صدقت و اللّه.

شعره في مدح سعيد بن العاص

قال أبو زيد: فممّا قال فيه قوله:

أ من رسم دار مربع و مصيف *** لعينك من ماء الشئون و كيف(1)

إليك سعيد الخير جبت مهامها *** يقابلني آل بها و تنوف(2)

و لو لا أصيل اللّبّ غضّ شبابه *** كريم لأيام المنون عروف(3)

إذا همّ بالأعداء لم يثن همّه *** كعاب عليها لؤلؤ و شنوف(4)

حصان لها في البيت زيّ و بهجة *** و مشي كما تمشى القطاة قطوف(5)

و لو شاء وارى الشمس من دون وجهه *** حجاب و مطويّ السراة منيف(6)

ينشد شعرا لأبي دواد الإيادي و عبيد

أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ، و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا عبد اللّه بن محمد بن حكيم الطائيّ، عن خالد/بن سعيد بن العاص، عن أبيه، قال: كان سعيد بن العاص في المدينة زمن معاوية، و كان يعشّي الناس، فإذا فرغ من العشاء قال الآذن: أجيزوا إلاّ من كان من أهل سمرة. قال:

فدخل الحطيئة فتعشّى مع الناس، ثم أقبل فقال الآذن: أجيزوا، حتى انتهى إلى الحطيئة، فقال: أجز، فأبى، فأعاد عليه فأبى، فلما رأى سعيد إباءه قال: دعه، و أخذ في الشّعر و الحطيئة مطرق لا ينطق، فقال الحطيئة: و اللّه ما أصبتم جيّد الشعر، و لا شاعر الشعراء. قال سعيد: من أشعر العرب يا هذا؟ فقال: الذي يقول:

ص: 145


1- ديوانه 39. و الوكيف: سيلان الدموع.
2- جبت: قطعت. و تنوف: جمع تنوفة، و هي المفازة.
3- العروف: الصبور على نوائب الأيام. و اللب: العقل. الأصمعي: رأيه رأي مسن. و سنه سن غلام.
4- الكعاب: المرأة حين يبدو ثديها للنهود. الشنوف: جمع شنف، بالفتح، و هو القرط.
5- الحصان: العفيفة. و القطوف من الدواب: المتقارب الخطو، البطيء.
6- مطوي سراته، أي محكم أعلاه.

لا أعدّ الإقتار عدما و لكن *** فقد من قد رزئته الإعدام

من رجال من الأقارب بانوا *** من جذام هم الرءوس الكرام

سلّط الموت و المنون عليهم *** فلهم في صوى(1) المقابر هام

و كذاكم سبيل كلّ أناس *** سوف حقّا تبليهم الأيام

قال: ويحك! من يقول هذا الشعر؟ قال: أبو دواد الإياديّ، قال: أو ترويه؟ قال: نعم، قال: فأنشدنيه، فأنشده الشعر كلّه، قال: و من الثاني؟ قال: الذي يقول(2):

أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض *** عف و قد يخدع الأريب

قال: و من يقول هذا؟ قال: عبيد، قال: أو ترويه؟ قال: نعم، قال: فأنشدنيه، فأنشده، ثم قال له: ثمّ من؟ قال: و اللّه لحسبك بي عند رهبة أو رغبة، إذا وضعت إحدى رجليّ على الأخرى، ثم رفعت عقيرتي بالشّعر، ثم عويت على أثر القوافي عواء الفصيل الصادر عن الماء.

/قال: و من أنت؟ قال: الحطيئة، قال: ويحك! قد علمت تشوّقنا إلى مجلسك، و أنت تكتمنا نفسك منذ الليلة! قال: نعم لمكان هذين الكلبين عندك، و كان عنده كعب بن جعيل، و أخوه. و كان عنده/سويد بن مشنوء النّهديّ، حليف بني عديّ بن جناب الكلبيّين، فأنشده الحطيئة قوله(3):

أ لست بجاعلي كابني جعيل *** هداك اللّه أو كابني جناب(4)

أدبّ فلا أقدّر أن تراني(5) *** و دونك بالمدينة ألف باب

و أحبس بالعراء المحل بيتي *** و دونك عازب ضخم الذباب(6)

العازب: الكلأ الذي لم يرع، و قد التفّ نبته.

فقال له سعيد: لعمر اللّه لأنت أشعر عندي منهم، فأنشدني، فأنشده(7):

سعيد و ما يفعل سعيد فإنه *** نجيب فلاه في الرّباط نجيب(8)

سعيد فلا يغررك قلّة لحمه *** تخدّد عنه اللحم فهو صليب

و يروى: خفّة لحمه.

إذا غاب عنّا غاب عنا ربيعنا *** و نسقى الغمام الغرّ حين يئوب

فنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره *** إذا الريح هبّت و المكان جديب

ص: 146


1- الصوى: القبور أو علاماتها. و في النسخ: «صدى»، تحريف.
2- ديوان عبيد 14.
3- ديوانه 42.
4- بنو جعيل من تغلب، و بنو جناب من كلب.
5- الديوان: «أدب وراء نقدة أن تراني». قال: و نقدة: اسم مكان.
6- كذا في أ، م و الديوان، و في ب، س، ج: و بيتك عازب صخب. يقول: أقيم بالمحل و لا أدنو إليك هيبة لك.
7- ديوانه 42.
8- فلاه: ولده أو رباه. و الرباط: الحرب. و الرباط و المرابطة: ملازمة ثغر العدو. و البيت في «اللسان» (فلا).

/فأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم عاد فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

أ من رسم دار مربع و مصيف

يقول فيها:

إذا همّ بالأعداء لم يثن عزمه *** كعاب عليها لؤلؤ و شنوف

فأعطاه عشر آلاف أخرى.

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة بهذا الحديث نحو ما رواه خالد بن سعيد، و زاد فيه:

فانتهى الشّرط إلى الحطيئة فرأوه أعرابيا قبيح الوجه، كبير السن، سيّئ الحال، رثّ الهيئة، فأرادوا أن يقيموه، فأبى أن يقوم، و حانت من سعيد التفاتة، فقال: دعوا الرجل، و باقي الخبر مثله.

خالد بن سعيد بن العاص يأمر له بكسوة و حملان
اشارة

قال أبو عبيدة في هذا الخبر: و أخبرني رجل من بني كنانة، قال: أقبل الحطيئة في ركب من بني عبس، حتى قدم المدينة، فأقام مدّة، ثم قال له من في رفقته: إنا قد أرذينا(1) و أخلينا، فلو تقدّمت إلى رجل شريف من أهل هذه القرية فقرانا و حملنا. فأتى خالد بن سعيد بن العاص، فسأله فاعتذر إليه، و قال: ما عندي شيء فلم يعد عليه الكلام، و خرج من عنده، فارتاب به خالد، فبعث يسأل عنه، فأخبر أنه الحطيئة، فردّه. فأقبل الحطيئة، فقعد لا يتكلّم، فأراد خالد أن يستفتحه الكلام، فقال: من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول:

و من يجعل المعروف من دون عرضه *** يفره و من لا يتّق الشّتم يشتم(2)

فقال خالد لبعض جلسائه: هذه بعض عقاربه، و أمر بكسوة و حملان، فخرج بذلك من عنده.

صوت

حبّذا ليلتي بتلّ بونّى(3) *** حين نسقى شرابنا و نغنّى

إذ رأينا جواريا عطرات *** و غناء و قرقفا فنزلنا(4)

ما لهم لا يبارك اللّه فيهم *** إذ يسألون: ويحنا ما فعلنا!

عروضه الضرب الأوّل من الخفيف. الشعر لمالك بن أسماء بن خارجة، و الغناء لحنين، رمل/مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.

ص: 147


1- أرذينا، أي صارت دوابنا هزلى من طول السفر. فالرفق من الدواب: المهزول الهالك من السير، لا يستطيع براحا.
2- البيت لزهير بن أبي سلمى ص 30.
3- تل بوني: من قرى الكوفة.
4- رواية البيت في البلدان و ابن قتيبة 757: و مررنا بنسوة عطرات و سماع و قرقف فنزلنا و القرقف: الخمر.

19 - أخبار مالك بن أسماء بن خارجة و نسبه

نسبه

هو مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاريّ، و قد مضى هذا النسب في أخبار عويف القوافي، و قد مضت أخباره، و ذكر هذا البيت من فزارة و شرفه فيها و سائر قصصه هناك.

الحجاج يتزوج أخته هندا، و يوليه على أصبهان، ثم يأمر بحبسه لخيانة ظهرت عليه

و كان الحجاج بن يوسف ولّى مالك بن أسماء بعد أن تزوّج أخته هندا بأصبهان، بعد حبس طويل في خيانة ظهرت عليه، ثم خلاّه بعد ذلك، و طالت أيامه بأصبهان، فظهرت عليه خيانة أخرى، فحبسه و ناله بكل مكروه.

أخبرني يخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا عبد اللّه بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى، قال: حدثني هشام بن محمد الهلاليّ، قال:

اختلف الحجّاج و هند بنت أسماء زوجته في وقعة بنات قين، فبعث إلى مالك بن أسماء بن خارجة، فأخرجه من السجن، و كان محبوسا بمال عليه للحجاج، فسأله عن الحديث فحدّثه به، ثم أقبل على هند فقال: قومي إلى أخيك، فقالت: لا أقوم إليه، و أنت ساخط عليه. فأقبل الحجاج عليه، فقال: إنك و اللّه ما علمت للخائن أمانته، اللئيم حسبه، الزاني فرجه، فقال: إن أذن الأمير تكلّمت، قال: قل، قال: أما قول الأمير الزاني فرجه، فو اللّه لأنا أحقر عند اللّه عزّ و جلّ و أصغر في عين الأمير من أن يجب للّه عليّ حدّ فلا يقيمه، و أما قوله: اللئيم حسبه، فو اللّه لو علم الأمير مكان رجل أشرف منّي لم يصاهرني، و أما قوله: إني خئون، فلقد ائتمنني فوفّرت، فأخذني بما أخذني به، فبعت ما كان وراء ظهري، و لو ملكت الدنيا بأسرها لافتديت بها من مثل هذا الكلام.

/قال: فنهض الحجّاج، و قال: شأنك يا هند بأخيك.

قال مالك بن أسماء: فوثبت هند إليّ فأكبّت عليّ، و دعت بالجواري، و نزعن عنّي حديدي، و أمرت بي إلى الحمّام، و كستني، و انصرفت.

فلبثت أياما، ثم دخلت على الحجاج و بين يديه عهود، و فيها عهدي على أصبهان. قال: خذ هذا العهد، و امض إلى عملك، فأخذته و نهضت. قال: و هي ولايته التي عزله عنها، و بلغ به ما بلغ من الشر.

قال أبو زيد: و يقال إنه كان في الحبس في الدفعة الثانية مضيّقا عليه في كلّ أحواله، حتى كان يشاب له الماء الذي كان يشربه بالرماد و الملح، فاشتاق الحجّاج إلى حديثه يوما، فأرسل إليه، فأحضر، فبينا هو يحدّثه إذ استسقى ماء فأتي به، فلما نظر إليه الحجاج قال: لا، هات ماء السجن، فأتى به و قد خلط بالملح و الرماد، فسقيه.

قال: و يقال: إنه هرب من الحبس(1)، فلم يزل متواريا حتى مات الحجاج.

ص: 148


1- في المختار: «السجن».
يكتب إليه أبيه أن يشفع له عند الحجاج

قال: و كتب إليه بعض أهله أن يمضي إلى الشام فيستجير ببعض بني أمية حتى يأمن، ثم يعود إلى مصره.

و قد كان خالد بن عتّاب الرّياحيّ فعل ذلك، و استجار بزفر بن الحارث الكلابيّ، فأجاره، فراجعه عبد الملك في أمره، ثم أجاره، فكتب مالك إلى أبيه يسأله أن يدخل إلى الحجاج و يسأله في أمره، فقال أسماء في ذلك:

أ بني فزارة لا تعنّوا شيخكم *** مالي و ما لزيارة الحجّاج

شبّهته شبهلا غداة لقيته *** يلقي الرءوس شواخب الأوداج(1)

/تجري الدماء على النّطاع كأنها *** راح شمول غير ذات مزاج

لا تطلبوا حاجا إليه فإنه *** بئس المؤمّل في طلاب الحاج

يا ليت هندا أصبحت مرموسة *** أوليتها جلست عن الأزواج(2)

خالد بن عتاب و الحجاج بن يوسف يتسابان

قال أبو زيد: فأما خبر خالد بن عتّاب الرياحيّ، فإنّ الحجاج كان استعمله على الريّ، و كانت أمّه أمّ ولد، فكتب إليه الحجاج يلخن أمّه، و يقول يا ابن اللخناء(3)؛ أنت الذي هربت عن أبيك حتى قتل، و قد كان حلف ألاّ يسبّ أحد أمّه إلا أجابه كائنا من كان.

فكتب إليه خالد: كتبت إليّ تلخّنني، و تزعم أني فررت عن أبي حتى قتل، و لعمري لقد فررت عنه، و لكن بعد أن قتل، و حين لم أجد لي مقاتلا، و لكن أخبرني عنك يا ابن اللّخناء المستفرمة(4) بعجم زبيب الطائف، حين فررت أنت و أبوك يوم الحرّة على جمل ثفال(5)، أيكما كان أمام صاحبه، فقرأ الحجاج الكتاب، و قال: صدق:

أنا الّذي فررت يوم الحرّة *** ثم ثنّيت كرّة بفرّه

و الشيخ لا يفرّ إلاّ مرّه

ثم طلبه، و هرب إلى الشام، و سلّم بيت المال و لم يأخذ منه شيئا.

خالد بن عتاب يستجير بروح بن زنباع فلا يجيره، و يجيره زفر بن الحارث

و كتب الحجاج إلى عبد الملك بما كان منه، و قدم خالد الشام، فسأل عن خاصّة عبد الملك، فقيل له:

روح بن زنباع، فأتاه حين طلعت الشمس، فقال: إني جئتك مستجيرا، فقال: إنني قد أجرتك إلاّ أن تكون خالدا، /قال: فإني خالد، فتغيّر و قال: أنشدك اللّه إلاّ خرجت عني؛ فإني لا آمن عبد الملك، فقال: أنظرني حتى تغرب الشمس. فجعل روح يراعيها حتى خرج خالد.

ص: 149


1- الأوداج: جمع ودج، محركة: عرق في العنق.
2- في هامش أ من نسخة: «... أوليتها حبست»، و هي رواية المختار أيضا.
3- اللخن: تغير الريح، و رجل ألخن و امرأة لخناء.
4- الفرم و الفرمة، و ككتاب: دواء تتضيق به المرأة، فهي فرماء و مستفرمة.
5- جمل ثفال: بطيء.

فأتى زفر بن الحارث الكلابيّ فقال: إني جئتك مستجيرا، قال: قد أجرتك، قال: أنا خالد بن عتّاب، قال:

و إن كنت خالدا.

فلما أصبح دعا ابنين له فتهادى بينهما و قد أسنّ، فدخل على عبد الملك و قد أذن للناس، فلما رآه دعا له بكرسيّ، فجعل(1) عند فراشه، فجلس، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إني قد أجرت عليك رجلا، فأجره، قال: قد أجرته إلاّ أن يكون خالدا، قال: فهو خالد، قال: لا، و لا كرامة، فقال زفر لابنيه: أنهضاني.

فلما ولّى قال: يا عبد الملك، أما(2) و اللّه لو كنت تعلم أنّ يدي تطيق حمل القناة و رأس الجواد لأجرت من أجرت، فضحك، و قال: يا أبا الهذيل، قد أجرناه، فلا أرينّه. و أرسل إلى خالد بألفي درهم، فأخذها، و دفع إلى رسوله أربعة آلاف درهم.

رجع الخبر إلى حديث مالك بن أسماء
مالك و أخوه عيينة يعشقان جارية لأختهما هند

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: أخبرنا محمد بن يزيد النحويّ، و أخبرنا إبراهيم بن محمد بن أيوب، قال: حدثنا عبد اللّه بن مسلم، قالا:

عشق مالك بن أسماء جارية لأخته هند، و عشقها أخوه عيينة بن أسماء بن خارجة، فاستعان بأخيها مالك، و هو لا يعلم ما يجد بها، يشكو إليه حبّها، فقال مالك(3):

/أعيين هلاّ إذ كلفت بها *** كنت استغثت بفارغ العقل

أرسلت(4) تبغي الغوث من قبلي *** و المستغاث إليه في شغل

مالك يعشق جارية من بني أسد

قال ابن قتيبة(5) خاصة: و هوي مالك بن أسماء جارية من بني أسد، و كانت تنزل دارا من قصب، /و كانت دار مالك في بني أسد دارا سريّة مبنيّة بالجصّ و الآجرّ فقال:

يا ليت لي خصّا يجاورها *** بدلا بداري في بني أسد

الخصّ فيه تقرّ أعيننا *** خير من الآجرّ و الكمد

ينشد عمر بن أبي ربيعة بعض شعره

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزّبير بن بكار، قال: حدثني عمّي و يعقوب بن عيسى، و أخبرني عليّ بن صالح بن الهيثم، قال: حدثنا أبو هفّان عن إسحاق الموصلي، عن الزّبير:

ص: 150


1- في المختار: «فوضع».
2- في الأصول: «أم و اللّه».
3- الشعر و الشعراء 758، و في ج: «فكتب إليه مالك».
4- في المختار و الشعر و الشعراء: «أقبلت».
5- الشعر و الشعراء 758.

أنّ عمر بن أبي ربيعة رأى مالك بن أسماء. قال أبو هفان في خبره: و هو يطوف بالبيت، و قد بهر الناس جماله و كماله، فأعجب عمر ما رأى منه، فسأل عنه فعرفه، فعانقه و سلّم عليه و قال له: أنت أخي حقّا، فقال له مالك: و من أنا و من أنت؟ فقال: أما أنا فستعرفني، و أما أنت فالذي تقول:

إنّ لي عند كلّ نفحة بستا *** ن من الورد أو من الياسمينا

نظرا و التفاتة أترجّى *** أن تكوني حللت فيما يلينا

غنّت فيه عليّة بنت المهدي خفيف رمل بالوسطى.

و قال أبو هفّان في حديثه: قال له عمر: ما زلت أحبّك منذ سمعت هذا الشعر لك، فقال له مالك: أنت عمر بن أبي ربيعة، قال: نعم. /قال الزّبير في خبره خاصة: و حدثني(1) ابن أبي كناسة:

أنّ عمر لما لقي مالكا استنشده، فأنشده مالك شيئا من شعره، فقال له عمر: ما أحسن شعرك لو لا أسماء القرى التي تذكرها فيه، قال: مثل ما ذا؟ قال: مثل قولك:

إنّ في الرفقة التي شيّعتنا *** بجوير سما لزين الرّفاق

و مثل قولك:

أشهدتنا(2) أم كنت غائبة *** عن ليلتي بحديثة القسب

و مثل قولك:

حبّذا ليلتي بتلّ بونّى *** حين نسقى شرابنا و نغنّي

فقال له مالك: هي قرى البلد الذي أنا فيه، و هو مثل ما تذكره في شعرك من أرض بلادك، قال: مثل ما ذا؟ قال: مثل قولك(3):

حيّ المنازل قد دثرن خرابا *** بين الجوين و بين ركن كسابا(4)

و مثل قولك:

ما على الرّسم بالبليّين لو بيّ *** ن رجع السلام أو لو أجابا

فأمسك عنه عمر بن أبي ربيعة.

/و مالك بن أسماء الذي يقول(5):

ص: 151


1- الخبر في البلدان (تل بوني) و فيه: «ابن كناسة».
2- في البلدان: «أشهدتني».
3- ديوانه 422 و معجم البلدان (كساب).
4- رواية الديوان: حي المنازل قد تركن خرابا بين الجرير و بين ركن كسابا و في البلدان: ... قد عمرن خرابا بين الحرير و بين ركن كسابا
5- الشعراء 756.

و حديث ألذّه هو ممّا *** ينعت الناعتون يوزن وزنا

منطق صائب و تلحن أحيا *** نا و أحلى الحديث ما كان لحنا

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم، قال:

حدّثني أبي، قلت للجاحظ: إني قرأت في فصل من كتابك المسمى بكتاب البيان و التبيين(1): إنما يستحسن من النساء اللّحن في الكلام، و استشهدت ببيتي مالك بن أسماء - يعني هذين البيتين - قال: هو كذاك، فقال: أ ما سمعت بخبر هند ابنة أسماء بن خارجة مع الحجّاج حين لحنت في كلامها، فعاب ذلك عليها، فاحتجّت ببيتي /أخيها، فقال لها: إنّ أخاك أراد أنّ المرأة فطنة، فهي تلحن بالكلام إلى غير الظاهر بالمعنى(2) لتستر معناه، و تورّى عنه، و تفهمه من أرادت بالتعريض، كما قال اللّه عزّ و جلّ(3): وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ و لم يرد الخطأ من الكلام، و الخطأ لا يستحسن من أحد. فوجم الجاحظ ساعة، ثم قال: لو سقط إليّ هذا الخبر أوّلا لما قلت ما تقدم، فقلت له: فأصلحه، فقال: الآن و قد سار به الكتاب في الآفاق، و هذا لا يصلح، أو كلاما نحو ما ذكرنا، فإن أبا أحمد أخبرنا به على سبيل المذاكرة فحفظته عنه.

المتوكل يطلب من ابن داود أن يبتاع له تل بوني

أخبرني الحسين بن يحيى، و جعفر بن قدامة، قالا: قال حماد: حدثني أحمد بن داود السدّي، قال:

/ورد عليّ كتاب أمير المؤمنين المتوكل، و أنا على سواد الكوفة: أن ابتع لي تلّ بونّى بما بلغت، فابتعتها له، فإذا قرية صغيرة على تلّ، قد خرب ما حواليها من الضّياع، فابتعتها له بعشرة آلاف درهم، قال: فظننته حرّكه على طلبها أنه غنّي:

حبذا ليلتي بتلّ بونّى

فسألت عن ذلك، فعرفت أنّ جاريته مكتومة غنّته هذا الصوت.

قال حماد: و مكتومة هذه جارية أهداها أبي إليه لما ولى الخلافة، فإنه سأل عنه، فعرف أنه قد كفّ بصره، فكتب له بمائة ألف درهم، و أمر بإشخاصه إليه مكرّما، فأشخص إليه، و أهدى إليه عدّة جوار هذه فيهن.

الحجاج يعاتب مالكا و يستتيبه

و روى الهيثم بن عديّ عن ابن عياش أنّ الحجاج دعا يوما بمالك بن أسماء، فعاتبه عتابا طويلا، ثم قال له:

أنت و اللّه كما قال أخو بني جعدة(4):

إذا ما سوأة غرّاء ماتت *** أتيت بسوأة أخرى بهيم(5)

ص: 152


1- البيان و التبيين 82:1.
2- المختار: «إلى غير المعنى في الظاهر».
3- سورة محمد 30.
4- ملحق ديوانه 237، و المفضليات 70.
5- بهيم: سوداء.

و ما تنفكّ ترحض(1) كلّ يوم *** من السّوءات كالطفل النهيم(2)

أ كلّ الدّهر سعيك في تباب *** تناغي كلّ مومسة أثيم

فقال له: لست كما قال الجعديّ، و لكني كما قلت:

لكل جواد عثرة يستقيلها *** و عثرة مثلي لا تقال مدى الدّهر

فهبنى يا حجّاج أخطأت مرّة *** و جرت عن المثلى و غنّيت بالشعر

فهل لي إذا ما تبت عندك توبة *** تدارك ما قد فات في سالف العمر(3)

/فقال له الحجاج: بلى و اللّه، لئن تبت لأقبلنّ توبتك و لأعفّينّ(4) على ما كان من ذنبك و من لي بذلك يا مالك؟ قال له: لك اللّه به، قال: حسبي اللّه و نعم الوكيل، فانظر ما تقول، قال: الحقّ أصلحك اللّه لا يخفى على أحد.

مالك يعود إلى الشراب
اشارة

قال: فترك مالك الشراب، و وفّى بعهده و أظهر النسك، ثم طما به الشعر، و طال عليه ترك اللّذّات و الشراب، فقال:

و ندمان صدق قال لي بعد هدأة *** من الليل: قم نشرب، فقلت له: مهلا

فقال: أ بخلا يا ابن أسماء هاكها *** كميتا كريح المسك تزدهف العقلا(5)

فتابعته فيما أراد و لم أكن *** بخيلا على النّدمان أو شكسا و غلا

و لكنني جلد القوى أبذل النّدى *** و أشرب ما أعطى و لا أقبل العذلا

ضحوك إذا ما دبّت الكأس في الفتى *** و غيّره سكر و إن أكثر الجهلا

قال: فبلغ الحجاج أنّ مالكا قد راجع الشّراب، فقال: لا يأتي مالك بخير سجيس الأوجس(6)، /قاتل اللّه أيمن بن خريم حيث يقول:

إذا المرء وفّى الأربعين و لم يكن *** له دون ما يأتي حجاب و لا ستر

فدعه و ما يأتي و لا تعذلنّه *** و إن مدّ أسباب الحياة له العمر

و أنشدنا عليّ بن سليمان الأخفش أبيات أيمن هذه الرائية، و قال: أخذ معناها من قول ابن عباس: إذا بلغ المرء أربعين سنة و لم يتب أخذ إبليس بناصيته، و قال: حبّذا من لا يفلح أبدا. و أول الأبيات هذه:

/و صهباء جرجانيّة لم يطف بها *** حنيف و لم تنغر بها ساعة قدر(7)

ص: 153


1- ترحض: تغسل، و في أ: «تدحض» و النهيم المنهوم: الذي يمتلئ بطنه و لا تنتهي نفسه.
2- كذا في ج، و في أ، م: «العظيم».
3- أ: «في منتهى العمر».
4- المختار: «و لأعفون».
5- تزدهف العقل: تذهب به.
6- سجيس الأوجس: طوال الدهر.
7- لم تنغر: لم تغل.

و لم يشهد القسّ المهينم نارها *** طروفا و لا صلّى على طبخها حبر

أتاني بها يحيى و قد نمت نومة *** و قد غابت الجوزاء و انحدر النّسر

فقلت: اصطبحها أو لغيري سقّها *** فما أنا بعد الشّيب ويحك و الخمر!

إذا المرء وفّى الأربعين و لم يكن *** له دون ما يأتي حجاب و لا ستر

فدعه و لا تنفس عليه الذي أتى *** و لو مدّ أسباب الحياة له العمر

صوت

تلك عرسي تروم هجري سفاها *** و جفتني فما توافي عناقي

زعمت أنها تواتي مع الما *** ل و أنى محالف(1) إملاقي

و تناست رزيّة بدمشق *** أشخصت مهجتي فويق التّراقي

يوم نلقى نعش ابن عروة مح *** مولا بأيدي الرجال و الأعناق

مستحثّا به سباقا إلى القب *** ر و ما إن لحثّهم من سباق

ثم ولّيت موجعا قد شجاني *** قرب عهد بهم و بعد تلاق

عروضه من الخفيف(2). الشعر لإسماعيل بن يسار النّسائي(3) يرثي محمد بن عروة بن الزّبير. و الغناء لدحمان، خفيف ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، و فيه لابن محرز ثقيل أول بالبنصر عن حبش.

ص: 154


1- أ: «محالفي إملاقي».
2- أ: «من السريع» و هو خطأ.
3- كذا في المختار؛ قال: و إنما سمي النسائي؛ لأن أباه كان يصنع طعام العرس و يبيعه و يشتري منه من أراد التعريس من المتجملين و ممن لم تبلغ حاله اصطناع ذلك. و قيل: سمي بذلك لأنه كان يبيع النجد و الفرش التي تتخذ للعرائس، فسمي يسارا النسائي.

20 - من أخبار عروة بن الزبير

غضبه لوقوع قوم في أخيه عبد اللّه بمجلس عبد الملك بن مروان

أخبرنا الطوسيّ و الحرميّ بن أبي العلاء، قالا: حدثنا الزبير، قال: حدثنا مصعب بن عثمان، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة، قال:

قدم عروة بن الزبير على عبد الملك بن مروان، فدخل فأجلسه معه على السرير، فجاء قوم فوقعوا في عبد اللّه بن الزبير، فخرج عروة فقال للآذن: إنّ عبد اللّه بن الزّبير ابن أميّ و أبي، فإذا أردتم أن تقعوا فيه فلا تأذنوا لي عليكم.

فذكر ذلك لعبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: قد أخبرني الآذن بما قلت، و إنّ أخاك لم يكن قتلنا إياه لعداوة، و لكنه طلب أمرا و طلبناه فقتل دونه، و إنّ الشام قوم من أخلاقهم ألا يقتلوا أحدا إلاّ شتموه، فإذا أذنّا لأحد قبلك فقد جاء من يشتمه فلا تدخل، و إذا أذنا لأحد و أنت جالس فانصرف.

قدومه على الوليد بن عبد الملك حين شلت رجله

ثم قدم عروة على الوليد بن عبد الملك حين شلّت رجله، فقيل له: اقطعها، قال: إني لأكره أن أقطع منّي طابقا، فارتفعت إلى الركبة، فقيل له: إنها إن وقعت في الركبة قتلتك، فقطعت، و لم يقبض وجهه. و قيل له/قبل أن يقطعها: نسقيك دواء لا تجد معه ألما، فقال: ما يسعني أنّ هذا الحائط وقاني أذاها.

مقتل ابنه محمد

قال الزّبير: و حدّثني مصعب بن عثمان بن عامر، عن صالح، عن هشام بن عروة، قال:

سقط محمد بن عروة بن الزّبير - و أمه بنت الحكم بن أبي العاص بن أمية - من سطح في اصطبل دوابّ الوليد ابن عبد الملك، فضربته بقوائمها حتى قتلته، فأتى عروة رجل يعزّيه، فقال عروة: إن كنت تعزّيني برجلي/فقد احتسبتها، فقال: بل أعزّيك بمحمد، قال: و ما له؟ فخبّره بشأنه؛ فقال(1):

و كنت إذا الأيّام أحدثن نكبة(2) *** أقول شوى ما لم يصبن صميمي(3)

اللهم أخذت عضوا و تركت أعضاء، و أخذت ابنا و تركت أبناء، فإنك إن كنت أخذت لقد أبقيت، و إن كنت ابتليت لقد عافيت.

ص: 155


1- «اللسان» (شوى)، و نسبه للبريق الهذلي.
2- كذا في ج و «بيروت»، و في ب، س: «مالكا».
3- الشوى: الشيء الهين، و في ب، س، «بيروت»: «حميمي».

فلما قدم المدينة نزل قصره بالعقيق، فأتاه ابن المنكدر، و قال: كيف كنت؟ فقال: لَقَدْ لَقِينٰا مِنْ سَفَرِنٰا هٰذٰا نَصَباً (1).

عيسى بن طلحة يعزيه أكرم عزاء

قال الزبير: و حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز، عن ابن الماجشون: أنّ عيسى بن طلحة جاء إلى عروة بن الزّبير حين قدم من عند الوليد بن عبد الملك، و قد قطعت رجله، فقال عروة لبعض بنيه: اكشف لعمّك عن رجلي ينظر إليها، ففعل، فقال له عيسى: إنا للّه و إنا إليه راجعون، يا أبا عبد اللّه، ما أعددناك للصراع و لا للسباق، و لقد أبقى اللّه لنا منك ما كنا نحتاج إليه منك: رأيك و علمك. فقال عروة: ما عزّاني أحد عن رجلي مثلك.

الوليد بن عبد الملك يبعث إليه بمن هو أعظم بلاء منه

قال الزبير: و حدثني مصعب بن عثمان، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة:

أنه قدم على الوليد رجل من عبس ضرير محطوم الوجه، فسأله عن سبب ذلك، فقال: بتّ ليلة في بطن واد، و لا أعلم في الأرض عبسيّا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل، فذهب بما كان لي من أهل و مال و ولد إلاّ صبيّا مولودا و بعيرا ضعيفا، فند البعير و الصبيّ معي، فوضعته، /و اتبعت البعير، فما جاوزت ابني قليلا إلاّ و رأس الذئب في بطنه، فتركته، و اتّبعت البعير، فرمحني رمحة حطم بها وجهي، و أذهب عيني، فأصبحت لا ذا مال و لا ذا ولد و لا ذا بصر.

عمر بن أبي ربيعة يسأل عن محمد بن عروة
اشارة

فقال الوليد بن عبد الملك: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أنّ في الناس من هو أعظم بلاء منه.

أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ، و عمر بن عبد العزيز بن أحمد(2)، و محمد بن العباس اليزيديّ، و جماعة أخبروني قالوا: حدثنا الزّبير بن بكار، قال: حدثني عمّي، عن جدي، عن هشام بن عروة قال:

خرجت مع أبي عروة بن الزبير حاجّا، و معنا أخي محمد بن عروة، و كان من أحسن الناس وجها، فلما كنّا في بعض الطريق إذا نحن بعمر بن أبي ربيعة يكلّم بعضنا، فقلنا: هذا أبو الخطاب لو سايرناه، فرآنا عروة، فقال:

فيم أنتم؟ قلنا: هذا عمر بن أبي ربيعة، فضرب عروة إليه راحلته، فلما رآها عمر عدل إليه فسلّم عليه، ثم قال:

و أين زين المواكب؟ - يعني محمد بن عروة - فقال: قد تقدّم، فعدل عن عروة و اتبع محمدا، فقال له عروة: نحن أكفى لك و أولى أن تسايرنا، فقال: إني رجل موكل بالجمال أتبعه حيث كان، و ضرب راحلته و مضى.

صوت

يا بني الصّيداء ردّوا فرسي *** إنما يفعل هذا بالذّليل

/عوّدوا مهري الذي عوّدته *** دلج الليل و إيطاء القتيل

و استباء الزّقّ من حاناته *** شائل الرّجلين معصوبا يميل

ص: 156


1- سورة الكهف 62.
2- «بيروت»: «و أحمد بن عبد العزيز الجوهري».

عروضه من ثاني الرمل.

بنو الصّيداء: بطن من بني أسد. و الدّلج: السير في آخر الليل، يقال: دلج يدلج - مخففة - إذا سار من آخر الليل، و ادّلج يدّلج، إذا سار الليل كله. و استباء الزّقّ، أراد استباء الخمر فيه؛ أي ابتاعها من حاناتها. و الحانات:

جمع حانة، و هي الموضع الذي تباع فيه الخمر. و شائل الرجلين: رافعهما.

و روى الأصمعيّ و أبو عمرو:

أحمل الزّق على منسجه *** فيظلّ الضيف نشوانا يميل

الشعر لزيد الخيل الطائيّ. و الغناء لابن محرز، خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى، عن يحيى المكيّ. و ذكره إسحاق في هذه الطريقة و لم ينسبه إلى أحد، و فيه لعاذل لحن من كتاب إبراهيم غير مجنّس، و ذكر حبش أنّ فيه لنبيه(1) لحنا من الثقيل الثاني بالوسطى.

ص: 157


1- كذا في ما.

21 - أخبار زيد الخيل و نسبه

نسبه

هو زيد بن مهلهل بن يزيد(1) بن منهب بن عبد رضا - و رضا: صنم كان لطيّئ - ابن محلس بن ثور بن عديّ بن كنانة بن مالك بن نائل(2) بن نبهان، - و هو أسود بن عمرو بن الغوث بن جلهمة - و هو طيّئ؛ سمّي بذلك لأنه كان يطوى المناهل في غزواته - ابن أدد بن مذحج بن زيد بن يشجب الأصفر بن عريب بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر، و هو هود النبي صلّى اللّه عليه و سلم. كذا نسبه النّسّابون، و اللّه أعلم.

و أم طيّئ مدلّة بنت ذي منحسان بن عريب بن الغوث بن زهير بن وائل بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و مدلّة هذه هي مذحج، و هو لقبها، و هي أم مالك بن أدد، و كانت مدلّة عند أدد أيضا، فولدت له الأشعر و اسمه نبت، و مرّة، ابني أدد. و من الناس من يقول مذحج ظرب(3) صغير اجتمعوا عليه، و ليس بأمّ و لا أب، و اللّه أعلم.

سماه النبي صلّى اللّه عليه و سلم زيد الخير

و كان زيد الخيل فارسا مغوارا مظفّرا شجاعا بعيد الصّيت(4) في الجاهلية، و أدرك الإسلام و وفد إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و لقيه و سرّ به و قرّظه، و سمّاه زيد الخير.

شاعر فارس

و هو شاعر مقلّ مخضرم معدود في الشعراء الفرسان، و إنما كان يقول/الشعر في غاراته و مفاخراته و مغازيه و أياديه عند من مرّ عليه(5) و أحسن في قراه إليه(6).

سبب تسميته زيد الخيل

و إنما سمي زيد الخيل لكثرة خيله، و أنه لم يكن لأحد من قومه و لا لكثير من العرب إلاّ الفرس و الفرسان، و كانت له خيل كثيرة، منها المسمّاة المعروفة التي ذكرها في شعره و هي ستّة، و هي: الهطّال، و الكميت، و الورد، و كامل، و دؤول(7)، و لا حق.

ص: 158


1- «بيروت»: «زيد».
2- ما: «نابل».
3- الظرب: الجبل المنبسط أو الصغير، و جمعه ظراب.
4- في المختار و بيروت: «بعيد الصوت»، و هما بمعنى.
5- المختار: «من من عليه».
6- المختار: «و أحسن في ندائه إليه».
7- المختار: «وزمول».
قال شعرا في خيله

و في الهطال يقول:

أقرّب مربط الهطّال إنّي *** أرى حربا ستلقح عن حيال

و في الورد يقول:

أبت عادة للورد أن يكره القنا *** و حاجة نفسي في نمير و عامر

/و في دؤول يقول:

فأقسم لا يفارقني دؤول *** أجول به إذا كثر الضّراب

هذا ما حضرني من تسمية خيله في شعره، و قد ذكرها.

له ثلاثة بنين شعراء

و كان لزيد الخيل ثلاثة بنين كلّهم يقول الشعر، و هم عروة، و حريث، و مهلهل. و من الناس من ينكر أن يكون له من الولد إلاّ عروة و حريث.

و هذا الشعر الذي فيه الغناء يقوله في فرس من خيله ظلع في بعض غزواته بني أسد، فلم يتبع الخيل و وقف، فأخذته بنو الصيداء، فصلح عندهم و استقلّ.

و قيل: بل أغزى عليه بعض بني نبهان، فنكّس عنه و أخذ. و قيل: /إنه خلّفه في بعض أحياء العرب ظالعا ليستقلّ، فأغارت عليهم بنو أسد، فأخذوا الفرس فيما استاقوه لهم، فقال في ذلك زيد الخيل:

يا بني الصّيداء ردّوا فرسي *** إنما يفعل هذا بالذّليل

لا تذيلوه فإني لم أكن *** يا بني الصّيدا لمهري بالمذيل(1)

عوّدوه كالذي عوّدته *** دلج اللّيل و إيطاء القتيل

أحمل الزقّ على منسجه(2) *** فيظلّ الضيف نشوانا يميل

قال أبو عمرو الشيبانيّ: و كان زيد الخيل ملحّا على بني أسد بغاراته، ثم على بني الصيداء منهم، ففيهم يقول(3):

ضجّت بنو الصّيداء من حربنا *** و الحرب من يحلل بها يضجر

بتنا نرجّي نحوهم ضمّرا *** معروفة الأنساب من منسر

حتى صبحناهم بها غدوة *** نقتلهم قسرا على ضمّر

يدعون بالويل و قد مسّهم *** منا غداة الشّعب ذي الهيشر

ضرب يزيل الهام ذو مصدق *** يعلو على البيضة و المغفر

ص: 159


1- أذان فرسه: لم يحسن القيام عليه فضعف و هزل.
2- المنسج من الفرس: أسفل حاركه.
3- الإصابة 598:3، نقله عن الأغاني.

الهيشر: شجر كثير الشّوك تأكله الإبل.

نسخت من كتاب لأبي المحلم، قال: حدثني أضبط بن الملوّح، قال لي أبي: أنشد حبيب بن خالد بن نضلة الفقعسيّ قول زيد الخيل:

عوّدوا مهري الذي عوّدته

/فضحك ثم قال: قولوا له: إن عوّدناه ما عوّدته دفعناه إلى أول من يلقانا، و هربنا.

وفد على النبي صلّى اللّه عليه و سلم في جماعة من طيئ

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ إجازة، قال: حدثني عليّ بن حرب، قال: أنبأني هشام بن الكلبيّ أبو المنذر، قال: حدثني عباد بن عبد اللّه النّبهانيّ عن أبيه عن جده، و أضفت إلى ذلك ما رواه أبو عمرو الشيبانيّ، قالا:

وفد زيد الخيل بن مهلهل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و معه وزر(1) بن سدوس النّبهانيّ، و قبيصة بن الأسود بن عامر بن جوين الجرميّ(2)، و مالك بن جبير المغني، و قعين بن خليل(3) الطّريفيّ، في عدة من طيئ، فأناخوا ركابهم بباب المسجد، و دخلوا و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يخطب الناس، فلما رآهم قال: إني خير لكم من العزّى، و مما حازت مناع(4) من كل ضارّ غير يفاع، و من الجبل الأسود(5) الذي تعبدونه من دون اللّه عزّ و جلّ.

قال أبو المنذر: يعني بمناع(6): جبل طيئ.

إسلامه

فقام زيد، و كان من أجمل الرّجال و أتمّهم، و كان يركب الفرس المشرف و رجلاه/تخطّان الأرض كأنه على حمار، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه و أنك محمد رسول اللّه. قال: و من أنت؟ قال: أنا زيد الخيل بن مهلهل. فقال رسول اللّه: بل أنت زيد الخير، و قال: الحمد للّه الذي جاء بك من سهلك/و جبلك، و رقّق قلبك على الإسلام، يا زيد، ما وصف لي رجل قطّ فرأيته إلاّ كان دون ما وصف به إلاّ أنت؛ فإنك فوق ما قيل فيك.

أصابته الحمى و مات بها

فلما ولّى قام النبي صلّى اللّه عليه و سلم: أيّ رجل إن سلم من آطام المدينة! فأخذته الحمّى، فأنشأ يقول:

أنخت بآطام المدينة أربعا *** و خمسا يغنّي فوقها الليل طائر

شددت عليها رحلها و شليلها *** من الدّرس و الشّعراء و البطن ضامر(7)

ص: 160


1- كذا في ج، و هو يوافق ما في الإصابة.
2- كذا في ج، ما، و في ب، س: «حوير الجرمي». و في الإصابة: «جودر الحرمي».
3- ج، و المختار: «بن خالد».
4- كذا في ما: من غير تشديد و في ب، س: بالتشديد.
5- كذا في ج، و «بيروت»، و في ب، س: «الجمل الأسود».
6- في ب، س: بيفاع و هو تحريف.
7- الشليل: مسح من صوف أو شعر يجعل على عجز البعير من وراء الرحل. و الدرس، بفتح الدال و كسرها: الثوب الخلق. و الشعراء: ما فيه شعر.

فمكث سبعا، ثم اشتدت الحمّى به فخرج، فقال لأصحابه: جنّبوني بلاد قيس؛ فقد كانت بيننا حماسات في الجاهلية، و لا و اللّه لا أقاتل مسلما حتى ألقى اللّه. فنزل بماء لحيّ من طيّئ يقال له فردة، و اشتدّت به الحمّى، فأنشأ يقول:

أ مرتحل صحبي المشارق غدوة *** و أترك في بيت بفردة منجد(1)

سقى اللّه ما بين القفيل فطابة *** فما دون أرمام فما فوق منشد

هنالك لو أني مرضت لعادني(2) *** عوائد من لم يشف منهنّ يجهد

فليت اللواتي عدنني لم يعدنني *** و ليت اللواتي غبن عنّي عوّدي

قال: و كتب معه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لبني نبهان بفيدك(3) كتابا مفردا، و قال له: أنت زيد الخير، فمكث بالفردة سبعة أيام ثم مات. فأقام عليه قبيصة بن الأسود المناحة سبعا، ثم بعث راحلته و رحله، و فيه/كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فلما نظرت امرأته - و كانت على الشّرك - إلى الراحلة ليس عليها زيد ضربتها بالنار و قالت:

ألا إنما زيد(4) لكلّ عظيمة *** إذا أقبلت أوب الجراد رعالها

لقاهم(5) فما طاشت يداه بضربهم *** و لا طعنهم حتى تولّى سجالها

قال: فبلغني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لما بلغه ضرب امرأة زيد الراحلة بالنار، و احتراق الكتاب، قال: بؤسا لبني نبهان.

و قال أبو عمرو الشيبانيّ:

لما وفد زيد الخيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فدخل إليه، طرح له متّكأ فأعظم أن يتكئ بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فردّ المتّكأ، فأعاده عليه ثلاثا، و علّمه دعوات كان يدعو بها فيعرف الإجابة، و يستسقى فيسقى، و قال:

يا رسول اللّه، أعطني ثلاثمائة فارس أغير بهم على قصور الروم، فقال له: أيّ رجل أنت يا زيد! و لكن أمّ الكلبة تقتلك - يعني الحمّى - فلم يلبث زيد بعد انصرافه إلاّ قليلا حتى حمّ و مات.

قال أبو عمرو: و أسلموا جميعا إلاّ وزر؛ فإنّه قال لما رأى النبي صلّى اللّه عليه و سلم: إني لأرى رجلا ليملكنّ رقاب العرب، و و اللّه لا يملك رقبتي أبدا؛ فلحق بالشام، فتنصّر و حلق رأسه، فمات على ذلك.

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثني السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبيّ قال:

أقبل زيد الخيل الطائيّ حتى أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و كان زيد رجلا جسيما طويلا جميلا، فقال له/النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم: من أنت؟ قال: /أنا زيد الخيل. قال: بل أنت زيد الخير، أما إني لم أخبر عن رجل خبرا إلا وجدته دون ما أخبرت به عنه غيرك؛ إن فيك لخصلتين يحبّهما اللّه عزّ و جلّ و رسوله، قال: و ما هما يا رسول اللّه؟ قال: الأناة و الحلم، فقال زيد: الحمد صلّى اللّه عليه و سلم الذي جبلني على ما يحبّ اللّه و رسوله.

ص: 161


1- المختار: «مفرد».
2- المختار: «هنالك إني لو مرضت لعادني».
3- كذا في «ما» و هو ما يرجحه نص الإصابة و الطبقات. و في المختار: «بفردة»، و في ب، س: «يفدك» تحريف.
4- ج و المختار: «ألا نبها زيدا»، رعال: جمع رعلة و هي القطعة من الخيل.
5- لقاهم: لقيهم، و هي لغة طيئ فيما أشبهها.
عمر يسأله عن طيئ و مسلوكها و نجدتها و أصحاب مرابعها

قال: و دخل زيد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و عنده عمر رضي اللّه عنه، فقال عمر لزيد: أخبرنا يا أبا مكنف عن طيئ و ملوكها نجدتها(1) و أصحاب مرابعها، فقال زيد: في كلّ يا عمر نجدة و بأس و سيادة، و لكلّ رجل من حيّه مرباع، أما بنو حيّة فملوكنا و ملوك غيرنا، و هم القداميس(2) القادة، و الحماة الذّادة، و الأنجاد السادة، أعظمنا خميسا(3)، و أكرمنا رئيسا، و أجملنا مجالس، و أنجدنا فوارس.

فقال له عمر رضي اللّه عنه: ما تركت لمن بقي من طيئ شيئا، فقال: بلى و اللّه؛ أمّا بنو ثعل و بنو نبهان و جرم ففوارس العدوة(4) و طلاّعو كلّ نجوة، و لا تحلّ حبوة، و لا تراع لهم ندوة، و لا تدرك لهم نبوة، عمود البلاد، و حيّة كلّ واد، و أهل الأسل الحداد، و الخيل الجياد، و الطّارف(5) و التّلاد.

و أما بنو جديلة فأسهلنا قرارا، و أعظمنا أخطارا، و أطلبنا للأوتار، و أحمانا للذّمار، و أطعمنا للجار.

فقال له عمر: سمّ لنا هؤلاء الملوك، قال: نعم، منهم عفير المجير على/الملوك، و عمرو المفاخر، و يزيد شارب الدماء، و الغمر ذو الجود، و مجير الجراد، و سراج كلّ ظلام و لامة(6)، و ملحم(7) بن حنظلة؛ هؤلاء كلّهم من بني حيّة.

و أما حاتم بن عبد اللّه الثعليّ(8) الجواد فلا يجاري، و السمح فلا يباري(9)، و الليث الضّرغامة، قرّاع كلّ هامة، جوده في الناس علامة، لا يقرّ على ظلامة. فاعترض رجل من بني ثعل لما مدح زيد حاتما، فقال: و منا زيد بن مهلهل النبهانيّ رئيس قومه و سيّد الشّيب و الشبّان، و سمّ الفرسان، و آفة الأقران، و المهيب بكل مكان، أسرع إلى الإيمان، و آمن بالفرقان، رئيس قومه في الجاهلية و قائدهم إلى أعدائهم، على شحط المزار، و طموس الآثار، و في الإسلام رائدنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و مجيبه من غير تلعثم و لا تلبّث.

و منا زيد بن سدوس النّبهانيّ عصمة الجيران، و الغيث بكل أوان، و مضرم النيران، و مطعم النّدمان، و فخر كل يمان.

و منا الأسد الرّهيص، سيد بني جديلة، و مدوّخ(10) كل قبيلة، قاتل عنترة فارس بني عبس، و مكشّف(11) كل لبس.

ص: 162


1- في ب، من، عدتها.
2- القداميس: جمع قدموس، و هو السيد.
3- الخميس: الجيش.
4- في المختار: العدة.
5- في المختار: «و الطريف».
6- في المختار: «و سراج كل الأمة»، و اللامة: الهول.
7- في المختار: «و ملجم»، بالجيم.
8- في ب، س: الثعلبيّ.
9- كذا في ج، و في ب، س: «الجواد بلا مجار، و السمح بلا مبار».
10- في المختار: «و ممدوح».
11- في المختار: و كاشف.

فقال عمر لزيد الخيل: للّه درّك يا أبا مكنف(1) فلو لم يكن لطيئ غيرك و غير عديّ بن حاتم لقهرت بكما العرب.

قصته مع الشيباني

/أخبرني ابن دريد، قال: أخبرني عمّي، عن أبيه، عن ابن الكلبيّ، عن أبيه، قال: أخبرني شيخ من بني نبهان، قال:

أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال، فخرج رجل منهم بعياله، حتى أنزلهم الحيرة، فقال لهم: كونوا قريبا من الملك يصبكنّ من خيره حتى أرجع إليكنّ، و آلى أليّة لا يرجع حتى يكسبهنّ خيرا أو يموت. فتزوّد زادا، ثم مشى يوما إلى الليل، فإذا هو بمهر مقيّد يدور حول خباء. فقال: هذا أوّل الغنيمة، فذهب يحلّه و يركبه، فنودي:

خلّ عنه و اغنم نفسك، فتركه، و مضى سبعة أيام حتى انتهى إلى عطن إبل مع تطويل الشمس، فإذا خباء عظيم و قبّة من أدم، فقال في نفسه: /ما لهذا الخباء بدّ من أهل، و ما لهذه القبة بدّ من ربّ، و ما لهذا العطن بدّ من إبل، فنظر في الخباء، فإذا شيخ كبير قد اختلفت ترقوتاه، كأنه نسر.

قال: فجلست خلفه، فلما وجبت(2) الشمس إذا فارس قد أقبل لم أر فارسا قطّ أعظم منه و لا أجسم، على فرس مشرف و معه أسودان يمشيان جنبيه، و إذا مائة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل، و بركت حوله، و نزل الفارس، فقال لأحد عبديه: احلب فلانة، ثم اسق الشيخ، فحلب في عسّ(3) حتى ملأه، و وضعه بين يدي الشيخ و تنحى، فكرع منه الشيخ مرّة أو مرّتين، ثم نزع، فثرت إليه فشربته، فرجع إليه العبد. فقال: يا مولاي، قد أتى على آخره، ففرح بذلك، و قال: احلب فلانة، فحلبها، ثم وضع العسّ بين يدي الشيخ، فكرع منه واحدة، ثم نزع، فثرت إليه فشربت نصفه، و كرهت/أن آتي على آخره، فاتّهم(4)، فجاء العبد فأخذه و قال لمولاه: قد شرب و روي، فقال: دعه، ثم أمر بشاة فذبحت، و شوى للشيخ منها، ثم أكل هو و عبداه، فأمهلت حتى إذا ناموا و سمعت الغطيط ثرت إلى الفحل، فحللت عقاله و ركبته، فاندفع بي و تبعته الإبل، فمشيت ليلتي حتى الصباح، فلما أصبحت نظرت فلم أر أحدا، فشللتها إذا شلاّ(5) عنيفا حتى تعالى النهار، ثم التفتّ التفاتة فإذا أنا بشيء كأنه طائر، فما زال يدنو حتى تبيّنته، فإذا هو فارس على فرس، و إذا هو صاحبي بالأمس، فعقلت الفحل، و نثلت كنانتي، و وقفت بينه و بين الإبل، فقال: احلل عقال الفحل، فقلت: كلاّ و اللّه، لقد خلّفت نسيّات بالحيرة، و آليت أليّة لا أرجع حتى أفيدهن خيرا أو أموت. قال: فإنك لميّت، حلّ عقاله، لا أمّ لك! فقلت: ما هو إلاّ ما قلت لك، فقال: إنك لمغرور: انصب لي خطامه، و اجعل فيه خمس عجر(6) ففعلت، فقال: أين تريد أن أضع سهمي؟ فقلت: في هذا الموضع، فكأنما وضعه بيده، ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمسة بخمسة أسهم، فرددت نبلي، و حططت قوسي،

ص: 163


1- أبو مكنف، كمحسن: كنية زيد الخيل.
2- وجبت الشمس: غربت.
3- العس: القدح العظيم.
4- ب، س: «فإنهم»، تحريف.
5- في المختار: «فشللته»، و شل الإبل: طردها.
6- العجر: جمع عجرة، و هي العقدة.

و وقفت مستسلما؛ فدنا مني و أخذ السيف و القوس، ثم قال: ارتدف خلفي، و عرف أني الرجل الذي شربت اللّبن عنده، فقال: كيف ظنّك بي؟ قلت: أسوأ ظنّ(1). قال: و كيف؟ قلت: لما لقيت من تعب ليلتك، و قد أظفرك اللّه بي، فقال: أ ترانا كنّا نهيجك، و قد بتّ/تنادم مهلهلا؟ قلت: أزيد الخيل أنت؟ قال: نعم، أنا زيد الخيل، فقلت:

كن خير آخذ، فقال: ليس عليك بأس.

فمضى إلى موضعه الذي كان فيه، ثم قال: أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك، و لكنها لبنت مهلهل، فأقم عليّ؛ فإني على شرف غارة.

فأقمت أياما، ثم أغار على بني نمير بالملح، فأصاب مائة بعير، فقال: هذه أحبّ إليك أم تلك؟ قلت: هذه، قال: دونكها. و بعث معي خفراء من ماء إلى ماء، حتى وردوا بي الحيرة، فلقيني نبطيّ: فقال لي: يا أعرابيّ، أ يسرّك أنّ لك بإبلك بستانا من هذه البساتين؟ قلت: و كيف ذاك؟ قال: هذا قرب مخرج نبيّ يخرج فيملك هذه الأرض، و يحول بين أربابها و بينها، حتى إن أحدهم ليبتاع البستان من هذه البساتين بثمن بعير.

قال: فاحتملت بأهلي حتى انتهيت إلى موضع الشّيّطين(2) فبينما نحن في الشّيّطين(3) على ماء لنا، و قد كان الحوفزان بن شريك أغار على بني تميم، فجاءنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فأسلمنا، و ما مضت/الأيام حتى شربت بثمن بعير من إبلي بستانا بالحيرة. فقال في يوم الملح زيد الخيل:

و يوم الملح ملح بني نمير *** أصابتكم بأظفار و ناب

يسأل النبي صلّى اللّه عليه و سلم عن حكم ما تصيده الكلاب من الوحش

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني عمّي عن ابن الكلبيّ، عن أبيه، و الشرقي:

أنّ زيد الخيل قال للنبي صلّى اللّه عليه و سلم: إن في الحيّ رجلين لهما كلاب مضريات(4) تصيد الوحش، أ فنأكل مما أمسكته /و لم تدرك ذكاته؟ فقال: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه عليه و كل مما أمسك»، أو كما قال عليه السّلام.

ليلى بنت عروة أنشدت شعرا لأبيها في يوم محجر

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه إسحاق، عن الهيثم بن عديّ، عن حمّاد الراوية، عن ابن أبي ليلى، قال:

أنشدتني ليلى بنت عروة بن زيد الخيل الطائي شعر أبيها في يوم محجّر(5):

بني عامر هل تعرفون إذا غدا *** أبو مكنف قد شدّ عقد الدوابر(6)

بجيش تضلّ البلق في حجراته *** ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر

ص: 164


1- كذا في ج، و في ب، س، ما: «أحسن الظن».
2- كذا في ما. و في ب، س: سقط اسمه من الكتاب.
3- الشيطان: واديان في ديار بني تميم لبني دارم، و يوم الشيطين من أيامهم.
4- مضريات: معلمات للصيد.
5- أ: «محجن»، تحريف. و في البلدان: محجر، بالضم ثم الفتح و كسر الجيم المشددة، و قد تفتح. و الأبيات في الكامل 358:1.
6- س و المختار: «الدوائر»، و المثبت يوافق ما في الكامل.

و

جمع كمثل الليل مرتجز الوغى(1)*** كثير حواشيه(2) سريع البوادر

قالت ليلى: فقلت لأبي: يا أبه، أشهدت ذلك اليوم مع أبيك؟ قال: إي و اللّه يا بنيّة، لقد شهدته، قلت: كم كانت خيل أبيك هذه التي وصفت؟ قال: ثلاثة أفراس(3).

غزا بني عامر

نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيبانيّ بخطّه عن أبيه:

أنّ زيد الخيل بن مهلهل جمع طيّئا و أخلاطا لهم، و جموعا من شذّاذ العرب، فغزا بهم بني عامر و من جاورهم من قبائل العرب من قيس، و سار إليهم فصبّحهم من طلوع الشمس، فنذروا(4) به و فزعوا إلى الخيل و ركبوها، و كان أول من نذر بهم، فلقي جمعهم غنيّ بن أعصر و إخوتهم: الحارث و هو(5) الطّفاوة، /و اسمه مالك بن سعد بن قيس بن عيلان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت بنو عامر، فاستحرّ القتل بغنيّ، و فيهم يومئذ فرسان و شعراء، فملأت طيئ أيديهم من غنائمهم(6).

أسر الحطيئة و أطلقه

و أسر زيد الخيل يومئذ الحطيئة الشاعر، فجزّ ناصيته و أطلقه.

ثم إنّ غنيّا تجمّعت بعد ذلك مع لفّ(7) من بني عامر فغزوا طيئا في أرضهم، فغنموا و قتلوا و أدركوا ثأرهم منهم.

و قد كان زيد الخيل قال في وقعته لبني عامر قصيدته التي يقول(8) فيها:

و خيبة من يخيب على غنيّ *** و باهلة بن أعصر و الكلاب

فلما أدركوا ثارهم أجابه طفيل الغنويّ، فقال:

سمونا بالجياد إلى أعاد *** مغاورة بجدّ و اعتصاب

نؤمّهم على وعث(9) و شحط *** بقود(10) يطّلعن من النّقاب

و هي طويلة يقول فيها:

ص: 165


1- في الكامل: «مرتجس الوغى».
2- في الكامل و المختار: «تواليه».
3- الكامل: «ثلاثة أفراس، أحدها فرسه».
4- نذروا به: علموه فحذروه و استعدوا له.
5- كذا في ج، و في ب، س: «و هم».
6- ب، س: «غنائم تميم».
7- اللف: القوم المجتمعون، أو من عد فيهم.
8- الإصابة 555:1: و جنبة من يخب على غنى و قال: قال أبو عبيدة: أرادوا وصفهم بعدم الامتناع و عدم الجبن. فإذا خاب من يريد الغنيمة منهم كان غاية في الإدبار. و انظر رواية ابن قتيبة.
9- كذا في ما، و في ب، س: رعب. و وعث الطريق تعسر سلوكه.
10- قود: جمع أقود و هو السلس المنقاد.

أخذنا بالمخطّم من أتاهم *** من السّود المزنّمة الرّغاب(1)

و قتّلنا سراتهم جهارا *** و جئنا بالسّبايا و النّهاب

/سبايا طيّئ أبرزن قسرا *** و أبدلن القصور من الشّعاب

سبايا طيّئ من كلّ حيّ *** نما(2) في الفرع منها و النّصاب

/و ما كانت بناتهم سبيّا *** و لا رغبا يعدّ من الرّغاب

و لا كانت دماؤهم وفاء *** لنا فيما يعدّ من العقاب

عروة بن زيد الخيل

أخبرني الحسن بن يحيى، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كان لزيد الخيل ابن يقال له عروة، و كان فارسا شاعرا، فشهد القادسيّة، فحسن فيها بلاؤه، و قال في ذلك يذكر حسن بلائه:

برزت لأهل(3) القادسيّة معلما *** و ما كلّ من يغشى الكريهة يعلم

و يوم(4) بأكناف النّخيلة قبلها *** شهدت فلم أبرح أدمّي و أكلم

و أقعصت(5) منهم فارسا بعد فارس *** و ما كلّ من يلقى الفوارس يسلم

و نجّاني اللّه الأجلّ و جيرتي *** و سيف لأطراف المرازب مخذم(6)

و أيقنت يوم الدّيلميّين أنني *** متى ينصرف وجهي عن القوم يهزموا

فما رمت حتى مزّقوا برماحهم *** ثيابي و حتى بلّ أخمصي الدّم

محافظة إني امرؤ ذو حفيظة *** إذا لم أجد مستأخرا أتقدّم

قال: و شهد مع عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه صفّين، و عاش إلى إمارة معاوية، فأراده على البراءة من عليّ عليه السّلام، فامتنع عليه، و قال:

/يحاولني معاوية بن حرب *** و ليس إلى الذي يهوى سبيل

على جحدي أبا حسن عليّا *** و حظّي من أبي حسن جليل

قال: و له أشعار كثيرة.

بعثه النبي صلّى اللّه عليه و سلم إلى الجرار فقتله لما أبى الإسلام

قال أبو عمرو: كان لتغلب رئيس يقال له الجرّار، و أدرك النبي صلّى اللّه عليه و سلم، و أبى الإسلام، و امتنع منه، فيقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بعث إليه زيد الخيل، و أمره بقتاله، فمضى زيد فقاتله فقتله لمّا أبى الإسلام، و قال في ذلك:

ص: 166


1- المزنم من الإبل: المقطوع طرف الأذن. قال أبو عبيدة: و إنما يفعل ذلك بالكرام منها، «اللسان». و الرغاب: الواسعة الدر الكثيرة النفع، جمع الرغيب. و في س: «الرعاب» بالعين، و الرعاب: السمان.
2- كذا في ج و ب، س: «بمن».
3- المختار: «لآل»، و هما سواء.
4- ج، و المختار: «و يوما...».
5- أقعص الفارس: قتله مكانه و أجهز عليه.
6- المرازب: جمع مرزبان، و هو الرئيس من الفرس. مخذم: قاطع.

صبّحت حيّ بني الجرّار داهية *** ما إن لتغلب بعد اليوم جرّار

نحوي النّهاب و نحوي كلّ جارية *** كأن نقبتها(1) في الخدّ دينار

أغار على بني عامر

قال مؤرّج: خرج رجل من طيئ يقال له: ذؤاب بن عبد اللّه إلى صهر له من هوازن، فأصيب الرجل - و كان شريفا ذا رئاسة في حيّه - فبلغ ذلك زيدا، فركب في نبهان و من تبعه من ولد الغوث، و أغار على بني عامر، و جعل كلما أخذ أسيرا قال له: أ لك علم بالطائيّ المقتول؟ فإن قال: نعم، قتله، و إن قال: لا، خلّى سبيله و منّ عليه.

و أصاب رجالا من بني الوحيد(2) و الضباب و بني نفيل. ثم رجع زيد إلى قومه، فقالوا: ما صنعت؟ فقال: ما أصبت بثأر ذؤاب، و لا يبوء به إلا عامر بن مالك ملاعب الأسنة، فأما ابن الطفيل فلا يبوء به، و أنشأ زيد يقول:

لا أرى أن بالقتيل قتيلا *** عامريّا يفي بقتل ذؤاب

ليس من لاعب الأسنة في *** النقع و سمّي ملاعبا بأراب

/عامر ليس عامر بن طفيل *** لكن العمر رأس حيّ كلاب

ذاك إن ألقه أنال به الوتر *** و قرّت به عيون الصّحاب(3)

/أو يفتني فقد سبقت بوتر *** مذحجيّ و جدّ قومي كأبي

قد تقنّصت للضّباب رجالا *** و تكرمت عن دماء الضّباب

و أصبنا من الوحيد رجالا *** و نفيل فما أساغوا شرابي

فبلغ عامر بن الطفيل قول زيد الخيل و شعره، فأغضبه و قال مجيبا له:

قل لزيد قد كنت تؤثر بالحل *** م إذا سفّهت حلوم الرّجال

ليس هذا القتيل من سلف الحيّ *** كلاع و يحصب و كلال(4)

أو بني آكل المرار و لا صيد *** بني جفنة الملوك الطّوال

و ابن ماء السماء قد علم النّا *** س و لا خير في مقالة غالي

إنّ في قتل عامر بن طفيل *** لبواء(5) لطيّئ الأجبال

إنني و الذي يحجّ له النّا *** س قليل في عامر الأمثال

يوم لا مال للمحارب في الحر *** ب سوى نصل أسمر عسّال

و لجام في رأس أجرد كالجذ *** ع طوال و أبيض قصّال

و دلاص كالنّهي ذات فضول *** ذاك في حلبة الحوادث مالي(6)

ص: 167


1- النقبة: الأثر، و في ج: «ثقبنها» تحريف.
2- كذا في المختار، و هو الوجه. و في سائر الأصول: «و كان رجل من أصحاب».
3- ج: «المصاب».
4- كلاع و يحصب و كلال: أحياء يمانية.
5- بواء: كفاء، و في ج، ما: «لبوارا».
6- الدلاص: الدروع الملساء اللينة. و النهي: الغدير أو شبهه.

و لعمّي فضل الرئاسة و السنّ *** و جدّ(1) على هوازن عالي

/غير أني أولي هوازن في الحر *** ب بضرب المتوّج المختال

و بطعن الكميّ في حمس النّق *** ع على متن هيكل جوّال

أغار على بني مرة

قال أبو عمرو الشيبانيّ:

لما بلغ زيد الخيل ما كان من الحارث بن ظالم و عمرو بن الإطنابة الخزرجيّ و هجائه إياه، غضب زيد لذلك، فأغار على بني مرّة بن غطفان، فأسر الحارث بن ظالم و امرأته في غارته، ثم منّ عليهما، و قال يذكر ذلك:

ألا هل أتى غوثا و رومان أننا *** صبحنا بني ذبيان إحدى العظائم

و سقنا نساء الحيّ مرّة بالقنا *** و بالخيل تردي قد حوينا ابن ظالم(2)

جنيبا لأعضاد النواجي يقدنه *** على تعب بين النّواجي الرواسم(3)

يقول: اقبلوا منّي الفداء و أنعموا *** عليّ و جزّوني مكان القوادم

و قد مسّ حدّ الرمح قوّارة استه *** فصارت كشدق الأعلم المتضاجم(4)

وسائل بنا جار ابن عوف فقد رأى *** حليلته جالت عليها مقاسمي(5)

تلاعب وحدان العضاريط بعد ما *** جلاها بسهميه لقيط بن حازم(6)

أغرّك أن قيل ابن عوف و لا أرى *** عزيمك إلاّ واهيا في العزائم

غداة سبينا من خفاجة سبيها *** و مرّت لهم منّا نحوس الأشائم

فمن مبلغ عني الخزارج غارة *** على حيّ عوف موجفا غير نائم

غارته على بني فزارة و بني عبد اللّه بن غطفان

و قال أبو عمرو: أغار زيد على بني فزارة و بني عبد اللّه بن غطفان و رئيسهم يومئذ أبو ضبّ، و مع زيد الخيل من بني نبهان بطنان يقال لهما: بنو نصر و بنو مالك، فأصاب و غنم، و ساقوا/الغنيمة، و انتهى إلى العلم، فاقتسموا النّهاب، فقال لهم زيد: أعطوني حقّ الرئاسة، فأعطاه بنو نصر، و أبى بنو مالك، فغضب زيد، و انحدر إلى بني نصر، فبينما بنو مالك يقتسمون إذ غشيتهم فزارة و غطفان، و هم حلفاء، فاستنقذوا ما بأيديهم. فلما رأى زيد ذلك شدّ على القوم فقتل رئيسهم أبا ضبّ، و أخذ ما في أيديهم، فدفعه إلى بني مالك، و كانوا نادوه يومئذ: يا زيداه أغثنا! فكرّ على القوم حتى استنقذ ما في أيديهم، و ردّه، و قال يذكر ذلك:

ص: 168


1- في المختار: «وجدي».
2- ردى الفرس - كرمى - رديا و رديانا: رجمت الأرض بحوافرها، أو هو بين العدو و المشي.
3- أعضاد: جمع عضد: ما حول الشيء. النواجي: جمع ناجية: الناقة السريعة.
4- أ: «كمثل الأعلم» و المتضاجم: المعوج الفم.
5- أ: «جالت عليه».
6- أ، ج: «أحدان العضاريط»، و أحدان و وحدان سواء. و العضاريط: الخدم و الأتباع، واحده عضروط.

كررت على أبطال(1) سعد و مالك *** و من يدع الدّاعي(2) إذا هو ندّدا

فلأيا كررت الورد حتى رأيتهم *** يكبّون في الصحراء مثنى و موحدا

و حتى نبذتم بالصّعيد رماحكم *** و قد ظهرت دعوى زنيم و أسعدا

فما زلت أرميهم بغرّة وجهه *** و بالسيف حتى كلّ تحتي و بلّدا

إذا شكّ أطراف العوالي لبانه *** أقدّمه حتى يرى الموت أسودا

علالتها بالأمس ما قد علمتم *** و علّ الجواري بيننا أن تسهّدا

لقد علمت نبهان أنّي حميتها *** و أنى منعت السّبي أن يتبدّدا

عشيّة غادرت ابن ضبّ كأنما *** هوى عن عقاب من شماريخ صنددا(3)

بذي شطب أغشي الكتيبة سلهبا(4) *** أقبّ كسرحان الظلام معوّدا(5)

زيد و عامر بن الطفيل

قال أبو عمرو: و خرج زيد الخيل يطلب نعما من بني بدر، و أغار عامر بن الطفيل على بني فزارة، فأخذ امرأة يقال لها هند، و استاق نعما لهم، فقالت بنو بدر لزيد: ما كنا قطّ إلى نعمك أحوج منّا اليوم، فتبعه زيد الخيل، و قد مضى، و عامر يقول: يا هند، ما ظنّك بالقوم؟ فقالت: ظنّي بهم أنهم سيطلبونك، و ليسوا نياما عنك.

قال: فحطأ(6) عجزها، ثم قال: لا تقول استها شيئا، فذهبت مثلا.

فأدركه زيد الخيل، فنظر إلى عامر فأنكره لعظمه و جماله، و غشيه زيد فبرز له عامر، فقال: يا عامر؛ خلّ سبيل الظعينة و النّعم. فقال عامر: من أنت؟ قال: فزاري أنا. قال عامر: و اللّه ما أنت من القلح(7) أفواها. فقال زيد: خلّ عنها، قال: لا، أو تخبرني من أنت؟ قال: أسديّ، قال: لا و اللّه ما أنت من المتكوّرين على ظهور الخيل. قال: خلّ سبيلها. قال: لا و اللّه أو تخبرني فأصدقني(8)، قال: أنا زيد الخيل، قال: صدقت؛ فما تريد من قتالي، فو اللّه لئن قتلتني لتطلبنّك بنو عامر، و لتذهبنّ فزارة بالذكر. فقال له زيد: خلّ عنها، قال: تخلّى عنّي و أدعك و الظعينة و النّعم؟ قال: فاستأسر، قال: أفعل، فجزّ ناصيته، و أخذ رمحه، و أخذ هندا و النعم، فردّها إلى بني بدر، و قال في ذلك:

إنا لنكثر في قيس وقائعنا *** و في تميم و هذا الحيّ من أسد

و عامر بن طفيل قد نحوت له *** صدر القناة بماضي الحدّ مطّرد

ص: 169


1- كذا في أ، ب، س، و في ج: «فتيان».
2- أ: «و مثلى دعا الداعي».
3- أ: «هوى عن حفاف». و في المختار: «صمردا»، و الصمرد، واحد الصماريد؛ و هي الأرضون الصلاب. و صندد: جبل بتهامة.
4- كذا في أ، ج. و في المختار: «أغشى الكريهة».
5- في أ: «كسرحان الظلام معردا».
6- حطأ فلانا: ضرب ظهره بيده مبسوطة.
7- القلح، بالقاف و الحاء: جمع أقلح؛ و هو الذي في أسنانه صفرة. و في المختار: الفلج، و الفلج: المتباعد و ما بين الأسنان.
8- في المختار: «فتصدقني».

/لما أحسّ(1) بأنّ الورد مدركه *** و صارما و ربيط الجأش ذا لبد

نادى إليّ بسلم بعد ما أخذت *** منه المنية بالحيزوم و اللّغد

و لو تصبّر لي حتى أخالطه *** أسعرته طعنة تكتار بالزّبد(2)

/قال: فانطلق عامر إلى قومه مجزوزا(3)، و أخبرهم الخبر، فغضبوا لذلك، و قالوا: لا ترأسنا(4) أبدا، و تجهّزوا ليغيروا على طيئ، و رأسوا عليهم علقمة بن علاثة، فخرجوا و معهم الحطيئة و كعب بن زهير.

أسر الحطيئة و كعب بن زهير ثم أطلقهما

فبعث عامر إلى زيد الخيل دسيسا ينذره، فجمع زيد قومه، فلقيهم بالمضيق فقاتلهم، فأسر الحطيئة و كعب بن زهير و قوما منهم، فحبسهم فلما طال عليهم الأسر قالوا: يا زيد، فادنا. قال: الأمر إلى عامر بن الطفيل، فأبوا ذلك عليه، فوهبهم لعامر إلاّ الحطيئة و كعبا، فأعطاه كعب فرسه الكميت، و شكا الحطيئة الحاجة، فمنّ عليه، فقال زيد:

أقول لعبدي جرول إذ أسرته *** أثبني و لا يغررك أنك شاعر

أنا الفارس الحامي الحقيقة و الذي *** له المكرمات و اللّهى(5) و المآثر

و قومي رءوس الناس و الرأس قائد *** إذا الحرب شبّتها الأكفّ المساعر

فلست إذا ما الموت حوذر ورده *** و أترع حوضاه و حمّج ناظر(6)

بوقافة يخشى الحتوف تهيّبا *** يباعدني عنها من القبّ(7) ضامر

/و لكنني أغشى الحتوف بصعدتي(8) *** مجاهرة إنّ الكريم يجاهر(9)

و أروي سناني من دماء عزيزة *** على أهلها إذ لا ترجّى الأياصر(10)

شعر الحطيئة لزيد

فقال الحطيئة لزيد:

إن لم يكن مالي بآت فإنّني *** سيأتي ثنائي زيدا بن مهلهل(11)

فأعطيت منا الودّ يوم لقيتنا *** و من آل بدر شدّة لم تهلّل(12)

ص: 170


1- في أ: «لما تحسب أن الورد». و في المختار: «لما تيقن».
2- ب، س، ج: «كالنار بالزند»، و في المختار: «تكتن بالزبد» و المثبت من أ، ج، و في هامشه: تكتار، أي تجيش و ترمي بالزبد، من قولهم: اكتار الفرس، إذا رفع ذنبه في العدو.
3- في المختار: «محزونا».
4- في المختار: «لا نذوق و سنا أبدا».
5- اللهي: العطايا.
6- هامش أ: «التحميج: تحديد النظر».
7- القب: جمع الأقبّ، و هو من الخيل الدقيق الخصر.
8- في المختار: «و صعدتي». و الصعدة: القناة المستوية.
9- في المختار: «إن الشجاع مجاهر».
10- الأياصر: جمع آصرة؛ و هي قرابة الرحم.
11- ديوانه 82، و فيه: إلا يكن... فإنه».
12- في الديوان: «و أعطيت منا الود... و من آل بدر وقعة» و في ابن الشجري: «فأعطتك». و لم تهلّل: لم تضعف.

فما نلتنا غدرا و لكن صبحتنا *** غداة التقينا في المضيق بأخيل(1)

تفادى حماة القوم من وقع رمحه *** تفادي ضعاف الطّير من وقع أجدل

و قال فيه الحطيئة أيضا(2):

وقعت بعبس ثم أنعمت فيهم *** و من آل بدر قد أصبت الأخايرا(3)

فإن يشكروا فالشكر أدنى إلى التّقى *** و إن يكفروا لا ألف يا زيد كافرا(4)

تركت المياه من تميم بلاقعا *** بما قد ترى منهم حلولا كراكرا(5)

/و حيّ سليم قد أثرت شريدهم(6) *** و بالأمس ما قتّلت يا زيد عامرا(7)

فرضي عنه زيد و منّ عليه لما قال هذا فيه، و عدّ ذلك ثوابا من الحطيئة و قبله.

امتناع الحطيئة عن هجائه

فلما رجع الحطيئة إلى قومه قام فيهم حامدا لزيد، شاكرا لنعمته، حتى أسرت طيئ بني بدر، فطلبت فزارة و أفناء قيس إلى شعراء العرب أن يهجوا بني لأم و زيدا، فتحامتهم شعراء العرب، و امتنعت من هجائهم، فصاروا إلى الحطيئة فأبى عليهم، و قال: اطلبوا غيري فقد حقن دمي، و أطلقني بغير فداء؛ فلست بكافر نعمته أبدا، قالوا: فإنا نعطيك مائة ناقة، قال: و اللّه لو جعلتموها ألفا ما فعلت ذلك. و قال الحطيئة:

كيف الهجاء و ما تنفكّ صالحة *** من آل لأم(8) بظهر الغيب تأتينا

المنعمين أقام العزّ وسطهم *** بيض الوجوه و في الهيجا مطاعينا

/و قد أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال:

خرج بجير بن زهير و الحطيئة و رجل من فزارة يتقنّصون الوحش، فلقيهم زيد الخيل فأسرهم، فافتدى بجير نفسه بفرس كان لكعب أخيه، و كعب يومئذ مجاور في بني ملقط من طيئ، و شكا إليه الحطيئة الفاقة فأطلقه:

غزا فزارة مع بني نبهان

و قال أبو عمرو: غزت بنو نبهان فزارة و هم متساندون و معهم زيد الخيل، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت فزارة، و ساقت بنو نبهان الغنائم/من النساء و الصبيان. ثم إن فزارة حشدت و استعانت(9) بأحياء من قيس، و فيهم رجل من سليم شديد البأس سيّد يقال له: عباس بن أنس الرعليّ، كانت بنو سليم قد أرادوا(10) عقد التاج على رأسه

ص: 171


1- هامش أ: «الأخيل: الشقراق يتشاءم به». و في شرح الديوان: «بأخيل: جمع خيل».
2- ديوانه 87.
3- ج و المختار: «عنهم»، و في الديوان: «قد أصبت الأكابرا».
4- في المختار: «لم ألف».
5- الكراكر: الجماعات، واحدها كركرة.
6- المختار: «أبرت شريدهم» و في ج: «و حتى سليم».
7- ب، س: «و لا تنس».
8- في أ: «الذي كريم» و في هامشه و ج: «من آل زيد». و في المختار: «لآل لأم بظهر الغيب».
9- أ: «و استغاثت».
10- أ: «قد أرادت».

في الجاهلية، فحسده ابن عمّ له فلطم عينه، فخرج عباس من أعمال بني سليم في عدّة من أهل بيته و قومه، فنزل في بني فزارة، و كان معهم يومئذ، و لم يكن لزيد المرباع حينئذ، و أدركت فزارة بني نبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، فلما رأى زيد ما لقيت بنو نبهان نادى: يا بني نبهان؛ أ أحمل و لي المرباع؟ قالوا: نعم، فشدّ على بني سليم فهزمهم، و أخذ أم الأسود امرأة عباس بن أنس، ثم شدّ على فزارة و الأخلاط فهزمهم، و قال في ذلك:

أ لا ودّعت جيرانها أمّ أسودا *** و ضنّت على ذي حاجة أن يزوّدا

و أبغض أخلاق النساء أشدّه *** إليّ فلا تولنّ أهلي تشددا

و سائل بني نبهان عنّا و عندهم *** بلاء كحدّ السيف إذ قطع اليدا

دعوا مالكا ثم اتّصلنا بمالك *** فكلّ ذكا مصباحه فتوقّدا

و بشر بن عمرو قد تركنا مجندلا *** ينوء بخطّار هناك و معبدا(1)

تمطّت به قوداء ذات علالة *** إذا الصّلدم الخنذيذ أعيا و بلّدا(2)

لقيناهم نستنقذ الخيل كالقنا *** و يستسلبون السّمهريّ المقصّدا(3)

فيا ربّ قدر قد كفأنا و جفنة *** بذي الرّمث إذ يدعون مثنى و موحدا

/على أنني أثوي سناني و صعدتي *** - بساقين - زيدا أن يبوء و معبدا

زيد و قيس بن عاصم

قال أبو عمرو: وقعت حرب بين أخلاط طيّئ، فنهاهم زيد عن ذلك و كرهه فلم ينتهوا، فاعتزل و جاور بني تميم، و نزل على قيس بن عاصم، فغزت بنو تميم بكر بن وائل و عليهم قيس، و زيد معه، فاقتتلوا قتالا شديدا، و زيد كافّ. فلما رأى ما لقيت تميم ركب فرسه، و حمل على القوم، و جعل يدعو بالتميم، و يتكنّى بكنية قيس إذا قتل رجلا أو أذراه(4) عن فرسه، أو هزم ناحية، حتى هزمت بكر، و ظفرت تميم، فصارت فخرا لهم في العرب، و افتخر بها قيس.

فلما قدموا قال له زيد: أقسم لي يا قيس نصيبي، فقال: و أيّ نصيب؟ فو اللّه ما ولي القتال غيري و غير أصحابي، فقال زيد:

ألا هل أتاها و الأحاديث جمّة *** مغلغلة أنباء جيش اللّهازم

فلست بوقّاف إذا الخيل أحجمت *** و لست بكذّاب كقيس بن عاصم

تخبّز من لاقيت أن قد هزمتهم *** و لم تدر ما سيماهم و العمائم(5)

بل الفارس الطائيّ فضّ جموعهم(6) *** و مكّة و البيت الذي عند هاشم

ص: 172


1- أ: «مجدلا... هناك معبدا».
2- الصلدم: الفحل الشديد الحافر. و الخنذيذ: الطويل و في أ: «إذا الصارم».
3- أ و ج: «و يستلبون». و السمهريّ: الرمح الصليب العود. و المقصد: المكسور.
4- أذراه: أطاره.
5- أ: «لا، و عائم». و قال في هامشه: «و عائم: اسم صنم».
6- الفارس الطائي هو زيد الخيل.

/إذا ما دعوا عجلا عجلنا عليهم *** بمأثورة تشفي صداع الجماجم

فبلغ المكشّر بن حنظلة العجليّ أحد بني سنان قول زيد، فخرج في ناس من عجل حتى أغار على بني نبهان، فأخذ من نعمهم ما شاء، و بلغ ذلك زيد الخيل، فخرج على فرسه في فوارس من نبهان، حتى اعترض القوم، فقال:

/ما لي و لك يا مكشّر؟ فقال: قولك:

إذا ما دعوا عجلا عجلنا عليهم

فقاتلهم زيد حتى استنقذ بعض ما كان في أيديهم، و رجع المكشر ببقية ما أصاب. فأغار زيد على بني تيم اللّه بن ثعلبة، فغنم و سبى، و قال في ذلك:

إذا عركت عجل بنا ذنب غيرنا *** عركنا بتيم اللات ذنب بني عجل

حريث بن زيد الخيل
اشارة

و قال أبو عمرو: كان حريث بن زيد الخيل شاعرا، فبعث عمر بن الخطاب رجلا من قريش يقال له أبو سفيان يستقرئ أهل البادية، فمن لم يقرأ شيئا من القرآن عاقبه، فأقبل حتى نزل بمحلّة بني نبهان، فاستقرأ ابن عمّ لزيد الخيل يقال له أوس بن خالد بن زيد بن منهب، فلم يقرأ شيئا، فضربه، فمات.

فأقامت بنته أم أوس تندبه، و أقبل حريث بن زيد الخيل فأخبرته، فأخذ الرمح فشدّ على أبي سفيان فطعنه فقتله، و قتل ناسا من أصحابه، ثم هرب إلى الشام، و قال في ذلك:

ألا بكّر الناعي بأوس بن خالد *** أخي الشّتوة الغبراء و الزّمن المحل

فلا تجزعى يا أمّ أوس فإنّه *** يلاقي المنايا كلّ حاف و ذي نعل(1)

فإن يقتلوا أوسا عزيزا فإنني *** تركت أبا سفيان ملتزم الرّحل

و لو لا الأسى ما عشت في الناس بعده *** و لكن إذا ما شئت جاوبني مثلي

أصبنا به من خيرة القوم سبعة *** كراما و لم نأكل به حشف النّخل

صوت

بشّر الظبي و الغراب بسعدى *** مرحبا بالذي يقول الغراب

اذهبي فاقرئي السلام عليهم *** ثم ردّي جوابنا يا رباب

عروضه من الخفيف(2). الشعر لعبيد اللّه بن قيس الرقيّات، و الغناء لفند(3) المخنّث - مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقّاص - خفيف رمل بالبنصر. و ذكر حبش أنّ هذا اللّحن ليحيى المكي، و ليس ممن يحصّل قوله.

ص: 173


1- في المختار: «تصيب المنايا».
2- أ: «من السريع»، و هو خطأ.
3- ضبط في أ بفتح الفاء، و هو تصحيف.

22 - خبر لابن قيس الرقيّات

اشارة

أخبرني بالسبب الذي قال فيه ابن قيس هذا الشعر الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال:

حدّثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الحارث الكاتب، مولى بني عامر بن لؤيّ، و أبو الحارث هذا هو الذي يقول فيه عمر بن أبي ربيعة(1):

يا أبا الحارث قلبي طائر(2) *** فائتمر أمر رشيد مؤتمن

وقوفه إلى جانب عبد العزيز بن مروان و شعره فيه

قال: حدثني عمرو بن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل، قال: حدثني سليمان بن نوفل بن مساحق، عن أبيه، عن جدّه، قال:

أراد عبد الملك بن مروان البيعة لابنه الوليد بعد عبد العزيز بن مروان، و كتب إلى عبد العزيز يسأله ذلك، فامتنع عليه، و كتب إليه يقول له: لي ابن ليس ابنك أحبّ إليّ منه؛ فإن استطعت ألاّ يفرق بيننا الموت و أنت لي قاطع فافعل. فرقّ له/عبد الملك، و كفّ عن ذلك، فقال عبيد اللّه بن قيس في ذلك - و كان عند عبد العزيز -:

يخلفك البيض من بنيك كما *** يخلف عود النّضار في شعبه

ليسوا من الخروع الضّعاف و لا *** أشباه عيدانه و لا غربه

نحن على بيعة الرسول التي *** أعطيت في عجمه و في عربه

/نأتي إذا ما دعوت في الزّغف المسرود أبدانه و في جنبه(3)

نهدي رعيلا أمام أرعن لا *** يعرف وجه البلقاء في لجبه(4)

فقال عبد الملك: لقد دخل ابن قيس الرقيّات مدخلا ضيّقا، و تهدّده و شتمه. و قال: أ ليس هو القائل:

كيف نومي على الفراش و لما *** تشمل الشّام غارة شعواء

تذهل الشيخ عن بنيه و تبدي *** عن خدام(5) العقيلة العذراء

و هو القائل أيضا:

ص: 174


1- ديوانه 65.
2- في الديوان: «يا أبا الخطاب قلبي هائم».
3- أ: «نأبى»، و الزغفة - و قد تحرك -: الدرع اللينة الواسعة المحكمة، أو الرقيقة الحسنة السلاسل. و درع زغف و جمعه أزغاف، و زغف، محركة، و زغوف.
4- أ: «وجه اللقاء».
5- في «اللسان» (خدم): أراد و تبدى عن خدام العقيلة، و خدام هاهنا في نية عن خدامها. و في ديوانه ص 96: «عن براها».

على بيعة الإسلام بايعن مصعبا *** كراديس من خيل و جمعا مباركا

تدارك أخرانا و يمضي أمامنا *** و يتبع ميمون النقيبة ناسكا

إذا فرغت أظفاره من كتيبة *** أمال على أخرى السيوف البواتكا(1)

قال: فلما بلغ عبيد اللّه قول عبد الملك و شتمه إياه قال:

بشّر الظّبي و الغراب بسعدى *** مرحبا بالذي يقول الغراب

قال لي: إنّ خير سعدي قريب *** قد أنى أن يكون منه اقتراب(2)

قلت: أنّى تكون سعدى قريبا *** و عليها الحصون و الأبواب

حبذا الرّيم ذو الوشاحين و الخصر الذي لا يناله الأثواب(3)

إنّ في القصر لو دخلت غزالا *** مصفقا موصدا عليه الحجاب

/أرسلت أن فدتك نفسي فاحذر *** هاهنا شرطة عليك غضاب

أقسموا إن رأوك لا تطعم الما *** ء و هم حين يقدرون ذئاب

قلت: قد يغفل الرّقيب و يغفي *** شرطة أو يحين منه انقلاب

أو عسى أن يورّي اللّه أمرا *** ليس في غيبه علينا ارتقاب

اذهبي فاقرئي السلام عليها *** ثم ردّي جوابنا يا رباب

حدثيها ما قد لقيت و قولي *** حقّ للعاشق الكريم ثواب

رجل أنت همّه حين يمسي *** خامرته من أجلك الأوصاب

لا أشمّ الريحان إلاّ بعينيّ كرما إنما يشمّ الكلاب

ربّ زار عليّ لم ير منّي *** عثرة و هو مومس كذّاب

خادع اللّه حين جلّله الشيب فأضحى قد بان منه الشّباب

يأمر الناس أن يبرّوا و يمسي *** و عليه من عيبه جلباب

لا تعبني فليس عندك علم *** لا تنامنّ أيّها المغتاب

تختل الناس بالكتاب فهلاّ *** حين تغتابني نهاك الكتاب

لست بالمخبت التقيّ و لا المح *** ضيه من مقالتي الاحتساب(4)

/إنني و التي رمت بك كرها *** ساقطا ملصقا عليك التراب

لتذوقنّ غبّ رأيك فينا *** حين تبدو بعرضك الأنداب(5)

قال الزبير: معنى قوله:

لا أشمّ الريحان إلاّ بعينيّ كرما إنّما يشمّ الكلاب

ص: 175


1- البواتك: القواطع.
2- أنى: حان و قرب.
3- المثبت من هامش أ، و ج و في ب و الديوان: و القصر الذي لا يناله الأتراب.
4- كذا في أ، ح، و في ب، س: «و لا المهنية». و في الديوان: «و لا المحض الذي لا تذمه الأنساب».
5- الأنداب: آثار الجروح الباقية.

/يعرّض بعبد الملك؛ لأنه كان متغيّر الفم يؤذيه رائحته، فكان في يده أبدا ريحان، أو تفّاحة، أو طيب يشمه.

بيت شعر لابن قيس الرقيات أحفظ عبد الملك بن مروان

أخبرني الحرميّ، قال: حدثنا الزبير، عن عمه:

أنّ ابن قيس قال في عبد العزيز بن مروان:

يلتفت الناس عند منبره *** إذا عمود البريّة انهدما

يعني إذا مات عبد الملك؛ لأنّ العهد كان إليه بعده.

قال الزّبير: فأخبرني مصعب بن عثمان، قال:

لما بلغ عبد الملك هذا البيت أحفظه، و قال: بفيه الحجر، و حينئذ قال: لقد دخل ابن قيس مدخلا ضيقا.

الحجاج يبعث إلى عبد الملك بعمران بن عصام العنزي

أخبرني الحرميّ، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني كثيّر بن جعفر، عن أبيه، قال:

قال الحجّاج يوما لأهل ثقته من جلسائه: ما من أحد من بني أميّة أشدّ نصبا(1) لي من عبد العزيز بن مروان، و ليس يوم من الأيام إلاّ و أنا أتخوّف أن تأتيني منه قارعة، فهل من رجل تدلّوني عليه، له لسان و شعر و جلد؟ قالوا:

نعم، عمران بن عصام العنزيّ، فدعاه فأخلاه، ثم قال: اخرج بكتابي هذا إلى أمير المؤمنين، فاقدح في قلبه من ابنه شيئا في الولاية، فقال له عمران: دسّ أيها الأمير إليّ دسّا، فقال له الحجاج: «إنّ العوان لا تعلّم الخمرة»(2):

فخرج بكتاب الحجّاج، فلما دخل على عبد الملك دفع إليه الكتاب، و سأله عن الحجّاج، و أمر العراق، فاندفع يقول:

/أمير المؤمنين إليك أهدي *** على الشّحط التحيّة و السلاما

أمير من بنيك يكن جوابي *** لهم أكرومة و لنا نظاما

فلو أن الوليد أطاع فيه *** جعلت له الإمامة و الذّماما

فكتب عبد الملك إلى عبد العزيز في ذلك. ثم ذكر من خبرهما في المكاتبة مثل الخبر الذي قبله، و قال فيه:

فرقّ عبد الملك رقّة شديدة، و قال: لا يكون إلى الصلة أسرع مني، فكفّ عن ذلك، و ما لبث عبد العزيز إلا ستّة أشهر حتى مات.

الحجاج يقتل ابن الأشعث و عمران بن عصام

فلما كان زمان ابن الأشعث خرج عمران بن عصام معه على الحجّاج، فأتى به حين قتل ابن الأشعث فقتله، فبلغ ذلك عبد الملك فقال: قطع اللّه يدي الحجاج! أقتله و هو الذي يقول:

و بعثت من ولد الأغرّ معتّب *** صقرا يلوذ حمامه بالعوسج

و إذا طبخت بناره أنضجتها *** و إذا طبخت بغيرها لم تنضج

ص: 176


1- النصب: المعاداة. و في «بيروت»: بغضا إليّ.
2- المستقصى 334/2 يريد أن المجرب عارف بأمره.

23 - ذكر فند و أخباره

كان خليعا متهتكا
اشارة

هو فند أبو زيد مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقّاص، و منشؤه المدينة، و كان خليعا متهتكا(1)، يجمع بين الرجال و النساء في منزله، و لذلك يقول فيه ابن قيس الرقيّات.

صوت

/قل لفند يشيّع الأظعانا *** طالما سرّ عيشنا و كفانا

صادرات عشية من قديد(2)*** واردات مع الضّحى عسفانا

زوّدتنا رقيّة الأحزانا *** يوم جازت حمولها السّكرانا(3)

عروضه من الخفيف(4). غنّاه مالك بن أبي السمح من روايتي إسحاق و عمرو بن بانة. و لحنه من خفيف الثقيل بالسّبابة في مجرى الوسطى.

و قد اختلف في اسمه، فقيل: قند بالقاف، و فند بالفاء أصحّ. و به يضرب المثل في الإبطاء، فيقال: تعست العجلة.

أرسلته عائشة بنت سعد ليجيئها بنار فجاءها بها بعد سنة

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، قال:

كانت عائشة بنت سعد أرسلته ليجيئها بنار، فخرج لذلك، فلقي عيرا خارجا إلى مصر، فخرج معهم، فلما كان بعد سنة رجع فأخذ نارا، و دخل على عائشة و هو يعدو فسقط و قد قرب منها، فقال: تعست العجلة، فقال بعض الشعراء في رجل ذكر بمثل هذه الحال:

/ما رأينا لعبيد(5) مثلا *** إذ بعثناه يجي بالمسله(6)

غير فند بعثوه(7) قابسا *** فثوى حولا و سبّ العجله

ص: 177


1- كذا في م و المختار، و في أ، ج: «منهمكا».
2- أ: «عشية من الآل»، و في هامشه من نسخة: «قديد»، و في البلدان: «من قديد» أيضا.
3- و كذا في المختار، و البيت في البلدان (سكران) مع ثلاثة أبيات أخرى لابن قيس الرقيات و الرواية فيه: «... حمولها سكرانا».
4- في أ، م: «من السريع»، و هو خطأ.
5- في ب، س و المختار: «ما رأينا لسعيد»، و في «اللسان»: «لغراب».
6- في المختار و «اللسان»: «بالمشملة»؛ و هي كساء يشتمل به دون القطيفة.
7- في «اللسان»: «أرسلوه».
ضربه سعد بن إبراهيم فحلفت عائشة ألاّ تكلمه أو يرضى عنه

أخبرني الحسين، قال: قال حماد: قرأت على أبي الهيثم بن عديّ، قال:

كان فند أبو زيد مولى لسعد بن أبي وقّاص، فضربه سعد بن إبراهيم ضربا مبرّحا، فحلفت عائشة بنت سعد أنها لا تكلّمه أبدا أو يرضى عنه - و كانت خالته - فصار إليه سعد طاعة لخالته، فوجده وجعا من ضربه، فسلّم عليه فحوّل وجهه عنه إلى الحائط و لم يكلّمه؛ فقال له: أبا زيد، إنّ خالتي حلفت إلاّ تكلمني حتى ترضى، و لست ببارح حتى ترضى عني. فقال: أما أنا فأشهد أنك مقيت سمج مبغّض، و قد رضيت عنك على هذه الحال(1) لتقوم عني، و تريحني من وجهك و من النظر إليك.

فقام من عنده، فدخل على عائشة، و أخبرها بما قال له فند، فقالت: قد صدق، و أنت كذلك و رضيت عنه.

قال: و كان سعد مضطرب الخلق سمجا.

مروان بن الحكم يتهدده
اشارة

أخبرني الحسن قال: قال حماد: قرأت على أبي بكر:

و ذكر عوانة أنّ معاوية كان يستعمل مروان بن الحكم على المدينة سنة، و يستعمل سعيد بن العاص سنة، فكانت ولاية مروان شديدة يهرب فيها أهل الدعارة و الفسوق، و ولاية سعيد ليّنة يرجعون إليها، فبينا مروان/يأتي المسجد و في يده عكّازة له، و هو يومئذ معزول، إذا هو بفند يمشي بين يديه، فوكزه بالعكازة، و قال له: ويلك هيه:

قل لفند يشيّع الأظعانا

أتشيّع الأظعان للفساد - لا أمّ لك - إلى أهل الريبة! ستعلم ما يحلّ بك منّي، فالتفت إليه فند، و قال: نعم، أنا ذلك و سبحان اللّه! ما أسمجك واليا و معزولا! فضحك مروان، و قال له: تمتّع، إنما هي أيّام قلائل ثم تعلم ما يمرّ بك مني.

صوت

حيّ الدّويرة إذ نأت *** منّا على عدوائها

لا بالفراق تنيلنا *** شيئا و لا بلقائها

عروضه من الكامل(2) الشعر لنبيه بن الحجّاج السّهميّ، و الغناء لابن سريج، رمل بالوسطى/عن عمرو.

ص: 178


1- المختار: «على هذه الأحوال».
2- المراد: من مجزوء الكامل.

24 - أخبار نبيه و نسبه

نسبه

هو نبيه بن الحجّاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ بن غالب؛ و أمّه و أم أخيه منبّه أروى بنت عميلة بن السبّاق بن عبد الدار بن قصيّ.

قتل هو و أخوه يوم بدر مشركين

و كان نبيه بن الحجّاج و أخوه من وجوه قريش و ذوي النباهة فيهم، و قتلا جميعا يوم بدر مشركين، و لهما يقول أعشى بني تميم - و هو ابن النبّاش بن زرارة، و كان أخوه أبو هالة بن النبّاش زوج خديجة أم المؤمنين في الجاهلية، و لها منه أولاد لهم عقب إلى الآن - و كان الأعشى مدّاحا لهم، و فيهم يقول، و هي قصيدة طويلة(1):

للّه درّ بني الحجّاج إذ ندبوا *** لا يشتكي فعلهم ضيف و لا جار(2)

إن يكسبوا يطعموا من فضل كسبهم *** و أوفياء بعقد الجار أحرار(3)

و في نبيه يقول أيضا(4):

إن نبيها أبا الرزّام أفضلهم(5) *** حلما و أجودهم، و الجود تفضيل

ليس لفعل(6) نبيه إن مضى خلف *** و لا لقول أبي الرزّام تبديل

/ثقف كلقمان، عدل في حكومته(7) *** سيف إذا قام وسط القوم مسلول

و إنّ بيت نبيه منهج فلج(8) *** مخضر بالندى ما عاش مأهول(9)

ص: 179


1- الآمدي 21، و نسب قريش 403..
2- في الآمدي: و قد أراها حديثا و هي آنسة لا يشتكي أهلها... ندبوا: دعوا للقيام بالأمور.
3- في ج: «أبرار»، و في الآمدي: و أوفياء لمن آووه أبرار
4- نسب قريش 404.
5- نسب قريش: «أحلمهم».
6- نسب قريش: «ليس لقول».
7- ثقف: حاذق.
8- فلج: يراد به هنا الواسع.
9- في نسب قريش 404: «مخضر أبدا...»، و الرواية في أ: «... مخضر أبدا ما عاش مأمول».

من لا يعرّ و لا يؤذي عشيرته *** و لا نداه عن المعترّ معدول(1)

و له أيضا فيهما مراث قالها فيهما لما قتلا ببدر لم أستجز ذكرها؛ لأنهما قتلا مشركين محاربين اللّه و رسوله.

شعره في زوجتيه و قد سألتاه الطلاق

و كان نبيه من شعراء قريش، و هو القائل و قد سألته زوجتاه الطلاق، ذكر ذلك الزّبير بن بكّار(2):

تلك عرساي تنطقان بهجر *** و تقولان قول زور و هتر(3)

تسألاني الطلاق أن(4) رأتاني *** قلّ مالي، قد(5) جئتماني بنكر

فلعلّي أن يكثر المال عندي *** و يخلّى(6) من المغارم ظهري

و يرى أعبد لنا و جياد *** و مناصيف(7) من ولائد عشر

ويكأن من يكن له نشب يحبب و من يفتقر يعش عيش ضرّ /و يجنّب يسر الأمور و لكنّ *** ذوي المال حضّر كلّ يسر(8)

شعر آخر له

أخبرني الطوسيّ و الحرميّ، قالا: حدثنا الزّبير بن بكار، قال: حدثني علي بن صالح:

أنّ عامر بن صالح أنشده لنبيه بن الحجاج:

قصّر العدم(9) بي و لو كنت ذا ما *** ل كثير لأجلب(10) الناس حولي

و لقالوا: أنت الكريم علينا *** و لحطّوا إلى هواي و ميلي

و لكلت المعروف كيلا هنيّا(11) *** يعجز الناس أن يكيلوا ككيلي

قال الزّبير: قال عليّ بن صالح: و أنشدني عامر بن صالح لنبيه بن الحجّاج أيضا:

/قالت سليمى إذ طرقت أزورها: *** لا أبتغي إلاّ امرأ ذا مال

ص: 180


1- في ج: «من لا يعق». عرهم: ساءهم. و المعتر: الذي يطيف بك يطلب ما عندك؛ سألك أو سكت عن السؤال. «اللسان» (عرر). و في نسب قريش: «من لا يعن».
2- في هامش أ: «الشعر لزيد بن عمرو بن نفيل».
3- في أ، م: «قول أثر و عثر».
4- في ب، س: «إذ رأتاني».
5- في نسب قريش: «إذ جئتماني».
6- في ج: «و يعرى».
7- المناصيف: الخدم، واحدها منصف، كمنبر و مقعد.
8- في ج: «و يجنب سر الندى و لكن أخا المال محضر كل سر»
9- أ، م: «قصر الشيء».
10- أجلب الناس حولي: تجمعوا و أتوني من كل واد.
11- أ، م: «هنيئا».

لا أبتغي إلاّ امرأ ذا ثروة *** كيما يسدّ مفاقري و خلالي(1)

فلأحرصنّ على اكتساب محبّب *** و لأكسبن في عفّة و جمال

أخبرني الطوسيّ و الحرميّ، قالا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمّي مصعب، قال:

نزل نبيه بن الحجّاج قديدا(2) يريد الشام، فغيّب بعض بني بكر ناقته، يريد أخذ الجعالة عليها منه، فقال نبيه في ذلك:

وردت قديدا فالتوى بذراعها *** ذؤبان بكر كلّ أطلس أفحج(3)

/رجل صديق ما بدت لك عينه *** فإذا تغيّب فاحتفظ من دعلج

قال الزبير: الدّعلج: الكلب و الذّئب، و كلّ مختلس من السباع فهو دعلج، و يقال لاختلاسه: الدّعلجة، و أنشد(4):

باتت كلاب الحيّ تسري بيننا *** يأكلن دعلجة و يشبع من ثوى

يعني بالدعلجة السرقة.

قال الزّبير: و لا عقب للحجّاج أبي نبيه و منبّه إلاّ من ولد نبيه؛ فإنّ العقب من ولد أبي سلمة إبراهيم بن عبد اللّه بن عفيف بن نبيه، و في ريطة بنت منبّه؛ فإن عمرو بن العاص تزوّجها فولدت له عبد اللّه بن عمرو(5).

انتزع امرأة من أبيها فلجأ إلى حلف الفضول فخلصوها منها

و هذا الشعر الذي فيه الغناء يقوله في امرأة كان غلب أباها عليها، فاستغاث أبوها بالحلفاء من قريش، و الحلف المعروف بحلف الفضول؛ فانتزعوها من نبيه و ردّوها على أبيها.

أخبرني الطوسيّ، قال: حدثني الزّبير بن بكار، قال: حدثني غير واحد من قريش، منهم عبد العزيز بن عمر العنبسيّ عن مغنّ(6)، و اسمه عيينة بن عبد اللّه بن عنبسة:

/أنّ رجلا من خثعم قدم مكّة تاجرا، و معه ابنة له يقال لها القتول، أوضأ نساء العالمين وجها، فعلقها نبيه بن الحجّاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، فلم يبرح حتى نقلها إليه، و غلب أباها عليها، فقيل لأبيها:

عليك بحلف الفضول؛ فأتاهم فشكا ذلك إليهم، فأتوا نبيه بن الحجّاج، فقالوا: أخرج ابنة هذا الرجل، و هو يومئذ متبدّ(7) بناحية مكة و هي معه، فقال: لا أفعل، قالوا: فإنّا من قد عرفت، فقال: يا قوم متّعوني بها الليلة، فقالوا:

ص: 181


1- المفاقر: وجوه الفقر لا واحد لها. و الخلال: الحاجات.
2- قديد: موضع قرب مكة.
3- ذؤبان بكر: يريد لصوصها - أطلس: وسخ الثياب مغبرها - أفحج: متداني صدور قدميه متباعد عقباه.
4- «اللسان» (دعلج)، و فيه: باتت كلاب الحي تسري بيننا يأكلن دعلجة و يشبع من عفا قال: و الدعلجة: الأخذ الكثير. و قيل: الأكل بنهم.
5- ورد في النسخ بعد هذا الكلام ما نصه: «نسب نبيه بن الحجاج و أخباره في هذا الشعر و غيره» و قد سبق هذا العنوان في ص 280.
6- ب، س: «مغني»، أ، م: «مفتي»، و موضعها بياض في ج.
7- كذا في أ، و في ب، س، م: منتد. و في ج: «مبتد»، تصحيف.

قبّحك اللّه، ما أجهلك! لا و اللّه و لا شخب لقحة، و هي أوسع أحابيك من السائل، فأخرجها إليهم فأعطوها أباها، و ركبوا، و ركب معهم الخثعميّ، فلذلك يقول نبيه بن الحجاج(1):

شعره في ذلك:

راح صحبي و لم أحيّ القتولا *** لم أودّعهم وداعا جميلا

إذ أجدّ الفضول أن يمنعوها *** قد أراني و لا أخاف الفضولا

لا تخالي أنّي عشية راح الرّكب هنتم عليّ ألاّ أقولا

إنني و الذي تحجّ له شمط *** إياد و هلّلوا تهليلا(2)

لا تبرّأت من قتيلة بالنّا *** س و هل تبتغون إلاّ القتولا(3)

/لم أخبّر عن الحديث و لا أبدأ رسّ الحديث و التقبيلا(4)

و مبيتا بذي المجاز ثلاثا *** و متى كان حجّنا تحليلا

لن أذيع الحديث عنها و لا أنقاد لو أبيت فيها فتيلا(5)/أ تلوّى بها كما تتلوّى *** حيّة الماء بالآباء طويلا(6)

ثم عدوا عداء(7) نخلة ما يد *** رك منهم أدنى رعيل رعيلا

و بنو غالب أولئك قومي *** و متى يفزعوا تراهم قبيلا

و ندامى بيض الوجوه كهول *** و شباب أسهرت ليلا طويلا

غير هجن و لا لئام و لا تع *** رف منهم إلاّ فتى بهلولا(8)

و في ذلك يقول نبيه بن الحجاج(9):

حيّ الدّويرة إذ نأت *** منّا على عدوائها(10)

لا بالفراق تنيلنا *** شيئا و لا بلقائها

أخذت حشاشة قلبه *** و نأت فكيف بنائها(11)

ص: 182


1- ابن كثير 295:1.
2- ج: «له حج شمط من إياد».
3- كذا في أ، م، و في ب، س: إبراء من قتيلة بالناس هل أراكم تبغون إلا القتولا
4- سقط هذا البيت من ج.
5- كذا في النسخ و هو غير موزون.
6- الأباء: أجمة الحلفاء و القصب، و في ب، س: «بالإناء»، تصحيف.
7- أ: «أطواء نخلة».
8- البهلول: الجامع لكل خير و في: «.... و لا نعدم منهم مبرأ مأمولا
9- في نسب قريش ثلاثة أبيات من هذا الشعر.
10- العدواء: البعد.
11- بنائها: ببعدها.

حلّت تهامة خلّة *** من بيتها و وطائها

و لها بمكة منزل *** من سهلها و حرائها(1)

رفعوا المحلّة فوقها *** و استعذبوا من مائها

تدعو شهابا حولها *** و تعمّ في حلفائها

لو لا الفضول و أنّه *** لا أمن من عدوائها(2)

/لدنوت من أبياتها *** و لطفت حول خبائها

و لجئتها أمشي بلا *** هاد لدى ظلمائها

فشربت فضلة ريقها *** و لبتّ في أحشائها

فسلي بمكة تخبري *** أنّا من أهل وفائها

قدما و أفضل أهلها *** منّا على أكفائها

نمشي بألوية الوغى *** و نموت في أودائها(3)

ص: 183


1- حراء: جبل بمكة كان يتحنث فيه النبي صلّى اللّه عليه و سلم.
2- في نسب قريش: «لا أمن من روعائها».
3- الوادي: مفرج بين جبال أو تلال أو آكام؛ جمعه أوداء و أودية. «القاموس».

25 - حلف الفضول

سبب حلف الفضول

أخبرنا به الطّوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة قال:

كان(1) سبب حلف الفضول أنّ رجلا من أهل اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها رجل من بني سهم، فلوى الرجل بحقّه؛ فسأله متاعه فأبى عليه، فقام في الحجر، فقال:

يا لقصيّ لمظلوم بضاعته *** ببطن مكة نائي الدار و النّفر

و أشعث محرم لم يقض حرمته *** بين المقام و بين الرّكن و الحجر

و روى بعض الثقات تماما لهذين البيتين، و هو:

أ قائم من بني سهم بذمّتهم *** أم ذاهب في ضلال مال معتمر

إنّ الحرام لمن تمّت حرامته *** و لا حرام لثوب الفاجر الغدر

/قال: و قال بعض العلماء: إنّ قيس بن شيبة السّلميّ باع متاعا من أبيّ بن خلف، فلواه و ذهب بحقّه، فاستجار برجل من بني جمح، فلم يقم بجواره، فقال:

يا لقصيّ كيف هذا في الحرم *** و حرمة البيت و أعلاق الكرم

أظلم(2) لا يمنع منّي من ظلم

/قال: و بلغ الخبر العبّاس بن مرداس السّلميّ، فقال:

إن كان جارك لم تنفعك ذمّته *** و قد شربت بكأس الغلّ أنفاسا(3)

فائت البيوت و كن من أهلها صددا(4) *** لا تلف(5) ناديهم فحشا و لا باسا

و ثمّ كن بفناء البيت معتصما *** تلق ابن حرب و تلق المرء عبّاسا

قرمى قريش و حلاّ في ذؤابتها(6) *** بالمجد و الحزم ما حازا و ما ساسا

ساقي الحجيج و هذا ياسر(7) فلج *** و المجد يورث أخماسا و أسداسا

ص: 184


1- خبر حلف الفضول ورد في ابن هشام 144:1، و ابن كثير 29:2، و السيرة الحلبية 153:1.
2- كذا في أ، م، و في ب، س: «أظل»، و في ج: «أضع».
3- ما: «بكأس الذل».
4- صددا: قبالتهم و قريبا منهم، و في نسخة للمختار: «سددا».
5- كذا في أ؛ و في ب، س و المختار: لا يلق.
6- في المختار: «حلا في ذوائبها».
7- الياسر: السهل اللين، و أيضا: من يتولى قسمة جزور الميسر.

فقام العباس و أبو سفيان حتى ردّا عليه. و اجتمعت بطون قريش، فتحالفوا على ردّ الظلم بمكة، و ألا يظلم رجل بمكة إلاّ منعوه، و أخذوا له بحقه، و كان حلفهم في دار ابن جدعان، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «لقد شهدت حلفا في دار ابن جدعان ما أحبّ أنّ لي به حمر النّعم، و لو دعيت به(1) لأجبت».

فقال قوم من قريش: هذا و اللّه فضل من الحلف؛ فسمّى حلف الفضول.

قال: و قال آخرون: تحالفوا على مثل حلف تحالف عليه قوم من جرهم في هذا الأمر ألاّ يقرّوا ظلما ببطن مكة إلاّ غيّروه، و أسماؤهم الفضل بن شراعة، و الفضل بن قضاعة، و الفضل بن سماعة(2).

/قال: و حدثني محمد بن فضالة، عن عبد اللّه بن سمعان، عن ابن شهاب، قال:

كان شأن حلف الفضول أنّ بدء ذلك أنّ رجلا من بني زبيد قدم مكة معتمرا في الجاهلية و معه تجارة له، فاشتراها منه رجل من بني سهم، فأواها إلى بيته، ثم تغيّب، فابتغى متاعه الزّبيديّ، فلم يقدر عليه، فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه، فأغلظوا عليه، فعرف أن لا سبيل إلى ماله؛ فطوّف في قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل عنه، فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها في المسجد، ثم قال:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته *** ببطن مكّة نائي الدار و النّفر

و محرم شعث لم يقض عمرته *** يا آل فهر و بين الحجر و الحجر

أ قائم من بني سهم بخفرتهم(3) *** فعادل أم ضلال مال معتمر

الحلف ينعقد في دار عبد اللّه بن جدعان و رسول اللّه معهم

فلما نزل أعظمت قريش ذلك، فتكلموا فيه، فقال المطيّبون: و اللّه لئن قمنا في هذا ليغضبنّ الأحلاف، و قال الأحلاف: و اللّه لئن تكلّمنا في هذا ليغضبنّ المطيّبون، و قال ناس من قريش: تعالوا فليكن حلفا فضولا دون المطيّبين و دون الأحلاف، فاجتمعوا في دار عبد اللّه بن جدعان، و صنع لهم طعاما يومئذ كثيرا، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يومئذ معهم، قبل أن يوحي اللّه إليه، و هو ابن خمس و عشرين سنة. فاجتمعت بنو هاشم و أسد/و زهرة و تيم، و كان الذي تعاقد عليه القوم: تحالفوا على ألاّ يظلم بمكة غريب و لا قريب و لا حرّ و لا عبد إلاّ كانوا معه، حتى يأخذوا له بحقّه، و يؤدّوا إليه مظلمته من أنفسهم و من غيرهم، ثم عمدوا إلى ماء من زمزم فجعلوه/في جفنة، ثم بعثوا، به إلى البيت، فغسلت به أركانه، ثم أتوا به فشربوه.

الرسول يشيد بحلف الفضول

قال: فحدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أمّ المؤمنين رضي اللّه عنها:

أنها سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلف الفضول، أما لو دعيت إليه اليوم لأجبت، و ما أحبّ أنّ لي به حمر النّعم، و أني نقضته».

قال: و حدثني عمر بن عبد العزيز العنبسيّ(4) أنّ الذي اشترى من الزّبيديّ المتاع العاص بن وائل السّهميّ.

ص: 185


1- في المختار: «و لو دعيت له اليوم».
2- كذا في م، و هامش أ: و ورد فيهما بعده: «فلان سقط من الكتاب»، و في ب، س، ج، أ: الفضل بن فلان. سقط من الكتاب.
3- أ: «هل مخفر من بني سهم بخفرتهم». و الخفرة: الذمة.
4- كذا في أ، ج، و في ب، س، م: «العبسي».
أهل الحلف و على أي شيء تحالفوا

و قال: أهل حلف الفضول بنو هاشم، و بنو المطلب، و بنو أسد بن عبد العزّى، و بنو زهرة، و بنو تيم، تحالفوا بينهم ألاّ يظلم بمكة أحد إلا كنّا جميعا مع المظلوم على الظالم، حتى نأخذ له مظلمته ممّن ظلمه شريفا أو وضيعا، منّا أو من غيرنا.

ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل، ثم قالوا: و اللّه لا نفارقك حتى تؤدّي إليه حقّه، فأعطى الرجل حقّه، فمكثوا كذلك لا يظلم أحد حقّه بمكة إلاّ أخذوه له. و كان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أنّ رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس، حتى أدخل في حلف الفضول. و ليس عبد شمس في حلف الفضول.

و حدثني محمد بن حسن، عن محمد بن طلحة، عن موسى بن عبد اللّه بن إبراهيم، عن أبيه، و عن محمد بن فضالة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، و عن إبراهيم بن محمد، و عن أبي عبد اللّه بن الهاد:

/أنّ بني هاشم و بني المطلب و بني أسد بن عبد العزّى و تيم بن مرّة احتلفوا على ألاّ يدعوا بمكة كلها، و لا في الأحابيش(1) مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلاّ أنجدوه، حتى يردّوا عليه مظلمته، أو يبلوا في ذلك عذرا، أو على ألاّ يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلاّ أخذوه، و على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر - و بذلك سمّي حلف الفضول - باللّه الغالب(2) أنّ اليد على الظالم حتى يأخذوا للمظلوم حقّه ما بلّ بحر صوفة(3)، و على التأسّي في المعاش.

قال محمد بن الحسن: قال محمد بن طلحة في حديثه، عن موسى بن محمد عن أبيه، و عن محمد بن فضالة، عن أبيه، قال:

لم يكن بنو أسد بن عبد العزى في حلف الفضول، قال: و كان بعد عبد المطلب.

قال: و حدثني محمد بن الحسن، عن عيسى بن يزيد بن دأب، قال: أهل حلف الفضول: هاشم، و زهرة، و تيم. قال: و قيل له: فهل لذلك شاهد من الشعر؟ قال: نعم، قال: أنشدني بعض أهل العلم قول بعض الشعراء:

تيم بن مرّة إن سألت و هاشم *** و زهرة الخير في دار ابن جدعان

متحالفون على النّدى ما غرّدت *** ورقاء في فنن من جزع كتمان

/فقيل له: و أين كتمان؟ فقال: واد بنجران(4)؛ فجاء ببيتين مضطربين مختلفي النصفين.

و حدثني أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة، قال:

تداعى بنو هاشم و بنو المطلب و بنو أسد بن عبد العزّى و بنو زهرة بن كلاب و تيم بن مرّة إلى حلف الفضول، فاجتمعوا في دار عبد اللّه بن جدعان، فتحالفوا عنده، و تعاقدوا ألاّ يجدوا بمكة مظلوما من أهلها و لا من غيرهم

ص: 186


1- الأحابيش: أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في الحرب التي وقعت بينهم و بين قريش قبل الإسلام؛ سموا بذلك لاسودادهم. و قيل: إنهم سموا باسم جبل حبشي بأسفل مكة؛ و ذلك أن بني المصطلق و بني الهون بن خزيمة اجتمعوا عنده، فحالفوا قريشا و قالوا: إنا ليد على غيرنا ما سجا ليل و وضح نهار. و ما أرسى حبشي مكانه. «اللسان» (حبش).
2- أ: «القائل» و في هامشه من نسخة: «الغالب».
3- ما بل بحر صوفة، أي أبدا. و صوف البحر: شيء على شكل الصوف الحيواني. و من الأبديات قولهم: لا آتيك ما بل بحر صوفة، و حكى اللحياني: ما بل البحر صوفة. (اللسان - «صوف»).
4- في البلدان: قال أبو منصور: كتمان: اسم بلد في بلاد قيس. و قال غيره: كتمان: واد بنجران.

/إلاّ قاموا معه على من ظلمه حتى يردّوا مظلمته. و شهد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم هذا الحلف قبل أن يبعث، فهذا حلف الفضول.

قال: و حدثني إبراهيم بن حمزة عن جدّي عبد اللّه بن مصعب، عن أبيه، قال: إنما سمّي حلف الفضول(1) لأنه كان في جرهم رجال يردّون المظالم يقال لهم: فضيل و فضّال و فضل و مفضل، قال: فلذلك سمّي حلف الفضول، تعاقدوا أن يردّوا المظالم.

قال: فتحالفوا باللّه الغالب لنأخذنّ للمظلوم من الظالم، و للمقهور من القاهر، ما بلّ بحر صوفة.

قال: و قال أبي: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم:

«فشهدت حلفا في دار عبد اللّه بن جدعان لم يزده الإسلام إلا شدة، /و لهو أحبّ إلى من حمر النّعم»، قال:

و قال غيره: «لو دعيت إليه لأجبت».

رواية أخرى في سبب تسميته

قال: و حدثني محمد بن حسن، عن نوفل بن عمارة عن إسحاق بن الفضل قال: إنّما سمّت قريش هذا الحلف حلف الفضول؛ لأن نفرا من جرهم يقال لهم: الفضل و فضّال و الفضيل، تحالفوا على مثل ما تحالفت عليه هذه القبائل.

قال: و حدثني رجل عن محمد بن حسن، عن محمد بن فضالة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:

أنها قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «لقد شهدت في دار ابن جدعان حلف الفضول، أما لو دعيت إليه لأجبت، و ما أحبّ أنّي نقضته، و أنّ لي حمر النّعم».

قال الزّبير: و حدثني علي بن صالح عن جدّي عبد اللّه بن مصعب، عن أبيه:

أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال: «و الذي نفسي بيده، لقد شهدت في الجاهلية حلفا - يعني حلف الفضول - أما لو دعيت إليه اليوم لأجبت، لهو أحبّ إليّ من حمر النعم، لا يزيده الإسلام إلا شدّة».

قال: و حدثني أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة، قال: حدثني رجل عن محمد بن يزيد الليثيّ، قال: سمعت طلحة بن عبد اللّه بن عوف الزّبيريّ، يقول:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا ما أحبّ أنّ لي به حمر النعم، و لو أدعى إليه في الإسلام لأجبت».

قال: و حدثني محمد بن حسن، عن نصر بن مزاحم، عن معروف بن خرّبوذ، قال:

/تداعت بنو هاشم و بنو المطلب و أسد و تيم، فاحتلفوا على ألاّ يدعوا بمكة كلّها و لا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلاّ أنجدوه، حتى يردّوا إليه مظلمته، أو يبلوا في ذلك عذرا. و كره ذلك سائر المطيّبين(2)و الأحلاف من أمره(3)، و سمّوه حلف الفضول، عيبا له، و قالوا: هذا من فضول القوم، فسمّوه حلف الفضول.

ص: 187


1- في «اللسان» (فضل): و سمي حلف الفضول، لأنه قام به رجال من جرهم كلهم يسمى الفضل: الفضل بن الحارث، و الفضل بن وداعة، و الفضل بن فضالة؛ فقيل: حلف الفضول، جمعا لأسماء هؤلاء، كما يقال: سعد و سعود.
2- كذا في أ، ج، م، و في ب، س: «المكيبين».
3- كذا في أ، و في ب، س: «و الأحلاف من أمرهم».

قال: و حدثني محمد بن حسن، عن إبراهيم بن محمد، عن يزيد بن عبد اللّه بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، قال:

كان حلف الفضول بين بني هاشم و بني أسد و بني زهرة و بني تيم.

قال: فحدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزّهريّ، عن محمد بن حبيب، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «شهدت مع عمومتي حلف المكّيين، فما أحبّ أنّ لي حمر النّعم و أني أنكثه».

قال: و حدثني محمد بن الحسن، عن محمد بن طلحة، عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد اللّه التيميّ:

أنه بلغه أنّ الذي بدأ بحلف الفضول من هذه القبائل أمر الغزال الذي سرق من الكعبة.

ابن جبير بن مطعم و عبد الملك بن مروان

/حدثني محمد بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن طلحة، عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ، عن أبيه، قال:

قدم ابن جبير بن مطعم على عبد الملك بن مروان، و كان من حلفاء/قريش.

بنو عبد شمس و بنو نوفل لم يكونا في حلف الفضول

فقال له عبد الملك: يا أبا سعيد، لم يكن بنو عبد شمس و أنتم - يعني بني نوفل - في حلف الفضول، قال:

و أنتم أعلم يا أمير المؤمنين، قال: لتحدّثني بالحق من ذلك، قال: لا و اللّه يا أمير المؤمنين، لقد خرجنا نحن و أنتم منه، و لم تكن يدنا و يدكم إلاّ جميعا في الجاهلية و الإسلام.

الوليد بن عتبة ينصف الحسين بن علي

قال: و حدثني محمد بن حسن، عن إبراهيم بن محمد بن يزيد بن عبد اللّه بن الهاد اللّيثيّ أنّ محمد بن الحارث التيميّ أخبره:

أنه كان بين الحسين بن عليّ عليهما السلام و بين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كلام - و الوليد يومئذ أمير المدينة في زمن معاوية بن أبي سفيان - في مال كان بينهما بذي المروة(1)، فقال الحسين بن عليّ عليهما السلام:

استطال عليّ الوليد بن عتبة في حقّي بسلطانه، فقلت: أقسم باللّه لتنصفنّي في حقّي أو لآخذنّ سيفي، ثم لأقومنّ في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، ثم لأدعونّ بحلف الفضول، قال: فقال عبد اللّه بن الزّبير - و كان عند الوليد لما قال الحسين ما قال -: و أنا أحلف باللّه لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثم لأقومنّ معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا. فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهريّ، فقال مثل ذلك، فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد اللّه التيميّ، فقال مثل ذلك. فلما بلغ الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقّه حتى رضي.

ص: 188


1- ذو المروة: قرية بوادي القرى. و قيل: بين خشب و وادي القرى. «البلدان».

قال: و حدثني أبو الحسن الأثرم عليّ بن المغيرة، عن أبي عبيدة، قال: حدثني رجل عن يزيد بن عبد اللّه بن أسامة الليثيّ:

أنّ محمد بن إبراهيم التيميّ حدّثه مثل حديث محمد بن حسن الذي قبل هذا.

الحسين بن علي ينازع معاوية في أرض له

قال: و حدثني إبراهيم بن حمزة، عن جدّي عبد اللّه بن مصعب، عن أبيه أنّ الحسين بن عليّ عليهما السلام كان بينه و بين معاوية كلام في أرض له، فقال له الحسين عليه السلام: اختر خصلة من ثلاث خصال: إما أن تشتري مني حقي، و إما أن تردّه عليّ، أو تجعل بيني و بينك ابن الزبير و ابن عمر، و الرابعة الصّيلم، قال: و ما الصّيلم؟ قال: أن أهتف بحلف الفضول، قال: فلا حاجة لنا بالصّيلم.

قال: فخرج و هو مغضب، فمرّ بعبد اللّه بن الزّبير فأخبره، فقال: و اللّه لئن لم ينصفني لأهتفنّ بحلف الفضول، فقال عبد اللّه بن الزبير: و اللّه لئن هتفت به و أنا مضطجع لأقعدنّ أو قاعد لأقومنّ، و لئن هتفت به و أنا ماش لأسعينّ، ثم لينفدنّ روحي(1) مع روحك، أو لينصفنّك.

قال: فخرج عبد اللّه بن الزّبير فدخل على معاوية فباعه منه، و خرج عبد اللّه فجاء إلى الحسين عليه السلام، فقال: أرسل فانتقد مالك، فقد بعته لك.

قال: و حدثني عليّ بن صالح، عن جدّي عبد اللّه بن مصعب، عن أبيه، قال:

خرج الحسين عليه السلام من عند معاوية، فلقي عبد اللّه بن الزبير، و الحسين مغضب، فذكر الحسين أن معاوية ظلمه في حقّ له، فقال الحسين: أخيّره في ثلاث خصال، و الرابعة الصّيلم: أن يجعلك أو ابن عمر بيني و بينه، أو يقرّ بحقي، ثم يسألني فأهبه له، أو يشتريه منّي، فإن لم يفعل فو الذي نفسي بيده لأهتفنّ بحلف الفضول.

قال ابن الزبير: و الذي نفسي بيده لئن هتفت به و أنا قاعد لأقومنّ أو قائم/لأمشينّ، أو ماش لأشتدنّ، حتى تفنى روحي مع روحك أو ينصفك.

/قال: ثم ذهب ابن الزبير إلى معاوية، فقال: لقيني الحسين فخيّرك في ثلاث خصال، و الرابعة الصّيلم. قال معاوية: لا حاجة لنا بالصّيلم؛ إنك لقيته مغضبا، فهات الثلاث، قال: تجعلني أو ابن عمر بينك و بينه، قال: فقد جعلتك بيني و بينه أو ابن عمر أو جعلتكما، قال: أو تقرّ له بحقّه و تسأله إياه، قال: أنا أقرّ له بحقّه و أسأله إياه، قال: أو تشتريه منه، قال: و أنا أشتريه منه، قال: فلما انتهى إلى الرابعة قال لمعاوية كما قال للحسين عليه السلام:

إن دعاني إلى حلف الفضول لأجبته، فقال معاوية: لا حاجة لنا بهذا.

رجل من ثمالة يشكو أبيّ بن خلف إلى حلف الفضول

قال: و بلغني أنّ عبد الرحمن بن أبي بكرة و المسور بن مخرمة قالا للحسين بن عليّ عليهما السلام مثل ما قال ابن الزبير، فبلغ ذلك معاوية و عنده جبير بن مطعم، فقال له معاوية: يا أبا محمد، أ كنّا في حلف الفضول؟ قال:

لا، قال: فكيف كان؟ قال: قدم رجل من ثمالة فباع سلعة له من أبيّ بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح،

ص: 189


1- في المختار: «ثم لآتينك حتى تفنى روحي مع روحك أو ينصفك»، و ستأتي هذه الرواية.

فظلمه، و كان يسيء المخالطة فأتى الثماليّ إلى أهل حلف الفضول فأخبرهم، فقالوا: اذهب فأخبره أنك أتيتنا، فإن أعطاك حقّك و إلا فارجع إلينا، فأتاه فأخبره بما قال له أهل حلف الفضول، قال: فأخرج إليه ماله، و أعطاه إياه بعينه، و قال:

أ يأخذني في بطن مكّة ظالما *** أبيّ و لا قومي لديّ و لا صحبى

و ناديت قومي صارخا ليجيبنى(1) *** و كم دون قومي من فياف و من سهب(2)

و يأبى لكم حلف الفضول ظلامتي *** بني جمح و الحقّ يؤخذ بالغصب

القيني يستصرخ عبد اللّه بن جدعان

و قد روى إبراهيم بن المنذر الحزاميّ في أمر حلف الفضول غير ما رواه الزبير، قال إبراهيم: حدثني عبد العزيز بن عمران، قال:

قدم أبو الطمحان القينيّ الشاعر، و اسمه حنظلة بن الشرقيّ، فاستجار عبد اللّه بن جدعان التيمي و معه مال له من الإبل، فعدا عليه قوم من بني سهم فانتحروا ثلاثة من إبله، و بلغه ذلك فأتاهم بمثلها، فقال: أنتم لها و لأكثر منها أهل، فأخذوها فانتحروها، ثم أمسكوا عنه زمانا، ثم جلسوا على شراب لهم، فلما انتشوا غدوا على إبله فأساقوها كلها، فأتى عبد اللّه بن جدعان يستصرخه، فلم يكن فيه و لا في قومه قوة ببني سهم، فأمسك عنهم و لم ينصره، فقال أبو الطمحان(3):

ألا حنّت المرقال و اشتاق ربّها *** تذكّر أرماما و أذكر معشري(4)

و لو علمت صرف البيوع لسرّها(5) *** بمكة أن تبتاع حمضا بإذخر

أجدّ بني الشّر فيّ أنّ أخاهم *** متى يعتلق جارا و إن عزّ يغدر

إذا قلت واف أدركته دروكه *** فيا موزع الجيران بالغيّ أقصر

ثم ارتحل عنهم.

لميس بن سعد يستجير بقريش من ظلم أبي بن خلف

و وفد لميس بن سعد البارقيّ مكة، فاشترى منه أبيّ بن خلف سلعة، فظلمه إياها، فمشى في قريش فلم يجره أحد، فقال:

أ يظلمني مالي أبيّ سفاهة *** و بغيا و لا قومي لديّ و لا صحبي

ص: 190


1- ب، س: «لتجيبني»، و المثبت من باقي النسخ.
2- السهب، بضم السين: المستوى من الأرض في سهولة. و ضبط في أ بفتح السين. و السهب، بالفتح: الفلاة. «اللسان» (سهب).
3- الشعراء 348، و الأغاني 178:11.
4- ب، س: «أزمانا»، و المثبت يوافق ما في «اللسان» و باقي النسخ. و في الشعراء: «و ائتب ربها»، أي تهيأ للذهاب و تجهز، و أرمام: موضع بعينه.
5- ج: بيثرب، و البيت في الكامل 427، و الحمض: بفتح الحاء، نبات لا يهيج في الربيع و يبقى على القيظ و فيه ملوحة، إذا أكلته الإبل شربت عليه، و إذا لم تجده رقت و ضعفت. و هو فاكهة الإبل. و الإذخر: الحشيش الأخضر.

و ناديت قومي بارقا لتجيبني *** و كم دون قومي من فياف و من سهب

و رجل آخر من زبيد يستجير بقريش

/ثم قدم رجل من بني زبيد، فاشترى منه رجل من بني سهم يقال له: حذيفة سلعة، و ظلمه حقّه، فصعد الزبيديّ(1) على أبي قبيس، ثم نادى بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته *** ببطن مكّة نائي الحيّ و النّفر

يا آل فهر لمظلوم و مضطهد *** بين المقام و بين الركن و الحجر

إنّ الحرام لمن تمّت حرامته *** و لا حرام لثوب الفاجر الغدر

فأعظم الزّبير بن عبد المطلب ذلك، و قال: يا قوم، إني و اللّه لأخشى أن يصيبنا ما أصاب الأمم السالفة من ساكني مكّة، فمشى إلى ابن جدعان، و هو يومئذ شيخ قريش، فقال له في ذلك، و أخبره بظلم بني سهم و بغيهم، و قد كان أصاب بني سهم أمران لا يشكّ أنهما للبغي: احتراق المقاييس منهم، و هم قيس و مقيس و عبد قيس بصاعقة، و أقبل منهم ركب من الشام، فنزلوا بماء يقال له القطيعة(2)، فصبّوا فضلة خمر لهم في إناء، و شربوا ثم ناموا، و قد بقيت منهم بقية فكرع منها حيّة أسود، ثم تقيأ في الإناء، فهبّ القوم فشربوا منه، فماتوا عن آخرهم، فأذكره هذا و مثله، فتحالف بنو هاشم و بنو المطلب و بنو زهرة و بنو تيم: باللّه الغالب(3)، إنا ليد واحدة على الظالم، حتى يردّ الحق.

و خرج سائر قريش من هذا الحلف. إلا أنّ ابن الزبير ادّعاه لبني أسد في الإسلام. قال: فأخبرني الواقديّ و غيره أن محمد بن جبير بن مطعم دخل على عبد الملك بن مروان، فسأله عن حلف الفضول فقال: أما أنا و أنت /يا أمير المؤمنين فلسنا فيه، فقال: صدقت و اللّه، إني لأعرفك بالصدق، قال: فإنّ ابن الزبير يدّعيه، فقال: ذاك هو الباطل.

قال: و كان عتبة بن ربيعة يقول: لو أنّ رجلا خرج عن قومه إلى غيرهم لكرم حلف لخرجت عن قومي إلى حلف الفضول.

أقوال أخرى في سبب تسمية حلف الفضول

قال الواقديّ: قد اختلف فيه، لم سمّي حلف الفضول؛ فقيل: إنه سمّي بذلك لأنهم قالوا: لا ندع لأحد عند أحد فضلا إلاّ أخذناه منه، و قيل: بل سمع بهذا بعض من لم يدخل فيه، فقال: هذا فضول من الأمر.

و قال الواقديّ: و الصحيح أن قوما من جرهم يقال لهم فضل و فضالة و فضّال و مفضّل تحالفوا على مثل هذا في أيامهم، فلما تحالفت قريش هذا الحلف سموا بذلك.

ص: 191


1- أ: «الزبيري»، و المثبت من باقي الأصول و هو يوافق ما في السيرة الحلبية.
2- أ: «الغطيفة»، تحريف.
3- كذا فى أ، ج، م، و في ب، س: «القاتل».
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت

يا للرّجال لمظلوم بضاعته *** ببطن مكّة نائي الدار و النفر

إنّ الحرام لمن تمّت حرامته *** و لا حرام لثوبي لابس الغدر

غنّاه ابن عائشة، ثقيل أول بالبنصر، عن حبش.

يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الإسلام
اشارة

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعيّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا المدائنيّ، عن ابن أبي سبرة، عن لقيط بن نصر المحاربيّ، قال:

كان يزيد بن معاوية أول من سنّ الملاهي في الإسلام من الخلفاء، و آوى المغنّين، و أظهر الفتك و شرب الخمر، و كان ينادم عليها سرجون/النّصرانيّ مولاه و الأخطل، و كان يأتيه/من المغنّين سائب خاثر فيقيم عنده، فيخلع عليه و يصله، فغنّاه يوما:

يا للرّجال لمظلوم بضاعته *** ببطن مكة نائي الأهل و النّفر

فاعترته أريحيّة، فرقص حتى سقط، ثم قال: اخلعوا عليه خلعا يغيب فيها حتى لا يرى منه شيء، فطرحت عليه الثياب و الجباب و المطارف و الخزّ حتى غاب فيها.

صوت

اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا *** في رأس غمدان دارا منك محلالا

تلك المكارم لا قعبان من لبن *** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

عروضه ++ من البسيط.

المرتفق: المتّكئ على مرفقه. و غمدان: اسم قصر كان لسيف بن ذي يزن باليمن. و المحلال. الدار التي يحلّ فيها، أي يقيم فيها. و شيبا: معناه خلطا. و الشوب: الخلط، يقال: شاب كذا بكذا إذا خلطهما.

الشعر لأميّة بن أبي الصلت الثقفيّ(1)، و قيل: بل هو للنابغة الجعديّ، و هذا خطأ من قائله؛ و إنما أدخل النابغة البيت الثاني من هذه الأبيات في قصيدة له على جهة التضمين. و الغناء لسائب خاثر خفيف رمل بالوسطى، من رواية حماد عن أبيه، و فيه لطويس لحن من كتاب يونس الكاتب غير مجنّس(2).

ص: 192


1- البيتان من قصيدة في ديوانه 54 في مدح سيف بن ذي يزن؛ قال في الديوان: و أكثر الرواة يرويها لأبيه، و بعضهم لجده زمعة.
2- بعده في نسخة أ، م: «تم الجزء الخامس عشر من كتاب «الأغاني الكبير» لأبي الفرج الأصفهاني، يتلوه بمشيئة اللّه و عونه في الجزء السادس عشر نسب أمية بن أبي الصلت و خبره في قول هذا الشعر».

26 - نسب أمية بن أبي الصلت و خبره في قوله هذا الشعر

نسبه

أبو الصّلت عبد اللّه بن أبي ربيعة بن عمرو(1) بن عقدة بن عنزة(2) بن عوف بن قسيّ(3)، و هو ثقيف. شاعر من شعراء الجاهلية قديم. و هذا الشعر يقوله في سيف بن ذي يزن لما ظفر بالحبشة يهنّيه بذلك و يمدحه.

سيف بن ذي يزن يستنجد كسرى

و كان السبب في قدوم الحبشة اليمن و غلبتهم عليها و خروج سيف بن ذي يزن إلى كسرى يستنجد عليهم أنّ ملكا من ملوك اليمن يقال له: ذو نواس غزا أهل نجران، و كانوا نصارى، فحصرهم؛ ثم إنه ظفر بهم فخدّد لهم الأخاديد، و عرضهم على اليهودية فامتنعوا من ذلك، فحرّقهم بالنار، و حرق الإنجيل، و هدم بيعتهم، ثم انصرف إلى اليمن، و أفلت منه رجل يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس، فركضه حتى أعجزهم في الرّمل.

دوس ذو ثعلبان يستنجد قيصر

و مضى دوس إلى قيصر ملك الرّوم يستغيثه و يخبره بما صنع(4) ذو نواس بنجران، و من قتل من النصارى، و أنه خرب كنائسهم، و بقر النساء، و هدم الكنائس، فما فيها ناقوس يضرب به. فقال له قيصر: بعدت بلادي عن بلادكم، و لكن أبعث إلى قوم من أهل ديني، أهل مملكته قريب منكم فينصرونكم. قال دوس ذو ثعلبان؛ فذاك إذا، قال قيصر: إن هذا الذي أصنعه(5) بكم أذلّ للعرب أن/يطأها سودان ليس ألوانهم على ألوانهم، و لا ألسنتهم على ألسنتهم، فقال الملك: انظر لأهل دينه إنما هم خوله.

قيصر يكتب إلى ملك الحبشة بنصرة دوس

فكتب إلى ملك الحبشة أن انصر هذا الرجل الذي جاء يستنصرني، و اغضب للنصرانية، فأوطئ بلادهم الحبشة.

أرياط يخرج في جيش كبير إلى اليمن

فخرج دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر إلى ملك الحبشة، فلما قرأ كتابه أمر أرياط - و كان عظيما من

ص: 193


1- مختار الأغاني و الإصابة (القسم الرابع، حرف الهمزة): «بن عوف».
2- في الإصابة: غيرة، و في ج، م: «غمرة».
3- كذا في ب، جو الشعراء، و في أ، م: «قيس».
4- أ: «و يخبره ما صنع».
5- أ: «صنعت».

عظمائهم(1) - أن يخرج معه فينصره. فخرج أرياط في سبعين ألفا من الحبشة، و قوّد على جنده قوّادا من رؤسائهم، و أقبل بفيله، و كان معه أبرهة بن الصباح. و كان في عهد ملك الحبشة إلى أرياط: /إذا دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها، و خرب ثلث بلادها، و ابعث إليّ بثلث نسائها.

فخرج أرياط في الجنود فحملهم في السفن في البحر، و عبر بهم حتى ورد اليمن، و قد قدّم مقدمات الحبشة، فرأى أهل اليمن جندا كثيرا، فلما تلاحقوا قام أرياط في جنده خطيبا فقال: يا معشر الحبشة، قد علمتم أنكم لن ترجعوا إلى بلادكم أبدا، هذا البحر بين أيديكم إن دخلتموه غرقتم، و إن سلكتم البرّ هلكتم، و اتخذتكم العرب عبيدا، و ليس لكم إلاّ الصبر حتى تموتوا أو تقتلوا عدوّكم.

انتصار أرياط على ذي نواس

فجمع ذو نواس جمعا كثيرا، ثم سار إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الدولة للحبشة، فظفر أرياط، و قتل أصحاب ذي نواس، و انهزموا في كل وجه. فلما تخوّف ذو نواس أن سيؤسر ركض فرسه، و استعرض به البحر، و قال: الموت بالبحر أحسن من إسار أسود، ثم أقحم فرسه لجّة البحر، فمضى به فرسه، و كان آخر العهد به.

/ثم خرج إليهم ذو جدن الهمدانيّ في قومه، فناوشهم، و تفرّقت عنه همدان، فلما تخوّف على نفسه قال:

ما الأمر إلاّ ما صنع ذو نواس، فأقحم فرسه البحر، فكان آخر العهد به.

و دخل أرياط اليمن، فقتل ثلثا، و بعث ثلث السبي إلى ملك الحبشة، و خرب ثلثا، و ملك اليمن، و قتل أهلها، و هدم حصونها، و كانت تلك الحصون بنتها الشياطين في عهد سليمان لبلقيس، و اسمها بلقمة، و كان مما خرب من حصونهم: سلحون، و بينون، و غمدان، حصونا لم ير مثلها. فقال الحميريّ(2)، و هو بذكر ما دخل على حمير من الذلّ:

هونك أين تردّ العين ما فاتا *** لا تهلكن أسفا في إثر من فاتا

أبعد بينون لا عين و لا أثر *** و بعد سلحون يبني الناس أبياتا!

قال: فلما ظفر أرياط أخذ الأموال، و أظهر العطاء في أهل الشرف، فغضبت الحبشة حين أعطى أشرافهم، و ترك أهل الفقر منهم، و استذلّهم و أجاعهم و أعراهم و أتعبهم في العمل، و كلّفهم ما لا يطيقون، فجزع من ذلك الفقراء، و شكا ذلك بعضهم إلى بعض، و قالوا: ما نرانا إلاّ أذلّة أشقياء أينما كنّا، إن كان قتال قدّمنا في نحور العدوّ، و إن كان قتل قتلنا، و إن كان عمل فعلينا، و البلايا علينا، و العطايا لغيرنا، مع ما يقصينا و يجفونا.

ص: 194


1- أ: «أمر أرياط عظيما».
2- هو ذو جدن الحميري؛ كما في البلدان (بينون)، و البيتان مع آخر هناك، و الرواية فيه: لا تهلكن جزعا في إثر من ماتا فإنه لا يرد الدهر ما فاتا و في أ، ج: «... في إثر ما فاتا»، و الشعر في الطبري 125:2، و فيه: «... يرد الدمع... لا تهلكي»، و في «ياقوت». (سلحين): يا خلتي ما يرد الدمع ما فاتا لا تهلكي أسفا في إثر من فاتا
أبرهة يحرض فقراء الحبشة على أرياط

فقال لهم عند ذلك رجل من الحبشة يقال له أبرهة من قوّاد أرياط: لو أن رجلا غضب لغضبكم إذا لأسلمتموه حتى يذبح كما تذبح الشاة. قالوا: لا و المسيح، ما كنّا نسلمه أبدا، فواثقوه بالإنجيل ألاّ يسلموه(1) حتى يموتوا عن آخرهم.

فنادى مناديه فيهم، فاجتمعوا إليه فبلغ ذلك أرياط أنّ أبا أصحم أبرهة جمع لك الجموع، و دعا الناس إلى قتالك. قال: أو قد فعل ذلك أبرهة، و هو ممن لا بيت له في الحبشة! و غضب أرياط غضبا شديدا، و قال: هو أدنى من ذلك نفسا و بيتا، هذا باطل.

قالوا: فأرسل إليه؛ فإن أتاك فهو باطل، و إن لم يأتك فاعلم أنه كما يقال، فأرسل إليه: أجب الملك أرياط.

فجثا أبرهة على ركبتيه و خرّ لوجهه، و أخذ عودا من الأرض فجعله في فيه، و قال للرسول: اذهب إلى الملك فأخبره بما رأيت مني، أنا أخلعه؟ أنا أشدّ تعظيما له من ذلك! و أنا آتيه على أربع قوائم بحساب البهيمة.

فرجع الرسول إلى الملك فأخبره بالخبر، /فقال: أ لم أقل لكم؟ قالوا: الملك أعقل و أعلم منّا.

فلما ولّى الرسول من عند أبرهة و توارى عنه صاح أبرهة في الفقراء من الحبشة، فاجتمعوا إليه معهم السلاح، و الآلة التي كانوا يعملون بها و يهدمون بها مدن اليمن: المعاول و الكرازين(2) و المساحي، ثم صفّوا صفّا، و صفّوا خلفه آخر بإزائه. فلما أبطأ أبرهة على الملك و هو يرى أنه يأتيه على أربع قوائم كما قال، و أتى الرسول أرياط فأخبره بما صنع أبرهة، ركب في الملوك و من تبعه/من أتباعهم، فلبسوا السلاح و جاءوا بالفيلة، و كان معه سبعة فيلة، حتى إذا دنا بعضهم من بعض برز أبرهة بين الصّفّين، فنادى بأعلى صوته: يا معشر الحبشة، اللّه ربّنا، و الإنجيل كتابنا، و عيسى نبيّنا، و النجاشيّ ملكنا، علام يقتل بعضنا بعضا في مذهب النصرانية؟ هذا رجل و أنا رجل فخلّوا بيني و بينه، فإن قتلني عاد الملك إلى ما كان عليه من أثرة الأغنياء و هلاك الفقراء، و إن قتلته سلمتم و عملت فيكم بالإنصاف بينكم ما بقيت.

فقال الملوك لأرياط: قد أخبرناك أنه صنع ما قد ترى، و قد أبيت(3) إلاّ حسن الرأي فيه، و قد أنصفك. و كان أرياط قد عرف بالشجاعة و النجدة، و كان جميلا، و كان أبرهة قصيرا دميما قبيحا منكر الجمّة(4)، فاستحيا أرياط من الملوك أن يجبن، فبرز بين الصفّين، و مشى أحدهما إلى صاحبه، و حمل عليه أرياط فضرب أبرهة ضربة وقع منها حاجباه و عامّة أنفه، و وقع بين رجلي أرياط، فعمد أبرهة إلى عمامته فشدّ بها وجهه، فسكن الدّم و التأم الجرح، و أخذ عودا و جعله في فيه، و قال: أيها الملك، إنما أنا شاة فاصنع ما أردت، فقد أبصرت أمري. ففرح أرياط بما صنع، و كان أبرهة قد سمّ خنجرا، و جعله في بطن فخذه، كأنه خافية نسر.

ص: 195


1- كذا في أ، ح و في ب، س: «لا يسلموه».
2- الكرزن، بالفتح، و قد يكسر، و الكرزن: فأس كبير.
3- كذا في أ، ح، و في ب، س: «أبنت أحسن الرأي فيه».
4- الجمة، بضم الجيم: مجتمع شعر الرأس.
أبرهة يقتل أرياط و يتولى ملك اليمن

فلما رأى أبرهة أنّ أرياط قد أفلت عنه، و هو ينظر يمينا و شمالا؛ لئلاّ تراه ملوك الحبشة، استلّ خنجره فطعنه طعنة في فرج درعه فأثبته(1)، و خرّ أرياط على قفاه، و قعد أبرهة على صدره فأجهز عليه. فسمى أبرهة الأشرم بتلك الضّربة التي شرمت وجهه و أنفه.

فملك أبرهة عشرين سنة، ثم ملك بعد أبرهة ابنه يكسوم، ثم أخوه مسروق بن أبرهة، و أمه ريحانة امرأة ذي يزن أمّ سيف بن ذي يزن الحميريّ.

سيف بن ذي يزن يسعى لتخليص اليمن من حكم الحبشة

[فلما طال على أهل اليمن البلاء مشوا إلى سيف بن ذي يزن الحميريّ](2) فكلّموه في الخروج، و قالوا إنّا نجد فيما روت حمير(3) عن خبر لسطيح أنه يوشك أنّ هذا البلاء يفرج بيد رجل من أهل بيتك ابن ذي يزن، و قد رجونا أن ندرك بثأرنا، فأنعم لهم. فخرج إلى قيصر ملك الروم، فكلّمه أن ينصره على الحبشة، فأبى، و قال:

الحبشة على ديني و دين أهل مملكتي، و أنتم على دين يهود، فخرج من عنده يائسا.

النعمان يصحب سيفا إلى كسرى

فخرج عامدا إلى كسرى، فانتهى إلى النعمان بن المنذر بالحيرة فدخل عليه، فأخبره بما لقي قومه من الحبشة، فقال: أقم؛ فإنّ لي على الملك كسرى إذنا في كلّ سنة، و قد حان ذلك.

فلما خرج أخرج معه سيف بن ذي يزن فأدخله على كسرى، فقال: غلبنا على بلادنا، و غلب الأحابيش علينا، و أنا أقرب إليك منهم، لأني أبيض و أنت أبيض، و هم سودان. فقال: بلادك بلاد بعيدة، و لا أبعث معك جيشا في غير منفعة، و لا أمر أخافه على ملكي.

فلما أيأسه من النّصر أمر له بعشرة آلاف درهم واف، و كساه كسا.

فلما خرج بها من باب/كسرى نثرها بين الصّبيان و العبيد، فرأى ذلك أصحاب كسرى، فقالوا ذلك له؛ فأرسل إليه: لم صنعت بجائزة الملك؟ تنثرها للصّبيان و الناس؟ فقال سيف: و ما أعطاني الملك! جبال أرضى ذهب و فضّة، جئت إلى الملك ليمنعني من الظّلم، و لم آته ليعطيني الدراهم، و لو أردت الدراهم كان ذلك في بلدي كثيرا.

فقال كسرى: انظر في أمرك. فخرج سيف على طمع، و أقام عنده/فجعل سيف كلما ركب كسرى عرض له، فجمع له كسرى مرازبنه، و قال: ما ترون في هذا العربيّ، و قد رأيته رجلا جلدا؟ فقال قائل منهم: إن في السجون قوما قد سجنهم الملك في موجدة عليهم، فلو بعثهم الملك معه فإن قتلوا استراح منهم، و إن ظفروا بما يريد هذا العربيّ فهو زيادة في ملك الملك. فقال كسرى: هذا الرأي.

ص: 196


1- أثبته: جعله لا يقدر على الحراك. و رواية «الطبري» أن الذي طعنه غلام أكمنه أبرهة.
2- تكملة من المختار.
3- كذا في أ، ما و في ب، س، ج، م: «في هاروت»، تصحيف.
كسرى يعين سيفا بجيش يقوده و هرز

و أمر بهم كسرى فأحضروا فوجد ثمانمائة رجل، فولّى أمرهم رجلا معهم يقال له و هرز، و كان راميا شجاعا مع مكانة في الفرس، و جهّزهم، و أعطاهم سلاحا، و حملهم في البحر في ثماني سفن، فغرقت سفينتان، و بقي من بقي و هم ستمائة رجل؛ فأرسوا إلى ساحل عدن، فلما أرسوا قال و هرز لسيف: ما عندك، فقد جئنا بلادك؟ فقال:

ما شئت من رجل عربيّ و فرس(1) عربي، ثم اجعل رجلي مع رجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا.

قال و هرز: أنصفت. فاستجلب سيف من استطاع من اليمن، ثم زحفوا إلى مسروق بن أبرهة، و قد سمع بهم مسروق و بتعبيتهم، فجمع إليه جنده من الحبشة، و سار إليهم، و التقى العسكران، و جعلت أمداد اليمن تثوب إلى سيف، و بعث و هرز ابنا له كان معه على جريدة خيل، فقال: ناوشوهم القتال، حتى ننظر قتالهم، فناوشهم ابنه، و ناوشوه شيئا من قتال، ثم تورّط ابنه في هلكة لم يستطع التخلّص منها؛ فاشتملوا عليه فقتلوه، فازداد و هرز عليهم حنقا. و سيّئ العرب، و فرحت الحبشة، فأظهروا الصليب، فوتّر و هرز قوسه، و كان لا يقدر أن يوتّرها غيره.

و هرز يقتل مسروقا

و قال و هرز و الناس في صفوفهم: انظروا أين ترون ملكهم؟ قال سيف(2): أرى رجلا قاعدا على فيل تاجه على رأسه، بين عينيه ياقوتة حمراء. قال: ذلك ملكهم. و قال و هرز: اتركوه. /ثم وقف طويلا، ثم قال: انظروا هل تحوّل؟ قالوا: قد تحوّل على فرس. قال: هذا منه اختلاط. ثم وقف طويلا، و قال: انظروا هل تحوّل؟ قالوا:

قد تحول على بغلة، فقال: ابنة الحمار، ذلّ الأسود و ذلّ ملكه، ثم قال لأصحابه: نقتله(3) في هذه الرّمية، تأمّلوا النشّابة، و أخذ النشّابة و جعل فوقها في الوتر، ثم نزع فيها حتى ملأها، و كان أيّدا(4)، ثم أرسلها فصكّت الياقوتة التي بين عيني ملكهم مسروق، فتغلغلت النشّابة في رأسه حتى خرجت من قفاه، و حملت عليهم الفرس، فانهزمت الحبشة في كل وجه، و جعلت حمير تقتل من أدركوا منهم، و تجهز على جريحهم.

و هرز يدخل صنعاء و يملك اليمن

و أقبل و هرز يريد أن يدخل صنعاء، و كان موضعهم الذي التقوا فيه خارج صنعاء، و كان اسم صنعاء: أزال(5)، فلما قدمت الحبشة بنوها و أحكموها، فقالت: صنعة؛ فسميت صنعاء، و كانت صنعاء مدينة لها باب صغير يدخل منه، فلما دنا و هرز من باب المدينة رآه صغيرا، فقال: لا تدخل رايتي منكّسة، اهدموا الباب، فهدم باب صنعاء، و دخل ناصبا رايته و سير بها بين يديه. فقال سيف بن/ذي يزن: ذهب ملك حمير آخر الدهر، لا يرجع إليهم أبدا.

فملك و هرز اليمن، و قهر الحبشة، و كتب إلى كسرى يخبره: إني قد ملكت للملك اليمن، و هي أرض العرب القديمة التي تكون فيها ملوكهم، و بعث بجوهر، و عنبر، و مال، و عود، و زباد(6)، و هو جلود لها رائحة طيّبة.

ص: 197


1- المثبت في أ، م، ح، و في ب، س: «قوس»، تصحيف.
2- في «ما» ما يفيد أن سيف بن ذي يزن هو الذي سأل.
3- المثبت في أ، م، و في ب، س، ج: «قتلته».
4- أيّدا: قويّا.
5- ب، س: «إيال»، و المثبت من «ما» و هو يوافق ما في معجم البلدان عن الزجاجي.
6- الزباد: طيب يجلب من دابة كالسنور يقال لها: قط الزباد.
كسرى يأمر و هرز أن يملّك سيفا اليمن

فكتب كسرى يأمره أن يملّك سيفا، و يقدم و هرز إلى كسرى.

فخلّف على اليمن سيفا، فلما خلا سيف باليمن و ملكها عدا على الحبشة، فجعل يقتل رجالها و يبقر نساءها عمّا في بطونها، حتى أفناها إلاّ بقايا منها/أهل ذلة و قلة، فاتّخذهم خولا، و اتخذ منهم جمّازين(1) بحرابهم بين يديه.

الحبشة يغتالون سيفا

فمكث كذلك غير كثير، و ركب يوما و تلك الحبشة معه، و معهم حرابهم يسعون بها بين يديه، حتى إذا كان وسطا منهم مالوا عليه بحرابهم فطعنوه بها حتى قتلوه.

و كان سيف قد آلى ألاّ يشرب الخمر، و لا يمسّ امرأة حتى يدرك ثأره من الحبشة، فجعلت له حلّتان واسعتان فأتزر بواحدة، و ارتدى الأخرى، و جلس على رأس غمدان يشرب، و برّت يمينه. و خرج بعد ذلك يتصيّد فقتلته الحبشة.

و كان ملك أرياط عشرين سنة، و ملك أبرهة ثلاثا و عشرين سنة، و ملك يكسوم تسع عشرة سنة، و ملك مسروق اثنتي عشرة سنة، فهذه أربع و سبعون سنة.

و كان قدوم أهل فارس اليمن مع و هرز بعد الفجار بعشر سنين، و قبل بنيان قريش البيت بخمس سنين، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ابن ثلاثين سنة أو نحوها؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ولد بعد قدوم الفيل بخمس و خمسين ليلة.

وفود العرب تقدم على سيف لتهنئته بالنصر

و نسخت خبر مديحه سيفا بهذا الشعر من كتاب عبد الأعلى بن حسان، قال: حدثنا الكلبيّ، عن أبي صالح؛ عن ابن عباس، و حدثني به محمد بن عمران المؤدّب بإسناد لست أحفظ الاتصال بينه و بين الكلبيّ فيه، فاعتمدت هذه الرواية، قال:

لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، و ذلك بعد مولد النبي/صلّى اللّه عليه و سلم بسنتين أتته وفود العرب و أشرافها لتهنّيه و تمدحه، و تذكر ما كان من بلائه و طلبه بثأر قومه؛ فأتته وفود العرب من قريش، فيهم عبد المطلب بن هاشم، و أمية بن عبد شمس، و خويلد بن أسد، في ناس من وجوه قريش، فأتوه بصنعاء، و هو في رأس قصر له يقال له:

غمدان، فأخبره الآذن بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا عليه و هو على شرابه، و على رأسه غلام واقف ينثر في مفرقه المسك، و عن يمينه و يساره الملوك و المقاول، و بين يديه أمية بن أبي الصلت الثقفيّ ينشده قوله فيه هذه الأبيات(2):

ص: 198


1- الجمازون: العداءون بحرابهم أمام موكب الملك.
2- ديوانه 51، و الطبري 147:1، و ابن هشام 69:1 و فيه: «و قال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي. قال ابن هشام: و تروى لأمية بن أبي الصلت».
أمية يمدح سيفا و الفرس

لا يطلب الثأر إلاّ كابن ذي يزن(1) *** في البحر خيّم للأعداء أحوالا(2)

أتى هرقل و قد شالت نعامته *** فلم يجد عنده النّصر الذي سالا

ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة *** من السّنين يهين النفس و المالا(3)

حتى أتى(4) ببني الأحرار يقدمهم *** تخالهم فوق متن الأرض أجبالا

للّه درّهم من فتية صبروا *** ما إن رأيت(5) لهم في الناس أمثالا

بيض مرازبة غلب أساورة *** أسد تربّت(6) في الغيضات أشبالا

/فالتط(7) من المسك إذ شالت نعامتهم *** و أسبل اليوم في برديك إسبالا

و اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا *** في رأس غمدان دارا منك محلالا

تلك المكارم لا قعبان من لبن *** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

بنو الأحرار الذين عناهم أمية في شعره هم الفرس الذين قدموا مع سيف بن ذي يزن، و هم إلى الآن يسمّون بني الأحرار بصنعاء، و يسمون باليمن الأبناء، و بالكوفة الأحامرة؛ و بالبصرة الأساورة، و بالجزيرة الخضارمة، و بالشام الجراجمة.

عبد المطلب يهنئ سيفا، و سيف يرحب به و بمن معه

فبدأ عبد المطلب فاستأذن في الكلام، فقال له سيف بن ذي يزن: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك، فقد أذنّا لك، فقال عبد المطلب: إنّ اللّه قد أحلّك أيّها الملك محلا رفيعا، صعبا منيعا، شامخا باذخا، و أنبتك منبتا طابت أرومته، و عزّت جرثومته، في أكرم موطن، و أطيب معدن؛ فأنت - أبيت اللعن - ملك العرب، و ربيعها الذي به تخصب، و أنت أيّها الملك رأس العرب الذي له تنقاد، و عمودها الذي عليه العماد، و معقلها الذي إليه يلجأ العباد، فسلفك لنا خير سلف، و أنت لنا منهم خير خلف، فلم يخمل من أنت خلفه، و لن يهلك من أنت سلفه نحن أهل حرم اللّه و سدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا؛ لكشفك الكرب الذي فدحنا، فنحن وفود التّهنية لا وفود المرزية.

قال: و أيّهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم، قال: ابن أختنا؟ قال: نعم. فأدناه حتى أجلسه إلى جنبه، ثم أقبل على القوم/و عليه، فقال: مرحبا و أهلا، و ناقة و رحلا، و مستناخا سهلا، و ملكا ربحلا(8)، يعطى عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم، و عرف قرابتكم، و قبل وسيلتكم، و أنتم أهل الشرف و النّباهة، و لكم الكرامة ما أقمتم، و الحباء إذا ظعنتم.

ص: 199


1- في الديوان: «ليطلب الثأر أمثال ابن ذي يزن». و في ابن هشام: «ليطلب الوتر أمثال».
2- أ: «خيم في البحر للأحباب».
3- في الديوان: «من السنين لقد أبعدت إيغالا».
4- أ: «حتى انتحى».
5- في الديوان: «... من عصبة خرجوا... ما إن ترى».
6- في الديوان: «غر جحاجحة بيض مرازبة... تربب»، و في ابن هشام: «أسدا تربب».
7- الديوان: «و اطل بالمسك».
8- ربحلا: عظيم الشأن.
سيف يسر إلى عبد المطلب بأمارات ظهور النبي صلّى اللّه عليه و سلم

ثم استنهضوا إلى دار الضيافة و الوفود، فأقاموا فيها شهرا لا يصلون إليه، و لا يؤذن لهم في الانصراف، و أجرى لهم الأنزال(1). ثم انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب، فأدناه، و أخلى مجلسه، ثم قال:

يا عبد المطلب، إني مفوّض إليك من سرّ علمي أمرا لو يكون غيرك لم أبح به إليه، و لكني رأيتك موضعه، فأطلعتك طلعه؛ فليكن عندك مطويّا حتى يأذن اللّه فيه، فإنّ اللّه بالغ أمره.

إني أجد في الكتاب المكنون، و العلم المخزون، الذي اخترناه لأنفسنا، و احتجنّاه دون غيرنا، خبرا عظيما، و خطرا جسيما، فيه شرف الحياة، و فضيلة الوفاء للناس عامة، و لرهطك كافة، و لك خاصة.

قال عبد المطلب: مثلك أيّها الملك من سرّ و برّ، فما هو فداك أهل الوبر، زمرا بعد زمر؟ قال ابن ذي يزن:

إذا ولد غلام بتهامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، و لكم به الزّعامة، إلى يوم القيامة.

قال عبد المطلب: أيّها الملك، لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد، و لو لا هيبة الملك و إكرامه و إعظامه لسألته أن يزيدني في البشارة ما أزداد به سرورا. قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه، أو قد ولد؟ اسمه محمد صلّى اللّه عليه و سلم، يموت أبوه و أمه، و يكفله جدّه و عمّه، قد ولدناه(2)/مرارا، و اللّه باعثه جهارا، و جاعل له منّا أنصارا، يعزّبهم أولياءه، و يذل بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عرض، /و يستبيح بهم كرائم الأرض، يخمد النيران، و يدحر الشيطان، و يكسر الأوثان، و يعبد الرحمن، قوله فصل، و حكمه عدل، يأمر بالمعروف و يفعله، و ينهى عن المنكر و يبطله.

فقال عبد المطلب: أيها الملك، عزّ جدّك، و علا كعبك، و دام ملكك، و طال عمرك، فهل الملك مخبري بإفصاح، فقد أوضح لي بعض الإيضاح.

فقال ابن ذي يزن: و البيت ذي الحجب، و العلامات على النّصب، إنك يا عبد المطلب، لجدّه غير الكذب.

يطلب من عبد المطلب أن يكتم أمر محمد و يحذره من اليهود

فخرّ عبد المطلب ساجدا، فقال له: ارفع رأسك، ثلج صدرك، و علا أمرك؛ فهل أحسست شيئا مما ذكرته لك؟ فقال عبد المطلب: أيها الملك! كان لي ابن، و كنت به معجبا، و عليه رفيقا، زوّجته كريمة من كرائم قومي، اسمها آمنة بنت وهب؛ فجاءت بغلام سمّيته محمدا، مات أبوه و أمه؛ و كفلته أنا و عمه. قال: الأمر ما قلت لك؛ فاحتفظ بابنك، و احذر عليه من اليهود؛ فإنهم له أعداء، و لن يجعل اللّه لهم عليه سبيلا، و اطو ما ذكرت لك عن هؤلاء الرّهط الذين معك؛ فإني لا آمن أن تدخلهم النّفاسة من أن تكون له الرئاسة؛ فينصبون له الحبائل، و يطلبون له الغوائل، و هم فاعلون و أبناؤهم، و بطيء ما يجيبه قومه؛ و سيلقى منهم عننا، و اللّه مبلج حجّته؛ و مظهر دعوته، و ناصر شيعته، و لو لا أني أعلم أنّ الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي و رجلي؛ حتى أصيّر يثرب دار ملكي؛ فإني أجد في/الكتاب المكنون أنّ بيثرب استحكام أمره، و أهل نصرته، و موضع قبره؛ و لو لا أني أتوقّى عليه

ص: 200


1- النزل: ما هيئ للضيف، و جمعه أنزال.
2- المختار: «قد وجدناه مرارا»، و في ما: «قد ولداه سرارا».

الآفات، و أحذر عليه العاهات، لأعلنت على حداثة سنّه أمره، و لكني صارف ذلك إليك من غير تقصير مني بمن معك.

يجزل العطاء لعبد المطلب و صحبه

قال: ثم أمر لكلّ رجل بعشرة أعبد، و عشرة إماء، و مائة من الإبل و حلّتين برودا، و خمسة أرطال ذهبا، و عشرة أرطال فضة، و كرش مملوءة عنبرا، ثم أمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك.

و قال: يا عبد المطلب، إذا حال الحول فائتني. فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول.

و كان عبد المطلب كثيرا ما يقول: يا معشر قريش، لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك، و إن كثر؛ فإنه إلى نفاد، و لكن ليغبطني بما بقي لي شرفه و ذكره إلى يوم القيامة. فإذا(1) قيل له: و ما ذاك؟ قال: ستعلمون نبأ ما أقول، و لو بعد حين.

و في ذلك يقول أمية بن عبد شمس(2):

جلبنا النّصح تحمله المطايا *** إلى أكوار أجمال و نوق

مغلغلة مرافقها ثقالا *** إلى صنعاء من فجّ عميق

تؤمّ بنا ابن ذي يزن و نهدي *** مخاليها إلى أمم الطريق(3)

/فلما وافقت(4) صنعاء صارت *** بدار الملك و الحسب العريق

أحمد بن سعيد المالكي يغني طاهر بن الحسين شعر أمية في سيف
اشارة

أخبرني عليّ بن عبد العزيز، قال: حدثني عبد اللّه بن عبد اللّه بن خرداذبه، قال:

كان أحمد بن سعيد بن قادم المعروف بالمالكيّ، أحد القواد مع طاهر بن الحسين بن عبد اللّه بن طاهر، فكان معه بالريّ، و كان مع محلّه من خدمة السلطان مغنّيا حسن الغناء، و له صنعة، فحضر مجلس طاهر بن عبد اللّه، و هو متنزّه بظاهر الريّ بموضع يعرف بشاذمهر، و قيل: بل/حضره بقصره بالشاذياخ(5)، فغنّى هذا الصوت:

اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا *** في رأس غمدان....

البيت فقال ابن عبّاد الرازيّ في وقته من الشعر مثل ذلك المعنى، و صنع فيه، و غنّى فيه أحمد بن سعيد لحنا من خفيف الرمل و هو(6):

ص: 201


1- س: «فإذ».
2- ديوان أمية بن أبي الصلت 43.
3- في الديوان: تؤم بها ابن ذي يزن و تفري بطون خفافها أم الطريق و في أ: «مخالتها».
4- الديوان: «فلما وافعت» 43.
5- الشاذياخ: مدينة نيسابور، أم بلاد خراسان.
6- البلدان (شاذياخ).
صوت

اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا *** بالشاذياخ و دع غمدان لليمن

فأنت أولى بتاج الملك تلبسه *** من هوذة بن عليّ و ابن ذي يزن(1)

فطرب طاهر، فاستعاده مرات، و شرب عليه حتى سكر، و أسنى لأحمد بن سعيد الجائزة.

هوذة بن علي و يوم الصفقة

أما ذكره هوذة بن عليّ و لبسه التاج؛ فإنّ السبب في ذلك أنّ كسرى توّج هوذة بن عليّ الحنفيّ، و ضمّ إليه جيشا من الأساورة، فأوقع ببني تميم يوم الصّفقة(2).

ص: 202


1- في البلدان: «... من ابن هوذة يوما و ابن ذي يزن».
2- يوم الصفقة كان لهوذة بن علي الحنفي على بني تميم، البلدان (صفقة).
يوم الصفقة
اشارة

أخبرني بالسبب في ذلك عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا أبو سعيد السكّريّ، قال: حدثنا ابن حبيب و دماذ، عن أبي عبيدة، قال ابن حبيب: قال أبو سعيد: و أخبرنا إبراهيم بن سعدان، عن أبيه، عن أبي عبيدة، قال ابن حبيب: و أخبرني ابن الأعرابيّ، عن المفضل، قال أبو سعيد، قالوا جميعا:

كان من حديث يوم الصّفقة(1) أنّ باذام(2) عامل كسرى باليمن بعث إلى كسرى عيرا تحمل ثيابا من ثياب اليمن، و مسكا و عنبرا، و خرجين فيهما مناطق محلاّة، و خفراء تلك العير فيما يزعم بعض الناس بنو الجعيد المراديّون. فساروا من اليمن لا يعرض لهم أحد، حتى إذا كان بحمض(3) من بلاد بني حنظلة بن يربوع(4) و غيرهم، أغاروا عليها فقتلوا من فيها من بني جعيد و الأساورة، و اقتسموها، و كان فيمن فعل ذلك ناجية بن عقال، و عتبة(5) بن الحارث بن شهاب، و قعنب بن عتّاب، و جزء بن سعد، و أبو مليل عبد اللّه بن الحارث، و النّطف بن جبير، و أسيد بن جنادة، فبلغ ذلك الأساورة الذين بهجر مع كزارجر المكعبر، فساروا إلى بني حنظلة بن يربوع، فصادفوهم على حوض، فقاتلوهم قتالا شديدا، فهزمت الأساورة، /و قتلوا قتلا شديدا ذريعا، و يومئذ أخذ النّطف الخرجين اللذين يضرب بهما المثل(6).

فلما بلغ ذلك كسرى استشاط غضبا، و أمر بالطعام فادّخر بالمشقّر و مدينة اليمامة، و قد أصابت الناس سنة شديدة، ثم قال: من دخلها من العرب فأميروه ما شاء(7).

فبلغ ذلك الناس، قال: و كان أعظم من أتاها بنو سعد، فنادى منادي الأساورة: لا يدخلها عربيّ بسلاح، فأقيم بوّابون على باب المشقّر، فإذا جاء الرجل ليدخل قالوا: ضع سلاحك، و امتر، و اخرج من الباب الآخر؛ فيذهب به إلى رأس الأساورة فيقتله، فيزعمون أنّ خيبريّ بن عبادة بن النوال بن مرة بن عبيد - و هو مقاعس - قال:

يا بني تميم؛ ما بعد السلب إلاّ القتل، و أرى قوما يدخلون و لا يخرجون، فانصرف منهم من انصرف من بقيّتهم، فقتلوا بعضهم و تركوا بعضا محتبسين عندهم. هذا حديث المفضّل.

و أما ما وجد عن ابن الكلبيّ في كتاب حمّاد الراوية، فإن كسرى بعث إلى عامله باليمن بعير، و كان باذام(8)

ص: 203


1- البلدان (صفقة) و الطبري 169:2، و ابن الأثير 275:1، و العقد 224:5.
2- في الطبري: «بعث و هرز بأموال و طرف».
3- ب، س: «حمصي»، ج: «حمضي» و المثبت من م.
4- في الطبري: «فلما صارت في بلاد يربوع».
5- أ، م: «و المنطف بن خيبري».
6- يقال: أصاب كنز النطف. و انظر الطبري 169:2.
7- أميروه: أعطوه الميرة.
8- ب، س: «باذان»، و المثبت من أ، ج، و هو يوافق ما في البلدان أيضا.

على الجيش الذي بعثه كسرى إلى اليمن، و كانت العير تحمل نبعا(1)، فكانت تبذرق(2) من المدائن حتى تدفع إلى النعمان، /و يبذرقها النعمان بخفراء من بني ربيعة و مضر حتى يدفعها إلى هوذة بن عليّ الحنفي، فيبذرقها حتى يخرجها من أرض بني حنيفة، ثم تدفع إلى سعد، /و تجعل لهم جعالة، فتسير فيها، فيدفعونها إلى عمّال باذام باليمن.

فلما بعث كسرى بهذه العير قال هوذة للأساورة: انظروا الذي تجعلونه لبني تميم فأعطونيه؛ فأنا أكفيكم أمرهم، و أسير فيها معكم، حتى تبلغوا مأمنكم، فخرج هوذة و الأساورة و العير معهم من هجر، حتى إذا كانوا بنطاع بلع بني سعد ما صنع هوذة، فساروا إليهم، و أخذوا ما كان معهم، و اقتسموه و قتلوا عامّة الأساورة، و سلبوهم، و أسروا هوذة بن عليّ، فاشترى هوذة نفسه بثلاثمائة بعير، فساروا معه إلى هجر، فأخذوا منه فداءه، ففي ذلك يقول شاعر بني سعد:

و منّا رئيس القوم ليلة أدلجوا *** بهوذة مقرون اليدين إلى النّحر

وردنا به نخل اليمامة عانيا *** عليه وثاق القدّ و الحلق السّمر

فعمد هوذة عند ذلك إلى الأساورة الذين أطلقهم بنو سعد، و كانوا قد سلبوا، فكساهم و حملهم، ثم انطلق معهم إلى كسرى، و كان هوذة رجلا جميلا شجاعا لبيبا، فدخل عليه فقصّ أمر بني تميم و ما صنعوا، فدعا كسرى بكأس من ذهب فسقاه فيها، و أعطاه إياها و كساه قباء ديباج منسوجا بالذهب و اللؤلؤ، و قلنسوة قيمتها ثلاثون ألف درهم، و هو قول الأعشى(3):

له أكاليل بالياقوت فصّلها *** صوّاغها لا ترى عيبا و لا طبعا

و ذكر أن كسرى سأل هوذة عن ماله و معيشته فأخبره أنه في عيش رغد، و أنه يغزو المغازي فيصيب.

فقال له كسرى في ذلك: كم ولدك؟ قال: عشرة، قال: فأيّهم أحبّ/إليك؟ قال: غائبهم حتى يقدم، و صغيرهم حتى يكبر، و مريضهم حتى يبرأ. قال كسرى: الذي أخرج منك هذا العقل حملك على أن طلبت مني الوسيلة. و قال كسرى لهوذة: رأيت هؤلاء الذين قتلوا أساورتي، و أخذوا مالي، أبينك و بينهم صلح؟.

قال هوذة: أيها الملك بيني و بينهم حساء(4) الموت، و هم قتلوا أبي. فقال كسرى: قد أدركت ثأرك، فكيف لي بهم؟ قال هوذة: إنّ أرضهم لا تطيقها أساورتك، و هم يمتنعون بها، و لكن احبس عنهم الميرة، فإذا فعلت ذلك بهم سنة أرسلت معي جندا من أساورتك، فأقيم لهم السوق؛ فإنهم يأتونها، فتصيبهم عند ذلك خيلك.

ففعل كسرى ذلك، و حبس عنهم الأسواق في سنة مجدبة، ثم سرّح إلى هوذة فأتاه، فقال: ائت هؤلاء فاشفني منهم، و اشتف. و سرّح معهم جوار بودار(5) و رجلا من أردشيرخرّه. فقال لهوذة: سر مع رسولي هذا، فسار في ألف أسوار حتى نزلوا المشقر من أرض البحرين، هو حصن هجر.

ص: 204


1- أ، ج: «نبفا». و النبع: شجر القسي.
2- تبذرق: تخفر.
3- ديوانه 107.
4- حساء الموت: شربه و تجرعه.
5- كذا ضبط في أ، م و في ج: «جوار يودار».

و بعث هوذة إلى بني حنيفة فأتوه، فدنوا من حيطان المشقر، ثم نودي: إنّ كسرى قد بلغه الذي أصابكم في هذه السنة، و قد أمر لكم بميرة، فتعالوا، فامتاروا. فانصبّ عليهم الناس، و كان أعظم من أتاهم بنو سعد، فجعلوا إذا جاءوا إلى باب المشقر أدخلوا رجلا رجلا، حتى يذهب به إلى المكعبر(1) فتضرب عنقه، و قد وضع سلاحه قبل أن يدخل، فيقال له: ادخل من/هذا الباب و اخرج من الباب الآخر، فإذا مرّ رجل/من بني سعد بينه و بين هوذة إخاء، أو رجل يرجوه، قال للمكعبر: هذا من قومي فيخلّيه له.

فنظر خيبريّ بن عبادة إلى قومه يدخلون و لا يخرجون، و تؤخذ أسلحتهم، و جاء ليمتار، فلما رأى ما رأى قال: ويلكم! أين عقولكم! فو اللّه ما بعد السّلب إلا القتل.

و تناول سيفا من رجل من بني سعد يقال له مصاد، و على باب المشقر سلسلة و رجل من الأساورة قابض عليها، فضربها فقطعها و يد الأسوار، فانفتح الباب، فإذا الناس يقتلون، فثارت بنو تميم.

و يقال: إن الذي فعل هذا رجل من بني عبس يقال له: عبيد بن وهب، فلما علم هوذة أنّ القوم قد نذروا به أمر المكعبر فأطلق منهم مائة من خيارهم، و خرج هاربا من الباب الأول هو و الأساورة، فتبعتهم بنو سعد و الرباب، فقتل بعضهم، و أفلت من أفلت.

صوت

إذا سلكت حوران من رمل عالج(2) *** فقولا لها: ليس الطريق هنالك

دعوا فلجات(3) الشام قد حيل دونها *** بضرب كأفواه العشار الأوارك(4)

عروضه من الطويل. الشعر لحسّان بن ثابت، و الغناء لابن محرز، و لحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول، مطلق في مجرى البنصر.

و هذا الشعر يقول حسان بن ثابت لقريش حين تركت الطريق الذي كانت تسلكه إلى الشام بعد غزوة بدر، و استأجرت فرات بن حيّان(5) العجليّ دليلا، فأخذ بهم غيرها، و بلغ النبي صلّى اللّه عليه و سلم الخبر، فأرسل زيد بن حارثة في سريّة إلى العير فظفر بها، و أعجزه القوم.

ص: 205


1- في الطبري: «و إنما سمي المكعبر؛ لأنه كان يقطع الأيدي و الأرجل. و اسمه آزاذفروذ بن جشنس».
2- الديوان 295: «إذا سلكت للغور من رمل عالج».
3- الفلجات: الأودية الصغار.
4- في الديوان: ..... قد حال دونها جلاد كأفواه المخاض الأوارك و الأوراك: التي ترعى الأراك.
5- ب، س: حبان بالباء، و المثبت من ما، و هو موافق لما في «كتب السيرة».

27 - ذكر الخبر في سرية زيد بن حارثة

اشارة

27 - ذكر الخبر في(1) سرية زيد بن حارثة

أخبرني الحسن بن عليّ الخفاف، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا محمد بن سعد، عن الواقديّ، قال:

كان سبب هذه الغزوة أنّ قريشا قالت: قد عوّر علينا محمد متجرنا(2)، و هو على طريقنا. و قال أبو سفيان و صفوان بن أمية: إن أقمنا بمكة أكلنا رءوس أموالنا. فقال زمعة(3) بن الأسود: و أنا أدلّكم على رجل يسلك بكم النّجدة(4)، و لو سلكها مغمض العين لاهتدى. فقال صفوان: من هو؟ قال: فرات بن حيّان العجليّ، فاستأجراه، فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم ذات عرق، ثم سلك بهم على غمرة، فانتهى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم خبر العير، فخرج و فيها مال كثير، و آنية من فضّة حملها صفوان بن أمية.

فخرج زيد بن حارثة فاعترضها، فظفر بالعير، و أفلت أعيان القوم، و كان الخمس عشرين ألفا، فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقسّم الأربعة الأخماس على السّرية(5)، و أتى بفرات بن حيّان العجليّ أسيرا، فقيل له: إن أسلمت لم يقتلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم. فلما دعا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أسلم، فأرسله.

حدثنا محمد بن جرير الطبريّ، قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق في خبر هذه السرية بمثل رواية الواقديّ، و زاد فيها فيما رواه:

إن قريشا لما خافت طريقها إلى الشام أخذت على طريق العراق، و ذكر أنّ الوقعة كانت على القردة(6): ماء من مياه نجد.

إبراهيم بن هشام يكتب إلى هشام بن عبد الملك بدعوة بني مخزوم

أخبرني حرميّ بن أبي العلاء، /قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني يعقوب بن محمد الزهريّ، قال:

كتب إبراهيم بن هشام إلى هشام بن عبد الملك: إن رأى أمير المؤمنين إذا فرغ من دعوة أعمامه بني عبد مناف أن يبدأ بدعوة أخواله بني مخزوم. فكتب: إن رضي بذلك آل الزبير فافعل. فلما فرغ من إعطاء بني عبد مناف نادى مناديه ببني مخزوم، فناداه عثمان بن عروة، و قال(7):

ص: 206


1- في النسخ: «ذكر الخبر في ذلك.
2- عور علينا متجرنا: عرضه للضياع.
3- كذا في ما، و الطبري و في ب، س: «ربيعة».
4- كذا في ما و هو الصواب.
5- كذا في م و هو الوجه.
6- ضبطه ابن الفرات بالفاء و كسر الراء المهملة (معجم البلدان و نهاية الأرب).
7- هو لحسان بن ثابت.

إذا هبطت حوران من أرض(1) عالج *** فقولا لها: ليس الطريق هنالك

فأمر مناديه فنادى بني أسد بن عبد العزّى، ثم مضى على الدعوة.

النبي صلّى اللّه عليه و سلم يقطع فرات بن حيان أرضا بالبحرين
اشارة

أخبرني محمد بن عبد اللّه الحضرميّ إجازة، قال: حدثنا ضرار بن صرد، قال: حدثنا عليّ بن هشام، عن عمار بن زريق، عن أبي إسحاق، عن عديّ بن حاتم:

أنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلم أتى بفرات بن حيّان فقال: إني مسلم، فقال لعليّ صلوات اللّه عليه: إنّ منكم من أكله إلى إيمانه، منهم فرات بن حيّان، و أقطعه أرضا بالبحرين تعلّ ألفا و مائتين.

حدثني أحمد بن يوسف بن سعيد، قال: حدثنا محمد عبيد اللّه بن عتبة، قال: حدثنا موسى بن زياد الزيات، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان الأشل(2)، عن زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن جارية(3) بن مضرّب، عن أمير المؤمنين عليّ صلوات اللّه عليه، قال:

أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلم بفرات بن حيّان يوم الخندق، و كان عينا للمشركين، فأمر بقتله، فقال: إني مسلم، فقال: إن منكم من أتألّفه على الإسلام و أكله إلى إيمانه، منهم فرات بن حيّان.

صوت

إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه *** شكى الفقر أو لام الصّديق فأكثرا

و صار على الأدنين كلاّ و أو شكت *** صلات ذوي القربى له أن تنكّرا

فسر في بلاد اللّه و التمس الغنى *** تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا

و لا ترض من عيش بدون و لا تنم *** و كيف ينام الليل من كان معسرا

عروضه من الطويل، الشعر لأبي عطاء السنديّ. و الغناء لإبراهيم. خفيف ثقيل بالوسطى، من نسخة عمرو الثانية.

ص: 207


1- في هامش أ من نسخة: «من رمل عالج»، و هي رواية الديوان أيضا، و كذلك المختار.
2- في الإصابة: الأشهل.
3- و كذا في الإصابة، و في الإكمال: «حارثة بن مضرب».

28 - ذكر أبي عطاء السندي

اشارة

أبو عطاء، اسمه أفلح بن يسار، مولى بني أسد، ثم مولى عنبر(1) بن سماك بن حصين الأسديّ، منشؤه الكوفة، و هو من مخضرمي الدولتين. مدح بني أميّة و بني هاشم، و كان أبوه يسار سنديّا أعجميا لا يفصح. و كان في لسان أبي عطاء لكنة(2) شديدة و لثغة، فكان لا يفصح(3). و كان له غلام فصيح سمّاه عطاء، و تكنّى(4) به، و قال: قد جعلتك ابني، و سميتك بكنيتي، فكان يروّيه شعره، فإذا مدح من يجتديه أو ينتجعه أمره بإنشاده ما قاله(5). و كان ابن كناسة يذكر أنه كاتب مواليه، و أنهم لم يعتقوه.

يكاتب مواليه

أخبرني بذلك محمد بن مزيد، قال: حدثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، عن ابن كناسة، قال:

كثر مال أبي عطاء السنديّ بعد أن أعتق، فأعنته مواليه و طمعوا فيه، و ادّعوا رقّه، فشكا ذلك إلى إخوانه، فقالوا له: كاتبهم(6)، فكاتبوه على أربعة آلاف، و سعى له/أهل الأدب و الشعر فيها فتركهم، و أتى الحرّ بن عبد اللّه القرشيّ، و هو حليف لقريش لا من أنفسهم، فقال فيه:

شعره في الحر بن عبد اللّه القرشي

أتيتك لا من قربة هي بيننا *** و لا نعمة قدّمتها أستثيبها

و لكن مع الرّاجين أن كنت(7) موردا *** إليه بغاة الدّين تهفو قلوبها(8)

/أغثني بسجل من نداك يكفّني *** و قال(9) الرّدى مرد الرّجال و شيبها

تسمّى ابن عبد اللّه حرّا لوصفه(10) *** و تلك العلا يعنى بها من يصيبها(11)

ص: 208


1- س، ج: «مولى عمرو بن سماك»، و في المرزباني 456: اسمه أفلح، و قيل: مرزوق.
2- ج: «عجمة».
3- ج: «و كان لا يكاد يفصح».
4- ج: «و تبناه».
5- ج: «ما قاله فيه».
6- كاتب رقيقه: اتفق معه على مال يدفعه له فإن أداه صار حرا».
7- أ و المختار: «إذا كنت».
8- المختار: «بغاة الري».
9- أ: «يقلني... فداك». و في المختار: «وقاك الردى مرد الكرام»، و سجل من نداك: نصيب عظيم من عطائك - و السجل في الأصل: الدلو العظيمة فيها ماء.
10- س و المختار: «كوضعه»، و المثبت من أ، ج.
11- كذا في المختار، و في ب، س: «يعيبها».

فأعطاه أربعة آلاف درهم، فأدّاها في مكاتبته و عتق(1).

و شعره في سليمان بن سليم

أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كان أبو عطاء السنديّ يجمع بين لثغة و لكنة، و كان لا يكاد يفهم كلامه، فأتى سليمان بن سليم فأنشده:

أعوزتني الرّواة يا ابن سليم *** و أبى أن يقيم شعري لساني

و غلى بالذي أجمجم صدري *** و جفاني بعجمتي سلطاني(2)

و ازدرتني العيون إذ كان لوني *** حالكا مجتوى(3) من الألوان

فضربت الأمور ظهرا لبطن *** كيف أحتال حيلة للساني!(4)

و تمنيت أنني كنت بالشّعر فصيحا و بان بعض بناني

ثم أصبحت قد أنخت ركابي *** عند رحب الفناء و الأعطان

فاكفني ما يضيق عنه رواتي *** بفصيح من صالح الغلمان

يفهم الناس ما أقول من الشعر فإنّ البيان قد أعياني

فاعتمدني بالشكر يا ابن سليم *** في بلادي و سائر البلدان

/ستوافيهم قصائد غرّ *** فيك سبّاقة لكل(5) لسان

فقديما جعلت شكري جزاء *** كلّ ذي نعمة بما أولاني

لم تزل تشتري المحامد(6) قدما *** بالرّبيح الغالي من الأثمان

فأمر له بوصيف بربريّ فصيح، فسمّاه عطاء، و تكنّى به، و روّاه شعره؛ فكان إذا أراد إنشاد مديح لمن يجتديه، أو مذاكرة لشعره أنشده.

هجاؤه مولاه عنبر بن سماك الأسدي

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا ثعلب، عن أبي العالية الحرّ بن مالك الشاميّ، قال:

لما أثرى أبو عطاء أعنته مولاه عنبر(7) بن سماك الأسديّ، حتى ابتاع نفسه منه، فقال يهجوه:

إذا ما كنت متخذا خليلا *** فلا تثقن بكلّ أخي إخاء

و إن خيّرت بينهم فألصق *** بأهل العقل منهم و الحياء

ص: 209


1- ج: «و أعتق».
2- في المختار: «لعجمتي».
3- مجتوى: مبغضا مكروها.
4- في المختار: «لبياني».
5- في المختار: «بكل».
6- في المختار: «المدائح».
7- انظر ما سبق في نسبه.

فإنّ العقل ليس له إذا ما *** تذوكرت(1) الفضائل من كفاء

و إنّ النّوك للأحساب غول *** به تأوي إلى داء عياء

فلا تثقن من النّوكى بشيء *** و لو كانوا بني ماء السماء

كعنبر الوثيق بناء بيت *** و لكن عقله مثل الهباء

/و ليس بقابل(2) أدبا فدعه *** و كن منه بمنقطع الرّجاء

كان من شعراء بني أمية و مداحهم

قال: و كان أبو عطاء من شعراء بني أميّة و مدّاحهم و المنصبي الهوى إليهم، و أدرك دولة بني العباس فلم تكن له فيها نباهة، فهجاهم. و في آخر/أيام المنصور مات. و كان مع ذلك من أحسن الناس بديهة، و أشدّهم عارضة و تقدّما، و شهد أبو عطاء حرب بني أميّة و بني العباس فأبلى، و قتل غلامه عطاء مع ابن هبيرة، و انهزم هو، و قيل: بل كان أبو عطاء المقتول معه لا غلامه.

شعره في أبي زيد المري و قد أعطاه فرسه فهرب به

أخبرني الحسن بن عليّ، عن أحمد بن الحارث، عن المدائنيّ، قال:

كان أبو عطاء يقاتل المسوّدة(3)، و قدّامه رجل من بني مرّة يكنى أبا يزيد، و قد عقر فرسه، فقال لأبي عطاء:

أعطني فرسك حتى أقاتل عنّي و عنك، و قد كانا أيقنا بالهلاك، فأعطاه أبو عطاء فرسه، فركبه المرّيّ، ثم مضى و ترك أبا عطاء، فقال أبو عطاء في ذلك:

لعمرك إنني و أبا يزيد *** لكالساعي إلى وضح السّراب

رأيت مخيلة(4) فطمعت فيها *** و في الطمع المذلّة للرّقاب

فما أعياك من طلب و رزق *** كما يعييك في سرق الدّواب(5)

و أشهد أنّ مرّة حيّ صدق *** و لكن لست منهم في النّصاب

أخبرني الحسن، عن أحمد بن الحارث، عن المدائنيّ:

أنّ يحيى بن زياد الحارثيّ و حمّادا الراوية كان بينهما و بين معلّى بن هبيرة ما يكون مثله بين الشعراء و الرّواة من النّفاسة، و كان معلّى بن هبيرة يحبّ أن يطرح حمادا في لسان شاعر يهجوه.

أبو عطاء و حماد الراوية

قال حمّاد الراوية: فقال لي يوما بحضرة يحيى بن زياد: أ تقول لأبي عطاء السنديّ أن يقول في زجّ و جرادة و مسجد بني شيطان؟ قال: فقلت له: /فما تجعله لي على ذلك؟ قال: بغلتي بسرجها و لجامها. قلت: فعدّلها(6)على يدي يحيى بن زياد، ففعل، و أخذت عليهن موثقا بالوفاء.

ص: 210


1- في ب: «تذكرت»، و المثبت في المختار. كفاء: شيء يقوم به و يعادله.
2- أ: «بقائل»، و المثبت في المختار أيضا.
3- المسودة: يريد بني العباس و من والاهم لأن لباسهم كان السواد.
4- المخيلة: السحابة تخالها ماطرة لرعدها و برقها.
5- أ: «كما أعياك من».
6- عدلها: بريد اجعلها في ضمان عدل.

و جاء أبو عطاء السنديّ فجلس إلينا، و قال: مرهبا مرهبا، هيّاكم اللّه. فرحّبت به، و عرضت عليه العشاء، فقال: لا حاجة لي به، فقال: أ عندكم نبيذ؟ فأتيناه بنبيذ كان عندنا فشرب حتى احمرّت عيناه، و استرخت علابيه(1)، ثم قلت: يا أبا عطاء، إنّ إنسانا طرح علينا أبياتا فيها لغز، و لست أقدر على إجابته البتة، و منذ أمس إلى الآن ما يستوي لي منها شيء، ففرّج عني. قال: هات، فقلت:

ابن لي إن سئلت أبا عطاء *** يقينا كيف علمك بالمعاني

فقال:

خبير عالم فاسأل تجدني *** بها طبّا و آيات المثاني

فقلت:

فما اسم حديدة في رأس رمح *** دوين الكعب ليست بالسّنان؟

فقال أبو عطاء:

هو الزّزّ الذي إن بات ضيفا *** لصدرك لم تزل لك عولتان

قلت: فرّج اللّه عنك، تعني الزجّ. و قلت:

فما صفراء تدعى أمّ عوف *** كأن رجيلتيها منجلان؟

فقال:

أردت زرادة و أزنّ زنّا *** بأنّك ما أردت سوى لساني

/قلت: فرّج اللّه عنك، و أطال بقاءك! تريد جرادة، و أظنّ ظنا. و قلت:

أ تعرف مسجدا لبني تميم *** فويق الميل دون بني أبان؟

فقال:

بنو سيطان(2) دون بني أبان *** كقرب أبيك من عبد المدان

قال حماد: فرأيت عينيه قد احمرّتا، و عرفت الغضب في وجهه و تخوّفته، فقلت: يا أبا عطاء، هذا مقام المستجير بك، و لك النصف مما أخذته، قال: فاصدقني، قال: فأخبرته. فقال لي: أولى لك! قد سلمت و سلم لك جعلك، خذه بورك لك فيه، و لا حاجة لي فيه. فأخذته، و انقلب يهجو معلّى بن هبيرة.

مدح أبا جعفر فلم يثبه

أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائنيّ:

ص: 211


1- علباء البعير: عصب عنفه، و جمعه: «علابي». و علبى الرجل: ظهرت علابيه كبرا.
2- أ: «شيطان»، بالشين، و في الشعر و الشعراء 743: أيكم يحتال لأبي عطاء حتى يقول جرادة و زج و شيطان، فقال حماد الراوية: أنا، فلم يلبث أن جاء أبو عطاء، فقال:.... مرهبا مرهبا، هياكم اللّه، قلنا: أ لا تتعشى؟ قال: قد تأسيت، فهل عندكم نبيذ؟ قلنا: نعم، فأتى بنبيذ، فشرب حتى استرخت علابيه، و خذيت أذناه، فقال حماد الراوية: كيف بصرك باللغز يا أبا عطاء؟ قال: هن... إلى آخر الخبر.

أنّ أبا عطاء مدح أبا جعفر فلم يثبه، فأظهر الانحراف عنه لعلمه بمذهبه في بني أميّة، فعاوده بالمدح، فقال له: يا ماصّ كذا من أمّه، أ لست القائل في عدوّ اللّه الفاجر نصر بن سيّار ترثيه:

فاضت دموعي على نصر و ما ظلمت *** عين تفيض على نصر بن سيّار

يا نصر من للقاء الحرب إن لقحت *** يا نصر بعدك أو للضيف و الجار

الخندفيّ الذي يحمي حقيقته *** في كل يوم مخوف الشرّ و العار

/و القائد الخيل قبّا في أعنّتها *** بالقوم حتى تلفّ القار بالقار(1)

من كلّ أبيض كالمصباح من مضر *** يجلو بسنّته الظلماء للسّاري

ماض على الهول مقدام إذا اعترضت *** سمر الرّماح و ولّى كلّ فرّار

إن قال قولا و فى بالقول موعده *** إنّ الكنانيّ واف غير غدّار

هجاؤه أبا جعفر

و اللّه لا أعطيك بعد هذا شيئا أبدا. قال: فخرج من عنده، و قال عدة قصائد يذمّه فيها منها:

فليت(2) جور بني مروان عاد لنا *** و ليت عدل بني العبّاس في النار

و قال أيضا:

أ ليس اللّه يعلم أنّ قلبي *** يحبّ بني أميّة ما استطاعا

و ما بي أن يكونوا أهل عدل *** و لكنّي رأيت الأمر ضاعا

شعره في ابن هبيرة حين لم يصله بشيء

أخبرني الحسن، قال: حدثني الخراز(3)، عن المدائنيّ، قال:

كان أبو عطاء مع ابن هبيرة، و هو يبني مدينته التي على شاطئ الفرات، فأعطى ناسا كثيرا صلات و لم يعطه شيئا، فقال:

قصائد حكتهنّ ليوم فخر(4) *** رجعن إلى صفرا خاليات

رجعن و ما أفأن عليّ شيئا *** سوى أنّي وعدت التّرهات

أقام على الفرات يزيد حولا *** فقال الناس: أيّهما الفراتي!(5)

/فيا عجبا لبحر بات يسقي *** جميع الخلق لم يبلل لهاتي

شعره في مدح يزيد بن عمر بن هبيرة

فقال له يزيد بن عمر بن هبيرة: و كم يبلّ لهاتك يا أبا عطاء؟ قال: عشرة آلاف درهم، فأمر ابنه بدفعها إليه، ففعل، فقال يمدح ابنه:

ص: 212


1- المختار: «الغار بالغار».
2- الشعر و الشعراء: يا ليت.
3- أ: «الخزاز».
4- أ: «بقوم قيس»، و في المختار: «لعدم قيس».
5- أ: «الفرات».

أمّا أبوك فعين الجود تعرفه *** و أنت أشبه خلق اللّه بالجود(1)

لو لا يزيد و لو لا قبله عمر *** ألقت إليك معدّ بالمقاليد

/ما ينبت العود إلا في أرومته *** و لا يكون الجنى إلاّ من العود

وهب له نصر بن سيار جارية فقال في ذلك شعرا

أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد، عن المدائنيّ، قال:

وهب نصر بن سيّار لأبي عطاء جارية، فلما أصبح غدا على نصر، فقال: ما فعلت أنت و هي؟ فقال: قد كان شيء منّي منعني من بعض حاجتي - يعني النّوم - يعني النّوم - فقال: و هل قلت في ذلك شعرا؟ قال: نعم، و أنشد:

إنّ النكاح و إن هرمت(2) لصالح *** خلف لعينك من لذيذ المرقد

فقال نصر:

ذاك الشقاء فلا تظنّن غيره *** ليس المشاهد مثل من لم يشهد

فقال: أصلحك اللّه، إني قد امتدحتك فائذن لي أن أنشدك، قال: إني لفي شغل، و لكن ائت تميما، فأتاه فأنشده، فحمله على برذون أبلق، فقال له نصر من الغد: ما فعل بك تميم؟ فقال:

لئن كان أغلق باب الندى *** فقد فتح الباب بالأبلق

ثم أنشده قوله:

و هيكل يقال في جلاله *** تقصر أيدي الناس عن قذاله

/جعلت أوصالي على أوصاله *** إنّك حمّال على أمثاله

لبس السواد و قال شعرا في ذلك

أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائنيّ، قال: لما أمر أبو جعفر الناس بلبس السّواد، لبسه أبو عطاء فقال:

كسيت و لم أكفر من اللّه نعمة *** سوادا إلى لوني و دنّا(3) ملهوجا(4)

و بايعت كرها بيعة بعد بيعة *** مبهرجة إن كان أمر مبهرجا(5)

يضيف بيتين من الشعر إلى بيتين بعث بهما إليه إبراهيم بن الأشتر

أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد، عن المدائنيّ، قال:

بعث إبراهيم بن الأشتر إلى أبي عطاء ببيتين من شعر، و سأله أن يضيف إليهما بيتين من رويّهما و قافيتهما، و هما:

ص: 213


1- المختار 413:1.
2- في ب، س: «هربت» و المثبت من ما.
3- الدن: قلنسوة محددة الأطراف و كان العباسيون قد أمروا بلبس القلانس.
4- الملهوج: غير المحكم.
5- كذا في ما و في أ: «إن كان أمر».

و بلدة يزدهي الجنّان طارقها *** قطعتها بكناز اللحم معتاطه

وهنا و قد حلّق النّسران أو كربا *** و كانت الدلو بالجوزاء منتاطه

فقال أبو عطاء:

فانجاب عنها قميص الليل فابتكرت *** تسير كالفحل تحت الكور لطّاطه

في أينق كلما حثّ الحداة لها *** بدت مناسمها هوجاء حطّاطه

يهجو بغلة أبي دلامة

أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد، عن المدائنيّ، قال:

كان سبب هجاء أبي دلامة بغلته أن أبا عطاء السنديّ هجاها، فخاف أبو دلامة أن تشتهر بذلك، و تعرّه، فباعها و هجاها بقصيدته المشهورة. قال: و أبيات أبي عطاء فيها:

أ بغل أبي دلامة متّ هزلا *** عليه بالسخاء تعوّلينا

دوابّ الناس تقضم ملمخالي *** و أنت مهانة لا تقضمينا

/سليه البيع و استعدي عليه *** فإنّك إن تباعي تسمنينا

شعره في مدح نهيك بن معبد

أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد، عن المدائنيّ، قال:

كان أبو عطاء منقطعا في طريق/مكة، و خباؤه مطروح، فمرّ به نهيك بن معبد العطارديّ، فقال: لمن هذا الخباء الملقى؟ فقيل: لأبي عطاء السنديّ، فبعث غلمانا له، فضربوا له خباء، و بعث إليه بألطاف و كسوة، فقال:

من صنع هذا؟ قالوا: نهيك بن معبد، فنادى بأعلى صوته يقول:

إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم *** فناد بصوت: يا نهيك بن معبد

فبعث إليه نهيك: لا، زدنا يا أبا عطاء.

فقال ابو عطاء:

إنما أعطيناك على قدر ما أعطيتنا، فإن زدتنا زدناك، و اللّه أعلم.

أنشده حماد بيتا فلم يعجبه فقال شعرا يصحح معناه

نسخت من كتاب ابن الطحان(1): قال الهيثم بن عديّ: أخبرنا حمّاد الراوية، قال:

أنشدت أبا عطاء السنديّ في أثناء حديث هذا البيت:

إذا كنت في حاجة مرسلا *** فأرسل حكيما و لا توصه

فقال أبو عطاء: بئس ما قال! فقلت: كيف تقول أنت؟ قال: أقول:

إذا أرسلت في أمر رسولا *** فأفهمه و أرسله أديبا

و إن ضيّعت ذاك فلا تلمه *** على أن لم يكن علم الغيوبا

ص: 214


1- م: «النطاح».
شعره في مدح سليمان بن سليم

نسخت من كتاب عبيد اللّه بن محمد اليزيديّ: قال الهيثم بن عديّ، عن/حماد بن سلمة الكلبيّ، قال:

دخل أبو عطاء السنديّ على سليمان بن سليم بن بشّار(1)، فقال له:

أعوزتني الرّواة يا ابن سليم *** و أبى أن يقيم شعري لساني

و غلا بالذي أجمجم صدري *** و شكاني من عجمتي شيطاني

وعدتني العيون أن كان لوني *** حالكا مظلما من الألوان

و ضربت الأمور ظهرا لبطن *** كيف أحتال حيلة لبياني!

فتمنّيت أنني كنت بالشع *** ر فصيحا و بان بعض بناني

ثم أصبحت قد أنخت ركابي *** عند رحب الفناء و الأعطان

فإلى من سواك يا ابن سليم *** أشتكي كربتي و ما قد عناني

فاكفني ما يضيق عنه ذراعي *** بفصيح من صالحي الغلمان

يفهم الناس ما أقول من الشع *** ر فإنّ البيان قد أعياني

ثم خذني بالشكر يا ابن سليم *** حيث كانت داري من البلدان

فأمر له بوصيف فصيح كان حسن الإنشاد، فقال أبو عطاء أيضا:

فأقبلوا نحوي معا بالقنا *** و كلّهم يسأل: ما شأني؟

فقلت: شأني كلّه أنني *** في تعب من لفظ جرداني

يا ابن سليم أنت لي عصمة *** من حدث أفزع جيراني

فقد رماني الدّهر عن فقره *** بسهم فقر غير لغبان(2)

صاد فؤادي بعد ما قد سلا *** فصرت كالمقتبل العاني

/فانعش فدتك النفس مني و من *** أطاعني من جلّ إخواني

و هب فدتك النفس لي طفلة(3) *** يقمع حرها رأس شيطاني

فإن أيري قد عتا و اعتدى *** و صار يبغي بغية الزّاني

فاللّه ثم اللّه في قمعه *** من قبل أن أمنى(4) بسلطان

/يتركني أضحوكة بعد ما *** أضرب في سرّ و إعلان

فأمر له بجارية قندهاريّة(5) فارهة، فقال:

أحصنني اللّه بكفّي فتى *** مهذّب من سرّ قحطان

ص: 215


1- أ: «ابن كيسان».
2- اللغبان: «الشديد الإعياء».
3- الطفلة: الرخصة الناعمة.
4- أ: «أنمى».
5- قندهارية: منسوبة إلى قندهار (البلدان).

من حمير أهل السّدي(1) و الندى *** و عصمة الخائف و الجاني

يا خير خلق اللّه أنت الذي *** أيأست من فسقي شيطاني

يغضب لخطأ راويته في شعر قاله

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدّثنا عليّ بن محمد النوفليّ، عن أبيه، قال:

كنت جالسا مع سليمان بن مجالد و عنده أبو عطاء السنديّ، إذ قام راوية أبي عطاء ينشد سليمان مديحا لأبي عطاء، و أبو عطاء جالس لا يتكلّم، إذ قال الراوية في إنشاده:

فما فضلت يمينك من يمين *** و لا فضلت شمالك عن شمال(2)

هكذا بالرفع، فغضب أبو عطاء، و قال: ويلك فما مدهته إذا، إنما هزوته، يريد فما مدحته إذا إنما هجوته، ثم أنشده أبو عطاء:

فما فدلت يمينك من يمين *** و لا فدلت شمالك عن شمال

/فكدت أضحك، و لم أجسر، لأني رأيت القوم جميعا بهم مثل ما بي و هم لا يضحكون؛ خوفا منه.

ينشد نصر بن سيار فيأمر له بجائزة

حدثنا وكيع، قال: أخبرنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا سليمان بن منصور، قال: حدثني صالح بن سليمان، قال:

وفد أبو عطاء السنديّ على نصر بن سيّار فأنشده:

قالت تريكة بيتي و هي عاتبة(3): *** إنّ المقام على الإفلاس تعذيب

ما بال همّ دخيل بات محتضرا *** رأس الفؤاد فنوم العين توجيب

إني دعاني إليك الخير من بلدي *** و الخير عند ذوي الأحساب مطلوب

فأمر له بأربعين ألف درهم.

يغضب لأن ضيفه يرقب جاريته
اشارة

أخبرني محمد بن خلف وكيع و الحسن بن عليّ، قالا: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدثني سليمان بن أبي شيخ، عن صالح بن سليمان، قال: دخل إلى أبي عطاء السنديّ ضيف، فأتاه بطعام، فأكل، و أتاه بشراب و جلسا يشربان، فنظر أبو عطاء إلى رجل يلاحظ جاريته، فأنشأ يقول(4):

كل هنيئا و ما شربت مريئا *** ثم قم صاغرا و أنت ذميم

لا أحبّ النديم يومض بالطر *** ف إذا ما خلا لعرس النّديم(5)

ص: 216


1- السدي: المعروف.
2- أ: «فما نزلت و لا نزلت»، و في المختار 414:1: «و لا فدلت» «يريد: و لا فضلت».
3- تريكة البيت: التي تترك فلا تتزوج، و هي العانس في بيت أبويها. «اللسان» (ترك).
4- الأبيات في الكامل: 74 و البيان 347:3.
5- الكامل: «يومض بالعين إذا ما انتشى لعرص النديم» في و في البيت إقراء.
صوت

تجول خلاخيل النساء و لا أرى *** لرملة خلخالا يجول و لا قلبا(1)

أحبّ بني العوّام طرّا لحبّها *** و من أجلها أحببت أخوالها كلبا

فإن تسلمي نسلم، و إن تتنصّري *** تخطّ رجال بين أعينهم صلبا

عروضه من الطويل. الشعر لخالد بن يزيد بن معاوية يقوله في زوجته رملة بنت الزّبير. و الغناء ليحيى المكيّ، ثاني ثقيل أول بالوسطى، من رواية ابنه و أبي العبيس(2)، و فيه لعبيد اللّه بن أبي غسان رمل، و فيه لسعيد بن جابر خفيف رمل بالبنصر، عن حبش.

ص: 217


1- الكامل 204:1، و المختار من شعر بشار 151، و معجم الأدباء 41:11، و القلب: سوار المرأة.
2- في أ. ج، م: «العميس».

29 - ذكر خالد و رملة و أخبارهما و أنسابهما

نسبه

خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. و كان من رجالات قريش سخاء و عارضة و فصاحة، و كان قد شغل نفسه بطلب الكيمياء فأفنى بذلك عمره، و أسقط نفسه. و أمّ خالد بن يزيد أمّ هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.

كان عالما شاعرا

أخبرني الطوسيّ و حرميّ، قالا: حدثنا الزبير، قال: حدثني عمّي مصعب، قال:

كان خالد بن يزيد بن معاوية يوصف بالعلم، و يقول الشعر، و زعموا أنه هو الذي وضع خبر السّفيانيّ و كبّره، و أراد أن يكون للناس فيه طمع حين غلبه مروان بن الحكم على الملك، و تزوّج أمّه أمّ هاشم، و هذا وهم من مصعب؛ فإن السفيانيّ قد رواه غير واحد، و تتابعت فيه رواية الخاصة و العامّة. و ذكر خبر أمره أبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام، و غيره من أهل البيت صلوات اللّه عليهم.

حدثني أبو عبد اللّه(1) الصّيرفيّ، قال: حدثنا محمد بن عليّ بن خلف العطار، قال: حدثنا الحسن بن صالح، عن أبي الأسود، قال: حدثنا صالح بن أبي الأسود - يعني أباه - عن عبد الجبار بن العباس الهمدانيّ، عن عمار الدّهنيّ، قال:

قال أبو جعفر محمد بن عليّ عليهما السلام: كم تعدّون بقاء السفيانيّ فيكم؟ قلت: حمل امرأة تسعة أشهر، قال: ما أعلمكم يأهل الكوفة..

/حدثني أبو عبد اللّه قال: حدثنا محمد بن عليّ، قال: حدثنا الحسن بن صالح، قال: حدثنا منصور بن الأسود، قال:

أتيت جابرا الجعفيّ أنا و الأسود أخي، فقلنا له: إنا قوم نضرب في هذه التجارات، و قد بلغنا أن الرايات قد قطع بها الفرات، فما ذا تشير علينا؟ و ما ذا تأمرنا؟ قال: اذهبوا حيث شئتم من أرض اللّه تعالى، حتى إذا خرج السّفيانيّ فأقبلوا عودكم على بدئكم.

أمه تكتنى باسمه

أخبرني الطوسيّ و حرميّ، قالا: حدثنا الزّبير بن بكار، عن عمه، قال: لما ولدت أمّ هاشم خالد بن يزيد بن معاوية تركت كنيتها، و اكتنت بخالد، و قال فيها يزيد بن معاوية:

ص: 218


1- أ: «أبو عبيد اللّه».

و ما نحن يوم استعبرت أمّ خالد *** بمرضى ذوي داء و لا بصحاح

و لها يقول، و قد قدم من المدينة، و قد تزوّج أمّ مسكين بنت عمر بن عاصم بن عمر بن الخطاب فحملت إليه بالشّام، فأعجب بها، و جفا أمّ خالد، و دخل عليها و هي تبكي، فقال(1):

ما لك أمّ خالد تبكين *** من قدر حلّ بكم تضجّين!

باعت على بيعك أمّ مسكين *** ميمونة من نسوة ميامين

حلّت محلّك الّذي تحلّين *** زارتك من يثرب في جوارين

في منزل كنت به تكونين

رملة تزوجت عثمان بن عبد اللّه قبل زواجها من خالد

أخبرني الطوسيّ و حرميّ، قالا: حدثنا الزبير بن بكار، عن عمه: أنّ رملة بنت الزبير كانت أخت مصعب بن الزبير لأمه(2)، كانت أمّهما أمّ الرباب بنت أنيف بن عبيد بن مصاد بن كعب بن عليم بن عتّاب(3)/بن ذهل من كلب، و إنما كانت قبل خالد بن يزيد عند عثمان بن عبد اللّه بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى، فولدت له عبد اللّه بن عثمان، /و هو زوج سكينة بنت الحسين بن عليّ عليهما السلام.

الحجاج يعاتب خالدا لخطبته رملة فيرد عليه ردا عنيفا

قال الزبير: فحدثني رجل، عن عمر بن عبد العزيز، و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال:

لما قتل ابن الزبير حجّ خالد بن يزيد بن معاوية، فخطب رملة بنت الزبير بن العوامّ، فأرسل إليه الحجاج حاجبه عبيد اللّه بن موهب، و قال له: ما كنت أراك تخطب إلى آل الزبير حتى تشاورني، و كيف خطبت إلى قوم ليسوا لك بأكفاء! و كذلك قال جدّك معاوية، و هم الذين قارعوا أباك على الخلافة، و رموه بكل قبيحة، و شهدوا عليه و على جدّك بالضّلالة.

فنظر إليه خالد طويلا، ثم قال له: لو لا أنّك رسول، و الرسول لا يعاقب لقطّعتك إربا إربا، ثم طرحتك على باب صاحبك، قل له: ما كنت أرى أن الأمور بلغت بك إلى أن أشاورك في خطبة النساء!.

و أما قولك لي: قارعوا أباك و شهدوا عليه بكلّ قبيح، فإنها قريش يقارع بعضها بعضا، فإذا أقرّ اللّه عز و جل الحقّ قراره، كان تقاطعهم و تراحمهم على قدر أحلامهم و فضلهم.

و أما قولك: إنهم ليسوا بأكفاء فقاتلك اللّه يا حجّاج، ما أقلّ علمك بأنساب قريش! أ يكون العوام كفؤا لعبد المطلب بن هاشم بتزوّجه صفيّة، و بتزوج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم خديجة بنت خويلد، و لا تراهم أهلا لأبي سفيان! فرجع الحاجب إليه فأعلمه.

ص: 219


1- نسب قريش 155.
2- المختار: «لأبيه»، و في أنساب الأشراف للبلاذري: «أخت مصعب لأبيه و أمه و أمهما الرباب».
3- في المختار: «بن جناب».
شعره في رملة

قال: و قال عمر بن شبّة في خبره، قال خالد بن يزيد بن معاوية فيها(1):

أ ليس يزيد السير في كل ليلة *** و في كلّ يوم من أحبّتنا قربا

أحنّ إلى بنت الزبير و قد علت *** بنا العيس خرقا من تهامة أو نقبا(2)

إذا نزلت أرضا تحبّب أهلها *** إلينا و إن كانت منازلها حربا

و إن نزلت ماء و إن كان قبلها *** مليحا(3) وجدنا ماءه باردا عذبا

تجول خلاخيل النساء و لا أرى *** لرملة خلخالا يجول و لا قلبا

أقلّوا عليّ اللوم فيها فإنني *** تخيّرتها منهم زبيرية قلبا(4)

أحبّ بني العوّام طرّا لحبّها *** و من حبها أحببت أخوالها كلبا

قال أبو زيد: و زادوا في الأبيات:

فإن تسلمي نسلم و إن تتنصّري *** تخطّ رجال بين أعينهم صلبا

فقال له عبد الملك: تنصرت يا خالد، قال: و ما ذاك؟ فأنشده هذا البيت، فقال له خالد: على من قاله و من نحلنيه لعنة اللّه.

يشير غضب الحجاج فيعنّفه و يتطاول عليه

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثني موسى بن سعيد بن سلم(5)، قال:

قدم الحجاج على عبد الملك، فخرّ بخالد بن يزيد بن معاوية، و معه بعض أهل الشام، فقال الشاميّ لخالد:

من هذا؟ فقال خالد كالمستهزئ: هذا عمرو بن العاصي، فعدل إليه الحجاج، فقال: إني و اللّه ما أنا بعمرو بن العاصي و لا ولدت عمرا و لا ولدني؛ و لكني ابن الغطاريف من ثقيف و العقائل/من قريش، و لقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف، كلّهم يشهد أنك و أباك من أهل النار، ثم لم أجد لذلك عندك أجرا و لا شكرا، و انصرف عنه، و هو يقول: عمرو بن العاصي، عمرو بن العاصي!.

محمد بن عمرو بن سعيد بن العاص يتنقصه

أخبرني محمد بن/العباس اليزيديّ، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز(6)، قال: حدثنا المدائنيّ، قال:

حدثنا عبد اللّه بن مسلم القرشيّ، عن مطر مولى يزيد بن عبد الملك:

ص: 220


1- معجم الأدباء 44:11.
2- الخرق: الفلاة الواسعة. و النقب: الطريق في الجبل.
3- المليح: الملح ضد العذب.
4- زبيرية قلبا، يريد خالصة النسب.
5- كذا في أ، ب، و في ج: «سالم».
6- ف: «الخزار».

أنّ محمد بن عمرو بن سعيد بن العاصي قدم الشام غازيا، فأتى عمّته أميّة(1) بنت سعيد، و هي عند خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل خالد فرآه، فقال: ما يقدم علينا أحد من أهل الحجاز إلا اختار المقام عندنا على المدينة، فظنّ محمد أنه يعرّض به، فقال له: و ما يمنعهم من ذلك، و قد قدم قوم من أهل المدينة على النواضح(2)، فنكحوا أمّك و سلبوك ملكك، و فرّغوك لطلب الحديث و قراءة الكتب، و عمل الكيميا الذي لا تقدر عليه. انتهى.

أمه تقتل زوجها مروان بن الحكم

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ، قال: حدثنا الخراز عن المدائنيّ، عن أبي أيوب القرشيّ، عن يزيد بن حصين بن نمير:

أنّ مروان بن الحكم تزوّج أم خالد بن يزيد بن معاوية، فناظر خالدا يوما و أراد أن يضع منه في شيء جرى بينهما، فقال له: يا ابن الرّطبة، فقال له خالد: إنك لأمّي مختبر(3)، و أنت بهذا أعلم. ثم أتى أمّه فأخبرها، و قال:

أنت صنعت بي هذا، فقالت له: دعه، فإنه لا يقولها لك بعد اليوم.

/فدخل مروان عليها فقال لها: هل أخبرك خالد بشيء؟ فقالت: يا أمير المؤمنين! خالد أشدّ تعظيما لك من أن يذكر لي خبرا جرى بينك و بينه.

فلما أمسى وضعت مرفقة على وجهه، و قعدت عليها هي و جواريها حتى مات.

و أراد عبد الملك قتلها، و بلغها ذلك، فقالت: أما إنه أشدّ عليك أن يعلم الناس أن أباك قتلته امرأة؛ فكفّ عنها.

رملة تشكو سكينة بنت الحسين إلى عبد الملك بن مروان

أخبرني محمد قال: حدّثني الخراز، عن المدائنيّ، قال: و أخبرني الطوسيّ، عن الزّبير، عن المدائنيّ، عن جويرية قال:

نشزت سكينة بنت الحسين بن عليّ عليهما السلام على زوجها عبد اللّه بن عثمان - و أمّه رملة بنت الزبير - فدخلت رملة على عبد الملك بن مروان، و هو عند خالد بن يزيد بن معاوية، فقالت: يا أمير المؤمنين، لو لا أن يبتزّ أمرنا(4) ما كانت لنا رغبة فيمن لا يرغب فينا، سكينة بنت الحسين عليه السلام قد نشزت على ابني، قال:

يا رملة، إنها سكينة، قالت: و إن كانت سكينة، فو اللّه لقد ولدنا خيرهم، و نكحنا خيرهم، و أنكحنا خيرهم، تعني بمن ولدوا فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و من نكحوا صفيّة بنت عبد المطلب، و من أنكحوا النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم.

فقال: يا رملة، غرّني منك عروة بن الزّبير، فقالت: ما غرّك، و لكن نصح لك؛ لأنك قتلت أخي مصعبا فلم يأمني عليك.

ص: 221


1- المختار: «آمنة».
2- الناضح: البعير الذي يستقى عليه الماء، و الأنثى: ناضحه، بهاء.
3- أ، ج: «فقال له خالد: الأمير مختبر»، و في المختار: «إنك لأمين مختبر».
4- المختار: «لو أن لنا من يدبر أمرنا».
شعر خالد في بنت عبد اللّه بن جعفر

أخبرني الطوسيّ، قال: حدثني عمّي مصعب، قال: تزوّج خالد/بن يزيد بنت عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام، فقال فيها:

جاءت بها دهم البغال و شهبها *** مقنّعة في جوف حدج(1) مخدّر

مقابلة بين النبيّ محمد *** و بين عليّ و الحواري و جعفر

منافيّة جادت بخالص ودّها *** لعبد منافيّ أغرّ مشهّر

قال مصعب: و من الناس من ينكر تزويجه إياها.

شديد بن شداد يعير عبد الملك بن مروان بخالد

و مما يثبته قول شديد بن شداد بن عامر بن لقيط بن جابر بن وهيب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص(2) بن عامر بن لؤيّ لعبد الملك بن مروان هذا يعيّره(3) بخالد في تزويجه بنت الزبير و بنت عبد اللّه بن جعفر، قال:

/لا يستوي(4) الحبلان حبل تلبّست(5)*** قواه و حبل قد أمرّ شديد

عليك أمير المؤمنين بخالد *** ففي خالد عما تريد صدود

إذا ما نظرنا في مناكح خالد *** عرفنا الذي يهوى و حيث يريد

خالد يشكو الوليد إلى أبيه عبد الملك

أخبرنا الطوسيّ، قال: حدثنا الزّبير، قال: حدثني مصعب بن عثمان، قال: دخل عبد اللّه بن يزيد بن معاوية على أخيه خالد، فقال: لقد هممت اليوم بقتل الوليد بن عبد الملك، فقال له خالد: بئس ما هممت به في ابن /أمير المؤمنين و وليّ عهد المسلمين، قال: إنه لقي خيلي فنفّرها، و تلاعب بها، فقال له خالد: أنا أكفيكه إن شاء اللّه. فدخل خالد على عبد الملك، و عنده الوليد، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ إن وليّ عهد المسلمين الوليد ابن أمير المؤمنين لقي خيل ابن عمّه عبد اللّه بن يزيد فنفّرها و تلعّب بها، فشقّ ذلك على عبد اللّه، فنكس عبد الملك رأسه، و قرع الأرض بقضيب في يده، ثم رفع رأسه إليه، فقال: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذٰا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهٰا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهٰا أَذِلَّةً وَ كَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ (6)، فقال له خالد: وَ إِذٰا أَرَدْنٰا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنٰا مُتْرَفِيهٰا فَفَسَقُوا فِيهٰا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنٰاهٰا تَدْمِيراً (7)، فقال له عبد الملك: أ تكلمني فيه، و قد دخل عليّ لا يقيم لسانه لحنا، فقال له خالد: يا أمير المؤمنين، أ فعلى الوليد تعوّل(8) في اللّحن؟ فقال عبد الملك: إن يكن الوليد لحّانا فأخوه سليمان، قال خالد: و إن

ص: 222


1- الحدج، بكسر الحاء: الهودج، مركب من مراكب النساء ليس برحل و لا هودج. «اللسان» (حدج).
2- س: «بغيض»، و المثبت يوافق ما في جمهرة الأنساب 174، 172 و أنساب قريش 435.
3- في ف: «يغريه»، و المثبت يوافق ما في أ.
4- نسب قريش: «و لا يستوي».
5- أ: «حبل تلبثت».
6- سورة النمل 34.
7- سورة الإسراء 16.
8- كذا في المختار، و هو الوجه. و في باقي الأصول: «تقول».

يكن عبد اللّه لحّانا فأخوه خالد، قال الوليد لخالد: أ تكلّمني و لست في عير و لا نفير(1)! قال: أ لا تسمع يا أمير المؤمنين ما يقول هذا؟ أنا و اللّه ابن العير و النّفير، سيّد العير جدّي أبو سفيان، و سيّد النفير جدّي عتبة بن ربيعة(2)، و لكن لو قلت: حبيلات - يعني حبلة العنب(3) - و غنيمات و الطائف لقلنا: صدقت، و رحم اللّه عثمان!.

هذا آخر الحديث. قال مؤلف هذا الكتاب: يعيّره بأمّ مروان، و أنها/من الطائف، و يعيّره بالحكم، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم طرده إلى الطائف، و ترحّم على عثمان لردّه إياه.

حماقة معاوية بن مروان

حدثني محمد بن العباس اليزيديّ، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائنيّ، عن إسحاق بن أيوب:

أنّ معاوية بن مروان كان ضعيفا، فقال له خالد بن يزيد: يا أبا المغيرة! ما الذي هوّنك على أخيك فلا يوليك ولاية(4)، قال: لو أردت لفعل، قال: كلاّ، قال: بلى و اللّه، قال: فسله أن يولّيك بيت لهيا(5)، قال: نعم.

فغدا على عبد الملك، فقال له معاوية: يا أمير المؤمنين! أ لست أخاك؟ قال: بلى و اللّه، إنك لأخي و شقيقي، قال: فولّني بيت لهيا، قال: متى عهدك بخالد؟ قال: عشيّة أمس، قال: إيّاك أن تكلّمه.

و دخل خالد فقال له: كيف أصبحت يا أبا المغيرة؟ قال: قد نهانا هذا عن كلامك، فغلب على عبد الملك الضّحك، فقام و تفرّق الناس.

قال: و أفلت لمعاوية هذا باز فصاح: أغلقوا أبواب المدينة لا يخرج، قال: و قال له رجل: أنت الشّريف ابن أمير المؤمنين، و أخو أمير المؤمنين، و ابن عم أمير المؤمنين عثمان، و أمّك عائشة بنت معاوية، قال: فأنا إذا مردّد في بني اللّخناء تردادا(6).

خالد يتعصب لكلب على قيس
اشارة

أخبرني الطوسيّ، عن الزبير، عن عمه، قال: كان خالد بن يزيد/يتعصّب لكلب على قيس في الحرب التي كانت بينهم؛ لأنّ كلبا أخوال أبيه يزيد، و أخوال زوجته، فقال شاعر قيس:

/يا خالد بن أبي سفيان قد قرحت(7)*** منّا القلوب و ضاق السّهل و الجبل

أ أنت تأمر كلبا أنّ تقاتلنا *** جهلا و تمنعهم منّا إذا قتلوا

ها إنّ ذا لا يقرّ الطير ساكنة *** و لا تبرّك من نكرائه الإبل

ص: 223


1- ليس في عير و لا نفير، أي ليس شيئا يعتد به.
2- في ف: «جدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير، و أبي أبو سفيان صاحب العير».
3- الحبل: شجر العنب، واحده حبلة.
4- في المختار: «ما أهونك على أخيك؛ ألا يولّيك ولاية».
5- بيت لهيا، قرية مشهورة بغوطة دمشق (البلدان).
6- ف: «ترديدا».
7- كذا في ف، و في أ، ب، ج: «قدحت».
صوت

خمس دسسن إليّ في لطف *** حور العيون نواعم زهر

فطرقتهنّ مع الجريّ(1) و قد *** نام الرّقيب و حلّق النّسر

عروضه من الكامل. الشعر للأحوص، و الغناء لمعبد، رمل بالسبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق.

ص: 224


1- الجري: الرسول، و هو الخادم أيضا.

30 - خبر للأحوص

نسوة من أهل المدينة يعقدن له مجلسا، فيقول في ذلك شعرا

أخبرني حرميّ(1) بن أبي العلاء، قال: حدثني الزبير بن بكّار، قال: أخبرني إبراهيم بن عبد الرحمن، قال:

حدثني إسماعيل بن محمد المخزوميّ، قال:

اجتمع نسوة عند امرأة من أهل المدينة فقلن: أرسلي إلى الأحوص، فإنّا نحبّ أن نتحدث معه و نسمع من شعره، فقالت لهنّ: إذا لا يزيدكنّ على أن يخرج إذا عرفكن، فيشهركنّ و ينظم الشعر فيكنّ، فلم يزلن بها حتى أرسلت إليه رسولا يذكر له أمرهنّ و لا يسميهنّ، و يقول له أن يأتيهن مخمّر الرّأس، ففعل، و تحدّث معهنّ و أنشدهن. فلما أراد الخروج وضع يده في تور(2) بين أيديهن فيه خلوق، فغطّى رأسه، و خرج و وضع يده على الباب، ثم تفقّد الموضع الذي كان فيه، فغدا إليه، و طاف حتى وجد أثر يده في الباب، فقال:

خمس دسسن إليّ في لطف *** حور العيون نواعم زهر

فطرقتهنّ مع الجريّ و قد *** نام الرقيب و حلّق النسر

مستبطنا(3) للحيّ إذ قرعوا *** عضبا يلوح بمتنه أثر

/فعكفن ليلتهن ناعمة *** ثم استفقن(4) و قد بدا الفجر

بأشمّ معسول فكاهته *** غضّ الشباب رداؤه غمر(5)

رزن بعيد الصّوت(6) مشتهر *** جيبت له جوب(7) الرحى عمرو

قامت تخاصره لكلّتها *** تمشي تأوّد غادة بكر

فتنازعا من دون نسوتها *** كلما يسرّ كأنه سحر

كلّ يرى أنّ الشّباب له *** في كل غاية صبوة عذر

سيفانة أمر الشباب بها *** رقراقة لم يبلها الدّهر

حتى إذا أبدى هواه لها *** و بدا هواها ما له ستر

ص: 225


1- ف: «الحرمي».
2- التور: إناء.
3- كذا في ج، ف، و في أ، ب: مستبطئا.
4- ف: «ثم افترقن».
5- الغمر من الثياب: الواسع.
6- كذا في أ، ب، ف، و في ح: «بعيد الصيت».
7- كذا في ف، ح، و في أ، ب: «جيب الرحى».

سفرت و ما سفرت لمعرفة(1) *** وجها أغرّ كأنّه البدر

قال إسماعيل(2) بن محمد: فخرجت و أنا شابّ و معي شباب نريد مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فذكرنا حديث الأحوص و شعره، و قدّامنا عجوز عليها بقايا من الجمال، فلما بلغنا المسجد وقفت علينا و التفتت إلينا، و قالت:

يا فتيان، أنا و اللّه إحدى الخمس، كذب و ربّ هذا القبر و المنبر ما خلت معه واحدة منّا، و لا راجعته دون نسوتها كلاما.

رواية أخرى في سبب قوله هذا الشعر
اشارة

قال الزبير: /و حدثني غير إبراهيم بن عبد الرحمن:

أنّ نسوة من أهل المدينة نذرن مشيا إلى قباء(3) و صلاة فيه، فخرجن ليلا، فطال عليهنّ الليل فنمن، فجاءهنّ الأحوص متّكئا على عرجون/بن طاب(4)، فتحدّث معهنّ حتى أصبح، ثم انصرف و انصرفن، فقال قصيدته:

خمس دسسن إليّ في لطف *** حور العيون نواعم زهر

و حدثني عمّي، عن أبيه، قال: قال حبيب بن ثابت:

صدرت إلى العقيق، فخلا لي الطريق، فأنشدت أبيات الأحوص هذه، و عجوز سوداء قاعدة ناحية تسمع ما أقول و لا أشعر بها، فقالت: كذب و اللّه يا سيّدي؛ إنّ سيفه ليلتئذ لعرجون ابن طاب يتحضّر به، و إني لرسولهنّ إليه.

قال الزبير: و حدثني عمّي، عن أبيه، عن الزّبير(5) بن حبيب، قال: كنت أنشد قول الأحوص:

خمس دسسن إليّ في لطف

قال: فإذا نسوة فيهنّ عجوز سوداء، فأقبلن على العجوز، فقلن لها: لمن هذا الشعر؟ قالت: للأحوص، فقلت(6): للأحوص لعمري، فقالت لهن: أنا و اللّه الجريّ، خرج نسوة يصلّين في مسجد قباء، ثم تحدّثن في رحبة المسجد، في ليلة مقمرة، فقلن: لو كان عندنا الأحوص! فخرجت حتى أتيتهنّ به، و هو متخصّر بعرجون ابن طاب، فتحدّث معهنّ حتى دنا الصبح، فقلن له: لا تذكر خبرنا، و لا تذكر إليه خيرا، قال: قد فعلت، و أنشدهنّ تلك الساعة من الليلة تلك الأبيات، ثم استمرت بأفواه الناس تغنّي:

خمس دسسن إليّ في لطف

الأبيات كلّها، و اللّه ما قامت معه امرأة و لا كان بينه و بين واحدة منهن سرّ(7).

ص: 226


1- ف: «بمعرفة».
2- كذا في ف، و في باقي النسخ: «محمد بن إسماعيل».
3- أي مسجد قباء.
4- ابن طاب: جنس من تمور المدينة، المضاف و المنسوب. و في ف: «بعرجون مرطاب».
5- كذا في النسخ، و تأمل السند السابق.
6- في ج، ف: «فقلن».
7- ف: «ستر».
صوت

يا ابنة الجوديّ قلبي كئيب *** مستهام عندها ما ينيب(1)

و لقد قالوا(2) فقلت: دعوها *** إنّ من تنهون عنه حبيب

إنما أبلى عظامي و جسمي *** حبّها، و الحبّ شيء عجيب

عروضه من الرمل. الشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه، و الغناء لمعبد، ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق، و فيه لمالك خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر، عن إسحاق، و فيه رمل بالسبابة في مجرى الوسطى، لم ينسبه إسحاق إلى أحد. و ذكر أحمد بن يحيى المكّيّ أنه لأبيه يحيى. و اللّه أعلم.

ص: 227


1- ف: «ما يثيب».
2- المختار: «لاموا».

31 - ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر و خبره و قصّة بنت الجوديّ

نسبه

عبد الرحمن بن أبي بكر، و اسم أبي بكر رضي اللّه عنه عبد اللّه - و كان اسمه في الجاهلية عتيقا، فسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عبد اللّه - بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.

و كان اسم عبد الرحمن عبد العزّى، فسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عبد الرحمن.

و أمّه و أمّ عائشة أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتّاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن(1) غنم بن مالك بن كنانة بن خزيمة.

/هذا قول الزبير، و عمه.

و حكى إبراهيم بن موسى أنها بنت عويمر بن عتّاب بن دهمان بن الحارث بن غنم.

و روى عن محمد بن عبد الرحمن المروانيّ أنها بنت عامر بن عويمر بن أذينة بن سبيع بن الحارث بن دهمان بن غنم بن مالك بن كنانة.

له صحبة بالنبي صلّى اللّه عليه و سلم

و لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللّه عنه صحبة بالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلم، و لم يهاجر مع أبيه صغرا عن ذلك، فبقي بمكانه؛ ثم خرج قبل الفتح مع فتية من قريش. و قيل: بل كان إسلامه في يوم الفتح و إسلام معاوية بن أبي سفيان في وقت واحد غير مدفوع. انتهى.

/أخبرني الطوسيّ و حرميّ(2) بن أبي العلاء، قالا: حدّثنا الزّبير، قال: حدثني إبراهيم بن حمزة، عن سفيان بن عيينة، عن عليّ بن زيد بن جدعان: أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر خرج في فتية من قريش مهاجرا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قبل الفتح، قال: و أحسبه قال: إنّ معاوية كان معهم(3).

موقفه من أخذ البيعة ليزيد بن معاوية

قال الزّبير: و حدثني عمّي مصعب قال:

ص: 228


1- ف: «بن عثمان»، و المثبت يوافق ما في نسب قريش و باقي النسخ.
2- ف: «و الحرمي».
3- ف: «معه».

وقف محكّم اليمامة على ثلمة(1) فحماها فلم يجز عليه(2) أحد، فرماه عبد الرحمن بن أبي بكر فقتله - و كان أحد الرّماه - فدخل المسلمون من تلك الثّلمة، و هو المخاطب لمروان يوم دعا إلى بيعة يزيد، و القائل: إنّما تريدون أن تجعلوها كسرويّة أو هرقليّة، كلما هلك كسرى أو هرقل ملك كسرى أو هرقل، فقال مروان: أيّها الناس، هذا الذي قال لوالديه: أفّ لكما أ تعدانني أن أخرج و قد خلت القرون من قبلي، فصاحت به عائشة: أ لعبد الرحمن تقول هذا؟ كذبت و اللّه، ما هو به، و لو شئت أن أسمّي من أنزلت فيه لسميته، و لكن أشهد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لعن أباك، و أنت في صلبه، فأنت فضض(3) من لعنة اللّه.

حدثنا بذلك أحمد بن الجعد، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا وهب بن جرير، عن جويرية بن أسماء، و في غير رواية: أنّ عائشة قالت له: يا مروان؛ أ فينا تتأوّل القرآن، و إلينا تسوق اللعن؟ /و اللّه لأقومنّ يوم الجمعة بك مقاما تودّ أني لم أقمه. فأرسل إليها بعد ذلك و ترضّاها و استعفاها، و حلف ألاّ يصلي بالناس أو تؤمّنه، ففعلت.

شعره في ليلى بنت الجودي

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبد اللّه(4) بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. و أخبرني الطّوسي، قال: حدثنا الزّبير، قال: حدثنا محمد بن الضحاك، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال:

استهيم عبد الرحمن بن أبي بكر بليلى بنت الجوديّ بن عديّ بن عمرو بن أبي عمرو الغسّانيّ، فقال فيها(5):

تذكرت ليلى(6) و السماوة دونها *** و ما لابنة الجوديّ ليلى و ماليا

و أنّى تعاطي قلبه حارثيّة(7) *** تحلّ ببصرى أو تحلّ الجوابيا(8)

و كيف يلاقيها، بلى، و لعلّها *** إذا الناس حجّوا قابلا أن تلاقيا(9)

قال أبو زيد: و قال فيها:

يا ابنة الجوديّ قلبي كئيب *** مستهام عندها ما ينيب

ص: 229


1- الثلمة: فرجة المكسور و المهدوم.
2- ف: «فلم يجز عليها».
3- قال في القاموس: أنت فضض من لعنة اللّه، و يروى: فضض، كعنق و غراب، أي قطعة منها.
4- ف: «عن عبد الرحمن».
5- الأبيات في نسب قريش 276، و البيت الأول في الإصابة 390:4، و انظر نسب قريش.
6- في نسب قريش: «تذكر ليلى».
7- نسب قريش: «... ذكرها حارثية».
8- كذا في ف و في أ، ج، ب: «الحوانيا»، و المثبت يوافق ما في نسب قريش.
9- في نسب قريش: و أنى تلاقيها........ قابلا أن توافيا

جاورت أخوالها حيّ عكّ *** فلعكّ(1) من فؤادي نصيب

/و قد ذكرنا باقي الأبيات فيما تقدم.

قال الزّبير في خبره:

و كان قدم في تجارة، فرآها هناك على طنفسة حولها ولائد، فأعجبته.

و قال أبو زيد في خبره: فقال له عمر: ما لك و لها يا عبد الرحمن! فقال: و اللّه ما رأيتها قطّ إلا ليلة في بيت المقدس في جوار و نساء يتهادين، فإذا عثرت إحداهنّ قالت: يا ابنة الجوديّ، فإذا حلفت إحداهنّ حلفت بابنة الجوديّ.

عمر يأمر بأن تكون ليلى لعبد الرحمن إذا فتحت دمشق

فكتب عمر إلى صاحب الثّغر الذي هي به: إذا فتح اللّه عليكم دمشق فقد غنّمت عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجوديّ. فلما فتح اللّه عليهم غنّموه إيّاها.

قالت عائشة: فكنت أكلّمه فيما يصنع بها، فيقول: يا أخيّة، دعيني، فو اللّه لكأني أرشف(2) من ثناياها حبّ الرمان. ثم ملّها(3) و هانت عليه، فكنت أكلّمه فيما يسيء إليها كما كنت أكلّمه في الإحسان إليها، فكان إحسانه أن ردّها إلى أهلها.

يردها إلى أهلها

قال الشيخ في خبره:

فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن لقد أحببت ليلى فأفرطت، و أبغضت ليلى فأفرطت، فإما أن تنصفها، و إما أن تجهّزها إلى أهلها؛ فجهّزها إلى أهلها.

ليلى بنت ملك دمشق

قال الزّبير: و حدثني عبد اللّه بن نافع الصائغ: عن هشام بن عروة، عن أبيه:

أن عمر بن الخطاب نفّل عبد الرحمن بن أبي بكر بنت الجوديّ، حين فتح دمشق، و كانت بنت ملك دمشق.

روايتان أخريان في أمر عبد الرحمن مع ليلى

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا الصّلت بن مسعود، قال:

حدثنا محمد(4) بن شيرويه، عن سليمان بن صالح، قال: قرأت على عبد اللّه بن المبارك، عن مصعب بن ثابت، عن عبد اللّه بن الزّبير، عن عائشة بنت مصعب، عن عروة بن الزّبير، قال: كانت ليلى بنت الجوديّ بنت ملك من ملوك الشام، فشبّب بها عبد الرحمن بن أبي بكر، و كان قد رآها فيما تقدم بالشام، فلما فتح اللّه عزّ و جلّ على

ص: 230


1- ب، و المختار: أخوالها حي عكل فلعكل...».
2- ف: «أترشف».
3- كذا في ب، و في أ، ف، ج: «بذل لها».
4- كذا في أ، ب، و في ج، ف: «أحمد».

المسلمين، و قتلوا أباها أصابوها، فقال المسلمون لأبي بكر: يا خليفة رسول اللّه! أعط هذه الجارية عبد الرحمن، فقد سلّمناها له، قال أبو بكر: أ كلّكم(1) على هذا؟ قالوا: نعم، فأعطاه إياها، و كان لها بساط في بلدها لا تذهب إلى الكنيف و لا إلى الحاجة إلاّ بسط لها، و رمي بين يديها برمّانتين من ذهب تتلهّى بهما في طريقها. فكان عبد الرحمن إذا خرج من عندها، ثم رجع إليها رأى في عينيها أثر البكاء، فيقول: ما يبكيك؟ اختاري خصالا أيها شئت فعلت بك: إما أن أعتقك و أنكحك، فتقول: لا أشتهيه، و إن شئت رددتك على قومك، قالت: و لا أريد، و إن أحببت رددتك على المسلمين، قالت: لا أريد، قال: فأخبريني ما يبكيك؟ قالت: أبكي الملك من يوم(2) البؤس.

أخبرني أحمد، قال: حدثني أبو زيد، قال: حدثني هارون بن إبراهيم بن معروف، قال: حدثني حمزة بن ربيعة، عن العلاء بن هارون، عن/عبد اللّه بن عون(3)، عن يحيى بن يحيى الغسانيّ:

أنّ عبد الرحمن قدم على يعلى بن منبّه، و هو على اليمن، فوجدها في السّبي، فسأله أن يدفعها إليه.

شعر آخر له في ليلى

أخبرني أحمد، قال: حدّثنا عمر، قال:

كتب إليّ محمد بن زياد بن عبيد اللّه يذكر أن عبد الرحمن قال فيها:

فإمّا تصبحي بعد اقتراب *** بسلع أو ثنيّات الوداع

فلم ألفظك من شبع و لكن *** لأقضي حاجة النفس الشّعاع(4)

/كأنّ جوانح الأضلاع منّي *** بعيد النوم مبطنة اليراع

عائشة ترثيه
اشارة

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدثنا عبد اللّه بن لاحق، عن(5) أبي مليكة، قال:

مات عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللّه عنه بالحبشيّ - جبل من مكّة على أميال(6) - فحمل فدفن بمكة، فقدمت عائشة فوقفت على قبره، ثم قالت(7):

و كنّا كندماني جذيمة حقبة *** من الدّهر حتى قيل لن يتصدّعا

فلما تفرّقنا كأنّي و مالكا *** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

أما و اللّه لو حضرتك لدفنتك حيث متّ، و لو شهدتك لزرتك(8).

ص: 231


1- كذا في ف و هو الوجه، و في أ، ب: «أكلمكم».
2- ف: «أبكي للملك في يوم البؤس».
3- ف: «عوف».
4- نفس شعاع: متفرقة، و قد ورد هذا البيت في «اللسان» (شعع) منسوبا إلى قيس بن ذريح، و فيه: «أقضي».
5- في ف: «لاحق بن أبي مليكة».
6- في البلدان: «جبل بأسفل مكة بنعمان الأراك».
7- البلدان (حبشى).
8- أ، ف: «ما زرتك»، و في المختار: «لما زرتك».
صوت

أ ماويّ إنّ المال غاد و رائح *** و يبقى من المال الأحاديث و الذّكر(1)

و قد علم الأقوام لو أنّ حاتما *** أراد ثراء المال أمسى له وفر(2)

أ ماويّ إن يصبح صداي بقفرة *** من الأرض لا ماء لديّ و لا خمر

تري أنّ ما أنفقت لم يك ضائري *** و أنّ يدي مما بخلت به صفر

عروضه من الطويل.

الثراء: الكثرة في المال، و في عدد القوم أيضا. و الوفر: الغنى، و وفور المال. و الصّدى هاهنا: كان أهل الجاهلية يذكرون أنّ طائرا يخرج من جسم الإنسان أو من رأسه، فإذا قتل أقبل يصوّت على قبره، حتى يدرك بثأره.

و الصّفر: الخالي. و الصدى: العطش، و الصدى: ما يجيب إذا صوّت في المكان الخالي. و صدأ الحديد مهموز.

الشعر لحاتم الطائيّ. و الغناء لإسحاق، رمل بالسبابة في مجرى البنصر. و ذكر الهشاميّ أنّ فيه ثقيلا أول، و لمالك خفيفا، و ذكر حبش أنّ فيه لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى، و ذكر عمرو بن بانة أنّ فيه لابن جامع خفيف رمل بالوسطى.

ص: 232


1- ديوان حاتم 19.
2- الديوان: «كان له وفر».

32 - أخبار حاتم و نسبه

نسبه

ذكر ابن الأعرابيّ، عن المفضل(1)، و الأثرم، عن أبي عمرو الشيبانيّ، و ابن الكلبيّ، عن أبيه و السكريّ، عن يعقوب بن السّكّيت:

أنه حاتم بن عبد اللّه بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عديّ بن أخزم، بن أبي أخزم، و اسمه هزومة بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيئ.

و قال يعقوب بن السكيت: إنما سمي هزومة؛ لأنه شجّ أو شجّ؛ و إنما سمي طيّئ طيئا - و اسمه جلهمة - لأنّه أول من طوى المناهل(2)، و هو ابن أدد بن زيد بن يشحب بن يعرب بن قحطان. و يكنى حاتم أبا سفّانة(3)، و أبا عديّ؛ كني بذلك بابنته سفّانة، و هي أكبر ولده، و بابنه عديّ بن حاتم. و قد أدركت سفّانة و عديّ الإسلام فأسلما، و أتى بسفّانة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم في أسرى طيّئ فمنّ عليها.

علي يروي خبر لقاء ابنته بالنبي صلّى اللّه عليه و سلم

أخبرني بذلك أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدثني عبد اللّه بن عمرو(4) بن أبي سعد، قال: حدثني سليمان بن الربيع بن هشام الكوفيّ - و وجدته في بعض نسخ الكوفيين: عن سليمان بن الربيع - أتمّ من هذا فنسخته و جمعتهما. /قال: حدثنا عبد الحميد بن صالح الموصليّ البرجميّ، قال: حدثنا زكريا بن عبد اللّه بن يزيد الصّهبانيّ، عن أبيه، عن كميل(5) بن زياد النخعيّ، عن عليّ عليه السلام، قال:

/يا سبحان اللّه! ما أزهد كثيرا من الناس في الخير! عجبت لرجل يجيئه أخوه في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كنّا لا نرجو جنّة، و لا نخاف نارا، و لا ننتظر ثوابا، و لا نخشى عقابا، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق؛ فإنها تدلّ على سبيل النجاة.

فقام رجل، فقال: فداك أبي و أمّي يا أمير المؤمنين، أسمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم؟ قال: نعم، و ما هو خير منه؛ لما أتينا بسبايا طيئ كانت في النساء جارية حمّاء(6) حوراء العينين، لعساء لمياء عيطاء(7) شمّاء الأنف، معتدلة

ص: 233


1- ب: «ابن المفضل»، و المثبت يوافق ما في أ، ف.
2- ف: «المنازل».
3- سفانة بنته، و أصل السفانة اللؤلؤة، كما في «القاموس».
4- ف: «عمير».
5- أ، ب، ج: «كهيل»؛ و المثبت من ف، و هو يوافق ما في الإكمال 229، و الاشتقاق 404.
6- أ، ج: «جماء»؛ و حماء: بيضاء.
7- اللعس، محركة: سواء مستحسن في الشفة. و اللمى: سمرة في الشفة؛ و العيط، بالتحريك: طول العنق.

القامة، درماء(1) الكعبين، خدلّجة الساقين، لفّاء الفخذين، خميصة الخصر، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين.

فلما رأيتها أعجبت بها، فقلت: لأطلبنّها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم ليجعلها من فيئي. فلما تكلّمت أنسيت جمالها؛ لما سمعت من فصاحتها، فقالت:

يا محمد، هلك الوالد، و غاب الوافد؛ فإن رأيت أن تخلي عنّي، فلا تشمت بي أحياء العرب؛ فإني بنت سيّد قومي، كان أبي يفكّ العاني، و يحمي الذمار، و يقري الضيف، و يشبع الجائع، و يفرّج عن المكروب، و يطعم الطعام، و يفشي السلام، و لم يردّ طالب حاجة قط؛ أنا بنت حاتم طيئ.

فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: يا جارية، هذه صفة المؤمن، /لو كان أبوك إسلاميّا لترحمنا عليه، خلّوا عنها؛ فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق، و اللّه يحبّ مكارم الأخلاق(2).

نسب أم حاتم

و أمّ حاتم عتبة(3) بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس بن عديّ بن أخزم. و كانت في الجود بمنزلة حاتم، لا تدّخر شيئا و لا يسألها أحد شيئا فتمنعه.

بلغ من سخائها أن حجر عليها إخوتها

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا الحرمازيّ(4)، عن العباسي بن هشام، عن أبيه، قال:

كانت عتبة بنت عفيف، و هي أمّ حاتم ذات يسار، و كانت من أسخى الناس، و أقراهم للضيف، و كانت لا تليق(5) شيئا تملكه. فلما رأى إخوتها إتلافها حجروا عليها، و منعوها مالها، فمكثت دهرا لا يدفع إليها شيء منه، حتى إذا ظنّوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها صرمة(6) من إبلها، فجاءتها امرأة من هوازن كانت تأتيها في كلّ سنة تسألها، فقالت لها: دونك هذه الصّرمة فخذيها، فو اللّه لقد عضّني(7) من الجوع ما لا أمنع منه سائلا أبدا، ثم أنشأت تقول(8):

من شعرها و قد سألتها امرأة من هوازن:

لعمري لقدما عضّني الجوع عضّة *** فآليت ألاّ أمنع الدّهر جائعا

فقولا لهذا اللائمي اليوم: أعفني *** فإن أنت لم تفعل فعضّ الأصابعا

فما ذا عساكم أن تقولوا لأختكم *** سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا

ص: 234


1- أ، ب: «ردماء»، تحريف. و امرأة درماء: لا تستبين كعوبها و مرافقها. و خدلجة: ممتلئة.
2- سيرة ابن هشام 274:4.
3- في الشعر و الشعراء: عنبة. و في ف: «غنية».
4- كذا في ف. و في الديوان و باقي النسخ: «الجرموزي».
5- كذا في ف و الديوان و في أ: «لا تملك»، و في ب: «لا تمسك».
6- الصرمة: القطعة من الإبل ما بين العشر إلى الثلاثين، أو إلى الخمسين و الأربعين، أو ما بين العشرة إلى الأربعين، أو ما بين عشرة إلى بضع عشرة. «القاموس».
7- ف: مضني.
8- ديوانه 42.

/و ما ذا ترون(1) اليوم إلاّ طبيعة *** فكيف بتركي يا ابن أمّ الطّبائعا

سفانة ابنته من أجود نساء العرب

قال ابن الكلبيّ: و حدثني أبو مسكين قال:

كانت سفّانة بنت حاتم من أجود نساء العرب، و كان أبوها يعطيها الصّرمة بعد الصّرمة من إبله، فتنهبها و تعطيها الناس، فقال لها حاتم: يا بنية، إنّ القرينين إذا اجتمعا في المال أتلفاه، فإما أن أعطي و تمسكي، أو أمسك و تعطي؛ فإنه لا يبقى على هذا شيء.

شعره يشبه جوده

قال ابن الأعرابيّ:

كان حاتم من شعراء العرب، و كان جوادا يشبه/شعره جوده، و يصدّق قوله فعله، و كان حيثما نزل عرف منزله، و كان مظفّرا، إذا قاتل غلب، و إذا غنم أنهب، و إذا سئل وهب، و إذا ضرب بالقداح فاز، و إذا سابق سبق، و إذا أسر أطلق، و كان يقسم باللّه ألاّ يقتل واحد أمّه.

و كان إذا أهلّ الشهر الأصمّ(2) الذي كانت مضر تعظّمه في الجاهلية ينحر في كلّ يوم عشرا من الإبل، فأطعم الناس و اجتمعوا إليه، فكان ممّن يأتيه من الشعراء الحطيئة، و بشر بن أبي خازم.

فذكروا أن أمّ حاتم أوتيت و هي حبلى في المنام، فقيل لها: أ غلام سمح يقال له: حاتم أحبّ إليك أم عشرة غلمة كالناس، ليوث ساعة البأس، ليسوا بأوغال و لا أنكاس(3)، فقالت: بل حاتم، فولدت حاتما.

لا يأكل إلا إذا وجد من يأكل معه

فلما ترعرع جعل يخرج طعامه، فإن وجد من يأكله معه أكل، و إن لم يجد/طرحه. فلما رأى أبوه أنه يهلك طعامه قال: له الحق بالإبل، فخرج إليها، و وهب له جارية و فرسا و فلوها(4)، فلما أتى الإبل طفق يبغي الناس فلا يجدهم، و يأتي الطريق فلا يجد عليه أحدا.

عبيد بن الأبرص و بشر بن أبي خازم و النابغة الذبياني يمتدحونه فيهب لهم إبل جده كلها

فبينا هو كذلك إذ بصر بركب على الطريق، فأتاهم فقالوا: يا فتى هل من قرى؟ فقال: تسألوني عن القرى و قد ترون الإبل؟ و كان الذين بصر بهم عبيد بن الأبرص، و بشر بن أبي خازم، و النابغة الذبيانيّ؛ و كانوا يريدون النعمان، فنحر لهم ثلاثة من الإبل، فقال عبيد: إنما أردنا بالقرى اللبن، و كانت تكفينا بكرة إذا كنت لا بدّ متكلّفا لنا شيئا، فقال حاتم: قد عرفت، و لكني رأيت وجوها مختلفة، و ألوانا متفرّقة، فظننت أن البلدان غير واحدة؛ فأردت أن يذكر كلّ واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه، فقالوا فيه أشعارا امتدحوه بها، و ذكروا فضله. فقال حاتم: أردت أن

ص: 235


1- ف: «و ما إن ترون»، أ: «و ما ترون»، و في الديوان: «و لا ما ترون إلا... طبائعا».
2- قال في «القاموس»: «رجب الأصم، لأنه لا ينادي فيه: «يا لفلان! و يا صباحاه»!.
3- أوغال: جمع وغل، و هو الضعيف النذل الساقط المقصر. و الأنكاس: جمع نكس، و هو الضعيف المقصر عن غاية الكرم، و في ف: «بأوغاد».
4- الفلو: المهر إذا فطم.

أحسن إليكم فكان لكم الفضل عليّ، و أنا أعاهد اللّه أن أضرب عراقيب إبلي عن آخرها أو تقدموا(1) إليها فتقتسموها. ففعلوا، فأصاب الرجل تسعة و تسعين بعيرا(2)، و مضوا على سفرهم إلى النعمان. و إن أبا حاتم سمع بما فعل، فأتاه، فقال له: أين الإبل؟ فقال: يا أبت؛ طوّقتك بها طوق الجمامة مجد الدهر، و كرما لا يزال الرجل يحمل بيت شعر أثنى به علينا عوضا من إبلك.

فلما سمع أبوه ذلك قال: أ بإبلي فعلت ذلك! قال: نعم، قال: و اللّه لا أساكنك أبدا. فخرج أبوه بأهله، و ترك حاتما، و معه جاريته و فرسه و فلوها، فقال يذكر تحوّل أبيه عنه(3):

/و إني لعفّ الفقر مشترك الغنى *** و تارك شكل(4) لا يوافقه شكلي

و شكلي شكل لا يقوم لمثله *** من الناس إلاّ كلّ ذي نيقة مثلي(5)

و أجعل مالي دون عرضي جنّة *** لنفسي و أستغني بما كان من فضلي

و ما ضرّني أن سار سعد بأهله *** و أفردني في الدار ليس معي أهلي

سيكفي ابتنائي المجد سعد بن حشرج *** و أحمل عنكم كلّ ما ضاع من ثقل(6)

و لي مع بذل المال في المجد صولة *** إذا الحرب أبدت عن نواجذها العصل(7)

و هذا شعر يدلّ على أنّ جدّه صاحب هذه القصة معه لا أنها قصة أبيه. و هكذا ذكر يعقوب بن السكيت، و وصف أنّ أبا حاتم هلك و حاتم صغير، فكان في حجر جدّه سعد بن الحشرج، فلما فتح يده بالعطاء و أنهب ماله ضيّق عليه جدّه و رحل عنه بأهله، و خلّفه في داره، /فقال يعقوب خاصة:

فبينا حاتم يوما بعد أن أنهب ماله و هو نائم إذ انتبه، و إذا(8) حوله مائتا بعير أو نحوها تجول و يحطم بعضها بعضا، فساقها إلى قومه، فقالوا: يا حاتم، أبق على نفسك فقد رزقت مالا، و لا تعودنّ إلى ما كنت عليه من الإسراف، قال: فإنها نهبى(9) بينكم، فانتهبت، فأنشأ حاتم يقول:

/تداركني مجدي بسفح متالع *** فلا ييأسن ذو نومة أن يغنّما(10)

قال: و لم يزل حاتم على حاله في إطعام الطعام و إنهاب ماله حتى مضى لسبيله.

حاتم و بنو لأم

قال ابن الأعرابيّ، و يعقوب بن السكّيت، و سائر من ذكرنا من الرّواة:

ص: 236


1- ف و المختار و الديوان 84: «أو تقوموا إليها».
2- ف و الديوان و المختار: «تسعة و ثلاثين بعيرا».
3- ديوانه 6.
4- الديوان: «و ودك شكل».
5- النيقة، من قولهم: تنيق في مأكله و ملبسه: تجوّد و بالغ، كتنوق، و الاسم النيقة، بالكسر. و في الديوان: «إلا كل ذي خلق مثلي».
6- كذا في ف، ج. و في أ، ب: «من نفل»، و في الديوان: «ما حل من أزلي»، و الأزل: الضيق.
7- النواجذ: أقصى الأضراس، و العصل: المعوجة في صلابة، جمع أعصل، و هو كناية عن اشتداد الحرب.
8- كذا في أ، ب، و في ف: «و وهبه و هو نائم».
9- النهبى: كل ما انتهب.
10- ديوانه 52، و في ف: «تداركني جدي».

خرج الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس، و معه عطر يريد الحيرة(1)، و كان بالحيرة سوق يجتمع إليه الناس كل سنة. و كان النعمان بن المنذر قد جعل لبني لأم بن عمرو بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن مالك بن جدعان بن ذهل بن رومان بن حبيب بن خارجة بن سعد بن قطنة بن طيئ ربع الطريق طعمة لهم؛ و ذلك لأنّ بنت سعد بن حارثة بن لأم كانت عند النعمان، و كانوا أصهاره، فمرّ الحكم بن أبي العاصي بحاتم بن عبد اللّه، فسأله الجوار في أرض طيئ حتى يصير إلى الحيرة، فأجاره، ثم أمر حاتم بجزور فنحرت، و طبخت أعضاء، فأكلوا، و مع حاتم ملحان بن حارثة بن سعد بن الحشرج و هو ابن عمه، فلما فرغوا من الطعام طيّبهم الحكم من طيبة ذلك.

فمرّ حاتم بسعد بن حارثة بن لأم، و ليس مع حاتم من بني أبيه غير ملحان، و حاتم على راحلته، و فرسه تقاد، فأتاه بنو لأم فوضع حاتم سفرته و قال: اطعموا حيّاكم اللّه، فقالوا: من هؤلاء معك يا حاتم؟ قال: هؤلاء جيراني، قال له سعد: فأنت تجير علينا في بلادنا؟ قال له: أنا ابن عمّكم و أحقّ من لم تخفروا ذمته، فقالوا: لست هناك. و أرادوا أن يفضحوه كما فضح عامر بن جوين(2) قبله، فوثبوا إليه، فتناول سعد بن حارثة بن لأم/حاتما، فأهوى له حاتم بالسيف فأطار أرنبة أنفه، و وقع الشرّ حتى تحاجزوا، فقال حاتم في ذلك(3):

وددت و بيت اللّه لو أنّ أنفه *** هواء فما متّ(4) المخاط عن العظم

و لكنّما لاقاه سيف ابن عمّه *** فآب و مرّ السّيف منه على الخطم(5)

فقالوا لحاتم: بيننا و بينك سوق الحيرة فنماجدك(6) و نضع الرّهن، ففعلوا، و وضعوا تسعة أفراس هنا على يدي رجل من كلب يقال له: امرؤ القيس بن عديّ بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن جناب، و هو جدّ سكينة بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليهما، و وضع حاتم فرسه. حتى خرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة، و سمع بذلك إياس بن قبيصة الطائيّ، فخاف أن يعينهم النعمان بن المنذر يقوّيهم بماله و سلطانه؛ للصّهر الذي بينهم و بينه، فجمع إياس رهطه من بني حية، و قال: يا بني حيّة، إنّ هؤلاء القوم قد أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مجاده، أي مماجدته(7) فقال رجل من بني حية(8): عندي مائة ناقة سوداء و مائة ناقة حمراء أدماء، و قام آخر فقال: عندي عشرة حصن، على كل حصان منها فارس مدجّج لا يرى منه إلاّ عيناه. و قال حسان بن جبلة(9) الخير: قد علمتم أنّ أبي قد مات و ترك كلاّ/كثيرا، فعليّ كلّ خمر أو لحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة. ثم قام إياس فقال: عليّ مثل جميع ما أعطيتم كلكم.

/قال: و حاتم لا يعلم بشيء مما فعلوا، و ذهب حاتم إلى مالك بن جبار، ابن عمّ له بالحيرة كان كثير المال،

ص: 237


1- ديوان حاتم: «و معه عير له يريد العراق».
2- ف: «بن حر»، و المثبت يوافق ما في باقي النسخ و الديوان.
3- ديوانه 30.
4- متّ العظم متّا: سال ما فيه من الودك.
5- الخطم: مقدم الفم و الأنف.
6- هامش أ: «تماجد القوم فيما بينهم، و ماجدته، أمجده؛ أي غلبته بالمجد».
7- أ، ح: «أي بمماجدته».
8- ف: «فقام رجل... فقال: عندي».
9- ف: «بن حنظلة الخير».

فقال: يا ابن عم، أعنّي على مخايلتي(1). قال: و المخايلة المفاخرة، ثم أنشد(2):

يا مال إحدى خطوب الدّهر قد طرقت *** يا مال ما أنتم عنها بزحزاح

يا مال جاءت حياض الموت واردة *** من بين غمر فخضناه و ضحضاح(3)

فقال له مالك: ما كنت لأحرب نفسي و لا عيالي و أعطيك مالي.

فانصرف عنه، و قال مالك في ذلك قوله:

إنّا بنو عمّكم لا أن نباعلكم *** و لا نجاوركم إلاّ على ناح(4)

و قد بلوتك إذ نلت الثراء فلم *** ألقك بالمال إلاّ غير مرتاح

قال أبو عمرو الشيبانيّ في خبره: ثم أتى حاتم ابن عم له يقال له: وهم ابن عمرو، و كان حاتم يومئذ مصارما له لا يكلّمه، فقالت له امرأته: أي وهم، هذا و اللّه أبو سفّانة حاتم قد طلع، فقال: ما لنا و لحاتم! أثبتي النظر، فقالت: ها هو، قال: ويحك هو لا يكلّمني، فما جاء به إليّ؟ فنزل حتى سلّم عليه و ردّ سلامه و حيّاه، ثم قال له:

ما جاء بك يا حاتم؟ قال: خاطرت على حسبك و حسبي، قال: في الرّحب و السّعة، هذا مالي - قال: و عدّته يومئذ تسعمائة بعير - فخذها مائة مائة حتى تذهب الإبل أو تصيب ما تريد. فقالت امرأته: /يا حاتم، أنت تخرجنا من مالنا، و تفضح صاحبنا - تعني زوجها - فقال: اذهبي عنك؛ فو اللّه ما كان الذي غمّك ليردّني عما قبلي. و قال حاتم(5):

إلا أبلغا وهم بن عمرو رسالة *** فإنك أنت المرء بالخير أجدر

رأيتك أدنى الناس منّا قرابة(6) *** و غيرك منهم كنت أحبو و أنصر

إذا ما أتى يوم يفرّق بيننا *** بموت فكن يا وهم ذو يتأخّر

ذو في لغة طيئ(7): الذي.

قالوا: ثم قال إياس بن قبيصة: احملوني إلى الملك، و كان به نقرس، فحمل حتى أدخل عليه، فقال: أنعم صباحا أبيت اللعن، فقال النعمان: و حيّاك إلهك، فقال إياس: أ تمدّ أختانك بالمال و الخيل، و جعلت بني ثعل في قعر الكنانة! أظنّ أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين(8)، و لم يشعروا(9) أنّ بني حيّة بالبلد؛ فإن شئت و اللّه ناجزناك حتى يسفح الوادي دما، فليحضروا مجادهم غدا بمجمع العرب.

فعرف النعمان الغضب في وجهه و كلامه، فقال له النعمان: يا أحلمنا لا تغضب؛ فإني سأكفيك.

ص: 238


1- أ: «مخابلتي»، بالباء تحريف.
2- ديوانه 31.
3- ف: «بضحضاح». و الغمر: الماء الكثير، و الضحضاح: الماء اليسير.
4- في «اللسان»: باعل القوم قوما آخرين مباعلة و بعالا: تزوج بعضهم إلى بعض. و ناح: يريد ناحية.
5- ديوان حاتم 31.
6- ف: «... أدنى الناس مني...».
7- ف: «ذو: لغة أهل اليمن: الذي».
8- ف: «بن حر».
9- ف: «و لا يشعرون».

و أرسل النعمان إلى سعد بن حارثة و إلى أصحابه: انظروا ابن عمّكم حاتما، فأرضوه، فو اللّه ما أنا بالذي أعطيكم مالي تبذّرونه، و ما أطيق بني حيّة.

/فخرج بنو لأم إلى حاتم فقالوا له: أعرض عن هذا المجاد ندع أرش أنف ابن عمنا، قال: لا و اللّه لا أفعل حتى تتركوا أفراسكم، و يغلب مجادكم. فتركوا أرش أنف صاحبهم و أفراسهم، و قالوا: قبّحها اللّه و أبعدها؛ فإنما هي مقارف(1)، فعمد إليها حاتم، و أطعمها الناس، و سقاهم الخمر، و قال حاتم في ذلك(2):

/أبلغ بني لأم فإنّ خيولهم *** عقرى و إنّ مجادهم لم يمجد(3)

ها إنّما مطرت سماؤكم دما *** و رفعت رأسك مثل رأس الأصيد

ليكون جيراني أكالا(4) بينكم *** نحلا(5) لكنديّ و سبي مزبد

و ابن النّجود إذا غدا متلاطما *** و ابن العذوّر ذي العجان الأبرد(6)

و لثابت عيني جذ متماوت *** و للعمظ أوس قد عوى لمقلد(7)

أبلغ بني ثعل بأني لم أكن *** أبدا لأفعلها طوال المسند

لا جئتهم(8) فلاّ و أترك صحبتي *** نهبا و لم تغدر بقائمة يدي

و خرج حاتم في نفر من أصحابه في حاجة لهم، فسقطوا على عمرو بن أوس بن طريف بن المثنّى بن عبد اللّه بن يشجب بن عبد ودّ في فضاء من/الأرض، فقال لهم أوس بن حارثة بن لأم: لا تعجلوا بقتله؛ فإن أصبحتم و قد أحدق الناس بكم استجرتموه، و إن لم تروا أحدا قتلتموه. فأصبحوا و قد أحدق الناس بهم، فاستجاروه فأجارهم، فقال حاتم(9):

عمرو بن أوس إذا أشياعه غضبوا *** فأحرزوه بلا غرم و لا عار

إنّ بني عبد ودّ كلّما وقعت *** إحدى الهنات أتوها غير أغمار

خبر لأبي الخيبريّ عند قبر حاتم

أخبرني أحمد بن محمد البزار الأطروش، عن عليّ بن حرب، عن هشام بن محمد، عن أبي مسكين جعفر بن المحرز(10) بن الوليد، عن أبيه، قال: قال الوليد جده، و هو مولى لأبي هريرة: سمعت محرز بن أبي هريرة يتحدّث، قال:

ص: 239


1- ف: «مقاريف»، و المقرب من الخيل: غير الأصيل.
2- ديوانه 32.
3- في الديوان: «بلغ بني لأم بأن جيادهم... لم يرشد».
4- كذا في ف، و في الديوان: ليكون جيراني كأني بينكم
5- ب، س: «بخلا»، تصحيف.
6- العذوّر: السيئ الخلق، و العجان: الاست، و في ف، ج: «الأربد».
7- ف: «و لنابت».
8- ف: «لا حيّهم قلاّ».
9- ديوانه 65.
10- ف: «المحرم».

كان رجل يقال له أبو الخيبريّ مرّ في نفر من قومه بقبر حاتم، و حوله أنصاب متقابلات من حجارة كأنهنّ نساء نوائح. قال: فنزلوا به، فبات أبو الخيبريّ ليلته كلّها ينادي: أبا جعفر اقر أضيافك. قال: فيقال له: مهلا؛ ما تكلّم من رمّة(1) بالية! فقال: إنّ طيئا يزعمون أنه لم ينزل به أحد(2) إلاّ قراه.

قال: فلما كان من آخر الليل نام أبو الخيبريّ، حتى إذا كان في السّحر وثب فجعل يصيح: وا رحلتاه! فقال له أصحابه: ويلك! ما لك! قال: خرج و اللّه حاتم بالسيف و أنا انظر إليه حتى عقر ناقتي، قالوا: كذبت، قال: بلى، فنظروا إلى راحلته فإذا هي منخزلة(3) لا تنبعث، فقالوا: قد و اللّه قراك. فظلّوا يأكلون من لحمها، ثم أردفوه، فانطلقوا فساروا/ما شاء اللّه، ثم نظروا إلى راكب فإذا هو عديّ بن حاتم راكبا قارنا جملا أسود، فلحقهم، فقال:

أيّكم أبو الخيبريّ؟ فقالوا: هو هذا، فقال: جاءني أبي في النوم، فذكر لي شتمك إياه، و أنه قرى راحلتك لأصحابك(4)، و قد قال في ذلك أبياتا، و ردّدها حتى حفظتها؛ و هي(5):

أبا خيبريّ(6) و أنت امرؤ *** ظلوم العشيرة شتّامها

فما ذا(7) أردت إلى رمّة *** ببادية صخب هامها(8)

تبغّي أذاها و إعسارها *** و حولك غوث و أنعامها(9)

و إنّا لنطعم أضيافنا *** من الكوم بالسّيف نعتامها(10)

و قد أمرني أن أحملك على جمل فدونكه، فأخذه و ركبه، و ذهبوا(11).

حاتم يطلق قومه من أسر الحارث بن عمرو

/أغارت(12) طيئ على إبل للنعمان بن الحارث بن أبي شمر الجفنيّ، و يقال: هو الحارث بن عمرو، رجل من بني جفنة، و قتلوا ابنا له. و كان الحارث إذا غضب حلف ليقتلنّ و ليسبينّ الذّراريّ، فحلف ليقتلنّ من بني الغوث أهل بيت على دم واحد، فخرج يريد طيئا، فأصاب من بني عديّ بن أخزم سبعين رجلا(13) رأسهم وهم بن عمرو من رهط حاتم - و حاتم يومئذ بالحيرة عند/النعمان - فأصابتهم مقدمات(14) خيله. فلما قدم حاتم الجبلين جعلت

ص: 240


1- الرمة: العظم البالي، و جمعه رمم.
2- ف: «لم ينزل به أحد و هو ميت إلا قراه».
3- منخزلة: منقطعة، و في ف و المختار: «مختزلة».
4- ف: «و أنه أقرى راحلتك أصحابك».
5- ديوانه 18، 11.
6- في الديوان: «أبا الخيبري».
7- في أ: «ما ذا»، و المثبت من ف.
8- أ: «ببادية صخب هامها»، و في ف: «بداوية صيحت هامها». و في الديوان: «بداوية صخب هامها».
9- ف و المختار: «عوف و أنعامها».
10- الكوم: جمع كوماء؛ و هي الناقة العظيمة السنام.
11- في الديوان: «و ذهب».
12- ديوانه 13.
13- في الديوان: «من أخزم تسعين رجلا».
14- ف: «معربات»، و في الديوان: «فأصابهم مقدمات الجند».

المرأة تأتيه بالصبيّ من ولدها(1) فتقول: يا حاتم أسر أبو هذا. فلم يلبث إلاّ ليلة حتى سار إلى النعمان(2) و معه ملحان بن حارثة، و كان لا يسافر إلاّ و هو معه، فقال حاتم(3):

ألا إنني قد هاجني الليلة الذّكر(4) *** و ما ذاك من حبّ النساء و لا الأشر(5)

و لكنه مما أصاب عشيرتي(6) *** و قومي بأقران حواليهم الصّير(7)

الأقران: الحبال. و الصّير: الحظائر، واحدها صيرة.

ليالي نمشي بين جوّ و مسطح(8) *** نشاوى لنا من كلّ سائمة جزر

فيا ليت خبر الناس حيّا و ميّتا *** يقول لنا خيرا و يمضي الذي ائتمر

فإن كان شرّا فالعزاء فإننا *** على وقعات الدّهر من قبلها صبر(9)

سقى اللّه ربّ الناس سحّا و ديمة *** جنوب السّراة من مآب إلى زغر(10)

بلاد امرئ لا يعرف الذّمّ بيته *** له المشرب الصّافي و لا يطعم الكدر(11)

/تذكرت من وهم بن عمرو جلادة *** و جرأة مغزاه(12) إذا صارخ(13) بكر

فأبشر و قرّ العين منك فإنّني *** أحيّي كريما لا ضعيفا و لا حصر

فدخل حاتم على النعمان(14) فأنشده، فأعجب به، و استوهبهم منه؛ فوهب له بني امرئ القيس بن عديّ، ثم أنزله فأتي بالطعام و الخمر، فقال له ملحان: أ تشرب الخمر و قومك في الأغلال؟ قم إليه فسله إياهم، فدخل عليه فأنشده(15)

إنّ امرأ القيس أضحت(16) من صنيعتكم *** و عبد شمس - أبيت اللّعن - فاصطنعوا

إنّ عديّا(17) إذا ملكت جانبها *** من أمر غوث على مرأى و مستمع(18)

ص: 241


1- في ب، س، أ: «ولديها».
2- في الديوان: «حتى سار إلى الحارث».
3- ديوانه 14.
4- ف: «الذعر».
5- الأشر: المرح.
6- في الديوان: «و لكنني مما أصاب».
7- س، ب: «الصبر»، بالباء تصحيف.
8- س: «جور»، و المثبت من أ، ج، و في الديوان: «ليالي نمسي بين جو».
9- ف: «... بالعزاء... من قبله صبر»، و في الديوان: «فإن كان شر فالعزاء».
10- س، ب: «من ما أتت إلى ذعر»، و المثبت من ج، ف، و الديوان؛ و هذا البيت و الذي بعده في البلدان، قال: زغر، بوزن زفر، و آخره راء مهملة: قرية بمشارف الشام.
11- الديوان: «و ليس له الكدر».
12- الديوان: «و جرأة معداه».
13- في الديوان: «إذا نازح بكر».
14- الديوان: «على الحارث».
15- ديوانه 14، 95.
16- كذا في ج، و في أ، ب: «أضحى».
17- ف: «إن العبيد».
18- في البيت إقواء.

أتبع بني عبد شمس أمر صاحبهم(1) *** أهلي فداؤك إن ضرّوا و إن نفعوا

لا تجعلنا - أبيت اللّعن - ضاحية(2) *** كمعشر صلموا الآذان أو جدعوا

/أو كالجناح إذا سلّت قوادمه *** صار الجناح لفضل الرّيش يتّبع

فأطلق له بني عبد شمس بن عديّ بن أخزم، و بقي قيس بن جحدر بن ثعلبة بن عبد رضيّ بن مالك بن ذبيان بن عمرو بن ربيعة بن جرول الأجئيّ(3)، و هو من لخم، و أمه من بني عديّ، و هو جدّ الطرماح بن حكيم بن نفر بن قيس بن جحدر، فقال له النعمان: أ فبقي(4) أحد من أصحابك؟ فقال حاتم(5):

فككت عديّا كلّها من إسارها *** فأفضل و شفّعني بقيس بن جحدر

أبوه أبي و الأمهات أمّهاتنا *** فأنعم فدتك اليوم نفسي(6) و معشري

/فقال: هو لك يا حاتم، فقال حاتم(7):

أبلغ الحارث بن عمرو بأنّي *** حافظ الودّ مرصد للثّواب

و مجيب دعاءه إن دعاني(8) *** عجلا واحدا و ذا أصحاب

إنما بيننا و بينك فاعلم *** سير تسع للعاجل المنتاب

فثلاث من السّراة(9) إلى الحلّة *** للخيل جاهدا و الرّكاب

و ثلاث يوردن تيماء رهوا *** و ثلاث يقربن بالإعجاب

/فإذا ما مررن(10) في مسبطرّ(11) *** فاجمح الخيل مثل جمح الكعاب

اجمح: ارم بهم كما يرمى بالكعاب، و يقال: إذا انتصب لك أمر فقد جمح.

بينما ذاك أصبحت و هي عضدي *** من سبيّ مجموعة و نهاب(12)

[عضدى: مكسورة الأعضاء](13).

ليت شعري متى أرى قبة ذا *** ت قلاع للحارث الحرّاب

ص: 242


1- ف: «أبلغ»، و في الديوان: «إخوتهم».
2- كذا في ف و الديوان، و في أ، ب: ضاحكة.
3- كذا في ف و هو الوجه، و في الديوان: «الأجائي».
4- انظر الديوان.
5- ديوانه 15.
6- ف: «فدتك السوء نفسي».
7- ديوانه 15.
8- ب: «و مجيب دعاءه أن دعاني». و المثبت رواية أ، ف، و الديوان.
9- الديوان: «من الشراة».
10- الديوان: «فإذا ما مررت».
11- المسبطر: الممتد.
12- في ف: «بين شتى مجموعة و نهاب».
13- ليس في ف.

بيفاع(1) و ذاك منها محلّ *** فوق ملك يدين بالأحساب

أيها الموعدي(2) فإنّ لبوني *** بين حقل و بين هضب دباب(3)

حيث لا أرهب الجراة(4) و حولي *** ثعليّون(5) كاللّيوث الغضاب

و قال حاتم أيضا(6):

لم تنسني إطلال ماويّة يأسي *** و لا الزمن الماضي الذي مثله ينسي

إذا غربت شمس النهار وردتها *** كما يرد الظمآن آتية الخمس

حاتم و ماوية بنت عفزر

قال: و كنا عند معاوية(7)، فتذاكرنا ملوك العرب، حتى ذكرنا الزّباء(8) و ابنة عفزر، فقال معاوية: إني لأحب أن أسمع حديث ماوية و حاتم، و ماوية بنت عفزر، فقال رجل من القوم: أ فلا أحدثك يا أمير المؤمنين؟ فقال: بلى، فقال: إنّ ماوية بنت عفزر كانت ملكة، و كانت تتزوج من أرادت، و إنها بعثت غلمانا لها و أمرتهم أن يأتوها بأوسم من يجدونه بالحيرة، فجاءوها بحاتم، فقالت له: استقدم إلى الفراش، فقال: حتى أخبرك، و قعد على الباب، و قال: إني أنتظر صاحبين لي، فقالت: دونك أستدخل المجمر. فقال: استي(9) لم تعوّد المجمر، فأرسلها مثلا.

فارتابت منه، و سقته خمرا ليسكر، فجعل يهريقه بالباب فلا تراه تحت الليل، ثم قال: ما أنا بذائق قرى و لا قارّ حتى انظر ما فعل صاحباي. فقالت: إنّا سنرسل إليهما بقرّي، فقال حاتم: ليس بنافعي شيئا أو آتيهما. قال: فأتاهما، فقال: أ فتكونان عبدين لابنة عفزر، ترعيان غنمها أحبّ إليكما أم تقتلكما(10)؟ فقالا: كلّ شيء يشبه بعضه بعضا، و بعض الشّرّ أهون من بعض، فقال حاتم: الرحيل و النجاة. و قال يذكر ابنة عفزر، و أنه ليس بصاحب ريبة(11):

حننت إلى الأجبال أجبال طيئ *** و حنّت قلوصي(12) أن رأت سوط أحمرا

فقلت لها: إنّ الطريق أمامنا *** و إنا لمحيو(13) ربعنا إن تيسّرا

/فيا راكبي عليا جديلة إنما *** تسامان ضيما مستبينا فتنظرا(14)

ص: 243


1- أ، ج: «ببقاع»، و في ب: «لبقاع» و المثبت من ف و الديوان.
2- ب، س: «إنها موعدي» و المثبت من أ، ف و الديوان.
3- كذا في ف، و هو جبل لبني ثعل، و في أ، ب، ج: «ضياب».
4- كذا في أ، ف، و الديوان. و في ج: «الخرارة حولي»؛ و في ب: «الجراءة حولي».
5- أ، ف: «ثعلبيون»، و المثبت في الديوان أيضا.
6- ديوانه 16.
7- ديوانه 33.
8- في الديوان: «الزباء ابنة عفزر».
9- ج، ف و الديوان: «است».
10- ف: أو لتقتلنكما.
11- ديوانه 34، و فيه: «و ابنة عفزر، كانت بالحيرة، و كان النعمان من يأتيه يريد كرامته أنزله عليها فقال:».
12- في الديوان: «حنت... و جنت جنونا».
13- في الديوان: «... و إنا محيو ربعنا».
14- في الديوان: «فيا أخوينا من جديلة...»، و في ف: «ضيما مستعينا فبكّرا».

/فما نكراه غير أنّ ابن ملقط *** أراه و قد أعطى الظّلامة أو جرا(1)

و إني لمزج للمطيّ(2) على الوجا *** و ما أنا من خلاّنك ابنة عفزرا

و ما زلت أسعى بين ناب و دارة *** بلحيان حتى خفت أن أتنضّرا

و حتى حسبت الليل و الصبح إذ بدا *** حصانين سيّالين(3) جونا و أشقرا

لشعب من الرّيّان أملك بابه *** أنادي به آل الكبير و جعفرا

أحبّ إليّ من خطيب رأيته(4)*** إذا قلت معروفا تبدل منكرا

تنادي إلى جاراتها: إنّ حاتما *** أراه لعمري بعدنا قد تغيّرا

تغيّرت إني غير آت لريبة(5)*** و لا قائل يوما لذي العرف منكرا

فلا تسأليني و اسألي أيّ فارس *** إذا بادر القوم الكنيف المستّرا

و لا تسأليني و اسألي أيّ فارس(6)*** إذا الخيل جالت في قنا قد تكسّرا

فلا هي ما ترعى جميعا عشارها *** و يصبح ضيفي ساهم الوجه أغبرا

متى ترني أمشى بسيفي وسطها *** تخفني و تضمر بينها أن تجزّرا

و إني ليغشى أبعد الحيّ جفنتي *** إذا ورق الطّلح الطوال تحسّرا(7)

/فلا تسأليني(8) و اسألي به صحبتي *** إذا ما المطيّ بالفلاة تضوّرا

و إني لوهّاب قطوعي(9) و ناقتي *** إذا ما انتشيت، و الكميت المصدّرا

و إني(10) كأشلاء اللّجام و لن تري *** أخا الحرب إلاّ ساهم الوجه أغبرا

أخو(11) الحرب إن عضّت به الحرب عضّها *** و إنّ شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

و إني إذا ما الموت لم يك دونه *** قدى(12) الشّبر أحمى الأنف أن أتأخرا

متى تبغ ودّا من جديلة تلقه *** مع الشنء(13) منه باقيا متأثّرا

فإلاّ يفادونا جهارا نلاقهم(14)*** لأعدائنا ردءا دليلا و منذرا

ص: 244


1- في الديوان: «... أعطى المقادة...».
2- في ف و الديوان: «و إني لمزجاء المطي...».
3- في ف و الديوان: «... مشنالين».
4- في الديوان: «... من خطيب لقيته».
5- في ف و الديوان: «آت دنية».
6- في ف و الديوان: «أي ياسر».
7- تحسر: سقط.
8- ف: «و لا تسأليني».
9- القطع: طرف من الثياب الموشاة، و جمعه قطوع.
10- ف و الديوان: «رأتني».
11- أ، ج و الديوان: «أخا الحرب».
12- أ: قدى الشبر: قدر الشبر.
13- الديوان: مع الشّنّ.
14- في ج، ف و الديوان: «فإلا يعادونا».

إذا حال دوني من سلامان رملة *** وجدت توالي الوصل عندي أبترا

و ذكروا أن حاتما دعته نفسه إليها بعد انصرافه من عندها، فأتاها يخطبها فوجد عندها النابغة و رجلا من الأنصار من النّبيت(1)، فقالت لهم: انقلبوا إلى رحالكم، و ليقل كلّ واحد منكم شعرا يذكر فيه فعاله و منصبه، فإني أتزوّج أكرمكم و أشعركم.

/فانصرفوا و نحر كلّ واحد منهم جزورا، و لبست ماوية ثيابا لأمة لها و تبعتهم، فأتت النّبيتيّ(2) فاستطعمته من جزوره فأطعمها ثيل جمله(3) فأخذته، ثم أتت نابغة بني ذبيان فاستطعمته فأطعمها ذنب جزوره فأخذته، ثم أتت حاتما و قد نصب قدره فاستطعمته، فقال لها: قفي(4) حتى أعطيك ما تنتفعين به إذا صار إليك، فانتظرت فأطعمها قطعا من العجز و السنام، و مثلها من المخدش، و هو عند الحارك(5)، ثم انصرفت، و أرسل كلّ واحد منهم إليها ظهر جمله، و أهدى حاتم إلى جاراتها مثل ما أرسل إليها، و لم يكن يترك جاراته إلاّ بهدية. و صبّحوها فاستنشدتهم فأنشدها النّبيتيّ(6):

/هلاّ سألت النّبيتيّين(7) ما حسبي *** عند الشتاء إذا ما هبّت الرّيح

و ردّ جازرهم حرفا مصرّمة(8)*** في الرّأس منها و في الأصلاء تمليح(9)

و قال رائدهم(10): سيّان ما لهم *** مثلان مثل لمن يرعى و تسريح

إذا اللّقاح غدت ملقى أصرّتها(11)*** و لا كريم من الولدان مصبوح

/فقالت له: لقد ذكرت مجهدة(12).

ثم استنشدت النابغة، فأنشدها يقول(13):

هلاّ سألت بني ذبيان ما حسبي *** إذا الدّخان تغشّى الأشمط البرما(14)

ص: 245


1- هم قبيلة من الأنصار.
2- في الديوان: «فأتت النبيتي متنكرة».
3- الثيل، بالفتح و الكسر: وعاء قضيب البعير.
4- ف: «قرّى»، و في الديوان: «اصبري»، و المثبت في أ، ج، ب.
5- المخدش كمنبر و محدث: كاهل البعير، و الحارك: أعلى الظهر.
6- ديوان حاتم 36.
7- الديوان: «هلا سألت بني النبيت».
8- ف: «و رد جارهم حرفا مضرمة»، و المثبت في الديوان أيضا. الحرف: الناقة الضامرة أو المهزولة، و مصرمة، كمعظمة: ناقة يقطع طبياها ليعيش الإحليل فلا يخرج اللبن ليكون أقوى لها، و قد يكون من انقطاع اللبن بأن يصيب ضرعها شيء فيكوي فينقطع لبنها.
9- الأصلاء: جمع الصلا: وسط الظهر، و في ف: «و في الأعصاب تمليح». و في الديوان و المختار: «و في الأصلاب تمليح». و التمليح: السمن.
10- ف: «و قال قائلهم».
11- أصرة: جمع صرار: ما يشد به.
12- الديوان: «مكرمة».
13- ديوانه 66.
14- الأشمط: الذي خالطه الشيب. البرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر.

و هبّت الريح من تلقاء ذي أرل(1) *** تزجي مع الليل من صرّادها(2) الصّرما

إنّي أتمم أيساري(3) و أمنحهم *** مثنى الأيادي و أكسو الجفنة الأدما

فلما أنشدها قالت: ما ينفكّ الناس بخير ما ائتدموا.

ثم قالت: يا أخا طيّئ أنشدني، فأنشدها(4):

أ ماويّ قد طال التّجنّب و الهجر *** و قد عذرتني في طلابكم العذر

أ ماويّ إنّ المال غاد و رائح *** و يبقى من المال الأحاديث و الذّكر

/أ ماويّ إني لا أقول لسائل *** إذا جاء يوما: حلّ في مالنا النّذر(5)

أ ماويّ إمّا مانع فمبيّن *** و إما عطاء لا ينهنهه الزّجر

أ ماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوما(6) و ضاق بها الصّدر

إذا أنا دلاّني الذين أحبّهم *** بملحودة زلج جوانبها(7) غبر

و راحوا سراعا ينفضون أكفّهم *** يقولون: قد دمى(8) أنا ملنا الحفر

أ ماويّ إن يصبح صداي بقفرة *** من الأرض لا ماء لديّ(9) و لا خمر

تري أنّ ما أنفقت(10) لم يك ضرّني *** و أنّ يدي مما بخلت به صفر

أ ماويّ إنّي ربّ واحد أمّه *** أخذت(11) فلا قتل عليه و لا أسر

و قد علم الأقوام لو أنّ حاتما *** أراد ثراء المال كان له وفر

فإني لا آلو بمالي صنيعة *** فأوّله زاد و آخره ذخر

يفكّ به العاني و يؤكل طيّبا *** و ما إن تعرّته القداح و لا الخمر(12)

/و لا أظلم(13) ابن العمّ إن كان إخوتي *** شهودا و قد أودى بأخوّته(14) الدّهر

ص: 246


1- أ، ب، ج، س: «أزل»، و المثبت من الديوان و البلدان، قال ياقوت: و أول: جبل بأرض غطفان بينها و بين عذرة، و أنشد للنابغة الذبياني... و ذكرت البيت. و في ف: «أرك» بالكاف.
2- ف: «من صرادها»، و المثبت في الديوان أيضا. و الصراد: الغيم الرقيق لا ماء فيه. الصرم: جمع صرمة، و هي قطع السحاب، و في المختار و ف: «تزجى مع الصبح».
3- في الديوان: «إني أسامح». الأيسار: جمع يسر، و هم لمتقامرون.
4- ديوانه 19.
5- في الديوان: «النزار»، يريد أنه أصبح قليلا. و في ف: «نذر».
6- في الديوان: «إذا حشرجت نفس».
7- في س، أ، ب، ج: «زلخ». و زلج جوانبها: الزلج، محركة: الزلق، و يسكن. و الزلج: المزلة تزل فيها الأقدام لندوته أو ملاسته.
8- في الديوان: «و راحوا عجالا». و فيه: «قد أدمى».
9- في الديوان: «... لا ماء هناك و لا خمر».
10- في الديوان: «أن ما أهلكت».
11- ف و الديوان: «أجرت فلا قتل».
12- ف: «... و لا القمر»، و في الديوان: «و ما إن تعريه».
13- في المختار: «و لا ألطم».
14- في المختار: «بإخوانه».

غنينا زمانا بالتّصعلك و الغنى *** و كلاّ سقاناه بكأسهما العصر(1)

فما زادنا بغيا على ذي قرابة *** غنانا و لا أزرى بأحسابنا الفقر

و ما ضرّ جارا يا ابنة القوم فاعلمي *** يجاورني ألاّ يكون له ستر(2)

بعيني عن جارات قومي غفلة *** و في السّمع منّي عن حديثهم وقر

فلما فرغ حاتم من إنشاده دعت بالغداء، و كانت قد أمرت إماءها أن يقدّمن إلى كل رجل منهم ما كان أطعمها، فقدّمن إليهم ما كانت أمرتهنّ أن يقدمنه إليهم، فنكّس النّبيتيّ رأسه و النابغة، فلما نظر حاتم إلى ذلك رمى بالذي قدّم إليهما(3)، و أطعمهما مما قدم إليه، فتسللا لواذا، و قالت: إنّ حاتما أكرمكم و أشعركم.

فلما خرج النّبيتيّ و النابغة قالت لحاتم: /خلّ سبيل امرأتك، فأبى، فزوّدته و ردّته. فلما انصرف دعته نفسه إليها، و ماتت امرأته، فخطبها فتزوّجته، فولدت عديّا.

إسلام عدي بن حاتم

و قد كان عديّ أسلم و حسن إسلامه، فبلغنا إنّ النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال له، و قد سأله عديّ: يا رسول اللّه، إن أبي كان يعطي و يحمل، و يوفي بالذّمّة، و يأمر بمكارم الأخلاق؛ فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: إنّ أباك خشبة من خشبات جهنّم.

فكأن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم رأى الكآبة في وجهه، فقال له: يا عديّ إنّ أباك و أبي و أبا إبراهيم في النار.

ماوية و حاتم و ابن عمه مالك

و كانت ماوية عنده زمانا، و إن ابن عمّ لحاتم كان يقال له: مالك قال لها: ما تصنعين بحاتم؟ فو اللّه لئن وجد شيئا ليتلفنه، و إن لم يجد ليتكلفنّ، و إن مات ليتركنّ ولده عيالا على قومك، فقالت ماوية: صدقت، إنه كذلك.

و كان النساء - أو بعضهنّ - يطلّقن الرجال في الجاهلية، و كان طلاقهن أنهن إن كنّ في بيت من شعر حوّلن الخباء؛ فإن كان بابه قبل المشرق حوّلنه قبل المغرب، و إن كان بابه قبل اليمن حوّلنه قبل الشام؛ فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتها. و إن ابن عم حاتم قال لماوية - و كانت أحسن نساء الناس -: طلّقي حاتما، و أنا أنكحك و أنا خير لك منه، و أكثر مالا، و أنا أمسك عليك و على ولدك؛ فلم يزل بها حتى طلّقت حاتما، فأتاها حاتم و قد حوّلت باب الخباء، فقال: يا عديّ، ما ترى أمّك عدي(4) عليها؟ قال: لا أدري، غير أنها قد غيّرت باب الخباء، و كأنه لم يلحن(5) لما/قال، فدعاه فهبط به بطن واد، و جاء قوم فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون، فتوافوا خمسين رجلا، فضاقت بهم ماوية ذرعا، و قالت لجاريتها: اذهبي إلى مالك فقولي له: إن أضيافا لحاتم قد نزلوا بنا خمسين رجلا فأرسل بناب(6) نقرهم و لبن نغبقهم(7)، و قالت لجاريتها: انظري إلى جبينه و فمه فإن

ص: 247


1- ب، س: «عنينا». و في الديوان: عنينا زمانا بالتصعلك و الغنى كما الدّهر في أيّامه العسر و اليسر لبسنا صروف الدّهر لينا و غلظة و كلاّ سقاناه بكأسهما العصر
2- البيت ليس في ديوانه، و كذا ما بعده.
3- ف: «بالذي قدمته إليها».
4- ف: «عدا».
5- لم يلحن: لم يفطن.
6- الناب: الناقة المسنة.
7- الغبوق: ما يشرب بالعشي. و غبقه: سقاه ذلك.

شافهك(1) بالمعروف فاقبلي منه، و إن ضرب بلحيته على زوره، و أدخل يده في رأسه فاقفلي و دعيه، و إنها لما أتت مالكا وجدته متوسّدا وطبا(2) من لبن و تحت بطنه آخر، فأيقظته فأدخل يده في رأسه و ضرب بلحيته على زوره، فأبلغته ما أرسلتها به ماوية، و قالت: إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكانه.

فقال لها: أقرئي عليها السلام، و قولي لها: هذا الذي أمرتك أن تطلّقي حاتما فيه، فما عندي من كبيرة قد تركت العمل، و ما كنت لأنحر صفيّة(3) غزيرة بشحم كلاها، و ما عندي لبن يكفي أضياف حاتم.

فرجعت الجارية فأخبرتها بما رأت منه، و ما قال؛ فقالت: ائت حاتما فقولي: إن أضيافك قد نزلوا الليلة بنا، و لم يعلموا بمكانك. فأرسل إلينا بناب ننحرها و نقرهم و بلبن نسقهم؛ فإنما هي الليلة حتى يعرفوا مكانك.

/فأتت الجارية حاتما فصرخت به.

فقال حاتم: لبيك، قريبا دعوت. فقالت: إنّ ماوية تقرأ عليك السلام و تقول لك: إنّ أضيافك قد نزلوا بنا الليلة، فأرسل إليهم بناب ننحرها و لبن نسقهم. فقال: نعم و أبي. ثم قام إلى الإبل فأطلق ثنيتين من عقاليهما، ثم صاح بهما حتى أتى الخباء فضرب عراقيبهما، فطفقت ماويّة تصيح و تقول: هذا(4) الذي طلقتك فيه، تترك ولدك و ليس لهم شيء، فقال حاتم(5):

هل الدّهر إلاّ اليوم أو أمس أو غد *** كذاك الزمان بيننا يتردّد

/يردّ علينا ليلة بعد يومها *** فلا نحن(6) ما نبقى و لا الدهر ينفد

لنا أجل إمّا تناهى أمامه *** فنحن على آثاره نتورّد(7)

بنو ثعل قومي فما أنا مدّع *** سواهم إلى قوم و ما أنا(8) مسند

بدرئهم أغشى دروء معاشر *** و يحنف عنّي الأبلخ المتعمّد(9)

فمهلا فداك اليوم(10) أمّي و خالتي *** فلا يأمرنّي بالدّنية أسود

على حين أن ذكيت(11) و اشتدّ جانبي *** أسام التي أعييت إذ أنا أمرد

/فهل تركت قبلي حضور مكانها! *** و هل من أتى ضيما و خسفا مخلّد!(12)

ص: 248


1- الديوان: «فإن بادرك...».
2- الوطب: سقاء اللبن، و هو جلد الجذع فما فوقه، و جمعه أوطب و وطاب و أطاب.
3- الصفية: الناقة الصغيرة.
4- أ: «تصبح: هذا الذي».
5- ديوانه 39.
6- الديوان: «ثم يومها فما نحن».
7- ف: «نتزود»، و المثبت من أ، ج، ب و الديوان.
8- في ف، و المختار: «فلا أنا مدّع... و لا أنا مسند».
9- الدرء: الدفع، و يحنف: يميل. و الأبلخ: المتكبر. و في الديوان: «و يجنف».
10- في الديوان: «فمهلا فدى أمي و نفسي و خالتي».
11- في ف: «زكيت»، و هو يريد عقرت و ذبحت.
12- الديوان: فهل تركت قبلي حصون مكانها و هل أنا إن أعطيت خسفا مخلد

و معتسف بالرّمح دون صحابه *** تعسّفته بالسّيف و القوم شهّد(1)

فخرّ على حرّ الجبين و ذاده *** إلى الموت مطرور الوقيعة(2) مذود(2)

فما رمته(3) حتى أزحت عويصه *** و حتى علاه حالك اللّون أسود

فأقسمت لا أمشي على سرّ جارتي(4) *** يد الدّهر ما دام الحمام يغرّد

و لا أشتري مالا بغدر علمته *** ألا كلّ مال خالط الغدر أنكد

إذا كان بعض المال ربّا لأهله *** فإنّي بحمد اللّه مالي معبّد

يفكّ به العاني و يؤكل طيّبا *** و يعطى إذا ضنّ البخيل المصرّد(5)

إذا ما البخيل الخبّ أخمد ناره *** أقول لمن يصلى بناري: أوقدوا

توسّع قليلا أو يكن ثمّ حسبنا *** و موقدها البادي أعفّ و أحمد(6)

كذاك أمور الناس راض دنيّة *** و سام إلى فرع العلا متورّد

فمنهم جواد قد تلفّت حوله *** و منهم لئيم دائم(7) الطرف أقود

/وداع دعاني دعوة فأجبته *** و هل يدع الدّاعين إلا اليلندد(8)

حاتم و نساء من عنترة

أسرت(9) عنزة حاتما، فجعل نساء عنزة يدارئن(10) بعيرا ليفصدنه فضعفن عنه، فقلن: يا حاتم، أ فاصده أنت إن أطلقنا(11) يديك؟ قال: نعم. فأطلقن إحدى يديه، فوجأ لبّته فاستدمينه(12). ثم إنّ البعير عضد، أي لوى عنقه، أي خرّ، فقلن: ما صنعت؟ قال: هكذا فصادتي، فجرت مثلا. قال: فلطمته إحداهنّ، فقال: ما أنتنّ نساء عنزة بكرام، و لا ذوات أحلام. و إن امرأة منهن يقال لها: عاجزة أعجبت به، فأطلقته؛ و لم ينقموا عليه ما فعل، فقال حاتم يذكر البعير الذي فصده(13):

كذلك فصدي إن سألت مطيّتي *** دم الجوف إذ كلّ الفصاد وخيم(14)

ص: 249


1- في الديوان: «من دون صحبه... و القوم هجد». و في المختار: تعسفته و السيف و القوم شهد
2- ذاده: دفعه. و مطرور الوقيعة: السيف. و في أ، ب، ج: «مزود».
3- أ: «فما رحته».
4- في الديوان: «و أقسمت... إلى سر جارتي».
5- كذا في الديوان، و في أ: «إذا منّ». و التصريد: التقليل.
6- الديوان: «أعف و أنجد».
7- رواية الديوان: فإن الجواد من تلفت حوله و إن البخيل ناكس الطرف أقود
8- ف: «إلا التلدد»، و اليلتدد: الخصم الشحيح الذي لا ينقاد.
9- ديوانه 52.
10- ف: «يدرن».
11- ف: «إن أطلقنا إحدى يديك».
12- أ: «فاستدمي منه»، و في ف: «فاستدمين منه».
13- ديوانه 53.
14- في ف: «دم الحوارك و الفصاد وخيم» و لا يستقيم معه الوزن.
جوده و هو غلام

أقبل ركب من بني أسد و من قيس يريدون النعمان، فلقوا حاتما، فقالوا له: إنّا تركنا قومنا يثنون عليك خيرا، و قد أرسلوا إليك رسولا برسالة. قال: و ما هي؟ فأنشده الأسديّون شعرا لعبيد و لبشر يمدحانه، و أنشد القيسيّون شعرا للنابغة، فلما أنشدوه قالوا: إنا نستحي أن نسألك شيئا، و إن لنا لحاجة، قال: و ما هي؟ قالوا: صاحب لنا قد أرجل(1)، فقال حاتم: خذوا/فرسي هذه فاحملوا عليها صاحبكم. فأخذوها و ربطت الجارية فلوها(2) بثوبها، فأفلت، فاتّبعته الجارية، فقال حاتم: ما تبعكم(3) من شيء فهو لكم، فذهبوا بالفرس و الفلو و الجارية.

و إنهم/وردوا على أبي حاتم، فعرف الفرس و الفلو، فقال: ما هذا معكم؟ فقالوا: مررنا بغلام كريم فسألناه، فأعطى الجسيم.

رواية أخرى في خبر أبي الخيبري

قال: و كنا عند معاوية فتذاكرنا الجود، فقال رجل من القوم: أجود الناس حيّا و ميتا حاتم، فقال معاوية:

و كيف ذلك؛ فإن الرجل من قريش ليعطى في المجلس ما لم يملكه حاتم قطّ و لا قومه، فقال: أخبرك يا أمير المؤمنين، أنّ نفرا من بني أسد مرّوا بقبر حاتم، فقالوا: لنبخلنّه و لنخبرنّ العرب أنّا نزلنا بحاتم، فلم يقرنا، فجعلوا ينادون: يا حاتم أ لا تقري أضيافك! و كان رئيس القوم رجل يقال له: أبا الخيبريّ، فإذا هو بصوت ينادي في جوف الليل:

أبا خيبريّ و أنت امرؤ *** ظلوم العشيرة شتّامها(4)

إلى آخرها، فذهبوا ينظرون؛ فإذا ناقة أحدهم تكوس(5) على ثلاثة أرجل عقيرا. قال: فعجب القوم من ذلك جميعا.

حاتم و أوس بن سعد

و كان أوس بن سعد قال للنعمان بن المنذر: أنا أدخلك بين جبلي طيّئ حتى يدين لك أهلهما، فبلغ ذلك حاتما، فقال(6):

و لقد بغى بخلاد أوس قومه *** ذلاّ و قد علمت بذلك سنبس(7)

/حاشا بني عمرو بن سنبس إنهم *** منعوا ذمار أبيهم أن يدنسوا(8)

و تواعدوا ورد القريّة غدوة *** و حلفت باللّه العزيز لنحبس(9)

ص: 250


1- أرجل، أي ليس له ما يركبه، فهو راجل.
2- الفلو: المهر الذي فطم.
3- ف: «ما بلغكم».
4- ديوانه 11، و فيه: «حسود العشيرة».
5- تكوس: تمشي على ثلاث قوائم.
6- ديوانه 49.
7- خلاد: أرض في بلاد طيئ عند الجيلين لبني سنبس، و سنبس هي من طيئ.
8- ف: «لا يدنس».
9- الديوان: «ليحس».

و اللّه يعلم لو أتى بسلافهم *** طرف الجريض لظلّ يوم مشكس(1)

كالنار و الشّمس التي قالت لها *** بيد اللّويمس(2) عالما ما يلمس

لا تطعمنّ الماء إن أوردتهم *** لتمام ظمئكم ففوزوا و احلسوا(3)

أو ذو الحصين و فارس ذو مرّة *** بكتيبة من يدركوه يفرس(4)

و موطّأ الأكناف غير ملعّن *** في الحيّ مشّاء إليه المجلس

شعره في مدح بني بدر

قال: و جاور(5) في بني بدر زمن(6) احتربت جديلة و ثعل، و كان ذلك زمن الفساد، فقال يمدح بني بدر(7):

إن كنت كارهة معيشتنا(8) *** هاتي فحلّي في بني بدر

جاورتهم زمن الفساد فنعم الحيّ في العوصاء(9) و اليسر

فسقيت بالماء النّمير و لم *** ينظر إليّ بأعين جزر

/الضاربين لدى أعنّتهم(10)*** و الطاعنين و خيلهم تجري

الخالطين(11) نحيتهم بنضارهم(12)*** و ذوي الغنى منهم بذي الفقر

يقيم مكان أسير في قيده و يطلقه

و زعموا أنّ حاتما خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة، فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم: يا أبا سفّانة؛ أكلني الإسار و القمل، قال: ويلك! و اللّه ما أنا في بلاد قومي، و ما معي شيء، و قد أسأت بي إذ نوّهت باسمي، و مالك مترك. فساوم به العنزيين فاشتراه منهم، فقال: خلّوا عنه و أنا أقيم مكانه في قيده حتى أؤدّي فداءه، ففعلوا، فأتي بفدائه.

ماوية تتحدث عن كرمه

و حدّث الهيثم بن عديّ، عمن حدّثه، عن ملحان ابن أخي ماوية امرأة حاتم، قال: قلت لماوية: يا عمّة، حدثيني ببعض عجائب حاتم، فقالت: كلّ أمره عجب، فعن أيّه تسأل؟ قال: قلت: حدّثيني ما شئت، قالت:

ص: 251


1- المشكس: السيئ الخلق، السلاف: المتقدمون. الجريض: غصص الموت.
2- ف: «كالشمس و النار». و لو يمس: تصغير لامس.
3- المثبت من ف، أ و في ب، ج: احبسوا. و حلس بالمكان: أقام.
4- ديوانه «يغرس»، بالغين.
5- ديوانه 20. و فيه: «و جاور حاتم بني بدر».
6- ف: «لما»، و في أ، ب، ج: «و جاور في بني بدر من احترب من جديلة».
7- ديوانه 20.
8- الديوان: «العيشتنا...».
9- العوصاء: الشدة و العسر.
10- كذا في ف و الديوان، و في أ، ب، ج: «لديّ أعينهم».
11- ف و الديوان: «و الخالطين»، و في «اللسان»: قال ابن بري: صوابه «و الخالطون»، بالواو.
12- أ: «نجيبهم»، و المثبت من ف و الديوان و «اللسان» (تحت). قال: و النحيت: الدخيل في القوم، قالت الخرنق أخت طرفة... و ذكر البيت و الذي بعده، ثم قال: «و النضار»: الخالص النسب.

أصابت الناس/سنة، فأذهبت الخفّ و الظّلف، فإني و إياه ليلة قد أسهرنا الجوع، قالت: فأخذ عديّا و أخذت سفّانة، و جعلنا نعلّلهما حتى ناما، ثم أقبل عليّ يحدّثني و يعلّلني بالحديث كي أنام، فرققت له لما به من الجهد، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال لي: أنمت؟ مرارا، فلم أجب، فسكتّ فنظر في فتق الخباء فإذا شيء قد أقبل، فرفع رأسه فإذا امرأة، فقال: ما هذا؟ قالت: يا أبا سفّانة؛ أتيتك من عند صبية يتعاوون كالذئاب جوعا، فقال:

أحضريني(1)/صبيانك، فو اللّه لأشبعنّهم. قالت: فقمت سريعا فقلت: بما ذا يا حاتم! فو اللّه ما نام صبيانك من الجوع إلاّ بالتعليل(2) فقال: و اللّه لأشبعنّ صبيانك مع صبيانها.

فلما جاءت قام إلى فرسه فذبحها، ثم قدح نارا ثم أجّجها، ثم دفع إليها شفرة، فقال: اشتوي و كلي، ثم قال: أيقظي صبيانك. قالت: فأيقظتهم(3)، ثم قال: و اللّه إنّ هذا للؤم؛ تأكلون و أهل الصّرم(4) حالهم مثل حالكم! فجعل يأتي الصّرم بيتا بيتا فيقول: انهضوا عليكم بالنار. قال: فاجتمعوا حول تلك الفرس، و تقنّع بكسائه فجلس ناحية، فما أصبحوا و من الفرس على الأرض قليل و لا كثير إلاّ عظم و حافر، و إنه لأشدّ جوعا منهم، و ما ذاقه.

حاتم و محرّق

أتى حاتم و محرّقا(5) فقال له محرّق: بايعني، فقال له: إنّ لي أخوين ورائي، فإن يأذنا لي أبايعك و إلاّ فلا، قال: فاذهب إليهما، فإن أطاعاك فأتني بهما، و إن أبيا فأذن بحرب. فلما خرج حاتم قال(6):

أتاني من الرّيان(7) أمس رسالة *** و عدوى و غيّ ما يقول مواسل(8)

/هما سألاني: ما فعلت؟ و إنني *** كذلك عما أحدثا أنا سائل

فقلت: ألا كيف الزمان عليكما؟ *** فقالا: بخير كلّ أرضك سائل

فقال محرّق: ما أخواه؟ قال(9): طرفا الجبل، فقال: و محلوفه لأجلّلنّ مواسلا الرّيط مصبوغات بالزّيت، ثم لأشعلنّه بالنار. فقال رجل من الناس: جهل مرتقى بين مداخل سبلات(10). فلما بلغ(11) ذلك محرقا قال: لأقدمنّ

ص: 252


1- ف: «أحضري صبيانك»، و الخبر في الديوان 97 مع اختلاف في الرواية.
2- التعليل: شغل الصغير عن الطعام بشيء.
3- ف: «فأيقظتها».
4- الصرم: الأبيات المجتمعة المنقطعة عن الناس.
5- محرق: لقب عمرو بن هند.
6- ديوانه 51.
7- ب، س: «الديان»، و المثبت من أ، ف و الديوان.
8- كذا في ف، و في أ، ج: «و غدوا بحيّ»، و الريان و مواسل: جبلان، و قد ذكرهما زيد الخيل في شعره، قال: أ تتمنى لسان لا أسر بذكرها تصدع منها يذبل و مواسل و قد سبق الريان منه بذلة فأضحى و أعلى هضبه متضائل و قد ذكر الريان حاتم في قوله: لشغب من الريان أملك بابه أنادي به آل الكبير و جعفرا و انظر «ياقوت» و «البكري».
9- ف: «قيل».
10- سبلات: جبل من جبال أجأ و مواسل أيضا، عن نصر (البلدان).
11- ف: «فبلغ».

عليك قريّتك(1). ثم إنه أتاه رجل، فقال له: إنك إن تقدم القريّة تهلك. فانصرف و لم يقدم.

حاتم و أسير له
اشارة

غزت فزارة طيئا و عليهم حصين(2) بن حذيفة، و خرجت طيئ في طلب القوم، فلحق حاتم رجلا من بدر(3)، فطعنه ثم مضى، فقال: إن مرّ بك أحد فقل له: أنا أسير حاتم. فمرّ به أبو حنبل، فقال: من أنت؟ قال: أنا أسير حاتم. فقال له: إنه يقتلك، فإن زعمت لحاتم أو لمن سألك أنّي أسرتك، ثم صرت في يدي خلّيت سبيلك، فلما رجعوا قال حاتم: /يا أبا حنبل(4) خلّ سبيل أسيري، فقال أبو حنبل: أنا أسرته، فقال حاتم: قد رضيت بقوله، فقال: أسرني أبو حنبل، فقال حاتم(5):

إنّ أباك الجون لم يك غادرا *** ألا من بني بدر أتتك الغوائل

صوت

و هاجرة من دون ميّة لم تقل *** قلوصي بها و الجندب الجون يرمح(6)

بتيهاء مقفار(7) يكاد ارتكاضها *** بآل الضّحى و الهجر بالطّرف يمصح

- الهجر هاهنا مرفوع بفعله، كأنه قال: يكاد ارتكاضها بالآل يمصح بالطرف، هو و الهجر. /و يمصح:

يذهب بالطّرف -:

كأنّ الفرند المحض معصوبة به *** ذرا قورها ينقدّ عنها و ينصح(8)

إذا ارفضّ أطراف السّياط و هلّلت *** جروم المهاري عدّ منهنّ صيدح(9)

عروضه من الطويل.

الهاجرة: تكون وقت الزوال. و الجندب: الجرادة. و الجون: الأسود. و الجون: الأبيض أيضا: و هو من الأضداد. و قوله: يرمح، أي ينزو من شدة الحرّ لا يكاد يستقرّ على الأرض. و التّيهاء من الأرض: التي يتاه فيها.

و المقفار: التي لا أحد فيها و لا ساكن بها. ذكر ذلك أبو نصر عن الأصمعيّ. و ارتكاضها؛ يعني ارتكاض هذه التّيهاء، و هو نزوها بالآل، و الآل: السراب. و الهجر و الهاجرة واحد. و قوله: الهجر بالطرف يمصح، رفع الهجر /بفعله كأنه قال: يكاد ارتكاضها بالآل يمصح بالطرف، هو و الهجر. يمصح: يذهب بالطّرف. و الفرند: الحرير الأبيض. و المحض: الخالص. يقول: كأن هذا السراب حرير أبيض، و قد عصبت به ذرى قورها، و هي الجبال

ص: 253


1- قريّة: موضع بجبل طيئ.
2- الديوان: «حصن بن حذيفة».
3- الديوان: «من بني بدر».
4- ف: «جبيل»، و المثبت من الديوان أيضا.
5- ديوانه 50.
6- ديوان ذي الرمة 86. لم تقل، من القيلولة. و الجندب: شبه الجراد في ظهره نقط.
7- في الديوان: «و بيداء مقفار».
8- ينقد: ينشق، و في ف: «ينقد عنه».
9- كذا في ف، و في باقي الأصول: «عذبتهن صيدح».

الصغار و الواحدة قارة، فتارة يغطيها و تارة ينجاب عنها و ينكشف، فكأنه إذا انكشف عنها ينقدّ عنها، و كأنه إذا غطّاها ينصح عنها(1)؛ أي يخاط. و يقال(2): نصحت الثوب، إذا خطته، و النّاصح: الخيّاط، و النّصاح: الخيط. و قوله:

ارفضّ أطراف السياط، يعني أنها انفتحت أطرافها من طول السفر؛ و أصل الارفضاض التفرّق. و الجروم: الأبدان، واحدها جرم، بالكسر. و قوله: هللت جروم المطايا، يعني أنها صارت كالأهلّة في الدّقة(3). و صيدح: اسم ناقته.

الشعر لذي الرمة، و الغناء لإبراهيم الموصليّ ماخوريّ بالوسطى.

تم الجزء السابع عشر من كتاب الأغاني و يليه الجزء الثامن عشر، و أوله: (ذكر ذي الرمة و خبره)

ص: 254


1- ف: «عليها».
2- ف: «و يقول».
3- كذا في ف، و هو الوجه، و في باقي الأصول: «الرقة».

فهرس موضوعات الجزء السابع عشر

الموضوع الصفحة

ذكر الكميت و نسبه و خبره 5

خبر ابن سريج مع سكينة بنت الحسين 32

خبر لبيد في مرثية أخيه 41

ذكر خبر العباس و فوز 48

ذكر بذل و أخبارها 53

أخبار كعب بن زهير 57

أخبار ابن الدمينة و نسبه 64

نسب المقنع الكندي و أخباره 74

خبر لإسحاق و ابن هشام 76

نسب أبي قيس بن الأسلت و أخباره 80

خبر مقتل حجر بن عديّ 90

أخبار لعمر بن أبي ربيعة 104

أخبار عزة الميلاء 107

ذكر نسب الربيع بن زياد 118

خبر ليزيد بن معاوية 136

ذكر شريح و نسبه و خبره 139

خبر زينب بنت حدير و تزويج شريح إياها 142

أخبار الحطيئة مع سعيد بن العاص 145

أخبار مالك بن أسماء بن خارجة و نسبه 148

أخبار عروة بن الزبير 155

أخبار زيد الخيل و نسبه 158

أخبار لابن قيس الرقيات 174

ذكر فند و أخباره 177

أخبار نبيه و نسبه 179

ص: 255

الموضوع الصفحة

حلف الفضول 184

نسب أمية بن أبي الصلت 193

- يوم الصفقة 203

- ذكر الخبر في سرية زيد بن حارثة 206

ذكر أبي عطاء السندي 208

ذكر خالد و رملة و أخبارهما 218

خبر للأحوص 225

ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر 228

أخبار حاتم و نسبه 233

فهرس الموضوعات 255

ص: 256

المجلد 18

هویة الکتاب

الأغاني

سایر نویسندگان

مصحح و مترجم:

مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربی

المجلدات : 25ج

زبان: عربی

ناشر:دار إحياء التراث العربي - بیروت - لبنان

سال نشر: 1415 هجری قمری|1994 میلادی

کد کنگره: PJA 3892 /الف 6 1374

تنظیم متن دیجیتال میثم حیدری

ص: 257

اشارة

ص: 258

تتمة التراجم

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

1 - ذكر ذي الرمة و خبره

نسبه

اسمه غيلان بن عقبة بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ملكان بن عديّ بن عبد مناة بن أدّ طابخة بن إلياس بن مضر.

أقوال في سبب تلقيبه ذا الرمة

و قال ابن سلاّم: هو غيلان بن عقبة بن بهيش(1) بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة(2) بن ملكان.

و يكنى أبا الحارث، و ذو الرمة لقب. يقال: لقّبته به ميّة؛ و كان اجتاز بخبائها و هي جالسة إلى جنب أمها فاستسقاها ماء، فقالت لها أمها: قومي فاسقيه. و قيل: بل خرق إداوته لمّا رآها، و قال لها: اخرزي لي هذه، فقالت: و اللّه ما أحسن ذلك، فإني لخرقاء. قال: و الخرقاء التي لا تعمل بيدها شيئا لكرامتها على قومها، فقال لأمها: مريها أن تسقيني ماء، فقالت لها: قومي يا خرقاء فاسقيه ماء، فقامت فأتته بماء، و كانت على كتفه(3) رمّة؛ و هي قطعة من حبل، فقالت: اشرب يا ذا الرّمّة؛ فلقّب بذلك.

و حكى ابن قتيبة(4) أن هذه القصة جرت بينه و بين خرقاء العامريّة.

و قال ابن حبيب: لقّب ذا الرمة لقوله(5):

أشعث باقي رمّة التّقليد

/و قيل: بل كان يصيبه في صغره فزع، فكتبت(6) له تميمة، فعلّقها(7) بحبل، فلقّب بذلك ذا الرّمّة.

و نسخت من كتاب محمد بن داود بن الجرّاح: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات، عن محمد بن صالح العدويّ، عن أبيه، و عن أشياخه، و عدّة من أهل البادية من بني عديّ، منهم زرعة بن أذبول(8) و ابنه سليمان و أبو قيس و تميم/و غيرهم من علمائهم:

ص: 259


1- كذا في «المشتبه»، و «القاموس»، و «اللآلي»، و «ابن خلكان». و في «الأصول»: «نهيس».
2- ج: «بن عمرو بن ساعدة بن كعب بن عوف بن ثعلبة بن ربيعة».
3- ج: «كفه».
4- «الشعر و الشعراء» 509.
5- «اللسان» 143:15، و «نوادر المخطوطات» لابن حبيب 301، و «الشعر و الشعراء» 508.
6- ب، س: «فكتبت له أمه».
7- أ: «فتعلقها».
8- ب، س، ف: «دبول».

أنّ أمّ ذي الرّمة جاءت إلى الحصين بن عبدة بن نعيم العدويّ (1) و هو يقرئ الأعراب بالبادية احتسابا بما يقيم لهم صلاتهم، فقالت له: يا أبا الخليل؛ إن ابني هذا يروّع بالليل، فاكتب لي معاذة أعلّقها على(2) عنقه، فقال لها: ائتيني برقّ أكتب فيه، قالت: فإن لم يكن، فهل يستقيم في غير رقّ أن يكتب له؟ قال: فجيئيني بجلد(3)، فأتته بقطعة جلد غليظ، فكتب له معاذة فيه، فعلّقته في عنقه، فمكث دهرا. ثم إنها مرّت مع ابنها لبعض حوائجها بالحصين و هو جالس في ملأ من أصحابه و مواليه، فدنت منه، فسلّمت عليه، و قالت: يا أبا الخليل، أ لا تسمع قول غيلان و شعره؟ قال:

بلى. فتقدّم فأنشده، و كانت المعاذة مشدودة على يساره في حبل أسود، فقال الحصين: أحسن ذو الرمة؛ فغلبت عليه.

كان له إخوة كلهم شعراء
اشارة

و قال الأصمعيّ: أمّ ذي الرمة امرأة من بني أسد يقال لها ظبية، و كان له إخوة لأبيه و أمّه شعراء منهم مسعود، و هو الذي يقول يرثي أخاه ذا الرمّة و يذكر ليلى بنته:

إلى اللّه أشكو لا إلى الناس أنني *** و ليلى كلانا موجع مات وافده(4)

/و لمسعود يقول ذو الرمة(5):

صوت

أقول لمسعود بجرعاء مالك *** و قد همّ دمعي أن تسحّ أوائله

ألا هل ترى الأظعان جاوزن مشرفا *** من الرمل أو سالت بهنّ سلاسله(6)

غنّى فيه يحيى بن المكيّ (7) ثاني ثقيل بالوسطى، على مذهب إسحاق من رواية عمرو.

و مسعود الذي يقول(8) يرثي أخاه أيضا ذا الرمّة، و يرثي أوفى بن دلهم ابن عمه، و أوفى هذا أحد من يروى عنه الحديث.

و قال هارون بن(9) الزيات: أخبرني ابن حبيب، عن ابن الأعرابيّ، قال: كان لذي الرمة إخوة ثلاثة(10):

مسعود، و جرفاس، و هشام، كلّهم شعراء، و كان الواحد منهم يقول الأبيات فيبني عليها ذو الرمة أبياتا أخر، فينشدها الناس، فيغلب عليها لشهرته و تنسب إليه(11):

ص: 260


1- ج: «العذري».
2- ف: «في عنقه».
3- ج: «بقطعة جلد».
4- ج: «واحده».
5- «ديوانه» 466.
6- ف: «أو حاذت... سوائله». و مشرف: موضع، و سلاسل الرمل: ما انعقد و اتصل.
7- ف: «يحيى المكي».
8- في ف: «يقول فيه أيضا».
9- ف: «بن محمد الزيات».
10- في ابن سلام: و كانوا إخوة ثلاثة: غيلان و أوفى و مسعود. و قال ابن قتيبة في «الشعر و الشعراء»: و كان لذي الرمة إخوة ثلاثة: هشام و أوفى و مسعود، فجعلهم أربعة إخوة.
11- «ابن سلام» 481، و «شرح الحماسة» 147:2، و «الكامل» 153:1.

نعى الركب أوفى حين آبت ركابهم *** لعمري لقد جاءوا بشرّ فأوجعوا(1)

نعوا باسق الأخلاق لا يخلفونه *** تكاد الجبال الصّمّ منه تصدّع

/خوى المسجد المعمور بعد ابن دلهم *** فأضحى بأوفى قومه قد تضعضعوا

تعزّيت عن أوفى بغيلان بعده *** عزاء و جفن العين ملآن مترع

و لم تنسني أوفى المصيبات(2) بعده *** و لكن نكاء القرح بالقرح(3) أوجع

و أخوه الآخر هشام، و هو ربّاه(4)، و كان شاعرا. و لذي الرمّة يقول:

أ غيلان إن ترجع قوى الودّ بيننا *** فكلّ الذي ولّى من العيش(5) راجع

فكن مثل أقصى الناس عندي فإنني *** بطول التّنائي من أخي السوء قانع

يقول شعرا لأخيه هشام فيجيبه

و قال ذو الرمة لهشام أخيه(6):

أغرّ هشاما من أخيه ابن أمّه *** قوادم ضأن أقبلت و ربيع(7)

و هل تخلف الضأن الغزار أخا النّدى(8) *** إذا حلّ أمر في الصّدور فظيع

/فأجابه هشام فقال:

إذا بان مالي من سوامك لم يكن *** إليك و ربّ العالمين رجوع

فأنت الفتى ما اهتزّ في الزّهر النّدى(9) *** و أنت إذا اشتدّ الزمان منوع(10)

ذو الرمة و أخوه مسعود يقولان شعرا في ظبية سنحت لهما

و ذكر المهلّبيّ (11) عن أبي كريمة النجويّ، قال:

/خرج ذو الرمّة يسير مع أخيه مسعود بأرض الدّهناء، فسنحت لهما ظبية، فقال ذو الرمة(12):

أقول لدهناوية عوهج جرت *** لنا بين أعلى برقة بالصّرائم(13)

ص: 261


1- أ: «فأوجفوا»، تصحيف.
2- أ: «أوفى المصائب».
3- القرح: الجرح.
4- ف: «رثاه».
5- ف: «من الدهر».
6- «ديوانه» 354.
7- في «الديوان»: «قوادم ضأن يسرت و ربيع».
8- «الديوان»: «و لا تخلف... أخا الفتى».
9- ف: «ما اهتز في الدهر للندى».
10- ف: «هلوع».
11- ف: «الهشامي».
12- «ديوانه» 621.
13- «الديوان»: «لنا بين أعلى عرفة بالصرائم». و دهناوية: ظبية من ظباء الدهناء. و الصرائم: الرمال. و عوهج: طويلة. و برقة: موضع.

أبا ظبية الوعساء بين جلاجل *** و بين النّقا آنت أم أمّ سالم!

و قال مسعود(1):

فلو تحسن التشبيه و النعت لم تقل *** لشاة النّقا آنت أم أمّ سالم

جعلت لها قرنين فوق قصاصها(2) *** و ظلفين مسودّين تحت القوائم

و قال(3) ذو الرمة(4):

هي الشّبه لو لا مذرواها و أذنها *** سواء و لو لا مشقة في القوائم(5)

و كان طفيليا

و كان ذو الرمّة كثيرا ما يأتي الحضر فيقيم بالكوفة و البصرة، و كان طفيليّا.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثني الحسن بن عليّ، قال: حدثني ابن(6) سعيد الكنديّ، قال:

سمعت ابن عيّاش يقول:

حدثني من رأى ذا الرمّة طفيليّا يأتي العرسات(7).

بعض صفاته

نسخت من كتاب محمد بن داود بن الجرّاح: حدثني هارون بن الزيات، قال: أخبرني محمد بن صالح العدويّ، قال: قال زرعة بن أذبول:

كان ذو الرمّة مدوّر الوجه، حسن الشّعرة جعدها، أقنى، أنزع، خفيف العارضين، أكحل، حسن الضحك(8)، مفوّها، إذا كلمك كلّمك أبلغ الناس، يضع لسانه حيث يشاء.

قال حمّاد بن إسحاق: حدثني إدريس بن سليمان بن يحيى بن أبي حصفة، عن عمته عافية و غيرها من أهله:

أنهم رأوا ذا الرمّة باليمامة عند المهاجر بن عبد اللّه شيخا أجنأ(9) سناطا(10) متساقطا.

و قال هارون(11) بن الزيات: حدثني عليّ بن أحمد الباهليّ، قال: حدثني ربيح النميريّ، قال:

اجتمع الناس مرة و تحلّقوا على ذي الرمة، و هو ينشدهم، فجاءت أمه فاطّلعت من بينهم فإذا رجل قاعد و هو

ص: 262


1- ف: «فقال له مسعود».
2- قصاص الشعر: حيث تنتهي نبتته من مقدمه أو مؤخره. («القاموس»).
3- ف «فقال».
4- «ديوانه» 622.
5- «الديوان»: «إلا مدرييها و أذنها... و إلا مشقة، و في أ:... إلا مذرييها»، و المذروان من الرأس: ناحيتاه. و المدري: القرن. و المشقة: الرقة أو فرجة في قوائمها.
6- ف: «حدثني علي بن سعيد».
7- العرسات: جمع عرس، بالضم و بضمتين: طعام الوليمة.
8- ج: «حسن المضحك».
9- الأجنأ: من يشرف كاهله على صدره.
10- السناط، بالكسر و الضم: الخفيف العارض، أو الذي لا لحية له أصلا.
11- ج: «هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات».

ذو الرمة. و كان دميما شختا(1) أجنأ فقالت أمه: استمعوا إلى شعره، و لا تنظروا إلى وجهه.

قال هارون: و أخبرني يعقوب بن السكّيت، عن أبي عدنان، قال: أخبرني أسيد الغنويّ، قال:

/سمعت بباديتنا من قوم هضبوا في الحديث(2) أنّ ذا الرّمّة كان ترعيّة(3)، و كان كناز اللحم مربوعا قصيرا، و كان أنفه ليس بالحسن.

الفرزدق و جرير يحسدانه

أخبرني ابن عمّار، عن سليمان بن أبي(4) شيخ، عن أبيه، عن صالح بن سليمان قال:

كان الفرزدق و جرير يحسدان ذا الرمّة، و أهل البادية يعجبهم شعره.

كان صالح بن سليمان راوية لشعره

قال: و كان صالح بن سليمان راوية لشعر ذي الرمّة، فأنشد يوما قصيدة له، و أعرابيّ من بني عديّ يسمع، فقال: أشهد عنّك - أي أنّك - لفقيه تحسن ما تتلوه(5)، و كان يحسبه قرآنا.

إعجاب الكميت بشعره

نسخت من كتاب محمد بن داود: و حدثني هارون بن الزيات، عن محمد بن صالح العدويّ، قال: قال حمّاد الراوية:

قال الكميت حين سمع قول ذي الرمة(6):

أعاذل قد أكثرت من قول قائل *** و عيب على ذي الودّ(7) لوم العواذل

/هذا و اللّه ملهم، و ما علم بدويّ بدقائق(8) الفطنة و ذخائر كنز العقل المعدّ لذوي الألباب! أحسن ثم أحسن.

قال محمد بن صالح: و حدثني محمد بن كناسة بذلك عن الكميت، و قال:

/لما أنشده قوله في هذه القصيدة(9):

دعاني و ما داعي الهوى من بلادها *** إذا ما نأت خرقاء عنّي بغافل

فقال الكميت: للّه بلاد هذا الغلام! ما أحسن قوله! و ما أجود وصفه! و لقد شفع(10) البيت الأول بمثله في

ص: 263


1- أ: «و كان ذميما شيخا». و الشخت: الدقيق الضامر خلقة لا هزالا.
2- هضب الرجل في الحديث: أفاض. و في ح: «هضبوا الحديث».
3- رجل ترعية بالتشديد، و قد يخفف: يجيد رعية الإبل.
4- ف: «أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ».
5- ف: «ما تلوته».
6- «ديوانه» 500.
7- في «الديوان»: «و عيب على ذي اللب».
8- ف: «بدقائق فهم الفطنة».
9- «ديوانه» 492.
10- ج: «شيع».

جودة الفهم و الفطنة، و قال(1) قول مستسلم.

قال ابن كناسة: و قال لي حمّاد الراوية: ما أخّر القوم ذكره إلاّ لحداثة سنّه، و أنهم حسدوه.

آراء قيلت في شعره

قال محمد بن صالح: و قال لي خالد بن كلثوم و أبو عمرو: قال أبو حزام و أبو المطرّف(2):

لم يكن أحد من القوم في زمانه أبلغ من ذي الرمة، و لا أحسن جوابا؛ كان كلامه أكثر من شعره.

و قال الأصمعيّ: ما أعلم أحدا من العشّاق الحضريّين و غيرهم شكا حبّا أحسن من شكوى ذي الرمّة، مع عفّة و عقل رصين.

قال: و قال أبو عبيدة:

ذو الرمة يخبر فيحسن الخبر، ثم يردّ على نفسه الحجّة من صاحبه(3) فيحسن الردّ، ثم يعتذر فيحسن التخلص، مع حسن إنصاف و عفاف في الحكم.

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا أبو أيوب المدينيّ، قال: حدثنا الفضل بن إسحاق الهاشميّ، عن مولّى لجدّه، قال:

رأيت ذا الرمة بسوق المربد، و قد عارضه رجل يهزأ به، فقال له: يا أعرابيّ، أتشهد بما لم تر؟ قال: نعم، قال: بما ذا؟ قال: أشهد أنّ أباك ناك أمّك.

/أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ، قال: حدثني عمّي عبيد اللّه، عن ابن حبيب، عن عمارة بن عقيل، قال:

كان جرير عند بعض الخلفاء، فسأله عن ذي الرمّة، فقال: أخذ من طريف الشعر و حسنه(4) ما لم يسبقه إليه أحد غيره.

أخبرني وكيع(5)، عن حماد بن إسحاق، قال: قال حماد الراوية:

قدم علينا ذو الرمة الكوفة، فلم أر أفصح و لا أعلم بغريب منه.

نسخت من كتاب ابن النطّاح: حدثني أبو عبيدة، عن أبي عمرو، قال: ختم الشّعر بذي الرمة، و ختم الرّجز برؤبة.

قال: فما تقول في هؤلاء الذين يقولون؟ قال: كلّ على غيرهم؛ إن قالوا حسنا فقد سبقوا إليه، و إن قالوا قبيحا فمن عندهم.

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخرّاز، عن المدائنيّ، عن بعض أصحابه، عن حمّاد الرّاوية، قال:

ص: 264


1- ف: «فقال».
2- ج:... و أبو عمرو علي بن حزام و أبو المطرف.
3- ج: «من صاحبته».
4- ج: «و وحشيه».
5- ح: «محمد بن خلف وكيع. قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه...».

أحسن الجاهلية تشبيها امرؤ القيس، و ذو الرمة أحسن أهل الإسلام تشبيها.

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ، عن عمه عبيد اللّه، عن ابن حبيب، عن عمارة بن عقيل:

أنّ جريرا و الفرزدق اتّفقا عند خليفة من خلفاء بني أميّة، فسأل كلّ واحد منهما على انفراد(1) عن ذي الرمة، فكلاهما قال: أخذ من طريف الشعر و حسنه(2) ما لم يسبقه إليه غيره، فقال الخليفة: أشهد لاتفاقكما(3) فيه أنه أشعر منكما جميعا.

/أخبرني جحظة(4)، عن حماد بن إسحاق، قال: حدثني أبي قال:

أنشد الصّيقل شعر ذي الرمة فاستحسنه، و قال: ما له قاتله اللّه! ما كان إلاّ ربيقة، هلاّ عاش قليلا(5)!.

و قال هارون بن محمد: أخبرني عليّ بن أحمد الباهليّ، قال: حدثني محمد بن إسحاق البلخيّ، عن سفيان ابن عيينة، عن ابن شبرمة، قال: سمعت ذا الرمة يقول: إذا قلت: كأنّه، ثم لم أجد مخرجا فقطع(6) اللّه لساني.

/قال هارون: و حدثني(7) العباس بن ميمون طائع، قال: قال الأصمعيّ: كان ذو الرمّة أشعر الناس إذا شبّه، و لم يكن بالمفلق.

و حدثني أبو خليفة، عن محمد بن سلاّم، قال:

كان لذي الرمة حظّ في حسن التشبيه لم يكن لأحد من الإسلاميين، كان(8) علماؤنا يقولون: أحسن الجاهلية تشبيها امرؤ القيس، و أحسن أهل الإسلام تشبيها ذو الرّمة.

لقاؤه بمية و شغفه بها

أخبرني محمد بن يزيد قال: حدثنا حماد، عن أبيه، عن أبي عقيل عمارة بن عقيل، عن عمته أم القاسم ابنة بلال بن جرير، عن جارية كانت لأم ميّ، قالت:

كنا نازلين بأسفل الدهناء، و كان رهط ذي الرّمة مجاورين لنا، فجلست مية - و هي حينئذ فتاة حين نهد ثدياها أحسن من رأيته - تغسل ثيابا لها و لأمها في بيت منفرد، و كان بيتا رثّا قد أخلق، ففيه خروق، فلما فرغت و لبست ثيابها جاءت فجلست عند أمها، فأقبل ذو الرّمة حتى دخل إلينا، ثم سلّم، و نشد ضالّة و جلس ساعة ثم خرج.

فقالت مية: إني لأرى هذا العدويّ (9) قد رآني منكشفة و اطلع عليّ من/حيث لا أدري؛ فإنّ بني عديّ (10) أخبث قوم في الأرض، فاذهبي فقصّي أثره، فخرجت فوجدته ما يثبت مقامه، فقصصت أثره ثانية حتى رأيته و قد تردد أكثر

ص: 265


1- أ: «انفراده».
2- ف: «و وحشيه».
3- ف: «أشهد على اتفاقكما».
4- ح: «أحمد بن جعفر جحظة».
5- ح: «ما كان إلا زنبقة، ألا عاش قليلا! و الربقة: العروة من الحبل، و تصغيرها ربيقة.
6- ح: «و لم أجد فقطع».
7- ح: «و حدثني محمد بن العباس».
8- ج: «و كان».
9- في «المختار»: «العذري».
10- في «المختار»: «بني عذرة».

من ثلاثين طرقة(1)، كل ذلك يدنو فيطّلع إليها، ثم يرجع على عقبيه، ثم يعود فيطلع إليها، فأخبرتها بذلك، ثم لم تنشب أن جاءنا شعره فيها من كل وجه و مكان(2).

رواية أخرى في ذلك

و ذكر عليّ بن سعيد بن بشر الرازيّ: أن هارون بن مسلم بن سعد حدّثه عن حسين(3) بن براق الأسديّ، عن عمارة بن ثقيف، قال:

حدثني ذو الرّمة أنّ أول ما قاد المودّة بينه و بين ميّة أنه خرج هو و أخوه و ابن عمه في بغاء إبل لهم، قال:

بينا(4) نحن نسير إذ وردنا على ماء و قد أجهدنا العطش، فعدلنا إلى حواء(5) عظيم، فقال لي أخي و ابن عمي: ائت الحواء فاستسق لنا(6)، فأتيته و بين يديه في رواقه عجوز جالسة. قال: فاستسقيت، فالتفتت وراءها فقالت: يا ميّ، اسقي هذا الغلام، فدخلت عليها فإذا هي تنسج(7) علقة لها، و هي تقول:

يا من يرى(8) برقا يمرّ حينا *** زمزم رعدا و انتحى يمينا(9)

كأنّ في حافاته حنينا(10) *** أو صوت خيل ضمّر يردينا

قال: ثم قامت تصبّ في شكوتي(11) ماء، و عليها شوذب(12) لها، فلما/انحطّت على القربة رأيت مولّى لم أر أحسن منه، فلهوت بالنظر إليها، و أقبلت تصبّ الماء في شكوتي و الماء يذهب يمينا و شمالا. قال: فأقبلت عليّ العجوز «(13)و قالت: يا بنيّ ألهتك ميّ عما بعثك أهلك له، أما ترى الماء يذهب يمينا و شمالا!»(13) فقلت: أما و اللّه ليطولنّ هيامي بها.

قال: و ملأت شكوتي، و أتيت أخي و ابن عمي، و لففت رأسي، فانتبذت ناحية، و قد كانت ميّ قالت: لقد كلّفك أهلك السّفر على ما أرى من صغرك و حداثة سنك، فأنشأت أقول(13):

قد سخرت(14) أخت بني لبيد *** منّي و من سلم و من وليد(15)

ص: 266


1- طرقة: مرّة من الطرق.
2- انفردت ف بهذا الخبر.
3- ف: «غصين بن براق».
4- ف: «فبينا».
5- في المختار: «خباء». و الخبار و الحواء، ككتاب: جماعة البيوت المتدانية.
6- ف: «فاستسق لنا ماء».
7- في «المختار»: «تمسح علقة لها». و في ف: «تنسج شقة لها». و العلقة: قميص بلا كمين، و قيل: ثوب صغير يتخذ للصبي.
8- في «المختار»: «رأى».
9- في «المختار»: «... على يبرينا... و انتحى حنينا».
10- «المختار»: «جنينا».
11- الشكوة: وعاء من أدم الماء و اللبن.
12- الشوذب: ثوب طويل. (13-13) من أ، ف، و المختار.
13- «ديوانه» 57.
14- «الديوان»: «قد عجبت».
15- «الديوان»: «و هزئت مني و من مسعود».

رأت غلامي سفر بعيد *** يدّرعان اللّيل ذا السّدود(1)

مثل ادّراع اليلمق(2) الجديد

قال: و هي أول قصيدة قلتها ثم أتممتها:

هل(3) تعرف المنزل بالوحيد

ثم مكثت أهيم بها في ديارها عشرين سنة.

ذو الرمة و زوج ميّ

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، عن النوفليّ (4)، قال: سمعت أبي يقول:

ضاف ذو الرّمة(5) زوج ميّ في ليلة ظلماء، و هو طامع في ألاّ يعرفه زوجها، فيدخله بيته(6)، فيراها و يكلّمها، ففطن له الزّوج و عرفه فلم يدخله، و أخرج إليه/قراه، و تركه بالعراء(7)، و قد عرفته ميّة؛ فلما كان في جوف الليل تغني غناء الرّكبان قال(8):

أ راجعة يا ميّ أيامنا الألى *** بذي الأثل أم لا، ما لهنّ رجوع!

فغضب زوجها، و قال: قومي فصيحي به: يا بن الزانية، و أيّ أيام كانت لي(9) معك بذي الأثل! فقالت:

يا سبحان اللّه، ضيف، و الشاعر يقول! فانتضى السيف، و قال: و اللّه لأضربنّك به حتى آتي عليك أو تقولي(10)، فصاحت به كما أمرها زوجها، فنهض على(11) راحلته، فركبها و انصرف عنها مغضبا يريد أن يصرف مودّته عنها إلى غيرها.

قال شعرا في خرقاء يغيظ به ميّا

فمرّ بفلج في ركب، و بعض أصحابه يريد/أن يرقع خفّه، فإذا هو بجوار خارجات من بيت يردن آخر، و إذا خرقاء فيهنّ - و هي امرأة من بني عامر - فإذا جارية حلوة شهلاء(12)، فوقعت عين ذي الرّمة عليها، فقال لها:

يا جارية، أ ترقعين لهذا الرجل خفّه؟ فقالت تهزأ به: أنا خرقاء لا أحسن أن أعمل؛ فسمّاها خرقاء، و ترك ذكر ميّ؛ يريد أن يغيظ بذلك ميّا. فقال فيها قصيدتين أو ثلاثا، ثم لم يلبث أن مات.

ص: 267


1- يدرعان: يلبسان. و السدود: الظلمات.
2- اليلمق: القباء، فارسي معرب.
3- «الديوان»: 15، و أولها: ألا يا دارميّة بالوحيد كأن رسومها قطع البرود
4- ح: «حدثني علي بن محمد النوفلي».
5- أي نزل ذو الرمة ضيفا عليه.
6- ف: «بيته و يقريه».
7- ف: «و تركه بالعراء و راحلته».
8- «ديوانه» 352 و روايته في «الديوان»: «أيامنا التي... بذي الرمث».
9- ف: «كانت لنا».
10- ف: «أو لتقولن»، و في المختار: «أو لتقولين».
11- ف: «إلى راحلته».
12- الشهل، محركة و بالضم: أقل من الزرق في الحدقة و أحسن منه. («القاموس»).
لقاؤه بجرير و المهاجر بن عبد اللّه

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حمّاد، عن الأصمعيّ، عن عمارة بن عقيل، قال:

قال جرير: خرجت مع المهاجر بن عبد اللّه إلى حجّة، فلقينا ذا الرّمة، فاستنشده المهاجر فأنشده(1):

و من حاجتي لو لا التّنائي و ربّما *** منحت الهوى من ليس بالمتقارب

/عطابيل بيض من ربيعة عامر *** عذاب الثنايا مثقلات الحقائب(2)

يقظن الحمى و الرّمل منهنّ محضر(3) *** و يشربن ألبان الهجان النجائب

فالتفت إليّ المهاجر، و قال: أ تراه مجنونا!.

رأي لجرير في بيت قاله

أخبرني أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: أخبرنا أبو البيداء الرّياحيّ، قال:

قال جرير: قاتل اللّه ذا الرمّة حيث يقول(4):

و منتزع من بين نسعيه جرّة(5) *** نشيج الشّجا جاءت إلى ضرسه نزرا(6)

أما و اللّه لو قال: «ما بين جنبيه» لما كان عليه من سبيل.

جرير و أبو عمرو بن العلاء يصفان شعره

أخبرني الطوسيّ و حبيب(7) المهلبيّ، عن ابن شبّة، عن أبي غزالة(8)، عن هشام بن محمد الكلبيّ، عن رجل من كندة، قال:

سئل جرير عن شعر ذي الرمة فقال: بعر ظباء، و نقط عروس، يضمحلّ (9) عن قليل.

أخبرني أبو خليفة، عن ابن سلاّم، قال: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: إنما شعر ذي الرّمة نقط [عروس يضمحل عن قليل](10) و أبعار لها مشمّ في أول شمّة(11)، ثم تعود إلى أرواح البعر.

الفرزدق يعجب بشعره و لا يعده من فحول الشعراء

قال أبو زيد بن شبة: قال أبو عبيدة:

ص: 268


1- «ديوانه» 56.
2- في «الديوان»:... من دؤابة عامر... رقاق الثنايا مشرفات الحقائب. و عطابيل: بيض طوال حسان.
3- في «الديوان»:... منهن مربع، و الهجان: الكرام. و النجائب: الكرام من الإبل. و يقظن: ينزلنه في القيظ، و في أ: «يعظن».
4- «ديوانه» 273.
5- ف: «درة».
6- أ: «نزر».
7- ف: «و حبيب بن نصر المهلبي».
8- ف: «ابن غزالة».
9- ف: «أي يضمحل عن قريب».
10- من ابن سلام.
11- ابن سلام: «شمها».

/وقف الفرزدق على ذي الرمّة و هو ينشد قصيدته (الحائية)(1) التي يقول فيها(2):

إذا ارفضّ أطراف السّياط و هلّلت *** جروم المطايا عذّبتهنّ صيدح(3)

فقال(4) ذو الرمة: كيف تسمع يا أبا فراس؟ قال: أسمع حسنا، قال: فما لي لا أعدّ في الفحول من الشعراء؟ قال: يمنعك من ذلك و يباعدك(5) ذكرك الأبعار و بكاؤك الديار، ثم قال(6):

و دويّة لو ذو الرّميمة رامها(7) *** لقصّر عنها ذو الرّميم و صيدح(8)

قطعت إلى معروفها منكراتها *** إذا اشتدّ آل الأمعز المتوضّح(9)

و قال عمر بن شبّة في هذا الخبر: فقام إليه ذو الرمة فقال: أنشدك اللّه أبا فراس أن تزيد عليهما شيئا، فقال:

إنهما بيتان، و لن أزيد عليهما شيئا.

قال: و كان عمر بن شبة يقول عمن أخبره عن أبي عمرو(10): إنما شعره نقط عروس تضمحل عمّا قليل، و أبعار ظباء لها مشمّ في أول شمها، ثم تعود إلى أرواح الأبعار(11).

كان هواه مع الفرزدق على جرير

و كان(12) هوى ذي الرّمّة مع الفرزدق على جرير؛ و ذلك لما كان بين جرير و ابن لجأ/التّيميّ، و تيم و عديّ أخوان من الرّباب، و عكل أخوهم، و لذلك يقول جرير لعكل(13).

فلا يضغمنّ الليث عكلا بغرّة *** و عكل يشمّون الفريس المنيّبا

الفريس هاهنا ابن لجأ، و كذلك يفعل السبع(14) إذا ضغم(15) شاة ثم طرد عنها، أو سبقته، أقبلت/الغنم

ص: 269


1- كذا في ف.
2- «ديوانه» 87.
3- ارفض: تفرق من العراق. و الجرم: الجسد، و هللت جرومها: صارت كالأهلة من الهزال. و صيدح: اسم ناقة ذي الرمة.
4- ف: «ثم قال».
5- ف: «و يتقاعد بك».
6- «ديوانه» 147.
7- ف: «أمها»، و الدوّية: المفازة.
8- س: «ذو الرماء»، و في «الديوان». بصيدح أودي ذو الرميم و صيدح و ذو الرميمة، تصغير ذي الرمة، و رامها بصيدح: ابتغى قطعها بناقته صيدح.
9- ف: «إذا امتد». و في «ابن سلام» 469، و «الديوان»: إذا خب آل دونها يتوضح الأمعز: المكان الصلب الكثير الحصى. المتوضح: المستبين.
10- أ: «قال: و كان أبو عمرو يقول».
11- ف: «البعر».
12- ابن سلام 46.
13- «ديوانه»: 14، و ابن سلام 469.
14- ف: «الليث».
15- ضغم السبع الشاة: عضها، أو عضها دون النهش.

تشمّ موضع الضّغم، فيفترسها(1) السبع، و هي تشم، و لذلك قال جرير لبني عديّ (2):

و قلت نضاحة لبني عديّ *** ثيابكم و نضح دم القتيل(3)

يحذّر عديّا ما لقي ابن لجأ.

الفرزدق ينتحل أبياتا له

أخبرني أبو خليفة، عن ابن سلام(4) أنّ أبا يحيى الضبيّ قال: قال ذو الرمّة يوما: لقد قلت أبياتا إنّ لها لعروضا و إن لها لمرادا و معنى بعيدا. قال له الفرزدق: ما هي؟ قال: قلت(5):

أ حين أعاذت بي تميم نساءها(6) *** و جرّدت تجريد اليماني من الغمد

و مدّت بضبعيّ الرّباب و مالك *** و عمرو و شالت من ورائي بنو سعد

و من آل يربوع زهاء كأنّه *** زها اللّيل(7) محمود النّكاية و الرّفد

فقال له الفرزدق: لا تعودنّ فيها، فأنا أحقّ بها منك، قال: و اللّه/لا أعود فيها و لا أنشدها أبدا إلاّ لك؛ فهي قصيدة الفرزدق التي يقول فيها(8):

و كنّا إذا القيسيّ نبّ عتوده *** ضربناه فوق الأنثيين على الكرد(9)

- الأنثيان: الأذنان. و الكرد: العنق -.

و روى هذا الخبر حمّاد عن أبيه، عن أبي عبيدة، عن الضحاك الفقيميّ (10) قال:

بينا أنا بكاظمة و ذو الرمّة ينشد قصيدته التي يقول فيها:

أ حين أعاذت بي تميم نساءها(11)

إذا راكبان قد تدلّيا من نقب(12) كاظمة مقنّعان فوقفا، فلما فرغ ذو الرمّة حسر الفرزدق عن وجهه و قال لراويته(13): يا عبيد، اضمم إليك(14) هذه الأبيات. قال له ذو الرمة: نشدتك اللّه يا أبا فراس! فقال له: أنا أحقّ بها منك، و انتحل منها هذه الأربعة الأبيات.

ص: 270


1- ف: «فيغترها».
2- البيت في «ديوانه» 437.
3- نضاحة، أي نضحا. و النضح: الرشاش يصيب الثوب من دماء أو ماء.
4- ف: «حدثنا أبو عبد اللّه بن سلام قال».
5- ابن سلام 470، و «الموشح» 169، 170، 171، و «ديوان ذي الرمة» 142.
6- س: «نساءهم». و المثبت في أ، ج، و ابن سلام، و في «الموشح»، و «ديوان ذي الرمة» 142.
7- «ديوانه»: «دجا الليل».
8- «ديوانه» 21 و «اللسان» (كرد)، و «المعرب» 279، و «الموشح» 170، و ابن سلام 471.
9- س: «و كان... إلى الكرد»، و المثبت من المراجع السابقة. و العتود: الجدي القوي.
10- ف: «عن الضحاك بن القاسم».
11- س: «نساءهم».
12- ف: «بيت».
13- ح: «للراوية».
14- ج: «اضمم هذه».
المهاجاة بينه و بين هشام المرئي
اشارة

حدّثنا محمد، قال: حدثنا أبو الغرّاف، قال:

مرّ ذو الرمّة بمنزل لامرئ القيس بن زيد مناة يقال له: مرأة(1)، به نخل، فلم ينزلوه و لم يقروه، فقال(2):

نزلنا و قد طال(3) النهار و أوقدت *** علينا حصى المعزاء(4) شمس تنالها

أنخنا فظلّلنا بأبراد يمنة *** عتاق و أسياف قديم صقالها(5)

/فلما رآنا أهل مرأة أغلقوا *** مخادع لم ترفع لخير ظلالها(6)

و قد سمّيت باسم امرئ القيس قرية *** كرام صواديها لئام رجالها(7)

فلجّ الهجاء بين ذي الرّمة و بين هشام المرئيّ، فمرّ الفرزدق بذي الرمة و هو ينشد(8):

صوت

وقفت على ربع لميّة ناقتي *** فما زلت أبكي عنده و أخاطبه

و أسقيه حتى كاد مما أبثّه *** تكلّمني أحجاره و ملاعبه

غنّى(9) فيه إبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر، و سيأتي خبره بعد؛ لئلا ينقطع هذا الخبر.

فقال له الفرزدق: ألهاك البكاء(10) في الديار، و العبد يرتجز(11) بك في المقابر(12)، يعني هشاما.

و كان(13) ذو الرّمّة مستعليا هشاما حتى لقي جرير هشاما، فقال: غلبك العبد، يعني ذا الرّمة، قال: فما أصنع يا أبا حزرة، و أنا راجز و هو يقصّد، و الرّجز لا يقوم للقصيد في الهجاء؟ و لو رفدتني(14)، فقال جرير - لتهمته ذا الرّمّة

ص: 271


1- ابن سلام 471.
2- «ديوانه» 542.
3- ف: «و قد طاب النهار»، و في «الديوان»: «و قد غار النهار».
4- المعزاء: الأرض الصلبة ذات الحصى.
5- في «الديوان»: بنيننا علينا ظل أبراد يمنة على سمك أسياف قديم صقالها اليمنة: ضرب من برود اليمن.
6- في «الديوان»: «فلما دخلنا جوف مرأة غلفت... دساكر....». و الدساكر: جمع دسكرة، و هي بناء كالقصر، حوله بيوت الأعاجم، يكون فيها الشراب و الملاهي، أراد بها هاهنا البيوت عامة.
7- سميت مرأة باسم امرئ القيس. و الصوادي: جمع صادية؛ و هي النخل التي بلغت عروقها الماء و طالت، فهي لا تحتاج إلى سقي. و في أ: «كدام صواديها».
8- «ديوانه» 38، ابن سلام 472.
9- أ: «غناه إبراهيم».
10- في ابن سلام: «التبكاء».
11- في ابن سلام: «يرجز بك».
12- في ح، و ابن سلام: «في المقبرة».
13- ابن سلام 473.
14- ح، و ابن سلام: «فلو رفدتني»، و رفده: أعانه.

بالميل(1)/إلى الفرزدق -: قل له(2):

/غضبت لرجل من عديّ تشمّسوا *** و في أيّ يوم لم تشمّس رجالها(3)

و فيم عديّ عند تيم من العلا *** و أيامنا اللاّتي تعدّ فعالها

و ضبّة عميّ يا ابن جلّ (4) فلا ترم *** مساعي قوم ليس منك سجالها(5)

يماشي عديّا لؤمها، لا تجنّه *** من الناس ما مسّت عديّا ظلالها(6)

فقل لعديّ تستعن بنسائها *** عليّ فقد أعيا عديّا رجالها

أ ذا الرّمّ قد قلّدت قومك رمّة *** بطيئا بأمر المطلقين انحلالها

قال أبو عبد اللّه: فحدثني أبو الغرّاف، قال:

لما بلغت الأبيات ذا الرمة قال: و اللّه ما هذا بكلام(7) هشام، و لكنه كلام ابن الأتان(8).

أخبرنا أبو خليفة، قال: حدثنا ابن سلاّم، قال: و حدثني(9) أبو البيداء قال:

لما سمعها(10) قال: هو و اللّه ينتمي شعر حنظليّ عذريّ (11)، و غلب هشام على ذي الرمّة بها.

/نسخت من كتاب ابن النطّاح: حدثني أبو عبيدة، قال: حدثني فلان المرئيّ، قال:

أتانا جرير على حمار، و أنا لا أعرفه، فأتي بنبيذ فشرب، فلما أخذ فيه قال: أين هشام؟ فدعي، فقال له:

أنشدني ما قلت في ذي الرمّة، فأنشده، فجعل كلما أنشده قصيدة قال: لم تصنع شيئا، ثم قال له: قد دنا رواحي فاردد(12) هذه الأبيات و مر شبّانكم بروايتها، و ذكر الأبيات التي أولها قوله(13):

غضبت لرجل(14) من تميم تشمّسوا

ذو الرمة يعاتب جريرا فيعينه بأبيات يهجو بها هشاما

قال: فغلبه هشام بها، فلما كان بعد ذلك لقي ذو الرّمة جريرا فقال: تعصّبت على خالك للمرئيّ. فقال جرير: حيث

ص: 272


1- في ابن سلام: «و ميله إلى الفرزدق».
2- «ديوان جرير» 486، و ابن سلام 473.
3- ابن سلام: «غضبت لرهط...»، قال محققه: و يروى: «عجبت لرحل»، و «غضبت لرحل»، بالحاء المهملة. و تشمس: قعد في الشمس أو انتصب لها.
4- بنو جل بن عدي بن عبد مناة بن ود.
5- السجال: المساجلة و المباراة و المفاخرة.
6- ف: «... ضلالها»، و في ابن سلام: «... ما مشت عديا رجالها».
7- أ، ف: «كلام».
8- ابن الأتان، يعني جريرا.
9- ابن سلام 474.
10- ف: «فلما سمعها».
11- ف: «نجودي»، و ابن سلام: «غدري».
12- ح: «فار و هذه الأبيات».
13- ساقط من ج.
14- انظر التعليق السابق، حاشية 2 ص 19.

فعلت ما ذا؟ قال: حين تقول للمرئيّ كذا و كذا، فقال جرير: لأنك(1) ألهاك البكاء في دارميّة حتى استقبحته(2) محارمك.

قال: و قول ذي الرمّة: تعصّبت على خالك، أنّ النّوار بنت جلّ (3) أمّ حنظلة بن مالك، و هي من رهط ذي الرّمة، و كذلك عنى جرير بقوله:

و لو لا أن تقول بنو(4) عديّ *** أ لم تك أمّ حنظلة النّوار

أتتكم يا بني ملكان منّي *** قصائد لا تعاورها البحار(5)

فقال ذو الرّمة: لا، و لكن اتهمتني بالميل مع الفرزدق عليك، قال: كذلك هو، قال: فو اللّه ما فعلت، و حلف له بما يرضيه، قال: فأنشدني ما هجوت به المرئيّ، فأنشده قوله(6):

نبت عيناك عن(7) طلل بحزوى *** عفته الريح و امتضح(8) القطارا

/فأطال(9) جدّا، فقال له جرير: ما صنعت شيئا، أ فأرفدك؟ قال: نعم، قال: قل(10):

يعدّ الناسبون إلى تميم *** بيوت المجد(11) أربعة كبارا

يعدّون الرّباب و آل سعد(12) *** و عمرا ثم حنظلة الخيارا

و يهلك بينها المرئيّ لغوا *** كما ألغيت في الدّية الحوارا

(13)و يروى: و يذهب بينها(13).

فغلبه(13) ذو الرّمة بها.

قال: حدثني محمد بن عمر الجرجانيّ (14)، قال: حدثني جماعة من أهل العلم أنّ ذا الرّمّة مرّ بالفرزدق فقال له: أنشدني أحدث ما قلت في المرئيّ، فأنشده هذه الأبيات، فأطرق الفرزدق ساعة، ثم قال: أعد، فأعاد، فقال:

كذبت و ايم اللّه، ما هذا لك، و لقد قاله أشدّ لحيين منك، و ما هذا إلاّ شعر ابن الأتان(15).

ص: 273


1- ف: «لا، بل».
2- ف: «حتى استبيحت».
3- أ: «بنت خال».
4- في أ: «بني عدي».
5- في ف: «التجار».
6- «ديوانه» 193.
7- أ: «من طلل». و حزوى: موضع بنجد.
8- ف، و «الديوان»: «و امتنح»، و امتنح، من المنحة و هي العطية، و امتضح، من مضح عرضه: شأنه.
9- ج: «فأطالها».
10- «ديوان ذي الرمة» 196.
11- «الديوان»: «بيوت العز».
12- «الديوان»: يعدون الرباب لهم و عمرا و سعدا ثم..... (13-13) كذا في ج.
13- في ف: «فغلب».
14- ما: «الجرجراني». و ف: «الجرجرائي».
15- يريد جريرا.

فلما سمعها المرئيّ جعل يلطم رأسه، و يصرخ و يدعو/بويله، و يقول: قتلني جرير، قتله اللّه! هذا و اللّه شعره الذي لو نقطت منه نقطة في البحر لكدّرته، قتلني، و فضحني.

فلما استعلى ذو الرمة على هشام أتى هشام و قومه جريرا فقالوا: يا أبا حزرة، عادتك الحسنى، فقال:

هيهات، ظلمت أخوالي، قد أتاني ذو الرّمة، فاعتذر إليّ، و حلف(1) فلست أعين عليهم.

/فلما يئسوا من عنده أتوا لهذا المكاتب و قد طلع بمكاتبته، فأعطوه عشرة أعنز، و أعانوه على مكاتبته، فقال أبياتا عينيّة يفضّل فيها بني امرئ القيس على بني عديّ، و هشاما على ذي الرمّة، و مات ذو الرمّة في تلك الأيام، فقال الناس: غلبه هشام.

قال ابن النّطاح: إنما مات ذو الرمة بعقب إرفاد جرير إيّاه على المرئيّ، فقال الناس: غلبه، و لم يغلبه؛ إنما مات قبل الجواب.

يتحدث عن شعره

أخبرني اليزيديّ (2)، عن محمد بن الحسن الأحول، عن بعض أصحابه، عن الشّبو بن قسيم العذريّ (3)، قال:

سمعت ذا الرمّة يقول: من(4) شعري ما طاوعني فيه القول و ساعدني، و منه ما أجهدت نفسي فيه، و منه ما جننت به جنونا؛ فأما ما طاوعني القول فيه فقولي(5):

خليليّ عوجا من صدور الرّواحل

و أما ما أجهدت نفسي فيه فقولي(6):

أ أن توسّمت من خرقاء منزلة

أما ما جننت به جنونا فقولي(7):

ما بال عينك منها الدّمع ينسكب

جرير يتمنى أن ينسب إليه شعر لذي الرمة

أخبرني عليّ بن سليمان، عن محمد بن يزيد، عن عمارة بن عقيل، قال: كان جرير يقول: ما أحببت أن ينسب إليّ من شعر ذي الرمة إلا قوله:

ص: 274


1- ف: «و حلف لي».
2- ح: «محمد بن العباس اليزيدي».
3- ح: «السير بن قسيم العدوي».
4- ح: «في».
5- «ديوانه» 491 و عجز البيت: بجمهور حزوى فابكيا في المنازل
6- «ديوانه» 567 و في «الديوان»: أعن ترسمت........ ماء الصبابة من عينيك مسجوم
7- «ديوانه» 1 و تمامه: كأنه من كل مفرية سرب

ما بال عينك منها الماء ينسكب

فإن شيطانه كان له فيها ناصحا.

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، قال:

قال حمّاد الراوية: ما تمم ذو الرمة قصيدته التي يقول فيها:

ما بال عينك منها الماء ينسكب

حتى مات، كان يزيد فيها منذ قالها حتى توفّي.

ذو الرمة و خياط في سوق المربد

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حمّاد، عن أبي عدنان، قال: أخبرنا جابر بن عبد اللّه بن جامع بن جرموز الباهليّ، عن كثير بن ناجية، قال:

بينا ذو الرمة ينشد بالمربد و الناس مجتمعون إليه، إذا هو بخيّاط يطالعه، و يقول: يا غيلان

أ أنت الذي تستنطق الدار واقفا *** من الجهل هل كانت بكنّ حلول؟

فقام ذو الرمّة و فكّر زمانا، ثم عاد فقعد في المربد ينشد، فإذا الخياط قد وقف عليه، ثم قال(1):

أ أنت الذي شبّهت عنزا بقفرة *** لها ذنب فوق استها أمّ سالم؟

و قرنان إمّا يلزقا بك يتركا(2) *** بجنبيك يا غيلان مثل المواسم

جعلت لها قرنين فوق شواتها(3) *** و رابك منها مشقة في القوائم

/فقام ذو الرمة فذهب، و لم ينشد بعدها في المربد حتى مات الخياط. قال: و أراد الخياط بقوله هذا قول ذي الرمة(4):

أقول لدهناويّة عوهج جرت *** لنا بين أعلى برقة في الصّرائم(5)

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل *** و بين النّقا آنت أم أمّ سالم؟

هي الشّبه لو لا مدرياها(6) و أذنها *** سواء و إلاّ مشقة في القوائم

فانتبه ذو الرّمة لذلك، فقال(7):

/أقول بذي الأرطى عشيّة أرشقت(8)*** إلى الرّكب أعناق الظّباء الخواذل(9)

ص: 275


1- ح: «فقال».
2- ح: «يلزمانك يثنيا».
3- الشواة: الشوى، و الشوى: قحف الرأس. و في ف: «فوق ثيابها».
4- «ديوانه» 621.
5- في «الديوان»: «... بين أعلى عرفة بالصرائم». و في ف: «بين أعلى عجمة فالصرائم».
6- في «الديوان»: «إلا مدرييها». و المدريان: القرنان.
7- «ديوانه» 495.
8- في «الديوان»: «و عشية أتلعت...»، و في ف: «أشرفت».
9- ح: «أعناق المطي».

لأدماء(1) من آرام بين سويقة *** و بين الجبال(2) العفر ذات السّلاسل

أرى فيك من خرقاء يا ظبية اللّوى *** مشابه جنّبت(3) اعتلاق الحبائل

فعيناك عيناها و جيدك جيدها *** و لونك لو لا أنها غير عاطل(4)

في البيتين الأخيرين من هذه الأبيات رمل بالوسطى لإبراهيم(5).

رؤبة يعجز عن تفسير بيت قاله الراعي فيفسره له ذو الرمة

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش(6)، عن أبي سعيد السكريّ، عن يعقوب بن السكّيت، عن محمد بن سلاّم، عن أبي الغرّاف، قال:

قال ذو الرمة لرؤبة: ما عنى الراعي بقوله(7):

أناخا بأسوإ الظّنّ ثمّت عرّسا *** قليلا و قد أبقى سهيل فعرّدا

فجعل رؤبة يقول: هي كذا هي كذا، لأشياء لا يقبلها ذو الرمّة، فقال له رؤبة: فمه؟ ويحك! قال: هي الأرض بين المكلئة و بين المجدبة.

الوليد بن عبد الملك يسأل الفرزدق و جريرا عن ذي الرمة

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبي عدنان، عن إبراهيم بن نافع:

أن الفرزدق دخل على الوليد بن عبد الملك أو غيره، فقال له: من أشعر الناس؟ قال: أنا، قال: أ فتعلم أحدا أشعر منك؟ قال: لا، إلاّ أن غلاما من بني عديّ بن كعب يركب أعجاز الإبل، و ينعت الفلوات. ثم أتاه جرير فسأله، فقال له مثل ذلك. ثم أتاه ذو الرمة فقال له: ويحك! أنت أشعر الناس، قال: لا، و لكن غلام من بني عقيل يقال له: مزاحم: يسكن الرّوضات يقول وحشيّا من الشعر لا نقدر على أن نقول مثله.

كثيرة تقول شعرا في ميّ و تنحله ذا الرمة

قال: و كان ذو الرمة يتشبّب(8) بميّ بنت طلبة بن قيس بن عاصم المنقريّ، و كانت كثيرة(9) أمة مولّدة لآل قيس بن

ص: 276


1- في «الديوان»: «لأدمانة من وحش»، و أدمانة: ظبية.
2- في «الديوان»: «... الحبال»، بالحاء المهملة، قال: و الحبال يعني حبال الرمل. و العفر: الحمر. و السلاسل من الرمل: ما تعقد منه.
3- ج: «جنته»، و المثبت من أ و «الديوان»: يدعو لها ألا تعلق في حبالة الصائد.
4- ح و «الديوان»: «إلا أنها». و العاطل: التي لا حلي عليها.
5- ح: «لإبراهيم الموصلي».
6- ف: «علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد».
7- ابن سلام 477، و روايته: أناخا بأشوال طروقا بخبة قليلا و قد أعيا سهيل فعردا و في «اللسان» (خبب) و «المخصص» 173:10: أناخوا بأشوال إلى أهل خبة طروقا و قد أقعى سهيل فعردا و في ح: أناخا بأشراط و ظلا بخبة طروقا و قد أقعى سهيل فعردا
8- ح: «يشبب».
9- ابن سلام: «كنزة».

عاصم، و هي أم سهم بن بردة اللص الذي/قتله سنان بن مخيّس(1) القشيريّ أيام محمد بن سليمان، فقالت كثيرة(2):

على وجه ميّ مسحة من ملاحة *** و تحت الثياب الخزي لو كان باديا

أ لم تر أنّ الماء يخبث طعمه *** و لو كان لون الماء في العين صافيا(3)

و نحلتها ذا الرّمة، فامتعض من ذلك، و حلف بجهد(4) أيمانه ما قالها.

قال: و كيف أقول هذا و قد قطعت دهري، و أفنيت شبابي أشبّب بها و أمدحها(5)، ثم أقول هذا، ثم اطّلع على أنّ كثيرة قالتهما، و نحلتهما إياه.

ميّة لا ترد عليه السلام فيغضب و يقول في ذلك شعرا

و قال هارون بن محمد: حدثني عبد الرحمن بن عبد اللّه، قال: حدثني هارون بن سعيد، قال: حدثني أبو المسافر الفقعسيّ، عن أبي بكر بن جبلة الفقعسيّ، قال:

وقف ذو الرمة في ركب معه على ميّة، فسلّموا عليها، فقالت: و عليكم إلاّ ذا الرمة(6)، فأحفظه ذلك و غمّه ما سمع منها بحضرة القوم(7)؛ فغضب و انصرف و هو يقول:

أيا ميّ قد أشمت بي ويحك العدا *** و قطّعت حبلا كان يا ميّ باقيا

فيا ميّ لا مرجوع للوصل بيننا *** و لكنّ هجرا بيننا و تقاليا

أ لم تر أنّ (8) الماء يخبث طعمه *** و إن كان لون الماء في العين صافيا

محمد بن الحجاج الأسيدي يلتقي بميّة و هي عجوز
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ الأدميّ، عن(9) ابن مهرويه، عن ابن النطّاح، عن محمد بن الحجاج الأسيديّ من بني أسيد بن عمرو بن تميم، قال:

مررت على ميّة و قد أسنّت، فوقفت عليها و أنا/يومئذ شابّ فقلت: يا ميّة! ما أرى ذا الرمة إلاّ قد ضيّع فيك قوله حيث يقول(10):

صوت

أما(11) أنت عن ذكراك ميّة مقصر *** و لا أنت ناسي العهد منها فتذكر

ص: 277


1- أ: «ابن محسر»؛ و المثبت من ف و ابن سلام.
2- ابن سلام: «كنزة»، و الشعر في ابن سلام 476، و «أمالي الزجاجي» 57، و «الحماسة» 53:4، و «الشعر و الشعراء» 519.
3- في هامش ح من نسخة: «و إن كان...». و في «الديوان» 675: «... أن الماء يخلف طعمه».
4- ح: «جهد».
5- س: «و أمذقها»؛ و المثبت من أ، ف، و ابن سلام.
6- ح: «إلا ذو الرمة».
7- ح: «فأحفظه ما سمع منها بحضرة القوم».
8- أ: «أ لم ترين»، و المثبت من «الديوان».
9- ف: «قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه».
10- الأبيات في «ديوانه» 666.
11- في ح: «و ما».

تهيم بها ما تستفيق و دونها *** حجاب و أبواب و ستر مستّر

قال: فضحكت و قالت: رأيتني يا بن أخي و قد ولّيت و ذهبت محاسني، و يرحم اللّه غيلان؛ فلقد قال هذا فيّ و أنا أحسن من النار الموقدة في الليلة القرّة في عين المقرور، و لن تبرح حتى أقيم عندك عذره(1)، ثم صاحت:

يا أسماء، اخرجي؛ فخرجت جارية كالمهاة ما رأيت مثلها، فقالت: أ ما لمن شبّب بهذه و هويها عذر؟ فقلت: بلى، فقالت: و اللّه لقد كنت أزمان كنت مثلها أحسن منها، و لو رأيتني يومئذ لازدريت هذه ازدراءك إياي اليوم، انصرف راشدا.

في هذين البيتين لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى.

أبو سوّار الغنويّ يصف ميّة

أخبرني(2) أبو خليفة، قال: قال محمد بن سلام: قال أبو سوّار(3) الغنويّ:

رأيت ميّة و إذا معها بنون لها صغار، فقلت: صفها لي، فقال: مسنونة الوجه، /طويلة الخد(4)، شمّاء الأنف، عليها وسم جمال، فقالت: ما تلقّيت(5) بأحد من بنيّ هؤلاء إلاّ في الإبل، قلت: أ فكانت تنشدك شيئا مما قاله ذو الرمّة فيها؟ قال: نعم، كانت تسحّ سحّا، ما رأى أبوك مثله.

ميّة تجعل للّه عليها أن تنحر بدنة يوم ترى ذا الرمة

فأمّا ابن قتيبة فقال في خبره(6):

مكثت ميّة زمانا لا ترى ذا الرمّة، و هي تسمع مع ذلك شعره، فجعلت للّه عليها أن تنحر بدنة يوم تراه، فلما رأته رجلا دميما أسود، و كانت من أجمل الناس قالت: وا سوأتاه! وا بؤساه(7) وا ضيعة بدنتاه! فقال ذو الرمة:

على وجه ميّ مسحة من ملاحة *** و تحت الثياب الشّين لو كان باديا

قال: فكشفت ثوبها عن جسدها، ثم قالت: أ شينا ترى لا أمّ لك! فقال:

أ لم تر أنّ الماء يخبث طعمه *** و إن كان لون الماء أبيض صافيا

فقالت: أمّا ما تحت الثياب فقد رأيته و علمت أن لا شين فيه، و لم يبق إلا أن أقول لك: هلمّ، حتى تذوق ما وراءه، و و اللّه لا ذقت ذاك أبدا، فقال:

فيا ضيعة الشّعر الذي لجّ فانقضى *** بميّ و لم أملك ضلال فؤاديا

قال: ثم صلح الأمر بينهما بعد ذلك، فعاد لما كان عليه من حبّها.

ص: 278


1- ف: «عذره في».
2- الخبر في ابن سلام 476.
3- ج: «ابن سوار».
4- في ابن سلام: «الخدين».
5- تلقت المرأة: حبلت.
6- «الشعر و الشعراء» 509.
7- ساقط من ف، و هو في «الشعر و الشعراء».
محمد بن علي الجبيري يلتقي بالنوار ابنة ميّة و يتذاكران شعرا لذي الرمة

و ذكر محمد بن عليّ بن حفص الجبيريّ (1) الحنفيّ - من ولد أبي جبيرة - أنّ النّوار بنت عاصم المنقرية - و أمّها ميّة صاحبة ذي الرمة - أخبرته، و قد ذكر عندها ذا الرمة(2)، و أنشدها قوله في أمها(3):

/هي البرء و الأسقام و الهمّ و المنى *** و موت الهوى في القلب مني المبرّح(4)

و كان الهوى بالنأي(5) يمحى فيمحي *** و حبّك عندي يستجدّ و يربح

يربح، أي يزيد الربح(6). هكذا ذكره الأصمعيّ.

إذا غيّر النأي المحبّين لم أجد *** رسيس الهوى(7) من حبّ ميّة يبرح

فلما سمعت قوله:

إذا غيّر النّأي المحبّين....

قالت: قبّحه اللّه، هو الذي يقول أيضا:

على وجه ميّ مسحة من ملاحة *** و تحت الثياب الشّين(8) لو كان باديا

/فقلت لها: أ كانت ميّة جدّتك؟ قالت: لا، بل أمّي، فقلت لها: كم تعدّين؟ قالت: ستين سنة.

أخبرني الحسين(9) بن يحيى، قال حماد: قرأت على أبي، عن محمد بن سلام، قال:

كانت ميّ صاحبة ذي الرمة من ولد طلبة بن قيس بن عاصم المنقريّ، و كانت لها بنت [عم](10) من ولد قيس يقال لها: كثيرة(11) أم سلهمة، فقالت على لسان ذي الرمة:

على وجه ميّ مسحة من ملاحة

الأبيات. فكان ذو الرمة إذا ذكر له ذلك يمتعض منه، و يحلف أنه ما قالها(12) قطّ.

أخبرني بهذا الخبر أبو خليفة، عن محمد بن سلام، عن أبي الغرّاف الضبيّ (13) بمثله، و قال فيه:

ص: 279


1- ح: «الحميري».
2- ف: «ذو الرمة».
3- «ديوانه» 79، 83 من قصيدته التي مطلعها: أ منزلتي ميّ سلام عليكما على النأي، و النائي يسود و ينصح
4- ح: «للأسقام و الهم و المنى»، و في «الديوان»: هي البرء و الأسقام و الهم ذكرها و موت الهوى لو التنائي المبرح
5- «الديوان»: «و بعض الهوى بالبحر».
6- ح: «يزيد كما يزيد الربح».
7- في «الديوان»: «... لم يكد... رسيس الهوى...».
8- ح و «الديوان»: «الخزي».
9- أ: «الحسن بن يحيى.»
10- ساقط من ف.
11- انظر الحاشية 4 ص 25.
12- ح: «ما قاله».
13- ح: «الفقعسي».

/إن كثيرة مولاة لهم، و هي(1) أمّ سلهمة اللص الذي قتلته خيل محمد بن سليمان، و اللّه أعلم.

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز و حبيب المهلبيّ (2)، عن ابن شبّة، عن المدائنيّ، عن سلمة(3)، عن محارب، قال:

كان ذو الرمّة يقرأ و يكتب و يكتم ذلك، فقيل له: كيف تقول: عزيز ابن اللّه أو عزيز بن اللّه؟ فقال: أكثرهما حروفا.

ذو الرمة يكتب

أخبرني إبراهيم بن أيّوب، عن عبد اللّه بن مسلم، قال:

قال(4) عيسى بن عمر: قال لي(5) ذو الرمة: ارفع هذا الحرف، فقلت له: أ تكتب؟ فقال بيده(6) على فيه:

اكتم(7) عليّ فإنه عندنا عيب.

رؤبة يتهمه بسرقة شعره

أخبرني ابن دريد، عن أبي حاتم، عن الأصمعيّ، عن محمد بن أبي بكر المخزوميّ، قال:

قال رؤبة: كما قلت شعرا سرقه ذو الرمّة، فقيل له: و ما ذاك؟ قال: قلت(8):

حيّ الشهيق ميّت الأنفاس

فقال هو(9):

يطرحن بالمهارق الأغفال *** كلّ جهيض لثق السّربال

حيّ الشهيق ميّت الأوصال

/فقلت له: فقوله و اللّه أجود من قولك، و إن كان سرقه منك، فقال: ذلك(10) أغمّ لي.

يحدثنا عن منزلته من الراعي

أخبرني ابن عبد العزيز(11) عن ابن شبّة قال:

ص: 280


1- ح: «و أمها».
2- ف: «و حبيب بن نصر».
3- ح: «عن مسلمة بن محارب».
4- «الشعر و الشعراء» 507.
5- ج: «قال ذو الرمة».
6- يريد: أشار بيده على فيه.
7- «الشعر و الشعراء»: «أي اكتم عليّ».
8- «الشعر و الشعراء» 516، و فيه: «موتى العطايا حية الأنفاس».
9- «ديوانه» 482، «الشعر و الشعراء» 516. و المهارق: الصحف؛ شبه الفلوات بها. و الأغفال: اللواتي لا علم بها. و الجهيض: الولد الذي سقط لغير تمام. السربال، يعني جلده. و في ف: «كل حنين» و في ب: «كل حصين».
10- ح: «ذاك».
11- ح: «محمد بن عبد العزيز».

قيل لذي الرمة: إنما أنت راوية الراعي. فقال: أما و اللّه لئن قيل ذاك ما مثلي و مثله إلاّ شابّ صحب شيخا، فسلك به طرقا ثم فارقه، فسلك الشابّ بعده شعابا و أودية لم يسلكها الشيخ قطّ.

لا يحسن الهجاء و المدح

أخبرني محمد بن أحمد بن الطّلاّس، عن الخراز(1) عن المدائنيّ، و أخبرني به(2) إبراهيم بن أيوب، عن عبد اللّه بن مسلم، عن ابن أخي الأصمعيّ، عن عمه، دخل حديث بعضهم في حديث بعض قال:

إنما(3) وضع من ذي الرمة أنه كان لا يحسن أن يهجو و لا يمدح، و قد مدح بلال بن أبي بردة فقال(4):

رأيت الناس ينتجعون غيثا *** فقلت لصيدح: انتجعي بلالا

فلما أنشده قال له: أ و لم ينتجعني غير صيدح؟ يا غلام، أعطه حبل قتّ لصيدح، فأخجله.

أخبرني أبو خليفة، عن ابن سلاّم قال: حدثني أبو الغرّاف قال:

عاب الحكم بن عوانة الكلبيّ ذا الرمة في بعض قوله فقال فيه(5):

فلو كنت من كلب صميما(6) هجوتكم *** جميعا و لكن لا إخالك من كلب(7)

/و لكنما أخبرت أنك ملصق *** كما ألصقت من غيرها ثلمة القعب(8)

تدهدى فخرّت ثلمة من صميمه(9) *** فكيف بأخرى(10) بالغراء و بالشّعب

ذو الرمة و بلال بن أبي بردة يحتكمان إلى أبي عمرو بن العلاء في رواية شيء من شعر حاتم:

أخبرني أبو خليفة، عن ابن سلاّم(11) قال: و حدثني أبو الغرّاف قال:

دخل ذو الرمّة على/بلال بن أبي بردة، و كان بلال راوية فصيحا أديبا، فأنشده بلال أبيات حاتم طيّئ قال(12):

لحا اللّه صعلوكا مناه و همّه *** من العيش أن يلقى لبوسا و مطعما

يرى الخمس تعذيبا و إن نال شبعة *** يبت قلبه من شدّة الهمّ مبهما(13)

ص: 281


1- ح: «عن أحمد بن الحارث الخراز».
2- ح: «و أخبرني إبراهيم».
3- ح: «و إنما».
4- «ديوانه» 442.
5- ابن سلام 482، «ديوانه» 53.
6- «الديوان». و في «الأصول»: «صحيحا».
7- «الديوان» و ابن سلام. و في بعض «الأصول»: «في كلب».
8- «الديوان»: «و لكنني خبرت»، و ثلمة الإناء: موضع الكسر من شفته، و القعب: القدح.
9- ف، و في أ، س: «صحيحه».
10- في «الديوان» و ابن سلام: «فلز بأخرى».
11- ابن سلام 483.
12- «ديوان حاتم» 25، و ابن سلام 483.
13- في ابن سلام: «من قلة الهم».

هكذا أنشد بلال، فقال ذو الرمة: يرى الخمص تعذيبا، و إنما الخمس للإبل، و إنما هو خمص البطن، فمحك بلال - و كان محكا(1) - و قال: هكذا أنشدنيه(2) رواة طيّئ، فردّ عليه ذو الرمة، فضحك(3)، و دخل أبو عمرو بن العلاء، فقال له بلال: كيف تنشدهما(4)؟ و عرف أبو عمرو الذي به فقال: كلا الوجهين جائز، فقال: أ تأخذون عن ذي الرمة؟ فقال: إنه لفصيح و إنا لنأخذ عنه بتمريض. و خرجا من عنده، فقال ذو الرمة لأبي عمرو: و اللّه لو لا أني أعلم(5) أنك حطبت في حبله و ملت(6) مع هواه لهجوتك هجاء لا يقعد إليك اثنان بعده.

أجود شعره في رأي بلال بن جرير

نسخت من كتاب محمد بن داود بن الجرّاح: حدثني هارون بن محمد الزيات، قال: حدثني حمّاد بن إسحاق عن عمارة بن عقيل، قال: قيل لبلال بن جرير: أيّ شعر ذي الرمة أجود؟ فقال(7):

هل حبل خرقاء بعد اليوم مرموم

إنها مدينة الشعر.

رأي لابن سلام في ذي الرمة

حدثنا(8) أبو خليفة، عن ابن سلاّم، قال:

كان ذو الرمة من جرير و الفرزدق بمنزلة قتادة من الحسن و ابن سيرين، كان يروي عنهما و يروي عن الصحابة، و كذلك ذو الرمّة، هو دونهما و يساويهما في بعض شعره(9).

جماعة من الكوفة يصنعون له أبياتا

أخبرني(10) الجوهريّ قال: حدثنا ابن شبّة، عن ابن معاوية(11)، قال: قال حماد الراوية:

قدم علينا ذو الرمة الكوفة فلم نر أحسن و لا أفصح و لا أعلم بغريب منه؛ فغمّ ذلك كثيرا من أهل المدينة(12)، فصنعوا له أبياتا و هي قوله:

رأى جملا يوما و لم يك قبلها *** من الدّهر يدري كيف خلق الأباعر

ص: 282


1- كذا في ابن سلام. و محك: نازع في الكلام و تمادى في اللجاجة، و في ف: «و كان ضحوكا».
2- في ابن سلام: «أنشدنيهما».
3- ابن سلام: «فمحك».
4- ح: «كيف تنشدها».
5- ح و ابن سلام: «أعلمك».
6- ابن سلام: «و قلت في هواه».
7- «ديوانه» 569، و فيه: «... بعد الهجر»، و تمامه: أم هل لها آخر الأيام تكليم
8- ابن سلام 466.
9- في ابن سلام: «الشعر».
10- ج: «و أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري».
11- ج: «عن أحمد بن معاوية الباهلي».
12- ج: «من أهل الكوفة».

فقال: شظايا مع ظبايا ألا لنا *** و أجفل إجفال الظّليم المبادر

فقلت له: لا ذهل ملكيل بعد ما *** ملا نيفق التّبّان منه بعاذر

قال: فاستعادها مرتين أو ثلاثا، ثم قال: ما أحسب هذا من كلام العرب.

ذو الرمة و عنبسة النحوي

أخبرني أبو الحسن الأسديّ، عن العباس بن ميمون طائع، قال: حدثنا أبو عثمان المازنيّ، عن الأصمعيّ، عن عنبسة النحويّ، قال:

/قلت لذي الرمة و سمعته ينشد و يقول:

و عينان قال اللّه كونا فكانتا *** فعولين بالألباب ما تفعل الخمر

قال: فقلت له: فهلاّ قلت: فعولان؟ فقال: لو قلت: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلا اللّه، و اللّه أكبر، كان خيرا لك؛ أي أنك أردت القدر، و أراد ذو الرمة كونا فعولين بالألباب، و أراد عنبسة: و عينان فعولان.

و روى هذا الخبر ابن الزيّات(1)، عن محمد بن عبادة، عن الأصمعيّ، عن العلاء بن أسلم، فذكر مثله.

يغير شعره لرأي قاله ابن شبرمة

و حكى أن إسحاق بن سويد المعارض له قال: و أخبرني الأخفش، قال: حدثني محمد بن يزيد النحويّ، قال: حدثني عبد الصمد بن المعذّل، قال: حدثني أبي، عن أبيه قال:

قدم ذو الرمّة الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائيّة، حتى أتى على قوله(2):

إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد *** رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

/فناداه ابن شبرمة: يا غيلان، أراه قد برّح. فشنق(3) ناقته، و جعل يتأخّر بها و يفكر. ثم عاد فأنشد قوله:

إذا غيّر النّأي المحبين لم أجد

قال: فلما انصرفت حدّثت أبي، فقال: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرّمّة ما أنشد، و أخطأ ذو الرّمّة حين غيّر شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا مثل قول اللّه عز و جل: ظُلُمٰاتٌ بَعْضُهٰا فَوْقَ بَعْضٍ إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا (4) و إنما معناه لم يرها و لم يكد.

بلال بن أبي بردة يأمر له بعشرة آلاف درهم

أخبرني الجوهريّ، عن ابن شبرمة، عن يحيى بن نجيم(5) قال:

قال رؤبة لبلال بن أبي بردة: علام تعطي ذا الرمة؟ فو اللّه إنه ليعمد إلى مقطّعاتنا فيصلها فيمدحك بها، فقال:

و اللّه لو لم أعطه إلا على تأليفه لأعطيته، و أمر له بعشرة آلاف درهم.

ص: 283


1- ج: «هارون بن محمد الزيات».
2- «ديوانه» 78.
3- ج: «فشنق لناقته»، و شنق البعير: كفه بزمامه حتى ألزق ذفراه بقادمة الرحل، أو رفع رأسه و هو راكبه.
4- سورة النور 40.
5- ج: «أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني يحيى بن نجيم قال:».
رجل بمربد البصرة يراجعه في شعر ينشده

أخبرني إسماعيل بن يونس، قال: حدثنا عمر بن شبّة، حدثنا(1) إسحاق الموصليّ، عن الأصمعيّ، قال(2):

قال رجل: رأيت ذا الرّمة بمربد البصرة و عليه جماعة مجتمعة و هو قائم، و عليه برد قيمته مائتا دينار، و هو ينشد، و دموعه تجري على لحيته(3):

ما بال عينك منها الماء ينسكب

فلما انتهى إلى قوله(4):

تصغي إذا شدّها بالكور جانحة *** حتى إذا ما استوى في غرزها تثب

قلت: يا أخا بني تميم، ما هكذا قال عمّك، قال: و أيّ أعمامي يرحمك اللّه؟ قلت: الراعي، قال: و ما قال؟ قال: قلت: قوله(5):

و لا تعجل المرء قبل الورو *** ك و هي بركبته أبصر(6)

و هيّ إذا قام في غرزها *** كمثل السفينة إذا توقر(7)

/و مصغية خدّها بالزّما *** م فالرأس منها له أصعر(8)

حتى إذا ما استوى طبّقت *** كما طبّق المسحل(9) الأغبر

قال: فأرتج عليه ساعة، ثم قال: إنه نعت ناقة ملك و نعتّ ناقة سوقة. فخرج منها على رءوس الناس.

روايات في سبب تشبيبه بخرقاء

فأما السبب بين ذي الرمة و خرقاء فقد اختلف فيه الرواة؛ فقيل: إنه كان يهواها، و قيل: بل كاد بها ميّة، و قيل: بل كانت كحّالة فداوت عينه فشبّب بها.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ (10)، عن النوفليّ، عن أبيه:

أن زوج ميّة أمرها أن تسبّ ذا الرمة غيرة عليها، فامتنعت، فتوعّدها بالقتل، فسبّته فغضب، و شبّب بخرقاء

ص: 284


1- ج: «قال حدثنا»، و الخبر في «الشعر و الشعراء» 517.
2- ج: «عن رجل أخبرني قال».
3- «ديوانه» 1، و تمامه: كأنه من كلي مفرية سرب
4- «ديوانه» 8.
5- «الشعر و الشعراء» 518، «الموشح» 277، «أمالي المرتضى» 279:1، «اللآلي» 898، «اللسان» (ورك).
6- «الشعر و الشعراء»: و لا تعجل المرء قبل البرو ك، و هي بركبتها أبصر
7- «الشعر و الشعراء»: «أو أوقر».
8- «الشعر و الشعراء»: «و واضعة خدها للزمام». و أصعر: مائل.
9- المسحل: الحمار الوحشي. و انظر «الموشح» 277.
10- ج: «قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي».

العامريّة؛ يكيد ميّة بذلك، فما قال فيها إلاّ قصيدتين أو ثلاثا حتى مات.

أخبرني حبيب بن نصر، عن ابن شبة، عن العتبيّ، عن هارون بن عتبة قال:

شبّب ذو الرمّة بخرقاء العامرية بغير هوى؛ و إنما كانت كحّالة فداوت عينه من رمد كان بها فزال، فقال لها:

ما تحبّين حتى أعطيك؟ فقالت(1): عشرة أبيات تشبّب بي؛ ليرغب الناس فيّ إذا سمعوا أنّ في بقية للتشبيب، ففعل.

كان الحاجّ يمرون بخرقاء

أخبرنا أبو خليفة، عن ابن سلاّم، قال:

كان ذو الرمة شبّب(2) بخرقاء إحدى نساء بني عامر بن ربيعة، و كانت تحلّ فلجا(3)، و يمرّ بها الحاجّ، فتقعد لهم و تحادثهم و تهاديهم، و كانت تجلس معها فاطمة/بنتها - فحدثني من رآهما - فلم(4) تكن فاطمة مثلها، و كانت تقول: أنا منسك من مناسك الحج؛ لقول ذي الرمّة فيها(5):

/تمام الحجّ أن تقف المطايا *** على خرقاء واضعة اللّثام

خرقاء تسأل القحيف العقيلي أن يشيب بها
اشارة

قال ابن سلاّم في خبره(6): و أرسلت خرقاء إلى القحيف العقيليّ تسأله أن يشبب بها فقال:

صوت

لقد أرسلت خرقاء نحوي جريها(7) *** لتجعلني خرقاء فيمن أضلّت

و خرقاء لا تزداد إلاّ ملاحة *** و لو عمّرت تعمير نوح و جلّت

خرقاء تسقي ذا الرمة و هي لا تعرفه

حدثني حبيب بن نصر، عن الزّبير، عن موهوب(8) بن رشيد، عمّن حدثه، قال:

نزل ركب بأبي خرقاء العامريّة، فأمر لهم بلبن فسقوه، و قصّر عن شابّ منهم، فأعطته خرقاء صبوحها و هي لا تعرفه، فشربه، و مضوا فركبوا، فقال لها أبوها: أ تعرفين الرجل الذي سقيته صبوحك؟ قالت: لا و اللّه، قال: هو ذو الرمة القائل فيك الأقاويل، فوضعت يدها على رأسها، و قالت: وا سوأتاه وا بؤساه! و دخلت بيتها، فما رآها أبوها ثلاثا.

ص: 285


1- ج: «لي عشر بنات أيامي، فشبب بي ليرغب الناس فيهن».
2- ف: «يشبب».
3- في ابن سلام 477: «فلجة».
4- ج و ابن سلام: «قال: لم تكن».
5- «ديوانه» 673، ابن سلام 478.
6- ابن سلام 479.
7- جريها: رسولها.
8- ف: «حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا موهوب...»، و في س: «موهب»، و المثبت في أ.
المفضل الضّبيّ يزور خرقاء

حدثني إبراهيم بن أيوب، عن ابن قتيبة، قال: قال(1) الضبيّ:

كنت أنزل على بعض الأعراب إذا حججت، فقال لي يوما: هل لك إلى أن أريك خرقاء صاحبة ذي الرمّة؟ فقلت: إن فعلت فقد بررت. فتوجهنا جميعا نريدها، فعدل بي عن الطريق قدر ميل، ثم أتينا أبيات شعر، فاستفتح /بيتا ففتح له، و خرجت امرأة طويلة حسنة(2) بها قوّة، فسلّمت و جلست، فتحدثنا ساعة، ثم قالت لي: هل حججت قطّ؟ قلت: غير مرة. قالت: فما منعك من زيارتي؟ أ ما علمت أنّي منسك من مناسك الحج؟ قلت: و كيف ذاك؟ قالت: أ ما سمعت قول ذي الرمة:

تمام الحجّ أن تقف المطايا *** على خرقاء واضعة اللّثام

أخبرني وكيع، عن أبي أيوب المدائنيّ (3) عن مصعب الزبيريّ، قال: شبّب ذو الرمة بخرقاء و لها ثمانون سنة.

رواية أخرى في لقاء ذي الرمة بخرقاء

قال هارون بن الزيات: حدثني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن إبراهيم، عن محمد بن يعقوب، عن أبيه قال:

رأيت خرقاء بالبصرة و قد ذهبت أسنانها، و إنّ في ديباجة وجهها لبقيّة، فقلت: أخبريني عن السبب بينك و بين ذي الرمّة، فقالت: اجتاز بنا في ركب و نحن عدّة جوار على بعض المياه، فقال: أسفرن، فسفرن غيري، فقال: لئن لم تسفري لأفضحنّك، فسفرت، فلم يزل يقول حتى أزيد، ثم لم أره بعد ذلك.

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدثنا الزّبير بن بكار قال: حدثني موهوب بن رشيد، قال: حدثني جدّي، قال:

كنت مع خرقاء ذي الرمة إذ نزل ببابها ركب من بني تميم فأمر لهم بلبن فسقوه، و قصر اللبن عن شاب منهم، فأمرت له خرقاء بغبوقها، فلما أن رحل عنهم الركب قال لها أبوها: يا خرقاء أ تعرفين من سقيت غبوقك اليوم؟ قالت: لا و اللّه ما أعرفه، قال: ذاك ذو الرمة، فوضعت يدها على رأسها و قالت: وا سوأتاه! و دخلت خدرها.

/قال الزبير: و حدثني عبد اللّه بن إبراهيم الجمحيّ، قال: حدثنا أبو الشّبل المعديّ قال:

كانت خرقاء البكائيّة أصبح من القبس، و بقيت بقاء طويلا حتى شبّب بها القحيف(4) العقيليّ.

خرقاء و صباح بن الهذيل

أخبرنا أبو الحسن الأسديّ، عن أحمد بن سليمان، عن أبي شيخ، عن أبيه، عن عليّ بن صالح بن سليمان(5)، عن صباح بن الهذيل أخي زفر بن الهذيل، قال:

ص: 286


1- ف: «قال المفضل الضبي».
2- ف: «حسّانه».
3- أ، ب: «المديني».
4- ج: «شبب بها العجيف».
5- ج: «عن أحمد بن سليمان بن صباح».

خرجت أريد الحجّ، فمررت بالمنزل الذي تنزله خرقاء، فأتيتها، فإذا امرأة جزلة، عندها سماطان(1) من الأعراب تحدّثهم(2) و تناشدهم، فسلّمت فردّت، و نسبتني، فانتسبت لها و هي تنزلني، حتى انتسبت(3) إلى أبي، فقالت: حسبك أكرمت(4) ما شئت، ما اسمك؟ قلت: صباح، قالت: و أبو من؟ قلت: أبو المغلّس، قالت:

أخذت أول الليل و آخره، قال: فما كان(5) لي همّة/إلاّ الذّهاب عنها.

الحجاج الأسدي يزور خرقاء، و تنشده شعرا لها في ذي الرمة

نسخت من كتاب محمد بن صالح بن النطّاح: حدثني محمد بن الحجاج الأسديّ التميميّ - و ما رأيت تميميا أعلم منه - قال:

حججت فلما صرت بمرّان منصرفا، فإذا أنا بغلام أشعث الذّؤابة قد أورد غنيمات له فجئته فاستنشدته(6)، فقال لي: إليك عنّي، فإني مشغول عنك. و ألححت عليه فقال: أرشدك إلى ما بعض ما تحبّ، انظر إلى ذلك البيت الذي يلقاك فإن فيه حاجتك، هذا بيت خرقاء ذي الرمة؛ فمضيت نحوه فطوّحت بالسلام من بعيد، فقالت: ادنه، فدنوت، فقالت: إنك لحضريّ، فمن أنت؟ قلت: /من بني تميم - و أنه أحسب أنها لا معرفة لها بالناس - قالت:

من أيّ تميم، فأعلمتها، فلم تزل تنزلني حتى انتسبت إلى أبي، فقالت: الحجاج بن عمير بن يزيد؟ قلت: نعم، قالت: رحم اللّه أبا المثنّى! قد كنّا نرجو أن يكون خلفا من عمير بن يزيد، قلت: نعم، فعاجلته المنيّة شابّا، قالت:

حيّاك اللّه يا بنيّ و قرّبك، من أين أقبلت؟ قلت: من الحج. قالت: فما لك لم تمرّ بي و أنا أحد مناسك الحج؟ إنّ حجّك ناقص، فأقم حتى تحجّ أو تكفّر بعتق. قلت: و كيف ذلك؟ قالت: أ ما سمعت قول غيلان عمّك:

تمام الحجّ أن تقف المطايا *** على خرقاء واضعة اللّثام

قال: و كانت و هي قاعدة بفناء البيت كأنها قائمة من طولها، بيضاء شهلاء، فخمة الوجه. قال: فسألتها عن سنّها، فقالت: لا أدري إلاّ أني كنت أذكر شمر بن ذي الجوشن حين قتل الحسين عليه السلام، مرّ بنا و أنا جارية و معه كسوة فقسّمها في قومه، قالت: و كان أبي قد أدرك الجاهلية و حمل فيها حمالات، قال: و لما أنشدتني خرقاء بيت ذي الرّمة فيها قلت: هيهات يا عمّة، قد ذهب ذلك منك، قالت: لا تقل(7) يا بنيّ، أ ما سمعت قول قحيف(8)فيّ:

و خرقاء لا تزداد إلاّ ملاحة *** و لو عمّرت تعمير نوح و جلّت

ثم قالت: رحم اللّه ذا الرمة؛ فقد كان رقيق البشرة، عذب المنطق، حسن الوصف، مقارب الرّصف، عفيف الطّرف، فقلت لها: لقد أحسنت الوصف، فقالت: هيهات أن يدركه وصف، رحمه اللّه، و رحم من سمّاه اسمه.

ص: 287


1- السماط: الصف.
2- ف: «تحادثهم».
3- ج: «حتى انتهيت».
4- ج: «كرمت».
5- ج: «فما كانت».
6- ف: «فحييته و استنشدته».
7- أ: «لا تغفل».
8- أ، و «المختار»: «عجيف». و انظر «المختار» 63:6.

فقلت: و من سمّاه؟ قالت: سيد بني عديّ الحصين بن عبدة بن نعيم، ثم أنشدتني لنفسها في ذي الرمة:

/لقد أصبحت في فرعي معدّ *** مكان النّجم في فلك السماء

إذا ذكرت محاسنه تدرّت *** بحار الجود من نحو السماء(1)

حصين شاد باسمك غير شكّ *** فأنت غياث محل بالفناء

إذا ضنّت سحابة ماء مزن *** تثجّ بحار جودك بارتواء

لقد نصرت باسمك أرض قحط *** كما نثرت(2) عديّ بالثّراء

فقلت: أحسنت يا خرقاء، فهل سمع ذلك منك ذو الرمة؟ قالت: إي و ربي، قلت: فما ذا قال؟ قالت: قال:

شكر اللّه لك يا خرقاء نعمة ربّيت شكرها من ذكرها، فقالت: أثقلنا حقّها، ثم قالت: اللهم غفرا، هذا في اللفظ، و نحتاج إلى العمل.

رجل من بني النجار يمر ببيت خرقاء و يحادث ابنتها

أخبرني جحظة، عن حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، عن ابن كناسة، عن خيثم بن حجّيّة العجليّ، قال: حدثني رجل من بني النجار، قال:

خرجت/أمشي في ناحية البادية، فمررت على فتاة قائمة على باب بيت فقمت(3) أكلّمها فنادتني عجوز من ناحية الخباء: ما يقيمك على هذا الغزال النّجديّ؟ فو اللّه ما تنال(4) خيرا منه و لا ينفعك، قال: و تقول هي: دعيه يا أمّاه يكن كما قال ذو الرمة(5):

و إن لم يكن إلاّ معرّس ساعة *** قليلا فإني نافع لي قليلها

فسألت عنهما، فقيل لي: العجوز خرقاء ذي الرمة و الفتاة بنتها.

ذو الرمة يموت و له أربعون سنة

و توفي ذو الرمة في خلافة هشام بن عبد الملك، و له أربعون سنة. و قد اختلفت(6) الرواة في سبب وفاته.

روايات مختلفة في وفاته

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، عن أبي سعيد السّكّريّ، عن يعقوب بن السّكيت: أنه بلغ أربعين سنة، و فيها توفي(7)، و هو خارج إلى هشام بن عبد الملك، و دفن(8) بحزوى، و هي الرملة التي كان يذكرها في شعره.

ص: 288


1- ما: «ماء السماء».
2- ج: «مطرت».
3- ف: «فوقفت».
4- ح: «لا تصيب».
5- «ديوانه» 550. و فيه: «فإن لم يكن إلا تعلل».
6- ج: «اختلف».
7- ج: «مات».
8- ج: «فدفن».

أخبرني(1) أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: حدثني ابن أبي عديّ قال:

قال ذو الرمة: بلغت نصف الهرم و أنا ابن أربعين [سنة](2).

قال ابن سلاّم: و حدثني أبو الغرّاف أنه مات و هو يريد هشاما، و قال في طريقه في ذلك(3):

بلاد بها أهلون لست ابن أهلها *** و أخرى بها أهلون ليس بها أهل

و قال هارون بن محمد بن عبد الملك: حدثني القاسم بن محمد الأسديّ، قال: حدثني جبر بن رياط قال:

أنشد ذو الرمة الناس شعرا له، وصف فيه الفلاة بالثّعلبية(4)، فقال له حلبس الأسديّ: إنك لتنعت الفلاة نعتا لا تكون منيّتك إلا بها.

قال: و صدر ذو الرمة على أحد جفري بني تميم و هما على طريق الحاجّ من البصرة، فلما أشرف على البصرة(5) قال(6):

و إنّي لعاليها و إني لخائف *** لما قال يوم الثّعلبيّة حلبس(7)

/قال: و يقال: إن هذا آخر شعر قاله. فلما توسّط الفلاة نزل عن راحلته فنفرت منه، و لم تكن تنفر منه، و عليها شرابه و طعامه، فلما دنا منها نفرت حتى مات، فيقال: إنه قال عند ذلك(8):

ألا أبلغ الفتيان(9) عنّي رسالة *** أهينوا(10) المطايا هنّ أهل هوان

فقد تركتني صيدح بمضلّة *** لساني ملتاث من الطّلوان(11)

قال هارون: و أخبرني أحمد بن محمد الكلابيّ بهذه القصة، و ذكر أن ناقته وردت على أهله في مياههم، فركبها أخوه، و قصّ أثره، حتى وجده ميّتا و عليه خلع الخليفة، و وجد هذين البيتين مكتوبين على قوسه.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز(12)، عن الرّياشيّ، عن الأصمعيّ، عن أبي الوجيه، قال:

دخلت على ذي الرمة و هو يجود بنفسه، فقلت له: كيف تجدك؟ قال: أجدني و اللّه أجد ما لا أجد(13) أيام

ص: 289


1- ابن سلام 480.
2- من ابن سلام.
3- ج: «تلك»، و البيت في «ديوانه» 458، و ابن سلام 480. و في ف، و «الديوان»: «ليسوا بأهلها»، و في ف بعد البيت: «و يروى: ليسوا بأهلنا».
4- ج: «و هو بالثعلبية». و الثعلبية: من منازل طريق مكة.
5- ج: «الفلاة».
6- «ديوانه» 668.
7- ج: «التغلبية حابس»، و المثبت في «الديوان» و «المختار».
8- «ديوانه» 675.
9- ف: «الركبان».
10- أ: «أهين».
11- الطلوان: بياض يعلو اللسان من مرض أو عطش.
12- ح: «عمر بن عبد العزيز بن أحمد».
13- ح: «ما أجد».

أزعم أني ما لم أجد حيث أقول(1):

كأنّي غداة(2) الزّرق(3) يا ميّ مدنف *** يجود بنفس قد أحمّ (4) حمامها

حذار اجتذام البين أقران نيّة *** مصاب(5) و لو عات(6) الفؤاد انجذامها

/قال: و كان آخر ما قاله(7):

يا ربّ قد أشرفت نفسي و قد علمت *** علما يقينا لقد أحصيت آثاري

يا مخرج الرّوح من جسمي إذا احتضرت *** و فارج الكرب زحزحني عن النّار

/قال أبو الوجيه: و كانت منيّته هذه في الجدريّ، و في ذلك يقول(8):

أ لم يأتها أنّي تلبّست بعدها *** مفوّفة صوّاغها غير أخرق(9)

نسخت من كتاب هارون بن الزيات: حدثني عبد الوهاب بن إبراهيم الأزديّ، قال: حدثني جهم بن مسعدة، قال: حدثني محمد بن الحجاج الأسديّ، عن أبيه، قال:

وردت حجرا و ذو الرمة به، فاشتكى شكايته التي كانت منها منيّته، و كرهت أن أخرج حتى أعلم بما يكون في(10) شكاته، و كنت أتعهّده، و أعوده في اليوم و اليومين، فأتيته يوما و قد ثقل، فقلت: يا غيلان، كيف تجدك؟ فقال: أجدني و اللّه يا أبا المثنى اليوم في الموت، لا غداة(11) أقول:

كأني غداة الزّرق(12) يا ميّ مدنف *** يكيد بنفس قد أحمّ حمامها

فأنا و اللّه الغداة في ذلك(13)، لا تلك الغداة.

قال هارون بن الزيات: حدثني موسى بن عيسى الجعفريّ، قال: أخبرني أبي قال: أخبرني رجل من بني تميم، قال:

كانت ميتة ذي الرمة أنه اشتكى النّوطة(14) فوجعها دهرا، فقال في ذلك(15):

ص: 290


1- «ديوانه» 637.
2- ح: «كأني يوم البين».
3- ح: «الرزق... يكيد بنفس». و في «الديوان»: «يكيد بنفس».
4- «الديوان»: «أجم». و أحم: دنا و قرب. و الحمام: الموت.
5- ح و «الديوان»: «مصيب».
6- ح: «كروعات»، و في «الديوان»: «لو قرأت الفؤاد».
7- «ديوانه» 667.
8- «ديوانه» 670.
9- ج: «تبدلت». و في «الديوان»: «غير أخرقا».
10- ج: «من شكاته».
11- ج: «لا في غداة».
12- ج: «الرزق».
13- ج: «في ذلك اليوم».
14- النوطة: ورم في الصدر، أو غدة في البطن مهلكة. («القاموس»).
15- «ديوانه» 491.

ألفت كلاب الحيّ حتى عرفنني *** و مدّت نساج(1) العنكبوت على رحلي

/قال: ثم قال لمسعود أخيه: يا مسعود، قد أجدني تماثلت و خفّت الأشياء عندنا، و احتجنا إلى زيارة بني مروان، فهل لك بنا فيهم؟ فقال: نعم، فأرسله إلى إبله يأتيه(2) منها بلبن يتزوده، و واعده مكانا، و ركب ذو الرمة ناقته فقمصت به، و كانت قد أعفيت(3) من الركوب، و انفجرت(4) النّوطة التي كانت به. قال: و بلغ موعد صاحبه و جهد و قال: أردنا شيئا و أراد اللّه شيئا، و إن العلّة التي كانت بي انفجرت. فأرسل إلى أهله فصلّوا(5) عليه، و دفن برأس حزوى، و هي الرملة التي كان يذكرها في شعره.

قبره بالدهناء

نسخت من كتاب عبيد اللّه(6) بن محمد اليزيديّ: قال أبو عبيدة و ذكر هارون(7) بن الزيات، عن محمد بن عليّ بن المغيرة، عن أبيه، عن أبي عبيدة، عن المنتجع بن نبهان قال:

لما احتضر ذو الرمة قال: إني لست ممن يدفن في الغموض و الوهاد، قالوا: فكيف نصنع بك و نحن في رمال الدهناء؟ قال: فأين أنتم من كثبان حزوى؟ - قال: و هما رملتان مشرفتان على ما حولهما من الرمال - قالوا: فكيف نحفر لك في الرمل(8) و هو هائل؟ قال: فأين الشجر و المدر و الأعواد؟ قال: فصلّينا عليه في بطن الماء، ثم حملنا له الشجر و المدر على الكباش، و هي أقوى على الصّعود في الرمل من الإبل. فجعلوا قبره هناك و زبّروه(9) بذلك الشجر و المدر، و دلّوه في قبره، فأنت إذا عرفت موضع قبره رأيته قبل أن تدخل الدهناء، و أنت بالدّوّ(10) على مسيرة ثلاث.

قال هارون: و حدثني محمد بن صالح العدويّ، قال: ذكر أبو عمرو المراديّ:

/إن قبر ذي الرمة بأطراف عناق من وسط الدّهناء مقابل الأواعس، و هي أجبل شوارع يقابلن الصّريمة(11)صريمة النّعام، و هذا الموضع لبني سعد و يختلط معهم الرّباب.

قال هارون: و حدثني هارون بن مسلم، عن الزّياديّ، عن العلاء بن برد، قال:

ما كان شيء أحبّ إلى ذي الرمة إذا ورد ماء من أن يطوي و لا يسقي(12)، فأخبرني مخبر أنه مر بالجفر و قد جهده العطش، قال: فسمعته يقول:

ص: 291


1- في «الديوان»: «أتتني... و مدت نسوج». و في «المختار»: «و مدت مسوح».
2- أ: «ليأتيه».
3- ف: «عنت».
4- ف: «فانفجرت».
5- «المختار»: «فأتوه و صلوا عليه».
6- ف: «عبد اللّه».
7- ف: «و ذكر هارون بن محمد الزيات».
8- ف: «رمل هائل».
9- أ: «و دثروه». و الزبر أصله طي البئر بالحجارة.
10- ياقوت: الدو: أرض ملساء بين مكة و البصرة.
11- أ: «الصرمة».
12- ف: «و لا يستكفي».

/يا مخرج الرّوح من جسمي إذا احتضرت *** و فارج الكرب زحزحني عن النار

ثم قضى.

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعيّ، عن عمه، عن عيسى بن عمر، قال:

كان ذو الرمة ينشد الشعر، فإذا فرغ قال: و اللّه لأكسعنّك(1) بشيء ليس في حسابك: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلا اللّه، و اللّه أكبر.

كان حسن الصلاة و الخشوع

أخبرني الحسن بن عليّ، و وكيع، عن أبي أيوب، قال: حدثني أبو معاوية الغلابيّ، قال:

كان ذو الرمّة حسن الصلاة، حسن الخشوع، فقيل له: ما أحسن صلاتك! فقال: إن العبد إذا قام بين يدي اللّه لحقيق أن يخشع.

أخوه مسعود يرثيه

نسخت من كتاب عبيد اللّه اليزيديّ قال: حدثني عبد الرحمن، عن عمّه، عن أبي عمرو بن العلاء، قال:

كان مسعود أخو ذي الرمة يمشي معي كثيرا إلى منزلي فقال لي يوما، و قد بلغ قريبا من منزلي: أنا الذي أقول في أخي ذي الرّمة:

إلى اللّه أشكو لا إلى الناس أنني *** و ليلى كلانا موجع مات وافده(2)

فقلت له: من ليلى؟ فقال: بنت أخي ذي الرمة.

ص: 292


1- كسعه: ضرب دبره بيده أو بصدر قدمه.
2- ف: «قائده».

2 - ذكر خبر إبراهيم في هذه الأصوات الماخوريّة

اشارة

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، عن ابن شبّة، عن إسحاق الموصليّ، عن أبيه، قال:

صنعت لحنا فأعجبني، و جعلت أطلب له شعرا، فعسر ذلك عليّ، فأريت في المنام كأن رجلا لقيني، فقال لي: يا إبراهيم، أ و قد أعياك شعر لغنائك هذا الذي تعجب به؟ قلت: نعم. قال: فأين أنت من قول ذي الرمة(1):

ألا يا اسلمى يا دار ميّ على البلى *** و لا زال منهلاّ بجرعائك القطر

قال: فانتهيت فرحا بالشعر؛ فدعوت من ضرب عليّ فغنيته، فإذا هو أوفق ما خلق اللّه، فلما عملت هذا الغناء في شعر ذي الرمة نبّهت عليه و على شعره، فصنعت فيه ألحانا ماخورية منها(2):

أ منزلتي ميّ سلام عليكما *** هل الأزمن اللاّئي مضين رواجع!

و غنّيت بها الهادي فاستحسنها، و كاد يطير فرحا، و أمر لكل صوت بألف دينار.

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت

ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى *** و لا زال منهلاّ بجرعائك القطر

و لو(3) لم تكوني غير شام بقفرة *** تجرّ بها الأذيال صيفيّة كدر(4)

/عروضه من الطويل. و قوله: يا اسلمي هاهنا نداء؛ كأنه قال: يا دار ميّ اسلمي، و يا هذه اسلمي، يدعو لها بالسلامة. و مثله قول اللّه عزّ و جلّ: أَلاّٰ يَسْجُدُوا(5) لِلّٰهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ ، فسّره أهل اللغة هكذا، كأنه قال: يا قوم اسجدوا للّه. و ميّ ترخيم ميّة إلا أنه أقامه هاهنا مقام الاسم الذي لم يرخّم فنوّنه. و قوله: على البلى، أي اسلمي و إن كنت قد بليت. و المنهلّ: الجاري، يقال: انهلّ المطر انهلالا، إذا سال.

و الجرعاء و الأجرع من الرمل: الكثير/الممتد. و الشام: موضع يخالف لون الأرض، و هو جمع، واحدته شامة.

و القفر: ما لم يكن فيه نبات و لا ماء، تجر بها الأذيال صيفية يعني الرياح الصيفية الحارة. و أذيالها: مآخيرها التي تسفي التراب على وجه الأرض، شبهها بذيل المرأة، و عنى بها أوائلها. و الكدر: التي فيها الغبرة من القتام

ص: 293


1- «ديوانه» 206.
2- «ديوانه» 332.
3- في «الديوان»: «فإن لم تكوني».
4- شام: جمع شامة؛ و هي بقعة تخالف لون الأرض. صيفية: رياح فيها كدر و غبرة.
5- على قراءة التخفيف. و انظر القرطبي 186:13. و الآية في سورة النمل 25.

و الفجاج؛ فهي تعفّي الآثار و تدفنها. غنّاه إبراهيم الموصليّ ماخوريّا بالوسطى. و منها(1):

صوت

أ منزلتي ميّ سلام عليكما *** هل الأزمن اللائي مضين رواجع!

و هل يرجع التّسليم أو يكشف العمى *** ثلاث الأثافي و الدّيار البلاقع!(2)

توهمتها يوما فقلت لصاحبي *** و ليس لها إلاّ الظباء الخواضع(3)

و موشيّة سحم(4) الصّياصي كأنها *** مجلّلة حوّ عليها البراقع

عروضه من الطويل. غنّاه إبراهيم ماخوريّا بالوسطى. و الأزمن و الأزمان جمع/زمان. و العمى: الجهالة.

و الأثافيّ الثلاث هي الحجارة التي تنصب عليها القدر، واحدتها أثفيّة. و الخواضع من الظباء: اللاتي قد طأطأت رءوسها. و الموشيّة: يعني البقر. و الصّياصي: القرون واحدتها صيصية. و المجلّلة: التي كأن عليها جلالا(5)سودا. و الحوّة: حمرة في سواد. و مما يغنّي فيه من هذه القصيدة قوله(6):

صوت

قف العنس(7) ننظر نظرة في ديارها *** و هل ذاك من داء الصبابة نافع!(8)

فقال: أ ما تغشى لميّة منزلا *** من الأرض إلا قلت: هل أنا رابع!(9)

و قلّ لأطلال لميّ تحيّة(10) *** تحيّا بها أو أن ترشّ المدامع

العنس: الناقة. و الرابع: المقيم. و قلّ لأطلال، أي ما أقل لهذه الأطلال مما أفعله. و ترش المدامع، أي تكثر نضحها الدموع. غناه إبراهيم الموصليّ ماخوريا.

و ذكر ابن الزيات، عن محمد بن صالح العذريّ، عن الحرمازيّ، قال:

مرّ الفرزدق على ذي الرمة و هو ينشد:

أ منزلتي ميّ سلام عليكما

فلمّا فرغ قال له: يا أبا فراس، كيف ترى؟ قال: أراك شاعرا. قال: فما أقعدني عن غاية الشعراء؟ قال:

بكاؤك على الدّمن، و وصفك القطا و أبوال الإبل.

ص: 294


1- «ديوانه» 332.
2- «الديوان»: «الرسوم البلاقع».
3- ج: «الخواشع».
4- الأسحم: الأسود؛ و جمعه سحم. و أصل الصياصي الحصون و المعاقل؛ و لما كانت البقر تحمي بقرونها سميت قرونها صياصى. يقول: كأن البقر خيل مجللة. حو: دهم، يعني الخيل.
5- ج: «أجلالها».
6- «ديوانه» 333.
7- ب، و «الديوان»: «العيس». و العنس: الناقة الصلبة القوية.
8- أ: «رافع».
9- «الديوان»، ج: «هل أنت رابع».
10- «الديوان»: «و قل إلى أطلال ميّ تحية».
ذو الرمة و عصمة بن مالك يزوران ميّة
اشارة

حدثني ابن عمار و الجوهريّ، و حبيب المهلّبيّ، عن ابن شبّة(1)، عن إسحاق الموصليّ، عن مسعود بن قند، قال:

/تذاكرنا ذا الرمة يوما فقال عصمة بن مالك: إياي فاسألوا عنه، قال: كان حلو العينين، حسن النغمة، إذا حدّث لم تسأم حديثه، و إذا أنشدك بربر(2) و جشّ صوته، جمعني و إيّاه مربع مرّة، فقال لي: هيا عصمة، إن ميّة من منقر، و منقر أخبث حيّ و أقفاه لأثر، و أثبته في نظر، و أعلمه بشرّ، و قد عرفوا آثار إبلي؛ فهل عندك من ناقة نزدار(3) عليها ميّة؟ قلت: إي و اللّه عندي الجؤذر بنت يمانية الجدليّ، قال: فعليّ بها. فأتيته بها، فركب و ردفته فأتينا محلّة ميّة، و القوم خلوف و النساء في الرحال، فلمّا رأين ذا الرمة اجتمعن إلى ميّ، و أنخنا قريبا و أتيناهنّ، فجلسنا إليهنّ، فقالت ظريفة منهنّ: أنشدنا/يا ذا الرمة. فقال لي: أنشدهنّ يا عصمة. فأنشدت قصيدته التي يقول فيها(4):

نظرت إلى أظعان ميّ كأنها *** ذرا النّخل أو أثل تميل ذوائبه

فأسبلت العينان و القلب كاتم *** بمغرورق نمّت عليه سواكبه

بكاء فتى خاف الفراق و لم تجل *** جوائلها أسراره و معاتبه(5)

قالت الظريفة: فالآن فلتجل، ثم أنشدت حتى أتيت على قوله(6):

و قد حلفت باللّه ميّة ما الذي *** أحدّثها إلاّ الذي أنا كاذبه

إذا فرماني اللّه من حيث لا أرى *** و لا زال في أرضي عدوّ أحاربه

فقالت ميّة: ويحك يا ذا الرّمة! خف اللّه و عواقبه. ثم أنشدت حتى أتيت على قوله:

إذا سرحت من حبّ ميّ سوارح *** على القلب أبّته جميعا عوازبه

/فقالت الظريفة: قتلته قتلك اللّه! فقالت ميّة: ما أصحّه و هنيئا له! فتنفّس ذو الرّمة تنفيسة كاد حرّها يطير بلحيتي، ثم أنشدت حتى أتيت على قوله(7):

إذا نازعتك القول ميّة أو بدا *** لك الوجه منها أو نضا الدّرع سالبه

فما شئت من خدّ أسيل(8) و منطق *** رخيم و من خلق تعلّل جادبه(9)

ص: 295


1- ج: «حدثني أحمد بن عبيد اللّه بن عمار، و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، و حبيب بن نصر المهلبي، قالوا: حدثنا عمر بن شبة...».
2- بربر في كلامه: أكثر منه. و البربرة: الجلبة و الصياح.
3- ازداره: زاره.
4- «ديوانه» 39.
5- ج: «و مغايبه». و في «الديوان»: «هوى آلف جاء الفراق فلم تجل».
6- «ديوانه» 42.
7- «ديوانه» 42.
8- «الديوان»: «فيا لك من خدّ أسيل».
9- جادبه: عاتبه.

فقالت الظريفة: فقد بدا لك الوجه و تنوزع(1) القول، فمن لنا بأن ينضو الدرع سالبه؟ فقالت لها ميّة:

قاتلك اللّه! فما ذا تأتين به! فتضاحكت الظريفة و قالت: إن لهذين لشأنا فقوموا بنا عنهما، فقامت و قمن معها(2)، و قمت فخرجت، و كنت قريبا حيث أراهما و أسمع ما ارتفع من كلاميهما، فو اللّه ما رأيته تحرك من مكانه الذي خلّفته فيه حتى ثاب أوائل الرجال، فأتيته فقلت: انهض بنا فقد ثاب القوم فودّعها فركب و ردفته و انصرفنا.

و منها(3):

صوت

إذا هبّت الأرواح من أيّ جانب *** به أهل ميّ هاج قلبي هبوبها

هوّى تذرف العينان منه و إنما *** هوى كلّ نفس حيث كان حبيبها

الغناء لإبراهيم ماخوريّ بالوسطى عن الهشاميّ.

صوت

إني تذكّرني الزّبير حمامة *** تدعو بمجمع نخلتين هديلا

أفتى النّدى و فتى الطّعان قتلتم *** و فتى الرّياح إذا تهبّ بليلا

لو كنت حرّا يا بن قين مجاشع *** شيّعت ضيفك فرسخا أو ميلا

و في أخرى: فرسخين و ميلا:

قالت قريش: ما أذلّ مجاشعا *** جارا و أكرم ذا القتيل قتيلا!

الشعر لجرير، يهجو الفرزدق و يعيّره بقتل عشيرته الزّبير بن العوّام يوم الجمل، و الغناء للغريض ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو.

ص: 296


1- ج: «من متوزع القلب».
2- ج: «وهن».
3- «ديوانه» 66 و فيه: «من نحو جانب».

3 - ذكر مقتل الزبير و خبره

الزبير و علي بن أبي طالب

حدّثنا أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، و أحمد بن عبد العزيز، عن ابن شبّة قالا: حدثنا المدائنيّ، عن أبي بكر الهذليّ، عن قتادة قال:

سار أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه من الزّاوية(1) يريد طلحة و الزّبير و عائشة، و صاروا من الفرضة(2) يريدونه، فالتقوا عند قصر عبيد اللّه بن زياد يوم الخميس النصف من جمادى الآخرة سنة ستّ و ثلاثين، فلما تراءى الجمعان خرج الزّبير على فرس و عليه سلاحه، فقيل لعليّ صلوات اللّه عليه: هذا الزّبير، فقال: أما و اللّه إنه أحرى الرجلين إن ذكّر باللّه أن يذكره، و خرج طلحة، و خرج عليّ عليه السلام إليهما، فدنا منهما حتى اختلفت أعناق دوابّهم، فقال لهما: لعمري لقد أعددتما خيلا و رجالا(3)، إن كنتما أعددتما عند اللّه عذرا فاتّقيا اللّه و لا تكونا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهٰا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكٰاثاً (4) أ لم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي و أحرّم دماءكما؟ فهل من حدث أحلّ لكما دمي؟ فقال له طلحة(5): ألّبت الناس على عثمان، فقال: يا طلحة، أ تطلبني بدم عثمان؟ فلعن اللّه قتلة عثمان، يا زبير، أتذكر يوم مررت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و آله في بني غنم، فنظر إليّ و ضحك، و ضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال: مه ليس بمزهوّ، و لتقاتلنّه و أنت له ظالم، فقال: اللهمّ نعم، و لو ذكّرت ما سرت مسيري هذا، و اللّه لا أقاتلك أبدا. و انصرف عليّ صلوات اللّه عليه إلى أصحابه و قال: أما الزّبير فقد أعطى اللّه عهدا ألاّ يقاتلني.

/قال: و رجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنت في موطن مذ عقلت إلاّ و أنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا، قالت: و ما تريد أن تصنع؟ قال: أدعهم و أذهب، فقال له ابنه عبد اللّه: أجمعت بين هذين الغارين(6) حتى إذا حدّد بعضهم لبعض أردت أن تذهب و تتركهم؟ أ خشيت(7) رايات ابن أبي طالب و علمت أنّها تحملها فتية أنجاد.

فأحفظه، فقال: إني حلفت ألاّ أقاتله. قال: كفّر عن يمينك و قاتله، فدعا غلاما له يدعى مكحولا فأعتقه، فقال عبد الرحمن بن سليمان التيميّ:

لم أر كاليوم أخا إخوان(8) *** أعجب من مكفّر الأيمان

ص: 297


1- الزاوية: عدة مواضع، منها موضع قرب البصرة.
2- في ب: «الفريضة».
3- في «التجريد»: «و سلاحا».
4- النحل 92.
5- في «التجريد»: «فقالا: ألبت...».
6- الغار: الجيش الكثير. و في ب: «العارين».
7- في بيروت: «أحسست».
8- في «التجريد»: «أخا خوان».

بالعتق في معصية الرّحمن

و قال بعض شعرائهم:

يعتق مكحولا لصون دينه *** كفّارة للّه عن يمينه

و النّكث قد لاح على جبينه

مقتل الزبير

حدثني ابن عمّار(1) و الجوهريّ قال: حدثنا ابن شبّة(2)، عن عليّ بن محمد النوفليّ، عن الهذليّ، عن قتادة، قال:

وقف الزبير على مسجد بني مجاشع فسأل عن عياض بن حمّاد، فقال له النعمان بن زمام: هو بوادي السّباع فمضى يريده.

حدثني ابن عمّار و الجوهريّ، عن عمر، قال: حدّثني المدائنيّ، عن أبي مخنف، عمّن حدّثه عن الشعبيّ، قال:

خرج النعمان مع الزبير حتى بلغ النّجيب(3)، ثم رجع.

/قال: و حدثنا عن مسلمة بن محارب، عن عوف، و عن أبي/اليقظان، قالا:

مرّ الزّبير ببني حمّاد فدعوه إلى أنفسهم فقال: اكفوني خيركم و شرّكم، فو اللّه ما كفوه خيرهم و شرّهم. و مضى ابن فرتنى إلى الأحنف و هو بعرق سويقه، فقال: هذا الزّبير قد مرّ، فقال الأحنف: ما أصنع به! جمع بين غارين من المسلمين، فقتل بعضهم بعضا، ثم مرّ يريد أن يلحق بأهله. فقام عمرو بن جرموز و فضالة بن حابس و نفيع بن كعب أحد بني عوف(4) - و يقال نفيع بن عمير - فلحقوه بالعرق، فقتل قبل أن ينتهي إلى عياض، قتله عمرو بن جرموز.

حدثني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجليّ الكوفيّ، و جعفر بن محمد بن الحسن العلويّ الحسنيّ (5)، و العباس بن عليّ بن العبّاس و أبو عبيد الصّيرفيّ، قالوا: حدثنا محمد بن عليّ بن خلف العطّار، قال: حدّثنا عمرو بن عبد الغفار، عن سفيان الثوريّ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين عليه السلام، قال:

حدثني ابن عباس قال:

قال لي عليّ صلوات اللّه عليه: ائت الزبير فقل له: يقول لك عليّ بن أبي طالب نشدتك اللّه، أ لست قد بايعتني طائعا غير مكره. فما الذي أحدثت فاستحللت به قتالي؟.

و قال أحمد بن يحيى في حديثه: قل لهما: إن أخاكما يقرأ عليكما السلام و يقول: هل نقمتما عليّ جورا في

ص: 298


1- ف: «أحمد بن عبيد اللّه بن عمار».
2- ف: «عمر بن شبة».
3- هب: «النحيت».
4- في «الطبقات» 3-78: «عمير بن جرموز التميمي، و فضالة بن حابس التميمي، و نفيع أو نفيل بن حابس التميمي».
5- في ف: «الحيني».

حكم أو استئثارا بفيء؟ فقالا: لا، و لا واحدة منهما، و لكن الخوف و شدّة الطمع.

و قال محمد بن خلف في خبره: فقال الزبير: مع الخوف شدّة المطامع، فأتيت عليّا عليه السلام فأخبرته بما قال الزبير، فدعا بالبغلة فركبها و ركبت معه، فدنوا حتى/اختلفت أعناق دابّتيهما فسمعت عليّا صلوات اللّه عليه يقول: نشدتك اللّه يا زبير، أتعلم أني كنت أنا و أنت في سقيفة بني فلان تعالجني و أعالجك فمرّ بي - يعني النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم - فقال: كأنّك تحبّه! فقلت: و ما يمنعني! قال: أما إنه ليقاتلنّك و هو لك ظالم. فقال الزبير: اللهمّ نعم، ذكّرتني ما نسيت، و ولّى راجعا. و نادى منادي عليّ: ألا لا تقاتلوا القوم حتى يستشهدوا منكم رجلا، فما لبث أن أتى برجل يتشحّط(1) في دمه، فقال عليّ عليه السلام: اللهمّ اشهد، اللهمّ اشهد، اللهمّ اشهد. و أمر الناس فشدّوا عليهم، و أمر الصّرّاخ فصرخوا: لا تذفّفوا(2) على جريح و لا تتبعوا مدبرا، و لا تقتلوا أسيرا.

حدثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن محمد بن أيوب المخزوميّ، عن سعيد بن محمد الجرميّ، عن أبي الأحوص، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، و لا أحسبه إلا قال:

كنت قاعدا عند عليّ عليه السلام، فأتاه آت فقال: هذا ابن جرموز قاتل الزبير بن العوّام يستأذن على الباب، قال: ليدخلنّ قاتل ابن صفيّة النّار، إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يقول: «إن لكلّ نبيّ حواريّ و إنّ حواريّ الزبير».

أخبرني الطّوسيّ و حرميّ، عن الزّبير، عن عليّ بن صالح(3)، عن سالم بن عبد اللّه بن عروة، عن أبيه: أن عمرا أو عويمر بن جرموز(4) قاتل الزبير أتى مصعبا حتى وضع يده في يده، فقذفه في السجن، و كتب إلى عبد اللّه بن الزبير يذكر له أمره، فكتب إليه عبد اللّه: بئس ما صنعت، أ ظننت أنّي أقتل أعرابيّا من بني تميم بالزّبير! خلّ سبيله، فخلاّه.

عاتكة ترثي الزبير

أخبرني الطوسيّ و الحرميّ، عن الزّبير، عن عمه قال: قتل الزبير و هو ابن/سبع و ستين سنة أو ستّ و ستين سنة، فقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن/نفيل ترثيه:

غدر ابن جرموز بفارس بهمة *** يوم اللقاء و كان غير معرّد(5)

يا عمرو لو نبّهته لوجدته *** لا طائشا رعش اللسان و لا اليد(6)

شلّت يمينك إن قتلت لمسلما *** حلّت عليك عقوبة المستشهد(7)

إنّ الزّبير لذو بلاء صادق *** سمح سجيّته كريم المشهد

كم غمرة قد خاضها لم يثنه *** عنها طرادك يا ابن فقع القردد(8)

ص: 299


1- تشحط في الدم: تضرج به.
2- ذففه و ذف عليه: أجهز عليه.
3- في ف: «أخبرني الطوسي الحرمي بن أبي العلاء، قالا: حدثنا الزبير بن بكار».
4- ف: «عمرو بن عمير بن جرموز».
5- البهمة: الشجاع، و يراد بالهمة هنا الجيش. و المعرد: الهارب المحجم عن قرنه.
6- في ف: «السنان». و في «التجريد»: «البنان». و في «الطبقات»: 3-79: «رعش الجنان».
7- هب، «التجريد»، «الطبقات»: «المتعمد».
8- الفقع: نوع من الكمأة، و القردد: المستوى، و يقال للذليل: فقع قرقرة، و فقع القردد. و في ف: «يا ابن نبع القردد». و في ب: «يوم نقع».

فاذهب فما ظفرت يداك بمثله *** فيمن مضى ممن يروح و يغتدي(1)

و كانت عاتكة قبل الزبير عند عمر، و قبل عمر عند عبد اللّه بن أبي بكر.

عبد اللّه بن أبي بكر و عاتكة

أخبرني بخبرها محمد بن خلف وكيع، عن أحمد بن عمرو بن بكر، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الهيثم بن عديّ، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، و أخبرنا وكيع، قال: حدثني إسماعيل بن مجمّع(2)عن المدائنيّ.

و أخبرني الطوسيّ و الحرميّ، قالا: حدثنا الزبير، عن عمّه، عن أبيه، و أخبرني اليزيديّ، عن الخليل بن أسد، عن عمرو بن سعيد، عن الوليد بن هشام بن يحيى الغسّانيّ.

و أخبرني الجوهريّ، عن ابن شبّة، قال: حدثنا محمد بن موسى الهذليّ، و كل/واحد منهم يزيد في الرواية و ينقص منها، و قد جمعت رواياتهم قالوا:

تزوج عبد اللّه بن أبي بكر الصّدّيق عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، و كانت امرأة لها جمال و كمال و تمام في عقلها و منظرها و جزالة رأيها، و كانت قد غلبته على رأيه فمرّ عليه أبو بكر أبوه و هو في علّيّة(3) يناغيها(4) في يوم جمعة، و أبو بكر متوجه إلى الجمعة، ثم رجع و هو يناغيها، فقال: يا عبد اللّه أ جمّعت(5)؟ قال: أو صلّى الناس؟ قال: نعم - قال: و قد كانت شغلته عن سوق و تجارة كان فيها - فقال له أبو بكر: قد شغلتك عاتكة عن المعاش و التجارة، و قد ألهتك عن فرائض الصلاة(6) طلّقها، فطلّقها تطليقة، و تحولت إلى ناحية(7)، فبينا أبو بكر يصلّي على سطح له في الليل إذ سمعه و هو يقول:

أ عاتك لا أنساك ما ذرّ شارق(8) *** و ما ناح قمريّ الحمام المطوّق

أ عاتك قلبي كلّ يوم و ليلة *** لديك بما تخفي النفوس معلّق

لها خلق جزل و رأي و منطق *** و خلق مصون في حياء و مصدق(9)

فلم أر مثلي طلّق اليوم مثلها *** و لا مثلها في غير شيء تطلّق

فسمع أبو بكر قوله فأشرف عليه و قد رقّ له، فقال: يا عبد اللّه، راجع عاتكة، فقال: أشهدك أني قد راجعتها.

و أشرف على غلام له يقال له أيمن، فقال له: يا أيمن، أنت حرّ لوجه اللّه تعالى، أشهدك أني قد راجعت عاتكة، ثم خرج إليها يجري إلى مؤخّر الدار و هو يقول:

ص: 300


1- في هب: «فيما مضى ممن يروح و يغتدي». و في ف: «فيما مضى فيما تروح و تغتدي».
2- ف: «محمد».
3- العلية «بالضم و الكسر»: بيت منفصل عن الأرض.
4- في «المختار»: «يداعبها».
5- جمع: شهد الجمعة.
6- في «التجريد»، بيروت، «المختار»: «فرائض اللّه تعالى».
7- في ف، هب: «ناحية الدار».
8- ما ذر شارق: ما طلعت الشمس حين تشرق.
9- في «الخزانة» 4-351: «... و رأي و منصب... و خلق سوى في الحياة و مصدق».

/أ عاتك قد طلّقت في غير ريبة *** و روجعت(1) للأمر الذي هو كائن

كذلك أمر اللّه غاد و رائح *** على الناس فيه ألفة و تباين

و ما زال قلبي للتّفرّق طائرا *** و قلبي لما قد قرّب اللّه ساكن(2)

/ليهنك أني لا أرى فيك سخطة *** و أنك قد تمّت عليك المحاسن

فإنك ممّن زيّن اللّه وجهه *** و ليس لوجه زانه اللّه شائن

قال: و أعطاها حديقة له حين راجعها على ألاّ تتزوّج بعده، فلما مات من السهم الذي أصابه بالطائف، أنشأت تقول:

فللّه عينا من رأى مثله فتى(3) *** أكرّ و أحمى في الهياج و أصبرا

إذا شرعت فيه الأسنّة خاضها *** إلى الموت حتى يترك الرّمح أحمرا

فأقسمت لا تنفكّ عيني سخينة *** عليك و لا ينفكّ جلدي أغبرا(4)

مدى الدّهر ما غنّت حمامة أيكة *** و ما طرد الليل الصّباح المنوّرا

عمر بن الخطاب و عاتكة
اشارة

فخطبها عمر بن الخطاب، فقالت: قد كان أعطاني حديقة على ألاّ أتزوج بعده، قال: فاستفتي، فاستفتت عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال: ردّي الحديقة على أهله و تزوّجي. فتزوجت عمر فسرّح(5) عمر إلى عدّة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، فيهم عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه - يعني دعاهم - لما بنى بها، فقال له علي: إنّ لي إلى عاتكة حاجة أريد أن أذكّرها إياها، فقل لها تستتر حتى أكلّمها، فقال لها عمر: استتري يا عاتكة فإنّ ابن أبي طالب يريد أن يكلمك، /فأخذت عليها مرطها(6) فلم يظهر منها إلا ما بدا من براجمها(7)، فقال:

يا عاتكة:

فأقسمت لا تنفكّ عيني سخينة *** عليك و لا ينفكّ جلدي أغبرا(8)

فقال له عمر: ما أردت إلى هذا؟ فقال: و ما أرادت إلى أن تقول ما لا تفعل؛ و قد قال اللّه تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ (9) و هذا شيء كان في نفسي أحببت و اللّه أن يخرج. فقال عمر: ما حسّن(10) اللّه فهو حسن، فلما قتل عمر، قالت ترثيه:

ص: 301


1- في ف: «زوجت».
2- في ف، و «المختار»، و «التجريد»: «فقلبي لما قرت به العين ساكن».
3- في «التجريد»: «مثل هالك».
4- في ف: «أصفرا».
5- في «المختار»: «فسير».
6- المرط: كساء من صوف أو خزّ.
7- البراجم: مفاصل الأصابع إذا قبض الشخص كفه نشزت.
8- في ف: «أصفرا».
9- الصف 3.
10- في ب: ما أحسن.

عين جودي بعبرة و نحيب *** لا تملّي على الإمام النّجيب

فجعتنا المنون بالفارس المع *** لم يوم الهياج و التّلبيب

عصمة اللّه و المعين على الدّه *** ر غياث المنتاب و المحروب

قل لأهل الضّرّاء و البؤس موتوا *** قد سقته المنون كأس شعوب

و قالت ترثيه أيضا:

صوت

منع الرّقاد فعاد، عيني عيد(1) *** ممّا تضمّن قلبي المعمود

يا ليلة حبست عليّ نجومها *** فسهرتها و الشامتون هجود(2)

قد كان يسهرني حذارك مرّة *** فاليوم حقّ لعيني التّسهيد

أبكي أمير المؤمنين و دونه *** للزّائرين صفائح و صعيد

غنى فيه طويس خفيف رمل عن حمّاد و الهشاميّ.

الزبير بن العوام و عاتكة

فلما انقضت عدّتها خطبها الزّبير بن العوّام فتزوّجها، فلما ملكها قال: يا عاتكة، لا تخرجي إلى المسجد، و كانت امرأة عجزاء بادنة.. فقالت: يا بن العوّام، أ تريد أن أدع لغيرتك مصلّى صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم/و أبي بكر و عمر فيه؟ قال: فإني لا أمنعك، فلما سمع النداء لصلاة الصبح توضّأ و خرج، فقام لها في سقيفة بني ساعدة، فلما مرّت به ضرب بيده على عجيزتها، فقالت: مالك قطع اللّه يدك! و رجعت، فلما رجع من المسجد قال: يا عاتكة، ما لي لم أرك في مصلاّك؟ قالت: يرحمك اللّه أبا عبد اللّه، فسد الناس بعدك، الصلاة اليوم في القيطون(3) أفضل منها في البيت، و في البيت أفضل منها في الحجرة. فلما قتل عنها الزّبير بوادي السّباع رثته فقالت:

غدر ابن جرموز بفارس بهمة *** يوم اللقاء و كان غير معرّد

يا عمرو لو نبّهته لوجدته *** لا طائشا رعش اللّسان و لا اليد

هبلتك أمّك إن قتلت لمسلما *** حلّت عليك عقوبة المتعمّد

الحسين بن علي و عاتكة

فلما انقضت عدّتها تزوّجها الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام، فكانت أوّل من رفع خدّه من التراب - صلّى اللّه عليه و آله و لعن قاتله و الرّاضي به يوم قتل - و قالت ترثيه:

و حسينا فلا نسيت حسينا *** أقصدته أسنّة الأعداء(4)

غادروه بكربلاء صريعا *** جادت المزن في ذرى كربلاء

ص: 302


1- عيد: ما اعتاد من مرض أو حزن و نحوه. و في ب: عود.
2- في ف، و «المختار»: «نحست» بدل: «حبست». و «الساهرون رقود» بدل: «و الشامتون هجود».
3- القيطون: المخدع.
4- أقصدته أسنّة الأعداء: أصابته فلم تخطئه.

ثم تأيّمت(1) بعده، فكان عبد اللّه بن عمر يقول: من أراد الشّهادة فليتزوّج بعاتكة. و يقال: إن مروان خطبها بعد الحسين عليه السلام فامتنعت عليه، و قالت: ما كنت لأتّخذ حما(2) بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم.

أخبرنا محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدثنا الخليل بن أسد قال: حدثني العمريّ قال: حدثنا أسامة بن زيد، عن القاسم بن محمد قال:

/لم يزل السهم الذي أصاب عبد اللّه بن أبي بكر عند أبي بكر حتى قدم وفد ثقيف فأخرجه إليهم، فقال: من يعرف هذا منكم؟ فقال سعيد بن عبيد من بني علاج: هذا سهمي و أنا بريته، و أنا رشته، و أنا عقبته، و أنا رميت به يوم الطائف فقال أبو بكر: فهذا السهم الذي قتل عبد اللّه، و الحمد للّه الذي أكرمه بيدك، و لم يهنك بيده.

طويس يغني شعرا لعاتكة
اشارة

أخبرني اليزيديّ، عن الزّبير، عن أحمد بن عبيد اللّه بن عاصم بن المنذر بن الزبير، قال:

لما قتل الزبير و خلت عاتكة بنت زيد، خطبها عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقالت له: إني لأضنّ بك على القتل يا بن عمّ رسول اللّه.

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حمّاد، عن أبيه، عن محمد بن سلاّم قال: حدثني أبي قال:

بينا فتية من قريش ببطن محسّر يتذاكرون الأحاديث و يتناشدون الأشعار إذ أقبل طويس و عليه قميص قوهيّ (3)و حبرة قد ارتدى بها، و هو يخطر في مشيته، فسلّم ثم جلس، فقال له القوم: يا أبا عبد اللّه غنّنا شعرا مليحا له حديث ظريف، فغنّاهم بشعر عاتكة بنت زيد ترثي عمر بن الخطاب:

منع الرّقاد فعاد عيني عيد *** ممّا تضمّن قلبي المعمود

الأبيات. فقال القوم: لمن هذه الأبيات يا طويس؟ قال لأجمل خلق اللّه و أشأمهم، فقالوا: بأنفسنا أنت، من هذه؟ قال: هي و اللّه من لا يجهل نسبها و لا يدفع شرفها، تزوّجت بابن خليفة نبي اللّه، و ثنّت بخليفة نبيّ اللّه، و ثلّثت بحواريّ نبيّ اللّه، و ربّعت بابن نبي اللّه(4) و كلاّ قتلت. قالوا جميعا: جعلنا فداك، إنّ أمر هذه لعجيب، بآبائنا أنت من هذه؟ قال: عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل. فقالوا: نعم، هي على ما وصفت، قوموا بنا لا يدرك مجلسنا شؤمها. قال طويس: إن شؤمها قد مات معها، قالوا: أنت و اللّه أعلم منّا.

صوت

يا دنانير قد تنكّر عقلي *** و تحيّرت بين وعد و مطل

شغفي شافعي إليك و إلاّ *** فاقتليني إن كنت تهوين قتلي

/الشعر و الغناء لعقيد مولى صالح بن الرشيد، خفيف ثقيل، و فيه لعريب رمل بالوسطى، و هذا الشعر يقوله في دنانير مولاة البرامكة، و كان خطبها فلم تجبه، و قيل: بل قاله أحد اليزيديّين، و نحله إيّاه.

ص: 303


1- تأيمت: مكثت و لم تتزوج.
2- في ف، «المختار»: «حموا».
3- قيمص قوهي: أبيض.
4- في ف: «و ربعت بابن بنت رسول اللّه». و في «المختار»: «و ربعت بابن رسول اللّه».

4 - ذكر أخبار دنانير و أخبار عقيد

اشارة

4 - ذكر أخبار دنانير و أخبار عقيد(1)

كانت مولاة ليحيى بن خالد البرمكي

كانت دنانير مولاة يحيى بن خالد البرمكيّ و كانت صفراء مولّدة، و كانت من أحسن الناس وجها و أظرفهنّ و أكملهنّ أدبا و أكثرهنّ رواية للغناء و الشعر، و كان الرشيد لشغفه بها يكثر مصيره(2) إلى مولاها و يقيم عندها و يبرّها(3) و يفرط، حتى شكته زبيدة إلى أهله و عمومته، فعاتبوه على ذلك.

لها كتاب في الأغاني

و لها كتاب مجرّد في الأغاني مشهور، و كان اعتمادها في غنائها على ما أخذته من بذل و هي خرّجتها، و قد أخذت أيضا عن الأكابر الذين أخذت بذل عنهم مثل: فليح، و إبراهيم، و ابن جامع، و إسحاق، و نظرائهم.

أخبرني جحظة، قال: حدّثني المكّيّ عن أبيه قال:

كنت أنا و ابن جامع نعايي(4) دنانير جارية البرامكة، فكثيرا ما كانت تغلبنا.

عرضت على إبراهيم الموصلي صوتا من صنعتهما فأعجبه
اشارة

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ، عن ابن شبّة، قال: حدثني إسحاق الموصليّ، قال: قال لي أبي: قال لي يحيى بن خالد: إن ابنتك دنانير قد عملت صوتا اختارته و أعجبت به، فقلت لها: لا يشتدّ إعجابك حتى تعرضيه على شيخك، فإن رضيه فارضيه لنفسك، و إن كرهه فاكرهيه، فامض حتى تعرضه عليك. قال: فقال لي أبي: فقلت له: أيها الوزير فكيف إعجابك أنت به؟ فإنك و اللّه ثاقب الفطنة صحيح التّمييز(5)، قال: أكره أن أقول لك: أعجبني فيكون عندك غير معجب؛ إذ كنت عندي رئيس صناعتك، تعرف منها ما لا أعرف، و تقف من لطائفها على ما لا أقف، و أكره/أن أقول لك: لا يعجبني، و قد بلغ من قلبي مبلغا محمودا، و إنما يتمّ السرور به إذا صادف ذلك منك استجادة و تصويبا. قال: فمضيت إليها، و قد تقدم إلى خدمه يعلمهم أنه سيرسل بي إلى داره، و قال لدنانير: إذا جاءك إبراهيم فاعرضي عليه الصوت الذي صنعته و استحسنته، فإن قال لك: أصبت سررتني بذلك، و إن كره فلا تعلميني. لئلا يزول سروري بما صنعت. قال إسحاق: قال أبي: فحضرت الباب فأدخلت، و إذا الستارة قد نصبت، فسلّمت على الجارية من وراء الستارة، فردّت السلام، و قالت: يا أبت أعرض عليك صوتا قد تقدّم لا شكّ

ص: 304


1- ب، «الدر المنثور»: عقيل.
2- هب، «المختار»: «مسيره».
3- هب، «المختار»: «و يقيم عنده و يبره».
4- عايا فلانا: ألقى عليه كلاما لا يهتدي لوجهه. و في هب، ب، بيروت: «نعاني».
5- هب، ف: «ثاقب الرأي عالي الفطنة».

إليك خبره، و قد سمعت الوزير يقول: إن الناس يفتنون بغنائهم، فيعجبهم منه ما لا يعجب غيرهم، و كذلك يفتنون بأولادهم، فيحسن في أعينهم منهم ما ليس يحسن، و قد خشيت على الصوت أن يكون كذلك، فقلت: هات، فأخذت عودها و تغنّت تقول.

صوت

نفسي أ كنت عليك مدّعيا *** أم حين أزمع بينهم خنت!

إن كنت مولعة بذكرهم *** فعلى فراقهم ألا متّ!

/قال: فأعجبني و اللّه غاية العجب و استخفّني الطرب، حتى قلت لها: أعيديه، فأعادته و أنا أطلب لها فيه موضعا أصلحه و أغيّره عليها لتأخذه عنّي، فلا و اللّه ما قدرت على ذلك، ثم قلت لها: أعيديه الثالثة فأعادته، فإذا هو كالذهب المصفّى، فقلت: أحسنت يا بنيّة و أصبت، و قد قطعت عليك بحسن إحسانك و جودة إصابتك أنك قائدة للمعلمين(1)؛ إذ قد صرت تحسنين الاختيار و تجيدين الصنعة، قال: ثم خرج فلقيه يحيى بن خالد، فقال: كيف رأيت صنعة ابنتك دنانير؟ قال: أعزّ اللّه الوزير، /و اللّه ما يحسن كثير من حذّاق المغنّين مثل هذه الصنعة، و لقد قلت لها: أعيديه و أعادته عليّ مرات، كلّ ذلك أريد إعناتها، لأجتلب(2) لنفسي مدخلا يؤخذ عنّي و ينسب إليّ، فلا و اللّه ما وجدته، فقال لي يحيى: وصفك لها يقوم مقام تعليمك إيّاها، و قد - و اللّه - سررتني و سأسرّك، فوجّه إليّ بمال عظيم.

اشتراها يحيى بن خالد من رجل من أهل المدينة

و ذكر محمد بن الحسن الكاتب، قال: حدّثني ابن المكّي، قال:

كانت دنانير لرجل من أهل المدينة، و كان خرّجها و أدّبها، و كانت أروى الناس للغناء القديم، و كانت صفراء صادقة الملاحة، فلما رآها يحيى وقعت بقلبه فاشتراها.

الرشيد يعجب بها فتعلم أم جعفر و تشكوه إلى عمومته

و كان الرشيد يسير(3) إلى منزلة فيسمعها، حتى ألفها و اشتد عجبه(4) بها فوهب لها هبات سنية، منها أنه وهب لها في ليلة عيد عقدا، قيمته ثلاثون ألف دينار، فردّ عليه في مصادرة البرامكة بعد ذلك. و علمت أمّ جعفر خبره فشكته إلى عمومته، فصاروا جميعا إليه فعاتبوه، فقال: ما لي في هذه الجارية من أرب في نفسها، و إنما أربى في غنائها، فاسمعوها، فإن استحقت أن يؤلف غناؤها و إلا فقولوا ما شئتم، فأقاموا عنده، و نقلهم إلى يحيى حتى سمعوها عنده فعذروه، و عادوا إلى أم جعفر فأشاروا عليها ألا تلحّ في أمرها فقبلت ذلك، و أهدت إلى الرّشيد عشر جوار، منهن: ماردة أم المعتصم، و مراجل أم المأمون، و فاردة(5) أم صالح.

و قال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيّات: أخبرني محمد بن عبد اللّه الخزاعيّ قال:

ص: 305


1- ب، بيروت: «و قد قطعت عليك بحسن إحسانك و جودة إصابتك فائدة المعلمين». و في ف: «و قد قطعت عنك بحسن اختيارك و جودة إصابتك فائدة المعلمين».
2- ف: «لأحتال».
3- ف: «يصير».
4- ف: «إعجابه».
5- في ب: مارية «أم المعتصم». و في ف: فارد «أم صالح».

حدثني عبّاد البشريّ (1) قال: مررت بمنزل من منازل طريق مكّة يقال له/النّباج، فإذا كتاب(2) على حائط في المنزل، فقرأته فإذا هو: النّيك أربعة؛ فالأول شهوة، و الثاني لذّة، و الثالث شفاء، و الرابع داء(3)، و حر إلى أيرين أحوج من أير إلى حرين، و كتبت دنانير مولاة البرامكة بخطّها.

أخبرني إسماعيل بن يونس، عن ابن شبّة: أن دنانير أخذت عن إبراهيم الموصليّ حتى كانت تغنّي غناءه، فتحكيه فيه حتى لا يكون بينهما فرق، و كان إبراهيم يقول ليحيى: متى فقدتني و دنانير باقية فما فقدتني.

دنانير تصاب بالعلة الكلبية

قال: و أصابتها العلّة الكلبيّة فكانت لا تصبر عن الأكل ساعة واحدة(4)، فكان يحيى يتصدّق عنها في كل يوم من شهر رمضان بألف دينار، لأنها كانت لا تصومه، و بقيت عند البرامكة مدة طويلة.

الرشيد يأمر بصفع دنانير حتى تغني
اشارة

أخبرني ابن عمّار، و ابن عبد العزيز، و ابن يونس، عن ابن شبّه، عن إسحاق:

و أخبرني جحظة، عن أحمد بن الطّيّب: أنّ الرشيد دعا بدنانير البرمكيّة بعد قتله إيّاهم، فأمرها أن تغنّي، فقالت: يا أمير المؤمنين، إني آليت ألاّ أغنّي بعد سيّدي أبدا، فغضب، و أمر بصفعها، فصفعت، و أقيمت على رجليها، و أعطيت العود، و أخذته و هي تبكي أحرّ بكاء، و اندفعت/فغنّت:

صوت

يا دار سلمى بنازح السّند *** بين الثّنايا و مسقط اللّبد

لمّا رأيت الدّيار قد درست *** أيقنت أنّ النّعيم لم يعد

/الغناء للهذليّ خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى، و ذكر عليّ بن يحيى المنجّم و عمرو أنه لسياط في هذه الطريقة.

قال: فرقّ لها الرشيد و أمر بإطلاقها و انصرفت، ثم التفت إلى إبراهيم بن المهديّ فقال له: كيف رأيتها؟ قال:

رأيتها تختله برفق، و تقهره بحذق.

خطبها عقيد فردته و بقيت على حالها إلى أن ماتت
اشارة

قال عليّ بن محمد الهشاميّ (5): حدثني أبو عبد اللّه بن حمدون أن عقيدا(6) مولى صالح بن الرشيد خطب دنانير البرمكيّة، و كان هويها و شغف بذكرها، فردّته، و استشفع عليها مولاه صالح بن الرشيد، و بذل، و الحسين بن محرز، فلم تجبه و أقامت على الوفاء لمولاها، فكتب إليها عقيد قوله:

ص: 306


1- ف: «النشوي»، و في «المختار»: «النسوي».
2- الكتاب هنا الكتابة. و في «المختار»: «و إذا على الحائط مكتوب ما صورته...».
3- ف: «دواء».
4- ف: «مرة واحدة».
5- في ف، بيروت: «البسامي».
6- في ب، «الدر المنثور»: «عقيلا».

يا دنانير قد تنكّر عقلي *** و تحيّرت بين وعد و مطل

شفّعي(1) شافعي إليك و إلاّ *** فاقتليني إن كنت تهوين قتلي

أنا باللّه و الأمير و ما آ *** مل من موعد الحسين و بذل

ما أحبّ الحياة يا حبّ (2) إن لم *** يجمع اللّه عاجلا بك شملي

فلم يعطفها ذلك على ما يحبّ، و لم تزل على حالها إلى أن ماتت.

و كان عقيد حسن الغناء و الضرب قليل الصّنعة، ما سمعنا منه بكبير(3) صنعة، و لكنه كان بموضع من الحذق و التّقدّم.

/قال محمد بن الحسن: حدثني أبو حارثة(4) عن أخيه أبي معاوية قال:

شهدت إسحاق يوما و عقيد يغنّيه:

صوت

هلاّ سألت ابنة العبسيّ ما حسبي *** عند الطّعان إذا ما احمرّت الحدق

و جالت الخيل بالأبطال عابسة *** شعث النّواصي عليها البيض تأتلق

الشعر يقال: إنه لعنترة و لم يصحّ له، و الغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى. قال: فجعل إسحاق يستعيده و يشرب و يصفّق حتى والى بين أربعة أرطال، و سأله بعض من حضر: من أحسن الناس غناء؟ قال: من سقاني أربعة أرطال.

أبو حفص الشطرنجي يقول فيها شعرا يغنيه ابن جامع
اشارة

و في دنانير يقول أبو حفص الشّطرنجيّ.

صوت

أشبهك المسك و أشبهته *** قائمة في لونه قاعدة

لا شك إذ لونكما واحد *** أنّكما من طينة واحده

غنّاه ابن جامع هزجا بالبنصر و قيل: إنه لأبي فارة.

و ذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات، عن عليّ بن محمد النوفليّ، عن مولاة بن جامع أنّ مولاها كان يهوي جارية صفراء. فقال فيها هذا الشعر و غنّى فيه، و أظن هذا و هما؛ لأنا لم نسمع لابن جامع بشعر قط، و لعله غنّاه في شعر أبي حفص الشّطرنجيّ. فظننته له.

و مما غنّاه عقيد في دنانير و الشعر للموصليّ إلا البيت الأول فليس(5) له).

ص: 307


1- في ب، «الدر المنثور: «شغفي».
2- في هب، «الدر المنثور»، ب: «يا أخت». و الحب: الحبيب.
3- في ف، هب، بيروت: «بكثير».
4- في ب: «أبو جارية». (5-5) كذا في في ف، هب و هذا الصوت و ما يليه من خبر خلت منه نسخة بولاق.
صوت
عقيد يقول فيها شعرا و يغنيه

هذي دنانير تنساني فأذكرها *** و كيف تنسى محبّا ليس ينساها!

و اللّه و اللّه لو كانت إذا برزت *** نفس المتيّم في كفّيه ألقاها

و الشعر و الغناء لعقيد، و لحنه من الرّمل المطلق في مجرى الوسطى، و فيه هزج خفيف محدّث.

المغنون و الجواري يغنون عند الأمين بشعر عقيد فيها
اشارة

قال أحمد بن أبي طاهر: حدثني عليّ بن محمد قال: حدثني جابر بن مصعب، عن مخارق، قال:

مرّت بى ليلة ما مرّ بي قطّ مثلها. جاءني رسول محمد الأمين و هو خليفة، فأخذني و ركض بي إليه ركضا، فحين وافيت أتى بإبراهيم بن المهدي(1) على مثل حالي، فنزلنا، و إذا هو في صحن لم أر مثله قد ملئ شمعا من شمع محمد الأمين الكبار، و إذا به واقف ثم دخل/في الكرح(2)، و الدار مملوءة بالوصائف يغنّين على الطبول و السّرنايات(3) و محمد في وسطهنّ يرتكض في الكرح، فجاءنا رسوله، فقال: قوما في هذا الباب مما يلي الصّحن، فارفعا أصواتكما مع السرناي أين بلغ، و إيّاكما أن أسمع في أصواتكما تقصيرا عنه، قال: فأصغينا فإذا الجواري و المخنّثون يزمرون و يضربون:

هذي دنانير تنساني و أذكرها *** و كيف تنسى محبّا ليس ينساها!

أعوذ باللّه من هجران جارية *** أصبحت من حبّها أهذي بذكراها

قد أكمل الحسن في تركيب صورتها *** فارتجّ أسفلها و اهتزّ أعلاها

/قامت تمشّى فليت اللّه صيّرني *** ذاك التراب الذي مسّته رجلاها

و اللّه و اللّه لو كانت إذا برزت *** نفس المتيّم في كفّيه ألقاها

فما زلنا نشقّ حلوقنا مع السرناي و نتبعه حذرا من أن نخرج عن طبقته، أو نقتصر عنه إلى الغداة، و محمد يجول في الكرح ما يسأمه، يدنو إلينا مرة في جولانه و يتباعد مرّة، و تحول الجواري بيننا و بينه حتى أصبحنا.

صوت

ألا طرقت أسماء لا حين مطرق *** و أنّى إذا حلّت بنجران نلتقي

ص: 308


1- في ف، «المختار»، بيروت: «إبراهيم الموصلي».
2- أصل معنى الكرح بيت الراهب. و في ف، بيروت، «المختار»: «و إذا محمد قد دخل في الخدم».
3- السرنايات: من آلات الصفير. و في ب: «السرنابات و السرنابي».

بوجّ و ما بالي بوجّ و بالها(1) *** و من يلق يوما جدّة الحبّ يخلق

عروضه من الطويل، الشعر لخفاف بن ندبة، و الغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالسّبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، و فيه لابن سريج ثاني ثقيل بالسباب في مجرى البنصر عن إسحاق أيضا، و ذكر عمرو بن بانة أن فيه لحنا لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى، و فيه لعلّويه خفيف رمل بالوسطى، و فيه للقاسم بن زرزور(2) خفيف رمل آخر صحيح في غنائه، و فيه لابن مسجح ثقيل أول، عن إبراهيم، و يحيى المكيّ، و الهشاميّ، و فيه لمخارق رمل بالبنصر.

ص: 309


1- ف، بيروت: «ألحت بنوح ما لنوح و ما لها».
2- في هب: «زرور». و في ف: «زرزر».

5 - أخبار خفاف و نسبه

اشارة

هو خفاف بن عمير(1) بن الحارث بن الشّريد بن رياح بن يقظة بن عصيّة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، و ندبة أمه و هي أمة سوداء، و كان خفاف أسود أيضا، و هو شاعر من شعراء الجاهلية و فارس من فرسانهم، و جعله ابن سلاّم في الطبقة الخامسة من الفرسان مع مالك بن نويرة، و مع ابني عمّه صخر و معاوية ابني عمرو بن الشريد، و مالك بن حمار الشّمخي(2).

أحد فرسان العرب و أغربتهم

أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام، قال:

كان خفاف بن ندبة - و هي أمه - فارسا شجاعا شاعرا، و هو أحد أغربة العرب(3)، و كان هو و معاوية بن الحارث بن الشّريد أغار على بني ذبيان يوم حوزة(4)، فلما قتلوا معاوية بن عمرو قال خفاف: و اللّه لا أريم اليوم أو أقيد به سيّدهم، فحمل على مالك بن حمار و هو يومئذ فارس بني فزارة و سيّدهم فطعنه فقتله، و قال:

فإن تك خيلي قد أصيب صميمها *** فعمدا على عيني تيمّمت مالكا

رفعت له ما جرّ إذ جرّ موته(5) *** لابني مجدا أو لأثأر هالكا

أقول له و الرّمح يأطر متنه: *** تأمّل خفافا إنّني أنا ذلكا(6)

/قال ابن سلاّم: و هو الذي يقول:

/يا هند يا أخت بني الصّارد *** ما أنا بالباقي و لا الخالد

إن أمس لا أملك شيئا فقد *** أملك أمر المنسر الحارد(7)

في هذين البيتين لعبيد اللّه بن أبي غسّان خفيف ثقيل أول بالبنصر عن الهشاميّ.

ينال من العباس بن مرداس، و العباس يرد عليه

أخبرني عمّي، عن عبد اللّه بن سعد، عن أحمد بن عمر، عن عمر(8) بن خالد بن عاصم بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه، عن الحجاج السّلميّ قال:

ص: 310


1- في هب، ب: «عمرو».
2- في «المختار»: «مالك بن حماد الجشمي». و في ب: «مالك بن حماد الشحمي».
3- أغربة العرب: سودانهم، منهم جاهليون و إسلاميون. انظر «المحيط» (غرب).
4- في ف: «يوم الحريرة»، و في ف: «يوم الجزيرة».
5- في «الخزانة» 2-470: «نصبت له علوي و قد خام صحبتي». و في ف: «دلفت له يا حز إذ حرّ ثوبه».
6- يأطر: يثني. و المتن: الظهر، يريد ظهر مالك.
7- ب: «المنسر الجارد»، و في هب: «رأي اليسر الجارد». و المنسر: الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين أو من الأربعين إلى الخمسين أو إلى الستين أو من المائة إلى المائتين. و الحارد: المجتمع الخلق الشديد.
8- في ب: «عمرو بن خالد».

كان بدء ما كان بين خفاف بن ندبة و العباس بن مرداس أنّ خفافا كان في ملإ من بني سليم فقال لهم: إن عباس بن مرداس يريد أن يبلغ فينا ما بلغ عباس بن أنس، و يأبى ذلك عليه خصال قعدن به، فقال له فتى من رهط العبّاس: و ما تلك الخصال يا خفاف؟ قال: اتّقاؤه بخيله عند الموت، و استهانته بسبايا العرب، و قتله الأسرى، و مكالبته للصعاليك على الأسلاب، و لقد طالت حياته حتى تمنّينا موته، فانطلق الفتى إلى العبّاس فأخبره الخبر، فقال العبّاس: يا ابن أخي، إن لم يكن كالأصمّ في فضله فلست كخفاف في جهله، و قد مضى الأصمّ بما في أمس و خلّفني بما في غد، فلما أمسى تغنّى، و قال:

خفاف ما تزال تجرّ ذيلا *** إلى الأمر المفارق للرّشاد

إذا ما عاينتك بنو سليم *** ثنيت لهم بداهية نآد(1)

/و قد علم المعاشر من سليم *** بأنّى فيهم حسن الأيادي

فأورد يا خفاف فقد بليتم *** بني عوف بحيّة بطن وادي

قال: ثم أصبح فأتى خفافا. و هو في ملإ من بني سليم، فقال: قد بلغني مقالتك يا خفاف، و اللّه لا أشتم عرضك و لا أسبّ أباك و أمّك، و لكنّي رام سوادك بما فيك(2) و إنك لتعلم أنّي أحمي المصافّ (3) و أتكرّم على السّلب(4) و أطلق الأسير و أصون السبيّة. و أما زعمك أني اتّقي بخيلي الموت فهات من قومك رجلا اتّقيت به.

و أما استهانتي بسبايا العرب فإني أحذو القوم في نسائهم بفعالهم في نسائنا، و أما قتلي الأسرى فإني قتلت الزّبيديّ بخالك؛ إذ عجزت عن ثأرك. و أما مكالبتي الصعاليك على الأسلاب، فو اللّه ما أتيت على مسلوب قطّ إلا لمت سالبه. و أما تمنّيك موتي. فإن متّ قبلك فأغن غنائي، و إن سليما لتعلم أني أخفّ عليهم مئونة، و أثقل على عدوّهم وطأة منك، و إنّك لتعلم أنّي أبحت حمى بني زبيد، و كسرت قرني الحارث(5) و أطفأت جمرة خثعم، و قلّدت بني كنانة قلائد العار، ثم انصرف. فقال خفاف أبياتا لم يحفظ الشيخ منها إلا قوله:

و لم تقتل أسيرك من زبيد *** بخالي بل غدرت بمستفاد

فزندك في سليم شرّ زند *** و زادك في سليم شرّ زاد

فأجابه العباس بقوله:

ألا من مبلغ عنّي خفافا *** فإنّي لا أحاشي من خفاف

نكحت وليدة و رضعت أخرى *** و كان أبوك تحمله قطاف

/فلست لحاصن إن لم نزرها *** تثير النّقع من ظهر النّعاف(6)

سراعا قد طواها الأين دهما *** و كمتا لونها كالورس صاف(7)

ص: 311


1- نآد: شديدة.
2- السواد: الشخص. و في ب: «و لكن رمى سوادك بما فيك».
3- المصافّ: مواقف القتال.
4- في ب، بيروت: «و أتكلم على السبي».
5- في ب، هب: «و كسرت قوى بني الحارث».
6- في ف: «فلست بحاضن إن لم تروها». و الحاصن: العفيفة. و النعاف: جمع نعف؛ و هو المكان المرتفع في اعتراض.
7- في ف، «المختار»، هب: سواهم بدل سراعا، و دهم و كمت «بالرفع».
ابن عم للعباس يحرضه على الحرب

قال: ثم كف العباس و خفاف حتى أتى ابن عم للعباس يكنى أبا عمرو بن بدر، و كان غائبا، فقال: يا عباس! ما نقول فيك خيرا إلاّ و هو باطل، قال: و كيف ذلك، ويحك! قال: أخبرني عنك، أ كلّ الذي أقررت(1) به من خفاف في نفيه أباك و تهجينه عرضك؛ ليأس من نصر قومك أو ضعف من نفسك؟ قال: لا، و لا واحدة منهما، و لكني أحببت البقيا، قال: فاسمع ما قلته، قال: هات، فأنشأ يقول:

أرى العباس ينفض مذرويه(2) *** دهين الرأس تقليه النساء

و قد أزرى بوالده خفاف *** و يحسب مثله الداء العياء(3)

فلا تهد السّباب إلى خفاف *** فإن السّبّ تحسنه الإماء

و لا تكذب و أهد إليه حربا *** معجّلة فإن الحرب داء

أذلّ اللّه شرّكما قبيلا *** و لا سقّت له رسما سماء

العباس و خفاف يلتقيان بقومهما و يقتتلان قتالا شديدا

قال العباس: قد آذنت خفافا بحرب، ثم أصبحا فالتقيا بقومهما، فاقتتلوا قتالا شديدا يوما إلى الليل، و كان الفضل للعباس على خفاف، فركب إليه مالك بن عوف و دريد بن الصّمّة الجشميّ في وجوه هوازن، فقام دريد خطيبا فقال: يا معشر بني سليم، إنه أعجلني إليكم صدر واد و رأي جامع، و قد ركب صاحباكم شرّ مطيّة، و أوضعا /إلى أصعب غاية، فالآن قبل أن يندم الغالب و يذلّ المغلوب(4)، ثم جلس.

دريد بن الصمة و مالك بن عوف يحذرانهما عاقبة الحرب

فقام مالك بن عوف(5) فقال: يا معشر بني سليم، إنكم نزلتم منزلا بعدت فيه هوازن، و شبعت منكم فيه بنو تميم، و صالت عليكم فيه بكر بن وائل، و نالت فيه منكم بنو كنانة، فانزعوا و فيكم بقية قبل أن تلقوا عدوّكم بقرن أعضب و كفّ جذماء، قال: فلما أمسينا تغنى دريد بن الصّمّة فقال:

سليم بن منصور أ لمّا تخبّروا *** بما كان من حربي كليب و داحس

و ما كان في حرب اليحابر(6) من دم *** مباح و جدع مؤلم للمعاطس

و ما كان في حربي سليم و قبلهم *** بحرب بعاث من هلاك الفوارس

تسافهت الأحلام فيها جهالة *** و أضرم فيها كلّ رطب و يابس

فكفّوا خفافا عن سفاهة رأيه *** و صاحبه العبّاس قبل الدّهارس(7)

ص: 312


1- في ب: «خبرني عن أصل الذي أقررت به... الخ».
2- المذروان: طرفا الألية. و جاء ينفض مذرويه: جاء باغيا يتهدد.
3- في هب: «سبك مثله الداء العياء». و في «المختار»: «و لكن نسله الداء العياء».
4- في ب: «و يذم المطلوب».
5- في ب: «مالك بن أوس».
6- في ب: «البحائر»، تحريف.
7- الدهارس: الدواهي.

و إلاّ فأنتم مثل من كان قبلكم *** و من يعقل الأمثال غير الأكايس

و قال مالك بن عوف النّصريّ:

سليم بن منصور دعوا الحرب إنما *** هي الهلك للأقصين أو للأقارب

أ لم تعلموا ما كان في حرب وائل *** و حرب مراد أو لؤيّ بن غالب

تفرّقت الأحياء منهم لجاجة *** و هم بين مغلوب ذليل و غالب

فما لسليم ناصر من هوازن *** و لو نصروا لم تغن نصرة غائب

دريد بن الصمة يعاهدهما على الكف عن الحرب و تهادي الشعر من غير شتم
اشارة

/قال: ثم أصبحنا، فاجتمعت بنو سليم، و جاء العبّاس و خفاف، فقال لهما دريد بن الصّمة و لمن حضر من قومهما: يا هؤلاء! إن أوّلكم كان خير أوّل، و كل حيّ سلف خير من الخلف، فكفّوا صاحبيكم عن لجاج الحرب و تهاجي الشعر، قال: فاستحيا العباس فقال: فإنا نكف عن الحرب، و نتهادى الشعر، قال: فقال دريد: فإن كنتما لا بد فاعلين فاذكرا ما شئتما و دعا الشّتم، فإن الشّتم طريق الحرب، فانصرفا على ذلك. فقال العباس بن مرداس:

فأبلغ لديك بني مالك *** فأنتم بأنبائنا أخبر

فأما النّخيل فليست لنا *** نخيل تسقّى(1) و لا تؤبر

و لكنّ جمعا كجذل(2) الحكا *** ك فيه المقنّع و الحسّر

مغاوير تحمل أبطالنا *** إلى الموت ساهمة ضمّر

و أعددت للحرب خيفانة *** تديم الجراء(3) إذا تخطر

صنيعا كقارورة الزّعفرا *** ن ممّا تصان و لا تؤثر

و يقال: صبيغا. قال: فأجابه خفاف فقال:

أ عبّاس إنّ استعار القصي *** د في غير معشره(4) منكر

علام تناول ما لا تنال *** فتقطع نفسك أو تخسر(5)

/فإنّ الرّهان إذا ما أريد *** فصاحبه الشامخ المخطر(6)

تخاوص لم تستطع عدّة(7) *** كأنك من بغضنا أعور

فقصرك مأثورة إن بقي *** ت أصحو بها لك أو أسكر(8)

لساني و سيفي معا فانظرن *** إلى تلك أيّهما تبدر

ص: 313


1- في ف، بيروت: «تجذ».
2- الجذل: عود ينصب للإبل الجربي لتحتك به.
3- في ب، بيروت: الجداء.
4- في ف: «موضعه».
5- ف: تحسر.
6- في ف، هب: «السابح المحضر».
7- في هب، ف، بيروت: «تخاوص لم تستطع غيره». و تخاوص: غض من بصره شيئا.
8- ف: «فقصرك ما بعده... أو أشكر».

قال: فلما طال الأمر بينهما من الحرب و التّهاجي، قال عباس: إني و اللّه ما رأيت لخفاف مثلا إلا شبام بني زبيد(1) فإنه كان يلقى من ابن عمه ثروان بن مرّة من الشتم و الأذى ما ألقى من خفاف، فلما لجّ في شتمه تركه و ما هو فيه، فقال:

وهبت لثروان بن مرّة نفسه *** و قد أمكنتني من ذؤابته يدي

و أحمل ما في اليوم من سوء رأيه *** رجاء التي يأتي بها اللّه في غد(2)

فقال خفاف: إني و اللّه ما وجدت لعباس مثلا إلا ثروان بني زبيد، فإنه كان يلقي من شبام ما ألقى من العباس من الأذى، فقال ثروان:

رأيت شباما لا يزال يعيبني *** فلله ما بالي و بال شبام!

فقصرك منّي ضربة مازنيّة *** بكفّ فتى في القوم غير كهام

فتقصر عني يا شبام بن مالك *** و ما عضّ سيفي شاتمي بحرام

فقال عباس: جزاك اللّه عني يا خفاف شرّا، فقد كنت أخفّ بني سليم من دمائها ظهرا، و أخمصها بطنا، فأصبحت العرب تعيّرني بما كنت أعيب عليها من/الاحتمال و أكل الأموال، و صرت ثقيل الظّهر من دمائها منفضج(3) البطن من أموالها، و أنشأ يقول:

/أ لم تر أنّي تركت الحروب *** و أنّي ندمت على ما مضى

ندامة زار على نفسه *** لتلك التي عارها يتّقى

فلم أوقد الحرب حتى رمى *** خفاف بأسهمه من رمى

فإن تعطف القوم أحلامهم *** فيرجع من ودّهم ما نأى

فلست فقيرا إلى حربهم *** و ما بي عن سلمهم من غنى

فقال خفاف:

أ عبّاس إمّا كرهت الحروب *** فقد ذقت من عضّها ما كفى

أ ألقحت حربا لها شدّة *** زمانا تسعّرها باللّظى

فلمّا ترقّيت في غيّها *** دحضت و زلّ بك المرتقى

فلا زلت تبكي على زلّة *** و ما ذا يردّ عليك البكا

فإن كنت أخطأت في حربنا *** فلسنا نقيلك هذا الخطا

و إن كنت تطمع في سلمنا *** فزاول ثبيرا و ركني حرا

أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني مسعود بن عيسى العبديّ، عن يحيى بن عبد اللّه بن الفضل الفزاريّ، و كان علاّمة بأمر قيس، قال:

كان خفاف بن ندبة في جماعة من قومه، فقال: إنّ عباس بن مرداس ليريد أن/يبلغ فينا مبلغ عباس بن

ص: 314


1- في ب: «شبام بن زبيد».
2- في ف: «رجاء الذي يأتي به اللّه في غد».
3- في هب: «منفضخ البطن». و منفضج البطن: منتفخه.

أنس، و تأبى عليه خصال قعدن به عن ذلك، فقال فتى من رهط عباس: ما تلك الخصال يا خفاف؟ فقال: اتّقاؤه بخيله عند الموت، و مكالبة الصعاليك على الأسلاب، و قتله الأسرى، و استهانته بسبايا العرب، و ايم اللّه، لقد طالت حياته حتى تمنّينا موته، فانطلق الفتى إلى العباس فحدّثه الحديث، فقال العباس: يا ابن أخي إلاّ أكن كالأصمّ في فضله فلست كخفاف في جهله، و قد مضى الأصمّ بما في أمس، و خلّفني لما في غد، فلما أمسى تغنّى، فقال:

خفاف أ ما تزال تجرّ ذيلا *** إلى الأمر المقرّب للفساد

و قد علم المعاشر من سليم *** بأنّي فيهم حسن الأيادي

و أنّي يوم جمع بني عطيف *** حملت بحالك وهج المرادي(1)

و أني لا أعيّر في سليم *** بردّ الخيل سالمة الهوادي

و أنّي في ملمّة كلّ يوم *** أقي صحبي و في خيلي تعادي

و لم أسلب بحمد اللّه كبشا *** سلاحا بين مختلف الصّعاد(2)

و لم أحلل لمحصنة نطاقا *** و لم أر عتقها إلا مرادي

فأورد يا خفاف فقد منيتم *** بني عوف بحيّة بطن وادي

فلما أصبح أتى خفافا و هو في ملأ من قومه، فقال: قد بلغني مقالك يا خفاف، و ايم اللّه، إنك لتعلم أني أحمي المصافّ (3)، و أكره السلب، و أطلق الأسير، و أصون السّبيّة.

فأمّا زعمك أنّي اتّقي بخيلي عند الموت فهات لي من قومك رجلا اتّقيت به، /و أما قتلى الأسرى فإني قتلت الزّبيديّ بخالك، و أما سلبي الأسير فو اللّه ما أتيت على مسلوب قطّ إلاّ لمت سالبه، و أما استهانتي بالسّبايا فإني أحذو القوم في سباياهم فعالهم في سبايانا، و أما تمنّيك موتي فإن متّ قبلك فأغن غنائي، ثم انصرف. فقال خفاف مجيبا للعباس عن قوله:

لعمر أبيك يا عبّاس إني *** لمنقطع الرّشاء من الأعادي

و إني قد تعاتبني سليم *** على جرّ الذيول إلى الفساد

أ كلّ الدهر لا تنفكّ تجري *** إلى الأمر المفارق للسّداد

إذا ما عاينتك بنو سليم *** تبيت لهم بداهية نآد

فزندك في سليم شر زند *** و زادك في المعاشر(4) شرّ زاد

ألا للّه درّك من رئيس *** إذا عاديت فانظر من تعادي

جريت مبرّزا و جريت تكبو *** على تعب فهل لك من معاد

و لم تقتل أسيرك من زبيد *** بخالي بل غدرت بمستقاد

و مستقاد: الزّبيديّ.

ص: 315


1- المرادي: جمع مردى، و هو الحجر الذي تكسر به الصخور.
2- الكبش: سيد القوم و قائدهم، و الصعاد: القنا المستويات.
3- المصاف: مواقف القتال. و في ف: المصاب.
4- في «المختار»: و زادك في سليم.

و إنّ رهط خفاف لاموه و قالوا: اكفف عن الرجل. فقال: كيف أكفّ عن رجل يريد أن يترنا أمرنا بغير فضل.

و قال رهط العباس له: أيها الرجل، اكفف، فقال قولا جميلا، و قال العبّاس عند ذلك:

هل تعرف الطّلل القديم كأنّه *** وشم بأسفل ذي الخيام مرجّع

بقيت معارفه على مرّ الصّبا *** بعد الجميع كأنه قد يمرع

دار التي صادت فؤادك بعد ما *** شمل المفارق منك شيب أروع

و زعمت أنّك لا تراح إلى الصّبا *** و علتك منه شبيبة لا ترجع

/يا أيها المرء السفيه أ لا ترى *** أني أضرّ إذا هويت و أنفع

و أعيش ما قدر الإله على القلى *** و أعفّ نفسي عن مطامع تطمع

كرما على الخطر اليسير و لا ترى *** نفسي إلى الأمر الدنيّ تطلّع

و أردّ ذا الضّغن اللئيم برأيه *** حتى يموت و ليس فينا مطمع

للّه درّك لا تمنّ مماتنا *** فالموت ويحك قصرنا و المرجع

لو كان يهلك من تمنّى موته *** حلّت عليك دهية لا ترقع

و مكثت في دار الهوان موطّأ *** بالذّلّ ليس لداركم من يمنع

فقال خفاف مجيبا له:

عجبت أمامة إذ رأتني شاحبا *** خلق القميص و أنّ رأسي أصلع

و تنفست صعدا فقلت لها: اقصري *** إني امرؤ فيما أضرّ و أنفع

مهلا أبا أنس فإني للّذي *** خلّى عليك دهيّة لا ترفع

و ضربت أمّ شئون رأسك ضربة *** فاستكّ منها في اللّقاء المسمع

نعليّ حذو نعالها و لربّما *** أحذو العدا و لكلّ عاد مصرع

لا تفخرنّ فإنّ عودي نبعة *** أعيت أبا كرب و عودك خروع(1)

و لقد أقود إلى العدوّ مقلّصا *** سلس القياد له تليل أتلع(2)

نهد المراكل و الدّسيع يزينه *** شنج النّسا و أباجل لا تقطع(3)

/و عليّ سابغة كأنّ قتيرها *** حدق الجنادب ليس فيها مطمع(4)

زغف مضاعفة تخيّر سردها *** ذو فائش و بنو المرار و تبّع(5)

في فتية بيض الوجوه كأنهم *** أسد على لحم ببيشة طلّع

ص: 316


1- عودي نبعة: صلب شديد. و عودك خروع: ليّن متثن.
2- تليل أتلع: عنق طويل.
3- نهد المراكل: واسع الجوف. و الدسيع: مغرز العنق في الكاهل. و فرس شنج النسا: صفة محمودة، لأنه إذا تشنج نساه لم تسترخ رجلاه. و الأباجل: جمع أبجل، و هو عرق في الفرس و البعير.
4- درع سابغة: تامة طويلة. و القتير: رءوس المسامير في الدرع. و الحدق جمع حدقة؛ و هي سواد العين الأعظم، و الجنادب جمع جندب، و هو الصغير من الجراد.
5- الزغف جمع زغفة؛ و هي الدرع الواسعة. و سردها: نسجها. و فائش: واد كان يحميه ذو فائش سلامة بن يزيد اليحصبي.

لا ينكلون إذا لقوا أعداءهم *** إنّ الحمام هو الطريق المهيع(1)

و كان خفاف قد كفّ عن العبّاس، حتى أتاه غلام من قومه، فقال: أبى العباس إلا جرأة عليك و عيبا لك، فغضب خفاف ثم قال: ما يدعوه إلى ذلك؟ فو اللّه إن أباه لرابط السهم، و إن أمّه لخفيّة الشخص، و لئن طلب مسعاي ليعلمنّ أنه قصير الخطوة أجذم الكف، و ما ذنبنا إليه إلا أنّا استنقذنا أباه من عصيّ بني حزام، و كافحنا دونه يوم بني فراس، و نصرنا أباه على حرب بن أميّة. و قال خفاف في ذلك:

لن يترك الدهر عبّاس تقحّمه *** حتى يذوق وبال البغي عبّاس

أمسكت عن رميه حولا و مقتله *** باد لتعذرني في حربه الناس

عمدا أجرّ له ثوبي لأخدعه *** عن رأيه و رجائي عنده ياس

فالآن إذا صرّحت منه حقيقته *** ظلما فليس بشتمي شاتمي باس

أجدّ يوما بقولي كلّ مبتدئ *** كما يجدّ بكفّ الجازر الفاس

تأبى سليم إذا عدّت مساعيها *** أن يحرز السّبق عبّاس و مرداس

أودى أبو عامر عبّاس معترفا *** أنّا إذا ما سليم حصّلت راس

فبلغ العباس أمر خفاف، فأتاه، فالتقيا عند أسماء بن عروة بن الصّلت بن حزام بن عبد اللّه بن حازم بن الصلت، و كان مأمونا في بني سليم، فقال العباس: قد بلغني قولك يا خفاف، و لعمري لا أشتم أباك و لا أمّك، و لكنّي رام سوادك بما فيك. /و اللّه ما كنت إلى ذمّك بالهيمان و لا إلى لحمك بالقرم، و إن سليما لتعلم أني أبحت حمى بني زبيد، و أطفأت جمرة خثعم، و كسرت قرني(2) بني الحارث بن كعب، و قلّدت بني كنانة قلائد العار، و إني يا خفاف لأخفّ منك(3) على بني سليم مئونة، و أثقل منك على عدوّهم وطأة، و قال مجيبا له:

إني رأيت خفافا ليس يهنئه *** شيء سوى شتم عبّاس بن مرداس

مهلا خفاف فإن الحق معضبة(4) *** و الحمق ليس له في الناس من آسي

سائل سليما إذا ما غارة لحقت *** منها فوارس حشد غير أنكاس

من خثعم و زبيد أو بني قطن *** أو رهط فروة دهرا أو شحا الناس(5)

ينبوا من الفارس الحامي حقيقته *** إذا أتوك بحام غير عبّاس

لا يحسب النّاس قول الحق معترفا *** فانظر خفاف فما في الحق من باس

من زار خيل بني سعد مسوّمة *** يهدي لأولها لأي بن شمّاس

يوم اعترضت أبا بدر بجائفة *** تعوي بعرق من الأحشاء قلاّس(6)

أدعى الرئيس إذا ما حربكم كشفت *** عن ساقها لكم و الأمر للرّاس

ص: 317


1- الطريق المهيع: الواسع البين.
2- في هب: «و كسرت قرني في بني الحارث».
3- ف: «عنك».
4- معضبة: مقطعة.
5- الشحا: الواسع، و المراد جميع الناس.
6- الطعنة الجائفة: التي تصل إلى الجوف. و عرق قلاس: يزخر بالدم.

حتى إذا انكشفت عنكم عمايتها *** أنشأت تضرب أخماسا لأسداس

و سعى أهل الفساد إلى خفاف فقالوا: إنّ عبّاسا قد فضحك، فقال خفاف:

ألا أيّها المهدي لي الشّتم ظالما *** و لست بأهل حين أذكر للشّتم

أبى الشّتم أنّي سيّد و ابن سادة *** مطاعين في الهيجا مطاعيم للّحم(1)

/هم منحوا نصرا(2) أباك و طاعنوا *** و ذلك إذ ترمى ذليلا و لا ترمي

كمستلحم في ظلمة اللّيل بعد ما(3) *** رأى الموت صرفا و السيوف بها تهمي

أدبّ على أنماط(4) بيضاء حرّة *** مقابلة الجدّين ماجدة العمّ

و أنت لحنفاء اليدين لو أنّها *** تباع لما جاءت بزند و لا سهم

و إني على ما كان أول أوّل *** عليه، كذاك القرم ينتج للقرم(5)

و أكرم نفسي عن أمور دنيئة *** أصون بها عرضي و آسو بها كلمي

و أصفح عمّن لو أشاء جزيته *** فيمنعني رشدي و يدركني حلمي

و أغفر للمولى و إن ذو عظيمة *** على البغي منها لا يضيق بها حزمي(6)

فهذي فعالي ما بقيت و إنّني *** لموص به عقبي إذا كنت في رجمي(7)

فقال له قومه: لو كان أوّل قولك كآخره يا خفاف لأطفأت النائرة(8)، و أذهبت سخائم النّمائم، فقال العباس مجيبا له:

ألا أيّها المهدي لي الشّتم ظالما *** تبيّن إذا راميت هضبة من ترمي

أبى الذّمّ عرضي إنّ عرضي طاهر *** و إني أبيّ من أباة ذوي غشم

و إنّي من القوم الذين دماؤهم *** شفاء لطلاّب التّرات من الوغم(9)

/و قال أيضا:

إن تلقني تلق ليثا في عرينته *** من أسد خفّان في أرساغه فدع(10)

/لا يبرح الدهر صيدا قد تقنّصه *** من الرجال على أشداقه القمع(11)

و كان العباس و خفاف قد همّا بالصّلح، و كرهت بنو سليم الحرب، فجاء غويّ من رهط العبّاس فقال للعبّاس:

إنّ خفافا قد أنحى عليك و على والديك، فغضب العباس، ثم قال: قد و اللّه هجاني، فكان أعظم ما عابني به أصغر

ص: 318


1- في ب: «مطاعيم للجرم».
2- في ب، هب: الضرى.
3- في ب: محزما بدل بعد ما، و تعمي بدل تهمي.
4- الأنماط جمع نمط، و هو ضرب من البسط.
5- في ب: «عليه كذاك القوم ينتج للقوم»، تحريف. و القرم: السيد أو العظيم على التشبيه بالفحل.
6- في ب: «جزمي»، تصحيف.
7- رجمي: قبري.
8- النائرة: العداوة.
9- الوغم: الحقد الثابت. و في ب: «شفاء لطلاب التراث من الرغم»، تحريف. و في ف، بيروت: «شفاء لطلاب الشفاء من الرغم».
10- فدع: اعوجاج.
11- القمع: الاحمرار.

عيب فيه، ثم هجا والديّ فما ضرّهما و لا نفعه، ثم برزت له فأخفى شخصه و اتّقاني بغيره، و لو شئت لشتمت أباه و ثلبت عرضه، و لكني و إياه كما قال شبام بني زبيد(1) لابن عم له، يقال له ثروان بن مرّة، كان أشبه الناس بخفاف:

وهبت لثروان بن مرّة نفسه *** و قد أمكنتني من ذؤابته يدي

و أحمل ما في اليوم من سوء رأيه *** رجاء الذي يأتي(2) به اللّه في غد

و لست عليه في السّفاة كنفسه *** و لست إذا لم أهجه بموعّد

و قال:

أراني كلما قاربت قومي *** نأوا عني و قطعهم شديد

سئمت عتابهم فصفحت عنهم *** و قلت لعلّ حلمهم يعود

و علّ اللّه يمكن من خفاف *** فأسقيه التي عنها يحيد

بما اكتسبت يداه و جرّ فينا *** من الشّحنا التي ليست تبيد

/و أنّى لي يؤدّبني خفاف *** و عوف و القلوب لها وقود

و إني لا أزال أريد خيرا *** و عند اللّه من نعم مزيد

فضاقت بي صدورهم و غصّت *** حلوق ما يبضّ لها وريد

متى أبعد فشرّهم قريب *** و إن أقرب فودّهم بعيد

أقول لهم و قد لهجوا بشتمي: *** ترقّوا يا بني عوف و زيدوا

فما شتمي بنافع حيّ عوف *** أ ينقصني الهبوط أم الصّعود

أ تجعلني سراة بني سليم *** ككلب لا يهرّ و لا يصيد

كأنّي لم أقد خيلا عتاقا *** شوازب ما لها في الأرض عود(3)

أجشّمها مهامه طامسات *** كأنّ رمال صحصحها(4) قعود

عليها من سراة بني سليم *** فوارس نجدة في الحرب صيد

فأوطئ من تريد بني سليم *** بكلكلها و من ليست تريد

فلما بلغ خفافا قول العباس قال: و اللّه ما عبت العباس إلا بما فيه، و إني لسليم العود، صحيح الأديم، و لقد أدنيت سوادي من سواده فلم أحجم و لا نكصت عنه، و إني و إيّاه كما قال ثروان لشبام بني زبيد(5)، و كان يلقى منه ما لقي من العباس، قال:

رأيت شباما لا يزال يعيبني *** فللّه ما بالي و بال شبام

فقصرك منّي ضربة مازنيّة *** بكفّ امرئ في الحرب غير كهام(6)

ص: 319


1- ب: شبام بن زبيد.
2- ف: «رجاء التي يأتي بها اللّه...».
3- ف: «خيلا سيارا». و الشوازب: الضوامر. و في ب: «كأني لم أقل... مثلها في الأرض» تحريف.
4- الصحصح: ما استوى من الأرض و جرد.
5- ب: لشبام بن زبيد.
6- ب: الحي بدل الحرب. و في ف، المختار: «بكف فتى في الحق»، و قصرك: مصدر قصر بمعنى انتهى و كف. و سيف كهام: كليل.

/من اليوم أو من شيعه(1) بمهنّد *** خصوم لهامات الرجال حسام

/فتقصر عني يا شبام بن مالك *** و ما عضّ سيفي شاتمي بحرام

و قال خفاف:

أرى العباس ينقص كلّ يوم *** و يزعم أنه جهلا يزيد

فلو نقضت عزائمه و زادت *** سلامته لكان كما يريد(2)

و لكنّ المعالم أفسدته *** و خلق(3) في عشيرته زهيد

فعبّاس بن مرداس بن عمرو *** و كذب المرء أقبح ما يفيد

حلفت بربّ مكة و المصلّى *** و أشياخ محلّقة تنود(4)

بأنك من مودّتنا قريب *** و أنت من الذي تهوى بعيد

فأبشر أن بقيت بيوم سوء *** يشيب له من الخوف الوليد

كيومك إذ خرجت تفوق(5) ركضا *** و طار القلب و انتفخ الوريد

فدع قول السّفاهة لا تقله *** فقد طال التّهدّد و الوعيد

رأينا من نحاربه شقيّا *** و من ذا في بني(6) عوف سعيد

و قال خفاف أيضا:

أ عبّاس إنّا و ما بيننا *** كصدع الزّجاجة لا يجبر

فلست بكفء لأعراضنا *** و أنت بشتمكنا(7) أجدر

/و لسنا بأهل لما قلتم *** و نحن بشتمكم أعذر

أراك بصيرا بتلك التي *** تريد و عن غيرها أعور

فقصرك مني رقيق الذّبا *** ب عضب كريهته مبتر

و أزرق في رأس خطّيّة *** إذا هزّ أكعبها تخطر

يلوح السّنان على متنها *** كنار على مرقب تسعر

و زغف دلاص حباها العزيز(8) *** توارثها قبله حمير

فتلك و جرداء خيفانة(9) *** إذا زجر الخيل لا تزجر

إذا ألقت الخيل أذيالها(10) *** فأنت على جريها أقدر

ص: 320


1- شيعه: بعده، يريد به الغد.
2- في ف، بيروت: «و لو نقصت عواليه و زادت». و في هب: «فلو نقصت عرائكه و زادت».
3- في ب: و لكن المعايب... و خلف.
4- تنود: تمايل من النعاس. و في ب، بيروت: تهود.
5- في ف، بيروت: تفوت.
6- في هب، ف. و في ب، بيروت: يا بني.
7- في هب: بشتمكها. و في ب: يشتمكما.
8- في ب: «كماء الغدير... توارثه» بدل: «حباها العزيز... توارثها». و الزغف: الدرع الواسعة الطويلة. و دلاص: ملساء لينة.
9- الخيفانة: السريعة.
10- في ب: أولادها.

متى يبلل الماء أعطافها *** تبذّ الجياد و ما تبهر

أنهنه بالسوط من غربها(1) *** و أقدمها حيث لا ينكر

و أرحضها(2) غير مذمومة *** بلبّاتها العلق الأحمر

أقول و قد شكّ أقرابها(3) *** غدرت و مثلي لا يغدر

و أشهدها غمرات الحروب *** فسيّان تسلم أو تعقر

و قال العباس:

خفاف أ لم تر ما بيننا *** يزيد استعارا إذا يسعر

أ لم تر أنا نهين التّلا *** د للسائلين و ما نعذر(4)

/لأنا نكلّف فوق التي *** يكلّفها الناس لو تخبر

لنا شيم غير مجهولة *** توارثها الأكبر الأكبر

و خيل تكدّس بالدّار عي *** ن تنحر في الرّوع أو تعقر

عليها فوارس مخبورة *** كجنّ مساكنها عبقر

و رجراجة(5) مثل لون النجو *** م لا العزل فيها و لا الحسّر

و بيض سوابغ مسرودة *** مواريث ما أورثت حمير

فقد يعلم الحيّ عند الصّياح *** بأن العقيلة بي تستر

و قد يعلم الحيّ عند الرها *** ن أنّي أنا الشامخ المخطر(6)

و قد يعلم الحيّ عند السؤا *** ل أنّي أجود و أستمطر

فأنّى تعيّرني بالفخار *** فها أنا هذا هو المنكر(7)

صوت

ألا لا أبالي بعد ريّا أ وافقت *** نوانا نوى الجيران أم لم توافق

هجان المحيّا حرّة الوجه سربلت *** من الحسن سربالا عتيق البنائق

الشعر لجبهاء الأشجعيّ، و الغناء لإسحاق رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.

ص: 321


1- أنهنه: أكف، و الغرب: النشاط و الحدة.
2- ف: و أرجعها.
3- ف: أقرانها. و الأقراب جمع قرب، و هو الخاصرة.
4- في ب: «... نهينا البلاد... و ما نغدر».
5- كتيبة رجراجة: تموج من كثرتها.
6- في ف: و قد علم الحي عند النطاح أني أنا السابح المطحر و رواية هب: عند الرهان، و الباقي كرواية ف.
7- في بيروت: «هذا ذيك» بدل «فها أنا».

6 - أخبار جبهاء و نسبه

نسبه

جبهاء لقب غلب عليه، يقال جبهاء و جبيهاء(1) جميعا، و اسمه يزيد بن عبيد، و يقال: يزيد بن حميمة بن عبيد بن عقيلة بن قيس بن رويبة بن سحيم بن عبيد بن هلال بن زبيد بن بكر بن أشجع، شاعر بدويّ من مخاليف الحجاز، نشأ و توفّي في أيام بني أمية، و ليس ممّن انتجع الخلفاء بشعره و مدحهم فاشتهر، و هو مقلّ، و ليس من معدودي الفحول، و من الناس من يروي هذه الأبيات لأبي ربيس الثّعلبيّ (2) و ليس ذلك بصحيح، و هي في شعر جبهاء موجودة.

لقاؤه بالفرزدق

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدثني عمّي، و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا أبو الحسن الأحول، عن الطّوسيّ، عن أبي عمرو الشّيبانيّ، قال:

قدم جبيهاء الأشجعيّ البصرة بجلوبة(3) له يريد بيعها، فلقيه الفرزدق بالمربد، فقال: ممّن الرّجل؟ قال: من أشجع، قال: أ تعرف شاعرا منكم يقال له جبهاء أو جبيهاء؟ قال: نعم. قال: أ فتروي قوله:

أ من الجميع بذي البقاع(4) ربوع *** هاجت فؤادك و الرّبوع تروع

قال: نعم، قال: فأنشدنيها، فأنشده قوله منها:

من بعد ما نكرت و غيّر آيها *** قطر و مسبلة الدّموع(5) خريع

/يا صاحبيّ ألا ارفعا لي آية *** تشفى الصّداع فيذهل المرفوع

ألواح ناجية كأنّ تليلها(6) *** جذع تطيف به الرّقاة منيع

حتى أتى على آخرها، فقال الفرزدق: فأقسم باللّه إنك لجبهاء، أو إنّك لشيطانه.

قال الأخفش في خبره عن أصحابه: الخريع: الذاهبة العقل، شبّه السحابة بها لأنّها لا تتمالك من المطر.

/أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا أحمد بن عبيد المكتب قال: حدثني عليّ بن الصّباح، عن ابن الكلبيّ، قال:

ص: 322


1- في ب، هب: جبها و جبيها.
2- ف، بيروت: لابن دبيس التغلبي. و في ب، هب: «لابن رئيس الثعلبي»، تحريف. و قال الزبيدي في «التاج» (ربس): أبو الربيس عباد بن طهمة، هكذا بالميم في التكملة، و ذكر الحافظ أنه طهفة الثعلبي شاعر من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، هكذا قاله الصاغاني. و في «اللسان»: أبو الربيس التغلبي من شعراء تغلب و هو تصحيف، و الصواب مع الصاغاني.
3- الجلوبة: الإبل يحمل عليها متاع القوم.
4- ف، بيروت: النعاع.
5- في ف: و مسبلة الذيول.
6- الناجية: الناقة، و التليل: العنق.

قدم جبيهاء الأشجعيّ المدينة بجلوبة له، فبينا هو يبيعها و الفرزدق يومئذ بالمدينة إذ مرّ به، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أشجع، قال: أ تعرف شاعرا منكم يقال له جبهاء أو جبيهاء؟ قال: نعم، قال: أ تروي قصيدته:

ألا لا أبالي بعد ريّا أ وافقت *** نوانا نوى الجيران أم لم توافق

قال: نعم. قال: أنشدنيها، فأنشده إيّاها، فقال الفرزدق: أقسم باللّه إنّك لجبيهاء، أو إنك لشيطانه.

هجرته إلى المدينة

أخبرني الحرميّ قال: حدثنا الزّبير، قال: حدثني عمّي، عن سليمان بن عيّاش، قال:

قالت زوجة جبهاء الأشجعيّ له: لو هاجرت بنا إلى المدينة و بعت إبلك و افترضت في العطاء كان خيرا لك، قال: أفعل. فأقبل بها و بإبله حتى إذا كان بحرّة واقم من شرقيّ المدينة، شرّعها بحوض واقم ليسقيها(1)، فحنّت ناقة منها ثم نزعت، /و تبعتها الإبل، و طلبها ففاتته، فقال لزوجته: هذه إبل لا تعقل، تحنّ إلى أوطانها، و نحن أحقّ بالحنين منها، أنت طالق إن لم ترجعي، و فعل اللّه بك و فعل و ردّها و قال:

قالت أنيسة دع بلادك و التمس *** دارا بطيبة ربّة الآطام

تكتب عيالك في العطاء و تفترض *** و كذاك يفعل حازم الأقوام

فهممت ثم ذكرت ليل لقاحنا *** بلوى عنيزة(2) أو بقفّ بشام

إذ هنّ عن حسبي مذاود كلّما *** نزل الظلام بعصبة أغتام(3)

إن المدينة لا مدينة فالزمي *** حقف السّناد و قبّة الأرجام(4)

يحلب(5) لك اللّبن الغريض و ينتزع *** بالعيس من يمن إليك و شام

و تجاوري النفر الذين بنبلهم(6) *** أرمي العدوّ إذا نهضت أرامي

الباذلين إذا طلبت تلادهم(7) *** و المانعي ظهري من الغرّام

مجاورته في بني تيم

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدّثني أحمد بن زهير، قال: حدّثني مصعب قال: جاور جبهاء الأشجعيّ في بني تيم، بطن من أشجع، فاستمنحه مولى لهم عنزا، فمنحه/إيّاها فأمسكها دهرا، فلما طال على جبهاء ألاّ يردّها(8)، قال جبهاء:

أ مولى بني تيم أ لست مؤدّيا *** منيحتنا فيما تردّ المنائح(9)

ص: 323


1- شرعها: أوردها الماء. واقم: أطم من آطام المدينة.، و حرة واقم إلى جانبه.
2- اللوى: ما التف من الرمل. و القف: ما ارتفع من الأرض. و عنيزة و بشام: موضعان. و في ب: «بذوي عنيزة»، تحريف.
3- الأغتام: الذين لا يفصحون.
4- في ب: الأرحام.
5- في ب: يجلب.
6- في ف: «بنيلهم»، تصحيف.
7- في ب: «بلادهم»، تصحيف.
8- ب، هب: ما لا يردها.
9- المنائح: الهبات.

لها شعر صاف و جيد مقلّص *** و جسم زخاريّ و ضرس مجالح(1)

فأرسل إليه التّيميّ يقول:

بلى، سنؤدّيها إليك ذميمة *** لتنكحها إن أعوزتك المناكح

فعمد به جبهاء فنزل، و قال:

لو كنت شيخا من سوأة نكحتها *** نكاح يسار عنزه و هي سارح

قال: و هم يعيّرون(2) بنكاح العنز.

جبهاء و موسى بن زياد
اشارة

أخبرني وكيع، قال: حدّثني أبو أيّوب المدينيّ، عن مصعب، قال: استطرق جبهاء الأشجعيّ موسى بن زياد الأشجعيّ كبشا(3)، فوعده ثم مطله، فقال جبهاء:

/واعدني الكبش موسى ثم أخلفني *** و ما لمثلي تعتلّ الأكاذيب

يا ليت كبشك يا موسى يصادفه *** بين الكراع و بين الوجنة الذّئب

أمسى بذي الغصن أو أمسى بذي سلم *** فقحّمته إلى أبياتك اللّوب(4)

فجاء و الحيّ أيقاظ فطاف بهم *** طوفين ثم أقرّته الأحاليب

/فبات ينظره حرّان منطويا *** كأنه طالب للوتر مكروب

و قام يشتدّ حتى نال غرّته *** طاوي الحشا ذرب الأنياب مذبوب(5)

بغفلة من زريق فاستمرّ به *** و دونه آكم الحقف الغرابيب(6)

سل عنه أرخمة بيضا و أغربة *** سودا لهنّ حنى أطمى سلاهيب(7)

يردين ردي العذارى حول دمنته *** كما يطوف على الحوض المعاقيب

فجاء يحمل قرنيه و يندبه *** فكلّ حيّ إذا ما مات مندوب(8)

صوت

و لها و لا ذنب لها *** حبّ كأطراف الرّماح

في القلب يجرح و الحشا *** فالقلب مجروح النّواحي

الشعر لوالبة بن الحباب، و الغناء ليزيد، رمل بالوسطى عن الهشاميّ و عمرو، و فيه لسبك(9) الزامر لحن عن ابن خرداذبه.

ص: 324


1- الزخارى: الكثير الشحم و اللحم، و المجالح: الذي يقشر الشجر.
2- في ف: يعرفون.
3- استطرق كبشا: طلبه للضراب.
4- اللوب: العطش.
5- مذبوب: مجنون.
6- الحقف: ما أعوج من الرمل. و الغرابيب: السود.
7- أطمى سلاهيب: مرتفع.
8- انفردت «ف» بالأبيات السبعة الأخيرة.
9- في ف: لشك الزامر.

7 - أخبار والبة بن الحباب

شاعر عباسي

والبة بن الحباب أسديّ صليبة، كوفيّ، شاعر من شعراء الدولة العباسيّة، يكنى أبا أسامة. و هو أستاذ أبي نواس، و كان ظريفا شاعرا غزلا وصّافا للشراب(1) و الغلمان المرد، و شعره في غير ذلك مقارب ليس بالجيّد، و قد هاجى بشّارا و أبا العتاهية، فلم يصنع شيئا و فضحاه، فعاد إلى الكوفة كالهارب، و خمل ذكره بعد.

المهدي يعجب بشعره و لا ينادمه

أخبرني محمد بن مزيد(2) قال: حدثنا حمّاد بن إسحاق، قال: حدثني أبي، و أخبرني محمد بن القاسم الأنباريّ، و الحسن بن علي الأدميّ جميعا، عن القاسم بن محمد الأنباريّ قال: حدثنا يعقوب بن عمر، قال:

حدثني أحمد بن سلمان، قال: حدثني أبو عدنان السّلميّ الشاعر، قال:

قال المهدي لعمارة بن حمزة: من أرقّ الناس شعرا؟ قال: والبة بن الحباب الأسديّ، و هو الذي يقول:

و لها و لا ذنب لها *** حبّ كأطراف الرّماح

في القلب يقدح و الحشا *** فالقلب مجروح النّواحي

قال: صدقت و اللّه، قال: فما يمنعك عن منادمته يا أمير المؤمنين؟ قال: يمنعني قوله:

قلت لساقينا على خلوة *** أدن كذا رأسك من راسي

و نم على صدرك لي ساعة *** إنّي امرؤ أنكح جلاّسي(3)

/أ فتريد أن نكون من جلاّسه على هذه الشّريطة!.

قال شعرا في أبي نواس

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ إجازة: حدثني عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة، و وجدته في بعض الكتب عن ابن قتيبة و روايته أتمّ، فجمعتهما، قال:

حدّثني الدّعلجيّ غلام أبي نواس، قال: أنشدت يوما بين يدي أبي نواس قوله:

يا شقيق النفس من حكم *** نمت عن ليلي(4) و لم أنم

ص: 325


1- في «التجريد»: للخمر.
2- في ف، بيروت: محمد بن الحسن بن دريد.
3- في ب، هب، بيروت: حلاسيا. و قبلها: من راسيا.
4- في ب: عن عيني.

و كان قد سكر، فقال: أخبرك بشيء على أن تكتمه؟ قلت: نعم، قال: أ تدري من المعنيّ بقوله: يا شقيق النفس من حكم؟ قلت: لا، قال: أنا و اللّه المعنيّ بذلك، و الشعر لوالبة بن الحباب، قال: و ما علم بذلك غيرك و أنت أعلم، فما حدّثت بهذا حتى مات.

قال: و قال الجاحظ: كان والبة بن الحباب، و مطيع بن إياس، و منقذ بن عبد الرحمن الهلاليّ، و حفص بن أبي وردة، و ابن/المقفّع، و يونس بن أبي فروة، و حمّاد بن عجرد، و عليّ بن الخليل، و حمّاد بن أبي ليلى الراوية، و ابن الزّبرقان(1)، و عمارة بن حمزة، و يزيد بن الفيض، و جميل بن محفوظ، و بشّار المرعّث(2)، و أبان اللاّحقيّ ندماء، يجتمعون على الشراب و قول الشعر و لا يكادون يفترقون، و يهجو بعضهم بعضا هزلا و عمدا، و كلهم متّهم في دينه.

والبة و أبو العتاهية يتهاجيان

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ، قال: حدثنا محمد بن موسى بن حمّاد، قال: حدثني/محمد بن القاسم، قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن محمد السالميّ الكوفيّ التّيميّ، قال: حدثني محمد بن عمر الجرجانيّ، قال:

رأيت أبا العتاهية جاء إلى أبي، فقال له: إن والبة بن الحباب قد هجاني، و من أنا منه؟ أنا جرّار مسكين، و جعل يرفع من والبة و يضع من نفسه، فأحبّ أن تكلمه أن يمسك عنّي. قال: فكلم أبي والبة، و عرّفه أن أبا العتاهية جاءه و سأله ذلك، فلم يقبل و جعل يشتم أبا العتاهية، فتركه، ثم جاء أبو العتاهية فسأله عما عمل في حاجته، فأخبره بما ردّ عليه والبة، فقال لأبي: لي الآن إليك حاجة، قال: و ما هي؟ قال: لا تكلمني في أمره، قال: قلت له: هذا أوّل(3) ما يجب لك، قال: فقال: أبو العتاهية يهجوه:

أوالب أنت في العرب *** كمثل الشّيص في الرّطب

هلمّ إلى الموالي الصّي *** د في سعة و في رحب

فأنت بنا لعمر اللّ *** ه أشبه منك بالعرب

غضبت عليك ثم رأي *** ت وجهك فانجلى غضبي

لما ذكّرتني من لون أج *** دادي و لون أبي

فقل ما شئت أقبله(4) *** و إن أطنبت في الكذب

لقد أخبرت عنك و عن *** أبيك الخالص العربي

فقال العارفون به *** مصاص غير مؤتشب(5)

ص: 326


1- ف، بيروت: «و حماد بن الزبرقان»، تصحيف.
2- في ب، س، هب: «المرغث». و سمي المرعث لبيت قاله، و هو: قال ريم مرعث ساحر الطرف و النظر و انظر الأغاني 3-140 ط. دار الكتب.
3- ف، هب، بيروت: أقل ما يجب لك.
4- في ف: «أحمله».
5- المصاص: الخالص من كل شيء. و غير مؤتشب: غير مختلط.

/أتانا من بلاد الرّو *** م معتجرا(1) على قتب

خفيف الحاذ(2) كالصّمصا *** م أطلس غير ذي نشب

أوالب ما دهاك و أن *** ت في الأعراب ذو نسب

أراك ولدت بالمرّي *** خ يا ابن سبائك الذهب

فجئت أقيشر الخدّي *** ن أزرق عارم الذّنب

لقد أخطأت في شتمي *** فخبّرني أ لم أصب

و قال في والبة أيضا:

نطقت بنو أسد و لم تجهر *** و تكلّمت خفيا(3) و لم تظهر

و أما و ربّ البيت لو نطقت *** لتركتها و صباحها أغبر

أ يروم شتمي منهم رجل *** في وجهه عبر لمن فكّر

و ابن الحباب صليبة زعموا *** و من المحال صليبة أشقر

/ما بال من آباؤه عرب الأل *** وان يحسب من بني قيصر

أ ترون أهل البدو قد مسخوا *** شقرا أما هذا من المنكر

و قال: و أول هذه القصيدة:

صرّح بما قد قلته و اجهر *** لابن الحباب و قل و لا تحصر

ما لي رأيت أباك أسود غر *** بيب القذال كأنه زرزر(4)

و كأنّ وجهك حمرة رئة *** و كأنّ رأسك طائر أصفر

/قال: و بلغ الشعر والبة، فجاء إلى أبي فقال: قد كلمتني في أبي العتاهية، و قد رغبت في الصّلح، قال له أبي:

هيهات إنه قد أكّد عليّ إن لم تقبل(5) ما طلب أن أخلّي بينك و بينه، و قد فعلت، فقال له والبة: فما الرأي عندك؟ فإنه فضحني(6)، قال: تنحدر إلى الكوفة، فركب زورقا و مضى من بغداد إلى الكوفة، و أجود ما قاله والبة في أبي العتاهية قوله:

كان فينا يكنى أبا إسحاق *** و بها الرّكب سار في الآفاق

فتكنّى معتوهنا بعتاه *** يا لها كنية أتت باتفاق

خلق اللّه لحية لك لا تن *** فكّ معقودة لدى الحلاّق

و له فيه، و هو ضعيف سخيف من شعره:

قل لابن بائعة القصار(7) *** و ابن الدّوارق و الجرار

ص: 327


1- معتجرا: معتما.
2- الحاذ: الظهر. و خفيف الحاذ: قليل المال. و في ف: خفيف الحال.
3- في ف: تكلمت حينا.
4- الغربيب: الأسود. و القذال: جماع مؤخر الرأس، أو: ما بين نقرة القفا إلى الأذن. و الزرزر: طائر من نوع العصفور؛ سمي بذلك لزرزرته، أي تصويته، و في هب: «زوزر».
5- في ب، س، بيروت: «ألاّ يقبل ما طلب و أن أخلي».
6- في ب: فقال له والبة: فما الرأي عندك؟ فقال: «فضحني»، تحريف.
7- في ف، بيروت: التغار بدل القصار. و التغار: الإجانة.

تهوى عتيبة ظاهرا *** و هواك في أير الحمار

تهجو مواليك الألى *** فكّوك من ذلّ الإسار

والبة و علي بن ثابت

أخبرني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن أبي طاهر قال: حدّثني ابن أبي فنن، قال:

كان والبة بن الحباب خليلا لعليّ بن ثابت، و صديقا و دودا، و فيه يقول:

حيّ بها والبة المصطفى *** حيّ كريما و ابن حرّ هجان

و قاسما نفسي فدت قاسما *** من حدث الموت و ريب الزّمان

/قال: و لمّا مات والبة رثاه، فقال:

بكت البريّة قاطبة *** جزعا لمصرع والبه

قامت لموت أبي أسا *** مة في الرّفاق النّادبة

يقصد أبا بجير الأسدي بالأهواز و يلتقي بأبي نواس

قال: و كان والبة أستاذ أبي نواس، و عنه أخذ و منه اقتبس، قال: و كان والبة قد قصد أبا بجير الأسديّ و هو يتولّى للمنصور الأهواز، فمدحه و أقام عنده، فألفى أبا نواس هناك و هو أمرد، فصحبه و كان حسن الوجه، فلم يزل معه، فيقال: إنه كشف ثوبه ليلة فرأى حمرة أليتيه و بياضهما، فقبّلهما فضرط عليه أبو نواس، فقال له: لم فعلت هذا ويلك، قال: لئلاّ يضيع قول القائل: ما جزاء من يقبّل الاست إلا ضرطة.

والبة و أبو سلهب الشاعر

أخبرني محمّد بن العبّاس اليزيديّ، قال: حدّثني عمّي الفضل، قال: حدّثني أبو سلهب الشاعر، قال:

كان والبة بن الحباب صديقي، و كان ماجنا طبعا، خفيف الرّوح، خبيث الدّين، و كنا ذات يوم نشرب بغمّى، فانتبه/يوما من سكره، فقال لي: يا أبا سلهب، اسمع، ثم أنشدني، قال:

شربت وفاتك مثلي جموح *** بغمّى بالكئوس و بالبواطي(1)

يعاطيني الزّجاجة أريحيّ *** رخيم الدّلّ بورك من معاطي

أقول له على طرب: ألطني *** و لو بمؤاجر علج نباطي

فما خير الشّراب بغير فسق *** يتابع بالزّناء و باللّواط(2)

/جعلت الحجّ في غمّى و بنّا(3) *** و في قطربّل أبدا رباطي

فقل للخمس آخر ملتقانا *** إذا ما كان ذاك على الصّراط

يعني الصّلوات.

قال: و حدثني أنه كان ليلة نائما و أبو نواس غلامه إلى جانبه نائم إذ أتاه آت في منامه، فقال له: أ تدري من

ص: 328


1- البواطي جمع باطية: إناء من زجاج يملأ من الشراب، و يوضع بين الشرب يغترفون منه.
2- في ب، س: «يتابعه زناء أو لواط»، و يكون في الشعر إقواء.
3- غمى و بنا: قريتان من نواحي بغداد («معجم البلدان»).

هذا النائم إلى جانبك؟ قال: لا، قال: هذا أشعر منك و أشعر من الجنّ و الإنس، أما و اللّه لأفتننّ بشعره الثّقلين و لأغرينّ به أهل المشرق و المغرب، قال: فعلمت أنّه إبليس، فقلت له: فما عندك؟ قال: عصيت ربّي في سجدة فأهلكني، و لو أمرني أن أسجد له ألفا لسجدت.

حكم الوادي يغني شعر والبة
اشارة

أخبرني الحسين(1) بن يحيى قال: حدثنا حمّاد بن إسحاق، قال:

قرأت على أبي عن أبيه أنّ حكم الوادي أخبره أنّه دخل على محمّد بن العبّاس يوما بالبصرة و هو يتململ خمارا، و بيده كأس و هو يجتهد في شربها فلا يطيقه، و ندماؤه بين يديه في أيديهم أقداحهم، و كان يوم نيروز(2)، فقال لي: يا حكم غنّني فإن أطربتني فلك كلّ ما أهدي إليّ اليوم(3) قال: و بين يديه من الهدايا أمر عظيم، فاندفعت أغنّي في شعر والبة بن الحباب:

صوت

قد قابلتنا الكئوس *** و دابرتنا النّحوس(4)

/و اليوم هرمزروز(5) *** قد عظّمته المجوس

لم نخطه في حساب *** و ذاك ممّا نسوس

فطرب و استعاده، فأعدته ثلاث مرّات، فشمّرت قدحه(6) و استمرّ في شربه، و أمر بحمل كل ما كان بين يديه إليّ، فكانت قيمته ثلاثين ألف درهم.

لحن حكم الوادي في هذا الشعر هزج بالبنصر عن الهشاميّ و إبراهيم و غيرهما.

صوت

لقد زاد الحياة إليّ حبّا *** بناتي إنّهنّ من الضّعاف

مخافة أن يذقن البؤس بعدي *** و أن يشربن رنقا بعد صاف

و أن يرين إن كسي الجواري *** فيبدي الصّرّ عن هزل عجاف(7)

و لولاهنّ قد سوّمت مهري *** و في الرّحمن للضّعفاء كاف

الشعر لعمران بن حطان فيما ذكر أبو عمرو الشّيبانيّ، و ذكر المدائنيّ أنّه لعيسى الحبطيّ، و كلاهما من الشّراة، و الغناء لمحمّد بن الأشعث الكوفيّ، خفيف رمل بالوسطى من رواية عمرو بن بانة.

ص: 329


1- في ب، ما: الحسن.
2- النيروز عند الفرس: أول يوم من أيام السنة الشمسية.
3- في ب: «فلك كل ما يهدي إلى اليوم».
4- ف: و أدبرتنا.
5- في ب، س: «و اليوم هو نيروز».
6- شعرت: خففت بالماء. و في ب، بيروت، هب: «فشرب».
7- في ب، ف: «كوم عجاف». چ و في هب، بيروت: «كرم عجاف».

8 - أخبار عمران بن حطان و نسبه

نسبه

هو عمران بن حطّان، بن ظبيان بن لوذان، بن عمرو، بن الحارث، بن سدوس، بن شيبان، بن ذهل، ابن ثعلبة، بن عكابة، بن صعب، بن عليّ، بن بكر، بن وائل.

من شعراء الشراة

و قال ابن الكلبيّ: هو عمران، بن حطّان، بن ظبيان، بن معاوية، بن الحارث، بن سدوس(1). و يكنى أبا شهاب(2). شاعر فصيح من شعراء الشّراة(3) و دعاتهم و المقدّمين في مذهبهم، و كان من القعدة(4)؛ لأن عمره طال فضعف عن الحرب و حضورها، فاقتصر على الدّعوة و التحريض بلسانه.

من رواة الحديث

كان قبل أن يفتن بالشّراة مشتهرا بطلب العلم و الحديث، ثم بلي بذلك المذهب فضلّ و هلك، لعنه اللّه، و قد أدرك صدرا من الصحابة، و روى عنهم، و روى عنه أصحاب الحديث. فما روي عنه ما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيديّ، قال: حدّثنا الرّياشيّ، قال: حدثنا أبو الوليد الطّيالسيّ، عن أبي عمرو بن العلاء، عن أبي صالح بن سرح اليشكريّ، عن عمران بن حطّان قال:

كنت عند عائشة فتذاكروا القضاة، فقالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم: «يؤتى بالقاضي العدل، فلا يزال به ما يرى من شدّة الحساب، حتى يتمنى أنّه لم يقض بين اثنين في تمرة».

و كان أصله من البصرة، فلما اشتهر بهذا المذهب طلبه الحجّاج، فهرب إلى الشام، فطلبه عبد الملك، فهرب إلى عمان، و كان ينتقل إلى أن مات في تواريه.

تزوج امرأة من الشراة فأضلته

أخبرني محمّد بن عمران الصّيرفي، قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدّثنا منيع بن أحمد السّدوسيّ، عن أبيه، عن جده، قال:

كان عمران بن حطّان من أهل السّنّة و العلم، فتزوّج امرأة من الشّراة من عشيرته، و قال: أردّها عن مذهبها إلى الحق، فأضلّته و ذهبت به.

ص: 330


1- ف: «... بن ظبيان بن سعد بن معاوية بن سدوس».
2- في ب، بيروت، «المختار»: «و يكنى أبا سماك».
3- الشراة: الخوارج، سموا بذلك لقولهم: إننا شرينا أنفسنا في طاعة اللّه، أي بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة.
4- القعدة: العاجزون.
طلبه الحجاج فهرب منه إلى الشام

و أخبرني بخبره في هربه من الحجاج عمر بن عبد اللّه بن جميل العتكيّ، و محمد بن العباس اليزيديّ، قالا:

حدثنا الرّياشيّ، قال: حدثنا الحكم بن مروان، قال: حدثنا الهيثم بن عديّ قال:

طلب الحجّاج عمران بن حطّان السّدوسيّ، و كان من قعدة الخوارج، فكتب فيه إلى عمّاله و إلى عبد الملك.

و أخبرني بهذا الخبر أيضا الحسن بن عليّ الخفّاف، و محمد بن عمران الصيرفيّ، قالا: حدثنا العنزيّ، قال:

حدّثنا محمد بن عبد الرحمن بن عبد الصّمد الدّارع، قال: حدّثنا أبو عبيدة معمر بن المثنّى، عن أخيه يزيد بن المثنّى: أن عمران بن حطّان خرج هاربا من الحجاج، فطلبه، و كتب فيه إلى عمّاله و إلى عبد الملك، فهرب و لم يزل يتنقّل في أحياء العرب، و قال في ذلك:

حللنا في بني كعب بن عمرو *** و في رعل(1) و عامر عوثبان

و في جرم و في عمرو بن مرّ *** و في زيد و حيّ بني الغدان

عمران و روح بن زنباع

ثم لحق بالشأم فنزل بروح بن زنباع الجذاميّ، فقال له روح: ممّن أنت؟ قال: من الأزد، أزد السّراة(2)، قال: و كان روح يسمر عند عبد الملك فقال له ليلة: يا أمير المؤمنين إنّ في أضيافنا رجلا ما سمعت منك حديثا قط إلاّ حدّثني به و زاد فيما/ليس عندي قال: ممّن هو؟ قال: من الأزد، قال: إني لأسمعك تصف صفة عمران بن حطّان؛ لأنني سمعتك تذكر لغة نزاريّة(3) و صلاة و زهدا و رواية و حفظا، و هذه صفته، فقال روح: و ما أنا و عمران! ثم دعا بكتاب/الحجاج فإذا فيه:

أما بعد، فإنّ رجلا من أهل الشّقاق و النّفاق، قد كان أفسد عليّ أهل العراق و حبّبهم بالشّراية(4)، ثم إني طلبته، فلما ضاق عليه عملي تحوّل إلى الشام، فهو ينتقل في مدائنها، و هو رجل ضرب(5) طوال أفوه أروق(6)، قال: قال روح: هذه و اللّه صفة الرجل الذي عندي. ثم أنشد عبد الملك يوما قول عمران يمدح عبد الرحمن بن ملجم - لعنه اللّه - بقتله عليّ بن أبي طالب، صلوات اللّه عليه:

يا ضربة من كريم ما أراد بها *** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأفكر فيه ثم أحسبه *** أوفى البريّة عند اللّه ميزانا

ثم قال عبد الملك: من يعرف منك قائلها؟ فسكت القوم جميعا، فقال لروح: سل ضيفك عن قائلها، قال:

نعم أنا سائله(7)، و ما أراه يخفى على ضيفي و لا سألته عن شيء قطّ فلم أجده إلاّ عالما به. و راح روح إلى

ص: 331


1- في «المختار»: عك. و في ف: عتك، تحريف، و رعل: قبيلة من سليم.
2- في ب، هب، ف: الشراة. و في «المختار» أزد شنوءة.
3- في ف، «المختار»، «التجريد»: فزارية.
4- في هب، «المختار» و حببهم بالشراة.
5- الضرب: الخفيف اللحم.
6- الأروق: الطويل الأسنان. و في ب، هب، بيروت: «أزرق».
7- في ب: «أنا سائلهم».

أضيافه، فقال: إنّ أمير المؤمنين سألنا عن الذي يقول:

يا ضربة من كريم ما أراد بها *** ............

ثم ذكر الشعر، و سألهم عن قائله، فلم يكن عند أحد منهم علم، فقال له عمران: /هذا قول عمران بن حطّان في ابن ملجم قاتل عليّ بن أبي طالب، قال: فهل فيها غير هذين البيتين تفيدنيه؟ قال:

نعم:

للّه درّ المراديّ الذي سفكت *** كفّاه مهجة شرّ الخلق إنسانا

أمسى عشيّة غشّاه بضربته *** ممّا جناه من الآثام عريانا

- صلوات اللّه على أمير المؤمنين، و لعن اللّه عمران بن حطان و ابن ملجم - فغدا روح فأخبر عبد الملك، فقال: من أخبرك بذلك، فقال: ضيفي، قال: أظنّه عمران بن حطّان، فأعلمه أنّي قد أمرتك أن تأتيني به، قال:

أفعل، فراح روح إلى أضيافه فأقبل على عمران، فقال له: إني ذكرتك لعبد الملك، فأمرني أن آتيه بك، قال: كنت أحبّ ذلك منك، و ما منعني من ذكره إلا الحياء منك، و أنا متّبعك، فانطلق. فدخل روح على عبد الملك، فقال له:

أين صاحبك؟ فقال: قال لي: أنا متّبعك، قال: أظنّك و اللّه سترجع فلا تجده، فلما رجع روح إلى منزله إذا عمران قد مضى، و إذا هو قد خلّف رقعة في كوّة عند فراشه، و إذا فيها يقول:

يا روح كم من أخي مثوى نزلت به *** قد ظنّ ظنّك من لخم و غسّان

حتى إذا خفته فارقت منزله *** من بعد ما قيل: عمران بن حطّان

قد كنت ضيفك حولا لا تروّعني *** فيه الطوارق من انس و لا جان

حتى أردت بي العظمى فأوحشني *** ما أوحش الناس من خوف ابن مروان

فاعذر أخاك ابن زنباع فإنّ له *** في الحادثات هنات ذات ألوان

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن *** و إن لقيت معدّيا فعدناني

لو كنت مستغفرا يوما لطاغية *** كنت المقدّم في سرّي و إعلاني

لكن أبت ذاك آيات مطهّرة *** عند التّلاوة في طه و عمران

نزوله بزفر بن الحارث ثم خروجه من عنده

قال: ثم أتى عمران بن حطّان الجزيرة، فنزل بزفر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا، فجعل شباب/بني عامر يتعجّبون من صلاته و طولها، و انتسب لزفر أوزاعيّا، فقدم على زفر رجل من أهل الشام قد كان رأى عمران بن حطّان بالشام عند روح بن زنباع، فصافحه و سلّم عليه، فقال زفر للشّامي: أتعرفه؟ قال: نعم، هذا شيخ من الأزد، فقال له زفر: أزديّ مرّة و أوزاعيّ أخرى! إن كنت خائفا آمنّاك، و إن كنت عائلا أغنيناك، فقال: إن اللّه هو المغني، و خرج من عنده و هو يقول:

إن الّتي أصبحت يعيا بها زفر *** أعيت عياء على روح بن زنباع(1)

أمسى يسائلني حولا لأخبره *** و الناس من بين مخدوع و خدّاع

ص: 332


1- في «المختار» «عيت عياء» و في ب، س: «... يعني بها زفر... أعيت عناء..».

حتى إذا انجذمت منّي حبائله *** كفّ السّؤال و لم يولع بإهلاعي(1)

فاكفف كما كفّ روح إنّني رجل *** إمّا صريح و إمّا فقعة القاع(2)

أمّا الصّلاة فإني غير تاركها *** كلّ امرئ للّذي يعنى به ساعي

فاكفف لسانك عن هزّي و مسألتي *** ما ذا تريد إلى شيخ لأوزاع!

أكرم بروح بن زنباع و أسرته *** قوما دعا أوّليهم للعلى داعي

جاورتهم سنة فيما دعوت به *** عرضي صحيح و نومي غير تهجاع

فاعمل فإنك منعيّ بحادثة *** حسب اللّبيب بهذا الشيب من ناعي

هروبه من الحجاج إلى روذ ميسان و وفاته بها

ثم خرج فنزل بعمان بقوم يكثرون ذكر أبي بلال مرداس بن أديّة، و يثنون عليه و يذكرون فضله، فأظهر فضله و يسّر أمره عندهم، و بلغ الحجاج مكانه، فطلبه، فهرب فنزل في روذميسان - طسّوج من طساسيج السّواد إلى جانب الكوفة - فلم يزل به حتى مات، و قد كان نازلا هناك على رجل من الأزد، فقال في ذلك:

نزلت بحمد اللّه في خير أسرة *** أسرّ بما فيهم من الإنس و الخفر

نزلت بقوم يجمع اللّه شملهم *** و ما لهم عود سوى المجد يعتصر

من الأزد إنّ الأزد أكرم أسرة *** يمانية قربوا(3) إذا نسب البشر

قال اليزيديّ: الإنس بالكسر: الاستئناس. و قال الرّياشي: أراد قربوا فخفّف، قال:

و أصبحت فيهم آمنا لا كمعشر *** بدوني(4) فقالوا من ربيعة أو مضر

أو الحيّ قحطان و تلك سفاهة *** كما قال لي روح و صاحبه زفر

و ما منهم إلا يسرّ بنسبة *** تقرّبني(5) منهم و إن كان ذا نفر

فنحن بنو الإسلام و اللّه واحد(6) *** و أولي عباد اللّه باللّه من شكر

أخبرنا اليزيديّ قال: حدثنا الرّياشيّ قال: حدّثنا الأصمعيّ عن المعتمر بن سليمان قال:

كان عمران بن حطّان رجلا من أهل السنة، فقدم عليه غلام من عمان كأنه نصل، فقلبه عن مذهبه في مجلس واحد.

/أخبرني اليزيديّ، قال: حدثنا الرّياشيّ، قال: حدّثنا مسدّد بن مسرهد، قال: حدّثنا بشر بن المفضّل، عن سلمة(7) بن علقمة، عن محمد بن سيرين، و أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا الحسن(8) بن عليل العنزيّ،

ص: 333


1- الإهلاع: الإفزاع و الترويع.
2- يقال لمن لا أصل له: هو فقعة القاع.
3- في «المختار»: «تعلو».
4- في بيروت: «أتوني». و في «المختار»: «بدوا بي».
5- في ب: «تصيرني».
6- في «المختار»: «و اللّه ربنا».
7- في ب، س: «مسلم».
8- في ب: «الحسين»، تحريف.

قال: حدثنا عمرو بن عليّ القلاّس، /و عباس العنبريّ، و محمد بن عبد اللّه المخزوميّ، قالوا: حدّثنا عبد الرحمن ابن مهديّ، عن بشر بن المفضّل، عن سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال:

تزوّج عمران بن حطّان امرأة من الخوارج فقيل له فيها، فقال: أردّها عن مذهبها فذهبت هي به.

خارجي يتخلف عن الخروج و يتمثل بشعر لعمران

نسخت عن بعض الكتب: حدّثنا المدائنيّ، عن جويرية قال:

كتب عيسى الحبطيّ إلى رجل منهم يقال له أبو خالد، كان تخلّف عن الخروج مع قطريّ أو غيره منهم:

أبا خالد أنفر فلست بخالد *** و ما ترك الفرقان عذرا لقاعد

أ تزعم أنّا الخارجون على الهدى(1) *** و أنت مقيم بين لصّ و جاحد!

فكتب إليه: ما منعني عن الخروج إلاّ بناتي و الحدب(2) عليهن حين سمعت عمران بن حطّان يقول:

لقد زاد الحياة إليّ حبّا *** بناتي إنّهن من الضّعاف

و لو لا ذاك قد سوّمت مهري *** و في الرّحمن للضّعفاء كاف

/قال: فجلس عيسى يقرأ الأبيات و يبكي، و يقول: صدق أخي، إنّ في ذلك لعذرا له، و إنّ في الرحمن للضعفاء كافيا.

الأخطل يرى أن عمران أشعر الشعراء

و قال هارون: أخذت من خط أبي عدنان: أخبرني أبو ثروان الخارجيّ، قال: سمعت أشياخ الحيّ يقولون:

اجتمعت الشعراء عند عبد الملك بن مروان فقال لهم: أبقي أحد أشعر منكم؟ قالوا: لا. فقال الأخطل:

كذبوا يا أمير المؤمنين، قد بقي من هو أشعر منهم، قال: و من هو؟ قال عمران بن حطّان، قال: و كيف صار أشعر منهم؟ قال: لأنه قال و هو صادق ففاتهم، فكيف لو كذب كما كذبوا!.

الحجاج يتحصن من غزالة الحرورية و عمران يتهكم عليه

أخبرنا الحسن بن عليّ قال: حدثنا ابن مهرويه عن ابن أبي سعد، عن أحمد بن محمد بن عليّ بن حمزة الخراسانيّ، عن محمد بن يعقوب بن عبد الوهاب، عن يحيى بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن القارئ، عن الزّهريّ، عن أبيه:

أنّ غزالة الحروريّة(3)، لما دخلت على الحجاج هي و شبيب الكوفة، تحصّن منها و أغلق عليه قصره، فكتب إليه عمران بن حطّان، و قد كان الحجاج لجّ في طلبه، قال:

أسد عليّ و في الحروب نعامة *** ربداء تجفل من صفير الصافر(4)

هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى *** بل كان قلبك في جناحي طائر

ص: 334


1- في هب، ب، «التجريد»: «أ تزعم أن الخارجين على الهدى».
2- في ب، هب: «و الحرب».
3- الحرورية: فرقة من الخوارج ينسبون إلى حروراء: قرية بقرب الكوفة، كان أول اجتماعهم بها و تعمقوا في أمر الدين حتى مرقوا منه.
4- ربداء: مقيمة. تجفل: تهرب.

صدعت غزالة قلبه بفوارس *** تركت مدابره كأمس الدّابر

ثم لحق بالشام فنزل على روح بن زنباع.

عمران يصير حروريّا

أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ، قال: حدّثنا محمد بن خالد أبو حرب، قال: حدثنا محمد بن عبّاد المهلبيّ، قال: حدثنا جرير بن حازم، قال:

كان عمران بن حطّان أشدّ الناس خصومة للحروريّة حتى لقيه أعرابيّ حروريّ فخاصمه فخصمه فصار عمران حروريّا، و رجع عن رأيه.

قال جرير بن حازم: كان الفرزدق يقول: لقد أحسن بنا ابن حطّان حيث لم يأخذ فيما أخذنا فيه، و لو أخذ فيما أخذنا فيه لأسقطنا؛ يعني لجودة شعره.

لا يقول أحد من الشعراء شعرا إلا نسب إليه لشهرته

نسخت من كتاب ابن سعد قال: أخبرني الحسن بن عليل العنزيّ، قال: أخبرني أحمد/بن عبد اللّه بن سويد بن منجوف السّدوسيّ، قال: أخبرني أحمد بن مؤرّج، عن أبيه قال: حدثني به تميم بن سوادة، و هو ابن أخت مؤرّج، قال: حدثني أبو العوّام السّدوسيّ، قال:

كان مالك المذموم(1) رجلا من بني عامر بن ذهل، و كان من الخوارج، و كان الحجّاج يطلبه. قال أبو العوّام: فدخلت عليه يوما و هو في تواريه، فأنشدني يقول:

أ لم يأن لي يا قلب أن أترك الصّبا *** و أن أزجر النفس اللّجوج عن الهوى

و ما عذر من يعمى و قد شاب رأسه *** و يبصر أبواب الضّلالة و الهدى

و لو قسم الذّنب الذي قد أصبته *** على النّاس خاف النّاس كلّهم الرّدى

فإن جنّ ليل كنت باللّيل نائما(2) *** و أصبح بطّال العشيّات و الضّحى

قال: فلما فرغ من إنشادها قال: سيغلبني عليها صاحبكم، يعني عمران بن حطّان، فكان كذلك، لمّا شاعت رواها الناس لعمران، و كان لا يقول أحد من الشّعراء شعرا إلاّ نسب إليه لشهرته إلاّ من كان مثله في الشّهرة مثل قطريّ/و عمرو القنا(3) و ذويهما، قال: ثم هرب إلى اليمامة من الحجّاج، فنزل بحجر، فأتاه آل حكّام الحنفيّون(4)، فقال:

طيّروني من البلاد و قالوا *** مالك النّصف(5) من بني حكّام

ناق سيري قد جدّ حقّا(6) بنا السّ *** ير و كوني جوّالة في الزّمام

ص: 335


1- في بيروت: المزموم. و في ب: المرموم.
2- في هب: «... كنت بالليل قائما». و في ب، بيروت: «و إن جن ليل كان بالليل نائما».
3- في ب: «عمرو الغناء».
4- في ب: «فأداه إلى بني حكام الحنفيون»، تحريف.
5- النصف «بكسر النون و تفتح و تضم»: اسم بمعنى الإنصاف.
6- في ب: قد جد خفيّا.

فمتى تعلقي(1) يد الملك الأس *** ود تستيقني بألاّ تضامي

قد أراني و لي من الحاكم النّص *** ف بحدّ السّنان أو بالحسام

قال: و الملك الأسود إبراهيم بن عربيّ والي اليمامة لعبد الملك، و كان ابن حكّام على شرطته قال:

و منينا بطمطم(2) حبشيّ *** حالك الوجنتين من آل حام

لا يبالي إذا تضلّع خمرا *** أ بحلّ رماك أم بحرام(3)

قال العنزيّ: فأخبرني محمد بن إدريس بن سليمان بن أبي حفصة، عن أبيه، قال: كان مالك المذموم من أحسن الناس قراءة للقرآن، فقرأ ذات ليلة فسمعت قراءته امرأة من آل حكّام(4) فرمت بنفسها من فوق سطح كانت عليه، فسمع الصوت أهلها، فأتوه فضربوه ضربات، فاستعدى عليهم إبراهيم بن عربيّ، و كان عبد اللّه/بن حكّام على شرطته فلم يعده(5) عليهم، فهجاه بالأبيات الماضية، و هجاه بقصيدته التي أوّلها:

دار سلمى بالجزع ذي الآطام *** خبّرينا سقيت صوب الغمام

و هي طويلة ينسبونها أيضا إلى عمران بن حطّان.

الفرزدق يعترف بتفوقه و نبوغه

أخبرني أحمد بن الحسين الأصبهانيّ ابن عمّي قال: حدّثني أبو جعفر بن رستم الطبريّ النّحويّ، قال: حدثنا أبو عثمان المازنيّ، قال: حدّثنا عمرو بن مرّة(6)، قال:

مرّ عمران بن حطّان على الفرزدق و هو ينشد و الناس حوله، فوقف عليه، ثم قال:

أيّها المادح العباد ليعطى *** إنّ للّه ما بأيدي العباد

فاسأل اللّه ما طلبت إليهم *** و ارج فضل المقسّم العوّاد

/لا تقل في الجواد ما ليس فيه *** و تسمّي البخيل باسم الجواد

فقال الفرزدق: لو لا أنّ اللّه عز و جل شغل عنا هذا برأيه للقينا منه شرّا.

مسلمة بن عبد الملك يبكيه شعر لعمران

و قال هارون بن الزّيّات: أخبرني عبد الرحمن بن موسى الرّقيّ، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن حميد بن سليمان بن حفص بن عبد اللّه بن أبي جهم بن حذيفة بن غانم العدويّ (7)، قال: حدثنا يزيد بن مرة، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عن عيسى بن يزيد بن بكر المدنيّ، قال:

اجتمع عند مسلمة بن عبد الملك ناس من سمّاه، فيهم عبد اللّه بن عبد الأعلى الشّاعر، فقال مسلمة: أيّ بيت

ص: 336


1- في ب: «تلقني». و في هب: «نلتقي»، و سقط البيت الثاني منها.
2- رجل طمطم كزبرج: في لسانه عجمة.
3- تضلع: امتلأ. و في ف، بيروت: «بحلال رماك...».
4- في ب: «من آل حام».
5- لم يعده: لم ينصره.
6- في ب، هب: «عمرو بن ترمذة».
7- في ب: «... بن سديفة بن هاشم العدوي» بدلا من «حذيفة بن غانم العدوي».

قالته العرب أوعظ و أحكم؟ فقال له عبد اللّه قوله:

صبا ما صبا حتى علا الشّيب رأسه *** فلما علاه قال للباطل ابعد

/فقال مسلمة: إنّه و اللّه ما وعظني شعر قطّ كما وعظني شعر ابن حطّان حيث يقول:

فيوشك يوم أن يقارن ليلة *** يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا

فقال بعض من حضر: و اللّه لقد سمعته أجّل الموت ثم أفناه، و ما صنع هذا غيره، فقال مسلمة: و كيف ذاك؟ قال: قال:

لا يعجز الموت شيء دون خالقه *** و الموت فان إذا ما ناله الأجل

و كلّ كرب أمام الموت متّضع *** للموت، و الموت فيما بعده جلل

فبكى مسلمة حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: ردّدهما عليّ، فردّدهما عليه حتى حفظهما.

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدثنا منيع بن أحمد بن مؤرّج السّدوسيّ، عن أبيه، عن جدّه، قال:

تزوج عمران بن حطّان حمزة بنت عمه ليردّها عن مذهب الشّراية، فذهبت به إلى رأيهم، فجعل يقول فيها الشعر، فممّا قال فيها:

يا حمز إنّي على ما كان من خلقي *** مثن بخلاّت صدق كلّها فيك

اللّه يعلم أنّي لم أقل كذبا *** فيما علمت و أنّي لا أزكّيك

امرأته تتهمه بالكذب في شعره فيرد اتهامها
اشارة

أخبرني الحسن، قال: حدثنا محمد بن موسى، و حدثني بعض أصحابنا، عن العمريّ، عن الهيثم بن عديّ:

أنّ امرأة عمران بن حطّان قالت له: أ لم تزعم أنّك لا تكذب في شعرك؟ قال: بلى، قالت: أ فرأيت قولك:

و كذاك مجزأة بن ثو *** ر كان أشجع من أسامة

أ يكون رجل أشجع من الأسد؟ قال: نعم، إنّ مجزأة بن ثور فتح مدينة كذا، و الأسد لا يقدر على فتح مدينة.

صوت

نديميّ قد خفّ الشّراب و لم أجد *** له سورة في عظم رأسي و لا جلدي

نديميّ هذي غبّهم فاشربا بها *** و لا خير في شرب يكون على صرد(1)

الشعر لعمار بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ، و الغناء لابن سريج خفيف ثقيل.

ص: 337


1- سقاه الخمر صردا، أي صرفا. و في ف، بيروت: «على حرد».

9 - أخبار عمارة بن الوليد و نسبه

نسبه

عمارة بن الوليد، بن المغيرة، بن عبد اللّه، بن مخزوم، بن يقظة، بن مرّة، بن كعب، بن لؤيّ، بن غالب، و هو أحد أزواد الرّكب(1)، و يقال له الوحيد، و كان أزواد الرّكب لا يمرّ عليهم أحد إلا قروه و أحسنوا ضيافته، و زوّدوه ما يحتاج إليه لسفره، و كان عمارة بن الوليد فخورا معنّا(2) متعرّضا لكل ذي عارضة من قريش، فأخبرني عمّي قال: حدّثنا عبد اللّه بن شبيب، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، عن الحزاميّ، قال:

مرّ عمارة بن الوليد بمسافر بن عمرو، فوقف عليه و هو منتش، فقال:

خلق البيض الحسان لنا *** و جياد الرّيط و الأزر

كابرا كنّا أحقّ به *** حين صيغ الشّمس و القمر

فأجابه مسافر بن عمرو بن أميّة، فقال:

أعمار بن الوليد لقد *** يذكر الشّاعر من ذكره(3)

هل أخو كأس مخفّفها *** و موقّ صحبه سكره

و محيّيهم إذا شربوا *** و مقلّ فيهم هذره

خلق البيض الحسان لنا *** و جياد الرّيط و الحبره

كابرا كنّا أحقّ به *** كلّ حيّ تابع أثره

يعود إلى الشراب بعد أن عاهد امرأته على تركه

أخبرني عمّي قال: حدثنا الكرانيّ، قال: حدّثنا العمريّ، عن الهيثم بن عديّ/عن حمّاد الراوية: أنّ عمارة بن الوليد خطب امرأة من قومه فقالت: لا أتزوّجك أو تترك الشّراب و الزّنا، قال: أما الزّنا فأتركه، و أما الشّراب فلا أتركه و لا أستطيع. ثم اشتدّ وجده بها فحلف ألاّ يشرب، فتزوجها و مكث حينا لا يشرب، ثم إنه لبس ذات يوم حلّته و ركب ناقته و خرج يسير، فمر بخمّار و عنده شرب يشربون، فدعوه فدخل عليهم و قد أنفدوا ما عندهم، فقال للخمّار: أطعمهم ويلك، فقال: ليس عندي شيء، فنحر لهم ناقته، فأكلوا منها، فقال: اسقهم، و لم يكن معهم شيء يشربون به، فسقاهم ببردته، و مكثوا أياما ذوات عدد، ثم خرج فأتى أهله، فلما رأته امرأته،

ص: 338


1- في «القاموس» (زود): أزواد الركب: مسافر بن أبي عمرو، و زمعة بن الأسود، و أبو أمية بن المغيرة؛ لأنه لم يكن يتزود معهم أحد في سفر، يطعمونه و يكفونه الزاد».
2- المعن: من يدخل فيما لا يعنيه و يعرض في كل شيء. و في «المختار»: «متعرضا لكل من عارضه من قريش». و في ف: معيا. و في بيروت: معييا.
3- ف، «المختار»، بيروت: «يذكر الإنسان من ذكره».

قالت له: أ لم تحلف ألاّ تشرب؟ و لامته، فقال:

و لسنا بشرب أمّ عمرو(1) إذا انتشوا *** ثياب النّدامى عندهم كالغنائم

و لكنّنا يا أمّ عمرو نديمنا *** بمنزلة الرّيّان ليس بعائم

أسرّك لما صرّع القوم نشوة *** أن أخرج منها سالما غير غارم

خليّا كأنّي لم أكن كنت فيهم *** و ليس الخداع مرتضى في التّنادم

ملاحاة بينه و بين عمرو بن العاص

[أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن محمد بن قادم مولى بني هاشم، قال: حدثني عمي: أحمد بن جعفر، عن ابن دأب، قال:

قدم رجل من تجار الروم بحلّة من لباس قيصر على أهل مكة، فأتى بها عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ، فعرضها عليه بمائة حقّ من الإبل، فاستغلاها، فأتى بها عمرو بن العاص، فقال له: هل أتيت بها أحدا؟ قال: نعم، عمارة بن الوليد فاستغلاها و قال: لن تعدم لها غويّا من بني سهم، قال: قد أخذتها، فاشتراها بمائة حقّ، يعني مائة بعير، ثم أقبل يخطر فيها حتى أتى بني مخزوم، فناداه عمارة: أ تبيع الحلّة يا عمرو؟ فغضب و التفت إلى عمارة، فقال:

/عليك بجزّ رأس أبيك إنّا *** كفيناك المسهّمة(2) الرّقاقا

زووها(3) عنكم و غلت عليكم *** و أعطينا بها مائة حقاقا

و قلتم: لا نطيق ثياب سهم *** و كلّ سوف يلبس ما أطاقا

قال: فغضب عمارة و قال: يا عمرو، ما هذا التّهوّر؟ إنك لست بعتبة بن ربيعة، و لا بأبي سفيان بن حرب، و لا الوليد بن المغيرة، و لا سهيل بن عمر، و لا أبيّ بن خلف، فقال عمرو: إلاّ أكن بعضهم فإن كلّ واحد منهم خير ما فيه فيّ: من عتبة حلمه، و من أبي سفيان رأيه، و من سهيل جوده، و من أبيّ بن خلف نجدته، و أما الوليد فو اللّه ما أحب أنّ فيّ كلّ ما فيه من خير و شر، و لكنك و اللّه مالك عقل الوليد، و لا بأس الحارث بن هشام و خالد بن الوليد، و لا لسان أبي الحكم، يعني أبا جهل. و انصرف، فأمر عمارة بجزور فنحرت على طريق عمرو، و أقبل عمرو فقال: لمن هذه الجزور؟ قيل: لعمارة، فقال له: أطعمنا منها يا عمارة، فضحك منه، ثم قال:

عليك بجزر أير أبيك إنا *** كفيناك المشاشة و العراقا(4)

و منسبة الأطايب من قريش *** و لم تر كأسنا إلاّ دهاقا

و نلبس في الحوادث كلّ زغف(5) *** و عند الأمن أبرادا رقاقا

فوقع الشرّ بينهم، فقال عمرو:

ص: 339


1- في ب، ما: «أم عوف».
2- سهّم الثوب و غيره: صور فيه سهاما، فهو مسهم.
3- زووها عنكم: صرفوها و نحّتوها.
4- المشاشة: رأس العظم اللين الذي يمكن مضغه. و العراق: العظم أكل لحمه.
5- الزغف: الدرع الواسعة الطويلة.

لعمر أبيك و الأخبار تنمي *** لقد هيّجتني يا ابن الوليد

فلا تعجل عمارة إنّ سهما *** لمخزوم بن يقظة في العديد

و أورد يا عمارة إنّ عودي *** من أعواد الأباطح خير عود

/فأجابه عمارة، فقال:

ألا يا عمرو هل لك في قريش *** أب مثل المغيرة و الوليد

و جدّ مثل عبد اللّه ينمي *** إلى عمرو بن مخزوم بعود

إذا ما عدّت الأعواد نبعا *** فما لي في الأباطح من نديد

و قد علمت سراة بني لؤيّ *** بأنّي غير مؤتشب زهيد

و إني للمنابذ من قريش *** شجا في الحلق من دون الوريد

أحوط ذمارهم(1) و أكفّ عنهم *** و أصبر في وغا اليوم الشّديد

و أبذل ما يضنّ به رجال *** و تطعمني المروءة في المزيد

و إنك من بني سهم بن عمرو *** مكان الرّدف من عجز القعود

و كان أبوك جزّارا... و كانت *** له فأس و قدر من حديد(2)]

أخبرني عمّي قال: حدّثنا الكرانيّ، عن العمريّ، عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، أنّ عمر بن الخطاب قسم برودا في المهاجرين.

عمر بن الخطاب يتمثل بشعره
اشارة

قال العمريّ: هكذا ذكر أبو عوانة، و قد حدثني الهيثم، عن أبي يعقوب الثّقفيّ، عن عبد الملك بن عمير، قال: أخبرني من شهد ذلك:

أن عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزوميّ بعث إلى عمر بن الخطاب بحلل من اليمن، فقال عمر: عليّ بالمحمّدين، فأتي بمحمد بن أبي بكر، و محمد بن جعفر بن أبي طالب، و محمد بن طلحة بن عبيد اللّه، و محمد بن/عمرو بن حزم، و محمد بن حاطب بن أبي بلتعة، و محمد بن حطّاب(2) أخي حاطب، و كلهم سمّاه النبي صلّى اللّه عليه و سلم محمدا، فأقبلوا، فاطّلع محمد بن حطّاب(3)/فيها، فقال له عمر: يا شيبة معمر - يعني عمّا له قتل يوم بدر - اكفف، و كان زيد بن ثابت الأنصاريّ عنده، فقال له عمر: أعطهم حلّة حلّة، فنظر إلى أفضلها، و كانت أمّ أحدهم عنده، فقال عمر: ما هذا؟ فقال: هذه لفلان، الذي هو ربيبه، فقال عمر: أردده، و تمثل بقول عمار بن الوليد:

أسرّك لمّا صرّع القوم نشوة *** أن اخرج منها سالما غير غارم

خليّا كأني لم أكن كنت فيهم *** و ليس الخداع مرتضى في التّنادم(4)

ص: 340


1- أحوط ذمارهم: أحفظ ما يلزمني حفظه و الدفاع عنه. (2-2) انفردت نسخة بهذا الخبر من ص 123-125 طبعة دار الكتب.
2- في ب: «محمد بن حاطب».
3- في ب: «فاطلع على محمد بن حطاب»، تصحيف.
4- في ما: «و ليس الخداع مرتضى في التراتم».

و قال أبو عوانة:..... من تصافي التنادم.

ثم أمر بالبرود فغطّيت بثوب، ثم خلطها(1)، ثم قال: ليدخل كلّ امرئ يده فليأخذ حلّته و ما قسم له.

صوت

قد يجمع المال غير آكله *** و يأكل المال غير من جمعه

فاقبل من الدّهر ما أتاك به *** من قرّ عينا بعيشه نفعة

لكلّ همّ من الهموم سعه *** و الصّبح و المسي لا فلاح معه(2)

الشعر للأضبط بن قريع، و الغناء لأحمد بن يحيى المكّي، ثقيل أول بالسّبابة في مجرى البنصر من روايته، و سمعناه يغني في طريقة خفيف رمل، فسألت عنه ذكاء وجه الرّزّة، فذكر أنه سمعه من محمد بن يحيى المكيّ في هذه الطريقة، و لم يعرف صانعه و لا سأل عنه.

ص: 341


1- في ب، س، بيروت: خللها.
2- في ف، «المختار»: «لا بقاء معه».

10 - أخبار الأضبط و نسبه

كان الأضبط مفركا

أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني عبد اللّه بن طاهر، قال: قال أبو محلّم: أخبرني ضرار(1) بن عيينة، أحد بني عبد شمس، قال:

كان الأضبط بن قريع مفرّكا(2)، و كان إذا لقي في الحرب تقدم أمام الصف، ثم قال:

أنا الذي تفركه حلائله *** أ لا فتى معشّق أنازله!

قال: فاجتمع نساؤه ذات ليلة يسمرن، فتعاقدن على أن يصدقن الخبر عن فرك الأضبط، فأجمعن أن ذلك لأنه بارد الكمرة، فقالت لإحداهنّ خالتها: أ تعجز إحداكنّ إذا كانت ليلته منها أن تسخن كمرته بشيء من دهن؟ فلما سمع قولها صاح: يا آل عوف، يا آل عوف، فثار الناس و ظنوا أنه قد أتى، فقال: أوصيكم بأن تسخنوا الكمرة فإنه لا حظوة لبارد الكمرة، فانصرفوا يضحكون، و قالوا: تبّا لك، أ لهذا دعوتنا!.

شعره فيمن خالفوه

قال أبو محلّم: كانت أمّ الأضبط عجيبة(3) بنت دارم بن مالك بن حنظلة، و خالته الطّموح(4) بنت دارم أم جشم و عبشمس(5) ابني كعب بن سعد، فحارب بنو الطّموح قوما من بني سعد، فجعل الأضبط يدسّ إليهم الخيل و السلاح و لا يصرّح بنصرتهم خوفا من أن يتحزّب قومه حزبين معه و عليه، و كان يشير عليهم/بالرأي فإذا أبرمه نقضوه و خالفوا عليه، و أروه مع ذلك أنهم على رأيه، فقال في ذلك:

/لكل همّ من الهموم سعه *** و المسي و الصّبح لا فلاح معه(6)

لا تحقرنّ الفقير علّك أن *** تركع يوما و الدهر قد رفعه(7)

وصل حبال البعيد إن وصل الحب *** ل و أقص القريب إن قطعه

قد يجمع المال غير آكله *** و يأكل المال غير من جمعه

ص: 342


1- في ف، بيروت: صبار.
2- المفرك: المتروك المبغض.
3- في ب، هب، «المختار»: عجبة.
4- في ب، هب: الطم بنت دارم.
5- في ف، بيروت: «... بن جشم و عبد شمس».
6- صدر البيت في «الشعر و الشعراء» 226، ط ليدن: «يا قوم من عاذري من الخدعة». و في «الخزانة» 4-591: «لكل ضيق من الأمور سعه»، و في «المختار»: «لا بقاء معه» بدل: «لا فلاح معه».
7- في «الشعر و الشعراء» 226: «لا تهين الفقير... أن تخشع».

ما بال من غيّه مصيبك لا *** يملك شيئا من أمره وزعه(1)

حتى إذا ما انجلت غوايته *** أقبل يلحى و غيّه فجعه

أذود عن نفسه و يخدعني *** يا قوم من عاذري من الخدعه

فاقبل من الدّهر ما أتاك به(2) *** من قرّ عينا بعيشه نفعه

نشوز امرأته عليه و شعره في ذلك

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا الخراز عن المدائنيّ، قال:

كان الأضبط بن قريع قد تزوج امرأة على مال و وصيفة، فنشزت عليه، ففارقها و لم يعطها ما كان ضمن لها، فلما احتملت أنشأ يقول:

أ لم ترها بانت بغير وصيفة *** إذا ما الغواني صاحبتها الوصائف

و لكنها بانت شموس بزيّة *** منعّمة الأخلاق حدباء شارف

لو أنّ رسول اللّه و سلّم واقفا *** عليها لرامت وصله و هو واقف

أبو عبيدة و خلف لا يعرفان إلا بيتا و عجز بيت من قصيدة له
اشارة

أخبرنا وكيع قال: حدثنا ابن أبي سعيد(3)، قال:

حدثنا الجمّاز، قال: أنشدت أبا عبيدة و خلفا الأحمر شعر الأضبط:

وصل حبال البعيد إن وصل الحب *** ل و أقص القريب إن قطعه

فما عرفا منه إلا بيتا و عجز بيت، فالبيت الذي عرفاه:

فاقبل من الدّهر ما أتاك به *** .......

و العجز:

يا قوم من عاذري من الخدعة

و الخدعة: قوم من بني سعد(4) بن زيد مناة بن تميم.

صوت

و ما أنا في أمري و لا في خصومتي *** بمهتضم حقّي و لا قارع سنّي(5)

و لا مسلم مولاي عند جناية *** و لا خائف مولاي من شرّ ما أجني

الشعر لأعشى بني ربيعة، و الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى، عن عمرو.

ص: 343


1- وزعه: كفه.
2- في «سمط اللآلي» 326/1: «و اقنع من الدهر...».
3- في ب: سعيد. و في هب: ابن سعد.
4- في «سمط اللآلي» 1-327: قوم من سعد....
5- ف: «قرني». و في «سمط اللآلي» 906: «و لا سالم قرني».

11 - أخبار الأعشى و نسبه

نسبه

الأعشى اسمه عبد اللّه بن خارجة بن حبيب بن قيس بن عمرو بن حارثة بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة الحصين بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بين جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار: شاعر إسلامي من ساكني الكوفة، و كان مروانيّ المذهب، شديد التعصب لبني أمية.

قدومه على عبد الملك

أخبرني محمد بن العباس اليزيديّ قال: حدثنا عمّي محمد بن عبيد اللّه عن محمد بن حبيب(1)، و أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، عن عمه العباس بن هشام، عن أبيه، قالا:

قدم أعشى بني ربيعة على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما الذي بقي منك؟ قال: أنا الذي أقول:

/و ما أنا في أمري و لا في خصومتي *** بمهتضم حقّي و لا قارع سنّي

و لا مسلم مولاي عند جناية *** و لا خائف مولاي من شر ما أجني

و إن فؤادي بين جنبيّ عالم *** بما أبصرت عيني و ما سمعت أذني

و فضّلني في الشّعر و اللّبّ أنّني *** أقول على علم و أعرف من أعني

فأصبحت إذ فضّلت مروان و ابنه *** على الناس قد فضّلت خير أب و ابن

فقال عبد الملك: من يلومني على هذا؟ و أمر له بعشرة آلاف درهم، و عشرة تخوت/ثياب، و عشر فرائض من الإبل، و أقطعه ألف جريب(2)، و قال له: امض إلى زيد الكاتب يكتب لك بها، و أجرى له على ثلاثين عيّلا(3)فأتى زيدا فقال له: ائتني غدا، فأتاه فجعل يردّده، فقال له:

يا زيد يا فداك كلّ كاتب *** في الناس بين حاضر و غائب

هل لك في حقّ عليك واجب *** في مثله يرغب كلّ راغب

و أنت عفّ طيّب المكاسب *** مبرّأ من عيب كلّ عائب

و لست - إن كفيتني(4) و صاحبي *** طول غدوّ و رواح دائب

ص: 344


1- و حبيب أمه، و انظر «تحفة الأبيه فيمن نسب إلى غير أبيه».
2- الجريب من الأرض: ثلاثة آلاف و ستمائة ذراع، و قيل: عشرة آلاف ذراع.
3- عيل الرجل: أهل بيته الذين يتكفل بهم من أزواج و أولاد و أتباع.
4- في ف: كلفتني.

و سدّة الباب(1) و عنف الحاجب *** - من نعمة أسديتها بخائب

فأبطأ عليه زيد، فأتى سفيان بن الأبرد الكلبيّ، فكلّمه سفيان فأبطأ عليه، فعاد إلى سفيان، فقال له:

عد إذ بدأت أبا يحيى فأنت لها *** و لا تكن حين هاب النّاس هيّابا(2)

و اشفع شفاعة أنف لم يكن ذنبا *** فإنّ من شفعاء النّاس أذنابا

فأتى سفيان زيدا الكاتب فلم يفارقه حتى قضى حاجته.

بحث عبد الملك على الخروج لمحاربة ابن الزبير

قال محمد بن حبيب: دخل أعشى بني أبي ربيعة(3) على عبد الملك و هو يتردد في الخروج لمحاربة ابن الزبير و لا يجدّ، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما لي أراك متلوّما ينهضك الحزم و يقعدك العزم، و تهم بالإقدام و تجنح إلى الإحجام، انقد لبصيرتك/و أمض رأيك، و توجّه إلى عدوّك، فجدّك مقبل، و جدّه مدبر، و أصحابه له ماقتون، و نحن لك محبّون، و كلمتهم مفترقة، و كلمتنا عليك مجتمعة، و اللّه ما تؤتى من ضعف جنان، و لا قلّة أعوان، و لا يثبّطك عنه ناصح، و لا يحرّضك عليه غاشّ، و قد قلت في ذلك أبياتا فقال: هاتها، فإنك تنطق بلسان ودود و قلب ناصح، فقال:

آل الزّبير من الخلافة كالّتي *** عجل النّتاج بحملها فأحالها

أو كالضّعاف من الحمولة حمّلت *** ما لا تطيق فضيّعت أحمالها

قوموا إليهم لا تناموا عنهم *** كم للغواة أطنتموا إمهالها(4)

إنّ الخلافة فيكم لا فيهم *** ما زلتم أركانها و ثمالها(5)

أمسوا على الخيرات قفلا مغلقا(6) *** فانهض بيمنك فافتتح أقفالها

فضحك عبد الملك، و قال: صدقت يا أبا عبد اللّه، إنّ أبا خبيب لقفل دون كل خير، و لا نتأخّر عن مناجزته إن شاء اللّه، و نستعين اللّه عليه، و هو حسبنا و نعم الوكيل، و أمر له بصلة سنية.

جفاء الحجاج ثم سر بكلامه

/قال ابن حبيب: كان الحجّاج قد جفا الأعشى و اطّرحه لحالة كانت عند بشر بن مروان، فلما فرغ الحجّاج من حرب الجماجم ذكر فتنة ابن الأشعث، و جعل يوبّخ أهل العراق، و يؤنّبهم، فقال من حضر من أهل البصرة: إنّ الرّيب و الفتنة بدئا من أهل الكوفة، و هم أول من خلع الطاعة و جاهر بالمعصية، فقال أهل الكوفة: لا، بل أهل البصرة أوّل من أظهر المعصية مع جرير بن هميان السّدوسيّ، إذ جاء مخالفا من السّند(7). و أكثروا من ذلك، فقام

ص: 345


1- في ف: و شدة الباب.
2- في ب: «... و لا تكن من كلام الناس هيابا».
3- في أ، ف: «أعشى بني ربيعة»، و يقال له أعشى بني ربيعة نسبة إلى ربيعة بن نزار، و أعشى بني أبي ربيعة نسبة إلى أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان».
4- في ف: إهمالها.
5- ثمالها: غياثها.
6- في ف: موثقا.
7- في ب: «إذ جاء من الهند».

أعشى بني أبي ربيعة، فقال: أصلح اللّه الأمير/لا براءة من ذنب، و لا ادّعاء على اللّه في عصمة لأحد من المصرين، قد و اللّه اجتهدوا جميعا في قتالك، فأبى اللّه إلاّ نصرك؛ ذلك أنهم جزعوا و صبرت، و كفروا و شكرت، و غفرت إذ قدرت، فوسعهم عفو اللّه و عفوك فنجوا، فلولا ذلك لبادوا و هلكوا، فسرّ الحجّاج بكلامه و قال له جميلا، و قال: تهيّأ للوفادة إلى أمير المؤمنين حتى يسمع هذا منك شفاها، انتهى.

اعتذاره للحجاج من رثائه عبد اللّه بن الجارود

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال: بلغ الحجّاج أنّ أعشى بني أبي ربيعة رثى عبد اللّه بن الجارود، فغضب عليه، فقال يعتذر إليه:

أبيت كأنّي من حذار ابن يوسف *** طريد دم ضاقت عليه المسالك

و لو غير حجّاج أراد ظلامتي *** حمتني من الضّيم السّيوف الفواتك

و فتيان صدق من ربيعة قصرة *** إذا اختلفت يوم اللّقاء النّيازك(1)

يحامون عن أحسابهم بسيوفهم *** و أرماحهم و اليوم أسود حالك

مدحه عبد الملك بن مروان

أخبرني أبو الحسن الأسديّ، قال: حدّثني أحمد بن عبد اللّه بن عليّ (2) بن سويد بن منجوف، عن ابن مؤرّج، عن أبيه، قال:

دخل أعشى بني أبي ربيعة على عبد الملك بن مروان، فأنشده قوله:

رأيتك أمس خير بني معدّ *** و أنت اليوم خير منك أمس

و أنت غدا تزيد الضّعف ضعفا *** كذاك تزيد سادة عبد شمس(3)

/فقال له: من أيّ بني أبي ربيعة أنت؟ قال: فقلت له: من بني أمامة، قال: فإن أمامة ولد(4) رجلين: قيسا و حارثة، فأحدهما نجم، و الآخر خمل. فمن أيهما أنت؟ قال: قلت: أنا من ولد حارثة، و هو الذي كانت بكر بن وائل توّجته، قال: فقام بمخصرة(5) في يده، فغمز بها في بطني، ثم قال: يا أخا بني أبي ربيعة همّوا و لم يفعلوا، فإذا حدّثتني فلا تكذبني، فجعلت له عهدا ألا أحدّث قرشيّا بكذب أبدا.

مدحه أسماء بن خارجة

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا ابن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن الهيثم السّلميّ (6)، قال: حدثني أبو فراس محمد بن فراس، عن الكلبيّ، قال:

ص: 346


1- يقال: فلان ابن عمه قصرة، أي قريب. و النيازك: الرماح القصيرة.
2- في ب: «حدثني عبد اللّه بن علي».
3- في «المؤتلف و المختلف» 10: «و أنت غدا تزيد الضعف خيرا». و بعده: و تاج الملك ليس يزال فيهم يحوّل فوق رأس كل رأس
4- ف: ولدت رجلين.
5- المخصرة: ما يأخذه الملك بيده يشير به إذا خاطب و الخطيب إذا خطب.
6- في هب، ب: الشامي.

أتى أعشى بني أبي ربيعة أسماء بن خارجة فامتدحه فأعطاه و كساه، فقال:

لأسماء بن خارجة بن حصن *** على عبء النّوائب و الغرامه

أقلّ تعلّلا يوما و بخلا *** على السّؤال من كعب بن مامة

و مصقلة الذي يبتاع بيعا *** ربيحا فوق ناجية بن سامه

قال الكلبيّ: جعل ناجية رجلا و هي امرأة؛ لضرورة الشعر.

مدحه سليمان بن عبد الملك
اشارة

قال أبو فراس: فحدّثني/الكلبيّ، عن خداش، قال:

دخل أعشى بني أبي ربيعة على سليمان بن عبد الملك و هو وليّ عهد فقال:

أتينا سليمان الأمير نزوره *** و كان امرأ يحبى(1) و يكرم زائره

/إذا كنت في النّجوى به متفرّدا *** فلا الجود مخليه و لا البخل حاضره(2)

كلا شافعي(3) سؤّاله من ضميره *** على البخل ناهيه و بالجود آمره(4)

فأعطاه و أكرمه و أمر كلّ من كان بحضرته من قومه و مواليه بصلته، فوصلوه فخرج و قد ملأ يديه.

صوت

نأتك أمامة إلاّ سؤالا *** و إلاّ خيالا يوافي خيالا

يوافي مع الليل ميعادها *** و يأبى مع الصّبح إلا زيالا

فذلك يبذل من ودّها *** و لو شهدت لم توات النّوالا

فقد ريع قلبي إذ أعلنوا *** و قيل أجدّ الخليط احتمالا(5)

الشعر لعمرو بن قميئة، و الغناء لحنين خفيف رمل بالوسطى من رواية أحمد بن يحيى المكيّ، و ذكر الهشاميّ و غيره أنه من منحول يحيى إلى حنين.

ص: 347


1- ف: يحيا.
2- في هب: ناصره.
3- في ب، س: فلا شافعي.
4- في شرح «ديوان الحماسة» 4-287: «عن الجهل ناهيه و بالحلم آمره».
5- في ب، س: الزيالا.

12 - أخبار عمرو بن قميئة و نسبه

نسبه

هو فيما ذكر أبو عمرو الشّيبانيّ، عن أبي برزة: عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار.

قال ابن الكلبيّ: ليس من العرب من له ولد، كلّ واحد منهم قبيلة مفردة قائمة بنفسها غير ثعلبة بن عكابة، فإنه ولد أربعة كلّ واحد منهم قبيلة: شيبان بن ثعلبة، و هو أبو قبيلة، و قيس بن ثعلبة، و هو أبو قبيلة، و ذهل بن ثعلبة و هو أبو قبيلة،(1) و تيم اللّه بن ثعلبة و هو أبو قبيلة(1).

و كان عمرو بن قميئة من قدماء الشعراء في الجاهلية، و يقال: إنه أوّل من قال الشعر من نزار، و هو أقدم من امرئ القيس، و لقيه امرؤ القيس في آخر عمره فأخرجه معه إلى قيصر لمّا توجه إليه فمات معه في طريقه، و سمّته العرب عمرا الضائع لموته في غربة و في غير أرب و لا مطلب.

بعض صفاته

نسخت خبره من روايتي أبي عمرو الشّيبانيّ، و مؤرّج، و أخبرني ببعضه الحسن بن عليّ، عن أبيه، عن ابن أبي سعد، عن ابن الكلبيّ، فذكرت ذلك في مواضعه، و نسبته إلى رواته، قالوا جميعا:

كان عمرو بن قميئة شاعرا فحلا متقدّما، و كان شابّا جميلا حسن الوجه مديد القامة حسن الشّعر(1)، و مات أبوه و خلّفه صغيرا، فكفله عمّه مرثد بن سعد، /و كانت سبّابتا قدميه و وسطياهما ملتصقتين، و كان عمّه(2) محبّا له معجبا به، رقيقا عليه.

مراودة امرأة عمه له و امتناعه عليها

و أخبرني عمّي قال: حدّثنا الكرانيّ، قال: حدّثنا أبو عمر العمريّ، عن لقيط، و ذكر مثل ذلك سائر الرّواة:

أنّ مرثد بن سعد بن مالك عمّ عمرو بن قميئة كانت عنده امرأة ذات جمال، فهويت عمرا و شغفت به، و لم تظهر له ذلك، فغاب مرثد/لبعض أمره - و قال لقيط في خبره: مضى يضرب بالقداح - فبعثت امرأته إلى عمرو تدعوه على لسان عمّه، و قالت للرّسول: ائتني به من وراء البيوت، ففعل، فلما دخل أنكر شأنها، فوقف ساعة، ثم راودته عن نفسه، فقال: لقد جئت بأمر عظيم، و ما كان مثلي ليدعى لمثل هذا، و اللّه لو لم أمتنع من ذلك وفاء

ص: 348


1- في هب، ب: الشعرة.
2- في ب: حيه.

لأمتنعنّ منه خوف الدّناءة و الذّكر القبيح الشّائع عنّي في العرب، قالت: و اللّه لتفعلنّ أو لأسوأنّك، قال: إلى المساءة تدعينني. ثم قام فخرج من عندها، و خافت أن يخبر عمّه بما جرى، فأمرت بجفنة فكفئت على أثر عمرو، فلما رجع عمّه وجدها متغضّبة، فقال لها: ما لك؟ قالت: إنّ رجلا من قومك قريب القرابة، جاء يستأمني نفسي و يريد فراشك منذ خرجت، قال: من هو؟ قالت: أما أنا فلا أسمّيه، و لكن قم فافتقد أثره تحت الجفنة، فلما رأى الأثر عرفه.

هروبه من عمه إلى الحيرة

قال مؤرّج في خبره: فحدّثني أبو برزة و علقمة بن سعد و غيرهما من بني قيس بن ثعلبة، قالوا:

و كان لمرثد سيف يسمّى ذا الفقار، فأتى ليضربه به، فهرب فأتى الحيرة، فكان عند اللّخميّين و لم يكن يقوى على بني مرثد لكثرتهم، و قال لعمرو بن هند: إنّ القوم اطّردوني، فقال له: ما فعلوا إلا و قد أجرمت، و أنا أفحص /عن أمرك، فإن كنت مجرما ما رددتك إلى قومك، فغضب و همّ بهجائه و هجاء مرثد، ثم أعرض عن ذلك، و مدح عمّه و اعتذر إليه، انتهى.

و أما أبو عمرو فإنّه قال:

لما سمع مرثد بذلك، هجر عمرا و أعرض عنه، و لم يعاقبه(1) لموضعه من قلبه، فقال عمرو يعتذر إلى عمّه:

خليليّ لا تستعجلا أن تزوّدا *** و أن تجمعا شملي و تنتظرا غدا

فما لبثي يوما بسائق مغنم *** و لا سرعتي يوما بسائقة الرّدى(2)

و إن تنظراني(3) اليوم أقض لبانة *** و تستوجبا منّا عليّ و تحمدا

لعمرك ما نفس بجدّ رشيدة *** تؤامرني سوءا(4) لأصرم مرثدا

و إن ظهرت مني قوارص جمّة *** و أفرع من لومي مرارا و أصعدا(5)

على غير جرم أن أكون جنيته *** سوى قول باغ كادني فتجهّدا

لعمري لنعم المرء تدعو بخيله(6) *** إذا ما المنادي في المقامة ندّدا

عظيم رماد القدر لا متعبّس *** و لا مؤيس منها إذا هو أوقدا

و إن صرّحت كحل(7) و هبّت عريّة *** من الرّيح لم تترك من المال مرفدا

صبرت على وطء الموالي و خطبهم(8) *** إذا ضنّ ذو القربى عليهم و أخمدا

يعني أخمد ناره بخلا، و روى: أجمدا. المجمد: البخيل.

ص: 349


1- في ب: يعاتبه.
2- في ف: «فما كنت يوما... و لا سرعتي يوما بسابقة». و في «الديوان»: «فما لبث يوما بسابق مغنم... بسابقة الردى».
3- في ب: «و إن تنظرا في اليوم».
4- في ف، و «الديوان» 11: سرا.
5- في ب: «و أفرغ من لؤمي»، تحريف.
6- في ب: بخلة، و في «الديوان» 11: تدعو بحبله.
7- كحل: السنة الشديدة المجدبة. و في ف: عجل. و العرية: الباردة. و المرفد: ما يعطى للضيف.
8- في هب: «و حطهم». و في ف، بيروت، و «الديوان» 12: «و حطمهم».

/و لم يحم فرج الحيّ إلا محافظ *** كريم المحيّا ماجد غير أجردا(1)

الأجرد: الجعد اليد البخيل.

حماد الراوية يرى أنه أشعر الناس

أخبرني محمد بن العبّاس اليزيديّ، قال: حدّثني عمّي الفضل بن إسحاق، عن الهيثم بن عديّ، قال:

سأل رجل حمّادا الرّاوية بالبصرة و هو عند بلال بن أبي بردة: من أشعر النّاس؟ قال الذي يقول:

رمتني بنات الدّهر من حيث لا أرى *** فما بال من يرمى و ليس برام(2)

/قال: و الشعر لعمرو بن قميئة.

بلوغه التسعين و قوله في ذلك

قال عليّ بن الصباح في خبره، عن ابن الكلبيّ:

و عمّر ابن قميئة تسعين سنة، فقال لمّا بلغها:

كأنّي و قد جاوزت تسعين حجّة *** خلعت بها عنّي عنان لجامي(3)

على الرّاحتين مرّة و على العصا *** أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي

رمتني بنات الدّهر من حيث لا أرى *** فما بال من يرمى و ليس برام!

فلو أنّ ما أرمى بنبل رميتها *** و لكنّما أرمى بغير سهام

إذا ما رآني النّاس قالوا: أ لم يكن *** حديثا جديد البري(4) غير كهام!

و أفنى و ما أفني من الدهر ليلة *** و لم يفن ما أفنيت سلك نظام

و أهلكني تأميل يوم و ليلة *** و تأميل عام بعد ذاك و عام

عبد الملك بن مروان يتمثل بشعر له

أخبرني الحسين بن يحيى، قال: قال حمّاد بن إسحاق: قرأت على أبي: حدّثنا الهيثم بن عديّ، عن مجالد(5)، عن الشّعبيّ قال:

دخلت على عبد الملك بن مروان في علّته التي مات فيها، فقلت: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ فقال:

أصبحت كما قال عمرو بن قميئة:

كأنّي و قد جاوزت تسعين حجّة *** خلعت بها عنّي عنان لجام

رمتني بنات الدّهر من حيث لا أرى *** فكيف بمن يرمى و ليس برام!

فلو أنّها نبل إذا لاتّقيتها *** و لكنّما أرمى بغير سهام

ص: 350


1- في «الديوان» - 12: «غير أحردا».
2- في «الديوان» - 23، و «الشعر و الشعراء»: «فكيف بمن يرمي و ليس برام».
3- في «الديوان» - 23: «خلعت بها يوما عذار لجامي».
4- في ف، بيروت: «حديد البز». و في «الديوان» - 23: «جديد البز». و البز: السلاح.
5- في ب: مخلد.

و أهلكني تأميل يوم و ليلة *** و تأميل عام بعد ذاك و عام

فقلت: لست كذلك يا أمير المؤمنين، و لكنّك(1) كما قال لبيد:

قامت تشكّى إليّ الموت مجهشة *** و قد حملتك سبعا بعد سبعينا

فإن تزادي ثلاثا تبلغي أملا *** و في الثّلاث وفاء للثّمانينا

(2)فعاش حتى بلغ التّسعين، فقال:

كأني و قد جاوزت تسعين حجّة *** خلعت بها عن منكبيّ ردائيا

فعاش حتى بلغ عشرا و مائة سنة، فقال:

أ ليس في مائة قد عاشها رجل *** و في تكامل عشر بعدها عبر(2)

.

فعاش و اللّه حتى بلغ مائة و عشرين سنة، فقال:

و غنيت سبتا قبل مجرى داحس(2) *** لو كان للنّفس اللجوج خلود

/و يروى: «دهرا قبل مجرى داحس»، فعاش حتى بلغ مائة و أربعين سنة، فقال:

و لقد سئمت من الحياة و طولها *** و سؤال هذا النّاس كيف لبيد؟

فتبسّم عبد الملك و قال: لقد قوّيت من نفسي بقولك يا عامر، و إنّي لأجد خفّا(3) و ما بي من بأس و أمر لي بصلة، و قال لي: اجلس يا شعبيّ فحدّثني ما بينك و بين الليل، فجلست فحدثته حتى أمسيت، و خرجت من عنده، فما أصبحت حتى سمعت الواعية(4) في داره.

خروجه مع امرئ القيس إلى قيصر
اشارة

أخبرني عمّي قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن طهمان السّلمي، عن إسحاق بن مرار الشّيبانيّ، قال:

نزل امرؤ القيس بن حجر ببكر بن وائل، و ضرب قبّته، و جلس إليه وجوه بكر بن وائل، فقال لهم: هل فيكم أحد يقول الشّعر؟ فقالوا: ما فينا/شاعر إلا شيخ قد خلا من عمره و كبر، قال: فأتوني به، فأتوه بعمرو بن قميئة و هو شيخ، فأنشده فأعجب به، فخرج به معه إلى قيصر، و إيّاه عنى امرؤ القيس بقوله:

بكى صاحبي لمّا رأى الدّرب دونه *** و أيقن أنّا لاحقان بقيصرا

فقلت له: لا تبك عينك إنّما *** نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

و قال مؤرّج في هذا الخبر: إنّ امرأ القيس قال لعمرو بن قميئة في سفره: أ لا تركب إلى الصّيد؟ فقال عمرو:

ص: 351


1- في ب: و هذا. (2-2) التكملة من ف، هب، و هي ساقطة من ب.
2- في ف: «وصلت سنينا بعد مجرى داحس».
3- في ب: «لا أجد خفا».
4- الواعية: الصراخ.

شكوت إليه أنّني ذو جلالة *** و أنّي كبير ذو عيال مجنّب(1)

فقال لنا: أهلا و سهلا و مرحبا *** إذا سرّكم لحم من الوحش فاركبوا

صوت

يا آح من حرّ الهوى إنّما *** يعرف حرّ الحبّ من جرّبا

أصبحت للحبّ أسيرا فقد *** صعّدني الحبّ و قد صوّبا

لا شكّ أني ميّت حسرة *** إن لم أزر قبل غد زينبا

تلك الّتي إن نلتها لم أبل *** من شرّق الدّهر أو غرّبا(2)

الشعر للمؤمّل بن جميل(3) بن يحيى بن أبي حفصة بن عمرو بن مروان بن أبي حفصة، و الغناء لابن جامع رمل بالوسطى، عن إبراهيم و الهشاميّ.

ص: 352


1- في «الديوان» - 65: ذو خلالة. و الجلالة: عظم القدر. و الخلالة: الصداقة المختصة التي ليس فيها خلل. و جنب القوم: انقطعت ألبانهم و قلت فهم مجنبون. و هو مجنب: فقير.
2- في ف: و من غرّبا.
3- في ف: المؤمل بن حميد بن يحيى...

13 - أخبار المؤمل بن جميل

كان أبوه جميل يلقب قتيل الهوى

قد مضى نسب أبي حفصة في أخبار مروان، و كان يحيى بن أبي حفصة يكنى أبا جميل. و المؤمّل بن جميل يكنى أبا جميل. و أم جميل أميرة بنت زياد بن هوذة بن شماس بن لؤيّ من بني أنف الناقة الذين يمدحهم الحطيئة.

و أم المؤمّل شريفة بنت المذلق بن الوليد بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقريّ، و كان جميل يلقّب قتيل الهوى، و لقّب بذلك لقوله:

قلن: من ذا؟ فقلت: هذا الي *** مانيّ قتيل الهوى أبو الخطاب

قلن: باللّه أنت ذاك يقينا *** لا تقل قول مازح لعاب

إن تكن أنت هو فأنت منانا *** خاليا كنت أو مع الأصحاب

أخبار له مع غلامه المطرز

أخبرني بذلك يحيى بن عليّ، إجازة عن محمد بن إدريس بن سليمان، عن أبيه، و حكى أبو أحمد - رحمه اللّه - عن محمد بهذا الإسناد:

أن أبا جميل اشترى غلاما مدنيّا مغنّيا مجلوبا من مولّدي(1) السّند على البراءة من كل عيب، يقال له المطرّز، فدعا أصحابا له ذات يوم، و دعا شيخين من أهل اليمامة مغنّيين، يقال لأحدهما السائب و للآخر شعبة، فلما أخذ القوم مجلسهم و معهم المطرّز اندفع الشيخان فغنّيا، فقال المطرّز لأبي جميل مولاه: ويلك يا أبا جميل يا ابن الزّانية، أ تدري ما فعلت و من عندك؟ فقال له: ويلك! أ جننت! ما لك! قال: أما أنا فأشهد أنك تأمن مكر اللّه حين أدخلت منزلك هذين.

قال: و بعثه يوما يدعو أصدقاء له، فوجدهم عند رجل من أهل اليمامة/يقال له بهلول، و هو في بستان له، فقال لهم: مولاي/أبو جميل قد أرسلني أدعوكم، و قد بلّغتكم رسالته، و إن شاورتموني أشرت عليكم، فقالوا:

أشر علينا، قال: أرى ألا تذهبوا إليه، فمجلسكم و اللّه أنزه من مجلسه و أحسن، فقالوا له: قد أطعناك، قال:

و أخرى، قالوا: و ما هي؟ قال: تحلفون عليّ ألاّ أبرح، ففعلوا، فأقام عندهم.

و غضب عليه أبو جميل يوما فبطحه يضربه و هو يقول: ويلك أبا جميل! اتق اللّه فيّ، اللّه اللّه في أمري، أ ما علمت ويلك خبري قبل أن تشتريني! قال: و كان يبعثه إلى بئر لهم عذبة في بستان له يسقي منها لهم ماء، فكان يستقيه ثم يصبّه لجيران لهم في حيّهم، ثم يستقي مكانه من بئر لهم غليظة، فإذا أنكر مولاه قال له: سل الغلمان إذا أتيت البستان: هل استقيت منه؟ فيسألهم فيجده صادقا.

ص: 353


1- في ب: موالي. و مجلوبا من جلبه جلبا: ساقه من موضع إلى آخر، فهو مجلوب.
انقطاعه إلى جعفر بن سليمان ثم عبد اللّه بن مالك
اشارة

حدّثنا يحيى بن محمد بن إدريس، عن أبيه:

أنّ يحيى بن أبي حفصة زوّج ابنه جميلا شريفة بنت المذلّق بن الوليد بن طلبة بن قيس بن عاصم، فولدت له المؤمّل بن جميل، و كان شاعرا ظريفا غزلا، و كان منقطعا إلى جعفر بن سليمان بالمدينة، ثم قدم العراق فكان مع عبد اللّه بن مالك، و ذكره للمهديّ فحظي عنده، و هو الذي يقول في شكاة اشتكاها عبد اللّه بن مالك:

ظلّت عليّ الأرض مظلمة *** إذ قيل عبد اللّه قد وعكا

يا ليت ما بك بي و إن تلفت *** نفسي لذاك و قلّ ذاك لكا

و هو الذي يقول:

يا آح من حرّ الهوى إنما *** يعرف حرّ الحبّ من جرّبا

و ذكر الأبيات التي تقدم ذكرها و الغناء فيها.

صوت

إني وهبت لظالمي ظلمي *** و غفرت ذاك له على علم

ما زال يظلمني و أرحمه *** حتّى رثيت له من الظّلم

الشعر لمساور الورّاق، و الغناء لإبراهيم بن أبي العبيس، ثاني ثقيل بالوسطى، أخبرني بذلك ذكاء و غيره.

ص: 354

14 - أخبار مساور و نسبه

نسبه

هو مساور بن سوّار بن عبد الحميد، من آل قيس بن عيلان بن مضر، و يقال: إنه مولى خويلد من عدوان(1)كوفيّ قليل الشّعر من أصحاب الحديث و رواته، و قد روى عن صدر من التابعين، و روى عنه وجوه أصحاب الحديث.

أخبرني عليّ بن طيفور بن غالب النّسائيّ قال: حدّثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: حدّثنا حمّاد بن أسامة، عن مساور الورّاق، قال: حدّثني جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه، قال:

كأنّي انظر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم و هو على ناقته يخطب، و عليه عمامة سوداء، قد أرخاها بين كتفيه.

خبره مع ابن أبي ليلى

أخبرني محمّد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا الأشناندانيّ، عن الأصمعي، قال:

كان قوم يجلسون إلى ابن أبي ليلى، فكتب قوما منهم لعيسى بن موسى، و أشار(2) عليه أن يشغلهم و يصلهم، /فأتى مساور الورّاق، فكلّمه أن يجعله فيهم فلم يفعل، فأنشأ يقول:

أراك تشير بأهل الصلاح *** فهل لك في الشاعر المسلم

كثير العيال قليل السؤا *** ل عفّ مطاعمه معدم(3)

يقيم الصّلاة و يؤتى الزّكاة *** و قد حلّق العام بالموسم

و أصبح و اللّه في قومه *** و أمسى و ليس بذي درهم

قال: فقال ابن أبي ليلى: لا حاجة لنا فيه، فقال فيه مساور أبياتا، قال أبو بكر بن دريد: كرهنا ذكرها صيانة لابن أبي ليلى.

هجا حفص بن أبي بردة لأنه عاب شعرا للمرقش الأكبر

أخبرني محمد قال: حدثني التّوّزيّ (4) قال:

كان مساور الورّاق، و حمّاد عجرد، و حفص بن أبي بردة مجتمعين، فجعل حفص يعيب شعر المرقّش الأكبر، فأقبل عليه مساور فقال:

ص: 355


1- في ب، بيروت: عدنان.
2- في ب: و أشاروا.
3- سقط هذا البيت من ف.
4- ف: «حدثنا الأشنانداني قال حدثنا ابن أبي ليلى».

لقد كان في عينيك يا حفص شاغل *** و أنف كثيل(1) العود عما تتبّع

تتبّعت لحنا في كلام مرقّش *** و وجهك مبنيّ على اللحن أجمع

فقام حفص من المجلس خجلا، و هاجره مدة.

وصيته لابنه

نسخت من كتاب عبيد اللّه اليزيديّ بخطّه: حدّثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: كان مساور الورّاق من جديلة قيس، ثم من عدوان، مولى لهم، فقال لابنه يوصيه:

شمّر ثيابك و استعدّ لقائل *** و احكك جبينك للعهود بثوم

إنّ العهود صفت لكل مشمّر *** دبر الجبين مصفّر موسوم

أحسن و صاحب كلّ قار ناسك *** حسن التّعهّد للصلاة صئوم

من ضرب حمّاد هناك و مسعر *** و سماك العتكيّ و ابن حكيم

و عليك بالغنويّ فاجلس عنده *** حتى تصيب وديعة ليتيم(2)

تغنيك عن طلب البيوع نسيئة *** و تكفّ عنك لسان كلّ غريم

و إذا دخلت على الرّبيع مسلّما *** فاخصص شبابة منك بالتّسليم

ولاه عيسى بن موسى عملا فانكسر عليه الخراج

قال: ففعل ما أوصاه به أبوه، فلم يلبث مساور أن ولاّه عيسى بن موسى عملا، و دفع إليه عهده، فانكسر عليه الخراج، فدفع إلى بطين صاحب عذاب عيسى يستأديه، فقال مساور:

/وجدت دواهر(3) البقّال أهنى *** من الفرنيّ (4) و الجدي السّمين

و خيرا في العواقب حين تبلي *** إذا كان المردّ إلى بطين

فكن يا ذا المطيف بقاضيينا *** غدا من علم ذاك على يقين

و قل لهما إذا عرضا(5) بعهد: *** برئت إلى عرينة من عرين

فإنك طالما بهرجت فيها *** بمثل الخنفساء على الجنين

مرّ بمقبرة صديقه حميد الطوسيّ و قال في ذلك شعرا

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن موسى بن حماد، قال:

مرّ مساور الورّاق بمقبرة حميد الطوسيّ و كان له صديقا، فوقف عليها مستعبرا، و أنشأ يقول:

أبا غانم أمّا ذراك فواسع *** و قبرك معمور الجوانب محكم

ص: 356


1- الثيل: وعاء قضيب البعير، و العود: المسن من الإبل. و في ف: «كمثل العود».
2- في ب: لتميم.
3- في هب: نواهض. و في ف: نواقض. و الدواهر: الشدائد. و الفرني: نوع من الخبز يعجن بالسمن و السكر.
4- الفرني جمع فرنية، و هي خبزة تروى لبنا و سمنا و سكرا.
5- في ف: اعترضا.

/و ما ينفع المقبور عمران قبره *** إذا كان فيه جسمه يتهدّم

شعر له في أصحاب أبي حنيفة

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قال: حدّثنا الرّياشيّ قال: حدّثنا محمد بن الصبّاح، عن سفيان بن عيينة، و نسخت هذا الخبر أيضا من بعض الكتب: أنّ حامد بن يحيى البلخيّ (1)، حدّث عن سفيان بن عيينة، و هذه الرواية أتمّ، قال:

لمّا سمع مساور الورّاق لغط أصحاب أبي حنيفة و صياحهم أنشأ يقول:

كنّا من الدّين قبل اليوم في سعة *** حتى بلينا بأصحاب المقاييس

قوم إذا اجتمعوا ضجّوا كأنّهم *** ثعالب ضبحت بين النّواويس(2)

/فبلغ ذلك أبا حنيفة و أصحابه، فشقّ عليهم و توعّدوه، فقال أبياتا ترضيهم و هي:

إذا ما النّاس يوما قايسونا *** بآبدة من الفتيا ظريفه

أتيناهم بمقياس ظريف(3) *** مصيب من قياس أبي حنيفة

إذا سمع الفقيه بها وعاها *** و أثبتها بحبر في صحيفه

فبلغ أبا حنيفة فرضي. قال مساور: ثم دعينا إلى وليمة بالكوفة في يوم شديد الحرّ، فدخلت فلم أجد لرجلي موضعا من الزّحام، و إذا أبو حنيفة في صدر البيت، فلما رآني قال: إليّ يا مساور، فجئت فإذا مكان واسع، و قال لي: اجلس، فجلست، فقلت في نفسي: نفعتني أبياتي اليوم. قال: و كان إذا رآني بعد ذلك يقول لي: هاهنا، هاهنا، و يوسّع لي إلى جنبه، و يقول: إنّ هذا من أهل الأدب و الفهم، انتهى.

حفظ حقوق جيرانه و لكنهم ضيعوا حقه فهجاهم

أخبرني محمّد بن الحسين بن دريد، قال: حدّثنا أبو المعمّر عبد الأول بن مزيد، أحد بني أنف الناقة، قال:

كان مساور الورّاق لا يضيع حقّا لجار له، فماتت بنته، فلم يشهدها من جيرانه إلاّ نفر يسير، فقال مساور في ذلك:

تغيّب عنّي كلّ جاف ضرورة *** و كلّ طفيليّ من القوم عاجز

سريع إذا يدعى ليوم وليمة *** بطيء إذا ما كان حمل الجنائز

أخبرني محمد بن الحسن، قال: حدّثنا عبد الأول، قال:

قدم جار لمساور الورّاق من سفر، فجاءه يسلّم عليه، فقال: يا جارية، هاتي لأبي القاسم غداء، فجاءت برغيف فوضعته على الخوان، فمدّ يده يأكل مع مساور، /و قال له: يا أبا القاسم، كل من هذا الخبز، فما أكلت خبزا أطيب منه، فقال مساور في ذلك:

ص: 357


1- أ، ب، س: «بن أبي يحيى»، و المثبت من ف.
2- ضبحت الثعالب: صوتت. و النواويس: القبور. و في «المختار»: «ثعالب ضجت».
3- في ف: صليب.

ما كنت أحسب أنّ الخبز فاكهة *** حتّى رأيتك يا وجه الطّبرزين(1)

كأنّ لحيته في وجهه ذنب *** أو شعرة فوق بظر غير مختون

يعود أبا العيص الجرمي و يسمع منه شعرا في مرض موته
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا أحمد بن الحارث، عن المدائنيّ قال: دخل مساور الورّاق على أبي العيص الجرميّ يعوده و كان صديقه، فكلّمه فلم يجبه، فبكى مساور جزعا عليه، و أدنى رأسه منه يكلّمه، فقال أبو العيص:

أ في كلّ عام مرضة بعد نقهة(2) *** و تنعى و لا تنعى متى ذا إلى متى

سيوشك يوم أن يجيء(3) و ليلة *** يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا

/فتمسي صريعا لا تجيب لدعوة *** و لا تسمع الدّاعي و إن جدّ في الدّعا(4)

ثم لم يلبث أن مات، رحمه اللّه.

صوت

تنامين عن ليلي و أسهره وحدي *** و أنهى جفوني أن تبثّك ما عندي

فإن كنت ما تدرين ما قد فعلته *** بنا فانظري ما ذا على قاتل العمد

الشعر لسعيد بن حميد الكاتب، و الغناء لعريب خفيف ثقيل مطلق بالسّبابة في مجرى الوسطى.

ص: 358


1- الطبرزين: آلة من السلاح تشبه الفأس.
2- ف: ثم نقهة.
3- ف: يحين.
4- لم يرد هذا البيت في ف.

15 - أخبار سعيد بن حميد و نسبه

نسبه

(1) سعيد بن حميد بن سعيد بن حميد بن بحر، يكنى أبا عثمان(1) من أولاد الدّهاقين، و أصله من النّهروان الأوسط، و كان هو يقول: إنّه مولى بني سامة بن لؤيّ، من أهل بغداد، بها ولد و نشأ، ثم كان يتنقّل في السّكنى بينها و بين سرّ من رأى.

كان كاتبا شاعرا

كاتب شاعر مترسّل، حسن الكلام فصيح، و كان أبوه وجها من وجوه المعتزلة، فخالف أحمد بن أبي دواد في بعض مذهبه، فأغرى به المعتصم، و قال: إنه شعوبيّ زنديق، فحبسه مدة طويلة، ثم بانت براءته له أو للواثق بعده، فخلّى سبيله، و كان شاعرا أيضا، فكان يهجو أحمد بن أبي دواد، و أنشدنيها جماعة من أصحابنا، قال:

أبوه يهجو أحمد بن أبي دواد

لقد أصبحت تنسب في إياد *** بأن يكنى أبوك أبا دواد

فلو كان اسمه عمرو بن معدي *** دعيت إلى زبيد أو مراد

لئن أفسدت بالتّخويف عيشي *** لما أصلحت أصلك في إياد

و إن تك قد أصبت طريف مال *** فبخلك باليسير من التّلاد

قوة حافظته

فذكر محمّد بن موسى أن أبا يوسف بن الدّقّاق(1) اللّغويّ أخبره أنّ حميد بن سعيد بن حميد دفع إليه ابنه سعيدا و هو صبيّ فقال له: امض به معك إلى مجلس ابن الأعرابيّ، قال: فحضرناه ذات يوم، فأنشدنا أرجوزة لبعض العرب فاستحسنتها، و لم تكن معنا محبرة نكتبها منها، فلما انصرفنا قلت له: فاتتنا هذه الأرجوزة، فقال: لم تفتك، أ تحبّ أن أنشدكها؟ /قلت: نعم، فأنشدنيها و هي نيّف و عشرون بيتا قد حفظها عنه، و إنما سمعها مرّة واحدة، فلقيت أباه من غد، فقال لي: كيف/رأيت سعيدا؟ قلت له: إنك أوصيتني به، و أنا أسألك الآن أن توصيه بي، فضحك و سألني عن الخبر، فأعلمته فسرّ به.

خبره مع أبي العباس بن ثوابة

أخبرني عليّ بن العبّاس بن أبي طلحة، قال: حدّثني ابن أبي المدوّر، قال:

ص: 359


1- ف: «أن أبا يوسف الدقاق».

دخل سعيد بن حميد يوما على أبي العبّاس بن ثوابة، و كان أبو العبّاس يعاتبه على الشّغف بالغلمان المرد، فرأى على رأسه غلاما أمرد حسن الوجه، عليه منطقة و ثياب حسان، فقال له: يا أبا العبّاس:

أ زعمت أنّك لا تلوط فقل لنا *** هذا المقرطق(1) قائما ما يصنع!

شهدت ملاحته عليك بريبة *** و على المريب شواهد لا تدفع

فضحك أبو العبّاس و قال: خذه، لا بورك لك فيه حتى نستريح من عتبك.

حيلة له مع غلام من أولاد الموالي و شعره في ذلك

أخبرني عمّي، رحمه اللّه، قال: قال لي محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات الكاتب: كان سعيد بن حميد يهوى غلاما له من أولاد الموالي، فغاب عنه مدّة، ثم جاءه مسلّما، فقال له: غبت عنّي هذه المدة ثم تجيئني فلا تقيم عندي! فقال له: قد أمسينا، فقال: تبيت، قال: لا و اللّه لا أقدر، و لم يزل به حتى اتّفقا على أنّه إذا سمع أذان العتمة(2) انصرف، فقال له: قد رضيت. و وضع النّبيذ، فجعل سعيد يحثّ السّقي(3) بالأرطال، فلما قرب وقت العتمة، أخذ رقعة فكتب فيها إلى إمام المسجد و هو مؤذّنه قوله:

قل لداعي الفراق(4) أخّر قليلا *** قد قضينا حقّ الصّلاة طويلا

أخّر الوقت في الأذان(5) و قدّم *** بعدها الوقت بكرة و أصيلا

/ليس في ساعة تؤخّرها وز *** ر فنحيا بها و تأتي جميلا(6)

فتراعى حقّ الفتوّة فينا *** و تعافى من أن تكون ثقيلا(7)

فلما قرأ المؤذّن الرّقعة ضحك و كتب إليه يحلف أنه لا يؤذّن ليلته تلك العتمة، و جعل الفتى ينتظر الأذان حتى أمسى و سمع صوت الحارث، فعلم أنّها حيلة وقعت عليه و بات في موضعه، و قال سعيد في ذلك:

عرّضت بالحبّ له و عرّضا *** حتى طوى قلبي على جمر الغضى

و أظهرت نفسي عن الدّهر الرّضا *** ثم جفاني و تولّى معرضا

لم ينقض الحبّ بلى(8) صبري انقضى *** فداك من ذاق(9) الكرى أو غمّضا

حتى طرقت فنسيت ما مضى *** سألته حويجة(10) فأعرضا

و قال: لا، قول مجيب برضا *** فكان ما كان و كابرنا القضا

ص: 360


1- قرطقة: ألبسه القرطق؛ و هو قباء ذو طاق واحد فهو مقرطق.
2- العتمة: وقت صلاة العشاء الآخرة.
3- في «المختار»: السعي بالأرطال.
4- في هب، «المختار»: الصلاة.
5- في «التجريد»: في الصلاة.
6- البيت من «المختار» و «التجريد»، و لم يرد في ف، ب، هب.
7- في «التجريد»، ف: «حق المودة» بدل: «حق الفتوة».
8- في ب: على.
9- في هب: «فذاك من ذاق...» و في «المختار»: «فذاق من ذاق».
10- في «المختار»: حوائجا.

في هذه الأبيات هزج لأحمد بن صدقة، أخبرني بذلك ذكاء وجه الرّزّة.

وجدت في بعض الكتب:

حدثني أحمد بن سليمان بن وهب أنه كان في مجلس فيه سعيد بن حميد، فلما سكروا قام سعيد قومة بعد العصر(1)، فلم نشعر إلا و قد أخذ ثيابه فلبسها، و أخذ بعضدتي الباب، و أنشأ يقول:

سلام عليكم حالت الرّاح بيننا *** و ألوت بنا عن كل مرأى و مسمع

/و لم يبق إلا أن يميل بنا الكرى *** و يجمع نوم(2) بين جنب و مضجع

/فقام له أهل المجلس، و قالوا: يا سيدنا، اذهب في حفظ اللّه و في ستره، فانصرف و ودّعهم.

كتب لفضل الشاعرة يعتذر إليها

حدثني محمد بن الطّلاّس أبو الطّيّب، قال: حدثني عبد اللّه بن طالب الكاتب قال:

قرأت رقعة بخطّ سعيد بن حميد إلى فضل الشاعرة يعتذر إليها من تغيّر ظنّته به، و في آخرها:

تظنّون أني قد تبدّلت بعدكم *** بديلا و بعض الظّنّ إثم و منكر

إذا كان قلبي في يديك رهينة *** فكيف بلا قلب أصافي و أهجر!

في هذين البيتين لابن القصّار الطّنبوريّ رمل، و فيهما لمحمد قريض خفيف رمل.

خبره مع كعب جارية أبي عكل المقين

أخبرني عليّ بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال: حدثني أبو عليّ المادرانيّ (3) أنه كان في مجلس فيه كعب جارية أبي عكل المقيّن، و كان بعض أهل المجلس يهواها قال: فدخل إلينا سعيد بن حميد، فقام إليه أهل المجلس جميعا سوى الجارية و الفتى، فأخذ سعيد الدواة فكتب رقعة و ألقاها في حجرها، فإذا فيها قوله:

ما على أحسن خل *** ق اللّه أن يحسن فعله

بأبي أنت و أمّي *** من مليك قلّ عدله

و بخيل بالهوى لو *** كان يسلى عنه بخله

أكثر العاذل في حبّ *** ك لو ينفع عذله

فهو مشغول بعذلي *** و فؤادي بكل شغله

أكثر الشّكوى و أستع *** دي على من قلّ بذله

/فوثبت الجارية فقبّلت رأسه و جلست إلى جنبه، فقال الرّجل الذي كان يهواها: هذا و اللّه كلام الشّياطين و رقية الزّنا، و بهذا يتمّ الأمر، أما أنا فإني أشهدكم، لا قرأت اليوم في صلاتي غير هذه الأبيات لعلّها تنفعني، فضحك سعيد و قال: بحياتي قومي فارجعي إليه حتى تكون الأبيات قد نفعته قبل أن يقرأها في صلاته، و سرّيني بذلك، فقامت فرجعت إلى موضعها.

ص: 361


1- ف: «فلما سكرنا نام سعيد نومة».
2- ف: «سكر».
3- في هب: الداراني. و في ف: «أبو علي المداري أنه كان في مجلس فيه لعب جارية بن علل المقين».
خبرة مع جارية كان يهواها زارته على غير وعد

قال عليّ بن العبّاس: و حدثني أبو عليّ المادرانيّ: أنّه كان عنده يوما، فدخلت إليه جارية - كان يهواها - غفلة على غير وعد، فسرّ بذلك و قال لها: قد كنت على عتابك، فأمّا الآن فلا، فقالت: أمّا العتاب فلا طاقة لي به، و و اللّه ما جئتك إلا عند غفلة البوّاب، فقال سعيد(1) في ذلك:

زارك زور على ارتقاب *** مغتنما غفلة الحجّاب

مستترا بالنّقاب يبدو *** ضياء خدّيه في النّقاب

كالشّمس تبدو و قد طواها *** دونك ستر من السّحاب

قد كان في النفس منك عتب *** يدعو إلى شدّة اجتناب

فملت بالعتب عن حبيب *** يضعف عن موقف العتاب

و الذّنب منه و أنت تخشى *** في هجره صولة العقاب

عبد اللّه بن داود يستحسن شعرا له

/أخبرني عمّي قال: حدّثني ابن أبي سعد، قال: حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن داود، قال: كان أبي يستحسن قول سعيد بن حميد:

تظنّون أنّي قد تبدّلت بعدكم *** بديلا، و بعض الظّنّ إثم و منكر

إذا كان قلبي في يديك رهينة *** فكيف بلا قلب أصافي و أهجر!

/و يقول: لئن عاش هذا الغلام ليكوننّ له في الشّعر شأن.

في هذين البيتين غناء من خفيف الرمل، و ذكر قريض أنّه له.

زارته فضل الشاعرة فجأة أثناء ذهابها إلى القصر فقال في ذلك شعرا

أخبرني ابن أبي طلحة قال: حدّثني إسحاق بن مسافر أنه كان عند سعيد بن حميد يوما إذ دخلت عليه فضل الشاعرة على غفلة، فوثب إليها و سلّم عليها، و سألها أن تقيم عنده، فقالت: قد جاءني و حياتك رسول من القصر، فليس يمكنني الجلوس، و كرهت أن أمرّ ببابك و لا أراك، فقال سعيد من وقته على البديهة:

قربت و لا نرجو اللّقاء و لا نرى(2) *** لنا حيلة يدنيك منّا احتيالها

فأصبحت كالشمس المنيرة ضوؤها *** قريب و لكن أين منّا منالها!

كظاعنة ضنّت بها غربة النّوى *** علينا و لكن قد يلمّ خيالها

تقرّبها الآمال ثم تعوقها *** مماطلة الدّنيا بها و اعتلالها

و لكنها أمنيّة فلعلها *** يجود بها صرف النّوى و انتقالها

ص: 362


1- ف: سعيد بن حميد.
2- في ف: «قربت و لم نرج اللقاء و لم تجد».
تغاضب و فضل فكتب إليها فصارت إليه و صالحته

أخبرني عمّي قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن يعقوب بن داود؛ قال:

تغاضب سعيد بن حميد و فضل الشّاعرة أياما، ثم كتب إليها:

تعالي نجدّد عهد الرّضا *** و نصفح في الحبّ عمّا مضى

و نجري على سنّة العاشقين *** و نضمن عني و عنك الرّضا

و يبذل هذا لهذا هواه *** و يصبر في حبّه للقضا

و نخضع(1) ذلاّ خضوع العبيد *** لمولى عزيز إذا أعرضا

فإنّي مذ لجّ هذا العتاب *** كأنّي أبطنت جمر الغضى(2)

/فصارت إليه و صالحته.

في هذه الأبيات لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى، و فيها لابن القصّار خفيف رمل.

رسول الحسن بن مخلد يدعوه فيقول في ذلك شعرا

أخبرني ابن أبي طلحة قال: حدّثنا أبو العبّاس بن أبي المدوّر قال:

بات سعيد بن حميد عند أبي الفضل بن أحمد بن إسرائيل،(3) و اصطبحا على غناء حسن كان عندهما(3)، فجاءه رسول الحسن بن مخلّد و قد أمر ألاّ يفارقه لأمر مهمّ، فقام فلبس ثيابه، و أنشأ يقول:

يا ليلة بات النّحوس بعيدة *** عنها على رغم الرّقيب الرّاصد

تدع العواذل لا يقمن لحاجة *** و تقوم بهجتها بعذر الحاسد

ضنّ الزّمان بها فلمّا نلتها *** ورد الفراق فكان أقبح وارد

و الدّمع ينطق للضمير مصدّقا *** قول المقرّ مكذّبا للجاحد

أبو العباس بن ثوابة يعاتبه على تأخره عنه فيجيبه

أخبرني ابن أبي طلحة قال: حدثني أبو العبّاس بن أبي المدوّر، قال:

كان سعيد بن حميد/صديقا لأبي العباس بن ثوابة، فدعاه يوما، و جاءه رسول فضل الشّاعرة يسأله المصير إليها، فمضى معه و تأخّر عن أبي العبّاس، فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها معاتبة فيها بعض الغلظة، فكتب إليه سعيد:

أقلل عتابك فالبقاء قليل *** و الدهر يعدل تارة(3) و يميل

لم أبك من زمن ذممت صروفه *** إلا بكيت عليه حين يزول

ص: 363


1- ف: «و نجمع».
2- في ف جاء البيت: فإن فرق الدهر ما بيننا فمن ذا يقوم لصرف القضا بدلا من البيت الأخير - و اختلاف في ترتيب الأبيات، فالبيت الثالث مكان الثاني، و الثاني مكان الثالث. (3-3) في ف: و اصطحبا على غناء حسن كان عنده.
3- ف: «يعدل مرة».

/و لكلّ نائبة ألمّت مدّة *** و لكلّ حال أقبلت تحويل

و المنتمون إلى الإخاء جماعة *** إن حصّلوا أفناهم التّحصيل

و لعلّ أحداث الليالي و الرّدى(1)*** يوما ستصدع بيننا و تحول

فلئن سبقت لتبكينّ بحسرة *** و ليكثرنّ عليّ منك عويل

و لتفجعنّ بمخلص لك وامق *** حبل الوفاء بحبله موصول

(2) و ليذهبنّ جمال كلّ مروءة *** و ليعفونّ فناؤها المأهول

و لئن سبقت، و لا سبقت، ليمضين *** من لا يشاكله لديّ عديل

و أراك تكلف بالعتاب و ودّنا *** باق عليه من الوفاء دليل

ودّ بدا لذوي الإخاء جميلة *** و بدت عليه بهجة و قبول

و لعلّ أيام الحياة قصيرة *** فعلام يكثر عتبنا و يطول

مظلومة جارية الدقيقي تعاتبه على هجرانه فيرد عليها

أخبرني الطّلحيّ قال: حدثني أبو عليّ بن أبي الرعد: أن سعيد بن حميد كان يهوى مظلومة جارية الدقيقيّ، فبلغه أنها تواصل بعض أعدائه، فهجرها مدة، فكتبت إليه تعاتبه و تتشوقه، فكتب إليها:

أمري و أمرك شيء غير متّفق *** و الهجر أفضل من وصل على ملق

لا أكذب اللّه، ما نفسي بسالية *** و لا خليقة أهل الغدر من خلقي

فإن وثقت بودّ كنت أبذله *** فعاودي سوء ظن بي و لا تثقي(2)

اعتذر إلى هبة المغنية فوثبت إليه و قبّلت رأسه

و ذكر اليوسفيّ الكاتب أنه حضر سعيدا في منزل بعض إخوانه و عندهم هبة(2) المغنّية، و كان سعيد يتعشّقها و يهيم بها، فغضبت عليه يوما لبعض الكلام على النبيذ، /و دخلت بعد ذلك و هو في القوم، فسلّمت عليهم سواه، فقالوا لها: أ تهجرين أبا عثمان؟ فقالت: أحبّ أن تسألوه ألاّ يكلّمني، فقال سعيد:

اليوم أيقنت أنّ الهجر متلفة *** و أنّ صاحبه منه على خطر

كيف(3) الحياة لمن أمسى على شرف *** من المنيّة بين الخوف و الحذر

يلوم عينيه أحيانا بذنبهما(4) *** و يحمل الذنب أحيانا على القدر

تنأون عنه و ينأى قلبه معكم *** فقلبه أبدا منه على سفر

فوثبت إليه و قبّلت رأسه، و قالت: لا أهجرك و اللّه أبدا ما حييت.

ص: 364


1- في «المختار»: و النوى. (2-2) الأبيات و الخبر من نسخة ف، و هما ساقطان من نسخة ب، ش و الأبيات في «المختار».
2- في ب، س: «هذه المغنية».
3- في ب، س: كرب الحياة.
4- ف، بيروت: لذرفها.
غضبت عليه فضل الشاعرة فكتب إليها فراجعت وصله

أخبرني جحظة قال: حدثني ميمون بن هارون، قال:

غضبت فضل الشاعرة على سعيد بن حميد فكتب إليها:

يا أيّها الظالم ما لي و لك *** أ هكذا تهجر من واصلك!

لا تصرف الرّحمة عن أهلها *** قد يعطف المولى على من ملك

ظلمت نفسا فيك علقتها *** فدار بالظّلم عليّ الفلك(1)

تبارك اللّه فما أعلم اللّه *** بما ألقى و ما أغفلك!

فراجعت وصله، و صارت إليه جوابا للرقعة.

في هذه الأبيات لعريب ثاني ثقيل و هزج، عن ابن المعتز، و أخبرني ذكاء وجه الرّزة أنّ الثقيل الثاني لأحمد بن أبي العلاء.

فضل الشاعرة تشكو شدة شوقها إليه فيكتب إليها

أخبرني الطوسي الطّلحيّ (2) قال: حدّثنا محمد بن السّريّ: أنّ سعيد بن حميد كان في مجلس الحسن بن مخلّد، إذ جاءه الغلام برقعة فضل الشاعرة تشكو فيها شدّة/شوقها، فقرأها و ضحك، - فقال له الحسن بن مخلّد:

بحياتي عليك أقرئنيها، فدفعها إليه فقرأها و ضحك و قال له: قد و حياتي ملّحت فأجب، فكتب إليها:

يا واصف الشوق عندي من شواهده *** قلب يهيم و عين دمعها يكف

/و النّفس شاهدة بالودّ عارفة *** و أنفس الناس بالأهواء تأتلف

فكن على ثقة منّي و بيّنة *** إنّي على ثقة من كل ما تصف

عدلت فضل عنه إلى بنان بن عمرو فقال فيها شعرا

أخبرني جحظة قال: حدّثني ميمون بن هارون قال:

لما عشقت فضل الشاعرة بنان بن عمرو(3) المغني، و عدلت عن سعيد بن حميد إليه أسف عليها و أظهر تجلّدا، ثم قال فيها:

قالوا: تعزّ و قد بانوا فقلت لهم: *** بان العزاء على آثار من بانا

و كيف يملك سلوانا لحبّهم *** من لم يطق للهوى سترا و كتمانا!

كانت عزائم صبري أستعين بها *** صارت عليّ بحمد اللّه أعوانا

لا خير في الحبّ لا تبدو شواكله *** و لا ترى منه في العينين عنوانا

قال أبو الحسن جحظة(4): و غنّى فيه بعض المحدثين لحنا حسنا، و أظنه عنى نفسه.

ص: 365


1- ف: عليها الفلك.
2- أ، ب، س: «أخبرني الطلحي».
3- ف، بيروت: بنان بن عمرون.
4- أ، ب، س: «قال أبو الحسن: و غنى».
كتب إلى أبي هفان يتبرأ من طعن فيه نسب إليه ظلما

أخبرني الطّلحيّ قال: حدثني أبو عيسى الكاتب: أن أبا هفّان بلغه عن سعيد بن حميد كلام فيه جفاء و طعن على شعره، فتوعده بالهجاء، و كان الحاكي عن ذلك كاذبا، فبلغ سعيدا ما جرى، فكتب إلى أبي هفّان:

أمسى يخوّفني العبديّ صولته(1) *** و كيف آمن بأس الضّيغم الهصر!

من ليس يحرزني من سيفه أجلي *** و ليس يمنعني من كيده حذري

/و لا أبارزه بالأمر يكرهه *** و لو أعنت بأنصار من الغير

له سهام بلا ريش و لا عقب *** و قوسه أبدا عطل من الوتر

و كيف آمن من نحري له غرض *** و سهمه صائب يخفى عن البصر(2)!

عاتبته فضل الشاعرة فزارها و قال فيها شعرا
اشارة

أخبرني الطّلحيّ قال: حدّثني محمد بن السّريّ: أنّه سار إلى سعيد بن حميد و هو في دار الحسن بن مخلّد في حاجة له، قال: فإني عنده إذ جاءته رقعة فضل الشاعرة، و فيها هذان البيتان:

صوت

الصبر ينقص و السّقام يزيد *** و الدّار دانية و أنت بعيد

أشكوك أم أشكو إليك فإنه *** لا يستطيع سواهما المجهود

أنا يا أبا عثمان في حال التّلف و لم تعدني، و لا سألت عن خبري.

فأخذ بيدي فمضينا إليها، فسأل عن خبرها، فقالت: هو ذا أموت و تستريح مني، فأنشأ يقول:

لا متّ قبلي(3) بل أحيا و أنت معا *** و لا أعيش إلى يوم تموتينا

لكن نعيش بما نهوى و تأمله *** و يرغم اللّه فينا أنف واشينا(4)

حتى إذا قدّر الرحمن ميتتنا *** و حان من أمرنا ما ليس يعدونا

متنا جميعا كغصنى بانة ذبلا *** من بعد ما نضرا و استوسقا حينا

ثمّ السّلام علينا في مضاجعنا *** حتى نعود إلى ميزان منشينا

/أخبرني إبراهيم بن القاسم بن زرزور(5) قال: قال لي أبي:

كانت فضل الشّاعرة تتعشق/سعيد بن حميد مدّة طويلة، ثم تعشقت بنانا، و عدلت عنه، فقال فيها قصيدته الدّالية التي يقول فيها:

ص: 366


1- في ب: بصولته.
2- لم يرد هذا البيت في ف.
3- في ف: لا مت قبلك.
4- ف: شانينا.
5- ب، س، أ: «ززور»، و في ف: «زرزر».

تنامين عن ليلي و أسهره وحدي(1)

فلم تتعطّف عليه، و بلغها بعد ذلك أنه قد عشق جارية من جواري القيان، فكتبت إليه:

يا عالي السنّ سيّئ الأدب *** شبت و أنت الغلام في الطّرب

ويحك إنّ القيان كالشّرك الم *** نصوب بين الغرور و العطب

لا تصدّين للفقير و لا *** يطلبن إلا معادن الذهب

بينا تشكّى هواك إذ عدلت *** عن زفرات الشّكوى إلى الطّلب

تلحظ هذا و ذاك و ذا *** لحظ محبّ و فعل مكتسب

عادته فضل في مرضه و أهدته هدايا كثيرة
اشارة

أخبرني إبراهيم قال: و حدّثني أبي قال:

اقتصد سعيد بن حميد، فسألتني فضل الشاعرة، و سألت عريب أن نمضي إليه، ففعلنا، و أهدت إليه هدايا، فكان منها ألف جدي و حمل(2) و ألف دجاجة فائقة، و ألف طبق ريحان و فاكهة، و مع ذلك طيب كثير و شراب و تحف حسان، فكتب إليها سعيد: إنّ سروري لا يتم إلا بحضورك، فجاءته في آخر النهار، و جلسنا نشرب، فاستأذن غلامه لبنان فأذن له، فدخل إلينا و هو يومئذ شابّ طرير، حسن الوجه، /حسن الغناء، نظيف الثياب، شكل(3)، فذهب بها كلّ مذهب، و أقبلت عليه بحديثها و نظرها، فتشمّز(4) سعيد و استطير غضبا، و تبيّن بنان القصّة فانصرف، و أقبل عليها سعيد يعذلها و يؤنّبها ساعة، ثم أمسك، فكتبت إليه:

يا من أطلت تفرّسي *** في وجهه و تنفّسي

أفديك من متدلّل *** يزهى بقتل الأنفس

هبني أسأت و ما أسأ *** ت بلى أقرّ أنا المسيء

أحلفتني ألاّ أسا *** رق نظرة في مجلسي

فنظرت نظرة مخطئ *** أتبعتها بتفرّس

و نسيت أنّي قد حلف *** ت، فما عقوبة من نسي؟

فقام سعيد، فقبّل رأسها و قال: لا عقوبة عليه بل نحتمل هفوته، و نتجافى عن إساءته، و غنت عريب في هذا الشّعر هزجا، فشربنا عليه بقيّة يومنا، ثم افترقنا. و أثّر بنان في قلبها و علقت به، فلم تزل حتى واصلته و قطعت سعيدا.

وجدت في بعض الكتب عن عبد اللّه بن المعتز، قال: قال لي إبراهيم بن المهدي(5):

كانت فضل الشّاعرة من أحسن خلق اللّه خطّا، و أفصحهم كلاما، و أبلغهم في مخاطبة، و أثبتهم في محاورة،

ص: 367


1- عجز البيت كما جاء في ف، بيروت: «و أنهى دموعي أن تبثك ما عندي». و في «التجريد»: «و أنهى جفوني...».
2- ب، س: «و جمل.
3- شكل: فيه دلال و غزل.
4- تشمز: تقبض. و في «المختار»: «فغم». و في ب، س: «فتشمر»، تصحيف.
5- ف، بيروت: المدبر.

فقلت يوما لسعيد بن حميد: أظنّك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها و تقيّدها(1) و تخرّجها، فقد أخذت نحوك في الكلام و سلكت سبيلك، فقال لي و هو يضحك: ما أخيب(2) ظنّك، ليتها تسلم منّي و لا آخذ كلامها و رسائلها(3)، و اللّه يا أخي لو أخذ أفاضل الكتّاب و أماثلهم عنها لما استغنوا عن ذلك.

صوت

كلّ حيّ لاقي الحمام فمودي *** ما لحيّ مؤمّل من خلود

لا تهاب المنون شيئا و لا تب *** قي على والد و لا مولود

الشعر لابن مناذر، و الغناء لبنان ثقيل أول بالسّبابة في مجرى الوسطى من كتابه الذي جمع فيه صنعته، و فيه لساجي(4) جارية عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر ثقيل أوّل أيضا على مذهب النّوح، ابتداؤه نشيد.

ص: 368


1- ف: «و تفيدها».
2- ف: «ما أحسن ظنك».
3- ب، هب: «... لآخذ كلامها و رسائلها».
4- هب، ب، س: لشاج.

16 - أخبار ابن مناذر و نسبه

نسبه و كنيته

هو محمّد بن مناذر مولى بني صبير بن يربوع، و يكنى أبا جعفر، و قيل: إنه كان يكنى أبا عبد اللّه.

و وجدت في بعض الكتب رواية عن ابن حبيب أنه كان يكنى أبا ذريح و قد كان له ابن يسمى ذريحا، فمات و هو صغير و إياه عنى بقوله:

كأنّك للمنايا يا *** ذريح اللّه صوّركا

فناط بوجهك الشّعرى *** و بالإكليل قلّدكا

و لعلّه اكتنى به قبل وفاته.

و قال الجاحظ: كان محمّد بن مناذر مولى سليمان القهرمان، و كان سليمان مولى عبيد اللّه بن أبي بكرة مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و كان أبو بكرة عبدا لثقيف، ثم ادّعى عبيد اللّه بن أبي بكرة أنه ثقفيّ، و ادّعى سليمان القهرمان أنه تميميّ، و ادّعى ابن مناذر أنه صليبة من بني صبير بن يربوع، فابن مناذر مولى مولى مولى، و هو دعيّ مولى دعيّ، و هذا ما لا يجتمع في غيره قط ممّن عرفناه و بلغنا خبره.

كان إماما في العلم باللغة

و محمد بن مناذر شاعر فصيح مقدّم في العلم باللغة و إمام فيها، و قد أخذ عنه أكابر أهلها، و كان في أوّل أمره يتألّه، ثم عدل عن ذلك فهجا الناس، و تهتّك و خلع، و قذف أعراض أهل البصرة حتى نفي عنها إلى الحجاز فمات هناك. و هذه الأبيات يرثي بها ابن مناذر عبد المجيد بن عبد الوهاب الثّقفيّ، و كان عبد الوهاب(1) محدّثا جليلا، و قد روى عنه وجوه المحدّثين و كبراء الرّواة، و كان ابن مناذر يهوى عبد المجيد هذا. فكان في أيّام حياته/مستورا متألّها جميل الأمر، فلمّا مات عبد المجيد حال عن جميع ما كان عليه، و أخبارهما تذكر في مواضعهما.

كان ناسكا في أول أمره، إلى أن فتن بعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتهتك و فتك

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد النّحويّ، قال:

كان ابن مناذر مولى صبير بن يربوع، و كان إماما في علم اللّغة و كلام العرب، و كان في أوّل أمره ناسكا ملازما للمسجد، كثير النّوافل، جميل الأمر إلى أن فتن بعبد المجيد بن عبد الوهاب الثّقفيّ، فتهتّك بعد ستره، و فتك بعد نسكه، ثم ترامى به الأمر بعد موت عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفيّ إلى أن شتم الأعراض و أظهر البذاء و قذف المحصنات، و وجبت عليه حدود، فهرب إلى مكة و بقي بها حتى مات.

ص: 369


1- ف: «و كان عبد المجيد...».
كان سفيان بن عيينة يسأله عن معاني حديث النبي صلّى اللّه عليه و سلم فيخبره بها

و كان يجالس سفيان بن عيينة، فيسأله سفيان عن معاني حديث النبي صلّى اللّه عليه و سلم فيخبره بها، و يقول له: كذا و كذا مأخوذ من كذا، فيقول سفيان: كلام العرب بعضه يأخذ برقاب بعض. قال: و أدرك المهديّ/و مدحه، و مات في أيام المأمون.

أخبرني عليّ بن سليمان، قال: حدّثني محمد بن يزيد و غيره: أنّ محمّد بن مناذر كان إذا قيل له: ابن مناذر - بفتح الميم - يغضب، ثم يقول: أ مناذر الصّغرى أم مناذر الكبرى؟ و هما كورتان من كور الأهوار، إنما هو مناذر على وزن مفاعل من ناذر فهو مناذر، مثل ضارب فهو مضارب، و قاتل فهو مقاتل.

وعظته المعتزلة فلم يتعظ، و منعوه دخول المسجد فنابذهم و هجاهم

قال محمد بن يزيد: و لما عدل محمد بن مناذر عما كان عليه من النّسك و التّألّه وعظته المعتزلة فلم يتّعظ، و أوعدته بالمكروه فلم يزدجر، و منعوه دخول المسجد فنابذهم/و طعن عليهم و هجاهم، و كان يأخذ المداد بالليل فيطرحه في مطاهرهم، فإذا توضّئوا به سوّد وجوههم و ثيابهم، و قال في توعد المعتزلة إيّاه:

أبلغ لديك بني تميم مألكا(1) *** عنّي و عرّج في بني يربوع

أنّي أخ لكم بدار مضيعة *** بوم و غربان عليه وقوع(2)

يا للقبائل من تميم ما لكم *** روبى(3) و لحم أخيكم بمصيع

هبّوا له فلقد أراه بنصركم *** يأوي إلى جبل أشمّ منيع

و إذا تحزّبت القبائل كنتم *** ثقتي لكلّ ملمّة و فظيع(4)

إن أنتم لم تثأروا لأخيكم(5) *** حتى يباء بوتره المتبوع

فخذوا المغازل بالأكفّ و أيقنوا *** ما عشتم بمذلّة و خضوع

إن كنتم حدبا(6) على أحسابكم *** سمعا فقد أسمعت كلّ سميع

أين الصّبيريّون(7) لم أر مثلهم *** في النائبات و أين رهط وكيع!

قال: ثم استحيا من قوله: أين الصّبيريّون؟ لقلّة عددهم فقال: أين الرّياحيّون؟.

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني الحسن بن عليّ، قال:

حدّثني مسعود بن بشر، قال:

قال لي ابن مناذر: ولع بي قوم من المعتزلة ففرقت منهم، قال: و كان مولى صبير بن يربوع، فقلت: بنو صبير

ص: 370


1- المألك: الرسالة.
2- في البيت إقواء.
3- قوم روبى: خاثر و الأنفس مختلطون.
4- ب، س، و «معجم الأدباء» 19-59: صلتم بدل كنتم. و بفتى بدل ثقتي.
5- ب، س، و «معجم الأدباء» 19-59: «لم توتروا». و معنى توتروا: تفزعوا و تأخذوا له و نره.
6- في ب، س، و «معجم الأدباء» 19-59: «حربا».
7- في «معجم الأدباء» 19-59: «أين الرياحيون...».

نفسان و نصف، فمن أدعو/منهم؟ فقلت: ليس إلا إخوتهم بنو رياح، فقلت أبيات حرّضتهم فيها، و حضضت بنو رياح، فقلت:

أين الرّياحيّون لم أر مثلهم *** في النّائبات و أين رهط وكيع!

قال: فجاء خمسون شيخا من بني رياح فطردوهم عنّي.

أخبرني عليّ بن سليمان قال: حدّثني محمد بن يزيد، قال: حدثني الجاحظ، عن مسعود بن بشر، عن أبي عبيدة، قال:

ما زادت بنو صبير بن يربوع قط على سبعة نفر، كلّما ولد منهم مولود مات منهم ميّت.

كان من أهل عدن

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدثني يعقوب بن نعيم، قال: حدثني إسحاق بن محمد النّخعيّ، قال: حدّثني أبو عثمان المازنيّ، قال:

كان ابن مناذر من أهل عدن، و إنّما صار إلى البصرة في طلب الأدب لتوافر العلماء فيها، فأقام فيها مدّة، ثم شغل بعبد المجيد بن عبد الوهاب الثّقفيّ، فتطاول أمره إلى أن خرج عنها، و كان مقيما بمكّة، فلما مات عبد المجيد نسك. و قوم يقولون: إنه كان دهريّا.

كره الناس إمامته في المسجد بعد تهتكه فهجوه و رد عليهم

و ذكر أبو دعامة، عن عطاء الملط(1) قال:

كان/ابن مناذر يؤمّ النّاس في المسجد الذي في قبيلته، فلما أظهر ما أظهره من الخلاعة و المجون كرهوا أن يصلّي بهم و أن يأتمّوا به(2) فقالوا شعرا و ذكروا ذلك فيه و هجوه، و ألقوا الرقعة في المحراب، فلما قضى صلاته قرأها، ثم قلبها و كتب فيها يقول:

نبّئت قافية قيلت تناشدها *** قوم سأترك في أعراضهم ندبا

ناك الذين رووها أمّ قائلها *** و ناك قائلها أمّ الذي كتبا

ثم رمى بها إليهم و لم يعد إلى الصلاة بهم.

أول لقاء له بأبي نواس

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال:

حدثنا أبو الفضل بن عبدان بن أبي حرب الصّفّار، قال: حدّثني الفضل بن موسى مولى بني هاشم، قال:

دخل ابن مناذر المسجد الجامع بالبصرة، فوقعت عينه على غلام مستند إلى سارية فخرج و التمس غلاما و رقعة و دواة، فكتب أبياتا مدحه بها، و سأل الغلام الذي التمسه أن يوصّل الرّقعة إلى الفتى المستند إلى السارية، فذهب بها إلى الغلام، فلما قرأها قلبها و كتب على ظهرها يقول:

ص: 371


1- ب، س: عطاء الملك.
2- ف: يأثموا به.

مثل امتداحك لي بلا ورق(1) *** مثل الجدار بني على خصّ

و ألذّ عندي من مديحك لي *** سود النّعال و ليّن القمص

فإذا عزمت فهي لي ورقا *** فإذا فعلت فلست أستعصي

فلما قرأها ابن مناذر قام إليه فقال له: ويلك، أ أنت أبو نواس؟ قال: نعم، فسلّم عليه و تعانقا، و كان ذلك أوّل المودّة بينهما.

خبره مع أبي العتاهية

أخبرني محمّد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثني أبو حاتم، قال:

اجتمع أبو العتاهية و محمد بن مناذر، فقال له أبو العتاهية: يا أبا عبد اللّه، كيف أنت في الشّعر؟ قال: أقول في الليلة إذا سنح القول لي، و اتّسعت القوافي عشرة أبيات إلى خمسة عشر، فقال له أبو العتاهية: لكنّي لو شئت أن أقول في الليلة ألف بيت لقلت، فقال ابن مناذر: أجل و اللّه إذا أردت أن أقول مثل قولك:

ألا يا عتبة السّاعة *** أموت السّاعة السّاعة

قلت: و لكني لا أعوّد نفسي مثل هذا الكلام السّاقط، و لا أسمح لها به، فخجل أبو العتاهية و قام يجرّ رجله.

/أخبرني به الحسن بن عليّ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني سهل بن محمد أبو حاتم، و أحمد بن يعقوب بن المنير ابن أخت أبي بكر الأصمّ. قال ابن مهرويه: و حدثني به يحيى بن الحسن(2) الرّبيعيّ، عن غسّان بن المفضّل(3)، قال:

اجتمع أبو العتاهية، و ابن مناذر، فاجتمع الناس إليهما، و قالوا: هذان شيخا الشّعراء(4)، فقال أبو العتاهية لابن مناذر: يا أبا عبد اللّه، كم تقول في اليوم من الشّعر؟ و ذكر باقي الخبر مثل المتقدم سواء.

رفض خلف الأحمر أن يقيس شعره إلى شعر الجاهليين

أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعيّ، قال: حدّثنا العباس بن ميمون طائع، قال:

سمعت الأصمعيّ يقول: حضرنا مأدبة و معنا أبو محرز خلف الأحمر، و حضرها ابن مناذر، فقال لخلف الأحمر: يا أبا محرز، إن يكن النّابغة، و امرؤ القيس، و زهير، قد ماتوا فهذه أشعارهم مخلّدة فقس شعري إلى شعرهم، و احكم فيها بالحقّ، فغضب خلف، ثم أخذ صحفة/مملوءة مرقا فرمى بها عليه فملأه، فقام ابن مناذر مغضبا، و أظنه هجاه بعد ذلك.

طلب من أبي عبيدة أن يحكم بين شعره و شعر عدي بن زيد

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدّثنا خلاّد(5) الأرقط، قال:

ص: 372


1- الورق: الدراهم المضروبة.
2- ف: بن الحسين.
3- ب، س: الفضل.
4- ف: شيخا الشعر.
5- ب، س: حماد الأرقط.

لقيني ابن مناذر بمكة، فأنشدني قصيدته:

كلّ حيّ لاقي الحمام فمودي

ثم قال لي: أقرئ أبا عبيدة السلام و قل له: يقول لك ابن مناذر، اتّق اللّه و احكم بين شعري و شعر عديّ بن زيد، و لا تقل ذلك جاهليّ، و هذا إسلاميّ، و ذاك قديم و هذا محدث فتحكم بين العصرين، و لكن احكم بين الشعرين ودع/العصبيّة، قال: و كان ابن مناذر ينحو نحو عديّ بن زيد في شعره، و يميل إليه و يقدّمه.

ينحو نحو عدي بن زيد في شعره و يقدمه

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عثمان الكزبريّ، قال: أخبرني محمد بن الحجاج الجرادانيّ، قال:

قلت لابن مناذر: من أشعر الناس؟ قال: من كنت في شعره، فقلت له: و من(1) ذاك؟ فقال: عديّ بن زيد، و كان ينحو نحوه في شعره و يقدّمه و يتّخذه إماما.

كان أبو عبد المجيد الثقفي على جلالته و سنه لا ينكر صحبة ابنه لابن مناذر

و الأبيات التي فيها الغناء أوّل قصيدة لمحمد بن مناذر رثى بها عبد المجيد بن عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثّقفيّ، و كان يهواه، و كان عبد المجيد هذا فيما يقال من أحسن الناس وجها و أدبا و لباسا، و أكملهم في كلّ حال، و كان على غاية المحبّة لابن مناذر و المساعدة له و الشّغف به. و كان يبلغ خبره أباه على جلالته و سنّه و موضعه من العلم، فلا ينكر ذلك؛ لأنّه لم تكن تبلغه عنه ريبة، و كان ابن مناذر حينئذ حميد الأمر(2) حسن المروءة عفيفا.

فحدّثني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا أحمد بن حدّان(3)، قال: حدثني قدامة بن نوح، قال:

قيل لعبد الوهاب بن عبد المجيد الثّقفيّ: إن ابن مناذر قد أفسد ابنك، و ذكره في شعره و شبّب به، فقال عبد الوهاب: أ و لا يرضى ابني أن يصحبه مثل ابن مناذر و يذكره في شعره!.

خروجه إلى جبانة بانة أم عبد المجيد مع جواريها

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدثني عليّ بن محمد بن سليمان النّوفليّ، قال:

أمّ عبد المجيد بن عبد الوهاب الثّقفيّ الذي كان يشبّب به ابن مناذر بانة بنت أبي العاصي، و هي مولاة جنان التي يشبّب بها أبو نواس، قال: فحدّثني من رأى/محمد بن مناذر يوم ثالث بانة هذه، و قد خرج جواريها إلى قبرها، فخرج معهنّ نحو الجبّانة بالبصرة، قال: فقلت له: يا أبا عبد اللّه، أين تريد؟ فقال:

اليوم يوم الثّلاثا *** و يوم ثالث بانه

اليوم تكثر فيه الظّبا *** ء في الجبّانة

ص: 373


1- في ب، س: فقلت له: على ذاك.
2- ف: جميل الأمر.
3- ب: «جدان»، تصحيف.

قال أبو الحسن: ولدت بانة من عبد الوهّاب بن عبد المجيد أولاده: عبد المجيد و أبا العاصي، و زيادا. و زياد الذي عناه أبو نواس في قوله يشبّب بجنان:

جفن عيني قد كاد يس *** قط من طول ما اختلج

و فؤادي من حرّ حبّ *** ك قد كاد أو نضج(1) خبّريني فدتك نف *** سي و أهلي متى الفرج!

كان ميعادنا خرو *** ج زياد فقد خرج

/قال ابن عمّار: قال لي النّوفليّ: في هذه الأبيات غناء حلو مليح، لو سمعته لشربت عليه أربعة أرطال.

قال النوفليّ: و كان لعبد الوهاب ابن يقال له: محمد، كان أسنّ ولده، و يقال: إنه كان يتعشّق بانة ابنة أبي العاصي هذه امرأة أبيه، و إن زياد بن عبد الوهاب منه، و كان أشبه الناس به.

حدثني ابن عمار قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني أبي قال:

خرج ابن مناذر يوما من صلاة التّراويح و هو في المسجد بالبصرة، و خرج عبد المجيد بن عبد الوهاب خلفه، فلم يزل يحدّثه إلى الصّبح، و هما قائمان، إذا انصرف عبد المجيد شيّعه ابن مناذر إلى منزله، فإذا بلغه و انصرف ابن مناذر شيّعه عبد المجيد، لا يطيب أحدهما نفسا بفراق صاحبه حتى أصبحا. فقيل/لعبد الوهاب بن عبد المجيد: ابن مناذر قد أفسد ابنك، فقال: أ و ما يرضى ابني أن يرضى بما يرضى به ابن مناذر(2).

قصيدة له في مدح عبد المجيد بن عبد الوهاب

و في عبد المجيد يقول ابن مناذر يمدحه، و هو من مختار ما قاله فيه، أنشدنيها عليّ بن سليمان الأخفش، عن محمد بن زيد من قصيدة أولها:

شيّب ريب الزّمان رأسي *** لهفي على ريب ذا الزّمان

يقدح في الصّمّ من شرورى *** و يحدر(3) الصّمّ من أبان

يقول فيها يمدح عبد المجيد:

منّي إلى الماجد المرجّى *** عبد المجيد الفتى الهجان

خير ثقيف أبا و نفسا *** إذا التقت حلقتا البطان

نفسي فداء له و أهلي *** و كلّ ما تملك اليدان

كأنّ شمس الضّحى و بدر *** الدّجى عليه معلّقان

نيطا معا فوق حاجبيه *** و البدر و الشّمس يضحكان

مشمّر، همّه المعالي *** ليس برثّ و لا بواني

ص: 374


1- ف: حدثني.
2- في «المختار»: «أ و ما يرضى ابني أن يرضى به ابن مناذر».
3- في ب، هب: و يحذر. و شرورى، و أبان: جبلان.

بنى له عزّة و مجدا *** في أول(1) الدّهر بانيان

بان تلقّاه من ثقيف *** و من ذرا الأزد خير باني(2)

فاسأله ممّا حوت يداه *** يهتزّ كالصّارم اليماني(3)

ملازمته عبد المجيد في مرضه

أخبرني عمّي، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أبو توبة صالح بن محمد قال:

مرض عبد المجيد بن عبد الوهاب الثّقفيّ مرضا شديدا بالبصرة، و كان ابن مناذر ملازما له يمرّضه و يخدمه، و يتولى أمره بنفسه، لا يكله إلى أحد. فحدّثني بعض أهلهم قال: حضرت يوما عنده، و قد أسخن له ماء حارّ ليشربه، و اشتدّ به الأمر فجعل يقول: آه! بصوت ضعيف، فغمس ابن مناذر يده في الماء الحارّ و جعل يتأوّه مع عبد المجيد و يده تحترق حتى كادت يده تسقط، فجذبناها و أخرجناها من الماء، و قلنا له: أ مجنون أنت! أيّ شيء هذا! أ ينتفع به ذاك! فقال: أساعده، و هذا جهد من مقلّ، ثم استقلّ من علّته تلك و عوفي مدّة طويلة، ثم تردّى من سطح فمات، فجزع عليه جزعا شديدا حتى كاد يفضل/أهله و إخوته في البكاء و العويل، و ظهر منه من الجزع ما عجب الناس له، و رثاه بعد ذلك بقصيدته المشهورة، فرواها أهل البصرة، و نيح بها على عبد المجيد، و كان الناس يعجبون بها و يستحسنونها.

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم النّوشجانيّ (4)، قال: سمعت أبي يقول:

حضرت سفيان بن عيينة يقول لابن مناذر: أنشدني ما قلت في عبد المجيد، فأنشده قصيدته الطويلة الدّالية.

قال سفيان: بارك اللّه فيك، فلقد تفرّدت بمراثي أهل العراق.

سقوط عبد المجيد من السطح على رأسه و موته

فأخبرني عمّي، قال: حدثني أبو هفّان، قال: قال جمّاز:

تزوج عبد المجيد امرأة من أهله فأولم عليها شهرا يجتمع عنده في كلّ يوم وجوه أهل البصرة و أدباؤها و شعراؤها، فصعد ذات يوم إلى السطح فرأى طنبا من أطناب السّتارة قد انحلّ، فأكبّ عليه ليشدّه، فتردّى على رأسه و مات من سقطته، فما رأيت مصيبة قطّ كانت أعظم منها و لا أنكأ للقلوب.

طارح محمد بن عمر الخراز رثاءه في عبد المجيد و ناحا عليه به بعد أن وضعا فيه لحنا

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار قال: حدثني الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدثني العبّاس بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان، قال: حدثني محمد بن عمر الخرّاز(5)، قال:

قال لي ابن مناذر: ويحك! و لست أرى نساء ثقيف ينحن على عبد المجيد نياحة على استواء، قلت: فما

ص: 375


1- في ب: أزل.
2- في ب: «بأن تلقاه... غير بان»، تحريف.
3- كذا في ف. و في ب، س: «جاء البيت الثامن مكان التاسع».
4- ف: محمد بن محمد بن القاسم النوشجاني.
5- ف: عن جعفر بن سليمان، قال: حدثني محمد بن عمرو الجان.

تحبّ؟ قال: تخرج معي حتى أطارحك، فطارحني القصيدة التي يقول فيها:

إنّ عبد المجيد يوم تولّى *** هدّ ركنا ما كان بالمهدود

هدّ عبد المجيد ركني و قد كن *** ت بركن أبوء منه شديد(1)

قال: فما زلت حتى حفظتها و وعيتها، و وضعنا فيها لحنا، فلما كان في الليلة التي يناح بها على عبد المجيد فيها، صلّينا العشاء الآخرة في المسجد الجامع، ثم خرجنا إلى دارهم، و قد صعد النساء على السّطح ينحن عليه، فسكتن سكتة لهنّ، فاندفعنا أنا و هو ننوح عليه، فلما سمعتنا أقبلن يلطمن و يصحن حتى كدن ينقلبن من السطح إلى أسفل من شدة تشرّفهنّ علينا و إعجابهنّ بما سمعنه منا، و أصبح أهل المسجد ليس لهم حديث غيرنا، و شاع الخبر بالبصرة و تحدّث به الناس حتى نقل من مجلس إلى مجلس.

أم عبد المجيد تبرّ قسمه و تصيح صياحا يقال إنه أول ما قيل في الإسلام

و أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال لي: حدثني موسى بن(2) حماد بن عبد اللّه القرشيّ، قال: حدثني محمد بن النعمان بن جبلة الباهليّ، قال: لما قال ابن مناذر:

لأقيمنّ مأتما كنجوم اللّيل *** زهرا يلطمن حرّ الخدود

موجعات يبكين للكبد *** الحرّى عليه و للفؤاد العميد

/قالت أم عبد المجيد: و اللّه لأبرّنّ قسمه، فأقامت مع أخوات عبد المجيد و جواريه مأتما عليه، و قامت تصيح عليه: واى، ويه، واى، ويه، فيقال: إنها أول من فعل ذلك و قاله في الإسلام.

رثاء له في عبد المجيد

و أخبرني بهذا الخبر ابن عمّار عن عليّ بن محمد النوفليّ عن عمه:

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا محمد بن يزيد، عن محمد بن عامر النخعيّ (3)، قال:

أنشدني محمد بن مناذر لنفسه يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب يقول:

/يا عين حقّ لك البكا *** ء لحادث الرّزء الجليل

فابكي على عبد المجي *** د و أعولي كلّ العويل

لا يبعد اللّه الفتى ال *** فيّاض ذا الباع الطّويل

عجل الحمام به فودّ عن *** ا و آذن بالرّحيل

لهفي على الشّعر المعفّ *** ر منك و الخدّ الأسيل

كسفت لفقدك شمسنا *** و البدر آذن بالأفول

عرض قصيدته الدالية على أبي عبيدة فلم تعجبه

حدثني عمّي قال: حدثنا الكرانيّ قال: حدثني النّضر بن عمرو عن المازنيّ، قال: حدثنا حيّان:

ص: 376


1- بيتان من قصيدة تقع في تسعة و ثلاثين بيتا. انظر «مهذب الأغاني» 7-160.
2- ف: «حدثني يونس بن حماد».
3- ف: «الحنفي».

أنّ ابن مناذر دفع قصيدته الدالية إليه، و قال: اعرضها على أبي عبيدة، فأتيته و هو على باب أبي عمرو بن العلاء، فقرأت عليه منها خمسة أبيات فلم تعجبه، و قال: دعني من هذا، فإني قد تشاغلت بحفظ القرآن عنه و عن مثله، قال: و كان أبو عبيدة يبغضه و يعاديه لأنه هجاه.

هبود و عبود

أخبرني محمد بن مزبد بن أبي الأزهر، قال: حدّثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: قال ابن مناذر: قلت:

يقدح الدهر في شماريخ رضوى

/ثم مكثت حولا لا أدري بم أتمّمه، فسمعت قائلا يقول: هبّود، قلت: و ما هبّود؟ فقال لي: جبيل في بلادنا، فقلت:

و يحطّ الصّخور من هبّود

قال إسحاق: و سمع أعرابيّ هذا البيت، فقال: ما أجهل قائله بهبّود! و اللّه أنها لأكيمة ما توارى الخارئ، فكيف يحطّ منها الصّخور!.

أخبرني عمّي، قال: حدثنا الكرانيّ، قال: حدّثني أبو حاتم، قال: سمعت أبا مالك عمرو بن كركرة يقول:

أنشدني ابن مناذر قصيدته الدّالية التي رثى فيها عبد المجيد، فلمّا بلغ إلى قوله:

يقدح الدّهر في شماريخ رضوى *** و يحطّ الصّخور من هبّود

قلت له: هبّود، أيّ شيء هو؟ فقال: جبل، فقلت: سخنت عينك، هبّود و اللّه بئر باليمامة ماؤها ملح لا يشرب منه شيء خلقه اللّه، و قد و اللّه خريت فيها مرّات، فلما كان بعد مدة وقفت عليه في مسجد البصرة و هو ينشدها، فلما بلغ هذا البيت أنشدها:

و يحط الصّخور من عبّود

فقلت له: عبّود، أيّ شيء هو ذا(1)؟ فقال: جبل بالشّام، فلعلك يا بن الزّانية خريت عليه أيضا، فضحكت ثم قلت: لا ما خريت عليه و لا رأيته، و انصرفت عنه و أنا أضحك.

أخبرني عمّي قال: حدّثني الكرانيّ، عن العمريّ، عن الهيثم بن عديّ، قال:

كان يحيى بن زياد يرمى بالزّندقة، و كان من أظرف الناس و أنظفهم، فكان يقال: أظرف من الزّنديق.

شعر له في محمد بن زياد

و كان الحاركيّ و اسمه محمد بن زياد يظهر الزندقة تظارفا، فقال فيه ابن مناذر:

يا بن زياد يا أبا جعفر *** أظهرت دينا غير ما تخفي

مزندق و الظاهر باللفظ(2) في *** باطن إسلام فتى عف

ص: 377


1- في ب، س: أي شيء هو زيادة.
2- ف: «مزندق الظاهر باللطف».

لست بزنديق و لكنّما *** أردت أن توسم بالظّرف(1)

و قال فيه أيضا:

يا أبا جعفر كأنك قد صر *** ت على أجرد طويل الجران(2)

/من مطايا ضوامر ليس يصهل *** ن إذا ما ركبن يوم رهان

لم يذلّلن بالسّروج و لا أق *** رح أشداقهنّ جذب العنان

قائمات مسوّمات لدى الجس *** ر لأمثالكم من الفتيان

انصرف الناس عن حلقته إلى حلقة عتبة النحوي فقال شعرا في ذلك

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة عن ابن عائشة، قال:

كان عتبة النّحويّ من أصحاب سيبويه، و كان صاحب نحو فهما بما يشرحه و يفسّره على مذاهب أصحابه، و كان ابن مناذر يتعاطى ذلك، و يجلس إليه قوم يأخذونه عنه، فجلس عتبة قريبا من حلقته، فتقوّض الناس إليه، و تركوا ابن مناذر، فلمّا كان في يوم الجمعة الأخرى قام ابن مناذر من حلقته، فوقف على عتبة، ثم أنشأ يقول:

قوموا بنا جميعا *** لحلقة العذاري

تجمعن للشقاء *** إلى عتبة الخسار(3)

ما لي و ما لعتب *** ة إذ يبتغي ضراري

/قال: فقام عتبة إليه فناشده ألاّ يزيد، و منع من كان يجلس إلى ابن مناذر من حضور حلقته، و جلس هو بعيدا من ابن مناذر بعد ذلك.

كان جاره ابن عمير يغري به المعتزلة فهجاه

حدّثني عمّي، قال: حدثنا الكرانيّ، قال: حدّثنا عيسى بن إسماعيل تينة، قال:

كان لابن مناذر جار يقال له ابن عمير(4) من المعتزلة، فكان يسعى بابن مناذر إليهم، و يسبّه و يذكره بالفسق و يغريهم به، فقال يهجوه:

بنو عمير مجدهم دارهم *** و كلّ قوم فلهم مجد

كأنهم فقع(5) بدوّيّة *** و ليس لهم قبل و لا بعد

بثّ عمير لؤمه فيهم *** فكلّهم من لؤمه جعد

و أخبرني بهذا الخبر الحسن بن عليّ، عن ابن مهرويه، عن النّوفليّ بمثله، و زاد فيه: و عبد اللّه بن عمير - أبو هؤلاء الذين هجاهم - أخو عبد اللّه بن عامر لأمّه، أمّهما دجاجة بنت إسماعيل بن الصّلت السّلميّ.

ص: 378


1- في ف: البيت الثاني مكان الثالث.
2- الجران: باطن العنق من البعير و غيره.
3- في هب: جمعن. و في ب، بيروت: «يجمعن... مع عتبة».
4- ف: «أبو عمير».
5- الفقع: البيضاء الرخوة من الكمأة. يقال للذليل: هو أذل من فقع بقرقرة أو بقرقر. و في ب: «قفع»، تصحيف.
كان من أحضر الناس جوابا

أخبرني هاشم بن محمد، قال: حدثنا الخليل بن أسد، قال:

كان ابن مناذر من أحضر الناس جوابا، قال له رجل: ما شأنك؟ قال: عظم في أنفي.

قال: و سأله رجل يوما: ما الجرباء؟ فأومأ بيده إلى الأرض، قال: هذه، يهزأ به، و إنّما الجرباء السّماء.

خبره مع الخليل بن أحمد

أخبرني أحمد بن العبّاس العسكريّ المؤدّب، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدّثني جعفر بن محمّد عن دماذ(1) قال:

/دار بين الخليل بن أحمد و بين ابن مناذر كلام، فقال له الخليل: إنما أنتم معشر الشّعراء تبع لي، و أنا سكّان السّفينة، إن قرّظتكم و رضيت قولكم نفقتم و إلاّ كسدتم، فقال ابن مناذر: و اللّه لأقولنّ في الخليفة قصيدة أمتدحه بها و لا أحتاج إليك فيها عنده و لا إلى غيرك.

يمدح الرشيد فيجيزه

فقال في الرّشيد قصيدته الّتي أوّلها:

ما هيّج الشوق من مطوّقة *** أوفت على بانة تغنّينا

يقول فيها:

و لو سألنا بحسن وجهك يا *** هارون صوب الغمام أسقينا

/قال: و أراد أن يفد بها(2) إلى الرشيد، فلم يلبث أن قدم الرشيد البصرة حاجّا ليأخذ على طريق النّباج(3)و كان الطريق(4) قديما، فدخلها و عديله إبراهيم الحرّانيّ فتحمّل عليه ابن مناذر بعثمان بن الحكم الثّقفيّ، و أبي بكر السّلميّ حتى أوصلاه إلى الرّشيد، فأنشده إيّاها، فلما بلغ آخرها كان فيها بيت يفتخر فيه و هو:

قومي تميم عند السّماك لهم *** مجد و عزّ فما ينالونا(5)

فلما أنشده هذا البيت تعصّب عليه قوم من الجلساء، فقال له بعضهم: يا جاهل، أ تفخر في قصيدة مدحت بها أمير المؤمنين. و قال آخر: هذه حماقة بصريّة، فكفّهم عنه الرشيد و وهب له عشرين ألف درهم.

الرشيد يستشهد بشعره و يبعث له بجائزة

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش قال: حدّثنا محمد بن يزيد، قال: حدثني سهيل السّلميّ: أنّ الرّشيد استسقى في سنة قحط فسقي الناس، فسرّ بذلك، و قال: للّه درّ ابن مناذر حيث يقول:

ص: 379


1- ب: ابن دماذ.
2- ف، بيروت: «ينفذ بها»، و في المختار: «ينفذها».
3- في بلاد العرب نباجان، أحدهما على طريق البصرة يقال له نباج بني عامر و هو بحذاء فيد، و الآخر نباج بني سعد بالقريتين.
4- في ب، بيروت: «و هو كان الطريق».
5- ف: «فما يبالونا».

/و لو سألنا بحسن وجهك يا *** هارون صوب الغمام أسقينا

و سأل عن خبره فأخبر أنّه بالحجاز، فبعث إليه بجائزة.

هجاؤه بكر بن بكار

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ، عن محمد بن عمران الصّيرفيّ، قال: حدّثنا العنزيّ، قال: حدّثنا نصر بن علي الجهضميّ، قال: حدّثني محمّد بن عباد المهلبيّ (1)، قال:

شهد بكر بن بكّار عند عبيد اللّه بن الحسن بن الحصين بن الحرّ العنزيّ بشهادة، فتبسّم ثم قال له: يا بكر، ما لك و لابن مناذر حيث يقول:

أعوذ باللّه من النّار *** و منك يا بكر بن بكّار

فقال: أصلح اللّه القاضي، ذاك رجل ماجن خليع لا يبالي ما قال، فقال له: صدقت و زاد تبسّمه، و قبل شهادته، و قام بكر و قد تشوّر(2) و خجل. قال العنزيّ: فحدثني أبو غسّان دماذ قال:

أنشدني ابن مناذر هذا الشّعر الذي قاله في بكر بن بكّار و هو:

أعوذ باللّه من النّار *** و منك يا بكر بن بكّار

يا رجلا ما كان فيما مضى *** لآل حمران بزوّار

ما منزل أحدثته رابعا *** معتزلا(3) عن عرصة الدّار

ما تبرح الدّهر على سوأة *** تطرح حبّا للخشنشار

يا معشر الأحداث يا ويحكم *** تعوّذوا بالخالق الباري

من حربة نيطت على حقوه *** يسعى بها كالبطل الشّاري

يوم تمنّى أنّ في كفّه *** أير أبي الخضر بدينار

/قال ابن مهرويه في خبره: و الخشنشار هو معاوية الزّياديّ المحدّث، و يكنى أبا الخضر، و كان جميل الوجه.

و قال العنزيّ في حديثه: حدّثني إسحاق بن عبد اللّه الحمرانيّ، و قد سألته عن معنى هذا الشعر، فقال:

الخشنشار: غلام أمرد جميل الوجه كان في محلّتنا، و هذا لقبه، و كان بكر بن بكار يتعشّقه، فكان يجيء إلى أبي فيذاكره الحديث و يجالسه و ينظر إلى الخشنشار.

قال العنزيّ: حدّثني عمر بن شبّة، قال:

بلغني أنّ عبيد اللّه بن الحسن(4) لقي/ابن مناذر فقال له: ويحك، ما أردت إلى بكر بن بكّار ففضحته، و قلت فيه قولا لعلّك لم تتحقّقه؟ فبدأ ابن مناذر يحلف له بيمين ما سمعت قطّ أغلظ منها، أنّ الذي قاله في بكر شيء يقوله معه كلّ من يعرف بكرا و يعرف الخشنشار، و يجمع عليه و لا يخالفه فيه، فانصرف عبيد اللّه مغموما بذلك قد بان

ص: 380


1- كذا في ف. و في ب: «أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا الحسن بن علي، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثني محمد بن عباد المهلبي، قال:».
2- تشور مطاوع شوره، أي خجل.
3- ب، بيروت: منتزحا.
4- في هب: عبيد اللّه بن الحسين. و في ب: عبد اللّه بن الحسن.

فيه، فلما بعد عنا، قلت لابن مناذر: برئ اللّه منك، ويلك ما أكذبك! أ كلّ من يعرف بكر بن بكّار(1) يقول فيه مثل قولك حتى حلفت بهذه اليمين؟ فقال: سخنت عينك، فإذا كنت أعمى القلب أيّ شيء أصنع! أ فتراني كنت أكذّب نفسي عند القاضي، إنما موّهت عليه و حلفت له أن كلّ من يعرفها يقول مثل قولي، و عنيت ما ابتدأت به من الشعر و هو قولي:

أعوذ باللّه من النّار

أ فتعرف أنت أحدا يعرفهما أو يجهلهما إلاّ يقول كما قلت: أعوذ باللّه من النار، إنما موّهت على القاضي و أردت تحقيق قولي عنده.

/قال مؤلف هذا الكتاب: و بكر بن بكّار رجل محدّث، قد روى عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح تفسير مجاهد، و روى حديثا صالحا.

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثنا بكر بن بكّار عن عبد اللّه بن المحرز، عن قتادة، عن أنس: أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلم قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم».

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني الأحوص بن الفضل البصريّ (2)، قال:

حدّثنا ابن معاوية الزّياديّ، و أبوه الخشنشار الذي يقول فيه ابن مناذر:

تطرح حبّا للخشنشار

قال: حدثني من لقي ابن مناذر بمكّة فقال: أ لا تشتاق إلى البصرة؟ فقال له:

أخبرني عن شمس الوزّانين، أ على حالها؟ قال: نعم، قال: وثيق بن يوسف الثّقفيّ حيّ؟ قال: نعم، قال:

فغسّان بن الفضل(3) الغلاّبيّ حيّ؟ قال: نعم، قال: لا، و اللّه لا دخلتها ما بقي فيها واحد من الثّلاثة. قال: و شمس الوزّانين في طرف المربد بحضرة مسجد الأنصار في موضع حيطانه قصار لا تكاد الشّمس تفارقه.

كان محمد بن عبد الوهاب أخو عبد المجيد يعاديه

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال:

كان محمّد بن عبد الوهاب الثّقفيّ أخو عبد المجيد يعادي محمد بن مناذر بسبب ميله إلى أخيه عبد المجيد، و كان ابن مناذر يهجوه و يسبّه و يقطعه، و كلّ واحد منهما يطلب لصاحبه المكروه و يسعى عليه، فلقي محمد بن عبد الوهاب ابن مناذر في مسجد البصرة، و معه دفتر فيه كتاب العروض بدوائره، و لم يكن محمّد بن عبد الوهاب يعرف العروض، فجعل يلحظ الكتاب و يقرؤه فلا يفهمه، و ابن مناذر/متغافل عن فعله، ثم قال له: ما في كتابك هذا؟ فخبأه في كمّه و قال: و أيّ شيء عليك ممّا فيه؟ فتعلّق به و لبّبه، فقال له ابن مناذر: يا أبا الصّلت، اللّه اللّه في دمي، فطمع فيه و صاح يا زنديق، في كمّك الزّندقة، فاجتمع النّاس إليه، فأخرج الدّفتر من كمّه و أراهم(4) إيّاه،

ص: 381


1- في ب: بكر بن وائل.
2- في هب: المفضل النصري. و في ب: المفضل.
3- ف: «المفضل».
4- في ب: و أراه.

فعرفوا براءته ممّا قذفه به، و وثبوا على محمّد بن عبد الوهاب و استخفّوا به، و انصرف بخزي(1)، و قال ابن مناذر يهجوه:

إذا أنت تعلّقت(2) *** بحبل من أبي الصّلت

تعلّقت بحبل وا *** هن القوّة منبتّ

/إذا ما بلغ المجد *** ذوو الأحساب بالمتّ

تقاصرت عن المجد *** بأمر رائب شخت(3)

فلا تسمو إلى المجد *** فما أمرك(4) بالثّبت

و لا فرعك في العيدا *** ن عود ناضر النّبت(5)

و ما يبقي لكم يا قو *** م من أثلتكم نحتي

فها فاسمع قريضا من *** رقيق حسن النّعت

يقول الحقّ إن قال *** و لا يرميك بالبهت

و في نعت لوجعاء *** قد استرخت من الفتّ

فعندي لك يا مأبو *** ن مثل الفالج البختي(6)

/عتلّ يعمل الكوم *** من السّبت إلى السّبت

له فيشلة إن أد *** خلت واسعة الخرت(7)

و إلا فاطل وجعاء *** ك بالخضخاض و الزّفت(8)

أ لم يبلغك تسآلي *** لدى العلاّمة المرت

فقال الشيخ سرجوي *** ه(9): داء المرء من تحت

فخذ من ورق الدّفلى *** و خذ من ورق القتّ

و خذ من جعر(10) كيسان *** و من أظفار نسّخت

فغرغره به و اسعط *** بذا في دائه أفتي

قال: و نسّخت(11): لقب أبي عبيدة، و هو اسم من أسماء اليهود؛ لقب به تعريضا بأنّ جدّه كان يهوديّا، و كان أبو عبيدة و سخا طويل الأظفار أبدا و الشّعر، و كان يغضب من هذا اللّقب.

ص: 382


1- في ب: فانصرفوا و وثب يجري.
2- ف: تمسكت.
3- الرائب من الأمور: ما فيه شبهة و ريبة. و الشخت: الضامر.
4- ف: فما أصلك.
5- في ب: «البكت»، تحريف.
6- في ف، بيروت: «مثل الجمل البختي». و في ب: «الفالح البحت». و لعلها الفالج البخت و هو ما أثبتناه. و الفالج: الجمل الضخم ذو السنامين، و البخت: الإبل الخراسانية.
7- الخرت: الثقب.
8- الوجعاء: السافلة؛ و هي الدبر. و الخضخاض: نفط أسود تدهن به الإبل الجربى.
9- في ف: و قال الشيخ ما سر جويه...
10- في ب: و خذ من جعد... و الجعر: خرء كل ذي مخلب من السباع.
11- في ف: سنخت. و في المختار: شبخت.

فأخبرني الحسن بن عليّ، عن ابن مهرويه، عن عليّ بن محمد النوفليّ، قال: لمّا قال ابن مناذر هذه الأبيات:

إذا أنت تعلّقت *** بحبل من أبي الصّلت

تعلّقت بحبل وا *** هن القوّة منبتّ

و قال الشيخ سرجو *** يه: داء المرء من تحت

/فبلغ ذلك سرجويه، فجاء إلى محمد بن عبد الوهاب، فوقف عليه في مجلسه و عنده جماعة من أهله و إخوانه و جيرانه، فسلّم عليه و كان أعجميّا لا يفصح، ثم قال: «بركست كمن كفتم أن كسر مناذر كفت: داء المرء من تحت»(1)، فكاد القوم أن يفتضحوا من الضّحك، و صاح به محمد: اعزب قبّحك اللّه، فظنّ أنه لم يقبل عذره، فأقبل يحلف له مجتهدا ما قال ذاك، و محمد يصيح به: ويلك اعزب عنّي، و هو في الموت منه، و كلما زاده من الصّياح إليه زاده في العذر و اجتهد في الأيمان، و ضحك الناس حتى غلبوا، و قام محمد خجلا فدخل منزله و تفرّقوا.

قال أبو الحسن النّوفليّ: ثم مضى لذلك زمان، و هجا أبو نعامة أبا عبد اللّه عريسة الكاتب/فقال فيه:

و روى شيخ تميم *** خالد أنّ هريسة

يدخل الأصلع ذا الخر *** جين في جوف الكنيسة

فلقي خالد بن الصبّاح هذا هريسة، و كان يعاديه، و أراد أن يخجله، فحلف له مجتهدا أنّه لم يقل فيه ما قاله أبو نعامة، فقال هريسة: يا بارد! لم ترد أن تعتذر، إنما أردت أن تتشبّه بابن مناذر و محمّد بن عبد الوهاب، و بأبي الشّمقمق و أحمد بن المعذّل، و لست من هؤلاء في شيء.

شعر له في ضرير و أخرس جالسين عنده

قرأت في بعض الكتب عن ابن أبي سعد، قال: حدّثني أبو الخطّاب الحسن بن محمد، عن محمد بن إسحاق البلخيّ، قال:

دخلت على ابن مناذر يوما و عنده رجل ضرير جالس عن يمينه، و رجل بصير جالس عن شماله ساكت لا ينطق، قال: فقلت له: ما خبرك؟ فقال:

/بين أعمى و أخرس أخرس اللّه لسان الأعمى و أعمى البصيرا قال: فوثبا فخرجا من عنده و هما يشتمانه.

خبره مع سفيان بن عيينة

و نسخت من كتاب ابن أبي الدّنيا: حدّثني أبو محمّد التّميميّ، قال: حدّثني إبراهيم بن عبد اللّه، عن الحسن بن عليّ، قال:

كنّا عند باب سفيان بن عيينة و قد هرب منا، و عنده الحسن بن عليّ التّختاخ، و رجل من الحجبة، و رجل من أصحاب الرشيد، فدخل بهم و ليس يأذن لنا، فجاء ابن مناذر فقرب من الباب، ثم رفع صوته فقال.

ص: 383


1- كذا في هب، مد: يريد سرجويه أن يقول لابن عبد الوهاب: «إن ما قاله ابن مناذر منسوبا إليه غير صحيح».

بعمرو و بالزّهريّ و السّلف الأولى *** بهم ثبتت رجلاك عند المقاوم

جعلت طوال الدهر يوما لصالح *** و يوما لصبّاح و يوما لحاتم

و للحسن التّختاخ(1) يوما و دونهم *** خصصت حسينا دون أهل المواسم

نظرت و طال الفكر فيك فلم أجد *** رحاك جرت إلاّ لأخذ الدّراهم

فخرج سفيان و في يده عصا و صاح: خذوا الفاسق، فهرب ابن مناذر منه، و أذن لنا فدخلنا.

رثاؤه سفيان بن عيينة

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني أبو بكر المؤدّب، قال:

حدّثني محمد بن قدامة، قال:

سمعت سفيان بن عيينة يقول لابن مناذر: يا أبا عبد اللّه، ما بقي أحد أخافه غيرك، و كأنّي بك قد متّ فرثيتني، فلما مات سفيان بن عيينة، قال ابن مناذر يرثيه:

راحوا بسفيان على نعشه *** و العلم مكسوّين أكفانا(2)

/إنّ الذي غودر(3) بالمنحنى *** هدّ من الإسلام أركانا

لا يبعدنك اللّه من ميّت *** ورّثنا(4) علما و أحزانا

سفيان بن عيينة يتكلم بكلام لابن مناذر

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدّثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال:

حدّثني شيخ من أهل الكوفة يقال له عوّام، قال: سمعت سفيان بن عيينة و قد تكلّم بكلام استحسن، فسأله محمد بن مناذر أن يمليه عليه، فتبسّم سفيان و قال له: هذا كلام سمعتك تتكلّم به فاستحسنته فكتبته عنك، قال:

و على ذلك أحبّ أن تمليه عليّ، فإني إذا رويته عنك كان/أنفق له من أن أنسبه إلى نفسي.

قال عوّام: و أنشدني ابن عائشة لابن مناذر يرثي سفيان بن عيينة بقوله:

يجني من الحكمة نوّارها *** ما تشتهي الأنفس ألوانا(5)

يا واحد الأمّة في علمه *** لقيت من ذي العرش غفرانا

راحوا بسفيان على نعشه *** و العلم مكسوّين أكفانا

رجع إلى المجون بعد موت عبد المجيد بن عبد الوهاب

أخبرني عليّ بن سليمان، قال: حدّثنا محمد بن يزيد، عن محمد بن عامر الحنفيّ، قال:

لمّا مات عبد المجيد بن عبد الوهاب، خرج ابن مناذر إلى مكّة، و ترك النّسك و عاد للمجون و الخلع، و قال

ص: 384


1- في ف: المحتاج. و التختاخ: الألكن.
2- في «معجم الأدباء» 60/19: «راحوا بسفيان على عرشه».
3- في ب: غور.
4- ف، بيروت: ورثتنا.
5- في «معجم الأدباء» 19-60: «يجني من الحكمة سفياننا».

في هذا المعنى شعرا كثيرا، حتى كان إذا مدح أو فخر، لم يجعل افتتاح شعره و مباديه إلا المجون، و حتى قال في مدحه للرّشيد:

هل عندكم رخصة عن الحسن الب *** صريّ في العشق و ابن سيرينا!

/إنّ سفاها بذي الجلالة و الشّي *** بة ألاّ يزال مفتونا

و قال أيضا في هذا المعنى:

ألا يا قمر المسج *** د هل عندك تنويل!

شفائي منك - إن *** نوّلتني - شمّ و تقبيل

سلا كلّ فؤاد(1) و *** فؤادي بك مشغول

لقد حمّلت من حبّي *** ك ما لا يحمل الفيل(2)

خبره مع يونس النحوي

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثني ابن مهرويه، قال: حدثنا العبّاس بن الفضل الربعيّ، قال: حدثني التّوزيّ، قال:

قال ابن مناذر ليونس النحويّ يعرّض به: أخبرني عن جبّل أ تنصرف أم لا؟ و كان يونس من أهلها، فقال له:

قد عرفت ما أردت يا ابن الزّانية. فانصرف ابن مناذر: فأعدّ شهودا يشهدون عليه بذلك، و صار إليه و سأله، هل تنصرف جبّل؟ و علم يونس ما أراد، فقال له: الجواب ما سمعته أمس.

خبر زيارة حجاج الصواف له بمكة

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدّثني إسحاق بن محمد النخعيّ، قال:

حدثني إسحاق بن عمرو السّعديّ، قال: حدّثني الحجاج الصّوّاف. و أخبرني الحسن بن عليّ أيضا، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثني إسحاق بن محمد، قال: حدثني أميّة بن أبي مروان، قال: حدثني حجّاج الصّوّاف الأعور، قال:

خرجت إلى مكّة فكان هجّيراي(3) في الطريق ابن مناذر، و كان لي إلفا و خدنا و صديقا، فدخلت مكة فسألت عنه، فقالوا: لا يبرح المسجد، فدخلت/المسجد فالتمسته فوجدته بفناء زمزم، و عنده أصحاب الأخبار و الشّعراء يكتبون عنه، فسلّمت و أنا أقدّر أن يكون عنده من الشّوق إليّ مثل ما عندي، فرفع رأسه فردّ السّلام ردّا ضعيفا، ثم رجع إلى القوم يحدّثهم و لم يحفل بي، فقلت في نفسي: أ تراه ذهبت عنه معرفتي! فبينا أنا أفكّر إذ طلع أبو الصّلت بن عبد الوهاب الثقفيّ من باب بني شيبة داخلا المسجد، فرفع رأسه فنظر إليه، ثم أقبل عليّ فقال:

أ تعرف هذا؟ فقلت: نعم، هذا الذي يقول فيه من قطع اللّه لسانه:

/إذا أنت تعلّقت *** بحبل من أبي الصّلت

ص: 385


1- في ب: «كل فؤادي».
2- الأبيات في «الشعر و الشعراء» 2-870.
3- الهجيرى: الشأن و القصد.

تعلّقت بحبل وا *** هن القوّة منبتّ

قال: فتغافل عنّي، و أقبل عليهم ساعة، ثم أقبل عليّ فقال: من أيّ البلاد أنت؟ قلت: من أهل البصرة، قال:

و أين تنزل منها؟ قلت: بحضرة بني عائش الصّوّافين، قال: أ تعرف هناك ابن زانية يقال له: حجّاج الصّواف؟ قلت:

نعم تركته ينيك أمّ ابن زانية يقال له: ابن مناذر، فضحك و قام إليّ فعانقني.

هجاؤه حجاج الصواف

قال مؤلّف هذا الكتاب: و لابن مناذر هجاء في حجّاج الصّوّاف على سبيل العبث، و هو قوله.

إنّ ادّعاء الحجّاج في العرب *** عند ثقيف من أعجب العجب

و هو ابن زان لألف زانية *** و ألف علج معلهج النّسب(1)

و لو دعاه داع فقال له: *** يا ألأم النّاس كلّهم أجب

إذا لقال الحجّاج: لبّيك من *** داع دعاني بالحقّ لا الكذب

و لو دعاه داع فقال له: *** من المعلّى في اللؤم؟ قال: أبي

/أبوه زان و الأمّ زانية *** بنت زناة مهتوكة الحجب

تقول: عجّل أدخل، لنائكها *** اتركه في استي إن شئت أو ركبي(2)

من ناكني فيهما فأوسعني *** رهزا دراكا أعطيته سلبي

همّ حري النّيك فابتغوا لحري *** أير حمار أقضي به أربي

أحبّ أير الحمار وا بأبي *** فيشة أير الحمار وا بأبي

إذا رأته قالت: فديتك يا *** قرّة عيني و منتهى طلبي

إذا سمعت النّهيق هاج حري *** شوقا إليه و هاج لي طربي

يأخذني في أسافلي و حري *** مثل اضطرام الحريق في الحطب

شكت إليّ نسوة فقلن لها *** و هي تنادي بالويل و الحرب:

كفّي قليلا، قالت: و كيف و بي *** في جوف صدعي(3) كحكّة الجرب

أرى أيور الرّجال من عصب *** ليت أيور الرّجال من خشب

هجاه إسكاف بالبصرة فهرب منها

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثني أحمد بن محمد الرّازيّ أبو عبد اللّه، قال: حدثني أبو بجير(4)، قال:

كان ابن مناذر يجلس إلى إسكاف بالبصرة، فلا يزال يهجوه بالأبيات فيصيح من ذلك و يقول له: أنا صديقك فاتّق اللّه و أبق على الصّداقة و ابن مناذر يلحّ، فقال الإسكاف: فإني أستعين اللّه عليك و أتعاطى الشعر، فلما أصبح غدا عليه ابن مناذر كما كان يفعل، فأخذ يعبث به و يهجوه، فقال الإسكاف:

ص: 386


1- في ب: «... معلهج الحسب». و في ف: «و ابن ثفل معلهج النسب». و المعلهج: الهجين.
2- الركب: من أسماء الفرج، و في ف: أيرك بدل: اتركه.
3- الصدع: الشق.
4- في ف، بيروت: أبو يحيى.

كثرت أبوّته و قلّ عديده *** و رمى القضاء به فراش مناذر

عبد الصّبيريّين لم تك شاعرا *** كيف ادّعيت اليوم نسبة شاعر!

/فشاع هذان البيتان بالبصرة و رواهما أعداؤه، و جعلوا يتناشدونهما إذا رأوه، فخرج/من البصرة إلى مكّة و جاور بها، فكان هذا سبب هربه من البصرة.

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا الكرانيّ، عن أبي حاتم، قال:

قال ابن مناذر: ما مرّ بي شيء قطّ أشدّ عليّ ممّا مرّ بي من قول أبي العسعاس فيّ:

كثرت أبوّته و قلّ عديده *** و رمى القضاء به فراش مناذر

انظر بكم صنف قد هجاني في هذا البيت قبّحه اللّه، ثم منعني من مكافأته أنّي لم أجد له نباهة فأغضّها، و لا شرفا فأهدمه، و لا قدرا فأضعه.

يستطيع أن يجعل كلامه كله شعرا

أخبرني عمّي، قال: حدّثني الكرانيّ، قال: حدّثني بشر بن دحية الزّياديّ أبو معاوية قال:

سمعت ابن مناذر يقول: إن الشّعر ليسهل عليّ حتى لو شئت ألاّ أتكلّم إلا بشعر لفعلت.

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ، قال: حدّثنا العبّاس بن ميمون طائع، قال: حدّثني بعض أصحابنا، قال:

رأيت ابن مناذر بمكّة و هو يتوكّأ على رجل يمشي معه و ينشد:

إذا ما كدت أشكوها *** إلى قلبي، لها شفعا

ففرّق بيننا دهر *** يفرّق بين ما اجتمعا

فقلت: إنّ هذا لا يشبه شعرك، فقال: إن شعري برد بعدك(1).

ذم امرأة محمد بن عبد الوهاب الثقفي

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق، قال: حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ (2)، قال:

حدّثنا بعض أصحابنا أنّ محمد بن عبد الوهاب الثّقفيّ تزوّج امرأة من ثقيف يقال لها عمّارة، و كان ابن مناذر يعاديه، فقال في ذلك:

/لمّا رأيت القصف و الشّاره *** و البزّ ضاقت به الحاره

و الآس و الرّيحان يرمى به *** من فوق ذي الدّارة و الدّاره

قلت: لمن ذا؟ قيل: أعجوبة *** محمّد زوّج عمّاره

لا عمّر اللّه بها ربعه *** فإنّ عمّارة بدكاره(3)

ويحك فرّي و اعصبي فاك لي(4)*** فهذه أختك فرّاره

ص: 387


1- في ف، بيروت: «إن شعري بدل بعدك».
2- ب: المدني.
3- في هب: مذكاره. و بدكاره: كلمة فارسية معناها بنت زنا.
4- ف: «و اعصبي ذاك بي».

قال: فو اللّه ما لبثت عنده إلا مديدة حتى هربت، و كانت لها أخت قبلها متزوّجة إلى بعض أهل البصرة ففركته(1) و هربت منه، فكانوا يعجبون من موافقة فعلها قول ابن مناذر.

شعر له في أبي أمية خالد

قال أبو أيّوب: و حدّثت أن أبا أميّة(2) و اسمه خالد - و هو الذي يقول فيه أبو نواس:

أيها المقبلان من حكمان *** كيف خلّفتما أبا عثمان؟

و أبا أميّة المهذّب و الما *** جد و المرتجى لريب الزّمان

- كان خطب امرأة من ثقيف، ثم ولد عثمان بن أبي العاصي، فردّ عنها، و تصدّى للقاضي أن يضمّنه مالا من أموال اليتامى، فلم يجبه إلى ذلك، و لم يثق به، فقال فيه ابن مناذر:

أبا أميّة لا تغضب عليّ فما *** جزاء ما كان فيما بيننا الغضب

إن كان ردّك قوم عن فتاتهم *** ففي كثير من الخطّاب قد رغبوا

قالوا: عليك ديور ما تقوم بها *** في كلّ عام تستحدث الكتب

و قد تقحّم من خمسين غايتها *** مع أنه ذو عيال بعد ما انشعبوا

/و في الّتي فعل القاضي فلا تجدن *** فليس في تلك لي ذنب و لا ذنب

أردت أموال أيتام تضمّنها *** و ما يضمّن إلاّ من له نشب

بلغه عن ابن دأب قول قبيح فهجاه

أخبرني محمّد بن خلف وكيع، قال: حدّثني أحمد بن زهير، قال: سمعت إبراهيم بن المنذر الخزاميّ يقول:

بلغ ابن مناذر عن ابن دأب قول قبيح، قال: فدعاني، و قال: اكتب:

فمن يبغ الوصاة فإنّ عندي *** وصاة للكهول و للشّباب

خذوا عن(3) مالك و عن ابن عون *** و لا ترووا أحاديث ابن داب

ترى الغاوين يتّبعون منها *** ملاهي من أحاديث كذاب

إذا التمست منافعها اضمحلّت *** كما يرفضّ رقراق السّحاب

قال: فرويت، و افتضح بها ابن دأب. قال الحزاميّ: فلما قدمت العراق وجدتهم قد جعلوها:

خذوا عن يونس و عن ابن عون

رثاؤه الرشيد

أخبرني عمّي، قال: حدثنا الكرانيّ، قال: حدّثنا أبو حاتم، قال:

كان الرّشيد قد وصل ابن مناذر مرّات صلات سنيّة، فلما مات الرّشيد رثاه ابن مناذر فقال:

ص: 388


1- فركته: كرهته.
2- في ب، س: و حدثت أن أمية.
3- في ب: خذوا من مالك.

من كان يبكي للعلى *** ملكا و للهمم الشّريفة

فليبك هارون الخلي *** فة للخليفة و الخليفه(1)

هجاؤه خالد بن طليق

أخبرني محمّد بن خلف وكيع، قال: حدّثنا أحمد بن أبي خيثمة، عن محمد بن سلاّم قال:

/كان محمّد بن طليق و سائر بني طليق أصدقاء لابن مناذر، فلما ولي المهديّ الخلافة استقضى خالد بن طليق، و عزل عبيد اللّه بن الحسن بن الحرّ(2)، فقال ابن مناذر يهجو خالدا مجونا و خبثا منه:

أصبح الحاكم بالنّ *** اس من آل طليق

جالسا يحكم في النّا *** س بحكم الجاثليق(3)

يدع القصد و يهوي *** في بنيّات الطّريق(4)

يا أبا الهيثم ما كن *** ت لهذا بخليق

لا و لا كنت لما حمّل *** ت منه بمطيق

حبله حبل غرور *** عنده(5) غير وثيق

قال ابن سلاّم: فقلت لابن مناذر: ويحك إذا بلغ إخوانك و أصدقاءك من آل طليق أنّك هجوتهم ما يقولون لك؟ و بأيّ شيء تعتذر إليهم؟ فقال: لا يصدّقون إذا بلغهم أنّي هجوتهم بذلك؛ لأنهم يثقون بي.

مدح بني مخزوم لأنهم زاروه في مرضه

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني الحسن بن عليل(6)، عن مسعود بن بشر، قال: حدّثنا محمّد بن مناذر، قال:

كنت بمكّة فاشتكيت، فلم يعدني من قريش إلا بنو مخزوم وحدهم، فقلت أمدحهم:

جاءت قريش تعودني زمرا *** فقد وعى أحرها لها الحفظه

/و لم تعدني تيم و إخوتها *** و زارني الغرّ(7) من بني يقظه

لن يبرح العزّ منهم أبدا *** حتى تزول الجبال من قرظه(8)

ابن عائشة يطلب سماع مرثيته في عبد المجيد

/أخبرني الحسن، عن ابن مهرويه، عن إسحاق بن محمد النخعيّ، قال:

ص: 389


1- في ب، مد: للخليفة للخليفة.
2- في ف: «عبد اللّه بن الحسن بن الحسن». و في بيروت: «عبيد اللّه بن الحسن بن الحسن».
3- الجاثليق: رئيس الأساقفة (معربة). و في «الشعر و الشعراء»: «ضحكة يحكم... برأي الجاثليق».
4- بنيات الطريق: طرق صغيرة تتشعب من الجادة، و هي الترهات. و منه المثل: «دع بنيات الطريق».
5- في ف: عقده.
6- في ف، هب: الحسن بن علي.
7- في هب: و عادني الغر، و في ب: و زارني العز.
8- قرظة: قرية بوادي عرادات و هو بين اليمن و بين نجد «عن «معجم البلدان» 3-638.

كنّا عند ابن عائشة فقال لعبد الرحمن ابنه: أنشدني مرثية ابن مناذر عبد المجيد فجعل ينشدها فكلّما أتى على بيت استحسنه، حتى أتى على هذا البيت:

لأقيمنّ مأتما كنجوم اللّيل *** زهرا يخمشن(1) حرّ الخدود

فقال ابن عائشة: هذا كلام ليّن كأنه من كلام المخنّثين، فلما أتى على هذا البيت:

كنت لي عصمة و كنت سماء *** بك تحيا أرضي و يخضرّ عودي

فقال: هذا بيتها، ثم أنشد:

إنّ عبد المجيد يوم تولّى *** هدّ ركنا ما كان بالمهدود

ما درى نعشه و لا حاملوه *** ما على النّعش من عفاف وجود

و أرانا كالزّرع يحصدنا الدّه *** ر فمن بين قائم و حصيد

فقال ابن عائشة: أجعله زرعا يحصدنا اللّه؟ فليس هذا من كلام المسلمين، أ لا ترى إلى قوله: إنّه يقول:

يحكم اللّه ما يشاء فيمضي *** ليس حكم الإله بالمردود

عاقبه الرشيد على رثائه البرامكة

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ، قال: حدثني محمد بن موسى، و لم يتجاوزه بالإسناد.

/و نسخت هذا الخبر من كتاب ابن أبي مريم الحاسب: حدّثني ابن القدّاح، و عبد اللّه بن إبراهيم بن قدامة الجمحيّ، قالا: حدّثنا ابن مناذر، قال:

حج الرّشيد بعد إيقاعه بالبرامكة و حج معه الفضل بن الرّبيع، و كنت(2) مضيّقا مملقا، فهيّأت فيه قولا أجدت تنميقه و تنوّقت فيه، فدخلت إليه في يوم التّروية و إذا هو يسأل عنّي و يطلبني، فبدرني الفضل بن الرّبيع قبل أن أتكلّم، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا شاعر البرامكة و مادحهم، و قد كان البشر ظهر لي في وجهه لمّا دخلت، فتنكّر و عبس في وجهي، فقال الفضل: مره يا أمير المؤمنين أن ينشدك قوله فيهم:

أتانا بنو الأملاك من آل برمك

فقال لي: أنشد، فأبيت، فتوعّدني و أكرهني، فأنشدته:

أتانا بنو الأملاك من آل برمك *** فيا طيب أخبار و يا حسن منظر

إذا وردوا بطحاء مكة أشرقت *** بيحيى و بالفضل بن يحيى و جعفر

فتظلم بغداد و يجلو لنا الدّجى *** بمكّة ما حجّوا(3) ثلاثة أقمر

فما صلحت إلا لجود أكفّهم *** و أرجلهم(4) إلا لأعواد منبر

إذا راض يحيى الأمر ذلّت صعابه *** و حسبك من راع له و مدبّر

ص: 390


1- في ف: يلطمن.
2- في ب: «و كان»، تحريف.
3- في هب: «ما كانوا ثلاثة أبدر»، و في ف: «ما عشنا». و في «معجم الأدباء» 19-57: «ما عشنا ثلاثة أبحر».
4- في ف: أقدامهم. و في «معجم الأدباء» 19-57: «فما خلقت إلا لجود... و أرجلهم...».

ترى الناس إجلالا له و كأنّهم *** غرانيق ماء تحت باز مصرصر(1)

ثم أتبعت ذلك بأن قلت: كانوا أولياءك يا أمير المؤمنين أيام مدحتهم، و في/طاعتك لم يلحقهم سخطك و لم تحلل بهم نقمتك، و لم أكن في ذلك مبتدعا، و لا خلا أحد من نظرائي من مدحهم، و كانوا قوما قد أظلّني فضلهم، و أغناني رفدهم فأثنيت بما أولو، فقال: يا غلام، الطم وجهه، فلطمت و اللّه حتى سدرت(2) و أظلم ما كان بيني و بين أهل المجلس، ثم قال: اسحبوه على/وجهه، ثم قال: و اللّه لأحرمنّك و لا تركت أحدا يعطيك شيئا في هذا العام، فسحبت حتى أخرجت، و انصرفت و أنا أسوأ الناس حالا في نفسي و حالي و ما جرى عليّ، و لا و اللّه ما عندي ما يقيم يومئذ قوت عيالي لعيدهم، فإذا بشابّ قد وقف عليّ، ثم قال: أعزز عليّ و اللّه يا كبيرنا بما جرى عليك، و دفع إليّ صرّة و قال: تبلّغ بما في هذه، فظننتها دراهم فإذا هي مائة دينار - قال الصوليّ في خبره: فإذا هي ثلاثمائة دينار - فقلت له: من أنت جعلني اللّه فداءك! قال: أنا أخوك أبو نواس، فاستعن بهذه الدنانير و اعذرني، فقبلتها، و قلت: وصلك اللّه يا أخي و أحسن جزاءك.

كافأه جعفر بن يحيى على القراءة بعد تركه الشعر

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدثنا يحيى بن الحسن الرّبيعيّ، قال: حدثنا أبو معاوية الغلابيّ، قال: قال سفيان بن عيينة:

كلّمني ابن مناذر في أن أكلّم له جعفر بن يحيى، فكلّمته له، و قد كان ابن مناذر ترك الشّعر، فقال: إن أحبّ أن يعود إلى الشّعر أعطيته خمسين ألفا، و إن أحبّ أن أعطيه على القراءة أعطيته عشرة آلاف، فذكرت ذلك له، فقال لي: خذ لي على القراءة، فإني لا آخذ على الشعر و قد تركته.

أخبرني عمّي عن الكرانيّ، عن الرياشيّ، قال: قال العتبيّ:

جاءت قصيدة لا يدرى من قائلها، فقال ابن مناذر:

هذه الدّهماء تجري فيكم *** أرسلت عمدا تجرّ الرّسنا

قال شعرا يصف فيه الألفة بين الرشيد و جعفر بن يحيى

قال الكرّانيّ: و حدثني الرّياشيّ قال: سمعت خلف بن خليفة يقول:

قال لي ابن مناذر: قال لي جعفر بن يحيى: قل فيّ و في الرّشيد شعرا تصف فيه الألفة بيننا فقلت:

قد تقطع الرّحم القريب و تكفر ال *** نّعمى و لا كتقارب القلبين

يدني الهوى هذا و يدني ذا الهوى *** فإذا هما نفس ترى نفسين

قال مؤلف هذا الكتاب: هذا أخذه من كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم نقلا؛ فإن ابن عيينة روى عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عبّاس: أن النبي صلّى اللّه عليه و سلم قال: «إنّ الرّحم تقطع، و إن النّعم تكفر، و لن ترى(3) مثل تقارب القلوب».

ص: 391


1- الغرانيق جمع غرنوق، و هو طائر مائي، أو هو الكركي، و المصرصر: المصوت بشدة.
2- سدرت: تحيرت.
3- في ب، س: و لم تر.

أخبرني هاشم بن محمد، قال: حدّثنا العباس بن ميمون، قال: حدثنا سليمان الشّاذكونيّ قال:

كنا عند سفيان بن عيينة، فحدّث عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله عز و جل: قٰالُوا سَلاٰماً * (1)قالوا سدادا، قال: فقال ابن مناذر و هو إلى جنبي: التنزيل أبين من التفسير(2).

خبره مع أبي حية النميري

أخبرني عمّي، قال: حدثنا الكرانيّ، عن أبي حاتم، و عن العتبيّ، عن أبي معبد قال(3):

مرّ بنا أبو حيّة النّميريّ و نحن عند ابن مناذر، فقال لنا: علام اجتمعتم؟ فقلنا: هذا شاعر المصر، فقال له:

أنشدني، فأنشده ابن مناذر، فلما فرغ، قال له أبو حيّة: /أ لم أقل لك: أنشدني؟ فقالوا له: أنشدنا أنت يا أبا حيّة، فأنشدهم قوله:

ألا حيّ من أجل الحبيب المغانيا(4) *** لبسن البلى ممّا لبسن اللّياليا

إذا ما تقاضى المرء(5) يوم و ليلة *** تقاضاه شيء لا يملّ التّقاضيا

فلما فرغ، قال له ابن مناذر: ما أرى في شعرك شيئا يستحسن، فقال له: ما في شعري شيء يعاب إلا استماعك إياه، فكادا أن يتواثبا، ثم افترقا.

هجا خالد بن طليق و عيسى بن سليمان

أخبرني عمّي، قال: حدّثني الكرانيّ، عن ابن/عائشة قال:

ولي خالد بن طليق القضاء بالبصرة، و عيسى بن سليمان الإمارة بها، فقال محمد بن مناذر يهجوهما بقوله:

الحمد للّه على ما أرى *** خالد القاضي و عيسى أمير

لكنّ عيسى نوكه ساعة *** و نوك هذا منجنون يدور(6)

و قال في شيرويه الزّياديّ، و شيرويه لقب، و اسمه أحمد، و سأله حاجة، فأبى أن يقضيها إلاّ على أن يمدحه:

يا سمي النّبيّ بالعربيّه *** و سمي اللّيوث بالفارسيّه

إن غضبنا فأنت عبد ثقيف *** أو رضينا فأنت عبد أميّه

فغضب شيرويه و جعل يشتمه، و شاع الشّعر بالبصرة، فكان بعد ذلك إذا قيل لشيرويه: ابن مناذر عليك غضبان أو عنك راض، يشتم من يقول له ذلك.

أخبرني الحسن بن القاسم الكوكبيّ قال: حدثنا ابن أبي الدّنيا قال: سمعت محمد بن قدامة الجوهريّ يقول:

سمعت سفيان بن عيينة يقول لمحمد بن مناذر: كأنك بي قد متّ فرثيتني، فلما مات، قال ابن مناذر يرثيه:

ص: 392


1- الذاريات 25، هود 69.
2- في «لسان الميزان» لابن حجر 5-393 ط. الهند: فقال ابن مناذر: معنى التنزيل أبين من التأويل.
3- ف: «عن أبي معاوية».
4- في ب: «المعانيا»، تصحيف، و التصويب من هب، ف.
5- في ب: الأمر.
6- النوك: الحمق. و المنجنون: ما يستقى عليها.

/إنّ الذي غودر بالمنحنى *** هدّ من الإسلام أركانا

راحوا بسفيان على نعشه(1)*** و العلم مكسوّين أكفانا

لا يبعدنك اللّه من هالك *** ورّثتنا علما و أحزانا

يفسر كلمات لعبد اللّه بن مروان

أخبرنا عمّي، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثنا عبد اللّه بن مروان بن معاوية الفزاريّ، قال:

حدّثنا سفيان قال:

سمعت أعرابية تقول: من يشتري مني الحزاة؟ فقلت لها: و ما الحزاة؟ قالت: تشتريها النّساء للطّشّة و الخافية و الإقلات. قال عبد اللّه بن مروان: فسألت ابن مناذر عن تفسير ذلك، فقال: الطّشّة: وجع يصيب الصّبيان في رءوسهم كالزّكام. و الخافية: ما خفي من العلل المنسوبة إلى أذى الجن(2). و الإقلات: قلّة الولد. و أنشدني ابن مناذر بعقب ذلك:

بغاث الطّير أكثرها فراخا *** و أمّ الصّقر مقلات نزور(3)

أي قليلة الفراخ.

أخبرني محمّد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثني أبو حاتم، قال:

سمعت محمّد بن مناذر يقول: العذراء: البتول، و البتور و البتيل واحد، و هي المنقطعة إلى ربّها.

قال: و سأله - يعني ابن مناذر - أبو هريرة الصّيرفيّ بحضرتي فقال: كيف تقول: أمّا لا أو إمّا لا؟ فقال له مستهزئا به: أمّا لا(4)، ثم التفت إليّ فقال أسمعت أعجب من هذه المسألة!.

يجيب على سؤال لم يجب عنه أبو عبيدة

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدّثني العبّاس بن الفضل الرّبعيّ، قال: حدّثنا التّوّزيّ، قال:

سألت أبا عبيدة عن اليوم الثاني من النّحر: ما كانت العرب تسمّيه؟ قال: ليس عندي من ذلك علم. فلقيت ابن مناذر بمكّة، فأخبرته بذلك، فعجب و قال: أ يسقط هذا عن مثل أبي عبيدة! هي أربعة أيّام متواليات كلّها على الرّاء: أولها يوم النّحر، و الثّاني يوم القرّ، و الثّالث يوم النّفر، و الرّابع يوم الصدر. فحدّثته - يعني أبا عبيدة - فكتبه عن ابن/مناذر، و قد روى ابن مناذر الحديث المسند، و نقله عنه المحدّثون.

بعض روايات له

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا الكرانيّ، قال: حدّثنا الخليل بن أسد، عن محمد بن مسعدة الدّارع أبي الجهجاه، قال:

ص: 393


1- في «معجم الأدباء» 19-60: «... على عرشه».
2- في ب: «الحق»، تحريف.
3- البيت للعباس بن مرداس في «شرح الحماسة» 3-153 ط. حجازي ضمن قصيدة من تسعة أبيات، مطلعها: ترى الرجل النحيف فتزدريه و في أثوابه أسد مزير
4- الصواب: «إمّا لا» بكسر الهمزة، أي إن كنت لا تفعل غيره.

حدّثني محمّد بن مناذر الشّاعر، قال: حدثني سفيان الثّوري، عن الأغرّ، عن وهب بن منبّه، قال: كان يقال:

الحياء من الإيمان، و المذى - مكسور الميم مقصور - من النّفاق، فقلت: إنّ الناس يقولون: المذاء، فقال: هو كما أخبرتك، فقلت له: و ما المذاء؟ قال: اللّين في أمر النساء، و منه درع ماذيّ، و عسل ماذيّ.

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني إبراهيم بن عبد اللّه بن الجنيد، قال: حدثني حامد بن يحيى البلخيّ، قال:

حدثني محمد بن مناذر الشاعر، قال: حدّثني يحيى بن عبد اللّه بن مجالد، عن الشّعبيّ، عن مسروق، عن عبد اللّه، قال: لمّا نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يوم بدر إلى القتلى و هم مصرعون، قال لأبي بكر: «لو أنّ أبا طالب حيّ لعلم أنّ أسيافنا قد أخذت بالأماثل»، يعني قول أبي طالب:

كذبتم و بيت اللّه إن جدّ ما أرى *** لتلتبسن أسيافنا بالأماثل(1)

/أخبرني محمد بن خلف قال: حدّثني إسحاق بن محمد النخعيّ، قال:

حدثنا ابن مناذر، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: قال عليّ عليه السلام: «ما قام بي(2) من النّساء إلا الحارقة أسماء». قال ابن مناذر: الحارقة: التي تجامع على جنب.

أخبرني محمّد بن عمران الصّيرفي قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ، عن العباس بن عبد الواحد، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن مناذر، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن أبي هريرة، قال:

جاء الشيطان إلى عيسى، قال: أ لست تزعم أنك صادق؟ قال: بلى، قال: فأوف على هذه الشّاهقة، فألق نفسك منها، فقال: ويلك، أ لم يقل اللّه: يا ابن آدم، لا تبلني بهلاكك، فإنّي أفعل ما أشاء.

كتب رقعة فيها شعر لغلام في مسجد البصرة

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق، عن حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

نظر محمد بن مناذر إلى غلام حسن الوجه في مسجد البصرة، فكتب إليه بهذه الأبيات:

وجدت في الآثار في بعض ما *** حدّثنا الأشياخ في المسند

ممّا روى الأعمش عن جابر *** و عامر الشّعبيّ و الأسود

و ما روى شعبة عن عاصم *** و قاله حمّاد عن فرقد

وصيّة جاءت إلى كل ذي *** خدّ خلا من شعر أسود

أن يقبلوا الرّاغب في وصلهم *** فاقبل فإني فيك لم أزهد

نوّل فكم من جمرة ضمّها *** قلبي من حبّيك لم تبرد

فلمّا قرأها الفتى ضحك، و قلب الرّقعة، و كتب في ظهرها: لست شاعرا/فأجيبك، و لا فاتكا فأساعدك، و أنا أعوذ باللّه ربّك من شرّك.

ص: 394


1- ف: «... بالأنامل».
2- ف: «لي».
رواية أخرى في خبره مع أبي العتاهية

أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ، قال: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدّثنا محمد بن عبد اللّه العبديّ، قال: حدّثنا عليّ بن المبارك/الأحمر، قال:

لقي أبو العتاهية ابن مناذر بمكّة، فجعل يمازحه و يضاحكه، ثم دخل على الرّشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا ابن مناذر شاعر البصرة يقول قصيدة في سنة، و أنا أقول في سنة مائتي قصيدة(1)، فقال الرشيد: أدخله إليّ، فأدخله إليه و قدّر أنّه يضعه عنده، فدخل فسلّم و دعا، فقال: ما هذا الذي يحكيه عنك أبو العتاهية؟ فقال ابن مناذر:

و ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: زعم أنك تقول قصيدة في سنة، و أنّه يقول كذا و كذا قصيدة في السّنة، فقال:

يا أمير المؤمنين، لو كنت أقول كما يقول:

ألا يا عتبة السّاعة *** أموت السّاعة السّاعه

لقلت منه كثيرا، و لكنّي الذي أقول:

إنّ عبد المجيد يوم تولّى *** هدّ ركنا ما كان بالمهدود

ما درى نعشه و لا حاملوه *** ما على النّعش من عفاف وجود

فقال له الرشيد: هاتها فأنشدنيها، فأنشده، فقال الرشيد: ما كان ينبغي أن تكون هذه القصيدة إلاّ في خليفة أو وليّ عهد، ما لها عيب إلاّ أنّك قلتها في سوقة، و أمر له بعشرة آلاف درهم، فكاد أبو العتاهية يموت غمّا و أسفا.

سئل عنه يحيى بن معين فذمّه

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدثنا إبراهيم بن الجنيد، قال:

سألت يحيى بن معين، عن محمّد بن مناذر الشاعر، فقال: لم يكن بثقة و لا مأمون، رجل سوء نفي من البصرة، و وصفه بالمجون و الخلاعة، فقلت: إنما/تكتب شعره(2) و حكايات عن الخليل بن أحمد، فقال: هذا نعم. و أما الحديث فلست أراه موضعا له.

وفاته بعد أن كف بصره

أخبرني الحسن، قال: حدّثني ابن مهرويه، قال: حدثني عليّ بن محمد النّوفليّ قال:

رأيت ابن مناذر في الحجّ سنة ثمان و تسعين و مائة، قد كفّ بصره، تقوده جويرية حرّة، و هو واقف يشتري ماء قربة، فرأيته وسخ الثّوب و البدن، فلما صرنا إلى البصرة أتتنا وفاته في تلك الأيّام.

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق قال: حدّثنا خلاّد الأرقط قال:

تذاكرنا ابن مناذر في حلقة يونس، فقدح فيه أكثر أهل الحلقة، حتى نسبوه إلى الزّندقة، فلما صرت في السّقيفة التي في مقدّم المسجد سمعت قراءة قريبة من حائط القبلة، فدنوت فإذا ابن مناذر قائم يصلّي، فرجعت إلى الحلقة، فقلت لأهلها: قلتم في الرجل ما قلتم، و ها هو ذا قائم يصلّي حيث لا يراه إلا اللّه عزّ و جلّ.

ص: 395


1- في هب: «في سنة واحدة مائتي قصيدة»، و في ب: «ما بين قصائد»، تحريف.
2- ف: «إنما يكتب عنه شعرا أو حكايات عن الخليل».
خبره مع أبي خيرة
اشارة

أخبرني محمّد بن جعفر الصّيدلانيّ النّحويّ قال: حدثنا أحمد بن القاسم البرقيّ، قال: حدّثنا أحمد بن يعقوب، قال: حدّثني أحمد بن يحيى الهذليّ التّمّار، عن عبد اللّه بن عبد الصّمد الضّبّيّ قال:

كنّا يوما جلوسا في حلقة هبيرة بن جرير الضّبّيّ (1) إذ أقبل محمّد بن مناذر في برد قد كسته إيّاه بانة بنت أبي العاصي، فسلّم عليّ وحدي، و لم يعرف منهم أحدا، ثم قام فجلس إلى أبي خيرة، فخاطبه مخاطبة خفيفة(2)، و قام مغضبا، فقال لي هبيرة: من هذا؟ فقلت: محمّد بن مناذر، فقال: إنا للّه قوموا بنا، فقام إلى أبي خيرة، فقال له: ما ذا قال لك ابن مناذر؟ قال: سألني عن شيء و كنت مشغولا عنه فقال(3): /يا أبا خيرة إن العشائر تغبطنا لعلمك، و ما جعل/اللّه عندك، فنشدناك اللّه أن تكون لنا، كما كان عرادة لبني نمير، فإنه تعرّض لجرير فهجاه فعمّهم فقال:

عرادة من بقيّة قوم لوط *** ألا تبّا لما فعلوا تبابا

أ تدري من كان عندك آنفا؟ قال: لا، قال: ابن مناذر، و ما تعرّض لأعراض قوم قطّ إلاّ هتكها و هتكهم، فإذا جاءك يسألك عن شيء فأجبه، و لا تعتلّ عليه بالبول، و لا تطلب منه شيئا، و كلّ ما أردت من جهته ففي مالي، قال: أفعل. قال: و كان أبو خيرة إذا سأله إنسان عن شيء و لم يعطه شيئا يعتلّ عليه بالبول. فما شعرنا من غد إلا بابن مناذر و قد أقبل، فعلمنا أنه قصد أبا خيرة، فأتيناه، فلما رأى جمعنا استحيا منّا، و سلّم علينا و تبسّم، ثم قال:

يا أبا خيرة، قد قلت شعرا، و قبيح بمثلي أن يسأل عنه فلا يدري ما فيه، و إنّي ذكرت فيه إنسانا فشبّهته بالأفّار، فأيّ شيء هو؟ فاحمرّ وجه أبي خيرة و اضطرب، و قال: هو التّيس الوثّاب الذي ينزو و قضيبه رخو فلا يصل، فقال:

جزيت خيرا، و وثب و هو يضحك، فقمنا إليه و قلنا: قد علمنا أنّك عنيت هذا الشيخ، فإن رأيت أن تهبه لنا فافعل؛ فإنّه شيخنا، قال: و اللّه ما عنيت غيره، و قد وهبته لكم و كرامة، و اللّه لا يسمع مني أجد ما قلت فيه، و لا أذكره إلا بخير أبدا، و إن كان قد أساء العشرة أمس.

صوت

لا زلت تنشر أعيادا و تطويها *** تمضي بها لك أيّام و تمضيها(4)

و لا تقضّت بك الدنيا و لا برحت *** تطوي لك الدهر أياما و تفنيها

الشعر لأشجع السّلميّ، و الغناء لإبراهيم الموصليّ ثاني مطلق في مجرى البنصر، و فيه لمحمد قريض(5) لحن من الثقيل الأول، و هو من مشهور غنائه و مختاره.

ص: 396


1- ف: «حديد».
2- في ف، بيروت: خفية.
3- و في ب، س: «فقلت: آه يا أبا خيرة».
4- في ب: «تقضي بها لذ أيام..».
5- ف: «قريص».

17 - نسب أشجع و أخباره

نسبه

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ و الحسن بن عليّ قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ، قال: حدثني عليّ بن الفضل(1) السّلميّ، قال:

كان أشجع بن عمرو السلميّ يكنى أبا الوليد من ولد الشّريد بن مطرود السلميّ، تزوج أبوه امرأة من أهل اليمامة، فشخص معها إلى بلدها فولدت له هناك أشجع، و نشأ باليمامة، ثم مات أبوه.

كان يعد من فحول الشعراء

فقدمت به أمّه البصرة تطلب ميراث أبيه، و كان له هناك مال فماتت بها، و ربّي أشجع و نشأ بالبصرة، فكان من لا يعرفه يدفع نسبه، ثم كبر و قال الشّعر و أجاد و عدّ في الفحول، و كان الشّعر يومئذ في ربيعة و اليمن، و لم يكن لقيس شاعر معدود، فلما نجم أشجع و قال الشّعر، افتخرت به قيس و أثبتت نسبه، و كان له أخوان: أحمد و حريث ابنا عمرو، و كان أحمد شاعرا و لم يكن يقارب أشجع، و لم يكن لحريث شعر، ثم خرج أشجع إلى الرّقّة و الرّشيد بها، فنزل على بني سليم فتقبّلوه و أكرموه، و مدح البرامكة، و انقطع إلى جعفر خاصّة و أصفاه مدحه، فأعجب به و وصله إلى الرشيد، و مدحه فأعجب به أيضا، فأثرى و حسنت حاله في أيّامه و تقدّم عنده.

شخص من البصرة إلى الرقة لينشد الرشيد قصيدته

أخبرني محمد بن عمران، قال: حدّثني العنزيّ، قال: حدّثني صخر بن أسد السّلميّ، قال: حدّثني أبي أسد/بن جديلة، قال: حدّثني أشجع السّلميّ قال:

شخصت من البصرة إلى الرّقّة، فوجدت الرّشيد غازيا، و نالتني خلّة، فخرجت حتى لقيته منصرفا من الغزو، و كنت قد اتّصلت ببعض أهل داره، فصاح صائح ببابه: من كان هاهنا من الشعراء فليحضر يوم الخميس، فحضرنا سبعة و أنا ثامنهم، و أمرنا بالبكور(2) في يوم الجمعة، فبكّرنا و أدخلنا، و قدّم واحد منا ينشد على الأسنان، و كنت /أحدث القوم سنّا، و أرثّهم(3) حالا، فما بلغ إليّ حتى كادت الصلاة أن تجب، فقدّمت و الرّشيد على كرسيّ، و أصحاب الأعمدة بين يديه سماطان(4).

خاف وجوب الصلاة فبدأ إنشاد الرشيد بما جاء في قصيدته من مدح

فقال لي: أنشدني، فخفت أن أبتدئ من أوّل قصيدتي بالتّشبيب فتجب الصلاة و يفوتني ما أردت، فتركت

ص: 397


1- في ف: المفضل.
2- في ب: للبكور.
3- في «المختار»: و أرقهم.
4- سماط القوم: صفهم.

التّشبيب و أنشدته من موضع المديح في قصيدتي التي أوّلها:

تذكّر عهد البيض و هو لها ترب *** و أيّام يصبي الغانيات و لا يصبو

فابتدأت قولي في المديح:

إلى ملك يستغرق المال جوده *** مكارمه نثر(1) و معروفه سكب

و ما زال هارون الرّضا بن محمّد *** له من مياه النّصر مشربها العذب

متى تبلغ العيس المراسيل بابه *** بنا فهناك الرّحب و المنزل الرّحب

لقد جمعت فيك الظّنون و لم يكن *** بغيرك ظنّ يستريح له القلب(2)

جمعت ذوي الأهواء حتى كأنّهم *** على منهج بعد افتراقهم ركب

بثثت(3) على الأعداء أبناء دربة *** فلم يقهم منهم حصون و لا درب

و ما زلت ترميهم بهم متفرّدا *** أنيساك حزم الرّأي و الصّارم العضب

جهدت فلم أبلغ علاك بمدحة *** و ليس على من كان مجتهدا عتب

فضحك الرّشيد و قال لي: خفت أن يفوت وقت الصلاة فينقطع المديح عليك، فبدأت به و تركت التّشبيب، و أمرني بأن أنشده التّشبيب فأنشدته إيّاه، فأمر لكلّ واحد من الشّعراء بعشرة آلاف درهم و أمر لي بضعفها.

أنشد الرشيد قصيدته الميمية فاستحسنها و قال: هكذا تمدح الملوك

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني أحمد بن سيّار الجرجانيّ و كان راوية شاعرا مدّاحا ليزيد بن مزيد، قال:

/دخلت أنا و أشجع و التّيميّ، و ابن رزين الخراسانيّ (4) على الرشيد في قصر له بالرقّة، و كان قد ضرب أعناق قوم في تلك الساعة، فجعلنا نتخلّل الدّماء حتى وصلنا إليه، فأنشده أبو محمد التّيميّ قصيدة له يذكر فيها نقفور(5) و وقعته ببلاد الرّوم، فنثر عليه مثل الدّرّ من جودة شعره، و أنشده أشجع قوله:

قصر عليه تحيّة و سلام *** ألقت عليه جمالها الأيّام

قصرت(6) سقوف المزن دون سقوفه *** فيه لأعلام الهدى أعلام

تثني على أيّامك الأيّام *** و الشاهدان الحلّ و الإحرام

(7) أدنتك من ظل النبي وصيّة *** قرابة و شجت بها الأرحام

برقت سماؤك في العدو و أمطرت *** هاما لها ظلّ السيوف غمام

و إذا سيوفك صافحت هام العدى *** طارت لهن عن الرءوس الهام(7)

ص: 398


1- في «المختار»: فينا.
2- أ، ب، س: «بغيرك ما ظن يستريح له قلب»، و هو غير مستقيم الوزن.
3- في ب، ما: بنيت.
4- ف: «الخزاعي».
5- في ب: تغفور.
6- في ف، بيروت: قصر. (7-7) الأبيات الثلاثة من «مختار الأغاني».

و على عدوّك يا ابن عمّ محمّد *** رصدان ضوء الصّبح و الإظلام

فإذا تنبّه رعته و إذا غفا *** سلّت عليه سيوفك الأحلام

/و أنشدته أنا قولي:

زمن بأعلى الرّقمتين قصير

حتى انتهيت إلى قولي:

لا تبعد الأيّام إذ ورق الصّبا *** خضل و إذ غضّ الشباب(1) نضير

فاستحسن هذا البيت، و مضيت في القصيدة حتى أتممتها، فوجّه إليّ الفضل بن الربيع: أنفذ إليّ قصيدتك، فإني أريد أن أنشدها الجواري من استحسانه إيّاها.

/قال: و ركب الرشيد يوما قبّة و سعيد بن سالم(2) معه في القبّة، فقال: أين محمد البيذق؟ و كان رجلا حسن الصّوت ينشد الشعر فيطرب بحسن صوته أشدّ من إطراب الغناء، فحضر، فقال: أنشدني قصيدة الجرجانيّ، فأنشده، فقال: الشّعر في ربيعة سائر اليوم، فقال له سعيد بن سالم: يا أمير المؤمنين، استنشده قصيدة أشجع بن عمرو، فأبى، فلم يزل به حتى أجاب إلى استماعها، فلما أنشده هذين البيتين:

و على عدوّك يا ابن عمّ محمّد

و الذي بعده، قال له سعيد بن سالم(2): و اللّه يا أمير المؤمنين، لو خرس بعد هذين لكان أشعر الناس.

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني أبي، قال:

بلغني أنّ أشجع لمّا أنشد الرّشيد هذين البيتين:

و على عدوّك يا ابن عمّ محمّد

و الذي بعده، طرب الرشيد، و كان متّكئا فاستوى جالسا، و قال: أحسن و اللّه، هكذا تمدح الملوك.

أخبرني أحمد بن إسحاق العسكريّ، و الحسن بن عليّ، قالا: حدثنا أحمد بن سعيد بن سالم الباهليّ، عن أبيه، قال:

كنت عند الرّشيد، فدخل إليه أشجع، و منصور النّمريّ، فأنشده أشجع قوله:

و على عدوّك يا ابن عمّ محمّد *** رصدان ضوء الصّبح و الإظلام

فإذا تنبّه رعنه و إذا غفا(3) *** سلّت عليه سيوفك الأحلام

فاستحسن ذلك الرّشيد، و أومأت إلى أشجع أن يقطع الشعر، و علمت أنّه لا يأتي/بمثلهما، فلم يفعل، و لمّا أنشده ما بعدهما فتر الرّشيد و ضرب بمحضرة كانت بيده الأرض، و استنشد منصورا النّمريّ، فأنشده قوله:

ما تنقضي حسرة منّي و لا جزع *** إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع

ص: 399


1- في ف: غصن.
2- ف: «سلم».
3- في «الشعر و الشعراء» لابن قتيبة 2-882 ط. المعارف:... و إذا هدى.

فمرّ و اللّه في قصيدة قلّ ما تقول العرب مثلها، فجعل الرشيد يضرب بمخصرته الأرض و يقول: الشّعر في ربيعة سائر اليوم، فلما خرجنا قلت لأشجع: غمزتك أن تقطع فلم تفعل، ويلك! و لم تأت بشيء، فهلاّ متّ بعد البيتين أو خرست، فكنت تكون أشعر الناس.

اشترى جعفر بن يحيى ضيعة وردها على أصحابها فمدحه

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ، قال: حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزّيّات قال: حدّثني موسى بن عيسى، قال:

اشترى جعفر بن يحيى المرغاب(1) من آل الرشيد(2) بعشرين ألف ألف درهم، و ردّه على أصحابه، فقال أشجع السّلميّ يمدحه بذلك و يقول:

ردّ السّباخ ندى يديه و أهلها *** منها بمنزلة السّماك الأعزل

قد أيقنوا بذهابها و هلاكهم *** و الدّهر يوعدهم بيوم أعضل(3)

فافتكّها لهم و هم من دهرهم *** بين الجران و بين حدّ الكلكل

ما كان يرجى غيره لفكاكها *** يرجى الكريم لكل خطب معضل

أنشد جعفر بن يحيى مديحا له لوقته على وزن قصيدة لحميد بن ثور و قافيتها

/أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف قال: حدثني أحمد بن محمد حرّان(4)، عن قدامة بن نوح، قال:

جلس جعفر بن يحيى بالصالحيّة يشرب على مستشرف له، فجاءه/أعرابيّ من بني هلال، فاشتكى و استماح بكلام فصيح و لفظ مثله يعطف المسئول(5)، فقال له جعفر بن يحيى: أ تقول الشعر يا هلاليّ؟ فقال:

قد كنت أقوله و أنا حدث أتملّح به، ثم تركته لمّا صرت شيخا، قال: فأنشدنا لشاعركم حميد بن ثور، فأنشده قوله:

لمن الدّيار بجانب الحمس *** كمحطّ ذي الحاجات بالنّفس

حتى أتى على آخرها، فاندفع أشجع، فأنشده مديحا له فيه قاله لوقته على وزنها و قافيتها، فقال:

ذهبت مكارم جعفر و فعاله *** في النّاس مثل مذاهب الشمس

ملك تسوس له المعالي نفسه *** و العقل خير سياسة النّفس

فإذا تراءته الملوك تراجعوا *** جهر الكلام بمنطق همس

ساد البرامك جعفر و هم الألى *** بعد الخلائف سادة الإنس

ما ضرّ من قصد ابن يحيى راغبا *** بالسّعد حلّ به أم النّحس

ص: 400


1- المرغاب: ضيعة.
2- ف: «من الرشيد».
3- في ف، بيروت: أعصل.
4- ف: «أحمد بن محمد بن حدان».
5- ف: «فشكى و استماح بلفظ لطيف فصيح، و كلام مثله يعطف المسئول».
طلب منه جعفر وصف مكانه شعرا فقال و أجاد

فقال له جعفر: صف موضعنا هذا، فقال:

قصور الصالحيّة كالعذارى *** لبسن ثيابهنّ ليوم عرس

مطلاّت على بطن كسته *** أيادي الماء وشيا نسج غرس

إذا ما الطّلّ أثّر في ثراء *** تنفّس نوره من غير نفس

فتغبقه السّماء بصبغ ورس *** و تصبحه بأكؤس عين شمس(1)

/فقال جعفر للأعرابي: كيف ترى صاحبنا يا هلاليّ؟ فقال: أرى خاطره طوع لسانه، و بيان الناس تحت بيانه، و قد جعلت له ما تصلني به، قال: بل نقرّك(2) يا أعرابيّ و نرضيه، و أمر للأعرابيّ بمائة دينار و لأشجع بمائتين.

أنس بن أبي شيخ يعجب بشعره و يقدمه إلى جعفر بن يحيى

أخبرني عمّي قال؛ حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أبو عامة، قال: حدّثني أشجع السّلميّ، قال:

كنت ذات يوم في مجلس بعض إخواني أتحدّث و أنشد، إذ دخل عليهم أنس بن أبي شيخ النّصريّ صاحب جعفر بن يحيى، فقام له جميع القوم غيري، و لم أعرفه فأقوم له، فنظر إليّ و قال: من هذا الرّجل؟ قالوا: أشجع السّلميّ الشّاعر، قال: أنشدني بعض قولك، فأنشدته. فقال: إنّك لشاعر، فما يمنعك من جعفر بن يحيى؟ فقلت:

و من لي بجعفر بن يحيى؟ فقال: أنا، فقل أبياتا و لا تطل فإنه يملّ الإطالة، فقلت: لست بصاحب إطالة، فقلت أبياتا على نحو ما رسم لي، و صرت إلى أنس فقال: تقدّمني إلى الباب، فتقدّمت، فلم يلبث أن جاء فدخل، و خرج أبو رمح الهمذانيّ حاجب(3) جعفر بن يحيى، فقال أشجع: فقمت، فقال: ادخل، فدخلت، فاستنشدني فأنشدته أقول:

و ترى الملوك إذا رأيتهم *** كلّ بعيد الصّوت و الجرس

فإذا بدا لهم ابن يحيى جعفر *** رجعوا الكلام بمنطق همس

ذهبت مكارم جعفر و فعاله *** في النّاس مثل مذاهب الشّمس

/قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، قال: و كان أشجع يحبّ الثّياب، و كان يكتري الخلعة كل يوم بدرهمين، فيلبسها أياما، ثم يكتري غيرها، فيفعل بها مثل ذلك، /قال: فابتعت أثوابا كثيرة بباب الكرخ، فكسوت عيالي و عيال إخوتي حتى أنفقتها.

الفضل بن يحيى يهب له ضعف ما وهبه إياه جعفر

ثم لقيت المبارك مؤدّب الفضل بن يحيى بعد أيام، فقال لي: أنشدني ما قلته في جعفر، فأنشدته، فقال:

ص: 401


1- في ما: «فتغبقه بصبغ لون ورس». و في ف، بيروت: «و تصبحه بكأس عين شمس». و في «اللسان»: غبقه يغبقه غبقا: سقاء غبوقا؛ و هو الشرب بالعشي. و صبحه يصبحه: سقاه صبوحا. و الصبوح: ما أصبح عندهم من شرابهم.
2- في مد، ما: نصلك. و في «المختار»: نبرك. و في ب: نقدك.
3- في ب، س: أبو زنج الهمذاني صاحب جعفر.

ما يمنعك من الفضل؟ فقلت: و من لي بالفضل؟ فقال: أنا لك به، فأدخلني عليه، فأنشدته:

و ما قدّم الفضل بن يحيى مكانه *** على غيره بل قدّمته المكارم

لقد أرهب الأعداء حتى كأنما *** على كل ثغر بالمنيّة قائم

فقال لي: كم أعطاك جعفر؟ فقلت: عشرة آلاف درهم، فقال: أعطوه عشرين ألفا.

جعفر بن يحيى يجري عليه في كل جمعة مائة دينار

أخبرني علي بن صالح، قال: حدّثني أحمد بن أبي فنن، قال: حدثني داود بن مهلهل، قال:

لما خرج جعفر بن يحيى ليصلح أمر الشام، نزل في مضربه، و أمر بإطعام الناس، فقام أشجع فأنشده قوله:

فئتان باغية و طاغية *** جلّت أمورهما عن الخطب

قد جاءكم بالخيل شازبة(1) *** ينقلن نحوكم رحى الحرب

لم يبق إلا أن تدور بكم *** قد قام هاديها على القطب

قال: فأمر له بصلة ليست بالسّنيّة، و قال له: دائم القليل خير من منقطع الكثير، فقال له: و نزره(2) أكثر من جزيل غيره، فأمر له بمثلها، قال: و كان يجري عليه في كلّ جمعة مائة دينار مدة مقامه ببابه.

إسحاق الموصلي ينشد له قصيدة في الخمر أمام الرشيد و جعفر بن يحيى

أخبرني محمد بن جعفر النحويّ صهر المبرّد، قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيديّ، قال: حدثنا إسحاق الموصليّ، قال:

دخلت إلى الرّشيد يوما، و هو يخاطب جعفر بن يحيى بشيء لم أسمع ابتداءه، و قد علا صوته، فلما رآني مقبلا قال لجعفر بن يحيى: أ ترضى بإسحاق؟ قال جعفر: و اللّه ما في علمه مطعن إن أنصف، فقال لي: أيّ شيء تروي للشعراء المحدثين(3) في الخمر؟ أنشدني من أفضل ما عندك و أشدّه تقدّما، فعلمت أنهما كانا يتماريان في تقديم أبي نواس، فعدلت عنه إلى غيره؛ لئلا أخالف أحدهما، فقلت: لقد أحسن أشجع في قوله:

و قد طعنت الليل في أعجازه *** بالكأس بين غطارف كالأنجم(4)

يتمايلون على النعيم كأنّهم *** قضب من الهنديّ لم تتثلّم

و سعى بها الظّبي العزير يزيدها *** طيبا و يغشمها إذا لم تغشم(5)

و الليل منتقب بفضل ردائه *** قد كاد يحسر عن أغرّ أرثم(6)

فإذا أدارتها الأكفّ رأيتها *** تثني الفصيح إلى لسان الأعجم

و على بنان مديرها عقيانة *** من سكبها و على فضول المعصم

ص: 402


1- في ب، س: شارية. و في «المختار»: شازية. و في ما: شاربة. و ما أثبتناه من ف. و المعنى: ضامرة يابسة.
2- في س: و نزر الوزير.
3- في ب، س: «أي شيء تروي الشعراء المحدثون في الخمر».
4- الغطارف: السادة الأشراف.
5- تغشم: تظلم.
6- الأرثم من الخيل: ما كان في طرف أنفه بياض أو كان أبيض الشفة العليا.

تغلي إذا ما الشّعريان تلظّيا *** صيفا و تسكن في طلوع المرزم(1)

و لقد فضضناها بخاتم ربّها *** بكرا و ليس البكر مثل الأيّم

و لها سكون في الإناء و خلفها *** شغب يطوّح بالكميّ المعلم

/تعطى على الظّلم الفتى بقيادها *** قسرا و تظلمه إذا لم يظلم

الرشيد يفضل أبا نواس عليه في وصف الخمر

فقال لي الرّشيد: قد عرفت تعصّبك على أبي نواس، و إنك عدلت عنه متعمدا، و لقد أحسن أشجع، و لكنه لا يقول أبدا مثل قول أبي نواس:

يا شقيق النّفس من حكم *** نمت عن ليلي و لم أنم

فقلت له: ما علمت ما كنت فيه يا أمير المؤمنين، و إنما أنشدت ما حضرني، فقال: حسبك قد سمعت الجواب.

قال الفضل: و كان في إسحاق تعصّب على أبي نواس لشيء جرى بينهما.

الواثق يطرب لشعر أشجع و يستعيده

أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

اصطبح(2) الواثق في يوم مطير، و اتصل شربه و شربنا معه حتى سقطنا لجنوبنا صرعى، و هو معنا على حالنا، فما حرّك أحد منا عن مضجعه، و خدم الخاصة يطوفون علينا و يتفقدوننا، و بذلك أمرهم، و قال:

لا تحرّكوا أحدا عن موضعه، فكان هو أول من أفاق منا، فقام و أمر بإنباهنا فأنبهنا فقمنا فتوضأنا و أصلحنا من شأننا، و جئت إليه و هو جالس و في يده كأس، و هو يروم شربها، و الخمار يمنعه، فقال لي: يا إسحاق، أنشدني في هذا المعنى شيئا، فأنشدته قول أشجع السّلميّ:

و لقد طعنت الليل في أعجازه *** بالكأس بين غطارف كالأنجم

يتمايلون عن النّعيم كأنّهم *** قضب من الهنديّ لم تتثلّم

و سعى بها الظّبي الغرير يزيدها *** طيبا و يغشمها إذا لم تغشم

و الليل منتقب بفضل ردائه *** قد كاد يحسر عن أغرّ أرثم

و إذا أدارتها الأكفّ رأيتها *** تثني الفصيح إلى لسان الأعجم

/و على بنان مديرها عقيانة *** من لونها(3) و على فضول المعصم

تغلي إذا ما الشّعريان تلظّيا *** صيفا و تسكن في طلوع المرزم

و لقد فضضناها بخاتم ربّها *** بكرا و ليس البكر مثل الأيّم

و لها سكون في الإناء و خلفها *** شغب يطوّح بالكميّ المعلم

ص: 403


1- الشعريان و المرزم: نجوم.
2- في ب، س: أصبح.
3- في «المختار»: من سكبها.

تعطي على الظّلم الفتى بقيادها *** قسرا و تظلمه إذا لم يظلم

فطرب و قال: أحسن و اللّه أشجع، و أحسنت يا أبا محمد، أعد بحياتي، فأعدتها و شرب كأسه، و أمر لي بألف دينار.

عزّى الفضل بن الربيع في ابنه العباس فأحسن العزاء و قال شعرا يرثيه

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثنا أبو هفّان، قال:

ذكر أبو دعامة أنّ أشجع دخل على الفضل بن الرّبيع، و قد توفّي ابنه العباس و الناس يعزّونه، فعزّاه فأحسن، ثم استأذنه في إنشاد مرثية قالها فيه، فأذن له فأنشده:

لا تبكينّ بعين غير جائدة *** و كلّ ذي حزن يبكي كما يجد

أيّ امرئ كان عباس لنائبة *** إذا تقنّع دون الوالد الولد

لم يدنه طمع من دار مخزية *** و لم يعزّ له من نعمة بلد

قد كنت ذا جلد في كلّ نائبة *** فبان منّي عليك الصبر و الجلد

لمّا تسامت بك الآمال و ابتهجت *** بك المروءة و اعتدّت بك العدد

/و لم يكن لفتى في نفسه أمل *** إلا إليك به من أرضه يفد

و حين جئت أمام السّابقين و لم *** يبلل عذارك ميدان و لا أمد

وافاك يوم على نكراء مشتمل *** لم ينج من مثله عاد و لا لبد

فما تكشّف إلا عن مولولة *** حرّى و مكتئب أحشاؤه تقد

/قال: فبكى الفضل و بكى الناس معه، و ما انصرفوا يومئذ يتذاكرون غير أبيات أشجع.

عزّى الرشيد في ابن له فأحسن و أمر بصلته

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن طالب الدّيناري، قال: حدّثني عليّ بن الجهم، قال:

دخل أشجع على الرّشيد و قد مات ابن له، و الناس يعزّونه فأنشده قوله:

نقص من الدّين و من أهله *** نقص المنايا من بني هاشم

قدّمته - فاصبر على فقده - *** إلى أبيه و أبي القاسم

فقال الرّشيد: ما عزّاني اليوم أحد أحسن من تعزية أشجع، و أمر له بصلة.

أذن له جعفر بن يحيى بالوصول إليه وحده دون سائر الناس

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا العنزيّ، قال: حدثني عبد الرّحمن بن النّعمان السّلميّ قال:

كنّا بباب جعفر بن يحيى و هو عليل، فقال لنا الحاجب: إنه إذن عليه، فكتب إليه أشجع:

لمّا اشتكى جعفر بن يحيى *** فارقني النّوم و القرار

و مرّ عيشي عليّ حتّى *** كأنّما طعمه المرار

ص: 404

خوفا على جعفر بن يحيى *** لا حقّق الخوف و الحذار

إن يعفه اللّه لا نحاذر *** ما أحدث الليل و النهار

قال: فأوصل الحاجب رقعته، ثم خرج فأمره بالوصول وحده، و انصرف سائر النّاس.

الرشيد يأمر بتعجيل صلته له

أخبرني الحسن قال: حدثنا العنزيّ، قال: حدّثني محمد بن الحسين، عن عمرو بن عليّ: أنّ أشجع السّلميّ كتب إلى الرشيد و قد أبطأ عنه شيء أمر له به:

/أبلغ أمير المؤمنين رسالة *** لها عنق(1) بين الرّواة فسيح

بأنّ لسان الشعر ينطقه النّدى *** و يخرسه الإبطاء و هو فصيح

فضحك الرشيد و قال له: لن يخرس لسان شعرك، و أمر بتعجيل صلته.

مدح محمد بن منصور بشعر كان أحب مدائحه إليه

أخبرني الحسن، و محمد بن يحيى الصّوليّ، قالا: حدثنا العنزيّ، قال: حدثني أحمد بن محمد بن منصور بن زياد، و كان يقال لأبيه فتى العسكر، قال:

أقبل أشجع إلى باب أبي، فرأى ازدحام الناس عليه، فقال:

على باب ابن منصور *** علامات من البذل

جماعات و حسب البا *** ب(2) نبلا كثرة الأهل

فبلغ أبي بيتاه هذان، فقال: هما و اللّه أحبّ مدائحه إليّ.

هنأ جعفر بن يحيى بولاية خراسان

أخبرني عمّي، و الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا الفضل بن محمد اليزيديّ، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصليّ، قال:

لما ولّى الرشيد جعفر بن يحيى خراسان جلس للناس فدخلوا عليه يهنّئونه ثم دخل الشعراء فأنشدوه؛ فقام أشجع آخرهم، فاستأذن في الإنشاد فأذن له، فأنشده قوله:

أتصبر للبين أم تجزع *** فإنّ الدّيار غدا بلقع(3)

/غدا يتفرّق أهل الهوى *** و يكثر باك و مسترجع

حتى انتهى إلى قوله:

و دويّة(4) بين أقطارها *** مقاطيع أرضين لا تقطع

ص: 405


1- العنق: السير السريع.
2- في ف: و حسب الدار.
3- البلقع: الأرض القفر التي لا شيء بها.
4- الدوية: الصحراء الواسعة.

/تجاوزتها فوق عيرانة(1)*** من الريح في سيرها أسرع

إلى جعفر نزعت رغبة *** و أيّ فتى نحوه تنزع

فما دونه لامرئ مطمع *** و لا لامرئ غيره مقنع(2)

و لا يرفع الناس من حطّه *** و لا يضعون الذي يرفع

يريد الملوك مدى جعفر *** و لا يصنعون كما يصنع

و ليس بأوسعهم في الغنى *** و لكنّ معروفه أوسع

تلوذ الملوك بآرائه(3)*** إذا نالها الحدث الأفظع

بديهته مثل تدبيره *** متى رمته(4) فهو مستجمع

و كم قائل إذ رأى ثروتي(5)*** و ما في فضول الغنى أصنع:

غدا في ظلال ندى جعفر *** يجرّ ثياب الغنى أشجع

فقل لخراسان تحيا فقد *** أتاها ابن يحيى الفتى الأروع

فأقبل عليه جعفر بن يحيى ضاحكا، و استحسن شعره، و جعل يخاطبه مخاطبة الأخ أخاه، ثم أمر له بألف دينار.

يهوّن على جعفر بن يحيى عزله عن خراسان

قال: ثم بدا للرّشيد في ذلك التّدبير، فعزل جعفرا عن خراسان بعد أن أعطاه العهد و الكتب، و عقد له العقد و أمر و نهى، فوجم لذلك جعفر، فدخل عليه أشجع فأنشده يقول:

أمست خراسان تعزّى بما *** أخطأها من جعفر المرتجى

/كان الرّشيد المعتلى أمره *** ولّى عليها المشرق الأبلجا(6)

ثم أراه رأيه أنّه *** أمسى إليه منهم أحوجا

فكم به الرّحمن(7) من كربة *** في مدّة تقصر قد فرّجا

فضحك جعفر ثم قال: لقد هوّنت عليّ العزل، و قمت لأمير المؤمنين بالعذر، فسلني ما شئت، فقال: قد كفاني جودك ذلّة السؤال، فأمر له بألف دينار آخر.

يمدح محمد الأمين و هو ابن أربع سنين

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، عن أبي دعامة، عن أشجع، قال:

ص: 406


1- العيرانة: الناقة النشيطة. و في ب، ما: «ريحانة».
2- في «الشعر و الشعراء» لابن قتيبة 2-883: و ما خلفه لامرئ مطمع و لا دونه لامرئ مقنع
3- في ب، ما: «بأبوابه».
4- في «الشعر و الشعراء» لابن قتيبة 883/2: «متى هجته».
5- في «الشعر و الشعراء» لابن قتيبة 883/2: «و كم قائل إذ رأى بهجتي».
6- في ب، ما: «ولى عليه». و في ف: «ولى على مشرقها». و في «التجريد»: «ولى على مشرقه».
7- في «المختار»: «فكم فك به الرحمن من كربة» و لا يستقيم الوزن.

دخلت على محمد الأمين حين أجلس مجلس الأدب للتّعليم، و هو ابن أربع سنين، و كان يجلس فيه ساعة ثم يقوم فأنشدته:

ملك أبوه و أمّه من نبعة *** منها سراج الأمّة الوهّاج

شربت بمكة في ربا بطحائها *** ماء النّبوّة ليس فيه مزاج

يعني النّبعة. قال: فأمرت له زبيدة بمائة ألف درهم، قال: و لم يملك الخلافة أحد أبوه و أمّه من بني هاشم إلا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه، و محمد بن زبيدة(1).

يمدح إبراهيم بن عثمان بن نهيك

أخبرني الحسن بن عليّ، و محمد بن يحيى الصوليّ، قالا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ، /قال: حدثنا المهزميّ، قال:

لما ولي إبراهيم بن عثمان بن نهيك الشرطة، دخل عليه أشجع، فأنشده قوله فيه:

/لمن المنازل مثل ظهر الأرقم *** قدمت و عهد أنيسها لم يقدم

فتكت بها سنتان تعتورانها *** بالمعصفات(2) و كلّ أسحم مرزم(3)

دمن إذا استثبتّ عينك عهدها *** كرّت إليك بنظرة المتوهّم

و لقد طعنت الليل في أعجازه *** بالكأس بين غطارف كالأنجم

يتمايلون على النّعيم كأنّهم *** قضب من الهنديّ لم تتثلّم

و اللّيل مشتمل بفضل ردائه *** قد كاد يحسر عن أغرّ أرثم(4)

لبني نهيك طاعة لو أنها *** زحمت بهضب متالع لم تكلم

قوم إذا غمزوا قناة عدوّهم *** حطموا جوانبها ببأس محطم

في سيف إبراهيم خوف واقع *** لذوي النّفاق و فيه أمن المسلم

و يبيت يكلأ - و العيون هواجع - *** مال المضيع و مهجة المستسلم(5)

ليل يواصله بضوء نهاره *** يقظان ليس يذوق نوم النّوّم

شدّ الخطام بأنف كلّ مخالف *** حتى استقام له الذي لم يخطم

لا يصلح السّلطان إلا شدّة *** تغشى البريء بفضل ذنب المجرم

منعت مهابتك النفوس حديثها *** بالشيء(6) تكرهه و إن لم تعلم

و نهجت في سبل السّياسة مسلكا *** ففهمت مذهبها الذي لم يفهم

ص: 407


1- «التجريد»: محمد بن الرشيد.
2- ف: «بالمعضلات».
3- المرزم: المصوت.
4- الأغر: الأبيض، و الأرثم: الفرس في طرف أنفه بياض.
5- لم يرد هذا البيت في ف. و المضيع: من كثرت ضياعه، و هو موجود في باقي النسخ، و في «الشعر و الشعراء» لابن قتيبة 884/2.
6- في «الشعر و الشعراء»: «بالأمر تكرهه».

فوصله و حمله و خلع عليه.

يراجع جعفر بن يحيى في تقليل عطائه فيزيده

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ، قال: حدثنا الغلابيّ قال: حدثنا مهديّ بن سابق، قال:

أعطى جعفر بن يحيى مروان بن أبي حفصة - و قد مدحه - ثلاثين ألف درهم، و أعطى أبا البصير عشرين ألفا، و أعطى أشجع - و قد أنشده معهما - ثلاثة آلاف درهم، و كان ذلك في أول اتصاله به، فكتب إليه أشجع يقول:

أعطيت مروان الثّلا *** ثين التي دلّت رعاثه(1)

و أبا البصير و إنما *** أعطيتني منهم ثلاثة

ما خانني حوك القري(2) *** ض و لا اتّهمت سوى الحداثه

فأمر له بعشرين ألف درهم أخرى.

العباس بن محمد ينشد الرشيد شعرا لأشجع و يدعيه لنفسه

حدثني عليّ بن صالح بن الهيثم الأنباريّ، قال: حدثني أبو هفان، قال: حدثني سعيد بن هريم و أبو دعامة، قالا:

كان انقطاع أشجع إلى العباس بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن العباس، فقال الرّشيد للعباس يوما: يا عمّ، إن الشّعراء قد أكثروا في مدح محمد بسببي و بسبب أمّ جعفر، و لم يقل أحد منهم في المأمون شيئا، و أنا أحبّ أن أقع على شاعر فطن ذكيّ يقول فيه، فذكر العبّاس ذلك لأشجع، و أمره أن يقول فيه، فقال:

بيعة المأمون آخذة *** بعنان الحقّ في أفقه

/أحكمت مرّاتها(3) عقدا *** تمنع المختال في نفقه

لن يفكّ المرء ربقتها *** أو يفكّ الدّين من عنقه

/و له من وجه والده *** صورة تمّت و من خلقه

قال: فأتى بها العبّاس الرّشيد، و أنشده إيّاها فاستحسنها و سأله: لمن هي؟ فقال: هي لي، فقال: قد سررتني مرّتين: بإصابتك ما في نفسي، و بأنها لك، و ما كان لك فهو لي، و أمر له بثلاثين ألف دينار، فدفع إلى أشجع منها خمسة آلاف درهم، و أخذ باقيها لنفسه.

يستعجل عطاء يحيى بن خالد ثم يمدحه

أخبرني عمّي، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدثنا محمد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعيّ، قال:

وعد يحيى بن خالد أشجع السّلميّ وعدا، فأخّره عنه، فقال له قوله:

رأيتك لا تستلذّ المطال *** و توفي إذا غدر الخائن

ص: 408


1- الرعاث جمع رعثة، و هي عثنون الديك، و يريد بتدلي رعاثه أنه تكبّر و زها.
2- ف: «حوز القريض».
3- المرات جمع مرة، و هي طاقة الحبل. و في ما: «مرانها».

فما ذا تؤخّر من حاجتي *** و أنت لتعجيلها ضامن!

أ لم تر أنّ احتباس النّوال *** لمعروف صاحبه شائن!

فلم يتعجّل ما أراد، فكتب إليه:

رويدك إنّ عزّ الفقر أدنى *** إليّ من الثّراء مع الهوان

و ما ذا تبلغ الأيّام منّي *** بريب صروفها و معي لساني

فبلغ قوله جعفرا فقال له: ويلك يا أشجع! هذا تهدّد فلا تعد لمثله، ثم كلّم أباه فقضى حاجته، فقال:

كفاني صروف الدّهر يحيى بن خالد *** فأصبحت لا أرتاع للحدثان

كفاني - كفاه اللّه كلّ ملمّة - *** طلاب فلان مرّة و فلان

فأصبحت في رغد من العيش واسع *** أقلّب فيه ناظري و لساني

جعفر بن يحيى يوليه عملا ثم يصرفه عنه

أخبرني محمد بن عمران الصّيرفيّ، قال: حدّثنا العنزيّ عن ابن النّطّاح، قال:

/ولّى جعفر بن يحيى أشجع عملا، فرفع إليه أهله رفائع(1) كثيرة، و تظلّموا منه و شكوه، فصرفه جعفر عنهم، فلما رجع إليه من عمله مثل بين يديه، ثم أنشأ يقول:

أ مفسدة سعاد عليّ ديني *** و لائمتي على طول الحنين

و ما تدري سعاد إذا تخلّت *** من الأشجان كيف أخو الشّجون

تنام و لا أنام لطول حزني *** و أين أخو السّرور من الحزين!

لقد راعتك عند قطين سعدى *** رواحل غاديات بالقطين(2)

كأنّ دموع عيني يوم بانوا *** عيانا سحّ مطّرد معين(3)

لقد هزّت سنان القول منّي *** رجال رفيعة لم يعرفوني

هم جازوا حجابك يا ابن يحيى *** فقالوا بالذي يهوون دوني

أطافوا بي لديك و غبت عنهم *** و لو أدنيتني لتجنّبوني

و قد شهدت عيونهم فمالت *** عليّ و غيّبت عنهم عيوني

و لمّا أن كتبت بما أرادوا *** تدرّع(4) كلّ ذي غمز دفين

/كففت عن المقاتل باديات *** و قد هيّأت صخرة منجنون(5)

و لو أرسلتها دمغت رجالا *** و صالت في الأخشّة و الشّئون(6)

ص: 409


1- الرفائع: جمع رفيعة؛ و هي القصة المرفوعة إلى الحاكم.
2- القطين: الخدم و الحاشية.
3- في ف: «غياث سح مطرد معين».
4- في ب: «تردع».
5- المنجنون: الدولاب يستقى عليها.
6- الأخشة جمع خشاش، و هو العود يجعل في عظم أنف البعير، و الشئون جمع شأن، و هو عرق الدمع.

/و كنت إذا هززت حسام قول *** قطعت بحجّتي علق(1) الوتين

لعلّ الدهر يطلق من لساني *** لهم يوما و يبسط من يميني

فأقضي دينهم بوفاء قول *** و أثقلهم لصدقي بالديون

و قد علموا جميعا أنّ قولي *** قريب حين أدعوه يجيني

و كنت إذا هجوت رئيس قوم *** و سمت على الذّؤابة و الجبين

بخطّ مثل حرق النّار باق *** يلوح على الحواجب و العيون

أ مائلة بودّك يا ابن يحيى *** رجالات ذوو ضغن كمين

يشيمون السّيوف(2) إذا رأوني *** فإن ولّيت سلّت من جفون

و لو كشفت سرائرنا جميعا *** علمت من البريء من الظّنين(3)

علام - و أنت تعلم نصح جنبي *** و أخذي منك بالسّبب المتين

و عسفي كلّ مهمهة خلاء *** إليك بكل يعملة أمون(4)

و إحيائي الدّجى لك بالقوافي *** أقيم صدورهنّ على المتون -

تقرّب منك أعدائي و أنأى *** و يجلس مجلسي من لا يليني!

و لو عاتبت نفسك في مكاني(5)*** إذا لنزلت عندك باليمين

و لكنّ الشّكوك نأين عنّي *** بودّك، و المصير إلى اليقين

فإن أنصفتني أحرقت منهم *** بنضج الكيّ أثباج(6) البطون

أول ما نجم به أشجع اتصاله بجعفر بن المنصور

أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ و الحسن بن عليّ، قالا: حدثنا العنزيّ، قال: حدثنا عليّ بن الفضل السّلميّ، قال:

أوّل ما نجم به أشجع أنّه اتّصل بجعفر بن المنصور و هو حدث، وصله به أحمد بن يزيد السّلميّ و ابنه عوف، فقال أشجع في جعفر بن المنصور قوله:

اذكروا حرمة العواتك منّا *** يا بني هاشم بن عبد مناف

قد ولدناكم ثلاث ولادا *** ت خلطن الأشراف بالأشراف

مهّدت هاشما نجوم قصيّ *** و بنو فالح حجور عفاف

إنّ أرماح بهثة بن سليم(7) *** لعجاف الأطراف غير عجاف

ص: 410


1- العلق: الحبل. و في ف: «عرق».
2- يشيمون السيوف: يدخلونها في أغمادها.
3- الظنين: المتهم.
4- اليعملة: الناقة النجيبة المطبوعة على العمل. الأمون: الموفقة الخلق المأمونة الكلال.
5- ف: «من فؤادي».
6- الأثباج: جمع ثبج، و هو الوسط من كل شيء.
7- كذا في «القاموس» (بهث). و في ف، «المختار»: «بهشة». و في ب، ما: «بهمة من سليم».

و لأسيافهم فرى غير لذّ *** راجع في مراجع الأكتاف

معشر يطعمون من ذروة الشّو *** ل و يسقون خمرة الأقحاف(1)

يضربون الجبّار في أخدعيه *** و يسقونه نقيع الذّعاف(2)

فشاع شعره و بلغ البصرة، و لم يزل أمره يتراقى إلى أن وصلته زبيدة بعد وفاة أبيها بزوجها هارون الرشيد، فأسنى جوائزه، و ألحقه بالطّبقة العليا من الشّعراء.

الفضل بن الربيع يصله بالرشيد فيمدحه ثم يمدح الفضل

أخبرني عمّي، قال: حدّثني أحمد بن المرزبان، قال: حدّثني شيبة بن أحمد بن هشام، قال: حدّثني أحمد/بن العباس الرّبيعيّ:

أن الذي أوصل أشجع السّلميّ إلى الرّشيد جدّه الفضل بن الربيع، و أنه أوصله له و قال له: هو أشعر شعراء اهل هذا الزّمان، و قد اقتطعته عنك البرامكة، فأمره بإحضاره و إيصاله مع الشعراء ففعل، فلمّا وصل إليه أنشده قوله:

/قصر عليه تحيّة و سلام *** نثرت عليه جمالها الأيّام

فيه اجتلى الدّنيا الخليفة و التقت *** للملك فيه سلامة و سلام

قصر سقوف المزن دون سقوفه *** فيه لأعلام الهدى أعلام

نشرت عليه الأرض كسوتها التي *** نسج الرّبيع و زخرف الإرهام(3)

أتتك من ظلّ النّبيّ وصيّة *** و قرابة و شجت بها الأرحام

برقت سماؤك في العدوّ و أمطرت *** هاما لها ظلّ السّيوف غمام

و إذا سيوفك صافحت هام العدا *** طارت لهنّ عن الرءوس الهام

أثنى على أيّامك الأيّام *** و الشّاهدان: الحلّ و الإحرام

و على عدوّك يا ابن عمّ محمّد *** رصدان: ضوء الصّبح و الإظلام

فإذا تنبّه رعته، و إذا غفا *** سلّت عليه سيوفك الأحلام

قال: فاستحسنها الرّشيد، و أمر له بعشرين ألف درهم، فمدح الفضل بن الرّبيع، و شكر له إيصاله إيّاه إلى الرشيد، فقال فيه قصيدته الّتي أوّلها:

غلب الرّقاد على جفون المسهد *** و غرقت في سهر و ليل سرمد

قد جدّ بي سهر فلم أرقد له *** و النّوم يلعب في جفون الرّقّد

و لطالما سهرت لحبّي أعين *** أهدى السّهاد لها و لمّا أسهد

أيّام أرعى في رياض بطالة *** ورد الصّبا منها الذي لم يورد

لهو يساعده الشّباب و لم أجد *** بعد الشّبيبة في الهوى من مسعد(4)

ص: 411


1- الشول: الناقة. و الأقحاف جمع قحف و هو إناء من خشب مثل قحف الرأس كأنه نصف قدح. و في ب: «خمرة الإتحاف».
2- الأخدعان: عرقان في صفحتي العنق قد خفيا و بطنا. و الذعاف: السم.
3- أرهمت السماء: أتت بالرهمة، و هي المطر الضعيف.
4- أسعده: أعانه فهو مسعد.

و خفيفة الأحشاء غير خفيفة *** مجدولة جدل العنان الأجرد

/غضبت على أعطافها أردافها *** فالحرب بين إزارها و المجسد(1)

خالفت فيه عاذلا لي ناصحا *** فرشدت حين عصيت قول المرشد

أ أقيم محتملا لضيم حوادث *** مع همّة موصولة بالفرقد

و أرى مخايل ليس يخلف نوؤها *** للفضل إن رعدت و إن لم ترعد

للفضل أموال أطاف بها النّدى *** حتى جهدن وجوده لم يجهد

يا ابن الرّبيع حسرت شكري بالتي *** أوليتني في عود أمرك و البدي(2)

أوصلتني و رفدتني و كلاهما *** شرف فقأت به عيون الحسّد

و وصفتني عند الخليفة غائبا *** و أذنت لي فشهدت أفخر مشهد(3)

و كفيتني(4) منن الرّجال بنائل *** أغنى يدي عن أن تمدّ إلى يد

يسأل جعفر بن يحيى ابتياع غلام جميل فيجيبه

أخبرني محمد بن عمران الصيرفيّ، قال: حدّثنا العنزيّ، قال: حدثني صخر بن أحمد السلميّ، /عن أبيه، قال:

كنت أنا و أشجع بالرّقّة جلوسا، فمرّ بنا غلام أمرد روميّ جميل الوجه، فكلّمه أشجع و سأله هل يبيعه مالكه؟ فقال: نعم، فقال أشجع يمدح جعفر بن يحيى، و سأله ابتياعه له فقال:

و مضطرب الوشاح لمقلتيه *** علائق ما لوصلتها انقطاع

تعرّض لي بنظرة ذي دلال *** يريع(5) بمقلتيه و لا يراع

لحاظ ليس تحجب عن قلوب *** و أمر في الذي يهوى مطاع

و وسعي ضيّق عنه و مالي *** و ضيق الأمر يتبعه اتّساع

و تعويلي على مال ابن يحيى *** إليه حنّ شوقي و النّزاع

وثقت بجعفر في كلّ خطب *** فلا هلك يخاف و لا ضياع

/فأمر له بخمسة آلاف درهم، و قال: اشتره بها فإن لم تكفك فازدد.

يذكر جاريته ريم في قصيدة رثى بها الرشيد

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، قال:

كانت لأشجع جارية يقال لها: ريم، و كان يجد بها وجدا شديدا، فكانت تحلف له إن بقيت بعده لم تعرّض لغيره، و كان يذكرها في شعره، فمن ذلك قوله في قصيدته التي يرثي بها الرشيد:

ص: 412


1- المجسد: ثوب يلي الجسد.
2- في «المختار»: «... شكري بالذي... في عود أمري...».
3- ساقط من ف.
4- في ب، س: «و كففتني».
5- ف، بيروت: «يروع».

و ليس لأحزان النّساء تطاول *** و لكنّ أحزان الرّجال تطول

فلا تبخلي بالدّمع عنّي؛ فإنّ من *** يضنّ بدمع عن هوى لبخيل

فلا كنت ممن يتبع الرّيح طرفه *** دبورا إذا هبّت له و قبول(1)

إذا دار فيء أتبع الفيء طرفه *** يميل مع الأيّام حيث تميل

قال: و قال فيهما أيضا:

إذا غمّضت فوقي جفون حفيرة *** من الأرض فابكيني بما كنت أصنع

تعزّك عنّي عند ذلك سلوة *** و أن ليس فيمن وارت الأرض مطمع

إذا لم تري شخصي و تغنك ثروتي *** و لم تسمعي منّي و لا منك أسمع

فحينئذ تسلين عنّي و إن يكن *** بكاء فأقصى ما تبكّين أربع

قليل و ربّ البيت يا ريم ما أرى *** فتاة بمن ولّى به الموت تقنع

بمن تدفعين الحادثات إذا رمى *** عليك بها عام من الجدب يطلع

فحينئذ تدرين من قد رزيته *** إذا جعلت أركان بيتك تنزع

أحمد أخوه يجيبه بشعر ينسبه إلى جاريته ريم

قال: فشكته ريم إلى أخيه أحمد بن عمرو، فأجابه عنها بشعر نسبه إليها، و مدح فيه الفضل أيضا فاختير شعره على شعر أخيه و هو:

/ذكرت فراقا و الفراق(2) يصدّع *** و أيّ حياة بعد موتك تنفع!

إذا الزّمن الغرّار(3) فرّق بيننا *** فما لي في طيب من العيش مطمع

و لا كان يوم يا ابن عمرو و ليلة *** يبدّد فيها شملنا و يصدّع

و لا كان يوم فيه تثوي(4) رهينة *** فتروى بجسمي الحادثات و تشبع

/و ألطم وجها كنت فيك أصونه *** و أخشع مما لم أكن منه أخشع

و لو أنني غيّبت في اللّحد لم تبل *** و لم تزل الراءون لي تتوجّع(5)

و هل رجل أبصرته متوجّعا *** على امرأة أو عينه الدّهر تدمع!

و لكن إذا ولّت يقول لها: اذهبي *** فمثلك أخرى سوف أهوى و أتبع

و لو أبصرت عيناك ما بي لأبصرت *** صبابة قلب(6) غيمها ليس يقشع

إلى الفضل فارحل بالمديح فإنه *** منيع الحمى معروفه ليس يمنع

وزره تزر حلما و علما و سوددا *** و بأسا به أنف الحوادث يجدع

ص: 413


1- الدبور: ريح تهب من المغرب، و تقابل القبول، و هي ريح الصبا.
2- ف: «و التفرق».
3- ف: «الغدار».
4- ف: «أثوي»، تحريف.
5- ف: «في الترب» بدل «في اللحد»، و في ما: «في البحر».
6- ف: «صبابة حزن».

و أبدع إذا ما قلت في الفضل مدحة *** كما الفضل في بذل المواهب يبدع

إذا ما حياض المجد قلّت مياهها *** فحوض أبي العبّاس بالجود مترع

و إن سنة ضنّت بخصب على الورى *** ففي جوده مرعى خصيب و مشرع

و ما بعدت أرض بها الفضل نازل *** و لا خاب من في نائل الفضل يطمع

فنعم المنادى الفضل عند ملمّة(1) *** لدفع خطوب مثلها ليس يدفع

/إليك أبا العبّاس سارت نجائب *** لها همم تسمو إليك و تنزع

بذكرك نحدوها إذا ما تأخّرت *** فتمضي على هول المضيّ و تسرع

و ما للسان المدح دونك مشرع *** و لا للمطايا دون بابك مفزع

إليك أبا العبّاس أحمل مدحة *** مطيّتها - حتى توافيك - أشجع

فزعت إلى جدواك فيها و إنما *** إلى مفزع الأملاك يلجا و يفزع

قال: فأنشدها أشجع الفضل، و حدّثه بالقصّة، فوصل أخاه و جاريته و وصله.

و قال أحمد بن الحارث: فقيل لأحمد بن عمرو أخي أشجع: ما لك لا تمدح الملوك كما يمدحهم أخوك؟ فقال: إن أخي بلاء عليّ و إن كان فخرا، لأنّي(2) لا أمدح أحدا ممّن يرضيه دون شعري و يثيب عليه بالكثير من الثّواب(3) إلا قال: أين هذا من قول أشجع؟ فقد امتنعت من مدح أحد لذلك.

أحمد أخو أشجع يهجوه

قال أحمد بن الحارث: و قال أحمد بن عمرو يهجو أخاه أشجع، و قد كان أحمد مدح محمد بن جميل بشعر قاله فيه، فسأل أخاه أشجع إيصاله، و دفع القصيدة إليه فتوانى عن ذلك، فقال يهجوه - أخبرني بذلك أحمد بن محمد بن جميل -:

و سائلة لي: ما أشجع؟ *** فقلت: يضر و لا ينفع

قريب من الشّرّ واع له *** أصمّ عن الخير ما يسمع

بطيء عن الأمر أحظى به *** إلى كل ما ساءني مسرع

شرود الوداد على قربه *** يفرّق منه الذي أجمع

أسبّ بأنّي شقيق له *** فأنفي به أبدا أجدع

الفضل بن يحيى يطرب لشعر أشجع و يكافئ منشده

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

دخلت على الفضل بن يحيى و قد بلغ الرشيد إطلاقه يحيى بن عبد اللّه/بن حسن، و قد كان أمره بقتله/فلم يظهر له أنه بلغه إطلاقه(4)، فسأله عن خبره: هل قتلته؟ فقال: لا، فقال له: فأين هو؟ قال: أطلقته، قال: و لم؟

ص: 414


1- ف: «فنعم المنادى عند كل ملمة».
2- ف: «على أني لا أمدح...».
3- ف، بيروت: «من النوال».
4- كذا في ف، و في باقي الأصول: «أنه قتله».

قال: لأنه سألني بحقّ اللّه و بحقّ رسوله و قرابته منه و منك، و حلف لي أنّه لا يحدث حدثا، و أنه يجيبني متى طلبته.

فأطرق ساعة، ثم قال: امض بنفسك في طلبه حتى تجيئني به و اخرج الساعة، فخرج. قال: فدخلت عليه مهنّئا بالسّلامة فقلت له: ما رأيت أثبت من جنانك و لا أصحّ من رأيك فيما جرى،. و أنت و اللّه كما قال أشجع:

بديهته و فكرته سواء *** إذا ما نابه الخطب الكبير

و أحزم ما يكون الدّهر رأيا *** إذا عيّ المشاور و المشير

و صدر فيه للهمّ اتّساع *** إذا ضاقت بما تحوي الصّدور

فقال الفضل: انظروا كم أخذ أشجع على هذه القصيدة، فاحملوا إلى أبي محمد مثله. قال: فوجده قد أخذ ثلاثين ألف درهم، فحملت إليّ.

يرثي صديقا له من بغداد

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ إجازة، قال: حدثني محمد بن عجلان، قال: حدّثنا ابن خلاّد، عن حسين الجعفيّ، قال:

كان أشجع إذا قدم بغداد ينزل على صديق له من أهلها، فقدمها مرّة فوجده قد مات، و النوح و البكاء في داره، فجزع لذلك و بكى، و أنشأ يقول:

ويحها هل درت على من تنوح *** أ سقيم فؤادها أم صحيح!

قمر أطبقوا عليه ببغدا *** د ضريحا، ما ذا أجنّ الضّريح!

رحم اللّه صاحبي و نديمي *** رحمة تغتدي و أخرى تروح

و هذه القصيدة التي فيها الأبيات المذكورة و الغناء فيها، من قصيدة يمدح بها أشجع الرّشيد و يهنّئه بفتح هرقلة، و قد مدحه بذلك و هنّأه جماعة من الشّعراء و غنّي في جميعها، فذكرت خبر فتح هرقلة لذكر ذلك.

سبب غزاة الرشيد هرقلة

أخبرني بخبره عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد، قال:

كان من خبر غزاة الرّشيد هرقلة أن الرّوم كانت قد ملّكت امرأة، لأنه لم يكن بقي في أهل زمانها من أهل بيتها(1) - بيت المملكة - غيرها، و كانت تكتب إلى المهديّ و الهادي و الرّشيد أوّل خلافته بالتّعظيم و التّبجيل، و تدرّ عليه الهدايا، حتى بلغ ابن لها فحاز الملك دونها، و عاث و أفسد، و فاسد الرّشيد، فخافت على ملك الرّوم أن يذهب، و على بلادهم أن تعطب؛ لعلمها بالرّشيد و خوفها من سطوته، فاحتالت لابنها فسملت عينيه(2)، فبطل منه الملك و عاد إليها، فاستنكر ذلك أهل المملكة و أبغضوها من أجله، فخرج عليها نقفور و كان كاتبها، فأعانوه و عضّدوه، و قام بأمر الملك و ضبط أمر الرّوم، فلمّا قوي على أمره و تمكّن من ملكه كتب إلى الرّشيد:

كتاب نقفور إلى الرشيد

«من نقفور ملك الرّوم إلى الرّشيد ملك العرب، أما بعد؛ فإنّ هذه المرأة كانت وضعتك و أباك و أخاك موضع

ص: 415


1- ف: «... بقي في زمانها من أهل بيتها... الخ».
2- سملت عينيه: فقأتهما بحديدة محماة.

الملوك، و وضعت نفسها موضع السّوقة، و إني واضعك بغير ذلك الموضع، و عامل على تطرّق(1) بلادك و الهجوم على أمصارك، أو تؤدّي إليّ ما كانت المرأة تؤدّي إليك، و السّلام».

رد الرشيد عليه

فلمّا ورد كتابه على الرّشيد كتب إليه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم - من عبد اللّه هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الرّوم، /أما بعد، فقد فهمت كتابك، و جوابك عندي ما تراه عيانا لا ما تسمعه». ثم شخص من شهره ذلك يؤمّ بلاد الرّوم في جمع لم يسمع بمثله، و قوّاد لا يجارون نجدة و رأيا، فلما بلغ ذلك نقفور ضاقت عليه الأرض بما رحبت، و شاور في أمره.

أبو العتاهية يذكر هزيمة نقفور و يمدح الرشيد

و جدّ الرّشيد يتوغّل في بلاد الروم فيقتل و يغنم و يسبي، و يخرّب الحصون و يعفّي الآثار حتى صار إلى طرق متضايقة دون قسطنطينيّة، فلما بلغها وجدها و قد أمر نقفور بالشّجر فقطع و رمي به في تلك الطّرق، و ألقيت فيه النّار، فكان أوّل من لبس ثياب النفّاطين محمد بن يزيد بن مزيد، فخاضها، ثم اتّبعه الناس، فبعث إليه نقفور بالهدايا و خضع له أشدّ الخضوع، و أدّى إليه الجزية عن رأسه فضلا عن أصحابه فقال في ذلك أبو العتاهية:

إمام الهدى أصبحت بالدّين معنيّا *** و أصبحت تسقي كلّ مستمطر ريّا

لك اسمان شقّا من رشاد و من هدى *** فأنت الذي تدعى رشيدا و مهديّا

إذا ما سخطت الشيء كان مسخطا *** و إن ترض شيئا كان في النّاس مرضيّا

بسطت لنا شرقا و غربا يد العلا *** فأوسعت شرقيّا و أوسعت غربيّا

و وشّيت وجه الأرض بالجود و النّدى *** فأصبح وجه الأرض بالجود موشيّا

و أنت - أمير المؤمنين - فتى التقى *** نشرت من الإ «حسان ما كان مطويّا

قضى اللّه أن يبقى لهارون ملكه *** و كان قضاء اللّه في الخلق مقضيّا

تجلّلت الدّنيا لهارون ذي الرّضا(2) *** و أصبح نقفور لهارون ذمّيّا

شاعر من أهل جدّة يعلم الرشيد بغدر نقفور

فرجع الرشيد - لمّا أعطاه نقفور ما أعطاه - إلى الرّقّة، فلما سقط الثّلج و أمن نقفور أن يغزى اغترّ بالمهلة، و نقض ما بينه و بين الرشيد، و رجع إلى حالته الأولى، فلم يجتزئ يحيى بن خالد - فضلا عن غيره - على إخبار الرّشيد بغدر نقفور، فبذل هو و بنوه الأموال للشّعراء على أن يقولوا أشعارا في إعلام الرّشيد بذلك، فكلّهم كعّ (3)و أشفق إلا شاعرا من أهل جدّة كان يكنى أبا محمد، /و كان مجيدا قويّ النّفس قويّ الشّعر، و كان ذو اليمينين اختصّه في أيّام المأمون و رفع قدره جدّا، فإنّه أخذ من يحيى و بنيه مائة ألف درهم، و دخل على الرّشيد فأنشده:

ص: 416


1- و عامل على تطرق بلادك، أي على السير إليها.
2- في «التجريد»: «تحليت للدنيا و للدين بالرضا».
3- كع: جبن.

نقض الذي أعطاكه(1) نقفور *** فعليه دائرة البوار تدور

أبشر أمير المؤمنين فإنّه *** فتح أتاك به الإله كبير

فلقد تباشرت الرّعيّة أن أتى *** بالنّقض(2) عنه وافد و بشير

و رجت بيمنك(3) أن تعجّل غزوة *** تشفي النّفوس نكالها مذكور

أعطاك جزيته و طأطأ خدّه *** حذر الصّوارم و الرّدى محذور

فأجرته من وقعها و كأنّها *** بأكفّنا شعل الضّرام تطير

و صرفت في(4) طول العساكر قافلا *** عنه و جارك آمن مسرور

نقفور إنّك حين تغدر أن نأى *** عنك الإمام لجاهل مغرور

أ ظننت حين غدرت أنك مفلت *** هبلتك أمّك ما ظننت غرور

/ألقاك حينك في زواخر بحره *** فطمت عليك من الإمام بحور

إنّ الإمام على اقتسارك قادر *** قربت ديارك أو نأت بك دور

ليس الإمام و إن غفلنا غافلا *** عما يسوس بحزمه و يدير

ملك تجرّد للجهاد بنفسه *** فعدوّه أبدا به مقهور

يا من يريد رضا الإله بسعيه *** و اللّه لا يخفى عليه ضمير

لا نصح ينفع من يغشّ إمامه *** و النّصح من نصحائه مشكور

/نصح الإمام على الأنام فريضة *** و لأهله كفّارة و طهور

فتح هرقلة
اشارة

قال: فلما أنشده، قال الرّشيد: أو قد فعل! و علم أن الوزراء احتالوا في إعلامه ذلك فغزاه في بقيّة من الثلج، فافتتح هرقلة في ذلك الوقت، فقال أبو العتاهية في فتحه إياها:

أ لا نادت هرقلة بالخراب *** من الملك الموفّق للصّواب(5)

غدا هارون يرعد بالمنايا *** و يبرق بالمذكّرة القضاب(6)

و رايات يحلّ النّصر فيها *** تمرّ كأنّها قطع السّحاب

أمير المؤمنين ظفرت فاسلم *** و أبشر بالغنيمة و الإياب

قال محمد(7): و جعل الرشيد قبل وصوله إلى هرقلة يفتح المدن و الحصون و يخرّبها، حتى أناخ على هرقلة و هي أوثق حصن و أعزّه جانبا و أمنعه ركنا، فتحصّن أهلها، و كان بابها يطل على واد، و لها خندق يطيف بها،

ص: 417


1- ف: «أعطيته».
2- ب: «بالنقد».
3- ب، «التجريد»: «و رجت يمينك».
4- ف: «من طول».
5- في «التجريد»: «الموثق بالصواب».
6- المذكرة القضاب: الداهية الشديدة القاطعة.
7- ف: «قال محمد بن يزيد».

فحدّثني شيخ من مشايخ المطّوّعة و ملازمي الثّغور يقال له عليّ بن عبد اللّه، قال: حدّثني جماعة أنّ الرّشيد لما حصر أهل هرقلة و غمهم و ألحّ بالمجانيق و السهام و العرّادات(1) فتح الباب(2) فاستشرف المسلمون لذلك(2) فإذا برجل من أهلها كأكمل(2) الرّجال قد خرج في أكمل السلاح، فنادى: قد طالت مواقعتكم إيانا فليبرز إليّ منكم رجلان، ثم لم يزل يزيد حتى بلغ عشرين رجلا، فلم يجبه أحد، فدخل و أغلق باب الحصن و كان الرّشيد نائما فلم يعلم بخبره، إلا بعد انصرافه، فغضب و لام خدمه و غلمانه على تركهم إنباهه، و تأسف لفوته، فقيل له: إنّ امتناع الناس منه سيغويه و يطغيه، و أحر به أن يخرج في غد فيطلب مثل/ما طلب، فطالت على الرّشيد ليلته و أصبح كالمنتظر له، ثم إذا هو بالباب قد فتح و خرج طالبا للمبارزة، و ذلك في يوم شديد الحرّ، و جعل يدعو بأنه يثبت لعشرين منهم، فقال الرّشيد: من له؟ فابتدره جلّة القوّاد كهرثمة، و يزيد بن مزيد، و عبد اللّه بن مالك، و خزيمة بن حازم، و أخيه عبد اللّه، و داود بن يزيد، و أخيه، فعزم على إخراج بعضهم، فضجّت المطّوّعة حتى سمع ضجيجهم، فأذن لعشرين منهم، فاستأذنوه في المشورة فأذن لهم، فقال قائلهم: يا أمير المؤمنين، قوّادك مشهورون بالبأس و النّجدة و علوّ الصوت و مداوسة(3) الحروب، و متى خرج واحد منهم فقتل هذا العلج(4) لم يكبر ذلك، و إن قتله العلج كانت وضيعة(5) على العسكر عجيبة و ثلمة لا تسدّ، و نحن عامّة لم يرتفع لأحد منا صوت إلا كما يصلح للعامّة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يخلّينا نختار رجلا فنخرجه إليه، فإن ظفر علم أهل الحصن/أنّ أمير المؤمنين قد ظفر بأعزّهم على يد رجل من العامّة، و من أفناء الناس ليس ممن يوهن قتله و لا يؤثّر، و إن قتل الرّجل فإنما استشهد رجل و لم يؤثّر ذهابه في العسكر و لم يثلمه، و خرج إليه رجل بعده مثله حتى يقضي اللّه ما شاء(6)، قال الرّشيد: قد استصوبت رأيكم هذا. فاختاروا رجلا منهم يعرف بابن الجزريّ، و كان معروفا في الثّغر بالبأس و النجدة، فقال الرشيد: أ تخرج؟ قال: نعم، و أستعين اللّه، فقال: أعطوه فرسا و رمحا و سيفا و ترسا، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا بفرسي أوثق، و رمحي بيدي أشدّ(7)، و لكني قد قبلت السيف و التّرس، فلبس سلاحه و استدناه الرّشيد فودّعه، و استتبعه(8) الدّعاء، و خرج معه عشرون رجلا من المطّوّعة، فلما انقضّ في الوادي قال لهم العلج و هو يعدّهم واحدا واحدا: إنما كان الشّرط عشرين و قد زدتم رجلا، و لكن لا بأس، فنادوه: ليس يخرج إليك منا إلا رجل واحد، فلما فصل/منهم ابن الجزريّ تأمّله الرّوميّ و قد أشرف أكثر الرّوم من الحصن يتأمّلون صاحبهم و القرن حتى ظنّوا أنه لم يبق في الحصن أحد إلا أشرف، فقال الرّوميّ: أ تصدقني، عما أستخبرك(9)؟ قال: نعم، فقال:

أنت باللّه ابن الجزري؟ قال: اللهم نعم، فكفّر له(10)، ثم أخذ في شأنهما فاطّعنا حتى طال الأمر بينهما، و كاد

ص: 418


1- العرادات: جمع عرادة، و هي آلة من آلات الحرب؛ منجنيق صغير. (2-2) زيادة من ف.
2- ف: «كأجمل الرجال».
3- مداوسة الحروب: المران عليها و تذليلها. و في ف: «مدارسة».
4- العلج: الرجل الضخم من كفار العجم.
5- الوضيعة: الحطيطة. و في ف: «كانت وصمة على العسكر قبيحة».
6- ب: «يمضي إليه ما شاء».
7- ف: «أسد».
8- ف: «و أتبعه».
9- في مد: «فيما أستخبرك». و في ب: «عم استنخبوك».
10- كفر له: انحنى و وضع يده على صدره و طأطأ رأسه كالركوع تعظيما له.

الفرسان أن يقوما(1) و ليس يخدش واحد منهما صاحبه، ثم تحاجزا(2) بشيء، فزجّ كلّ واحد منهما برمحه، و أصلت سيفه، فتجالدا مليّا، و اشتدّ الحرّ عليهما، و تبلّد الفرسان، و جعل ابن الجزريّ يضرب الرّوميّ الضربة التي يرى أنه قد بلغ فيها فيتقيها الروميّ، و كان ترسه حديدا؛ فيسمع لذلك صوت منكر، و يضربه الرّوميّ ضرب معذّر؛ لأن ترس ابن الجزريّ كان درقة، فكان العلج يخاف أن يعضّ بالسّيف فيعطب، فلما يئس من وصول كل واحد منهما إلى صاحبه انهزم ابن الجزريّ؛ فدخلت المسلمين كآبة لم يكتئبوا مثلها قطّ، و عطعط(3) المشركون اختيالا و تطاولا، و إنما كانت هزيمته حيلة منه؛ فأتبعه العلج، و تمكّن منه ابن الجزريّ فرماه بوهق(4) فوقع في عنقه و ما أخطأه، و ركض فاستلّه عن فرسه، ثم عطف عليه فما وصل إلى الأرض حيّا حتى فارقه رأسه، فكبّر المسلمون أعلى تكبير، و انخذل المشركون و بادروا الباب يغلقونه، و اتصل الخبر بالرّشيد فصاحب القوّاد: اجعلوا النار في المجانيق و ارموها فليس عند القوم دفع، ففعلوا و جعلوا الكتّان و النّفط على الحجارة و أضرموا فيها النار و رموا بها السور، فكانت النار تلصق به و تأخذ الحجارة، و قد تصدّع فتهافتت، فلما أحاطت بها النيران فتحوا الباب مستأمنين و مستقبلين، فقال الشاعر المكّيّ الذي كان ينزل جدّة:

صوت

هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا *** حوائما(5) ترتمي بالنّفط و النّار

كأنّ نيراننا في جنب قلعتهم *** مصبّغات على أرسان قصّار

في هذين البيتين لابن جامع لحن من الثقيل الأوّل بالبنصر.

قال محمد بن يزيد: و هذا كلام ضعيف لين، و لكنّ قدره عظيم في ذلك الموضع و الوقت، و غنّى فيه المغنّون بعد ذلك. /و أعظم الرّشيد الجائزة للجدّيّ الشاعر، و صبّت الأموال على ابن الجزريّ و قوّد، فلم يقبل التّقويد إلا بغير رزق و لا عوض، و سأل أن يعفى و ينزل بمكانه من الثّغر، فلم يزل به طول عمره.

ابن جامع يغني الرشيد بهرقلة
اشارة

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثنا أحمد بن عليّ بن أبي نعيم المروزيّ قال:

خرج الرّشيد غازيا بلاد الرّوم فنزل بهرقلة، فدخل عليه ابن جامع فغنّاه:

هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا *** حوائما ترتمي بالنّفط و النّار

فنظر الرشيد إلى ماشية قد جيء بها، فظنّ أن الطاغية قد أتاه، فخرج يركض على فرس له و في يده الرّمح، و تبعه الناس، فلما تبيّن له أنها ماشية رجعوا، فغنّاه ابن جامع:

ص: 419


1- ف: «و كاد الفرسان يقومان».
2- ف: «ثم تحاورا بشيء».
3- العطعطة: تتابع الأصوات و اختلاطها.
4- الوهق: الحبل في طرفيه أنشوطة يطرح في عنق الدابة و الإنسان.
5- في «التجريد»: «جواثما».
صوت

رأى في السّما رهجا(1) فيمم نحوه *** يجرّ ردينيّا و للرّهج يستقري

تناولت أطراف البلاد بقدرة *** كأنّك فيها تقتفي أثر الخضر

/الغناء لابن جامع ثاني ثقيل عن بذل و ابن المكّيّ.

أشجع يهنئ الرشيد بفتح هرقلة
اشارة

أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعيّ، قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيديّ، عن إسحاق الموصليّ، قال:

لما انصرف الرشيد من غزاة هرقلة قدم الرّقّة في آخر شهر رمضان، فلما عيّد جلس للشعراء، فدخلوا عليه و فيهم أشجع، فبدرهم و أنشأ يقول:

لا زلت تنشر أعيادا و تطويها *** تمضي بها لك أيام و تثنيها

مستقبلا زينة الدّنيا و بهجتها *** أيامنا لك لا تفنى و تفنيها(2)

و لا تقضّت بك الدّنيا و لا برحت *** يطوي لك الدّهر أياما و تطويها

و ليهنك الفتح و الأيّام مقبلة *** إليك بالنصر معقودا نواصيها(3)

أمست هرقلة تهوي(4) من جوانبها *** و ناصر اللّه و الإسلام يرميها

ملّكتها و قتلت النّاكثين بها *** بنصر من يملك الدّنيا و ما فيها

ما روعي الدّين و الدّنيا على قدم *** بمثل هارون راعيه و راعيها

قال: فأمر له بألف دينار، و قال: لا ينشدني أحد بعده، فقال أشجع: و اللّه لآمره بألاّ ينشده أحد بعدي أحبّ إليّ من صلته.

حدثني أحمد بن وصيف، و محمد بن يحيى الصّوليّ، قالا: حدثنا محمد بن موسى بن حماد، قال: حدّثني عبد اللّه بن عمرو الوراق، قال: حدّثني أحمد بن محمد بن منصور بن زياد، عن أبيه، قال:

/دخل أشجع على الرّشيد ثاني يوم الفطر فأنشده:

صوت

استقبل العيد بعمر جديد *** مدّت لك الأيّام حبل الخلود

ص: 420


1- الرهج: الغبار أو ما أثير منه.
2- جاء في ف بيتان مكان هذا البيت و هما: مستقبلا بهجة و زينتها أيامها لك نظم في لياليها العيد و العيد و الأيام بينهما موصولة لك لا تفنى و تقنيها و البيتان أيضا في «الشعر و الشعراء» لابن قتيبة 884/2 مع خلاف في بعض الألفاظ.
3- في «الشعر و الشعراء» 884/2: «و ليهنك النصر... إليك بالفتح...».
4- «التجريد»: «ترمي من جوانبها».

مصعّدا في درجات العلا *** نجمك مقرون بسعد السّعود

و اطو رداء الشّمس ما أطلعت *** نورا جديدا كلّ يوم جديد

تمضي لك الأيام ذا غبطة *** إذا أتى عيد طوى عمر عيد

/فوصله بعشرة آلاف درهم، و أمر أن يغنّى في هذه الأبيات.

يصف فتح طبرستان و يمدح الرشيد

أخبرني محمد بن جعفر النّحويّ، قال: حدثنا محمد بن موسى بن حمّاد، قال: حدثني أبو عبد اللّه النّخعيّ، قال:

دخل أشجع على الرشيد فأنشده قوله:

أبت طبرستان غير الذي *** صدعت به بين أعضائها

ضممت مناكبها ضمّة *** رمتك بما بين أحشائها

سموت إليها بمثل السّماء *** تدلّى الصّواعق في مائها

فلمّا نظرت إلى جرحها *** وضعت الدّواء على دائها

فرشت الجهاد ظهور الجياد(1) *** بأبنائه و بأبنائها

بنفسك ترميهم و الخيول *** كرمي العقاب بأفلائها(2)

نظرت برأيك لمّا همم *** ت دون الرّجال و آرائها

قال: فأمر له بألف دينار.

يمدح الرشيد بعد قدومه من الحج و قد مطر الناس

أخبرني محمد بن جعفر، قال: حدّثنا محمد بن موسى، قال: حدثني أبو عمرو الباهليّ البصريّ قال:

دخل أشجع بن عمرو السّلميّ على هارون الرّشيد حين قدم من الحجّ، و قد مطر الناس يوم قدومه، فأنشده يقول:

إنّ يمن الإمام لمّا أتانا *** جلب الغيث من متون الغمام

فابتسام النّبات في أثر الغي *** ث بنوّاره كسرج(3) الظّلام

ملك من مخافة اللّه مغض *** و هو مغضى له من الإعظام

ألف الحجّ و الجهاد فما ين *** فكّ من سفرتين في كلّ عام

سفر للجهاد نحو عدوّ *** و المطايا لسفرة الإحرام

طلب اللّه فهو يسعى إليه *** بالمطايا و بالجياد السّوامي

فيداه يد بمكّة تدعو *** ه و أخرى في دعوة(4) الإسلام

ص: 421


1- في الأساس: فرشته أمري: بسطته له كله.
2- الفلاة: الصحراء الواسعة، و جمعها فلى، و جمع الجمع أفلاء. و في ف: «بأفنائها» بدل «بأفلائها».
3- السرج: جمع سراج: المصباح.
4- في ف، بيروت: «غزوة».
يذكر حفر نهر و يمدح الرشيد

أخبرني محمد بن جعفر، قال: حدثني محمد بن موسى بن حمّاد، قال: أخبرني أبو عبد اللّه النّخعيّ، قال:

أمر الرّشيد بحفر نهر لبعض أهل السّواد، و قد كان خرب و بطل ما عليه، فقال أشجع السّلميّ يمدحه:

أجرى الإمام الرّشيد نهرا *** عاش بعمرانه الموات

جاد عليه بريق فيه *** و سرّ مكنونه الفرات

ألقمه درّة لقوحا *** يرضع أخلافها النّبات(1)

حلم الرشيد حلما مزعجا و مات بعده فرثاه أشجع

أخبرني جحظة، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال:

/رأى الرّشيد فيما يرى النّائم كأنّ امرأة وقفت عليه و أخذت كفّ تراب ثم قالت له: هذه تربتك عن قليل، فأصبح فزعا، و قصّ رؤياه، فقال له أصحابه: و ما هذا؟ قد يرى النّاس أكثر ممّا رأيت و أغلظ ثم لا يضرّ. فركب و قال: و اللّه إنّي لأرى الأمر قد قرب، فبينا هو يسير إذ نظر إلى امرأة واقفة من وراء شبّاك حديد تنظر إليه، فقال:

هذه و اللّه المرأة التي رأيتها، و لو رأيتها بين ألف امرأة(2) ما خفيت عليّ، /ثم أمرها أن تأخذ كفّ تراب فتدفعه إليه، فضربت بيدها إلى الأرض التي كانت عليها فأعطته منها كفّ تراب، فبكى ثم قال: هذه و اللّه التّربة التي أريتها، و هذه المرأة بعينها. ثم مات بعد مدّة، فدفن في ذلك الموضع بعينه، اشتري له و دفن فيه، و أتى نعيه بغداد، فقال أشجع يرثيه:

غربت بالمشرق الشّمس فقل للعين تدمع

ما رأينا قطّ شمسا *** غربت من حيق تطلع

يتغزل في جارية حرب الثقفي و يذمه

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا محمد بن موسى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن عبد اللّه بن مالك، قال:

كان حرب بن عمرو الثّقفيّ نخّاسا، و كانت له جارية مغنّية، و كان الشعراء و الكتّاب و أهل الأدب ببغداد يختلفون إليها يسمعونها، و ينفقون في منزله النّفقات الواسعة، و يبرّونه و يهدون إليه، فقال أشجع:

جارية تهتزّ أرادفها *** مشبعة الخلخال و القلب(3)

أشكو الذي لاقيت من حبّها *** و بغض مولاها إلى الرّبّ

من بغض مولاها و من حبّها *** سقمت بين البغض و الحبّ

/فاختلجا في الصدر حتى استوى *** أمرهما فاقتسما قلبي

تعجّل اللّه شفائي بها *** و عجّل السّقم إلى حرب

ص: 422


1- في ب، مد: «أخلافه». و الدّرّة: اللّبن أو كثرته، و الأخلاف جمع خلف: حلمة ضرع الناقة.
2- في ب، مد، ما: «و لو رأيتها ألف مرة ما خفيت»!.
3- القلب: سوار المرأة.

(1) قال مؤلف هذا الكتاب: فأخذ هذا المعنى بعض المحدثين من أهل عصرنا، فقال في مغنّية تعرف بالشّاة:

بحبّ الشّاة ذبت ضنى *** و طال لزوجها مقتي

فلو أنّي ملكتهما *** لأسعد في الهوى بختي

فأدخل في استها أيري *** و لحية زوجها في استي(1)

يهنئ يحيى بن خالد بسلامته من المرض

أخبرني أبو الحسن الأسديّ، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثني صالح بن سليمان، قال:

اعتلّ يحيى بن خالد ثم عوفي، فدخل النّاس يهنّئونه بالسّلامة، و دخل أشجع فأنشده:

لقد قرعت شكاة أبي عليّ *** قلوب معاشر كانوا صحاحا(1)

فإن يدفع لنا الرّحمن عنه *** صروف الدّهر و الأجل المتاحا

فقد أمسى صلاح أبي عليّ *** لأهل الدّين و الدّنيا صلاحا(2)

إذا ما الموت أخطأه فلسنا *** نبالي الموت حيث غدا و راحا

قال: فما أذن يومئذ لأحد سواه في الإنشاء لاختصاص البرامكة إيّاه.

يعود علي بن شبرمة في مرضه

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثنا محمد بن عمران(3) الضّبّيّ، قال: سمعت محمد بن أبي مالك الغنويّ، يقول:

/دخل أشجع السّلميّ على عليّ بن شبرمة يعوده، فأنشأ يقول:

إذا مرض القاضي مرضنا بأسرنا *** و إن صحّ لم يسمع لنا بمريض

/فأصبحت - لمّا اعتلّ يوما - كطائر *** سما بجناح للنهوض مهيض

قال: فشكره ابن شبرمة و حمله على بغلة كانت له.

منعه حاجب أبان بن الوليد من الدخول عليه فهجاه

أخبرني الحسن، قال: حدّثنا ابن مهرويه، قال: حدّثني محمد بن عمران، قال: سمعت محمد بن أبي مالك يقول:

جاء أشجع ليدخل على أبان بن الوليد البجليّ، فمنعه حاجبه، و انتهره غلمانه، فقال فيه:

ألا أيّها المشلي(4) عليّ كلابه *** و لي - غير أن لم أشلهنّ - كلاب

رويدك لا تعجل عليّ فقد جرى *** بخزيك(5) ظبي أعضب و غراب

ص: 423


1- في «الشعر و الشعراء»: «... كانت صحاحا».
2- في «الشعر و الشعراء»: «لأهل الأرض كلهم صلاحا».
3- ب: «عبدان».
4- المشلي: المغري.
5- ب، مد: «بجريك»، و ظبي أعضب: انكسر قرنه.

علام تسدّ الباب و السّرّ قد فشا *** و قد كنت محجوبا و مالك باب

فلو كنت ممّن يشرب الخمر سادرا *** إذا لم يكن دوني عليك حجاب

و لكنّه يمضي لي الحول كاملا *** و ما لي إلاّ الأبيضين(1) شراب

من الماء أو من شخب دهماء ثرّة(2) *** لها حالب لا يشتكي و حلاب

مر بقبري الوليد بن عقبة و أبي زبيد الطائي فقال شعرا
اشارة

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة، قال: حدّثني ميمون بن هارون، قال: حدّثنا عليّ بن الجهم، قال: حدثني ابن أشجع السّلميّ، قال:

لما مرّ أبي و عمّاي أحمد و يزيد - و قد شربوا حتى انتشوا - بقبر الوليد بن عقبة و إلى جانبه قبر أبي زبيد الطّائيّ - و كان نصرانيّا - و القبران مختلفان كلّ واحد منهما متوجّه إلى قبلة ملّته، و كان أبو زبيد أوصى لمّا احتضر أن يدفن إلى جنب/الوليد بالبليخ قال: فوقفوا على القبرين، و جعلوا يتحدّثون بأخبارهما و يتذاكرون أحاديثهما، فأنشأ أبي يقول:

مررت على عظام أبي زبيد *** و قد لاحت ببلقعة صلود

و كان له الوليد نديم صدق *** فنادم قبره قبر الوليد

أنيسا ألفة ذهبت فأمست *** عظامهما تآنس(3) بالصّعيد

و ما أدري بمن تبدا المنايا *** بأحمد أو بأشجع أو يزيد

قال: فماتوا و اللّه كما رتّبهم في الشّعر، أولهم أحمد، ثم أشجع، ثم يزيد.

صوت

حيّ ذا الزّور و انهه أن يعودا *** إنّ بالباب حارسين قعودا

من أساوير ما ينون(4) قياما *** و خلاخيل تذهل المولودا

لا ذعرت السّوام في فلق الصّبح مغيرا و لا دعيت يزيدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيما(5)*** و المنايا يرصدنني أن أحيدا

الشّعر ليزيد بن ربيعة بن مفرّغ الحميريّ، و الغناء لسياط خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق، و ذكر أحمد بن المكيّ أنه لأبيه يحيى، و ذكر الهشاميّ أنّه لفليح. قال: و من هذا الصوت سرق لحن:

تلك عرسي تلومني في التّصابي

ص: 424


1- الأبيضان: اللبن و الماء.
2- الثرة: الغزيرة. و شخب اللبن: حلبه. و الدهماء: الخالصة الحمرة.
3- في ف: «تأنس».
4- ب: «ماكثات قياما».
5- «التجريد»: «يوم أعطى مخافة الموت ظلما». و في «الشعر و الشعراء»: «يوم أعطى من المخافة ضيما».

18 - أخبار ابن مفرغ و نسبه

نسبه و سبب تلقيب جده مفرغا

هو يزيد بن ربيعة بن مفرّغ(1)، و لقّب جدّه مفرّغا لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه كلّه فشربه كله/حتّى فرّغه، فلقب مفرّغا، و يكنى أبا عثمان، و هو من حمير فيما يزعم أهله، و ذكر ابن الكلبيّ و أبو عبيدة أن مفرّغا كان شعّابا بتبالة(2)، فادّعى أنّه من حمير. و قال عليّ بن محمد النّوفليّ: ليس أحد بالبصرة من حمير إلاّ آل الحجّاج بن ناب الحميريّ و بيتا آخر ذكره، و دفع بيت ابن مفرّغ.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: أخبرني أحمد بن الهيثم القرشيّ (3)، قال: أخبرني العمريّ، عن لقيط بن بكر المحاربيّ، قال:

هو يزيد بن ربيعة بن مفرّغ الحميريّ حليف قريش، ثم حليف آل خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة بن عبد شمس. قال العمريّ: و كان ابن المكيّ يقول: كان مفرّغ عبدا للضّحاك بن عبد عوف الهلاليّ فأنعم عليه.

قال محمد بن خلف: أخبرني محمد بن عبد الرّحمن الأسديّ، عن محمّد بن رزين، قال: قال الأخفش:

كان ربيعة بن مفرّغ شعّابا بالمدينة و كان ينسب إلى حمير، و إنما سمّي مفرّغا لتفريغه العسّ (4) و كان شاعرا غزلا محسنا، و السيّد(5) من ولده.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أبو العيناء قال:

/سئل الأصمعيّ عن شعر تبّع و قصّته و من وضعهما، فقال: ابن مفرّغ؛ و ذلك أنّ يزيد بن معاوية لمّا سيّره إلى الشّام و تخلّصه من عبّاد بن زياد أنزله الجزيرة، و كان مقيما برأس عين، و زعم أنّه من حمير، و وضع سيرة تبّع و أشعاره، و كان النّمر بن قاسط يدّعي أنّه منهم.

و قال الهيثم بن عديّ: هو يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرّغ اليحصبيّ، من حمير، يحصب بن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عديّ بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم(6) بن عبد

ص: 425


1- في «معجم الأدباء» 43/20: «يزيد بن زياد بن ربيعة المعروف بابن مفرغ» بضم الميم و كسر الراء من غير تشديد. و جاء في كتاب «الوفيات» 384/5: «و أكثر العلماء يقولون: يزيد بن ربيعة بن مفرغ و يسقطون زيادا». و في «الخزانة» 212/2: و «مفرغ بكسر الراء المشدودة لقب جده».
2- الشعاب: من يصلح الصدوع. و تبالة: موضع ببلاد اليمن. و في «الوفيات» أن مفرغا كان حدادا.
3- ب: «القرظي».
4- ف: «و إنما سمي مفرغا لأنه خاطر على عس لبن فشربه، فسمي مفرغا لتفريغه العس».
5- يريد السيد الحميري الشاعر.
6- ب: «خيثم».

شمس بن وائل بن الغوث بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

أخبرني بخبره جماعة من مشايخنا، منهم أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، عن عمر بن شبّة و محمد بن خلف بن المرزبان، عن جماعة من أصحابه، و أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، عن عليّ بن محمد النّوفليّ، عن أبيه، فما اتّفقت رواياتهم من خبره جمعتها في ذكره، و ما اختلفت أفردت كلّ منفرد منهم بروايته.

سفره مع عباد بن زياد و وصية سعيد بن عثمان

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدّثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن مسلمة بن محارب، و أخبرني الجوهريّ، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، و أخبرنا محمد بن العبّاس اليزيديّ، قال: قرأت على محمد بن الحسن بن دريد(1) عن ابن الأعرابيّ، و أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدّثنا أحمد بن الهيثم قال: حدثنا العمريّ، عن لقيظ بن بكير، قالوا جميعا:

/لمّا ولي سعيد بن عثمان بن عفان خراسان، استصحب يزيد بن ربيعة بن مفرّغ، و اجتهد به أن يصحبه، فأبى عليه و صحب عبّاد بن زياد، فقال له سعيد بن عثمان: أما إذ أبيت أن تصحبني و آثرت عبّادا فاحفظ ما أوصيك به، إن عبّادا رجل لئيم، فإيّاك و الدّالّة(2) عليه، و إن دعاك إليها من نفسه فإنها خدعة منه لك عن نفسك، و أقلل زيارته، فإنّه طرف(3) ملول، و لا تفاخره و إن فاخرك، فإنّه لا يحتمل لك ما كنت أحتمله. ثمّ دعا سعيد بمال فدفعه إلى ابن مفرّغ، و قال: استعن به على سفرك، فإن صلح لك مكانك من عبّاد و إلا فمكانك عندي ممهّد فائتني، ثم سار سعيد إلى خراسان، و تخلّف ابن مفرّغ عنه، و خرج مع عبّاد.

قال ابن دريد في خبره، /عن مسلمة(4) بن محارب:

فلما بلغ عبيد اللّه بن زياد صحبة ابن مفرّغ أخاه عبّادا شق عليه، فلما سار أخوه عبّاد شيّعه و شيّع الناس معه، و جعلوا يودّعونه و يودّع الخارجون مع عبّاد عبيد اللّه بن زياد، فلما أراد عبيد اللّه أن يودع أخاه دعا ابن مفرّغ، فقال له:

إنك سألت عبّادا أن تصحبه و أجابك إلى ذلك، و قد شقّ عليّ، فقال له ابن مفرّغ: و لم أصلحك اللّه؟ قال:

لأن الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من بعض؛ لأنه يظن فيجعل الظنّ يقينا، و لا يعذر في موضع العذر، و إن عبّادا يقدم على أرض حرب فيشتغل بحروبه و خراجه عنك، فلا تعذره أنت، و تكسبنا شرّا و عارا، فقال له:

/لست كما ظنّ الأمير، و إنّ لمعروفه عندي لشكرا كثيرا، و إنّ عندي - إن أغفل أمري - عذرا ممهّدا، قال:

لا، و لكن تضمن لي إن أبطأ عنك ما تحبّه إلاّ تعجل عليه حتى تكتب إليّ، قال: نعم، قال: امض إذا على الطائر الميمون. قال: فقدم عبّاد خراسان، و اشتغل بحربه و خراجه، فاستبطأه ابن مفرّغ و لم يكتب إلى عبيد اللّه بن زياد يشكوه كما ضمن له، و لكنه بسط لسانه فذمّه و هجاه.

يهجو عبادا ببيت من الشعر

و كان عبّاد عظيم اللّحية كأنها جوالق، فسار يزيد بن مفرّغ يوما مع عبّاد، فدخلت الريح فنفشتها، فضحك

ص: 426


1- ف: «محمد بن الحسن الأحون».
2- ب: «الدلالة».
3- الطرف: من لا يثبت على صاحب.
4- ف: «عن مسلم بن محارب».

ابن مفرّغ، و قال لرجل من لخم كان إلى جنبه قوله:

ألا ليت اللّحى كانت حشيشا *** فنعلفها خيول المسلمينا(1)

فسعى به اللّخميّ إلى عبّاد، فغضب من ذلك غضبا شديدا، و قال: لا يجمل بي عقوبته في هذه الساعة(2) مع الصحبة لي، و ما أؤخّرها إلا لأشفي نفسي منه لأنه كان يقوم فيشتم أبي في عدّة مواطن، و بلغ الخبر ابن مفرّغ فقال:

إني لأجد ريح الموت من عبّاد.

يطلب من عباد الإذن في الرجوع

ثم دخل عليه فقال له: أيّها الأمير، إني كنت مع سعيد بن عثمان، و قد بلغك رأيه فيّ، و رأيت جميل أثره عليّ، و إنّي اخترتك عليه، فلم أحظ منك بطائل(3)، و أريد أن تأذن لي في الرّجوع، فلا حاجة لي في صحبتك، فقال له: أمّا اختيارك إيّاي فإني اخترتك كما اخترتني، و استصحبتك حين سألتني، و قد أعجلتني عن/بلوغ محبّتي فيك، و قد طلبت الإذن(4) لترجع إلى قومك، فتفضحني فيهم(5)، و أنت على الإذن قادر بعد أن أقضي حقّك، فأقام. و بلغ عبّادا أنه يسبّه و يذكره و ينال من عرضه، و أجرى عبّاد الخيل فجاء سابقا، فقال ابن مفرّغ:

سبق عبّاد و صلّت(6) لحيته

عباد يحبسه بدين عليه و يبيعه الأراكة و بردا

و طلب عليه العلل، و دسّ إلى قوم كان لهم عليه دين، فأمرهم أن يقدموه إليه، ففعلوا، فحبسه و أضرّ به، فبعث إليه أن بعني الأراكة و بردا، و كانت الأراكة قينة لابن مفرّغ. و برد غلامه، ربّاهما و كان شديد الضّنّ بهما، فبعث إليه ابن مفرّغ مع الرّسول: أ يبيع المرء نفسه أو ولده؟ فأضرّ به عبّاد حتى أخذهما منه. هذه رواية مسلمة.

و أمّا لقيط و عمر بن شبّة فإنهما ذكرا أنه باعهما عليه، فاشتراهما رجل من أهل خراسان. قال لقيط: فلمّا دخلا منزله قال له برد، و كان داهية أريبا: أ تدري ما اشتريت؟ قال: نعم، اشتريتك و هذه الجارية. قال: لا و اللّه ما اشتريت إلاّ العار و الدّمار و الفضيحة أبدا ما حييت، فجزع الرجل و قال له: كيف ذلك؟ ويلك! قال: نحن ليزيد بن ربيعة بن مفرّغ، و اللّه ما أصاره إلى هذه الحال إلا لسانه و شرّه، أ فتراه يهجو/ابن زياد - و هو أمير خراسان، و أخوه أمير العراقين، و عمّه الخليفة - في أن استبطأه و يمسك عنك، و قد ابتعتني و ابتعت هذه الجارية و هي نفسه التي بين جنبيه؟ و اللّه ما أرى أحدا أدخل بيته أشأم على نفسه و أهله مما أدخلته منزلك، فقال: فاشهد أنّك و إيّاها له، فإن شئتما أن تمضيا إليه فامضيا، على أنّي أخاف على نفسي إن بلغ ذلك ابن زياد، و إن شئتما أن تكونا له عندي فافعلا، قال: فاكتب إليه بذلك. فكتب الرجل إلى ابن مفرّغ في الحبس بما فعله، فكتب إليه يشكر فعله، و سأله أن يكونا عنده حتى يفرّج اللّه عنه.

ص: 427


1- في «الشعر و الشعراء» لابن قتيبة 319/1، ف: «فنعلفها دواب المسلمينا».
2- ب، مد: «في هذه السرعة».
3- ب: «فلم أحل منك بطائل».
4- ب، س: «الآن».
5- ف: «ففضحني قبلهم».
6- صلت: جاءت تالية.

/قال: و قال عبّاد لحاجبه: ما أرى هذا - يعني ابن مفرّغ - يبالي بالمقام في الحبس، فبع فرسه و سلاحه و أثاثه، و اقسم ثمنها بين غرمائه، ففعل ذلك و قسم الثّمن بينهم، و بقيت عليه بقيّة حبسه بها. فقال ابن مفرّغ يذكر غلامه بردا و جاريته الأراكة و بيعهما:

شريت بردا و لو ملّكت صفقته *** لما تطلّبت في بيع له رشدا

لو لا الدّعيّ و لو لا ما تعرّض لي *** من الحوادث ما فارقته أبدا

يا برد ما مسّنا برد(1) أضرّ بنا *** من قبل هذا و لا بعنا له ولدا(2)

أمّا الأراك فكانت من محارمنا *** عيشا لذيذا و كانت جنّة رغدا

كانت لنا جنّة كنّا نعيش بها *** نغنى بها إن خشينا الأزل و النّكدا(3)

يا ليتني قبل ما ناب الزّمان به *** أهلي لقيت على عدوانه الأسدا(4)

قد خاننا زمن لم نخش عثرته(5) *** من يأمن اليوم أم من ذا يعيش غدا!

لامتني النّفس في برد فقلت لها *** لا تهلكي إثر برد هكذا كمدا

كم من نعيم أصبنا من لذاذته *** قلنا له إذ تولّى ليته خلدا

خروجه من السجن و هروبه إلى البصرة

قالوا: و علم ابن مفرّغ أنه إن أقام على ذمّ عبّاد و هجائه و هو في محبسه زاد نفسه شرّا؛ فكان يقول للنّاس إذا سألوه عن حبسه ما سببه: رجل أدّبه أميره ليقوّم من أوده، أو يكفّ من غربه(6)، و هذا لعمري خير من جرّ الأمير ذيله على مداهنة لصاحبه، فلما بلغ عبّادا قوله(7) رقّ له و أخرجه من السّجن، /فهرب حتى أتى البصرة، ثم خرج منها إلى الشّام و جعل ينتقل في مدنها هاربا و يهجو زيادا و ولده.

و قال المدائنيّ في خبره:

لمّا بلغ عبّاد بن زياد أنّ ابن المفرّغ قال:

سبق عبّاد و صلّت لحيته

هجاء في ابن مفرغ ينشده ابنه في مجلس عباد

دعا ابنه و المجلس حافل فقال له: أنشدني هجاء أبيك الذي هجي به، فقال: أيّها الأمير، ما كلّف أحد قطّ ما كلّفتني، فأمر غلاما له أعجميّا و قال له: قم على رأسه، فإن أنشد ما أمرته به و إلا فصبّ السّوط على رأسه أبدا أو ينشده، فأنشده أبياتا هجي بها أبوه أولها:

ص: 428


1- ف، و «رغبة الآمل» 70/2: «دهر».
2- ف: «و لا بعنا لنا ولدا».
3- الأزل: الضيق و الشدة.
4- ف: «لقيت أهل على عدوانه الأسدا».
5- ف: «عبرته».
6- ف: «و يكف من غربه».
7- ب: «فلما بلغ ذلك عبادا من قوله».

قبح الإله و لا يقبّح غيره *** وجه الحمار ربيعة بن مفرّغ

و جعل عبّاد يتضاحك به، فخرج ابن ابن مفرّغ من عنده و هو يقول: و اللّه لا يذهب شتم شيخي باطلا، و قال يهجوه بقوله:

أصرمت حبلك من أمامه *** من بعد أيّام برامه

/فالرّيح تبكي شجوها *** و البرق يضحك في الغمامة

لهفي على الأمر الذي *** كانت عواقبه ندامه

تركي سعيدا ذا النّدى *** و البيت ترفعه الدّعامه

فتحت سمرقند له *** و بنى بعرصتها خيامه

و تبعت عبد بني علا *** ج(1)، تلك أشراط القيامه!

جاءت به حبشيّة *** سكّاء(2) تحسبها نعامه

/و شريت بردا ليتني *** من بعد برد كنت هامه

أو بومة(3) تدعو صدى *** بين المشقّر و اليمامه

فالهول يركبه الفتى *** حذر المخازي و السّامه

و العبد يقرع بالعصا *** و الحرّ تكفيه الملامة

قال(4): ثم لجّ في هجاء بني زياد حتى تغنّى أهل البصرة في أشعاره، فطلبه عبيد اللّه طلبا شديدا حتى كاد يؤخذ، فلحق بالشام.

و اختلفت الرّواة فيمن ردّه إلى ابن زياد، فقال بعضهم: معاوية، و قال بعضهم: يزيد، و الصّحيح أنه يزيد؛ لأن عبّاد بن زياد إنما ولي سجستان في أيام يزيد. و قال بعضهم: بل الذي ولاّه معاوية، و هو الذي ولّى سعيد بن عثمان خراسان.

سعيد بن عثمان يعاتب معاوية لأنه جعل البيعة لابنه يزيد

أخبرني محمّد بن العبّاس اليزيديّ، و عبيد اللّه بن محمد الرازيّ (5)، قالا: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائنيّ قال:

دخل سعيد بن عثمان على معاوية بن أبي سفيان فقال: علام جعلت يزيد وليّ عهدك دوني؟ فو اللّه لأبي خير من أبيه، و أمّي خير من أمه، و أنا خير منه، و قد ولّيناك فما عزلناك، و بنا نلت ما نلت، فقال له معاوية: أمّا قولك:

إنّ أباك خير من أبيه فقد صدقت لعمر اللّه؛ إن عثمان لخير منّي، و أما قولك: إن أمك خير من أمّه، فحسب المرأة أن تكون في بيت قومها و أن يرضاها بعلها و أن ينجب ولدها. و أما قولك: إنّك خير من يزيد، فو اللّه يا بنيّ ما يسرّني

ص: 429


1- بنو علاج: بطن من ثقيف.
2- سكاء: صغيرة الأذنين.
3- ب: «فهامة». و في «المختار»: «هتافة» بدل «أو بومة». و في مد، ف: «هي هامة».
4- ف: «قالوا».
5- ف: «عبد اللّه بن أحمد الرازي».

أنّ لي بيزيد ملء الغوطة مثلك. و أما قولك: إنكم ولّيتموني فما عزلتموني، فما ولّيتموني، و إنما ولاّني من هو خير منكم عمر، فأقررتموني، و ما كنت بئس الوالي لكم، لقد قمت بثأركم، و قتلت/قتلة أبيكم، و جعلت الأمر فيكم، و أغنيت فقيركم، و رفعت الوضيع منكم، فكلّمه يزيد في أمره فولاّه خراسان.

رجع الحديث إلى سياقة أخبار ابن مفرغ
ينتقل في قرى الشام هاجيا بني زياد

قالوا: فلم يزل ينتقل في قرى الشام و نواحيها، و يهجو بني زياد(1)، و أشعاره فيهم ترد البصرة و تنتشر و تبلغهم، فكتب عبيد اللّه بن زياد إلى معاوية، و قال الآخرون: إنه كتب إلى يزيد و هو الصحيح، يقول له: إن ابن مفرّغ هجا زيادا و بنى زياد بما هتكه في قبره، و فضح بنيه طول الدهر، و تعدّى ذلك إلى أبي سفيان، فقذفه بالزنا و سبّ ولده، فهرب من خراسان إلى البصرة، و طلبته حتى لفظته الأرض، فلجأ إلى الشام يتمضّغ لحومنا بها، و يهتك أعراضنا، و قد بعثت إليك بما هجانا به لتنتصف لنا منه. ثم بعث بجميع ما قاله ابن مفرّغ/فيهم.

فأمر يزيد بطلبه، فجعل ينتقل من بلد إلى بلد، فإذا شاع خبره انتقل حتى لفظته الشام، فأتى البصرة و نزل على الأحنف بن قيس، فالتجأ به و استجار، فقال له الأحنف: إني لا أجير على ابن سميّة(2) فأعزل، و إنما يجير الرجل على عشيرته، فأما على سلطانه فلا، فإن شئت أجرتك من بني سعد و شعرائهم، فلا يريبك أحد منهم، فقال له ابن مفرّغ: بأستاه بني سعد(3) و ما عساهم أن يقولوا فيّ؟ هذا ما لا حاجة لي فيه.

ثم أتى خالد بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد فاستجار به، فأبى أن يجيره، فأتى عمر بن عبيد اللّه بن معمر فوعده، و أتى طلحة الطّلحات فوعده، و أتى المنذر بن الجارود العبديّ فأجاره؛ و كانت بحريّة بنت المنذر تحت عبيد اللّه.

المنذر بن الجارود العبدي يجيره

و كان المنذر من أكرم النّاس عليه، فاغترّ بذلك و أدلّ بموضعه منه، و طلبه عبيد اللّه و قد بلغه وروده البصرة فقيل له: أجاره المنذر بن الجارود، فبعث عبيد اللّه إلى المنذر فأتاه، فلما دخل عليه بعث عبيد اللّه بالشرط، فكبسوا داره(4) و أتوه بابن مفرّغ، فلم يشعر المنذر إلا بابن مفرّغ قد أقيم على رأسه، فقام المنذر إلى عبيد اللّه بالشرط، فكبسوا داره(4) و أتوه بابن مفرّغ، فلم يشعر المنذر إلا بابن مفرّغ قد أقيم على رأسه، فقام المنذر إلى عبيد اللّه فكلّمه فيه فقال: أذكّرك اللّه - أيّها الأمير - أن تخفر(5) جواري فإني قد أجرته، فقال عبيد اللّه: يا منذر ليمدحنّ أباك و ليمدحنّك، و لقد هجاني و هجا أبي ثم تجيره عليّ، لا ها اللّه(6) لا يكون ذلك أبدا، و لا أغفرها له، فغضب المنذر، فقال له: لعلك تدلّ بكريمتك عندي، إن شئت و اللّه لأبيننّها بتطليق البتّة، فخرج المنذر من عنده، و أقبل عبيد اللّه على ابن مفرّغ فقال له: بئسما صحبت به عبّادا. قال: بئسما صحبني به عبّاد، اخترته على سعيد و أنفقت

ص: 430


1- ف: «و يهجو ابني زياد».
2- ف: «بني سمية».
3- ب، مد، ما: «يا أستاذ بنو سعد».
4- كبسوا داره: هجموا عليه فجأة و احتاطوها.
5- ب: «ألاّ تخفر». يقال: خفره: أجاره و حماه، و حفره أيضا: نقض عهده و غدر به.
6- لاها اللّه، أي لا و اللّه.

على صحبته كلّ ما أفدته و كلّ ما أملكه،(1) و ظننت أنه لا يخلو من عقل زياد و حلم معاوية و سماحة قريش، فعدل عن ظنّي كله(1). ثم عاملني بكل قبيح، و تناولني بكلّ مكروه، من حبس و غرم و شتم و ضرب، فكنت كمن شام برقا خلّبا في سحاب جهام، فأراق ماءه طمعا فيه فمات عطشا، و ما هربت من أخيك إلا لمّا خفت من أن يجري فيّ إلى ما يندم عليه، و قد صرت الآن في يدك، فشأنك فاصنع بي ما أحببت، فأمر بحبسه.

عبيد اللّه يستأذن يزيد بن معاوية في قتله

و كتب إلى يزيد بن معاوية يسأله أن يأذن له في قتله، فكتب إليه: إيّاك و قتله، و لكن عاقبه بما ينكّله و يشدّ سلطانك، و لا تبلغ نفسه، فإنّ له عشيرة هي جندي و بطانتي، و لا ترضى بقتله منّي، و لا تقنع إلا بالقود /منك، فاحذر ذلك، و اعلم أنّه الجدّ منهم و مني، و أنك مرتهن بنفسه، و لك في دون تلفها مندوحة تشفي من الغيظ. فورد الكتاب على عبيد اللّه بن زياد، فأمر بابن مفرّغ فسقي نبيذا حلوا قد خلط معه الشّبرم(1) فأسهل بطنه، و طيف به و هو في تلك الحال، و قرن بهرّة و خنزيرة، فجعل يسلح و الصبيان يتبعونه و يقولون له بالفارسية:

اين چيست؟ فيقول:

آبست نبيذ است *** عصارات زبيبست

سميّة روسبيد است(2):

و جعل كلما جرّ الخنزيرة ضجت، فجعل يقول:

ضجّت سميّة لما لزّها(3) قرني *** لا تجزعي إنّ شرّ الشّيمة الجزع

فجعل يطاف به في أسواق البصرة و الصّبيان خلفه يصيحون به، و ألح عليه ما يخرج منه حتى أضعفه فسقط، فعرف ابن زياد ذلك، فقيل: إنه لما به لا نأمن أن يموت، فأمر به أن يغسل، ففعلوا ذلك به، فلما اغتسل قال:

/يغسل الماء ما فعلت و قولي *** راسخ منك في العظام البوالي

عبد اللّه يرده إلى الحبس

فردّه عبيد اللّه إلى الحبس، و أمر بأن يسلم محجما و قدّموا له علوجا، و أمر بأن يحجمهم، فكان يأخذ المشارط فيقطع بها رقابهم فيتوارون(4) منه، فتركه و ردّه إلى محبسه، و قامت الشّرط على رأسه تصبّ عليه السياط و يقولون له: احجمهم، فقال:

/و ما كنت حجّاما و لكني أحلّني *** بمنزلة الحجّام نأيي عن الأهل(5)

ص: 431


1- الشبرم: نبات له حب كالعدس مسهل.
2- هذه أبيات بالفارسية وردت في «الطبري» 177/6 و قد كثر فيها التحريف. و المعنى: الأولاد يسألون: ما هذا؟ و يجيبهم ابن مفرغ: هذا ماء نبيذ، هذه عصارة نبيذ، هذه سمية البغي.
3- لزها قرني: شدها و ألزمها إياه.
4- ف: «فيهربون».
5- «المختار»: «عن الأصل».
عباد بن زياد يجمع ما هجاه به و يرسله إلى معاوية

و قال عمر بن شبّة في خبره: جمع عبّاد بن زياد كلّ شيء هجاه به ابن مفرّغ، و كتب به إلى أخيه عبيد اللّه و هو يومئذ وافد على معاوية، فكان فيما كتب إليه قوله:

إذا أودى معاوية بن حرب *** فبشّر شعب قعبك(1) بانصداع

فأشهد أن أمّك لم تباشر *** أبا سفيان واضعة القناع

و لكن كان أمر فيه لبس *** على وجل شديد و امتناع(2)

و قوله:

ألا أبلغ معاوية بن حرب *** مغلغلة من الرّجل اليماني

أ تغضب أن يقال أبوك عفّ *** و ترضى أن يقال أبوك زاني

فأشهد أنّ رحمك(3) من زياد *** كرحم الفيل من ولد الأتان

و أشهد أنها ولدت زيادا(4) *** و صخر من سميّة غير داني

فدخل عبيد اللّه بن زياد على معاوية، فأنشده هذه الأشعار، و استأذنه في قتله فلم يأذن له و قال: أدّبه أدبا وجيعا منكّلا، و لا تتجاوز ذلك إلى القتل، و ذكر باقي الحديث كما ذكره من تقدم.

قالوا جميعا: و قال ابن مفرّغ يذكر جوار المنذر بن الجارود إيّاه و أمانه:

تركت قريشا أن أجاور فيهم *** و جاورت عبد القيس أهل المشقّر

/أناس أجارونا فكان جوارهم *** أعاصير من قسو العراق المبذّر(5)

فأصبح جاري من خزيمة(6) قائما *** و لا يمنع الجيران غير المشمّر(7)

يذكر ما فعله ابن زياد و يستشير قومه

و قال أيضا في ذلك:

أصبحت لا من بني قيس فتنصرني *** قيس العراق و لم تغضب لنا مضر

و لم تكلّم قريش في حليفهم *** إذ غاب ناصره بالشّام و احتضروا(8)

و اللّه يعلم ما تخفي النّفوس و ما *** سرّى أميّة أو ما قال لي عمر

و قال لي خالد قولا قنعت به *** لو كنت أعلم أنّى يطلع القمر

ص: 432


1- ب، «المختار»: «قلبك». و الشعب: الإصلاح و الالتئام. و القعب: القدح الضخم الغليظ.
2- «المختار»: «و ارتياع». و في «معجم الأدباء» 46/20: «على عجل شديد و ارتياع».
3- الرحم: القرابة. و روى في «الشعر و الشعراء»: و أشهد أنّ إلّك من زياد كإلّ الفيل من ولد الأتان
4- في «الشعر و الشعراء»: «و أشهد أنها حملت زيادا».
5- ف: «المشذر»، و القسو: الغلظ و الصلابة.
6- ب: «جزيمة».
7- المشمر: الجاد المصمم.
8- احتضروا: جاءوا.

لو أنّني شهدتني حمير غضبت *** دوني فكان لهم فيما رأوا عبر

أو كنت جار بني هند(1) تداركني *** عوف بن نعمان أو عمران أو مطر

و قال أيضا يذكر ذلك و ما فعل به ابن زياد:

دار سلمى بالخبث ذي الأطلال *** كيف نوم الأسير في الأغلال

أين منّي السّلام من بعد نأي *** فارجعي لي تحيّتي و سؤالي

أين منّي نجائبي و جيادي *** و غزالي، سقى الإله غزالي

/أين لا أين جنّتي و سلاحي *** و مطايا سيّرتها(2) لارتحالي

هدم الدّهر عرشنا فتداعى *** فبلينا إذ كلّ عيش(3) بالي

إذ دعانا زواله فأجبنا *** كلّ دنيا و نعمة لزوال

/أم قضينا حاجاتنا فإلى المو *** ت مصير الملوك و الأقيال

لا و صومي لربّنا و زكاتي *** و صلاتي أدعو بها و ابتهالي

ما أتيت الغداة أمرا دنيّا *** و لدى اللّه كابر الأعمال(4)

أيّها المالك المرهّب بالقتل *** بلغت النّكال كلّ النّكال

فاخش نارا تشوي الوجوه و يوما *** يقذف الناس بالدّواهي الثّقال

قد تعدّيت في القصاص و أدر *** كت ذحولا لمعشر أقتال(5)

و كسرت السّنّ الصّحيحة منّي *** لا تذلّن فمنكر إذلالي

و قرنتم مع الخنازير هرّا *** و يميني مغلولة و شمالي

و كلابا ينهشنني من ورائي *** عجب النّاس ما لهنّ و ما لي!

و أطلتم مع العقوبة سجنا *** فكم السّجن أو متى إرسالي!

يغسل الماء ما صنعت و قولي *** راسخ منك في العظام البوالي

لو قبلت الفداء أو رمت مالي *** قلت: خذه فداء نفسي مالي(6)

لو بغيري من معشري لعب الدّهر *** لما ذمّ نصرتي و احتيالي

كم بكاني من صاحب و خليل *** حافظ الغيب حامد للخصال(7)

ليت أنّي كنت الحليف للخم *** و جذام أو طيّئ الأجمال(8)

بدلا من عصابة من قريش *** أسلموني للخصم عند النّضال

ص: 433


1- ب، ما، مد: «نهد».
2- ف: «يسرتها».
3- ف: «كل شيء».
4- ف: «كانت الأعمال».
5- الذحل: الثأر أو العداوة و الحقد، و الجمع ذحول. و الأقتال جمع قتل «بكسر القاف» و هو الشجاع أو المقاتل.
6- ف: «فدى لنفسي مالي».
7- ف: «حامد لخصالي».
8- ف: «و طيئ الأجيال».

البهاليل من بني عبد شمس *** فضلوا النّاس بالعلا و الفعال

/و بنو التّيم تيم مرّة لمّا *** لمع الموت في ظلال العوالي

منعوا البيت بيت مكّة ذا الحجر *** إذ الطّير عكّف في الظّلال(1)

و البهاليل خالد و سعيد *** شمس دجن و وضّح كالهلال(2)

في الأرومات و الذّرى من بني *** العيص قروم إذا تعدّ المعالي

كنت منهم، ما حرّموا فحرام *** لم يراموا، و حلّهم من حلال(3)

و ذوو المجد من خزاعة كانوا *** أهل ودّي في الخصب و الإمحال

خذلوني و هم لذاك دعوني *** ليس حامي الذّمار بالخذّال

لا تدعني فداك أهلي و مالي *** إنّ حبليك من متين الحبال(4)

حسرتا إذ أطعت أمر غواتي(5) *** و عصيت النّصيح ضلّ ضلالي

يهجو عبادا و يذكر سعيد بن عثمان

و قال يهجو عبّاد بن زياد و يذكر سعيد بن عثمان:

أيها الشاتم جهلا سعيدا *** و سعيد في الحوادث ناب

/ما أبوكم مشبها لأبيه *** فاسألوا الناس بذاكم تجابوا

ساد عبّاد و ملّك(6) جيشا *** سبّحت من ذاك صمّ صلاب

إنّ عاما صرت فيه أميرا *** تملك النّاس لعام عجاب

يمحو ما كتبه من هجاء على الحيطان بأظافره
اشارة

قال: و اتصل هجاؤه زيادا و ولده و هو في الحبس، فردّه عبيد اللّه إلى أخيه عبّاد بسجستان، و وكّل به رجالا و وجههم معه، و كان لما هرب من عبّاد يهجوه/و يكتب كلّ ما هجاه به على حيطان الخانات، و أمر عبيد اللّه الموكّلين به أن يأخذوه بمحو ما كتبه على الحيطان بأظافيره، و أمرهم ألاّ يتركوه يصلّي إلا إلى قبلة النصارى إلى المشرق، فكانوا إذا دخلوا بعض الخانات التي نزلها فرأوا فيها شيئا مما كتبه من الهجاء، أخذوه بأن يمحوه بأظافره، فكان يفعل ذلك و يحكّه حتى ذهبت أظافره، فكان يمحوه بعظام أصابعه و دمه، حتى سلّموه إلى عبّاد فحبسه و ضيّق عليه. قال عمر بن شبّة في خبره: فقال ابن مفرّغ:

سرت تحت أقطاع من اللّيل زينب *** سلام عليكم هل لما فات مطلب!

و يروى:

ص: 434


1- ف: «كالظلال».
2- ف: «و الكريمان خالد و سعيد»... «و واضح كالهلال».
3- ف: «و حلهم بحلالي».
4- ف: «متان الحبال».
5- ف: «إذ أطعت فيك غواتي».
6- ب: «و مالأ جيشا».

ألا طرقتنا آخر اللّيل زينب

أصاب عذابي(1) اللون فاللّون شاحب

كما الرأس من هول المنيّة أشيب

قرنت بخنزير و هرّ و كلبة

زمانا و شان الجلد ضرب مشذّب

و جرّعتها صهباء من غير لذّة

تصعّد في الجثمان ثم تصوّب

و أطعمت ما إن لا يحلّ لآكل(2)

و صلّيت شرقا بيت مكّة مغرب

من الطّفّ مجنوبا(3) إلى أرض كابل

فملّوا و ما ملّ الأسير المعذّب

فلو أنّ لحمي إذ هوى لعبت به

كرام الملوك أو أسود و أذؤب

لهوّن وجدي أو لزادت بصيرتي

و لكنما أودت بلحمي أكلب

أ عبّاد ما للّؤم عنك محوّل

و لا لك أمّ في قريش و لا أب

سينصرني من ليس تنفع عنده

رقاك و قرم من أميّة مصعب(4)

/و قل لعبيد اللّه: ما لك والد

بحقّ و لا يدري امرؤ كيف تنسب!

في أول هذا الشعر غناء نسبته.

صوت

ألا طرقتنا آخر اللّيل زينب *** سلام عليكم هل لما فات مطلب!

و قالت: تجنّبنا و لا تقربنّنا *** فكيف و أنتم حاجتي أتجنّب!

الغناء لسياط ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ.

استثارته قومه ببيتين يقرءان على المصلين بجامع دمشق

و قالوا جميعا: فلما طال مقام ابن مفرّغ في السجن استأجر رسولا إلى دمشق، و قال له: إذا كان يوم الجمعة فقف على درج جامع(5) دمشق، ثم اقرأ هذين البيتين بأرفع ما يمكنك من صوتك، و كتبهما في رقعة، و هما:

أبلغ لديك بني قحطان قاطبة *** عضّت بأير أبيها سادة اليمن

أضحى دعيّ زياد فقع قرقرة(6) *** - يا للعجائب - يلهو بابن ذي يزن!

ففعل الرسول ما أمره به، فحميت اليمانية و غضبوا له، و دخلوا على معاوية فسألوه فيه/فدفعهم(7) عنه، فقاموا غضابا، و عرف معاوية ذلك في وجوههم، فردّهم و وهبه لهم، و وجّه رجلا من بني أسد يقال له خمخام

ص: 435


1- ما، مد: «عداتي».
2- ما، مد، ب: «و أطعمت مالا إن يحل لآكل».
3- ب: «مجلوبا»، و مجنوبا أي مقودا إلى جنب فرس.
4- القرم: السيد. و المصعب: الفحل.
5- ف: «مسجد».
6- يقال للذليل: هو أذل من فقع بقرقرة أو بقرقر، أي أذل من كمأة في أرض منخفضة؛ لأنه لا يمتنع على من جناه، أو لأنه يداس بالأرجل. و في مد، ما: «فوق قرقرة». و في ب: «نقع قرقرة»، تحريف.
7- ف: «فدافعهم عنه».

- و يقال: جهثام - بريدا إلى عبّاد، و كتب له عهدا، و أمره بأن يبدأ بالحبس فيخرج ابن مفرّغ منه و يطلقه، قبل أن يعلم عبّاد فيم قدم فيغتاله، ففعل ذلك به، فلما خرج من الحبس قرّبت إليه بغلة من بغال البريد فركبها، فلما استوى على ظهرها قال:

عدس(1) ما لعبّاد عليك إمارة *** نجوت و هذا تحملين طليق

/فإن الّذي نجّى من الكرب بعد ما *** تلاحم في درب عليك مضيق

أتاك بخمخام فأنجاك فالحقي *** بأهلك(2) لا تحبس عليك طريق

لعمري لقد أنجاك من هوّة الرّدى *** إمام و حبل للأنام وثيق

سأشكر ما أوليت من حسن نعمة *** و مثلي بشكر المنعمين حقيق(3)

معاوية يعفو عنه

قال عمر بن شبّة في خبره، و وافقه لقيط بن بكير: فلما أدخل على معاوية بكى و قال: ركب مني ما لم يركب من مسلم قطّ، على غير حدث في الإسلام و لا خلع يد من طاعة و لا جرم، فقال: أ لست القائل:

ألا أبلغ معاوية بن حرب *** مغلغلة من الرّجل اليماني

أ تغضب أن يقال أبوك عفّ *** و ترضى أن يقال أبوك زان!

فأشهد أنّ رحمك من زياد *** كرحم الفيل من ولد الأتان(4)

و أشهد أنّها ولدت زيادا(5) *** و صخر من سميّة غير دان

فقال: لا و الذي عظّم حقّك يا أمير المؤمنين ما قلته، و لقد بلغني أنّ عبد الرحمن بن الحكم قاله و نسبه إليّ.

قال: أ فلم تقل:

شهدت بأنّ أمّك لم تباشر *** أبا سفيان واضعة القناع

و لكن كان أمر فيه لبس *** على وجل شديد و ارتياع

أ و لست القائل:

إنّ زيادا و نافعا و أبا *** بكرة عندي من أعجب العجب

/إنّ رجالا ثلاثة خلقوا *** في رحم أنثى ما كلهم لأب

ذا قرشيّ كما يقول، و ذا *** مولى، و هذا بزعمه عربي

في أشعار كثيرة قلتها في هجاء زياد و بنيه، اذهب فقد عفوت عن جرمك، و لو إيّانا تعامل لم يكن شيء مما كان، فاسكن أيّ أرض شئت(6). فاختار الموصل فنزلها، ثمّ ارتاح إلى البصرة فقدمها، فدخل على عبيد اللّه بن

ص: 436


1- عدس: اسم البغلة، أو كلمة زجر للبغال.
2- ب: «بأرضك». و في ف: «فنجاك فالحقن».
3- «التجريد»، ف: «خليق».
4- انظر الحاشية رقم 4 ص 265.
5- انظر الحاشية رقم 5 ص 265.
6- ف: «أحببت».

زياد، و اعتذر إليه و سأله الصّفح و الأمان، فأمّنه و أقام بها مدّة، ثمّ دخل عليه بعد أن أمّنه فقال: أصلح اللّه الأمير، إني قد ظننت أنّ نفسك لا تطيب لي بخير أبدا، و لي أعداء لا آمن سعيهم عليّ بالباطل، و قد رأيت أن أتباعد، فقال له: إلى أين شئت؟ فقال: كرمان، فكتب له إلى شريك بن الأعور و هو عليها بجائزة و قطيعة/و كسوة، فشخص فأقام بها حتى هرب عبيد اللّه من البصرة، فعاد إليها. هذه رواية عمر بن شبّة.

رواية أخرى في سبب إنقاذه من ابني زياد

و قال محمد بن خلف في روايته، عن أحمد بن الهيثم، عن المدائنيّ، و عن العمريّ، عن لقيط:

أنّ ابن مفرّغ لمّا طال حبسه و بلاؤه، ركب طلحة الطّلحات إلى الحجاز، و لقي قريشا - و كان ابن مفرّغ حليفا لبني أميّة - فقال لهم طلحة: يا معشر قريش، إنّ أخاكم و حليفكم ابن مفرّغ قد ابتلي بهذه الأعبد من بني زياد، و هو عديدكم و حليفكم و رجل منكم، و و اللّه ما أحب أن يجري اللّه عافيته على يدي دونكم، و لا أفوز بالمكرمة في أمره و تخلوا منها، فانهضوا معي بجماعتكم إلى يزيد بن معاوية، فإنّ أهل اليمن قد تحرّكوا بالشّام، فركب خالد بن عبد اللّه بن خالد(1) بن أسيد، و أمية بن عبد اللّه أخوه، و عمر بن عبيد اللّه بن معمر، و وجوه خزاعة(2) و كنانة /و خرجوا إلى يزيد، فبينا هم يسيرون ذات ليلة إذ سمعوا راكبا يتغنّى في سواد الليل بقول ابن مفرّغ و يقول:

إنّ تركي ندى سعيد بن عثما *** ن بن عفّان(3) ناصري و عديدي

و اتّباعي أخا الضّراعة و اللّؤ *** م لنقص و فوت شأو بعيد

قلت و اللّيل مطبق بعراه: *** ليتني متّ قبل ترك سعيد

ليتني متّ قبل تركي أخا النّج *** دة و الحزم و الفعال السّديد

عبشميّ أبوه عبد مناف *** فاز منها بتاجها المعقود

ثمّ جود لو قيل: هل من مزيد(4) *** قلت للسائلين: ما من مزيد

قل لقومي لدى الأباطح من آ *** ل لؤيّ بن غالب ذي الجود:

سامني بعدكم دعيّ زياد *** خطّة الغادر(5) اللئيم الزّهيد

كان ما كان في الأراكة و اجت *** بّ ببرد سنام عيسى و جيدي

أوغل العبد في العقوبة و الشّت *** م و أودى بطارفي و تليدي

فارحلوا في حليفكم و أخيكم *** نحو غوث المستصرخين يزيد

فاطلبوا النّصف(6) من دعيّ زياد *** و سلوني بما ادّعيت شهودي

قال: فدعا القوم بالراكب فقالوا له: ما هذا الذي سمعناه منك تغنّي به؟ فقال: هذا قول رجل و اللّه إنّ أمره لعجب، رجل ضائع بين قريش و اليمن، و هو رجل الناس، قالوا: و من هو؟ قال: ابن مفرّغ، قالوا: /و اللّه ما رحلنا

ص: 437


1- ب: «إلى خالد بن أسيد».
2- ب: «في وجوه خزاعة».
3- في «الشعر و الشعراء»: «... سعيد بن عثمان فتى الجود...».
4- ب: «لو قيل فيه مزيد».
5- ف: «خطة العار و اللئيم الزهيد».
6- النصف: الإنصاف.

إلا فيه، و انتسبوا له، فضحك و قال: أ فلا أسمعكم من قوله أيضا؟ قالوا: بلى، فأنشدهم قوله:

لعمري لو كان الأسير ابن معمر *** و صاحبه أو شكله ابن أسيد

و لو أنّهم نالوا أميّة أرقلت(1) *** براكبها الوجناء نحو يزيد

فأبلغت عذرا في لؤيّ بن غالب *** و أتلفت فيهم طارفي و تليدي

فإن لم يغيّرها الإمام بحقّها *** عدلت إلى شمّ شوامخ صيد

فناديت فيهم دعوة يمنيّة *** كما كان آبائي دعوا و جدودي

/و دافعت حتّى أبلغ الجهد عنهم *** دفاع امرئ في الخير غير زهيد

فإن لم تكونوا عند ظنّي بنصركم *** فليس لها غير الأغرّ سعيد

بنفسي و أهلي ذاك حيّا و ميّتا *** نضار و عود المرء أكرم عود

فكم من مقام في قريش كفيته *** و يوم يشيب الكاعبات شديد

و خصم تحاماه لؤيّ بن غالب *** شببت له ناري فهاب وقودي

و خير كثير قد أفأت عليكم *** و أنتم رقود أو شبيه رقود

قال: فاسترجع القوم لقوله و قالوا: و اللّه لا نغسل رءوسنا في العرب إن لم نغسلها(2) بفكّه. فأغذّ القوم السّير حتى قدموا الشّأم.

وفد اليمانية يذهب إلى يزيد بن معاوية

و بعث ابن مفرّغ(3) رجلا من بني الحارث بن كعب، فقام على سور حمص، فنادى بأعلى صوته الحصين(4)ابن نمير - و كان والي حمص - بهذه الأبيات و كان عظيم الجبهة:

/أبلغ لديك بني قحطان قاطبة *** عضّت بأير أبيها سادة اليمن

أمسى دعيّ زياد فقع قرقرة *** يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن!

و الحميريّ طريح وسط مزبلة *** هذا لعمركم غبن من الغبن

و الأجبه ابن نمير فوق مفرشه *** يدنو إلى أحور العينين ذي غنن(5)

قوموا فقولوا: أمير المؤمنين لنا *** حقّ عليك و منّ ليس كالمنن

فاكفف دعيّ زياد عن أكارمنا *** ما ذا يريد على الأحقاد و الإحن(6)

فاجتمعت اليمانية إلى حصين، فعيّروه بما قاله ابن مفرّغ، فقال الحصين: ليس لي رأي دون يزيد بن أسد، و مخرمة بن شرحبيل، فأرسل إليهما، فاجتمعوا في منزل الحصين، فقال لهما الحصين: اسمعا ما أهدى إليّ شاعركم و قاله لكم في أخيكم - يعني نفسه - و أنشدهم، فقال يزيد بن أسد: قد جئتكم بأعظم من هذا، و هو قوله:

ص: 438


1- أرقلت: أسرعت، من الإرقال و هو ضرب من الخبب.
2- مد: «إن لم يغتسلها». و في ما: «إن لم نغتسلها». و في ف: «إن لم نستقلها».
3- ب: «و بعث إلى ابن مفرغ رجلا...» تحريف.
4- ف: «الحصن بن نمير».
5- الأجبه: العظيم الجبهة. و الغنن جمع غنة، و هو صوت من اللهاة و الأنف.
6- ب، ما، مد: «ما ذا تريد إلى الأحقاد و الإحن».

و ما كنت حجّاما و لكن أحلّني *** بمنزلة الحجّام نأيي عن الأصل(1)

فقال الحصين: و اللّه لقد أساء إلينا أمير المؤمنين في صاحبنا مرّتين، إحداهما أنه هرب إليه فلم يجره، و أخرى أنّه أمر بعذابه غير مراقب لنا فيه، و قال يزيد بن أسد: إنّي لأظن أنّ طاعتنا ستفسد و يمحوها ما فعل(2)بابن مفرّغ، و لقد تطلّع من نفسي شيء، للموت أحبّ إليّ منه. و قال مخرمة بن شرحبيل: أيها الرّجلان، اعقلا فإنه لا معاوية لكما(3)، و اعرفا أنّ صاحبكما لا تقدح فيه الغلظة، فاقصدا التّضرّع، فركب القوم إلى دمشق/و قدموا على يزيد بن معاوية، و قد سبقهم الرّجل، فنادى بذلك الشّعر يوم الجمعة على درج مسجد دمشق، فثارت اليمانية و تكلّموا، و مشى بعضهم إلى بعض، و قدم وفد القرشيّين في أمره مع طلحة الطّلحات، فسبقوا القرشيّين، و دخلوا على يزيد بن معاوية، فتكلم الحصين بن نمير، فذكر بلاءه و بلاء قومه و طاعتهم، و قال: يا أمير المؤمنين، إنّ الذي أتاه ابن زياد إلى صاحبنا، لا قرار عليه، و قد سامنا عبيد اللّه و عبّاد خطّة خسف، و قلّدانا قلادة عار، فأنصف /كريمنا من صاحبه، فو اللّه لئن قدرنا لنعفونّ، و لئن ظلمنا لننتصرنّ. و قال يزيد بن أسد: يا أمير المؤمنين، إنّا لو رضينا بمثلة ابن زياد بصاحبنا و عظيم ما انتهك منه، لم يرض اللّه عزّ ذكره بذلك(4) و لئن تقرّبنا إليك بما يسخط اللّه ليباعدنّنا اللّه منك، و إن يمانيّتك قد نفرت لصاحبها نفرة طار غرابها، و ما أدري متى يقع، و كلّ نائرة(5) تقدح في الملك و إن صغرت لم يؤمن أن تكبر، و إطفاؤها خير من إضرامها لا سيما إذا كانت في أنف لا يجدع، و يد لا تقطع، فأنصفنا من ابني زياد(6).

و قال مخرمة بن شرحبيل، و كان متألّها عظيم الطاعة في أهل اليمن: إنه لا يد تحجزك(7) عن هواك، و لو مثّلت بأخينا و تولّيت ذلك منه بنفسك لم يقم فيه قائم و لم يعاتبك فيه معاتب، و لكنّ ابني زياد استخفّانا(8) بما يثقل عليك من حقّنا، /و تهاونا بما تكرمه منّا، و أنت بيننا و بين اللّه،(9) و نحن بينك و بين الناس(9)، فأنصفنا من صاحبيك، و لينفعنا بلاؤنا عندك.

فقال يزيد: إنّ صاحبكم أتى عظيما؛ نفى زيادا من أبي سفيان، و نفى عبّادا و عبيد اللّه من زياد، و قلّدهم طوق الحمامة، و ما شجّعه على ذلك إلا نسبه فيكم، و حلفه في قريش، فأمّا إذ بلغ الأمر ما أرى، و أشفى بكم على ما أشفى، فهو لكم، و عليّ رضاكم.

وفد القرشيين يقابل يزيد بن معاوية

قال: و انتهى القرشيّون إلى الحاجب فاستأذن لهم، و قال لليمانيّين: قد أتتكم برى الذهب من أهل العراق،

ص: 439


1- ف: «الأهل».
2- ف: «ما صنع».
3- يشير إلى حلم معاوية الذي مات، و غضب يزيد.
4- ف: «لم يرض اللّه عمّن رضي بذلك».
5- النائرة: العداوة و الشحناء.
6- ف: «ابن زياد».
7- في ب، مد: «إنه لا يدع تحجزك عن هواك دون اللّه و لو مثلت... الخ».
8- ف: «استخفا بما يثقل عليك من حقنا». (9-9) التكملة من ف.

فدخلوا و سلّموا و الغضب يتبيّن(1) في وجوههم، فظنّ يزيد الظنون، و قال لهم: ما لكم؟ انفتق فتق أو حدث حدث فيكم؟ قالوا: لا، فسكن.

فقال طلحة الطّلحات:

يا أمير المؤمنين، أ ما كفى العرب ما لقيت من زياد، حتى استعملت عليها ولده يستكثرون لك أحقادها، و يبغّضونك إليها، إنّ عبيد اللّه و أخاه أتيا إلى ابن مفرّغ ما قد بلغك، فأنصفنا منهما إنصافا تعلم العرب أنّ لنا منك خلفا من أبيك، فو اللّه، لقد خبأ لك فعلهما خبئا عند أهل اليمن لا تحمده لك، و لا تحمده لنفسك.

و تكلّم خالد بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد فقال:

يا أمير المؤمنين، إنّ زيادا ربّي في شرّ حجر، و نشأ في أخبث نشء، فأثبتّم نصابه في قريش، و حملتموه(2)على رقاب الناس، فوثب ابناه على أخينا و حليفنا/و حليفك، ففعلا به الأفاعيل التي بلغتك، و قد غضبت له قريش الحجاز و يمن الشّأم ممّن لا أحبّ و اللّه لك غضبه، فأنصفنا من ابني زياد.

و تكلم أخوه أميّة بنحو ممّا تكلم أخوه و قال:

و اللّه يا أمير المؤمنين لا أحطّ رحلي، و لا أخلع ثياب سفري، أو تنصفنا من ابني زياد، أو تعلم العرب أنك قد قطعت أرحامنا، و وصلت ابني زياد بقطعنا، و حكمت بغير الحقّ لهما علينا.

و قال ابن معمر: يا أمير المؤمنين، إنّ ابن مفرّغ طالما ناضل عن عرضك و عرض أبيك و أعراض قومك، و رمى عن جمرة أهلك، و قد أتى بنو زياد فيه ما لو كان معاوية حيّا لم يرض به، و هذا رجل له شرف في قومه، و قد نفروا له نفرة لها ما بعدها، فأعتبهم و أنصف الرجل(3) و لا تؤثر مرضاة ابني زياد على مرضاة اللّه عزّ و جلّ.

يزيد يرحب بالوفدين و يرسل من يطلق ابن مفرغ

فقال يزيد: مرحبا بكم و أهلا، و اللّه لو أصابه خالد ابني بما ذكرتم لأنصفته منه، و لو رحلتم في جميع ما تحيط به العراق لوهبته لكم، و ما عندي إلا إنصاف المظلوم، و لكنّ صاحبكم/أسرف على القوم. و كتب يزيد ببناء داره، و ردّ ماله و تخلية سبيله، و ألاّ إمرة لأحد من بني زياد عليه، و قال: لو لا أنّ في القود بعد ما جرى منه فسادا في الملك لأقدته من عبّاد.

و سرّح يزيد رجلا من حمير يقال له خمخام، و كتب معه إلى عبّاد بن زياد: نفسك نفسك و أن تسقط من ابن مفرّغ شعرة فأقيدك و اللّه به، و لا سلطان لك و لا لأخيك و لا لأحد غيري عليه، فجاء خمخام حتى انتزعه جهارا من الحبس(4) بمحضر الناس و أخرجه.

دخوله على يزيد و ما دار بينهما

قالوا: فلما دخل على يزيد قال له: يا أمير المؤمنين، اختر منّي خصلة من ثلاث خصال، في كلّها لي فرج،

ص: 440


1- ف: «بيّن».
2- ب، مد، ما: «فأثبتهم نصابه في قريش و حملت... الخ».
3- ف: «فأعنهم و أنصفهم من الرجل».
4- ب، ما، مد: «من المجلس».

إما أن تقيدني من ابن زياد، و إما أن تخلّي بيني و بينه، و إما أن تقدّمني فتضرب عنقي.

فقال له يزيد: قبّح اللّه ما اخترته و خيّرتنيه(1)؛ أما القود من ابن زياد فما كنت لأقيدك من عامل كان عليك، ظلمته و شتمت عرضه و عرضي معه، و أما التّخلية بينك و بينه فلا، و لا كرامة، ما كنت لأخلّي بينك و بين أهلي تقطع أعراضهم، و أما ضرب عنقك، فما كنت لأضرب عنق مسلم من غير أن يستحقّ ذلك، و لكني أفعل ما هو خير لك مما اخترته لنفسك؛ أعطيك ديتك، فإنهم قد عرّضوك للقتل، و اكفف عن ولد زياد، فلا يبلغني أنك ذكرتهم، و انزل أيّ البلاد شئت، و أمر له بعشرة آلاف درهم.

اعتذاره لعبيد اللّه بن زياد

فخرج حتى أتى الموصل و أقام بها ما شاء اللّه، ثم خرج ذات يوم يتصيّد، فلقي دهقانا على حمار له، فقال: من أين أقبلت؟ قال: من العراق، قال: من أيّها؟ قال: من البصرة، ثم من الأهواز(2)، قال: فما فعل المسرقان(3)؟ قال: على حاله، قال: أ فتعرف أناهيد بنت أعنق؟ قال: نعم، قال: ما فعلت؟ قال: على أحسن ما عهدت.

قال: فضرب برذونه و سار حتى أتى الأهواز، و لم يعلم أهله و لا غيرهم بمسيره.

ثم أتى عبيد اللّه بن زياد، فدخل عليه و اعتذر إليه، و سأله الأمان فأمّنه، ثم سأله أن يكتب له إلى شريك بن الأعور، فكتب له و وصله.

عودته إلى البصرة و هجاؤه بني زياد
اشارة

و خرج فأقام بكرمان حتى غلب ابن الزّبير على العراق، و هرب ابن زياد/و كان أهل البصرة قد أجمعوا على قتله، فخرج عن البصرة هاربا، فعاد ابن مفرّغ إلى البصرة، و عاود هجاء بني زياد، فقال يذكر هرب عبيد اللّه و تركه(4) أمّه بقوله:

أ عبيد هلاّ كنت أوّل فارس *** يوم الهياج دعا بحتفك داع

أسلمت أمّك و الرّماح تنوشها *** يا ليتني لك ليلة الإفزاع

إذ تستغيث و ما لنفسك مانع *** عبد تردّده بدار ضياع

هلاّ عجوزك إذ تمدّ بثديها *** و تصيح ألاّ تنزعنّ قناعي

أنقذت من أيدي العلوج كأنها *** ربداء مجفلة ببطن القاع(5)

فركبت رأسك ثم قلت: أرى العدا *** كثروا و أخلف موعدي أشياعي(6)

فانجي بنفسك و ابتغى نفقا فما *** لي طاقة(7) بك و السلام و داعي

ص: 441


1- ف: «و خيرته».
2- ب، ما، مد: «من الإيوان».
3- المشرقان: نهر بخوزستان عليه عدة قرى («معجم البلدان»).
4- ف: «و يذكر أمه».
5- «المختار»، ف: «من أيدي العبيد». و الربداء: السوداء الضاربة إلى الغبرة. يشبهها بالنعامة. و في ف: «ربداء مخلفة».
6- ب: «و أخلف موعد الأشياع».
7- ف، «المختار»: «لي حيلة».

ليس الكريم بمن يخلّف أمّه *** و فتاته في المنزل الجعجاع(1)

حذر المنيّة و الرّماح تنوشه *** لم يرم دون نسائه بكراع(2)

متأبّطا سيفا عليه يلمق(3) *** مثل الحمار أثرته بيفاع

/لا خير في هذر يهزّ(4) لسانه *** بكلامه و القلب غير شجاع

لابن الزّبير غداة يذمر(5) منذرا *** أولى بغاية كلّ يوم وقاع

و أحقّ بالصبر الجميل من امرئ *** كزّ أنامله قصير الباع

جعد اليدين عن السّماحة(6) و النّدى *** و عن الضّريبة فاحش منّاع

/كم يا عبيد اللّه(7) عندك من دم *** يسعى ليدركه بقتلك ساع

و معاشر أنف أبحت حريمهم *** فرّقتهم من بعد طول جماع

اذكر حسينا و ابن عروة هانئا *** و ابني عقيل فارس المرباع

و قال أيضا يذكر هربه:

أقرّ بعيني أنّه عقّ أمّه(8) *** دعته فولاّها استه و هو يهرب

و قال: عليك الصبر كوني سبيّة *** كما كنت أو موتي؛ فذلك أقرب

و قد هتفت هند: بما ذا أمرتني؟ *** ابن لي و حدّثني إلى أين أذهب؟

فقال: اقصدي للأزد في عرصاتها(9) *** و بكر فما إن عنهم متجنّب

أخاف تميما و المسالح(10) دونها *** و نيران أعدائي عليّ تلهّب

و ولّى و ماء العين يغسل وجهها(11) *** كأن لم يكن و الدّهر بالناس قلّب

بما قدّمت كفّاك لا لك مهرب *** إلى أيّ قوم و الدّماء تصبّب

فكم من كريم قد جررت جريرة *** عليه فمقبور و عان يعذّب

و من حرّة زهراء قامت بسحرة *** تبكّي قتيلا أو صدى يتأوّب(12)

فصبرا عبيد بن العبيد فإنما *** يقاسي الأمور المستعدّ المجرّب

و ذق كالذي قد ذاق منك معاشر *** لعبت بهم إذ أنت بالنّاس تلعب

ص: 442


1- الجعجاع: الضيق الخشن الغليظ.
2- الكراع: الخيل. و يقال: فلان ما ينضح الكراع أي ضعيف الدفاع.
3- اليلمق: القباء.
4- ف: «يهد لسانه».
5- يذمر: يهدد.
6- ب، ف: «على السماحة».
7- ف: «يا عدي اللّه».
8- ب: «أفر عبيد و السيوف عن أمه».
9- العرصة: ساحة الدار، و هي البقعة الواسعة بين الدور التي ليس فيها بناء.
10- المسالح جمع مسلحة و هي موضع السلاح أو القوم ذوو السلاح.
11- ف: «يغسل جفنها».
12- ف: «و كم حرّة زهراء». و في ب، ما: «أو فتى يتأوب». و يتأوب: يرجع.

فلو كنت حرّا أو حفظت وصيّة *** عطفت على هند و هند تسحّب

/و قاتلت حتى لا تري لك مطمعا(1) *** بسيفك في القوم الذين تحزّبوا

و قلت لأمّ العبد أمّك: إنني *** و إن كثر الأعداء حام مذبّب(2)

و لكن أبى قلب أطيرت بناته(3) *** و عرق لكم في آل ميسان يضرب

و قال في ذلك أيضا:

ألا أبلغ عبيد اللّه عنّي *** عبيد اللّؤم عبد بني علاج

عليّ لكم قلائد باقيات *** يثرن عليكم نقع العجاج

تدعّيت الخضارم من قريش *** فما في الدّين بعدك من حجاج(4)

ابن لي هل بيثرب زندورد *** قرى آبائك النّبط العجاج!(5)

و قال فيه أيضا:

عبيد اللّه عبد بني علاج *** كذاك نسبته و كذاك كانا

أعبد الحارث الكنديّ ألا *** جعلت لإست أمّك ديدبانا(6)

/فتستر عورة كانت قديما *** و تمنع أمّك النّبط البطانا

و قال يهجو عبيد اللّه و عبّادا، أنشدناه جماعة، منهم هاشم بن محمد الخزاعيّ، عن دماذ، عن أبي عبيدة، و هذا من قصيدة له طويلة أوّلها:

جرت أمّ الظّباء ببين ليلى *** و كلّ وصال حبل لانقطاع

/يقول فيها:

و ما لاقيت من أيّام بؤس(7) *** و لا أمر يضيق به ذراعي

و لم تك شيمتي عجزا و لؤما *** و لم أك بالمضلّل في المساعي

سوى يوم الهجين و من يصاحب *** لئام الناس يغض على القذاع(8)

حلفت بربّ مكّة لو سلاحي *** بكفي(9) إذ تنازعني متاعي

لباشر أمّ رأسك مشرفيّ *** كذاك دواؤنا وجع الصّداع

ص: 443


1- ف: «مطعما».
2- مذبب: مدافع.
3- ب: «ثيابه».
4- ف: «خلاج». و الخضارم جمع خضرم، و هو السيد الحمول أو الجواد المعطاء.
5- ما، مد: «بربي إيليا النبط العجاج». و في ب، س: «فربي إيليا...». و زندورد: بلد قرب واسط، و العجاج: رعاع الناس («قاموس»).
6- الديدبان: الرقيب.
7- ف: «شرّ».
8- القذاع: الفحش و المشاتمة.
9- ف: «لو بكفي سلاحي».

أ في أحسابنا تزري علينا *** هبلت و أنت زائدة الكراع(1)

تبغّيت الذّنوب عليّ جهلا *** جنونا ما جننت ابن اللّكاع(2)

فما أسفي على تركي سعيدا *** و إسحاق بن طلحة و اتّباعي

ثنايا الوبر عبد بني علاج *** عبيدة(3) فقع قرقرة بقاع

إذا ما راية رفعت لمجد *** و ودّع أهلها خير الوداع

فأير في است أمّك من أمير *** كذاك يقال للحمق اليراع(4)

و لا بلّت سماؤك من أمير *** فبئس معرّس الرّكب الجياع(5)

أ لم تر إذ تحالف حلف حرب *** عليك غدوت(6) من سقط المتاع

و كدت تموت أن صاح ابن آوى *** و مثلك مات من صوت السّباع

و يوم فتحت سيفك من بعيد *** أضعت و كلّ أمرك للضّياع

/إذا أودى معاوية بن حرب *** فبشّر شعب قعبك(7) بانصداع

فأشهد أنّ أمّك لم تباشر *** أبا سفيان واضعة القناع

و لكن كان أمرا فيه لبس *** على عجل شديد و ارتياع

قال: و كان عبّاد في بعض حروبه ذات ليلة نائما في عسكره، فصاحت بنات آوى، فثارت الكلاب إليها، و نفر بعض الدّوابّ ففزع عبّاد و ظنها كبسة من العدوّ، فركب فرسه و دهش، فقال: افتحوا سيفي، فعيّره بذلك ابن مفرّغ.

و مما قاله ابن مفرّغ في هجاء بني زياد و غنّي فيه:

صوت

كم بالدّروب و أرض الهند من(8) قدم *** و من جماجم قتلى ما هم قبروا

و من سرابيل أبطال مضرّجة *** ساروا إلى الموت ما خاموا(9) و لا ذعروا

بقندهار(10) و من تحتم منيّته *** بقندهار يرجّم دونه الخبر

غنّى في هذه الأبيات ابن جامع:

أجدّ أهلك، لا يأتيهم خبر *** منّا و لا منهم عين و لا أثر

/و لم تكلّم قريش في حليفهم *** إذ غاب أنصاره بالشّام و احتضروا

ص: 444


1- ف: «و أنت هبلت زائدة الكراع». و الكراع من كل شيء: طرفه.
2- امرأة لكاع: لئيمة، و لم يرد هذا البيت في ف.
3- ف: «عبيدا». و الوبر: حيوان في حجم الأرنب.
4- اليراع: الجبان. و جاء هذا البيت في ف مكان الذي قبله.
5- «و لا بلت سماؤك»: يدعو عليه بالجدب. و المعرّس: مكان التعريس أي النزول.
6- ف: «عددت».
7- القعب: القدح الضخم. و في «المختار»: «شعب قلبك».
8- ب، ما، مد: «... و أرض الروم من قرم». و في «معجم ياقوت»: «كم بالجروم...».
9- خاموا: جبنوا. و في ف: «ما خافوا».
10- في «معجم ياقوت»: قندهار: مدينة من بلاد السند أو الهند، سار إليها عباد بن زياد و فتحها.

لو أنّني شهدتني حمير غضبت *** إذا فكان لها فيما جرى غير

رهط الأغرّ شراحيل بن ذي كلع *** و رهط ذي فائش ما فوقهم بشر(1)

قولا لطلحة ما أغنت صحيفتكم *** و هل لجارك إذ أوردته صدر!

/فمن لنا بشقيق أو بأسرته *** و من لنا ببني ذهل إذا خطروا!

هم الذين سموا و الخيل عابسة *** و الناس عند زياد كلهم حذر

لولاهم كان سلاّم بمنزلتي *** أولى لهم ثمّ أولى بعد ما ظفروا

أخبرني محمد بن خلف، عن أبي بكر العامريّ، عن إسحاق بن محمد، عن القحذميّ (2) قال: هجا سلام الرّافعيّ مقاتل(3) بن مسمع فقال فيه:

أبى لك يا ذا المجد أنّ مقاتلا *** زنى و استحلّ الفارسيّ المشعشعا(4)

في أبيات هجاه بها فحبسه مقاتل بالعربة(5) فركب شقيق بن ثور في جماعة من بني ذهل إلى الحبس فأخرجه؛ فضرب به ابن مفرّغ المثل في الشّعر الماضي.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدّثني أبو عبد اللّه اليمانيّ، قال: حدّثنا الأصمعيّ، عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد قال:

قال لي عبيد اللّه بن زياد: ما هجيت بشيء أشدّ عليّ من قول ابن مفرّغ:

فكّر؛ ففي ذاك إن فكّرت معتبر *** هل نلت مكرمة إلا بتأمير!

عاشت سميّة ما تدري و قد عمرت *** أنّ ابنها من قريش في الجماهير

و روى(6) اليزيديّ في روايته عن الأحول: قال أبو عبيدة:

كان زياد يزعم أنّ أمّه سميّة بنت الأعور من بني عبد شمس بن زيد مناة بن تميم، فقال ابن مفرّغ يردّ ذلك عليه:

فأقسم ما زياد من قريش *** و لا كانت سميّة من تميم

و لكن نسل عبد من بغيّ *** عريق الأصل في النّسب اللّئيم

يتابع هجاء ابن زياد و يرميه بالأبنة

أخبرني هاشم بن محمد قال: حدّثنا أبو غسّان دماذ قال: أنشدني أبو عبيدة لابن مفرّغ يهجو ابن زياد و يرميه بالأبنة:

أبلغ قريشا قضّها و قضيضها *** أهل السّماحة و الحلوم الرّاجحه

ص: 445


1- ب: «ذي قابس». و في ما: «ما مثلهم بشر».
2- ما، مد، ب: الفخذمي «تصحيف». و القحذمي هو الوليد بن هشام القحذمي.
3- ف: «مهلهل بن مسمع».
4- ب، مد: «أ ما لك...». و استحل الفارسيّ المشعشعا يريد الخمر.
5- العربة: موضع. و في مد: «بالغربة»، تصحيف. و في ب: «بالغرفة»، تحريف.
6- ف: «و قال اليزيدي».

أنّي ابتليت بحيّة ساورته(1) *** بيد لعمري لم تكن لي رابحه

صفق المبخّل صفقة ملعونة *** جرّت عليه من البلايا فادحه(2)

شتّان من بطحاء مكّة داره *** و بنو المضاف إلى السّباخ المالحة

جعدت أنامله و لام نجاره *** و بذاك تخبرنا الظّباء السانحه

فإذا أميّة صلصلت أحسابها *** فبنو زياد في الكلاب النّابحه

قالوا: يناك، فقلت: في جوف استه *** و بذاك خبّرني الصّدوق الفاضحه

لم يبق أير أسود أو أبيض *** إلاّ له استك في الخلاء مصافحه

مقتل عبيد اللّه و شعر ابن مفرغ في ذلك

و أخبرني إبراهيم بن السريّ بن يحيى، قال: حدّثني أبي، عن شعيب، عن سيف، قال:

لما قتل/عبيد اللّه بن زياد يوم الزّاب، قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد و يقال: إن إبراهيم بن الأشتر حمل على كتيبته فانهزموا، و لقي عبيد اللّه فضربه فقتله، و جاءه إلى أصحابه فقال: إنّي ضربت رجلا فقددته نصفين فشرّقت يداه و غرّبت رجلاه، و فاح منه المسك، و أظنّه ابن مرجانة، و أومأ لهم إلى موضعه، فجاءوا إليه و فتّشوا عليه، فوجدوه كما ذكر، و إذا هو ابن زياد، فقال ابن مفرّغ يهجوه:

إنّ الّذي عاش ختّارا(3) بذمّته *** و عاش عبدا قتيل اللّه بالزّاب

العبد للعبد لا أصل و لا طرف(4) *** ألوت به ذات أظفار و أنياب

إن المنايا إذا ما زرن(5) طاغية *** هتكن عنه ستورا بين أبواب

/هلاّ جموع نزار إذا لقيتهم *** كنت امرأ من نزار(6) غير مرتاب

لا أنت زاحمت عن ملك فتمنعه *** و لا مددت إلى قوم بأسباب(7)

ما شقّ جيب و لا ناحتك نائحة *** و لا بكتك جياد عند أسلاب

لا يترك اللّه أنفا تعطسون بها *** بني العبيد شهودا غير غيّاب

أقول بعدا و سحقا عند مصرعه *** لابن الخبيثة و ابن الكودن الكابي(8)

الحسين بن علي يتمثل بالبيتين الأخيرين من هذه القصيدة

و القصيدة المذكورة بها غناء فيه منها، و قال:

حيّ ذا الزّور و انهه أن يعودا *** إنّ بالباب حارسين قعودا

ص: 446


1- ب: «ساورتهم». و الحية: الأفعى (تذكر و تؤنث) فيقال: هو الحية و هي الحية.
2- لم يرد هذا البيت و الذي بعده في ف.
3- الختّار: الغادر.
4- الطرف: الشريف.
5- ب: «رزن».
6- ف، «التجريد»: «من قريش».
7- «التجريد»، ف: «بأحساب».
8- الكودن: البرذون الهجين أو البغل. و الكابي: المنكب على وجهه.

من أساوير ما ينون قياما *** و خلاخيل تذهل المولودا

(1) و طماطيم من مشايخ جون(1) *** ألبسوني مع الصّباح قيودا

أيّ بلوى معيشة قد بلونا *** فنعمنا و ما رجونا خلودا

و دهور لقيننا موجعات *** و زمان يكسّر الجلمودا

فصبرنا على مواطن ضيق *** و خطوب تصيّر البيض سودا

ظلّ فيها النصيح يرسل سرّا *** لا تهالنّ إن سمعت الوعيدا

أ فإنس ما هكذا صبر انس *** أم من الجنّ أم خلقت حديدا

لا ذعرت السّوام في فلق الص *** بح مغيرا و لا دعيت يزيدا(2)

يوم أعطي مخافة الموت ضيما *** و المنايا يرصدنني أن أحيدا(1)

قال: و هي قصيدة طويلة

.

و تمثّل الحسين بن عليّ صلوات اللّه عليه بهذين البيتين لمّا خرج من المدينة إلى مكة عند بيعة يزيد:

لا ذعرت السّوام في فلق الصّ *** بح مغيرا و لا دعيت يزيدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيما *** و المنايا يرصدنني أن أحيدا

حدّثني أحمد بن عيسى أبو موسى العجليّ العطّار بالكوفة قال: حدّثني الحسين(3) بن نصر بن مزاحم المنقريّ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا عمر بن سعد، عن أبي مخنف، قال: حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن أبي سعيد المقبريّ قال:

و اللّه لرأيت حسينا عليه السلام و هو يمشي بين رجلين، يعتمد على هذا مرّة، و على هذا مرة، حتى دخل المسجد و هو يقول:

لا ذعرت السّوام..... البيتين.

قال: فقلت عند ذلك إنّه لا يلبث إلا قليلا حتى يخرج، فما لبث أن خرج فلحق بمكة، فلما خرج من المدينة قال: فَخَرَجَ مِنْهٰا خٰائِفاً يَتَرَقَّبُ قٰالَ: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّٰالِمِينَ (4). و لما توجّه نحو مكة قال: وَ لَمّٰا تَوَجَّهَ تِلْقٰاءَ مَدْيَنَ قٰالَ عَسىٰ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوٰاءَ السَّبِيلِ (5).

مروان بن الحكم يعطيه و يكسوه

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني عليّ بن الصبّاح، عن ابن الكلبيّ قال:

لما قدم ابن مفرّغ إلى معاوية مع خمخام الذي وجّهه إليه، فانتزعه من عبّاد بن زياد، نزل على مروان بن

ص: 447


1- «الشعر و الشعراء» 1-322: «و طماطيم من سبابيج غتم». و الطماطيم: الأعاجم في لسانهم طمطمة أي عجمة لا يفصحون.
2- مد، ما: «لا دعوت». و في «الشعر و الشعراء» 1-322: «لا ذعرت السوام في غلس الليل».
3- ب، مد، ما: «الحسن بن نصر».
4- القصص/ 21.
5- القصص/ 22.

الحكم و هو يومئذ عند معاوية، فأعطاه و كساه، و قام بأمره و استرفد له كلّ من قدر عليه من بني أبي العاص(1)/بن أمية، فقال ابن مفرّغ يمدحه من قصيدته:

/و أقمتم سوق الثّناء و لم تكن *** سوق الثّناء تقام في الأسواق(2)

فكأنما جعل الإله إليكم *** قبض النّفوس و قسمة الأرزاق

كان يهوى أناهيد بنت الأعنق

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعيّ، قال: حدّثنا أبو غسّان دماذ، عن أبي عبيدة قال:

كان ابن مفرّغ يهوى أناهيد بنت الأعنق، و كان الأعنق دهقانا من الأهواز، له ما بين الأهواز و سرّق و مناذر و السّوس، و كان لها أخوات يقال لهنّ أسماء و الجمانة، و أخرى قد سقط عن دماذ، فكان يذكرهن جميعا في شعره، فمن ذلك قوله في صاحبته أناهيد من أبيات:

سيري أناهيد بالعيرين آمنة *** قد سلّم اللّه من قوم بهم طبع(3)

(4) لا بارك اللّه فيهم معشرا جبنا *** و لا سقى دارهم قطرا و لا ربعوا

السارقين إذا جاعوا نزيلهم *** و الأخبثين بطونا كلما شبعوا

لا تأمننّ حزاميّا نزلت به *** قوم لديهم تناهى اللّؤم و الصّرع

جاور بني خلف تحمد جوارهم *** الأعظمين دفاعا كلما دفعوا

و المطعمين إذا ما شتوة أزمت *** فالناس شتّى إلى أبوابهم شرع(4)

هم خير قومهم إن حدّثوا صدقوا *** أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

المانعين من المخزاة جارهم *** و الرّافعين من الأذنين ما صنعوا

انزل بطلحة يوما إنّ منزله *** سهل المباءة بالعلياء مرتفع(4)

و في أسماء أختها يقول:

/تعلّق من أسماء ما قد تعلّقا *** و مثل الذي لاقى من الحبّ (5) أرّقا

و حسبك من أسماء نأي و أنها *** إذا ذكرت هاجت فؤادا معلّقا

سقى هزم الإرعاد منبجس العرى *** منازلها بالمسرقان فسرّقا(6)

و تستر(7) لا زالت خصيبا جنابها *** إلى مدفع السّلّان من بطن دورقا

ص: 448


1- ف: «من بني العاص بن أمية».
2- ف: «و أقام سوقا للثناء... تعد في الأسواق».
3- الطبع: الشّين و العيب. (4-4) التكملة من ف.
4- يقال: الناس في هذا شرع أي سواء.
5- ف، و «شرح نهج البلاغة»: «من الشوق». و في «معجم البلدان»: «من الوجد».
6- «معجم البلدان»: «من مسرقان فسرقا»، و مسرقان: نهر بخوزستان عليه عدة قرى. و في ف: «بالمشرقان فشرقا» تصحيف. و سرّق إحدى كنوز الأهواز. و في «شرح نهج البلاغة»: «منبعج الكلى» بدل «منبجس العرى».
7- تستر: أعظم مدينة بخوزستان («ياقوت»).

إلى الكوثج الأعلى إلى رامهرمز *** إلى قريات الشّيح من فوق سفسقا(1)

رامهرمز: بلد من أعمال الأهواز معروف.

بلاد بنات الفارسية إنّها *** سقتنا على لوح شرابا معتقا(2)

يترك زوجته عند أخواله و يذهب إلى محبوبته أناهيد

أخبرني عمّي، قال: حدثنا الكرانيّ، قال: حدثنا العمريّ، عن الهيثم بن عديّ، و أخبرنا هاشم بن محمد قال: حدثنا دماذ أبو غسّان، عن أبي عبيدة، قالا:

لما فصل ابن مفرّغ من عند معاوية، نزل بالموصل على أقواله من آل ذي العشراء من حمير، قال الهيثم في روايته: فزوّجوه امرأة منهم - و لم يذكر ذلك أبو عبيدة - فلما كان اليوم الذي يكون البناء في ليلته، خرج يتصيّد و معه غلامه برد، فإذا هو بدهقان(3) على حمار يبيع عطرا و أدهانا. فقال له ابن مفرّغ: من أين أقبلت؟ قال: من الأهواز، قال: ويحك! كيف خلّفت المسرقان و برد مائه؟ قال: على حاله، قال: ما فعلت دهقانة يقال لها أناهيد بنت أعنق؟ قال: أ صديقة ابن مفرّغ؟ قال: نعم، قال: ما تجفّ جفونها من البكاء عليه، فقال لغلامه: أي برد، أ ما تسمع؟ /قال:

بلى، قال: هو بالرّحمن كافر إن لم يكن هذا وجهي إليها، فقال له برد: أكرمك القوم و قاموا دونك، و زوّجوك كريمتهم، ثم تصنع هذا بهم، و تقدم على ابن زياد بعد خلاصك منه من غير أمره و لا عهد منه و لا عقد! أبق أيها الرجل على نفسك، و أقم بموضعك، و ابن بأهلك، و انظر في أمرك، فإن جدّ عزمك كنت حينئذ و ما تختاره. قال: دع ذا عنك، هو بالرحمن كافر إن عدل(4) عن الأهواز و لا عرّج على شيء غيرها، و مضى لوجهه من غير أن يعلم أهله، و قال قصيدته:

سما(5) برق الجمانة فاستطارا *** لعلّ البرق ذاك يحور(6) نارا

قعدت له العشاء فهاج شوقي *** و ذكّرني المنازل و الدّيارا

ديار للجمانة مقفرات *** بلين و هجن للقلب ادّكارا

/فلم أملك دموع العين منّي *** و لا النّفس التي جاشت مرارا

بسرّق فالقرى من صهرتاج(7) *** فدير الراهب الطلل القفارا

فقلت لصاحبي: عرّج قليلا *** نذاكر شوقنا الدّرس البوارا

بآية ما غدوا و هم جميع *** فكاد الصبّ ينتحر انتحارا

فقال: بكوا لفقدك منذ حين *** زمانا ثم إنّ الحيّ سارا

بدجلة فاستمرّ بهم سفين *** يشقّ صدورها اللّجج الغمارا

كأن لم أغن في العرصات منها *** و لم أذعر بقاعتها صوارا(8)

ص: 449


1- ف: «إلى الكرج». و في «شرح البلاغة»: «إلى الشرف الأعلى... إلى قريات الشيخ من أنهر أربقا».
2- ف: «نبات» بدل «بنات»، و «شرابا مروقا» بدل «شرابا معتقا».
3- ب، مد، ما: «بدهان».
4- ف: «إن عاج عن الأهواز».
5- ب، ما، مد: «سقى».
6- يحور: يرجع.
7- ب، ما، مد: «صهرياج»، تصحيف، و هي موضع بالأهواز. («معجم ياقوت»).
8- الصوّار (بالضم و يكسر): القطيع من البقر.

و لم أسمع غناء من خليل *** و صوت مقرطق خلع العذارا(1)

قال: فقدم البصرة فذكر لعبيد اللّه بن زياد مقدمه، فلم يعرض له، و أرسل/إليه أن أقم آمنا، فأقام بالبصرة أشهرا يختلف من البصرة إلى الأهواز، فيزور أناهيد، و يقيم عندها.

ثم أتى عبيد اللّه بن زياد فقال له: إني امرؤ لي أعداء، و لست آمن بعضهم أن يقول شيئا على لساني يحفظ الأمير عليّ، و أحب أن يأذن لي أن أتنحّى عنه، فقال له: حلّ حيث شئت، فخرج حتى قدم على شريك بن الأعور الحارثيّ و هو يومئذ عامل عبيد اللّه بن زياد على فارس و كرمان، فأعطاه ثلاثين ألف درهم، فقدم بها الأهواز فأعطاها أناهيد.

ذهب إلى عبيد اللّه بن أبي بكر فأعطاه و أكرمه

أخبرني أحمد بن عبيد اللّه بن عمّار، قال: حدّثنا سليمان بن أبي شيخ، قال:

حدثني محمد بن الحكم، عن عوانة:

أنّ عبيد اللّه بن أبي بكرة كتب إلى يزيد بن مفرّغ: إني قد توجهت إلى سجستان فالحق بي، فلعلك إن قدمت عليّ ألاّ تندم و لا يذمّ رأيك. فتجهّز ابن مفرّغ و خرج حتى قدم سجستان ممسيا، فدخل عليه فشغله بالحديث، و أمر له بمنزل(2) و فرش و خدم، و جعل يطاوله حتى علم أنه قد استتمّ له ما أمر له به، ثم صرفه إلى المنزل الذي قد هيّئ له، ثم دعا به في اليوم الثاني فقال له: يا بن مفرّغ، إنّك قد تجشّمت إليّ شقّة بعيدة، و اتّسع لك الأمل فرحلت إليّ لأقضي عنك دينك و لأغنيك عن الناس، و قلت: أبو حاتم بسجستان فمن لي بالغنى(3) بعده! فقال: و اللّه ما أخطأت أيّها الأمير ما كان في نفسي، فقال عبيد اللّه: أما و اللّه لأفعلنّ و لأقلّنّ (4) لبثك عندي، و لأحسننّ صلتك، و أمر له بمائة ألف درهم، و مائة وصيفة(5) و مائة نجيبة، /و أمر له بما ينفقه إلى أن يبلغ بلده سوى المائة الألف، و بمن يكفيه الخدمة من غلمانه و أعوانه(6)، و قال له: إن من خفّة السّفر ألاّ تهتمّ بخفّ و لا حافر، و كان مقامه عنده سبعة أيّام.

ثم ارتحل و شيّعه عبيد اللّه(7) إلى قرية على أربعة فراسخ يقال لها: زالق، ثم قال له: يا ابن مفرّغ، إنه ينبغي للمودّع أن ينصرف، و للمتكلّم أن يسكت، و أنا من قد عرفت، فأبق على الأمل و حسن ظنّك بي و رجائك فيّ، و إذا بدا لك أن تعود فعد، و السلام.

قال: و سار ابن مفرّغ حتى أتى رامهرمز، فنزل بقرية(8) أبجر، فنزلت إليه بنت الأبجر فقالت: يا ابن مفرّغ، لمن هذا المال؟ قال: لابنة أعنق دهقانة الأهواز، و إذا رسولها في القافلة بكتابها: إنك لو كنت على العهد الأول لتعجّلت إليّ و لم تساير ثقلك، و لكن قد علمت أن المال الذي أعطاكه عبيد اللّه قد شغلك عنّي، /قال: فأعطى رسولها مالا على أن يقول فيه خيرا، و قد قال لابنة أبجر في جواب قولها له:

ص: 450


1- ف: «و صوت مقصب خلع العذارا». و المقرطق: الذي يلبس القرطق؛ و هو قباء ذو طاق واحد (معرب).
2- ف: «و أمر له سرّا بمنزل و فرش».
3- ب: «بالغناء».
4- ب، مد: «و لأقيمن لبثك».
5- ف: «و مائة وصيفة و مائة و صيف، و مائة نحيبة...».
6- ف: «من غلمانه و مواليه».
7- ف: «عبيد اللّه بن أبي بكرة».
8- ف: «بقلعة أبجر».

حباني عبيد اللّه يا ابنة أبجر *** بهذا، و هذا للجمانة أجمع

يقرّ بعيني أن أراها و أهلها *** بأفضل حال ذاك مرأى و مسمع

و خبّرتها قالت: لقد حال بعدنا *** فقد جعلت نفسي إليها تطلّع

و قلت لها لمّا أتاني رسولها *** و أيّ رسول لا يضرّ و ينفع

أحبّك ما دامت بنجد وشيجة(1) *** و ما رفعت يوما إلى اللّه إصبع

و إني مليء يا جمانة بالهوى *** و صدق الهوى إن كان ذلك يقنع

/قال: فلما انتهت رسل عبيد اللّه بن أبي بكرة معه إلى الأهواز قالوا له: قد بلغنا حيث أمرنا، قال: أجل، ثم أمر ابنة أعنق أن تفتح الباب و قال لها: كلّ ما دخل دارك فهو لك.

يمدح عبيد اللّه بن أبي بكرة

و أقام بالأهواز، و دعا ندماء كانوا له من فتيان العرب فلم يبق ظريف و لا مغنّ إلا أتاه، و استماحه جماعة قصدوه من أهل البصرة و الكوفة و الشّام فأعطاهم، و لم يفارق أناهيد و معه شيء من المال، و جعل القوم يسألونه عن عبيد اللّه بن أبي بكرة و كيف هو و أخلاقه و جوده فقال:

يسائلني أهل العراق عن النّدى *** فقلت: عبيد اللّه حلف المكارم

فتى حاتميّ في سجستان رحله *** و حسبك جودا أن يكون كحاتم

سما لينال المكرمات فنالها *** بشدّة ضرغام و بذل الدّراهم

و حلم إذا ما سورة الحقد(2) أطلقت *** حبا القوم عند الفادح المتفاقم

و إنّ له في كلّ حيّ صنيعة *** يحدّثها الرّكبان أهل المواسم

دعاني إليه جوده و وفاؤه *** و من دون مسراه عداة الأعاجم

فلم أبق إلا جمعة في جواره *** و يومين حلاّ من أليّة آثم(3)

إلى أن دعاني زانه اللّه بالعلا *** فأنبت ريشي من صميم القوادم(4)

و قال: إذا ما شئت يا بن مفرّغ *** فعد عودة ليست كأضغاث حالم

فقلت له - لا يبعد اللّه داره -: *** أعود إذا ما جئتكم غير حاشم

و أحمدت وردي إذ وردت حياضه *** و كلّ كريم نهزة(5) للأكارم

/فأصبح لا يرجو العراق و أهله *** سواه لنفع أو لدفع العظائم

و إنّ عبيد اللّه هنّا رفده *** سراحا و أعطى رفده غير غانم(6)

ص: 451


1- الوشيجة: عرق الشجرة.
2- ف، «المختار»: «سورة الجهل». و سورة الحقد: حدته و شدته.
3- الألية: القسم. و في ف، «المختار»: «فلم أثو» بدل «فلم أبق».
4- ف، «المختار»: «فأنبت من ريشي مهيض القوادم».
5- النهزة: الفرصة.
6- هنّأ رفده: أكثره. و في «المختار»: «غير عاتم» أي غير كافّ عنه بعد أن مضى فيه.
يخدع عمه في أناهيد

و قال الهيثم في خبره: كان عمرو بن مفرّغ، عمّ يزيد بن ربيعة بن مفرّغ، رجلا له جاه و قدر عند السّلطان، و كان ذا مال و ثروة، و ذا دين و فضل و صلاح، فكان يعنّف ابن أخيه في أمر أناهيد عشيقته، و يعذله و يعيّره بها، فلما أكثر عليه أتاه يوما فقال له: يا عمّ، جعلت فداك، إنّ لي بالأهواز حاجة، و لي على قوم بها نحو من ثلاثين ألف درهم قد خفت أن تتوى(1) عليّ، فإن رأيت أن تتجشّم العناء معي إليها حتى تطالب لي بحقي، و تعينني بجاهك على غرمائي. /و كان عمرو بن مفرّغ قد استخلفه ابن عبّاس عليها؛ إذ كان عامل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه و على آله على البصرة، و كان عامل الأهواز - حين سأل ابن مفرّغ عمّه أن يخرج معه - ميمون بن عامر أخو بني قيس بن ثعلبة الذي يقال لدراهمه اليوم الميمونية(2). فلم يزل ابن مفرّغ بعمه حتى أجابه إلى الخروج فاستأجر سفينة و توجّه إلى الأهواز، و كتب إلى أناهيد أن تهيّئي و تزيّني بأحسن زينتك، و اخرجي إليّ مع جواريك فإني موافيك، و منزلها يومئذ بين سرّق و رامهرمز.

فلما نزلوا منزلها خرجت إليهم. و جلست معهم في هيئتها و زيّها و حليّها و آلتها، فلما رآها عمّه قال له: قبّحك اللّه! أ فهلاّ إذ فعلت ما فعلت كنت علقت مثل هذه!(3) فقال: يا عمّ، أو قد أعجبتك؟ فقال: و من لا تعجبه هذه(3)قال: أ لجدّ هذا منك؟ قال: نعم و اللّه، قال: فإنها و اللّه هذه بعينها، فقال: يا خبيث إنما أشخصتني لهذا، يا غلام ارحل بنا. فانصرف عمّه إلى البصرة/و أقام هو معها، و لم يزل يتردّد كذلك حتى مات في الطاعون في أيام مصعب بن الزبير.

لزوم غرمائه له لديون ركبته و احتياله لقضائها

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالا: حدثنا عمر بن شبّة قال: حدثنا القحذميّ قال:

لزم يزيد بن مفرّغ غرماؤه بدين، فقال لهم: انطلقوا نجلس على باب الأمير، عسى أن يخرج الأشراف من عنده فيروني فيقضوا عنّي، فانطلقوا به، فكان أوّل من خرج إما عمر بن عبيد اللّه بن معمر و أما طلحة الطّلحات، فلما رآه قال: أبا عثمان، ما أقعدك هاهنا؟ قال: غرمائي هؤلاء لزموني بدين لهم عليّ، قال: و كم هو؟ قال:

سبعون ألفا، قال: عليّ منها عشرة آلاف درهم.

ثمّ خرج الآخر على الأثر، فسأله ما سأل صاحبه، فقال: هل خرج أحد قبلي؟ قالوا: نعم، فلان، قال: فما صنع؟ قالوا: ضمن عشرة آلاف درهم، قال: فعليّ مثلها.

ابن أبي بكرة يقضي دينه فيمدحه

قال: ثم جعل الناس يخرجون، فمنهم من يضمن الألف إلى أكثر من ذلك، حتى ضمنوا أربعين ألفا(3).

و كان يأمل عبيد اللّه بن أبي بكرة، فلم يخرج حتى غربت الشمس، فخرج مبادرا، فلم يره حتى كاد يبلغ بيته،

ص: 452


1- تتوى: تذهب و تهلك.
2- ب: «المأمونية». (3-3) تكملة من ف.
3- ف: «أربعين ألف درهم».

فقيل له: إنك مررت بابن مفرّغ ملزوما(1)، و قد مرّ به الأشراف فضمنوا عنه، فقال: وا سوأتاه! إنّي أخاف أن يظنّ أنّي تغافلت عنه، فكرّ راجعا، فوجده قاعدا، فقال له: أبا عثمان ما يجلسك هاهنا؟ قال: غرمائي هؤلاء يلزمونني، قال: /كم عليك؟ قال: سبعون ألفا، قال: و كم ضمن عنك؟ قال: أربعون ألفا، قال: فاستمتع بها و عليّ دينك أجمع، فقال فيه يخاطب نفسه:

لو شئت لم تعني و لم تنصبي *** عشت بأسباب أبي حاتم

عشت بأسباب الجواد الذي *** لا يختم الأموال بالخاتم

من كفّ بهلول له عدّة(2) *** ما إن لمن عاداه من عاصم

المطعم النّاس إذ حاردت *** نكباؤها في الزّمن العارم(3)

و الفاصل الخطة يوم اللّجا *** للأمر عند الكربة اللاّزم

جاورته حينا فأحمدته *** أثني و ما الحامد كاللاّئم

كم من عدوّ شامت كاشح *** أخزيته يوما و من ظالم

/أذقته الموت على غرّة *** بأبيض ذي رونق صارم

بديح يغني شعرا لابن مفرغ فيصله و يكسوه
اشارة

أخبرني عمّي، قال: حدّثني أبو أيّوب المدينيّ، قال: حدّثني حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

قدم بديح(4) الكوفة، فغنّى بها دهرا، و أصاب مالا كثيرا، ثمّ خرج إلى البصرة، ثمّ أتى الأهواز، ثمّ عاد إلى البصرة، فصحب ابن مفرّغ(5) في سفينة حتى إذا كان في نهر معقل تغنّى و هو لا يعرف ابن مفرّغ بقوله:

/سما برق الجمانة فاستطارا *** لعلّ البرق ذاك يعود نارا(6)

قال: فطرب ابن مفرّغ و قال: يا ملاّح، كرّ بنا إلى الأهواز، فكرّ و هو يغنّيه، ثمّ كرّ راجعا إلى البصرة، و كرّوا معه، و هو يعيد هذا الصوت. قال: و وصل ابن مفرّغ بديحا(7) و كساه.

صوت

رضيت الهوى إذ حلّ بي متخيّرا *** نديما و ما غيري له من ينادمه

أعاطيه كأس الصّبر بيني و بينه *** يقاسمنيها مرّة و أقاسمه

يقال: إنّ الشّعر لبشّار، و الغناء للزّبير بن دحمان، هزج بالوسطى عن الهشاميّ و أحمد بن المكّيّ.

ص: 453


1- لزم المال فلانا: وجب عليه، فهو ملزوم.
2- البهلول: السيد الجامع لصفات الخير. و في ب: «له غرّة».
3- حاردت السنة: قلّ مطرها. و النكباء: ريح انحرفت عن مهابّ الرياح. و الزمن العارم: الشديد.
4- ب: «بدوي».
5- ف: «ابن مفرغ الحميري».
6- ف: «يحور نارا».
7- ب: «بدويا».

19 - أخبار الزبير بن دحمان

قدم على الرشيد من الحجاز و المغنون حزبان

قد مضت أخبار أبيه، و نسبه و ولاؤه في متقدّم الكتاب، و كان الزّبير أحد المحسنين المتقنين الرّواة الضّرّاب، المتقدّمين في الصّنعة، و قدم على الرشيد من الحجاز، و كان المغنون في أيّامه حزبين: أحدهما في حزب إبراهيم الموصليّ و ابنه إسحاق، و الآخر في حزب ابن جامع و ابن المهديّ، و كان إبراهيم بن المهديّ أوكد أسباب هذا التّحزّب و التّعصّب لما كان بينه و بين إسحاق(1) و كان الزبير بن دحمان في حزب إسحاق، و أخوه عبيد اللّه في حزب إبراهيم بن المهديّ(1).

يغني الرشيد من غناء المتقدمين فيفضل أخاه

فأخبرني محمد بن مزيد، قال: حدّثني حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، قال:

لما قدم الزّبير بن دحمان على الرّشيد من الحجاز، قدم رجل ما شئت من رجل؛ عقلا و نبلا و دينا و أدبا و سكونا و وقارا، و كان أبوه قبله كذلك، و قدم معه أخوه عبيد اللّه(1)، فما وصلا إلى الرشيد، و جلسا معنا، تخيّلت في الزّبير الفضل فقلت لأبي: يا أبت، أخلق بالزّبير أن يكون أفضل من أخيه، فقال: هذا لا يجيء بالظّنّ و التّخيّل(2)، و الجواد إنّما يمتحن في الميدان، فقلت له: فالجواد عينه فراره(3)، فضحك، و قال: ننظر في فراستك، فلما غنّيا بان فضل الزّبير و تقدّمه، فاصطفاه أبي و اصطفيته لأنفسنا، و قرّظناه(4) و وصفناه، و صار في حيّزنا.

الرشيد يستعيده صوتا من صنعته ثلاث مرات
اشارة

و غنّى الرّشيد غناء/كثيرا من غناء المتقدّمين فأجاد و أحسن، و سأله الرّشيد أن يغنّيه شيئا من صنعته، فالتوى بعض الالتواء و قال: قد سمع أمير المؤمنين غناء الحذّاق من المتقدمين و غناء من بحضرته من خدمه، و من وفد عليه من الحجازيّين، و ما عسى أن يأتي من صنعتي؟ فأقسم عليه أن يغنّيه شيئا من صنعته، و جدّ به في ذلك، فكان أول صوت غنّاه منها:

ص: 454


1- ب: «عبد اللّه».
2- «المختار»: «و التخمين».
3- المثل: «إن الجواد عينه فراره» في «مجمع الأمثال بترتيب الكرماني» - 37 ط. طهران، و جاء فيه: الفرار - بالكسر - النظر إلى أسنان الدابة ليعرف قدر سنه، و هو مصدر، و منه قول الحجاج: فررت عن ذكاء، و يروى فراره - بالضم - و هو اسم منه؛ يضرب لمن يدل ظاهره على باطنه فيغني عن الاختبار حتى لقد يقال: إن الخبيث عينه فراره.
4- ف: «و قرّبناه».
صوت

ارحلا صاحبيّ حان الرّحيل *** و ابكياني فليس تبكي الطّلول

/قد تولّى النّهار و انقضت الشّ *** مس يمينا و حان منها أفول

لحن هذا الصوت خفيف ثقيل.

قال:

فسمعت و اللّه صنعة حسنة متقنة لا مطعن عليها، فطرب الرّشيد و استعاده هذا الصّوت ثلاث مرّات، و أمر له بثلاثين ألف درهم، و لأخيه بعشرين ألف درهم. ثم لم يزل زبير معنا كواحد منا، و انحاز عبيد اللّه(1) إلى جنبة إبراهيم بن المهديّ، فكان معه. قال حمّاد: فقلت لأبي: كيف كانت صنعة عبيد اللّه(1)؟ قال: أنا أجمل لك القول، لو كان زبير مملوكا لاشتريته بعشرين ألف دينار، و لو كان عبيد اللّه مملوكا ما طابت نفسي على أن أشتريه بأكثر من عشرين دينارا، فقلت: قد أجبتني بما يكفيني.

يغني الرشيد بشعر مدحه به
اشارة

حدّثني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ، قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم، قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ، و محمد بن الحارث بن بُسخُنَّر: أنّ الرّشيد كتب في إشخاص الزّبير بن دحمان إلى مدينة السّلام(2)، فوافاها و اتّفق قدومه في وقت خروج(3) الرّشيد إلى الرّيّ لمحاربة بندار هرمز أصبهبد طبرستان، فأقام الزّبير بمدينة /السّلام إلى أن دخل الرّشيد، فلما قدم دخل عليه بالخيزرانة(4)، و هو الموضع الذي يعرف بالشّمّاسيّة(5)، فغنّاه في أول غنائه صوتا في شعر قاله هو أيضا في الرّشيد مدحه به، و ذكر خروجه إلى طبرستان و هو:

صوت

ألا إنّ حزب اللّه ليس بمعجز *** و أنصاره في منعة المتحرّز

أبى اللّه أن يعصى لهارون أمره *** و ذلّت له طوعا يد المتعزّز

إذا الرّاية السّوداء راحت أو اغتدت *** إلى هارب منها فليس بمعجز

لطاعت لهارون العداة لدى الوغا *** و كبّر للإسلام بندار هرمز(6)

لم أجد هذا الصّوت منسوبا في شيء من الكتب إلاّ في كتاب بذل، و هو فيه غير مجنس.

و ذكر إبراهيم بن المهدي أنّ الشّعر للزّبير بن دحمان، و هذا خطأ؛ الشّعر لأبي العتاهية و هو موجود في شعره من قصيدة طويلة مدح بها الرشيد.

ص: 455


1- ب: «عبد اللّه».
2- مدينة السلام هي بغداد.
3- ب: «يخرج الرشيد...».
4- ف: «الخيزرانية».
5- الشماسية: منسوبة إلى بعض شماسي النصارى، و هي مجاورة لدار الروم التي في أعلى مدينة بغداد. («معجم ياقوت»).
6- ف: «أطاعت... لذي الوغا... و كفّر للإسلام».

قال أبو إسحاق: فاستحسن الرّشيد الشّعر و الغناء، و أمر له بألف دينار فدفعت إليه، و مكث ساعة ثم غنّى صوتا ثانيا و هو:

صوت

و أحور كالغصن يشفي السّقام *** و يحكي الغزال إذا مارنا

شربت المدام على وجهه *** و عاطيته الكأس حتى انثنى

و قلت مديحا أرجّي به *** من الأجر حظّا و نيل الغنى

و أعني بذاك الإمام الذي *** به اللّه أعطى العباد المنى

/لحن هذا الصوت ثاني ثقيل مطلق.

قال: فما فرغ من الصّوت حتى أمر له بألف دينار آخر فقبضه، و خفّ على قلبه و استظرفه، فأغناه في مدّة يسيرة من الأيّام.

يغني الرشيد بشعر يزيد ندمه على ما فعله بالبرامكة

أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد قال: حدثني أبو توبة، عن القطرانيّ، عن محمد بن حبيب قال:

كان الرّشيد بعد قتله البرامكة شديد الأسف عليهم، و التّندّم/على ما فعله بهم، ففطن لذلك الزّبير بن دحمان، فكان يغنّيه في هذا المعنى و يحرّكه، فغنّاه يوما و الشعر لامرأة من بني أسد:

من للخصوم إذا جد الخصام بهم *** يوم النّزال و من للضّمر القود(1)

و موقف قد كفيت النّاطقين به *** في مجمع من نواصي النّاس مشهود(2)

فرّجته بلسان غير ملتبس *** عند الحفاظ و قول غير مردود(3)

فقال له الرّشيد: أعد، فأعاد، فقال له: ويحك! كأن قائل هذا الشّعر يصف به يحيى بن خالد، و جعفر بن يحيى، و بكى حتى جرت دموعه، و وصل الزّبير صلة سنيّة.

إسحاق يفضّل الزبير على أبيه و أخيه في الغناء

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد قال:

كان أبي يقول: ما كان دحمان يساوي على الغناء أربعمائة درهم، و أشبه خلق اللّه به غناء ابنه عبيد اللّه، و كان يفضّل الزبير بن دحمان على أبيه و أخيه(4) تفضيلا بعيدا. و في الزبير يقول إسحاق و له فيه غناء و هو:

ص: 456


1- ف: «يوم الجدال» بدل «يوم النزال». و القود جمع أقود، و هو من الخيل الذلول المنقاد، أو الشديد العنق لقلة التفاته.
2- نواصي الناس: أشرافهم و المتقدمون منهم.
3- ف: «بلسان غير مشتبه». و في «المختار»، ف: «و قلب غير مزءود».
4- ب: «و إخوته».

أسعد بدمعك يا أبا العوّام *** صبّا صريع هوى و نضو سقام

ذكر الأحبّة فاستجنّ و هاجه *** للشوق نوح حمامة و حمام

لم يبد ما في الصّدر إلاّ أنّه *** حيّا العراق و أهله بسلام

و دعاه داع للهوى فأجابه *** شوقا إليه و قاده بزمام

الشّعر و الغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، و هذا الشعر قاله إسحاق و هو بالرّقّة مع الرّشيد يتشوّق إلى العراق.

إسحاق يغني الرشيد بالرقة شعرا يحنّ فيه إلى بغداد

أخبرني عمّي قال: حدثني عليّ بن محمد بن نصر، قال: حدّثني جدّي حمدون(1) بن إسماعيل، قال: قال لي إسحاق:

كنّا مع الرشيد بالرّقّة، و خرج يوما إلى ظهرها يصيد(2)، و كنت في موكبه أساير الزّبير بن دحمان فذكّرني بغداد و طيبها و أهلي و إخواني و حرمي فتشوّقت لذلك شوقا شديدا، و عرض لي همّ و فكر حتى أبكاني، فقال لي الزّبير: ما لك يا أبا محمد؟ فشكوت إليه ما عرض لي، و قلت:

أسعد بدمعك يا أبا العوّام *** صبّا صريع هوى و نضو سقام

و ذكر باقي الأبيات، و علمت أن الخبر سينمي إلى الرشيد، فصنعت في الأبيات لحنا، فلما جلس الرّشيد للشّرب ابتدأت فغنّيته إياه، فقال لي: تشوّقت و اللّه يا إسحاق و شوّقت و بلغت ما أردت، و أمر لي بثلاثين ألف درهم، و للزّبير بعشرين ألفا، و رحل إلى بغداد بعد أيّام.

الفضل بن الربيع يغضب من إسحاق

أخبرني يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم، قال: أخبرني أبي، قال: قال لي إسحاق، /و أخبرني به الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن عمرو(3) بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك، عن إسحاق قال:

جاءني الزّبير بن دحمان ذات يوم مسلّما، فاحتبسته فقال: قد أمرني الفضل بن الرّبيع بأن أصير إليه فقلت:

أقم يا أبا العوّام ويحك نشرب *** و نلهو مع اللاّهين يوما و نطرب

إذا ما رأيت اليوم قد جاء خيره *** فخذه بشكر و اترك الفضل يغضب

/قال: فأقام عندي فشربنا باقي يومنا، ثم سار(4) الزّبير إلى الفضل، فسأله عن سبب تأخره عنه، فحدّثه بالحديث، و أنشده الشعر، فغضب و حوّل وجهه عنّي، و أمر عونا حاجبه ألاّ يدخلني اليوم و لا يستأذن لي عليه، و لا يوصّل لي رقعة إليه، قال: فقلت:

ص: 457


1- ب: «جدي عن حمدون بن إسماعيل».
2- ف: «يتصيّد».
3- ف: «عبد اللّه بن عمر».
4- ف: «صار».

حرام عليّ الكأس ما دمت غضبانا *** و ما لم يعد عنّي رضاك كما كانا

فأحسن فإنّي قد أسأت و لم تزل *** تعوّدني عند الإساءة إحسانا

قال: و أنشدته إياهما، فضحك و رضي عنّي، و عاد إلى ما كان عليه.

و أخبرني الحسين(1) بن يحيى، عن حمّاد، عن أبيه بهذا الخبر، فذكر نحو ما ذكره الآخران(2) و زاد فيه:

و قلت في عون حاجبه:

عون يا عون ليس مثلك عون *** أنت لي عدّة إذا كان كون

لك عندي و اللّه إن رضي الفض *** ل غلام يرضيك أو برذون

فأتى عون الفضل بالشّعرين جميعا، فلما قرأهما ضحك و قال له: ويلك إنما عرّض لك بقوله: «غلام يرضيك» بالسّوأة، فقال: قد وعدني ما سمعت، فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم، فأمره أن يرسل إليّ و أتاني رسوله، فصرت إليه و رضي عنّي.

إسحاق و الزبير يحكمان حبشيّا في غنائهما

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثني عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن عبد اللّه بن مالك، قال:

حدّثني إسحاق، قال:

كان عندي الزّبير بن دحمان يوما، فغنّيت لحن أبي(3):

أشاقك من أرض العراق طلول *** تحمّل منها جيرة و حمول!

فقال لي الزّبير: أنت الأستاذ و ابن الأستاذ السيد، و قد أخذت عن أبيك هذا الصوت و أنا أغنّيه أحسن، فقلت له: و اللّه إني لا أحبّ أن يكون ذلك كذلك(4) فغضب و قال: فأنا و اللّه أحسن غناء منك. و تلاحينا طويلا، فقلت له:

هلمّ نخرج إلى صحراء الرّقّة، فيكون أكلنا و شربنا هناك، و نرضى في الحكم بأول من يطلع علينا، قال: أفعل.

فأخرجنا طعامنا و شرابنا و جلسنا نشرب على الفرات، فأقبل حبشيّ يحفر الأرض بالبال(5)، فقلت له: أ ترضى بهذا قال: نعم، فدعوناه فأطعمناه و سقيناه، و بدرني الزبير بالغناء، فغنّى الصوت، فطرب الحبشيّ و حرّك رأسه حتى طمع الزبير فيّ، ثم أخذت العود فغنيته فتأملني الحبشيّ ساعة ثم صاح، و أيّ شيطان هوه! و مدّ بها صوته، فما أذكر أنّي ضحكت مثل ضحكي يومئذ، و انخزل الزّبير.

نسبة هذا الصوت
صوت
شعر لأبي العتاهية يمدح به الفضل بن الربيع و فيه غناء

ص: 458


1- ب: «الحسن بن يحيى».
2- ب: «الآخر».
3- ب: «لحن إسحاق».
4- ب: «و اللّه إني لأحب».
5- البال: ما يعتمل به في أرض الزرع. و في ب: «بالناب».

أشاقك من أرض العراق طلول *** تحمّل منها جيرة و حمول!

و كيف ألذّ العيش بعد معاشر *** بهم كنت عند النّائبات أصول!

الشعر لأبي العتاهية، و الغناء لإبراهيم ثقيل أوّل بالسبابة في مجرى البنصر، عن أحمد بن المكّيّ، و فيه للحسين بن محرز ثقيل أوّل بالوسطى.

و هذان البيتان من قصيدة مدح بها أبو العتاهية الفضل بن الرّبيع، قال: أنشدنيها/عبد اللّه بن الرّبيع الربيعيّ، قال: أنشدنيها/أبو سويد عبد القويّ (1) بن محمد بن أبي العتاهية لجدّه يمدح الفضل بن الربيع، و إنما ذكرت ذلك هاهنا لأنّ من الناس من ينسبهما إلى غيره، فذكرت الأبيات الأول، و فيها يقول في مدح الفضل بن الرّبيع:

قبائل من أقصى و أدنى تجمّعت *** فهنّ على آل الرّبيع كلول

تمرّ ركاب السّفر تثني عليهم *** عليها من الخير الكثير حمول

إليك أبا العبّاس حنّت بأهلها *** مغان و حنّت ألسن و عقول

و أنت جبين الملك بل أنت سمعه *** و أنت لسان الملك حين تقول

و للملك ميزان يداك تقيمه *** يزول مع الإحسان حيث يزول

الرشيد يرضى عن أم جعفر بعد أن سمع غناء للزبير من شعر ابن الأحنف
اشارة

حدثني الصّوليّ، قال: حدثني المغيرة بن محمد المهلّبيّ، قال: حدّثنا الزّبير، قال: حدثني رجل من ثقيف، قال:

غضب الرشيد على أمّ جعفر، ثم ترضّاها فأبت أن ترضى عنه، فأرق ليلته ثم قال: افرشوا لي على دجلة، ففعلوا، فقعد ينظر إلى الماء و قد رأى زيادة عجيبة، فسمع غناء في هذا الشعر:

صوت

جرى السيل فاستبكاني السّيل إذ جرى *** و فاضت له من مقلتيّ غروب

و ما ذاك إلاّ حين خبّرت أنّه *** يمرّ بواد أنت منه قريب

يكون أجاجا ماؤه فإذا انتهى(2) *** إليكم تلقّى طيبكم فيطيب

فيا ساكني شرقيّ دجلة كلّكم *** إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

/الشعر للعبّاس بن الأحنف، و الغناء للزّبير بن دحمان، خفيف رمل بالوسطى، عن الهشاميّ.

فسأل عن النّاحية التي فيها الغناء فقيل: دار ابن المسيّب، فبعث إليه أن ابعث بالمغنيّ، فإذا هو الزّبير بن دحمان، فسأله عن الشعر فقال: هو للعبّاس بن الأحنف، فأحضر و استنشده، فأنشده إياه، و جعل الزّبير يغنّيه و عبّاس ينشده، و هو يستعيدهما، حتى أصبح، و قام فدخل إلى أمّ جعفر، فسألت عن سبب دخوله فعرّفته، فوجّهت إلى العبّاس بألف دينار، و إلى الزّبير بألف دينار أخرى.

ص: 459


1- ف: «عبد العزيز».
2- ف: «يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى».
الرشيد يفضل لحنه على عشرين لحنا صنعها زملاؤه
اشارة

أخبرني عمّي، قال: حدّثني عليّ بن محمد، عن جدّه حمدون، قال:

تشوّق الرّشيد بغداد و هو بالرّقّة، فانحدر إليها، و أقام بها مدّة، و خلّف هناك بعض جواريه، و كانت حظيّة له فيهن خلّفها لمغاضبة كانت بينه و بينها، فتشوّقها تشوّقا شديدا، و قال فيها:

صوت

سلام على النّازح المغترب *** تحيّة صبّ به مكتئب

غزال مراتعه بالبليخ *** إلى دير زكّى فجسر الخشب(1)

أيا من أعان على نفسه *** بتخليفه طائعا من أحبّ

سأستر و السّتر من شيمتي *** هوى من أحبّ لمن لا أحبّ (2)

و جمع المغنين، فحضر إبراهيم الموصليّ، و ابن جامع، و فليح، و زبير بن دحمان، و المعلّى بن طريف، و حسين بن محرز، و سليم بن سلام، و يحيى المكيّ، و ابنه، و إسحاق، و أبو زكار/الأعمى، و أعطاهم الشعر و قال: ليعمل كل واحد منكم فيه/لحنا. قال: فلقد عملوا فيه عشرين لحنا، فما أعجب منها إلا بلحن الزّبير وحده، أعجب به إعجابا شديدا، و أجازه خاصّة دون الجماعة بجائزة سنيّة.

غنّى إبراهيم في هذه الأبيات و لحنه ما خوريّ بالوسطى(3)، و لفليح فيها ثاني ثقيل بالوسطى، و لابن جامع رمل بالبنصر، و لابن المكيّ ثقيل أول بالوسطى، و للزبير بن دحمان خفيف ثقيل بالسبابة في تجرى البنصر، و للمعلّى خفيف رمل بالوسطى، و لإسحاق رمل بالوسطى، و للحسين بن محرز هزج بالوسطى.

صوت

يا ناعش الجدّ إذا الجدّ عثر *** و جابر العظم إذا العظم انكسر

أنت ربيعي و الرّبيع ينتظر *** و خير أنواء(4) الرّبيع ما بكر

الشعر للعمانيّ الراجز، و الغناء لشارية خفيف رمل، من كتاب ابن المعتز و روايته.

ص: 460


1- ب: «بقصر الخشب»، و في ف: «بقصر الحزب». و البليخ: نهر بالرقة. و دير زكي: دير بالرها.
2- ب: «هوى من أحب بمن لا أحب».
3- ف: «و لحنه ماخوري بالوسطى و لابن صغير العين خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر و للمعلى خفيف رمل... الخ».
4- ب: «أنواع».

20 - نسب العماني و خبره

اشارة

20 - نسب العماني و خبره(1)

نسبه

اسمه محمد بن ذؤيب بن محجن بن قدامة بن بلهيّة(2) الحنظليّ ثمّ الدّارميّ صليبة، و قيل له: العمانيّ، و هو بصريّ؛ لأنه كان شديد صفرة اللون، و ليس هو و لا أبوه من أهل عمان، و كان شاعرا راجزا متوسطا، من شعراء الدولة العباسية، ليس من نظراء الشعراء الذين شاهدهم في عصره، مثل أشجع و سلم و مروان، و لكنه كان لطيفا داهيا مقبولا، فأفاد بشعره(3) أموالا جليلة.

يدخل على الرشيد و ينشده فيجزل صلته

أخبرني ابن أبي الأزهر، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه، عن جبر بن رياط الأسديّ:

أنّ عبد الملك بن صالح أدخل العمانيّ على الرّشيد فأنشده:

يا ناعش الجدّ إذا الجدّ عثر *** و جابر العظم إذا العظم انكسر

أنت ربيعي و الربيع ينتظر *** و خير أنواء الربيع ما بكر

فقال له الرشيد: إذا يبكر عليك ربيعنا، يا فضل، أعطه خمسة آلاف دينار، و خمسين ثوبا.

قال إسحاق: قال جبر: لما دخل الرّشيد الرّقّة استقبله العمانيّ، فلما بصر به ناداه:

هارون يا ابن الأكرمين منصبا *** لما ترحّلت فصرت كثبا

من أرض بغداد تؤمّ المغربا *** طابت لنا ريح الجنوب و الصّبا

و نزل الغيث لنا حتى ربا *** ما كان من نشز و ما تصوّبا(4)

فمرحبا و مرحبا و مرحبا

/فقال له الرّشيد: و بك مرحبا يا عمانيّ و أهلا، و أجزل صلته.

ينشد الرشيد أرجوزة طويلة أثناء قعوده للبيعة لابنه محمد

أخبرني محمد بن جعفر النّحويّ صهر المبرّد المعروف بابن الصّيدلانيّ (5)، قال: حدّثنا محمد بن موسى،

ص: 461


1- ف: «و أخباره».
2- ب: «باسية».
3- ب، ما: «بفعله». و في مد: «فأفاد أموالا جليلة».
4- ف: «حيث ربا» بدل «حتى ربا». و تصوب: انحدر، و منه قول الصنوبري: و كأنّ محمر الشقي ق إذا تصوّب أو تصعّد أعلام ياقوت نشر ن على رماح من زبرجد
5- ف: «المعروف بالصيدلاني».

عن حمّاد، قال: قال العتبيّ (1):

لما وجّه الفضل بن يحيى الوفد من خراسان إلى الرّشيد يحضّونه على البيعة لابنه محمّد قعد لهم(2) الرّشيد، و تكلم القوم على مراتبهم، و أظهروا السرور بما دعاهم إليه من البيعة لابنه، و كان فيمن حضر محمد بن ذؤيب العمانيّ، فقام بين صفوف القوّاد، ثم أنشأ يقول:

لمّا أتانا خبر مشهّر *** أغرّ لا يخفى على من يبصر

جاء به الكوفيّ و المبصّر *** و الراكب المنجد و المغوّر

/يخبّر النّاس و ما يستخبر *** قلت لأصحابي و وجهي و مسفر

و للرجال: حسبكم لا تكثروا *** فاز بها محمد فأقصروا

قد كان هذا قبل هذا يذكر *** في كتب العلم التي تسطّر(3)

فقل لمن كان قديما يتجر: *** قد نشر العدل(4) فبيعوا و اشتروا

و شرّقوا و غرّبوا و بشّروا(5) *** فقد كفى اللّه الذي يستقدر

بمنّه أفعال ما قد يحذر *** و السيف عنّا مغمد ما يشهر

و قلّد الأمر الأغرّ الأزهر *** نوء السّماكين الذي يستمطر

بوجهه إن كان عام أغبر *** سرّت به أسرّة و منبر

و ابتهج(6) النّاس به و استبشروا *** و هلّلوا لربّهم و كبّروا

/شكرا و من حقّهم أن يشكروا *** إذ ثبتت أوتاد ملك يعمر

من هاشم في حيث طاب العنصر *** و طاح من كان عليها يزفر

إنّ بني العبّاس لم يقصّروا *** إذ نهضوا لملكهم فشمّروا

و عقدوا و نزعوا و أمّروا *** و دبّروا فأحكموا ما دبّروا

و أوردوا بالحزم ثم أصدروا *** و الحزم رأي مثله لا ينكر

إذا الرّجال في الرّجال خيّروا *** يا أيها الخليفة المطهّر

و المؤمن المبارك الموقّر(7) *** و الطّيّب الأغصان و المظفّر

ما النّاس إلا غنم تنشّر *** إن لم تداركهم براع يخطر

على قواصي طرقها و يستر(8) *** و يمنع الذّئب فلا ينفّر

فامنن علينا بيد لا تكفر *** مشهورة ما دام زيت يعصر

ص: 462


1- ف: «الفقيمي».
2- ب: «فعذلهم»، تصحيف.
3- ب: «الذي يسطر».
4- ف: «قد يسر العدل».
5- ف: «و غربوا و سيروا».
6- ف: «و انتجع الناس».
7- ف: «المؤمر».
8- مد: «على قواصي طوقها و يستر». و في ب: «على قلوص طرقها و يستر».

و انظر لنا و خلّ من لا ينظر *** و اجسر كما كان أبوك يجسر

لا خير في مجمجم(1) لا يظهر *** و لا كتاب بيعة لا ينشر

و قد تربّصت فليس تعذر(2) *** فليت شعري ما الذي تنتظر!

أ أنت قائم به أم تسخر(3) *** ما لك في محمد لا تعذر!

و ليت شعري و الحديث يؤثر *** أ ترقد الليل و نحن نسهر!

خوفا على أمورنا و نضجر *** و اللّه و اللّه الذي يستغفر

/لأن يموت معشر و معشر *** خير لنا من فتنة تسعّر

يهلك فيها دينهم و يوزروا *** و قد وفى القوم الذين انتصروا(4)

لصاحب الرّوم و ذاك أصغر *** منه و هذا البحر لا يكدّر

و ذاكم العلج و هذا الجوهر *** ينمي به محمد و جعفر

و الخلفاء و النّبيّ الأكبر *** و نبعة من هاشم و عنصر

و اعلم و أنت المرء لا يبصّر *** (5) (و اللّه يبقيك و تجبر(5)

منّا ذوي العسرة حتى يوسروا *** /أنّ الرّجال إن ولوها آثروا

ذوي القرابات بها، و استأثروا *** بها، و ضلّ أمرهم و استكبروا

و الملك لا رحم له فيأصر *** ذا رحم و الناس قد تغيّروا

فأحكم الأمر و أنت تقدر *** فمثل هذا الأمر لا يؤخّر

فلما فرغ من أرجوزته قال له الرشيد: أبشر يا عمانيّ بولاية محمد العهد، فقال: إي و اللّه يا أمير المؤمنين، بشرى الأرض المجدبة بالغيث، و المرأة النّزور بالولد، و المريض المدنف بالبرء، قال: و لم ذاك؟ قال: لأنه نسيج وحده، و حامي مجده، و موري زنده. قال: فما لك في عبد اللّه(5)، قال: مرعى و لا كالسّعدان، فتبسّم الرّشيد و قال: قاتله اللّه من أعرابيّ ما أعرفه بمواضع الرغبة، و أسرعه إلى أهل البذل و العائدة، و أبعده من أهل الحزم و العزم، و الذين لا يستمنح ما لديهم بالثّناء، أما و اللّه إني لأعرف في عبد اللّه حزم المنصور و نسك المهديّ، و عزّ نفس الهادي، و لو أشاء أن أنسبه إلى الرّابعة لنسبته إليها.

يرشح القاسم لولاية العهد في أرجوزة ينشدها للرشيد

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثنا عليّ بن الحسن الشّيبانيّ، و أخبرني به محمد بن جعفر، عن محمد بن موسى، عن حمّاد، عن أبي محمد المطبخيّ (6)، عن عليّ بن الحسن

ص: 463


1- جمجم الشيء في صدره: أخفاه و لم يبده فهو مجمجم.
2- ب: «فلست تغدر».
3- ف: «أ نائم أنت به أم تسهر».
4- مد، ما: «انتظروا». و في ف: «نصّروا». و يوزروا: يصابوا بالوزر، و هو الذنب. (5-5) التكملة من ف.
5- يعني المأمون.
6- ب: «المضهنجي».

الشّيبانيّ، قال: أخبرني أبو خالد الطائيّ، عن جبير بن ضبينة الطائيّ، قال: أخبرني الفضل(1)، قال:

حضرت الرّشيد يوما و جلس للشعراء، فدخل عليه الفضل بن الرّبيع و خلفه العمانيّ، فأدناه الرّشيد و استنشده، فأنشده أرجوزة له فيه، حتى انتهى إلى هذا الموضع:

قل للإمام المقتدى بأمّه(2): *** ما قاسم دون مدى ابن أمّه

و قد رضيناه فقم فسمّه

قال: فتبسّم الرّشيد ثم قال: ويحك! أ ما رضيت أن أولّيه العهد و أنا جالس حتى أقوم على رجلي! فقال له العمانيّ: ما أردت يا أمير المؤمنين قيامك على رجليك؛ إنما أردت قيام العزم، قال: فإنا قد ولّيناه العهد، و أمر بالقاسم أن يحضر. و مرّ العمانيّ في أرجوزته يهدر حتى أتى على آخرها، و أقبل القاسم فأومأ إليه الرشيد، فجلس مع أخويه فقال له: يا قاسم، عليك جائزة هذا الشّيخ، فقد سألنا أن نولّيك العهد و قد فعلنا، فقال: حكمك يا أمير المؤمنين، فقال: و ما أنا و هذا! بل حكمك، و أمر له الرّشيد بجائزة، و أمر له القاسم بجائزة أخرى مفردة.

يمدح أبا الحرّ التميمي

أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه قال:

دخل محمد بن ذؤيب العمانيّ على أبي الحرّ التّميميّ بالبصرة، فأطعمه و سقاه و جلّله بكساء فقال فيه:

إن أبا الحرّ لعين الحرّ *** يدفع عنّا سبرات القرّ(3)

باللحم و الشّحم و خبز البرّ *** و نطفة مكنونة في الجرّ(4)

يشربها أشياخنا في السّرّ *** حتى نرى حديثنا كالدّرّ

و يمدح عبد الملك بن صالح فيثيبه

أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدّثنا حمّاد(5)، عن أبيه، قال:

قصد العمانيّ عبد الملك بن صالح/الهاشميّ متوسّلا به إلى الرشيد في الوصول إليه مع الشعراء، و مدح عبد الملك بقصيدته التي يقول فيها:

نمته العرانين(6) من هاشم *** إلى النّسب الأوضح الأصرح

إلى نبعة فرعها في السماء *** و مغرسها سرّة الأبطح

فأدخله عبد الملك إلى الرّشيد بالرّقة فأنشده:

هارون يا ابن الأكرمين حسبا *** لما ترحّلت فكنت كثبا

من أرض بغداد تؤمّ المغربا *** طابت لنا ريح الجنوب و الصّبا

ص: 464


1- ف: «أبو خالد عن يحيى بن صفية الطائي، قال: أخبرني الفضل».
2- أمّ القوم و بهم: تقدّمهم.
3- السبرات جمع سبرة، و هي الغداة الباردة.
4- ب: «في الحر» و الجر جمع جرّة، و هي إناء من خزف.
5- ف: «حماد بن إسحاق».
6- ف: «الغرانيق». و عرانين القوم: سادتهم و أشرافهم.

و نزل الغيث لنا حتى ربا *** ما كان من نشز و ما تصوّبا(1)

فمرحبا و مرحبا و مرحبا

/فأعطاه خمسة آلاف دينار و خمسين ثوبا.

يصف طعاما قدمه له محمد بن سليمان

أخبرني عمّي و الحسين بن القاسم الكوكبيّ، قالا: حدثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثنا إسحاق بن عبد اللّه الأزديّ، عن محمد بن عبد اللّه العامريّ القرشيّ، عن العمانيّ الشاعر:

أنه تغدّى مع محمد بن سليمان بن عليّ، فكان أوّل ما قدّم إليهم فرنيّة(2) في لبن عليها سكر، ثم تتابع الطّعام، فقال له: قل فيما أكلت شعرا تصفه، فقال:

جاءوا بفرنى لهم ملبون *** بات يسقّى خالص السّمون

مصومع أكوم ذي غضون(3) *** قد حشيت بالسكّر المطحون

و لوّنوا ما شئت من تلوين *** من بارد الطّعام و السّخين

و من شراسيف و من طردين *** و من هلام و مصوص جون(4)

و من إوز فائق سمين *** و من دجاج قيت بالعجين(5)

فالشّحم في الظّهور و البطون *** و أتبعوا ذلك بالجوزين

و بالخبيص الرّطب و اللّوزين *** و فكّهوا بعنب و تين

و الرّطب الأزاذ(6) و الهيرون(7) *** محمد يا سيّد البنين

/و بكر بنت المصطفى الأمين(8) *** الصادق المبارك الميمون

و ابن ولاة البيت و الحجون *** اسمع لنعت غير ذي تغنين

يخرج من فنّ إلى فنون *** إن الحديث فيك ذو شجون

سبب تسميته العماني

أخبرنا الحسن بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدّثني أحمد بن أبي كامل، قال:

حدّثني أبو هاشم القينيّ، قال:

كان محمد بن ذؤيب العمانيّ الراجز من أهل البصرة، و يكنى أبا عبد اللّه و إنّما قيل له العمانيّ؛ لأنّه أقبل يوما

ص: 465


1- انظر ص 311 (الحاشية 4).
2- الفرنية: خبز مستدير.
3- مصومع: مجمع عال. و في ف: «أكرم» بدل «أكوم».
4- الشراسيف جمع شرسوف: و هو مقط الضلع، و هو الطرف المشرف على البطن. و الطردين: طعام للأكراد. و الهلام: طعام من لحم عجلة بجلدها أو مرق السكباج المبرد المصفى من الدهن. و المصوص: طعام يطبخ و ينقع في الخلّ أو من لحم الطير خاصة.
5- ب: «فت».
6- الأزاذ: نوع جيد من التمر.
7- الهيرون: البرّيّ من التمر و الرطب.
8- ف: «و ابن عم المصطفى الأمين».

و قد خرج من علّة و وجهه أصفر، فقال له بعض أصحابنا: يا أبا عبد اللّه قد خرجت من هذه العلّة كأنك جمل عمانيّ، قال: و كانت جمال عمان تحمل الورس من اليمن إلى عمان فتصفرّ، قال: و هو من بني تميم، ثم من بني فقيم.

يمدح عيسى بن موسى فيصله

قال: فقدم على عيسى بن موسى، فلمّا وصل إليه أنشده مديحا له وفد إليه به، فاستحسنه و وصله و اقتطعه إليه و خصّه، و جعله في جلسائه، فقال العمانيّ فيه:

/ما كنت أدري ما رخاء العيش *** و لا لبست الوشي بعد الخيش

حتى تمدّحت فتى قريش *** عيسى، و عيسى عند وقت الهيش(1)

حين يخفّ غيره للطّيش(2)*** زين المقيمين و عزّ الجيش

راش جناحيّ و فوق الرّيش

ينشد الرشيد قصيدة أثناء حصاره هرقلة يذكر فيها بغداد

أخبرني حبيب بن نصر المهلبيّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني أحمد بن عليّ بن أبي نعيم، قال: حدّثنا موسى بن صبيح المروزيّ، قال:

/خرج الرّشيد غازيا بلاد الرّوم، فنزل بهرقلة، و نصب الحرب عليها، فدخل عليه العمانيّ و هو يذكر بغداد و طيبها و ما فيها أهلها من النّعمة، فأنشده العمانيّ قصيدة له في هذا المعنى، يذكر فيها طيب العيش ببغداد، وسعة النعم، و كثرة اللذّات، يقول فيها:

ثم أتوهم بالدّجاج الدّجّج *** بين قديد و شواء منضج

و بعبيط ليس بالملهوج *** فدقّ دقّ الكودنيّ الدّيرج(3)

حتى ملا أعفاج(4) بطن نفّج *** و قال للقينة: صبّي و امزجي

قال: فوهب له على القصيدة ثلاثين ألف درهم.

ابن جامع يغني الرشيد شعرا في ضرب هرقلة

ثم دخل إليه ابن جامع و قد أمر الرّشيد أن يوضع الكبريت و النّفط الأبيض على الحجارة، و تلفّ بالمشاقة(5)، و توقد فيها النار، ثم توضع في كفّة المنجنيق و يرمى بها السّور، ففعلوا ذلك، و كانت النار تثبت في السّور و تصدّعه حتى طلبوا الأمان حينئذ، فغنّاه ابن جامع و قال:

هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا *** حوائما(6) ترتمي بالنّفط و النّار

ص: 466


1- الهيش: الفتنة.
2- ب، مد، ما: «حين تجف عبرة للطيش».
3- لحم عبيط: طري. و الكودني: الفيل. و في ف: «فدق دق الكودرين الديرج».
4- الأعفاج جمع عفج، و هو ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة. و في ف: «حتى ملأ أنفاج بطن تنتجي».
5- المشاقة: ما سقط من الشعر و الكتان و نحوهما عند المشط.
6- ب، مد، ما: «جواثما».

كأنّ نيراننا في جنب قلعتهم *** مصبّغات على أرسان قصّار

فأمر له بثلاثين ألف درهم أخرى.

يرتجل شعرا في فرس للمهديّ فيجيزه
اشارة

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدّثني أبو هفّان، قال: حدّثني أحمد بن سليمان، قال: قال يزيد بن عقال(1):

/كنا وقوفا و المهديّ قد أجرى الخيل فسبقها فرس له يقال له الغضبان، فطلب الشّعراء فلم يحضر أحد منهم إلا أبو دلامة، فقال له: قلّده يا زند، فلم يفهم ما أراد فقلّده عمامته، فقال له المهديّ: يا بن اللّخناء، أنا أكثر عمائم منك؛ إنما أردت أن تقلّده شعرا، ثم قال: يا لهفي على العمانيّ، فلم يتكلّم بها حتى أقبل العمانيّ، فقيل له:

ها هو ذا قد أقبل الساعة يا أمير المؤمنين، فقال: قدّموه، فقدّموه فقال: قلّد فرسي هذا، فقال غير متوقف:

قد غضب الغضبان إذ جدّ الغضب *** و جاء يحمي حسبا فوق الحسب

من إرث عبّاس بن عبد المطّلب *** و جاءت الخيل به تشكو التّعب

له عليها ما لكم على العرب

فقال له المهديّ: أحسنت و اللّه، و أمر له بعشرة آلاف درهم.

صوت

لقد علمت و ما الإسراف من خلقي *** أن الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى له فيعنّيني تطلّبه *** و لو قعدت أتاني لا يعنّيني

الشعر لعروة بن أذينة، و الغناء لمخارق ثقيل أول بالبنصر عن عمرو.

ص: 467


1- ب، ما، مد: «يزيد بن عفان».

21 - أخبار عروة بن أذينة و نسبه

اشارة

21 - أخبار عروة بن أذينة و نسبه(1)

نسبه

هو عروة بن أذينة، و أذينة لقبه، و اسمه يحيى بن مالك(2) بن الحارث بن عمرو بن عبد اللّه بن زحل بن يعمر، و هو الشّدّاخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. و سمّي يعمر بالشّدّاخ لأنه تحمّل ديات قتلى كانت بين قريش و خزاعة، و قال: قد شدخت هذه الدّماء تحت قدميّ، فسمّي الشّدّاخ.

قال ابن الكلبيّ: الشّدّاخ، بضمّ الشّين.

شاعر و فقيه و محدّث

و يكنى عروة بن أذينة أبا عامر، و هو شاعر غزل مقدّم، من شعراء أهل المدينة، و هو معدود في الفقهاء و المحدّثين، روى عنه مالك بن أنس، و عبيد اللّه بن عمر العدويّ. أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، عن عمر بن شبّة، و روى جدّه مالك بن الحارث عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

روى قصة عن جده مالك

أخبرني الحسن بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن موسى، قال: حدّثنا أحمد بن الحارث، عن المدائنيّ، عن ابن دأب، عن عروة بن أذينة، عن أبيه، قال: حدّثني أبي مالك بن الحارث قال:

خرج مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام رجل من قومي كان مصطلما(3)، فخرجت في أثره و خشيت انقراض أهل بيته، فأردت أن أستأذن له من عليّ، فأدركت عليّا عليه السلام بالبصرة، و قد هزم النّاس و دخل البصرة، فجئته فقال: /مرحبا بك يا بن الفقيمة، أبدا لك فينا بداء(4)؟ قلت: و اللّه إنّ نصرتك لحقّ، و إنّي لعلى ما عهدت أحبّ العزلة، ثم ذاكرته أمر ابن عمّي ذلك، فلم يبعد عنه(5)، فكنت آتيه أتحدّث إليه. فركب يوما يطوف و ركبت معه، فإني لأسير إلى جانبه إذ مررنا بقبر طلحة، فنظر إليه نظرا شديدا، ثم أقبل عليّ فقال: أمسى و اللّه أبو محمد بهذا المكان غريبا، ثم تمثّل:

و ما تدري و إن أزمعت أمرا *** بأيّ الأرض يدركك المقيل

ص: 468


1- جاءت هذه الترجمة في الجزء الحادي و العشرون 105-111 بعد أن سقطت من نسخة بولاق و موضعها هنا، كما جاءت في نسخة ف و غيرها من النسخ الخطية الموثوقة.
2- «مهذب الأغاني»: «يحيى بن مالك الليثي الكناني».
3- المصطلم: المقطوع.
4- البداء، بفتح الباء: ظهور الرأي بعد أن لم يكن. و يقال: بدا لي في هذا الأمر بداء: ظهر لي فيه رأي آخر.
5- ف: «يبعد منه».

و اللّه إنّي لأكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب. قال: فوقع العراقيّون يشتمون طلحة و سكت عليّ و سكتّ، حتى إذا فرغوا أقبل عليّ عليه السلام عليّ فقال: إيه يا ابن الفقيمة، و اللّه إنه و إن قالوا ما سمعت لكما قال أخو جعفيّ:

فتى كان يدنيه الغنى من صديقه *** إذا ما هو استغنى و يبعده الفقر

ثم أردت أن أكلّمه بشيء فقلت: يا أمير المؤمنين، فقال: و ما منعك أن تقول: يا أبا الحسن(1)! فقلت:

أبيت، فقال: و اللّه إنّها لأحبّهما إليّ و لو لا الحمقى، و لوددت أني خنقت بحبل حتى أموت قبل أن يفعل عثمان ما فعل، و ما أعتذر من قيام بحقّ، و لكنّ العافية مما ترى كانت خيرا.

ذهب مع أبيه لمكة و رأى حريق الكعبة

حدّثنا محمد خلف وكيع، و الحسن بن عليّ الخفّاف، قالا: حدّثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدّثنا محمد بن سعد، عن الواقديّ، عن عبد اللّه بن يزيد، عن عروة بن أذينة، قال:

قدمت مع أبي مكّة يوم احترقت الكعبة، فرأيت الخشب و قد خلصت إليه/النّار، و رأيت الكعبة متجرّدة، من الحريق، و رأيت الرّكن قد اسودّ و تصدّع من ثلاثة أمكنة، فقلت: ما أصاب الكعبة؟ فأشاروا إلى رجل من أصحاب ابن الزّبير فقالوا: هذا احترقت بسببه؛ أخذ قبسا في رأس رمح، فطيّرت الرّيح(2) منه شيئا، فضربت أستار الكعبة فيما بين اليمانيّ إلى الأسود.

وفد على هشام فذكّره بشعره في القناعة و لامه ثم ندم فأرسل إليه جائزة

حدّثني محمد بن جرير الطّبريّ و حفظته، و أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، و حبيب بن نصر المهلّبيّ قالوا: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني عمر بن محروس الورّاق بن أقيصر السّلميّ، قال: حدّثنا يحيى بن عروة بن أذينة، قال:

أتى أبي و جماعة من الشعراء هشام بن عبد الملك، فنسبهم، فلما عرف أبي قال له: أنت القائل:

لقد علمت و ما الإسراف من خلقي *** أنّ الذي هو رزقي سوف يأتيني(3)

أسعى له فيعنّيني تطلّبه *** و لو جلست(4) أتاني لا يعنّيني

هذان البيتان فقط ذكرهما المهلّبيّ و الجوهريّ، و ذكر محمد بن جرير في خبره الأبيات كلها:

و أنّ حظّ امرئ غيري سيبلغه *** لا بدّ لا بدّ أن يحتازه(5) دوني

لا خير في طمع يدني لمنقصة *** و غفّة(6) من قوام العيش تكفيني

/لا أركب الأمر تزري بي عواقبه *** و لا يعاب به عرضي و لا ديني

ص: 469


1- ف: «يا أبا حسن».
2- في «تاريخ الطبري» 5-499 ط. المعارف: «فطيرت الريح به».
3- في «الشعر و الشعراء» 2-579: «... فما الإسراف في طمعي». و في اللسان (شرف): «و ما الإشراف في طمعي».
4- ف، و «الشعر و الشعراء» 2-579، و «التجريد»: «و لو قعدت».
5- مج، «التجريد»: «يجتازه».
6- ف، «التجريد»، س: «و غبر من كفاف العيش». و في «المختار»: «و غفة من كفاف العيش». و الغفة: البلغة من العيش.

كم من فقير غنيّ النّفس تعرفه *** و من غنيّ فقير النّفس مسكين

و من عدوّ رماني لو قصدت له *** لم يأخذ النّصف مني حين يرميني(1)

و من أخ لي طوى كشحا فقلت له: *** إنّ انطواءك عني سوف يطويني

إني لأنطق فيما كان من أربي *** و أكثر الصّمت فيما ليس يعنيني

لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي(2) *** و لا ألين لمن لا يشتهي ليني

فقال له ابن أذينة: نعم أنا قائلها، قال: أ فلا قعدت في بيتك حتى يأتيك رزقك!.

و غفل عنه هشام، فخرج من وقته و ركب راحلته و مضى منصرفا، ثم افتقده هشام فعرف خبره، فأتبعه بجائزة و قال للرّسول: قل له: أردت أن تكذّبنا و تصدّق نفسك. فمضى الرسول فلحقه و قد نزل على ماء يتغذّى عليه، فأبلغه رسالته و دفع الجائزة. فقال: قل له: صدّقني ربّي و كذّبك.

قال يحيى بن عروة: و فرض له فريضتين، فكنت أنا في إحداهما.

أخبرنا وكيع قال: حدّثنا هارون بن محمد بن عبد الملك، قال: حدّثني الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني أبو غزيّة، قال: حدّثني أنس بن حبيب، قال:

خرج ابن أذينة إلى هشام بن عبد الملك في قوم من أهل المدينة وفدوا عليه، و كان ابنه مسلمة بن هشام سنة حجّ أذن لهم في الوفود عليه، فلما دخلوا على هشام انتسبوا له و سلّموا عليه، فقال: ما جاء بك يا ابن أذينة؟ فقال:

أتينا نمّت بأرحامنا *** و جئنا بإذن أبي شاكر

فإنّ الذي سار معروفه *** بنجد و غار مع الغائر

/إلى خير خندف في ملكها *** لباد من النّاس أو حاضر

فقال له هشام: ما أراك إلا قد أكذبت نفسك حيث تقول:

لقد علمت و ما الإسراف من خلقي *** أنّ الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى له فيعنّيني تطلّبه *** و لو جلست أتاني لا يعنّيني

فقال له ابن أذينة: ما أكذبت نفسي يا أمير المؤمنين، و لكني صدّقتها، و هذا من ذاك. ثم خرج من عنده فركب راحلته إلى المدينة، فلما أمر لهم هشام بجوائزهم فقده، فقال: أين ابن أدينة؟ فقالوا: غضب من تقريعك له يا أمير المؤمنين، فانصرف راجعا إلى المدينة، فبعث إليه هشام بجائزته.

مرّ بغنمه و راعيه نائم فضربه و قال شعرا

أخبرنا وكيع، قال: حدّثنا هارون بن محمد، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني عمّي، عن عروة بن عبيد اللّه، قال:

كان عروة بن أذينة نازلا مع أبي في قصر عروة بالعقيق، و خرج أبي يوما يمشي و أنا معه و ابن أذينة، و نظر إلى

ص: 470


1- هذا البيت ساقط من ف. و النّصف: الإنصاف. يقال: ما جعلوا بيني و بينهم نصفا.
2- «المختار»: «مقاطعتي».

غنم كانت له في يدي راع يقال له كعب، و هي مهملة، و كعب نائم حجرة(1)، فجعل ابن أذينة ينزو حوله و هو يضربه و يقول:

لو يعلم الذّئب بنوم كعب *** إذا لأمسى عندنا ذا ذنب

اضربه و لا يقول حسبي *** لا بدّ عند ضيعة من ضرب

غنّى ابن عائشة بشعره
اشارة

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ، و حبيب بن نصر المهلّبيّ، و إسماعيل بن يونس الشّيعيّ قالوا: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني أبو غسّان محمد بن يحيى، عن بعض أصحابه، قال:

/مرّ ابن عائشة المغنيّ بعروة بن أذينة، فقال له: قل لي أبياتا هزجا أغنّي فيها، فقال له: اجلس، فجلس، فقال:

صوت

سليمى أجمعت بينا *** فأين تقولها أينا!

و قد قالت لأتراب *** لها زهر تلاقينا:

تعالين فقد طاب *** لنا العيش تعالينا

و غاب البرم(2) اللي *** لة و العين فلا عينا

فأقبلن إليها مس *** رعات يتهادينا

إلى مثل مهاة الرّم *** ل تكسو المجلس الزّينا

تمنّين مناهن *** فكنّا ما تمنّينا

قال أبو غسّان: فحدّثت أنّ ابن عائشة رواها، ثم ضحك لمّا سمع قوله:

تمنّين مناهنّ *** فكنّا ما تمنّينا

ثم قال: يا أبا عامر تمنّينك(3) لمّا أقبل بخرك و أدبر ذكرك.

ذكر عند عمر بن عبد العزيز فامتدحه

قال عمر بن شبّة: قال أبو غسّان: فحدّثني حمّاد الحسينيّ قال:

ذكر ابن أذينة عند عمر بن عبد العزيز، فقال: نعم الرّجل أبو عامر، على أنه الذي يقول:

و قد قالت لأتراب *** لها زهر تلاقينا

/و أخبرني بهذا الخبر وكيع، قال: حدّثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزّيات، عن الزّبير، عن محمد بن يحيى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن قسطاس قال:

ص: 471


1- حجرة: ناحية.
2- البرم: الضجر السّئوم.
3- «المختار»: «تمنتك».

مرّ ابن عائشة بابن أذينة، ثمّ ذكر الخبر مثل الذي قبله.

اعتراض سكينة على ادعائه العفة مع شعر قاله
اشارة

أخبرني حبيب بن نصر المهلّبيّ، و الحرميّ بن أبي العلاء، قالا: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدثني أبو معاوية عبد الجبّار بن سعيد المساحقيّ، و أخبرنا به وكيع، قال: حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ، عن الحارث بن محمد العوفيّ، قال:

وقفت سكينة بنت الحسين بن عليّ عليهما السّلام على عروة بن أذينة في موكبها و معها جواريها، فقالت: يا أبا عامر، أنت الذي تزعم أن لك مروءة، و أنّ غزلك من وراء عفّة و أنّك تقيّ؟ قال: نعم، قالت: أ فأنت الذي تقول:

صوت

قالت و أبثثتها وجدي فبحت به: *** قد كنت عندي تحبّ السّتر فاستتر

أ لست تبصر من حولي؟ فقلت لها: *** غطّى هواك و ما ألقى على بصري(1)

قال لها: بلى، قالت: هنّ حرائر إن كان هذا خرج من قلب سليم، أو قالت: من قلب صحيح.

في هذين البيتين لعلّويه رمل بالبنصر، و فيهما لإسحاق هزج بالوسطى، /و فيهما لمخارق ثقيل أول بالبنصر، عن الهشاميّ و عمرو بن بانة، و ذكر حبش أنّ الثقيل الأول لمعبد اليقطينيّ.

تمثل المتوكل للمنتصر بشعره

و ذكر عليّ بن محمد بن نصر البسّاميّ أن خاله أبا عبد اللّه بن حمدون بن إسماعيل قال:

كنت جالسا بين يدي المتوكل، و بين يديه المنتصر، فأحضر المعتزّ و هو صبيّ صغير، فلعب فأفرط في اللّعب، و المنتصر يرمقه كالمنكر لفعله، فنظر إليه المتوكّل عدّة دفعات، ثم التفت إلى المنتصر فقال: يا محمد:

قالت و أبثثتها وجدي فبحت به: *** قد كنت عندي تحب السّتر فاستتر

قال: فاعتذر إليه المنتصر عذرا قبله و هو مقطّب معرض. قال: و كان المنتصر أشدّ خلق اللّه بغضا للمعتز، و طعنا عليه. و لقد دخلت إليه يوما و دخل إليه أبو خالد المهلّبيّ بعد قتل المتوكل و إفضاء الخلافة إليه، و مع المهلبيّ درع كأنها فضة، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه درع المهلّب، فأخذها و قام فلبسها، و رأى المعتزّ و عليه و شيء مثقل و ما أشبه ذلك، فتمثّل ببيت جرير:

لبست سلاحي و الفرزدق لعبة *** عليه وشاحا كرّج(2) و جلاجله

اعترضت امرأة على شعر قاله

أخبرني وكيع، قال: حدثني هارون بن محمد، قال: حدّثني عبد اللّه بن شعيب الزّبيريّ، قال: حدثني عبد العزيز بن أبي سلمة قال:

ص: 472


1- البيتان في «الشعر و الشعراء» 2-579 ط. المعارف. و في «التنبيه» - 27 ط. دار الكتب.
2- الكرّج: مهر خشبي يلعب عليه الأطفال.

مرّت امرأة بابن أذينة و هو بفناء داره فقالت له: أ أنت ابن أذينة؟ قال: نعم، قالت: أ أنت الذي يقول النّاس إنّك امرؤ صالح(1)، و أنت الّذي تقول:

إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي *** عمدت نحو سقاء القوم أبترد

/هبني بردت ببرد الماء ظاهره *** فمن لحرّ على الأحشاء يتّقد!(2)

أبو السائب المخزومي يطلب إنشاده شعرا قاله عروة
اشارة

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني عمّي، عن عروة بن عبد اللّه، و أخبرنا به وكيع، عن هارون بن الزّيّات، عن الزّبيريّ، عن عمه، عن عروة بن عبد اللّه، و ذكره حمّاد، عن أبيه، عن الزّبيريّ، عن عروة هذا قال:

كان عروة بن أذينة نازلا في دار أبي بالعقيق، فسمعه ينشد:

صوت

إنّ التي زعمت فؤادك ملّها *** جعلت هواك كما جعلت هوى لها

فبك الّذي(3) زعمت بها و كلاكما *** يبدي لصاحبه الصّبابة كلّها

و يبيت بين جوانحي حبّ لها *** لو كان تحت فراشها لأقلّها(4)

و لعمرها لو كان حبّك فوقها *** يوما و قد ضحيت إذا لأظلّها

و إذا وجدت لها وساوس سلوة *** شفع الفؤاد إلى الضّمير فسلّها(5)

بيضاء باكرها النّعيم فصاغها *** بلباقة فأدقّها و أجلّها(6)

لما عرضت مسلّما لي حاجة *** أرجو معونتها و أخشى دلّها(7)

منعت تحيّتها فقلت لصاحبي: *** ما كان أكثرها لنا و أقلّها

/فدنا فقال: لعلّها معذورة *** من أجل رقبتها، فقلت: لعلّها

قال: فأتاني أبو السّائب المخزوميّ و أنا في داري بالعقيق، فقلت له بعد التّرحيب: هل بدت لك حاجة؟ فقال: نعم، أبيات لعروة بن أذينة، بلغني أنّك سمعتها منه، فقلت له: و أيّة أبيات؟ فقال: و هل يخفى القمر؟ قوله:

إنّ الّتي زعمت فؤادك ملّها

فأنشدته إيّاها، فلما بلغت إلى قوله: «فقلت: لعلّها». قال: أحسن و اللّه، هذا و اللّه الدّائم العهد، الصادق الصبابة، لا الذي يقول:

ص: 473


1- ف، «التجريد»: «يقول الناس: إنك بريء و إنك صالح».
2- البيتان في «التنبيه» - 26 ط. دار الكتب، و روي الشطر الأخير من البيت الثاني: «فمن لنار على الأحشاء تتقد».
3- مج، «المختار»: «التي زعمت».
4- أقلها: أصابها و أتعبها. و هذا البيت ساقط من ف.
5- في «الأمالي» 1-156: «شفع الضمير لها إلى فسلها»، و في «المختار»: «شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها».
6- في «الأمالي» 1-156: «بلبانه فأرقها و أجلها».
7- س: «ذلّها».

إن كان أهلك يمنعونك رغبة *** عنّي فأهلي بي أضنّ و أرغب

اذهب لا صحبك اللّه و لا وسّع عليك - يعني قائل هذا البيت - لقد عدا الأعرابيّ طوره، و إني لأرجو أن يغفر اللّه لصاحبك - يعني عروة - لحسن ظنّه بها، و طلبه العذر لها. قال: فعرضت عليه الطّعام فقال: لا، و اللّه ما كنت لآكل بهذه الأبيات طعاما إلى اللّيل، و انصرف.

ذكر ما في هذا الخبر من الغناء

في الشّعر المذكور فيه لعروة في البيت الأول و الرّابع من الأبيات خفيف رمل بالوسطى، نسبه ابن المكّيّ إلى ابن مسجح، و قيل: إنّه من منحوله إليه، و فيهما و في البيت الثالث من شعر ابن أذينة خفيف ثقيل لابن الهربذ، و البيت:

و يبيت بين جوانحي حبّ لها *** لو كان تحت فراشها لأقلّها

رأي لأبي السائب في شعر قاله
اشارة

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثنا عمر بن أبي بكر المؤمّليّ، قال:

أخبرنا عبد اللّه بن أبي عبيدة(1)، قال: قلت: لأبي السّائب المخزومي: ما أحسن عروة بن أذينة حيث يقول:

صوت

لبثوا ثلاث منّى بمنزل غبطة *** و هم على غرض لعمرك ما هم

متجاورين بغير دار إقامة *** لو قد أجدّ رحيلهم لم يندموا

و لهنّ بالبيت العتيق لبانة *** و البيت يعرفهنّ لو يتكلّم(2)

لو كان حيّا قبلهنّ ظعائنا *** حيّا الحطيم وجوههنّ و زمزم

و كأنّهنّ و قد حسرن لواغبا *** بيض بأكناف الحطيم مركّم

في هذه الأبيات الثّلاثة لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو.

قال: فقال: لا، و اللّه ما أحسن و لا أجمل، و لكنّه أهجر و أخطل في صفتهنّ بهذه الصفة، ثم لا يندم على رحيلهن، أ هكذا قال كثيّر حيث يقول:

صوت

تفرّق أهواء الحجيج على منّى *** و صدّعهم شعب النّوى صبح أربع(3)

فريقان: منهم سالك بطن نخلة *** و آخر منهم سالك بطن تضرع(4)

- في هذين البيتين للدلال ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشاميّ و حبش -.

ص: 474


1- ف: «أخبرنا عبد اللّه بن عبيدة».
2- ف: «لا يتكلم».
3- في ف: «منذ أربع». و في «معجم البلدان» 1-853: «إلى منى... مشى أربع».
4- في «معجم البلدان» 1-853: تضرع: جبل لكنانة قرب مكة.

فلم أر دارا مثلها غبطة *** و ملقى إذا التفّ الحجيج بمجمع

أقلّ مقيما راضيا بمكانه *** و أكثر جارا ظاعنا لم يودّع

انظر إليه كيف تقدّمت شهادته علمه و كبا لسانه ببيانه(1)، و هل يغتبط عاقل بمقام لا يرضى به(2)، و لكن مكره أخوك لا بطل، و العرجيّ كان أوفي بالعهد منهما و أولى بالصّواب، حين تعرّض لها نافرة من منّى، فقال لها عاتبا مستكينا:

/عوجي عليّ فسلّمي جبر *** فيم الصّدود و أنتم سفر!

ما نلتقي إلاّ ثلاث منى *** حتى يفرّق بيننا النّفر

في هذين البيتين غناء قد تقدّمت نسبته في أخبار ابن جامع في أوّل الكتاب(3).

أخبرني الحرميّ بن أبي العلاء، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني جعفر بن موسى اللّهبي، قال:

كان عبد الملك بن مروان إذا قدم مكّة أذن للقرشيّين في السّلام عليه، فإذا أراد الخروج لم يأذن لأحد منهم و قال: أكذبنا إذا قول الملحّى - يعني كثيّرا - حيث يقول:

تفرّق أهواء الحجيج على منى *** و صدّعهم شعب النوى صبح أربع

و ذكر الأبيات الأربعة.

خالد صامة يغني شعره بين يدي الوليد بن يزيد
اشارة

أخبرنا عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد، قال: حدّث الزبيريّ، عن خالد صامة، و كان أحد المغنّين قال:

قدمت على الوليد بن يزيد، فدخلت إليه و هو في مجلس ناهيك به، و هو على سرير، و بين يديه معبد و مالك و ابن عائشة و أبو كامل، فجعلوا يغنّون، حتى بلغت النّوبة إليّ فغنّيته:

صوت

سرى همّي و همّ المرء يسري *** و غار النّجم إلا قيس فتر(4)

/أراقب في المجرّة كلّ نجم *** تعرّض للمجرّة كيف يجري

لهمّ ما أزال له مديما *** كأنّ القلب أضرم حرّ جمر(5)

على بكر أخي ولّى حميدا *** و أيّ العيش يصفو بعد بكر!

ص: 475


1- ف: «و كفى لسانه ببيانه».
2- ف: «و جعل يغتبط عاقل بمقام و لا يرضى به».
3- البيتان في الجزء الأول ص 422 (طبع الهيئة المصرية العامة للتأليف و النشر) معزوان للعرجي، و هو يشبب ببجيرة المخزومية زوجة محمد بن هشام و جاء بعدهما بيت ثالث و هو: الحول بعد الحول يجمعنا ما الدهر إلا الحول و الهشر
4- في «رغبة الآمل» 2-238: «و غار النجم إلا قيد فتر». و قيس فتر: مقداره.
5- ف: «قديما» بدل: «مديما». و في «رغبة الآمل» 2-238: «كأن القلب سعر حر جمر».

فقال لي الوليد: أعد يا صام(1)، ففعلت، فقال لي: من يقول هذا الشّعر؟ قلت: عروة(2) بن أذينة يرثي أخاه بكرا. فقال لي: و أيّ العيش لا يصفو بعده هذا العيش و اللّه الذي نحن فيه على رغم أنفه، و اللّه لقد تحجّر واسعا(3).

لابن سريج في هذه الأبيات ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو و ابن المكّيّ و غيرهما و فيها رمل ينسب إلى ابن عباد الكاتب، و إلى حاجب الحزّور(4)، و إلى مسكين بن صدقة.

حدّثنا الأخفش، عن محمد بن يزيد، قال: قال الزّبيري:

حدّثت أن سكينة بنت الحسين عليه السلام أنشدت هذا الشعر فقالت: من بكر هذا؟ أ ليس هو الأسود الدّحداح(5) الذي كان يمرّ بنا؟ قالوا: نعم، فقالت: لقد طاب كلّ شيء بعده حتى الخبز و الزّيت.

اعترض ابن أبي عتيق على شعره في رثاء أخيه فخاصمه

و أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدّثنا أحمد بن سعيد الدّمشقيّ، قال: حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال:

حدثني عمّي، قال:

لقي ابن أبي عتيق عروة بن أذينة فأنشده قوله:

لا بكر لي إذ دعوت بكرا *** و دون بكر ثرى و طين

/حتى فرغ منها، ثم أنشده:

سرى همّي و همّ المرء يسري

حتى بلغ إلى قوله:

و أيّ العيش يصلح بعد بكر!

فقال له ابن أبي عتيق(6): كلّ العيش و اللّه يصلح بعده حتى الخبز و الزيت. فغضب عروة من قوله، و قام عن مجلسه، و حلف ألاّ يكلّمه أبدا، فماتا متهاجرين.

ص: 476


1- ف، مج: «يا أصم».
2- ف: «عمر بن أذينة».
3- تحجر واسعا: ضيّق على نفسه.
4- س: «ينسب إلى أبي عباد الكلب، و إلى صاحب الحرون».
5- الدحداح: القصير.
6- س، مج: «ابن عتيق».

22 - ذكر مخارق و أخباره

اشارة

22 - ذكر مخارق و أخباره(1)

نسبه

هو مخارق بن يحيى بن ناووس الجزّار مولى الرّشيد، و قيل: بل ناووس لقب أبيه يحيى، و يكنى أبا المهنّأ، كناه الرشيد بذلك.

و كان قبله لعاتكة بنت شهدة، و هي من المغنّيات المحسنات المتقدّمات في الضّرب، ذكر ذلك مخارق و اعترف به. و نشأ بالمدينة، و قيل: بل كان منشؤه بالكوفة.

بان طيب صوته فعلمته مولاته الغناء

و كان أبوه جزّارا مملوكا، و كان مخارق و هو صبيّ ينادي على ما يبيعه أبوه(2) من اللحم، فلما بان طيب صوته علّمته مولاته طرفا من الغناء، ثم أرادت بيعه، فاشتراه إبراهيم الموصليّ منها، و أهداه للفضل بن يحيى، فأخذه الرّشيد منه، ثم أعتقه.

اشتراه إبراهيم الموصلي ثم وهبه إلى الفضل بن يحيى ثم صار إلى الرشيد

أخبرني الحسين بن يحيى، قال: قال حمّاد: حدّثني زكريّا مولاهم، و أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ، قال: حدّثني عبيد اللّه بن محمد بن عبد الملك، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن زكريّا مولاهم، قال:

قدمت مولاة مخارق به من الكوفة، فنزلت المخرّم(3)، و صار إبراهيم إلى جدّي الأصبغ بن سنان المقيّن(4)و سيرين(5) بن طرخان النّخّاس، فقالا له: إن/هاهنا امرأة من أهل الكوفة قد قدمت و معها غلام يتغنّى، فأحبّ أن تنفعها فيه، قال: فوجّهني مع مولاته لأحمله، فوجدته متمرّغا في رمل الجزيرة التي بإزاء المخرّم و هو يلعب، فحملته خلفي و أتيت به إبراهيم، فتغنّى بين يديه فقال لها: كم أملك فيه؟ قالت: عشرة آلاف درهم، قال: قد أخذته بها و هو خير منها. فقالت: أقلني، قال: قد فعلت، فكم أملك فيه؟ قالت: عشرون ألفا، قال: قد أخذته بها و هو خير منها. فقالت: و اللّه ما تطيب نفسي أن أمتنع(6) من عشرين ألف درهم بكبد رطبة، فهل لك فيّ خصلة تعطيني به ثلاثين ألف درهم و لا أستقيلك(7) بعدها؟ فقال: قد فعلت و هو خير منها، فصفقت على يده(8) و بايعته، و أمر

ص: 477


1- جاءت هذه الترجمة في الجزء الحادي و العشرين 143-159، و سقطت من طبعة بولاق و موضعها هنا، كما جاءت في نسخة ف و غيرها من النسخ الخطية الموثوقة.
2- ف: «أبو مخارق».
3- المخرم (بكسر الراء): محلة كانت ببغداد بين الرصافة و نهر المعلى منسوبة إلى مخرم بن يزيد بن شريح.
4- المقين من قيّنه تقيينا: زيّنه.
5- في «المختار»: «شيرين بن طرخان». و في مج: «بشر بن طرخان»، و في ما: «ابن طرخان».
6- ف، «المختار»: «و اللّه ما تطيب نفسي أن أمنع كبدا رطبة عشرين ألف درهم».
7- ف: «و لا أستقلك». و استقاله البيع: طلب إليه أن يفسخه.
8- صفقت على يده: ضربت يدها على يده، و ذلك وجوب البيع.

بالمال فأحضر، و أمر بثلاثة آلاف درهم فزيدت عليه، و قال: تكون هذه لهديّة تهدينها أو كسوة تكتسينها، و لا تثلمين المال.

و راح إلى الفضل بن يحيى فقال له: ما خبر غلام بلغني أنك اشتريته؟ قال: هو ما بلغك، قال: فأرنيه، فأحضره، فلما تغنّى بين يدي الفضل قال له: ما أرى فيه الذي رأيت، قال: أنت تريد أن يكون في الغناء مثلي في ساعة واحدة، و لم يكن مثله في الدّنيا و لا يكون أبدا. فقال: بكم تبيعه؟ فقال: اشتريته بثلاثة و ثلاثين ألف درهم، و هو حرّ لوجه اللّه تعالى إن بعته إلا بثلاثة و ثلاثين ألف دينار، فغضب الفضل و قال: إنما أردت أن تمنعنيه أو تجعله سببا لأن تأخذ منّي ثلاثة و ثلاثين ألف دينار، فقال له: أنا أصنع بك خصلة؛ أبيعك نصفه بنصف هذا المال، و أكون شريكك في نصفه و أعلّمه، فإن أعجبك إذا علّمته أتممت لي باقي المال. و إلا بعته بعد ذلك و كان الرّبح بيني و بينك. فقال له الفضل: إنما أردت أن تأخذ منّي المال الذي قدّمت ذكره، فلما لم تقدر على ذلك أردت أن تأخذ نصفه.

/و غضب، فقال له إبراهيم: فأنا أهبه لك، على أنه يساوي ثلاثة و ثلاثين ألف دينار، قال: قد قبلته، قال:

قد وهبته لك، و غدا إبراهيم على الرّشيد، فقال له: يا إبراهيم ما غلام بلغني أنك وهبته للفضل؟ قال: فقلت: غلام يا أمير المؤمنين لم تملك العرب و لا العجم مثله، و لا يكون مثله أبدا، قال: فوجّه إلى الفضل فأمره بإحضاره، فوجّه به إليه فتغنّى بين يديه، فقال لي: كم يساوي؟ قال: قلت: يساوي خراج مصر و ضياعها.

فقال لي: ويلك، أ تدري ما تقول! مبلغ هذا المال كذا و كذا، فقلت: و ما مقدار هذا المال في شيء لم يملك أحد مثله قطّ! قال: فالتفت إلى مسرور الكبير و قال:

قد عرفت يميني ألاّ أسأل أحدا من البرامكة شيئا بعد فنفنة(1)، فقال مسرور: فأنا أمضي إلى الفضل فأستوهبه منه، فإذا وهبه لي و كان عبدي فهو عبدك، فقال له: شأنك. فمضى مسرور إلى الفضل فقال له: قد عرفتم ما وقعتم فيه من أمر فنفنة(1)، و إن منعتموه هذا الغلام قامت القيامة، و استوهبه منه فوهبه له، فبلغ ما رأيت. فكان علّوية إذا غضب على مخارق يقول له - حيث يقول: أنا مولى أمير المؤمنين - متى كنت كذلك؟ إنما أنت عبد الفضل بن يحيى أو مولى مسرور.

سبب تلقيب أبيه بناووس

أخبرني ابن أبي الأزهر، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه قال:

كان مخارق بن ناووس الجزّار؛ و إنما لقّب بناووس لأنه بايع رجلا أنه يمضي إلى ناووس(2) الكوفة فيطبخ فيه قدرا بالليل حتى تنضج، فطرح رهنه بذلك، فدسّ الرجل الذي راهنه رجلا، فألقى نفسه في النّاووس(2) بين الموتى، فلمّا فرغ من الطّبيخ(3)/مدّ الرّجل يده من بين الموتى و قال له: أطعمني، فغرف ملء المغرفة من المرقة فصبّها في يد الرجل فأحرقها، و ضربها بالمغرفة و قال له: اصبر حتى نطعم الأحياء أولا ثم نتفرّغ للموتى، فلقّب بناووس لذلك، فنشأ ابنه مخارق، و كان ينادي عليه إذا باع الجزور، فخرج له صوت عجيب، فاشتراه أبي و أهداه

ص: 478


1- «المختار»، «قنقنة»، و لعله خادم أو جارية.
2- الناووس: مقبرة النصارى.
3- ف، «التجريد»: «فلما فرغ ناووس من طبيخه».

للرّشيد فأمره بتعليمه فعلّمه حتى بلغ المبلغ الذي بلغه.

غنى لرشيد بعد ابن جامع ففاقه

و كان يقف بين يدي الرّشيد مع الغلمان لا يجلس، و يغنّي و هو واقف، فغنّى ابن جامع ذات يوم بين يدي الرّشيد:

كأنّ نيراننا في جنب قلعتهم *** مصبّغات على أرسان قصّار(1)

هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا *** حوائما(2) ترتمي بالنّفط و النّار

فطرب الرشيد و استعاده عدّة مرّات، و هو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة، و أقبل يومئذ على ابن جامع دون غيره، فغمز مخارق إبراهيم بعينه، و تقدّمه إلى الخلاء، فلما جاءه قال له: ما لي أراك منكسرا(3)؟ قال: أما ترى إقبال أمير المؤمنين على ابن جامع بسبب هذا الصوت؟ فقال: قد و اللّه أخذته، فقال له: ويحك إنه الرّشيد، و ابن جامع من تعلم، و لا يمكن معارضته إلا بما يزيد على غنائه، و إلا فهو الموت، و قال: دعني و خلاك ذمّ، و عرّفه أنّي أغنّي به، فإن أحسنت فإليك ينسب، و إن أسأت فإليّ يعود(4). فقال للرّشيد: يا أمير المؤمنين، أراك متعجبا من هذا/الصوت بغير ما يستحقه و أكثر ممّا يستوجبه، فقال: لقد أحسن ابن جامع ما شاء، قال: أو لابن جامع هو؟ قال: نعم، كذا ذكر، قال له: فإن عبدك مخارقا يغنّيه، فنظر إلى مخارق، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: هاته، فغنّاه و تحفّظ فيه، فأتى بالعجائب؛ فطرب الرّشيد حتى كاد يطير فرحا، و شرب، ثم أقبل على ابن جامع فقال له: ويلك، ما هذا! فابتدأ يحلف له بالطّلاق و كلّ محرجة أنّه لم يسمع ذلك الصوت قطّ إلاّ منه، و لا صنعه غيره، و أنها حيلة جرت عليه، فأقبل على إبراهيم و قال: أصدقني بحياتي، فصدقه(5) عن قصّة مخارق، فقال له: أ كذلك هو يا مخارق؟ قال: نعم يا مولاي، فقال: اجلس إذن مع أصحابك، فقد تجاوزت مرتبة من يقوم، و أعتقه و وصله بثلاثة آلاف دينار، و أقطعه ضيعة و منزلا.

كان سبب عتقه و غناه لحنا غناه أمام الرشيد

أخبرني محمد بن خلف وكيع، و حدّثني محمد بن خلف بن المرزبان، قال وكيع: حدّثني هارون بن مخارق، و قال ابن المرزبان: ذكر هارون بن مخارق، قال:

كان أبي إذا غنّى هذا الصوت:

يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا *** زدت الفؤاد على علاّته وصبا(6)

ربع تبدّل ممّن كان يسكنه *** عفر الظّباء و ظلمانا به عصبا(7)

ص: 479


1- المصبغات: الملونات، و الأرسان من الأرض: الحزنة. و القصار: المبيض الثياب.
2- «المختار»: «جواثما». و جاء البيت الثاني في «التجريد» مكان الأول.
3- ف: «ما لي رأيتك مفكرا».
4- «التجريد»، ف: «و إن أسأت فعليّ يعود».
5- «المختار»: «فصدق».
6- ف: «نصبا».
7- العصب: جمع عصبه، و هي الجماعة.

يبكي و يقول: أنا مولى هذا الصّوت، فقلت له: و كيف ذاك يا أبت؟ فقال: غنّيته مولاي الرّشيد فبكى و شرب عليه رطلا، ثمّ قال: أحسنت يا مخارق فسلني حاجتك، فقلت: أن تعتقني يا أمير المؤمنين أعتقك اللّه من/النّار، فقال: أنت حرّ لوجه اللّه، فأعد الصوت، فأعدته فبكى و شرب رطلا ثم قال: أحسنت يا مخارق فسلني حاجتك، فقلت: ضيعة تقيمني غلّتها، قال: قد أمرت لك بها، أعد الصوت، فأعدته فبكى و قال: سل حاجتك، فقلت:

يا أمير المؤمنين تأمر لي بمنزل و فرش و خادم، قال: ذلك لك، أعد الصّوت، فأعدته، فبكى و قال: سل حاجتك، فقبّلت الأرض بين يديه و قلت: حاجتي أن يطيل اللّه بقاءك و يديم عزّك و يجعلني من كلّ سوء فداءك، فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاي.

المأمون يسأل إسحاق عنه و عن إبراهيم بن المهدي و ذكر محمد بن الحسن الكاتب أنّ أبان بن سعيد حدّثه:

المأمون يسأل إسحاق عنه و عن إبراهيم بن المهدي(1) و ذكر محمد بن الحسن الكاتب أنّ أبان بن سعيد حدّثه:

أنّ المأمون سأل إسحاق، عن إبراهيم بن المهديّ و مخارق فقال: يا أمير المؤمنين إذا تغنّى إبراهيم بن المهديّ بعلمه فضل مخارقا، و إذا تغنّى مخارق بطبعه و فضل صوته فضل إبراهيم، فقال له: صدقت(1).

أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا المبرد بهذا الخبر فقال: حدّثني بعض حاشية السلطان:

أنّ إبراهيم الموصليّ غنّى الرّشيد يوما هذا الصوت فأعجب به و طرب له و استعاده مرارا، فقال له: فكيف لو سمعته من عبدك مخارق، فإنّه أخذه عنّي و هو يفضل فيه الخلق جميعا و يفضلني، فدعا بمخارق فأمره أن يغنّيه، و ذكر باقي الخبر مثل الذي تقدّم.

كناه الرشيد أبا لنهنأ لإحسانه في الغناء

أخبرني الحسن بن عليّ، قال: حدثنا ابن أبي الدّنيا، عن إسحاق بن محمد النّخعيّ، عن الحسين بن الضّحّاك، عن مخارق:

أن الرّشيد قال يوما للمغنّين و هو مصطبح، من منكم يغنّي(2):

يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا

/فقمت فقلت: أنا يا أمير المؤمنين، فقال: هاته، فغنّيته، فطرب و شرب ثم قال: عليّ بهرثمة بن أعين، فقلت في نفسي: ما يريد منه؟ فجاءوا بهرثمة، فأدخل إليه و هو يجرّ سيفه، فقال له: يا هرثمة، مخارق الشّاري(3)الذي قتلناه بناحية الموصل ما كانت كنيته؟ فقال: أبو المهنّأ، فقال: انصرف، فانصرف، ثم أقبل عليّ و قال: قد كنيتك أبا المهنأ لإحسانك، و أمر لي بمائة ألف درهم، فانصرفت بها و بالكنية.

الواثق يعذر غلمانه حين تركوا قصره و ذهبوا لسماع غنائه

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني عليّ بن محمد بن نصر البسّاميّ، قال: حدّثني خالي أبو عبد اللّه بن حمدون، قال:

ص: 480


1- - (1) هذا الخبر ساقط من ف.
2- ف: «يغنيني».
3- الشاري: من يبيع نفسه في طاعة اللّه، واحد الشراة. و الشراة: فرقة من الخوارج.

رحنا إلى الواثق و أمّه عليلة، فلمّا صلّى المغرب دخل إلى أمه، و أمر بألاّ نبرح، و كان في الصّحن حصر غير مفروشة. فقال لي مخارق: امض بنا حتى نفرش(1) حصيرا من هذه الحصر فنجلس على بعضه و نتّكئ على المدرّج منه، و كانت ليلة مقمرة، فمضينا ففرشنا بعض تلك الحصر، و استلقينا و تحدثنا، و أبطأ الواثق عند أمّه، فاندفع مخارق فغنّى:

أيا بيت ليلى إنّ ليلى عربية *** براذان لا خال لديها و لا ابن عم(2)

فاجتمع علينا الغلمان و خرج الواثق فصاح: يا غلام، فلم يجبه أحد، و مشى من المجلس إلى أن توسّط الدّار، فلما رأيته بادرت إليه، فقال: /لي: ويلك، هل حدث في داري شيء؟(3) فقلت: لا يا سيّدي، فقال:

فما لي أصيح فلا أجاب!(3) فقلت: مخارق يغنّي و الغلمان قد اجتمعوا عليه، فليس فيهم فضل لسماع غير ما يسمعونه منه، فقال: عذر و اللّه لهم يا ابن حمدون، و أيّ عذر! ثم جلس و جلسنا بين يديه إلى السّحر.

إبراهيم الموصلي يعرف جودة طبعه فيخصه بالتعليم

و ذكر هارون بن محمد بن عبد الملك أنّ مخارقا كان ينادي على اللّحم الذي يبيعه أبوه، فيسمع له صوت عجيب، فاشترته عاتكة بنت شهدة و علّمته شيئا من الغناء ليس بالكثير، ثم باعته من آل الزّبير، فأخذه منهم الرّشيد و سلمه إلى إبراهيم الموصليّ، فأخذ عنه، و كان إبراهيم يقدّمه و يؤثره و يخصّه بالتّعليم لما تبيّنه منه و من جودة طبعه.

كان عبدا لعاتكة بنت شهدة الحاذقة بالغناء

أخبرني عليّ بن عبد العزيز الكاتب قال: حدّثني ابن خرداذبه قال:

كان مخارق بن يحيى بن ناووس الجزّار، و كان عبدا لعاتكة بنت شهدة، و كانت عاتكة أحذق الناس بالغناء، و كان ابن جامع يلوذ منها بالتّرجيع(3) الكثير، فتقول له: أين يذهب بك؟ هلمّ إلى معظم الغناء و دعني من جنونك، قال: فحدّثني من حضرهما أنّ عاتكة أفرطت يوما في الردّ على ابن جامع بحضرة الرّشيد، فقال لها: أي أمّ العبّاس، أنا - يشهد اللّه - أحبّ (4) أن تحتك شعرتي بشعرتك، فقالت له: اسكت قطع اللّه لسانك، و لم تعاود بعد ذلك أذيّته، قال: و كانت شهدة أمّ عاتكة نائحة. هكذا ذكر ابن خرداذبه، و ليس الأمر في ذلك كما ذكره.

محمد بن داود يغني الرشيد بلحن أخذه عن شهدة فيفوق المغنين
اشارة

حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ، قال: حدّثنا الغلابيّ، قال: حدّثني عليّ/بن محمد النّوفليّ عن عبد اللّه بن

ص: 481


1- في س، ف: «نبسط حصيرا».
2- راذان «بعد الألف ذال معجمة» الأسفل، و راذان الأعلى: كورتان بسواد بغداد تشتملان على قرى كثيرة، و أورد ياقوت في «معجمه» 2-730 البيت بعد قوله: و قال مرّة بن عبد اللّه النهدي في راذان المدينة، و جاء بعده البيتان: و يا بيت ليلى لو شهدتك أعولت عليك رجال من فصيح و من عجم و يا بيت ليلى لا يبست و لا تزل بلادك يسقيها من الواكف الدّيم و في ف: «بداران» بدل «براذان». (3-3) ساقط من ف.
3- رجع صوته، و فيه: ردده في حلقه.
4- ف: «أشتهي».

العبّاس الرّبيعيّ، أنّه كان هو و ابن جامع و إبراهيم الموصليّ و إسماعيل بن عليّ عند الرّشيد، و معهم محمد بن داود بن عليّ، فغنّى المغنّون جميعا، ثم اندفع محمد بن داود فغنّاه:

صوت

أمّ الوليد سلمتني حلمي *** و قتلتني فتحلّلي إثمي(1)

باللّه يا أمّ الوليد أ ما *** تخشين فيّ عواقب الظّلم!

و تركتني أبغي الطّبيب و ما *** لطبيبنا بالدّاء من علم(2)

قال: فاستحسنه الرّشيد و كلّ من حضر و طروا له، فسأله الرّشيد: عمّن أخذته، فقال: أخذته عن شهدة جارية الوليد بن يزيد، قال عبد اللّه بن العبّاس، و هي أمّ عاتكة بنت شهدة.

الأبيات المذكورة التي فيها الغناء لعبيد اللّه بن قيس الرّقيّات، و تمامها:

للّه درّك في ابن عمّك قد *** زوّدته سقما على سقم

في وجهها ماء الشّباب و لم *** تقبل بمكروه و لا جهم(3)

و الغناء فيه لابن محرز لحنان، كلاهما له، أحدهما ثقيل الأوّل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق، و الآخر خفيف ثقيل الأول بالبنصر عن/عمرو بن بانة، و فيه لمالك ثاني ثقيل عن الهشاميّ و حبش، و فيه لسليمان خفيف رمل بالبنصر عنهما، و ثقيل أوّل للحسين بن محرز.

الواثق يوازن بين جماعة من المغنين و يذكر أثر غناء مخارق

و قال هارون بن محمد بن عبد الملك الزّيات، قال أبي:

قال الواثق أمير المؤمنين: خطأ مخارق كصواب علّوية، و خطأ إسحاق كصواب مخارق، و ما غنّاني مخارق قطّ إلا قدّرت أنّه من قلبي خلق، و لا غنّاني إسحاق إلا ظننت أنه قد زيد في ملكي ملك آخر.

قال: و كان يقول: أ تريدون أن تنظروا فضل مخارق على جميع أصحابه: انظروا إلى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السّماط. فكانوا يتفقّدونهم و هم وقوف، فكلهم يسمع الغناء من المغنين جميعا و هو واقف مكانه ضابط لنفسه، فإذا تغنّى مخارق خرجوا عن صورهم فتحرّكت أرجلهم و مناكبهم، و بانت أسباب الطّرب فيهم، و ازدحموا على الحبل الذي يقفون من ورائه.

يستوقف الناس بحسن صوته في الأذان

قال هارون: و حدّثت أنه خرج مرّة إلى باب الكناسة بمدينة السّلام، و النّاس يرتحلون(4) للخروج إلى مكة،

ص: 482


1- تحللي إثمي: أبيحيه أو اجعليه حلالا. و في «الديوان» - 149 ط. بيروت: «فتحملي إثمي»، و في ف: «فتجللي».
2- في «الديوان» - 149: باللّه يا أم البنين أ لم تخشي عليك عواقب الإثم و تركتني أدعو الطبيب و ما لطبيبكم بالداء من علم
3- في «الديوان» - 150: «و بوجهها ماء الشباب و لم... تقبل بملعون و لا جهم». و الجهم: الاستقبال بوجه كريه.
4- ف، مج: «يترحلون». و في ما: «يرحلون».

فنظر إليهم و اجتماعهم و ازدحامهم(1)، فقال لأصحابه الذين خرجوا معه: قد جاء في الخبر أنّ ابن سريج كان يتغنّى في أيّام الحجّ، و النّاس بمنى فيستوقفهم بغنائه، و سأستوقف لكم هؤلاء الناس و أستلهيهم جميعا، لتعلموا أنه لم يكن ليفضلني إلا بصنعته دون صوته، ثم اندفع يؤذّن، فاستوقف أولئك الخلق و استلهاهم، حتى جعلت المحامل يغشى بعضها بعضا، و هو كالأعمى عنها لما خامر قلبه من الطّرب لحسن ما يسمع.

أبو العتاهية يعجب بغنائه إعجابا شديدا

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة، قال: حدثني ابن أخت الحاركيّ و أبو سعيد/الرّامهرمزيّ، و أخبرني عليّ بن سليمان الأخفش، قال: حدّثنا محمد بن يزيد الأزديّ (2)، عن أحمد بن عيسى الجلوديّ عن محمد بن سعيد التّرمذيّ - و كان إسحاق إذا ذكر محمدا وصفه بحسن الصّوت، ثم قال: قد أفلتنا منه، فلو كان يغنّي لتقدّمنا جميعا بصوته - قالوا:

جاء أبو العتاهية إلى باب مخارق فطرقه و استفتح(3)، فإذا مخارق قد خرج إليه، فقال له أبو العتاهية:

يا حسّان(4) هذا الإقليم، يا حكيم أرض بابل، اصبب في أذني شيئا يفرح به قلبي، و تنعم به نفسي، فقال: انزلوا، فنزلنا، فغنّانا، قال محمد بن سعيد: فكدت أسعى على وجهي طربا. قال: و جعل أبو العتاهية يبكي، ثم قال له:

يا دواء المجانين لقد رقّقت حتّى كدت أحسوك، فلو كان الغناء طعاما لكان غناؤك أدما، و لو كان شرابا لكان ماء الحياة.

أبو العتاهية يشتهي سماعه حين حضرته الوفاة

نسخت من كتاب ابن أبي الدّنيا، حدّثني بعض خدم السّلطان، قال:

قال رجل لأبي العتاهية و قد حضرته الوفاة: هل في نفسك شيء تشتهيه؟ قال: أن يحضر مخارق الساعة فيغنّيني:

سيعرض عن ذكري و تنسى مودّتي(5) *** و يحدث بعدي للخليل خليل

إذا ما انقضت عنّي من الدهر مدّتي *** فإن غناء الباكيات قليل

سأل أبا العتاهية عن شعره في تبخيل الناس

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا محمد بن عليّ بن حمزة العلويّ، قال: حدّثنا علي بن الحسين بن الأعرابيّ، قال:

لقي مخارق أبا العتاهية، فقال له: يا أبا إسحاق، أ أنت القائل:

/اصرف بطرفك حيث شئ *** ت فلن ترى إلاّ بخيلا

قال له: نعم. قال: بخّلت الناس جميعا، قال: فاصرف بطرفك يا أبا المهنّأ فانظر فإنّك لن ترى إلاّ بخيلا،

ص: 483


1- س: «فنظر إلى كثرتهم و اجتماعهم و ازدحامهم».
2- س: «محمد بن يزيد المبرد الأزدي».
3- ف: «إلى باب مخارق و استفتح».
4- حسن الشيء: جمل، فهو حاسن و حسن و حسين و حسّان.
5- ف، «المختار»: «ستعرض عن ذكري و تنسى مودتي» بالبناء للفاعل.

و إلا فأكذبني بجواد واحد، فالتفت مخارق يمينا و شمالا ثم أقبل عليه فقال: صدقت يا أبا إسحاق، فقال له أبو العتاهية: فديتك، لو كنت ممّا يشرب لذررت على الماء و شربت.

غنّى بين قبرين فترك الناس أعمالهم و التفوا حوله

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ، قال: حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني بعض آل نوبخت، قال:

كان أبي و عبد اللّه بن أبي سهل و جماعة من آل نوبخت و غيرهم وقوفا بكناسة الدّوابّ في الجانب الغربيّ من بغداد يتحدّثون، فإنهم لكذلك إذ أقبل مخارق على حمار أسود، و عليه قميص رقيق و رداء مسهّم(1)، قال: فيم كنتم؟ فأخبروه، فقال: دعوني من وسواسكم هذا، أيّ شيء لي عليكم إن رميت بنفسي بين قبرين من هذه القبور و غطّيت وجهي و غنّيت صوتا، فلم يبق أحد بهذه الكناسة و لا في الطّريق من مشتر و لا بائع و لا صادر و لا وارد إلا ترك عمله و قرب منّي و اتّبع صوتي؟ فقال له عبد اللّه: إنّي لأحبّ أن أرى هذا، فقل ما شئت، فقال: فرسك الأشقر الذي طلبته منك فمنعتنيه، قال: هو لك إن فعلت ما قلت، ثمّ دخلها و رمى بنفسه بين قبرين و تغطّى بردائه، ثمّ اندفع يغنّي فغنّى في شعر أبي العتاهية:

نادت بوشك رحيلك الأيام *** أ فلست تسمع أم بك استصمام!

/قال: فرأيت الناس يتقوّضون إلى المقبرة أرسالا(2) من بين راكب و راجل و صاحب شول و صاحب جدي(3) و مارّ بالطريق، حتى لم يبق بالطريق أحد، ثم قال لنا من تحت ردائه: هل بقي أحد؟ قلنا: لا، و قد وجب الرّهن، فقام فركب حماره، و عاد النّاس إلى صنائعهم، فقال لعبد اللّه: أحضر الفرس، فقال: على أن تقيم اليوم عندي، قال: نعم، فانصرفنا معهما، و سلّم الفرس إليه و برّه و أحسن إليه و أحسن رفده.

نسبة هذا الصوت
صوت

نادت بوشك رحيلك الأيّام *** أ فلست تسمع أم بك استصمام!

و مضى أمامك من رأيت و أنت لل *** باقين(4) حتّى يلحقوك إمام

ما لي أراك كأنّ عينك لا ترى *** عبرا(5) تمرّ كأنّهنّ سهام

تمضي الخطوب و أنت منتبه لها *** فإذا مضت فكأنّها أحلام

الشّعر لأبي العتاهية، و الغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى، و فيه لمخارق هزج بالوسطى، كلاهما عن عمرو، و فيه رمل يقال: إنه لعلّويه، و يقال: إنه لمخارق عن الهشاميّ.

ص: 484


1- سهّم الثوب: صور فيه سهاما؛ فهو مسهّم.
2- يتقوضون: يجيئون و يذهبون، و في «المختار»: «ينفضون». و الأرسال جمع رسل: الجماعة من الناس.
3- ما، «المختار»: «و صاحب شوك و صاحب كرى». و الشول جمع شائلة على غير قياس، و هي من الإبل: التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها.
4- ف: «و أنت في الباقين».
5- ف: «عيرا».
بكى أبو العتاهية حين سمع جارية تغني لحنا لمخارق في شعر له
اشارة

أخبرني جحظة، قال: ذكر ابن المكّيّ المرتجل عن أبيه:

أنّ أبا العتاهية دخل يوما إلى صديق له و عنده جارية تغنّي، فقال: /أبا إسحاق إن هذه الجارية تغنّي صوتا حسنا في شعر لك، أ فتنشط إلى سماعه؟ قال: هاتيه، فغنّته لحنا لعمرو بن بانة في قوله:

نادت بوشك رحيلك الأيّام

فعبس و بسر و قال: لا جزى اللّه خيرا من صنع هذه الصّنعة في شعري، قال: فإنّها تغنّي فيه لحنا لمخارق، قال: فلتغنّه فغنّته، فأعجبه و طرب حتى بكى ثم قال: جزى اللّه هذا عنّي خيرا، و قام فانصرف.

و قد روى هذا الخبر هارون بن الزّيات، عن حمّاد بن إسحاق عن أبيه، عن غزوان: أنه كان و عبيد اللّه بن أبي غسّان، و أبو العتاهية، و محمد بن عمرو الرّوميّ، عند ابن أبي مريم(1) و معهم مغنّية يقال لها بنت إبليس، فغنّى عبيد اللّه بن أبي غسّان في لحن مخارق:

نادت بوشك رحيلك الأيّام

فلم يستحسنه أبو العتاهية، ثمّ غنّى فيه لحنا لإبراهيم بن المهديّ فأطربه، و قال: جزى اللّه عنّي هذا خيرا.

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: بلغني أنّ المتوكل دخل إلى جارية من جواريه و هي تغنّي:

صوت

أ من قطر النّدى نظّم *** ت ثغرك أم من البرد!

و ريقك من سلاف الكر *** م أم من صفوة الشّهد!

أيا من قد جرى منّي *** كمجرى الرّوح في الجسد(2)

ضميرك شاهدي فيما *** أقاسيه من الكمد

/و الغناء لمخارق رمل، فقال لها: ويحك، لمن هذا الغناء؟ فقالت: أخذته من مخارق، قال: فألقيه على الجواري جميعا، ففعلت، فلما أخذنه عنها أمر بإخراجهنّ إليه، و دعا بالنّبيذ، و أمر بألاّ يغنّينه غيره ثلاثة أيام متوالية، و كان ذلك بعد وفاة مخارق.

أدخل أبا المضاء الأسدي بيته و سقاه و غنّاه و كساه فقال فيه شعرا

و أخبرنا إسماعيل بن يونس الشّيعيّ، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، قال: قال عمر بن نوح بن جرير:

سألت أبا المضاء الأسديّ أن ينشدني فقال: أنشدك من شعري شيئا، قلته لرجل لقيته على الجسر ببغداد، فأعجبه مني ما يرى من دماثتي، و أقبلت أحدّثه و هو ينصت لي، و أنشده و هو يحسن الإصغاء إلى إنشادي، و يحدّثني فيحسن الحديث، حتى بلغنا منزله، فأدخلني فغدّاني ثم لم يرم حتى كساني و سقاني فروّاني، ثم أسمعني و اللّه شيئا

ص: 485


1- ف: «عند ابن أبي موسى».
2- ف: «في جسدي».

ما طار في مسامعي شيء قطّ أحسن منه، فلما خرجت سألت عنه، فقال لي غلمانه: هذا أبو المهنّأ مخارق، فقلت فيه:

أعاد اللّه يوم أبي المهنّأ *** علينا إنّه يوم نضير(1)

تغيّب نحسه عنّا و أرخى *** علينا وابل جود(2) مطير

فلمّا أن رأيت القطر فوقي *** و أقداحا يحثّ بها المدير

و أسعدنا بصوت لو وعاه *** وليّ العهد خفّ به السّرير(3)

تذكّرت الحبيب و أهل نجد *** و روضا نبته غضّ نضير

قال: فقلت له: و لم ذكرت نجدا مع ما كنت فيه؟ و كان ينبغي لك أن تنساه، قال: كلاّ، إنّ المرء إذا كان فيما يحبّ تذكّر أهله، قلت: فما غنّاك؟ قال: غنّاني:

/و ما روضة جاد الرّبيع بهطله *** عليها فروّاها و رقّت غصونها

و هبّت عليها الرّيح حتى تبسّمت *** و حتى بدت فوق الغصون عيونها

بأحسن منها إذ بدت وسط مجلس *** و في يدها عود فصيح يزينها

و قد أنطقته و الشّمال جريّة *** على عقد ما تلقي عليها يمينها(4)

قال: فلم يزل يردّده عليّ حتى قضيت و طري من لذّتي، و حفظته عنه.

غنى لإبراهيم الموصلي فجرت دموعه و نشج أحرّ نشيج

أخبرني جحظة، قال: حدّثني حمّاد بن إسحاق، عن أبيه قال:

دخلت على جدّك إبراهيم و هو جالس بين بابين له، و مخارق بين يديه يغنّيه:

يا ربع بشرة إن أضرّ بك البلى *** فلقد رأيتك آهلا معمورا

قال: و اللّحن الذي كان يغنّيه لمالك، و فيه عدّة ألحان مشتركة، فرأيت دموع أبي تجري عمى خدّيه من أربعة أماكن و هو ينشج أحرّ نشيج(5)، فلمّا رآني قال: يا إسحاق هذا و اللّه صاحب اللواء غدا إن مات أبوك.

رأى رؤيا فسّرها إبراهيم الموصلي بأن إبليس قد عقد له لواء صنعة الغناء
اشارة

أخبرني الحسن بن عليّ الخفّاف، قال: حدّثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني هارون بن مخارق، عن أبيه، قال:

رأيت و أنا حدث كأنّ شيخا جالسا على سرير في روضة حسنة قد دعاني، فقال لي: غنّني يا مخارق، فقلت:

أ صوتا تقترحه أم ما حضر؟ فقال: ما حضر، فغنّيته بصنعتي في:

ص: 486


1- ف: «يوم قصير».
2- الجود: المطر الغزير، و قد يأتي وصفا كما ورد في البيت.
3- في: «حف به السرور».
4- ف: «ما تلقى عليه يمينها»، و الشمال: الريح التي تهب من جهة الشمال و تقابل الجنوب. و الجرية: الوكيلة.
5- نشج الباكي نشيجا: غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.
صوت

دعي القلب لا يزدد خبالا مع الذي *** به منك أو داوي جواه المكتّما

و ليس بتزويق اللسان و صوغه *** و لكنّه قد خالط اللّحم و الدّما

/و لحن مخارق فيه ثقيل أول، و فيه لابن سريج رمل.

قال: فقال لي: أحسنت يا مخارق، ثم أخذ وترا من أوتار العود فلفّه على المضراب، و دفعه إليّ، فجعل المضراب يطول و يغلظ، و الوتر ينتشر و يعرض حتى صار المضراب كالرّمح، و الوتر كالعذبة عليه، و صار في يدي علما، ثم انتبهت فحدّثت برؤياي إبراهيم الموصليّ، فقال لي: الشّيخ، بلا شك، إبليس، و قد عقد لك لواء صنعتك، فأنت ما حييت رئيس أهلها.

قال مؤلّف هذا الكتاب: و أظنّ أنّ الشاعر الذي مدح مخارقا إنما عنى هذه الرؤيا بقوله:

لقد عقد الشّيخ الذي غرّ آدما *** و أخرجه من جنة و حدائق

لوائي فنون للقريض و للغناء *** و أقسم لا يعطيهما غير حاذق

أرسل الواثق جواريه إلى بيته ليصحح لهن صوتا

و ذكر محمد بن الحسن الكاتب، أنّ هارون بن مخارق حدّثه فقال:

كان الواثق شديد الشّغف بأبي، و كان قد اقتطعه عنّا، و أمر له بحجرة في قصره، و جعل له يوما في الأسبوع لنوبته في منزله، و كان جواريه يختلفن(1) لذلك اليوم، قال: فانصرف إلينا مرّة في نوبته فصلّى الغداة مع الفجر على أسرّة في صحن الدّار في يوم صائف و جلس يسبّح، فما راعنا إلا خدم بيض قد دخلوا فسلّموا عليه و قالوا:

إن أمير المؤمنين قد دعا بنا في هذه الساعة، فأعدنا عليه الصوت الذي طرحته علينا فلم يرضه من أحد منا، و أمرنا بالمصير إليك لنصحّحه عليك، قال: فأمر غلمانه فطرحوا لهم عدّة كراسيّ فجلسوا عليها، ثم قال لهم:

ردّوا الصوت، فردّوه، فلم يرضه من أحد منهم، فدعا بجاريته عميم، فردّته عليهم، فلم يرضه منها، قال:

/فتحوّل إليهم ثم اندفع فردّ الصوت على الخدم، فخرج الوصائف من حجر جواريه حتى وقفن حوالي الأسرّة، و دخل غلام من غلمانه و كان يستقي الماء، فهجم على الصّحن بدلوه، و جاءت جارية على كتفها جرّة من جرار المزمّلات(2)، حتى وقفت بالقرب منه، قال: و سبقتني عيناي فما كففت دموعها(3) حتى فاضت.

ثمّ قطع الصوت حين استوفاه، فرجع الوصائف الأصاغر سعيا إلى حجر الجواري، و خرج الغلام السّقّاء يشتدّ إلى بغلة، و رجعت الجارية الحاملة الجرة المزمّلة شدّا إلى الموضع الذي خرجت منه، فتبسّم أبي و قال: ما شأنك يا هارون؟ فقلت: يا أبت جعلني اللّه فداءك، ما ملكت عيني، قال: و أبوك أيضا لم يملك عينه.

نام في بيت إبراهيم بن المهدي و هو يغني ثم انتبه و أكمل الغناء

و ذكر هارون بن الزّيات عن أصحابه قال:

ص: 487


1- في ما، ف: «يحتففن».
2- المزملات: جمع مزمّلة؛ و هي الجرة يبرد فيها الماء، و في وسطها ثقب فيه قصبة من الفضة أو الرصاص يشرب منها (عراقية).
3- ف: «دموعهما».

جمع إبراهيم بن المهديّ المغنّين ذات يوم في منزله، فأقاموا، فلمّا دخلوا في الليل ثمل مخارق و سكر سكرا شديدا، فسألوه أن يغني صوتا، فغنّى هذا البيت من شعر عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ:

قال: ساروا و أمعنوا و استقلّوا *** و برغمي لو استطعت سبيلا

فانتهى منه إلى قوله: و استقلوا. و انثنى نائما، فقال إبراهيم بن المهديّ: مهّدوه(1) و لا تزعجوه، فمهّدوه و نام، حتى مضى أكثر الليل، ثم استقلّ من نومه فانتبه و هو يغني تمام البيت:

و برغمي لو استطعت سبيلا

(2) و هو تمام البيت من حيث قطعه و سكت عليه من صوته(2).

/قال: فجعل إبراهيم يتعجّب منه، و يعجب منه من حضره، من جودة طبعه و ذكائه و صحّة فهمه.

محمد بن الحسن بن مصعب يسأل إسحاق عنه و عن إبراهيم بن المهدي: أيهما أحذق غناء

حدثنا يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، قال: قال محمد بن الحسن بن مصعب:

قلت لإسحاق يوما: أسألك باللّه إلاّ صدقتني في مخارق و إبراهيم بن المهديّ، أيهما أحذق و أحسن غناء؟ فقال لي إسحاق: أ جادّ أنت؟ و اللّه ما تقاربا قطّ، و الدّليل على فضل مخارق عليه أنّ إبراهيم لا يؤدّي صوتا قديما ثقيلا جيّدا أبدا و لا يستوفيه، و إنما يغنّي الأهزاج و الغناء الخفيف، و أمّا الذي فيه عمل شديد فلا يصيبه.

طلب منه سعيد بن سلم الغناء في شعر ضعيف

أخبرني يحيى، قال: حدّثنا أبو أيّوب المدينيّ، قال: حدثني بعض ولد سعيد بن سلم، قال:

دخل مخارق على سعيد بن سلم فسأله حاجة، فلما خرج قيل له: أ ما تعرف هذا؟ هذا مخارق، فقال:

ويحكم! دخل و لم نعرفه، و خرج و لم نعرفه، ردّوه، فردّوه، فقال له: دخلت علينا و لم نعرفك، فلمّا عرفناك(2)أحببنا ألاّ تخرج حتى نسمعك، فقال له: أيّ شيء تشتهي أن أسمعك؟ فقال:

يا ريح ما تصنعين بالدّمن(3) *** كم لك من محو منظر حسن!

فغنّاه مخارق، فلمّا خرج قال لبعض بنيه: أبوكم هذا نكس(4) يتشهّى على مثلي:

يا ريح ما تصنعين بالدّمن

/أخبرنا يحيى بن عليّ، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، قال: حدّثني عمّي محمد، قال:

سمعت أبي يقول و قد غنّى مخارق: نعم الفسيلة(5) غرس إبليس في الأرض.

ص: 488


1- مهدوء: مكنوه من النوم. (2-2) التكملة من ف.
2- ف: «عرفنا».
3- الدمن جمع دمنة، و هي آثار الدار.
4- النكس: الضعيف الذي لا خير فيه.
5- الفسيلة: جزء من النبات يفصل عنه و يغرس، أو النخلة الصغيرة تقطع من الأم أو تقلع من الأرض فتغرس.
جارية تغني صوتا له بحضرته فتحسن

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثني محمد بن محمد، قال:

سمع محمد بن سعيد القارئ مهديّة جارية يعقوب بن السّاحر تغني صوتا لمخارق بحضرته، و قد كانت أخذته عنه و هو:

ما لقلبي يزداد في اللهو غيّا *** و الليالي قد أنضجتني كيّا

سهلت بعدك الحوادث حتّى *** لست أخشى و لا أحاذر شيّا

فأحسنت فيه ما شاءت، و انصرف محمد بن سعيد، و قرأ على لحنه: يٰا يَحْيىٰ خُذِ الْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ (1).

قصة رجل حلف بالطلاق أن يسمعه ثلاث مرات
اشارة

حدّثني عمّي، قال: حدثنا عبد اللّه، قال: حدثني محمد، قال:

كنت عند مخارق أنا و هارون بن أحمد بن هشام، فلعب مع هارون بالنّرد فقمره مخارق مائتي رطل باقلا طريّا، فقال مخارق: و أنتم عندي أطعمكم من لحم جزور من الصناعة، يعني من صناعة أبيه يحيى بن ناووس الجزّار.

قال: و مرّ بهارون بن أحمد فصيل ينادى عليه، فاشتراه بأربعة دنانير، و وجّه به إلى مخارق، و قال: يكون ما تطعمنا من هذا الفصيل، فاجتمعنا و طبخ مخارق بيده جزوريّة، و عمل من سنامه و كبده و لحمه غضائر(2) شويت في التّنّور، و عمل من لحمه لونا يشبه الهريسة بشعير مقشّر(3) في نهاية الطّيب، فأكلنا و جلسنا نشرب، فإذا نحن بامرأة تصيح من الشّطّ: /يا أبا المهنّأ، اللّه اللّه فيّ، حلف زوجي عليّ بالطّلاق أن يسمع غناءك و يشرب عليه، فقال: اذهبي و جيئي به، فجاء فجلس، فقال له: ما حملك على ما صنعت، فقال له: يا سيّدي، كنت سمعت صوتا من صنعتك فطربت عليه حتى استخفّني الطّرب، فحلفت أن أسمعه منك ثقة بإيجابك حقّ زوجتي، و كانت زوجته داية هارون بن مخارق. فقال: و ما هو الصوت؟ فقال:

صوت

بكرت عليّ فهيّجت وجدا *** هوج(4) الرّياح و أذكرت نجدا

أ تحنّ من شوق إذا ذكرت *** نجد و أنت تركتها عمدا

الشعر لحسين بن مطير، و الغناء لمخارق ثقيل أول، و فيه لإسحاق ثقيل أول آخر، فغنّاه إياه و سقاه رطلا، و أمره بالانصراف، و نهاه أن يعاود، و خرج. فما لبثنا أن عادت المرأة تصرخ: اللّه اللّه فيّ يا أبا المهنّأ، قد أعاد زوجي المشئوم اليمين أنك تغنّيه صوتا آخر، فقال لها: أحضريه، فأحضرته أيضا، فقال له: ويلك، ما لي و لك! أيّ شيء قصّتك(5)! فقال له: يا سيّدي أنا رجل طروب، و كنت قد سمعت صوتا لك آخر فاستفزّني الطّرب إلى أن

ص: 489


1- مريم/ 12.
2- ف، ما: «ضفائر». و الغضائر: القطع.
3- ف: «مقشور».
4- الهوج: جمع هوجاء، و هي الرياح المتداركة الهبوب كأن بها هوجا.
5- س: «أيش قصتك»!.

حلفت بالطلاق ثلاثا أنّي أسمعه منك، قال: و ما هو؟ قال لحنك:

أبلغ سلامة أنّ البين قد أفدا(1) *** و أنّ صحبك عنها رائحون غدا

هذا الفراق يقينا إن صبرت له *** أو لا فإنّك منها ميّت كمدا

لا شكّ أنّ الذي بي سوف يهلكني *** إن كان أهلك حبّ قبله أحدا

/فغنّاه إيّاه مخارق و سقاه رطلا، و قال له: احذر ويلك أن تعاود، فانصرف. و لم تلبث أن عاودت الصّياح تصرخ: يا سيّدي، قد عاود اليمين ثلاثة، اللّه اللّه فيّ و في أولادي، قال: هاتيه، فأحضرته، فقال لها: انصرفي أنت، فإن هذا كلما انصرف حلف و عاد، فدعيه يقيم يومه كلّه، فتركته و انصرفت، فقال له مخارق: ما قصّتك أيضا؟ قال:

قد عرّفتك يا سيّدي أنّني رجل طروب، و كنت سمعت صوتا من صنعتك فاستخفّني الطّرب له فحلفت أنّي أسمعه منك، قال: و ما هو؟ قال:

ألف الظّبي بعادي *** و نفى الهمّ رقادي

و عدا الهجر على الوص *** ل بأسياف حداد

قل لمن زيّف ودّي: *** لست أهلا لودادي

قال: فغنّاه إيّاه و سقاه رطلا، ثم قال: يا غلام، مقارع، فجيء بها، فأمر به فبطح، و أمر بضربه فضرب خمسين مقرعة، و هو يستغيث فلا يكلّمه، ثم قال له: احلف بالطّلاق أنك لا تذكرني أبدا، و إلاّ كان هذا دأبك إلى الليل، فحلف بالطّلاق ثلاثا على ما أمره به، ثمّ أقيم فأخرج عن الدار، فجعلنا نضحك بقيّة يومنا من حمقه.

أشرف من بيته على القبور و غنى باكيا

أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، قال: حدّثنا أحمد بن محمد، قال: حدّثني إسحاق بن عمر بن بزيع، قال:

أتيت مخارقا ذات يوم و معي زرزور الكبير لنقيم عنده، فوجدته قد أخرج رأسه من جناح له، و هو مشرف على المقابر يغنّي هذا البيت و يبكي:

أين الملوك التي كانت مسلّطة

قال: فاستحسنّا ما سمعناه منه استحسان من لم يسمع قطّ غناء غيره، فقال/لنا: انصرفوا، فليس فيّ فضل اليوم بعد ما رأيتم. قال محمد: و كان و اللّه مخارق ممّن لو تنفّس لأطرب من يسمعه استماع نفسه.

سمعت الظباء غناءه فوقفت بالقرب منه مصغية
اشارة

و ذكر محمد بن الحسن الكاتب أنّ محمد بن أحمد بن يحيى المكّيّ حدّثه عن أبيه قال:

خرج مخارق مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزّهات، فنظر إلى قوس مذهبة مع أحد من خرج معه، فسأله إيّاها، فكأنّ المسئول ضنّ بها. قال: و سنحت ظباء بالقرب منه، فقال لصاحب القوس: أ رأيت إن تغنّيت صوتا فعطفت عليك به خدود هذه الظباء، أ تدفع إليّ هذه القوس؟ قال: نعم، فاندفع يغني.

ص: 490


1- أفد: دنا أو عجل.
صوت

ما ذا تقول الظّباء *** أ فرقة أم لقاء!

أم عهدها بسليمى *** و في البيان شفاء!

مرّت بنا سانحات *** و قد دنا الإمساء

فما أحارت جوابا *** و طال فيها(1) العناء

في هذه الأبيات ليحيى المكّيّ ثقيل أول بالوسطى.

قال: فعطفت الظّباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه، مستشرفة تنظر إليه مصغية تسمع صوته، فعجب من حضر من رجوعها و وقوفها، و ناوله الرّجل القوس فأخذها و قطع الغناء، فعاودت الظّباء نفارها، و مضت راجعة على سننها(2).

غنى وسط دجلة فتسابق الناس لسماعه

قال ابن المكّيّ: و حدّثني رجل من أهل البصرة كان يألف مخارقا و يصحبه، قال:

كنت(3) معه مرّة في طيّار ليلا و هو سكران، فلما توسّط دجلة اندفع بأعلى صوته فغنّى، فما بقي أحد في الطّيّار من ملاّح و لا غلام و لا خادم إلا بكى من رقّة صوته، و رأيت الشّمع و السّرج من جانبي دجلة في صحون القصور و الدّور يتساعون بين يدي أهلها(4) يستمعون غناءه.

ابن الأعرابي يستكثر الهبة التي أخذها لشعر غناه
اشارة

حدّثني الصّوليّ، قال: حدثني محمد بن عبد اللّه التّميميّ الحزنبل، قال:

كنا في مجلس ابن الأعرابيّ إذ أقبل رجل من ولد سعيد بن سلم كان يلزم ابن الأعرابيّ، و كان يحبّه و يأنس به، فقال له: ما أخّرك عنّي؟ فاعتذر بأشياء منها أنه قال: كنت مع مخارق عند بعض بني الرّشيد، فوهب له مائة ألف درهم على صوت غنّاه إياه، فاستكثر(5) ابن الأعرابيّ ذلك و استهوله، و عجب منه و قال له: بأيّ شيء غنّاه؟ قال: غنّاه بشعر العبّاس بن الأحنف:

صوت

بكت عيني لأنواع *** من الحزن و أوجاع

و إني كلّ يوم عن *** دكم يحظى بي السّاعي

فقال ابن الأعرابيّ: أمّا الغناء فما أدري ما هو، و لكن هذا و اللّه كلام قريب مليح.

ص: 491


1- ف: «و طال منها».
2- السنن: الطريقة.
3- ف، ما: «ركبت معه في طيار... الخ». و الطيار: القارب السريع.
4- يتساعون بين يدي أهلها: يتسابقون.
5- ف: «فاستكبر ذلك ابن الأعرابي و استهاله».

لحن مخارق في هذين البيتين ثقيل أول من جامع صنعته، و فيهما لإبراهيم الموصليّ ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة. و ذكر حبش أنّ فيهما لإبراهيم بن المهديّ لحنا ماخوريّا.

نصح إبراهيم بن المهدي شارية بألاّ تتشبه به في تزايده و إلا هلكت

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة، قال: حدّثني هبة اللّه بن إبراهيم بن المهديّ، قال:

غنّت شارية يوما بحضرة أبي صوتا، فأحدّ النظر إليها و صبر حتى قطعت نفسها ثم قال لها: أمسكي، فأمسكت، فقال لها: قد عرفت إلى أيّ شيء ذهبت؛ أردت أن تتشبّهي بمخارق في تزايده، قالت: نعم يا سيدي.

قال: إيّاك ثم إياك أن تعودي، فإن مخارقا خلقه اللّه وحده في طبعه و صوته و نفسه، يتصرّف في ذلك أجمع كيف أحبّ، و لا يلحقه في ذلك أحد، و قد أراد غيرك أن يتشبه به في هذه الحال فهلك، و افتضح و لم يلحقه، فلا أسمعنّك تتعرّضين لمثل هذا بعد وقتك هذا(1).

غلمان المعتصم يتركونه و يجتمعون لسماع مخارق فيعذرهم

أخبرني عمّي، قال: حدّثني عليّ بن محمد بن نصر البسّامي، قال: حدثني خالي أبو عبد اللّه عن أبيه، قال:

كنّا بين يدي المعتصم ذات ليلة نشرب إلى أن سكرنا جميعا، فقام، فنام(2) و توسّدنا أيدينا(2) و نمنا في مواضعنا، ثمّ انتبه فصاح فلم يجبه أحد، و سمعنا صياحه فتبادرنا نسأل عن الغلمان، فإذا مخارق قد انتبه قبلنا فخرج إلى الشّطّ يتنسّم الهواء، و اندفع يغنّي، فتلاحق به الغلمان جميعا، فجئت إلى المعتصم فأخبرته و قلت: مخارق على الشّطّ يغنّي و الغلمان قد اجتمعوا عليه، فليس فيهم فضل لشيء غير استماعه، فقال لي: يا بن حمدون، عذر و اللّه و أيّ عذر! ثمّ جلس و جلسنا بين يديه إلى السّحر.

المأمون يسأل إسحاق عن غناء مخارق و إبراهيم بن المهدي

و ذكر محمد بن الحسن(2) الكاتب أنّ أبان بن سعيد حدّثه:

أنّ المأمون سأل إسحاق عن إبراهيم بن المهديّ و مخارق، فقال: يا أمير/المؤمنين، إذا تغنّى إبراهيم بعلمه فضل مخارقا، و إذا تغنّى مخارق بطبعه و فضل صوته فضل إبراهيم، فقال له: صدقت.

غنى الأمين فخلع عليه جبة ثم ندم حين رآها عليه

نسخت من كتاب هارون بن الزّيات:

حدّثني هارون بن مخارق عن أبيه، قال: دعاني محمد الأمين يوما و قد اصطبح فاقترح عليّ:

استقبلت ورق الرّيحان تقطفه *** و عنبر الهند و الورديّة الجددا

أ لست تعرفني في الحيّ جارية *** و لم أخنك و لم ترفع إليّ يدا(3)

ص: 492


1- ف: «بعد و قبل هذا». (2-2) التكملة من ما.
2- ف: «محمد بن الحسين الكاتب».
3- س: «.. و لم أرفع إليك يدا».

فغنّيته إياه، فطرب طربا شديدا و شرب عليه ثلاثة أرطال ولاء، و أمر لي بألف دينار و خلع عليّ جبّة وشي كانت عليه مذهبة، و درّاعة مثلها و عمامة مثلها تكاد تعشي البصر من كثرة الذّهب، فلمّا لبست ذلك و رآه عليّ ندم، و كان كثيرا ما يفعل ذلك، فقال لبعض الخدم: قل للطبّاخ يأتينا بمصليّة(1) معقودة الساعة، فأتى بها، فقال لي: كل معي، و كنت أعرف النّاس بمذهبه و بكراهته لذلك، فامتنعت. فحلف أن آكل معه، فحين أدخلت يدي في الغضارة(2) رفع يده، ثم قال: أفّ نغّصتها عليّ و اللّه و قذّرتها عندي بإدخالك يدك فيها، ثمّ رفس القصعة رفسة فإذا هي في حجري، و ودكها(3) يسيل على الخلعة حتى نفذ إلى جلدي، فقمت مبادرا فنزعتها، و بعثت بها إلى منزلي و غيّرت ثيابي و عدت و أنا مغموم منها و هو يضحك، فلمّا رجعت إلى منزلي جمعت كلّ صانع حاذق فجهدوا في إخراج ذلك الأثر منها فلم يخرج، و لم أنتفع بها حتى أحرقتها فأخذت ذهبها، و ضرب الدّهر بعد ذلك ضرباته.

يؤاكل المأمون و يغنيه فيعبس في وجهه ثم يدعوه ثانية و يكافئه

ثم دعاني المأمون يوما، فدخلت إليه و هو جالس، و بين يديه مائدة عليها رغيفان و دجاجتان، فقال لي: تعال فكل، فامتنعت، فقال لي: تعال ويلك فساعدني. فجلست فأكلت معه حتى استوفى، و وضع النبيذ و دعا علّوية فجلس، و قال لي: يا مخارق، أ تغنّي:

أقول التماس العذر لمّا ظلمتني *** و حمّلتني ذنبا و ما كنت مذنبا

فقلت: نعم يا سيّدي، قال: غنّه، فغنّيته فعبس في وجهي ثم قال: قبّحك اللّه أ هكذا يغنّى هذا! ثم أقبل على علّوية فقال: أ تغنّيه؟ قال: نعم يا سيّدي، قال: غنّه، فغنّاه، فو اللّه ما قاربني فيه، فقال: أحسنت و اللّه، و شرب رطلا، و أمر له بعشرة آلاف درهم، و استعاده ثلاثا، و شرب عليه ثلاثة أرطال يعطيه مع كلّ عشرة آلاف درهم، ثم خذف بإصبعه(4) و قال: برق يمان، و كان إذا أراد قطع الشرب فعل ذلك، و قمنا فعلمت من أين أتيت.

فلمّا كان بعد أيام دعاني فدخلت إليه و هو جالس في ذلك الموضع بعينه يأكل هناك، فقال لي: تعال ويلك فساعدني، فقلت: الطلاق لي لازم إن فعلت، فضحك ثم قال: ويلك، أ تراني بخيلا على الطّعام! لا و اللّه، و لكنني أردت أن أؤدّبك، إنّ السادة لا ينبغي لعبيدها أن تؤاكلها، أ فهمت؟ فقلت: نعم، قال: فتعال الآن فكل على الأمان فقلت: أكون إذا أوّل من أضاع تأديبك إياه و استحقّ العقوبة من قريب، فضحك حتى استغرب(5)، ثمّ أمر لي بألف دينار، و مضيت إلى حجرتي المرسومة لي(6) للخدمة، و أتيت هناك بطعام فأكلت، و وضع النّبيذ و دعاني و بعلّوية، فلمّا جلسنا قال له: يا عليّ، أ تغنّي:

/أ لم تقولي: نعم، قالت: أرى و هما *** منيّ و هل يؤخذ الإنسان بالوهم!(7)

ص: 493


1- صلى اللحم يصليه صليا: شواه فهو مصلّي، و يقال: أتى بشاة مصليّة.
2- الغضارة كسحابة: القصعة الكبيرة.
3- الودك: ما يتحلب من اللحم و الشحم من دسم.
4- خذف بإصبعه: حركه كأنه يرمي شيئا.
5- استغرب: بالغ في الضحك.
6- ف، ما: «المرسومة بي».
7- الوهم: السهو أو الخطأ.

فقال: نعم يا سيّدي، فقال: هاته، فغنّاه، فعبس في وجهه و بسر(1) و قال: قبّحك اللّه، أ تغنّي هذا هكذا! ثمّ أقبل عليّ فقال: أ تغنّيه يا مخارق؟ فقلت: نعم يا سيّدي، و علمت أنه أراد أن يستقيد(2) لي من علّوية و يرفع مني، و إلا فما أتى علّوية بما يعاب فيه، فغنّيته، فطرب و شرب رطلا، و أمر لي بعشرة آلاف درهم، و فعل ذلك ثلاث مرّات كما فعل به.

ثمّ أمر بالانصراف فانصرفنا، و ما عاودت بعد ذلك مؤاكلة خليفة إلى وقتنا هذا.

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت

استقبلت ورق الرّيحان تقطفه *** و عنبر الهند و الورديّة الجددا

أ لست تعرفني في الحيّ جارية *** و لم أخنك و لم تمدد إليّ يدا

الشعر - فيما يقال - لعمر بن أبي ربيعة، و الغناء للغريض خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، و أصله يماني، و فيه لابن جامع هزج.

صوت

أقول التماس العذر لما ظلمتني *** و حمّلتني ذنبا و ما كنت مذنبا

هبيني امرأ إمّا بريئا ظلمته *** و إمّا مسيئا قد أناب و أعتبا(3)

الشعر للأحوص، و الغناء لمالك خفيف رمل بالوسطى عن عمرو.

صوت

أ لم تقولي: نعم، قالت: أرى و هما *** منّي و هل يؤخذ الإنسان بالوهم!

قولي: نعم، إنّ «لا» - إن قلت - قاتلتي *** ما ذا تريدين من قتلي بغير دم!

الغناء لسياط خفيف رمل بالبنصر عن عمرو، و لم يقع إليّ لمن الشّعر.

يتنافس هو و علوية في غناء صوت فيسبق علوية

قال هارون: و حدّثني أبو معاوية الباهليّ، قال:

حضرت علّوية و مخارقا مجتمعين في مجلس، فغنّى علوية صوتا فأحسن فيه و أجاده، فأعاده مخارق و برّز عليه و زاد، فردّه علّوية و تعمّل فيه و اجتهد فزاد على مخارق، فجثا مخارق على ركبتيه و غنّاه و صاح فيه حتى اهتزّ منكباه، فما ظننّا إلا أنّ الأرض قد زلزلت بنا، و غلب و اللّه ما سمعنا على عقولنا، و نظرت إلى لون علّوية و قد امتقع

ص: 494


1- بسر: أظهر العبوس.
2- يستقيد لي: يأخذ لي بثأري.
3- أعتبه: أرضاه بعد العتاب.

و طار دمه، فلمّا فرغ مخارق توقّعنا أن يغنّي علّوية، فما فعل و لا غنّى بقية يومه. قال: و كان مخارق إذا صاح قطع أصحاب النايات.

سأله الأمين أن يغنيه أصواتا فلم يحسن فأرسله إلى إسحاق ليعلمه

أخبرني وسواسة بن الموصليّ، و هو أحمد(1) بن إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، قال:

قال لي مخارق: دعاني يوما محمد المخلوع فدخلت عليه و عنده إبراهيم بن المهديّ، فقال: غنّني يا مخارق، فغنّيته أصواتا عديدة، فلم يطرب لها و قال: هذا كله معاد، فغنّني:

لقد أزمعت للبين هند زيالها(2)

فقلت: لا و اللّه ما أحسنه، فقال: غنّني:

لا و الذي نحرت له البدن

/فقلت: لا و اللّه ما أحسنه، فقال: غنّني:

يا دار سعدى سقى أطلالك الدّيما

فقلت: لا و اللّه لا أحسنه، فغضب، و قال: ويلك! أسألك عن ثلاثة أصوات فلا تحسن منها واحدا! فقال له إبراهيم بن المهديّ: و ما ذنبه؟ إسحاق أستاذه و عليه يعتمد، و هو يضايقه(3) في صوت يعلّمه إياه، فقلت: قد و اللّه صدق، ما يعطيني شيئا و لا يعلّمنيه، قال: فما دواؤه؟ فقد و اللّه أعياني، فقال له إبراهيم: توكّل به من يصبّ على رأسه العذاب حتى يعلّمه مائة صوت، قال: أمّا هذا فبعيد، و لكن اذهب إليه عني فمره أن يعلّمك هذه الثلاثة الأصوات، فإن فعل و إلا فصبّ السّوط على رأسه حتى يعلّمك.

يذهب إلى إسحاق ليعلمه فيكله إلى جارية له

فدخلت إلى إسحاق، فجلست بغير أمره، و سلّمت سلاما منكرا. ثم أقبلت عليه فقلت: يأمرك أمير المؤمنين أن تعلّمني كذا و كذا قال: ما أحسنه، فقلت: إني أنفّذ فيك ما أمرني به، فقال: تنفّذ فيّ ما أمرت به، أ لا تستحي ويحك مني و من تربيتي إياك! قلت: فلا بدّ من أن تعلّمني ما أمرك به أمير المؤمنين، قال: فإني لست أحسنه و لكن فلانة تحسنه، هاتوها. فجاءت و جعلت تطارحني حتى أخذت الأصوات الثّلاثة، و جعل كل من جاء يومئذ لا يحجبه ليروني و جاريته تطارحني.

فلمّا أخذت الأصوات رجعت إلى محمد و أخبرته الخبر و حضر إسحاق، فغنّيته إياها، فطرب، و جعل إبراهيم بن المهديّ يقول: أحسن و اللّه، أحسن و اللّه، فلما فرغت قال إسحاق: لا و اللّه ما أحسن و لا أصاب هو و لا إبراهيم في استحسانه، و لقد جهدت الجارية جهدها أن يأخذه عنها فلم يتوجّه له، ثم اندفع فغنّاها، فكأني و اللّه كنت ألعب عند ما سمعت.

/ثم أقبل على إبراهيم بن المهديّ فقال له: كم أقول لك: ليس هذا من علمك و لا ممّا تحسنه و أنت تكابر

ص: 495


1- ف: «و هو ابن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم».
2- ف: «زوالها».
3- س: «و هو يطابقه».

و تدخل نفسك فيما لا تحسنه! فقال: أ لا تراه يا أمير المؤمنين يصيّرني مغنّيا! فقال له إسحاق: و لم تجحد ذلك! أ و أسررت إليّ منه شيئا لم تظهره للناس و تعلّمهم إياه! و متى صرت تأنف من هذا و أنت تتبحبح به! فليتك تحسنه، و اللّه ما تفرق بين الخطأ و الصواب فيه، و إن شئت الآن ألقيت عليك ثلاثين مسألة من أيّ علم شئت، فإن أجبت في واحدة منهن و إلاّ علمت أنك متكلّف. فقال: يا أمير المؤمنين يستقبلني بهذا بين يديك! قال(1): و ما هذا مما لا أستقبلك به؟ فقال له محمد: نعم اختر ما شئت حتى نسألك عنه فقال: إنما يفعل هذا الصبيان(2)، و انكسر حتى رحمته، فقلت لمحمد: يا أمير المؤمنين لعلك ترى مع هذا القول أنه لا يحسن، بلى و اللّه إنه ليحسن كلّ شيء و ما يقدر أحد أن يقول هذا غيري، و إنه ليتقدّم كثيرا من الناس في كل شيء، فجعل محمد يضحك و هو يقول، تشجّه بيد و تدهنه بيد، و تجرّحه بيد و تأسوه بيد!.

نسبة هذه الأصوات
صوت

لقد أزمعت للبين هند زيالها *** و زمّوا(3) إلى أرض العراق جمالها

فما ظبية أدماء واضحة القرا *** تنصّ إلى برد الظّلال غزالها(4)

/تحتّ بقرنيها برير أراكة *** و تعطو بظلفيها إذا الغصن طالها(5)

بأحسن منها مقلة و مقلّدا *** و جيدا إذا دانت تنوط شكالها(6)

الشّعر لكثيّر، و الغناء لمعبد خفيف ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو، و فيه لابن سريج في الثّالث و الثّاني ثقيل أول بالسّبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق، و لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، في الثّاني ثمّ في الثّالث، و في كتاب حكم: لحكم فيه خفيف ثقيل، و عن حبش لطويس فيه رمل بالوسطى، و ذكر أيضا أن لحن معبد ثاني ثقيل.

صوت

صوت(7)

يا دار سعدى سقى أطلالك الدّيما *** مسقي الرّوايا و إن هيّجت لي سقما

دار خلت و عفت منها معالمها *** إلاّ الثّمام و إلاّ النّؤي و الحمما(8)

الغناء لقفا النّجّار ثقيل أول بالوسطى عن عمرو و الهشاميّ و إبراهيم.

ص: 496


1- ف: «فقلت».
2- ف: «بالصبيان».
3- يقال: زمّ القوم: تقدّمهم كأنه زمام. و زموا جمالها: أرسلوها متقدمة.
4- القرا: الظهر. و النص من الشيء: منتهاه و مبلغ أقصاه. و تنص غزالها: تستحثه.
5- البرير: ثمر الأراك. و تعطو بظلفيها: ترتفع بهما. و طالها ارتفع عنها.
6- تنوط: تعلق. الشكال: وثاق بين الحقب و البطان و بين اليد و الرجل.
7- في ف جاء هذا الصوت تاليا للذي بعد.
8- الثمام: نبت ضعيف لا يطول. و النؤي: الحفير حول الخيمة يمنع السيل. و الحمم جمع حمة و هو الفحم و كل ما احترق بالنار.
صوت

لا و الذي نحرت له البدن *** و له بمكّة قبّل الرّكن

ما زلت يا سكني أخا أرق *** متكنّفا بي الهمّ و الحزن

أخشى عليك و بعضه شفق *** أن يفتنوك و أنت مفتتن

الغناء لابن سريج رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، عن إسحاق/و ذكر الهشاميّ أنه لسليمان الوادي أوله فيه لحن، و نسبه إبراهيم إلى ابن عبّاد و لم يجنّسه.

أخبرني عمّي: حدّثنا أحمد بن أبي طاهر، قال:

حدّثني عبد الوهّاب المؤذّن، قال: انحدرنا مع المعتصم من السنّ (1) و نحن في حرّاقته(2)، و حضر وقت الأذان فأذّنت، فلما فرغت من الأذان اندفع مخارق بعدي فأذّن و هو جاث على ركبتيه، فتمنيت و اللّه أن دجلة أهرقت(3) لي فغرقت فيها.

غضب عليه المعتصم ثم صالحه و أعاده إلى مرتبته

أخبرني عمّي، قال: حدّثني عبد اللّه بن عبد اللّه بن حمدون، قال: حدّثني أبي، قال:

غضب المعتصم على مخارق فأمر به أن يجعل في المؤذّنين و يلزمهم، ففعل ذلك، و أمهل حتى علم أنّ المعتصم يشرب و أذّنت العصر، فدخل هو إلى السّتر حيث يقف المؤذّن للسلام، ثمّ رفع صوته جهده و قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته، الصّلاة يرحمك اللّه، فبكى حتى جرت دموعه، و بكى كلّ من حضره، ثمّ قال: أدخلوه إليّ، ثم أقبل علينا و قال: سمعتم هكذا قطّ! هذا الشيطان لا يترك أحدا يغضب عليه، فأمر به فأدخل إليه، فقبّل الأرض بين يديه، فدعاه المعتصم إليه و أعطاه يده فقبّلها، و أمره بإحضار عوده فأحضر، فأعاده إلى مرتبته.

إسحاق الموصلي يبدي رأيه في علوية و مخارق

وجدت في بعض الكتب، عن عليّ بن محمد(4) البسّاميّ، عن جدّه حمدون بن إسماعيل قال:

/غنّى علّوية يوما بين يدي إسحاق الموصليّ:

هجرتك إشفاقا عليك من الأذى *** و خوف الأعادي و اتّقاء النّمائم

فقال له إسحاق: أحسنت يا أبا الحسن أحسنت، و استعاده ثلاثا و شرب، فقال له علّوية: يا أستاذ، أين أنا الآن من صاحبي - يعني مخارقا - مع قولك هذا لي؟ فقال: لا ترد أن تعرف هذا، قال: بي و اللّه إلى معرفته أعظم الحاجة، فقال: إذا غنيتما ملكا اختاره عليك و أعطاه الجائزة دونك، فضجر علّوية و قال لإسحاق: أفّ من رضاك و غضبك!.

ص: 497


1- السنّ: مدينة على دجلة.
2- الحرّاقة: سفينة خفيفة المر.
3- س، ف: «انفرقت».
4- ف: «عن علي بن البسامي».
نسبة هذا الصوت
صوت

هجرتك إشفاقا عليك من الأذى *** و خوف الأعادي و اتّقاء النمائم

و إنّي و ذاك الهجر لو تعلمينه *** كسالية عن طفلها و هي رائم(1)

الشّعر لهلال بن عمرو الأسديّ، و الغناء لعلّويه ثقيل أوّل بالوسطى، عن عمرو.

رأي أبي يعقوب الخريمي في علوية و مخارق

و قال الجاحظ: قال أبو يعقوب الخريميّ (2):

ما رأيت كثلاثة رجال كانوا يأكلون النّاس أكلا، حتى إذا رأوا ثلاثة رجال ذابوا كما يذوب الرّصاص على النّار: كان هشام بن الكلبيّ علاّمة نسّابة و راوية للمثالب عيّابة، فإذا رأى الهيثم بن عديّ ذاب كما يذوب الرّصاص، و كان عليّ بن الهيثم جونقا مفقعا(3) نيّا صاحب تقعّر يستولي على كل كلام، لا يحفل بخطيب و لا شاعر، فإذا رأى موسى الضّبيّ/ذاب كما يذوب الرّصاص، و كان علّوية واحد الناس في الغناء رواية و حكاية و دراية و صنعة و جودة ضرب و أضراب و حسن خلق، فإذا رأى مخارقا ذاب كما يذوب الرّصاص على النار.

حج في السنة التي حجت فيها أم جعفر بسبب جاريتها بهار

أخبرني عليّ بن عبد العزيز الكاتب، عن ابن خرداذبه قال:

هوي مخارق جارية لأمّ جعفر، فحجّ في السنة التي حجت فيها أمّ جعفر بسبب الجارية، فقال أحمد بن هشام فيه:

يحجّ النّاس من برّ و تقوى *** و حجّ أبي المهنّا للتّصابي

وهب المعتصم دار مخارق ليونازة خليفة الأفشين فقال عيسى ابن زينب شعرا في ذلك

قال: و كان المعتصم قد وهب دار مخارق لمّا قدم بغداد ليونازة خليفة الأفشين، فقال عيسى ابن زينب في ذلك:

يا دار غيّر رسمها يونازه *** و بقي مخارق قاعدا في فازه(4)

لا تجزعنّ أبا المهنّا إنّها *** دنيا تنال بذلّة و عزازه

أم جعفر تهب له جاريتها بهار
اشارة

أخبرني إسماعيل بن يونس الشّيعيّ، قال: حدّثنا عمر بن شبّة، و حدّثني محمد بن يحيى الصّوليّ، قال:

ص: 498


1- رائم من رأمت الناقة ولدها: عطفت عليه، فهي رائم. و في الشعر إقواء لاختلاف حركة الروي بالرفع في هذا البيت، و الجر في البيت الذي قبله.
2- ف: «قال أبو عمرو الخريمي».
3- المفقع: الفقير المجهود، و جونقا: لقب له.
4- الفازة: مظلة من نسيج أو غيره تمد على عمود أو عمودين.

وجدت بخطّ عبد اللّه بن الحسين: حدثني الحسن بن إبراهيم بن رياح، قالا:

كان مخارق يهوى جارية لأم جعفر يقال لها بهار(1)، و يستر ذلك عن أمّ جعفر، حتى بلغها ذلك، فأقصته و منعته من المرور ببابها، و كان بها كلفا. قال الصّوليّ في خبره: فلما علم أن الخبر قد بلغ أمّ جعفر قطعها و تجافاها؛ إجلالا لأم جعفر، و طمعا في السلوّ عنها، و ضاق ذرعه بذلك، فبينا/هو ذات ليلة في زلاّل(2)، و قد انصرف من دار المأمون، و أمّ جعفر تشرب على دجلة، إذ حاذى دارها، فرأى الشمع يزهر فيها، فلما صار بمسمع منها و مرأى اندفع فغنّى:

صوت

إن تمنعوني ممرّي قرب دارهم *** فسوف انظر من بعد إلى الدّار

سيما الهوى شهرت حتى عرفت بها *** أنّي محبّ و ما بالحبّ من عار

ما ضرّ جيرانكم - و اللّه يصلحهم *** لو لا شقائي - إقبالي و إدباري

لا يقدرون على منعي و لو جهدوا *** إذا مررت و تسليمي بإضماري

الشعر للعباس بن الأحنف، و الغناء لمخارق رمل بالوسطى.

فقالت أمّ جعفر: مخارق و اللّه، ردّوه، فصاحوا بملاّحه: قدّم، فقدّم، و أمره الخدم بالصّعود، فصعد، و أمرت له أمّ جعفر بكرسيّ و صينيّة فيها نبيذ، فشرب، و خلعت عليه، و أمرت الجواري فغنّين، ثمّ ضربن عليه فغنّى فكان أوّل ما غنّى:

صوت

أغيب عنك بودّ ما يغيّره *** نأي المحلّ و لا صرف من الزمن

فإن أعش فلعلّ الدّهر يجمعنا *** و إن أمت فقتيل الهمّ و الحزن

قد حسّن اللّه في عينيّ ما صنعت *** حتّى أرى حسنا ما ليس بالحسن

الشّعر للعبّاس بن الأحنف، و الغناء لمخارق رمل.

/قال: فاندفعت بهار فغنّت كأنها تباينه، و إنما أجابته عن معنى ما عرّض لها به:

تعتلّ بالشّغل عنا ما تلمّ بنا *** و الشّغل للقلب ليس الشّغل للبدن

ففطنت أمّ جعفر أنها خاطبته في نفسها، فضحكت و قالت: ما سمعنا بأملح ممّا صنعتما، و قال إسماعيل بن يونس في خبره: و وهبتها له.

غنّى المأمون حين قدم مكة أحدث صوت صنعه
اشارة

و قال هارون بن الزّيات:

ص: 499


1- ف، س: «نهار».
2- زلال: شبه قارب يسير في النهر.

حدّثني هارون بن مخارق عن أبيه: أنّ المأمون سأله لما قدم مكة عن أحدث صوت صنعه، فغنّاه:

صوت

أقبلت تحصب الجمار و أقبل *** ت لرمي الجمار من عرفات

ليتني كنت في الجمار أنا المح *** صوب(1) من كفّ زينب حصيات

الشّعر للنّميريّ، و الغناء لمخارق خفيف رمل بالبنصر، قال: فضحك، ثمّ قال: لعمري إن هذا لأحدث ما صنعت، و لقد قنعت بيسير، و ما أظنّ بهار كانت تبخل عليك بأن تحصبك بحصاة كما تحصب الجمار. و استعاده الصوت مرّات.

غنى بشعر للمأمون في جارية له فأبكاه

أخبرني جعفر بن قدامة قال:

حدّثني هارون بن مخارق، قال: حدثني أبي، قال: كنّا عند المأمون يوما، فجاءه الخادم الحرميّ فأسرّ إليه شيئا، فوثب فدخل معه، ثمّ أبطأ علينا ساعة و عاود و عينه تذرف، فقال لنا: دخلت الساعة إلى جارية لي كنت أتحظّاها، فوجدتها/في الموت، فسلّمت عليها فلم تستطع ردّ السّلام إلا إيماء بإصبعها، فقلت هذين البيتين:

سلام على من لم يطق عند بينه *** سلاما، فأومى بالبنان المخضّب

فما اسطعت توديعا له بسوى البكا *** و ذلك جهد المستهام المعذّب

ثمّ قال: غنّ فيها يا مخارق، ففعلت، فما استعادني ذلك الغناء قطّ إلا بكى.

حج رجل معه و غناه صوتا فوهب له حجته

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبيّ إجازة، قال: حدّثني أحمد بن أبي العلاء، قال: حدّثني أبي، قال:

حجّ رجل مع مخارق، فلما قضيا الحجّ و عادا، قال له الرّجل في بعض طريقه: بحقّي عليك غنّني صوتا، فغنّاه:

رحلنا فشرّقنا و راحوا فغرّبوا *** ففاضت لروعات الفراق عيون

فرفع الرجل يده إلى السماء و قال: اللهمّ إني أشهدك أنّي قد وهبت(2) حجّتي له.

وفاته
اشارة

و توفّي مخارق في أوّل خلافة المتوكّل، و قيل: بل في آخر خلافة الواثق، و ذكر ابن خرداذبه أن سبب وفاته أنه كان أكل قنّبيطيّة باردة فقتلته من فوره(3).

ص: 500


1- ف: «ليتني في الجمار كنت أنا المحصوب».
2- ف: «وجهت حجتي له».
3- ف: «فقتلته من يومه».
صوت

إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمة *** تروّي مشاشي(1) بعد موتي عروقها

و لا تدفننّي(2) بالفلاة فإنّني *** أخاف إذا ما متّ ألاّ أذوقها

عروضه من الطويل، و يروى:

إذا رحت مدفونا فلست أذوقها

الشعر لأبي محجن الثقفيّ، و الغناء لإبراهيم الموصليّ ثقيل أوّل بالوسطى عن عمرو، و فيه لحنين لحن ذكره إبراهيم و لم يجنّسه.

إلى هنا انتهى الجزء الثامن عشر من كتاب الأغاني، و يليه الجزء التاسع عشر، و أوله «ذكر أبي محجن و نسبه».

ص: 501


1- المشاش: العظم.
2- في هذا البيت إقواء، و بالرواية الأخرى لا إقواء فيه.

ص: 502

فهرس موضوعات الجزء الثامن عشر

الموضوع الصفحة

ذكر ذي الرمة و خبره 259

ذكر خبر إبراهيم 293

ذكر مقتل الزبير و خبره 297

ذكر أخبار دنانير و أخبار عقيد 304

أخبار خفاف و نسبه 310

أخبار جبهاء و نسبه 322

أخبار والبة بن الحباب 325

أخبار عمران بن حطان و نسبه 330

أخبار عمارة بن الوليد و نسبه 338

أخبار الأضبط و نسبه 342

أخبار الأعشى و نسبه 344

أخبار عمرو بن قميئة و نسبه 348

أخبار المؤمل بن جميل 353

أخبار مساور و نسبه 355

أخبار سعيد بن حميد و نسبه 359

أخبار ابن مناذر و نسبه 369

نسب أشجع و أخباره 397

أخبار ابن مفرغ و نسبه 425

أخبار الزبير بن دحمان 454

نسب العماني و خبره 461

أخبار عروة بن أذينة و نسبه 468

ذكر مخارق و أخباره 477

فهرس الموضوعات 503

ص: 503

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.